You are on page 1of 221

‫شخصية فرعون في‬

‫القرآن‬
‫إعداد الطالب‬
‫قاسم توفيق قاسم خضر‬

‫إشراف الدكتور‬
‫محسن الخالدي‬

‫‪1‬‬
‫جامعة النجاح الوطنية‬
‫كلية الدراسات العليا‬

‫شخصية فرعون في القرآن‬

‫إعداد الطالب‬
‫قاسم توفيق قاسم خضر‬

‫إشراف الدكتور‬
‫محسن الخالدي‬

‫قدمت هذه الرسالة استكمال لمتطلبات درجة‬


‫الماجستير في التفسير‬
‫بكلية الدراسات العليا في جامعة النجاح الوطنية في‬
‫نابلس‪-‬فلسطين‬
‫‪1423‬هـ الموافق ‪2003‬م‪.‬‬

‫شخصية فرعون في القرآن‬


‫إعداد الطالب‬
‫قاسم توفيق قاسم خضر‬
‫نوقشت هذه الطروحة بتاريخ ‪20/7/2003‬م‬
‫وُأجيزت‪.‬‬
‫أعضاء لجنة المناقشة‪:‬‬
‫‪ -1‬د ‪0‬محسن الخالدي رئيسا‬
‫‪ -2‬د ‪0‬علي علوش مناقشا خارجيا‬
‫‪ -3‬د ‪0‬خالد خليل علوان مناقشا داخليا‬
‫‪2‬‬
‫الهــــــــــــداء‬
‫إلى ك ّ‬
‫ل الذين قالوا كلمة الحق أمام الطواغيت‬

‫الشــكر‬
‫أتقدم بالشكر الجزيل إلى‬
‫فضيلة الدكتور محسن الخالدي‬
‫دمه لي من نصائح وإرشادات أدت إلى إخراج‬ ‫لما ق ّ‬
‫هذا البحث‬
‫سائل المولى ج ّ‬
‫ل شأنه أن ينفع المسلمين بعلمه‪،‬كما‬
‫أتقدم بالشكر إلى الخوة المناقشين الدكتور علي‬
‫علوش والدكتور خالد علوان‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مسرد الموضوعات‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫قرار لجنة المناقشة‬
‫ب‬
‫الهداء‬
‫ت‬
‫الشكر‬
‫ث‬
‫ملخص البحث باللغة العربية‬
‫ز‬
‫المقدمة‬
‫‪1‬‬
‫مسوغات البحث)أهميته‪،‬ومشكلته‪،‬وأهدافه(‬
‫‪1‬‬
‫الفصل التمهيدي‬
‫‪5‬‬
‫المبحث الول‪ :‬عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون‬
‫‪5‬‬
‫مكان غرق فرعون‬
‫‪6‬‬
‫زمان غرق فرعون‬
‫‪7‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬لمحة موجزة عن فرعون‬
‫‪10‬‬
‫فرعون لغة‬
‫‪10‬‬
‫فرعون موسى‬
‫‪10‬‬
‫فرعون موسى عليه السلم غير فرعون يوسف عليه السلم‬
‫‪11‬‬
‫طبيعة اللوهية والربوبية التي ادعاها فرعون‬
‫‪12‬‬
‫الفصل الول‪:‬صفات شخصية فرعون‬
‫‪16‬‬
‫المبحث الول‪:‬الستكبار‬
‫‪17‬‬
‫امتناع فرعون عن قبول الحق رغم قيام الحجة والبرهان دليل على استكباره‬
‫‪20‬‬

‫‪4‬‬
‫فرعون ُيفرط في استكباره رغم كثرة اليات‬
‫‪21‬‬
‫معجزة النتصار العظيم على السحرة دللة أخرى على استكبار فرعون‬
‫‪23‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬العلو‬
‫‪26‬‬
‫ي للعلوّ والفساد‬
‫اليهود مثال ح ّ‬
‫‪28‬‬
‫المبحث الثالث‪:‬الطغيان‬
‫‪31‬‬
‫المبحث الرابع‪:‬الظلم‬
‫‪35‬‬
‫تنوع الظلم في ظل شخصية فرعون‬
‫‪37‬‬
‫كل من شارك الظالمين أو سكت لغير عذر مشروع فهو منهم‬
‫‪38‬‬
‫الظلم قلب للوضاع‬
‫‪39‬‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫المبحث الخامس‪:‬الفساد‬
‫‪40‬‬
‫الفساد في ظل الطاغوت المعاصر‬
‫‪42‬‬
‫المبحث السادس‪:‬الستبداد‬
‫‪44‬‬
‫بسبب الستبداد كان مطلب موسى عليه السلم إطلق بني إسرائيل‬
‫‪49‬‬
‫المبحث السابع‪:‬الوهم والغرور‬
‫‪52‬‬
‫الوهم والغرور ُيؤديان إلى كثرة العثرات ويمنعان من رؤية الحقيقة‬
‫‪57‬‬
‫المبحث الثامن‪:‬السراف‬
‫‪59‬‬
‫المبحث التاسع‪:‬المكر‬
‫‪63‬‬
‫عبرة المبحث‪’’:‬ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘‘‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫نتيجة الفصل‪:‬العقدة الساسية في شخصية فرعون‬
‫‪71‬‬
‫ون شخصية فرعون‬ ‫الفصل الثاني‪:‬السباب التي أدت إلى تك ّ‬
‫‪74‬‬

‫‪5‬‬
‫المبحث الول‪ :‬الكفر‬
‫‪75‬‬
‫بعض نتائج الكفر وآثاره في شخصية فرعون‬
‫‪78‬‬
‫ن الخلل في أي جزء من العقيدة له آثار مدمرة على الفرد‬ ‫تنبيه ل بد ّ منه‪:‬إ ّ‬
‫‪79‬‬ ‫والمجتمع‬
‫الكفر عارض واليمان أصيل‬
‫‪81‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬المحافظة على المكتسبات الخاصة‬
‫‪82‬‬
‫المكتسبات أو المتيازات التي تمتع بها فرعون‬
‫‪83‬‬
‫المبحث الثالث‪:‬فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة‬
‫‪89‬‬ ‫لفرعون ومساندتهم له‬
‫أول‪:‬هامان‬
‫‪90‬‬
‫ثانيا‪:‬السرة الحاكمة‪،‬وتشمل المل من قوم فرعون وآل فرعون وقومه‬
‫‪91‬‬
‫أول‪:‬المل من قوم فرعون‬
‫‪93‬‬
‫إتباع المل لمر فرعون‬
‫‪95‬‬
‫السباب الحقيقة لتباع المل أمر فرعون‬
‫‪96‬‬
‫المشاركة العملية للمل‬
‫‪98‬‬
‫كلمة في بــطانة الســوء‬
‫‪102‬‬
‫ثانيا‪:‬آل فرعون‬
‫‪103‬‬
‫ن آل فرعون أداة تنفيذية في نظام فرعون‬ ‫بيان أ ّ‬
‫‪104‬‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫العقوبات التي أنزلها الله على آل فرعون دليل على مشاركتهم في الثم‬
‫‪105‬‬ ‫والعدوان‬
‫ثالثا‪:‬قوم فرعون‬
‫‪107‬‬
‫بيان بعض صفات قوم فرعون وأّنها سبب في إظهار شخصية فرعون‬
‫‪107‬‬
‫رابعا‪:‬السحرة‬
‫‪109‬‬

‫‪6‬‬
‫الطاغوت المعاصر والفئات المشاركة‬
‫‪112‬‬
‫الوقاية خير من العلج‬
‫‪112‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان‬
‫‪115‬‬ ‫حكمه‬
‫المبحث الول‪:‬وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل‬
‫‪116‬‬
‫ذبح البناء واستحياء الّنساء لون من ألوان العذاب في نظام فرعون‬
‫‪117‬‬
‫فرعون يجدد أوامر القتل‬
‫‪119‬‬
‫فرعون يهدد بقتل موسى واستئصال بني إسرائيل‬
‫‪121‬‬
‫فرعون يسجل أبشع مأساة عرفها التاريخ‬
‫‪123‬‬
‫ل فرعون وسيلة ونتيجة‬ ‫الخوف في ظ ّ‬
‫‪125‬‬
‫السجون لون آخر من عذاب فرعون‬
‫‪126‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬استجهال المجتمع‬
‫‪129‬‬
‫لقد استعمل فرعون لتجهيل الّناس عدة وسائل‪،‬تدور في مجملها حول‬
‫‪130‬‬ ‫محورين‬
‫م إشغال الّناس بما يضر ول ينفع‬
‫وبين المنع والحقن ت ّ‬
‫‪132‬‬
‫ل يستوي الذين يعلمون والذين ل يعلمون‬
‫‪134‬‬
‫وسائل الرد الممكنة‬
‫‪135‬‬
‫المبحث الثالث‪:‬الكذب‬
‫‪136‬‬
‫الكذب وسيلة من وسائل فرعون في مواجهته لموسى عليه السلم‬
‫‪136‬‬
‫الكذب تزوير للحقيقة كي ل تتضح معالم المعركة بين الحق واالطاغوت في‬
‫أذهان الجماهير ‪141‬‬
‫المبحث الرابع‪:‬السيطرة القتصادية‬
‫‪143‬‬
‫بعض الشواهد على سيطرة فرعون القتصادية‬
‫‪143‬‬
‫تدفق الخيرات بين يدي فرعون ابتلء من الله‪،‬ودليل على قوته القتصادية‬
‫‪145‬‬

‫‪7‬‬
‫المال بين يدي فرعون وسيلة من وسائل التثبيت لمنهجه ونظامه‬
‫‪146‬‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫ازدياد تأثير المال في ظل طغيان المفهوم المادي للحياة في عهد فرعون‬
‫‪147‬‬
‫ارتباط السيطرة القتصادية مع السيطرة العسكرية‬
‫‪148‬‬
‫المبحث الخامس‪:‬السيطرة العسكرية‬
‫‪150‬‬
‫جنود الطاغوت خاطئون‬
‫‪154‬‬
‫وسائل فرعون تنتج نظاما يمتاز بالقوة المادية والخواء الروحي‬
‫‪155‬‬
‫وسائل الطاغوت بين المس واليوم‬
‫‪157‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬آثار شخصية فرعون‬
‫‪159‬‬
‫المبحث الول‪:‬الثار المجتمعية لشخصية فرعون‬
‫‪160‬‬
‫أول‪:‬ضلل قومه‬
‫‪160‬‬
‫ثانيا‪:‬استمراء الذل‬
‫‪164‬‬
‫ثالثا‪:‬ظهور المجتمع الطبقي‬
‫‪166‬‬
‫رابعا‪:‬طغيان المفهوم المادي للحياة‬
‫‪170‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬جلب العقوبات الّربانية‬
‫‪172‬‬
‫العقوبات التي نزلت على فرعون وملئه وآله‬
‫‪173‬‬
‫عبرة العقوبة والذنب‬
‫‪177‬‬
‫الفصل الخامس‪:‬الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة‬
‫‪179‬‬ ‫فرعون‬
‫المبحث الول‪:‬مرحلة التهيئة والعداد للمواجهة‬
‫‪181‬‬
‫بعض مميزات شخصية موسى والتي ُتعتبر نموذجا للشخصية القادرة على‬
‫مواجهة الطاغوت ‪183‬‬

‫‪8‬‬
‫أول‪:‬النفس العزيزة‬
‫‪183‬‬
‫ثانيا‪ :‬المروءة والفطرة السليمة‬
‫‪184‬‬
‫ثالثا‪:‬القوة والمانة‬
‫‪185‬‬
‫رابعا‪:‬الصلبة والخشونة‬
‫‪187‬‬
‫شرة في التنفيذ‬ ‫المبحث الثاني‪:‬مرحلة المبا َ‬
‫‪189‬‬
‫أول‪:‬بيان هدف الدعوة وغايتها مع تقديم الحجة والبرهان‬
‫‪189‬‬
‫وهذا هو معنى قوله تعالى لموسى وهارون‪’’:‬فقول له قول لينا‘‘‬
‫‪192‬‬
‫ثانيا‪:‬القدره على التعامل مع المواقف المختلفة والمستجدة وسرعة البديهة‬
‫‪194‬‬ ‫وروح المبادرة‬

‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫موسى عليه السلم ُيدير الحوار بنباهة واقتدار‬
‫‪194‬‬
‫الطاغوت يثير الشبهات وموسى عليه السلم يرد عليها ويدحضها‬
‫‪195‬‬
‫موسى عليه السلم ُيجيد ترتيب المبارة مع السحرة‬
‫‪200‬‬
‫عبـرة‬
‫‪201‬‬
‫المبحث الثالث‪:‬مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس‬
‫الطاغوت في الحجة والبرهان ‪203‬‬
‫وسائل مواجة البتلءات والمحن‬
‫‪204‬‬
‫الوسيلة اللولى‪:‬التعبئة الروحية‬
‫‪204‬‬
‫أول‪:‬ذكر الله‬
‫‪204‬‬
‫ثانيا‪:‬إقامة الصلة‬
‫‪206‬‬
‫ثالثا‪:‬الدعاء‬
‫‪208‬‬
‫الوسيلة الثانية‪:‬التوكل على الله‬
‫‪211‬‬

‫‪9‬‬
‫تفويض المر إليه‬
‫‪213‬‬
‫الوسيلة الثالثة‪:‬الستعانة بالله والصبر‬
‫‪214‬‬
‫السحرة آية من آيات الصبر والثبات‬
‫‪218‬‬
‫امرأة فرعون مثال في الصبر أمام الطاغوت‬
‫‪219‬‬
‫وبالصبر تمت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل‬
‫‪221‬‬
‫الوسيلة الرابعة‪:‬الستقامة وعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون‬
‫‪221‬‬
‫الوسيلة الخامسة‪:‬الستعاذة بالله‬
‫‪224‬‬
‫الوسيلة السادسة‪:‬سرّية الليمان والنتماء‬
‫‪226‬‬
‫قّية وسرّية اليمان‬
‫مبدأ الت ّ ِ‬
‫‪228‬‬
‫نظرة تحليلية عامة على كيفية مواجهة فرعون‬
‫‪229‬‬
‫الخــــاتمة‬
‫‪232‬‬
‫أول‪:‬البعد الغيبي في الحداث حقيقة نوقن بها ول ُتلغي واجب الخذ بالسباب‬
‫‪232‬‬
‫ثانيا‪:‬سّنة أخذ الله للظالمين‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬فجعلناهم سلفا ً ومثل ً للخرين‘‘‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫ثالثا‪:‬الفتنة والختبار‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‘‘‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫رابعا‪:‬ل أثر للقاعدين على رصيف الحياة‬
‫‪236‬‬
‫المصادر‬
‫‪239‬‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫فهرس اليات‬
‫‪249‬‬
‫فهرس الحاديث‬
‫‪262‬‬
‫ملخص البحث باللغة النجليزية‬
‫‪264‬‬

‫‪10‬‬
11
‫ملخص البحث باللغة العربية‬
‫بدأت بحثي بفصل تمهيدي تحدثت فيه عن قصة فرعون بشكل‬
‫طلع القارىء على مضمون‬ ‫مجمل‪،‬وعن مكان وزمن غرقه‪،‬وذلك كي ي ّ‬
‫ت تلك الشارة‬ ‫َ‬
‫ما يساعده على فهم ما جاء في هذه الرسالة‪ .‬وأت ْب َعْ ُ‬ ‫القصة‪،‬م ّ‬
‫حديثا موجزا عن فرعون نفسه الذي نحن بصدد الحديث عن‬
‫شخصيته‪،‬وذكرت طبيعة اللوهية والربوبية التي ادعاها فرعون‪.‬‬
‫م انتقلت بعد ذلك للحديث عن صفات شخصية فرعون كما ذكرها‬ ‫ث ّ‬
‫القرآن‪،‬سواء باللفظ الصريح لتلك الصفات‪،‬أم من خلل فهم النصوص‬
‫والستدلل منها على تلك الصفات‪،‬مع ما ُيرافق ذلك من تحليل ونتائج‪،‬وربط‬
‫كل الحديث عنها وربطها بالواقع تشخيصا‬ ‫بين الواقع والنصوص‪،‬حيث ش ّ‬
‫للمرض القديم والحديث معا‪.‬‬
‫بعد الحديث عن صفات شخصية فرعون أصبح من الضروري الكشف‬
‫عن أسباب هذه الظاهرة العجيبة‪،‬فتحدثت عن تلك السباب‪،‬والتي كانت‬
‫تدور في مجملها حول السباب الذاتية في ذات فرعون‪،‬والموضوعية التي‬
‫ن اجتماع تلك السباب أدى لظهور تلك‬ ‫أحاطت به‪،‬وبينت أ ّ‬
‫الشخصية‪.‬وربطت بين القديم والواقع ونبهت على ضرورة الوقاية‪،‬فمعرفة‬
‫سبب المرض تعين على الوقاية منه كما ُتعين على العلج‪.‬‬
‫وتحدثت بعد ذلك عن وسائل فرعون في تثبيت ملكه وفرضه‬
‫لشخصيته‪،‬تلك الوسائل التي دارت حول الرهاب والتخويف بالقتل والتعذيب‬
‫تارة‪،‬وباستجهال المجتمع لفراغه من كل محتوى فكري أو إنساني تارة‬
‫أخرى‪،‬واعتماده على الكذب والدجل لخفاء الحقيقة عن الجماهير‪،‬وأضاف‬
‫إلى ذلك سيطرة شبه تامة على المال والسلح؛فجمع بين يديه القوة‬
‫القتصادية والعسكرية‪.‬‬
‫انتقلت بعد ذلك للحديث عن آثار تلك الشخصية على الجماهير الواقعة‬
‫تحت سيطرتها‪،‬والتي تمثلت بضلل قومه وضياعهم وتيههم‪،‬واعتيادهم على‬
‫حياة الذل وخنوعهم‪،‬وبظهور الطبقية وتشرذم المجتمع‪،‬وطغيان المفاهيم‬
‫المادية المصاحبة بسبب غياب القيم والمعاني النسانية‪،‬وما صاحب ذلك من‬
‫عقوبات ربانية‪.‬‬
‫م تحدثت‪-‬أخيرا‪-‬عن السبل التي أرشد القرآن إليها في مواجهة‬ ‫ث ّ‬
‫فرعون‪،‬والتي تمثلت في مرحلة التهيئة لشخصية موسى عليه السلم‬
‫متمثلة في بيان طبيعة‬ ‫كشخصية مكافئة لشخصية فرعون‪.‬ومرحلة التنفيذ ال ُ‬
‫الدعوة‪،‬والقدرة على التعامل مع المواقف المستجدة‪.‬ومرحلة مواجهة‬
‫البتلءات وما تتطلبه من وسائل التعبئة الروحية‪،‬والخذ بالسباب‬
‫المادية‪.‬وقد تخلل البحث الكثير من الدروس والعبر‪،‬ووضعت في الخاتمة‬
‫أهم تلك الدروس والعبر والنتائج التي أسفر عنها هذا البحث‪،‬وأسأل الله‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫مقدمــة‬
‫الحمد لله رب العالمين‪،‬والصلة والسلم على سيد المرسلين‪،‬وعلى آله‬
‫وأصحابه أجمعين وبعد‪-:‬‬
‫ن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‪،‬ل يأتيه الباطل من بين يديه ول‬
‫فإ ّ‬
‫من خلفه‪،‬قول فصل وما هو بالهزل‪ ،‬وهو الحق والحقيقة‪،‬من تمسك به‬

‫‪12‬‬
‫ل وغوى‪،‬لتنقضي عجائبه‪،‬ول يخلق على كثرة الرد‪،‬ول‬ ‫اهتدى ومن تركه ض ّ‬
‫يشبع منه العلماء‪،‬من قال به صدق‪،‬ومن حكم به عدل‪.‬‬
‫من هنا كان القرآن كتاب حياة ل قصة حياة‪،‬وعلى هدي هذه الحقائق‬
‫المطلقة‪،‬لفت انتباهي قصة فرعون في هذا الكتاب العظيم‪،‬وكنت على يقين‬
‫ن ورودها بهذا الحجم ل بد ّ له من عبر جليلة‪،‬وفوائد للمة عظيمة‪،‬فبدأت‬ ‫أ ّ‬
‫الّنظر فيها مرة بعد مرة‪،‬فوجدت نفسي في شوق إلى سبر أسرارها ما‬
‫استطعت إلى ذلك سبيل‪.‬وها أنا أضع مسوغات بحثي متوكل على الله أن‬
‫يلهمني السداد والرشاد‪.‬‬
‫مسوغات البحث‬
‫أهميته‪،‬ومشكلته‪،‬وأهدافه‬
‫‪-1‬أهمية البحث‪:‬‬
‫ن شخصية فرعون تتكرر بأشكال مختلفة وجوهر‬ ‫أ‪-‬البعد الواقعي؛ذلك أ ّ‬
‫واحد‪،‬فأحيانا نراها متمثلة بشخص‪،‬يقول بلسان الحال‪-‬إن لم يقل بلسان‬
‫المقال‪-‬أنا ربكم العلى‪،‬وأحيانا نرى شخصية فرعون متمثلة بالمنهج الذي‬
‫يقوم عليه جمع من الّناس تواطأوا عليه‪،‬وتعاونوا على تطبيقه‪،‬وقهروا المم‬
‫والشعوب في سبيل إخضاعهم له‪.‬فليس لحد خيار إل ّ أن يدخل في دينهم‬
‫ويحمل ثقافتهم وأفكارهم!كمن قالوا‪’’:‬لنخرجّنك يا شعيب والذين‬
‫ن في ملتنا‘‘‪،1‬وبالتالي تتكرر‬
‫آمنوا معك من قريتنا أو لتعود ّ‬
‫مَرضّية‪،‬فهي إذن شخصية واقعيه ندرك‬ ‫الشخصية وإفرازاتها السلبية وال َ‬
‫وجودها وحقيقتها وآثارها في حياة الناس‪.‬‬
‫فهي معاناة تتكرر كلما تهيأت لها السباب والظروف المواتية‪،‬ونحن‬
‫نرى أّنه قد تهيأت الظروف هنا وهناك لمثل هذه الشخصية‪،‬فظهرت مرة‬
‫أخرى في صور مختلفة؛ولهذا وجب إلقاء الضوء عليها كحاجة عصرية‪.‬‬
‫ن ظهور مثل هذه الشخصية كارثة إنسانية‪،‬وليست‬ ‫ب‪-‬البعد النساني؛ل ّ‬
‫مشكلة إسلمية‪،‬وفي هذا إظهار للبعد النساني في القرآن‪،‬وهو يدعو‬
‫لمجابهة هذه الشخصية‪.‬‬
‫ت‪-‬إظهار العجاز القرآني وهو يتحدث عن هذه الشخصية بشمول‬
‫تام‪،‬حيث لم يدع الجماعة المسلمة تتفاجأ بمواجهة هذه الشخصية عندما‬
‫تتكرر؛وهذا سبق للحداث والحاجات‪.‬على عكس المناهج الوضعية التي تضع‬
‫الحلول عند وقوع المشكلت‪.‬‬
‫ث‪-‬إبراز شخصية فرعون في القرآن في موضوع واحد‪،‬بحيث تصبح‬
‫واضحة جلية لكل من أراد الطلع على هذه الشخصية التي ذكرها القرآن‬
‫في مواضع متعددة‪،‬وهذا يعني فهم شخصية فرعون من خلل المعاني التي‬
‫ُتعرض متفرقة في مواضعها‪،‬ومن ثم ربط بعضها مع بعض للوصول إلى فهم‬
‫عميق لهذه الشخصية‪.‬‬
‫ج‪-‬الكشف عن أوجه الترابط بين شخصية فرعون ونظام حكمه‪،‬وبين‬
‫ن‬
‫شخصيته ومجموعة القيم والمعتقدات السائدة في ذلك المجتمع‪،‬بمعنى أ ّ‬
‫فرعون ابن بيئته‪.‬‬
‫‪-2‬مشكلة البحث‪:‬‬

‫‪]1‬العراف‪.[88:‬‬

‫‪13‬‬
‫ن‬
‫تتمثل مشكلة هذا البحث في سبر غور شخصية فرعون وتحليلها‪،‬إذ أ ّ‬
‫هناك الكثير من السئلة التي تحتاج إلى دراسة علمية دقيقة وعميقة‪ ،‬والتي‬
‫سأحاول‪-‬بعون الله‪-‬الجابة عليها من خلل هذا البحث‪،‬ومنها‪:‬‬
‫أ‪-‬ما هي السباب التي أدت إلى ظهور هذه الشخصية)الذاتية‬
‫والموضوعية( ؟‬
‫ب‪-‬ما هي مكونات هذه الشخصية‪،‬الظاهرة منها والخفية ؟‬
‫ت‪-‬وهل هي شخصية مرضية؟ ولماذا؟‬
‫ث‪-‬ما هي الساليب والتدابير الوقائية اللزم اتباعها لمنع ظهور مثل هذه‬
‫الشخصية؟)الوقاية(‬
‫ج‪ -‬ما هو السلوب المثل للتعامل مع هذه الشحصية؟)العلج(‬
‫ح‪-‬لماذا لم تستجب هذه الشخصية لليات البينة الجلية؟وما هي أسباب‬
‫العمى الذي أصيب به؟‬
‫خ‪-‬كيف استطاع فرعون السيطرة على الجماهير وقهرها وإذللها؟‬
‫وأسئلة أخرى سنراها في ثنايا هذا البحث‪،‬وهي بحاجة إلى إجابات من‬
‫القرآن الكريم عينه‪،‬إذ لم يغادر صغيرة ول كبيرة إل ّ وهدى إليها‪.‬‬
‫‪-3‬أهداف البحث‪:‬‬
‫أ‪-‬خدمة كتاب الله‪.‬‬
‫ب‪-‬معرفة العبر التي من أجلها ساق القرآن قصة فرعون أكثر من مرة في‬
‫مواضع عديدة‪.‬‬
‫ن فرعون نموذج لكل حاكم طاغية‪.‬‬ ‫ت‪-‬بيان أ ّ‬
‫ث‪-‬الكشف عن منهج فرعون من حيث خصائصه ومقوماته وأهدافه‬
‫وغاياته‪،‬وخطوط منهجه الرئيسية والفرعية‪.‬‬
‫ج‪-‬بيان الوسائل التي قررها القرآن في مواجهة هذه الشخصية‪،‬والتي‬
‫تستفيد الجماعة المسلمة منها أثناء حركتها في واقع الحياة‪.‬‬
‫ح‪-‬السهام في إثراء المكتبة السلمية في جانب التفسير الموضوعي‪.‬‬
‫الدراسات السابقة‪:‬لم أجد دراسة سابقة تبحث في هذا الموضوع‬
‫ل مفرق‬ ‫ح هذا الموضوع على شك ٍ‬ ‫كدراسة موضوعية من القرآن‪،‬وإّنما ط ُرِ َ‬
‫كما هو الحال في كتب التفسير‪،‬وقد تحدث الكثيرون عن فرعون ولكن على‬
‫مراد بحثه؛فمن‬ ‫شكل مقتطفات من شخصيته بما يتناسب مع الموضوع ال ُ‬
‫تحدث عن الظلم تحدث عن فرعون الظالم‪،‬وكذلك من تحدث عن الستبداد‬
‫والطغيان وغيرها من المواضيع ذات الصلة بشخصية فرعون‪.‬كما تحدث‬
‫المؤرخون عن الفراعنة وتكلموا عن تلك الحقبة التاريخية…ولكن لم أجد‬
‫دث عن شخصية فرعون بهذا السلوب الموضوعي الشامل من‬ ‫من تح ّ‬
‫القرآن‪.‬‬
‫ً‬
‫منهج البحث‪:‬كان منهجي في البحث معتمدا على تجميع كل النصوص‬
‫م استعنت على فهم تلك‬ ‫القرآنية التي تتحدث عن فرعون وتتصل به‪،‬ث ّ‬
‫الّنصوص بالرجوع إلى كتب التفسير ومعاجم اللغة وبعض الكتب السلمية‬
‫التي تحدثت عن جزئيات من الموضوع‪،‬كما استعنت بالحديث الشريف‬
‫م توسعت بالفهم وذلك‬ ‫للدللة على بعض المعاني المتصلة بالموضوع‪،‬ث ّ‬
‫بربط المعاني الجزئية بعضها مع بعض‪،‬والخروج بمفاهيم قرآنية حول‬
‫ت بترتيب وتبويب تلك النصوص‪-‬بناء على ما تقدم من‬ ‫م قم ُ‬‫الموضوع‪.‬ث ّ‬
‫فهمي لها‪-‬وتوزيعها على الفصول والمباحث‪،‬وربطت بين تلك المفاهيم‬

‫‪14‬‬
‫القرآنية وبين الواقع المعاش بأسلوب حركي قادر على معالجة الظواهر‬
‫الواقعية المستجدة‪.‬وربما تكرر استشهادي بالية الواحدة أكثر من مرة في‬
‫مواضع متعددة‪،‬وذلك لتعدد المعاني التي ُتفيدها الية أو اليات‪،‬وتلك سمة‬
‫يتميز بها كتاب الله سبحانه‪.‬وربما‪-‬أيضا‪-‬جمعت العدد من اليات التي تتحدث‬
‫م تحدثت عنها بشكل مجمل نظرا إلى المعنى العام‬ ‫عن المعنى نفسه‪،‬ث ّ‬
‫الذي يجمعها‪.‬وهنا ل بد ّ من تسجيل ملحظة‪،‬وهي أنّني من المتأثرين بمنهج‬
‫سيد قطب رحمه الله‪،‬وبالتالي سيظهر هذا التأثر في ثنايا هذا البحث‪.‬‬
‫وهكذا قسمت بحثي على الفصول والمباحث التية‪:‬‬
‫الفصل التمهيدي‬
‫المبحث الول‪ :‬عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬لمحة موجزة عن فرعون‬
‫الفصل الول‪:‬صفات شخصية فرعون‬
‫المبحث الول‪:‬الستكبار‬
‫المبحث الثاني‪:‬العلو‬
‫المبحث الثالث‪:‬الطغيان‬
‫المبحث الرابع‪:‬الظلم‬
‫المبحث الخامس‪:‬الفساد‬
‫المبحث السادس‪:‬الستبداد‬
‫المبحث السابع‪:‬الوهم والغرور‬
‫المبحث الثامن‪:‬السراف‬
‫المبحث التاسع‪:‬المكر‬
‫ون شخصية فرعون‬ ‫الفصل الثاني‪:‬السباب التي أدت إلى تك ّ‬
‫المبحث الول‪ :‬الكفر‬
‫المبحث الثاني‪:‬المحافظة على المكتسبات الخاصة‬
‫المبحث الثالث‪:‬فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون‬
‫ومساندتهم له‬
‫الفصل الثالث‪:‬الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان‬
‫حكمه‬
‫المبحث الول‪:‬وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل‬
‫المبحث الثاني‪:‬إستجهال المجتمع‬
‫المبحث الثالث‪:‬الكذب‬
‫المبحث الرابع‪:‬السيطرة القتصادية‬
‫المبحث الخامس‪:‬السيطرة العسكرية‬
‫الفصل الرابع‪:‬آثار شخصية فرعون‬
‫المبحث الول‪:‬الثار المجتمعية لشخصية فرعون‬
‫المبحث الثاني‪:‬جلب العقوبات الّربانية‬
‫الفصل الخامس‪:‬الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة‬
‫فرعون‬
‫المبحث الول‪:‬مرحلة التهيئة والعداد للمواجهة‬
‫شرة في التنفيذ‬ ‫المبحث الثاني‪:‬مرحلة المبا َ‬
‫المبحث الثالث‪:‬مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت في‬
‫الحجة والبرهان الخــــاتمة‬

‫‪15‬‬
‫وأرجو أن أكون قد ُوفقت في الفهم والتحليل راجيا من الله الثواب على‬
‫ما قدمت والعفو على ما قصرت‪،‬فهو ذو الفضل العظيم‪.‬‬

‫الفصـل التمهيدي‬
‫المبحث الول‪ :‬عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬لمحة موجزة عن فرعون‬

‫الفصل التمهيدي‬
‫المبحث الول‬
‫عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون‬
‫لقد وردت قصة موسى عليه السلم مع فرعون‪-‬لعنه الله‪-‬في مواضع‬
‫عديدة وحلقات متفرقة‪)،‬وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو‬
‫الشارات متناسقة مع موضوع السورة‪،‬أو السياق الذي تعرض فيه ‪،‬وكانت‬
‫تشارك في تصوير الموضوع الذي إليه السياق‪...‬‬

‫‪16‬‬
‫وكذلك ل نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في‬
‫ن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض ‪،‬ومشاهد كل‬ ‫سور القرآن ‪.‬ل ّ‬
‫حلقة ‪،‬والجانب الذي يختار من كل مشهد ‪،‬وطريقة عرضه…كل أولئك‬
‫ن الية‬‫يجعلها جديدة في كل موضع ‪.‬متناسقة مع هذا الموضع(‪2‬بل سنرى أ ّ‬
‫الواحدة صالحة للستدلل بها في مواضيع متعددة ومتنوعة‪،‬وذلك لغنى الّنص‬
‫ل مّرة نستدل بالية عينها نجدها أصيلة في الموضوع الذي‬ ‫القرآني‪،‬ففي ك ّ‬
‫ّ‬
‫ل بها عليه‪.‬وتلك ظاهرة يتمّيز بها كتاب الله وينفرد‪،‬وما ذلك إل دليل‬ ‫ُيستد ّ‬
‫على إعجاز القرآن الكريم‪.‬‬
‫لقد ذكرت قصة موسى عليه السلم مع فرعون‪-‬لعنه الله‪-‬كثيرا في‬
‫مة‬‫الكتاب العزيز‪،‬وذلك لنها من أعجب القصص‪،‬ولما حوته من فوائد ج ّ‬
‫ودروس عديدة تتكرر بين الحق المتمثل في موسى والباطل الذي يمثله‬
‫ن مولودا‬ ‫ُ‬ ‫ن فرعون حذر من موسى ك ّ‬
‫ل الحذر‪،‬فقد أخبر أ ّ‬ ‫فرعون؛ذلك أ ّ‬
‫سيولد من بني إسرائيل فيكون نهاية ملكه على يده‪،‬لهذا شرع فرعون بقتل‬
‫أبناء بني إسرائيل وذبحهم كي ل يخرج منهم من يهدم عرشه‪.‬‬
‫ما تطاول الزمن وبنو إسرائيل تحت هذا البلء‪،‬وأسرف في قتلهم‬ ‫مل ّ‬ ‫ث ّ‬
‫وكاد يفنيهم‪)،‬قيل له‪:‬أفنيت الناس وقطعت النسل‪،‬وإنهم‬
‫‪3‬‬
‫مالك‪.‬فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما‪،‬فولد هارون في‬ ‫خولك وع ّ‬
‫السنة التي ُيستحيا فيها الغلمان‪،‬وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون(‪4‬؛‬
‫م‪،‬يقول‬ ‫ُ‬
‫م ُتلقيه في الي ّ‬ ‫م موسى أن تقذفه في التابوت ث ّ‬ ‫فأوحى الله إلى أ ّ‬
‫م موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه‬ ‫ُ‬
‫تعالى‪’’:‬وأوحينا إلى أ ّ‬
‫دوه إليك وجاعلوه من‬ ‫م‪،‬ول تخافي ول تحزني إّنا را ّ‬ ‫في الي ّ‬
‫‪5‬‬
‫م ُيحمل الوليد الصغير‬ ‫المرسلين‘‘ ‪،‬وكان قدر الله أن يلتقطه آل فرعون‪،‬ث ّ‬
‫ما رأته امرأة فرعون‬ ‫إلى القصور الفرعونية ليكون لهم عدوا وحزنا‪.‬فل ّ‬
‫طلبت أن تستبقيه عسى أن ينفعها أو يتخذوه ولدا وهم ل يشعرون‪،‬فقد‬
‫ألقى الله على موسى محبة منه‪.‬‬
‫م عقد الله له سببا أخرجه من بين‬ ‫ترعرع موسى في قصور فرعون‪،‬ث ّ‬
‫أظهرهم؛ذلك أّنه قتل قبطيا ردا على اعتدائه على من هو من شيعة‬
‫مت ملحقته من قبل فرعون وجنوده فخرج من بلده خائفا‬ ‫موسى‪،‬فت ّ‬
‫يترقب‪،‬ومكث سنين في أهل مدين‪،‬فتزوج من ابنة الرجل الصالح الذي دعاه‬
‫لخذ الجر على ما سقى لبنتيه‪)،‬ورزقه الله النبوة والرسالة والتكليم‪،‬وبعثه‬
‫إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه‪،‬هذا مع ما كان عليه‬
‫فرعون من عظمة المملكة والسلطان‪،‬فجاءه برسالة الله تعالى وليس له‬
‫‪2‬سيد قطب‪،‬في ظلل القرآن‪،‬ط ‪،5‬دار إحياء التراث العربي‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪1386،‬هـ‪1967-‬م‪).‬‬
‫‪(197-6/196‬مع بعض الّتصرف‪،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)في ظلل القرآن(‪.‬‬
‫‪)3‬خول الرجل حشمه الواحد خائل‪،‬وقد يكون الخول واحدا‪،‬وهو اسم يقع على العبد والمة‪،‬وهو‬
‫جمع خائل وهو الراعي‪ .‬وقال آخرون‪:‬هو مأخوذ من التخويل وهو التمليك الخول( ابن‬
‫منظور‪:‬محمد بن مكرم الفريقي المصري‪711 -630)،‬هـ(‪ ،‬لسان العرب‪15،‬جزء‪،‬ط ‪ ،1‬دار‬
‫صادر‪ ،‬بيروت‪.‬مادة‪:‬خول)‪(11/224‬مع بعض التصّرف‪،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)لسان‬
‫العرب(‪.،‬وانظر‪:‬الرازي‪:‬محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر‪)،‬ت ‪ ،(721‬مختار الصحاح‪،‬جزء‬
‫واحد‪،‬تحقيق‪ :‬محمود خاطر‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بيروت‪1415 ،‬هـ – ‪1995‬م‪.‬مادة‪:‬خول)‬
‫‪،(81‬وسأشير إليه لحقا هكذا)مختار الصحاح(‪.‬‬
‫‪4‬الطبري‪:‬أبو جعفر‪،‬محمد بن جرير بن يزيد بن خالد‪310-224)،‬هـ(‪ ،‬تاريخ المم والملوك‪،‬‬
‫‪5‬أجزاء‪،‬ط ‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪1407 ،‬هـ‪،(1/232).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تاريخ‬
‫الطبري(‪.‬‬
‫‪]5‬القصص‪.[7:‬‬

‫‪17‬‬
‫وزير سوى أخيه هارون عليه السلم‪،‬فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية‬
‫والنفس الخبيثة‪،‬وركب رأسه وتولى بركنه‪،‬وادعى ما ليس له‪،‬وافترى على‬
‫الله وعتا وبغى‪،‬وأهان حزب اليمان من بني إسرائيل‪،‬والله تعالى يحفظ‬
‫رسوله موسى عليه السلم وأخاه هارون ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه‬
‫التي ل تنام‪.‬ولم تزل المحاجة والمجادلة واليات تقوم على يد موسى شيئا‬
‫بعد شيء ومرة بعد مرة‪،‬مما يبهر العقول ويدهش اللباب‪،‬مما ل يقوم له‬
‫شيء ول يأتي به إل من هو مؤيد من الله‪’’،‬وما نريهم من آية إل هي‬
‫أكبر من أختها‘‘‪ ،6‬وصمم فرعون وملؤه‪-‬قبحهم الله‪-‬على التكذيب بذلك‬
‫كله والجحد والعناد والمكابرة(‪.7‬‬
‫ما جاء بآية وعده‬‫ما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة‪،‬كل ّ‬ ‫و)ل ّ‬
‫عندها أن يرسل معه بني إسرائيل‪،‬فإذا مضت أخلف موعده‪،‬وقال‪:‬هل‬
‫يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد‬
‫ل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب‬ ‫مل والضفادع والدم آيات مفصلت‪،‬ك ّ‬ ‫والق ّ‬
‫ف ذلك‬ ‫فها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل‪،‬فإذا ك ّ‬ ‫إليه أن يك ّ‬
‫أخلف موعده ونكث عهده‪،‬حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه؛فخرج بهم‬
‫ما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا‪،‬أرسل في المدائن حاشرين‬ ‫ليل‪،‬فل ّ‬
‫‪8‬‬
‫فتبعه بجنود عظيمة كثيرة( ‪،‬فكانت نهايته أن أغرقه الله وجنوده‬
‫ل به بأسه الذي ل يرد‪،‬وتلك هي سّنة الله في الظالمين‪،‬يقول‬ ‫أجمعين‪،‬وأح ّ‬
‫تعالى‪’’:‬فكل أخذنا بذنبه‪،‬فمنهم من أخذته الصيحة‪،‬ومنهم من‬
‫خسفنا به الرض‪،‬ومنهم من أغرقنا‪،‬وما كان الله‬
‫ليظلمهم‪،‬ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‘‘‪.9‬‬
‫مكان غرق فرعون‬
‫لقد أوحى الله إلى موسى أن يسري بعباده‪،‬وأن يرحل بهم ليل‪،‬بعد‬
‫ميه في هذه‬ ‫تدبير وتنظيم‪،‬وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر‪،‬والذي نس ّ‬
‫ن فرعون سيتبعهم بجنده‪،،‬حيث كان حتفه‬ ‫اليام بالبحر الحمر‪،‬ونبأه أ ّ‬
‫ومنّيته‪.‬‬
‫ن)أبا خالد هو كنية البحر الذي أغرق الله فيه‬‫جاء في معجم البلدان أ ّ‬
‫فرعون وجنوده‪،‬وهو بحر القلزم الذي يسلك من مصر إلى مكة وغيرها وهو‬
‫من بحر الهند‪،‬وجاء في التفسير أن موسى عليه السلم هو الذي كناه أبا‬
‫ن ذلك كان )عند التقاء‬ ‫ما ضربه بعصاه فانفلق بإذن الله(‪،10‬والرجح أ ّ‬ ‫خالد‪،‬ل ّ‬
‫‪11‬‬
‫خليج السويس بمنطقة البحريات‪(.‬‬

‫‪] 6‬الزخرف‪.[48:‬‬
‫‪7‬ابن كثير‪:‬أبو الفداء‪،‬إسماعيل بن عمر الدمشقي‪774-701)،‬هـ(‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪،‬‬
‫‪4‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪،(428-2/427).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير ابن كثير(‪.‬‬
‫‪ 88‬المصدر السابق)‪.(3/152‬‬
‫‪]9‬العنكبوت‪.[40:‬‬
‫‪10‬الحموي‪ :‬أبو عبد الله ‪،‬ياقوت بن عبد الله‪).‬ت ‪ ،(626‬معجم البلدان‪5،‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬
‫بيروت‪،(1/80).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)معجم البلدان(‪.‬وانظر‪ :‬القرطبي‪ :‬أبو عبد الله ‪ ،‬محمد‬
‫بن أحمد بن أبي بكر بن فرح‪)،‬ت ‪،(671‬الجامع لحكام القرآن‪20،‬جزءا ‪،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد‬
‫العليم البردوني ‪،‬ط ‪ ،2‬دار الشعب‪ ،‬القاهرة‪1372 ،‬هـ‪،(1/389).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير‬
‫القرطبي(‪.‬‬
‫‪11‬في ظلل القرآن)‪.(6/211‬‬

‫‪18‬‬
‫زمان غرقه لعنه الله‬
‫ليس عندنا ما نعتمده عن زمان غرقه إل ّ ما جاء في الحديث الصحيح‬
‫ما قدم‬‫ن النبي صلى الله عليه وسلم ل ّ‬‫عن ابن عباس رضي الله عنهما)أ ّ‬
‫المدينة وجدهم يصومون يوما يعني عاشوراء‪،‬فقالوا‪:‬هذا يوم عظيم‪،‬وهو يوم‬
‫جى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون‪،‬فصام موسى شكرا لله‪.‬فقال‪:‬أنا‬ ‫ن ّ‬
‫‪12‬‬
‫أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه( ‪.‬والحديث فيه دللة على يوم‬
‫غرقه ل سنة غرقه‪.‬‬
‫ن كتب التاريخ مليئة بالسرائيليات والخبار غير‬ ‫وهنا ل بد من الشارة أ ّ‬
‫المعقولة‪،‬ولهذا أعرضت عن الخوض في تاريخ الفراعنة‪،‬وهذا ينسجم مع‬
‫إراض القرآن الكريم عن تلك القضية‪،‬فالمهم هو أخذ العبرة من الحدث‬
‫ن بحثي هذا دراسة‬ ‫وليس السرد التاريخي الخالي من العبرة‪،‬بالضافة إلى أ ّ‬
‫موضوعية من القرآن فل داعي للخروج عن هذا النسق‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫لمحة موجزة عن فرعون‬
‫ينتسب فرعون إلى)السر التي حكمت مصر منذ)‪ (3100‬قبل‬
‫الميلد وحتى السيطرة الرومانية في القرن الول قبل‬
‫الميلد‪،‬وكلمة’’فرعون‘‘قد تعني النبيل أو الشريف أو السامي‪.‬‬
‫تمّيز فرعون مصر بسيطرة مطلقة وحرية تصرف كاملة في كل ما‬
‫يتعلق بأمور الدولة‪،‬كما كان قائدا أعلى للجيش‪،‬وتمادى بعض الفراعنة‬
‫دعوا اللوهية‪.‬‬
‫فا ّ‬
‫كان فرعون مصر‪-‬في ذلك الحين‪-‬مالكا لكل الرض المصرية‬
‫ومستعمرات الدولة بمن فيها وما عليها‪،‬وكثيرا ما كانت سلطة فرعون‬
‫الدكتاتورية تؤجج ثورات داخلية قصيرة العمر ما تلبث أن تقمع بشدة‬
‫وحزم(‪.13‬‬

‫‪12‬البخاري‪ :‬أبو عبدالله‪ ،‬محمد بن إسماعيل الجعفي‪256 -194)،‬هـ(‪ ،‬الجامع الصحيح‬


‫المختصر)صحيح البخاري(‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬مصطفى ديب البغا‪ ،‬ط ‪ ،3‬دار ابن كثير‪،‬اليمامة‪،‬‬
‫بيروت‪1407 ،‬هـ‪1987،‬م‪.‬كتاب النبياء‪،‬باب قوله تعالى وهل أتاك حديث موسى وكلم الله‬
‫موسى تكليما‪،(3216 /3/1244)،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)صحيح البخاري(‪.‬‬
‫‪13‬الكيالي‪:‬عبد الوهاب‪،‬موسوعة السياسة‪6،‬أجزاء‪،‬ط ‪،1‬المؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر‪،‬بيروت‪،(4/482).1983،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)موسوعة السياسة(‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫)وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم‪،‬كما‬
‫ن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا‪،‬وكسرى لمن ملك‬ ‫أ ّ‬
‫الفرس‪،‬وتّبع لمن ملك اليمن كافرا‪،‬والنجاشي لمن ملك الحبشة‪،‬وبطليموس‬
‫لمن ملك الهند(‪.14‬‬
‫وفرعون لغة من)الفرعنة‪ :‬الكبر والتجبر‪ .‬وفرعون كل نبي ملك‬
‫دهره…و فرعون الذي ذكر الله تعالى في كتابه من هذا‪ ،‬وإّنما ترك صرفه‬
‫في قول بعضهم لّنه ل سمي له كإبليس فيمن أخذه من أبلس‪.‬وقال‬
‫ن فرعون هذا علم أعجمي ولذلك لم يصرف اسمه…وكل عات‬ ‫آخرون‪:‬أ ّ‬
‫‪15‬‬
‫فرعون‪.‬والعتاة الفراعنة‪ ،‬وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء وتكبر( ‪.‬‬
‫وفرعون موسى هو ذلك الطاغية الذي بعث الله إليه موسى عليه‬
‫السلم‪،‬وهو‪)،‬شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى‬
‫له‪،‬كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار‪،‬وليس من جنس الشياطين‬
‫والملئكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه‪ .‬وما قاله‬
‫بعض الجهله في تأويل قوله تعالى‪’’:‬اذهبا إلى فرعون إنه طغى‘‘‪ .16‬إّنه‬
‫‪:‬إشارة إلى قلبه‪،‬وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل‬
‫إنسان‪،‬تحريف للقرآن عن ظاهره يعلم بطلنه قطعا(‪.17‬‬
‫وفرعون لقب لمن ملك وحكم القباط وأرض مصر‪،‬ومن هنا ندرك‬
‫السر الذي من أجله عدل القرآن عن ذكر اسم فرعون إلى ذكر‬
‫ن القرآن هدف إلى إبراز شخصية فرعون بغض الّنظر‬ ‫لقبه‪،‬والسبب هو أ ّ‬
‫من يمّثل هذه الشخصية‪.‬‬ ‫ع ّ‬
‫ونفس الجواب يقال لمن سأل‪:‬هل واجه موسى عليه السلم فرعونا‬
‫ن كل من اتصف‬ ‫واحدا أم اثنين‪،‬فرعون الضطهاد وفرعون الخروج؟ وذلك ل ّ‬
‫بميزات وخصائص شخصية فرعون فهو فرعون الذي لعنه الله وذمه في‬
‫ن فرعون‬ ‫ن موسى عليه السلم واجه فرعونا واحدا‪،‬وأ ّ‬ ‫ن الظاهر أ ّ‬ ‫كتابه‪،‬مع أ ّ‬
‫مر‪،‬فليس هناك أي دليل على وجود فرعونين‪،‬فكل كتب التاريخ‬ ‫هذا قد ع ّ‬

‫‪14‬تفسير ابن كثير)‪).(1/91‬ومنها فرعون واسمه الوليد بن مصعب وكنيته أبو العباس وقيل أبو‬
‫الوليد وقيل أبو مرة وقيل إن فرعون لقب لكل من ملك مصر(الغزي‪:‬محمد بن محمد بن محمد‪،‬‬
‫إتقان ما يحسن من الخبار الدائرة على اللسن‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬خليل محمد العربي‪ ،‬ط‬
‫‪ ،1‬الفاروق الحديثة‪ ،‬القاهرة‪1415 ،‬هـ‪،(2/381).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)إتقان ما يحسن من‬
‫الخبار(‪.‬وانظر‪:‬تفسيرالقرطبي)‪(1/383‬والبيضاوي‪) :‬ت ‪ ،(791‬تفسير البيضاوي‪،‬‬
‫‪5‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر عرفات العشا حسونة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪1416 ،‬هـ – ‪1996‬م‪).‬‬
‫‪،(1/320‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير البيضاوي(‪.‬‬
‫‪15‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬فرعن)‪(13/323‬مع بعض التصّرف‪.‬وفي مختار الصحاح‪) :‬فرعون لقب الوليد‬
‫بن مصعب ملك مصر‪ ،‬وكل عات فرعون‪ .‬والعتاة الفراعنة‪ .‬وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء و‬
‫مكر(‪.‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬فرعن‪.(1/209)،‬‬
‫‪] 16‬طه‪.[43:‬‬
‫‪17‬الزرقاني‪ :‬محمد بن عبدالعظيم‪ ،‬مناهل العرفان في علوم القرآن‪،‬ط ‪ ،1‬دار الفكر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬مكتب البحوث والدراسات ‪1996 ،‬م‪،(2/67).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)مناهل العرفان(‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫والتفسير لم تذكر إل ّ اسما واحدا لفرعون موسى‪).18‬ولم يكن منهم فرعون‬
‫أعتى منه علــى الله‬
‫ول أعظم قول ول أطول عمرا في ملكه منه‪،‬وكان اسمه الوليد بن‬
‫مصعب‪،‬ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة ول أقسى قلبا ول أسوأ‬
‫ملكا لبني إسرائيل منه يعذبهم فيجعلهم خدما وخول‪،‬وصّنفهم في أعماله‬
‫فصنف يبنون وصنف يحرثون وصنف يزرعون له‪،‬فهم في أعماله‪،‬ومن لم‬
‫يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية‪،‬فسامهم‪-‬كما قال الله‪-‬سوء‬
‫العذاب‪.‬وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم ل يريدون فراقه‪،‬وقد استنكح‬
‫مر‬‫منهم امرأة يقال لها آسية بنت مزاحم من خيار النساء المعدودات‪،‬فع ّ‬
‫فيهم وهم تحت يديه عمرا طويل(‪.19‬‬
‫واختلفت الرواة في نسبه‪)،‬فقالوا‪:‬هو رجل من لخم‪،‬وقالوا‪:‬من غيرها‬
‫من قبائل اليمن‪،‬وقالوا‪:‬من العمالقة‪،‬وقالوا‪:‬من قبط مصر يقال له ظلما‪،‬وهو‬
‫الذي كان من أمره مع موسى ما قد قصه الله جل وعز(‪.20‬‬
‫فرعون موسى عليه السلم غير فرعون يوسف عليه السلم‬
‫كان فرعون يوسف)هو الرّيان بن الوليد‪،‬أحضر يوسف من‬
‫السجن‪،‬واستخلصه لنفسه‪،‬وحمله وخلع عليه وضرب له بالطبل‪،‬وأشاع أن‬
‫يوسف خليفة الملك‪،‬فقام له في المر كله(‪،21‬وقد)آمن بيوسف عليه السلم‬
‫ومات في حياته‪،‬وقيل‪:‬كان هو فرعون موسى عاش أربعمائة سنة‪،‬بدليل‬
‫قوله تعالى‪’’:‬ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‘‘‪،22‬والمشهور أّنه‬
‫من أولد فرعون يوسف‪،23‬والية‪’’-‬ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‘‘‪-‬‬
‫من قبيل خطاب الولد بأحوال الباء(‪.24‬‬
‫ن فرعون موسى عليه السلم هو فرعون يوسف‬ ‫فكيف يصح القول أ ّ‬
‫ن فرعون يوسف عليه السلم مؤمن‪ ،‬وفرعون موسى‬ ‫عليه السلم؟مع أ ّ‬
‫م طول الفترة الزمنية بينهما تقطع بأنهما ليسا شخصا‬ ‫عليه السلم كافر‪،‬ث ّ‬
‫ن فرعون موسى‬ ‫مر تلك المدة‪ .‬ومن قال‪:‬إ ّ‬
‫واحدا‪،‬فمن غير المعقول أن يع ّ‬
‫مر‪،‬فليس في الية)ما يدل على أّنه هو‪،‬لّنه إذا أتى‬ ‫هو فرعون يوسف لّنه ع ّ‬
‫‪18‬انظر‪ :‬العكري‪:‬ابن العماد‪،‬عبد الحي بن أحمد الدمشقي الحنبلي‪1089 -1032)،‬هـ(‪ ،‬شذرات‬
‫الذهب في أخبار من ذهب‪4،‬أجزاء‪،‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪. (1/65).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)شذرات الذهب(‪،‬وإبن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪– 508)،‬‬
‫‪597‬هـ(‪،‬المنتظم في تاريخ الملوك والمم‪12،‬جزء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد و مصطفى عبد القادر‬
‫عطا‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1412،‬هـ – ‪1992‬م‪،(1/332).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)المنتظم في التاريخ(ومعجم البلدان)‪(5/140‬والتابكي‪ :‬أبو المحاسن‪،‬جمال الدين يوسف‬
‫بن تغرى بردى‪874 -813)،‬هـ(‪،‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‪،‬المؤسسة‬
‫المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر‪،‬مصر‪،(1/58).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)الّنجوم الزاهرة(‪.‬‬
‫‪19‬تاريخ الطبري)‪.(1/232‬وانظر‪ :‬المقدسي‪:‬مطهر بن طاهر‪)،‬ت ‪507‬هـ(‪،‬البدء والتاريخ‪،‬مكتبة‬
‫الثقافة الدينية‪،‬القاهرة‪،(3/81).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)البدء والتاريخ(‪،‬وابن الثير‪:‬محمد بن‬
‫محمد بن عبد الواحد الشيباني‪)،‬ت ‪630‬هـ(‪ ،‬الكامل في التاريخ ‪10،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬أبي الفداء‬
‫عبد الله القاضي‪،‬ط ‪،2‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1415،‬هـ – ‪1995‬م‪،(1/131).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)الكامل في التاريخ(والمنتظم في التاريخ)‪.(7/241‬‬
‫‪20‬اليعقوبي‪:‬أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي‪،‬تاريخ اليعقوبي‪،‬جزءان‪،‬دار صادر‪،‬بيروت‪).‬‬
‫‪،(1/186‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تاريخ اليعقوبي(‪.‬وانظر‪:‬الّنجوم الزاهرة)‪.(1/58‬‬
‫‪21‬معجم البلدان)‪.(4/287‬‬
‫‪]22‬غافر‪.[34:‬‬
‫ن القرآن لم يستعمل كلمة’فرعون‘في قصة يوسف عليه السلم‬ ‫‪23 23‬هنا ل بد من ملحظة أ ّ‬
‫وإّنما استعمل كلمة’الملك‘‪.‬‬
‫‪ 24‬تفسيرالبيضاوي)‪.(3/280‬وانظر معجم البلدان)‪(5/140‬وتاريخ الطبري)‪.(1/231‬‬

‫‪21‬‬
‫بالبينات نبي لمن معه ولمن بعده فقد جاءهم جميعا بها‪،‬وعليهم أن يصدقوه‬
‫بها(‪.25‬‬
‫طبيعة اللوهية والربوبية التي ادعاها فرعون‬
‫ن ادعاء‬ ‫كان من الطبيعي أن نلقي بعض الضوء على هذه المسألة‪،‬ذلك أ ّ‬
‫دعيه البشر‪،‬لّننا من الغيار‪،‬نشيب ونهرم‪،‬ونتعب‬ ‫اللوهية أو الربوبية أمر ل ي ّ‬
‫ما كان‬ ‫ّ‬
‫ل هذه أدلة على كذب تلك الدعوى‪.‬ول ّ‬ ‫وننشط‪،‬وننام ونستيقظ‪..‬وك ّ‬
‫المر كذلك‪،‬فكيف ادعى فرعون ذلك لنفسه؟وما هي حقيقة تلك الدعوى؟‬
‫ومن أجل توضيح هذه المسألة كان ل بد من ت َت َب ِّع النصوص القرآنية ذات‬
‫الصلة بالموضوع‪،‬والتي من خللها نستطيع أن نقف على طبيعة اللوهية‬
‫والربوبية التي ادعاها فرعون‪.‬يقول تعالى حكاية لقول فرعون‪’’:‬وقال‬
‫فرعون يا أيها المل ما علمت لكم من إلــه‬
‫غيري‪ .27‘‘26‬أي‪:‬ما علمت لكم من إله غيري)فتعبدوه وتصدقوا قول‬
‫ن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي(‪.28‬‬ ‫موسى‪-‬فيما جاءكم به‪-‬من أ ّ‬
‫ن فرعون أراد حقيقة ما يدل عليه كلمه‪،‬وهو نفي‬ ‫) والظاهر‪-‬من الية‪ -‬أ ّ‬
‫ن عدم العلم بالشيء ل يدل على عدمه‪،‬ولم‬ ‫علمه بإله غيره دون وجوده‪،‬فا ّ‬
‫ن كل من هذا وما قاله‬ ‫يجزم بالعدم بأن يقول‪:‬ليس لكم إله غيري‪،‬مع أ ّ‬
‫‪29‬‬
‫ت ما أنزل‬ ‫ن ظاهر قول موسى عليه السلم له‪’’:‬لقد علم َ‬ ‫كذب‪،‬ل ّ‬
‫‪30‬‬
‫ن‬
‫هؤلء إل رب السموات والرض بصائر‘‘ ‪،‬يقتضي أّنه كان عالما بأ ّ‬
‫هناك إلها غيره‪.‬‬
‫وما تركه‪-‬أي الجزم بعدم وجود إله‪ -‬أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد‬
‫قومه عن اتباع موسى عليه السلم اختيارا لدسيسة شيطانية‪،‬وهو إظهار أّنه‬
‫منصف في الجملة‪،‬ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر‬
‫الله‪،‬وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه‪،‬فكأّنه قال‪:‬ما علمت‬
‫في الزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى والمر محتمل(‪…31‬‬

‫‪25‬تفسير القرطبي)‪.(313-15/312‬‬
‫‪) 26‬قصد بنفي علمه بإله غيره نفى وجوده أي‪:‬مالكم من إله غيري‪،‬أو هو على ظاهره‪،‬وإن إلها‬
‫غيره غير معلوم عنده( النسفي‪:‬أبو البركات‪،‬عبد الله بن أحمد بن محمود‪ ،‬تفسير النسفي‪4،‬‬
‫أجزاء‪،(3/237).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير النسفي(‪.‬وانظر اللوسي‪ :‬أبو المعالي‪،‬محمود‬
‫شكري بن عبدالله بن شهاب الدين‪1342-1273)،‬هـ(‪،‬روح المعاني في تفسير القرآن‬
‫العظيم والسبع المثاني‪30،‬جزءا‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪،(20/80).‬وسأشير إليه‬
‫لحقا هكذا)روح المعاني(‪.‬‬
‫‪]27‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪ 28‬تفسير الطبري)‪.(20/77‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(13/288‬‬
‫ت‘ بفتح التاء( التميمي‬
‫ت‘‪،‬بضم التاء‪.‬وقرأ الباقون‪’:‬لقد علم َ‬
‫‪)29‬قرأ الكسائى وحده‪’:‬لقد علم ُ‬
‫‪29‬‬

‫‪:‬أبو بكر‪ ،‬أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي‪324 -245)،‬هـ(‪ ،‬كتاب السبعة في‬
‫القراءات‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬شوقي ضيف‪،‬ط ‪ ،2‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1400 ،‬هـ‪-385).‬‬
‫‪،(386‬وسأشير إليه لحقا هكذا)كتاب السبعة في القراءات(‪).‬وحجة الكسائي‪ :‬ما روي عن علي‬
‫ت‘‪،‬قال‪:‬والله ما علم عدو الله‪،‬إنما علم موسى صلى‬ ‫بن أبي طالب رضي الله عنه قال‪’:‬لقد علم ُ‬
‫الله عليه( ابن زنجلة‪ :‬أبو زرعة‪،‬عبد الرحمن بن محمد‪ .‬حجة القراءات‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬سعيد‬
‫الفغاني‪،‬ط ‪ ،2‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪،(411).1982 – 1402 ،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)حجة‬
‫القراءات(‪ ).‬فالحجة لمن فتح أنه جعل التاء لفرعون دللة على المخاطبة‪،‬والحجة لمن ضم أنه‬
‫جعل التاء لموسى دللة على إخبار المتكلم عن نفسه( ابن خالويه‪ :‬أبو عبد الله ‪،‬الحسين بن‬
‫أحمد‪370 -314 ).‬هـ(‪ ،‬الحجة في القراءات السبع‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬عبد العال سالم مكرم‬
‫‪،‬ط ‪ ،4‬دار الشروق‪ ،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪،(221).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الحجة في القراءات‬
‫السبع(‪.‬‬
‫‪] 30‬السراء‪.[102:‬‬
‫‪31‬روح المعاني)‪.(20/80‬‬

‫‪22‬‬
‫م بدا له الجزم و)كان قوله لموسى عليه السلم’’لئن اتخذت إلها‬ ‫ث ّ‬
‫‪32‬‬
‫غيري لجعلّنك من المسجونين‘‘ ‪،‬بعد هذا القول المحكي ههنا‪-‬وهو‬
‫قوله‪’’:‬ما علمت لكم من إله غيري‘‘‪ -‬بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على‬
‫دد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر‬ ‫مه ّ‬
‫البت أن ل إله لهم غيره‪،‬ث ّ‬
‫‪33‬‬
‫بخلفه‪،‬وهذا وجه في الية ل يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء( ‪.‬‬
‫ن فيه العتراف‬ ‫)ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية‪-‬زعما منه‪-‬أ ّ‬
‫ن ادعاءه اللوهية وقوله‪:‬أنا ربكم العلى إّنما كان‬ ‫بأصل الوجود‪،‬وذكروا أ ّ‬
‫إرهابا لقومه الذين استخفهم‪،‬ولم يكن ذلك عن اعتقاد‪.‬وكيف يعتقد أّنه رب‬
‫العالم وهو يعلم بالضرورة أّنه وجد بعد أن لم يكن‪،‬ومضى على العالم ألوف‬
‫من السنين وهو ليس فيه‪،‬ولم يكن له إل ملك مصر‪،‬ولذا قال شعيب‬
‫لموسى‪-‬عليهما السلم‪-‬لما جاءه في مدين‪:‬لتخف نجوت من القوم‬
‫الظالمين‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪:‬إّنه كان جاهل بالله تعالى‪،‬ومع ذلك ليعتقد في نفسه أّنه‬
‫خالق السموات والرض وما فيهما‪،‬بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه‪،‬معتقدا‬
‫ن حركاتها أسباب لحصول الحوادث‪،‬ويعتقد‬ ‫وجوب الوجود بالذات للفلك‪،‬وأ ّ‬
‫ن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله‪،‬وكان‬ ‫أ ّ‬
‫مهما حيث قال‪’’:‬ما علمت‬ ‫رّبا لهم‪،‬ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يع ّ‬
‫لكم من اله غيري‘‘‪،34‬و’’أنا ربكم العلى‘‘( ‪) .‬فما أثبته في‬
‫‪35‬‬

‫قوله‪’’:‬لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘‪،36‬الله لغير مملكته‪ ،‬وما نفاه هو أن‬
‫يكون هناك إله غيره في مملكته‪،‬كما يشير اليه قوله‪ ) :‬لكم(‪،‬ول يخلو عن‬
‫بحث (‪.37‬‬
‫وربما كان من القائلين)بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات‬
‫ويكون معتقدا حلوله عز وجل فيه‪،‬ولذلك سمى نفسه إلها‪.‬وقيل‪ :‬كان يدعي‬
‫اللوهية لنفسه ولغيره‪،‬وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل(‪،38‬كما يدل‬
‫عليه ظاهر قوله تعالى‪’’:‬وقال المل من قوم فرعون أتذر موسى‬
‫ن‬‫وقومه ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‘‘‪.39‬حيث دّلت الية أ ّ‬
‫لفرعون آلهة كان يعبدها وربما كان يتخذها وسيلة في إضفاء القدسية على‬
‫ن هناك علقة‬ ‫شخصه‪،‬أو ربما اعتبر نفسه وسيطا بينها وبين الّناس‪،‬بمعنى أ ّ‬
‫معينة بناها فرعون بينه وبين هذه اللهة لتخدم الوضع القائم الذي يريده‬
‫فرعون‪.‬‬
‫وروي أّنه) كان أول يدعو الّناس إلى عبادة الصنام ثم دعاهم إلى عبادة‬
‫البقر فكانت تعبد ما كانت شابة فإذا هرمت أمر بذبحها ثم دعا بأخرى لتعبد‬
‫‪40‬‬
‫ثم لما طال الزمان قال‪’’:‬أنا ربكم العلى‘‘(‬

‫‪] 32‬الشعراء‪.[29:‬‬
‫‪33‬روح المعاني)‪.(20/80‬‬
‫‪]34‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪ 35‬روح المعاني)‪.(19/73‬‬
‫‪] 36‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪ 37‬تفسير ابن كثير)‪،(3/391‬وانظر‪ :‬روح المعاني)‪(81-20/80‬وتفسير البيضاوي)‪.(4/236‬‬
‫‪38‬روح المعاني)‪.(19/74‬‬
‫‪]39‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪40‬تفسير القرطبي)‪.(15/317‬‬

‫‪23‬‬
‫وكما أّنه ادعى اللوهية كذلك ادعى الربوبية‪’’،‬فقال أنا ربكم‬
‫العلى‘‘‪،41‬أي لرب لكم فوقي‪ ،‬وكل رب دوني وكذب الحمق …‬
‫وقيل‪:‬كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها‪،‬فقال أنا رب‬
‫‪42‬‬
‫أصنامكم‪.‬وقيل‪:‬أراد القادة والسادة هو ربهم‪،‬وأولئك هم أرباب السفلة ‪.‬‬
‫ن اللعين كان يعرف‬ ‫ن ويقتضيه أكثر الظواهر أ ّ‬
‫)والذي يغلب على الظ ّ‬
‫ّ‬
‫الله عز وجل‪،‬وأّنه‪-‬سبحانه‪-‬هو خالق العالم‪،‬إل أّنه غلبت عليه شقوته‪،‬وغرّته‬
‫دولته‪،‬فأظهر لقومه خلف علمه‪،‬فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله‪.‬ول‬
‫يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ول يعرف أنها‬
‫ما من له عقل منهم ول يخفى عليه بطلن مثل ذلك‬ ‫مخالفة للبديهيات… وأ ّ‬
‫فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون‪،‬أو مزيد رغبته بما‬
‫عنده من الدنيا(‪.43‬‬
‫دعي اللوهية بمعني أّنه هو خالق هذا الكون‬ ‫ن فرعون لم يكن ي ّ‬ ‫)إ ّ‬
‫ن له سلطانا في عالم السباب الكونية‪.‬إّنما كان يدعي اللوهية‬ ‫ومدبره ‪ ،‬أو أ ّ‬
‫على شعبه المستذل ! بمعنى أّنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته‬
‫دعيه‬ ‫وقوانينه‪،‬وأّنه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى المور‪.‬وهذا ما ي ّ‬
‫كل حاكم يحكم بشريعته وقوانينه‪،‬وتمضي الشؤون وتقضى المور بإرادته‬
‫وأمره –وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي‪ -‬كذلك لم يكن الناس‬
‫في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له – فقد كانت لهم‬
‫آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك‪،‬كما هو ظاهر من قول المل له‬
‫‪’’:‬ويذرك وآلهتك‘‘‪،‬وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية‪.‬إّنما كانوا‬
‫يعبدونهم بمعنى أنهم خاضعون لما يريدوه بهم‪،‬ل يعصون له أمرا‪،‬ول‬
‫ينقضون له شرعا‪..‬وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والصطلحي للعبادة ‪،‬‬
‫فأّيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه(‪،44‬وذلك هو تفسير‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود‬
‫‪45‬‬
‫والّنصاري‪’’:‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‘‘ ‪–،‬‬
‫عندما سمعها منه عدي بن حاتم – وكان نصرانيا جاء ليسلم – فقال ‪ :‬يا‬
‫ما إنهم‬ ‫رسول الله ما عبدوهم‪.‬فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪’’:‬أ ّ‬
‫لم يكونوا يعبدونهم ولكّنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حّرموا‬

‫‪] 41‬الّنازعات‪.[24:‬‬
‫‪ 42‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي)‪(19/202‬وتفسير الطبري)‪(30/40‬والبغوي‪ :‬أبو محمد‪،‬الحسين بن‬
‫مسعود الفراء‪)،‬ت ‪ ،(516‬معالم التنزيل‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬خالد العك ‪ -‬مروان سوار‪،‬ط ‪ ،2‬دار‬
‫المعرفة‪ ،‬بيروت‪1407 ،‬هـ – ‪1987‬م‪،(4/444).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير البغوي(‪،‬وابن‬
‫الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪597– 508)،‬هـ(‪ ،‬زاد المسير في علم‬
‫التفسير‪9،‬أجزاء‪،‬ط ‪ ،3‬المكتب السلمي‪ ،‬بيروت‪1404 ،‬هـ‪،(9/21).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)زاد المسير(‪.‬‬
‫‪43‬روح المعاني)‪(19/74‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪44‬في ظلل القرآن)‪.(3/306‬‬
‫‪]45‬التوبة‪.[31:‬‬

‫‪24‬‬
‫ن من أطاع بشرا في التحليل‬ ‫عليهم شيئا حرموه‘‘‪.46‬فد ّ‬
‫ل الحديث على أ ّ‬
‫والتحريم فقد عبده من دون الله‪.‬‬

‫الفصل الول‪:‬صفات شخصية فرعون‬


‫الول‪:‬الستكبار‬ ‫المبحث‬
‫الثاني‪:‬العلو‬ ‫المبحث‬
‫الثالث‪:‬الطغيان‬ ‫المبحث‬
‫الرابع‪:‬الظلم‬ ‫المبحث‬
‫الخامس‪:‬الفساد‬ ‫المبحث‬
‫السادس‪:‬الستبداد‬ ‫المبحث‬
‫السابع‪:‬الوهم والغرور‬ ‫المبحث‬
‫الثامن‪:‬السراف‬ ‫المبحث‬
‫التاسع‪:‬المكر‬ ‫المبحث‬

‫‪ 46‬الترمذي‪:‬أبو عيسى‪،‬محمد بن عيسى السلمي‪279-209)،‬هـ(‪ ،‬الجامع الصحيح)سنن‬


‫الترمذي(‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر وآخرون‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬كتاب‬
‫التفسير‪،‬باب ومن سورة التوبة)‪.(5/278/22963‬قال أبو عيسى‪:‬حديث غريب‪،‬وسأشير إليه‬
‫لحقا هكذا)سنن الترمذي(‪،‬والطبراني‪:‬أبو القاسم‪،‬سليمان بن أحمد بن أيوب‪-260)،‬‬
‫‪360‬هـ(‪،‬المعجم الكبير‪20،‬جزءا‪،‬تحقيق‪ :‬حمدي بن عبدالمجيد السلفي‪،‬ط ‪،2‬مكتبة العلوم‬
‫والحكم‪،‬الموصل‪1983 – 1404،‬م‪،(17/92/218).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)المعجم‬
‫الكبير(‪،‬والبخاري‪ :‬أبو عبدالله‪ ،‬محمد بن إسماعيل الجعفي‪256 -194)،‬هـ(‪ ،‬التاريخ الكبير‪،‬‬
‫‪8‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬هاشم الندوي‪،‬دار الفكر‪.‬كتاب الغين‪،‬باب غطيف)‪،(7/106/471‬وسأشير إليه‬
‫لحقا هكذا)التاريخ الكبير(‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الفصل الول‬
‫صفات شخصية فرعون‬
‫أحاول في هذا الفصل أن أتتبع نصوص الكتاب العزيز لصل إلى فهم‬
‫دقيق لهذه الشخصية التي طالما تحدث عنها القرآن‪،‬وذلك بإبراز‬
‫صفاتها‪،‬سواء كانت تلك الصفات منصوص عليها بالعبارة الواضحة في كتاب‬
‫الله‪-‬كالستكبار مثل‪-‬أو غير منصوص عليها كالوهم والغرور‪،‬ولكّنها تفهم من‬
‫خلل حديث القرآن عن تلك الشخصية‪،‬من حيث سلوكها ومنهجها وتصورها‬
‫ن بالمكان بعد تدقيق النظر أن نتوصل إلى‬‫والساس الذي بنيت عليه‪،‬حيث أ ّ‬
‫فهم أوسع لتلك الشخصية التي نثر القرآن الحديث عنها في مواضع عديدة‬
‫لسباب معلومة في بيان القرآن وطريقة تعبيره‪،‬مع ما يتبع ذلك من تحليل‬
‫وربط بين تلك الصفات المجتمعة في نموذج تلك الشخصية المتمثل في‬
‫شخص واحد هو فرعون‪.‬‬
‫يعتبر هذا الفصل بمثابة تشخيص للمرض المتمّثل بوجود هذه‬
‫ما يساعدنا على التفريق بين المرض وأعراضه‪،‬وهو ما يختلط‬ ‫الشخصية‪،‬م ّ‬
‫كثيرا في أذهان العاملين في سبيل التخلص من الطواغيت‪،‬فينشغلون‬
‫مة‪،‬ومن‬‫بمعالجة العراض ويبقى المرض مستترا عليهم ينخر في جسم ال ّ‬
‫م البحث عن أسبابه وطرق علجه‪.‬‬ ‫هنا كان تشخيص المرض أول ث ّ‬
‫لقد وصف القرآن الكريم تلك الشخصية بالعديد من الصفات أهمها‬
‫الستكبار والعلو والطغيان والظلم والفساد والستبداد والوهم والغرور‬
‫والسراف والمكر‪،‬وإليك بيان ذلك فيما يلي من المباحث‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الستكبار‪.47‬‬

‫‪ )47‬الكبر بالكسر و الكبرياء العظمة والتجبر… و التكبر و الستكبار التعظم(لسان‬


‫ما الكبر)فهو صفة في‬ ‫العرب‪،‬مادة‪:‬كبر)‪.(5/129‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬كبر)‪ .(1/234‬أ ّ‬
‫النفس‪،‬وما في الظاهر من إماراتها‪:‬وهو أن يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال‪،‬فيحصل في‬
‫قلبه اغترار وهزة وفرح وركون إلى رؤية نفسه‪.‬والتكبر إما على الله تعالى والعياذ بالله من‬
‫ذلك‪،‬كتكبر فرعون ونمرود‪،‬وإما على الرسل والنبياء بأن ل يطيعهم‪،‬كتكبر أبي جهل وأبي بن‬
‫خلف‪،‬وأما على الخلق وهذا وإن كان دون الولين إل أنه داء عظيم‪،‬ولهذا ذمه الله تعالى‬
‫ورسوله‪،‬والكتاب والسنة مشحونان بذمه ومدح التواضع( القنوجي‪:‬صديق بن حسن‪-1248)،‬‬
‫‪1307‬هـ(‪،‬أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم‪3،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬عبد‬
‫الجبار زكار‪،‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1978،‬م‪،(2/88).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)أبجد‬
‫العلوم(‪.‬وانظر‪ :‬ابن حجر‪:‬أبو الفضل‪ ،‬أحمد بن علي العسقلني‪852-773).‬هـ(‪،‬فتح الباري‬
‫شرح صحيح البخاري‪13،‬جزء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبدالباقي ومحب الدين الخطيب‪،‬دار‬
‫المعرفة‪،‬بيروت‪1379،‬هـ‪(10/489).‬مع بعض التصرف‪،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)فتح الباري(‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫)الستكبار‪ :‬المتناع عن قبول الحق معاندة وتكبرا(‪،48‬وليس المتناع‬
‫ن‬
‫جهل أو لقلة علم أو معرفة أو لشتباه المر عليه‪،‬بل هو المتناع مع العلم أ ّ‬
‫ما رفضه وأنكره هو الحق الساطع المبين‪،‬وذلك هو ما تمّيزت به شخصية‬
‫فرعون؛المتناع عن قبول الحق عن بّينة وعلم‪،‬فل شبهة ول غبش ول‬
‫كب عن سبيله‪،‬بل‬ ‫غشاوة‪.‬ولقد علم‪-‬لعنه الله‪-‬لو كان العلم يجدي‪-‬الحقّ وتن ّ‬
‫وحاربه بل هوادة‪.‬‬
‫و)أصل الستكبار طلب الكبر من غير استحقاق‪،‬لبمعنى طلب تحصيله‬
‫مع اعتقاد عدم حصوله‪،‬بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك‪.‬وإنما عّبر‬
‫ن مآله محض الطلب بدون حصول‬ ‫عنه بما يدل على الطلب لليذان بأ ّ‬
‫المطلوب(‪49‬؛ أي يحسبون أنفسهم كبارا فيظلمون الناس‪،‬ويغصبون حقوقهم‬
‫لمجرد أّنهم أوتوا قدرا من القوة‪.‬‬
‫وبسبب هذه الّنظرة الستكبارية التي ميزت فرعون ومن حوله‬
‫فإنهم) رأوا كل من سواهم حقيرا بالضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء‬
‫إل ّ لنفسهم‪،‬فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد في الرض(‪50‬؛ذلك‬
‫‪51‬‬
‫ما أسس لنظام‬ ‫ن الستكبار هو)النفة مما ينبغي أن ل يؤنف منه( ‪،‬م ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ن الستكبار سبب في ظهور‬ ‫ّ‬
‫الطبقات في ظل شخصية فرعون؛بمعنى أ ّ‬
‫الطبقية في المجتمع‪،‬كما أّنه إذا استحكم في الّنفس يحجب صاحبه عن‬
‫الحقيقة‪،‬وبهذا نفسر وقوع فرعون بالعديد من الخطاء في مواجهته‬
‫لموسى‪.‬‬
‫لقد قرر القرآن حقيقة استكبار فرعون‪،‬ونص على استكباره بالعبارة‬
‫الواضحة الجلية ‪،‬فقال سبحانه وتعالى‪’’:‬واستكبر هو وجنوده في‬
‫‪52‬‬
‫م بعثنا من بعدهم موسى‬ ‫الرض بغير الحق‘‘ ‪.‬وقال سبحانه‪’’:‬ث ّ‬
‫وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما‬
‫مجرمين‘‘‪.53‬‬
‫والستكبار ل يكون إل ّ بغير حق؛ذلك أّنه لم يكن عند فرعون حجة يدفع‬
‫بها ما جاء به موسى‪،‬ول شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات‬
‫‪،54‬فهو محض امتناع عن قبول الحق تكبرا مع وضوح الحجة وقيام‬
‫ن الستكبار‬ ‫ما يؤكد حقيقة مفادها أ ّ‬ ‫البرهان‪،‬وهو ما صبغ شخصية فرعون‪ .‬م ّ‬
‫علمة يقينية على إفلس المستكبر في الحجة والبرهان‪،‬ويترتب على هذا‬
‫ن مواجهة الطاغوت ل تكفيها إقامة الحجة والدليل وحسب‪،‬لّنه قد قام‬ ‫أ ّ‬
‫الدليل وسطع البرهان‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ولو أّننا نّزلنا إليهم الملئكة‬

‫‪ 48‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬كبر)‪.(5/126‬‬
‫‪ 49‬روح المعاني)‪.(6/41‬‬
‫‪ 50‬روح المعاني)‪.(20/82‬‬
‫‪51‬الّنووي‪:‬أبو زكريا‪،‬يحيى بن شرف بن مري‪676 -631)،‬هـ(‪،‬تحرير ألفاظ التنبيه )لغة‬
‫الفقه(‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬عبد الغني الدقر‪،‬ط ‪،1‬دار القلم‪،‬دمشق‪1408،‬هـ‪،(1/334).‬وسأشير‬
‫إليه لحقا هكذا)التنبيه(‪.‬‬
‫‪]52‬القصص‪.[39:‬‬
‫‪]53‬يونس‪.[79:‬‬
‫‪ 54‬انظر‪ :‬الشوكاني‪:‬محمد بن علي بن محمد‪1250 -1173)،‬هـ(‪ ،‬فتح القدير الجامع بين‬
‫فني الرواية والدراية من علم التفسير‪5،‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،(4/174).‬وسأشير إليه‬
‫لحقا هكذا)فتح القدير(‪،‬وتفسير القرطبي)‪(13/289‬وتفسير الطبري)‪(20/78‬وأبو السعود‪:‬محمد‬
‫بن محمد العمادي‪)،‬ت ‪ ،(951‬إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم‪9،‬أجزاء‪ ،‬دار‬
‫إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪،(7/14).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير ابي السعود(‪،‬وزاد المسير)‬
‫‪(6/223‬وتفسير النسفي)‪.(3/238‬‬

‫‪27‬‬
‫وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبل ما كانوا ليؤمنوا‬
‫ن أكثرهم يجهلون‘‘‪،55‬فلو نّزل الله إليهم‬ ‫إل أن يشاء الله ولك ّ‬
‫الملئكة حتى يروها عيانا‪،‬وكلمهم الموتى وأخبروهم أنك محق فيما‬
‫تقول‪،‬وأن ما جئتهم به حق من عند الله‪.‬ولو حشر الله عليهم كل شيء قبل‬
‫ن أكثرهم يجهلون هذه‬ ‫ما آمنوا ول صدقوا ول اتبعوا‪،‬إل ّ أن يشاء الله‪،‬ولك ّ‬
‫ن اليمان إليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا آمنوا ومتى‬ ‫الحقيقة‪،‬ويحسبون أ ّ‬
‫شاءوا كفروا‪.56‬‬
‫والستكبار جهل‪،‬إذ لو أدرك المستكبر حقيقة نفسه لما اقتحم ما ليس‬
‫له بحق‪،‬وهذا ما يشير إليه قوله تعالى‪’’:‬وقارون وفرعون وهامان‬
‫ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الرض وما كانوا‬
‫سابقين‘‘‪.57‬والشاهد في الية قوله تعالى‪’’:‬في الرض‘‘‪،‬فهو) إشارة إلى‬
‫ن من في الرض ل ينبغي له أن يستكبر(‪،58‬ولو كان عند‬ ‫قلة عقولهم‪،‬ل ّ‬
‫فرعون أدنى ذرة من عقل لما استكبر‪،‬وهكذا كل من نهج طريقه وسلك‬
‫ن أدنى تدبر لمعاني الحياة وما‬ ‫سبيله فإنه ل عقل عنده وإن ادعى ذلك‪،‬ل ّ‬
‫ن التكبر والستكبار رذيلة ل ينبغي أن‬ ‫فيها من عبر تجعل النسان يدرك أ ّ‬
‫تكون‪،‬ولكّنها الغفلة عن الحقائق التي تنتج عن قلوب ل تعقل وآذان ل تسمع‬
‫وأعين ل ُتبصر‪.‬‬
‫لقد كان فرعون أول الممتنعين عن قبول الحق‪،‬وأول الداعين إلى‬
‫ظما عن اليمان بالله وعبادته‪،‬وكان من‬ ‫رفضه وعدم قبوله ترفعا وتكبرا وتع ّ‬
‫الثمين الخاطئين‪،59‬يقول تعالى‪’’:‬ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون‬
‫بآياتنا وسلطان مبين‪،‬إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما‬
‫عالين‪،‬فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا‬
‫عابدون‪،‬فكذبوهما فكانوا من المهلكين‘‘‪.60‬‬
‫ولقد تضمنت هذه اليات الشارة إلى كبر فرعون وملئه بشقيه‪:‬‬
‫الول‪:‬المتناع عن قبول الحق بعد اليات والسلطان المبين كراهية‬
‫منهم للحق‪،‬لّنه يخالف شهواتهم وأهواءهم ومصالحهم‪،61‬يقول تعالى‪’’:‬بل‬
‫جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون‘‘‪62‬؛فهو ينسف قيمهم الباطلة‬
‫ن الحق ل يدور مع الهوى‪،‬وسيأتي بيان‬ ‫التي عليها يقتاتون وبها يعيشون‪،‬ل ّ‬
‫هذه النقطة لحقا‪.‬‬
‫ي من قولهم‪’’:‬وقومهما لنا‬ ‫الثاني‪:‬احتقار الناس‪،‬وهذا جل ّ‬
‫عابدون‘‘)مسخرون خاضعون‪.‬وهي أدعى‪-‬في إعتبار فرعون وملئه‪-‬إلى‬
‫ما آيات الله التي معهما‪،‬وسلطانه الذي‬ ‫الستهانة بموسى وهارون!فأ ّ‬
‫‪63‬‬
‫بأيديهما‪،‬فكل هذا ل إيقاع له في تلك القلوب المطموسة( ‪،‬والسبب في‬
‫تلك النتكاسة نابع من إعجاب المستكبر بنفسه‪،‬فيرى نفسه أكبر من‬

‫‪]55‬النعام‪.[111:‬‬
‫‪56‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(8/1‬‬
‫‪]57‬العنكبوت‪[39:‬‬
‫‪ 58‬روح المعاني)‪.(20/158‬‬
‫‪ 59‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(11/145‬وتفسير البغوي)‪(3/310‬وزاد المسير)‪(5/475‬وتفسير النسفي)‬
‫‪.(3/123‬‬
‫‪] 60‬المؤمنون‪.[48-45:‬‬
‫‪61‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(4/162‬‬
‫‪] 62‬المؤمنون‪.[70:‬‬
‫‪ 63‬في ظلل القرآن)‪.(6/31‬‬

‫‪28‬‬
‫غيره‪،‬وتلك هي العلة الكامنة من وراء قول المل من قريش‪’’:‬لول نّزل‬
‫هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‘‘‪،64‬ويقصدون بذلك سادة‬
‫من لهم الجاه والسلطان‪.‬‬ ‫القبائل في مكة والطائف‪،‬م ّ‬
‫ن الكبر‪65‬داء خطير أفرز شخصية تسلطية رافضة للحق‬ ‫إ ّ‬
‫والحقيقة‪،‬لذلك توجه موسى عليه السلم إلى ربه ملتجئا ومستعيذا به ج ّ‬
‫ل‬
‫شأنه)من كل متكبر عليه‪،‬تكبر عن توحيده والقرار بألوهيته‬
‫وطاعته(‪’’.66‬وقال موسى اني عذت بربي وربكم من كل متكبر ل‬
‫يؤمن بيوم الحساب‘‘‪.67‬أي من كل)متعظم عن اليمان بالله غير مؤمن‬
‫بالبعث والنشور‪،‬ويدخل فرعون في هذا العموم دخول أوليا( ‪.68‬وقال‪ :‬من‬
‫كل متكبر)لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة‪،‬وليكون على طريقة‬
‫التعريض فيكون أبلغ‪،‬وأراد بالتكبر الستكبار عن الذعان للحق‪،‬وهو أقبح‬
‫ل على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه(‪.69‬‬ ‫استكبار وأد ّ‬
‫ل هذا على ثقل العبء الذي ألقي على كاهل موسى عليه السلم‬ ‫ود ّ‬
‫في مواجهته لشخصية مستكبرة متكبرة‪،‬حتى دعته طبيعة المواجهة إلى هذه‬
‫الستعاذة الواضحة’’من كل متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‘‘‪،70‬إذ لو‬
‫كان يؤمن بيوم ُيحاسب الّناس فيه‪،‬وُيحشرون حفاة عراة لما سولت له‬
‫نفسه فعل ما ل ينبغي له فعله‪.‬‬
‫امتناع فرعون عن قبول الحق رغم قيام الحجة والبرهان دليل‬
‫على استكباره‬
‫ن القرآن الكريم نص على استكبار فرعون فإّنه‪-‬أيضا‪-‬أظهر هذه‬ ‫فكما أ ّ‬
‫الحقيقة بإسلوب آخر‪،‬وهو امتناع فرعون عن قبول الحق بعد قيام الحجة‬
‫والدليل ‪،‬أي بعد إدراكه وعلمه بصدق موسى عليه السلم‪،‬وذلك باليات‬
‫العديدة التي أوتي موسى عليه السلم والتي ل تدع مجال للشك والريبة بل‬
‫ل هذه اليات امتنع فرعون عن‬ ‫هي آيات تثمر العلم واليقين‪.‬ولكن وبعد ك ّ‬
‫قبول الحق‪،‬وكفى بهذا دليل على استكباره‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد أرسلنا‬
‫موسى بآياتنا ان أخرج قومك من الظلمات الى النور‘‘‪.71‬ويقول‬
‫تعالى‪’’:‬ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين‪،‬إلى فرعون‬
‫وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب‘‘‪،72‬وعليه لم تكن عثرة فرعون‬
‫في قصور الحجة والبرهان‪’’،‬فإّنها ل تعمى البصار ولكن تعمى‬
‫القلوب التي في الصدور‘‘‪،73‬وإّنما مرض الكبر قد استقر في قلبه‬
‫ن فرعون جاءته البينات والبراهين والحجج‬ ‫الثم‪،‬فأورثه العمى والتيه‪،‬وذلك أ ّ‬
‫ن) أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة‬ ‫فأعرض استكبارا ل جهل‪،‬ول ريب أ ّ‬
‫‪] 64‬الزخرف‪.[31:‬‬
‫ن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪’’:‬بينما رجل يجر‬
‫‪65‬ومن الكبر الخيلء‪،‬حيث ورد في الحديث‪،‬أ ّ‬
‫إزاره من الخيلء خسف به فهو يتجلجل في الرض إلى يوم القيامة‘‘صحيح البخاري‪،‬كتاب‬
‫النبياء‪،‬باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم‪(3/1285)،‬رقم)‪.(3297‬إذا كان هذا في جّر‬
‫إزار فكيف بمن ادعىأّنه رب يعبد؟!‬
‫‪ 66‬تفسير الطبري)‪.(24/57‬‬
‫‪]67‬غافر‪.[27:‬‬
‫‪ 68‬فتح القدير)‪،(4/488‬وانظر‪:‬زاد المسير)‪.(7/216‬‬
‫‪ 69‬تفسير النسفي)‪،(4/72‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(24/63‬‬
‫‪]70‬غافر‪.[27:‬‬
‫‪] 71‬ابراهيم‪.[5:‬‬
‫‪] 72‬غافر‪.[24:‬‬
‫‪]73‬الحج‪.[46:‬‬

‫‪29‬‬
‫ربهم بعد ت َب َي ِّنها وي َت َعَظ ّ ُ‬
‫‪74‬‬
‫ولت له‬ ‫موا عن قبولها( كما هو حال فرعون‪،‬حيث س ّ‬
‫نفسه المستكبرة عن الحق أن يتهاون في عظيم المور‪.‬‬
‫ن هذا الستكبار بعد اليات والبراهين مع ما يصاحبه من اتهامات باطلة‬ ‫إ ّ‬
‫لتشويش صوت الحق ليس مقصورا على فرعون ومن تابعه بل هو ديدن‬
‫المستكبرين‪،‬يقول تعالى‪’’:‬كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول‬
‫إل قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‘‘‪.75‬‬
‫)فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين؛وهو استقبال واحد للحق‬
‫وللرسل يستقبلهم به المنحرفون‪،‬كأّنما تواصوا بهذا الستقبال على مدار‬
‫القرون‪،‬وما تواصوا بشيء‪،‬وإّنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد‬
‫تجمع بين الغابرين واللحقين(‪.76‬‬
‫فرعون ُيفرط في استكباره رغم كثرة اليات‬
‫إّنه لمن العجب أن يزداد الداء مع نجاعة الدواء‪’’،‬ونخوفهم فما‬
‫ف الضراعة إلى ربه‬ ‫يزيدهم إل ّ طغيانا كبيرا‘‘‪،77‬فها هو نوح يرفع أك ّ‬
‫ب إّني دعوت قومي ليل ونهارا‪،‬فلم يزدهم دعائي إل ّ‬ ‫قائل‪’’:‬ر ّ‬
‫فرارا‘‘‪،78‬فمع الستمرار بالدعوة يزداد القوم إصرارا على كفرهم‪.‬‬
‫وهكذا كان حال موسى عليه السلم‪ُ،‬أوتي العديد من المعجزات‪،‬ومع‬
‫ما أدخله في دائرة أولي العزم من‬ ‫ل مثيله‪،‬م ّ‬‫هذا واجه استكبارا ق ّ‬
‫‪79‬‬
‫الرسل‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد آتينا موسى تسع آيات بّينات‘‘ ‪،‬وهي‬
‫العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع‬
‫والدم‪،‬ومن عد ّ اليد والعصا آية جعل الطمسة‪80‬آية سابعة‪،‬ومنهم من جعل‬
‫السنين ونقص الثمرات واحدة وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما‬
‫يأفكون… فهذه اليات التسع التي ذكرها هؤلء الئمة هي المرادة ههنا وهي‬
‫ن وّلى‬ ‫المعينة في قوله تعالى‪’’:‬وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جا ّ‬
‫مدبرا ولم يعقب ياموسى ل تخف‘‘‪،81‬إلى قوله’’في تسع آيات إلى‬
‫فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين‘‘‪.82‬فذكر هاتين اليتين‬
‫العصا واليد‪،‬وبّين اليات الباقيات في سورة العراف‪،‬وفصلها في قوله‬
‫مل والضفادع‬ ‫تعالى‪’’:‬فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والق ّ‬
‫‪83‬‬
‫دم آيات مفصلت فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘ ‪.‬‬ ‫وال ّ‬
‫وقد أوتي موسى عليه السلم آيات أخرى كثيرة؛منها ضربه الحجر‬
‫ن‬
‫بالعصا وخروج الماء منه‪،‬ومنها تظليل بني إسرائيل بالغمام وإنزال الم ّ‬

‫‪ 74‬تفسير النسفي)‪(2/137‬وانظر‪ :‬الزمخشري‪:‬أبو القاسم‪،‬محمود بن عمر بن محمد‪-467)،‬‬


‫‪538‬هـ(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون القاويل في وجوه التأويل‪،‬‬
‫‪4‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬محمد عبد السلم شاهين‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪1415،‬هـ‪1995،‬م‪.‬‬
‫)‪(2/348‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الكشاف(‪.‬‬
‫‪]75‬الذاريات‪.[53:‬‬
‫‪ 76‬في ظلل القرآن)‪(7/589‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]77‬السراء‪.[60:‬‬
‫‪]78‬نوح‪.[6-5:‬‬
‫‪] 79‬السراء‪.[101:‬‬
‫‪)80‬طمس الشيء‪ :‬ذهابه عن صورته‪ .‬و الطمس آخر اليات التسع التي أوتيها موسى عليه‬
‫السلم‪،‬حين طمس على مال فرعون بدعوته فصارت حجارة(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬طمس)‬
‫‪،(6/126‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬طمس)‪.(1/167‬‬
‫‪] 81‬النمل‪.[10:‬‬
‫‪] 82‬النمل‪.[12:‬‬
‫‪] 83‬العراف‪.[133:‬‬

‫‪30‬‬
‫والسلوى…ولكن ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل‬
‫مصر‪،‬فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا ‪)،84‬ول يعد الفلق‪-‬‬
‫أي فلق البحر‪ -‬لّنه لم يبعث به إلى فرعون(‪.85‬‬
‫ن هذه اليات لم تكن جملة‬ ‫والشاهد على إفراط فرعون في استكباره أ ّ‬
‫ن توالي المعجزات مّرة بعد مّرة أبلغ في‬ ‫واحدة بل على فترات زمنية‪،‬فإ ّ‬
‫العجاز من نزولها مّرة واحدة؛فآيتي العصا واليد كانت في أول مواجهة مع‬
‫فرعون أي وقت تبليغ الرسالة‪ّ،‬ثم تلتها معجزة النتصار على السحرة‪،‬وبعدها‬
‫كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم‪.‬يقول تعالى‪’’:‬فأراه الية‬
‫الكبرى‘‘‪ .86‬أي‪:‬فأراه المعجزة الكبرى‪،‬حيث أظهر له موسى مع هذه‬
‫الدعوة الحق حجة قوية ودليل واضحا على صدق ماجاء به من عند الله‪،‬وهي‬
‫ذب موسى عليه‬ ‫ن فرعون ك ّ‬ ‫دم والصل‪،‬ولك ّ‬ ‫قلب العصا حية فإّنه كان المق ّ‬
‫عل ْ َ‬
‫م‬ ‫ن ِ‬‫السلم وعصى الله عز وجل بعد ظهور الية وتحقق المر‪.‬وهذا يعني أ ّ‬
‫ن المعرفة علم‬ ‫فرعون للحق الذي جاء به موسى ل يلزم منه أّنه مؤمن به‪،‬ل ّ‬
‫القلب واليمان عمله وهو النقياد للحق والخضوع له ‪،87‬وبهذا يزول الشكال‬
‫عند من يجول بخاطره‪:‬كيف يمتنع فرعون عن اليمان بعد علمه وتحققه من‬
‫المر؟!وهو نفس السؤال الذي ُيراود بعض الدعاة إلى الله حينما ُيواجهون‬
‫نوعيات من البشر مشابهة لشخصية فرعون‪،‬فيتعجبون من عدم إيمانهم مع‬
‫حصول العلم لديهم‪،‬وما ذلك إل ّ بسبب استكبارهم أي امتناعهم عن النصياع‬
‫لمر الله مع قيام الدليل وظهور الحجة‪.‬‬
‫ن علم فرعون بمن أنزل المعجزات واليات‪-‬كما نص القرآن على‬ ‫إ ّ‬
‫م هو يستكبر ويصّر على الكفر إصرارا دليل بّين على إفراطه في‬ ‫ذلك‪-‬ث ّ‬
‫الستكبار‪.‬يقول تعالى –حكاية لقول موسى عليه السلم لفرعون‪’’:‬قال‬
‫‪88‬‬
‫ت ما أنزل هؤلء إل رب السماوات والرض بصائر‘‘ ‪.‬‬ ‫لقد علم َ‬
‫يعني)اليات التسع و’’أنزل‘‘بمعنى أوجد’’إل رب السموات والرض‬
‫بصائر‘‘أي دللت يستدل بها على قدرته ووحدانيته‪ ،‬وإنما أضاف موسى إلى‬
‫ن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة‬ ‫م بهذه المعجزات ل ّ‬ ‫فرعون العل َ‬
‫ن مثل ما فعل ليتهيأ لساحر‪،‬وأّنه ليقدر على فعله إل من يفعل‬ ‫فعله‪،‬وأ ّ‬
‫‪89‬‬
‫الجسام ويملك السموات والرض ( ‪،‬فهي بصائر ودللت ُيستدل بها على‬
‫الفاعل المختار‪’’،‬وربك يخلق ما يشاء ويختار‘‘‪.90‬‬
‫لقد مّثل فرعون أعتى حالت الستكبار التي ُيمكن لنا أن‬
‫نتصورها‪،‬وذلك هو ما نفهمه من قوله تعالى‪’’:‬ولقد أريناه آياتنا كلها‬
‫فكذب وأبى‘‘‪،91‬أي حجج الله الدالة على توحيده‪،‬وهو لم ير كل آيات الله‬
‫ن ما رآه من اليات يساوي في قيام الحجة رؤية‬ ‫لّنها ل تحصى‪،‬والمعنى أ ّ‬

‫‪84‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(68-3/67‬وتفسير البيضاوي)‪.(4/260‬‬


‫‪ 85‬تفسير البيضاوي)‪.(4/260‬‬
‫‪] 86‬الّنازعات‪.[20:‬‬
‫‪ 87‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/447‬وتفسير ابن كثير)‪(4/469‬وتفسير الطبري)‪(30/39‬وفتح‬
‫القدير)‪(5/376‬وزاد المسير)‪(9/21‬والكشاف)‪. (2/670‬‬
‫‪] 88‬السراء‪.[102:‬‬
‫‪89‬تفسير القرطبي)‪.(337-10/336‬‬
‫‪] 90‬القصص‪.[68:‬‬
‫‪]91‬طه‪.[56:‬‬

‫‪31‬‬
‫اليات كّلها‪،‬ولكّنه كذب وقال هذا سحر‪،‬وأبى أن يقبل الحق استكبارا‬
‫وعتوا‪،‬وهذا يدل على أّنه كفر عنادا لّنه رأى اليات عيانا ل خبرا ‪.92‬‬
‫رفضه معجزة النتصار العظيم على السحرة دللة أخرى على‬
‫استكبار فرعون‬
‫وإّنما أفردناها تحت عنوان خاص بها لعظيم وقعها في نفس من‬
‫ما جعلها من‬ ‫شاهدها‪،‬وذلك بسبب الظروف والملبسات التي أحاطت بها‪،‬م ّ‬
‫أعظم الدّلة الساطعة على نبوة موسى عليه السلم‪،‬وهي‪-‬في المقابل‪-‬من‬
‫ل معجزة يجريها الله سبحانه على‬ ‫نك ّ‬ ‫دامغة على استكبار فرعون‪،‬ل ّ‬ ‫الدلة ال ّ‬
‫يد موسى عليه السلم يقابلها فرعون بالرفض والمتناع تكون دليل آخر على‬
‫استكباره‪.‬‬
‫ل جهد مستطاع لكسب تلك‬ ‫لقد بالغ فرعون‪-‬لعنه الله‪-‬في بذل ك ّ‬
‫ل ما لديه من القدرات والمكانّيات‪،‬ونادى في الّناس‬ ‫المباراة‪،‬وحشد ك ّ‬
‫للجتماع والحضور في مكان وزمان مناسبين لرؤية الحداث بوضوح‪،‬وكان‬
‫ص السحرة على الفوز والغلبة لسباب‬ ‫مع هذا الجهد من رأس الّنظام حر ُ‬
‫ل هذا وغيره جعلت من تلك المباراة معجزة عظيمة ودليل على‬ ‫كثيرة‪.‬ك ّ‬
‫)مكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والية‬
‫العظيمة‪،‬ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الّناس كلهم‪،‬وغلب‬
‫كل الغلب‪،‬شرع في المكابرة والبهت وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه‬
‫في السحرة فتهددهم وتوعدهم(‪.93‬‬
‫ولنا أن نتابع بعض اللقطات من تلك المباراة الكبيرة لنعلم عظم وقعها‬
‫دخر وسعا للتحضير لها‪،‬فبعث‬ ‫ن فرعون لم ي ّ‬ ‫على نفس من شاهدها؛ذلك أ ّ‬
‫في المدائن حاشرين ليأتوه بكل ساحر عليم‪.‬وجاءت تلك الجموع من‬
‫مل َب َّية لنداء فرعون ناظرة إلى اغتنام تلك الفرصة لتحقيق المنيات‬ ‫السحرة ُ‬
‫عند السلطان‪.‬ولهذا قال بعضهم لبعض’’وقد أفلح اليوم من‬
‫استعلى‘‘‪.94‬أي)قد ظفر بحاجته اليوم من عل على صاحبه فقهره( ‪،‬وفي‬
‫‪95‬‬

‫قولهم هذا دليل على أهمية تلك المباراة بالنسبة إليهم‪.‬فاجتمع عند السحرة‬
‫القدرة الفائقة على السحر والرغبة الجامحة والحرص المبالغ فيه على‬
‫الفوز‪.‬‬
‫ولفرط ثقتهم بأنفسهم وإظهارا لعدم اكتراثهم خّيروا موسى عليه‬
‫ما أن نكون أول من‬ ‫ما أن تلقي وإ ّ‬ ‫السلم فقالوا‪’’:‬يا موسى إ ّ‬
‫ألقى‘‘‪،96‬فقال لهم موسى عليه السلم‪) :‬ألقوا أنتم أول؛ليرى الناس‬
‫صنيعهم ويتأملوه‪،‬فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح‬
‫الجلي بعد التطلب له والنتظار منهم لمجيئته‪،‬فيكون أوقع في النفوس وكذا‬
‫كان(‪،97‬ولهذا قال تعالى‪’’:‬فلما ألقوا سحروا أعين الناس‬
‫واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم‘‘‪،98‬وفي هذا بيان للقدرة التي تمتع‬

‫‪ 92‬انظر‪ :‬تفسير الطبري)‪(16/175‬وتفسير ابن كثير)‪(3/157‬وفتح القدير)‪(3/370‬وزاد المسير)‬


‫‪(5/294‬وتفسير القرطبي)‪.(11/211‬‬
‫‪ 93‬تفسير ابن كثير)‪.(3/159‬‬
‫‪]94‬طه‪.[64:‬‬
‫‪95‬تفسير الطبري)‪.(16/184‬‬
‫‪]96‬طه‪.[65:‬‬
‫‪97‬تفسير ابن كثير )‪(2/238‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]98‬العراف‪.[116:‬‬

‫‪32‬‬
‫بها السحرة‪،‬بل وصل المر إلى أن أوجس في نفسه خيفة موسى)من‬
‫مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية(‪.99‬‬
‫ن فرعون والمل والجماهير أصبحوا على يقين بالّنصر والظفر‪،‬فهم‬ ‫إ ّ‬
‫يترقبون لحظة الستسلم من موسى‪،‬فماذا باستطاعته أن يفعل وقد‬
‫م ما هي إل ّ لحظات حتى بدا لهم من‬ ‫امتلئت الرض بالسحر العظيم؟ث ّ‬
‫موسى ما لم يكونوا يحتسبون‪’’،‬فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف‬
‫‪100‬‬
‫م تتلوها مفاجأة أخرى تهّز عرش فرعون حين أعلن‬ ‫ما يأفكون‘‘ ‪.‬ث ّ‬
‫ُ‬
‫السحرة إيمانهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فألقي السحرة ساجدين‪،‬قالوا آمّنا‬
‫برب العالمين‪،‬رب موسى وهارون‘‘‪101‬؛ذلك لّنهم أعلم الّناس بصنعة‬
‫ما جعلهم ملقين على‬ ‫ن ما جاء به موسى هو الحق م ّ‬ ‫السحر‪،‬فأيقنوا أ ّ‬
‫ن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق‬ ‫وجوههم تنبيها ً على أ ّ‬
‫ملقيا ألقاهم لعلمهم‬ ‫ُ‬
‫ن ُ‬‫لهم تمالك‪،‬فكأّنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم‪،‬وكأ ّ‬
‫ن مثل ذلك خارج عن حدود السحر‪،‬وأّنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه‬ ‫بأ ّ‬
‫الصلة والسلم لتصديقه‪،‬وذلك حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر‬
‫موسى وينقلب المر عليه‪.102‬‬
‫ن من له أدنى نظر وعقل ليقف مشدوها أمام هذه المعجزة‬ ‫إ ّ‬
‫الباهرة‪،‬وسيكون أكثر اندهاشا حين يرى فرعون‪-‬وقد أخذته العزة بالثم‪-‬‬
‫يزداد عتوا وفجورا‪،‬وهو ُيقدم على فعلة نكراء بشعة بقتله للسحرة‬
‫وصلبهم‪،‬وتلك هي الحالة التي ُيرشد إليها قوله تعالى‪’’:‬ولقد صّرفنا في‬
‫كروا وما يزيدهم إل نفورا‘‘‪،103‬أي)تباعدا عن الحق‬ ‫هذا القرآن ليذّ ّ‬
‫وغفلة عن النظر والعتبار(‪،104‬وهكذا كان فرعون يزداد استكبارا مع توالي‬
‫اليات والبراهين والمعجزات‪،‬فهناك نوع من الّناس‪-‬ما زلنا نشاهدهم‪-‬‬
‫يزدادون ترفعا عن الحق كلما سطع‪،‬بل ويزداد حقدهم على الذين آمنوا كلما‬
‫دموا للّناس براهينهم وحججهم‪،‬فما أن يسمع بحجة دامغة إل ّ‬ ‫استطاعوا أن ُيق ّ‬
‫وسعى بجهد جديد كي يدحضها بدل من أن ُيعيد الّنظر بما يحمله من‬
‫الباطل!‬
‫ن المتناع عن قبول الحق بعد حصول العلم تعبير ظاهري‬ ‫ولنا أن نقرر أ ّ‬
‫عن مرض الكبر المدفون في الّنفس‪،‬والذي هو رؤية النفس أّنها فوق‬
‫‪105‬‬
‫من يراه دونه؟ومن هنا‬ ‫مصاب بذلك المرض الحقّ م ّ‬ ‫غيرها ‪،‬فكيف يأخذ ال ُ‬
‫كانت عقوبته شديدة هائلة يقول صلى الله عليه وسلم‪’’:‬ل يدخل الجنة من‬
‫ن الرجل يحب أن يكون ثوبه‬ ‫كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‪.‬قال رجل‪:‬إ ّ‬
‫ن الله جميل يحب الجمال‪.‬الكبر بطر الحق وغمط‬ ‫حسنا ونعله حسنة‪.‬قال‪:‬إ ّ‬

‫‪99‬تفسير البيضاوي)‪(4/59‬وانظر‪:‬تفسير ابي السعود)‪.(6/27‬‬


‫‪] 100‬الشعراء‪.[45:‬‬
‫‪] 101‬الشعراء‪.[48:‬‬
‫‪102‬انظر‪:‬تفسير ابي السعود)‪(6/243‬وتفسير البيضاوي)‪.(3/48‬‬
‫‪] 103‬السراء‪.[41:‬‬
‫‪104‬تفسير القرطبي)‪(10/265‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(3/42‬‬
‫‪)105‬العجب مجرد استعظام الشيء فإن صحبه من يرى أنه فوقه كان تكبرا( الصنعاني‪:‬محمد بن‬
‫إسماعيل المير‪852-773)،‬هـ(‪،‬سبل السلم شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام‪،‬‬
‫‪4‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد العزيز الخولي‪،‬ط ‪،4‬دار إحياء التراث العربي‪،‬بيروت‪1379،‬هـ‪).‬‬
‫‪.(4/201‬‬

‫‪33‬‬
‫الناس‘‘‪،106‬أي احتقارهم وازدراؤهم‪،‬وبطر الحق دفعه وانكاره ترفعا‬
‫وتجبرا‪.107‬‬

‫المبحث الثانـي‬
‫و‬
‫العل ّ‬
‫و)العظمة والتجبر‪،‬يقال‪:‬عل فلن في الرض إذا استكبر وطغى‪.‬‬ ‫العل ّ‬
‫‪108‬‬
‫ن‪ .‬ويقال لكل‬ ‫ن ولتتعظم ّ‬ ‫وا كبيرا‘‘ ‪،‬معناه لتبغ ّ‬ ‫ن عل ّ‬‫وقوله تعالى‪’’:‬ولتعل ّ‬
‫‪110‬‬ ‫‪109‬‬
‫متجبر قد عل وتعظم( ‪)،‬وعل في الرض تكبر فيها( ‪.‬فالعلوّ يفارق‬
‫ما يؤدي إلى الّترفع‬ ‫من ََعة‪،‬م ّ‬
‫الستكبار في أّنه شعور بالعظمة والقوة وال َ‬
‫والّنظرة الفوقية‪،‬وذلك لوجود المكانّيات والقدرات‪،‬حيث تهيأت لفرعون‬
‫ل شأنه‬ ‫ل شيء سببا‪،‬استدراجا منه ج ّ‬ ‫أسباب القوة والمنعة‪،‬وأوتي من ك ّ‬
‫لفرعون ولمثاله من الطواغيت‪’’،‬حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم‬
‫بغتة فإذا هم مبلسون‘‘‪،111‬بينما يكون الستكبار بالمتناع عن قبول‬
‫الحق للمحافظة على تلك المتيازات والمكانات التي توفرها طريقة الحياة‬
‫والمنهج المتبع‪،‬وبهذه النظرة يكون الستكبار وسيلة بينما يكون العلوّ نتيجة‪.‬‬
‫ن فرعون‬ ‫والعلوّ من خصائص شخصية فرعون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وإ ّ‬
‫لعال في الرض وإّنه لمن المسرفين‘‘‪،112‬ويقول تعالى‪’’:‬إلى‬
‫فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين‘‘‪،113‬ويقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫ن‬
‫فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم‬
‫يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم‘‘‪،114‬ويقول تعالى‪’’:‬ولقد نجّينا بني‬
‫إسرائيل من العذاب المهين‪،‬من فرعون إّنه كان عاليا من‬
‫المسرفين‘‘‪.115‬‬
‫‪106‬مسلم‪ :‬أبو الحسين‪ ،‬بن الحجاج القشيري النيسابوري‪261 -206 ).‬هـ( صحيح مسلم‪،‬‬
‫‪5‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬كتاب اليمان‪،‬باب تحريم‬
‫الكبر‪(1/93)،‬رقم)‪،(91‬وسأشير إليه لحقا هكذا)صحيح مسلم(‪.‬‬
‫‪107‬الّنووي‪:‬أبو زكريا‪،‬يحيى بن شرف بن مري‪676 -631)،‬هـ(‪،‬صحيح مسلم بشرح النووي‪،‬‬
‫‪18‬جزء‪،‬ط ‪،2‬دار إحياء التراث العربي‪،‬بيروت‪1392،‬هـ‪،(2/90).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)شرح‬
‫النووي على صحيح مسلم(‪.‬‬
‫‪]108‬السراء‪.[4:‬‬
‫‪ 109‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬عل)‪.(15/85‬وانظر‪ :‬الفراهيدي‪:‬أبو عبد الرحمن‪،‬الخليل بن أحمد‪-100)،‬‬
‫‪175‬هـ(‪،‬كتاب العين‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬مهدي المخزومي‪،‬وإبراهيم السامرائي‪،‬دار ومكتبة‬
‫الهلل‪.‬مادة‪:‬علو)‪،(2/245‬وسأشير إليه لحقا هكذا)كتاب العين(‪.‬‬
‫‪ 110‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬عل)‪.(190‬‬
‫‪] 111‬النعام‪.[44:‬‬
‫‪]112‬يونس‪.[83:‬‬
‫‪]113‬المؤمنون‪.[46:‬‬
‫‪]114‬القصص‪.[4:‬‬
‫دخان‪.[31-30:‬‬ ‫‪]115‬ال ّ‬

‫‪34‬‬
‫ن هذه الكلمة اقترنت مع فرعون في مواطن‬ ‫وأنت تلحظ هنا أ ّ‬
‫عدة‪،‬لذلك كان ل بد ّ من أن يكون لها دللة‪.‬وإذا ما تأملنا تلك الّنصوص نجد‬
‫ن فرعون في شخصيتة المتعالية يرى في نفسه أّنه فوق مستوى‬ ‫أ ّ‬
‫البشر‪،‬ومن هذه الّنظرة الفوقية المنحرفة بغى فرعون وطغى وظلم‬
‫واعتدى وتعظم وتكبر وتجبر في الرض‪،‬وجاوز الحدود المعهودة في الظلم‬
‫والعدوان‪،‬وافتخر بنفسه ونسي العبودية في الرض‪،‬وادعى الربوبية لنفسه‪،‬‬
‫وصار غالبا قاهرا متطاول على الله‪،‬مترفعا عن عبادته‪،‬عاليا على من تحت‬
‫يده في الرض ‪،116‬قائل بلسان الحال والمقال‪:‬من أشد ّ مّني قوة!‬
‫صوَرِهِ في حياة فرعون حين حشر’’فنادى‬ ‫ويبرز الستعلء بأبشع ِ‬
‫‪117‬‬
‫فقال أنا ربكم العلى‘‘ ‪،‬وهذه أشد ّ حالت الستعلء البشري حيث‬
‫أدت إلى استضعاف الخرين واستخفافهم وإذللهم للتمكن منهم‪.‬وإلى هذه‬
‫مَرضية تعود طائفة كبيرة من المصائب والمحن والبتلءات التي‬ ‫الحالة ال َ‬
‫يعاني منها البشر قديما وحديثا‪.‬‬
‫ن تطاول الزمن على فرعون وهو يملك الثروة والمال والجاه‬ ‫إ ّ‬
‫و‪،‬يقول‬‫والسلطان والقوة البدنية والعسكرية… أدخل في نفسه العل ّ‬
‫ن النسان ليطغى‪،‬أن رآه اسغنى‘‘‪،118‬وهذا يعني أ ّ‬
‫ن‬ ‫تعالى‪’’:‬كل ّ إ ّ‬
‫الغالبية من البشر ل يشكرون حين يستغنون‪،‬وهو ذات المعنى الذي نفهمه‬
‫من قوله تعالى‪’’:‬وقليل من عبادي الشكور‘‘‪119‬؛فحقيقة‬
‫الشكر)العتراف بالنعمة للمنعم‪،‬واستعمالها في طاعته‪،‬والكفران استعمالها‬
‫ن الخير أقل من الشر‪،‬والطاعة أقل من‬ ‫في المعصية‪،‬وقليل من يفعل ذلك ل ّ‬
‫المعصية بحسب سابق التقدير(‪.120‬‬
‫لقد غابت عن فرعون‪-‬غفلة منه‪-‬الحقيقة الباقية’’وما الحياة الدنيا إل ّ‬
‫متاع الغرور‘‘‪،121‬فالحياة في الرض قصيرة محدودة بأجل‪،‬متاع‬
‫خدع‬‫الغرور‪،‬تخدع من غفل قلبه عن المتاع الذي يدوم ول ينقضي‪.‬وهكذا ُ‬
‫ن أّنه كثير وهو‪-‬مع الدنيا‪-‬بأسرها ل يعدل عند الله جناح‬ ‫فرعون بما ظ ّ‬
‫دنيا وما الحياة الدنيا في‬ ‫بعوضة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وفرحوا بالحياة ال ّ‬
‫الخرة إل ّ متاع‘‘‪،122‬وتلك علة ُيعاني منها كثير من البشر‪.‬‬
‫دل نعمة الله كفرا‪،‬حين ثبت ملكه‬ ‫لم يخرج فرعون عن تلك القاعدة فب ّ‬
‫وكثر جنده‪،‬وغمرته الخيرات والرزاق‪،‬فأنهار مصر تجري من تحته ول ُيشق‬
‫ل في‬ ‫له عصا؛فاستغرق في المتاع وخل قلبه من ذكر المنعم ج ّ‬

‫‪ 116‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(13/248 ،8/370‬وتفسير النسفي)‪(2/138،3/138،226‬وتفسير أبي‬


‫السعود)‪(4/171،7/2‬والسيوطي‪:‬أبو الفضل‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال)‬
‫‪911-849‬هـ(‪،‬وجلل الدين محمد بن أحمد‪،‬تفسير الجللين‪،‬ط ‪ ،1‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪).‬‬
‫‪. (1/279‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير الجللين(‪،‬والواحدي‪:‬أبو الحسن‪،‬علي بن أحمد‪)،‬ت‬
‫‪ ،(468‬الوجيز في تفسير الكتاب العزيز‪،‬جزءان‪،‬تجقيق‪ :‬صفوان عدنان داوودي ‪،‬ط ‪ ،1‬دار‬
‫القلم‪،‬الدار الشامية‪،‬دمشق‪،‬بيروت‪1415،‬هـ‪. (1/506).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير‬
‫الواحدي(‪،‬وابن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪597– 508)،‬هـ(‪،‬تذكرة‬
‫الريب في تفسير الغريب‪،‬جزء واحد‪،‬المكتب السلمي‪ ،‬بيروت‪1404 ،‬هـ‪،(240).‬وسأشير‬
‫إليه لحقا هكذا)تذكرة الريب في تفسير الغريب(‪.‬‬
‫‪]117‬الّنازعات‪.[24:‬‬
‫‪]118‬العلق‪.[6،7:‬‬
‫‪]119‬سبأ‪.[13:‬‬
‫‪120‬تفسير القرطبي)‪.(14/276‬‬
‫‪]121‬آل عمران‪.[185:‬‬
‫‪] 122‬الرعد‪.[26:‬‬

‫‪35‬‬
‫دنيا‬
‫عله‪،‬واستمتع بالجاه والسلطان والملك‪،‬وقد طمست بصيرته زخارف ال ّ‬
‫ل هذا‬ ‫وبهارجها‪،‬فل عجب‪-‬إذن‪ -‬أن يرشح من شخصية فرعون المستعلية ك ّ‬
‫و‪،‬فالذي خبث ل‬ ‫الظلم والعدوان‪،‬كإفراز طبيعي لما استقر في نفسه من العل ّ‬
‫يخرج إل نكدا‪،‬فكان من هذا الّنكد أن ترّفع عن عبادة ربه؛وكيف يعبد الله من‬
‫أعجبته نفسه‪،‬بل وصل به الحال إلى أن ادعى اللوهية‪.‬وما هذا إل نتيجة‬
‫ل إناء‬ ‫لتلك النظرة إلى الذات والعجاب بها‪،‬ول فرق بين اليوم والبارحة‪،‬فك ّ‬
‫بما فيه ينضح‪.‬‬
‫و والفساد‬ ‫ي للعل ّ‬‫اليهود مثال ح ّ‬
‫ن من المثلة الحية والتي أشار إليها القرآن هذا العلو الكبير لبني‬ ‫إ ّ‬
‫ما حدث لهم قديما على يد فرعون حين‬ ‫إسرائيل‪،‬الذين لم يأخذوا العبرة م ّ‬
‫استعلى عليهم وأذلهم‪..‬كما لم يأخذوا العبرة من مأساتهم على يد هتلر حين‬
‫سامهم سوء العذاب فشتتهم في بقاع الرض!فتلك طبيعتهم يخضعون‬
‫فس الله عنهم كربتهم مارسوا دور الظالم لهم!ونسوا ما‬ ‫ويخنعون حتى إذا ن ّ‬
‫ن‬
‫حدث لهم بالمس‪..‬تغُّرهم قوتهم وإمكانياتهم وإقبال اليام عليهم‪،‬وغفلوا أ ّ‬
‫اليام دول!وتلك هي مصيبتهم في أنفسهم‪.‬‬
‫ويرجع هذا العلو إلى تلك النفسية التي يعيشها اليهود قديما وحديثا‪،‬فهم‬
‫مة مشرذمة ممزقة تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى‪،‬تسودهم روح العداوة‬ ‫أ ّ‬
‫والبغضاء‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم‬
‫القيامة‘‘‪،123‬ويشعرون بالّنقص وعقدة الجبن والخوف والشح‪’’،‬ولتجدّنهم‬
‫أحرص الّناس على حياة‘‘‪)،124‬وتنكير حياة للتحقير‪،‬أي أّنهم أحرص‬
‫‪125‬‬
‫مركبة‬ ‫الناس على أحقر حياة( ‪.‬من هذه الشلء النسانية والعقد النفسية ال ُ‬
‫ن المشاعر الّنفسية المنحطة ل تنمو إل ّ‬ ‫ت علوهم وإفسادهم؛ذلك أ ّ‬ ‫من ْب َ ُ‬
‫كان َ‬
‫في بيئة محطمة من الداخل كما هو الحال عند يهود‪.‬‬
‫إّنهم يقومون بنفس الدور الذي مارسه فرعون ضدهم؛فيقتلون وينهبون‬
‫وُيذّلون الّناس ويرهبونهم بوسائل يطول الحديث عنها‪،‬فلم يتركوا شكل من‬
‫أشكال العذاب والهانة والقمع إل ّ ومارسوه بعنجهية وغطرسة ظاهرة‬
‫س الستعلء والّترفع‪..‬وتلك‬ ‫ف َ‬‫ل حركاتهم ن َ َ‬ ‫جلّية‪.‬تسمع في نبرتهم وترى في ك ّ‬
‫هي الحقيقة التي أخبرنا القرآن بها’’وقضينا إلى بني إسرائيل في‬
‫ن علوا‬ ‫ن في الرض مرتين ولتعل ّ‬ ‫الكتاب لتفسد ّ‬
‫كبيرا‘‘‪.126‬والمقصود في الرض)أرض الشام وبيت المقدس وما‬
‫والها‪،‬وأراد بالعلو التكبر والبغي والطغيان والستطالة والغلبة والعدوان(‪.127‬‬
‫ن هذا السلوك الستعلئي قديما وحديثا ما هو إل ّ نتيجة لمتلك أسباب‬ ‫إ ّ‬
‫القوة المادية والسيطرة عليها من قبل شخص أو أشخاص يتمّيزون بعقد‬
‫ذات وهو مرض‬ ‫نفسية وأفكار وتصورات جاهلية‪،‬ومثال ذلك العجاب بال ّ‬
‫مق‪-‬أن يعبد ذاته؛فكلما زاد إعجابه‬ ‫خم في نفسه وتع ّ‬ ‫يصل بصاحبه‪-‬إذا تض ّ‬
‫بذاته زاد تأليهه لنفسه حتى إذا تهيأت له الظروف المناسبة كما تهيأت‬
‫صب نفسه إلها من دون الله‪،‬أو هو الشعور بحب النتقام لسباب‬ ‫لفرعون ن ّ‬
‫كثيرة‪،‬أو الشعور بالّنقص حيث ُيراد تعويض هذا الّنقص بمظاهر الستعلء‬

‫‪]123‬المائدة‪.[64:‬‬
‫‪]124‬البقرة‪.[96:‬‬
‫‪125‬فتح القدير)‪.(1/115‬‬
‫‪]126‬السراء‪.[4:‬‬
‫‪127‬تفسير القرطبي)‪(10/214‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫جد السلوك‬ ‫والّترفع‪..‬فإذا اجتمعت المكانيات وتلك الشخصية المريضة وُ ِ‬
‫الخطير في واقع الحياة‪.‬فقد ُتوجد الشخصية الحاملة للمرض ولكّنها لم تجد‬
‫فرصة للتعبير عن ذاتها‪،‬وهذا ما نفسر به خصومة بعض الّناس للطاغوت‬
‫ما ُيشبع به رغباته سكت عن المخاصمة‬ ‫حتى إذا ما منحه الطاغوت بعضا ً م ّ‬
‫وأصبح في سلك الّنظام‪.‬‬
‫فالعلوّ الذي ُيمارسه البشر سمة مخيفة مرعبة تجعلك تدرك مدى‬
‫الخطورة التي مّثلتها شخصية فرعون حين تطاولت على خالقها وانفلتت‬
‫ولت‬ ‫ل القيم‪،‬فل غرابة إذن حين نراه مستعليا متبجحا في سحق من س ّ‬ ‫من ك ّ‬
‫لهم أنفسهم الخروج عن سلطانه المزعوم‪،‬فها هو يقول بمليء فمه’’وإّنا‬
‫فوقهم قاهرون‘‘‪.128‬وهي نفس الكلمات التي نسمعها من فراعنة العصر‬
‫مثل‪:‬سنسحق‪ ،‬وسنجتث‪،‬وسنلحقهم في كل مكان‪،‬وليس لهم مكان آمن‬
‫فوق الرض… وتلك هي )صفة الفوقية والمراد بها العلو من غير جهة‪،‬وقد‬
‫قال فرعون‪:‬وإّنا فوقهم قاهرون‪،‬ول شك أّنه لم يرد العلو المكاني(‪.129‬‬
‫ل كلمة‬‫كما أّننا نلحظ في خطابات فرعون وبياناته لقومه ثقته بك ّ‬
‫يقولها‪،‬فل يستثني أبدا!فليس عنده أدنى شك بقدرته واستطاعته على تنفيذ‬
‫ما يقول‪،‬وذلك هو الشعور بالعظمة والقتدار الذي مل نفس فرعون ففاضت‬
‫به كلماته وتصرفاته‪،‬ومن هنا كان)تفسير ذكر العلو في الرض باستضعاف‬
‫الخلق بذبح الولدان وسبي النساء(‪.130‬‬
‫ن توفر أسباب القوة والذي نشاهده اليوم عند من ل قيم عنده ول‬ ‫إ ّ‬
‫أخلق لهو ما ُينذر بالخطر‪،‬ويجعل البشرية جمعاء تعيش حالة من الخوف‬
‫والرعب والترقب والذل والهانة؛وقد ظهرت عليهم نزعة التسلط على‬
‫رقاب الّناس واستعبادهم لشهواتهم ونزواتهم ومصالحهم‪،‬بل سولت لهم‬
‫أنفسهم إخضاع الّناس لتصوراتهم ومعتقداتهم وطريقة ومنهج حياتهم‪.‬فلم‬
‫يعودوا يروا سوى أنفسهم‪.‬‬
‫ن الّنظام العالمي الجديد‪-‬والذي تحاول قوى البغي أن تفرضه على‬ ‫إ ّ‬
‫ن هذا‬
‫ي لتلك النـزعة الفوقية‪،‬وهذا يعني بالتأكيد أ ّ‬ ‫الشعوب‪-‬إفراز حتم ّ‬
‫الّنظام ل ُيبنى إل ّ على حطام النسانية وتحطيمها‪،‬وهو عين ما نشاهده من‬
‫تدمير للعلقات النسانية في جميع أشكالها‪،‬فانتشرت المراض الجتماعية‬
‫كالحسد والعدوان والحقد والتدابر والبغضاء والكراهية فيما بين الناس‪..‬فهو‬
‫نظام تسلطي ل يقوم إل ّ على أساس تفريغ الحياة من مضامينها النسانية‬
‫الرفيعة‪،‬وقتل القيم الخلقية‪.‬‬
‫ن للعلوّ آثار مدمرة في حياة الّناس والجماهير‪،‬فإّنه أعظم آفة‬ ‫وكما أ ّ‬
‫على طالبه؛فهو قد جعل نفسه إلها وشرع ينسب صفات الله لنفسه‪،‬ذلك‬
‫ن)العظيم المستحق لوصاف العلو والرفعة والجلل والعظمة والتقديس‬ ‫أ ّ‬
‫‪131‬‬
‫من كل آفة هو الله سبحانه وتعالى‪،‬وهو التي يستحقها بذاته( ‪،‬يقول الله‬
‫‪]128‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪ 129‬اتقان ما يحسن من الخبار)‪.(2/19‬‬
‫لني‪:‬أبو بكر‪،‬محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم‪،‬إعجاز القرآن‪،‬جزء‬ ‫‪ 130‬الباق ّ‬
‫دين أحمد حيدر‪،‬ط ‪،3‬مؤسسة الكتب الثقافية‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪1416،‬هـ‪1995-‬م‪.‬‬ ‫واحد‪،‬تحقيق‪:‬عماد ال ّ‬
‫)‪(1 93‬وسأشير إليه لحقا هكذا)اعجاز القرآن(‪.‬‬
‫‪ 131‬البيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى‪458-384)،‬هـ(‪،‬العتقاد‬
‫والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬‬
‫أحمد عصام الكاتب‪،‬ط ‪،1‬دار الفاق الجديدة‪،‬بيروت‪1401،‬هـ‪(58).‬مع بعض التصرف‪،‬وسأشير‬
‫إليه لحقا هكذا)العتقاد(‪.‬وانظر‪ :‬المناوي‪:‬محمد عبد الرؤوف‪(1031-952)،‬هـ‪،‬التوقيف على‬

‫‪37‬‬
‫تعالى‪’’:‬تلك الدار الخرة نجعلها للذين ل يريدون علوا فى الرض‬
‫ول فسادا‘‘‪.132‬فالله سبحانه ُيخبرنا)أ ّ‬
‫ن الدار الخرة ونعيمها المقيم الذي ل‬
‫يحول ول يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين ل يريدون علوا‬
‫‪133‬‬
‫في الرض‪،‬أي ترفعا على خلق الله وتعاظما وتجبرا بهم ول فسادا فيهم( ‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫الطغيان‬
‫الطغيان لغة من)طغى(‪:‬و)السم الطغيان‪،‬وهو مجاوزة الحد‪،‬وكل شيء‬
‫جاوز المقدار والحد في العصيان فهو طاغ(‪)،134‬وكل شيء جاوز القدر فقد‬
‫طغى‪ ،‬كما طغى الماء على قوم نوح‪،‬وكما طغت الصيحة على ثمود…‬
‫والطواغي جمع طاغية‪،‬وهي ما كانوا يعبدونه من الصنام وغيرها‪،‬ومنه هذه‬
‫مراد‬‫طاغية دوس وخثعم‪،‬أي صنمهم ومعبودهم‪ .‬ويجوز أن يكون ال ُ‬
‫بالطواغي‪ :‬من طغى في الكفر وجاوز الحد وهم عظماؤهم وكبراؤهم…‬
‫والطاغية الذي ل يبالي ما أتى‪،‬يأكل الّناس ويقهرهم ل يثنيه تحرج ول‬
‫ضمير(‪.135‬‬
‫فالطغيان‪ :‬تجاوز الحد في الكفر والتجبر والفساد…فليس هو ارتكاب‬
‫للمعصية فحسب بل تجاوز الحد فيها‪،‬وهكذا كان فرعون متجاوزا الحد ّ في‬
‫كل رذيلة‪،‬ففي كفره‪-‬لعنه الله‪ -‬تجاوز الحد إلى إدعاء الربوبية‬
‫واللوهية‪،‬واستكبر حتى طغى في استكباره بدليل قوله تعالى‪’’:‬ولقد‬
‫ع؛وهذا لم تردعه‬ ‫أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‘‘‪،136‬والية الواحدة ت َْرد َ ُ‬
‫اليات!فهو بهذا الوصف طاغوت‪.137‬‬

‫مهمات التعاريف‪،‬جزء‪:‬واحد‪ ،‬تحقيق‪:‬محمد رضوان الداية‪،‬ط‪،1:‬دار الفكر المعاصر‪،‬دار‬


‫الفكر‪،‬بيروت‪،‬دمشق‪1410،‬هـ‪،(517).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)التعاريف(‪.‬‬
‫‪]132‬القصص‪.[83:‬‬
‫‪133‬تفسير ابن كثير)‪.(3/403‬‬
‫‪134‬الفيومي‪:‬أحمد بن محمد بن علي المقري‪)،‬ت‪770:‬هـ(‪،‬المصباح المنير في غريب الشرح‬
‫الكبير للرافعي‪،‬جزءان‪،‬المكتبة العلمية‪،‬بيروت‪.‬مادة‪،‬طغا)‪،(2/374‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)المصباح المنير(‪.‬‬
‫‪ 135‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬طغى)‪(10-9-8-15/7‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬طغى)‬
‫‪.(165‬‬
‫‪] 136‬طه‪.[56:‬‬
‫‪ 137‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(3/281‬‬

‫‪38‬‬
‫ولقد بّين القرآن حقيقة طغيان فرعون بصريح العبارة‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬اذهب إلى فرعون‪ 138‬إّنه طغى‪،140‘‘139‬ويقول‬
‫تعالى‪’’:‬اذهبا‪ 141‬إلى فرعون إّنه طغى‘‘‪،142‬ويقول تعالى‪’’:‬قال ربنا‬
‫إّننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‘‘‪،143‬ويقول تعالى‪’’:‬اذهب‬
‫إلى فرعون إّنه طغى‘‘‪،144‬فقد تجاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر‬
‫والتمرد… وتجبر على الله وعصاه ‪،‬وتجاوز قدره وتمّرد على ربه حتى‬
‫تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية واللوهية‪،‬وتجاوز الحد في‬
‫ضلله وغّيه وفساده وإفساده ‪.145‬‬
‫ن طغيان فرعون لم يكن بارتكاب المعاصي بل بتجاوز الحد والفراط‬ ‫إ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فيها‪.‬فهو ُيقّتل ول يقتل‪،‬وُيصلب ول يصلب‪،‬وُيقطع ول يقطع…ويصل به‬
‫الطغيان أن ُيصّلب السحرة في جذوع الّنخل وليس على جذوعها!يقول‬
‫تعالى حكاية لقول فرعون‪’’:‬ولصلبّنكم في جذوع الّنخل‘‘‪).146‬للدللة‬
‫على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لستمرارهم عليها باستقرار المظروف‬
‫في الظرف المشتمل عليه(‪،147‬وذلك دللة على شدة حنقه منهم‪.‬‬
‫ما كان حال الطغاة بهذا الحجم من الشراسة والفراط في الجريمة‬ ‫ول ّ‬
‫ن من الطبيعي لمن يريد مواجهتهم أن يكون على قدر كبير من الهمة‬ ‫فإ ّ‬
‫مل‪،‬مع ما يصاحب ذلك من الوسائل الضرورية والتي ل بد ّ‬ ‫والعزيمة والّتح ّ‬
‫دها الدنى كافية للوقوف أمام الطغاة والقيام بالوظيفة‬ ‫منها‪،‬لتكون في ح ّ‬
‫الملقاة على عاتق الداعية إلى الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ن‬
‫ن ما ذهب إليه بعض المنحرفين في تأويل قوله تعالى‪) :‬إذهب إلى فرعون إنه طغى(من أ ّ‬ ‫‪ 138‬إ ّ‬
‫)إّنه( إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان)صرف للفاظ الشرع‬
‫عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة ل يسبق منها إلى الفهام فائدة كدأب الباطنية في‬
‫التأويلت فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن اللفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها من غير‬
‫اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك‬
‫بطلن الثقة باللفاظ وسقط به منفعة كلم الله تعالى وكلم رسول الله فإن ما يسبق منه إلى‬
‫الفهم ل يوثق به والباطن ل ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى‬
‫وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر(مناهل العرفان)‪.(2/66‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‬
‫‪.(34-1/33‬‬
‫‪)139‬طغى‪ :‬أي ترفع وعل حتى جاوز الحد أو كاد(المصري‪:‬شهاب الدين‪،‬أحمد بن محمد الهائم‪)،‬‬
‫‪(815– 753‬هـ‪ ،‬التبيان في تفسير غريب القرآن‪،‬تحقيق‪ :‬فتحي أنور الدابولي‪،‬ط ‪ ،1‬دار‬
‫الصحابة للتراث بطنطا‪ ،‬القاهرة‪1992،‬م‪،(1/287).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)التبيان في تفسير‬
‫غريب القرآن(‪.‬‬
‫‪]140‬طه‪.[24:‬‬
‫‪)141‬وقوله في موضع آخر ) اذهب إلى فرعون إنه طغى( ل ينافي هذا لنهما إذا كان مأمورين‬
‫فكل واحد مأمور ويجوز أن يقال أمر موسى أول ثم لما قال واجعل لي وزيرا من أهلي قال‬
‫اذهبا إلى فرعون(تفسير القرطبي)‪،(13/31‬وقيل‪ ):‬خص موسى وحده بالمر بالذهاب فيما تقدم‬
‫وجمعهما هنا تشريفا لموسى بإفراده‪،‬وتأكيدا للمر بالذهاب بالتكرير‪.‬وقيل‪:‬إن فى هذا دليل على‬
‫أنه ل يكفي ذهاب أحدهما‪.‬وقيل‪:‬الول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس‪،‬والثاني أمر لهما‬
‫بالذهاب إلى فرعون(فتح القدير)‪)،(3/366‬ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب فى‬
‫بعض المواطن لكونه الصل فى الرسالة والجمع بينهما فى الخطاب لكونهما مرسلين جميعا(فتح‬
‫القدير)‪.(4/76‬‬
‫‪] 142‬طه‪.[43:‬‬
‫‪]143‬طه‪.[45:‬‬
‫‪] 144‬الّنازعات‪.[17:‬‬
‫‪ 145‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير)‪(154 /3‬وتفسير الطبري)‪(16/158،168‬وتفسير ابي السعود )‬
‫‪(6/11،12‬وتفسير الواحدي)‪(2/693،695،1170‬وتفسير النسفي)‪(3/53‬وروح المعاني)‬
‫‪.(16/181‬‬
‫‪]146‬طه‪.[71:‬‬
‫‪147‬تفسير ابي السعود)‪.(6/29‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(4/61‬‬

‫‪39‬‬
‫وهذا ما نفهمه من المناسبة في قوله تعالى‪’’:‬قال ألقها يا‬
‫موسى‪،‬فألقاها فإذا هي حية تسعى‪،‬قال خذها ول تخف‬
‫سنعيدها سيرتها الولى‪،‬واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء‬
‫من غير سوء آية أخرى‪،‬لنريك من آياتنا الكبرى‪،‬اذهب إلى‬
‫فرعون إّنه طغى‘‘‪،148‬فبعد أن آنسه بالعصا واليد‪ ،‬وأراه ما يدل على أّنه‬
‫رسول‪،‬ومّهد له تلك المقدمات‪ ،‬أمره بالذهاب إلى فرعون وأمره أن يدعوه‬
‫ن موسى عليه السلم قادم على مهمة صعبة وهي‪:‬قول‬ ‫‪،149‬وليس هذا إل ّ ل ّ‬
‫الحق أمام فرعون الذي طغى‪.‬‬
‫ومن هنا كان الخطاب من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه‬
‫السلم‪’’:‬اذهب إلى فرعون‘‘)الذي خرجت فارا منه وهاربا‪،‬فادعه إلى‬
‫عبادة الله وحده ل شريك له‪،‬ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ول‬
‫يعذبهم‪،‬فإّنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب العلى…‬
‫فاستشعر موسى عليه السلم ثقل المهمة‪،‬فتوجه إلى الله بالسؤال أن‬
‫يشرح له صدره فيما بعثه به‪،‬فإّنه‪-‬سبحانه‪ -‬قد أمره بأمر عظيم وخطب‬
‫جسيم‪،‬بعثه إلى أعظم ملك على وجه الرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا‬
‫وأكثرهم جنودا وأعمرهم ملكا وأطغاهم وأبلغهم تمردا‪،‬بلغ من أمره أن‬
‫ادعى أّنه ل يعرف الله ول يعلم لرعاياه إلها غيره(‪.150‬‬
‫فكان رد ّ موسى عليه السلم ببسط مسألته‪،‬وقد أحس بضخامة المهمة‬
‫ن موسى‬ ‫وخطورتها ووعورتها‪،‬فطلب كل ما يساعده على المواجهة؛ذلك أ ّ‬
‫عليه السلم تربى في قصر فرعون ويعلم من هو فرعون‪،‬ويعلم ماذا فعل‬
‫ببني إسرائيل‪،‬فطلب من الله التيسير’’قال رب اشرح لي‬
‫صدري‪،‬ويسر لي أمري‪،‬واحلل عقدة من لساني‪،‬يفقهوا‬
‫قولي‪،‬واجعل لي وزيرا من أهلي‪،‬هارون أخي‪،‬اشدد به‬
‫أزري‪،‬وأشركه في أمري‘‘‪،151‬لّنه ضاق موسى صدرا بما ك ُّلف من‬
‫مقاومة فرعون وجنوده‪،‬فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق وينوره‬
‫باليمان والّنبوة حتى ل يخاف فرعون وجنوده‪ ،‬وليحتمل الوحي والمشاق‬
‫وردئ الخلق من فرعون‪،‬وسأل الله أن يسهل عليه ما أمره به وبعثه له‬
‫من تبليغ الرسالة إلى فرعون‪،‬وأن يحلل عقدة من لسانه‪،152‬وأن يجعل له‬
‫وزيرا من أهله هارون أخيه‪:‬أي ظهيرا يعتمد عليه ويعينه على تبليغ الرسالة‬
‫‪.153‬‬
‫ن تجاوز فرعون الحد والفراط في المعصية له أسبابه؛فالطغيان مهما‬ ‫إ ّ‬
‫دته ينبع من مشاعر الستغناء بسبب كثرة المال أو امتداد‬ ‫كانت درجة ح ّ‬
‫الجاه أو غزارة العلم أو قوة في البدن‪..‬وقد تجتمع أسباب عدة‪-‬كما هو‬
‫الحال عند فرعون حين كُثر ماله وجنده وأتباعه وامتد جاهه وسلطانه‪-‬حينئذ‬
‫ل الطغيان حالته الهستيرية وهي الحالة المتمثلة بشخص الطاغوت‬ ‫ص ُ‬‫يَ ِ‬

‫‪]148‬طه‪.[24-19:‬‬
‫‪ 149‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(11/192‬وتفسير ابي السعود)‪.(6/11‬‬
‫‪ 150‬تفسير ابن كثير)‪(3/147‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪] 151‬طه‪.[32-25:‬‬
‫‪)152‬ولو سأل الجميع لزال ولكن النبياء ل يسألون إل بحسب الحاجة‪،‬ولهذا بقيت بقية‪،‬قال الله‬
‫تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال‪’’:‬أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين‘‘أي يفصح‬
‫بالكلم(تفسير ابن كثير)‪.(148-3/147‬‬
‫‪153‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(11/192‬وزاد المسير)‪(5/281‬وتفسير النسفي)‪.(3/53،54‬‬

‫‪40‬‬
‫ن النسان ليطغى‪،‬أن رآه‬ ‫فرعون‪.‬يقول تعالى‪’’:‬كل ّ إ ّ‬
‫استغنى‘‘‪،154‬فالعلقة مطردة بين الستغناء والطغيان‪،‬فبمقدار ما يستغني‬
‫النسان‪-‬إل ّ من خاف مقام ربه ونهى الّنفس عن الهوى‪-‬بمقدار ما يطغي‪.‬‬
‫ج عنه آثار مدمرة وفساد‬ ‫ن تجاوز الحد ّ في الجريمة والفراط فيها َينت ُ‬ ‫إ ّ‬
‫وخلل في كل شيء‪،‬وهو ما ُيرشد إليه قوله تعالى‪’’:‬وفرعون ذي الوتاد‪،‬‬
‫ن الطغيان‬ ‫الذين طغوا في البلد‪،‬فأكثروا فيها الفساد‘‘‪155‬؛ذلك أ ّ‬
‫يفسد الطاغية ويحوله إلى كائن مفترس بل مشاعر وأحاسيس‪،‬وهذا ما نراه‬
‫ن بشرا ُيقدم‬ ‫في بعض الجرائم التي ترتكب ويصعب علينا أن نتصور أ ّ‬
‫عليها‪.‬إّنهم يحرقون الرض مع البشر بأبشع أنواع القتل والتدمير‪،‬وبأعتى‬
‫السحلة وأفظعها دون رحمة أو شفقة‪.‬ول عجب فتلك هي نفسية‬
‫الطاغوت‪،‬وتلك هي شخصية فرعون تظهر مرة بعد مرة!‬
‫والطغيان ُيفسد العلقة بين الطاغية والجماهير فهو ينهب خيراتهم‬
‫م ُيسيء التصرف بها‪،‬ويمنعهم من حرية التعبير‬ ‫وأموالهم ث ّ‬
‫والمشاركة‪،‬فتنعدم مشاعر النتماء للدولة‪،‬وتصبح الجماهير مستعدة لفعل‬
‫ل شيء تصل إليه أيديها ما دامت آمنة من الملحقة والمراقبة والقانون؛‬ ‫ك ّ‬
‫فالعلقة بين الحاكم والمحكوم‪-‬في ظل الطاغوت‪-‬مشحونة بالحقد‬
‫والكراهية‪،‬تدور بين كيد الطاغية وتدبيره وبين رد ّ الجماهير على هذا الكيد‬
‫ل طرف يتربص بالطرف الخر‪.‬‬ ‫والتدبير‪،‬فك ّ‬
‫ل شخصيته الطاغية أصفار ل وزن لهم ول قيمة‪،‬حيث‬ ‫ن الّناس في ظ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ل الشجار الكبيرة‪،‬فل نور ول‬ ‫ل يوجد متسع للحشائش الصغيرة في ظ ّ‬
‫هواء‪،‬فيبقى الّناس في الهامش وتسلط الضواء على صاحب الجللة!فهو‬
‫الحكمة والشجاعة والكرم…وهو الملهم الذي جاد به الزمن!فلوله لما كان‬
‫الرخاء والعلم ولجاع الناس وفسدت الرض!ولوله لصبح الّناس أيتاما ل‬
‫راعي لهم…إّنه إله سواء نطق بها كما فعل فرعون أم لم ينطق بها كما هو‬
‫حاصل اليوم!‬
‫ن الطاغية فاسد في جوهره ليس عنده شيء وليس هو على‬ ‫ول ّ‬
‫شيء‪،‬ويعيش حالة نفسية فقيرة خاوية من المعاني التي ُترضي النسان‬
‫صغر في ذاته مناقضا لما ُيظهره‬ ‫وُتقنعه بمبرر وجوده‪،‬فهو يعيش عقدة ال ّ‬
‫ّ‬
‫للّناس من النتفاش‪،‬وبسبب هذا الواقع المّر نراه يحقد على كل من يرى‬
‫فيه قدرة على استمالة الجماهير والفوز بثقتها‪،‬وبهذا نفهم المحاولت‬
‫الضخمة من أجل إقصاء الجماعة المسلمة عن الحياة السياسية‪،‬بل وعزلها‬
‫ما أمكن عن حياة الّناس‪،‬لما تتمتع به من مميزات تجعلها أمل‬
‫ن‬‫الجماهير‪.‬بينما يعيش الطاغوت أسير المخاوف والعقد النفسية؛ذلك أ ّ‬
‫الطاغوت ل يستمد شرعيته من الرادة الحرة للجماهير‪،‬فهو يحكمهم بالقسر‬
‫والقهر‪،‬ولذلك يبقى الطاغية متخوفا متوجسا لّنه ُيدرك تلك الحقيقة‪.‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫الظلم‬

‫]العلق‪.[6،7:‬‬ ‫‪154‬‬

‫]الفجر‪.[11-10:‬‬ ‫‪155‬‬

‫‪41‬‬
‫)الظلم‪ :‬وضع الشيء في غير موضعه(‪)،156‬وأصل الظلم الجور‬
‫ومجاوزة الحد… والظلم الميل عن القصد(‪.157‬والظلم بكل معانيه وصوره‬
‫ظل‪،‬وهو من خصائص شخصيته التي بّينها القرآن‬ ‫ملزم لفرعون كال ّ‬
‫ن تلك الشخصية وضعت نفسها في غير موضعها بدعواها للربوبية‬ ‫الكريم‪،‬ل ّ‬
‫م ت ََرّتب‬
‫ن أساس هذه الشخصية ومنبتها قائم على الظلم‪،‬ث ّ‬ ‫واللوهية‪،‬بمعنى أ ّ‬
‫ن سلوك فرعون وتصوره‬ ‫على هذا الصل كل أنواع الظلم الخرى‪،‬ل ّ‬
‫ومنهجه…كل ذلك قائم على ذلك الصل الظالم بوضع شخصيته في غير‬
‫موضعها‪.‬وهو بذلك جار على الحق والحقيقة وجاوز كل حد‪،‬ومال عن القصد‬
‫ل الميل فكان من الناكبين‪،‬وهذا هو الظلم‪.‬‬ ‫ك ّ‬
‫وعلى هذا الساس‪-‬المتلبس بالظلم والمنغمس فيه‪-‬تنطلق شخصية‬
‫ن كل ما تفرزه هذه الشخصية أو تنشؤه‬ ‫م فإ ّ‬
‫فرعون إلى واقع الحياة‪،‬ومن ث ّ‬
‫من مناهج وأنظمة وأجهزة مرتبط بالحقيقة الولى وهي الظلم التي ُبنيت‬
‫عليه‪،‬فالشيء يرجع في المذاق لصله‪،‬وهي الحقيقة التي بّينها القرآن‬
‫الكريم‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون‬
‫وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘‪،158‬ويقول‬
‫تعالى‪’’:‬وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين‪،159‬قوم‬
‫فرعون أل يتقون‘‘‪،160‬ويقول تعالى‪’’:‬فلما جاءتهم آياتنا مبصرة‬
‫قالوا هذا سحر مبين‪،‬وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما‬
‫وعلوا‘‘‪،161‬ويقول تعالى‪’’:‬قال ل تخف نجوت من القوم‬
‫الظالمين‘‘‪.162‬‬
‫لقد ظلموا‪-‬بزعامة فرعون وبتوجيه منه ودعم‪-‬بآيات الله‪،‬أي كفروا بها‬
‫فجعلوا موضع ما يجب من اليمان‪-‬الذي هو من حقها لوضوحها‪-‬الكفر‬
‫فقيل‪:‬ظلموا بها بمعنى كفروا بها‪،‬ولهذا أجري الظلم مجرى الكفر لكونهما‬
‫من واد واحد ‪) ،163‬فالظلم وضع الشيء في غير موضعه(‪)،164‬والكفر بآيات‬
‫الله وضع لها في غير موضعها وصرف لها إلى غير وجهها الذي عنيت به(‪.165‬‬
‫‪ 156‬الفيروزآبادي‪:‬محمد بن يعقوب‪)،‬ت ‪817‬هـ(‪،‬القاموس المحيط‪،‬جزء واحد‪.‬فصل‬
‫الظاء‪،‬مادة‪:‬الظلم)‪،(1464‬وسأشير إليه لحقا هكذا)القاموس المحيط(‪،‬ولسان العرب‪،‬مادة ظلم)‬
‫‪.(12/373‬‬
‫‪ 157‬لسان العرب‪،‬مادة ظلم)‪(12/373‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر مختار الصحاح‪،‬مادة ظلم)‪.(170‬‬
‫‪] 158‬العراف‪.[103:‬‬
‫‪ )159‬قوله في طه‪):‬إلى فرعون(]طه‪،[43:‬وفي الشعراء)أن ائت القوم الظالمين‪،‬قوم فرعون أل‬
‫يتقون(]الشعراء‪،[11 10:‬وفي القصص)فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه(]القصص‪:‬‬
‫‪،[32‬لن طه هي السابقة وفرعون هو الصل المبعوث إليه وقومه تبع له‪،‬وهو كالمذكورين‬
‫معه‪،‬وفي الشعراء قوم فرعون‪،‬أي قوم فرعون وفرعون‪،‬فاكتفى بذكره في الضافة عن ذكره‬
‫مفردا‪،‬ومثله’’أغرقنا آل فرعون‘‘أي آل فرعون وفرعون‪،‬وفي القصص’’إلى فرعون وملئه‘‘فجمع‬
‫بين اليتين فصار كذكر الجملة بعد التفصيل( الكرماني‪:‬محمود بن حمزة بن نصر‪ ،‬أسرار‬
‫التكرار في القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر احمد عطا ‪،‬ط ‪ ،2‬دار العتصام‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1396‬هـ‪،(1/139).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)أسرار التكرار في القرآن(‪.‬‬
‫‪] 160‬الشعراء‪.[11-10:‬‬
‫‪] 161‬الّنمل‪.[14-13:‬‬
‫‪] 162‬القصص‪.[25:‬‬
‫‪ 163‬انظر‪ :‬النحاس‪:‬أبو جعفر‪)،‬ت ‪ ،(338‬معاني القرآن الكريم‪،‬تحقيق‪ :‬محمد علي‬
‫الصابوني‪،‬ط ‪ ،1‬جامعة أم القرى‪ ،‬مكة المكرمة‪1409 ،‬هـ‪،(3/60).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)معاني القرآن(‪،‬وتفسير البيضاوي)‪(3/45‬وتفسير ابي السعود)‪(3/257‬وتفسير النسفي)‬
‫‪(28-2/27‬والكشاف)‪.(2/131‬‬
‫‪ 164‬تفسير القرطبي)‪.(7/256‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(9/13‬وتفسير البغوي)‪.(2/185‬‬
‫‪ 165‬تفسير الطبري)‪.(9/13‬‬

‫‪42‬‬
‫ن) كفره باليات التى جاء بها موسى كان كفرا‬ ‫وكان ظلمه عظيما ل ّ‬
‫متبالغا‪،‬لوجود ما يوجب اليمان من المعجزات العظيمة التى جاءهم‬
‫بها‪،‬والمراد باليات هنا هى اليات التسع(‪،166‬والتي أرشد إليها قوله‬
‫تعالى‪’’:‬ولقد آتينا موسى تسع آيات بّينات‘‘‪.167‬‬
‫ويتعاظم ظلم فرعون كلما تنوعت وتعددت اليات‪،‬فرد ّ الدليل مع ازدياد‬
‫قوته يوجب أشد ّ العذاب‪،‬ولهذا كان قوله تعالى في شأن المائدة التي طلبها‬
‫بنو إسرائيل من عيسى عليه السلم‪’’:‬إّني منـّزلها عليكم فمن يكفر‬
‫بعد منكم فإّني أعذبه عذابا ل أعذبه أحدا من العالمين‘‘‪.168‬‬
‫وها هي اليات تأتي فرعون مبصرة)إشعارا بأنها لفرط اجتلئها للبصار‬
‫بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر‪،‬أو ذات تبصر من حيث إنها‬
‫تهدي‪،‬والعمي ل تهتدي فضل عن أن تهدي‪،‬أو مبصرة كل من نظر إليها‬
‫ن هذا سحر مبين واضح‬ ‫وتأمل فيها‪،‬فكان رد فرعون ومن تبعه أ ّ‬
‫سحريته‪،‬وجحدوا بها وكذبوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وترفعا عن‬
‫قنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا‪،‬ولكّنهم كفروا بها‬ ‫اليمان(‪،169‬أي تي ّ‬
‫وتكّبروا أن يؤمنوا بموسى‪،‬وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين ظالمين على‬
‫غير استحقاق للجحد ‪،170‬فالظلم يحمل صاحبه للجحود مهما كانت اليات‬
‫ن الظالمين بآيات الله‬ ‫والمعجزات‪،‬وهو مصداق قوله تعالى ‪’’:‬ولك ّ‬
‫يجحدون‘‘‪.171‬‬
‫ولقد أفرط فرعون في ظلمه وبارز الرب بالمخالفة‪،‬وادعى أّنه الرب‬
‫ل شخصيتة‬ ‫العلى‪،‬فإن لم يكن ظالما فهو الظلم بعينه‪،‬فصار الخروج من ظ ّ‬
‫الظالمة نجاة وطمأنينة‪،‬وذلك ما أراده الرجل الصالح من مدين من قوله‬
‫لموسى‪’’:‬ل تخف نجوت من القوم الظالمين‘‘‪)،172‬يريد فرعون‬
‫وقومه‪.‬فطب نفسا وقّر عينا فقد خرجت من مملكتهم فل حكم لهم في‬
‫ن مدين كانت خارجة عن‬ ‫بلدنا‪،‬فليس لفرعون ول لقومه علينا سلطان‪،‬ل ّ‬
‫مملكة فرعون(‪.173‬‬
‫وهكذا تتكرر صور الخروج والهجرة‪،‬وتزداد أعداد الهاربين من الظلم‬
‫ممت الفواه‬ ‫طالبين حق اللجوء السياسي في بلد الكفار!بعد أن ك ُ ّ‬ ‫وال ّ‬
‫وُنصبت أعواد المشانق في بلد العرب والمسلمين‪.‬إّنها ذات القصة القديمة‪.‬‬
‫تنوع الظلم في ظل شخصية فرعون‬
‫ظلم للحق الذي عرفوه وأيقنوه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬والكافرون هم‬
‫ن مجرد معرفة الحق وعدم مناصرته ظلم عظيم يحاسب‬ ‫الظالمون‘‘‪،174‬فإ ّ‬
‫عليه النسان يوم القيامة‪،‬فكيف بمن ينكره ويحاربه؟!بل ويستخدم شّتى‬
‫‪ 166‬فتح القدير)‪.(2/231‬‬
‫‪] 167‬السراء‪.[101:‬‬
‫‪] 168‬المائدة‪.[115:‬‬
‫‪ 169‬تفسير البيضاوي)‪(4/261‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪ 170‬انظر تفسير القرطبي)‪(13/163‬وتفسير الطبري)‪(15/174‬والثعالبي‪ :‬عبد الرحمن بن محمد‬
‫بن مخلوف‪،‬الجواهر الحسان في تفسير القرآن‪4،‬أجزاء‪،‬مؤسسة العلمي‬
‫للمطبوعات‪،‬بيروت‪،(3/157).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير الثعالبي(‪.‬‬
‫‪] 171‬النعام‪.[33:‬‬
‫‪]172‬القصص‪.[25:‬‬
‫‪ 173‬تفسير ابن كثير )‪.(3/151،385‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(13/271‬وتفسير الطبري)‬
‫‪(20/61‬ومعاني القرآن)‪(5/175‬وتفسير الواحدي)‪(2/816‬وتفسير البغوي)‪(3/442‬وفتح القدير)‬
‫‪(4/168‬وزاد المسير)‪(6/215‬وتفسير النسفي)‪.(3/233‬‬
‫‪] 174‬البقرة‪.[254:‬‬

‫‪43‬‬
‫الوسائل والحيل لحجبه ومنعه وقهره ومحاصرته‪،‬ويبذل الجهد والمال بسعي‬
‫دؤوب لتشويه الحقائق كي ل تصل إلى الّناس صافية بالكذب والتضليل‬
‫المبرمج‪.‬‬
‫وظلم للنفس‪،‬حيث عّرضوها للعذاب في الدنيا‪،‬فكل من ل يرتبط بالحق‬
‫طربة يسودها القلق والخوف والهواجس والحسرة والعبثية‬ ‫يعيش حياة م ّ‬
‫والحزن والشقاء…وغير ذلك كثير من أمراض الّنفس الفّتاكة التي تصاحب‬
‫ل ذلك من العذاب الدنى دون العذاب‬ ‫إنكار الحق وعدم القبول به‪.‬وك ّ‬
‫الكبر‪،‬وهو تعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد في جهّنم يوم القيامة‪،‬يقول‬
‫ن الله غافل عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم‬ ‫تعالى‪’’:‬ول تحسب ّ‬
‫ليوم تشخص فيه البصار‪،‬مهطعين مقنعي رؤوسهم ل يرتد‬
‫إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء‘‘‪،175‬ويا لها من عاقبة مؤلمة ل يعلم‬
‫مداها إل ّ الله‪،‬حيث ينقلب ظلمه ظلمات عليه‪،‬يقول صلى الله عليه‬
‫وسلم‪’’:‬الظلم ظلمات يوم القيامة‘‘‪.176‬‬
‫وظلموا الناس بصدهم عن اليمان بها‪،‬وحجبوا عنهم نور الهداية ورحمة‬
‫الله‪،‬فآذوا من آمن‪،‬وعّرضوه للفتنة كي ل يبقى على إيمانه‪،‬وظلموا بني‬
‫إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب وذبح أولدهم وأخذ أموالهم‬
‫ومصادرة حقوقهم‪،‬فليس لهم إل ّ ما يبقيهم على قيد الحياة لخدمة‬
‫فرعون‪،‬والمعصية هنا أشد من غيرها لنها ل تقع غالبا إل بالضعيف الذي ل‬
‫يقدر على النتصار‪،‬وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب‪،‬لنه لو استنار بنور‬
‫الهدى لعتبر‪.‬‬
‫ل شخصية فرعون تعددت دركاته أيضا‪،‬فقد أتى‬ ‫وكما تنوع الظلم في ظ ّ‬
‫م‬
‫فرعون بأعظم أنواع الظلم وهو الكفر بآيات الله بل وادعى أّنه رب وإله‪،‬ث ّ‬
‫ما سفكه من الدماء بغير حق‪،‬وسلبه أموال الّناس وإذللهم‪..‬فلم يترك‬
‫ن)العلة المانعة من الظلم عقل زاجر‪،‬أو دين‬ ‫جريمة إل ّ وفعلها‪،‬ولقد قيل‪:‬أ ّ‬
‫‪177‬‬
‫حاجز‪،‬أو سلطان رادع‪،‬وعجز صاد( ‪،‬وإذا تأملت لم تجد عند فرعون واحدة‬
‫منها‪.‬‬
‫ل من شارك الظالمين أو سكت لغير عذر مشروع فهو منهم‬ ‫ك ّ‬
‫ن الذين ظلموا منكم‬ ‫يقول تعالى‪’’:‬واتقوا فتنة ل تصيب ّ‬
‫‪178‬‬
‫مه‬
‫صة‘‘ ‪،‬أي)ل تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل يع ّ‬ ‫خا ّ‬
‫وغيره‪،‬كإقرار المنكر بين أظهرهم‪،‬والمداهنة في المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪،‬وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد(‪،179‬فالله‬
‫سبحانه وتعالى يأخذ الظالمين وأتباعهم وأعوانهم والساكتين بغير عذر‬
‫من كتم شهادة عنده‬ ‫شرعي عن ظلمهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ومن أظلم م ّ‬
‫من الله‘‘‪)،180‬لّنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها( ‪.‬فإذا سكت‬
‫‪181‬‬

‫الذين يعلمون فمتى يتعّلم الجهلة؟!ومن هو الذي سيحمل الحقيقة إن لم‬


‫‪] 175‬ابراهيم‪.[43-42:‬‬
‫‪176‬صحيح البخاري‪،‬كتاب المظالم‪،‬باب الظلم ظلمات يوم القيامة)‪(2/864‬رقم)‪.(2315‬‬
‫‪177‬المناوي‪:‬محمد عبد الرؤوف‪(1031-952)،‬هـ‪،‬فيض القدير شرح الجامع الصغير‪،‬‬
‫‪6‬أجزاء‪،‬ط‪،1:‬المكتبة التجارية الكبرى‪،‬مصر‪1356،‬هـ‪،(4/143).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)فيض‬
‫القدير(‪.‬‬
‫‪]178‬النفال‪.[25:‬‬
‫‪179‬تفسير أبي السعود)‪.(4/16‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(3/100‬‬
‫‪]180‬البقرة‪.[140:‬‬
‫‪181‬الكشاف)‪.(1/196‬‬

‫‪44‬‬
‫ن الذين يكتمون ما أنزلنا من‬ ‫يحملها العالمون بها؟يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫البينات والهدى من بعد ما بّيناه للّناس في الكتاب أولئك يلعنهم‬
‫الله ويلعنهم اللعنون‘‘‪182‬والكتمان)ترك إظهار الشيء قصدا مع‬
‫مساس الحاجة إليه‪،‬وتحقق الداعي إلى إظهاره‪،‬وذلك قد يكون بمجرد ستره‬
‫وإخفائه(‪.183‬‬
‫لقد أخذ الله فرعون وأخذ جنوده الذين شاركوه في ظلمه‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم‪ ،‬فانظر كيف كان‬
‫عاقبة الظالمين‘‘‪،184‬فانظر كيف أخذ الله فرعون على ضخامة ظلمه مع‬
‫ن أدنى مساندة للظالمين‬ ‫الجنود على صغر ظلمهم بالمقارنة مع فرعون‪،‬ل ّ‬
‫تجعل صاحبها يستحق العقوبة نفسها‪،‬فالتباع والمتبوعون في العقوبة سواء‬
‫ن الظالم ل يقوى‬ ‫كما هو واضح في كثير من المواضع في القرآن؛وذلك ل ّ‬
‫معين؛فبقاء الظلم والعدوان مرتبط‬ ‫على الظلم والعدوان وحده دون ُ‬
‫بالمساندين والراضين وحتى الساكتين بغير عذر شرعي‪،‬الذين ُيشكلون‬
‫البنية التحتية للظلم‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ول تركنوا إلى الذين ظلموا‬
‫فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم ل‬
‫تنصرون‘‘‪،185‬و)الركون حقيقة الستناد والعتماد والسكون إلى الشيء‬
‫‪186‬‬
‫مل وجهه القبيح‪،‬ويؤدي إلى‬ ‫والرضا به( ‪،‬فالرضا بالظلم من قبل الّناس ُيج ّ‬
‫أن ُيصبح وجها مقبول بدل أن يكون منبوذا ومحاربا‪،‬كما أّنه ُيغري الظالم‬
‫بالستمرار في ظلمه‪،‬وربما ُيغريه لتوسيع دائرة ظلمه‪،‬طالما هو وجه مقبول‬
‫ي عنه‪.‬‬ ‫مْرض ّ‬
‫و َ‬
‫الظلم قلب للوضاع‬
‫ما دام الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فهو قلب‬
‫للوضاع‪،‬وأخطر الظلم هو وضع مناهج للحياة بدل عن منهج الله‬
‫سبحانه‪،‬فتصبح الحياة مقلوبة بالكامل‪،‬وهذا هو منشأ الظلم الذي نشاهده‬
‫اليوم بكافة أشكاله وألوانه‪،‬وذلك ما يرشد إليه قوله تعالى‪’’:‬ومن لم‬
‫يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‘‘‪،187‬أي)المبالغون في‬
‫الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشيء في غير‬
‫ل حكم بغير ما أنـزل الله وضع للمور في غير‬ ‫نك ّ‬‫موضعه(‪،188‬والمعنى أ ّ‬
‫ما يفسر لنا هذا النتشار المرعب للظلم في مشارق الرض‬ ‫موضعها‪،‬م ّ‬
‫ومغاربها؛فمن المستحيل أن توضع المور في موضعها ما دامت شريعة الله‬
‫مستبعدة عن حياة الّناس‪.‬‬
‫وحتى تستقيم الحياة وتوضع المور في موضعها‪،‬ويقوم الّناس بالقسط‬
‫ل بد ّ من ميزان الشرع‪،‬وهذا ما ُيرشد إليه قوله تعالى‪’’:‬لقد أرسلنا‬
‫رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الّناس‬
‫بالقسط‘‘‪.189‬أي)ليعمل الناس بينهم بالعدل(‪.190‬‬
‫‪]182‬البقرة‪.[159:‬‬
‫‪183‬تفسير أبي السعود)‪.(1/182‬‬
‫‪]184‬القصص‪.[40:‬‬
‫‪]185‬هود‪.[113:‬‬
‫‪186‬تفسير القرطبي)‪.(9/108‬‬
‫‪] 187‬المائدة‪.[45:‬‬
‫‪188‬تفسير أبي السعود)‪.(3/43‬‬
‫‪]189‬الحديد‪.[25:‬‬
‫‪190‬تفسير الطبري)‪.(27/237‬‬

‫‪45‬‬
‫من تحكموا في رقاب الّناس أّنهم مسلمون وأن‬ ‫وقد يدعي البعض م ّ‬
‫بلدهم الذي يحكمونه مسلما…ولكّنهم كاذبون في دعواهم‪،‬فالواقع العملي‬
‫ن الحكم المطبق هو حكم الشيطان والهوى‪،‬فلعنة الله على‬ ‫يقول‪:‬أ ّ‬
‫الظالمين‪.‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫الفساد‬
‫الفساد‪-‬لغة‪) -‬نقيض الصلح(‪،191‬و)المفسدة ضد المصلحة(‪،192‬فهو‪-‬أي‬
‫الفساد‪-‬خلل يطرأ على الشياء فيمنع الستفادة منها‪،‬ويحيلها إلى وضع‬
‫تستحيل معه المنفعة‪،‬فالطعام الفاسد ل ُيؤكل‪،‬والشراب الفاسد ل ُيشرب…‬
‫ل ما طرأ عليه الفساد يخرج من دائرة النتفاع به‪،‬وهكذا حياة الّناس قد‬ ‫وك ّ‬
‫يصيبها الفساد‪،‬فيتبدل المن خوفا‪،‬والعدل جورا‪،‬والطمأنينة قلقا واضطرابا…‬
‫وينحرف سير الحياة عن الغاية التي خلق من أجلها النسان‪،‬فتتعطل‬
‫الوظيفة المناطة بالبشر كما لو حصل الخراب بآلة فَعَ ّ‬
‫طلها عن أداء‬
‫وظيفتها‪.‬‬
‫وتكون خطورة الفساد متناسبة مع أهمية الجزء المصاب من حياة‬
‫الّناس ومدى حيويته‪،‬ففساد العقيدة والّتصور أخطر من فساد‬
‫التشريع‪.‬وتشتد ّ خطورة الفساد ويزداد تأثيره مع طول الفترة التي يبقى بها‬
‫ول إلى مرض مزمن يصعب الخلص منه‪.‬‬ ‫الخلل قائما‪،‬لّنه قد يتح ّ‬
‫وقد يكون الفساد في موظف صغير ولكّنه مع ترّقي الرتبة أخطر‪،‬فإذا‬
‫كان في رأس الهرم أصبح مأساة!وقد يكون في جزء من المنهج‪،‬ولكنه إذا‬
‫ما إذا كان المنهج المطبق من أساسه‬ ‫انتشر في أجزاء أخرى أخطر‪،‬وإ ّ‬
‫ن الحياة تصبح جحيما ل توصف‪.‬فكيف ورأس الهرم فرعون‬ ‫ومنبعه فاسدا فإ ّ‬
‫ّ‬
‫مفسد وليس بفاسد فحسب؟!ومنهج الحياة في ظله‪-‬جملة وتفصيل‪،‬وأصول‬
‫ن فرعون عل في الرض وجعل أهلها‬ ‫وفروعا‪-‬فاسد!يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إّنه‬
‫كان من المفسدين‘‘‪.193‬أي إّنه كان من الراسخين في الفساد‪،‬ولذلك‬
‫اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من ل جنحة له من أبناء النبياء عليهم‬
‫م هو من المفسدين في الرض بالعمل والمعاصي‬ ‫السلم لتخيل فاسد‪،‬ث ّ‬
‫ن القتل من فعل أهل الفساد‬ ‫والتجبر والقتل‪،‬وفي الية الكريمة بيان أ ّ‬
‫‪،194‬وفرعون أسرف في القتل‪،‬أي أسرف في الفساد‪.‬‬
‫ن الفساد نتيجة حتمية لمن ظلم وطغى وجعل نفسه إلها من دون‬ ‫إ ّ‬
‫الله‪،‬ومن هنا لم تكن هذه الشخصية مفسدة فحسب بل كانت كثيرة الفساد‬
‫بالجور والذى‪،195‬يقول تعالى‪’’:‬وفرعون ذي الوتاد‪،‬الذين طغوا في‬

‫‪191‬كتاب العين‪،‬مادة‪:‬فسد)‪،(7/231‬و)الفساد نقيض الصلح…ويقال‪ :‬أفسد فلن المال يفسده‬


‫إفسادا و فسادا(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬فسد)‪.(3/335‬‬
‫‪192‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬فسد)‪.(211‬‬
‫‪] 193‬القصص‪.[4:‬‬
‫‪ 194‬انظر‪:‬روح المعاني)‪(20/43‬وتفسير أبي السعود)‪(7/2‬وتفسير القرطبي)‪(13/249‬وفتح‬
‫القدير)‪(4/159‬وزاد المسير)‪(6/201‬وتفسير الجللين)‪(1/506‬وتفسير النسفي)‪.(3/226‬‬
‫‪195‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(20/49‬وتفسير ابن كثير)‪.(4/509‬‬

‫‪46‬‬
‫البلد‪،‬فأكثروا فيها الفساد‪،‬فصب عليهم ربك سوط‬
‫ل مناحي الحياة‪،‬فانتشر الكفر والظلم‬ ‫عذاب‘‘‪،196‬حيث أصاب الخلل ك ّ‬
‫والجور والذى والقتل والمعاصي…حتى وصل الفساد والفساد عقول الّناس‬
‫وتصوراتهم ‪،‬وهو أخطر فساد يمكن أن يقع‪ ،‬ولم يكن عطاؤه للسحرة‬
‫وإجابتهم لما طلبوا إل ّ في سبيل إفساد عقول الناس وأفكارهم وتصوراتهم‬
‫بهذه التهاريج‪.‬يقول تعالى‪’’:‬فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به‬
‫‪197‬‬
‫ن الله ل يصلح عمل المفسدين‘‘ ‪)،‬أى‬ ‫ن الله سيبطله إ ّ‬ ‫السحر إ ّ‬
‫‪198‬‬
‫عمل جنس المفسدين على الطلق فيدخل فيه السحر دخول أوليا( ‪،‬فالية‬
‫ن السحر‪-‬الذي كان فرعون يرعاه وينفق عليه‪-‬من عمل‬ ‫دليل على أ ّ‬
‫ن الله ل يصلح عمل من سعى في أرض الله بما‬ ‫المفسدين‪).‬والمعنى أ ّ‬
‫‪200‬‬ ‫‪199‬‬
‫يكرهه وعمل فيها بمعاصيه ( )ول يجعل عملهم نافعا لهم ( ‪.‬‬
‫وحصل ذلك حين حاول فرعون من خلل السحر‪ -‬الذي كان جزءا من‬
‫نظامه‪ -‬أن ينتصر على موسى عليه السلم ويعارض ما جاء به عليه السلم‬
‫من الحق المبين بزخارف السحرة‪ ،‬عند ذلك قال موسى عليه السلم‪’’:‬ما‬
‫ن الله ل ُيصلح عمل المفسدين‘‘‪.‬‬‫ن الله سيبطله‪،‬إ ّ‬ ‫جئتم به السحر إ ّ‬
‫وأصل فساد فرعون وإفساده أّنه كان من المكذبين الكافرين بآيات‬
‫الله‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون‬
‫وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘‪ ،201‬ويقول‬
‫تعالى‪’’:‬فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين‪،‬وجحدوا‬
‫بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة‬
‫دوا عن سبيل الله وكذبوا رسله(‪،203‬وكم بذل‬ ‫المفسدين‘‘‪).202‬أي الذين ص ّ‬
‫ن‬
‫فرعون جهودا ليل ونهارا للصد عن سبيل الله‪،‬حتى أّنه يصح مّنا القول‪:‬إ ّ‬
‫وظيفته ووظيفة من حوله من المل والحاشية والجند ليست سوى الصد عن‬
‫سبيل الله‪،‬وهكذا هي حال كل سلطة حاكمة تمارس الفساد‪.‬‬
‫والمعنى)فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي المكذبين باليات‬
‫ن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع‬ ‫الكافرين بها وجعلهم مفسدين ل ّ‬
‫الفساد(‪،204‬لما يترتب على هذا التكذيب من آثار خطيره‪،‬حيث ل تصلح الحياة‬
‫كفر بها‪،‬و)وضع المفسدين موضع ضمير الظالمين‬ ‫ذب بآيات الله و ُ‬ ‫إذا ك ُ ّ‬
‫‪205‬‬
‫ن‬‫لليذان بأن الظلم مستلزم للفساد( ‪،‬ففرعون ظالم ومفسد‪،‬وكأ ّ‬
‫شخصيته موضع لكل رذيلة‪،‬فهذه الرذيلة مرتبطة مع رذيلة أخرى‪،‬وتلك‬
‫مفسدة تفرز مفسدة أخرى‪.‬‬
‫ن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الجتماعية حين‬ ‫)إ ّ‬
‫يكون أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله‪،‬وما صلحت‬
‫الرض قط ول استقامت حياة الناس إل ّ يوم أن كانت عبوديتهم لله وحده –‬

‫‪] 196‬الفجر‪.[13-10:‬‬
‫‪] 197‬يونس‪.[81:‬‬
‫‪ 198‬تفسير ابي السعود)‪.(4/170‬وانظر‪:‬فتح القدير)‪(2/466‬وروح المعاني)‪.(11/167‬‬
‫‪ 199‬تفسير الطبري)‪.(11/148‬‬
‫‪200‬زاد المسير)‪.(51 /4‬وانظر‪ :‬تفسير الواحدي)‪.(1/505‬‬
‫‪]201‬العراف‪.[103:‬‬
‫‪] 202‬الّنمل‪.[14-13:‬‬
‫‪ 203‬تفسير ابن كثير)‪.(2/236‬‬
‫‪ 204‬فتح القدير)‪.(2/231‬‬
‫‪ 205‬تفسير أبي السعود)‪(3/257‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(9/18‬‬

‫‪47‬‬
‫عقيدة وعبادة وشريعة‪ -‬وما تحرر النسان قط إل ّ في ظلل الربوبية الواحدة‬
‫‪ ،‬ومن ّثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه‪’’:‬فانظر كيف كان عاقبة‬
‫المفسدين‘‘‪.206‬وكل طاغوت يخضع العباد بشريعة من عنده‪،‬وينبذ شريعة‬
‫الله‪،‬هو من المفسدين الذين يفسدون في الرض ول يصلحون ؟(‪207‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫صلح هذا الكون بالقوانين التي تحكمه‪،‬فهو مسخر من الله بتلك‬
‫القوانين‪،‬وبالتالي أصبح نافعا‪،‬وحين يطبق الّناس قانون الله‪-‬أي شرعه‪-‬في‬
‫حياتهم تصبح مفيدة مؤدية لغايتها كما هو حال هذا الكون‪،‬فالشرع هو الذي‬
‫ُينظم حياتنا لتصبح صالحة ومفيدة‪،‬فإذا استثني الشرع تصادمت الهواء‬
‫والغراض وحصل الخلل والفساد‪.‬‬
‫م كانت نهاية هذه الشخصية المفسدة بائسة وعاقبتها وخيمة‪،‬فالله‬ ‫ث ّ‬
‫ُيمهل ول ُيهمل‪،‬فبفسادهم صب عليهم ربك سوط عذاب‪،‬وأنزل عليهم رجزا‬
‫من السماء‪،‬وأحل بهم عقوبة ل ُترد ّ عن القوم المجرمين‪،‬وقص علينا خبرهم‬
‫ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لكل فاسد مفسد‪،‬فل يقعوا فيما وقع‬
‫ن سنة الله واحدة ل تبديل فيها ول تحويل‪،‬يقول‬‫فيه أسلفهم‪،‬ل ّ‬
‫تعالى‪’’:‬حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أّنه ل إله إل الذي آمنت‬
‫به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين‪،‬آلن وقد عصيت قبل وكنت‬
‫من المفسدين‘‘‪.208‬أي)الصادين عن سبيل الله(‪.209‬‬
‫ن فرعون من‬ ‫وهكذا تكون آخر اللحظات إعلن من الله سبحانه أ ّ‬
‫المفسدين‪ ،‬فُتختم صفحة حياته الفاسدة بتسجيل وصمة العار التي تلحقه‬
‫وتلحق كل مفسد‪،‬وتغيب بين المواج شخصية فاسدة مفسده عليها اللعنة‬
‫من الله‪.‬‬
‫الفساد في ظل الطاغوت المعاصر‬
‫ن الفساد خلل ُيصيب الحياة‪،‬والّناظر في حياة الّناس اليوم يرى‬‫قلنا‪:‬إ ّ‬
‫ن الخلل قد أصاب معظم مناحي حياتهم؛خلل في الفكر والتصور‬ ‫أ ّ‬
‫والمفاهيم‪،‬أورث القلق والضطراب والمراض الّنفسية وفقدان السعادة‬
‫والطمأنينة‪..‬وخلل في الّنظام السياسي العالمي والقليمي والمحلي‪،‬أورث‬
‫انتشار الرشوة والمحسوبية واستثناء الكفاءة‪،‬وفشت عقلية المؤامرة‬
‫وفقدان الثقة‪،‬وانعدمت روح المسؤولية‪،‬وغاب حس النتماء‪.‬وخلل في‬
‫الخلق أورث انتشار الجريمة المنظمة والشذوذ الجنسي وهدم السرة‬
‫وظهور الوصوليين‪.‬وخلل في العلم الذي أصبح هدفه الهبوط بالنسان إلى‬
‫مرتبة الحيوان‪،‬وإحياء الغرائز الحيوانية فيه‪،‬وزرع الفكار المادية الخاوية من‬
‫أي روح إنسانية‪.‬وخلل في القتصاد بنشر الربا وما يتبع ذلك من فساد‬
‫وشر‪،‬ونشر الغش والحتكار والغبن وعدم المانة والختلس…إّنه الخلل‬
‫الذي نشاهد آثاره في المجاعات المنتشرة هنا وهناك وموت اللف من‬
‫البشر جوعا‪،‬ونشاهده في انتشار جيوب الفقر على أطراف الحياء المترفة‬
‫والمتخمة‪،‬وما يتبع هذا من خلل في العلقات الجتماعية وانحرافات جنونية‬
‫هستيرية‪.‬‬
‫ن أخطر ما في ظاهرة الفساد والفساد المعاصر هو أن يتحول الفساد‬ ‫إ ّ‬
‫ُ‬
‫إلى منظومة متكاملة من فكر فاسد‪،‬أنشأت له مدارس ومعاهد‪،‬ومناهج ُتبنى‬
‫‪]206‬النمل‪.[14:‬‬
‫‪ 207‬في ظلل القرآن)‪.(597-3/596‬‬
‫‪] 208‬يونس‪.[91-90:‬‬
‫‪ 209‬تفسير الطبري)‪.(11/164‬‬

‫‪48‬‬
‫ن المفسدين في الرض يسيطرون على المفاصل‬ ‫عليه‪،‬وخصوصا أ ّ‬
‫الحساسة في حياة الّناس‪.‬‬
‫م المفسدون مشروعهم عملوا بكل قوتهم لمنع عناصر‬ ‫ومن أجل أن ُيت ّ‬
‫الصلح المتمثلة بالجماعة المسلمة من الحركة‪،‬فهم يحاولون محاصرة أي‬
‫نشاط إصلحي وعلى كافة المستويات؛السياسية والجتماعية والثقافية‬
‫والعلمية‪..‬بل وصل بهم المر إلى إغلق المعاهد والمدارس السلمية ومنع‬
‫المتحجبات من دخول المؤسسات الحكومية من المدرسة والجامعة وصول‬
‫إلى البرلمان رمز الديمقراطية الحديثة!‬
‫ن المنع المفروض على القوى المصلحة‪،‬وإطلق العنان لليد المفسدة‬ ‫إ ّ‬
‫نذير شؤم‪،‬وناقوس خطر ندقه فوق رؤوس الّناس‪،‬فمع مرور الزمن تنكسر‬
‫الحواجز الّنفسية‪،‬والتي لول انكسارها لما أعلن فرعون ُألوهيته وربوبيته!‬
‫حينئذ ينفلت النسان من قيد القيم‪،‬وُتصبح الحياة عفنا ً كامل!وُيصبح المصلح‬
‫غريب‍ا‪.‬وهو ما ُيريده المفسدون في الرض‪.‬‬
‫ولمنع الفساد ل بد ّ من المدافعة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولول دفع الله الّناس‬
‫بعضهم ببعض لفسدت الرض‘‘‪،210‬فلول أّنه سبحانه وتعالى)يدفع بعض‬
‫الناس ببعض‪،‬وينصر المسلمين على الكفار‪،‬ويكف بهم فسادهم لغلبوا‬
‫وأفسدوا في الرض(‪.211‬ول بد ّ في مرحلة متقدمة من القتال‪،‬يقول‬
‫دين كّله‬‫تعالى‪’’:‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون ال ّ‬
‫لله‘‘‪،212‬أي)حتى ل يكون شرك(‪،213‬فالشرك أساس لكل فساد‪.‬‬

‫المبحث السادس‬
‫‪214‬‬
‫الستبداد‬
‫الستبداد في اللغة من استبد) يقال استبد بالمر يستبد به استبدادا إذا‬
‫انفرد به دون غيره‪،‬واستبد برأيه انفرد به(‪،215‬و)استبد بالمر انفرد به من‬
‫ن المستبد ل يقبل قول‬ ‫غير مشارك له فيه(‪،216‬ويترتب على هذا التعريف أ ّ‬
‫ده‬
‫من ُيحاول مشاركته بما يع ّ‬ ‫فر م ّ‬
‫غيره‪،‬ويميل بطبعه للنفراد والستئثار‪،‬وين ُ‬
‫حقا خاص به‪.‬‬
‫وفرعون على هدي هذا التعريف مستبد منفرد بالرأي والتصرف‬
‫ن فرعون الدولة والدولة‬ ‫ويختصر الدولة في شخصيته‪،‬حتى صح القول مّنا إ ّ‬
‫فرعون!وكيف ل يكون المر كذلك وهو الذي نصب نفسه إلها؟!وهل يقبل‬
‫الله رأي الخر؟ أو حتى يسمح للخرين أن يقدموا بين يديه! وما كان للعبيد‬
‫ما يفعل وهم يسألون!فل عجب‬ ‫أن يناقشوا أو يحاوروا إلههم‪،‬فهو ل ُيسأل ع ّ‬
‫ي أن تتميز شخصيته بالستبداد المطلق لكونه‬ ‫إذن بعد هذا المنطق الفرعون ّ‬
‫إلها!وهذا يعني حرمان الناس من ممارسة حياتهم الطبيعية؛فالمستبد يفرض‬

‫‪]210‬البقرة‪.[251:‬‬
‫‪211‬تفسير البيضاوي)‪.(1/584‬‬
‫‪]212‬النفال‪.[39:‬‬
‫‪213‬تفسير الطبري)‪(2/192‬وانظر‪ :‬تفسير الثعالبي)‪.(1/150‬‬
‫‪ ) 214‬الستبداد‪ :‬وهو افتعال من المر كأن نفسه أمرته فائتمر أى امتثل أى ل يأتى برشد من‬
‫قبل نفسه ول يقبل قول غيره( الزمخشري‪:‬محمود بن عمر‪538-467)،‬هـ(‪،‬الفائق في غريب‬
‫الحديث‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬علي محمد البجاوي –محمد أبو الفضل إبراهيم‪،‬ط ‪،2‬دار المعرفة‪،‬لبنان‪.‬‬
‫)‪،(4/123‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الفائق(‪.‬‬
‫‪ 215‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬بدد)‪.(3/81‬‬
‫‪216‬المصباح المنير‪،‬مادة‪ :‬بدد)‪(1/38‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬بدد)‪.(18‬‬

‫‪49‬‬
‫مستبد‬ ‫نفسه على الّناس بقهرهم على ما يريد‪،‬وتصبح الدولة في ظ ّ‬
‫ل ال ُ‬
‫سخ شخصية‬ ‫انعكاسا لشخصيتة وتعبيرا عن طموحاته ونزواته وشهواته‪..‬وُتم َ‬
‫ل قدرتها على التغيير والتصحيح‪،‬ومع مرور الزمن تتعفن‬ ‫المة وتق ّ‬
‫النفوس‪،‬وتتعايش مع الذل والستحمار‪،‬وفي بعض المراحل تفقد الجماهير‬
‫القدرة على الستقلل‪،‬فتصير بحاجة إلى التدرج والتدريب حتى تستعيد‬
‫ل الحرية‪.‬‬ ‫عافيتها وتصبح قادرة على العيش مرة أخرى في ظ ّ‬
‫لقد ازداد استبداد فرعون تحت غطاء الدين؛فالّناس بطبعهم يخشون‬
‫ن رجال الدين في عصره‬ ‫الخروج عن رأي الدين ومخالفة الله‪،‬ول شك أ ّ‬
‫لعبوا دورا كبيرا في هذه القضية وإعطاء فرعون صفة القدسية‪،‬فهو‪-‬‬
‫بزعمهم‪-‬إله ل ُيخطىء ول يجوز الخطأ عليه‪.‬وهي نفس الممارسة التي‬
‫مارستها الكنيسة على الّناس في عصور الظلم في أوروبا‪.‬فباسم الدين‬
‫تكمم الفواه وتسجن الكلمة!ولهذا كانت ثورة الّناس في أوروبا على الدين‬
‫ن رفضهم للدين‬ ‫ن كل دين هو كدين الكنيسة‪،‬بمعنى أ ّ‬ ‫كل الدين‪،‬لّنهم ظّنوا أ ّ‬
‫محّرف‪.‬وما من شك أن ديانة الفراعنة‬ ‫كان من واقع تجربتهم مع الدين ال ُ‬
‫ليست سوى خرافات وأساطير ُقصد منها تحقيق مصالح للمستفيدين منها‪.‬‬
‫ن الستبداد ملزم لدعوى اللوهية والربوبية التي زعمها فرعون‬ ‫إ ّ‬
‫لنفسه‪،‬وملزم لضعف الحجة والبرهان‪،‬فعندما تفلس الحكومة المستبدة في‬
‫حججها وبراهينها‪-‬وهي التي تعلم قبل غيرها أّنها ليست على شيء‪-‬تلجأ‬
‫للعصا ترفعها فوق رؤوس الجماهير منعا ليّ رأي مخالف يكشف عن وهن‬
‫فكرها وزيف عقائدها‪.‬‬
‫ل على‬ ‫لقد أفرزت شخصية فرعون سلوكا ومنهجا وتصورا يد ّ‬
‫استبدادها‪،‬فالقرآن الكريم وإن لم ينص بالعبارة الصريحة على هذه الصفة‬
‫في شخصية فرعون‪،‬ولكّنها صفة تعلم بمجرد النظر فيما أورده القرآن‬
‫الكريم عن شخصية فرعون من أقوال وأفعال وسلوك ومنهج‪،‬وأهمها في‬
‫هذا الباب وأوضحها ما ادعاه فرعون من ربوبية وألوهية‪،‬وما تبع ذلك من‬
‫استعداد عند فرعون لفعل أيّ جريمة في سبيل المحافظة على ألوهيته‬
‫دعي‪،‬مستبدا ل‬ ‫وربوبيته المزعومة وإرغام الّناس على النصياع الّتام لما ي ّ‬
‫ن ذلك يكشف تهافت دعوته‪،‬فعدل‪-‬كما يقولون‪-‬‬ ‫يقبل فيها رأيا ول حجة‪،‬ل ّ‬
‫عن الحجة والبيان إلى السيف والسنان‪،‬وذلك معنى وجوهر قوله لموسى‬
‫عليه السلم‪’’:‬لئن اتخذت إلها غيري لجعلّنك من‬
‫‪217‬‬
‫ما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل‬ ‫المسجونين‘‘ ‪.‬ذلك أّنه ل ّ‬
‫عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه‪،‬وعدل إلى التهديد بدل عن المحاجة‬
‫بعد النقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج ‪218‬الذي ل يقبل رأيا آخرا ول‬
‫يسمح ليّ إنسان أن يتنفس‪.‬‬
‫وللستبداد وسائله التي بها يخرس كل صوت ويقتل كل فكر‪،‬فها هو‬
‫وح لموسى بالعصا الغليظة المعهودة عند أولئك المستعبدين في‬ ‫فرعون يل ّ‬
‫ظل فرعون المستبد‪،‬يسلطها في وجه موسى عليه السلم‪’’،‬لجعلّنك من‬
‫المسجونين‘‘‪)،‬أي لجعلّنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني حيث كان‬
‫يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك لم يقل لسجننك(‪،219‬فسجونه‬
‫معروفة معهودة‪،‬تنشر الرعب وُتسكت الصوات!وهكذا تنتشر السجون في‬
‫‪] 217‬الشعراء‪.[29:‬‬
‫‪ 218‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/176‬وتفسير ابن كثير)‪(3/334‬وتفسير الطبري)‪.(19/70‬‬
‫‪219‬تفسير ابي السعود)‪(6/240‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪(3/183‬وروح المعاني)‪.(19/73‬‬

‫‪50‬‬
‫كل مرة تحكم فيها شخصية مستبدة‪،‬وبهذا‪-‬أيضا‪-‬نفسر حجم الشدة التي‬
‫ُيقمع بها أصحاب الدعوة السلمية في هذا الزمان‪.‬‬
‫وبحجم الستبداد الممارس من قبل فرعون‪-‬ومن شاكله‪-‬كانت سجونه‬
‫مرعبة مخيفة‪)،‬فسجنه أشد من القتل لّنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في‬
‫مكان وحده فردا ل يسمع ول يبصر فيه شيئا(‪ )،220‬وكان إذا سجن أحدا لم‬
‫‪221‬‬
‫ول له نفسه رفع رأسه برأي عبرة!‬ ‫يخرجه حتى يموت( ‪،‬ليكون لمن ُتس ّ‬
‫ومن الدلة على استبداده قوله عز وجل‪’’:‬فما آمن لموسى إل‬
‫ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن‬
‫يفتنهم‘‘‪،222‬ومعنى الية الكريمة أّنه)ما آمن له عليه السلم في مبدأ أمره‬
‫إل ذرية من قومه أي إل أولد بعض بني إسرائيل‪،‬حيث دعا عليه السلم‬
‫الباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم فالمراد من‬
‫الذرية الشبان‪.‬‬
‫ن المؤمنين من غير بني إسرائيل‪-‬إذا كان الضمير‬ ‫ووجه آخر في الية أ ّ‬
‫في قومه عائدا إلى فرعون ل إلى موسى‪-‬أي من القبط قوم‬
‫فرعون‪،‬كمؤمن آل فرعون‪.‬وفي إطلق الذرية على هؤلء نوع خفاء‪.‬‬
‫ورجح بعضهم أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون‪،‬وكانوا قد ُبشروا‬
‫ن خلصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا وكذا‪،‬فلما ظهر موسى عليه‬ ‫بأ ّ‬
‫ن أحدا منهم خالفه‪،‬والمراد حينئذ فما أظهر إيمانه‬ ‫السلم إتبعوه‪،‬ولم يعرف أ ّ‬
‫وأعلن به إل ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه‬
‫بسبب خوفهم من فرعون وملئه‪،‬وربما بسبب خوفهم من أشراف بنى‬
‫إسرائيل لنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم‪.‬‬
‫ن الخلف في تحديد من آمن بموسى عليه السلم‬ ‫ل حال فإ ّ‬ ‫وعلى ك ّ‬
‫ليس هو الشاهد الذي نريد‪،‬إّنما أردت توضيح معنى الية لُيفهم الشاهد‬
‫ن من آمن‪ -‬حين آمن‪ -‬كان على خوف من فرعون‬ ‫ن الية دّلت أ ّ‬ ‫منها‪،‬وهو أ ّ‬
‫أن يفتنهم بالعذاب‪،‬فيصدهم ويصرفهم عن دينهم ويحملهم على الرجوع عن‬
‫إيمانهم والكفر بالله ‪،‬وإّنما أسند الفعل إلى فرعون خاصة لّنه المر‬
‫بالتعذيب ‪.223‬وبهذا تظهر شخصية فرعون الستبدادية‪،‬وفي مقابلها فئة قليلة‬
‫آمنت على خوف ووجل منه‪،‬وأخرى أعرضت عن اليمان بالكلية!‬
‫ليس هذا فحسب فهناك نموذج آخر أفرزته شخصية فرعون الستبدادية‬
‫وهو كتمان اليمان‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وقال رجل مؤمن من آل فرعون‬
‫يكتم إيمانه أتقتلون رجل أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات‬
‫سر إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه(‪.225‬‬ ‫‪224‬‬
‫من ربكم‘‘ ‪)،‬أي ي ُ ّ‬
‫ل شخصية مستبدة‪،‬عقدتها‬ ‫وهكذا سلك الّناس سلوك التخفي في ظ ّ‬
‫وسّر استبدادها يكمن في تصورها أّنها إله ورب!فنمى بسببها التخفي‬
‫سرّية‪،‬تلك الحركات التي لم‬ ‫والحذر‪،‬وحيثما يوجد الستبداد توجد الحركات ال ّ‬
‫‪220‬تفسير البغوي)‪(3/358‬وانظر‪:‬تفسير الجللين)‪(1/482‬وتفسير النسفي)‪(3/183‬وروح المعاني)‬
‫‪.(19/73‬‬
‫‪221‬فتح القدير)‪.(4/98‬‬
‫‪] 222‬يونس‪.[83:‬‬
‫‪ 223‬انظر‪:‬روح المعاني)‪(11/168‬وتفسير النسفي)‪(2/138‬وتفسير ابي السعود)‬
‫‪(4/170،171‬وتفسير الطبري)‪(11/150،151‬وتفسير القرطبي)‪(8/369،370‬وتفسير البيضاوي)‬
‫‪.(3/211‬‬
‫‪] 224‬غافر‪.[28:‬‬
‫‪225‬تفسير الطبري)‪.(24/57‬‬

‫‪51‬‬
‫تجد لنفسها مكانا فوق الرض فاختارت العمل من وراء الحجب‪،‬وأكثر ما‬
‫يكون هذا في دعوات الحق التي يحملها النبياء وأتباعهم‪،‬فدعوة نبينا محمد‬
‫م التضييق علينا كلما ذهبنا نحو‬
‫صلى الله عليه وسلم بدأت سرا‪،‬وكلما ت ّ‬
‫السرّية والّتخفي وسيلة مّنا لتقاء شّر المستبد‪.‬‬
‫ومن شدة استبداد فرعون استنكاره على السحرة إيمانهم بدون إذن‬
‫منه‪’’،‬آمنتم له قبل أن آذن لكم‘‘‪،226‬فالكلمة في عهد فرعون تحتاج إلى‬
‫ترخيص وإذن من الحكومة!ومن العجيب أن يدور الزمان فيجتهد بعض‬
‫المسلمين في الحصول على ترخيص لمجلة أو جريدة فل تسمح لهم‬
‫ة‪.‬تشابهت أخلقهم!‬ ‫الحكوم ‍‬
‫وبلغ الستبداد في عهد فرعون أن سلك الّناس السرّية في‬
‫صلتهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءأ لقومكما‬
‫بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة‪ 227‬واقيموا الصلة‘‘‪،228‬حيث كان‬
‫بنو إسرائيل ل ُيصّلون إل في كنائسهم وكانت ظاهرة‪،‬فلما ُأرسل موسى‬
‫خّربت كلها ومنعوا من الصلة ‪،‬فأوحى‬ ‫أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل ف ُ‬
‫الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بمصر بيوتا؛أي صّلوا‬
‫في بيوتكم سرا لتأمنوا‪،‬وذلك حين أخافهم فرعون‪.‬فأمروا بالصبر واتخاذ‬
‫المساجد في البيوت‪،‬وكان من دينهم أنهم ل يصّلون إل في البيع والكنائس‬
‫‪229‬‬
‫ما‬
‫ما داموا على أمن‪،‬فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم ‪،‬فل ّ‬
‫خافوا على أنفسهم)أمروا أن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئل‬
‫يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم‪،‬كما كان المسلمون على ذلك‬
‫فى أول السلم بمكة(‪.230‬‬
‫ن الستبداد الذي تميزت به شخصية فرعون بّين في قوله‬ ‫إ ّ‬
‫تعالى‪’’:‬فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا‬
‫معه واستحيوا نساءهم‘‘‪،231‬أي فلما جاءهم‪-‬موسى عليه السلم‪-‬‬
‫بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم أعاد القتل على‬
‫بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع النسان من اليمان‪،‬أي أعيدوا عليهم ما‬
‫كنتم تفعلون بهم أول كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلم‪.232‬‬

‫‪]226‬طه‪.[71:‬‬
‫‪) 227‬واجعلوا بيوتكم قبلة(أي‪ :‬واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها‪.‬وهو ما اختاره ابن جرير وذلك‪-‬‬
‫ن الغلب من معاني البيوت‪-‬وإن كانت المساجد بيوتا‪-‬البيوت المسكونة إذا ذكرت‬ ‫كما يقول‪)-‬إ ّ‬
‫ن المساجد لها اسم هي به معروفة خاص لها وذلك‬ ‫باسمها المطلق دون المساجد‪،‬ل ّ‬
‫ما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ول إضافتها إلى شيء فالبيوت‬ ‫المساجد‪.‬فأ ّ‬
‫المسكونة‪،‬وكذلك القبلة الغلب من استعمال الناس إياها في قبل المساجد وللصلوات‪،‬فإذا كان‬
‫ذلك كذلك‪،‬وكان غير جائز توجيه معاني كلم الله إل إلى الغلب من وجوهها المستعمل بين أهل‬
‫اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دللة تدل على غير ذلك‪،‬ولم يكن على‬
‫قوله واجعلوا بيوتكم قبلة دللة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلم العرب‪،‬لم‬
‫يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا‪،‬وكذلك القول في قوله‪:‬قبلة وأقيموا الصلة(تفسير‬
‫الطبري)‪.(156،155،153 /11‬‬
‫‪]228‬يونس‪.[87:‬‬
‫‪ 229‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(8/371،372‬وتفسير الثعالبي)‪(2/189‬وتفسير الواحدي)‪(1/506‬وروح‬
‫المعاني)‪.(11/171‬‬
‫‪230‬تفسير النسفي)‪.(2/139‬‬
‫‪] 231‬غافر‪.[25:‬‬
‫‪ 232‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(15/305‬وتفسير البيضاوي)‪(5/89‬وتفسير ابن كثير)‪(4/77‬وتفسير‬
‫الطبري)‪.(24/56‬‬

‫‪52‬‬
‫ن الحق والحقيقة والبرهان…يقابلها‬ ‫ن من معاني الستبداد أ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ل على ذلك قوُله تعالى‪’’:‬فأراد فرعون أن يستفزهم من‬ ‫القتل‪،‬ود ّ‬
‫‪233‬‬
‫الرض‘‘ ‪ ،‬أي يستخفهم ويزعجهم و يخليهم منها ويزيلهم عنها وينفيهم‬
‫من الرض أرض مصر أو الرض مطلقا بالقتل والستئصال أو البعاد‬
‫‪،234‬فعدل فرعون عن الجدال بالحجة الى الرهاب بالقوة‪ ).‬قال العلماء وفي‬
‫هذه الية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬لّنه لما خرج‬
‫موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى‪،‬وكذلك أظهر الله نبيه بعد‬
‫خروجه من مكة حتى رجع اليها ظاهرا عليها(‪،235‬وفي هذا بشرى للمطاردين‬
‫والملحقين من المسلمين أن الفرج قريب‪،‬فما تزيدنا هذه الملحقة إل ّ‬
‫ن نتائج هذه‬ ‫دية في انتمائنا وتنقية لصفوفنا ونفوسنا…فكأ ّ‬ ‫تمسكا بعقيدتنا وج ّ‬
‫ل شأنه‪.‬‬‫المجاهدة مؤهلت لستحقاق الّنصر الموعود من الله ج ّ‬
‫ول يغّرّنك‪-‬في هذا المبحث‪-‬قول فرعون لموسى عليه السلم‪’’:‬إن‬
‫كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين‪. 237‘‘236‬حيث)لم يكن‬
‫هذا من فرعون حرية رأي‪،‬بل هي فرصة أمام فرعون وملئه أن ُيظهروا‬
‫موسى عليه السلم بمظهر الكاذب الذي يزعم أّنه رسول من رب العالمين‬
‫ن الحقّ هدد‬ ‫بل بينة ول دليل(‪،238‬وعندما أثبت موسى بّينته‪،‬ورأى فرعو ُ‬
‫ن‬
‫موسى وتوعده‪،‬وخرج من ميدان الحجة إلى ميدان السلح والقوة؛ذلك أ ّ‬
‫فرعون صاحب الشعار المعروف’’ما أريكم إل ما أرى وما أهديكم إل‬
‫سبيل الرشاد‘‘‪،239‬أي ما أشير عليكم أيها الناس من الرأي والنصيحة وما‬
‫أهديكم بهذا الرأي إل سبيل الرشاد‪.240‬‬
‫ومثل ذلك ُيقال حين استشار فرعون قومه بشأن موسىعليه السلم بعد‬
‫أن أحس فرعون بالخطر على عرشه‪،‬يقول تعالى حكاية لقول‬
‫ن هذا لساحر عليم‪،‬يريد أن ُيخرجكم‬ ‫فرعون‪’’:‬قال للمل حوله إ ّ‬
‫‪241‬‬
‫من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘ ‪،‬ففي تلك اللحظة يفطنون‬
‫سون‬ ‫لشعوبهم‪،‬يقول سيد قطب رحمه الله‪):‬وتلك شنشنة الطغاة حينما يح ّ‬
‫أن الرض تتزلزل تحت أقدامهم ‪ .‬عندئذ يلينون في القول بعد التجبر‬
‫ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالقدام ‪ .‬ويتظاهرون بالشورى‬
‫م‬
‫باللمر وهم كانوا يستدبون بالهوى ‪ :‬ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر‪ ،‬ث ّ‬
‫إذا هم هم جبارة مستبدون ظالمون !(‪.242‬فتلك مشورة للمناورة تقتضيها‬
‫الظروف الصعبة والخطيرة‪،‬حتى إذا مّرت العاصفة عادوا كما كانوا‪.‬‬

‫‪] 233‬السراء‪.[103:‬‬
‫‪ 234‬انظر‪ :‬تفسير البيضاوي)‪(3/470‬وتفسير القرطبي)‪(10/338‬وتفسير ابن كثير)‪(3/68‬ومعاني‬
‫القرآن)‪(4/203‬وتذكرة الريب في تفسير الغريب)‪.(1/310‬‬
‫‪235‬زاد المسير)‪،(5/95‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(15/2‬‬
‫‪)236‬أي من عند من أرسلك كما تدعيه فأت بها أي فأحضرها حتى تثبت بها رسالتك إن كنت من‬
‫الصادقين في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الية ل محالة(‬
‫تفسير ابي السعود)‪،(3/258‬وانظر‪:‬فتح القدير)‪(2/231‬وتفسير ابن كثير)‪(2/237‬وتفسير‬
‫الطبري)‪.(9/14‬‬
‫‪] 237‬العراف‪.[106:‬‬
‫‪ 238‬في ظلل القرآن)‪.(3/600‬‬
‫‪] 239‬غافر‪.[29:‬‬
‫‪240‬انظر‪ :‬روح المعاني)‪(24/65‬وزاد المسير)‪(7/219‬وتفسير الجللين)‪(1/622‬وتفسير الطبري)‬
‫‪(24/59‬وتفسير القرطبي)‪.(15/310‬‬
‫‪]241‬الشعراء‪.[35-34:‬‬
‫‪ 242‬في ظلل القرآن)‪.(6/205‬‬

‫‪53‬‬
‫بسبب الستبداد كان مطلب موسى عليه السلم إطلق بني‬
‫إسرائيل‬
‫ول عجب أن يكون مطلب موسى عليه السلم الول والوحد هو إطلق‬
‫بني إسرائيل‪،‬حيث يقول تعالى حكاية لقوله‪’’:‬قد جئتكم ببينة من ربكم‬
‫فأرسل معي بني إسرائيل‘‘‪).243‬أي أطلقهم من أسرك وقهرك وعذابك‬
‫ودعهم وعبادة ربهم(‪.244‬فهي‪-‬إذن‪-‬رسالة مفادها التحرر من الستبداد الذي‬
‫ل شخصية فرعون‪،‬وهذا هو جوهر رسالتنا‬ ‫كان مسيطرا في ظ ّ‬
‫ل الرض من أن يكون عبدا‬ ‫السلمية‪،‬فهي تهدف لتحرير النسان في ك ّ‬
‫لشهواته ونزواته‪..‬أو أن يكون أسيرا لتصورات ومعتقدات باطلة وملوثة‪،‬فهي‬
‫م إزالة العقبات الخارجية المادية والمعنوية‬ ‫تحرير للنسان من داخل نفسه‪،‬ث ّ‬
‫طل حركته في الحياة‪.‬‬ ‫والتي تمنعه من النطلق‪،‬وتع ّ‬
‫ن الّنظام الستبدادي له عيوب وعورات كثيرة ُنجملها بما يلي‪:‬‬ ‫إ ّ‬
‫ن الستبداد وإكراه الّناس يقتل روح البداع في‬ ‫العيب الول‪:‬أ ّ‬
‫المجتمع‪،‬وهو سبب من أسباب تخلف البلد السلمية في هذه اليام‪،‬ومنبع‬
‫الزمات التي نعيشها في بلدنا ويعيشها العالم أجمع‪،‬فكثير من مظاهر‬
‫التخلف والتفتت والتأزم ترجع لهذا السبب‪.‬كما يرجع إلى الستبداد الحتقان‬
‫ما أدى إلى‬ ‫في العلقات بين الحاكم والمحكوم‪،‬وانعدام الثقة فيما بينهما‪.‬م ّ‬
‫انتشار الجهزة البوليسية والمخابرات وغيرها من أجهزة التنصت على‬
‫الّناس‪.‬‬
‫ن المستبد حين ينفرد بالرأي‪،‬ويمتنع عن‬ ‫العيب الثاني‪:‬يكمن في أ ّ‬
‫ن‬‫الخذ بالمشورة والرأي الخر‪،‬يصاب بعثرات كثيرة ومطبات متعددة؛ذلك أ ّ‬
‫النسان مهما وصل من الذكاء والفطنة والنباهة والعلم يبقى محتاجا‬
‫للخرين فهو ل ُيحيط بكل شيء علما‪.‬وصدق من قال من شاور الّناس‬
‫ن المشورة تجعل الخرين ُيحسون‬ ‫شاركهم في عقولهم‪،‬كما أ ّ‬
‫بوجودهم‪،‬ويتحملون المسؤولية مع الحاكم‪.‬وباستثناء الّناس تقل رغبتهم في‬
‫التضحية من أجل المصلحة العامة‪،‬ويصبح سلوكهم سلبيا اتجاهها‪،‬كما ينعدم‬
‫الحساس بالنتماء‪،‬وهذا ما نلحظه في سلوك كثير من الّناس حين ُيظهرون‬
‫اللمبالة‪،‬فتنشأ حالة من الخمول والشلل‪،‬وتنعدم روح البداع والمبادرة‪.‬‬
‫ن)الستبداد السياسي‪-‬الذي نعانيه‪-‬ليس عصيانا جزئيا لتعاليم‬ ‫إ ّ‬
‫السلم‪،‬وليس إماتة لشرائع فرعية فيه‪،‬بل هو إفلت من ربقته ودمار على‬
‫عقيدته‪!!..‬فبقاء الكفر في الرض‪،‬والزيغ في شتى الفئدة‪،‬يرجع إلى مسالك‬
‫أولئك الذين شانوا تاريخنا ولوثوا دعوتنا‪،‬وأعزوا من أذل الله وأذلوا من أعز‬
‫ن الستبداد صنع هذه الوضاع وحماها‪،‬وقبر تحت ترابها الخوة‬ ‫الله‪.‬إ ّ‬
‫م فرد يرغب ويرهب وآخرون يزدلفون‬ ‫النسانية والدينية فليس ث ّ‬
‫ويرتقبون‪،‬ومراسم غريبة لوثنيات سياسية أعقد من الوثنيات التي اختلقتها‬
‫الجاهليات الولى(‪.245‬‬
‫إّننا نستطيع النعتاق من الّنظم الستبدادية حين ننعتق من الستعباد‬
‫للشهوة والخوف والتقاليد الميتة‪،‬وحين نعلو عن حطام الدنيا وُنقبل على‬
‫الخرة‪.‬ولنا في امرأة فرعون مثال ُيحتذى في القدرة على التحرر من أعتى‬
‫‪] 243‬العراف‪.[105:‬‬
‫‪ 244‬تفسير القرطبي)‪(7/256‬وانظر‪ :‬تفسير البغوي)‪(2/195‬وزاد المسير)‪.(3/237‬‬
‫‪245‬الغزالي محمد‪،‬الفساد السياسي في المجتمعات العربية والسلمية‪،‬ط ‪،2‬دار نهضة‬
‫مصر‪،‬مصر‪2000،‬م‪(57-56).‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫صور الرق!فهي في رغد من العيش والجاه والمنصب‪..‬ولكّنها مسترقة في‬
‫فكرها وعقيدتها‪..‬فأبت أن تكون مسترقة بأعظم جزء ُيعّبر عن ماهية‬
‫ملت تبعات هذا العلن فتحررت‪.‬‬ ‫النسان‪،‬وأعلنت إيمانها وتح ّ‬
‫ن النعتاق من الّنظم الستبدادية وحل مشكلة التفرد بالحكم غاية‬ ‫إ ّ‬
‫وهدف‪،‬ولتحقيقها في الواقع ل بد ّ من مرجعية ثابتة تتمثل بشرع الله‪ُ،‬تقّيد‬
‫الحاكم والمحكوم حتى ل يبغي أحد على أحد‪،‬ول بد ّ من صفات خاصة ُتقيدنا‬
‫في اختيار الخليفة‪،‬ول بد ّ من وعي المسلمين لدينهم كي يكونوا أدوات‬
‫ن تقويم الحاكم من صفات‬ ‫مراقبة وإصلح وتقويم إن حصل خلل ما؛ذلك أ ّ‬
‫المم الحّية‪.‬‬
‫م ل بد ّ من تعميق مفهوم الشورى وتأصيله كركن أساسي في الّنظام‬ ‫ث ّ‬
‫السياسي‪،‬وجعل الشورى ثقافة شاملة لحياة المسلمين في جميع أشكالها‬
‫ن التنشأة السلمية على الشورى‬ ‫في السرة والمدرسة والشارع‪..‬ذلك أ ّ‬
‫ن العيش‬ ‫تمنعنا من أن نكون مستبدين إن نحن تسلمنا مقاليد الحكم؛ذلك أ ّ‬
‫تحت الستبداد لفترات طويلة ُتنتج آثارا نفسية خطيرة حين تحمل الجماهير‬
‫فكرة الستبداد‪،‬فكم من مخاصم للمستبد صار مستبدا حينما صار هو في‬
‫سدة الحكم! وهذا ما ُيرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول امرأة‬
‫فرعون‪’’:‬ونجني من فرعون وعمله‘‘‪،246‬أي من كفره وظلمه‬
‫وعذابه‪،247‬فهي لم تطلب الّنجاة من فرعون وحسب‪،‬بل وطلبت الّنجاة من‬
‫عمله‪،‬فقد ينجو المسلم من الظلمة ولكّنه قد ل ينجو من الظلم‪،‬فيصير‬
‫ظالما كما فعل الظالمون ومستبدا كما كان المستبدون‪.‬‬
‫وللوقاية من الستبداد ل بد ّ من إيجاد مؤسسات تحمي الدولة من‬
‫م ل بد ّ من‬ ‫التسلط إن حدث‪،‬ولمنع النحراف من الحاكم والمحكوم سواء‪،‬ث ّ‬
‫المر بالمعروف والّنهي عن المنكر‪-‬كما فعل مؤمن آل فرعون حين أمر‬
‫مة وحقا لها‪،‬وليس لحد أن يمنعها من ممارسة هذا‬ ‫ده واجبا على ال ّ‬ ‫ونهى‪-‬بع ّ‬
‫ن المر‬ ‫صَر بالقيام بهذا الواجب؛ذلك أ ّ‬ ‫ق ّ‬ ‫الحق‪،‬وفي المقابل ل يجوز للمة أن ت ُ َ‬
‫مة لحماية مؤسساتها وبناءها‬ ‫بالمعروف والّنهي عن المنكر وسيلة ال ّ‬
‫الحضاري‪،‬فإذا حصل ووقع استبداد بنسبة معينة‪-‬كما حدث ببعض الفترات‬
‫في تاريخنا السلمي‪-‬فإّنما يرجع هذا إلى عدم تطبيق السلم بالصورة‬
‫طبق فيها في العصور المزدهرة وخاصة عصر الخلفة‬ ‫المثالية الواعية التي ُ‬
‫الراشدة‪.‬‬
‫ن الحل يكمن في نقل النموذج الغربي لنهاء‬ ‫وقد يتصور بعض الّناس أ ّ‬
‫م لسببين‬ ‫الستبداد السياسي في بلد العرب والمسلمين‪،‬وذلك وَهْ ٌ‬
‫طى للّناس ظاهرا ويملكها‬ ‫ن الحرية الغربية حرية شكلية ُتع َ‬ ‫اثنين‪:‬الول‪:‬أ ّ‬
‫على وجه الحقيقة أصحاب رؤوس الموال‪،‬فهم الذين بما يمتلكون من‬
‫فق مع‬ ‫مت َ ِ‬
‫أموال وعبر وسائل العلم التي يمتلكونها ُيشكلون القانون ال ُ‬
‫ميه‬‫ن الّنموذج الغربي للحرية والديمقراطية أنتج ما ُنس ّ‬ ‫مصالحهم‪..‬الثاني‪:‬أ ّ‬
‫تسلط الدولة‪،‬فالستبداد سلوك قد يقوم به الفرد أو الجماعة أو الدولة؛‬
‫فالدول الغنية تتسلط على الفقيرة‪،‬والقوية تتسلط على الضعيفة‪.‬فهي دول‬
‫استبدادية في سياستها الداخلية والخارجية‪.‬‬

‫‪]246‬التحريم‪.[11:‬‬
‫‪247‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(18/203‬‬

‫‪55‬‬
‫المبحث السابع‬
‫الوهم والغرور‬
‫هم الشيء‬ ‫الوهم‪) :‬من خطرات القلب والجمع أوهام‪،‬وللقلب وهم‪.‬وتو ّ‬
‫تخيله وتمثله كان في الوجود أو لم يكن(‪.248‬و)الغرور بالضم‪:‬ما اغتر به من‬
‫متاع الدنيا‪.‬وفي التنـزيل العزيز‪’’:‬فل تغرّنكم الحياة الدنيا‘‘‪ ،249‬يقول‪ :‬ل‬
‫تغرنكم الدنيا‪،‬فإن كان لكم حظ فيها ينقص من دينكم فل تؤثروا ذلك‬
‫الحظ‪،‬ول يغرّنكم بالله الغرور(‪،250‬فالغرور)سكون النفس إلى ما يوافق‬
‫الهوى ويميل إليه الطبع‪،‬وعبر عنه بعضهم بأنه كل ما يغر النسان من مال‬
‫وجاه وشيطان(‪،251‬و)المغرور‪:‬من خدعه وأطمعه الباطل(‪.252‬‬
‫فالمغرور‪-‬على هدي هذا التعريف‪-‬مخدوع دخل الوهم عليه‪،‬واغتر بما‬
‫لديه وخدعه زخرف الدنيا أو الجاه أو السلطة أو القوة‪،‬وتخّيل ما هو عكس‬
‫مي‬‫س ّ‬‫الحقيقة والواقع‪،‬فالغرور نوع من الوهم والتخّيل في المحصلة‪.‬ولذلك ُ‬
‫متاع الدنيا بمتاع الغرور لّنه يخدع من ركن إليها‪،‬وهناك من تعجبه الدنيا‬
‫بمتاعها حتى يعتقد أن ل دار سواها ول معاد وراءها وهي حقيرة قليلة‬
‫بالنسبة إلى الدار الخرة‪.253‬‬
‫ن شخصية فرعون‪-‬على ضوء تلك المعاني التي أوردناها في التعريف‪-‬‬ ‫إ ّ‬
‫شخصية واهمة مغرورة يرى نفسه فوق الّناس‪،‬وأوضح دليل على وهمه‬
‫ن تمام الصحة وسلمة البدن‪،‬وكثرة‬ ‫وغروره ادعاؤه لللوهية والربوبية؛ذلك أ ّ‬
‫الجند ودعم القوم والل ومؤازرة المل‪،‬وسعة الملك وطول المكث في‬
‫الحكم والتحكم‪،‬مع ما أوتي من متاع الدنيا وزخرفها‪،‬وانتشار السحر‬
‫والشعوذة وفساد التصورات السائدة والساطير التي كانت سائدة في مصر‬
‫من نسب الملوك لللهة‪…254‬مع ما استقر في نفسه من العجاب المفرط‬
‫ل ذلك‬ ‫بالذات والشهوة الجامحة في الحكم والتحكم والقابلية للنحراف…ك ّ‬
‫وعت له نفسه قول كلمة الكفر‪.‬فالوهم والغرور جعل رؤيته‬ ‫تهيأ لفرعون فط ّ‬

‫‪248‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬وهم)‪(12/643‬وانظر‪:‬كتاب العين‪،‬مادة‪:‬وهم)‪(4/100‬والمصباح‬


‫المنير‪،‬مادة‪:‬وهم)‪.(2/674‬‬
‫‪] 249‬لقمان‪.[32:‬‬
‫‪ 250‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬غرر)‪ .(5/12‬وفي مختار الصحاح)اغتر الرجل واغتر بالشيء خدع به و‬
‫الغرر بفتحتين الخطر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهو مثل بيع السمك‬
‫في الماء والطير في الهواء‪،‬والغرور بالفتح الشيطان ومنه قوله تعالى ول يغرنكم بالله‬
‫الغرور‪،‬والغرور أيضا ما يتغرغر به من الدوية‪،‬والغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا(مختار‬
‫الصحاح‪،‬مادة‪:‬غرر)‪.(197‬‬
‫‪251‬التعاريف)‪.(1/537‬‬
‫‪ 252‬لسان العرب‪،‬مادة غرر)‪.(5/11‬‬
‫‪253‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(4/314‬‬
‫‪254‬انظر‪:‬في ظلل القرآن)‪.(6/349‬‬

‫‪56‬‬
‫للحداث وتفسيره للظروف سببا في اجترائه على تلك الفرية‪.‬وكم من‬
‫وهم دوام الحال‪.‬‬ ‫الّناس من غّره إقبال الحياة عليه‪،‬وت ّ‬
‫ن‬
‫ل القرآن على وهم فرعون وغروره في أكثر من موضع‪،‬مع أ ّ‬ ‫وقد د ّ‬
‫القرآن لم ينص على ذلك صراحة ولكّنه أمر يعرف بالّنظر في الكتاب‬
‫العزيز‪.‬وشواهدنا على ذلك كثيرة‪:‬منهاقوله تعالى ‪-‬حكاية لقول فرعون حين‬
‫أعلن السحرة إيمانهم بموسى عليه السلم‪’’:-‬قال آمنتم به قبل أن‬
‫آذن لكم‘‘‪.255‬وفي آية أخرى’’قال آمنتم له‪ 256‬قبل أن آذن‬
‫‪257‬‬
‫ن قلوب الناس بيده يملك حتى‬ ‫نأ ّ‬‫لكم‘‘ ‪.‬فمن وهمه وغروره ظ ّ‬
‫إيمانهم‪،‬بل ويصل به الوهم والغرور أن يبدي تعجبا وإنكارا وتوبيخا’’آمنتم به‬
‫قبل أن آذن لكم‘‘‪)،‬أي صدقتموه قبل أن آذن لكم في اليمان‪،‬فتعديتم‬
‫وفعلتم ما لم آمركم به‪،‬وكان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ول تفتاتوا‬
‫على ذلك‪،‬فإن أذنت لكم فعلتم‪،‬وإن منعتكم امتنعتم‪،258‬فإّني أنا الحاكم‬
‫المطاع( ‪،259‬فأيّ وهم وغرور غرق به فرعون إلى درجة يتصور معها أّنه‬
‫يملك قلوب الّناس!‬
‫ورّبما تصور فرعون–نتيجة وهمه وغروره‪-‬أّنه بمجرد توجيهه هذا التوبيخ‬
‫والنكار المغلف بالتهديد والوعيد للسحرة أن يتراجعوا عن إيمانهم بل‬
‫ويطلبوا منه العفو على ما فرط منهم‪،‬ولكّنهم أصروا على موقفهم‪،‬وأظهروا‬
‫استعدادا للتضحية بأرواحهم في سبيل إيمانهم‪.‬وكان هذا كافيا لخراج‬
‫فرعون من وهمه وغروره‪،‬لول أّنه وصل مرحلة من الوهم والغرور لم يعد‬
‫قادرا معها على رؤية الحقائق مهما سطعت‪.‬‬
‫وهذه زوجته التي عاشت حياة الترف والقصور‪..‬ها هي تفاجىء‬
‫فرعون بإيمانها‪،‬لعله يستيقظ من وهمه أو يترك غروره‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬وضرب الله مثل للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب‬
‫جني‬ ‫جني من فرعون وعمله ون ّ‬ ‫ابن لي عندك بيتا في الجّنة ون ّ‬
‫ل على حالة‬ ‫ما يد ّ‬ ‫‪260‬‬
‫من القوم الظالمين‘‘ ‪،‬ومع هذا لم يتّيقظ ولم ينتبه‪،‬م ّ‬
‫مغرقة بالوهم والغرور‪.‬‬
‫وتظهر شخصية فرعون الواهمة المغرورة في قوله‪’’:‬وما أريكم إل‬
‫ما أرى وما أهديكم إل سبيل الرشاد‪،262‘‘261‬أي ما أشير عليكم إل بما‬
‫أراه صوابا‪،‬وما أعلمكم إل ما علمت من الهدى والرشاد‪،263‬فهو يتصور –‬
‫‪] 255‬العراف‪.[123:‬‬
‫‪ )256‬قوله‪:‬قال آمنتم له‪.‬يقال‪:‬آمن له وآمن به‪،‬فمن الول قوله‪’’:‬فآمن له لوط‘‘]العنكبوت‪:‬‬
‫‪.[26‬ومن الثاني قوله فى العراف‪’’:‬آمنتم به قبل أن آذن لكم‘‘]العراف‪.[123:‬وقيل‪:‬إن الفعل‬
‫هنا متضمن معنى التباع‪.‬وقرئ على الستفهام التوبيخي‪،‬أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم‬
‫بذلك( فتح القدير)‪.(3/376‬‬
‫‪] 257‬طه‪.[71:‬‬
‫ن معنى خطابه كما في قوله تعالى‪:‬‬ ‫و)ليس معنى كلمه –لعنه الله‪-‬أنه ربما سيأذن لهم‪ ،‬ولك ّ‬
‫‪258‬‬

‫) لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي(]الكهف‪.[109:‬ل أن الذن منه ممكن أو متوقع(‪.‬تفسير أبي‬
‫السعود)‪،(6/243‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(9/27‬‬
‫‪259‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/61‬وتفسير القرطبي)‪(11/224)،(7/260‬وتفسير ابن كثير)‬
‫‪(3/159،336‬وتفسير الطبري )‪(9/23‬وتفسير أبي السعود)‪.(6/29‬‬
‫‪] 260‬التحريم‪.[11:‬‬
‫‪)261‬الرشاد‪ :‬ضد الغي تقول رشد يرشد مثل قعد يقعد رشدا بضم الراء وفيه لغة أخرى من باب‬
‫طرب و أرشده الله والطريق الرشد مثل القصد(مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬رشد)‪).(103‬و الضلل‬
‫ل)‪.(160‬‬‫ضد الرشاد(مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬ض ّ‬
‫‪] 262‬غافر‪.[29:‬‬
‫‪263‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(24/59‬‬

‫‪57‬‬
‫ل ما يقوله ويفعله صوابا ل شبهة فيه ول ريبة‪،‬وهي ذات‬ ‫وهما وغرورا‪-‬أن ك ّ‬
‫ل ما يفعلونه حكمة بالغة‬ ‫المعاني التي يرّوجها المغرورون من الح ّ‬
‫كام‪،‬فك ّ‬
‫ومصلحة سابغة!بينما نلحظ انتشار الفقر والمرض والجوع والمحسوبية‬
‫ن الزعيم يهدي ول ُيض ّ‬
‫ل!‬ ‫والرشوة والّتأخر العلمي والقتصادي…ومع هذا فإ ّ‬
‫وهذا عكس الحقيقة التي قررها القرآن عن فرعون حيث يقول‬
‫تعالى‪’’:‬وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘‪.264‬فبينما يخّيل إليه ‪-‬وهما‬
‫ن ما يراه هو الصواب والصلح والّرشاد يقرر القرآن أّنه ضال‬ ‫وغرورا‪-‬أ ّ‬
‫‪265‬‬
‫ومضل‪،‬وأّنه سفيه سخيف الرأي لم يرشدهم إلى نفع أو خير‪.‬‬
‫ده على معجزات موسى عليه‬ ‫ويظهر وهمه وغروره في أسلوب ر ّ‬
‫‪266‬‬
‫سلم‪،‬حيث يقول‪’’:‬فلنأتيّنك بسحر مثله‘‘ ‪،‬أي)لنعارضّنك بمثل ما‬ ‫ال ّ‬
‫ن الذى جئت به سحر يقدر على مثله‬ ‫جئت به من السحر‪،‬حتى يتبّين للّناس أ ّ‬
‫الساحر(‪ )،267‬وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا‪،‬واعتقد من‬
‫اعتقد منهم وأوهم من أوهم أن ماجاء موسى به عليه السلم من قبيل ما‬
‫ما يأتونه من سحرهم‪،‬فلهذا جمعوا له السحرة يعارضوه بنظير ما أراهم من‬
‫البينات(‪،268‬ولم يكن هذا إل بأمر الموهوم المغرور الذي وصل به الوهم حدا‬
‫لم يعد قادرا فيه على إبصار أعظم الحقائق وأجلها وأبينها‪،‬وهي المعجزات‬
‫التي ُأيـد بها موسى عليه السلم‪.‬‬
‫وهكذا قاده غروره ووهمه إلى تلك المعارضة التي فضحت أمره‬
‫وكشفت زيغه‪)،‬فإذا كان كل ما يقدمه موسى نوع من أنواع السحر فما‬
‫أسهل الرد عليه‪،‬وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إّنما تخفي‬
‫ورائها هدفا من أهداف هذه الرض‪،‬وأّنها ليست سوى ستار للملك‬
‫ما خارقة كآيات‬ ‫والحكم‪ّ..‬ثم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات‪،‬إ ّ‬
‫ما مؤثرة في الّناس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من‬ ‫موسى‪،‬وإ ّ‬
‫الخوارق‪.‬فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا‪..‬سحر نأتي بسحر‬
‫مثله !(‪،269‬فهذا هو الوهم الذي يغرق فيه فرعون وأمثاله‪.‬‬
‫ومما يدل على غرور فرعون ووهمه تلك اللمبالة التي أظهرها في‬
‫سلم‪’’:‬فاجعل بيننا وبينك موعدا ل نخلفه نحن‬ ‫قوله لموسى عليه ال ّ‬

‫‪] 264‬طه‪.[39:‬‬
‫‪)265‬السفه الجهل بلغة كنانة ثم يكون لكل شيء‪ ،‬يقال للكافر سفيه‪ ،‬لقوله’’سيقول السفهاء من‬
‫الناس‘‘]البقرة‪[142:‬يعني اليهود‪.‬والجاهل سفيه‪ ،‬لقوله’’فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو‬
‫ضعيفا‘‘]البقرة‪…[282:‬السفيه الجاهل والضعيف الحمق…وقيل السفه في اللغة الخفة(التبيان‬
‫قي تفسير غريب القرآن)‪.(1/58‬‬
‫‪] 266‬طه‪.[58:‬‬
‫‪267‬فتح القدير)‪(3/370‬وتفسير النسفي)‪.(3/58‬‬
‫‪268‬تفسير ابن كثير)‪(2/237‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪269‬في ظلل القرآن)‪.(5/480‬‬

‫‪58‬‬
‫ى‪.271‘‘270‬أي)فاجعل بيننا وبينك موعدا أي وعدا‪،‬كما‬ ‫ول أنت مكانا ً سو ً‬
‫ئ عنه وصفه بقوله تعالى‪’’:‬ل نخلفه‘‘فإنه المناسب للمكان والزمان‪،‬أي ل‬ ‫ُينب ّ ُ‬
‫نخلف ذلك الوعد نحن ول أنت‪،‬وإّنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى‬
‫عليه الصلة والسلم للحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال‬
‫وإظهار الجلدة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلت‬
‫ن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه‬ ‫المغالبة طال المد أم قصر‪،‬كما أ ّ‬
‫الصلة والسلم وتوسيط كلمة النفي بينهما لليذان بمسارعته إلى عدم‬
‫الخلف(‪،272‬وهو بهذا مخدوع بما لديه من أسباب القوة والمنعة والعوان‬
‫حتى خّيل إليه أّنه قادر على إخفاء الحقيقة وطمسها‪.‬‬
‫وقوله‪’’:‬مكانا سوى‘‘‪ ،‬أي) مكانا مستويا من الرض ل وعر فيه ول جبل‬
‫ول أكمة ول مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض‪،‬ومراده‬
‫مكانا يتبين الواقفون فيه ول يكون ما يستر أحدا منهم‪،‬ليرى كل ما يصدر‬
‫منك ومن السحرة‪،‬وفيه من إظهار الجلدة وقوة الوثوق بالغلبة ما‬
‫فيه (‪،273‬فكانت كل هذه الترتيبات وبال عليه‪،‬حيث كشفت الحقيقة‪ -‬التي‬
‫طالما اجتهد موسى عليه السلم لظهارها وإبرازها للّناس‪-‬كشفا هائل‬
‫وبشكل ليدع مجال ليّ شك أو ريب‪،‬فكان فرعون بغروره ووهمه أن فعل‬
‫ما يخدم قضية موسى عليه السلم خدمة جليلة كبيرة ربما لم تكن حتى في‬
‫حساب موسى عليه السلم نفسه‪.‬‬
‫ن‬
‫ومن دلئل وهم فرعون وغروره قوله للسحرة حين آمنوا‪’’:‬ولتعلم ّ‬
‫‪274‬‬
‫ن أينا يريد به نفسه وموسى‬ ‫أّينا أشد عذابا وأبقى‘‘ ‪،‬والمعنى)ولتعلم ّ‬
‫عليه الصلة والسلم لقوله‪:‬آمنتم له قبل أن آذن لكم‪،‬واللم مع اليمان في‬
‫ما لقصد توضيع موسى عليه الصلة‬ ‫كتاب الله تعالى لغيره تعالى‪،‬وهذا إ ّ‬
‫ما لراءة أن إيمانهم‬‫والسلم والهزء به لّنه لم يكن من التعذيب في شيء‪،‬وإ ّ‬
‫لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبل‬
‫موسى عليه الصلة والسلم‪،‬حيث رأوا ابتلع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا‬
‫على أنفسهم أيضا‪.‬وقيل‪:‬يريد به رب موسى الذي آمنوا به بقولهم‪:‬آمنا برب‬
‫ن هذا الموقف المتشدد والمتشنج‬ ‫هارون وموسى (‪.275‬وعلى كل الوجهين فإ ّ‬
‫من فرعون وتهديده للسحرة بهذه الصيغة‪-‬بعد رؤيته للمعجزات وما جرى‬
‫من إيمان السحرة‪-‬لكبر دليل على غروره‪،‬فالقوة الظاهرة بين يديه من‬

‫‪)270‬واختلفوا فى قوله تعالى‪ ) :‬مكانا سوى( فى ضم السين وكسرها‪ ،‬فقرأ ابن كثير ونافع وأبو‬
‫عمرو والكسائى )مكانا سوى( كسرا‪ ،‬وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة سوى بضم السين(كتاب‬
‫السبعة في القراءات)‪)،(1/418‬فالحجة لمن ضم أنه أراد مكانا مساويا بيننا وبينك والحجة لمن‬
‫كسر أنه أراد مكانا مستويا أي ل مانع فيه من النظر وقيل هما لغتان فصيحتان(الحجة في‬
‫القراءات السبع)‪)،(1/241‬قال الفراء وأكثر كلم العرب بالفتح إذا كان في معنى نصف وعدل‬
‫فتحوه ومدوه والكسر والضم مع القصر عربيان‪ ،‬وقد قرىء بهما‪ .‬قال الليث تصغير سواء‬
‫الممدود سوي ‪.‬وقال أبو إسحق‪ :‬مكانا سوى‪ ،‬ويقرأ بالضم ومعناه منصفا أي مكانا يكون للنصف‬
‫فيما بيننا وبينك وقد جاء في اللغة سواء بهذا المعنى(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬سوا)‬
‫‪.(14/413‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬سوا)‪.(1/136‬‬
‫‪] 271‬طه‪.[58:‬‬
‫‪272‬تفسير أبي السعود)‪(6/24‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(16/216،217‬‬
‫‪273‬قال اللوسي‪ ) :‬وهذا المعنى عندى حسن جدا واليه ذهب جماعة(روح المعاني)‬
‫‪،(16/217‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(16/176‬‬
‫‪] 274‬طه‪.[71:‬‬
‫‪275‬تفسير أبي السعود)‪(6/29‬وانظر‪ :‬تفسير ابن كثير)‪(3/160‬وتفسير الطبري)‪(16/189‬وتفسير‬
‫الثعالبي)‪.(3/33‬‬

‫‪59‬‬
‫الجند والمل والقوم أوهمته بالقدرة والستطاعة وعمته عن إدراك الحقائق‬
‫الكبرى التي جرت بين يديه‪.‬‬
‫وها هو المغرور الموهوم ينادي في قومه‪-‬وقد غّره زخرف الحياة الدنيا‬
‫وبهارجها‪’’:‬ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك‬
‫مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون أم أنا خير من‬
‫هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين‘‘‪.276‬يقول تعالى مخبرا عن فرعون‬
‫وتمرده وعتوه وعناده أّنه جمع قومه فنادى بنفسه أو بمناديه في قومه في‬
‫مجمعهم أو فيما بينهم‪ -‬بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم‪-‬‬
‫متبجحا مفتخرا مغرورا بملك مصر وتصّرفه فيها أليس لي ملك مصر ل‬
‫ينازعني فيه أحد ول يخالفني فيه مخالف‪ ،‬وهذه النهار تجري من تحتي‪،‬أنهار‬
‫النيل وفروعه وهي تجري من تحت قصري أو بين يدي في جناني‪ .‬أفل ترون‬
‫ن فرعون أن تبيد هذه أبدا…مفتخرا‬ ‫ما أنا فيه من العظمة والملك‪،‬ومايظ ّ‬
‫سب‪-‬‬ ‫كن له من الدنيا استدراجا من الله له‪ .‬وح ِ‬ ‫مغرورا بما ملك‪،‬وما قد م ّ‬
‫ن موسى‬ ‫وهما منه‪ -‬أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحول منه وقوة‪،‬وأ ّ‬
‫إنما لم يصل إلى الذي يصفه‪،‬فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة‪،‬وهذا أشد ّ‬
‫م احتج بتلك‬ ‫الوهم من فرعون‪،‬إذ خّيل إليه أن ما قاله حجة وهو ليس بذلك‪،‬ث ّ‬
‫ن موسى عليه السلم لو كان محقا‬ ‫الوهام على جهلة قومه‪-‬مخادعا لهم‪ -‬بأ ّ‬
‫فيما يأتي به من اليات والعبر ولم يكن ذلك سحرا لكسب نفسه من الملك‬
‫والنعمة مثل الذي هو فيه من ذلك‪،‬وفي هذا دللة على جهله ووهمه ‪.277‬‬
‫ويتمادى فرعون في غروره حيث عد ّ نفسه خيرا من موسى عليه‬
‫السلم الذي وصفه بالحقير؛’’أم أنا خير من هذا الذي هو‬
‫ن الملك والمال والسلطان دليل على أّنه خير‬ ‫مهين‘‘‪،278‬فتوهم‪-‬لعنه الله‪-‬أ ّ‬
‫من موسى الذي كان صفر اليدين من هذا كله‪.‬‬
‫الوهم والغرور ُيؤديان إلى كثرة العثرات ويمنعان من رؤية‬
‫الحقيقة‬
‫ُ‬
‫ن الكثير من العثرات والخفاقات التي أصيب بها فرعون كانت نتيجة‬ ‫إ ّ‬
‫وهمه وغروره‪،‬فبينما هو يعيش في وهمه وغروره تصدمه الحقيقة‪،‬وهذا ما‬
‫نفسر به بعض الخفاقات التي ُيصاب بها الطواغيت‪،‬والتي كان بإمكانه‬
‫ما يصبغ حكم الطاغوت بالحماقة والتهور‬ ‫تلفيها وعدم الوقوع بها‪،‬م ّ‬
‫أحيانا‪،‬ويرجع ذلك إلى غياب القدرة على فهم وإدراك الحقيقة‪،‬فالغرور جعل‬
‫على قلب الطاغوت غشاوة‪،‬وجعله من الخسرين أعمال الذين ضاع سعيهم‬
‫وخاب ظّنهم‪’’،‬وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‘‘‪،279‬أي)يحسبون‬
‫أنهم يعملون ذلك على الوجه اللئق‪،‬وذلك لعجابهم بأعمالهم التي سعوا في‬
‫إقامتها وكابدوا في تحصيلها(‪.280‬‬
‫ن المغرور لم يدرك غاية خلقه وليس عنده أدنى فهم لمعنى الحياة‬ ‫إ ّ‬
‫ما أن‬ ‫ما أن تزول النعمة لسباب كثيرة‪،‬وإ ّ‬ ‫الدنيا‪،‬فهي دار ل يدوم نعيمها؛فإ ّ‬
‫يزول عنها صاحبها بموته‪.‬فتلك حقيقة ل يمارى فيها‪.‬فطول المل غرور‬

‫‪] 276‬الزخرف‪.[52-51:‬‬
‫‪277‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(4/130،131‬وتفسير القرطبي)‪(16/99‬وتفسير الطبري)‬
‫‪(25/81،82‬وتفسير البغوي)‪(4/142‬وفتح القدير)‪.(4/559‬‬
‫‪]278‬الزخرف‪.[52:‬‬
‫‪]279‬الكهف‪.[104:‬‬
‫‪280‬تفسير أبي السعود)‪.(5/249‬‬

‫‪60‬‬
‫ن الساعة‬ ‫وجهل؛فمن طال أمله خدعته الدنيا‪،‬كمن قال‪’’:‬وما أظ ّ‬
‫دم الفاني‬‫ل قوله على جهله لمعنى الدنيا وجوهرها لّنه ق ّ‬ ‫قائمة‘‘‪،281‬فد ّ‬
‫على الباقي‪.‬وصدق الله حيث يقول‪’’:‬والخرة خير وأبقى‘‘‪.282‬‬
‫والمغرور مشغول بما ليس منه فائدة ول خير‪،‬كالساعي وراء السراب‬
‫ن الغرور يمنع من إدراك‬‫يظّنه ماءا‪،‬حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؛ذلك أ ّ‬
‫ما يزيد من البلء وجود بطانة ُتزّين للطاغوت أعماله‬ ‫الحقائق‪،‬وم ّ‬
‫وأفعاله‪،‬فتجتمع العوامل الداخلية في ذات الطاغوت مع العوامل‬
‫الخارجية‪،‬فتنعدم الشارات المنبهة للطاغوت‪،‬فيعيش بوهم كامل‪.‬وهذا ما‬
‫نشاهده في زماننا‪،‬حين تلتف حول الحاكم بطانة سيئة وظيفتها مدح‬
‫الطاغوت وتبرئته من الزلل‪،‬فينشأ‪-‬مع ما في داخله من غرور‪-‬العمى؛فل‬
‫يعود يرى الحقائق مهما سطعت!‬
‫ن حديثنا عن الوهم والغرور عند الطاغوت ل يعني أّنه منفرد بهذا‬ ‫إ ّ‬
‫المرض‪،‬فهناك من ُيصابون به‪،‬بل قد ل يخلو إنسان‪-‬إل ّ من رحم ربي وقليل‬
‫ما هم‪-‬من نسبة معينة من مرض الوهم والغرور‪.‬والعلج الوحد لذلك‬
‫م النصياع لها باسشرافها وتأملها حتى تتحول‬ ‫المرض هو معرفة الحقيقة ث ّ‬
‫من مجرد أفكار ميتة إلى مشاعر ووجدان يعيش النسان به‪.‬ولكي ندرك‬
‫الحقيقة ل بد ّ من العودة إلى القرآن وسّنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛‬
‫دين الحق يحرر النسان من الخرافات والوهام‪.‬‬ ‫فال ّ‬

‫المبحث الثامن‬
‫السراف‬

‫‪]281‬الكهف‪.[36:‬‬
‫‪]282‬العلى‪.[17:‬‬

‫‪61‬‬
‫السراف لغة من )سرف‪ :‬والسرف السراف مجاوزة القصد‪،‬وأسرف‬
‫سرف الذي نهى الله عنه فهو ما أنفق‬ ‫في ماله عجل من غير قصد‪،‬وأما ال ّ‬
‫في غير طاعة الله قليل كان أو كثيرا‪،‬والسراف في النفقة‬
‫التبذير(‪.283‬وقالوا‪:‬السراف)إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس وتجاوز‬
‫الحد في النفقة‪،‬وقيل‪:‬أن يأكل الرجل ما ل يحل له‪،‬أو يأكل مما يحل له‬
‫متجاوزا حد ّ العتدال ومقدار الحاجة‪.‬وقيل‪:‬السراف تجاوز في الكمية‪،‬فهو‬
‫جهل بمقادير الحقوق‪،‬وصرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي بخلف‬
‫التبذير(‪.284‬‬
‫والسراف في اصطلح المفسرين)الفراط في الشيء‪،‬يقال‪:‬أسرف‬
‫فلن في هذا المر إذا تجاوز مقداره فأفرط(‪)،285‬وأصل السراف تجاوز‬
‫الحد المباح إلى ما لم يبح‪،‬وربما كان ذلك في الفراط وربما كان في‬
‫التقصير‪،‬غير أّنه إذا كان في الفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال‪:‬أسرف‬
‫يسرف إسرافا‪،‬وإذا كان كذلك في التقصير فالكلم منه سرف يسرف‬
‫‪286‬‬
‫سرفا‪،‬يقال‪:‬مررت بكم فسرفتكم‪،‬يراد منه فسهوت عنكم وأخطأتكم( ‪.‬‬
‫وقبل أن نورد الدلة على إسراف فرعون ل بد ّ من الشارة أن هناك‬
‫فروقا بين الطغيان والسراف اللذين تمّيزت بهما شخصية فرعون‪.‬فالطغيان‬
‫مجاوزة الحد ّ في العصيان‪،‬بينما السراف تجاوز الحد ّ المباح إلى ما لم‬
‫‪287‬‬
‫ن الطغيان ليس مجرد ارتكاب للجريمة والمعصية بل المبالغة‬ ‫مإ ّ‬‫يبح ‪.‬ث ّ‬
‫فيها‪،‬فالقتل معصية والّتقتيل طغيان في القتل‪،‬بينما السراف هو الستكثار‬
‫من المعاصي‪،‬فليس هو يقتل فحسب إّنما يتعدى ذلك إلى معاص عديدة‬
‫‪288‬‬
‫ن‬
‫مإ ّ‬ ‫أخرى‪،‬كالذلل وأخذ أموال الّناس بالباطل وغيرها من المعاصي ‪.‬ث ّ‬
‫السراف قد يكون في الفراط والتفريط‪،‬بينما ل يكون الطغيان إل ّ في‬
‫ي في المعصية‪،‬بينما السراف نمو أفقي‬ ‫ن الطغيان نمو رأس ّ‬ ‫الفراط‪،‬وكأ ّ‬
‫في المعاصي تنويعا وتكرارا‪.‬‬
‫ن السراف من خصائص شخصية فرعون‪-‬لعنه‬ ‫ن الدلة على أ ّ‬ ‫بعد هذا فإ ّ‬
‫ن‬ ‫ل شأنه‪ ،‬يقول سبحانه وتعالى‪’’:‬وإ ّ‬ ‫الله‪-‬كثيرة وبّينة في كتاب الله ج ّ‬
‫‪289‬‬
‫فرعون لعال في الرض وإّنه لمن المسرفين‘‘ ‪.‬ويقول سبحانه‬
‫ن ما تدعونني إليه ليس له‬ ‫حكاية لقول مؤمن آل فرعون‪’’:‬ل جرم أ ّ‬
‫ن‬
‫ن مردنا إلى الله وأ ّ‬ ‫دعوة في الدنيا ول في الخرة وأ ّ‬
‫المسرفين‪ 290‬هم أصحاب النار‘‘‪ .291‬ويقول سبحانه‪’’:‬كذلك يضل الله‬

‫سرف‬‫‪283‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬سرف)‪.(9/148‬وفي مختار الصحاح‪ (:‬السراف من الفعل سرف‪،‬وال ّ‬


‫بفتحتين ضد القصد والسرف أيضا الضراوة… وقيل هو من السراف‪،‬و السراف في النفقة‬
‫التبذير(‪.‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬سرف)‪.(125‬‬
‫‪ 284‬التعاريف)‪.(1/38‬‬
‫‪ 285‬تفسير الطبري)‪.(4/120‬‬
‫‪ 286‬تفسير الطبري)‪،(4/254‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(4/207‬‬
‫ل شأنه بالسراف‪):‬لنرسل عليه‬ ‫سلم حيث نعتهم الحق ج ّ‬ ‫‪287‬كما هو الحال عند قوم لوط عليه ال ّ‬
‫حجارة من طين‪،‬مسومة عند ربك للمسرفين(]الذاريات‪،[34-33:‬وذلك لّنهم تجاوزوا المباح من‬
‫الّنساء إلى ما لم يبح من الرجال‪،‬وذلك بّين في قوله تعالى‪) :‬إّنكم لتأتون الرجال شهوة من دون‬
‫الّنساء بل أنتم قوم مسرفون(]العراف‪،[81:‬إذ يريقون طاقتهم في غير موضع الخصاب‪،‬فهو‬
‫تفريط منهم بهذه الطاقة‪.‬‬
‫‪ 288‬انظر‪:‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬طغى)‪(10-9-8-15/7‬ومختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬طغى)‪.(165‬‬
‫‪] 289‬يونس‪.[83:‬‬
‫‪290‬يعني فرعون ومن معه‪.‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(24/69‬‬
‫‪] 291‬غافر‪.[43:‬‬

‫‪62‬‬
‫من هو مسرف مرتاب‘‘‪ .292‬ويقول تعالى‪’’:‬إن الله ل يهدي من هو‬
‫ذاب‘‘‪ .293‬ويقول سبحانه‪’’:‬ولقد نجينا بني إسرائيل من‬ ‫مسرف ك ّ‬
‫‪294‬‬
‫العذاب المهين‪،‬من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين‘‘ ‪.‬‬
‫لقد كان فرعون‪-‬بنص القرآن الكريم‪-‬من المسرفين)في الكبر والعتو‬
‫واسترقاق أسباط النبياء(‪)،295‬وتجاوز الحق إلى الباطل وذلك كفره بالله‬
‫وتركه اليمان به وجحوده وحدانية الله وادعاؤه لنفسه اللوهية وسفكه‬
‫الدماء بغير حق(‪)،296‬بالقتل والصلب وتنويع العقوبات(‪،297‬فهو‬
‫من)المستكثرين من معاصى الله(‪.298‬‬
‫فالسراف الذي هو من خصائص شخصية فرعون‪-‬يقينا ل ريب فيه‪-‬‬
‫معناه الستكثار من المعاصي‪،‬حيث شهد واقع فرعون على هذا‬
‫المعنى‪،‬فتعددت معاصيه وتنوعت جرائمه حتى شملت كل حركة له في هذه‬
‫الدنيا‪،‬فليس هناك معصية إل ولفرعون كفل منها‪،‬فّربما ُوجد في حياة‬
‫مك ّ‬
‫ل‬ ‫ة هم الذين ت ُظ ْل ِ ُ‬ ‫قل ّ ٌ‬
‫ل على بعض الخير‪،‬فَ ِ‬ ‫العاصي بعض المساحات تد ّ‬
‫ل على هذه‬ ‫مساحة الحياة عندهم‪،‬كما أظلمت حياة فرعون بالمعاصي‪،‬ود ّ‬
‫الظلمة أمران‪:‬‬
‫ّ‬
‫الول‪:‬ل توجد في القرآن آية أو إشارة تدل على مثقال حبة من إيمان‬
‫ما ما قاله فرعون عند غرقه وإعلنه اليمان فقد حصل في‬ ‫عند فرعون‪،‬وأ ّ‬
‫ن الّنص القرآني يؤكد‬ ‫ساعة ل تقبل فيها التوبة‪،‬فل ُتحسب له عند الله‪،‬بل إ ّ‬
‫ن فرعون ملعون في الدنيا والخرة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأتبعناهم في هذه‬ ‫أ ّ‬
‫‪299‬‬
‫الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‘‘ ‪،‬فحياته لعنة‬
‫مستمرة عليه‪،‬وظلم دامس ل يخالطه بصيص من نور‪.‬‬
‫ل على حقيقة‬ ‫الثاني‪:‬ما قصه القرآن علينا من حياة فرعون يد ّ‬
‫استكثاره من المعاصي‪،‬فليس هناك ذكر لفرعون في القرآن إل ّ وهو مرتبط‬
‫ومقترن بذكر معصية أو جريمة‪،‬فهو كافر بدعواه لللوهية والربوبية‬
‫وباعتقاده أّنه ل يرجع إلى الله‪.‬ولم يكتف بالكفر وحده بل دعا الّناس‬
‫إليه‪،‬وصد عن سبيل الله كثيرا…وهو متكبر يّترفع عن عبادة الله‪،‬ويرى نفسه‬
‫فوق الناس حيث يحتقرهم ويزدريهم…ومستكبر يرفض الحق بعد‬
‫تبّينه‪،‬فامتنع عن قبول الحق بعد العديد من اليات التي بعث الله بها‬
‫ن كثرة اليات وقوتها وتراخيها لفترات طويلة وتكرار بعضها‬ ‫موسى‪،‬فإ ّ‬
‫ل على قوة الحجة والبرهان الذي قام على فرعون‪،‬فكان‬ ‫كالعصا يد ّ‬
‫استكباره بعد ذلك إسرافا في الستكبار…وهو متجبر طاغ يبطش بقلب ل‬
‫رحمة فيه‪،‬ينشر الخوف والرعب والقتل وسفك الدماء مرة بعد مرة…وهو‬
‫يقهر الّناس بالصلب والسجن والرهاب بكل صوره وألوانه‪،‬ويعتدي على‬
‫العراض ويستحيي الّنساء لذللهم‪،‬ويأخذ الموال بالباطل‪،‬وينشر الفرقة بين‬
‫الّناس فيتحاسدون ويتباغضون ويحقدون وتمتلؤ قلوبهم وعقولهم بمعاني‬
‫‪] 292‬غافر‪.[34:‬‬
‫‪] 293‬غافر‪.[28:‬‬
‫‪] 294‬الدخان‪.[31-30:‬‬
‫‪ 295‬تفسيرالبيضاوي)‪(211 /3‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬القرطبي)‪(8/370‬وتفسير أبي السعود)‬
‫‪.(4/171‬‬
‫‪296‬تفسير الطبري)‪.(11/151‬‬
‫‪ 297‬فتح القدير)‪.(2/466‬‬
‫‪ 298‬فتح القدير)‪.(4/494‬‬
‫‪] 299‬القصص‪.[42:‬‬

‫‪63‬‬
‫الكراهية والتباعد والتدابر‪،‬ويفسد عقول الّناس بالسحر والشعوذة والكذب‬
‫والتضليل… وهكذا كان فرعون مسرفا مستكثرا من المعاصي في مختلف‬
‫شؤون الحياة‪.‬‬
‫هناك معصية وهناك إسراف في المعصية‪،‬فإذا كانت المعصية دللة‬
‫ن الستكثار منها يدل على موت الروح النسانية‪.‬قد‬ ‫على الضعف البشري فإ ّ‬
‫ن المعصية ل تبرر‪-‬كمعصية الزنا‬ ‫تكون المعصية مفسرة‪-‬ول أقول مبررة ل ّ‬
‫بوجود التجاذب بين الجنسين‪..‬بينما اللواط إسراف في المعصية لّنه معصية‬
‫غير مفسرة‪،‬ولهذا كانت عقوبة قوم لوط قاسية‪،‬حيث أرسل الله عليهم‬
‫حجارة من طين’’مسومة عند ربك للمسرفين‘‘‪،300‬وقلب بهم الرض‬
‫ن السراف في المعاصي حالة هستيرية‬ ‫فجعل عاليها سافلها‪.‬والمعنى أ ّ‬
‫ُيصاب بها الطواغيت ول نجد لها تفسيرا‪.‬‬
‫وقد تكون المعصية إشباعا لرغبة أو شهوة أو غريزة بهيمية بطريق‬
‫حرام‪،‬بينما يكون السراف لمجرد النتقام وتفريغ الحقاد‪،‬فيصل المسرف‬
‫حد التمتع بآلم الخرين‪،‬والرتياح لعذاباتهم‪.‬فالفرق واضح بين من يسرق‬
‫متاعا أو مال وبين من ُيتلفه انتقاما وحقدا‪،‬فالولى جريمة ومعصية‪،‬والثانية‬
‫إسراف في الجريمة والمعصية‪.‬‬
‫ولهذا ربط التصور السلمي بين السراف وبين عدم حب الله وبغضه‬
‫لصاحبه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولتسرفوا إّنه ل يحب المسرفين‘‘‪)301‬بل‬
‫يبغضهم ول يرضى أفعالهم‪،‬والجملة في موضع التعليل للنهي(‪302‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫السراف فساد ل صلح فيه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ول تطيعوا أمر المسرفين‬
‫الذين يفسدون في الرض ول يصلحون‘‘‪،303‬فالمسرفون)يفسدون‬
‫ن فسادهم‬ ‫فىالرض بالظلم والكفر‪،‬ول يصلحون باليمان والعدل‪.‬والمعنى أ ّ‬
‫مصمت‪ 304‬ليس معه شىء من الصلح كما تكون حال بعض المفسدين( ‪.‬‬
‫‪305‬‬

‫‪]300‬الذاريات‪.[34:‬‬
‫‪]301‬العراف‪.[31:‬‬
‫‪302‬روح المعاني)‪.(8/111‬‬
‫‪]303‬الشعراء‪.[152-151:‬‬
‫مت‪..‬ويوم أصمت العليل فهو‬ ‫ص ِ‬
‫م ْ‬
‫‪)304‬يقال للرجل إذا اعتقل لسانه فلم يتكلم أصمت فهو ُ‬
‫‪304‬‬

‫مصمت إذا اعتقل لسانه(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬صمت)‪(2/54‬والمعنى أّنه ل يصدر عنهم خير‪.‬‬


‫‪305‬تفسير النسفي)‪.(3/194‬‬

‫‪64‬‬
‫المبحث التاسع‬
‫المكر‬
‫والمكر لغة‪) :‬احتيال في خفية… والمكر الخديعة والحتيال(‪.306‬وفي‬
‫التفسير‪:‬المكر)التدبير للمر في خفية(‪،307‬وهو)حيلة يجلب بها غيره إلى‬
‫مضرة(‪،308‬و)كل فعل قصد فاعله في باطنه غير ما يقتضيه ظاهره فهو‬
‫مكر(‪.309‬و)المكر من جانب الحق ترادف النعم مع المخالفة‪،‬ومن جانب العبد‬
‫إيصال المكروه إلى النسان من حيث ل يشعر‪،‬وعّرفه بعضهم‪:‬بأّنه صرف‬
‫الغير عما يقصده بحيلة‪،‬وذلك ضربان‪:‬محمود وهو أن يتحرى به فعل‬
‫جميل‪،‬ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيحا(‪.310‬‬
‫ن‬
‫ظل‪،‬وبيان ذلك أ ّ‬‫والمكر‪-‬بمعناه المذموم‪-‬ملزم لشخصية فرعون كال ّ‬
‫شخصية فرعون تقوم في أساسها ومنبعها على أكبر فرية وهي دعوى‬
‫اللوهية والربوبية‪،‬ولذلك فهي شخصية تحتاج حتما إلى احتيال وخديعة‬
‫وتزوير لتسويق أكذوبتها وباطلها‪،‬وهو ذات المنهج الذي يحتاجه القائمون‬
‫ن انكشاف الحقائق أمام‬ ‫خ َ‬
‫شوْ َ‬ ‫على الباطل لخفاء حقيقتهم‪،‬فهم ي َ ْ‬
‫الجماهير‪،‬ولهذا كان المكر قناعا تستتر وراءه شخصية فرعون‪.‬‬
‫لقد جعل فرعون الّناس شيعا‪،‬كتدبير ل بد منه لنظام يقوم على الكذب‬
‫والظلم والطغيان…ول عجب أن يكون فرعون وصولّيا‪،‬الغاية عنده تبرر‬
‫الوسيلة‪،‬فالمكر السيء الخبيث وسيلة متناسبة مع الغايات الخسيسة التي‬
‫ن فرعون عل في‬ ‫يسعى لتحقيقها فرعون ومن ماثله‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذّبح أبناءهم‬
‫ويستحيي نساءهم‘‘‪.311‬أي جعلهم فرقا يشيعونه في كل ما يريده من‬
‫الشر والفساد‪،‬ويطيعونه ل يملك أحد منهم أن يلوي عنقه‪،‬أو يشيع بعضهم‬
‫بعضا في طاعته‪،‬أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل‬
‫ويسخره فيه من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من العمال الشاقة‪،‬ومن لم‬
‫يستعمله ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها‪،‬أو فرقا مختلفة ُيكرم طائفة‬
‫وُيهين أخرى‪،‬فأكرم القبطي وأهان السرائيلي‪،‬قد أغرى بينهم العداوة‬
‫والبغضاء لئل تتفق كلمتهم‪،‬فاستضعف طائفة منهم أي يجعلهم ضعفاء‬
‫مقهورين وهم بنو إسرائيل ‪.312‬‬
‫‪306‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬مكر)‪.(5/183‬وفي مختار الصحاح)المكر الحتيال والخديعة(مختار‬
‫الصحاح‪،‬مادة‪:‬مكر)‪(263‬وانظر‪:‬القاموس المحيط‪،‬مادة‪:‬المكر)‪.(1/614‬‬
‫‪307‬تفسير القرطبي)‪.(7/397‬‬
‫ما المكر من الله كما في قوله تعالى‪’:‬ويمكرون ويمكر الله والله‬
‫تفسير البيضاوي)‪ .(2/44‬أ ّ‬
‫‪308‬‬

‫خير الماكرين‘]النفال‪[30:‬إّنما هو بمعنى جزاء مكرهم‪،‬فهو حقيقة في الول مجاز في‬


‫الثاني‪.‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪َ(1/208‬و)‪.(10/202‬وإّنما وقع هذا)لّنه بحذائه وجواب له‪،‬فهو‬
‫لفظ خرج على مثال لفظ‪،‬والعرب تفعل ذلك إذا جعلوه جوابا له أو جزاء ذكروه مثل لفظه‪،‬وإن‬
‫كان مخالفا له في المعنى( الزرقاني‪:‬محمد بن عبد الباقي بن يوسف‪)،‬ت ‪1122‬هـ(‪،‬شرح‬
‫الزرقاني على موطأ المام مالك‪:4،‬أجزاء‪،‬ط‪،1:‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1411،‬هـ‪).‬‬
‫‪،(1/348‬وسأشير إليه لحقا هكذا)شرح الزرقاني(‪.‬‬
‫‪309‬فيض القدير)‪(6/276‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪ 310‬التعاريف)‪(1/673‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪] 311‬القصص‪.[4:‬‬
‫‪312‬انظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(2/812‬وتفسير البغوي)‪(3/434‬وتفسير الصنعاني)‪(3/87‬وتذكرة الريب‬
‫في تفسير الغريب)‪(1/54‬وزاد المسير)‪(6/201‬وتفسير النسفي)‪.(3/226‬‬

‫‪65‬‬
‫وهذا من باب سياسة فرق تسد‪،‬وقد أتقنها فرعون لتسّهل عليه مهمة‬
‫السيطرة على الناس؛فالفئة المستفيدة من هذه التفرقة ستدافع عن‬
‫النظام القائم لنها إنما تدافع عن مصالحها وامتيازاتها التي كسبتها من هذه‬
‫التفرقة‪،‬وبهذا يضمن ِقسما من الناس يؤّيده مهما كانت سياسته‪،‬ما دام‬
‫هؤلء مستفيدين من الوضع الذي خططت له الطغمة الحاكمة بشخص‬
‫فرعون‪.‬‬
‫ومن المكر والحتيال صرف نظر الجماهير كي ل ترى الحقيقة التي‬
‫يخشاها فرعون ومن شاكله سعيا منهم لتزوير الحقيقة وقلب‬
‫الموازين‪،‬ولهذا نادى فرعون في قومه و’’قال يا قوم أليس لي ملك‬
‫مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون‪،‬أم أنا خير من‬
‫هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين‘‘‪.313‬إّنه ينادي قوما تعودوا التعلق‬
‫بالحياة الدنيا وزخارفها‪،‬ل يتطلعون إل ّ إلى الرض‪.‬إّنه يلفت أنظارهم إلى ما‬
‫دم لهم المغريات‪.‬‬ ‫تعلقت به قلوبهم وامتلت به عقولهم‪،‬ويق ّ‬
‫وفي تلك اللحظة التي بهر بها أبصارهم‪-‬فلم يعودوا يروا غير المال‬
‫والثروة‪،‬ولسان حالهم يقول فيها يا ليتنا نحظى بالقرب من السلطان‪-‬ينفث‬
‫فرعون في روعهم مراده‪’’:‬فلول ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء‬
‫ن رسل الله ينبغي أن يكونوا‬ ‫معه الملئكة مقترنين‘‘‪)،314‬فأوهم قومه أ ّ‬
‫ن رسل الله إّنما أ ُّيدوا بالجنود‬ ‫كرسل الملوك في الشاهد‪،‬ولم يعلم أ ّ‬
‫ن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من‬ ‫ل عاقل يعلم أ ّ‬‫السماوية‪،‬وك ّ‬
‫فرعون مع كثرة أتباعه‪،‬وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن‬
‫يكون له أسورة أو ملئكة يكونوا معه أعوانا‪ ،‬أو دليل على صدقه‪،‬وليس يلزم‬
‫ن العجاز كاف‪،‬وقد كان من الجائز أن يكذب مع مجيء الملئكة كما‬ ‫هذا ل ّ‬
‫كذب مع ظهور اليات‪،‬وذكر فرعون الملئكة حكاية عن لفظ موسى لّنه ل‬
‫يؤمن بالملئكة من ل يعرف خالقهم(‪.315‬ولكّنها الخديعة التي انطلت عليهم‬
‫من متمرس في المكر والحتيال‪.‬‬
‫ويمكننا أن نرى المكر الذي تميزت به شخصية فرعون من خلل حواره‬
‫مع موسى عليه السلم عندما بّلغه رسالة الله‪،‬فكان رد ّ فرعون خبيثا مراوغا‬
‫يريد تحويل الحوار عن مجراه‪،‬فبدل من مجابهة الحجة والبرهان عدل إلى ما‬
‫ظّنه احتقار وازدراء لموسى‪’’،‬قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا‬
‫من عمرك سنين‪،‬وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من‬
‫ن عليه والحتقار‪،317‬فهو المكر الذي‬ ‫‪316‬‬
‫الكافرين‘‘ ‪.‬قال هذا على جهة الم ّ‬
‫ن موسى عليه السلم لم يكن ليربى في قصور‬ ‫يخفي الحقائق‪،‬ذلك أ ّ‬
‫الظالمين لول القتل والتعذيب الذي مارسه فرعون على بني إسرائيل‪،‬ورغم‬
‫هذه الحقيقة المّرة فقد جاء فرعون في حديثه مع موسى عليه السلم على‬
‫آخر القصة المرعبة متحايل في منطقه لخفاء السباب التي جاءت بموسى‬
‫إلى قصوره‪،‬فتلك نعمة تفاخر بها فرعون وقد جاءت عقب تعبيد بني‬
‫إسرائيل وإذللهم‪.‬‬

‫‪] 313‬الزخرف‪.[52-51:‬‬
‫‪] 314‬الزخرف‪.[53:‬‬
‫‪315‬تفسير القرطبي)‪.(101-16/100‬‬
‫‪] 316‬الشعراء‪.[19-18:‬‬
‫‪317‬انظر‪:‬القرطبي)‪.(95-13/94‬‬

‫‪66‬‬
‫وبدأ فرعون يحتال بكل الوسائل للقضاء على موسى عليه‬
‫السلم‪،‬فيحرض الناس ويستثير فيهم الحمية الدينية الباطلة‪،‬فهو بحاجة إلى‬
‫ث الّناس للدفاع عن الدين‬ ‫ح ّ‬
‫حشد كل الطاقات بأيّ وسيلة كانت‪،‬وأهمها َ‬
‫التي ألفته الّنفوس‪’’:‬وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه‬
‫إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد‘‘‪.318‬أي‬
‫أريد قتله خوفا عليكم من أن يغير حالكم وعبادتكم إلى عبادة ربه‪،‬مخفيا‬
‫بذلك خوفه هو من تغيير الحكام والوضاع التي يحرص عليها‪،‬ولكّنه احتال‬
‫‪319‬‬
‫عليهم ليظهر وكأّنه يخشى أن يضل موسى الّناس ويغير دينهم وعاداتهم ‪.‬‬
‫م أظهر لهم أّنه يخشى عليهم الفساد الذي سيقع بين الناس بسبب‬ ‫ث ّ‬
‫الخلف والفتنة؛فيقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم إذا ظهروا عليكم كما‬
‫كنتم تفعلون بهم‪،‬وهو بهذا يحشدهم في حربه ضد موسى عليه السلم‪.‬أو‬
‫أّنه أراد بالفساد ظهور عبادة رب موسى الذي يدعوهم إلى عبادته‪،‬وذلك‬
‫كان عنده هو الفساد‪.‬فجعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره فى‬
‫الرض واهتداء الناس به فسادا‪ ،‬وليس الفساد إل ما هو عليه هو ومن تابعه‬
‫‪.320‬‬
‫ن هذا المكر السيء الذي يقلب الحقيقة تماما ما زلنا‬ ‫ومن العجيب أ ّ‬
‫نسمعه هنا وهناك‪،‬حيث يحذر الفراعنة الجدد من ظهور الفساد وخراب البلد‬
‫ن الطاغوت ُيوحي‬ ‫مونهم بأسماء كثيرة ومتعددة؛ذلك أ ّ‬ ‫على أّيد من يس ّ‬
‫ّ‬
‫ن زواله لن يكون إل بتخريب البلد وتحويلها إلى دمار كامل‬ ‫للجماهير أ ّ‬
‫ن الطاغوت ُيخّير الّناس بين القبول بالواقع الذي يعيشه الّناس‬ ‫وشامل‪،‬وكأ ّ‬
‫في ظل الطاغوت‪،‬وبين الدمار الشامل الذي ينتظرهم إذا ما قام هؤلء‬
‫دعون الصلح بعزل الطاغوت وتدميره!وقد تنطلي تلك المناورة‬ ‫الذين ي ّ‬
‫على بعض الجهلة‪،‬فيروحون يحذرون من الفتنة!ويروجون للمثل‬
‫القائل‪:‬عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة‪،‬فيقبلون بالفتات الذي‬
‫ُتسكتهم به حكومة الطاغوت‪.‬‬
‫وهكذا هو تمويه الطواغيت وتلبيسهم على الجماهير‪،‬كما كان يدعي‬
‫ن الّنبي صلى الله عليه وسّلم ُيفرق بين المرء وأخيه‪،‬فهو‪-‬‬ ‫طواغيت مكة أ ّ‬
‫مونه بالوحدة‬ ‫بزعمهم‪-‬تهديد خطير للمن الداخلي‪،‬وتفكيك لما ُيس ّ‬
‫الوطنية‪،‬وما ذلك إل ّ من أجل البقاء على الوضع القائم‪.‬فبعض الّناس يرضى‬
‫بالفتات وشيء من الخوف‪،‬وبعضهم ل تنطلي عليهم تلك المناورة ويعلمون‬
‫ن زوال الطاغوت معناه سطوع الشمس بعد غياب طويل‪.‬وصدق فيهم‬ ‫أ ّ‬
‫‪321‬‬
‫قول الله تعالى‪’’:‬أل إّنهم هم المفسدون ولكن ل يشعرون‘‘ ‪.‬‬
‫ن إشغال الّناس وإبعادهم عن الحداث بقضايا تافهة‪،‬أو تشكيكهم‬ ‫إ ّ‬
‫بالعقيدة التي قد تشكل خطرا على الوضاع القائمة على الباطل‪،‬أو حتى‬
‫ل ذلك وأبعد منه‬‫تشويهها واللغو المتعمد فيها لتعكير صفائها ونقائها…ك ّ‬
‫يحاوله فرعون بمكر وخداع‪،‬فعندما)قال مؤمن آل فرعون ما قال‪،‬وخاف‬
‫فرعون أن يتمكن كلم هذا المؤمن في قلوب القوم‪،‬أوهم أّنه يمتحن ما جاء‬

‫‪] 318‬غافر‪.[26:‬‬
‫‪319‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(4/78‬‬
‫‪ 320‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير)‪(4/77،78‬وتفسير الطبري)‪(24/57‬والسيوطي‪:‬أبو بكر‪،‬جلل الدين‬
‫عبد الرحمن بن الكمال‪)،‬ت ‪911‬هـ(‪ ،‬الدر المنثور‪8،‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪1993 ،‬م‪).‬‬
‫‪،(7/284‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الدر المنثور(وفتح القدير)‪(4/488‬وزاد المسير)‪.(7/416‬‬
‫‪] 321‬البقرة‪.[12:‬‬

‫‪67‬‬
‫به موسى من التوحيد‪،‬فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم‪،‬وإن لم يصح ثبتهم‬
‫على دينهم‪،‬فأمر وزيره هامان ببناء الصرح(‪’’،322‬وقال فرعون يا هامان‬
‫ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب أسباب السموات فأطلع الى‬
‫إله موسى وإني لظنه كاذبا‘‘‪،‬أي)قصرا طويل لعلي أبلغ أبواب‬
‫السموات وأطرافها التي توصلني إليها(‪).323‬وأراد بصنيعه هذا أن يوهم به‬
‫الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلة‬
‫والسلم(‪،324‬ولهذا قال تعالى‪’’:‬وما كيد فرعون إل في‬
‫تباب‘‘‪،325‬أي)وما احتيال فرعون الذي يحتال للطلع إلى إله موسى إل في‬
‫ل وغبن(‪.326‬‬
‫خسار وذهاب ما ٍ‬
‫وه فرعون الطاغية ويحاور ويداور‪،‬كي ل يواجه الحق‬ ‫)وهكذا يم ّ‬
‫جهرة‪،‬ول يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه‪،‬وتهدد الساطير التي قام‬
‫عليها ملكه‪.‬وبعيد عن الحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه‪.‬وبعيد أن‬
‫يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو الساذج‪،‬وقد بلغ فراعنة‬
‫مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور‪.‬إنما هو الستهتار والسخرية من‬
‫جهة‪.‬والتظاهر بالنصاف والتثبت منه جهة أخرى‪.‬وربما كانت هذه خطة‬
‫للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن(‪،327‬وكل‬
‫هذه الفروض تدل على القدرة الكبيرة التي يتمتع بها فرعون في المكر‬
‫والحتيال‪،‬فهو يظهر غير ما يبطن ببراعة وذكاء‪.‬‬
‫داهم على سلطانه شرع يمكر بكل ما‬ ‫وحين أحس فرعون بالخطر ال ّ‬
‫ن هذا لساحر عليم‪،‬يريد أن‬ ‫يستطيع ويحتال‪،‬و’’قال للمل حوله ‪ :‬إ ّ‬
‫‪328‬‬
‫جه الخطاب‬ ‫يخرجكم من أرضكم بسحره ‪ ،‬فماذا تأمرون‘‘ ‪.‬فهو يو ّ‬
‫للمل المستقرين حوله‪-‬فهم ل يغادرون السلطان‪،‬ويلتصقون به حفاظا على‬
‫ن السحر‪،‬وفي قولة فرعون هذه‬ ‫ن هذا لساحر عليم‪،‬فائق في ف ّ‬ ‫مصالحهم‪ -‬إ ّ‬
‫ميها سحرا‪،‬فهو يصف ساحرها بأّنه‬ ‫يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يس ّ‬
‫ساحر عليم‪.‬ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به بقوله‪-‬للمل‬
‫والجماهير من بعدهم‪-‬يريد أن يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها‬
‫وتوطنتموها بسحره‪ ،‬وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلم وابتغاء الغوائل‬
‫له ‪،‬إذ من أصعب الشياء على الّنفوس مفارقة الوطن لسيما إذا كان ذلك‬
‫قسرا‪ ،‬وهو السر في نسبة الخراج والرض إليهم ‪،329‬فأظهر لهم غير ما‬
‫كتمه في نفسه من خوفه على عرشه وسلطانه‪.‬‬
‫ن فرعون استعمل هذه الخديعة قبل بدء المباراة‪،‬تحريضا‬ ‫والعجيب أ ّ‬
‫ل جهد مستطاع’’قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك‬ ‫منه لحشد ك ّ‬
‫‪330‬‬
‫يا موسى‪،‬فلنأتينك بسحر مثله‘‘ ‪.‬ورددها المل من بعده‪،‬يريدون‬
‫ن هذا لساحر‬ ‫الحتيال على الجماهير‪’’،‬قال المل من قوم فرعون إ ّ‬

‫‪322‬تفسير القرطبي)‪.(15/314‬‬
‫‪323‬تفسير الواحدي)‪.(2/945‬‬
‫‪324‬تفسير ابن كثير)‪.(4/81‬‬
‫‪]325‬غافر‪.[37:‬‬
‫‪326‬تفسير الطبري)‪.(24/66‬‬
‫‪327‬في ظلل القرآن)‪.(184-7/183‬‬
‫‪] 328‬الشعراء‪.[35:‬‬
‫‪329‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(3/334‬وتفسير أبي السعود)‪(6/241‬وتفسير النسفي)‪(3/184‬وروح‬
‫المعاني)‪.(19/76‬‬
‫‪] 330‬طه‪.[58-57:‬‬

‫‪68‬‬
‫عليم‪،‬يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‘‘‪.331‬وقالها‬
‫السحرة بعد أن تنازعوا أمرهم بينهم قبل بدء المباراة‪’’:‬قالوا إن هذان‬
‫‪332‬‬
‫م يعود‬ ‫لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما‘‘ ‪.‬ث ّ‬
‫مّتهما‬‫غلب يحتال بها على الّناس ويخدعهم‪ُ ،‬‬ ‫إليها فرعون بعد أن ُقهر و ُ‬
‫ن‬‫السحرة بالنضمام إلى المؤامرة بعد إعلنهم اليمان‪’’،‬قال فرعون إ ّ‬
‫هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف‬
‫تعلمون‘‘‪،333‬وكأّنهم تواطؤا جميعا عليها بعد أن ابتدعها فرعون‪،‬لما لهذه‬
‫الخديعة من أثر في الّنفوس‪.‬‬
‫ده على السحرة عندما أعلنوا‬ ‫وتظهر شخصيته الماكرة في ر ّ‬
‫ن هذا لمكر مكرتموه في المدينة‬ ‫إيمانهم‪،‬فاتهمهم بما هو متلبس به‪’’،‬إ ّ‬
‫‪334‬‬
‫ن غلبته لكم في‬ ‫لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون‘‘ ‪.‬والمعنى إ ّ‬
‫يومكم هذا إّنما كان على تشاور منكم ورضا منكم لذلك ‪،‬وحيلة احتلتموها‬
‫أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور‬
‫غلبوا ول انقطعت‬ ‫المعجزة‪،‬وهذا تمويه منه على القبط‪،‬يريهم أّنهم ما ُ‬
‫ن‬
‫ن هذا الذي قاله من أبطل الباطل‪،‬فإ ّ‬ ‫ل من له لب‪-‬أ ّ‬‫حجتهم‪.‬وهو يعلم‪-‬وك ّ‬
‫موسى عليه السلم بمجرد ماجاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر‬
‫المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ماجاء به‪،‬فعند ذلك أرسل‬
‫فرعون في مدائن مملكته فجمع سحرة متفرقين من سائر القاليم ببلد‬
‫مصر ممن إختار هو والمل من قومه‪،‬وأحضرهم عنده‪،‬ووعدهم بالعطاء‬
‫الجزيل‪،‬ولهذا قد كانوا أحرص الّناس على ذلك وعلى الظهور في مقامهم‬
‫ذلك والتقدم عند فرعون‪ ،‬وموسى عليه السلم ل يعرف أحدا منهم ول رآه‬
‫ول اجتمع به وفرعون يعلم ذلك‪،‬وإّنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع‬
‫دولته وجهلتهم ‪،335‬وبهذا قلب فرعون الحقيقة‪،‬فهو الذي يمكر ويدبر في‬
‫الخفاء ويجمع السحرة ويحشد الّناس والعوان ويوزع الدوار وينفق‬
‫ل من يدين بمثل‬ ‫الموال… ولكّنه المكر والحتيال الذي يتقنه فرعون وك ّ‬
‫منهجه‪.‬‬
‫وتهمة أخرى وبدعة كبرى تنتجها عقلية فرعون الماكرة‪،‬فهو لم يّتهم‬
‫موسى بأّنه تلميذ نجيب للسحرة‪،‬بل هو –بزعم فرعون‪-‬كبير السحرة‬
‫ومعلمهم‪،‬وذلك هو قول فرعون‪’’:‬إّنه لكبيركم الذي علمكم‬
‫السحر‘‘‪،336‬أي لعظيمكم ورئيسكم في التعليم وعنه أخذتم السحر‪،‬وإّنما‬
‫غلبكم لّنه أحذق به منكم‪،‬أو لّنه علمكم شيئا دون شيء‪،‬ولو قال تلميذكم‬
‫لما صح هذا المعنى الذي أراده لعنه الله‪.‬أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم‬
‫عليه‪ ،‬وأراد به التلبيس والخداع على قومه ليشتبه المر عليهم كي ل‬
‫يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق‪،‬وإل ّ فقد علم فرعون أّنهم لم‬
‫يتعلموا من موسى بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولدته‪،‬ولكّنها‬

‫‪] 331‬العراف‪.[110-109:‬‬
‫‪] 332‬طه‪.[62:‬‬
‫‪]333‬العراف‪.[123:‬‬
‫‪] 334‬العراف‪.[123:‬‬
‫‪335‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/239‬وفتح القدير)‪(2/234‬وتفسير النسفي)‪(2/30‬وروح المعاني)‬
‫‪.(9/27‬‬
‫‪] 336‬طه‪.[71:‬‬

‫‪69‬‬
‫مكابرة يعلم كل واحد بطلنها‪،‬فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم‪،‬‬
‫فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ‪337‬؟‬
‫وتظهر شخصيته الماكرة المخادعة في طريقة تصّرفه ومخاطبته‬
‫لتباعه بعد أن علم بخروج بني إسرائيل خفية‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأرسل‬
‫فرعون في المدائن حاشرين‪،‬إن هؤلء لشرذمة قليلون‪،‬وإنهم‬
‫‪339 338‬‬
‫ما علم بخروج بني‬ ‫لنا لغائظون‪،‬وإنا لجميع حاذرون ‘‘ ‪،‬فإّنه ل ّ‬
‫إسرائيل)اشتد غضبه عليهم لما يريد الله به من الدمار‪،‬فأرسل سريعا في‬
‫ن‬
‫بلده حاشرين‪،‬أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب‪،‬ونادى فيهم‪:‬إ ّ‬
‫هؤلء يعني بني إسرائيل’’لشرذمة قليلون‘‘أي لطائفة قليلة‪’’،‬وإّنهم لنا‬
‫لغائظون‘‘أي كل وقت يصل إلينا ما يغيظنا‪’’،‬وإنا لجميع حاذرون‘‘أي نحن‬
‫كل وقت نحذر من غائلتهم‪ ،‬وإّني أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد‬
‫خضراءهم(‪.340‬‬
‫فانظر كيف رّتب خطابه‪،‬حيث أشار أول إلى عدم ما يمنع اتباعهم من‬
‫م إلى‬ ‫شوكتهم‪،‬يريد أنهم لقلتهم ل يبالي بهم ول يتوقع غلبتهم وعلوهم‪،‬ث ّ‬
‫تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم‪،‬لّنهم يفعلون أفعال تغيظنا وتضيق‬
‫صدورنا‪،‬فيجب التيقظ في شأنهم لّننا قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال‬
‫الحزم في المور‪،‬فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إخماده‪.‬وهذه معاذير‬
‫اعتذر بها إلى أهل المدائن لئل يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه‬
‫‪،341‬وبهذه العقلية الماكرة أخفى فرعون ما أراد إخفاءه‪.‬‬
‫ل شأنه كان له‬ ‫ولكن ماذا كانت نتيجة مكره؟كانت وبال عليه‪،‬فالله ج ّ‬
‫بالمرصاد‪،‬يعلم تدبيره ويطلع على مكره‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ول يحيق المكر‬
‫السيء إل ّ بأهله‘‘‪ .342‬أي)وما يعود وبال ذلك إل عليهم أنفسهم دون‬
‫‪343‬‬
‫من‬‫غيرهم( ‪.‬فهل يتعظ المعاصرون بما حدث للغابرين؟فليسوا هم بأشد م ّ‬
‫سبقهم مكرا ول تدبيرا ول كيدا‪،‬فأخذهم الله بذنوبهم وكانت عاقبة أمرهم‬
‫خسرا‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر‬
‫جميعا‘‘‪،344‬لقد جّرب الولون فضّروا بمكرهم أنفسهم لنهم أسخطوا ربهم‬
‫بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم ونجى رسله‪،‬فهو أحكم تدبيرا و أعظم‬
‫كيدا‪.345‬‬
‫دعاة إلى الله فنذكرهم بوصية الله لنبيه صلى الله عليه‬ ‫ما ال ّ‬
‫وأ ّ‬
‫وسّلم‪،‬حيث يقول سبحانه‪’’:‬واصبر وما صبرك إل بالله ول تحزن‬
‫ّ‬
‫ما يمكرون‘‘‪).346‬فل يضيق صدره بمكرهم‬ ‫عليهم ول تك في ضيق م ّ‬
‫‪337‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/238‬وتفسير القرطبي)‪(11/224‬وتفسير ابن كثير)‬
‫‪(3/159،366‬وتفسير ابي السعود)‪(6/243‬وروح المعاني)‪.(19/79‬‬
‫‪)338‬قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو )وإنا لجميع حذرون( بغير ألف‪،‬وقرأ الباقون‪) :‬حاذرون(باللف‪،‬‬
‫أي مؤدون مقوون أي ذوو أداة و ذوو سلح و قوة‪،‬فالحاذر المستعد والحذر المتيقظ أي قد أخذنا‬
‫حذرنا وتأهبنا وقالوا‪:‬الحاذر الذي يحذر الن والحذر المخلوق حذرا ل تلقاه إل حذرا حذرا وكان‬
‫الكسائي يقول أصلهما واحد من الحذر(حجة القراءات)‪.(1/517‬‬
‫‪]339‬الشعراء‪.[56-53:‬‬
‫‪340‬تفسير ابن كثير )‪.(3/336،337‬‬
‫‪341‬انظر‪ :‬تفسير البيضاوي)‪(4/239‬وتفسير أبي السعود)‪(6/244‬وتفسير النسفي)‪.(3/186،187‬‬
‫‪]342‬فاطر‪.[43:‬‬
‫‪343‬تفسير ابن كثير)‪.(3/563‬‬
‫‪]344‬الرعد‪.[42:‬‬
‫‪345‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(13/175‬‬
‫‪]346‬الّنحل‪.[127:‬‬

‫‪70‬‬
‫فإنما هو داعية لله‪،‬فالله حافظه من المكر والكيد‪،‬ل يدعه للماكرين‬
‫الكائدين‪،‬وهو مخلص في دعوته ل يبتغي من ورائها شيئا لنفسه‪،‬وقد يقع به‬
‫ن العاقبة‬ ‫الذى لمتحان صبره‪،‬ويبطيء عليه النصر لبتلء ثقته بربه‪،‬ولك ّ‬
‫مظنونة ومعروفة‪،‬فل عليه ممن يكيدون وممن يمكرون(‪.347‬‬
‫عبرة المبحث‪’’:‬ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘‘‪.348‬‬
‫لقد حاق المكر السيء بأهله‪،‬فأغرق الله فرعون وجنوده‪..‬وها هم‬
‫أهل مكة أجبروا الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة بسبب‬
‫مكرهم وتآمرهم فأقام الله له دولة!فلماذا ل يتعظ اللحقون بالسابقين؟‬
‫ن‬
‫ولت لهم أنفسهم أ ّ‬ ‫أم أّنهم يحسبون أنفسهم على المكر أقدر؟فلربما س ّ‬
‫ما لديهم من الخطط والمكانيات أكثر‪،‬ولكن قد مكر الطواغيت من‬
‫قبلهم’’وعند الله مكرهم‘‘‪.349‬أي)عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم‬
‫وإبطال له(‪.350‬‬
‫ن الطواغيت يلجأون‪-‬رغم عدوانيتهم وعنفهم‪-‬إلى المكر والحتيال حين‬ ‫إ ّ‬
‫ل يستطيعون استخدام القوة‪،‬أو حين يحسون بالخطورة من‬
‫ل وسائل‬ ‫استخدامها‪،‬وبسبب انعدام الخلق والقيم فالطاغوت يستعمل ك ّ‬
‫المكر والدسيسة للوصول إلى هدفه‪،‬ول يشعر حين يرتكب جريمته بأي نوع‬
‫من التأنيب‪،‬بل ويستغل كل مناسبة لبتزاز الخرين‪،‬ولكي ل ينكشف أمره‬
‫وعها‪،‬فمرة بإلصاق تهمة مدبرة ومرة بالتظاهر‬ ‫فهو يطور وسائل الحتيال وُين ّ‬
‫ة مع أطراف وأشخاص متعددين يتقنون‬ ‫في َ ً‬‫خ ْ‬
‫بالصلح والتقوى‪..‬ويشترك ِ‬
‫الحتيال الجماعي‪،‬وبهذه العقلية الماكرة الخبيثة المتشعبة يصعب أحيانا‬
‫كشف المؤامرة‪،‬كما يصعب إقناع الّناس بها‪،‬فهي بحاجة إلى متابعة وفحص‬
‫وتدقيق وربط بين أجزائها‪،‬وهذا ما نلحظه في عالمنا من توسيع لدوائر‬
‫مونه بما‬ ‫المكر والحتيال‪،‬حتى أصبح للمكر مؤتمرات سرّية دورية‪،‬وهو ما يس ّ‬
‫وراء السطور!‬
‫كما تمتاز شخصية الطاغوت بالقدرة على التمثيل كلما اقتضت الحاجة‬
‫ل‬‫لتسويق خدعته‪،‬فيلبس ثوب الدين والوطنية والقومية والعلمانية‪..‬فَل ِك ُ ّ‬
‫ما يتفاعل مع تلك الحركات التمثيلية‪،‬وبهذا‬ ‫مناسبة ثوبها‪،‬وُينشؤون رأيا عا ّ‬
‫ُيفسر خوفهم من التفكير والتعبير كي ل يظهر الفرق بين التمثيل والحقيقة‪.‬‬
‫ما يفسر لنا‬ ‫ما كان الطاغوت يشعر بالخطر فهو على حذر دائم‪،‬م ّ‬ ‫ول ّ‬
‫شدته وغلظته على مخالفيه‪،‬وقمعهم والحتيال لتدميرهم‪،‬فهم يشكلون‬
‫مصدر الخوف والقلق للطاغوت‪،‬ويفسر لنا جهده الدائم على إيجاد جماهير‬
‫ساذجه تنطلي عليها حيله ومكره‪،‬وتقبل بالواقع على مرارته مع آمال وهمية‬
‫في المستقبل‪.‬‬
‫ن الدواء الوحيد أمام احتيال ومكر الطواغيت هو الوعي واليقظة‬ ‫إ ّ‬
‫والنتباه؛لّنه بدون الجماهير الساذجة والجاهلة ل يستطيع الطاغوت أن يمرر‬
‫مفرغة من المضمون القيمي والخلقي هي وسيلة‬ ‫مؤامراته‪،‬فالجماهير ال ُ‬
‫الطاغوت كما أّنها محل جريمته‪.‬وليس معنى هذا أن الباب مفتوح لتوعية‬
‫ن الطاغوت سيضع العقبات والعراقيل أمام القوى الفاعلة‬ ‫الجماهير‪،‬بل إ ّ‬
‫الواعية في المجتمع‪،‬وسيتهمها بالخروج والزندقة!فعملية التوعية بحاجة إلى‬
‫‪ 347‬في ظلل القرآن)‪(294-5/293‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]348‬النفال‪.[30:‬‬
‫‪]349‬ابراهيم‪.[46:‬‬
‫‪ 350‬تفسير البيضاوي)‪.(3/355‬‬

‫‪71‬‬
‫صبر وثبات ومثابرة وتضحية كما تحتاج إلى القيادة الواعية الحكيمة القادرة‬
‫رغم الظروف المأساوية أن تصل إلى الجماهير لتعبئتهم وتوعيتهم‪،‬فتحولهم‬
‫من أكداس بشرية خاوية ميتة إلى جماهير واعية حّية مثقفة بصيرة بواقعها‬
‫وحالها ومآلها‪.‬‬
‫نتيجة الفصل‪:‬العقدة الساسية في شخصية فرعون‬
‫لمعرفة العقدة الساسية في شخصية فرعون ل بد ّ من استحضار‬
‫المهمة التي ُبعث بها موسى عليه السلم‪،‬وهي إرسال بني إسرائيل من‬
‫قبضة فرعون والكف عن تعذيبهم‪،‬وذلك ما ُيرشد إليه قوله تعالى‪’’:‬فأتياه‬
‫فقول إّنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ول ُتعذبهم قد‬
‫جئناك بآية من ربك والسلم على من اتبع الهدى‪،‬إّنا قد أوحي‬
‫ذب وتولى‘‘‪.351‬وقوله تعالى‪’’:‬فأتيا‬ ‫ن العذاب على من ك ّ‬ ‫إلينا أ ّ‬
‫فرعون فقول إّنا رسول رب العالمين‪،‬أن أرسل معنا بني‬
‫‪353‬‬ ‫‪352‬‬
‫م‬
‫إسرائيل‘‘ ‪.‬أي)أطلقهم ول تعذبهم بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان( ‪،‬ث ّ‬
‫ما حمله هذا الخطاب من هجوم واضح على أهم ما تقوم عليه شخصية‬
‫فرعون من دعوى اللوهية والربوبية‪،‬وظهر ذلك في قول موسى‬
‫وهارون‪’’:‬إّنا رسول ربك‘‘‪،354‬والمعنى أّنهما)ُأمرا بذلك تحقيقا للحق من‬
‫أول المر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه(‪355‬؛فالمهمة بطرفيها‬
‫المترابطين متصلة بالّنزعة الفوقية‪،‬وهي العقدة الساسية في شخصية‬
‫ن دعوى فرعون لللوهية والربوبية تكشف لنا عن مدى‬ ‫فرعون؛وبيان ذلك أ ّ‬
‫مهِ في‬ ‫خ ِ‬
‫ض ّ‬
‫وق على الخرين‪،‬فالشعور بالتفوق وت َ َ‬ ‫ما يشعر به من فوقية وتف ّ‬
‫نفس فرعون أدى به إلى ادعاء اللوهية والربوبية‪،‬وذلك ليضع نفسه في‬
‫إطار من القدسية ُيشبع تلك المشاعر‪.‬ولهذا تعرض موسى عليه السلم في‬
‫ما القضية الثانية فهي ناتجة عن الشعور‬ ‫خطابه لهذه العقدة الساسية‪.‬أ ّ‬
‫بالفوقية أيضا‪،‬حيث أفرز هذا الشعور المتضخم سلوكا تسلطيا من‬
‫فرعون‪،‬فتسلط على من هم تحت يده‪،‬ولهذا كانت القضية الثانية في‬
‫الخطاب إرسال بني إسرائيل‪.‬‬
‫ومن العوامل المساعدة في إيجاد هذه النزعة عند فرعون أّنه ُولد‬
‫ونشأ في عائلة مالكة تتمتع بالجاه والسلطة‪،‬فهو من سللة الملوك‪،‬فتربى‬
‫ن فرعون نفسه امتاز عن غيره بثبات ملكه‬ ‫مإ ّ‬ ‫في بيئة تتنفس تلك النزعة‪،‬ث ّ‬
‫ما غذى تلك النزعة عنده‪.‬يقول تعالى‪’’:‬وفرعون ذو‬ ‫وقوته م ّ‬
‫‪357‬‬ ‫‪356‬‬
‫ن قوة الّنظام تنعكس على‬ ‫الوتاد‘‘ ‪.‬أي ذو الملك الثابت ‪،‬ول شك أ ّ‬
‫ن)ذو الوتاد‪:‬صفة فرعون ل لجميع ما قبله وإل‬ ‫شخصية فرعون نفسه‪.‬ل ّ‬
‫لقيل ذوو الوتاد(‪.358‬‬
‫لقد ظهرت النـزعة الفوقية لفرعون في مقارنته لنفسه مع موسى‬
‫عليه السلم‪،‬يقول تعالى حكاية لقول فرعون‪’’:‬أم أنا خير من هذا الذي‬

‫‪] 351‬طه‪.[48-47:‬‬
‫‪]352‬الشعراء‪.[17-16:‬‬
‫‪353‬تفسير البيضاوي)‪.(53-4/52‬‬
‫‪] 354‬طه‪.[47:‬‬
‫‪355‬تفسير ابي السعود)‪.(6/19‬‬
‫‪]356‬الفجر‪.[10:‬‬
‫‪ 357‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(155-15/154‬وتفسير البيضاوي)‪(39-5/38‬ومعاني القرآن)‪.(6/85‬‬
‫‪358‬روح المعاني)‪.(23/170‬‬

‫‪72‬‬
‫ن احتقار الخرين‬ ‫هو مهين ول يكاد يبين‘‘‪،359‬أي)ضعيف حقير(‪360‬؛ذلك أ ّ‬
‫وازدرائهم من إفرازات النـزعة الفوقية‪،‬فهو يرى كل ما عداه حقيرا تافها ل‬
‫قيمة له‪.‬وهنا ندرك علة عدم اكتراث الطواغيت بآلم الجماهير‬
‫وعذاباتهم‪،‬فهم‪-‬أي الطواغيت‪-‬يتصورون الّناس كائنات منـزوعة الحاسيس‬
‫والمشاعر‪.‬‬
‫ونلحظ هذا الظهور‪-‬لتلك الّنزعة‪-‬في رده على المل حين طلبوا منه حل ً‬
‫لمشكلة موسى‪،‬فرد عليهم بقوله‪’’:‬وإّنا فوقهم قاهرون‘‘‪.361‬وأراد‬
‫بالفوقية العلو المعنوي وليس العلو المكاني‪،362‬وتلك هي العقدة الساسية‬
‫التي تتفرع عنها باقي الخصائص في شخصية فرعون‪،‬والتي تمثلت آثارها‬
‫مَرضي ومنهجه التعسفي‪.‬‬ ‫في سلوك فرعون ال َ‬
‫ن دعوى اللوهية والربوبية تعبير ظاهري عن تلك‬ ‫ولنا أن نقرر أ ّ‬
‫الّنزعة‪،‬بلغت أقصى درجاتها حين أوجب فرعون على الّناس أن يتوجهوا إليه‬
‫بنوع من العبادة‪،‬بينما هو في داخله يعبد ذاته‪.‬من هنا كان المتناع عن قبول‬
‫ن قيام البرهان أو عدمه ليس هو‬ ‫الحق مهما أوتي صاحبه من برهان؛ذلك أ ّ‬
‫المشكلة ما دامت تلك الشخصية ترفض أي وضع ل تستطيع فيه التعبير عن‬
‫ن العبيد ليس‬ ‫مكنوناتها الّنفسية‪،‬ولزم من ذلك الستعلء والستبداد؛ذلك أ ّ‬
‫لهم وظيفة بين يدي الله والرب المزعوم سوى السمع والطاعة والتنفيذ‪،‬ول‬
‫يملكون حق التصرف ولو في أنفسهم‪.‬‬
‫ن الطغيان وتجاوز الحد في المعصية ببلوغ أسفل الدركات قد تمثل‬ ‫إ ّ‬
‫بادعاء فرعون لللوهية والربوبية كتعبير ظاهري عن مشاعر الّتفوق‬
‫والفوقية‪،‬ولزم من ذلك الظلم بكل معانيه وأنواعه وتصاريفه حين وضع‬
‫فرعون نفسه في غير موضعها‪،‬وصاحب تلك الدعوى الفساد والفساد‪،‬إذ‬
‫كيف يكون الصلح في وضع قائم على مفسدة كبرى صار العبد فيها ربا‬
‫وإلها!فكل ما ُيبنى على تلك المقدمة الفاسدة سيصيبه الخلل والعوار‪.‬‬
‫ما كانت دعواه تصادم الفطرة وتدعو للّنفور أسرف في الجريمة‬ ‫ول ّ‬
‫واستكثر منها لسكات المعارضين‪،‬وفي المقابل كان المكر والحتيال لتمرير‬
‫ن فرعون يعيش عقدة داخلية متمثلة بشعوره أّنه صغير‬ ‫تلك الكذوبة؛ذلك أ ّ‬
‫ما يضطره للحتيال الدائم لخفاء الحقيقة وللتعويض عن‬ ‫يخشى النكشاف‪،‬م ّ‬
‫صَغر الذي يشعر به‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫وفرعون واهم مغرور اغتر بما لديه‪،‬وخدعه زخرف الدنيا والجاه‬
‫ده‪،‬فهو‬ ‫كذبه الواقع وير ّ‬ ‫والسلطان والقوة‪،‬وتخّيل‪-‬بسبب انبهاره بما لديه‪-‬ما ي ّ‬
‫ليس إلها ول ربا‪،‬فحصلت على عينّيه غشاوة حجبت عنه الرؤية‬
‫ول إلى ماء‪،‬وهكذا‬ ‫ن السراب ل يتح ّ‬ ‫ن هذا ل يغّير الحقيقة‪،‬كما أ ّ‬ ‫الصحيحة‪،‬ولك ّ‬
‫الغرور نوع من الوهم والتخّيل في المحصلة‪.‬‬
‫إّننا ما زلنا نعاني من تلك الّنزعة التي تظهر بين حين وآخر حيث تخرج‬
‫جه‬
‫مو ّ‬‫وق والفوقية‪،‬ويقوم العلم ال ُ‬ ‫علينا شخصيات مريضة تشعر بالتف ّ‬
‫بالتعبير عن مكنونات تلك الّنفس الخبيثة المترفعة…فلوله‪-‬كما ُيقال‪-‬لما‬
‫دم البلد أو القطر أو المملكة أو الجمهورية‪،‬ولوله لما كانت المدارس‬ ‫تق ّ‬
‫والجامعات والمعاهد والمصانع…وهو مع هذا كّله عبقري ل ُيراجع له‬
‫‪]359‬الزخرف‪.[52:‬‬
‫‪360‬تفسير الجللين)‪.(1/652‬‬
‫‪]361‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪362‬انظر‪:‬اتقان ما يحسن من الخبار)‪.(2/19‬‬

‫‪73‬‬
‫قرار‪،‬فلقد جاد الزمان به!وهو الرياضي الول والعسكري والملهم…والّناس‬
‫ينادونه بصاحب الجللة أو صاحب العظمة…وهو مولى النعمة وجالب‬
‫الخير…وأقواله تشريع وأفعاله سنن!يعني تماما أّنه رب أو إله يعبد!‬

‫ون شخصية فرعون‬ ‫الفصل الثاني‪:‬السباب التي أدت إلى تك ّ‬


‫المبحث الول‪ :‬الكفر‬
‫المبحث الثاني‪:‬المحافظة على المكتسبات الخاصة‬
‫المبحث الثالث‪:‬فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون‬
‫ومساندتهم له‬

‫الفصل الثاني‬
‫ون شخصية فرعون‬
‫السباب التي أدت إلى تك ّ‬
‫ل شيء‬‫ل شيء يتوصل به إلى غيره‪ ،‬والجمع أسباب‪.‬وك ّ‬ ‫)السبب‪-‬لغة‪-‬ك ّ‬
‫‪363‬‬
‫يتوصل به إلى الشيء فهو سبب( ‪،‬واصطلحا‪):‬ما يلزم من وجوده الوجود‬
‫ومن عدمه العدم لذاته(‪.364‬‬

‫‪363‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬سبب)‪(1/458‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬سبب)‪.(119‬‬


‫‪ 364‬البهوتي‪ :‬منصور بن يونس بن إدريس‪ ،‬كشاف القناع عن متن القناع‪،‬‬
‫‪6‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬هلل مصيلحي مصطفى هلل‪،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪1402،‬هـ‪ (4/404).‬وانظر‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫ن ظهور هذه الشخصية له أسبابه‪،‬فشخصية‬ ‫مما لشك فيه أ ّ‬ ‫ن ّ‬‫إ ّ‬
‫كشخصية فرعون‪-‬وبهذه الخصائص التي أشرت إليها سابقا‪-‬تجعل النسان‬
‫يفكر كيف يصل إنسان إلى هذا الدرك من النحطاط والفجور والعتو!‬
‫ل من تمّتع بفطرة سليمة وصحة نفسّية‪،‬مخافة أن يقع‬ ‫وهوتساؤل يطرحه ك ّ‬
‫بمثل هذا الشر‪،‬ولكي يمنع وقوعه إذا استطاع ذلك‪.‬‬
‫ن‬
‫ن السباب مقدمات إن وجدت وجدت النتائج المترتبة عليها‪،‬فإ ّ‬ ‫ول ّ‬
‫مية بيانها للّناس‪.‬للوقاية أول‪،‬ولمعرفة‬ ‫القرآن الكريم بّين هذه السباب له ّ‬
‫العلج لها إن حدثت ثانيا‪،‬فمعرفة سبب المرض تسّهل الوقاية منه‪،‬كما ل‬
‫يكون العلج إل ّ بمعرفة السبب‪.‬‬
‫ن تشخيص المرض سابق للبحث عن أسبابه‬ ‫ولكن ل بد ّ من ملحظة أ ّ‬
‫وطرق علجه‪،‬إذ من غير المعقول أن نبحث عن أسباب لمرض ل نعرفه أو‬
‫عن علج لداء نجهله‪.‬من هنا كان ل بد ّ أن نبدأ بتشخيص هذه الحالة‬
‫دمت خصائص شخصية فرعون‪-‬والتي تمثل تشخيصا للحالة‬ ‫المرضية‪،‬فق ّ‬
‫م إن تقديم تشخيص الحالة‬ ‫المرضية‪-‬عن البحث عن أسباب ظهورها‪،‬ث ّ‬
‫المرضية بكل ما تحمله من مساويء تجعل النسان يسأل بإلحاح عن‬
‫ما يضيف إلى البحث عنصر التشويق‪.‬‬ ‫أسباب ظهورها‪،‬م ّ‬
‫ونعود إلى السؤال‪:‬ما هي أسباب ظهور هذه الشخصية؟‬
‫وللجابة ل بد ّ من استقصاء السباب التي ذكرها القرآن الكريم أو أشار‬
‫إليها أو أمكن فهمها من واقع فرعون الذي أخبرنا القرآن عنه‪.‬حيث يمكننا‬
‫ون وظهور شخصية فرعون بالخصائص‬ ‫إجمال تلك السباب التي أدت إلى تك ّ‬
‫التي ذكرناها في ثلثة أسباب هي‪-1:‬الكفر ‪-2‬والمحافظة على المكتسبات‬
‫الخاصة ‪-3‬وفسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم‬
‫له‪.‬ولقد أفردت لكل سبب منها مبحثا مستقل‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الكفر‬
‫)الكفر نقيض اليمان‪،‬وكفر بالله يكفر كفرا وكفورا وكفرانا‪ .‬ويقال‬
‫لهل دار الحرب‪:‬قد كفروا أي عصوا وامتنعوا‪.‬والكفر كفر النعمة وهو نقيض‬
‫الشكر‪،‬والكفر جحود النعمة وهو ضد الشكر‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬إّنا بكل‬
‫كافرون‘‘‪365‬أي جاحدون‪.‬وكفر نعمة الله يكفرها كفورا و كفرانا‪،‬وكفر بها‬
‫مكفر مجحود النعمة مع إحسانه‪.‬‬ ‫جحدها وسترها‪.‬وكافره حقه جحده‪،‬ورجل ُ‬
‫ورجل كافر جاحد لنعم الله مشتق من الستر‪،‬وقيل‪:‬لنه مغطى على‬
‫قلبه(‪.366‬والكفر)تغطية ما حقه الظهار‪،‬والكفران ستر نعمة المنعم بترك‬
‫أداء شكرها‪،‬وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة‪،‬والكفران‬
‫في جحود النعمة أكثر استعمال‪،‬والكفر في الدين أكثر(‪،367‬و)الكافر الليل‬
‫ل شيء غطى شيئا فقد كفره‪،‬ومنه‬ ‫ل شيء‪.‬وك ّ‬‫المظلم لّنه ستر بظلمته ك ّ‬

‫السبكي‪:‬علي بن عبد الكافي‪)،‬ت ‪،(756‬البهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول‬


‫إلى علم الصول للبيضاوي‪،‬جزءان‪،‬ط ‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1404،‬هـ‪).‬‬
‫‪(1/206‬والنفراوي‪ :‬أحمد بن غنيم بن سالم المالكي‪)،‬ت ‪،(1125‬الفواكه الدواني على‬
‫رسالة ابن أبي زيد القيرواني‪،‬جزءان‪،،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪1415،‬هـ‪.(1/114).‬‬
‫‪]365‬القصص‪.[48:‬‬
‫‪366‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬كفر )‪.(5/144‬‬
‫‪367‬التعاريف)‪.(1/606‬‬

‫‪75‬‬
‫سمي الكافر لّنه يستر نعم الله عليه‪،‬والكافر الزارع لّنه يغطي البذر‬
‫بالتراب و الكفار الزراع(‪.368‬‬
‫)قال بعض أهل العلم‪:‬الكفر على أربعة أنحاء‪ :‬كفر إنكار بأن ل يعرف‬
‫الله أصل ول يعترف به‪،‬وكفر جحود‪،‬وكفر معاندة‪،‬وكفر نفاق‪،‬من لقي ربه‬
‫ما كفر النكار‬ ‫بشيء من ذلك لم يغفر له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‪ .‬فأ ّ‬
‫ما كفر‬‫فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ول يعرف ما يذكر له من التوحيد… وأ ّ‬
‫ما كفر‬ ‫الجحود فأن يعترف بقلبه ول يقر بلسانه فهو كافر جاحد… وأ ّ‬
‫المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ول يدين به حسدا وبغيا…‬
‫ما كفر الّنفاق فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ول يعتقد بقلبه(‪.369‬‬
‫وأ ّ‬
‫وفي الشرع‪:‬الكفر)إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم به‪،‬مما أشتهر حتى عرفه الخواص والعوام(‪،370‬ويمكننا أن نعرفه‬
‫‪371‬‬
‫ي‬
‫إصطلحا‪:‬على أّنه)ستر الحق بالجحود( ‪.‬وهذا يشمل كل من كفر بأ ّ‬
‫حق‪،‬سواء كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أم نبوة غيره من النبياء‬
‫عليهم السلم‪،‬كما جحد فرعون نبوة موسى عليه السلم‪.‬‬
‫ل مفسدة‪،‬فليس بعد الكفر ذنب؛‬ ‫ل خطيئة وأساس ك ّ‬ ‫والكفر رأس ك ّ‬
‫‪372‬‬
‫فالكفر ظلم‪’’،‬والكافرون هم الظالمون‘‘ ‪).‬أي ول ظالم أظلم ممن‬
‫وافى الله يومئذ كافرا(‪،373‬لّنهم)الواضعون جحودهم في غير‬
‫موضعه‪،‬والفاعلون غير ما لهم فعله‪،‬والقائلون ما ليس لهم قوله(‪.374‬‬
‫ت ل أصل له‪،‬يقول تعالى‪’’:‬والذين كفروا‬ ‫منب ٌ‬
‫والكفر ظلمة وسراب‪ُ ،‬‬
‫أعمالهم كسراب بقيعة‪،‬يحسبه الظمآن ماء ‪ ،‬حتى إذا جاءه لم‬
‫يجده شيئا ‪ ،‬ووجد الله عنده فوفاه حسابه ‪ .‬والله سريع‬
‫الحساب ‪ .‬أو كظلمات في بحر لجي ‪ ،‬يغشاه موج من فوقه موج‬
‫‪ ،‬من فوقه سحاب ‪ .‬ظلمات بعضها فوق بعض ‪ ،‬إذا أخرج يده لم‬
‫يكد يراها ‪ .‬ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‘‘‪).375‬فالكفر‬
‫ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون‪.‬وضلل ل يرى فيه القلب‬
‫أقرب علمات الهدى‪.‬ومخافة ل أمن فيها ول قرار…ومن لم يجعل الله له‬
‫نورا فما له من نور(‪.376‬‬
‫ما‬
‫ما بالعبارة المباشرة وإ ّ‬
‫ولقد بّين القرآن الكريم حقيقة كفر فرعون‪،‬إ ّ‬
‫من خلل أقواله وأفعاله التي تدل على كفره‪.‬ولسنا هنا بصدد استقصاء كل‬
‫ن فرعون‬ ‫الدلة التي تثبت كفره ‪،‬إّنما يكفي منها ما يبرهن على ذلك لنعلم أ ّ‬
‫م لنرى بعد ذلك كيف كان الكفر سببا في تكوين وتشكيل‬ ‫من الكافرين‪،‬ث ّ‬
‫ن كل رذيلة تلبس فيها فرعون أو جريمة ارتكبها لم‬ ‫شخصية فرعون‪،‬بمعنى أ ّ‬
‫تكن بهذه الصورة وهذا الحجم المأساويّ لول كفره وعدم إيمانه‪.‬‬
‫والدلة على كفره كثيرة منها‪:‬‬

‫‪ 368‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬كفر)‪.(239‬‬
‫‪369‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬كفر)‪(5/144‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪370‬روح المعاني)‪(1/127‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(1/137‬‬
‫‪371‬تفسير النسفي)‪.(1/14‬‬
‫‪] 372‬البقرة‪.[254:‬‬
‫‪373‬تفسير ابن كثير)‪.(1/305‬‬
‫‪374‬تفسير الطبري)‪.(3/4‬‬
‫‪] 375‬الّنور‪.[40-39:‬‬
‫‪ 376‬في ظلل القرآن)‪(6/108‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫قوله تعالى‪’’:‬واستكبر هو وجنوده في الرض بغير الحق‬
‫ن فرعون من الذين‬ ‫وظّنوا أّنهم إلينا ل يرجعون‘‘‪.377‬والشاهد فيها أ ّ‬
‫ظّنوا أّنهم ل يرجعون إلى الله‪،‬فمعنى الية أن فرعون وجنوده اعتقدوا‬
‫وحسبوا أّنهم إلى الله ل يرجعون بالنشور‪،‬فل قيامة ول معاد‪،‬فهم ل يؤمنون‬
‫‪378‬‬
‫ن هنا شك‪،‬فكفر على الشك‬ ‫بالبعث بعد الموت فل ثواب ول عقاب ‪.‬و)الظ ّ‬
‫ن هنا‬‫ن الظ ّ‬ ‫لّنه قد رأى من البراهين ما ل ُيخّيل على ذي فطرة(‪)،379‬وقيل‪:‬أ ّ‬
‫ذب موسى عليه الصلة‬ ‫بمعنى اليقين(‪).380‬وهذا من كفره وتمرده أّنه ك ّ‬
‫ن الله عز وجل أرســله إليه(‪،381‬‬‫والسلم في أ ّ‬
‫)ويحتمل أن يكون عنى به كاذبا في دعوى الرسالة‪،‬وأن يكون عنى به كاذبا‬
‫ن له إلها غيري(‪،382‬وأيّ المعنيين أراد فرعون بقوله فهو كفر‪.‬‬ ‫في دعوى أ ّ‬
‫ل‬‫وقوله تعالى‪’’:‬وقال موسى إّني عذت بربي وربكم من ك ّ‬
‫ن موسى عليه السلم‬ ‫متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‘‘‪ .383‬والشاهد فيها أ ّ‬
‫دده فرعون‬ ‫ما ه ّ‬
‫قصد بالمتكبر الذي ليؤمن بيوم الحساب فرعون‪،‬وذلك)ل ّ‬
‫بالقتل استعاذ موسى بالله من كل متكبر‪،‬أي متعظم عن اليمان وصفته أّنه‬
‫ل يؤمن بيوم الحساب(‪)،384‬لّنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب‬
‫بالجزاء وقلة المبالة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على‬
‫ن من لم يؤمن بيوم‬ ‫الله وعباده ولم يترك عظيمة إل ّ ارتكبها(‪385‬؛ذلك)أ ّ‬
‫الحساب لم يكن للثواب على الحسان راجيا ول للعقاب على الساءة وقبيح‬
‫ما يأتي من الفعال خائفا‪،‬ولذلك كانت استجارته من هذا الصنف من الّناس‬
‫خاصة(‪)،386‬ويدخل فرعون في هذا العموم دخول أوليا(‪.387‬‬
‫ومن الدلة على تكذيبه وكفره قوله تعالى‪’’:‬فأراه الية‬
‫م أدبر يسعى‘‘‪ .388‬فكذب نبي الله موسى‬ ‫الكبرى‪،‬فكذب وعصى‪،‬ث ّ‬
‫م أدبر يسعى أي ولى‬ ‫وعصى رّبه عز وجل بعد ظهور الية وتحقق المر‪ ،‬ث ّ‬
‫مدبرا معرضا عن اليمان وطاعة ربه‪،‬يسعى أي يعمل بالفساد في‬
‫الرض‪.‬وقيل‪:‬يعمل في نكاية موسى لبطال دعوته مجتهدا في معارضة ما‬
‫جاء به موسى عليه السلم ‪.389‬‬
‫وكما أّنه عاش كافرا مات كافرا‪،‬حيث لم يقبل الله توبته‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه ل إله إل الذي آمنت‬
‫به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‘‘‪).390‬فآمن حيث ل ينفعه‬
‫ما رأوا بأسنا قالوا آمّنا بالله وحده وكفرنا بما كّنا به‬ ‫اليمان‪’’،‬فل ّ‬
‫‪] 377‬القصص‪.[39:‬‬
‫‪378‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(20/174‬وتفسير البيضاوي)‪(4/294‬وتفسير ابن كثير)‪(3/391‬وفتح‬
‫القدير)‪(4/174‬وزاد المسير)‪.(6/223‬‬
‫‪ 379‬تفسير القرطبي)‪.(13/289‬‬
‫‪380‬تفسير القرطبي)‪.(5/315‬‬
‫‪381‬تفسير ابن كثير)‪(4/81‬وانظر‪:‬فتح القدير)‪.(4/492‬‬
‫‪382‬روح المعاني)‪.(24/70‬‬
‫‪]383‬غافر‪.[27:‬‬
‫‪384‬تفسير القرطبي)‪(15/305‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(4/78‬‬
‫‪385‬تفسير النسفي)‪(4/72‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(24/63‬‬
‫‪386‬تفسير الطبري)‪.(24/57‬‬
‫‪387‬فتح القدير)‪.(4/488‬‬
‫‪] 388‬الّنازعات‪.[22-20:‬‬
‫‪389‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(30/40‬وتفسير البيضاوي)‪(5/447،448‬وفتح القدير)‪(5/376‬وتفسير‬
‫القرطبي)‪.(19/202‬‬
‫‪] 390‬العراف‪.[90:‬‬

‫‪77‬‬
‫ما رأوا بأسنا سّنة الله التي‬ ‫مشركين‪،‬فلم يك ينفعهم إيمانهم ل ّ‬
‫‪391‬‬
‫قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون‘‘ ‪.‬ولهذا قال الله تعالى‬
‫في جواب فرعون حين قال ما قال’’آلن وقد عصيت قبل‘‘‪.392‬أي أهذا‬
‫الوقت تقول وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه’’وكنت من‬
‫‪393‬‬
‫مة يدعون‬ ‫المفسدين‘‘ ‪.‬أي في الرض الذين أضلوا الناس وجعلناهم أئ ّ‬
‫إلى الّنار ويوم القيامة ل ينصرون‪،‬وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون‬
‫من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم(‪.394‬‬
‫بعض نتائج الكفر وآثاره في شخصية فرعون‬
‫أول نتائج الكفر وأقساها أن تحل لعنة الله على من كفر‪،‬يقول‬
‫ما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على‬ ‫تعالى‪’’:‬فل ّ‬
‫‪395‬‬
‫الكافرين‘‘ ‪.‬فليس هناك أي مظهر للرحمة ل في حياته ول حين مماته‬
‫ول بعد موته‪.‬فأينما يكون الكفر تحل اللعنة‪،‬ومن هنا ندرك العلة في اختفاء‬
‫مظاهر الرحمة والتراحم في كثير من بقاع الرض‪.‬‬
‫ن الكفر أّدى بفرعون إلى الضلل عن الطريق المستقيم‪’’،‬ومن‬ ‫إ ّ‬
‫‪396‬‬
‫ّ‬
‫دل الكفر باليمان فقد ضل سواء السبيل‘‘ ‪.‬أي )فقد خرج عن‬ ‫يتب ّ‬
‫الطريق المستقيم إلى الجهل والضلل‪،‬وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق‬
‫النبياء واتباعهم والنقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والقتراح عليهم‬
‫ن)المنافق‬ ‫بالسئلة التي ل يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر(‪397‬؛ذلك أ ّ‬
‫والكافر استبدل بالهدى الضللة والنفاق؛فأضّلهما الله وسلبهما نور الهدى‬
‫فترك جميعهم في ظلمات ل يبصرون(‪،398‬وهذا يفسر لنا حالة العمىالتي‬
‫عاشها فرعون وسبب انحرافه وشدة غّيه‪،‬وتعدى ذلك إلى إضلل قومه‬
‫وعدم هدايتهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘‪.399‬‬
‫ما‬
‫وكفر فرعون دليل على فسقه‪،‬لّنه ل يكفر بآيات الله إل الفاسقون‪،‬م ّ‬
‫يفسر لنا تمرده على الله‪،‬ويبّين لنا أسباب عتوه وفجوره‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إل‬
‫ن‬‫الفاسقون‘‘‪.400‬وما دامت العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪،‬فإ ّ‬
‫ل من يكفر بآيات الله فهو من الفاسقين الخارجين عن أمر الله المتمردين‬ ‫ك ّ‬
‫عليه‪.‬‬
‫وبسبب كفره كان فرعون على رّبه ظهيرا‪،‬وهي حقيقة بّينها القرآن‬
‫كقاعدة عامة بقوله تعالى‪’’:‬وكان الكافر على ربه ظهيرا‘‘‪.401‬أي)معينا‬
‫للشيطان على ربه مظاهرا له على معصيته(‪،402‬فهو معين للشيطان على‬
‫رّبه بأفعاله وأقواله ومنهجه…‪،‬كما أّنه داعيا لكل الّناس الذين يحكمهم إلى‬
‫‪] 391‬غافر‪.[85-84:‬‬
‫‪] 392‬يونس‪.[91:‬‬
‫‪] 393‬يونس‪.[91:‬‬
‫‪394‬تفسير ابن كثير)‪.(2/431‬‬
‫‪]395‬البقرة‪.[89:‬‬
‫‪] 396‬البقرة‪.[180:‬‬
‫‪397‬تفسير ابن كثير)‪.(1/154‬‬
‫‪398‬تفسير الطبري)‪.(1/139‬‬
‫‪]399‬طه‪.[79:‬‬
‫‪] 400‬البقرة‪.[99:‬‬
‫‪] 401‬الفرقان‪.[55:‬‬
‫‪ 402‬تفسير الطبري)‪.(19/26‬‬

‫‪78‬‬
‫عدم توحيد الله‪،‬بل وطلب منهم أن يعتبروه إلها لهم‪،‬وهو أيضا معاونا‬
‫ن حربا ل هوادة فيها عليهم‪،‬يقتلهم ويعذبهم‬ ‫للشيطان على أولياء الله‪،‬فقد ش ّ‬
‫ويسجنهم ويتهمهم بالجنون‪.‬‬
‫ّ‬
‫والكفر سبب في غروره‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إن الكافرون إل في‬
‫غرور‘‘‪،403‬أي)إل في غرور عظيم وضلل فاحش من جهة الشيطان ليس‬
‫لهم في ذلك شيء يعتد به(‪.404‬وسبب في استكباره‪،‬يقول تعالى‪’’:‬بل‬
‫الذين كفروا في عزة وشقاق‘‘‪،405‬أي في استكبار وحمية شديدة ل‬
‫يذعنون للحق‪.406‬وسبب في مكره وكذبه واحتياله‪،‬يقول تعالى‪’’:‬بل الذين‬
‫ذبون‘‘‪.407‬وسبب في حياته البهيمية‪،‬يقول تعالى‪’’:‬والذين‬ ‫كفروا ُيك ّ‬
‫‪408‬‬
‫كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل النعام‘‘ ‪)،‬كأنهم أنعام ليس لهم‬
‫همة إل بطونهم وفروجهم ساهون عما في غدهم(‪.409‬‬
‫ن الكفر‬‫ن كفر فرعون سبب في استواء النذار له من عدمه؛ذلك أ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ن الذين كفروا سواء عليهم‬ ‫حجاب يمنع المعرفة والعلم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫طوا الحق وستروه‬ ‫أأنذرتهم أم لم تنذرهم ل يؤمنون‘‘‪410‬؛ذلك لّنهم غ ّ‬
‫فاستوى النذار وعدمه عندهم‪.411‬‬
‫ل فرعون‪،‬فمن وحل‬ ‫لقد استبان سبب الخلل الذي أصاب الحياة في ظ ّ‬
‫الكفر نبتت تلك الشخصية بما فيها من غرور واستكبار واستبداد…ومن أجل‬
‫بيان هذا الترابط بين الكفر وأثره أهتم القرآن بتلك القصة العجيبة‪.‬‬
‫ن الخلل في أي جزء من العقيدة له آثار مدمرة‬ ‫تنبيه ل بدّ منه‪:‬إ ّ‬
‫على الفرد والمجتمع‬
‫ن عدم إيمان فرعون بيوم الحساب يبين لنا سببا مهما في ظهور هذه‬ ‫إ ّ‬
‫ن‬
‫ن)اليمان باليوم الخر له أثر عظيم في حياة الّناس‪،‬ذلك أ ّ‬ ‫الشخصية؛ذلك أ ّ‬
‫اليمان به وبما فيه من جّنة ونار وحساب وعقاب‪،‬وثواب وفوز وخسران له‬
‫أشد ّ الثر في توجيه النسان وانضباطه والتزامه بالعمل الصالح وتقوى الله‬
‫ل‪،‬وشتان ما بين اثنين‪:‬أحدهما ل يعتقد ببعث ول حساب على أعماله‬ ‫عز وج ّ‬
‫وأقواله‪،‬ول يقيده غير مصلحته الشخصية ومنفعته الذاتّية‪،‬وآخر يعتقد بيوم‬
‫يحاكم فيه النسان على أعماله وأقواله أمام أعدل العادلين فيثاب على‬
‫الخير‪،‬ويعاقب على الشر‪.‬فالول منفلت من أي ضابط سوى هواه‬
‫خُلق وأي عمل‪،‬مهما‬ ‫وشهوته‪،‬والغاية عنده غاية أنانية تبرر أي وسيلة وأي ُ‬
‫كان ضرره‪.‬والخر منضبط في حدود الحق والخير والصلح‪،‬وهي المور التي‬
‫لها وزن واعتبار عند الله في ذلك اليوم(‪، ،412‬كما قال تعالى‪’’:‬والوزن‬
‫يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون‪،‬ومن‬

‫‪]403‬الملك‪.[20:‬‬
‫‪404‬روح المعاني)‪.(29/18‬‬
‫‪]405‬ص‪.[2:‬‬
‫‪406‬انظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(7/213‬وتفسير البيضاوي)‪.(5/35‬‬
‫‪]407‬النشقاق‪.[22:‬‬
‫‪]408‬محمد‪.[12:‬‬
‫‪409‬تفسير الطبري)‪(16/235‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(4/176‬‬
‫‪]410‬البقرة‪.[6:‬‬
‫‪411‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(1/46‬‬
‫‪412‬ياسين‪:‬محمد نعيم‪،‬اليمان أركانه حقيقته نواقضه‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،3‬الطابعون‪،‬جمعية عمال‬
‫مان‪1402،‬هـ‪1982،‬م‪.(75-74).‬‬ ‫المطابع التعاونية‪،‬ع ّ‬

‫‪79‬‬
‫خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا‬
‫يظلمون‘‘‪.413‬‬
‫ن هناك حياة أخرى‪،‬وبتصوره‬ ‫ن الذي ل يؤمن بالبعث والّنشور ل يؤمن أ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫هذا يعتبر هذه الحياة فرصته الوحيدة ‪،‬فيكون جشعا في اغتنام فرصته‬
‫الوحيدة‪-‬حسب تصوره واعتقاده‪،-‬وسيعمل بكل ما أوتي من قدرة على‬
‫ي مادي ليرى رسالة له سوى تحقيق أكبر‬ ‫استغلل فرصته الوحيدة‪،‬فهو نفع ّ‬
‫قدر من اللذة‪،‬وهذا سبب في انتشار العقلية الّنفعية في العالم‪،‬بل وسبب‬
‫في نشوء مذهب الرأسمالية‪.‬فما دام النسان ل يؤمن بالحياة الخرى فلن‬
‫يتوانى في سبيل تحقيق رغباته ومطالبه بأي وسيلة كانت لشباع نهمه‪،‬وهو‬
‫ن ما ل‬
‫يرى فرصته الوحيدة تأكلها اليام والسنون‪..‬فتغيب الخلق حتما ل ّ‬
‫يحقق لذة أو يجلب منفعة ل ُيقبل في حياتهم‪.‬‬
‫ن أيّ خلل في العقيدة له آثار سلبية‪،‬ومثال ذلك ما حصل لبني‬ ‫إ ّ‬
‫ذبوا في النار إل ّ أياما معدودات‪’’،‬ذلك‬ ‫إسرائيل حين اعتقدوا أّنهم لن ُيع ّ‬
‫بأنهم قالوا‪:‬لن تمسنا الّنار إل أياما معدودات وغّرهم في دينهم‬
‫ما كانوا يفترون‘‘‪414‬أي)بما كانوا يختلقون من الكاذيب والباطيل في‬
‫ن الله قد وعد أباهم يعقوب أن ل يدخل‬ ‫ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه‪،‬وأ ّ‬
‫‪415‬‬
‫أحدا من ولده الّنار إل تحلة القسم( ‪،‬فحملهم ذلك التصور الخرق على‬
‫ارتكاب المعاصي‪،‬وجّرأهم على مخالفة الحق حتى صاروا مثل للمنحرفين‬
‫والفاسقين‪،‬وأدى ذلك بهم إلى تحريف كتب الله وقتل النبياء…فكيف إذا‬
‫ن كفر فرعون أغلظ من كفرهم وأسوأ؟!‬ ‫علمنا أ ّ‬
‫من هنا ندرك خطورة ما تقوم به الجاهلية اليوم من إبعاد الّناس عن‬
‫دينهم سواء كان هذا البعاد بإنكار الخالق كما في الفكر الشيوعي‪،‬أو بإهمال‬
‫دين عن الحياة‬ ‫القضية الغيبية وحصرها في زاوية محدودة‪،‬وذلك بفصل ال ّ‬
‫ة‬
‫دين وجعله صورة باهت ً‬ ‫ث الّناس على عدم احترام ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫كما في العلمانية‪،‬أو ب ِ َ‬
‫دين هو السبب وراء انتشار‬ ‫ن هذا القصاء لل ّ‬ ‫ل أثر له في واقع حياتهم…ل ّ‬
‫الجرائم الكبرى التي تمارسها السلطات الحاكمة‪،‬والجرائم الصغرى التي‬
‫يمارسها العالم السفلي!فهناك الرشوة والمحسوبية والصفقات المشبوهة‬
‫ما سبب‬ ‫ل ذلك آثار المرض‪،‬أ ّ‬ ‫والمخدرات والسرقة والغش والحتكار…وك ّ‬
‫المرض فهي ضعف اليمان أو انعدامه في القلوب‪.‬‬
‫الكفر عارض واليمان أصيل‬
‫ن بعض الّناس نتيجة لما يرون من الكفر والكافرين‪-‬وخصوصا‬ ‫قد يظ ّ‬
‫ن اليمان‬‫ن الكفر أصل في النسان وأ ّ‬ ‫طلعهم على قصة فرعون‪-‬أ ّ‬ ‫عند ا ّ‬
‫ن الله تعالى‬‫طارىء‪،‬وهذا عكس الحقيقة التي يقررها القرآن والسّنة؛ذلك أ ّ‬
‫فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأّنه ل إله غيره‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأشهدهم‬
‫ن الله تعالى فطر‬ ‫على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى‘‘‪416‬؛)ذلك أ ّ‬
‫خلقه على السلم ثم طرأ على بعضهم الديان الفاسدة كاليهودية‬
‫والنصرانية والمجوسية(‪.417‬يقول تعالى‪’’:‬فأقم وجهك للدين حنيفا‪،‬‬

‫‪]413‬العراف‪.[9-8:‬‬
‫‪]414‬آل عمران‪.[24:‬‬
‫‪415‬تفسير الطبري)‪.(3/219‬‬
‫‪]416‬العراف‪.[172:‬‬
‫‪417‬تفسير ابن كثير)‪.(3/433‬‬

‫‪80‬‬
‫فطرة الله التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق الله‪ ،‬ذلك‬
‫الدين القيم ولكن اكثر الناس ل يعلمون‘‘‪.418‬‬
‫يقول صلى الله عليه وسلم‪’’:‬ما من مولود إل يولد على الفطرة فأبواه‬
‫يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون‬
‫فيها من جدعاء‘‘‪ ،419‬ومعناه)أّنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة‬
‫على الجبلة المستقيمة ل يولد أحد إل على ذلك‪،‬ول تفاوت بين الناس في‬
‫ذلك(‪.420‬وفي الحديث القدسي’’وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم‪،‬وإنهم أتتهم‬
‫الشياطين فاجتالتهم عن دينهم‪،‬وحرمت عليهم ما أحللت لهم‪،‬وأمرتهم أن‬
‫يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا‘‘‪.421‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫المحافظة على المكتسبات الخاصة‬
‫ن المحافظة على المكتسبات الخاصة التي مّيز فرعون بها نفسه‬ ‫إ ّ‬
‫كانت من أهم السباب التي أدت إلى ظهور هذه الشخصية‪،‬ومن أهم‬
‫كلتها‪،‬فالمحافظة على المكتسبات انعكاس للستئثار الذي‬ ‫العوامل التي ش ّ‬
‫تميزت به شخصية فرعون‪.‬وفي نفس الوقت كان الحرص على متاع الحياة‬
‫الدنيا والتكالب عليها نتيجة لما يحمله فرعون من تصور فاسد حول هذه‬
‫الحياة‪،‬فهو كافر منكر للبعث والّنشور‪،‬وكل من ينكر اليوم الخر تزداد‬
‫شراهته ونهمه في الحياة الدنيا‪،‬وبهذا تكون المحافظة على المكتسبات‬
‫ن الحرص على متاع الحياة الدنيا والتعلق بها أحد‬ ‫الخاصة نتيجة وسببا؛ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫موانع اليمان‪’’،‬ذلك بأّنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة وأ ّ‬
‫الله ل يهدي القوم الكافرين‘‘‪،422‬أي بسبب أّنهم اختاروا نعيم الدنيا‬
‫‪423‬‬
‫م يكون الحرص سببا للكفر ونتيجة له كذلك؛‬ ‫على نعيم الخرة ‪.‬ومن ث ّ‬
‫فالعلقة بين الكفر والحرص على متاع الحياة الدنيا علقة تبادلية‪.‬‬
‫ن الحرص من طبيعة ابن آدم‪،‬يقول صلى الله عليه وسلم‪’’:‬لو كان‬ ‫إ ّ‬
‫ن له واديا آخر ولن يمل فاه إل التراب والله‬ ‫لبن آدم واد من ذهب أحب أ ّ‬
‫يتوب على من تاب‘‘‪،424‬فكيف إذا أضيف لهذه الطبيعة قلب ينكر البعث‬
‫والخرة؟!لذا كان فرعون شرسا في جمع الدنيا!ومن هنا نفهم قوله‬
‫تعالى‪’’:‬ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‘‘‪.425‬أي)حرصها‬
‫على المال(‪.426‬‬

‫‪]418‬الروم‪.[30:‬‬
‫ْ‬
‫خلق الولين(‪:‬دين‬‫‪419‬صحيح البخاري‪،‬كتاب التفسير‪،‬باب)ل تبديل لخلق الله(‪:‬لدين الله‪َ )،‬‬
‫الولين‪.‬والفطرة السلم‪(5/512).‬رقم)‪.(4775‬‬
‫‪420‬تفسير ابن كثير)‪.(3/433‬‬
‫‪ 421‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪،‬باب في صفة يوم القيامة)‪(4/2197‬رقم)‬
‫‪.(2865‬‬
‫‪]422‬النحل‪.[107:‬‬
‫‪423‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(14/182‬وتفسير القرطبي)‪.(10/192‬‬
‫‪424‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الزكاة‪،‬باب لو أن لبن آدم واديين لبتغى ثالثا )‪(2/725‬رقم)‪.(1048‬‬
‫‪]425‬الحشر‪.[9:‬‬
‫‪426‬تفسير الجللين)‪.(1/731‬‬

‫‪81‬‬
‫وق‬‫ن أتباع الرسل كانوا من الفقراء والضعفاء الذين ل يع ّ‬ ‫ومن المعلوم أ ّ‬
‫إيمانهم مصلحة ول جاه ول مال ول سلطة‪،‬وهذا ما نطق به هرقل لبي‬
‫سفيان في حواره معه حين قال‪’’:‬وسألتك أشراف الّناس يّتبعونه أم‬
‫ن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‘‘‪،427‬وفي هذا‬ ‫ضعفاؤهم فزعمت أ ّ‬
‫وقات‬ ‫بعض ما نفهم به ظهور شخصية فرعون‪،‬إذ أن تلك المكتسبات مع ّ‬
‫ل ما ليس له به حق‪.‬‬ ‫ن إيمان فرعون يعني التنازل عن ك ّ‬ ‫لليمان‪،‬ل ّ‬
‫لقد تراكمت على قلب فرعون ظلمات بعضها فوق بعض)من حب‬
‫الدنيا وحب الجاه وحب الثناء وحب الرياسة وحب الشهوات وفتن الدنيا…‬
‫فإذا عرض عليه ذكر شيء هو حق‪-‬وعلى الحق نور‪-‬حالت الظلمة بين نور‬
‫الحق ونور القلب فلم يمتزجا‪،‬ولم يعرف القلب ذلك الحق فصاحبه في‬
‫ظلمة‪،‬وإذا عرض أمر هو باطل‪-‬وعلى الباطل ظلمة‪-‬امتزج الباطل بظلمة‬
‫الشهوات ورين الذنوب(‪.428‬يقول الله تعالى‪’’:‬كل بل ران على قلوبهم‬
‫ما كانوا يكسبون‘‘‪،429‬والران)صدأ الذنوب الذي سود قلوبهم‪،‬فلم يصل‬
‫إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله ول من إجلله ومهابته‬
‫وخشيته(‪.430‬‬
‫المكتسبات أو المتيازات التي تمتع بها فرعون‬
‫ما‬
‫تدور تلك المكتسبات حول نوعين‪:‬الول‪:‬الحكم‪،‬والثاني‪:‬والملك‪.‬أ ّ‬
‫الحكم والجاه والسلطان وحب الرياسة فذلك عند فرعون حالة‬
‫صب نفسه إلها وأعلن ذلك على المل بقوله‪’’:‬يا أيها المل‬ ‫هستيرية‪،‬فقد ن ّ‬
‫‪431‬‬
‫ما علمت لكم من إله غيري‘‘ ‪.‬وهدد موسى عليه السلم حيث قال‬
‫له‪’’:‬لئن اتخذت إلها غيري لجعلّنك من المسجونين‘‘‪.432‬وهو الذي‬
‫قال‪’’:‬أنا ربكم العلى‘‘‪.433‬بمعنى أّنه ل راد ّ لقوله ول معقب لحكمه!‬
‫يرسم ما يشاء ويأمر بما يشاء‪،‬فهي إرادة ملكية سامية‪،‬فهو المتفرد المستبد‬
‫بكل أمر‪،‬والّناس عبيد ينفذون‪،‬فهذه وظيفتهم‪.‬إّنه الحاكم المطلق وعلى‬
‫الجماهير أن تقدسه وتسبح بحمده!‬
‫وهذا ما نلحظه في بعض الوضاع السائدة حيث تستعمل بعض‬
‫دالة على هذا التوجه الفوقي التسلطي‪،‬فيقول الفرد عن نفسه‪:‬‬ ‫العبارات ال ّ‬
‫)نحن فلن(من باب التعظيم والعلو‪،‬ول يقول‪) :‬أنا فلن(‪،‬ومثلها أيضا ما يقال‬
‫سامية(أو)صاحب الجللة(‪،‬وغيرها من العبارات التي تدل على‬ ‫عنه)الرادة ال ّ‬
‫ن الحاكم ولي كل نعمة‬ ‫التأليه أو القتراب منه‪.‬وكذلك ما نسمعه من أ ّ‬
‫وسبب كل رخاء‪،‬فإليه ُيرد الفضل‪،‬ولذلك ينادونه ب)مولي(!‬

‫‪ 427‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الجهاد والسير‪،‬باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم‬
‫والنبوة‪،‬وأن ل يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله‪،‬وقوله تعالى‪’:‬ما كان لبشر أن يوتيه‬
‫الله‘‪،‬إلى آخر الية)‪(3/1076‬رقم)‪.(2782‬‬
‫‪428‬الترمذي‪ :‬أبو عبدالله الحكيم‪،‬محمد بن علي بن الحسن‪،‬نوادر الصول في أحاديث‬
‫الرسول‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬عبد الرحمن عميرة‪،‬ط ‪ ،1‬دار الجيل‪،‬بيروت‪1992،‬م‪(1/241).‬مع بعض‬
‫التصرف‪،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)نوادر الصول(‪.‬‬
‫‪] 429‬المطففين‪.[14:‬‬
‫‪ 430‬ابن رجب‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي‪795-736)،‬هـ(‪،‬التخويف من النار‬
‫والتعريف بحال دار البوار‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،1‬مكتبة دار البيان‪،‬دمشق‪1399،‬هـ‪،(143).‬وسأشير‬
‫إليه لحقا هكذا)التخويف من الّنار(‪.‬‬
‫‪] 431‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪] 432‬الشعراء‪.[29:‬‬
‫‪] 433‬الّنازعات‪.[24:‬‬

‫‪82‬‬
‫م بعد هذا ما يصنعونه من التعظيم والتمجيد المبرمج‪،‬فهو مع ما سبق‬ ‫ث ّ‬
‫خارق الذكاء وبعيد النظر ويعرف ما ل يعرفه الّناس ويدرك بحنكته ما ل‬
‫يدركون‪،‬وهو الول في كل شيء!ولن يكون مثله كما لم يكن مثله‪،‬وللسف‬
‫ن الرحام قد عجزت عن التيان بمثله!بمعنى أّنه إله وإن لم يعلن‬ ‫أ ّ‬
‫ذلك‪.‬وتتولى الجهزة التي وضعت لهذا الغرض تسويق هذا الدجل!وما‬
‫الستعراضات والمهرجانات إل ّ صورة معبرة عن هذا النتفاخ الزائف‪،‬وتعبير‬
‫دقيق عن مكنونات تلك الّنفوس‪.‬‬
‫ن الطاغوت مشغوف بحب الظهور فتراه يقّرب منه أصحاب الذمم‬ ‫إ ّ‬
‫الميتة من الشعراء والدباء والخطباء وأصحاب القلم المأجورة كي ُيكيلوا‬
‫ن وظيفة الجهاز‬ ‫له المديح والثناء إشباعا لنـزعته في حب الظهور‪،‬بل إ ّ‬
‫العلمي الولى هي تمجيد الزعيم والهتمام بأعياده الخاصة!‬
‫ن الحكم والجاه مدار صراع بين الّناس وعليه تكالبهم‪،‬يقول‬ ‫إ ّ‬
‫غيا ً بينهم‘‘ أي)فما‬
‫‪434‬‬
‫علم ب َ ْ‬‫م ال ِ‬
‫تعالى‪’’:‬فما اختلفوا إل بعد ما جاءه ُ‬
‫وقع الخلف بينهم في الدين إل من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال‬
‫الخلف وهو العلم‪،‬وإّنما اختلفوا لبغى حدث بينهم حسدا وطلبا وجلبا‬
‫للرياسة(‪،435‬وإلى هذا المرض ترجع كثير من المنازعات المغلفة بشعارات‬
‫كاذبة تخفي ورائها حب الرياسة والظهور؛ذلك هو معنى الحديث‪’’:‬ما ذئبان‬
‫جائعان أرسل في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف‬
‫لدينه‘‘‪،436‬فأنت كما ترى أن حب الرياسة مرض يجلب الفساد على الحاكم‬
‫والمحكوم سواء‪.‬‬
‫)فحب الرياسة والجاه من أمراض القلوب‪،‬وهو من أضر غوائل الّنفس‬
‫م‬‫ن حب الرياسة شر من حب الدنيا‪،‬ومن ث ّ‬ ‫وبواطن مكائدها(‪،437‬بل إ ّ‬
‫قيل‪:‬الدنيا خمر الشيطان فمن شرب منها لم يفق من سكرتها إل في‬
‫عسكر الموتى خاسرا نادما‪،‬وقالوا‪) :‬حب الرياسة أصل كل موبقة(‪.438‬‬
‫ن حب الزعامة من موانع اليمان عند الطواغيت؛فالذي منع أبو جهل‬ ‫إ ّ‬
‫عن اليمان هو حب الزعامة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وقالوا لول نّزل هذا القرآن‬
‫على رجل من القريتين عظيم‘‘‪)،439‬فالرسول المخصوص بكرامة‬
‫النبوة فتنة لشراف الّناس من الكفار(‪440‬؛ذلك أّنهم امتنعوا عن اليمان‬
‫بسبب حبهم للزعامة والرياسة‪.‬‬
‫من هنا ندرك سببا مهما من أسباب ظهور هذه الشخصية الطاغوتية أل‬
‫وهو حب الرياسة والظهور والتسلط؛ذلك المرض الذي يتجاوب مع مكنونات‬
‫نفس فرعون وشعوره بالفوقية والعلو والترفع‪،‬وحب التفرد والستبداد‬
‫والستئثار بمعنى أن تخلص له الزعامة والريادة‪.‬‬

‫‪]434‬الجاثية‪.[17:‬‬
‫‪435‬تفسير النسفي)‪(4/131‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪436‬مسند أحمد)‪(3/456‬وسنن الترمذي‪،‬كتاب الزهد‪،‬باب ما جاء في أخذ المال)‪(4/588‬رقم)‬
‫‪(2376‬قال أبو عيسى‪:‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬سنن الدارمي‪،‬كتاب الرقائق‪،‬باب ما ذئبان‬
‫جائعان)‪(2/394‬رقم)‪.(2730‬‬
‫‪ 437‬فيض القدير)‪.(3/196‬‬
‫‪438‬ابن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪597 -510)،‬هـ(‪،‬صفوة الصفوة‪،‬‬
‫‪4‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمود فاخوري ومحمد رواس قلعه جي‪،‬ط ‪،2‬دار المعرفة‪،‬بيروت‪1399،‬هـ –‬
‫‪1979‬م‪،(4/236).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)صفوة الصفوة(‪.‬‬
‫‪]439‬الزخرف‪.[31:‬‬
‫‪440‬تفسير القرطبي)‪.(13/18‬‬

‫‪83‬‬
‫ما‬
‫ن حب الظهور يجلب على صاحبه ه ّ‬ ‫ومع هذا نستطيع القول أ ّ‬
‫دائما‪،‬فهو باستمرار يراقب ما يقوله الّناس عنه‪،‬ويحاول باستمرار أن يجلب‬
‫إعجابهم به‪،‬وتلك غفلة منه عن الحقائق‪.‬فماذا يستفيد النسان حين يمدحه‬
‫الخرون؟أليس في هذا حمق وسفه لمن يسعى لتلك الغاية؟!‬
‫ما النوع الثاني وهو‪:‬الملك فيعني المال والثروة وهي من‬ ‫أ ّ‬
‫أهم الزخارف الدنيوية التي تصرف الّناس عن الّنظر والتدبر والمعرفة‬
‫والعلم‪،‬فتصبح الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم‪،‬ينشغلون بالّتافه من المور‬
‫ويتركون العظام منها‪،‬وتصبح الدنيا محور اهتمامهم‪.‬والمنشغل في الدنيا‬
‫ذاهل عن الحقائق الكبرى هابط في اهتماماته‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فل تغرّنكم‬
‫الحياة الدنيا‘‘‪،441‬أي)فل تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلكم التمتع بها عن طلب‬
‫الخرة والسعي لها(‪،442‬وهكذا حال الطواغيت في ذهول عن الحقائق‬
‫الكبرى ل يرون إل ّ ما بين أيديهم من متاع وزخرف‪،‬وذلك هو معنى قوله‬
‫تعالى‪’’:‬كل بل تحبون العاجلة وتذرون الخرة‘‘‪.443‬أي)إنما يحملهم‬
‫على التكذيب بيوم القيامة‪،‬ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى‬
‫مَتهم إلى الدار الدنيا‬
‫نه ّ‬ ‫الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم ل ّ‬
‫العاجلة وهم لهون متشاغلون عن الخرة(‪.444‬‬
‫لقد كان فرعون صاحب ثروة ومال‪،‬بل هو المالك لكل شيء له قيمة‬
‫معتبرة‪،‬وكل المال بين يديه‪،‬فها هو ينادي في قومه‪،‬أي)يرفع صوته بنفسه‬
‫فيما بين قومه بذلك القول‪،‬ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه‬
‫كشف العذاب‪،‬فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع‬ ‫بعد أن ُ‬
‫القبط‪،‬ويعظهم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلم‬
‫ويتركوه‪،‬أو أّنه أمر بالنداء بذلك في السواق والزقة ومجاميع‬
‫الناس(‪’’،445‬قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري‬
‫من تحتي أفل تبصرون‘‘‪.446‬فنراه متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه‬
‫فيها‪ ،‬أليس لي ملك مصر من بحر السكندرية إلى أسوان بطول النيل‪،‬وهذه‬
‫النهار تجري من بين يدي في الجنان والبساتين ومن تحت القصور‪،‬وهي‬
‫الخلجان الكبار الخارجة من النيل‪،‬حيث كانت لهم جنات وأنهار ماء‪ ،‬أفل‬
‫دة الملك‬ ‫تبصرون أي أفل ترون ما أنا فيه من النعيم والخير والعظمة وش ّ‬
‫‪.447‬‬
‫ن النظام والمنهج الذي فرضه فرعون على‬ ‫ويسمعه قومه ويقّرونه‪،‬ل ّ‬
‫الّناس يعطيه هذه المتيازات الخاصة‪،‬وبالتالي سيدافع فرعون عن منهجه‬
‫ونظامه‪،‬لّنه بذلك يدافع عن مكتسباته وامتيازاته مهما كانت طريقة الدفاع‬
‫ونها‪.‬‬
‫ما يفسر لنا سبب انحرافه وسّر ظهور شخصيته وتك ّ‬ ‫باطلة وهمجية ‪،‬م ّ‬
‫ومن الدّلة على أّنه صاحب ثروة ومال قوله تعالى‪’’:‬وقال موسى‬
‫ربنا إّنك آتيت فرعون ومله زينة وأموال في الحياة الدنيا ربنا‬

‫‪]441‬فاطر‪.[5:‬‬
‫‪442‬تفسير البيضاوي)‪.(4/411‬‬
‫‪]443‬القيامة‪.[21-20:‬‬
‫‪444‬تفسير ابن كثير)‪.(451-4/450‬‬
‫‪445‬روح المعاني)‪.(25/89‬‬
‫‪]446‬الزخرف‪.[51:‬‬
‫‪447‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(25/80‬وتفسير ابن كثير)‪(4/130‬وتفسير الثعالبي)‪(4/129‬وتفسير‬
‫البغوي)‪(4/142‬وتفسير الجللين)‪.(1/652‬‬

‫‪84‬‬
‫ن موسى أخبر في دعائه‬ ‫ليضلوا عن سبيلك‘‘‪،448‬والشاهد في الية أ ّ‬
‫ن الله قد آتى فرعون ومله زينة وأموال‪،‬أي ما يتزين به من‬ ‫حقيقة هي‪:‬أ ّ‬
‫الملبس والمراكب والحلي والفراش والسلح ونحوهما من أثاث الدنيا‬
‫ومتاعها‪،‬وأموال جزيلة من أعيان الذهب والفضة‪،‬وكثيرة منوعة في هذه‬
‫الحياة الدنيا ‪،449‬ولم تكن هذه الثروة إل نتيجة للنظام المطبق والمنهج‬
‫المتبع‪،‬الذي يدافع فرعون عنه أي عن ثروته التي أفرزها ذلك الواقع‪.‬‬
‫ومن الدّلة على ثروته قوله تعالى حكاية لقول فرعون‪’’:‬فلول ألقي‬
‫عليه أسورة من ذهب‘‘‪،450‬والمعنى‪:‬فهل ألقي على موسى إن كان‬
‫صادقا أنه رسول رب العالمين أسورة من ذهب وهو جمع سوار‪،‬وهوما‬
‫ن هذا من علمات الزعامة والسيادة عندهم‬ ‫يلبس في اليد عادة‪،‬باعتبار أ ّ‬
‫‪،451‬ولم يكن فرعون يحتج بمثل هذا لول كونه صاحب أسورة الذهب التي‬
‫تدل على زعامته وسيادته‪.‬‬
‫وكيف ل يكون شرسا مجرما في الدفاع عن مصالحه المشبوهة وهو‬
‫الذي يراها مقياسا في تقييم البشر‪،‬ودليل ظاهرا في تمييز العلى من بين‬
‫الناس‪،‬بل هي عنده دليل على كذب موسى عليه السلم‪ ،‬فلو كان نبيا كما‬
‫يدعي لكان صاحب مال وثروة‪’’،‬فلول ألقي عليه أسورة من‬
‫ذهب‘‘‪.452‬‬
‫خُر الّناس لتنمية هذه الثروة‬ ‫س ّ‬‫ن فرعون ينفق ما يشاء ولمن يشاء‪،‬وي ُ َ‬ ‫إ ّ‬
‫وليس لهم إل ما يجعلهم قادرين على الخدمة والعمل‪،‬وفي سبيل هذا أغرى‬
‫قسما من الّناس وحرم الغلبية ليكون المستفيدون عونا له على قمع العبيد‬
‫والخدم إذا ما سولت لهم أنفسهم التمرد على النظام القائم‪.‬‬
‫ن العلقة بين الحكم والملك ظاهرة جلّية‪،‬فمن يملك يحكم‪،‬لّنه‬ ‫إ ّ‬
‫بسيطرته على المال يسيطر على عصب الحياة‪،‬ويجعل الّناس في حاجة‬
‫ما‬
‫ن عليهم بشيء م ّ‬ ‫إليه‪،‬فيبدأ الّناس بالتودد رياءا إلى السلطان كي يم ّ‬
‫عنده‪،‬فيكون أكثرهم حظا أنفعهم في تثبيت النظام‪،‬فكلما كان الفرد قادرا‬
‫ومواليا كان حظه من المال أكثر‪.‬‬
‫ن ازدياد السيطرة والّتحكم يؤدي إلى ازدياد القدرة‬ ‫وفي المقابل فإ ّ‬
‫على جمع الثروه ونهب خيرات الجماهير‪،‬والعجزة غير قادرين بحكم‬
‫السيطرة والقوة على معاندة النظام‪.‬وهكذا دواليك‪،‬فكل زيادة في الّتحكم‬
‫تقابلها زيادة في السيطرة على المال والثروة‪،‬والعكس صحيح‪.‬‬
‫ومن أجل هذا الّنمو المتبادل بين الّتحكم والسيطرة على المال والثروة‬
‫كان المنهج الذي يحقق تلك الزيادة المستمرة‪،‬وهو المنهج الذي يعكس‬
‫ن المحافظة على تلك المكتسبات هي التي‬ ‫شخصية فرعون ويمّيزها؛ذلك أ ّ‬
‫شكلت المحور الساسي الذي يدور حوله منهج فرعون‪،‬فانعكس هذا على‬
‫الوسائل المستخدمة في الدفاع عن الوضع والمنهج القائم‪،‬والذي من‬
‫إفرازاته ونتائجه تمّيز فرعون بتلك الميزات الخاصة‪.‬‬

‫‪] 448‬يونس‪.[88:‬‬
‫‪ 449‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(11/156‬وتفسير البيضاوي)‪(3/212‬وتفسير ابن كثير)‪(2/430‬وتفسير‬
‫البغوي)‪(2/365‬وفتح القدير)‪(2/468‬وروح المعاني)‪.(11/172‬‬
‫‪]450‬الزخرف‪.[53:‬‬
‫‪451‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(25/82‬وتفسير الواحدي)‪(2/976‬وتفسير البغوي)‪.(4/142‬‬
‫‪] 452‬الزخرف‪.[53:‬‬

‫‪85‬‬
‫ن أي تغيير للوضاع يعني تغييرا في المتيازات المكتسبة‪،‬ولهذا رفض‬ ‫إ ّ‬
‫فرعون معادلة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان لّنها تهدم الّنظام‬
‫ل على هذا شكل المواجهة التي اختارها بعد أن أقام موسى الحجة‬ ‫القائم‪،‬ود ّ‬
‫عليه‪،‬حيث قال‪’’:‬ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل‬
‫دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد‘‘‪.453‬فالقتل هو الحل في دين‬
‫فرعون ومنهجه‪،‬وهو الحل في كل نموذج تتكرر فيه شخصية فرعون‪.‬‬
‫دين الحق ويحاربونه؛‬ ‫من هنا نفهم لماذا يقف أصحاب المتيازات أمام ال ّ‬
‫)لّنه ل بقاء ول قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين‪.‬وهم إّنما‬
‫يقيمون ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته‪.‬وأقاموا أنفسهم‬
‫أربابا من دون الله ُيشّرعون للناس ما يشاؤون‪،‬ويعبدون الّناس لما‬
‫يشرعون!إّنهما منهجان ل يجتمعان‪،‬أو هما دينان ل يجتمعان‪..‬وفرعون كان‬
‫يعرف وملؤه كانوا يعرفون‪..‬ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب‬
‫ن البوصلة التي تحدد اتجاه فرعون وخط سيره هي‬ ‫العالمين(‪454‬؛ذلك أ ّ‬
‫ب بهذا التجاه فهو مصان في نظام‬ ‫المحافظة على مكتسباته‪،‬فكل ما يص ّ‬
‫فرعون‪.‬‬
‫ن الطواغيت لديهم حساسية من أي مراقبة مالية‪،‬فهم يستأثرون‬ ‫إ ّ‬
‫سئلوا‬‫سئلوا من أين لكم هذا؟أو إن ُ‬ ‫بالثروة وبتوزيعها‪،‬ينتفضون بشراسة إن ُ‬
‫مة؟فتلك أسئلة محرجة قد توقظ الجهلة‬ ‫أين أنفقتم أموال ال ّ‬
‫والغافلين‪،‬ليسألوا عن حقوقهم‪،‬وذلك باب ل يريد الطاغوت له‬
‫فتحا‪.‬فالطاغوت ل يقبل أن ُتذاع على الّناس أخبار القصور وحياة الترف‬
‫والبذخ التي يعيشها الطواغيت على حساب الشعوب وحرمانهم‪.‬وفي‬
‫المقابل كان الطواغيت‪-‬وما زالوا‪-‬أعداءا للحرية والرأي‪،‬فهم ل يقبلون‬
‫المشاركة في الحكم وسياسة الدولة؛ذلك أن أي مشاركة ُتنقص من جاههم‬
‫المزعوم‪،‬وقد تؤدي إلى فضح ما ل يسمح الطاغوت بفضحه‪.‬‬
‫ي صلى الله عليه وسّلم‬ ‫ن لنا في فرعون عبرة وعظة‪،‬ولقد حذرنا النب ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون‬ ‫ن الدنيا حلوة خضرة‪،‬وإ ّ‬ ‫بقوله‪’’:‬إ ّ‬
‫‪455‬‬
‫أل فاتقوا الدنيا‘‘ ‪.‬‬

‫‪] 453‬غافر‪.[26:‬‬
‫‪ 454‬في ظلل القرآن)‪.(606-3/605‬‬
‫‪455‬سنن الترمذي‪،‬كتاب الفتن‪،‬باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو‬
‫كائن إلى يوم القيامة )‪(4/483‬رقم)‪(2191‬وقال أبو عيسى‪’’:‬هذا حديث حسن صحيح‘‘‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون‬
‫ومساندتهم له‬
‫ن الحاكم‪-‬أّيا كان هذا الحاكم‪-‬فهو فرد‪،‬وليس بمقدور الفرد مهما أوتي‬ ‫إ ّ‬
‫من قدرات ومّيزات أن يسيطر على الّناس بمفرده‪،‬ول أن يدير دفة الحكم‬
‫ويرعى شؤون الدولة وحده‪،‬فلكي يكون قادرا على السيطرة أو على رعاية‬
‫المة ل بد ّ له من أعوان يساعدونه في إدارة الحكم والمحافظة على الّنظام‬
‫وغير ذلك كثير‪.‬‬
‫وسواء كان هذا الحاكم أو السلطان فاروقا في العدل أو مغرقا في‬
‫ديق يقول للّناس)فإن أحسنت‬ ‫الظلم‪،‬فهو بحاجة إلى معين له‪.‬فأبو بكر الص ّ‬
‫فأعينوني(‪،456‬فل غنى لمن هو في قمة الحسان والورع عن العوان‪.‬فإن‬
‫كان الحاكم من أهل الحق فلمن عاونه أجر عظيم‪،‬لّنه لول هذه المعونة لما‬
‫ما إن كان الحاكم‬ ‫استطاع الحكم‪،‬وهؤلء هم بطانة الخير وأهل الفضل‪.‬وأ ّ‬
‫جائرا ظالما فعلى من سانده وعاونه إثم ووزر‪،‬لّنه لول هذه المعاونة لما‬
‫استطاع أن ُيخضع الّناس وُيذّلهم‪،‬فهم أنصار الباطل وشركاء الثم‪.‬‬
‫ما كان فرعون فردا ل يستطيع أن يفرض نظامه بمفرده كان ل بد ّ له‬ ‫ول ّ‬
‫من أعوان يساندونه ويشاركونه‪،‬وهم بذلك سبب في ظهور هذه الشخصية‬
‫المنحرفة‪ ،‬فلولهم لما تفرعن فرعون وطغى وتجبر‪.‬وفي المقابل ل بد ّ من‬
‫جمهور يتقبل هذا الذل‪،‬ولن تخضع الجماهير للذل إل إذا كانت فاسقة‪،‬فيكون‬
‫ما اجتمع لفرعون فسق‬ ‫فسق الغلبية سببا في انتفاش الباطل وسيطرته‪.‬ول ّ‬
‫كن‪.‬‬‫الجمهور ومشاركة المنتفعين المتزلفين تم ّ‬
‫ويمكننا من خلل القرآن الكريم أن نحدد المشاركين والمساندين‬
‫لفرعون الذين ساهموا في إبراز شخصيته وإظهارها‪،‬وهم‪:‬‬
‫أول‪:‬هامان‬
‫والذي يمثل أقرب الّناس إلى فرعون‪،‬فهو)وزيره ومدبر رعيته ومشير‬
‫دولته(‪457‬وساعده اليمن‪،‬والشخصية الثانية في هرم الحكومة‪،‬حيث نص‬
‫ن فرعون‬ ‫القرآن على أّنه شريك في الخطيئة‪،‬حيث يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫وهامان وجنودهما كانوا خاطئين‘‘‪.458‬أي كانوا خاطئين آثمين في كل‬
‫‪456‬هذا جزء من الخطاب الذي ألقاه أبو بكر بعد توّليه الخلفة حيث قال‪) :‬أيها الناس فإني وليت‬
‫عليكم ولست بخيركم‪،‬فإن أحسنت فأعينوني‪،‬وإن أسأت فقوموني‪،‬الصدق أمانة‪،‬والكذب‬
‫خيانة‪،‬والضعيف منكم قوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله تعالى‪،‬والقوي فيكم ضعيف‬
‫عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله تعالى‪.‬ل يدع قوم الجهاد في سبيل الله إل ضربهم الله‬
‫بالذل‪،‬ول تشيع الفاحشة في قوم قط إل عمهم البلء‪.‬أطيعوني ما أطعت الله ورسوله‪،‬فإذا‬
‫عصيت الله ورسوله فل طاعة لي عليكم‪،‬قوموا إلى صلتكم يرحمكم الله( الطبري‪:‬أبو‬
‫جعفر‪،‬أحمد بن عبد الله بن محمد‪694-615)،‬هـ(‪،‬الرياض النضرة في مناقب‬
‫العشرة‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬عيسى عبد الله محمد مانع الحميري‪،‬ط ‪،1‬دار الغرب السلمي‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪(2/213).1996‬رقم)‪،(416‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الرياض النضرة(‪،‬وانظر الزدي‪ :‬معمر بن‬
‫راشد‪)،‬ت ‪،(151‬الجامع‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬حبيب العظمي )منشور كملحق بكتاب المصنف‬
‫للصنعاني ج ‪،(10‬ط ‪،2‬المكتب السلمي‪،‬بيروت‪(11/336).1403،‬رقم)‪،(20702‬وسأشير إليه‬
‫لحقا هكذا)الجامع لمعمر بن راشد(وتاريخ الطبري)‪(2/238‬وابن هشام‪:‬أبو محمد‪،‬عبد الملك بن‬
‫أيوب الحميري المعافري‪)،‬ت ‪213‬هـ(‪،‬السيرة النبوية لبن هشام‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬طه عبد‬
‫الرءوف سعد‪،‬ط ‪،1‬دار الجيل‪،‬بيروت‪1411،‬هـ‪،(6/82).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)السيرة النبوية‬
‫لبن هشام(‪.‬‬
‫‪457‬تفسير ابن كثير)‪.(3/391‬‬
‫‪]458‬القصص‪.[8:‬‬

‫‪87‬‬
‫شيء‪،‬في أفعالهم وأقوالهم‪،‬ومذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم‬
‫على أيديهم‪،‬ليكون لهم عدوا وحزنا ‪.459‬وهامان شريك في كل ذلك فقد‬
‫جمعه الّنص مع فرعون في الثم والعقوبة‪.‬‬
‫وق دجل فرعون‪،‬ويشترك معه في خداع الّناس‬ ‫وهامان هو الذي ُيس ّ‬
‫وتضليلهم‪،‬فبعد أن أعلن فرعون عدم علمه بإله غيره‪’’-‬وقال فرعون يا‬
‫أّيها المل ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على‬
‫الطين فاجعل لي صرحا لعلي اطلع الى إله موسى واني لظنه‬
‫من الكاذبين‘‘‪-460‬أمر هامان بفعل ما من شأنه تضليل الّناس‪،‬فدور هامان‬
‫في إسناد الحكومة وتثبيتها دور كبير خطير‪،‬وذلك لما يتمتع به هامان من‬
‫كنته من لعب هذا الدور‪،‬ولهذا يسند إليه فرعون‬ ‫قدرات ومواهب شخصية م ّ‬
‫المهمة تلو المهمة‪،‬ولقد كان من أبرز هذه المهمات بناء الصرح‪،‬فهو يأتمر‬
‫بأمره ويفهم أهداف فرعون ومراميه‪’’.‬وقال فرعون يا هامان ابن لي‬
‫قى هامان أوامر فرعون وإعلنه‬ ‫صرحا لعلي أبلغ السباب‘‘‪.461‬فتل ّ‬
‫بالقبول والقرار‪،‬وباشر العمل مع علمه بكذب فرعون ودجله‪.‬‬
‫ن هامان يشارك فرعون القلق والحذر والّتيقظ‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ونري‬ ‫إ ّ‬
‫‪462‬‬
‫فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘ ‪.‬والشاهد في‬
‫ن هامان‪-‬كما هو حال فرعون‪-‬كان يحذر من‬ ‫ن الله سبحانه أخبرنا أ ّ‬
‫الية أ ّ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫موسى عليه السلم‪)،‬والحذر هو الّتوقي من الضرر‪،‬وذلك أّنهم أخبروا أ ّ‬
‫هلكهم على يد رجل من بني إسرائيل‪،‬فكانوا على وجل منهم‪،‬فأراهم الله ما‬
‫كانوا يحذرون(‪.463‬والسبب لهذا الحذر من قبل هامان هو فسقه ومحافظته‬
‫على امتيازاته التي يفرزها ذلك الّنظام‪،‬فمصلحته مع بقاء الّنظام وتزول‬
‫بزواله‪.‬‬
‫ن أعوان الظلم والقهر والضطهاد ليسوا في منـزلة واحدة في القرب‬ ‫إ ّ‬
‫من الّنظام‪،‬فالسوأ والكثر قدرة وإمكانيات هو القرب منـزلة‪،‬فكلما أثبت‬
‫منعم بها‬ ‫سّلم الوظائف ال ُ‬‫أّنه السوأ والقدر على الخدمة كلما كان حظه في ُ‬
‫على العوان من قبل السلطة أوفر‪،‬فهذا هو مقياس الحكومة الرشيدة!التي‬
‫مقّربا‪،‬وهكذا‬ ‫ل ُتري الّناس‪-‬بزعم فرعون‪-‬إل سبيل الرشاد؛ولهذا كان هامان ُ‬
‫ل من كان مثله في أيّ حكومة رشيدة كحكومة فرعون!‬ ‫ك ّ‬
‫ما جعله‬ ‫ن فرعون الحذر شاركه ‪-‬أيضا‪-‬في الستكبار‪،‬م ّ‬ ‫وكما شارك هاما ُ‬
‫أكثر تأهيل للمشاركة الفاعلة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وقارون وفرعون وهامان‬
‫ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الرض بغير الحق‬
‫وما كانوا سابقين‘‘‪.464‬فهو من الممتنعين‪-‬مع السلطان‪-‬عن قبول الحق‬
‫مهما كانت البينات كثيرة وساطعة‪.‬‬
‫وهامان من الطغمة الحاكمة‪،‬فموسى عليه السلم مبعوث إليه كما هو‬
‫مبعوث إلى فرعون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‬
‫وسلطان مبين‪،‬إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر‬

‫‪459‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/283‬وتفسير الطبري)‪(20/33‬وتفسير ابي السعود)‪(7/4‬وفتح‬


‫القدير)‪(4/160‬وتفسير النسفي)‪.(3/228‬‬
‫‪]460‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪] 461‬غافر‪.[26:‬‬
‫‪]462‬القصص‪.[6:‬‬
‫‪463‬تفسير البغوي)‪(3/434‬وانظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(2/813‬وتفسير القرطبي)‪.(13/249‬‬
‫‪]464‬العنكبوت‪.[39:‬‬

‫‪88‬‬
‫ذاب‘‘‪،‬فل ندري أهو‬ ‫ذاب‘‘‪.465‬فكان هامان مع فرعون قول واحدا؛’’ساحر ك ّ‬ ‫ك ّ‬
‫سبق الحكومة أم الحكومة سبقته!فهو في سباق الشر طائش‪.‬وهذا تفسير‬
‫لبعض ما قد يحدث‪،‬حيث نرى أذناب الّنظام أشد شراسة من الّنظام‬
‫نفسه‪،‬يبتغون عنده القرب والمنـزلة‪،‬ويحاولون بمثل هذا أن يثبتوا جدارتهم‬
‫كي يعتمد الّنظام عليهم!‬
‫وبعد هذا أل يكون هامان سببا في دعم الّنظام المتمثل بشخصية‬
‫دائم الحذر!وهو الذي‬ ‫فرعون‪،‬وهو المشترك في الخطيئة والمنفذ للوامر وال ّ‬
‫يسابق الحكومة في قول الزور‪.‬ولم تكن هذه المشاركة والمؤازرة من‬
‫هامان إل لكونه من أصحاب المتيازات‪،‬فمصلحته مع الّنظام القائم‪،‬وهذا سّر‬
‫دعمه لفرعون‪.‬وكم نحن نعاني من أولئك المنتفعين من الّنظام‪،‬حيث تزداد‬
‫شراستهم كلما ازدادت منفعتهم منه‪.‬فليست المسألة عندهم قناعة‬
‫يمارسونها أو إيمان يسيرون معه‪،‬فهذا شرف لمن فعله‪،‬ولكنهم مجردون‬
‫من كل شرف!‬
‫ثانيا‪:‬السرة الحاكمة‬
‫وتشمل المل من قوم فرعون وآل فرعون وقومه‬
‫السرة الحاكمة من الفئات المشاركة والمساندة لحكم فرعون‪،‬وهم‬
‫الفراعنة‪،‬و)هي السر التي حكمت مصر منذ)‪(3100‬قبل الميلد وحتى‬
‫ن الذين ملكوا‬ ‫السيطرة الرومانية في القرن الول قبل الميلد(‪.466‬وذكر)أ ّ‬
‫مصر‪-‬باتفاق كثير من أهل التاريخ على اختلف بينهم‪-‬من الفراعنة اثنان‬
‫ل السرة‬ ‫ل على طول مدة حكم الفراعنة‪.‬وتتشك ّ ُ‬ ‫ما يد ّ‬ ‫‪467‬‬
‫وثلثون فرعونا( ‪،‬م ّ‬
‫الحاكمة من الفئات التالية‪:‬‬
‫موا بذلك لّنهم ملُء بما‬ ‫س ّ‬
‫أول‪:‬المل من قوم فرعون‪،‬وهم)الرؤساء ُ‬
‫يحتاج إليه‪،‬وقيل‪:‬أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذي يرجع‬
‫إلى قولهم(‪)،468‬واشتقاقه من ملت الشيء‪،‬وفلن مليء إذا كان‬
‫مكثرا‪،‬فمعنى المل‪:‬الذين يملون العين والقلب وما أشبه هذا(‪.469‬ونقول‪:‬‬
‫)تمالئوا على المر اجتمعوا عليه‪،‬والمل الجماعة(‪،470‬و)هم الذين يملؤون‬
‫العيون بهجة والقلوب هيبة(‪،471‬و)المليئون بما يفوض إليهم(‪.472‬والمل من‬
‫قوم فرعون هم أشراف القوم ورؤساءهم وسادتهم وقادتهم والكبراء‬
‫منهم‪،473‬فالمل)أشراف قوم فرعون ورؤساءهم(‪،474‬و)هم أهل مشورته‬

‫‪]465‬غافر‪.[24-23:‬‬
‫‪466‬موسوعة السياسة)‪.(4/482‬‬
‫‪467‬الّنجوم الزاهرة)‪.(1/60‬‬
‫‪468‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬مل)‪(1/159‬وانظر‪:‬القاموس المحيط‪،‬فصل الميم‪،‬مادة‪:‬مل)‪(1/66‬وكتاب‬
‫العين‪،‬مادة‪:‬مل)‪.(8/346‬‬
‫‪469‬التبيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/132‬‬
‫‪470‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬مل)‪(1/263‬وانظر‪ :‬ابن المطرز‪:‬أبو الفتح‪،‬ناصر الدين بن عبد السيد بن‬
‫علي‪610-538)،‬هـ(‪،‬المغرب في ترتيب المعرب‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬محمود فاخوري وعبدالحميد‬
‫مختار‪،‬ط ‪،2‬مكتبة أسامة بن زيد‪،‬حلب‪1979،‬م‪.‬مادة‪:‬مل)‪،(2/272‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)المغرب(‪.‬‬
‫‪ 471‬التعاريف)‪.(1/673‬‬
‫‪ 472‬معاني القرآن)‪.(3/46‬‬
‫‪473‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(3/30‬وتفسير القرطبي)‪(7/234‬وتفسير ابن كثير)‪(2/224‬وتفسير‬
‫الطبري)‪(11/150‬وفتح القدير)‪.(2/217‬‬
‫‪474‬تفسير الطبري)‪.(20/52‬‬

‫‪89‬‬
‫ورؤساء دولته(‪،475‬وهم البطانة والحاشية المقربة المستقرون حول‬
‫فرعون‪،‬والجلساء الخاصون من أشراف قومه‪.476‬‬
‫ثانيا‪:‬آل فرعون هم)أهله وعياله(‪)،477‬ول يستعمل إل فيما فيه شرف‬
‫غالبا‪،‬فل يقال‪:‬آل السكاف كما يقال‪:‬أهله(‪،478‬وقالوا‪:‬الل ليس بمعنى‬
‫ن الهل القرابة‪،‬والل من يؤول إليك في قرابة أو رأى أو‬ ‫الهل)ل ّ‬
‫‪479‬‬
‫مذهب( ‪،‬فالل‪-‬على هذا القول‪-‬هم التباع)وهم الذين كانوا على منهاجه‬
‫ن آل فرعون)أطلق على‬ ‫وطريقته في الكفر بالله من قومه (‪،480‬والظاهر أ ّ‬
‫أهل بيته وعلى التباع(‪481‬؛فآل فرعون)قومه وأهل دينه(‪.482‬‬
‫ثالثا‪:‬قوم فرعون‪)،‬وهم قبط مصر(‪،483‬وهم القاعدة العريضة في‬
‫السرة الحاكمة التي تساند فرعون‪.‬‬
‫أول‪:‬المل من قوم فرعون‬
‫وهم في مكانة مرموقة في نظام فرعون‪،‬حيث يشغلون مراكز‬
‫حساسة ووظائف مهمة‪،‬وبسبب وضعهم هذا فقد جمعهم القرآن الكريم مع‬
‫ن موسى مبعوث إليهم كما هو‬ ‫فرعون‪،‬وساوى بينهم وبينه من حيث أ ّ‬
‫مبعوث إلى فرعون‪،‬ولذلك)كان تخصيصهم بالذكر مع عموم الرسالة لهم‬
‫ولغيرهم لن من عداهم كالتباع لهم(‪.484‬يقول سبحانه وتعالى‪’’:‬ثم بعثنا‬
‫من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر‬
‫كيف كان عاقبة المفسدين‘‘‪.485‬بآياتنا يعني المعجزات التي بعثنا بها‬
‫موسى إليهم‪،‬فظلموا بها بأن كفروا بها مكان اليمان الذي هو من حقها‬
‫لوضوحها‪،‬فالظلم وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬ولهذا المعنى وضع ظلموا‬
‫ن الشرك لظلم عظيم‘‘‪،486‬ولقد ظلموا‬ ‫موضع كفروا‪،‬كقوله تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫أنفسهم بسببها بأن عّرضوها للعذاب الخالد‪،‬وظلموا الّناس بصدهم عن‬
‫اليمان بها‪.‬وكان كفرهم عنادا ل عن قصور في الدليل‪،‬لقوله‬
‫تعالى‪’’:‬وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف‬
‫كان عاقبة المفسدين‘‘‪،487‬أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا‬

‫‪475‬روح المعاني)‪.(9/21‬‬
‫‪476‬انظر‪ :‬الكامل في التاريخ)‪.(1/140‬‬
‫‪477‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬أول)‪.(11/37‬‬
‫‪478‬القاموس المحيط‪،‬مادة‪:‬آل)‪.(1/1245‬‬
‫‪ 479‬روح المعاني)‪(1/253‬مع بعض التصرف‪).‬وقيل‪:‬الل بمعنى الهل وألفه بدل من هاء وتصغيره‬
‫أهيل‪.‬وقيل‪:‬الل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب‪،‬فألفه بدل من واو‪،‬وتصغيره أويل‪.‬قال‬
‫الخفش ل يضاف إل إلى الر ئيس العظم نحو آل محمد وآل فرعون لنه رئيسهم في‬
‫الضللة(التبيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/84‬‬
‫‪480‬تفسير الطبري)‪.(9/49‬‬
‫‪481‬المصباح المنير‪،‬مادة‪:‬آل)‪.(1/29‬‬
‫‪482‬التبيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/84‬‬
‫‪483‬تفسير ابن كثير)‪(4/142‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(25/118‬والمنتظم في التاريخ)‪ (1/346‬وابن‬
‫كثير‪:‬أبو الفداء‪،‬إسماعيل ابن عمر الدمشقي‪774-701)،‬هـ(‪ ،‬البداية والنهاية‪14،‬جزء‪،‬مكتبة‬
‫المعارف‪،‬بيروت‪،(1/268).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)البداية والنهاية(‪.‬‬
‫‪484‬فتح القدير)‪.(2/230‬‬
‫‪] 485‬العراف‪.[103:‬‬
‫‪]486‬لقمان‪.[13:‬‬
‫‪]487‬النمل‪.[14:‬‬

‫‪90‬‬
‫رسله‪،‬كيف كان آخر أمرهم‪،‬ووضع المفسدين موضع ضميرهم لليذان بأن‬
‫الظلم مسلتزم للفساد ‪.488‬‬
‫وكما كان المل مع فرعون مشتركين في الظلم الذي لزمه الفساد‬
‫والفساد‪،‬فهم أيضا مع فرعون في رفض الحق والمتناع عن قبوله‪،‬كما أّنهم‬
‫في الجرام سواء‪ ،‬يقول تعالى‪’’:‬ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون‬
‫إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‪،‬فلما جاءهم‬
‫ن هذا لسحر مبين‪،‬قال موسى أتقولون‬ ‫الحق من عندنا قالوا إ ّ‬
‫‪489‬‬
‫ما جاءكم أسحر هذا ول يفلح الساحرون‘‘ ‪.‬والمعنى أّنهم‬ ‫للحق ل ّ‬
‫استكبروا عن اتباع الحق والنقياد له فامتنعوا عن قبوله‪،‬وكانوا قوما‬
‫مجرمين معتادين الجرام‪،‬ذوي آثام عظيمة كبيرة‪،‬فلذلك تهاونوا برسالة‬
‫ن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق‬ ‫دها‪،‬ل ّ‬ ‫ربهم واجترأوا على ر ّ‬
‫ما جاءهم الحق من عند الله وعرفوه بتظاهر المعجزات‬ ‫وإبصار الصواب؛فل ّ‬
‫ن هذا لسحر مبين‪،‬ظاهر أّنه‬ ‫الباهرة المزيلة للشك‪،‬قالوا من فرط تمردهم‪:‬إ ّ‬
‫سحر أو فائق في فّنه واضح فيما بين إخوته‪،‬كأّنهم قبحهم الله أقسموا على‬
‫ن ما قالوه كذب وبهتان ‪.490‬‬ ‫ذلك وهم يعلمون أ ّ‬
‫ن المل يتنفسون المنصب والجاه والسلطة ول يرون للتباع أي حق‬ ‫إ ّ‬
‫ولوكان مجرد الستماع لهم والتفكير‪-‬ولو لحظة‪-‬فيما يقولون؛ذلك لّنهم من‬
‫المستكبرين العالين كما بّين القرآن الكريم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ثم أرسلنا‬
‫موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين‪،‬إلى فرعون وملئه‬
‫فاستكبروا وكانوا قوما عالين‘‘‪.491‬والمعنى أّنهم استكبروا على‬
‫اليمان والمتابعة‪،‬أى طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق‪،‬وكانوا قوما‬
‫عالين مترفعين من عادتهم الستكبار والتمرد‪،‬متكبرين على أهل ناحيتهم‬
‫ن تنفس‬ ‫ومن في بلدهم من بني إسرائيل وغيرهم بالظلم قاهرين لهم ‪.492‬إ ّ‬
‫المل للجاه والمنصب جعلهم ُيواجهون موسى عليه السلم بالسخرية‬
‫مصابة بمرض النتفاش‪-‬الستخفاف بآيات‬ ‫والستهزاء‪،‬وسولت لهم أنفسهم‪-‬ال ُ‬
‫الله‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه‬
‫ما جاءهم بآياتنا إذا هم منها‬ ‫فقال إّني رسول رب العالمين‪،‬فل ّ‬
‫يضحكون‪،‬وما نريهم من آية إل ّ هي أكبر من أختها وأخذناهم‬
‫‪493‬‬
‫ما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون‬ ‫بالعذاب لعلهم يرجعون‘‘ ‪.‬أي)فل ّ‬
‫ن العلة فى أخذه لهم بالعذاب هو رجاء‬ ‫استهزاء وسخرية(‪.494‬وبّين سبحانه أ ّ‬
‫ن‬
‫ن المل لم يرجعوا عن غّيهم وضللهم‪،‬فهم أموات غير أحياء‪،‬ل ّ‬ ‫رجوعهم‪،‬ولك ّ‬
‫الميت من مات قلبه والعياذ بالله‪.‬‬
‫ن من يصل إلى درجة‬ ‫والمل من قوم فرعون كفرعون فاسقون‪،‬ل ّ‬
‫ومرتبة الشراف والسادة في نظام كنظام فرعون ل بد ّ أن يكون‬

‫‪488‬انظر‪:‬تفسير النسفي)‪(2/28‬وتفسير البغوي)‪(2/185‬وتفسير ابي السعود)‪(3/257‬وتفسير‬


‫الطبري)‪(9/13‬ومعاني القرآن)‪.(3/60‬‬
‫‪]489‬يونس‪.[77-75:‬‬
‫‪490‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/427‬وتفسير البيضاوي)‪(3/210‬وفتح القدير)‪(2/464‬وتفسير‬
‫النسفي)‪.(2/137‬‬
‫‪] 491‬المؤمنون‪.[46-45:‬‬
‫‪492‬انظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(2/747‬وتفسير البغوي)‪(3/310‬وفتح القدير)‪(3/485‬وزاد المسير)‬
‫‪(5/475‬وتفسير النسفي)‪.(3/123‬‬
‫‪]493‬الزخرف‪.[48-46:‬‬
‫‪494‬فتح القدير)‪(559-4/558‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪(4/116‬وروح المعاني)‪.(25/87‬‬

‫‪91‬‬
‫ن غير الفاسق ل يستطيع النخراط في مثل حكومة كهذه‪،‬فلك ّ‬
‫ل‬ ‫فاسقا‪،‬ذلك أ ّ‬
‫ن الحكومة ل تقبل في هذا المنصب رجل‬ ‫مإ ّ‬
‫ي وسط يعيش فيه‪،‬ث ّ‬ ‫كائن ح ّ‬
‫ّ‬
‫نظيفا ل يتصف بالفسق‪،‬فالفسق شرط وضرورة للّترقي في سلم‬
‫ل على ذلك قوله تعالى‪’’:‬فذانك برهانان من ربك إلى‬ ‫الحكومة‪،‬ود ّ‬
‫‪495‬‬
‫فرعون وملئه‪،‬إّنهم كانوا قوما فاسقين‘‘ ‪ ،‬أي)من الرؤساء‬
‫والكبراء‪،‬إّنهم كانوا قوما فاسقين‪،‬أي خارجين عن طاعة الله مخالفين لمره‬
‫ودينه(‪،496‬فهم جديرون بسبب فسقهم أن ُيبعث إليهم‪.‬‬
‫إتباع المل لمر فرعون‬
‫لقد اتبع المل أمر فرعون عن علم وبينة‪،‬بعد أن جاءهم موسى عليه‬
‫السلم باليات والسلطان المبين‪،‬فلم يكن اتباعهم عن قلة علم‬
‫ومعرفة‪،‬وفي هذا زيادة سوء وقبح منهم‪،‬ودليل على غيهم وفسادهم‪،‬فبدل‬
‫من اتباع موسى‪-‬الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة‪-‬اتبعوا‬
‫داعي إلى ما ل يخفي‬ ‫طريقة فرعون المنهمك في الضلل والطغيان‪،‬ال ّ‬
‫فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم‬
‫استبصارهم‪،.497‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان‬
‫مبين‪،‬إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون‬
‫برشيد‘‘‪.498‬أي)ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا وحجة تبين لمن‬
‫عاينها وتأملها بقلب صحيح أنها تدل على توحيد الله وكذب كل من ادعى‬
‫الربوبية دونه‪،‬وبطلن قول من أشرك معه في اللوهة غيره إلى فرعون‬
‫وملئه(‪499‬أي أشراف قومه‪.‬فاتبعوا أمر فرعون‪،‬أي شأنه وحاله ومنهجه حتى‬
‫اتخذوه إلها وخالفوا أمر الله تعالى‪،‬ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق‬
‫المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة‪،‬ولكّنهم اتبعوا أمر فرعون الذي هو جهل‬
‫وضلل وكفر وعناد‪،‬وليس برشيد ول سديد يؤدي إلى صواب‪،‬فليس فيه رشد‬
‫ول هدى‪،‬وإّنما هو غي محض وضلل صريح ‪.500‬‬
‫لقد اختار المل اتباع أمر فرعون‪،‬فاستقبلوا أكذوبة فرعون الكبرى‬
‫بالقبول والتأييد والترحيب والترويج‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وقال فرعون يا أيها‬
‫جه لهم الخطاب‬ ‫المل ما علمت لكم من إله غيري‘‘‪.501‬فهم أول من ُيو ّ‬
‫الفاجر‪،‬فيذعنون ويقرون ويّتبعون‪.‬‬
‫ما كانوا تبعا لفرعون في هذا المر يمشون خلفه‪،‬ويتبعون خطواته‬ ‫)ول ّ‬
‫الضالة بل تدبر ول تفكر‪،‬ودون أن يكون لهم رأي‪،‬مستهينين بأنفسهم‪،‬متخلين‬
‫عن تكريم الله لهم بالرادة والعقل وحرية التجاه واختيار الطريق ‪ ..‬لما‬
‫ن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعا(‪.502‬يقول‬ ‫كانوا كذلك فإ ّ‬
‫تعالى‪’’:‬فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد‪،‬يقدم قومه‬
‫يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود‪،‬وأتبعوا في‬

‫‪]495 495‬القصص‪.[32:‬‬
‫‪496‬تفسير ابن كثير)‪(3/389‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(20/73‬ومعاني القرآن)‬
‫‪(5/179‬وتفسير الثعالبي)‪(3/176‬وفتح القدير)‪.(4/170‬‬
‫‪ 497‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(4/77‬وتفسير البيضاوي)‪.(3/259‬‬
‫‪]498‬هود‪.[99-96:‬‬
‫‪499‬تفسير الطبري)‪.(12/109‬‬
‫‪500‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(9/93‬وتفسير ابن كثير)‪(2/459‬وتفسير البيضاوي)‪.(3/259‬‬
‫‪]501‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪502‬في ظلل القرآن)‪.(4/419‬‬

‫‪92‬‬
‫هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود‘‘‪)،503‬فأوردهم‬
‫إياها وشربوا من حياض رداها‪،‬وله في ذلك الحظ الوفر من العذاب‬
‫ن نهاية وعاقبة الذين يتبعون أئمة الضلل وخيمة وحسرتهم‬ ‫الكبر(‪504‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا مّنا‪،‬كذلك‬ ‫كبيرة‪،‬حين يقولون‪’’:‬لو أ ّ‬
‫يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من‬
‫الّنار‘‘‪.505‬إّنها لحظات مّرة ومريرة‪،‬حيث ل ينفع الّندم‪،‬ول ُيقبل عدل ول‬
‫تنفع شفاعة‪.‬فهل من رجوع إلى الله قبل أن تأتي ساعة ل مرد ّ لها من الله‪.‬‬
‫السباب الحقيقة لتباع المل أمر فرعون‬
‫ن رفض الحق وعدم النصياع له بعد ظهوره من قبل المل له‬ ‫إ ّ‬
‫أسبابه‪،‬كما هو الحال عند كل من يمتنع عن قبول الحق‪،‬وليست هذه‬
‫ن هذا‬ ‫ن النصوص تثبت والوقائع كلها أ ّ‬ ‫السباب مرتبطة بقصور الحجة بل إ ّ‬
‫ن ما جاء به موسى هو الحق من‬ ‫المتناع كان بعد علمهم وتّيقنهم أ ّ‬
‫الله‪،‬فهناك موانع خاصة ومصالح دنيوية تلعب دورا مهما في قبول أو رفض‬
‫الحق‪،‬وهكذا كان المل من قوم فرعون‪،‬فعدى عن كونهم كفروا بآيات‬
‫واستكبروا وظلموا وفسقوا وأجرموا‪،‬فهم أيضا استحبوا الحياة الدنيا‪،‬وآثروا‬
‫العاجلة على الخرة‪،‬حيث أعمتهم مصالحهم القريبة الفانية عن رؤية الحق‬
‫والحقيقة‪،‬وهذه علة مزمنة وعاهة مستديمة ومرض الحكومات الفاجرة‬
‫والبطانة المساندة‪.‬‬
‫ن مصالح المل تدور على محورين هما‪:‬‬ ‫إ ّ‬
‫أول‪:‬الكبر والمحافظة على الموروث والحرص على الرياسة‬
‫ف المل عّلتهم حيث قالوا‪’’:‬أجئتنا لتلفتنا ع ّ‬
‫‪506‬‬
‫ما‬ ‫الدنيوية‪،‬حيث لم ُيخ ِ‬
‫وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الرض وما نحن لكما‬
‫‪507‬‬
‫ما وجدنا‬ ‫بمؤمنين‘‘ ‪.‬أي أجئتنا لتلفتنا أي تثنينا وتصرفنا وتلوينا وتردنا ع ّ‬
‫عليه آباءنا‪،‬أي الدين الذي كانوا عليه من عبادة الصنام أو عبادة‬
‫فرعون‪.‬وتكون لكما أي لك ولهارون الكبرياء في الرض‪،‬أي العظمة‬
‫ن الملوك موصوفون بالكبر‬ ‫والرياسة والعز والسلطان والملك فيها‪،‬ل ّ‬
‫‪508‬‬
‫والعظمة والعلو‪..‬فما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به ‪.‬‬
‫)وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز‬
‫الحجة‪،‬ولم يجدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم‪،‬بل لجئوا إلى ما يلجأ إليه‬
‫أهل الجهل والبلدة وهو الحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر‪،‬وضموا إلى‬
‫ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم لليات‬
‫البينة وهو الرياسة الدنيوية التى خافوا عليها‪،‬وظنوا أنها ستذهب عنهم إن‬
‫آمنوا‪..‬والحاصل أّنهم عّللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين‪:‬التمسك‬
‫بالتقليد للباء‪،‬والحرص على الرياسة الدنيوية‪،‬لّنهم إذا أجابوا الّنبي وصدقوه‬
‫ن التدبير للناس‬ ‫صارت مقاليد أمر أمته إليه‪،‬ولم يبق للملك رئاسة تامة‪،‬ل ّ‬
‫‪]503‬هود‪.[99-96:‬‬
‫‪504‬تفسير ابن كثير)‪.(2/459‬‬
‫‪]505‬البقرة‪.[167:‬‬
‫‪)506‬اللفت الصرف‪،‬يقال‪ :‬ما لفتك عن فلن أي ما صرفك عنه‪،‬واللفت لي الشيء عن جهته كما‬
‫تقبض على عنق إنسان فتلفته(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬لفت)‪.(85-2/84‬ومعنى)لتلفتنا لتصرفنا‬
‫واللتفات النصراف(التبيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/232‬‬
‫‪]507‬يونس‪.[78:‬‬
‫‪508‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/427‬وتفسير الثعالبي)‪(2/187‬وتفسير ابي السعود)‪(4/169‬وتفسير‬
‫الواحدي)‪(1/505‬وتفسير البغوي)‪.(2/363‬‬

‫‪93‬‬
‫بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات‪.‬ثم قالوا وما نحن لكما‬
‫بمؤمنين تصريحا منهم بالتكذيب وقطعا للطمع في إيمانهم(‪.509‬‬
‫لقد أظهر المل أغراضهم وغاياتهم‪،‬فقد قالوها صريحة فيما‬
‫بينهم‪’’:‬أنؤمن لبشرين مثلنا‪510‬وقومهما لنا عابدون‪،‬فكذبوهما‬
‫فكانوا من المهلكين‘‘‪.511‬والمعنى ل نؤمن لبشرين مثلنا فنتبعهما‬
‫وقومهما‪-‬يعني بني إسرائيل‪-‬لنا عابدون خادمون منقادون مطيعون‬
‫متذللون‪،‬يأتمرون لمرهم ويدينون لهم‪،‬والعرب تسمي كل من دان الملك‬
‫عابدا له‪)،512‬وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما‬
‫السلم‪،‬وحط رتبتهما العلّية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير‬
‫البشرية…‪.‬بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية‬
‫على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من‬
‫ل هذا القرآن على رجل‬ ‫المال والجاه‪،‬كدأب قريش حين قالوا‪’’:‬لول ن ُّز َ‬
‫من القريتين عظيم‘‘‪،513‬وجهلهم بأن مناط الصطفاء للرسالة هو السبق‬
‫في حيازة النعوت والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من‬
‫يشاء من خلقه(‪.514‬‬
‫إّنه)الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة‪،‬التي يقوم عليها نظامهم‬
‫السياسي والقتصادي‪.‬وهو الخوف على السلطان في الرض‪،‬هذا السلطان‬
‫الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة‪.‬إّنها العلة القديمة‬
‫الجديدة‪،‬التي تدفع الطغاة إلى مقاومة الدعوات‪،‬وانتحال شتى‬
‫المعاذير‪،‬ورمي الدعاة بأشنع التهم ‪ ،‬والفجور في مقاومة الدعوات‬
‫والدعاة(‪.515‬‬
‫ثانيا‪:‬المحافظة على مكتسباتهم الخاصة‪،‬وثروتهم التي حازوها‬
‫بالباطل‪.‬ولقد بّين القرآن أّنهم أصحاب ثروة ومال‪،‬كما جاء في دعاء سيدنا‬
‫موسى عليه السلم’’ربنا إّنك آتيت فرعون ومله زينة وأموال في‬
‫الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘‪.516‬فهم أصحاب الزينة‬
‫والمال‪،‬وهو ما يتزين به من الملبس والمراكب والحلي والفراش والسلح‬
‫ونحوهما من أثاث الدنيا ومتاعها‪،‬وأموال جزيلة من أعيان الذهب‬
‫والفضة‪،‬وكثيرة منوعة في هذه الحياة الدنيا ‪،517‬حيث استعملها المل في‬
‫الضلل عن سبيل الله‪.‬‬

‫‪509‬فتح القدير)‪(2/465‬مع بعض التصرف‪.‬‬


‫ن قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال النبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في‬ ‫‪)510‬إ ّ‬
‫الحقيقة‪،‬وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل‪،‬فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل‬
‫القوى والدراك لكنها متباينة القدام فيهما‪..‬فالنبياء أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الشياء‬
‫وأغلب الحوال‪،‬فيدركون ما ل يدرك غيرهم ويعلمون ما ل ينتهي إليه علمهم‪ ،‬وإليه أشار بقوله‬
‫تعالى‪’’:‬قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‘‘]الكهف‪ ([110:‬تفسير البيضاوي)‬
‫‪(157-4/156‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(18/36‬‬
‫‪]511‬المؤمنون‪.[48-47:‬‬
‫‪512‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(18/25‬وتفسير البغوي)‪(3/310‬وفتح القدير)‪(3/485‬وتفسير النسفي)‬
‫‪.(3/123‬‬
‫‪]513‬الزخرف‪.[31:‬‬
‫‪514‬روح المعاني)‪(18/37‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪ 515‬في ظلل القرآن)‪.(4/465‬‬
‫‪]516‬يونس‪.[88:‬‬
‫‪517‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير)‪(2/430‬وتفسير الطبري)‪(11/156‬وتفسير البغوي)‪(2/365‬وفتح‬
‫القدير)‪(2/468‬وروح المعاني)‪.(11/172‬‬

‫‪94‬‬
‫لقد رفضوا الحق الذي يحاسبهم على ثروتهم التي جلبوها من استغلل‬
‫الّناس واستعبادهم بطرق آثمة‪،‬ودعموا نظام فرعون لّنه يحافظ على تلك‬
‫الثروة ويمنع محاسبتهم‪،‬فكانوا سببا في تشكيل تلك الشخصية العاتية‬
‫المتجبرة وتثبيت ذلك الّنظام‪.‬‬
‫وفون من دعوة الرسول صلى الله عليه‬ ‫وهكذا كان المل من قريش يتخ ّ‬
‫وسلم من أن تسلبهم مراكزهم التي أفرزها الوضع الجاهلي الذي يعيشون‬
‫فيه‪،‬فإن ت َغَي َّر هذا الوضع زالت عنهم تلك الزعامة الظالمة والمكاسب‬
‫الخاصة‪،‬فهم المستفيدون من هذا التفاوت الطبقي الجائر‪،‬يقول‬
‫ن‬‫تعالى‪’’:‬وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إ ّ‬
‫هذا لشيء يراد‘‘‪،518‬لقد أطلقوا تحذيراتهم وصفارات إنذاراتهم قائلين‪:‬‬
‫ن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء‬ ‫)إ ّ‬
‫يريد به الشرف عليكم والستعلء‪،‬وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه‬
‫إليه(‪،519‬إّنها العلة القديمة الجديدة‪َ،‬يسُتروَنها بأغطية متنوعة متعددة؛مرة‬
‫بدعوى المحافظة على أمن البلد‪..‬ومرة بعدم السماح للمخربين من تحقيق‬
‫مآربهم‪..‬ومرة من أجل مستقبل مشرق بأيد أمينة!وكّلها أغطية تستر وراءها‬
‫أطماع المل والحاشية المقربة‪.‬‬
‫المشاركة العملية للمل‬
‫من أجل مصالحهم شاركوا في تثبيت النظام‪،‬فهم جشعون نفعّيون‬
‫وصوليون‪،‬ولهذا دعموا فرعون في موقفه من موسى والدعوة الجديدة‪،‬فهم‬
‫ممتنعون عن قبول الحق رافضون له كما تقدم‪،‬ويعلنون اّتباعهم لفرعون‬
‫م بعد هذا يشاركون عمليا في تصريف شؤون‬ ‫ومنهجه وطريقة حكمه‪.‬ث ّ‬
‫ن الّنص القرآني‪-‬في أول‬ ‫الحكم والدولة‪،‬ويحافظون على النظام‪،‬حتى أ ّ‬
‫ن ما قاموا به‬ ‫إشارة منه إلى طبيعة مشاركتهم‪-‬لم يذكر معهم فرعون‪،‬فكأ ّ‬
‫من مؤامرة على موسى يقع ضمن صلحياتهم‪،‬أو أّنهم بادروا من تلقاء‬
‫أنفسهم لحماية الحكومة للتدليل على مدى إخلصهم لفرعون‪،‬وكان ذلك‬
‫عندما وكز موسى عليه السلم القبطي دفاعا عن مظلوم من بني قومه‬
‫فقضى عليه‪.‬‬
‫)لقد عرف المل من قوم فرعون‪،‬وهم رجال حاشيته وحكومته‬
‫والمقربون إليه أّنها فعلة موسى‪.‬وما من شك أّنهم أحسوا فيها بشبح‬
‫الخطر‪،‬فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد‪،‬والنتصار لبني إسرائيل؛فهي‬
‫ظاهرة خطيرة تستحق التآمر‪.‬ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن‬
‫يشتغل بها المل والكبراء(‪.520‬وفي هذا دليل على مدى حرصهم على نظام‬
‫فرعون‪،‬وحزمهم في القضاء على أي نوع من التململ الذي ينذر بالّتمرد‬
‫على النظام‪.‬‬
‫فها هم يديرون المؤامرة في الخفاء لقتل موسى‪،‬فالقتل‬
‫جزء من المعالجة لي تمرد قد يقع‪،‬كما أّنه وسيلة لرهاب من تحدثه نفسه‬
‫بالخروج على الّنظام‪.‬ويتسرب الخبر إلى رجل يميل بقلبه إلى دعوة‬
‫ذكر أن قول السرائيلي سمعه سامع فأفشاه‬ ‫موسى‪،‬فينطلق إليه مخبرا‪ُ ).‬‬
‫ما أمر بقتله‬ ‫وأعلم به أهل القتيل‪،‬فحينئذ طلب فرعون موسى وأمر بقتله‪،‬فل ّ‬
‫جاء موسى مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره‪،‬وأشار عليه‬
‫‪]518‬ص‪.[6:‬‬
‫‪519‬تفسير الطبري)‪.(23/126‬‬
‫‪520‬في ظلل القرآن)‪.(6/335‬‬

‫‪95‬‬
‫بالخروج من مصر بلد فرعون وقومه(‪.521‬وهذا ما يرشد إليه قوله‬
‫ن‬
‫تعالى‪’’:‬وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إ ّ‬
‫المل يأتمرون‪522‬بك ليقتلوك فاخرج إّني لك من‬
‫ن المل‪-‬وهم وجوه أهل دولة فرعون‪-‬يأتمرون بك أي‬ ‫الّناصحين‘‘‪.523‬أي)إ ّ‬
‫ن كل من المتشاورين يأمر‬ ‫يتشاورون بسببك‪،‬وإّنما سمي التشاور ائتمار ل ّ‬
‫الخر ويأتمر ليقتلوك‪،‬فاخرج من المدينة قبل أن يظفروا بك إّني لك من‬
‫الّناصحين(‪.524‬‬
‫ومن مظاهر مشاركتهم ومساندتهم لفرعون ترديدهم‬
‫لكلمه وتبّنيهم لمواقفه وسيرهم على نهجه‪،‬فهم مستقرون حول‬
‫فرعون‪-‬في مشهد يوحي بمدى قربهم منه وملصقتهم له‪-‬يستمعون لخطابه‬
‫ن هذا لساحر‬ ‫ده على موسى عليه السلم‪،‬حيث يقول لهم‪’’:‬إ ّ‬ ‫في معرض ر ّ‬
‫عليم‪،‬يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا‬
‫تأمرون‘‘‪،525‬وقصد‪-‬لعنه الله‪-‬تنفيرهم عن موسى عليه السلم بتذكيرهم‬
‫بسلطانهم وملكهم المهدد على يديه‪،‬من خلل نسبة الخراج من الرض‬
‫إليهم‪.526‬إّنه ُيحّرضهم وُيحّرضونه‪-‬كما سيأتي قريبا‪،-‬فكأّنهم تواصوا‬
‫به‪،‬فيوصي بعضهم بعضا‪،‬فالمشاعر متجانسة والمصالح متشابكة وهم في‬
‫سلة واحدة‪،‬فمصيرهم واحد‪،‬وجميعهم من موسى حذرون!‬
‫وسرعان ما وافقوه وقالوا كمقالته‪،‬فلكل طاغية أبواق تنعق بما تعلم‬
‫ول تعلم‪،‬يشاركون في التزوير والتضليل دعاة على أبواب جهّنم‪،527‬يقول‬
‫ن هذا لساحر عليم‪،‬يريد أن‬ ‫تعالى‪’’:‬قال المل من قوم فرعون‪528‬إ ّ‬
‫يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‪.530‘‘529‬فتشاوروا)كيف يصنعون في‬
‫أمره‪،‬وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه‬
‫وافترائه‪،‬وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره‪-‬فيما يعتقدونه‪-‬فيكون ذلك سببا‬

‫‪521‬تفسير الطبري)‪.(20/50‬‬
‫‪)522‬تأمروا على المر وائتمروا تماروا وأجمعوا آراءهم(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬أمر)‪.(4/29‬و)يأتمرون‬
‫بك‪:‬يتآمرون في قتلك(التبيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/327‬‬
‫‪]523‬القصص‪.[20:‬‬
‫‪524‬روح المعاني)‪.(20/58‬‬
‫‪]525‬الشعراء‪.[35-34:‬‬
‫‪526‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/237‬وتفسير أبي السعود)‪.(6/241‬‬
‫‪527‬روى البخاري من حديث أبي إدريس الخولني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول‪’’:‬ثم كان الناس‬
‫يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن‬
‫يدركني‪.‬فقلت يا رسول الله‪:‬إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير‪،‬فهل بعد هذا الخير من‬
‫شر؟قال‪:‬نعم‪.‬قلت‪:‬وهل بعد ذلك الشر من خير؟قال‪:‬نعم وفيه دخن‪.‬قلت‪:‬وما دخنه؟قال‪:‬قوم‬
‫يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر‪.‬قلت‪:‬فهل بعد ذلك الخير من شر؟قال‪:‬نعم دعاة على أبواب‬
‫جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها‪.‬قلت يا رسول الله‪:‬صفهم لنا‪.‬قال‪:‬هم من جلدتنا ويتكلمون‬
‫بألسنتنا‪.‬قلت‪:‬فما تأمرني إن أدركني ذلك؟قال‪:‬الزم جماعة المسلمين وإمامهم‪.‬قلت‪:‬فان لم يكن‬
‫لهم جماعة ول إمام؟قال‪:‬فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت‬
‫وأنت على ذلك‘‘صحيح البخاري‪،‬كتاب الفتن‪،‬باب كيف المر إذا لم تكن جماعة)‪(6/2595‬رقم)‬
‫‪.(6673‬‬
‫ن هذا الكلم قاله فرعون والمل من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء‬ ‫‪)528‬إ ّ‬
‫ن هذا الكلم قاله فرعون ابتداء ثم قاله المل إما بطريق الحكاية لولدهم‬ ‫كلمه وهنا كلمهم‪.‬أو أ ّ‬
‫وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلم فرعون ابتداء وما هنا كلم المل‬
‫نقل عنه(روح المعاني)‪.(9/22‬‬
‫‪)529‬فماذا تأمرون الظاهر أنه من كلم المل بعضهم لبعض وقيل انه من كلم فرعون(تفسير‬
‫الثعالبي)‪.(2/42‬‬
‫‪]530‬العراف‪.[110-109:‬‬

‫‪96‬‬
‫لظهوره عليهم وإخراجه إياهم من أرضهم‪،‬والذي خافوا منه وقعوا فيه‪،‬كما‬
‫قال تعالى‪’’:‬ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا‬
‫يحذرون‘‘‪.531‬فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ماحكاه‬
‫الله تعالى عنهم في قوله تعالى‪’’:‬قالوا أرجه وأخاه وأرسل في‬
‫المدائن حاشرين‪،‬يأتوك بكل ساحر عليم‘‘‪.533(532‬وفي قوله‪’’:‬قالوا‬
‫حار‬ ‫أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين‪،‬يأتوك بكل س ّ‬
‫عليم‘‘‪،534‬فهم حوله يستشيرهم فل يبخلون عليه بالمشورة‪.‬‬
‫ل على شدة حرصهم على الّنظام‬ ‫ما يد ّ‬
‫وقام المل بدور التحريض‪،‬م ّ‬
‫القائم‪،‬فمصيرهم مرتبط بمصير فرعون‪،‬أو كما قيل‪:‬إّنهم في قارب‬
‫واحد‪.‬وهودور خطير يلقي الضوء على سبب مهم من أسباب ظهور شخصية‬
‫فرعون‪.‬يقول تعالى‪’’:‬وقال المل من قوم فرعون أتذر موسى‬
‫وقومه ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‘‘‪.535‬أي تدعهم ليفسدوا‬
‫في الرض بتغيير الّناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك وعبادة ربهم‬
‫دونك‪،‬فتحدث الفرقة وتشتيت الشمل‪،‬ويفسدوا عليك خدمك‬
‫وعبيدك‪،‬فيحدث الفساد الديني والدنيوي‪،‬فصار هؤلء يشفقون على إفساد‬
‫موسى وقومه‪!536‬‬
‫فالفساد في الرض –من وجهة نظرهم‪)-‬هو الدعوة إلى ربوبية الله‬
‫وحده‪،‬حيث يترتب عليها تلقائيا بطلن شرعية حكم فرعون ونظامه كله‪.‬إذ‬
‫ن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون لمره –أو بتعبير مرادف‬ ‫إ ّ‬
‫على أساس ربوبية فرعون لقومه‪ -‬وإذن فهو‪ -‬بزعمهم‪-‬الفساد في‬
‫الرض‪،‬بقلب نظام الحكم‪،‬وتغيير الوضاع القائمة على ربوبية البشر‬
‫للبشر‪،‬وإنشاء وضع آخر مخالف تماما لهذه الوضاع‪،‬الربوبية فيه لله ل‬
‫م قرنوا الفساد في الرض بترك موسى وقومه لفرعون‬ ‫للبشر‪.‬ومن ث ّ‬
‫‪537‬‬
‫ن تلك اللهة هي الغطاء التي يعيش‬ ‫وللهته التي يعبدها هو وقومه( ؛ذلك ل ّ‬
‫تحته المل‪،‬ومنه يستمدون قدسيتهم وهيبتهم ومراكزهم‪..‬وإل ّ فهم يدركون‬
‫أكثر من غيرهم أّنها ل تضر ول تنفع‪،‬ولكّنها الوسيلة الموصلة إلى أهدافهم‬
‫وغاياتهم‪،‬بينما هم يعبدون في الحقيقة مصالحهم ومكتسباتهم‪،‬وتلك هي‬
‫الجاهلية في أخس مظاهرها حيث أصبح الرب شعارا عندهم‪،‬ووسيلة‬
‫للتغطية على معبودهم المرفوض أمام الجماهير‪،‬وتلك هي العلة الكامنة‬
‫معاش‪.‬‬‫وراء الفرق الشاسع بين شعارات الحكومة وواقع الحياة ال ُ‬
‫ل الطواغيت‬ ‫مّتبعة عند ك ّ‬
‫ن اللجوء إلى قلب الحقائق سياسة ُ‬ ‫إ ّ‬
‫ّ‬
‫وراتهم إل أّنهم‬‫ومعاونيهم وبطاناتهم‪،‬مع إدراكهم لفساد مناهجهم وتص ّ‬
‫يزّورون الحقائق اتباعا للهوى‪،‬يقول تعالى‪’’:‬أرأيت من اتخذ إلهه هواه‬
‫أفأنت تكون عليه وكيل‘‘‪.538‬فل عجب من إضمارهم الكذب وإصرارهم‬
‫عليه؛ذلك بأّنهم اتخذوا الهوى إلها‪،‬فانفلتوا من كل القيم والخلق‪.‬‬
‫‪]531‬القصص‪.[6:‬‬
‫‪]532‬العراف‪.[112-111:‬‬
‫‪ 533‬تفسير ابن كثير)‪.(4/237‬‬
‫‪]534‬الشعراء‪.[37-36:‬‬
‫‪]535‬العراف‪.[137:‬‬
‫‪536‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(9/24‬وتفسير الواحدي)‪(1/408‬وتفسير القرطبي)‪(7/261‬وفتح القدير)‬
‫‪(2/235‬وروح المعاني)‪.(9/28‬‬
‫‪537‬في ظلل القرآن)‪.(311-3/310‬‬
‫‪]538‬الفرقان‪.[43:‬‬

‫‪97‬‬
‫لقد أقر المل ُ فرعو َ‬
‫ن بالقول والعمل واتبعوا أمره‪،‬ولهم أسبابهم كما‬
‫م تقدموا في شرهم وإثمهم فشاركوه‬ ‫هي أسباب المؤيدين للطواغيت‪،‬ث ّ‬
‫وساندوه‪،‬وبقيت حلقة أخرى غفلت قلوبهم عنها‪،‬تلك اللحظة التي يكفر‬
‫م يوم القيامة يكفر‬ ‫بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ث ّ‬
‫بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ومأواكم الّنار وما لكم من‬
‫ناصرين‘‘‪.539‬‬
‫كلمة في بــطانة الســوء‬
‫ً‬
‫ة وتزيينا للباطل‪،‬يقول‬ ‫ن بطانة السوء تقوم بدور الشيطان وسوس ً‬ ‫إ ّ‬
‫تعالى‪’’:‬ياأيها الذين ءامنوا ل تتخذوا بطانة من دونكم ل يألونكم‬
‫خبال ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي‬
‫صدورهم أكبر قد بينا لكم اليات إن كنتم تعقلون‘‘‪540‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫خر جهدا في الفساد وجلب‬ ‫بطانة السوء ل تأمر إل ّ بالشر والفساد‪،‬ول تد ّ‬
‫ن بطانة السوء تمنع الحاكم من رؤية الحقيقة بسبب تزيينهم له‬ ‫الضرر‪.‬كما أ ّ‬
‫الباطل‪،‬وتشجع الظالم على الستمرار في ظلمه وفساده وبغيه‪،‬بل وربما‬
‫زّينت له توسيع دائرة الظلم والفساد‪.‬‬
‫ن أخطر أنواع البطانات السيئة هم أولئك الذين يلبسون ثوب الخلق‬ ‫وإ ّ‬
‫مة‬
‫دين‪..‬ويعتبرون أنفسهم الحرص على مقدرات ال ّ‬ ‫والفكر وال ّ‬
‫ومستقبلها‪،‬والخطر من ذلك أن يقوموا بعزل الحاكم عن الّناس كي يبقى‬
‫بعيدا عن الحقيقة؛ذلك من أجل المحافظة على مراكزهم ومكتسباتهم‬
‫وشركاتهم ووكالتهم!‬
‫لقد تحدث القرآن طويل عن تلك البطانة السيئة ودورها في رد ّ الحق‬
‫دوا لنوح عليه السلم‪،‬واتهموه بالضلل‪،‬يقول تعالى‬ ‫ومحاربته‪،‬فهم من تص ّ‬
‫حكاية لقولهم’’وقال المل من قومه إّنا لنراك في ضلل‬
‫مبين‘‘‪،541‬وذلك)حين دعاهم إلى عبادة الله وحده ل شريك له( ‪،‬وهم‬
‫‪542‬‬

‫الذين اتهموا هودا عليه السلم بالسفاهة والكذب‪،‬حين قالوا‪’’:‬إّنا لنراك‬


‫في سفاهة وإّنا لنظّنك من الكاذبين‘‘‪،543‬أي)في حماقة وخفة‬
‫ددوا شعيبا عليه السلم بالخراج حين‬ ‫عقل(‪،544‬وهم الذين ه ّ‬
‫ن‬
‫قالوا‪’’:‬لنخرجّنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعود ّ‬
‫في ملتنا‘‘‪،545‬أي)لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه(‪،546‬لّنهم‬
‫المتضررين الوحيدين من الدين الجديد‪..‬وهكذا هي أدوارهم وما‬
‫زالت‪،‬فتراهم يحملون حملة خبيثة لئيمة على حملة الحق والهدى‪،‬ويرفعون‬
‫شعارات متعددة للّتخفي وراءها‪.‬‬
‫إّنهم موجودون نراهم ونحس بأدوارهم ومكرهم وخبثهم‪.‬إّنهم أولئك‬
‫المنتفشون الذين يحتقرون الجماهير‪،‬وينظرون إليهم نظرة‬
‫فوقية‪،‬ويزدرونهم ويحتقرونهم‪.‬إّنها نفس المشاعر القديمة والتي عّبر عنها‬

‫‪]539‬العنكبوت‪.[25:‬‬
‫‪]540‬آل عمران‪.[118:‬‬
‫‪]541‬العراف‪.[60:‬‬
‫‪542‬تفسير الطبري)‪.(8/213‬‬
‫‪]543‬العراف‪.[66:‬‬
‫‪544‬تفسير القرطبي)‪.(7/236‬‬
‫‪]545‬العراف‪.[88:‬‬
‫‪546 546‬تفسير الطبري)‪.(9/1‬‬

‫‪98‬‬
‫المل من قوم نوح‪-‬عليه السلم‪-‬حين قالوا‪’’:‬وما نراك اّتبعك إل ّ الذين‬
‫هم أراذلنا بادي الرأي‘‘‪،547‬و)إّنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم‬
‫في السباب الدنيوية(‪.548‬إّنها ذات المشاعر الهابطة التي دفعت الزعامة‬
‫فار قريش أن يطلبوا أن يكون لهم مجلس خاص ل يجلس‬ ‫المستعلية من ك ّ‬
‫معهم فيه الفقراء؛ذلك ليحافظوا على الفوارق التي عليها يقتاتون ومنها‬
‫يستمدون جاههم المزعوم؛فمصالحهم تتصادم مع مصالح الطبقة العريضة‬
‫المسحوقة‪.‬عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد قال‪):‬كّنا مع النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ستة نفر‪،‬فقال المشركون للنبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪:‬اطرد هؤلء ل يجترؤن علينا‪.‬قال‪:‬وكنت أنا وابن مسعود ورجل من‬
‫هذيل وبلل ورجلن لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ما شاء الله أن يقع‪،‬فحدث نفسه‪،‬فأنزل الله عز وجل’’ول‬
‫تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون‬
‫دين التي أرادها الله ورفضها المل!‬ ‫وجهه‘‘‪،550(549‬وتلك هي معجزة هذا ال ّ‬
‫ن المل يشكلون خط الدفاع الول للطاغوت‪،‬وهم الذين يكافحون‬ ‫إ ّ‬
‫الحق وُيلحقون الذى بالنبياء وأتباعهم‪،‬ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم عليهم‪’’،‬اللهم عليك المل من قريش‪.‬اللهم عليك أبا جهل بن هشام‬
‫وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي‬
‫دم الحق!‬‫بن خلف‘‘‪551‬؛ذلك بأّنهم حجر عثرة أمام تق ّ‬
‫ن على)الحاكم أن ل يبادر بما تلقيه إليه حاشيته حتى‬ ‫وفي المقابل فإ ّ‬
‫ن المصيبة إّنما تدخل‬‫يبحث عنه‪،‬وأن يتخذ لسره ثقة مأمونا فطنا عاقل ل ّ‬
‫على الحاكم المأمون من قبول موثوق به إذ كان هو حسن الظن‪،‬فيلزمه‬
‫التثبت والتدبر ويسأل الله الهداية والتبصر(‪.552‬‬
‫ثانيا‪:‬آل فرعون‬
‫وآل فرعون من الفئات المشاركة والمساندة لحكم فرعون‬
‫ونظامه‪،‬وقد لعبوا دورا مهما في ظهور شخصية فرعون؛ذلك أّنهم اتصفوا‬
‫بصفات جعلتهم أداة طّيعة بيد فرعون أهمها الكفر والتكذيب بآيات الله‪،‬حتى‬
‫صاروا لظلمهم ومظاهرتهم للظالم الطاغي مضربا للمثل في صنيعهم‬
‫ومشايعتهم لفرعون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬كدأب آل فرعون‪553‬والذين من‬
‫قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد‬
‫العقاب‘‘‪،554‬ويقول تعالى‪’’:‬كدأب آل فرعون والذين من قبلهم‬
‫كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل‬

‫‪]547‬هود‪.[28:‬‬
‫‪548‬الكشاف)‪.(2/374‬‬
‫‪]549‬النعام‪.[52:‬‬
‫‪550‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم‪،‬باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي‬
‫الله عنه)‪(4/1878‬رقم)‪.(2413‬‬
‫‪551‬صحيح البخاري‪ ،‬أبواب الجزية والموادعة‪،‬باب طرح جيف المشركين في البئر ول يؤخذ لهم‬
‫ثمن)‪(3/1163‬رقم)‪.(3014‬‬
‫‪552‬فيض القدير)‪.(2/252‬‬
‫ن دأب ههنا اجتهادهم في‬ ‫‪)553‬أي كشأن آل فرعون وكأمر آل فرعون كذا قال أهل اللغة‪.‬وقالوا‪:‬أ ّ‬
‫كفرهم وتظاهرهم على النبي كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلم‪.‬يقال دأبت أدأب دأبا‬
‫و دؤوبا إذا اجتهدت في الشيء‪،‬و الدائبان الليل والنهار(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬دأب)‪(1/369‬مع بعض‬
‫التصرف‪ ).‬والدأب عند أهل اللغة العادة‪،‬وحقيقتة عندهم أنه من قولك فلن يدأب أي يداوم على‬
‫الشيء(معاني القرآن)‪.(3/163‬‬
‫‪]554‬آل عمران‪.[11:‬‬

‫‪99‬‬
‫كانوا ظالمين‘‘‪،555‬فمن دأبهم وشأنهم وعادتهم الكفر بآيات الله‬
‫ل هكذا‬ ‫والتكذيب‪،‬فكيف ل يكونون دعامة لحكم فرعون الكافر المكذب؟!فآ ٌ‬
‫نعتهم لديهم القابلية للقرار بحكم فرعون والقبول بربوبيته وألوهيته‪،‬فهم‬
‫أرض قابلة لمثل هذا الزرع الخبيث‪.‬‬
‫وبلغ الل في كفرهم وتكذيبهم وانحرافهم أن كذبوا بآيات الله كلها‪،‬بعد‬
‫أن جاءهم الّنذر‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد جاء آل فرعون النذر‪،‬كذبوا بآياتنا‬
‫كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‘‘‪.556‬أي لقد جاء آل فرعون إنذارنا‬
‫بالعقوبة بكفرهم بنا وبرسولنا موسى صلى الله عليه وسلم‪-‬واكتفى بذكرهم‬
‫عن ذكره للعلم بأّنه أولى بذلك منهم‪-‬لّنهم كذبوا بآيات الله وبالمعجزات‬
‫والحجج التي جاءتهم من عند الله‪،‬وهي العصا واليد والسنون والطمسة‬
‫ل على توحيد الله ونبوة‬ ‫والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم‪،‬والتي تد ّ‬
‫ذبوا فعاقبهم الله بكفرهم عقوبة‬ ‫أنبيائه وأّنه ل إله إل الله وحده‪،‬ولكّنهم ك ّ‬
‫شديد ل ُيغلب‪،‬مقتدر على ما يشاء غير عاجز ول ضعيف‪،‬فإّنه ل يعجزه‬
‫ن قصتهم صدرت بالتوكيد القسمي لبراز كمال‬ ‫شيء‪،557‬ومن الملحظ)أ ّ‬
‫العتناء بشأنها‪،‬لغاية عظم ما فيها من اليات وكثرتها‪،‬وهول ما لقوه من‬
‫العذاب وقوة إيجابها للتعاظ(‪.558‬‬
‫ن آل فرعون أداة تنفيذية في نظام فرعون‬ ‫بيان أ ّ‬
‫من السهل الن وبعد أن بّينا بعض صفاتهم أن ندرك لماذا كانوا أدواتا‬
‫تنفيذية عند فرعون‪،‬حيث أسند فرعون إليهم مهمة القهر والقتل‬
‫والتعذيب ودليل ذلك قوله تعالى‪’’:‬واذ نجيناكم من آل فرعون‬
‫يسومونكم سوء العذاب يذّبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‬
‫وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘‪،559‬وقوله تعالى‪’’:‬وإذ أنجيناكم من‬
‫آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقّتلون أبناءكم ويستحيون‬
‫نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘‪.560‬ومن الملحظ أ ّ‬
‫ن‬
‫ن المر به هو فرعون‪،‬لّنهم الفاعلين لذلك‬ ‫القرآن أسند الفعل إليهم مع أ ّ‬
‫كله‪،‬والمرتكبين لتلك الجرائم‪،‬وتكفي هذه المشاركة العملية من آل فرعون‬
‫لتكون سببا في ظهور شخصية فرعون‪،‬وعلة تقف وراء هذه الظاهرة‬
‫البشعة في تاريخ النسانية‪.‬وستظهر شخصية فرعون مرة أخرى في ك ّ‬
‫ل‬
‫مرة تجتمع فيها تلك الظروف والملبسات والسباب‪.‬‬
‫ومن الوظائف التي قام على تنفيذها آل فرعون‪:‬وظيفة المراقبة‬
‫التي تشبه مهمة المخابرات في زماننا هذا‪،‬وهي مهمة حساسة غالبا ما‬
‫يعتمد الطواغيت على المقربين فيها‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فالتقطه آل فرعون‬
‫ليكون لهم عدوا وحزنا‘‘‪.561‬أي موسى عليه السلم وهو في مرحلة‬
‫الطفولة الولى‪)،‬وهم لم يلتقطوه ليكون عدوا وحزنا وإّنما التقطوه فكان‬
‫لهم(‪.562‬‬

‫‪]555‬النفال‪.[54:‬‬
‫‪]556‬القمر‪.[42-41:‬‬
‫‪557‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(27/107‬وتفسير البغوي)‪(4/263‬وتفسير النسفي)‪.(4/198‬‬
‫‪558‬تفسير أبي السعود)‪(8/173‬وروح المعاني)‪.(27/91‬‬
‫‪]559‬البقرة‪.[49:‬‬
‫‪]560‬العراف‪.[141:‬‬
‫‪]561‬القصص‪.[8:‬‬
‫‪ 562‬تفسير الطبري)‪.(11/156‬‬

‫‪100‬‬
‫ن الّنظام كّله‪-‬في عهد فرعون‪-‬على حذر‪،‬وهكذا كل نظام‬ ‫وبيان ذلك أ ّ‬
‫جائر‪)،‬فالعدل يدعو إلى اللفة ويبعث على الطاعة وتنعم به الرض‪..‬كما قال‬
‫الهرمزان لعمر حين رآه نائما بالمسجد مبتذل‪:‬عدلت فأمنت فنمت(‪،563‬فهو‬
‫أمن وأمان‪،564‬بينما الظلم خوف وترّقب وحذر وقلق‪.‬ولول هذه المراقبة لما‬
‫ما حصل الخوف منها عليه‬ ‫م موسى موسى عليه السلم في اليم‪،‬فل ّ‬ ‫ألقت أ ّ‬
‫ّ‬
‫م‪،‬ولم يكن هذا الخوف إل من المراقبة التي أمر بها فرعون‬ ‫ألقته في الي ّ‬
‫واجتهاد العيون في البحث عن المواليد‪.‬‬
‫العقوبات التي أنزلها الله على آل فرعون دليل على مشاركتهم‬
‫في الثم والعدوان‬
‫لقد أنزل الله على آل فرعون عقوبات متعددة‪،‬تمثل في مجموعها‬
‫ما يؤكد لنا عظم الجريمة التي اقترفوها والمتمثلة‬ ‫عقوبة هائلة كبيرة‪،‬م ّ‬
‫بدعمهم ومساندتهم ومشاركتهم لنظام فرعون‪،‬ولهذا نعتبر تلك العقوبات‬
‫دليل آخر على الدور الذي لعبه آل فرعون في إظهار شخصية فرعون‬
‫وتثبيت نظام حكمه‪.‬ومن خلل النظر في الكتاب العزيز يمكن لنا أن نقسم‬
‫تلك العقوبات إلى ثلثة أنواع‪:‬‬
‫أول‪:‬عقوبة في الدنيا قبل الموت‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد أخذنا آل‬
‫فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون‪،‬فإذا جاءتهم‬
‫الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن‬
‫معه أل إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم ل يعلمون‪،‬وقالوا‬
‫مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‪،‬فأرسلنا‬
‫عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلت‬
‫ن الله قد أخذ آل‬‫فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘‪.565‬والمعنى أ ّ‬
‫فرعون أي اختبرهم وامتحنهم وابتلهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة‬
‫الزروع ونقص من الثمرات‪،‬وهم فى أرض مصر‪،‬المخصبة المثمرة‬
‫المعطاء‪،‬وتلك)ظاهرة تلفت النظر‪،‬وتهز القلب‪،‬وتثير القلق‪،‬وتدعو إلى‬
‫اليقظة والتفكر‪،‬لول أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت‪-‬بفسقهم عن‬
‫دين الله –فيطيعونه‪،‬ل يريدون أن يتدبروا ول أن يتفكروا(‪.566‬‬
‫ثانيا‪:‬وعقوبة عند الموت‪.‬يقول تعالى‪’’:‬وإذ فرقنا بكم البحر‬
‫فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‘‘‪567‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن الله‬
‫تعالى أمر موسى عليه السلم أن يسري ببني إسرائيل‪،‬فخرج بهم فصبحهم‬
‫فرعون وجنوده وصادفهم على شاطىء البحر‪،‬فأوحى الله تعالى إليه أن‬
‫اضرب بعصاك البحر فضربه‪،‬فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها حتى‬
‫م لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده‬ ‫عبروا البحر‪،‬ث ّ‬
‫فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين‪.‬‬
‫ن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني‬ ‫واعلم أ ّ‬
‫إسرائيل‪،‬ومن اليات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق‬

‫‪563‬فيض القدير)‪(4/378‬مع بعض التصرف‪.‬‬


‫ن الهرمزان قال‪ :‬أين حرسه وحجابه عنه؟قالوا‪:‬ليس له حارس ول‬ ‫‪564‬ذكر الطبري في تاريخه)أ ّ‬
‫حاجب ول كاتب ول ديوان‪.‬قال‪:‬فينبغي له أن يكون نبيا‪.‬فقالوا‪:‬بل يعمل عمل النبياء(تاريخ‬
‫الطبري)‪.(2/502‬‬
‫‪] 565‬العراف‪.[133-130:‬‬
‫‪566‬في ظلل القرآن)‪.(3/614‬‬
‫‪]567‬البقرة‪.[50:‬‬

‫‪101‬‬
‫موسى عليه الصلة والسلم‪)،568‬كذلك إقصاصها على ماهي عليه من رسول‬
‫الله معجزة جليلة تطمئن بها القلوب البية‪،‬وتنقاد لها النفوس الغبية‪،‬موجبة‬
‫لعقابهم أن يتلقوها بالذعان‪،‬فل تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها‪،‬ول‬
‫تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها‪،‬فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما‬
‫أطغاها(‪.569‬‬
‫لقد حّلت بهم نقمة الله‪،‬فكان إغراقهم بسبب تكذيبهم باليات‪،‬وعدم‬
‫فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها‪،‬أي غير معتبرين بها لّنهم ل‬
‫‪570‬‬
‫م بأّنهم‬‫يتدبرونها ‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فانتقمنا منهم فأغرقناهم في الي ّ‬
‫ذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘‪.571‬أي)كانوا عن النقمة التي أحللناها‬ ‫ك ّ‬
‫‪572‬‬
‫بهم غافلين‪-‬قبل حلولها بهم‪-‬أنها بهم حالة( ‪.‬‬
‫ن أرواحهم‬‫ثالثا‪:‬وعقوبة بعد الموت ويوم تقوم الساعة‪).‬فإ ّ‬
‫تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة‪،‬فإذا كان يوم القيامة‬
‫اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في الّنار(‪573‬يقول تعالى‪’’:‬وحاق بآل فرعون‬
‫سوء العذاب‪،‬الّنار يعرضون عليها غدوا وعشّيا ويوم تقوم‬
‫الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب‘‘‪،574‬أي)عذاب جهّنم فإنه أشد‬
‫ن عذابها ألوان بعضها أشد من‬ ‫مما كانوا فيه‪،‬أو أشد عذاب جهنم‪،‬فإ ّ‬
‫ن شدة العذاب‬ ‫بعض(‪،575‬والمعنى أدخلوهم أشده ألما وأعظمه نكال؛ذلك أ ّ‬
‫دليل على عظم الجريمة التي ارتكبوها‪.‬فيا له من مشهد مخيف ونهاية شقية‬
‫بئيسة!‬
‫ل على عظم الجرم الذي ارتكبه آل فرعون‪،‬وهو‬ ‫ن هذه العقوبات تد ّ‬ ‫إ ّ‬
‫م إظهار شخصيته‪،‬وهو ما أردت‬ ‫الدور الذي مّثلوه في نظام فرعون ومن ث ّ‬
‫ن آل فرعون كانوا سببا في ظهور هذه الشخصية المنحرفة‪.‬‬ ‫تبيانه من أ ّ‬
‫ثالثا‪:‬قوم فرعون‬
‫قوم فرعون)وهم قبط مصر(‪،576‬وهم القاعدة العريضة التي تساند‬
‫فرعون‪،‬ولقد اتصف قوم فرعون بصفات سيئة كانت في مجموعها سببا في‬
‫خضوعهم وطاعتهم لفرعون ‪،‬وكان هذا الخضوع وهذه الطاعة والمتابعة‬
‫لفرعون سببا في عتوه واستكباره وتجبره‪،‬فهناك ارتباط واضح بين صفات‬
‫القوم وبين خضوعهم وطاعتهم لفرعون؛ذلك الخضوع الذي أظهر شخصية‬
‫فرعون‪.‬ومن هنا كان ل بد ّ أن نلقي بعض الضوء على صفاتهم التي كانت‬
‫الساس الذي منه ظهرت شخصية فرعون‪،‬وكانت العلة في عتوه وتجبره‪.‬‬

‫‪568‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(1/275‬وتفسير الواحدي)‪(1/104‬وتفسير البيضاوي)‪(1/342‬وتفسير ابن‬


‫كثير)‪(1/92‬وتفسير النسفي)‪.(1/43‬‬
‫‪569‬تفسير أبي السعود)‪.(1/101‬‬
‫‪570‬انظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(1/410‬وتفسير البغوي)‪(2/193‬وتفسير الجللين)‪.(1/211‬‬
‫‪]571‬العراف‪.[136:‬‬
‫‪572‬تفسير الطبري)‪.(9/42‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(7/272‬‬
‫‪573‬تفسير ابن كثير)‪.(4/82‬وانظر‪ :‬ابن تيمية‪:‬أبو العباس‪،‬أحمد بن عبد الحليم الحراني‪-661)،‬‬
‫‪728‬هـ(‪،‬دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد السيد الجليند‪،‬ط‬
‫‪،2‬مؤسسة علوم القرآن‪،‬دمشق‪1404،‬هـ‪،(2/255).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)دقائق‬
‫التفسير(‪،‬وتفسير البغوي)‪(4/99‬وفتح القدير)‪(4/495‬وروح المعاني)‪.(24/73‬‬
‫‪]574‬غافر‪.[46-45:‬‬
‫‪575‬تفسير أبي السعود)‪.(7/279‬‬
‫‪576‬تفسير ابن كثير)‪(4/142‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(25/118‬والبداية والنهاية)‪(1/268‬والمنتظم‬
‫في التاريخ)‪.(1/346‬‬

‫‪102‬‬
‫بيان بعض صفات قوم فرعون وأّنها سبب في إظهار شخصية‬
‫فرعون‬
‫أول‪:‬الفسق‪.‬لقد اتصف قوم فرعون بالفسق‪،‬و)الفسق العصيان‬
‫والترك لمر الله عز وجل والخروج عن طريق الحق‪..‬والفسوق الخروج عن‬
‫الدين وكذلك الميل إلى المعصية‪،‬كما فسق إبليس عن أمر ربه‪.‬وفسق عن‬
‫أمر ربه‪،‬أي جار ومال عن طاعته‪..‬والعرب تقول إذا خرجت الرطبة من‬
‫ويسقه‬‫ن الفأرة إّنما سميت فُ َ‬
‫قشرها‪:‬قد فسقت الرطبة من قشرها‪،‬وكأ ّ‬
‫‪577‬‬
‫لخروجها من جحرها على الناس‪.‬والفسق الخروج عن المر( ‪.‬‬
‫كن فرعون من استخفافهم‪-‬كما بّين القرآن‪-‬‬ ‫ن فسق قوم فرعون م ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ليصبحوا أداة طّيعة بيده الثمة‪،‬وسببا من أسباب عتوه وتجبره؛فهي جماهير‬
‫مفرغة من أي محتوى أو مضمون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فاستخف‬ ‫خاوية مّيتة ُ‬
‫‪579‬‬ ‫‪578‬‬
‫قومه فأطاعوه إّنهم كانوا قوما فاسقين‘‘ ‪.‬أي)طلب منهم‬
‫الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلمهم فأطاعوه فيما أمرهم به‪،‬إّنهم كانوا‬
‫قوما فاسقين فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق(‪،580‬وذلك لّنه دعاهم إلى‬
‫العتراف له باللهية فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم‪)،‬وإّنما‬
‫أطاعوه فاستجابوا لما دعاهم إليه عدو الله من تصديقه وتكذيب موسى‬
‫لنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلنه إياهم وطبعه على‬
‫ن قوما صدقوه في قوله‪’’:‬أنا ربكم العلى‘‘‪،582‬من أجهل‬ ‫قلوبهم(‪)،581‬فإ ّ‬
‫خلق الله وأضلهم(‪.583‬‬
‫وكما كان فسق قوم فرعون علة في استخفاف فرعون لهم وطاعتهم‬
‫له‪،‬كان فسقهم‪-‬أيضا‪ -‬علة في بعث موسى عليه السلم إليهم باليات‪،‬حيث‬
‫جمعهم القرآن مع فرعون في تلك المهمة التي ُبعث بها موسى عليه‬
‫السلم‪،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪’’:‬وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء‬
‫من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إّنهم كانوا قوما‬
‫فاسقين‪،‬فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر‬
‫مبين‪،‬وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف‬
‫كان عاقبة المفسدين‘‘‪.584‬وقوله‪’’:‬إّنهم كانوا قوما فاسقين‘‘تعليل‬

‫‪ 577‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬فسق)‪(10/308‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬فسق)‬


‫‪.(211‬‬
‫‪)578‬أي حملهم على الخفة والجهل‪.‬يقال‪:‬استخفه عن رأيه واستفزه عن رأيه إذا حمله على الجهل‬
‫وأزاله عما كان عليه من الصواب‪،‬واستخف به أهانه(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬خفف)‪.(9/80‬و)المعنى‬
‫فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلمهم وقلة عقولهم‪.‬يقال‪ :‬استخفه الفرح أي أزعجه‪،‬واستخفه‬
‫أي حمله على الجهل‪،‬ومنه’’ول يستخفنك الذين ل يوقنون‘‘]الروم‪ .[60:‬وقيل‪:‬استفزهم بالقول‬
‫فأطاعوه على التكذيب‪.‬وقيل‪:‬استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول‪،‬وهذا ل يدل على أنه يجب‬
‫أن يطيعوه‪،‬فل بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية‬
‫فأطاعوه‪.‬وقيل‪:‬استخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه‪،‬يقال‪:‬استخفه خلف استثقله واستخف به‬
‫أهانه‪.‬إّنهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عن طاعة الله(القرطبي)‪.(16/101‬وانظر‪:‬فتح القدير)‬
‫‪.(4/560‬‬
‫‪] 579‬الزخرف‪.[54:‬‬
‫‪580‬تفسير البيضاوي)‪(5/149‬وانظر‪:‬تفسير ابي السعود)‪.(8/50‬‬
‫‪581‬نفسير الطبري)‪.(25/84‬‬
‫‪]582‬الّنازعات‪.[24:‬‬
‫‪583‬تفسير ابن كثير)‪.(2/239‬‬
‫‪]584‬الّنمل‪.[14-12 :‬‬

‫‪103‬‬
‫للرسال‪،‬أي)خارجين عن طاعة الله(‪)،585‬فهم أحقاء بأن ُيرسل‬
‫إليهم(‪،586‬حتى إذا جاءتهم آيات الله واضحة بينة قالوا‪:‬هذا سحر مبين واضح‬
‫سحريته‪،‬جروا على عادتهم من التكذيب فلهذا قال‪’’:‬وجحدوا بها‘‘أي وكذبوا‬
‫موها‬ ‫طوها عن رتبتها العالية وس ّ‬ ‫بها وقد استيقنتها أنفسهم ظلما‪،‬حيث ح ّ‬
‫م‬‫سحرا‪،‬وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أّنها آيات من عند الله ث ّ‬
‫ماها سحرا بّينا‪.587‬‬ ‫س ّ‬
‫ثانيا‪:‬العلو والظلم والفساد‪.‬لقد اتصفوا بالعلوّ والستكبار؛ذلك‬
‫ن اليات التي جاء بها موسى هي من عند الله وأّنها ليست‬ ‫أّنهم تيقنوا أ ّ‬
‫ل على أّنهم كانوا‬ ‫سحرا‪،‬ولكّنهم كفروا بها وتكّبروا أن يؤمنوا بموسى‪،‬وهذا يد ّ‬
‫معاندين‪.‬فانظر كيف كان عاقبة المفسدين الكافرين الطاغين وهو الغراق‬
‫ن فيه‬ ‫في الدنيا فى البحر على تلك الصفة الهائلة والحراق في الخرة فإ ّ‬
‫معتبرا للمعتبرين‪.588‬يقول تعالى‪’’:‬وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‬
‫ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘‪589‬؛ذلك أن جحود‬
‫م تظهر آثاره في واقع الحياة‪.‬‬ ‫الحق فساد كبير يبدأ في الّنفس ث ّ‬
‫وهم وظلمهم وإفسادهم علمة على انعدام التقوى في‬ ‫ن عل ّ‬
‫إ ّ‬
‫قلوبهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم‬
‫الظالمين‪،‬قوم فرعون أل يتقون‘‘‪.590‬أي ائت قوم فرعون الظالمين‬
‫بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولدهم‪ ،‬أل يتقون عقاب الله على‬
‫كفرهم به‪،‬فيطيعونه ويوحدونه‪،‬وذلك تعجيبا لهم من إفراطهم في الظلم‬
‫ل قوله‪’’:‬أل يتقون‘‘على أّنهم ل يتقون‪،‬وعلى أّنه‬ ‫واجترائهم عليه‪،591‬ود ّ‬
‫أمرهم بالتقوى‪.‬‬
‫‪592‬‬
‫ثالثا‪:‬الجرام‪.‬فهم قوم اعتادوا ارتكاب الجرائم والذنوب ‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬ولقد فتّنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم‪،‬أن‬
‫ي عباد الله إّني لكم رسول أمين‪،‬وأن ل تعلوا على الله‬ ‫دوا إل ّ‬‫أ ّ‬
‫إّني آتيكم بسلطان مبين‪،‬وإّني عذت بربي وربكم أن‬
‫ن هؤلء قوم‬ ‫ترجمون‪،‬وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‪،‬فدعا رّبه أ ّ‬
‫ن هؤلء قوم‬ ‫مجرمون‘‘‪.593‬والمعنى أّنه)دعا ربه‪-‬بعدما كذبوه‪-‬أ ّ‬
‫سماه‬ ‫مجرمون‪،‬وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به‪،‬ولذلك ّ‬
‫ن هؤلء قوم مجرمون أي‬ ‫دعاء(‪،594‬أو)فيه حذف‪،‬أي فكفروا فدعا ربه أ ّ‬
‫مشركون‪،‬قد امتنعوا من إطلق بني إسرائيل ومن اليمان بالله(‪.595‬وكان‬
‫ذلك بعدما)طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم‪،‬وأقام حجج الله‬

‫‪585‬تفسير القرطبي)‪.(13/163‬‬
‫‪586‬تفسير البيضاوي)‪.(4/292‬‬
‫‪587‬انظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(6/275‬وتفسير البيضاوي)‪.(4/261‬‬
‫‪588‬انظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(2/801‬وتفسير القرطبي)‪(13/163‬وتفسير أبي السعود)‪(6/275‬وزاد‬
‫المسير)‪(6/158‬وتفسير النسفي)‪(3/206‬وروح المعاني)‪.(19/168‬‬
‫‪]589‬الّنمل‪.[14:‬‬
‫‪]590‬الشعراء‪.[11-10 :‬‬
‫‪591‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(19/64‬وتفسير الواحدي)‪(2/787‬وتفسير البيضاوي)‪-4/232‬‬
‫‪(233‬وتفسير الجللين)‪.(1/480‬‬
‫‪)592‬الجريمة‪:‬الذنب(مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬جرم)‪.(43‬‬
‫‪]593‬الدخان‪.[22-17:‬‬
‫‪594‬تفسير البيضاوي)‪(5/161‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(8/62‬‬
‫‪595‬تفسير القرطبي)‪(16/136‬وانظر‪:‬تفسير الثعالبي)‪.(4/137‬‬

‫‪104‬‬
‫ل ذلك وما زادهم ذلك إل كفرا وعنادا‪،‬حينئذ دعا ربه عليهم‬ ‫تعالى عليهم‪،‬ك ّ‬
‫‪596‬‬
‫دعوة نفذت فيهم( ‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬السحرة‬
‫لقد ساهم السحرة في انحراف فرعون وإظهار شخصيته‪،‬حيث كان‬
‫ن‬
‫الفراعنة يعتمدون في وثنيتهم على الكهنة والسحرة‪،‬بل نستطيع القول أ ّ‬
‫السحرة كانوا يمثلون المرتبة الولى في طبقة الكهنة‪،‬في واقع انتشر فيه‬
‫‪597‬‬
‫ن معجزة كل رسول موافقة‬ ‫ما يؤّيد هذا)أ ّ‬
‫السحر إنتشارا واسعا ‪،‬وم ّ‬
‫ن موسى عليه‬ ‫للغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر في ناس دهره‪،‬ل ّ‬
‫السلم حين بعث في عصر السحرة خص من فلق البحر يبسا وقلب العصا‬
‫حية‪،‬ما بهر كل ساحر وأذل كل كافر(‪.598‬‬
‫ويظهر هذا في شواهد عديدة منها قول فرعون‪’’:‬فلنأتيّنك بسحر‬
‫‪599‬‬
‫ن ما جئت به‪،‬ليتبين للّناس أن ما أتيت به ليس من عند‬ ‫مثله‘‘ ‪.‬أي)لنعارض ّ‬
‫الله(‪،600‬وإّنما هو سحر يقدر على مثله الساحر‪،‬حيث تصور فرعون أن كل ما‬
‫لدى موسى هو سحر وسوف يقابله بسحر مثله‪،‬وذلك بسبب سيطرة السحر‬
‫على عقولهم وتصوراتهم‪.‬‬
‫كما يظهر تأثير السحر في ردهم على الحق الذي جاء به موسى‬
‫ن هذا من قبيل‬ ‫ن هذا لساحر عليم‘‘‪).601‬فرّوج عليهم فرعون أ ّ‬ ‫بقولهم‪’’:‬إ ّ‬
‫‪602‬‬
‫السحر ل من قبيل المعجزة( ‪،‬فهي فرية قريبة من عقول الّناس‪،‬فهي‬
‫النسب في الرد على موسى‪.‬ولهذا كان اتهام موسى بالسحر هو الرد ّ البرز‬
‫من بين ردودهم‪،‬والكثر تداول وشيوعا فيما بينهم‪.‬‬
‫ويظهر هذا التأثير من قول عامة الّناس عندما اجتمعوا لحضور‬
‫المباراة‪’’:‬لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‘‘‪.603‬والمعنى)كي‬
‫نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى(‪،604‬ويكون)الترجي على تقدير‬
‫غلبتهم ليستمروا على دينهم فل يتبعوا موسى(‪.605‬وفي هذا دللة واضحة‬
‫ن‬
‫على مدى ثقة الّناس بالسحرة وإيمانهم بقدرتهم على الغلبة‪،‬وهذا يعني أ ّ‬
‫السحر منتشر وله فاعلية حتى في تصورات الجماهير ومعتقداتهم‪.‬‬
‫كما يظهر النتشار والتأثير في قول السحرة فيما بينهم‪’’:‬إن هذان‬
‫لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا‬
‫ن‬
‫ن السحرة قالوا فيما بينهم‪:‬تعلمون أ ّ‬ ‫بطريقتكم المثلى‘‘‪).606‬والغرض أ ّ‬
‫هذا الرجل وأخاه‪-‬يعنون موسى وهارون‪-‬ساحران عالمان خبيران بصناعة‬
‫السحر‪،‬يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم‪،‬ويستوليا على الناس‬

‫‪596‬تفسير ابن كثير)‪(4/142‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(25/120‬وروح المعاني)‪.(25/122‬‬


‫‪597‬انظر‪:‬البداية والّنهاية)‪.(1/254‬‬
‫‪598‬الماوردي‪:‬أبو الحسن‪،‬علي بن محمد بن حبيب‪429-370)،‬هـ(‪،‬أعلم النبوة‪،‬جزء‬
‫واحد‪،‬تحقيق‪ :‬محمد المعتصم بالله البغدادي‪،‬ط ‪،1‬دار الكتاب العربي‪،‬بيروت‪1987،‬م‪).‬‬
‫‪،(97‬وسأشير إليه لحقا هكذا)أعلم الّنبوة(‪.‬‬
‫‪]599‬طه‪.[58 :‬‬
‫‪600‬تفسير القرطبي)‪.(11/212‬وانظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(2/698‬وفتح القدير)‪(3/370‬وزاد المسير)‬
‫‪(5/294‬وتفسير الجللين)‪(1/410‬وتفسير النسفي)‪.(3/58‬‬
‫‪]601‬الشعراء‪.[34:‬‬
‫‪602‬تفسير ابن كثير)‪.(3/334‬‬
‫‪]603‬الشعراء‪.[40:‬‬
‫‪604‬تفسير الطبري)‪.(19/72‬‬
‫‪605‬تفسير الجللين)‪.(1/482‬‬
‫‪]606‬طه‪.[63:‬‬

‫‪105‬‬
‫وتتبعهما العامة‪،‬ويقاتل فرعون وجنوده فينصرا عليه ويخرجاكم من‬
‫أرضكم‪.‬وقولهم‪’’:‬ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘‪،‬أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي‬
‫ظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها‪.‬يقولون إذا‬ ‫مع ّ‬
‫السحر‪،‬فإّنهم كانوا ُ‬
‫غلب هذان أهلكاكم‪ ،‬وأخرجاكم من الرض‪،‬وتفردا بذلك‪،‬وتمحضت لهما‬
‫الرياسة بها دونكم(‪،607‬ويظهر من قولهم هذا سر وقوفهم مع فرعون في‬
‫ن هذه المقالة منهم للغراء بالمبالغة في المغالبة‬ ‫الرد على موسى‪)،‬على أ ّ‬
‫والهتمام بالمناصبة‪،‬فل بد ّ أن يكون النذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها‬
‫عليهم(‪،608‬أل وهو ذهاب تعظيمهم وأرزاقهم التي يكسبونها من وراء‬
‫سحرهم‪.‬وفي هذا دللة كبيرة على الحترام الذي يتمتع به السحرة في‬
‫ظم السحر والسحرة‪.‬‬ ‫وسط يع ّ‬
‫لقد بّين القرآن الكريم موقف السحرة قبل أن تحصل المعجزة الكبرى‬
‫أمامهم بانتصار موسى عليه السلم وهزيمتهم‪،‬حيث كان همهم هو المادة‬
‫ومتاع الدنيا‪،‬مما يدل على المستوى النفسي الذي كان يعيشه‬
‫ل على أّنهم أداة من أدوات التضليل التي استعان بها‬ ‫السحرة‪،‬وكذلك يد ّ‬
‫ما جاء السحرة قالوا‬ ‫فرعون لقلب الحقيقة وتزويرها‪.‬يقول تعالى‪’’:‬فل ّ‬
‫لفرعون أئن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين‪،‬قال نعم وإّنكم إذا‬
‫لمن المقربين‘‘‪.609‬إنهم يقفون بين يدي فرعون صفوفا )وهو يحرضهم‬
‫ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم‪،‬ويتمنون عليه وهو يعدهم‬
‫ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين؟قال‪:‬نعم‪،‬وإّنكم إذا لمن‬ ‫ويمنيهم‪.‬يقولون أئ ّ‬
‫المقربين‪.‬قال لهم موسى‪:‬ويلكم ل تفتروا على الله كذبا‪،‬أي ل تخيلوا الّناس‪-‬‬
‫بأعمالكم‪-‬إيجاد أشياء ل حقائق لها وإّنها مخلوقة وليست مخلوقة‪،‬فتكونون‬
‫قد كذبتم على الله‪،‬فيسحتكم بعذاب أي يهلككم بعقوبة هلكا ل بقية له‪،‬وقد‬
‫خاب من افترى(‪.610‬‬
‫ووصل المر بالسحرة أن أقسموا بعزة فرعون وعظمته‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون‪611‬إّنا لنحن‬
‫الغالبون‘‘‪.612‬وأي شيء أكبر دللة على دعمهم لفرعون من هذا‬
‫القول‪،‬حين)أقسموا بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته إّنا لنحن‬
‫ن الغلبة لهم لفرط‬ ‫الغالبون موسى(‪،613‬والمعنى أّنهم أقسموا)على أ ّ‬
‫اعتقادهم في أنفسهم‪،‬أو لتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من‬
‫السحر(‪.614‬‬
‫الطاغوت المعاصر والفئات المشاركة‬
‫ن إليه‪،‬وذلك‬ ‫من ُيواليه ويطمئ ّ‬
‫يبحث الطاغوت‪-‬حين يبحث‪-‬فقط ع ّ‬
‫ليستتر الطاغوت به ويحتمي‪،‬ولقد تعددت تلك السواتر وتنوعت‪،‬ومنها‬
‫الحزاب السياسية التي تحمل فكر الّنظام‪،‬وُيطلق على هذا الشكل من‬

‫‪607‬تفسير ابن كثير)‪.(3/158‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(16/182‬وتفسير الواحدي)‪(2/698‬وتفسير‬


‫القرطبي)‪(11/220‬وتفسير البغوي)‪.(3/223‬‬
‫‪608‬تفسير أبي السعود)‪.(6/25‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(16/224‬‬
‫‪]609‬الشعراء‪.[42-41:‬‬
‫‪610‬تفسير ابن كثير)‪.(3/158‬‬
‫‪)611‬قولهم)بعزة فرعون(وجهين الول أنه قسم وجوابه إنا لنحن الغالبون والثانى متعلق بمحذوف‬
‫والباء للسببية أى نغلب بسبب عزته والمراد بالعزة العظمة(فتح القدير)‪.(4/99‬‬
‫‪]612‬الشعراء‪.[44:‬‬
‫‪613‬تفسير الطبري)‪.(19/72‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪.(3/185‬‬
‫‪614‬تفسير البيضاوي)‪.(4/238‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(6/242‬‬

‫‪106‬‬
‫ن الولء‬
‫السواتر)الحزب الحاكم(‪،‬ويكون لعناصره امتيازات خاصة‪،‬ل ّ‬
‫للطاغوت معناه ولء للمصلحة‪،‬فيقوم الّنظام الحاكم بتسهيل كل ما من‬
‫شأنه تطوير هذا الحزب وتقويته‪،‬ويفرض على الّناس‪-‬أحيانا‪-‬منهجا ثقافيا‬
‫يصب في خدمة الحزب الحاكم‪،‬كما يعمد النظام إلى تكليف عناصر الحزب‬
‫بالوظائف المهمة والحساسة في الدولة‪،‬ليضمن بذلك عدم قدرة الجماهير‬
‫في تغيير الّنظام إن هي فكرت يوما بذلك‪.‬‬
‫وقد يكون المشاركون من عشيرته‪،‬فالسرة الحاكمة هم المراء‬
‫والميرات!وكلما ازداد عددهم وتوزعت أدوارهم وبسطوا نفوذهم كلما تأكد‬
‫الطاغوت من ثبات ملكه‪.‬وزيادة في الحيطة والحذر يقوم الطاغوت بإذكاء‬
‫روح العشائرية والقبائلية‪،‬حيث يستميل بعض القبائل ببعض العطيات‬
‫والمنح!ويخلق جوا من التنافس فيما بينها في كسب وُد ّ الحكومة‪،‬فكل قبيلة‬
‫ل ُيريد أن يكون له‬ ‫تحافظ على هذا الود ما استطاعت إلى ذلك سبيل‪.‬وك ّ‬
‫ظهٌر عند الحكومة يساند مطالبه وقضاياه‪.‬‬
‫وقد يكونون من القليات العرقية أو الدينية بدعوى المحافظة على‬
‫م تتجاوب هذه القليات مع الّنظام‬ ‫حقوق القليات وضمان حرية العبادة!ث ّ‬
‫الذي يحقق مصلحتها‪،‬وُتناط بها بعض المراكز الحساسة ذات الخطورة‬
‫ن هذه القليات ل تملك بحكم حجمها القدرة على قلب‬ ‫العالية‪،‬ذلك ل ّ‬
‫الحكومة‪.‬بينما تقوم الحكومة باستغلل هذه القليات فتمنع الحق الساطع‬
‫ن حركتهم ُتثير الفتن والقلقل الطائفية‬ ‫وأصحابه من التحرك بدعوى أ ّ‬
‫والعرقية!فُيظهر الطاغوت نفسه بمظهر الذي ُيحقق التوازن ويضمن المن‬
‫للجميع!‬
‫وقد يكون المشاركون أصحاب رؤوس الموال والشركات‬
‫الكبرى‪،‬والتي بدعمها للّنظام تضمن التشريعات القانونية التي تخدم‬
‫مصلحتها؛فالمصلحة بينهما متبادلة‪..‬وقد يعتمد الطاغوت على أكثر من فئة أو‬
‫عامل من عوامل تثبيته‪.‬‬
‫ل الحوال أن هذه الفئات تمتاز بفسقها وخروجها عن‬ ‫والملحظ في ك ّ‬
‫ن ما تأخذه أكثر من‬ ‫الحق‪،‬فالحق ل ُيلئمها‪،‬ويصادم مصالحها‪،‬فهي تعلم أ ّ‬
‫حقها‪،‬أو ربما تهادن الّنظام خوفا على مصالحها‪.‬وفي كل الحوال تسعى‬
‫ل الطاغوت‪.‬‬‫جاهدة لتحصيل الحصة الكبر تحت ظ ّ‬
‫الوقاية خير من العلج‬
‫ن ظهور شخصية‬ ‫وفي نهاية هذا المبحث أعود لما ذكرته في أوله‪،‬وهو أ ّ‬
‫ن السباب مقدمات إن وجدت وجدت النتائج المترتبة‬ ‫فرعون له أسبابه‪،‬وأ ّ‬
‫عليها‪،‬والقرآن الكريم حين بّين هذه السباب بّينها للوقاية منها‪،‬ولمعرفة‬
‫العلج لها إن حدثت‪،‬فمعرفة سبب المرض تسّهل الوقاية منه‪،‬كما ل يكون‬
‫العلج إل ّ بمعرفة السبب‪.‬‬
‫ما اجتمع‬ ‫ن تضافر السباب التي ذكرناها أظهرت هذه الشخصية؛ذلك ل ّ‬ ‫إ ّ‬
‫لفرعون فسق الجمهور ومشاركة المنتفعين المتزلفين‪-‬مع ما كان عنده من‬
‫ل مّرة يحكم بها‬ ‫كن‪.‬وهذا يحصل في ك ّ‬ ‫كفر وحرص على الملك الموروث‪-‬تم ّ‬
‫كن‪،‬فلول فسق الغلبية ومشاركة المستفيدين لما استطاع‬ ‫الطاغوت ويتم ّ‬
‫ن زمن الرويبضة لن يكون إل ّ حين تسقط‬ ‫الظلمة من تثبيت ظلمهم؛ذلك أ ّ‬
‫القيم ويتنازل الّناس عن مبادئهم‪،‬فل يعودوا يملكون من المعاني النسانية‬

‫‪107‬‬
‫والكرامة البشرية شيئا‪،‬حينئذ يلجئون إلى الطاغوت ويتخذونه وليا من دون‬
‫الله‪.‬‬
‫ن الوقاية تكون بتجّنب أسباب المرض‪،‬فكلما تجنب الّناس أفرادا‬ ‫إ ّ‬
‫وجماعات‪-‬كل حسب مسؤوليته في المجتمع‪-‬أسباب المرض كان المجتمع‬
‫ن‬
‫معافى سليما‪،‬بحيث لو ُوجد شخص كفرعون كفرا وحرصا على مصالحه فإ ّ‬
‫هذا الشخص لن يستطيع فعل شيء ما لم تتوفر له باقي السباب‪،‬وأهمها‬
‫ن شخصية فرعون حين ظهرت ظهرت‬ ‫فسق الجماهير أو فسق الغلبية‪.‬ل ّ‬
‫بتضافر السباب جميعها‪،‬وهذا يعني أن انفضاض الّناس عن مظاهرة الحاكم‬
‫الظالم من أهم العوامل في إسقاط الطواغيت‪.‬‬
‫وهذا يعني بالضرورة العمل على محورين‪:‬‬
‫المحور الول‪:‬البناء الصالح في المجتمع‪،‬وتنشأة أجيال تتقي الله؛ذلك‬
‫ن الطاغوت إّنما يعمل على إيجاد جماهير فارغة من المحتوى ليس عندها‬ ‫أ ّ‬
‫فكر ول عقيدة ول هدف أو غاية‪،‬وليس لها قضية تحيا من أجلها أو تكافح في‬
‫سبيلها‪ُ،‬تسّيرها الغريزة والشهوة الحيوانية‪،‬فهي‪-‬إذن‪-‬عملية مسخ للمعاني‬
‫والقيم والروح النسانية يجهد في تنفيذها الطاغوت‪.‬‬
‫مق اليمان‬ ‫وهذا يعني خوض حملة دعوية شاملة تعيد الّناس لدينهم‪،‬وتع ّ‬
‫في قلوبهم‪،‬وعمل كل ما تقتضيه هذه الدعوة من وعظ وإرشاد وتذكير بالله‬
‫وإقامة الدلئل على وحدانيته سبحانه‪،‬والقيام بواجب المر بالمعروف والّنهي‬
‫عن المنكر‪،‬وهي دعوة مستمرة إلى يوم القيامة ل يجوز التهاون فيها أو‬
‫تركها ‪،‬يقول تعالى‪’’:‬قل هذه سبيلي أدعو إلى الله‘‘‪.615‬‬
‫م ل بد ّ من التركيز على ما قد ُيصيب القلوب من أمراض وطرق‬ ‫ث ّ‬
‫ن حب الدنيا أساس‬ ‫ن الدنيا ل تساوي عند الله جناح بعوضة‪،‬وأ ّ‬‫علجها‪،‬وبيان أ ّ‬
‫ث الّناس على الزهد فيها وعدم التكالب عليها…‬ ‫ح ّ‬‫كل مفسدة‪،‬لذا يجب َ‬
‫وتلك أيضا دعوة مستمرة لتحرير النسان من أن يكون عبدا لشهواته‬
‫م الرزق والخوف من الموت‪.‬‬ ‫ونزواته وهواه‪،‬فيتحرر من ه ّ‬
‫وهذا يحتاج إلى دعاة يمتازون بالحكمة والخلص والمثابرة والجد‬
‫والجتهاد والثبات والستقامة والقدوة الحسنة‪،‬كما نحتاج إلى العمل‬
‫ل يعمل بما يستطيع‪،‬ول ُيناقض‬ ‫ن التكامل بالعمل‪،‬فك ّ‬‫الجماعي‪،‬وإلى إتقان ف ّ‬
‫ن ذلك يذهب بالجهود هدرا‪’’،‬ول تنازعوا فتفشلوا‬ ‫بعضنا بعضا‪،‬فإ ّ‬
‫‪616‬‬
‫وتذهب ريحكم‘‘ ‪.‬‬
‫ن العمل على‬ ‫المحور الثاني‪:‬محاربة المفسدين ومحاصرتهم؛ذلك أ ّ‬
‫إصلح المجتمع مع وجود المفسدين الذين ُيفسدون في الرض ول ُيصلحون‬
‫مجديا وكافيا‪.‬فل بد ّ إذن من محاولة القضاء على جيوب الفساد‬ ‫لن يكون ُ‬
‫أيضا‪،‬فإذا لم نستطع‪-‬ولو لبعض الوقت‪-‬القضاء عليها فل أقل من التشويش‬
‫عليها ومحاولة إشغالها وإرباكها‪،‬كي ل تستطيع العمل بأريحية كاملة بسبب‬
‫من يجلب لها القلق وعدم الستقرار‪،‬فينكمش تأثيرها كلما كانت‬ ‫وجود َ‬
‫ن بذور الشر تنبت في‬ ‫جهودنا أوسع في محاصرتها وفضح أمرها؛ذلك)أ ّ‬
‫أكناف المجتمع أول المر مخالفات محدودة محصورة الشأن‪،‬ولكنها مع‬

‫‪]615‬يوسف‪.[108:‬‬
‫‪]616‬النفال‪.[46:‬‬

‫‪108‬‬
‫الهمال والستهانة ل تزال تنمو وتغلظ حتى تفسد ما حولها‪،‬كالنبات‬
‫الشيطاني عندما يترك فيكثر فيلتهم ما حوله(‪.617‬‬

‫الفصل الثالث‪:‬الوسائل التي استعملها فرعون في‬


‫تثبيت أركان حكمه‬
‫المبحث الول‪:‬وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل‬
‫المبحث الثاني‪:‬إستجهال المجتمع‬
‫المبحث الثالث‪:‬الكذب‬
‫المبحث الرابع‪:‬السيطرة القتصادية‬
‫المبحث الخامس‪:‬السيطرة العسكرية‬

‫الفصل الثالث‬
‫الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان حكمه‬
‫سل‬ ‫س ُ‬
‫ل والوسائل…وتو ّ‬ ‫ب به إلى الغير والجمع الوُ ُ‬
‫قّر ُ‬
‫)الوسيلة ما ي ُت َ َ‬
‫‪618‬‬
‫إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل( ‪،‬و)الوسيلة هي في الصل ما يتوصل به‬
‫إلى الشيء ويتقرب به(‪.619‬‬

‫‪617‬الغزالي‪:‬محمد‪،‬في موكب اليمان‪،‬ط ‪،1‬دار نهضة مصر‪،‬مصر‪1997،‬م‪.‬وسأشير إليه لحقا‬


‫هكذا)في موكب اليمان(‪.(165).‬‬
‫‪618‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬وسل)‪(1/300‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬كتاب العين‪،‬مادة‪:‬وسل)‪.(7/298‬‬
‫‪619‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬وسل)‪.(11/275‬‬

‫‪109‬‬
‫وعلى ضوء هذا التعريف اللغوي يمكننا أن ُنعّرف الوسائل التي‬
‫صل بها فرعون إلى‬ ‫استعملها فرعون على أّنها مجموع الفعال التي تو ّ‬
‫مراميه وأهدافه وغاياته‪،‬والتي تصب في نهايتها في تثبيت حكمه‬
‫ونظامه‪،‬وذلك بطريق مباشره وغير مباشرة‪.‬يحارب موسى وجها لوجه‬
‫تارة‪،‬ويحاربه من وراء ستار تارة أخرى‪.‬‬
‫ل على‬ ‫ولقد أنتجت هذه الوسائل نظاما قويا متينا من الّناحية المادية‪،‬ود ّ‬
‫ذلك قوله تعالى‪’’:‬وفرعون‪620‬ذو الوتاد‘‘‪.621‬أي ذو الملك الثابت‪،‬أو ذو‬
‫البناء المحكم‪،‬والجنود الكثيرة‪.622‬ومن الشواهد التي تدل على متانة نظامه‬
‫وره المادي تلك الهرامات التي ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا‪،‬وليس‬ ‫وتط ّ‬
‫ن للطبائع الملتوية أسلوبا تنجح به في ميادين شتى‪،‬فإذا‬ ‫هذا غريبا؛ذلك)أ ّ‬
‫ن‬
‫تعلق المر بالعقائد والفضائل والمبادىء لم تصب من النجاح سهما‪،‬ذلك أ ّ‬
‫طريق أصحاب المثل غير طريق أصحاب المصالح‪،‬وسياسة الدعوات القائمة‬
‫على الشرف والمرتبطة بالسماء غير سياسة التطلع والترصد(‪،623‬وتلك هي‬
‫سياسة فرعون المجردة من القيم والمثل والخلق‪.‬‬
‫لقد بّين القرآن الكريم وسائل فرعون في تثبيت حكمه وبناء‬
‫شخصيته‪،‬حيث تراوحت ما بين القهر والتعذيب تارة‪،‬والترغيب تارة‬
‫م من الّناس ُتخضعه العصا والخر ُتشترى ذممهم‪،‬وما بين العصا‬ ‫س ٌ‬ ‫أخرى‪.‬فَ ِ‬
‫ق ْ‬
‫والجزرة كان التجهيل والتضليل والكذب‪.‬فتلك هي وسائل الطاغوت ل تخرج‬
‫من وحل الرجس ومستنقع الرذيلة‪.‬‬
‫وبعد التدبر في الكتاب العزيز يمكننا أن ُنجمل وسائله في المباحث‬
‫التالية‪:‬‬

‫المبحث الول‬
‫وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل‬
‫ب‪-‬‬
‫التعذيب بشتى صوره وسيلة فرعون الكثر رواجا واستعمال‪،‬فقد ص ّ‬
‫لعنه الله‪-‬العذاب صّبا فوق رأس كل من خالف أمره أو رابه منه شيء‪،‬حتى‬
‫ما أن تعتنق‬‫ده القرآن الكريم عذابا بذاته لشدة ممارسته للتعذيب‪،‬فإ ّ‬
‫ع ّ‬
‫ما الموت بأشكال وألوان مرعبة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد‬ ‫مذهب الطاغوت وإ ّ‬
‫‪624‬‬
‫نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين‪،‬من فرعون إّنه كان‬
‫عاليا من المسرفين’’‪.625‬ويعني بالعذاب المهين ما كانت القبط تفعل‬
‫‪)620‬فرعون ذو الوتاد هو الذي ُبعث إليه موسى وهارون عليهما السلم( ابن حيان‪ :‬أبو محمد‪،‬عبد‬
‫الله بن محمد بن جعفر الصبهاني‪369 -274)،‬هـ(‪،‬العظمة‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬رضاء الله بن محمد‬
‫إدريس المباركفوري‪،‬ط ‪،1‬دار العاصمة‪،‬الرياض‪1408،‬هـ‪،(5/1609).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)العظمة(‪.‬‬
‫‪]621‬الفجر‪.[10:‬‬
‫‪622‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(155-15/154‬وتفسير البيضاوي)‪(39-5/38‬ومعاني القرآن)‬
‫‪(6/85‬وتفسير ابي السعود)‪(7/217‬وفتح القدير)‪(4/423‬وتفسير النسفي)‪.(4/34‬‬
‫‪623‬في موكب الدعوة)‪.(172‬‬
‫‪)624‬من فرعون‪:‬هو بدل من العذاب باعادة الجار أي من عذاب فرعون ويجوز أن يكون جعل‬
‫فرعون نفسه عذابا( العكربي‪:‬أبو البقاء‪ ،‬محب الدين عبدالله بن أبي عبدالله الحسين بن أبي‬
‫البقاء‪616 -538)،‬هـ(‪ ،‬التبيان في إعراب القرآن‪،‬تحقيق‪:‬علي محمد البجاوى‪ ،‬إحياء الكتب‬
‫العربية‪،(2/229).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)التبيان في إعراب القرآن(‪.‬وجعل الطبري فرعون بدل‬
‫ن فرعون موصوف بالسراف والطغيان فناسبه هذا‬ ‫من العذاب‪،‬وهو ما اخترناه ل ّ‬
‫المعنى‪.‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(25/126‬‬
‫‪]625‬الدخان‪.[31-30:‬‬

‫‪110‬‬
‫ببني إسرائيل بأمر فرعون؛من قتل البناء واستخدام النساء واستعبادهم‬
‫ن كلمة’فرعون‘بدل من العذاب‬ ‫إياهم وتكلفهم العمال الشاقة‪.‬والشاهد أ ّ‬
‫المهين‪،‬أي جعله‪-‬عليه اللعنة‪-‬عين العذاب مبالغة‪،‬لفراطه في‬
‫التعذيب‪.626‬ومن هذا الّنص نعلم مدى إسرافه في التعذيب حتى صار عذابا‬
‫بذاته ونقمة على من تحته من الجماهير‪.‬‬
‫ولهذا كان مطلب موسى عليه السلم‪-‬ومعه هارون‪-‬تحرير بني‬
‫إسرائيل‪،‬يقول تعالى حكاية لقول موسى وهارون‪’’:‬فأرسل‪627‬معنا بني‬
‫إسرائيل ول تعذبهم‘‘‪.628‬وهو أمر من الله لهما‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأتيا‬
‫فرعون فقول إّنا رسول رب العالمين‪،‬أن أرسل معنا بني‬
‫ل عنهم وأطلقهم ول تعذبهم‪،‬وكانت بنو إسرائيل عند‬ ‫إسرائيل‘‘‪.629‬أي خ ّ‬
‫فرعون في عذاب شديد‪،‬يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم‪،‬ويكلفهم من العمل‬
‫في الطين واللبن و بناء المدائن ما ل يطيقونه‪،‬وفي ذلك إشارة على أن‬
‫تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى اليمان‪.630‬‬
‫لقد جاء موسى عليه السلم بالبينة والبرهان لتحقيق مطلب وحيد هو‬
‫ن تخليص المؤمنين‬ ‫كد على الشارة السابقة أ ّ‬ ‫ما يؤ ّ‬
‫إرسال بني إسرائيل‪،‬م ّ‬
‫ن دعوتهم إلى اليمان وهم تحت‬ ‫من الكفرة أهم من دعوتهم إلى اليمان‪،‬ل ّ‬
‫سيطرة الطاغوت وتأثيره يعني أّننا ندعوا قوما ليس عندهم قدرة على‬
‫الختيار‪،‬ولهذا كانت الفتنة أشد من القتل وأكبر‪،‬وهو ما ُيرشد إليه قوله‬
‫تعالى حكاية لقول موسى عليه السلم‪’’:‬قد جئتكم ببينة من ربكم‬
‫فأرسل معي بني إسرائيل‘‘‪.631‬أي قد جئتكم)بحجة قاطعة من الله‬
‫أعطانيها دليل على صدقي فيما جئتكم به‪،‬فأرسل معي بني إسرائيل‪،‬أي‬
‫أطلقهم من أسرك وقهرك(‪،632‬وهذا وجه في تفسير قوله تعالى‪’’:‬ولقد‬
‫فتّنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم‪،‬أن أدوا إلي عباد‬
‫الله‪،‬إّني لكم رسول أمين‘‘‪،633‬والشاهد في الية قول موسى‪’’:‬أن أدوا‬
‫ي ول تعذبوهم‪،‬يعني بني إسرائيل(‪.634‬‬ ‫إلي عباد الله‘‘أي)سّلموهم إل ّ‬
‫ذبح البناء واستحياء الّنساء لون من ألوان العذاب في نظام‬
‫فرعون‬
‫لقد كان القتل الوسيلة الشهر من بين وسائل فرعون حتى طغى على‬
‫ن القتل ينشر الرعب وُيخضع الّناس‪،‬فحب‬ ‫ألوان العذاب الخرى؛وذلك ل ّ‬
‫مته‪،‬بل وجميع الحياء‬ ‫الحياة وغريزة البقاء تضغط على الجنس البشري بر ّ‬

‫‪626‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(16/142‬وتفسير ابن كثير)‪(4/144‬وفتح القدير)‪(4/575‬وروح المعاني)‬


‫‪.(25/125‬‬
‫‪)627‬المراد بالرسال إطلقهم من السر والقسر وإخراجهم من تحت يده‪،‬ل تكليفهم أن يذهبوا‬
‫معه إلى الشام كما ينبئ عنه قوله تعالى‪’’:‬ول تعذبهم‘‘(تفسير أبي السعود)‪.(6/19‬‬
‫‪]628‬طه‪.[47:‬‬
‫‪]629‬الشعراء‪.[17-16:‬‬
‫‪630‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/52،53‬وتفسير الواحدي)‪(2/696‬وتفسير البغوي)‪(3/219‬وتفسير‬
‫النسفي)‪.(3/56‬‬
‫‪]631‬العراف‪.[105:‬‬
‫‪632‬تفسير ابن كثير)‪.(2/236‬‬
‫‪]633‬الدخان‪.[18-17:‬‬
‫‪634‬تفسير الواحدي)‪.(2/983‬وانظر‪:‬وتفسير الطبري)‪(25/118‬وتفسير البيضاوي)‬
‫‪(5/160‬والصنعاني‪:‬عبد الرزاق بن همام‪211 -126)،‬هـ(‪ ،‬تفسير القرآن‪3،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬‬
‫مصطفى مسلم محمد‪،‬ط ‪ ،1‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪1410 ،‬هـ‪،(3/207).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)تفسير الصنعاني(‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫م كان القتل الوسيلة القصر والخصر‬ ‫ُتصارع الموت وتفّر منه‪،‬ومن ث ّ‬
‫وح به‬‫للتخلص من المخالفين للّنظام‪،‬ول يزال الّتخويف من الموت سوطا ُتل ّ‬
‫ن القتل في‬ ‫الطواغيت‪،‬ل يقتحمه إل ّ أصحاب اليمان واليقين الذين يؤمنون أ ّ‬
‫ل الرحمة التي ل‬ ‫سبيل الله أو الموت له معنى واحد هو البقاء في ظ ّ‬
‫تنقطع‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من‬
‫ما يجمعون‘‘‪.635‬‬ ‫الله ورحمة خير م ّ‬
‫لقد أسرف فرعون في سفك الدماء وإزهاق الرواح في سبيل‬
‫جيناكم من آل فرعون‬ ‫المحافظة على ملكه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬واذ ن ّ‬
‫يسومونكم‪636‬سوء العذاب يذبحون‪637‬أبناءكم ويستحيون نساءكم‬
‫وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘‪،638‬ويقول تعالى‪’’:‬وإذ أنجيناكم‬
‫قتلون أبناءكم‬ ‫من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ي ّ‬
‫‪639‬‬
‫ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘ ‪،‬ويقول‬
‫تعالى حكاية لقول موسى‪’’:‬وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله‬
‫عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب‬
‫ويذبحون‪640‬أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم‬
‫ن مولودا يولد في بني إسرائيل‬ ‫عظيم’’‪).641‬وذلك ل ّ‬
‫ن الكهنة قالوا له‪:‬إ ّ‬
‫يذهب ملكك على يديه‪،‬أو قال المنجمون له ذلك‪،‬أو رأى رؤيا هالته‪،‬رأى نارا‬
‫خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلد مصر إل بيوت بني‬
‫‪]635‬آل عمران‪.[157:‬‬
‫‪) 636‬يسومونكم‪ :‬يولونكم‪،‬ويقال‪:‬يريدونه منكم ويطلبونه…ومنه يقال‪:‬سامه بخطة خسف أوله‬
‫وإياه‪،‬والثاني من مساومة البيع‪.‬وقيل‪ :‬سامه كلفه العمل الشاق‪.‬وقيل‪:‬معناه يعلمونكم من‬
‫السيماء وهي العلمة‪.‬وقيل‪:‬يرسلون عليكم من إرسال البل المرعى(التبيان في تفسير غريب‬
‫القرآن)‪(1/84‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪ )637‬وإنما قال ههنا يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في‬
‫قوله‪’’:‬يسومونكم سوء العذاب‘‘ثم فسره بهذا لقوله ههنا‪’’:‬اذكروا نعمتي التي أنعمت‬
‫عليكم‘‘‪.‬وأما في سورة إبراهيم فلما قال‪’’:‬وذكرهم بأيام الله‘‘أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب‬
‫أن يقول هناك‪’’:‬يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‘‘‪،‬فعطف عليه‬
‫الذبح ليدل على تعدد النعم واليادي على بني إسرائيل(تفسير ابن كثير)‪) .(1/91‬لذلك أتى‬
‫بالعاطف ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغاير لتذبيح البناء وسبى النساء‪،‬وهو ما كانوا عليه من‬
‫التسخير بخلف المذكور فى البقرة‪،‬فإن ما بعد يسومونكم تفسير له فلم يعطف عليه‪،‬ولجل‬
‫مطابقة السابق جاء فى سورة العراف’’يقتلون أبناءكم‘‘ليطابق سنقتل أبناءهم ونستحى‬
‫نساءهم( الزركشي‪ :‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن بهادر بن عبد الله‪794 -745 )،‬هـ(‪ ،‬البرهان في‬
‫علوم القرآن‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪1391 ،‬هـ‪).‬‬
‫‪،(1/120‬وسأشير إليه لحقا هكذا)البرهان في علوم القرآن(‪).‬وقوله‪’’:‬يذبحون‘‘بغير واو هنا على‬
‫البدل من يسومونكم‪ ،‬وفي العراف’’يقتلون‘‘‪،‬وفي إبراهيم’’ويذبحون‘‘بالواو لن ما في هذه‬
‫السورة والعراف من كلم الله تعالى فلم يرد تعداد المحن عليهم‪،‬والذي في إبراهيم من كلم‬
‫موسى فعدد المحن عليهم وكان مأمورا بذلك في قوله‪’’:‬وذكرهم بأيام الله‘‘(أسرار التكرار في‬
‫القرآن)‪.(1/27‬‬
‫‪]638‬البقرة‪.[50:‬‬
‫‪]639‬العراف‪.[141:‬‬
‫‪)640‬ويذبحون أبناءكم وأدخلت الواو في هذا الموضع لنه أريد بقوله‪’’:‬ويذبحون أبناءكم‘‘الخبر عن‬
‫أن آل فرعون‪،‬كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح‪.‬وأما في موضع‬
‫آخر من القرآن فإنه جاء بغير الواو‪’’،‬يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم‘‘في موضع وفي‬
‫موضع’’يقتلون أبناءكم‘‘ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها‪،‬لنه أريد‬
‫بقوله‪’’:‬يذبحون‘‘وبقوله‪’’:‬يقتلون‘‘تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم(تفسير الطبري)‬
‫‪ ).(13/185‬وعطف’’يذبحون أبناءكم‘‘على’’يسومونكم سوء العذاب‘‘وإن كان التذبيح من جنس‬
‫سوء العذاب إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدة(فتح‬
‫القدير)‪.(3/96‬‬
‫‪]641‬إبراهيم‪.[6:‬‬

‫‪112‬‬
‫ن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني‬ ‫إسرائيل‪،‬مضمونها أ ّ‬
‫ن الكاهن إن صدق فالقتل ل‬ ‫إسرائيل‪.‬وهذا من حمقه حيث لم يدر أ ّ‬
‫ن بني‬ ‫ماره تحدثوا عنده بأ ّ‬ ‫نس ّ‬ ‫ينفع‪،‬وإن كذب فل معنى للقتل‪.‬وقيل أ ّ‬
‫‪642‬‬
‫إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة( ‪.‬‬
‫ن فرعون شرع بقتلهم‬ ‫ن المؤكد أ ّ‬ ‫وأيا ما كانت الرواية الصحيحة فإ ّ‬
‫وإذللهم منعا لهم من تدمير ملكه‪،‬فهذا هو السبب الساسي في جرائمه‬
‫وبطشه‪،‬وهو نفس السبب الذي يدفع بالطواغيت نحو البطش والجريمة‪.‬‬
‫فعندما خشي فرعون على عرشه أمر‪-‬لعنه الله‪-‬بقتل كل ذكر يولد بعد‬
‫ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات‪،‬وأمر باستعمال بني إسرائيل في‬
‫سر العذاب بذبح البناء‪،‬وفي سورة إبراهيم‬ ‫مشاق العمال وأرذلها‪)،‬وههنا ف ّ‬
‫عطف عليه كما قال‪’’:‬يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون‬
‫نساءكم‘‘(‪.643‬‬
‫فكانوا يوردونهم ويذيقونهم ويولونهم سوء العذاب‪،‬وكان فرعون يعذب‬
‫بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخول‪،‬وصّنفهم في أعماله‪:‬فصنف يبنون وصنف‬
‫يزرعون له‪،‬فهم في أعماله‪،‬ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه‬
‫الجزية‪.‬فسامهم سوء العذاب‪ ،‬وجعلهم في العمال القذرة‪،‬وجعل يقتل‬
‫شفار يطوفون في بني‬ ‫أبناءهم ويستحيي نساءهم‪،‬وبعث رجال معهم ال ّ‬
‫ن الكبار من‬ ‫إسرائيل فل يجدون مولودا ذكرا إل ذبحوه ففعلوا‪ ،‬فلما رأوا أ ّ‬
‫ن الصغار يذبحون قالوا‪:‬توشكون أن تفنوا‬ ‫بني إسرائيل يموتون بآجالهم وأ ّ‬
‫بني إسرائيل‪،‬فتصيروا إلى أن تباشروا من العمال والخدمة ما كانوا‬
‫م موسى بهارون في العام الذي‬ ‫يكفونكم‪،‬فاقتلوا عاما ودعوا عاما‪،‬فحملت أ ّ‬
‫ل يذبح فيه الغلمان فولدته علنية‪،‬حتى إذا كان القابل حملت بموسى‪،‬أي في‬
‫العام الذي يقتل فيه البناء‪.644‬‬
‫ن عقلية الطاغوت مبدعة في مجال الرهاب والجريمة‪،‬فلُيقتل‬ ‫إ ّ‬
‫أبناؤهم عاما بعد عام‪،‬ل رحمة بهم ول شفقة‪،‬بل ليباشروا من العمال‬
‫م)ل يخفى ما في قتل البناء‬ ‫والخدمة ما كانوا يكفونه فرعون وقومه!ث ّ‬
‫واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذل بهم وإلصاق الهانة الشديدة‬
‫بجميعهم‪،‬لما في ذلك من العار(‪.645‬‬
‫فرعون يجدد أوامر القتل‬
‫ماره‬‫دث بها بعض س ّ‬ ‫لمجرد هاجس أو حلم أو اقتراح لحرب إستباقية تح ّ‬
‫ن فرعون حملة ذبح ل هوادة فيها على شعب بأكمله! فكانت تلك هي‬ ‫ش ّ‬
‫م‬
‫المرحلة الولى من القتل والذبح من قبل أن ُيبعث موسى عليه السلم‪،‬ث ّ‬
‫تلتها مرحلة أخرى من القتل‪،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪’’:‬فلما جاءهم بالحق‬
‫من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم‬
‫ن هذا المر بقتل أبناء الذين‬ ‫وما كيد الكافرين إل ّ في ضلل‘‘‪).646‬إ ّ‬
‫آمنوا مع موسى واستحياء نسائهم كان أمرا من فرعون وملئه من بعد المر‬
‫الول الذي كان من فرعون قبل مولد موسى(‪.647‬ويؤّيد هذا ما جاء في‬
‫‪642‬تفسير القرطبي)‪.(248 /13‬وانظر‪:‬زاد المسير)‪(1/78‬وتفسير الجللين)‪(1/330‬وتفسير‬
‫النسفي)‪.(1/43‬‬
‫‪643‬تفسير ابن كثير)‪.(1/91‬‬
‫‪644‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(272-1/271‬وتفسير البغوي)‪(1/70‬وروح المعاني)‪.(1/253‬‬
‫‪ 645‬فتح القدير )‪.(1/83‬‬
‫‪]646‬غافر‪.[25:‬‬
‫‪ 647‬تفسير الطبري)‪.(24/56‬‬

‫‪113‬‬
‫جواب فرعون للمل عندما قالوا له‪’’:‬أتذر موسى وقومه ليفسدوا في‬
‫الرض ويذرك وآلهتك‘‘‪.648‬حيث اعتبر المل دعوة موسى إلى الله إفساد‬
‫يضر بفرعون وبمنظومته القيمية الباطلة‪،‬فرد ّ عليهم بقوله‪’’:‬سُنقّتل‬
‫أبناءهم ونستحيي نساءهم وإّنا فوقهم‪649‬قاهرون‘‘‪).650‬وهذا أمر‬
‫كل بهم قبل ولدة موسى عليه السلم حذرا من‬ ‫ثان بهذا الصنيع‪،‬وقد كان ن ّ‬
‫وجوده‪،‬فكان خلف ما رامه وضد ما قصده فرعون‪.‬وهكذا عومل في صنيعه‬
‫أيضا لما أراد إذلل بني إسرائيل وقهرهم‪،‬فجاء المر على خلف ما‬
‫أراد‪،‬أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده(‪،651‬وهذا معنى قوله‬
‫تعالى‪’’:‬وما كيد الكافرين إل في ضلل‪،653‘‘652‬أي وما مكرهم إل ّ في‬
‫ن قصدهم‪-‬الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئل‬ ‫خسران وهلك‪،‬والمعنى أ ّ‬
‫ن احتيال أهل الكفر لهل‬ ‫ُينصروا عليهم‪-‬ذاهب وهالك في ضياع وخسران‪،‬ل ّ‬
‫اليمان بالله جور عن سبيل الحق‪،‬وصد عن قصد المحجة‪،‬وأخذ على غير‬
‫هدى‪)،654‬ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدللة على‬
‫العلة(‪،655‬وفي هذا غاية البلغة والبيان‪،‬فليس كيد فرعون وحده في ضلل‬
‫بل كيد الكافرين كلهم إلى قيام الساعة في ضياع‪،‬وفيه أيضا تثبيت للمؤمنين‬
‫في كل مرة يواجهون فيها شخصية كشخصية فرعون‪،‬فقد قضى الله أن‬
‫يجعل كيدهم في تضليل‪.‬‬
‫وهنا ل بد من الشارة أن تجديد أوامر القتل من فرعون بعد المر الول‬
‫ن فرعون‬ ‫الذي كان قبل مولد موسى يعني أحد احتمالين‪) :‬الحتمال الول‪:‬أ ّ‬
‫الذي أصدر ذلك المر كان قد مات وخلفه أبنه أو ولي عهده‪،‬ولم يكن المر‬
‫منفذا في العهد الجديد‪،‬حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد‪،‬الذي كان‬
‫يعرفه وهو ولى للعهد‪،‬ويعرف تربيته في القصر‪،‬ويعرف المر الول بتذبيح‬
‫الذكور وترك الناث من بني إسرائيل‪.‬فحاشيته تشير إلى هذا المر‪،‬وتوحي‬
‫بتخصيصه بمن آمن بموسى‪،‬سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل‬
‫القلئل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه ‪..‬والحتمال‬
‫الثاني‪:‬أّنه كان فرعون الول الذي تبنى موسى ما يزال على عرشه‪.‬وقد‬
‫تراخى تنفيذ المر الول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال‬
‫حدته‪.‬فالحاشية تشير بتجديده‪،‬وتخص به الذين أمنوا مع موسى وحدهم‬
‫للرهاب والتخويف(‪.656‬‬
‫ن أهداف‬ ‫ن المتيقن عندنا أ ّ‬ ‫وبغض الّنظر أي الحتمالين أرجح‪ 657‬فإ ّ‬
‫ن القتل أقرب‬ ‫ما يؤكد أ ّ‬‫فرعون من القتل قد تغيرت مع بقاء الوسيلة ذاتها‪،‬م ّ‬
‫الوسائل لعقله المريض‪،‬حيث أراد فرعون من تجديد القتل إظهار قوته‬
‫وسيطرته‪،‬فبينما كان المر الول)لجل الحتراز من وجود موسى‪،‬أو لذلل‬
‫‪]648‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪649‬أراد بالفوقية‪-‬لعنه الله‪-‬العلو المعنوي وليس العلو المكاني‪.‬انظر‪:‬اتقان ما يحسن من الخبار)‬
‫‪.(2/19‬‬
‫‪]650‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪651‬تفسير ابن كثير)‪.(2/240‬‬
‫‪) 652‬الضلل والضللة ضد الهدى والرشاد(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬ضلل)‪.(11/390‬‬
‫‪]653‬غافر‪.[25:‬‬
‫‪654‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(4/77‬وتفسير الطبري)‪.(24/56‬‬
‫‪655‬تفسير البيضاوي)‪.(5/89‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(7/273‬‬
‫‪656‬في ظلل القرآن)‪.(7/177‬‬
‫‪ 657 657‬لقد ذكرت هذا في معرض الحديث عن فرعون موسى‪،‬ورجحت أن يكون شخصا‬
‫واحدا‪.‬راجع تعريف فرعون موسى‪.‬ص ‪.9‬‬

‫‪114‬‬
‫هذا الشعب وتقليل عددهم‪،‬أو لمجموع المرين‪،‬كان المر الثاني لهانة هذا‬
‫‪658‬‬
‫ده عن مشايعة موسى‪،‬ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلم( ‪.‬‬ ‫الشعب وص ّ‬
‫)ولئل يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولدهم‪،‬فشغلهم الله عن ذلك بما‬
‫أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن‬
‫‪659‬‬
‫ن فرعون‬ ‫م ليعلم موسى وقومه أ ّ‬ ‫خرجوا من مصر فأغرقهم الله( ‪،‬ومن ث ّ‬
‫ما زال على ما هو من القهر والغلبة‪،‬ولكي ل يتوهم موسى عليه السلم أّنه‬
‫المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده‪.‬وهذا ما‬
‫يعنيه فرعون من قوله‪’’:‬وإّنا فوقهم قاهرون‘‘‪،660‬أي غالبون وهم‬
‫مقهورون تحت أيدينا‪.661‬‬
‫وفي هذه المرحلة‪-‬أي مرحلة تجديد القتل‪-‬كان قول بني‬
‫إسرائيل‪’’:‬أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى‬
‫ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الرض فينظر كيف‬
‫تعملون‘‘‪.662‬أي)أوذينا بقتل أبنائنا من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا‪،‬ل ّ‬
‫ن‬
‫فرعون كان يقتل أولدهم الذكور حين أظله زمان موسى‪،‬ومن بعد ما جئتنا‬
‫غلبت سحرته‪-‬وقال للمل من قومه ما قال‪-‬أراد‬ ‫ما ُ‬‫ن فرعون ل ّ‬ ‫برسالة الله‪،‬ل ّ‬
‫‪663‬‬
‫تجديد العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم( ‪.‬‬
‫)وبالجملة فهو كلم يجري مع المعهود من بني إسرائيل من‬
‫اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم‪،‬واستعطاف موسى لهم بقوله‪:‬عسى‬
‫ل على أنه‬ ‫ربكم أن يهلك عدوكم ووعده لهم بالستخلف في الرض‪،‬يد ّ‬
‫ن في جهة بني إسرائيل سلوكهم هذا‬ ‫وي هذا الظ ّ‬‫ق ّ‬‫يستدعي نفوسا نافرة‪،‬وي ُ َ‬
‫السبيل في غير ما قصة‪.‬وقوله‪’’:‬فينظر كيف تعملون‘‘تنبيه وحض على‬
‫ن موسى عليه السلم أراد أن يرفع من معنوياتهم وهم‬ ‫الستقامة(‪664‬؛ذلك أ ّ‬
‫الذين ما يزالون يعيشون هاجس الكارثة وكابوس المرحلة السابقة‪.‬‬
‫فرعون يهدد بقتل موسى واستئصال بني إسرائيل‬
‫ن من أكبر المنيات عند فرعون أن يستيقظ ذات يوم فل يرى موسى‬ ‫إ ّ‬
‫ن أول ما يفكر‬ ‫مع الحياء‪،‬وليس أمرا غريبا أن يفكر فرعون بقتل موسى‪،‬فإ ّ‬
‫به الطواغيت هو الّتخلص من رأس الدعوة وقيادتها‪،‬وهو ما رآه أبو جهل بن‬
‫هشام حل نهائيا لخصومتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم‪،‬حيث أشار على‬
‫قومه)أن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا‪-‬أي قويا‪-‬حسيبا في قومه نسيبا‬
‫وسطا‪،‬ثم يعطى كل فتىمنهم سيفا صارما‪،‬ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة‬
‫رجل واحد فيقتلونه(‪،665‬لكي يستريحوا منه‪،‬وهكذا ديدن الطغاة والمتجبرين‪.‬‬

‫‪658‬تفسير ابن كثير)‪(4/77‬مع بعض التصرف‪.‬‬


‫‪659‬تفسير القرطبي)‪.(15/305‬‬
‫‪]660‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪661‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(3/50‬وتفسير أبي السعود)‪(3/262‬وفتح القدير)‪(2/235‬وتفسير‬
‫النسفي)‪(2/31‬وروح المعاني)‪.(9/29‬‬
‫‪]662‬العراف‪.[129:‬‬
‫‪663‬تفسير الطبري)‪(9/27‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪664‬تفسير الثعالبي)‪.(2/46‬‬
‫‪ 665‬الحلبي‪:‬علي بن برهان الدين‪1044-975)،‬م(‪،‬السيرة الحلبية في سيرة المين‬
‫المأمون‪3،‬أجزاء‪،‬دار المعرفة‪،‬بيروت‪1400،‬هـ‪،(2/190).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)السيرة‬
‫الحلبية(‪،‬والكلعي‪:‬أبو الربيع‪،‬سليمان بن موسى الندلسي‪634-565)،‬هـ(‪،‬الكتفاء بما تضمنه‬
‫من مغازي رسول الله‪،‬تحقيق‪ :‬محمد كمال الدين عز الدين علي‪،‬ط ‪،1‬عالم الكتب‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1997‬م‪،(1/334).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الكتفاء بما تضمنه من مغازي الرسول(‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫فت للّنظر هو خطابه لقومه‪’’:‬ذروني اقتل موسى وليدع‬ ‫مل ْ ِ‬
‫ن ال ُ‬
‫ولك ّ‬
‫ربه‘‘‪.666‬فهل هذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه‬
‫الصلة السلم؟أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا‪،‬وقد كانوا يكفونه‬
‫عن قتله‪،‬ويقولون‪:‬إّنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر‪،‬ولو قتلته ظن أنك‬
‫عجزت عن معارضته بالحجة‪،‬أم هو تعلل منه بذلك مع كونه سفاكا في أهون‬
‫ن أّنه لو حاوله‬‫ل على أّنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله‪،‬أو ظ ّ‬ ‫ما يد ّ‬ ‫شيء؟م ّ‬
‫لم يتيسر له‪،‬ويؤيده قوله‪’’:‬وليدع ربه‘‘‪،‬فإّنه تجلد وعدم مبالة بدعائه‪،‬أي ل‬
‫أبالي منه وهذا في غاية الجحد والعناد‪،‬فكأّنه قيل له‪:‬إّنا نخاف أن يدعو عليك‬
‫فيجاب‪.‬فقال‪:‬وليدع ربه الذي يزعم أّنه أرسله إلينا فيمنعه مّنا‪،‬أي ل يهولنكم‬
‫ما يذكر من ربه فإّنه ل حقيقة له‪،‬وأنا ربكم العلى‪.667‬‬
‫)والظاهر أّنه‪-‬لعنه الله تعالى‪-‬استيقن أّنه عليه السلم نبي‪،‬ولكن كان‬
‫فيه خب‪،‬وكان قتال سفاكا للدماء في أهون شيء‪.‬فكيف ل يقتل من أضعف‬
‫منه بأّنه الذي يهدد عرشه ويهدم ملكه؟ولكّنه يخاف إن هم بقتله أن ُيعاجل‬
‫بالهلك‪.‬فقوله‪’’:‬ذروني أقتل موسى وليدع ربه‘‘كان تمويها على قومه‬
‫وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه‪،‬وما كان يكفه إل ّ ما في نفسه من هول‬
‫ن ظاهره الستهانة بموسى‬ ‫الفزع‪،‬ويرشد إلى ذلك قوله‪’’:‬وليدع ربه‘‘‪،‬ل ّ‬
‫عليه السلم بدعائه ربه سبحانه‪،‬كما يقال‪:‬ادع ناصرك فإني منتقم‬
‫منك‪،‬وباطنه أّنه كان ترعد فرائصه من دعاء موسى ربه‪،‬فلهذا تكلم به أول‬
‫ما تكلم‪،‬وأظهر أّنه ل يبالي بدعاء ربه‪،‬وما هو إل كمن قال‪:‬ذروني أفعل‬
‫كذا‪،‬وما كان فليكن‪،‬وإل ّ فما كان لمن يدعي أنه ربهم العلى أن يجعل لما‬
‫يدعيه موسى عليه السلم وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة(‪.668‬‬
‫ن عقلية القتل والتصفية والستئصال ظاهرة في وسائل الطغاة‬ ‫إ ّ‬
‫والعتاة‪،‬فتارة بالنفي والبعاد وتارة بالسحق والطمس والجتثاث‪،‬سعيا منهم‬
‫ن الله يأبى إل ّ‬‫لبادة صوت الحق الذي يشوش حياتهم ويهدد مصالحهم‪،‬ولك ّ‬
‫م نوره ولو كره الكافرون‪.‬‬ ‫أن يت ّ‬
‫أراد فرعون أن يستخف موسى وقومه وينفيهم ويزيلهم من الرض‬
‫مطلقا بالقتل والستئصال أو البعاد‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأراد أن‬
‫يستفزهم‪669‬من الرض‘‘‪.670‬فكان عكس ما تمّناه‪،‬وارتد ّ مكره عليه دمارا‬
‫وبوارا بأن أغرقه الله ومن معه جميعا‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأغرقناه ومن معه‬
‫جميعا‘‘‪.671‬‬
‫)وفي هذه الية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬لّنه‬
‫لما خرج موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى‪،‬وكذلك أظهر الله‬
‫نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها(‪،672‬وتلك سّنة الله‬

‫‪]666‬غافر‪.[25:‬‬
‫‪667‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(24/56‬وتفسير البيضاوي)‪(5/90‬وتفسير ابن كثير)‪(4/77‬وفتح القدير)‬
‫‪(4/488‬وتذكرة الريب في تفسير الغريب)‪.(1/130‬‬
‫‪668‬روح المعاني)‪.(24/92‬‬
‫‪ ) 669‬استفزه من الشيء أخرجه و استفزه ختله حتى ألقاه في مهلكة(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬فزز)‬
‫‪.(5/391‬‬
‫‪]670‬السراء‪.[103:‬‬
‫‪]671‬السراء‪.[103:‬‬
‫‪672‬زاد المسير )‪.(5/95‬وانظر‪:‬روح المعاني)‪.(15/2‬‬

‫‪116‬‬
‫‪673‬‬
‫ن‬
‫وإرادته الغالبة‪’’،‬فأرادوا به كيدا فجعلناهم السفلين‘‘ ‪،‬فلتطمئ ّ‬
‫قلوب الذين آمنوا وليستبشروا بفرج الله القريب‪.‬‬
‫فرعون يسجل أبشع مأساة عرفها التاريخ‬
‫لم يخطر ببال فرعون أبدا أن يؤمن السحرة بموسى حين قرر أن‬
‫يستعين بهم لمعارضة ما جاء به موسى من الحق‪،‬بل أراد أن ُيحرَز نصرا‬
‫ت به –حسب زعمه‪-‬كذب موسى‪،‬وأّنه ليس إل ّ ساحرا ماهرا‪.‬وبذلك‬ ‫باهرا ي ُث ْب ِ ُ‬
‫ينتهي الخطر الذي يخشاه على معتقداته الموروثة‪،‬وعلى سلطانه في‬
‫الرض‪،‬تلك هي الدوافع الحقيقة لمهرجان السحرة‪.‬‬
‫م بين لحظة وأخرى ُيفاجىء فرعون بما لم يخطر له على‬ ‫ث ّ‬
‫بال‪،‬حيث)كان لهذا النقلب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون‬
‫وملئه‪.‬فالجماهير حاشدة‪.‬وقد عبأهم عملء فرعون وهم يحشدونهم لشهود‬
‫ن موسى السرائيلي ساحر يريد أن يخرجهم من‬ ‫المباراة‪.‬عبأوهم بأكذوبة أ ّ‬
‫ن السحرة سيغلبونه‬ ‫أرضهم بسحره‪،‬ويريد أن يجعل الحكم لقومه‪،‬وأ ّ‬
‫م هاهم أولء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون‬ ‫ويفحمونه ‪..‬ث ّ‬
‫م ُيغلبون حتى ليقرون بالغلب‪،‬ويعترفون بصدق موسى برسالته من‬ ‫وعزته‪.‬ث ّ‬
‫عند الله‪.‬وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاؤوا لخدمته‪،‬وانتظروا‬
‫أجره‪،‬واستفتحوا بعزته!وإّنه لنقلب يتهدد عرش فرعون(‪.674‬‬
‫بدأ فرعون حربه على السحرة‪-‬حين آمنوا‪-‬بقلب الحقيقة‪،‬بل والسراف‬
‫بالتهمة‪،‬فاعتبرهم تلميذ متآمرين مع موسى ضد العرش!وضد الشعب‬
‫ن هذا‬ ‫مة‪،‬وقال‪’’:‬إ ّ‬‫در!فتلك‪-‬بزعمه‪-‬مؤامرة تستهدف الجماهير وال ّ‬ ‫مخ ّ‬
‫ال ُ‬
‫‪675‬‬
‫لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‘‘ ‪،‬يريد بذلك حشد‬
‫الّناس وإقحامهم معه في المعركة الخطيرة‪.‬وأتبع ذلك بفرية أخرى في‬
‫محاولة تعكس الرعب الذي دخل على شخص فرعون بقوله عن‬
‫سحر‘‘‪.676‬‬ ‫موسى‪’’:‬إّنه لكبيركم الذي علمكم ال ّ‬
‫ومن العجيب أن يصل الحد بفرعون أن يعد ّ إيمان السحرة‬
‫م ازداد‬
‫استسلما‪،‬فهل ُيعاب النسان عند استسلمه للحق وخضوعه له؟ث ّ‬
‫غطرسة وعنجهّية عندما عد ّ إيمانهم خارجا عن القانون‪،‬لّنهم لم يطلبوا‬
‫الذن من صاحب الجللة!وهنا تظهر صفة الفوقية التي تمّيزت بها شخصية‬
‫فرعون‪،677‬يقول تعالى حكاية لقول فرعون‪’’:‬قال آمنتم له قبل أن آذن‬
‫لكم‘‘‪،678‬فلكي تؤمن ل بد لك من ترخيص وإذن من الطاغوت!وهذا مؤشر‬
‫على ذوبان المجتمع في شخصية فرعون‪،‬وعلى حجم الكارثة التي أدت إلى‬
‫انعدام إرادة الختيار أو حتى القدره عليه لدى الجماهير؛فلول ذلك لما أبدى‬
‫فرعون عجبه من هذا التصرف الخارج عن المألوف!‬
‫لجأ فرعون‪-‬حينئذ‪-‬إلى ما يلجأ الطواغيت إليه‪،‬فجعل ُيهددهم بالعذاب‬
‫الغليظ بعد إفلسه في الحجة والبرهان‪،‬يقول تعالى حكاية لقول‬
‫‪679‬‬
‫م‬
‫ن أيديكم وأرجلكم من خلف ث ّ‬ ‫فرعون‪’’:‬فسوف تعلمون لقطع ّ‬

‫صافات‪.[98:‬‬‫]ال ّ‬
‫‪673‬‬

‫‪674‬في ظلل القرآن)‪(6/208‬مع بعض التصرف‪.‬‬


‫‪]675‬العراف‪.[123:‬‬
‫‪]676‬الشعراء‪.[49:‬‬
‫ن فرعون رام ما ل ينبغي له‪)،‬فالعظمة والعلو والفوقية معناها استحقاقه تعالى نعوت الجلل‬‫‪677‬إ ّ‬
‫وصفات التعالي على وصف الكمال وتقدسه عن مشابهة المخلوقين(التعاريف)‪.(1/517‬‬
‫‪]678‬الشعراء‪.[49:‬‬

‫‪117‬‬
‫‪680‬‬
‫ن أيديكم وأرجلكم‬ ‫لصلبنكم أجمعين‘‘ ‪،‬ويقول تعالى‪’’:‬فلقطع ّ‬
‫ن أّينا أشد عذابا‬ ‫من خلف ولصلبنكم في جذوع النخل ولتعلم ّ‬
‫‪681‬‬
‫ن أيديكم وأرجلكم من خلف‬ ‫وأبقى‘‘ ‪،‬ويقول تعالى‪’’:‬لقطع ّ‬
‫ن فرعون‬ ‫ولصلبنكم أجمعين‘‘‪،682‬والمعنى العام لليات الكريمات أ ّ‬
‫ن أيديكم وأرجلكم من‬ ‫ذرهم عاقبة فعلتهم‪،‬وهو تهديد مجمل تفصيله لقطع ّ‬ ‫ح ّ‬
‫خلف‪،‬أي من كل شق طرفا‪،‬ويعني هذا قطع يد الرجل اليمنى ورجله‬
‫اليسرى أو بالعكس‪،‬فيخالف بين العضوين في القطع‪،‬ثم يعمد إلى صلبهم‬
‫وهم أحياء تنـزف دماءهم تفضيحا لهم وتنكيل لمثالهم‪،‬وأك ّد َ ذلك بأجمعين‬
‫ص الّنخل لطول جذوعها‪،‬أي‬ ‫إعلما منه أّنه غير مستبق منهم أحدا‪.‬وخ ّ‬
‫لجعلّنكم مثلة ولقتلّنكم ولشهرّنكم‪،‬حيث شبه تمكن المصلوب بالجذع‬
‫بتمكن المظروف بالظرف المشتمل عليه‪،‬للدللة على إبقائهم عليها زمانا‬
‫مديدا‪،‬وفي هذا إفراط في تعذيبهم‪،‬وكان‪-‬لعنه الله‪-‬أول من صلب وقطع‬
‫اليدي والرجل من خلف‪.‬وإّنما فعل ما فعل لما رأى من خذلن الله إياه‬
‫وغلبة موسى عليه السلم وقهره له ‪.683‬‬
‫ن لجوء فرعون إلى هذه الجريمة البشعة يعني عدة أمور‪،‬وي َْعنينا في‬ ‫إ ّ‬
‫ن أيّ تهديد حقيقي لعروش الطواغيت يعني حتما‬ ‫هذا المقام أمران؛الول‪:‬أ ّ‬
‫ما يعني حتما أن نستعد لمثل هذه‬ ‫مواجهة ساخنة بين الحق وبينهم‪،‬م ّ‬
‫المنازلة‪،‬والتي قد ل تحدث اليوم أو غدا ولكّنها حادثة ل محالة في مستقبل‬
‫اليام‪،‬فالطاغوت أّيا كان ل يستسلم بسهولة لدعوة الحق‪،‬فل بد ّ إذن من أن‬
‫ن الطاغوت عندما يلجأ إلى‬ ‫تراق الدماء الّزكية في سبيل الله‪.‬الثاني‪:‬أ ّ‬
‫القتل والستئصال إّنما يفعل هذا لهدف قريب هو القضاء على العصبة‬
‫م لتحقيق هدف بعيد‪،‬وهو زرع الرعب في قلوب الّناس كي ل‬ ‫المؤمنة أول‪،‬ث ّ‬
‫ُتحدثهم نفوسهم بالخروج عن السلطان!أي يريد أن ينزع من ذاكرة‬
‫الجماهير معاني التمرد والثورة‪.‬‬
‫ن وجودنا في دائرة الخصومة مع‬ ‫ولنا في نهاية المأساة أن نقرر أ ّ‬
‫ن التعايش معه بهدوء‬ ‫الطاغوت يعني حالة صحية في الجماعة المسلمة‪،‬وأ ّ‬
‫مَرضية في الجماعة المسلمة توجب علينا البحث عن الخلل؛ذلك‬ ‫يعني حالة َ‬
‫ن الحق ل يتعايش مع الباطل‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫الخوف في ظل فرعون وسيلة ونتيجة‬ ‫ّ‬
‫‪684‬‬
‫ن مكروه يناله( ‪،‬حيث انتشر‬ ‫الخوف)رعدة تحصل في القلب عند ظ ّ‬
‫م أعينهم أو لما تناها إلى مسامعهم من أمور‬ ‫بين الناس نتيجة لما رأوه بأ ّ‬
‫مرعبة ‪،‬فصاروا مكّبلين بقيد الخوف المانع من التفكير والبداع والحركة‬
‫ضّية تؤدي إلى النغلق والبحث‬ ‫مَر ِ‬
‫والثورة؛فالخوف‪-‬عند درجة معينة‪-‬حالة َ‬
‫م‬
‫م العام إلى التفكير باله ّ‬‫الدائم عن مأمن‪،‬فينتقل الفرد من التفكير باله ّ‬
‫الخاص الذي مل حياته وأشغله عن كل شيء‪.‬‬

‫‪)679‬الخلف المخالفة أي يده اليمنى ورجله اليسرى يخالف بين قطعهما(التبيان في تفسير غريب‬
‫القرآن)‪.(1/182‬‬
‫‪]680‬العراف‪.[124:‬‬
‫‪]681‬طه‪.[71:‬‬
‫‪]682‬الشعراء‪.[49:‬‬
‫‪ 683‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(7/261‬وتفسير البيضاوي)‪(3/49،61‬وتفسير أبي السعود)‬
‫‪(3/261‬وفتح القدير)‪(2/234‬وزاد المسير)‪(3/243‬وتفسير النسفي)‪.(2/30‬‬
‫‪684‬فيض القدير)‪.(1/215‬‬

‫‪118‬‬
‫وللبقاء على الوضع مشدودا ومتوترا يعمد الطاغوت عبر وسائل إعلمه‬
‫مونه‬‫إلى بث برامجه التي يهدف من ورائها إلى جعل الّناس يعرفون ما ُيس ّ‬
‫م ينشر بين الجماهير من عناصره من‬ ‫بالخطوط الحمراء فل يتجاوزونها‪،‬ث ّ‬
‫يرّوج لتلك الخطوط‪،‬وينصح الّناس بعدم تجاوزها!فتنشأ حالة من البلدة‬
‫ل هذا في بيئة معبئة بالخوف والرعب تجعل النسان‬ ‫والحجام بين الّناس‪،‬ك ّ‬
‫في حالة شلل فكري‪.‬‬
‫ل فرعون قدرتها حتى على اختيار‬ ‫من هنا فقدت الجماهير في ظ ّ‬
‫عقيدتها‪،‬فما آمن لموسى حين آمن إل ّ وهو على خوف وحذر ووجل‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬فما آمن لموسى إل ّ ذرية من قومه على خوف من‬
‫فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘‪)،685‬ل خوفا من فرعون فحسب‪،‬وإّنما من‬
‫م‬‫بني إسرائيل أنفسهم‪،‬ذلك هو خبر القرآن في مثل هذه القضية الخطيرة‪.‬ث ّ‬
‫ن كثيرا من فئة‬‫يأتي الواقع الذي نحياه ونعيشه ليصدق القرآن(‪686‬؛ذلك أ ّ‬
‫كلوا بتراجعهم واستسلمهم‬ ‫المستضعفين أصبحوا جندا للطاغوت!وش ّ‬
‫للطاغوت طابورا من العملء‪.‬‬
‫)وهنا ل بد من إيمان يرجح هذه المخاوف‪،‬ويطمئن القلوب‪،‬ويثبتها على‬
‫الحق الذي تنحاز إليه(‪،687‬وذلك هو موقف الصحابة رضوان الله عليهم‪،‬حيث‬
‫ل سجل‪،‬يقول تعالى‪’’:‬الذين قال لهم‬ ‫جل موقفهم في أعظم كتاب وأج ّ‬ ‫س ّ‬‫ُ‬
‫ن الّناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا‬ ‫الّناس إ ّ‬
‫‪688‬‬
‫حسبنا الله ونعم الوكيل‘‘ ‪،‬أي ازدادوا يقينا إلى يقينهم وتصديقا لله‬
‫ولوعده‪،689‬وإّنها لمعجزة هذا الدين أن يزداد أتباعه إيمانا في ساعة الشدة‪.‬‬
‫ن الطاغوت مهما أوتي من قوة لن يتجاوز هذه الحياة الدنيا‪،‬وهو ما‬ ‫إ ّ‬
‫رد ّ به السحرة عندما أراد فرعون إدخال الخوف منه إلى قلوبهم‪،‬حين‬
‫‪690‬‬
‫قالوا‪’’:‬فاقض ما أنت قاض إّنما تقضي هذه الحياة الدنيا‘‘ ‪).‬ولم‬
‫يكن أمرهم إياه بأن يقضي ما هو قاض على معنى التكذيب‪،‬ول على الباحة‬
‫لن يفعل بهم ما قد توعدهم‪،‬ولكّنهم أعلموه أّنهم قد استعدوا له بالصبر‬
‫ل بهم من عذابه…فليفعل ما هو فاعل‪،‬فإّنهم يستقلون ذلك في‬ ‫على ما ح ّ‬
‫جنب ما يتوقعونه من ثواب الله عز وجل‪،‬وما يرجون أن يصرفه الله عنهم‬
‫من عذابه ثوابا على بذلهم أنفسهم(‪،691‬والمعنى)إنما تقدر أن تعذبنا في هذه‬
‫الحياة الدنيا التي تفنى(‪.692‬‬
‫ن الخوف من بطش الطواغيت أساس وسبب في نشوء الحركات‬ ‫إ ّ‬
‫سرّية‪،‬فإذا ضاق ظاهر الرض فما للمتمردين على الطاغوت سوى العمل‬ ‫ال ّ‬
‫تحت الرض سرا‪.‬فها هو موسى عليه السلم يخرج مع قومه سرا تحت جنح‬
‫الظلم كي ل يحس به فرعون وجنوده‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأوحينا إلى موسى‬

‫‪]685‬يونس‪.[83:‬‬
‫‪ 686‬عباس‪:‬فضل حسن‪،‬القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته‪،‬ط ‪،1‬دار الفرقان‪،‬عمان‪،‬الردن‪،‬‬
‫‪1987‬م‪.(336).‬‬
‫‪687‬في ظلل القرآن)‪.(4/468‬‬
‫‪]688‬آل عمران‪.[173:‬‬
‫‪689‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(4/178‬‬
‫‪]690‬طه‪.[72:‬‬
‫‪ 691‬المروزي‪:‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن نصر بن الحجاج‪294-202)،‬هـ(‪،‬تعظيم قدر‬
‫الصلة‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي‪،‬ط ‪،1‬مكتبة الدار‪،‬المدينة المنورة‪،‬‬
‫‪1406‬م‪(2/561).‬مع بعض التصرف‪،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تعظيم قدر الصلة(‪.‬‬
‫‪692‬تفسير الطبري)‪.(16/189‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(3/160‬‬

‫‪119‬‬
‫أن أسر بعبادي إّنكم متبعون‘‘‪،693‬حيث)أمر موسى عليه السلم‬
‫‪694‬‬
‫ما جعل‬‫بالخروج ليل‪،‬وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف( ‪،‬م ّ‬
‫حركتهم سّرّية‪.‬‬
‫السجون لون آخر من عذاب فرعون‬
‫ن العذاب الممارس من قبل الطواغيت متنوع ومتعدد‪،‬وليست‬ ‫إ ّ‬
‫السجون سوى لون من ألوان العذاب‪،‬فمن لم يردعه هذا اللون من العذاب‬
‫يردعه لون آخر‪.‬ومن العجيب أن بعض الطواغيت يعدلون عن القتل‬
‫والعدام والشنق إلى السجن بعدما رأوا حب المؤمنين إلى الشهادة!وما قد‬
‫ن‬‫تتركه حالت العدام في نفوس الجماهير من تقدير عظيم للشهداء‪،‬ل ّ‬
‫دمه النسان في سبيل عقيدته وإيمانه‪،‬فهو‬ ‫التضحية بالّنفس أقصى ما ُيق ّ‬
‫بشهادته يحوز على إعجاب الّناس وتبقى كلماته وأهدافه التي مات عليها‬
‫ومن أجلها حّية في قلوب الّناس‪،‬فالشهادة حياة‪.‬من هنا كان السجن بدل من‬
‫الشنق والقتل ليست رأفة في القلوب السوداء‪،‬وإّنما هو إجراء آخر ليقاع‬
‫أشد ّ العذاب على من خالفهم‪،‬ولتقليل الضرار الناجمة عن أحكام العدام‪.‬‬
‫السجن وسيلة ل غنى للطواغيت عنها‪،‬فالحبس والقيد والوثاق أدوات‬
‫الرد ّ التي يرفعونها أمام الحق وأتباعه‪،‬يحاولون بذلك عزله عن محيطه‬
‫فار‬
‫الجتماعي الذي ُيؤثر فيه للحد من خطر انخراطه بين الّناس‪،‬كما حاول ك ّ‬
‫مكة أن ُيثبتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وإذ يمكر بك‬
‫الذين كفروا ليثبتوك‘‘‪.695‬أي ليحبسوك‪ 696‬حتى يشّلون حركته‪.‬‬
‫والسجن حالة قهرية ل يموت فيها السجين فيستريح من عناء ل‬
‫ن حياة السجن ليست حياة معتبرة‪،‬فالمقصود هو تحطيم‬ ‫ينقطع‪،‬ول يحيا ل ّ‬
‫الحالة النفسية للسجين وإذللها حت تخنع وتخضع‪،‬ولكي يعيد الّنظر فيما من‬
‫ب السجين‬ ‫ما فعل!!أو رّبما ُيطال َ ُ‬‫سجن‪،‬أو حتى ُيعلن توبته وبراءته م ّ‬ ‫أجله ُ‬
‫برفع استرحام كشرط لخراجه من السجن!وتلك والله عقوبة أشد من‬
‫القتل‪.‬‬
‫ن موسى عليه السلم‪،‬وذلك‬ ‫دد فرعو ُ‬
‫وبمثل هذا النوع من العذاب ه ّ‬
‫كوسيلة لتكميم الفواه‪)،‬فالطغيان ل يخشى شيئا كما يخشى يقظة‬
‫الشعوب‪،‬وصحوة القلوب‪،‬ول يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي‬
‫‪697‬‬
‫واليقظة‪،‬ول ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية( ‪.‬‬
‫لقد كانت السجون في عهد فرعون البائس معهودة ومعروفة‬
‫منتشرة‪،‬يقول تعالى حكاية قول فرعون لموسى‪’’:‬قال لئن اتخذت إلها‬
‫غيري لجعلّنك من المسجونين‘‘‪ )،698‬أي ممن عرفت حالهم في‬
‫سجوني فإّنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من‬
‫لسجننك(‪)،699‬وروي أن سجنه كان أشد من القتل‪،‬وكان إذا سجن أحدا لم‬
‫‪700‬‬
‫ما أفلس فرعون في باب‬ ‫يخرجه من سجنه حتى يموت فكان مخوفا( ‪.‬فل ّ‬
‫‪]693‬الشعراء‪.[52:‬‬
‫‪694‬تفسير القرطبي)‪.(16/136‬‬
‫‪]695‬النفال‪.[30:‬‬
‫‪696‬التبيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/218‬‬
‫‪ 697‬في ظلل القرآن)‪.(6/203‬‬
‫‪]698‬الشعراء‪.[29:‬‬
‫‪ 699‬تفسير البيضاوي)‪.(4/236‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(6/240‬وتفسير النسفي)‪(3/183‬وروح‬
‫المعاني)‪.(19/73‬‬
‫‪700‬تفسير القرطبي)‪.(13/99‬‬

‫‪120‬‬
‫الحجة والبرهان عدل إلى الرهاب والقمع‪،‬وتلك علمة ضعف كما أّنها علمة‬
‫استكبار عن الحق‪.‬‬
‫ولكن ورغم صعوبة السجن وقهره‪،‬وآلم العذاب بأنواعه‪،‬ورهبة الموت‬
‫ن ذلك ليمنع الدعاة إلى الله من الستمرار في حمل دعوتهم‪،‬فما‬ ‫والقتل‪،‬فإ ّ‬
‫عليهم إل ّ أن يتوجهوا إلى من بيده مقاليد السماوات والرض‪،‬فرحمته‬
‫ل شيء‪،‬فل أحد في هذا الوجود يستطيع أن يمسك رحمة الله‪)،‬بل‬ ‫وسعت ك ّ‬
‫مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لمانع ومع عدمها ل‬
‫مقتضى(‪،701‬يقول تعالى‪’’:‬ما يفتح الله للّناس من رحمة فل ممسك‬
‫لها‪،‬وما يمسك فل مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم‘‘‪.702‬فهو‬
‫ن أكثر الّناس ل يعلمون‪.‬‬
‫سبحانه الغالب على أمره ولك ّ‬

‫المبحث الثاني‬
‫استجهال المجتمع‬
‫فه أيضا‪،‬والتجهيل‬ ‫)الجهل ضد العلم‪..‬واستجهله عده جاهل واستخ ّ‬
‫النسبة إلى الجهل‪،‬والمجهلة بوزن المرحلة المر الذي يحمل على‬
‫الجهل(‪،703‬أي‪:‬حمل فرعون الّناس على اتباعه في الغي‪،704‬فأتباع الرذيلة‬
‫دوا لو تكفرون‬ ‫دون لو كان الّناس كلهم مثلهم في الرذيلة‪’’،‬و ّ‬‫يو ّ‬
‫‪706‬‬ ‫‪705‬‬
‫دون لكم الضللة لتستووا‬ ‫كما كفروا فتكونون سواء‘‘ ‪.‬أي)هم يو ّ‬
‫أنتم وإياهم فيها‪).707‬والعرب تضع الضلل موضع الجهل‪،‬والجهل موضع‬
‫الضلل‪،‬فتقول‪:‬قد جهل فلن الطريق وضل الطريق بمعنى واحد(‪708‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫ن)الجهل خلو‬ ‫المة التي تجهل تضل الطريق ويصير حالها إلى ضياع؛ذلك أ ّ‬
‫النفس من العلم‪،‬واعتقاد الشيء بخلف ما هو عليه‪،‬وفعل الشيء بخلف ما‬

‫‪701‬ابن تيمية‪:‬أبو العباس‪،‬أحمد بن عبد الحليم الحراني‪728-661)،‬هـ(‪،‬كتب ورسائل وفتاوى‬


‫ابن تيمية في التفسير‪17،‬جزء‪،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن محمد قاسم النجدي‪،‬مكتبة ابن تيمية‪).‬‬
‫‪،(14/17‬وسأشير إليه لحقا هكذا)فتاوى ابن تيمية في التفسير(‪.‬‬
‫‪]702‬فاطر‪.[2:‬‬
‫‪ 703‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬جهل)‪(49‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬جهل)‪.(11/129‬‬
‫‪704‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(14/49‬وفتح القدير)‪.(4/232‬‬
‫‪)705‬الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي كفرا مثل كفرهم( القيسي‪:‬أبو محمد‪،‬مكي‬
‫بن أبي طالب‪437-355)،‬هـ(‪ ،‬مشكل إعراب القرآن‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬حاتم صالح الضامن‪،‬جزء‬
‫واحد‪،‬ط ‪،2‬مؤسسة الرسالة‪،‬بيروت‪1405،‬هـ‪،(1/205).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)مشكل إعراب‬
‫القرآن(‪.‬‬
‫‪]706‬النساء‪.[89:‬‬
‫‪ 707‬تفسير ابن كثير)‪.(1/534‬‬
‫‪708‬تفسير الطبري)‪.(19/67‬‬

‫‪121‬‬
‫ن’’من أشراط الساعة أن يقل العلم‬ ‫حقه أن يفعل(‪.709‬ويكفى أن تعلم أ ّ‬
‫ويظهر الجهل‘‘‪.710‬‬
‫ن تجهيل المجتمع من وسائل تثبيت الّنظام الذي يريده فرعون؛‬ ‫إ ّ‬
‫فشخصية فرعون مرتبطة بالّنظام المطبق في حياة الّناس وجودا‬
‫وعدما‪.‬فمن هنا وعلى أساس هذا الفهم كانت سياسة التجهيل‪،‬فاستخفاف‬
‫الطغاة للجماهير سياسة معلومة متعبة‪)،‬فهم يعزلون الجماهير أول عن كل‬
‫سبل المعرفة‪،‬ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها‪،‬ول يعودوا يبحثون‬
‫عنها‪،‬ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه‬
‫المؤثرات المصطنعة‪.‬ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك‪،‬ويلين‬
‫قيادهم(‪،711‬وكلما طال الزمن على هذه الحال أصبح المرض مزمنا والتخلص‬
‫ما يتطلب المزيد من الجهد والجتهاد للتخلص من الثار التي‬ ‫منه عسيرا‪،‬م ّ‬
‫أوجدها فرعون وأمثاله في حياة الّناس‪،‬وهي ل شك آثار تدميرية‪.‬‬
‫ولذلك لم تغب هذه الوسيلة عن عقل فرعون ونهجه‪،‬فهو يستدعي كل‬
‫ما به يثبت نظامه ويقوي حكمه‪،‬ودليل ذلك قوله‬
‫تعالى‪’’:‬فاستخف‪712‬قومه فأطاعوه‘‘‪.713‬والمعنى فاستجهل قومه‬
‫فأطاعوه لخفة أحلمهم وقلة عقولهم‪.‬وقيل‪:‬استخف قومه أي وجدهم خفاف‬
‫ل على أّنه يجب أن يطيعوه‪،‬فل بد من إضمار بعيد تقديره‬ ‫العقول‪.‬وهذا ل يد ّ‬
‫وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه‪.‬وقيل‪:‬استخف قومه‬
‫وقهرهم حتى اتبعوه‪،‬أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده‬
‫وغروره فأطاعوه فيما أمرهم به وقبلوا قوله وكذبوا موسى‪.714‬ولم تكن‬
‫خفة أحلمهم وقلة عقولهم إل نتيجة لما امتلت به من خرافات وعقائد‬
‫ور لها الطريق ويجلي‬ ‫ما من شأنه أن ين ّ‬
‫باطلة‪،‬ولما تعّرضت له من العزل ع ّ‬
‫لها الحقائق‪.‬‬
‫لقد استعمل فرعون لتجهيل الّناس عدة وسائل‪،‬تدور في‬
‫مجملها حول محورين‪:‬‬
‫المحور الول‪:‬منع حرية الرأي وتكميم الفواه‪،‬وذلك بنشر الخوف‬
‫بين الّناس بالقتل والسجن والتعذيب‪،‬كما سبق وبّينا‪،‬حتى ل ينتشر الّنور‬
‫ل على ذلك شواهد كثيرة‪،‬منها قوله تعالى‪’’:‬وأوحينا‬ ‫والهدى بين الّناس‪،‬ود ّ‬
‫إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم‬
‫قبلة وأقيموا الصلة‘‘‪.715‬حيث خاف بنو إسرائيل على أنفسهم)فأمروا‬
‫أن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئل يظهروا عليهم فيؤذوهم‬
‫ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك فى أول السلم‬
‫بمكة(‪،716‬فنشر الخوف بين الّناس أمر مقصود حتى ل يظهر لليمان في‬

‫‪709‬فيض القدير)‪.(1/328‬‬
‫‪710‬صحيح البخاري‪،‬كتاب العلم‪،‬باب رفع العلم وظهور الجهل )‪(1/43‬رقم)‪.(81‬‬
‫‪711‬في ظلل القرآن)‪.(7/340‬‬
‫‪)712‬فاستخف قومه فأطاعوه‪:‬أي حملهم على الخفة والجهل يقال استخفه عن رأيه واستفزه‬
‫عن رأيه إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب واستخف به أهانه(لسان‬
‫العرب‪،‬مادة‪:‬خفف)‪.(9/80‬‬
‫‪]713‬الزخرف‪.[54:‬‬
‫‪714‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(16/101‬وفتح القدير)‪(4/560‬وتفسير أبي السعود)‪(8/50‬وتفسير‬
‫البيضاوي)‪(5/149‬وروح المعاني)‪.(25/91‬‬
‫‪]715‬يونس‪.[87:‬‬
‫‪716‬تفسير النسفي)‪.(2/139‬‬

‫‪122‬‬
‫واقع الحياة أيّ مظهر‪،‬فيؤثر في نفوس الّناس فيجذبهم إليه‪،‬وهذا مال يسمح‬
‫به فرعون‪.‬‬
‫وبسبب هذا الواقع المّر انقسم الّناس في ظلل شخصية فرعون‬
‫كشف أمره‬ ‫ما قد يلحق به لو ُ‬‫القاتمة إلى ممتنع عن اليمان خوفا وجزعا م ّ‬
‫للطغمة الحاكمة‪.‬وشاهد ذلك ودليله ما حدث للسحرة بمجرد إعلن‬
‫إيمانهم‪.‬وقسم آخر وهو قليل آمن على خوف من فرعون وملئهم أن‬
‫يفتنهم‪،‬فهم على حذر شديد لمجرد اليمان الذي يكتمونه‪.‬وفي المحصلة ل‬
‫عون إلى الهدى والّنور لما في ذلك من خطر يتهدد‬ ‫نجد صنفا من الّناس َيد ُ‬
‫حياتهم‪،‬وعلى هذا فالمتكلم الوحيد هو فرعون وزمرته‪،‬وليس في المقابل‬
‫من يستطيع أن يرد عليه بهتانه وفريته‪،‬وبذلك أظلمت حياة الّناس وأغرقهم‬
‫فرعون في جهل مرعب‪.‬‬
‫ويلحق بمنع الّنور والهدى سياسة تشويه الحق لمنع وصوله صافيا إلى‬
‫الجماهير‪،‬ومن ذلك اتهام موسى عليه السلم أّنه ساحر عليم‪،‬وأّنه يريد‬
‫إخراج الّناس من أرضهم بسحره‪،‬وأّنه يسعى لن تكون له الكبرياء في‬
‫الرض‪،‬وغير ذلك من التشويهات‪،‬حيث يشبه منهج فرعون في ذلك منهج‬
‫فار مكة حين قالوا‪’’:‬ل تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم‬ ‫ك ّ‬
‫‪717‬‬
‫تغلبون‘‘ ‪.‬أي ل تصغوا إليه‪،‬وعارضوه بالخرافات وبالكلم الخالي عن أي‬
‫فائدة والذي ل طائل تحته‪،‬وعيبوه وأنكروه وعادوه‪،‬أو ارفعوا أصواتكم‬
‫لتشوشوه بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم رجاء وصولكم للغلبة‪.718‬‬
‫فجمعوا بين المنع المباشر بعدم السماع وبين اللغو في القرآن‪،‬وهو‬
‫منهج ما زال مستمرا حتى يومنا هذا‪،‬حيث توظف له أجهزة ضخمة ليس لها‬
‫سوى زرع الشك والريبة في نفوس وعقول الجماهير‪،‬لئل تنجذب للحق‬
‫عندما يصلهم صافيا نقّيا‪،‬ويصاحب تلك الدعاية تشكيك بأهداف وغايات حملة‬
‫لب سلطة ومال ومآرب خاصة!وهكذا‬ ‫الهدى والّنور‪،‬فهم‪-‬بزعم الطواغيت‪-‬ط ّ‬
‫يتكرر المشهد القديم مرة بعد مرة‪.‬‬
‫المحور الثاني‪:‬ويتمثل في نشر الخرافات والتصورات الفاسدة‪،‬وحقن‬
‫الجماهير بها بطرق مختلفة‪،‬كالسحر والكهانة والشعوذة‪،‬باعتبارها أدوات‬
‫تجهيل للمجتمع؛حيث غُط َّيت تلك الدوات بأردية مقدسة‪.‬وقد أولى فرعون‬
‫ن السحر والكهانة جزء من الّنظام القائم على‬ ‫هذه الوسيلة إهتماما كبيرا‪،‬ل ّ‬
‫تقديس فرعون وإعطائه صفة اللوهية والربوبية‪.‬فهم‪-‬أي السحرة والكهنة‪-‬‬
‫يسحقون وعي الّناس سحقا ً وحشيًا‪،‬حتى أضحت الجماهير مقيدة العقول!‬
‫مأسورة في طوق من الخرافات والوهام والباطيل‪،‬وتلك هي البيئة التي‬
‫تنمو فيها شخصية فرعون‪.‬‬
‫وكما كان السحر والكهانة سبب في ظهور شخصية فرعون‪،‬فهما أيضا‬
‫ل على ذلك حشده لهم في‬ ‫وسيلته المفضلة في تثبيت حكمه ونظامه‪،‬ود ّ‬
‫مباراة مصيرية مع موسى عليه السلم‪.‬يقول تعالى‪’’:‬وجاء السحرة‬
‫ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين‪،‬قال نعم وإّنكم‬ ‫فرعون‪،‬قالوا إ ّ‬
‫‪719‬‬
‫لمن المقربين‘‘ ‪).‬إّنهم محترفون‪..‬يحترفون السحر كما يحترفون‬
‫‪]717‬فصلت‪.[26:‬‬
‫‪718‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(24/112‬وتفسير ابن كثير)‪(4/99‬والدر المنثور)‪(7/321‬وتفسير ابي‬
‫السعود)‪(8/12‬وفتح القدير)‪(4/514‬وزاد المسير)‪.(7/252‬‬
‫‪]719‬العراف‪.[114-113 :‬‬

‫‪123‬‬
‫الكهانة!والجر هو هدف الحتراف في هذا وذاك!وخدمة السلطان الباطل‬
‫والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين حين يفسدون!‬
‫فيصبحون أداة طّيعة لتزييف الحقائق باسم أّنهم رجال دين‪،‬فيأولون‬
‫‪720‬‬
‫الّنصوص بما يخدم الطاغوت‪،‬ويبذلون جهدا لهثا في الّتمحل والتزييف( ‪.‬‬
‫وهكذا طواغيت العصر يستعينون بالمأجورين من علماء‬
‫الدين‪،‬فيحرفون الكلم عن مواضعه‪،‬ويحّرفونه من بعد مواضعه‪،‬فيغّيرون‬
‫ن‬
‫معانيه ليلئم سياسة الحكومة‪،‬ويحلون ما حرم الله‪،‬وهم بهذا ي َُزوُّرو َ‬
‫دين‪،‬ويمّيعون ما شرعه الله‪،‬ويسكتون‪-‬عمدا‪-‬عن مخازي الحكومة‪،‬بل‬ ‫ال ّ‬
‫م تصبح‬ ‫ويستشهدون بأقوال الحاكم بأمر الشيطان كما لو كانت قرآنا!ث ّ‬
‫دروسا يتعلمها التلميذ في مدارسهم ومعاهدهم؛فينتشر الجهل ويسود‬
‫الظلم وتنعدم الرؤية الصحيحة لمعنى الحياة‪.‬‬
‫م تسليطها على المة تلك هي طائفة المثقفين!!‬ ‫ُ‬
‫وهناك طائفة أخرى ت ّ‬
‫ل البواب‪،‬ووضعت تحت أيديهم أجهزة العلم‪،‬فدورهم‬ ‫حيث ُفتحت لهم ك ّ‬
‫مة ومهاجمة السلم بدعوى التنوير والعصرنة‪،‬فإذا أراد أحد‬ ‫تخريب فكر ال ّ‬
‫المراهقين بالفكر أن يشتهر فأقرب الطرق هي مهاجمة السلم!وتقوم‬
‫الحكومة بإيوائه وتوفير المن له والترويج لفكاره وسمومه‪.‬ويقوم العلم‬
‫جه بالترويج لهذه الطائفة بأّنها أمل المة وسبيل الخلص لكل‬ ‫مو ّ‬‫ال ُ‬
‫ما الحقيقة المّرة فليس هؤلء سوى أبواق‬ ‫مشكلت التي تعاني منها‪.‬أ ّ‬ ‫ال ُ‬
‫مى بحضارة العالم الحر!وليس دورهم ووظيفتهم‬ ‫للحضارة الهابطة أو ما ُتس ّ‬
‫مة بدينها وتشكيكهم به كي يسُهل استسلم المة وانقيادها‬ ‫سوى تجهيل ال ّ‬
‫م ليتعايش الّناس مع الوضاع القائمة‪،‬وذلك حين‬ ‫لمخططات الطواغيت‪،‬ث ّ‬
‫تسود الفكار والتصورات التي تتعايش مع الطاغوت ول تتمرد عليه؛فالهدف‬
‫الخير لتلك الطائفة)هو اقتلع العقيدة السلمية من قلوب المسلمين‬
‫ما وسائلهم فهي كثيرة ومتنوعة‪،‬أخطرها‬ ‫وصرفهم عن التمسك بالسلم‪،‬أ ّ‬
‫‪721‬‬
‫وأهمها السيطرة على مناهج التعليم ووسائل العلم( ‪.‬‬
‫م إشغال الّناس بما يضر ول ينفع‬ ‫وبين المنع والحقن ت ّ‬
‫ن إشغال الجماهير وسيلة لبعادها عن إدراك واقعها المر‪،‬فتعيش‬ ‫إ ّ‬
‫حياتها لهية غافلة ل هدف ول قضية ولغاية‪،‬فهي في لهو باطل ل خير‬
‫فيه‪،‬حتى إذا جاءهم الحق استقبلوه بالهزء والسخرية)لتناهي غفلتهم‪،‬وفرط‬
‫ن قلوبهم‬ ‫إعراضهم عن النظر في المور والتفكر في العواقب(‪722‬؛ذلك ل ّ‬
‫لهية غافلة‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إل ّ‬
‫استمعوه وهم يلعبون‪،‬لهية قلوبهم‘‘‪،723‬وهي حالة ترضى عنها‬
‫الحكومة وترعاها!‬
‫فتارة يلهيهم الطاغوت بما في ظاهره متعة ولكّنها مضللة‪،‬كالمهرجانات‬
‫مس الجماهير لحضور المباراة‬ ‫والمباريات والحتفالت…فها هو فرعون ُيح ّ‬
‫التاريخية المشهورة بين موسى عليه السلم وبين السحرة‪)،‬وتظهر من‬
‫التعبير حركة الهاجة والتحميس للجماهير‪’’،‬وقيل للّناس هل أنتم‬

‫‪720‬في ظلل القرآن)‪(3/602‬مع بعض التصرف‪.‬‬


‫‪721‬محمد قطب‪،‬واقعنا المعاصر‪،‬ط ‪،1‬مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر‪،‬المملكة‬
‫العربية السعودية‪1407،‬هـ‪1986،‬م‪،196.‬مع بعض التصرف‪،‬وسأشير إليه لحقا هكذا)واقعنا‬
‫المعاصر(‪.‬‬
‫‪722‬تفسير البيضاوي)‪.(4/82‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(6/54‬‬
‫‪]723‬النبياء‪.[3-2:‬‬

‫‪124‬‬
‫مجتمعون‪،‬لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‘‘‪.724‬هل لكم في‬
‫التجمع وعدم التخلف عن الموعد‪،‬لنترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى‬
‫السرائيلي!والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه المور‪،‬دون أن تدرك ما وراء‬
‫هذه السياسة‪،‬فالطواغيت يشغلونها بهذه المباريات والحتفالت‬
‫‪725‬‬
‫م تطور الشكل‬ ‫والتجمعات‪،‬ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس( ‪،‬ث ّ‬
‫القديم إلى برامج وأجهزة ووزارات تعتنى بتلك الغاية‪.‬‬
‫ن فرعون‪-‬كما كل الطغاة‪-‬عندما ُيواجه بالحجة والدليل يبحث عن‬ ‫إ ّ‬
‫مخرج‪،‬ولقد رأى فرعون ببناء الصرح ما يشغل الّناس وُيلهيهم‪،‬فأمر هامان‬
‫ببنائه‪،‬كما حكى الله عنه قوله‪’’:‬فأوقد لي يا هامان على الطين‬
‫فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘‪.726‬وقوله‪’’:‬يا هامان‬
‫ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب‪،‬أسباب السماوات فأطلع إلى‬
‫إله موسى‘‘‪.727‬فاعتراف الطاغوت بالحق أمر في غاية الصعوبة‪،‬لذا)رجع‬
‫إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره(‪،728‬فهو‪-‬لعنه الله‪-‬يشغلهم‬
‫بشيء يعلم هو قبل غيره أن ل فائدة من بنائه‪،‬ولكّنه أراد أن ُيبهرهم بما‬
‫يصنع‪،‬وأن يشغلهم بتلك اللعيب عن الحقائق والبينات التي جرت على يد‬
‫موسى‪،‬وفي هذا التصرف من فرعون إشارة إلى إنحطاط الوعي العام عند‬
‫الجماهير‪.‬‬
‫ومن وسائل اللهو كثرة العياد والمناسبات‪،‬فعيد للشجرة وعيد‬
‫م…!وهكذا دواليك‪.‬ولم يكن فرعون شاذا عن هذه القاعدة‬ ‫للجلوس وعيد لل ّ‬
‫‪729‬‬
‫بل كان له يوم الزينة‪)،‬وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم( ‪،‬وذلك ما‬
‫ُيرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول موسى عندما طلب منه فرعون تعيين‬
‫يوم للمباراة مع السحرة‪’’:‬قال موعدكم يوم الزينة‘‘‪،730‬وهذا الختيار‬
‫ل على كثرة الّناس المجتمعين في ذلك‬ ‫من موسى عليه السلم يد ّ‬
‫اليوم‪،‬حيث يخرج الّناس إلى الماكن العامة المكشوفة‪.‬‬
‫ن سياسة إشغال الّناس ما زالت مستمرة كي ل يكون عندهم وقت‬ ‫إ ّ‬
‫للتفكير بالواقع المّر الذي يعيشونه‪،‬وليس شرطا أن يكون إشغالهم بوسائل‬
‫ترفيهية هابطة تثير أقبح ما في النفس من دوافع وغرائز حيوانية‪،‬وتخلق‬
‫ميه‬
‫أجيال كسيحة فحسب‪،‬بل تتعدى سياسة الشغال هذا الشكل إلى ما نس ّ‬
‫جد ُ الفرد نفسه يخرج من أزمة ليدخل في‬ ‫بخلق الزمات المستمرة‪،‬في َ ِ‬
‫م العام إلى الهم والمشكلة الخاصة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مه من اله ّ‬ ‫أخرى‪،‬فينتقل تفكيره وه ّ‬
‫ولنا أن نقرر أن الجهل أرض خصبة ووسط مناسب تنمو فيها الخرافات‬
‫والتصورات الفاسدة والعقائد الباطلة‪،‬وهو البيئة المناسبة لحكم‬
‫ل الجهل في قوم أو جماعة تكون القابلية لتلك‬ ‫الطواغيت‪.‬فأينما ح ّ‬
‫ن‬
‫الخرافات‪،‬وتكون القدرة على تسخير الّناس من قبل الطغاة أكثر‪،‬ل ّ‬
‫التجهيل شرط ل بد ّ منه لي حكومة جائرة مستبدة‪،‬وقد بدت العداوة‬
‫ي‬
‫والبغضاء بين الطواغيت وبين العلم والوعي لشدة خطورة ذلك على أ ّ‬
‫نظام ظالم‪.‬‬
‫‪]724‬الشعراء‪.[40-39:‬‬
‫‪725‬في ظلل القرآن)‪.(6/206‬‬
‫‪]726‬القصص‪.[38 :‬‬
‫‪]727‬غافر‪.[37-36:‬‬
‫‪728‬فتح القدير)‪.(4/173‬‬
‫‪729‬البداية والنهاية)‪.(1/254‬وانظر‪:‬تفسير الثعالبي)‪.(3/32‬‬
‫‪]730‬طه‪.[59:‬‬

‫‪125‬‬
‫ل يستوي الذين يعلمون والذين ل يعلمون‬
‫ن ظلم الجهل لن يزول بغير نور العلم‪،‬وتلك هي وظيفة القرآن‬ ‫إ ّ‬
‫‪732‬‬ ‫‪731‬‬
‫العظيم ‪،‬يقول تعالى‪’’:‬قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين‘‘ ؛‬
‫ضح للّناس أبين المسالك‪،‬وينفي عنهم الضللة‪،‬ويرشدهم‬ ‫فالقرآن الكريم)ُيو ّ‬
‫إلى أقوم حالة(‪،733‬فتّتضح المعاني الحقيقية للحياة لمن سار على‬
‫هداه‪.‬فبينما يسيرالّناس المنقطعون عن القرآن في حيرة واضطراب وتيه‬
‫تجد أتباع القرآن مدركين لما يدور حولهم‪،‬ل تنطلي عليه مناورات الطواغيت‬
‫وألعيبهم؛ذلك بأّنهم حازوا العلم الحق‪،‬يقول تعالى‪’’:‬قل‪:‬هل يستوي‬
‫الذين يعلمون والذين ل يعلمون‘‘‪).734‬فالحق منهج واضح‪،‬والدين‬
‫ميزان راجح‪،‬والجهل ل يزيد إل عمى ول يورث إل ندما(‪.735‬‬
‫ومن هنا نفهم الستجهال المعاصر‪،‬وهو جعل الّناس يعيشون ويموتون‬
‫دون أن ُيدركوا غاية وجودهم‪،‬وُتستعمل لهذا الغرض أجهزة العلم الضخمة‬
‫والهائلة‪،‬تبث الفجور وتهبط بالنسان إلى مرتبة الحيوان!يعيش لشهوته‬
‫مونها تقدمية تحررية!‬ ‫ونزواته وهواه‪.‬وُتنشر لتحقيق هذا الغرض أفكار ُيس ّ‬
‫وُينفق في هذا السبيل المليارات‪.‬وأطلقوا على حملتهم إسم التنوير!‬
‫ن المسؤول‪-‬أو هكذا ُيراد‪-‬عن برامج المسلمين الثقافية والتعليمية هي‬ ‫إ ّ‬
‫وكالت الستخبارات الجنبية‪،‬فهم إّنما يريدون تجهييل المة بدينها شيئا‬
‫فشيئا؛يمنعون بعض المواضيع التي تؤثر في نهضة المة وخصوصا باب‬
‫دين من عبادة إلى عادة‪.‬والدهى‬ ‫الجهاد في سبيل الله‪،‬كما يريدون تحويل ال ّ‬
‫من ذلك ما يعقدونه من اتفاقيات ثقافية مشبوهة ُيراد منها إخراج جيل ل‬
‫يعرف من السلم إل ّ اسمه‪،‬ولديه قابلية للترويض والخنوع‪.‬‬
‫وفي المقابل ُيحاصر أصحاب الحق والحقيقة‪،‬وُيتهمون بتهم شتى‪،‬مرة‬
‫بالرهاب الفكري‪،‬ومرة باحتكار الحقيقة المطلقة‪..‬ومرة ُيزج بهم في غياهب‬
‫السجون‪،‬وتغض مؤسسة حقوق النسان الطرف!فتلك مؤامرة عالمية‬
‫لستحمار الشعوب وإفراغها من كل مضمون إنساني كي يسُهل‬
‫انقيادها‪..‬وتلك هي عقلية اليهود الذين ُيشكلون القاعدة الساسية في هذا‬
‫مر‪.‬‬‫المشروع الكبير المد ّ‬
‫وسائل الرد الممكنة‬
‫أمام هذه الحملة العلمية الضخمة ل بد ّ لنا من محاولة جادة ُتنقذ ما‬
‫م‬
‫ُيمكننا إنقاذه‪،‬فليس أمرا مقبول أن نكتفي بالشتم وبيان عورات الحكومة‪،‬ث ّ‬
‫نقف عاجزين عن فعل أي شيء‪.‬فهناك ما نستطيع أن نفعله‪.‬نبدأ بأنفسنا‬
‫فنصلحها لتكون قادرة على حمل الصلح للخرين‪..‬ونهتم بأسرنا‬
‫وأبنائنا‪،‬ونبعدهم عن كل المؤثرات التي ُيريد الطاغوت لهم البقاء تحت‬
‫تأثيرها ما استطعنا إلى ذلك سبيل‪.‬ول بد ّ أن نكون قدوة لهم كي ل تكون‬
‫تعاليمنا لهم نظرية ل ُيصدقها الواقع‪.‬‬
‫م تخطو الجماعة المسلمة خطوة أخرى نحو تحقيق القدرة القتصادية‬ ‫ث ّ‬
‫والتي بدورها تمكننا من إنشاء المؤسسات العلمية والمنابر الثقافية وغيرها‬
‫كالنوادي وأماكن الترفيه والتربية‪..‬وفي المحصلة نريد اعتزال الثقافة‬

‫‪731‬انظر‪:‬مناهل العرفان)‪.(2/256‬‬
‫‪]732‬المائدة‪.[15:‬‬
‫‪733‬تفسير ابن كثير)‪.(2/35‬‬
‫‪]734‬الزمر‪.[9:‬‬
‫‪735‬إعجاز القرآن)‪.(1/303‬‬

‫‪126‬‬
‫الجاهلية وعزلها‪،‬وفي المقابل نريد امتلك وسائل التثقيف والعلم كي ننشر‬
‫ما احتوته من‬ ‫نور الحق والهدى‪،‬وهي عملية متكاملة لتفريغ الذهان م ّ‬
‫ل ذلك بحاجة إلى‬ ‫م تعبئتها بالحقيقة السلمية‪،‬وك ّ‬
‫سموم‪-‬يعني التخلية‪-‬ث ّ‬
‫تضحيات وجهود مخلصة‪،‬كي تنقشع الظلمات ويسطع الّنور‪.‬‬
‫ن‬‫ومع هذا الواجب الذي يقع على عاتقنا ل ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أ ّ‬
‫ل الجذري‬‫ما نفعله ليس سوى خطوة على الطريق وليس بديل عن الح ّ‬
‫ن أيّ مؤسسة‬ ‫الذي نسعى له وهو إزالة فرعون من الوجود‪.‬كما وننبه أ ّ‬
‫ننشؤها تبقى في مهب الريح غير مستقرة بسبب السيطرة التي نعاني منها‬
‫من قبل الطواغيت‪،‬فقد ُيقدم الفراعنة الجدد على إغلق المؤسسات‬
‫العلمية وغيرها‪،‬وقد ُيحاولون إبعاد الصوت السلمي‪..‬وقد يحققون بعض‬
‫ل هذا صحيح ولكن ل يمنع من فعل‬ ‫الّنجاح لّنهم ُيمسكون بزمام الوضاع‪.‬ك ّ‬
‫ما نستطيع دون الغفلة عن الهدف الكبر والغاية العظمى‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫الكذب‬
‫الكذب نقيض الصدق‪،736‬و)هو الخبار عن الشيء بخلف ما هو‬
‫عليه(‪،737‬فهو تزوير وتحريف للحقيقة‪،‬بنفيها أو إثبات ما ل حقيقة له‪،‬وهو في‬
‫ن)الصدق مطابقة الخبر للواقع‬ ‫كل الحالتين تزوير وإخفاء للحقائق؛ذلك أ ّ‬
‫والكذب عدمها(‪.738‬وقد يكون الكذب بلسان المقال أو بلسان الحال‪.‬وهو‬
‫وسيلة الطغاة لتحقيق الغايات والهداف غير المشروعة‪،‬ومنهج كل من‬
‫ن الغاية تبرر الوسيلة‪،‬وهو سلوك العاجزين والمنافقين والضعفاء‬ ‫يؤمن أ ّ‬
‫والمفلسين والجبناء الذين يخافون من مواجهة الحقائق‪.‬‬
‫وهكذا كان فرعون‪-‬فاجرا منافقا عاجزا‪-‬يتوصل بالكذب الممنهج لتثبيت‬
‫ت ما‬ ‫َ‬
‫ن علم الحق بدليل قوله تعالى‪’’:‬لقد علم َ‬ ‫باطله وتدعيم نظامه ب َعْد َ أ ْ‬
‫أنزل هؤلء إل رب السماوات والرض بصائر‘‘‪.739‬فاختار‪-‬لعنه الله‪-‬‬
‫وزمرته المقربة الكذب لرد الحق وتسويق الباطل‪،‬وهم يعلمون أّنه‬
‫كذب’’ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‘‘‪،740‬ول عجب فالقيم‬
‫ل الطاغوت بضاعة ُتشترى وتباع‪.‬‬ ‫في ظ ّ‬
‫ن الكذب هو الساس الذي بنى‬ ‫ذاب أثيم؛ذلك أ ّ‬ ‫ن فرعون أّفاك ك ّ‬ ‫إ ّ‬
‫فرعون عليه نظامه والصل الذي ظهرت من خلله شخصيته‪،‬فهو‪-‬لعنه الله‪-‬‬
‫من حمل إثم أكبر كذبة وأعظم فرية‪،‬فقد ادعى كذبا أّنه رب أعلى وإله لم‬
‫م يأتي بعد ذلك دوُْر الجهزة المختصة في الترويج‬ ‫يعلم لقومه إلها غيره‪.‬ث ّ‬
‫ن الطاغوت‬ ‫خل في روع الجماهير أ ّ‬‫مستمر لتلك الفرية‪،‬ومرة بعد مّرة ُيد َ‬ ‫ال ُ‬

‫‪736‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬كذب)‪.(1/704‬وفي مختار الصحاح(التكاذب ضد التصادق(مادة‪:‬كذب)‪.(236‬‬


‫‪737‬المصباح المنير‪،‬مادة‪:‬كذب)‪.(2/528‬‬
‫‪738‬فيض القدير)‪.(1/171‬وانظر‪:‬التعريفات‪،‬باب الكاف)‪(1/235‬والتعاريف‪،‬فصل الذال)‪.(1/601‬‬
‫‪]739‬السراء‪.[102:‬‬
‫‪]740‬آل عمران‪.[78:‬‬

‫‪127‬‬
‫ليس فردا عاديا‪،‬وليس بشرا طبيعيا‪،‬كما حصل لبني إسرائيل حين لم‬
‫دقوا موت فرعون وغرقه بعد أن تعرضوا لعملية مسح للذاكرة‪.‬‬ ‫ُيص ّ‬
‫الكذب وسيلة من وسائل فرعون في مواجهته لموسى عليه‬
‫السلم‬
‫وماذا يملك فرعون أمام الحجة والبرهان؟ لقد اتهم موسى‪-‬كذبا‪-‬بأّنه‬
‫ن هذا‬ ‫ساحر‪،‬يقول تعالى مخبرا عن قول فرعون‪’’:‬قال للمل حوله إ ّ‬
‫دقها الّناس في زمن‬ ‫لساحر عليم‘‘‪،741‬وتلك أقرب فرية ُيمكن أن ُيص ّ‬
‫ده على الحق ل بد ّ أن ُيفتش عن فرية‬ ‫ن الطاغوت في ر ّ‬ ‫انتشر به السحر‪،‬ل ّ‬
‫شبه معقولة!فإن لم ُتقنع الّناس فل أقل من أن ُتدخل الشك إلى قلوبهم‪.‬‬
‫يلجأ الطاغوت‪-‬حين يكذب‪-‬إلى أقرب القول‪،‬وهو ما أشار إليه الوليد بن‬
‫المغيرة حين اجتمع مع نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر‬
‫الموسم‪،‬فقال‪):‬وفود العرب ستقدم عليكم فيه‪،‬وقد سمعوا بأمر صاحبكم‬
‫هذا‪،‬فأجمعوا فيه رأيا واحدا ول تختلفوا‪،‬فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول‬
‫بعضكم بعضا‪ .‬فقالوا‪:‬فأنت يا أبا عبد شمس‪،‬فقل وأقم لنا رأيا نقوم‬
‫به‪.‬فقال‪:‬بل أنتم فقولوا لسمع‪.‬فقالوا‪:‬نقول كاهن‪ .‬فقال‪:‬ما هو بكاهن‪،‬لقد‬
‫رأيت الكهان فما هو بزمزمة‪ 742‬الكاهن وسحره‪.‬فقالوا‪:‬نقول‬
‫مجنون‪.‬فقال‪:‬وما هو بمجنون‪،‬ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ول‬
‫تخالجه ول وسوسته‪.‬فقالوا‪:‬نقول شاعر‪.‬قال‪:‬فما هو بشاعر‪،‬قد عرفنا الشعر‬
‫برجزه وهزجه وقريضه‪ 743‬ومقبوضه‪ 744‬ومبسوطه؛فما هو‬
‫بالشعر‪.‬فقالوا‪:‬نقول ساحر‪.‬قال‪:‬فما هو ساحر‪،‬قد رأينا السحار وسحرهم فما‬
‫ن لقوله‬ ‫هو بنفثه ول عقده‪.‬فقالوا‪:‬ما تقول با أبا عبد شمس؟قال‪:‬والله إ ّ‬
‫ن فرعه لجني‪ ،‬فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إل‬ ‫ن أصله لمعذق‪،‬وأ ّ‬ ‫لحلوة‪،‬وإ ّ‬
‫ن أقرب القول لن تقولوا ساحر‪،‬فتقولوا هذا ساحر يفرق‬ ‫عرف أنه باطل‪،‬وأ ّ‬
‫بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وبين زوجته وبين‬
‫المرء وعشيرته(‪.745‬‬
‫م أرأيت كيف وقع الختيار؟‬ ‫أرأيت كيف يبحث الطاغوت عن فرية؟! ث ّ‬
‫هكذا هم الطواغيت في بحث مستمر عن فرية جديدة يصدون بها عن سبيل‬
‫الله‪،‬بل وأقاموا مجامع لهم لتشويه وجه الحق‪،‬واشتروا عقول بشرية تمتاز‬
‫بالدهاء والذكاء والمهارة العالية ُيعشعش فيها الشيطان لتعمل ليل نهار في‬
‫البحث والستقصاء عن طرق لترويج الباطل وتزوير الحقائق‪،‬وبذلوا في ذلك‬
‫أموالهم وجهدهم‪،‬وتطورت أساليبهم وطرقهم‪،‬وبقي الكذب هو الجامع بين‬
‫القديم والحديث منها‪.‬‬

‫‪]741‬الشعراء‪.[34:‬‬
‫‪)742 742‬الزمزمة صوت خفي ل يكاد يفهم(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬زمم)‪.(12/274‬‬
‫‪)743‬القريض الشعر‪،‬وهو السم كالقصيد‪،‬والتقريض صناعته(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬قرض)‪.(7/218‬‬
‫‪)744‬القبض في زحاف الشعر حذف الحرف الخامس الساكن من الجزء‪،‬نحو النون من فعولن‬
‫أينما تصرفت‪،‬ونحو الياء من مفاعيلن‪،‬وكل ما حذف خامسه فهو مقبوض‪،‬وإنما سمي مقبوضا‬
‫ليفصل بين ما حذف أوله وآخره ووسطه(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬قبض)‪.(7/215‬‬
‫‪ 745‬السيوطي‪:‬أبو الفضل‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال)‪911-849‬هـ(‪،‬كفاية‬
‫الطالب اللبيب في خصائص الحبيب)الخصائص الكبرى(‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1985‬م‪،(1/189).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الخصائص الكبرى(‪.‬وانظر‪:‬الكتفاء بما تضمنه من‬
‫مغازي الرسول)‪ (1/219‬ابن إسحاق‪:‬محمد بن يسار‪151-85)،‬هـ(‪،‬سيرة إبن إسحاق‬
‫المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬محمد حميدالله‪،‬معهد‬
‫الدراسات والبحاث للتعريب‪،(2/132).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)سيرة ابن إسحاق(‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫لقد أراد فرعون بفريته الولى‪-‬وهي اتهام موسى أّنه ساحر‪-‬التشكيك‬
‫م تقدم خطوة أخرى للتشكيك في أهداف‬ ‫بنبوة موسى عليه السلم‪،‬ث ّ‬
‫الدعوة‪،‬فبينما موسى جاء لطلق بني إسرائيل من قيد فرعون‪،‬راح فرعون‬
‫ن موسى ما جاء إل ّ ليخرجكم من أرضكم‪،‬يقول‬ ‫ينشر بين الّناس فريته أ ّ‬
‫تعالى مخبرا عن قوله‪’’:‬قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا‬
‫موسى‘‘‪.746‬و)هذا من فرعون تعلل وتحير‪،‬ودليل على أّنه علم كونه محقا‬
‫ن الساحر ل يقدر أن يخرج ملكا مثله من‬ ‫حتى خاف منه على ملكه‪،‬فإ ّ‬
‫أرضه(‪،747‬ولكّنه لجأ إلى الكذب)لحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه‬
‫الصلة والسلم بإبراز أن مراده عليه الصلة والسلم ليس مجرد إنجاء بني‬
‫إسرائيل من أيديهم‪،‬بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملكهم‬
‫بالكلية‪ ،‬حتى ل يتوجه إلى اتباعه أحد‪،‬ويبالغوا في المدافعة‬
‫مى ما أظهره عليه الصلة والسلم من المعجزة الباهرة‬ ‫والمخاصمة‪.‬وس ّ‬
‫‪748‬‬
‫سحرا لتجسيرهم على المقابلة( ‪.‬‬
‫ديا ً حرصه عليهم‪’’،‬فماذا‬‫مب ْ ِ‬
‫م يلتفت إلى الجماهير ُ‬ ‫ث ّ‬
‫‪751‬‬ ‫‪750 749‬‬
‫تأمرون ‘‘ ‪،‬أي)بأي شيء تأمرونني( ‪،‬متنازل من عليائه الكاذب في‬
‫طرح المشورة عليهم‪،‬فالديمقراطية أداة في يد ّ الطاغوت يستدعيها متى‬
‫يحتاج إليها!يحاول بذلك استدرار العواطف واستدراج الجماهير بفتات يسير‬
‫من الحرية الموهومة حتى إذا هدأت العاصفة عاد إلى طبعه‪.‬‬
‫ن‬
‫وتظهر براعته في الكذب والحتيال على الحقيقة حين ادعى أ ّ‬
‫خصومته لموسى ليست إل ّ دفاعا عن مصالحهم‪،‬فهي معركتهم التي يتبناها‬
‫ن موسى’’يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا‬ ‫من أجلهم!فإ ّ‬
‫تأمرون‘‘‪.752‬فأي عقلية شيطانية يتمتع بها الطاغوت!‬
‫إّنه ُيخفي ذعره من تأثر القوم بدعوة موسى فهو ُيغريهم به‪:‬يريد أن‬
‫يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها وتوطنتموها بسحره‪،‬وفي هذا‬
‫ن ما‬ ‫غاية التنفير عنه عليه السلم وابتغاء الغوائل له‪،753‬وكان فرعون يدرك أ ّ‬
‫قاله كذب‪،‬ولكّنه ل بد ّ منه‪،‬إذ ليس هناك طريق آخر غير الحتيال‪.‬‬
‫واّتهم فرعون‪-‬لعنه الله‪-‬موسى عليه السلم بأّنه مسحور‪،754‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬فقال له فرعون إني لظنك يا موسى مسحورا‘‘‪،755‬‬
‫)فكلمة الحق والتوحيد والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان واليذاء ل تصدر‬
‫في عرف الطاغية إل ّ من مسحور ل يدري ما يقول!فما يستطيع الطغاة من‬

‫‪]746‬طه‪.[57:‬‬
‫‪747‬تفسير البيضاوي)‪.(4/56‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪.(3/58‬‬
‫‪748‬تفسير أبي السعود)‪.(6/23‬وانظر‪:‬فتح القدير)‪(3/370‬وروح المعاني)‪.(16/216‬‬
‫‪)749‬قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم‬
‫ها هنا(تفسير البيضاوي)‪.(3/46‬‬
‫‪]750‬العراف‪.[110:‬‬
‫‪)751‬وهذا من كلم فرعون‪،‬وقيل قاله المل من قبله بطريق التبليغ إلى العامة‪.‬فقوله تعالى‪’’:‬قالوا‬
‫أرجه وأخاه‘‘على الول وهو الظهر حكاية لكلم المل الذين شاورهم فرعون‪،‬وعلى الثاني لكلم‬
‫العامة الذي خاطبهم المل(تفسير أبي السعود)‪.(3/259‬قال الشوكاني رحمه الله‪):‬وكون هذا من‬
‫كلم فرعون هو الولى بدليل ما بعده وهو‪’’:‬قالوا أرجه وأخاه‘‘‪ .‬قاله المل جوابا لكلم فرعون‬
‫حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي(فتح القدير)‪.(2/231‬‬
‫‪]752‬الشعراء‪.[35:‬‬
‫‪753‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(3/334‬وتفسير أبي السعود)‪(6/241‬وروح المعاني)‪.(19/76‬‬
‫‪754‬أي )ذاهب العقل مفسدا(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬سحر)‪.(4/349‬‬
‫‪]755‬السراء‪.[101:‬‬

‫‪129‬‬
‫أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني‪،‬ول أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها‬
‫وهو يملك قواه العقلية!(‪.756‬‬
‫لم يكتف فرعون بفرية السحر‪،‬بل سار على نهج الطغاة‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إل ّ قالوا ساحر‬
‫أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‘‘‪.757‬و)الستفهام للتقريع‬
‫والتوبيخ والتعجيب من حالهم‪،‬أي هل أوصي أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطئوا‬
‫عليه!بل هم قوم طاغون‪.‬إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من‬
‫الطغيان‪،‬أي لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان‪،‬وهو مجاوزة الحد في‬
‫الكفر(‪،758‬فكأّنهم تواصوا على التكذيب‪.‬‬
‫ما كان فرعون من طبيعته الطغيان شارك الولين والخرين‬ ‫ول ّ‬
‫ن رسولكم‬ ‫نهجهم‪،‬فأضاف إلى تهمة السحر تهمة الجنون‪،‬حيث قال‪’’:‬إ ّ‬
‫ن رسولكم هذا الذي يزعم أنه‬ ‫الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘‪.759‬أي)إ ّ‬
‫أرسل إليكم لمغلوب على عقله‪،‬لّنه يقول قول ل نعرفه ول نفهمه‪.‬وإّنما قال‬
‫جّنة لّنه كان عنده وعند قومه أّنه ل رب غيره‬ ‫ذلك ونسب موسى إلى ال ِ‬
‫‪760‬‬
‫ن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة( ‪،‬ولّنه‪-‬لعنه الله‪-‬‬ ‫ُيعبد‪،‬وأ ّ‬
‫ن ما قاله عليه الصلة والسلم مما ل‬ ‫)خاف من تأثر قومه منه‪،‬فأراهم أ ّ‬
‫ي‬
‫يصدر عن العقلء صدا لهم عن قبوله‪،‬فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء بحرف ّ‬
‫ن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘‪،761‬ليفتنهم بذلك‬ ‫التأكيد’’إ ّ‬
‫ماه رسول بطريق الستهزاء‪،‬وأضافه إلى‬ ‫ويصرفهم عن قبول الحق‪،‬وس ّ‬
‫‪762‬‬
‫مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسل إلى نفسه( ‪.‬‬
‫لقد أفرط فرعون في التهمة وتوسع فيها‪،‬فجمع بين فرية التشكيك‬
‫ما ساحر أو مجنون أو مسحور‪-‬وبين فرية‬ ‫بنبوة موسى وبأهليته‪-‬فهو إ ّ‬
‫ت إلى موسى‬ ‫م ّ‬
‫التشكيك بما جاء به‪،‬فكأّنه أراد أن يشكك بكل ما ي ُ‬
‫ل ما جاء به موسى‪-‬بزعم فرعون‪-‬سحر مبين مفترى‪،‬يقول‬ ‫بصلة‪،‬فك ّ‬
‫ن هذا لسحر‬ ‫ما جاءهم الحق من عندنا قالوا إ ّ‬ ‫تعالى‪’’:‬فل ّ‬
‫مبين‘‘‪.763‬ويقول تعالى‪’’:‬فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما‬
‫هذا إل ّ سحر مفترى‘‘‪.764‬أي)فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه بتظاهر‬
‫ن هذا لسحر‬ ‫المعجزات الباهرة المزيلة للشك‪،‬قالوا من فرط تمردهم‪’’:‬إ ّ‬
‫‪765‬‬
‫مبين‘‘ظاهر أّنه سحر أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوته( ‪)،‬فهي‪-‬إذن‪-‬‬
‫المماراة في الحق الواضح الذي ل يمكن دفعه‪.‬المماراة المكرورة حيثما‬
‫دعون أّنه سحر… وهم ل‬ ‫واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب‪.‬إّنهم ي ّ‬
‫يناقشون بحجة‪،‬ول ُيدلون ببرهان‪،‬إّنما يقولون بهذا القول الغامض الذي ل‬
‫يحق حقا ول يبطل باطل ول يدفع دعوى(‪.766‬‬
‫‪756‬في ظلل القرآن)‪.(5/362‬‬
‫‪]757‬الذاريات‪.[53-52:‬‬
‫‪758‬فتح القدير)‪.(5/92‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(27/10‬وتفسير القرطبي)‪.(17/54‬‬
‫‪]759‬الشعراء‪.[27:‬‬
‫‪760‬تفسير الطبري)‪.(19/70‬وانظر‪:‬معاني القرآن)‪.(5/74‬‬
‫‪]761‬الشعراء‪.[27:‬‬
‫‪762‬تفسير أبي السعود)‪.(6/239‬‬
‫‪]763‬يونس‪.[76:‬‬
‫‪]764‬القصص‪.[36:‬‬
‫‪765‬تفسير البيضاوي)‪.(3/210‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(11/145‬وتفسير القرطبي)‪(8/366‬وتفسير‬
‫ابن كثير)‪(2/427‬وتفسير النسفي)‪.(2/137‬‬
‫‪766‬في ظلل القرآن)‪.(349-6/348‬‬

‫‪130‬‬
‫وكان الكذب وسيلته في رده على السحرة حين آمنوا‪،‬حيث وقع إيمانهم‬
‫عليه وقع الصاعقة‪،‬فلجأ إلى وسيلته الخسيسة محاول رد المعجزة‬
‫الباهرة‪،‬باتهامهم بالّتواطيء مع موسى عليه السلم‪،‬واعتبر إيمانهم مؤامرة‬
‫ن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا‬ ‫حيكت في الخفاء‪،‬فقال‪’’:‬إ ّ‬
‫منها أهلها‘‘‪.767‬فليس إيمانهم‪-‬بزعم فرعون‪-‬سوى مواطأة جرت بينهم‬
‫وبين موسى ليستولوا على مصر‪،‬وكان هذا‪-‬بزعمه‪-‬في المدينة قبل أن‬
‫يبرزوا إلى هذه المباراة‪ ،768‬حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته‬
‫واليمان به‪).‬وهذا الذي قاله من البهتان‪ ،‬يعلم كل فرد عاقل ما فيه من‬
‫الكفر والكذب والهذيان‪ ،‬بل ل ُيروج مثله على الصبيان‪،‬فإن الّناس كلهم‪-‬‬
‫‪769‬‬
‫ن موسى لم يَر هؤلء يوما من الدهر( ‪.‬‬ ‫من أهل دولته وغيرهم ‪-‬يعلمون أ ّ‬
‫ّ‬
‫م أفرط في فريته فقلب المنطق كله رأسا على عقب‪،‬فبدل من أن‬ ‫ث ّ‬
‫‪770‬‬
‫يقول إّنه لتلميذكم قال‪’’:‬إّنه لكبيركم الذي علمكم السحر‘‘ ‪،‬أي‬
‫رئيسكم في التعليم‪،‬وإّنما غلبكم لّنه أحذق به منكم‪،‬أو لّنه علمكم شيئا دون‬
‫شيء ولذلك غلبكم‪،‬وإّنما أراد فرعون بقوله هذا التلبيس والكذب على‬
‫الّناس كي ل يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق‪،‬حتى ل يتبعوهم‬
‫فيؤمنوا كإيمانهم‪،‬وإل ّ فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى‪،‬بل قد‬
‫علموا السحر قبل قدوم موسى وولدته‪.771‬‬
‫ن موسى عليه السلم بمجرد ماجاء‬ ‫وهذا قول ظاهر أّنه بهت وكذب؛)فإ ّ‬
‫من مدين دعا فرعون إلى الله‪،‬وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة‬
‫على صدق ماجاء به‪،‬فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن مملكته فجمع‬
‫سحرة متفرقين ممن اختار هو والمل من قومه‪،‬وأحضرهم عنده ووعدهم‬
‫بالعطاء الجزيل‪،‬وكانوا أحرص الناس على الظهور‪،‬والتقدم عند‬
‫فرعون‪.‬وموسى عليه السلم ل يعرف أحدا منهم ول رآه ول اجتمع‬
‫به‪،‬وفرعون يعلم ذلك‪،‬وإّنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته‬
‫وجهلتهم(‪.772‬‬
‫الكذب تزوير للحقيقة كي ل تتضح معالم المعركة بين الحق‬
‫واالطاغوت في أذهان الجماهير‬
‫ن الكذب تزوير للحقيقة‪،‬وهو ما يريده فرعون وكل طواغيت‬ ‫إ ّ‬
‫الرض‪،‬كي ل تتضح معالم المعركة في أذهان الجماهير‪،‬فتبقى جاهلة لسباب‬
‫الخصومة بين الحق والباطل‪،‬فتتمّيع المفاهيم في عقولها‪،‬وتتشوش‬
‫ن فهم رسالة الحق أساس في‬ ‫الرؤيا‪،‬فل تصبح قادرة على فعل شيء‪.‬ل ّ‬
‫مناصرتها واتباعها‪،‬كما أن فهم الباطل أساس في محاربته ومخاصمته‪،‬ولهذا‬
‫درجت الحكومات الجائرة على الكذب تزويرا للحقيقة‪.‬‬

‫‪]767‬العراف‪.[123:‬‬
‫‪768‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/239‬وتفسير البيضاوي)‪(3/48‬وتذكرة الريب في تفسير الغريب)‬
‫‪(1/185‬والجصاص‪:‬أبو بكر‪ ،‬أحمد بن علي الرازي‪370-305)،‬هـ(‪،‬أحكام القرآن‪،‬‬
‫‪5‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد الصادق قمحاوي‪،‬دار إحياء التراث العربي‪،‬بيروت‪1405،‬هـ‪).‬‬
‫‪،(2/170‬وسأشير إليه لحقا هكذا)أحكام القرآن للجصاص(‪.‬‬
‫‪ 769‬البداية والّنهاية)‪.(1/256‬‬
‫‪]770‬طه‪.[71:‬‬
‫‪771‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(16/188‬وتفسير أبي السعود)‪(6/243‬وتفسير الجللين)‪(1/483‬وتفسير‬
‫النسفي)‪.(3/61‬‬
‫‪772‬تفسير ابن كثير)‪(2/239‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫فالكذب وسيلة الطواغيت في إظهار أنفسهم بمظهر ل يعكس‬
‫حقيقتهم؛وهو وسيلتهم في الرد ّ على الحق وأهله؛أي أّنهم يكذبون‬
‫مّرتين‪:‬مّرة في تقديم أنفسهم‪،‬ومّرة في ردهم على من خالفهم‪،‬ولذلك‬
‫ن الله ل يهدي‬ ‫ظهرت عليهم علمات الضلل وعدم الهدى‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫ن الله ل يوفق للحق من هو متعد إلى‬ ‫من هو مسرف كذاب‘‘‪،773‬أي)إ ّ‬
‫فعل ما ليس له فعله كذاب عليه يكذب ويقول عليه الباطل وغير‬
‫‪774‬‬
‫موفقة‪.‬‬ ‫الحق( ‪،‬ولهذا كانت الحكومات الحالية ضالة متعثرة غير ُ‬
‫دين‬
‫مس حقائق ال ّ‬ ‫ن الكذب الذي يمارسه الطواغيت كذب خطير لّنه ي ُ‬ ‫إ ّ‬
‫والمعاني الحقيقة للحياة‪،‬فل يكتفون بالكذب على الّناس في تصريف‬
‫شؤونهم وحسب بل يتعدى كذبهم ذلك‪،‬ويظهر هذا جلي ّا ً في قضية‬
‫التشريع‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ول تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا‬
‫حلل وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على‬
‫الله الكذب ل يفلحون‘‘‪)،775‬ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له‬
‫فيها مستند شرعي‪،‬أو حلل شيئا مما حرم الله‪،‬أو حّرم شيئا مما أباح الله‬
‫بمجرد رأيه وتشهيه(‪،776‬ولهذا كان كذبهم علمة على عدم فلحهم وعلى‬
‫عدم إيمانهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إنما يفتري الكذب الذين ل يؤمنون بآيات‬
‫ن كذبهم علمة نفاق‬ ‫الله‪،‬وأولئك هم الكاذبون‘‘‪.777‬وأقل ما ُيقال فيهم أ ّ‬
‫دث كذب‘‘‪،778‬وهؤلء يكذبون حتى في‬ ‫ن آية المنافق’’إذا ح ّ‬
‫فيهم؛ذلك أ ّ‬
‫ابتساماتهم وحركاتهم وسكناتهم!ومن هنا كانت حكومات الّنفاق التي‬
‫نشاهد‪.‬‬
‫ن سبيل الكذب هو سبيل الشيطان‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ول تتبعوا‬ ‫إ ّ‬
‫خطوات الشيطان إّنه لكم عدو مبين‪،‬إنما يأمركم بالسوء‬
‫والفحشاء وأن تقولوا على الله ما ل تعلمون‘‘‪.779‬فقولهم على الله‬
‫ما ل يعلمون حقيقته‪’’:‬طاعة منهم للشيطان واتباعا منهم خطواته‘‘‪.780‬‬
‫والكذب جريمة نكراء وظلم للحقيقة‪،‬وهو مسلك الفاجرين إلى‬
‫ن‬
‫ن الكذب يهدى إلى الفجور وإ ّ‬ ‫الّنار‪،‬ففي الحديث’’إياكم والكذب‪،‬فإ ّ‬
‫الفجور يهدى إلى الّنار‘‘‪،781‬والطاغوت أيا ً كان يتقن الكذب والتمويه‬
‫والمداهنة والمراوغة ويعتبرها فّنا من فنون السياسة‪.‬وإذا ظهر من يكشف‬
‫كذب الطاغوت أرعدت الحكومة والبطانة‪،‬واتهموه بالزندقة والفتنة والفجور‬
‫والتطاول على الكابر‪.‬تنقبض قلوبهم الثمة لسماع الحق؛فكلمة الحق ثقيلة‬
‫على أسماع الطواغيت‪.‬‬
‫ما يزيد المور تعقيدا أن يقوم بعض المأجورين بترويج الكذب‬ ‫نم ّ‬‫وإ ّ‬
‫الذي يعيش في كنفه الطواغيت‪،‬وهم يعلمون أّنه كذب‪.‬كما كان يفعل المل‬

‫‪]773‬غافر‪.[38:‬‬
‫‪774‬تفسير الطبري)‪.(24/58‬‬
‫‪]775‬النحل‪.[117-116:‬‬
‫‪776‬تفسير ابن كثير)‪.(2/591‬‬
‫‪]777‬النحل‪.[105:‬‬
‫‪778‬صحيح البخاري‪،‬كتاب اليمان‪،‬باب علمة المنافق)‪(1/21‬رقم)‪.(33‬‬
‫‪]779‬البقرة‪.[169-168:‬‬
‫‪780‬تفسير الطبري)‪.(2/77‬‬
‫‪781‬صحيح مسلم‪،‬كتاب البر والصلة والداب‪،‬باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله )‪(4/2013‬رقم)‬
‫‪.(2606‬‬

‫‪132‬‬
‫ما يستدعي المزيد من‬
‫من قوم فرعون وقومه من الذين شايعوه وناصروه‪.‬م ّ‬
‫الجهد والمثابرة في كشف الحقيقة‪.‬‬
‫ونختم هذا المبحث بتحذير الّفاكين من نقمة الله وبطشه في يوم‬
‫ن الذين يفترون على‬ ‫ُيجمع فيه الولون والخرون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وما ظ ّ‬
‫‪782‬‬
‫ن الطغاة يا ُترى؟وماذا يتصورون‬
‫الله الكذب يوم القيامة‘‘ ‪.‬فما ظ ّ‬
‫شأنهم يوم القيامة؟أيحسبون أن يفلتوا من عقاب الله!‬

‫المبحث الرابع‬
‫السيطرة القتصادية‬
‫وهي من أهم الوسائل التي ثّبت بها فرعون حكمه ونظامه‪،‬فالقتصاد‬
‫عصب الحياة على مدار تاريخ المم والشعوب‪،‬وهو سّر تكالب الّناس قديما‬
‫على أماكن الكل والماء‪،‬وهو سبب تكالب الّناس حديثا على مصادر الثروة‬
‫كالّنفط والمعادن وغيره‪،‬لما في تلك المصادر والثروات من حيوية في حياة‬
‫ن من بيده المال والثروة‬ ‫الّناس وعيشهم‪،‬حتى صح القول‪:‬من يملك يحكم‪،‬ل ّ‬
‫كم في حياة الّناس‪،‬وبالّتالي حكمهم والسيطرة عليهم‪.‬‬ ‫يستطيع الّتح ّ‬
‫ولم تغب هذه الوسيلة القديمة الجديدة عن وسائل فرعون التي بها‬
‫صله‪،‬فالمالك للمال بنوعيه المنقول وغير‬ ‫وعليها بنى نظامه وأسسه وأ ّ‬
‫المنقول هو فرعون‪،‬فهو يملك النهار والشجار والرض والحجار…كما يملك‬
‫الذهب والفضة والخيل والبقر والبشر…فهو‪-‬بزعمه‪-‬الله والرب‪،‬وعليه فهو‬
‫دعي غير ذلك أو يشك‬ ‫مى في عالم المال مال‪،‬ومن ي ّ‬ ‫المالك لكل شيء يس ّ‬
‫فيه فقد نازع الرب المزعوم الموهوم صلحّيات الربوبية!فله الملك وحده‬
‫ل نعمة‪،‬وإليه ُيرد ّ كل فضل!والّناس يعيشون في ظل‬ ‫يك ّ‬ ‫بزعمه‪،‬فهو ول ّ‬
‫صاحب الجللة على الفتات الذي ُينعم به عليهم‪.‬‬
‫بعض الشواهد على سيطرة فرعون القتصادية‬
‫ن فرعون ذو ملكية كبيرة ضخمة‪،‬وذلك هو معنى قول‬ ‫بّين القرآن أ ّ‬
‫فرعون لقومه’’أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي‬
‫أفل تبصرون‘‘‪،783‬فهو ُيسائلهم‪:‬أليس لي ملك مصر)ل ينازعني فيه‬
‫أحد(‪)،784‬وهذه النهار أنهار النيل تجري من تحتي من تحت قصوري‪،‬أو تجري‬
‫بين يدي في جناني وبساتيني(‪).785‬أفل تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من‬
‫النعيم والخير(‪!786‬فتسمع الجماهير الّنداء وتسكت رهبة أو رغبة‪.‬وكفى بهذا‬
‫الّنداء دليل على ما يتمتع به فرعون من ملكية تشمل أرض مصر وأنهارها‪.‬‬
‫ومن الشواهد على قدرة فرعون القتصادية ما أمر به)وزيره هامان‬
‫ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين‪،‬يعني يتخذ له أجرا لبناء‬

‫‪]782‬يونس‪.[60:‬‬
‫‪]783‬الزخرف‪.[51:‬‬
‫‪784‬تفسير القرطبي)‪.(16/98‬‬
‫‪785‬تفسير البغوي)‪.(4/142‬‬
‫‪786‬تفسير الطبري)‪.(25/81‬‬

‫‪133‬‬
‫الصرح‪،‬وهو القصر المنيف الرفيع العالي(‪،787‬وذلك معنى قوله تعالى حكاية‬
‫طين فاجعل لي صرحا‬ ‫لقول فرعون‪’’:‬فأوقد لي يا هامان على ال ّ‬
‫لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘‪.788‬وقوله سبحانه‪’’:‬قال فرعون يا‬
‫هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب‘‘‪.789‬ولو كان وضع فرعون‬
‫القتصادي ضعيف لما استطاع أن يبني‪،‬أو أن يأمر ببناء مثل هذا الصرح‪،‬حتى‬
‫ن)أول من أمر بصنعة الجر وبنى به فرعون(‪،790‬وليس هذا مستغربا‬ ‫قيل‪:‬إ ّ‬
‫عند مشاهدتنا للهرامات القائمة حتى اليوم‪.‬‬
‫ن قوة فرعون القتصادية عكست نفسها في كلم مؤمن آل‬ ‫إ ّ‬
‫فرعون‪،‬وهو يحذر قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم‪،‬وذلك‬
‫في قوله لهم‪’’:‬يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الرض فمن‬
‫ينصرنا من بأس الله إن جاءنا‘‘‪.791‬أي)قد أنعم الله عليكم بهذا‬
‫الملك‪،‬والظهور في الرض بالكلمة النافذة والجاه العريض‪،‬فراعوا هذه‬
‫النعمة بشكر الله تعالى‪،‬وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا‬
‫ن مؤمن آل فرعون أخبر‬ ‫نقمة الله إن كذبتم رسوله(‪.792‬والشاهد في الية أ ّ‬
‫من خلل خطابه لقومه أّنهم في نعمة عظيمة وجاه عريض‪،‬وفي هذا دليل‬
‫آخر على مدى الملك الذي حازه فرعون وقومه‪.‬‬
‫ي التي كانت في‬ ‫ومن الدلة على قوة فرعون القتصادية‪،‬تلك الحل ّ‬
‫ملكية القبط‪،‬حيث أخذ بنو إسرائيل جزءا منها عند خروجهم من مصر‪،‬والتي‬
‫ما كان يملكه القبط من أموال‪.‬وذلك ما ُيرشد إليه قوله‬ ‫كانت تمثل بعضا م ّ‬
‫تعالى‪’’:‬واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجل جسدا له‬
‫‪793‬‬
‫ملنا أوزارا من زينة القوم‬ ‫خوار‘‘ ‪.‬وقوله تعالى‪’’:‬ولكّنا ح ّ‬
‫فقذفناها فكذلك ألقى السامري‪،‬فأخرج لهم عجل جسدا له‬
‫خوار‘‘‪.794‬أي ولكّنا حملنا أحمال من حلى القبط التي أستعرناها منهم حين‬
‫م لم يردوها عند‬ ‫هممنا بالخروج من مصر‪،‬وقيل استعاروا لعيد كان لهم ث ّ‬
‫الخروج مخافة أن يعلموا بهم‪،‬وقيل‪ :‬هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد‬
‫إغراقهم فأخذوه‪.‬وأي ّا ً ما كانت طريقة أخذها فالشاهد وجودها عند‬
‫موها أوزارا لنها‬ ‫القبط‪،‬وهم أتباع وأعوان فرعون‪.‬ولعل بني إسرائيل س ّ‬
‫ن الغنائم لم تكن تحل بعد‪،‬أو لّنهم كانوا مستأمنين‪،‬وليس للمستأمن‬ ‫آثام‪،‬فإ ّ‬
‫أن يأخذ مال الحربي‪،‬فقذفوها في النار فكذلك ألقى السامري‪،‬فأخرج لهم‬
‫ي المذابة‪.795‬‬
‫عجل جسدا من تلك الحل ّ‬
‫تدفق الخيرات بين يدي فرعون ابتلء من الله‪،‬ودليل على قوته‬
‫القتصادية‬
‫لم يكن عطاء الله لفرعون علمة رضى وقرب‪،‬بل هوابتلء وامتحان من‬
‫كروا به فتحنا عليهم أبواب كل‬ ‫ما نسوا ما ذ ّ‬
‫الله‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فل ّ‬
‫‪787‬تفسير ابن كثير)‪.(3/391‬‬
‫‪]788‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪] 789‬غافر‪.[36:‬‬
‫‪790‬تفسير الطبري)‪.(20/77‬‬
‫‪]791‬غافر‪.[29:‬‬
‫‪792‬تفسير ابن كثير)‪.(4/79‬‬
‫‪]793‬العراف‪.[148:‬‬
‫‪]794‬طه‪.[88-87:‬‬
‫‪795‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/66‬وتفسير القرطبي)‪(11/235‬وتفسير أبي السعود)‪(3/273‬وتفسير‬
‫النسفي)‪.(2/37‬‬

‫‪134‬‬
‫شيء‪،‬حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم‬
‫مبلسون‘‘‪،796‬أي)حتى إذا فرحوا وُأعجبوا بما أوتوا من الّنعم‪،‬ول يزيدوا غير‬
‫من ْعِم ِ والقيام بحقه سبحانه وتعالى أخذناهم‬
‫البطر والشتغال بالّنعم عن ال ُ‬
‫ُ‬ ‫‪797‬‬
‫بغتة فإذا هم مبلسون متحسرون آيسون( ‪،‬ولهذا فتحت الخيرات على‬
‫فرعون وغمرته‪،‬ولكن إلى أجل‪،‬حتى إذا فرح بما لديه أخذه الله وهو في‬
‫سهوته وسكرته‪.‬فالملك والرخاء والثراء‪-‬كما بّين القرآن الكريم‪-‬لم يكن إل ّ‬
‫فتنة لهم واختبارا‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون‬
‫وجاءهم رسول كريم‘‘‪،798‬أي)أوقعناهم في الفتنة بالمهال وتوسيع‬
‫الرزق عليهم(‪،799‬وابتلهم بالنعمة والسلطان‪،‬والتمكين في الرض‪.‬‬
‫م حان الجل وتركوا تلك المنازل العالية الحسنة والبساتين وعيون‬ ‫ث ّ‬
‫الماء والنهار والموال والرزاق وكنوز الذهب والفضة والملك والجاه الوافر‬
‫والمجالس البهية في الدنيا‪،800‬يقول تعالى‪’’:‬فأخرجناهم من جّنات‬
‫وعيون‪،‬وكنوز ومقام كريم‘‘‪.801‬وكفى بهذا دليل على ما كان القوم‬
‫بزعامة فرعون يملكون‪.‬يقول تعالى‪’’:‬كم تركوا من جّنات‬
‫وعيون‪،‬وزروع ومقام كريم‪،‬ونعمة كانوا فيها‬
‫فاكهين‪.803‘‘802‬أي)عيشة كانوا يتفكهون فيها‪ ،‬فيأكلون ما شاءوا ويلبسون‬
‫سلبوا ذلك جميعه في‬ ‫ما أحبوا مع الموال والجاهات والحكم في البلد‪،‬ف ُ‬
‫‪804‬‬
‫صبيحة واحدة‪،‬وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير( ‪.‬‬
‫مرنا ما كان يصنع فرعون‬ ‫ومن الشواهد أيضا قوله تعالى‪’’:‬ود ّ‬
‫وقومه وما كانوا يعرشون‘‘‪.805‬أي وخربنا ما كان فرعون وقومه‬
‫يصنعونه من العمارات والمزارع‪،‬وما كانوا يعرشون من البنية والقصور‬
‫كصرح هامان وغيرها‪،‬وقيل‪:‬هو تعريش الشجار والثمار والعناب‪،806‬وفي‬
‫ذلك شواهد وأدلة على قوة الوضع القتصادي الذي يتمتع به نظام‬
‫فرعون‪،‬فعندهم عمارات ومزارع وأبنية وقصور‪،‬بل وربما تشير الية بوجه‬
‫من وجوه التفسير‪-‬وأعني التعريش‪ -‬إلى تقدمهم في المجال الزراعي‪،‬الذي‬
‫هو جزء من القوة القتصادية‪.‬‬
‫المال بين يدي الطاغوت وسيلة من وسائل التثبيت لمنهجه‬
‫ونظامه‬
‫ما سبق ندرك قوة فرعون من الّناحية القتصادية‪،‬هذه القوة التي‬ ‫م ّ‬
‫كانت وسيلة من وسائله في تثبيت نظامه وإظهار شخصيته‪،‬فتعددت وجوه‬
‫‪]796‬النعام‪.[44:‬‬
‫‪797‬تفسير البيضاوي)‪.(2/409‬‬
‫‪]798‬الدخان‪.[17:‬‬
‫‪799‬تفسير أبي السعود)‪.(8/61‬‬
‫‪800‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(19/78‬وتفسير البيضاوي)‪(4/240‬وتفسير ابن كثير)‪(3/337‬وفتح‬
‫القدير)‪.(4/101‬‬
‫‪]801‬الشعراء‪.[58-57 :‬‬
‫‪)802‬ونعمة كانوا فيها فكهين أي أشرين)بطرين(‪،‬وفاكهين أي ناعمين(مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬فكه)‬
‫‪.(213‬‬
‫‪]803‬الدخان‪.[27-25:‬‬
‫‪804‬تفسير ابن كثير)‪(4/142‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(16/116‬والدر المنثور)‬
‫‪.(7/411‬‬
‫‪]805‬العراف‪.[137:‬‬
‫‪806‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(9/44‬وتفسير الواحدي)‪(1/411‬وتفسير القرطبي)‪(7/272‬وتفسير ابن‬
‫كثير)‪(2/243‬وتفسير البغوي)‪(2/194‬وتذكرة الريب في تفسير الغريب)‪(1/187‬وتفسير‬
‫الجللين)‪.(1/212‬‬

‫‪135‬‬
‫استعماله للمال‪،‬ولكّنها في نهاية المطاف تصب في إبقاء الّنظام‪،‬وتشد‬
‫م بعد‬ ‫عرش الظلم المتربع فوقه فرعون‪،‬فل ُينفق إل ّ للصد عن سبيل الله‪،‬ث ّ‬
‫هذا تعود عليه بالحسرة والخسران‪.‬‬
‫ن‬
‫لقد كان المال بيد فرعون وسيلة لضلل الناس عن سبيل الله‪،‬ل ّ‬
‫إضلل الّناس شرط لبقائه في حكمه‪)،‬إما بالغراء الذي يحدثه مظهر النعمة‬
‫ما بالقوة التي يمنحها المال لصحابه فيجعلهم قادرين‬ ‫في نفوس الخرين‪،‬وإ ّ‬
‫على إذلل الخرين أو إغوائهم‪.‬ووجود النعمة في أيد المفسدين ل شك‬
‫ن هذه النعمة‬ ‫يزعزع كثيرا من القلوب التي ل يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أ ّ‬
‫ابتلء واختبار‪،‬وأّنها كذلك ليست شيئا ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا‬
‫والخرة‪،807(.‬وهذا ما نفهمه من قول موسى عليه السلم‪’’:‬ربنا إنك آتيت‬
‫فرعون ومله زينة وأموال في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا‪808‬عن‬
‫سبيلك‘‘‪).809‬وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة‬
‫الناس‪.‬ويطلب لوقف هذا الضلل‪،‬ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل‬
‫البغي والغراء‪،‬أن يطمس الله على هذه الموال بتدميرها والذهاب‬
‫بها‪،‬بحيث ل ينتفع بها أصحابها(‪.810‬‬
‫والطاغوت وعبر وسائل مختلفة‪،‬وبين حين وآخر‪،‬يستعرض أمام‬
‫الجماهير في حركة مقصودة ما يملكه من ثروة ومال‪ ،‬ليلفت انتباههم‬
‫من بهرهم‬ ‫فيغريهم ويتمنون أن لو كان لهم مثله‪،‬فيبدأ بعض الضعفاء م ّ‬
‫زخرف الدنيا واستهوتهم العروض القريبة يتقربون منه لنيل رضاه‬
‫ن تلك الموال‬ ‫در في أذهانهم أ ّ‬
‫ما يملك‪،‬ولم ي ُ‬ ‫مبهوتين‪،‬لُينعم عليهم بعضا م ّ‬
‫إّنما جمعها من عرقهم وكدهم وتعبهم‪،‬فلول حرمانهم لما جمع الطاغوت ما‬
‫جمع!‬
‫وبالمال يشتري الطاغوت الذمم وبه ُيغري ضعاف الّنفوس‪،‬إذ لول‬
‫المال الذي يسيطر عليه فرعون لما تكلف السحرة مشاقّ السفر إلى‬
‫ل الحرص على الفوز والنتصار‪،‬ولما كانوا‬ ‫القصور الفرعونية‪،‬ولما حرصوا ك ّ‬
‫ت طيعة بيد فرعون‪.‬لقد فهم فرعون تلك الّنفوس‪،‬وأدرك أهداف‬ ‫أدوا ٍ‬
‫السحرة وغاياتهم‪،‬ولهذا أجابهم إلى مطلبهم‪،‬وزادهم عليه تحفيزا لهم في‬
‫ساعة اشتدت الحاجة إليهم‪،‬فجعل ‪-‬لعنه الله‪-‬يعدهم ويمّنيهم‪،‬وما يعدهم‬
‫ن لنا‬‫فرعون إل ّ غرورا‪.‬يقول تعالى‪’’:‬وجاء السحرة فرعون قالوا إ ّ‬
‫لجرا إن كّنا نحن الغالبين‪،‬قال نعم وإّنكم لمن‬
‫المقربين‘‘‪.811‬فالمصلحة بينهم متبادلة‪،‬والمال هو القاسم المشترك بين‬
‫من يملكه وبين من يرغب في الحصول عليه‪.‬وتلك هي المعادلة التي تجعلنا‬
‫‪807‬في ظلل القرآن)‪.(4/470‬‬
‫‪)808‬لم يؤتوا المال ليضلوا‪،‬ولكن لما كان عاقبة أمرهم الضلل كانوا كأنهم أوتوها لذلك‪،‬فهي لم‬
‫العاقبة‪..‬هذا كله على مذهب الكوفيين‪،‬وأما البصريون فالنصب عندهم بإضمار إن وهما جارتان‬
‫للمصدر واللم الجارة هي لم الضافة‪،‬واعلم إن الناصبة للمضارع تجيء لسباب‪:‬منها القصد‬
‫والرادة إما في الثبات نحو ولتنذر أم القرى‪،‬أو النفي نحو وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إل‬
‫لنعلم‪،‬فهو على تقدير حذف المضاف أي لنعلم ملئكتنا وأولياءنا‪،‬ويجوز أن يكون تعالى خاطب‬
‫الخلق بما يشاكل طريقتهم في معرفة البواطن والظواهر على قدر فهم المخاطب‪.‬وقد تقع‬
‫موقع أن وإن كانت غير معلولة لها في المعنى وذلك إن كان الكلم متضمنا لمعنى القصد‬
‫والرادة نحو‪:‬وأمرنا لنسلم لرب العالمين‪،‬إنما يريد الله ليعذبهم بها‪،‬ومنها العاقبة على ما‬
‫سبق(البرهان في علوم القرآن)‪.(349-4/348‬‬
‫‪]809‬يونس‪.[88:‬‬
‫‪810‬في ظلل القرآن)‪.(4/470‬‬
‫‪]811‬العراف‪.[114-113:‬‬

‫‪136‬‬
‫نفهم لماذا تحتشد الجموع من الخطباء والشعراء والدباء وحتى بعض علماء‬
‫الدين على أبواب السلطان يعرضون قدراتهم ومهاراتهم مقابل الدرهم‬
‫والدينار…‬
‫والمال بين يدي الطاغوت وسيلة للتفرقة بين الّناس‪،‬فالمستفيد من‬
‫الحكومة يواليها‪،‬ويدافع عنها لّنها تمثل مصالحه‪،‬مهما كانت هذه الحكومة‬
‫طاغية وظالمة‪،‬فإن لم يكن من المدافعين فلن يكون من المتمردين عليها‬
‫ن هذه الفئة تدرك أن رفاهّيتها لم تكن إل ّ على‬ ‫أو المطالبين بتغييرها‪،‬مع أ ّ‬
‫حساب المحرومين من حقوقهم‪،‬وكفى بهذا تأجيجا للبغضاء والعداوة بين‬
‫الّناس‪.‬وقد أتقن فرعون هذه السياسة حيث)أغرى بينهم العداوة كي ل‬
‫يتفقوا عليه‪،‬يكرم طائفة ويهين أخرى‪،‬فأكرم القبطي وأهان‬
‫ن فرعون عل في الرض وجعل أهلها‬ ‫السرائيلي(‪.812‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫شيعا‘‘‪.813‬فتحول المال بين يدي الطاغوت من نعمة إلى لعنة!‬
‫وبهذا أصبح المال وسيلة في تثبيت الّنظام الفرعوني‪،‬حيث دافعت‬
‫الفئات المستفيدة عن الّنظام كالمل من قوم فرعون وآل فرعون ومن‬
‫قبلهم هامان وزيره ومدير أعماله والمشرف على تنفيذ‬
‫خططه‪،‬فالمستفيدون من الّنظام هم المدافعون عنه‪،‬وهم أيضا الرافضون‬
‫دين الجديد الذي يجردهم من امتيازاتهم كما بّينا سالفا‬ ‫لل ّ‬
‫ازدياد تأثير المال في ظل طغيان المفهوم المادي للحياة في‬
‫عهد فرعون‬
‫وازدادت سيطرة فرعون القتصادية على الّناس والجماهير مع ازدياد‬
‫تعلقهم بمتاع الدنيا وازدياد حبهم لها‪،‬فكلما كان الّناس أشدا حبا للمال‬
‫وتعلقا به كان إغراؤهم به أيسر‪،‬وفي هذا بعض التفسير لفاعلية هذه‬
‫الوسيلة في نظام فرعون‪،‬حيث سادت في زمن فرعون العقلية المادّية مع‬
‫غياب عقيدة اليوم الخر‪،‬وبسبب العقائد التي كانت سائدة في ذلك الزمان‬
‫سحرة‬ ‫والمفاهيم المغلوطة عن الحياة‪،‬ويكفي للدللة على هذا موقف ال ّ‬
‫الذين يمثلون الّنخبة من طبقة الكهنة وهم يقفون بين يدي فرعون ل‬
‫ما جاء السحرة قالوا‬ ‫يطلبون غير الدرهم والدينار‪.‬يقول تعالى’’فل ّ‬
‫ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين‪،‬قال نعم وإّنكم إذا‬ ‫لفرعون أئ ّ‬
‫‪814‬‬
‫دين في هذا‬ ‫لمن المقربين‘‘ ‪.‬فإذا كان هذا حال الطبقة التي تمثل ال ّ‬
‫المستوى من التفكير والنحطاط‪،‬فكيف الحال بباقي الطبقات؟!‬
‫ل على طغيان المفهوم المادي على الّناس والمجتمع نصيحة‬ ‫ما يد ّ‬
‫وم ّ‬
‫وموعظة مؤمن آل فرعون لقومه حين قال لهم‪’’:‬يا قوم إّنما هذه‬
‫ن الخرة هي دار القرار‘‘‪.815‬أي)ما هذه الحياة‬ ‫دنيا متاع وإ ّ‬ ‫الحياة ال ّ‬
‫الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إل متاع تستمتعون بها إلى أجل‬
‫أنتم بالغوه ثم تموتون وتزول عنكم‪،‬وإن الخرة هي دار القرار التي‬
‫تستقرون فيها فل تموتون ول تزول عنكم‪،‬فلها فاعملوا وإياها‬
‫دنيا التي تعّلقوا بها وامتلت قلوبهم‬ ‫فاطلبوا(‪.816‬فهو يذكرهم بحقيقة هذه ال ّ‬

‫‪812‬تفسير البيضاوي)‪(4/282‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪.(3/226‬‬


‫‪]813‬القصص‪.[14:‬‬
‫‪]814‬الشعراء‪.[42-41:‬‬
‫‪]815‬غافر‪.[39:‬‬
‫‪816‬تفسير الطبري)‪.(24/67‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/94‬وتفسير القرطبي)‪(15/317‬وتفسير‬
‫أبي السعود)‪(7/277‬وزاد المسير)‪.(7/224‬‬

‫‪137‬‬
‫ن الخرة هي دار القرار‪.‬قال لهم ذلك‬ ‫بحبها‪،‬فهي متاع زائل ل قيمة له‪،‬وأ ّ‬
‫دنيا الزائل‪،‬فلول هذه العلة التي يعاني منها القوم لما‬ ‫لّنهم تعلقوا بمتاع ال ّ‬
‫كان خطابه لهم بهذه الصيغة‪.‬‬
‫فاجتمع لفرعون أمران‪:‬قوم يحبون المال‪،‬وثروة بين يديه‪،‬حيث كان‬
‫فرعون صاحب ثروة ومال‪،‬فاستغل قوته المالية والقتصادية في تدعيم‬
‫شخصيته وتمرير مخططاته‪.‬‬
‫ارتباط السيطرة القتصادية مع السيطرة العسكرية‬
‫ما ساعد فرعون في ازدياد سيطرته القتصادية ازدياد سيطرته‬ ‫وم ّ‬
‫العسكرية المتمثلة بالجيش)الجنود(والمخابرات والشرطة التي كانت‬
‫ما يشكل في مجمله القوة‬ ‫تشرف على السجون‪،‬وغير ذلك م ّ‬
‫العسكرية‪.‬فالقوة تلزم فرعون في حماية الممتلكات الواقعة في قبضته‬
‫قى من أملك وثروات لدى الجماهير إن‬ ‫وفي عمليات السلب والّنهب لما تب ّ‬
‫بقي منها شيء‪.‬‬
‫وة القتصادية والقوة‬ ‫ي بين الق ّ‬‫ومن هنا نفهم الترابط الجدل ّ‬
‫العسكرية‪،‬فالزيادة هنا تعني الزيادة هناك‪،‬والعكس صحيح تماما‪،‬وهي‬
‫ل مرة يحكم بها الطاغوت وُيقصى فيها الحكم بما‬ ‫المعادلة الموجودة في ك ّ‬
‫أنزل الله‪،‬فالحكم حينئذ لحق القوة ل لقوة الحق‪.‬‬
‫وهكذا يعيد التاريخ نفسه‪،‬ونشاهد الساطيل والقطع الحربية وهي‬
‫طاقة كونها عصب‬ ‫تزحف بشتى المعاذير للسيطرة على منابع الّنفط وال ّ‬
‫الحياة المعاصرة‪،‬في زمن سيطرت فيه الرأسمالية على مناحي الحياة‪،‬وما‬
‫صاحب تلك السيطرة من تحطيم للمعاني النسانية؛فانتشرت المذاهب‬
‫ن السيطرة القتصادية للدول الغنية والقوية‬ ‫النفعية والوصولية؛ذلك أ ّ‬
‫عسكريا‪،‬أو الدول الصناعية والشركات الكبرى توسعت حتى أصبحت تشمل‬
‫كل العالم ضمن مفهوم العولمة الحديث‪،‬واستطاعت تلك الدول أن تفرض‬
‫بقوتها العسكرية شكل المعاملت المالية الدولية؛فالطاغوت القتصادي‬
‫المعاصر هو الذي يتحكم في السوق ورأسمال ومصادر الثروة والتجارة‬
‫العالمية‪.‬‬
‫وفي المقابل نشاهد شعوبا ودول قد غرقت بالديون التي تقدر‬
‫بالمليارات نتيجة لهذه الهيمنة القتصادية القائمة على الّنظام الربوي؛‬
‫فانقسم العالم إلى فئة قليلة من الغنياء وأغلبية من الفقراء‪،‬ودول غنية‬
‫ما أسس لنمو الّنظام‬ ‫ترفل بالّنعيم وأخرى تأكلها الزمات القتصادية‪،‬م ّ‬
‫الطبقي وما يتبع ذلك من أمراض اجتماعية ونفسية خطيرة تهدد الوجود‬
‫النساني برمته‪.‬فالمور تزداد سوءا مع طغيان المفهوم المادي الّنفعي‬
‫العلماني للحياة‪،‬فالذي يحكم العلقات الدولية هي المصلحة النفعية‬
‫المادية‪،‬ولم يُعد للقيم والخلق أي أثر في المعادلت الدولية‪.‬‬
‫وهنا ل بد ّ من ملحظة أن ما تقوم به بعض الدول من جدولة للديون أو‬
‫شطب قسم منها أو التنفيس بين الفينة والخرى عن الفقراء في العالم‬
‫ليس شفقة أو رحمة بل هو خوف من حدوث انفجار عند الفقراء‪-‬دول كانوا‬
‫أو أفرادا‪-‬قد تكون له نتائج عكسية‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫السيطرة العسكرية‬
‫ن القوة العسكرية ركيزة مهمة اعتمدها فرعون في تثبيت منهجه‬ ‫إ ّ‬
‫وطريقة حكمه‪،‬حيث ل بد ّ لي نظام من قوة تحميه‪،‬وتعمل على تنفيذه في‬
‫حياة الّناس‪،‬وتشتد ّ الحاجة إلى القوة إذا كان هذا الّنظام جائرا وظالما‪،‬لّنه‬
‫عند ذلك يزرع بظلمه وطغيانه بذرة التمرد والثورة‪،‬وبسبب إدراك فرعون‬
‫لهذه الحقيقة فإّنه كان يولي أهمية قصوى إلى القوة العسكرية التي بها‬
‫يستطيع قمع أيّ تمرد أو الثورة؛فهو على حذر شديد‪،‬حيث يقول تعالى‬
‫حكاية لقول فرعون‪’’:‬وإّنا لجميع حاذرون‘‘‪.817‬أي متيقظون منتبهون‬
‫متأهبون مستعدون بالسلح خائفون شرهم‪،‬فنحن قوم من عادتنا التيقظ‬
‫والحذر والحتياط‪،818‬وهكذا هو الطاغوت في حذر دائم وانتباه‪،‬فحشد القوة‬
‫والتأهب بالسلح دليل على خوفه من أن تتمرد الجماهير المظلومة‬
‫والمقهورة عليه‪،‬فهو‪-‬لعنه الله‪-‬يعلم أّنه ظالم معتد أثيم‪.‬‬
‫وظهرت أهمية هذه القوة من خلل عمليات القتل والذبح والتعذيب في‬
‫السجون وغيرها التي كان ُيراد منها تركيع الجماهير وإخضاعهم لرادة‬
‫فرعون‪،‬إذ لول تلك القوة لما استطاع فرعون تسخير الغلبية من الجماهير‬
‫مقابل لقمة العيش والبقاء على قيد‬ ‫في العمال الشاقة والمتعبة في ُ‬
‫ن القوة هي الداة التي أرهبت الّناس وأجبرتهم على قبول‬ ‫الحياة‪،‬كما أ ّ‬
‫ربوبيته المزعومة وألوهيته الكاذبة‪.‬‬
‫ل الظلم‬ ‫ن الواقع المّر التي كانت تعيشه أغلبية الجماهير في ظ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫والطغيان جعل فرعون يحتاج إلى أدوات قمع جّبارة‪،‬بها يسكت الجماهير‬
‫وبواسطتها له يخضعون‪،‬فكان له جيش جّرار ومخابرات مبثوثة هنا‬
‫مات‪.‬ولكي نقف على حقيقة قدراته‬ ‫ُ‬
‫وهناك‪،‬وشرطة أنيطت بها المه ّ‬
‫العسكرية ل بد ّ لنا من تتبع الّنصوص القرآنية التي من خللها نعرف أجهزة‬
‫فرعون العسكرية وتشكيلتها‪،‬وهي على النحو الّتالي‪:‬‬
‫الجيش وهم جنود فرعون الذين يحملون السلح‪،‬ويباشرون المعارك‬
‫ميه‬
‫دولة ضد ّ فئة كبيرة ذات ثقل عسكري‪،‬وهو ما ُنس ّ‬ ‫التي تخوضها ال ّ‬
‫بالجيش الّنظامي‪،‬وهم الذين مهنتهم حمل السلح‪،‬والمحافظة على وجود‬
‫الدولة ككل‪،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪’’:‬فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا‬
‫وعدوا‘‘‪.819‬وقوله تعالى‪’’:‬فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من‬
‫‪]817‬الشعراء‪.[56:‬‬
‫‪818‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(13/102‬والدر المنثور)‪(6/297‬ومعاني القرآن)‪(5/80‬والثوري‪:‬أبو عبد‬
‫الله‪،‬سفيان بن سعيد بن مسروق‪)،‬ت ‪161‬هـ(‪،‬تفسير سفيان الثوري‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،1‬دار‬
‫الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1403،‬هـ‪،(1/229).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير الثوري(وتفسير‬
‫الواحدي)‪(2/790‬والفائق)‪(3/235‬وروح المعاني)‪.(19/82‬‬
‫‪]819‬يونس‪.[60:‬‬

‫‪139‬‬
‫م ما غشيهم‘‘‪.820‬وقوله تعالى‪’’:‬واستكبر هو وجنوده في الرض‬ ‫الي ّ‬
‫‪821‬‬
‫بغير الحق وظّنوا أّنهم إلينا ل يرجعون‘‘ ‪.‬وقوله تعالى‪’’:‬فأخذناه‬
‫م وهو مليم‘‘‪.822‬حيث تحدثت اليات في‬ ‫وجنوده فنبذناهم في الي ّ‬
‫مجملها عن استعمال فرعون جيشه وجنوده في مهمة ملحقة بني إسرائيل‬
‫سلم‪،‬وذلك عندما خرجوا من مصر سرا في جنح‬ ‫بقيادة موسى عليه ال ّ‬
‫ّ‬
‫ظلم‪،‬حيث لم يكن خروجهم في الساس إل لكونهم ل يستطيعون مجابهة‬ ‫ال ّ‬
‫ل عليه قول فرعون عن‬ ‫ل على كثرة عدده‪.‬وهذا ما يد ّ‬ ‫ما يد ّ‬ ‫جيش فرعون‪،‬م ّ‬
‫ن هؤلء‬ ‫م بملحقتهم‪’’:‬إ ّ‬ ‫بني إسرائيل وهو يه ّ‬
‫لشرذمة‪823‬قليلون‘‘ ‪.‬وإّنما استقلهم مقارنة مع جنوده ‪،‬وهذه دللة‬
‫‪825‬‬ ‫‪824‬‬

‫واضحة على كثرة جنده‪،‬وعلى شدة الخطر الذي مّثلته دعوة موسى على‬
‫وجود الّنظام الفرعوني‪.‬‬
‫وكما امتاز جيش فرعون بكثرة عدده امتاز كذلك بقوة تنظيمه وسرعة‬
‫ل على النضباط الّتام في صفوفه‪،‬حيث يقول‬ ‫ما يد ّ‬
‫حركته‪،‬م ّ‬
‫تعالى‪’’:‬فأرسل فرعون في المدائن حاشرين‘‘ ‪.‬فما هي إل ّ‬
‫‪826‬‬

‫ساعات قليلة بين علم فرعون بخروج بني إسرائيل وأمره بالستنفار العام‬
‫والتعبئة العامة وبين لحاقه بهم بهذا الحشد الهائل من الجنود‪.‬فها هم بنو‬
‫ظلم ليل‪،‬وها هو‬ ‫سلم يخرجون تحت جنح ال ّ‬ ‫إسرائيل بقيادة موسى عليه ال ّ‬
‫‪827‬‬
‫فرعون يتبعهم وقت شروق الشمس‪’’،‬فأتبعوهم مشرقين‘‘ ‪.‬أي‬
‫لحقوهم وقت دخولهم في شروق الشمس وهو طلوعها‪،‬حيث أشرقت‬
‫ل على سرعة حركتهم‪.‬‬ ‫ما يد ّ‬ ‫‪828‬‬
‫الرض بالضياء ‪،‬م ّ‬
‫ل شأنه في‬ ‫ن مهمتهم كانت مهمة بغي وعدوان‪،‬أغرقهم الله ج ّ‬ ‫وبما أ ّ‬
‫ل من كان‬ ‫ّ‬
‫البحر عقوبة لهم لكونهم وسيلة بيد الطاغية المتجبر فرعون‪،‬فك ّ‬
‫سببا أو وسيلة في نظام الظالمين فهو ظالم مثلهم‪.‬‬
‫ل عليهم‪،‬ولكن‬ ‫صًا‪،‬فإّنه ذكرهم بعبارة تد ّ‬ ‫وكما ذكر القرآن جنود فرعون ن ّ‬
‫لعطاء معنى آخر وفائدة أخرى‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وفي موسى إذ أرسلناه‬
‫إلى فرعون بسلطان مبين‪،‬فتوّلى بركنه‪829‬وقال ساحر أو‬
‫م وهو مليم‘‘‪.830‬والمعنى‬ ‫مجنون‪،‬فأخذناه وجنوده فنبذناهم في الي ّ‬
‫ن الله سبحانه وتعالى أرسل موسى إلى فرعون بسلطان مبين أي بحجة‬ ‫أ ّ‬
‫‪]820‬طه‪.[78:‬‬
‫‪]821‬القصص‪.[39:‬‬
‫‪]822‬الذاريات‪.[40:‬‬
‫مى شرذمة‪،‬والجمع شراذم‪..‬وثياب‬ ‫الشرذمة القليل من الّناس‪..‬والقطعة من الشيء ُتس ّ‬
‫‪823‬‬

‫شراذم أي أخلق متقطعة‪.‬وانظر‪:‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬شرذم)‪.(12/322‬‬


‫‪]824‬الشعراء‪.[54:‬‬
‫ماهم فرعون شرذمة قليلون!‬ ‫ن بني إسرائيل كانوا ينيفون عن ستمائة ألف‪،‬ومع هذا س ّ‬ ‫‪ُ 825‬‬
‫ذكر أ ّ‬
‫انظر‪:‬تاريخ الطبري)‪(1/246‬والبداية والنهاية)‪(1/270‬والصبهاني‪:‬أبو نعيم‪،‬أحمد بن عبد الله‪)،‬ت‬
‫‪430‬هـ(‪،‬حلية الولياء وطبقات الصفياء‪10،‬أجزاء‪،‬ط ‪،4‬دار الكتاب العربي‪،‬بيروت‪1405،‬هـ‪.‬‬
‫)‪. (4/207‬وسأشير إليه لحقا هكذا)حلية الولياء(‪.‬‬
‫‪]826‬الشعراء‪.[53:‬‬
‫‪]827‬الشعراء‪.[6:‬‬
‫‪828‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(19/78‬وتفسير القرطبي)‪(13/105‬وتفسير ابن كثير)‪(3/337‬ومعاني‬
‫القرآن)‪(5/83‬وتفسير البغوي)‪.(3/387‬‬
‫‪) 829‬ركن الشيء جانبه القوى‪،‬و الركن الناحية القوية وما تقوى به من ملك وجند وغيره‪،‬وبذلك‬
‫فسر قوله عز وجل‪):‬فتولى بركنه(ودليل ذلك قوله تعالى‪):‬فأخذناه وجنوده(أي أخذناه و ركنه‬
‫الذي تولى به‪.‬والجمع أركان و أركن(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬ركن)‪.(13/185‬‬
‫‪]830‬الذاريات‪.[40-38:‬‬

‫‪140‬‬
‫بينة كالعصا واليد‪،‬فأعرض فرعون عن اليمان بموسى وتوّلى بما كان يتقوى‬
‫به من جنوده‪،‬وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به‪،‬ومنه قوله‬
‫تعالى‪’’:‬أو آوي إلى ركن شديد‘‘‪،831‬يعني المنعة والعشيرة‪،‬وركن الشيء‬
‫جانبه القوى‪،‬وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعة‪،‬وهذا عبارة عن‬
‫المبالغة في العراض عن الشيء‪.832‬ويؤيد هذا الوجه في التفسير قوله‬
‫تعالى بعد ذلك‪’’:‬فأخذناه وجنوده‘‘‪،‬أي أخذناه وركنه الذي توّلى به‪،‬وهذا‬
‫الوجه في التفسير هو اختيار الطبري‪.833‬‬
‫ن فرعون رفض اليمان معتمدا على جنوده‪،‬فلول‬ ‫والشاهد في الية أ ّ‬
‫ل على‬ ‫ما يد ّ‬ ‫هذا الركن الذي توّلى به لما تطاول فرعون ك ّ‬
‫ل هذا التطاول‪،‬م ّ‬
‫ن جيش فرعون وسيلة من وسائله في رد ّ الحق ورفضه‪،‬وبالّتالي وسيلة‬ ‫أ ّ‬
‫لتثبيت الباطل على حساب الحق‪.‬‬
‫ومن الدلة التي تثبت دور الجيش في تثبيت الّنظام الفرعوني قوله‬
‫تعالى‪’’:‬وفرعون ذو الوتاد‪.835‘‘834‬وقوله تعالى‪’’:‬وفرعون ذي‬
‫الوتاد‘‘‪ .836‬أي ذو الجنود الكثيرة فسميت الجنود أوتادا لنهم يقوون أمره‬
‫كما يقوي الوتد البيت‪،‬وهذا ما نرجحه‪،‬لّنه ليمكن لدولة أن تقوم بل جيش‬
‫ن الجيش أهم وتد في قيامها ووجودها‪.837‬‬ ‫تعتمد عليه‪،‬وكأ ّ‬
‫ن هذا الجيش الجّرار ل بد ّ له من مستلزمات‬ ‫بعد هذا يمكننا أن نستنتج أ ّ‬
‫تابعة له‪،‬حيث ل يقوم الجيش بدونها‪،‬كالسيوف والرماح والّنبال وغير ذلك‬
‫من وسائل قتالية‪،‬وما يتبع ذلك من تصنيع لتلك الوسائل‪،‬وهذا وإن لم يذكره‬
‫ما يؤكد قدرات فرعون‬‫ذكر‪.‬م ّ‬‫ل عليه بما ُ‬ ‫القرآن الكريم إل ّ أّنه د ّ‬
‫العسكرية‪،‬ويتبع ذلك أيضا كثرة الخيل والجمال كوسائل نقل في ذلك‬
‫الزمان‪،‬وبناء المعسكرات الخاصة بالجند وما تستلزمه تلك المعسكرات من‬
‫تموين وخيام وغير ذلك‪.‬‬
‫وتشمل السيطرة العسكرية جهاز المخابرات أو الجواسيس‬
‫والعيون التي يبثها فرعون هنا وهناك‪،‬يلتقطون أخبار الّناس ويراقبون‬
‫حركتهم؛فالجماهير المقموعة تتجه إلى السرّية في حركتها‪،‬حيث لم يبق لها‬
‫أيّ مساحة فوق الرض تتحرك فيها بأمان واطمئنان‪،‬ولهذا تنشأ الحركات‬
‫السرّية‪،‬ولها ُتنشيء الحكومة أجهزة الرقابة والمتابعة والملحقة‪.‬‬

‫‪]831‬هود‪.[80:‬‬
‫‪832‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/239‬وتفسير القرطبي)‪(17/49‬وتفسير أبي السعود)‪(8/142‬وفتح‬
‫القدير)‪(5/90‬وروح المعاني)‪(27/15‬وفتح الباري)‪.(6/416‬‬
‫‪)833‬فتولى بركنه(أي)بقومه من جنده وأصحابه‪،‬وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن‬
‫اختلفت ألفاظ قائليه فيه(تفسير الطبري)‪.(27/3‬وانظر‪:‬الدر المنثور)‪(7/621‬وتفسير الصنعاني)‬
‫‪(3/244‬وتذكرة الريب في تفسير الغريب)‪.(1/179‬‬
‫‪)834‬ذو الوتاد‪:‬صفة فرعون ل لجميع ما قبله وإل لقيل ذوو الوتاد(روح المعاني)‪.(23/170‬‬
‫‪]835‬ص‪.[12:‬‬
‫‪]836‬الفجر‪.[10:‬‬
‫‪837‬ورد في تفسير الية وجوه متعددة فقد قيل أّنها بمعنى البناء المحكم‪،‬أو كثير البنيان والبنيان‬
‫يسمى أوتادا‪،‬وقيل‪:‬أنه كانت له أوتاد وأرسان وملعب يلعب له عليها‪،‬وقيل‪:‬كان يعذب الناس‬
‫بالوتاد‪،‬وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الرض ويرسل عليه العقارب‬
‫والحيات حتى يموت‪،‬وقيل‪:‬كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية‬
‫مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت‪.‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(155-15/154‬ومعاني‬
‫القرآن)‪(6/85‬وتفسير أبي السعود)‪(7/217‬وتفسير الواحدي)‪(2/920‬وزاد المسير)‬
‫‪.(7/105،106‬‬

‫‪141‬‬
‫م موسى‬ ‫ل ما سبق‪،‬فها هي أ ّ‬ ‫ن من يتدبر النصوص يمكنه معرفة ك ّ‬ ‫إ ّ‬
‫عليه السلم تخاف على ابنها القتل‪،‬وبالتالي تحاول إخفاءه عن العيون التي‬
‫تراقب وتلحق‪،‬وقد ضاقت عليها الرض بما رحبت‪،‬وهنا تدركها رحمة الله‬
‫سبحانه وتعالى‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا‬
‫م ول تخافي ول تحزني إّنا رادوه إليك‬ ‫خفت عليه فألقيه في الي ّ‬
‫‪838‬‬
‫وجاعلوه من المرسلين‘‘ ‪.‬أي أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه‪،‬فإذا خفت‬
‫عليه من جواسيس فرعون بأن يبلغ خبره إليه أو أن يحس به فألقيه في‬
‫م في البحر يريد النيل‪،‬ول تخافي عليه ضيعة ول شدة‪،‬ول تحزني لفراقه؛‬ ‫الي ّ‬
‫إّنا رادوه إليك عن قريب بحيث تأمنين عليه‪،‬وجاعلوه من‬
‫المرسلين‪.839‬والشاهد في الية أّنها خافت أن تحس به عيون فرعون‬
‫وجواسيسه‪.‬‬
‫وها هو موسى عليه السلم‪-‬بعد أن قتل القبطي المعتدي الظالم‪-‬خائف‬
‫يترقب‪’’،‬فأصبح في المدينة خائفا يترقب‘‘‪.840‬حتى إذا)جاء موسى‬
‫مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره وأشار عليه بالخروج(‪،841‬حينئذ‬
‫خرج وهو على حذر من إلقاء القبض عليه؛وذلك معنى قوله تعالى‪’’:‬فخرج‬
‫جه بالدعاء‬ ‫منها خائفا يترقب‘‘‪.842‬أي خائفا يترقب لحوق طالب‪،‬ولذلك تو ّ‬
‫إلى ربه قائل‪:‬رب نجني من القوم الظالمين‪،‬أي خلصني منهم واحفظني من‬
‫ن لفرعون أجهزة مراقبة وملحقة‪،‬تلك‬ ‫لحوقهم‪.843‬وفي هذا دليل على أ ّ‬
‫الجهزة التي جعلت مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه‪،‬إذ لول شعوره وإدراكه‬
‫بوجود تلك الجهزة لما كتم مشاعره وأفكاره‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وقال رجل‬
‫مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجل أي يقول ربي‬
‫الله‘‘‪.844‬‬
‫ولول جهاز المخابرات لما استطاع فرعون أن يكشف بني إسرائيل عند‬
‫خروجهم سرا وفي الليل‪،‬ودليل ذلك قوله تعالى لموسى عليه‬
‫السلم‪’’:‬فأسر بعبادي ليل‘‘‪) .845‬والسري ل يكون إل ليل‪،‬فالّنص عليه‬
‫م لليحاء‬ ‫يعيد تصوير المشهد‪،‬مشهد السري بعباد الله –وهم بنو إسرائيل ‪.‬ث ّ‬
‫ن سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء‬ ‫بجو الخفية‪،‬ل ّ‬
‫عملئه(‪،846‬ورغم هذا التكتم والسرية علم فرعون‪،‬وهذا يدل‪-‬أيضا‪-‬على قوة‬
‫الستخبارات الفرعونية التي هي جزء من القوة العسكرية‪.‬‬
‫ن اعتماد فرعون على المخابرات إفراز طبيعي للّنظام الحاكم‪،‬حيث ل‬ ‫إ ّ‬
‫يمكن للظلم أن يدوم لول هذا القهر والرهاب‪،‬فهي وسيلة الطغاة في تثبيت‬
‫حكمهم الذي يفرز تلك الشخصيات المعفرة بدماء الشعوب المستضعفة‪.‬‬
‫كما تشمل قوة فرعون العسكرية جهاز الشرطة والذي يقوم بمهام‬
‫ميه اليوم شرطة مصلحة السجون‪.‬ودليل ذلك قوله تعالى‬ ‫السجون‪،‬أو ما نس ّ‬

‫‪]838‬القصص‪.[7:‬‬
‫‪839‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/283‬وفتح القدير)‪(4/159‬وروح المعاني)‪.(20/45‬‬
‫‪]840‬القصص‪.[18:‬‬
‫‪841‬تفسير الطبري)‪.(20/50‬‬
‫‪]842‬القصص‪.[21:‬‬
‫‪843‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/288‬وتفسير أبي السعود)‪(7/8‬وفتح القدير)‪(4/165‬وتفسير‬
‫النسفي)‪(3/231‬وروح المعاني)‪.(20/59‬‬
‫‪]844‬غافر‪.[28:‬‬
‫‪]845‬الدخان‪.[23:‬‬
‫‪846‬في ظلل القرآن)‪.(7/367‬‬

‫‪142‬‬
‫حكاية لقول فرعون لموسى عليه السلم‪’’:‬قال لئن اتخذت إلها غيري‬
‫لجعلنك من المسجونين‘‘‪ ).847‬أي ممن عرفت حالهم في سجوني‪،‬فإّنه‬
‫كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من‬
‫لسجنك(‪،848‬فالسجن من سياسات فرعون المعهودة والمعروفة بين‬
‫الّناس‪،‬وبالتالي يلزم تلك السجون شرطة تقوم على تعذيب المساجين‬
‫وقمعهم وحراستهم حتى ل يفروا من جحيم الطاغوت!‬
‫جنود الطاغوت خاطئون‬
‫ن الطاغوت‪-‬كما أسلفنا‪-‬فرد ل يستطيع مهما أوتي من مهارات‬ ‫إ ّ‬
‫وقدرات فردّية من إخضاع الّناس وسحقهم‪،‬فهو إّنما يقوم بما يقوم به بمن‬
‫ن جنود الّنظام الثم مثله آثمون لّنهم يقومون‬ ‫شايعه وناصره‪،‬ول شك أ ّ‬
‫ن فرعون وهامان وجنودهما‬ ‫بتثبت الظلم والعدوان‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫كانوا خاطئين‘‘‪ .849‬أي كانوا خاطئين)في كل شيء‪،‬فليس ببدع منهم أن‬
‫م أخذوه ُيربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا‬ ‫قتلوا ألوفا لجل موسى‪،‬ث ّ‬
‫‪850‬‬
‫م‬
‫يحذرون‪،‬أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم( ‪.‬ث ّ‬
‫هذه نهايتهم أن عاقبهم الله مع فرعون فأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ذلك لّنهم‬
‫ظالمون مثل فرعون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأخذناه وجنوده فنبذناهم في‬
‫اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‘‘‪.851‬وهنا ل بد ّ أن ُنشير‬
‫ن أجهزة المن والمخابرات والجيش‪..‬وكل ما من شأنه إطالة أمد‬ ‫بصراحة أ ّ‬
‫ن هؤلء هم أدوات القمع‬ ‫الظلم هم من جملة الظالمين‪.‬والواقع يقول‪:‬إ ّ‬
‫ق عند الطواغيت‪.‬‬ ‫ح ِ‬‫س ْ‬‫وال َ‬
‫وسائل فرعون تنتج نظاما يمتاز بالقوة المادية والخواء الروحي‬
‫ن الوسائل التي اعتمدها فرعون أدت إلى نظام يمتاز بالقوة‬ ‫إ ّ‬
‫والمتانة‪،‬تلك النتائج التي بّينها القرآن في قوله تعالى‪’’:‬وفرعون ذو‬
‫مث َّبت‬ ‫‪852‬‬
‫الوتاد‘‘ ‪.‬أي ذو الملك الثابت بالوتاد‪،‬وهو مأخوذ من ثبات البيت ال ُ‬
‫بالوتاد‪.‬أو ذو البناء المحكم‪،‬أو كثير البنيان والبنيان يسمى أوتادا‪ ،‬وقيل‪:‬ذو‬
‫الوتاد أي ذو الجنود الكثيرة‪،‬فسميت الجنود أوتادا لّنهم يقوون أمره كما‬
‫يقوي الوتد البيت‪،853‬أو) فرعون صاحب الهرامات التي تقوم في الرض‬
‫كالوتاد(‪،854‬وهي ما زالت ماثلة إلى اليوم‪.‬‬
‫ن الختلف في هذه المعاني إختلف تنوع ل اختلف تضاد‪،‬فجميعها‬ ‫ولنا أ ّ‬
‫ن قوة الّنظام تنعكس على شخصية‬ ‫تدل على قوة وثبات حكمه‪.‬ول شك أ ّ‬
‫ن)ذو الوتاد‪:‬صفة فرعون ل لجميع ما قبله وإل لقيل ذوو‬ ‫فرعون نفسه؛ل ّ‬
‫الوتاد(‪.855‬‬

‫‪]847‬الشعراء‪.[29:‬‬
‫‪ 848‬تفسير البيضاوي)‪.(4/236‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(6/240‬وتفسير النسفي)‪(3/183‬وروح‬
‫المعاني)‪.(19/73‬‬
‫‪]849‬القصص‪.[8:‬‬
‫‪850‬تفسير البيضاوي)‪.(4/283‬‬
‫‪]851‬القصص‪.[40-39:‬‬
‫‪]852‬الفجر‪.[10:‬‬
‫‪853‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(155-15/154‬وتفسير البيضاوي)‪(39-5/38‬ومعاني القرآن)‪.(6/85‬‬
‫‪854‬في ظلل القرآن)‪.(7/90‬‬
‫‪855‬روح المعاني)‪.(23/170‬‬

‫‪143‬‬
‫مرنا ما كان يصنع‬ ‫ومن الدلة على قوة فرعون قوله تعالى‪’’:‬ود ّ‬
‫ن الله جّلت‬ ‫فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘‪.856‬والمعنى أ ّ‬
‫قدرته)أهلك ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع‪،‬وما‬
‫كانوا يعرشون أي وما كانوا يبنون من البنية والقصور‪،‬وأخرجهم من ذلك‬
‫كله‪،‬وخّرب جميع ذلك(‪.857‬وهذا يعني أّنهم كانوا في مستوى من التطور‬
‫ل على قوة فرعون‬ ‫بحيث يصنعون العمارات ويبنون القصور الفخمة‪،‬وهذا يد ّ‬
‫المادية‪.‬كما دل على ذلك أمر فرعون لهامان أن يبني له صرحا يبلغ‬
‫بواسطته أسباب السماوات‪.‬وقد ذكرنا فيما سبق دلئل قوته القتصادية‬
‫والعسكرية كذلك‪.‬‬
‫ن تأكيدنا لقوة نظام فرعون ليس مدحا له ‪،‬فالمور بمقاصدها و)إنما‬ ‫إ ّ‬
‫‪858‬‬
‫العمال بالنّيات( ‪،‬فكل فعل ُيقصد منه التفاخر والتباهي والتطاول على‬
‫الّناس‪،‬أو الركون إلى الدنيا والرضى بها والطمئنان إليها‪،‬هو فعل يمقته الله‬
‫سبحانه‪.‬فتلك حضارة قامت على غير هدى من الله؛فأنتجت الظلم والجور‬
‫م القرآن هذا النوع من الحضارة!وذلك هو معنى قوله تعالى‬ ‫والعدوان‪.‬ولقد ذ ّ‬
‫لعاد قوم هود‪’’:‬أتبنون بكل ريع آية تعبثون‪،‬وتتخذون مصانع لعلكم‬
‫تخلدون‪،‬وإذا بطشتم بطشتم جبارين‘‘‪859‬؛ذلك أّنهم كانوا في غاية من‬
‫قوة التركيب والقوة والبطش الشديد والطول المديد والرزاق الدارة‬
‫والموال والجنات والنهار والبناء والزروع والثمار‪،‬فغّرهم ما هم فيه على‬
‫عادة الطواغيت‪.‬فلم يكن بناؤهم ول تشييدهم للمصانع سوى عبثا‪،‬ل للحتياج‬
‫إليه بل لمجرد اللعب وإظهار القوة‪،‬فما ذلك إل ّ تضييع للزمان وإتعاب‬
‫للبدان بل فائدة‪،‬واشتغال بما ل يجدي في الدنيا ول في الخرة‪،860‬فتلك‬
‫حضارات جّرت معها اللم الجسام على البشرية‪.‬‬
‫والحكمة من هذا التمكين لفرعون هي اختبار فرعون‪،‬فليست الدنيا إل ّ‬
‫دار امتحان واختبار‪،‬ولقد امتحن الله سبحانه فرعون بالرخاء فسقط فرعون‬
‫ما نسوا ما ذكروا به‬ ‫في المتحان سقوطا ق ّ‬
‫ل مثيله‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فل ّ‬
‫فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أؤتوا أخذناهم‬
‫بغتة فإذا هم مبلسون‘‘‪.861‬ويقول تعالى‪’’:‬والذين ك ّ‬
‫ذبوا بآياتنا‬
‫ن كيدي‬ ‫سنستدرجهم من حيث ل يعلمون وأملي لهم إ ّ‬
‫متين‘‘‪.862‬وفي الحديث’’إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا‪-‬على معاصيه‪-‬‬
‫ما يحب فإّنما هو استدراج‘‘‪.863‬‬
‫‪]856‬العراف‪.[137:‬‬
‫‪857‬تفسير الطبري)‪(9/44‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪ :‬تفسير ابن كثير)‪(2/243‬وتفسير أبي السعود)‬
‫‪(3/267‬وتذكرة الريب في تفسير الغريب)‪(1/187‬وروح المعاني)‪.(9/40‬‬
‫‪858‬صحيح البخاري‪،‬كتاب بدء الوحي‪،‬باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم )‪(1/3‬رقم)‪.(1‬‬
‫‪]859‬الشعراء‪.[130-128:‬‬
‫‪860‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(19/93،95‬وتفسير ابن كثير)‪.(3/342‬‬
‫‪]861‬النعام‪.[44:‬‬
‫‪]862‬العراف‪.[183-182:‬‬
‫‪863‬مسند أحمد)‪(4/145‬والروياني‪:‬أبو بكر‪،‬محمد بن هارون‪)،‬ت ‪307‬هـ(‪،‬مسند‬
‫الروياني‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬أيمن علي أبو يماني‪،‬ط ‪،2‬مؤسسة قرطبة‪،‬القاهرة‪1416،‬هـ‪).‬‬
‫‪(1/195‬رقم)‪(261‬والطبراني‪:‬أبو القاسم‪،‬سليمان بن أحمد بن أيوب‪360 -260)،‬هـ(‪،‬المعجم‬
‫الوسط‪10،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬طارق بن عوض الله بن محمد‪،‬عبد المحسن بن إبراهيم الحسين‪،‬دار‬
‫الحرمين‪،‬القاهرة‪1415،‬هـ‪(9/110).‬رقم)‪. (9272‬وسأشير إليه لحقا هكذا)المعجم‬
‫الوسط(‪،‬والطبراني في الكبير)‪(17/330‬رقم)‪(913‬والبيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي‬
‫بن عبد الله بن موسى‪458-384)،‬هـ(‪،‬شعب اليمان‪8،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد السعيد بسيوني‬

‫‪144‬‬
‫وسائل الطاغوت بين المس واليوم‬
‫ن حقيقتها باقية وطبيعتها واحدة‪،‬فهي‬ ‫شكل الوسيلة قد يختلف ولك ّ‬
‫تدور بين الخداع والتمويه والكذب وبين القهر والتركيع‪،‬وبينهما الغراء‬
‫وشراء الذمم؛فالطاغوت مفلس في مجال الحجة والبرهان‪،‬وتلك هي علته‬
‫ن الطواغيت وإن تباعدت أزمانهم وأماكنهم يلتقون بحقيقة‬ ‫مزمنة‪،‬ولهذا فإ ّ‬‫ال ُ‬
‫وسائلهم كما يلتقون بغاياتهم‪.‬‬
‫ن الوسائل التي اعتمدها فرعون تعكس الجهد الكبير الذي بذله وأنفقه‬ ‫إ ّ‬
‫في تأليه نفسه‪،‬وهي ظاهرة واضحة متكررة‪،‬فالطاغوت المعاصر يحشد‬
‫الكثير من الطاقات لتثبيت نفسه‪،‬حيث ُينفق الموال الطائلة على بطانته‬
‫م ُتنفق الموال في‬ ‫لتبقى خط الدفاع عن الطاغوت أي عن مصالحها‪،‬ث ّ‬
‫ن الذين‬ ‫مسخرة لخدمة أغراضه وأهدافه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬ ‫أجهزة العلم ال ُ‬
‫كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله‘‘‪.‬كما ُتزهق الرواح‬
‫والعراض!لو أنفق بعضها في عمارة الرض‪،‬والنتاج المثمر‪،‬لترقية الحياة‬
‫البشرية وإغنائها‪،‬لعاد على البشرية بالخير الوفير‪.864‬‬
‫لقد تنوعت وتعددت وسائل القهر الحديثة كي تستطيع التعامل مع‬
‫مختلف الشخصيات والمجتمعات‪،‬فمن ل ُيسكته السجن لشدة صبره‬
‫ود مواجهة الشرطة‬ ‫ومصابرته قد ُتذله التهمة المزورة‪..‬والشعب الذي تع ّ‬
‫والتمرد على العصا ُتخضعه القلقل والنقسامت الداخلية والزمات‬
‫القتصادية‪،‬وتعدى ذلك إلى أبشع ما يتصوره العقل البشري من افتعال‬
‫المجاعات التي تحصد اللف من الرواح‪،‬وتكفي هذه المجاعات دليل على‬
‫قسوة الساليب المعاصرة في تركيع الشعوب والمم‪..‬وتلعب المخابرات‬
‫دورا بارزا في هذا المجال‪،‬فيثيرون الفتن الطائفية والقبلية والنعرات‬
‫الجاهلية‪..‬وكل ما يؤدي إلى خلخلة الّنظام الجتماعي وزعزعة أمن‬
‫المواطن‪،‬وهم إّنما يفعلون ذلك بطرق ملتوية عبر أناس مأجورين‪،‬وهكذا‬
‫تغير شكل الوسيلة فلم تعد واضحة المعالم أو ُأحادية التجاه‪،‬بل أصبحت‬
‫معقدة التركيب متعددة التجاهات‪،‬يقف وراءها علماء الّنفس وخبراء‬
‫الجتماع‪.‬‬
‫ن وجود‬ ‫يلجأ الطاغوت أحيانا إلى سياسة العصا والجزرة؛ذلك أ ّ‬
‫النقيضين يرفع من مستوى ضراوة المعركة مع الطاغوت‪،‬ويتطلب نفسا‬
‫ما الطاعة المستتبعة‬ ‫كبيرة في المواجهة‪،‬فالطاغوت يضعك بين خيارين‪:‬إ ّ‬
‫للمنصب والوظيفة والتسهيلت‪،‬أي ما يقع في دائرة الغراء لسقاط‬
‫ما التمرد المستتبع للسجن والتعذيب‬ ‫المجاهدين الرافضين للطاغوت‪..‬وإ ّ‬
‫ن فلنا قد تاب!وعاد إليه‬ ‫م بعد ذلك يرّوجون أ ّ‬‫والقمع‪..‬فأيّ الخيارين تريد؟ث ّ‬
‫رشده!وحينئذ تشتد المحنة على الحرار الرافضين استبدال الدين بعرض‬

‫زغلول‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1410،‬هـ‪(4/128).‬رقم)‪. (4540‬وسأشير إليه لحقا‬


‫هكذا)شعب اليمان(‪.‬قال الهيثمي‪:‬رواه أحمد والطبراني وسكت عليه‪،‬انظر‪:‬الهيثمي‪:‬علي بن أبي‬
‫بكر‪)،‬ت ‪807‬هـ(‪،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪10،‬أجزاء‪،‬دار الريان للتراث ودار الكتاب‬
‫العربي‪،،‬القاهرة‪،‬بيروت‪1407،‬هـ‪. (7/20).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)مجمع الزوائد(‪،‬قال‬
‫العراقي‪:‬رواه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب بسند حسن‪.‬وانظر العراقي‪،‬تخريج أحاديث‬
‫إحياء علوم الدين‪،‬مطبوع بهامش كتاب الغزالي‪:‬أبو حامد‪،‬محمد بن محمد‪)،‬ت ‪505‬هـ(‪،‬إحياء‬
‫دين‪5،‬أجزاء‪،‬مكتبة مصر‪،‬دار مصر للطباعة‪1998،‬م‪.(4/163).‬‬ ‫علوم ال ّ‬
‫‪864‬انظر‪:‬في ظلل القرآن )‪.(4/647‬‬

‫‪145‬‬
‫من أعراض الدنيا‪،‬وتلك هي الحرب الّنفسية التي ُيراد منها كسر إرادتهم‬
‫وصمودهم‪.‬‬
‫وما الستعمار‪-‬بكافة صوره القديمة والحديثة‪،‬والمباشرة وغير المباشرة‬
‫والمتمثلة بإيجاد عملء من أبناء الشعوب المسحوقة يقومون بدور‬
‫المستعمر ويمّثلون مصالحه وأطماعه‪-‬إل ّ صورة من صور التسلط والقهر‪،‬بل‬
‫مستعار وصيغة‬ ‫ن الديقراطية العلمانية الحديثة هي وجه ُ‬ ‫وُيمكننا القول أ ّ‬
‫مبتدعة وبديل آخر للستعمار القديم بعد أن أفلس الوجه القديم‬
‫ن الديمقراطية‬ ‫للستعمار‪،‬وُفضح أمره ولم يُعد مقبول عند الجماهير؛ذلك أ ّ‬
‫الحديثة هي الستار التي ُيحارب من ورائه أهل الحق بدعوى أّنهم أعداء‬
‫ن شعوبا كاملة ُتهان وُتمتهن كرامته‬ ‫للديمقراطية والحرية‪،‬وأكثر من ذلك أ ّ‬
‫تحت ستار نشر الديمقراطية!‬
‫وقد ُيقدم الطاغوت‪-‬إن هو أحس بنتائج عكسية لهذا الضغط‪-‬إلى‬
‫من َْهج!وذلك كي ل يؤدي الضغط في مرحلة معينة إلى انفجار ل‬ ‫م َ‬
‫التنفيس ال ُ‬
‫م ما يلبثون أن يعودوا لسيرتهم‬ ‫ُيريده الطواغيت ول يدري ما هي عواقبه‪،‬ث ّ‬
‫الولى‪،‬وهكذا حتى يتم ترويض الجماهير‪،‬وتصل مرحلة ل تحس فيها أّنها‬
‫معذبة أو مقهورة‪،‬وتلك هي المرحلة التي يصبح الّناس فيها رقيقا وإن ركبوا‬
‫ست ََرقّ الجوهر ل‬
‫م ْ‬
‫مست ََرقّ هو ُ‬‫في الباصات وأكلوا في المطاعم‪..‬فال ُ‬
‫المظهر‪،‬وهذه هي العبودية الحديثة‪،‬أو الرق المعاصر!‬

‫الفصل الرابع‪:‬آثار شخصية فرعون‬


‫المبحث الول‪:‬الثار المجتمعية لشخصية فرعون‬
‫المبحث الثاني‪:‬جلب العقوبات الّربانية‬

‫‪146‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫آثار شخصية فرعون‬
‫كد أن يكون لهذه الشخصية آثارا عميقة نظرا لما تمّيزت به‬ ‫ن من المؤ ّ‬‫إ ّ‬
‫من قساوة وعنف واضطهاد؛فالمجتمع الذي تعرض لقسى درجات الذلل‬
‫ن المقدمات‬ ‫والستعباد ولمدة طويلة ظهرت عليه آثار تلك الشخصية؛ذلك أ ّ‬
‫الخبيثة والسيئة تنتج آثارا خبيثة وسيئة‪’’،‬والذي خبث ل يخرج إل ّ‬
‫نكدا‘‘‪،865‬وهكذا كان فرعون كثير الشر عديم الخير‪.‬‬
‫وليس هذا مرتبطا بشخصية فرعون فحسب‪،‬بل ستكون هذه الثار في‬
‫ل مرة يتعرض فيها المجتمع لمثل تلك الشخصية أو لمثل ذلك المنهج الذي‬ ‫ك ّ‬
‫أفرزها‪.‬من هنا تأتي أهمية هذا الفصل‪،‬فل يجوز أن ُنشغل أنفسنا كثيرا بما‬
‫أفسده الطاغوت فحسب‪،‬بل ننشغل بالقضاء على الطاغوت نفسه‪،‬ول يهمنا‬
‫في مرحلة المواجهة معه من المور إل ّ ما ي ُ َ‬
‫قّرُبنا لتلك الغاية وتتسع له‬
‫جهودنا‪.‬فلن يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم‪.‬فأّينما ُوجد‬
‫الطاغوت ُوجد الفساد والخلل‪،‬لذا يجب التفريق بين المرض وآثاره‪،‬فالولى‬
‫القضاء على سبب المرض ل النشعال كثيرا بمعالجة أعراضه إل ّ بمقدار ما‬
‫تنفعنا تلك المعالجات العرضية في تحقيق الهدف الساسي وهو اجتثاث‬
‫أسباب المرض والّتخلص بالكلّية من الطاغوت‪،‬على أن ل يكون هذا الصلح‬
‫ي ُيضفي صفة تجميلية للطاغوت‪،‬أو ُيضفي عليه الشرعية بحيث يظهر‬ ‫الفرع ّ‬
‫المصلح وكأّنه من أعوان الطاغوت ومناصريه ومؤيديه‪.‬‬
‫وللوقوف على آثار شخصية فرعون ل بد ّ من استعراض ليات القرآن‬
‫الكريم التي ذكرت تلك الثار مباشرة أو غير مباشره كي نصل من خلل‬
‫النظر فيها لتلك الثار‪.‬وعليه نستطيع أن نقسم تلك الثار إلى‬
‫مبحثين‪:‬الول‪:‬الثار المجتمعية لشخصية فرعون‪،‬والثاني‪:‬جلب العقوبات‬
‫الربانية‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الثار المجتمعية لشخصية فرعون‬
‫لقد أنتجت شخصية فرعون أمراضا إجتماعية وسلبيات عميقة عديدة؛‬
‫ن المنهج الذي اعتمده فرعون‪-‬وهو المنهج الذي أفرز شخصية‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫فرعون‪-‬كان له آثار سلبية خطيرة مرافقة له وملزمة‪،‬إذ ل تظهر هذه‬
‫‪]865‬العراف‪.[58:‬‬

‫‪147‬‬
‫الشخصية إل ّ في بيئة مرضية‪،‬وبالتالي فهي حريصة على تأكيد تلك المراض‬
‫وتأصيلها‪،‬فهي الوسط الملئم التي تعيش فيه شخصية فرعون‪.‬وهذه الثار‬
‫الجتماعية المتعددة يمكن حصرها فيما يلي‪:‬‬
‫أول‪:‬ضلل قومه‬
‫)الضلل والضللة ضد الهدى والرشاد(‪،866‬و)ضل الشيء ضاع( ‪،‬‬
‫‪867‬‬

‫والضلل‪-‬عند المفسرين‪-‬أصله الهلك يقال منه ضل الماء في اللبن إذا‬


‫استهلك‪،‬والضللة هي العدول عن طريق الحق والذهاب عنه‪،868‬وهو ما ُيرشد‬
‫إليه قوله تعالى‪’’:‬فماذا بعد الحق إل ّ الضلل‘‘‪،869‬أي)ما بعد عبادة الله‬
‫ن ما لم يكن حقا فهو الضلل‪،‬‬ ‫الحق إذا تركت عبادته إل الضلل(‪870‬؛ذلك أ ّ‬
‫)ولقد ذاقت البشرية من ويلت هذا الضلل‪-‬وما تزال كلها تذوق‪-‬ما هو حتمي‬
‫في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله‪..‬فهذه هي الحتمية التاريخية‬
‫المستيقنة لنها من أمر الله‪،‬ومن خبر الله(‪.871‬‬
‫والضلل‪-‬أيضا‪)-‬أن يقصد اعتقاد الحق أو فعل الجميل أو قول الصدق‬
‫فيظن بتقصيره وسوء تصرفه فيما كان باطل أّنه حق فاعتقده‪،‬أو فيما هو‬
‫قبيح أّنه جميل وليس بجميل ففعله‪،‬أو فيما كان كذبا أّنه صدق‬
‫قد ُ ما يوصل إلى المطلوب‪،‬وقيل‪:‬سلوك طريق ل‬ ‫فقاله(‪.872‬فالضلل‪-‬إذن‪)-‬فَ ْ‬
‫يوصل إلى المطلوب(‪.873‬‬
‫إّنه التيه والعبثية والجهل وفقدان القدرة على التفكير والّنظر‪،‬فالّناس‪-‬‬
‫حال الضلل‪-‬في ضياع تام‪،‬وهو ما سلكه فرعون بقومه‪،‬لقد أضلهم من أول‬
‫أمره حتى نهايته‪،‬فقد)سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخيبة والخسران في الدين‬
‫والدنيا معا‪،‬حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب‬
‫الخالد الخروي‪.‬وما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب‬
‫الدينية والدنيوية‪،‬وهو تقرير لضلله وتأكيد له إذ رب مضل قد يرشد من‬
‫ن أمره كّله‬‫يضله إلى بعض مطالبه(‪،874‬وليس فرعون من هذا النوع‪،‬بل إ ّ‬
‫ضلل ليس بعده هدى‪.‬يقول تعالى‪’’:‬وأضل فرعون قومه وما‬
‫دين‪،‬وما هداهم إلى خير ول‬ ‫هدى‘‘‪.875‬أي أضلهم عن الرشد وأضلهم في ال ّ‬
‫نجاة‪،‬وهو تهكم به وجواب قوله‪’’:‬ما أريكم إل ما أرى وما أهديكم إل‬
‫سبيل الرشاد‘‘‪،876‬فكذبه الله تعالى‪877‬؛)ذلك أّنه سلك بهم طريق أهل الّنار‬
‫بأمرهم بالكفر بالله وتكذيب رسله‪،‬وما سلك بهم الطريق المستقيم‪،‬وذلك أّنه‬

‫‪866‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬ضلل)‪.(11/390‬‬
‫‪867‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬ضلل)‪.(160‬وانظر‪:‬المغرب‪،‬مادة‪:‬ضلل)‪.(2/12‬‬
‫‪868‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(7/234)،(1/245‬‬
‫‪]869‬يونس‪.[32:‬‬
‫‪870‬تفسير القرطبي)‪.(8/335‬‬
‫‪871‬في ظلل القرآن)‪.(3/282‬‬
‫‪872‬فيض القدير)‪.(1/202‬‬
‫‪873‬التعاريف)‪.(1/474‬‬
‫‪ 874‬تفسير ابي السعود)‪.(6/32‬وانظر‪ :‬زكريا‪:‬أبو يحيى النصاري‪،‬فتح الرحمن بكشف ما‬
‫يلتبس في القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬محمد علي الصابوني‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،1‬عالم‬
‫الكتب‪،‬بيروت‪1405،‬هـ ـ ‪1985‬م‪.(264).‬‬
‫‪]875‬طه‪.[79:‬‬
‫‪]876‬غافر‪.[29:‬‬
‫‪877‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(11/229‬‬

‫‪148‬‬
‫نهاهم عن اتباع رسول الله موسى والتصديق به فأطاعوه‪،‬فلم يهدهم بأمره‬
‫إياهم بذلك‪،‬ولم يهتدوا باتباعهم إياه(‪.878‬‬
‫ن الضلل ُينتج بشرا ل يدركون سبب وجودهم ول غاية خلقهم‪،‬يعيشون‬ ‫إ ّ‬
‫م تنعكس تلك الحالة العبثية أمراضا نفسية‬ ‫ويموتون دون هدف أو غاية‪،‬ث ّ‬
‫مة بسببه‬ ‫تأكل الّناس وُتحيل حياتهم إلى جحيم؛فالضلل حيرة وتيه تفقد ال ّ‬
‫القدرة على تحديد نقطة النطلق نحوالهدف‪،‬فل تعود قادرة على التمييز‬
‫بين الغث والسمين‪.‬حينئذ يعيش الّناس حياة بهيمية بل أقل درجة‪،‬وذلك ما‬
‫ل سبيل‘‘‪)،879‬إذ‬ ‫نفهمه من قوله تعالى‪’’:‬إن هم إل ّ كالنعام بل هم أض ّ‬
‫البهيمة لم تخلق لها المعرفة والقدرة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات وهذا‬
‫قد خلق له وعطله(‪،880‬فليس هناك فارق بين النسان والبهيمة غير الّنظر‬
‫ن‬
‫والتدبر والفكر!يقول تعالى‪’’:‬ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الج ّ‬
‫والنس لهم قلوب ل يفقهون بها ولهم أعين ل يبصرون بها‬
‫ولهم آذان ل يسمعون بها أولئك كالنعام بل هم أضل أولئك هم‬
‫الغافلون‘‘‪)،881‬فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر‬
‫والضللة(‪،882‬وتلك هي النوعية التي يعيش معها الطواغيت؛جماهير فارغة ل‬
‫تدري أّنها ل تدري!وتلك علة كبرى‪.‬‬
‫‪883‬‬
‫وفي حال الضلل يكون العقل أسيرا لخرافات تضر ول تنفع كالسحر‬
‫والكهانة وغيرها‪،‬ولهذا كانت دعوة النبياء في جوهرها تحرير للعقل من أن‬
‫يكون أسيرا للخرافات والخزعبلت‪،‬حيث دعى النبياء إلى الّنظر والتفكر في‬
‫ن الحق ل يخشى التفكير والحجة والبرهان بل هو يقوم‬ ‫الكون والحياة؛ذلك أ ّ‬
‫على ذلك‪،‬فدعوة أهل الحق الّناس للتفكير والّنظر تنسجم مع حقهم الذي‬
‫يحملون‪،‬على عكس الجاهلية والطاغوت فإّنه يخشى يقظة الّناس لّنها‬
‫تكشف زيفه وباطله‪.‬‬
‫لقد ظهرت آثار التيه والضياع وانعدام القدرة على التمييز على‬
‫ل على هذا من طاعتهم‬ ‫ل شخصية فرعون‪،‬وليس أد ّ‬ ‫الجماهير في ظ ّ‬
‫لفرعون رغبا ورهبا في افترائه وزعمه لللوهية والربوبية‪،‬فإّنه ل يمكن‬
‫لفرعون ول لغيره أن يفكر مجرد تفكير في طرح هذه الفرية لول أن رأى‬
‫ن قوما‬ ‫من قومه القابلية للقبول أو السكوت في أسوأ تقدير‪.‬ول شك في أ ّ‬
‫ذبوا موسى عليه السلم بعد أن عاينوا‬ ‫تابعوا فرعون على فريته الكبرى وك ّ‬
‫الحق الساطع على يديه لهم أجهل الخلق وأحمق الّناس وأسفههم‪.‬‬
‫كوا في موت فرعون؛‬ ‫ش ّ‬‫م وصل بهم الشلل الفكري وانعدام النظر أن َ‬ ‫ث ّ‬
‫ل فرعون حيث دخل في‬ ‫وذلك بسبب ما تعّرض له بنو إسرائيل في ظ ّ‬
‫خّيل إليهم أّنه ل يهلك؛ذلك أّنهم كذبوا موسى صلى‬ ‫نفوسهم من عظمته ما ُ‬
‫الله عليه وسلم حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه جثة هامدة على‬
‫الساحل‪،‬حيث أمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بل روح وعليه‬
‫درعه المعروفة على نجوة من الرض‪-‬وهو المكان المرتفع‪-‬ليتحققوا موته‬

‫‪878‬تفسير الطبري)‪(16/192‬مع بعض التصرف‪.‬‬


‫‪]879‬الفرقان‪.[44:‬‬
‫‪880‬فيض القدير)‪.(1/214‬‬
‫‪]881‬العراف‪.[179:‬‬
‫‪882‬تفسير ابن كثير)‪.(4/24‬‬
‫ف الرجل فسد عقله من الكبر(‪،‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬خرف)‬
‫خرِ َ‬
‫‪ 883‬الخرافة من الفعل خرف‪،‬و) َ‬
‫‪.(9/62‬‬

‫‪149‬‬
‫وهلكه‪،884‬ولم يكن هذا التصور وهذا العتقاد إل نتيجة لجهلهم وسفاهة‬
‫عقولهم وفساد عقائدهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم‬
‫وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‘‘‪.885‬والشاهد في الية قوله‬
‫ن الله تعالى لما أنجاهم وأغرق عدوهم‪،‬قالوا‬ ‫تعالى‪’’:‬وأنتم تنظرون‘‘‪،‬وذلك)أ ّ‬
‫ن فرعون قد غرق‪،‬حتى أمر الله البحر‬ ‫نإ ّ‬ ‫ن قلوبنا ل تطمئ ّ‬‫يا موسى‪:‬إ ّ‬
‫‪886‬‬
‫فلفظه فنظروا إليه( ‪،‬والمعنى أّنهم وصلوا بسبب جهلهم وضللهم حدا‬
‫ن فرعون ل يموت!أي قد خالج قلوبهم أّنه ربما يكون إلها!‬ ‫يتصورون أ ّ‬
‫جا الله فرعون ببدنه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فاليوم‬ ‫وبسبب هذا التصور الحمق ن ّ‬
‫‪887‬‬
‫ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية‘‘ ‪.‬أي لتكون لمن وراءك‬
‫علمة‪،‬وهم بنو إسرائيل ومن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق‬
‫ولم ينته إليه هذا الخبر‪،‬لكي يعتبروا بك فينـزجروا عن معصية الله والكفر به‬
‫والسعي في أرضه بالفساد‪.888‬‬
‫ده شخصا ممّيزا ذا صفات خاصة‬ ‫ن تقديس الطاغوت أو ع ّ‬ ‫إ ّ‬
‫م وجود من يقّر‬ ‫نادرة‪،‬والترويج المستمر لتلك الفرية عبر وسائل العلم‪،‬ث ّ‬
‫له‪-‬من الّناس‪-‬بتلك الفرية‪،‬يورث مع توالي الزمن وتكرار المشهد وضخامة‬
‫دعاية وعدم القدرة على المعارضة بكتم صوت الحق والحقيقة…يورث ما‬ ‫ال ّ‬
‫يشبه التسليم بتلك الفرية واعتبارها حقيقة مسلمة ل جدال فيها‪،‬حتى إذا‬
‫قام سّيد الشهداء بكلمة الحقّ أمام الطاغوت تعجب الّناس من القول‬
‫الجديد على أسماعهم‪،‬وطالبوه بزيادة البيان وتوضيح البرهان!‬
‫ومن دلئل ضللهم تعظيمهم للسحر والسحرة‪،‬ويظهر هذا من قول‬
‫السحرة ‪’’:‬إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم‬
‫ن السحرة قد أقلقهم موسى‬ ‫ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘‪.889‬والمعنى أ ّ‬
‫وهارون‪،‬وأصبحت مراكزهم مهددة بالنهيار‪،‬وذلك معنى قولهم‪’’:‬ويذهبا‬
‫بطريقتكم المثلى‘‘‪،‬أي)ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر‪،‬فإّنهم كانوا‬
‫ن تعظيم السحرة ما كان إل ّ لجهل الجماهير‬ ‫ظمين بسببها(‪.890‬والشاهد أ ّ‬ ‫معَ ّ‬
‫ُ‬
‫ل شأنه يقول‪’’:‬ول ُيفلح الساحر‬ ‫وسفهها‪،‬وكيف ل يكون جهل والحق ج ّ‬
‫حيث أتى‘‘‪،891‬أي ل يفلح)حيث كان وأين أقبل(‪.892‬‬
‫ن ضعف الوعي والّتعود على بلدة التفكير أدى ببني إسرائيل بعد أن‬ ‫إ ّ‬
‫خرجوا من ظل فرعون وتحرروا من قوة فرعون الظاهرة أن يعبدوا‬‫ّ‬
‫العجل‪،‬بل ويطلبون من موسى أن يجعل لهم إلها كما لعبدة الصنام‬
‫آلهة‪’’،‬قالوا يا موسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة‪،‬قال إّنكم قوم‬

‫‪884‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/432‬ومعاني القرآن)‪(3/315‬وتفسير النسفي)‪(2/141‬وروح المعاني)‬


‫‪.(11/184‬‬
‫‪]885‬البقرة‪.[50:‬‬
‫‪886‬تفسير القرطبي)‪.(1/392‬وقد وردت وجوه أخرى في تفسير الية الكريمة’’وأنتم‬
‫تنظرون‘‘‪.‬منها‪:‬ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم(تفسير ابن كثير)‪،(1/92‬وهذا‬
‫ل يتناقض مع الوجه الذي ذكرناه‪.‬‬
‫‪]887‬يونس‪.[92:‬‬
‫‪888‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(11/164‬وتفسير القرطبي)‪.(8/381‬‬
‫‪]889‬طه‪.[63:‬‬
‫‪ 890‬تفسير ابن كثير)‪.(3/158‬‬
‫‪]891‬طه‪.[69:‬‬
‫‪892‬تفسير ابي السعود)‪.(6/28‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪(3/61‬‬

‫‪150‬‬
‫تجهلون‘‘‪)،893‬فلم تزجرهم تلك اليات ولم تعظهم تلك العبر والبينات(‪894‬؛‬
‫ذلك أّنهم تعرضوا إلى مسخ في الفكر والوعي‪،‬فل علم عندهم ول‬
‫ما يؤكد لنا أن المرض قد استقّر في قلوبهم وعقولهم‪،‬يقول‬ ‫معرفة‪.‬م ّ‬
‫‪896 895‬‬
‫تعالى‪’’:‬وأشربوا في قلوبهم العجل ‘‘ ‪.‬أي)تداخلهم حبه‪،‬ورسخ في‬
‫قلوبهم صورته لفرط شغفهم به‪،‬كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق‬
‫البدن(‪،897‬وهكذا وصل جهلهم حد ّ الشباع والّتشبع!فما أن تركهم موسى‬
‫ما يكشف‬ ‫أياما معدودات حتى عاد إليهم وقد عبدوا العجل من دون الله‪،‬م ّ‬
‫عن مدى ما أصابهم من الخلل الّنفسي والسفه العقلي والفساد الفـكري‪،‬‬
‫يقول تعالى‪’’:‬ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من‬
‫بعده وأنتم ظالمون‘‘‪.898‬فمع ما تعرضوا له من استجهال ل ُيعفيهم من‬
‫المسؤولية بعدما تبّين لهم الحق‪.‬فكل من علم الحق وجب عليه اتباعه‪،‬ومن‬
‫أعرض عنه فهو من الظالمين‪.‬‬
‫م السحرة بعزة‬ ‫دالة على هذا الضلل قَ َ‬
‫س ُ‬ ‫ومن الشواهد ال ّ‬
‫‪899‬‬
‫فرعون‪،‬أي)بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته( ‪.‬يقول تعالى‬
‫حكاية لقولهم‪’’:‬وقالوا بعزة فرعون إّنا لنحن الغالبون‘‘‪.900‬فهذا يد ّ‬
‫ل‬
‫ن فرعون قد عظم في نفوسهم حتى وصل المر بهم أن يقسموا‬ ‫على أ ّ‬
‫بعزته!ولو كان عندهم أدنى روّية لما تفوهوا بمثل تلك العبارة‪،‬وهم الذين‬
‫دين‪،‬وهي الطبقة التي يعتبرها الّناس قدوتهم ومثالهم‬ ‫يمثلون طبقة رجال ال ّ‬
‫الذي يحتذى به‪.‬فكيف سيكون الحال فيما دونهم من الطبقات التي ل تتقن‬
‫غير التقليد العمى؟!‬
‫ن المشهد المأساويّ ظاهر في ترديد مقولة فرعون دون تفكير أو نظر‬ ‫إ ّ‬
‫ن هذا لساحر عليم‪،‬يريد أن يخرجكم من‬ ‫حين’’قال للمل حوله إ ّ‬
‫‪901‬‬
‫م‬
‫م العمي مقالته وكأّنها أ ّ‬ ‫دد الص ّ‬‫أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘ ‪.‬فر ّ‬
‫ن هذا‬ ‫الحقائق!فالمل يرددون قولته‪’’:‬قال المل من قوم فرعون إ ّ‬
‫لساحر عليم‪،‬يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا‬
‫تأمرون‘‘‪.902‬والسحرة يتبنون موقفه‪’’،‬إن هذان لساحران يريدان أن‬
‫يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم‬
‫المثلى‘‘‪،903‬فماذا عسى أن يكون موقف الجماهير؟!فهم على دين الحكومة‬
‫سائرين‪.‬‬
‫ليس هناك سوى صوت واحد تردده الجماهير ول تعي معانيه وأهدافه‪،‬إّنه‬
‫صوت فرعون ومن تكلم بلسانه‪،‬ومع مرور الزمن تعطلت عقولهم‬
‫وتخدرت‪،‬حتى صاروا أبواقا تردد مقولة الّنظام الحاكم بل وعي أو بصيرة‪،‬ل‬
‫‪]893‬العراف‪.[138:‬‬
‫‪894‬تفسير الطبري)‪.(9/45‬‬
‫‪895‬وليس المقصود هو ذات العجل)وإنما هو حب العجل( المحاسبي‪:‬أبو عبد الله‪،‬الحارث بن أسد‬
‫بن عبد الله‪243-165)،‬هـ(‪،‬فهم القرآن ومعانيه‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬حسين القوتلي‪،‬ط ‪،2‬دار‬
‫الكندي‪،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪1398،‬هـ‪،(487).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)فهم القرآن(‪.‬‬
‫‪]896‬البقرة‪.[93:‬‬
‫‪897‬تفسير البيضاوي)‪.(363-1/362‬‬
‫‪]898‬البقرة‪.[92:‬‬
‫‪899‬تفسير الطبري)‪.(19/72‬‬
‫‪]900‬الشعراء‪.[44:‬‬
‫‪]901‬الشعراء‪.[35-34:‬‬
‫‪]902‬العراف‪.[110-109:‬‬
‫‪]903‬طه‪.[63:‬‬

‫‪151‬‬
‫يسمعون إل ّ دعاء ونداءا‪،‬حتى صح القول أّنهم مّيتون ليس فيهم حياة‪،‬ل ّ‬
‫ن‬
‫وم الخطاء ويصحح العوج ويحاسب الحكومة‪،‬ول‬ ‫ي هو الذي يق ّ‬
‫المجتمع الح ّ‬
‫يكون هذا إل ّ إذا كان مجتمعا يستمد ّ قيمه من الله سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ثانيا‪:‬استمراء الذل‬
‫‪904‬‬
‫والستمراء لغة من استمرأ‪ُ،‬يقال‪) :‬مرىء الطعام استمرأه( و)وطعام‬
‫ل مستساغا مستطابا‪،‬فل يشعر‬ ‫مرىء هنيء(‪.905‬وأعني بذلك أن يصبح الذ ّ‬
‫المستذل بوجعه ول ألمه‪،‬وهو نتيجة ملزمة لما تعرضت له الجماهير في‬
‫ل شخصية فرعون من إذلل وقهر متواصل مستمر ومتعدد الوجوه‪،‬حتى‬ ‫ظ ّ‬
‫ن القرآن الكريم وصف فرعون بالعذاب المهين وذلك في قوله‬ ‫إ ّ‬
‫جينا بني إسرائيل من العذاب المهين‪،‬من‬ ‫تعالى‪’’:‬ولقد ن ّ‬
‫فرعون‪،906‬إّنه كان عاليا من المسرفين‘‘ ‪.‬والشاهد في الية أ ّ‬
‫ن بني‬ ‫‪907‬‬

‫إسرائيل تعرضوا للعذاب المهين‪،‬أي المذل لهم‪،‬وهو استعبادهم وقتل أبنائهم‬


‫واستحياء نسائهم وتسخيرهم وتكليفهم العمال الشاقة المتعبة‪،‬وكفى بذلك‬
‫إهانة لهم وإذلل‪.908‬‬
‫ل الطاغوت أمدا طويل ومعاناة الرهاب والخوف‬ ‫ن العيش في ظ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫والملحقة والمطاردة والسجون أفسد نفوسهم وقلوبهم وطبائعهم‪،‬وأدى إلى‬
‫إنعكاسات نفسية خطيرة حيث تعودوا على هذا الذل وهذه الهانة فلم‬
‫يعودوا يفكرون في التمرد عليها‪،‬فقد استمرأوا الذل فأصبح في نفوسهم‬
‫أمرا طبيعيا‪،‬ولهذا رفض بنو إسرائيل القتال مع موسى عليه السلم‪،‬وقالوها‬
‫صريحة حين استنفرهم موسى عليه السلم للجهاد‪’’:‬اذهب أنت وربك‬
‫فقاتل إّنا ها هنا قاعدون‘‘‪)،909‬فأبوا وخالفوا وفضلوا القعود والستحذاء‬
‫على الجلد والنـزول إلى ميادين الجهاد(‪،910‬فقد تعود القوم على القعود‪،‬فل‬
‫همة عندهم ول عزيمة‪،‬وليس عندهم ثقة بأنفسهم‪،‬فكل ما يمل عقولهم‬
‫وقلوبهم هو الخضوع والخنوع‪.‬ولهذا كانت عقوبتهم التيه أربعين سنة‪،‬ليخرج‬
‫جيل آخر لم يتعرض لتلك لحياة المذلة والمهينة التي سببت لهم تلك‬
‫النتكاست الّنفسية‪.‬يقول تعالى‪’’:‬فإّنها محرمة عليهم‪،‬أربعين سنة‬
‫يتيهون في الرض‪،‬فل تأس على القوم الفاسقين‘‘‪.911‬وكأ ّ‬
‫ن الية‬
‫ن ما حدث معهم مرض مزمن ل يمكن التخلص منه إل‬ ‫الكريمة تشير إلى أ ّ‬
‫مل‬ ‫بالستبدال‪،‬وتلك سّنة الله’’وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ث ّ‬

‫‪904‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬مري)‪.(259‬‬
‫‪905‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬مرأ)‪.(1/155‬‬
‫‪)906‬من فرعون‪:‬هو بدل من العذاب باعادة الجار أي من عذاب فرعون ويجوز أن يكون جعل‬
‫فرعون نفسه عذابا(التبيان في إعراب القرآن)‪.(2/229‬‬
‫‪]907‬الدخان ‪.[31-30:‬‬
‫‪908‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/161‬وتفسير ابن كثير)‪(4/144‬ومعاني القرآن)‪(6/406‬وتفسير‬
‫الواحدي)‪(2/984‬وزاد المسير)‪(7/347‬وروح المعاني)‪.(25/125‬‬
‫‪]909‬المائدة‪.[24:‬‬
‫‪910‬مناهل العرفان)‪.(2/299‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(2/40‬‬
‫‪]911‬المائدة‪.[26:‬‬

‫‪152‬‬
‫يكونوا أمثالكم‘‘‪،912‬ثم ل يكونوا أمثالكم في التولي عن الجهاد والزهد في‬
‫اليمان‪،‬ولكن يكونون سامعين مطيعين‪.913‬‬
‫وليس أدل على ذلك من عبادتهم للعجل‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فإّنا قد فتّنا‬
‫‪914‬‬
‫ما ذهب موسى‬ ‫قومك من بعدك وأضلهم السامري‘‘ ‪،‬وكان ذلك)ل ّ‬
‫إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما السلم نسوا الله‬
‫تعالى‪،‬وحّنوا إلى ما وقر في نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها فعبدوا‬
‫ن الستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية‬ ‫العجل(‪)،915‬ل ّ‬
‫كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لحتمال التكاليف والصبر‬
‫عليها والوفاء بالعهد والثبات عليه‪،‬وترك في كيانهم النفسي خلخلة‬
‫واستعدادا للنقياد والتقليد المريح ‪ ..‬فما يكاد موسى يتركهم في رعاية‬
‫هارون ويبعد عنهم قليل حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول‬
‫اختبار‪.‬ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلءات متكررة لعادة بنائهم‬
‫‪916‬‬
‫النفسي‪،‬وكان أول ابتلء هو ابتلءهم بالعجل الذي صنعه لهم السامري( ‪.‬‬
‫ن الركون إلى الدنيا والحرص عليها والخضوع للشهوة والهوى‪،‬واعتبار‬ ‫إ ّ‬
‫ن‬
‫الرزق مرهون بيد الطاغوت ل بيد الله‪،‬والخوف من مواجهة الموت‪،‬وكأ ّ‬
‫ل ذلك أعراض للوهن والضعف الذي أصاب قطاعا‬ ‫الطاغوت يحيي ويميت‪..‬ك ّ‬
‫ما جعلها مكّبلة الرادة تقبل بالذل والهانة‪.‬بل وتعدى المر‬ ‫مة‪،‬م ّ‬ ‫واسعا من ال ّ‬
‫ذلك إلى أن يتجه بعض الّناس لتلمس العزة عند السلطان’’واتخذوا من‬
‫دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا‘‘‪!917‬فازدادوا ذل وإذلل‪،‬وذلك لّنهم‬
‫ن العزة لله جميعا‘‘‪،918‬ومن ابتغى‬ ‫فشلوا في إدراك مصدر العزة‪’’،‬فإ ّ‬
‫العزة لغير الله أذله الله‪.‬‬
‫مة من ذل وهوان‪،‬فلو أّنهم‬ ‫وفي هذا البيان تفسير شاف لما تعيشه ال ّ‬
‫ل من تلك التضحيات التي يدفعونها أذلء للطاغوت‪،‬لو أّنهم بذلوها‬ ‫بذلوا أق ّ‬
‫ن استصلح الّنفوس‬ ‫ّ‬
‫في سبيل الله لخلصهم الله مما هم فيه!وكما أّنه ُيبّين أ ّ‬
‫ن‬
‫المستذلة أمر في غاية الصعوبة‪،‬يحتاج إلى جلد ومعاناة كبيرة؛ذلك أ ّ‬
‫ل مرض عضال‪،‬فكيف يتمرد المستذل على وضع يراه طبيعيا‬ ‫استمراء الذ ّ‬
‫ن الحياة بهذا اللون الذي ل يمكن تغييره‪.‬وقد يصل‬ ‫واعتياديا؟حتى ُيخّيل إليه أ ّ‬
‫بعض المستذلين حدا ُيعظمون الباغي الظالم وُيجّلونه‪،‬بينما إذا قام المظلوم‬
‫برد الذى عن نفسه اتهموه بالفتنة والوقاحة والتطاول‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬ظهور المجتمع الطبقي‬
‫وأعني بالمجتمع الطبقي هو الذي يسوده المفهوم الجاهلي عن‬
‫الحياة‪،‬حيث يكون التفريق فيه بين الّناس على أساس عائلي أو قبلي أو‬
‫عرق أو لون أو جنس أو كل ما ليس للنسان فيه اختيار‪،‬فل يستطيع النسان‬
‫ل مجتمع يتوارث الّناس فيه مقاماتهم دون‬ ‫أن ُيغير لونه أوعرقه مثل‪.‬وهو ك ّ‬
‫جهد منهم‪،‬فمن كان أبوه من طبقة المل فهو من النبلء أو الشراف‪..‬ومن‬
‫كان أبوه مستعبدا فهو عبد منذ ولدته‪..‬وهو المجتمع الذي يقوم على أساس‬
‫العدواة والبغضاء بين الّناس؛فهو مجتمع متناقض متشرذم تتصادم فيه‬
‫‪]912‬محمد‪.[38:‬‬
‫‪913‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/197‬وتفسير ابن كثير)‪(4/183‬وفتح القدير)‪.(5/42‬‬
‫‪]914‬طه‪.[85:‬‬
‫‪915‬مناهل العرفان)‪.(2/299‬‬
‫‪916‬في ظلل القرآن)‪.(5/490‬‬
‫‪]917‬مريم‪.[81:‬‬
‫‪] 918‬الّنساء‪.[139:‬‬

‫‪153‬‬
‫المصالح والهواء‪،‬يخلوا من القيم والخلق النسانية‪،‬فل ُيثمر غير الشر‬
‫والجريمة‪،‬ومثال ذلك المافيا‪-‬أي الجريمة المنظمة‪-‬الروسية كنتاج طبيعي‬
‫للشيوعية التي كانت تقوم على هذا الساس الفاشل‪.‬‬
‫ل طبقة على‬ ‫ن وجود صراع داخلي بين طبقات المجتمع‪،‬وحرص ك ّ‬ ‫إ ّ‬
‫مصالحها يؤدي حتما إلى تمزيق المجتمع وتفكيك الروابط النسانية‬
‫فيه‪،‬وُيساعد الطاغوت على البقاء والّتحكم‪،‬وهي العّلة الكامنة وراء سعيه‬
‫الدائم في اختلق الزمات الداخلية‪،‬ونشر الّنزاعات المختلفة بين الحين‬
‫والخر ضمن مخطط ومنهج مدروس تعتني به عقول شيطانية خاصة‪،‬ويعتمد‬
‫ل هذا‬ ‫في ذلك على فئة مأجورة مستفيدة لتخريب المجتمع وتفتيته‪،‬ولع ّ‬
‫ضح لنا لماذا جعل فرعون أهل مصر شيعا‪.‬‬ ‫ُيو ّ‬
‫ن تفتيت المجتمع وتحويله إلى طبقات متناحرة متباغضة متنافرة أو‬ ‫إ ّ‬
‫إلى أفراد ل يربط بينهم رابط هدف وغاية كما هو الحال في مناهج‬
‫الطواغيت المطبقة حاليا‪،‬وما المحاولت المحمومة لنسف السر والقيم‬
‫الجتماعية‪،‬والقضاء حتى على قوانين الحوال الشخصية المستمدة من‬
‫الشرع السلمي‪،‬وإحلل القيم الغربية مكانها إل ّ وسيلة من تلك الوسائل‬
‫ن القيم الغربية تدعو إلى تأليه‬ ‫الخبيثة لتشتيت المجتمع وتفريقه؛ذلك أ ّ‬
‫الذات والنكباب عليها‪،‬وعدم اللتفات إلى القيم الجتماعية أوالمشكلت‬
‫ل تلك المفاهيم يقول‪:‬اللهم نفسي!‬ ‫ن حال الّناس في ظ ّ‬
‫العامة‪،‬وكأ ّ‬
‫ّ‬
‫ل الطواغيت‪-‬ل يعيش إل في مجتمع‬ ‫ن فرعون‪-‬كما هو الحال عند ك ّ‬ ‫إ ّ‬
‫مريض مشرذم متصادم الغراض والهواء والمصالح‪،‬تسوده الكراهية والحقد‬
‫والعدوانية!ولهذا عمد الملعون إلى سياسة التفريق بين الّناس‪،‬يقول‬
‫ن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف‬ ‫تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫طائفة منهم ُيذّبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إّنه كان من‬
‫المفسدين‘‘‪.919‬أي)فرقا يشيعونه فيما يريد أو يشيع بعضهم بعضا في‬
‫طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل‪،‬أو أحزابا بأن‬
‫أغرى بينهم العداوة كي ل يتفقوا عليه(‪.920‬فهو يقرب فئة ويستذل‬
‫ما يضمن له عدم اتفاق الّناس‬ ‫أخرى‪،‬فهناك طبقة راقية وطبقة منحطة!م ّ‬
‫ن الفئات المستفيدة ستدافع عن الّنظام الذي يمثل مصالحها‬ ‫عليه‪،‬بل إ ّ‬
‫وامتيازاتها‪،‬ولم تكن تلك الفئات على نفس درجة القرب من الحكومة‪،‬فهناك‬
‫الطبقة الحاكمة حيث يتربع على رأس هرمها فرعون‪،‬ومن دونه هامان‬
‫وزيره وأقرب الّناس إليه‪،‬ومن دونه طبقة الشراف وهم المل من آل‬
‫فرعون‪،‬ويمثلون بطانته وحاشيته والمقربين من القصور‪،‬ومن دونهم آل‬
‫سحرة‪،‬حيث يمثل السحرة قمة هذه‬ ‫فرعون‪،‬ومن دونهم طبقة الكهنة وال ّ‬
‫م بنو إسرائيل والذين ُيمثلون قاعدة الهرم‬ ‫الطبقة‪،‬ومن دونهم قوم فرعون‪،‬ث ّ‬
‫في الّنظام الطبقي الفرعوني‪،‬وهم الطبقة المسحوقة‪.‬‬
‫ومع توالي الزمن ودوران اليام ازدادت الهوة بين الشراف!‬
‫مستويات‬ ‫والمسحوقين‪،‬وازدادت الفروق النفسية والجتماعية وال ُ‬
‫المعيشية‪..‬وانعكست تلك الفروق على السلوك العام وترسخت في أذهان‬
‫ل على ذلك‬ ‫الّناس وكأّنها قدر ل ُترد!أو كأّنها جزء من سّنة الحياة!وليس أد ّ‬
‫من قول فرعون عن موسى‪’’:‬أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ول‬

‫‪]919‬القصص‪.[4:‬‬
‫‪920‬تفسير البيضاوي)‪.(4/282‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(7/2‬‬

‫‪154‬‬
‫يكاد ُيبين‘‘‪.921‬فهو بزعمه أفضل من)هذا الذي هو ضعيف لقلة ماله‪،‬وأّنه‬
‫ن الجواب حاضر في نفوس‬ ‫ليس له من الملك والسلطان شيء(‪،922‬وكأ ّ‬
‫المخاطبين الذين استقرت في أعماقهم المفاهيم الطبقية‪،‬فالذي يملك‬
‫من ل‬ ‫المال والسلطان وينتمي إلى طبقة اللهة والشراف‪-‬عندهم‪-‬خير م ّ‬
‫دنيا شيء‪.‬وبالطبع لم يكن هذا الجواب الحاضر لول‬ ‫يملك من حطام ال ّ‬
‫ن تحت وطأة الجلد‪.‬‬ ‫تطاول الزمن على الجماهير وهي تئ ّ‬
‫ومن الشواهد التي تؤكد لنا استقرار هذا المرض الجتماعي في عهد‬
‫فرعون ما رد ّ به المل من آل فرعون على دعوة موسى عليه السلم‪،‬حين‬
‫قالوا‪’’:‬أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون‘‘‪.923‬أي)وقومهما‬
‫من بني إسرائيل لنا عابدون يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون يأتمرون‬
‫لمرهم ويدينون لهم(‪،924‬فالمانع من اليمان بهما أّنهما من طبقة دون طبقة‬
‫المل من قوم فرعون وآله‪،‬وهي ذات القيم التي تذّرع بها قوم نوح حين‬
‫قالوا‪’’:‬أنؤمن لك واتبعك الرذلون‘‘‪،925‬أي)القلون جاها ومال(‪926‬؛فتلك‬
‫هي القيم الرخيصة التي ُيفرزها المجتمع الطبقي‪.‬‬
‫وحتى يكون المجتمع إنسانيا ل بد ّ أن يقوم على أساس من العقيدة‬
‫والفكر والتصور‪،‬وهو الساس الذي ُيمّيز النسان عن البهيمة والنعام‪،‬أي‬
‫ما يقع قي دائرة القدرة على الختيار فيحاسب النسان حينئذ على‬ ‫م ّ‬
‫ن الّناس كلهم‬ ‫اختياره‪.‬ولكي يكون إنسانيا ل بد ّ من تقرير حقيقة مفادها أ ّ‬
‫من نفس واحدة‪’’،‬يا أّيها الّناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس‬
‫واحدة‘‘‪،927‬أي)من هيئة واحدة وشكل واحد(‪،928‬تلك الحقيقة التي ُتسقط‬
‫الحدود المصطنعة بين البشر‪،‬وُتحطم مفهوم الطبقية من القواعد‪.‬‬
‫ن‬
‫ن السلم جعل التفاوت بين الّناس بالتقوى‪،‬فقال سبحانه‪’’:‬إ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫‪929‬‬
‫أكرمكم عند الله أتقاكم‘‘ ‪،‬هذا العلن الذي أسقط فرق اللون‬
‫ن أباكم‬ ‫ن ربكم واحد وإ ّ‬ ‫والعرق والقوم…وفي الحديث’’يا أيها الناس أل إ ّ‬
‫واحد‪،‬أل ل فضل لعربي على أعجمي ول لعجمي على عربي ول لحمر على‬
‫أسود ول أسود على أحمر إل بالتقوى‘‘‪.930‬وجعل السلم العلقة بين الّناس‬
‫تسودها المودة والمحبة وأنكر الشحناء والبغض والحقاد…يقول صلى الله‬
‫‪931‬‬
‫عليه وسلم‪’’:‬ل تباغضوا ول تحاسدوا ول تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا‘‘ ‪.‬‬
‫ن الّناس غير متفاوتين‪،‬بل هم متفاوتون بطبيعة‬ ‫وليس معنى هذا أ ّ‬
‫الخلق والتكوين والمواهب‪..‬يقول تعالى‪’’:‬ورفعنا بعضكم فوق بعض‬

‫‪]921‬الزخرف‪.[52:‬‬
‫‪922‬تفسير الطبري)‪.(25/82‬وانظر‪:‬معاني القرآن)‪.(6/370‬‬
‫‪]923‬المؤمنون‪.[47:‬‬
‫‪924‬تفسير الطبري)‪.(18/25‬وانظر‪:‬فتح القدير)‪(3/485‬وزاد المسير)‪(5/475‬وتفسير الواحدي)‬
‫‪(2/748‬وتفسير البغوي)‪.(3/310‬‬
‫‪]925‬هود‪.[111:‬‬
‫‪926‬تفسير البيضاوي)‪.(4/246‬‬
‫‪]927‬النساء‪.[1:‬‬
‫‪ 928‬تفسير القرطبي)‪.(7/339‬‬
‫‪]929‬الحجرات‪.[13:‬‬
‫‪930‬مسند أحمد)‪(5/411‬رقم)‪(23536‬والمعجم الوسط)‪(5/86‬رقم)‪(4749‬واللفظ لحمد‪.‬قال‬
‫الهيثمي)رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح(وانظر‪:‬مجمع الزوائد)‪.(3/266‬‬
‫‪931‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الدب‪،‬باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى‪:‬ومن شر حاسد إذا‬
‫حسد)‪(5/2253‬رقم)‪.(5718‬‬

‫‪155‬‬
‫درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا‘‘‪،932‬أي فاوت بينهم في الخلق‬
‫والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم والشكال واللوان‪ ..‬فخالف الله‬
‫بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا‪،‬وخفض من درجة هذا عن درجة‬
‫هذا‪933‬؛ذلك)ليستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وينتظم‬
‫بذلك نظام العالم(‪،934‬و)ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره‪،‬والفقير‬
‫في فقره ويسأله عن صبره(‪،935‬وله الحكمة في ذلك كقوله تعالى‪’’:‬نحن‬
‫قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق‬
‫بعض درجات‘‘‪،936‬أي)نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا‪،‬ولم‬
‫نفوض ذلك إليهم‪،‬وليس لحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله‬
‫وحده(‪،937‬فالمطلوب هو العدل بين الّناس وليس محو الفوارق الطبيعية‬
‫بينهم‪،‬وهي المعادلة التي ل يستطيع القيام بها وجعلها واقعا في حياة الّناس‬
‫غير السلم‪،‬وهذا ما ل يسمح به الطاغوت‪.‬‬
‫رابعا‪:‬طغيان المفهوم المادي للحياة‬
‫وهوإفراز طبيعي لتلك التصورات التي سادت المجتمع في عهد‬
‫مطبق وتلك المفاهيم علقة تبادلية‪،‬فالّنظام‬ ‫فرعون‪،‬والعلقة بين الّنظام ال ُ‬
‫ُيشجع وينشر تلك المفاهيم‪،‬وتلك المفاهيم ُتساعد على بقاء الّنظام‪،‬والنتيجة‬
‫لتلك العلقة تلشي المعنى الحقيقي للحياة‪،‬وغياب الروابط النسانية التي‬
‫يجب أن تسود أفراد المجتمع‪،‬وتختفي الخلق والقيم ويتحول المجتمع إلى‬
‫قطعان بشرية تسوقها الغرائز الحيوانية‪،‬ويسود الجشع والطمع والنانية…‬
‫تلك هي النتائج الحتمية لنعدام اليمان بيوم آخر يحاسب فيه الّناس على‬
‫ن أهداف الّناس وغاياتهم تنحصر في هذه الدنيا‪،‬ويزداد الجري‬ ‫أعمالهم فإ ّ‬
‫وراء تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة واللذة العاجلة‪،‬ويسود مذهب‬
‫النفعيين والوصوليين‪،‬ويصبح المقياس الوحيد في عقول الّناس هو المادة‪.‬‬
‫ن الكسب في الدنيا مهما بلغ ل يشبع تطلعات‬ ‫ومع ذلك فإ ّ‬
‫النسان‪،‬فيبقى في جوع دائم حتى يداهمه الموت‪،‬ولذلك كان اليوم الخر‬
‫والجزاء في الجّنة التي فيها للصالحين ما يشاؤون وعند الله مزيد‪.‬فهل‬
‫يستطيع فرد مهما بلغ من القدرات أن يحقق في دنياه ما يشاء؟!بالطبع ل‬
‫يستطيع‪،‬وبالتالي يبقى في جري دائم ليس له نهاية أو حد‪.‬‬
‫لقد مّهد فرعون السبيل لنفسه‪،‬وأوجد الرضية القابلة لستقبال‬
‫مهّيأة للتجاوب مع‬ ‫مفاهيمه وأفكاره‪،‬فها هو فرعون ُيخاطب الجماهير ال ُ‬
‫أطروحاته‪،‬ويضرب على الوتر الحساس الذي تتفاعل معه الحشود المنبهرة‬
‫ده على موسى عليه‬ ‫بما عنده من زينة وأموال‪،‬وذلك في معرض ر ّ‬
‫السلم‪،‬فهو يتوقع مسبقا مدى تأثير ذلك الخطاب على تلك الجماهير‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر‬
‫وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون‘‘‪.938‬وأراد بذلك أن‬

‫‪]932‬النعام‪.[165:‬‬
‫‪933‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(8/114‬وتفسير القرطبي)‪.(7/158‬‬
‫‪934‬تفسير البيضاوي)‪(5/145‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(4/128‬وتفسير أبي السعود)‪.(8/46‬‬
‫‪935‬تفسير ابن كثير)‪.(2/201‬‬
‫‪]936‬الزخرف‪.[32:‬‬
‫‪937‬فتح القدير)‪.(4/554‬‬
‫‪]938‬الزخرف‪.[51:‬‬

‫‪156‬‬
‫يبهرهم بما عنده من متاع الدنيا الزائل‪،‬في ظرف طغت فيه المفاهيم‬
‫المادية على كل شيء‪.‬‬
‫م يزيدهم في الحجة والبرهان الزائفين بقوله‪’’:‬فلول ألقي عليه‬ ‫ث ّ‬
‫ُ‬ ‫‪939‬‬
‫أسورة من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين‘‘ ‪.‬أي)فهل ألقي‬
‫على موسى إن كان صادقا أّنه رسول رب العالمين أسورة من‬
‫ن من اقتصر نظره على الدنيا ل‬ ‫ذهب(‪،940‬فاستخف عقولهم بهذا فأطاعوه‪،‬ل ّ‬
‫عقل عنده ول بصر‪.‬ولقد علم فرعون الحقيقة كلها‪:‬علم أّنه ليس على‬
‫شيء‪،‬فل حجة عنده ول برهان‪،‬وعلم‪-‬في المقابل‪-‬سفاهة من يخاطبهم‬
‫وشدة تعلقهم بالدنيا‪،‬فأراد أن يبهرهم بما ينبهرون به من زخارف الرض كي‬
‫ل ُيبصروا الحقيقة التي يخشاها؛ذلك أن التعلق بالدنيا ُيفقد النسان القدرة‬
‫على استيعاب الحقائق‪،‬وُيصاب بقصر الّنظر بل وانعدامه‪.‬‬
‫ل على طغيان المفهوم المادي من موقف السحرة عندما‬ ‫وليس أد ّ‬
‫استدعاهم فرعون لمعارضة موسى‪-‬عليه السلم‪ -‬بسحرهم‪،‬فكان مطلب‬
‫ما جاء السحرة قالوا‬ ‫م الغالب هو الجر‪’’،‬فل ّ‬ ‫السحرة الوحيد واله ّ‬
‫‪941‬‬
‫ن طغيان‬ ‫ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين‘‘ ؛ذلك أ ّ‬ ‫لفرعون أئ ّ‬
‫المفهوم المادي قد سّيطر على قلوبهم وعقولهم؛فجعلهم يرغبون في الجمع‬
‫والمنع والحرص على الدنيا‪،942‬ومن هنا نفهم سبب تملق الجماهير المصابة‬
‫بهذا الداء للحكومة وتزلفها لها‪،‬فغايتها نيل المطلوب وهو الدرهم‬
‫م تستغل الحكومة المرض‬ ‫والدينار‪،‬فليس هناك غاية أبعد من هذه وأبقى!ث ّ‬
‫ل أخرى‪،‬ويشتد ّ السباق بين الجماهير‬ ‫الذي أنشأته‪،‬فتقرب طائفة وتستذ ّ‬
‫دولة‪.‬ومن هنا كان هذا المرض أثرا‬ ‫من في جعبته مال ال ّ‬ ‫ي النعمة و َ‬‫لرضاء ول ّ‬
‫للطاغوت وسببا في بقائه واستمراره‪.‬‬
‫ول النسان إلى عبد مسترق‬ ‫ن طغيان المفهوم المادي ُيح ّ‬ ‫إ ّ‬
‫لشهواته‪،‬يقول صلى الله عليه وسلم‪’’:‬تعس عبد الدينار وعبد‬
‫الدرهم‘‘‪،943‬و)خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها‬
‫ن‬
‫كالسير الذي ليجد خلصا‪،‬ولم يقل مالك الدينار ول جامع الدينار ل ّ‬
‫ن الدينار‬ ‫المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة(‪،944‬وكأ ّ‬
‫والدرهم إله يعبد من دون الله‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫‪]939‬الزخرف‪.[53:‬‬
‫‪940‬تفسير الطبري)‪.(25/82‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/148‬وتفسير الثعالبي)‪(4/130‬وتفسير‬
‫البغوي)‪.(4/142‬‬
‫‪]941‬الشعراء‪.[41:‬‬
‫‪942‬انظر‪:‬فيض القدير)‪.(3/261‬‬
‫‪943‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الجهاد والسير‪،‬باب الحراسة في الغزو في سبيل الله)‪(3/1057‬رقم)‬
‫‪.(2730‬‬
‫‪944‬فتح الباري)‪.(11/254‬‬

‫‪157‬‬
‫جلب العقوبات الّربانية‬
‫ن الغيوم السوداء التي انتشرت في عهد فرعون تنذر بالخطر‬ ‫إ ّ‬
‫الشديد‪’’،‬قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح‬
‫فيها عذاب أليم‘‘‪.945‬لقد جرت سّنة الله أّنه ل عقوبة إل ّ بذنب‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬فكل أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم‬
‫من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الرض ومنهم من‬
‫أغرقنا‘‘‪.946‬فالذنب يجلب العقوبة‪،‬والعقوبة تتنوع بتنوع الذنب‪،‬سنة ل تبديل‬
‫لها ول تحويل‪.‬‬
‫داعي لكل رذيلة‪،‬وأساس كل‬ ‫ما كان فرعون رأس كل خطيئة‪،‬وال ّ‬ ‫ول ّ‬
‫فتنة‪،‬كان ل بد ّ أن يكون أول المعاقبين وأشدهم أخذا من الله ج ّ‬
‫ل‬
‫شأنه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا‬
‫وبيل‪948‘‘947‬؛)فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول‪-‬أي محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪-‬فيصيبكم ما أصاب فرعون‪،‬حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر(‪)،949‬وفيه‬
‫تخويف لهل مكة أنه سينـزل بهم من العقوبة مثل ما أنزل به‪،‬وإن اختلف‬
‫نوع العقوبة(‪،950‬وهو تخويف مستمر‪،‬فكلما عصى الّناس رسول الله محمد‬
‫صّلى الله عليه وسلم‪-‬في أي زمان ومكان‪ -‬أنزل الله عليهم عقوبته‪.‬‬
‫ما تجاوز فرعون كل الحدود وادعى‬ ‫وتشتد ّ العقوبة مع عظم الذنب‪،‬فل ّ‬
‫الربوبية أخذه الله نكال الخرة والولى‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فقال أنا ربكم‬
‫العلى‪،‬فأخذه الله نكال الخرة والولى‘‘‪.951‬فكان الخذ بعد‬
‫ل من تبع فرعون وسار على‬ ‫م اتسعت العقوبة حتى شملت ك ّ‬ ‫الذنب‪..‬ث ّ‬
‫نهجه‪،‬حيث أنزل الله‪-‬سبحانه‪-‬عليهم بأسه الذي ل يرد‪،‬وصب عليهم سوط‬
‫ن السوط كان‬ ‫دمار؛ذلك)ل ّ‬ ‫عذاب ل يرفع‪،‬فكانت نهايتهم البوار والهلك وال ّ‬
‫عندهم نهاية ما ُيعذب به(‪،952‬ولّنه أشد ألما من غيره عَب َّر به‪،‬بقوله‬
‫تعالى‪’’:‬وفرعون ذي الوتاد‪،‬الذين طغوا في البلد‪،‬فأكثروا فيها‬
‫ن ربك‬‫الفساد‪،‬فصب عليهم ربك سوط عذاب‪،‬إ ّ‬
‫لبالمرصاد‘‘‪.953‬وكانت عقوبة التدمير والتخريب لما صنعوه من العمارات‬
‫مرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما‬ ‫والمزارع‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ود ّ‬
‫كانوا يعرشون‘‘‪.954‬ويقول تعالى‪’’:‬فقلنا اذهبا إلى القوم الذين‬
‫كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا‘‘‪.955‬‬
‫ن التكذيب بآيات الله والكفر بها سبب لخذ الله لهم وإهلكهم‪،‬يقول‬ ‫إ ّ‬
‫تعالى‪’’:‬كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله‬
‫ن الله قوي شديد العقاب‘‘‪.956‬ويقول‬ ‫فأخذهم الله بذنوبهم إ ّ‬
‫‪]945‬الحقاف‪.[24:‬‬
‫‪]946‬العنكبوت‪.[40:‬‬
‫‪)947‬وبيل أي شديدا‪،‬وضرب وبيل أي شديد(لسان العرب‪،‬مادة‪:‬وبل)‪.(11/720‬وانظر‪:‬مختار‬
‫الصحاح‪،‬مادة‪:‬وبل)‪.(1/294‬‬
‫‪]948‬المزمل‪.[16:‬‬
‫‪949‬تفسير ابن كثير)‪.(4/439‬‬
‫‪950‬فتح القدير)‪.(5/319‬‬
‫‪]951‬الّنازعات‪.[25-24:‬‬
‫‪ 952‬تفسير القرطبي)‪.(20/49‬‬
‫‪]953‬الفجر‪.[14-10:‬‬
‫‪]954‬العراف‪.[137:‬‬
‫‪]955‬الفرقان‪.[36:‬‬
‫‪]956‬النفال‪.[52:‬‬

‫‪158‬‬
‫ذبوا بآيات ربهم‬ ‫تعالى‪’’:‬كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ك ّ‬
‫‪957‬‬
‫فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين‘‘ ‪.‬‬
‫ن اتباع الظالمين ومشاركتهم ومساندتهم تجلب عقوبة الله‪،‬فلول هذه‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫المشاركة والمساندة لما استطاع الظالم بمفرده أن يفعل شيئا‪.‬‬
‫العقوبات التي نزلت على فرعون وملئه وآله‬
‫بّين القرآن الكريم العقوبات التي أنزلها الله على أولئك القوم‬
‫الظالمين‪،‬حيث تنوعت وتعددت وتعاقبت على فترات من الزمن لعلهم إلى‬
‫ربهم يرجعون بالتوبة والنابة‪،‬و)البلوى من الله على جهتين فبلوى رحمة‬
‫وبلوى عقوبة‪،‬فبلوى رحمة يبعث صاحبه على إظهار فقره وفاقته إلى الله‬
‫وترك تدبيره‪،‬وبلوى عقوبة يترك صاحبه على اختياره وتدبيره (‪،958‬وهؤلء‬
‫صروا على غّيهم وفجورهم المرة بعد المرة حتى أخذهم الله أخذ عزيز‬ ‫أ ّ‬
‫مقتدر‪،‬ول حول ول قوة إل ّ بالله‪.‬‬
‫ل شأنه بالقحط ونقص‬ ‫كانت أولى العقوبات أن أخذهم الله ج ّ‬
‫الثمرات‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من‬
‫ذكرون‘‘‪ .959‬أي)إختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم‬ ‫الثمرات لعلهم ي ّ‬
‫بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع ونقص من‬
‫الثمرات(‪،960‬وحدوث القحط ونقص الثمرات فى أرض مصر‪،‬المخصبة‬
‫المثمرة المعطاء‪،‬تبدو)ظاهرة تلفت النظر‪،‬وتهز القلب‪،‬وتثير القلق‪،‬وتدعو‬
‫‪961‬‬
‫صروا‬ ‫ن القوم قد ران الشيطان على قلوبهم فأ ّ‬ ‫إلى اليقظة والتفكر( ‪.‬ولك ّ‬
‫على معصيتهم‪،‬وأخذتهم العزة بالثم‪’’،‬وقالوا مهما تأتنا به من آية‬
‫لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‘‘‪.962‬والمعنى أ ّ‬
‫ن)أيّ آية جئتنا بها‬
‫ودللة وحجة أقمتها رددناها فل نقبلها منك ولنؤمن بك ول بما جئت‬
‫دمه موسى عليه السلم لهم من اليات سحرا‪،‬كبرت‬ ‫ن ما ق ّ‬ ‫به(‪،963‬معتبرين أ ّ‬
‫كلمة تخرج من أفواههم‪،‬إن يقولون إل ّ كذبا‪.‬‬
‫والصرار على الذنب ل يرفع العقوبة بل يجلب المزيد من غضب الله‬
‫وسخطه‪،‬ولذلك تتابعت النكبات عليهم‪،‬فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد‬
‫دم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأرسلنا عليهم الطوفان‬ ‫مل والضفادع وال ّ‬ ‫والق ّ‬
‫دم آيات مفصلت فاستكبروا‬ ‫مل والضفادع وال ّ‬ ‫والجراد والق ّ‬
‫‪964‬‬
‫وكانوا قوما مجرمين‘‘ ‪.‬أي)آيات مفصلت يتبع بعضها بعضا‪،‬فكل‬
‫عذاب كان يمتد أسبوعا وبين كل عذابين شهرا(‪،965‬ولكّنهم استكبروا‬
‫وامتنعوا عن قبول الحق وكانوا قوما مجرمين‪.‬‬
‫م وقع عليهم الرجز‪،‬أي العذاب)وجائز أن يكون ذلك طاعونا وجائز‬ ‫ث ّ‬
‫أن يكون غيره ول دللة في ظاهر القرآن ول في أثر عن الرسول ثابت أي‬
‫ن عذابا من الله قد أصابهم ونزل‬ ‫أصناف ذلك كان(‪،966‬إّنما يكفي أن نعلم أ ّ‬

‫‪]957‬النفال‪.[54:‬‬
‫‪ 958‬حلية الولياء)‪.(10/196‬‬
‫‪]959‬العراف‪.[130:‬‬
‫‪960‬تفسير ابن كثير)‪.(2/240‬‬
‫‪961‬في ظلل القرآن)‪.(3/615‬‬
‫‪]962‬العراف‪.[132:‬‬
‫‪963‬تفسير ابن كثير)‪.(2/241‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(3/52‬‬
‫‪]964‬العراف‪.[133:‬‬
‫‪965‬تفسير البغوي)‪.(2/193‬‬
‫‪966‬تفسير الطبري)‪.(1/306‬‬

‫‪159‬‬
‫ل على ذلك قوله‬ ‫بهم‪،‬والظاهر أّنه عذاب لم يستطيعوا الصمود أمامه‪،‬ود ّ‬
‫ما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما‬ ‫تعالى‪’’:‬ول ّ‬
‫ن معك بني‬ ‫ن لك ولنرسل ّ‬ ‫عهد عندك لئن كشفت عّنا الرجز لنؤمن ّ‬
‫إسرائيل‘‘‪.967‬‬
‫ن القوم نكثوا وعادوا لغيهم وفسادهم بعد أن استجاب الله لدعاء‬ ‫ولك ّ‬
‫ما كشفنا عنهم الرجز إلى‬ ‫نبيه عليه السلم‪،‬حيث يقول تعالى‪’’:‬فل ّ‬
‫أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون‘‘‪،.968‬فكان نكثهم سببا لنتقام الله‬
‫منهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فانتقمنا منهم‘‘‪.969‬فالننظر كيف كان عاقبة‬
‫الظالمين‪.‬‬
‫لقد سلبهم الله ما خولهم من الّنعم‪:‬فالشكر قيد النعم به تدوم‬
‫وتبقى وتزداد‪،‬فمن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة‪،970‬يقول تعالى‪’’:‬لئن‬
‫شكرتم لزيدّنكم‘‘‪،971‬وبتركه ُتسلب وتتحول‪،‬وهؤلء كفروا نعم الله‬
‫ما كانوا فيه‪،‬فكان خروجهم في مطاردة‬ ‫وعصوا رسله‪،‬فأخرجهم الله م ّ‬
‫موسى ومن معه خروجا ل عودة منه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فأخرجناهم من‬
‫جنات وعيون‪،‬وكنوز ومقام كريم‪،‬كذلك وأورثناها بني‬
‫إسرائيل‘‘‪.972‬ويقول تعالى‪’’:‬كم تركوا من جنات وعيون‪،‬وزروع‬
‫ومقام كريم‪،‬ونعمة كانوا فيها فاكهين‘‘‪).973‬فسلبوا ذلك جميعه في‬
‫ن خروجهم هذا ل عودة بعده‪،‬فقد قضى الله عليهم‬ ‫صبيحة واحدة(‪974‬؛ذلك ل ّ‬
‫بالموت غرقا‪،‬ليكونوا عبرة لمن خلفهم‪.‬يقول تعالى‪’’:‬فانتقمنا منهم‬
‫م بأّنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها‬ ‫فأغرقناهم في الي ّ‬
‫غافلين‘‘‪،975‬ويقول تعالى‪’’:‬فأراد أن يستفزهم من الرض‬
‫فأغرقناه ومن معه جميعا‘‘‪،976‬ويقول تعالى‪’’:‬فأخذناه وجنوده‬
‫م وهومليم‘‘‪.977‬‬ ‫فنبذناهم في الي ّ‬
‫لقد خرجوا في طلب موسى وهم يظنون أّنهم عليه منتصرون‪،‬فإذا هم‬
‫ن الله قضى عليهم بالغرق بعد أن حّلت‬ ‫بعد خروجهم ل يرجعون‪،‬ذلك أ ّ‬
‫ل شأنه‪.‬ذلك بسبب تكذيبهم وكفرهم بآيات الله والغفلة‬ ‫عليهم نقمته ج ّ‬
‫عنها‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد جاء آل فرعون الّنذر‪،‬كذبوا بآياتنا‬
‫فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‘‘‪،978‬ولّنهم كانوا ظالمين)لنفسهم بالكفر‬
‫والمعاصي حيث عرضوها للهلك‪،‬أو واضعين الكفر والتكذيب مكان اليمان‬
‫والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم(‪،979‬كما أّنهم كانوا )ظالمين لغيرهم كما‬

‫‪]967‬العراف‪.[134:‬‬
‫‪]968‬العراف‪.[135:‬‬
‫‪]969‬العراف‪.[136:‬‬
‫‪970‬إتقان ما يحسن من الخبار)‪.(2/516‬‬
‫‪]971‬ابراهيم‪.[7:‬‬
‫‪]972‬الشعراء‪.[59-57:‬‬
‫‪]973‬الدخان‪.[27-25:‬‬
‫‪974‬تفسير ابن كثير)‪.(4/142‬‬
‫‪]975‬العراف‪.[134:‬‬
‫‪]976‬السراء‪.[103:‬‬
‫‪]977‬الذاريات‪.[40:‬‬
‫‪] 978‬القمر‪.[42-41:‬‬
‫‪979‬تفسير أبي السعود)‪.(30-4/29‬‬

‫‪160‬‬
‫كان يجرى منهم في معاملتهم للناس بأنواع الظلم(‪،980‬فكان مرتع الظلم‬
‫عليهم وخيما‪،‬كما كان اتباعهم لفرعون هلكا لهم ودمارا‪.‬‬
‫أراد فرعون أن يستفز موسى ومن آمن معه من الرض‪،‬فكانت عقوبته‬
‫م به‪،‬حيث أزاله الله عن وجه الرض إلى البد‪.‬‬ ‫من جنس ما ه ّ‬
‫ن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ومن‬ ‫)إ ّ‬
‫اليات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلة‬
‫والسلم(‪،981‬و)كذلك اقصاصها على ماهي عليه من رسول الله معجزة جليلة‬
‫تطمئن بها القلوب البية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لعقابهم أن‬
‫يتلقوها بالذعان فل تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها ول تذكرت أو اخرهم‬
‫بتذكيرهاوروايتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها(‪.982‬‬
‫وبعد هذا لم يسدل القرآن الستار بل كشف لنا عن مصيرهم بعد‬
‫موتهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وحاق بآل فرعون سوء العذاب‪،‬الّنار يعرضون‬
‫د‬
‫عليها غدوا وعشّيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أش ّ‬
‫ن أرواحهم ُتعرض على الّنار صباحا ومساء إلى قيام‬ ‫العذاب‘‘‪).983‬فإ ّ‬
‫الساعة‪،‬فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في‬
‫الّنار(‪،984‬ولهذا قال‪’’:‬ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‘‘‪،‬‬
‫ن عذابها‬‫)أي عذاب جهنم‪،‬فإّنه أشد مما كانوا فيه‪،‬أو أشد عذاب جهنم‪،‬فإ ّ‬
‫ألوان بعضها أشد من بعض(‪،985‬والمعنى أدخلوهم أشده ألما وأعظمه نكال‪.‬‬
‫شقية عبر مشاهد تقشعر لها البدان فها‬ ‫م نتابع مع القرآن رحلتهم ال ّ‬ ‫ث ّ‬
‫هو فرعون)يقدم قومه يوم القيامة‪،‬يقودهم فيمضي بهم إلى النار حتى‬
‫يوردهموها ويصليهم سعيرها(‪،986‬يقول تعالى‪’’:‬يقدم قومه يوم القيامة‬
‫فأوردهم الّنار وبئس الورد المورود‘‘‪.987‬يقودهم يوم القيامة)كما كان‬
‫يقودهم في الدنيا إلى الضلل‪’’.‬فأوردهم النار‘‘‪،‬ذكره بلفظ الماضي مبالغة‬
‫م‬‫في تحقيقه‪،‬ونزل الّنار لهم منـزلة الماء فسمى إتياناها موردا‪،‬ث ّ‬
‫قال‪’’:‬وبئس الورد المورود‘‘‪،‬أي بئس المورد الذي وردوه‪،‬فإّنه ُيراد لتبريد‬
‫الكباد وتسكين العطش والّنار بالضد(‪.988‬‬
‫فها هي آثار فرعون يجّليها لنا كتاب الله‪،‬حيث نصل إلى المشهد الخير‬
‫من فصولها المأساوية‪،‬ونحن نرى أتباعه أئمة يدعون إلى الّنار وقد حّلت‬
‫دنيا ولخرة‪،‬حيث يقول تعالى‪’’:‬وجعلناهم أئمة‬ ‫عليهم لعنة الله في ال ّ‬
‫يدعون إلى الّنار ويوم القيامة ل ينصرون‪،‬وأتبعناهم في هذه‬
‫الدنيا لعنة ويوم القيامةهم من المقبوحين‘‘‪.989‬أي)وجعلنا فرعون‬
‫وقومه أئمة يأتم بهم أهل العتو على الله والكفر به‪،‬يدعون الناس إلى‬
‫‪980‬فتح القدير)‪.(2/318‬‬
‫‪ 981‬تفسير البيضاوي)‪.(1/342‬‬
‫‪982‬تفسير أبي السعود)‪.(1/101‬‬
‫‪]983‬غافر‪.[46-45 :‬‬
‫‪984‬تفسير ابن كثير)‪.(4/82‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(24/71‬وتفسير البيضاوي)‪(5/95‬ودقائق‬
‫التفسير)‪(2/255‬وتفسير البغوي)‪(4/99‬وفتح القدير )‪(4/495‬وروح المعاني)‪.(24/73‬‬
‫‪985‬تفسير أبي السعود)‪.(7/279‬‬
‫‪986‬تفسير الطبري)‪.(12/110‬وانظر‪:‬تفسير الواحدي)‪(1/533‬وتفسير البغوي)‪(3/204‬وفتح‬
‫القدير)‪(2/526‬وزاد المسير)‪.(4/155‬‬
‫‪]987‬هود‪.[98:‬‬
‫‪988‬تفسير البيضاوي)‪.(3/259‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(9/93‬وتفسير أبي السعود)‪(4/239‬وتفسير‬
‫النسفي)‪.(2/171‬‬
‫‪]989‬القصص‪.[42-41:‬‬

‫‪161‬‬
‫أعمال أهل النار‪.‬ويوم القيامة ل ينصرهم‪-‬إذا عذبهم الله‪-‬ناصر‪،‬وقد كانوا في‬
‫الدنيا يتناصرون فاضمحلت تلك النصرة يومئذ‪.‬وقوله‪’’:‬وأتبعناهم في هذه‬
‫الدنيا لعنة ويوم القيامة‘‘‪،‬أي وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيا‬
‫وغضبا مّنا عليهم فختمنا لهم فيها بالهلك والبوار والثناء السيىء‪،‬ونحن‬
‫متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة‪،‬فمخزوهم بها الخزي الدائم‪،‬ومهينوهم‬
‫الهوان اللزم(‪.990‬‬

‫عبرة العقوبة والذنب‬


‫ن حركة التاريخ تبدوا وكأّنها سلسلة من الذنوب التي تتبعها العقوبة‬ ‫إ ّ‬
‫دة متفاوتة‪،‬متناسبة مع طبيعة الذنب‬ ‫على أشكال مختلفة ودرجات في الش ّ‬
‫ن‬
‫ومدى قبحه‪،‬فهي سّنة جارية وتقرير لعدل الله في معاملته لعباده‪،‬ذلك)أ ّ‬
‫الله ل يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا‬
‫ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا‪،‬واعتداء بعضهم على بعض‪،‬فتحل‬
‫ن الله لم يك مغيرا‬ ‫بهم حينئذ عقوبته وتغييره(‪.991‬يقول تعالى‪’’:‬ذلك بأ ّ‬
‫نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‘‘‪.992‬‬
‫وفي مقابل العقوبة والذنب نجد العطاء والشكر‪)،‬فالعاقل الحازم من‬
‫يستديم النعمة ويداوم على الشكر والفضال منها على عباده واكتساب ما‬
‫يفوز به في الخرة(‪،.993‬يقول تعالى‪’’:‬لئن شكرتم لزيدّنكم‘‘‪.994‬أي)لئن‬
‫شكرتم ربكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم لزيدنكم في أياديه عندكم‬
‫ونعمه عليكم على ما قد أعطاكم(‪.995‬‬
‫ن عبادة الطاغوت ُتخرج من مارسها من الّنور إلى‬ ‫ولهذا فإ ّ‬
‫الظلمات‪،‬يقول تعالى‪’’:‬والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت‬
‫ن عبادة الطاغوت‬ ‫ُيخرجونهم من الّنور إلى الظلمات‘‘‪996‬؛ذلك أ ّ‬
‫وموالته ذنب عظيم تجلب العقوبة من الله‪،‬فيعيش الّناس بسببها في‬
‫الظلمات‪،‬تلك الظلمات التي تسبب لهم العثرات والكبوات وُتفقدهم القدرة‬
‫ن السير والحركة في الظلم أمر فيه‬ ‫على الرؤية الصحيحة للحداث؛ذلك أ ّ‬
‫مخاطر كثيرة؛فالظلمات تجلب الحيرة والقلق والضطراب والخوف‬
‫والوحشة‪،‬وهذا ما نلحظه في كل مرة ُيعبد فيها الطاغوت أو ُيوالى من دون‬
‫الله‪.‬‬
‫ن ما نراه من تناحر وصراع بين المم والشعوب لهو دليل آخر على‬ ‫إ ّ‬
‫العقوبة الحاصلة في الّناس لعلهم يثوبون أو يرجعون‪،‬يقول تعالى‪’’:‬قل هو‬
‫القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت‬
‫أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض‘‘‪،997‬فها هو‬
‫ل مكان وبألوان شتى حيث ُتزهق الرواح وُتنتهك العراض‬ ‫العذاب في ك ّ‬

‫‪990‬تفسير الطبري)‪.(20/79‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(13/290‬وتفسير ابن كثير)‪(3/291‬وتفسير‬


‫ابي السعود)‪(7/15‬وتفسير البغوي)‪(3/447‬وتفسير النسفي)‪.(3/238‬‬
‫‪991‬تقسير الطبري)‪.(13/121‬‬
‫‪]992‬النفال‪.[54:‬‬
‫‪993‬فيض القدير)‪.(2/478‬‬
‫‪]994‬إبراهيم‪.[7:‬‬
‫‪995‬تفسير الطبري)‪.(13/186‬‬
‫‪]996‬البقرة‪.[257:‬‬
‫‪]997‬النعام‪.[65:‬‬

‫‪162‬‬
‫ويكُثر النتحار والسرقة والزنا وتفكك السرة والقهر والستبداد والمراض‬
‫العصبية والنفسية والتفتت الجتماعي…‬
‫وأقسى العقوبات التى نشاهدها أن تفقد الحياة معناها وطعمها؛فترى‬
‫غالبية الغنياء قد سئموا من الحياة ومّلوها‪،‬وربما وصل الحال عند بعضهم‬
‫ما الفقراء فكثر تسخطهم وتذمرهم‪،‬وأعلنوا رفضهم‬ ‫أن ُيقدم على النتحار!أ ّ‬
‫وعدم رضاهم لما قسم الله لهم‪،‬وضاقت عليهم الرض بما رحبت‪.‬‬

‫الفصل الخامس‪:‬الكيفية التي أرشد إليها القرآن‬


‫لمواجهة فرعون‬
‫المبحث الول‪:‬مرحلة التهيئة والعداد للمواجهة‬
‫المبحث الثاني‪:‬مرحلة المبا َ‬
‫شرة في التنفيذ‬
‫المبحث الثالث‪:‬مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت في‬
‫الحجة والبرهان‬

‫‪163‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة فرعون‬
‫يأتي هذا الفصل في سياقه الطبيعي بعد أن ذكرنا خصائص ووسائل‬
‫وأسباب وآثار شخصية فرعون‪،‬فمن الطبيعي أن يطرأ في الذهن تساؤل‬
‫عن كيفية مواجهة هذه الشخصية‪،‬وهو تساؤل طبيعي يأتي متناسقا مع ما مّر‬
‫ن تشخيص المرض ل يكفي دون وصف العلج‪،‬فكثيرا ما ُيسهب‬ ‫مإ ّ‬
‫ذكره‪،‬ث ّ‬
‫بعض المشتغلين في الدعوة بوصف المراض دون ذكر العلج لها‪،‬من هنا‬
‫تأتي أهمية هذا الفصل‪.‬ولفهم كيفية المعالجة والمواجهة ل بد ّ من الشارة‬
‫إلى أمرين مهمين‪:‬‬
‫ُ‬
‫ن موسى عليه السلم أمر أن يذهب إلى فرعون الذي طغى‬ ‫الول‪:‬أ ّ‬
‫وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب العلى‪..‬وكان حال القوم من حول‬
‫فرعون شراذم‪،‬قسم يسير مع فرعون مشاركا ومؤازرا‪،‬وقسم تعود الخضوع‬
‫والخنوع‪،‬حيث أذلهم الستعباد الطويل وأفسد فطرتهم‪،‬وأضعف استعدادهم‬
‫للمقاومة‪،‬فالحالة في غاية النحطاط والهبوط‪.‬‬
‫ن كيفية المواجهة ترتبط بالغايات المرادة من تلك‬ ‫الثاني‪:‬أ ّ‬
‫المواجهة‪.‬فموسى عليه السلم كانت له مهمة‪،‬مفادها إرسال بني إسرائيل‬
‫من قبضة فرعون والكف عن تعذيبهم‪،‬وذلك ما ُيرشد إليه قوله‬
‫تعالى‪’’:‬فأتياه فقول إّنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ول‬
‫ُتعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلم على من اتبع الهدى‪،‬إّنا‬
‫ذب وتولى‘‘‪.998‬وقوله‬ ‫ن العذاب على من ك ّ‬ ‫قد أوحي إلينا أ ّ‬
‫تعالى‪’’:‬فأتيا فرعون فقول إّنا رسول رب العالمين‪،‬أن أرسل‬
‫معنا بني إسرائيل‘‘‪.999‬أي)أطلقهم ول تعذبهم بالتكاليف الصعبة وقتل‬
‫الولدان‪،‬فإّنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل‪،‬‬
‫ويقتلون ذكور أولدهم في عام دون عام‪،‬وفي هذا دليل على أن تخليص‬
‫المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى اليمان ويجوز أن يكون للتدريج‬
‫في الدعوة(‪.1000‬‬
‫طب‪-‬فرعون والمل وآل فرعون‬ ‫خا َ‬
‫م َ‬
‫فالكيفية‪-‬إذن‪-‬مرتبطة بطبيعة ال ُ‬
‫خطاب ومضمونه‪،‬فالخطاب وإن‬ ‫والمستعبدين من بني إسرائيل‪-‬وبطبيعة ال ِ‬
‫كان مقصوده الساسي إطلق بني إسرائيل فقد حمل في طّياته‪-‬أيضا‪-‬‬
‫هجوما واضحا على أهم ما تقوم عليه شخصية فرعون من دعوى اللوهية‬
‫والربوبية‪،‬وبيان ذلك في قول موسى وهارون‪’’:‬إّنا رسول‬
‫ربك‘‘‪،1001‬والمعنى أّنهما)ُأمرا بذلك تحقيقا للحق من أول المر ليعرف‬
‫الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه(‪.1002‬وقولهما‪’’:‬إّنا رسول رب‬
‫‪] 998‬طه‪.[48-47:‬‬
‫‪]999‬الشعراء‪.[17-16:‬‬
‫‪1000‬تفسير البيضاوي)‪.(53-4/52‬‬
‫‪] 1001‬طه‪.[47:‬‬
‫‪1002‬تفسير أبي السعود)‪.(6/19‬‬

‫‪164‬‬
‫‪1003‬‬
‫م ما كان من جواب فرعون’’فمن ربكما يا‬ ‫العالمين‘‘ ‪،‬ث ّ‬
‫موسى‪.1005‘‘1004‬وإّنما قال ذلك لموسى)منكرا وجود الصانع الخالق إله كل‬
‫شيء وربه ومليكه(‪،1006‬فلم يكن سؤال بحث عن الحقيقة‪،‬وهو مؤشر على‬
‫بدء الصدام والخصام‪.‬‬
‫من هنا يتضح أن الدعوة لطلق بني إسرائيل كانت تعني بالّنسبة‬
‫لفرعون تدمير عرشه وهّز أركان مملكته‪،‬كما تعني‪-‬لو سّلم بالمر‪-‬انكشاف‬
‫كذبه فيما ادعاه من ُألوهية وربوبية‪.‬‬
‫سم كيفية‬‫ق ّ‬‫دم‪-‬وبعد الّنظر في كتاب الله‪ُ-‬يمكننا أن ن ُ َ‬‫على ضوء ما تق ّ‬
‫المواجهة إلى ثلثة مراحل‪-‬أي ثلثة مباحث‪:‬المبحث الول‪:‬مرحلة العداد‬
‫شرة في التنفيذ‪.‬المبحث الثالث‪:‬مرحلة‬ ‫للمواجهة‪.‬المبحث الثاني‪:‬مرحلة المبا َ‬
‫مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت في الحجة والبرهان‪.‬‬

‫المبحث الول‪:‬مرحلة التهيئة والعداد للمواجهة‬


‫كانت أولى الخطوات على هذا الطريق تهيئة الشخصية القيادية القادرة‬
‫على الوقوف أمام طاغية لم يشهد له التاريخ مثيل‪ُ،‬تمثل في وقوفها رأس‬
‫مل العبء الكبر‪،‬فمواجهة فرعون الطاغية‬ ‫الحربة في مواجهة فرعون‪،‬وتتح ّ‬
‫من أعظم الجهاد‪،‬وذلك ما ُيرشد إليه جواب رسول الله صلى الله عليه‬
‫م إمام‬‫سئل عن أي الجهاد أفضل فقال‪’’:‬كلمة عدل ث َ ّ‬ ‫وسلم حين ُ‬
‫جائر‘‘‪،1007‬ومن هنا ندرك معنى قوله تعالى لموسى عليه السلم‪’’:‬ولتصنع‬
‫على عيني‘‘‪.1008‬أي)تربى وتغذى بمرأى مني ل أكلك إلى غيري(‪،1009‬وما‬
‫ذلك إل ّ لتلقي الّرسالة وما فيها من تكاليف‪.‬‬
‫‪1010‬‬
‫وكذلك ندرك معنى قوله تعالى‪’’:‬واصطنعتك لنفسي‘‘ ‪،‬أي‬
‫اصطفيتك واجتبيتك لوحيي ورسالتي‪،‬وخلقتك وقويتك وعلمتك لتبلغ عبادي‬
‫أمري ونهيي‪،‬فليس لك من هذه الدنيا شيء‪.‬إّنما أنت للمهمة التي اصطنعتك‬

‫‪]1003‬الشعراء‪.[16:‬‬
‫‪ )1004‬قوله تعالى‪’’:‬فمن ربكما يا موسى‘‘أي وهارون فحذف للعلم به ويجوز أن يكون طلب‬
‫الخبار من موسى وحده إذ كان هو الصل(التبيان في إعراب القرآن)‪.(2/122‬‬
‫‪] 1005‬طه‪.[49:‬‬
‫‪1006‬تفسير ابن كثير)‪.(3/156‬‬
‫‪1007‬مسند أحمد)‪(5/256‬رقم)‪(22261‬وشعب اليمان)‪(6/93‬رقم)‪.(7582‬وانظر‪:‬سنن‬
‫الترمذي‪،‬كتاب الفتن‪،‬باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل ثم سلطان جائر‪(4/471)،‬رقم)‬
‫‪،(2174‬قال أبو عيسى وفي الباب عن أبي أمامة وهذا حديث حسن غريب‪.‬‬
‫‪] 1008‬طه‪.[39:‬‬
‫‪1009‬البيان في تفسير غريب القرآن)‪.(1/287‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪(16/162‬وتفسير ابن كثير)‬
‫‪.(3/148‬‬
‫‪] 1010‬طه‪.[41:‬‬

‫‪165‬‬
‫من أجلها‪،‬فالتجرد التام من حظ الّنفس والذات والقبال على التضحية ركن‬
‫أساسي في مواجهة الطواغيت‪.1011‬‬
‫ولتحقيق العداد والتهيئة كان البتلء‪،‬وذلك معنى قوله تعالى‪’’:‬وفتّناك‬
‫فتونا‘‘‪،1012‬أي)وابتليناك ابتلء‪،‬أو أنواعا من البتلء على أّنه جمع فتن أو‬
‫فتنة‪،‬فخلصناك مرة بعد أخرى‪،‬وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة‬
‫عن الوطن والمشي راجل على حذر وفَ ْ‬
‫قد ِ الزاد وتأجير نفسه(‪،1013‬وهي كلها‬
‫تجارب ضرورية لتهيأة الشخصية القادرة على المواجهة‪.‬‬
‫ن طبيعة التهيئة والعداد تتناسب مع حجم المسؤولية والتكليف‪،‬وذلك‬ ‫إ ّ‬
‫ما نفهمه من قوله تعالى للرسول محمد صلى الله عليه وسلم‪’’:‬قم الليل‬
‫إل ّ قليل نصفه أو انقص منه قليل‪،‬أو زد عليه ورّتل القرآن‬
‫ترتيل‪،‬إّنا سنلقي عليك قول ثقيل‘‘‪،1014‬فالقول الثقيل لما فيه من‬
‫تكاليف علة في تلك المجاهدة حيث يسهل عليه التكليف بالتهجد‬
‫والعبادة‪،1015‬ومن هنا بدأ العداد للمهمة الكبرى وليس هناك إل ّ الجد‬
‫والجتهاد‪.‬‬
‫لهذا د ُّرب موسى عليه السلم على المشاق منذ الصغر‪،‬في)خط طويل‬
‫من الرعاية والتوجيه‪،‬ومن التلقي والتجريب‪،‬قبل الّنداء وقبل التكليف…‬
‫تجربة الرعاية والحب والتدليل‪.‬وتجرية الندفاع تحت ضغط الغيظ‬
‫الحبيس‪،‬وتجربة الّندم والتحرج والستغفار‪.‬وتجربة الخوف والمطاردة‬
‫والفزع‪.‬وتجربة الغربة والحدة والجوع‪.‬وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة‬
‫القصور‪.‬وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة؛ذلك‬
‫ن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات‪..‬ورسالة موسى‬ ‫أ ّ‬
‫بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر‪-‬عدا رسالة محمد‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلم‪-‬فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر‪،‬أعتى ملوك الرض في‬
‫زمانه‪،‬وأقدمهم عرشا‪،‬وأثبتهم ملكا‪،‬وأعرقهم حضارة‪،‬وأشدهم تعبيدا للخلق‬
‫واستعلء في الرض‪..‬وهو مرسل لستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل‬
‫حتى استمرأوا مذاقه‪،‬فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويل‪،‬والذل يفسد‬
‫الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن‪..‬وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة‬
‫قديمة‪،‬انحرفوا عنها‪،‬وفسدت صورتها في قلوبهم‪.‬فل هي قلوب خامة تتقبل‬
‫العقيدة الجيدة ببراءة وسلمة‪،‬ول هي باقية على عقيدتها القديمة‪،‬ومعالجة‬
‫مثل هذه القلوب شاقة عسيرة‪..‬وهو في اختصار مرسل لعادة بناء أمة‪،‬بل‬
‫لنشاءها من الساس‪.‬فلول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقل‪،‬له حياة‬
‫خاصة‪،‬تحكمها رسالة‪.‬وإنشاء المم عمل شاق عسير‪.‬ولعله لهذا المعنى‬
‫كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة‪،‬فهي نموذج كامل لبناء أمة على‬
‫أساس دعوة(‪.1016‬‬
‫ومن هنا كانت المقارنة لبراز هذا المعنى في قوله تعالى‪’’:‬إّنا أرسلنا‬
‫إليكم رسول شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون‬
‫رسول‪،‬فعصى فرعون الرسول فاخذناه اخذا‬

‫‪1011‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(16/168‬وتفسير القرطبي)‪(11/198‬وتفسير ابن كثير)‪.(3/154‬‬


‫‪] 1012‬طه‪.[40:‬‬
‫‪1013‬تفسير البيضاوي)‪(4/51‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(6/16‬‬
‫‪]1014‬المزمل‪.[5-2:‬‬
‫‪1015‬انظر‪ :‬تفسير البيضاوي)‪.(5/405‬‬
‫‪1016‬في ظلل القرآن)‪(343-6/342‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫وبيل‘‘‪،1017‬أي)فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب‬
‫فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر(‪،1018‬ويظهر القياس‪-‬أيضًا‪-‬في قوله‬
‫تعالى‪’’:‬يا أيها الذين آمنوا ل تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الّله‬
‫مما قالوا‘‘‪،1019‬أي)ول تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله(‪،1020‬وفي‬
‫ي رضي الله‬‫هذا المعنى يندرج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل ّ‬
‫عنه’’أل ترضى أن تكون مّنى بمنزله هارون من موسى إل ّ أّنه ليس بعدى‬
‫ن في قصة فرعون ومواجهة موسى له عبرة ومثل للمة‪.‬‬ ‫نبى‘‘‪،1021‬ذلك أ ّ‬
‫بعض مميزات شخصية موسى والتي ُتعدّ نموذجا للشخصية‬
‫القادرة على مواجهة الطاغوت‬
‫أول‪:‬الّنفس العزيزة‪.‬‬
‫‪1022‬‬
‫)العّز خلف الذل‪..‬والعّزة الرفعة والمتناع( ‪،‬فالّنفس العزيزة هي‬
‫الّنفس الممتنعة على الطاغوت والرافضة للتطبيع والخنوع والذ ُ ّ‬
‫ل‬
‫والمهانة‪،1023‬وهي التي ل غنى عنها في مواجهة الطاغوت‪،‬ل تلك الّنفوس‬
‫م ينحصر دورها في‬ ‫التي تتعايش مع الواقع الذي ُينشؤه الطاغوت‪،‬ومن ث ّ‬
‫البحث الدائم عن حياة رخيصة في الهامش المتاح لها من قبل الطاغوت‪،‬بل‬
‫مثّبط‬‫وربما تتجنب فعل أي شيء قد يؤدي للصدام معه‪،‬وربما قامت بدور ال ُ‬
‫للثائرين عليه‪.‬‬
‫لقد كان أول ظهور عملي للشخصية العزيزة المتمثلة بموسى على‬
‫شكل ردة فعل منه عليه السلم على عدوان القبطي أول مرة ثم ردة فعله‬
‫ن‬
‫في الثانية‪-‬حتى كاد أن يبطش به‪-‬دليل على رفضه للذل والمهانة؛ذلك أ ّ‬
‫الشخصية العزيزة هي)التي ل تقبل الذل والهانة‪،‬وهي التي تقابل فرعون‬
‫وتقف في وجهه‪،‬ل تلك النفوس التي ألفت رؤية الطغيان يبطش وهم‬
‫ن هذا هو‬ ‫ن هذا هو الفضل‪،‬وأ ّ‬ ‫ن هذا هو الصل‪،‬وأ ّ‬ ‫ليتحركون‪،‬حتى وهموا أ ّ‬
‫ن هذا هو الصلح!فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم‬ ‫ن هذا هو الخلق!وأ ّ‬ ‫الدب‪،‬وأ ّ‬
‫عن نفسه‪،‬فُيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الوضاع التي يقوم‬
‫عليها…إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا‬
‫موا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا‪،‬أو جبارا‪،‬وصبوا عليه‬ ‫ودهشوا‪،‬وس ّ‬
‫لومهم ونقمتهم‪.‬ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إل ّ القليل!ولم‬
‫‪1024‬‬
‫يجدوا للمظلوم عذرا‪-‬حتى على فرض تهوره‪-‬من ضيقه بالظلم الثقيل!( ‪.‬‬
‫إّننا وبدون هذه الشخصية العزيزة التي لم تسمرىء الظلم لن نستطيع‬
‫ن أخطر وضع يمكن أن يتصوره النسان في ظل شخصية‬ ‫مواجهة فرعون‪،‬وإ ّ‬
‫فرعون‪-‬أو أي طاغوت آخر‪-‬هو استمراء وقبول الجماهير المستذلة للوضع‬
‫‪]1017‬المزمل‪.[16-15:‬‬
‫‪1018‬تفسير ابن كثير)‪.(4/439‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(9/52‬وفتح القدير)‪(5/319‬وروح‬
‫المعاني)‪.(19/108‬‬
‫‪]1019‬الحزاب‪.[69:‬‬
‫‪1020‬تفسير الطبري)‪.(22/50‬‬
‫‪1021‬صحيح البخاري‪،‬كتاب المغازي‪،‬باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة)‪(4/1602‬رقم)‪.(4154‬‬
‫‪1022‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬عزز)‪.(5/374‬‬
‫‪)1023‬العز حالة مانعة للنسان من أن يغلب والعزة قد يمدح بها كقوله‪’’:‬ولله العزة‬
‫ولرسوله‘‘‪.‬وقد يذم بها كعزة الكفار’’بل الذين كفروا في عزة‘‘‪،‬والعزة التي لله ورسوله‬
‫والمؤمنين هي العزة الحقيقية الدائمة الباقية‪،‬وعزة الكفار هي التعزز وهو في الحقيقة‬
‫ذل(التعاريف)‪.(513-512‬‬
‫‪1024‬في ظلل القرآن)‪.(333-6/332‬‬

‫‪167‬‬
‫القائم وعدم التفكير بتغييره‪،‬فمن يُهن يسُهل الهوان عليه‪.‬من هنا كان ل بد ّ‬
‫في مرحلة العداد من تعبئة مستمرة على رفض الظلم وتحريض على‬
‫الّتمرد والثورة‪.‬‬
‫ن الطريق إلى الرفعة واحدة ل ثانية لها‪،‬يقول تعالى‪’’:‬من كان يريد‬ ‫إ ّ‬
‫‪1025‬‬
‫العزة فلله العزة جميعا‘‘ ‪،‬أي من أراد الشرف والمنعة فليطلبها من‬
‫ن له كلها‪،1026‬ومحال علينا التحرر من نير الذل والستعباد إل ّ‬ ‫عند الله فإ ّ‬
‫بالرجوع إلى الله‪.‬‬
‫ن ما نراه من خنوع وخضوع من قبل قطاع كبير من الّناس ما هو إل ّ‬ ‫إ ّ‬
‫دليل على ضعف العزيمة واليمان في قلوبهم‪،‬فرغم ما يعانونه من اضطهاد‬
‫وقمع وأكل لحقوقهم‪..‬رغم هذا تجدهم ساكتين ل يؤلمهم هذا الظلم‬
‫والجور‪.‬وفي المقابل نجد كثيرا منهم متمردون على الله ل ينفذون أوامره‬
‫ول ينتهون عن نواهيه‪.‬فصار خوفهم من الطاغوت أشد مرات عدة من‬
‫خوفهم من الله‪،‬والتزامهم بشرع الطاغوت أقوى من التزامهم بشرع الله!‬
‫في مثل وسط كهذا من الخانعين لن يتورع الطغاة عن تنفيذ مآربهم‪،‬بل‬
‫وسيأتون بالمزيد من المأسي على شعوبهم‪،‬والسؤال من الذي يمنعهم؟‬
‫خنوع الجماهير أم خوفهم من الله؟!!أم أولئك الذين ُيمّرغون أنوفهم على‬
‫عتبات السلطان؟‬
‫ثانيا‪:‬المروءة والفطرة السليمة‪.‬‬
‫)المروءة كمال الرجولّية(‪،1027‬وهي)قوة للنفس مبدأ لصدور الفعال‬
‫الجميلة منها المستتبعة للمدح شرعا وعقل وعرفا‪،‬وقيل‪:‬أداة نفسانية يحمل‬
‫م محاسن الخلق وجميل العادات(‪1028‬؛‬ ‫مراعاتها النسان على الوقوف ث َ ّ‬
‫فالمروءة تحمل صاحبها على إغاثة المنكوبين ورفع الظلم عن‬
‫المستضعفين‪.‬ولقد تمّثل كمال المروءة في شخص نبينا صلى الله عليه‬
‫وسلم‪،‬وذلك بشهادة السيدة خديجة رضي الله عنها حين قالت له صلى الله‬
‫عليه وسلم‪’’:‬والله ل يخزيك الله أبدا‪.‬إّنك لتصل الرحم‪،‬وتصدق‬
‫الحديث‪،‬وتحمل الكل‪،‬وتكسب المعدوم‪،‬وتقري الضيف‪،‬وتعين على نوائب‬
‫الحق‘‘‪،1029‬فأين أصحاب المروءة في هذا الزمن الذي علت فيه صيحات‬
‫الثكالى واليتامى من المسلمين؟أين نحن من قوله تعالى‪’’:‬وما لكم ل‬
‫تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والّنساء‬
‫والولدان‘‘‪ ،1030‬أي)ما لكم ل تسعون في خلص هؤلء(‪.1031‬‬
‫ن مجرد رؤية موسى عليه السلم لمرأتين تذودان حّرك في نفسه‬ ‫إ ّ‬
‫مشاعر الّنجدة والّنخوة والرجولة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولما ورد ماء مدين وجد‬
‫علية امة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين‬
‫‪1032‬‬
‫ما‬
‫تذودان‘‘ ‪.‬أي)تكفكفان غنمهما أن ترد غنم أولئك الرعاء لئل يؤذيا‪،‬فل ّ‬
‫رآهما موسى عليه السلم رق لهما ورحمهما(‪1033‬وهو)مشهد ل تستريح إليه‬
‫‪]1025‬فاطر‪.[10:‬‬
‫‪1026‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(4/413‬‬
‫‪1027‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬مرأ)‪.(1/155‬‬
‫‪1028‬التعاريف)‪.(651-650‬‬
‫‪1029‬الخصائص الكبرى)‪.(1/156‬وانظر‪:‬أعلم النبوة)‪(1/311‬والسيرة الحلبية)‪.(1/391‬‬
‫‪]1030‬النساء‪.[75:‬‬
‫‪1031‬زاد المسير)‪.(2/132‬وانظر‪:‬معاني القرآن)‪(2/133‬وتفسير الواحدي)‪.(1/275‬‬
‫‪] 1032‬القصص‪.[23:‬‬
‫‪1033‬تفسير ابن كثير)‪.(3/384‬‬

‫‪168‬‬
‫النفس ذات المروءة‪،‬السليمة الفطرة‪،‬كنفس موسى عليه السلم‪،‬حين وجد‬
‫الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء‪،‬ووجد هناك امرأتين‬
‫تمنعان غنمهما عن ورود الماء‪.‬والولى عند ذوى المروءة والفطرة‬
‫السليمة‪،‬أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامها أول‪،‬وأن يفسح لهما الرجال‬
‫ويعينوهما(‪.1034‬‬
‫ن النشغال باللذة العاجلة والجاه الكاذب والمصالح الفانية عن القيام‬ ‫إ ّ‬
‫م سوى‬ ‫ض للمروءة وقتل لها‪،‬حيث لم يُعد للفرد ه ٌ‬ ‫بالواجب ونصرة الحق نق ٌ‬
‫نفسه‪-‬إل ّ من رحم ربي‪،-‬فهو منشغل بتوفير المتاع لها والراحة‪،‬وإذا طلب‬
‫ن‬‫النسان من نفسه القيام بالواجب وجدها عاجزة ضعيفة ثقيلة‪.‬والعجيب أ ّ‬
‫ل يقول’يجب‘!ولكن على من’يجب‘؟إّنه واقع مّر أن ترى العراض‬ ‫الك ّ‬
‫مة تخلت‬ ‫م ل تجد من ُينجدك‪.‬فغالبية ال ّ‬‫ُتستباح والبيوت ُتهدم والعدو ُيعربد‪..‬ث ّ‬
‫عن واجبها في نصرة المظلوم‪.‬أين الغنياء وأصحاب المليين من شعوب‬
‫وع؟أين الّرتب العسكرية وهم ينظرون إلى المستضعفين ُيسحقون‬ ‫ُتقهر وُتج ّ‬
‫م بهم‬ ‫عدت؟ونحن نسأل‪:‬هل هؤلء ُيقاوَ ُ‬ ‫بآلة العدو سحقا؟لمن هذه الجيوش ُ‬
‫عدتنا للمواجهة مع أشرس عدو وأخبث مّلة؟!‬ ‫فرعون؟هل هذه ُ‬
‫محّرك نحو القيام بواجب الّنصرة‬ ‫المروءة ليست مراهقة بل هي ال ُ‬
‫والعون والنقاذ)حتى ل تبقى فينا عين تطرف‪،‬وهي بذل المال حتى ل يبقى‬
‫لحد درهم‪.‬فإّنا لله وإّنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم‬
‫في أسر العدو وبأيديهم خزائن الموال وفضول الحوال والقدرة‬
‫والعدد(‪.1035‬يقول صلى الله عليه وسلم’’من ُقتل دون ماله فهو‬
‫شهيد‘‘‪،1036‬فكيف بمن يموت دون أمته وثروتها وعزتها وكرامتها؟‬
‫ثالثا‪:‬القوة والمانة‬
‫مكلف في مواجهة فرعون قويا قادرا على تنفيذ ما‬ ‫ّ‬ ‫أراد الله أن يكون ال ُ‬
‫ُأمر به‪،‬أمينا مؤد للتكليف؛فالقوة والمانة صفتان متلزمتان لحمل الدعوة‬
‫ده العجز عن المواجهة والتحدي‪،‬ولهذا‬ ‫قع ِ ُ‬
‫والتكليف‪،‬فالمين الضعيف عاجز ي ُ ْ‬
‫كان’’المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن‬
‫الضعيف‘‘‪.1037‬فالتكاليف الشرعية شاقة تحتاج إلى أخذها بقوة وخصوصا‬
‫من يكون في مركز القيادة‪،‬وهو معنى قوله تعالى‪’’:‬يا يحيى خذ‬ ‫عند َ‬
‫‪1038‬‬
‫الكتاب بقوة‘‘ ‪،‬أي بجد وحرص واجتهاد‪،‬وذلك بالعمل به والتزام أوامره‬
‫َ‬
‫دين جد ّ ل الهزل فيه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إّنه لقول‬ ‫والكف عن نواهيه‪.1039‬فأمُر ال ّ‬
‫فصل وما هو بالهزل‘‘‪،1040‬أي)فاصل بين الحق والباطل مبالغ في ذلك‬
‫كأنه نفس الفصل‪،‬وما هو بالهزل‪،‬بل كله جد محض ل هوادة فيه(‪.1041‬‬
‫ما القوة بل أمانة فطامة كبرى ومصيبة عظمى‪،‬ويكفي دللة على‬ ‫وأ ّ‬
‫ن إضاعة المانة من علمات الساعه‪،‬يقول صلى الله عليه وسلم’’إذا‬ ‫ذلك أ ّ‬

‫‪1034‬في ظلل القرآن)‪.(6/335‬‬


‫‪1035‬تفسير القرطبي)‪(8/57‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1036‬صحيح البخاري‪،‬كتاب المظالم‪،‬باب من قاتل دون ماله)‪(2/877‬رقم)‪.(2348‬‬
‫‪1037‬صحيح مسلم‪،‬كتاب القدر‪،‬باب في المر بالقوة وترك العجز والستعانة بالله وتفويض المقادير‬
‫لله)‪(4/2052‬رقم)‪.(2664‬‬
‫‪]1038‬مريم‪.[12:‬‬
‫‪1039‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(11/86‬وتفسير ابن كثير)‪.(3/114‬‬
‫‪]1040‬الطارق‪.[14-13:‬‬
‫‪1041‬تفسير ابي السعود)‪(9/142‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/477‬وفتح القدير)‬
‫‪.(5/421‬‬

‫‪169‬‬
‫سد المر لغير‬ ‫ضيعت المانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وُ ّ‬
‫أهله فانتظر الساعة‘‘‪.1042‬‬
‫ورفع القرآن من شأن المانة فقال سبحانه‪’’:‬إّنا عرضنا المانة‬
‫على السماوات والرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن‬
‫منها‘‘‪ ،1043‬والمعنى)إنها لعظمية شأنها بحيث لو عرضت على هذه الجرام‬
‫العظام وكانت ذات شعور وإدراك لبين أن يحملنها وأشفقن‬
‫ل شيء مطلوبة‪،‬وهي أعم من‬ ‫منها(‪.1044‬فالمانة عظيمة وهي في ك ّ‬
‫دين‪.1045‬‬ ‫العهد‪،‬وكل عهد فهو أمانة‪،‬بل هي تعم جميع وظائف ال ّ‬
‫قب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند‬ ‫ولحكمة بالغة أرادها الله ل ُ ّ‬
‫ن الله سبحانه)قد صانه وحماه من‬ ‫أهل الجاهلية الولى بالمين‪،‬ل ّ‬
‫صغره‪،‬وطهره من دنس الجاهلية‪،‬ومن كل عيب‪،‬ومنحه كل خلق جميل حتى‬
‫لم يعرف بين قومه إل بالمين لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه‬
‫وأمانته‪،‬حتى إّنه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلثين من عمره‬
‫فوصلوا إلى موضع الحجر السود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه‪،‬فقالت‬
‫م اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم‪،‬وكان رسول‬ ‫كل قبيلة‪:‬نحن نضعه‪،‬ث ّ‬
‫‪1046‬‬
‫ن قلوب‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم‪،‬فقالوا‪:‬جاء المين فرضوا به( ؛ذلك أ ّ‬
‫الّناس تهفوا نحو الفضيلة‪،‬فالنسان بفطرته يتطلع إليها‪،‬ويعلم أّنها فضيلة‬
‫وإن لم يكن هو صاحبها‪.‬‬
‫من هنا أثارت قوة موسى وأمانته انتباه تلك المرأة الصالحة حتى قالت‬
‫ن خير من استأجرت القوي المين‘‘‪،1047‬‬ ‫لبيها‪’’:‬يا أبت استأجره إ ّ‬
‫ن خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ ماشيتك والقيام عليها‬ ‫)تقول إ ّ‬
‫في إصلحها وصلحها‪،‬المين الذي ل تخاف خيانته فيما تأمنه‬
‫عليه(‪،1048‬فالقوة والمانة)تعليل لما وقع منها من الرشاد لبيها إلى استئجار‬
‫موسى‪،‬أي إّنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعا بين خصلتي القوة‬
‫‪1049‬‬
‫من يتصف بالقوة‬ ‫والمانة( ‪،‬فإذا كان قطيع من الغنم يحتاج إلى َ‬
‫مة ويحمل لواء المواجهة للطاغوت!‬ ‫والمانة‪،‬فكيف بمن يقود أ ّ‬
‫رابعا‪:‬الصلبة والخشونة‪.‬‬
‫حين مواجهة الطاغوت ل بد ّ من شخصية تمتاز بالصلبة‬
‫والخشونة‪،‬فالشخصية المدللة المنعمة ل تستطيع المواجهة‪،‬فالمواجهة تعني‬
‫السوط والسجن والزنازين الضيقة المظلمة‪،‬والتضييق في الرزق بل‬
‫والحرب على لقمة العيش‪،‬والجراح المؤلمة والمشانق المتدلية‪..‬ول ننسى‬
‫فراق الحبة والولد! ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‪’’:‬وإياكم‬

‫‪1042‬صحيح البخاري‪،‬كتاب العلم‪،‬باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب‬
‫السائل‪(1/33)،‬رقم)‪.(59‬‬
‫‪]1043‬الحزاب‪.[72:‬‬
‫‪1044‬تفسير البيضاوي)‪.(4/388‬‬
‫‪1045‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(12/107‬‬
‫‪ 1046‬ابن كثير‪:‬أبو الفداء‪،‬إسماعيل بن عمر الدمشقي‪774-701)،‬هـ(‪،‬الفصول في اختصار‬
‫سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬محمد العيد الخطراوي‪،‬محيي‬
‫الدين مستو‪،‬ط ‪،1‬مؤسسة علوم القرآن‪،‬دار القلم‪،‬بيروت‪1399،‬هـ‪،(83).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)الفصول(‪.‬‬
‫‪]1047‬القصص‪.[26:‬‬
‫‪1048‬تفسير الطبري)‪.(20/63‬‬
‫‪1049‬فتح القدير)‪.(4/169‬‬

‫‪170‬‬
‫ن رسول الله صلى الله عليه‬ ‫والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإ ّ‬
‫وسلم نهى عن لبوس الحرير‘‘‪.1050‬‬
‫لهذا كله كانت شخصية موسى عليه السلم صلبة خشنة‪،‬فبعد أن‬
‫مرّفها في القصور ها نحن نراه)وحيدا مطاردا في الطرق‬ ‫شاهدناه ُ‬
‫الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي‬
‫الحجاز‪.‬مسافات‪،‬وأبعاد مترامية‪،‬ل زاد ول استعداد‪..‬إّنه في قلب المخافة بعد‬
‫فترة من المن‪.‬بل من الرفاهية والطراءة والّنعمى‪.‬ونجده وحيدا مجردا من‬
‫قوى الرض الظاهرة جميعا‪،‬يطارده فرعون وجنده‪،‬ويبحثون عنه في كل‬
‫مكان‪،‬لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفل(‪.1051‬‬
‫ونرى موسى عليه السلم وهو في طريق عودته بعدما قضى الجل‬
‫قد)اشتاق إلى أهله‪،‬فقصد زيارتهم ببلد مصر في صورة مختف‪،‬فلما سار‬
‫بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا‪:‬واتفق ذلك في‬
‫ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم‪،‬فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب‬
‫المألوف‪،‬وجعل يوري زناده فل يوري شيئا‪،‬واشتد الظلم والبرد‪،‬فبينما هو‬
‫كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور‪،‬وهو الجبل الغربي منه عن‬
‫ن‬
‫يمينه‪،‬فقال لهله‪:‬امكثوا إني آنست نارا‪-‬وكأنه‪-‬والله أعلم‪-‬رآها دونهم‪،‬ل ّ‬
‫هذه النار هي نور في الحقيقة‪،‬ول يصلح رؤيتها لكل أحد‪-‬لعلي آتيكم منها‬
‫بخبر‪،‬أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق‪،‬أو جذوة من النار لعلكم‬
‫تصطلون(‪،1052‬يقول تعالى‪’’:‬إذ قال موسى لهله إني آنست نارا‬
‫سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم‬
‫تصطلون‘‘‪،1053‬فدل هذا على وجود الظلم وعلى كونهم تاهوا عن الطريق‪.‬‬
‫لقد كان موسى عليه السلم)حديدا خشنا متصلبا في كل‬
‫شيء(‪،1054‬فقد صّلبته التجارب‪،‬فمن الترف إلى شظف العيش‪،‬ومن المن‬
‫إلى قلب المخافة‪،‬وتلك هي التناقضات التي تكشف عن معادن‬
‫الرجال‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ونبلوكم بالشر والخير فتنة‘‘‪،1055‬أي)نختبركم‬
‫بالمصائب تارة وبالنعم أخرى؛فننظر من يشكر ومن يكفر‪،‬ومن يصبر ومن‬
‫يقنط(‪.1056‬إّنه البلء الذي ُينتج الصلبة المطلوبة أمام الطواغيت حين تبدأ‬
‫المواجهة‪.‬‬

‫‪1050‬صحيح مسلم‪،‬كتاب اللباس والزينة‪،‬باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال‬
‫والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد‬
‫على أربع أصابع )‪(3/1642‬رقم)‪.(2069‬‬
‫‪1051‬في ظلل القرآن)‪(6/335‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1052‬البداية والّنهاية)‪.(247-1/246‬‬
‫‪]1053‬النمل‪.[7:‬‬
‫‪1054‬تفسير البيضاوي)‪.(4/67‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(6/38‬‬
‫‪]1055‬النبياء‪.[35:‬‬
‫‪1056‬تفسير ابن كثير)‪.(3/179‬وانظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(11/287‬‬

‫‪171‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫شرة في التنفيذ‬ ‫مرحلة المبا َ‬
‫تأتي مرحلة التنفيذ بعد العداد والتهيئة‪،‬تأتي وقد تجهز موسى عليه‬
‫السلم وتسّلح بكل ما هو ضروري لتلك المواجهة‪.‬ول نريد هنا سرد الحداث‬
‫فتلك مسألة معلومة‪،‬ولكن نريد أن نقرأ حدث المواجهة لستنباط العناصر‬
‫الساسية في تلك المواجهة‪،‬وفي كل مواجهة مثلها مع الطواغيت‪،‬والتي‬
‫ُيمكن إجمالها فيما يلي‪:‬‬
‫أول‪:‬بيان هدف الدعوة وغايتها مع تقديم الحجة والبرهان‬
‫)البيان إخراج الشيء من حيز الشكال إلى حيز التجلي‪،‬أو إظهار‬
‫المعنى للنفس حتى يتبين من غيره وينفصل عما يلتبس به‪،‬أو هو إظهار‬
‫المتكلم المراد للسامع(‪1057‬؛فالكلمة المبّينة لهدف الدعوة وغايتها بصورة ل‬
‫غبش فيها ول تشويش‪،‬وبذل الجهد المستطاع حتى تكون الدعوة مفهومة‬
‫ن قيمة الشيء تكمن في فهمه‬ ‫من تخاطبه أمر في غاية الهمية‪،‬إذ أ ّ‬ ‫عند َ‬
‫وإدراكه‪،‬فإذا لم ُتدرك الجماهير هدف الدعوة وغايتها تبقى الدعوة ل قيمة‬
‫لها‪،‬فنجاح الدعوة‪-‬بعد مشيئة الله سبحانه‪-‬منوط بوضوح الخطاب ويسره؛‬
‫ن الله سّهل القرآن وهيأه للذكر والتعاظ‪،1058‬يقول تعالى‪’’:‬ولقد‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫‪1059‬‬
‫يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‘‘ ‪.‬ول بد ّ لهذه الكلمة المعبرة‬
‫الصادقة من تحريك وعي الجماهير حتى تصبح جماهير حّية قادرة على‬
‫التمييز والمعرفة‪،‬فتعبئة الجماهير فكريا أمر ملح وضروري‪.‬‬
‫والبيان الّناجح هو البيان الذي يعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة‪،‬‬
‫)أي بالمقالة المحكمة الصحيحة‪،‬والدليل الموضح للحق المزيح‬
‫مقنعة على وجه ل يخفى على الّناس وجه‬ ‫للشبهة‪،‬والعبر النافعة ال ُ‬
‫الحق(‪،1060‬وذلك بأسلوب ل إفراط فيه ول تفريط؛فالتشدد في غير موضعه‬
‫دين‪.‬‬
‫ن التفريط إضاعة للحق وال ّ‬ ‫تنفير وتدمير‪،‬كما أ ّ‬
‫نريد بيانا يكشف عن المعنى المقصود وإظهاره كما هو منهج‬
‫القرآن‪،‬يقول تعالى‪’’:‬هذا بيان للناس‘‘‪)،1061‬فالقرآن أعلى منازل البيان‬
‫وأعلى مراتبه‪،‬حيث جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه من تعديل‬
‫النظم وسلمته وحسنه وبهجته وحسن موقعه في السمع وسهولته على‬
‫اللسان ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهد‪..‬وإذا عل‬
‫الكلم في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما‬
‫يذهل‪،‬ويبهج ويقلق ويؤنس ويطمع ويؤيس ويضحك ويبكي ويحزن ويفرح‬
‫ويسكن ويزعج ويشجي ويطرب ويهز العطاف ويستميل نحوه السماع‬
‫ويورث الريحية والعزة‪،‬وقد يبعث على بذل المهج والموال شجاعة‬
‫‪1057‬والبيان أنواع‪) :‬بيان التقرير وهو توكيد الكلم بما يرفع احتمال المجاز والتخصيص‪.‬وبيان‬
‫التفسير ما فيه خفاء من المشترك أو المشكل أو المجمل أو الخفي‪.‬وبيان التغيير وهو تغيير‬
‫موجب الكلم نحو التعليق والستثناء والتخصيص‪ .‬وبيان الضرورة هو نوع بيان يقع بغير ما وضع‬
‫له لضرورة إذ الموضوع له النطق وهذا يقع بالسكوت‪.‬وبيان التبديل وهو النسخ أي نسخ حكم‬
‫شرعي بدليل شرعي متأخر(‪.‬التعاريف)‪(150-1/149‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1058‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/266‬والبرهان في علوم القرآن)‪.(3/9‬‬
‫‪]1059‬القمر‪.[17:‬‬
‫‪1060‬تفسير أبي السعود)‪(5/151‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1061‬آل عمران‪.[138:‬‬

‫‪172‬‬
‫وجودا‪،‬ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا‪،‬وله مسالك في النفوس‬
‫لطيفة ومداخل إلى القلوب دقيقة(‪،1062‬ول عجب من ذلك فالبيان الناجح له‬
‫ن من البيان‬‫تأثير عظيم على القلوب‪،‬يقول صلى الله عليه وسلم‪’’:‬إ ّ‬
‫لسحرا‘‘‪.1063‬‬
‫ما كان البيان خطوة أولى ذات أهمية قصوى سأل موسى عليه‬ ‫ول ّ‬
‫السلم ربه عز وجل أن يحلل عقدة من لسانه تعينه على البلغ‪’’،‬واحلل‬
‫عقدة من لساني‪،‬يفقهوا قولي‘‘‪)،1064‬أي يعلموا ما أقوله لهم‬
‫ويفهموه‪،‬والفقه في كلم العرب الفهم(‪،1065‬وذلك لّنه كانت في لسانه‬
‫عجمه‪.‬وذلك معنى قوله‪’’:‬ويضيق صدري ول ينطلق لساني فأرسل‬
‫الى هارون‘‘‪،1066‬أي ول ينطلق لساني في المحاجة على ما أحب‪،‬فأرسل‬
‫ن من ل‬ ‫إلى هارون ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني‪).‬وفي هذا دليل على أ ّ‬
‫يستقل بأمر ويخاف من نفسه تقصيرا أن يأخذ من يستعين به عليه‪،‬ول‬
‫ن الواقع‬ ‫ن الغاية هي البيان وليس التفرد فيه‪،‬بل إ ّ‬ ‫يلحقه في ذلك لوم(‪،1067‬ل ّ‬
‫اليوم يحتاج إلى تعاون كبير في البيان والتبليغ‪.‬‬
‫من هنا كانت نقطة البدء عند موسى عليه السلم‪-‬في مرحلة المباشرة‬
‫والتنفيذ‪-‬بيان قاعدة رسالتهما‪’’:‬إّنا رسول ربك‘‘‪)،1068‬ليشعر منذ اللحظة‬
‫ن هناك إلها هو ربه‪.‬وهورب كل الناس‪.‬فليس هو إلها خاصا بموسى‬ ‫الولى بأ ّ‬
‫ن لكل‬ ‫وهارون أو ببني إسرائيل‪،‬كما كان سائدا في خرافات الوثنية يومذاك أ ّ‬
‫قوم إلها أو آلهة‪،‬ولكل قبيل إلها أو آلهة‪.‬أو كما سائدا في بعض العصور من‬
‫أن فرعون مصر اله يعبد فيها لّنه من نسل اللهة(‪.1069‬يجب توضيح الساس‬
‫الذي تقوم عليه الدعوة مهما كّلف هذا من ثمن عظيم‪،‬لّنه الصل الذي ُيبنى‬
‫عليه كل شيء بعده‪،‬ولّنه ُينقذ الّناس من الحيرة وعدم الفهم‪،‬وحتى تكون‬
‫الّناس على بّينة من أول المر‪.‬وسنعاني كثيرا إذا لم نبّين للجماهير أصل‬
‫ن ثغرة كبيرة تحول بين الّناس‬ ‫دعوتنا ومنبع فكرنا‪،‬وسنجد بعد كل محاولة أ ّ‬
‫وبيننا‪.‬‬
‫لقد أوضح موسى عليه السلم حقيقة أمره هكذا مّرة واحدة واضعا‬
‫ل الحقيقة بين يدي الجماهير‪’’:‬يا فرعون إّني رسول من رب‬ ‫ك ّ‬
‫‪1070‬‬
‫ن وضوح الخطاب أساس في نجاح الدعوة‪،‬ولهذا كانت‬ ‫العالمين‘‘ ؛ذلك أ ّ‬
‫دوا إلي عباد‬ ‫كلمات موسى عليه السلم موجزة معبرة حين قال‪’’:‬أن أ ّ‬
‫الله إّني لكم رسول أمين‪،‬وأل ّ تعلو على الله إّني آتيكم بسلطان‬
‫مبين‘‘‪،1071‬أي)أن ل تطغو وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا‬
‫أمره(‪.1072‬‬
‫‪1062‬الباقلني‪:‬أبو بكر‪ ،‬محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم‪،‬إعجاز القرآن‪،‬جزء‬
‫واحد ‪،‬تحقيق‪ :‬السيد أحمد صقر‪،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،(277-1/276).‬وسأشير إليه لحقا‬
‫هكذا)إعجاز القرآن(‪.‬‬
‫‪1063‬صحيح البخاري‪،‬كتاب النكاح‪،‬باب الخطبة)‪(5/1976‬رقم)‪.(4851‬‬
‫‪]1064‬طه‪.[28-27:‬‬
‫‪1065‬تفسير القرطبي)‪.(11/193‬‬
‫‪]1066‬الشعراء‪.[13:‬‬
‫‪1067‬تفسير القرطبي)‪.(13/92‬‬
‫‪]1068‬طه‪.[47:‬‬
‫‪1069‬في ظلل القرآن)‪.(5/476‬‬
‫‪]1070‬العراف‪.[104:‬‬
‫‪]1071‬الدخان‪.[19-18:‬‬
‫‪1072‬تفسير الطبري)‪.(25/119‬‬

‫‪173‬‬
‫م نبه عليه السلم إلى وجود الحجة والدليل‪،‬فالبّينة على من‬ ‫ث ّ‬
‫ادعى‪،‬وذلك كي يقف الّناس‪-‬ومنهم فرعون‪-‬على الحقيقة التي يدعمها‬
‫البرهان الساطع الذي ل لبس فيه‪،‬فل يطالب الّناس بالّتباع إل ّ بعد أن‬
‫تلزمهم الحجة ويقوم عليهم الدليل‪،‬فيؤمن من يؤمن عن بّينة ويكفر من‬
‫يكفر عن بّينة‪.‬ولهذا قال‪’’:‬قد جئناك بآية من ربك‘‘‪،1073‬أي ببينة تدل‬
‫على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك‪،‬في هذه المهمة التي حددناها‪،‬وذلك‬
‫مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب المتثال بأمرهما‪،‬فهو حقيق على أن ل‬
‫يقول على الله إل ّ الحق‪،‬أي جدير بذلك وحريص عليه‪،‬فذلك واجب وحق‬
‫علي أن ل أخبر عنه سبحانه إل ّ بما هو حق وصدق‪.1074‬‬
‫وإظهار اسم الرب مّرة بعد أخرى في خطاب موسى عليه السلم‬
‫ن هناك إلها هو رب فرعون ورب كل‬ ‫لفرعون كان لتأكيد الحقيقة الولى أ ّ‬
‫شيء‪ ،‬وكذلك الحال في قوله تعالى‪’’:‬قد جئتكم ببينة من‬
‫ربكم‘‘‪.1075‬أي)قد جئتكم ببرهان من ربكم يشهد أيها القوم على صحة ما‬
‫‪1076‬‬
‫م بّين له العاقبة بقوله‪’’:‬والسلم على‬ ‫أقول وصدق ما أذكر لكم( ‪،‬ث ّ‬
‫من اتبع الهدى‘‘‪،1077‬دون مواربة أو مداهنة‪،‬أي)من اتبع الهدى سلم من‬
‫سخط الله عز وجل وعذابه‪،‬وليس بتحية‪،‬والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء‬
‫لقاء ول خطاب(‪.1078‬‬
‫وهذا هو معنى قوله تعالى لموسى وهارون‪’’:‬فقول له قول‬
‫لينا‘‘‪،1079‬فالقول اللّين هو)القول الذي ل خشونة فيه‪ ..‬فإذا كان موسى ُأمر‬
‫بأن يقول لفرعون قول لينا فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه‬
‫وأمره بالمعروف في كلمه(‪،1080‬وقد قال تعالى‪’’:‬وقولوا للّناس‬
‫حسنا‘‘‪)،1081‬فالقول اللين ل يثير العزة بالثم‪،‬ول يهيج الكبرياء الزائف الذي‬
‫يعيش به الطغاة‪.‬ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة‬
‫الطغيان(‪،1082‬لذلك علم الله سبحانه موسى عليه السلم كيف يخاطب‬
‫الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب‪،‬لعله ينتهي‪،‬ويتقي غضب الله‬
‫ن فرعون في غاية العتو‬ ‫وأخذه‪،‬وفي)هذه الية عبرة عظيمة وهي أ ّ‬
‫ُ‬
‫والستكبار‪،‬وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك‪،‬ومع هذا أمر أن ل يخاطب‬
‫فرعون إل بالملطفة واللين(‪.1083‬يقول تعالى‪’’:‬اذهب إلى فرعون إّنه‬
‫طغى فقل هل لك إلى أن تزكى‘‘‪،1084‬هل لك الى أن تتطهر من‬
‫الكفر والطغيان ومن دنس الذنوب؟’’وأهديك الى ربك‬

‫‪]1073‬طه‪.[47:‬‬
‫‪1074‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/236‬وتفسير القرطبي)‪(7/256‬والبرهان في علوم القرآن)‬
‫‪..(3/338‬‬
‫‪]1075‬العراف‪.[105:‬‬
‫‪1076‬تفسير الطبري)‪.(9/14‬‬
‫‪]1077‬طه‪.[47:‬‬
‫‪1078‬تفسير القرطبي)‪.(11/203‬‬
‫‪]1079‬طه‪.[44:‬‬
‫‪1080‬تفسير القرطبي)‪.(11/200‬‬
‫‪]1081‬البقرة‪.[83:‬‬
‫‪1082‬في ظلل القرآن)‪.(5/474‬‬
‫‪1083‬تفيسر ابن كثير)‪.(3/154‬‬
‫‪]1084‬الّنازعات‪.[18-17:‬‬

‫‪174‬‬
‫فتخشى‘‘‪..1085‬هل لك أن أعرفك طريق ربك‪.‬فتخافه وتتقيه‪،‬إذ الخشية إّنما‬
‫تكون بعد المعرفة‪.‬فما يطغى النسان ويعصي إل ّ وهو بعيد عن ربه‪.1086‬‬
‫ومن هنا‪-‬أيضا‪-‬نفهم قوله تعالى لسيدنا محمد صّلى الله عليه‬
‫وسلم‪’’:‬فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب‬
‫لنفضوا من حولك‘‘‪ .1087‬أي)فبرحمة من الله لنت لهم أي سهلت لهم‬
‫أخلقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بالغضب‪،‬ولو كنت فظا يعني جافيا‬
‫سيء الخلق قليل الحتمال‪،‬غليظ القلب لنفضوا من حولك أي نفروا‬
‫وتفرقوا عنك(‪،1088‬فالقليل من العطف على أخطاء الّناس وهفواتهم‪،‬وعدم‬
‫لتهم تقّرب المسافة بيننا وبينهم‪،‬وليس هذا تملق أو تزييف‬ ‫تتبع عوراتهم وز ّ‬
‫للحقيقة بل إيصالها بوجه حسن وأسلوب يرفع قابلية الّناس لستقبال دعوتنا‬
‫إلى الله سبحانه‪.‬‬
‫وهكذا جعل لين الجانب من مظاهر رحمة الله على النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم‪،‬ويشبه ذلك قوله تعالى‪’’:‬لقد جاءكم رسول من أنفسكم‬
‫عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف‬
‫‪1089‬‬
‫ما)يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة‬ ‫رحيم‘‘ ‪.‬م ّ‬
‫والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى(‪،1090‬كما في قوله تعالى‪ُ’’:‬أدع إلى‬
‫سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي‬
‫أحسن‘‘‪.1091‬‬
‫ما كان لين القول ليس على حساب الحقيقة زاد موسى عليه السلم‬ ‫ول ّ‬
‫ن العذاب على من كذب‬ ‫في بيانه‪،‬فقال‪’’:‬إّنا قد أوحي إلينا أ ّ‬
‫ذب الرسل وتولى عن اليمان؛‬ ‫ن العذاب على من ك ّ‬‫وتولى‘‘‪،1092‬أي أ ّ‬
‫ن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة‪،‬ل يعني الخشونة‬ ‫ذلك)أ ّ‬
‫َ‬
‫والفظاظة؛فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل‬
‫ربه بالحكمة والموعظة الحسنة‪-‬وليس هنالك تعارض ول اختلف بين‬
‫التوجيهات القرآنية المتعددة‪-‬والحكمة والموعظة الحسنة ل تجافيان الحسم‬
‫والفصل في بيان كلمة الحق‪.‬فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة‬
‫التبليغ وموضوعه‪.‬والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة‬
‫في العقيدة‪،‬وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها‪.‬فالحقيقة‬
‫العتقادية ليس فيها أنصاف حلول(‪،1093‬وهكذا نفهم لين القول ل كما يفهمه‬
‫بعض المهزومين أمام ضغط الجاهلية والعلمانية والطاغوت‪.‬‬
‫ن هذا الخطاب وهذه النبرة كانت في بداية‬ ‫م يجب أن ندرك أ ّ‬ ‫ث ّ‬
‫المواجهة مع فرعون‪،‬ولكّنه حين أصر على الكفر وهدد وأرعد واتهم موسى‬
‫بالباطل رد ّ عليه موسى عليه السلم بقوله‪’’:‬وإّني لظّنك يا فرعون‬

‫‪]1085‬الّنازعات‪.[19:‬‬
‫‪1086‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(30/39‬وتفسير البيضاوي)‪(5/447‬وتفسير القرطبي)‪.(19/201‬‬
‫‪]1087‬آل عمران‪.[159:‬‬
‫‪ 1088‬تفسير البغوي)‪(1/365‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪(1/188‬والدر المنثور)‬
‫‪(2/358‬ومعاني القرآن)‪(1/500‬وتفسير الثعالبي)‪(1/326‬وتفسير الجللين)‪.(1/89‬‬
‫‪]1089‬التوبة‪.[128:‬‬
‫‪1090‬أحكام القرآن للجصاص)‪.(2/329‬‬
‫‪]1091‬النحل‪.[125:‬‬
‫‪]1092‬طه‪.[48:‬‬
‫‪1093‬في ظلل القرآن)‪.(2/805‬‬

‫‪175‬‬
‫ن هنا بمعنى التحقيق‪،1095‬أي)إني لظنك يا فرعون ملعونا‬ ‫‪1094‬‬
‫مثبورا‘‘ ‪،‬والظ ّ‬
‫ممنوعا من الخير(‪،1096‬فل يجب أن نفهم من لين القول في بداية الدعوة‬
‫ن من الضعف‬ ‫والمواجهة أّنه لن تكون هناك مخاشنة إذا اقتضت المور‪،‬بل إ ّ‬
‫أن نواجه صلف الطاغوت بلين ُنخفي وراءه ضعف القدرة عن قول كلمة‬
‫الحق!‬
‫ثانيا‪:‬القدره على التعامل مع المواقف المختلفة‬
‫والمستجدة وسرعة البديهة وروح المبادرة‬
‫لن تنتهي المور بهذا الحد من البيان؛فليس قيام الدعاة بعرض دعوتهم‬
‫ل جهد مستطاع في إيصال حقائقها نهاية‬ ‫بالبيان الشافي والكافي لها‪،‬وبذل ك ّ‬
‫المطاف‪،‬فالطاغوت سيحاور ويناور ولن ُيقر بالحق بسهولة‪،‬وسيحاول دفع‬
‫ما يتطلب وجود مهارات‬ ‫الحق بكل وسيلة مستخدما كل مكره ودهائه‪،‬م ّ‬
‫وقدرات خاصة للرد ّ عليه‪.‬وهذا ما سنعرضه من خلل تعامل موسى عليه‬
‫السلم مع مواقف فرعون المختلفة بما ُيثبت ضرورة القدرة على التعامل‬
‫مع المواقف المستحدثة‪.‬ولن ُنسهب كثيرا بتعداد الردود بل يكفي منها ما‬
‫ل على تلك القدرة والبراعة التي يجب أن ُنوفرها في الدعاة إلى الله‪.‬‬ ‫يد ّ‬
‫موسى عليه السلم ُيدير الحوار بنباهة واقتدار‬
‫فبعد ما أتياه وقال له ما ُأمرا به‪.1097‬قال فرعون‪:‬فمن ربكما يا موسى؟‬
‫و)لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى‪’’:‬إّنا‬
‫رسول ربك‘‘‪،1098‬وقوله تعالى‪’’:‬قد جئناك بآية من ربك‘‘‪،1099‬لغاية‬
‫عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما(‪.1100‬قال موسى‪:‬ربنا الذي أعطى كل‬
‫م هدى’’‪1101‬أي)الذي أعطى كل شيء من النواع خلقه صورته‬ ‫شيء خلقه ث ّ‬
‫وشكله الذي يطابق كماله الممكن له‪،‬أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون‬
‫م عّرفه كيف يرتفق بما‬ ‫إليه ويرتفقون به‪..‬أي أعطى كل مخلوق ما يصلحه‪.‬ث ّ‬
‫ُأعطي‪،‬وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا‪.‬وهو جواب في‬
‫غاية البلغة لختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها‪،‬ودللته‬
‫ن جميع‬ ‫ن الغني القادر بالذات المنعم على الطلق هو الله تعالى‪،‬وأ ّ‬ ‫على أ ّ‬
‫‪1102‬‬
‫ماعداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله( ‪.‬‬
‫و)لما شاهد اللعين مانظمه موسى عليه الصلة والسلم في سلك‬
‫الستدلل من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس أحقية‬
‫مقالته عليه الصلة والسلم وبطلن خرافات نفسه ظهورا بّينا‪،‬فأراد أن‬
‫يصرفه عليه الصلة والسلم عن سننه إلى مال يعنيه من المور التي ل تعلق‬
‫لها بالرسالة من الحكايات‪،‬ويشغله عما هو بصدده عسى أن يظهر فيه نوع‬
‫غفلة؛فيتسلق بذلك إلى أن يدعى بين يدي قومه نوع‬

‫‪]1094‬السراء‪.[102:‬‬
‫‪1095‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(10/337‬‬
‫‪1096‬تفسير الطبري)‪.(15/175‬‬
‫‪)1097‬ولعله حذف لدللة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله ل محالة(تفسير البيضاوي)‬
‫‪.(4/53‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(16/171‬‬
‫‪]1098‬طه‪.[47:‬‬
‫‪]1099‬طه‪.[47:‬‬
‫‪1100‬تفسير أبي السعود)‪.(6/19‬‬
‫‪]1101‬طه‪.[50-49:‬‬
‫‪ 1102‬تفسير البيضاوي)‪(4/54‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ما‬‫ن فرعون ل ّ‬ ‫معرفة(‪،1103‬فقال‪’’:‬فما بال القرون الولى‘‘‪)،1104‬ذلك أ ّ‬
‫ن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى شرع‬ ‫أخبره موسى بأ ّ‬
‫يحتج بالقرون الولى‪،‬أي الذين لم يعبدوا الله‪،‬أي فما بالهم إذا كان المر‬
‫كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره(‪،1105‬فما حالهم بعد موتهم من السعادة‬
‫والشقاوة؟قال موسى‪’’:‬علمها عند ربي‘‘‪،1106‬أي هو غيب ل يعلمه إل‬
‫هو‪،‬وإّنما أنا عبد مثلك ل أعلم منه إل ما أخبرني به في كتاب مثبت في‬
‫اللوح المحفوظ‪،‬ويجوز أن يكون تمثيل لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم‬
‫وقيده بالكتبة‪،‬ويؤيده قوله‪’’:‬في كتاب ل يضل ربي ول‬
‫ينسى‘‘‪،1107‬والضلل أن تخطىء الشيء في مكانه فلم تهتد إليه‪،‬والنسيان‬
‫أن تذهب عنه بحيث ل يخطر ببالك‪،‬وهما محالن على العالم بالذات‪،‬ويجوز‬
‫أن يكون سؤاله دخل على إحاطة قدرة الله تعالى‪.1108‬‬
‫و)لقد أجاب عليه الصلة والسلم عن السؤال بجواب عبقري بديع‪،‬حيث‬
‫ما كان بصدده من بيان‬ ‫كشف عن حقيقة الحق حجابها‪،‬مع أّنه لم يخرج ع ّ‬
‫م تخلص إليه حيث قال بطريق الحكاية عن الله عز‬ ‫شئونه تعالى‪،‬ث ّ‬
‫وجل‪’’:‬الذي جعل لكم الرض مهدا وسلك لكم فيها سبل وأنزل‬
‫من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى‘‘‪،1109‬أي جعلها‬
‫لكم كالمهد تتمهدونها أو ذات مهد‪،‬وجعل كل موضع منها مهدا لكل واحد‬
‫منكم‪،‬وسلك لكم فيها سبل‪،‬أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال‬
‫والودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم‪،‬وتنتفعوا‬
‫بمنافعها ومرافقها‪،‬وأنزل من السماء ماء‪،‬فأخرجنا بذلك الماء أزواجا من‬
‫نبات شتى‪،‬وذلك دللة على كمال القدرة والحكمة‪،‬واليذان بأّنه ل يتأتى إل‬
‫من قادر مطاع عظيم الشأن تنقاد لمره وتذعن لمشيئته الشياء‬
‫المختلفة(‪.1110‬‬
‫الطاغوت يثير الشبهات وموسى عليه السلم يرد عليها‬
‫ويدحضها‬
‫صدم فرعون بدعوة موسى وهارون عليهما السلم‪،‬وتفاجأ‬ ‫بعد أن ُ‬
‫بقولهما‪’’:‬إّنا رسول رب العالمين‪،‬أن أرسل معنا بني‬
‫إسرائيل‘‘‪،1111‬راح يفتش عن شبهة يدحض بها ما به دمار عرشه وذهاب‬
‫ملكه وبيان دجله وكذبه‪،‬فقال موجها الخطاب لموسى عليه السلم‪’’:‬ألم‬
‫نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين‪،‬وفعلت فعلتك التي‬
‫‪1112‬‬
‫ن عليه‬‫فعلت وأنت من الكافرين‘‘ ‪.‬قال ذلك على جهة الم ّ‬
‫والحتقار‪،‬أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا‪،‬ولبثت فينا من‬
‫م قرره بقتل القبطي‬ ‫عمرك سنين فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ث ّ‬
‫بقوله‪:‬وفعلت فعلتك التي فعلت‪،‬وّبخه بها معظما إياها بعدما عدد عليه‬

‫‪1103‬تفسير أبي السعود)‪.(6/20‬‬


‫‪]1104‬طه‪.[51:‬‬
‫‪1105‬تفسير ابن كثير)‪.(3/156‬‬
‫‪]1106‬طه‪.[52:‬‬
‫‪]1107‬طه‪.[52:‬‬
‫‪1108‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(4/54‬‬
‫‪]1109‬طه‪.[53:‬‬
‫‪1110‬تفسير أبي السعود)‪(6/21‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1111‬الشعراء‪.[17-16:‬‬
‫‪]1112‬الشعراء‪.[19-18:‬‬

‫‪177‬‬
‫نعمته‪،‬أي ِفعل ََتك الفظيعة التي تعرف‪،‬والتي ل يليق الحديث عنها بألفاظ‬
‫ن الله أرسلك؟وأنت من الكافرين‬ ‫صريحة‪،‬فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأ ّ‬
‫بالّنعم المعتادين لغمطها‪،‬ومن اعتاد ذلك ل يكون مثل هذه الجناية بدعا‬
‫منه‪،‬فعمدت إلى قتل خواصي‪،‬أو ممن تكفرهم الن‪،‬فإّنه عليه الصلة‬
‫والسلم معصوم من الكفر وكان يعايشهم بالتقية‪،‬أو أّنه من الكافرين بآلهيته‬
‫أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم‪.1113‬‬
‫تلك هي سياسة الطاغوت حين يعمد إلى إشغال الجماعة المسلمة في‬
‫معارك جانبية ُتبعدها عن هدفها الساسي الذي من أجله تتحرك‬
‫وتجاهد‪،‬ويحاول عبر مناوراته ومؤامراته وضعها في دائرة التهام‪،‬لتعطيل‬
‫قدرتها على إحداث التغيير المنشود‪.‬حينئذ يجب على الجماعة النتباه‬
‫واليقظة من الفخ المنصوب على الطريق‪،‬بحيث تستطيع أن تتخطاه دون أن‬
‫يؤثر ذلك على الخط العام الذي تسير الجماعة عليه‪.‬وهكذا جمع موسى‬
‫دم إلى‬‫مثارة وبين التق ّ‬‫محكم على الشبهة ال ُ‬ ‫عليه السلم بين الرد ّ ال ُ‬
‫المام‪.‬فماذا كان جواب موسى عليه السلم؟‬
‫قال موسى عليه السلم مجيبا له)مصدقا له في القتل ومكذبا فيما‬
‫نسبه إليه من الكفر(‪’’:1114‬فعلتها إذا وأنا من الضالين‪،‬ففررت منكم‬
‫لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين‪،‬وتلك‬
‫نعمة تمّنها علي أن عبدت بني إسرائيل‘‘‪،1115‬أي فعلتها)قبل أن‬
‫ُيوحى إلي وُينعم الله علي بالرسالة والنبوه(‪،1116‬أو)من الخاطئين لّنه لم‬
‫ما يؤول إليه الوكز لّنه أراد به التأديب‪،‬أو‬ ‫يتعمد قتله‪،‬أو من الذاهلين ع ّ‬
‫الّناسين(‪1117‬من قوله تعالى‪’’:‬أن تضل إحداهما‘‘ ‪).‬ففررت منكم إلى‬
‫‪1118‬‬

‫ربي لما خفتكم أن تصيبونني بمضرة وتؤاخذوني بما ل استحقه‪-‬بجنايتي‪-‬من‬


‫العقاب‪،‬فوهب لى ربي حكما أي حكمة أو النبوة‪،‬وجعلني من‬
‫المرسلين(‪.1119‬‬
‫م ك َّر على ما عد عليه من‬ ‫)رد أول على ما وّبخه به قدحا في نبوته‪،‬ث ّ‬
‫الّنعمة‪،‬ولم يصرح برده لّنه كان صدقا غير قادح في دعواه‪،‬بل نّبه على أّنه‬
‫ي‬‫كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببا عنها‪،‬فقال‪’’:‬وتلك نعمة تمّنها عل ّ‬
‫أن عبدت بني إسرائيل‘‘‪ ،1120‬أي وتلك التربية نعمة تمنها علي‬
‫ظاهرا‪،‬وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم‪،‬فإّنه‬
‫السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك(‪.1121‬وهكذا ُيجيب موسى عليه‬
‫السلم بفطنة ونباهة دون أن تستفزه كلمات واتهامات فرعون‪،‬فلربما ُيثار‬
‫بعض المحاورين فيخرجون بسبب ذلك عن المنطق والمعقول‪.‬‬
‫)قال فرعون لما سمع منه عليه الصلة والسلم جواب ما طعن به فيه‬
‫من تلك المقالة المتينة‪،‬وشاهد تصلبه في أمره وعدم تأثره بما قدمه من‬

‫‪1113‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(13/95‬وتفسير البيضاوي)‪(4/234‬وتفسير ابي السعود)‪(6/238‬وفتح‬


‫القدير)‪.(4/96‬‬
‫‪1114‬تفسير أبي السعود)‪.(6/238‬‬
‫‪]1115‬الشعراء‪.[22-20:‬‬
‫‪1116‬تفسير ابن كثير)‪.(3/333‬وانظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(19/67‬‬
‫‪1117‬تفسير البيضاوي)‪.(4/234‬‬
‫‪]1118‬البقرة‪.[282:‬‬
‫‪1119‬تفسير أبي السعود)‪.(6/238‬‬
‫‪]1120‬الشعراء‪.[22:‬‬
‫‪1121‬تفسير البيضاوي)‪.(235-4/234‬‬

‫‪178‬‬
‫البراق والرعاد شرع في العتراض على دعواه ورأى أّنه لم يرعو‬
‫سل‪’’،‬قال فرعون وما رب‬ ‫مْر ِ‬
‫بذلك‪،‬فبدأ بالستفسار عن حقيقة ال ُ‬
‫‪1122‬‬
‫العالمين‘‘ ‪،‬حكاية لما وقع في عباراته عليه الصلة والسلم‪،‬أي أيّ‬
‫شيء رب العالمين الذي ادعيت أّنك رسوله؟متهكما على القول‬
‫والقائل‪،‬ومنكرا لن يكون للعالمين رب سواه حسبما يعرب عنه قوله‪’’:‬أنا‬
‫ربكم العلى‘‘‪،1123‬وقوله‪’’:‬ما علمت لكم من إله غيري‘‘‪ ،1124‬وينطق‬
‫به وعيده عند تمام أجوبته عليه الصلة والسلم(‪.1125‬‬
‫فأجاب موسى بقوله‪’’:‬رب السموات والرض وما بينهما‘‘‪،1126‬‬
‫)وهو جواب ُيكافئ ذلك التجاهل ويغيظه‪.‬إّنه رب هذا الكون الهائل الذي ل‬
‫يبلغ إليه سلطانك‪-‬يافرعون‪ -‬ول علمك‪ .‬وقصارى ما ادعاه فرعون أّنه إله‬
‫هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل‪.‬وهو ملك صغير ضئيل‪،‬كالذرة‬
‫والهباءة في ملكوت السماوات والرض وما بينهما‪.‬وكذلك كان جواب‬
‫موسى‪-‬عليه السلم‪-‬يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلنه‪،‬وتوجيه‬
‫نظره إلى هذا الكون الهائل‪،‬والتفكير فيمن يكون ربه‪..‬فهو رب‬
‫‪1127‬‬
‫م عقب على هذا التوجيه بما حكايته‪’’:‬إن كنتم‬ ‫العالمين!( ‪...‬ث ّ‬
‫موقنين‘‘‪،1128‬أي)إن كنتم موقنين الشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن‬
‫كنتم موقنين بشيء من الشياء فهذا أولى باليقان لظهوره وإنارة‬
‫دليله(‪.1129‬‬
‫قال فرعون عند سماع جوابه عليه الصلة والسلم خوفا من تأثيره في‬
‫قلوب قومه وإذعانهم له لمن حوله من أشراف قومه‪’’:‬أل‬
‫تستمعون‘‘‪،1130‬أي جوابه‪.‬سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله ‪.‬‬
‫‪1131‬‬

‫قال موسى تصريحا بما كان مندرجا تحت جوابية السابقين‪،‬وحطا‬


‫لفرعون من ادعاء الربوبية إلى مرتبة المربوبية‪’’:‬ربكم ورب آبائكم‬
‫الولين‘‘‪،1132‬عدول إلى ما ل يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره‬
‫إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل‪)،1133‬فأوضح‬
‫ن هذا الرب الذى‬ ‫لهم أن فرعون مربوب ل رب كما يدعيه‪،‬والمعنى أ ّ‬
‫أدعوكم إليه هو الذى خلق آباءكم الولين وخلقكم فكيف تعبدون من هو‬
‫دفنوا كآبائكم؟فلم يجبه فرعون عند‬ ‫واحد منكم مخلوق كخلقكم وله آباء قد ُ‬
‫ذلك بشىء يعتد به بل جاء بما يشكك قومه‪،‬ويخيل إليهم أن هذا الذى قاله‬
‫موسى مما ليقوله العقلء(‪.1134‬‬
‫ن رب‬ ‫)وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه‪،‬فهو يجبهه بأ ّ‬
‫العالمين هو ربه‪،‬فما هو إل واحد من عبيده‪.‬ل إله كما يدعي بين قومه!وهو‬
‫‪]1122‬الشعراء‪.[23:‬‬
‫‪]1123‬الّنازعات‪.[24:‬‬
‫‪]1124‬القصص‪.[38:‬‬
‫‪1125‬تفسير أبي السعود)‪.(6/239‬‬
‫‪]1126‬الشعراء‪.[24:‬‬
‫‪1127‬في ظلل القرآن)‪.(6/203‬‬
‫‪]1128‬الشعراء‪.[24:‬‬
‫‪1129‬تفسير أبي السعود)‪.(6/239‬‬
‫‪]1130‬الشعراء‪.[25:‬‬
‫‪ 1131‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/235‬وروح المعاني)‪.(19/72‬‬
‫‪]1132‬الشعراء‪.[26:‬‬
‫‪ 1133‬روح المعاني)‪.(19/72‬‬
‫‪1134‬فتح القدير)‪.(4/97‬‬

‫‪179‬‬
‫رب قومه‪،‬فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم!وهو رب آبائهم‬
‫الولين‪.‬فالوارثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة‪.‬فما كان من‬
‫قبل إل الله رب للعالمين!(‪.1135‬‬
‫ن ما قاله عليه الصلة والسلم‬ ‫حينئذ خاف من تأثر قومه منه‪،‬فأراهم أ ّ‬
‫مما ل يصدر عن العقلء صدا لهم عن قبوله‪،‬فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء‬
‫ن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘‪،1136‬أسأله‬ ‫بحرفي التأكيد‪’’:‬إ ّ‬
‫عن شيء ويجيبني عن آخر‪.‬قال ذلك ليفتنهم ويصرفهم عن قبول‬
‫ماه رسول بطريق الستهزاء‪،‬وأضافه إلى مخاطبية ترفعا من أن‬ ‫الحق‪،‬وس ّ‬
‫‪1137‬‬
‫يكون مرسل إلى نفسه ‪.‬‬
‫قال موسى تكميل لجوابه الول وتفسيرا له وتنبيها على جهلهم وعدم‬
‫فهمهم‪’’:‬رب المشرق والمغرب وما بينهما‪،‬إن كنتم‬
‫تعقلون‘‘‪،1138‬تشهدون كل يوم أّنه يأتي بالشمس من المشرق‪،‬وُيحركها‬
‫على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع‬
‫تنتظم به أمور الكائنات‪،‬فإن كان لكم عقل علمتم أن لجواب لكم فوق‬
‫ذلك‪،‬وفيه إيذان بغاية وضوح المر بحيث ل يشتبه على من له عقل في‬
‫الجملة‪،‬وتلويح بأّنهم بمعزل من دائرة العقل‪،‬وأّنهم المتصفون بما رموه عليه‬
‫م لما رأى شدة‬ ‫الصلة والسلم به من الجنون‪.‬لي َن َُهم‪-‬عليه السلم‪-‬أول ث ّ‬
‫شكيمتهم خاشنهم‪،‬وعارضهم بمثل مقالهم‪.1139‬‬
‫ما سمع من موسى عليه الصلة والسلم تلك المقالت‬ ‫قال اللعين ل ّ‬
‫مبن ِّية على أساس الحكم البالغة‪،‬وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على‬ ‫ال َ‬
‫شية أمره‪،‬وأّنه ممن ل ُيجاري في حلبة المحاورة‪،‬ضرب صفحا عن عن‬ ‫َتم ِ‬
‫المقاولة بالنصاف‪،‬ونأى بجانبه إلى عدوة الجور والعتساف‪.‬فقال مظهرا‬
‫لما كان يضمره عند السؤال والجواب‪’’:‬لئن اتخذت إلها غيري لجعلّنك‬
‫من المسجونين‘‘‪،1140‬عدول إلى التهديد عن المحاجة بعد النقطاع‪،‬وهكذا‬
‫دين المعاند المحجوج‪،‬وتلك هي مأساة الطواغيت في كل زمان ومكان‪.1141‬‬
‫ده‬
‫إّننا ومن خلل هذا الحوار الذي أداره موسى عليه السلم وكيفية ر ّ‬
‫على الشبهات والسئلة التي أثارها فرعون ندرك مدى ما كان يتمتع به‬
‫موسى من قدرة على الحوار والمناقشة والقناع بالحجة والدليل والمنطق‬
‫ن من أراد أن يتصدر للدعوة إلى الله‪-‬وخصوصا‬ ‫الواضح السليم‪.‬وهذا يعني أ ّ‬
‫ه من العداء‪-‬ل بد ّ له من قدرات ومهارات خاصة‬ ‫هذه اليام حيث تثار ال ّ‬
‫شب َ ُ‬
‫بالضافة إلى سعة العلم والطلع وخصوصا على ثقافة العصر ولغته وما‬
‫يدور فيه من أحداث وأفكار‪.‬‬
‫ن سعة الصدر وغزارة العلم مؤهلت ضرورية لكل من أراد أن يتصدر‬ ‫إ ّ‬
‫ن مناقشة الشبهات والراء تستلزم مثل هذه‬ ‫طاولة الحوار والمناقشة؛ذلك أ ّ‬
‫المؤهلت‪.‬ومن هنا فإّننا ُنؤاخذ كل من يضع نفسه في مقام ل يستطيع‬
‫ن هناك من يتصدر للدعوة في ظروف‬ ‫القيام بما يمليه عليه ذلك المقام‪،‬بل إ ّ‬
‫معينة ويفشل في إدارة الحوار ويعجز عن الرد‪،‬وبالتالي ُيظهر السلم وكأّنه‬
‫‪1135‬في ظلل القرآن)‪.(6/203‬‬
‫‪]1136‬الشعراء‪.[27:‬‬
‫‪1137‬انظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(6/239‬وتفسير البيضاي)‪(4/235‬وفتح القدير)‪.(4/97‬‬
‫‪]1138‬الشعراء‪.[28:‬‬
‫‪1139‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(4/236‬وتفسير أبي السعود)‪(6/240‬وروح المعاني)‪(19/73‬‬
‫‪]1140‬الشعراء‪.[29:‬‬
‫‪1141‬انظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪(6/240‬وتفسير البيضاوي)‪(4/236‬وفتح القدير)‪.(4/98‬‬

‫‪180‬‬
‫دين ضعيف‪،‬فيسيء من حيث أراد الحسان‪،‬وربما‪-‬وللسف‪-‬هناك من يعد ّ‬
‫الظهور في الحوارات نوعا من الوجاهة ولو كانت على حساب الدين‪،‬وهذه‬
‫طامة كبرى‪.‬‬
‫كما ل بد‪-‬للمتصدر للحوار‪-‬أن تتوفر فيه الشجاعة لقول كلمة الحق ‪،‬وأن‬
‫ل يداهن على حساب هذا الدين‪،‬طمعا في منصب أو جاه أو مال!وعليه أن ل‬
‫ُيساير الباطل ولو قيد ُأنملة‪.‬وهناك من يأتي بالعبارات المبهمة يتحاشى‬
‫بذلك قول الحقيقة الساطعة الواضحة؛فتبقى المور ضبابية غير معلومة عند‬
‫الجماهير الذين يشاهدون ويسمعون‪،‬وهي علة ُيعاني منها الخطاب‬
‫السلمي‪،‬وسبب في تعثر المسير نحو الهدف‪.‬‬
‫دين‬‫وفي مقابل المبهوتين بالحضارة الغربية والداعين لتطوير ال ّ‬
‫دين كما وأّنه‬ ‫ليواكب‪-‬بزعمهم‪-‬لغة العصر يأتي المتنطعون‪،‬والذين ُيظهرون ال ّ‬
‫زنزانة فكرية متحجرة‪،‬ويظنون بهذا أّنهم ُيحافظون على الدين‬
‫ن هناك‬ ‫فّرون الّناس منه‪،‬بل إ ّ‬ ‫ن عليه ويخربونه وي ُن َ ِ‬‫ضو َ‬
‫ويخدمونه‪،‬وهم بذلك يق ُ‬
‫دين ولفقد قدرته على الحياة‪.‬‬ ‫من لو ترك المر إليهم لمات هذا ال ّ‬
‫نحن بحاجة إلى إتقان الوسطية وعرضها على الّناس بأسلوب‬
‫ذاب‪،‬نرد به على الشبهات بلباقة وحنكة ومهارة‪،‬ونقنع الّناس بديننا بالتي‬ ‫ج ّ‬
‫هي أحسن‪،‬وتلك هي الحكمة التي أرادها الله‪’’،‬ومن يؤت الحكمة فقد‬
‫أوتي خيرا كثيرا‘‘‪.1142‬أي الفقه والفهم والصابة في القول والفعل‪.1143‬‬
‫موسى عليه السلم ُيجيد ترتيب المباراة مع السحرة‬
‫ن براعة موسى علية السلم ومهارته وفطنته لتظهر ساطعة في‬ ‫إ ّ‬
‫ذب وأبى اليمان والطاعة‬ ‫ن فرعون ك ّ‬ ‫ترتيب المباراة مع السحرة‪،‬ذلك أ ّ‬
‫علمه‬ ‫ن موسى ما جاء إل ّ ليخرجهم من أرضهم بسحره‪،‬ولول ِ‬ ‫لعتوه‪،‬وادعى أ ّ‬
‫ن الساحر ل يقدر أن‬ ‫بالحق الذي جاء به موسى لما خاف منه على ملكه‪،‬فإ ّ‬
‫ُيخرج ملكا مثله من أرضه‪،1144‬ولكّنه كابر وأكد ّ أّنه سيأتي بسحر مثل سحر‬
‫موسى‪-‬بزعمه‪-‬ليعارضه به‪،‬وقال‪’’:‬فلنأتيّنك بسحر مثله فاجعل بيننا‬
‫وبينك موعدا ل ُنخلفه نحن ول أنت مكانا سوى‘‘‪،‬أي)مكان عدل‬
‫بيننا وبينك(‪.1145‬وإّنما)فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه الصلة‬
‫والسلم للحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال وإظهار‬
‫الجلدة‪،‬وإراءة أّنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلت المغالبة‬
‫طال المد أم قصر(‪.1146‬‬
‫وقبل موسى عليه السلم الّتحدي وزاد في توسيع دائرة الحضور‬
‫مستغل عنجهية فرعون وغطرسته في التحضير العريض لتلك المباراة‬
‫الشهيرة‪،‬وقال‪’’:‬موعدكم يوم الزينة وأن ُيحشر الّناس‬
‫ضحى‘‘‪،1147‬ويوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الّناس فيه‪،‬و)هو‬
‫يوم عيدهم‪،‬وتفرغهم من أعمالهم‪،‬وإجتماع جميعهم‪،‬ليشاهد الناس قدرة الله‬
‫على ما يشاء ومعجزات النبياء وبطلن معارضة السحر لخوارق العادات‬
‫النبوية‪،‬ولهذا قال‪:‬وأن ُيحشر الّناس أي جميعهم ضحى أي ضحوة من الّنهار‪،‬‬

‫‪]1142‬البقرة‪.[269:‬‬
‫‪1143‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(90-3/89‬‬
‫‪1144‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(4/56‬‬
‫‪1145‬تفسير الطبري)‪.(16/176‬‬
‫‪1146‬تفسير أبي السعود)‪.(6/24‬‬
‫‪]1147‬طه‪.[59:‬‬

‫‪181‬‬
‫ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح‪،‬وهكذا شأن النبياء كل أمرهم بين واضح‬
‫ليس فيه خفاء ول ترويج‪،‬ولهذا لم يقل ليل ولكن نهارا ضحى(‪،1148‬وإّنما قال‬
‫ذلك ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الشهاد‪،‬ويشيع ذلك في‬
‫القطار‪.1149‬‬
‫ده على السحرة‪،‬حين‬ ‫وتظهر صلبة موسى عليه كما تظهر براعته في ر ّ‬
‫بدأ مطمئنا إلى الحق الذي معه‪،‬وغير مكترث لجموع السحرة المحشودين‬
‫من المدائن المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة‪،‬ومن وراءهم‬
‫فرعون وملؤه‪،‬وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة‪..‬لقد تجلى هذا‬
‫الطمئان والثبات والصلبة والبراعة في تركه إياهم يبدأون‪،‬بل وبالجابة‬
‫ما أن نكون أول‬ ‫ما أن تلقي وإ ّ‬ ‫المختصرة‪،‬حين’’قالوا يا موسى إ ّ‬
‫من ألقى‘‘‪،1150‬فقال موسى‪’’:‬بل ألقوا‘‘ ‪،‬إظهارا لعدم المبالة‬
‫‪1151‬‬

‫بسحرهم‪،‬وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الول في شقهم‬


‫وتغيير النظم إلى وجه أبلغ‪،‬ولكي يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم‬
‫ثم يظهر الله سلطانه‪،‬فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه‪.1152‬‬
‫وفي هذا القدر من المثلة كفاية في إظهار ضرورة توفر القدره على‬
‫التعامل مع المواقف المختلفة والمستجدة وسرعة البديهة وروح‬
‫ما يستدعي اتخاذ الموقف‬ ‫المبادرة‪.‬فهناك مواقف ل تحتمل التأجيل م ّ‬
‫السريع والمناسب‪،‬وهناك أمور طارئة ومعقدة يخلقها الطاغوت وتبدعها‬
‫وجب مهارات‬ ‫ل ذلك ي ُ‬‫عقليته الخبيثة‪،‬وهي بحاجة إلى حكمة في المعالجة‪.‬وك ّ‬
‫عالية وقدرات كبيرة وتدريب طويل ومعاناة حقيقية في حمل الدعوة‪،‬ففقهنا‬
‫فقه حركة ل فقه أوراق مّيتة‪.‬‬
‫عبــرة‬
‫ن هناك من يخلق الحدث‪،‬وهناك من ليس له دور إل الرد ّ على ما‬ ‫إ ّ‬
‫يحدث‪،‬والفرق واضح بين الفعل وردة الفعل في تسيير الحداث‪.‬من هنا ل‬
‫يجب علينا ونحن نخوض جهادنا في نشر دعوتنا أن نكون دائما في مربع الرد‬
‫في التعامل مع الحداث بل يجب أن نتقدم نحو المام لصناعة‬
‫الحدث‪،‬فالطاغوت يريد المعركة في زمان ومكان معينين‪،‬ونحن نريدها غير‬
‫ذلك‪.‬هنا تظهر روح المبادرة واليجابية في الحركة‪.‬وخير دليل ما كان في‬
‫مكة حيث استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب النتباه إلى‬
‫دعوته‪،‬وأن يكون هو المحرك للحداث رغم قلة العدد والعدة‪.‬‬
‫وهذا ل يعني أّننا ل نرد على الحداث بل يجب أن نرد ّ وأن نتفاعل مع‬
‫الواقع‪،‬ولكن ينبغي أن يكون ردنا وتفاعلنا تفاعل وردا إيجابيا حركيا ل ردا‬
‫جامدا سلبيا‪.‬فإذا نحن أتقنا الرد والتفاعل الحركي الكامل نستطيع أن نفوت‬
‫م ل نمنحهم قدرة النجاز من خلل‬ ‫الفرصة على العداء والطواغيت‪،‬ومن ث ّ‬
‫أعمالهم ومنواراتهم‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬

‫‪1148‬تفسير ابن كثير)‪.(3/157‬‬


‫‪1149‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(4/57‬‬
‫‪]1150‬طه‪.[65:‬‬
‫‪]1151‬طه‪.[66:‬‬
‫‪1152‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪،(4/59‬تفسير ابن كثير)‪.(2/428‬‬

‫‪182‬‬
‫مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت‬
‫في الحجة والبرهان‬
‫تبدأ مرحلة البتلء عادة بعد أن يشعر الطاغوت بالفلس‬
‫والخطر‪،‬فينتقل من الحجة والبيان إلى العصا والسنان‪،‬وتلك سنة الظالمين‬
‫على مدار التاريخ‪،‬حيث يكبر عليهم التذكير بآيات الله والدعوة إليه‪،‬فل‬
‫يعودون يتحملون سماع كلمة الحق‪،‬وتضيق بها صدورهم‪،‬فقوم نوح‬
‫ن من المرجومين‘‘‪،1153‬ويستنكر أبو‬ ‫قالوا‪’’:‬لئن لم تنته يا نوح لتكون ّ‬
‫إبراهيم دعوة ابنه ويقول‪’’:‬أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم‬
‫تنته لرجمّنك‘‘‪،1154‬وقوم شعيب قالوا‪’’:‬لنخرجّنك يا شعيب والذين‬
‫ن في ملتنا‘‘‪..1155‬وهكذا قالوها‪’’:‬لئن‬ ‫آمنوا معك من قريتنا أو لتعود ّ‬
‫‪1156‬‬
‫ن المرور‬‫لم تنتهوا لنرجمّنكم وليمسّنكم مّنا عذاب أليم‘‘ ؛ذلك أ ّ‬
‫بمرحلة البتلء سّنة من الله لتمحيص الصف المؤمن‪،‬ولتنقيته من‬
‫المنافقين‪،‬ولتخليص الّنفوس من الهواء والمصالح الخاصة‪..‬فهي مرحلة‬
‫مل الرسالة والمانة‪..‬ومن أجل هذا كانت الوسائل‬ ‫تهيأة للقيادة وتح ّ‬
‫م لتحقيق النجاز والنتصار‪.‬يقول‬ ‫محققة لتلك المعاني والقيم‪،‬ث ّ‬ ‫ال ُ‬
‫مل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫و ُ‬
‫مّنا َ‬
‫س أن ي ُت َْركوا أن ي َقولوا آ َ‬ ‫ب الّنا ُ‬ ‫س َ‬‫ح ِ‬ ‫تعالى‪’’:‬أ َ‬
‫ن التمكين لمن ليس أهل لتحمل المانة والقيادة ُيلحق‬ ‫‪1157‬‬
‫ن‘‘ ؛ذلك أ ّ‬ ‫فت َُنو َ‬‫يُ ْ‬
‫ضررا بسمعة الحق الذي يدعون حمله‪،‬وهو ما ُيشير إليه قوله‬
‫وا الزكاة‬ ‫تعالى‪’’:‬الذين إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآت َ ُ‬
‫وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‘‘‪،1158‬وفي ذلك)إشارة إلى حال‬
‫أهل التمكين وأنهم مهديون هادون(‪.1159‬‬
‫لقد فرض فرعون المعركة على موسى حين أضحى نظام فرعون قلقا‬
‫مضطربا بسبب الخفاقات المتتالية له ولحزبه‪،‬وخصوصا تلك الهزيمة النكراء‬
‫التي انتهت بها تلك المباراة الشهيرة مع السحرة؛فتوافرت بواعث المعركة‬
‫وكشف الطاغوت عن حقيقته المجرمة‪،‬وأقبلت المحن والبتلءات؛فقتل‬
‫ن السحرة بعد أن أعلنوا إيمانهم‪،‬وأعاد القتل على بني إسرائيل ونشر‬ ‫فرعو ُ‬
‫الرعب في قلوب الّناس‪..‬أقبلت المحن‪،‬ونحن مصرون على المضي في‬
‫الطريق‪،‬فكيف السبيل لمواجهتها؟هذا ما سنذكره بعد طول نظر بتلك‬
‫المحنة الكبرى‪،‬حيث أرشدنا القرآن الكريم لعدة وسائل لمواجهة تلك‬
‫جهنا في المستقبل‪.‬‬ ‫المحنة وكل محنة قد ُتوا ُ‬
‫وسائل مواجة البتلءات والمحن‬
‫ن وجود المحن ليس مبررا للقعود عن القيام بالواجب‪،‬ولو كان المر‬ ‫إ ّ‬
‫كذلك لما أمرنا بالجهاد في سبيل الله‪،‬ولما كان الشهداء والجرحي‬ ‫ُ‬
‫ن الله سبحانه وتعالى حين فرض علينا القيام بتلك المواجهة مع‬ ‫والسرى‪..‬إ ّ‬
‫الطاغوت أرشدنا إلى ما به نستطيع خوض غمار تلك الملحمة‪،‬وكل من ل‬

‫‪]1153‬الشعراء‪.[116:‬‬
‫‪]1154‬مريم‪.[46:‬‬
‫‪]1155‬العراف‪.[88:‬‬
‫‪]1156‬يس‪.[18:‬‬
‫‪]1157‬العنكبوت‪.[2:‬‬
‫‪]1158‬الحج‪.[41:‬‬
‫‪1159‬روح المعاني)‪.(17/212‬‬

‫‪183‬‬
‫يقوم بتلك المهمة والتكليف فهو آثم عند الله‪،‬فما ل يتم الواجب إل ّ به فهو‬
‫واجب‪.‬من هنا تأتي أهمية بيان وسائل مواجهة المحن‪.‬‬
‫الوسيلة اللولى‪:‬التعبئة الروحية‬
‫ل ما من شأنه أن يقّرب العبد من ربه‪،‬وتجعله زاهدا في هذه‬ ‫هي فعل ك ّ‬
‫الدنيا وما فيها‪،‬مقبل على ما عند الله فهو خير وأبقى‪،‬ولقد أثبتت التجارب‬
‫ن الفئة المؤمنة المتمسكة بحبل الله هي الفئة القادرة‬ ‫قديمها وحديثها أ ّ‬
‫على التضحية بالمال والنفس؛فالنسان بطبعه ينظر إلى ما وراء عمله‬
‫وجهده‪،‬فإذا لم يكن عنده تطلع إلى الخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين فما‬
‫دم التضحيات؟وإذا كان تصوره محدود في هذه الرض‬ ‫الذي يجعله يثبت وُيق ّ‬
‫فكيف يستطيع أن يواجه الطاغوت؟فمن المستحيل قطعا أن ننتصر على‬
‫ن الله لم يجعل‬ ‫الطاغوت ونحن تمتلؤ قلوبنا بحب الدنيا والّتعلق بها‪،‬ذلك أ ّ‬
‫لرجل من قلبين في جوفه‪،‬فكلما)توزعت الفكرة قصرت عن درك‬
‫الحقائق(‪.1160‬‬
‫إّنها التعبئة القادرة على انتزاع الخوف من الطاغوت‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فل‬
‫تخشوا الّناس واخشون‘‘‪،1161‬وهذا نهى ل َْتباِع الحق عن خشيتهم غير‬
‫الله‪،1162‬وبها‪-‬أيضا‪-‬نتخلص من حظ النفس وحظ الشيطان‪،‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬فاعبد الله مخلصا له الدين‘‘‪،1163‬أي من الشرك والرياء؛‬
‫فالخلص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه‪،1164‬ولن يكون هذا إل ّ بتعبئة‬
‫روحية مستمرة ل تنقطع أرشد الله‪-‬سبحانه‪-‬إليها موسى ومن معه من‬
‫المؤمنين‪،‬ويمكن إجمالها فيما يلي‪:‬‬
‫أول‪:‬ذكر الله‬
‫ن القلوب‪،‬وترجع لجميع أقضية الحق‪،‬يقول تعالى‪’’:‬أل‬ ‫بذكر الله تطمئ ّ‬
‫‪1166‬‬ ‫‪1165‬‬
‫ن ؛‬ ‫ن القلوب‘‘ ‪،‬أي تسكن وتستأنس بذكره فتطمئ ّ‬ ‫بذكر الله تطمئ ّ‬
‫فالذكر صفاء القلب وذهاب الظلمة النفسانية وحصول الذوق‬
‫والشوق‪.1167‬وذكر الله سبحانه مطلوب في كل حين‪،‬وهو عند الشدائد‬
‫ن نبي الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫آكد‪،‬فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أ ّ‬
‫كان يقول عند الكرب‪’’:‬ل إله إل الله العظيم الحليم‪،‬ل إله إل الله رب‬
‫العرش العظيم‪،‬ل إله إل الله رب السماوات ورب الرض ورب العرش‬
‫الكريم‘‘‪.1168‬وكم نحن بحاجة إلى تلك الطمأنينة حين يشتد الّنزال مع‬
‫الطاغوت‪.‬‬
‫وبالذكر تكون المعية مع الله‪،‬ففي الحديث القدسي’’وأنا معه حين‬
‫يذكرني‘‘‪،1169‬أي)معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والعانة(‪.1170‬تلك‬
‫المعية التي أيقنها موسى عليه السلم حين)لحق فرعون بجمعه‪-‬أي جمع‬
‫‪1160‬أبجد العلوم)‪.(1/124‬‬
‫‪]1161‬المائدة‪.[45:‬‬
‫‪1162‬انظر‪:‬تفسير النسفي)‪.(1/284‬‬
‫‪]1163‬الزمر‪.[2:‬‬
‫‪1164‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/57‬وفتح القدير)‪.(4/448‬‬
‫‪]1165‬الرعد‪.[28:‬‬
‫‪1166‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(13/145‬‬
‫‪1167‬انظر‪:‬فيض القدير)‪.(5/409‬‬
‫‪1168‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار‪،‬باب دعاء الكرب)‪(4/2092‬رقم)‬
‫‪.(2730‬‬
‫‪1169‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار‪،‬باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى‬
‫الله تعالى)‪(4/2067‬رقم)‪.(2675‬‬

‫‪184‬‬
‫موسى‪-‬وقرب منهم ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت‬
‫ظنونهم‪،‬وقالوا لموسى‪’’:‬إّنا لمدركون‘‘‪،1171‬فرد ّ عليهم قولهم وزجرهم‬
‫وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر(‪،1172‬فكان جوابه عليه السلم‬
‫ن معي ربي سيهدين‘‘‪).1173‬فعندما ضاق المر اتسع‪،‬فأمره‬ ‫لهم‪’’:‬كل ّ إ ّ‬
‫الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه‪،‬فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق‬
‫كالطود العظيم(‪.1174‬‬
‫إّنه اليقين بوعد الله‪’’:‬ل تخافا إّنني معكما أسمع وأرى‘‘‪،1175‬أي)ل‬
‫تخافا منه فإّنني معكما أسمع كلمكما وكلمه‪،‬وأرى مكانكما ومكانه ل يخفى‬
‫ن ناصيته بيدي‪،‬فل يتكلم ول يتنفس ول‬ ‫ي من أمركم شيء‪،‬واعلما أ ّ‬ ‫عل ّ‬
‫يبطش إل ّ بإذني وبعد أمري‪،‬وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي( ‪.‬‬
‫‪1176‬‬

‫ولهذا ُأمر موسى عليه السلم بالذهاب إلى فرعون وُأمر كذلك‬
‫بالوسيلة التي ُتعينه على تلك المواجهة الساخنة وما تحمله من مشاق‬
‫كبيرة‪،‬حيث أرشده الله سبحانه وتعالى إلى الكثار من ذكره‪،‬فقال‬
‫سبحانه‪’’:‬ول تنيا في ذكري‘‘‪،1177‬أي)ل تفترا ول تقصرا في ذكري‪،‬أي بما‬
‫يليق بي من الصفات الجليلة والفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء‬
‫ي‪،‬وقيل‪:‬المعنى ل تنيا في تبليغ رسالتي‪،‬فإن الذكر يقع على جميع العبادات‬ ‫إل ّ‬
‫وهو أجلها وأعظمها‪،‬وقيل‪:‬ل تنسياني حيثما تقلبتما‪،‬واستمدا بذكري العون‬
‫ن أمرا من المور ل ي َت ََأتى ول يتسنى إل بذكري(‪.1178‬‬ ‫والتأييد‪،‬واعلما أ ّ‬
‫و)ينبغي للعبد أن ل يشغله شيء عن ذكر الله‪،‬وأن يلتجئ إليه عند‬
‫ن لطفه ل ينفك عنه في شيء‬ ‫الشدائد‪،‬وُيقبل عليه بكلّيته فارغ البال‪،‬واثقا بأ ّ‬
‫‪1179‬‬
‫ي لتعريف أهل اليمان بالفعال‬ ‫من الحوال( ‪،‬ولهذا كان التوجيه الّربان ّ‬
‫التي ُترجى لهم باستعمالها عند لقائهم عدوهم النصرة عليهم والظفر‬
‫بهم’’يا أّيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله‬

‫‪1170‬السيوطي‪:‬أبو الفضل‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال)‪911-849‬هـ(‪،‬الديباج‬


‫على صحيح مسلم‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬أبو إسحاق الحويني الثري‪،‬دار ابن عفان‪،‬الخبر‪-‬السعودية‪،‬‬
‫‪1416‬هـ‪1996-‬م‪،(6/44/2675).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)الديباج(‪.‬‬
‫‪]1171‬الشعراء‪.[61:‬‬
‫‪1172‬تفسير القرطبي)‪.(13/106‬‬
‫‪]1173‬الشعراء‪.[62:‬‬
‫‪1174‬تفسير ابن كثير)‪.(2/431‬‬
‫‪]1175‬طه‪.[46:‬‬
‫‪1176‬تفسير ابن كثير)‪.(3/155‬‬
‫‪]1177‬طه‪.[42:‬‬
‫‪1178‬تفسير أبي السعود)‪.(6/17‬وانظر‪:‬الدر المنثور)‪(5/579‬وتفسير الثعالبي)‪(3/30‬وتفسير‬
‫البيضاوي)‪(4/51‬وتفسير النسفي)‪.(3/55‬‬
‫‪1179‬تفسير أبي السعود)‪(4/25‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫ُ‬
‫ن ذكره‬ ‫‪1180‬كثيرا لعلكم تفلحون‘‘‪،1181‬أي أذكروا الله عند جزع قلوبكم‪،‬فإ ّ‬
‫ُيعين على الشدائد‪،‬ويثبت القلب على اليقين‪،‬وذكر اللسان الموافق للجنان‬
‫لتكون إل ّ عن قوة المعرفة واتقاد البصيرة‪.1182‬‬
‫ثانيا‪:‬إقامة الصلة‪.‬‬
‫مى‬ ‫هناك صلة بّينة بين الصلة والذكر‪،‬فالصلة ذكر مخصوص‪،‬وقد س ّ‬
‫الله تعالى الصلة ذكرا في قوله‪’’:‬فاسعوا إلى ذكر الله‘‘‪،1183‬وفي قوله‬
‫ن الصلة مفزع كل مؤمن حين‬ ‫تعالى‪’’:‬وأقم الصلة لذكري‘‘‪1184‬؛ذلك أ ّ‬
‫الشدائد والمحن والنوازل‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأوحينا إلى موسى وأخيه أن‬
‫تبوءا لقومكما بمصر بيتوا واجعلوا بيتكم قبلة واقيموا الصلة‬
‫‪1185‬‬
‫ما اشتد بهم البلء من قبل فرعون وقومه‬ ‫وبشر المؤمنين‘‘ ‪،‬وذلك)ل ّ‬
‫وضيقوا عليهم ُأمروا بكثرة الصلة(‪،1186‬وذلك كقوله تعالى‪’’:‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا استعينوا بالصبر والصلة‘‘‪.1187‬أي)التوسل في الصلة واللتجاء‬
‫إليها فإنها جامعة لنواع العبادات النفسانية والبدنية‪..‬حتى تجابوا الى تحصيل‬
‫المآرب وجبر المصائب(‪.1188‬‬
‫وفي هذا إرشاد لنا إلى الساس الذي ُتبنى عليه الجماعة المسلمة كي‬
‫ن‬
‫تكون مؤهلة للمواجهة‪،‬سواء كان الطاغوت متمثل بفرعون أو بغيره‪،‬إذ أ ّ‬
‫المهم هو القدرة على تكلفة المواجهة‪،‬و)الصلة من أكبر العون على‬
‫الثبات(‪..1189‬ولهذا كان في ديننا صلة الخوف في ساحة المعركة لّنها)سلح‬
‫من أسلحة المعركة‪.‬بل إّنها السلح!فل بد من تنظيم استخدام هذا‬
‫السلح‪،‬بما يتناسب مع طبيعة المعركة‪،‬وجو المعركة !(‪1190‬؛فذكر الله عند‬
‫لقاء العدو ومواجهة الطواغيت)يؤدي وظائف شتى‪:‬إّنه التصال بالقوة التي‬
‫ل تغلب؛والثقة بالله الذي ينصر أولياءه‪..‬وهو في الوقت ذاته استحضار‬
‫حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها‪،‬فهي معركة لله‪،‬لتقرير ألوهيته في‬
‫الرض‪،‬وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه اللوهية؛وإذن فهي معركة لتكون‬
‫كلمة الله هي العليا؛ل للسيطرة‪،‬ول للمغنم‪،‬ول للستعلء الشخصي أو‬
‫القومي‪..‬كما أّنه توكيد لهذا الواجب‪-‬واجب ذكر الله‪-‬في أحرج الساعات‬

‫ن ذكره ُيعين على‬ ‫ُ‬


‫‪)1180‬للعلماء في هذا الذكر ثلثة أقوال‪:‬الول‪:‬أذكروا الله عند جزع قلوبكم‪،‬فإ ّ‬
‫ن القلب ليسكن عند اللقاء‬ ‫الثبات في الشدائد‪.‬الثاني‪:‬اثبتوا بقلوبكم واذكروه بألسنتكم‪،‬فإ ّ‬
‫ويضطرب اللسان‪،‬فُأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين‪،‬ويثبت اللسان على الذكر‪،‬ويقول‬
‫ماقاله أصحاب طالوت‪’’:‬ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‘‘‪،‬وهذه‬
‫الحالة لتكون إل عن قوة المعرفة واتقاد البصيرة‪،‬وهي الشجاعة المحمودة في‬
‫الناس‪.‬الثالث‪:‬اذكروا ماعندكم من وعد الله لكم في اتباعه أنفسكم ومثامنته لكم‪.‬قلت‪:‬والظهر‬
‫ه ذكر اللسان الموافق للجنان‪.‬ولهذا قالوا‪:‬لو رخص لحد في ترك الذكر لرخص لزكريا‪،‬يقول‬ ‫أن ّ‬
‫الله عز وجل‪’’:‬أل تكلم الناس ثلثة أيام إل رمزا واذكر ربك كثيرا‘‘‪،‬ولرخص للرجل في‬
‫الحرب‪،‬يقول الله عز وجل‪’’:‬إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا‘‘(تفسير القرطبي)‪-8/23‬‬
‫‪(24‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1181‬النفال‪.[45:‬‬
‫‪1182‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪،(24-8/23‬فتح القدير)‪.(2/315‬‬
‫‪]1183‬الجمعة‪.[9:‬‬
‫‪]1184‬طه‪.[14:‬‬
‫‪]1185‬يونس‪.[87:‬‬
‫‪1186‬تفسير ابن كثير)‪.(2/429‬‬
‫‪]1187‬البقرة‪.[153:‬‬
‫‪1188‬تفسير أبي السعود)‪(1/98‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1189‬تفسير ابن كثير)‪.(1/88‬‬
‫‪ 1190‬في ظلل القرآن )‪.(2/506‬‬

‫‪186‬‬
‫وأشد المواقف‪..‬وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة؛يحققها هذا التعليم‬
‫الرباني(‪.1191‬‬
‫ن الصلة طهرة من الذنوب‪،‬وهي نور المؤمنين كما في‬ ‫إ ّ‬
‫‪1192‬‬
‫الحديث’’والصلة نور‘‘ ‪،‬فالصلة نور مطلق‪،‬فهي للمؤمنين في الدنيا نور‬
‫في قلوبهم وبصائرهم‪،‬تشرق بها قلوبهم‪،‬وتستنير بصائرهم بأنوار المعارف‬
‫ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها وإقباله إلى الله تعالى بظاهره‬
‫وباطنه‪..‬تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى‬
‫ضح الطريق إلى الخرة‪..1193‬والصلة صلة بين العبد‬ ‫الصواب‪،‬وهي نور ُتو ّ‬
‫م ول‬‫م ول ه ٌ‬
‫وربه‪،‬فمن تحقق بالصلة سطعت في قلبه الحقيقة‪،‬فل وه ٌ‬
‫حيرة‪.1194‬من هنا تبدو قيمة الصلة‪..‬‬

‫ثالثا‪:‬الدعـــــاء‪.‬‬
‫والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة‪،‬وهو مطلوب من العبد لظهاره‬
‫موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل والتذلل له والخضوع‪،1195‬فمن العبد‬
‫المسألة والدعاء ومن الله الجابة والعطاء‪،‬قال الله تعالى‪’’:‬ادعوني‬
‫ن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم‬ ‫أستجب لكم‪،‬إ ّ‬
‫ن الذين يستكبرون عن دعائي سيدخلون جهّنم أذلء‬ ‫داخرين‘‘‪،1196‬أي إ ّ‬
‫ل شأنه وعيد شديد‪)،‬فهو سبحانه يحب أن‬ ‫صاغرين‪،1197‬وهذا من الله ج ّ‬
‫ُيسأل‪،‬وأن يلح عليه‪،‬ومن لم يسأله يبغضه‪،‬والمبغوض مغضوب عليه‪،‬وهذا‬
‫ن رضاه في مسألته وطاعته‪،‬وإذا رضي الرب تعالى فكل خير في‬ ‫يدل على أ ّ‬
‫‪1198‬‬
‫ن كل بلء ومصيبة في غضبه( ‪.‬‬ ‫رضاه‪،‬كما أ ّ‬
‫والدعاء من أهم السبل التي يعتمدها المؤمن في كل وقت‪،‬وتشتد‬
‫ن أشد الحالت حرجا هي تلك التي‬ ‫الحاجة إليها عند المصاعب والمصائب‪،‬وإ ّ‬
‫ه بها المؤمنون بطاغية من أمثال فرعون‪،‬فيلجأون إلى من يسمع‬ ‫ج ُ‬
‫ُيوا َ‬
‫شكواهم ويقضي حاجاتهم ويفرج الضيق عنهم‪،‬فإّنه ل معقب لحكمه ول راد ّ‬
‫لقضائه وهو القائل في كتابه‪’’:‬وقال ربكم ادعوني أستجب‬
‫لكم‪.1200‘‘1199‬‬
‫فالواجب على المؤمنين أن يرفعوا مسألتهم إلى ربهم‪،‬فهو سبحانه‬
‫من يجيب‬ ‫القادر على كشف الضّر وإجابة المضطر‪،‬يقول تعالى‪’’:‬أ ّ‬
‫المضطر إذا دعاه ويكشف السوء‘‘‪).1201‬فالمضطر في لحظات الكربة‬
‫‪1191‬المصدر السابق)‪.(4/26‬‬
‫‪1192‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الطهارة‪،‬باب فضل الوضوء )‪(1/203‬رقم)‪.(223‬‬
‫‪1193‬انظر‪:‬فيض القدير)‪.(4/291‬‬
‫‪1194‬المصدر السابق)‪.(1/389‬‬
‫‪1195‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(7/225‬‬
‫‪]1196‬غافر‪.[60:‬‬
‫‪1197‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(24/79‬وروح المعاني)‪.(24/81‬‬
‫‪1198‬فيض القدير)‪.(3/12‬‬
‫‪)1199‬والظاهر أن الجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي‪،‬وكون الدعاء من العبادة ل يستلزم أن‬
‫الجابة هي القبول للدعاء أي جعله عبادة متقبلة‪ ،‬فالجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة‪،‬والمراد‬
‫أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء‪،‬فقد يحصل المطلوب قريبا‪،‬وقد يحصل بعيدا‪،‬وقد يدفع عن‬
‫الداعي من البلء ما ل يعلمه بسبب دعائه‪،‬وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه(فتح القدير)‬
‫‪.(185-1/184‬‬
‫‪]1200‬غافر‪.[60:‬‬
‫‪]1201‬النمل‪.[62:‬‬

‫‪187‬‬
‫والضيق ل يجد له ملجأ إل الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين‬
‫تضيق الحلقة‪،‬وتشتد الخنقة‪،‬وتتخاذل القوى‪،‬وتتهاوى السناد؛وينظر النسان‬
‫حوله فيجد نفسه مجردا من وسائل الّنصرة وأسباب الخلص‪.‬ل قوته‪،‬ول قوة‬
‫في الرض تنجده‪.‬وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى؛وكل‬
‫من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى‪..‬في هذه اللحظة تستيقظ‬
‫الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة(‪.1202‬يقول‬
‫ن عبدي بي وأنا‬ ‫مظ ّ‬ ‫ن الله يقول‪:‬أنا ث َ ّ‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪’’:‬إ ّ‬
‫ب‬‫جه المؤمنون إلى ر ّ‬ ‫معه إذا دعاني‘‘‪،1203‬فإذا انقطعت السباب تو ّ‬
‫السباب‪.‬‬
‫ن الله سبحانه وتعالى قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه‪،‬يقول‬ ‫إ ّ‬
‫سبحانه‪’’:‬وإذا سألك عبادي عني فإّني قريب أجيب دعوة الداع إذا‬
‫دعان‘‘‪.1204‬روى البخاري عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال‪:‬كّنا‬
‫مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬فكّنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا‬
‫ارتفعت أصواتنا‪،‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم‪’’:‬يا أيها الناس‪،‬أربعوا‬
‫على أنفسكم‪،‬فإّنكم ل تدعون أصم ول غائبا‪،‬إّنه معكم إّنه سميع قريب تبارك‬
‫ل شأنه مفتوح ل يغلق أبدا‪.‬‬ ‫اسمه وتعالى جده‘‘‪1205‬؛فباب رحمته ج ّ‬
‫والدعاء سّنة النبياء والصالحين‪.‬وهكذا كان موسى عليه السلم متوجها‬
‫إلى ربه رافعا مسألته إليه‪،‬حيث نجد هذا الدعاء من موسى عليه السلم في‬
‫ن الدعاء جزء مهم من أدوات‬ ‫ما يؤكد لنا أ ّ‬‫كتاب الله مّرة تلو مّرة‪ ،‬م ّ‬
‫المواجهة مع فرعون‪،‬فعند أول مواجهة مع الظالمين‪،‬وبعد أن وكز موسى‬
‫مت ملحقته عليه السلم من قبل‬ ‫عليه السلم القبطي فقضى عليه‪،‬وت ّ‬
‫فرعون وجنوده وأجهزة مخابراته وأصبح في المدينة خائفا يترقب‪،‬عند ذلك‬
‫جني من القوم الظالمين‘‘‪،1206‬فهو يطلب الحماية من الله‬ ‫بن ّ‬‫قال‪’’:‬ر ّ‬
‫سبحانه وتعالى ‪،‬وأن ينجيه منهم‪،‬ولقد استجاب الله لدعائه‪.‬‬
‫ما اقتربت ساعة المواجهة رفع موسى حاجته لمن ُترفع له الحاجات‬ ‫ول ّ‬
‫ويقضيها قائل‪’’:‬رب اشرح لي صدري‪،‬ويسر لي أمري‪،‬واحلل عقدة‬
‫من لساني يفقهوا قولي‪،‬واجعل لي وزيرا من أهلي هارون‬
‫أخي‪،‬اشدد به أزري‪،‬وأشركه في أمري‘‘‪..،1207‬ولقد ُأجيبت دعوته’’قد‬
‫‪1208‬‬
‫سر أمره‪،‬وقضى‬ ‫أوتيت سؤلك يا موسى‘‘ ‪،‬فشرح الله صدره‪،‬وي ّ‬
‫سؤله‪.‬‬
‫ما أبوا‬
‫وها نحن نرى موسى عليه السلم)يدعو على فرعون وملئه ل ّ‬
‫قبول الحق‪،‬واستمروا على ضللهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا‬
‫وتكبرا وعتوا‪،‬حينئذ قال‪’’:‬ربنا إنك آتيت فرعون ومله زينة‬
‫وأموال‘‘‪،1209‬أي من أثاث الدنيا ومتاعها‪،‬وأموال جزيلة كثيرة في هذه‬

‫‪1202‬في ظلل القرآن)‪.(295-6/294‬‬


‫‪1203‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار‪،‬باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى‬
‫الله تعالى)‪(4/2067‬رقم)‪.(2675‬‬
‫‪]1204‬البقرة‪.[186:‬‬
‫‪1205‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الجهاد والسير‪،‬باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير)‪(3/1091‬رقم)‬
‫‪.(2830‬وأربعوا)أي ارفقوا(فتح الباري)‪.(6/135‬‬
‫‪]1206‬القصص‪.[21:‬‬
‫‪]1207‬طه‪.[32-25:‬‬
‫‪]1208‬طه‪.[36:‬‬
‫‪]1209‬يونس‪.[88:‬‬

‫‪188‬‬
‫الحياة الدنيا‪’’،‬ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘‪،1210‬أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم‬
‫أنهم ل يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم(‪.1211‬‬
‫بعد هذا يسأل موسى ربه أن يمحق أمواله ويشدد على قلوبهم‪’’،‬ربنا‬
‫اطمس على قلوبهم واشدد على قلوبهم فل يؤمنوا حتى يروا‬
‫العذاب الليم‪،‬قال قد اجيبت دعوتكما‘‘‪.1212‬إّنه عليه السلم يدعو‬
‫رّبه)لتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والغراء‪،‬وأن يطمس الّله‬
‫على هذه الموال بتدميرها والذهاب بها‪،‬بحيث ل ينتفع بها أصحابها(‪.1213‬‬
‫وها هو موسى يتوجه إلى الله بالدعاء حين أحس أن القوم لن يؤمنوا‬
‫له ولن يستجيبوا لدعوته؛ولن يسالموه أو يعتزلوه‪.‬وبدا له إجرامهم أصيل ً‬
‫عميقا ً ل أمل في تخليهم عنه‪.‬عند ذلك لجأ إلى ربه وملذه الخير‪’’:‬فدعا‬
‫ن هؤلء قوم مجرمون‘‘‪،1214‬فاستجاب الله دعاءه فأغرقهم‬ ‫ربه أ ّ‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫‪1215‬‬
‫على أهمية الدعاء ما نطق به السحرة حين تعّرضوا‬ ‫ومن الشواهد‬
‫لفتنة القتل والصلب‪،‬حين قالوا‪’’:‬ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا‬
‫مسلمين‘‘‪،1216‬فهناك ساعات ل بد ّ فيها من معونة الله ومدده‪،‬فاستجاب‬
‫الله لهم فثّبتهم على أبشع صورة قتل في التاريخ‪.‬‬
‫ونجد الدعاء حاضرا في قلوب الفئة القليلة التي آمنت بموسى عليه‬
‫السلم حين خافت الفتنة من القوم الظالمين فتوجهت إلى الله‬
‫بالدعاء‪’’،‬ربنا ل تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‪،‬ونجنا برحمتك من‬
‫القوم الكافرين‘‘‪.1217‬إّنهم لجئوا إلى من يجب اللجوء إليه‪.‬‬
‫ما‬ ‫صرون في الدعاء إ ّ‬ ‫ن بعض المسلمين ُيق ّ‬ ‫وهنا ل بد ّ من تنبيه حيث أ ّ‬
‫ما عن عدم ثقة بالجابة‪،‬وهنا تكمن الكارثة‪.‬نعم قد‬ ‫عن جهل وقلة علم‪،‬وإ ّ‬
‫تتأخر الجابة إلى حين ُيقدره الله بعلمه ولحكمة يعلمها هو سبحانه‪،‬ولذلك‬
‫تجد كثيرا من الّناس يقولون‪:‬قد دعونا على العداء فلم يزدادوا إل ّ قوة‬
‫ن الجابة ل تكون كما يهوى الّناس ويتصورون‪،‬فقد يكون‬ ‫وعنجهية!والجواب أ ّ‬
‫التأخير لبتلء اليمان في الصدور‪،‬وقد يكون لتصفية الصف المسلم من‬
‫محَبطين‪،‬وقد يكون استدراجا للعدو فيبالغ في الستكبار والتمرد والغفلة…‬ ‫ال ُ‬
‫فلحكمة ما ُتؤجل الجابة‪،‬والواجب إذا هو الثقة المطلقة بالجابة ولو بعد‬
‫حين‪،‬بل ربما يدخر الله إجابتها إلى يوم القيامة في ميزان الحسنات‪،‬‬
‫)فالستقامة في الدعاء ترك الستعجال في حصول المقصود‪،‬ول يسقط‬
‫الستعجال من القلب إل باستقامة السكينة فيه‪،‬ول تكون السكينة إل بالرضا‬
‫الحسن لجميع ما يبدوا من الغيب(‪.1218‬‬
‫ن رسول الله صلى‬ ‫وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة أ ّ‬
‫الله عليه وسلم قال‪’’:‬يستجاب لحدكم ما لم يعجل‪.‬يقول‪:‬دعوت فلم‬

‫‪]1210‬يونس‪.[88:‬‬
‫‪1211‬تفسير ابن كثير)‪(2/430‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1212‬يونس‪.[89-88:‬‬
‫‪1213‬في ظلل القرآن)‪.(471-4/470‬‬
‫‪]1214‬الدخان‪.[22:‬‬
‫ن‬ ‫‪1215‬لست هنا بصدد استقصاء كل الدعية الواردة في هذه المواجهة‪،‬وإّنما يكفي ما يد ّ‬
‫ل على أ ّ‬
‫الدعاء وسيلة حاضرة فيها‪.‬‬
‫‪]1216‬العراف‪.[126:‬‬
‫‪]1217‬يونس‪.[86-85:‬‬
‫‪1218‬تفسير القرطبي)‪.(8/376‬‬

‫‪189‬‬
‫يستجب لي‘‘‪.1219‬وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم أّنه قال‪’’:‬ل يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم‬
‫ما لم يستعجل‪.‬قيل يا رسول الله‪:‬ما الستعجال؟قال‪:‬يقول قد دعوت وقد‬
‫دعوت فلم أر يستجيب لي‪،‬فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء‘‘‪.1220‬‬
‫الوسيلةالثانية‪:‬التوكل على الله‪،‬وتفويض المر إليه‬
‫كل بالمر إذا ضمن القيام به‪،‬ووكلت أمري إلى فلن أي ألجأته‬ ‫)يقال‪:‬تو ّ‬
‫كل فلن فلنا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو‬ ‫إليه واعتمدت فيه عليه‪،‬وو ّ‬
‫عجزا عن القيام بأمر نفسه(‪،1221‬والتوكل لغة)إظهار العجز والعتماد على‬
‫غيرك(‪،1222‬وفي الصطلح)الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي‬
‫الناس(‪.1223‬‬
‫واختلف العلماء في حقيقة التوكل‪)،‬فقالت فرقة‪:‬الرضا بالضمان وقطع‬
‫ن التوكل على الله هو‬ ‫ما قول عامة الفقهاء فهو‪:‬أ ّ‬‫الطمع من المخلوقين‪،‬أ ّ‬
‫ن قضاءه ماض‪،‬واتباع سّنة نبيه صلى الله عليه وسلم‬ ‫الثقة بالله‪،‬واليقان بأ ّ‬
‫في السعي فيما لبد منه من السباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو‬
‫وإعداد السلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة‪،‬ومتى وقع‬
‫من المتوكل ركون إلى تلك السباب فقد انسلخ عن ذلك السم‪.‬‬
‫ثم المتوكلون حالين‪:‬الول‪:‬حال المتمكن في التوكل فل يلتفت إلى‬
‫شيء من تلك السباب بقلبه ول يتعاطاه إل ّ بحكم المر‪.‬الثاني‪:‬حال غير‬
‫المتمكن وهو الذي يقع له اللتفات إلى تلك السباب أحيانا غير أّنه يدفعها‬
‫عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والذواق الحالية‪،‬فل يزال‬
‫كذلك إلى أن ُيرّقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ويلحقه‬
‫بدرجات العارفين(‪.1224‬‬
‫من يدعي التجريد والتوكل على التحقيق ويقعد على‬ ‫)فالعجب العجب م ّ‬
‫ثنّيات الطرق‪،‬ويدع الطريق المستقيم‪،‬والمنهج الواضح القويم‪.‬ثبت في‬
‫البخاري عن ابن عباس قال‪’’:‬كان أهل اليمن يحجون ول يتزودون‪،‬ويقولون‬
‫ن خير‬‫نحن المتوكلون‪،‬فإذا قدموا سألوا الناس‪،‬فأنزل الله تعالى‪:‬وتزودوا فإ ّ‬
‫الزاد التقوى‘‘‪،1225‬ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‬
‫رضوان الله عليهم أّنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد‪،‬وكانوا المتوكلين‬
‫حقا(‪.1226‬‬
‫لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتوكل عليه فقال‪’’:‬وعلى الله‬
‫فليتوكل المؤمنون‘‘‪.1227‬على وجه الحصر والقصر‪،‬أي)فليتوكلوا عليه ول‬
‫يتوكلوا على غيره(‪،1228‬وبّين لنا عاقبة التوكل بقوله تعالى‪’’:‬ومن يتوكل‬
‫‪1219‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الدعوات وقول الله تعالى ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن‬
‫عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‪،‬باب يستجاب للعبد ما لم يعجل)‪(5/2335‬رقم)‪. (5981‬‬
‫‪1220‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار‪،‬باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم‬
‫يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي)‪(4/2096‬رقم)‪.(2735‬‬
‫‪ 1221‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬وكل)‪.(11/734‬‬
‫‪1222‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬وكل)‪.(306‬‬
‫‪1223‬التعريفات‪،‬فصل الواو)‪.(1/97‬‬
‫‪1224‬تفسير القرطبي)‪(190-4/189‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1225‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الحج‪،‬باب قول الله تعالى‪:‬وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)‪(2/554‬رقم)‬
‫‪.(1451‬‬
‫‪1226‬تفسير القرطبي)‪.(13/16‬‬
‫‪]1227‬آل عمران‪.[122:‬‬
‫‪1228‬تفسير البيضاوي)‪.(2/88‬‬

‫‪190‬‬
‫على الله فهو حسبه‘‘‪)،1229‬فإن توكلت على الله كفاك وتعجلت الراحة‬
‫والبركة‪،‬وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك‪،‬وأمره سبحانه في‬
‫الوجهين نافذ(‪.1230‬‬
‫لقد استجاب الذين آمنوا لمر ربهم‪،‬وقالوا‪’’:‬حسبنا الله ونعم‬
‫الوكيل‘‘‪‘‘،1231‬قالها إبراهيم عليه السلم حين ألقى في النار‪،‬وقالها محمد‬
‫ن الّناس قد جمعوا لكم فاخشوهم’’‪1232‬؛‬ ‫صلى الله عليه وسلم حين قالوا‪:‬إ ّ‬
‫ن التوكل على الله واللتجاء إليه هو الصل الذي تبنى عليه كل حركة‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ي الله وكليمه موسى‬‫في الحياة‪،‬في الرخاء والشدة سواء‪.‬وهكذا كان نب ّ‬
‫عليه السلم متوكل عليه وآمرا للمؤمنين بالتوكل عليه‪،‬فها هو‪-‬عليه السلم‪-‬‬
‫يناديهم‪’’:‬يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم‬
‫مسلمين‪،‬فقالوا على الله توكلنا ربنا ل تجعلنا فتنة للقوم‬
‫الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‘‘‪،1233‬حيث أمرهم‬
‫بالتوكل على الله‪،‬أي)فبه فثقوا ولمره فسلموا‪،‬فإّنه لن يخذل وليه ويسلم‬
‫من توكل عليه(‪.1234‬‬
‫)فالتوكل على الّله دللة اليمان ومقتضاه‪.‬وعنصر القوة الذي يضاف‬
‫إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى‬
‫وأثبت(‪،1235‬فقالـوا‪’’:‬على الله توكـلنا ربـنا ل‬
‫تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‪،‬ونجنا برحمتك من القوم‬
‫الكافرين‘‘‪،1236‬أي)ل تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا‬
‫لنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك(‪.1237‬‬
‫فالله سبحانه وتعالى كاف من توكل عليه‪،‬يقول تعالى‪’’:‬أليس الله‬
‫بكاف عبده‘‘‪،1238‬وهذا)إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه‪،‬كأ ّ‬
‫ن‬
‫الكفاية من التحقق والظهور بحيث ل يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو‬
‫يتلعثم في الجواب بوجودها(‪.1239‬وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة‬
‫كل عليه‘‘‪1240‬؛)فإّنه كافيك كل ما‬ ‫والتوكل كقوله تعالى‪’’:‬فاعبده وتو ّ‬
‫تكره‪،‬ومعطيك كل ما تحب(‪،1241‬و)في تأخير المر بالتوكل عن المر بالعبادة‬
‫إشعار أّنه ل ينفع دونها(‪.1242‬‬
‫تفويض المر إلى الله‬
‫ويلحق بالتوكل تفويض المر إلى الله‪،‬والتفويض لغة‪:‬من)فوض إليه‬
‫وض أمره إليه إذا رده إليه‬ ‫المر صيره إليه وجعله الحاكم فيه‪..‬ويقال‪:‬ف ّ‬
‫‪]1229‬الطلق‪.[3:‬‬
‫‪1230‬تفسير الثعالبي)‪.(4/311‬‬
‫‪]1231‬آل عمران‪.[173:‬‬
‫‪1232‬صحيح البخاري‪،‬كتاب التفسير‪،‬باب إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)‪(4/1662‬رقم)‬
‫‪.(4287‬‬
‫‪]1233‬يونس‪.[85-84:‬‬
‫‪1234‬تفسير الطبري)‪.(11/151‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(3/211‬‬
‫‪1235‬في ظلل القرآن)‪.(4/468‬‬
‫‪]1236‬يونس‪.[85:‬‬
‫‪1237‬تفسير ابن كثير)‪.(2/429‬‬
‫‪]1238‬الزمر‪.[36:‬‬
‫‪1239‬روح المعاني)‪.(24/5‬‬
‫‪]1240‬هود‪.[123:‬‬
‫‪1241‬فتح القدير)‪.(2/535‬‬
‫‪1242‬تفسير ابي السعود)‪.(4/249‬‬

‫‪191‬‬
‫وجعله الحاكم فيه(‪،1243‬فهو رد ٌ للمر إلى الغير لينظر فيه‪،‬وعند المفسرين‪:‬‬
‫)رد المر إلى الله‪،‬والتبرؤ من الحول والقوة(‪،1244‬وهو)رد ما جهلت علمه‬
‫إلى عالمه‪،‬والتفويض مقدمة للرضا والرضا باب الله(‪.1245‬‬
‫لقد اجتهد مؤمن آل فرعون بالّنصيحة لقومه‪،‬ولكّنهم أعرضوا‬
‫وتولوا‪،‬حينئذ قال لهم‪’’:‬فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى‬
‫ن الله بصير بالعباد‘‘‪ ،1246‬أي)سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به‬ ‫الله‪،‬إ ّ‬
‫ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه‪،‬وتندمون حيث ل ينفعكم‬
‫الندم(‪،1247‬وأفوض أمي إلى الله‪،‬أي)وأسلم أمري إلى الله وأجعله إليه‬
‫وأتوكل عليه‪،‬فإّنه الكافي من توكل عليه(‪،1248‬وقيل‪) :‬هذا يدل على أّنهم‬
‫أرادوا قتله(‪،1249‬أو أّنه تعّرض لتهديد ما‪،‬وأرادوا اليقاع به لمخالفته لهم في‬
‫دين‪.1250‬‬
‫ال ّ‬
‫إّننا حين نتوكل على الله نشعر بالقوة والثبات والطمأنينة كما كان حال‬
‫مؤمن آل فرعون‪،‬فرغم الخطار التي أحاطت به استطاع أن ُيسجل هذه‬
‫الكلمة الخالدة؛ذلك أّنه استجار)بعزيز غالب يسلط القليل الضعيف على‬
‫الكثير القوي‪،‬حكيم ل ُيسوي بين وليه وعدوه(‪’’،1251‬ومن يتوكل على‬
‫ن الله عزيز حكيم‘‘‪،1252‬فل يضيع من لذ بجنابه والتجأ إلى‬ ‫الله فإ ّ‬
‫ل ما سوى الله‬ ‫حماه‪،‬وحكيم ل يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره‪.‬وك ّ‬
‫‪1253‬‬
‫ن‬‫تعالى عبد مسخر‪.‬حاجته مثل حاجتنا فكيف نتوكل عليه ؟!ذلك ظ ّ‬
‫طمس على بصيرته‪.‬‬ ‫الواهمين والمنافقين ومن ُ‬
‫كما أّننا ندرك حين توكلنا على الله‪-‬ونحن نخوض جهادنا مع الطاغوت‪-‬‬
‫ن وراء الحداث قوة منفردة بالخلق والختيار‪،‬وأنه ليس لها في الكون كله‬ ‫أ ّ‬
‫منازع ول معقب؛فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‪،‬فالمور كلها خيرها‬
‫وشرها بيده ومرجعها إليه‪’’،1254‬وربك يخلق ما يشاء ويختار‘‘‪،1255‬فحذار‬
‫من الستعجال أو التردد والنكوص مهما غلت التضحيات وارتفع ثمن‬
‫المواجهة مع الطاغوت‪،‬فذلك حال المتشككين العابدين لله على حرف؛’’فإن‬
‫ولدت امرأته غلما ونتجت خيله قال هذا دين صالح‪،‬وإن لم تلد امرأته ولم‬
‫تنتج خيله قال هذا دين سوء‘‘‪.1256‬‬
‫الوسيلة الثانية‪:‬الستعانة بالله‪1257‬والصبر‬
‫‪1243‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬فوض)‪(7/210‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬فوض)‬
‫‪.(1/215‬‬
‫‪1244‬التعاريف)‪.(1/195‬‬
‫‪1245‬حلية الولياء)‪.(10/245‬‬
‫‪]1246‬غافر‪.[44:‬‬
‫‪1247‬تفسير ابن كثير)‪.(4/82‬‬
‫‪1248‬تفسير الطبري)‪.(24/70‬‬
‫‪1249‬تفسير القرطبي)‪.(15/318‬‬
‫‪1250‬انظر‪:‬تفسير الواحدي)‪.(2/946‬‬
‫‪1251‬تفسير النسفي)‪.(2/69‬‬
‫‪]1252‬النفال‪.[49:‬‬
‫‪1253‬انظر ‪:‬إحياء علوم الدين)‪.(4/295‬‬
‫‪1254‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(3/398‬‬
‫‪]1255‬القصص‪.[68:‬‬
‫‪1256‬صحيح البخاري‪،‬كتاب التفسير‪،‬باب ومن الّناس من يعبد الله على حرف)‪(4/1768‬رقم)‬
‫‪.(4465‬‬
‫‪)1257‬الستعانة والتوكل إنما يتعلق بالمستقبل‪،‬فأما ما وقع فانما فيه الصبر والتسليم والرضى‪،‬كما‬
‫فى حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه مرفوعا إلى النبى‪:‬أسألك الرضا بعد القضاء( فتاوى ابن‬

‫‪192‬‬
‫ها هم المل من قوم فرعون يتناجون بالثم والعدوان‪،‬وُيحيكون‬
‫المؤامرت ويحّرضون فرعون‪’’،‬وقال المل من قوم فرعون أتذر‬
‫موسى وقومه ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‘‘‪،1258‬وُيستثار‬
‫فرعون ويشعر بالخطر‪،‬وكان الجواب منه قاسيا وحازما ومؤلما‪’’:‬سنقتل‬
‫أبناءهم ونستحيي نساءهم وإّنا فوقهم قاهرون‘‘‪،1259‬أي في‬
‫المنزلة والتمكن في الرض‪،1260‬وهكذا هو الطاغوت قديما وحديثا‪،‬وهذه‬
‫من وقع عليهم‬ ‫مر َ‬‫وسائله‪،‬فبدأت المحنة واشتد ّ التنكيل‪،‬وتذ ّ‬
‫اللضطهاد‪،‬فأرشدهم موسى عليه السلم إلى الطريق‪’’،‬وقال موسى‬
‫لقومه استعينوا بالله واصبروا‘‘‪1261‬أي‪)،‬استعينوا بالله على فرعون‬
‫وقومه فيما ينوبكم من أمركم‪،‬واصبروا على ما نالكم من المكاره في‬
‫أنفسكم وأبنائكم من فرعون(‪،1262‬حتى يأتي الله بالفرج‪.‬‬
‫ن صمودنا وثباتنا في مواجهة الطاغوت أيا كان بحاجة إلى الوسيلتين‬ ‫إ ّ‬
‫معا‪:‬‬
‫الولى‪:‬الستعانة بالله‪.‬‬
‫‪1263‬‬
‫والستعانة بالله طلب المعونة منه سبحانه ‪،‬وهي)طلب ما يتمكن به‬
‫العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه(‪،1264‬وفي الحديث’’وإذا استعنت‬
‫ن المة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك‬ ‫فاستعن بالله‪،‬واعلم أ ّ‬
‫إل بشيء قد كتبه الله لك‪،‬ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك‬
‫إل بشيء قد كتبه الله عليك‪،‬رفعت القلم وجفت الصحف‘‘‪،1265‬وفي‬
‫الحديث’’واستعن بالله ول تعجز وإن أصابك شيء فل تقل لو أّني فعلت‬
‫كان كذا وكذا‪،‬ولكن قل قدر الله وما شاء فعل‪،‬فإن لو تفتح عمل‬
‫الشيطان‘‘‪ ،1266‬فإذا استعنت بالله عز وجل فإّنه تعالى ل يعينك إل ّ بما هو‬
‫خير لك‪،‬فإّنه نعم المعين‪،‬ومن ترك الستعانة بالله واستعان بغيره وك َّله الله‬
‫إلى من استعان به فصار مخذول‪)،‬فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر‬
‫الستغاثة والستعانة على الله عز وجل‪،‬فهو سبحانه الحي القادر العالم‬
‫بمصالح عباده‪،‬فإّياك والنتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره‬
‫تعالى(‪.1267‬‬
‫ولهمية الستعانة بالله كان ذكرها في كل صلة‪،‬حين نقرأ‬
‫مقّرين’’وإّياك نستعين‘‘‪1268‬و)كان تقديم المفعول لقصد‬ ‫ُ‬
‫الختصاص‪،‬والمعنى نخصك بطلب المعونة‪،‬وأطلقت الستعانة لتتناول كل‬

‫تيمية في التفسير)‪.(13/321‬‬
‫‪]1258‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪]1259‬العراف‪.[127:‬‬
‫‪1260‬انظر‪:‬تفسير الثعالبي)‪.(2/45‬‬
‫‪]1261‬العراف‪.[128:‬‬
‫‪1262‬تفسير الطبري)‪.(9/27‬‬
‫‪1263‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(1/67‬‬
‫‪1264‬روح المعاني)‪.(1/87‬‬
‫‪1265‬مسند أحمد)‪(1/307‬رقم)‪،(2804‬سنن الترمذي‪،‬كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬باب ما جاء في صفة أواني الحوض )‪(4/667‬رقم)‬
‫‪،(2516‬قال أبو عيسى‪’’:‬هذا حديث حسن صحيح‘‘‪.‬‬
‫‪1266‬صحيح مسلم‪،‬كتاب القدر‪،‬باب في المر بالقوة وترك العجز والستعانة بالله وتفويض المقادير‬
‫لله )‪(4/2052‬رقم)‪.(2664‬‬
‫‪1267‬روح المعاني)‪.(14/160‬‬
‫‪]1268‬الفاتحة‪.[5:‬‬

‫‪193‬‬
‫ن النسان بفطرته يشعر بالضعف ومحدودية‬ ‫مستعان فيه(‪1269‬؛ذلك أ ّ‬
‫القدرات‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وخلق النسان ضعيفا‘‘‪،1270‬أي)عاجزا غير قادر‬
‫على ملك نفسه(‪،1271‬ويضغط هذا الضعف على النسان كلما اشتد ّ‬
‫البلء‪،‬حينئذ تستدعي الحاجة طلب العون من الله‪.‬‬
‫الثانية‪:‬الصبر‪.‬‬
‫‪1272‬‬
‫و)أصل الصبر‪-‬لغة‪-‬الحبس وكل من حبس شيئا فقد صبره( ‪،‬و)الصبر‬
‫حبس النفس عن الجزع(‪،1273‬وعند المفسرين‪) :‬حبس النفس عن أن تنازع‬
‫إلى هواها(‪،1274‬أو هو)حبس النفس على مشاق الطاعة والنوائب‬
‫والمكاره(‪.1275‬‬
‫ن المواجهة مع فرعون والتصدي‬ ‫ولقد أكثر القرآن من ذكر الصبر؛ذلك أ ّ‬
‫للطاغوت يحتاجان إلى الصبر على ما تحمله هذه المواجهة من آلم‬
‫جسام‪،‬فمقارعة الطواغيت تعني جهادا ل يثبت فيه إل ّ من وهب نفسه‬
‫لله‪،‬وأيقن بوجوب حبس نفسه على ما تكره‪،‬وقدرته على دفعها رغم‬
‫المخاوف والشدائد‪،‬فالطاغوت ل يستسلم بسهولة‪،‬وسيدافع بشراسة عن‬
‫منهجه ونظامه‪،‬مستعمل كافة ما لديه من وسائل مرعبة‪،‬متجاوزا كل القيم‬
‫والمثل والخلق‪،‬ل يردعه ضمير ول يمنعه إيمان‪،‬فليس أمامه سوى مصالحه‬
‫ومكتسباته التي يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وجبروت‪.‬من هنا كان على‬
‫من أراد المواجهة أن يتزود بزاد الصبر‪،‬فهي مواجهة ساخنة مكلفة‪،‬تحتاج مّنا‬
‫ل ذلك يتطلب صبرا‬ ‫الشهداء والجرحى والسجناء والمعذبين…وك ّ‬
‫‪1276‬‬
‫صبر‘‘ ‪.‬‬ ‫ن الّنصر مع ال ّ‬
‫وتجلدا‪،‬يقول صلى الله عليه وسلم‪’’:‬واعلم أ ّ‬
‫والصبر وصية المؤمنين بعضهم لبعض‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وتواصوا‬
‫دين والدنيا‪،‬يقول‬ ‫بالصبر‘‘‪،1277‬وهو الطريق للمامة في ال ّ‬
‫مة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا‬ ‫تعالى‪’’:‬وجعلناهم أئ ّ‬
‫يوقنون‘‘‪ ،1278‬فبالصبر واليقين تنال المامة في الدين‪،‬والقيادة والريادة في‬
‫الدنيا‪،‬وبه تكون معية الله’’والله مع الصابرين‘‘‪،1279‬إّنه سبحانه معهم‬
‫ينصرهم ويكلؤهم ويرعاهم حتى يظفروا بما طلبوا‪.‬‬
‫والصبر نوعان‪) :‬نوع على المقدور كالمصائب‪،‬ونوع على المشروع‪،‬وهذا‬
‫النوع‪-‬أيضا‪-‬نوعان‪:‬صبر على الوامر وصبر عن النواهي‪،‬فذاك صبر على‬
‫‪1269‬تفسير النسفي)‪(1/8‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1270‬النساء‪.[28:‬‬
‫‪1271‬فتح القدير)‪.(1/453‬‬
‫‪1272‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬صبر)‪.(4/438‬‬
‫‪1273‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬صبر)‪.(1/149‬‬
‫‪1274‬تفسير النسفي)‪.(4/163‬وانظر‪ :‬البيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن‬
‫موسى‪458-384)،‬هـ(‪،‬كتاب الزهد الكبير‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬عامر أحمد حيدر‪،‬ط ‪،3‬مؤسسة‬
‫الكتب الثقافية‪،‬بيروت‪1996،‬م‪،(342).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)كتاب الزهد الكبير(‪.‬‬
‫‪1275‬فيض القدير)‪.(1/485‬‬
‫‪ 1276‬مسند أحمد)‪(1/307‬رقم)‪،(2804‬المعجم الكبير)‪(11/123‬رقم)‪،(11243‬المستدرك على‬
‫الصحيحين)‪(3/623‬رقم)‪،(6303‬مسند عبد بن حميد)‪(214‬رقم)‪.(636‬قال العجلوني‪):‬وهو حسن‬
‫وله شاهد رواه عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه بلفظ يا ابن عباس احتفظ‬
‫الله يحفظك واحفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وذكره مطول‬
‫بسند ضعيف ورواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند أصح رجال وأقوى(كشف الخفاء)‬
‫‪(1/366‬رقم)‪.(993‬‬
‫‪]1277‬العصر‪.[3:‬‬
‫‪]1278‬السجدة‪.[24:‬‬
‫‪]1279‬النفال‪.[66:‬‬

‫‪194‬‬
‫ما النوع الول من الصبر‬ ‫الرادة والفعل وهذا صبر عن الرادة والفعل‪.‬فأ ّ‬
‫فمشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر‪،‬ل يثاب عليه لمجرده إن لم‬
‫يقترن به إيمان واختيار‪..‬يقول تعالى‪’’:‬وإن تصبروا وتتقوا‘‘‪،1280‬فالصبر‬
‫بدون اليمان والتقوى بمنـزلة قوة البدن الخالي عن اليمان والتقوى‪،‬وعلى‬
‫حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور‪،‬وقال تعالى‪’’:‬فاصبر‬
‫ن وعد الله حق ول يستخفّنك الذين ل يوقنون‘‘‪،1281‬فأمره أن‬ ‫إ ّ‬
‫يصبر ول يتشبه بالذين ل يقين عندهم في عدم الصبر‪،‬فإّنهم لعدم يقينهم‬
‫م صبرهم وخفوا واستخفوا قومهم‪،‬ولو حصل لهم اليقين والحق لصبروا‬ ‫عُدِ َ‬
‫ل يقينه قل صبره‪،‬ومن قل صبره خف‬ ‫وما خفوا ول استخفوا‪،‬فمن ق ّ‬
‫واستخف‪،‬فالموقن الصابر رزين لنه ذو لب وعقل‪،‬ومن ل يقين له ول صبر‬
‫عنده خفيف طائش تلعب به الهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء‬
‫د‪،‬ل‬
‫ن الصبر محمو ٌ‬ ‫الخفيف(‪،1282‬وفي الحديث‪’’:‬والصبر ضياء‘‘‪،1283‬والمراد)أ ّ‬
‫يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب(‪.1284‬‬
‫الصبر)نور قوي تنكشف به الكربات وتنـزاح به غياهب الظلمات‪،‬فمن‬
‫صبر على ما أصابه من مكروه‪-‬علما بأّنه من قضاء الله وقدره‪-‬هان عليه‬
‫ذلك‪،‬وكفي عنه شره‪،‬وادخر له أجره‪،‬ومن اضطرب فيه وأكثر الجزع والهلع‬
‫لم ينفعه تعبه‪،‬ول يدفع سعيه شيئا من قدر الله‪،‬بل يتضاعف به همه ويحبط‬
‫أجره‪،‬والعبد بالصبر يخرج عن عهدة التكليف‪،‬ويقوى على مخالفة الشيطان‬
‫والنفس‪،‬فيفوز في الدارين فوزا‪.‬والضياء الّنور القوي‪،‬والضاءة فرط‬
‫النارة(‪.1285‬‬
‫والصبر الذي يكون لله وفي سبيل الله ثوابه غير مقدر‪،‬يقول‬
‫فى الصابرون أجرهم بغير حساب‘‘‪،1286‬وكفى بهذا‬ ‫تعالى‪’’:‬إّنما يو ّ‬
‫مل أذاه‪،‬فلنصبر صبرا جميل‬ ‫الجر غير المقدر حافزا لمواجة الطاغوت وتح ّ‬
‫لجزع فيه ول شكوى‪،‬بل نبث همنا وكربنا إلى الله وحده‪.‬‬
‫السحرة آية من آيات الصبر والثبات‬
‫كانوا في أول الّنهار سحرة وفي آخره شهداء برره‪.‬فها هم يرفعون‬
‫دهم عن دينهم وتهددهم بالقتل‬ ‫ما أراد فرعون ر ّ‬
‫أكف الضراعة إلى الله‪،‬ل ّ‬
‫وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق‪،‬الذي ل يملكون دفعه بالحجة والبرهان‪،‬‬
‫)فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز‬
‫وجل‪،‬وقالوا‪’’:‬لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات‘‘‪،1287‬أي لن نختارك‬
‫على ما حصل لنا من الهدى واليقين‪،‬ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي‬

‫‪]1280‬آل عمران‪.[120:‬‬
‫‪]1281‬الروم‪.[60:‬‬
‫‪1282‬ابن القيم الجوزية‪:‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي‪691)،‬ـ ‪751‬هـ(‪،‬التبيان في‬
‫أقسام القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬دار الفكر‪.‬وسأشير إليه فيما بعد ب‪:‬التبيان في أقسام القرآن)‬
‫‪.(1/55‬وقالوا‪) :‬والصبر على أربع شعب‪:‬على الشوق والشفق والزهادة والترقب للموت‪،‬فمن‬
‫اشتاق إلى الجنة سل عن الشهوات‪،‬ومن اشفق من النار رجع عن الحرمات‪،‬ومن زهد في الدنيا‬
‫تهاون في المصيبات‪،‬ومن ترقب الموت سارع في الخيرات(‪ .‬العدني‪:‬محمد بن يحيى بن أبي‬
‫عمر‪243 -150)،‬هـ(‪،‬اليمان‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬حمد بن حمدي الجابري الحربي‪،‬ط ‪،1‬الدار‬
‫السلفية‪،‬الكويت‪1407،‬هـ‪،(1/118).‬وسأشير إليه لحقا هكذا)اليمان للعدني(‪.‬‬
‫‪1283‬صحيح مسلم‪،‬كتاب الطهارة‪،‬باب فضل الوضوء )‪(1/203‬رقم)‪.(223‬‬
‫‪ 1284‬شرح النووي على صحيح مسلم )‪.(3/101‬‬
‫‪1285‬فيض القدير)‪.(4/291‬‬
‫‪]1286‬الزمر‪.[10:‬‬
‫‪]1287‬طه‪.[72:‬‬

‫‪195‬‬
‫أنشأنا من العدم‪،‬المبتدي خلقنا من الطين‪،‬فهو المستحق للعبادة والخضوع‬
‫ل أنت‪’’.‬فاقض ما أنت قاض‘‘‪،1288‬أي افعل ما شئت وما وصلت إليه‬
‫يدك‪،‬إّنما تقضي هذه الحياة الدنيا‪،‬أي إّنما لك تسلط في هذه الدار‪،‬وهي دار‬
‫الزوال‪،‬ونحن قد رغبنا في دار القرار‪’’،‬إّنا آمّنا بربنا ليغفر لنا‬
‫خطايانا‘‘‪ ،1289‬أي ماكان مّنا من الثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من السحر‬
‫لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه… والله خير أي لنا منك إن‬
‫ن فرعون لعنه الله صمم‬ ‫عصي‪..‬والظاهر أ ّ‬ ‫أطيع‪،‬وأبقى أي منك عذابا إن ُ‬
‫‪1290‬‬
‫على قتلهم وصلبهم وفعله بهم رحمة لهم من الله( ‪.‬‬
‫وهنا تظهر أهمية العتقاد بيوم آخر كأساس في الصمود والتضحية‬
‫ن عذابه أشد من‬ ‫والثبات والصبر‪،‬حين تحققوا أّنهم إلى الله راجعون‪،‬وأ ّ‬
‫عذاب فرعون‪،‬ونكاله على ما يدعوهم إليه اليوم وما أكرههم عليه من‬
‫السحر أعظم من نكاله‪،‬فليصبروا اليوم على عذابه ليخلصوا من عذاب‬
‫‪1292‬‬ ‫‪1291‬‬
‫م هم بعد ذلك عالمون‬ ‫الله ‪،‬ولهذا قالوا‪’’:‬إّنا إلى ربنا منقلبون‘‘ ‪،‬ث ّ‬
‫بطبيعة المعركة‪’’،‬وما تنقم مّنا إل ّ أن آمّنا بآيات ربنا لما‬
‫جائتنا‘‘‪ .1293‬أي)وما تنكر وتعيب منا إل أن آمّنا بآيات ربنا‪،‬وهو خير العمال‬
‫م أعرضوا عن مخاطبته إظهارا لما في قلوبهم من‬ ‫وأصل المفاخر‪..‬ث ّ‬
‫‪1294‬‬
‫العزيمة‪،‬وقالوا‪’’:‬ربنا أفرغ علينا صبرا‘‘( ‪.‬‬
‫ّ‬
‫إّنهم موقنون بالمدد من الله‪،‬فما يعلم جنود ربك إلهو‪،‬وما إنزال الصبر‬
‫إل ّ واحدا من جنود ل عد ّ لها ول حصر‪.‬إّنهم ُيقبلون على الموت قائلين‪’’:‬ربنا‬
‫‪1295‬‬
‫منا بالصبر على دينك والثبات‬ ‫أفرغ علينا صبرا‘‘ ‪،‬أي ع ّ‬
‫عليه‪’’.1296‬وتوفنا مسلمين‘‘‪،1297‬أي)ثابتين على السلم(‪،1298‬وتلك هي‬
‫الغاية التي يسعى إليها كل المؤمنين‪.‬‬
‫إّنه العزم الكبير والصبر الجميل‪،‬والكلمات الفاصلت التي ُنواجه بها‬
‫الطواغيت‪’’،‬فاقض ما أنت قاض‪،‬إّنما تقضي هذه الحياة‬
‫الدنيا‘‘‪،1299‬وبها نواجه حبل المشنقة وضيق الزنزانة‪..‬دون خوف أو وجل أو‬
‫تردد‪،‬فمرارة الصبر أصبحت حلوة في قلوب العارفين‪.‬‬
‫ل ضير عليهم‪،‬نقولها لفظا بالفواه وهم قالوها معلقين على الخشب‪:‬ل‬
‫ضير‪،‬أي)ل ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا‪،‬فإّنما عذابك ساعة فنصبر‬
‫لها وقد لقينا الله مؤمنين‪،‬وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة‬
‫إيمانهم(‪)..1300‬إّنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد‬
‫هذا الوجدان‪.‬القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل‬
‫بالطغيان‪.‬القلب الذي يرجوا الخرة فل يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ول‬
‫‪]1288‬طه‪.[72:‬‬
‫‪]1289‬طه‪.[73:‬‬
‫‪1290‬تفسير ابن كثير)‪(3/160‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1291‬انظر‪:‬المصدر السابق)‪.(2/239‬‬
‫‪]1292‬العراف‪.[126:‬‬
‫‪]1293‬العراف‪.[126:‬‬
‫‪1294‬تفسير أبي السعود)‪(3/262‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1295‬العراف‪.[126:‬‬
‫‪1296‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(2/239‬‬
‫‪]1297‬العراف‪.[126:‬‬
‫‪1298‬تفسير البيضاوي)‪.(3/49‬‬
‫‪]1299‬طه‪.[72:‬‬
‫‪1300‬تفسير القرطبي)‪.(13/99‬‬

‫‪196‬‬
‫كثير‪’’:‬قالوا ل ضير إّنا إلى ربنا منقلبون إّنا نطمع أن يغفر لنا‬
‫ربنا خطايانا أن كّنا أول المؤمنين‘‘‪..1301‬يا لروعة اليمان إذا يشرق‬
‫في الضمائر‪.‬وإذ يفيض على الرواح‪.‬وإذ يسكب الطمأنينة في‬
‫النفوس(‪،1302‬وهكذا رّبى القرآن الّنفوس في مكة وهي تواجه الذى والكرب‬
‫دم لنا‬ ‫ل صاحب عقيدة يواجه الطغيان والظلم‪.‬إّنه ُيق ّ‬ ‫والضيق‪،‬وهكذا ُيرّبي ك ّ‬
‫وابة‬‫النماذج العظيمة والدروس البليغة‪،‬فالطريق إلى تلك القمم يمّر عبر ب ّ‬
‫م الصعود بالمنية العاجزة الذليلة‪.‬‬ ‫الصبر والمصابرة‪،‬ولن يت ّ‬
‫امرأة فرعون مثال في الصبر أمام الطاغوت‬
‫لقد)جعل الله حال امرأة فرعون مثل لحال المؤمنين ترغيبا لهم في‬
‫الثبات على الطاعه والتمسك بالدين والصبر في الشدة(‪،1303‬يقول‬
‫تعالى‪’’:‬وضرب الله مثل للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب‬
‫ابني لي عندك بيتا في الجّنة ونجني من فرعون وعمله ونجني‬
‫ن الستعاذة بالله واللتجاء اليه ومسألة‬ ‫من القوم الظالمين‘‘‪1304‬؛ذلك)أ ّ‬
‫الخلص عند المحن والنوازل والصبر عليها من سير الصالحين(‪.1305‬‬
‫إّنها المرأة القدوة والنموذج والمثال‪.‬لقد اجتمعت فيها عدة عوامل‬
‫رفعتها إلى هذا النموذج النساني الرفيع‪:‬‬
‫ن الّنساء أقل قدرة على المواجهة من‬ ‫فهي امرأة‪،‬والمعلوم أ ّ‬
‫الرجال‪،‬ومع ذلك استطاعت أن تجتاز المحنة وتقابل الموت بقوة‬
‫واقتدار‪،‬وفي)هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة‪،‬أي ل تكونوا في‬
‫الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون(‪،1306‬فما هو قول الضعفاء‬
‫والعاجزين الذين ُيخفون عجزهم تحت معاذير واهية؟‬
‫ما يجعل النتقال إلى النقيض‬ ‫وهي‪-‬أيضا‪-‬تعيش حياة مترفة منعمة‪،‬م ّ‬
‫أمرا في غاية الصعوبة على الّنفس‪،‬ومع ذلك قبلت تلك الّنقلة‬
‫مل‬ ‫البعيدة‪،‬وتحولت من سعة القصور والحياة المترفة إلى المواجهة وتح ّ‬
‫العذاب بأقصى صوره دموّية‪،‬وفي هذا درس للمترفين الذين عبدوا شهواتهم‬
‫ونزواتهم‪،‬وخافوا على رؤوس أموالهم‪،‬وتذرعوا بمصالحهم فقعدوا عن القيام‬
‫بواجبهم‪،‬وهو درس لؤلئك الذين يقبلون بالفتات ويخنعون ويستسلمون!‬
‫ل أعتى شخصية‪،‬ولكّنها تحررت وصارت بإيمانها‬ ‫م هي تعيش في ظ ّ‬ ‫ث ّ‬
‫‪1307‬‬
‫بالله في جنات النعيم ‪.‬لقد)انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله وتوكل‬
‫عليه وخوفا منه فنجاها الله وأكرمها‪،‬ولم تضرها تلك الصلة الظاهرة بأخبث‬
‫خم من شأن‬ ‫عبيد الله(‪،1308‬وفي هذا نسف لكل المبررات الواهية التي ُتض ّ‬
‫الطاغية وقوته وجبروته‪.‬‬
‫جيها من نفس فرعون الخبيثة فقط‪،‬بل ومن‬ ‫وهي لم تسأل الله أن ُين ّ‬
‫عمله وكفره وعبادته غير الله تعالى وتعذيبه للّناس وقتلهم بغير ذنب‪،‬وإلى‬

‫‪]1301‬الشعراء‪.[51-50:‬‬
‫‪1302‬في ظلل القرآن)‪.(6/210‬‬
‫‪1303‬فتح القدير)‪.(5/256‬‬
‫‪]1304‬التحريم‪.[11:‬‬
‫‪1305‬تفسير النسفي)‪(4/261‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪1306‬تفسير القرطبي)‪.(18/203‬‬
‫‪1307‬انظر‪:‬فتح القدير)‪.(5/256‬‬
‫‪1308‬البرهان في علوم القرآن)‪(1/416‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫غير ذلك من القبائح التي يرتكبها ذلك الحمق‪1309‬؛ذلك أّنها حملت قضية‬
‫ورسالة‪،‬وكفى بهذا رفعا لقدر المرأة في المفهوم القرآني‪.‬‬
‫ث المؤمنين على الصبر في‬ ‫ح ّ‬
‫ن امرأة فرعون مثال ُيراد منه َ‬ ‫إ ّ‬
‫ّ‬
‫الشدة‪،‬وأن بإمكانهم‪-‬لو أرادوا‪-‬أن يتغلبوا على الظروف والوضاع المحيطة‬
‫بهم مهما كانت هذه الوضاع صعبة وعسيرة‪،‬فليست هي بأصعب من تلك‬
‫الظروف التي واجهتها امرأة منفردة‪،‬ولكّنهم بحاجة إلى الصبر والمصابرة‬
‫كي يقفوا أمام فراعنة العصر‪،‬فنحن بحاجة إلى مواقف ولسنا بحاجة إلى‬
‫قةٍ وخطابات مزخرفة‪،‬فتلك إجابة نظرية ل فائدة منها‪،‬ونحن ُنريد‬ ‫م َ‬
‫من َ ّ‬
‫كلمات ُ‬
‫إجابة عملية يرضى عنها الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ن اليمان باليوم الخر‬ ‫وفي هذا المقام ل بد ّ من التأكيد على حقيقة أ ّ‬
‫من أهم العوامل في الثبات والصبر‪،‬وهذا ما ُيرشد إليه قوله تعالى حكاية‬
‫ن‬‫لقول امرأة فرعون‪’’:‬رب ابن لي عندك بيتا في الجّنة‘‘‪1310‬؛ذلك أ ّ‬
‫ن هناك أجر ينتظره عند الله في مقابل‬ ‫النسان يشعر حين يصبر وُيضحي أ ّ‬
‫هذا الصبر‪.‬‬
‫وبالصبر تمت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل‬
‫م عليهم بصبرهم فضله ونعمه‪،‬وجعلهم أئمة دعاة إلى الخير‪،‬وولة‬ ‫فت ّ‬
‫ّ‬
‫وملوكا‪،‬وجعلهم الوارثين لملك فرعون‪،‬ومكن لهم في الرض بعدما كانوا‬
‫مستضعفين مقهورين مستعبدين‪،‬وأرى فرعون وقومه منهم ما كانوا‬
‫ن هلكهم على يد رجل من بني إسرائيل‪،‬فكانوا‬ ‫ُ‬
‫يحذرون‪،‬وذلك أنهم أخبروا أ ّ‬
‫مر الله ما كان يصنع‬ ‫على وجل منهم فأراهم الله ما كانوا يحذرون‪،‬ود ّ‬
‫‪1311‬‬
‫مت كلمة ربك‬ ‫فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وت ّ‬
‫مرنا ما كان يصنع‬ ‫الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ود ّ‬
‫فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘‪،1312‬أي)ومضت عليهم واتصلت‬
‫بالنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين(‪،1313‬وهو قوله تعالى‪’’:‬ونريد أن‬
‫ن على الذين استضعفوا في الرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم‬ ‫نم ّ‬
‫الوارثين ونمكن لهم في الرض ونري فرهون وهامان‬
‫وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘‪،1314‬وذلك بسبب صبرهم على‬
‫الشدائد‪.‬وبصبرهم على أذى فرعون‪،‬وعلى ما أمرهم الله به بعد أن آمنوا‪.‬‬
‫ن من قابلوا البلء بالصبر فلهم من الله‬ ‫ث ودليل على أ ّ‬ ‫وفي هذا ح ٌ‬
‫ما إذا‬ ‫العاقبة الحسنى‪،‬فُيسبغ عليهم نعمه‪،‬ويصبحون في الرض أئمة وقادة‪.‬أ ّ‬
‫قعد الّناس وتقاصرت هممهم ونفذ صبرهم فإّنهم يصيرون بتقاعسهم وعدم‬
‫صبرهم إلى ذيل القافلة‪.‬‬
‫الوسيلة الرابعة‪:‬الستقامة وعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون‬
‫من وسائل مواجهة الطاغوت الستقامة وعدم اتباع سبيل الذين ل‬
‫يعلمون‪،‬وهما أمران من الله سبحانه وتعالى في بضع آية يشكلن معا‬
‫ل على هذا قوله‬ ‫يشكلن جزءا من منهج المجابهة المتكامل مع فرعون‪،‬ود ّ‬

‫‪1309‬انظر‪:‬روح المعاني)‪.(18/163‬‬
‫‪]1310‬التحريم‪.[11:‬‬
‫‪1311‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(13/249‬‬
‫‪]1312‬العراف‪.[137:‬‬
‫‪1313‬تفسير البيضاوي)‪.(3/54‬‬
‫‪]1314‬القصص‪.[6-5:‬‬

‫‪198‬‬
‫ن‪1315‬سبيل‬ ‫ُ‬
‫تعالى‪’’:‬قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ول تتبعا ّ‬
‫الذين ل يعلمون‘‘‪).1316‬إّنه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالستقامة‬
‫والثبات على أمرهما من دعاء فرعون وقومه إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي‬
‫أخبرهما أّنه أجابهما فيه(‪.1317‬‬
‫ن المر الول يتمثل بالستقامة‪،‬ويعني)العتدال‪،‬يقال‪:‬استقام له‬ ‫إ ّ‬
‫‪1318‬‬
‫المر‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬فاستقيموا إليه‘‘ ‪،‬أي في التوجه إليه دون‬
‫ن الذين‬‫اللهة‪،‬وقام الشيء واستقام اعتدل واستوى‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫م استقاموا‘‘‪،1319‬أي عملوا بطاعته ولزموا سنة‬ ‫قالوا ربنا الله ث ّ‬
‫نبيه(‪1320‬؛)فالستقامة والطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ‬
‫المنهج‪:‬استقامة النفس وطمأنينة القلب‪.‬استقامة المشاعر والخوالج‪،‬فل‬
‫تتأرجح ول تضطرب ول تشك ول ترتاب بفعل الجواذب والدوافع‬
‫والمؤثرات‪.‬وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة‪.‬واستقامة العمل والسلوك على‬
‫المنهج المختار‪.‬وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات؛وفيه هواتف‬
‫بالنحراف من هنا ومن هناك(‪.1321‬‬
‫ما كانت الستقامة أصل وأساسا لنجاح الدعوات وانتصار المنهج‬ ‫ول ّ‬
‫الحق أمر الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‪’’:‬فاستقم‬
‫كما أمرت ومن تاب معك ول تطغوا إّنه بما تعملون‬
‫بصير‘‘‪،.1322‬أي)فاستقم أنت يا محمد على أمر ربك والدين الذي ابتعثك‬
‫به‪،‬والدعاء إليه كما أمرك ربك‪،‬ومن تاب معك أي ومن رجع معك إلى طاعة‬
‫الله‪،‬والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره‪،‬ول تطغوا يقول ول تعدوا أمره‬
‫إلى ما نهاكم عنه إنه بما تعملون بصير(‪.1323‬‬
‫إّنه أمر عظيم)أحس‪-‬عليه الصلة والسلم‪-‬برهبته وقوته حتى روي عنه‬
‫أنه قال مشيرا إليه‪’’:‬شيبتني هود‘‘‪.1324‬فالستقامة‪:‬العتدال والمضي على‬
‫النهج دون انحراف‪.‬وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة‪،‬والتدبر‬
‫الدائم‪،‬والتحري الدائم لحدود الطريق‪،‬وضبط النفعالت البشرية التي تميل‬

‫‪)1315‬قرأ ابن عامر ول تتبعان بتخفيف النون‪،‬المعنى فاستقيما وأنتما ل تتبعان سبيل الذين ل‬
‫يعلمون وهو الذي يسميه بعض أهل العربية الحال‪،‬والمعنى‪:‬فاستقيما غير متبعين سبيل الذين ل‬
‫يعلمون‪.‬وقرأ الباقون بالتشديد ول تتبعان بالتشديد موضع تتبعان جزم إل أن النون ا لشديدة‬
‫دخلت للنهي مؤكدة وكسرت لسكونها‪،‬وسكون النون التي قبلها واختير له الكسر لنها بعد اللف‬
‫وهي تشبه نون الثنين(حجة القراءات)‪.(1/336‬‬
‫‪]1316‬يونس‪.[89:‬‬
‫‪1317‬تفسير الطبري)‪(162-11/161‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(3/213‬وتفسير‬
‫ابي السعود)‪(4/172‬وتفسير الواحدي)‪.(1/507‬‬
‫‪]1318‬فصلت‪.[6:‬‬
‫‪]1319‬فصلت‪.[30:‬‬
‫‪1320‬لسان العرب‪،‬مادة ‪:‬قوم)‪.(12/499‬وانظر‪:‬مختار الصحاح‪،‬مادة‪:‬قوم)‪.(232‬‬
‫‪1321‬في ظلل القرآن)‪.(7/235‬‬
‫‪]1322‬هود‪.[112:‬‬
‫‪1323‬تفسير الطبري)‪.(12/126‬وانظر‪:‬تفسير ابي السعود)‪(4/244‬وتفسير الواحدي)‬
‫‪(1/535‬وتفسير البغوي)‪.(2/404‬‬
‫‪1324‬سنن الترمذي‪،‬كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬باب ومن سورة‬
‫الواقعة)‪(5/402‬رقم)‪(3297‬قال أبو عيسى‪:‬هذا حديث حسن غريب‪.‬المستدرك على‬
‫الصحيحين‪،‬كتاب التفسير‪،‬تفسير سورة هود)‪(2/374‬رقم)‪ ،(3314‬مسند أبي يعلى)‪(1/102‬رقم)‬
‫‪،(107‬المعجم الكبير)‪(6/148‬رقم)‪.(5804‬قال الهيثمي‪) :‬رواه الطبراني ورجاله رجال‬
‫الصحيح(‪،‬مجمع الزوائد‪،‬كتاب التفسير‪،‬باب سورة هود)‪،(7/37‬‬

‫‪199‬‬
‫التجاه قليل أو كثيرا‪..‬ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات‬
‫الحياة‪.1325(.‬‬
‫لقد تكرر المر بالستقامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬فقال‬
‫تعالى‪’’:‬واستقم كما أمرت ول تتبع أهواءهم‘‘‪،1326‬أي)واستقم على‬
‫الدعوة كما أمرك الله تعالى ول تتبع أهواءهم الباطلة(‪،1327‬وهو أمر ثقيل ل ّ‬
‫ن‬
‫ن اتباع‬ ‫المطلوب هو التزام جميع الطاعات والتكاليف‪،‬وعدم اتباع الهوى ل ّ‬
‫ل عن سبيل الله‪.‬‬ ‫الهوى ُيض ّ‬
‫ن استقامة الداعية على المنهج الذي يدعو إليه وثباته وعدم تردده‬ ‫إ ّ‬
‫يعكس مدى إيمانه بما يدعو إليه‪،‬وهو شرط‪-‬أي إيمانه بما يدعو إليه‪-‬ل بد ّ‬
‫منه لنجاح دعوته‪،‬إذ كيف يمكن له أن يدعو إلى أمر هو ليلتزم به ول‬
‫يستقيم عليه؟!وبالتالي ل تتجاوب الجماهير مع دعوة ل تظهر آثارها على‬
‫ن الستقامة على المنهج رغم صروف الّيام وتقلبات‬ ‫صاحبها‪.‬وفي المقابل فإ ّ‬
‫ن استمراره وثباته واستقامته‬ ‫الزمن ُيدخل في قلوب الّناس حقيقة مفادها‪:‬إ ّ‬
‫تعني أّنه أدرك الحق والحقيقة معا‪.‬‬
‫م‬
‫ن الذين قالوا ربنا الله ث ّ‬ ‫وهذا ما نفهمه من قوله تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫ّ‬
‫استقاموا تتنّزل عليهم الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا‬
‫ن الذين قالوا ربنا الله)اعترافا‬‫بالجّنة التي كنتم توعدون‘‘‪.1328‬أي إ ّ‬
‫بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته ثم استقاموا‪،‬أي ثبتوا على القرار‬
‫ن الستقامة لها‬ ‫ن ‘ثم’ للتراخي في الزمان أو في الرتبة‪،‬فإ ّ‬ ‫ومقتضياته‪،‬على أ ّ‬
‫الشأن كله‪،‬وما روى عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم في‬
‫معناها من الثبات على اليمان‪،‬وإخلص العمل‪،‬وأداء الفرائض بيان‬
‫لجزئياتها‪،‬تتنـزل عليهم الملئكة من جهته تعالى‪،‬يمدونهم فيما يعن لهم من‬
‫المور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم‪،‬ويدفع عنهم الخوف والحزن‬
‫كد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسّلم‪’’:‬قل‬ ‫بطريق اللهام(‪،1329‬ويؤ ّ‬
‫م استقم‘‘‪)،1330‬فالستقامة درجة بها كمال المور وتمامها‬ ‫آمنت بالله ث ّ‬
‫وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع‬
‫سعيه وخاب جهده…ول يطيقها إل ّ الكابر لّنها الخروج عن‬
‫المعهودات‪،‬ومفارقة الرسوم والعادات‪،‬والقيام بين يدى الله تعالى على‬
‫حقيقة الصدق(‪.1331‬‬
‫ن الستقامة تجلب الخير الكثير‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأن لو استقاموا‬ ‫إ ّ‬
‫‪1332‬‬
‫على الطريقة لسقيناهم ماء غدقا‘‘ ‪،‬أي)لو استقاموا على‬
‫الطريقة طريقة الحق واليمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لسقيناهم‬
‫ماء كثيرا(‪.1333‬‬

‫‪1325‬في ظلل القرآن)‪.(4/630‬‬


‫‪]1326‬الشورى‪.[15:‬‬
‫‪1327‬تفسير البيضاوي)‪.(5/125‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(4/110‬‬
‫‪]1328‬فصلت‪.[30:‬‬
‫‪1329‬تفسير أبي السعود)‪.(8/13‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/179‬وتفسير الطبري)‬
‫‪(24/116‬وتفسير الواحدي)‪(2/955‬وتفسير البغوي)‪.(4/114‬‬
‫‪1330‬صحيح مسلم‪،‬كتاب اليمان‪،‬باب جامع أوصاف السلم)‪(1/65‬رقم)‪.(38‬‬
‫‪1331‬شرح الّنووي على صحيح مسلم)‪(2/9‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1332‬الجن‪.[16:‬‬
‫‪1333‬تفسير القرطبي)‪.(19/18‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(4/432‬وتفسير الطبري)‪.(29/114‬‬

‫‪200‬‬
‫ما المر الثاني فيتمثل بعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون‬ ‫أ ّ‬
‫الحق ول يهتدون إلى حقيقة‪،‬فهم في ريبهم يترددون‪،‬وعلى المصير‬
‫قلقون‪،‬فمن لم يجعل الله نورا فما له من نور‪،‬ول يستوي الذين يعلمون‬
‫ن سبيل الذين ل‬ ‫والذين ل يعلمون‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ول تتبعا ّ‬
‫يعلمون‘‘‪،1334‬أي)ول تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي‬
‫ن وعيدي نازل بفرعون‬ ‫ن وعدي ل خالف له‪،‬وإ ّ‬ ‫فتستعجلن قضائي‪،‬فإ ّ‬
‫‪1335‬‬
‫وعذابي واقع به وبقومه( ؛فالستعجال دليل ضعف وقصر نفس‪،‬ويؤدي‬
‫إلى التساقط على الطريق وعدم إكمال المشوار إلى غايته‪.‬‬
‫ن الستقامة على المنهج وعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون ركن‬ ‫إ ّ‬
‫أساسي في النتصار على الطاغوت‪،‬فالتفريط كالفراط ُيطيل المسافة‬
‫ن أقصر الطرق وأقلها كلفة هي الطريق التي أرشد‬ ‫وُيكثر من التضحيات‪،‬وإ ّ‬
‫الله موسى إليها بالستقامة وعدم المداهنة مع الطاغوت‪.‬يقول الله‬
‫دوا لو تلين في دينك فيلينون‬ ‫دوا لو ُتدهن فيدهنون‘‘‪.1336‬أي و ّ‬ ‫تعالى‪’’:‬و ّ‬
‫ن المداهنة مصانعة ومجاملة وممايلة ومقاربة في الكلم‬ ‫في دينهم؛ذلك أ ّ‬
‫على حساب الحقيقة في هذا الدين‪،‬وهذه أمنية الكافرين أن ُيداهن أصحاب‬
‫ن‬‫ل الوسط!بل ونقول‪:‬إ ّ‬ ‫الحق في الدين‪.1337‬إّنها مساومة للوصول إلى الح ّ‬
‫الملينة في الدين من قبل بعض المسلمين أدت إلى تفرقة صفهم ووقوع‬
‫الخلفات فيما بينهم‪.‬فهي تجلب الضرر مرتين‪:‬مرة بإطماع العدو في التنازل‬
‫تلو التنازل‪،‬ومرة في زعزعة وحدة المسلمين‪.‬‬
‫الوسيلة الخامسة‪:‬الستعاذة بالله‬
‫الستعاذة اللجوء‪،‬و)استعذت به أي لجأت إليه(‪،1338‬واستعاذ بالله أي لذ‬
‫به ولجأ إليه واعتصم به‪،‬فمعنى الستعاذة هو اللتجاء إلى الله تعالى‬
‫ن اللجوء إلى الله تعبير عن حقيقة ضعف‬ ‫والعتصام به‪1339‬؛ذلك أ ّ‬
‫مل كل شيء‪،‬فإذا تحركت‬ ‫النسان‪،‬فهو ل يستطيع فعل كل شيء‪،‬أو تح ّ‬
‫عناصر الضعف فيه لجأ إلى الله يستمد منه القوة‪.‬‬
‫فالستعاذة طلب للحماية من الشرور والفتن‪،‬وليس هناك شٌر أعظم‬
‫من شر الطواغيت‪،‬وما ُينشؤونه من المحن لفتنة الذين آمنوا‪.‬ولهذا كانت‬
‫ن‬
‫الستعاذة حاضرة في المواجهة بين موسى عليه السلم وفرعون؛ذلك أ ّ‬
‫م‬
‫فرعون لم يدخر جهدا في محاربة موسى وملحقته بشتى صنوف الذى‪،‬ث ّ‬
‫أطلق العنان لزبانيته وجنوده كي يصبوا العذاب فوق رؤوس المخالفين‬
‫صبًا‪،‬وبلغ الطغيان مداه حين هدد فرعون بقتل موسى عليه السلم‪ُ ،‬‬
‫مبديا‬
‫عدم اكتراثه بربه‪’’،‬وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع‬
‫ربه‘‘‪،1340‬وتكفي هذه الكلمات من فرعون للدللة على ما يخفيه من حقد‬
‫وكره وعداوة لموسى عليه السلم‪،‬كما تدل على فرط خوفه منه ومن‬
‫دعوته ربه‪.1341‬‬
‫‪]1334‬يونس‪.[89:‬‬
‫‪1335‬تفسير الطبري)‪(162-11/161‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(3/213‬وتفسير‬
‫أبي السعود)‪(4/172‬وتفسير الواحدي)‪(1/507‬وتفسير البغوي)‪(2/366‬وفتح القدير)‪.(2/469‬‬
‫‪]1336‬القلم‪.[9:‬‬
‫‪1337‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪(29/21‬وتفسير القرطبي)‪.(18/231‬‬
‫‪1338‬لسان العرب‪،‬مادة‪:‬عوذ)‪.(3/498‬‬
‫‪1339‬انظر‪:‬فيض القدير)‪.(1/408‬‬
‫‪]1340‬غافر‪.[26:‬‬
‫‪1341‬انظر‪:‬تفسير النسفي)‪.(4/71‬‬

‫‪201‬‬
‫هنا‪-‬ومن أرض المعركة التي يخوضها المستضعفون‪-‬تبرز الستعاذة‬
‫كوسيلة من وسائل المواجهة مع فرعون‪،‬ويلتجأ الموصول بالله موسى عليه‬
‫السلم إلى من بيده مقاليد السماوات‪’’،‬وقال موسى إّني عذت بربي‬
‫ل متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‘‘‪،1342‬أي استجرت بالله‬ ‫وربكم من ك ّ‬
‫وعذت به من شر فرعون وشر أمثاله من المتكبرين المجرمين الذين ل‬
‫يؤمنون بيوم الحساب‪.1343‬‬
‫ن السبب المؤكد في دفع الشر هو‬ ‫وبّين عليه السلم في استعاذته)أ ّ‬
‫ن المطلوب هو الحفظ والتربية‪،‬وإضافته إليه‬ ‫ص اسم الرب ل ّ‬ ‫العياذ بالله‪،‬وخ ّ‬
‫وإليهم حثا لهم على موافقته‪.‬ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره‬
‫لتعميم الستعاذة‪،‬ورعاية الحق والدللة على الحامل له على‬
‫‪1344‬‬
‫ص موسى صلوات الله وسلمه عليه الستعاذة بالله ممن ل‬ ‫القول( ‪،‬و)خ ّ‬
‫ن من لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على‬ ‫يؤمن بيوم الحساب‪،‬ل ّ‬
‫الحسان راجيا ول للعقاب على الساءة وقبيح ما يأتي من الفعال‬
‫‪1345‬‬
‫خائفا‪،‬ولذلك كانت استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة( ؛)فما‬
‫يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب‪،‬وهو يتصور موقفه يومئذ حاسرا ً خاشعا ً‬
‫ل‪،‬مجردا ً من كل قوة‪،‬ما له من حميم ول شفيع يطاع(‪.1346‬‬ ‫خاضعا ً ذلي ً‬
‫وهكذا يلتزم موسى الستعاذة كلما ضاقت به المور وادلهمت‬
‫الخطوب‪،‬يستعيذ بالله من شرورهم وسيئات أعملهم‪،‬يقول تعالى حكاية‬
‫لقول موسى‪’’:‬وإّني عذت بربي وربكم أن ترجمون‘‘‪،1347‬فهو يتحصن‬
‫بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه أو أن يرجموه‪.‬فإن استعصوا على اليمان فهو‬
‫عوا المر بينه وبينهم‬
‫يطلب منهم إعتزاله وأن ل يعترضوا عليه وأن ي َد َ ُ‬
‫مسالمة إلى أن يقضي الله بينهم‪،1348‬وذلك منه عليه السلم منتهى العدل‬
‫والمسالمة‪،‬ولكّنه الطاغوت ل يقبل حل سوى الستسلم التام من أهل‬
‫الحق‪.‬‬
‫ما‬
‫ليس في قلوب الطواغيت غير الكبر والستكبار عن الحق والتعظم‪،‬م ّ‬
‫يحملهم على التكذيب‪،‬والطمع في أن يغلبوا أهل الحق‪،‬وما هم ببالغي‬
‫ذلك‪..‬فلنلتجأ إلى الله من شرهم وكيدهم وبغيهم‪،‬فهوالسميع لقوالهم‬
‫ن الذين‬ ‫البصير بأفعالهم ل تخفى عليه من ذلك خافية‪.1349‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫يجادلون بآيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إل ّ كبر‬
‫ما هم بباليغه فاستعذ بالله إّنه هو السميع البصير‘‘‪.1350‬و)ليس ما‬
‫يرومونه من إخماد الحق وإعلء الباطل بحاصل لهم‪،‬بل الحق هو‬
‫المرفوع‪،‬وقولهم وقصدهم هو الموضوع‪،‬فاستعذ بالله من حال مثل‬
‫هؤلء(‪.1351‬‬

‫‪]1342‬غافر‪.[27:‬‬
‫‪1343‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(4/78‬وتفسير القرطبي)‪(15/305‬وتفسير الطبري)‪.(24/57‬‬
‫‪1344‬تفسير البيضاوي)‪(5/90‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير أبي السعود)‪.(7/274‬‬
‫‪1345‬تفسير الطبري)‪.(24/57‬‬
‫‪1346‬في ظلل القرآن)‪(7/178‬مع بعض التصرف‪.‬‬
‫‪]1347‬الدخان‪.[20:‬‬
‫‪1348‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪.(4/142‬‬
‫‪1349‬انظر‪:‬فتح القدير)‪.(4/497‬‬
‫‪]1350‬غافر‪.[56:‬‬
‫‪1351‬تفسير ابن كثير)‪.(4/85‬‬

‫‪202‬‬
‫ن مواجهة الطواغيت تحمل الكثير من المخاطر والمنعطفات‪،‬وذلك‬ ‫إ ّ‬
‫ل الّنصير ويتكالب العداء‪..‬فرّبما زّين الشيطان لبعض ضعاف‬ ‫حين يق ّ‬
‫ول الّنفس بمثل ذلك حين اشتداد‬ ‫الّنفوس المهادنة ونصف الحل!ورّبما ُتس ّ‬
‫المواجهة وازدياد التضحيات…وتلك هي وساوس الشيطان لثني المؤمنين‬
‫ما‬
‫عن مواصلة المشوار‪،‬فإذا حدث هذا فعليك بالستعاذة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وإ ّ‬
‫ينـزغّنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إّنه سميع عليم‘‘‪،1352‬أي‬
‫فاستجر بالله والتجيء من تلك الوسوسة لّنها تبعث على الشر‪،‬فهو السميع‬
‫لكل ما يسمع والعليم بكل ما يعلم‪،‬ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ‬
‫به‪.1353‬‬
‫الوسيلة السادسة‪:‬سرّية اليمان والنتماء‪.‬‬
‫حين ل يستطيع أهل الحق ممارسة إيمانهم علنية بسبب الضغط‬
‫كشف أمرهم لتعرضوا‬ ‫الهائل عليهم‪،‬والذي ل يستطيعون له دفعا‪،‬بحيث لو ُ‬
‫لفتن خطيرة تزيد عن الضرر الّناجم من كتم إيمانهم‪،‬حينئذ ل بد ّ من‬
‫الّتخفي‪،‬كما كان المر في بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ما أدخل الخوف والرعب في‬ ‫فاكا للدماء م ّ‬ ‫لقد كان فرعون مجرما س ّ‬
‫ّ‬
‫قلوب الجماهير‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فما آمن لموسى إل ذرية من قومه‬
‫ن الطاغوت‬ ‫على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘‪1354‬؛ذلك أ ّ‬
‫يعتمد على التخويف والقهر‪.‬ومن هنا كان وحي الله لموسى عليه السلم‬
‫ولخيه بالتخفي والحيطة والحذر‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وأوحينا إلى موسى‬
‫وأخيه هارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة‬
‫وأقيموا الصلة‘‘‪،1355‬أي)صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا‪،‬وذلك حين أخافهم‬
‫فرعون فأمروا بالصبر‪،‬واتخاذ المساجد في البيوت(‪.1356‬‬
‫ولم يكن مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه إل ّ بسبب بطش فرعون وخوفا‬
‫على نفسه‪،1357‬وذلك ما نفهمه من قوله تعالى‪’’:‬وقال رجل مؤمن من‬
‫آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجل أن يقول ربي الله وقد‬
‫جاءكم بالبينات من ربكم وإن يكن كاذبا فعليه كذبه وإن يكن‬
‫صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم‘‘‪ .1358‬أخذهم بالحتجاج من باب‬
‫الحتياط‪،‬فقال‪:‬وإن يك كاذبا فعليه كذبه ل يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في‬
‫دفعه إلى قتله‪،‬وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم‪،‬فل أقل من أن‬
‫يصيبكم بعضه‪.1359‬فهو حذر في انتقاء كلماته لئل ينكشف أمره‪.‬‬
‫سرّية قد تكون لجميع أفراد الجماعة بما فيهم‬ ‫ن الّتخفي والكتمان وال ّ‬‫إ ّ‬
‫رسولهم‪،‬كما كان الحال في بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم‪،‬وقد‬
‫سرّية للجماعة المؤمنة عدا الرسول‪،‬وقد ُيباح المر فيقوم بعض‬ ‫تكون ال ّ‬
‫أفراد الجماعة بالعلن عن إيمانهم عزيمة منهم‪.‬وقد تكون الدعوة سرا ً‬
‫م ُيعلن عنها‪.‬وقد تكون سرّية في بعض الّنشاطات دون‬ ‫لبعض الوقت ث ّ‬
‫‪]1352‬العراف‪.[200:‬‬
‫‪1353‬انظر‪:‬فتح القدير)‪.(4/516‬‬
‫‪]1354‬يونس‪.[83:‬‬
‫‪]1355‬يونس‪.[87:‬‬
‫‪1356‬تفسير القرطبي)‪.(8/371‬وانظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪،(2/430‬تفسير الطبري)‪،(11/155‬فتح‬
‫القدير)‪.(2/467‬‬
‫‪1357‬انظر‪:‬تفسير الطبري)‪.(24/57‬‬
‫‪]1358‬غافر‪.[28:‬‬
‫‪1359‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪(5/91‬وتفسير ابي السعود)‪.(7/274‬‬

‫‪203‬‬
‫غيرها‪،‬فهناك نشاطات بالكلمة بعضها ُينشر وبعضها ل ُينشر‪.‬وقد تكون هناك‬
‫أسرار عسكرية تنظيمية محضة ل يعرفها إل ّ أولو المر مّنا‪..‬والذي يحدد ك ّ‬
‫ل‬
‫هذا هو الواقع الحركي للجماعة في مواجهتها مع الطاغوت‪،‬وحجم الضغط‬
‫ممارس على الجماعة‪،‬ومدى قدرة الجماعة الذاتية في تلك‬ ‫ال ُ‬
‫المرحلة‪،‬وغيرها من الملبسات والظروف التي ُتقدر بقدرها من قبل قيادة‬
‫الجماعة‪..‬‬
‫وهكذا يتسع ميدان المواجهة مع الطاغوت ليشمل ما هو فوق الرض‬
‫دعة‘‘‪،1360‬كي‬ ‫خ ْ‬
‫وما هو تحت الرض‪،‬تحقيقا لمعنى الحديث الشريف’’الحرب َ‬
‫ن السرّية في‬ ‫نفاجىء الطواغيت بما لم يستعدوا له‪..‬مع التأكيد على أ ّ‬
‫الدعوة في أي مرحلة من مراحلها ما هي إل ّ وسيلة وليست بغاية‪،‬إذ أ ّ‬
‫ن‬
‫الحق من طبيعته أن يسعى لتعريف نفسه ودعوة الجماهير إليه‪،‬وذلك معنى‬
‫تبليغ الحق للّناس‪.‬‬
‫ن لنا في كيفية قتل كعب بن الشرف اليهودي عبرة‪،‬حيث استعمل‬ ‫إ ّ‬
‫المسلمون حيل وخدعا متعددة للوصول إليه وقتله‪.‬قال محمد بن سلمة‬
‫رضي الله عنه‪-‬وهو أحد الذين شاركوا في قتله‪) :‬يا رسول الله أنا‬
‫أقتله‪.‬قال‪:‬فافعل إن قدرت على ذلك‪،‬فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلثا ل‬
‫يأكل ول يشرب إل ما يعلق به نفسه‪،‬فذكر ذلك لرسول الله فدعاه فقال‬
‫له‪:‬لم تركت الطعام والشراب؟قال يا رسول الله‪:‬قلت قول ل أدري أفي به‬
‫أم ل‪.‬قال‪:‬إنما عليك الجهد‪.‬قال يا رسول الله‪:‬إنه ل بد لنا من أن‬
‫‪1361‬‬
‫م ما كان من خدعة‬ ‫نقول‪.‬قال‪:‬قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك( ‪،‬ث ّ‬
‫في طريقة قتله‪،‬فانظر كيف يناور محمد بن سلمة في الكلم مع كعب بن‬
‫الشرف‪’’:‬أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين‪.‬فقال‪:‬ارهنوني‬
‫نساءكم‪.‬قالوا‪:‬كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب‪.‬قال‪:‬فارهنوني‬
‫أبناءكم‪.‬قالوا‪:‬كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين‬
‫هذا عار علينا‪،‬ولكّنا نرهنك اللمة‪-‬يعني السلح‪-‬فوعده أن يأتيه فقتلوه‪،‬ثم‬
‫أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه‘‘‪.1362‬‬
‫ن هناك هامشا للمناورة كبير‪،‬ومن‬ ‫يظهر لنا ومن خلل تلك الحداث أ ّ‬
‫هنا يجب علينا استعمال كافة التدابير المنية والقواعد السرّية في المواجهة‬
‫المعاصرة مع الطاغوت‪،‬ول بد ّ من استعمال التكنولوجيا الحديثة‪،‬ويجب‬
‫دراسة واقع المعركة واستعمال السواتر المنية المناسبة والمعقدة التي‬
‫يصعب كشفها‪،‬كما لبد من إعطاء خصوصية للساحات والظروف‬
‫المختلفة‪،‬ويجب استغلل الثغرات المنية عند الخصم والستفادة‬
‫منها‪،‬والبحث الدائم عن نقاط الضعف لدى العدو‪،‬ويترتب على ذلك ازدياد‬
‫في القدرة على توجيه الضربات القاتلة للعدو‪.‬ويتطلب ذلك جهدا ومثابرة‬
‫وصبرا من قبل جماعة المسلمين‪،‬والعمل الدائم على تنشأة الكوادر المنية‬
‫المسلحة بالعلم واليمان‪.‬‬
‫مبدأ التقية وسرّية اليمان‬
‫من المناسب في هذا المقام أن نشير إشارة موجزة إلى مبدأ‬
‫قّية‪،‬وهي)أن يقي نفسه من اللئمة أو من العقوبة بما ُيظِهر وإن كان على‬ ‫الت ّ ِ‬
‫‪1360‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الجهاد والسير‪،‬باب الحرب خدعة)‪(3/1102‬رقم)‪.(2864‬وصحيح‬
‫مسلم‪،‬كتاب الجهاد والسير‪،‬باب جواز الخداع في الحرب)‪(3/1361‬رقم)‪.(1739‬‬
‫‪1361‬تاريخ الطبري)‪.(2/53‬وانظر‪:‬البداية والنهاية)‪.(4/5‬‬
‫‪1362‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الرهن‪،‬باب رهن السلح)‪(2/887‬رقم)‪.(2375‬‬

‫‪204‬‬
‫خلف ما يضمر(‪،1363‬وذلك لشدة ارتباطه بمسألة الّتخفي وكتمان‬
‫كل بالمسلمين‬ ‫ملحة في هذا الزمان حيث ُين ّ‬‫اليمان‪،‬ولّنه من المواضيع ال ُ‬
‫عموما وبالمجاهدين على وجه الخصوص‪،‬وهم ُيواجهون الطواغيت التي ل‬
‫ترحم أبدا‪.‬يقول تعالى‪’’:‬ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون‬
‫المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ إل أن تتقوا‬
‫منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير‘‘‪.1364‬أي)من‬
‫خاف في بعض البلدان والوقات من شر العداء فله أن يتقيهم بظاهره ل‬
‫بباطنه ونيته(‪،1365‬وذلك معنى قوله تعالى‪’’:‬إل ّ من أكره وقلبه مطمئن‬
‫مكرها ً لما ناله‬ ‫‪1366‬‬
‫باليمان‘‘ ؛فمن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه ُ‬
‫من ضرب وأذى‪،‬أو خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه‪،‬وقلبه يأبى ما‬
‫يقول فهو مباح له‪،1367‬ولكن)من أتى الكفر على اختيار واستحباب فعليهم‬
‫غضب من الله ولهم عذاب عظيم(‪.1368‬روى البخاري عن أبي الدرداء أّنه‬
‫قال‪’’:‬إّنا لنكشر‪ 1369‬في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم‘‘‪،1370‬وفي هذا دليل على‬
‫جواز مخالفة الظاهر الباطن في بعض الحوال‪.‬‬
‫لقد كانت التقية في جدة السلم قبل قوة المسلمين‪،‬أي وهم‬
‫مستضعفون لّنه ل يلجأ القوي المنيع للتقية أبدا‪،‬وهي‪-‬أي التقية‪-‬أن يتكلم‬
‫بلسانه وقلبه مطمئن باليمان‪.‬ول ُتقية في القتل أي قتل مسلم محرم‬
‫الدم‪،‬ول يأتي مأثما‪،‬وهي جائزة للمسلم إلى يوم القيامة في كل مرحلة‬
‫يكون فيها مستضعفا أو مغلوبا على أمره‪،‬وللمؤمن إذا كان قائما بين الكفار‬
‫أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن باليمان‪،‬والتقية‬
‫ل تحل إل مع خوف القتل أو القطع أو اليذاء العظيم‪،‬ومن أكره على الكفر‬
‫فله أن يتصلب ول يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر من باب العزيمة‪،‬وإل ّ فإّنه‬
‫يجوز له ذلك‪.1371‬‬
‫فالتقية ل ُتباح ول تجوز إل ّ بشروط وظروف مخصوصة كما ذكر ذلك‬
‫الفقهاء والعلماء‪،‬وليس هنا تفصيل تلك المسألة ولكن أحببت الشارة إليها‬
‫مس واقع المسلمين‪،‬فبالضافة لما ذكره الولون تجوز التقية‬ ‫ما ي ُ‬
‫لّنها م ّ‬
‫للمجاهدين الذين يخشون على أنفسهم من النكشاف‪،‬كما وتجوز التقية‬
‫ل ما يجلب‬ ‫أيضا للمخابرات المسلمة وأجهزة المن الخاصة بالمجاهدين وك ّ‬
‫نفعا ويدرؤ مفسدة عن المسلمين في هذا العصر جازت التقية فيه‪.‬والله‬
‫أعلم‪.‬‬
‫نظرة تحليلية عامة على كيفية مواجهة فرعون‬
‫من خلل الّنظر في كيفية مواجهة فرعون‪،‬والوسائل التي استعملت‬
‫في تلك المواجهة نستطيع الخروج بعدة نتائج أهمها ما يلي‪:‬‬

‫‪1363‬المغرب‪،‬مادة‪:‬وقي)‪.(2/367‬‬
‫‪]1364‬آل عمران‪.[28:‬‬
‫‪1365‬تفسير ابن كثير)‪(1/358‬مع بعض التصرف‪.‬وانظر‪:‬تفسير النسفي)‪.(1/149‬‬
‫‪]1366‬النحل‪.[106:‬‬
‫‪1367‬انظر‪:‬تفسير ابن كثير)‪(2/588‬وتفسير أبي السعود)‪.(5/143‬‬
‫‪1368‬تفسير الطبري)‪.(14/182‬‬
‫‪)1369 1369‬الك َ ْ‬
‫شُر بدو السنان عند التبسم‪.‬ويقال‪:‬في غير ضحك كشر عن أسنانه إذا‬
‫أبداها(العين‪،‬باب الكاف والشين والراء)‪.(5/291‬‬
‫‪1370‬صحيح البخاري‪،‬كتاب الدب‪،‬باب المداراة مع الناس)‪(5/2271‬أخرجه البخاري في المعلقات‪.‬‬
‫‪1371‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪(4/57‬وتفسير الطبري)‪.(3/228‬‬

‫‪205‬‬
‫ن جميع هذه الوسائل تندرج في مفهوم جهاد الدفع‬ ‫النتيجة الولى‪:‬إ ّ‬
‫وليس جهاد الطلب‪،‬بل جهاد الصبر والمصابرة والثبات‪،‬والسقف العلى لتلك‬
‫الوسائل هو الكلمة للوصول إلى حالة النسلخ عن الطاغوت والتحرر‬
‫منه‪،‬وهذا يعني القضاء على سبب من أسباب ظهور شخصية فرعون‪،‬فلو‬
‫انفض الّناس عن الطواغيت لما كان لهم شأن ُيذكر‪،‬فليس الطاغوت في‬
‫نهاية المر سوى فرد ل يملك غير قدرات محدودة‪.‬‬
‫النتيجة الثانية‪:‬إّنها وسائل تعتمد في جوهرها على الشخصية الصلبة‬
‫والصابرة‪،‬وذلك لعدم تكافؤ القوى؛فالفئة المؤمنة ل تمتلك القدرة ول‬
‫الدوات التي بها تمنع الذى عن نفسها‪،‬فليس أمامها إل ّ الصبر والّتحمل وما‬
‫قد ُيتاح لها من هامش الّتخفي‪.‬وهذا ظاهر في شخصية موسى وهارون‪،‬ومن‬
‫دونهم في الصبر كالسحرة‪،‬وظاهر أيضا في أسلوب التكتم والسرّية الذي‬
‫أشرنا إليه في مواضعه‪.‬‬
‫وذلك ما حدث للوائل من أمتنا وسادة دعوتنا من الصحابة الحباب‬
‫حين واجهوا المحن العظام بصبر تنوء عن حمله الجبال‪،‬حتى بلغ المر بهم‬
‫كوا لرسول الله أوضاعهم‪.‬روى البخاري عن خباب رضي الله عنه‬ ‫ش ُ‬
‫أن َ‬
‫قال‪:‬أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل‬
‫الكعبة‪،‬ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة‪،،‬فقلت‪:‬يا‬
‫رسول الله أل تدعو الله‪،‬فقعد وهو محمر وجهه‪،‬فقال‪’’:‬لقد كان من قبلكم‬
‫ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك‬
‫عن دينه‪،‬ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن‬
‫دينه‪،‬وليتمن الله هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما‬
‫يخاف إل الله والذئب على غنمه‘‘‪.1372‬‬
‫ن هذه الوسائل متناسبة مع الهدف الذي يسعى إليه‬ ‫النتيجة الثالثة‪:‬إ ّ‬
‫ن الوسائل المستعملة في القضاء على‬ ‫موسى عليه السلم‪،‬وهذا يعني أ ّ‬
‫الطاغوت وإنهاء النظام الظالم لحلل الحق مكانه سوف تتعدى تلك‬
‫متقدمة في المواجهة‪،‬ولن‬ ‫الوسائل الدفاعية إلى الوسائل الهجومية كمرحلة ُ‬
‫تبقى في مستوى الدفاع فحسب‪.‬مع ملحظة أّننا في مرحلة دفاعية على‬
‫المستوى المحلي والقليمي والدولي‪،‬فنحن مثل نطلب من رأس الستكبار‬
‫ف يدها عّنا‪،‬وتدعنا وشأننا‪،‬ونطلب من النظمة‬ ‫العالمي أمريكيا أن تك ُ ّ‬
‫المتحكمة فينا أن تدعنا وشأننا فل ُتضّيق علينا ول تمنعنا الحقوق الساسية‬
‫للبشر‪..‬باختصار مرحلتنا بعمومها تعني الدفاع عن الّنفس كما هو حاصل في‬
‫فلسطين أيضًا‪.‬‬
‫ن التزام الوسائل الشرعية أثناء حركتنا للتحرر من‬ ‫النتيجة الرابعة‪:‬إ ّ‬
‫الطاغوت أو الّتخلص منه ُيحقق أغراضا أخرى غير التخلص من الظلم‬
‫ن هدف البعث السلمي لم يكن محصورا بتلك النتيجة‬ ‫والطغيان؛ذلك أ ّ‬
‫المباشرة‪،‬بل يتعدى تلك النتيجة إلى تحقيق المشروع السلمي‬
‫ن الله تعبدنا بالوسائل كما تعبدنا‬‫المتكامل‪،‬ومن هنا ندرك معنى أ ّ‬
‫ن أي تفريط مّنا بتلك الوسائل يعني عدم انجاز ذلك‬ ‫بالغايات‪،‬وندرك أيضا أ ّ‬
‫معتمد على بناء المة فكرا وسلوكا وأخلق‪،‬وهذا لن‬ ‫المشروع السلمي ال ُ‬
‫ن وسائل‬ ‫يتحقق إذا ما سلك المسلمون مسالك الجاهلية في التغيير؛ذلك أ ّ‬

‫‪1372‬صحيح البخاري‪،‬كتاب فضائل الصحابة‪،‬باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من‬
‫المشركين بمكة)‪(3/1398‬رقم)‪.(3639‬‬

‫‪206‬‬
‫الجاهلية منفلتة من القيم والخلق‪،‬فل يجوز لنا أن نتخذ وسيلة خسيسة‬
‫لتحقيق غاية كريمة‪)،‬ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته‬
‫هي العليا‪.‬فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف‬
‫الكريم‪.‬ومن جهة أخرى فهو ل يعني نفسه ببلوغ الغايات‪،‬إّنما يعني نفسه‬
‫بأداء الواجبات‪،‬تحقيقا لمعنى العبادة في الداء‪.‬أما الغايات فموكولة لله‪،‬يأتي‬
‫بها وفق قدره الذي يريده‪.‬ول داعي لعتساف الوسائل والطرق للوصول‬
‫‪1373‬‬
‫إلى غاية أمرها إلى الله‪،‬وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله( ؛‬
‫ن النجاز المادي ليس غاية لحركتنا بل إفراز لتلك الحركة‪.‬‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ن فترة العداد مهما كانت ناجحة في تهيئة‬ ‫النتيجة الخامسة‪:‬إ ّ‬
‫الشخاص للدخول في مرحلة التنفيذ والمباشرة في الدعوة فإّنها ل ُتغني‬
‫مستجدة‪،‬فبعض‬ ‫عن المهارات والقدرات الخاصة في مواجهة المواقف ال ُ‬
‫المواقف يحتاج إلى نباهة وفطنة وسعة علم واطلع‪..‬وبعضها يحتاج إلى‬
‫سعة صدر وحلم ورفق‪..‬وبعضها يحتاج إلى حزم وجزم وعدم التردد‬
‫والحيرة‪..‬وبعضها بحاجة إلى قدرة على المناورة والمداورة‪..‬وهنا يبرز دور‬
‫القيادة في توزيع الدوار واختيار الكفاءات‪.‬‬
‫النتيجة السادسة‪:‬تتمثل في أن ل تتفاجأ الجماعة ببعض‬
‫العثرات‪،‬فتلك سّنة الدعوات‪،‬سواء كانت عثرات فردية أو جماعية‪،‬فالكمال‬
‫لله‪،‬والخطأ من ابن آدم وارد‪.‬قد ُنخطىء في التعجيل أو في التأجيل‪،‬أو‬
‫بحجم الرد شدةً أو تهاونا لسباب تفرضها ساحة المواجهة مع‬
‫ن فقهنا فقه حركة ل فقه‬ ‫الطواغيت‪.‬ومن يتحرك ُيخطىء‪،‬ومن هنا قلنا أ ّ‬
‫أوراق‪.‬‬
‫ن المطلوب هو العداد قدر المستطاع والخذ‬ ‫النتيجة السابعة‪ :‬إ ّ‬
‫بالسباب طاعة لله ل العداد المساوي لقوة الطواغيت‪،‬فعلى المستضعفين‬
‫أن ل يحتقروا أنفسهم أو قدراتهم أمام الطاغوت‪،‬وهذا ما نفهمه من قوله‬
‫تعالى‪’’:‬وأعدوا لهم ما استطعتم‘‘‪،1374‬أي)ما أطقتم أن تعدوه لهم من‬
‫اللت التي تكون قوة لكم عليهم(‪.1375‬‬

‫الخــــاتمة‬
‫لم يكن القرآن ليذكر شخصية فرعون ك ّ‬
‫ل هذا الذكر باعتبارها شخصية‬
‫ن هذا الحديث الواسع عن‬ ‫تاريخية لن تعود إلى الوجود مّرة أخرى‪،‬بل إ ّ‬
‫شخصية فرعون ليؤكد أّنها شخصية تتكرر ولكن بأشكال مختلفة وجوهر‬
‫واحد؛فقد تتكرر شخصية الطاغوت فرعون بشخصية كفرعون ومن حوله‬
‫أبواق تردد أقواله وُتسبح له!وقد تتكرر في جماعة تنهج في مجموعها نهج‬
‫دولة برمتها تنهج نهجه‪،‬فتكون الشخصية العتبارية‬ ‫فرعون‪،‬وقد تكون ال ّ‬
‫ن وجود فرعون الطاغوت‬ ‫دولة حينذاك هي شخصية فرعون‪،‬بمعنى أ ّ‬ ‫لل ّ‬
‫ُ‬
‫يتحقق كلما طبق منهجه‪.‬‬

‫‪1373‬في ظلل القرآن)‪.(7/592‬‬


‫‪]1374‬النفال‪.[60:‬‬
‫‪1375‬تفسير الطبري)‪.(10/29‬‬

‫‪207‬‬
‫وعلى أي شكل تكرر فرعون تبقى وسائل الرد بخطوطها الساسية ل‬
‫تتغير‪،‬وإن حدث تغيير فإّنما هو بالفروع’التكتيك‘‪.‬فجوهر المواجهة يتمثل في‬
‫جماعة مؤمنة صابرة مصابرة تأخذ على عاتقها دفع الثمن بأعلى مستوياته‬
‫من التضحية‪،‬لتكون مثال للخرين في الثبات والتصدي‪.‬وأي قفز عن هذه‬
‫الحقيقة في مواجهة الطاغوت يعني إطالة مرحلة الستعباد والخضوع‬
‫والخنوع‪.‬لبد ّ من فئة مؤمنة تدفع الثمن الول وتكون رأس الحربة التي‬
‫مل العبء الكبر‪،‬وحين نجد من يقتحم العقبة نكون قد‬ ‫تطعن الطاغوت‪،‬وتتح ّ‬
‫ن لنا في قصة‬ ‫خطونا الخطوة الولى على طريق الّنصر أو الشهادة‪.‬إ ّ‬
‫فرعون دروسا وفوائد جمة‪ُ،‬نجملها فيما يلي‪:‬‬
‫أول‪:‬البعد الغيبي في الحداث حقيقة نوقن بها ول ُتلغي‬
‫واجب الخذ بالسباب‬
‫ن أول مظهر يتجلى فيه البعد الغيبي في قصة فرعون هو الربط بين‬ ‫إ ّ‬
‫الحداث وسلوك الّناس مع ربهم‪،‬فليس هناك حدث إل ّ وهو مرتبط بطبيعة‬
‫علقة الّناس مع الله‪،‬فالعقوبات التي أنزلها الله على فرعون وآله وقومه ما‬
‫هي إل ّ انعكاس لتلك العلقة‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فانتقمنا منهم فأغرقناهم‬
‫م بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘‪،1376‬فكل مأساة‬ ‫في الي ّ‬
‫ُتصيب البشر فبما كسبت أيديهم ويعفوا عن كثير‪،‬يقول تعالى‪’’:‬وما‬
‫‪1377‬‬
‫ي‬
‫أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير‘‘ ‪)،‬أ ّ‬
‫مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات فبما كسبت أيديكم‬
‫ن العقوبة دليل على سوء علقة‬ ‫أي معاصيكم التي اكتسبتموها(‪1378‬؛ذلك أ ّ‬
‫معاقب مع الله‪،‬وهي في ذات الوقت تحذير للمذنب كي يعود إلى الله‬ ‫ال ُ‬
‫ويراجع نفسه‪.‬‬
‫نعم‪.‬إذا أراد الله شيئا لم يمنعه شيء‪،‬وإذا أراد الله شيئا هيأ له السبب؛‬
‫مستفاد من قصة فرعون مع المستضعفين‪،‬وهو‬ ‫ذلك هو الدرس العظيم ال ُ‬
‫ن على الذين استضعفوا‬ ‫مراد من قوله تعالى‪’’:‬ونريد أن نم ّ‬ ‫المعنى ال ُ‬
‫في الرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في‬
‫‪1379‬‬
‫ن‬
‫مراد هو رفع الظلم عنهم بل جعلهم أئمة؛ل ّ‬ ‫الرض‘‘ ‪،‬فليس ال ُ‬
‫انتصارهم الساحق المبين رغم اختلل موازين القوى الكبير لصالح فرعون‬
‫ن إرادة الله هي النافذة‪،‬ليس في المعركة مع الطواغيت‬ ‫يؤكد للّناس أ ّ‬
‫ل حركة في الوجود‪،‬وذلك هو معنى قوله‬ ‫ل حركة الحياة‪،‬وك ّ‬ ‫فحسب بل في ك ّ‬
‫‪1380‬‬
‫م جئت على قدر يا موسى‘‘ ‪،‬وُبعث موسى عليه السلم‬ ‫تعالى‪’’:‬ث ّ‬
‫إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده‪..‬وسارت القدار كما شاء الله لها‬
‫م ما كان من أمر هلك فرعون وجنده‪.‬هناك بعد آخر للمعركة مع‬ ‫أن تسير‪..‬ث ّ‬
‫الطاغوت يغفل عنه كثير من الّناس‪،‬فنحن ستار لقدر ل نعلمه‪،‬ولكّننا نؤمن‬
‫به ونعلم أّنه الحق‪،‬فما من غائبة في السماوات ول في الرض إل ّ في كتاب‬
‫ل شأنه يسير‪.‬‬ ‫من قبل أن يبرأها الله‪،‬وهو عليه ج ّ‬

‫‪]1376‬العراف‪.[136:‬‬
‫‪]1377‬الشورى‪.[30:‬‬
‫‪ 1378‬روح المعاني)‪.(25/40‬وهذا مخصوص بالمذنبين)فإن ما أصاب غيرهم فلسباب أخر منها‬
‫تعرضه للجر العظيم بالصبر عليه(تفسير البيضاوي)‪.(5/131‬‬
‫‪]1379‬القصص‪.[6-5:‬‬
‫‪]1380‬طه‪.[40:‬‬

‫‪208‬‬
‫ن الخذ بالسباب طاعة واجبة‪،‬ولكّنها‬ ‫ل هذه الحقيقة المطلقة فإ ّ‬ ‫ومع ك ّ‬
‫ليست هي الفاعلة‪،‬وإّنما الفاعل الحقيقي في كل شيء هو الله‪،‬ومن قال‬
‫بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالف‬
‫ن الطمأنينة إلى تلك السباب واللتفات إليها بالقلوب‬ ‫سنة النبياء‪،‬كما أ ّ‬
‫انتكاسة خطيرة؛فإنها ل تجلب نفعا ول تدفع ضرا بل السبب والنتيجة فعل‬
‫الله تعالى‪،‬والكل منه وبمشيئته‪.1381‬فل بد ّ إذا من هذا وذاك دون إفراط أو‬
‫تفريط‪،‬فكما كان البعد الغيبي ظاهرا في قصة المواجهة مع فرعون كان‬
‫الخذ بالسباب حاضرا في كل مراحلها‪.‬‬
‫ثانيا‪:‬سّنة أخذ الله للظالمين‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬فجعلناهم سلفا ً‬
‫ومثل ً للخرين‘‘‪.1382‬‬
‫ن قدر الله ل ُيستعجل فلكل أجل كتاب‪،‬ولنا بما حدث لفرعون وقومه‬ ‫إ ّ‬
‫عَبر‪،‬حين سلب الله منهم ما خولهم ‪،‬وانتقم منهم فأغرقهم‪،‬وذلك بسبب‬ ‫ِ‬
‫تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم‪..‬بسبب ظلمهم واستكبارهم وطغيانهم‬
‫ن ربك لبالمرصاد‘‘‪،1383‬ل يفوته‬ ‫وعصيانهم وجرائمهم…يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫‪1384‬‬
‫شيء من أعمال العباد‪،‬فمرجع الخلق إلى حكمه وإليه مصيرهم ‪.‬فهل‬
‫حذر الناس من التهاون في أمر الله؟أين انتفاش فرعون وسطوته حين‬
‫أدركه الغرق‪،‬وأحس ببأس الله؟لقد أعلن الستسلم في ساعة ل ينفع بها‬
‫إيمان‪.‬‬
‫ما أغضبوا الله بالفراط بالعناد والمعصية كانت سّنة الله التي‬ ‫ول ّ‬
‫‪1385‬‬
‫مضت ‪،‬فهو يمهل ول ُيهمل‪.‬يقول تعالى‪’’:‬فلما آسفونا انتقمنا منهم‬
‫فأغرقناهم أجمعين‪،‬فجعلناهم سلفا ومثل للخرين‘‘‪،1386‬أي‬
‫جعلناهم متقدمين في الهلك ليتعظ ويعتبر بهم من بعدهم من الطواغيت‬
‫إلى يوم القيامة‪.1387‬لقد)ذهب هؤلء الطغاة الذين كانوا ملئ العين‬
‫والنفوس في هذه الرض‪،‬ذهبوا فلم ييأس على ذهابهم أحد‪،‬ولم تشعر بهم‬
‫سماء ول أرض‪،‬ولم ُينظروا أو ُيؤجلوا عندما حل الميعاد‪’’:‬فما بكت عليهم‬
‫السماء والرض‪1388‬وما كانوا منظرين‘‘‪،1389‬وهو تعبير يلقي ظلل‬
‫الهوان‪،‬كما يلقي ظلل الجفاء‪..‬فهؤلء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد‬
‫في أرض ول سماء‪.‬ولم يأسف عليهم أحد في أرض ول سماء(‪.1390‬‬
‫ن في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله‬ ‫إ ّ‬
‫المؤمنين لعبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم‪،‬ومع هذا ما آمن أكثر‬
‫‪1381‬انظر‪:‬تفسير القرطبي)‪.(4/189‬‬
‫‪]1382‬الزخرف‪.[56:‬‬
‫‪]1383‬الفجر‪.[14:‬‬
‫‪1384‬انظر‪:‬تفسير البغوي)‪.(4/484‬‬
‫‪1385‬انظر‪:‬تفسير البيضاوي)‪.(5/149‬‬
‫‪]1386‬الزخرف‪.[56-55:‬‬
‫‪1387‬انظر‪:‬تفسير الثعالبي)‪.(4/130‬‬
‫‪)1388‬يراد بعدم البكاء عدم الكتراث بهلكهم ول العتداد بوجودهم وقد كثر في التعظيم لمهلك‬
‫الشخص بكت عليه السماء والرض بكته الريح ونحو ذلك وفي التفسير شواهد كثيرة من شعر‬
‫العرب عليه ومن أثبت كالصوفية للجرام السماوية والرضية وسائر الجمادات شعورا لئقا‬
‫بحالها لم يحتج إلى اعتبار المجاز وأثبت بكاء حقيقيا لها بحسب ما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله‬
‫بالحزن أو نحوه أو أثبته لها بحسب ذلك أيضا( اللوسي‪ :‬أبو المعالي‪،‬محمود شكري بن عبدالله‬
‫بن شهاب الدين‪1342-1273)،‬هـ(‪،‬ما دل عليه القرآن مما يضد الهيئة القويمة‪،‬جزء‬
‫واحد‪،‬ط ‪،2‬المكتب السلمي‪،‬بيروت‪1971،‬م‪.(1/129).‬‬
‫‪]1389‬الدخان‪.[29:‬‬
‫‪1390‬في ظلل القرآن)‪.(7/368‬‬

‫‪209‬‬
‫ن في ذلك لية وما كان أكثرهم‬ ‫الناس‪.1391‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬
‫مؤمنين‘‘‪،1392‬لذلك لم تنفعهم تلك المواعظ البليغة؛فلم يتنبه لها أكثر‬
‫الولين‪،‬كما لم يتنبه لها أكثر الخرين‪،‬يقول تعالى‪’’:‬فاليوم ننجيك ببدنك‬
‫ن كثيرا من الّناس عن آياتنا‬ ‫لتكون لمن خلفك آية وإ ّ‬
‫لغافلون‘‘‪1393‬؛فهذا التطاول والتفاخر والستعلء من قبل الطواغيت‬
‫وأعوانهم في مشارق الرض ومغاربها لدليل واضح على غفلتهم وعدم‬
‫انتفاعهم بما حدث لفرعون وغيره من الطغاة والبغاة‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬الفتنة والختبار‪،‬وقوله تعالى‪’’:‬وجعلنا بعضكم لبعض‬
‫فتنة أتصبرون‘‘‪.1394‬‬
‫تلك هي الحكمة من وجود فرعون وأمثاله من الطواغيت‪،‬وذلك هو‬
‫قضاء الله وقدره في خلقه وله الحكمة البالغة‪،‬فالحياة دار بلء وامتحان‬
‫واختبار حيث)أراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في‬
‫جميع الناس مؤمن وكافر(‪،1395‬وعلى هذا الساس نفهم الحياة الدنيا‪،‬فهي‬
‫صراع بين الحق والباطل‪،‬ومن أسقط تلك الحقيقة من تصوره للحياة فقد‬
‫أخطأ الفهم الصحيح وضل‪.‬‬
‫ن فرعون لعنه الله وأمثاله امتحان من الله للبشرية‪’’،‬ولوشاء الله‬ ‫إ ّ‬
‫‪1396‬‬
‫لمن من في الرض كلهم جميعا‘‘ ‪،‬ولكّنه سبحانه جعل اليمان‬
‫كاها وقد خاب من‬ ‫اختيارا‪،‬وألهم الّنفس فجورها وتقواها’’قد أفلح من ز ّ‬
‫ساها‘‘‪).1397‬ول يهمنا أن نستقصي أصول هذه الّنزعات السيئة من الّناحية‬ ‫د ّ‬
‫التاريخية‪،‬لنعرف أهي طارئة على فطرة النسان‪،‬أم مخلوقة معها‪،‬وإّنما‬
‫ده‪،‬ومصيره معلق‬ ‫يهمنا أن هذه وتلك موجودتان في النسان‪،‬تتنازعان ِقيا َ‬
‫بالّناحية التي يستسلم لها(‪،1398‬ومن خلل هذا الفهم نستطيع أن نفهم أحد‬
‫أهم المحركات النسانية على مدار التاريخ‪.‬‬
‫وقد يتذرع العصاة والفجرة بالقدر‪،‬يقول تعالى‪’’:‬سيقول الذين‬
‫أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ول آباؤنا ول حّرمنا من‬
‫ذب الذين‬ ‫شيء‘‘‪،1399‬فهذه دعواهم‪،‬ولقد أجاب القرآن عليها‪’’،‬كذلك ك ّ‬
‫من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا‪،‬قل هل عندكم من علم فتخرجوه‬
‫ن وإن أنتم إل ّ تخرصون‘‘‪ ،1400‬أي)هل عندكم‬ ‫لنا‪،‬إن تّتبعون إل ّ الظ ّ‬
‫دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره والمقصود‬
‫من هذا التبكيت لهم لنه قد علم أنه ل علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به‬
‫البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم وأنهم إنما يتبعون‬
‫الظنون أي ما يتبعون إل الظن الذى هو محل الخطأ ومكان الجهل وإن أنتم‬
‫إل تخرصون أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص(‪،1401‬فنحن‬

‫‪1391‬تفسير ابن كثير)‪.(3/338‬‬


‫‪]1392‬الشعراء‪.[67:‬‬
‫‪]1393‬يونس‪.[92:‬‬
‫‪]1394‬الفرقان‪.[20:‬‬
‫‪1395‬تفسير القرطبي)‪.(13/18‬‬
‫‪]1396‬يونس‪.[99:‬‬
‫‪]1397‬الشمس‪.[10-9:‬‬
‫‪ 1398‬محمد الغزالي‪،‬خلق المسلم‪،‬ط ‪،3‬دار الدعوة‪،‬السكندرية‪1411،‬هـ‪1990-‬م‪.(27).‬‬
‫‪]1399‬النعام‪.[148:‬‬
‫‪]1400‬النعام‪.[148:‬‬
‫‪1401‬فتح القدير)‪.(2/175‬‬

‫‪210‬‬
‫كلفنا به من أوامر ونواه معلومة‬ ‫لم ُنكّلف بمعرفة قدر الله‪،‬فلننشغل بما ُ‬
‫متيقنة‪،‬وندع ما لم ُنكلف به‪.‬‬
‫ن الحجة والبرهان ل ُتؤدي إلى اليمان حتما‪،‬فبعض الّناس يسير مع‬ ‫إ ّ‬
‫البرهان وبعضهم ل يسير معه‪.‬فكل الّناس شاهدوا تلك المباراة الشهيرة مع‬
‫السحرة‪،‬وشاهدوا سجود السحرة وإيمانهم الصريح الثابت الواضح‪،‬ومع ذلك‬
‫شاهدنا فرعون يقود جيشا منهم ُيلحق به موسى ومن معه‪.‬إذا ً هناك مانع‬
‫يمنع الّناس من اليمان‪..‬إّنه مرض في قلوبهم‪.‬قد يكون الهوى والمصلحة‪،‬أو‬
‫المجاملة والمداهنة ومراعاة العرف والعادة‪،‬أو الحقد والحسد…ولكن لن‬
‫يكون ضعف الدليل أو عدمه سببا بعد أن ُأقيمت الحجة وسطع‬
‫ن على قلبه وسمعه و بصره موانع تصد عن الفهم‬ ‫البرهان‪.‬بل)ل ّ‬
‫‪1402‬‬
‫والقبول‪،‬وهكذا حال من غلب عليه هواه( ‪،‬وهذه حقيقة على حملة الدعوة‬
‫إلى الله أن يتنبهوا لها‪،‬يقول تعالى‪’’:‬ولو أّننا نّزلنا إليهم الملئكة‬
‫وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبل ما كانوا ليؤمنوا‬
‫ن المانع عن‬ ‫ن أكثرهم يجهلون‘‘‪1403‬؛ذلك أ ّ‬ ‫إل ّ أن يشاء الله ولك ّ‬
‫اليمان سبب آخر ل يتعلق بضعف الدليل أو قوته‪.‬‬
‫رابعا‪:‬ل أثر للقاعدين على رصيف الحياة‬
‫هناك صنف من الّناس يتعلقون بالضعف الموهوم‪،‬فهم في جهد دائم‬
‫فاهم‬ ‫ن الذين تو ّ‬ ‫لقة يعلقون عليها ضعفهم‪،‬يقول تعالى‪’’:‬إ ّ‬ ‫للبحث عن ع ّ‬
‫الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كّنا مستضعفين‬
‫في الرض‪،‬قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا‬
‫فيها‪،‬فأولئك مأواهم جهّنم وساءت مصيرا‘‘‪.1404‬هؤلء القاعدون على‬
‫رصيف الحياة أصفار ل قيمة لهم‪،‬لقد ظلموا الحق الذي من أجله‬
‫خلقوا‪،‬وظلموا الرسالة التي ُأنيطت بهم حين قعدوا‪،‬فبماذا ُيجيبون وقد‬ ‫ُ‬
‫حضرت الملئكة لتتوفاهم وهذا حالهم!‬
‫’ليس باليد حيلة‘‪،‬تلك هي حجة الغلبية الصامتة هذه اليام وشعار‬
‫القاعدين!إّنها الحجة الباهتة التي ُتخفي وراءها الخوف من الموت‪.‬إّنه‬
‫الهروب من المواجهة والقيام بالواجب ودفع الثمن هو الذي أقعد الكثيرين!‬
‫ولسان حالهم يقول كما قال الذلء الرقاء‪’’:‬فاذهب أنت وربك فقاتل‬
‫إّنا ها هنا قاعدون‘‘‪.1405‬ومن الّناس من يجلس مستريحا يعلل نفسه‬
‫بالكذب والدعاء الباطل قائل‪:‬ل بد ّ من التريث‪..‬ويبقى التريث شعارا أبديا ل‬
‫بد ّ منه‪.‬إّنه الستار الذي ُيخفي به هؤلء ضعف إيمانهم وعجزهم‬
‫َ‬
‫خْرت ََنا‬ ‫َ‬
‫ول أ ّ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫قَتا َ‬‫عل َي َْنا ال ْ ِ‬
‫ت َ‬
‫م كت َب ْ َ‬‫وكساحهم‪..‬فهم الذين قالوا‪َ’’:‬رب َّنا ل ِ َ‬
‫َ‬
‫من)يعلم أن الجال محدودة والرزاق‬ ‫ريب‘‘ ‪،‬وهذا ل يصدر م ّ‬
‫‪1406‬‬
‫ل َ‬
‫ق ِ‬ ‫إ َِلى أ َ‬
‫ج ٍ‬
‫مقسومة‪..‬إل أن يكون قائله ممن لم يرسخ في اليمان قدمه ول انشرح‬
‫بالسلم جنانه(‪.1407‬‬
‫ن ضريبة العّز‬ ‫وربما كان القعود بسبب وسوسة شيطانية مفادها أ ّ‬
‫باهظة الثمن!والحقيقة غير ذلك‪)،‬فحين كان بنو اسرائيل يؤدون ضريبة الذل‬

‫‪1402‬فتاوى ابن تيمية)‪.(16/585‬‬


‫‪]1403‬النعام‪.[111:‬‬
‫‪]1404‬الّنساء‪.[97:‬‬
‫‪]1405‬المائدة‪.[24:‬‬
‫‪]1406‬الّنساء‪.[77:‬‬
‫‪1407‬تفسير القرطبي)‪(5/281‬مع بعض التصرف‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لدارة‬
‫ما حين‬ ‫المعركة‪.‬فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إل ّ ذل واستكانة وخوفا‪.‬فأ ّ‬
‫استعلن اليمان‪،‬في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لحتمال التعذيب‬
‫وهم مرفوعوا الرؤوس يجهرون بكلمة اليمان في وجه فرعون دون تلجلج‬
‫ما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لدارة‬ ‫ودون تحرج‪،‬ودون اتقاء للتعذيب‪.‬فأ ّ‬
‫‪1408‬‬
‫م قبل ذلك في الرواح والقلوب( ‪.‬‬ ‫المعركة‪،‬وإعلن الّنصر الذي ت ّ‬
‫وكم نحن بحاجة لتدبر هذه العبرة‪،‬فما ندفعه من أموالنا وأرواحنا‬
‫مستذلين خانعين أضعاف ما يمكن أن ندفعه في طريق العّزة‬
‫والنتصار‪،‬فلماذا هذا التردد والحيرة في وقت ُتنهب ثرواتنا وُتداس مقدساتنا‬
‫بل وُيستهزؤ بديننا…ومّرة ُأخرى ُيعلق الّناس عجزهم وتخاذلهم على القدر!‬
‫ن الشرط يسبق جوابه’’إن تنصروا الله ينصركم‘‘‪،1409‬فنحن‬ ‫وما علموا أ ّ‬
‫ندفع ضريبة الجبن والخور ل ضريبة الجهاد والصبر‪.‬من هنا نعلم متى نرتقب‬
‫ن الله ل ُيغير ما بقوم حتى ُيغّيروا ما‬ ‫الّنصر من عند الله‪’’،‬إ ّ‬
‫بأنفسهم‘‘‪،1410‬نترقبه‪-‬إذن‪-‬حين نستعد لبذل الثمن في سبيل العزة في‬
‫سبيل الله‪.‬‬
‫ن قلة التضحية في الّنفس والمال‪،‬وقلة عدد المستعدين لهذه التضحية‬ ‫إ ّ‬
‫جلها‪،‬فهذا التقاعس سبب أكيد في إطالة أمد الظلم‬ ‫ل فرصة النتصار وأ ّ‬ ‫قَل ّ َ‬
‫والستعباد‪،‬وفي المقابل كان الستعداد للتضحية وبذل المال والّنفس سببا‬
‫في النتصار على الطواغيت فيما مضى من الزمان‪،‬وهذا يعني أّننا بحاجة‬
‫لمواجهة مع الذات وعدم تبرئتها أو تلمس العذار لها‪.‬‬
‫أّيها المتقاعسون الخائرون المتثاقلون‪:‬ألم تكن أرض الله واسعة‬
‫فتهاجروا فيها ؟!أين هي المحاولت للتخلص من الرق لتبرئة الذمة أمام‬
‫الله‪،‬فإن لم تغز فل أقل أن تحدث نفسك بالغزو‪،‬يقول صلى الله عليه‬
‫وسلم’’من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من‬
‫نفاق‘‘‪.1411‬إّنه العجز والضعف والحرص على حطام الدنيا حملهم على‬
‫الخنوع والستسلم!’’فأولئك مأواهم جهنم‪،‬وساءت مصيًرا‘‘‪.1412‬ذلك‬
‫مة جهاد وتمرد على الظلم‪،‬ولّننا حملة السلح نخوض معركة الحق‬ ‫لّننا أ ّ‬
‫إلى يوم القيامة‪،‬فمن قعد فليس مّنا‪،‬فهو إلى جهّنم وبئس المصير‪.‬‬
‫ن القاعدين على رصيف الحياة ل أثر لهم ول أثر ليمانهم‪.‬فوجودهم‬ ‫إ ّ‬
‫وعدمه سواء‪،‬وذلك مناقض لحكمة الخلق‪،‬فنحن لم ُنخلق عبثا‪،‬ولم نوجد‬
‫للكل والشرب وقضاء الحاجة وإشباع الغريزة!فمن قعد على الرصيف فقد‬
‫تخلى عن وظيفته في هذه الحياة‪.‬‬
‫ي لليمان في واقع‬ ‫ن اليجابية في هذا الدين تعني أن يظهر أثر ح ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ن الحق‬ ‫ن القاعدين ل يصنعون التاريخ ول يديرون دفة الحياة؛ذلك أ ّ‬ ‫الحياة‪،‬وإ ّ‬
‫ل يعمل بالفراغ‪،‬فل بد ّ أن يتمثل بمجموعة من الّناس‪،‬تقبل دفع الثمن في‬
‫سبيله‪،‬ولو كانت عدالة المطلب تكفي لتحقيقه لما كانت التضحيات بالمال‬
‫والّنفس‪.‬ومن عكس المسألة عاش في أمنية الشيطان؛وذلك هو النسان‬

‫‪1408‬في ظلل القرآن)‪.(5/487‬‬


‫‪]1409‬محمد‪.[7:‬‬
‫‪]1410‬الرعد‪.[11:‬‬
‫‪1411‬صحيح مسلم‪،‬كتاب المارة‪،‬باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو)‪(3/1517‬رقم)‬
‫‪.(1910‬‬
‫‪]1412‬الّنساء‪.[97:‬‬

‫‪212‬‬
‫السلبي)الذي يجنح في الغالب إلى النكماش والسلبية‪،‬ويؤثر العيش في‬
‫خذلن وانطوائية وكسل ليظل دائما مع العاجزين والخالفين‬
‫والمتخاذلين(‪.1413‬‬
‫متنازل عن حقه‬ ‫ن المعركة مع فرعون ليس فيها حياد‪،‬فالساكت فيها ُ‬ ‫إ ّ‬
‫ظالم للحق الذي أدركه‪.‬قد ل ننتصر عن قريب‪،‬ولكن لن يضيع الحق ما دام‬
‫في الساحة من يحمله‪.‬وفي المقابل لن ننتصر أبدا ونحن قاعدون!‬
‫وختاما فهذا ثمرة جهد متواصل من محب لخدمة كتاب الله‪،‬وقد بذلت‬
‫أقصى ما أستطيع لخراج هذا البحث في أحسن صورة‪،‬فإن أصبت فبتوفيق‬
‫من الله‪،‬وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان‪،‬وأسأل الله أن ينفع بهذا‬
‫البحث المسلمين‪،‬وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫المصادر‬
‫مسرد اليات‬
‫مسرد الحاديث‬
‫ملخص الرسالة باللغة النجليزية‬

‫‪1413‬أمير عبد العزيز‪،‬النسان في السلم‪،‬ط ‪،1‬دار الفرقان‪،‬مؤسسة الرسالة‪،‬عمان‪،‬وبيروت‪،‬‬


‫‪1404‬هـ‪1984-‬م)‪.(153‬‬

‫‪213‬‬
‫المصادر‬
‫التابكي‪ :‬أبو المحاسن‪،‬جمال الدين يوسف بن تغرى بردى‪-813)،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪874‬هـ(‪،‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‪16،‬جزء‪،‬المؤسسة‬
‫المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر‪،‬مصر‪.‬‬
‫ابن الثير‪:‬محمد بن محمد بن عبد الواحد الشيباني‪)،‬ت ‪630‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫الكامل في التاريخ ‪10،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬أبي الفداء عبد الله القاضي‪،‬ط‬
‫‪،2‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1415،‬هـ – ‪1995‬م‪.‬‬
‫الزدي‪ :‬معمر بن راشد‪)،‬ت ‪،(151‬الجامع‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬حبيب‬ ‫‪-3‬‬
‫العظمي )منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني ج ‪،(10‬ط ‪،2‬المكتب‬
‫السلمي‪،‬بيروت‪.1403،‬‬
‫ابن إسحاق‪:‬محمد بن يسار‪151-85)،‬هـ(‪،‬سيرة إبن إسحاق‬ ‫‪-4‬‬
‫المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬محمد‬
‫حميدالله‪،‬معهد الدراسات والبحاث للتعريب‪.‬‬
‫الصبهاني‪:‬أبو نعيم‪،‬أحمد بن عبد الله‪)،‬ت ‪430‬هـ(‪،‬حلية الولياء‬ ‫‪-5‬‬
‫وطبقات الصفياء‪10،‬أجزاء‪،‬ط ‪،4‬دار الكتاب العربي‪،‬بيروت‪1405،‬هـ‪.‬‬
‫اللوسي‪ :‬أبو المعالي‪،‬محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين‪)،‬‬ ‫‪-6‬‬
‫‪1342-1273‬هـ(‪،‬روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع‬
‫المثاني‪30،‬جزءا‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫اللوسي‪ :‬أبو المعالي‪،‬محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين‪)،‬‬ ‫‪-7‬‬
‫‪1342-1273‬هـ(‪،‬ما دل عليه القرآن مما يضد الهيئة القويمة‪،‬جزء‬
‫واحد‪،‬ط ‪،2‬المكتب السلمي‪،‬بيروت‪1971،‬م‪.‬‬
‫أمير عبد العزيز‪،‬النسان في السلم‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،1‬دار‬ ‫‪-8‬‬
‫الفرقان‪،‬مؤسسة الرسالة‪،‬عمان‪،‬وبيروت‪1404،‬هـ‪1984-‬م‪.‬‬
‫لني‪:‬أبو بكر‪،‬محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن‬ ‫الباق ّ‬ ‫‪-9‬‬
‫دين أحمد حيدر‪،‬ط‬ ‫القاسم‪،‬إعجاز القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬عماد ال ّ‬
‫‪،3‬مؤسسة الكتب الثقافية‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪1416،‬هـ‪1995-‬م‪.‬‬
‫البخاري‪ :‬أبو عبدالله‪ ،‬محمد بن إسماعيل الجعفي‪256 -194)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-10‬‬
‫الجامع الصحيح المختصر‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬مصطفى ديب البغا‪ ،‬ط ‪ ،3‬دار‬
‫ابن كثير‪،‬اليمامة‪ ،‬بيروت‪1407 ،‬هـ‪1987،‬م‪.‬‬
‫البخاري‪ :‬أبو عبدالله‪ ،‬محمد بن إسماعيل الجعفي‪256 -194)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-11‬‬
‫التاريخ الكبير‪8،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬هاشم الندوي‪،‬دار الفكر‪.‬‬
‫البغوي‪ :‬أبو محمد‪،‬الحسين بن مسعود الفراء‪)،‬ت ‪ ،(516‬معالم‬ ‫‪-12‬‬
‫التنزيل‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬خالد العك ‪ -‬مروان سوار‪،‬ط ‪ ،2‬دار المعرفة‪،‬‬
‫بيروت‪1407 ،‬هـ – ‪1987‬م‪.‬‬
‫البهوتي‪ :‬منصور بن يونس بن إدريس‪ ،‬كشاف القناع عن متن‬ ‫‪-13‬‬
‫القناع‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬هلل مصيلحي مصطفى هلل‪،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪.1402‬‬
‫البيضاوي‪) :‬ت ‪ ،(791‬تفسير البيضاوي‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬عبد‬ ‫‪-14‬‬
‫القادر عرفات العشا حسونة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪1416 ،‬هـ – ‪1996‬م‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫البيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى‪)،‬‬ ‫‪-15‬‬
‫‪458-384‬هـ(‪،‬العتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب‬
‫السلف وأصحاب الحديث‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬أحمد عصام الكاتب‪،‬ط‬
‫‪،1‬دار الفاق الجديدة‪،‬بيروت‪1401،‬هـ‪.‬‬
‫البيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى‪)،‬‬ ‫‪-16‬‬
‫‪458-384‬هـ(‪ ،‬سنن البيهقي الكبرى‪10،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر‬
‫عطا‪ ،‬مكتبة دار الباز‪ ،‬مكة المكرمة‪1414 ،‬هـ – ‪1994‬م‪.‬‬
‫البيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى‪)،‬‬ ‫‪-17‬‬
‫‪458-384‬هـ(‪،‬شعب اليمان‪8،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد السعيد بسيوني‬
‫زغلول‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1410،‬هـ‪.‬‬
‫البيهقي‪:‬أبو بكر‪،‬أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى‪)،‬‬ ‫‪-18‬‬
‫‪458-384‬هـ(‪،‬كتاب الزهد الكبير‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬عامر أحمد حيدر‪،‬ط‬
‫‪،3‬مؤسسة الكتب الثقافية‪،‬بيروت‪1996،‬م‪.‬‬
‫الترمذي‪:‬أبو عيسى‪،‬محمد بن عيسى السلمي‪279-209)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-19‬‬
‫الجامع الصحيح سنن الترمذي‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر‬
‫وآخرون‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫الترمذي‪ :‬أبو عبدالله الحكيم‪،‬محمد بن علي بن الحسن‪،‬نوادر‬ ‫‪-20‬‬
‫الصول في أحاديث الرسول‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬عبد الرحمن عميرة‪،‬ط ‪،1‬‬
‫دار الجيل‪،‬بيروت‪1992،‬م‪.‬‬
‫التميمي ‪:‬أبو بكر‪ ،‬أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي‪)،‬‬ ‫‪-21‬‬
‫‪324 -245‬هـ(‪ ،‬كتاب السبعة في القراءات‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬شوقي‬
‫ضيف‪،‬ط ‪ ،2‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1400 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن تيمية‪:‬أبو العباس‪،‬أحمد بن عبد الحليم الحراني‪-661)،‬‬ ‫‪-22‬‬
‫‪728‬هـ(‪،‬دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬‬
‫محمد السيد الجليند‪،‬ط ‪،2‬مؤسسة علوم القرآن‪،‬دمشق‪1404،‬هـ‪.‬‬
‫ابن تيمية‪:‬أبو العباس‪،‬أحمد بن عبد الحليم الحراني‪-661)،‬‬ ‫‪-23‬‬
‫‪728‬هـ(‪،‬كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير‪،‬‬
‫‪17‬جزء‪،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن محمد قاسم النجدي‪،‬مكتبة ابن تيمية‪.‬‬
‫الثعالبي‪ :‬عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف‪،‬الجواهر الحسان في‬ ‫‪-24‬‬
‫تفسير القرآن‪4،‬أجزاء‪،‬مؤسسة العلمي للمطبوعات‪،‬بيروت‪.‬‬
‫الثوري‪:‬أبو عبد الله‪،‬سفيان بن سعيد بن مسروق‪)،‬ت‬ ‫‪-25‬‬
‫‪161‬هـ(‪،‬تفسير سفيان الثوري‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب‬
‫العلمية‪،‬بيروت‪1403،‬هـ‪.‬‬
‫الجصاص‪:‬أبو بكر‪ ،‬أحمد بن علي الرازي‪370-305)،‬هـ(‪،‬أحكام‬ ‫‪-26‬‬
‫القرآن‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد الصادق قمحاوي‪،‬دار إحياء التراث‬
‫العربي‪،‬بيروت‪1405،‬هـ‪.‬‬
‫ابن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪– 508)،‬‬ ‫‪-27‬‬
‫‪597‬هـ(‪،‬تذكرة الريب في تفسير الغريب‪،‬جزء واحد‪،‬المكتب‬
‫السلمي‪ ،‬بيروت‪1404 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪– 508)،‬‬ ‫‪-28‬‬
‫‪597‬هـ(‪ ،‬زاد المسير في علم التفسير‪9،‬أجزاء‪،‬ط ‪ ،3‬المكتب‬
‫السلمي‪ ،‬بيروت‪1404 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫ابن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪-508)،‬‬ ‫‪-29‬‬
‫‪597‬هـ(‪،‬صفوة الصفوة‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمود فاخوري ومحمد رواس‬
‫قلعه جي‪،‬ط ‪،2‬دار المعرفة‪،‬بيروت‪1399،‬هـ ‪1979 -‬م‪.‬‬
‫ابن الجوزي‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن علي بن محمد‪– 508)،‬‬ ‫‪-30‬‬
‫‪597‬هـ(‪،‬المنتظم في تاريخ الملوك والمم‪12،‬جزء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد و‬
‫مصطفى عبد القادر عطا‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1412،‬هـ –‬
‫‪1992‬م‪.‬‬
‫الحاكم‪ :‬أبو عبدالله‪ ،‬محمد بن عبدالله النيسابوري‪405-321)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-31‬‬
‫المستدرك على الصحيحين‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬مصطفى عبد القادر عطا‪،‬‬
‫ط ‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪1411 ،‬هـ – ‪1990‬م‪.‬‬
‫ابن حجر‪:‬أبو الفضل‪ ،‬أحمد بن علي العسقلني‪852-773).‬هـ(‪،‬فتح‬ ‫‪-32‬‬
‫الباري شرح صحيح البخاري‪13،‬جزء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبدالباقي ‪,‬‬
‫محب الدين الخطيب‪،‬دار المعرفة‪،‬بيروت‪1379،‬هـ‪.‬‬
‫الحلبي‪:‬علي بن برهان الدين‪1044-975)،‬م(‪،‬السيرة الحلبية في‬ ‫‪-33‬‬
‫سيرة المين المأمون‪3،‬أجزاء‪،‬دار المعرفة‪،‬بيروت‪1400،‬هـ‪.‬‬
‫الحموي‪ :‬أبو عبد الله ‪،‬ياقوت بن عبد الله‪).‬ت ‪ ،(626‬معجم‬ ‫‪-34‬‬
‫البلدان‪5،‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫ابن حنبل‪:‬أبو عبد الله‪ ،‬أحمد الشيباني‪241 -164).‬هـ(‪،‬مسند المام‬ ‫‪-35‬‬
‫أحمد بن حنبل‪6،‬أجزاء‪،‬مؤسسة قرطبة‪،‬مصر‪.‬‬
‫ابن حيان‪ :‬أبو محمد‪،‬عبد الله بن محمد بن جعفر الصبهاني‪-274)،‬‬ ‫‪-36‬‬
‫‪369‬هـ(‪،‬العظمة‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬رضاء الله بن محمد إدريس‬
‫المباركفوري‪،‬ط ‪،1‬دار العاصمة‪،‬الرياض‪1408،‬هـ‪.‬‬
‫الخالدي‪:‬صلح عبد الفّتاح‪.‬البيان في إعجاز القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬ط‬ ‫‪-37‬‬
‫مان‪،‬سوق البتراء‪،‬قرب الجامع‬ ‫مار للنشر والتوزيع‪،‬ألردن‪،‬ع ّ‬
‫‪،3‬دار ع ّ‬
‫الحسيني‪1413،‬هـ‪1992-‬م‪.‬‬
‫ابن خالويه‪ :‬أبو عبد الله ‪،‬الحسين بن أحمد‪370 -314 ).‬هـ(‪ ،‬الحجة‬ ‫‪-38‬‬
‫في القراءات السبع‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬عبد العال سالم مكرم ‪،‬ط ‪ ،4‬دار‬
‫الشروق‪ ،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪.‬‬
‫الرازي‪:‬محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر‪)،‬ت ‪ ،(721‬مختار‬ ‫‪-39‬‬
‫الصحاح‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬محمود خاطر‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1415‬هـ – ‪1995‬م‪.‬‬
‫ابن رجب‪:‬أبو الفرج‪،‬عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي‪-736)،‬‬ ‫‪-40‬‬
‫‪795‬هـ(‪،‬التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار‪،‬جزء واحد‪،‬ط‬
‫‪،1‬مكتبة دار البيان‪،‬دمشق‪1399،‬هـ‪.‬‬
‫الروياني‪:‬أبو بكر‪،‬محمد بن هارون‪)،‬ت ‪307‬هـ(‪،‬مسند‬ ‫‪-41‬‬
‫الروياني‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬أيمن علي أبو يماني‪،‬ط ‪،2‬مؤسسة‬
‫قرطبة‪،‬القاهرة‪1416،‬هـ‪.‬‬
‫الزرقاني‪:‬محمد بن عبد الباقي بن يوسف‪)،‬ت ‪1122‬هـ(‪،‬شرح‬ ‫‪-42‬‬
‫الزرقاني على موطأ المام مالك‪4،‬أجزاء‪،‬ط‪،1:‬دار الكتب‬
‫العلمية‪،‬بيروت‪1411،‬هـ‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫الزرقاني‪ :‬محمد بن عبدالعظيم‪ ،‬مناهل العرفان في علوم‬ ‫‪-43‬‬
‫القرآن‪،‬جزءان‪،‬ط ‪ ،1‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتب البحوث والدراسات ‪،‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬
‫الزركشي‪ :‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن بهادر بن عبد الله‪794 -745 )،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-44‬‬
‫البرهان في علوم القرآن‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪،‬‬
‫دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪1391 ،‬هـ‪.‬‬
‫زكريا‪:‬أبو يحيى النصاري‪،‬فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في‬ ‫‪-45‬‬
‫القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬محمد علي الصابوني‪،‬ط ‪،1‬عالم الكتب‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1405‬هـ ـ ‪1985‬م‪.‬‬
‫الزمخشري‪:‬أبو القاسم‪،‬محمود بن عمر بن محمد‪-467)،‬‬ ‫‪-46‬‬
‫‪538‬هـ(‪،‬الفائق في غريب الحديث‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬علي محمد البجاوي‬
‫‪-‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪،‬ط ‪،2‬دار المعرفة‪،‬لبنان‪.‬‬
‫الزمخشري‪:‬أبو القاسم‪،‬محمود بن عمر بن محمد‪-467)،‬‬ ‫‪-47‬‬
‫‪538‬هـ(‪،‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون القاويل في‬
‫وجوه التأويل‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪:‬محمد عبد السلم شاهين‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب‬
‫العلمية‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪1415،‬هـ‪1995،‬م‪.‬‬
‫ابن زنجلة‪ :‬أبو زرعة‪،‬عبد الرحمن بن محمد‪ .‬حجة القراءات‪،‬جزء‬ ‫‪-48‬‬
‫واحد‪،‬تحقيق‪ :‬سعيد الفغاني‪،‬ط ‪ ،2‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪– 1402 ،‬‬
‫‪.1982‬‬
‫السبكي‪:‬علي بن عبد الكافي‪)،‬ت ‪،(756‬البهاج في شرح المنهاج‬ ‫‪-49‬‬
‫على منهاج الوصول إلى علم الصول للبيضاوي‪،‬جزءان‪،‬ط ‪ ،1‬دار‬
‫الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1404،‬هـ‪.‬‬
‫أبو السعود‪:‬محمد بن محمد العمادي‪)،‬ت ‪ ،(951‬إرشاد العقل‬ ‫‪-50‬‬
‫السليم إلى مزايا القرآن الكريم‪9،‬أجزاء‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪،‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫سيد قطب‪،‬في ظلل القرآن‪8،‬أجزاء‪،‬ط ‪،5‬دار إحياء التراث‬ ‫‪-51‬‬
‫العربي‪،‬بيروت‪،‬لبنان‪1386،‬هـ‪1967-‬م‪.‬‬
‫السيوطي‪:‬أبو الفضل‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن‬ ‫‪-52‬‬
‫الكمال)‪911-849‬هـ(‪،‬وجلل الدين محمد بن أحمد‪،‬تفسير الجللين‪،‬جزء‬
‫واحد‪،‬ط ‪ ،1‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫السيوطي‪:‬أبو بكر‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن الكمال‪)،‬ت ‪911‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-53‬‬
‫الدر المنثور‪8،‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫السيوطي‪:‬أبو الفضل‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن‬ ‫‪-54‬‬
‫الكمال)‪911-849‬هـ(‪،‬الديباج على صحيح مسلم‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬أبو‬
‫إسحاق الحويني الثري‪،‬دار ابن عفان‪،‬الخبر‪-‬السعودية‪1416،‬هـ‪1996-‬م‪.‬‬
‫السيوطي‪:‬أبو الفضل‪،‬جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن‬ ‫‪-55‬‬
‫الكمال)‪911-849‬هـ(‪،‬كفاية الطالب اللبيب في خصائص‬
‫الحبيب‪،‬جزء واحد‪،‬ط ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1985،‬م‪.‬‬
‫الشوكاني‪:‬محمد بن علي بن محمد‪1250 -1173)،‬هـ(‪ ،‬فتح القدير‬ ‫‪-56‬‬
‫الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير‪5،‬أجزاء‪ ،‬دار‬
‫الفكر‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫الصنعاني ‪:‬عبد الرزاق بن همام‪211 -126)،‬هـ(‪ ،‬تفسير‬ ‫‪-57‬‬
‫القرآن‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬مصطفى مسلم محمد‪،‬ط ‪ ،1‬مكتبة الرشد‪،‬‬
‫الرياض‪1410 ،‬هـ‪.‬‬
‫الصنعاني‪:‬محمد بن إسماعيل المير‪852-773)،‬هـ(‪،‬سبل السلم‬ ‫‪-58‬‬
‫شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد العزيز‬
‫الخولي‪،‬ط ‪،4‬دار إحياء التراث العربي‪،‬بيروت‪1379،‬هـ‪.‬‬
‫الطبراني‪:‬أبو القاسم‪،‬سليمان بن أحمد بن أيوب‪-260)،‬‬ ‫‪-59‬‬
‫‪360‬هـ(‪،‬المعجم الوسط‪10،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬طارق بن عوض الله بن‬
‫محمد‪،‬عبد المحسن بن إبراهيم الحسين‪،‬دار الحرمين‪،‬القاهرة‪1415،‬هـ‪.‬‬
‫الطبراني‪:‬أبو القاسم‪،‬سليمان بن أحمد بن أيوب‪-260)،‬‬ ‫‪-60‬‬
‫‪360‬هـ(‪،‬المعجم الكبير‪20،‬جزءا‪،‬تحقيق‪ :‬حمدي بن عبدالمجيد السلفي‪،‬ط‬
‫‪،2‬مكتبة العلوم والحكم‪،‬الموصل‪1983 – 1404،‬م‪.‬‬
‫الطبري‪:‬أبو جعفر‪،‬محمد بن جرير بن يزيد بن خالد‪310-224)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-61‬‬
‫تاريخ المم والملوك‪5،‬أجزاء‪،‬ط ‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪1407 ،‬هـ‪.‬‬
‫الطبري‪:‬أبو جعفر‪،‬محمد بن جرير بن يزيد بن خالد‪310-224)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-62‬‬
‫جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪30،‬جزءا‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1405‬هـ‪.‬‬
‫الطبري‪:‬أبو جعفر‪،‬أحمد بن عبد الله بن محمد‪-615)،‬‬ ‫‪-63‬‬
‫‪694‬هـ(‪،‬الرياض النضرة في مناقب العشرة‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬عيسى‬
‫عبد الله محمد مانع الحميري‪،‬ط ‪،1‬دار الغرب السلمي‪،‬بيروت‪.1996،‬‬
‫الطيالسي‪ :‬أبو داود‪،‬سليمان بن داود الفارسي البصري‪)،‬ت‬ ‫‪-64‬‬
‫‪204‬هـ(‪،‬مسند أبي داود الطيالسي‪،‬جزء واحد‪،‬دار المعرفة‪،‬بيروت‪.‬‬
‫عباس‪:‬فضل حسن‪،‬القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته‪،‬جزء‬ ‫‪-65‬‬
‫واحد‪،‬ط ‪،1‬دار الفرقان‪،‬عمان‪،‬الردن‪1987،‬م‪.‬‬
‫العجلوني‪،‬إسماعيل بن محمد الجراحي‪)،‬ت ‪،(1162‬كشف الخفاء‬ ‫‪-66‬‬
‫ومزيل اللباس عما اشتهر من الحاديث على ألسنة‬
‫الّناس‪،‬تحقيق‪ :‬أحمد القلش‪،‬جزءان‪،‬ط ‪،4‬مؤسسة الرسالة‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1405‬هـ‪.‬‬
‫العدني‪:‬محمد بن يحيى بن أبي عمر‪243 -150)،‬هـ(‪،‬اليمان‪،‬جزء‬ ‫‪-67‬‬
‫واحد‪،‬تحقيق‪ :‬حمد بن حمدي الجابري الحربي‪،‬ط ‪،1‬الدار السلفية‪،‬الكويت‪،‬‬
‫‪1407‬هـ‪.‬‬
‫العكربي‪:‬أبو البقاء‪ ،‬محب الدين عبدالله بن أبي عبدالله الحسين بن‬ ‫‪-68‬‬
‫أبي البقاء‪616 -538)،‬هـ(‪ ،‬التبيان في إعراب‬
‫القرآن‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪:‬علي محمد البجاوى‪ ،‬إحياء الكتب العربية‪.‬‬
‫العكري‪:‬عبد الحي بن أحمد الدمشقي‪1089 -1032)،‬هـ(‪ ،‬شذرات‬ ‫‪-69‬‬
‫الذهب في أخبار من ذهب‪4،‬أجزاء‪،‬دار الكتب العلمية‪،‬بيروت‪.‬‬
‫دين‪،‬‬ ‫الغزالي‪:‬أبو حامد‪،‬محمد بن محمد‪)،‬ت ‪505‬هـ(‪،‬إحياء علوم ال ّ‬ ‫‪-70‬‬
‫‪5‬أجزاء‪،‬مكتبة مصر‪،‬دار مصر للطباعة‪1998،‬م‪.‬‬
‫الغزالي‪:‬محمد‪،‬خلق المسلم‪،‬ط ‪،3‬دار الدعوة‪،‬السكندرية‪1411،‬هـ‪-‬‬ ‫‪-71‬‬
‫‪1990‬م‪.‬‬
‫الغزالي‪:‬محمد‪،‬الفساد السياسي في المجتمعات العربية‬ ‫‪-72‬‬
‫والسلمية‪،‬ط ‪،2‬دار نهضة مصر‪،‬مصر‪2000،‬م‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫الغزالي‪:‬محمد‪،‬في موكب اليمان‪،‬ط ‪،1‬دار نهضة مصر‪،‬مصر‪،‬‬ ‫‪-73‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬
‫الغزي ‪:‬محمد بن محمد بن محمد‪ ،‬إتقان ما يحسن من الخبار‬ ‫‪-74‬‬
‫الدائرة على اللسن‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬خليل محمد العربي‪ ،‬ط ‪ ،1‬الفاروق‬
‫الحديثة‪ ،‬القاهرة‪1415 ،‬هـ‪.‬‬
‫الفراهيدي‪:‬أبو عبد الرحمن‪،‬الخليل بن أحمد‪175-100)،‬هـ(‪،‬كتاب‬ ‫‪-75‬‬
‫العين‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬مهدي المخزومي‪،‬وإبراهيم السامرائي‪،‬دار ومكتبة‬
‫الهلل‪.‬‬
‫الفيروزآبادي‪:‬محمد بن يعقوب‪)،‬ت ‪817‬هـ(‪،‬القاموس المحيط‪،‬جزء‬ ‫‪-76‬‬
‫واحد‪.‬‬
‫الفيومي‪:‬أحمد بن محمد بن علي المقري‪)،‬ت‪770:‬هـ(‪،‬المصباح‬ ‫‪-77‬‬
‫المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي‪،‬جزءان‪،‬المكتبة‬
‫العلمية‪،‬بيروت‪.‬‬
‫القرطبي‪ :‬أبو عبد الله ‪ ،‬محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح‪)،‬ت‬ ‫‪-78‬‬
‫‪،(671‬الجامع لحكام القرآن‪20،‬جزءا ‪،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد العليم‬
‫البردوني ‪،‬ط ‪ ،2‬دار الشعب‪ ،‬القاهرة‪1372 ،‬هـ‪.‬‬
‫القنوجي‪:‬صديق بن حسن‪1307 -1248)،‬هـ(‪،‬أبجد العلوم الوشي‬ ‫‪-79‬‬
‫المرقوم في بيان أحوال العلوم‪3،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬عبد الجبار زكار‪،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪،‬بيروت‪1978،‬م‪.‬‬
‫القيسي‪:‬أبو محمد‪،‬مكي بن أبي طالب‪437-355)،‬هـ(‪ ،‬مشكل‬ ‫‪-80‬‬
‫إعراب القرآن‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬حاتم صالح الضامن‪،‬ط ‪،2‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪،‬بيروت‪1405،‬هـ‪.‬‬
‫ابن القيم الجوزية‪:‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي‪)،‬‬ ‫‪-81‬‬
‫‪691‬ـ ‪751‬هـ(‪،‬التبيان في أقسام القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬دار الفكر‪.‬‬
‫ابن كثير‪:‬أبو الفداء‪،‬إسماعيل بن عمر الدمشقي‪774-701)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-82‬‬
‫البداية والنهاية‪14،‬جزء‪،‬مكتبة المعارف‪،‬بيروت‪.‬‬
‫ابن كثير‪:‬أبو الفداء‪،‬إسماعيل بن عمر الدمشقي‪774-701)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-83‬‬
‫تفسير القرآن العظيم‪4،‬أجزاء‪ ،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن كثير‪:‬أبو الفداء‪،‬إسماعيل بن عمر الدمشقي‪-701)،‬‬ ‫‪-84‬‬
‫‪774‬هـ(‪،‬الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬محمد العيد الخطراوي‪،‬محيي الدين مستو‪،‬ط‬
‫‪،1‬مؤسسة علوم القرآن‪،‬دار القلم‪،‬بيروت‪1399،‬هـ‪.‬‬
‫الكرماني‪:‬محمود بن حمزة بن نصر‪ ،‬أسرار التكرار في‬ ‫‪-85‬‬
‫القرآن‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر احمد عطا ‪،‬ط ‪ ،2‬دار العتصام‪،‬‬
‫القاهرة‪1396 ،‬هـ‪.‬‬
‫الكلعي‪:‬أبو الربيع‪،‬سليمان بن موسى الندلسي‪-565)،‬‬ ‫‪-86‬‬
‫‪634‬هـ(‪،‬الكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلثة‬
‫الخلفاء‪4،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد كمال الدين عز الدين علي‪،‬ط ‪،1‬عالم‬
‫الكتب‪،‬بيروت‪1997،‬م‪.‬‬
‫الكيالي‪:‬عبد الوهاب‪،‬موسوعة السياسة‪6،‬أجزاء‪،‬ط ‪،1‬المؤسسة‬ ‫‪-87‬‬
‫العربية للدراسات والنشر‪،‬بيروت‪.1983،‬‬

‫‪219‬‬
‫ابن ماجه‪:‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن يزيد القزويني‪275- 207)،‬هـ(‪،‬سنن‬ ‫‪-88‬‬
‫ابن ماجه‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪.‬‬
‫الماوردي‪:‬أبو الحسن‪،‬علي بن محمد بن حبيب‪429-370)،‬هـ(‪،‬أعلم‬ ‫‪-89‬‬
‫النبوة‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬محمد المعتصم بالله البغدادي‪،‬ط ‪،1‬دار الكتاب‬
‫العربي‪،‬بيروت‪1987،‬م‪.‬‬
‫المحاسبي‪:‬أبو عبد الله‪،‬الحارث بن أسد بن عبد الله‪-165)،‬‬ ‫‪-90‬‬
‫‪243‬هـ(‪،‬فهم القرآن ومعانيه‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬حسين القوتلي‪،‬ط ‪،2‬دار‬
‫الكندي‪،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪1398،‬هـ‪.‬‬
‫محمد قطب‪،‬واقعنا المعاصر‪،‬ط ‪،1‬مؤسسة المدينة للصحافة‬ ‫‪-91‬‬
‫والطباعة والنشر‪،‬المملكة العربية السعودية‪1407،‬هـ‪1986،‬م‪.‬‬
‫المروزي‪:‬أبو عبد الله‪،‬محمد بن نصر بن الحجاج‪-202)،‬‬ ‫‪-92‬‬
‫‪294‬هـ(‪،‬تعظيم قدر الصلة‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن عبد الجبار‬
‫الفريوائي‪،‬ط ‪،1‬مكتبة الدار‪،‬المدينة المنورة‪1406،‬م‪.‬‬
‫مسلم‪ :‬أبو الحسين‪ ،‬بن الحجاج القشيري النيسابوري‪-206 ).‬‬ ‫‪-93‬‬
‫‪261‬هـ( صحيح مسلم‪5،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء‬
‫التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫المصري‪:‬شهاب الدين أحمد بن محمد الهائم‪915-853)،‬هـ(‪،‬التبيان‬ ‫‪-94‬‬
‫في تفسير غريب القرآن ‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪ :‬فتحي أنور الدابولي‪،‬ط‬
‫‪،1‬دار الصحابة للتراث بطنطا‪،‬القاهرة‪1992،‬م‪.‬‬
‫ابن المطرز‪:‬أبو الفتح‪،‬ناصر الدين بن عبد السيد بن علي‪-538)،‬‬ ‫‪-95‬‬
‫‪610‬هـ(‪،‬المغرب في ترتيب المعرب‪،‬جزءان‪،‬تحقيق‪ :‬محمود فاخوري‬
‫وعبدالحميد مختار‪،‬ط ‪،2‬مكتبة أسامة بن زيد‪،‬حلب‪1979،‬م‪.‬‬
‫المقدسي‪:‬مطهر بن طاهر‪)،‬ت ‪507‬هـ(‪،‬البدء والتاريخ‪6،‬أجزاء‪،‬مكتبة‬ ‫‪-96‬‬
‫الثقافة الدينية‪،‬القاهرة‪.‬‬
‫المناوي‪:‬محمد عبد الرؤوف‪(1031-952)،‬هـ‪،‬التوقيف على‬ ‫‪-97‬‬
‫مهمات التعاريف‪،‬جزء‪:‬واحد‪ ،‬تحقيق‪:‬محمد رضوان الداية‪،‬ط‪،1:‬دار الفكر‬
‫المعاصر‪،‬دار الفكر‪،‬بيروت‪،‬دمشق‪1410،‬هـ‪.‬‬
‫المناوي‪:‬محمد عبد الرؤوف‪(1031-952)،‬هـ‪،‬فيض القدير شرح‬ ‫‪-98‬‬
‫الجامع الصغير‪6،‬أجزاء‪،‬ط‪،1:‬المكتبة التجارية الكبرى‪،‬مصر‪1356،‬هـ‪.‬‬
‫ابن منظور‪:‬محمد بن مكرم الفريقي المصري‪711 -630)،‬هـ(‪،‬‬ ‫‪-99‬‬
‫لسان العرب‪15،‬جزء‪،‬ط ‪ ،1‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫النحاس‪:‬أبو جعفر‪)،‬ت ‪ ،(338‬معاني القرآن الكريم‪،‬‬ ‫‪-100‬‬
‫‪6‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬محمد علي الصابوني‪،‬ط ‪ ،1‬جامعة أم القرى‪ ،‬مكة المكرمة‪،‬‬
‫‪1409‬هـ‪.‬‬
‫النسفي‪:‬أبو البركات‪،‬عبد الله بن أحمد بن محمود‪ ،‬تفسير‬ ‫‪-101‬‬
‫النسفي‪ 4،‬أجزاء‪.‬‬
‫النفراوي‪ :‬أحمد بن غنيم بن سالم المالكي‪)،‬ت ‪،(1125‬الفواكه‬ ‫‪-102‬‬
‫الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني‪،‬جزءان‪،،‬دار‬
‫الفكر‪،‬بيروت‪.1415،‬‬
‫الّنووي‪:‬أبو زكريا‪،‬يحيى بن شرف بن مري‪676 -631)،‬هـ(‪،‬تحرير‬ ‫‪-103‬‬
‫ألفاظ التنبيه )لغة الفقه(‪،‬جزء واحد‪،‬تحقيق‪:‬عبد الغني الدقر‪،‬ط ‪،1‬دار‬
‫القلم‪،‬دمشق‪1408،‬هـ‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫الّنووي‪:‬أبو زكريا‪،‬يحيى بن شرف بن مري‪676 -631)،‬هـ(‪،‬صحيح‬ ‫‪-104‬‬
‫مسلم بشرح النووي‪18،‬جزء‪،‬ط ‪،2‬دار إحياء التراث العربي‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1392‬هـ‪.‬‬
‫ابن هشام‪:‬أبو محمد‪،‬عبد الملك بن أيوب الحميري المعافري‪)،‬ت‬ ‫‪-105‬‬
‫‪213‬هـ(‪،‬السيرة النبوية لبن هشام‪6،‬أجزاء‪،‬تحقيق‪ :‬طه عبد الرءوف‬
‫سعد‪،‬ط ‪،1‬دار الجيل‪،‬بيروت‪1411،‬هـ‪.‬‬
‫الهيثمي‪:‬علي بن أبي بكر‪)،‬ت ‪807‬هـ(‪،‬مجمع الزوائد ومنبع‬ ‫‪-106‬‬
‫الفوائد‪10،‬أجزاء‪،‬دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي‪،،‬القاهرة‪،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1407‬هـ‪.‬‬
‫الواحدي‪:‬أبو الحسن‪،‬علي بن أحمد‪)،‬ت ‪ ،(468‬الوجيز في تفسير‬ ‫‪-107‬‬
‫الكتاب العزيز‪،‬جزءان‪،‬تجقيق‪ :‬صفوان عدنان داوودي ‪،‬ط ‪ ،1‬دار القلم ‪,‬‬
‫الدار الشامية‪ ،‬دمشق ‪ ,‬بيروت‪1415 ،‬هـ‪.‬‬
‫ياسين‪:‬محمد نعيم‪،‬اليمان أركانه حقيقته نواقضه‪،‬ط‬ ‫‪-108‬‬
‫مان‪1402،‬هـ‪1982-‬م‪.‬‬ ‫‪،3‬الطابعون‪،‬جمعية عمال المطابع التعاونية‪،‬ع ّ‬
‫اليعقوبي‪:‬أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي‪،‬تاريخ‬
‫اليعقوبي‪،‬جزءان‪،‬دار صادر‪،‬بيروت‪.‬‬

‫‪221‬‬

You might also like