Professional Documents
Culture Documents
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العراقي الثري
1
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمـــــة
ه ونستغفرهُ ،ونعوذ ُ بالل ِ
ه ن الحمد َ للهِ ،نحمده ُ ونستعين ُ إ ّ
ه
من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهدهِ الل ُ
ل له ،ومن يضلل فل هادي له ،وأشـهد ُ أن ل فل مض َ
ن محمدا ً عبده إله إل الله وحده ل شريك له ،وأشـهد أ ّ
ورسوله.
َ
ن إ ِل ّ موت ُ ّ قات ِهِ َول ت َ ُ حقّ ت ُ َ ه َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ َ يا أي َّها ال ّ ِ
ن.(1) َ
مو َ سل ِ ُ م ْ م ُ وَأن ْت ُ ْ
خل َ َ َ
س
ف ٍ ن نَ ْ م ْ م ِ قك ُ ْ ذي َ م ال ّ ِ قوا َرب ّك ُ ْ س ات ّ ُ َيا أي َّها الّنا ُ
ساًء ، جال ً ك َِثيرا ً وَن ِ َ ما رِ َ من ْهُ َث ِ جَها وَب َ ّ من َْها َزوْ َ خل َقَ ِ حد َةٍ وَ َ َوا ِ
َ
ن ه َ
كا َ ن الل ّ َ م إِ ّ حا َ ن ب ِهِ َوالْر َ ساَءُلو َ ذي ت َ َ ه ال ّ ِ قوا الل ّ َ َوات ّ ُ
م َرِقيبا ً .
)(2
عَل َي ْك ُ ْ
ديدا ً ، َ
س ِ ه وَُقوُلوا قَوْل ً َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ َ يا أي َّها ال ّ ِ
يصل ِح ل َك ُ َ
ن ي ُط ِعْ الل ّ َ
ه م ْ م وَ َ م ذ ُُنوب َك ُ ْ فْر ل َك ُ ْ م وَي َغْ ِ مال َك ُ ْ م أعْ َ ْ ُ ْ ْ
ظيما .
)(3 ً وزا عَ ِ ً قد ْ َفاَز فَ ْ ه فَ َ َ
سول ُ وََر ُ
أما بعد :
ث كلم الله ،وخيَر الهدي هدي محمد ن أصدقَ الحدي ِ فإ ّ
ل محدثةٍ بدعة ،وكل ) ( وشّر المور محدثاتها ،وكـ ّ
ل ضللةٍ في النار . بدعةٍ ضللة ،وك ّ
ن أِبي هَُري َْرةَ َقال : َ
لقد ثبت في صحيح المام مسلم عَ ْ
َ
ريبا م غَ ِ سل َ ُ ل الل ّهِ ) ( قال )) :ب َد َأ ال ِ ْ سو ُ ل َر ُ َقا َ
ى ل ِل ْغَُرَباِء (( ،مما يدلل ُ َ
ما ب َد َأ غَ ِ ً
ريبا فَطوب َ سي َُعود ُ ك َ َ
4
وَ َ
على أن غربة شديدة ستحل بالسلم والمسلمين في
فّرط الكثير من المسلمين آخر الزمان ،وذلك عندما ي ُ َ
4
الفصل الول
5
ي في أرض مذحج
وإني و العبس ّ
غريبــان شــتى الـــدار
مختلفان
وما كان غض الطرف منا سجية
ولكننـــا فــي مذحــج
ُ
غُربان
6
هـ -وتطلق على الذهاب والتنحي عن الناس ،يقال :غرب
عنا ،يغرب غرًبا .
7
ثانيا ً :استعمالتها في السنة النبوية :
8
) أ ( فجاءت بمعنى المقيم في غيــر وطنــه ،وبيــن قــوم
غير قومه .
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :أخذ رسول
الله ممم مممم مممم مممم بمنكبي ،فقال )) :كن في
6
عابر سبيل (( . الدنيا كأنك غريب أو
)) ( 6 )6أو (( الواردة في هذا النص ليست هي للشك أو للتخيير
،وإنما هي بمعنى )) بل (( ،وقد جاءت بهذا المعنى في مواضع
كثرة من القرآن الكريم منها :
ن( )الصافات: دو زي ي و ( 1قال تعالى (وأ َرسل ْناه إَلى مائ َة أ َل ْف أ َ
ٍ ْ َ ِ ُ َ ِ ِ َ ْ َ َ ُ ِ
( 147أي :بل يزيدون .
ن الل َّ
ه إ ب رْ ق ( 2وقوله ) وما أ َمر الساع َة إّل ك َل َمح ال ْبصر أ َو هُو أ َ
َ ُ ِ ّ ْ ِ َ َ ِ ْ َ ِ ِ ّ َ َ ْ ُ
ديٌر ( ] النحل [ 77:أي بل هو أقرب . يٍء قَ ِ ل َ
ش ْ ع ََلى ك ُ ّ
) ( 7أخرجه البخاري برقم 6053 :من طريق سليمان العمش
قال :حدثني مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ،
وفي رواية الترمذي برقم 2435 :من طريق سفيان عن ليث :
عن مجاهد عن أبن عمر قال )) :أخذ رسول الله صلى الله عليه
ب أو عابر وسلم ببعض جسدي قال :كن في الدنيا كأنك غري ٌ
سبيل ،وعد نفسك من أهل القبور (( ،فقال لي أبن عمر :إذا
أصبحت فل تحدث نفسك بالمساء ،وإذا أمسيت فل تحدث
نفسك بالصباح ،وخذ من صحتك قبل سقمك ،ومن حياتك قبل
موتك فإنك ل تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ً ( ] ،أنظر صحيح
جامع الترمذي 567 / 4برقم 2333 :للمحدث العلمة اللباني [
.
وأخرجه أبن ماجة برقم 4114 :من طريق حماد بن زيد عن
زيد عن ليث عن مجاهد عن أبن عمر قال :أخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال )) :يا عبد الله ! كن في
الدنيا كأنك غريب ،أو كأنك عابر سبيل ،وعد نفسك من أهل
القبور (( ] ،أنظر صحيح سنن أبن ماجة 1378 / 2برقم :
. [ 4114
9
وكان أبن عمر يقول )) :إذا أمسيت فل تنتظـر الصـباح ،
وإذا أصبحت فل تنتظر المساء ،وخذ من صحتك لمرضك
،ومن حياتك لموتك ((. 7
7
10
وثمة جانب آخر من المعنــى وهــو :أن الغريــب المزمــع
العودة إلى موطنه ل يكــاد يتعلــق قلبــه بشـيء فـي بلــد
غربته ؛ بل قلبه متعلق بوطنه الذي سيعود إليه .
11
) ب ( وجاءت بمعنى الغتراب المعنوي ،وهو أن يكــون
دة ،ومجانبــة
المرء على حال من الستقامة ولزوم الجــا ّ
الفتن والهواء ،وملزمة السمت الذي كان عليه الصــدر
الول ،مع قلة النصير والمعين والموافق ،وكثرة المنابذ
والمخــذل والمخــالف ،فيســمى صــاحب هــذه الحــال
)) غريًبا (( ذهاًبا إلى المعنى العام الذي ُأشير إليــه قبــل
_ وهو عدم موافقته لمن حوله ؛ إذ له شأن ولهم شأن ،
وهو في واد وهم في واد ،وهــذا المعنــى هــو المقصــود
في هذا البحــث أصـل ً ،وهــو مفهــوم مـن قــوله )) :إن
السلم بدأ غريًبا ،وسيعود غريًبا كما بدأ (( .8
10
:دوام الخير ،وقيل :الجنة ،وقيل :شجرة في الجنة
،وكل هذه القوال محتملة في الحديث ،والله أعلم ((
11أ .
ن
مَر َ ،عَ ِ ن عُ َ ن اب ْ ِ ( 2وروى المام مسلم في صحيحه عَ ِ
م ب َد َأ سل َ َن ال ِ ْ ل )) :إ ِ ّ ي صلى الله عليه وسلم َقا َ الن ّب ِ ّ
ْ ْ َ ً ً
نجد َي ْ ِ
س ِ م ْ ن ال َ ما ب َد َأ ,وَهُوَ ي َأرُِز ب َي ْ َريبا ك َ َ سي َُعود ُ غَ ِ ريبا ،وَ َ غَ ِ
ْ
ها (( . حرِ َ ج ْ ة ِفي ُ ما ت َأرُِز ال ْ َ
حي ّ ُ كَ َ
قال المام النووي في )) شرح صحيح مسلم )) كتاب
اليمان (( )) :وقوله صلى الله عليه وسلم )) :وهو
يأرز (( بياء مثناة من تحت بعدها همزة ثم راء مكسورة
ثم زاي معجمة هذا هو المشهور ،وحكاه صاحب
المطالع مطالع النوار عن أكثر الرواة قال :وقال أبو
الحسين بن سراج ليأرز بضم الراء .
( 10 )10أخرج المام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله ) )) : ( إن في الجنة لشجرة يسير الراكب
في ظلها مئة سنة ل يقطعها (( .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ،عن رسول الله ) (
أنه قال له رجل يا رسول الله ما طوبى ؟ قال )) :شجرة في
الجنة مسيرة مائة سنة ،ثياب أهل الجنة من أكمامها (( ،
] إسناده حسن أنظر :سلسلة الحاديث الصحيحة . [ 639 / 4
( 11 )11شرح صحيح مسلم )) كتاب اليمان /باب بيان أن
السلم بدأ غريبا ً وسيعود غريبا ً (( للنووي .
15
وحكى القابسي فتح الراء ومعناه ينضم ويجتمع ،هذا
هو المشهور عند أهل اللغة والغريب .......
وقوله صلى الله عليه وسلم )) :بين المسجدين" أي
مسجدي مكة والمدينة (( . 12
( 3عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
قال ،قال رسول الله ذات يوم ونحن عنده :
)) طوبى للغرباء !! (( .
فقيل من الغرباء يا رسول الله ؟ .
قال )) :أناس صالحون في أناس سوء كثير ،من
يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (( ،قال وكنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما ً آخر حين طلعت
الشمس ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
)) سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء
الشمس (( ،قلنا من أولئك يا رسول الله ؟ ،فقال )) :
فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ،يموت
أحدهم وحاجته في صدره ،يحشرون من أقطار
الرض ((.13
(4عن عبد الرحمن بن سنة أنه سمع النبي صــلى اللـه
عليه وسلم يقول )) :بدأ السلم غريبــاً ثـم يعــود غريبـا ً
كما بدأ فطوبى للغرباء (( ،قيل يــا رســول اللــه :ومــن
الغرباء ؟ .
قال )) الذين يصلحون إذا فسد النــاس ،والــذي نفســي
بيده لينحازن اليمــان إلــى المدينــة كمــا يجــوز الســيل ،
والــذي نفســي بيــده ليــأرزن الســلم إلــى مــا بيــن
المسجدين كما تأرز الحية إلى حجرها (( .14
( 12 )12المصدر السابق ..
( 13 )13أخرجه المام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما ،وصححه المحدث اللباني في صحيح
الترغيب والترهيب برقم . 3188 :
(14 )14أخرجه المام أحمد في مسند المدنيين عن عبد الرحمن
بن سنة رضي الله عنـه ،صحيح أنظر )) سلسلة الحاديث
16
قال أبن رجب الحنبلي :وهؤلء الغرباء قسمان :
أحدهما :من ُيصلح نفسه عند فساد الناس .
والثاني :من ُيصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين
وهو أفضلهما 15أ .هـ
( 5عن عبد الله بن مســعود قــال :قــال رســول اللــه
صلى الله عليه وسلم )) :إن السلم بدأ غريباً وســيعود
غريبا ً .فطوبى للغرباء (( .
قال ،قيل :ومن الغرباء ؟ قال :النزاع مــن القبــائل ((
.16
قال النووي )) :قوله ) النزاع مــن القبــائل ( ،قــال
الهروي :أراد بذلك المهــاجرين الــذين هجــروا أوطــانهم
إلى الله تعالى ((. 17
وقال السيوطي )) :النزاع مـن القبــائل :ذكــر فــي
القاموس النزيع الغريب ،كالنــازع جمعــه نــزاع انتهــى ،
وفي رواية الترمذي ورد تفسيرهم :الذين يصــلحون مــا
افسد الناس مــن بعــدي مــن ســنتي ،أي :يعملــون بهــا
ويظهرونها على قدر طاقتهم ،فهــذا الرجــل يصــبح فــي
مهجورا كالغريب ،لنه سنة الله الــتي قــدً قومه معتزل ً
خلت من قبل بالرســل والنبيــاء ،ولكــن اللــه يعينهــم ،
فــإن العاقبــة للمتقيــن ،ولــذا ورد العبــادة فــي الهــرج
ي ((. 18كهجرة إل ّ
( 6وهم القابضون على الجمر لشدة تمسكهم بدينهم
وعقيدتهم وسنة نبيهم ) ، ( في زمن يكون التمسك
20
السلم ،ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد
منهم إل رجل واحد (( .
ولهذا المعنى يوجد في كلم الســلف كــثيرا ً مـدح الســنة
ووصفها بالغربة ،ووصف أهلها بالقلة ،فكــان الحســن -
رحمه الله -يقول لصحابه :يــا أهــل الســنة ! ترفقــوا -
رحمكم الله -فإنكم من أقل الناس .
وقال يونس بن عبيــد :ليــس شــيء أغــرب مــن الســنة
وأغرب منها من يعرفها
وروي عنه أنه قال :أصبح من إذا عرف الســنة فعرفهــا
غريبا ً وأغرب منه من يعرفها .
وعن سفيان الثوري قال :استوصوا بأهل الســنة فــإنهم
غرباء .
ومراد هؤلء الئمــة بالســنة :طريقــة النــبي صــلى اللــه
عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه ،الســالمة مــن
الشبهات والشهوات .
ولهذا كان الفضيل بــن عيــاض يقــول :أهــل الســنة مــن
عرف ما يدخل في بطنه من حلل
،ـ وذلك لن أكل الحلل من أعظم خصائل الســنة الــتي
كان عليها النبي صلى الله عليه وســلم وأصــحابه رضــي
اللــه عنهــم .ثــم صــار فــي عــرف كــثير مــن العلمــاء
المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم الســنة عبــارة عمــا
م من الشبهات في العتقادات ،خاصة فــي مســائل سل ِ َ
َ
اليمــان بــالله وملئكتــه وكتبــه ورســله واليــوم الخــر ،
وكذلك في مســائل القــدر وفضــائل الصــحابة ،وصــنفوا
فــي هــذا العلــم بأســم الســنة ،لن خطــره عظيــم
والمخالف فيـه علـى شـفا هلكـة .وأمـا السـنة الكاملـة
فهي الطريق السالمة مــن الشــبهات والشــهوات ،كمــا
قــال الحســن ويــونس بــن عبيــد وســفيان والفضــيل
ف أهُلهــا بالغربــة فــي آخــر الزمــانصـ َ
وغيرهم ،ولهذا وُ ِ
لقلتهم وغربتهم فيه ......ومثله قول أبن مسعود :يأتي
21
على الناس زمــان يكــون المــؤمن فيــه أذل مــن المَـة ،
وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربتــه بيــن أهــل الفســاد
من أهـل الشـبهات والشـهوات ،فكلهـم يكرهـه ويـؤذيه
لمخالفة طريقتــه لطريقتهــم ،ومقصــوده لمقصــودهم ،
ومباينته لما هم عليه (( .22
( 2قـال فريد بن أحمد آل الثبت في )) دعوة الخوان
المسلمين في ميزان السلم )) : (( 6 :قال المام عبد
الله بن المبارك رحمه الله )) :أعلم أني أرى الموت
اليوم كرامة لكل مسلم لقى الله على السنة ،فإنا لله
وإنا إلى راجعون ،فإلى الله نشكوا وحشتنا ،وذهاب
الخوان ،وقلة العوان ،وظهور البدع ،وإلى الله
ل بهذه المة من ذهاب العلماء وأهل نشكوا عظيم ما ح ّ
السنة وظهور البدع .
وقد أصبحنا في زمان شديد ،وهرج عظيم ،إن رسول
وف علينا ما قد أظلنا وما قد أصبحنا الله ) ( تخ ّ
فيه ،فحذرنا ،وتقدم إلينا فيه بقول أبي هريرة قال :
قال رسول الله ) )) : ( أتتكم فتن كقطع الليل
المظلم ،يصبح الرجل فيها مؤمنا ً ويمسي كافرا ً ،
ويمسي مؤمنا ً ويصبح كافرا ً ،يبيع فيها أقوام دينهم
بعرض من الدنيا (( ....
وعن عيسى بن يونس عن الوزاعي عن حبان بن أبي
جبلة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال )) :لو خرج
رسول الله ) ( إليكم اليوم ،ما عرف شيئا ً مما كان
عليه هو وأصحابه إل الصلة ! (( ،قال الوزاعي :
)) فكيف لو كان اليوم ؟ (( .
قال عيسى )) :فكيف لو أدرك الوزاعي هذا
الزمان ؟ (( .
23
الفصل الثالث
في بيان أصل الغربة والغرباء
أول ً :أصل الغربة :
تنقسم الغربة إلى قسمين :
( 1غربة حسية :
وهي الغربة التي يحس بها كل من ترك بلده الــذي ُوِلــد
وترعرع فيه ،ليعيش في بلد آخر بعيدا ً عنه ،لي ســبب
من الســباب ،ســواء كــانت قهريــة أم اختياريــة ،وهــي
غربة محسوسة يشــعر بهــا كــل مــن تلب ّــس بهــا ،حيــث
يعيش وقلبه معلق ببلده ل يفتأ يحن ويشتاق إليه .
وهي غربة نسبية قد تقع لبعض من النــاس دون الخــر ،
وغالبا ً ما تزول بعض آثارها بكثرة المخالطة والمعاشــرة
التي يجــدها فــي بلــد غربتــه ،ولكــن يبقــى الحنيــن إلـى
الوطن الم يمل القلب والوجدان .
( 2غربة معنوية :
وهي التي نعنيها في بحثنا هذا ،فإذا كــان الغريــب الول
يحس بغربته وهو بعيد عن بلده فكيــف بمــن يحــس بهــا
ويكتوي بلسعات نارها وهو في بلده وبين أهله وعشيرته
،حيــث يعيــش فــي وادٍ وغيــره يعيــش فــي واد ،قلــوب
الناس متعلقة فــي شــتات وزوال ،وقلبــه معلــق بأصــل
24
موطنه الذي خرج منه أبوه الول على وعد الرجوع إليــه
يوما ً ،ل ّ
ن إليه الرجعى وفيه المستقر .
قال أبن رجب رحمه الله )) :فالمؤمن في الدنيا
كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها ،فهو يشتاق
إلى بلده ،وهمه الرجوع إليه والتزود بما يوصله في
طريقه إلى وطنه ،ول ُينافس أهل ذلك البلد
المستوطنين فيه في عزهم ،ول يجزع مما أصابه
عندهم من الذل ...
وقال الحسن :المؤمن في الدنيا كالغريب ل يجزع من
ذلها ،ول ينافس في عزها ،له شأن وللناس شأن .
وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لن أباه لما كان
في دار البقاء ثم خرج منها فهمه الرجوع إلى مسكنه
يحن إلى وطنه الذي ُأخرج منه كماّ الول ،فهو أبدا ً
23
يقال )) حب الوطن من اليمان (( وكما قيل :
ض يألفه الفتىكم منزلٍ في الر ِ
وحنينـه أبـدا ً لول منزل
ولبعض شيوخنا في هذا المعنى :
منازلك فحي على جنات عـدن فأنها
الولى وفيهم المخيـم
نعود ولكننا سبي العـدو فهل ترى
إلى أوطاننـا ونســلم
وشطت وقد زعموا أن الغريب إذا نأى
به أوطانـه فهو مغرم
لهـا فـأي اغـتراب فـوق غربتنــا الـتي
24
أضحت العداء فينا تحكم
26
فأهــل الســنة والجماعــة فــي وســط المبتدعــة غربــاء ،
وأهـل الســنة والجماعــة يعـاملون فـي وســط المبتدعـة
معاملة القليات المسلمة في بلد النصـارى ،فهــذا نـوع
من الغربة .25
29
ق
شاقِ ْ ن يُ َ
م ْويتبعون غير سبيلهم ،قال تعالى { :وَ َ
ل دى وَي َت ّب ِعْ غَي َْر َ
سِبي ِ ه ال ْهُ َن لَ ُما ت َب َي ّ َ
ن ب َعْدِ َ
م ْ ل ِ سو َ الّر ُ
صيرًا} ، م ِت َ ساَء ْ
م وَ َ جهَن ّ َصل ِهِ َما ت َوَّلى وَن ُ ْ ن ن ُوَل ّهِ َ
مِني َ ال ْ ُ
مؤْ ِ
ول يسع أي مسلم إل أن يفتخر بالنتساب إليهم .
ولفظ )) السلفية (( 27أصبح علما ً على طريقة السلف
الصالح في تلقي السلم وفهمه وتطبيقه ،وبهذا فإن
( 27 )27هنالك بعض الشبهات تثار حول الدعوة السلفية ،
والمنهج السلفي ،يقصد من ورائها محاولة النتقاص منهما ،
والتنفير عنهما ،وإليك ـ أخي الحبيب ـ أهمها مع الرد عليها :
الشبهة الولى :يقول البعض :أن السلفية فترة زمنية
ومرحلة آنية انتهت بموت أفرادها !!! وهذه شبهة قد تثار ويقصد
من وراءها إثارة الشكوك والشبهات حول منهج السلفيين
وطريقتهم .
ن لفظ السلف إذا أطلق فيراد به أهل القرون الثلثة ُ
فنقول :إ ّ
المفضلة الذين تمسكوا بسنة وهدي النبي ) ( علما ً وعمل ً.
وإذا قيل السلفيون فهم أتباع السلف الصالح ،في كل زمان
ومكان ،الذين أخذوا طريقتهم بالتمسك بالدين ،وساروا على
دتهم السلفية منهجهم ،واقتفوا أثرههم ،وُيقال لطريقتهم وجا ّ
نسبة للسلف الصالح .
ن السلفية تطلق ويراد بها أحد معنيين : وبهذا نعلم أ ّ
الول :الحقبة التاريخية التي عاش فيها أهل القرون
الثلثة المفضلة ،وهي بهذا المعنى قد مات أفرادها ) رضي
الله عنهم ( .
ن ري ج ها م ْ ل ا ن مِ ن
َ لو ُ ون ال َ َ قو ُ ب سا وال تعالى قوله إلى ولو نظرنا
ُ َ ِ ِ َ َ ّ َ ّ ِ
ه ْ ّ ّ َ
ضوا ع َن ْ ُ م وََر ُ ه ع َن ْهُ ْ ي الل ُ ض َ ن ّر ِ سا ٍ ح َهم ب ِإ ِ ْ ن ات ّب َُعو ُ
ذي َ
صارِ َوال ِ َوالن َ
فوُْز ك ال ْ َ ن ِفيَها أ ََبدا ً ذ َل ِ َ دي َ
خال ِ ِ حت ََها ال َن َْهاُر َ ري ت َ ْ ج ِت تَ ْ جّنا ٍ م َ
َ
وَأع َد ّ ل َهُ ْ
ن الله تعالى أمتدح وأثنى م ] التوبة [100 :سنجد أ ّ ظي ُ ال ْعَ ِ
على ثلثة أصناف من البشر ،وهم = :
= الصنف الول :المهاجرون وقد انتهى عهدهم .
الصنف الثاني :النصار وقد انتهى عهدهم .
الصنف الثالث :كل من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم
واقتفى أثرهم ،وهذا الوصف مستمر إلى يوم القيامة ،وهذه
ه ضوا ْ ع َن ْ ُ م وََر ُ ه ع َن ْهُ ْ ي الل ّ ُ ض َ الصناف الثلثة كما قال تعالى ّ ر ِ
.
30
مفهوم السلفية يطلق على الملتزمين بكتاب الله ،وما
ثبت من سنة
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؛ التزاما ً
كامل ً بفهم السلف ((. 28
31
( 2هم الذين يحملون علم النبي ) ، ( حيث أعطوه
اهتماما ً بالغا ً ،وأولوه عناية فائقة علما ً وعمل ً ودعوة ،
وجعلوه واجبا ً في أعناقهم ل يفرطون به أبدا ً ،وهذا
الواجب مبني على شقين :
34
الرابطة الوحيدة التي تجمع قلوبهم ،وتوحد كلمتهم ،
وُتقوي أواصر المحبة بينهم .
( 4لو نظرنا في حال من ينتسب إلى السلم وعبر
مراحل عمره الطويلة ،وخاصة في أهل هذا الزمان
الذي طغت فيه الماديات وعُِبدت فيه الشهوات
والنزوات وتشاغل الكثير من الناس عما هو قادم وآت ،
حتى انحرف الكثير منهم عن منهج رب الرض
والسموات ،فإننا ل نجد من أحد على مثل ما كان عليه
النبي ) ( وأصحابه الكرام إل هم ،وإليك البيان :
( 1قال الشيخ العلمة أحمد بن يحيى النجمي :
ن َقوُله )) كلها في النار إل ّ )) وبهـذا يتبّين على أ ّ
واحدة (( ليس المراد به أّنهم كلهم مخلدون في النار
ن هذه الواحدة المستثناة هي التي 31فيما نعتقد ،ثم إ ّ
تدين بما دان به الصحابة عقيدةً ،وعمل ً ،وتعامل ً ،وهي
ن اللوهية لله وحده ، عقيدة أهل السّنة والجماعة وأ ّ
ن
وأّنه ل يجوز أن يدعى غيره ،ول يستغاث بغيره ،وأ ّ
ن المتابعة من فعل ذلك فإّنه مشرك شركا ً أكبر ،وأ ّ
تكون لرسول الله ل يقدم قول أحد على قوله ،ول
رأي أحدٍ على سنته ،وعقيدتهم في توحيد السماء
والصفات هو اليمان بها ،واعتقاد معناها الذي تدل عليه
ف ،ول باللسان العربي ،و إمرارها كما جاءت بل تكيي ٍ
مة محمدٍ يجب نأ ّ
تمثيل ،ول تشبيه ،ول تعطيل ،وأ ّ
39
الثاني :أنها تحوي كل السلم :الكتاب والسنة ،فهي
ل تختص برسم يخالف الكتاب والسنة زيادة أو نقصا ً .
الثالث :أنها ألقاب منها ما هو ثابت بالسنة الصــحيحة ،
ومنها مــا لــم يــبرز إل فــي مواجهــة مناهــج أهــل الهــواء
والفــرق الضــالة ،لــرد بــدعتهم والتميــز عنهــم ،وإبعــاد
الخلطة بهم ولمنابذتهم ،فلمــا ظهــرت البدعــة تميــزوا
كم الـرأي تميـزوا بالحـديث والثـر ،ولمـا ح ّ
بالسنة ولما ُ
خلوف تميزوا بهــدي الســلف ُ فشت البدع والهواء في ال ُ
ومن الملحظ :أنه لــو كــانت المــة وهكذا ...
فــي قــالب الســلم الصــحيح خاليــة مــن البــدع
والهــواء _ كمــا كــان الصــدر الول _ ومقدمــة
الســلف الصــالح لغــابت هــذه اللقــاب المميــزة
لعدم وجود المناهض لها .
الرابــع :أن عقــد الــولء والــبراء والمــوالة والمعــاداة
لديهم هو على السلم ل غير ،ل على رسم بأسم معين
،ول علــى رســم محــدد ،إنمــا هــو الكتــاب والســنة
فحسب .
الخامس :أن هــذه اللقــاب لــم تكــن داعيــة للتعصــب
لشخص دون رسول الله ) ...... (
السادس :أن هذه اللقاب ل تفضي إلى بدعة ،ول
إلى معصية ،ول إلى عصبية لشخص معين ول لطائفة
معينة ،فإذا قيل أهل السنة والجماعة أنتظم هذا اللقب
هذه الخواص ،وهذا ل يكون لحد من أهل الفرق
بأسمائهم ورسومهم التي انشقوا بها عن جماعة
المسلمين (( .35
بينما لو تأملنا في أسماء أهل البدع وألقابهم لرأينا أنها :
( 1إما ترجع إلى النتساب لشخاص كالجهمية نسبة
إلى الجهم بن صفوان ،والزيدية نسبة إلى زيد بن علي
بن الحسين ،والكّلبية نسبة إلى عبد الله بم كّلب ،
43
اللقاب على أهل السنة بقصد انتقاصهم ،قـال أبو
حاتم الرازي )) :وعلمة الجهمية تسمية أهل السنة
مشبهة ،وعلمة القدرية تسميتهم أهل الثر مجبرة ،
وعلمة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية
) نسبة إلى قولهم بزيادة اليمان ونقصانه ( ،وعلمة
الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة (( .
( 7ومن علمات أهل البدع تكفير مخالفيهم بغير دليل ،
قال شيخ السلم أبن تيمية في )) منهاج السنة / 5 :
كفر أهل السنة والجماعة ، )) : (( 158فالخوارج ت ُ َ
وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم ،وكذلك الرافضة
سق ،وكذلك أكثر أهل الهواء يبتدعون ومن لم يكفر فُ ِ
رأيا ً ويكفرون من خالفهم فيه (( .
38
38
44
الفصل الرابع
أنواع الغربة وأسبابها ومظاهرها
46
َ
ة ((مـ ٌ
ح َ
دى وََر ْ ن َرب ّك ُ ْ
م وَهُـ ً م ْ
ة ِ جاَءك ُ ْ
م ب َي ّن َ ٌ م فَ َ
قد ْ َ من ْهُ ْ
دى ِ
أه ْ َ
..
وأما الثار التي وصلت إلى أجدادكم مــن تــراث إبراهيــم
عليه الصلة والسلم ومن تله من النبياء والرسل فقــد
تحولت إلى رسوم حائلـة دارسـة ،ليـس فيهـا إل إغـراء
العرب بالتمسك بما هم عليه ،بزعم أنهم على إرث من
إرث أبيهم إبراهيم عليه السلم ،والنبياء بعده ،حــتى إن
إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلة والسلم قــد صــورهما
العــرب بصــورة المؤيــدين للعــوائد والرســوم الجاهليــة
الوثنية (( .39
ولو نظرنا في القرآن لوجدنا أنه يرد على فريتهم تلك في مواضع
ن وهنها وضعفها ،وأنها ل تقوم وتستقيم لتكون كثيرة ،حيث بي ّ َ
حجة نافعة لهم فتنجيهم من الحساب والعقاب يوم القيامة ،قال
ذيرٍ إ ِّل َ
ك ِفي قَْري َةٍ ّ
من ن ّ ِ سل َْنا ِ
من قَب ْل ِ َ ما أْر َ تعالى عنهم وَك َذ َل ِ َ
ك َ
48
فهؤلء قوم موسى يردون دعوته لنها ستلفتهم عما كان
عا لصحاب الدعوة الجديدة ، عليه آباؤهم ،وتجعلهم أتبا ً
َ
جـد َْنا
مـا وَ َ 41
جئ ْت ََنا ل ِت َل ْ ِ
فت ََنا عَ ّ وهذا ما ل يطيقونه َ )) :قاُلوا أ ِ
ن
حـ ُ
مــا ن َ ْ
ض وَ َ ْ ن ل َك ُ َ
عَل َي ْهِ آَباَءَنا وَت َك ُــو َ
مــا الك ِب ْرِي َــاءُ فِــي الْر ِ
ن (( . مِني َمؤْ ِ ل َك ُ َ
ما ب ِ ُ
ُ
ن
دو َ
قت َ ُ
م ْ مةٍ وَإ ِّنا ع ََلى آَثارِ ِ
هم ّ جد َْنا آَباءَنا ع ََلى أ ّ مت َْرُفو َ
ها إ ِّنا وَ َ َقا َ
ل ُ
] الزخرف . [23 :
ما ه َقاُلوا ْ ب َ ْ
ل ن َت ّب ِعُ َ ما َأنَز َ
ل الل ّ ُ م ات ّب ُِعوا َ ل ل َهُ ُ
ذا ِقي َ وقال تعالى وَإ ِ َ
ً ُ َ أ َل ْ َ
ن دو َ
ْ َ َْ ُ َ ته ي َ لو ا يئ شَ نَ لو ق
ِ ع
َْ ي َ ل م
ْ ُ هُ ؤ باآ
َ َ ن َ
كا في َْنا ع َل َي ْهِ آَباءَنا أوَ ْ
وَ ل
]البقرة . [170 :
41
49
وهذا إبراهيم عليه السلم يخاطب قومه قائل ً َ .. )) :
مــا
ل ل ََها َ
ما فَن َظ َ ّ َ
هــ ْ
ل ل َ ن َ ،قا َفي َ
عاك ِ ِ ن َ ،قاُلوا ن َعْب ُد ُ أ ْ
صَنا ً دو َ ت َعْب ُ ُ
ن ،قَــاُلوا فعــونك ُ َ َ
ضـّرو َ
م أوْ ي َ ُ
ن ،أوْ ي َن ْ َ ُ َ ْ عو َ مُعون َك ُ ْ
م إ ِذ ْ ت َـد ْ ُ س َ يَ ْ
ن (( . فعَُلو َ
ك يَ ْ جد َْنا آَباَءَنا ك َذ َل ِ َ ل وَ َ بَ ْ
51
فمن عوامل الصبر على اللهة في مواجهة الدعوة الجديــدة
أنهم لم يسمعوا بما جاء به صلى الله عليه وسلم في الملة
الخرة :وهي النصرانية ،قاله أبن عباس والسدي ومحمد
بن كعب القرظي و قتادة ومجاهد .
عن أبن عباس رضي الله عنهما قال )) :لمــا قــدم كعــب
بن الشرف مكة ،قالت له قريش :أنت خير أهل المدينة
وسيدهم ؟
52
قال :نعم .
قالوا :أل ترى إلى هذا الصنبور المنبتر مــن قــومه يزعــم
أنه خير منا ،ونحن أهل الحجيج ،وأهــل الســدانة ،وأهــل
السقاية ؟
ك هُوَ الب َْتـُر (( ،وُأنزلــت )) : شان ِئ َ َن َ قال :فأنزلت )) :إ ِ ّ
أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ
ت ن ب ِــال ْ ِ
جب ْ ِ من ُــو َ ن ال ْك ِت َــا ِ
ب ي ُؤْ ِ مـ َصيًبا ِ ن أوُتوا ن َ ِِ َ ْ ََ ِ
صيًرا (( . جد َ ل َ ُ
ه نَ ِ ت( ...إلى قوله )) :فَل َ ْ
ن تَ ِ غو ِ َوال ّ
طا ُ
54
فلم تكد قبيلة من قبائل العرب تفكر -أول المر -بالستجابة
لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إيوائه ،وهذه قبيلــة
قريش ترفــض دعــوته وتعــرض عنهـا ،..وهــي قريــش ذات
المكانة والسؤدد ! وهي قبيلته التي تعرفه حق المعرفة !
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمــه
أبي طالب ،وأمــا أبــو بكــر :فمنعــه اللــه بقــومه ،وأمــا
سائرهم فأخذهم المشركون ،وألبسوهم أدراع الحديد ،
وصهروهم فـي الشـمس ،فمـا منهـم مـن أحـد إل وقـد
آتاهم على ما أرادوا ،إل بلل ً ،فــإنه هــانت عليــه نفســه
فــي اللــه ،وهــان علــى قــومه ،فأخــذوه ،فــأعطوه
الولدان ،فجعلوا يطوفــون بــه فــي شــعاب مكــة ،وهــو
يقول :أحد ،أحد .
59
أما المستضعفون من أصحاب النـبي ) ، ( فقـد نطـق
قول عبـد اللـه بـن مسـعود رضـي اللـه عنـه بـألوان مـن
التعذيب لهم مـن إلباسـهم أدراع الحديـد ،وصـهرهم فـي
الشمس ،وطواف صبيان مكة ببعضهم فـي شـعاب مكـة
ونواحيها.
وعن سعيد بن جبير قال :قلت لبن عباس :يا أبن عبــاس !
أكـان المشـركون يبلغـون مـن المسـلمين فـي العـذاب مـا
يعذرون به في ترك دينهم ؟
60
وقد روت كتــب الســير صــوًرا محزنــة مــن إيلم قريــش
للمــؤمنين ،وللضــعفاء خاصــة مــن العبيــد ،والنســاء ،
والشيوخ المسنين ،كما حدث لياسر ،وســمية ،وعمــار،
وبلل ،وخباب ،وعامر بــن فهيــرة ،والّزّنيــرة ،وجاريــة
بني مؤمل ،وغيرهم كثير . 47
63
وأحيانا ً قالوا :إن له جًنا أو شيطاًنا يتنزل عليه كما ينزل
دا عليهم : الجن والشياطين على الكهان ،قال تعالى ر ً
ل عََلى ك ُ ّ }ه َ ْ ُ
ل ن ،ت َن َّز ُ
طي ُ من ت َن َّز ُ
ل ال ّ
شَيا ِ م عََلى َ
ل أن َب ّئ ُك ُ ْ
َ َ
م{ ]الشعراء ،[222 ،221:أي إنها تنزل على ك أِثي ٍ أّفا ٍ
ى كذًبا الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ،وما جّربتم عل ّ
قا فكيف تجعلون القرآن من تنزيل وما وجدتم في فس ً
الشيطان؟ ......
خَرافة يا أم
ث ُ
دي ُ ح ْ َ
** ح ِ شٌر ث ثم َ
ع ٌ
ت ثم ب َ ْو ٌ
أم ْ
عمرو .49
68
والبرص ،ويداوي الناس من سائر الدواء ،فسمع
جليس للملك كان قد عمي ،فأتاه بهدايا كثيرة فقال :
ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال :إني ل أشفي
أحدا ً ،إنما يشفي الله تعالى ،فإن آمنت بالله دعوت
الله فشفاك ،فأمن بالله تعالى فشفاه الله ،فأتى
الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك :من
رد عليك بصرك ؟
قال :ربي .
قال :أو لك رب غيري ؟!
قال ربي وربك الله ،فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل
على الغلم ،فجئ بالغلم فقال له الملك :أي بني قد
بلغ من سحرك ما تبرئ الكمة والبرص وتفعل وتفعل.
فقال :إني ل أشفي أحدا ً ،إنما يشفي الله تعالى ،
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ؛ فجيء
بالراهب فقيل له :ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار
فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع
شقاه ،ثم جيء بجليس الملك ،فقيل له :ارجع عن
دينك ،فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به
حتى وقع شقاه ،ثم جيء بالغلم فقيل له :ارجع عن
دينك فأبى ،فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال :اذهبوا
به إلي جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ،فإذا بلغتم
ذروته فإن رجع عن دينه وإل فاطرحوه ،فذهبوا به
فصعدوا به الجبل ،فقال :اللهم اكفينهم بما شئت ،
فرجف بهم الجبل فسقطوا ،وجاء يمشي إلى الملك
فقال له الملك :ما ُفعل بأصحابك ؟
فقال :كفانيهم الله تعالى ،فدفعه إلى نفر من أصحابه
فقال :اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر
،فإن رجع عن دينه وإل فاقذفوه ،فذهبوا به فقال :
اللهم اكفينهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ،
وجاء يمشي إلى الملك ،فقال له الملك :ما فعل
69
بأصحابك ؟ فقال :كفانيهم الله تعالى فقال للملك :
إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به .
قال :ما هو ؟
قال :تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ،
ثم خذ سهما ً من كنانتي ،ثم ضع السهم في كبد القوس
،ثم قل :بسم الله رب الغلم ثم ارمني ،فإنك إذا
فعلت ذلك قتلتني .
فجمع الناس في صعيد واحد ،وصلبه على جذع ثم أخذ
سهما ً من كنانته ،ثم وضع السهم في كبد القوس ،ثم
قال :بسم رب الغلم ،ثم رماه فوقع السهم في
صدغة ،فوضع يده في صدغه فمات .
فقال الناس :آمنا برب الغلم ،فأتي الملك فقيل له :
أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ،قد آمن
الناس ،فأمر بالخدود بأفواه السكك فخدت ،وأضرم
فيها النيران وقال :من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها
،أو قيل له :اقتحم ،ففعلوا ،حتى جاءت امرأة ومعها
صبي لها ،فتقاعست أن تقع فيها ،فقال لها الغلم :يا
أماه اصبري فإنك على الحق ((. 51
ثانيا ً :تعليق قلوب المؤمنين الصابرين بما أعده الله
تعالى لهم يوم يلقونه من جنات ونعيم ،وحور عين قد
تزينت واستعدت للقاء ل فراق ول وداع بعده .
ولهذا فقد أخبر الله تبارك وتعالى وفي مواضع كثيرة أنه
قد أعد للمؤمنين جنات ظليلة ،فيها ما ل عين رأت ول
خط ََر على قلب بشر ،ليزيد من تعلق أذن سمعت ول َ
قلوب المؤمنين المضطهدين بها وتشوقهم لها ،ولتهون
أمامهم كل العقبات والمصائب التي من الممكن أن تمر
وتنزل بهم وهم في طريق سيرهم إلى الله ،وحتى ل
يغتروا بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا
فُروا ْ ِفي
ن كَ َ ب ال ّ ِ
ذي َ قل ّ ُ الفانية ،قال تعالى ل َ ي َغُّرن ّ َ
ك تَ َ
73
ُأكلها بعد موته فيكون حينها نصرا ً للداعية وتقيما ً لجهده
وتعبه ،ولهذا على الداعية أن يتحلى بالصبر والتأني ،
كما وصى النبي ) ( خباب أن يتحلى به )) :ولكنكم
تستعجلون (( .
ب
ح ِ
صا ِ ك وََل ت َ ُ
كن ك َ َ حك ْم ِ َرب ّ َ وقـال سبحانه َ فا ْ
صب ِْر ل ِ ُ
م ] القلم . [48 : ظو ٌ مك ْ ُ ت إ ِذ ْ َنا َ
دى وَهُوَ َ ال ْ ُ
حو ِ
74
أعوانا ً على الخير لقلة من يطلب الخرة ويسعى لها ،
ولهذا مدحهم النبي ) ( وأثنى عليهم بقوله )) :طوبى
للغرباء ،قلنا :ومن الغرباء ؟ قال :قوم قليل في
أناس سوء كثير ،من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (( .
75
ص المحكــم المنـــزل ل الهــوى دون اّتبــاع الن ـ ّ .وكــم حــا َ
ل عن سبيل الله ! وأض ّ
َ
ة فــي الْرض فــ ً
خلي َ
ك َ جعَل َْنــا َ
داوُد ُ إ ِّنــا َ
قــال تعــالى )) َيــا َ
َ ّ َ
حقّ َول ت َّتبــع الهــوى فُيض ـلك عَــن ن الن ّــاس بــال َ حك ُ ْ
م ب َي ْ َ َفا ْ
سبيل الله (( . َ
-3قلة النصاف بين الناس وضعف الخوف من الله مما
يجعل بعضهم يحمل على المخالف ويجلــب عليــه بخيلــه
حد ُ ما يعلم فيه مــن ج َل نقيصة ،وي َ ْ جِله وينسب إليه ك ّ وَر ِ
الفضل ،ويف ـّرع علــى أقــواله فروعًــا ليســت صــحيحة ؛
ابتغاء تنفير الناس عنه ،وعن منهجه .
فإذا كان هذا المخالف لهم مّتبعاً للكتـاب والسـنة وأنكـر
وف مــن الحــوال المنافيــة للشــرع دعو التص ـ ّ مـ ّ ما عليه ُ
نسبوه إلى معاداة أولياء الله وحربهم وبغضهم .
76
وإذا أنكر ما عليه السلطين من مخالفة الشرع أو اّتباع
المناهــج الوضــعية ،أو ظلــم الرعيــة ،أو مــوالة أعــداء
ي بأنه من الخوارج المارقين والبغاة الضالين .
الدين ُرم َ
وإذا أنكـــر مـــا عليـــه العـــوام مـــن البـــدع والعـــوائد
م الُعــْرف الــذي مت فيهــم مقــا َوالمحــدثات الــتي قــا َ
دد متنط ّعٌ ملــز ٌ
م ي بأنه متش ّفا عن سلف ُرم َ يتوارثونه خل ً
س بالحرج في دينهم .
النا َ
ليس هذا فحسب؛ بــل إن كــثيًرا مــن النــاس ل يجــدون
جا من اختراع القاويل ،وتزوير الحكايات الــتي ليــسحر ً
لها أصل وترويجها بين الناس لصــدهم عــن دعــاة الحــق
والخير والسنة .
77
-4ويستحكم طوق الغربة حول متبعي السنة إذا كانت
ف حول السلطان علماء الســوء
الدولة لهل البدع ،والت ّ
الذين يزّينــون لــه الباطــل ويــأمرونه بــه ،ويبغضــون لــه
ب البدعــة
الحق ،وي َن ْهَـوَْنه عنــه ،حــتى ُيشـَرب قلب ُــه حـ ّ
ض الســنة وأهلهــا ،فُيــوَّلي أهــل البــدع
وأهلهــا ،وبغــ َ
ويســتعملهم ويقّربهــم ويستنصــح لهــم ،فيحمــل هــؤلء
من كــان علــى الناس على بدعتهم وضللهم ،ويم ّ
كنون ل َ
مثل حالهم ،ويضّيقون على أهل السنة ،وقد يخيفــونهم
ويفتنونهم ؛ كما حدث للمام أحمد ،وأبن تيمية وغيرهما
.
78
ومثل ذلك أن تكون الدولة لهــل اللحــاد والكفــر بــالله
55
من منتحلــي المــذاهب الوضــعية البشــرية كالعلمانيــة
وغيرها ؛ فإن هؤلء ل يرضون أن يكون للدين موقعٌ فــي
دون
ة بين الناس ،ويع ّ
المجتمع ،ول أن يكون لهله مكان ٌ
تحكيم الشرع في النفس والموال والعــراض والــدماء
عا من الزج بالــدين فــي أمــور ل
وسائر شؤون الحياة نو ً
علقة له بها أصل ً ،إذ الــدين -فــي عقــدهم -علقــة بيــن
الخالق والمخلــوق تقتصــر علــى أداء شــعائر معّينــة فـي
المسجد أو الكنيسة وينتهي المر عند هذا الحد .
والخداع.
79
فهــذه الســباب -وغيرهــا -تضــاعف غربــة ) الفرقــة
الناجيــة ( -ســواء مــن الناحيــة الفرديــة أو الجماعيــة ، -
مة
وتحيطها بنوع خاص من الغربة يضاف إلى الغربة العا ّ
الشــاملة الــتي تواجههــا هــذه الفرقــة ،لنهــا فئة مــن
المســـلمين والمســـلمون بيـــن أهـــل الرض غربـــاء
وللمستقيمين على الجادة السالكين الطريق المســتقيم
من هذه الغربة أوفاها وأكملها .
80
فوصفهم بالغربة ليس حّثا على العتزال ول أم ـًرا بــالقعود ؛
بل هو دعـوة إلـى التمّيـز بالمنهـج المسـتقيم والصـبر عليـه ،
وإعلنه والدعوة إليـه والجتمـاع حـوله ،إذ إن ذلـك كلـه مـن
أسـباب انـدفاع الغربـة وزوالهـا ،ومـن أسـباب الستمسـاك
حي في سبيل شـيء مـا بالحق الذي يحمله المغترب ،فالمض ّ
يعّز عليه أن يتخّلى عنه ،وحين يكون هذا الشيء هــو الحــق ؛
يكون ذلك من سعادة المسلم وتوفيقه .
81
والفيصل في هذا هو النص المحكم الــذي يجــب الرجــوع
م
إليه فيما يشـتجر بيـن المسـلمين مـن الخصــومة ،وفهـ ُ
مــن بعــدهم مــن
السلف الصالح لهذا النص من الصحابة و َ
أئمــة المســلمين والئمــة والعلمــاء العــاملين المعاصــرين
عرف بالتزام السنة و مجانبة البدعة والعراض عــن
من ُ
م ّ
دنيا ومطامعها ،وهم أهل الذكر الذين أقامهم الله حجــة
ال ّ
على عباده .
83
قال )) :فاعتزل تلك الفرق كلها ،ولو أن تعض بأصل
شجرة ،حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (( .57
ولو نظرنا ـ أخي الحبيب ـ في هذا الحديث النبوي
الشريف ،وتأملنا فيه مليا ً لوجدنا أنه يشير إلى عدة
إشارات مهمة وخطيرة في الوقت نفسه ،أهمها :
ً
الولى :نجد أن الحديث يخبر عن زمن سيأتي لحقا ،
حيث يكون الخير فيه ليس بخالص ول نقي ،بل فيه
خن وكدورة يكدران صفائه وبهائه ،حيث يتجلى فيه دَ َ
رجال يستنون بغير سنة النبي يعرف الناس منهم
أشياء وينكرون أخرى .
قال أبن حجر في )) فتح الباري : (( 36 /13 :
)) الدخن هو الحقد ،وقيل الدغل وقيل :فساد القلب ،
ومعنى الثلثة متقارب ،يشير إلى أن الخير الذي يجيء
بعد الخير ل يكون خالصا ً بل فيه كدر .
وقيل :المراد بالدخن كل أمر مكروه (( ..أ .هـ
الثانية :ونجد أيضا أن الحديث يتدرج في الحداث
والوقائع ،ليخبر عن زمن سيلحق الزمن المذكور آنفا ً
يكون الشر فيه خالصا ً وشامل ً ومطِبقا ً ،ويتمخض عن
أحداث عظيمة وشرور جسيمة منها :
( 1ظهور أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا سماهم
النبي )) دعاة على أبواب جهنم ،من أجابهم إليها
قذفوه فيها (( يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم ،ولكن
ظرون . أفعالهم تأبى ذلك حيث تناقض ما يقولون وُين ّ
قال أبن القيم رحمه الله )) :علماء السوء جلسوا على
باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم ويدعون إلى
النار بأفعالهم ،فكلما قالت أفواههم للناس هلموا ،
قالت أفعالهم :ل تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه
86
( 5البطش والضطهاد بالغرباء .60
( 6قلــة التبــاع وقلــة مــن يعيــن علــى الخيــر ويعمــل
للخرة .
( 7الستضــعاف الــذي يعــتري الغربــاء ممــا يــؤدي إلــى
السرار بالدعوة .
والستضعاف مرحلة ممكن أن يمر بها الغرباء في بلد
دون آخر ،أو في زمن دون آخر ،ولهذا يجب عليهم
حينها أن يتعاملوا معها بحذر وتبصر وتدبر ،وكذلك
يجب على من يريد التصدي لمسألة المر بالمعروف ،
والنهي عن المنكر في هـذه المرحلة أن يستطيع
)) التفريق بين أمرين مهمين ،وأن يعرف أن لكل أمر
من هذين المرين أحكامه الخاصة به ،توجب النظر
والتأمل فيه قبل محاولة تجاوزه والتعدي عليه :
المر الول :وجوب النظر إلى حال دولة السلم من
حيث القيام والعدم :
أما الحال الول :ففي حال قيام دولة السلم قياما ً
حقيقيا ً ،ويكون لها وجود في عالم الوجود ،ولها ثقلها
المعتبر وظلها الذي يستظل به كل من تحكمه ،ل دولة
ترسم على ورق أو تكون في خيال من يتصورها ويحلم
بها ،فالحكام ل تبنى على المخيلت والتصورات ،وإنما
تبنى على الحقائق والوقائع .
( 60 )60ولهذا كان من دعاء المؤمنين لربهم تبارك وتعالى أن ل
يسلط عليهم عدوهم فيفتنهم ،قال الله تبارك و تعالى )) َرب َّنا ل
فروا واغ ْفر ل َنا ربنا إن َ َ
م (( كي ُ زيُز ال ْ َ
ح ِ ت ال ْعَ ِ
ك أن ْ َ َ ِ ْ َ َ َّ ِّ ن كَ َ ُ ة ل ِل ّ ِ
ذي َ جعَل َْنا فِت ْن َ ً
تَ ْ
] الممتحنة : [ 5:
( 1قال أبن عباس )) :ل تسلطهم علينا فيفتنونا (( .
( 2قال مجاهد )) :ل تعذبنا بأيديهم ول بعذاب من عندك فيقولوا
:لو كان هؤلء على الحق ما أصابهم هذا ( .
( 3قال قتادة )) :ل تظهرهم علينا فيفتنونا ،بذلك يرون إنما
ظهروا علينا لحق هم عليه (( .
أنظر )) تفسير المام أبن كثير. (( 446 / 4 :
87
فإن كان لها قيام ووجود فإن المر والحال كهذا يرجع
كله إلى سلطان المسلمين أو نوابه ،وما على آحاد
الناس إذا ما أرادوا النكار والتغيير على من يقعون في
مخالفة شرعية إل النصيحة بالحكمة والموعظة
الحسنة ،فإن لم تجدِ نفعا ً فعندها يمكنه أن يرفع هذا
المر إلى السلطان ،ويكون بذلك قد برأت ذمته وقام
بالواجب خير قيام .
الحال الثاني :وأما في حال عدم قيام دولة السلم
فإن الواجب على الدعاة إلى الله تبارك وتعالى اتجاه
إخوانهم الذين يقعون في مخالفات شرعية النصح
بالحكمة والموعظة الحسنة ،والرفق واللين مع البتعاد
عن أساليب الخشونة والغلظة التي تنفر الناس أكثر
مةٍ
ح َ
ما َر ْ مما تجمعهم ،كما قال تعالى لنبيه ) ) فَب ِ َ
ضوا ْف ّ لن َب َقل ْ ِ
ظ ال ْ َ
ت فَظ ّا ً غَِلي َ م وَل َوْ ُ
كن َ ت ل َهُ ْ
ن الل ّهِ ِلن َ
م َّ
حوْل ِك ] آل عمران . [159 : َ ن َ م ْ ِ
المر الثاني :يجب على الدعاة إلى الله تعالى وهم
يتصدون لمسألة الدعوة إلى الله والمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أن يفرقوا بين حال القوة التي من
الممكن أن يكون عليها السلم وبين حال الضعف ،
وهذا المر يمكن معرفته من خلل النظر والتأمل في
سنة النبي ) ( وسيرته ،وعندها سيرى الناظر في
ذلك أن حاله ) ( في مكة يختلف عما صار إليه في
المدينة بعد هجرته إليها ،فقد كان النبي ) ( يرى
وهو في مكة الكثير من المنكرات والموبقات ،مثلما
رأى بعينه كيف تطعن سمية رضي الله عنها في موضع
عفتها ،وكيف يموت ياسر تحت وطأة أسواط جلديه ،
وكيف أّثر التعذيب في عمار حتى قال لهم ما أرادوه
منه ،ومع هذا كله لم يملك أن يفعل شيئا ً إزاء ذلك إل
أن يقول )) صبرا ً آل ياسر فإن موعدكم الجنة (( .
88
فهل كان النبي ) ( وحاشاه قليل الشجاعة والعزيمة
أمام هذا المنظر الذي تقشعر منه الجلود ،وتتفطر له
القلوب ،أم هو الضعف الذي خّيم بأحكامه على
المسلمين في مكة .
بالتأكيد هو الضعف وعدم القدرة ،وفي الوقت نفسه
درءا ً للمفسدة الراجحة التي تقع ويكون ضررها أشد
وأكثر من ضرر السكوت وترك النكار .
بينما نرى أن المر قد تغير في المدينة ،عندما صار
للمسلمين دولة وسلطة يستطيعون بها أن يردعوا كل
من تسول له نفسه فعل الموبقات والمعاصي .
إذن مسألة النظر إلى حال القوة والضعف مسألة مهمة
عمل بها النبي ) ( وعمل بها أتباعه من بعده ،ولهذا
فل يجب أن يفرق بين حال وحال ،وإنما يعمل بهذا
الصل متى ما أستوجب ذلك ،ولهذا نرى أن البعض لما
أعرض عن هذا كله ،وصار يعمل على أن المفاسد من
الضروريات التي لبد لها من الوقوع وإل كيف الوصول
م ،وكثر إلى الغاية التي يريد ،نرى أن الفساد قد ع ّ
وم دون الخراب وأصبحت الديار تنعق بها الغربان والب ُ َ
أن يرف لهم جفن أو يرتجف لهم قلب من عواقب
أفعالهم تلك .
قال شيخ السلم أبن تيمية في )) الصارم المسلول 2 :
)) : (( 413فمن كان من المؤمنين بأرض هو
مستضعف ،أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية
الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين آوتوا
الكتاب والمشركين ،وأما أهل القوة يعملون بآية قتال
أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ،وبآية قتال الذين
آوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ((
.
وقال أبن القيم في )) أحكام أهل الذمة : (( 768 / 2 :
)) وعلى هذا فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة ،
89
وتعذر إلزامهم بأحكام السلم أقررناهم وما هم عليه ،
فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك (( أ .هـ .
إذن :على الدعاة أن يراعوا هذا كله ،وأن يضعوه
نصب أعينهم ،وان يستفادوا من تجارب الخرين التي
حدثت عبر تاريخ أمة السلم الطويل فإن فيها العبرة
والتعاض ،وإل فإن المفسدة ستكون في سللهم ،
وسيبوؤن هم بإثمها وإثم من ستطوله بضررها
وشررها ،نسأل الله العافية (( . 61
( 8قلة من يطلب العلم الشرعي ويسعى في تحصيله
من مصادره الصلية ،مع فشو الجهل والتعالم .62
=
= ( 4أهل العلم هم أهل العقل السليم والفطرة القويمة ،وهم
أهل للتفكر والتدبر والتذكر ،قال الله تعالى وت ِل ْ َ َ
ل ك اْل ْ
مَثا ُ َ
ن ] العنكبوت [43 : قل َُها إ ِّل ال َْعال ِ ُ
مو َ ما ي َعْ ِ
س ،وَ َ
ضرِب َُها ِللّنا ِ
نَ ْ
( 5يخص الله تعالى به من وفقه وأراد به خيرا ً ،عن حميد بن
عبد الرحمن :أنه سمع معاوية قال :قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم )) :من يرد الله به خيرا ً يفقهه في الدين (( رواه
البخاري ومسلم .
( 6الخبار بأن أهل العلم هم ورثة النبياء ،وأن أحدهم لو وضع
قدمه في طريق يلتمس منه علما ً فإن هذا الطريق ينتهي به إلى
الجنة ،كما أن الملئكة تضع له أجنحتها خضعانا ً وتواضعا ً .
روى المام البخاري في صحيحه باب :العلم قبل القول والعمل .
في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على
سائر الكواكب إن العلماء ورثة النبياء إن النبياء لم يورثوا دينارا ً
ول درهما ً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (( قال أبو
حاتم رضى الله تعالى عنه :في هذا الحديث بيان واضح أن
العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا هم الذين يعلمون علم
النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم أل تراه
يقول العلماء ورثة النبياء والنبياء لم يورثوا إل العلم وعلم نبينا
سنته فمن تعرى عن معرفتها لم يكن من ورثة النبياء (( أ هـ
] حديث صحيح خرجه المام اللباني في ) صحيح سنن أبي داود
( 317 / 3و ) صحيح سنن أبن ماجة ( 81 / 1و ) صحيح جامع
الترمذي . [ ( 48 / 5
قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان في )) العمل بالعلم بين
الواقع والواجب )) : (( 8 :فهذا حديث عظيم جليل القدر بين
فضل العلم وشرف حامله من وجوه عديدة منها :
الول :أن الله – تعالى – أثاب طالب العلم على سلوكه في
الدنيا طريق العلم الموصل إلى الله تعالى وإلى رضوانه أثابه
الله عليه أن يسر له طريق الجنة مقصده وغايته .
=
= الثاني :تعظيم الملئكة لطالب العلم وحبها إياه وحياطته
وحفظه ،ولو لم يكن لطالب العلم إل هذا الحظ الجزيل لكفى به
شرفا ً وفض ً
ل.
الثالث :أن طالب العلم شبيه بالملئكة ،فإن الملئكة من أنصح
خلق الله لعباد الله ،كما قاله بعض التابعين ول ريب أن طالب
العلم قد سعى في أعظم ما ينصح به عباد الله .
الرابع :أن جميع المخلوقات تستغفر له حتى الحيتان في الماء ،
لنه لما سعى فيما به نجاة النفوس ،جوزي من جنس عمله ،
وجعل من في السموات والرض ساعيا ً في نجاته من الهلك
باستغفارهم له .
92
الولى ـ التسرع والستعجال في قطف الثمار قبل
نضوجها ،ومن المعلوم )) أن الدعوة إلى الله تعالى
لبد أن تكون مبنية على التأني وعدم الستعجال ،فإنه
لبد للداعية أن يترك الستعجال ومحاولة قطف الثمار
قبل نضوجها ،وإل فإنه سيعاقب بحرمان أن يرى شيئا ً
من جهوده قد أثمر وأنتج .
ومن المعلوم أن الستعجال صفة أمر الله تعالى نبيه )
_ ( في مواضع كثيرة من القرآن _ أن يكون بعيدا ً
عنها وأن يتحلى بالصبر في دعوته إلى الله تعالى ،قال
ل وََل ُ
س ِ ن الّر ُ م َصب ََر أوُْلوا ال ْعَْزم ِ ِما َ صب ِْر ك َ َتعالى َ فا ْ
م ي َل ْب َُثوا إ ِّل َ
ن لَ ْدو َما ُيوعَ ُ ن َم ي ََروْ َم ي َوْ َ جل ل ّهُ ْ
م ك َأن ّهُ ْ ست َعْ ِ
تَ ْ
الخامس :أن العالم شبيه بالقمر الذي يضيء الفاق يمتد نوره
في أقطار العالم ،أما العابد فشبيه بالكوكب الذي نوره ل يجاوز
نفسه وإن جاوزها فهو غير بعيد .
السادس :أن العلماء ورثة النبياء خير خلق الله فهم أحق
بميراثهم وإذا كان الميراث ينتقل للقرب فهذا تنبيه بأن العلماء
أقرب الناس إلى النبياء ،وهذه منقبة عظيمة.
السابع :أن العلم أعظم الحظوظ وأجداها ،لن نفعه يدوم في
الدارين أ .هـ
وقال أبن قدامة المقدسي في )) مختصر منهاج القاصدين :
)) : (( 22قال الخطابي :في معنى وضع الملئكة أجنحتها ثلثة
أقوال :
أحدهما :أنه بسط الجنحة .الثاني :أنه بمعنى التواضع تعظيما ً
لطالب العلم .
الثالث :أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران .
ن الذي ُيعّلم الناس الخير تستغفر لهوعن أبن عباس قال )) :إ ّ
ً
كل دابة حتى الحوت في البحر (( ،وروي نحو ذلك مرفوعا ،فإن
ن نفع العلم
قيل ما وجه استغفار الحوت للمعلم ؟فالجواب :إ ّ
يعم كل شيء حتى الحوت ،فإن العلماء عرفوا بالعلم ما يحل
ويحرم وُأصوا بالحسان إلى كل شيء حتى إلى المذبوح والحوت
،فألهم الله تعالى الكل الستغفار لهم جزاًء لحسن صنيعهم (( .
93
ن قو َس ُ
فا ِم ال ْ َ
قوْ ُك إ ِّل ال ْ َ
ل ي ُهْل َ ُ
من ن َّهارٍ ب ََلغٌ فَهَ ْة ّ
ساعَ ًَ
]الحقاف . [35 :
وبالمقابل فإن النبي ) ( قد أمر أصحابه بذلك ،كما
جاء عن خباب بن الرت قال :شكونا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،وهو متوسد بردة له في ظل
الكعبة ،قلنا له :أل تستنصر لنا ،أل تدعو الله لنا ؟
قال )) :كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الرض ،
فيجعل فيه ،فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق
باثنتين ،وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط
الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ،وما يصده
ذلك عن دينه ،والله ليتمن هذا المر ،حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت ،ل يخاف إل الله ،أو
الذئب على غنمه ،ولكنكم تستعجلون .64 (( 63
ولهذا ترى الكثير من هؤلء المتسرعين وقد شمروا عن
ساعد الجد في محاولة منهم لتغيير الواقع المرير الذي
تمر به المة السلمية ،إل أنهم وقعوا في أخطاء كثيرة
وخطيرة ،منها :
ُ
أ ـ عدم المعرفة بأصل المرض الذي أصيبت به المة
السلمية .
ب ـ عدم التفريق بين المرض والعََرض .
ج ـ النشغال بمحاولة تغيير النتيجة دون اللتفات إلى
السبب الصلي الذي نتجت عنة هذه النتيجة .
د ـ الجهل وسوء الفهم جعل هؤلء ل يعرفون أن
العرض )) النتيجة (( مرتبط بالمرض )) السبب (( َ
ً
الصلي وجودا وعدما ،وسيأتي لحقا مزيد توضيح لهذه ً ً
المسألة المهمة فتنبه .
95
ورحم الله القائل :إن لحوم العلماء مسمومة ،وعادة
الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة .
دثة وترك إتباع منهج السادسة :إتباع مناهج مح َ
السلف ،وهذا بحد ذاته من المور الخطيرة التي طرأت
على المة السلمية بعد انقضاء فترة السلف الصالح ،
حيث تفرق الناس إلى فرق وأحزاب متنازعة
ومتناحرة ،قال شيخ السلم أبن تيمية في )) مجموع
الفتاوى )) : (( 144 / 4 :فَُعلم أن شعار أهل البدع هو
ترك إتباع السلف (( .
( 10ابتعاد الكثير من الناس عن دينهم ،مع تلبسهم
بالمعاصي والموبقات مما يؤدي إلى نزول الذل والهوان
على المة السلمية .
( 11تعدد مناهج المصلحين ،واختلف طرائق الــدعاة
والمنقذين ،وهذا المر بحد ذاته من السباب المباشــرة
في إزدياد غربة الدين وتضييع ملمــح الحــق والطريــق ،
وبالتــالي أدى إلــى تشـتيت النـاس وضـياعهم بيـن حـائر
وجائر .
مــت ،مــت وط ّ
وفي ظل هذه الفوضــى العارمــة الــتي ع ّ
ظهر في السنوات الخيرة ما سماه البعــض ) بالصــحوة
السلمية ( التي ضربت بأطنابها أرجاء المة السلمية .
وتحــت وطــأة هــذه الســنوات العجــاف الــتي ضــربت
بأســواطها الملتهبــة ظهــور الغــافلين ،بــدأ النــاس مــن
رقدتهم يستيقظون ،ومن غفلتهم ينتبهون ،ومن ثم بدأ
المخلصون ـ بحسرة وألم واستحياء ـ يتساءلون :
ما الذي حصل ؟ .....
سلط الكفار علينا ؟ ... لماذا ُ
هزمنا ؟ ....لماذا ُ
لماذا كل هذا الضعف والخور ؟ .....
96
66
؟.. ألسنا أحب إلى الله من هؤلء الكفار النجاس
استيقظوا ..أفيقوا ..
كفانا نوما ً ...
كفانا غفلة ....
أل من سبيل للنجاة ...
أل من سبيل للخلص ...دقوا أجراس الخطر ....
( 66 )66أعلم رحمك الله أن هذا التساؤل يراد منه الوصول إلى
عدة تساؤلت ضمنية أخرى هي :
( 1طالما نحن أحب إلى الله من هؤلء النجاس فلماذا نرى
واقعنا بهذا البؤس الشديد والشقاء الفضيع ،بينما هم في رفاهية
ونعيم ؟
سلطوا علينا واستباحوا حرماتنا ُ فلماذا كذلك نحن وطالما (2
ونهبوا خيراتنا ؟
أما الجابة على التساؤل الول :فمن المعلوم أن واقعنا
الذي نعيشه اليوم لم ينحدر إلى الحال البائس إل بعد أن غ َّيرنا
ن بها علينا ،وغيرنا ما نحن نعمة الله تبارك وتعالى التي م ّ
بأنفسنا مما أمرنا الله به ،وانحرفنا عن الصراط القويم الذي
ُأمرنا أن نكون عليه ،كما قال تعالى ذ َل َ َ
كم يَ ُه لَ ْ
ن الل ّ َ
ك ب ِأ ّ ِ
هّ َ َ مغَيرا ً نعم ً َ
ن الل َ م وَأ ّ سهِ ْ
ف ِ ما ب ِأن ُ حّتى ي ُغَي ُّروا ْ َ مَها ع ََلى قَوْم ٍ َ ة أن ْعَ َ ُ ّ ّْ َ
م ] النفال . [53 : ميعٌ ع َ ِ ٌ
لي س ِ َ
وبالتأكيد أن هذا الحال بواقعه المرير سيدوم ويطول مكوثه حتى
نغير نحن كل ما يحتاج إلى تغيير ،ونكون كما أمرنا الله عبيدا ً له ،
ل عبيد النزوات والشهوات والشبهات ،وعندها فقط سيغير الله
تبارك وتعالى واقعنا إلى أحسن وأفضل حال كما قال تعالى
فسهم ،وإ َ َ َ
ذا أَراد َ الل ّ ُ
ه َِ ما ب ِأن ْ ُ ِ ِ ْ حّتى ي ُغَي ُّروا ْ َ قوْم ٍ َ ما ب ِ َ ه ل َ ي ُغَي ُّر َ ن الل ّ َإِ ّ
ل ] الرعد : َ ٍ وا من ِ ِ هِ ندو ُ من هم
ُ َ َ ُ ّ َ ل ماو ه َ ل ّ در م
َ َ َ ل َ ف ً اسوء ق ْ ٍ ُ
م و بِ َ
. [11
ن انتفاء الشرط يقتضي فالية قد بنيت على شرط ومشروط ،وأ ّ
انتفاء المشروط لو كانوا يعلمون .
أما الجابة على التساؤل الثاني :فإن هذا سؤال كثير
الخروج من أفواه الناس ،إما استفسارا ً وإما إنكارا ً .
فنقول :لقد فعل الناس أشياء أستحقوا بها هذا التسلط والذلل
،كالشرك والبدع المنكرة وفشو الرذائل والقبائح في مجتمعاتنا
جهارا ً نهارا ً ،وهذه أسباب كافية في تبرير إنزال العقاب!!!!
97
عمت ،وضربت باطنابها
أسئلة تثار في ظل صحوة ّ
أعماق أمة مغيبة تقبع في ذل وهوان في مؤخرة الركب
،ول يحسب لها حساب في ميزان المم ،مما جعل
الكثير من الناس يبني عليها آمال النجاة والخلص ،
وكأنها طوق نجاة قد ُالقي إلى غريق من بعد طول
كر :أليس الكفار كذلك يفعلون من من ِوعندها سيقول هذا ال ُ
الذنوب والمعاصي مثلما نحن نفعل ،فلماذا هذا الكلم إذن ؟!!!
نقول :السبب إننا مسلمون وهم كفار ،وذنوبنا وإن تشابهت مع
ذنوبهم في الحجم والشكل ولكنها أعظم وأقبح وأثقل في
الميزان .
كر الحكمة من وراء هذا التسلط ،وأنه ليس من ِ
ُ ال هذا فات ولقد
بالشر المحض مثلما ينظر إليه ويحسبه ،
بل من وراءه حكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها ،
ماحرِ ب ِ َساد ُ ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ كما قال الله تبارك وتعالى ))ظ َهََر ال ْ َ
ف َ
َ
ن ((جُعو َ م ي َْر ِ مُلوا ل َعَل ّهُ ْ
ذي ع َ ِ ض ال ّ ِ
قُهم ب َعْ َذي َس ل ِي ُ ِدي الّنا ِت أي ْ ِ كَ َ
سب َ ْ
]الروم .[41 :
=
= وأما الجابة على التساؤل الصلي فنقول :بلى ،نحن
أحب إلى الله تبارك وتعالى من هؤلء الكفار النجاس ،وهذه
حقيقة ثابتة ل مزايدة عليها ،ولكن إن فعلنا نحن أفعال ً قبيحة
وشنيعة أيشفع لنا هذا الحب ؟
بالتأكيد ل ،ولهذا سلطهم الله تعالى علينا ،وله في ذلك الحكمة
البالغة ،وبالمثال يتضح المقال :
لو أن ابنك فلذة كبدك وأحب الناس إليك قد فعل فعل ً مشينا ً ،
وأساء إليك من خلله ،أل ترفع بوجهه النعال ) أجّلكم الله ( لكي
تضربه ؟
ستقول :نعم .
نقول :أليس ابنك هذا أحب إليك من هذا النعال النجس فلماذا
تضربه به ؟
ستقول ُ :أريد تأديبه به ،وحُق لك ذلك .
وعندها نقول :كذلك الله سلط هؤلء علينا لتأديبنا لننا قد
استحققنا التأديب ول يظلم ربك أحدًا.
98
معاناة مع أمواج بحر عاتية ،تضربه ذات اليمين وذات
الشمال ،ولكنها والحق يقال :
( 1إنها صحوة غير منضبطة وفق معايير الشرع الحكيم
،ومقاييس العقل السليم ،بل كانت صحوة عشوائية
وغير شاملة ،تعالج جانبا ً من المشكلة وتترك الجوانب
الخرى ،أو تنظر إلى الجوانب المهمة وتترك الهم
والخطر .
دمت من ِقبل المتحزبين استخداما ً خاطئا ً ُ
( 2أ سُتخ ِ
وخبيثا ً ،حيث جعلوها تتقولب في قوالب حزبية ضيقة ،
مما جعل عواطف الشباب المسلم الغيور على دينة
تتبخر بمرور اليام ،ويحل محلها الغيرة على الحزب
وأهدافه .
ولهذا ظهرت عليها أمارات الفشل والنهزام تلوح في
الفق ل تخفى على أصحاب الفطر السليمة والعقول
الرشيدة .
ولو أننا أمعنا النظر في جوهر المشكلة من أساساتها
فإنه يمكن أن نقول :أن هذا الفشل الذي منيت به تلك
الجهود للخروج بالمة من مأزقها الكبير ،إنما يرجع _
والله تعالى أعلم _ إلى أسباب أهمها :
السبب الول :تعدد مناهج المصلحين ،
واختلف طرائق المنقذين :
إن المناداة بالرجوع إلى الدين ومن َثم استجابة بعض
جماهير المسلمين لهذا المر ،فإن هذا الرجوع ـ سواء
كان بسبب صحوة ألهبت القلوب الغافلة وأيقظت
العقول النائمة ،أو بسبب انسداد الطرق إمام العباد إل
طريق الله تعالى الذي وجدوه مفتوحا ً فسعوا في
سلوكه ،إنقاذا لنفسهم من التيه الذي كانوا يعانون منه
مل َْتبسا ً على الكثير من هؤلء ،بسبب
ـ فإنه يبقى ُ
اصطدامه بتعدد مناهج المصلحين واختلف طرائق
الدعاة والمنقذين ،ولهذا تشتت هذا الرجوع وضاعت
99
ملمحه ،وعندها تبخرت المال العريضة التي بناها
ده البعض نقمة جّر المة السلمية إلى البعض ،حتى ع ّ
ويلت ومصائب من خلل سوء التربية التي تلقتهـا هذه
الجموع العائـدة على أيدي أولئك الدعاة والمصلحين ـ
كما يزعمون ـ حيث أنهم حشروا في رؤوس هؤلء
الشباب العائد أفكار التطرف والغلو والتكفير والقتل ،
مما عادت بسلبياتها المشينة ُتهما ً ُألصقت بالسلم
والمسلمين ظلما ً وعدوانا ً .
قال الشيخ علي بن حسن الحلبي )) :ولكن ...كيف
يكون هذا الرجوع إلى الدين ،وقد تعددت مناهج
المصلحين ،واختلفت طرائق الدعاة والمصلحين ؟!
فمنهم من سلك الطريقة الوعظية المحضة ...
ح إلى السياحة في الرض ... جن َ َ
ومنهم من َ
ومنهم من خاض سبيل السياسة وخالط أهلها ...
ومنهم من سار في درب المواجهة العسكرية ...
ومنهم من نهج الساليب الحزبية ذات الدهاليز
السرية ...
ومنهم من امتطى الطرائق الخيرية ...
ومنهم من تسّلك في الطرق الصوفية ....
دورون في فََلك رؤسائهم ومنهم الرسميون الذين ي َ ُ
سمعا ً وطاعة ....
ومنهم الكاديميون الذين مهنتهم العلم الجاف المجرد
عن روح الديانة ....
ومنهم المذبذبون ...
ومنهم المائعون المميعون ...
ومنهم العقلنيون العصرانيون ...
ومنهم الحماسيون المهيجون ...
67
وغير ذلك كائن ويكون . (( .....
101
والعراض ؛ لذا خلطوا فيما ظنوه علجا ً ودواء
.
فظنت طائفة أن المرض هو :مكر العداء ،وتغلبهم ،
فعليه ظنت الدواء :إشغال المسلمين بالعدو
ومخططاته وأقواله وتصريحاته .
وظنت طائفة أخرى أن المرض :تسلط الحكام الظلمة
في بعض الدول السلمية .
فعليه ظنت الدواء :إسقاط هؤلء الحكام ،وشحن
نفوس الناس تجاههم .
وظنت طائفة ثالثة أن المرض :تفرق المسلمين في
البدان .
فعليه ظنت الدواء :جمعهم ،وتوحيدهم ليكثروا .
وكل هؤلء مخطئون في تشخيص الداء بصريح القرآن
والسنة فضل ً عما ظنوه دواء ،ووجه خطأ الطائفة
الولى أننا إذا اتقينا الله ل يضرنا كيد العداء قال
شْيئا ً. م َ م ك َي ْد ُهُ ْ ضّرك ُ ْقوا ل ي َ ُ صب ُِروا وَت َت ّ ُ ن تَ ْ تعالى :وَإ ِ ْ
ووجه خطأ الطائفة الثانية أن الحكام الظلمة عقوبة
يسلطهم الله على الظالمين بسبب ذنوب المحكومين .
ما ن ب َْعضا ً ب ِ َ مي َ ظال ِ ِض ال ّ ك ن ُوَّلي ب َعْ َ قال تعالى :وَك َذ َل ِ َ
ن فليس الحكام الظلمة – إذًا -الداء ،بل سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ َ
الداء المحكومون أنفسهم .
ووجه خطأ الطائفة الثالثة أن الكثرة وتوحيد الصفوف
ن إ ِذ ْحن َي ْ ٍ
م ُ مع الذنوب ل تنفع كما قال تعالى :وَي َوْ َ
شْيئا ً ، ألم تر كيف أن َ
م َ ن عَن ْك ُ ْ م فَل َ ْ
م ت ُغْ ِ م ك َث َْرت ُك ُ ْجب َت ْك ُ ْ
أع ْ َ
ذنب العجب بدد هذه الكثرة فهزم الصحابة يوم حنين .
ومن الذنوب توحيد الصفوف مع المبتدعة من
الصوفية ،والشاعرة والمعتزلة ؛ لن الواجب تجاههم
النكار عليهم ،وأقل أحوال النكار القلبي مفارقتهم ل
م. مث ْل ُهُ ْ
م ِإذا ً ِمجالستهم ،قال تعالى :إ ِن ّك ُ ْ
102
ومن هنا تعلم خطأ المقولة التي يرددها المؤسس الول
لجماعة الخوان المسلمين حسن البنا :نتعاون فيما
اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا ً فيما اختلفنا فيه ،وهي
من السس التي قامت عليها هذه الجماعة ) أي
الخوان المسلمون ( ؛ لذا ترى حسنا ً البنا ،وأتباعه
طبقوها عمليا ً مع الرافضة والصوفية وغيرهما.
وبعد هـذا كله لقائل أن ينادي :قـد أبنت الخطاء في
تشخيص داء أمتنا ،فما التشخيص الصحيح المبني على
كتاب ربنا وصحيح سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ؟
فيقال :تواترت اليات القرآنية والحاديث النبوية في أن
المصائب التي تنزل بالعباد بسبب ذنوبهم ،قال تعالى :
م أ َّنى هَ َ
ذا مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ
م ِ
َ
ة قَد ْ أ َ
صب ْت ُ ْ صيب َ ٌ
م ِ م ُ صاب َت ْك ُ ْ
َ
ما أ َ
َ
أوَل َ ّ
يٍء قَ ِ
ديٌر.. ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َ سك ُ ْ
م إِ ّ عن ْدِ أ َن ْ ُ
ف ِ ن ِ م ْ ل هُوَ ِ قُ ْ
وإن من أعظم المصائب والبليا تغلب العداء وضعف
المسلمين ،فمن هذا يظهر جليا ً ما يلي :
أن الــداء والمــرض هــو :تقصــير المســلمين فــي
دينهم ،ومخالفتهم لشريعة نبيهم .
والدواء والشفاء هو :إرجاعهم إلى دينهم
الحق.
وأعراض هذا الداء هو :غلبة الكفار وتسلطهم ،
وتسليط الحكام الظلمة على بعض دول المسلمين ،أل
ترى إلى الشرك كيف ضربت إطنابه ،ورفعت راياته
في أكثر العالم السلمي ؟ وأل ترى إلى التوحيد كيف
يحارب في العالم السلمي كله خل هذه الدولة
المباركة الدولة السعودية – أعزها الله باليمان – التي
تربي أبناءها على التوحيد في المدارس النظامية
والمساجد – جزى الله حكامها وعلماءها كل خير . -
103
فإذا كان هذا حال العالم السلمي مع أعظم ذنب
يعصى الله به ) الشرك الكبر ( ،فكيف نريد نصرا ً وعزا ً
.
ناهيك عن المعاصي الشبهاتية الخرى ،والشهوانية
فهي السائدة الظاهرة في أكثر العالم السلمي .
فإذا كنا صادقين ،ولمتنا راحمين ،فل
نشتغل بالعرض عن علج الداء ،وهو إرجاعهم
إلى دينهم (( أ .هـ
أقــول :لــو أمعنــا النظــر فــي كلم الشــيخ عبــد العزيــز
الريس وتأملناه مليا ً فإننا نجد :
أول ً :أنه يفرق بين المراض والعراض ،وبين السبب
والنتائج ،ولو أننا أستطعنا الوصول إلى هذا التفريق
فإن المر بالتأكيد سيسهل علينا .
ثانيا ً :ونرى أيضا ُ أنه يشير إلى وجوب البدء بمعالجة
المراض والسباب دون العكس ،لن النتائج والعراض
ستزول بالكلية بمجرد زوال المراض والسباب ،وكما
قلنا سابقا ً أن النتائج مرتبة ارتباطا ً وثيقا ً بالسباب
وجودا ً وعدما ً .
أما الشتغال بمعالجة النتائج والعراض ـ كما هو حاصل
اليوم في كثير من البلدان السلمية ـ فإنه مضيعة
للوقت وبعثرة للجهود ،وفي الوقت نفسه مصادمة
للسنن الربانية ،لن الله تبارك وتعالى قد خلق هذا
الكون ونظمه تنظيما ً كونيا ً وشرعيا ً ،ووضع له سننا ل
ً
تنتقض مجاملة لحبيب أو مداهنة لعزيز ،ولهذا فمن أراد
البحث عن حلول ومخارج بعيدا ً عن هذه السنن الربانية
ورغما ً عنها ،فكأنه يحرث في ماء بحر بعيد العماق ،
أو كنافخ ِقربة مقطعة الوصال ،فل هو حاصل على ما
يريد ،ول أراح نفسه من عناء ذلك .
ولهذا نعجب كل العجب ممن يسعى في معالجة نازلة
أو معضلة وسبب قيامها ووقوعها ما زال قائما ً موجودا .
ً
104
وكتطبيق عملي وواقعي دقيق لما سبق ذكره وتقريره ،
وحتى ل تبقى المسألة مجرد نظريات تدون بين أسطر
صفحات ثم تركن على رفوف النسيان ،أو كلمات تلقى
في دروس ومحاظرات ل تجد لها سبيل ً للتطبيق على
أرض الواقع ،فإننا نسوق الحادثة التالية بطلها إمام
رباني يترجم أقواله وأفعاله في ضوء الكتاب والسنة ،
وهو شيخ السلم أبن تيمية رحمه الله تعالى ،الذي
كان يعيش في عصر استشرى فيه الكثير من
المعضلت ،ونزلت على أهله الكثير من النوازل
والخطوب التي يشيب منها الوالد وما ولد ،وفيه أنتشر
الشرك بأنواعه وأشكاله المتعددة ،كما فشت البدع
والمعاصي المنكرة ،وكان أعظمها تسلط التتار على
أهل دمشق ،بعد أن وطأ بقدميه الكثير من البلد
السلمية ،ومنها بغداد عاصمة الخلفة السلمية .
فيا ترى بأي المراض بدأ ؟ وأي العلجات أختار ؟ وهل
خلط بين المرض والعرض ؟ وهل انشغل بعلج المهم
دون الهم ؟ أسئلة تثار لعل من يتصدى للصلح
والتغيير في كل زمان ومكان أن ينتبه إلى أجوبتها ويأخذ
بها .
ففي قصة شيخ السلم أبن تيمية مع قــومه عنــد مقــدم
التتر إلى الشام العبر والعظات ،حيث نرى أنه لــم يجــد
_ رحمــه اللــه تعــالى _ دواء أنجــع وأنفــع مــن التصــفية
م بهم من مصائب وخطــوب ،وهــا والتربية ،لعلج ما أَلـ ّ
خص الــداء ، هو ينقــل لنــا مــا حــدث وجــرى ،وكيــف َ
شـ ّ
وكيف عالج أوضاع تلك النازلة الفظيعة ،حتى أنزل الله
تبارك وتعالى عليهم نصره ،فقــال رحمــه اللــه )) حــتى
إن العدو الخارج عن شريعة السلم لمـا قـدم دمشـق ،
خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها
كشف ضرهم ،وقال بعض الشعراء :
105
لوذوا بقبر أبي يا خائفين من التتر
عمر
ينجيكم من أو قال :عوذوا بقبر أبي عمر
الضرر.
فقلت لهم :هؤلء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم
في القتال لنهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين
108
وأن جيوش المسلمين ُتكسر ،وأن دمشق ل يكــون بهــا
قتــل عــام ول ســبي عــام ...وهــذا قبــل أن يهــم التتــار
بالحركة . (( ...
( 6وقوله )) ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة
لم يقاتلوا في تلك المــرة لعــدم القتــال الشــرعي الــذي
أمر الّله به ورسوله . (( ...
حيث نقل رأي أهل الدين والعلم بعـدم مشـروعية قتـال
التتر إبتداءا ً ،وعلل ذلك :
_ 1لما يحصل في ذلك من الشر والفساد .
_ 2والهم من ذلك انتفاء النصرة اللهية ،بسبب وجود
ما يمنع من نزولها من شرك وبدع ومعاصي وغيره .
وهذا رأيه _ رحمه الله _ أيضا ً ،بدليل قوله )) فلما كــان
بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلص الدين للــه عــز وجــل
والستغاثة به وأنهم ل يستغيثون إل إياه . (( ...
ن بين هذا القــول ومــا ســبقه مــا يقــارب ومن الواضح أ ّ
الثلث سنوات ،حيث أن قدوم التتر إلى دمشــق حــدث
في سنة 699هـ ، 69ومعركة شقحب التي خاضها شيخ
السلم مع قومه والتي انتصروا فيها علــى التــتر حــدثت
سنة 702هـ .70
ومن هذا نعلم أن شيخ السلم أبن تيمية_ طــوال هــذه
المدة _ قد ســعى بكــل جــد فــي إصــلح أحــوال النــاس
ومعتقداتهم ،حتى أنـه _ رحمــه اللـه _ ذهـب إلـى قـائد
التتر وكّلمه كلما ً شـديدا ً مـن رجـل ل يخشـى فـي اللـه
لومــة لئم ،ومــن ثــم أخــذ المــان لقــومه ،ممــا عــاد
بالمصلحة للمسلمين ،لسيما وان قومه فــي حالــة مــن
الضــعف والخــوف ل يســتطيعون معهمــا قتــال العــدو
ومواجهته .
112
فإذا كان نصر الله ل يتحقق إل بإقامة أحكامه ،فكيف
يمكننا أن ندخل في الجهاد عمليا ً ونحن لم ننصر _ وفق
ما اتفق عليه المفسرون _ ؟!
كيف ندخل الجهاد وعقيدتنا خراب يباب ؟
كيف نجاهد وأخلقنا تتماشى مع الفساد ؟!
لبد إذن قبل الشروع بالجهاد من تصحيح العقيدة وتربية
النفس .73(( ..
عبر :
فوائد و ِ
جــه
مــه ،فِعل ُ جــاج و ُ
ظل ِ ه ابتلكــم بالح ّ ( 76 )76معناه :إن كان اللـ ُ
ة لكــم علــى ذنــوبكم ، ه سّلطه عليكــم عقوب ـ ً الصبُر ،وإن كان الل ُ
فلـن ُتغـالبوا اللـه ؛ لّنكـم عصـيُتم اللـه شـرعا ً ،فسـّلطه عليكـم
درا ً ،فبدل ً من أن تشغلوا أنفسكم بمواجهته ،فواجهــوا الســب َ
ب قَ َ
ل علــى ي ،أل وهو الذنوب بالتوبة ،والضراعةِ إلى الله ،يــد ّ الصل ّ
ن قال )) :يــا ن الحس َ ث جاء فيها أ ّصة ،حي ُ
هذا الرواية الخرى للق ّ
ج عليكــم إل ّ جــا َ
ه الح ّأّيها الناس! إّنه والله! ما سّلط اللـ ُ
ه بالســيف ،ولكــن عليكــم ة ،فل ُتعارضــوا اللــ َعقوبــ ً
ع (( ،رواه ابن سعد فــي الطبقــات )،(7/164
ة والتضّر َ
السكين َ
وابن أبي الدنيا في العقوبـات ) (52بسـند صـحيح ] .عبـد المالـك
الرمضاني [ .
( 77 )77العِل ْ ُ
ج :هو الرج ُ
ل من كفار العجم وغيرهم ،كما في
ن هؤلء الخوارج حين النهاية لبن الثير ،(286 /3) :أي أ ّ
ة للرد ّ عليه، خالفهم الحسن البصري في هواهم ،وَلم َيجدوا ح ّ
ج ً
ة القومّية العربية ،فعابوه في نسبه! وقد كان ـ
أخذتهم حمي ّ ُ
117
أقول :إن هذا تقييد مهم للبلء الذي يمكن أن يصاب
العباد به ،لن البلء إذا نزل بقوم ،فإنهم يتقلبون بين
حالين :
الحال الول :إما أن يكونوا قد أقاموا حق الله
ن الذي نزل ونصروا دينه ،وأتبعوا هدي وسنة نبيه ،فإ ّ
بهم يكون من باب البتلء ،الذي يكون الغرض منه
س َأن ب الّنا ُ س َ ح ِ
َ
الختبار والتمحيص ،قال تعالى أ َ
ن
ذي َ قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ ن ،وَل َ َ فت َُنو َ م َل ي ُ ْ مّنا وَهُ ْ قوُلوا آ َ كوا َأن ي َ ُ ي ُت َْر ُ
ن
كاذِِبي َ ن ال ْ َ م ّ صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ ن َ ذي َ ه ال ّ ِن الل ّ ُ م فَل َي َعْل َ َ
م ّ من قَب ْل ِهِ ْ ِ
] العنكبوت .[3 :
ه ليس من المعقول أن يكون العباد قد أقاموا حق لن ّ
العبودية لله تعالى ،وكانوا على الصفة التي يحبها
ويرضاها ثم يعاقبهم بتسليط الظلمة والكفرة عليهم ،
صُر قا ً عَل َي َْنا ن َ ْ ح ّ ن َ كا َ والله تبارك و تعالى يقول وَ َ
ن ] الروم . [47 : مِني َ مؤْ ِ ال ْ ُ
وهذا قيده الصبر والستكانه قال تعالى وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ
م
س َ ف َوال ْ ُ ن ال ْ َ بِ َ
ف ِ ل َوالن ُ وا ِ م َ ن ال َ
َ
م َ ص ّ ق ٍ جوِع وَن َ ْ خو ْ م َ يٍء ّ ش ْ
ة
صيب َ ٌ م ِ صاب َت ُْهم ّ ذا أ َ ن إِ َ ذي َ ّ
رين * ال ِ صاب ِ ِشرِ ال ّ ت وَب َ ّ مَرا ِ َوالث ّ َ
َ َ َ ُ
توا ٌ صل َ م َ َ
جعون * أولـئ ِك عَلي ْهِ ْ َقاُلوا إ ِّنا ل ِلهِ وَإ ِّنـا إ ِلي ْهِ َرا ِ
َ ّ ْ
ن ] البقرة : دو َ مهْت َ ُ م ال ْ ُ ك هُ ُ ة وَُأوَلـئ ِ َ م ٌح َ م وََر ْ من ّرب ّهِ ْ ّ
. [157 / 155
الحال الثاني :وإما أن يكونوا قد تركوا أمر الله
ونهيه ،وتلبسوا بالرذائل والقبائح من الذنوب والمعاصي
المهلكات ،فعندها يكون الذي نزل بهم من باب العقوبة
صاب َ ُ َ
ماصيب َةٍ فَب ِ َ م ِ من ّ كم ّ ما أ َ والتوبيخ ،قال تعالى وَ َ
عن ك َِثيرٍ ] الشورى . [30 : َ
فو َ م وَي َعْ ُ ديك ُ ْ ت أي ْ ِ سب َ ْ كَ َ
مملو َ
كين ].عبد المالك َ
دين َ
عب َ
وين َ
رحمه الله ـ من أب َ َ
الرمضاني [ .
118
وهذا قيده التوبة لله والوبة إليه والقلع عما كانوا فيه ،
فما نزل عقاب إل بذنب ،ول يرفع إل بالتوبة والندم ،
مان َُها إ ِل ّ ت فَن َ َ
فعََها ِإي َ من َ ْ
ةآ َ ت قَْري َ ٌ كان َ ْقال تعالى فَل َوْل َ َ
ي ِفي خْز ِب ال ِ ذا َ م عَ َ فَنا عَن ْهُ ْ ش ْ مُنوا ْ ك َ َ
ما آ َ س لَ ّ
م ُيون ُ َ قَوْ َ
ن ] يونس . [98 : حي ٍ م إ َِلى ِ مت ّعَْناهُ ْ
حَياةَ الد ّن َْيا وَ َال ْ َ
الفائدة الثالثة :إن الناظر في هذه المظاهر يجد أن
هنالك تشابها ً واضحا ً بين المرحلتين ،ومن أوجه التشابه
:البطش والضطهاد والتنكيل بالدعوة وأصحابها ،
وكذلك ضيق الحوال وكثرة الفتن والبتلءات ،ومن
المعلوم أن هذا يؤدي بالنهاية إلى إنحسار الدعوة وقلة
من يدخل فيها ،وهذا يظهر جليا ً واضحا ً من خلل النظر
والتأمل في حال الدعوة النبوية الشريفة منذ بدايتها
وحتى وقوع صلح الحديبية سنة 6هـ ،فإننا سنرى أن
النبي ) ( طيلة تسعة عشر عاما ً من الدعوة
المتواصلة لم يكن معه حين ذهابه إلى العمرة ووقوع
صلح الحديبية إل ) ( 1400مقاتل ،بينما نرى أن الحال
قد تغير بعد الصلح ودخوله في حيز التنفيذ ،حين
من الناس على أرواحهم وضعت الحرب أوزاها وأ ِ
ً
وأموالهم ،فعندها دخل الناس في دين الله أفواجا ،
حتى أنه ) ( لما ذهب لفتح مكة سنة 8هـ ذهب بـ )
( 10000مقاتل ،مما يدلل على أن البطش والتنكيل
من أسباب انحسار الدعوة وزهد الناس في الدخول
من الناس على فيها ،وأن السلم وانفراج الحال ،وأ ِ
أرواحهم من أسباب انتشار الدعوة وإقبال الناس
عليها .
119
الفصل الخامس
السلفيون بين والغربة والصبر
120
( 1محاولة التشكيك بمنهجهــم وعقيــدتهم عــبر
إثــارة الشــكوك والشــبهات ،بقصــد النتقــاص منهــم ،
وتنفير الناس عنهم .
( 2العــدوان وبكــل الوســائل الــتي مــن الممكــن أن
تطالها أيديهم ،حيث أنهم ل يدخرون وســعا ً فــي إيصــال
الذى للسلفيين ،والكثير من أهل الهــواء والبــدع يعتــبر
ذلك من أفضل القربات التي يتقــرب بهــا إلــى اللــه رب
العالمين ،حيث تراهم جميعا ً قد اجتمعــوا علــى محاربــة
السلفيين ومعاداتهم وبغضهم .
ومن المعلوم أن العدوان على الموحدين هو سنة جارية
على أيدي هؤلء المجرمين أعداء الحق سواء أكانوا مــن
الولين أو من المتأخرين :
1ـ فهؤلء أصحاب الخدود قد نالهم من ملكهم المتــأله
مــا نــالهم ،حــتى حفــرت لهــم الخاديــد فــي الرض
واضرمت فيهــا النيــران المتأججــة ،وراحــوا يتســاقطون
فيها الواحد تلو الخر ،ولم يكن ذلك عائقا ً في تمسكهم
بالحق الذي آمنوا بــه وســيموتون مـن أجلــه ،كمـا رأينـا
سابقا ً في حديث الملــك والغلم والســاحر ،قــال تعــالى
ت دودِ ،الّنــارِ َ ب اْل ُ ْ واصــفا ً حــالهم قُِتــ َ َ
ذا ِ خــ ُ حا ُ صــ َ
لأ ْ
نفعَل ُــو َ مــا ي َ ْم عَل َــى َ م عَل َي ْهَــا قُعُــود ٌ ،وَهُ ـ ْ
ال ْوَقُــودِ ،إ ِذ ْ هُ ـ ْ
َ
من ُــوا ب ِــالل ّ ِ
ه م إ ِّل أن ي ُؤْ ِ من ْهُ ـ ْ
مــوا ِق ُ ما ن َ َ
شُهود ،وَ َ ن ُ مِني َمؤْ ِِبال ْ ُ
ميدِ ] البروج . [8 : ح ِ زيزِ ال ْ َال ْعَ ِ
( 2وهذا الصحابي الجليل خبيب بن عدي قد طــالته يــد
العدوان والبطش حتى شكا إلى الله تعالى وجــع غربتــه
وفداحــة طريقــة مقتلــه ،وجــرم أعــدائه الــذين راحــوا
يتلذذون في تعذيبه وتقطيعه فقال متوجعا ً :
قبـــائلهم لقـــد أجمـــع الحـــزاب حـــولي وألبـــوا
وأسـتجمعوا كل مجمـع
وقُّربت مــن جــــذع وقـد قربوا أبنائهم ونسـائهم
طويل ممنـع
121
وممــا جمــع إلى اللــه أشـــكو غربــتي بعــد كربــتي
الحزاب لي عند مضجعي
فقــد بضــعوا فذا العرش صّبرني على ما يراد بــي
لحمي وقد يؤس مطمعي
فقـــد ذرفــت وقد خيروني الكفــر والمــوت دونــه
عيناي من غير مدمع
قعلــى أي شـ ـ ٍ
ً ولسـت أبالي حين ُأقتــل مســلما
كان في الله مضجعي
( 3وأنظر لهؤلء المعتزلة حينمـا سـيطروا علـى زمـام
المور أيــام المــأمون ،حــتى راحــوا ينشــرون أبــاطيلهم
وبدعهم ـ مثل قولهم بخلــق القــرآن ــ ومــن ثــم أجــبروا
الناس على الخـذ بهـا ،حـتى صـبوا جـام غضـبهم علـى
المتمسكين بهدي النبي ممن خالفوا منهجهم وعقيــدتهم
أمثال المام أحمــد بــن حنبــل رحمــه اللــه الــذي تعــرض
للسجن والضرب علــى أيــديهم فصــبر وأحتســب فجــزاه
الله عنا وعن المسلمين خيرا ً .
قــال الشــيخ علــي بــن حســن الحلــبي فــي )) التربيــة
والتصفية )) : (( 13 :ومن المشهور ما ُيذكر عن المام
مروزيّ ـ أحد أصحاب المام ـــ ن ال َأحمد ـ رحمه الله ـ أ ّ
ه :يا أســتاذ ! قــال اللــه دخل عليه أيام المحنة ،وقال ل ُ
حيم ـا ًم َر ِ ُ
ن ب ِك ـ ْ َ
ه كــا َ ّ
ن الل ـ َ م إِ ّ س ـك ُ ْ
ف َقت ُل ُــوا ْ َأن ُ
تعالى وَل َ ت َ ْ
]النساء . [29 :
مروزيّ اخرج ،أنظر أي شيء ترى . فقال أحمد :يا َ
ً
خلقا مــن ت َ حب َةِ دار الخليفة ،فرأي ُ ت إلى َر ْ قال :فخرج ُ
الناس ل ُيحصي عددهم إل الله ،والصحف في أيديهم ،
والقلم والمحــابُر فــي أذرعِتهــم ،فقــال المــروزي :أي
شيء تعملون ؟
قالوا :ننظُر ما يقــول أحم ـد ُ فنكتبــه ،قــال المــروزي :
ت ه :رأيـ ُ مكانكم ،فدخل إلى أحمــد بــن حنبــل فقــال لـ ُ
122
قومـــا ً بأيــديهم الصــحف والقلم ينظـــرون مــا تقـــو ُ
ل
ه.
فيكتبون َ ُ
ل نفســي ول َ ُ
فقال أحمد :يا مروزيّ أضل هــؤلء ؟! أقت ُـ ُ
ُأضل هؤلء . (( ...
وقال الجري في )) الشريعة )) : (( 64 :فمن اقتدى
بهؤلء الئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى .
فإن قال قائل :فإن اضطر في المر وقتا ً من الوقات
إلى مناظرتهم ،وإثبات الحجة عليهم أل يناظرهم ؟
123
فقال له :وعليك السلم ،ثم قال لبن أبي دؤاد :سله
.
فقال يا أمير المؤمنين :أنا محبوس مقيد ،أصلي في
منعت الماء ،فمر بقيودي تحل ،ومر الحبس بتيمم ُ ،
لي بماء أتطهر وأصلي ،ثم سلني .
فأمر ،فحل قيده وأمر له بماء فتوضأ وصلى لله ،ثم
قال لبن أبي دؤاد :سله .
فقال الشيخ :المسألة لي ،فأمره أن يجيبني ،فتوضأ
فقال :سل ،فأقبل الشيخ على أبن أبي دؤاد يسأله ،
فقال :خبرني عن هذا المر الذي تدعو الناس إليه ،
أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال :ل .
قال :فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
بعده ؟
قال :ل .
قال :فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بعدهما ؟
قال :ل .
قال :فشيء دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه
بعدهم ؟
قال :ل .
قال :فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب رضي الله
تعالى عنه بعدهم ؟
قال :ل .
قال الشيخ :فشيء لم يدعُ إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ،ول أبو بكر ول عمر ول عثمان ول علي
رضي الله تعالى عنهم ،تدعو أنت إليه الناس ؟ ليس
يخلو أن تقول :علموه ،أو جهلوه .فإن قلت :علموه
وسكتوا عنه ،وسعنا وإياك من السكوت ما وسع
القوم ،فإن قلت :جهلوه وعلمته أنت ،فيا لكع بن لكع
124
،يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون
رضي الله عنهم شيئا ً وتعلمه أنت وأصحابك ؟
قال المهتدي :فرأيت أبي وثب قائما ً ،ودخل الحيرى ،
وجعل ثوبه في فيه ،فضحك ،ثم جعل يقول :صدق ،
ليس يخلو من أن نقول :علموه أو جهلوه ،فإن قلت :
علموه وسكتوا عنه وسعنا من السكوت ما وسع القوم ،
وإن قلنا جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم
شيئا ً تعلمه أنت وأصحابك ؟
ثم قال :يا أحمد ،فقلت :لبيك ،فقال :لست أعنيك ،
إنما أعني أبن أبي دؤاد .فوثب إليه فقال :أعط هذا
الشيخ نفقته وأخرجه عن بلدنا (( أ .هـ
وهكذا تمتد يد العدوان في كل زمان ومكان لتنال من
الموحدين الصابرين ،ويشتد قسوة ومرارة إذا ما جاء
من القربين ،فالعدوان والذى إن جاء من الكفار أعداء
ن لم يفعلواالدين فل عجب في ذلك ،بل العجب إ ْ
ذلك ،ولكن محل العجب يكمن إذا ما جاءك الذى
دعون النتساب إلى نفس الدين والعدوان من أناس ي ّ
الذي تنتسب إليه ،فهذا هو البلء العظيم والجرح الذي
ل يندمل ،ورحم الله القائل :
على وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
الفتى من وقع الحسام المهند
قال المام أبن عثمين _ رحمه الله تعالى _ في هذين
السلوبين العدوانيين )) :حيث بين أن من حكمة الله -
عز وجل – أنه لم يبعث نبيا ً إل جعل له أعداء من
النس والجن ،وذلك أن وجود العدو يمحص الحق
جد المعارض قويت حجة الخر ، ويبينه ،فإنه كلما ٌو ِ
وهذا الذي جعله الله تعالى للنبياء جعله أيضا ً لتباعهم
فكل اتباع النبياء يحصل لهم مثل ما يحصل للنبياء ،
قال الله تعالى ( :وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ً شياطين
125
النس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
غرورا ً) ،وقال ( :كذلك جعلنا لكل نبي عدوا ً من
المجرمين وكفى بربك هاديا ً ونصيرا ً) }سورة الفرقان ،
الية {31 :فإن هؤلء المجرمين يعتدون على الرسل
واتباعهم ،وعلى ما جاءوا به بأمرين:
الول :التشكيك .
الثانية :العدوان .
أما التشكيك فقال الله تعالى في مقابلته (كفى بربك
هاديا ً) لمن أراد أن يضله أعداء النبياء .
وأما العدوان فقال الله تعالى في مقابلته (
ونصيرا ً) لمن أراد أن يردعه أعداء النبياء .
فالله تعالى يهدي الرسل وأتباعهم وينصرهم على
أعدائهم ،ولو كانوا من أقوى العداء ،فعلينا أن ل
نيأس لكثرة العداء .79 (( ...
( 3نبزهـم باللقاب المنفرة بقصد النتقاص
والتنفيرمنهم ،قال إبراهيم الرحيلي في )) موقف أهل
السنة من أهل الهواء والبدع )) : (( 125 / 1قال أبو
حاتم الرازي )) :وعلمة الجهمية تسمية أهل السنة
مشبهة ،وعلمة القدرية تسميتهم أهل الثر مجبرة ،
وعلمة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية
) نسبة إلى قولهم بزيادة اليمان ونقصانه ( ،وعلمة
الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة (( .
وهكذا ،وقدوتهم في ذلك النبي ) ( فقد وصفوه
بالشاعر والمجنون ،إلى غير ذلك من الوصاف التي لم
تكن بالقادح فيه وفي دعوته .
( 4الوشاية عليهم عند المراء والسلطين ،وهذا أمر
هد ،وهو أسلوب ليس بالجديد حتى يقع كثيرا ً و ُ
مشا َ
نتفاجأ به ،بل سبق إليه قوم فرعون الذين شحنوا صدر
فرعون بالبغضاء والشحناء على موسى وقومه ،كما
127
،ولكنه عز وجل قال { :فأصبر لحكــم ربــك} }ســورة
النسان . {24 :
( 80 )80يشير الشيخ رحمه الله إلى الحديث الذي رواه أبن حبان
برقم : 973عن سهل بن سعد الساعدي قال :قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم )) اللهم اغفر لقومي فإنهم ل
يعلمون (( ،قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه :يعني هذا الدعاء
أنه قال يوم أحد لما شج وجهه :قال اللهم اغفر لقومي ذنبهم بي
من الشج لوجهي ل أنه دعاء للكفار بالمغفرة ولو دعا لهم
بالمغفرة لسلموا في ذلك الوقت ل محالة(( وفي صحيح
البخاري برقم :6530عن عبد الله بن مسعود قال :كأني أنظر
إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا ً من النبياء ،ضربه
قومه فأدموه ،فهو يمسح الدم عن وجهه ،ويقول )) :رب اغفر
لقومي فإنهم ل يعلمون(( .
( 81 )81شرح الثلثة الصول 18 :للشيخ أبن عثيمين رحمه الله
.
128
الفائدة الولى :أنه عفى عنهم بدليل :
م ن الل ّ َ
ه عَِلي ٌ ت إِ ّ
سَرا ٍ
ح َ ك عَل َي ْهِ ْ
م َ س َ
ف ُ وقوله { فََل ت َذ ْهَ ْ
ب نَ ْ
ن} ]فاطر . [8 : صن َُعو َ
ما ي َ ْ
بِ َ
129
قال العلمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في
)) تيسير الكريم الرحمن )) : (( 646 :ولما كان النبي
) ( حريصا ُ على هداية الخلق ،ساعيا ً في ذلك أعظم
السعي ،فكان يفرح بهداية المهتدين ويحزن
ويأسف على المكذبين الضالين شفقة منه عليهم
ورحمة بهم ،أرشده الله أن ل يشغل نفسه بالسف
على هؤلء الذين ل يؤمنون بهذا القرآن ،كما قال في
الخرى )) لعلك باخع نفسك أل يكونوا مؤمنين (( وقال
ت (( وهنا قالسَرا ٍ
ح َ ك عَل َي ْهِ ْ
م َ س َ
ف ُ )) فََل ت َذ ْهَ ْ
ب نَ ْ
)) فلعلك باخع نفسك (( أي :مهلكها غما ً وأسفا ً
عليهم ،وذلك أن أجرك قد وجب على الله ،وهؤلء لو
علم الله فيهم خيرا ً لهداهم ولكنه علم أنهم ل يصلحون
إل للنار ،فلذلك خذلهم فلم يهتدوا ،فإشغالك نفسك
غما ً وأسفا ً عليهم ليس فيه فائدة لك (( ....أ .هـ
130
ث إل َي ْ َ
ك دوا عَل َي ْ َ
ك ،وَقَد ْ ب َعَ َ ما َر ّ ك لَ َ
ك وَ َ م َ ل قَوْ ِ
معَ قَوْ َ س ِ َ
م. ه في ت ْ ئش ما ب هر مْ أ تل ل باج ْ ل ا َ
ك َ ل م
ِ َ ِ َِ ُ َ ُ ِ َ ِ َ ِ ِ ْ َ
ل َ :يا م َقا َ ي ،ثُ ّ م عَل َ ّ سل ّ َ ل وَ َ جَبا ِك ال ْ ِ مل َ ُ داِني َ ل :فََنا ََقا َ
مل ُ َ َ َ م َ ّ
ك ك لك ،وَأَنا َ ل قَوْ ِ معَ قَوْ َ س ِ ه قَد ْ َ ن الل َ مد ! إ ّ ح ّم َ ُ
ما َ ف ، ك َ ر م َ أ ب ني ر م ْ أ ت ل َ
ك يَ لإ َ
ك بر ني َ ثع ب دَ ق و ، ل ْ
َ ِ ْ ِ ِ ُ َ َ ِ َ ّ ِ ْ ِ َ ْ ََ ا ِ َ ِ
با ج ل
ُ َ
م الخشبين". ن أط ْب ِقَ عَل َي ْهِ ُ تأ ْ شئ ْ َ ن ِ شْئت ؟ إ ْ ِ
135
الفصل السادس
137
ف عدوُله ،ينفون عنه تحريف هذا العلم من كل خل َ ٍ
84
الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين(( أ .هـ.
المر الرابع :كما يقابل الغربة الواقعة اليوم عدة
وعود تمثل زادا ً للغرباء في غربتهم ،ومنها يستمدون
جَلدهم ،وفي الوقت نفسه حتى ل يستوحشوا قوتهم و َ
من طول الطريق وعظمة العقبات وقلة الخوان ،ومن
هذه الوعود :
( 1الوعد بحفظ القرآن حيث تكفل الله بحفظه وصيانة
فل يطرأ عليه زيادة أو نقصان أو تبديل أو تحريف ،قال
ن حافِ ُ
ظو َ ه لَ َ
ن ن َّزل َْنا الذ ّك َْر وَإ ِّنا ل َ ُ تعالى إّنا ن َ ْ
ح ُ
]الحجر . [9 :
( 2الوعد ببقاء طائفة على الحق منصورة ل يضرها من
خالفها ول من خذلها إلى أن يرث الله الرض ومن عليها
،كما قال النبي ) )) : ( ل تزال طائفة من أمتي
ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة (( ] رواه
البخاري [ .
( 3الوعد بتجديد الدين ،حيث يبعث الله تبارك وتعالى
لهذه المة من يجدد لها أمر دينها ،كما قال النبي )
)) : ( إن الله يبعث لهذه المة على رأس مائة عام
من يجدد لها دينها (( .
قال العلمة المحدث محمد ناصر الدين اللباني في
)) سلسلة الحاديث الصحيحة / 2ح )) : (( 599حديث
صحيح (( وقال )) أشار المام أحمد إلى صحة الحديث ،
وذكر الذهبي في سير العلم :قال أحمد من طرق عنه
:إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلمهم
السنن ،وينفي عن رسول ) ( الكذب :قال فنظرنا
فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس
المائتين الشافعي (( .
139
حَزنا ً إ ِ ّ
ن م عَد ُوّا ً وَ َ ن ل َهُ ْ
كو َ ن ل ِي َ ُ
ل فِْرعَوْ َ هآ ُ قط َ ُ * فال ْت َ َ
ن * وََقال َ ِ
ت خاط ِِئي َ كاُنوا َ ما َ جُنود َهُ َ ن وَ ُ
ما َ ها َ ن وَ َ فِْرعَوْ َ
َ ا َ
سى أن قت ُُلوهُ عَ َ ك َل ت َ ْن ّلي وَل َ َ ت عَي ْ ٍ ن قُّر ُ ت فِْرعَوْ َ مَرأ ُ ْ
ن ] القصص . [9 : َ
م ل يَ ْ ً َ َ
شعُُرو َ خذ َهُ وَلدا وَهُ ْ فعََنا أوْ ن َت ّ ِ َين َ
ولو تأملنا مليا هذه اليات الكريمة من سورة القصص ، ً
فإننا سنعلم كيف جاء الفرج إلى أم موسى ،ومن الذي
فّرج لها كربتها بعدما أشتد اليأس في قلبها ،وعندها
سنخرج بعده فوائد وعبر منها :
ً
( 1سنعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يهيأ
له أسبابه ،وليس المر يختص فقط بقصة موسى عليه
السلم مع فرعون ،ولكننا لو نظرنا في قصة إبراهيم
عليه السلم لعلمنا أنها سنة ربانية تسبق القيام بأي
فعل أو عمل .
طم أوثان قومه اجتمعوا فإبراهيم عليه السلم بعد أن ح ّ
واتفقوا أن يرموه في النيران المتأججة ،ثأرا ً للهتهم
المحطمة ،ولكبريائهم المهانة ،وبالفعل أوقدوا النيران
وجاؤا بإبراهيم عليه السلم وقذفوه فيها ،وهم يريدون
شيئا ً ،والله تبارك وتعالى يريد شيئا ً آخر ،وكان
بالمكان ـ والله قادر على كل شيء ـ أن يفلت إبراهيم
من قبضتهم ول يتمكنون منه ،وكان بالمكان أيضا أن
تنزل المطار على النيران فتخمدها فينجو إبراهيم
منها ،وهذا كله لم يقع لن الله تبارك وتعالى قد هيأ
هذا كله لمر آخر يريده سبحانه .
فلو أن إبراهيم عليه السلم أفلت من قبضتهم لقالوا :
لو أمسكناه لفعلنا به كذا وكذا وليس في ذلك عظيم
شأن ،ولو أن المطار نزلت لقالوا :لو لم تنزل
المطار لفعلنا كذا وكذا وهذا أيضا ليس بالشيء العظيم
،ولكن إبراهيم عليه السلم لم يفلت من قبضتهم
والمطار لم تنزل .لتقع بعد ذلك معجزة عظيمة تأييدا ً
لبراهيم عليه السلم ،ونصرا ً لدعوته وهي كما قال
140
سَلما ً عََلى كوِني ب َْردا ً وَ َ تبارك تعالى قُل َْنا َيا َناُر ُ
م ]النبياء ، [69 :فسبحان الذي جعل النار هي َإ ِب َْرا ِ
ً
المحرقة بردا وسلما . ً
( 2وسنعلم أيضا ً أن الله تبارك وتعالى قد أمر أم
م بشرها موسى ابتداًء بأمرين ،ونهاها عن أمرين ومن ث َ ّ
ببشارتين :
ن َ ُ َ َ
سى أ ْ مو َ م ُ حي َْنا إ ِلى أ ّ أ .أما المران فهما )) :و أوْ َ
ْ َ َ
م (( . قيهِ ِفي الي َ ّ ت عَل َي ْهِ فَأل ْ ِ ف ِ خ ْ ضِعيهِ فَإ ِ َ
ذا ِ أْر ِ
حَزِني (( . خاِفي وََل ت َ ْ ب .وأما النهيان فهما )) :وََل ت َ َ
نم َ عُلوهُ ِ جا ِ ك وَ َ دوهُ إ ِل َي ْ ِ ج .وأما البشارتان فهما )) :إ ِّنا َرا ّ
ن (( . سِلي َ مْر َ ال ْ ُ
( 3وسنعلم أيضا أن من تدبير الله تبارك وتعالى أن
حفظ موسى من كيد عدوه بعدوه ،حيث جعل الماء
يأخذه إلى بيت عدوه ليلتقطه ويكون له عدوا ً وحزنا ً )) ،
نن فِْرعَوْ َ حَزنا ً إ ِ ّ م عَد ُوّا ً وَ َ ن ل َهُ ْ كو َ ن ل ِي َ ُ ل فِْرعَوْ َ هآ ُ قط َ ُ َفال ْت َ َ
ن (( . خاط ِِئي َ كاُنوا َ ما َ جُنود َهُ َ ن وَ ُ ما َ ها َ وَ َ
( 4ومن ثم تحققت البشارة ورجع موسى إلى حضن
أمه معززا ً مكرما ً ،ليرضع من صدر أمه بأمر فرعون
نفسه ،بعد أن رد كل المراضع التي جلبها فرعون له ،
ت
صَر ْ صيهِ فَب َ ُ خت ِهِ قُ ّ ت ِل ُ ْ قال تعالى حكاية عنهم َ قال َ ْ
من ضعَ ِ مَرا ِ مَنا عَل َي ْهِ ال ْ َ حّر ْ ن* َ شعُُرو َ م َل ي َ ْ ب وَهُ ْ جن ُ ٍ عن ُ ب ِهِ َ
م ُ َ ُ ْ َ َ ُ ّ َ ت هَ ْ َ ل فَ َ قَب ْ ُ
م وَهُ ْ ه لك ْ فلون َ ُ ت ي َك ُ ل ب َي ْ ٍ م عَلى أهْ ِ ل أد ُلك ْ قال ْ
َ ُ َ
ن
حَز َ قّر عَي ْن َُها وَل ت َ ْ ي تَ َمه ِ ك َ ْ ن * َرد َد َْناهُ إ ِلى أ ّ حو َ ص ُ ه َنا ِ لَ ُ
ول ِتعل َم أ َن وعْد الل ّه حق ول َك َ
ن مو َ م َل ي َعْل َ ُ ن أك ْث ََرهُ ْ ِ َ ّ َ ِ ّ َ َْ َ ّ َ َ
]القصص .[13 :
فيا ترى من الذي دّبر هذا كله ومن الذي أحاط هذا
الرضيع الذي ل حول له ول قوة بكل هذه العناية
والرعاية .
بالتأكيد هو الله تبارك وتعالى ،ولهذا يجب على الغرباء
أن ل ييأسوا ول يبأسوا مهما اشتدت المصائب وعظمت
141
الخطوب وتكاثر العداء ،فالفرج قريب ،والفارج هو
الله تبارك وتعالى .
ورحم الله القائل :
نأبشر بخير فإ ّ جم منفر ٌ
ن الـهَ َيا صاحب الـَهم إ ّ
ه
ج الل ُ
الفـار َ
ن
ن فإ ّ فل تيأس ّ ً
س قـد يقطـع أحيانا بصاحبه اليأ ُ
ه
الكـافي الل ُ
ن
فل تجزع ّ ل بعـد العسر ميسرة فالله يجعـ ُ
ه
ن القاسم الل ُ فإ ّ
ن كاشف ُ
فإ ّ وإذا أبتليـت فثق باللهِ وأرضى
البلوى هو الله
ولعلنا بحديث الفرج الذي تهفو إليه قلوب الغرباء
وتتطلع إليه نفوس الحيارى نختم موضوع هذه الرسالة
المباركة ،عسى الفرج لما نحن فيه يكون قريبا ً ،وما
ذلك على الله ببعيد .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه التذكرة الوجيزة ،فما
كان فيها من الصواب والحق فمن الله تعالى وحده ،
ولله وحده الحمد والشكر والمّنة .
وإن كان غير ذلك فمني والشيطان ،والله ورسوله منه
بريئان ،وأنا راجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد
في القول والعمل ،وأن يكلل أعمالنا بالنجاح والفلح
إنه كريم جواد .
ل اللهم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،وص ّ
على عبدك ورسولك الصادق المين ،وعلى آله وصحبه
وسّلم .
وكتبه
أبو سيف
العبيدي الثري
142
فهرس الموضوعات
الموضوع
الصفحة
المقدمــــــــــــــــــــة .......................................
1
الفصل الول
معاني الغربة اللغوية ..............................
3
الفصل الثاني
النصوص الوارده في وصف الغربة والغرباء .......
9
الفصل الثالث
في بيان أصل الغربة .............................
17
التعريف بالغرباء ...............................
20
صفات الغرباء وأسمائهم .........................
21
أسماء أهل البدع وعلماتهم ........................
32
143
الفصل الرابع
أنــواع الغربــة وأســبابها ومظاهرهــا .....................
36
عــــــــبر .........................................
فــــــــوائد و ِ
90
الفصل الخامس
السلفيون بين والغربة والصبر .........................
96
الفصل السادس
الفهرس ................................................
115
144