You are on page 1of 144

‫فطوبى للغرباء‬

‫رسالة للغرباء حتى ل يستوحشوا‬


‫من طول الطريق وقلة السالكين‬

‫أبو سيف‬
‫خليل بن إبراهيم العراقي الثري‬

‫‪1‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫المقدمـــــة‬
‫ه ونستغفرهُ ‪ ،‬ونعوذ ُ بالل ِ‬
‫ه‬ ‫ن الحمد َ للهِ ‪ ،‬نحمده ُ ونستعين ُ‬ ‫إ ّ‬
‫ه‬
‫من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪ ،‬من يهدهِ الل ُ‬
‫ل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪ ،‬وأشـهد ُ أن ل‬ ‫فل مض َ‬
‫ن محمدا ً عبده‬ ‫إله إل الله وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشـهد أ ّ‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫َ‬
‫ن إ ِل ّ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫قات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫حقّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪َ ‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن‪.(1)‬‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫وَأن ْت ُ ْ‬
‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫قوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫س ات ّ ُ‬ ‫‪َ‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫ساًء ‪،‬‬ ‫جال ً ك َِثيرا ً وَن ِ َ‬ ‫ما رِ َ‬ ‫من ْهُ َ‬‫ث ِ‬ ‫جَها وَب َ ّ‬ ‫من َْها َزوْ َ‬ ‫خل َقَ ِ‬ ‫حد َةٍ وَ َ‬ ‫َوا ِ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫ن ب ِهِ َوالْر َ‬ ‫ساَءُلو َ‬ ‫ذي ت َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫َوات ّ ُ‬
‫م َرِقيبا ً ‪. ‬‬
‫)‪(2‬‬
‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ديدا ً ‪،‬‬ ‫َ‬
‫س ِ‬ ‫ه وَُقوُلوا قَوْل ً َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪َ ‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫يصل ِح ل َك ُ َ‬
‫ن ي ُط ِعْ الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م ذ ُُنوب َك ُ ْ‬ ‫فْر ل َك ُ ْ‬ ‫م وَي َغْ ِ‬ ‫مال َك ُ ْ‬ ‫م أعْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ ْ‬
‫ظيما ‪. ‬‬
‫)‪(3‬‬ ‫ً‬ ‫وزا عَ ِ‬ ‫ً‬ ‫قد ْ َفاَز فَ ْ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫وََر ُ‬
‫أما بعد ‪:‬‬
‫ث كلم الله ‪ ،‬وخيَر الهدي هدي محمد‬ ‫ن أصدقَ الحدي ِ‬ ‫فإ ّ‬
‫ل محدثةٍ بدعة ‪ ،‬وكل‬ ‫) ‪ ( ‬وشّر المور محدثاتها ‪ ،‬وكـ ّ‬
‫ل ضللةٍ في النار ‪.‬‬ ‫بدعةٍ ضللة ‪ ،‬وك ّ‬
‫ن أِبي هَُري َْرةَ َقال ‪:‬‬ ‫َ‬
‫لقد ثبت في صحيح المام مسلم عَ ْ‬
‫َ‬
‫ريبا‬ ‫م غَ ِ‬ ‫سل َ ُ‬ ‫ل الل ّهِ ) ‪ ( ‬قال ‪ )) :‬ب َد َأ ال ِ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ى ل ِل ْغَُرَباِء (( ‪ ،‬مما يدلل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما ب َد َأ غَ ِ ً‬
‫ريبا فَطوب َ‬ ‫سي َُعود ُ ك َ َ‬
‫‪4‬‬
‫وَ َ‬
‫على أن غربة شديدة ستحل بالسلم والمسلمين في‬
‫فّرط الكثير من المسلمين‬ ‫آخر الزمان ‪ ،‬وذلك عندما ي ُ َ‬

‫‪ ( 1 )1‬سورة آل عمران ‪.102 :‬‬


‫‪ ( 2) 2‬سورة النساء ‪.1 :‬‬
‫‪ ( 3 ) 3‬سورة الحزاب ‪.71 :‬‬
‫‪ ( 4 )4‬أخرجه مسلم ‪ :‬برقم ‪. 232‬‬
‫‪2‬‬
‫بدينهم وعقيدتهم ومنهجهم ‪ ،‬كتلك الغربة التي ذاق مر‬
‫طعمها الوائل ‪ ،‬حتى يصبح المتمسك بدينه كالقابض‬
‫على الجمر يوشك أن يدعه ويتخلى عنه ‪ ،‬ولهذا جاء في‬
‫)) أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان‬
‫وأنه كالقابض على الجمر ‪ ،‬وأن للعامل منهم أجر‬
‫خمسين ممن قبلهم ‪ ،‬لنهم ل يجدون أعوانا ً في‬
‫الخير (( ‪ .5‬فالغربة واقعة ل محالة وهو خبر صادق حتى‬
‫لو لم يشهد به الواقع وتشهد به العقول ‪ ،‬فكيف إذا‬
‫شهد الواقع بذلك ‪ ،‬وذاق حر جمرها أصحاب العقول‬
‫الرشيدة الذين ل يزالون على عهدهم في تمسكهم‬
‫بكتاب ربهم وسنة نبيهم ) ‪ ( ‬وفهم سلفهم الصالح ‪،‬‬
‫على الرغم من كل ما يحيط بهم من المصائب‬
‫والشدائد التي يعانون منها ‪.‬‬
‫فما هو حد الغربة ؟ ومن هم الغرباء ؟ وما هي‬
‫أوصافهم ؟ هذا ما سنحاول معرفته من خلل تسليط‬
‫الضوء على بعض جوانب هذه السيرة العطرة التي سار‬
‫في دربها وإنكوى بحر جمرها الولون والمتأخرون عبر‬
‫هذه الوريقات والتي أسميتها )) فطوبى للغرباء (( لعلها‬
‫تكون عونا ً وزادا ً للغرباء ‪ ،‬حتى ل يستوحشوا من طول‬
‫الطريق وقلة السالكين ‪ ،‬وحتى ل يغتروا بكثرة‬
‫المخالفين وما يكون بأيديهم من متاع الدنيا الزائل‬
‫الفاني ‪ ،‬فالحق واحد ‪ ،‬والطريق واحد ‪ ،‬والقليل من‬
‫عباد الله الشكور ‪.‬‬
‫والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪،‬‬
‫وأن يجنبنا الفتن ‪ ،‬وأن يرد ضال المسلمين إلى الصواب‬
‫ل اللهم على عبدك‬ ‫‪ ،‬إن ربي لسميع الدعاء ‪ ،‬وص ّ‬
‫ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪.‬‬

‫‪ ( 5 )5‬كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ‪ ، 8 :‬لبن رجب‬


‫الحنبلي ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫وكتبه‬
‫أبو سيف خليل بن إبراهيم العبيدي‬
‫‪/ 12‬ربيع الول ‪/‬‬
‫‪1428‬‬

‫‪4‬‬
‫الفصل الول‬

‫معاني الغربة اللغوية واستعمالتها‬

‫أول ً ‪ :‬المعاني اللغوية ‪:‬‬


‫يرجع اشتقاق كلمة "الغربة" إلى مادة )) غ ر ب ((‬
‫دا ذكر‬‫الثلثية وهي أصل صحيح ‪ ،‬ومادة واسعة ج ً‬
‫ب( أربعة‬ ‫صاحب القاموس لحد تصريفاتها )وهو الغَْر ُ‬
‫وعشرين معنى ‪ ،‬واستدرك عليه شارح القاموس محمد‬
‫مرتضى الزبيدي عشرة معان لم يذكرها ‪ ،‬فصار‬
‫مجموعها أربعة وثلثين معنى ‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه المعاني لتصريف واحد ‪ ..‬فما بالك‬
‫بسائر ما يتفرع عن المادة ؟! ‪ ،‬أما كلمة "الغربة"‬
‫فتطلق على معان عدة ‪:‬‬
‫أ‪ -‬منها النوى والبعد ‪ ،‬يقال ‪ :‬اغترب غربة ‪ ،‬إذا َبعد ‪،‬‬
‫ونوى غربة بعيد‬
‫ب‪ -‬ومما يقرب من هذا المعنى النزوح عن الوطن ‪،‬‬
‫والغتراب ‪ ،‬يقال ‪:‬رجل غُُرب ‪ -‬بضم الغين والراء ‪،-‬‬
‫وغريب ‪ :‬أي بعيد عن وطنه ‪ ،‬والجمع ‪ :‬غرباء ‪.‬‬
‫ج‪ -‬ويقرب منهما ‪ :‬الغريب ‪ ،‬بمعنى أنه ليس من القوم ‪،‬‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫ي في أرض مذحج‬
‫وإني و العبس ّ‬
‫غريبــان شــتى الـــدار‬
‫مختلفان‬
‫وما كان غض الطرف منا سجية‬
‫ولكننـــا فــي مذحــج‬
‫ُ‬
‫غُربان‬

‫د‪ -‬وتطلق على الغموض والخفاء وعدم الشــهرة ‪ ،‬ومنــه‬


‫غريب الحديث ‪ :‬أي خفيه الذي ل يظهر معناه ‪ ،‬وأغرب ‪:‬‬
‫أتى بالغريب ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫هـ‪ -‬وتطلق على الذهاب والتنحي عن الناس ‪ ،‬يقال ‪ :‬غرب‬
‫عنا ‪ ،‬يغرب غرًبا ‪.‬‬

‫وهذه المعاني الخمسة يوجد بينها معنــى مشــترك تــدور‬


‫حوله معظم استعمالت هذه الكلمة ‪ -‬فيما أرى‪.-‬‬

‫فالنوى والبعد يعني فراق النسان لوطنه إلــى مــوطن آخــر‪،‬‬


‫وتركه قومه إلى قوم آخرين فيكون غريًبا بينهم‪ ،‬ليس منهم ‪،‬‬
‫ويغلب على حاله عندهم ‪ -‬أول المر ‪ -‬الغموض وعدم البيان‬
‫‪ ....‬والمفارق لوطنه وقومه ذاهب متنح عنهم ‪.‬‬

‫والذي جمع هذه المعاني أن غربــة الشــيء تعنــي أنــه غيــر‬


‫موافق كلًيا أو جزئًيا للشياء التي حوله لغموضــه وخفــائه ‪،‬‬
‫فالرجل الغريب هو من يكون من قوم غير قومه ‪ ،‬والكلمة‬
‫الغريبة هي التي تختلــف عـن ســائر الكلمــات فـي خفائهــا‬
‫وعدم وضوحها للناس ‪ ..‬وهكذا ‪.‬‬

‫وقد تكون دللة هذه الكلمة على مدلولها بالمطابقة ؛ كتسمية‬


‫المقيم بين قـوم ٍ سـوى قـومه غريًبـا ‪ ،‬وقـد تكـون بـاللتزام ؛‬
‫كتسمية النازح عن وطنه غريًبا ؛ لن نزوحـه يقتضـي أن يقيـم‬
‫بين ظهراني قوم آخرين فيكون غريًبا بينهم ‪ ،‬فـإذا صـح هـذا ‪،‬‬
‫فإننا نكون قد جمعنا معظـم معـاني هـذه الكلمـة فـي معنـى‬
‫واحد عام مشترك ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬استعمالتها في السنة النبوية ‪:‬‬

‫وقد جاء استعمال الغربة في السنة النبويــة علــى معــان‬


‫عدة ‪ ،‬يجمعها المعنى المشترك العام الذي أشـرت إليــه‬
‫من قبل ‪ ،‬وأشير الن إلى معنيين متقاربين منها ‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫) أ ( فجاءت بمعنى المقيم في غيــر وطنــه ‪ ،‬وبيــن قــوم‬
‫غير قومه ‪.‬‬

‫فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال ‪ :‬أخذ رسول‬
‫الله ممم مممم مممم مممم بمنكبي ‪ ،‬فقال ‪ )) :‬كن في‬
‫‪6‬‬
‫عابر سبيل (( ‪.‬‬ ‫الدنيا كأنك غريب أو‬
‫‪ )) ( 6 )6‬أو (( الواردة في هذا النص ليست هي للشك أو للتخيير‬
‫‪ ،‬وإنما هي بمعنى )) بل (( ‪ ،‬وقد جاءت بهذا المعنى في مواضع‬
‫كثرة من القرآن الكريم منها ‪:‬‬
‫ن( )الصافات‪:‬‬ ‫دو‬ ‫زي‬ ‫ي‬ ‫و‬‫‪ ( 1‬قال تعالى (وأ َرسل ْناه إَلى مائ َة أ َل ْف أ َ‬
‫ٍ ْ َ ِ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ ُ ِ‬
‫‪ ( 147‬أي ‪ :‬بل يزيدون ‪.‬‬
‫ن الل َّ‬
‫ه‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ق‬‫‪ ( 2‬وقوله ) وما أ َمر الساع َة إّل ك َل َمح ال ْبصر أ َو هُو أ َ‬
‫َ ُ ِ ّ‬ ‫ْ ِ َ َ ِ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ْ ُ‬
‫ديٌر ( ] النحل ‪ [ 77:‬أي بل هو أقرب ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ع ََلى ك ُ ّ‬
‫) ‪ ( 7‬أخرجه البخاري برقم ‪ 6053 :‬من طريق سليمان العمش‬
‫قال ‪ :‬حدثني مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ‪،‬‬
‫وفي رواية الترمذي برقم ‪ 2435 :‬من طريق سفيان عن ليث ‪:‬‬
‫عن مجاهد عن أبن عمر قال ‪ )) :‬أخذ رسول الله صلى الله عليه‬
‫ب أو عابر‬ ‫وسلم ببعض جسدي قال ‪ :‬كن في الدنيا كأنك غري ٌ‬
‫سبيل ‪ ،‬وعد نفسك من أهل القبور (( ‪ ،‬فقال لي أبن عمر ‪ :‬إذا‬
‫أصبحت فل تحدث نفسك بالمساء ‪ ،‬وإذا أمسيت فل تحدث‬
‫نفسك بالصباح ‪ ،‬وخذ من صحتك قبل سقمك ‪ ،‬ومن حياتك قبل‬
‫موتك فإنك ل تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ً ( ‪ ] ،‬أنظر صحيح‬
‫جامع الترمذي ‪ 567 / 4‬برقم ‪ 2333 :‬للمحدث العلمة اللباني [‬
‫‪.‬‬
‫وأخرجه أبن ماجة برقم ‪ 4114 :‬من طريق حماد بن زيد عن‬
‫زيد عن ليث عن مجاهد عن أبن عمر قال ‪ :‬أخذ رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال ‪ )) :‬يا عبد الله ! كن في‬
‫الدنيا كأنك غريب ‪ ،‬أو كأنك عابر سبيل ‪ ،‬وعد نفسك من أهل‬
‫القبور (( ‪ ] ،‬أنظر صحيح سنن أبن ماجة ‪ 1378 / 2‬برقم ‪:‬‬
‫‪. [ 4114‬‬

‫‪9‬‬
‫وكان أبن عمر يقول ‪ )) :‬إذا أمسيت فل تنتظـر الصـباح ‪،‬‬
‫وإذا أصبحت فل تنتظر المساء ‪ ،‬وخذ من صحتك لمرضك‬
‫‪ ،‬ومن حياتك لموتك ((‪. 7‬‬

‫فشبه صلى الله عليـه وسـلم الحـال الــتي ينبغـي أن يكــون‬


‫دد بحال الغريب الذي ليــس لــه‬
‫عليها المؤمن الناسك المس ّ‬
‫مسكن يؤويه ‪ ،‬ول بيت يكنه ‪ ،‬وأموره كلهــا ‪-‬مــن المركــب‬
‫والمأكل والمشرب والمسكن‪ -‬مؤقتة عابرة لحال غربته ‪.‬‬

‫قال أبن بطال ‪ )) :‬لما كان الغريب قليل النبســاط إلــى‬


‫الناس ؛ بل هــو مســتوحش منهــم ‪ ،‬إذ ل يكــاد يمــر بمــن‬
‫يعرفه ‪ ..‬فهو ذليل في نفسه خائف ‪ ،‬وكذلك عابر السبيل‬
‫‪..‬؛ شبه بهما‪ ..‬وفــي ذلــك إشــارة إلــى إيثــار الزهــد فــي‬
‫الدنيا ‪ ،‬وأخذ البلغة منها والكفاف (( ‪.‬‬

‫فألمــح أبــن بطــال إلــى جــانب مــن المعنــى ‪ ،‬وهــو أن‬


‫المقصــود تشــبيه المــؤمن بــالغريب لقلــة انبســاطه إلــى‬
‫الناس ‪ ،‬واستيحاشه منهم ‪ ،‬وعدم استئناسه معهم ‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫‪10‬‬
‫وثمة جانب آخر من المعنــى وهــو ‪ :‬أن الغريــب المزمــع‬
‫العودة إلى موطنه ل يكــاد يتعلــق قلبــه بشـيء فـي بلــد‬
‫غربته ؛ بل قلبه متعلق بوطنه الذي سيعود إليه ‪.‬‬

‫وكذلك المؤمن ‪ :‬شأنه مع الــدنيا أل يتعلــق قلبــه بشــيء‬


‫منها ‪ ،‬لتعلقه بالدار الخــرة الــتي إليهــا الرجعــى ‪ ،‬وفيهــا‬
‫المستقر ‪.‬‬

‫وللمعنــى جــانب ثــالث ‪ ،‬وهــو أن الغريــب ســالم مــن‬


‫الــرذائل الــتي منشــؤها الختلط بالنـــاس والنبســـاط‬
‫إليهم ‪ ،‬والشتغال عن الخالق ‪ ،‬فهو قليل الحسد والحقد‬
‫والنفــاق والنــزاع ‪ ،‬قليــل الوقــوع فــي أعــراض النــاس ‪،‬‬
‫والوشاية بهم ‪.‬‬

‫وفي الحديث ترقّ وتدّرج إذ أعقب المر بمشابهة الغريــب‬


‫بقوله ‪ )) :‬أو عابر سبيل (( ول شــك أن تعلقــات عــابر‬
‫السبيل أقل من تعلقات الغريب ‪.‬‬

‫وهذا المعنى ‪ -‬الذي هو إطلق )) الغربة (( على الغربــة‬


‫الحسية ‪ ،‬وهي مفارقة الهل والــوطن ‪ ،‬ومســاكنة قــوم‬
‫آخريــن ‪ ،‬قــد ورد فــي أحــاديث كــثيرة جــدا ً ‪ ،‬ل داعــي‬
‫لسردها هنا ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫) ب ( وجاءت بمعنى الغتراب المعنوي ‪ ،‬وهو أن يكــون‬
‫دة ‪ ،‬ومجانبــة‬
‫المرء على حال من الستقامة ولزوم الجــا ّ‬
‫الفتن والهواء ‪ ،‬وملزمة السمت الذي كان عليه الصــدر‬
‫الول ‪ ،‬مع قلة النصير والمعين والموافق ‪ ،‬وكثرة المنابذ‬
‫والمخــذل والمخــالف ‪ ،‬فيســمى صــاحب هــذه الحــال‬
‫)) غريًبا (( ذهاًبا إلى المعنى العام الذي ُأشير إليــه قبــل‬
‫_ وهو عدم موافقته لمن حوله ؛ إذ له شأن ولهم شأن ‪،‬‬
‫وهو في واد وهم في واد ‪ ،‬وهــذا المعنــى هــو المقصــود‬
‫في هذا البحــث أصـل ً ‪ ،‬وهــو مفهــوم مـن قــوله ‪ )) :‬إن‬
‫السلم بدأ غريًبا ‪ ،‬وسيعود غريًبا كما بدأ (( ‪.8‬‬

‫‪ (8 )8‬سلسلة رسائل الغرباء ‪ ،‬الرسالة الولى )) الغرباء الولون ‪:‬‬


‫‪ 17‬طبعة ‪ ((1409‬للشيخ سلمان فهد العودة بتقديم الشيخ أبن‬
‫باز رحمه الله ‪.‬‬
‫ومن الفائدة بمكان القول ‪ :‬أن أهل العلم من علماء الدعوة‬
‫السلفية المباركة قد أستدركوا على سلمان العودة عدة‬
‫مؤاخذات وتخبطات عقدية ومنهجية فليعلم ‪ ،‬وراجعوا إن شئتم‬
‫)) مدارك النظر للشيخ عبد المالك الرمضاني (( و )) أهل‬
‫الحديث هم الطائفة المنصورة الناجية للعلمة ربيع بن هادي‬
‫المدخلي (( وغيرها كثير ‪.‬‬
‫ومثله قرينه سفر الحوالي اللذين أصدرت في حقهما هيئة كبار‬
‫العلماء في المملكة العربية السعودية برئاسة فضيلة الشيخ عبد‬
‫العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فتوى بتوقيف كافة نشاطاتهما‬
‫وأعمالهما الدعوية ‪ ،‬وما جاء ذلك إل لعظيم شرهما ‪ ،‬وفداحـة‬
‫خطرهما على الناس والمجتمع ‪ ،‬ونصها )) من عبد العزيز بن عبد‬
‫الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي المير المكرم نايف‬
‫بن عبد العزيز وزير الداخلية وفقه الله ‪.....‬‬
‫سلم عليكم ورحمة الله وبركاته ‪ ،‬وبعد ‪:‬‬
‫‪12‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫النصوص الواردة في وصف الغربة والغرباء‬
‫أول ُ ‪ :‬النصوص الشرعية ‪:‬‬

‫فأشير إلى كتاب سموكم الكريم رقم ) م‪/‬ب‪/4/192/‬م ص (‬


‫وتاريخ ‪ 3/1414 / 22 –21‬هـ ‪ 0‬المتضمن توجيه خادم الحرمين‬
‫الشريفين حفظه الله بعرض تجاوزات كل من ‪ /‬سفر بن عبد‬
‫الرحمن وسلمان بن فهد العودة في بعض المحاضرات والدروس‬
‫على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الحادية والربعين‬
‫المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ ‪ 18/3/1414‬هـ ضمن ما هو‬
‫وأفيد سموكم أن مجلس‬ ‫مدرج في جدول أعماله‬
‫هيئة كبار العلماء إطلع على كتاب سموكم المشار إليه ومشفوعة‬
‫ملخص= =لمجالس ودروس المذكورين من أول محرم ‪1414‬‬
‫هـ ونسخة من كتاب ‪ /‬سفر الحوالي ) وعد كيسنجر ( وناقش‬
‫الموضوع من جميع جوانبه ‪ ،‬واطلع كذلك على بعض التسجيلت‬
‫لهما ‪ ،‬وبعد الدراسة والمناقشة رأى المجلس بالجماع ‪:‬‬
‫) مواجهة المذكورين بالخطاء التي عرضت على المجلس –‬
‫وغيرها من الخطاء التي تقدمها الحكومة‪ -‬بواسطة لجنة تشكلها‬
‫الحكومة ويشترك فيها شخصان من أهل العلم يختارهما معالي‬
‫وزير الشئون السلمية والوقاف والدعوة والرشاد ‪ ،‬فإن اعتذرا‬
‫عن تلك التجاوزات ‪ ،‬والتزما بعدم العودة إلى شيء منها وأمثالها‬
‫‪ ،‬فالحمد لله ويكفي ‪ ،‬وإن لم يمتثل منعا من المحاضرات‬
‫والندوات والخطب والدروس العامة والتسجيلت ‪ ،‬حماية‬
‫للمجتمع من أخطائهما هداهما الله وألهمهما رشدهما ( أ‪ .‬هـ ‪.‬‬
‫وقد طلب إلي المجلس إبلغ سموكم رأيه هذا ‪ ،‬وأعيد لسموكم‬
‫برفقه كتابكم المشار إليه ومشفوعاته‬
‫وأسأل الله أن يوفق خادم الحرمين الشريفين وسموكم لما يحبه‬
‫ويرضاه ‪ ،‬وأن يعين الجميع على كل خير إنه سميع قريب ‪0‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته ‪0000‬‬
‫مفتي عام الملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء و‬
‫إدارة البحوث العلمية والفتاء ‪ ] .‬أنظر ) مدارك النظر ‪490 :‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ ( 1‬عن أبي هريرة ) رضي الله تعالى عنه ( قال ‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪ )) : ‬بدأ َ السل َم غَريبا ً وسيعود ك َما بدأ َ‬
‫َ َ َُ ُ َ َ َ‬ ‫ِ ْ ُ ِ‬ ‫َ َ‬
‫ى ل ِل ْغَُرَباِء (( ‪. 9‬‬ ‫ُ‬ ‫غَ ِ ً‬
‫ريبا فَطوب َ‬
‫قال المام النووي ‪ )) :‬قال القاضي ‪ :‬وظاهر الحديث‬
‫العموم ‪ ،‬وأن السلم بدأ في آحاد من الناس وقلة ‪ ،‬ثم‬
‫انتشر وظهر ‪ ،‬ثم سيلحقه النقص والخلل حتى ل يبقى‬
‫إل في آحاد وقلة أيضا كما بدأ ‪ ،‬وجاء في الحديث‬
‫تفسير الغرباء وهم النزاع من القبائل ‪ ،‬قال الهروي ‪:‬‬
‫أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله‬
‫تعالى‪.... .‬‬
‫و)) طوبى (( فعلى من الطيب قاله الفراء ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وإنما جاءت الواو لضمة الطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬وفيها لغتان تقول‬
‫العرب ‪ :‬طوباك وطوبى لك ‪.‬‬
‫وأما معنى طوبى فاختلف المفسرون في معنى قوله‬
‫تعالى ‪} :‬طوبى لهم وحسن مآب{ فروي عن أبن‬
‫عباس رضي الله عنهما أن معناه فرج وقرة عين ‪،‬‬

‫للرمضاني ( و ) إتحاف البشر بكلم العلماء في سلمان وسفر ‪:‬‬


‫‪ 5‬لحمد الحمدي ( ‪.‬‬
‫و عقد في منزل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – بمكة‬
‫في شهر رجب عام ‪1413‬هـ مجلس ضم مجموعة من المشايخ‬
‫وطلبة العلم ‪ ،‬وقد سأله أحد القضاة فقال ‪ :‬سماحة الشيخ هل‬
‫هناك ملحظات وأخطاء على سفر وسلمان ؟‬
‫فأجاب فضيلة الشيخ ‪ :‬نعم نعم ‪ ،‬عندهم نظرة سيئة في الحكام‬
‫‪ ،‬ورأي في الدولة ‪ ،‬وعندهم تهييج للشباب وإغار لصدور العامة‬
‫وهذا من منهج الخوارج وأشرطتهم توحي إلى ذلك ‪ ،‬قال القاضي‬
‫‪ :‬يا شيخ هل يصل بهم ذلك إلى حد البدعة ؟‬
‫قال الشيخ ‪ :‬ل شك إن هذه بدعة اختصت بها الخوارج والمعتزلة‬
‫هداهم الله هداهم الله ] أنظر ‪ :‬إتحاف البشر ‪. [ 6 :‬‬

‫‪ ( 9 )9‬سبق تخريجه ‪.‬‬


‫‪14‬‬
‫وقال عكرمة ‪ :‬نعم مالهم ‪ ،‬وقال الضحاك ‪ :‬غبطة لهم ‪،‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬حسنى لهم ‪.‬‬
‫وعن قتادة أيضا معناه أصابوا خيرا ً وقال إبراهيم ‪ :‬خير‬
‫لهم وكرامة ‪ ،‬وقال أبن عجلن‬

‫‪10‬‬
‫‪ :‬دوام الخير ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الجنة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬شجرة في الجنة‬
‫‪ ،‬وكل هذه القوال محتملة في الحديث ‪ ،‬والله أعلم ((‬
‫‪ 11‬أ ‪.‬‬
‫ن‬
‫مَر َ‪ ،‬عَ ِ‬ ‫ن عُ َ‬ ‫ن اب ْ ِ‬ ‫‪ ( 2‬وروى المام مسلم في صحيحه عَ ِ‬
‫م ب َد َأ‬ ‫سل َ َ‬‫ن ال ِ ْ‬ ‫ل‪ )) :‬إ ِ ّ‬ ‫ي صلى الله عليه وسلم َقا َ‬ ‫الن ّب ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ن‬‫جد َي ْ ِ‬
‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال َ‬ ‫ما ب َد َأ ‪ ,‬وَهُوَ ي َأرُِز ب َي ْ َ‬‫ريبا ك َ َ‬ ‫سي َُعود ُ غَ ِ‬ ‫ريبا ‪ ،‬وَ َ‬ ‫غَ ِ‬
‫ْ‬
‫ها (( ‪.‬‬ ‫حرِ َ‬ ‫ج ْ‬ ‫ة ِفي ُ‬ ‫ما ت َأرُِز ال ْ َ‬
‫حي ّ ُ‬ ‫كَ َ‬
‫قال المام النووي في )) شرح صحيح مسلم )) كتاب‬
‫اليمان (( ‪ )) :‬وقوله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬وهو‬
‫يأرز (( بياء مثناة من تحت بعدها همزة ثم راء مكسورة‬
‫ثم زاي معجمة هذا هو المشهور ‪ ،‬وحكاه صاحب‬
‫المطالع مطالع النوار عن أكثر الرواة قال ‪ :‬وقال أبو‬
‫الحسين بن سراج ليأرز بضم الراء ‪.‬‬

‫‪ ( 10 )10‬أخرج المام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪:‬‬
‫قال رسول الله ) ‪ )) : ( ‬إن في الجنة لشجرة يسير الراكب‬
‫في ظلها مئة سنة ل يقطعها (( ‪.‬‬
‫وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ‪ ،‬عن رسول الله ) ‪( ‬‬
‫أنه قال له رجل يا رسول الله ما طوبى ؟ قال ‪ )) :‬شجرة في‬
‫الجنة مسيرة مائة سنة ‪ ،‬ثياب أهل الجنة من أكمامها (( ‪،‬‬
‫] إسناده حسن أنظر ‪ :‬سلسلة الحاديث الصحيحة ‪. [ 639 / 4‬‬
‫‪ ( 11 )11‬شرح صحيح مسلم )) كتاب اليمان ‪ /‬باب بيان أن‬
‫السلم بدأ غريبا ً وسيعود غريبا ً (( للنووي ‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫وحكى القابسي فتح الراء ومعناه ينضم ويجتمع ‪ ،‬هذا‬
‫هو المشهور عند أهل اللغة والغريب ‪.......‬‬
‫وقوله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬بين المسجدين" أي‬
‫مسجدي مكة والمدينة (( ‪. 12‬‬
‫‪ ( 3‬عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‬
‫قال ‪ ،‬قال رسول الله ‪ ‬ذات يوم ونحن عنده ‪:‬‬
‫)) طوبى للغرباء !! (( ‪.‬‬
‫فقيل من الغرباء يا رسول الله ؟ ‪.‬‬
‫قال ‪ )) :‬أناس صالحون في أناس سوء كثير ‪ ،‬من‬
‫يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (( ‪ ،‬قال وكنا عند رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم يوما ً آخر حين طلعت‬
‫الشمس ‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫)) سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء‬
‫الشمس (( ‪ ،‬قلنا من أولئك يا رسول الله ؟ ‪ ،‬فقال ‪)) :‬‬
‫فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ‪ ،‬يموت‬
‫أحدهم وحاجته في صدره ‪ ،‬يحشرون من أقطار‬
‫الرض ((‪.13‬‬
‫‪ (4‬عن عبد الرحمن بن سنة أنه سمع النبي صــلى اللـه‬
‫عليه وسلم يقول ‪ )) :‬بدأ السلم غريبــاً ثـم يعــود غريبـا ً‬
‫كما بدأ فطوبى للغرباء (( ‪ ،‬قيل يــا رســول اللــه ‪ :‬ومــن‬
‫الغرباء ؟ ‪.‬‬
‫قال )) الذين يصلحون إذا فسد النــاس ‪ ،‬والــذي نفســي‬
‫بيده لينحازن اليمــان إلــى المدينــة كمــا يجــوز الســيل ‪،‬‬
‫والــذي نفســي بيــده ليــأرزن الســلم إلــى مــا بيــن‬
‫المسجدين كما تأرز الحية إلى حجرها (( ‪.14‬‬
‫‪ ( 12 )12‬المصدر السابق ‪..‬‬
‫‪ ( 13 )13‬أخرجه المام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو بن‬
‫العاص رضي الله عنهما ‪ ،‬وصححه المحدث اللباني في صحيح‬
‫الترغيب والترهيب برقم ‪. 3188 :‬‬
‫‪ (14 )14‬أخرجه المام أحمد في مسند المدنيين عن عبد الرحمن‬
‫بن سنة رضي الله عنـه ‪ ،‬صحيح أنظر )) سلسلة الحاديث‬
‫‪16‬‬
‫قال أبن رجب الحنبلي ‪ :‬وهؤلء الغرباء قسمان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬من ُيصلح نفسه عند فساد الناس ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬من ُيصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين‬
‫وهو أفضلهما ‪ 15‬أ ‪ .‬هـ‬
‫‪ ( 5‬عن عبد الله بن مســعود قــال ‪ :‬قــال رســول اللــه‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬إن السلم بدأ غريباً وســيعود‬
‫غريبا ً ‪ .‬فطوبى للغرباء (( ‪.‬‬
‫قال ‪ ،‬قيل ‪ :‬ومن الغرباء ؟ قال ‪ :‬النزاع مــن القبــائل ((‬
‫‪.16‬‬
‫قال النووي ‪ )) :‬قوله ) النزاع مــن القبــائل ( ‪ ،‬قــال‬
‫الهروي ‪ :‬أراد بذلك المهــاجرين الــذين هجــروا أوطــانهم‬
‫إلى الله تعالى ((‪. 17‬‬
‫وقال السيوطي ‪ )) :‬النزاع مـن القبــائل ‪ :‬ذكــر فــي‬
‫القاموس النزيع الغريب ‪ ،‬كالنــازع جمعــه نــزاع انتهــى ‪،‬‬
‫وفي رواية الترمذي ورد تفسيرهم ‪ :‬الذين يصــلحون مــا‬
‫افسد الناس مــن بعــدي مــن ســنتي ‪ ،‬أي ‪ :‬يعملــون بهــا‬
‫ويظهرونها على قدر طاقتهم ‪ ،‬فهــذا الرجــل يصــبح فــي‬
‫مهجورا كالغريب ‪ ،‬لنه سنة الله الــتي قــد‬‫ً‬ ‫قومه معتزل ً‬
‫خلت من قبل بالرســل والنبيــاء ‪ ،‬ولكــن اللــه يعينهــم ‪،‬‬
‫فــإن العاقبــة للمتقيــن ‪ ،‬ولــذا ورد العبــادة فــي الهــرج‬
‫ي ((‪. 18‬‬‫كهجرة إل ّ‬
‫‪ ( 6‬وهم القابضون على الجمر لشدة تمسكهم بدينهم‬
‫وعقيدتهم وسنة نبيهم ) ‪ ، ( ‬في زمن يكون التمسك‬

‫الصحيحة ‪ 267 / 3 :‬برقم ‪. (( 1273‬‬


‫‪ ( 15 )15‬كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ‪ 8 :‬لبن رجب‬
‫الحنبلي ‪.‬‬
‫‪ ( 16 )16‬أخرجه أبن ماجة في سننه برقم ‪ 3988‬وأبن أبي شيبة‬
‫في مصنفه برقم ‪ ، 65 :‬والدارمي في سننه برقم ‪، 2755 :‬‬
‫وصححه اللباني في صحيح سنن أبن ماجة ‪. 1320 / 2‬‬
‫‪ ( 17 )17‬صحيح مسلم بشرح النووي ‪ :‬كتاب اليمان ‪.‬‬
‫‪ ( 18 )18‬شرح سنن أبن ماجة ‪. 557 :‬‬
‫‪17‬‬
‫بهما تهمة ومنقصة يحاسب عليها القانون والعرف ‪،‬‬
‫ولهذا جعل النبي ) ‪ ( ‬أجر الواحد منهم بخمسين ‪،‬‬
‫فعن عن أنس أبن مالك رضي الله عنه قال ‪ :‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬يأتي على الناس‬
‫ن الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر( ‪. 19‬‬ ‫زما ٌ‬
‫وعن أبي أمية الشعباني قال ‪ :‬سألت أبا ثعلبة الخشني‬
‫فقلت ‪ :‬يا أبا ثعلبة ‪ ،‬كيف تقول في هــذه اليــة }عليكــم‬
‫أنفسكم{ قال ‪ :‬أما والّله لقد سألت عنها خبيرا ً ‪ ،‬سألت‬
‫عنها رسول الّله صلى الل ّــه عليــه وســلم فقــال ‪ )) :‬بــل‬
‫ائتمروا بالمعروف وتناهوا عــن المنكــر ‪ ،‬حــتى إذا رأيــت‬
‫ل‬ ‫شحا ً مطاعا ً ‪ ،‬وهوى مّتبعـا ً ‪ ،‬ودنيـا مـؤثرةً وإعجـاب كـ ّ‬
‫م‪،‬‬ ‫ي برأيه ‪ ،‬فعليك يعني بنفسك ودع عنــك العــوا ّ‬ ‫ذي رأ ٍ‬
‫ض‬ ‫ن من ورائكم أيـام ]الصـبر[ ‪ ،‬الصـبر فيـه مثـل قبـ ٍ‬ ‫فإ ِ ّ‬
‫علــى الجمــر ‪ ،‬للعامــل فيهــم مثــل أجــر خمســين رجل ً‬
‫يعملون مثل عمله ‪.‬‬
‫وزادني غيره قال ‪ :‬يارسول الّله ‪ ،‬أجــر خمســين رجل ً‬
‫‪20‬‬
‫منهم ؟ قال ‪ )) :‬أجر خمسين منكم (( ‪.‬‬
‫ن‬ ‫قـال أبـن حجـر فـي )) فتـح البـاري ‪ )) : (( 7 / 7 :‬إ ّ‬
‫حديث للعامــل منهــم أجــر خمســين منكــم ل يــدل علــى‬
‫أفضلية غير الصــحابة علــى الصــحابة ‪ ،‬لن مجــرد زيــادة‬
‫الجر ل يستلزم ثبوت الفضلية ‪ ،‬وأيضا ً فالجر انمــا يقــع‬
‫تفاضله بالنسبة الى ما يماثله في ذلك العمل ‪ ،‬فامــا مــا‬
‫فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم مــن زيــادة‬
‫فضيلة المشاهدة فل يعدله فيها أحد (( ‪.‬‬
‫‪ ( 7‬ولما كان الغرباء هم المتمسكون بسنة النبي ) ‪( ‬‬
‫وهديه حينما يضيعهما الناس ‪ ،‬فقد سماهم النبي ) ‪( ‬‬

‫‪ ( 19 )19‬أخرجه الترمذي في جامعه برقم ‪ ، 2361 :‬وصححه‬


‫اللباني في صحيح جامع الترمذي ‪. 526 / 4‬‬
‫‪ ( 20 )20‬أخرجه أبو داود في سننه برقم ‪ ، 4341 :‬وصححه‬
‫اللباني في سلسلة الحاديث الصحيحة برقم ‪. 494 :‬‬
‫‪18‬‬
‫بأخوانه ‪ ،‬وهذا تكريم وتشريف لهم ‪ ،‬ومنقبة عظيمة ل‬
‫يدانيهم أحد بها ‪ ،‬فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم أنه أتى المقبرة فسلم على المقبرة فقال ‪:‬‬
‫)) السلم عليكم دار قوم مؤمنين ! وإنا إن شاء الله‬
‫تعالى بكم لحقون (( ‪.‬‬
‫ثم قال ‪ )) :‬لوددنا أنا قد رأينا إخواننا (( قالوا ‪ :‬يا رسول‬
‫الله ! أولسنا إخوانك ؟ قـال )) أنتم أصحابي ‪ ،‬وإخواني‬
‫الذين يأتون من بعدي ‪ ،‬وأنا فرطكم على الحوض ((‬
‫قالوا ‪ :‬يا رسول الله ! كيف تعرف من لم يأت من أمتك‬
‫؟ قال ‪ )) :‬أرأيتم لو أن رجل ً له خيل غر محجلة بين‬
‫ظهراني خيل دهم بهم ‪ ،‬ألم يكن يعرفها ؟ (( قالوا ‪:‬‬
‫بلى‪.‬‬
‫قال ‪ )) :‬فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين ‪ ،‬من أثر‬
‫الوضوء (( قال )) أنا فرطكم على الحوض (( ‪ ،‬ثم قـال‬
‫))ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ‪،‬‬
‫فأناديهم ‪ :‬أل هلموا ! فيقال ‪ :‬إنهم قد بدلوا بعدك ‪ ،‬ولم‬
‫يزالوا يرجعون على أعقابهم ‪ ،‬فأقول أل سحقا!‬
‫سحقا!((‪. 21‬‬
‫أقول ‪ :‬هذه البشارة النبوية تكرمة للغرباء في غربتهم ‪،‬‬
‫وشرف عظيم لهم أن سماهم النبي ) ‪ ( ‬بأخوانه ‪،‬‬
‫حتى ل يستوحشوا من طول الطريق ‪ ،‬وقلة الخوان‬
‫والعوان ‪ ،‬وكثرة المخالفين والمنابذين ‪ ،‬وهذه خصيصة‬
‫لهم ل تتعداهم ‪ ،‬فليس من المعقول شرعـا ً ول عقـل ً‬
‫أن ُيسمي النبي ) ‪ ( ‬المتمسك بسنته وهديه وغير‬
‫المتمسك بأخوانه على حد سواء ‪ ،‬كيف وقد قال النبي‬
‫) ‪ ( ‬في خاتمة الحديث أن أقواما ً من أمته ُيطردون‬
‫دلوا ‪ ،‬روى المام البخاري عن‬ ‫من حوضه لنهم غّيروا وب ّ‬

‫‪ ( 21 )21‬أخرجه أبن ماجة في سننه برقم ‪ ، 4306 :‬وصححه‬


‫اللباني في صحيح سنن أبن ماجة ‪ ، 4306‬وصحيح الجامع‬
‫برقم ‪. 2468 :‬‬
‫‪19‬‬
‫عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ‪ :‬قال النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬أنا فرطكم على الحوض ‪،‬‬
‫ي رجال منكم ‪ ،‬حتى إذا أهويت لناولهم‬ ‫ن إل ّ‬ ‫فليرفع ّ‬
‫ب أصحابي‪ ،‬يقول ‪ :‬ل‬ ‫اختلجوا دوني ‪ ،‬فأقول ‪ )) :‬أي ر ّ‬
‫تدري ما أحدثوا بعدك (( ‪ .‬أقول ‪ :‬أفيستوي هؤلء‬
‫المغيرون مع من تمسك واعتصم بكتاب الله وسنة‬
‫رسول الله ‪ ،‬ولم يخرج عنهما أبدا ً ‪ ،‬فبالتأكيد ل يستوون‬
‫َ‬
‫مين ‪،‬‬‫جرِ ِ‬ ‫كال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن َ‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫‪ ،‬قال تبارك وتعالى ‪ ‬أفَن َ ْ‬
‫جع َ ُ‬
‫مون ‪] ‬القلم ‪. [36 :‬‬ ‫حك ُ ُ‬
‫ف تَ ْ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬
‫م ك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ثانيا ً ‪ :‬أقوال أهل العلم ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬قال أبن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في قــول‬
‫جامع لقوال أهل العلم ‪ )) :‬وأما فتنة الشبهات والهواء‬
‫المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شــيعا ً ‪ ،‬وك ّ‬
‫فــر‬
‫بعضهم بعضا ً ‪ ،‬وأصبحوا أعــداًء وفرقـا ً وأحزابـا ً ‪ ،‬بعـد أن‬
‫ج مـن‬ ‫كانوا إخوانا ً قلوبهم على قلب رجل واحد ‪ ،‬فلم ينـ ُ‬
‫هذه الفرق إل الفرقة الواحدة الناجية ‪ ،‬وهم المذكورون‬
‫في قوله صلى الله عليه وســلم ‪ ) :‬ل تــزال طائفــة مــن‬
‫ُأمتي ظاهرين على الحق ل يضرهم من خــذلهم ول مــن‬
‫خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ( ‪.‬‬
‫وهم في آخر الزمــان الغربــاء المــذكورون فــي‬
‫هذه الحاديث ‪ :‬الذين ُيصلحون إذا فسد الناس ‪ ،‬وهم‬
‫الذين ُيصلحون ما أفسد الناس من السنة ‪ ،‬وهــم الــذين‬
‫يفرون بــدينهم مــن الفتــن ‪ ،‬وهــم النــزاع مــن القبــائل ‪،‬‬
‫لنهـم قلـوا ‪ ،‬فل يوجـد فـي كـل قبيلـة منهـم إل الواحـد‬
‫والثنان ‪ ،‬وقد ل يوجد في بعض القبائل منهــم أح ـد ٌ كمــا‬
‫كان الداخلون إلى السلم في أول المر كــذلك ‪ ،‬وبهــذا‬
‫فسر الئمة هذا الحديث ‪.‬‬
‫قال الوزاعي في قوله صلى الله عليــه وســلم ‪ ) :‬بــدأ‬
‫السلم غريبا ً وسيعود غريبا ً كما بدأ ( ‪ :‬أما إنه ما يــذهب‬

‫‪20‬‬
‫السلم ‪ ،‬ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد‬
‫منهم إل رجل واحد (( ‪.‬‬
‫ولهذا المعنى يوجد في كلم الســلف كــثيرا ً مـدح الســنة‬
‫ووصفها بالغربة ‪ ،‬ووصف أهلها بالقلة ‪ ،‬فكــان الحســن ‪-‬‬
‫رحمه الله ‪ -‬يقول لصحابه ‪ :‬يــا أهــل الســنة ! ترفقــوا ‪-‬‬
‫رحمكم الله ‪ -‬فإنكم من أقل الناس ‪.‬‬
‫وقال يونس بن عبيــد ‪ :‬ليــس شــيء أغــرب مــن الســنة‬
‫وأغرب منها من يعرفها‬
‫وروي عنه أنه قال ‪ :‬أصبح من إذا عرف الســنة فعرفهــا‬
‫غريبا ً وأغرب منه من يعرفها ‪.‬‬
‫وعن سفيان الثوري قال ‪ :‬استوصوا بأهل الســنة فــإنهم‬
‫غرباء ‪.‬‬
‫ومراد هؤلء الئمــة بالســنة ‪ :‬طريقــة النــبي صــلى اللــه‬
‫عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه ‪ ،‬الســالمة مــن‬
‫الشبهات والشهوات ‪.‬‬
‫ولهذا كان الفضيل بــن عيــاض يقــول ‪ :‬أهــل الســنة مــن‬
‫عرف ما يدخل في بطنه من حلل‬
‫‪ ،‬ـ وذلك لن أكل الحلل من أعظم خصائل الســنة الــتي‬
‫كان عليها النبي صلى الله عليه وســلم وأصــحابه رضــي‬
‫اللــه عنهــم ‪ .‬ثــم صــار فــي عــرف كــثير مــن العلمــاء‬
‫المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم الســنة عبــارة عمــا‬
‫م من الشبهات في العتقادات ‪ ،‬خاصة فــي مســائل‬ ‫سل ِ َ‬
‫َ‬
‫اليمــان بــالله وملئكتــه وكتبــه ورســله واليــوم الخــر ‪،‬‬
‫وكذلك في مســائل القــدر وفضــائل الصــحابة ‪ ،‬وصــنفوا‬
‫فــي هــذا العلــم بأســم الســنة ‪ ،‬لن خطــره عظيــم‬
‫والمخالف فيـه علـى شـفا هلكـة ‪ .‬وأمـا السـنة الكاملـة‬
‫فهي الطريق السالمة مــن الشــبهات والشــهوات ‪ ،‬كمــا‬
‫قــال الحســن ويــونس بــن عبيــد وســفيان والفضــيل‬
‫ف أهُلهــا بالغربــة فــي آخــر الزمــان‬‫صـ َ‬
‫وغيرهم ‪ ،‬ولهذا وُ ِ‬
‫لقلتهم وغربتهم فيه ‪ ......‬ومثله قول أبن مسعود ‪ :‬يأتي‬

‫‪21‬‬
‫على الناس زمــان يكــون المــؤمن فيــه أذل مــن المَـة ‪،‬‬
‫وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربتــه بيــن أهــل الفســاد‬
‫من أهـل الشـبهات والشـهوات ‪ ،‬فكلهـم يكرهـه ويـؤذيه‬
‫لمخالفة طريقتــه لطريقتهــم ‪ ،‬ومقصــوده لمقصــودهم ‪،‬‬
‫ومباينته لما هم عليه (( ‪.22‬‬
‫‪ ( 2‬قـال فريد بن أحمد آل الثبت في )) دعوة الخوان‬
‫المسلمين في ميزان السلم ‪ )) : (( 6 :‬قال المام عبد‬
‫الله بن المبارك رحمه الله ‪ )) :‬أعلم أني أرى الموت‬
‫اليوم كرامة لكل مسلم لقى الله على السنة ‪ ،‬فإنا لله‬
‫وإنا إلى راجعون ‪ ،‬فإلى الله نشكوا وحشتنا ‪ ،‬وذهاب‬
‫الخوان ‪ ،‬وقلة العوان ‪ ،‬وظهور البدع ‪ ،‬وإلى الله‬
‫ل بهذه المة من ذهاب العلماء وأهل‬ ‫نشكوا عظيم ما ح ّ‬
‫السنة وظهور البدع ‪.‬‬
‫وقد أصبحنا في زمان شديد ‪ ،‬وهرج عظيم ‪ ،‬إن رسول‬
‫وف علينا ما قد أظلنا وما قد أصبحنا‬ ‫الله ) ‪ ( ‬تخ ّ‬
‫فيه ‪ ،‬فحذرنا ‪ ،‬وتقدم إلينا فيه بقول أبي هريرة قال ‪:‬‬
‫قال رسول الله ) ‪ )) : ( ‬أتتكم فتن كقطع الليل‬
‫المظلم ‪ ،‬يصبح الرجل فيها مؤمنا ً ويمسي كافرا ً ‪،‬‬
‫ويمسي مؤمنا ً ويصبح كافرا ً ‪ ،‬يبيع فيها أقوام دينهم‬
‫بعرض من الدنيا (( ‪....‬‬
‫وعن عيسى بن يونس عن الوزاعي عن حبان بن أبي‬
‫جبلة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ‪ )) :‬لو خرج‬
‫رسول الله ) ‪ ( ‬إليكم اليوم ‪ ،‬ما عرف شيئا ً مما كان‬
‫عليه هو وأصحابه إل الصلة ! (( ‪ ،‬قال الوزاعي ‪:‬‬
‫)) فكيف لو كان اليوم ؟ (( ‪.‬‬
‫قال عيسى ‪ )) :‬فكيف لو أدرك الوزاعي هذا‬
‫الزمان ؟ (( ‪.‬‬

‫‪ ( 22 )22‬كشف الكربة ‪. 7 :‬‬


‫‪22‬‬
‫قلت ‪ )) :‬فكيف لو أدرك جميعهم هذا الزمان (( والله‬
‫المستعان ‪ ...‬وعن سفيان الثوري _ رحمه الله _‪:‬‬
‫)) استوصوا بأهل السنة خيرا ً ‪ ،‬فإنهم غرباء (( ‪.‬‬
‫وعن أبي بكر بن عياش رحمه الله قال‪ )):‬السنة في‬
‫السلم أعّز من السلم في سائر الديان (( أ ‪ .‬هـ‬

‫‪23‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫في بيان أصل الغربة والغرباء‬
‫أول ً ‪ :‬أصل الغربة ‪:‬‬
‫تنقسم الغربة إلى قسمين ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬غربة حسية ‪:‬‬
‫وهي الغربة التي يحس بها كل من ترك بلده الــذي ُوِلــد‬
‫وترعرع فيه ‪ ،‬ليعيش في بلد آخر بعيدا ً عنه ‪ ،‬لي ســبب‬
‫من الســباب ‪ ،‬ســواء كــانت قهريــة أم اختياريــة ‪ ،‬وهــي‬
‫غربة محسوسة يشــعر بهــا كــل مــن تلب ّــس بهــا ‪ ،‬حيــث‬
‫يعيش وقلبه معلق ببلده ل يفتأ يحن ويشتاق إليه ‪.‬‬
‫وهي غربة نسبية قد تقع لبعض من النــاس دون الخــر ‪،‬‬
‫وغالبا ً ما تزول بعض آثارها بكثرة المخالطة والمعاشــرة‬
‫التي يجــدها فــي بلــد غربتــه ‪ ،‬ولكــن يبقــى الحنيــن إلـى‬
‫الوطن الم يمل القلب والوجدان ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬غربة معنوية ‪:‬‬
‫وهي التي نعنيها في بحثنا هذا ‪ ،‬فإذا كــان الغريــب الول‬
‫يحس بغربته وهو بعيد عن بلده فكيــف بمــن يحــس بهــا‬
‫ويكتوي بلسعات نارها وهو في بلده وبين أهله وعشيرته‬
‫‪ ،‬حيــث يعيــش فــي وادٍ وغيــره يعيــش فــي واد ‪ ،‬قلــوب‬
‫الناس متعلقة فــي شــتات وزوال ‪ ،‬وقلبــه معلــق بأصــل‬

‫‪24‬‬
‫موطنه الذي خرج منه أبوه الول على وعد الرجوع إليــه‬
‫يوما ً ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن إليه الرجعى وفيه المستقر ‪.‬‬
‫قال أبن رجب رحمه الله ‪ )) :‬فالمؤمن في الدنيا‬
‫كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها ‪ ،‬فهو يشتاق‬
‫إلى بلده ‪ ،‬وهمه الرجوع إليه والتزود بما يوصله في‬
‫طريقه إلى وطنه ‪ ،‬ول ُينافس أهل ذلك البلد‬
‫المستوطنين فيه في عزهم ‪ ،‬ول يجزع مما أصابه‬
‫عندهم من الذل ‪...‬‬
‫وقال الحسن ‪ :‬المؤمن في الدنيا كالغريب ل يجزع من‬
‫ذلها ‪ ،‬ول ينافس في عزها ‪ ،‬له شأن وللناس شأن ‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لن أباه لما كان‬
‫في دار البقاء ثم خرج منها فهمه الرجوع إلى مسكنه‬
‫يحن إلى وطنه الذي ُأخرج منه كما‬‫ّ‬ ‫الول ‪ ،‬فهو أبدا ً‬
‫‪23‬‬
‫يقال )) حب الوطن من اليمان (( وكما قيل ‪:‬‬
‫ض يألفه الفتى‬‫كم منزلٍ في الر ِ‬
‫وحنينـه أبـدا ً لول منزل‬
‫ولبعض شيوخنا في هذا المعنى ‪:‬‬
‫منازلك‬ ‫فحي على جنات عـدن فأنها‬
‫الولى وفيهم المخيـم‬
‫نعود‬ ‫ولكننا سبي العـدو فهل ترى‬
‫إلى أوطاننـا ونســلم‬
‫وشطت‬ ‫وقد زعموا أن الغريب إذا نأى‬
‫به أوطانـه فهو مغرم‬
‫لهـا‬ ‫فـأي اغـتراب فـوق غربتنــا الـتي‬
‫‪24‬‬
‫أضحت العداء فينا تحكم‬

‫‪ ( 23 )23‬حديث موضوع أنظر سلسلة الحاديث الضعيفة ‪/ 1‬‬


‫‪ 110‬برقم ‪ 36‬للشيخ اللباني ‪.‬‬
‫‪ ( 24 )24‬كشف الكربة ‪. 11 :‬‬
‫‪25‬‬
‫فأصل الغربة ‪ :‬التي أشارت إليــه النصــوص الشــرعية‬
‫وكما ذكرناها آنفا ً ‪ :‬هو التفرد بأن يكون المرء على حال‬
‫مـــن الســـتقامة واللـــتزام بـــالحق ‪ ،‬ومجانبـــة الفتـــن‬
‫ومواضعها ‪ ،‬مع قلة النصير والمعيـن والموافـق ‪ ،‬وكـثرة‬
‫المنابذ والمخاذل والمخالف ‪ ،‬فعنــدها ُيســمى مــن كــان‬
‫هذا حاله ‪ ،‬وهذه صفته بالغريب لتفرده وغربته ‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو إسحاق الحويني ‪ )) :‬وأصل الغربة ‪ :‬هــو‬
‫التفرد أن ل يكون لك شــكل ول نظيــر ‪ ،‬هــذا هــو معنــى‬
‫الغريب ‪.‬‬
‫قال أبو سليمان الخطابي رحمه اللــه وهــو يتوجـع مـن‬
‫هذه الغربة ‪ ،‬الذي شعر بها فــي بلــده ‪ ،‬وبيــن أهلــه لمــا‬
‫كان يدعوا إلى الســنة ‪ ،‬وقــاوموه أصــحاب التعصــب ‪،‬‬
‫فأنشد متوجعا ً فقال ‪:‬‬
‫وما غربة النسان في ُ‬
‫شقة النوى‬
‫ولكنها والله في عدم الشكل‬
‫وان كان‬ ‫وأهلها‬ ‫س‬
‫وأني غريب بين ب ُ ٍ‬
‫بها أسرتي وبين أهلي‬
‫‪ .......‬هذا هو معنى كلم الخطابي رحمه الله ‪:‬‬
‫وما غربة النسان في شقة النوى ) أي في البعد ( ‪،‬‬
‫ولكنها والله في عدم الشكل ) أن ل يكون لك نظير ( ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫فأهــل الســنة والجماعــة فــي وســط المبتدعــة غربــاء ‪،‬‬
‫وأهـل الســنة والجماعــة يعـاملون فـي وســط المبتدعـة‬
‫معاملة القليات المسلمة في بلد النصـارى ‪ ،‬فهــذا نـوع‬
‫من الغربة ‪.25‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬من هم الغرباء ؟‬


‫لو نظرنا في حال الفرق والحــزاب والجماعــات الــتي‬
‫انشقت من الجماعة الم ‪ ،‬فإننا ل نجد أحدا ً ينطبق عليه‬
‫وصف الغربة الواقعة اليوم إل السلفيين ‪ 26‬أهــل الســنة‬

‫‪ ( 25 )25‬من شريط مفرغ باسم )) بين الغربة والتمكين ‪. (( 8 :‬‬


‫‪ ( 26 )26‬السلفيون نسبة إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم ‪،‬‬
‫والسلف هم أهل القرون الثلثة المفضلة التي جاءها الثناء‬
‫والمدح من رسول الله )‪ ، ( ‬من الصحابة والتابعين والتابعين‬
‫لهم بإحسان ‪.‬‬
‫والسلف لغة ‪ :‬ما مضى وتقدم ‪ ،‬يقال ‪ :‬سلف الشيء سلفا ً ‪:‬‬
‫أي مضى ‪ ،‬والسلف ‪ :‬الجماعـة المتقدمون ‪ ،‬أو القوم المتقدمون‬
‫في السير ‪.‬‬
‫ن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مِعي َ‬‫ج َ‬
‫مأ ْ‬‫م فأغَرقَناهُ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫مَنا ِ‬
‫ق ْ‬
‫فوَنا انت َ َ‬‫س ُ‬
‫ما آ َ‬ ‫قال تعالى ‪ )) :‬فل ّ‬
‫ن (( ]الزخرف ‪. [55 :‬‬ ‫ِ َ‬‫ري‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫لل‬‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ث‬ ‫سَلفا ً وَ َ‬
‫م‬ ‫م َ‬ ‫جعَل َْناهُ ْ‬
‫فَ َ‬
‫أي ‪ :‬جعلناهم سلفا متقدمين لمن عمل بعملهم ‪ ،‬وذلك ليعتبر‬ ‫ً‬
‫بهم من بعدهم ‪ ،‬وليتعظ بهم الخرون‪.‬‬
‫والسلف ‪ ) :‬من تقدمك من آبائك وذي قرابتك الذين هم فوقك‬
‫في السن والفضل ؛ ولهذا سمي الصدر الول من التابعين ‪:‬‬
‫السلف الصالح ( ‪.‬‬
‫قـال القرطبي في تفسيره ‪ )) : (( 88 / 16 )) :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫} فجعلناهم سلفا ً { أي جعلنا قوم فرعون سلفا قال أبو مجلز ‪:‬‬
‫) سلفا ً ( لمن عمل عملهم ‪ ) ،‬ومثل ً ( لمن يعمل عملهم ‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ ) :‬سلفا ً ( إخبارا ً لمة محمد صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫) ومثل ً ( أي عبرة لهم ‪ ،‬وعنه أيضا ً ) سلفا ً ( لكفار قومك‬
‫يتقدمونهم إلى النار ‪ ،‬قال قتادة ‪ ) :‬سلفا ً ( إلى النار ) ومثل (‬
‫ً‬
‫عظة لمن يأتي بعدهم ‪ ،‬والسلف المتقدم يقال ‪ :‬سلف يسلف‬
‫سلفا ً مثل طلب طلبا ً أي تقدم ومضى ‪ ،‬وسلف له عمل صالح أي‬
‫تقدم ‪ ،‬والقوم السلف المتقدمون ‪ ،‬وسلف الرجل آباؤه‬
‫‪27‬‬
‫والجماعة فهــم القلــة الغربــاء الــذين ُيصـِلحون أنفسـهم‬
‫وُيصلحون غيرهم ‪ ،‬أمــا لــو نظرنــا إلــى مــا ســواهم مــن‬
‫الــذين انشــقوا عــن جمــاعتهم الم فإنــك تــرى الجــاه‬
‫والسلطة والقوة ومباهج الدنيا تــتراقص بيــن أيــديهم ول‬
‫أثر لغربة واغتراب يظهر على ملمحهم وأحوالهم ‪.‬‬

‫المتقدمون ‪ ،‬والجمع أسلف وسلف ‪.‬‬


‫وقال الدكتور إبراهيم بن محمد البريكان في )) المدخل لدراسة‬
‫العقيدة السلمية ‪ ) : (( 14 :‬السلف في اللغة ‪ :‬المتقدم في‬
‫الزمن على غيره ‪.‬‬
‫=‬
‫=وشرعا ً ‪ :‬هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم‬
‫الدين ‪ ،‬ممن أجمعت المة على عدالتهم وتزكيتهم ‪ ،‬ولم يرموا‬
‫ببدعة مكفرة أو مفسقة ‪ ،‬وهم بهذا المعنى تعبير عن شخصية‬
‫اعتبارية ومنهج متبع ‪...... .‬‬
‫وبهذا يعلم عدم صحة دعوى أن السلفية مرحلة زمنية وكفى لن‬
‫منهج السلف يشتمل على جانبين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬جانب القدوة ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬جانب المنهج المتبع ‪.‬‬
‫فالقدوة ‪ :‬هم أصحاب العصور الثلثة ‪ ،‬والمنهج ‪ :‬هو الطريقة‬
‫المتبعة في هذه العصور في الفهم العقدي والستدلل والتقرير‬
‫والعلم واليمان ‪.‬‬
‫وبهذا يعلم ‪ :‬أن الوصف بالسلفية مدح وثناء على كل من أتخذها‬
‫قدوة ومنهجا ً ‪.‬‬
‫وأما الوصف بها دون تحقيق ما دلت عليه فليس فيه مدح وثناء ‪،‬‬
‫لن العبرة بالمعاني ل بالمصطلحات اللفظية ‪.......‬‬
‫ثم قال ‪ :‬والخلف ‪ :‬هو المتأخر بالزمن عمن قبله ‪.‬‬
‫ذم من المة‬ ‫وشرعا ً هم كل من ُرمي ببدعة مكفرة أو مفسقة و ُ‬
‫=‬ ‫شخصا ً أو معتقدا ً ‪.‬‬
‫= والخلف هنا أيضا ليس فترة زمنية تنقضي بموت أفرادها ‪،‬‬
‫سد‬
‫ولكنه منهج وقدوة في الباطل ‪ ،‬وهو بذلك قدوة لمن ف ُ‬
‫اعتقاده ‪ (( ...‬أ ‪ .‬هـ‬
‫ولهذا يطلق على طريقتهم السلفية نسبة لذلك ‪ ،‬وعلى طريقة‬
‫خَلفية نسبة لذلك ‪.‬‬‫من عدل عن منهجهم ال َ‬
‫‪28‬‬
‫صفات ومميزات الغرباء ‪:‬‬
‫إن الصفات والمميزات التي يتصف الغرباء ويتميزون‬
‫بها عن غيرهم كثيرة جدا ً ‪ ،‬وإليك ـ أخي الحبيب ـ أهمهــا‬
‫وأبرزها ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬ليس لهم قدوة ول إمام يمكن أن يقتدوا به في كل‬
‫زمان ومكان إل رسول الله محمد )‪ ، ( ‬ومن ث َ ّ‬
‫م‬
‫أفضل السلف )) بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى‬
‫آله وسلم الصحابة الذين أخذوا دينهم عنه بصدق‬
‫وإخلص ‪ ،‬كما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز ‪،‬‬
‫بقوله ‪:‬‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْ ِ‬ ‫ّ‬
‫دوا الل َ‬ ‫عاهَ ُ‬ ‫ما َ‬‫صد َُقوا َ‬ ‫ل َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ن رِ َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م ْ‬‫} ِ‬
‫ُ‬
‫ما ب َد ّلوا‬ ‫ن ي َن ْت َظ ُِر وَ َ‬
‫م ْ‬‫م َ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫ه وَ ِ‬
‫حب َ ُ‬
‫ضى ن َ ْ‬‫ن قَ َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫فَ ِ‬
‫ل} ] سورة الحزاب ‪. [ 23 :‬‬ ‫دي ً‬ ‫ت َب ْ ِ‬
‫ثم الذين يلونهم من القرون المفضلة الولى الذين قال‬
‫فيهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‪)) :‬‬
‫خير الناس قرني ‪ ،‬ثم الذين يلونهم ‪ ،‬ثم الذين يلونهم ((‬
‫] رواه البخاري ومسلم [ ‪.‬‬
‫ولذا فإن فالصحابة والتابعون أحق بالتباع من غيرهم ‪،‬‬
‫وذلك لصدقهم في إيمانهم ‪ ،‬وإخلصهم في عبادتهم ‪،‬‬
‫وهم حراس العقيدة ‪ ،‬وحماة الشريعة العاملون بها قول ً‬
‫وعمل ً ‪ ،‬ولذلك اختارهم اللهم تعالى لنشر دينه ؛ وتبليغ‬
‫سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬تفترق أمتي على‬
‫ثلث وسبعين ملة ؛ كلهم في النار إل ملة واحدة ((‬
‫قالوا ‪ :‬من هي يا رسول الله ؟ قال ‪ )) :‬ما أنا عليه‬
‫وأصحابي (( ] صحيح سنن الترمذي ‪ :‬لللباني [ ‪.‬‬
‫ويطلق على كل من اقتدى بالسلف الصالح ‪ ،‬وسار‬
‫على نهجهـم في سائر العصور )) سلفي (( نسبة‬
‫إليهم ‪ ،‬وتمييزا ً بينه وبين من يخالفون منهج السلف‬

‫‪29‬‬
‫ق‬
‫شاقِ ْ‬ ‫ن يُ َ‬
‫م ْ‬‫ويتبعون غير سبيلهم ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬وَ َ‬
‫ل‬ ‫دى وَي َت ّب ِعْ غَي َْر َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫ه ال ْهُ َ‬‫ن لَ ُ‬‫ما ت َب َي ّ َ‬
‫ن ب َعْدِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫الّر ُ‬
‫صيرًا} ‪،‬‬ ‫م ِ‬‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫صل ِهِ َ‬‫ما ت َوَّلى وَن ُ ْ‬ ‫ن ن ُوَل ّهِ َ‬
‫مِني َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬
‫ول يسع أي مسلم إل أن يفتخر بالنتساب إليهم ‪.‬‬
‫ولفظ )) السلفية (( ‪ 27‬أصبح علما ً على طريقة السلف‬
‫الصالح في تلقي السلم وفهمه وتطبيقه ‪ ،‬وبهذا فإن‬
‫‪ ( 27 )27‬هنالك بعض الشبهات تثار حول الدعوة السلفية ‪،‬‬
‫والمنهج السلفي ‪ ،‬يقصد من ورائها محاولة النتقاص منهما ‪،‬‬
‫والتنفير عنهما ‪ ،‬وإليك ـ أخي الحبيب ـ أهمها مع الرد عليها ‪:‬‬
‫الشبهة الولى ‪ :‬يقول البعض ‪ :‬أن السلفية فترة زمنية‬
‫ومرحلة آنية انتهت بموت أفرادها !!! وهذه شبهة قد تثار ويقصد‬
‫من وراءها إثارة الشكوك والشبهات حول منهج السلفيين‬
‫وطريقتهم ‪.‬‬
‫ن لفظ السلف إذا أطلق فيراد به أهل القرون الثلثة‬ ‫ُ‬
‫فنقول ‪ :‬إ ّ‬
‫المفضلة الذين تمسكوا بسنة وهدي النبي ) ‪ ( ‬علما ً وعمل ‪ً.‬‬
‫وإذا قيل السلفيون فهم أتباع السلف الصالح ‪ ،‬في كل زمان‬
‫ومكان ‪ ،‬الذين أخذوا طريقتهم بالتمسك بالدين ‪ ،‬وساروا على‬
‫دتهم السلفية‬ ‫منهجهم ‪ ،‬واقتفوا أثرههم ‪ ،‬وُيقال لطريقتهم وجا ّ‬
‫نسبة للسلف الصالح ‪.‬‬
‫ن السلفية تطلق ويراد بها أحد معنيين ‪:‬‬ ‫وبهذا نعلم أ ّ‬
‫الول ‪ :‬الحقبة التاريخية التي عاش فيها أهل القرون‬
‫الثلثة المفضلة ‪ ،‬وهي بهذا المعنى قد مات أفرادها ) رضي‬
‫الله عنهم ( ‪.‬‬
‫ن‬ ‫ري‬ ‫ج‬ ‫ها‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫و‬‫ن ال َ‬ ‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫سا‬ ‫وال‬ ‫‪‬‬ ‫تعالى‬ ‫قوله‬ ‫إلى‬ ‫ولو نظرنا‬
‫ُ َ ِ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ضوا ع َن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬ ‫ه ع َن ْهُ ْ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ّر ِ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬‫هم ب ِإ ِ ْ‬ ‫ن ات ّب َُعو ُ‬
‫ذي َ‬
‫صارِ َوال ِ‬ ‫َوالن َ‬
‫فوُْز‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ن ِفيَها أ ََبدا ً ذ َل ِ َ‬ ‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬ ‫حت ََها ال َن َْهاُر َ‬ ‫ري ت َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫وَأع َد ّ ل َهُ ْ‬
‫ن الله تعالى أمتدح وأثنى‬ ‫م ‪] ‬التوبة ‪ [100 :‬سنجد أ ّ‬ ‫ظي ُ‬ ‫ال ْعَ ِ‬
‫على ثلثة أصناف من البشر ‪ ،‬وهم ‪= :‬‬
‫= الصنف الول ‪ :‬المهاجرون وقد انتهى عهدهم ‪.‬‬
‫الصنف الثاني ‪ :‬النصار وقد انتهى عهدهم ‪.‬‬
‫الصنف الثالث ‪ :‬كل من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم‬
‫واقتفى أثرهم ‪ ،‬وهذا الوصف مستمر إلى يوم القيامة ‪ ،‬وهذه‬
‫ه‪‬‬ ‫ضوا ْ ع َن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬ ‫ه ع َن ْهُ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫الصناف الثلثة كما قال تعالى ‪ّ ‬ر ِ‬
‫‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫مفهوم السلفية يطلق على الملتزمين بكتاب الله ‪ ،‬وما‬
‫ثبت من سنة‬
‫رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؛ التزاما ً‬
‫كامل ً بفهم السلف ((‪. 28‬‬

‫الثاني ‪ :‬الطريقة التي كان عليها أهل تلك القرون‬


‫الفاضلة من التمسك بالكتاب والسنة الصحيحة‬
‫وتقديمهما على كل ما سواهما ‪ ،‬والعمل بهما على‬
‫فهم السلف الصالح ‪.‬‬ ‫مقتضى َ‬
‫ق‬
‫والسلفية بالمعنى الثاني أولى بالخذ واللتزام ‪ ،‬لنه منهاج با ٍ‬
‫إلى يوم القيامة ‪ ،‬يصح النتساب إليه متى ما تحققت شروط‬
‫النتساب وط ُِبقت مفرداته ‪ ،‬فكل من ألتزم منهاجهم في العلم‬
‫والعمل فهو منهم وسلفي مثلهم ‪ ،‬والمرء يحشر مع من يحب ‪.‬‬
‫=‬
‫= الشبهة الثانية ‪ :‬هنالك البعض ممن يطرق سمعه تأسي‬
‫أهل السنة والجماعة بالسلف أهل القرون الثلثة المفضلة يقول‬
‫مشككا ً ‪ :‬ألم يظهر في فترة السلف تلك ‪ ،‬أمثال الجهم بن‬
‫صفوان ‪ ،‬والجعد بن درهم وغيرهم ممن ل ترضون عنهم ؟‬
‫الجواب ‪ :‬لقد قلنا _سابقا ً _ أن السلف هم ممن أجمعت المة‬
‫على عدالتهم وتزكيتهم ‪ ،‬ولم يرموا ببدعة مكفرة أو مفسقة ‪،‬‬
‫وبهذه القيود خرج الجهم وأمثاله من حظيرة السلف الصالح ‪،‬‬
‫ولله الحمد والمنة ‪.‬‬
‫) ‪ ( 28‬الوجيز في عقيدة السلف الصالح ‪ 25 :‬للشيخ عبد الله‬
‫بن عبد الحميد الثري ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪ ( 2‬هم الذين يحملون علم النبي )‪ ، ( ‬حيث أعطوه‬
‫اهتماما ً بالغا ً ‪ ،‬وأولوه عناية فائقة علما ً وعمل ً ودعوة ‪،‬‬
‫وجعلوه واجبا ً في أعناقهم ل يفرطون به أبدا ً ‪ ،‬وهذا‬
‫الواجب مبني على شقين ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬الدعوة إلى هذا الرث النبوي الشريف ‪ ،‬على‬


‫علم وبصيرة وحكمة ‪ ،‬دعوة منضبطة بالضوابط‬
‫الشرعية التي ورد ذكرها في الكتاب والسنة الصحيحة ‪،‬‬
‫مع مراعاة كل ما من شأنه أن يضر بـهذه الدعوة‬
‫مصِلحة‬ ‫ُ‬
‫المباركة فيخرجها عن أطرها الشرعية ال ُ‬

‫في كل زمان ومكان ‪ ،‬ولهذا وضعوا نصب أعينهم ميزان‬


‫المصالح والمفاسد‪ 29‬ـ كما ُأمروا ـ كميزان يوزنون به‬
‫‪28‬‬

‫ن مسألة النظر إلى المصالح والمفاسد ووجوب‬ ‫‪ ( 29 )29‬إ ّ‬


‫اللتفات إليهما قبل الشروع في العمل وفق قاعدة ) درء‬
‫المفاسد مقدم على جلب المصالح (( أصل نبوي عمل به النبي )‬
‫‪ ( r‬في مواضع وحوادث كثيرة ‪ ،‬سواء كان في حال القوة أو‬
‫الضعف ‪ ،‬أو في حال السلم أو الحرب ‪ ،‬لسيما ونحن نعيش في‬
‫زمن صارت فيه هذه القاعدة الشرعية الصلية مثار سخرية‬
‫وانتقاص ممن ل يقيم لها وزنا ً ‪ ،‬وصار من يأمر بها و يدعو إليها‬
‫جبن والخور والنهزامية ‪.‬‬ ‫ُيرمى بال ُ‬
‫ولقد ذكر المام أبن القيــم فــي ) إعلم المــوقعين ‪(( 137 / 3‬‬
‫تسعا ً وتسعين وجها ً ودليل ً من الكتاب والسنة توجب العمــل بهــذه‬
‫القاعدة الشرعية ‪ ،‬ثم قال فــي ختامهــا ‪ )) :‬ولنقتصــر علــى هــذا‬
‫العدد من المثلة الموافق لسماء الله الحسنى التي مــن أحصــاها‬
‫دخل الجنة ‪ ،‬تفاؤل ً بأنه من أحصــى هــذه الوجــوه وعلــم أنهــا مــن‬
‫الدين وعمل بها دخل الجنة ‪ ،‬إذ قــد يكــون قــد اجتمــع لــه معرفــة‬
‫أســماء الــرب تعــالى ومعرفــة أحكــامه ‪ ،‬وللــه وراء ذلــك أســماء‬
‫وأحكام ‪ ،‬وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليــف فــإنه أمــر ونهــي ‪،‬‬
‫والمر نوعان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬مقصود لنفسه ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬وسيلة إلى المقصود ‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫أفعالهم وأقوالهم ‪ ،‬ولهذا ترى أنهم ل يدعون إلى شيء‬
‫يعقبه مفاسد راجحة تضر أكثر مما تنفع وتفرق أكثر مما‬
‫تجمع ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الدفاع عن هذا الرث النبوي الشريف ‪ ،‬ورد‬
‫كيد كل من يريد الخلل به ‪ ،‬والتجاوز عليه ‪ ،‬سواء كان‬
‫بتحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان ‪ ،‬من غير مداهنة‬
‫لعزيز أو مجاملة لحبيب ‪ ،‬مهما كانت منزلته ومكانته ‪،‬‬

‫والنهي نوعان ‪:‬‬


‫أحدهما ‪ :‬ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه ‪.‬‬
‫=‬
‫= والثاني ‪ :‬ما يكون وسيلة إلى المفسدة ‪ ،‬فصار سد الذرائع‬
‫المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين(( أ‪.‬هـ‬
‫ونحن يمكن أن نستشهد على هذه القاعدة بحوادث كثيرة‬
‫ومشهورة ل يمكن لحد أن يخفيها ويسدل الستار عليها ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬كان النبي ) ‪ ( r‬يرى في مكة أشد المنكرات وأعظم‬
‫المحرمات ولم يسع إلى تغييرها خوفا ً من زيادة المنكر عمل ً‬
‫بالقاعدة ))درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ((‬
‫وقد يقول قائل على سبيل الستفسار أو النكار ‪ :‬لقد كان النبي‬
‫) ‪ ( r‬في مكة مستضعفا ً ولهذا لم يسعَ في ذلك ‪ .‬نقول ‪ :‬ليس‬
‫المر كذلك ‪ ،‬بل إن هذه القاعدة يعمل بها على إطلقها ‪ ،‬في كل‬
‫= =وقت وحين متى ما خيفت المفسدة ‪ ،‬بدليل أن النبي ) ‪( r‬‬
‫لما دخـل مكة منتصرا ً أراد هـدم الكعبة وإعادة بناءها على قواعد‬
‫إبراهيم ) عليه الصلة والسلم ( ‪ ،‬ولكنه ترك ذلك ولم يفعله ‪،‬‬
‫مع قوته وإمكانيته حينها درءا ً للمفسدة التي من الممكن أن تقع‬
‫بعد ذلك ‪.‬‬
‫فعن سعيد بن ميناء قال سمعت بن الزبير يقول وهو على المنبر‬
‫حين أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها ‪ :‬حدثتني عائشة خالتي أن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها يا عائشة ‪ )) :‬لول أن‬
‫قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة ثم زدت فيها ستة أذرع‬
‫من الحجر فإن قريشا ً اقتصرت بها حين بنت البيت وجعلت لها‬
‫بابين بابا ً شرقيا ً وبابا ً غربيا ً وألزقتها بالرض (( رواه أبن حبان‬
‫وصححه المام اللباني في )) صحيح سنن النسائي ‪(( 215/ 5 :‬‬
‫و )) صحيح جامع الترمذي ‪. (( 224 / 3 :‬‬
‫‪33‬‬
‫دلهم‬
‫فالحق أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم ‪ ،‬ولهذا ع ّ‬
‫النبي ) ‪ ( ‬وأثنى عليهم بقوله )) يحمل هذا العلم من‬
‫ف عدوُله ‪ ،‬ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال‬ ‫كل خل َ ٍ‬
‫المبطلين وتأويل الجاهلين (( ‪.30‬‬
‫‪ ( 3‬ل يوالون ول يعادون إل على أساس النتماء إلى‬
‫السلم الصحيح ‪ ،‬ل حزبية جوفاء تجمعهم ول تكتل‬
‫مسّيس ُيأطرهم ‪ ،‬وإنما اخوة السلم واليمان هي‬ ‫ُ‬
‫الثانية ‪ :‬كان النبي ) ‪ ( r‬يمر وهو في مكة ببعض المسلمين‬
‫وهم يعذبون في ذات الله ‪ ،‬فيأمرهم بالصبر ويبشرهم بالجنة ‪،‬‬
‫وقد ُقتل بعضهم كسمية ) رضي الله عنها ( ولم يأمر في ذلك‬
‫الوقت أحدا ً بالقتال أو الغتيال خلسة ‪ ،‬لما يترتب على ذلك من‬
‫المفسدة ما هو أعظم من مفسدة تعذيب بعضهم ‪ ،‬أل وهي‬
‫مفسدة استئصال المسلمين جميعا ً وهم قلة مستضعفون ‪ ،‬ولما‬
‫أراد أهل بيعة العقبة من النصار أن َيغيروا على أهل منى في‬
‫موسم الحج وهم نائمون نهاهم النبي ) ‪ ( r‬عن ذلك ‪ .‬ولم تكن‬
‫مثل هذه السياسة في ذلك الوقت جبنا ً ول خورا ً ول خذلنا ً‬
‫للمسلمين لقاعدة الشريعة الصلية وهي ‪ ) :‬احتمال أدنى‬
‫المفسدتين لدرء أعلهما ( ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬لقد ترك النبي ) ‪ ( r‬قتل أبن أبي بن سلول رأس‬
‫المنافقين مع كونه قد قال ما يستوجب القتل حين وصف النبي‬
‫بالذل ‪ ،‬وترك أيضا ً إقامة حد القذف عليه لما تكلم في عرض‬
‫عائشة ‪ ،‬وكذلك ترك قتل ذي الخويصرة لما طعن في عدالته في‬
‫سم غنائم جاءته من البحرين على بعض الناس‬ ‫قسمته حين ق ّ‬
‫يتآلفهـم دون أن يكون له منها شيئا ً ‪ ،‬وهي ردة كما قرره شيخ‬
‫السلم في الصارم= =المسلول ‪ ،‬كل ذلك لئل يتحدث الناس‬
‫ن محمدا ً يقتل أصحابه ‪ ،‬وهي مفسدة أعظم من مفسدة ترك‬ ‫أ ّ‬
‫إقامة الحد عليهم ‪ ] .‬أنظر الغلو ‪ 148 :‬للمؤلف [ ‪.‬‬

‫‪ ( 30 )30‬أخرجه البيهقي في سننه برقم ‪ ، 20700‬وصححه الشيخ‬


‫اللباني في مشكاة المصابيح برقم ‪. 248‬‬

‫‪34‬‬
‫الرابطة الوحيدة التي تجمع قلوبهم ‪ ،‬وتوحد كلمتهم ‪،‬‬
‫وُتقوي أواصر المحبة بينهم ‪.‬‬
‫‪ ( 4‬لو نظرنا في حال من ينتسب إلى السلم وعبر‬
‫مراحل عمره الطويلة ‪ ،‬وخاصة في أهل هذا الزمان‬
‫الذي طغت فيه الماديات وعُِبدت فيه الشهوات‬
‫والنزوات وتشاغل الكثير من الناس عما هو قادم وآت ‪،‬‬
‫حتى انحرف الكثير منهم عن منهج رب الرض‬
‫والسموات ‪ ،‬فإننا ل نجد من أحد على مثل ما كان عليه‬
‫النبي ) ‪ ( ‬وأصحابه الكرام إل هم ‪ ،‬وإليك البيان ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬قال الشيخ العلمة أحمد بن يحيى النجمي ‪:‬‬
‫ن َقوُله )) كلها في النار إل ّ‬ ‫)) وبهـذا يتبّين على أ ّ‬
‫واحدة (( ليس المراد به أّنهم كلهم مخلدون في النار‬
‫ن هذه الواحدة المستثناة هي التي‬ ‫‪31‬فيما نعتقد ‪ ،‬ثم إ ّ‬
‫تدين بما دان به الصحابة عقيدةً ‪ ،‬وعمل ً ‪ ،‬وتعامل ً ‪ ،‬وهي‬
‫ن اللوهية لله وحده ‪،‬‬ ‫عقيدة أهل السّنة والجماعة وأ ّ‬
‫ن‬
‫وأّنه ل يجوز أن يدعى غيره ‪ ،‬ول يستغاث بغيره ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن المتابعة‬ ‫من فعل ذلك فإّنه مشرك شركا ً أكبر ‪ ،‬وأ ّ‬
‫تكون لرسول الله ‪ ‬ل يقدم قول أحد على قوله ‪ ،‬ول‬
‫رأي أحدٍ على سنته ‪ ،‬وعقيدتهم في توحيد السماء‬
‫والصفات هو اليمان بها ‪ ،‬واعتقاد معناها الذي تدل عليه‬
‫ف ‪ ،‬ول‬ ‫باللسان العربي ‪ ،‬و إمرارها كما جاءت بل تكيي ٍ‬
‫مة محمدٍ ‪ ‬يجب‬ ‫نأ ّ‬
‫تمثيل ‪ ،‬ول تشبيه ‪ ،‬ول تعطيل ‪ ،‬وأ ّ‬

‫‪ ( 31 )31‬وقال الشيخ النجمي موضحا ً ) ص ‪ )) : ( 186 :‬وقد‬


‫تقدم لنا في أول هذا الشرح أّنه ليس المراد بقوله ‪} :‬كلها في‬
‫ن هذه الفرق‬ ‫النار إل ّ واحدة { أّنهم كلهم كفار مخّلدون ؛ بل أ ّ‬
‫مختلفة منها ما تبلغ بدعتهم إلى حد ّ الكفر فيخرجون من‬
‫السلم ‪ ،‬ويحكم عليهم بالكفر ‪ ،‬ويكونون مخلدين في النار يوم‬
‫القيامة ومنها فرق ل تبلغ بدعهم إلى حد ّ الكفر بل تكون مفسقة‬
‫فهؤلء يرجون ما يرجوه الموحدون إذا ماتوا على التوحيد (( ا ‪.‬‬
‫هـ‬
‫‪35‬‬
‫ن الختلف ‪ ،‬والفتراق مبتدع‬ ‫ة واحدة ‪ ،‬وأ ّ‬
‫م ً‬
‫أن تكون أ ّ‬
‫إلى آخر ما هو مذكوٌر في عقيدة أهل السّنة والجماعة ‪.‬‬
‫ن القائمين على السّنة هم أهل الثر أهل الحديث ‪،‬‬ ‫وأ ّ‬
‫ومن سواهم فإّنه إن أصاب من وجهٍ أخطأ من وجهٍ آخر‬
‫‪ ،‬ول ينجو من الختلف ول يستقيم على العقيدة‬
‫الصحيحة إل ّ أهل الحديث ‪. ((32 ....‬‬
‫وقال الشيخ النجمي ‪ )) :‬وفي رواية ‪} :‬هم الذين على‬
‫مثل ما أنا عليه وأصحابي { وليس أحد ٌ من المليين‬
‫) المليين ‪ :‬أتباع الملة المحمدية ( على مثل ما عليه‬
‫النبي ‪ ‬وأصحابه إل ّ أصحاب الحديث ‪ ،‬وأتباع الثر ‪،‬‬
‫ن الطائفة‬ ‫وقرر أهل العلم من السلف بأ ّ‬
‫المنصورة هم أصحاب الحديث ‪ ،‬وهم الذين ينجون‬
‫ل ضللة بما‬ ‫ل شبهة ويردون ك ّ‬ ‫ل فتنة ‪ ،‬ويفندون ك ّ‬ ‫من ك ّ‬
‫قال الله عز وجل ‪ ،‬وقال رسوله ‪ ‬وما قاله سلف‬
‫المة ‪ ،‬نسأل الله أن يجعلنا منهم ‪ ،‬وأن يوفقنا لعمالهم‬
‫‪ ،‬وأن يحشرنا في زمرتهم إّنه جواد ٌ كريم ((‪ 33‬أ هـ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬قال الشيخ زكريا بن غلم قادر الباكستاني في‬
‫)) أصول الفقه على منهج أهل الحديث ‪ )) : (( 3 :‬لقد‬
‫تتابعت كلمات الئمة أن هذه الطائفة المنصورة هم أهل‬
‫الحديث ‪ ،‬قال أبو الفتوح الطائي الهمذاني في كتاب‬
‫الربعين ) ‪ 163‬ـ مكتبة المعارف ( ‪ :‬نقل عن الجم‬
‫الغفير والعدد الكثير من علماء المة ‪ ،‬وأعيان الئمة ‪ ،‬مثل‬
‫عبد الله بن المبارك ‪ ،‬وأحمد بن حنبل ‪ ،‬ويزيد بن هارون ‪،‬‬
‫وإبراهيم بن الحسن ديزيل الهمذاني أن المراد بالطائفة‬
‫المذكورة في الحديث ‪ :‬هم أصحاب الحديث وأهل الثار‬
‫الذين نهجوا الدين القويم وسلكوا الصراط المستقيم ‪،‬‬
‫فتمسكوا بالسبيل القوم ‪ ،‬والمنهاج الرشد (( انتهى ‪.‬‬

‫‪ ( 32 )32‬إرشاد الساري إلى توضيح شرح السنة للمام أبي‬


‫محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري ‪. (( 187 :‬‬
‫‪ ( 33 )33‬إرشاد الساري ‪. 202 :‬‬
‫‪36‬‬
‫وإذا كان أهل الحديث هم الطائفة المنصورة ‪ ،‬فل شك‬
‫أنهم يكونون أفقه الناس ‪ ،‬وأصولهم أصح الصول ‪ ،‬لن‬
‫هذا من مقومات الطائفة المنصورة ‪ ،‬وإنما يعيب أهل‬
‫الحديث بقلة الفقه من ل يعرف الفقه الصحيح أول‬
‫يعرف أهل الحديث حق المعرفة ‪ ،‬أو ما قرأ تبويبات‬
‫البخاري في صحيحه ‪ ،‬أو مسائل أحمد بن حنبل ‪ ،‬أو‬
‫الم للشافعي ‪ ،‬أو شرح السنة للبغوي ‪ ،‬أو مجموع‬
‫الفتاوى لبن تيمية ‪ ،‬أو غيرهـا من كتب أهل الحديث ((‬
‫أ ‪ .‬هـ‬
‫وبالمحصلة نرى أنهم يمثلون العمق التاريخي و المتداد‬
‫الحقيقي والطبيعي للسلم في صفائه وبهائه ‪،‬‬
‫وللمسلمين في اجتماعهم وتآلفهم ‪ ،‬بينما نرى ما‬
‫عداهم من الفرق والحزاب ‪ ،‬ـ سواء كانت حزبية‬
‫سياسية أو عسكرية أو سلوكية طرقية ـ تتساقط‬
‫أمامهم ‪ ،‬ول تقوى على مشابهتهم في تمسكهم بكتاب‬
‫ربهم وسنة نبيهم ) ‪ ، ( ‬فهم المنصورون بنصر الله‬
‫تبارك وتعالى لهم ‪.‬‬
‫قال الشيخ بكر بن عبد اللــه أبــو زيــد ‪ )) :‬وهــذه الفــرق‬
‫العقدية والسلوكية والسياسـية تســاقطت أمــام جماعــة‬
‫المسلمين أهــل الســنة والجماعــة ‪ ،‬الــذين درجــوا علــى‬
‫منهاج النبوة ولم ينفصلوا عنها ول لحظة زمنية واحــدة ‪،‬‬
‫ل باســم ول برســم ‪ ،‬فليــس لهــم شــخص ينتمــون إليــه‬
‫سوى النبي ) ‪ ( ‬ومن قفــى أثــره ‪ ،‬وليــس لهــم رســم‬
‫ومنهاج سوى منهاج النبوة ‪ :‬الكتاب والسنة ‪ ،‬وليس لهم‬
‫جماعــة مــن المســلمين بــل جمــاعتهم المســلمون ‪ ،‬إذ‬
‫الصل ل يحتاج إلى سمة خاصــة بــه تميــزه ‪ ،‬إنمــا الــذي‬
‫يحتاج إلى أسم معين هو الخارج عــن الصــل مــن تلكــم‬
‫الجماعات التي انشقت من الصل ‪ :‬جماعة المسلمين ‪.‬‬
‫وفي الحديث الصــحيح الــذي رواه المــام أحمــد‬
‫وغيــره أنــه ) ‪ ( ‬قـــال ‪ )) :‬مــن دعــا بــدعوة‬
‫‪37‬‬
‫الجاهلية فهو من جثاء جهنم ‪ ،‬وإن صام وصلى‬
‫وزعــم أنــه مســلم ‪ ،‬فــأدعو بــدعوة اللــه الــتي‬
‫سماكم بها المسلمين عباد الله (( ‪.‬‬
‫فهم بحق يمثلون المتداد الط َّبعي للسلم في مجموعــة‬
‫صفائه ‪ ،‬وللمسلمين في اجتماعهم وائتلفهم ‪ ،‬ولهذا لما‬
‫جاء رجل على المام مالك _ رحمه الله تعالى _ فقال ‪:‬‬
‫يا أبا عبد الله ! أســألك عــن مســألة أجعلــك حجــة فيمــا‬
‫بيني وبين الله عز وجل ‪.‬‬
‫قال مالك ‪ )) :‬ما شاء الله ‪ ،‬ل قوة إل بالله ‪ ،‬سل (( ‪.‬‬
‫من أهل السنة ؟‬ ‫قال ‪َ :‬‬
‫قال ‪ )):‬أهل السنة الذين ليس لهم لقــب ُيعَرفــون بــه ل‬
‫جهمي ول قدري ول رافضي (( ‪.......‬‬
‫فــالله تعــالى قــد ســمانا فــي القــرآن ‪ :‬المســلمين ‪،‬‬
‫المؤمنين ‪ ،‬عباد الله ‪ ،‬فل نعدل عن السماء التي سمانا‬
‫بها إلى أسماء أحدثها قوم _ وسموها هم وآبــاؤهم _ مــا‬
‫أنزل الله بها من سلطان (( ‪ 34‬أ ‪ .‬هـ‬
‫ولكـــن لمـــا َكث ُـــر الخلـــط واللبـــس وخرجـــت الفـــرق‬
‫والحــزاب ‪ ،‬وانفصــلت عــن الجماعــة الم ‪ ،‬ومــن َثــم‬
‫انتسبت إلى السلم وتسمت بأسماء السلم ‪ ،‬فانشقت‬
‫بأصولها وغاياتها التي تسعى إلى تحقيقها عن )) العمــود‬
‫الفقــري للمســلمين ‪ ،‬ظهــرت ألقــاب _ أهــل الســنة‬
‫والجماعة _ الشرعية المميزة لجماعة المسلمين لنفــي‬
‫الفرق والهواء عنهم ‪ ،‬سواء ما كان مــن الســماء ثابت ـا ً‬
‫لهم بأصل الشرع ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬الجماعة ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬جماعة المسلمين ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬الفرقة الناجية ‪.‬‬
‫‪ ( 4‬الطائفة المنصورة ‪.‬‬

‫‪ ( 34 )34‬حكم النتماء ‪. 37 :‬‬


‫‪38‬‬
‫أو بواسطة الــتزامهم بالســنن أمــام أهــل البــدع ‪ ،‬ولهــذا‬
‫حصل الربط لهم بالصدر الول فقيل لهم ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬السلف ‪.‬‬
‫‪ (2‬أهل الحديث ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬أهل الثر ‪.‬‬
‫‪ (4‬أهل السنة والجماعة ‪.‬‬
‫وهذه اللقاب الشريفة تخالف أي لقــب كــان لي فرقــة‬
‫كانت ‪ ،‬من وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أنهــا نســب لــم تنفصــل ول لحظــة عــن المــة‬
‫السلمية منذ تكونهـا علـى منهـاج النبـوة ‪ ،‬فهـي تحـوي‬
‫جميع المسلمين على طريقة الرعيل الول ‪.......‬‬

‫‪39‬‬
‫الثاني ‪ :‬أنها تحوي كل السلم ‪ :‬الكتاب والسنة ‪ ،‬فهي‬
‫ل تختص برسم يخالف الكتاب والسنة زيادة أو نقصا ً ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أنها ألقاب منها ما هو ثابت بالسنة الصــحيحة ‪،‬‬
‫ومنها مــا لــم يــبرز إل فــي مواجهــة مناهــج أهــل الهــواء‬
‫والفــرق الضــالة ‪ ،‬لــرد بــدعتهم والتميــز عنهــم ‪ ،‬وإبعــاد‬
‫الخلطة بهم ولمنابذتهم ‪ ،‬فلمــا ظهــرت البدعــة تميــزوا‬
‫كم الـرأي تميـزوا بالحـديث والثـر ‪ ،‬ولمـا‬ ‫ح ّ‬
‫بالسنة ولما ُ‬
‫خلوف تميزوا بهــدي الســلف‬ ‫ُ‬ ‫فشت البدع والهواء في ال ُ‬
‫ومن الملحظ ‪ :‬أنه لــو كــانت المــة‬ ‫وهكذا ‪...‬‬
‫فــي قــالب الســلم الصــحيح خاليــة مــن البــدع‬
‫والهــواء _ كمــا كــان الصــدر الول _ ومقدمــة‬
‫الســلف الصــالح لغــابت هــذه اللقــاب المميــزة‬
‫لعدم وجود المناهض لها ‪.‬‬
‫الرابــع ‪ :‬أن عقــد الــولء والــبراء والمــوالة والمعــاداة‬
‫لديهم هو على السلم ل غير ‪ ،‬ل على رسم بأسم معين‬
‫‪ ،‬ول علــى رســم محــدد ‪ ،‬إنمــا هــو الكتــاب والســنة‬
‫فحسب ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أن هــذه اللقــاب لــم تكــن داعيــة للتعصــب‬
‫لشخص دون رسول الله ) ‪...... ( ‬‬
‫السادس ‪ :‬أن هذه اللقاب ل تفضي إلى بدعة ‪ ،‬ول‬
‫إلى معصية ‪ ،‬ول إلى عصبية لشخص معين ول لطائفة‬
‫معينة ‪ ،‬فإذا قيل أهل السنة والجماعة أنتظم هذا اللقب‬
‫هذه الخواص ‪ ،‬وهذا ل يكون لحد من أهل الفرق‬
‫بأسمائهم ورسومهم التي انشقوا بها عن جماعة‬
‫المسلمين (( ‪.35‬‬
‫بينما لو تأملنا في أسماء أهل البدع وألقابهم لرأينا أنها ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬إما ترجع إلى النتساب لشخاص كالجهمية نسبة‬
‫إلى الجهم بن صفوان ‪ ،‬والزيدية نسبة إلى زيد بن علي‬
‫بن الحسين ‪ ،‬والكّلبية نسبة إلى عبد الله بم كّلب ‪،‬‬

‫‪ ( 35 )35‬المصدر السابق ‪ ] 45 _ 41 :‬بتصرف [ ‪.‬‬


‫‪40‬‬
‫والكرامية نسبة إلى محمد بن كرام ‪ ،‬والشعرية نسبة‬
‫إلى أبي الحسن الشعري ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬وإما إلى ألقاب مشتقة من أصل بدعتهم كالرافضة‬
‫لرفضهم زيد بن علي ‪ ،‬أو لرفضهم إمامة الشيخين ‪،‬‬
‫والنواصب لنصبهم العداء لهل البيت ‪ ،‬والقدرية‬
‫لكلمهم في القدر ‪ ،‬والصوفية للبسهم الصوف ‪،‬‬
‫والباطنية لزعمهم أن للنصوص ظاهرا ً وباطنا ً ‪،‬‬
‫والمرجئة لرجائهم العمال عن مسمى اليمان ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬وأما أن هذه اللقاب ترجع إلى سبب خروج من‬
‫تسمى بها عن عقيدة المسلمين وجماعتهم كالخوارج‬
‫لخروجهم على أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي‬
‫الله عنه ‪ ،‬والمعتزلة لعتزال رئيسهم واصل بن عطاء‬
‫‪36‬‬
‫مجلس الحسن البصري ‪.‬‬

‫أما علماتهم ‪:‬‬


‫قال الدكتور إبراهيم الرحيلي ‪ )) :‬لهل البدع علمات‬
‫جامعة لهم ‪ ،‬تظهر عليهم ويتميزون بها ‪ ،‬وقد أخبر الله‬
‫تعالى في كتابه ورسوله في سنته عن بعض علماتهم‬
‫تحذيرا ً للمة منهم ‪ ،‬والنهي عن سلوك مسالكهم ‪ ،‬كما‬
‫ص على بعض علماتهم السلف الصالح من الصحابة‬ ‫ن ّ‬
‫والتابعين ‪ ،‬ومن أتى بعدهم من علماء المة ‪.‬‬
‫وسأورد طرفا ً من هذه العلمات التي يتميز بها أهل‬
‫البدع لتكون عونا ً على معرفتهم إن شاء الله تعالى ‪،‬‬
‫فمن علماتهم ‪:‬‬
‫فرقة ‪ :‬وقد أخبر الله تعالى عنها بقوله ‪ ‬وَل َ‬ ‫‪ ( 1‬ال ُ‬
‫م‬‫جاءهُ ُ‬
‫ما َ‬
‫من ب َعْدِ َ‬ ‫فوا ْ ِ‬
‫خت َل َ ُ‬
‫فّرُقوا ْ َوا ْ‬ ‫ن تَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫كوُنوا ْ َ‬ ‫تَ ُ‬
‫ُ‬
‫م ‪ ] ‬آل عمران ‪:‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ك ل َهُ ْ‬ ‫ت وَأوَْلـئ ِ َ‬ ‫ال ْب َي َّنا ُ‬
‫‪.[105‬‬

‫‪ ( 36 )36‬انظر )) موقف أهل السنة والجماعة من أهل الهواء‬


‫والبدع ‪ (( 46 / 1 :‬للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫شَيعا ً‬ ‫كاُنوا ْ ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن فَّرُقوا ْ ِدين َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وقال تعالى ‪ ‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫م ي ُن َب ّئ ُُهم ب ِ َ‬
‫ما‬ ‫م إ َِلى الل ّهِ ث ُ ّ‬ ‫مُرهُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫يٍء إ ِن ّ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫س َ‬ ‫لّ ْ‬
‫ن ‪] ‬النعام ‪. [159 :‬‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫كاُنوا ْ ي َ ْ‬ ‫َ‬
‫‪ ( 2‬إتباع الهوى ‪ :‬وهي من أبرز صفاتهم قال الله‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ه عَلى‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫ضل ّ ُ‬‫واهُ وَأ َ‬ ‫ه هَ َ‬ ‫خذ َ إ ِل َهَ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫تعالى ‪ ‬أفََرأي ْ َ‬
‫شاوَةً‬ ‫صرِهِ ِغ َ‬ ‫ل عََلى ب َ َ‬ ‫جع َ َ‬ ‫معِهِ وَقَل ْب ِهِ وَ َ‬ ‫س ْ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫خت َ َ‬ ‫عل ْم ٍ وَ َ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن ‪] ‬الجاثية ‪:‬‬ ‫من ب َعْدِ اللهِ أفَل ت َذ َكُرو َ‬ ‫ديهِ ِ‬ ‫من ي َهْ ِ‬ ‫فَ َ‬
‫‪. [23‬‬
‫‪ ( 3‬إتباع المتشابه ‪ :‬وقد أخبر الله تعالى عن‬
‫ب‪،‬‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫ل عَل َي ْ َ‬ ‫اتصافهم بذلك بقوله ‪ ‬هُوَ ال ّذِيَ َأنَز َ‬
‫ت‪،‬‬ ‫شاب َِها ٌ‬ ‫مت َ َ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ب ‪ ،‬وَأ ُ َ‬ ‫م ال ْك َِتا ِ‬ ‫نأ ّ‬
‫منه آيات محك َمات هُ ُ‬
‫ّ‬ ‫ِ ْ ُ َ ٌ ّ ْ َ ٌ‬
‫َ‬
‫ه اب ْت َِغاء‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫شا‬‫َ‬
‫َُِّ َ َ َ َ َ ِ ْ ُ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫عو‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ٌ‬ ‫غ‬ ‫ن في قُ ُ ِ ِ ْ َ ْ‬
‫ي‬ ‫ز‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬
‫ذي‬ ‫فَأ ّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ه إ ِل ّ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ت َأِويل َ ُ‬ ‫ما ي َعْل َ ُ‬ ‫فت ْن َةِ َواب ْت َِغاء ت َأِويل ِهِ ‪ ،‬وَ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫عندِ َرب َّنا‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫مّنا ب ِهِ ك ُ ّ‬ ‫نآ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ي َ ُ‬ ‫خو َ‬ ‫س ُ‬ ‫َوالّرا ِ‬
‫ب ‪] ‬آل عمران ‪. [7 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ما ي َذ ّكُر إ ِل أوْلوا اللَبا ِ‬ ‫وَ َ‬
‫وروى الللكائي في )) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ‪:‬‬
‫‪ (( 123 / 1‬عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‬
‫الله عنه قال )) سيأتي أناس يجادلوكم بشبهات القرآن‬
‫فجادلوهـم بالسنن ‪ ،‬فإن أصحاب السنن أعلـم بكتاب‬
‫الله (( ‪....‬‬
‫‪ ( 4‬معارضة السنة بالقرآن ‪ :‬ومن علمات أهـل‬
‫البدع معارضة السنة بالقرآن ‪ ،‬ودعوى الكتفاء بالقرآن‬
‫عن السنة في التشريع ‪ ،‬كما أخبر بذلك رسول الله )‬
‫حدث‬ ‫‪ ( ‬بقوله ‪ )) :‬ليوشك الرجل متكئا ً على أريكتـه ي ُ َ‬
‫بحديثي فيقول ‪ :‬بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من‬
‫حلل استحللناه ‪ ،‬وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ‪ ،‬أل‬
‫وأن ما حّرم رسول الله فهو مثل ما حّرم الله ((‪. 37‬‬

‫‪ ( 37 )37‬الحديث بهذا اللفظ رواه الدارمي في سننه برقم ‪586 :‬‬


‫‪ ،‬وقد ورد بألفاظ أخرى من طرق مختلفة منها ‪:‬‬
‫‪42‬‬
‫‪ ( 5‬بغض أهل الثر ‪ :‬ومن علمات أهل البدع بغض‬
‫أهل الثر والوقيعة فيهم ‪.‬‬
‫فعن أحمد بن سنان القطان أنه قال ‪ )) :‬ليس في‬
‫الدنيا مبتدع إل وهو يبغض أهل الحديث (( ‪.‬‬
‫‪ ( 6‬إطلق اللقاب على أهل السنة ‪ :‬ومن‬
‫ص عليها العلماء ‪ :‬إطلق‬
‫علمات أهل البدع التي ن ّ‬
‫‪ ( 1‬أخرجه أبن ماجة في سننه برقم ‪ ، 12 :‬عن المقدام بن معد‬
‫يكرب الكندي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫)) يوشك الرجل متكئا ً على أريكته يحدث بحديث من حديثي‬
‫فيقول‪ :‬بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل ‪ ،‬فما وجدنا فيه من حلل‬
‫استحللناه ‪ ،‬وما وجدنا فيه من حرام استحرمناه ‪ ،‬أل وإن ما حرم‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله (( ‪ ،‬وصححه‬
‫الشيخ اللباني في صحيح سنن أبن ماجة ‪. 6 / 1‬‬
‫‪ ( 2‬أخرجه أبو داود في سننه برقم ‪ ، 4604 :‬عن المقدام بن‬
‫معد يكرب ‪ ،‬عن رسول الّله صلى الّله عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫ل شبعان على‬ ‫)) أل إّني أوتيت الكتاب ومثله معه ‪ ،‬ل يوشك رج ٌ‬
‫ل‬‫أريكته يقول‪ :‬عليكم بهذا القرآن ؛ فما وجدتم فيه من حل ٍ‬
‫ل لكم الحمار‬ ‫فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام ٍ فحرموه ‪ ،‬أل ل يح ّ‬
‫ّ‬
‫ب من السبع ‪ ،‬ول لقطة معاهد ٍ إل أن‬ ‫ي ‪ ،‬ول ك ّ‬
‫ل ذي نا ٍ‬ ‫الهل ّ‬
‫يستغني عنها صاحبها ‪ ،‬ومن نزل بقوم ٍ فعليهم أن يقروه ‪ ،‬فِإن لم‬
‫يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه (( ‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في‬
‫صحيح سنن أبي داود ‪ ، 200 / 4‬وصحيح الجامع برقم ‪. 2643‬‬
‫‪ ( 3‬أخرجه الحاكم في المستدرك عن عبيد الله بن أبي رافع عن‬
‫أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال )) ل ألفين أحدكم متكئا ً‬
‫على أريكته يأتيه المر من أمري مما أمرت به ‪ ،‬أو نهيت عنه‬
‫فيقول ما = = أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (( وقال ‪:‬‬
‫قد أقام سفيان بن عيينة هذا السناد وهو صحيح على شرط‬
‫الشيخين ولم يخرجاه والذي عندي أنهما تركاه لختلف‬
‫المصريين في هذا السناد ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح سنن أبي‬
‫داود ‪ ، 200 / 4‬وصحيح الجامع برقم ‪. 7172‬‬
‫) ‪ ( ( 38‬موقف أهل السنة والجماعة من أهل الهواء والبدع ‪:‬‬
‫‪ ] 125 / 1‬بتصرف واختصار [‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫اللقاب على أهل السنة بقصد انتقاصهم ‪ ،‬قـال أبو‬
‫حاتم الرازي ‪ )) :‬وعلمة الجهمية تسمية أهل السنة‬
‫مشبهة ‪ ،‬وعلمة القدرية تسميتهم أهل الثر مجبرة ‪،‬‬
‫وعلمة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية‬
‫) نسبة إلى قولهم بزيادة اليمان ونقصانه ( ‪ ،‬وعلمة‬
‫الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة (( ‪.‬‬
‫‪ ( 7‬ومن علمات أهل البدع تكفير مخالفيهم بغير دليل ‪،‬‬
‫قال شيخ السلم أبن تيمية في )) منهاج السنة ‪/ 5 :‬‬
‫كفر أهل السنة والجماعة ‪،‬‬ ‫‪)) : (( 158‬فالخوارج ت ُ َ‬
‫وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم ‪ ،‬وكذلك الرافضة‬
‫سق ‪ ،‬وكذلك أكثر أهل الهواء يبتدعون‬ ‫ومن لم يكفر فُ ِ‬
‫رأيا ً ويكفرون من خالفهم فيه (( ‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫‪38‬‬

‫‪44‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫أنواع الغربة وأسبابها ومظاهرها‬

‫لقد علمنا مما ســبق ذكــره وبيــانه أن الغربــة غربتــان ‪،‬‬


‫وأن لكــل غربــة لهــا أســبابها الــتي أدت إلــى ظهورهــا‬
‫وانتشارها وبسط هيمنتها على واقع الحــداث ‪ ،‬ممــا أدى‬
‫بالتالي إلى ظهور عدة مظــاهر وآثــار كــافرازات مريــرة‬
‫وقاسية ‪ ،‬أحــس بهــا الغربــاء دون غيرهــم مــن النــاس ‪،‬‬
‫وإليك ـ أخي الحبيب ـ البيان والتفصيل ‪:‬‬
‫أول ُ ‪ :‬غربة أولى ‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬غربة ثانية ‪.‬‬
‫أما الغربة الولى ‪ :‬وهي غربة المسلمين الوائل في‬
‫مكــة ‪ ،‬ومــا عــانوه فيهــا مــن جــور واضــطهاد مــن قبــل‬
‫مشركي قريش ‪ ،‬الذين وقفوا بكل عناد واستكبار بــوجه‬
‫هــذا الــدين الجديــد ‪ ،‬الــذي شــعروا مــن أول وهلــة أنــه‬
‫سيسلب كل ما في أيديهم من ملك وجاه ووصاية علــى‬
‫باقي القبائل الــتي تــدين لهــم بــالولء والرجــوع لكــونهم‬
‫أهل البيت وسدنته ‪.‬‬
‫ولعل من المفيد أن نذكر بعض الســباب الــتي ســاعدت‬
‫على ظهور هذه الغربة ‪ ،‬ممــا أدى بالتــالي إلــى اغــتراب‬
‫المسلمين الوائل المتمسكين بدينهم وهــم بيــن أهليهــم‬
‫وعشيرتهم ‪:‬‬

‫أسباب الغربة الولى ‪:‬‬


‫أول ً ‪ :‬ضعف تأثير النبوات السابقة فــي جزيــرة‬
‫علم أهميته وأثـره البـالغ ‪ ،‬مـن‬ ‫العرب ‪ :‬وهذا شيء قد ُ‬
‫در من أهل مكة مــن تصــرفات همجيــة جــاءت‬ ‫خلل ما َب َ‬
‫كرد فعل على ما جاء به النبي ) ‪ ( ‬من ديــن يــأمرهم‬
‫به بنبذ كـل مـا كـانوا عليــه مـن أدران الجاهليــة وأثارهـا‬
‫المقيتة ‪ ،‬فقد كان تأثير دعوات النبيــاء الــتي خــص اللــه‬
‫‪45‬‬
‫تعالى بها أقواما ً ممن يســكنون خــارج الجزيــرة العربيــة‬
‫على الجزيـرة العربيــة ضـعيفا ً جـدا ً ‪ ،‬مـع أن أخبـار تلــك‬
‫الدعوات قد طرق ســمعهم ووصــل إليهــم ‪ ،‬ســواء كــان‬
‫عن طريق الرحلت التجارية التي كانوا يقومون بها إلــى‬
‫الشــام واليمــن وبــاقي المــدن الخــرى ‪ ،‬أو عــن طريــق‬
‫العلقــات الــتي كــانت تربطهــم ببعــض قبــائل اليهــود‬
‫والنصارى التي كــانت تحيــط بــالجزيرة العربيــة ‪ ،‬بحكــم‬
‫المجاورة و التعاملت التجارية ‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد كان تأثير تلك الدعوات ضئيل ً وضعيفا ً جدا ً‬
‫‪ ،‬حيث أنهم لم )) يبعث إليهم نبي قبل نبينا محمد صــلى‬
‫الله عليه وسلم برسالته العامة الخاتمة ‪ ،‬كما أخبر اللــه‬
‫َ‬
‫ن‬‫قول ُــو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫تعالى عن ذلــك فــي كتــابه حيــث يقــول ‪ :‬أ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫مـ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫مــا أت َــاهُ ْ‬ ‫مــا َ‬ ‫ك ل ِت ُن ْـذَِر قَوْ ً‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ل هُوَ ال ْ َ‬ ‫افْت ََراهُ ب َ ْ‬
‫مــا‬ ‫ما َ‬ ‫ن ‪ ‬ويقول‪ ‬ل ِت ُن ْذَِر قَوْ ً‬ ‫دو َ‬ ‫م ي َهْت َ ُ‬ ‫ك ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ذيرٍ ِ‬ ‫نَ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م غافِلونَ ‪ ‬قال أبن جريج ) رحمه اللــه‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫أن ْذَِر آَباؤُهُ ْ‬
‫( ‪ .… )) :‬لم يأتهم ول آباءهم ‪ ،‬لم يــأت العــرب رســول‬
‫من الله عز وجل (( ‪ ،‬وورد نحو هذا المعنى عــن قتــادة‬
‫رحمه الله ‪.‬‬
‫وقال تعالى مبين ًــا نفــي إنــزال الكتــب عليهــم أو إرســال‬
‫مـا‬ ‫ســون ََها وَ َ‬ ‫ب ي َد ُْر ُ‬ ‫ن ك ُت ُـ ٍ‬ ‫مـ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما آت َي ْن َــاهُ ْ‬ ‫الرسل إليهم ‪ )) :‬وَ َ‬
‫م قَب ْل َ َ‬ ‫َ‬
‫ر (( ‪.‬‬ ‫ذي ٍ‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫سل َْنا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫أْر َ‬
‫ومهما يكن معنى هذه اليات ؛ فإن العــرب الــذين بعــث‬
‫فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يدينون بدين‬
‫ول يدرسون كتاًبا من الكتب الســماويةكما كــانت تفعــل‬
‫اليهود والنصارى ‪ ،‬ولهذا احتج اللــه عليهــم ببعثــة محمــد‬
‫َ‬
‫ب أن َْزل ْن َــاهُ‬ ‫ذا ك ِت َــا ٌ‬ ‫صلى اللــه عليــه وســلم وقــال ‪ )) :‬وَهَـ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مــا‬ ‫قولــوا إ ِن ّ َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫ن‪،‬أ ْ‬ ‫مــو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫م ت ُْر َ‬ ‫قوا ل َعَل ّك ُـ ْ‬ ‫ك َفات ّب ُِعوهُ َوات ّ ُ‬ ‫مَباَر ٌ‬ ‫ُ‬
‫ن‬ ‫ن كّنــا عَ ـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن قَب ْل َِنــا وَإ ِ ْ‬‫مــ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ِ‬ ‫فت َي ْ‬ ‫َ‬
‫ب عَلــى طــائ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ل الك َِتــا ُ‬‫ْ‬ ‫أ ُْنــزِ َ‬
‫ب ل َك ُن ّــا‬ ‫ل عَل َي َْنا ال ْك َِتا ُ‬ ‫قوُلوا ل َوْ أ َّنا أ ُن ْزِ َ‬ ‫ن‪.‬أ َوْ ت َ ُ‬ ‫م ل ََغافِِلي َ‬ ‫ست ِهِ ْ‬ ‫دَِرا َ‬

‫‪46‬‬
‫َ‬
‫ة ((‬‫مـ ٌ‬
‫ح َ‬
‫دى وََر ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م وَهُـ ً‬ ‫م ْ‬
‫ة ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م ب َي ّن َ ٌ‬ ‫م فَ َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫دى ِ‬
‫أه ْ َ‬
‫‪..‬‬
‫وأما الثار التي وصلت إلى أجدادكم مــن تــراث إبراهيــم‬
‫عليه الصلة والسلم ومن تله من النبياء والرسل فقــد‬
‫تحولت إلى رسوم حائلـة دارسـة ‪ ،‬ليـس فيهـا إل إغـراء‬
‫العرب بالتمسك بما هم عليه ‪ ،‬بزعم أنهم على إرث من‬
‫إرث أبيهم إبراهيم عليه السلم‪ ،‬والنبياء بعده‪ ،‬حــتى إن‬
‫إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلة والسلم قــد صــورهما‬
‫العــرب بصــورة المؤيــدين للعــوائد والرســوم الجاهليــة‬
‫الوثنية (( ‪.39‬‬

‫ثانًيا ‪ :‬العصبية لتراث الباء والجداد ‪:‬‬


‫وهذا وحده ي ُعَد ّ من السباب المباشـرة الـتي جعلـت أهـل‬
‫مكة يقفون بوجه دعوة النبي ) ‪ ( ‬بعنف وكبريــاء ‪ ،‬لنــه‬
‫ظم عليهم أمر الخروج عن تراث عظيم توارثوه عــن‬ ‫قد عَ ُ‬
‫آبائهم وأجدادهم وأحاطوه بهالة من التقــديس والتبجيــل ‪،‬‬
‫ولهذا نـرى أن أبـا طـالب وهـو فـي النـزع الخيـر يصـارع‬
‫الموت لم يقوى على الخروج عن هــذا الطــار وعــن هــذا‬
‫التراث ‪ ،‬حتى كان آخر كلمة يقولها )) أنــا علــى ملــة عبــد‬
‫المطلب (( في معرض رده على النبي ) ‪ ( ‬الذي طالبه‬
‫ـ والشفقة عليه تمل قلبه ـ أن يقــول ل إلــه إل اللــه كلمــة‬
‫يحاجج له بها ربه يوم القيامة ‪ ،‬ولكنه أبى الخروج عن دين‬
‫أبائه وأجداده ‪.‬‬
‫ولهذا كان من عادة )) المشركين والوثنيين ‪ :‬تقديس مــا‬
‫وجدوا عليه آباءهم ‪ ،‬وتحريم المساس بشيء منه ؛ إذ هو‬
‫عندهم الشرع العظــم ‪ ،‬والمنهــج القــوم ‪ ،‬الــذي يعتــبر‬
‫مـن تـردد فـي قبــول شـيء منــه ‪ -‬بـل مـن رده ‪ ،‬أو رد ّ‬
‫فًها للســابقين ‪ ،‬مزري ًــا بعقــولهم ‪ ،‬مســتكبًرا‬
‫بعضه ‪ -‬مس ّ‬
‫عليهم غير مؤد ّ لحقوق البر الواجب لهم ؛ فهــو منســوب‬

‫‪ ( 39 )39‬الغرباء الوائل ‪. 85 :‬‬


‫‪47‬‬
‫إلى عقوقهم ‪ ،‬والسعي لخمال ذكرهم ‪ ،‬ولهذا كان أكبر‬
‫طاغوت تحارب به دعوات الرسل والنبياء عليهم الصلة‬
‫والسلم هو طاغوت التقليد والعادة المتبعة ‪.40‬‬

‫‪ ( 40 )40‬تعتبر حجة تقليد الباء والجداد حجة قديمة ومتكررة‬


‫عبر حقب الزمان المتتالية ‪ ،‬فقد تمسك بها الولون ‪ ،‬وهي ل‬
‫تزال مستمرة تنبض بالحياة عند المتأخرين ‪ ،‬الذين تشبثوا بها‬
‫ولم يخرجوا عنها ‪ ،‬ولهذا تجد لها انتشارا ً واسعا ً بين الناس ‪ ،‬فما‬
‫تأتي أحدهم بدليل وبرهان ينقض ما هو عليه من خرافات‬
‫وأباطيل وتقاليد باطلة إل وأحتج عليك بما وجد عليه الباء‬
‫والجداد ‪ ،‬وكأنها قارب نجاة يهرع إليه متى ما أعيته وأفزعته‬
‫الحجج الدامغات والبراهين الواضحات ‪ ،‬ولو نظرنا في مناظرة‬
‫نبي الله إبراهيم عليه الصلة والسلم لقومه حول جدوى عبادتهم‬
‫للوثان التي كانوا يعكفون حولها ‪ ،‬وبماذا جاء ردهم عليه لوجدنا‬
‫ل‬‫المثال جليا ً واضحا ً ‪ ،‬قال الله تبارك تعالى حكاية عنهم ‪َ ‬وات ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن * َقاُلوا ن َعْب ُد ُ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬‫مهِ َ‬‫ل ِل َِبيهِ وَقَوْ ِ‬
‫هيم * إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫م ن َب َأ إ ِب َْرا ِ‬‫ع َل َي ْهِ ْ‬
‫عون * أوَ‬ ‫ُ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫َ‬
‫ن * قا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صَناما فن َظ ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫م إ ِذ ْ ت َد ْ ُ َ‬‫مُعون َك ْ‬ ‫س َ‬‫ل يَ ْ‬ ‫في َ‬‫عاك ِ ِ‬‫ل لَها َ‬ ‫أ ْ‬
‫فعونك ُ َ‬
‫ن‪‬‬ ‫فعَُلو َ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫جد َْنا آَباءَنا ك َذ َل ِ َ‬ ‫ن * َقاُلوا ب َ ْ‬
‫ل وَ َ‬ ‫ضّرو َ‬‫م أو ْ ي َ ُ‬ ‫َين َ ُ َ ْ‬
‫]الشعراء ‪ 69 :‬ـ ‪. [74‬‬
‫=‬

‫= فأنظروا ـ يرحمكم الله ـ كيف ردوا على إبراهيم عليه السلم‬


‫عندما سألهم عن حال أوثانهم التي يعبدونها من دون الله ‪ ،‬وهل‬
‫تسمعهم أو تنفعهم أو تضرهم ؟ لم يقولوا أنها تسمع أو تنفع أو‬
‫تضر ‪ ،‬بل هربوا من الجابة على هذه السئلة التي نزلت على‬
‫رؤوسهم كصاعقة مدوية لم يجدوا عنها مهربا ً إل بالحتجاج‬
‫فعَُلو َ‬
‫ن (( ‪.‬‬ ‫جد َْنا آَباءَنا ك َذ َل ِ َ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫بالحجة المعهودة )) ب َ ْ‬
‫ل وَ َ‬

‫ولو نظرنا في القرآن لوجدنا أنه يرد على فريتهم تلك في مواضع‬
‫ن وهنها وضعفها ‪ ،‬وأنها ل تقوم وتستقيم لتكون‬ ‫كثيرة ‪ ،‬حيث بي ّ َ‬
‫حجة نافعة لهم فتنجيهم من الحساب والعقاب يوم القيامة ‪ ،‬قال‬
‫ذيرٍ إ ِّل‬ ‫َ‬
‫ك ِفي قَْري َةٍ ّ‬
‫من ن ّ ِ‬ ‫سل َْنا ِ‬
‫من قَب ْل ِ َ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫تعالى عنهم ‪ ‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ك َ‬
‫‪48‬‬
‫فهؤلء قوم موسى يردون دعوته لنها ستلفتهم عما كان‬
‫عا لصحاب الدعوة الجديدة ‪،‬‬ ‫عليه آباؤهم ‪ ،‬وتجعلهم أتبا ً‬
‫َ‬
‫جـد َْنا‬
‫مـا وَ َ‬ ‫‪41‬‬
‫جئ ْت ََنا ل ِت َل ْ ِ‬
‫فت ََنا عَ ّ‬ ‫وهذا ما ل يطيقونه ‪َ )) :‬قاُلوا أ ِ‬
‫ن‬
‫حـ ُ‬
‫مــا ن َ ْ‬
‫ض وَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ن ل َك ُ َ‬
‫عَل َي ْهِ آَباَءَنا وَت َك ُــو َ‬
‫مــا الك ِب ْرِي َــاءُ فِــي الْر ِ‬
‫ن (( ‪.‬‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ل َك ُ َ‬
‫ما ب ِ ُ‬

‫ُ‬
‫ن‬
‫دو َ‬
‫قت َ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مةٍ وَإ ِّنا ع ََلى آَثارِ ِ‬
‫هم ّ‬ ‫جد َْنا آَباءَنا ع ََلى أ ّ‬ ‫مت َْرُفو َ‬
‫ها إ ِّنا وَ َ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ُ‬
‫‪] ‬الزخرف ‪. [23 :‬‬

‫ما‬ ‫ه َقاُلوا ْ ب َ ْ‬
‫ل ن َت ّب ِعُ َ‬ ‫ما َأنَز َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫م ات ّب ُِعوا َ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬
‫ذا ِقي َ‬ ‫وقال تعالى ‪ ‬وَإ ِ َ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ َل ْ َ‬
‫ن ‪‬‬ ‫دو‬ ‫َ‬
‫ْ َ َْ ُ َ‬ ‫ت‬‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ا‬ ‫يئ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫لو‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ؤ‬ ‫با‬‫آ‬
‫َ َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫في َْنا ع َل َي ْهِ آَباءَنا أوَ ْ‬
‫و‬‫َ‬ ‫ل‬
‫]البقرة ‪. [170 :‬‬

‫ومن المعلوم أن ليس كل إتباع للباء والجداد يكون مذموما ً ‪ ،‬بل‬


‫على العكس فقد يكون إتباعهم محمودا ً إذا كانوا على الحق‬
‫ت‬ ‫المبين ‪ ،‬كما قال تعالى عن يوسف الصديق أنه قال ‪َ ‬وات ّب َعْ ُ‬
‫ك ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫شرِ َ‬ ‫ن ل ََنا َأن ن ّ ْ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ب َ‬ ‫قو َ‬
‫حاقَ وَي َعْ ُ‬
‫س َ‬‫م وَإ ِ ْ‬
‫هي َ‬
‫ة آَبآِئـي إ ِب َْرا ِ‬ ‫مل ّ َ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن أكث ََر‬ ‫س وَلـك ِ ّ‬ ‫ل اللهِ ع َلي َْنا وَع َلى الّنا ِ‬ ‫ض ِ‬‫من فَ ْ‬ ‫يٍء ذ َل ِك ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ِ‬
‫ن ‪] ‬يوسف ‪. [38 :‬‬ ‫رو‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ش‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬

‫) ‪ ( 41‬قال الطبري في تفسيره ‪ )) : (( 588 / 6 )) :‬قال أبو‬


‫جعفر ‪ :‬يقول تعالى ذكره قال فرعون ومله لموسى ‪ } :‬أجئتنا‬
‫لتلفتنا { يقول ‪ :‬لتصرفنا وتلوينا } عما وجدنا عليه آباءنا { من‬
‫قبل مجيئك من الدين ‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫‪49‬‬
‫وهذا إبراهيم عليه السلم يخاطب قومه قائل ً ‪َ .. )) :‬‬
‫مــا‬
‫ل ل ََها َ‬
‫ما فَن َظ َ ّ‬ ‫َ‬
‫هــ ْ‬
‫ل‬ ‫ل َ‬ ‫ن ‪َ ،‬قا َ‬‫في َ‬
‫عاك ِ ِ‬ ‫ن ‪َ ،‬قاُلوا ن َعْب ُد ُ أ ْ‬
‫صَنا ً‬ ‫دو َ‬ ‫ت َعْب ُ ُ‬
‫ن ‪ ،‬قَــاُلوا‬ ‫فعــونك ُ َ‬ ‫َ‬
‫ضـّرو َ‬
‫م أوْ ي َ ُ‬
‫ن ‪ ،‬أوْ ي َن ْ َ ُ َ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫مُعون َك ُ ْ‬
‫م إ ِذ ْ ت َـد ْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن (( ‪.‬‬ ‫فعَُلو َ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫جد َْنا آَباَءَنا ك َذ َل ِ َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫بَ ْ‬

‫فحين يقهرهم بالحجة المفحمة المبينة عن ســخف هــذه‬


‫السطورة وتهافتها ‪ ،‬وأنهـا ل تسـتند إلـى عقـل ول نقـل ؛‬
‫يهربــون إلــى التعلــل بالتقليــد ومحاكــاة البــاء والجــداد‬
‫فحسب !‪.‬‬

‫وعندئذ يعلـن الداعيـة حقيقـة المـر ‪ ،‬ويـبين أن السـلم ل‬


‫يقيم وزًنا للعراف والعوائد الموروثة عـن البـاء والجـداد ‪،‬‬
‫ما دامت مصادمة للحق مناقضة للوحي ‪َ ) :‬قا َ َ َ‬
‫ما‬
‫م َ‬ ‫ل أفََرأي ْت ُ ْ‬
‫َ‬
‫م عَـد ُوّ ل ِــي إ ِل ّ‬‫ن ‪ ،‬فَـإ ِن ّهُ ْ‬ ‫م َوآَباؤُك ُ ُ‬
‫م القْد َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن ‪ ،‬أن ْت ُ ْ‬
‫دو َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َعْب ُ ُ‬
‫ن (( ‪.42‬‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫َر ّ‬

‫ثالث ًــا ‪ :‬موقــف أهــل الكتــاب المســاند للــوثنيين‬


‫والمشركين ‪:‬‬

‫‪ ( 42 )42‬المصدر السابق ‪. 89 :‬‬


‫‪50‬‬
‫في مــوقفهم الرافــض للــدعوة النبويــة منــذ انطلقتهــا‬
‫الولــى ‪ ،‬ممــا زاد أهــل الشــراك جــرأة وصــلبة فــي‬
‫محاربتها ‪ ،‬مما )) ضاعف المتاعب الــتي لقاهــا الداعيــة‬
‫الول صــلى اللــه عليــه وســلم وأتبــاعه المؤمنــون ؛ أن‬
‫البيئة التي بعث فيهــا كــانت علــى صــلة مــا ببعــض أهــل‬
‫الكتاب من اليهود والنصارى ‪ ،‬الــذين شــرقوا بالــدعوة ‪،‬‬
‫وناصبوها العــداء ‪ ،‬وكــان العــرب ينظــرون إليهــم نظــرة‬
‫إعجاب وإكبار ‪ ،‬لما كان فـي أيـديهم مـن الكتـب ‪ ،‬ولمـا‬
‫كان لديهم من العلم ‪.‬‬
‫وإذا كــانت بيئة العــرب الوثنيــة العريقــة مســتعدة أص ـل ً‬
‫لمواجهة دعوة التوحيد ومحاربتها ‪ ،‬فإنها قد وجــدت فــي‬
‫دا " شــرعّيا‬
‫موقف أهل الكتاب الرافض للــدعوة "مســتن ً‬
‫لهذه المقاومة‪.‬‬

‫فهاهم أهل التوراة والنجيل ‪ ،‬وورثة الكتــب الســماوية ؛‬


‫ينكرون دعوة محمد صــلى اللــه عليــه وســلم‪ ،‬ويردونهــا‬
‫ويكذبونها ‪ ،‬وهم أدرى منــا بالــدين وأعلــم !‪ ،‬وهــذا كــان‬
‫مصدر تثبيت ودعم لموقف المشركين ‪.‬‬
‫)) وانط َل َق ال ْمل منه َ‬
‫م‬‫صب ُِروا عَل َــى آل ِهَت ِك ُـ ْ‬‫شوا َوا ْ‬ ‫م ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫مأ ِ‬ ‫َ َ ِ ُْ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ن‬
‫خـَرةِ إ ِ ْ‬ ‫مل ّـةِ ال ِ‬
‫ذا فِــي ال ْ ِ‬
‫معَْنا ب ِهَ َ‬
‫س ِ‬ ‫ما َ‬‫د‪َ .‬‬‫يٌء ي َُرا ُ‬ ‫ذا ل َ َ‬
‫ش ْ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫خِتلق ٌ(( ‪.‬‬ ‫ذا إ ِل ّ ا ْ‬
‫هَ َ‬

‫‪51‬‬
‫فمن عوامل الصبر على اللهة في مواجهة الدعوة الجديــدة‬
‫أنهم لم يسمعوا بما جاء به صلى الله عليه وسلم في الملة‬
‫الخرة ‪ :‬وهي النصرانية ‪ ،‬قاله أبن عباس والسدي ومحمد‬
‫بن كعب القرظي و قتادة ومجاهد ‪.‬‬

‫وهـذا ‪ -‬فيما يظهــر واللـه أعلـم بالصــواب ‪ -‬مبنـي علـى‬


‫شهادة من أهـل الكتاب للمشركين ضد الرســول صــلى‬
‫الله عليه وسلم وإل فما كان للعــرب مــن علــم بــالكتب‬
‫السماوية ‪ ،‬وما فيها من الحقائق والخبار ‪.‬‬

‫ويؤكد هذا ما حكاه الله في موضع آخـر مـن شـهادة اليهـود‬


‫َ‬
‫م َتـَر‬‫للوثنيين ضد الموحدين المؤمنين ‪ ،‬قــال تعــالى ‪ )) :‬أَلـ ْ‬
‫ت َوالط ّــا ُ‬ ‫إَلى ال ّذي ُ‬
‫ت‬‫غو ِ‬ ‫جب ْ ِ‬ ‫ن ب ِــال ْ ِ‬‫مُنو َ‬‫ب ي ُؤْ ِ‬‫ن ال ْك َِتا ِ‬‫م َ‬‫صيًبا ِ‬
‫ن أوُتوا ن َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫سـِبيل ً‪،‬‬‫مُنـوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن اّلـ ِ‬ ‫مـ َ‬‫دى ِ‬ ‫هـ َ‬‫ؤلِء أ ْ‬ ‫هـ ُ‬
‫فُروا َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬‫قوُلو َ‬ ‫وَي َ ُ‬
‫صيًرا (( ‪.‬‬ ‫ه نَ ِ‬‫جد َ ل َ ُ‬‫ن تَ ِ‬ ‫ن الله فَل َ ْ‬ ‫م ْ ْ‬
‫ن ي َلعَ ِ‬ ‫م الله وَ َ‬ ‫ن ل َعَن َهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬

‫وذلك أن اليهود حصــروا أنفســهم فــي خنــدق واحــد مــع‬


‫مشركي العرب في الحرب الدائرة بينهم وبين الرســول‬
‫صــلى اللــه عليــه وســلم وزكــوا ديانــة العــرب الوثنيــة ‪،‬‬
‫وفضلوا أهلها على المؤمنين ‪.‬‬

‫عن أبن عباس رضي الله عنهما قال ‪ )) :‬لمــا قــدم كعــب‬
‫بن الشرف مكة ‪ ،‬قالت له قريش ‪ :‬أنت خير أهل المدينة‬
‫وسيدهم ؟‬

‫‪52‬‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪.‬‬

‫قالوا ‪ :‬أل ترى إلى هذا الصنبور المنبتر مــن قــومه يزعــم‬
‫أنه خير منا ‪ ،‬ونحن أهل الحجيج ‪ ،‬وأهــل الســدانة ‪ ،‬وأهــل‬
‫السقاية ؟‬

‫قال ‪ :‬أنتم خير منه ‪.‬‬

‫ك هُوَ الب َْتـُر (( ‪ ،‬وُأنزلــت ‪)) :‬‬ ‫شان ِئ َ َ‬‫ن َ‬ ‫قال ‪ :‬فأنزلت ‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬
‫ت‬ ‫ن ب ِــال ْ ِ‬
‫جب ْ ِ‬ ‫من ُــو َ‬ ‫ن ال ْك ِت َــا ِ‬
‫ب ي ُؤْ ِ‬ ‫مـ َ‬‫صيًبا ِ‬ ‫ن أوُتوا ن َ ِ‬‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬
‫صيًرا (( ‪.‬‬ ‫جد َ ل َ ُ‬
‫ه نَ ِ‬ ‫ت(‪ ...‬إلى قوله ‪ )) :‬فَل َ ْ‬
‫ن تَ ِ‬ ‫غو ِ‬ ‫َوال ّ‬
‫طا ُ‬

‫ومعنى ذلك أن الله وصف الــذين ُأوتــوا نصــيًبا مــن الكتــب‬


‫‪-‬من اليهــود‪ ،-‬بتعظيمهــم غيــر اللــه بالعبــادة والذعــان لــه‬
‫بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما ‪ ،‬وأنهم قالوا‬
‫‪ :‬إن أهل الكفر بالله أولى بــالحق مــن أهــل اليمــان بــه ‪،‬‬
‫وإن دين أهل التكذيب لله ولرســوله أعــدل وأصــوب مــن‬
‫دين أهل التصديق ‪.43‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬التأثير البالغ لموقف قريش على العرب‬


‫‪:‬‬

‫‪ ( 43 )43‬المصدر السابق ‪. 93 :‬‬


‫‪53‬‬
‫فلقد كان لموقف قريش الرافض للــدعوة أثــر عظيــم فــي‬
‫امتناع سائر العرب عن قبول الدعوة ‪ ،‬حتى ولو لم تبــذل‬
‫قريــش أي جهــد فــي مقاومــة الــدعوة وتشــويه صــورة‬
‫الداعية في نفــوس النــاس؛ لن النــاس كــانوا يتطلعــون‬
‫إلى موقفها وينتظرون قرارها‪ ،‬وذلك لسباب منها ‪:‬‬

‫) أ ( مكانة قريش في نفـوس العــرب ‪ ،‬فقـد كـان العـرب‬


‫يعظمــون أهــل بيــت اللــه ‪ ،‬ويمنحــونهم الجلل والكبــار ‪،‬‬
‫صاده من الطعــام‬
‫لقيامهم على البيت ووفائهم بما يحتاجه ق ّ‬
‫والشراب وغيره ‪ ،‬وتسابقهم في ذلك وتنافسهم عليه ‪.......‬‬

‫ولذلك كله فإن العرب كانت تتربص بإسلمها إسلم هذا‬


‫الحي ‪ -‬من قريش‪ ، -‬فلمــا رأت صــدودهم عــن الــدعوة‬
‫وزرايتهم بها ؛ انصرفت عنها ولم تأبه لها ‪ -‬إلى حين‪.-‬‬

‫)ب( ويضاف إلى تأثير تلك المكانة الخاصة التي تبوأتهــا‬


‫قريش عند العرب أن الرسـول المبعـوث عليـه صـلوات‬
‫الله وسلمه كان من قريش نفسها‪ ،‬وكان منطق العرب‬
‫يقول‪ :‬إن القبيلـة أعلـم وأدرى بصـاحبها وأخـبر بشـأنه ‪،‬‬
‫فلم نكن لنفتات عليهم فيه ‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫فلم تكد قبيلة من قبائل العرب تفكر ‪ -‬أول المر‪ -‬بالستجابة‬
‫لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إيوائه ‪ ،‬وهذه قبيلــة‬
‫قريش ترفــض دعــوته وتعــرض عنهـا ‪ ،..‬وهــي قريــش ذات‬
‫المكانة والسؤدد ! وهي قبيلته التي تعرفه حق المعرفة !‬

‫)ج( هذا لو لم يكن من قريش إل مجــرد العــراض عــن‬


‫الــدعوة ‪ ،‬وعــدم قبولهــا ‪ ،‬فكيــف إذا انضــم إلــى ذلــك‬
‫الحرب العلميــة الــتي شــنتها علــى الــدعوة وصــاحبها ‪،‬‬
‫والحصار الذي ضربته عليها بكل وسيلة ؟!‬

‫فلقد كان زعماء قريش يجتمعون ليتدارسوا مــا يقولــون‬


‫في شـأن هـذا القـرآن ‪ ،‬ومـا يقـابلون بـه وفـود العـرب‬
‫القادمين إلى مكة فــي الموســم ‪ ،‬ويحــاولون أن يتفقــوا‬
‫على كلمة واحــدة فــي شــأن هــذا القــرآن ‪ ،‬وشــأن هــذا‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم ‪. 44‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬وقوع المــؤمنين تحــت ســلطة الكفــار‬


‫من قومهم ‪:‬‬

‫وأمام ذلك الكيد الجاهلي الــدائب ‪ ،‬كـان يقــف الرســول‬


‫صلى الله عليه وسلم أعــزل مــن كــل ســلح ‪ ،‬إل ســلح‬
‫اليمان بالله ‪ ،‬والثقة بوعده ‪ ،‬أعــزل مــن كــل قــوة ‪ ،‬إل‬
‫قوة العزيمة ‪ ،‬والصرار ‪ ،‬والمضاء والتصميم‪.‬‬
‫‪ ( 44 )44‬المصدر السابق ‪ ]101 :‬بتصرف واختصار [ ‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫ولم يكن يملك صلى الله عليه وسـلم أن يـدفع عـن أتبــاعه‬
‫المستضعفين شيًئا من العذاب الذي ينزله بهم قــومهم دون‬
‫دا متفرقين‬
‫رحمة ول هوادة ‪ ،‬إذ كان أتباعه ‪ -‬مع قلتهم‪ -‬أفرا ً‬
‫من قبائل شتى ‪ ،‬فكانوا يشاركونه صـلى اللـه عليـه وسـلم‬
‫غربته ‪ ،‬ويقاسمونه مصاعبها ‪ ،‬فل يملكــون ‪ -‬فــي كــثير مــن‬
‫الحيـان‪ -‬أن يعلنـوا إسـلمهم ‪ ،‬فضـل ًعـن أن يـدعوا إليـه ‪،‬‬
‫فكانوا غربـاء فـي قبـائلهم ‪ ،‬وبيـن قـومهم ‪ ،‬وكـان قـائدهم‬
‫صلى الله عليه وسـلم هـو الخـر غريًبـا فـي قـبيلته ‪ ،‬وبيـن‬
‫قومه ‪.‬‬

‫ذلك أنه لم يكن لليمان موطن يفيــء إليــه ‪ ،‬ول للمــؤمنين‬


‫قبيلة تدفع عنهم ؛ فكان من أسلم يبقى في قومه ‪ -‬خاصة‬
‫إذا لم يكن فـي مكـة‪ -‬مسـتخفًيا ينتظـر ظهـور أمـر النـبي‬
‫صلى الله عليـه وسـلم واسـتقراره فـي مهجـر ‪ ،‬كمـا فـي‬
‫‪45‬‬
‫‪.‬‬ ‫قصة عمرو بن عبسة رضي الله عنه‬
‫‪ ( 45 )45‬روى المام مسلم في قصة إسلم عمرو بن عبسة عن‬
‫أبي أمامة قال ‪ :‬قال عمرو بن عبسة السلمي‪ :‬كنت وأنا في‬
‫الجاهلية أظن أن الناس على ضللة وأنهم ليسوا على شيء وهم‬
‫يعبدون الوثان ‪ ،‬فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا ً ‪ ،‬فقعدت على‬
‫راحلتي فقدمت عليه ‪ ،‬فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫مستخفيا ً جرءاء عليه قومه ‪ ،‬فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة ‪،‬‬
‫فقلت له ‪ :‬ما أنت ؟ قال ‪ )) :‬أنا نبي (( ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬وما نبي ؟ ‪ ،‬قال ‪ )) :‬أرسلني الله (( ‪ ،‬فقلت ‪ :‬وبأي‬
‫شيء أرسلك ؟ قال ‪ )) :‬أرسلني بصلة الرحام وكسر الوثان‬
‫وأن يوحد الله ل يشرك به شيء (( ‪ ،‬قلت له ‪ :‬فمن معك على‬
‫هذا ؟ قال ‪ )) :‬حر وعبد (( ‪ ،‬قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلل ممن‬
‫‪56‬‬
‫وقد وجد النبي صــلى اللـه عليــه وســلم نفســه مضــطًرا‬
‫إزاء إيذاء المشركين ‪ ،‬واضطهادهم لتباعه ‪-‬خاصــة مــن‬
‫المكيين‪ -‬أن يبحث عــن حــل مــؤقت يحمــي أتبــاعه مــن‬
‫الفتنــة والتنكيــل ‪ -‬وكــانت الحبشــة آنــذاك تتمتــع بحكــم‬

‫آمن به ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إني متبعك ‪.‬‬


‫قال ‪ )) :‬إنك ل تستطيع ذلك يومك هذا ‪ ،‬أل ترى حالي وحال‬
‫الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك ‪ ،‬فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني‬
‫(( ‪ ،‬قال فذهبت إلى أهلي ‪ ،‬وقدم رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم المدينة ‪ ،‬وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الخبار وأسأل‬
‫ي نفر من أهل يثرب من‬ ‫الناس حين قدم المدينة ‪ ،‬حتى قدم عل ّ‬
‫أهل المدينة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟‬
‫فقالوا ‪ :‬الناس إليه سراع‪ .‬وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا‬
‫ذلك ‪ ،‬فقدمت المدينة ‪ ،‬فدخلت عليه ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول الله!‬
‫أتعرفني ؟ قال ‪ )) :‬نعم ‪ ،‬أنت الذي لقيتني بمكة ؟ (( ‪ ،‬قال ‪،‬‬
‫فقلت ‪ :‬بلى ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا نبي الله! أخبرني عما علمك الله وأجهله‬
‫‪ ،‬أخبرني عن الصلة ؟ قال ‪ )) :‬صل صلة الصبح ‪ ،‬ثم أقصر عن‬
‫الصلة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ‪ ،‬فإنها تطلع حين تطلع‬
‫بين قرني شيطان ‪ ،‬وحينئذ يسجد لها= = الكفار ‪ ،‬ثم صل فإن‬
‫الصلة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ‪ ،‬ثم أقصر‬
‫عن الصلة فإن حينئذ تسجر جهنم ‪ ،‬فإذا أقبل الفيء فصل ‪ ،‬فإن‬
‫الصلة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ‪ ،‬ثم أقصر عن‬
‫الصلة حتى تغرب الشمس ‪ ،‬فإنها تغرب بين قرني شيطان‬
‫وحينئذ يسجد لها الكفار ((‪ .‬قال فقلت ‪ :‬يا نبي الله ! فالوضوء ؟‬
‫حدثني عنه قال ‪ )) :‬ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض‬
‫ويستنشق فينتثر إل خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ‪ ،‬ثم إذا‬
‫غسل وجهه كما أمره الله إل خرت خطايا وجهه من أطراف‬
‫لحيته مع الماء ‪ ،‬ثم يغسل يديه إلى المرفقين إل خرت خطايا‬
‫يديه من أنامله مع الماء ‪ ،‬ثم يمسح رأسه إل خرت خطايا رأسه‬
‫من أطراف شعره مع الماء ‪ ،‬ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إل‬
‫خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ‪ ،‬فإن هو قام فصلى‬
‫فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل ‪ ،‬وفرغ قلبه لله ‪،‬‬
‫إل انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه (( ‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫عادل ‪ ،‬في ظل ملك ل يسمح بالظلم ‪ ،‬ول يقــره ‪ ،‬وهــو‬
‫النجاشي ‪ ،‬ومن هنا جاءت الهجرة إلى الحبشة ‪.46‬‬

‫‪ ‬مظاهر الغربة الولى ‪:‬‬

‫لقد كان للأسباب الــتي ذكرناهــا آنفـا ً التــأثير البــالغ فــي‬


‫مجريات الحداث في مكة مما جعل الكثير من المظاهر‬
‫تظهــر علــى ســطح الحــداث كــإفرازات ونتــائج لتلــك‬
‫السباب الموجعة مما زاد في عزلة المسلمين وغربتهم‬
‫‪ ،‬وتسلط أهل الكفر عليهم ‪ ،‬ومن تلك المظاهر ‪:‬‬

‫المظهـــر الول ‪ :‬استضـــعاف المســـلمين وشـــدة‬


‫اضطهاد الكفار لهم ‪.‬‬

‫فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول‬


‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فقال له أبو أمامة ‪ :‬يا عمرو بن‬
‫عبسة ! انظر ما تقول ‪ ،‬في مقام واحد يعطى هذا الرجل ؟ فقال‬
‫عمرو ‪ :‬يا أبا أمامة ! لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي‪،‬‬
‫وما بي حاجة أن أكذب على الله ‪ ،‬ول على رسول الله ‪ ،‬لو لم‬
‫أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إل مرة أو مرتين أو‬
‫ثلثا ً )حتى عد سبع مرات ( ما حدثت به أبدا ً ‪ ،‬ولكني سمعته أكثر‬
‫من ذلك (( ‪.‬‬
‫‪ ( 46 )46‬المصدر السابق ‪ ] 107 :‬بتصرف واختصار [ ‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫الثاني ‪ :‬قــوة وتمســك المســلمين بــدينهم وعقيــدتهم ‪،‬‬
‫مما سبب حالة من اليأس والنهيار لــدى كفــار قريــش ‪،‬‬
‫مما جعلهم يتخبطون في أعمــالهم النتقاميــة مــن خلل‬
‫اختيار أساليب بالغة في الوحشية والعنجهية في محاولة‬
‫منهــم لجهـاض الــدعوة النبويــة فـي مهــدها ‪ ،‬مـن خلل‬
‫تحطيم نفوس وقلوب من أعتنقها ‪.‬‬

‫فعن )) عبد الله بن مسعود رضي الله عنــه قــال ‪ :‬كــان‬


‫أول من أظهر إسـلمه سـبعة ‪ :‬رســول اللـه صـلى اللــه‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وأبو بكر ‪ ،‬وعمار ‪ ،‬وأمه سمية ‪ ،‬وصهيب ‪،‬‬
‫وبلل ‪ ،‬و المقداد ‪.‬‬

‫فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمــه‬
‫أبي طالب ‪ ،‬وأمــا أبــو بكــر ‪ :‬فمنعــه اللــه بقــومه ‪ ،‬وأمــا‬
‫سائرهم فأخذهم المشركون ‪ ،‬وألبسوهم أدراع الحديد ‪،‬‬
‫وصهروهم فـي الشـمس ‪ ،‬فمـا منهـم مـن أحـد إل وقـد‬
‫آتاهم على ما أرادوا ‪ ،‬إل بلل ً ‪ ،‬فــإنه هــانت عليــه نفســه‬
‫فــي اللــه ‪ ،‬وهــان علــى قــومه ‪ ،‬فأخــذوه ‪ ،‬فــأعطوه‬
‫الولدان ‪ ،‬فجعلوا يطوفــون بــه فــي شــعاب مكــة ‪ ،‬وهــو‬
‫يقول ‪ :‬أحد ‪ ،‬أحد ‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫أما المستضعفون من أصحاب النـبي ) ‪ ، ( ‬فقـد نطـق‬
‫قول عبـد اللـه بـن مسـعود رضـي اللـه عنـه بـألوان مـن‬
‫التعذيب لهم مـن إلباسـهم أدراع الحديـد ‪ ،‬وصـهرهم فـي‬
‫الشمس ‪ ،‬وطواف صبيان مكة ببعضهم فـي شـعاب مكـة‬
‫ونواحيها‪.‬‬

‫وعن سعيد بن جبير قال ‪ :‬قلت لبن عباس ‪ :‬يا أبن عبــاس !‬
‫أكـان المشـركون يبلغـون مـن المسـلمين فـي العـذاب مـا‬
‫يعذرون به في ترك دينهم ؟‬

‫فقال ‪ :‬نعــم ‪ ،‬واللــه إن كـانوا ليضــربون أحـدهم ‪ ،‬ويجيعــونه‬


‫سا مـن شـدة‬
‫ويعطشونه ‪ ،‬حتى ما يقدر على أن يستوي جال ً‬
‫الضر الذي به ‪ ،‬حتى إنـه ليعطيهـم مـا سـألوه مـن الفتنـة ‪،‬‬
‫وحتى يقولوا ‪ :‬اللت والعزى إلهك من دون الله ؟‬

‫فيقول ‪ :‬نعم ‪.‬‬

‫وحتى إن الجعل ليمر بهم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬أهــذا الجعــل إلهــك‬


‫من دون الله ؟ فيقول ‪ :‬نعم ؛ افتـداء منهـم ‪ ،‬لمـا يبلغـون‬
‫من جهده ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وقد روت كتــب الســير صــوًرا محزنــة مــن إيلم قريــش‬
‫للمــؤمنين ‪ ،‬وللضــعفاء خاصــة مــن العبيــد ‪ ،‬والنســاء ‪،‬‬
‫والشيوخ المسنين ‪ ،‬كما حدث لياسر‪ ،‬وســمية ‪ ،‬وعمــار‪،‬‬
‫وبلل ‪ ،‬وخباب ‪ ،‬وعامر بــن فهيــرة ‪ ،‬والّزّنيــرة ‪ ،‬وجاريــة‬
‫بني مؤمل‪ ،‬وغيرهم كثير ‪. 47‬‬

‫الثالث ‪ :‬السرار بالــدعوة ‪ :‬وهــذا المــر نتيجــة طبيعيــة‬


‫للبطش القريشــي للــدعوة ممــا جعــل أصــحابها يتبعــون‬
‫أسلوب السرار والتخفي ‪ ،‬فلكل مرحلـة أسـلوبها الـذي‬
‫يلئمها ‪ ،‬وهـذا ممـا يجــب علـى الداعيــة أن يفطـن إليـه‬
‫ويعمل به ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬قلة التبــاع والعــوان ‪ :‬وهــذا المــر هــو نتيجــة‬


‫للمظهر الذي قبلــه ‪ ،‬فــالبطش والعنــف يجعــل الســرار‬
‫بالــدعوة أمــرا ً مفروضــا ً ومفروغــا ً منــه علــى حســب‬
‫معطيــات المرحلــة ‪ ،‬ممــا يجعــل القبــال علــى الــدعوة‬
‫واعتناقها ضئيل ً جدا ً ‪ ،‬فيقل بذلك التباع والعوان ‪.‬‬

‫الخامس ‪ :‬اشتداد أبواق الدعاية القريشية في السواق‬


‫والمناسبات بقصد تنفير الناس عن النبي ) ‪( ‬‬
‫ودعوتـه ‪ ،‬فقد كان )) رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫جّنة وذى‬
‫م َ‬ ‫يخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُ َ‬
‫كاظ و َ‬

‫‪ ( 47 )47‬المصدر السابق ‪ ] 148 :‬بتصرف [‪.‬‬


‫‪61‬‬
‫جاز ‪ ،‬يدعوهم إلى الله ‪ ،‬وأبو لهب وراءه يقول ‪ :‬ل‬
‫م َ‬
‫ال َ‬
‫‪48‬‬
‫تطيعوه فإنه صابئ كذاب (( ‪.‬‬

‫كما أتبعت قريش أساليب عديدة في سبيل إجهاض‬


‫دعوة النبي ) ‪ ( ‬في مهدها ‪ ،‬قبل أن يستفحل أمرها‬
‫وتخرج عن نطاق سيطرتها خارج مكة ‪ ،‬فيخرج المر‬
‫من يدها أبدا ً ‪.‬‬

‫قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في )) الرحيق‬


‫المختوم ‪)) : (( 64 :‬ولما فرغت قريش من الحج‬
‫فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعوة في‬
‫مهدها‪ .‬وتتلخص هذه الساليب فيما يلي‪:‬‬

‫‪1‬ـ السخرية والتحقير ‪ ،‬والستهزاء والتكذيب‬


‫والتضحيك ‪:‬‬

‫قصدوا بها تخذيل المسلمين ‪ ،‬وتوهين قواهم المعنوية‪،‬‬


‫فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة ‪ ،‬وشتائم‬
‫َ‬
‫ذي‬ ‫سفيهة ‪ ،‬فكانوا ينادونه بالمجنون }وََقاُلوا ْ َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن{ ]الحجر‪ ،[6:‬ويصمونه‬ ‫جُنو ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫ل عَل َي ْهِ الذ ّك ُْر إ ِن ّ َ‬ ‫ن ُّز َ‬
‫م وََقا َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫منذٌِر ّ‬ ‫هم ّ‬ ‫جاء ُ‬ ‫جُبوا أن َ‬ ‫بالسحر والكذب }وَعَ ِ‬
‫ب{ ]ص‪ ،[ 4:‬وكانوا يشيعونه‬ ‫ذا ٌ‬ ‫حٌر ك َ ّ‬ ‫سا ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة ‪ ،‬وعواطف منفعلة‬
‫قون َ َ‬
‫م لَ ّ‬
‫ما‬ ‫صارِهِ ْ‬ ‫ك ب ِأب ْ َ‬ ‫فُروا ل َي ُْزل ِ ُ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كاد ُ ال ّ ِ‬ ‫هائجة }وَِإن ي َ َ‬
‫ن{ ]القلم‪ ، [51:‬وكان‬ ‫جُنو ٌ‬ ‫م ْ‬‫ه لَ َ‬ ‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫مُعوا الذ ّك َْر وَي َ ُ‬ ‫س ِ‬‫َ‬
‫إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا‬
‫من ب َي ْن َِنا{‬ ‫ن الله عَل َي ِْهم ّ‬ ‫م ّ‬ ‫بهم وقالوا ‪ :‬هؤلء جلساؤه } َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س الله ب ِأعْل َ َ‬
‫م‬ ‫]النعام ‪ ،[53 :‬قـال تعالى ‪} :‬أل َي ْ َ‬
‫ن{]النعام ‪ ، [53 :‬وكانوا كما قص الله علينا‬ ‫ري َ‬ ‫ِبال ّ‬
‫شاك ِ ِ‬
‫ن وَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫حكو َ‬ ‫ض َ‬ ‫مُنوا ي َ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫موا كاُنوا ِ‬ ‫جَر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬‫}إ ِ ّ‬
‫‪ ( 48 )48‬الرحيق المختوم ‪ 63 :‬للمباركفوري ‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫قل َُبوا ْ‬ ‫َ‬
‫قل َُبوا ْ إ َِلى أهْل ِهِ ُ‬
‫م ان َ‬ ‫ن ‪ ،‬وَإ ِ َ‬
‫ذا ان َ‬ ‫مُزو َ‬ ‫م ي َت ََغا َ‬‫مّروا ْ ب ِهِ ْ‬ ‫َ‬
‫سُلوا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫أ‬
‫َ َ َ ْ ِ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ضا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫لء‬ ‫ُ‬ ‫ؤ‬ ‫ه‬
‫ِ ّ َ‬‫ن‬ ‫إ‬ ‫لوا‬ ‫قا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫أ‬
‫َِ َ ْ ُ ْ‬‫ر‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬ ‫فَ ِ ِ َ‬
‫هي‬ ‫ك‬
‫ن{ ]المطففين‪.[33 :29 :‬‬ ‫ظي َ‬‫حافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫وقد أكثروا من السخرية والستهزاء وزادوا من الطعن‬
‫والتضحيك شيًئا فشيًئا حتى أثر ذلك في نفس رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كما قال الله تعالى‪} :‬وَل َ َ‬
‫قد ْ‬
‫ن{ ]الحجر‪ ، [97:‬ثم‬ ‫قوُلو َ‬‫ما ي َ ُ‬ ‫صد ُْر َ‬
‫ك بِ َ‬ ‫ضيقُ َ‬‫ك يَ ِ‬‫م أ َن ّ َ‬
‫ن َعْل َ ُ‬
‫ح‬‫سب ّ ْ‬‫ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال ‪}:‬فَ َ‬
‫ك‬ ‫ْ‬
‫حّتى ي َأت ِي َ َ‬ ‫ن ‪َ ،‬واعْب ُد ْ َرب ّ َ‬ ‫ك وَ ُ‬‫مدِ َرب ّ َ‬
‫ك َ‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬
‫سا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫كن ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫بِ َ‬
‫ن{ ]الحجر‪. [99 ، :‬‬ ‫قي ُ‬‫ال ْي َ ِ‬

‫وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلء المستهزئين حيث‬


‫معَ الله‬ ‫ن َ‬‫جعَُلو َ‬
‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ست َهْزِِئي َ‬
‫م ْ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫قال ‪} :‬إ ِّنا ك َ َ‬
‫في َْنا َ‬
‫ن{ ]الحجر‪ ،[96 ،95 :‬وأخبره‬ ‫مُلو َ‬ ‫ف ي َعْ َ‬
‫سوْ َ‬ ‫خَر فَ َ‬ ‫ِإلـًها آ َ‬
‫أن فعلهم هذا سوف ينقلب وباًل عليهم فقال‪} :‬وَل َ َ‬
‫قدِ‬
‫ما‬
‫من ُْهم ّ‬ ‫خُروا ْ ِ‬‫س ِ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫حاقَ ِبال ّ ِ‬ ‫ك فَ َ‬‫من قَب ْل ِ َ‬ ‫ل ّ‬‫س ٍ‬ ‫زىَء ب ُِر ُ‬ ‫ست ُهْ ِ‬
‫ا ْ‬
‫ن{ ]النعام‪.[10:‬‬ ‫ؤو َ‬ ‫ست َهْزِ ُ‬‫كاُنوا ْ ب ِهِ ي َ ْ‬
‫َ‬

‫‪2‬ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة ‪:‬‬

‫وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه ‪ ،‬بحيث ل يبقى لعامة‬


‫الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها ‪ ،‬فكانوا‬
‫يقولون عن القرآن ‪} :‬أ َضَغا ُ َ‬
‫م{ ]النبياء‪ [5:‬يراها‬ ‫حل َ ٍ‬ ‫ثأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ه{‬‫ل افْت ََرا ُ‬ ‫محمد بالليل ويتلوها بالنهار ‪ ،‬ويقولون ‪} :‬ب َ ِ‬
‫شٌر{ وقالوا ‪:‬‬ ‫ه بَ َ‬ ‫ما ي ُعَل ّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫من عند نفسه ويقولون ‪} :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن{‬ ‫خُرو َ‬ ‫مآ َ‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْهِ قَوْ ٌ‬ ‫عان َ ُ‬‫ك افْت ََراهُ وَأ َ َ‬
‫ذا إ ِّل إ ِفْ ٌ‬
‫ن هَ َ‬‫}إ ِ ْ‬
‫]الفرقان‪ [4 :‬أي اشترك هو وزملؤه في اختلقه‪.‬‬
‫مَلى عَل َي ْهِ ب ُك َْرةً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي تُ ْ‬‫ن اك ْت َت َب ََها فَهِ َ‬ ‫طيُر اْلوِّلي َ‬‫سا ِ‬ ‫}وََقاُلوا أ َ‬
‫صيًل{ ]الفرقان ‪. [5:‬‬ ‫َ‬
‫وَأ ِ‬

‫‪63‬‬
‫وأحيانا ً قالوا ‪ :‬إن له جًنا أو شيطاًنا يتنزل عليه كما ينزل‬
‫دا عليهم ‪:‬‬ ‫الجن والشياطين على الكهان ‪ ،‬قال تعالى ر ً‬
‫ل عََلى ك ُ ّ‬ ‫}ه َ ْ ُ‬
‫ل‬ ‫ن ‪ ،‬ت َن َّز ُ‬
‫طي ُ‬ ‫من ت َن َّز ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫شَيا ِ‬ ‫م عََلى َ‬
‫ل أن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م{ ]الشعراء ‪ ،[222 ،221:‬أي إنها تنزل على‬ ‫ك أِثي ٍ‬ ‫أّفا ٍ‬
‫ى كذًبا‬ ‫الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ‪ ،‬وما جّربتم عل ّ‬
‫قا فكيف تجعلون القرآن من تنزيل‬ ‫وما وجدتم في فس ً‬
‫الشيطان؟ ‪......‬‬

‫هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا‬


‫يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن‬
‫والسلم ‪....‬‬

‫ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد ‪ ،‬ثم رسالة‬


‫محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ثم بعث الموات ونشرهم‬
‫وحشرهم يوم القيامة ‪ ،‬وقد رد القرآن على كل شبهة‬
‫من شبهاتهم حول التوحيد ‪ ،‬بل زاد عليها زيادات أوضح‬
‫بها هذه القضية من كل ناحية ‪ ،‬وبين عجز آلهتهم عجًزا‬
‫ل مزيد عليه ‪ ،‬ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم‬
‫الذي أدى إلى ما أدى إليه ‪.‬‬

‫أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم‬


‫فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وأمانته وغاية صلحه وتقواه ‪،‬كانوا يعتقدون أن منصب‬
‫النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر ‪،‬‬
‫فالبشر ل يكون رسول ً ‪ ،‬والرسول ل يكون بشًرا حسب‬
‫عقيدتهم ‪ ،‬فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫ل‬‫ما ِ‬
‫عن نبوته ‪ ،‬ودعا إلى اليمان به تحيروا وقالوا ‪َ } :‬‬
‫ق{‬ ‫وا ِ‬
‫س َ‬
‫َ‬
‫شي ِفي اْل ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل الط َّعا َ‬
‫م وَي َ ْ‬ ‫ل ي َأ ْك ُ ُ‬
‫سو ِ‬ ‫هَ َ‬
‫ذا الّر ُ‬
‫دا صلى الله عليه وسلم‬ ‫]الفرقان‪ ،[7 :‬وقالوا ‪ :‬إن محم ً‬
‫يٍء{ ]النعام‪:‬‬ ‫ش ْ‬‫من َ‬ ‫شرٍ ّ‬ ‫ل الله عََلى ب َ َ‬ ‫ما َأنَز َ‬ ‫بشر ‪ ،‬و } َ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن أنَز َ‬ ‫دا عليهم ‪}:‬قُ ْ‬
‫ل الك َِتا َ‬ ‫م ْ‬
‫ل َ‬ ‫‪ ،[19‬فقال تعالى ر ً‬
‫‪64‬‬
‫س{‪ ،‬وكانوا يعرفون‬ ‫سى ُنوًرا وَهُ ً ّ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫دى للّنا ِ‬ ‫مو َ‬ ‫جاء ب ِهِ ُ‬ ‫ذي َ‬
‫ضا بأن كل‬ ‫ويعترفون بأن موسى بشر ‪ ،‬ورد عليهم أي ً‬
‫م إ ِل ّ‬ ‫َ‬
‫ن أنت ُ ْ‬ ‫قوم قالوا لرسلهم إنكاًرا على رسالتهم ‪} :‬إ ِ ْ‬
‫م ِإن‬ ‫ُ‬
‫سلهُ ْ‬ ‫م ُر ُ‬‫ت ل َهُ ْ‬
‫مث ْل َُنا{ ]إبراهيم‪ ،[10:‬فـ }َقال َ ْ‬ ‫شٌر ّ‬ ‫بَ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫شاء ِ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫َ‬
‫ن عَلى َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن الله ي َ ُ‬ ‫َ‬
‫م وَلك ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مث ْلك ْ‬‫شٌر ّ‬ ‫ّ‬
‫ن إ ِل ب َ َ‬‫ح ُ‬ ‫نّ ْ‬
‫ه{ ]إبراهيم‪ .[11 :‬فالنبياء والرسل ل يكونون إل‬ ‫عَبادِ ِ‬ ‫ِ‬
‫بشًرا ‪ ،‬ول منافاة بين البشرية والرسالة‪......‬‬

‫أما إنكارهم البعث بعد الموت ‪ ،‬فلم يكن عندهم في‬


‫ذلك إل التعجب والستغراب والستبعاد العقلي ‪ ،‬فكانوا‬
‫َ‬ ‫يقولون‪} :‬أ َئ ِ َ‬
‫ما أئ ِّنا ل َ َ‬
‫مب ُْعوُثو َ‬
‫ن‬ ‫ظا ً‬ ‫ع َ‬ ‫مت َْنا وَك ُّنا ت َُراًبا وَ ِ‬ ‫ذا ِ‬
‫َ‬
‫ن{ ]الصافات‪،[17 ،16:‬وكانوا يقولون ‪:‬‬ ‫أَوآَباؤَُنا اْل َوُّلو َ‬
‫د{ ]ق‪ [3 :‬وكانوا يقولون على سبيل‬ ‫جعٌ ب َِعي ٌ‬ ‫ك َر ْ‬ ‫}ذ َل ِ َ‬
‫مّزقْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫م إِ َ‬
‫ذا ُ‬ ‫ل ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬‫ج ٍ‬ ‫م عََلى َر ُ‬ ‫ل ن َد ُل ّك ُ ْ‬‫الستغراب ‪} :‬هَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫ديدٍ ‪ ،‬أفْت ََرى عَلى الله كذًِبا‬ ‫ج ِ‬
‫ق َ‬ ‫خل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫م لَ ِ‬‫ق إ ِن ّك ُ ْ‬
‫مّز ٍ‬ ‫م َ‬‫ل ُ‬ ‫كُ ّ‬
‫ة{ ]سبأ‪.[8 ،7 :‬‬ ‫جن ّ ٌ‬ ‫َ‬
‫أم ب ِهِ ِ‬
‫وقال قائلهم ‪:‬‬

‫خَرافة يا أم‬
‫ث ُ‬
‫دي ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫** ح ِ‬ ‫شٌر‬ ‫ث ثم َ‬
‫ع ٌ‬
‫ت ثم ب َ ْ‬‫و ٌ‬
‫أم ْ‬
‫عمرو ‪.49‬‬

‫السادس ‪ :‬ولما اشتد أذى قريش للمستضعفين من‬


‫المسلمين ‪ ،‬أذن لهـم النبي ) ‪ ( ‬بالهجرة إلى‬
‫الحبشة ‪ ،‬لسيما وفيها ملك قد وصلت أخباره أنه ل‬
‫ُيظلم عنده أحد ‪.‬‬

‫‪ ( 49)49‬المصدر السابق ‪ ] 66 :‬باختصار [ ‪.‬‬


‫‪65‬‬
‫السابع ‪ :‬وبعد عودة المسلمين مـن الحبشــة لــم يتغيــر‬
‫الوضع في مكة ‪ ،‬بل ازداد تدهورا ً وسوًء مما جعل النبي‬
‫) ‪ ( ‬يأذن لصحابه بالهجرة إلى المدينة النبوية ‪ ،‬لتبــدأ‬
‫صفحة جديدة من صفحات الصراع الطويل والمرير بيــن‬
‫الحق والباطل ‪ ،‬وبين الخير والشر ‪.‬‬

‫وفي ظل هذه الفترة العصيبة من عمــر الــدعوة النبويــة‬


‫المباركة ‪ ،‬والتي ألقــت بظللهــا الثقيلــة علــى المــؤمنين‬
‫الصــابرين فــي مكــة ‪ ،‬حــتى نــالهم مــن أســواط الظلــم‬
‫والجــور الــذي كــانت تمارســه قريــش بحقهــم الشــيء‬
‫الكــثير ‪ ،‬ولهــذا فقــد كــان النــبي ) ‪ ( ‬ي ُ َ‬
‫ص ـّبر أصــحابه‬
‫المضطهدين وهم بين أسوار غربة مريــرة أحــدقت بهــم‬
‫من كل حــدب وصــوب ببعــض المصــبرات والمســليات ‪،‬‬
‫ذهب عنهــم وحشــة الغربــة ومــرارة الغــتراب ‪،‬‬
‫لعلهــا ت ُـ ٍٍِ‬
‫ٍٍ‬
‫ولتنقلب ِِِبإذن الله وتوفيقه إلى جنة ظليلة يحس أحدهم‬
‫بعذوبــة ريحهــا ‪ ،‬وحلوة طعمهــا بيــن جنبــات صــدره‬
‫ونبضــات فــؤاده ‪ ،‬وإليــك ـ ـ أخــي الحــبيب ـ ـ أهــم هــذه‬
‫المصبرات ‪:‬‬

‫أول ً ‪ :‬التأسي والتصبر بقصص السابقين من النبياء‬


‫وأتباعهم ‪ ،‬وكيف تحملوا البلء في سبيل الله عز وجل ‪،‬‬
‫وكان يضرب لهم المثلة على ذلك ليزيد من صبرهم‬
‫وقوة تمسكهم بدينهم وعقيدتهم ‪:‬‬
‫‪66‬‬
‫‪1‬ـ فعن عن خباب بن الرت رضي الله عنه قال ‪:‬‬
‫شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهو‬
‫متوسد بردة له في ظل الكعبة ‪ ،‬قلنا له ‪ :‬أل تستنصر‬
‫لنا ‪ ،‬أل تدعو الله لنا ؟‬
‫قال ‪ )) :‬كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الرض ‪،‬‬
‫فيجعل فيه ‪ ،‬فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق‬
‫باثنتين ‪ ،‬وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط‬
‫الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ‪ ،‬وما يصده‬
‫ذلك عن دينه ‪ ،‬والله ليتمن هذا المر ‪ ،‬حتى يسير‬
‫الراكب من صنعاء إلى حضرموت ‪ ،‬ل يخاف إل الله ‪ ،‬و‬
‫الذئب على غنمه ‪ ،‬ولكنكم تستعجلون (( ‪.50‬‬

‫‪ ( 50 )50‬رواه البخاري برقم ‪. 6544 :‬‬


‫فائدة ‪:‬‬
‫ن البلء رحمة الله تبارك وتعالى المنزلة على عباده ‪ ،‬والتي‬ ‫إ ّ‬
‫كم الشيء الكثير‬ ‫ح َ‬‫يصطفي إليها من عباده المخلصين وفيه من ال ِ‬
‫‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬أنه ضرورة إيمانية الغرض منه الختبار والتمحيص حتى‬
‫يتمييز الطيب من الخبيث ‪ ،‬والصادق من الكاذب ‪ ،‬قال تعالى ‪‬‬
‫ن‪،‬‬‫فت َُنو َ‬ ‫م َل ي ُ ْ‬ ‫قوُلوا آ َ‬
‫مّنا وَهُ ْ‬ ‫كوا َأن ي َ ُ‬ ‫س َأن ي ُت َْر ُ‬ ‫ب الّنا ُ‬
‫س َ‬ ‫ح ِ‬
‫َ‬
‫الم ‪ ،‬أ َ‬
‫ن‬ ‫صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ‬
‫م ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬
‫ن الل ّ ُ‬ ‫م فَل َي َعْل َ َ‬
‫م ّ‬ ‫من قَب ْل ِهِ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وَل َ َ‬
‫ن ]العنكبوت ‪. [3 :‬‬ ‫كاذ ِِبي َ‬‫ال ْ َ‬
‫‪ ( 2‬يخص به الله تبارك وتعالى عباد المخلصين ‪ ،‬فكلما أزداد‬
‫العبد إيمانا ً أزداد أبتلءه ‪ ،‬فعظم اجره‪ ،‬أخرج الحاكم في‬
‫مستدركه وصححه الشيخ اللباني في السلسلة الصحيحة برقم‬
‫‪ ، 143‬عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫أنه قال ‪ )) :‬أشد الناس بلء النبياء ثم العلماء ثم المثل فالمثل‬
‫(( ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬به تمحى السيئات ‪ ،‬وتقال العثرات ‪ ،‬فل يزال البلء بالعبد‬
‫حتى يتركه يمشي على ظهر الرض= = وليس عليه من خطيئة‬
‫‪ ،‬عن مصعب بن سعد عن أبيه قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول الله أي‬
‫الناس أشد بلء قال‪ :‬النبياء ثم الصالحون ثم المثل فالمثل من‬
‫الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبة زيد‬
‫في بلئه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ‪ ،‬وما يزال البلء بالعبد‬
‫‪67‬‬
‫‪ 2‬ـ عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله‬
‫عليه وسلم قال ‪ )) :‬كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له‬
‫ساحر ‪ ،‬فلما كبر قال للملك ‪ :‬إني قد كبرت فأبعث إلي‬
‫غلما ً أعلمه السحر ؛ فبعث إليه غلما ً يعلمه ‪ ،‬وكان في‬
‫طريقه إذا سلك راهب ‪ ،‬فقعد إليه وسمع كلمه فأعجبه‬
‫‪ ،‬وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه ‪ ،‬فإذا أتى‬
‫الساحر ضربه ‪ ،‬فشكا ذلك إلى الراهب فقال ‪ :‬إذا‬
‫خشيت الساحر فقل ‪ :‬حبسني أهلي ‪ ،‬وإذا خشيت أهلك‬
‫فقل ‪ :‬حبسني الساحر‪.‬‬
‫فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست‬
‫الناس فقال ‪ :‬اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب‬
‫أفضل ؟ فأخذ حجرا ً فقال ‪ :‬اللهم إن كان أمر الراهب‬
‫أحب إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى‬
‫يمضي الناس ‪ ،‬فرماها فقتلها ومضى الناس ‪ ،‬فأتى‬
‫الراهب فاخبره ‪ ،‬فقال له الراهب ‪ :‬أي بني أنت اليوم‬
‫أفضل مني ‪ ،‬قد بلغ من أمرك ما أري ‪ ،‬وإنك ستبتلي‬
‫ي ؛ وكان الغلم يبرئ الكمة‬‫فإن ابتليت فل تدل عل ّ‬
‫حتى يمشي على ظهر الرض ليس عليه خطيئة (( أخرجه المام‬
‫أحمد في مسند سعد بن أبي وقاص وصحح الشيخ اللباني في‬
‫صحيح الجامع برقم ‪. 992‬‬
‫‪ ( 4‬به يبلغ العبد مقامه ومنزلته في الجنة ‪ ،‬فقد يكون للعبد‬
‫منزلة في الجنة ل يبلغها بعمله لضعفه وقّلته ‪ ،‬فيأتيه البلء في ُب َّلغه‬
‫منزلته ‪ ،‬وهذا من فضل الله وكرمه ‪ ،‬أخرج أبو داود في سننه‬
‫سلمي عن أبيه عن‬ ‫برقم ‪ 3090 :‬عن إبراهيم بن مهدي ‪ :‬ال ّ‬
‫جده ‪ ،‬وكانت له صحبة من رسول الّله صلى الله عليه وسلم‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬سمعت رسول الّله صلى الّله عليه وسلم يقول ‪ )) :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫ة لم يبلغها بعمله ابتله الّله في‬ ‫العبد إذا سبقت له من الّله منزل ٌ‬
‫جسده ‪ ،‬أو في ماله ‪ ،‬أو في ولده (( قال أبو داود ‪ :‬زاد أبن نفيل‬
‫م صبره على ذلك (( ثم اتفقا )) حتى يبلغه المنزلة التي‬ ‫‪ )) :‬ث ّ‬
‫سبقت له من الّله تعالى (( ‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في صحيح‬
‫سنن أبي داود ‪. 183 / 3‬‬

‫‪68‬‬
‫والبرص ‪ ،‬ويداوي الناس من سائر الدواء ‪ ،‬فسمع‬
‫جليس للملك كان قد عمي ‪ ،‬فأتاه بهدايا كثيرة فقال ‪:‬‬
‫ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال ‪ :‬إني ل أشفي‬
‫أحدا ً ‪ ،‬إنما يشفي الله تعالى ‪ ،‬فإن آمنت بالله دعوت‬
‫الله فشفاك ‪ ،‬فأمن بالله تعالى فشفاه الله ‪ ،‬فأتى‬
‫الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك ‪ :‬من‬
‫رد عليك بصرك ؟‬
‫قال ‪ :‬ربي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أو لك رب غيري ؟!‬
‫قال ربي وربك الله ‪ ،‬فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل‬
‫على الغلم ‪ ،‬فجئ بالغلم فقال له الملك ‪ :‬أي بني قد‬
‫بلغ من سحرك ما تبرئ الكمة والبرص وتفعل وتفعل‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬إني ل أشفي أحدا ً ‪ ،‬إنما يشفي الله تعالى ‪،‬‬
‫فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ؛ فجيء‬
‫بالراهب فقيل له ‪ :‬ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار‬
‫فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع‬
‫شقاه ‪ ،‬ثم جيء بجليس الملك ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬ارجع عن‬
‫دينك ‪ ،‬فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به‬
‫حتى وقع شقاه ‪ ،‬ثم جيء بالغلم فقيل له ‪ :‬ارجع عن‬
‫دينك فأبى ‪ ،‬فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال ‪ :‬اذهبوا‬
‫به إلي جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ‪ ،‬فإذا بلغتم‬
‫ذروته فإن رجع عن دينه وإل فاطرحوه ‪ ،‬فذهبوا به‬
‫فصعدوا به الجبل ‪ ،‬فقال ‪ :‬اللهم اكفينهم بما شئت ‪،‬‬
‫فرجف بهم الجبل فسقطوا ‪ ،‬وجاء يمشي إلى الملك‬
‫فقال له الملك ‪ :‬ما ُفعل بأصحابك ؟‬
‫فقال‪ :‬كفانيهم الله تعالى ‪ ،‬فدفعه إلى نفر من أصحابه‬
‫فقال ‪ :‬اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر‬
‫‪ ،‬فإن رجع عن دينه وإل فاقذفوه ‪ ،‬فذهبوا به فقال ‪:‬‬
‫اللهم اكفينهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ‪،‬‬
‫وجاء يمشي إلى الملك ‪ ،‬فقال له الملك ‪ :‬ما فعل‬

‫‪69‬‬
‫بأصحابك ؟ فقال ‪ :‬كفانيهم الله تعالى فقال للملك ‪:‬‬
‫إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ما هو ؟‬
‫قال ‪ :‬تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ‪،‬‬
‫ثم خذ سهما ً من كنانتي ‪ ،‬ثم ضع السهم في كبد القوس‬
‫‪ ،‬ثم قل ‪ :‬بسم الله رب الغلم ثم ارمني ‪ ،‬فإنك إذا‬
‫فعلت ذلك قتلتني ‪.‬‬
‫فجمع الناس في صعيد واحد ‪ ،‬وصلبه على جذع ثم أخذ‬
‫سهما ً من كنانته ‪ ،‬ثم وضع السهم في كبد القوس ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪ :‬بسم رب الغلم ‪ ،‬ثم رماه فوقع السهم في‬
‫صدغة ‪ ،‬فوضع يده في صدغه فمات ‪.‬‬
‫فقال الناس ‪ :‬آمنا برب الغلم ‪ ،‬فأتي الملك فقيل له ‪:‬‬
‫أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ‪ ،‬قد آمن‬
‫الناس ‪ ،‬فأمر بالخدود بأفواه السكك فخدت ‪ ،‬وأضرم‬
‫فيها النيران وقال ‪ :‬من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها‬
‫‪ ،‬أو قيل له ‪ :‬اقتحم ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬حتى جاءت امرأة ومعها‬
‫صبي لها ‪ ،‬فتقاعست أن تقع فيها ‪ ،‬فقال لها الغلم ‪ :‬يا‬
‫أماه اصبري فإنك على الحق ((‪. 51‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬تعليق قلوب المؤمنين الصابرين بما أعده الله‬
‫تعالى لهم يوم يلقونه من جنات ونعيم ‪ ،‬وحور عين قد‬
‫تزينت واستعدت للقاء ل فراق ول وداع بعده ‪.‬‬
‫ولهذا فقد أخبر الله تبارك وتعالى وفي مواضع كثيرة أنه‬
‫قد أعد للمؤمنين جنات ظليلة ‪ ،‬فيها ما ل عين رأت ول‬
‫خط ََر على قلب بشر ‪ ،‬ليزيد من تعلق‬ ‫أذن سمعت ول َ‬
‫قلوب المؤمنين المضطهدين بها وتشوقهم لها ‪ ،‬ولتهون‬
‫أمامهم كل العقبات والمصائب التي من الممكن أن تمر‬
‫وتنزل بهم وهم في طريق سيرهم إلى الله ‪ ،‬وحتى ل‬
‫يغتروا بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا‬
‫فُروا ْ ِفي‬
‫ن كَ َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قل ّ ُ‬ ‫الفانية ‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬ل َ ي َغُّرن ّ َ‬
‫ك تَ َ‬

‫‪ ( 51 )51‬أخرجه مسلم برقم ‪3005 :‬‬


‫‪70‬‬
‫ل ث ُم ْ‬
‫س ال ْ ِ‬
‫مَهاد ُ ‪] ‬آل‬ ‫م وَب ِئ ْ َ‬
‫جهَن ّ ُ‬
‫م َ‬
‫مأَواهُ ْ‬‫مَتاعٌ قَِلي ٌ ّ َ‬ ‫ال ْب ِ َ‬
‫لد ‪َ ،‬‬
‫عمران ‪. [197 :‬‬
‫فالجنة هي التي عّلق النبي ) ‪ ( ‬بها قلوب أصحابه‬ ‫ّ‬
‫المستضعفين المحرومين ‪ ،‬دون الوعود بالمناصب‬
‫والموال والمكاسب الدنيوية الزائلة الفانية ‪.‬‬
‫ولو نظرنا إلى ما جرى للنصار بين النبي ) ‪( ‬‬
‫والنصار يوم بيعة العقبة الثانية ‪ ،‬وعلمنا ما أخذ منهم‬
‫النبي ) ‪ ( ‬وما أعطاهم وعّلق قلوبهم به لوجدنا‬
‫المثال واضحا ً ‪.‬‬
‫قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في )) الرحيق‬
‫المختوم ‪ )) : (( 120 :‬وقد روى المام أحمد عن جابر‬
‫) رضي الله عنه ( مفصل ً ‪:‬‬
‫قال جابر ‪ :‬قلنا ‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬علم نبايعك ؟‬
‫قال ‪ )) :‬على السمع والطاعة في النشاط والكسل ‪.‬‬
‫وعلى النفقة في العسر واليسر ‪.‬‬
‫وعلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫وعلى أن تقوموا في الله ‪ ،‬ل تأخذكم في الله لومة‬
‫لئم ‪.‬‬
‫وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ‪.‬‬
‫وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ‪ ،‬وأزواجكم‬
‫وأبناءكم ‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫ولكم الجنة (( أ ‪ .‬هـ ‪.‬‬
‫وعن جابر‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر‬
‫بعمار وأهله وهم يعذبون ‪ ،‬فقال ‪ )) :‬أبشروا آل عمار‬
‫وآل ياسر ! فإن موعدكم الجنة (( ‪.53‬‬

‫‪ ( 52 )52‬صحيح أنظر )) سلسلة الحاديث الصحيحة ‪/ 1 :‬‬


‫‪. (( 133‬‬
‫‪ ( 53 )53‬رواه الحاكم في المستدرك وصححه المحدث العلمة‬
‫اللباني في )) صحيح السيرة النبوية لبن كثير ‪ 69 :‬برقم ‪154 :‬‬
‫(( ‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫قال الشيخ العلمة ربيع بن هادي المدخلي في )) منهج‬
‫النبياء في الدعوة إلى الله ‪ )) : (( 125 :‬ومن هنا ‪-‬‬
‫أيضا ً ‪ -‬كان _ أي النبي ) ‪ _ ( ‬يربي أصحابه على‬
‫القرآن والسّنة ‪ ،‬وعلى اليمان والصدق والخلص لله‬
‫ل عمل ‪ ،‬بعيدا ً عن الساليب السياسّية والغراء‬ ‫في ك ّ‬
‫بالمناصب العالية ‪.‬‬
‫ً‬
‫فما كان يمّني أحدا منهم قبل دخوله في السلم ‪ ،‬أو‬
‫بعده بمنصب في الدولة ‪ ،‬فهذا عمر بن الخطاب ‪-‬‬
‫رضي الله عنه ‪ -‬أحد عظماء الصحابة وأقواهم‬
‫شخصّية ‪ ،‬ما كان ي َِعده رسول الله ) ‪ ( ‬بالمناصب ‪،‬‬
‫ول تتطلع نفسه إليها ‪ ،‬حتى جاء يوم خيبر‪ ،‬أي ‪ :‬بعد‬
‫عشرين سنة من البعثة فاجأهم رسول الله ) ‪( ‬‬
‫ب الله ورسوله‬ ‫بقوله ‪ )) :‬لعطين الراية غدا ً رجل ً يح ّ‬
‫يفتح الله على يديه (( ‪،‬فبات هو والصحابة يدوكون‬
‫ليلتهم أّيهم يعطاها ‪ ،‬وقال عمر رضي الله عنه ‪ :‬ما‬
‫أحببت المارة إل ّ يومئذ (( ‪.‬‬
‫ليّ شيء تطلع هؤلء الصحابة الكرام ؟! أللمارة‬
‫نفسها أم لنيل هذه المنزلة العظيمة حب الله‬
‫ورسوله ؟ ولماذا كان عمر بن الخطاب ل يحب المارة‬
‫لو كان رسول الله يحببها إليهم ويربيهم عليها ويمنيهم‬
‫بها ‪ ،‬بل كان ينفرهم منها ويحذرهم من الحرص عليها‬
‫‪. (( ...... 54‬‬

‫‪ ( 54 )54‬والدلة على هذا المر كثيرة جدا ً ‪ ،‬منها ‪:‬‬


‫‪ ( 1‬روى المام مسلم في )) صحيحه ‪ :‬باب النهي عن طلب‬
‫المارة والحرص عليها ‪:‬عن عبد الرحمن بن سمرة ) رضي الله‬
‫عنه ( قال ‪:‬قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬يا عبد‬
‫الرحمن! ل تسأل المارة ‪ ،‬فإنك إن أعطيتها ‪ ،‬عن مسألة ‪ ،‬وكلت‬
‫إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة ‪ ،‬أعنت عليها ((‪.‬‬
‫‪ ( 2‬وروى المام البخاري في )) صحيحـه ‪ :‬بـاب ‪ :‬من سأل‬
‫كل إليهـا عن أبي هريرة ) رضي الله عنه ( عن النبي‬ ‫المارة وُ ِ‬
‫صلى الله عليه وسلم قـال ‪ )) :‬إنكم ستحرصون على المارة ‪،‬‬
‫‪72‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬التطلع نحو المستقبل الذي ينصر الله تبارك‬
‫وتعالى فيه السلم والمسلمين في هذه الحياة الدنيا ‪،‬‬
‫وب النبي ) ‪ ( ‬أبصار‬ ‫ويذل فيه الكفر وأهله ‪ ،‬حيث ص ّ‬
‫أصحابه الضعفاء نحو هذا اليوم ‪ ،‬حتى ل ييأسوا ول‬
‫يبأسوا إذا ما دال عليهم الباطل بخيله ورجله ‪ ،‬فللحق‬
‫صولت وللباطل صولت ‪ ،‬ولكن الغلبة في نهاية‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه لغْل ِب َ ّ‬
‫ن‬ ‫ب الل ّ ُ‬
‫المطاف للحق وأهله ‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬ك َت َ َ‬
‫َ‬
‫زيٌز ‪]‬المجادلة ‪. [21 :‬‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه قَوِيّ عَ ِ‬ ‫سِلي إ ِ ّ‬
‫أَنا وَُر ُ‬
‫فالباطل مآله النكسار والندحار ‪ ،‬والمسألة مسألة‬
‫وقت ل غير ‪ ،‬كما قال ) ‪ ( ‬لخباب بن الرت رضي‬
‫الله عنه ‪ )) :‬والله ليتمن هذا المر ‪ ،‬حتى يسير الراكب‬
‫من صنعاء إلى حضرموت ل يخاف إل الله ‪ ،‬و الذئب‬
‫على غنمه ‪،‬ولكنكم تستعجلون (( ‪.‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬الصبر والتأني وعدم الستعجال ‪ ،‬لن‬


‫الستعجال يأكل جهد الداعية ويبدده هدرا ً ‪ ،‬فالداعية‬
‫غير مأمور أن يرى أثر دعوته في حياته وقد أثمر وأنتج ‪،‬‬
‫وإنما عليه الدعوة إلى الله تعالى بكل وسيلة شرعية‬
‫ممكنة والباقي يتكفل الله به ‪ ،‬وقد تثمر دعوته وتُأتي‬
‫وستكون ندامة يوم القيامـة ‪ ،‬فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ((‬
‫‪.‬‬
‫قال المام أبن حجر في )) فتح الباري ‪ )) : (( 126 / 13 :‬ن ِْعم‬
‫المرضعة ‪ :‬لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة‬
‫وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها ‪.‬‬
‫وقوله ) وبئست الفاطمة ( عند النفصال عنها بموت أو غيرها‬
‫وما يترتب عليها من التبعات في الخرة (( ‪.‬‬
‫( وللبخاري أيضا ً عن الحسن قال ‪ :‬أتينا معقل بن يسار نعوده ‪،‬‬
‫دثك حديثا ً سمعته من‬ ‫فدخل علينا عبيد الله ‪ ،‬فقـال له معقل ‪ :‬أح ّ‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ )) :‬ما من وال يلي‬
‫رعّية من المسلمين ‪ ،‬فيموت وهو غاش لهم ‪ ،‬إل حّرم الله عليه‬
‫الجنة (( ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ُأكلها بعد موته فيكون حينها نصرا ً للداعية وتقيما ً لجهده‬
‫وتعبه ‪ ،‬ولهذا على الداعية أن يتحلى بالصبر والتأني ‪،‬‬
‫كما وصى النبي ) ‪ ( ‬خباب أن يتحلى به ‪)) :‬ولكنكم‬
‫تستعجلون (( ‪.‬‬

‫ولو نظرنا في كتاب الله لرأينا أن الله تبارك وتعالى قد‬


‫أوصى نبيه ‪ ‬بعدة أمور منها ‪:‬‬

‫‪ ( 1‬الصبر في دعوته إلى الله تعالى ‪.‬‬

‫‪ (2‬الصبر على ما سيلقيه من الذى والعدوان ‪.‬‬

‫‪ (3‬الصبر والتأني وعدم الستعجال ‪.‬‬

‫ن ‪]‬هود ‪:‬‬ ‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬


‫مت ّ ِ‬ ‫ن ال َْعاقِب َ َ‬ ‫فقال تعالى ‪َ ‬فا ْ‬
‫صب ِْر إ ِ ّ‬
‫حقّ وَلَ‬ ‫ّ‬
‫ن وَعْد َ اللهِ َ‬ ‫‪ ، [49‬وقـال سبحانه ‪َ ‬فا ْ‬
‫صب ِْر إ ِ ّ‬
‫ن ‪]‬الروم ‪.[60 :‬‬ ‫ن َل ُيوقُِنو َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫فن ّ َ‬
‫خ ّ‬
‫ست َ ِ‬
‫يَ ْ‬
‫ما ن ُرِي َن ّ َ‬
‫ك‬ ‫حقّ فَإ ِ ّ‬‫ن وَعْد َ الل ّهِ َ‬ ‫صب ِْر إ ِ ّ‬ ‫وقال سبحانه ‪َ ‬فا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫بعض ال ّذي نعِدهُ َ‬
‫ن ‪] ‬غافر ‪:‬‬ ‫جُعو َ‬‫م أوْ ن َت َوَفّي َن ّك فَإ ِلي َْنا ي ُْر َ‬‫َْ َ ِ َ ُ ْ‬
‫‪.[77‬‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫صب ََر أوُْلوا ال ْعَْزم ِ ِ‬
‫م َ‬ ‫صب ِْر ك َ َ‬
‫ما َ‬ ‫وقال سبحانه ‪َ ‬فا ْ‬
‫م ‪] ‬الحقاف ‪. [35 :‬‬ ‫جل ل ّهُ ْ‬ ‫ل وََل ت َ ْ‬
‫ست َعْ ِ‬ ‫س ِ‬
‫الّر ُ‬

‫ب‬
‫ح ِ‬
‫صا ِ‬ ‫ك وََل ت َ ُ‬
‫كن ك َ َ‬ ‫حك ْم ِ َرب ّ َ‬ ‫وقـال سبحانه ‪َ ‬فا ْ‬
‫صب ِْر ل ِ ُ‬
‫م ‪] ‬القلم ‪. [48 :‬‬ ‫ظو ٌ‬ ‫مك ْ ُ‬ ‫ت إ ِذ ْ َنا َ‬
‫دى وَهُوَ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫حو ِ‬

‫أما الغربة الثانية ‪:‬‬


‫وهي الغربة التي يتقلب على حّر جمرها من تمسك‬
‫بدينه وعقيدته من غرباء أخر الزمان ‪ ،‬الذين ل يجدون‬

‫‪74‬‬
‫أعوانا ً على الخير لقلة من يطلب الخرة ويسعى لها ‪،‬‬
‫ولهذا مدحهم النبي ) ‪ ( ‬وأثنى عليهم بقوله ‪)) :‬طوبى‬
‫للغرباء ‪ ،‬قلنا ‪ :‬ومن الغرباء ؟ قال ‪ :‬قوم قليل في‬
‫أناس سوء كثير ‪ ،‬من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (( ‪.‬‬

‫أسباب الغربة الثانية ‪:‬‬


‫إن الفرقة الناجية غريبة بالنظر إلى كثرة الفرق‬
‫المخالفة لها ‪ ،‬وأفرادها غرباء بالنظر إلى كثرة‬
‫المنحرفين والهالكين ‪ ،‬ولهذه الغربة أسباب عديدة منها‬
‫‪:‬‬
‫‪ (1‬كثرة القاويل والمعتقدات والراء المخالفة للكتاب‬
‫دعاة إلى تلك الراء والمعتقدات‬ ‫والسنة ‪ ،‬وكثرة ال ّ‬
‫والقاويل ‪ ،‬فيلتبس على كثير من الناس الحقّ بالباطل‬
‫ة بالبدعة ‪ ،‬ويصبح كثير منهم يّتبعون البدعة‬ ‫والسن ُ‬
‫يظّنونها سنة ‪ ،‬ويحاربون السنة يظّنونها بدعة ‪ ،‬فيغدو‬
‫المؤمن المت ِّبع للسنة السائر على البّينة الرّبانية غريًبا‬
‫بينهم لّتباعه وبدعتهم ‪ ،‬وعلمه وجهالتهم ‪ ،‬وقّلته‬
‫عة‬‫وكثرتهم ‪ ،‬وتعظم الغربة حين تصبح هذه الراء المبت َد َ َ‬
‫‪ ،‬والعقائد المنحرفة ديًنا َيدين به الكبراء من السلطين‬
‫والرؤساء ‪ ،‬والمنسوبين إلى العلم والشرع ‪ ،‬في ُط ْب ِ ُ‬
‫ق‬
‫ل بالسنة والنكار على أهلها ‪ ،‬وما‬ ‫على العامة الجه ُ‬
‫عرفا جاريا ً‬ ‫ح ُ ً‬ ‫ون به حتى يصب َ‬ ‫ص ْ‬
‫يزالون يتوارثون ذلك يتوا َ‬
‫ص والزراية والّتهام ‪.‬‬ ‫ب والّتنقي ِ‬ ‫س ّ‬‫من خالفه تعّرض لل ّ‬ ‫‪َ ،‬‬
‫‪ -2‬إّتباع الهوى وانتشار العصبّية للمذاهب والراء ‪ ،‬حتى‬
‫ليصبح الداعي إلى السنة كأنه يــدعوهم ‪-‬فيمــا يحســبون‬
‫دميهم ‪،‬‬ ‫ه ‪ ،‬وتــرك أشــياخهم ومقــ ّ‬ ‫ع ِ‬
‫ويظّنــون‪ -‬إلــى إّتبــا ِ‬
‫وليس يدعوهم إلى اّتباع السنة وهجر البدعـة ‪ ،‬فتتحـّرك‬
‫في النفوس العصبّية للشيخ والمذهب والطريقة ‪ ،‬وتمنع‬
‫ل‪ -‬فضل ً عن اّتباعه‬ ‫كثيرا من الناس من سماع الحق ‪-‬أص ً‬ ‫ً‬

‫‪75‬‬
‫ص المحكــم المنـــزل‬ ‫ل الهــوى دون اّتبــاع الن ـ ّ‬ ‫‪.‬وكــم حــا َ‬
‫ل عن سبيل الله !‬ ‫وأض ّ‬
‫َ‬
‫ة فــي الْرض‬ ‫فــ ً‬
‫خلي َ‬
‫ك َ‬ ‫جعَل َْنــا َ‬
‫داوُد ُ إ ِّنــا َ‬
‫قــال تعــالى )) َيــا َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫حقّ َول ت َّتبــع الهــوى فُيض ـلك عَــن‬ ‫ن الن ّــاس بــال َ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫َفا ْ‬
‫سبيل الله (( ‪.‬‬ ‫َ‬
‫‪ -3‬قلة النصاف بين الناس وضعف الخوف من الله مما‬
‫يجعل بعضهم يحمل على المخالف ويجلــب عليــه بخيلــه‬
‫حد ُ ما يعلم فيه مــن‬ ‫ج َ‬‫ل نقيصة ‪ ،‬وي َ ْ‬ ‫جِله وينسب إليه ك ّ‬ ‫وَر ِ‬
‫الفضل ‪ ،‬ويف ـّرع علــى أقــواله فروعًــا ليســت صــحيحة ؛‬
‫ابتغاء تنفير الناس عنه ‪ ،‬وعن منهجه ‪.‬‬
‫فإذا كان هذا المخالف لهم مّتبعاً للكتـاب والسـنة وأنكـر‬
‫وف مــن الحــوال المنافيــة للشــرع‬ ‫دعو التص ـ ّ‬ ‫مـ ّ‬ ‫ما عليه ُ‬
‫نسبوه إلى معاداة أولياء الله وحربهم وبغضهم ‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وإذا أنكر ما عليه السلطين من مخالفة الشرع أو اّتباع‬
‫المناهــج الوضــعية ‪ ،‬أو ظلــم الرعيــة ‪ ،‬أو مــوالة أعــداء‬
‫ي بأنه من الخوارج المارقين والبغاة الضالين ‪.‬‬
‫الدين ُرم َ‬
‫وإذا أنكـــر مـــا عليـــه العـــوام مـــن البـــدع والعـــوائد‬
‫م الُعــْرف الــذي‬ ‫مت فيهــم مقــا َ‬‫والمحــدثات الــتي قــا َ‬
‫دد متنط ّعٌ ملــز ٌ‬
‫م‬ ‫ي بأنه متش ّ‬‫فا عن سلف ُرم َ‬ ‫يتوارثونه خل ً‬
‫س بالحرج في دينهم ‪.‬‬
‫النا َ‬
‫ليس هذا فحسب؛ بــل إن كــثيًرا مــن النــاس ل يجــدون‬
‫جا من اختراع القاويل‪ ،‬وتزوير الحكايات الــتي ليــس‬‫حر ً‬
‫لها أصل وترويجها بين الناس لصــدهم عــن دعــاة الحــق‬
‫والخير والسنة ‪.‬‬

‫وإنه لمر صعب أن يصبح الداعي إلى منهج الفرقة الناجية‪،‬‬


‫وإلــى مــا كــان عليــه الرســول صــلى اللــه عليــه وســلم‬
‫مــا بيــن النــاس‬
‫وأصحابه وإلى اّتباع الكتــاب والســنة مّته ً‬
‫تشير إليه الصابع بالّريبة وتتناوله اللسنة بالبهتان ‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫‪ -4‬ويستحكم طوق الغربة حول متبعي السنة إذا كانت‬
‫ف حول السلطان علماء الســوء‬
‫الدولة لهل البدع ‪ ،‬والت ّ‬
‫الذين يزّينــون لــه الباطــل ويــأمرونه بــه ‪ ،‬ويبغضــون لــه‬
‫ب البدعــة‬
‫الحق ‪ ،‬وي َن ْهَـوَْنه عنــه ‪ ،‬حــتى ُيشـَرب قلب ُــه حـ ّ‬
‫ض الســنة وأهلهــا ‪ ،‬فُيــوَّلي أهــل البــدع‬
‫وأهلهــا ‪ ،‬وبغــ َ‬
‫ويســتعملهم ويقّربهــم ويستنصــح لهــم ‪ ،‬فيحمــل هــؤلء‬
‫من كــان علــى‬ ‫الناس على بدعتهم وضللهم ‪ ،‬ويم ّ‬
‫كنون ل َ‬
‫مثل حالهم ‪ ،‬ويضّيقون على أهل السنة ‪ ،‬وقد يخيفــونهم‬
‫ويفتنونهم ؛ كما حدث للمام أحمد ‪ ،‬وأبن تيمية وغيرهما‬
‫‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ومثل ذلك أن تكون الدولة لهــل اللحــاد والكفــر بــالله‬
‫‪55‬‬
‫من منتحلــي المــذاهب الوضــعية البشــرية كالعلمانيــة‬
‫وغيرها ؛ فإن هؤلء ل يرضون أن يكون للدين موقعٌ فــي‬
‫دون‬
‫ة بين الناس ‪ ،‬ويع ّ‬
‫المجتمع ‪ ،‬ول أن يكون لهله مكان ٌ‬
‫تحكيم الشرع في النفس والموال والعــراض والــدماء‬
‫عا من الزج بالــدين فــي أمــور ل‬
‫وسائر شؤون الحياة نو ً‬
‫علقة له بها أصل ً ‪ ،‬إذ الــدين ‪-‬فــي عقــدهم‪ -‬علقــة بيــن‬
‫الخالق والمخلــوق تقتصــر علــى أداء شــعائر معّينــة فـي‬
‫المسجد أو الكنيسة وينتهي المر عند هذا الحد ‪.‬‬

‫وهؤلء ‪ -‬وإن كانوا حرًبـا علــى الــدين كلــه ‪ -‬إل أن حربهــم‬


‫لهـل السـنة والثـر أشـد ّ ‪ ،‬وعـداوتهم لهـم أعظـم ‪ ،‬لنهـم‬
‫يجدون كثيًرا من أهـل البـدع يوافقـونهم فيمـا يريـدون مـن‬
‫عَْزل الدين عن الحياة؛ كما هو منهج الطرق الصوفية – مثل ً‬
‫‪.-‬‬

‫‪ ( 55 )55‬هي الفصل الكامل بين الدين والحياة وصرف الناس عن‬

‫الهتمام بالخرة إلى الهتمام بالحياة الدنيا وحــدها‪ .‬وليــس بيــن )‬

‫العلمانية ( و) العلم ( الذي تنسـب إليـه صـلة مـا سـوى التضــليل‬

‫والخداع‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫فهــذه الســباب ‪-‬وغيرهــا‪ -‬تضــاعف غربــة ) الفرقــة‬
‫الناجيــة ( ‪-‬ســواء مــن الناحيــة الفرديــة أو الجماعيــة ‪، -‬‬
‫مة‬
‫وتحيطها بنوع خاص من الغربة يضاف إلى الغربة العا ّ‬
‫الشــاملة الــتي تواجههــا هــذه الفرقــة ‪ ،‬لنهــا فئة مــن‬
‫المســـلمين والمســـلمون بيـــن أهـــل الرض غربـــاء‬
‫وللمستقيمين على الجادة السالكين الطريق المســتقيم‬
‫من هذه الغربة أوفاها وأكملها ‪.‬‬

‫فالفرقة الناجية تعيش غربة المسلمين بين أهل الملــل‬


‫والديان الخرى في سائر أقطار الرض‪ ،‬وتعيش غربتهــا‬
‫حك ِــم خيو َ‬
‫طهــا أيــدي‬ ‫الخاصــة بيــن المســلمين‪ ،‬والــتي ت ُ ْ‬
‫المسلمين أنفسهم !‬

‫ومع ذلك فهذه الفرقة مطاَلبة بالقيام بأمر الله ‪ ،‬ونشر‬


‫دع بمــا لــديهم مــن علــم وفهــم ‪،‬‬‫صـ ْ‬
‫دينــه ودعــوته ‪ ،‬وال ّ‬
‫ومعالجــة لهــذه الغربــة ‪ ،‬والقيــام بتجديــد الــدين بيــن‬
‫جــة علــى أهــل العصــر ‪ ،‬وعــدم‬
‫ح ّ‬
‫المسلمين ‪ ،‬وإقامــة ال ُ‬
‫دعة ‪ ،‬ويتــوّلى عظــم‬
‫الستسلم لليأس أو الّركون إلى ال ّ‬
‫هذا المر وجمَلته الطائفة المنصورة ‪-‬كما سيأتي‪ -‬وهــي‬
‫من الفرقة الناجية‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫فوصفهم بالغربة ليس حّثا على العتزال ول أم ـًرا بــالقعود ؛‬
‫بل هو دعـوة إلـى التمّيـز بالمنهـج المسـتقيم والصـبر عليـه ‪،‬‬
‫وإعلنه والدعوة إليـه والجتمـاع حـوله ‪ ،‬إذ إن ذلـك كلـه مـن‬
‫أسـباب انـدفاع الغربـة وزوالهـا ‪ ،‬ومـن أسـباب الستمسـاك‬
‫حي في سبيل شـيء مـا‬ ‫بالحق الذي يحمله المغترب ‪ ،‬فالمض ّ‬
‫يعّز عليه أن يتخّلى عنه ‪ ،‬وحين يكون هذا الشيء هــو الحــق ؛‬
‫يكون ذلك من سعادة المسلم وتوفيقه ‪.‬‬

‫وإذا كان الشعور بالغربة ‪ ،‬وكـثرة المخـالفين والمنـاوئين‬


‫حا لدى الفرقة الناجيـة ‪ ،‬بحيـث ل َيعيبُهـم نـبُز‬
‫شعوًرا صحي ً‬
‫صـفوف ؛ فـإنه‬ ‫الناس لهم بال ّ‬
‫شـذوذ ‪ ،‬واّتهـامهم بتفريـق ال ّ‬
‫يجــب التفريــق بيــن هــذا وبيــن الشــعور المنحــرف الــذي‬
‫مــن‬
‫يتعــاظم ويشــتد ّ لــدى بعــض الغلة الــذين ل يجــدون َ‬
‫وهم وانحرافهـم ‪ ،‬في َُعـّزون أنفسـهم بـأنهم‬
‫يوافقُهم فى غل ّ‬
‫س ً‬
‫كا بما هــم‬ ‫يعيشون زمن غربة السلم ‪ ،‬فيزيدهم هذا تم ّ‬
‫ضا عـن المراجعـة ‪ ،‬وتصـحيح المنهـج ‪ ،‬واتهـام‬
‫عليه وإعرا ً‬
‫النفس‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫والفيصل في هذا هو النص المحكم الــذي يجــب الرجــوع‬
‫م‬
‫إليه فيما يشـتجر بيـن المسـلمين مـن الخصــومة ‪ ،‬وفهـ ُ‬
‫مــن بعــدهم مــن‬
‫السلف الصالح لهذا النص من الصحابة و َ‬
‫أئمــة المســلمين والئمــة والعلمــاء العــاملين المعاصــرين‬
‫عرف بالتزام السنة و مجانبة البدعة والعراض عــن‬
‫من ُ‬
‫م ّ‬
‫دنيا ومطامعها ‪ ،‬وهم أهل الذكر الذين أقامهم الله حجــة‬
‫ال ّ‬
‫على عباده ‪.‬‬

‫دعاهــا صــادًقا موفّ ً‬


‫قــا‬ ‫مــن شــعر بالغربــة وا ّ‬
‫فليــس كــل َ‬
‫مهتدًيا ‪.‬‬

‫ولقد كان الخوارج ‪-‬حين ظهورهم‪ -‬غرباء بيــن الصــحابة‬


‫والتابعين وما زالوا كذلك إلى يوم الناس هذا ‪ ،‬وغربتهــم‬
‫هذه غربة مذمومة غير محمــودة لمــا فيهــا مــن مفارقــة‬
‫الجماعــة وتــرك الســبيل والســنة ‪ ،‬والعتــداد بــالنفس‬
‫مــل مخالفــة الئمــة الفــذاذ المشــهود لهــم بــالعلم‬
‫وتح ّ‬
‫والصلح والله المستعان ‪. ((56‬‬

‫مظاهر الغربة الثانية ‪:‬‬


‫لقد ظهرت هذه المظاهر وطفت علــى ســطح الحــداث‬
‫كنتيجة حتمية لسباب كثيرة سنشير إليهــا لحقـا ً ‪ ،‬حيــث‬
‫تركت أثرا ً واضــحا ً فـي مسـيرة المــة السـلمية وزادت‬
‫في الوقت نفسه من غربة من يتمسك بدينه وعقيــدته ‪،‬‬

‫‪ ( 56 )56‬رسائل الغرباء ‪ /‬الرسالة الثانية ‪ :‬صفة الغرباء ص ‪76 :‬‬


‫للشيخ سلمان فهد العودة ‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫حيث نرى أن الزمان قد أستدار وعاد فيه السلم غريب ـا ً‬
‫كمــا بــدأ غريبـا ً ‪ ،‬وأحــاط بالغربــاء مــا أحــاط بالســابقين‬
‫ل علينا زمان يجــر خلفــه عربــات شــر‬ ‫الولين ‪ ،‬حيث أط ّ‬
‫مســتطير بســنوات خــداعات ‪ ،‬ألقــت بظللهــا الثقيلــة‬
‫وتبعاتها العظيمة علــى مجريــات الحــداث ‪ ،‬حــتى نطــق‬
‫فيهــا الرويبضــات الــتي أطلــت برؤوســها الخاويــة مــن‬
‫قماقمها بعد طول سبات وسكون ‪ ،‬كما أصبح فيها لهل‬
‫الهواء والبدع صولت وجولت ‪ ،‬ودق لهــم فيهــا بطبــول‬
‫ومزامير على حين غفلة من أهل الحق ومريديه ‪.‬‬
‫أما الزمان فكأنه ذلك الزمان الذي أشــار إليــه النــبي ‪‬‬
‫في معرض رده على أسئلة حذيفة بن اليمان رضي الله‬
‫عنه الذي جاءه يسأل عن الشر خشــية أن يــدركه ويقــع‬
‫فيه ‪.‬‬
‫فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال ‪ :‬كان الناس‬
‫يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ‪،‬‬
‫وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬إنا كنا في جاهلية وشر ‪ ،‬فجاءنا‬
‫الله بهذا الخير ‪ ،‬فهل بعد هذا الخير من شر ؟‬
‫قال ‪ )) :‬نعم (( ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهل بعد ذلك الشر من خير؟ ‪.‬‬
‫قال ‪ )) :‬نعم ‪ ،‬وفيه دخن (( ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وما دخنه ؟‬
‫قال ‪ )) :‬قوم يهدون بغير هدي ‪ ،‬تعرف منهم وتنكر (( ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬فهل بعد ذلك الخير من شر؟‬
‫قال ‪ )) :‬نعم ‪ ،‬دعاة على أبواب جهنم ‪ ،‬من أجابهم‬
‫إليها قذفوه فيها ((‪ .‬قلت ‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬صفهم لنا ؟ ‪.‬‬
‫فقال ‪)) :‬هم من جلدتنا ‪ ،‬ويتكلمون بألسنتنا (( ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ ‪.‬‬
‫قال ‪ )) :‬تلزم جماعة المسلمين وإمامهم (( ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬فإن لم يكن لهم جماعة ول إمام ؟ ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫قال ‪ )) :‬فاعتزل تلك الفرق كلها ‪ ،‬ولو أن تعض بأصل‬
‫شجرة ‪ ،‬حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (( ‪.57‬‬
‫ولو نظرنا ـ أخي الحبيب ـ في هذا الحديث النبوي‬
‫الشريف ‪ ،‬وتأملنا فيه مليا ً لوجدنا أنه يشير إلى عدة‬
‫إشارات مهمة وخطيرة في الوقت نفسه ‪ ،‬أهمها ‪:‬‬
‫ً‬
‫الولى ‪ :‬نجد أن الحديث يخبر عن زمن سيأتي لحقا ‪،‬‬
‫حيث يكون الخير فيه ليس بخالص ول نقي ‪ ،‬بل فيه‬
‫خن وكدورة يكدران صفائه وبهائه ‪ ،‬حيث يتجلى فيه‬ ‫دَ َ‬
‫رجال يستنون بغير سنة النبي ‪ ‬يعرف الناس منهم‬
‫أشياء وينكرون أخرى ‪.‬‬
‫قال أبن حجر في )) فتح الباري ‪: (( 36 /13 :‬‬
‫)) الدخن هو الحقد ‪ ،‬وقيل الدغل وقيل ‪ :‬فساد القلب ‪،‬‬
‫ومعنى الثلثة متقارب ‪ ،‬يشير إلى أن الخير الذي يجيء‬
‫بعد الخير ل يكون خالصا ً بل فيه كدر ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬المراد بالدخن كل أمر مكروه ‪ (( ..‬أ ‪ .‬هـ‬
‫الثانية ‪ :‬ونجد أيضا أن الحديث يتدرج في الحداث‬
‫والوقائع ‪ ،‬ليخبر عن زمن سيلحق الزمن المذكور آنفا ً‬
‫يكون الشر فيه خالصا ً وشامل ً ومطِبقا ً ‪ ،‬ويتمخض عن‬
‫أحداث عظيمة وشرور جسيمة منها ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬ظهور أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا سماهم‬
‫النبي ‪ )) ‬دعاة على أبواب جهنم ‪ ،‬من أجابهم إليها‬
‫قذفوه فيها (( يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم ‪ ،‬ولكن‬
‫ظرون ‪.‬‬ ‫أفعالهم تأبى ذلك حيث تناقض ما يقولون وُين ّ‬
‫قال أبن القيم رحمه الله ‪ )) :‬علماء السوء جلسوا على‬
‫باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم ويدعون إلى‬
‫النار بأفعالهم ‪ ،‬فكلما قالت أفواههم للناس هلموا ‪،‬‬
‫قالت أفعالهم ‪ :‬ل تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه‬

‫‪ ( 57 )57‬رواه البخاري ) ‪ 615 / 1‬فتح ( ومسلم ) ‪.( 1847‬‬


‫‪84‬‬
‫حقا ً كانوا أول المستجيبين له ‪ ،‬فهم في الصورة أدلء‬
‫وفي الحقيقة قطاع طرق (( ‪.58‬‬
‫‪ ( 2‬تقاذف الناس بأرواحهم نحو أحزاب وفرق وطوائف‬
‫مزقت المة وأذهبت ريحها ‪ ،‬وكأن الله ل يعبد بنظرهم‬
‫إل عن طريق حزب أو طائفة ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬خلو هذا الزمان من جماعة للمسلمين تجمعهم‬
‫وإمام يقودهم ‪.‬‬
‫‪ ( 4‬وعلى ضوء ما سبق ذكره في النقطة السابقة فإن‬
‫الحكم النبوي في هكذا زمان يشير إلى وجوب اعتزال‬
‫تلك الفرق والحزاب وعدم النخراط فيها )) فاعتزل‬
‫تلك الفرق كلها ‪ ،‬ولو أن تعض بأصل شجرة ‪ ،‬حتى‬
‫يدركك الموت وأنت على ذلك (( ‪.‬‬
‫أما السنوات الخداعات ‪ :‬فهي تلك السنوات التي‬
‫تتغير فيها أحوال الناس ‪ ،‬وتنقلب فيها الحقائق الثابتة ‪،‬‬
‫فيوسد فيها المر إلى غير أهله ‪ ،‬وتصير زمام المور بيد‬
‫الرويبضات ودعاة جهنم ‪ ،‬ممن ل يحسنون التصرف‬
‫فيها وفق الضوابط الشرعية المعتبرة ليعم بعد ذلك‬
‫الخراب والدمار ‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول الله‬
‫دق فيهن الكاذب‬ ‫‪ )) : ‬سيأتي سنوات خداعات يص ّ‬
‫ون المين‬ ‫ذب فيهن الصادق ‪ ،‬ويؤتمن الخائن وُيخ ّ‬ ‫وُيك ّ‬
‫وينطق فيها الرويبضة (( ‪.‬‬
‫فقيل ‪ :‬وما الرويبضة ؟‬
‫‪59‬‬
‫قال ‪ :‬الرجل التافه يتكلم في أمر العامة (( ‪.‬‬
‫وهكذا نرى أنه قد خرج من رحم تلك السنوات العجاف‬
‫عدة مظاهر وافرزت عدة افرازات أحاطت بالغرباء من‬
‫‪ ( 58 )58‬أنظر )) تيسير الوصول إلى معرفة الثلثة الصول في‬
‫سؤال وجواب ‪ (( 33 :‬للمؤلف ‪.‬‬
‫‪ ( 59 )59‬أخرجه ماجة في سننه برقم ‪ 4036‬وصححه الشيخ‬
‫سنه في السلسلة‬
‫اللباني في صحيح سنن أبن ماجة ‪ ، 3650‬وح ّ‬
‫الصحيحة برقم ‪.1887‬‬
‫‪85‬‬
‫كل حدب وصوب كما يحيط السوار بالمعصم ‪ ،‬وإليك‬
‫أخي الحبيب أهم هذه المظاهر والفرازات ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬فساد الناس في آخر الزمان ‪ ،‬وفساد أحوالهم‬
‫وأخلقهم بسب جريهم وراء الدنيا ومغرياتها الفانية ‪،‬‬
‫حتى صار أحدهم ل يبالي من أين يأخذ حظه منها أمن‬
‫ه عَْنه أن‬ ‫ي الل ّ ُ‬‫ض َ‬ ‫حلل أم من حرام ‪ ،‬فعن أبي هريرة َر ِ‬
‫رسول الله‪ ‬قال ‪ )) :‬بادروا بالعمال فتنا كقطع‬
‫الليل المظلم ‪ :‬يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافراً‬
‫ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ‪ ،‬يبيع دينه بعرض من‬
‫سِلم [‪.‬‬
‫م ْ‬‫الدنيا ((] َرَواه ُ ُ‬
‫‪ ( 2‬الغرباء قوم صالحون في قــوم ســوء كــثير ‪ ،‬الــذي‬
‫يعصيم _ في حقهم الذين هم عليه _ أكثر ممن يطيعهم‬
‫‪.‬‬
‫‪ ( 3‬العراض عن تعلم التوحيــد والعمــل بــه ‪ ،‬مــع فشــو‬
‫الشرك بمظاهره الكثيرة ووسائله المتعددة ‪ ،‬كمــا صــار‬
‫للبــدع المنكــرة الــتي شــوهت صــفاء الســلم ظهــورا ً‬
‫وانتشارا ً ‪.‬‬
‫والتوحيد هو الذي خلق الله تبارك وتعــالى جميــع الخلــق‬
‫س إ ِّل‬ ‫لنـ َ‬ ‫ن َوا ْ ِ‬ ‫جـ ّ‬‫ت ال ْ ِ‬ ‫قـ ُ‬‫خل َ ْ‬
‫مــا َ‬‫لجله كما قــال تعـالى ‪ ‬وَ َ‬
‫ن ‪] ‬الذاريات ‪. [56 :‬‬ ‫دو ِ‬ ‫ل ِي َعْب ُ ُ‬
‫مــا‬‫وبـه أرســل جميـع النبيــاء بــه كمـا قــال تعـالى ‪ ‬وَ َ‬
‫ه إ ِلّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َل إ ِل َـ َ‬ ‫حي إ ِل َي ْـهِ أن ّـ ُ‬ ‫ل إ ِّل ُنو ِ‬ ‫سو ٍ‬
‫من ّر ُ‬ ‫ك ِ‬ ‫من قَب ْل ِ َ‬ ‫سل َْنا ِ‬‫أْر َ‬
‫َ‬
‫دون ‪] ‬النبياء ‪. [25 :‬‬ ‫أَنا َفاعْب ُ ُ‬
‫‪ ( 4‬تسلط أهل الجهل والبدع حتى أصبحت زمام المور‬
‫ومقاليدها بأيديهم ‪ ،‬مما جعلهم يصبون جام غضبهم على‬
‫الغرباء انتقاما ً ونكاية بهم ‪ ،‬كما هــو الحاصــل اليــوم فــي‬
‫العراق ‪ ،‬حيث أصبح لهل الهــواء والبــدع دولــة ورايــة ‪،‬‬
‫مما جعل الغربــاء يقعــون بيــن مطرقــة جــرذان صــفراء‬
‫وسندان صبيان سفهاء ولله وحده المشتكى ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫‪ ( 5‬البطش والضطهاد بالغرباء ‪.60‬‬
‫‪ ( 6‬قلــة التبــاع وقلــة مــن يعيــن علــى الخيــر ويعمــل‬
‫للخرة ‪.‬‬
‫‪ ( 7‬الستضــعاف الــذي يعــتري الغربــاء ممــا يــؤدي إلــى‬
‫السرار بالدعوة ‪.‬‬
‫والستضعاف مرحلة ممكن أن يمر بها الغرباء في بلد‬
‫دون آخر ‪ ،‬أو في زمن دون آخر ‪ ،‬ولهذا يجب عليهم‬
‫حينها أن يتعاملوا معها بحذر وتبصر وتدبر ‪ ،‬وكذلك‬
‫يجب على من يريد التصدي لمسألة المر بالمعروف ‪،‬‬
‫والنهي عن المنكر في هـذه المرحلة أن يستطيع‬
‫)) التفريق بين أمرين مهمين ‪ ،‬وأن يعرف أن لكل أمر‬
‫من هذين المرين أحكامه الخاصة به ‪ ،‬توجب النظر‬
‫والتأمل فيه قبل محاولة تجاوزه والتعدي عليه ‪:‬‬
‫المر الول ‪ :‬وجوب النظر إلى حال دولة السلم من‬
‫حيث القيام والعدم ‪:‬‬
‫أما الحال الول ‪ :‬ففي حال قيام دولة السلم قياما ً‬
‫حقيقيا ً ‪ ،‬ويكون لها وجود في عالم الوجود ‪ ،‬ولها ثقلها‬
‫المعتبر وظلها الذي يستظل به كل من تحكمه ‪ ،‬ل دولة‬
‫ترسم على ورق أو تكون في خيال من يتصورها ويحلم‬
‫بها ‪ ،‬فالحكام ل تبنى على المخيلت والتصورات ‪ ،‬وإنما‬
‫تبنى على الحقائق والوقائع ‪.‬‬
‫‪ ( 60 )60‬ولهذا كان من دعاء المؤمنين لربهم تبارك وتعالى أن ل‬
‫يسلط عليهم عدوهم فيفتنهم ‪ ،‬قال الله تبارك و تعالى )) َرب َّنا ل‬
‫فروا واغ ْفر ل َنا ربنا إن َ َ‬
‫م ((‬ ‫كي ُ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ت ال ْعَ ِ‬
‫ك أن ْ َ‬ ‫َ ِ ْ َ َ َّ ِّ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ة ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫جعَل َْنا فِت ْن َ ً‬
‫تَ ْ‬
‫] الممتحنة ‪: [ 5:‬‬
‫‪ ( 1‬قال أبن عباس ‪ )) :‬ل تسلطهم علينا فيفتنونا (( ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬قال مجاهد ‪ )) :‬ل تعذبنا بأيديهم ول بعذاب من عندك فيقولوا‬
‫‪ :‬لو كان هؤلء على الحق ما أصابهم هذا ( ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬قال قتادة ‪ )) :‬ل تظهرهم علينا فيفتنونا ‪ ،‬بذلك يرون إنما‬
‫ظهروا علينا لحق هم عليه (( ‪.‬‬
‫أنظر )) تفسير المام أبن كثير‪. (( 446 / 4 :‬‬

‫‪87‬‬
‫فإن كان لها قيام ووجود فإن المر والحال كهذا يرجع‬
‫كله إلى سلطان المسلمين أو نوابه ‪ ،‬وما على آحاد‬
‫الناس إذا ما أرادوا النكار والتغيير على من يقعون في‬
‫مخالفة شرعية إل النصيحة بالحكمة والموعظة‬
‫الحسنة ‪ ،‬فإن لم تجدِ نفعا ً فعندها يمكنه أن يرفع هذا‬
‫المر إلى السلطان ‪ ،‬ويكون بذلك قد برأت ذمته وقام‬
‫بالواجب خير قيام ‪.‬‬
‫الحال الثاني ‪ :‬وأما في حال عدم قيام دولة السلم‬
‫فإن الواجب على الدعاة إلى الله تبارك وتعالى اتجاه‬
‫إخوانهم الذين يقعون في مخالفات شرعية النصح‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة ‪ ،‬والرفق واللين مع البتعاد‬
‫عن أساليب الخشونة والغلظة التي تنفر الناس أكثر‬
‫مةٍ‬
‫ح َ‬
‫ما َر ْ‬ ‫مما تجمعهم ‪ ،‬كما قال تعالى لنبيه ) ‪  ) ‬فَب ِ َ‬
‫ضوا ْ‬‫ف ّ‬ ‫لن َ‬‫ب َ‬‫قل ْ ِ‬
‫ظ ال ْ َ‬
‫ت فَظ ّا ً غَِلي َ‬ ‫م وَل َوْ ُ‬
‫كن َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬
‫ن الل ّهِ ِلن َ‬
‫م َ‬‫ّ‬
‫حوْل ِك ‪] ‬آل عمران ‪. [159 :‬‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫المر الثاني ‪ :‬يجب على الدعاة إلى الله تعالى وهم‬
‫يتصدون لمسألة الدعوة إلى الله والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر أن يفرقوا بين حال القوة التي من‬
‫الممكن أن يكون عليها السلم وبين حال الضعف ‪،‬‬
‫وهذا المر يمكن معرفته من خلل النظر والتأمل في‬
‫سنة النبي ) ‪ ( ‬وسيرته ‪ ،‬وعندها سيرى الناظر في‬
‫ذلك أن حاله ) ‪ ( ‬في مكة يختلف عما صار إليه في‬
‫المدينة بعد هجرته إليها ‪ ،‬فقد كان النبي ) ‪ ( ‬يرى‬
‫وهو في مكة الكثير من المنكرات والموبقات ‪ ،‬مثلما‬
‫رأى بعينه كيف تطعن سمية رضي الله عنها في موضع‬
‫عفتها ‪ ،‬وكيف يموت ياسر تحت وطأة أسواط جلديه ‪،‬‬
‫وكيف أّثر التعذيب في عمار حتى قال لهم ما أرادوه‬
‫منه ‪ ،‬ومع هذا كله لم يملك أن يفعل شيئا ً إزاء ذلك إل‬
‫أن يقول )) صبرا ً آل ياسر فإن موعدكم الجنة (( ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫فهل كان النبي ) ‪ ( ‬وحاشاه قليل الشجاعة والعزيمة‬
‫أمام هذا المنظر الذي تقشعر منه الجلود ‪ ،‬وتتفطر له‬
‫القلوب ‪ ،‬أم هو الضعف الذي خّيم بأحكامه على‬
‫المسلمين في مكة ‪.‬‬
‫بالتأكيد هو الضعف وعدم القدرة ‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫درءا ً للمفسدة الراجحة التي تقع ويكون ضررها أشد‬
‫وأكثر من ضرر السكوت وترك النكار ‪.‬‬
‫بينما نرى أن المر قد تغير في المدينة ‪ ،‬عندما صار‬
‫للمسلمين دولة وسلطة يستطيعون بها أن يردعوا كل‬
‫من تسول له نفسه فعل الموبقات والمعاصي ‪.‬‬
‫إذن مسألة النظر إلى حال القوة والضعف مسألة مهمة‬
‫عمل بها النبي ) ‪ ( ‬وعمل بها أتباعه من بعده ‪ ،‬ولهذا‬
‫فل يجب أن يفرق بين حال وحال ‪ ،‬وإنما يعمل بهذا‬
‫الصل متى ما أستوجب ذلك ‪ ،‬ولهذا نرى أن البعض لما‬
‫أعرض عن هذا كله ‪ ،‬وصار يعمل على أن المفاسد من‬
‫الضروريات التي لبد لها من الوقوع وإل كيف الوصول‬
‫م ‪ ،‬وكثر‬ ‫إلى الغاية التي يريد ‪ ،‬نرى أن الفساد قد ع ّ‬
‫وم دون‬ ‫الخراب وأصبحت الديار تنعق بها الغربان والب ُ َ‬
‫أن يرف لهم جفن أو يرتجف لهم قلب من عواقب‬
‫أفعالهم تلك ‪.‬‬
‫قال شيخ السلم أبن تيمية في )) الصارم المسلول ‪2 :‬‬
‫‪ )) : (( 413‬فمن كان من المؤمنين بأرض هو‬
‫مستضعف ‪ ،‬أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية‬
‫الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين آوتوا‬
‫الكتاب والمشركين ‪ ،‬وأما أهل القوة يعملون بآية قتال‬
‫أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ‪ ،‬وبآية قتال الذين‬
‫آوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ((‬
‫‪.‬‬
‫وقال أبن القيم في )) أحكام أهل الذمة ‪: (( 768 / 2 :‬‬
‫)) وعلى هذا فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة ‪،‬‬
‫‪89‬‬
‫وتعذر إلزامهم بأحكام السلم أقررناهم وما هم عليه ‪،‬‬
‫فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك (( أ ‪ .‬هـ ‪.‬‬
‫إذن ‪ :‬على الدعاة أن يراعوا هذا كله ‪ ،‬وأن يضعوه‬
‫نصب أعينهم ‪ ،‬وان يستفادوا من تجارب الخرين التي‬
‫حدثت عبر تاريخ أمة السلم الطويل فإن فيها العبرة‬
‫والتعاض ‪ ،‬وإل فإن المفسدة ستكون في سللهم ‪،‬‬
‫وسيبوؤن هم بإثمها وإثم من ستطوله بضررها‬
‫وشررها ‪ ،‬نسأل الله العافية (( ‪. 61‬‬
‫‪ ( 8‬قلة من يطلب العلم الشرعي ويسعى في تحصيله‬
‫من مصادره الصلية ‪ ،‬مع فشو الجهل والتعالم ‪.62‬‬

‫‪ ( 61 )61‬أنظر ‪ :‬الغلو وأثره في النحرافات العقدية والمنهجية ‪:‬‬


‫‪ 185‬للمؤلف ‪.‬‬
‫‪ ( 62 )62‬وهذا من أبرز مظاهر هذه المرحلة المهمة والخطيرة‬
‫ل وندر من يطلب العلم ويسعى‬ ‫في حياة المة السلمية ‪ ،‬فقد ق ّ‬
‫في تحصيله ‪ ،‬حتى زهد فيه الكثير من المسلمين حتى ممن‬
‫يقصد المساجد ويرتادها ‪ ،‬وهذا بحد ذاته طامة كبرى ورزية ل‬
‫تعدلها رزية ‪.‬‬
‫وليكن معلوما ً عند الجميع أن من العلم ما طلب تحصيله فرض‬
‫عين ل يسع المسلم تركة والعدول عنه كتعلم العقيدة مثل ً ‪ ،‬ومنه‬
‫ما هو فرض كفاية ‪ ،‬وبالتالي فالعلم مهم لهذه المة وسبب مهم‬
‫من أسباب علو شأنها ومكانتها ‪ ،‬وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى‬
‫بعض فضائل العلم لعلها تكون حافزا ً لمن مات أو خفت في‬
‫نفسه أهمية العلم وفضله ‪.‬‬
‫فضائل العلم كثيرة منها ‪:‬‬
‫‪ (1‬جعل الله تعالى أصحابه شهداء له بالوحدانية قال تعالى ‪‬‬
‫شهد الل ّه أ َنه ل َ إَلـه إل ّ هُو وال ْمل َئ ِك َ ُ ُ‬
‫ط لَ‬
‫س ِ‬‫ق ْ‬ ‫ما ً ِبال ْ ِ‬‫ة وَأوُْلوا ْ ال ْعِل ْم ِ َقآئ ِ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫َ ِ َ‬
‫م ‪] ‬آل عمران ‪ ، [18 :‬ولو لم يكن‬ ‫ُ‬ ‫كي‬
‫ِ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫زي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ه ِ‬
‫إ‬ ‫إ َِلـ َ‬
‫لهل العلم إل هذه الميزة لكفتهم ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬وصف الله تعالى أصحابه بالخشية دون غيرهـم من الناس ‪،‬‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ماء إ ِ ّ‬ ‫عَباد ِهِ ال ْعُل َ َ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫شى الل ّ َ‬ ‫خ َ‬‫ما ي َ ْ‬‫كما قال تعالى ‪ ‬إ ِن ّ َ‬
‫فوٌر ‪] ‬فاطر ‪.[28 :‬‬ ‫زيٌز غ َ ُ‬ ‫عَ ِ‬
‫‪ ( 3‬المر بالستزادة منه ‪ ،‬مما يدل على فضله وأهميته ‪ ،‬قال‬
‫عْلما ً ‪] ‬طه ‪. [114 :‬‬ ‫ب زِد ِْني ِ‬ ‫تعالى ‪ ‬وَُقل ّر ّ‬
‫‪90‬‬
‫‪ ( 9‬ظهور جيل من الشباب المسلم لم تنضبط أفعاله‬
‫وأقواله وأخلقه بضوابط الشرع الحكيم ‪ ،‬لذا ترى أنهم‬
‫يتصفون بصفات خطيرة وسمات ذميمة ‪ ،‬تدفعه‬
‫الحماسة والعاطفة وتنقصه الحكمة والخبرة بسبب‬
‫حداثة السن وقلة التجربة ‪.‬‬

‫=‬
‫= ‪ ( 4‬أهل العلم هم أهل العقل السليم والفطرة القويمة ‪ ،‬وهم‬
‫أهل للتفكر والتدبر والتذكر ‪ ،‬قال الله تعالى ‪ ‬وت ِل ْ َ َ‬
‫ل‬ ‫ك اْل ْ‬
‫مَثا ُ‬ ‫َ‬
‫ن ‪] ‬العنكبوت ‪[43 :‬‬ ‫قل َُها إ ِّل ال َْعال ِ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ما ي َعْ ِ‬
‫س ‪ ،‬وَ َ‬
‫ضرِب َُها ِللّنا ِ‬
‫نَ ْ‬
‫‪ ( 5‬يخص الله تعالى به من وفقه وأراد به خيرا ً ‪ ،‬عن حميد بن‬
‫عبد الرحمن ‪ :‬أنه سمع معاوية قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ )) :‬من يرد الله به خيرا ً يفقهه في الدين (( رواه‬
‫البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫‪ ( 6‬الخبار بأن أهل العلم هم ورثة النبياء ‪ ،‬وأن أحدهم لو وضع‬
‫قدمه في طريق يلتمس منه علما ً فإن هذا الطريق ينتهي به إلى‬
‫الجنة ‪ ،‬كما أن الملئكة تضع له أجنحتها خضعانا ً وتواضعا ً ‪.‬‬
‫روى المام البخاري في صحيحه باب ‪ :‬العلم قبل القول والعمل ‪.‬‬

‫لقول الله تعالى‪  :‬فاعلم أنه ل إله إل الله ‪ ‬محمد‪ ، 19 :‬فبدأ‬


‫بالعلم ‪.‬‬
‫)) وأن العلماء هم ورثة النبياء ‪ ،‬ورثوا العلم ‪ ،‬من أخذه أخذ بحظ‬
‫وافر ‪ ،‬ومن سلك طريقا ً يطلب به علما ً سهل الله له طريقا ً إلى‬
‫الجنة (( أ ‪ .‬هـ‬
‫ً‬
‫وعن كثير بن قيس قال كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد‬
‫دمشق فأتاه رجل فقال يا أبا الدرداء إني أتيتك من مدينة‬
‫الرسول في حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫فقال أبو الدرداء ‪ :‬أما جئت لحاجة أما جئت لتجارة أما جئت إل‬
‫لهذا الحديث ‪.‬‬
‫قال نعم قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫يقول ‪ )) :‬من سلك طريقا يطلب فيه علما ً سلك الله به طريقا ً‬
‫من طرق الجنة والملئكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن‬
‫العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الرض والحيتان‬
‫‪91‬‬
‫ومن المعلوم أن العاطفة إذا ما اختلطت بالحماسة‬
‫الفارغة ولم تتقيد بقيود الشرع فإنها تنقلب إلى عاصفة‬
‫شر‬‫مدمرة تفسد الحرث والنسل ‪ ،‬وتهدد أكثر مما تب ّ‬
‫وتكون عراقيل يصعب البناء معها ‪ ،‬ومن هذه الصفات‬
‫والسمات ‪:‬‬

‫في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على‬
‫سائر الكواكب إن العلماء ورثة النبياء إن النبياء لم يورثوا دينارا ً‬
‫ول درهما ً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (( قال أبو‬
‫حاتم رضى الله تعالى عنه ‪ :‬في هذا الحديث بيان واضح أن‬
‫العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا هم الذين يعلمون علم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم أل تراه‬
‫يقول العلماء ورثة النبياء والنبياء لم يورثوا إل العلم وعلم نبينا‬
‫‪ ‬سنته فمن تعرى عن معرفتها لم يكن من ورثة النبياء (( أ هـ‬
‫] حديث صحيح خرجه المام اللباني في ) صحيح سنن أبي داود‬
‫‪ ( 317 / 3‬و ) صحيح سنن أبن ماجة ‪ ( 81 / 1‬و ) صحيح جامع‬
‫الترمذي ‪. [ ( 48 / 5‬‬
‫قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان في )) العمل بالعلم بين‬
‫الواقع والواجب ‪ )) : (( 8 :‬فهذا حديث عظيم جليل القدر بين‬
‫فضل العلم وشرف حامله من وجوه عديدة منها ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن الله – تعالى – أثاب طالب العلم على سلوكه في‬
‫الدنيا طريق العلم الموصل إلى الله تعالى وإلى رضوانه أثابه‬
‫الله عليه أن يسر له طريق الجنة مقصده وغايته ‪.‬‬
‫=‬
‫= الثاني‪ :‬تعظيم الملئكة لطالب العلم وحبها إياه وحياطته‬
‫وحفظه ‪ ،‬ولو لم يكن لطالب العلم إل هذا الحظ الجزيل لكفى به‬
‫شرفا ً وفض ً‬
‫ل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن طالب العلم شبيه بالملئكة ‪ ،‬فإن الملئكة من أنصح‬
‫خلق الله لعباد الله ‪ ،‬كما قاله بعض التابعين ول ريب أن طالب‬
‫العلم قد سعى في أعظم ما ينصح به عباد الله ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن جميع المخلوقات تستغفر له حتى الحيتان في الماء ‪،‬‬
‫لنه لما سعى فيما به نجاة النفوس ‪ ،‬جوزي من جنس عمله ‪،‬‬
‫وجعل من في السموات والرض ساعيا ً في نجاته من الهلك‬
‫باستغفارهم له ‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫الولى ـ التسرع والستعجال في قطف الثمار قبل‬
‫نضوجها ‪ ،‬ومن المعلوم )) أن الدعوة إلى الله تعالى‬
‫لبد أن تكون مبنية على التأني وعدم الستعجال ‪ ،‬فإنه‬
‫لبد للداعية أن يترك الستعجال ومحاولة قطف الثمار‬
‫قبل نضوجها ‪ ،‬وإل فإنه سيعاقب بحرمان أن يرى شيئا ً‬
‫من جهوده قد أثمر وأنتج ‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن الستعجال صفة أمر الله تعالى نبيه )‬
‫‪ _ ( ‬في مواضع كثيرة من القرآن _ أن يكون بعيدا ً‬
‫عنها وأن يتحلى بالصبر في دعوته إلى الله تعالى ‪ ،‬قال‬
‫ل وََل‬ ‫ُ‬
‫س ِ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫م َ‬‫صب ََر أوُْلوا ال ْعَْزم ِ ِ‬‫ما َ‬ ‫صب ِْر ك َ َ‬‫تعالى ‪َ ‬فا ْ‬
‫م ي َل ْب َُثوا إ ِّل‬ ‫َ‬
‫ن لَ ْ‬‫دو َ‬‫ما ُيوعَ ُ‬ ‫ن َ‬‫م ي ََروْ َ‬‫م ي َوْ َ‬ ‫جل ل ّهُ ْ‬
‫م ك َأن ّهُ ْ‬ ‫ست َعْ ِ‬
‫تَ ْ‬

‫الخامس‪ :‬أن العالم شبيه بالقمر الذي يضيء الفاق يمتد نوره‬
‫في أقطار العالم‪ ،‬أما العابد فشبيه بالكوكب الذي نوره ل يجاوز‬
‫نفسه وإن جاوزها فهو غير بعيد ‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أن العلماء ورثة النبياء خير خلق الله فهم أحق‬
‫بميراثهم وإذا كان الميراث ينتقل للقرب فهذا تنبيه بأن العلماء‬
‫أقرب الناس إلى النبياء ‪ ،‬وهذه منقبة عظيمة‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬أن العلم أعظم الحظوظ وأجداها ‪ ،‬لن نفعه يدوم في‬
‫الدارين أ ‪ .‬هـ‬
‫وقال أبن قدامة المقدسي في )) مختصر منهاج القاصدين ‪:‬‬
‫‪ )) : (( 22‬قال الخطابي ‪ :‬في معنى وضع الملئكة أجنحتها ثلثة‬
‫أقوال ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه بسط الجنحة ‪ .‬الثاني ‪ :‬أنه بمعنى التواضع تعظيما ً‬
‫لطالب العلم ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران ‪.‬‬
‫ن الذي ُيعّلم الناس الخير تستغفر له‬‫وعن أبن عباس قال ‪ )) :‬إ ّ‬
‫ً‬
‫كل دابة حتى الحوت في البحر (( ‪ ،‬وروي نحو ذلك مرفوعا ‪ ،‬فإن‬
‫ن نفع العلم‬
‫قيل ما وجه استغفار الحوت للمعلم ؟فالجواب ‪ :‬إ ّ‬
‫يعم كل شيء حتى الحوت ‪ ،‬فإن العلماء عرفوا بالعلم ما يحل‬
‫ويحرم وُأصوا بالحسان إلى كل شيء حتى إلى المذبوح والحوت‬
‫‪ ،‬فألهم الله تعالى الكل الستغفار لهم جزاًء لحسن صنيعهم (( ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ن ‪‬‬ ‫قو َ‬‫س ُ‬
‫فا ِ‬‫م ال ْ َ‬
‫قوْ ُ‬‫ك إ ِّل ال ْ َ‬
‫ل ي ُهْل َ ُ‬
‫من ن َّهارٍ ب ََلغٌ فَهَ ْ‬‫ة ّ‬
‫ساعَ ً‬‫َ‬
‫]الحقاف ‪. [35 :‬‬
‫وبالمقابل فإن النبي ) ‪ ( ‬قد أمر أصحابه بذلك ‪ ،‬كما‬
‫جاء عن خباب بن الرت قال ‪ :‬شكونا إلى رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهو متوسد بردة له في ظل‬
‫الكعبة ‪ ،‬قلنا له ‪ :‬أل تستنصر لنا ‪ ،‬أل تدعو الله لنا ؟‬
‫قال ‪ )) :‬كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الرض ‪،‬‬
‫فيجعل فيه ‪ ،‬فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق‬
‫باثنتين ‪ ،‬وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط‬
‫الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ‪ ،‬وما يصده‬
‫ذلك عن دينه ‪ ،‬والله ليتمن هذا المر‪ ،‬حتى يسير‬
‫الراكب من صنعاء إلى حضرموت ‪ ،‬ل يخاف إل الله ‪ ،‬أو‬
‫الذئب على غنمه ‪ ،‬ولكنكم تستعجلون ‪.64 (( 63‬‬
‫ولهذا ترى الكثير من هؤلء المتسرعين وقد شمروا عن‬
‫ساعد الجد في محاولة منهم لتغيير الواقع المرير الذي‬
‫تمر به المة السلمية ‪ ،‬إل أنهم وقعوا في أخطاء كثيرة‬
‫وخطيرة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫ُ‬
‫أ ـ عدم المعرفة بأصل المرض الذي أصيبت به المة‬
‫السلمية ‪.‬‬
‫ب ـ عدم التفريق بين المرض والعََرض ‪.‬‬
‫ج ـ النشغال بمحاولة تغيير النتيجة دون اللتفات إلى‬
‫السبب الصلي الذي نتجت عنة هذه النتيجة ‪.‬‬
‫د ـ الجهل وسوء الفهم جعل هؤلء ل يعرفون أن‬
‫العرض )) النتيجة (( مرتبط بالمرض )) السبب ((‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫الصلي وجودا وعدما ‪ ،‬وسيأتي لحقا مزيد توضيح لهذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫المسألة المهمة فتنبه ‪.‬‬

‫‪ ( 63 )63‬سبق تخريجه ‪.‬‬


‫‪ ( 64 )64‬أنظر ‪ :‬مباحث في عقيدة أهل السنة والثر ‪64 :‬‬
‫للمؤلف ‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫الثانية ـ التصدر قبل بلوغ درجة النضوج والكمال مما‬
‫تسبب في ‪:‬‬
‫أ ـ التعصب والتشدد في غير الحق نتيجة الجهل والهوى‬
‫‪.‬‬
‫ب ـ التسرع في إطلق الحكام الشرعية على الناس‬
‫من غير ضوابط شرعية منضبطة ومعتبرة ‪.‬‬
‫الثالثة ـ عدم النظر إلى سنن الله الكونية والشرعية‬
‫أثناء العمل ومحاولة التغيير ‪ ،‬مع عدم مراعاة النظر في‬
‫كم الربانية من وراء الكثير من الحوادث‬ ‫ح َ‬‫ال ِ‬
‫والمستجدات التي تطرأ على المة السلمية ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬عدم اتخاذ السباب الشرعية ‪ ،‬سواء كانت‬
‫معنوية أم مادية في معالجة الكثير من المور‬
‫والحوال ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬الطعن في العلماء الربانيين الذين ل‬
‫يوافقونهم في هواهم وبدعتهم ‪ ،‬بل وصل بهم المر إلى‬
‫أبعد من هذا الحد فوقعوا فيهم تفسيقا ً وتكفيرا ً وتقتيل ً‬
‫ودعاًء بالويل والثبور ‪ ،‬كما )) فعل هؤلء الخوارج‬
‫الغلة عند موت العلمة أبن عثيمين بأن نشروا‬
‫على شبكة التصالت العالمية ) النترنت ( هذا الكلم‬
‫دا فيها ((‬‫دا مخل ً‬‫الفاجر‪ :‬إلى الجحيم يا أبن عثيمين خال ً‬
‫‪. 65‬‬
‫أقول ‪ :‬أيمكن أن يخرج هذا الكلم من سلفي يعتز‬
‫بانتسابه للمنهج السلفي الصيل ‪ ،‬ويحترم علماءه ويقدر‬
‫جهودهم في سبيل نشر دعوة الكتاب والسنة‬
‫الصحيحة ؟‬
‫بالتأكيد ‪ :‬ل ‪.‬‬

‫‪ ( 65)65‬أنظر الكواشف الجلية للفروق بين السلفية الدعوات‬


‫السياسية الحزبية البدعية ‪ ،201 :‬للشيخ محمد بن رمزان آل‬
‫طامي الهاجري ‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ورحم الله القائل ‪ :‬إن لحوم العلماء مسمومة ‪ ،‬وعادة‬
‫الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة ‪.‬‬
‫دثة وترك إتباع منهج‬ ‫السادسة ‪ :‬إتباع مناهج مح َ‬
‫السلف ‪ ،‬وهذا بحد ذاته من المور الخطيرة التي طرأت‬
‫على المة السلمية بعد انقضاء فترة السلف الصالح ‪،‬‬
‫حيث تفرق الناس إلى فرق وأحزاب متنازعة‬
‫ومتناحرة ‪ ،‬قال شيخ السلم أبن تيمية في )) مجموع‬
‫الفتاوى ‪ )) : (( 144 / 4 :‬فَُعلم أن شعار أهل البدع هو‬
‫ترك إتباع السلف (( ‪.‬‬
‫‪ ( 10‬ابتعاد الكثير من الناس عن دينهم ‪ ،‬مع تلبسهم‬
‫بالمعاصي والموبقات مما يؤدي إلى نزول الذل والهوان‬
‫على المة السلمية ‪.‬‬
‫‪ ( 11‬تعدد مناهج المصلحين ‪ ،‬واختلف طرائق الــدعاة‬
‫والمنقذين ‪ ،‬وهذا المر بحد ذاته من السباب المباشــرة‬
‫في إزدياد غربة الدين وتضييع ملمــح الحــق والطريــق ‪،‬‬
‫وبالتــالي أدى إلــى تشـتيت النـاس وضـياعهم بيـن حـائر‬
‫وجائر ‪.‬‬
‫مــت ‪،‬‬‫مــت وط ّ‬
‫وفي ظل هذه الفوضــى العارمــة الــتي ع ّ‬
‫ظهر في السنوات الخيرة ما سماه البعــض ) بالصــحوة‬
‫السلمية ( التي ضربت بأطنابها أرجاء المة السلمية ‪.‬‬
‫وتحــت وطــأة هــذه الســنوات العجــاف الــتي ضــربت‬
‫بأســواطها الملتهبــة ظهــور الغــافلين ‪ ،‬بــدأ النــاس مــن‬
‫رقدتهم يستيقظون ‪ ،‬ومن غفلتهم ينتبهون ‪ ،‬ومن ثم بدأ‬
‫المخلصون ـ بحسرة وألم واستحياء ـ يتساءلون ‪:‬‬
‫ما الذي حصل ؟ ‪.....‬‬
‫سلط الكفار علينا ؟ ‪...‬‬ ‫لماذا ُ‬
‫هزمنا ؟ ‪....‬‬‫لماذا ُ‬
‫لماذا كل هذا الضعف والخور ؟ ‪.....‬‬

‫‪96‬‬
‫‪66‬‬
‫؟‪..‬‬ ‫ألسنا أحب إلى الله من هؤلء الكفار النجاس‬
‫استيقظوا ‪ ..‬أفيقوا ‪..‬‬
‫كفانا نوما ً ‪...‬‬
‫كفانا غفلة ‪....‬‬
‫أل من سبيل للنجاة ‪...‬‬
‫أل من سبيل للخلص ‪...‬دقوا أجراس الخطر ‪....‬‬
‫‪ ( 66 )66‬أعلم رحمك الله أن هذا التساؤل يراد منه الوصول إلى‬
‫عدة تساؤلت ضمنية أخرى هي ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬طالما نحن أحب إلى الله من هؤلء النجاس فلماذا نرى‬
‫واقعنا بهذا البؤس الشديد والشقاء الفضيع ‪ ،‬بينما هم في رفاهية‬
‫ونعيم ؟‬
‫سلطوا علينا واستباحوا حرماتنا‬ ‫ُ‬ ‫فلماذا‬ ‫كذلك‬ ‫نحن‬ ‫وطالما‬ ‫‪(2‬‬
‫ونهبوا خيراتنا ؟‬
‫أما الجابة على التساؤل الول ‪ :‬فمن المعلوم أن واقعنا‬
‫الذي نعيشه اليوم لم ينحدر إلى الحال البائس إل بعد أن غ َّيرنا‬
‫ن بها علينا ‪ ،‬وغيرنا ما‬ ‫نحن نعمة الله تبارك وتعالى التي م ّ‬
‫بأنفسنا مما أمرنا الله به ‪ ،‬وانحرفنا عن الصراط القويم الذي‬
‫ُأمرنا أن نكون عليه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ‬ذ َل َ َ‬
‫ك‬‫م يَ ُ‬‫ه لَ ْ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ك ب ِأ ّ‬ ‫ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مغَيرا ً نعم ً َ‬
‫ن الل َ‬ ‫م وَأ ّ‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأن ُ‬ ‫حّتى ي ُغَي ُّروا ْ َ‬ ‫مَها ع ََلى قَوْم ٍ َ‬ ‫ة أن ْعَ َ‬ ‫ُ ّ ّْ َ‬
‫م ‪] ‬النفال ‪. [53 :‬‬ ‫ميعٌ ع َ ِ ٌ‬
‫لي‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫وبالتأكيد أن هذا الحال بواقعه المرير سيدوم ويطول مكوثه حتى‬
‫نغير نحن كل ما يحتاج إلى تغيير‪ ،‬ونكون كما أمرنا الله عبيدا ً له ‪،‬‬
‫ل عبيد النزوات والشهوات والشبهات ‪ ،‬وعندها فقط سيغير الله‬
‫تبارك وتعالى واقعنا إلى أحسن وأفضل حال كما قال تعالى ‪‬‬
‫فسهم ‪ ،‬وإ َ َ‬ ‫َ‬
‫ذا أَراد َ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫َِ‬ ‫ما ب ِأن ْ ُ ِ ِ ْ‬ ‫حّتى ي ُغَي ُّروا ْ َ‬ ‫قوْم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫ه ل َ ي ُغَي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫إِ ّ‬
‫ل ‪] ‬الرعد ‪:‬‬ ‫َ ٍ‬ ‫وا‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ن‬‫دو‬ ‫ُ‬ ‫من‬ ‫هم‬
‫ُ َ َ ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬‫و‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫د‬‫ر‬ ‫م‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫سوء‬ ‫ق ْ ٍ ُ‬
‫م‬ ‫و‬ ‫بِ َ‬
‫‪. [11‬‬
‫ن انتفاء الشرط يقتضي‬ ‫فالية قد بنيت على شرط ومشروط ‪ ،‬وأ ّ‬
‫انتفاء المشروط لو كانوا يعلمون ‪.‬‬
‫أما الجابة على التساؤل الثاني ‪ :‬فإن هذا سؤال كثير‬
‫الخروج من أفواه الناس ‪ ،‬إما استفسارا ً وإما إنكارا ً ‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬لقد فعل الناس أشياء أستحقوا بها هذا التسلط والذلل‬
‫‪ ،‬كالشرك والبدع المنكرة وفشو الرذائل والقبائح في مجتمعاتنا‬
‫جهارا ً نهارا ً ‪ ،‬وهذه أسباب كافية في تبرير إنزال العقاب!!!!‬
‫‪97‬‬
‫عمت ‪ ،‬وضربت باطنابها‬
‫أسئلة تثار في ظل صحوة ّ‬
‫أعماق أمة مغيبة تقبع في ذل وهوان في مؤخرة الركب‬
‫‪ ،‬ول يحسب لها حساب في ميزان المم ‪ ،‬مما جعل‬
‫الكثير من الناس يبني عليها آمال النجاة والخلص ‪،‬‬
‫وكأنها طوق نجاة قد ُالقي إلى غريق من بعد طول‬

‫كر ‪ :‬أليس الكفار كذلك يفعلون من‬ ‫من ِ‬‫وعندها سيقول هذا ال ُ‬
‫الذنوب والمعاصي مثلما نحن نفعل ‪ ،‬فلماذا هذا الكلم إذن ؟!!!‬
‫نقول ‪ :‬السبب إننا مسلمون وهم كفار ‪ ،‬وذنوبنا وإن تشابهت مع‬
‫ذنوبهم في الحجم والشكل ولكنها أعظم وأقبح وأثقل في‬
‫الميزان ‪.‬‬
‫كر الحكمة من وراء هذا التسلط ‪ ،‬وأنه ليس‬ ‫من ِ‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫هذا‬ ‫فات‬ ‫ولقد‬
‫بالشر المحض مثلما ينظر إليه ويحسبه ‪،‬‬
‫بل من وراءه حكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها ‪،‬‬
‫ما‬‫حرِ ب ِ َ‬‫ساد ُ ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫كما قال الله تبارك وتعالى ))ظ َهََر ال ْ َ‬
‫ف َ‬
‫َ‬
‫ن ((‬‫جُعو َ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫مُلوا ل َعَل ّهُ ْ‬
‫ذي ع َ ِ‬ ‫ض ال ّ ِ‬
‫قُهم ب َعْ َ‬‫ذي َ‬‫س ل ِي ُ ِ‬‫دي الّنا ِ‬‫ت أي ْ ِ‬ ‫كَ َ‬
‫سب َ ْ‬
‫]الروم ‪.[41 :‬‬

‫=‬
‫= وأما الجابة على التساؤل الصلي فنقول ‪ :‬بلى ‪ ،‬نحن‬
‫أحب إلى الله تبارك وتعالى من هؤلء الكفار النجاس ‪ ،‬وهذه‬
‫حقيقة ثابتة ل مزايدة عليها ‪ ،‬ولكن إن فعلنا نحن أفعال ً قبيحة‬
‫وشنيعة أيشفع لنا هذا الحب ؟‬
‫بالتأكيد ل ‪ ،‬ولهذا سلطهم الله تعالى علينا ‪ ،‬وله في ذلك الحكمة‬
‫البالغة ‪ ،‬وبالمثال يتضح المقال ‪:‬‬
‫لو أن ابنك فلذة كبدك وأحب الناس إليك قد فعل فعل ً مشينا ً ‪،‬‬
‫وأساء إليك من خلله ‪ ،‬أل ترفع بوجهه النعال ) أجّلكم الله ( لكي‬
‫تضربه ؟‬
‫ستقول ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫نقول ‪ :‬أليس ابنك هذا أحب إليك من هذا النعال النجس فلماذا‬
‫تضربه به ؟‬
‫ستقول ‪ُ :‬أريد تأديبه به ‪ ،‬وحُق لك ذلك ‪.‬‬
‫وعندها نقول ‪ :‬كذلك الله سلط هؤلء علينا لتأديبنا لننا قد‬
‫استحققنا التأديب ول يظلم ربك أحدًا‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫معاناة مع أمواج بحر عاتية ‪ ،‬تضربه ذات اليمين وذات‬
‫الشمال ‪ ،‬ولكنها والحق يقال ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬إنها صحوة غير منضبطة وفق معايير الشرع الحكيم‬
‫‪ ،‬ومقاييس العقل السليم ‪ ،‬بل كانت صحوة عشوائية‬
‫وغير شاملة ‪ ،‬تعالج جانبا ً من المشكلة وتترك الجوانب‬
‫الخرى ‪ ،‬أو تنظر إلى الجوانب المهمة وتترك الهم‬
‫والخطر ‪.‬‬
‫دمت من ِقبل المتحزبين استخداما ً خاطئا ً‬ ‫ُ‬
‫‪ ( 2‬أ سُتخ ِ‬
‫وخبيثا ً ‪ ،‬حيث جعلوها تتقولب في قوالب حزبية ضيقة ‪،‬‬
‫مما جعل عواطف الشباب المسلم الغيور على دينة‬
‫تتبخر بمرور اليام ‪ ،‬ويحل محلها الغيرة على الحزب‬
‫وأهدافه ‪.‬‬
‫ولهذا ظهرت عليها أمارات الفشل والنهزام تلوح في‬
‫الفق ل تخفى على أصحاب الفطر السليمة والعقول‬
‫الرشيدة ‪.‬‬
‫ولو أننا أمعنا النظر في جوهر المشكلة من أساساتها‬
‫فإنه يمكن أن نقول ‪ :‬أن هذا الفشل الذي منيت به تلك‬
‫الجهود للخروج بالمة من مأزقها الكبير ‪ ،‬إنما يرجع _‬
‫والله تعالى أعلم _ إلى أسباب أهمها ‪:‬‬
‫السبب الول ‪ :‬تعدد مناهج المصلحين ‪،‬‬
‫واختلف طرائق المنقذين ‪:‬‬
‫إن المناداة بالرجوع إلى الدين ومن َثم استجابة بعض‬
‫جماهير المسلمين لهذا المر ‪ ،‬فإن هذا الرجوع ـ سواء‬
‫كان بسبب صحوة ألهبت القلوب الغافلة وأيقظت‬
‫العقول النائمة ‪ ،‬أو بسبب انسداد الطرق إمام العباد إل‬
‫طريق الله تعالى الذي وجدوه مفتوحا ً فسعوا في‬
‫سلوكه ‪ ،‬إنقاذا لنفسهم من التيه الذي كانوا يعانون منه‬
‫مل َْتبسا ً على الكثير من هؤلء ‪ ،‬بسبب‬
‫ـ فإنه يبقى ُ‬
‫اصطدامه بتعدد مناهج المصلحين واختلف طرائق‬
‫الدعاة والمنقذين ‪ ،‬ولهذا تشتت هذا الرجوع وضاعت‬

‫‪99‬‬
‫ملمحه ‪ ،‬وعندها تبخرت المال العريضة التي بناها‬
‫ده البعض نقمة جّر المة السلمية إلى‬ ‫البعض ‪ ،‬حتى ع ّ‬
‫ويلت ومصائب من خلل سوء التربية التي تلقتهـا هذه‬
‫الجموع العائـدة على أيدي أولئك الدعاة والمصلحين ـ‬
‫كما يزعمون ـ حيث أنهم حشروا في رؤوس هؤلء‬
‫الشباب العائد أفكار التطرف والغلو والتكفير والقتل ‪،‬‬
‫مما عادت بسلبياتها المشينة ُتهما ً ُألصقت بالسلم‬
‫والمسلمين ظلما ً وعدوانا ً ‪.‬‬
‫قال الشيخ علي بن حسن الحلبي ‪ )) :‬ولكن ‪ ...‬كيف‬
‫يكون هذا الرجوع إلى الدين ‪ ،‬وقد تعددت مناهج‬
‫المصلحين ‪ ،‬واختلفت طرائق الدعاة والمصلحين ؟!‬
‫فمنهم من سلك الطريقة الوعظية المحضة ‪...‬‬
‫ح إلى السياحة في الرض ‪...‬‬ ‫جن َ َ‬
‫ومنهم من َ‬
‫ومنهم من خاض سبيل السياسة وخالط أهلها ‪...‬‬
‫ومنهم من سار في درب المواجهة العسكرية ‪...‬‬
‫ومنهم من نهج الساليب الحزبية ذات الدهاليز‬
‫السرية ‪...‬‬
‫ومنهم من امتطى الطرائق الخيرية ‪...‬‬
‫ومنهم من تسّلك في الطرق الصوفية ‪....‬‬
‫دورون في فََلك رؤسائهم‬ ‫ومنهم الرسميون الذين ي َ ُ‬
‫سمعا ً وطاعة ‪....‬‬
‫ومنهم الكاديميون الذين مهنتهم العلم الجاف المجرد‬
‫عن روح الديانة ‪....‬‬
‫ومنهم المذبذبون ‪...‬‬
‫ومنهم المائعون المميعون ‪...‬‬
‫ومنهم العقلنيون العصرانيون ‪...‬‬
‫ومنهم الحماسيون المهيجون ‪...‬‬
‫‪67‬‬
‫وغير ذلك كائن ويكون ‪. (( .....‬‬

‫‪ ( 67 )67‬التربية والتصفية ‪. 8 :‬‬


‫‪100‬‬
‫السبب الثاني ‪ :‬الجهل والستعجال والتعصب والهوى‬
‫الذي نتج عنهم التسرع في محاولة تغيير هذا الواقع‬
‫المرير دون الرجوع إلى نصح ناصح أو موعظة واعظ ‪،‬‬
‫مما أنعكس سلبا ً على مجريات الحداث ومستجدات‬
‫المور ‪ ،‬مما زاد في عمق المشكلة وتفاقمها ‪ ،‬حتى‬
‫اتسع الرقع على الراقع ‪.‬‬
‫السبب الثالث ‪ :‬الختلف في إيجاد الحلول‬
‫المناسبة المفضية إلى الخروج من الزمة‬
‫والنجاة من المأزق ‪ ،‬بسبب التنازع والختلف‬
‫في تشخيص الداء الذي أفضى بالتالي إلى‬
‫الخطأ في تشخيص الدواء ‪:‬‬
‫فمن المعلوم أن اختلف الرؤى لدى هؤلء في وضع‬
‫القواعد المناسبة التي تعينهم على معرفة الكيفية‬
‫المناسبة في تشخيص أمراض المة ‪ ،‬والتي تسببت في‬
‫تردي أوضاعها وأحوالها ‪ ،‬وكذلك اختلفهم في طرح‬
‫الحلول الناجعة و المناسبة لمعالجة تلك المراض ‪ ،‬فإنه‬
‫عائد بسبب الجهود الفردية المبعثرة لهذه الجماعات‬
‫والحزاب ‪ ،‬الناتجة عن العمل النفرادي الجزئي البعيد‬
‫عن التكتل والجتماع الصحيح المنضبط بضوابط الشرع‬
‫في سبيل إنقاذ المة مما أصابها ‪ ،‬ومن َثم تحقيق‬
‫الهدف الذي يسعى المسلمون في تحقيقه وتطبيقة ‪،‬‬
‫وبالنتيجة حصل الفشل الذريع ‪ ،‬ومنيت الجهود بالخيبة‬
‫في توفير الحلول الناجعة في إيجاد مخرج مناسب‬
‫لزمة أناخت بالمة السلمية وأثقلت كاهلها ‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد العزيز بن ريس الريس في )) مهمات‬
‫في الجهاد ‪ )) : (( 4 :‬إن ضعف أمتنا وتغلب العداء‬
‫علينا مصيبة عظيمة وبلء جسيم ‪ ،‬يجب علينا أن نسعى‬
‫في إزالته ‪ ،‬وهذا ل يتحقق غاية التحقيق إل بحسن‬
‫تشخيصه ‪ ،‬وأل يخلط في تشخيصه بين المرض‬
‫والعرض ‪ ،‬وما أكثر المخلطين بين المراض‬

‫‪101‬‬
‫والعراض ؛ لذا خلطوا فيما ظنوه علجا ً ودواء‬
‫‪.‬‬
‫فظنت طائفة أن المرض هو ‪ :‬مكر العداء ‪ ،‬وتغلبهم ‪،‬‬
‫فعليه ظنت الدواء ‪ :‬إشغال المسلمين بالعدو‬
‫ومخططاته وأقواله وتصريحاته ‪.‬‬
‫وظنت طائفة أخرى أن المرض ‪ :‬تسلط الحكام الظلمة‬
‫في بعض الدول السلمية ‪.‬‬
‫فعليه ظنت الدواء ‪ :‬إسقاط هؤلء الحكام ‪ ،‬وشحن‬
‫نفوس الناس تجاههم ‪.‬‬
‫وظنت طائفة ثالثة أن المرض ‪ :‬تفرق المسلمين في‬
‫البدان ‪.‬‬
‫فعليه ظنت الدواء ‪ :‬جمعهم ‪ ،‬وتوحيدهم ليكثروا ‪.‬‬
‫وكل هؤلء مخطئون في تشخيص الداء بصريح القرآن‬
‫والسنة فضل ً عما ظنوه دواء ‪ ،‬ووجه خطأ الطائفة‬
‫الولى أننا إذا اتقينا الله ل يضرنا كيد العداء قال‬
‫شْيئا ً‪. ‬‬ ‫م َ‬ ‫م ك َي ْد ُهُ ْ‬ ‫ضّرك ُ ْ‬‫قوا ل ي َ ُ‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫تعالى ‪  :‬وَإ ِ ْ‬
‫ووجه خطأ الطائفة الثانية أن الحكام الظلمة عقوبة‬
‫يسلطهم الله على الظالمين بسبب ذنوب المحكومين ‪.‬‬
‫ما‬ ‫ن ب َْعضا ً ب ِ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫ض ال ّ‬ ‫ك ن ُوَّلي ب َعْ َ‬ ‫قال تعالى ‪  :‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ن‪ ‬فليس الحكام الظلمة – إذًا‪ -‬الداء ‪ ،‬بل‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫َ‬
‫الداء المحكومون أنفسهم ‪.‬‬
‫ووجه خطأ الطائفة الثالثة أن الكثرة وتوحيد الصفوف‬
‫ن إ ِذ ْ‬‫حن َي ْ ٍ‬
‫م ُ‬ ‫مع الذنوب ل تنفع كما قال تعالى ‪ :‬وَي َوْ َ‬
‫شْيئا ً‪ ، ‬ألم تر كيف أن‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫ن عَن ْك ُ ْ‬ ‫م فَل َ ْ‬
‫م ت ُغْ ِ‬ ‫م ك َث َْرت ُك ُ ْ‬‫جب َت ْك ُ ْ‬
‫أع ْ َ‬
‫ذنب العجب بدد هذه الكثرة فهزم الصحابة يوم حنين ‪.‬‬
‫ومن الذنوب توحيد الصفوف مع المبتدعة من‬
‫الصوفية ‪ ،‬والشاعرة والمعتزلة ؛ لن الواجب تجاههم‬
‫النكار عليهم ‪ ،‬وأقل أحوال النكار القلبي مفارقتهم ل‬
‫م‪. ‬‬ ‫مث ْل ُهُ ْ‬
‫م ِإذا ً ِ‬‫مجالستهم ‪ ،‬قال تعالى‪  :‬إ ِن ّك ُ ْ‬

‫‪102‬‬
‫ومن هنا تعلم خطأ المقولة التي يرددها المؤسس الول‬
‫لجماعة الخوان المسلمين حسن البنا ‪ :‬نتعاون فيما‬
‫اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا ً فيما اختلفنا فيه ‪ ،‬وهي‬
‫من السس التي قامت عليها هذه الجماعة ) أي‬
‫الخوان المسلمون ( ؛ لذا ترى حسنا ً البنا ‪ ،‬وأتباعه‬
‫طبقوها عمليا ً مع الرافضة والصوفية وغيرهما‪.‬‬
‫وبعد هـذا كله لقائل أن ينادي ‪ :‬قـد أبنت الخطاء في‬
‫تشخيص داء أمتنا ‪ ،‬فما التشخيص الصحيح المبني على‬
‫كتاب ربنا وصحيح سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ؟‬
‫فيقال ‪ :‬تواترت اليات القرآنية والحاديث النبوية في أن‬
‫المصائب التي تنزل بالعباد بسبب ذنوبهم ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫م أ َّنى هَ َ‬
‫ذا‬ ‫مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ‬
‫م ِ‬
‫َ‬
‫ة قَد ْ أ َ‬
‫صب ْت ُ ْ‬ ‫صيب َ ٌ‬
‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما أ َ‬
‫َ‬
‫‪‬أوَل َ ّ‬
‫يٍء قَ ِ‬
‫ديٌر‪.. ‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م إِ ّ‬ ‫عن ْدِ أ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل هُوَ ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫وإن من أعظم المصائب والبليا تغلب العداء وضعف‬
‫المسلمين ‪ ،‬فمن هذا يظهر جليا ً ما يلي ‪:‬‬
‫أن الــداء والمــرض هــو ‪ :‬تقصــير المســلمين فــي‬
‫دينهم ‪ ،‬ومخالفتهم لشريعة نبيهم ‪.‬‬
‫والدواء والشفاء هو ‪ :‬إرجاعهم إلى دينهم‬
‫الحق‪.‬‬
‫وأعراض هذا الداء هو ‪ :‬غلبة الكفار وتسلطهم ‪،‬‬
‫وتسليط الحكام الظلمة على بعض دول المسلمين ‪ ،‬أل‬
‫ترى إلى الشرك كيف ضربت إطنابه ‪ ،‬ورفعت راياته‬
‫في أكثر العالم السلمي ؟ وأل ترى إلى التوحيد كيف‬
‫يحارب في العالم السلمي كله خل هذه الدولة‬
‫المباركة الدولة السعودية – أعزها الله باليمان – التي‬
‫تربي أبناءها على التوحيد في المدارس النظامية‬
‫والمساجد – جزى الله حكامها وعلماءها كل خير ‪. -‬‬

‫‪103‬‬
‫فإذا كان هذا حال العالم السلمي مع أعظم ذنب‬
‫يعصى الله به ) الشرك الكبر ( ‪ ،‬فكيف نريد نصرا ً وعزا ً‬
‫‪.‬‬
‫ناهيك عن المعاصي الشبهاتية الخرى ‪ ،‬والشهوانية‬
‫فهي السائدة الظاهرة في أكثر العالم السلمي ‪.‬‬
‫فإذا كنا صادقين ‪ ،‬ولمتنا راحمين ‪ ،‬فل‬
‫نشتغل بالعرض عن علج الداء ‪ ،‬وهو إرجاعهم‬
‫إلى دينهم (( أ ‪ .‬هـ‬
‫أقــول ‪ :‬لــو أمعنــا النظــر فــي كلم الشــيخ عبــد العزيــز‬
‫الريس وتأملناه مليا ً فإننا نجد ‪:‬‬
‫أول ً ‪ :‬أنه يفرق بين المراض والعراض ‪ ،‬وبين السبب‬
‫والنتائج ‪ ،‬ولو أننا أستطعنا الوصول إلى هذا التفريق‬
‫فإن المر بالتأكيد سيسهل علينا ‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬ونرى أيضا ُ أنه يشير إلى وجوب البدء بمعالجة‬
‫المراض والسباب دون العكس ‪ ،‬لن النتائج والعراض‬
‫ستزول بالكلية بمجرد زوال المراض والسباب ‪ ،‬وكما‬
‫قلنا سابقا ً أن النتائج مرتبة ارتباطا ً وثيقا ً بالسباب‬
‫وجودا ً وعدما ً ‪.‬‬
‫أما الشتغال بمعالجة النتائج والعراض ـ كما هو حاصل‬
‫اليوم في كثير من البلدان السلمية ـ فإنه مضيعة‬
‫للوقت وبعثرة للجهود ‪ ،‬وفي الوقت نفسه مصادمة‬
‫للسنن الربانية ‪ ،‬لن الله تبارك وتعالى قد خلق هذا‬
‫الكون ونظمه تنظيما ً كونيا ً وشرعيا ً ‪ ،‬ووضع له سننا ل‬
‫ً‬
‫تنتقض مجاملة لحبيب أو مداهنة لعزيز ‪ ،‬ولهذا فمن أراد‬
‫البحث عن حلول ومخارج بعيدا ً عن هذه السنن الربانية‬
‫ورغما ً عنها ‪ ،‬فكأنه يحرث في ماء بحر بعيد العماق ‪،‬‬
‫أو كنافخ ِقربة مقطعة الوصال ‪ ،‬فل هو حاصل على ما‬
‫يريد ‪ ،‬ول أراح نفسه من عناء ذلك ‪.‬‬
‫ولهذا نعجب كل العجب ممن يسعى في معالجة نازلة‬
‫أو معضلة وسبب قيامها ووقوعها ما زال قائما ً موجودا ‪.‬‬
‫ً‬

‫‪104‬‬
‫وكتطبيق عملي وواقعي دقيق لما سبق ذكره وتقريره ‪،‬‬
‫وحتى ل تبقى المسألة مجرد نظريات تدون بين أسطر‬
‫صفحات ثم تركن على رفوف النسيان ‪ ،‬أو كلمات تلقى‬
‫في دروس ومحاظرات ل تجد لها سبيل ً للتطبيق على‬
‫أرض الواقع ‪ ،‬فإننا نسوق الحادثة التالية بطلها إمام‬
‫رباني يترجم أقواله وأفعاله في ضوء الكتاب والسنة ‪،‬‬
‫وهو شيخ السلم أبن تيمية رحمه الله تعالى ‪ ،‬الذي‬
‫كان يعيش في عصر استشرى فيه الكثير من‬
‫المعضلت ‪ ،‬ونزلت على أهله الكثير من النوازل‬
‫والخطوب التي يشيب منها الوالد وما ولد ‪ ،‬وفيه أنتشر‬
‫الشرك بأنواعه وأشكاله المتعددة ‪ ،‬كما فشت البدع‬
‫والمعاصي المنكرة ‪ ،‬وكان أعظمها تسلط التتار على‬
‫أهل دمشق ‪ ،‬بعد أن وطأ بقدميه الكثير من البلد‬
‫السلمية ‪ ،‬ومنها بغداد عاصمة الخلفة السلمية ‪.‬‬
‫فيا ترى بأي المراض بدأ ؟ وأي العلجات أختار ؟ وهل‬
‫خلط بين المرض والعرض ؟ وهل انشغل بعلج المهم‬
‫دون الهم ؟ أسئلة تثار لعل من يتصدى للصلح‬
‫والتغيير في كل زمان ومكان أن ينتبه إلى أجوبتها ويأخذ‬
‫بها ‪.‬‬
‫ففي قصة شيخ السلم أبن تيمية مع قــومه عنــد مقــدم‬
‫التتر إلى الشام العبر والعظات ‪ ،‬حيث نرى أنه لــم يجــد‬
‫_ رحمــه اللــه تعــالى _ دواء أنجــع وأنفــع مــن التصــفية‬
‫م بهم من مصائب وخطــوب ‪ ،‬وهــا‬ ‫والتربية ‪ ،‬لعلج ما أَلـ ّ‬
‫خص الــداء ‪،‬‬ ‫هو ينقــل لنــا مــا حــدث وجــرى ‪ ،‬وكيــف َ‬
‫شـ ّ‬
‫وكيف عالج أوضاع تلك النازلة الفظيعة ‪ ،‬حتى أنزل الله‬
‫تبارك وتعالى عليهم نصره ‪ ،‬فقــال رحمــه اللــه )) حــتى‬
‫إن العدو الخارج عن شريعة السلم لمـا قـدم دمشـق ‪،‬‬
‫خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها‬
‫كشف ضرهم ‪ ،‬وقال بعض الشعراء ‪:‬‬

‫‪105‬‬
‫لوذوا بقبر أبي‬ ‫يا خائفين من التتر‬
‫عمر‬
‫ينجيكم من‬ ‫أو قال ‪ :‬عوذوا بقبر أبي عمر‬
‫الضرر‪.‬‬
‫فقلت لهم ‪ :‬هؤلء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم‬
‫في القتال لنهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين‬

‫يوم أحد ‪ ،‬فإنه كان قد ُقض ّ‬


‫ي أن العسكر ينكسر لسباب‬
‫اقتضت ذلك ‪ ،‬ولحكمة كانت لله عز وجل في ذلك ‪.‬‬
‫ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا‬
‫في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الّلـه به‬
‫ورسوله ‪ ،‬ولما يحصل في ذلك من الفساد وانتفاء‬
‫النصرة المطلوبة من القتال ‪ ،‬فل يكون فيه ثواب الدنيا‬
‫ول ثواب الخرة ‪ ،‬لمن عرف هذا وهذا ‪ ،‬وإن كان كثير‬
‫من القائلين الذين اعتقدوا هذا قتال ً شرعيا ً أجروا على‬
‫نياتهم ‪.‬‬
‫فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلص الدين لله‬
‫عز وجل والستغاثة به ‪ ،‬وأنهم ل يستغيثون إل إياه ‪ ،‬ول‬
‫يستغيثون بملك مقرب ول نبي مرسل ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ب‬
‫جا َ‬
‫ست َ َ‬
‫فا ْ‬ ‫ن َرب َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫غي ُْثو َ‬ ‫يوم بدر ‪} :‬إذْ ت َ ْ‬
‫ست َ ِ‬
‫كم ‪. {.‬‬‫لَ ُ‬
‫‪106‬‬
‫فلما أصلح الناس أمورهم ‪ ،‬وصدقوا في الستغاثة‬
‫بربهم ‪ ،‬نصرهم على عدوهم نصرا ً عزيزا ً ‪ ،‬ولم ينهزم‬
‫التتار مثل هذا الهزيمة قبل ذلك أصل ً لما صح من‬
‫تحقيق توحيد الّلـه تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل‬
‫ذلك ‪ ،‬فإن الّلـه ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة‬
‫الدنيا ويوم يقوم الشهاد (()‪. (68‬‬
‫أقول ‪ :‬نستشف من خلل واقــع ذلــك الحــال العصــيب ‪،‬‬
‫أن شيخ السلم أبن تيمية أستقرأ واقعه وحــال قــومه ‪،‬‬
‫فوجــد أنــه يــواجه _ إبتــداءا ً _ معضــلتين كــبيرتين‬
‫هما ‪:‬‬
‫الولــى ‪ :‬العــدو القــادم ‪ ،‬وقــد ســبقت إليهــم أخبــاره‬
‫باحتلله الكثير مــن أرض المســلمين ومنهــا دار الخلفــة‬
‫بغداد ‪ ،‬وهذا وحــده كفيــل بإدخــال الفــزع والخــوف إلــى‬
‫قلوب الناس ‪ ،‬وتشتيت عقولهم وعزائمهم ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬فساد أحوال قومه ‪ ،‬ووقوعهم فــي الموبقــات‬
‫المهلكة مــن الشــرك والبــدع المنكــرة ‪ ،‬ولهــذا أخــبرهم‬
‫بهزيمتهم وانكسارهم ابتداًء ‪.‬‬
‫فجاء كلمه المذكور آنفـا ً ‪ ،‬والــذي نســتطيع بعــد التأمــل‬
‫فيه أن نستخلص منه عدة فوائد مهمة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ (1‬وجوب اللجوء إلى الله تعالى عنــد وقــوع الكــوارث‬
‫والنوازل ‪ ،‬والســتغاثة بــه وحــده لــدفعها وكشـفها ‪ ،‬وأن‬
‫اللجوء إلى غيره في كشفها ودفعها شــرك أكــبر ل يزيــد‬
‫ه‬‫ك الل ّـ ُ‬‫سـ َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫المسألة إل تعقيــدا ً ‪ ،‬قــال تعــالى ‪ ‬وَِإن ي َ ْ‬
‫ه‬
‫ضــل ِ ِ‬
‫ف ْ‬‫خي ْرٍ فَل َ َرآد ّ ل ِ َ‬‫ك بِ َ‬ ‫ف لَ ُ‬
‫ه إ ِل ّ هُوَ وَِإن ي ُرِد ْ َ‬ ‫ش َ‬ ‫ضّر فَل َ َ‬
‫كا ِ‬ ‫بِ ُ‬
‫‪ ( 68 )68‬أنظر كتاب الرد على البكري ص ‪ 377 :‬ـ ‪. 379‬‬
‫‪107‬‬
‫م‬ ‫حي ـ ُ‬ ‫عب َــادِهِ وَهُـوَ ال ْغَ ُ‬
‫فــوُر الّر ِ‬ ‫ن ِ‬
‫مـ ْ‬ ‫مــن ي َ َ‬
‫شــاُء ِ‬ ‫ب ب ِـهِ َ‬‫صــي ُ‬
‫يُ َ‬
‫‪]‬يونس ‪. [107 :‬‬
‫‪ ( 2‬ضرورة تصفية عقائد المسلمين قبل الدخول فــي‬
‫قتال العدو ‪ ،‬لنـه إن كـان فـي صـفوفهم بـدع وشـرك ‪،‬‬
‫ومعهــم الصــالحون لــم ينفعهــم ذلــك ‪ ،‬فكيــف إذا كــان‬
‫المســلمون يتقربــون إلــى اللــه بالشــرك ومشــاقة اللــه‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬حســن اســتدلل شــيخ الســلم ‪ ،‬بحيــث أســتدل‬
‫بالدنى وهي المعصية على العلــى وهــو الشــرك ‪ ،‬فــإن‬
‫المسلمين يوم أحد لم يقــع منهــم شــيء مــن الشــرك ‪،‬‬
‫وإنمــا عصــى منهــم الرســول ‪ ‬فــانهزموا ‪ ،‬فمعصــية‬
‫واحدة سببت انهزام خير جيش مشى على وجــه الرض‬
‫قائده رسول الله ‪ ، ‬فهل يعقل أن ينتصر المســلمون‬
‫وفيهـــم بـــدع وشـــركيات وتصـــوف وتجهـــم ‪ ،‬ورفـــض‬
‫واعتزال ‪.‬‬
‫‪ ( 4‬قــوله )) لمــا قــدم دمشــق ‪ (( ...‬يــدل علــى أن‬
‫قتالهم كان قتال دفع ‪ ،‬فدل ذلــك _ واللــه أعلــم _ علــى‬
‫أن مسألة تصحيح عقائد الناس ل يختــص بقتــال الطلــب‬
‫فقط ‪ ،‬وإنما يعم قتال الدفع أيضا ً ‪.‬‬
‫ي أن العســكر ينكســر‬ ‫‪ ( 5‬قوله )) فــإنه كــان قــد ُقضـ ّ‬
‫لسباب اقتضت ذلك ‪ ،‬ولحكمة كانت لله عــز وجــل فــي‬
‫ذلك (( فإنه كلم دقيق مستقيم من عالم ربــاني ‪ ،‬فمــن‬
‫خلل النظر في سنن الله الكونية والشــرعية نعــرف أن‬
‫الجيــش إذا فشــت فــي صــفوفه المعاصــي والــذنوب‬
‫وتساوى مع عدوه فيها ‪ ،‬أوكله الله إلــى نفســه وقــوته ‪،‬‬
‫ولهذا أخبرهم شيخ السلم بهزيمتهم وانكسارهم إبتداءا ً‬
‫‪.‬‬
‫قال المام أبن القيم في )) مدارج السالكين ‪489 / 2 :‬‬
‫(( ‪ )) :‬أن من فراسة _ أبــن تيميــة _ أنــه أخــبر أصــحابه‬
‫بدخول _ التتر _ الشام ســنة تســع وتســعين وســتمائة ‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫وأن جيوش المسلمين ُتكسر ‪ ،‬وأن دمشق ل يكــون بهــا‬
‫قتــل عــام ول ســبي عــام ‪ ...‬وهــذا قبــل أن يهــم التتــار‬
‫بالحركة ‪. (( ...‬‬
‫‪ ( 6‬وقوله )) ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة‬
‫لم يقاتلوا في تلك المــرة لعــدم القتــال الشــرعي الــذي‬
‫أمر الّله به ورسوله ‪. (( ...‬‬
‫حيث نقل رأي أهل الدين والعلم بعـدم مشـروعية قتـال‬
‫التتر إبتداءا ً ‪ ،‬وعلل ذلك ‪:‬‬
‫‪ _ 1‬لما يحصل في ذلك من الشر والفساد ‪.‬‬
‫‪ _ 2‬والهم من ذلك انتفاء النصرة اللهية ‪ ،‬بسبب وجود‬
‫ما يمنع من نزولها من شرك وبدع ومعاصي وغيره ‪.‬‬
‫وهذا رأيه _ رحمه الله _ أيضا ً ‪ ،‬بدليل قوله )) فلما كــان‬
‫بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلص الدين للــه عــز وجــل‬
‫والستغاثة به وأنهم ل يستغيثون إل إياه ‪. (( ...‬‬
‫ن بين هذا القــول ومــا ســبقه مــا يقــارب‬ ‫ومن الواضح أ ّ‬
‫الثلث سنوات ‪ ،‬حيث أن قدوم التتر إلى دمشــق حــدث‬
‫في سنة ‪ 699‬هـ ‪ ، 69‬ومعركة شقحب التي خاضها شيخ‬
‫السلم مع قومه والتي انتصروا فيها علــى التــتر حــدثت‬
‫سنة ‪ 702‬هـ ‪.70‬‬
‫ومن هذا نعلم أن شيخ السلم أبن تيمية_ طــوال هــذه‬
‫المدة _ قد ســعى بكــل جــد فــي إصــلح أحــوال النــاس‬
‫ومعتقداتهم ‪ ،‬حتى أنـه _ رحمــه اللـه _ ذهـب إلـى قـائد‬
‫التتر وكّلمه كلما ً شـديدا ً مـن رجـل ل يخشـى فـي اللـه‬
‫لومــة لئم ‪ ،‬ومــن ثــم أخــذ المــان لقــومه ‪ ،‬ممــا عــاد‬
‫بالمصلحة للمسلمين ‪ ،‬لسيما وان قومه فــي حالــة مــن‬
‫الضــعف والخــوف ل يســتطيعون معهمــا قتــال العــدو‬
‫ومواجهته ‪.‬‬

‫‪ ( 69 )69‬أنظر )) البداية والنهاية ‪ (( 7 / 14 :‬للمام أبن كثير‬


‫‪ ( 70 )70‬المصدر السابق ‪. 27 / 14 :‬‬
‫‪109‬‬
‫قال المام أبن كثير في ‪ )) :‬البداية والنهاية ‪(( 8 / 14 :‬‬
‫‪)) :‬هذا وســلطان التتــار قــد قصــد دمشــق بعــد الوقعــة‬
‫فاجتمع أعيان البلد والشــيخ تقــي الــدين بــن تيميــة فــي‬
‫مشهد على واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه وأخذ‬
‫المان منه لهل دمشق فتوجهوا يوم الثنين ثــالث ربيــع‬
‫الخر فاجتمعوا به عند النبك وكلمــه الشــيخ تقــي الــدين‬
‫‪71‬كلما قويا ً شديدا ً فيه مصلحة عظيمة عاد نفعهــا علــى‬
‫المسلمين ولله الحمد‪. (( 72‬‬
‫‪ ( 71 )71‬لو حدث مثل هذا المر في زمننا هذا لتهموا أبن تيمية‬
‫حكم عليه بالردة من الدين‬ ‫بالجاسوسية والموالة للعدو ‪ ،‬و ُ‬
‫فسبحان الله ‪.‬‬
‫‪ ( 72 )72‬قال أبن كثير في )) البداية والنهاية ‪: (( 119 / 14 :‬‬
‫)) عن أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي وكان يوم‬
‫قازان في جملة من كان مع الشيخ تقي الدين أبن تيمية لما تكلم‬
‫مع قازان ‪ ،‬فحكى عن كلم شيخ السلم تقي الدين لقازان‬
‫وشجاعته وجرأته عليه ‪ ،‬وأنه قال لترجمانه قل للقازان ‪ :‬أنت‬
‫تزعم أنك مسلم ‪ ،‬ومعك مؤذنون وقاضي وإمام وشيخ على ما‬
‫بلغنا ‪ ،‬فغزوتنا وبلغت بلدنا على ماذا ‪ ،‬وأبوك وجدك هلكو كانا‬
‫كافرين وما غزوا بلد السلم ‪ ،‬بل عاهدوا قومنا وأنت عاهدت‬
‫فغدرت وقلت فما وفيت ‪ ،‬قال وجرت له مع قازان وقطلوشاه‬
‫وبولي أمور ونوب قام أبن تيمية فيها كلها لله ‪ ،‬وقال الحق ولم‬
‫يخش إل الله عز وجل ‪.‬‬
‫ً‬
‫قال وقرب إلى الجماعة طعاما فأكلوا منه إل أبن تيمية ‪ ،‬فقيل‬
‫له ‪ :‬أل تأكل ؟ فقال ‪ :‬كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من‬
‫أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس ‪ ،‬قال ‪ :‬ثم‬
‫إن قازان طلب منه الدعاء ‪ ،‬فقال في دعائه ‪ :‬اللهم إن كان هذا‬
‫عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين‬
‫كله لك فانصره وأيده وملكه البلد والعباد ‪ ،‬وإن كان إنما قام‬
‫رياء وسمعة وطلبا ً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا ‪ ،‬وليذل السلم‬
‫وأهله فأخذله ‪ ،‬وزلزله ‪ ،‬ودمره واقطع دابره ‪ ،‬قال وقازان‬
‫ً‬
‫يؤمن على دعائه ويرفع يديه ‪ ،‬قال ‪ :‬فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من‬
‫أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما خرجنا من عنده قال له‬
‫قاضي القضاة نجم الدين أبن صصرى وغيره ‪ :‬كدت أن تهلكنا‬
‫وتهلك نفسك والله لنصحبك من هنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬وأنا والله ل‬
‫‪110‬‬
‫ومن ثم لما صلح حال الناس من خلل تصفية ما كان‬
‫في قلوبهم من الدخن والوهن ‪ ،‬أخبرهم _ رحمه الله _‬
‫بنصر الله لهم ‪ ،‬وذلك بقوله )) فلما كان بعد ذلك جعلنا‬
‫نأمر الناس بإخلص الدين لله عز وجل والستغاثة به‬
‫وأنهم ل يستغيثون إل إياه ‪ ،‬ول يستغيثون بملك مقرب‬
‫ول نبي مرسل كما قال تعالى يوم بدر ‪} :‬إ ْ‬
‫ذ‬
‫كم ‪. {.‬‬ ‫ب لَ ُ‬
‫جا َ‬‫ست َ َ‬
‫فا ْ‬ ‫ن َرب َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫غي ُْثو َ‬
‫ست َ ِ‬
‫تَ ْ‬
‫فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الستغاثة بربهــم‬
‫نصرهم على عدوهم نصرا ً عزيزا ً ‪ ،‬ولم ينهزم التتار مثل‬
‫هذا الهزيمة قبل ذلك أصل ‪ ،‬لما صح من تحقيــق توحيــد‬
‫الّلـه تعالى وطاعة رسوله ما لم يكــن قبــل ذلــك ‪ ،‬فــإن‬
‫الّله ينصر رسوله والذين آمنــوا فــي الحيــاة الــدنيا ويــوم‬
‫يقوم الشهاد (( ‪.‬‬
‫قال أبن القيم في )) مدارج السالكين ‪: (( 489 / 2 :‬‬
‫)) أن من فراسة _ أبن تيمية _ أنه أخبر أصحابه بـدخول‬
‫_ التــتر _ الشــام ســنة تســع وتســعين وســتمائة ‪ ،‬وأن‬
‫جيوش المسلمين تكسر ‪ ،‬وأن دمشق ل يكون بهــا قتــل‬
‫عـــام ول ســـبي عـــام ‪ ...‬وهـــذا قبـــل أن يهـــم التتـــار‬
‫بالحركة ‪...‬‬
‫ثم أخبر الناس والمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك‬
‫التتار وقصدوا الشام ‪ ،‬أن الدائرة والهزيمة عليهم ‪ ،‬وأن‬

‫أصحبكم ‪ ،‬قال ‪ :‬فانطلقنا عصبة وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه‬


‫جماعة من أصحابه ‪ ،‬فتسامعت به الخواقين والمراء من أصحاب‬
‫قازان فأتوه يتبركون بدعائه وهو سائر إلى دمشق وينظرون إليه‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬والله ما وصل إلى دمشق إل في نحو ثلثمائة فارس في‬
‫ركابه وكنت أنا من جملة من كان معه ‪ ،‬وأما أولئك الذين أبو أن‬
‫يصحبوه فخرج عليهم جماعة من التتر فشلحوهم عن أخرهم (( ‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫الظفر والنصر للمسلمين ‪ ،‬وأقسم على ذلــك أكــثر مــن‬
‫سبعين يمينا ً ‪ ،‬فيقال له ‪ :‬قل إن شاء الله ‪.‬‬
‫فيقول ‪ :‬إن شاء الله تحقيقا ً ل تعليقا ً (( ‪.‬‬
‫وقال أبن كثير في )) البداية والنهاية ‪: (( 34 / 14 :‬‬
‫))وحّرض السلطان على القتال وبشره بالنصر ‪ ،‬وجعل‬
‫يحلف بالله ‪ ،‬الله ل إله إل هو إنكم منصورون عليهم‬
‫في هذه المرة ‪.‬‬
‫فيقول له المراء ‪ :‬قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله‬
‫تحقيقا ً ل تعليقا ً ‪ ،‬وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم‬
‫وأفطر هو أيضا ‪ ((..‬أ ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫وهكذا عرفنا أثر التصفية والتربية في تحقيق التمكين‬
‫والنصر والعزة ‪ ،‬كما عرفنا خطأ من يبحث عن نصر‬
‫وتمكين رغما ً عن سنن الله الكونية والشرعية ‪ ،‬ودون‬
‫اللتفات إلى سبب الهزيمة والنتكاس ‪.‬‬
‫فليس من المعقول شرعا ً ول عقل ً أن نبحث عن نصر‬
‫وتمكين وسبب الهزيمة ما زال موجودا ً ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ن‬
‫تراكمات السنين الطويلة كذلك لها وجود وانتشار وقد‬
‫صرت خطواتها ‪.‬‬ ‫أثقلت كاهل المة وق ّ‬
‫قال الشيخ محمد ناصر الدين اللباني ‪ )) :‬ولكي ندلل‬
‫على صحة ما نذهب إليه في هذا المنهج ‪ ،‬نعود إلى‬
‫كتاب الله الكريم ‪ ،‬ففيه آية واحدة تدل على خطأ كل‬
‫من يخالفنا فيما نعتقد ونجزم به أن البداية تكون‬
‫بالتصفية والتربية ‪:‬‬
‫م ‪] ‬محمد ‪:‬‬ ‫صْرك ُ ْ‬
‫ه َين ُ‬ ‫ّ‬
‫صُروا الل َ‬‫يقول تعالى ‪ِ ‬إن َتن ُ‬
‫‪. [7‬‬
‫هذه هي الية المقصودة ‪ ،‬وهي التي أجمع المفسرون‬
‫على أن معنى نصر الله فيها إنما هو العمل بأحكامه‬
‫سبحانه ‪......‬‬

‫‪112‬‬
‫فإذا كان نصر الله ل يتحقق إل بإقامة أحكامه ‪ ،‬فكيف‬
‫يمكننا أن ندخل في الجهاد عمليا ً ونحن لم ننصر _ وفق‬
‫ما اتفق عليه المفسرون _ ؟!‬
‫كيف ندخل الجهاد وعقيدتنا خراب يباب ؟‬
‫كيف نجاهد وأخلقنا تتماشى مع الفساد ؟!‬
‫لبد إذن قبل الشروع بالجهاد من تصحيح العقيدة وتربية‬
‫النفس ‪.73(( ..‬‬

‫عبر ‪:‬‬
‫فوائد و ِ‬

‫لو نظرنا في ما ذكرناه آنفا ً من المظاهر ) مظاهر‬


‫الغربة الولى والثانية ( فإننا نستطيع أن نستخلص منها‬
‫عدة فوائد وعبر ‪ ،‬أهمها ‪:‬‬
‫الفائدة الولى ‪ :‬التشابه الواضح بين مظاهر الغربة‬
‫الولى وبين مظاهر الغربة الثانية ‪ ،‬مما يدلل على‬
‫مسألتين مهمتين ‪:‬‬
‫المسألة الولى ‪ :‬تتابع أذية أهل الحق من أتباع‬
‫النبياء ) صلوات الله عليهم ( في كل زمان ومكان ‪،‬‬
‫لن في وأدهم وأد للدعوة ‪ ،‬وفي تقليلهم تكثير للباطل‬
‫وأهله ‪ ،‬وبهذا نعرف أن أذية الداعين إلى الخير من‬
‫طبيعة البشر ‪ ،‬كما أنها سنة ربانية سنها الله تبارك‬
‫وتعالى في عباده الغاية منها البتلء والتمحيص والختبار‬
‫قوُلوا‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫كما قال تعالى ‪ ‬أ َحسب الناس أ َن يتر ُ َ‬
‫كوا أ ْ‬ ‫ّ ُ ْ َُْ‬ ‫َ ِ َ‬
‫ن‬
‫م ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م فَلي َعْل َ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫قد ْ فَت َّنا ال ِ‬‫فت َُنون ‪ ،‬وَل َ َ‬ ‫م ل يُ ْ‬‫مّنا وَهُ ْ‬ ‫آ َ‬
‫ن ‪ ] ‬العنكبوت ‪[ 2:‬‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫كاذِِبي َ‬ ‫م ّ‬ ‫صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬
‫الل ّ ُ‬
‫‪.‬‬
‫ن‬
‫م ّ‬‫صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ‬‫ن َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫والغاية منها ) فَل َي َعْل َ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫كاذِِبي َ‬‫ال ْ َ‬

‫‪ ( 73 )73‬أنظر ) التربية والتصفية ‪ ( 30 :‬للشيخ علي بن حسن‬


‫الحلبي ‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫المسألة الثانية ‪ :‬تواجد العداء لدعوة النبياء ممن‬
‫ينصبون العداء لها في كل زمان ومكان ‪ ،‬لنهم يرون أن‬
‫دعوة الحق ستسلب ما بأيديهم من جاه وسلطان ومال‬
‫وأتباع ‪ ،‬ولجل هذا تراهم يتبعون طريق العناد ‪،‬‬
‫والستكبار عن قبول الحق والنقياد له ‪ ،‬بالضافة إلى‬
‫ما داخل نفوسهم المريضة من الكبرياء والحسد ‪ ،‬الذي‬
‫يدفعهم إلى التمرد والرفض كما نراه واضحا ً من خلل‬
‫هذه الحادثة التي جرت بين المغيرة بن شعبة الذي كان‬
‫حينها على الكفر ‪ ،‬وبين أبي جهل رأس الكفر والعناد ‪،‬‬
‫والتي ينقلها المغيرة إلينا بنفسه ‪.‬‬
‫فعن المغيرة رضي الله عنه قال ‪ )) :‬إن أول يوم‬
‫عرفت رسول الله ) ‪ ( ‬أني أمشي أنا وأبو جهل في‬
‫بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله فقال رسول الله )‬
‫‪ ( ‬لبي جهل ‪ :‬يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله‬
‫أدعوك إلى الله (( ‪.‬‬
‫فقال أبو جهل ‪ :‬يا محمد هل أنت منتهٍ عن سب ألهتنا ؟‬
‫هل تريدينا إل أن نشهد إنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن‬
‫قد بلغت ‪ ،‬فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق‬
‫لتبعتك !!‬
‫ى فقال ‪ :‬والله‬ ‫فأنصرف رسول الله ) ‪ ( ‬وأقبل عل ّ‬
‫لعلم أن ما يقول حق ‪ ،‬ولكن يمنعني شيء إن بني‬
‫قصي قالوا ‪ :‬فينا الحجابة ‪ :‬فقلنا نعم ‪ ،‬ثم قالوا فينا‬
‫السقاية ‪ :‬فقلنا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ثم قالوا ‪ :‬فينا الندوة فقلنا ‪ :‬نعم‬
‫‪ ،‬ثم قالوا ‪ :‬فينا اللواء فقلنا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ثم اطعموا وأطعمنا‬
‫‪74‬‬
‫حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي والله ل أفعل ((‬
‫‪.‬‬

‫‪ ( 74 )74‬إسناده حسن أنظر )) صحيح السيرة ‪ 162 :‬للمحدث‬


‫العلمة اللباني (( ‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫ولهذا نرى هؤلء يحاولون التصدي لهذه الدعوة المباركة‬
‫بكل وسيلة متاحة يمكن أن تساعدهم في ذلك من‬
‫سجن و تعذيب ‪،‬بل وحتى القتل إن كان يحقق لهم ما‬
‫يريدون ‪.‬‬
‫وفات هؤلء بسبب جهلهم وسوء تقديرهم لعواقب‬
‫المور أن دعوة الحق ل يمكن أن تموت ‪ ،‬وأن أصحاب‬
‫الحق وإن كان يعتريهم في بعض الحيان بعض القلة‬
‫والضعف إل أنهم ل يموتون ول ينقطعون ‪ ،‬وأن دعوتهم‬
‫باقية ومستمرة وظاهرة ‪ ،‬ل يضرهم من خالفهم ول من‬
‫خذلهم إلى يوم الدين ‪ ،‬فهم الفرقة الناجية وهم‬
‫القائمون بدين الله وسنة رسوله) ‪ ( ‬علما ً وعمل ً‬
‫ودعوة ‪.‬‬
‫الفائدة الثانية ‪ :‬إن بعض المظاهر وخاصة مظاهر‬
‫الغربة الثانية قد ظهرت كسبب ‪ ،‬وأما البعض الخر‬
‫فإنها قد ظهرت كنتيجة حتمية الوقوع والظهور لتلك‬
‫السباب ‪.‬‬
‫فقلة التباع وقلة من يعين على الخير وفشو الجهل‬
‫والستضعاف ناشيء كنتيجة حتمية لفساد أحوال الناس‬
‫وقلة من يطلب العلم وتسلط أهل الجهل والظلم ‪،‬‬
‫وفوق ذلك ابتعاد الكثير من الناس عن دينهم الذي‬
‫أمروا أن يتمسكوا به مما يؤدي إلى ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬نــزول الــذل والهــوان علــى المــة الســلمية‬
‫واستمراره حتى يرجع الناس إلى دينهم الحق ‪ ،‬كما قال‬
‫عليه الصـلة والسـلم ‪ )) :‬إذا تبـايعتم بالعينـة ‪ ،‬وأخــذتم‬
‫أذناب البقر ‪ ،‬ورضيتم بــالزرع ‪ ،‬وتركتــم الجهــاد ‪ ،‬س ـّلط‬
‫الله عليكم ذ ُل ً ل ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكــم ((‬
‫‪. 75‬‬

‫‪ ( 75 )75‬أخرجه أبو داود برقم ‪ ، 3462 :‬والبيهقي في سننه برقم‬


‫‪ ،10484‬وصححه الشيخ اللباني في صحيح سنن أبي داود ‪/ 3 :‬‬
‫‪ ، 274‬السلسلة الصحيحة ‪ ، 42/ 1 :‬وقال ‪ :‬العينة أن يبيع شيئا ً‬
‫‪115‬‬
‫وروى أبو نعيم في )) حلية الولياء ‪: (( 216 / 1 :‬‬
‫)) عن جبير بن نفير قال ‪ :‬لما ُفتحت قبرص فُرِقَ بين‬
‫أهلها ‪ ،‬فبكى بعضهم بعضا ً ورأيت أبا الدرداء جالسا ً‬
‫وحده يبكي ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا أبا الدرداء ! ما يبكيك في يوم‬
‫أعز الله فيه السلم وأهله ؟‬
‫قال ‪ :‬ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا هم‬
‫تركوا أمره ‪ ،‬بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك‬
‫تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى (( ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬جور المراء والحكام الظلمة الذين ل يمنعهم مانع‬
‫من إنزال بطشهم بالغرباء ‪ ،‬في محاولة منهم‬
‫للمحافظة على عروشهم وكراسيهم ‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫جور الحكام إنما هو نتيجة ل سبب ‪ ،‬ولكن وللسف‬
‫الشديد نرى الكثيرين من المتسرعين قد انشغلوا في‬
‫البحث عن حلول لهذه النتائج دون اللتفات إلى السبب‬
‫الموجب لها ‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد المالك الرمضاني في ) فتاوى العلماء‬
‫الكابر ‪ )) : ( 48 :‬عن سليمان بن علي الّربعي قال ‪:‬‬
‫ن‬
‫جب َ‬‫جا َ‬
‫ما كانت فتنة أبن الشعث ‪ ،‬إذ قاَتل الح ّ‬ ‫)) ل َ ّ‬
‫جوزاء وعبد‬ ‫ة بن عبد الغافر وأبو ال َ‬
‫ف ‪ ،‬انطلق عقب ُ‬ ‫يوس َ‬
‫فرٍ من نظرائهم ‪ ،‬فدخلوا على‬ ‫ن غالب في ن َ َ‬ ‫الله ب ُ‬
‫من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ‪ ،‬ثم يشتريه قبل‬
‫قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر يدفعه نقدا ً ‪ ،‬قال شيخ‬
‫السلم أبن تيمية ‪ :‬فهذا مع التواطؤا يبطل البيعين لنه حيلة ((‬
‫أ ‪ .‬هـ‬
‫أما قوله )) أخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع (( كناية عن‬
‫اشتغال الناس بالدنيا وترك العمل للخرة ‪ ،‬وأما الجمع بين‬
‫الثنين فليس هنالك ما يمنع من ذلك ‪.‬‬
‫أما قوله )) وتركتم الجهاد (( فالمراد به جهاد الطلب والدعوة‬
‫لنه طريق إلى إعزاز المة وثمرة لقوتها وعزها ‪ ،‬ولكن لما‬
‫تشاغل الناس بالدنيا وعملوا لها وأعرضوا عن دينهم الذي هو‬
‫عصمة أمرهم ـ ول حول ول قوة إل بالله ـ أصابهم الذل والهوان‬
‫وغزاهم العدو في عقر دارهم ‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫الحسن ـ أي البصري ـ فقالوا ‪ :‬يا أبا سعيد ! ما تقول‬
‫خذ َ‬
‫م الحرام ‪ ،‬وأ َ‬‫في قتال هذا الطاغية الذي سفك الد َ‬
‫ك الصلة ‪ ،‬وفعل ‪ ،‬وفعل ‪...‬؟ قال ‪:‬‬ ‫م ‪ ،‬وتر َ‬
‫ل الحرا َ‬‫الما َ‬
‫جاِج ‪...‬‬
‫من فعل الح ّ‬ ‫وذكروا ِ‬
‫َ‬
‫قال ‪ :‬فقال الحسن ‪ :‬أَرى أن ل ُتقاتلوه ؛ فإّنها‬
‫ة‬
‫دي عقوب ِ‬ ‫ة من الله فما أنتم برا ّ‬ ‫إن تكن عقوب ً‬
‫الله بأسيافكم ‪ ،‬وإن يكن بلء فاصبروا حتى‬
‫م الله ‪ ،‬وهو خيُر الحاكمين‪.76‬‬ ‫يحك َ‬
‫من عنده وهم يقولون ‪ُ :‬نطيع هــذا العِل ْـ َ‬
‫ج‬ ‫قال ‪ :‬فخرجوا ِ‬
‫‪77‬‬
‫؟! أ ‪ .‬هـ‬

‫جــه‬
‫مــه ‪ ،‬فِعل ُ‬ ‫جــاج و ُ‬
‫ظل ِ‬ ‫ه ابتلكــم بالح ّ‬‫‪ ( 76 )76‬معناه ‪ :‬إن كان اللـ ُ‬
‫ة لكــم علــى ذنــوبكم ‪،‬‬ ‫ه سّلطه عليكــم عقوب ـ ً‬ ‫الصبُر ‪ ،‬وإن كان الل ُ‬
‫فلـن ُتغـالبوا اللـه ؛ لّنكـم عصـيُتم اللـه شـرعا ً ‪ ،‬فسـّلطه عليكـم‬
‫درا ً ‪ ،‬فبدل ً من أن تشغلوا أنفسكم بمواجهته ‪ ،‬فواجهــوا الســب َ‬
‫ب‬ ‫قَ َ‬
‫ل علــى‬ ‫ي‪ ،‬أل وهو الذنوب بالتوبة ‪ ،‬والضراعةِ إلى الله ‪ ،‬يــد ّ‬ ‫الصل ّ‬
‫ن قال‪ )) :‬يــا‬ ‫ن الحس َ‬ ‫ث جاء فيها أ ّ‬‫صة ‪ ،‬حي ُ‬
‫هذا الرواية الخرى للق ّ‬
‫ج عليكــم إل ّ‬ ‫جــا َ‬
‫ه الح ّ‬‫أّيها الناس! إّنه والله! ما سّلط اللـ ُ‬
‫ه بالســيف‪ ،‬ولكــن عليكــم‬ ‫ة ‪ ،‬فل ُتعارضــوا اللــ َ‬‫عقوبــ ً‬
‫ع ((‪ ،‬رواه ابن سعد فــي الطبقــات )‪،(7/164‬‬
‫ة والتضّر َ‬
‫السكين َ‬
‫وابن أبي الدنيا في العقوبـات )‪ (52‬بسـند صـحيح‪ ] .‬عبـد المالـك‬
‫الرمضاني [ ‪.‬‬
‫‪ ( 77 )77‬العِل ْ ُ‬
‫ج ‪ :‬هو الرج ُ‬
‫ل من كفار العجم وغيرهم ‪ ،‬كما في‬
‫ن هؤلء الخوارج حين‬ ‫النهاية لبن الثير ‪ ،(286 /3) :‬أي أ ّ‬
‫ة للرد ّ عليه‪،‬‬ ‫خالفهم الحسن البصري في هواهم‪ ،‬وَلم َيجدوا ح ّ‬
‫ج ً‬
‫ة القومّية العربية ‪ ،‬فعابوه في نسبه! وقد كان ـ‬
‫أخذتهم حمي ّ ُ‬
‫‪117‬‬
‫أقول ‪ :‬إن هذا تقييد مهم للبلء الذي يمكن أن يصاب‬
‫العباد به ‪ ،‬لن البلء إذا نزل بقوم ‪ ،‬فإنهم يتقلبون بين‬
‫حالين ‪:‬‬
‫الحال الول ‪ :‬إما أن يكونوا قد أقاموا حق الله‬
‫ن الذي نزل‬ ‫ونصروا دينه ‪ ،‬وأتبعوا هدي وسنة نبيه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫بهم يكون من باب البتلء ‪ ،‬الذي يكون الغرض منه‬
‫س َأن‬ ‫ب الّنا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ح ِ‬
‫َ‬
‫الختبار والتمحيص ‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬أ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ‬ ‫ن ‪ ،‬وَل َ َ‬ ‫فت َُنو َ‬ ‫م َل ي ُ ْ‬ ‫مّنا وَهُ ْ‬ ‫قوُلوا آ َ‬ ‫كوا َأن ي َ ُ‬ ‫ي ُت َْر ُ‬
‫ن‬
‫كاذِِبي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫م فَل َي َعْل َ َ‬
‫م ّ‬ ‫من قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫ِ‬
‫‪] ‬العنكبوت ‪.[3 :‬‬
‫ه ليس من المعقول أن يكون العباد قد أقاموا حق‬ ‫لن ّ‬
‫العبودية لله تعالى ‪ ،‬وكانوا على الصفة التي يحبها‬
‫ويرضاها ثم يعاقبهم بتسليط الظلمة والكفرة عليهم ‪،‬‬
‫صُر‬ ‫قا ً عَل َي َْنا ن َ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫والله تبارك و تعالى يقول ‪ ‬وَ َ‬
‫ن ‪] ‬الروم ‪. [47 :‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وهذا قيده الصبر والستكانه قال تعالى ‪ ‬وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫م‬
‫س‬ ‫َ‬ ‫ف َوال ْ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫بِ َ‬
‫ف ِ‬ ‫ل َوالن ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال َ‬
‫َ‬
‫م َ‬ ‫ص ّ‬ ‫ق ٍ‬ ‫جوِع وَن َ ْ‬ ‫خو ْ‬ ‫م َ‬ ‫يٍء ّ‬ ‫ش ْ‬
‫ة‬
‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫صاب َت ُْهم ّ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫رين * ال ِ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫شرِ ال ّ‬ ‫ت وَب َ ّ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫َوالث ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ت‬‫وا ٌ‬ ‫صل َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫جعون * أولـئ ِك عَلي ْهِ ْ‬ ‫َقاُلوا إ ِّنا ل ِلهِ وَإ ِّنـا إ ِلي ْهِ َرا ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ن ‪] ‬البقرة ‪:‬‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ة وَُأوَلـئ ِ َ‬ ‫م ٌ‬‫ح َ‬ ‫م وََر ْ‬ ‫من ّرب ّهِ ْ‬ ‫ّ‬
‫‪. [157 / 155‬‬
‫الحال الثاني ‪ :‬وإما أن يكونوا قد تركوا أمر الله‬
‫ونهيه ‪ ،‬وتلبسوا بالرذائل والقبائح من الذنوب والمعاصي‬
‫المهلكات ‪ ،‬فعندها يكون الذي نزل بهم من باب العقوبة‬
‫صاب َ ُ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫صيب َةٍ فَب ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫كم ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫والتوبيخ ‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬وَ َ‬
‫عن ك َِثيرٍ ‪] ‬الشورى ‪. [30 :‬‬ ‫َ‬
‫فو َ‬ ‫م وَي َعْ ُ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫كَ َ‬

‫مملو َ‬
‫كين‪ ].‬عبد المالك‬ ‫َ‬
‫دين َ‬
‫عب َ‬
‫وين َ‬
‫رحمه الله ـ من أب َ َ‬
‫الرمضاني [ ‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫وهذا قيده التوبة لله والوبة إليه والقلع عما كانوا فيه ‪،‬‬
‫فما نزل عقاب إل بذنب ‪ ،‬ول يرفع إل بالتوبة والندم ‪،‬‬
‫مان َُها إ ِل ّ‬ ‫ت فَن َ َ‬
‫فعََها ِإي َ‬ ‫من َ ْ‬
‫ةآ َ‬ ‫ت قَْري َ ٌ‬ ‫كان َ ْ‬‫قال تعالى ‪ ‬فَل َوْل َ َ‬
‫ي ِفي‬ ‫خْز ِ‬‫ب ال ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫فَنا عَن ْهُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫مُنوا ْ ك َ َ‬
‫ما آ َ‬ ‫س لَ ّ‬
‫م ُيون ُ َ‬ ‫قَوْ َ‬
‫ن ‪] ‬يونس ‪. [98 :‬‬ ‫حي ٍ‬ ‫م إ َِلى ِ‬ ‫مت ّعَْناهُ ْ‬
‫حَياةَ الد ّن َْيا وَ َ‬‫ال ْ َ‬
‫الفائدة الثالثة ‪ :‬إن الناظر في هذه المظاهر يجد أن‬
‫هنالك تشابها ً واضحا ً بين المرحلتين ‪ ،‬ومن أوجه التشابه‬
‫‪ :‬البطش والضطهاد والتنكيل بالدعوة وأصحابها ‪،‬‬
‫وكذلك ضيق الحوال وكثرة الفتن والبتلءات ‪ ،‬ومن‬
‫المعلوم أن هذا يؤدي بالنهاية إلى إنحسار الدعوة وقلة‬
‫من يدخل فيها ‪ ،‬وهذا يظهر جليا ً واضحا ً من خلل النظر‬
‫والتأمل في حال الدعوة النبوية الشريفة منذ بدايتها‬
‫وحتى وقوع صلح الحديبية سنة ‪ 6‬هـ ‪ ،‬فإننا سنرى أن‬
‫النبي ) ‪ ( ‬طيلة تسعة عشر عاما ً من الدعوة‬
‫المتواصلة لم يكن معه حين ذهابه إلى العمرة ووقوع‬
‫صلح الحديبية إل ) ‪ ( 1400‬مقاتل ‪ ،‬بينما نرى أن الحال‬
‫قد تغير بعد الصلح ودخوله في حيز التنفيذ ‪ ،‬حين‬
‫من الناس على أرواحهم‬ ‫وضعت الحرب أوزاها وأ ِ‬
‫ً‬
‫وأموالهم ‪ ،‬فعندها دخل الناس في دين الله أفواجا ‪،‬‬
‫حتى أنه ) ‪ ( ‬لما ذهب لفتح مكة سنة ‪ 8‬هـ ذهب بـ )‬
‫‪ ( 10000‬مقاتل ‪ ،‬مما يدلل على أن البطش والتنكيل‬
‫من أسباب انحسار الدعوة وزهد الناس في الدخول‬
‫من الناس على‬ ‫فيها ‪ ،‬وأن السلم وانفراج الحال ‪ ،‬وأ ِ‬
‫أرواحهم من أسباب انتشار الدعوة وإقبال الناس‬
‫عليها ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫السلفيون بين والغربة والصبر‬

‫لقد عَِلم كل من تمسك بالكتاب والسنة الصحيحة‬


‫ولسعته أسياط الغربة ‪ ،‬أن الغربة والصبر قرينان ل‬
‫ينفكان أبدا ً ‪ ،‬وأن العلقة بينهما وثيقة جدا ً ‪ ،‬فحيثما‬
‫وجدت الغربة وجد البتلء ‪ ،‬فيحتاج حينها الغريب إلى‬
‫الصبر ‪ ،‬فهو كالمطية التي يمتطيها الغريب ليصل بها‬
‫إلى منازل المحبين ‪.‬‬
‫فمنذ ولدة نور النبوة وبدأ الوحي بالنزول ولد الصبر‬
‫معه ‪،‬ليكونا رفيقا درب ل يفترقان أبدا ً ‪ ،‬ولو استحضرنا‬
‫كل هذا ونظرنا إلى حال السلفيين اليوم لرأينا أنهم‬
‫‪78‬‬
‫‪:‬‬ ‫يتقلبون دون غيرهم بين غربتين مطبقتين‬
‫الولى ‪ :‬غربة عامة ‪ :‬وهي غربة السلم بين الديان ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬غربة خاصة ‪ :‬وهي غربة أهل السنة والجماعة‬
‫بين فرق وجماعات أهل الهواء والبدع ‪.‬‬
‫وبين هذه الغربة وتلك تكــالبت عليهــم العــداء مــن كــل‬
‫حدب وصوب ‪ ،‬عبر وسائل وأساليب مختلفـة و بأشـكال‬
‫متنوعة ‪ ،‬منها ‪:‬‬

‫‪ ( 78 )78‬ولو سألتم اليوم الســلفيين فــي العــراق لوصــفوا لكــم‬


‫الغربة التي يعانون منها وصفا ً دقيقا ً ل تحتــاجون بعـده إلـى مزيــد‬
‫وصف وبيــان ‪ ،‬اللــه أكــبر تكــاثرت عليهــم العــداء واشــتدت بهــم‬
‫المصائب والخطوب ‪ ،‬حتى صاروا بين مطرقة الجــرذان الصــفراء‬
‫وبين سندان الصبيان السفهاء ‪ ،‬ولله وحده المشتكى ‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫‪ ( 1‬محاولة التشكيك بمنهجهــم وعقيــدتهم عــبر‬
‫إثــارة الشــكوك والشــبهات ‪ ،‬بقصــد النتقــاص منهــم ‪،‬‬
‫وتنفير الناس عنهم ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬العــدوان وبكــل الوســائل الــتي مــن الممكــن أن‬
‫تطالها أيديهم ‪ ،‬حيث أنهم ل يدخرون وســعا ً فــي إيصــال‬
‫الذى للسلفيين ‪ ،‬والكثير من أهل الهــواء والبــدع يعتــبر‬
‫ذلك من أفضل القربات التي يتقــرب بهــا إلــى اللــه رب‬
‫العالمين ‪ ،‬حيث تراهم جميعا ً قد اجتمعــوا علــى محاربــة‬
‫السلفيين ومعاداتهم وبغضهم ‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن العدوان على الموحدين هو سنة جارية‬
‫على أيدي هؤلء المجرمين أعداء الحق سواء أكانوا مــن‬
‫الولين أو من المتأخرين ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ فهؤلء أصحاب الخدود قد نالهم من ملكهم المتــأله‬
‫مــا نــالهم ‪ ،‬حــتى حفــرت لهــم الخاديــد فــي الرض‬
‫واضرمت فيهــا النيــران المتأججــة ‪ ،‬وراحــوا يتســاقطون‬
‫فيها الواحد تلو الخر ‪ ،‬ولم يكن ذلك عائقا ً في تمسكهم‬
‫بالحق الذي آمنوا بــه وســيموتون مـن أجلــه ‪ ،‬كمـا رأينـا‬
‫سابقا ً في حديث الملــك والغلم والســاحر ‪ ،‬قــال تعــالى‬
‫ت‬ ‫دودِ ‪ ،‬الّنــارِ َ‬ ‫ب اْل ُ ْ‬ ‫واصــفا ً حــالهم ‪ ‬قُِتــ َ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫خــ ُ‬ ‫حا ُ‬ ‫صــ َ‬
‫لأ ْ‬
‫ن‬‫فعَل ُــو َ‬ ‫مــا ي َ ْ‬‫م عَل َــى َ‬ ‫م عَل َي ْهَــا قُعُــود ٌ ‪ ،‬وَهُ ـ ْ‬
‫ال ْوَقُــودِ ‪ ،‬إ ِذ ْ هُ ـ ْ‬
‫َ‬
‫من ُــوا ب ِــالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م إ ِّل أن ي ُؤْ ِ‬ ‫من ْهُ ـ ْ‬
‫مــوا ِ‬‫ق ُ‬ ‫ما ن َ َ‬
‫شُهود ‪ ،‬وَ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ِبال ْ ُ‬
‫ميدِ ‪] ‬البروج ‪. [8 :‬‬ ‫ح ِ‬ ‫زيزِ ال ْ َ‬‫ال ْعَ ِ‬
‫‪ ( 2‬وهذا الصحابي الجليل خبيب بن عدي قد طــالته يــد‬
‫العدوان والبطش حتى شكا إلى الله تعالى وجــع غربتــه‬
‫وفداحــة طريقــة مقتلــه ‪ ،‬وجــرم أعــدائه الــذين راحــوا‬
‫يتلذذون في تعذيبه وتقطيعه فقال متوجعا ً ‪:‬‬
‫قبـــائلهم‬ ‫لقـــد أجمـــع الحـــزاب حـــولي وألبـــوا‬
‫وأسـتجمعوا كل مجمـع‬
‫وقُّربت مــن جــــذع‬ ‫وقـد قربوا أبنائهم ونسـائهم‬
‫طويل ممنـع‬

‫‪121‬‬
‫وممــا جمــع‬ ‫إلى اللــه أشـــكو غربــتي بعــد كربــتي‬
‫الحزاب لي عند مضجعي‬
‫فقــد بضــعوا‬ ‫فذا العرش صّبرني على ما يراد بــي‬
‫لحمي وقد يؤس مطمعي‬
‫فقـــد ذرفــت‬ ‫وقد خيروني الكفــر والمــوت دونــه‬
‫عيناي من غير مدمع‬
‫ق‬‫علــى أي شـ ـ ٍ‬
‫ً‬ ‫ولسـت أبالي حين ُأقتــل مســلما‬
‫كان في الله مضجعي‬
‫‪ ( 3‬وأنظر لهؤلء المعتزلة حينمـا سـيطروا علـى زمـام‬
‫المور أيــام المــأمون ‪ ،‬حــتى راحــوا ينشــرون أبــاطيلهم‬
‫وبدعهم ـ مثل قولهم بخلــق القــرآن ــ ومــن ثــم أجــبروا‬
‫الناس على الخـذ بهـا ‪ ،‬حـتى صـبوا جـام غضـبهم علـى‬
‫المتمسكين بهدي النبي ممن خالفوا منهجهم وعقيــدتهم‬
‫أمثال المام أحمــد بــن حنبــل رحمــه اللــه الــذي تعــرض‬
‫للسجن والضرب علــى أيــديهم فصــبر وأحتســب فجــزاه‬
‫الله عنا وعن المسلمين خيرا ً ‪.‬‬
‫قــال الشــيخ علــي بــن حســن الحلــبي فــي )) التربيــة‬
‫والتصفية ‪ )) : (( 13 :‬ومن المشهور ما ُيذكر عن المام‬
‫مروزيّ ـ أحد أصحاب المام ـــ‬ ‫ن ال َ‬‫أحمد ـ رحمه الله ـ أ ّ‬
‫ه ‪ :‬يا أســتاذ ! قــال اللــه‬ ‫دخل عليه أيام المحنة ‪ ،‬وقال ل ُ‬
‫حيم ـا ً‬‫م َر ِ‬ ‫ُ‬
‫ن ب ِك ـ ْ‬ ‫َ‬
‫ه كــا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ـ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫س ـك ُ ْ‬
‫ف َ‬‫قت ُل ُــوا ْ َأن ُ‬
‫تعالى ‪ ‬وَل َ ت َ ْ‬
‫‪]‬النساء ‪. [29 :‬‬
‫مروزيّ اخرج ‪ ،‬أنظر أي شيء ترى ‪.‬‬ ‫فقال أحمد ‪ :‬يا َ‬
‫ً‬
‫خلقا مــن‬ ‫ت َ‬ ‫حب َةِ دار الخليفة ‪ ،‬فرأي ُ‬ ‫ت إلى َر ْ‬ ‫قال ‪ :‬فخرج ُ‬
‫الناس ل ُيحصي عددهم إل الله ‪ ،‬والصحف في أيديهم ‪،‬‬
‫والقلم والمحــابُر فــي أذرعِتهــم ‪ ،‬فقــال المــروزي ‪ :‬أي‬
‫شيء تعملون ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ننظُر ما يقــول أحم ـد ُ فنكتبــه ‪ ،‬قــال المــروزي ‪:‬‬
‫ت‬ ‫ه ‪ :‬رأيـ ُ‬ ‫مكانكم ‪ ،‬فدخل إلى أحمــد بــن حنبــل فقــال لـ ُ‬

‫‪122‬‬
‫قومـــا ً بأيــديهم الصــحف والقلم ينظـــرون مــا تقـــو ُ‬
‫ل‬
‫ه‪.‬‬
‫فيكتبون َ ُ‬
‫ل نفســي ول‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫فقال أحمد ‪ :‬يا مروزيّ أضل هــؤلء ؟! أقت ُـ ُ‬
‫ُأضل هؤلء ‪. (( ...‬‬
‫وقال الجري في )) الشريعة ‪ )) : (( 64 :‬فمن اقتدى‬
‫بهؤلء الئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى ‪.‬‬
‫فإن قال قائل ‪ :‬فإن اضطر في المر وقتا ً من الوقات‬
‫إلى مناظرتهم ‪ ،‬وإثبات الحجة عليهم أل يناظرهم ؟‬

‫قيل ‪ :‬الضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء ‪،‬‬


‫فيمتحن الناس ‪ ،‬ويدعوهم إلى مذهبه ‪ ،‬كفعل من مضى‬
‫في وقت أحمد بن حنبل رحمه الله ‪ :‬ثلثة خلفاء امتحنوا‬
‫الناس ‪ ،‬ودعوهم إلى مذهبهم السوء ‪ ،‬فلم يجد العلماء‬
‫بدا ً من الذب عن الدين ‪ ،‬وأرادوا بذلك معرفة العامة‬
‫الحق من الباطل ‪ ،‬فناظروهم ضرورة ل اختيارا ً ‪ ،‬فأثبت‬
‫الله عز وجل الحق مع أحمد بن حنبل ‪ ،‬ومن كان على‬
‫طريقته ‪ ،‬وأذل الله العظيم المعتزلة وفضحهم ‪،‬‬
‫وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد بن حنبل ‪،‬‬
‫ومن تابعه إلى يوم القيامة ‪.‬‬
‫وأرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة‬
‫والجماعة من محنة تكون أبدا ً ‪.‬‬
‫بلغني عن المهتدي رحمه الله تعالى أنه قال ‪ :‬ما قطع‬
‫أبي ‪ -‬يعني الواثق ‪ -‬إل شيخ جيء به من المصيصة ‪،‬‬
‫فمكث في السجن مدة ‪ ،‬ثم إن أبي ذكره يوما ً فقال ‪:‬‬
‫ي بالشيخ ‪ ،‬فأتي به مقيدا ً ‪ ،‬فلما وقف بين يديه سلم‬ ‫عل ّ‬
‫عليه ‪ ،‬فلم يرد عليه السلم فقال له الشيخ ‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين ‪ ،‬ما استعملت معي أدب الله عز وجل ‪ ،‬ول‬
‫أدب رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬قال الله عز وجل ‪:‬‬
‫وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وأمر النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم برد السلم ‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫فقال له ‪ :‬وعليك السلم ‪ ،‬ثم قال لبن أبي دؤاد ‪ :‬سله‬
‫‪.‬‬
‫فقال يا أمير المؤمنين ‪ :‬أنا محبوس مقيد ‪ ،‬أصلي في‬
‫منعت الماء ‪ ،‬فمر بقيودي تحل ‪ ،‬ومر‬ ‫الحبس بتيمم ‪ُ ،‬‬
‫لي بماء أتطهر وأصلي ‪ ،‬ثم سلني ‪.‬‬
‫فأمر ‪ ،‬فحل قيده وأمر له بماء فتوضأ وصلى لله ‪ ،‬ثم‬
‫قال لبن أبي دؤاد ‪ :‬سله ‪.‬‬
‫فقال الشيخ ‪ :‬المسألة لي ‪ ،‬فأمره أن يجيبني ‪ ،‬فتوضأ‬
‫فقال ‪ :‬سل ‪ ،‬فأقبل الشيخ على أبن أبي دؤاد يسأله ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬خبرني عن هذا المر الذي تدعو الناس إليه ‪،‬‬
‫أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟‬
‫قال ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه‬
‫بعده ؟‬
‫قال ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه‬
‫بعدهما ؟‬
‫قال ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فشيء دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه‬
‫بعدهم ؟‬
‫قال ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب رضي الله‬
‫تعالى عنه بعدهم ؟‬
‫قال ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫قال الشيخ ‪ :‬فشيء لم يدعُ إليه رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ول أبو بكر ول عمر ول عثمان ول علي‬
‫رضي الله تعالى عنهم ‪ ،‬تدعو أنت إليه الناس ؟ ليس‬
‫يخلو أن تقول ‪ :‬علموه ‪ ،‬أو جهلوه ‪ .‬فإن قلت ‪ :‬علموه‬
‫وسكتوا عنه ‪ ،‬وسعنا وإياك من السكوت ما وسع‬
‫القوم ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬جهلوه وعلمته أنت ‪ ،‬فيا لكع بن لكع‬

‫‪124‬‬
‫‪ ،‬يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون‬
‫رضي الله عنهم شيئا ً وتعلمه أنت وأصحابك ؟‬
‫قال المهتدي ‪ :‬فرأيت أبي وثب قائما ً ‪ ،‬ودخل الحيرى ‪،‬‬
‫وجعل ثوبه في فيه ‪ ،‬فضحك ‪ ،‬ثم جعل يقول ‪ :‬صدق ‪،‬‬
‫ليس يخلو من أن نقول ‪ :‬علموه أو جهلوه ‪ ،‬فإن قلت ‪:‬‬
‫علموه وسكتوا عنه وسعنا من السكوت ما وسع القوم ‪،‬‬
‫وإن قلنا جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم‬
‫شيئا ً تعلمه أنت وأصحابك ؟‬
‫ثم قال ‪ :‬يا أحمد ‪ ،‬فقلت ‪ :‬لبيك ‪ ،‬فقال ‪ :‬لست أعنيك ‪،‬‬
‫إنما أعني أبن أبي دؤاد ‪ .‬فوثب إليه فقال ‪ :‬أعط هذا‬
‫الشيخ نفقته وأخرجه عن بلدنا (( أ ‪ .‬هـ‬
‫وهكذا تمتد يد العدوان في كل زمان ومكان لتنال من‬
‫الموحدين الصابرين ‪ ،‬ويشتد قسوة ومرارة إذا ما جاء‬
‫من القربين ‪ ،‬فالعدوان والذى إن جاء من الكفار أعداء‬
‫ن لم يفعلوا‬‫الدين فل عجب في ذلك ‪ ،‬بل العجب إ ْ‬
‫ذلك ‪ ،‬ولكن محل العجب يكمن إذا ما جاءك الذى‬
‫دعون النتساب إلى نفس الدين‬ ‫والعدوان من أناس ي ّ‬
‫الذي تنتسب إليه ‪ ،‬فهذا هو البلء العظيم والجرح الذي‬
‫ل يندمل ‪ ،‬ورحم الله القائل ‪:‬‬
‫على‬ ‫وظلم ذوي القربى أشد مضاضة‬
‫الفتى من وقع الحسام المهند‬
‫قال المام أبن عثمين _ رحمه الله تعالى _ في هذين‬
‫السلوبين العدوانيين ‪ )) :‬حيث بين أن من حكمة الله ‪-‬‬
‫عز وجل – أنه لم يبعث نبيا ً إل جعل له أعداء من‬
‫النس والجن ‪ ،‬وذلك أن وجود العدو يمحص الحق‬
‫جد المعارض قويت حجة الخر ‪،‬‬ ‫ويبينه ‪ ،‬فإنه كلما ٌو ِ‬
‫وهذا الذي جعله الله تعالى للنبياء جعله أيضا ً لتباعهم‬
‫فكل اتباع النبياء يحصل لهم مثل ما يحصل للنبياء ‪،‬‬
‫قال الله تعالى ‪ ( :‬وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ً شياطين‬
‫‪125‬‬
‫النس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول‬
‫غرورا ً) ‪ ،‬وقال ‪( :‬كذلك جعلنا لكل نبي عدوا ً من‬
‫المجرمين وكفى بربك هاديا ً ونصيرا ً) }سورة الفرقان ‪،‬‬
‫الية ‪ {31 :‬فإن هؤلء المجرمين يعتدون على الرسل‬
‫واتباعهم ‪ ،‬وعلى ما جاءوا به بأمرين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬التشكيك ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬العدوان ‪.‬‬
‫أما التشكيك فقال الله تعالى في مقابلته (كفى بربك‬
‫هاديا ً) لمن أراد أن يضله أعداء النبياء ‪.‬‬
‫وأما العدوان فقال الله تعالى في مقابلته (‬
‫ونصيرا ً) لمن أراد أن يردعه أعداء النبياء ‪.‬‬
‫فالله تعالى يهدي الرسل وأتباعهم وينصرهم على‬
‫أعدائهم ‪ ،‬ولو كانوا من أقوى العداء ‪ ،‬فعلينا أن ل‬
‫نيأس لكثرة العداء ‪.79 (( ...‬‬
‫‪ ( 3‬نبزهـم باللقاب المنفرة بقصد النتقاص‬
‫والتنفيرمنهم ‪ ،‬قال إبراهيم الرحيلي في )) موقف أهل‬
‫السنة من أهل الهواء والبدع ‪ )) : (( 125 / 1‬قال أبو‬
‫حاتم الرازي ‪ )) :‬وعلمة الجهمية تسمية أهل السنة‬
‫مشبهة ‪ ،‬وعلمة القدرية تسميتهم أهل الثر مجبرة ‪،‬‬
‫وعلمة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية‬
‫) نسبة إلى قولهم بزيادة اليمان ونقصانه ( ‪ ،‬وعلمة‬
‫الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة (( ‪.‬‬
‫وهكذا ‪ ،‬وقدوتهم في ذلك النبي ) ‪ ( ‬فقد وصفوه‬
‫بالشاعر والمجنون ‪ ،‬إلى غير ذلك من الوصاف التي لم‬
‫تكن بالقادح فيه وفي دعوته ‪.‬‬
‫‪ ( 4‬الوشاية عليهم عند المراء والسلطين ‪ ،‬وهذا أمر‬
‫هد ‪ ،‬وهو أسلوب ليس بالجديد حتى‬ ‫يقع كثيرا ً و ُ‬
‫مشا َ‬
‫نتفاجأ به ‪ ،‬بل سبق إليه قوم فرعون الذين شحنوا صدر‬
‫فرعون بالبغضاء والشحناء على موسى وقومه ‪ ،‬كما‬

‫‪ ( 79 )79‬شرح كشف الشبهات ‪64 :‬‬


‫‪126‬‬
‫ن أ َت َذ َُر‬ ‫عو َ‬ ‫من قَوْم ِ فِْر َ‬ ‫مل ُ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قال تعالى عنهم ( وََقا َ‬
‫ك َقا َ‬ ‫ك َوآل ِهَت َ َ‬ ‫ض وَي َذ ََر َ‬ ‫َ‬ ‫س ُ ْ‬
‫ل‬ ‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه ل ِي ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫سى وَقَوْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م قاهُِرو َ‬ ‫م وَإ ِّنا فوْقهُ ْ‬ ‫ساءهُ ْ‬ ‫حِيـي ن ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م وَن َ ْ‬ ‫قت ّل أب َْناءهُ ْ‬ ‫سن ُ َ‬ ‫َ‬
‫) فهذا فعل فرعون وقومه ‪ ،‬فما يكون جواب من أيقن‬
‫ست َِعيُنوا‬ ‫مهِ ا ْ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫بوعد الله تعالى ونصره (َقا َ‬
‫بالل ّهِ واصبروا ْ إ ّ َ‬
‫ه‬
‫عَبادِ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ض ل ِل ّهِ ُيورِث َُها َ‬ ‫ن الْر َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُِ‬ ‫ِ‬
‫ن ) ]العراف ‪ . [128 :‬ورحم الله‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫ة ل ِل ُ‬ ‫َوالَعاقِب َ ُ‬ ‫ْ‬
‫القائل ‪:‬‬
‫أنى بهـا لمقلــــدٍ‬ ‫ما عندهم عند التناظر من حجة‬
‫حيران‬
‫في العجز مفزعهم‬ ‫ل يفزعون إلى دليـل وإنمـا‬
‫إلى السلطان‬
‫ولكــن رد اللــه تعــالى علــى أفعــال هــؤلء المجرميــن‬
‫ق ـد ْ‬ ‫وعدوانهم يبقى حاضــرا ً فــي كــل زمــان ومكــان ( وَل َ َ‬
‫ن‪،‬‬ ‫صوُرو َ‬ ‫من ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫م ل َهُ ُ‬ ‫ن ‪ ،‬إ ِن ّهُ ْ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫مت َُنا ل ِعَِبادَِنا ال ْ ُ‬ ‫ت ك َل ِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫سب َ َ‬ ‫َ‬
‫ن ) ]الصــافات ‪ . [173 :‬وقــال (‬ ‫م الغَــال ُِبو َ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫جند ََنا لهُـ ُ‬ ‫ن ُ‬ ‫وَإ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫زيــٌز‬ ‫ه قــوِيّ عَ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن اللــ َ‬ ‫ســِلي إ ِ ّ‬ ‫ن أَنــا وَُر ُ‬ ‫ْ‬
‫ه لغل َِبــ ّ‬ ‫ب اللــ ُ‬ ‫ك ََتــ َ‬
‫) ]المجادلة ‪.[21 :‬‬
‫ً‬
‫ولهذا ينبغي على )) الداعية أن يكون صابرا على دعــوته‬
‫مستمرا ً فيها ‪ ،‬صابرا ً علـى مـا يعترضــه هـو مـن الذى ‪،‬‬
‫وها هم الرسل صلوات الله وسلمه عليهم أوذوا بالقول‬
‫وبالفعل ‪ ،‬قـال الله تعالى ‪ { :‬كذلك ما أتــى الــذين مــن‬
‫قبلهم من رسـول إل قـالوا سـاحر أو مجنـون} }سـورة‬
‫الذاريات ‪ {52 :‬وقال عــز وجــل‪ { :‬وكــذلك جعلنــا لكــل‬
‫نـبي عـدوا ً مـن المجرميـن} }سـورة الفرقـان ‪ ،‬اليـة ‪:‬‬
‫‪ {31‬ولكن على الداعية أن يقابــل ذلــك بالصــبر وأنظــر‬
‫إلى قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وســلم ‪:‬‬
‫{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنـزيل ً} }سـورة النسـان ‪،‬‬
‫الية ‪ {23 :‬كان من المنتظر أن يقال فاشكر نعمة ربك‬

‫‪127‬‬
‫‪ ،‬ولكنه عز وجل قال ‪ { :‬فأصبر لحكــم ربــك} }ســورة‬
‫النسان ‪. {24 :‬‬

‫وفي هذا إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن فلبد‬


‫أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر ‪ ،‬وأنظر إلى حال‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم حين ضربه قومه فأدموه‬
‫وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول ‪ )) :‬اللهم أغفر‬
‫لقومي فإنهم ل يعلمون ‪ ، ((80‬فعلى الداعية أن يكون‬
‫صابرا ً محتسبا ً ‪ (( 81‬أ ‪ .‬هـ‬

‫وهكذا ضرب لنا النبي ) ‪ ( ‬مثل ً يحتذى به للداعية‬


‫الصابر المحتسب ‪ ،‬ولو تأملنا في قوله ) ‪)) : ( ‬‬
‫اللهم أغفر لقومي فإنهم ل يعلمون (( لرأينا أنه‬
‫ينبض بفوائد عظيمة ‪ ،‬وعبر جليلة ‪ ،‬غفل عنها الكثير‬
‫صبوا أنفسهم قضاة وتسلطوا كجلدين على‬ ‫ممن ن ّ‬
‫رقاب المسلمين ‪ ،‬يضربون برهم وفاجرهم بسوط‬
‫الشرع ‪ ،‬وبسيف السلم _ افتراء على الله ورسوله _ ‪،‬‬
‫ومن هذه الفوائد ‪:‬‬

‫‪ ( 80 )80‬يشير الشيخ رحمه الله إلى الحديث الذي رواه أبن حبان‬
‫برقم ‪ : 973‬عن سهل بن سعد الساعدي قال ‪ :‬قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم )) اللهم اغفر لقومي فإنهم ل‬
‫يعلمون (( ‪،‬قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه ‪ :‬يعني هذا الدعاء‬
‫أنه قال يوم أحد لما شج وجهه ‪:‬قال اللهم اغفر لقومي ذنبهم بي‬
‫من الشج لوجهي ل أنه دعاء للكفار بالمغفرة ولو دعا لهم‬
‫بالمغفرة لسلموا في ذلك الوقت ل محالة(( وفي صحيح‬
‫البخاري برقم ‪ :6530‬عن عبد الله بن مسعود قال ‪:‬كأني أنظر‬
‫إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا ً من النبياء ‪ ،‬ضربه‬
‫قومه فأدموه ‪ ،‬فهو يمسح الدم عن وجهه‪ ،‬ويقول‪ )) :‬رب اغفر‬
‫لقومي فإنهم ل يعلمون(( ‪.‬‬
‫‪ ( 81 )81‬شرح الثلثة الصول ‪ 18 :‬للشيخ أبن عثيمين رحمه الله‬
‫‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫الفائدة الولى ‪ :‬أنه عفى عنهم بدليل ‪:‬‬

‫الفائدة الثانية ‪ :‬أنه طلب من الله سبحانه تعالى أن‬


‫يغفر لهم ذنبهم به ‪ ،‬وما أصابه من قبح أفعالهم ‪ ،‬حيث‬
‫كسروا رباعيته وشجوا وجهه الشريف وأسالوا الدم منه‬
‫‪.‬‬

‫قال المام أبن حجر في فتح الباري ‪ (( 196 / 11 :‬في‬


‫قوله )) اغفر لقومي فانهم ل يعملون (( العفو‬
‫عما جنوه عليه في نفسه ل محو ذنوبهم كلها ‪ ،‬لن ذنب‬
‫الكفر ل يمحى ‪ ،‬أو المراد بقوله ) اغفر لهم ( ‪:‬‬
‫اهدهم إلى السلم الذي تصح معه المغفرة ‪ ،‬أو المعنى‬
‫اغفر لهم إن أسلموا والله أعلم (( أ ‪ .‬هـ‬

‫وهذا الخلق العظيم من النبي ) ‪ ( ‬ما جاء إل رحمة‬


‫سو ٌ‬
‫ل‬ ‫جاءك ُ ْ‬
‫م َر ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫وشفقة بقومه ‪ ،‬كما قال تعالى فيه { ل َ َ‬
‫ص عَل َي ْ ُ‬
‫كم‬ ‫ري ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫م َ‬ ‫زيٌز عَل َي ْهِ َ‬
‫ما عَن ِت ّ ْ‬ ‫م عَ ِ‬‫سك ُ ْ‬ ‫ن َأن ُ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫م } ]التوبة ‪ ، [128 :‬حيث يظهر‬ ‫حي‬
‫ٌ ّ ِ ٌ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ُ‬
‫ؤو‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ني‬‫م‬ ‫ْ‬
‫ِ ُ ِ ِ َ َ‬‫ؤ‬‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫جليا ً واضحا ً من خلل النظر فيما يأتي ‪:‬‬

‫‪ ( 1‬كان النبي شديد الحرص على هداية قومه ‪ ،‬وفي‬


‫نفسه رغبة شديدة أن يهتدوا وينقذوا أنفسهم من الخيبة‬
‫والخسران الذي سيوقعون أنفسهم فيه بإصرارهم‬
‫وعنادهم وإعراضهم عن دعوة الحق ‪ ،‬حتى عاتبه ربه‬
‫ك عََلى آَثارِهِ ْ‬
‫م‬ ‫س َ‬
‫ف َ‬
‫خعٌ ن ّ ْ‬
‫ك َبا ِ‬‫تبارك وتعالى بقوله { فَل َعَل ّ َ‬
‫سفا ً } ]الكهف ‪.[6 :‬‬ ‫َ‬
‫ثأ َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ذا ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫مُنوا ب ِهَ َ‬ ‫ِإن ل ّ ْ‬
‫م ي ُؤْ ِ‬

‫م‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ت إِ ّ‬
‫سَرا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫ك عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َ‬ ‫س َ‬
‫ف ُ‬ ‫وقوله { فََل ت َذ ْهَ ْ‬
‫ب نَ ْ‬
‫ن} ]فاطر ‪. [8 :‬‬ ‫صن َُعو َ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫بِ َ‬

‫‪129‬‬
‫قال العلمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في‬
‫)) تيسير الكريم الرحمن ‪ )) : (( 646 :‬ولما كان النبي‬
‫) ‪ ( ‬حريصا ُ على هداية الخلق ‪ ،‬ساعيا ً في ذلك أعظم‬
‫السعي ‪ ،‬فكان ‪ ‬يفرح بهداية المهتدين ويحزن‬
‫ويأسف على المكذبين الضالين شفقة منه ‪ ‬عليهم‬
‫ورحمة بهم ‪ ،‬أرشده الله أن ل يشغل نفسه بالسف‬
‫على هؤلء الذين ل يؤمنون بهذا القرآن ‪ ،‬كما قال في‬
‫الخرى )) لعلك باخع نفسك أل يكونوا مؤمنين (( وقال‬
‫ت (( وهنا قال‬‫سَرا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫ك عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َ‬ ‫س َ‬
‫ف ُ‬ ‫)) فََل ت َذ ْهَ ْ‬
‫ب نَ ْ‬
‫)) فلعلك باخع نفسك (( أي ‪ :‬مهلكها غما ً وأسفا ً‬
‫عليهم ‪ ،‬وذلك أن أجرك قد وجب على الله ‪ ،‬وهؤلء لو‬
‫علم الله فيهم خيرا ً لهداهم ولكنه علم أنهم ل يصلحون‬
‫إل للنار ‪ ،‬فلذلك خذلهم فلم يهتدوا ‪ ،‬فإشغالك نفسك‬
‫غما ً وأسفا ً عليهم ليس فيه فائدة لك ‪ (( ....‬أ ‪ .‬هـ‬

‫‪ ( 2‬ويظهر أيضا ً من خلل رده على ملك الجبال عند‬


‫رجوعه من الطائف وما لقاه من قسوة رد أهلها عليه ‪،‬‬
‫حيث طلب منه أن يأذن له في أن يطبق على قومه‬
‫المعاندين الخشبين ‪ ،‬ولكنه ) ‪ ( ‬أرجأهم لغاية‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫ن الّزب َي ْرِ أ ّ‬ ‫يرجوها منهم ويحبها فيهم ‪ ،‬فعن عُْروَةُ ب ْ ُ‬
‫َ‬
‫ه أن َّها‬ ‫حد ّث َت ْ ُ‬ ‫ي صلى الله عليه وسلم َ‬ ‫ج الن ّب ِ ّ‬ ‫ة َزوْ َ‬ ‫ش َ‬ ‫عائ ِ َ‬ ‫َ‬
‫هّ‬
‫ل الل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ل اللهِ صلى الله عليه وسلم ‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫ّ‬ ‫سو ِ‬ ‫ت ل َِر ُ‬ ‫َ‬
‫َقال ْ‬
‫حد ؟‬ ‫ُ‬ ‫نأ َ‬‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ى عَلي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫! هَ ْ‬
‫ن ي َوْم ِ أ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫شد ّ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ك ي َوْ ٌ‬ ‫ل أت َ َ‬
‫ت‬‫قي ُ‬ ‫ما ل َ ِ‬ ‫شد ّ َ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫كا َ‬‫ك ‪ ،‬وَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫قي ُ‬ ‫قد ْ ل َ ِ‬ ‫قال ‪ )) :‬ل َ َ‬ ‫فَ َ‬
‫ل‬‫ن عَب ْدِ َياِلي َ‬ ‫َ‬ ‫قب َةِ ‪ ،‬إذ ْ عََر ْ‬ ‫ْ‬
‫قت وأناَ‬ ‫سي عَلى أب ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ف ِ‬ ‫ت نَ ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م العَ َ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ت ‪َ ،‬فان ْطل ْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ما أَرد ْ ُ‬ ‫ى َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل ‪ ،‬فَل ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جب ِْني إ َل َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫ن عَب ْدِ كل ٍ‬ ‫بْ ِ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ن الث َّعال ِ ِ‬ ‫قْر ِ‬ ‫ف ق ْ إل ّ ب ِ َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫َ‬
‫جِهي ‪ ،‬فَل ْ‬ ‫ى وَ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫م عَل ْ َ‬ ‫مو ٌ‬ ‫مه ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ْ ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ظ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ظ‬ ‫أ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ٍ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫س‬
‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫فإ‬ ‫َ‬ ‫سي‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ر‬ ‫ُ َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬‫فَ َ‬
‫ل قَد ْ‬ ‫ج ّ‬ ‫ه عَّز وَ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ل‪ :‬إ ّ‬ ‫قا َ‬ ‫داِني‪ .‬فَ َ‬ ‫ل ‪ ،‬فََنا َ‬ ‫ري ُ‬ ‫جب ْ ِ‬ ‫ذا ِفيَها ِ‬ ‫َفإ َ‬

‫‪130‬‬
‫ث إل َي ْ َ‬
‫ك‬ ‫دوا عَل َي ْ َ‬
‫ك ‪ ،‬وَقَد ْ ب َعَ َ‬ ‫ما َر ّ‬ ‫ك لَ َ‬
‫ك وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل قَوْ ِ‬
‫معَ قَوْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫م‪.‬‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬‫ش‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ت‬‫ل‬ ‫ل‬ ‫با‬‫ج‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ِ َ ِ َِ ُ َ ُ ِ َ ِ َ ِ ِ ْ‬ ‫َ‬
‫ل ‪َ :‬يا‬ ‫م َقا َ‬ ‫ي ‪ ،‬ثُ ّ‬ ‫م عَل َ ّ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫جَبا ِ‬‫ك ال ْ ِ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫داِني َ‬ ‫ل ‪ :‬فََنا َ‬‫َقا َ‬
‫مل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫ك‬ ‫ك لك ‪ ،‬وَأَنا َ‬ ‫ل قَوْ ِ‬ ‫معَ قَوْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ه قَد ْ َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫مد ! إ ّ‬ ‫ح ّ‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ني‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ني‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫ع‬ ‫ب‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫ِ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ّ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ََ‬ ‫ا ِ َ ِ‬
‫با‬ ‫ج‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م الخشبين"‪.‬‬ ‫ن أط ْب ِقَ عَل َي ْهِ ُ‬ ‫تأ ْ‬ ‫شئ ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫شْئت ؟ إ ْ‬ ‫ِ‬

‫ل الل ّهِ صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬ب َ ْ‬


‫ل‬ ‫سو ُ‬ ‫ه َر ُ‬‫ل لَ ُ‬
‫قا َ‬‫فَ َ‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عب ُدُ الل َ‬‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫صلب ِ‪ِ 82‬‬‫نأ ْ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫ج الل ُ‬‫ر َ‬‫خ ِ‬‫ن يُ ْ‬ ‫جو أ ْ‬ ‫أْر ُ‬
‫شْيئا ً (( ‪.‬‬ ‫ه َ‬‫ك بِ ِ‬‫ر ُ‬
‫ش ِ‬ ‫حدَهُ ‪ ،‬ل َ ي ُ ْ‬ ‫و ْ‬‫َ‬
‫فهكذا كان خلق النبي ) ‪ ، ( ‬حيث كان رحيما ً رؤوفا ً‬
‫بقومه يحب إسلمهم ويرجوا سلمتهم ونجاتهم ‪ ،‬ولو‬
‫أن ملك الجبال طلب اليوم من فلن أو فلن من كبراء‬
‫ضّللهم وأستأذنهم في أن يطبق الخشبين‬ ‫الخوارج و ُ‬
‫على المخالفين لهم من أمـة محمد ‪ ‬فضل ً عن‬
‫الكفار لذنوا له ‪ ،‬وفرحـوا بطلبه ‪ ،‬فانظروا _ يرحمكم‬
‫الله _ أي الدعوتين أهدى سبيل ً ‪.‬‬

‫صب نفسه‬ ‫خلق العظيمة من ن ّ‬ ‫وليت يفطن لمثل هذه ال ُ‬


‫قاضيا ً وجلدا ً ‪ ،‬وتسلط على رقاب المسلمين بأسم‬
‫الشرع والدين ‪ ،‬وليته أيضا ً يعلم أن زبدة دعوة النبياء‬
‫هي إنقاذ الناس من النار ‪ ،‬وليست هي دعوة للتسريع‬
‫بهم إلى النار ويدل على هذا ما يأتي ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن‬‫مي َ‬‫ة ل ّل َْعال َ ِ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬‫ك إ ِّل َر ْ‬
‫سل َْنا َ‬
‫ما أْر َ‬
‫‪ ( 1‬قال تعالى { وَ َ‬
‫} ]النبياء ‪. [107 :‬‬

‫‪ ( 82 )82‬رواه البخاري برقم ‪ ، 3059 :‬ومسلم بشرح النووي‬


‫) باب ما يلقى النبي ) ‪ ( ‬من أذى الكفار والمنافقين ( واللفظ‬
‫له ‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫‪ ( 2‬روى المام البخاري عن أنس بن مالك رضي الله‬
‫رض فأتاه‬ ‫عنه ‪ :‬كان غلم يهودي يخدم النبي ‪ ‬ف َ‬
‫م ِ‬
‫النبي ‪ ‬يعوده فقعد عند رأسه فقال له ‪ :‬أسلم ‪ ،‬فنظر‬
‫إلى أبيه وهو عند رأسه فقال أبوه ‪ :‬أطع أبا القاسم ‪،‬‬
‫فأسلم ‪ ،‬فقام النبي وهو يقول ‪ :‬الحمد لله الذي أنقذه‬
‫من النار (( ‪.‬‬
‫وفي رواية أبي يعلى ‪ )) :‬فجعل الغلم ينظر إلى أبيه ‪،‬‬
‫فقال له أبوه ‪ :‬أطع أبا القاسم ‪ ،‬فقال ‪ :‬أشهد أن ل إله‬
‫إل الله وأن محمدا ً رسول الله ‪ ،‬ثم هلك الغلم فخرج‬
‫رسول الله وهو يقول ‪ :‬الحمد لله الذي أنقذه من‬
‫النار (( ‪.‬‬
‫فيا ترى ما الذي سيستفيده السلم من غلم هلك‬
‫ولكنها كما قلته لكم سابقا ً دعوة لنقاذ الناس من‬
‫الناس ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬عن سهل بن سعد رضي الله عنه ‪ :‬أن رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر ‪ )) :‬لعطين هذه‬
‫الراية رجل ً يفتح الله على يديه ‪ ،‬يحب الله ورسوله ‪،‬‬
‫ويحبه الله ورسوله (( ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ‪ ،‬قال‬
‫فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم كلهم يرجون أن يعطاها ‪.‬‬
‫فقال ‪ )) :‬أين علي بن أبي طالب ؟ (( ‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬هو يا رسول الله ! يشتكي عينيه ‪ ،‬قال‬
‫)) فأرسلوا إليه (( فأتى به‪ ،‬فبصق رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم في عينيه ‪ ،‬ودعا له فبرأ ‪ ،‬حتى كأن لم‬
‫‪132‬‬
‫يكن به وجع فأعطاه الراية ‪ ،‬فقال علي ‪ :‬يا رسول‬
‫الله ! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ‪.‬‬
‫فقال ‪ )) :‬أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ‪ ،‬ثم‬
‫ادعهم إلى السلم ‪ ،‬وأخبرهم بما يجب عليهم من حق‬
‫الله فيه ‪ ،‬فوالله ! لن يهدي الله بك رجل ً واحدا ً خير لك‬
‫من أن يكون لك حمر النعم (( ‪.83‬‬
‫قال الحافظ أبن حجر في )) فتح الباري ‪: (( 600 / 7‬‬
‫)) يؤخذ من الحديث أن تآلف الكافر حتى يسلم أولى‬
‫من المبادرة إلى قتله ‪ ....‬وحمر النعم ‪ :‬هو لون من‬
‫البل المحمودة وقيل المراد ‪ :‬خير لك من أن تكون‬
‫عندك فتتصدق بها ‪ ،‬وقيل تقتنيها وتملكها وكانت مما‬
‫تتفاخر العرب بها (( أ ‪ .‬هـ‬
‫أقول ‪ :‬لو تأملنا في هذا الحديث الشريف مليا ً فإننا‬
‫سنخرج منه بعدة فوائد ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬ففيما يخص قتل الكافر أو هدايته ‪ :‬فإننا‬
‫سنعلم أن في قتل الكافر فائدة واحدة ‪ ،‬وهي التخلص‬
‫من شره وضرره ‪ ،‬وأما إن استطعنا هدايته إلى السلم‬
‫فإننا سنخرج حينها بفائدتين ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬التخلص من شره ‪.‬‬
‫‪ ( 2‬كسبه أخا ً في السلم ‪.‬‬
‫‪ ( 83 )83‬رواه البخاري برقم ‪ ، 2783‬ومسلم برقم ‪. 2406‬‬
‫‪133‬‬
‫وأنى لفائدة واحدة أن تغلب فائدتين لو كانوا يعلمون ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬فإننا سنعرف عظمة هذا الدين ‪ ،‬وعظمة هذا‬
‫النبي الكريم ‪ ، ‬ففي الوقت الذي ُيسّلم فيه راية‬
‫القتال لعلي رضي الله عنه فإنه يحثه على الدعوة إلى‬
‫الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وُير ّ‬
‫غبه في الجر الكثير إن هو‬
‫استطاع أن يهدي كافر إلى السلم ‪ ،‬فأي دين هذا وأي‬
‫نبي هذا ‪ ،‬فل نامت أعين أهل الهواء والبدع الذين‬
‫شوهوا صفاء السلم بأفعالهم القبيحة المشينة ‪ ،‬حتى‬
‫وضعوه في قفص التهام متهما ً بائسا ً ‪.‬‬

‫الفائدة الثالثة ‪ :‬أنه نسبهم إلى نفسه الشريفة‬


‫فقال ‪ ) :‬قومي ( ولم يتبرأ منهم ‪ ،‬ولم يقل ‪ ) :‬أغفر‬
‫لهم ( ‪.‬‬

‫الفائدة الرابعة ‪ :‬أنه علل فعلهم هذا بأنهم جّهال ل‬


‫يعلمون عاقبة أفعالهم التي ستردي بهم إلى النار ‪ ،‬وهم‬
‫في غفلة ل يعلمون ‪.‬‬

‫خلق النبوية العالية أستمد الغرباء وهم في‬


‫ومن هذه ال ُ‬
‫غربتهم الثانية المؤلمة الدروس والعبر ‪ ،‬فهم يعلمون جيدا ً‬
‫أن الله تعالى خص عباده المتقين بالبتلء والتمحيص ‪،‬‬
‫وأوصاهم بالصبر والمجالدة على البلء ‪ ،‬فقد يمر‬
‫بالمؤمنين حال يحتاجون فيه للصبر الكثير ُيفّرغ فوق‬
‫رؤوسهم ليتحملوا شدة البلء وعظمته ‪ ،‬كما حدث لسحرة‬
‫فرعون الذين جمعهم من كل حدب وصوب ليقفوا بوجه‬
‫دعوة موسى عليه السلم ‪ ،‬فلما رأوا اليات الباهرة‬
‫وعلموا أنها لم تكن من صنع البشر أمنوا لله رب موسى‬
‫‪134‬‬
‫وهارون ‪ ،‬فتوعدهم فرعون الطاغية بعظيم البلء وهددهم‬
‫بشر الجزاء ‪ ،‬فصبروا وطلبوا من الله تعالى ما يهون‬
‫عليهم هذا البلء العظيم ‪ ،‬فقال تعالى حكاية عنهم ( َقا َ‬
‫ل‬
‫فرع َون آمنتم به قَب َ َ‬
‫موه ُ ِفي‬ ‫مك َْرت ُ ُ‬ ‫مك ٌْر ّ‬ ‫ذا ل َ َ‬ ‫هـ َ‬‫ن َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ل أن آذ َ َ‬ ‫ِ ْ ْ ُ َ ُ ِ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ن أي ْد ِي َك ْ‬ ‫ن ‪ ،‬لقطعَ ّ‬ ‫َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف ت َعْل ُ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫َ‬
‫من َْها أهْلَها ف َ‬ ‫جوا ْ ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫دين َةِ ل ِت ُ ْ‬ ‫م ِ‬‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ‪َ ،‬قالوا إ ِّنا إ ِلى َرب َّنا‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫صلب َن ّك ُ ْ‬ ‫مل َ‬ ‫ف ثُ ّ‬ ‫خل َ ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫جل ُ‬ ‫وَأْر ُ‬
‫َ‬
‫جاءت َْنا َرب َّنا‬ ‫ما َ‬ ‫ت َرب َّنا ل َ ّ‬ ‫مّنا ِبآَيا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫مّنا إ ِل ّ أ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ق ُ‬‫ما َتن ِ‬ ‫قل ُِبون ‪ ،‬وَ َ‬ ‫من َ‬ ‫ُ‬
‫ن ) ]العراف ‪. [126 :‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫َ َ‬ ‫ت‬‫و‬ ‫ا‬ ‫بر‬‫ْ‬ ‫ص‬ ‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫غ‬ ‫ر‬
‫أ ِ‬‫ف‬

‫‪135‬‬
‫الفصل السادس‬

‫الغرباء بين الواقع والمل‬


‫لقد وضع السلفيون كل ما سبق ذكره وبيانه نصب‬
‫أعينهم وهم في طريقهم إلى ربهم ‪ ،‬ولكن تبقى بعض‬
‫المسليات والمصبرات التي من شأنها أن تسليهم‬
‫وتصبرهم حتى ل يستوحشوا من طول الطريق وقلة‬
‫العوان وكثرة المخالفين ومكر وكيد العداء بهم ‪.‬‬

‫قال الشيخ عبيد بن عبد الله الجابري ‪ )) :‬ولئن كان في‬


‫بعض الزمنة والمكنة تعصــف بالنــاس عاصــفة الهــوى ‪،‬‬
‫ويستوحش كثير من أهل السنة لكثرة مخــالفيهم ‪ ،‬فــإنه‬
‫يسليهم ثلثة أمور ‪:‬‬
‫المر الول ‪ :‬في قوله جل في عله ‪ ‬ومن يطع الله‬
‫والرسول فأولئك مع اللذين أنعم الله عليهم من النبيين‬
‫والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ‪‬‬
‫فمن استوحش بكثرة المخالفين ‪ ،‬ووجد الغربة لقلة‬
‫السالكين مسلكه إذا تذكر أن رفاقه على طريق الحق‬
‫والهدى أولئكم الصناف الربعة زالت عنه الوحشة ‪،‬‬
‫وأصبح قوي العزيمة ‪ ،‬مشدودا ً به أزره ل يخشى في‬
‫الله لومة لئم ‪ ،‬ول تزعزعه ثقته بنصر الله لجنده كثرة‬
‫الهالكين ول قلة السالكين ؛ لن أولئكم الصفوة هم خير‬
‫قه خيُر عباد الله‬‫عباد الله من البشر ؛ فمن كان رفي َ‬
‫فلن يستوحش ‪ ،‬بل يزداد ثباتا ً وصبرا ويقينا وقوةً ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫المر الثاني ‪ :‬ما جاء في حديث السبعين ألفا ً اللذين‬
‫ج عن أبن عباس‬ ‫يدخلون الجنة بل حساب وهو مخّر ٌ‬
‫رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في‬
‫الصحيحين؛ فقد جاء فيه ‪)) :‬فرأيت النبي ومعه الرهط ‪،‬‬
‫والنبي ومعه الرجل والرجلن ‪ ،‬والنبي وليس معه‬
‫‪136‬‬
‫أحد (( ‪ .‬لنتأمل في هذا الحديث قليل ‪ ،‬فهذا النبي الذي‬
‫جاء وليس معه أحد إلى من بعث ؟‪ ،‬إلى أمة أم إلى‬
‫غير أمة ؟! إلى أمة بعث بماذا ؟ ألم يكن مبعوثا ذلكم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يجبه أحد أو النبي‬
‫الذي أجابه الرجلن أو الرهط ـ وهم من الثلثة إلى‬
‫العشرة أو إلى التسعة ـ ألم يكونوا جاءوا بالهدى ودين‬
‫الحق ؟‪ ،‬ألم يكونوا أعظم الناس مكانا عند الله سبحانه‬
‫وتعالى ؟؛ فما أظن أن أحدا ً منكم يخالفني في الجواب‬
‫ببلى‪ ،‬فكيف بمن دوَنهم ممن يدعوا إلى الله على‬
‫بصيرة ‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬هذا الحديث فيه دليل على أن العبرة ليس‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫بالكثرة ‪ ،‬بل العبرة في إصابة الحق ‪ .‬وقد تفطن إلى‬
‫هذا المجدد الثالث للسلفية ـ رحمه الله ـ الشيخ محمد‬
‫بن عبد الوهاب ‪ :‬قال في مسائله على الباب‬
‫والحديث ‪)) :‬ل يجوز الغترار بالكثرة ‪ ،‬ول الزهد في‬
‫ده وضوحـا حديث افتراق‬ ‫القلة (( ‪ .‬وهذا المعنى يزي ُ‬
‫ح بمجموع طرقه ؛ فقد جاء في‬ ‫المم الذي هو صحي ٌ‬
‫ث وسبعين‬ ‫بعض طرقه ‪)) :‬وستفترقُ هذه المة على ثل ٍ‬
‫من هي يا‬ ‫فرقة ‪ ،‬كلها في النار إل واحدة ((‪ ،‬قالوا ‪َ :‬‬
‫رسول الله ؟‪ ،‬قال ‪)) :‬الجماعة((‪.‬‬
‫سرها أبن مسعود رضي‬ ‫وهذه الرواية الصحيحة ‪ ،‬وقد ف ّ‬
‫الله عنه فقال ‪ )) :‬الجماعة ما وافق الحق وإن كنت‬
‫وحدك ‪ ،‬فإنك حين إذ الجماعة (( ‪.....‬‬
‫فبان بهذا التقرير أنه ل عبرة بغير إصابة الحق ‪ ،‬ل عبرة‬
‫بغير السداد في القوال والعمال ؛ وهذا السداد هو ‪:‬‬
‫تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫ض طلب‬ ‫ح رفَعه بع ُ‬ ‫المر الثالث ‪ :‬الثر الذي يصح ُ‬
‫العلم ـ بعض أهل العلم ـ‪ ،‬وذلكم الثُر _ والذي فيه‬
‫تعديل للذين يحملون العلم النبوي الصحيح _ ‪ )) :‬يحمل‬

‫‪137‬‬
‫ف عدوُله ‪ ،‬ينفون عنه تحريف‬ ‫هذا العلم من كل خل َ ٍ‬
‫‪84‬‬
‫الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين(( أ ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫المر الرابع ‪ :‬كما يقابل الغربة الواقعة اليوم عدة‬
‫وعود تمثل زادا ً للغرباء في غربتهم ‪ ،‬ومنها يستمدون‬
‫جَلدهم ‪ ،‬وفي الوقت نفسه حتى ل يستوحشوا‬ ‫قوتهم و َ‬
‫من طول الطريق وعظمة العقبات وقلة الخوان ‪ ،‬ومن‬
‫هذه الوعود ‪:‬‬
‫‪ ( 1‬الوعد بحفظ القرآن حيث تكفل الله بحفظه وصيانة‬
‫فل يطرأ عليه زيادة أو نقصان أو تبديل أو تحريف ‪ ،‬قال‬
‫ن‪‬‬ ‫حافِ ُ‬
‫ظو َ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ن ن َّزل َْنا الذ ّك َْر وَإ ِّنا ل َ ُ‬ ‫تعالى ‪ ‬إّنا ن َ ْ‬
‫ح ُ‬
‫]الحجر ‪. [9 :‬‬
‫‪ ( 2‬الوعد ببقاء طائفة على الحق منصورة ل يضرها من‬
‫خالفها ول من خذلها إلى أن يرث الله الرض ومن عليها‬
‫‪ ،‬كما قال النبي ) ‪ )) : ( ‬ل تزال طائفة من أمتي‬
‫ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة (( ] رواه‬
‫البخاري [ ‪.‬‬
‫‪ ( 3‬الوعد بتجديد الدين ‪ ،‬حيث يبعث الله تبارك وتعالى‬
‫لهذه المة من يجدد لها أمر دينها ‪ ،‬كما قال النبي )‬
‫‪ )) : ( ‬إن الله يبعث لهذه المة على رأس مائة عام‬
‫من يجدد لها دينها (( ‪.‬‬
‫قال العلمة المحدث محمد ناصر الدين اللباني في‬
‫)) سلسلة الحاديث الصحيحة ‪ / 2‬ح ‪ )) : (( 599‬حديث‬
‫صحيح (( وقال )) أشار المام أحمد إلى صحة الحديث ‪،‬‬
‫وذكر الذهبي في سير العلم ‪ :‬قال أحمد من طرق عنه‬
‫‪ :‬إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلمهم‬
‫السنن ‪ ،‬وينفي عن رسول ) ‪ ( ‬الكذب ‪ :‬قال فنظرنا‬
‫فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس‬
‫المائتين الشافعي (( ‪.‬‬

‫‪ ( 84 )84‬أصول وقواعد في المنهج السلفي ‪. 4 :‬‬


‫‪138‬‬
‫‪ ( 4‬ولما كان الغرباء هم أهل الصبر فقد وعدهم ربهم‬
‫تبارك وتعالى بعطايا ومنح هي خير مما طلعت عليه‬
‫الشمس ‪ ،‬وكما قيل )) تأتي المنح بعد المحن (( ‪.‬‬
‫جوِع‬ ‫ف َوال ْ ُ‬ ‫خو ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬ ‫يٍء ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫قال تعالى ‪ ‬وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫شرِ ال ّ‬ ‫ت وَب َ ّ‬ ‫مَرا ِ‬‫س َوالث ّ َ‬‫ف ِ‬ ‫ل َوالن ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫ص ّ‬ ‫ق ٍ‬ ‫وَن َ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ة َقالوا إ ِّنا ل ِلهِ وَإ ِّنـا إ ِلي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صيب َ ٌ‬‫م ِ‬ ‫صاب َت ُْهم ّ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫ن إِ َ‬‫ذي َ‬‫* ال ِ‬
‫ة‬
‫م ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ح َ‬ ‫م وََر ْ‬ ‫من ّرب ّهِ ْ‬ ‫ت ّ‬ ‫وا ٌ‬‫صل َ‬ ‫م َ‬ ‫ن‪ ،‬أولـئ ِك عَلي ْهِ ْ‬ ‫جعو َ‬ ‫َرا ِ‬
‫ن ‪] ‬البقرة ‪[157 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫م ال ُ‬ ‫وَأولـئ ِك هُ ُ‬

‫المر الخامس ‪ :‬ترقب الفرج واستبعاد اليأس ‪:‬‬


‫فالواجب على الغرباء في كل زمان ومكان أن تبقى‬
‫قلوبهم تهفـو وتتطلع إلى الفرج مهما استحكمت حلقات‬
‫الخطر ‪ ،‬واشتدت الخطوب وعظمت المصائب ‪ ،‬فل‬
‫يجب أن يجد اليأس والقنوط طريقهما إلى قلوب‬
‫الغرباء ‪ ،‬لن الفرج قد يأتي من جهة أشـتد اليأس‬
‫واستبعد المل أن يأتي الفرج عن طريقها ‪ ،‬وإذا به يأتي‬
‫وينفرج الحال ‪ ،‬وانظروا معي إلى قصة أم موسى ‪،‬‬
‫وكيف أستحكم اليأس من قلبها وتمكن منه ‪ ،‬حتى‬
‫صارت ل تعرف ماذا تفعل لكي تنقذ ولدها الرضيع من‬
‫بطش جبار طاغية ‪،‬كان يقتل أبناء بني إسرائيل‬
‫ويستحيي نسائهم خوفا ً على نفسه وعرشه ‪ ،‬بسبب‬
‫نبوءة أخبره بها الكهان مفادها ‪ :‬أن زوال ملكه‬
‫سيكون على يد مولود يولد من بني إسرائيل فصار‬
‫يفعل تلك الفعال ‪.‬‬
‫ولهذا أشتد خوف أم موسى على وليدها الرضيع وعظم‬
‫يأسها ‪ ،‬ومن المعلوم أن خوف أم موسى قادم من قَِبل‬
‫فرعون وجنوده ‪ ،‬وإذا بالفرج يأتيها من قَِبل فرعون‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫حي َْنا إ َِلى أ ّ‬
‫م‬ ‫نفسه ‪ ،‬كما قال تعالى حكاية عنهم ‪ ‬وَأوْ َ‬
‫م وََل‬ ‫َ‬ ‫موسى أ َ َ‬
‫قيهِ ِفي ال ْي َ ّ‬ ‫ت عَل َي ْهِ فَأل ْ ِ‬ ‫ف ِ‬‫خ ْ‬
‫ذا ِ‬‫ضِعيهِ فَإ ِ َ‬
‫ن أْر ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ن‬
‫سِلي َ‬‫مْر َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬‫علوهُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫جا ِ‬
‫ك وَ َ‬ ‫َ‬
‫دوهُ إ ِلي ْ ِ‬
‫حَزِني إ ِّنا َرا ّ‬ ‫َ‬
‫خاِفي وَل ت َ ْ‬
‫تَ َ‬

‫‪139‬‬
‫حَزنا ً إ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫م عَد ُوّا ً وَ َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬
‫كو َ‬ ‫ن ل ِي َ ُ‬
‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫هآ ُ‬ ‫قط َ ُ‬ ‫* فال ْت َ َ‬
‫ن * وََقال َ ِ‬
‫ت‬ ‫خاط ِِئي َ‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫ما َ‬ ‫جُنود َهُ َ‬ ‫ن وَ ُ‬
‫ما َ‬ ‫ها َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫فِْرعَوْ َ‬
‫َ‬ ‫ا َ‬
‫سى أن‬ ‫قت ُُلوهُ عَ َ‬ ‫ك َل ت َ ْ‬‫ن ّلي وَل َ َ‬ ‫ت عَي ْ ٍ‬ ‫ن قُّر ُ‬ ‫ت فِْرعَوْ َ‬ ‫مَرأ ُ‬ ‫ْ‬
‫ن ‪] ‬القصص ‪. [9 :‬‬ ‫َ‬
‫م ل يَ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شعُُرو َ‬ ‫خذ َهُ وَلدا وَهُ ْ‬ ‫فعََنا أوْ ن َت ّ ِ‬ ‫َين َ‬
‫ولو تأملنا مليا هذه اليات الكريمة من سورة القصص ‪،‬‬ ‫ً‬
‫فإننا سنعلم كيف جاء الفرج إلى أم موسى ‪ ،‬ومن الذي‬
‫فّرج لها كربتها بعدما أشتد اليأس في قلبها ‪ ،‬وعندها‬
‫سنخرج بعده فوائد وعبر منها ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ ( 1‬سنعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يهيأ‬
‫له أسبابه ‪ ،‬وليس المر يختص فقط بقصة موسى عليه‬
‫السلم مع فرعون ‪ ،‬ولكننا لو نظرنا في قصة إبراهيم‬
‫عليه السلم لعلمنا أنها سنة ربانية تسبق القيام بأي‬
‫فعل أو عمل ‪.‬‬
‫طم أوثان قومه اجتمعوا‬ ‫فإبراهيم عليه السلم بعد أن ح ّ‬
‫واتفقوا أن يرموه في النيران المتأججة ‪ ،‬ثأرا ً للهتهم‬
‫المحطمة ‪ ،‬ولكبريائهم المهانة ‪ ،‬وبالفعل أوقدوا النيران‬
‫وجاؤا بإبراهيم عليه السلم وقذفوه فيها ‪ ،‬وهم يريدون‬
‫شيئا ً ‪ ،‬والله تبارك وتعالى يريد شيئا ً آخر ‪ ،‬وكان‬
‫بالمكان ـ والله قادر على كل شيء ـ أن يفلت إبراهيم‬
‫من قبضتهم ول يتمكنون منه ‪ ،‬وكان بالمكان أيضا أن‬
‫تنزل المطار على النيران فتخمدها فينجو إبراهيم‬
‫منها ‪ ،‬وهذا كله لم يقع لن الله تبارك وتعالى قد هيأ‬
‫هذا كله لمر آخر يريده سبحانه ‪.‬‬
‫فلو أن إبراهيم عليه السلم أفلت من قبضتهم لقالوا ‪:‬‬
‫لو أمسكناه لفعلنا به كذا وكذا وليس في ذلك عظيم‬
‫شأن ‪ ،‬ولو أن المطار نزلت لقالوا ‪ :‬لو لم تنزل‬
‫المطار لفعلنا كذا وكذا وهذا أيضا ليس بالشيء العظيم‬
‫‪ ،‬ولكن إبراهيم عليه السلم لم يفلت من قبضتهم‬
‫والمطار لم تنزل ‪ .‬لتقع بعد ذلك معجزة عظيمة تأييدا ً‬
‫لبراهيم عليه السلم ‪ ،‬ونصرا ً لدعوته وهي كما قال‬

‫‪140‬‬
‫سَلما ً عََلى‬ ‫كوِني ب َْردا ً وَ َ‬ ‫تبارك تعالى ‪ ‬قُل َْنا َيا َناُر ُ‬
‫م ‪]‬النبياء ‪ ، [69 :‬فسبحان الذي جعل النار‬ ‫هي َ‬‫إ ِب َْرا ِ‬
‫ً‬
‫المحرقة بردا وسلما ‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ ( 2‬وسنعلم أيضا ً أن الله تبارك وتعالى قد أمر أم‬
‫م بشرها‬ ‫موسى ابتداًء بأمرين ‪ ،‬ونهاها عن أمرين ومن ث َ ّ‬
‫ببشارتين ‪:‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سى أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م ُ‬ ‫حي َْنا إ ِلى أ ّ‬ ‫أ ‪ .‬أما المران فهما ‪ )) :‬و أوْ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م (( ‪.‬‬ ‫قيهِ ِفي الي َ ّ‬ ‫ت عَل َي ْهِ فَأل ْ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ضِعيهِ فَإ ِ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫أْر ِ‬
‫حَزِني (( ‪.‬‬ ‫خاِفي وََل ت َ ْ‬ ‫ب ‪ .‬وأما النهيان فهما ‪)) :‬وََل ت َ َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫عُلوهُ ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫دوهُ إ ِل َي ْ ِ‬ ‫ج ‪ .‬وأما البشارتان فهما ‪)) :‬إ ِّنا َرا ّ‬
‫ن (( ‪.‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫‪ ( 3‬وسنعلم أيضا أن من تدبير الله تبارك وتعالى أن‬
‫حفظ موسى من كيد عدوه بعدوه ‪ ،‬حيث جعل الماء‬
‫يأخذه إلى بيت عدوه ليلتقطه ويكون له عدوا ً وحزنا ً ‪)) ،‬‬
‫ن‬‫ن فِْرعَوْ َ‬ ‫حَزنا ً إ ِ ّ‬ ‫م عَد ُوّا ً وَ َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫كو َ‬ ‫ن ل ِي َ ُ‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫هآ ُ‬ ‫قط َ ُ‬ ‫َفال ْت َ َ‬
‫ن (( ‪.‬‬ ‫خاط ِِئي َ‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫ما َ‬ ‫جُنود َهُ َ‬ ‫ن وَ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ها َ‬ ‫وَ َ‬
‫‪ ( 4‬ومن ثم تحققت البشارة ورجع موسى إلى حضن‬
‫أمه معززا ً مكرما ً ‪ ،‬ليرضع من صدر أمه بأمر فرعون‬
‫نفسه ‪،‬بعد أن رد كل المراضع التي جلبها فرعون له ‪،‬‬
‫ت‬
‫صَر ْ‬ ‫صيهِ فَب َ ُ‬ ‫خت ِهِ قُ ّ‬ ‫ت ِل ُ ْ‬ ‫قال تعالى حكاية عنهم ‪َ ‬قال َ ْ‬
‫من‬ ‫ضعَ ِ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫مَنا عَل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫حّر ْ‬ ‫ن* َ‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫م َل ي َ ْ‬ ‫ب وَهُ ْ‬ ‫جن ُ ٍ‬ ‫عن ُ‬ ‫ب ِهِ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ت هَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫قَب ْ ُ‬
‫م وَهُ ْ‬ ‫ه لك ْ‬ ‫فلون َ ُ‬ ‫ت ي َك ُ‬ ‫ل ب َي ْ ٍ‬ ‫م عَلى أهْ ِ‬ ‫ل أد ُلك ْ‬ ‫قال ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫حَز َ‬ ‫قّر عَي ْن َُها وَل ت َ ْ‬ ‫ي تَ َ‬‫مه ِ ك َ ْ‬ ‫ن * َرد َد َْناهُ إ ِلى أ ّ‬ ‫حو َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ه َنا ِ‬ ‫لَ ُ‬
‫ول ِتعل َم أ َن وعْد الل ّه حق ول َك َ‬
‫ن‪‬‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ي َعْل َ ُ‬ ‫ن أك ْث ََرهُ ْ‬ ‫ِ َ ّ َ ِ ّ‬ ‫َ َْ َ ّ َ َ‬
‫]القصص ‪.[13 :‬‬
‫فيا ترى من الذي دّبر هذا كله ومن الذي أحاط هذا‬
‫الرضيع الذي ل حول له ول قوة بكل هذه العناية‬
‫والرعاية ‪.‬‬
‫بالتأكيد هو الله تبارك وتعالى ‪ ،‬ولهذا يجب على الغرباء‬
‫أن ل ييأسوا ول يبأسوا مهما اشتدت المصائب وعظمت‬

‫‪141‬‬
‫الخطوب وتكاثر العداء ‪ ،‬فالفرج قريب ‪ ،‬والفارج هو‬
‫الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫ورحم الله القائل ‪:‬‬
‫ن‬‫أبشر بخير فإ ّ‬ ‫ج‬‫م منفر ٌ‬
‫ن الـهَ َ‬‫يا صاحب الـَهم إ ّ‬
‫ه‬
‫ج الل ُ‬
‫الفـار َ‬
‫ن‬
‫ن فإ ّ‬ ‫فل تيأس ّ‬ ‫ً‬
‫س قـد يقطـع أحيانا بصاحبه‬ ‫اليأ ُ‬
‫ه‬
‫الكـافي الل ُ‬
‫ن‬
‫فل تجزع ّ‬ ‫ل بعـد العسر ميسرة‬ ‫فالله يجعـ ُ‬
‫ه‬
‫ن القاسم الل ُ‬ ‫فإ ّ‬
‫ن كاشف‬ ‫ُ‬
‫فإ ّ‬ ‫وإذا أبتليـت فثق باللهِ وأرضى‬
‫البلوى هو الله‬
‫ولعلنا بحديث الفرج الذي تهفو إليه قلوب الغرباء‬
‫وتتطلع إليه نفوس الحيارى نختم موضوع هذه الرسالة‬
‫المباركة ‪ ،‬عسى الفرج لما نحن فيه يكون قريبا ً ‪ ،‬وما‬
‫ذلك على الله ببعيد ‪.‬‬
‫وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه التذكرة الوجيزة ‪ ،‬فما‬
‫كان فيها من الصواب والحق فمن الله تعالى وحده ‪،‬‬
‫ولله وحده الحمد والشكر والمّنة ‪.‬‬
‫وإن كان غير ذلك فمني والشيطان ‪ ،‬والله ورسوله منه‬
‫بريئان ‪ ،‬وأنا راجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه ‪.‬‬
‫أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد‬
‫في القول والعمل ‪ ،‬وأن يكلل أعمالنا بالنجاح والفلح‬
‫إنه كريم جواد ‪.‬‬
‫ل اللهم‬ ‫وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ‪ ،‬وص ّ‬
‫على عبدك ورسولك الصادق المين ‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫وسّلم ‪.‬‬
‫وكتبه‬
‫أبو سيف‬
‫العبيدي الثري‬

‫‪142‬‬
‫فهرس الموضوعات‬

‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫المقدمــــــــــــــــــــة ‪.......................................‬‬
‫‪1‬‬
‫الفصل الول‬
‫معاني الغربة اللغوية ‪..............................‬‬
‫‪3‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫النصوص الوارده في وصف الغربة والغرباء ‪.......‬‬
‫‪9‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫في بيان أصل الغربة ‪.............................‬‬
‫‪17‬‬
‫التعريف بالغرباء ‪...............................‬‬
‫‪20‬‬
‫صفات الغرباء وأسمائهم ‪.........................‬‬
‫‪21‬‬
‫أسماء أهل البدع وعلماتهم ‪........................‬‬
‫‪32‬‬

‫‪143‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫أنــواع الغربــة وأســبابها ومظاهرهــا ‪.....................‬‬
‫‪36‬‬
‫عــــــــبر ‪.........................................‬‬
‫فــــــــوائد و ِ‬
‫‪90‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫السلفيون بين والغربة والصبر ‪.........................‬‬
‫‪96‬‬

‫الفصل السادس‬

‫الغرباء بين الواقع والمل‪................................‬‬


‫‪109‬‬

‫الفهرس ‪................................................‬‬
‫‪115‬‬

‫‪144‬‬

You might also like