You are on page 1of 131

-1-

-2-
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫ياجير ال َعدم‪ ..‬بإشراق نور سيد األُمم‪.‬‬


‫َ‬ ‫الحمد هلل الذي شق دَ‬

‫والسالم على أول ال ُمبدَعات‪ ،‬و ُطور كمال التجليات‪ ،‬صورة‬


‫َّ‬ ‫والصالة‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫الحضرات‪ ،‬وعلى آله وأصحابه أهل الكماالت‪ ،‬وبعد‪:‬‬ ‫االسم الجامع لجميع‬

‫لما كان التعل ُق برسول اهلل‪ e‬والتقر ُ‬


‫ب من جنابه الشريف رجاءَ كل مسلم‪،‬‬

‫ومرا َم كل مؤمن‪ ،‬وغاية َكل ُمحسن ُموقن‪َ ..‬كت َ‬


‫َب أه ُل اهلل العارفو َن شذرات‬
‫ق ُك ٍّل منهم من معرفته بهذا‬ ‫ول َ َمعات‪ ،‬وإشراقات ونفحات؛ مـما َو َ‬
‫ص َل إليه ذو ُ‬
‫الجناب الشريف عليه أفض ُل الصلوات وأزكى التحيات‪.‬‬

‫ق ت َرج ُع في فهمها إلى أصحابها‪ ،‬أو ذائق يَغرفُ منها‬


‫ول َّما كانت األذوا ُ‬
‫ألحبابها ومُستحقها من ُطَّلبها‪ ،‬أو مُستشرف حا َز من أمداد أقطابها وأربابها‪..‬‬
‫ُ‬
‫خليط واقعاً من ال َغريب عن أولئك‪ ،‬واألجنبي عما هنالك‪ ،‬وال ُمدعي‬ ‫كان الت‬
‫تلخيص أقوال العارفي َن و ُحماة هذا‬
‫َ‬ ‫الجلوس على األرائك؛ فأردنا‬
‫َ‬ ‫الذي يَز ُعمُ‬
‫الدين‪ ..‬بما يَحل ُع َق َد االلتباس‪ ،‬ويوض ُح ال َمعاني في االقتباس‪ ،‬فيكو َن‬

‫للسالكي َن الطالبي َن كال َمرجع األساس‪ ،‬ويَنهل منه أه ُل السلوك فينف ُع الن َ‬
‫اس‬
‫بإذن رب الناس‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
‫الراوي حفظه اهلل ورعاه‪ ،‬بــ‪« :‬أمْ لمْ‬
‫السيد مح َّمد وائل َّ‬ ‫وقد أسماها شي ُ‬
‫خنا َّ‬
‫ي ْع ِرفوا رسوله ْم» اقتباساً من اآلية الكريمة(‪)1‬؛ فإنه سبحانه ما ذم مَن َجه َل‬
‫رسول َه‪ ..‬إال ألن معرفتَه صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم واجبة‪ ،‬وكيف ال تكون كذلك؛‬
‫بالرسول‪ ..‬جه ٌل بالم ِ‬
‫رسل ج َّل وع َّز؛ فإن الخل َق ما عرفوه سبحانه‪..‬‬ ‫والجهل َّ‬
‫صلوات اهلل وسَّل ُمه عليهم أجمعين‪ ،‬سواء بإخبارهم أو‬
‫ُ‬ ‫إال من باب ُر ُسله‬
‫أفعالهم أو أحوالهم‪.‬‬

‫حمد صلى اهللُ علَيْه وآله َ‬


‫وسل َم واسطةَ عقد النبيين‬ ‫ول َّما كان سي ُدنا مُ َ‬
‫ب معرفته صلى اهللُ علَيْه َ‬
‫وسل َم‬ ‫وال ُمرسلين‪ ،‬وسي َد ول َد آد َم أجمعين‪ ..‬كان َطلَ ُ‬
‫أشد وجوباً‪ ،‬والتعل ُق بجناب حضرته الشريفة حرزاً مَطلوباً‪ ،‬حتى إن المولى‬
‫وسل َم ‪ -‬بأن‬ ‫سبحانه‪ ..‬أخ َذ العه َد على النبيين ‪ -‬قبل مبعثه صلى اهللُ علَيْه َ‬
‫َٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ َ َ َ ُ َ َٰ َ َ َ َ َ َ ٓ َ َ ۡ ُ ُ‬
‫ب‬‫يتبعوه‪ ،‬فقال سبحانه‪ :‬ﵣوِإذ أخذ ٱّلل مِيثق ٱلنبِيِـۧن لما ءاتيتكم مِن كِت ٖ‬
‫َ ََ ُ ُ َُ َ َ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ُ ‪َ ُ ۡ ُ َ ۡ ُ َ َ َ َ ٞ َ َ َُ ٞ‬‬
‫وحِكمةٖ ثم جاءكم رسول مصدِق ل ِما معكم لتؤمِنن بِهِۦ ولتنصرنه ۚۥ قال‬
‫كم َمِنَ‬ ‫َ ُْٓ ََۡ ۡ َ َ َ َ ۡ َ ُ ْ َََ۠ َ َ ُ‬ ‫َ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ َ َٰ َ َٰ ُ ۡ ۡ‬
‫ءأقررتم وأخذتم على ذلِكم إِص ِريۖ قالوا أقررنا ۚ قال فٱشهدوا وأنا مع‬
‫ٱلشهد َ‬
‫َٰ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ِين ‪٨١‬ﵢ ﵝآل ع ِۡم َ‬
‫فعرفوه‪ ،‬ثم َج َم َع ُه ْم به ليل َة اإلسراء‬ ‫َ‬ ‫به‬ ‫هم‬ ‫ف‬ ‫فعر‬ ‫؛‬ ‫ﵑﵘﵜ‬ ‫‪:‬‬ ‫ان‬‫ر‬ ‫ِ‬
‫فقدموه‪ ،‬فكان األنبياءُ والرس ُل على الحقيقة أتباعَه ف َما ت َقدموه؛ بل عظموه‬

‫َۡ َۡ َ ۡ ُ ْ َ ُ َُ ۡ َ ُ ۡ َُ ُ ُ َ‬
‫ﵝالم ۡؤمِنُون ‪ :‬ﵙﵖﵜ ‪.‬‬
‫ونﵢ ُ‬ ‫(‪ )1‬قوله تعالى‪ :‬ﵣأم لم يع ِرفوا رسولهم فهم لهۥ منكِر‬

‫‪-4-‬‬
‫شه ٗدا َو ُمبَ َِشراٗ‬ ‫َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َٰ َ‬
‫ك َ َِٰ‬ ‫وبجلوه بما َعلموه وشهدوه‪ ،‬قال سبحانه‪ :‬ﵣإِنا أرسلن‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫َونَذ ِٗيرا ‪ ٨‬ل ُِت ۡؤمِنُوا بِٱّللِ َو َر ُسولِهِۦ َو ُت َع َ ِز ُر ُوه َوتُ َوقَ ُِر ُوهﵢ َﵝالفتۡح ‪ :‬ﵘ ‪ -‬ﵙﵜ ‪e‬‬

‫‪‬‬

‫‪-5-‬‬
‫‪‬‬
‫• لتعل َم قب َل قراءة أي كَّلم يَختص بالعارفي َن رضي اهلل عنهم أجمعين؛ بأن‬
‫لهم اصطَّلحاً مَنصوصاً‪ ،‬وإدراكاً مَخصوصاً؛ فَّل يجوز ألحد اقتحامَ كلماتهم‬
‫بفهمه وال بإدراكه‪ ..‬مالم يَعرف أصول َهم ال ُمح َك َمة‪ ،‬ويَسلُك طري َقهم ويُحك َمه؛‬
‫ذلك ألن كلماتهم أذواق وإ ْن كتبوا بعضها في األوراق‪ ،‬وليس من قوة األوراق‬
‫َ‬
‫تعطي إدرا َك األذواق‪ ،‬إال بصحبتهم والتبرك بمحبتهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫أ ْن‬

‫تخرج عن الضروري من الدين‪ ،‬وال‬


‫ُ‬ ‫• ومع هذا فإن كَّل َمهم وأذواقَهم‪ ..‬ال‬
‫يخالف الشريعةَ؛‬
‫َ‬ ‫ستر الشرع األمين‪ ،‬وكيف لمن يز ُعم ذوقَه للحقيقة‪ ..‬أ ْن‬
‫ك َ‬ ‫تهت ُ‬
‫والحال أن الشريعةَ‪ ..‬حقيقة من الحقائق؟! هذا ال يكون إال من‪ُ :‬مفتَر ُمرتاب‪،‬‬
‫أو مدع كذاب‪ ،‬أو جاهل بالصواب‪.‬‬

‫• قد علمَ الن ُ‬
‫اس من أهل الحق ‪-‬قاصيهم ودانيهم‪ -‬أن طري َق السادة‬
‫الصوفية‪ ..‬محرر على الكتاب والسنة‪ ،‬وأن كَّلمَهم وإن احتوى على الحقائق‬
‫خرج في ن ْفسه عن ُمعت َمد‬
‫العالية واألسرار الغالية‪ ..‬نور في نور على نور‪ ،‬ال يَ ُ‬
‫الشرع كما هو مَسطور‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫أ َّما أهل التَّخليط الذين يتشبهون باألولياء‪ ..‬فإنهم يحفظون ُجمَّلً من‬
‫كَّلمهم‪ ،‬ويف َهمونها على حسب مَرامهم مُمتزجةً بأهوائهم‪ ،‬ويَخلطونها‬
‫اس إلى الضَّلل‪ ،‬ويَ ُمدو َن‬
‫بتعقَّلتهم و َسراب أفكارهم؛ فإنهم يَ ْد ُعو َن الن َ‬
‫أتباعَهم بالظَّلم َ‬
‫وشنيع الخصال‪.‬‬

‫وقد كان ساداتنا الصوفيةُ‪ ..‬أو َل الناس يُحذرو َن ال َ‬


‫خل َق ممن يتشبه‬
‫بطريقهم وليس منهم‪ ،‬و َمن تشبه بكَّلم أهل الذوق وال ذو َ‬
‫ق عن َده‪ ..‬فَّلبد من‬
‫ف لغيره طع َم ال َعسل ول َم يَ ُذقْهُ قط‪.‬‬ ‫تَ ْ‬
‫خليطه؛ فهو ك َمن يص ُ‬

‫واعلم أن لكَّلم أهل اهلل نوراً يُرش ُد الصادقين‪ ،‬ويهدي ال ُمتَحيرين‪ ،‬ويزي ُد‬
‫ال ُموقنين‪.‬‬

‫وقد يكون الر ُج ُل صالحاً في ن ْفسه‪ ،‬ذائقاً ُمتضلعاً من العلوم الحقية؛ َ‬


‫غير‬
‫أنه ال إذن عنده في الكَّلم؛ فإ ْن تكلمَ‪ ..‬ال يُسمع منه؛ بل يُن َكر عليه! وذلك لعدم‬
‫وجود اإلذن‪.‬‬

‫فَّل يكون الرج ُل ُمرشداً للسالكين من غير إذن ولو كان صالحاً في‬
‫نفسه؛ وإال فسيُضلهم من أقرب الطرق‪ ،‬ويُغويهم بأيسر الكلمات‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫قال سيدي اب ُن عطاء اهلل السكندري رضي اهلل عنه‪( :‬من أ ِذن له في التَّعبير‪..‬‬
‫ت في مسامع الخلق عبارته‪ ،‬وجلِّي ْ‬
‫ت إليهم إشارته)(‪.)1‬‬ ‫ف ِهم ْ‬

‫وقال كذلك‪( :‬رب َّما برز ِ‬


‫ت الحقائِق مكسوفة األنوار‪ ..‬إذا لم يؤذن لك فيها‬
‫باإلظهار)(‪.)2‬‬

‫فكيف بغيرهم‬
‫َ‬ ‫قلت‪ :‬وهذا الكَّل ُم في َمن هو من الذائقين غير ال َمأذوني َن‪،‬‬
‫ممن هو ليس بذائق أصَّل وم َع ذلك يتصد ُر لإلرشاد؟!‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬انظر شرح الحكمة في «التنبيه»(ص‪ )704‬لسيدي ابن عباد‪.‬‬


‫(‪ )2‬انظر شرح الحكمة في «التنبيه»(ص‪ )706‬لسيدي ابن عباد‪.‬‬

‫‪-8-‬‬
‫الفصل األ َّول‪:‬‬

‫ُ‬
‫والبحث في شؤونه صلى اهلل عليه وآله وسل َم؟!‬ ‫ل َم تتعي ُن معرفتُه‬

‫بعض العارفين رضي اهلل عنه أوجهاً لذلك فقال‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ذكر‬

‫الوجه األول‪:‬‬

‫إن معرفةَ صفاته السنية ون ُعوته البهية السمية‪ ..‬وسيلة إلى امتَّلء القلب‬
‫بتعظيم شريعته؛ ألن ُحرمةَ الكَّلم على ق ْدر ُحرمة ال ُمتكلم به‪ ،‬وتعظي َم الشريعة‬
‫واحترا َمها‪ ..‬وسيلة إلى العمل بها والوقوف عند حدودها‪ ،‬واالرتباط ألمرها‬
‫ون َهيها‪ ،‬وإيثارها على مألوفات النفس وعوائدها وشهواتها الشاغلة لها عن‬
‫مالكها وخالقها‪ ،‬وذلك هو معنى االنقطاع إلى اهلل؛ الذي ألجله ُخلق األنسا ُن‪:‬‬
‫َ‬
‫ونﵞ‬ ‫نس إلَا ل َِي ۡعبُ ُ‬
‫د‬ ‫ت ٱلۡج َن َوٱلۡإ َ‬
‫ﵟو َما َخلَ ۡق ُ‬
‫َ‬
‫ﵝالذ ِاريَات ‪ :‬ﵖﵕﵜ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وهو وسيلة إلى السعادة األبدية والسيادة السرمدية‪ ،‬والفوز برضوان اهلل‬
‫تعالى؛ الذي هو غايةُ َرغبة الراغبين‪ ،‬ونهايةُ آمال المؤملين وطلب الطالبين‪،‬‬
‫«اليوم أ ِح ُّل عليْك ْم ِر ْ‬
‫ضواني‪ ،‬فال أ ْسخط عليْكم بعْده أبدا»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)6549‬مسلم (‪.)2829‬‬

‫‪-9-‬‬
‫وهذا من فوائد تنويه اهلل تعالى بق ْدره وتعظيم شأنه وأمره‪e‬؛ في غير ما‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ َ َ َ ُ َ َٰ َ َ‬
‫آية من كتابه العزيز‪ ،‬قال موالنا جل شأن ُه‪ :‬ﵟوِإذ أخذ ٱّلل مِيثق ٱلنبِيِـۧنﵞ ﵝال‬
‫ٓ‬

‫ك إ َنماَ‬ ‫َ َ َُ ُ َ َ‬ ‫ك َف ۡت ٗحا َُمب ٗ‬ ‫َ ََ َۡ َ َ‬


‫ﵝالفتۡح ‪ :‬ﵑﵜ اآلية‪ ،‬ﵟٱلذِين يبايِعون ِ‬ ‫َ‬
‫يناﵞ‬ ‫ِ‬ ‫ع ِۡم َران ‪ :‬ﵑﵘﵜ اآلية‪ ،‬ﵟإِنا فتحنا ل‬
‫ٱّللﵞ ﵝالنَ َِساء ‪ :‬ﵐﵘﵜ‪ ،‬ﵟقُ ۡل إن ُكنتُمۡ‬ ‫َ ُ َ ََ ۡ ََ َ‬
‫اع َ َ‬ ‫ون َ َ‬
‫َُ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ﵝالفتۡح ‪ :‬ﵐﵑﵜ‪ ،‬ﵟيُ ِطعِ ٱلرسول فقد أط‬ ‫َ‬
‫ٱّللﵞ‬ ‫يبايِع‬
‫ك ُم َ ُ‬‫ُۡ ۡ ُ‬ ‫ُ َُ َ َ َ َ َ‬
‫ٱّللﵞ ﵝآل ع ِۡم َران ‪ :‬ﵑﵓﵜ‪.‬‬ ‫ٱّلل فٱتبِ ُعونِي يحبِب‬ ‫تحِبون‬

‫الوجه الثَّاني‪:‬‬

‫إن معرفتَها تتضمن معرفةَ ُحسنه وإحسانه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذلك‬
‫سباب ال َمحبة وإن تكاثرت‪ ..‬فمدا ُرها على أمرين‪:‬‬
‫َ‬ ‫وسيلة إلى مَحبته؛ ألن أ‬
‫ح ْسن؛ كما إنها مجبولة‬
‫فوس مجبولة على ُحب ال ُ‬
‫َ‬ ‫ح ْسن واإلحسان؛ فإن الن‬
‫ال ُ‬
‫على ُحب ال ُمحسن إليها‪ ،‬وال ُح ْس َن يُماث ُل حسنَه‪ ،‬كما ال إحسا َن يُماثل إحسانه‬
‫ت‪.e‬‬ ‫صلَ ْ‬
‫ت‪ ،‬وبطلعته َظ َه َر ْ‬ ‫إلينا؛ إذ كل خير وبركة ‪ -‬قلت أو جلت‪ ..-‬منهُ َح َ‬

‫روح اإليمان الذي هو أص ُل كل سعادة وسيادة‪ ،‬وفي محبتنا‬


‫ومحبتُه هي ُ‬
‫له صلى اهلل عليه وآله وسلم منَن عظيمة َعلَينا؛ ألنها موجبَة لمعيته ومُجاو َرته‬

‫‪- 10 -‬‬
‫وصحبته؛ لحديث‪« :‬أنْت مع م ْن أ ْحببْت» و‪« :‬الم ْرء مع م ْن أح َّ‬
‫ب»(‪ )2‬وقد‬ ‫(‪)1‬‬
‫ُ‬
‫ب أحد فأحبَّنِ ْي إِ َّال ح َّرم اهلل جسده على النَّا ِر»(‪.)3‬‬
‫قال‪« :‬ما ا ْختلط حبِّ ْي بِقلْ ِ‬

‫الوجه الثالث‪:‬‬

‫عي في معرفتها‪ ..‬خدمة لجنابه صلى اهلل عليه وآله وسل َم‪ ،‬وثناء‬
‫إن الس َ‬
‫عليه‪ ،‬وتعلق به‪ ،‬وتعظيم ل َق ْدره‪ ،‬وتقرب وتودد‪ ،‬واستعطاف وانتساب‪ ،‬وتعرض‬
‫لسحائب إحسانه‪ ،‬واستنزال لغزير بره‬
‫لنفحات فضل ال َممدوح‪ ،‬واستمطار َ‬
‫وامتنانه‪ ،‬ومد ليَد الفاقة واالضطرار‪ ،‬وب َسط لبساط اإللحاح واإلكثار‪ ،‬وفتح‬
‫المواهب‬
‫َ‬ ‫ألبواب خزائن ما يأتي من قبَله؛ فإن الكرامَ إذا مُدحوا‪ ..‬أجزلوا‬
‫العباس ب َن مرداس لما مد َحهُ صلى اهلل عليه وسلم مائةً‬
‫َ‬ ‫والعطايا‪ ،‬وقد أعطى‬
‫من اإلبل‪ ،‬وخلَع ُحلتهُ على كعب بن زهير ل َما مدحهُ بقصيدته التي يقول فيها‪:‬‬
‫ِ‬
‫سيوف اهلل مسلول‬ ‫مهنَّ ٌد ِمن‬ ‫لسيف يستضاء به‬
‫ٌ‬ ‫إ َّن َّ‬
‫الرسول‬

‫وفي ذلك أيضا‪ :‬تعرض لنفحات الرحمة اإللهية؛ ألنه إذا كانت رحمتُه‬
‫تعالى تتنزل عند ذكر الصالحي َن‪ ..‬فما بالك بسيدهم وسندهم و ُممدهم صلى‬
‫اهلل عليه وآله وسلم؟!‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)6171‬مسلم (‪.)2639‬‬


‫(‪ )2‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)6169‬مسلم (‪.)2640‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه الحافظ أبو نُعيم في «الحلية» من حديث ابن عمر رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫وبالجمل ِة‪ :‬فبأدنى انتساب إليه صلى اهلل عليه وآله وسلم‪ ..‬يحصل غايةَ‬

‫النفع والشرف؛ إذ لم يخلق اهللُ تعالى خلقاً أكرمَ عليه من موالنا محمد صلى‬
‫اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬ولم يَخلُق جاهاً أعظ َم من جاهه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫عراني رحمه اهلل تعالى‪:‬‬


‫ُّ‬ ‫الشيخ سيِّدي عبد الوهاب َّ‬
‫الش‬ ‫قال َّ‬

‫بط ‪-‬دُنيا وأ ُخرى‪ -‬مث َل‬


‫ما في الوجود َمن جع َل اهللُ تعالى له الحل والر َ‬

‫النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬ف َمن خ َدمَهُ على الصدق وال َمحبة والوفاء‪..‬‬
‫رقاب الجبابرة‪ ،‬وأكرمه جمي ُع المؤمني َن؛ كما ترى ذلك في َمن كان‬
‫ُ‬ ‫دانت له‬
‫مُقرباً عند ملوك الدنيا‪ ،‬وكما أن غَّلمَ الوالي ال يُتعرضُ له إكراماً للوالي‪..‬‬
‫فكذلك خدام النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم ال ت َتَعرضُ له ُم الزبانيَ ُة يو َم‬
‫(‪)1‬‬
‫القيامة؛ إكراماً لرسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫الصوفي المح ِّقق أبي عبد اهلل سيَّدي مح َّمد ب ِن عبد‬


‫ِّ‬ ‫يخ َّ‬
‫العالم ِة‬ ‫َّ‬
‫وللش ِ‬
‫الرحمن ِز ْك ِري(‪ )2‬في «همزيَّته»‪:‬‬
‫َّ‬

‫(‪ )1‬باختصار من «لواقح األنوار القدسية في بيان العهود المحمدية» (ج‪ )438-437/1‬لسيدي الشعراني رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬هو أبو عبد اهلل محمد بن عبد الرحمن بن ز ْكري‪ :‬اإلمام العَّلمة الفقيه النبيه الفهامة المتفنن في العلوم الحامل‬
‫لواء المنثور والمنظوم‪ .‬أخذ عن الشيخ عبد القادر الفاسي وانتفع به‪ ،‬وأحمد بن العربي ابن الحاج‪ ،‬وأبي عبد اهلل‬
‫←‬

‫‪- 12 -‬‬
‫مااااا َّد ِمناااااه لخا ِد ِم ْيااااا ِه ِلاااااواء‬ ‫وإذا ماااا الجنااااب كاااان عظيماااا‬

‫ع أجاااااا ْل أتباعااااااه الكبااااااراء‬ ‫ت ِسااااايادة متباااااو‬


‫وإذا عظمااااا ْ‬

‫وقد وردَ أن «م ْن قال‪ :‬جزى َّ‬


‫اهلل عنَّا مح َّمدا ما هو أهْله‪ ،‬أتْعب سبْ ِعين كاتِبا‬
‫ألْف صباح»(‪ ، )1‬وفي رواية‪« :‬ألف ْي صباح»(‪.)2‬‬

‫الوجه الرابع‪:‬‬

‫إن معرفةَ صفاته‪ ..‬مُعينة على شهود ذاكره ل َذاته‪ ،‬وفي ُرؤيته صلى اهلل عليه‬
‫وانظر إلى قوله‬
‫ْ‬ ‫وآله وسلم يَ َقظةً أو نوماً‪ ..‬فوائ ُد عظيمة و َمزايا كثيرة ف َخيمة‪،‬‬
‫صلى اهلل عليه وآله وسلم‪« :‬إ َّن هلل عبادا م ْن نظر فِ ْي و ْج ِه أح ِد ِه ْم ن ْظرة س ِعد‬
‫سعادة ال ي ْشقى ب ْعدها أبدا»(‪ ،)3‬وقوله‪« :‬هم القوم ال ي ْشق ْى جلِيْسه ْم»(‪)4‬مع أنهم‬
‫ما نالوا ذلك‪ ..‬إال بنوره ال ُمشرق عليهم‪ ،‬ومدده الساري فيهم‪.e‬‬

‫محمد المسناوي‪ ،‬وميارة الصغير‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وعنه الشيخ محمد ُج ُسوس وغيره‪ .‬له مؤلفات مفيدة وأجوبة عتيدة‪،‬‬
‫وكلها غاية في التحقيق‪ .‬توفي سنة (‪ 1144‬هـ) [‪1731‬م]‪ .‬انظر «شجرة النور الزكية في طبقات المالكية»‬
‫لمحمد مخلوف‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطبراني في «األوسط» (‪ ) 235‬وغيره من حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬لم أقف على هذه الرواية فيما بين يدي من كتب الحديث‪.‬‬
‫(‪ )3‬لم أقف على هذا الحديث فيما بين يدي من كتب الحديث‪ ،‬غير أن معناه صحيح تدل عليه عمومات األحاديث‬
‫الصحيحة‪ ،‬كما في الحديث القدسي الصحيح الذي سيذكره‪« :‬هم القوم ال ي ْشق ْى جلِيْسه ْم»‪.‬‬
‫(‪ )4‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)6408‬ومسلم (‪ )2689‬كَّلهما من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫الوجه الخامس‪:‬‬

‫إن في ذكرها وسماعها‪ ..‬ت َنَعماً وت َلذذاً بحبيب القلوب وقُرة العيون صلى‬
‫ضرب م َن الوصال به‪ ،‬وو ْجه من وجوه ال ُقرب منه‬
‫اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬وهو ْ‬
‫واالجتماع به؛ لما فيه من إمتاع حاسة السمع واللسان بأوصاف المحبوب؛‬
‫ظر إليه بالبصر‪ ..‬لم ي ُفت‬
‫فات الن ُ‬
‫الذي هو وسيلة إلى حضوره بالقلب‪ ،‬فاذا َ‬
‫ظر إليه بالبَصيرة؛ كما قال بعضهم‪:‬‬
‫التمت ُع به بالسمع والن ُ‬
‫عن جيرتي شنِّ ِ‬
‫ف األسماع بالخب ِر‬ ‫الحي يخبرني‬
‫ِّ‬ ‫يا واردا ِم ْن أهيل‬
‫حدِّث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري‬ ‫حديثهم‬ ‫راوي‬ ‫يا‬ ‫اهلل‬ ‫ناشدتك‬

‫ِ‬
‫الغوث سيدي أبي مدين نفعنا اهلل به‪:‬‬ ‫وللشيخ‬
‫ِ‬
‫ينْ ِع ْشنا‬ ‫األ ِحبَّ ِة‬ ‫ت ْذكار‬ ‫ِإ َّن‬ ‫أال‬ ‫حيا بِ ِذ ْكراكمْ إِذا لمْ نراكم‬
‫ون ْ‬
‫حن أيْق ٌ‬
‫اظ وفِ ْي النَّ ْو ِم إِ ْن ِغبْنا‬ ‫إِذا ن ْ‬ ‫قلوبنا‬ ‫تراها‬ ‫معانِيْك ْم‬ ‫فل ْوال‬
‫و ِ‬
‫لك َّن فِ ْي الم ْعن ْى معانِيْكم م ْعنا‬ ‫لمتْنا أسى ِم ْن ب ْع ِدكمْ وصبابة‬

‫ول ْوال هواك ْم فِ ْي الحشا ما تح َّر ْكنا‬ ‫عنْكم‬ ‫األحا ِديْ ِ‬


‫ث‬ ‫ِذ ْكر‬ ‫حركنا‬
‫ي ِّ‬

‫ري رحمه اهلل‪:‬‬


‫وقال ابن الجز ِّ‬
‫منا ِزله‬ ‫ت‬
‫وناء ْ‬ ‫تالقِي ِه‬ ‫وع َّز‬ ‫ط الْح ِبيب وربْعه‬
‫أ ِخ َّالي إِ ْن ش َّ‬

‫فما فاتك ْم بِالْعيْ ِن ه ِذي شمائِله‬ ‫بِعيْنِك ْم‬ ‫تب ِ‬


‫صروه‬ ‫أ ْن‬ ‫وفاتكم‬

‫‪- 14 -‬‬
‫ولذا قيل‪:‬‬
‫واألذْن تعشق قبل العي ِن أحيانا‬ ‫الحي عاشقةٌ‬
‫ِّ‬ ‫لبعض‬
‫ِ‬ ‫ذني‬
‫يا قوم أ ْ‬

‫الوجه السادس‪:‬‬
‫كر َمحاسنه صلى اهلل عليه وآله وسلم‪ ..‬يُحر ُك ما في القلوب م َن‬
‫إن ذ َ‬
‫حب الساكن والشوق الكامن‪ ،‬ويحصل من انشراح الصدر وتفريج القلب ما‬
‫ال ُ‬
‫يغيب ال ُمحب عند ذكر أوصاف المحبوب‬
‫ُ‬ ‫يناسب إجَّلءَ َ‬
‫تلك ال َمحاسن‪ ،‬وقد‬

‫صلى اهلل عليه وآله وسلم؛ وال سيما إ ْن كان القارئُ َ‬


‫حس َن الصوت وكانت‬

‫القلوب كما هو ال َمطلوب‪ ،‬ويرحم اهللُ‬


‫َ‬ ‫يثير ال ُ‬
‫خشو َع ويرق ُق‬ ‫قراءت ُه على وجه ُ‬
‫الش َ‬
‫يخ سيدي عب َد الرحيم البُرعي إذ قال‪:‬‬
‫ب خامرت ْه خمور‬ ‫كما ا ْرتاح ص ٌّ‬ ‫وتأخذ قلْبِ ْي ن ْشوةٌ ِعنْد ِذ ْك ِركمْ‬
‫سحو ٌر ل ِص ْو ِم ْي فِ ْي الهو ْ‬
‫ى وفط ْور‬ ‫أصوم ع ِن األ ْغيا ِر ق ْطعا و ِذ ْكركمْ‬
‫تم ْور‬ ‫السما ِء‬
‫َّ‬ ‫ي ْوم‬ ‫بِ ِه‬ ‫أف ْوز‬ ‫صل سعادتِ ْي‬ ‫ول اهللِ أ ْ‬‫وم ْدح رس ِ‬
‫ن ِذيْر‬ ‫العال ِميْن‬ ‫ل ِك ِّل‬ ‫ب ِشيْ ٌر‬ ‫ب‬ ‫مه َّذ ٌ‬ ‫أ ْري ِح ٌّي‬ ‫ت ِق ٌّي‬ ‫نبِ ٌّي‬
‫وس وان ْشر ْحن صد ْور‬
‫ت نف ٌ‬
‫وطاب ْ‬ ‫وب ل ِ ِذ ْك ِرهِ‬
‫ت قل ٌ‬ ‫إذا ذ ِكر ا ْرتاح ْ‬

‫(‪)1‬‬
‫انتهى النقل‬

‫(‪ )1‬هذه األوجه الست من «الفوائد الجليلة البهية على الشمائل المح َّمدية» للعَّلمة المحقق المحدث الصوفي سيدي‬
‫محمد بن قاسم ج ُُسوس رضي اهلل عنه (ت‪ 1182 :‬هـ)‪ ،‬بتصرف يسير‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬

‫قال سيِّدنا العباس بن عبد الم َّطلب رضي اهلل عنه‪ ،‬عم رسول اهلل صلى اهللُ‬
‫وسل َم‪ ،‬وهو يمتدح رسو َل اهلل صلى اهللُ علَيْه َ‬
‫وسل َم‪ ،‬مشيراً إلى النور‬ ‫علَيْه َ‬
‫حمدي األولي قب َل خلق جسده الشريف الزكي صلى اهللُ علَيْه َ‬
‫وسل َم‪:‬‬ ‫ال ُم َ‬

‫الورق‬ ‫ي ْ‬
‫خصف‬ ‫حيْث‬ ‫م ْست ْودع‬ ‫ِم ْن قبْلِها ِطبْت في ال ِّظ ِ‬
‫الل وفي‬
‫علق‬ ‫وال‬ ‫ضغةٌ‬
‫م ْ‬ ‫وال‬ ‫أنت‬ ‫بش ٌر‬ ‫ال‬ ‫ال ِبالد‬ ‫هب ْطت‬ ‫ث َّم‬
‫الغرق‬ ‫وأهْله‬ ‫ن ْسرا‬ ‫ألْجم‬ ‫وق ْد‬ ‫الس ِفيْن‬
‫َّ‬ ‫ت ْركب‬ ‫ن ْطفةٌ‬ ‫ب ْل‬
‫فِ ْي صلْ ِب ِه أنت‪ ،‬كيْف ي ْ‬
‫حت ِرق؟!‬ ‫م ْكتتما‬ ‫الخلِ ِ‬
‫يل‬ ‫نار‬ ‫وردْت‬
‫طبق‬ ‫بدا‬ ‫عال ٌم‬ ‫مض ْى‬ ‫إِذا‬ ‫ر ِحم‬ ‫إلى‬ ‫صالِب‬ ‫ِم ْن‬ ‫تنْقل‬
‫النُّطق‬ ‫حتها‬
‫ت ْ‬ ‫علْياء‬ ‫ِخنْ ِدف‬ ‫ى بيْتك المهيْ ِمن ِم ْن‬
‫حتَّى ا ْحتو ْ‬
‫األفق‬ ‫بِنو ِرك‬ ‫ت‬
‫وضاء ْ‬ ‫اأ ْرض‬ ‫الا‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫أشرق ِ‬ ‫ولِدْت‬ ‫ل َّما‬ ‫وأن ْت‬
‫(‪)1‬‬ ‫ن ْ‬
‫خت ِرق‬ ‫الرشا ِد‬
‫َّ‬ ‫وسبْل‬ ‫انو ِر‪،‬‬ ‫الضيا ِء وفِ ْي النْا‬
‫ِّ‬ ‫حن فِ ْي ذل ِك‬
‫فن ْ‬

‫(‪ )1‬أخرجه الطبراني في «الكبير» (‪ )4167‬ما خَّل قوله‪:‬‬


‫يل م ْكتتما في صلْ ِب ِه أنت‪ ،‬كيف يحت ِرق؟!‬
‫وردْت نار الخلِ ِ‬
‫وأخرج الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» رقم(‪ )4209‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‬
‫خلق آدم بألفي عام‪ ،‬يسبح ذلِك النُّور فتسبِّح ال ْمالئِكة‬ ‫قال‪« :‬إِ َّن قريْشا كانتْ نورا بيْن يد ِي َّ ِ‬
‫اهلل ع َّز وج َّل قبْل أ ْن ي ْ‬

‫اهلل إِلى ْاأل ْر ِ‬


‫ض‬ ‫اهلل عليْ ِه وسلَّم‪ :‬فأهْبطه َّ‬
‫اهلل صلَّى َّ‬
‫اهلل آدم جعل ذلِك النُّور فِي صلْبِ ِه‪ ،‬قال رسول َّ ِ‬
‫يح ِه‪ ،‬فل َّما خلق َّ‬
‫بِت ْسبِ ِ‬

‫الس ِفين ِة‪ ،‬وق ِذف فِي النَّا ِر فِي صلْ ِ‬


‫ب إِبْرا ِهيم‪ ،‬ول ْم يز ْل ينْ ِقلنِي ِم ْن أ ْ‬
‫صال ِب‬ ‫ب آدم‪ ،‬فجعله فِي صلْ ِ‬
‫ب نوح فِي َّ‬ ‫فِي صلْ ِ‬
‫ي‪ ،‬ل ْم يلْت ِقيا على ِسفاح ق ُّط» ‪.‬‬ ‫ال ْ ِكر ِام إِلى ْاأل ْرح ِ‬
‫ام‪ ،‬حتَّى أخْرجنِي ِم ْن بيْ ِن أبو َّ‬

‫‪- 16 -‬‬
‫أهل اهلل رضي اهلل عنهم على أن حقيقتَهُ صلى اهللُ علَيْه َ‬
‫وسلمَ‪..‬‬ ‫أطبق ذوق ِ‬
‫مُبتَدأ الوجود‪ ،‬وأن السيادةَ له على كل موجود‪ ،‬وأنه خليفةُ اهلل على التحقيق؛‬
‫إذ هو البرز ُخ الجام ُع ل َط َرف َي الوجود وال َعدم‪ ،‬والحدوث والقدم‪.‬‬

‫الغالب منها‬
‫ُ‬ ‫واستدلوا بالنصوص على هذا الش َرف ال َمخصوص‪ ،‬لكن‬
‫ليس صريحاً في الداللة؛ إال ألهل األذواق أهل القلوب الصحيحة‪ ،‬أو لذوي‬
‫العقول من أهل صفاء القريحة‪.‬‬

‫َ‬
‫استنبط م َن‬ ‫فهذا قاضي القضاة اإلما ُم تقي الدين السبكي رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫النصوص ‪-‬بقريحته الوقادة‪ -‬أسبقيةَ حقيقته‪ e‬وأن لهُ عز السيادة‪ ،‬وذلك في‬
‫رسالته «التَّعظيم وال ِمنَّة» في شرح قول اهلل تعالى‪﴿ :‬لت ْؤ ِمن َّن بِ ِه ولتنْصرنَّه﴾(‪)1‬؛‬
‫إذ قال فيها رحمه اهلل تعالى‪:‬‬

‫اس من‬
‫ختَص به الن ُ‬ ‫ويَ ُكو ُن قَولُهُ ﷺ‪« :‬ب ِعثْت إلى النَّ ِ‬
‫اس كافَّة»(‪ ..)2‬ال يَ ْ‬
‫َز َمانه إلَى يوم القيامة؛ بل يتناو ُل َمن قبْل ُهم أيضاً‪.‬‬

‫صدق لما َم َع ُك ْم لَتُؤْمنُن‬ ‫(‪ )1‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإذْ أ َ َخ َذ اهللُ ميثا َ‬


‫ق النبيي َن ل َ َما آتَيْتُ ُك ْم م ْن كتاب َوح ْك َمة ثُم جاءَ ُك ْم َر ُسول ُم َ‬
‫اش َهدُوا َوأَنَا مَ َع ُك ْم م َن الشاهدينَ﴾ [آل‬
‫صري قالُوا أَق ْ َر ْرنا قا َل ف َ ْ‬
‫ْص ُرنهُ قا َل أَأَق ْ َر ْرت ُ ْم َوأ َ َخ ْذت ُ ْم عَلى ذل ُك ْم إ ْ‬
‫به َولَتَن ُ‬
‫عمران‪.]81:‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ ) 438‬من حديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫وح‬
‫الر ِ‬
‫وسلمَ‪« :‬كنت نبِيًّا وآدم بين ُّ‬ ‫ك مَعنَى قَوله صلى اهللُ علَيه َ‬ ‫َويَتَبَي ُن ب َذل َ‬
‫ير نَبيًّا‪ ..‬لم يَصل إلَى َه َذا المعنَى؛‬ ‫َ‬
‫والجس ِد» ‪َ ،‬وإن مَن فَس َرهُ بعلم اهلل بأنهُ َسيَص ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫ألَن عل َم اهلل‪ُ ..‬محيط ب َ‬


‫جميع األشياء‪.‬‬

‫ك ال َوقت‪ ..‬ينبغي أَن يُف َه َم‬ ‫صف النبي صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم بالنبُوة في ذَل َ‬ ‫َو َو ُ‬
‫قت؛ ولهذا َرأَى اس َمهُ آدمُ مَكتُوباً علَى العَرش‪:‬‬
‫ت له فِي ذلِك الو ِ‬ ‫منهُ أَنهُ أ ٌ‬
‫مر ثابِ ٌ‬
‫ك ال َوقت‪.‬‬ ‫حمد َر ُسو ُل اهلل)؛ ف َ ََّل بُد أَن يَ ُكو َن ذَل َ‬
‫ك َمعنًى ثَابتاً في ذَل َ‬ ‫( ُم َ‬

‫ير في ال ُمستَقبَل‪ ..‬لم يَ ُكن ل َ ُه‬


‫جردَ العلم ب َما َسيَص ُ‬ ‫َولَو َكا َن ال ُم َرادُ ب َذل َ‬
‫ك ُم َ‬

‫ج َسد؛ ألَن َجمي َع األنبياء‪ ..‬يَعل ُم اهللُ‬


‫صوصية بأَنهُ نَبي َوآدَمُ بَي َن الروح َوال َ‬
‫ُخ ُ‬
‫صوصية للنبي صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‬ ‫ك ال َوقت َوقَبلَهُ‪ ،‬ف َ ََّل بُد من ُخ ُ‬
‫نُبُوت َ ُهم في ذَل َ‬
‫ير‬
‫خ ُ‬ ‫إعَّلماً ألُمته ليَعرفُوا قَد َرهُ عن َد اهلل‪ ،‬فَيَ ُ‬
‫حص ُل ل َ ُهم ال َ‬ ‫ألَجل َها أَخبَ َر ب َه َذا ال َ‬
‫خبَر؛ َ‬
‫ب َذل َ‬
‫ك‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أحمد‪ ،‬والبخاري في «تاريخه»‪ ،‬وأبو نُعيم في «الحلية» وصححه الحاكم‪ .‬وأما ما اشتهر على األلسن بلفظ‪:‬‬
‫(كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين )‪ ..‬فقال شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة»‪ :‬لم‬
‫نقف عليه بهذا اللفظ‪ .‬انتهى من «المواهب اللدنية» (ص‪.)41-40‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫ك ال َق ْد َر الزائ َد؛ فَإن النبُوةَ َوصف َال بُد أَن يَ ُكو َن‬
‫فإن قلت‪ :‬أُري ُد أَن أَف َهمَ ذَل َ‬
‫ف‬
‫وص ُ‬ ‫وصوفُ به مَو ُجوداً‪َ ،‬وإنما يَ ُكو ُن بَع َد بُلُوغ أَربَعي َن َسنَةً أَيضاً‪ ،‬ف َ َك َ‬
‫يف يُ َ‬ ‫الم ُ‬
‫يرهُ َك َذل َ‬
‫ك!‬ ‫صح ذَل َ‬
‫ك ف َ َغ ُ‬ ‫إرساله؟ فَإ ْن َ‬
‫به قَب َل ُو ُجوده َوقَب َل َ‬

‫قلت‪ :‬قَد َجاءَ‪« :‬إن َّ‬


‫اهلل خلق األرواح قبل األجسا ِد»(‪)1‬؛ ف َ َقد ت َ ُكو ُن اإلشارة‬
‫وإِلى ح ِقيقتِ ِه؛ والحقائِق تقصر‬ ‫الش ِريف ِة‪e‬‬
‫وح ِه َّ‬ ‫ب َقوله‪ُ « :‬ك ُ‬
‫نت نبِيًّا»‪ ..‬إلى ر ِ‬

‫عقولنا عن مع ِرفتِها؛ وإنَّما يعلمها خالِقها ومن أمدَّه بِنور إل ِهي‪.‬‬

‫ح َقائ َق‪ ..‬يُؤتي اهللُ ُكل َحقي َقة من َها َما يَ َشاءُ في ال َوقت الذي‬ ‫ثُم إن ت َ‬
‫لك ال َ‬

‫وسل َم قَد ت َ ُكو ُن من قَبْل َخلق آدَمَ آتَاهَا اهللُ‬‫حقي َقةُ النبي صلى اهللُ علَيه َ‬ ‫يَ َشاءُ‪ ،‬ف َ َ‬
‫ك ال َوقت‬ ‫صف؛ بأَن يَ ُكو َن َخلَ َق َها ُمتَ َهيئَةً ل َذل َ‬
‫ك‪َ ،‬وأَف َ َ‬
‫اضهُ عَلَي َها من ذَل َ‬ ‫ك ال َو َ‬ ‫ذَل َ‬

‫َب اس َمهُ عَلَى العَرش َوأَخبَ َر عَنهُ بالر َسالَة؛ ليُعلمَ مَ ََّلئ َكتَهُ‬ ‫صا َر نَبيًّا‪َ ،‬و َكت َ‬ ‫فَ َ‬
‫ك ال َوقت‪ ،‬فَإن تَأَخ َر َج َسده‬ ‫حقي َقتُهُ َمو ُجودَة من ذَل َ‬‫يرهُم‪َ ..‬ك َرا َمتَهُ عن َدهُ‪ ،‬ف َ َ‬‫َو َغ َ‬
‫اضة عَلَيه من‬ ‫صافَ َحقي َقته باألوصاف الشري َفة الم َف َ‬ ‫الشريف المتصف ب َها‪َ ،‬وات َ‬
‫(‪)2‬‬ ‫ضرة اإللهية‪َ ..‬حاصل من ذَل َ‬
‫ك ال َوقت‪ .‬انتهى‬ ‫ح َ‬‫ال َ‬

‫(‪ )1‬الحديث فيه مقال‪ ،‬وقال عنه العجلوني في «كشف الخفا» (ج‪( :)112/1‬ضعيف جد ًا)‪ ،‬وقال ابن عبد البر في‬
‫«االستذكار»(ج‪ )388/8‬في قوله تعالى‪َ { :‬وإذْ أ َ َخ َذ َرب َ‬
‫ك م ْن بَني آدَمَ م ْن ُظهُوره ْم ذُريتَ ُه ْم}‪ :‬قال إسحاق [بن‬
‫راهويه]‪" :‬أجمع أه ُل العلم أنها األرواح قبل األجساد" اهـ‪.‬‬
‫(‪« )2‬التعظيم والمنة» (ص‪ )88-85‬لإلمام تقي الدين السبكي رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫وقال فيها أيضا رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫ك؛ فَالنبي صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم ُه َو ن ِب ُّي األنبيا ِء؛ َول َه َذا َظ َه َر‬ ‫فَإ َذا عُرفَ ذَل َ‬
‫ك لَيلَةَ اإلسراء‬ ‫حت ل َوائه‪َ ،‬و ُه َو في الدنيَا َك َذل َ‬
‫ك في اآلخرة َجمي ُع األنبياء ت َ َ‬ ‫ذَل َ‬
‫صلى بهم‪.‬‬
‫َ‬

‫قال‪ :‬فَنُبُوت ُ ُه عَلَيهم َور َسالَتُ ُه إلَيهم‪َ ..‬معنًى َحاصل ل َ ُه صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪.‬‬

‫قال‪َ :‬وب َه َذا بَا َن لَنَا َمعنَى َحديثَين َخفيَا عَنا‪:‬‬

‫وسل َم‪« :‬ب ِعثت إلى النَّاس كافَّة» ُكنا ن َ ُظن أَنهُ‬
‫أحدهما‪ :‬قَولُهُ صلى اهللُ علَيه َ‬
‫من َزمَانه إلَى يَوم القيَامَة؛ فَبَا َن أَنهُ َجمي ُع الناس أَول ُ ُهم َوآخ ُرهُم‪.‬‬

‫وح‬
‫الر ِ‬
‫وسلمَ‪« :‬كنت نبِيًّا وآدم بين ُّ‬ ‫والثَّانِي‪ :‬قَولُهُ صلى اهلل علَيه َ‬
‫والجس ِد»(‪ُ )1‬كنا ن َ ُظن أَنهُ بالعلم؛ فَبَا َن أَن ُه َزائد عَلَى ذَل َ‬
‫ك عَلَى َما‬
‫(‪)2‬‬
‫َش َرحنَاهُ ‪ .‬انتهى باختصار‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه‪.‬‬

‫(‪« )2‬التعظيم والمنة» (ص‪.)91-90‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫قلت‪ :‬وإنما نقلنا هذا الكَّلمَ تأنيساً للضعفاء؛ فإن غالب النفوس‪ ..‬ال تُسلم‬
‫لكَّلم العارفي َن مال َم تن ُظر في الدليل‪ ،‬والحق أن إنشاء هذه الرسالة‪ ..‬ليس لسرد‬
‫األدلة؛ وإنما ‪-‬كما قدمنا‪ -‬لنقل ما يقول ُه عرفاءُ هذه الملة لمن يبحث عن معاني‬
‫كلماتهم‪ ،‬ويُ َسل ُم ألذواقهم وتحقيقاتهم؛ لك ْن قد يَعرض لنا في الكَّلم ما ليس‬
‫من أصل ال َمرام‪ ،‬واهلل الموفق للتمام‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫الفصل الثَّالث‪:‬‬

‫يلي رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫قال الشيخ العارف عبد الكريم الجِ ُّ‬

‫خلُقية‪ ..‬أسراراً جليلةً‪ ،‬ومعان َي‬ ‫إن في كل صفة من صفاته‪ e‬ال َ‬


‫خلقية وال ُ‬
‫جميلةً ال يمك ُن شر ُحها‪.‬‬

‫ومجمل ذلك‪ :‬أن هيئتَهُ الصوريةَ الظاهرةَ الهيكليةَ‪ ..‬أم لصور الكماالت‬
‫الحسية الوجودية العلوية والسفلية‪ .‬وهيئتَ ُه المعنويةَ الباطنةَ ‪-‬التي هي عبارة‬
‫عن أخَّلقه‪ ..-‬هي أم لمعاني الكماالت المعنوية الوجودية العلوية والسفلية‪.‬‬

‫فكل كمال ت َشه ُدهُ بالمحسوسات‪ ..‬فهو من فيض صورته الظاهرة‪ ،‬وكل‬
‫كمال ت َعقلُهُ من المعنويات‪ ..‬فهو من ف َيض معانيه الباطنة‪.‬‬

‫محسوسات‬
‫ُ‬ ‫فهو في المث ِل‪َ :‬معد ُن كماالت العال َم ‪-‬باطنها وظاهرها‪-‬؛ ف‬
‫عقوالت العال َم‪ ..‬تستمد من باطنه‪ ،‬فهو َهيول َى‬
‫ُ‬ ‫العال َم‪ ..‬تستَمد من ظاهره‪ ،‬ومَ‬
‫فيض‬
‫ُ‬ ‫فيض ظاهره‪ ،‬وعال َ ُم ال َغيب‬
‫ُ‬ ‫المعاني والصور الوجودية‪ .‬فعال َ ُم الشهادة‬
‫(‪)1‬‬
‫وغيب ال َغيب عبارة عن حقيقته صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬انتهى‬
‫ُ‬ ‫باطنه‪،‬‬

‫(‪« )1‬الكماالت اإللهية» (ص‪.)117‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫قلت‪ :‬وسيأتي في أواخر هذه الرسالة عند الكَّلم عن صورته الحسية‬
‫وطينته القدسية‪ e‬شرح وبَسط لهذا الكَّلم إن شاء اهلل تعالى(‪.)1‬‬

‫قال اإلمام العارف الكبير أبو عبد اهلل محمد الحكيم الترمذي رضي اهلل عنه‬
‫في «نوادر األصول»‪:‬‬

‫َوإن َما نَا َل ال ْ ُمؤْمنُو َن من معرفَة ُمحمد صلى اهلل عليه َوسلم‪ ..‬على ق ْدر‬
‫معرفتهم باهلل وعلْمهم به؛ ف َ َمن صدق مُحمداً صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫حبته على ق ْدر َمعْرفَته إياه َوعلْمه به‪.‬‬
‫ص ْ‬ ‫حبَة‪َ ..‬كا َن ص ْد ُ‬
‫ق ُ‬ ‫الص ْ‬

‫أوفرهم علماً بمحمد‪ ،e‬وقَ ْدره‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ :‬فأوفرهم ح َّظا ِمن نو ِر اهلل‪:‬‬
‫وجَّلل َته‪ ،‬و َخطير منزل َته‪ ،‬فأوفرهم علما به‪ :‬أسر ُع ُهم إجاب َةً ل َدعوته‪ ،‬وأب َذل ُ ُهم ل َهُ‬
‫(‪)2‬‬
‫ن َ ْف َساً و َماالً‪ .‬انتهى‬

‫َر ۡحمَ ٗة لَِلۡ َعَٰلَم َ‬ ‫َٓ َۡ َ َۡ َ َ‬


‫َجم ُع‬ ‫َ‬
‫ﵝالأنبِيَاء ‪ :‬ﵗﵐﵑﵜ‬ ‫ينﵢ‬ ‫ِ‬ ‫قال اهلل سبحانه‪َ :‬‬
‫ﵣوما أرسلنَٰك إِلا‬
‫(عال َم)؛ وهو كل موجود سوى اهلل تعالى‪.‬‬

‫(‪ )1‬في الفصل الرابع عشر من هذه الرسالة‪.‬‬


‫(‪« )2‬نوادر األصول» (‪.)149/2‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫خص عال َماً دو َن عال َم‪ ،‬وال زماناً دون زمان‪ ،‬فدل بهذا‬
‫فاهللُ سبحانه ل َم ي ُ‬

‫على أنه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬مُرسل إلى العوالم بأسرها في كل األزمان‪ِ ،‬من‬
‫حيث نشأة حقيقتِه األوليَّة العليَّة‪ ،‬ث َّم روحانيَّته َّ‬
‫السنيَّة‪ ،‬ث َّم صورته البشريَّة البهيَّة‪.‬‬

‫الفاتح‬
‫ُ‬ ‫َّلث جامعة للعوالم؛ إذ هو صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‬ ‫شآت الث ُ‬
‫فهذه الن ُ‬
‫ستفيض القاسم‪ ،‬صلى اهلل على حقيقته العلية‪ ،‬وروحه السنية‬
‫ُ‬ ‫الخاتم‪ ،‬وال ُم‬
‫وصورته البهية‪ ،‬وعلى آله وأصحابه ووارثيه وأتباعهم ب ُكرةً وعشية‪ ،‬آمين‪.‬‬

‫قال صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪« :‬إنَّما ب ِعثْت ر ْحمة م ْهداة»(‪.)1‬‬

‫قال اإلمام أبو عبد اهلل الحكيم الترمذي رضي اهلل عنه‪ :‬الرسو ُل صلى اهلل‬
‫خلق؛ بمنزل َة األمير ال ُم َؤمر‪ ،‬يُعطي اإلمارةَ والواليةَ‬
‫عليه وسلم‪ ..‬مَبعوث إلى ال َ‬

‫والرعايةَ؛ فهو ب َمنزلة الراعي يَرعى َغنَ َمهُ في َم َ‬


‫راعي ت َ ْس َم ُن عليها‪ ،‬ويُوردُهم‬
‫صي َفهم‪ ،‬ويُعد ل َهم‬
‫ص ْف َو الماء‪ ،‬ويرتادُ ل َهم في الصيف مَ ْشتَاهم‪ ،‬وفي الشتاء مَ ْ‬
‫َ‬
‫أوى قب َل ُهجومه(‪ ،)2‬ويَفر بها عن َم َراتع ال َهلَ َكة‪ ،‬ويُجنبها األرضي َن‬
‫لكل ل َيلة َم ً‬

‫(‪ )1‬قال الهيثمي في«مجمع الزوائد»(ج‪ : ) 257/8‬رواه البزار‪ ،‬والطبراني في «الصغير» و«األوسط» ورجال البزار‬
‫رجال الصحيح‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي الليل‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫جبُ ُر‬ ‫ح ْو ُطها عن الش ُذوذ‪ ،‬ويَلْ َ‬
‫ح ُق ُشذاذَها‪ ،‬ويَ ْ‬ ‫ويحر ُسها من السباع‪ ،‬ويَ ُ‬
‫ُ‬ ‫ال َوبيئةَ‪،‬‬
‫سيرها‪ ،‬ويُداوي مَريضها‪ ،‬ويَجم ُع ر ْسلَها م َن األلبان والصوف ل َرب ال َغنَم‪.‬‬‫َك َ‬

‫قال‪ :‬فكل َراع مَؤنتُهُ على قَ ْدر َغنَمه‪ ،‬وكل أمير مَؤنتُهُ على قَ ْدر َرعيته‪.‬‬

‫يحتاج إلى كنز عظيم‪ ،‬ومَ ْن مَلَ َ‬


‫ك‬ ‫ُ‬ ‫وقال رحمه اهلل‪ :‬ومَن كا َن َ‬
‫أمير ال ُمؤمني َن‪..‬‬
‫ب‪ ..‬احتاج إلى خزائن األموال؛ حتى يضبط بها ذلك ال ُملْ َ‬
‫ك؛‬ ‫ال َمشر َ‬
‫ق وال َمغر َ‬
‫ث إلى قوم؛ أ ُعط َي من كنز التوحيد وجواهر المعرفة‪..‬‬
‫فكذلك كل رسول ب ُع َ‬

‫على قدر ما ُحم َل م َن الرسال َة؛ فال ُم َ‬


‫رس ُل إلى قومه في ناحية م َن األرض‪ ..‬إنما‬
‫يُع َطى م َن النبوة وال ُكنوز على قَ ْدر ما يَقومُ به من شأن ن ُبُوته ورعايَة قومه‪،‬‬
‫رس ُل إلى جميع أهل األرض كافةً ‪-‬إن ْسها وجنها‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫وال ُم َ‬
‫أ ُعط َي م َن ال َمعرفة بق ْدر ما يَقومُ بها في َشأن النبوة إلى جميع أهل األرض كافةً‪،‬‬
‫حظنا م ْن قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ب ِعثْت إِلى ْاأل ْحم ِر و ْاأل ْسو ِد»(‪ ،)1‬وقوله‬ ‫ف َ‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َٰ َ َ َ ٓ َ ٗ َ َ‬
‫اسﵞ َﵝسبَإ ‪ :‬ﵘﵒﵜ‪ ..‬كحظه م ْن واليَة مَلك يَملكُ‬ ‫تعالى له ﵟوما أرسلنك إِلا كافة لِلن ِ‬
‫ك‬‫ك األرضَ كلها‪َ ..‬ملَ َ‬ ‫الدنيا وجواه َر َش ْرقها و َغ ْربها وما ب َينَهما‪ ،‬و َمن َملَ َ‬
‫ليس ل َهُ إال معد ُن ناحيته‬
‫ك ناحيةً م َن األرض‪َ ..‬‬ ‫جواهرها ومعادن َها‪ ،‬ومَ ْن مَلَ َ‬
‫َ‬
‫وجو َه ُر َ‬
‫ذلك المعدن‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أحمد (‪ )14485‬من حديث جابر رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫ثم قال رضي اهلل عنه‪ :‬ول َما أ ُعط َي الرسالةَ إلى الكافة‪ ..‬أ ُعط َي م َن ال ُكنوز‬
‫تي م َن الحك َمة وجواهرها ُكلها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مقدا َر الكفايَة للجميع‪ ،‬وأ ْو َ‬

‫إلى أن قال‪ :‬ف َمن َعم َي قلبُهُ عن اهلل ول َ ْم يَ ُك ْن في قلبه ن ُو ُر الهدايَة‪ ..‬ل َ ْم يُبْص ْر‬
‫شخص ُه و ُجثتَ ُه!‬
‫َ‬ ‫آثا َر النبوة على محمد صلى اهلل عليه وسلم؛ وإنما يُبْص ُر من ُه‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫قال تعالى‪ :‬ﵟت َرى َٰ ُه ۡم يَنظ ُرون إِل ۡيك َوه ۡم لا ُي ۡب ِ‬
‫ص ُرون ‪١٩٨‬ﵞ ﵝالأَ ۡع َراف ‪ :‬ﵘﵙﵑﵜ‪.‬‬

‫ومَ ْن هداهُ اهللُ تعالى لنُوره فان َفتَ َح عي ُن قلبه بذلك واستقرت المعرف َةُ في‬
‫(‪)1‬‬
‫ص النبوة بارزاً‪ .‬انتهى‬ ‫أبص َر منه َش ْ‬
‫خ َ‬ ‫قلبه‪َ ..‬‬

‫بعض العلماء قوله‪ :‬زي َن اهللُ تعالى‬


‫ِ‬ ‫نقل القاضي عياض رحمه اهلل عن‬
‫محمداً صلى اهلل عليه وسلم بزينة الرحمة‪ ،‬فكان كون ُه رحمةً‪ ،‬وجمي ُع شمائله‬
‫وصفاته رحمةً على ال َ‬
‫خلق؛ ف َمن أصابه شيء من رحمته‪ ..‬فهو الناجي في‬
‫الدا َرين من كل مكروه‪ ،‬والواصل فيهما إلى كل محبوب‪ ،‬أال ترى أن اهلل تعالى‬
‫(‪)2‬‬
‫يقول‪َ ﴿:‬و َما أ َ ْر َسلْنَا َك إال َر ْح َمةً للْعَالَميْ َن﴾‪ .‬انتهى‬

‫(‪« )1‬نوادر األصول» (‪ )149-146/2‬للحكيم الترمذي رضي اهلل عنه‪ ،‬وقد نقلته ملخصاً‪.‬‬
‫(‪« )2‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (ص‪.)16‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫وقال َّ‬
‫الشيخ سيِّدي أبو العباس المرسي رضي اهلل عنه‪ :‬جمي ُع األنبياء ُخلقوا‬

‫م َن الرح َمة‪ ،‬ونبينا صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬عَي ُن الرحمة؛ قال اهلل سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫﴿ َو َما أ َ َ‬
‫رسلنَا َك إال َرح َمةً للعَالمي َن﴾‪ .‬انتهى‬
‫(‪)1‬‬

‫ري رضي اهلل عنه(‪ )2‬في هذه‬


‫ص ُّ‬
‫وقال سيِّدي العارف الكبير عبد الجليل الق ْ‬
‫اآلية‪ :‬فهو صلى اهلل عليه‪ ..‬المرحومُ به العال َم؛ بنَص هذه اآلية‪.‬‬

‫ثم قال بعد بيان ذلك‪:‬‬

‫علمت أنه رحمة للعال َمين‪ ،‬وأن كل خير ونور‬


‫َ‬ ‫فإذا ت َحق َ‬
‫قت هذا كله‪..‬‬
‫ت في الوجود وت َ ْظ َه ُر من أول اإليجاد إلى آخره‪ ..‬إنما ذلك‬
‫ت و َظ َه َر ْ‬
‫وبَركة شا َع ْ‬

‫بسببه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫(‪)3‬‬
‫وسلمَ‪ .‬انتهى‬

‫وقال بعض العارفين رضي اهلل عنهم‪ :‬ل َما كان ُخلُ ُقهُ أعظمَ ُخلُق‪ ..‬ب َعثَهُ اهللُ‬
‫إلى جميع العال َمين‪ ،‬و ُخلُ ُقهُ صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪ ..‬لم يكن باكتساب؛ وإنما‬

‫(‪ )1‬نقله سيدي ابن عطاء السكندري في «لطائف المنن» (ص‪.)32‬‬


‫(‪ )2‬هو العَّلمة الزاهد العابد‪ ،‬أبو محمد عبد الجليل بن موسى األنصاري األندلسي القصري(ت‪608:‬هـ) من أهل‬
‫قصر عبد الكريم‪ .‬روى عن‪ :‬أبي الحسن بن حنين‪ ،‬وفتح بن محمد المقرئ‪ .‬وكان متقدماً في علم الكَّلم‪ ،‬مشاركاً‬

‫في فنون‪ ،‬عمل «تفسير القرآن»‪ ،‬وكتاب «شعب اإليمان»‪ ،‬وكتاب «المسائل واألجوبة» وأشياء‪ ،‬كان صاحب زهد‬
‫وتبتل‪ .‬انظر «سير أعَّلم النبَّلء» (ج‪.)420/21‬‬
‫(‪« )3‬شعب اإليمان» (ص‪ )487‬للعارف عبد الجليل القصري رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫كان في أصل خلقته بالجود اإللهي واإلمداد الرحماني الذي لم تزل ت ُشر ُ‬
‫ق‬
‫(‪)1‬‬
‫أنوا ُره في قلبه إلى أ ْن وص َل ألعظم غاية وأتم نهاية‪ .‬انتهى‬

‫‪‬‬

‫(‪« )1‬األنوار القدسية في شرح القصيدة الهمزية» (ص ‪ )140-141‬لسيدي ابن عجيبة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫الرابع‪:‬‬
‫الفصل َّ‬

‫يرغني رضي اهلل عنه(‪ )1‬في «نفحاته‬


‫ُّ‬ ‫وقال القطب عبد اهلل المحجوب الم‬
‫القدسية» لدى قول العارف ابن مشيش رضي اهلل عنه في صَّلته المشهورة‪:‬‬
‫(فل ْم يدر ْكه ِمنَّا سابِ ٌق وال ِ‬
‫الح ٌق) ما نصه‪:‬‬

‫اعلم أ َّن ِمن أعظم الواجبات على ك ِّل مكلَّف‪:‬‬

‫وسل َم ال تُحصى‪ ،‬وأن أحوال َه‬


‫أ ْن يتي َّقن‪ :‬أن كماالت نبينا صلى اهللُ علَيه َ‬
‫خصائصه ومعجزاته ل َ ْم ت َ ْ‬
‫جتَمع قط في‬ ‫َ‬ ‫وصفاته وشمائلَه ال تُستقصى‪ ،‬وأن‬
‫مخلوق‪ ،‬وأن حقه على ال ُكمل ‪-‬فضَّلً عن غيرهم‪ -‬أع َظم الحقوق‪ ،‬وأنه ال‬
‫يقوم ببعض ذلك‪ ..‬إال مَن بذ َل وس َعهُ في إجَّلله وتوقيره وإعظامه‪ ،‬واستجَّلء‬
‫مناقبه ومآثره وح َكمه وأحكامه‪ ،‬وأن ال َمادحي َن لجنابه العلي‪ ،‬والواصفي َن‬
‫جلي‪ ..‬لمْ يصلوا إلى قُ ٍّل من ُك ٍّل ال حد لنهايته‪ ،‬و َغيض من ف َيض ال‬
‫لكماله ال َ‬
‫وصو َل إلى غايته؛ بل في الحقيقة‪ :‬ل َم يمدحوه بوصف‪ ..‬إال بحسب فهمهم‬

‫(‪ )1‬محمد عثمان بن محمد بن أبي بكر بن عبد اهلل الميرغني المحجوب الحنفي الحسيني (ت‪1268 :‬هـ)‪ :‬مفسر‪،‬‬
‫ولد بالطائف‪ ،‬وتعلم بمكة‪ ،‬وتصوف ونشر الطريقة الميرغنية في الحجاز‪ .‬وانتقل إلى مصر فدخل منفلوط‬
‫وأسيوط‪ ،‬ثم قصد السودان فأكرمه أهلها وأخذوا عنه الطريقة الميرغنية‪ .‬وتوفي بالطائف‪ .‬من آثاره «تاج التفاسير‬
‫لكَّلم الملك الكبير»‪ .‬انظر «معجم المفسرين من صدر اإلسَّلم وحتى العصر الحاضر» (ج‪ )574/2‬لعادل‬
‫نويهض‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫فوصف العج ِز‬
‫ْ‬ ‫أ ْن تكو َن إال من وراء ما هنالك؛‬ ‫ذلك‪ ،‬وجل ْت أوصاف ُه‪e‬‬
‫والتَّقصير‪ ..‬ع َّم الجليل والحقير‪ ،‬وهو حقيقةُ اإلدراك والعرفان عند العارفين‬
‫ذوي الشأن؛ ولذا قال أفضلُهم على التحقيق سي ُدنا أبو بكر الصديق به‪" :‬العجز‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلدراك‪ ..‬إدرا ٌك"‪ .‬انتهى‬
‫ِ‬ ‫عن د ْر ِك‬

‫الصلوات المشيشيَّة» لسيدي‬


‫لروضات العرشيَّة في الكالم على َّ‬
‫وفي «ا َّ‬
‫مصطفى البكري رضي اهلل عنه(ت‪1162:‬هـ)‪ ،‬لدى قول العارف ابن مشيش قدس‬
‫سره‪( :‬فأعجز الخالئق) ما نصه‪:‬‬

‫سائر الكماالت الظاهرة والباطنة‪ ،‬وكان‬


‫َ‬ ‫اعلم أن نبينا ‪ e‬ل َّما كان مُستوعباً‬

‫هيكلُه الظ ُ‬
‫اهر لنا أصل كل كمال حس ٍّي ظاهر‪ ،‬ومعناهُ الباط ُن أصل كل كمال‬
‫الظاهر من ف َيض صورته الظاهرة‪ ،‬والباط ُن عن فيض‬
‫ُ‬ ‫غيبي باطن‪ ،‬وكان الكما ُل‬
‫ٍّ‬
‫معانيه الباطنة‪ ..‬عجز الواصفو َن عن وصف صفة من صفاته على الكمال‪،‬‬
‫وأقروا بعدم ال َمعرفة له من مَعرفته بما هو عليه من الجَّلل والجمال‪.‬‬
‫ُّ‬

‫وألنه جامع لمحاسن األخَّلق ‪-‬ال على وصف التقاييد؛ بل على وصف‬
‫اإلطَّلق‪ ،‬ولم تكن أخَّلقُه كسبيةً؛ بل جبليةً ضروريةً‪ ..-‬فما ات َ‬
‫صف متصف‬

‫(‪« )1‬النفحات القدسية» (ص‪ )107‬ضمن «مجموع الرسائل الميرغنية»‪.‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫بصفة كمال على الكمال كاتصافه‪ ،‬وال اغترفَ مُغترف من بحر المعرفة‬
‫كاغترافه‪ ،‬فكل صفة من صفاته‪ ..‬خصها اإللهُ بالوسع اإللهي؛ فَّل تدخ ُل تحت‬
‫قيد حصر وال ت َناهي‪.‬‬

‫ول َما تخل َق باسمه تعالى الواسع‪ ..‬وس َع العال َمين كله ذاتاً و ُخلُقاً‪ ،‬وأد َرك‬
‫أسرا َر الكائنات على التفصيل حقاً وطبْقاً‪.‬‬

‫ف‪ .‬وال‬ ‫ف واصف ص َفةً من صفاته‪ ..‬فبل َغ ث ُلُثَ ْي ُع ْشرها وال َ‬


‫أنص َ‬ ‫فل ْم يَص ْ‬
‫أنصف‪ .‬ولو اعترفَ بالعجز وال ُقصور عن‬
‫َ‬ ‫َم َد َح مادح وبال َ َغ‪ ..‬إال وقي َل فيه‪ :‬ما‬
‫ارتقاء هذه ال َمعالي وال ُقصور‪ ..‬كان في فعله مُصيباً‪ ،‬ونا َل من معرفة َ‬
‫ذلك نصيباً‪.‬‬

‫قال سيِّدي مح َّمد البكري قدس اهلل سره(‪ ،)1‬في «صلواته النبوية»‪:‬‬

‫في الثناء عليه‪ ..‬االعترافُ بالعجز عن اكتناه‬ ‫(‪)2‬‬


‫"مَ ْن غايةُ ال ُمجد الجاد‬
‫صفاته‪ .‬ونهايةُ البليغ ال ُمبالغ‪ ..‬أال يص َل إلى َمبالغ الحمد على مكارمه وهباته"‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬سيدي العارف محمد بن أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الرحمن البَ ْكري الصدّيقي(ت‪ 994 :‬هـ) ‪ ،‬أبو‬
‫المكارم شمس الدين‪ ،‬ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬قال سيدي عبد الوهاب الشعراني في‬
‫«طبقاته الصغرى» (ص‪( :) 105‬فهو بكري بيقين‪ ،‬وأبو بكر ال يفارق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما ال‬
‫ص‪ ،‬ومن كان من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من منزلة‪ ..‬ال تحصى مناقبه) انتهى‬
‫يفارق الظل الشاخ َ‬
‫(‪ )2‬في النسخة المطبوعة من «الصلوات البكرية»‪( :‬ال ُمجيد) بدل‪( :‬الجاد)‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫وأنشد البوصيري في «البردة» قوله‪:‬‬

‫وأن َّاه خ ايْ ار خ الْ ا ِق اهللِ ك الِّ ا ِه ا ِم‬ ‫الاعالام ِفايْا ِه أن َّاه بشااا ٌر‬
‫فاما ْبالاغ ِ‬

‫أي‪ :‬غايةُ علم الخَّلئق فيه ما ذُك َر‪ ،‬وث َم ما التص ُل إليه أفها ُمهم‪ ،‬وال تتعل ُق‬

‫به أوهامُهم؛ ألن العقو َل قاصرة ‪ُ -‬‬


‫غير باص َرة– معقولة‪ ،‬و ُعرى التحقيق في هذا‬
‫(‪)1‬‬
‫غير مشدودة؛ بل َمحلول َة‪ .‬انتهى‬
‫ال َمقام‪ُ ..‬‬

‫السيد مح َّمد جعفر الكتاني رضي اهلل عنه في كتابه «جالء القلوب»‪:‬‬
‫وقال َّ‬

‫الشريف ِة ‪-‬ممن تقد َم أو تأخ َر من البُلَغاء والشعراء‬


‫والواصفون لذاته َّ‬
‫وأرباب العشق والمحبة وغيرهم‪ -‬وإ ْن بالغوا وأكثروا وتفننوا‪ ..‬ل َمْ يصلوا‬
‫لتصوير ُكنهها وما هي عليه في نفسها؛ لعدم علمهم بذلك‪.‬‬

‫والمعبِّرون عنها ‪-‬وإ ْن عبروا وأطنَبوا‪ ..-‬فما أعربوا عنها وال قاربوا؛‬
‫لقصور العبارات ُكلها في جميع اللغات عن الوفاء بما هنالك‪.‬‬

‫والراعون لها والنَّاظرون في أحوالها وشؤونها وأخبارها ‪-‬وإ ْن أدركوا‬ ‫َّ‬


‫وص َو َرها‪ ..-‬ل َ ْم يدركوا شيئاً من حقائقها؛ لعجزهم عن الحقيقة‪.‬‬
‫حها ُ‬‫ل َ َوائ َ‬

‫(‪ )1‬انتهى كَّلم سيدي مصطفى البكري رضي اهلل عنه من «الروضات العرشية في الكَّلم على الصلوات المشيشية»‬
‫كما نقله بطوله العَّلمة محمد جعفر الكتاني في «جَّلء القلوب» (ج‪ )159-157/2‬رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫والمعدِّودون لكماالت ِه وصفات ِه‪ ..‬ل َمْ يبلُغوا ُع ْش َر المعشار من ُع ْشرها؛ لعدم‬
‫إحاطتهم بها‪ ،‬وعدم انتهائها حقيقةً‪.‬‬

‫قررون لحسنها وكمال ِها‪ ..‬ل َ ْم يُمثلوا وصفاً واحداً منها‬


‫والممثِّلون لها والم ِّ‬
‫على ما هو به من التمام والكمال؛ لعدم معرفتهم بما هي عليه من الجَّلل‬
‫والجمال‪.‬‬

‫وغاية ما حصل للك ِّل‪ :‬كغاية ما يحصل ل َمن ينظر إلى النجوم في السماء‪،‬‬
‫أو يراها في الماء‪ ،‬فإن ُه إنما يدر ُك شيئاً من ص َورها الحاكية لمباديها دون‬
‫حقائقها‪ ،‬ودون ما هي عليه من الكبَر واالتساع‪ ،‬ودون ما فيها من الضوء ال َمالِئ‬
‫لألصقاع!‬

‫يشير البوصيري في «همزيَّته» بقوله‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ولذا‬

‫ااس كما مثَّل النُّجوم الماء‬


‫ِ‬ ‫إنَّما مثَّلوا ِ‬
‫صفاتك للنَّا‬

‫(‪)1‬‬
‫انتهى كَّلمُ سيدي محمد بن جعفر الكتاني رضي اهلل عنه‬

‫(‪« )1‬جَّلء القلوب» (ج‪.)156/2‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫في حاشيته على الشفا «المنهل‬ ‫وقال اب ُن التلمساني رضي اهلل عنه‬
‫س الحاجة إليه ِمن ألفاظ ِّ‬
‫الشفا»‪:‬‬ ‫األصفى في شرح ما تم ُّ‬

‫لم يقدر أحد على وصفه حقيقةً‪ ،‬وما َو َردَ في وصف ابن أبي هالةَ له‪ ..‬إنما‬
‫هو على جهة التمثيل تقريباً للسامع‪ ،‬وإال ف َ ُكل وصف يُعَب ُر به الواص ُ‬
‫ف في حقه‬
‫وسل َم‪ ..‬فهو خارج عن ص َفته‪ ،‬وال يَعل ُم حسنَه وجمالَه إال خال َقهُ‬
‫صلى اهللُ علَيه َ‬
‫(‪)2‬‬
‫تعالى‪ .‬انتهى‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬هو محمد بن علي بن أبي الشرف الحسيني التلمساني(ت‪921:‬هـ)‪ ،‬قال عنه صاحب «شجرة النور الزكية في‬
‫طبقات المالكية»‪( :‬اإلمام المتفنن العَّلمة العمدة المحقق الفهّامة)‪.‬‬
‫(‪« )2‬جَّلء القلوب» (ج‪.)156/2‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫الفصل الخامس‪:‬‬

‫أدركت أيها الصفي ال ُمشتاق‪ ،‬والس ُ‬


‫الك طري َق أهل األذواق‪ ..‬أن‬ ‫َ‬ ‫ل َعل َ‬
‫ك‬
‫السير إلى الحق والترقي في منازل ال ُقرب‪ ..‬إنما هو باتباع هذا السيد األجل‬

‫األعظم‪ ،‬والقاموس األشرف األفخم‪ ،‬صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪.‬‬

‫وذلك أن رسو َل اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬خليفةُ اهلل األعظم‪ ،‬وصفيه‬
‫األكرم‪ ،‬وحبيبُه األرفع األعلم‪.‬‬

‫عليك إدرا ُك ما مضى وما سيأتي من‬


‫َ‬ ‫أدركت معنى الخَّلفة‪ ..‬ل َس ُه َل‬
‫َ‬ ‫ولو‬
‫أوصافه ونعوته إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬

‫ذات الحق من حيث هي ذات‪ ..‬ال يمكن أن ت ُ َ‬


‫عرف‬ ‫ِ‬
‫وس ُّر ذلك‪ :‬أن تعل َم أن َ‬
‫ال في الدنيا وال في اآلخرة؛ فذات ُه جل وعز‪ ..‬غيب مطلق؛ ولكنها معلومَة من‬
‫ُ‬
‫حيث ظهو ُرها في ال َمرتبة اإللهية‪ ،‬يعني ظهورها في مرايا األسماء والصفات‪.‬‬
‫وهذا أمر معلوم محتم عند أهل اهلل؛ فإنه ال يُمكن معرفةَ الحق سبحانه‪ ..‬إال من‬
‫خَّلل أسمائه وصفاته جل في عَّله‪.‬‬

‫ومن هنا قا َل الش ُ‬


‫يخ األكبر رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫وليست تُنال ال َعي ُن في غير مَظهر‬

‫(‪)1‬‬ ‫َ‬
‫هلك اإلنسان من شدة الحرص‬ ‫ولو‬

‫وال يو َجد محل جامع لظهور األسماء والصفات‪ ..‬أرف َع وأجل من حقيقة‬

‫وسل َم؛ حيث إنه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬أعل ُم الخلق‬ ‫رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫باهلل وأعرف ُهم به‪ ،‬وهذا يقتضي أنه حاز من معرفته باألسماء والصفات‪ ..‬مال َ ْم‬
‫غيرهﷺ؛ ولذا كان له ال َمقامُ ال َمحمود ال ُمنفرد الذي ال ينبغي إال له صلى‬
‫ح ْزه ُ‬
‫يَ ُ‬
‫اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪.‬‬

‫فكان صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم بهذا االعتبار الجامع لألسماء والصفات‬
‫اإللهية‪ ..‬مَظهراً للذات‪.‬‬

‫ومن هذا السر تعرفُ لمَ كان إطَّل ُ‬


‫ق األسماء والصفات على الحق جل‬

‫وعز توقيفيّاً‪ ،‬أي‪ :‬ال يصح إال بتوقيف من الشارع صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪.‬‬

‫ومعنى مشاهدة الح ِّق في ِمرآته صلَّى اهلل علي ِه وسلَّم‪ :‬هو ما ذكرناه من‬
‫أنهﷺ ال َمحل األوح ُد الذي تخلق بسائر األسماء والصفات؛ وهو معنى‬
‫كونهﷺ َمظهراً للذات‪ ،‬أو ما يُطلَق عليه بـ‪ :‬نور ال َّذات‪ .‬هذا معنى الخَّلفة‪،‬‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (ج‪.)166/1‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫خليفة بصورة مَن استخل َفه‪ ،‬ونعني أنه يكون متحققاً ومتخلقاً‬
‫حيث إنها ظهو ُر ال َ‬
‫بأسماء وصفات اهلل جل وعز‪.‬‬

‫وص ٌل‪:‬‬

‫لما كان صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم أعرفَ الخلق باهلل‪ ..‬كان نصيبُه من تجليات‬
‫الذات أعظ َم نصيب‪ ،‬فليست المعرفةُ إال معرفةَ ما هلل من كمال في شؤون‬
‫الجمال والجَّلل‪.‬‬

‫حبوب أن اهللَ خل َق الخل َق لمعرفته‪ ،‬وأنشأهم‬


‫ُ‬ ‫ت أيها الصفي ال َم‬
‫وقد علم َ‬
‫للتقرب من حضرته بما اقتضاه الكما ُل الذاتي في ألو َهته‪ ،‬وكانت النسبة بين‬
‫الحق والخلق معدومةً؛ لعجز استعدادهم عن مُطالعة الكماالت الذاتية من غير‬
‫ظهرت صفاته‪ ..‬اضمحلَّت مك َّوناته)(‪)1‬؛ إذ ال مناسبة بين ال َ‬
‫خلق‬ ‫ْ‬ ‫حجاب فـ (لو‬
‫والخالق‪ ،‬فأنشأ جل وعز من تجليه الذاتي حقيقةً إمكانيةً َخلَ َع عليها ُحل َل‬
‫األسماء والصفات‪ ،‬جامعةً للكماالت؛ حيث إنها َمجلى التجليات‪.‬‬

‫ت أن الكو َن بجملته إنما هو آثا ُر أسماء اهلل وصفاته؛ فالكو ُن إذاً‬


‫و َعلم َ‬
‫حمدية الجامعة لألسماء والصفات؛ إذ هي النسبة التي‬
‫نسخة من الحقيقة ال ُم َ‬

‫(‪ )1‬حكمة عطائية انظر شرحها عند سيدي ابن عباد في «التنبيه» (ص‪.)587‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ ۡ‬ ‫ﵣو َما َخلَ ۡق ُ‬
‫ت ٱل ِجن وٱل ِإنس إِلا‬ ‫َظ َهر بها الحق لخلقه حتى عرفوه‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُُۡ‬
‫ل َِيعبد ِ‬
‫ون ‪٥٦‬ﵢ‬
‫َ‬
‫ﵝالذ ِاريَات ‪ :‬ﵖﵕﵜ أي‪ :‬يَعرفون‪.‬‬

‫َ‬ ‫َ َ َ َََ ُ ُ‬
‫وسلمَ‪ :‬ﵣوِإنك لعل َٰى خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫يم ‪٤‬ﵢ‬ ‫قال اهللُ سبحانه لنبيه صلى اهللُ علَيه َ‬
‫ﵝالقلَم ‪ :‬ﵔﵜ‪.‬‬
‫َ‬

‫قال سيِّدي العارف المح ِّقق عبد الكريم الجيلي رضي اهلل عنه‪ :‬والخلق‪:‬‬
‫وسئلت عائشة‬
‫الوصف‪ .‬واألوصاف العظيمة‪ :‬هي أوصافُ اهلل تعالى‪ُ .‬‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫رضى اهلل عنها عن أخَّلقه صلى اهلل عليه وسلم فقالت‪« :‬كان خلقه القرآن»(‪.)1‬‬
‫إشارةً إلى حقيقة التحقق بالكماالت اإللهية؛ ألن القرآ َن إنما هو عبارة عن‬
‫كماالت اهلل تعالى‪ ،‬وألن القرآ َن كَّلمُ اهلل‪ ،‬والكَّلمُ صفةُ ال ُمتكلم‪ ،‬وهو ُخلُق‬

‫حمد صلى اهللُ علَيه َ‬


‫(‪)2‬‬
‫وسل َم‪ .‬انتهى‬ ‫ُم َ‬

‫هروردي رضي اهلل عنه‪ :‬وفي قول عائشةَ‬


‫ُّ‬ ‫الس‬
‫وقال سيِّدي شهاب الدِّين ُّ‬
‫نطقت بذلك إال‬
‫ْ‬ ‫رضي اهلل عنها‪« :‬كان خلقه القرآن» سر كبير‪ ،‬وعلم غامض‪ ،‬ما‬
‫وصحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫بما خصها اهلل به من بركة الوحي السماوي‪ُ ،‬‬
‫وسلم‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أحمد في «المسند» (‪ ) 24601‬من حديث السيدة عائشة عليها السَّلم‪.‬‬
‫(‪« )2‬الكماالت اإللهية» (ص‪.)228‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫إلى أن قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫وال يب ُع ُد ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن قو َل عائشةَ رضى اهلل عنها‪« :‬كان خلقه القرآن»‪..‬‬
‫ت من الحضرة‬ ‫فيه رمز غامض وإيماء َخفي إلى األخَّلق الربانية؛ فا ْح َ‬
‫تش َم ْ‬
‫اإللهية أن تقول‪( :‬كان ُمتخلقاً بأخَّلق اهلل تعالى)؛ فعبرت عن المعنى بقولها‪:‬‬
‫وستراً للحال بلُطف ال َمقال؛‬
‫«كان خلقه القرآن» استحياءً من ُسبُحات الجَّلل‪َ ،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها وفضلها‪ .‬انتهى‬

‫القسطالني رضي اهلل عنه في تعليقه على قول السيدة عائشةَ‬


‫ُّ‬ ‫قال اإلمام‬
‫رضي اهلل عنها‪:‬‬

‫عاني القرآن ال ت َتناهى‪ ..‬فكذلك أوصاف ُه الجميلةُ الدالةُ على‬


‫فكما أن مَ َ‬
‫ُخلقه العظيم ال ت َتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجددُ له من مكارم األخَّلق‬
‫ومَحاسن الشيَم وما يُفيضه اهللُ تعالى عليه من معارفه وعلومه‪ ..‬ما ال يعلمه إال‬
‫(‪)2‬‬
‫اهلل تعالى‪ .‬انتهى‬

‫الحرالي (ت‪637:‬هـ) رضي اهلل عنه قول َه‪:‬‬


‫َّ‬ ‫ث َّم نقل عن العارف أبي الحسن‬

‫(‪« )1‬عوارف المعارف» (ج‪.)12-6/2‬‬


‫(‪« )2‬المواهب اللدنية» (ج‪.)102/2‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫فكل مَن كان اهللُ ربه‪ ..‬فمحمد صلى اهلل عليه وسلم رسول ُه‪ ،‬وكما أن‬
‫خلُ ُق ال ُمحمدي يَشم ُل جمي َع العال َمين‪ .‬انتهى‬
‫الربوبيةَ تعم العال َمين‪ ..‬فال ُ‬

‫قلت‪ :‬ومما قال العارف الحرالي أيضاً في «تفسيره»‪:‬‬

‫وظاهره محمد؛ قالت عائشةُ رضي اهلل عنها‪« :‬كان خلقه‬ ‫ُ‬ ‫القرآ ُن باطن‪،‬‬
‫َََ‬
‫ظاهره ﵣنزل‬
‫ُ‬ ‫القرآن»؛ فمحمد صورةُ باطن صورة القرآن؛ فالقرآن باطنُه وهو‬
‫َ َ َٰ َ ۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ َۡ‬
‫بهِ َ‬
‫ٱلروح ٱلأمِين ‪ ١٩٣‬على قلبِكﵢ ﵝالشعراء ‪ :‬ﵓﵙﵑ ‪ -‬ﵔﵙﵑﵜ‪ .‬انتهى‬
‫َُ‬
‫ِ‬
‫(‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫وقال اإلمام ابن حجر الهيتمي رضي اهلل عنه‪ ،‬في «أشرف الوسائل إلى فهم‬
‫َّ‬
‫الشمائل»‪:‬‬

‫معاني‬
‫َ‬ ‫فأوصاف ُخلُقه العظيم صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬ال ت َتناهى‪ ،‬كما أن‬
‫القرآن ال ت َتناهى‪ ،‬وهذا غاية في االتساع ال ينتهي النتهائها‪ ،‬ومن ثمة َوس َعت‬
‫ق هذا العالم؛ فلهذا أرسلَه اهللُ إلى الثقلَين اإلنس والجن‪ ،‬وكذا‬
‫أخَّلقُه أخَّل َ‬
‫(‪)2‬‬
‫خلْق‪ .‬انتهى‬
‫ال َمَّلئكة؛ بل وإلى كافة ال َ‬

‫(‪ )1‬انظر «تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير» (ص‪.)152‬‬


‫(‪« )2‬أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل» (ص‪.)496‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫سره في «كشف‬
‫وقال سيِّدي أبو الفيض مح َّمد بن عبد الكبير الكتَّاني ق ِّدس ُّ‬
‫البراقع بشرح أبيات‪ :‬توضأ بماء الغيب»‪:‬‬

‫يصير ذلك‬
‫ُ‬ ‫وسل َم نسخةُ الوجود ال ُم ْطلَق‪ ،‬أعني بحيث‬
‫إذ هو صلى اهللُ علَيه َ‬
‫ُخلُقاً له على سبيل السرمدية‪.‬‬

‫ثم قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫أفصحت الصديقةُ ال ُعظمى ل َما ُسئلَت‪ :‬كيف كان ُخلُ ُق ُه‬


‫وعن هذا الذوق َ‬
‫(‪)1‬‬
‫وسل َم؟ قالت‪ :‬كان ُخلُ ُقهُ القرآن‪ .‬انتهى‬
‫صلى اهللُ علَيه َ‬

‫‪‬‬

‫(‪« )1‬كشف البراقع بشرح أبيات‪ :‬توضأ بماء الغيب» (ص‪.)6‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫السادس‪:‬‬
‫الفصل َّ‬

‫حبوب إلى حضرة الحبيب‪،‬‬


‫ُ‬ ‫األريب اللبيب‪ ،‬والس ُ‬
‫الك الم‬ ‫ُ‬ ‫عرفت أيها‬
‫َ‬ ‫قد‬
‫بأن همة ال َمدد ومددَ الهمة‪ ..‬ناشئ من الحضرة القدسية إلى القلوب الراضية‬
‫ت كذلك أن‬
‫ال َمرضية؛ بوساطة لوامع األسماء وأنوار الصفات‪ ،‬وقد علم َ‬
‫َ‬
‫يأتيك مددُها‬ ‫الحبيب ال ُمكرم صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلم؛ فما‬ ‫ُ‬ ‫مجَّلها األعظ َم‪ ..‬هو‬
‫إال بواسطته‪ ،‬وال يَسري إليك ُ‬
‫فيضها إال من أطايب مائدته؛ ولهذه الحقيقة أشا َر‬
‫وسل َم بقوله في الحديث المتفق عليه‪« :‬فإن ِّي إِن َّما ج ِعلْت ِ‬
‫قاسما‬ ‫صلى اهللُ علَيه َ‬
‫اس ٌم وخا ِز ٌن و َّ‬
‫اهلل‬ ‫أق ْ ِسم بيْنك ْم»(‪ ،)1‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إِنَّما أنا ق ِ‬
‫وفي رواية الحاكم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه مرفوعاً‪« :‬أنا أبو‬ ‫(‪)2‬‬
‫ي ْع ِطي»‬
‫القاس ِم‪َّ ،‬‬
‫اهلل ي ْع ِطي وأنا أق ْ ِسم»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬

‫وليُعلَم بأن الحق سبحانه وتعالى سمى النبي صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم بأسمائه‬

‫التي َخلَعها عليه‪ ،‬ف َ‬


‫ألبسه رداءَها‪ ،‬وكساه بأسرارها‪ ،‬وجلله بأنوارها‪ ..‬ليَظهر‬
‫خلق مرآةً للحق؛ إذ ال دليل إلى الحق إال بسيد الخلق‪.e‬‬
‫لل َ‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)3114‬مسلم (‪ )2133‬من حديث سيدنا جابر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪« )2‬صحيح البخاري» باب قوله تعالى‪{ :‬فَأَن هلل ُخ ُم َسهُ َوللر ُسول} [األنفال‪.]41 :‬‬
‫(‪« )3‬المستدرك» (‪ )4187‬وقال‪( :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي‪.‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫فالحق سبحانه جع َل في األرض خليفةً عنه‪ ،‬وذ َك َر أه ُل اهلل أنه‪ :‬ال معنى‬
‫استخلفه‪ ،‬يعني تخلُّقهم‬ ‫ِ‬
‫وصفات من ْ‬ ‫للخالف ِة َّإال أ ْن يحمل الخليفة أسماء‬
‫والصفات‪ ،‬وظهورهم بآثا ِرها‪ ،‬ومعلوم عند أهل اهلل ما‬
‫ِّ‬ ‫وتح ُّققهم بهذه األسما ِء‬
‫وشرح هذا من‬
‫ُ‬ ‫يذكرونه من أن ال ُمطلَ َق إذا تجلى في ال ُمقيد‪ ..‬فال ُ‬
‫حكم لل ُمقيد‪.‬‬
‫ت‬ ‫علوم ال ُم َ‬
‫كاشفة كما ذكروا‪ ،‬وال تحتمله هذه ال ُعجالة‪ ،‬ولكنا أشرنا لها؛ لنلف َ‬
‫نظر ال ُمطلع إلى علوم القوم رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫إليها َ‬

‫تنبيهٌ‪:‬‬

‫الحادث وتح ُّق ِق ِه بأسما ِء الح ِّق سبحانه وتعالى‪،‬‬


‫ِ‬ ‫يجب التَّفريق بين تخلُّ ِق‬
‫وبين أ ْن يكون المتخلِّق بها ذاتها وعينها فيكون قديما! كما يظ ُّن بعض‬

‫المتوهِّمين‪ ،‬فالمعنى األ َّول صحيح‪ ،‬والثَّاني فاس ٌد مستحي ٌل والقول به ٌ‬


‫كفر‬
‫السالمة والعافية‪.‬‬
‫قبيح‪ ،‬والخلط بينهما يؤدي إلى الهالك‪ ،‬نسأل اهلل َّ‬

‫‪‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫السابع‪:‬‬
‫الفصل َّ‬

‫أدب معه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬يقضي بازدياد األنوار‪،‬‬ ‫معرفةُ الواسطة والت ُ‬
‫وحصول ال َمسرة وانكشاف األسرار؛ إذ لوال الواسطةُ ل َ َذ َه َ‬
‫ب ‪-‬كما قيل‪-‬‬
‫ُ‬
‫وسوط‪ ،‬ولوالها ل َ َما انحل َعق ُد ال َعدم ال َمربوط‪.‬‬‫ال َم‬

‫الرواس قدس اهللُ سره‪ ،‬عن معرفة الحقيقة‬


‫قال سيِّدي مح َّمد بهاء الدِّين َّ‬
‫حمدية‪:‬‬
‫ال ُم َ‬

‫البر َكة والفَّلح‪ ،‬وطري ُق الستر‬


‫وباب َ‬
‫ُ‬ ‫فال َمعرفَةُ بها حص ُن األمان والنجاح‪،‬‬
‫والسيادة‪ ،‬و َح َر ُم السَّلمة والسعادة‪ ،‬ومنشو ُر الترقيات في الدارين ألحسن‬
‫وأشرف ال َمراتب‪ ،‬وهيك ُل العنايات والقوة والنصرة والعلو على كل مُظاهر‬
‫وسحاب فيض كرم‬
‫ُ‬ ‫ميزاب رحمة اهلل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫و ُمغالب‪ ،‬وعد ٍّو وحاسد و ُمحارب‪ ،‬وهي‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل إن شاء اهلل‪ .‬انتهى‬

‫وقال سيِّدي مح َّمد جعفر الكتاني رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫اعلم أن أو َل كل شيء بر َز عن الذات العلية اإللهية ‪-‬بمحض التخصيص‬

‫حمد صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ،‬الذي هو‬ ‫األزلي والعناية الربانية‪ ..-‬نو ُر سيدنا ُم َ‬

‫(‪« )1‬زاد المسافر» (ص‪ )12‬للشيخ عبد الحكيم عبد الباسط رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫أص ُل كل نور‪ ،‬وبه با َن من األسماء اإللهية والصفات الذاتية كل بطون و ُظهور؛‬
‫فكان واسطةً بين الوجود الحقيقي وال َع َدم‪ ،‬ورابطةَ تَعَلق ال ُ‬
‫حدوث‬
‫(‪)1‬‬
‫بالقدم‪ .‬انتهى‬

‫قوله‪« :‬وبه بان»‪ :‬أي َظ َه َر من األسماء والصفات «ك ُّل بطون وظهور»؛ ألنه‬

‫صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم مُتخلق ومُتحقق باألسماء والصفات؛ فكان سبباً لمعرفتنا‬
‫ببطون أسرار الذات‪ ،‬وظهور أنوار األسماء والصفات‪ ،‬ولواله ل َ َما عرفنا هذا‬
‫األمر‪ ،‬وهذا هو المعنى الحقيقي للنور فـ (النو ُر لَهُ ال ْ َك ْش ُ‬
‫ف)(‪.)2‬‬

‫تنكشف به األشياء‪ ،‬ومن هذه الحقيقة‪ ..‬استُعير‬


‫ُ‬ ‫حيث إن النو َر عبارة عما‬
‫اس ُم النور لألنوار الحسية والمعنوية؛ كالشمس والقمر وأمثالهما لألنوار‬
‫الحسية‪ ،‬وكالعقل لألنوار المعنوية‪.‬‬

‫ففي األنوار الحسية‪ ..‬تنكشف ُظل َمةُ األفياء‪ ،‬وفي المعنوية‪ ..‬ت ُعرف معاني‬
‫األشياء بعد الخفاء‪ ،‬وعندما اشتركا في حقيقة الكشف عن أمر ما‪ُ ..‬سميا بالنور‪.‬‬

‫(‪« )1‬جَّلء القلوب» (‪.)242/3‬‬


‫(‪ )2‬حكمة عطائية‪ ،‬انظر «التنبيه» (ص‪.)345‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫مراتب كثيرة جداً‪ ،‬بعضها فوق بعض‪ ،‬فنور الحس‬
‫ُ‬ ‫فالنور على هذا النحو‪..‬‬
‫قص ُر عن نور الشرع في ن َقله‪ ،‬قال‬ ‫قص ُر عن نور العقل في كشفه‪ ،‬ونو ُر العقل يَ ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫َ ٓ َ َۡ‬ ‫َ َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ٱلنورِ ٱلذِي أنزلناﵢ ﵝالتغابن ‪ :‬ﵘﵜ ‪ ،‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ََ‬
‫تعالى‪ :‬ﵣف َـامِنُوا بِٱّللِ َو َر ُسولِهِۦ و‬
‫ٗ‬ ‫َ ۡ َ ٓ َ ُ ُ ۡ َ َٰ ‪َُ ٗ ُ ۡ ُ ۡ َ ٓ َ ۡ َ َ َ ۡ ُ َ َ َ ٞ‬‬
‫ﵣقد جاءكم برهن مِن ربِكم وأنزلنا إِليكم نورا مبِيناﵢ ﵝالنِساء ‪ :‬ﵔﵗﵑﵜ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫ونو ُر الشرع إنما هو من النور األول جل وعز؛ الذي استمدت منه جمي ُع‬
‫األنوار‪.‬‬

‫ونو ُر الشرع ل َمْ يُ َ‬


‫كشف‪ ..‬إال بوساطة الرسل عليهم صلوات ربي وسَّلمه؛‬

‫فهم نور إذاً‪ ،‬وأولهم حقيقةُ رسو ُل اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪ ،‬التي بواسطتها‬
‫ظهرت ال َمعارفُ اإللهيةُ واألسرا ُر القدسية‪.‬‬

‫ولو لم يكن أوالً‪ ..‬ل َ َما تمت الخَّلفةُ؛ ألن معناها كما ذكرنا‪ :‬الظهو ُر‬
‫بصو َرة ال ُمستَخلف؛ تخلقاً وتحققاً باألسماء والصفات؛ ليفيض معانيها لمعرفة‬
‫مبدع البريات في كل الحاالت وجميع األوقات‪.‬‬

‫فلو لم تكن حقيقةُ الخليفة الكامل أو َل موجود‪ ..‬لنقصت معرفةُ العبيد‬


‫بالمعبود إلى حين وجود الخليفة الكامل؛ بل ل َ َما صحت معرفةُ أحد أصَّلً قبل‬
‫قسم المعارفُ حيث كان جامعاً لها ﷺ‪.‬‬
‫وجوده؛ إذ منه ت ُ َ‬

‫‪- 46 -‬‬
‫ٓ ُ‬ ‫َ‬
‫وسل َم بالنور‪ :‬ﵣق ۡد َجا َءكم َم َِن‬
‫قال تعالى في وصف حبيبه صلى اهللُ علَيه َ‬
‫ب َُمب ‪ٞ‬‬
‫ين ‪١٥‬ﵢ َ‬
‫َ‬
‫ٱّللِ نُور‪َ ٞ‬وك َِتَٰ ‪ٞ‬‬
‫ﵝالماـئ َِدة ‪ :‬ﵕﵑﵜ‪.‬‬ ‫ِ‬

‫َ ََ ُٓ ۡ َ َ َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ََۡ ُ ُ ٗ َ‬ ‫ََ‬


‫ﵣولَٰكِن جعلنَٰه نورا نهدِي بِهِۦ من نشاء مِن عِبادِنا ۚ وِإنك‬ ‫وقال تعالى‪:‬‬
‫يم ‪٥٢‬ﵢ‬‫ق‬
‫ِ‬
‫ِي إل َ َٰي ص َرَٰط َُم ۡستَ‬
‫ِ‬ ‫ٓ‬ ‫د‬ ‫ل َ َت ۡ‬
‫ه‬
‫َُ‬
‫ﵝالش َورى ‪ :‬ﵒﵕﵜ‪.‬‬ ‫ٖ‬ ‫ٖ‬ ‫ِ‬

‫قال سيِّدي محمد بن جعفر الكتَّاني أيضاً‪:‬‬

‫هو أص ُل األسباب وأول ُها‪ ،‬وأعَّلها جنساً وأكملُها‪ ،‬وليس له هو سبب إال‬
‫مَحض التخصيص اإللهي واالختراع األزلي‪ ،‬وهذا من أكبر خصوصياته صلى‬

‫اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم؛ وهو أنه ُخلق عن اهلل بَّل واسطة شيء‪ ،‬و ُخلق كل شيء‬
‫بواسطته‪ ،‬واستمد عن اهلل بَّل واسطة شيء‪ ،‬واستمد كل شيء دون َه بواسطته‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫و ُخل َقت األشياءُ كلها من أجله‪ ،‬و ُخلق هو من أجل مواله‪ .‬انتهى‬

‫حمدية‪ ..‬جوهر إمكاني ن ُوراني جامع لتجليات األسماء‬


‫فالحقيقة ال ُم َ‬
‫حات األكوان‪ ،‬وفاض إمدادُها لسائر‬
‫أثرها في صف َ‬
‫ظهر ُ‬
‫والصفات اإللهية‪ ،‬التي َ‬
‫عال َم اإلمكان‪ ،‬وتألأل نو ُر سناها في كمال خلقة اإلنسان‪.‬‬

‫(‪« )1‬جَّلء القلوب» (ج‪.)247/3‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫الفصل الثَّامن‪:‬‬

‫قال سيدي أحمد بن عجيبة الحسني قدس سره في تفسيره «البحر المديد»‬
‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫ََ‪َۡ ََُ َََ۠ ٞ‬‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُۡ‬
‫عند قوله تعالى‪ :‬ﵣقل إِن كان ل ِلرِنَٰمۡح ولد فأنا أول ٱلعبِدِينﵢ ﵝالزخرف‪:‬ﵑﵘﵜ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َُ ۡ‬

‫ففي اآلية إشارة إلى أسبقيته صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ،‬وأنه أو ُل ت َ َ‬
‫ج ٍّل من‬
‫ت أسرا ُر الذات‪ ،‬وانفلَقت أنوا ُر الصفات‪،‬‬
‫تجليات الحق؛ فمن نوره انشق ْ‬
‫وامتدت من نوره جمي ُع الكائنات‪ .‬انتهى‬

‫وقال العارف روزبهان البقلي رضي اهلل عنه في تفسيرها أيضاً‪:‬‬

‫وإشارةُ أوليتهﷺ في عبودية اهلل‪ ..‬إشارة إلى بدو وجوده في إتيانه من‬
‫(‪)1‬‬
‫ال َع َدم بنور الق َدم‪ ،‬وانقياده في أول ت َجلي جَّلله‪ .‬انتهى‬

‫قلت‪ :‬فالحقيقة المح َّمدية منب ُع ب ُروز هذه األسرار‪ ،‬ومعد ُن ظهور هذه‬
‫ﵣوِإن َمِن َش ۡي ٍء إلَا ي ُ َس َبحُ‬ ‫األنوار‪ ،‬فما من ذرة إال وهي ت ُسب ُح بحمد ربها َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫‪:‬‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫نزي‬ ‫والت‬ ‫‪،‬‬ ‫نزيه‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫‪..‬‬ ‫سبيح‬‫الت‬ ‫إذ‬ ‫؛‬ ‫عرفة‬ ‫م‬ ‫ل‬‫با‬ ‫ن‬ ‫ؤذ‬‫م‬ ‫سبيح‬‫والت‬ ‫ده ِۦﵢﵝالإ ۡس َ‬
‫ِ‬ ‫ِبحَ ۡ‬
‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ﵔﵔﵜ‬‫‪:‬‬‫اء‬‫ر‬ ‫ِ‬

‫النقصان؛ للمعرفة ب َع َظمة الرحمن‪ ،‬وقد تقرر أن المعرفةَ متعلقة بأسمائه‬

‫وصفاته سبحانه‪ ،‬وأن حقيقةَ رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسلمَ‪ ..‬هي الحقيقةُ‬

‫(‪« )1‬عرائس البيان» (ج‪.)284/3‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫الجامعةُ لمعاني هذه األسماء والصفات؛ فما عرف أحد معنى من معانيها‪ ..‬إال‬
‫حمدية الجامعة لهذه المعاني‪.‬‬
‫بوساطة هذه الحقيقة ال ُم َ‬

‫إذا‪ :‬قد وسع مَددُه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم الذرات‪ ،‬وأفاضَ على الجميع‬
‫طري َقه الذي يسلكه إلى رب البريات؛ لكن القواب َل اختلفت استعدادات ُها بحسب‬
‫شؤون األزل الم َقدر‪:‬‬

‫حمدي وأبصره‪ ،‬فظهرت عليه معاني أسماء‬


‫فمنهم من أصابه النو ُر ال ُم َ‬
‫الجمال اإللهي؛ فاهتدى‪.‬‬

‫عمي عنه‪ ،‬فاحتوشته معاني أسماء‬


‫حمدي و َ‬
‫ومنهم َمن أصابه النو ُر ال ُم َ‬
‫الجَّلل اإللهي؛ فوقع في الضَّلل والردى‪.‬‬

‫ظهر الجما ُل والجَّل ُل‪،‬‬ ‫فكان صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسلمَ الحقيقةَ التي بظهورها‪َ ..‬‬
‫والميزا َن الذي أبر َز الحق به ُحك َم األزل وف َق علمه القديم؛ وذلك فص ُل المقال‬
‫َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ْ ۡ َ َٰ َ َ ۢ َ ۡ َ َ ٓ َ ۡ ُ ُ ۡ َ َ َ ُ‬
‫ﵣوما تفرق ٱلذِين أوتوا ٱلكِتب إِلا مِن بع ِد ما جاءتهم ٱلبيِنةﵢ ﵝالبيِنة‪ :‬ﵔﵜ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫‪- 49 -‬‬
‫وسلمَ‪« :‬إن اهلل خلق الخلْق في ظلمة‪ ،‬ثمَّ رشَّ عليهم‬
‫قال صلى اهللُ علَيه َ‬
‫ِمن نوره؛ فمن أصابه ذلك النُّور اهتدى‪ ،‬ومن أخطأه ض َّل»(‪.)1‬‬

‫ضيف إلى اهلل‬


‫َ‬ ‫وال شك بأن هذا النو َر ال َمرشوشَ ؛ إنما هو نور مَخلوق‪ ،‬وأ ُ‬

‫تعالى إضافةَ تشريف؛ فإن نو َر اهلل ‪-‬الذي هو صفته‪ -‬ال ينفصل وال يتصل‪،‬‬
‫وليس مُبعضاً وال مُجزءاً؛ فالنور المذكو ُر في الحديث‪ ..‬نور مخلوق كما قُلنا‪،‬‬
‫وكنى عن ظهوره بالرش‪ ،‬بينما ذكر أه ُل المعرفة بأن الظلمةَ المذكورةَ‪ ..‬هي‬
‫ُظلمةُ العدم‪ ،‬فيكون المعنى‪:‬‬

‫إن اهلل خل َق الخل َق في ُظل َمة؛ أي‪ :‬قدرهم و ُهم في ُظلمة ال َعدم‪ ،‬ث ُم رش‬
‫عليهم من نور سيد األ ُ َمم؛ فأوجدَهم‪ ،‬حيث ظهرت أنوا ُر األسماء الصفات؛‬
‫انشرح صد ُره وهو من ال ُمهتدين‪ ،‬ومَن أخطأه فجهلَه‪..‬‬
‫َ‬ ‫ف َمن أصابه فأبصره‪..‬‬
‫ضا َ‬
‫ق صد ُره وهو من الجاهلين ال ُمبعَدين‪.‬‬

‫قال سيِّدي وموالي أحمد الكبير الرفاعي رضي اهلل عنه‪ ،‬في «البرهان‬
‫خل َق في ُظلمة‪ ،‬وتجلى وجودُ المحدث لَهُ فيه‪ ..‬بإيجاده ل َ ُه‬
‫المؤيَّد»‪َ :‬خلَ َق ال َ‬

‫(‪ )1‬قال في «الجامع الصغير» (‪ :)2645‬رواه الترمذي والحاكم وأحمد من حديث ابن عمرو رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫نوراً؛ فلوال سريا ُن نو ُر وجوده في العَال َم بأسره‪ ..‬لم يَظ َهر منه ظاهر‪ ،‬وذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫الذي َظ َه َر من نُوره بمنزل َة الرش‪ .‬انتهى‬

‫ف َمن أراد الحق هدايتَهُ‪ ..‬بصره بنور رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم فاتبعه‪،‬‬
‫ح َدهُ‪.‬‬
‫ج َ‬ ‫جبَ ُه عن نور رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم ف َ‬ ‫و َمن أراد غوايتَه‪َ ..‬ح َ‬

‫رمذي رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫ُّ‬ ‫قال اإلمام العارف أبو عبد اهلل الحكيم التِّ‬

‫عمي قلبُه عَن اهلل َولم يكن في قلبه نو ُر الهدَايَة‪ ..‬ل َ ْم يُبْص ْر آثَا َر النبُوة‬
‫َ‬ ‫فَمن‬
‫شخصهُ و ُجثتَهُ‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫حمد صلى اهلل عليه وسلم؛ َوإن َما يبصر منْهُ‬ ‫على مُ َ‬
‫َ َ َ َٰ ُ ۡ َ ُ ُ َ َ ۡ َ َ ُ ۡ َ ُ ۡ ُ َ‬
‫صرون ‪١٩٨‬ﵞ ﵝالأعراف‪ :‬ﵘﵙﵑﵜ‪.‬‬ ‫ﵟوترىهم ينظرون إِليك وهم لا يب ِ‬
‫َ‬ ‫َۡ‬

‫بذلك واستقرت ال ْ َمعرفَةُ في‬


‫َ‬ ‫َومَن َهداهُ اهللُ تعالى لنوره فانفتَ َح عي ُن قلبه‬
‫شخص النبُوة بارزاً‪...‬‬
‫َ‬ ‫صر منْهُ‬
‫قلبه‪ ..‬أب ْ َ‬

‫شخص الر َسالَة فائقاً من ال ْ َ‬


‫جَّلل والبَهاء‬ ‫َ‬ ‫َويرى على شخص النبُوة‬
‫حَّلوة والطَّلوة وال َمَّل َحة وال َمهابة َوالسلْ َطان‪ ،‬وأص ُل َه َذا ُكله من‬
‫والنزاهة وال َ‬
‫(‪)2‬‬
‫حب والحياة‪ .‬انتهى‬
‫اليَقين َوال ُ‬

‫(‪« )1‬البرهان المؤيد» (ص‪.)161‬‬


‫(‪« )2‬نوادر األصول» (‪.)149/2‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫َُ َ َۡ َُ َۡ َ ۡ َ ۡ َُ ۡ ۡ َ‬ ‫َ‬
‫‪،‬‬ ‫َۡ‬
‫ﵝالأن َعام ‪ :‬ﵕﵒﵑﵜ‬ ‫قال تعالى‪ :‬ﵟف َمن يُ ِر ِد ٱّلل أن يهدِيهۥ يشرح صدرهۥ لِل ِإسل ِمﵞ‬
‫َٰ‬

‫ولما ُسئ َل رسو ُل اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم عن هذا الشرح الذي يُصيب الصد َر‪..‬‬
‫ب» فقيل‪ :‬وما عَّلمته؟ فقال‪« :‬التَّجافِ ْي‬‫قال‪« :‬هو ن ْو ٌر ي ْق ِذفه اهلل تعال ْى فِ ْي القلْ ِ‬
‫ِ (‪)1‬‬
‫إلنابة إِل ْى د ْا ِر الخل ْود»‬
‫ع ْن دا ِر الغر ْو ِر‪ ،‬وا ِ‬

‫جة اإلسالم الغزالي رضي اهلل عنه عن هذا النور‪:‬‬


‫وقال ح َّ‬

‫هو الذي قال صلى اهلل عليه وسلم فيه‪« :‬إ َّن اهلل تعالى خلق الخلْق في ظلْمة‬
‫ذلك النور ينبغي أ ْن يُطلَب ال َك ُ‬
‫شف‪.‬‬ ‫ثمَّ رشَّ عليهم ِمن نو ِرهِ» فمن َ‬

‫نبجس من الجود اإللهي في بعض األحايين‪ ،‬ويَجب الترص ُد‬


‫ُ‬ ‫وذلك النور يَ‬
‫ات أ َّال فتع َّرض ْوا لها»‪.‬‬ ‫له؛ كما قال عليه السَّلم‪« :‬إ َّن ل ِرب ِّك ْم فِ ْي أيَّ ِ‬
‫ام د ْه ِرك ْم نفح ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫انتهى‬

‫شيري رضي اهلل عنه في «لطائف اإلشارات» عند قوله تعالى‬ ‫ُّ‬ ‫وقال اإلمام الق‬
‫ٗ‬ ‫َٰٓ َ َُ َ َ َُ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َٰ َ َ َٰ ٗ َ ُ َ َ ٗ َ َ‬
‫من (سورة األحزاب)‪ :‬ﵟيأيها ٱلن ِبي إِنا أرسلنك ش ِهدا ومب ِشرا ونذِيرا ‪٤٥‬‬
‫َ َ َ ُۡ ۡ َ َ َ َُ َ َ َ َ ۡ ٗ‬ ‫ََ ً َ َ‬
‫ٱّللِ بإ ۡذنِهِۦ َوس َر ٗ‬
‫اجا َُمن ٗ‬
‫ِيرا ‪ ٤٦‬وب ِش ِر ٱلمؤ ِمنِين بِأن لهم مِن ٱّللِ فضلا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وداعِيا إِلي‬

‫(‪ )1‬رواه الحاكم في «المستدرك» (‪ )7863‬من حديث ابن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪« )2‬المنقذ من الضَّلل» (ص‪.)55‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫َ‬
‫َٰ‬ ‫ۡ َ َٰ َ َ ۡ ُ َ َٰ َ َ َ ۡ َ َ َٰ ُ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َكب ٗ‬
‫يرا ‪ ٤٧‬ولا ت ِطعِ ٱلكفِ ِرين وٱلمنفِقِين ودع أذىهم وتوكل على ٱّللِۚ وكفى بِٱّللِ‬ ‫ِ‬
‫ٗ‬
‫َوك ِيلاﵞ ﵝالأَ ۡح َزاب ‪ :‬ﵕﵔ ‪ -‬ﵘﵔﵜ ‪:‬‬

‫(يا أيُّها) ال ُم َشرفُ من قبَلنا‪( ..‬إن َّا أرسلناك شاهدا) بوحدانيتنا‪( ،‬وم ِّ‬
‫بشرا)‬
‫تُبشر عبادَنا بنا‪[ ،‬ونذيرا] تحذ ُرهم ُمخال َ َفةَ أَمرنا‪ ،‬وتُعلمهم مواض َع الخوف منا‪،‬‬
‫بك‪ ،‬وشمساً ينبسط شعا ُعك‬
‫(وداعيا) الخل َق إلينا بنا (وسراجا منيرا) يستضيئون َ‬
‫بعك و َخ َدمَك وقَدمك‬ ‫صدقَك وآمَ َن َ‬
‫بك وال يصل إلينا إال مَن ات َ‬ ‫على جميع مَن َ‬
‫(وب ِّشر المؤمنين) بفضلنا عليهم‪ ،‬ونَيلهم َطولَنا عليهم‪ ،‬وإحساننا إليهم‪ ،‬ومَن ل َمْ‬
‫ْ‬
‫أعرضنا عنه‬ ‫بك‪ ..‬فَّل قَ ْد َر لهم عن َدنا (وال ت ِط ْع) مَن‬
‫تُؤثر فيهم بركةُ إيمانهم َ‬
‫وأضلَلناه من أهل ال ُكفر والنفاق‪ ،‬وأهل البدع والشقاق (وتو َّكل على اهلل) بدوام‬
‫(‪)1‬‬
‫االنقطاع إليه (وكفى باهلل وكيال)‪ .‬انتهى‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬كَّلم اإلمام القشيري كما نقله سيدي ابن عجيبة في «البحر المديد» وفيه بعض اختَّلف في بعض الكلمات في‬
‫المطبوع من «لطائف اإلشارات»‪.‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫الفصل التَّاسع‪:‬‬

‫إن الكَّل َم عن رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬ت َعرض أل َجل النف َ‬
‫حات‪،‬‬
‫وتوسل ألعظم الغايات‪ ،‬وباب مفتوح متصل بسائر أبواب السعادات‪.‬‬

‫القلب بالفكر في‬


‫َ‬ ‫فاش َغل وقتَك بذكره وذكر فضائله وفواضله‪ ،‬واستحضر‬
‫حقيقته وحسن شمائله‪.‬‬

‫وقد قلت على البديهة في هذا الموطن‪:‬‬


‫دس في الحضارةِ األسانى‬ ‫ِ‬
‫نفحات الق ِ‬ ‫إلى‬ ‫موصااا ٌل‬
‫ب ِ‬ ‫القلاب ِ‬
‫باالحا ِّ‬ ‫ِ‬ ‫فاإ َّن اشاااتغاال‬

‫عس ا ا ا ا ااااك تجِ ْد عند الفن اااا ِء به المعنى‬ ‫فال تشغل ْن هااااااااااااذا الفااااااؤاد بغي ِره‬

‫خط بماء ال َعين‪ ،‬لغوث الثقلين و َملجأ ال َفريقين‪،‬‬


‫إذ قد مر بالخاطر كَّلم يُ َ‬
‫سيدي أبي العباس أحم َد الكبير الرفاعي قدس اهلل سره؛ إذ يقول‪( :‬الفناء فيه‬
‫‪ e‬بقاءٌ باهلل)(‪ .)1‬ففي هذه الكلمات الشريفة العالية‪ ..‬اختصار لطريق السلوك‬
‫جميعه؛ أوله وآخره‪ ،‬وظاهره وباطنه‪.‬‬

‫حيث إن البقاءَ باهلل‪ ..‬هو الغاية العظمى وال َمقص ُد األرف ُع األ َسمى‪ ،‬من‬
‫حيث تحق ُق العبد بالعبودية التي هي غايةُ الدين‪.‬‬

‫(‪« )1‬الكليات األحمدية» (ص‪.)175‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫والفناء به صلَّى اهلل علي ِه وسلَّم‪ ..‬ال يتأتى طري ُقه إال‪ :‬باالنقطاع إليه‪،‬‬
‫واالحتكام في كل األمور ل َديه‪ ،‬واالستهتار بمحبته‪ ،‬والتعظيم لجنابه ولزوم‬
‫مودته‪ ،‬والتوله بذكره‪ ،‬والخضوع لنَهيه وأ َمره‪ .‬فكل هذه أبواب توصل العب َد‬

‫إلى الفناء به صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪.‬‬
‫َُ َ‬ ‫ِيما َش َ‬ ‫ََ َ َ َ َ َ ُۡ ُ َ َ َ َُ َ‬
‫ج َر بَيۡنَ ُه ۡم ثم لا‬ ‫ك ُِم َ‬
‫وك ف َ‬ ‫قال تعالى‪ :‬ﵟفلا وربِك لا يؤمِنون حت َٰي يح‬
‫ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ ْ ٓ َ ُ ۡ ََ ٗ َ َ َ َ ۡ َ َُ َ َُ ْ َ‬
‫س ِهم حرجا مِما قضيت ويسلِموا تسلِيما ‪٦٥‬ﵞ ﵝالنِساء ‪ :‬ﵕﵖﵜ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ي ِجدوا فِي أنف ِ‬

‫قال سيِّدي أحمد بن عجيبة رضي اهلل عنه‪ ،‬في تفسيره «البحر المديد»‪:‬‬
‫ََ‬
‫حكم رسوله؛ فقال‪ :‬ﵟفلا‬ ‫أقسم بربوبيته على نفي إيمان مَن لم يرضَ ب ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َُ َ‬
‫َٰ‬ ‫َََ َ َ ُۡ ُ َ‬
‫وربِك لا يؤمِنون﴾ إيمانا حقيقيا ﴿حتي يحكِموك﴾ أي‪ :‬يترافعوا إليك راضي َن‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫َُ َ َ ْ‬ ‫ِيما َش َ‬
‫ج َر بَيۡنَ ُه ۡم﴾ أي‪ :‬اختلط بينهم واختلفوا فيه ﴿ثم لا ي ِج ُدوا ف ِ ٓي‬ ‫بحكمك ﴿ف َ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ً َ ً ََ َ َ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ‬
‫تنشرح صدو ُرهم‬ ‫ُ‬ ‫س ِهم حرجا﴾ أي‪ :‬ضيقا وشكا ﴿مِما قضيت﴾؛ بل‬ ‫أنف ِ‬
‫ِيما﴾؛ أي‪ :‬ينقادوا‬ ‫ك؛ ألنه حق من عند اهلل ﴿ َويُ َسلَ ُِموا ْ﴾ أل َمر َك ﴿ت َ ۡسل ٗ‬ ‫حكم َ‬‫ل ُ‬
‫ألمر َك ظاهراً وباطناً‪ .‬انتهى‬

‫‪- 55 -‬‬
‫َ َۡ ََ ُ ۡ َ َ ُ ْ َ ُ َ ُ َ‬
‫وقال رضي اهلل عنه في تفسير قوله تعالى‪ :‬ﵟولو أنهم فعلوا ما يوعظون‬
‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٗ َۡ َ ُ َ َُ َٓ َ‬ ‫ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ۡ َُ ۡ َ‬
‫ً‬
‫نهم مِن لدنا أجرا ع ِظيما ‪٦٧‬‬ ‫بِهِۦ لكان خي ٗرا لهم َوأشد تثبِيتا ‪ ٦٦‬وِإذا ٓأَّلتي َٰ‬
‫َ‬

‫يماﵞ ﵝالنَ َِساء ‪ :‬ﵖﵖ ‪ -‬ﵘﵖﵜ‪:‬‬ ‫ص َر َٰ ٗطا َُم ۡستَ ِق ٗ‬ ‫ۡ‬


‫م‬ ‫ُ‬
‫ه‬ ‫َٰ‬ ‫َول َ َه َديۡ َ‬
‫ن‬
‫ِ‬

‫َ َۡ ََ ُ ۡ َ َ ُ ْ َ ُ َ ُ َ‬
‫حكمه‪..‬‬ ‫﴿ولو أنهم فعلوا ما يوعظون بِهِۦ﴾ من طاعة الرسول والرضى ب ُ‬
‫ٗ‬ ‫ََ َ َ َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ ۡٗ َ‬
‫﴿لكان خيرا لهم﴾ في آجلهم وعاجلهم ﴿وأشد تثبِيتا﴾ في دينهم وقوةً في‬
‫َۡ َ ُ َ َُ َٓ‬ ‫َ ٗ‬
‫نهم مِن لدنا‬‫ِإذا﴾ لو فعلوا ذلك‪ٓ ﴿ ..‬أَّلتي َٰ‬ ‫إيمانهم‪ ،‬أو تثبيتاً لثواب أعمالهم ﴿و‬
‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َ َ ۡ َ َٰ ُ ۡ َ َٰ ٗ َُ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫صرطا مستقِيما﴾ يَصلون بسلوكه إلى حضرة‬
‫َ‬ ‫أجرا ع ِظيما ‪ ٦٧‬ولهدينهم ِ‬ ‫ً‬

‫ال ُقدس‪ ،‬ودوام األ ُنس‪ ،‬ويَفتح لهم أسرا َر العلوم‪ ،‬ومَخاز َن ال ُفهوم‪ .‬انتهى‬

‫وقال اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه‪ ،‬في «الرسالة»‪:‬‬

‫وض َع اهللُ رسولَه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم من دينه وفرضه وكتابه‪ ..‬الموض َع‬
‫الذي أبا َن ‪-‬جل ثناؤه‪ -‬أنه جعله َعلماً لدينه بما افترضَ من طاعته وحر َم من‬
‫قرن من اإليمان برسوله مع اإليمان به؛ فقال‬ ‫معصيته‪ ،‬وأبان من فضيلته بما َ‬
‫ك ۡم إ َنماَ‬‫َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َٰ َ َ ُ ْ َ ۡ ٗ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ ْ َ‬
‫تبارك وتعالى‪ :‬ﵟفـامِنوا بِٱّللِ ورسلِهِۖۦ ولا تقولوا ثلثة ۚ ٱنتهوا خيرا ل ۚ ِ‬
‫ََ ُۡ ۡ ُ َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َ ُ َ َٰ ‪َ َ ُ َ َ ُ َ َ ٓ ُ َ َ ۡ ُ ٞ َ ٞ‬‬
‫ٱّلل إِله وَٰحِدۖ سبحَٰنهۥ أن يكون لهۥ ولدﵞ ﵝالنِساء ‪ :‬ﵑﵗﵑﵜ‪ .‬وقال‪ :‬ﵟإِنما ٱلمؤمِنون‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫َ ۡ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ‬
‫امنُوا بِٱّللِ َو َر ُسولِهِۦ َوِإذَا كانُوا َم َع ُهۥ عَل َ َٰٓى أ ۡم ٖر َجام ِٖع ل ۡم يَذ َهبُوا َح َتيَٰ‬‫ٱلذِين ء‬

‫‪- 56 -‬‬
‫ﵝالنور ‪ :‬ﵒﵖﵜ؛ فجع َل كما َل ابتداء اإليمان الذي ما سواه تبع له‪ :‬اإليما َن‬
‫َُ‬ ‫ي َ ۡستَ ۡـذِنُ ُ‬
‫وهﵞ‬
‫(‪)1‬‬
‫باهلل ورسوله‪ .‬انتهى‬

‫السلمي رحمه اهلل تعالى «حقائق التفسير» في قوله‬ ‫وجاء في تفسير اإلمام ُّ‬
‫ٱستَ ۡغ َف َر ل َ ُهمُ‬ ‫ٱستَ ۡغ َف ُروا ْ َ َ‬
‫ٱّلل َو ۡ‬ ‫َ َ ُ ْٓ َ ُ‬
‫نف َس ُه ۡم َجا ٓ ُء َ‬
‫وك فَ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ َۡ ََ‬
‫تعالى‪ :‬ﵟولو أنهم إِذ ظلموا أ‬
‫ٗ‬ ‫َ ُ ُ ََ َ ُ ْ ََ ََ ٗ َ‬
‫ٱلرسول لوجدوا ٱّلل توابا رحِيما ‪٦٤‬ﵞ ﵝالنِساء ‪ :‬ﵔﵖﵜ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َۡ ََ ُ ۡ َ َ ُ ْٓ َ ُ‬


‫ﵟولو أنهم إِذ ظلموا أنفسهمﵞ باإلعراض عنا‪ ..‬استشفعوا بك إلينا؛ ألقبلنا‬
‫َ‬
‫عليهم بالبر والفضل‪ .‬انتهى‬

‫ُۡ ُ َ َ َ َُ َ‬
‫ك ُِم َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫وك‬ ‫يؤمِنون حت َٰي يح‬ ‫وقال أيضا في اآلية التي بعدها‪ :‬ﵟفلا َو َربَِك لا‬
‫َ َ َ َ ۡ َ َُ َ َُ ْ‬ ‫سه ۡم َح َرجاٗ‬ ‫َ َ َ َ ََُۡ ۡ ُ َ َ َ ُ ْ ٓ َ ُ‬
‫مِما قضيت ويسلِموا‬ ‫فِيما شجر بينهم ثم لا ي ِجدوا فِي أنف ِ ِ‬
‫ت َ ۡسل ٗ‬
‫ِيما ‪٦٥‬ﵞ ﵝالنَ َِساء ‪ :‬ﵕﵖﵜ‪:‬‬

‫أظهر الحق عز وجل على حبيبه صلى‬


‫َ‬ ‫قال بعضهم رحمه اهلل في هذه اآلية‪:‬‬
‫وسل َم خلَعاً من خلَع الربوبية؛ فـ َ‬
‫جع َل الرضا ب ُ‬
‫حكمه ‪َ -‬ساءَ أم سر‪..-‬‬ ‫اهللُ علَيه َ‬
‫َ‬
‫فأسقط‬ ‫سبباً إليمان المؤمنين‪ ،‬كما َجع َل الرضا بقضائه سبباً إليقان ال ُموقنين‪،‬‬

‫(‪« )1‬الرسالة»(ص‪.)73‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫عنه اسمَ الواسطة؛ ألنه متصف بأوصاف الحق عز وجل‪ ،‬مُتخلق بأخَّلقه‪ ،‬أال‬
‫(‪)1‬‬
‫العرش محمودٌ وهذا مح َّمد"‪ .‬انتهى‬
‫ِ‬ ‫ترى كيف قال حسا ُن بن ثابت‪" :‬فذوا‬

‫أظهره عليه من مَظاهرها‪،‬‬


‫َ‬ ‫قلت‪ :‬أما قوله‪ِ ( :‬خلعا ِمن ِخلع ُّ‬
‫الربوبية)‪ :‬ما‬
‫حكم واالحتكام‪ ،‬وال َف ْ‬
‫صل بالحق‬ ‫ومنها الرجو ُع إليه صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم في ال ُ‬
‫بين األنام‪.‬‬

‫قال العارف روزبهان الب ْقلي قدس اهلل سره في تفسيره «عرائس البيان» عند‬
‫َ َ ُ ُ َََ ُ ۡ ََُۡ َ‬
‫قوله تعالى‪ :‬ﵟوٱتبِعوه لعلكم تهتدونﵞ ﵝالأعراف ‪ :‬ﵘﵕﵑﵜ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َۡ‬

‫مفاتيح فواتح خزائن كنوز معارف ذاته وصفاته‪ ،‬أي‪:‬‬


‫َ‬ ‫َج َع َل متابعةَ نبيه‪..‬‬
‫اتبعوه بنعت ال َمحبة ووصف االقتداء بالسنة بغير ال ُمخال َفة؛ لعلكم ت ُ َ‬
‫رشدون‬
‫إلى ُمشاهدة أنوار الذات في الصفات‪ ،‬و َمساقي تجلي الصفات في‬
‫(‪)2‬‬
‫األفعال‪ .‬انتهى‬

‫الفتح األكبر‪ ،‬وهو معنى البقاء الذي ذكره سيدي‬


‫ُ‬ ‫قلت‪ :‬هذه النتيجةُ‪ ..‬هي‬
‫أحمد الرفاعي رضي اهلل عنه في كلمته التي نقلناها آنفا‪.‬‬

‫(‪ )1‬مخطوط «حقائق التفسير» لوحة ‪43‬ب‪ ،‬وفي المطبوع تصحيف (‪.)154/1‬‬
‫(‪« )2‬عرائس البيان» (ج‪.)484/1‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫الفصل العاشر‪:‬‬

‫قدمنا فيما سب َق ُسبُ َل الوصول إلى الفناء به صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ،‬وأما معنى‬
‫ال َفناء به صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫ق وال ُمشاهدةُ‪ ،‬والتحقق بأنه صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ..‬السر الجام ُع‬ ‫فهو الذو ُ‬
‫الدال على اهلل‪ ،‬كما قال العارفُ ‪( :‬اللهم إنَّه سرك الجامع الدَّال عليك)‪.‬‬

‫الك –حين فنائه به صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ -‬أنه عليه الصَّلة‬ ‫فيشاهد الس ُ‬
‫والسَّلم‪ ..‬منه انشقت األسرا ُر وانفلقت األنوا ُر‪.‬‬

‫واألسرار‪ :‬هي أسرار الذات اإللهية‪ ،‬وأما األنوار‪ :‬فأنوار الصفات السنية‪.‬‬

‫وبهذا الطريق يُح َف ُ‬


‫ظ الس ُ‬
‫الك من تخبطات األحوال؛ إذ الدليل فيها هو‬
‫تك األحوا ُل‪ ..‬ردك صلى اهللُ علَيه‬ ‫رسو ُل اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪ ،‬فكلما غلبَ َ‬
‫دوائر االلتزام‪ ،‬حيث ت َرد كل‬
‫َ‬ ‫قك بمداد مَدده فأل َزمَ َ‬
‫ك‬ ‫وسلمَ إلى االحتشام‪ ،‬وطو َ‬
‫َ‬
‫خطاب إليه‪ ،‬وت َ ُعد كل ُمشاهدة من فيض جود يَ َديه‪ ،‬وهذا هو اإلكسير الذي في‬
‫طوايا كلمات السيد الرفاعي الكبير‪ ،‬رضي اهلل عنه وأمدنا بإمداده‪ ،‬آمين‪.‬‬

‫وفي هذا قال العارف المح ِّقق سيِّدي عبد الكريم الجِ ُّ‬
‫يلي رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫وسلمَ ول َمْ يصرفْ كلمةَ‬
‫حض ُر بين يدَي رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫ولي يَ ُ‬
‫كل ٍّ‬
‫الحضرة الكمالية إلى رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلم‪ ..‬فإنه ال يبل ُغ مرتبةَ‬
‫(‪)1‬‬
‫الكمال‪ .‬انتهى‬

‫يخ األكبر محيي الدِّين رضي اهلل عنه‪:‬‬ ‫و ِمن قبله قول َّ‬
‫الش ِ‬

‫رائي ُمختلفةُ األشكال‪ ،‬وأنها ت ُ َ‬


‫صي ُر ال َمرئي عند الرائي بحسب‬ ‫واعلم أن ال َم َ‬
‫شكلها؛ من ُطول وعرض واستواء وع َوج واستدارة ونقص وزيادة وتعدد‪ ،‬وكل‬
‫شيء يعطيه شك ُل تلك المرآة‪.‬‬

‫ت أن الرس َل أعد ُل الناس مزاجاً؛ لقبولهم رساالت ربهم‪ ،‬وكل‬


‫وقد علم َ‬
‫شخص منهم قب َل من الرسالة ق ْد َر ما أعطاه اهللُ في مزاجه من التركيب‪ ،‬فما من‬
‫حمداً‬
‫خاص َمقصور‪ ،‬وأن ُم َ‬
‫ٍّ‬ ‫نبي إال ب ُعث خاصةً إلى قوم ُمعينين؛ ألنه على مزاج‬
‫ٍّ‬
‫صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلم‪ ..‬ما بعثَه اهللُ إال برسالة عامة إلى جميع الناس كافةً‪ ،‬وال‬

‫قَب َل هو مث َل هذه الرسالة‪ ..‬إال لكونه على مزاج عا ٍّم يحوي على مزاج كل ٍّ‬
‫نبي‬
‫و َرسول؛ فهو أعد ُل األمزجة وأكملُها وأقومُ النشآت‪ .‬فإذا علمت هذا وأردت‬
‫أكمل ما ينبغي أن يظهر به لهذه النَّشأة اإلنسانية‪ ..‬فاعلم أنك‬
‫ِ‬ ‫أن ترى الح َّق على‬

‫(‪« )1‬الكماالت اإللهية» (ص‪.)114‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫حمد صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلمَ‪،‬‬ ‫ليس َ‬
‫لك‪ ،‬وال أنت على مثل هذا المزاج الذي ل ُم َ‬
‫حمد صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلم في‬ ‫ت نزول َ َ‬
‫ك عن الدرجة التي صحت ل ُم َ‬ ‫وقد علم َ‬
‫العلم بربه في نشأته؛ فالز ِم اإليمان واالت ِّباع‪ ،‬واجعله أمامك ِمثل المرآةِ التي‬
‫تنظر فيها صورتك وصورة غيرك‪.‬‬

‫إلى أن قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫لك في النصيحة‪ ،‬واحذر أن تشه َده في مرآت َ‬


‫ك‪ ،‬أو‬ ‫وأبلغت َ‬
‫ُ‬ ‫فقد نصحتُ َ‬
‫ك‬
‫ك؛ فإنه يَنز ُل بك ذلك عن‬
‫تشه َد النبي ‪-‬وما تجلى في مرآته من الحق‪ -‬في مرآت َ‬
‫الدرجة العالية‪.‬‬

‫ك صلى اهللُ علَيه‬


‫فال َزم االقتداءَ واالتبا َع‪ ،‬وال ت َطأ مكاناً ال ت َرى فيه قدمَ نبي َ‬
‫أردت أن تكون من أهل الدرجات ال ُعلى‬
‫َ‬ ‫قدمك على قدمه إ ْن‬
‫َ‬ ‫وسلم‪َ ،‬‬
‫فضع‬ ‫َ‬
‫لك في النصيحة كما أ ُم ُ‬
‫رت‪،‬‬ ‫أبلغت َ‬
‫ُ‬ ‫والشهود الكامل في المكانة الزلفى‪ ،‬وقد‬
‫(‪)1‬‬
‫َواهلل يَهدي من يَشاءُ إلى صراط ُمستَقيم‪ .‬انتهى‬

‫ونسو ُ‬
‫ق كَّل َم سيدي أحمد الكبير الرفاعي قدس اهلل روحه‪ ،‬الذي بسطنا‬
‫شذرةً منه فأسكرتنا‪ ،‬ولمعةً فأدهشتنا‪ ،‬وقطرةً فأغرقتنا؛ إذ كان كَّلمه الشريف‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (ج‪.)525-251/3‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫على طراز رفيع لطيف‪ ،‬حوى من المعاني من غير مرا‪ ..‬ما يقال فيه‪ :‬كل الصيد‬
‫في جوف الفرا‪.‬‬

‫فقال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫باب معرفة اهلل؛ فمتى عرفَ العب ُد حقيقةَ‬


‫معرفةُ النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ُ ..‬‬
‫نبيه‪ ..‬ع ََرفَ ربه‪.‬‬

‫ومعرفة حقيقتِ ِه العظيم ِة لها طريقان‪:‬‬

‫ُ‬
‫حفوظ من سيرته‪ ،‬وخصاله وأحكام‬ ‫لفظي‪ :‬وهو ال َمنقو ُل ال َم‬ ‫طري ٌق‬
‫ٌّ‬
‫شريعته‪ ،‬وجليل شأنه‪.‬‬

‫معنوي‪ :‬وهو سر کشفي يُنتجه العم ُل بأعماله‪ ،‬والقو ُل بأقواله‪،‬‬


‫ٌّ‬ ‫وطري ٌق‬
‫واألخ ُذ األكم ُل في الحركات والسكنات بسنته‪ ،‬عليه من اهلل أشرفُ الصَّلة‬
‫وأكرم السَّلم‪.‬‬

‫والوقوفُ على حقيقة نوره‪ ،‬واالطَّل ُع على ال َمقام الجامع بين مَب َطنه‬
‫و ُظهوره‪ ..‬هو عندي العل ُم ال ُمو َر ُ‬
‫ث اللدني الذي انطوت به جمي ُع ال ُعلوم‪،‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫ت بد ْرکه ال ُفهوم‪ ،‬وهو ال َمقصود من قوله عليه الصَّلة والسَّلم‪« :‬من‬
‫وحا َر ْ‬
‫ع ِمل بما يعلم و َّرثه اهلل ِعلم ما لم يعلم»(‪.)1‬‬

‫سرائر الخفايا‬
‫َ‬ ‫َويْه على ال َمحجوبين الذين وقَفوا مع الظواهر وما أدركوا‬
‫ال َمطوية في ال َمظاهر! هو يقول‪« :‬كنت نبيّا وآدم بين الماء وال ِّطين»(‪)2‬؛ دَ ْر ُك هذه‬
‫الكينونة‪ ،‬وفه ُم مزية النبوة‪ ،‬واالطَّل ُع على نسج الصورة اآلدمية‪ ..‬قائم‬
‫سر جامع‪ ،‬وإال فهو ال ينط ُق عن الهوى!‬
‫بحقيقته‪ ،‬و ُمعرب عن ٍّ‬

‫تلك إشارات خاصة قامت مع البَّلغ العام‪ ،‬أين أهل الصوامع؟ أين أهل‬
‫وانفصمت مَحجتُهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫البيَع؟ أين سكان القفار؟ انقطعت ُحجتُهم‪،‬‬

‫حمدية في ُسرادق ألفاظ مُلْكية؛ تجم ُعها حروف صيْ َغت‬


‫هذه نکات مُ َ‬
‫بمعان قا َمت بإيجازها بَّلغةُ سيد أهل البيان‪ ،‬برهان العقَّلء‪ ،‬سلطان األنبياء‪،‬‬

‫(‪ )1‬قال الحافظ السيوطي في «الدرر المنتثرة» (ص‪[ :)192‬أخرجه] أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بهذا اللفظ‪،‬‬
‫اهلل أ ْن يعلِّمه ما ل ْم يك ْن يعْل ْم»‬
‫وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً‪« :‬م ْن تعلم ِعلْما فع ِمل بِ ِه كان ح ّقا على َّ ِ‬

‫وفي كتاب «رواية الكبار عن الصغار» ألبي يعقوب البغدادي عن سفيان‪( :‬مَ ْن عَم َل ب َما يَعْلَمُ ُوف َق ل َما ال يَعْلَمُ)‪.‬‬
‫انتهى كَّلم السيوطي رحمه اهلل‪.‬‬
‫وح والجس ِد» رواه أحمد‪ ،‬والبخاري في «تاريخه»‪ ،‬وأبو نُعيم في «الحلية» وصححه‬
‫(‪« )2‬كنت نبِيًّا وآدم بين ال ُّر ِ‬
‫الحاكم‪ .‬وأما ما اشتهر على األلسن بلفظ‪( :‬كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين )‪ ..‬فقال شيخنا الحافظ أبو الخير‬
‫السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة»‪ :‬لم نقف عليه بهذا اللفظ‪ .‬انتهى من «المواهب اللدنية» (ص‪.)41-40‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫وتي جوام َع ال َكلم‪ ،‬واستَود َع س َ‬
‫لك اإلرشاد عقودَ هذا النظام المنتظم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الذي أ َ‬
‫وهو ُسل ُم الدنو الرفيع الناهض بالضعفاء واألقوياء إلى الحضرة القدوسية‪،‬‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َٰ َ َ َ ۡ َ ٗ‬
‫وهناك ال بد منه‪ ،‬وال غنى عنه‪ ،‬كيف وقد قال له ربه‪ :‬ﵟوما أرسلنك إِلا رحمة‬
‫ينﵞ؟!‬ ‫لَِلۡ َعَٰلَم َ‬
‫ِ‬

‫وكل ما نوه به الصالحون؛ من التخلي والتجرد‪ ..‬فهو فيما يؤو ُل إلى ُحكم‬
‫َ َ‬
‫ﵟوٱتبِ ۡع‬ ‫تقديم ال ُعبودية ال َمحضة هلل‪ ،‬ال فيما يؤول للتوسط والتوسل‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫َُ ْ ََ َ َۡ ُ ْٓ َۡ َۡ ََ‬
‫وسِيلةﵞ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ۡ ََ‬
‫ﵝالماـئِدةَ‬ ‫سبِيل من أنابﵞ ﵝلقمان‪ :‬ﵕﵑﵜ ‪ ،‬وقال تعالى‪ :‬ﵟٱتقوا ٱّلل وٱبتغوا إِليهِ ٱل‬
‫َ‬ ‫ُۡ‬

‫‪ :‬ﵕﵓﵜ‪ ،‬وهذا السيد العظيم‪ ..‬وسيلةُ الوسائل‪ ،‬آمنا باهلل وبرسوله‪ ،‬وكفى باهلل وليا‪.‬‬
‫انتهى النقل عن سيدي أحمد الرفاعي رضي اهلل عنه(‪.)1‬‬

‫فانظر أيها السالك ال ُمريد‪ ،‬لكَّلم هذا العارف ال َفريد‪ ،‬فقد حوى جملةَ‬

‫األسرار‪ ،‬وطري َق سلوك األبرار‪ ،‬وسبي َل نهج الكبار!‬

‫ثم دقق في قوله الشريف‪:‬‬

‫(وكل ما نوه به الصالحون من التخلي والتجرد‪ ..‬فهو فيما يؤو ُل إلى ُحكم‬
‫تقديم العُبودية ال َمحضة هلل‪ ،‬ال فيما يؤول للتوسط والتوسل)‪ ..‬تجد معنى ما‬

‫(‪« )1‬الكليات األحمدية» (ص‪.)175‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫ذكرناه آنفا عن اإلمامَين ‪-‬الشيخ عبد الكريم الجيلي والشيخ محيي الدين‪-‬‬
‫فسيدي عبد الكريم الجيلي قال‪:‬‬

‫ولي يحضر بين يدَي رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم ولم يصرف كلمةَ‬ ‫كل ٍّ‬
‫الحضرة الكمالية إلى رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسل َم‪ ..‬فإنه ال يبل ُغ مرتبةَ‬

‫الكمال‪ .‬انتهى‬

‫وسيدي الش ُ‬
‫يخ األكبر قال‪:‬‬

‫ك صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسلم‪ .‬انتهى‬ ‫فَّل تطلب مشاهدةَ الحق‪ ..‬إال في مرآة نبي َ‬

‫َ‬
‫ولك التحق َق بهذه‬ ‫فراجع كَّلمهم وتحقق من مَرامهم‪ ،‬وسل اهللَ لي‬
‫األذواق‪ ،‬فهي ‪-‬واهلل‪ُ -‬سل ُم كمال النجاة في الدنيا ويو َم التَّلق‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫الفصل الحادي عشر‪:‬‬

‫قال سيِّدي اإلمام الرفاعي رضوان اهلل عليه‪:‬‬

‫سر الوالي ِة‪ :‬مرقاة يصل به الولي إلى ف ْهم شأن النبوة‪ ،‬فيعرفُ عظي َم ق ْدر‬
‫ُّ‬
‫ويقف ذليَّلً منكسراً مُتحيراً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫النبي؛ وبهذا يُعظم شأ َن ربه‪ ،‬ويخش ُع لعزة سلطانه‪،‬‬

‫سبحات الجَّلل‪ ،‬منصوب بين ال َ‬


‫خلق‬ ‫ُ‬ ‫النُّب َّوة‪ :‬خدر مضروب عليه‬
‫والخالق‪ ،‬فيه من سلطان اهلل أمر قائم يَح ُك ُم على كل ذرة َمخلوقة في ال ُملك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ۡ َ َ َُ ُ َ ۡ َ َ َٰ ُ ۡ‬
‫وال َملكوت ﵟفهل على ٱلرس ِل إِلا ٱلبلغ ٱلمبِينﵞ ﵝالنحل ‪ :‬ﵕﵓﵜ ‪ ،‬جزاهم اهلل خير‬
‫ۡ‬ ‫َ‬

‫الجزاء‪ .‬انتهى كَّلمه الشريف المبارك(‪.)1‬‬

‫وقال أيضاً في «البرهان المؤيَّد»‪:‬‬

‫الوس ُ‬
‫ط‬ ‫َ‬ ‫أي سادة؛ عَظموا شأ َن نبيكم صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلم‪ ،‬هو البرز ُخ‬
‫حبيب اهلل‪ ،‬رسو ُل اهلل‪ ،‬أكم ُل خلق اهلل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الفارق بين الخلق والحق‪ :‬عب ُد اهلل‪،‬‬
‫رسل اهلل‪ ،‬الداعي إلى اهلل‪ ،‬ال ُمخبر عن اهلل‪ ،‬اآلخ ُذ من اهلل‪ُ ،‬‬
‫باب الكل إلى‬ ‫أفض ُل ُ‬
‫الحظيرة الرحمانية‪ ،‬وسيلةُ الكل إلى الحظيرة الصمدانية‪ ،‬ومَن اتصل به اتصل‪،‬‬

‫(‪ )1‬انظر «لباب المعاني» (ص‪ )112‬للسيد محمد العبدلي البحريني الرفاعي رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫ومَن انفصل عنه انفصل‪ ،‬قال صلوات اهلل وتسليماته عليه‪« :‬ال ي ْؤ ِمن أحدكمْ‬
‫حتَّى يكون هواه تبعا لِما جِ ئْت بِ ِه»(‪.)1‬‬

‫أي سادة؛ اعلموا أن نبوةَ نبينا صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم باقية بعد وفاته كبقائها‬
‫خلق مخاطبون‬ ‫يرث اهللُ األرضَ و َمن علَيها‪ ،‬وجمي َع ال َ‬ ‫َ‬ ‫حا َل حياته إلى أ ْن‬
‫ُ‬
‫بشريعته الناسخة لجميع الشرائع‪ ،‬و ُمعجزاته باقية وهي القرآن‪ ،‬قال تعالى‪ :‬ﵟقل‬
‫ۡ ُ َ ۡ َُ َ َ َٰٓ َ َ ۡ ُ ْ ۡ َ َٰ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ ۡ ُ َ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ان لا يأتون ب ِ ِمثلِهِۦ‬
‫ت ٱل ِإنس وٱل ِجن على أن يأتوا ب ِ ِمث ِل هذا ٱلقرء ِ‬ ‫لئ ِ ِن ٱجتمع ِ‬
‫ض ُه ۡم ل َِب ۡعض َظه ٗ‬‫َ َۡ َ َ َ ۡ ُ‬
‫يرا ‪٨٨‬ﵞ ﵝال ِإ ۡس َراء ‪ :‬ﵘﵘﵜ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ولو كان بع‬

‫أي سادة؛ مَن َرد أخبا َره الصادقةَ‪ ..‬ك َمن رد كَّلمَ اهلل تعالى‪ ،‬آمنا باهلل‪،‬‬
‫حمد رسو ُل اهلل صلى اهلل عليه وسل َم‪ ،‬قال‬ ‫وبكتاب اهلل‪ ،‬وبكل ما جاء به ن َبينا ُم َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ َ ۢ َ ۡ َ َ َ َ َ َ ُ ۡ ُ َ َٰ َ َ َ ۡ َ‬ ‫ََ َُ‬
‫يل‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ت‬‫ي‬ ‫و‬ ‫ى‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ٱل‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬‫ت‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ٱلر‬ ‫ِق‬
‫ِ‬ ‫ق‬‫ا‬‫ش‬ ‫تعالى‪ :‬ﵟومن ي‬
‫ص ً‬ ‫ت َ‬ ‫َ َََ ََ َٓ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ ۡ َ ُ َ َ َ َ َ َ َٰ َ ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫يرا ‪١١٥‬ﵞ ﵝالنَ َِساء ‪ :‬ﵕﵑﵑﵜ‪ .‬انتهى‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ء‬ ‫ا‬‫س‬ ‫و‬ ‫ۖ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ٱلمؤ ِمنِين نولِهِۦ ما تولي ون ِ‬
‫ل‬‫ص‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (‪ )15‬من حديث عبد اهلل ابن عمرو رضي اهلل عنهما مرفوعاً‪ ،‬وقال النووي في‬
‫«األربعين»‪( :‬حديث صحيح) انظر الحديث رقم (‪.)41‬‬
‫(‪« )2‬البرهان المؤيد» (ص‪.)22‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫قلت‪ :‬ومَن استقرأ َ كَّلمَ العارفين في شأن سيد ال ُمرسلين صلى اهللُ علَيه‬
‫وسلم‪ ..‬يجد أن ال َمعنى ال َمطلوب والغرضَ ال َمرغوب‪ :‬هو الوصول األتم‬
‫َ‬
‫لحضرة الحبيب المحبوب صلى اهللُ علَيه َ‬
‫وسلم‪.‬‬

‫ويَعلم عندها‪ :‬أن كل إشارة منهم إلى الحضرة ال ُقدسية‪ ،‬ظاهرة أو َمطوية‪،‬‬
‫حمدية‪ ،‬وما ل َ َم َع نو ُر أي‬
‫صريحة أو مَخفية‪ ..‬فإنما طريقها من ُكوة الحقيقة ال ُم َ‬
‫طريق‪ ،‬وال بر َز سر أي تحقيق‪ ..‬إال بعد انعكاس مرآته الزكية في قلوبهم الطاهرة‬
‫النقية‪.‬‬

‫حمدية صلى اهللُ علَيه‬


‫تختلف بحسب شهود هذه الحقيقة ال ُم َ‬
‫ُ‬ ‫واألذوا ُ‬
‫ق‬
‫وسلم‪ ،‬وإ ْن كانت واحدةً في أصل ال َمعرفة؛ لذا ال نج ُد في معارف أهل اهلل‬
‫َ‬
‫اختَّلفاً في األصول ال َمعرفية‪ ،‬وال التجليات الكشفية؛ ألنها كشوفات َحقية عن‬
‫إ ٍّل واحد‪.‬‬

‫قال َّ‬
‫الشيخ األكبر محيي الدِّين رضي اهلل عنه في «الفتوحات المكيَّة»‪:‬‬

‫وكذلك أه ُل الكشف المتقون من أ َت ْباع الرسل‪ ..‬ما اختلفوا في اهلل ‪-‬أي‪:‬‬


‫اآلخر فيه من حيث كش ُفه‬
‫َ‬ ‫في علمهم به‪ -‬وال ن ُقل عن أحد منهم ما يُخالف به‬
‫فكره! فإن ذلك يدخل مع أهل األفكار‪.‬‬
‫وإخبا ُره‪ ،‬ال من حيث ُ‬

‫‪- 68 -‬‬
‫فهذا مما يدلك على أن علومَهم‪ ..‬كانت أنواراً لم تتمكن لشبهة أن تتعرضَ‬
‫إليهم جملةً واحدةً؛ فقد علم َ‬
‫ت أن النو َر إنما ا ْختُص بأهل النور‪ ،‬وهم األنبياء‬

‫سلك على ما شرعوه‪ ،‬ول ْم يَتعد حدودَ ما قرروه‪ ،‬وات َقوا اهللَ‬ ‫َ‬ ‫والرسل و َمن‬
‫ََ‬ ‫َُ َ َ َٰ ُ‬
‫ﵟول ۡو‬ ‫َُ‬
‫ﵝالنور ‪ :‬ﵕﵓﵜ ‪،‬‬ ‫ورﵞ‬
‫األدب مع اهلل؛ فهم على نور من ربهم ﵟنور على ن ٖ‬ ‫َ‬ ‫ولزموا‬
‫يراﵞ ﵝالنَ َِساء ‪ :‬ﵒﵘﵜ يعني‪ :‬في نعت‬‫ٱختِ َلَٰ ٗفا َكثِ ٗ‬
‫ۡ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫كان م ِۡن عِن ِد غيۡ ِر ٱّللِ ل َو َج ُدوا فِيهِ‬
‫اظر بفكره في معتقده‪ ..‬ال يَبقى على حال َة واحدة‬
‫جب له؛ فإن الن َ‬
‫الحق وما يَ ُ‬
‫فيخر ُج‬
‫ُ‬ ‫دائماً؛ بل هو في كل وقت بحسب ما يعطيه دليلُهُ في زعمه في وقته‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫من أمر إلى نقيضه‪ .‬انتهى‬

‫حمدية؛ فهي وإن تعددت أذوا ُ‬


‫ق العارفين‬ ‫وكذلك قولهم في الحقيقة ال ُم َ‬
‫في شرحها ‪-‬ومن ث َم تعددت مُسميات ُها بحسب ال َمشاهد‪ ..-‬إال أنهم لم‬
‫يختلفوا في أنها مجعولة‪ ،‬فمن العارفين بهذه الحقيقة َمن يُسميها‪ :‬حقيقةَ‬
‫وح األعظمَ‪ ،‬ومنهم مَن يُسميها‪ :‬الطامةَ‬
‫الحقائق‪ ،‬ومنهم مَن يُسميها‪ :‬الر َ‬
‫الكبرى‪ ،‬ومنهم مَن يُسميها‪ :‬القلم‪ ،‬ومنهم مَن يُسميها‪ :‬العرشَ ‪ ،‬ومنهم مَن‬
‫يُسميها‪ :‬النو َر الذاتي‪ ،‬إلى آخر هذه التسميات التي تعبر في معنى ك ٍّل منها عن‬
‫ذوق مخصوص لهذه الحقيقة‪ ،‬وتدل على مشهد أو أكثر من مَشاهدها الرقيقة‪.‬‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (ج‪.)82/3‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫الفصل الثاني عشر‪:‬‬

‫قال َّ‬
‫الشيخ األكبر في «الفتوحات المكية»‪:‬‬

‫ال َمفعول اإلبداعي الذي هو الحقيقةُ ال ُم َ‬


‫حمدية عندنا‪ ،‬والعق ُل األول عند‬
‫(‪)1‬‬
‫غيرنا‪ ،‬وهو القل ُم األعلى الذي أبدعَه اهلل تعالى من غير شيء‪ .‬انتهى‬

‫حمديةَ‪ ..‬جوهر مفعول ال فاعل‪،‬‬


‫قلت‪ :‬هذا تصريح واضح بأن الحقيقةَ ال ُم َ‬
‫حادث ال قديم‪.‬‬

‫السرهندي قدس اهلل سره‪ :‬الحقيقة المح َّمدية‪ :‬هي‬


‫وقال سيِّدي أحمد ِّ‬
‫(‪)2‬‬
‫التعين اإلمكاني النوري‪ .‬انتهى‬

‫ي‪ ..‬من جملة ال ُممكنات‪.‬‬ ‫وهذا تصريح أيضاً بأن هذا النو َر ال ُم َ‬
‫حمد َ‬

‫وسلمَ‪ ..‬ل َ َما‬


‫بل نقول من باب التَّحقيق‪ :‬لوال إمكا ُن حقيقته صلى اهللُ علَيه َ‬
‫صحت له الخَّلفة الكاملة؛ إذ اإلمكان‪ :‬بر َزخ بين الوجود والعدم‪ ،‬له وجه إلى‬
‫هذا ووجه إلى هذا؛ وألجل هذا التقابل‪ ..‬صحت الخَّلفةُ الكاملةُ لإلنسان‬

‫الكامل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم‪ ،‬وصحت واسطتُه بين الحق والخلق‪ ،‬وهو معنى‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (ج‪.)94/1‬‬


‫(‪ )2‬انظر «عطية الوهاب» (ص‪ )7‬للشيخ محمد بك األوزبكي في الدفاع عن اإلمام السرهندي قدس سره‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫ما نقلناه من قبل عن سيدي أحمد الرفاعي رضي اهلل عنه بقوله‪( :‬هو البرزخ‬

‫الخلق والح ِّق) صلى اهللُ علَيه وآله َ‬


‫وسلم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الوسط الفارق بين‬

‫وقال سيِّدي أحمد التِّيجاني رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫حمدية‪ :‬فهو أو ُل موجود أوج َده اهلل تعالى من حضرة ال َغيب‪،‬‬


‫أما حقيقتُه ال ُم َ‬
‫(‪)1‬‬
‫وليس عند اهلل من َخلْقه َموجود قبلَها‪ .‬انتهى‬

‫السيد َّ‬
‫الشريف الجرجاني قدس اهلل روحه‪ ،‬في «التعريفات»‪:‬‬ ‫وقال َّ‬

‫الجوهر‬
‫ُ‬ ‫األكبر‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬ ‫خلي َفةُ‬ ‫وهو أو ُل َموجود َخلَ َقهُ اهللُ على ُ‬
‫صو َرته‪ ،‬وهو ال َ‬
‫(‪)2‬‬
‫النوراني‪ .‬انتهى‬

‫ومعنى قوله‪َ ( :‬خلَ َقهُ اهللُ على ُ‬


‫صو َرته)؛ يشير إلى الحديث الصحيح‪« :‬إ َّن‬

‫اهلل خلق آدم على صورةِ َّ‬


‫الرحمن»(‪ )3‬أي‪ :‬صفته‪ .‬أي‪ :‬ألبسه اهللُ ُحل َل أسمائه‬
‫خلق خليفةً لذاته‪ ،‬فهو صورة االسم الجامع «اهلل»؛ ألنه جامع‬
‫وصفاته‪ ،‬وأبر َزه لل َ‬

‫(‪« )1‬جواهر المعاني» (ص‪.)107‬‬


‫(‪« )2‬التعريفات» (ص‪.)112‬‬
‫(‪ )3‬رواه الدارقطني في «الصفات» عن ابن عمر رضي اهلل عنهما‪ ،‬انظر «الجامع الكبير» (ج‪.)290/11‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫لمعاني األسماء والصفات‪ ،‬وهذا هو معنى قول سيدي أحمد الرفاعي آنفاً عن‬
‫حمدية‪:‬‬
‫الحقيقة ال ُم َ‬

‫«دَر ُك هذه ال َكينونة‪ ،‬وف ْه ُم مَزية النبوة‪ ،‬واالطَّل ُع على نسج الصورة‬
‫اآلدمية‪ ..‬قائم بحقيقته‪ ،‬ومعرب عن ِسر جامع»‪.‬‬

‫فهذا هو السر الجام ُع‪ ،‬اس ُم الذات «اهلل»‪ ،‬جامع لسائر األسماء والصفات‪،‬‬

‫ولما كان صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسلم هو ال ُمتخلق ال ُمتحقق بسائر األسماء‬
‫والصفات‪ ..‬كان َمظهراً السم الذات «اهلل»‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫الفصل الثَّالث عشر‪:‬‬

‫يكشف لك‬
‫ُ‬ ‫ذكرنا فيما سبق أنه لكي تعرفَ الحق سبحانه‪ ..‬فَّلبد من دليل‬
‫غير ممكنة أبداً؛‬
‫عن أسمائه وصفاته؛ فإن معرفة الذات من حيث حقيقتُها‪ُ ..‬‬
‫وإنما المعرفةُ تكون من خَّلل أنوار وأثار األسماء والصفات‪ ،‬وليس هناك َمن‬
‫تحق َق كما َل التحقق والتخلق باألسماء والصفات‪ ..‬أرفع وأعلى وأكمل من‬

‫رسول اهلل صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسلم‪ ،‬القائل‪« :‬فواهللِ ألنا أعْلمه ْم بِاهللِ‪ ،‬وأشدُّه ْم له‬
‫خ ْشية»(‪.)1‬‬

‫الكاشف لنا‪ ،‬وهذا هو معنى النور‪ ،‬فهو النُّور ال َّذ ُّ‬


‫اتي؛ بمعنى أنه‬ ‫ُ‬ ‫فهو الدلي ُل‬
‫َمظهر السم الذات «اهلل»‪.‬‬

‫وسل َم‪ ..‬فقد تخلق بأخَّلق اهلل‪ ،‬وهذا‬ ‫ف َمن تخلق بأخَّلقه صلى اهللُ علَيه َ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َُ ُ َ َ ََ َُ ُ َ َ‬
‫من معاني قول الحق سبحانه‪ :‬ﵟإِن ٱلذِين يبايِعونك إِنما يبايِعون ٱّللﵞﵝالفتح ‪ :‬ﵐﵑﵜ‪،‬‬
‫ۡ‬ ‫َ‬

‫ت َو َلَٰك َِن َ َ‬
‫ٱّلل َر َم َٰىﵞ ﵝالأَ َنفال ‪ :‬ﵗﵑﵜ‪.‬‬ ‫ت إ ۡذ َر َم ۡي َ‬
‫وقوله تعالى‪َ ۡ َ َ َ َ :‬‬
‫ﵟوما رمي ِ‬

‫حمدية‪ :‬صورةُ االسم‬


‫ومن هنا يقول العارفون رضي اهلل عنهم‪ :‬الحقيقة ال ُم َ‬
‫الجامع اإللهي‪ .‬فليُفهم‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)6101‬ومسلم (‪ )127‬من حديث السيدة عائشة رضي اهلل عنها‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫هذا وقد يأتي معنى النُّور ال َّذ ِّ‬
‫اتي صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬نسبةً إلى الذات‬
‫اإللهية؛ لشرف حقيقته وعظيم أمرها‪.‬‬

‫ت عن الذات اإللهية من دون واسطة‪ ،‬فهي تأخ ُذ مَددَها‬


‫أو بمعنى أنها ب َ َر َز ْ‬
‫باشرةً‪ ،‬وكل َمن هو دو َن هذه الحقيقة‪ ..‬فإنما ُخل َق بواس َطتها؛‬
‫من الذات ُم َ‬
‫إيجاداً وإمداداً‪ ،‬ومن قول السيد محمد ابن جعفر الكتاني رضي اهلل عنه الذي‬
‫نقلناه‪:‬‬

‫وهذا من أكبر خصوصياته صلى اهللُ علَيه َ‬


‫وسل َم؛ وهو أنه ُخلق عن اهلل بَّل‬
‫واسطة شيء‪ ،‬و ُخلق كل شيء بواسطته‪ ،‬واستمد عن اهلل بَّل واسطة شيء‪،‬‬
‫واستمد كل شيء دون َه بواسطته‪ ،‬و ُخل َقت األشياءُ كلها من أجله‪ ،‬و ُخلق هو من‬
‫(‪)1‬‬
‫أجل مواله‪ .‬انتهى‬

‫وقال العَّلمة اب ُن حجر الهيتمي رضي اهلل عنه في «ال ِمنح المكيَّة شرح‬
‫الهمزيَّة»‪ ،‬عند قول الناظم رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫ال النَّ ِب ِّي ْ‬


‫استعاره الفضالء‬ ‫ِ‬ ‫ضل فِ ْي الْعال ِميْن ف ِم ْن ف ْ‬
‫ضا‬ ‫ك ُّل ف ْ‬

‫ما نَصهُ‪:‬‬

‫(‪« )1‬جَّلء القلوب» (ج‪.)247/3‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫حضرة اإللهية‪ ،‬وال ُم ْستَمد منها بَّل واس َطة‬ ‫ألنه ال ُممد ل َ ُهم؛ إذْ هو الوار ُ‬
‫ث لل َ‬
‫دُون غيره؛ فإنه ال يَستمد منها إال بواس َطته‪ ،‬فَّل يَص ُل لكامل منها شيء‪ ..‬إال‬
‫(‪)1‬‬
‫وهو من ف َيض َم َدده وعلى يَ َديْه‪ .‬انتهى‬

‫كذلك هو معنى ما ذكره السي ُد المحقق عب ُد الكريم الجيلي رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫من أنه صلى اهلل عليه وسلم مَخلوق من نور التجلي الذاتي‪ ،‬وما سواه فمخلوق‬
‫سره‪:‬‬
‫من تجليات أنوار األسماء والصفات‪ ،‬فقال ق َّدس اهلل َّ‬

‫اعلم أن َرسو َل اهلل‪ e‬كان أكم َل الوجود‪ ،‬وأفض َل العال َم وأشرفَ الخلق‬
‫باإلجماع؛ لكونه مخلوقاً م ْن نور الذات اإللهية‪ ،‬و َما سواهُ فإنما هو َمخلوق م ْن‬

‫ذلك كان عليه السَّلم أو َل مَخلوق َخلَ َقهُ اهللُ‬


‫أنوار األسماء والصفات‪ ،‬فأل ْجل َ‬
‫ات م َقد َمة على الصفات‪ ..‬ف َ َم ْظ َه ُر َها أيضاً ُم َقدم على َم ْظ َهر‬
‫تعالى‪ ،‬فكما أن الذ َ‬
‫أخبر عن ن ْفسه في حديث جابر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫َ‬ ‫الصفات‪ ،‬وقد‬

‫فقال‪« :‬أ َّول م ْا خلق اهلل ر ْوح نبِيِّك يا جابِر‪ ،‬ثمَّ خلق الع ْرش ِمنْه‪ ،‬ثمَّ خلق‬
‫(‪)2‬‬
‫العالم ب ْعد ذل ِك ِمنْه»‪ .‬انتهى‬

‫(‪« )1‬المنح المكية في شرح الهَمزية» (ص‪.)322‬‬


‫(‪« )2‬الكماالت اإللهية في الصفات المحمدية» (ص‪.)115‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫ومعنى آخر للنُّور ال َّذ ِّ‬
‫اتي؛ هو كونه صلى اهلل عليه وآله وسلم‪ ..‬قد وس َع‬
‫المعرفةَ الذاتية دون غيره؛ لكونه األكم َل دون الكل صلى اهلل عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫قال تعالى في الحديث القدسي‪« :‬ما و ِسعنِ ْي أ ْر ِض ْي والْ سم ْائِ ْي وو ِسعنِ ْي قلْب‬
‫عبْ ِدي الم ْؤ ِمن»(‪ )1‬في إشارة إلى قلبه الشريف صلى اهلل عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫قال العارف الجِ يلي رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫وسائر ال ُم َقربين من سائر ال َموجودات‬


‫ُ‬ ‫فاألنبياءُ‪ ،‬واألولياءُ‪ ،‬والمَّلئكةُ‪،‬‬

‫ل َيس عندهم ْ‬
‫وس ُع ال َمعرف َة الذاتية‪ ،‬ومحمد صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬الذي هو‬

‫قَلْ ُ‬
‫ب الوجود‪ ..-‬هو الذي عندهُ ال ُو ْس ُع الذاتي لل َمعرفة الذاتية‪ ،‬وإلى ذلك أشا َر‬
‫ب والْ ن ِب ٌّي م ْرس ٌل«(‪.)2‬‬ ‫ت مع اهللِ الْ يسعنِ ْي فِيْ ِه مل ٌ‬
‫ك مق َّر ٌ‬ ‫بقوله‪« :‬ل ِ ْي وق ْ ٌ‬

‫إلى أن قال رضي اهلل عنه‪ :‬فوس َع النبي صلى اهلل عليه وسل َم ت َجليه الذاتي‬
‫الموجودات عن ذلك‪...‬ول َما كان رسو ُل اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ُ‬ ‫الذي ضاقت‬

‫ات و ْاأل ْرض ل ْم ت ِط ْق أ ْن ت ْ‬


‫ح ِملنِي‪،‬‬ ‫(‪ )1‬أخرج اإلمام أحمد في «الزهد» (‪ )423‬من قول وهب بن منبه‪« :‬إِ َّن َّ‬
‫السماو ِ‬

‫و ِض ْقن ِم ْن أ ْن تسعنِي‪ ،‬و ِسعنِي قلْب الْم ْؤ ِم ِن الْوا ِد ِع اللَّيِّ ِن»‪.‬‬


‫(‪ )2‬قال الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» (‪ :)926‬يذكره المتصوفة كثير ًا‪ ،‬وهو في «رسالة القشيري» لكن‬
‫بلفظ‪« :‬لي وقتٌ ال يسعني فيه غير رب ِّي»‪ ،‬ويشبه أن يكون معنى ما للترمذي في «الشمائل» والبن راهويه في‬
‫صلى اهللُ َعلَيْه َو َسلمَ إذا أتى منزل َهُ جزأ دخول َه ثَّلثةَ أجزاء‪ :‬جزءا هلل‬
‫«مسنده» عن علي في حديث طويل‪« :‬كان َ‬
‫تعالى‪ ،‬وجزءا ألهله‪ ،‬وجزءا لنفسه‪ ،‬ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس»‪ .‬انتهى‬

‫‪- 76 -‬‬
‫ذاتياً متسعاً للتجلي الذاتي‪ ..‬كان مُتصفاً مُتحققاً بسائر األسماء والصفات‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ومُستوعباً لسائر الكماالت من جميع الوجوه‪ .‬انتهى‬

‫ومعنى آخر‪ :‬هو أن نو َرهُ صلى اهلل عليه وسلم ذاتي؛ أي‪ :‬ينبث ُق م ْن ذاته‬
‫الشريفة‪ ،‬فالنسبةُ هنا راجعة إلى ذاته صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫قال العالمة ابن حجر الهيتمي رضي اهلل عنه في «شرحه اله ْمزيَّة»‪:‬‬

‫نبي إنما ه َي ُمقتَبَ َسة م ْن نوره صلى اهلل عليه وسلم؛ ألن ُه صلى‬
‫فآيات كل ٍّ‬
‫ُ‬

‫اهلل عليه وسلم كالشمس‪َ ،‬و ُه ْم عليه ُم الصَّلةُ والسَّلمُ كالكواكب‪ ،‬فهي ُ‬
‫غير‬
‫غابت‪ ..‬أ ْظ َه َر ْ‬
‫ت أنوا َرها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُمضيئة بذاتها؛ وإنما هي ُم ْستَمدة من نور الشمس‪ ،‬فإذا‬
‫ف ُهم قبْ َل وجوده صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬إنما كانوا يُظهرو َن فضلَه‪ ،‬وأنوا ُرهم‬
‫ُم ْستَمدة من نوره الفائض و َم َدده الواسع‪ ،‬أال ترى أن ُظهو َر خَّلفة آد َم وإحاطتَهُ‬
‫باألسماء كلها‪ ..‬إنما هو مُ ْستَ َمد من جوامع ال َكلم ال َمخصوص به نبينا صلى اهلل‬
‫الخَّلئف(‪ )2‬إلى ز َمن ب ُروز جسمه الشريف‪ ،‬ف َلَما ب َ َر َز‬
‫ُ‬ ‫عليه وسلم؟ ث ُم ت َوال َت‬
‫كان كالشمس؛ ان ْ َد َر َج في ن ُوره کل نور‪ ،‬وان ْ َطوى تحت مَنشور آياته كل آية‪.‬‬

‫(‪« )1‬الكماالت اإللهية في الصفات المحمدية» (ص‪ )116‬باختصار‪.‬‬


‫(‪ )2‬في المطبوع من «شرح الهمزية»‪( :‬الخَّلئق) بدل‪( :‬الخَّلئف) وهو تصحيف‪ ،‬والخَّلئف جمع خليفة؛ المقصود‬
‫بهم هنا األنبياء عليهم الصَّلة والسَّلم‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫يرهُ من األنبياء عليهم الصَّلة والسَّلم‪ ..‬فلَمْ يُ ْع َ‬
‫ط أحد منهم كرامةً أو‬ ‫أما َغ ُ‬
‫فضيلةً‪ ..‬إال وقد أ ْعطي مثلَها أو ما هو أعظ َم منها كما سبَ َرهُ األئمةُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ووضحوهُ‪ .‬انتهى‬

‫ونختم هذا الفص َل بفيوضات من شعر سيدي محمد بهاء الدين الرواس‬
‫قدس اهلل سره‪ ،‬وهو يمتدح الحقيقةَ المحمدية‪:‬‬

‫ِمن ُّ‬
‫الشؤ ْو ِن شم ْو ٌ‬
‫س ما لها حجب‬ ‫ك قبَّتِ ِه‬‫ِطراْز ِسر له فِ ْي س ْم ِ‬
‫حر منْسجِ ٌر والم ْوج م ْ‬
‫ضط ِرب‬ ‫والب ْ‬ ‫اح ِب ِه‬‫فِيْ ِه النَّ ِبيُّ ْون ت ْرج ْو فيْض ص ِ‬
‫والعا ِرف ْون ِرجال اهللِ والقطب‬ ‫طاف المالئِك فِ ْي أعْتابِ ِه زمرا‬
‫الس ْو ِء م ْ‬
‫حتجِ ب‬ ‫ب ع ْن عي ْو ِن ُّ‬
‫ج ٌ‬
‫مح ّ‬ ‫تبارك اهلل ن ْو ٌر الْ ان ْ ِحجاب له‬
‫ى ِم ْن د ْو ِرها العجب‬
‫خي ْوله وير ْ‬ ‫ان الك ْو ِن صائِلة‬ ‫تد ْور فِ ْي ملو ِ‬
‫السم ِ‬
‫اوات ِمنْها ع ْسك ٌر لجب‬ ‫وفِ ْي َّ‬ ‫تط ْوف دائِرة ال ُّدنْيا مع ْس ِكرة‬
‫تر ْوح فِ ْي العال ِم األعْل ْى وتنْقلِب‬ ‫مطلْسمة‬ ‫آثار‬ ‫مظا ِهر‬ ‫له‬
‫السبب‬
‫ى َّ‬ ‫بِم ْظهر هو فِ ْي ك ْو ِن الور ْ‬ ‫ت بِكعْبتِ ِه األلْباْب فانْبهر ْ‬
‫ت‬ ‫طاف ْ‬
‫صد وال َّطلب‬
‫عنْها إِليْ ِه وهذا الق ْ‬ ‫د ْع عنْك جلْجلة اآلثا ِر ملْت ِفتا‬
‫بِن ْظرة د ْونها األعْراض والنُّشب‬ ‫وق ْل‪ :‬أ ِغثْنِ ْي رس ْول اهللِ م ْرحمة‬
‫السحب‬ ‫ناْ ِديْك ينْد ْ‬
‫ى بِسح د ْونه ُّ‬ ‫تر ال ِغياث ِمن األف ْ ِق َّ‬
‫السنِ ِّي عل ْى‬

‫(‪« )1‬المنح المكية في شرح الهَمزية» (ص‪.)322‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫الرابع عشر‪:‬‬
‫الفصل َّ‬

‫أص ُل الحقائق‪ ،‬ورو َح ُه‪ e‬أص ُل األرواح‪ ..‬فإن مادةَ‬ ‫كما أن حقيقتَ ُه‪e‬‬
‫طينته الشريفة كذلك أص ُل األجسام‪.‬‬

‫ريف ال ُعنصري‪ ..‬مخلوق من أصله النوراني صلى اهلل عليه‬


‫و َجس ُدهُ الش ُ‬
‫وسلم؛ ولذا كانت فضَّلت ُ ُه طاهرةً صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان ال يُرى له ظل‬
‫كما يقال‪ ،‬وهلل در اإلمام البوصيري رضي اهلل عنه‪ ،‬والذي عرج على هذا المعنى‬
‫فقال في القصيدة المحمدية‪:‬‬

‫ماحا َّما ٌد لامْ ياز ْل نورا ِمن ال ْ ِقد ِم‬ ‫ات بِاالانُّاو ِر ِطينته‬
‫ماحا َّما ٌد جابِال ْ‬

‫فقد ُجبلَت ‪-‬أي‪ :‬مُزجت‪ -‬طينَتُهُ الحسية الظاهرةُ؛ بنور حقيقته األصلية‬
‫خلْق ن ُوراً في ن ُور‪ ،‬صلى اهللُ على ذاته وصفاته وأفعاله‪.‬‬
‫الطاهرة؛ ف َ َظ َه َر لل َ‬

‫ذكر أه ُل اهلل في هذا المبحث أموراً نافعةً تتعلق بمعرفة سيد الخلق‬
‫وقد َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬منها ما فصله السي ُد محمد ابن جعفر ال َكتاني رضي اهلل‬
‫عنه فقال‪:‬‬

‫ولما تعلقت إرادت ُه تعالى بخلق مادة جسمه عليه الصَّلة السَّلم‪ ..‬أوج َد‬
‫اهللُ عز وجل طينَتهُ‪ e‬التي هي أص ُل جميع األجسام‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫ثم قال رحمه اهلل‪:‬‬

‫ويَ ْظ َه ُر أنه كان له عليه السَّلم طينتان؛ طينة عتيقة لطيفة نورانية؛ تركبت‬

‫قديماً من أنوار حقيقته المحمدية‪ ،‬ليست كالطين المعروف‪ ،‬وال َ‬


‫هي من جنْس‬
‫اهر الذي هو‬
‫لطيف الط ُ‬
‫ُ‬ ‫ت ن ْف ُس ُه الطاهرةُ‪ ،‬وجس ُم ُه ال‬
‫ما هو مألوف‪ ،‬منها تكون َ ْ‬
‫ق كل جسم ظاهر‪ ،‬وكذا تكون َت منها أجسامُ ال َمَّلئكة الكرام واألنبياء عليهم‬
‫فو َ‬
‫الصَّلة والسَّلم‪ ،‬وأجسا ُم اآلل واألصحاب‪ ،‬وغيرهم من األقطاب‬
‫(‪)1‬‬
‫واألفراد‪ .‬انتهى‬

‫ذكر العارف باهلل علي دده البوسنوي رضي اهلل‬


‫َ‬ ‫قلت‪ :‬كذلك‬
‫عنه(ت‪1007:‬هـ) في كتابه‪« :‬محاضرة األوائل ومسامرة األواخر» أن أول ما خلق‬
‫اهلل من العناصر الكلية الجامعة سيدنا محمداً صلى اهلل عليه وآله وسلم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫أول ما خلق اهلل تعالى من العناصر الكلية الجامعة ‪-‬كما قال ابن وهب‬
‫رحمه اهلل تعالى‪ -‬جوهرةَ خاتم األنبياء وعنصر سيد األصفياء؛ سيدنا محمد‬
‫(‪)2‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كفضة خاتم‪ ...‬انتهى‬

‫(‪« )1‬جَّلء القلوب» (‪.)50/2‬‬


‫(‪« )2‬محاضرة األوائل ومسامرة األواخر» (ص‪.)11‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫وقال أيضا رضي اهلل عنه في نفس الكتاب‪:‬‬

‫أول ما خل َق اهللُ من األجسام جوهرةً وقد تألألت؛ فكانت طينة سيدنا‬


‫محمد صلى اهلل عليه وسلم منها‪ ،‬ونظر إليها بالهيبة فصارت ماءً‪ ،‬وكان عرشه‬
‫خلَ َق األرضَ منه‪ ،‬فكان‬
‫على الماء قبل أن يخل َق السموات‪ ،‬ثم تموج الماءُ ف َ‬
‫يتألأل نو ُر الطينة النبوية ألهل السماء كالقمر ألهل األرض‪ ،‬ثم َخلَ َق من‬
‫األرض طينةَ آدم عليه السَّلم‪ ،‬فكان يتألأل نوره من جبهته‪ ...‬انتهى(‪ )1‬الى آخر‬
‫ما قال رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫وقال سيِّدي أبو العباس أحمد التِّيجاني قدس اهلل روحه عن هذه الطينة‬
‫النورانية الشريفة‪:‬‬

‫وأما طينته التي هي جس ُده الشريف‪ ..‬فكو َن اهللُ منها أجسادَ المَّلئكة‬
‫واألنبياء واألقطاب‪ ،‬وخم َر طينَته الشريفة عليها من اهلل الصَّلة والسَّلم بماء‬
‫(‪)2‬‬
‫البقاء‪ .‬انتهى‬

‫(‪« )1‬محاضرة األوائل ومسامرة األواخر» (ص‪.)20‬‬


‫(‪« )2‬جواهر المعاني وبلوغ األماني» (‪.)113/1‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫الس ِّر‬
‫ابلسي قدس اهلل سره في «كشف ِّ‬‫ُّ‬ ‫الغني النَّ‬
‫ِّ‬ ‫و ِمن كالم سيدي عبد‬
‫الغامض في شرح ديوان ابن الفارض» عن هذه الطينة الشريفة أيضاً عند قول‬
‫الناظم رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫ض ِطيْنتِ ْي‬
‫ترى حسنا فِ ْي الك ْو ِن ِم ْن فيْ ِ‬ ‫اح ر ْو ٌح وكلَّما‬
‫ور ْو ِحي ل ِ ْل ْرو ِ‬

‫قوله‪:‬‬

‫والطينة ‪-‬بالطاء المهملة‪ -‬واحدة الطين؛ وهو تراب معجون بماء‪ ،‬كناية‬
‫األرواح كلها من ُروحه صلى اهلل‬
‫َ‬ ‫عن الجسد الشريف ال ُمحمدي؛ فإنه كما أن‬
‫عليه وسلم منفو َخة في أجسادها؛ ألنه صلى اهلل عليه وسلم ُروح اهلل ‪-‬الذي هو‬
‫أول مخلوق‪ ،‬واإلضافة للتشريف‪ ،‬مثل‪ :‬ناقة اهلل‪ ،‬وأرضُ اهلل‪ ،‬وعبد اهلل‪..-‬‬
‫ح ْس ُن بالن َظر‬
‫ح َسنَة (فِ ْي الك ْو ِن) يعني التي يظهر عليها ال ُ‬
‫كذلك جمي ُع األجساد ال َ‬
‫ذكر ( ِم ْن فيْ ِ‬
‫ض) جسده صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫إلى خالقها كما َ‬

‫إلى أن قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫وال يكون نبياً إال وهو روح وجسد؛ فرو ُحه أص ُل األرواح‪ ،‬وجس ُدهُ أص ُل‬
‫األجساد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫ثمَّ قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫فهو صلى اهلل عليه وسلم أبو األرواح وأبو األجساد‪ ،‬واهلل لطيف‬
‫(‪)1‬‬
‫بالعباد‪ .‬انتهى‬

‫قلت‪ :‬الكَّلم هنا عن مادة أصلية هي أص ُل سائر المواد الحسية‪ ،‬وهي‬


‫الطينة اللطيفة النورانية التي هي ليست كالطينَة العنصرية الكثيفة كما ذُكر آنفاً‪،‬‬
‫وقد نقل سيدي عبد الرحمن ابن ِز ْكري رضي اهلل عنه بأن‪ :‬مادة جسده صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ُ ..‬خل َقت قبل سائر ال َمواد(‪.)2‬‬

‫ُ‬
‫الغوث الكبير‬ ‫ولعل هذه الطينة الشريفة هي التي أشار لها أيضاً سيدي‬
‫إبراهيم الدسوقي قُدس سره في صَّلته الذاتية‪ ،‬بقوله رضي اهلل عنه عند‬
‫افتتاحها‪( :‬الله َّم ص ِّل على ال َّذات المح َّمديَّ ِة‪ ،‬ال َّل ِطيْف ِة األحديَّة) واهلل أعلم‬
‫بأسرار كَّلم أوليائه‪.‬‬

‫لصورة ال َّظاهرةِ المح َّمديَّ ِة ‪ e‬فكما قال في «جالء‬


‫أما ال ِّطينة العنصريَّة ل ُّ‬
‫القلوب» ما نصه‪:‬‬

‫(‪« )1‬كشف السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض» (‪ )813-812/2‬باختصار‪.‬‬


‫(‪ )2‬انظر «جَّلء القلوب» (‪.)53/2‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫وال ِّطينة الثَّانية‪ :‬طينة أرضية ت ُرابية‪ ،‬وذلك أنهُ تعال َى لما أرادَ أ ْن يخل َقها‪..‬‬

‫أمر جبري َل عليه السَّلم أ ْن ينز َل إلى األرض وأ ْن يأتيَهُ بالطينَة التي هي ُ‬
‫قلب‬ ‫َ‬
‫األرض وبهاؤها ونورها‪ ،‬وهي طينَةُ موضع الكعبة‪ ،‬التي جاءَ عن أبي هريرة‬
‫رضي اهلل عنه أنها ُخل َقت قب َل األرض بأل َفي سنَة‪ .‬ثم ذَ َك َر بقيةَ الحديث‪.‬‬

‫إلى أن قال‪ :‬ف َقبَ َ‬


‫ض قبضةً من الطينة المذكورة بعد انتقالها إلى موضع قبره‬
‫عليه السَّلم‪ ،‬ف ُعجنَت بماء التسنيم ‪-‬الذي هو أرفع شراب أهل الجنة‪ -‬في َمعين‬
‫ف‬
‫جنة؛ حتى صارت كالدرة البيضاء‪ ،‬لها نور وشعاع عظيم‪ ،‬وطيْ َ‬
‫من أنهار ال َ‬
‫بها في عال َ َمي ال ُملك وال َملكوت؛ حتى عرفت المَّلئكةُ وجمي ُع المخلوقات‬
‫سي َدنا محمداً صلى اهلل عليه وسلم وفضلَه في طينته قب َل أ ْن ت َعرفَ آدمَ عليه‬
‫السَّلم في ت ُرابيته‪ ،‬وما زا َل صلى اهلل عليه وسلم ت َلم ُع أنوا ُره في هذه الطينَة‬
‫جثمانية العالية إلى أ ْن خل َق اهللُ آدمَ وصو َره في طينته الصلْ َ‬
‫صالية‪.‬‬ ‫ال ُ‬

‫ردي رضي اهلل عنه في (الباب‬‫لسهرو ِّ‬ ‫وفي «عوارف المعارف» للعارف ا ُّ‬
‫ۡ‬
‫األ َّول) منها ما نصه‪ :‬وقيل‪ :‬لما خل َق اهللُ السماوات واألرضَ بقوله‪ :‬ﵟٱئتِيَا‬
‫َ‬ ‫َ ۡ ً َۡ َ ۡ ٗ َ ََٓ َََۡ َ ٓ‬
‫وأجاب مَوض ُع‬
‫َ‬ ‫طوعا أو كرها قالتا أتينا طائِعِينﵞ ﵝف ِصلت‪ :‬ﵑﵑﵜ‪ ..‬نط َق م َن األرض‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ‬

‫الكعبة‪ ،‬وم َن السماء ما يُحاذيْها‪.‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫وقد قال عبد اهلل ب ُن عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬أص ُل طينَة رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ..‬م ْن ُسرة األرض بمكةَ‪.‬‬

‫أجاب م َن األرض إال دُرةُ ال ُمص َطفى‬


‫َ‬ ‫فقال بعض العلماء‪ :‬هذا يُشع ُر بأن ما‬
‫صلى اهلل عليه وسلم(‪ ،)1‬وم ْن َموضع الكعبة‪ ..‬دُحيَت األرضُ ؛ فصار رسول اهللِ‬

‫صلَّى اهلل عليه وسلَّم هو األصل في التَّكوي ِن‪ ،‬والكائنات تب ٌع له‪ ،‬وإلى هذا‬
‫اإلشارةُ بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كنْت ن ِبيَّا وآدم بيْن الما ِء وال ِّطيْ ِن» وفي‬
‫الر ْو ِح والجس ِد»(‪.)2‬‬
‫رواية‪« :‬بيْن ُّ‬

‫لذلك ُسم َي أ ُمياً؛ ألن مكةَ أم ال ُقرى‪ ،‬ودُرت َهُ أم ال َ‬


‫خليْ َقة(‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫وقيل‪:‬‬

‫ُ‬
‫حيث كانت تربتُهُ‬ ‫وتربةُ الشخص مَدفنُه؛ فكان يقتضي أ ْن يكو َن مدفنُهُ بمكةَ‬

‫منها! ولكن قيل‪ :‬إن الماءَ ‪-‬أي الذي كان عليه العرشُ ‪ -‬ل َما تمو َج‪َ ..‬ر َمى الزب َ َد‬
‫إلى النواحي؛ فوقَ َع ْ‬
‫ت جوهرةُ النبي صلى اهلل عليه وسلمَ إلى ما يُحاذي ت ُرب َتَهُ‬

‫أجاب م َن األرض ذ َّرة ال ُمص َطفى محمد صلى‬


‫َ‬ ‫(‪ )1‬في النسخة المطبوعة من «عوارف المعارف»‪( :‬هذا يُشع ُر بأن ما‬
‫أجاب م َن األرض َّإال د َّرة ال ُمص َطفى صلى اهلل عليه وسلم)‪.‬‬
‫َ‬ ‫اهلل عليه وسلم)‪ ،‬بدل‪( :‬هذا يُشع ُر بأن ما‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد‪ ،‬والبخاري في «تاريخه»‪ ،‬وأبو نُعيم في «الحلية» وصححه الحاكم‪ .‬وأما ما اشتهر على األلسن بلفظ‪:‬‬
‫(كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين )‪ ..‬فقال شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة»‪ :‬لم‬
‫نقف عليه بهذا اللفظ‪ .‬انتهى من «المواهب اللدنية» (ص‪.)41-40‬‬
‫(‪ )3‬في النسخة المطبوعة من «عوارف المعارف»‪( :‬وذَرته) بالذال‪ ،‬بدل‪( :‬ودُرته)‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫بالمدينة؛ فكان رسو ُل اهلل صلى اهلل عليه وسلم مَكياً مَدنياً‪ ،‬حقي َقتُهُ إلى مكةَ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وت ُرب َتُهُ بالمدينَة‪ .‬انتهى‬

‫قال السيِّد محمد جعفر الكتَّاني رضي اهلل عنه‪ ،‬بعدما أفاض في الكَّلم عن‬
‫النشأة الطينية له صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد أطال فيها‪:‬‬

‫ومن هذا تفهم‪ :‬أن له عليه الصَّلة والسَّل ُم نشآت ثَّلثاً‪:‬‬

‫ن َشأةُ حقيقته ال ُمحمدية‪ ،‬ون َشأةُ روحه السمية‪ ،‬ون َشأةُ طينَته الزكية؛ وكلها‬
‫أص ُل جميع‬ ‫أصول لغيرها‪ ،‬فحقيقتُه‪ e‬أص ُل جميع الحقائق‪ ،‬ورو ُحهُ‪e‬‬
‫األرواح‪ ،‬وطينَتُهُ‪ e‬أص ُل جميع األجسام‪ ،‬وأ َكم ُل األولياء‪َ ..‬من كا َن على قلبه‬
‫(‪)2‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في هذه النشآت كلها‪ .‬انتهى‬

‫‪‬‬

‫(‪« )1‬عوارف المعارف» (‪« ،)175-174/1‬جَّلء القلوب» (‪.)53-52/2‬‬


‫(‪« )2‬جَّلء القلوب» (‪.)60/2‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫الفصل الخامس عشر‪:‬‬

‫قال َّ‬
‫الشيخ األكبر رضي اهلل عنه في «الفتوحات المكية» في (الباب الثاني‬
‫عشر‪ ،‬في معرفة دورة فلَك سيدنا محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهي دَورةُ‬

‫السيادة‪ ،‬وأن الزما َن قد استدا َر كهيئته يو َم خل َق ُه اهللُ تعالى)‪:‬‬

‫وآدم بيْن الما ِء وال ِّطيْ ِن واقِف‬ ‫أالْ بِأبِ ْي م ْن كان ملْكا وسيِّدا‬
‫ج ٌد تلِيْ ٌد وطا ِرف‬
‫له فِ ْي العل ْى م ْ‬ ‫الرس ْول األب ْط ِح ُّي مح َّم ٌد‬
‫فذاك َّ‬
‫صر مواقِف‬
‫ت له فِ ْي ك ِّل ع ْ‬
‫وكان ْ‬ ‫الس ْع ِد فِ ْي آ ِخ ِر المد ْ‬
‫ى‬ ‫أت ْى بِزم ِ‬
‫ان َّ‬
‫ت عليْ ِه أل ْس ٌن وعوا ِرف‬ ‫فأث ْن ْ‬ ‫جبر ص ْدعه‬ ‫أت ْى ِال ِ‬
‫نكسا ِر ال َّد ْه ِر ي ْ‬
‫وليْس لِذاك األمْ ِر فِ ْي الك ْو ِن صا ِرف‬ ‫إِذا رام أمْرا الْ يك ْون ِخالفه‬

‫ثم قال رضي اهلل عنه بعدما ذكر أن ُر ْو َح سيدنا محمد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أو ُل األرواح‪ ،‬وأن اهللَ أعل َمه بنُبوته وبشرهُ بها وسيدنا آد ُم ل ْم يكن إال كما قا َل‪:‬‬
‫«بيْن الما ِء وال ِّطي ِن» وأنه عندما‪:‬‬

‫باالسم الباطن في حق محمد صلى اهلل عليه وسلمَ إلى وجود‬


‫ْ‬ ‫ان ْتَهى الزما ُن‬

‫ج ْسمه وا ْرتباط الروح به‪ ..‬ان ْتَ َق َل ُح ْك ُم الزمان في َج َريَانه إلى ْ‬


‫االسم الظاهر؛‬
‫ف َ َظ َه َر محمد صلى اهلل عليه وسلم بذاته ج ْسماً و ُروحاً‪ ،‬فكان ال ُ‬
‫حكم لهُ باطناً‬

‫أوالً في جميع ما َظ َه َر من الشرائع على أيدي األ َنبياء والر ُسل سَّلم اهلل عليهم‬

‫‪- 87 -‬‬
‫أجمعين‪ ،‬ث ُم صا َر الحكمُ له ظاهراً ف َنَ َس َخ ُكل شرع أ َبر َزهُ ْ‬
‫االسمُ الباط ُن بحكم‬
‫االس َميْن وإ ْن كان ال ُم َشر ُع واحداً وهو‬
‫ْ‬ ‫االسم الظاهر؛ لبيان اختَّلف ُح ْكم‬
‫ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫صاحب الشرع‪ .‬انتهى‬
‫ُ‬

‫وقال أيضا قدس اهلل روحه‪:‬‬

‫وإنما ُوج َد آخراً؛ ليكو َن إماماً بالفعل َحقيقةً‪ ،‬ال بالصَّلحية وال ُق ّوة‪ ،‬فعند‬
‫ما ُوج َد َعيْنُهُ‪ ..‬ل َ ْم يُو َجد إال واليَاً ُسلطاناً مَلحوظاً‪ ،‬ث ُم َج َع َل ل َهُ ن ُواباً حين تأخ َر ْ‬
‫ت‬
‫ن َشأةُ َج َسده؛ فأو ُل نائب كان ل ُه وخليفة؛ آد ُم عليه السَّل ُم‪ ،‬ث ُم َول َ َد وات َ‬
‫ص َل الن ْس ُل‬
‫ص َل زما ُن ن َشأة الج ْسم الطاهر محمد صلى‬
‫وعَي َن في كل َزمان ُخلفاءَ‪ ،‬إلى أ ْن َو َ‬

‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬ف َظ َ‬


‫هر مثْ َل الشمس الباهرة‪ ،‬فاند َر َج ُكل نور في نوره الساطع‪،‬‬
‫ت جمي ُع الشرائع إل َيه‪ ،‬و َظهرت سيادت ُهُ التي‬
‫و َغاب ُكل ُح ْكم في ُحكمه‪ ،‬وان ْقادَ ْ‬
‫كانت باطنةً‪ ،‬فهو األو ُل واآلخ ُر والظاه ُر والباط ُن وهو بكل َشيء عليم‪ ،‬فانهُ‬
‫قال‪« :‬أ ْوتِيْت جواْ ِمع ال ْكلِ ِم»(‪ ،)2‬وقال عن ربه‪« :‬ضرب بِي ِدهِ بيْن كتِف َّي فوج ْدت‬
‫حص َل ل َهُ الت َ‬
‫خل ُق‬ ‫ب ْرد أنا ِملِ ِه بيْن ث ْدي َّي فعلِ ْمت ِعلْم األ َّول ِيْن و ِ‬
‫اآلخ ِريْن»(‪ ،)3‬ف َ َ‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (‪.)143/1‬‬


‫(‪ )2‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)7013‬مسلم (‪ )523‬واللفظ له‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه الترمذي (‪ )3235‬وغيره من حديث معاذ رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫ٱلظَٰه ُر َوٱل ۡ َباطِنُۖ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ََُۡ‬
‫ب اإللهي من قوله تعالى عن ن ْفسه‪ :‬ﵟهو ٱلأول وٱٓأۡلخِر و ِ‬ ‫والن َس ُ‬
‫َو ُه َو بكُ َل َش ۡي َ‬
‫ء عل ِيمﵞ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ﵝالحدِيد ‪ :‬ﵓﵜ ‪ .‬انتهى‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬

‫وقال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫ولكل أ ُمة باب خاص إلهي‪ ،‬شار ُع ُهم هو حاج ُ‬


‫ب ذلك الباب الذي‬
‫ب‬
‫يَدخلون منه على اهلل تعالى‪ ،‬ومحمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬هو حاج ُ‬
‫حجاب؛ لعموم رسالته دو َن سائر األنبياء عليهم السَّلم‪ ،‬ف َ ُه ْم َح َ‬
‫جبَتُهُ صلى‬ ‫ال ُ‬
‫نبي ورسول‪.‬‬
‫اهلل عليه وسلم من آدمَ عليه السَّلم إلى آخر ٍّ‬

‫جبَتُهُ)؛ لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬آدم فم ْن دونه‬


‫وإنما قلنا‪( :‬إنهم َح َ‬
‫بذلك قَبْ َل‬
‫َ‬ ‫خلْق وه َو ُر ْوح ُمجرد عارف‬
‫حت لِوائِي»(‪ )2‬ف َ ُه ْم ن ُوابُهُ في عال َم ال َ‬
‫ت ْ‬
‫نشأة ج ْسمه ‪-‬قي َل لهُ‪ :‬متى كنت نبِيَّا؟ فقا َل‪« :‬كنْت نبِيَّا وآدم بيْن الما ِء وال ِّطيْ ِن»‬
‫أي‪ :‬ل َ ْم يو َجد آد ُم بع ُد‪ -‬إلى أن وص َل زما ُن ظهور جسده ال ُم َطهر صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ..‬فلَمْ يب َق ُح ْكم لنائب من ن ُوابه من سائر ال ُ‬
‫حجاب اإللهييْ َن ‪-‬وهم الرس ُل‬

‫ت وجو ُه ُهم ل َقيومية مَقامه؛ إذ كا َن حاج ُ‬


‫ب‬ ‫واألنبياءُ عليهم السَّلم‪ ..-‬إال َعنَ ْ‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (‪.)137/1‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه أحمد (‪ )2546‬من حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬والترمذي (‪ )3148‬من حديث أبي سعيد رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫حجاب‪ ،‬فقر َر م ْن شرعهم ما شاءَهُ بإذن سيده ومُرسله‪ ،‬ورف َ َع من شرعهم ما‬
‫ال ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫أُم َر برفعه ون َسخه‪ .‬انتهى‬

‫تنبيه‪ :‬وردَ في أخبار وآثار أنه صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬ال ظل لجسده‬
‫الشريف؛ قلت‪ :‬وهذا للطافة جسده ونورانية حقيقته‪ e‬؛ فإن جس َده الشريف‬
‫الياقوت‬
‫َ‬ ‫ال كاألجساد كما أن حقيقتَه ال كالحقائق‪ ،‬فهو ب َشر ال كالبشر؛ كما أن‬
‫(‪.)2‬‬
‫حجر‬
‫جر ال كال َ‬
‫َح َ‬

‫وأيضاً وردَ في أخبار صحيحة‪ :‬أنه صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬كان يُرى له ظل!‬

‫فنقول في الجمع بين الخبرين‪:‬‬

‫وصف فان في شهود رسول اهلل صلى اهلل‬


‫ُ‬ ‫أما الذي وص َفهُ بعدم الظل؛ فهو‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فإنه يَش َه ُد نو َر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬سار في كل شيء‪،‬‬
‫نظرهُ ُممتلئاً بشهود نور‬
‫سار في الحس وال َمعنى‪ ،‬والظل والشاخص؛ ف َمن كان ُ‬

‫(‪« )1‬الفتوحات المكية» (‪.)244-243/1‬‬


‫بعض اإلخوة‬
‫ُ‬ ‫(‪ )2‬وقد رأيت شعرةً من شعره الشريف صلى اهلل عليه وسلم عندما شرفني اهلل بتقبيلها وقد وجه عليها‬
‫نور ًا شديد ًا فلم يظهر لها ظل‪ ،‬وكان ذلك في ليلة السابع والعشرين من شهر شعبان المكرم (‪1445‬هـ) في منزلي‬
‫بحضور جمع من اإلخوة حفظهم اهلل‪.‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫حقيقة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬كيف يشه ُد ظَّلً مُغايراً لذاته الشريفة‬
‫أصَّلً؟!‬

‫س وهْي ِظ ٌّل وهْي ف ْي‬


‫ف ْهي ش ْم ٌ‬ ‫ى فِ ْي ش ْم ِسها ِظ َّل ال ْ ِّسو ْ‬
‫ى‬ ‫ال تر ْ‬

‫ظهر بأوقات بَّل ظ ٍّل؛ ليُنْب َي عن َحقيقته‬


‫أو يقال‪ :‬إنهُ صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫اس ببشريته فيتبعوه‪،‬‬ ‫آخر بالظل؛ ليأن َ َ‬
‫س الن ُ‬ ‫َ‬ ‫األ َصلية النورانية‪ ،‬و َظ َه َر حيناً‬

‫ويَعلموا بذلك أنه ب َ َشر ال كالبَ َشر‪.e‬‬

‫األمر كذلك‪ ..‬شاه َد السادةُ العارفو َن شيئاً من خصائص جسده‬


‫ُ‬ ‫ول َما كا َن‬
‫الشريف‪ e‬فنج ُد ْ‬
‫وص َفهم لهذا الجسد الطاهر في صلواتهم عليه مُخصصاً‪،‬‬
‫فكما َخصوا حقيقتَه ورو َحه‪ ..‬كذلك َخصوا جس َدهُ صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بصلواتهم‪ ،‬كما جاء في «دالئل الخيرات» مثَّلً‪:‬‬

‫(الله َّم ص ِّل على روح سيِّدنا مح َّمد في األرواح‪ ،‬وعلى جس ِدهِ في‬
‫األجساد‪ ،‬وعلى قبره في القبور)‪.‬‬

‫فائدة‪ :‬ذَ َك َر هذه الصيغةَ الش ُ‬


‫يخ ال ُمحب الفاني سيدي يوسف النبهاني رحمه‬
‫السادسة‬ ‫السادات‪ »e‬وهي َّ‬
‫الصالة َّ‬ ‫الصلوات على سيِّد َّ‬
‫اهلل في مجموع «أفضل َّ‬
‫في كتابه هذا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫قال اإلمام الشعراني رضي اهلل عنه‪ :‬كان صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬م ْن‬
‫قال هذهِ الكيْ ِفيَّة‪ ..‬رآنِ ْي فِ ْي منا ِم ِه‪ ،‬وم ْن رآنِي فِ ْي منا ِم ِه‪ ..‬رآني ي ْوم ال ِقيام ِة‪ ،‬وم ْن‬
‫رآني ي ْوم ال ِقيام ِة‪ ..‬شف ْعت له‪ ،‬وم ْن شف ْعت له‪ ..‬ش ِرب ِم ْن ح ْو ِض ْي وح َّرم اهلل‬
‫جسده على النَّا ِر»(‪.)1‬‬

‫اح الدالئل أيضاً‬


‫الشيخ يوسف النبهاني رحمه اهلل‪ :‬وذكر ذلك ُشر ُ‬
‫قال َّ‬
‫بت‬
‫بزيادة‪« :‬سبعين مرة» عن الفاكهاني‪ .‬قال الشيخ يوسف رحمه اهلل‪ :‬وق ْد جر ُ‬
‫ريف صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فرأيت وج َههُ الش َ‬
‫ُ‬ ‫هذه الصَّلةَ قُبي َل النوم حتى ُ‬
‫نمت؛‬
‫غاب في ال َق َمر‪ ،‬وأسأ َ ُل اهللَ ال َعظي َم بجاهه عليه‬
‫في داخل ال َق َمر‪ ،‬وخا َطبْتُهُ‪ ،‬ث ُم َ‬
‫الصَّلة والتسليم أ ْن يَ ُ‬
‫حص َل ل ْي باقي الن َعم التي َو َع َد بها صلى اهلل عليه وسلمَ‬
‫(‪)2‬‬
‫في هذا الحديث الشريف‪ .‬انتهى‬

‫وفي صَّلة سيدي أحمد البدوي رضي اهلل عنه خصه أيضاً بالصَّلة على‬
‫صورته الجسمانية‪ e‬في قوله‪:‬‬

‫(‪ )1‬قال الحافظ السخاوي في «القول البديع في الصَّلة على الحبيب الشفيع‪( »e‬ص‪ :)117-116‬ويروى عنه صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أنه قال‪ ...‬ثم ذكر الحديث‪ ،‬ثم قال ‪-‬السخاوي‪ :-‬ذَ َك َره أبو القاسم السبتي (ت‪677 :‬هـ) في كتابه‬
‫«الدر المنظم في المولد المعظم» له‪ ،‬لكني لم أقف على أصله إلى اآلن‪ .‬انتهى‬
‫(‪« )2‬أفضل الصلوات على سيد السادات‪ »e‬الصَّلة السادسة‪.‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫(اللَّهمَّ ص ِّل وسلِّمْ وبا ِر ْك على سيِّدنا وم ْوالنا مح َّمد شجرةِ األ ْ‬
‫ص ِل النُّورانِيَّ ِة‬
‫الصورةِ‬
‫ُّ‬ ‫الر ْحمانِيَّ ِة وأفْض ِل الْخلِيق ِة ا ِ‬
‫إلنْسانِيَّ ِة وأ ْش ِر ِ‬
‫ف‬ ‫ول ْمع ِة الْقبْض ِة َّ‬
‫الْجِ ْسمانِيَّ ِة)‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫السادس عشر‪:‬‬
‫الفصل َّ‬

‫إن مفارقةَ روحه لجسده صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬أمر قد حص َل وتحق َق في‬
‫هذ الحياة الدنيوية‪ ،‬وهو يوم أظلمت فيه األرضُ كما وصفه سيدنا أنس رضي‬
‫اهلل عنه(‪.)1‬‬

‫لكن روحه‪ e‬بعد مفارقتها للبدن لحظةَ وفاته‪ُ ..‬ردت إليه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫البيهقي رضي اهلل عنه في «االعتقاد والهداية إلى سبيل‬


‫ُّ‬ ‫قال اإلمام أبو بكر‬
‫الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث»‪:‬‬

‫واألنبياءُ عليهم السَّلم بعدما قُبضوا‪ُ ..‬رد ْ‬


‫ت إليهم أروا ُح ُهم؛ فهم أحياء‬
‫عند ربهم كالشهداء‪ ،‬وقد رأى نبينا صلى اهلل عليه وسلم جماعةً منهم ليلةَ‬

‫وخبره صدق ‪ -‬أن صَّلت َنا‬


‫ُ‬ ‫وأخبر ‪-‬‬
‫َ‬ ‫المعراج‪ ،‬وأ َ َم َر بالصَّلة عليه والسَّلم عليه‪،‬‬

‫(‪ )1‬وهو ما رواه الترمذي (‪ ) 3618‬عن سيدنا أنس رضي اهلل عنه أنه قال‪( :‬ل َّما كان الي ْوم ال َّ ِذي دخل فِي ِه رسول َّ‬
‫اهللِ‬

‫اهلل عليْ ِه وسلَّم الم ِدينة أضاء ِمنْها ك ُّل ش ْيء‪ ،‬فل َّما كان الي ْوم ال َّ ِذي مات فِي ِه أ ْظلم ِمنْها ك ُّل ش ْيء)‪.‬‬
‫صلَّى َّ‬

‫‪- 94 -‬‬
‫مَعروضة عليه وأن سَّلمَنا يَبلُ ُغهُ‪ ،‬وأن اهللَ حرمَ على األرض أ ْن تأك َل أجسادَ‬
‫(‪)1‬‬
‫األنبياء‪ .‬انتهى‬

‫القرطبي رحمه اهلل في «التذكرة»‪:‬‬


‫ُّ‬ ‫قال اإلمام‬

‫وقد أخبرنا النبي صلى اهلل عليه وسلم بما يقتضي أن اهلل تبارك وتعالى يَرد‬
‫يحص ُل‬
‫ُ‬ ‫عليه رو َح ُه؛ حتى يرد السَّل َم على كل َمن يُسل ُم عليه‪ ،‬إلى غير ذلك مما‬
‫موت األنبياء‪ ..‬إنما هو راجع إلى أ ْن ُغيبوا عنا بحيث ال‬
‫َ‬ ‫من ُجملته ال َقط ُع بأن‬
‫ن ُدر ُكهم وإ ْن كانوا موجودي َن أحياء؛ وذلك كالحال في المَّلئكة فإنهم‬
‫موجودو َن أحياء وال يراهم أحد من نوعنا إال مَن َخصه اهللُ بكرامة من‬
‫(‪)2‬‬
‫أوليائه‪ .‬انتهى‬

‫السبكي رحمه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫وقال َّ‬


‫الشيخ تقي الدين ُّ‬

‫حياةُ األنبياء والشهداء في القبر‪ ..‬كحياتهم في الدنيا‪ ،‬ويشهد له صَّلةُ‬

‫موسى ‪-‬عليه السَّلم‪ -‬في قبره؛ فإن الصَّلةَ تستدعي جسداً حيّاً‪ ،‬وكذلك‬
‫صفات األجسام‪ ،‬وال يلز ُم‬
‫ُ‬ ‫الصفات المذكورةُ في األنبياء ليلةَ اإلسراء‪ ..‬كلها‬

‫(‪« )1‬االعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث» (ص‪ )305‬للحافظ أبي بكر البيهقي‬
‫رحمه اهلل‪.‬‬
‫(‪« )2‬التذكرة بأحوال الموتى وأمور اآلخرة» (ص‪ )460‬لإلمام القرطبي رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫من كونها حياةً حقيقيةً أ ْن تكو َن األبدا ُن معها كما كانت في الدنيا من االحتياج‬
‫اإلدراكات كالعلم والسماع‪ ..‬فَّل شك أن ذلك‬
‫ُ‬ ‫إلى الطعام والشراب‪ ،‬وأما‬
‫(‪)1‬‬
‫ثابت ل َهم ولسائر ال َموتى‪ .‬انتهى‬

‫السيوطي رحمه اهلل‪ :‬حياة النبي صلى اهلل عليه وسلم في قبره‬
‫وقال الحافظ ُّ‬
‫هو وسائر األنبياء‪ ..‬معلومة عندنا علماً قطعياً؛ لما قام عندنا من األدلة في ذلك‬
‫(‪)2‬‬
‫وتواترت األخبا ُر‪ .‬انتهى‬

‫يرد له رو َحه الشريفةَ‬


‫وقد أخبرنا رسو ُل اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن اهلل ُ‬
‫إلى جسده صلى اهلل عليه وسلم؛ ليرد سَّلمَ مَن سلم عليه من أمته؛ حيث‬
‫(‪)3‬‬
‫السالم»‬ ‫قال‪« :e‬ما ِم ْن أحد يسلِّم عل َّي إ َِّال ردَّ اهلل إِل َّي ر ِ‬
‫وحي حتَّى أردَّ عليْ ِه َّ‬

‫المتواتر مما وردَ من أنه صلى‬


‫َ‬ ‫ولهذا الحديث وجوهاً من التفاسير توافق‬
‫اهلل عليه وسلم حي في قبره حياةً حقيقيةً‪ ،‬وقد جمع الحافظ السيوطي هذه‬
‫الوجوه برسالة أسماها بـ«إنباء األذكياء في حياة األنبياء» ومن أهم تلك الوجوه‬
‫وأقواها قوله‪:‬‬

‫(‪ )1‬نقله الحافظ السيوطي رحمه اهلل في «إنباء األذكياء في حياة األنبياء» انظر «الحاوي للفتاوي» (‪.)152/2‬‬
‫(‪ )2‬انظر «إنباء األذكياء في حياة األنبياء» من مجموع «الحاوي للفتاوي» (‪ )147/2‬للحافظ السيوطي رحمه اهلل‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود (‪ )2041‬وغيره من حديث سيدنا أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫إن قوله‪« :‬ردَّ اهلل» ُجملة حالية‪ ،‬وقاعدةُ العربية‪ :‬إن جملةَ الحال إذا وقعت‬
‫ۡ‬ ‫َۡ َ ُٓ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ُ ُ‬
‫صرت صدورهمﵞ‬ ‫ت فيها (ق ْد) كقوله تعالى‪ :‬ﵟأو جاءوكم ح ِ‬ ‫فعَّلً ماضي ًا‪ ..‬قُد َر ْ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬قد حصرت‪.‬‬ ‫ﵝالن َِساء ‪ :‬ﵐﵙﵜ‬

‫وكذا ت ُقد ُر هنا‪ ،‬والجملةُ ماضية سابقة على السَّلم الواقع من كل أحد‪،‬‬
‫تقدير‬
‫ُ‬ ‫ليست للتعليل؛ بل مجرد حرف عطف بمعنى الواو‪ ،‬فصا َر‬
‫ْ‬ ‫و«حتى»‬
‫وحي قب َل َ‬
‫ذلك فأردَّ‬ ‫الحديث‪( :‬ما من أحد يسلمُ علي‪ ..‬إال ق ْد رد اهللُ علي ُر َ‬
‫عليه)‪.‬‬

‫وإنما جاءَ اإلشكا ُل من َظن أن جملةَ «ردَّ اهلل َّ‬


‫علي» بمعنى الحال أو‬
‫االستقبال‪ ،‬وظن أن «حتَّى» ت َعليلية! وليس كذلك‪.‬‬

‫وبهذا الذي قررناهُ‪ ..‬ارتفع اإلشكا ُل من أصله‪ ،‬وأيده من حيث المعنى؛‬


‫أن الرد لو أ ُخ َذ بمعنى الحال أو االستقبال‪ ..‬ل َزمَ تكرره عند تكرر ال ُم َسلمي َن‪،‬‬
‫وتكر ُر الرد يستلز ُم تكرا َر ال ُمفارقة‪ ،‬وتكرار المفارق ِة‪ ..‬يلزم عليه محاذير‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬تألي ُم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح من ُه‪ ،‬أو نوع ما من‬
‫مُخالفة التكريم إ ْن ل َ ْم يكن تأليم!‬

‫‪- 97 -‬‬
‫واآلخر‪ :‬مُخال َفةُ سائر الناس‪ ،‬الشهداء وغيرهم؛ فإنه ل َم يَثبت ألحد منهم‬
‫أ ْن يتكر َر له مُفا َرقةُ الروح و َعودُها في البرزخ‪ ،‬والنبي صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫أولى باالستمرار الذي هو أعلى رتبةً‪.‬‬

‫ليس إال َموت َتان‬


‫َ‬ ‫ثالث‪ :‬وهو ُمخالفةُ القرآن؛ فإنه دل على أنه‬
‫ٌ‬ ‫ومحذو ٌر‬
‫وحياتان‪ ،‬وهذا التكرار يستلزمُ مَوتات كثيرةً وهو باطل‪.‬‬

‫ومحذو ٌر راب ٌع‪ :‬وهو مُخال َفة األحاديث ال ُمتواترة السابقة‪ ،‬وما خال َ َ‬
‫ف‬
‫وجب تأويلُ ُه‪ ،‬وإ ْن ل َ ْم يَقبل التأوي َل‪ ..‬كان باطَّلً؛‬
‫َ‬ ‫القرآ َن وال ُمتوات َر من السنة‪..‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وجب حم ُل الحديث على ما ذكرناه‪ .‬انتهى‬
‫َ‬ ‫فلهذا‬

‫و ِمن جملة ما ذكره العلماء ِمن وجوه لبيان معنى هذا الحديث قولهم‪:‬‬

‫إن الزمان ال يخلو من مُص ٍّل ومُسلم عليه في أقطار األرض ‪-‬من اإلنس‬
‫أي ممن خل َق اهللُ من عوال َم‪-‬؛ فَّل يخلو من كون الروح‬
‫أو المَّلئكة أو الجن أو ٍّ‬
‫في بدنه الشريف صلى اهلل عليه وسلم؛ ليرد على ك ٍّل منهم؛ فروحهُ بعـ َد‬
‫مفارقتهـا التـي حصلت لحظـة َ الموت‪ُ ..‬ردت إليه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر «إنباء األذكياء في حياة األنبياء» من مجموع «الحاوي للفتاوي» (‪ )150/2‬للحافظ السيوطي رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫ذكر اإلمام ال ِّطيبي رحمه اهلل تعالى معنى جليال آخر ‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫لعل معناه‪ :‬تكون رو ُح ُه ال ُقدسيةُ في شأن ما في الحضرة اإللهية؛ فإذا ب َلَ َغ ُه‬
‫سَّلمُ أحد من األ ُمة‪َ ..‬رد اهللُ رو َحه من تلك الحالة إلى َرد سَّلم مَن سلم عليه‪،‬‬
‫فيض على أ ُمته م ْن ُسبُحات الوحي اإللهي ما‬
‫وكذا شأن ُه وعادت ُه في الدنيا‪ ،‬يُ ُ‬
‫أفاضهُ اهللُ عليه‪ ،‬وال يَشغلُهُ هذا الشأ ُن ‪-‬وهو شأ ُن إفاضة األنوار ال ُقدسية على‬
‫َ‬
‫أ ُمته‪ -‬ع ْن ُشغله بالحضرة‪ ،‬كما كا َن في عال َم الشهادة ال يَشغلُ ُه شأن عن‬
‫(‪)1‬‬
‫شأن‪ .‬انتهى‬

‫قلت‪ :‬إن رو َحهُ صلى اهلل عليه وآله وسلم مُتصلة بعمود نور إيمانه‪ e‬من‬
‫جسده الشريف في قبره ال ُمنيف؛ إلى قُبة البَرزخ؛ فَّل يشغلُه شأن ُه في قبره صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪-‬من رد السَّلم والقيام في صلواته وغير ذلك‪ -‬عن شأنه في‬
‫البرزخ األعلى في الحضرة ال ُقدسية‪.‬‬

‫ولي اهلل سيدي الغوث عبد العزيز ال َّدباغ قدس اهلل سره‪:‬‬
‫فائدة‪ :‬قال ُّ‬

‫فعمودُ نور إيمانه صلى اهلل عليه وسلم‪ُ ..‬ممتَد من القبر الشريف إلى قُبة‬
‫البَرزخ التي فيها روحه الطاهرة‪ ،‬وتأتي المَّلئكةُ ُزمَراً ُزمَراً وتطوفُ بذلك النور‬

‫(‪ )1‬نقله اإلمام المناوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» (‪.)467/5‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫الشريف ال ُممتَد‪ ،‬وت َتَ َمس ُح به‪ ،‬وت َتَطا َر ُح عليه ت َطا ُر َح النحلة على يَعسوبها؛ فكل‬
‫حمل أمر‪ ،‬أو حص َل له َكلَل‪ ،‬أو وقوف في مَقام‪..‬‬ ‫مَلَك َع َ‬
‫ج َز عن س ٍّر أو عن ت َ َ‬
‫ب قوةً كاملَةً‬
‫فإنه يجيءُ إلى النور الشريف ويطوفُ به؛ فإذا طافَ به‪ ..‬اكتَ َس َ‬
‫و ُجهداً عظيماً من ن ُوره صلى اهلل عليه وسلم؛ فيرج ُع إلى مَوضعه وقد قَو َ‬
‫ي‬

‫أَ ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫مرهُ‪ .‬انتهى‬

‫قلت‪ :‬فأدرك ‪-‬أخي ال ُمحب‪ -‬هذا السر العجيب‪ ،‬و ُط ْ‬


‫ف بروحك وفكرك‬
‫عنده صلى اهلل عليه وسلم ول َن تخيب‪ ،‬متوسَّلً بهذا النبي الحبيب‪e‬؛ وابشر‬
‫الفرج القريب‪.‬‬
‫من اهلل الكريم بالفتح و َ‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬انظر «اإلبريز» عند الباب العاشر‪.‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫السابع عشر‪:‬‬
‫الفصل َّ‬

‫سئل سيدي الغوث عبد العزيز الدبَّاغ رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫سيدي هل استحضا ُر صورة النبي صلى اهلل عليه وسلم في ذهن ال ُمؤمن‬
‫وت َشخصه إياها‪ ..‬هو من عال َم الروح‪ ،‬أو من عال َم المثال‪ ،‬أو من عال َم الخيال؟‬

‫اشتملت عليه من تعقل ال ُمحادثة وال ُمكال َمة‪..‬‬


‫ْ‬ ‫وهل الصورة الذهنية وما‬
‫محفوظ صاحبُها من الشيطان مث َل الرؤيا المنامية؛ عمَّلً بقوله صلى اهلل عليه‬
‫الشيطان ال يستطيع أ ْن يتمثَّل بِ ْي» أو كما‬
‫وسلم‪« :‬من رآني فقد رأى ح ّقا فإ َّن َّ‬
‫قال عليه الصَّلة والسَّلم‪ ،‬أو هي ليست مثلها؟ أجيبوا مأجورين ولكم أزكى‬
‫تحية وسَّلم‪.‬‬

‫فأجاب رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫بأن ذلك االستحضا َر‪ ..‬من ُروح الشخص وعقله؛ ف َمن توجهَ بفكره إليه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬وقعت صورت ُه في ذهنه‪:‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫فإ ْن كان ممن يعلَم صورت َه الكريمةَ ‪-‬لكونه صحابياً‪ ،‬أو من العلماء الذين‬
‫عنوا بالبحث عنها ثم حصلوها‪ ..-‬فإنها تقع في فكره على نحو ما هي عليه في‬
‫الخارج‪.‬‬

‫آدمي في غاية الكمال‬


‫ٍّ‬ ‫وإن كان من غير هذين‪ ..‬فإنه يَستحضرهُ في صورة‬
‫في َخلْقه و ُخلقه‪ ،‬فقد ت ُواف ُق الصورةَ التي في فكره ما في الخارج‪ ،‬وقد ت ُخالفه‪.‬‬

‫والحاض ُر في الفكر‪ ..‬هو صورةُ ذاته صلى اهلل عليه وسلم ال صورةَ روحه‬
‫وأخبر عنه‬
‫َ‬ ‫عليه الصَّلة والسَّلم؛ فإ ًّن الذي شاه َدهُ الصحابةُ رضي اهلل عنهم‬
‫خص‬
‫ُ‬ ‫الفكر إال فيما يعل ُمهُ الش‬
‫ُ‬ ‫ات ال الروح الشريفة‪ ،‬وال يجو ُل‬
‫العلماءُ‪ ..‬هو الذ ُ‬
‫ويَعرف ُه‪.‬‬

‫فقولكم‪( :‬هل هو من عال َم الروح؟)؛ إ ْن أردتم به االستحضا َر‪ ..‬فهو من‬


‫الحاضر‬
‫ُ‬ ‫عال َم الروح‪ ،‬أي‪ :‬من ُروح التفكر‪ ،‬وإ ْن أردتم به الحاض َر ‪-‬أي‪ :‬فهل‬
‫في أفكارنا رو ُحه صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فقد سبق أنه ليس إياها‪.‬‬

‫وأما المحادثة والمكال َمة إذا حصلت لهذا ال ُمتفكر‪:‬‬

‫فإن كانت ذات ُه طاهرةً وت ُحبها رو ُحه‪ ،‬ول َم ت ُح َ‬


‫جب عنها أسرا ُرها‪ ،‬وكانت‬
‫معها كالخليل مع خليله‪ ..‬فال ُمحادَثة معصومة‪ ،‬وهي حق‪.‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫ات على العكس‪ ..‬فاألمر على العكس‪ ،‬واهللُ ال ُموف ُق‪ .‬انتهى‬
‫وإن كانت الذ ُ‬

‫ثم قال تلميذه سيدي أحمد ابن المبارك رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫بعض الصالحين كان يذ ُك ُر مع‬


‫َ‬ ‫ذكرت له رضي اهلل عنه ذات يوم‪ :‬أن‬
‫ُ‬ ‫وقد‬

‫بعضهم تبد َل لون ُهُ‪ ،‬وتغي َر حال ُهُ‪ ،‬وبد َل ج َ‬


‫لستَهُ! فقيل‬ ‫جماعة من أصاحبه‪ ،‬ثم إن َ‬
‫ُ ۡ َُ َ َ‬ ‫َ ۡ َ ُ ْٓ َ َ‬
‫فعلت هذا؟ فقال‪ :‬ﵟوٱعلموا أن فِيكم رسول ٱّللِﵞ ﵝالحجرات ‪ :‬ﵗﵜ يُريد أن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫له‪ :‬لم‬
‫حضرهم في تلك الساعة‪ ،‬وأنه شاه َد َ‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫النبي ‪e‬‬

‫فقلت للشيخ رضي اهلل عنه‪ :‬هل هذه ال ُمشاهدةُ التي وقعت لهذا الرجل‬
‫مشاهدةُ فتح أو مشاهدةُ فكر؟!‬

‫فقال‪ :‬مشاهدةُ فكر‪ ،‬ال مشاهدة فتح‪ ،‬و ُمشاهدةُ الفكر وإن كانت دون‬
‫مشاهدة ال َفتح إال أنها ال تق ُع إال ألهل اإليمان الخالص‪ ،‬وال َمحبة الصافية‪،‬‬
‫والنية الصادقة‪.‬‬

‫وبالجملة‪ :‬فهي ال تق ُع إال ل َمن ك ُم َل تعل ُق ُه بالنبي‪ ،e‬و َكم من واحد تق ُع‬
‫له هذه ال ُمشاهدةُ‪ ..‬فيظنها مشاهدةَ فتح‪ ،‬وإنما هي مشاهدةُ فكر!‬

‫‪- 103 -‬‬


‫يس‬ ‫وهذا القسمُ الذي تقع له هذه ال ُمشاهدةُ ‪-‬وهو ُ‬
‫غير مفتوح عليه‪ -‬إذا ق َ‬
‫مع عامة المؤمني َن‪ ..‬كانوا بالنسبة إليه كالعدم‪ ،‬ويكو ُن إيمان ُهم بالنسبة إلى‬
‫إيمانه‪ ..‬كَّل شيء‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬

‫الشيخ عبد العزيز رضي اهلل عنه‪ :‬ينبغي أ ْن تكون هذه المحبةُ بين‬
‫قال َّ‬
‫ال ُمريد والشيخ؛ فإنها نافعة جداً‪.‬‬

‫َ‬
‫ذلك من أهل‬ ‫قال‪ :‬إن أه َل هذه المحبة‪ ..‬يضرو َن وينفعو َن كما يقع‬
‫(‪)1‬‬
‫التصرف‪ .‬ويقول‪ :‬أن نا َر ال َمحبة إذا َش َعلَ ْ‬
‫ت‪ ..‬ال يردها شيء‪ .‬انتهى‬

‫َ‬
‫وافيك في هذا الفصل ‪-‬الذي هو من أنفع الفصول إن شاء اهلل‪-‬‬‫قلت‪ :‬سأ ُ‬

‫بأقوال أهل المعرفة في شأن استحضار صورة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وأنها من أهم ال ُمهمات للسائرين وأوكدها‪ ،‬وأعظم الوسائل للسالكين‬
‫وأسعدها‪.‬‬

‫قال سيِّدي َّ‬


‫الشهيد أبو الفيض مح َّمد بن عبد الكبير الكتَّاني رضي اهلل عنه‬
‫في كتابه «الفرق بين الواردات» عند كَّلمه عما ينبغي للذاكر فعلَه‪:‬‬

‫(‪ )1‬انظر «اإلبريز» في الباب الخامس‪.‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫حمدي قب َل الذكر وحينَه‪،‬‬‫اكر بمَّلحظة النور األعظم ال ُم َ‬ ‫يشتغل الذ ُ‬
‫ويتخيله أوالً مُحدقاً به ومُحيطاً به‪ ،‬ومُكثفاً له(‪ )1‬من جميع جهاته؛ ألنه الدليل‪،‬‬
‫والرفي ُق قب َل الطريق‪ ،‬والجا ُر ث ُم الدار‪.‬‬

‫ت مع‬
‫حمدية مع ُه من كل جهاته‪ ،‬وال يَثبُ ُ‬
‫ويَجته ُد في استحضار الهمة ال ُم َ‬
‫وى وال َغير‪ ،‬وال أكدار وال أغيار‪ ،‬وال َسَّلطات‬
‫همته ‪-‬صلى اهلل تعالى عليه‪ -‬س ً‬
‫القلب بمثابة السماء‪ ،‬وق ْد كان عال َ ُم‬
‫َ‬ ‫ُظلمانية(‪ ،)2‬وال ت َ َسورات َرجيمية؛ ألن‬
‫غير مَصون من النفوذ‬ ‫األفَّلك ‪-‬قب َل قدومه صلى اهلل تعالى عليه لعال َم الشهادة‪َ -‬‬
‫َََ ََ ۡ َ َ‬
‫ٱلس َما ٓ َء فَ َو َج ۡد َنَٰ َها ُملِئَتۡ‬ ‫الشيطاني؛ فلما بعثَهُ سبحانه‪ ..‬قالوا‪ :‬ﵟوأنا لمسنا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ َ َ َٰ َ َ ۡ َ‬ ‫َ ٗ ُ‬
‫َح َر ٗسا شدِيدا َوش ُه ٗبا ‪ ٨‬وأنا كنا نقعد مِنها مقعِد ل ِلسمعِۖ فمن يست ِمعِ ٱٓأۡلن‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫َ ۡ َُ َ ٗ َ ٗ‬
‫ابا ر َصدا ‪٩‬ﵞ ﵝال ِجن ‪ :‬ﵘ ‪ -‬ﵙﵜ‪.‬‬ ‫ي ِجد لهۥ شِه‬

‫حكام مصاحب ِة نورهِ صلى اهلل تعالى عليه معه‪،‬‬


‫ِ‬ ‫استِ‬
‫القلب قبْل ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬
‫وتمكين الروابط ال َمعنوية معه صلى اهلل تعالى عليه وسلم وعلى آله‪ ..‬للشيطان‬
‫النفوذُ ال ُكلي فيه‪ ،‬حتى ال يج َد للعبادة لذةً وال َطعماً وال ذَوقاً‪.‬‬

‫(‪ )1‬كذا في المطبوع‪ ،‬ولعلها‪( :‬مُكتنفاً له) بدل‪( :‬ومكثفا له) واهلل أعلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي شدائد قهرية ُظلمانية‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫ت مصاحبتُهُ ‪-‬صلى اهلل تعالى عليه‪ -‬البَرزخيةُ في سر َك؛‬
‫وأما إذا استحك َم ْ‬
‫ف إحضا َر صورته الكريمة في عال َم َخيال َ‬
‫ك إلى‬ ‫بحيث ل َ ْم ت َ َز ْل ت َستحض ُرهُ وت َتَ َكل ُ‬
‫ُ‬
‫ك يُح َف ُ‬
‫ظ باطنُ َ‬
‫ك من األغيار واألكدار‪،‬‬ ‫ك فتح َف َظ َها‪ ..‬ف ُهنال َ‬
‫أ ْن تأخ َذها مرآت ُ َ‬
‫حمدي للقلب؛‬
‫والتشويشات والتغييرات والتفريقات؛ بسبب دخول النور ال ُم َ‬
‫إذ هو ‪-‬صلى اهلل تعالى عليه وعلى آله وسلم‪ -‬اإلنسا ُن الكام ُل‪.‬‬

‫ضمن للتوجه للعال َم األكبر واألوسط واألصغر؛ بل‬


‫فقصر النظر عليه‪ُ ..‬متَ َ‬
‫ُ‬
‫الحقائق اإللهية‪.‬‬

‫َ‬
‫حفظ‬ ‫ُ‬
‫حفظ صورته الكريمة في مرآة القلب‪ ..‬يَتضم ُن‬ ‫ف ِمن هناك‪ :‬كان‬
‫الباطن من األغيار؛ ألن اإلنسا َن الكام َل‪ ..‬هو الجام ُع لجميع العوالم اإللهية‬
‫والكونية‪ ،‬ال ُكلية وال ُ‬
‫جزئية‪ ،‬وهو كتاب جامع للكتب اإللهية والكونية‪.‬‬

‫ف ال ُمكرمةُ‪ ،‬ال َمرفوعةُ المطهرةُ‪ ،‬التي ال ي َمسها وال‬


‫ح ُ‬
‫إلى أن قال‪ :‬فهو الص ُ‬
‫جب الظلمانية‪.‬‬ ‫يُدرك أسرا َرها‪ ..‬إال ال ُمطهرو َن من ال ُ‬
‫ح ُ‬

‫[كيف يستعان على استحضار صورته‪ e‬في ال ِّذكر]‪:‬‬

‫ويُستعا ُن على هذا بأمور‪:‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫خال َ َطتها حتى‬
‫حمدية والت َغلْ ُغ ُل فيها‪ ،‬وإدما ُن مُ َ‬
‫ِمنها‪ :‬مَعرف َة الشمائل ال ُم َ‬
‫حمديةُ التي ال يتمث ُل الشيطا ُن بها في مرآت َ‬
‫ك‪:‬‬ ‫لك الصورةُ الكري َمةُ ال ُم َ‬
‫ت ُ ْر َس َم ت َ‬

‫ول ا ْم أ ْظ اف ا ْر بِ ام ا ْط ال ا ْوبِ ا ْي ل اديْ اه اا‬ ‫إِذاْ م اا ال ْ َّشاااا ْوق أق ْال اق انِ ا ْي إِل ايْ اه اا‬
‫صاااارا عالايْاهاا‬ ‫وقالْ ات ل ِان ااْ ِظا ِر ْ‬
‫يق ْ‬ ‫ف نا ْقشااااا‬
‫ناق ْشاااات ِماث االاه اا فِاي الاكا ِّ‬

‫وأ ْرت ااح إِذْ يابْاد ْو خاي اال اك فاِ ْي فاِ ْكا ِر ْ‬
‫ي‬ ‫ى‬ ‫الافا ْكار الامار َّوع ِفا ْي َّ‬
‫الاناو ْ‬ ‫ماثال اك ِ‬
‫يا ِّ‬

‫حمدية ظل ن َ َفس ‪-‬في العادات‬ ‫ومنها‪ :‬ع َدمُ ال ُ‬


‫خروج عن السنة ال ُم َ‬
‫ب من‬
‫ويقر ُ‬
‫ُ‬ ‫والعبادات وال ُمعامَّلت وال ُمعت َقدات‪-‬؛ فإنه بهذا تَتوف ُر له األنوا ُر‪،‬‬
‫عال َم ال َمعاني‪ ،‬ويَتباع ُد عن عال َم األ َكدار؛ ألن السنةَ ال ُم َ‬
‫حمديةَ هي في‬
‫الحقيقة‪ ..‬صورةُ َسيْر العال َمي َن إلى َربهم سبحان َهُ‪ ،‬لو ت َم لهم التوفيق‪ ..‬ل َ َما ان ْ َق َط َع‬
‫وص ُل ب َغيرها‪ ،‬وهي عنوا ُن الوصول‪ ،‬وهي‬ ‫أ َحد‪ ،‬ول َ َو َ‬
‫ص َل الجمي ُع؛ ألنها ال يُ َ‬
‫ُۡ‬
‫ح َوالك السيرية والدهرية ﵟقل‬ ‫ص ُم الوصول‪ ،‬وهي الضياءُ في ُم ْدل َهمات ال َ‬ ‫م ْع َ‬
‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫َ ُ ْ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ ۡ ْ َ َ َ َ َ ُ َُ ۡ َ‬
‫أطِيعوا ٱّلل وٱلرسول ۖفإِن تولوا فإِن ٱّلل لا يحِب ٱلكفِ ِرين ‪٣٢‬ﵞ ﵝال عِمران ‪ :‬ﵒﵓﵜ فتأم ْل‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬

‫جَّلل َةَ النبوة في هذه اآلية الكري َمة‪ ،‬وهذا التوع َد العظي َم على اإلعراض عن‬
‫حمدية‪.‬‬
‫السنة ال ُم َ‬

‫‪- 107 -‬‬


‫ومنها‪ :‬عدمُ ال َغ ْفلَة عن الصَّلة على مَر َكز دائرة األنوار صلى اهلل تعالى عليه‬
‫وسلم وعلى آله في كل حيْن‪ ،‬ف َب َها ت َ ْقوى الراب َطةُ معه صلى اهلل تعالى عليه‪ ،‬م َع‬
‫صليْ َن َعلَيه؛ فإنه‬ ‫استحضار ُمجال َ َسته صلى اهللُ تعال َى عليه؛ ألن ُه َجليْ ُ‬
‫س ال ُم َ‬
‫أديب إال بالتخلق بأخَّلق اهلل تعال َى‪ ،‬وهو‬ ‫س الت ُ‬ ‫سبحان َه أدب َهُ فأ ْح َس َن تأديْبَهُ‪ ،‬ول َيْ َ‬
‫س َم ْن صلى َعلَيه‪.‬‬ ‫تعال َى َجل ُ‬
‫يس َم ْن ذَ َك َرهُ‪ ،‬ف ُه َو صلى اهلل تعالى عليه‪َ ..‬جليْ ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫انتهى‬

‫الساحلي‬
‫وقال اإلمام العارف أبو عبد اهلل محمد بن محمد بن أحمد َّ‬
‫األنصاري المال ِقي األندلسي رضي اهلل عنه (ت‪753 :‬هـ) في كتابه العظيم «بغية‬
‫السالك في أشرف المسالك»‪:‬‬
‫َّ‬

‫ومن الزم الصَّلة على النبي‪ ..e‬ت َجلي صورته الكريمة في باطن‬
‫ال ُمصلي عليه(‪.)2‬‬

‫وقال فيه أيضا رضي اهلل عنه‪ :‬اعلم أن ثمرةَ َمقصد الصَّلة على النبي‪..e‬‬
‫َ‬
‫وذلك أن‬ ‫انطبا ُع صورته الكريمة في الن ْفس انطباعاً ثابتاً مُتأصَّلً مُتصَّلً؛‬
‫بإخَّلص القصد‪ ،‬وتحصيل الشروط‬ ‫ال ُمداومَةَ على الصَّلة على النبي‪e‬‬

‫(‪« )1‬الفرق بين الواردات الرحمانية وال َملَكية والنفسانية والشيطانية»(ص‪.)140-138‬‬


‫(‪« )2‬بغية السالك في أشرف المسالك» (‪.)76/2‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫واآلداب‪ ،‬وتدبر ال َمعنى حتى يتمك َن ُحبهُ م َن الباطن ت َ َمكناً صادقاً خالصاً‪..‬‬
‫ت َص ُل بين ن َ ْفس الذاكر وب َين ن َ ْفس النبي‪ ،e‬وتؤل ُ‬
‫ف بينهما في محل ال ُقرب‬
‫اب»(‪ ،)1‬والحـُــب‬ ‫والصفا؛ بحسب تمكن ُحبه م َن الن ْفس؛ فـ «الم ْرء مع م ْن أح َّ‬
‫ﵟو َمن يُ ِطعِ َ َ‬
‫ٱّلل‬ ‫يوجب االتبا َع للمحبوب‪ ،‬واالتبا ُع يُؤذ ُن بالوصل‪ .‬قال اهلل‪َ :‬‬
‫َ َ ُ َ َ ُ ْ َٰٓ َ َ َ َ َ َ ۡ َ َ َ ُ َ َ ۡ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َُ َ َ ٓ‬
‫ٱلصدِيقِين وٱلشهداءِ‬ ‫وٱلرسول فأولئِك مع ٱلذِين أنعم ٱّلل علي ِهم مِن ٱلنبِيِـۧن و ِ‬
‫َ َ َ ُ َ ُ ْ َٰٓ َ َ ٗ‬ ‫َ‬
‫حينۚ وحسن أولئِك رفِيقاﵞ ﵝالنِساء ‪ :‬ﵙﵖﵜ‪ ،‬و«األ ْرواح جنودٌ مجنَّدة‪ ،‬فما‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َوٱلصَٰلِ ِ‬
‫تعارف ِمنْها ائْتلف‪ ،‬وما تناكر ِمنْها ا ْختلف»(‪.)2‬‬

‫فإذا تمكن ُحب النبي‪ e‬من الن ْفس‪ ..‬ل َ ْم ت َغ ْ‬


‫ب صورت ُهُ الكريمةُ عن َعين‬
‫صر إنما هي لتؤدي حقيقةَ‬ ‫البَصــيرة ل َم َ‬
‫حةً‪ ،‬وهي الرؤيَةُ الحقيقيةُ؛ ألن ُرؤيَةَ البَ َ‬
‫فيحص ُل عند البَصيرة االطَّل َع على حقيقة ما أداه‬
‫ُ‬ ‫بصر إلى َعين البَصيرة‪،‬‬
‫ال ُم َ‬
‫بصرات‪.‬‬
‫البصر من ال ُم َ‬
‫ُ‬ ‫إليها‬

‫وال شك أن الصَّلةَ على النبي‪ e‬إذا َخ َ‬


‫لص َمشرب ُها‪َ ..‬سطعت أنوا ُرها في‬
‫تغيب عنها‪ ،‬وهو العلْم اليقيني الذي‬
‫ُ‬ ‫س مرآةً لصورته‪ ،‬ال‬
‫الباطن؛ فصارت الن ْف ُ‬
‫ب السنَ ُد‪ ..‬ب َ ُع َد عن العلْم ت َطر ُ‬
‫ق الظنون‪.‬‬ ‫ال شك فيه‪ .‬وما [إ ْن] قَ ُر َ‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)6169‬مسلم (‪.)2640‬‬


‫(‪ )2‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)3336‬مسلم (‪.)2638‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫وف َ ْرق بين مَن يروي عن ب َ َ‬
‫صره‪ ،‬ومَن يروي عن ب َصيرته‪ ،‬ومع ذلك؛ فرؤيةُ‬

‫صر ربما دا َخلَتها األوهامُ‪ ،‬ورؤيةُ البَصيرة الصافية‪ ..‬ال و ْه َم فيها وال خيال‪،‬‬
‫البَ َ‬
‫فأفهم هذه اإلشارةَ‪ ،‬وأعل ْم حقيقةَ هذه العبارة‪.‬‬

‫ثم قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫الناس في انطباع الصورة الكريمة في الن ْفس على طبقات‪ ،‬بحسب‬


‫حضور‪:‬‬
‫مَشاربهم وأذواقهم في الصدق وال ُ‬

‫فمنهم مَن ال تثبت الصورة الكريمة في نفسه إال ب َعد تأمل وت َثبت وإعمال‬
‫خاصة بهذا ال َمنزل بالن ْفس‪،‬‬
‫أضعف القوم؛ لتعلق بعض البَقايا ال َ‬
‫ُ‬ ‫فكر‪ ،‬وهذا‬
‫وهذا قلي ُل الرؤية إياهُ في النوم‪ ،‬وإ ْن رآهُ‪ ..‬فإنما يراهُ على غير كمال الرؤية‪.‬‬

‫ت الصورةُ الكريمةُ في ن َ ْفسه أحيا َن ذ ْكره إياهُ‪ ،‬ال سيما في‬


‫ومنهم مَن ت َثْبُ ُ‬
‫صليَة‪ ،‬فإذا ف َتَ َر‪ ..‬غابت عنه‪ ،‬وهذا‬
‫كر في معنى الت ْ‬ ‫خلَوات عندما يتمح ُ‬
‫ض الف ُ‬ ‫ال َ‬
‫أنهض من األ َول؛ لكن مع بقية فيه مما يقتضيه مَنزل ُهُ‪ ،‬وهذا يراه في النوم على‬
‫ُ‬
‫صورته الكاملة‪ ،‬راغباً به عن ُرؤيته بحسب استصحاب حضوره في فكره‪.‬‬

‫ومنهم مَن إذا َسد َعينَيه بالنوم وغاب قليَّلً عن الحس‪ ..‬رآه في أغلب‬
‫أحواله‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫ومنهم مَن إذا َسد َعينَيه ‪-‬يقظةً أو نوماً‪ ..-‬رآهُ بعين بصيرته وعلى كل‬
‫نفوسهم‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫اطمأنت قلوب ُهم بذكر اهلل؛ حتى َرقَ ْ‬
‫ْ‬ ‫حال‪ ،‬وهم أه ُل النهايات الذين‬
‫َ َ ََۡ َ َُ َ َۡ َ َ َ‬
‫ٱلنب َيـۧنَ‬
‫إلى فراديس التقريب‪ ،‬وظفروا بمجاورة ﵟٱلذِين أنعم ٱّلل علي ِهم مِن ِ ِ‬
‫َ َ َ ُ َ ُ ْ َٰٓ َ َ ٗ‬ ‫َٰ‬ ‫َ َ َ َ َ َُ َ َ ٓ َ َ‬
‫حينۚ وحسن أولئِك رفِيقاﵞ ﵝالنِساء ‪ :‬ﵙﵖﵜ‪ .‬وال يَب ُع ُد‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ٱلص‬‫ٱلصدِي ِقين وٱلشهداءِ و‬
‫و ِ‬
‫فهمت سر قوله‪:e‬‬
‫َ‬ ‫عليك هذا ال َمرمى‪ ،‬وال يُشك ُل عليك هذا ال َم ُ‬
‫سلك إذا‬
‫«األ ْرواح جنودٌ مجنَّدةٌ‪ ،‬فما تعارف ِمنْها ائْتلف‪ ،‬وما تناكر ِمنْها ا ْختلف»(‪.)1‬‬

‫ووراءَ هذا ما هو أعلى درجةً منه‪:‬‬

‫وهو أن يراهُ ب َعين رأسه عياناً في عال َم الحس‪ ،‬وال ت ُنك ْر هذا‪ ،‬فقد يُكرم اهللُ‬
‫مَن يشاء من عباده بإقامة صورته الكريمة لهُ حتى يشاه َدها‪ ،‬وهذا من جائز‬
‫تحف اهلل بها أوليــاءَه‪.‬‬
‫الكرامات التي يُ ُ‬

‫ف من أحوال رؤيته‪ e‬من خفاء ووضوح‪ ،‬وقُرب وب ُعد‪ ،‬وتغيير‬


‫وما يختل ُ‬
‫حب َ‬
‫وضعفه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ذلك راجع إلى حال السالك؛ بحسب قوة ال ُ‬ ‫وتعديل‪ ..‬إنما‬
‫(‪)2‬‬
‫واعتدال االتباع ومَيله‪ .‬انتهى‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)3336‬مسلم (‪.)2638‬‬


‫(‪« )2‬بغية السالك في أشرف المسالك» (‪.)248-246/1‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫فائدة عزيزة‪:‬‬

‫ومما نقله اإلمام أبو عبد اهلل الساحلي رضي اهلل عنه في كتابه هذا؛ طريقة‬
‫الجمع بين الحقيقة َّ‬
‫والشريعة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ب‬
‫والجم ُع بين الحقيقة والشريعة‪ ..‬من األمور التي يدق معناها ويَص ُع ُ‬
‫َمرامها‪ ،‬والعثو ُر على ذلك بسرعة وسهولة‪ ..‬إنما يكو ُن باإلدمان على ذكر‬
‫تفيض أنوا ُر الهداية على البصائر؛ فتنجلي مرآةُ الباطن ويَتَ َشح ُر‬
‫ُ‬ ‫النبي‪ ،e‬فبه‬
‫إبري ُز الذكر‪ ،‬وتصحي سماءُ اإلدراك‪ ،‬فيس ُه ُل ال َ‬
‫جم ُع بي َن الحقيقة والشريعة؛‬
‫(‪)1‬‬
‫ف َيُقي ُم العد َل في ذلك بتوفية وظائف الحقيقة‪ ،‬والقيام برسوم الشريعة‪ .‬انتهى‬

‫‪‬‬

‫(‪« )1‬بغية السالك في أشرف المسالك» (‪.)321-320/1‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫الفصل الثَّامن عشر‪:‬‬

‫إدما ُن النظر وجوال ُن الفكر في محاسن خلقته الشريفة صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وتصو ُرها بين ال َعينين‪ ،‬ومَّلحظتُها في كل وقت وحين؛ حتى يتمكن‬
‫العب ُد المنو ُر من دوام استحضارها‪ ..‬يُلح ُق العب َد ‪-‬كما قال العارفُ الجيلي‪-‬‬
‫بدرجة ال ُمشاهدين له‪e‬؛ فيفوز بالسعادة الكبرى‪ ،‬وإن لم يستطع على‬
‫االستحضار على الدوام‪ ..‬فَّل أقل من أن يستحضر هذه الصورة الشريفة بما‬
‫لها من الكمال عند الصَّلة عليه‪.e‬‬

‫قال الشيخ عبد الكريم الجيلي رضي اهلل عنه في كتابه «قاب قوسين وملتقى‬
‫النَّاموسين»‪:‬‬

‫وقد انسد في الظاهر كل طريق غير طريقه‪ ،e‬وانغل َق في الباطن كل باب‬


‫غير باب تحقيقه‪ ،‬فَّل سبي َل إلى نيل السعادة الكبرى إال بوسيلته‪ ،‬وال وصو َل‬
‫يستمطر سحاب َها ويستهل‬
‫ُ‬ ‫ولي إنما‬
‫إلى الزلفة العليا إال بواسطة فضيلته‪ ،‬وكل ٍّ‬
‫ُعباب َها‪.‬‬

‫يعرج بغير وساطته‪ ..‬فإنما صعودُه هبوط في سجنه‬


‫ُ‬ ‫وكل مَن ظن أنه‬
‫و ُحثالته‪.‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫فعليكم بالتعلق بجنابه الرفيع‪ ،‬والتمسك بالعروة الوثقى من جاهه ال َمنيع‪،‬‬
‫وص َوره‬
‫مع دوام استحضار تلك الصورة الكاملة التي هي لمعاني الوجود ُ‬
‫األرواح‬
‫ُ‬ ‫تنتعش به‬
‫ُ‬ ‫فيض لكم من ُحبه شراباً معنوياً‬
‫جامعة شاملة؛ حتى ت ُ َ‬
‫واألشباح‪ ،‬مُذهباً ومُعدماً أطَّلل َكم والرسوم؛ فتذهبو َن ويكون‪ e‬فيكم عوضاً‬
‫ُ‬
‫عنكم؛ لتنالوا حينئذ بقابلية حقيقته ال ُمشرقة بوجودكم مال َم يَنَل ُه كون من‬
‫األكوان في معرفة مَعبودكم؛ ألن اهلل سبحانه وتعالى‪ ..‬خص محمداً صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بالتجليات الكاملة الكبرى؛ فإذا أشرقت أرضُ وجودكم بنور شمسه‬
‫الظاهرة‪ ،‬واستنشقت مَشام أرواحكم من ُخزامى تلك الرياض الناضرة‪..‬‬
‫استوت ذوات ُكم بنصيبها من قابليته على بعض َ‬
‫تلك ال َمجالي؛ فأصبحت إلى‬
‫(‪)1‬‬
‫ربها ناظرة‪ .‬انتهى‬

‫قلت‪:‬‬

‫وها أنا أ ُلخ ُ‬


‫ص لك ما قاله الشيخ في طريقة التعلق بجنابه والعكوف على‬
‫بابه صلى اهلل عليه وسلم؛ ليكون هذا ختا ُم هذه الرسالة بإذن اهلل‪:‬‬

‫اموسين» (ص‪ )31‬باختصار‪.‬‬


‫قوسين وملتقى الن َ‬
‫(‪« )1‬قاب َ‬

‫‪- 114 -‬‬


‫الجيلي قدس اهلل ُروحه‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫قال َّ‬
‫الشيخ عبد الكريم‬

‫في كيفية التعلق بجنابه والعكوف على بابه صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫لما كان صلى اهلل عليه وسلم واسطةَ الجميع في البداية ألجل الظهور‪..‬‬
‫كان واسطتهم في النهاية ألجل النعيم ال ُمقيم‪ ،‬فما ثَم وسيلة وال واسطة وال‬
‫علة لوجودك ووجود كل خير َ‬
‫لك ولكل موجود‪ ..‬إال هو صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وتعتكف على بابه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫َ‬ ‫فمن األَولى أ ْن تتعلق بجنابه‬

‫دأب ال ُكمل من األولياء رضوان اهلل عليهم أن يتعلقوا بجنابه‪،‬‬


‫ولهذا كان ُ‬
‫ودأب كل َمن أراد اهللُ‬
‫ُ‬ ‫ولم يزل ذلك دأبهم‬ ‫ويحطوا جباههم على بابه‪e‬‬
‫تكميله‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬ال أدري كيف هذا التعلق والمَّلزمة بهذا الجناب العظيم والنبي‬
‫الكريم‪e‬؟َ!‬

‫قلنا‪ :‬التعلق به صلى اهلل عليه وسلم على نوعَين‪:‬‬

‫األ َّول‪ :‬التعل ُق الصوري بالجناب النبوي‪.e‬‬

‫الثاني‪ :‬التعلق ال َمعنوي بالجناب ال ُمحمدي‪.e‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫أما النوع األول الذي هو التعلق الصوري بالجناب المحمدي‪:e‬‬

‫فهو ينقسم إلى قسمين‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬االستقامة على كمال االتباع له بمواظبة ما أمر به الكتاب‬


‫والسنة قوالً وفعَّلً واعتقاداً على ما هو عليه أح ُد األئمة األربعة‪ ،‬وقد وقع‬
‫إجماع العلماء المحققين بأنهم أه ُل الحق وهم الفرقة الناجية إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬

‫ومن كمال هذا القسم‪ :‬اعتماد العزائم وعدم الركون إلى الرخص وذلك‬
‫بواسطة شيخ من أهل اهلل يدلك على ذلك ويُعرفك ما هو الَّلئق بك في كل‬
‫زمان من األعمال واألحوال‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬اتباعهُ صلى اهلل عليه وسلم بشدة المحبة والتعظيم له‪e‬‬
‫تك له في جميع وجود َك‪ ،‬وتول ْع بدوام ذكر النبي صلى اهلل‬
‫ق محب َ‬
‫حتى تجد ذو َ‬
‫عليه وسلم والتأدب معه والقيام بما أمر واجتناب ما ن َهى‪.‬‬

‫و ِمن جملة التَّعظيم لشأنه‪ :e‬التأد ُ‬


‫ب مع أصحابه وأهل بيته بالمحبة‬
‫ب مع كافة أهل اهلل؛ فإن سوء األدب معهم‪..‬‬
‫والتعظيم واإليثار لهم‪ ،‬والتأد ُ‬
‫موجب للبعد عن اهلل‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫النَّوع الثاني الذي هو التعلق ال َمعنوي بالجناب المحمدي‪:e‬‬

‫كذلك هو على قس َمين‪:‬‬

‫القسم األ َّول‪ :‬دوا ُم استحضار صورته‪ e‬في الذهن كما هو موصوف في‬
‫ب لها حالةَ االستحضار باإلجَّلل والتعظيم وال َهيبة‪.‬‬
‫األحاديث‪ ،‬والتأد ُ‬

‫وكنت قد رأيتَه وقتاً ما في‬


‫َ‬ ‫فإن لم تستحضر تلك الصورةَ البديعةَ المثال‬
‫نومك‪ ..‬فاستحضر الصورةَ التي رأيتها في النوم‪.‬‬
‫َ‬

‫فإ ْن لم تكن رأيته قط‪ ..‬فاذ ُكره َ‬


‫وصل عليه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكن في‬
‫ك بين يَديه في حياته مُتأدباً باإلجَّلل والتعظيم وال َهيبة‬
‫حال ذكر َك‪ ..‬كأن َ‬
‫والحياء‪ ،‬فإنه يرا َك ويَسم ُع َ‬
‫ك كلما ذكرت َه‪.‬‬

‫رت يوماً ما َ‬
‫قبره‬ ‫وكنت قد ُز َ‬
‫َ‬ ‫فإن ل ْم تستطع أ ْن تكو َن بين ي َديه بهذا الوصف‬
‫ورأيت روضتَه الشريفةَ‪ ،‬وقُبتَهُ العاليةَ ال ُمني َفةَ‪ ..‬فاستحضر في‬
‫َ‬ ‫ريف‪،e‬‬
‫الش َ‬
‫وتلك الحضرةَ السنيةَ كلما ذكرت َه‪ e‬أو صل َ‬
‫يت عليه‪ ،‬وك ْن‬ ‫َ‬ ‫ريف‬
‫قبره الش َ‬ ‫َ‬
‫ذهنك َ‬
‫مع اإلجَّلل والتعظيم على أ ْن تشه َد‬ ‫كأن َك واقف عند قبره الشريف‪e‬‬
‫روحانيتهُ ظاهرةً َ‬
‫لك‪.‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫رأيت موط َن حضرته وروضته‪ ..‬فأدم‬
‫َ‬ ‫ريف وال‬
‫قبره الش َ‬
‫زرت َ‬
‫َ‬ ‫فإن لم تكن‬
‫ك‪ ،e‬وك ْن إذ ذا َك مُتأدباً جام َع الهمة؛ لتَص َل إليه‬
‫الصَّلةَ عليه وتصور أنه يَسم ُع َ‬
‫وأنت حاضر بقلبك ل َديه‪ .‬فعليك بكل ذلك ففيه السعادة الكبرى‬
‫َ‬ ‫صَّلت ُ َ‬
‫ك عليه‬
‫والمكانة الزلفى واهلل الموفق‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬استحضار حقيقته الكاملة ال ُمشرقة بنور الذات اإللهية‪،‬‬


‫وال ُمحيطة بكل كمال‪ ،‬وال ُمستوعبة لكل فضيلة في الوجود صورةً ومعنى‪،‬‬
‫ُح ْكماً و َعيناً‪َ ،‬غيباً وشهادة‪ ،‬ظاهراً وباطناً(‪.)1‬‬

‫ولو ُك َ‬
‫نت متكلفاً‬ ‫فأوصيك يا أخي بدوام مَّلحظة ُصورته ومَعناه‪e‬‬
‫َ‬
‫عياناً تجده وتحدثه‬ ‫لك‪e‬‬
‫ُمستحضراً‪ ،‬فعن قليل تتألف رو ُحك به فيحضر َ‬
‫ويخاطبك‪.e‬‬
‫َ‬ ‫فيجيبك ويحد َ‬
‫ثك‬ ‫َ‬ ‫وتخاطبهُ؛‬

‫أما ثمرةُ مَّلزمة تلك الحضرة الشريفة والدوام على مشاهده تلك الصورة‬
‫اللطيفة بمعانيها العزيزة ال ُمنيفة‪ ،‬وثمرةُ مَّلحظتها كما تقدم ولو بالتصور‬
‫والتخيل والتفكر‪:‬‬

‫(‪ )1‬قلت‪ :‬وهذا القسم هو الذي بسطناه في متن هذه الرسالة من الفصل الخامس وإلى العاشر‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫َ‬
‫وذلك أن‬ ‫سبب الوصول إليه‪e‬؛‬
‫ُ‬ ‫فاعلم أن ثمرة العكوف عليه‪ ..‬هي‬
‫خاطره؛ فيتعش َق قلبُهُ بالصورة الروحانية‬
‫ُ‬ ‫المصلي عليه كثيراً‪ ..‬ال بد أن يتعلق به‬
‫ب إليه‬ ‫يوجب المحبةَ ودوام الذكر له بالصَّلة عليه‪ ،e‬وبذلك يَ ُ‬
‫قر ُ‬ ‫ُ‬ ‫تعشقاً‬

‫ويكون عنده ومعه‪« :e‬أ ْكثرك ْم عل َّي صالة أق ْربك ْم ِمنِّ ْي ي ْوم ال ِقيام ِة»(‪.)1‬‬

‫فإذا كان هذا نتيجة الصَّلة باللسان‪ ..‬فما تكون نتيجةُ الصَّلة بالقلب‬
‫والروح والسر؟!‬

‫فإذا حصل هذا؛ فهل يكون إال معه عند اهلل؟ ألن نتيجة العمل الظاهر‪-‬‬
‫وهو الصَّلة عليه‪ -e‬القرب بالمكان وهو في الجنة‪ ،‬ونتيجة العمل الباطن ‪-‬‬
‫القرب بالمكانة؛‬
‫ُ‬ ‫ومعناه‪-‬‬ ‫وهو التعلق واإلقبال ودوام استحضار صورته‪e‬‬
‫وهو عند اهلل في مقعد صدق حيث ال أين وال كيف‪ ،‬فافهم‪.‬‬

‫واعلم أن الولي الكام َل كلما ازدادَت معرفته بالنبي صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫كان أكم َل من غيره وأمك َن في الحضرة اإللهية وأدخ َل في معرفة اهلل تعالى على‬
‫(‪)2‬‬
‫اإلطَّلق‪ .‬انتهى‬

‫(‪ )1‬أخرج البيهقي في «شعب اإليمان» (‪ )2773‬من حديث أنس رضي اهلل عنه مرفوعاً‪« :‬إِ َّن أقْربك ْم ِمنِّي ي ْوم ال ْ ِقيام ِة‬
‫فِي ك ِّل م ْو ِطن أ ْكثرك ْم عل َّي صالة فِي ال ُّدنْيا» الحديث‪.‬‬
‫اموسين»‪.‬‬ ‫(‪ )2‬ملخصاً الباب السادس والسابع من كَّلم العارف عبد الكريم الجيلي في رسالته «قاب َ‬
‫قوسين وملتقى الن َ‬

‫‪- 119 -‬‬


‫قال العبد الفقير راقِم هذه ِّ‬
‫الرسالة‪:‬‬

‫تمت هذه الرسالة «أم لم يعرفوا رسولهم» بفضل اهلل ومدد رسوله صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬في يوم السبت‪ ،‬في الثامن والعشرين من شهر شعبان المكرم‪،‬‬
‫من عام ‪ 1445‬للهجرة النبوية الشريفة على صاحب الذكرى أفضل الصَّلة‬
‫والسَّلم‪ .‬الموافق للتاسع من شهر آذار لعام ‪2024‬م‪.‬‬

‫ح َقنا بجاهه الرفيع إلى‬


‫وصلى اهلل وسلم وبارك على حبيبه ومصطفاه‪ ،‬وأل َ‬
‫التعلق به حتى ننال رضاه‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن وااله‪ .‬آمين‬

‫والحمد هلل رب العالمين‬

‫‪- 120 -‬‬


‫المصادر والمراجع‬

‫النفحات القدسية ‪ ،‬من مجموع الرسائل الميرغنية‪ ،‬عبد اهلل الميرغني‬


‫المحجوب (ت ‪1193‬هـ)‪ ،‬مجموعة نقشجم العلمية‪ ،‬ط (‪.2018 ،)7‬‬

‫اإلبريز من كَّلم سيدي عبد العزيز‪ ،‬أحمد ابن المبارك الشيخ (ت‬
‫‪1156‬هـ)‪ ،‬بدون دار النشر‪ ،‬بدون بلد النشر‪ ،‬ط (‪.)1‬‬

‫أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل‪ ،‬ابن حجر الهيتمي المكي (ت ‪974‬هـ)‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬احمد المزيدي‪ ،‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫أفضل الصلوات على سيد السادات صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يوسف بن‬
‫اسماعيل النبهاني (ت ‪1350‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الوارث محمد علي‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫األنوار القدسية في شرح القصيدة الهمزية‪ ،‬أحمد ابن محمد ابن عجيبة‬
‫أبو العباس (ت ‪1224‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السَّلم العمراني الخالدي‪ ،‬الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪.2019 ،)1‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫االعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب‬
‫الحديث‪ ،‬أحمد بن الحسين البيهقي أبو بكر (ت ‪458‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد‬
‫عصام الكاتب‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪1401 ،)1‬هـ‪.‬‬

‫البحر المديد تفسير القرآن المجيد‪ ،‬أحمد ابن محمد ابن عجيبة أبو‬
‫العباس (ت ‪1224‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد اهلل القرشي رسَّلن‪ ،‬الدكتور حسن‬
‫عباس زكي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط (‪.)1‬‬

‫البرهان المؤيد‪ ،‬أحمد الرفاعي أبو العباس (ت ‪578‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد‬


‫الغني نكه مي‪.‬‬

‫بغية السالك في أشرف المسالك‪ ،‬محمد الساحلي المالقي أبو عبد اهلل‬
‫(ت ‪ 753‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد التوفيق‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسَّلمية‬
‫بالمغرب‪ ،‬المغرب‪.‬‬

‫التذكرة بأحوال الموتى وأمور اآلخرة‪ ،‬محمد بن أحمد القرطبي شمس‬


‫الدين (ت ‪ 671‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬الصادق بن محمد بن إبراهيم‪ ،‬مكتبة دار المنهاج‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط (‪ 1425 ،)1‬هـ‪.‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير‪ ،‬الحرالي المراكشي أبو‬
‫الحسن (ت ‪638‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمادي بن عبد السَّلم الخياط‪ ،‬تطوان‪،‬‬
‫ط(‪.1997 ،)1‬‬

‫التعريفات ‪ ،‬علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (ت‬


‫‪ 816‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪1983 ،)1‬م‪.‬‬

‫التعظيم والمنة‪ ،‬علي بن عبد الكافي السبكي تقي الدين (ت ‪756‬هـ)‪،‬‬


‫تحقيق‪ :‬علي أسعد رباحي‪ ،‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪.2005 ،)1‬‬

‫التنبيه شرح الحكم العطائية‪ ،‬محمد ابن عباد النفري أبو عبد اهلل (ت‬
‫‪792‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬أنس الشرفاوي‪ ،‬دار التقوى‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط (‪.2021 ،)1‬‬

‫جَّلء القلوب من األصداء الغينية ببيان إحاطته صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالعلوم الكونية‪ ،‬محمد بن جعفر الكتاني السيد (ت ‪1345‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسن‬
‫عباس زكي‪ ،‬ط (‪2004 ،)1‬م‪.‬‬

‫جواهر المعاني وبلوغ األماني‪ ،‬علي حرازم الفاسي ‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط (‪1973 ،)2‬م‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫الحاوي للفتاوي‪ ،‬جَّلل الدين السيوطي الحافظ (ت ‪911‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫جماعة من طَّلب العلم‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪1982 ،‬م‪.‬‬

‫حقائق التفسير‪ ،‬السلمي أبو عبد الرحمن (ت ‪412‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬مخطوط‬


‫السليمانية ‪ ،36‬مخطوط‪ ،‬تركيا‪ ،‬ط (‪1091 ،)1‬هـ‪.‬‬

‫الدرر المنتثرة في األحاديث المشتهرة‪ ،‬جَّلل الدين السيوطي الحافظ (ت‬


‫‪ 911‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بن لطفي الصباغ‪ ،‬عمادة شؤون المكتبات‪ ،‬المملكة‬
‫السعودية‪.‬‬

‫الرسالة‪ ،‬محمد ابن ادريس الشافعي أبو عبد اهلل (ت ‪204‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫أحمد شاكر‪ ،‬مكتبه الحلبي‪ ،‬مصر‪ ،‬ط (‪.1940 ،)1‬‬

‫زاد المسافر‪ ،‬عبد الحكيم عبد الباسط السقباني‪.‬‬

‫سير أعَّلم النبَّلء‪ ،‬محمد بن أحمد الذهبي شمس الدين (ت ‪748‬هـ)‪،‬‬


‫تحقيق‪ :‬مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب األرناؤوط‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪ ،‬ط (‪.1985 ،)3‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫شجرة النور الزكية في طبقات المالكية‪ ،‬محمد بن محمد بن عمر ابن سالم‬
‫مخلوف (ت ‪ 1360‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد المجيد خيالي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط (‪.2003 ،)1‬‬

‫شعب اإليمان‪ ،‬عبد الجليل القصري أبو محمد (ت ‪608‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪:‬‬


‫سيد كسروي حسن‪ ،‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪.1995 ،)1‬‬

‫الصلوات البكرية‪ ،‬محمد البكري أبو الحسن (ت ‪899‬هـ)‪ ،‬طبعة قديمة‪.‬‬

‫عرائس البيان في حقائق القرآن‪ ،‬روزبهان البقلي صدر الدين (ت‬


‫‪606‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬احمد المزيدي‪ ،‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪.2008 ،)1‬‬

‫عطية الوهاب الفاصلة بين الخطأ والصواب‪ ،‬محمد بك األوزبكي‬


‫األوزبكي‪ ،‬مكتبة النيل‪ ،‬مصر‪ ،‬ط (‪.)1‬‬

‫الفتوحات المكية‪ ،‬محيي الدين ابن العربي الشيخ األكبر (ت ‪638‬هـ)‪،‬‬


‫دار الكتب العربية الكبرى‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط (‪1854 ،)1‬هـ‪.‬‬

‫الفرق بين الواردات الرحمانية وال َملَكية والنفسانية والشيطانية‪ ،‬محمد بن‬
‫عبد الكبير الكتاني أبو الفيض (ت ‪1327‬هـ)‪.‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫فيض القدير شرح الجامع الصغير‪ ،‬عبد الرؤوف المناوي المناوي (ت‬
‫‪1031‬هـ)‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪1972 ،)2‬م‪.‬‬

‫اموسين‪ ،‬عبد الكريم الجيلي قطب الدين (ت‬


‫قوسين وملتقى الن َ‬
‫قاب َ‬
‫‪832‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عاصم الدرقاوي‪.‬‬

‫القول البديع في الصَّلة على الحبيب الشفيع صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬محمد‬
‫بن عبد الرحمن السخاوي شمس الدين (ت ‪902‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عوامة‪،‬‬
‫مؤسسة الريان‪ ،‬المملكة السعودية‪ ،‬ط (‪2002 ،)1‬م‪.‬‬

‫كشف البراقع بشرح أبيات‪ :‬توضأ بماء الغيب‪ ،‬محمد بن عبد الكبير‬
‫الكتاني أبو الفيض (ت ‪1290‬هـ)‪.‬‬

‫كشف الخفاء ومزيل اإللباس عما اشتهر من األحاديث على ألسنة الناس‪،‬‬
‫اسماعيل العجلوني خاتمة المحدثين (ت ‪1162‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسام الدين‬
‫القدسي‪ ،‬مكتبة القدسي‪ ،‬مصر‪ 1351 ،‬هـ‪.‬‬

‫كشف السر الغامض شرح ديوان ابن الفارض‪ ،‬عبد الغني النابلسي األستاذ‬
‫(ت ‪1143‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬خالد الزرعي‪ ،‬نينوى‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط (‪2017 ،)1‬م‪.‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫الكليات األحمدية‪ ،‬محمد أبو الهدى الصيادي أبو الهدى (ت ‪1328‬هـ)‪،‬‬
‫مطبعة الواعظ‪ ،‬مصر‪1908 ،‬م‪.‬‬

‫الكماالت اإللهية في الصفات المحمدية‪ ،‬عبد الكريم الجيلي قطب الدين‬


‫(ت ‪ 832‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عاصم الكيالي الدرقاوي‪ ،‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‬
‫(‪.)1‬‬

‫لباب المعاني‪ ،‬محمد العبدلي البحريني الرفاعي العبدلي البحريني‪،‬‬


‫المطبعة الكبرى الباهرة ببوالق‪ ،‬مصر‪ ،‬ط (‪1307 ،)1‬هـ‪.‬‬

‫لطائف اإلشارات‪ ،‬عبد الكريم القشيري (ت ‪465‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم‬


‫البسيوني‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط (‪.)3‬‬

‫لطائف المنن‪ ،‬ابن عطاء اهلل السكندري (ت ‪709‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪.‬عبد‬


‫الحليم محمود‪ ،‬المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط (‪.2006 ،)3‬‬

‫مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان‬
‫الهيثمي أبو الحسن (ت ‪807‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسام الدين القدسي‪ ،‬مكتبة‬
‫القدسي‪ ،‬القاهرة‪.1994 ،‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫محاضرة األوائل ومسامرة األواخر‪ ،‬علي دده البوسنوي (ت ‪1007‬هـ)‪.‬‬

‫المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية‪ ،‬أحمد ابن حجر العسقَّلني أبو‬
‫الفضل (ت ‪ 852‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬رسالة علمية قدمت لجامعة اإلمام محمد بن‬
‫سعود‪ ،‬دار العاصمة ‪ -‬دار الغيث‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط (‪1419 ،)1‬هـ‪.‬‬

‫المعجم الكبير‪ ،‬سليمان بن أحمد الطبراني أبو القاسم (ت ‪360‬هـ)‪،‬‬


‫تحقيق‪ :‬حمدي بن عبد المجيد السلفي‪ ،‬مكتبة ابن تيمية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط (‪،)2‬‬
‫‪.1994‬‬

‫معجم المفسرين من صدر اإلسَّلم وحتى العصر الحاضر‪ ،‬عادل نويهض‪،‬‬


‫مؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪.1988 ،)3‬‬

‫المقاصد الحسنة ‪ ،‬محمد بن عبد الرحمن السخاوي شمس الدين (ت‬


‫‪902‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عثمان الخشت‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪،)1‬‬
‫‪1985‬م‪.‬‬

‫المنح المكية في شرح ال َهمزية‪ ،‬ابن حجر الهيتمي المكي (ت ‪974‬هـ)‪،‬‬


‫تحقيق‪ :‬احمد جاسم و بو جمعة مكري‪ ،‬دار المنهاج‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط (‪،)2‬‬
‫‪2005‬م‪.‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫المنقذ من الضَّلل‪ ،‬محمد الغزالي الطوسي حجة اإلسَّلم (ت ‪505‬هـ)‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬اللجنة العلمية بمركز دار المنهاج‪ ،‬دار المنهاج‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط (‪،)1‬‬
‫‪.2015‬‬

‫المواهب اللدنية‪ ،‬أحمد بن محمد القسطَّلني شهاب الدين (ت ‪923‬هـ)‪،‬‬


‫تحقيق‪ :‬عماد زكي البارودي‪ ،‬المكتبة التوقيفية‪ ،‬مصر‪ ،‬ط (‪.)1‬‬

‫نوادر األصول في معرفة أحاديث الرسول‪ ،e‬محمد الحكيم الترمذي أبو‬


‫عبد اهلل (ت ‪ 320‬هـ)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر عطا‪ ،‬الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‬
‫(‪1992 ،)1‬م‪.‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫‪‬‬
‫مقدمة‪)5-3(......................................................... :‬‬

‫تمهيدات‪)8-6(...................................................... :‬‬

‫والبحث في شؤونه‪e‬؟!‪)15-9(......‬‬
‫ُ‬ ‫الفصل األول‪ :‬ل َم تتعي ُن معرفتُه‬

‫الفصــــل الثــاني‪ :‬بعض األدل ـة الشـــرعيــة المشـــيرة إلى أوليــة النور‬


‫المحمدي‪)21-16( .....................................................e‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬أوفر الناس معرفةً باهلل سبحانه وتعالى‪ ..‬أوفرهم حظاً من‬
‫معرفة رسول اهلل‪)28-22(............................................... e‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬لم يدركه منا سابق وال الحق‪)34-29(..............e‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬تبيان معنى الخَّلفة عند أهل الحقيقة‪)41-35(......‬‬

‫الفصل السادس‪ :‬ال دليل إلى الحق إال بسيد الخلق‪)43-42(.......e‬‬

‫الفصل السابع‪ :‬معرفةُ الواسطة ‪ ..e‬يقضي بازدياد األنوار‪ ،‬وحصول‬


‫ال َمسرة وانكشاف األسرار ‪)47-44(........................................‬‬

‫الفصل الثامن‪َ :‬من أراد الحق هدايتَ ُه‪ ..‬بصره بنور رسول ‪)53-48(..e‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫الفصل التاسع‪ :‬الفناءُ فيه‪ e‬بقاء باهلل‪)58-54(........................‬‬

‫الفصل العاشر‪ :‬معنى الفناء به‪ e‬وأنه باب معرفة اهلل‪)65-59(........‬‬

‫الفصل الحادي عشر‪ :‬ال َمعنى ال َمطلوب‪ :‬الوصول لحضرته‪69-66( e‬‬

‫الفصل الثاني عشر‪ :‬إمكان الحقيقة المحمدية‪)72-70(............e‬‬

‫الفصل الثالث عشر‪ :‬من معاني (النور الذاتي)‪)78-73(............e‬‬

‫الفصل الرابع عشر‪ :‬مادةَ طينته الشريفة‪ e‬أص ُل األجسام‪)86-79(.....‬‬

‫الفصل الخامس عشر‪ :‬الكَّلم عن نشأة جسده الشريف‪)93-87(....e‬‬

‫الفصل السادس عشر‪ :‬الكَّلم عن حياته بعد انتقاله‪)100-94(.......e‬‬

‫الفصل السابع عشر‪ :‬استحضار صورته الشريفة‪)112-101(........e‬‬

‫الفصل الثامن عشر‪ :‬في كيفية التعلق بجنابه‪)119-113(............e‬‬

‫‪- 131 -‬‬

You might also like