Professional Documents
Culture Documents
القرآن
إعداد الطالب
قاسم توفيق قاسم خضر
إشراف الدكتور
محسن الخالدي
1
جامعة النجاح الوطنية
كلية الدراسات العليا
إعداد الطالب
قاسم توفيق قاسم خضر
إشراف الدكتور
محسن الخالدي
الشــكر
أتقدم بالشكر الجزيل إلى
فضيلة الدكتور محسن الخالدي
دمه لي من نصائح وإرشادات أدت إلى إخراج لما ق ّ
هذا البحث
سائل المولى ج ّ
ل شأنه أن ينفع المسلمين بعلمه،كما
أتقدم بالشكر إلى الخوة المناقشين الدكتور علي
علوش والدكتور خالد علوان.
3
مسرد الموضوعات
الموضوع
الصفحة
قرار لجنة المناقشة
ب
الهداء
ت
الشكر
ث
ملخص البحث باللغة العربية
ز
المقدمة
1
مسوغات البحث)أهميته،ومشكلته،وأهدافه(
1
الفصل التمهيدي
5
المبحث الول :عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون
5
مكان غرق فرعون
6
زمان غرق فرعون
7
المبحث الثاني:لمحة موجزة عن فرعون
10
فرعون لغة
10
فرعون موسى
10
فرعون موسى عليه السلم غير فرعون يوسف عليه السلم
11
طبيعة اللوهية والربوبية التي ادعاها فرعون
12
الفصل الول:صفات شخصية فرعون
16
المبحث الول:الستكبار
17
امتناع فرعون عن قبول الحق رغم قيام الحجة والبرهان دليل على استكباره
20
4
فرعون ُيفرط في استكباره رغم كثرة اليات
21
معجزة النتصار العظيم على السحرة دللة أخرى على استكبار فرعون
23
المبحث الثاني:العلو
26
ي للعلوّ والفساد
اليهود مثال ح ّ
28
المبحث الثالث:الطغيان
31
المبحث الرابع:الظلم
35
تنوع الظلم في ظل شخصية فرعون
37
كل من شارك الظالمين أو سكت لغير عذر مشروع فهو منهم
38
الظلم قلب للوضاع
39
الموضوع
الصفحة
المبحث الخامس:الفساد
40
الفساد في ظل الطاغوت المعاصر
42
المبحث السادس:الستبداد
44
بسبب الستبداد كان مطلب موسى عليه السلم إطلق بني إسرائيل
49
المبحث السابع:الوهم والغرور
52
الوهم والغرور ُيؤديان إلى كثرة العثرات ويمنعان من رؤية الحقيقة
57
المبحث الثامن:السراف
59
المبحث التاسع:المكر
63
عبرة المبحث’’:ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘‘.
70
نتيجة الفصل:العقدة الساسية في شخصية فرعون
71
ون شخصية فرعون الفصل الثاني:السباب التي أدت إلى تك ّ
74
5
المبحث الول :الكفر
75
بعض نتائج الكفر وآثاره في شخصية فرعون
78
ن الخلل في أي جزء من العقيدة له آثار مدمرة على الفرد تنبيه ل بد ّ منه:إ ّ
79 والمجتمع
الكفر عارض واليمان أصيل
81
المبحث الثاني:المحافظة على المكتسبات الخاصة
82
المكتسبات أو المتيازات التي تمتع بها فرعون
83
المبحث الثالث:فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة
89 لفرعون ومساندتهم له
أول:هامان
90
ثانيا:السرة الحاكمة،وتشمل المل من قوم فرعون وآل فرعون وقومه
91
أول:المل من قوم فرعون
93
إتباع المل لمر فرعون
95
السباب الحقيقة لتباع المل أمر فرعون
96
المشاركة العملية للمل
98
كلمة في بــطانة الســوء
102
ثانيا:آل فرعون
103
ن آل فرعون أداة تنفيذية في نظام فرعون بيان أ ّ
104
الموضوع
الصفحة
العقوبات التي أنزلها الله على آل فرعون دليل على مشاركتهم في الثم
105 والعدوان
ثالثا:قوم فرعون
107
بيان بعض صفات قوم فرعون وأّنها سبب في إظهار شخصية فرعون
107
رابعا:السحرة
109
6
الطاغوت المعاصر والفئات المشاركة
112
الوقاية خير من العلج
112
الفصل الثالث:الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان
115 حكمه
المبحث الول:وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل
116
ذبح البناء واستحياء الّنساء لون من ألوان العذاب في نظام فرعون
117
فرعون يجدد أوامر القتل
119
فرعون يهدد بقتل موسى واستئصال بني إسرائيل
121
فرعون يسجل أبشع مأساة عرفها التاريخ
123
ل فرعون وسيلة ونتيجة الخوف في ظ ّ
125
السجون لون آخر من عذاب فرعون
126
المبحث الثاني:استجهال المجتمع
129
لقد استعمل فرعون لتجهيل الّناس عدة وسائل،تدور في مجملها حول
130 محورين
م إشغال الّناس بما يضر ول ينفع
وبين المنع والحقن ت ّ
132
ل يستوي الذين يعلمون والذين ل يعلمون
134
وسائل الرد الممكنة
135
المبحث الثالث:الكذب
136
الكذب وسيلة من وسائل فرعون في مواجهته لموسى عليه السلم
136
الكذب تزوير للحقيقة كي ل تتضح معالم المعركة بين الحق واالطاغوت في
أذهان الجماهير 141
المبحث الرابع:السيطرة القتصادية
143
بعض الشواهد على سيطرة فرعون القتصادية
143
تدفق الخيرات بين يدي فرعون ابتلء من الله،ودليل على قوته القتصادية
145
7
المال بين يدي فرعون وسيلة من وسائل التثبيت لمنهجه ونظامه
146
الموضوع
الصفحة
ازدياد تأثير المال في ظل طغيان المفهوم المادي للحياة في عهد فرعون
147
ارتباط السيطرة القتصادية مع السيطرة العسكرية
148
المبحث الخامس:السيطرة العسكرية
150
جنود الطاغوت خاطئون
154
وسائل فرعون تنتج نظاما يمتاز بالقوة المادية والخواء الروحي
155
وسائل الطاغوت بين المس واليوم
157
الفصل الرابع:آثار شخصية فرعون
159
المبحث الول:الثار المجتمعية لشخصية فرعون
160
أول:ضلل قومه
160
ثانيا:استمراء الذل
164
ثالثا:ظهور المجتمع الطبقي
166
رابعا:طغيان المفهوم المادي للحياة
170
المبحث الثاني:جلب العقوبات الّربانية
172
العقوبات التي نزلت على فرعون وملئه وآله
173
عبرة العقوبة والذنب
177
الفصل الخامس:الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة
179 فرعون
المبحث الول:مرحلة التهيئة والعداد للمواجهة
181
بعض مميزات شخصية موسى والتي ُتعتبر نموذجا للشخصية القادرة على
مواجهة الطاغوت 183
8
أول:النفس العزيزة
183
ثانيا :المروءة والفطرة السليمة
184
ثالثا:القوة والمانة
185
رابعا:الصلبة والخشونة
187
شرة في التنفيذ المبحث الثاني:مرحلة المبا َ
189
أول:بيان هدف الدعوة وغايتها مع تقديم الحجة والبرهان
189
وهذا هو معنى قوله تعالى لموسى وهارون’’:فقول له قول لينا‘‘
192
ثانيا:القدره على التعامل مع المواقف المختلفة والمستجدة وسرعة البديهة
194 وروح المبادرة
الموضوع
الصفحة
موسى عليه السلم ُيدير الحوار بنباهة واقتدار
194
الطاغوت يثير الشبهات وموسى عليه السلم يرد عليها ويدحضها
195
موسى عليه السلم ُيجيد ترتيب المبارة مع السحرة
200
عبـرة
201
المبحث الثالث:مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس
الطاغوت في الحجة والبرهان 203
وسائل مواجة البتلءات والمحن
204
الوسيلة اللولى:التعبئة الروحية
204
أول:ذكر الله
204
ثانيا:إقامة الصلة
206
ثالثا:الدعاء
208
الوسيلة الثانية:التوكل على الله
211
9
تفويض المر إليه
213
الوسيلة الثالثة:الستعانة بالله والصبر
214
السحرة آية من آيات الصبر والثبات
218
امرأة فرعون مثال في الصبر أمام الطاغوت
219
وبالصبر تمت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل
221
الوسيلة الرابعة:الستقامة وعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون
221
الوسيلة الخامسة:الستعاذة بالله
224
الوسيلة السادسة:سرّية الليمان والنتماء
226
قّية وسرّية اليمان
مبدأ الت ّ ِ
228
نظرة تحليلية عامة على كيفية مواجهة فرعون
229
الخــــاتمة
232
أول:البعد الغيبي في الحداث حقيقة نوقن بها ول ُتلغي واجب الخذ بالسباب
232
ثانيا:سّنة أخذ الله للظالمين،وقوله تعالى’’:فجعلناهم سلفا ً ومثل ً للخرين‘‘.
233
ثالثا:الفتنة والختبار،وقوله تعالى’’:وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‘‘.
234
رابعا:ل أثر للقاعدين على رصيف الحياة
236
المصادر
239
الموضوع
الصفحة
فهرس اليات
249
فهرس الحاديث
262
ملخص البحث باللغة النجليزية
264
10
11
ملخص البحث باللغة العربية
بدأت بحثي بفصل تمهيدي تحدثت فيه عن قصة فرعون بشكل
طلع القارىء على مضمون مجمل،وعن مكان وزمن غرقه،وذلك كي ي ّ
ت تلك الشارة َ
ما يساعده على فهم ما جاء في هذه الرسالة .وأت ْب َعْ ُ القصة،م ّ
حديثا موجزا عن فرعون نفسه الذي نحن بصدد الحديث عن
شخصيته،وذكرت طبيعة اللوهية والربوبية التي ادعاها فرعون.
م انتقلت بعد ذلك للحديث عن صفات شخصية فرعون كما ذكرها ث ّ
القرآن،سواء باللفظ الصريح لتلك الصفات،أم من خلل فهم النصوص
والستدلل منها على تلك الصفات،مع ما ُيرافق ذلك من تحليل ونتائج،وربط
كل الحديث عنها وربطها بالواقع تشخيصا بين الواقع والنصوص،حيث ش ّ
للمرض القديم والحديث معا.
بعد الحديث عن صفات شخصية فرعون أصبح من الضروري الكشف
عن أسباب هذه الظاهرة العجيبة،فتحدثت عن تلك السباب،والتي كانت
تدور في مجملها حول السباب الذاتية في ذات فرعون،والموضوعية التي
ن اجتماع تلك السباب أدى لظهور تلك أحاطت به،وبينت أ ّ
الشخصية.وربطت بين القديم والواقع ونبهت على ضرورة الوقاية،فمعرفة
سبب المرض تعين على الوقاية منه كما ُتعين على العلج.
وتحدثت بعد ذلك عن وسائل فرعون في تثبيت ملكه وفرضه
لشخصيته،تلك الوسائل التي دارت حول الرهاب والتخويف بالقتل والتعذيب
تارة،وباستجهال المجتمع لفراغه من كل محتوى فكري أو إنساني تارة
أخرى،واعتماده على الكذب والدجل لخفاء الحقيقة عن الجماهير،وأضاف
إلى ذلك سيطرة شبه تامة على المال والسلح؛فجمع بين يديه القوة
القتصادية والعسكرية.
انتقلت بعد ذلك للحديث عن آثار تلك الشخصية على الجماهير الواقعة
تحت سيطرتها،والتي تمثلت بضلل قومه وضياعهم وتيههم،واعتيادهم على
حياة الذل وخنوعهم،وبظهور الطبقية وتشرذم المجتمع،وطغيان المفاهيم
المادية المصاحبة بسبب غياب القيم والمعاني النسانية،وما صاحب ذلك من
عقوبات ربانية.
م تحدثت-أخيرا-عن السبل التي أرشد القرآن إليها في مواجهة ث ّ
فرعون،والتي تمثلت في مرحلة التهيئة لشخصية موسى عليه السلم
متمثلة في بيان طبيعة كشخصية مكافئة لشخصية فرعون.ومرحلة التنفيذ ال ُ
الدعوة،والقدرة على التعامل مع المواقف المستجدة.ومرحلة مواجهة
البتلءات وما تتطلبه من وسائل التعبئة الروحية،والخذ بالسباب
المادية.وقد تخلل البحث الكثير من الدروس والعبر،ووضعت في الخاتمة
أهم تلك الدروس والعبر والنتائج التي أسفر عنها هذا البحث،وأسأل الله
التوفيق.
مقدمــة
الحمد لله رب العالمين،والصلة والسلم على سيد المرسلين،وعلى آله
وأصحابه أجمعين وبعد-:
ن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم،ل يأتيه الباطل من بين يديه ول
فإ ّ
من خلفه،قول فصل وما هو بالهزل ،وهو الحق والحقيقة،من تمسك به
12
ل وغوى،لتنقضي عجائبه،ول يخلق على كثرة الرد،ول اهتدى ومن تركه ض ّ
يشبع منه العلماء،من قال به صدق،ومن حكم به عدل.
من هنا كان القرآن كتاب حياة ل قصة حياة،وعلى هدي هذه الحقائق
المطلقة،لفت انتباهي قصة فرعون في هذا الكتاب العظيم،وكنت على يقين
ن ورودها بهذا الحجم ل بد ّ له من عبر جليلة،وفوائد للمة عظيمة،فبدأت أ ّ
الّنظر فيها مرة بعد مرة،فوجدت نفسي في شوق إلى سبر أسرارها ما
استطعت إلى ذلك سبيل.وها أنا أضع مسوغات بحثي متوكل على الله أن
يلهمني السداد والرشاد.
مسوغات البحث
أهميته،ومشكلته،وأهدافه
-1أهمية البحث:
ن شخصية فرعون تتكرر بأشكال مختلفة وجوهر أ-البعد الواقعي؛ذلك أ ّ
واحد،فأحيانا نراها متمثلة بشخص،يقول بلسان الحال-إن لم يقل بلسان
المقال-أنا ربكم العلى،وأحيانا نرى شخصية فرعون متمثلة بالمنهج الذي
يقوم عليه جمع من الّناس تواطأوا عليه،وتعاونوا على تطبيقه،وقهروا المم
والشعوب في سبيل إخضاعهم له.فليس لحد خيار إل ّ أن يدخل في دينهم
ويحمل ثقافتهم وأفكارهم!كمن قالوا’’:لنخرجّنك يا شعيب والذين
ن في ملتنا‘‘،1وبالتالي تتكرر
آمنوا معك من قريتنا أو لتعود ّ
مَرضّية،فهي إذن شخصية واقعيه ندرك الشخصية وإفرازاتها السلبية وال َ
وجودها وحقيقتها وآثارها في حياة الناس.
فهي معاناة تتكرر كلما تهيأت لها السباب والظروف المواتية،ونحن
نرى أّنه قد تهيأت الظروف هنا وهناك لمثل هذه الشخصية،فظهرت مرة
أخرى في صور مختلفة؛ولهذا وجب إلقاء الضوء عليها كحاجة عصرية.
ن ظهور مثل هذه الشخصية كارثة إنسانية،وليست ب-البعد النساني؛ل ّ
مشكلة إسلمية،وفي هذا إظهار للبعد النساني في القرآن،وهو يدعو
لمجابهة هذه الشخصية.
ت-إظهار العجاز القرآني وهو يتحدث عن هذه الشخصية بشمول
تام،حيث لم يدع الجماعة المسلمة تتفاجأ بمواجهة هذه الشخصية عندما
تتكرر؛وهذا سبق للحداث والحاجات.على عكس المناهج الوضعية التي تضع
الحلول عند وقوع المشكلت.
ث-إبراز شخصية فرعون في القرآن في موضوع واحد،بحيث تصبح
واضحة جلية لكل من أراد الطلع على هذه الشخصية التي ذكرها القرآن
في مواضع متعددة،وهذا يعني فهم شخصية فرعون من خلل المعاني التي
ُتعرض متفرقة في مواضعها،ومن ثم ربط بعضها مع بعض للوصول إلى فهم
عميق لهذه الشخصية.
ج-الكشف عن أوجه الترابط بين شخصية فرعون ونظام حكمه،وبين
ن
شخصيته ومجموعة القيم والمعتقدات السائدة في ذلك المجتمع،بمعنى أ ّ
فرعون ابن بيئته.
-2مشكلة البحث:
]1العراف.[88:
13
ن
تتمثل مشكلة هذا البحث في سبر غور شخصية فرعون وتحليلها،إذ أ ّ
هناك الكثير من السئلة التي تحتاج إلى دراسة علمية دقيقة وعميقة ،والتي
سأحاول-بعون الله-الجابة عليها من خلل هذا البحث،ومنها:
أ-ما هي السباب التي أدت إلى ظهور هذه الشخصية)الذاتية
والموضوعية( ؟
ب-ما هي مكونات هذه الشخصية،الظاهرة منها والخفية ؟
ت-وهل هي شخصية مرضية؟ ولماذا؟
ث-ما هي الساليب والتدابير الوقائية اللزم اتباعها لمنع ظهور مثل هذه
الشخصية؟)الوقاية(
ج -ما هو السلوب المثل للتعامل مع هذه الشحصية؟)العلج(
ح-لماذا لم تستجب هذه الشخصية لليات البينة الجلية؟وما هي أسباب
العمى الذي أصيب به؟
خ-كيف استطاع فرعون السيطرة على الجماهير وقهرها وإذللها؟
وأسئلة أخرى سنراها في ثنايا هذا البحث،وهي بحاجة إلى إجابات من
القرآن الكريم عينه،إذ لم يغادر صغيرة ول كبيرة إل ّ وهدى إليها.
-3أهداف البحث:
أ-خدمة كتاب الله.
ب-معرفة العبر التي من أجلها ساق القرآن قصة فرعون أكثر من مرة في
مواضع عديدة.
ن فرعون نموذج لكل حاكم طاغية. ت-بيان أ ّ
ث-الكشف عن منهج فرعون من حيث خصائصه ومقوماته وأهدافه
وغاياته،وخطوط منهجه الرئيسية والفرعية.
ج-بيان الوسائل التي قررها القرآن في مواجهة هذه الشخصية،والتي
تستفيد الجماعة المسلمة منها أثناء حركتها في واقع الحياة.
ح-السهام في إثراء المكتبة السلمية في جانب التفسير الموضوعي.
الدراسات السابقة:لم أجد دراسة سابقة تبحث في هذا الموضوع
ل مفرق ح هذا الموضوع على شك ٍ كدراسة موضوعية من القرآن،وإّنما ط ُرِ َ
كما هو الحال في كتب التفسير،وقد تحدث الكثيرون عن فرعون ولكن على
مراد بحثه؛فمن شكل مقتطفات من شخصيته بما يتناسب مع الموضوع ال ُ
تحدث عن الظلم تحدث عن فرعون الظالم،وكذلك من تحدث عن الستبداد
والطغيان وغيرها من المواضيع ذات الصلة بشخصية فرعون.كما تحدث
المؤرخون عن الفراعنة وتكلموا عن تلك الحقبة التاريخية…ولكن لم أجد
دث عن شخصية فرعون بهذا السلوب الموضوعي الشامل من من تح ّ
القرآن.
ً
منهج البحث:كان منهجي في البحث معتمدا على تجميع كل النصوص
م استعنت على فهم تلك القرآنية التي تتحدث عن فرعون وتتصل به،ث ّ
الّنصوص بالرجوع إلى كتب التفسير ومعاجم اللغة وبعض الكتب السلمية
التي تحدثت عن جزئيات من الموضوع،كما استعنت بالحديث الشريف
م توسعت بالفهم وذلك للدللة على بعض المعاني المتصلة بالموضوع،ث ّ
بربط المعاني الجزئية بعضها مع بعض،والخروج بمفاهيم قرآنية حول
ت بترتيب وتبويب تلك النصوص-بناء على ما تقدم من م قم ُالموضوع.ث ّ
فهمي لها-وتوزيعها على الفصول والمباحث،وربطت بين تلك المفاهيم
14
القرآنية وبين الواقع المعاش بأسلوب حركي قادر على معالجة الظواهر
الواقعية المستجدة.وربما تكرر استشهادي بالية الواحدة أكثر من مرة في
مواضع متعددة،وذلك لتعدد المعاني التي ُتفيدها الية أو اليات،وتلك سمة
يتميز بها كتاب الله سبحانه.وربما-أيضا-جمعت العدد من اليات التي تتحدث
م تحدثت عنها بشكل مجمل نظرا إلى المعنى العام عن المعنى نفسه،ث ّ
الذي يجمعها.وهنا ل بد ّ من تسجيل ملحظة،وهي أنّني من المتأثرين بمنهج
سيد قطب رحمه الله،وبالتالي سيظهر هذا التأثر في ثنايا هذا البحث.
وهكذا قسمت بحثي على الفصول والمباحث التية:
الفصل التمهيدي
المبحث الول :عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون.
المبحث الثاني:لمحة موجزة عن فرعون
الفصل الول:صفات شخصية فرعون
المبحث الول:الستكبار
المبحث الثاني:العلو
المبحث الثالث:الطغيان
المبحث الرابع:الظلم
المبحث الخامس:الفساد
المبحث السادس:الستبداد
المبحث السابع:الوهم والغرور
المبحث الثامن:السراف
المبحث التاسع:المكر
ون شخصية فرعون الفصل الثاني:السباب التي أدت إلى تك ّ
المبحث الول :الكفر
المبحث الثاني:المحافظة على المكتسبات الخاصة
المبحث الثالث:فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون
ومساندتهم له
الفصل الثالث:الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان
حكمه
المبحث الول:وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل
المبحث الثاني:إستجهال المجتمع
المبحث الثالث:الكذب
المبحث الرابع:السيطرة القتصادية
المبحث الخامس:السيطرة العسكرية
الفصل الرابع:آثار شخصية فرعون
المبحث الول:الثار المجتمعية لشخصية فرعون
المبحث الثاني:جلب العقوبات الّربانية
الفصل الخامس:الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة
فرعون
المبحث الول:مرحلة التهيئة والعداد للمواجهة
شرة في التنفيذ المبحث الثاني:مرحلة المبا َ
المبحث الثالث:مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت في
الحجة والبرهان الخــــاتمة
15
وأرجو أن أكون قد ُوفقت في الفهم والتحليل راجيا من الله الثواب على
ما قدمت والعفو على ما قصرت،فهو ذو الفضل العظيم.
الفصـل التمهيدي
المبحث الول :عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون.
المبحث الثاني:لمحة موجزة عن فرعون
الفصل التمهيدي
المبحث الول
عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون
لقد وردت قصة موسى عليه السلم مع فرعون-لعنه الله-في مواضع
عديدة وحلقات متفرقة)،وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو
الشارات متناسقة مع موضوع السورة،أو السياق الذي تعرض فيه ،وكانت
تشارك في تصوير الموضوع الذي إليه السياق...
16
وكذلك ل نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في
ن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض ،ومشاهد كل سور القرآن .ل ّ
حلقة ،والجانب الذي يختار من كل مشهد ،وطريقة عرضه…كل أولئك
ن اليةيجعلها جديدة في كل موضع .متناسقة مع هذا الموضع(2بل سنرى أ ّ
الواحدة صالحة للستدلل بها في مواضيع متعددة ومتنوعة،وذلك لغنى الّنص
ل مّرة نستدل بالية عينها نجدها أصيلة في الموضوع الذي القرآني،ففي ك ّ
ّ
ل بها عليه.وتلك ظاهرة يتمّيز بها كتاب الله وينفرد،وما ذلك إل دليل ُيستد ّ
على إعجاز القرآن الكريم.
لقد ذكرت قصة موسى عليه السلم مع فرعون-لعنه الله-كثيرا في
مةالكتاب العزيز،وذلك لنها من أعجب القصص،ولما حوته من فوائد ج ّ
ودروس عديدة تتكرر بين الحق المتمثل في موسى والباطل الذي يمثله
ن مولودا ُ ن فرعون حذر من موسى ك ّ
ل الحذر،فقد أخبر أ ّ فرعون؛ذلك أ ّ
سيولد من بني إسرائيل فيكون نهاية ملكه على يده،لهذا شرع فرعون بقتل
أبناء بني إسرائيل وذبحهم كي ل يخرج منهم من يهدم عرشه.
ما تطاول الزمن وبنو إسرائيل تحت هذا البلء،وأسرف في قتلهم مل ّ ث ّ
وكاد يفنيهم)،قيل له:أفنيت الناس وقطعت النسل،وإنهم
3
مالك.فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما،فولد هارون في خولك وع ّ
السنة التي ُيستحيا فيها الغلمان،وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون(4؛
م،يقول ُ
م ُتلقيه في الي ّ م موسى أن تقذفه في التابوت ث ّ فأوحى الله إلى أ ّ
م موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه ُ
تعالى’’:وأوحينا إلى أ ّ
دوه إليك وجاعلوه من م،ول تخافي ول تحزني إّنا را ّ في الي ّ
5
م ُيحمل الوليد الصغير المرسلين‘‘ ،وكان قدر الله أن يلتقطه آل فرعون،ث ّ
ما رأته امرأة فرعون إلى القصور الفرعونية ليكون لهم عدوا وحزنا.فل ّ
طلبت أن تستبقيه عسى أن ينفعها أو يتخذوه ولدا وهم ل يشعرون،فقد
ألقى الله على موسى محبة منه.
م عقد الله له سببا أخرجه من بين ترعرع موسى في قصور فرعون،ث ّ
أظهرهم؛ذلك أّنه قتل قبطيا ردا على اعتدائه على من هو من شيعة
مت ملحقته من قبل فرعون وجنوده فخرج من بلده خائفا موسى،فت ّ
يترقب،ومكث سنين في أهل مدين،فتزوج من ابنة الرجل الصالح الذي دعاه
لخذ الجر على ما سقى لبنتيه)،ورزقه الله النبوة والرسالة والتكليم،وبعثه
إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه،هذا مع ما كان عليه
فرعون من عظمة المملكة والسلطان،فجاءه برسالة الله تعالى وليس له
2سيد قطب،في ظلل القرآن،ط ،5دار إحياء التراث العربي،بيروت،لبنان1386،هـ1967-م).
(197-6/196مع بعض الّتصرف،وسأشير إليه لحقا هكذا)في ظلل القرآن(.
)3خول الرجل حشمه الواحد خائل،وقد يكون الخول واحدا،وهو اسم يقع على العبد والمة،وهو
جمع خائل وهو الراعي .وقال آخرون:هو مأخوذ من التخويل وهو التمليك الخول( ابن
منظور:محمد بن مكرم الفريقي المصري711 -630)،هـ( ،لسان العرب15،جزء،ط ،1دار
صادر ،بيروت.مادة:خول)(11/224مع بعض التصّرف،وسأشير إليه لحقا هكذا)لسان
العرب(.،وانظر:الرازي:محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر)،ت ،(721مختار الصحاح،جزء
واحد،تحقيق :محمود خاطر ،مكتبة لبنان ناشرون ،بيروت1415 ،هـ – 1995م.مادة:خول)
،(81وسأشير إليه لحقا هكذا)مختار الصحاح(.
4الطبري:أبو جعفر،محمد بن جرير بن يزيد بن خالد310-224)،هـ( ،تاريخ المم والملوك،
5أجزاء،ط ،1دار الكتب العلمية ،بيروت1407 ،هـ،(1/232).وسأشير إليه لحقا هكذا)تاريخ
الطبري(.
]5القصص.[7:
17
وزير سوى أخيه هارون عليه السلم،فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية
والنفس الخبيثة،وركب رأسه وتولى بركنه،وادعى ما ليس له،وافترى على
الله وعتا وبغى،وأهان حزب اليمان من بني إسرائيل،والله تعالى يحفظ
رسوله موسى عليه السلم وأخاه هارون ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه
التي ل تنام.ولم تزل المحاجة والمجادلة واليات تقوم على يد موسى شيئا
بعد شيء ومرة بعد مرة،مما يبهر العقول ويدهش اللباب،مما ل يقوم له
شيء ول يأتي به إل من هو مؤيد من الله’’،وما نريهم من آية إل هي
أكبر من أختها‘‘ ،6وصمم فرعون وملؤه-قبحهم الله-على التكذيب بذلك
كله والجحد والعناد والمكابرة(.7
ما جاء بآية وعدهما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة،كل ّ و)ل ّ
عندها أن يرسل معه بني إسرائيل،فإذا مضت أخلف موعده،وقال:هل
يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد
ل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب مل والضفادع والدم آيات مفصلت،ك ّ والق ّ
ف ذلك فها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل،فإذا ك ّ إليه أن يك ّ
أخلف موعده ونكث عهده،حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه؛فخرج بهم
ما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا،أرسل في المدائن حاشرين ليل،فل ّ
8
فتبعه بجنود عظيمة كثيرة( ،فكانت نهايته أن أغرقه الله وجنوده
ل به بأسه الذي ل يرد،وتلك هي سّنة الله في الظالمين،يقول أجمعين،وأح ّ
تعالى’’:فكل أخذنا بذنبه،فمنهم من أخذته الصيحة،ومنهم من
خسفنا به الرض،ومنهم من أغرقنا،وما كان الله
ليظلمهم،ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‘‘.9
مكان غرق فرعون
لقد أوحى الله إلى موسى أن يسري بعباده،وأن يرحل بهم ليل،بعد
ميه في هذه تدبير وتنظيم،وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر،والذي نس ّ
ن فرعون سيتبعهم بجنده،،حيث كان حتفه اليام بالبحر الحمر،ونبأه أ ّ
ومنّيته.
ن)أبا خالد هو كنية البحر الذي أغرق الله فيهجاء في معجم البلدان أ ّ
فرعون وجنوده،وهو بحر القلزم الذي يسلك من مصر إلى مكة وغيرها وهو
من بحر الهند،وجاء في التفسير أن موسى عليه السلم هو الذي كناه أبا
ن ذلك كان )عند التقاء ما ضربه بعصاه فانفلق بإذن الله(،10والرجح أ ّ خالد،ل ّ
11
خليج السويس بمنطقة البحريات(.
] 6الزخرف.[48:
7ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي774-701)،هـ( ،تفسير القرآن العظيم،
4أجزاء ،دار الفكر،بيروت1401 ،هـ،(428-2/427).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير ابن كثير(.
88المصدر السابق).(3/152
]9العنكبوت.[40:
10الحموي :أبو عبد الله ،ياقوت بن عبد الله).ت ،(626معجم البلدان5،أجزاء ،دار الفكر،
بيروت،(1/80).وسأشير إليه لحقا هكذا)معجم البلدان(.وانظر :القرطبي :أبو عبد الله ،محمد
بن أحمد بن أبي بكر بن فرح)،ت ،(671الجامع لحكام القرآن20،جزءا ،تحقيق :أحمد عبد
العليم البردوني ،ط ،2دار الشعب ،القاهرة1372 ،هـ،(1/389).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير
القرطبي(.
11في ظلل القرآن).(6/211
18
زمان غرقه لعنه الله
ليس عندنا ما نعتمده عن زمان غرقه إل ّ ما جاء في الحديث الصحيح
ما قدمن النبي صلى الله عليه وسلم ل ّعن ابن عباس رضي الله عنهما)أ ّ
المدينة وجدهم يصومون يوما يعني عاشوراء،فقالوا:هذا يوم عظيم،وهو يوم
جى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون،فصام موسى شكرا لله.فقال:أنا ن ّ
12
أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه( .والحديث فيه دللة على يوم
غرقه ل سنة غرقه.
ن كتب التاريخ مليئة بالسرائيليات والخبار غير وهنا ل بد من الشارة أ ّ
المعقولة،ولهذا أعرضت عن الخوض في تاريخ الفراعنة،وهذا ينسجم مع
إراض القرآن الكريم عن تلك القضية،فالمهم هو أخذ العبرة من الحدث
ن بحثي هذا دراسة وليس السرد التاريخي الخالي من العبرة،بالضافة إلى أ ّ
موضوعية من القرآن فل داعي للخروج عن هذا النسق.
المبحث الثاني
لمحة موجزة عن فرعون
ينتسب فرعون إلى)السر التي حكمت مصر منذ) (3100قبل
الميلد وحتى السيطرة الرومانية في القرن الول قبل
الميلد،وكلمة’’فرعون‘‘قد تعني النبيل أو الشريف أو السامي.
تمّيز فرعون مصر بسيطرة مطلقة وحرية تصرف كاملة في كل ما
يتعلق بأمور الدولة،كما كان قائدا أعلى للجيش،وتمادى بعض الفراعنة
دعوا اللوهية.
فا ّ
كان فرعون مصر-في ذلك الحين-مالكا لكل الرض المصرية
ومستعمرات الدولة بمن فيها وما عليها،وكثيرا ما كانت سلطة فرعون
الدكتاتورية تؤجج ثورات داخلية قصيرة العمر ما تلبث أن تقمع بشدة
وحزم(.13
19
)وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم،كما
ن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا،وكسرى لمن ملك أ ّ
الفرس،وتّبع لمن ملك اليمن كافرا،والنجاشي لمن ملك الحبشة،وبطليموس
لمن ملك الهند(.14
وفرعون لغة من)الفرعنة :الكبر والتجبر .وفرعون كل نبي ملك
دهره…و فرعون الذي ذكر الله تعالى في كتابه من هذا ،وإّنما ترك صرفه
في قول بعضهم لّنه ل سمي له كإبليس فيمن أخذه من أبلس.وقال
ن فرعون هذا علم أعجمي ولذلك لم يصرف اسمه…وكل عات آخرون:أ ّ
15
فرعون.والعتاة الفراعنة ،وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء وتكبر( .
وفرعون موسى هو ذلك الطاغية الذي بعث الله إليه موسى عليه
السلم،وهو)،شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى
له،كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار،وليس من جنس الشياطين
والملئكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه .وما قاله
بعض الجهله في تأويل قوله تعالى’’:اذهبا إلى فرعون إنه طغى‘‘ .16إّنه
:إشارة إلى قلبه،وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل
إنسان،تحريف للقرآن عن ظاهره يعلم بطلنه قطعا(.17
وفرعون لقب لمن ملك وحكم القباط وأرض مصر،ومن هنا ندرك
السر الذي من أجله عدل القرآن عن ذكر اسم فرعون إلى ذكر
ن القرآن هدف إلى إبراز شخصية فرعون بغض الّنظر لقبه،والسبب هو أ ّ
من يمّثل هذه الشخصية. ع ّ
ونفس الجواب يقال لمن سأل:هل واجه موسى عليه السلم فرعونا
ن كل من اتصف واحدا أم اثنين،فرعون الضطهاد وفرعون الخروج؟ وذلك ل ّ
بميزات وخصائص شخصية فرعون فهو فرعون الذي لعنه الله وذمه في
ن فرعون ن موسى عليه السلم واجه فرعونا واحدا،وأ ّ ن الظاهر أ ّ كتابه،مع أ ّ
مر،فليس هناك أي دليل على وجود فرعونين،فكل كتب التاريخ هذا قد ع ّ
14تفسير ابن كثير)).(1/91ومنها فرعون واسمه الوليد بن مصعب وكنيته أبو العباس وقيل أبو
الوليد وقيل أبو مرة وقيل إن فرعون لقب لكل من ملك مصر(الغزي:محمد بن محمد بن محمد،
إتقان ما يحسن من الخبار الدائرة على اللسن،جزءان،تحقيق :خليل محمد العربي ،ط
،1الفاروق الحديثة ،القاهرة1415 ،هـ،(2/381).وسأشير إليه لحقا هكذا)إتقان ما يحسن من
الخبار(.وانظر:تفسيرالقرطبي)(1/383والبيضاوي) :ت ،(791تفسير البيضاوي،
5أجزاء،تحقيق :عبد القادر عرفات العشا حسونة ،دار الفكر ،بيروت1416 ،هـ – 1996م).
،(1/320وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير البيضاوي(.
15لسان العرب،مادة:فرعن)(13/323مع بعض التصّرف.وفي مختار الصحاح) :فرعون لقب الوليد
بن مصعب ملك مصر ،وكل عات فرعون .والعتاة الفراعنة .وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء و
مكر(.مختار الصحاح،مادة:فرعن.(1/209)،
] 16طه.[43:
17الزرقاني :محمد بن عبدالعظيم ،مناهل العرفان في علوم القرآن،ط ،1دار الفكر،
بيروت ،مكتب البحوث والدراسات 1996 ،م،(2/67).وسأشير إليه لحقا هكذا)مناهل العرفان(.
20
والتفسير لم تذكر إل ّ اسما واحدا لفرعون موسى).18ولم يكن منهم فرعون
أعتى منه علــى الله
ول أعظم قول ول أطول عمرا في ملكه منه،وكان اسمه الوليد بن
مصعب،ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة ول أقسى قلبا ول أسوأ
ملكا لبني إسرائيل منه يعذبهم فيجعلهم خدما وخول،وصّنفهم في أعماله
فصنف يبنون وصنف يحرثون وصنف يزرعون له،فهم في أعماله،ومن لم
يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية،فسامهم-كما قال الله-سوء
العذاب.وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم ل يريدون فراقه،وقد استنكح
مرمنهم امرأة يقال لها آسية بنت مزاحم من خيار النساء المعدودات،فع ّ
فيهم وهم تحت يديه عمرا طويل(.19
واختلفت الرواة في نسبه)،فقالوا:هو رجل من لخم،وقالوا:من غيرها
من قبائل اليمن،وقالوا:من العمالقة،وقالوا:من قبط مصر يقال له ظلما،وهو
الذي كان من أمره مع موسى ما قد قصه الله جل وعز(.20
فرعون موسى عليه السلم غير فرعون يوسف عليه السلم
كان فرعون يوسف)هو الرّيان بن الوليد،أحضر يوسف من
السجن،واستخلصه لنفسه،وحمله وخلع عليه وضرب له بالطبل،وأشاع أن
يوسف خليفة الملك،فقام له في المر كله(،21وقد)آمن بيوسف عليه السلم
ومات في حياته،وقيل:كان هو فرعون موسى عاش أربعمائة سنة،بدليل
قوله تعالى’’:ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‘‘،22والمشهور أّنه
من أولد فرعون يوسف،23والية’’-ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‘‘-
من قبيل خطاب الولد بأحوال الباء(.24
ن فرعون موسى عليه السلم هو فرعون يوسف فكيف يصح القول أ ّ
ن فرعون يوسف عليه السلم مؤمن ،وفرعون موسى عليه السلم؟مع أ ّ
م طول الفترة الزمنية بينهما تقطع بأنهما ليسا شخصا عليه السلم كافر،ث ّ
ن فرعون موسى مر تلك المدة .ومن قال:إ ّ
واحدا،فمن غير المعقول أن يع ّ
مر،فليس في الية)ما يدل على أّنه هو،لّنه إذا أتى هو فرعون يوسف لّنه ع ّ
18انظر :العكري:ابن العماد،عبد الحي بن أحمد الدمشقي الحنبلي1089 -1032)،هـ( ،شذرات
الذهب في أخبار من ذهب4،أجزاء،دار الكتب العلمية،بيروت. (1/65).وسأشير إليه لحقا
هكذا)شذرات الذهب(،وإبن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد– 508)،
597هـ(،المنتظم في تاريخ الملوك والمم12،جزء،تحقيق :محمد و مصطفى عبد القادر
عطا،ط ،1دار الكتب العلمية،بيروت1412،هـ – 1992م،(1/332).وسأشير إليه لحقا
هكذا)المنتظم في التاريخ(ومعجم البلدان)(5/140والتابكي :أبو المحاسن،جمال الدين يوسف
بن تغرى بردى874 -813)،هـ(،النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،المؤسسة
المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر،مصر،(1/58).وسأشير إليه لحقا
هكذا)الّنجوم الزاهرة(.
19تاريخ الطبري).(1/232وانظر :المقدسي:مطهر بن طاهر)،ت 507هـ(،البدء والتاريخ،مكتبة
الثقافة الدينية،القاهرة،(3/81).وسأشير إليه لحقا هكذا)البدء والتاريخ(،وابن الثير:محمد بن
محمد بن عبد الواحد الشيباني)،ت 630هـ( ،الكامل في التاريخ 10،أجزاء،تحقيق :أبي الفداء
عبد الله القاضي،ط ،2دار الكتب العلمية،بيروت1415،هـ – 1995م،(1/131).وسأشير إليه لحقا
هكذا)الكامل في التاريخ(والمنتظم في التاريخ).(7/241
20اليعقوبي:أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي،تاريخ اليعقوبي،جزءان،دار صادر،بيروت).
،(1/186وسأشير إليه لحقا هكذا)تاريخ اليعقوبي(.وانظر:الّنجوم الزاهرة).(1/58
21معجم البلدان).(4/287
]22غافر.[34:
ن القرآن لم يستعمل كلمة’فرعون‘في قصة يوسف عليه السلم 23 23هنا ل بد من ملحظة أ ّ
وإّنما استعمل كلمة’الملك‘.
24تفسيرالبيضاوي).(3/280وانظر معجم البلدان)(5/140وتاريخ الطبري).(1/231
21
بالبينات نبي لمن معه ولمن بعده فقد جاءهم جميعا بها،وعليهم أن يصدقوه
بها(.25
طبيعة اللوهية والربوبية التي ادعاها فرعون
ن ادعاء كان من الطبيعي أن نلقي بعض الضوء على هذه المسألة،ذلك أ ّ
دعيه البشر،لّننا من الغيار،نشيب ونهرم،ونتعب اللوهية أو الربوبية أمر ل ي ّ
ما كان ّ
ل هذه أدلة على كذب تلك الدعوى.ول ّ وننشط،وننام ونستيقظ..وك ّ
المر كذلك،فكيف ادعى فرعون ذلك لنفسه؟وما هي حقيقة تلك الدعوى؟
ومن أجل توضيح هذه المسألة كان ل بد من ت َت َب ِّع النصوص القرآنية ذات
الصلة بالموضوع،والتي من خللها نستطيع أن نقف على طبيعة اللوهية
والربوبية التي ادعاها فرعون.يقول تعالى حكاية لقول فرعون’’:وقال
فرعون يا أيها المل ما علمت لكم من إلــه
غيري .27‘‘26أي:ما علمت لكم من إله غيري)فتعبدوه وتصدقوا قول
ن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي(.28 موسى-فيما جاءكم به-من أ ّ
ن فرعون أراد حقيقة ما يدل عليه كلمه،وهو نفي ) والظاهر-من الية -أ ّ
ن عدم العلم بالشيء ل يدل على عدمه،ولم علمه بإله غيره دون وجوده،فا ّ
ن كل من هذا وما قاله يجزم بالعدم بأن يقول:ليس لكم إله غيري،مع أ ّ
29
ت ما أنزل ن ظاهر قول موسى عليه السلم له’’:لقد علم َ كذب،ل ّ
30
ن
هؤلء إل رب السموات والرض بصائر‘‘ ،يقتضي أّنه كان عالما بأ ّ
هناك إلها غيره.
وما تركه-أي الجزم بعدم وجود إله -أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد
قومه عن اتباع موسى عليه السلم اختيارا لدسيسة شيطانية،وهو إظهار أّنه
منصف في الجملة،ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر
الله،وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه،فكأّنه قال:ما علمت
في الزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى والمر محتمل(…31
25تفسير القرطبي).(313-15/312
) 26قصد بنفي علمه بإله غيره نفى وجوده أي:مالكم من إله غيري،أو هو على ظاهره،وإن إلها
غيره غير معلوم عنده( النسفي:أبو البركات،عبد الله بن أحمد بن محمود ،تفسير النسفي4،
أجزاء،(3/237).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير النسفي(.وانظر اللوسي :أبو المعالي،محمود
شكري بن عبدالله بن شهاب الدين1342-1273)،هـ(،روح المعاني في تفسير القرآن
العظيم والسبع المثاني30،جزءا ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت،(20/80).وسأشير إليه
لحقا هكذا)روح المعاني(.
]27القصص.[38:
28تفسير الطبري).(20/77وانظر:تفسير القرطبي).(13/288
ت‘ بفتح التاء( التميمي
ت‘،بضم التاء.وقرأ الباقون’:لقد علم َ
)29قرأ الكسائى وحده’:لقد علم ُ
29
:أبو بكر ،أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي324 -245)،هـ( ،كتاب السبعة في
القراءات،جزء واحد،تحقيق :شوقي ضيف،ط ،2دار المعارف ،القاهرة1400 ،هـ-385).
،(386وسأشير إليه لحقا هكذا)كتاب السبعة في القراءات().وحجة الكسائي :ما روي عن علي
ت‘،قال:والله ما علم عدو الله،إنما علم موسى صلى بن أبي طالب رضي الله عنه قال’:لقد علم ُ
الله عليه( ابن زنجلة :أبو زرعة،عبد الرحمن بن محمد .حجة القراءات،جزء واحد،تحقيق :سعيد
الفغاني،ط ،2مؤسسة الرسالة ،بيروت،(411).1982 – 1402 ،وسأشير إليه لحقا هكذا)حجة
القراءات( ).فالحجة لمن فتح أنه جعل التاء لفرعون دللة على المخاطبة،والحجة لمن ضم أنه
جعل التاء لموسى دللة على إخبار المتكلم عن نفسه( ابن خالويه :أبو عبد الله ،الحسين بن
أحمد370 -314 ).هـ( ،الحجة في القراءات السبع،جزء واحد،تحقيق :عبد العال سالم مكرم
،ط ،4دار الشروق ،بيروت1401 ،هـ،(221).وسأشير إليه لحقا هكذا)الحجة في القراءات
السبع(.
] 30السراء.[102:
31روح المعاني).(20/80
22
م بدا له الجزم و)كان قوله لموسى عليه السلم’’لئن اتخذت إلها ث ّ
32
غيري لجعلّنك من المسجونين‘‘ ،بعد هذا القول المحكي ههنا-وهو
قوله’’:ما علمت لكم من إله غيري‘‘ -بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على
دد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر مه ّ
البت أن ل إله لهم غيره،ث ّ
33
بخلفه،وهذا وجه في الية ل يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء( .
ن فيه العتراف )ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية-زعما منه-أ ّ
ن ادعاءه اللوهية وقوله:أنا ربكم العلى إّنما كان بأصل الوجود،وذكروا أ ّ
إرهابا لقومه الذين استخفهم،ولم يكن ذلك عن اعتقاد.وكيف يعتقد أّنه رب
العالم وهو يعلم بالضرورة أّنه وجد بعد أن لم يكن،ومضى على العالم ألوف
من السنين وهو ليس فيه،ولم يكن له إل ملك مصر،ولذا قال شعيب
لموسى-عليهما السلم-لما جاءه في مدين:لتخف نجوت من القوم
الظالمين.
وقال بعضهم:إّنه كان جاهل بالله تعالى،ومع ذلك ليعتقد في نفسه أّنه
خالق السموات والرض وما فيهما،بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه،معتقدا
ن حركاتها أسباب لحصول الحوادث،ويعتقد وجوب الوجود بالذات للفلك،وأ ّ
ن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله،وكان أ ّ
مهما حيث قال’’:ما علمت رّبا لهم،ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يع ّ
لكم من اله غيري‘‘،34و’’أنا ربكم العلى‘‘( ) .فما أثبته في
35
قوله’’:لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘،36الله لغير مملكته ،وما نفاه هو أن
يكون هناك إله غيره في مملكته،كما يشير اليه قوله ) :لكم(،ول يخلو عن
بحث (.37
وربما كان من القائلين)بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات
ويكون معتقدا حلوله عز وجل فيه،ولذلك سمى نفسه إلها.وقيل :كان يدعي
اللوهية لنفسه ولغيره،وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل(،38كما يدل
عليه ظاهر قوله تعالى’’:وقال المل من قوم فرعون أتذر موسى
نوقومه ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‘‘.39حيث دّلت الية أ ّ
لفرعون آلهة كان يعبدها وربما كان يتخذها وسيلة في إضفاء القدسية على
ن هناك علقة شخصه،أو ربما اعتبر نفسه وسيطا بينها وبين الّناس،بمعنى أ ّ
معينة بناها فرعون بينه وبين هذه اللهة لتخدم الوضع القائم الذي يريده
فرعون.
وروي أّنه) كان أول يدعو الّناس إلى عبادة الصنام ثم دعاهم إلى عبادة
البقر فكانت تعبد ما كانت شابة فإذا هرمت أمر بذبحها ثم دعا بأخرى لتعبد
40
ثم لما طال الزمان قال’’:أنا ربكم العلى‘‘(
] 32الشعراء.[29:
33روح المعاني).(20/80
]34القصص.[38:
35روح المعاني).(19/73
] 36القصص.[38:
37تفسير ابن كثير)،(3/391وانظر :روح المعاني)(81-20/80وتفسير البيضاوي).(4/236
38روح المعاني).(19/74
]39العراف.[127:
40تفسير القرطبي).(15/317
23
وكما أّنه ادعى اللوهية كذلك ادعى الربوبية’’،فقال أنا ربكم
العلى‘‘،41أي لرب لكم فوقي ،وكل رب دوني وكذب الحمق …
وقيل:كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها،فقال أنا رب
42
أصنامكم.وقيل:أراد القادة والسادة هو ربهم،وأولئك هم أرباب السفلة .
ن اللعين كان يعرف ن ويقتضيه أكثر الظواهر أ ّ
)والذي يغلب على الظ ّ
ّ
الله عز وجل،وأّنه-سبحانه-هو خالق العالم،إل أّنه غلبت عليه شقوته،وغرّته
دولته،فأظهر لقومه خلف علمه،فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله.ول
يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ول يعرف أنها
ما من له عقل منهم ول يخفى عليه بطلن مثل ذلك مخالفة للبديهيات… وأ ّ
فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون،أو مزيد رغبته بما
عنده من الدنيا(.43
دعي اللوهية بمعني أّنه هو خالق هذا الكون ن فرعون لم يكن ي ّ )إ ّ
ن له سلطانا في عالم السباب الكونية.إّنما كان يدعي اللوهية ومدبره ،أو أ ّ
على شعبه المستذل ! بمعنى أّنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته
دعيه وقوانينه،وأّنه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى المور.وهذا ما ي ّ
كل حاكم يحكم بشريعته وقوانينه،وتمضي الشؤون وتقضى المور بإرادته
وأمره –وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي -كذلك لم يكن الناس
في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له – فقد كانت لهم
آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك،كما هو ظاهر من قول المل له
’’:ويذرك وآلهتك‘‘،وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية.إّنما كانوا
يعبدونهم بمعنى أنهم خاضعون لما يريدوه بهم،ل يعصون له أمرا،ول
ينقضون له شرعا..وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والصطلحي للعبادة ،
فأّيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه(،44وذلك هو تفسير
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود
45
والّنصاري’’:اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‘‘ –،
عندما سمعها منه عدي بن حاتم – وكان نصرانيا جاء ليسلم – فقال :يا
ما إنهم رسول الله ما عبدوهم.فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’:أ ّ
لم يكونوا يعبدونهم ولكّنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حّرموا
] 41الّنازعات.[24:
42انظر :تفسير القرطبي)(19/202وتفسير الطبري)(30/40والبغوي :أبو محمد،الحسين بن
مسعود الفراء)،ت ،(516معالم التنزيل4،أجزاء،تحقيق :خالد العك -مروان سوار،ط ،2دار
المعرفة ،بيروت1407 ،هـ – 1987م،(4/444).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير البغوي(،وابن
الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد597– 508)،هـ( ،زاد المسير في علم
التفسير9،أجزاء،ط ،3المكتب السلمي ،بيروت1404 ،هـ،(9/21).وسأشير إليه لحقا
هكذا)زاد المسير(.
43روح المعاني)(19/74مع بعض التصرف.
44في ظلل القرآن).(3/306
]45التوبة.[31:
24
ن من أطاع بشرا في التحليل عليهم شيئا حرموه‘‘.46فد ّ
ل الحديث على أ ّ
والتحريم فقد عبده من دون الله.
25
الفصل الول
صفات شخصية فرعون
أحاول في هذا الفصل أن أتتبع نصوص الكتاب العزيز لصل إلى فهم
دقيق لهذه الشخصية التي طالما تحدث عنها القرآن،وذلك بإبراز
صفاتها،سواء كانت تلك الصفات منصوص عليها بالعبارة الواضحة في كتاب
الله-كالستكبار مثل-أو غير منصوص عليها كالوهم والغرور،ولكّنها تفهم من
خلل حديث القرآن عن تلك الشخصية،من حيث سلوكها ومنهجها وتصورها
ن بالمكان بعد تدقيق النظر أن نتوصل إلىوالساس الذي بنيت عليه،حيث أ ّ
فهم أوسع لتلك الشخصية التي نثر القرآن الحديث عنها في مواضع عديدة
لسباب معلومة في بيان القرآن وطريقة تعبيره،مع ما يتبع ذلك من تحليل
وربط بين تلك الصفات المجتمعة في نموذج تلك الشخصية المتمثل في
شخص واحد هو فرعون.
يعتبر هذا الفصل بمثابة تشخيص للمرض المتمّثل بوجود هذه
ما يساعدنا على التفريق بين المرض وأعراضه،وهو ما يختلط الشخصية،م ّ
كثيرا في أذهان العاملين في سبيل التخلص من الطواغيت،فينشغلون
مة،ومنبمعالجة العراض ويبقى المرض مستترا عليهم ينخر في جسم ال ّ
م البحث عن أسبابه وطرق علجه. هنا كان تشخيص المرض أول ث ّ
لقد وصف القرآن الكريم تلك الشخصية بالعديد من الصفات أهمها
الستكبار والعلو والطغيان والظلم والفساد والستبداد والوهم والغرور
والسراف والمكر،وإليك بيان ذلك فيما يلي من المباحث.
المبحث الول
الستكبار.47
26
)الستكبار :المتناع عن قبول الحق معاندة وتكبرا(،48وليس المتناع
ن
جهل أو لقلة علم أو معرفة أو لشتباه المر عليه،بل هو المتناع مع العلم أ ّ
ما رفضه وأنكره هو الحق الساطع المبين،وذلك هو ما تمّيزت به شخصية
فرعون؛المتناع عن قبول الحق عن بّينة وعلم،فل شبهة ول غبش ول
كب عن سبيله،بل غشاوة.ولقد علم-لعنه الله-لو كان العلم يجدي-الحقّ وتن ّ
وحاربه بل هوادة.
و)أصل الستكبار طلب الكبر من غير استحقاق،لبمعنى طلب تحصيله
مع اعتقاد عدم حصوله،بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك.وإنما عّبر
ن مآله محض الطلب بدون حصول عنه بما يدل على الطلب لليذان بأ ّ
المطلوب(49؛ أي يحسبون أنفسهم كبارا فيظلمون الناس،ويغصبون حقوقهم
لمجرد أّنهم أوتوا قدرا من القوة.
وبسبب هذه الّنظرة الستكبارية التي ميزت فرعون ومن حوله
فإنهم) رأوا كل من سواهم حقيرا بالضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء
إل ّ لنفسهم،فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد في الرض(50؛ذلك
51
ما أسس لنظام ن الستكبار هو)النفة مما ينبغي أن ل يؤنف منه( ،م ّ أ ّ
ن الستكبار سبب في ظهور ّ
الطبقات في ظل شخصية فرعون؛بمعنى أ ّ
الطبقية في المجتمع،كما أّنه إذا استحكم في الّنفس يحجب صاحبه عن
الحقيقة،وبهذا نفسر وقوع فرعون بالعديد من الخطاء في مواجهته
لموسى.
لقد قرر القرآن حقيقة استكبار فرعون،ونص على استكباره بالعبارة
الواضحة الجلية ،فقال سبحانه وتعالى’’:واستكبر هو وجنوده في
52
م بعثنا من بعدهم موسى الرض بغير الحق‘‘ .وقال سبحانه’’:ث ّ
وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما
مجرمين‘‘.53
والستكبار ل يكون إل ّ بغير حق؛ذلك أّنه لم يكن عند فرعون حجة يدفع
بها ما جاء به موسى،ول شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات
،54فهو محض امتناع عن قبول الحق تكبرا مع وضوح الحجة وقيام
ن الستكبار ما يؤكد حقيقة مفادها أ ّ البرهان،وهو ما صبغ شخصية فرعون .م ّ
علمة يقينية على إفلس المستكبر في الحجة والبرهان،ويترتب على هذا
ن مواجهة الطاغوت ل تكفيها إقامة الحجة والدليل وحسب،لّنه قد قام أ ّ
الدليل وسطع البرهان.يقول تعالى’’:ولو أّننا نّزلنا إليهم الملئكة
48لسان العرب،مادة:كبر).(5/126
49روح المعاني).(6/41
50روح المعاني).(20/82
51الّنووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري676 -631)،هـ(،تحرير ألفاظ التنبيه )لغة
الفقه(،جزء واحد،تحقيق:عبد الغني الدقر،ط ،1دار القلم،دمشق1408،هـ،(1/334).وسأشير
إليه لحقا هكذا)التنبيه(.
]52القصص.[39:
]53يونس.[79:
54انظر :الشوكاني:محمد بن علي بن محمد1250 -1173)،هـ( ،فتح القدير الجامع بين
فني الرواية والدراية من علم التفسير5،أجزاء ،دار الفكر ،بيروت،(4/174).وسأشير إليه
لحقا هكذا)فتح القدير(،وتفسير القرطبي)(13/289وتفسير الطبري)(20/78وأبو السعود:محمد
بن محمد العمادي)،ت ،(951إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم9،أجزاء ،دار
إحياء التراث العربي ،بيروت،(7/14).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير ابي السعود(،وزاد المسير)
(6/223وتفسير النسفي).(3/238
27
وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبل ما كانوا ليؤمنوا
ن أكثرهم يجهلون‘‘،55فلو نّزل الله إليهم إل أن يشاء الله ولك ّ
الملئكة حتى يروها عيانا،وكلمهم الموتى وأخبروهم أنك محق فيما
تقول،وأن ما جئتهم به حق من عند الله.ولو حشر الله عليهم كل شيء قبل
ن أكثرهم يجهلون هذه ما آمنوا ول صدقوا ول اتبعوا،إل ّ أن يشاء الله،ولك ّ
ن اليمان إليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا آمنوا ومتى الحقيقة،ويحسبون أ ّ
شاءوا كفروا.56
والستكبار جهل،إذ لو أدرك المستكبر حقيقة نفسه لما اقتحم ما ليس
له بحق،وهذا ما يشير إليه قوله تعالى’’:وقارون وفرعون وهامان
ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الرض وما كانوا
سابقين‘‘.57والشاهد في الية قوله تعالى’’:في الرض‘‘،فهو) إشارة إلى
ن من في الرض ل ينبغي له أن يستكبر(،58ولو كان عند قلة عقولهم،ل ّ
فرعون أدنى ذرة من عقل لما استكبر،وهكذا كل من نهج طريقه وسلك
ن أدنى تدبر لمعاني الحياة وما سبيله فإنه ل عقل عنده وإن ادعى ذلك،ل ّ
ن التكبر والستكبار رذيلة ل ينبغي أن فيها من عبر تجعل النسان يدرك أ ّ
تكون،ولكّنها الغفلة عن الحقائق التي تنتج عن قلوب ل تعقل وآذان ل تسمع
وأعين ل ُتبصر.
لقد كان فرعون أول الممتنعين عن قبول الحق،وأول الداعين إلى
ظما عن اليمان بالله وعبادته،وكان من رفضه وعدم قبوله ترفعا وتكبرا وتع ّ
الثمين الخاطئين،59يقول تعالى’’:ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون
بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما
عالين،فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا
عابدون،فكذبوهما فكانوا من المهلكين‘‘.60
ولقد تضمنت هذه اليات الشارة إلى كبر فرعون وملئه بشقيه:
الول:المتناع عن قبول الحق بعد اليات والسلطان المبين كراهية
منهم للحق،لّنه يخالف شهواتهم وأهواءهم ومصالحهم،61يقول تعالى’’:بل
جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون‘‘62؛فهو ينسف قيمهم الباطلة
ن الحق ل يدور مع الهوى،وسيأتي بيان التي عليها يقتاتون وبها يعيشون،ل ّ
هذه النقطة لحقا.
ي من قولهم’’:وقومهما لنا الثاني:احتقار الناس،وهذا جل ّ
عابدون‘‘)مسخرون خاضعون.وهي أدعى-في إعتبار فرعون وملئه-إلى
ما آيات الله التي معهما،وسلطانه الذي الستهانة بموسى وهارون!فأ ّ
63
بأيديهما،فكل هذا ل إيقاع له في تلك القلوب المطموسة( ،والسبب في
تلك النتكاسة نابع من إعجاب المستكبر بنفسه،فيرى نفسه أكبر من
]55النعام.[111:
56انظر:تفسير الطبري).(8/1
]57العنكبوت[39:
58روح المعاني).(20/158
59انظر:تفسير الطبري)(11/145وتفسير البغوي)(3/310وزاد المسير)(5/475وتفسير النسفي)
.(3/123
] 60المؤمنون.[48-45:
61انظر:تفسير البيضاوي).(4/162
] 62المؤمنون.[70:
63في ظلل القرآن).(6/31
28
غيره،وتلك هي العلة الكامنة من وراء قول المل من قريش’’:لول نّزل
هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‘‘،64ويقصدون بذلك سادة
من لهم الجاه والسلطان. القبائل في مكة والطائف،م ّ
ن الكبر65داء خطير أفرز شخصية تسلطية رافضة للحق إ ّ
والحقيقة،لذلك توجه موسى عليه السلم إلى ربه ملتجئا ومستعيذا به ج ّ
ل
شأنه)من كل متكبر عليه،تكبر عن توحيده والقرار بألوهيته
وطاعته(’’.66وقال موسى اني عذت بربي وربكم من كل متكبر ل
يؤمن بيوم الحساب‘‘.67أي من كل)متعظم عن اليمان بالله غير مؤمن
بالبعث والنشور،ويدخل فرعون في هذا العموم دخول أوليا( .68وقال :من
كل متكبر)لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة،وليكون على طريقة
التعريض فيكون أبلغ،وأراد بالتكبر الستكبار عن الذعان للحق،وهو أقبح
ل على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه(.69 استكبار وأد ّ
ل هذا على ثقل العبء الذي ألقي على كاهل موسى عليه السلم ود ّ
في مواجهته لشخصية مستكبرة متكبرة،حتى دعته طبيعة المواجهة إلى هذه
الستعاذة الواضحة’’من كل متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‘‘،70إذ لو
كان يؤمن بيوم ُيحاسب الّناس فيه،وُيحشرون حفاة عراة لما سولت له
نفسه فعل ما ل ينبغي له فعله.
امتناع فرعون عن قبول الحق رغم قيام الحجة والبرهان دليل
على استكباره
ن القرآن الكريم نص على استكبار فرعون فإّنه-أيضا-أظهر هذه فكما أ ّ
الحقيقة بإسلوب آخر،وهو امتناع فرعون عن قبول الحق بعد قيام الحجة
والدليل ،أي بعد إدراكه وعلمه بصدق موسى عليه السلم،وذلك باليات
العديدة التي أوتي موسى عليه السلم والتي ل تدع مجال للشك والريبة بل
ل هذه اليات امتنع فرعون عن هي آيات تثمر العلم واليقين.ولكن وبعد ك ّ
قبول الحق،وكفى بهذا دليل على استكباره.يقول تعالى’’:ولقد أرسلنا
موسى بآياتنا ان أخرج قومك من الظلمات الى النور‘‘.71ويقول
تعالى’’:ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون
وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب‘‘،72وعليه لم تكن عثرة فرعون
في قصور الحجة والبرهان’’،فإّنها ل تعمى البصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور‘‘،73وإّنما مرض الكبر قد استقر في قلبه
ن فرعون جاءته البينات والبراهين والحجج الثم،فأورثه العمى والتيه،وذلك أ ّ
ن) أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة فأعرض استكبارا ل جهل،ول ريب أ ّ
] 64الزخرف.[31:
ن النبي صلى الله عليه وسلم قال’’:بينما رجل يجر
65ومن الكبر الخيلء،حيث ورد في الحديث،أ ّ
إزاره من الخيلء خسف به فهو يتجلجل في الرض إلى يوم القيامة‘‘صحيح البخاري،كتاب
النبياء،باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم(3/1285)،رقم).(3297إذا كان هذا في جّر
إزار فكيف بمن ادعىأّنه رب يعبد؟!
66تفسير الطبري).(24/57
]67غافر.[27:
68فتح القدير)،(4/488وانظر:زاد المسير).(7/216
69تفسير النسفي)،(4/72وانظر:روح المعاني).(24/63
]70غافر.[27:
] 71ابراهيم.[5:
] 72غافر.[24:
]73الحج.[46:
29
ربهم بعد ت َب َي ِّنها وي َت َعَظ ّ ُ
74
ولت له موا عن قبولها( كما هو حال فرعون،حيث س ّ
نفسه المستكبرة عن الحق أن يتهاون في عظيم المور.
ن هذا الستكبار بعد اليات والبراهين مع ما يصاحبه من اتهامات باطلة إ ّ
لتشويش صوت الحق ليس مقصورا على فرعون ومن تابعه بل هو ديدن
المستكبرين،يقول تعالى’’:كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول
إل قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‘‘.75
)فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين؛وهو استقبال واحد للحق
وللرسل يستقبلهم به المنحرفون،كأّنما تواصوا بهذا الستقبال على مدار
القرون،وما تواصوا بشيء،وإّنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد
تجمع بين الغابرين واللحقين(.76
فرعون ُيفرط في استكباره رغم كثرة اليات
إّنه لمن العجب أن يزداد الداء مع نجاعة الدواء’’،ونخوفهم فما
ف الضراعة إلى ربه يزيدهم إل ّ طغيانا كبيرا‘‘،77فها هو نوح يرفع أك ّ
ب إّني دعوت قومي ليل ونهارا،فلم يزدهم دعائي إل ّ قائل’’:ر ّ
فرارا‘‘،78فمع الستمرار بالدعوة يزداد القوم إصرارا على كفرهم.
وهكذا كان حال موسى عليه السلمُ،أوتي العديد من المعجزات،ومع
ما أدخله في دائرة أولي العزم من ل مثيله،م ّهذا واجه استكبارا ق ّ
79
الرسل.يقول تعالى’’:ولقد آتينا موسى تسع آيات بّينات‘‘ ،وهي
العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع
والدم،ومن عد ّ اليد والعصا آية جعل الطمسة80آية سابعة،ومنهم من جعل
السنين ونقص الثمرات واحدة وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما
يأفكون… فهذه اليات التسع التي ذكرها هؤلء الئمة هي المرادة ههنا وهي
ن وّلى المعينة في قوله تعالى’’:وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جا ّ
مدبرا ولم يعقب ياموسى ل تخف‘‘،81إلى قوله’’في تسع آيات إلى
فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين‘‘.82فذكر هاتين اليتين
العصا واليد،وبّين اليات الباقيات في سورة العراف،وفصلها في قوله
مل والضفادع تعالى’’:فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والق ّ
83
دم آيات مفصلت فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘ . وال ّ
وقد أوتي موسى عليه السلم آيات أخرى كثيرة؛منها ضربه الحجر
ن
بالعصا وخروج الماء منه،ومنها تظليل بني إسرائيل بالغمام وإنزال الم ّ
30
والسلوى…ولكن ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل
مصر،فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا )،84ول يعد الفلق-
أي فلق البحر -لّنه لم يبعث به إلى فرعون(.85
ن هذه اليات لم تكن جملة والشاهد على إفراط فرعون في استكباره أ ّ
ن توالي المعجزات مّرة بعد مّرة أبلغ في واحدة بل على فترات زمنية،فإ ّ
العجاز من نزولها مّرة واحدة؛فآيتي العصا واليد كانت في أول مواجهة مع
فرعون أي وقت تبليغ الرسالةّ،ثم تلتها معجزة النتصار على السحرة،وبعدها
كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.يقول تعالى’’:فأراه الية
الكبرى‘‘ .86أي:فأراه المعجزة الكبرى،حيث أظهر له موسى مع هذه
الدعوة الحق حجة قوية ودليل واضحا على صدق ماجاء به من عند الله،وهي
ذب موسى عليه ن فرعون ك ّ دم والصل،ولك ّ قلب العصا حية فإّنه كان المق ّ
عل ْ َ
م ن ِالسلم وعصى الله عز وجل بعد ظهور الية وتحقق المر.وهذا يعني أ ّ
ن المعرفة علم فرعون للحق الذي جاء به موسى ل يلزم منه أّنه مؤمن به،ل ّ
القلب واليمان عمله وهو النقياد للحق والخضوع له ،87وبهذا يزول الشكال
عند من يجول بخاطره:كيف يمتنع فرعون عن اليمان بعد علمه وتحققه من
المر؟!وهو نفس السؤال الذي ُيراود بعض الدعاة إلى الله حينما ُيواجهون
نوعيات من البشر مشابهة لشخصية فرعون،فيتعجبون من عدم إيمانهم مع
حصول العلم لديهم،وما ذلك إل ّ بسبب استكبارهم أي امتناعهم عن النصياع
لمر الله مع قيام الدليل وظهور الحجة.
ن علم فرعون بمن أنزل المعجزات واليات-كما نص القرآن على إ ّ
م هو يستكبر ويصّر على الكفر إصرارا دليل بّين على إفراطه في ذلك-ث ّ
الستكبار.يقول تعالى –حكاية لقول موسى عليه السلم لفرعون’’:قال
88
ت ما أنزل هؤلء إل رب السماوات والرض بصائر‘‘ . لقد علم َ
يعني)اليات التسع و’’أنزل‘‘بمعنى أوجد’’إل رب السموات والرض
بصائر‘‘أي دللت يستدل بها على قدرته ووحدانيته ،وإنما أضاف موسى إلى
ن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة م بهذه المعجزات ل ّ فرعون العل َ
ن مثل ما فعل ليتهيأ لساحر،وأّنه ليقدر على فعله إل من يفعل فعله،وأ ّ
89
الجسام ويملك السموات والرض ( ،فهي بصائر ودللت ُيستدل بها على
الفاعل المختار’’،وربك يخلق ما يشاء ويختار‘‘.90
لقد مّثل فرعون أعتى حالت الستكبار التي ُيمكن لنا أن
نتصورها،وذلك هو ما نفهمه من قوله تعالى’’:ولقد أريناه آياتنا كلها
فكذب وأبى‘‘،91أي حجج الله الدالة على توحيده،وهو لم ير كل آيات الله
ن ما رآه من اليات يساوي في قيام الحجة رؤية لّنها ل تحصى،والمعنى أ ّ
31
اليات كّلها،ولكّنه كذب وقال هذا سحر،وأبى أن يقبل الحق استكبارا
وعتوا،وهذا يدل على أّنه كفر عنادا لّنه رأى اليات عيانا ل خبرا .92
رفضه معجزة النتصار العظيم على السحرة دللة أخرى على
استكبار فرعون
وإّنما أفردناها تحت عنوان خاص بها لعظيم وقعها في نفس من
ما جعلها من شاهدها،وذلك بسبب الظروف والملبسات التي أحاطت بها،م ّ
أعظم الدّلة الساطعة على نبوة موسى عليه السلم،وهي-في المقابل-من
ل معجزة يجريها الله سبحانه على نك ّ دامغة على استكبار فرعون،ل ّ الدلة ال ّ
يد موسى عليه السلم يقابلها فرعون بالرفض والمتناع تكون دليل آخر على
استكباره.
ل جهد مستطاع لكسب تلك لقد بالغ فرعون-لعنه الله-في بذل ك ّ
ل ما لديه من القدرات والمكانّيات،ونادى في الّناس المباراة،وحشد ك ّ
للجتماع والحضور في مكان وزمان مناسبين لرؤية الحداث بوضوح،وكان
ص السحرة على الفوز والغلبة لسباب مع هذا الجهد من رأس الّنظام حر ُ
ل هذا وغيره جعلت من تلك المباراة معجزة عظيمة ودليل على كثيرة.ك ّ
)مكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والية
العظيمة،ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الّناس كلهم،وغلب
كل الغلب،شرع في المكابرة والبهت وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه
في السحرة فتهددهم وتوعدهم(.93
ولنا أن نتابع بعض اللقطات من تلك المباراة الكبيرة لنعلم عظم وقعها
دخر وسعا للتحضير لها،فبعث ن فرعون لم ي ّ على نفس من شاهدها؛ذلك أ ّ
في المدائن حاشرين ليأتوه بكل ساحر عليم.وجاءت تلك الجموع من
مل َب َّية لنداء فرعون ناظرة إلى اغتنام تلك الفرصة لتحقيق المنيات السحرة ُ
عند السلطان.ولهذا قال بعضهم لبعض’’وقد أفلح اليوم من
استعلى‘‘.94أي)قد ظفر بحاجته اليوم من عل على صاحبه فقهره( ،وفي
95
قولهم هذا دليل على أهمية تلك المباراة بالنسبة إليهم.فاجتمع عند السحرة
القدرة الفائقة على السحر والرغبة الجامحة والحرص المبالغ فيه على
الفوز.
ولفرط ثقتهم بأنفسهم وإظهارا لعدم اكتراثهم خّيروا موسى عليه
ما أن نكون أول من ما أن تلقي وإ ّ السلم فقالوا’’:يا موسى إ ّ
ألقى‘‘،96فقال لهم موسى عليه السلم) :ألقوا أنتم أول؛ليرى الناس
صنيعهم ويتأملوه،فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح
الجلي بعد التطلب له والنتظار منهم لمجيئته،فيكون أوقع في النفوس وكذا
كان(،97ولهذا قال تعالى’’:فلما ألقوا سحروا أعين الناس
واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم‘‘،98وفي هذا بيان للقدرة التي تمتع
32
بها السحرة،بل وصل المر إلى أن أوجس في نفسه خيفة موسى)من
مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية(.99
ن فرعون والمل والجماهير أصبحوا على يقين بالّنصر والظفر،فهم إ ّ
يترقبون لحظة الستسلم من موسى،فماذا باستطاعته أن يفعل وقد
م ما هي إل ّ لحظات حتى بدا لهم من امتلئت الرض بالسحر العظيم؟ث ّ
موسى ما لم يكونوا يحتسبون’’،فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف
100
م تتلوها مفاجأة أخرى تهّز عرش فرعون حين أعلن ما يأفكون‘‘ .ث ّ
ُ
السحرة إيمانهم،يقول تعالى’’:فألقي السحرة ساجدين،قالوا آمّنا
برب العالمين،رب موسى وهارون‘‘101؛ذلك لّنهم أعلم الّناس بصنعة
ما جعلهم ملقين على ن ما جاء به موسى هو الحق م ّ السحر،فأيقنوا أ ّ
ن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق وجوههم تنبيها ً على أ ّ
ملقيا ألقاهم لعلمهم ُ
ن ُلهم تمالك،فكأّنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم،وكأ ّ
ن مثل ذلك خارج عن حدود السحر،وأّنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه بأ ّ
الصلة والسلم لتصديقه،وذلك حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر
موسى وينقلب المر عليه.102
ن من له أدنى نظر وعقل ليقف مشدوها أمام هذه المعجزة إ ّ
الباهرة،وسيكون أكثر اندهاشا حين يرى فرعون-وقد أخذته العزة بالثم-
يزداد عتوا وفجورا،وهو ُيقدم على فعلة نكراء بشعة بقتله للسحرة
وصلبهم،وتلك هي الحالة التي ُيرشد إليها قوله تعالى’’:ولقد صّرفنا في
كروا وما يزيدهم إل نفورا‘‘،103أي)تباعدا عن الحق هذا القرآن ليذّ ّ
وغفلة عن النظر والعتبار(،104وهكذا كان فرعون يزداد استكبارا مع توالي
اليات والبراهين والمعجزات،فهناك نوع من الّناس-ما زلنا نشاهدهم-
يزدادون ترفعا عن الحق كلما سطع،بل ويزداد حقدهم على الذين آمنوا كلما
دموا للّناس براهينهم وحججهم،فما أن يسمع بحجة دامغة إل ّ استطاعوا أن ُيق ّ
وسعى بجهد جديد كي يدحضها بدل من أن ُيعيد الّنظر بما يحمله من
الباطل!
ن المتناع عن قبول الحق بعد حصول العلم تعبير ظاهري ولنا أن نقرر أ ّ
عن مرض الكبر المدفون في الّنفس،والذي هو رؤية النفس أّنها فوق
105
من يراه دونه؟ومن هنا مصاب بذلك المرض الحقّ م ّ غيرها ،فكيف يأخذ ال ُ
كانت عقوبته شديدة هائلة يقول صلى الله عليه وسلم’’:ل يدخل الجنة من
ن الرجل يحب أن يكون ثوبه كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.قال رجل:إ ّ
ن الله جميل يحب الجمال.الكبر بطر الحق وغمط حسنا ونعله حسنة.قال:إ ّ
33
الناس‘‘،106أي احتقارهم وازدراؤهم،وبطر الحق دفعه وانكاره ترفعا
وتجبرا.107
المبحث الثانـي
و
العل ّ
و)العظمة والتجبر،يقال:عل فلن في الرض إذا استكبر وطغى. العل ّ
108
ن .ويقال لكل ن ولتتعظم ّ وا كبيرا‘‘ ،معناه لتبغ ّ ن عل ّوقوله تعالى’’:ولتعل ّ
110 109
متجبر قد عل وتعظم( )،وعل في الرض تكبر فيها( .فالعلوّ يفارق
ما يؤدي إلى الّترفع من ََعة،م ّ
الستكبار في أّنه شعور بالعظمة والقوة وال َ
والّنظرة الفوقية،وذلك لوجود المكانّيات والقدرات،حيث تهيأت لفرعون
ل شأنه ل شيء سببا،استدراجا منه ج ّ أسباب القوة والمنعة،وأوتي من ك ّ
لفرعون ولمثاله من الطواغيت’’،حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم
بغتة فإذا هم مبلسون‘‘،111بينما يكون الستكبار بالمتناع عن قبول
الحق للمحافظة على تلك المتيازات والمكانات التي توفرها طريقة الحياة
والمنهج المتبع،وبهذه النظرة يكون الستكبار وسيلة بينما يكون العلوّ نتيجة.
ن فرعون والعلوّ من خصائص شخصية فرعون،يقول تعالى’’:وإ ّ
لعال في الرض وإّنه لمن المسرفين‘‘،112ويقول تعالى’’:إلى
فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين‘‘،113ويقول تعالى’’:إ ّ
ن
فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم
يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم‘‘،114ويقول تعالى’’:ولقد نجّينا بني
إسرائيل من العذاب المهين،من فرعون إّنه كان عاليا من
المسرفين‘‘.115
106مسلم :أبو الحسين ،بن الحجاج القشيري النيسابوري261 -206 ).هـ( صحيح مسلم،
5أجزاء،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت.كتاب اليمان،باب تحريم
الكبر(1/93)،رقم)،(91وسأشير إليه لحقا هكذا)صحيح مسلم(.
107الّنووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري676 -631)،هـ(،صحيح مسلم بشرح النووي،
18جزء،ط ،2دار إحياء التراث العربي،بيروت1392،هـ،(2/90).وسأشير إليه لحقا هكذا)شرح
النووي على صحيح مسلم(.
]108السراء.[4:
109لسان العرب،مادة:عل).(15/85وانظر :الفراهيدي:أبو عبد الرحمن،الخليل بن أحمد-100)،
175هـ(،كتاب العين5،أجزاء،تحقيق :مهدي المخزومي،وإبراهيم السامرائي،دار ومكتبة
الهلل.مادة:علو)،(2/245وسأشير إليه لحقا هكذا)كتاب العين(.
110مختار الصحاح،مادة:عل).(190
] 111النعام.[44:
]112يونس.[83:
]113المؤمنون.[46:
]114القصص.[4:
دخان.[31-30: ]115ال ّ
34
ن هذه الكلمة اقترنت مع فرعون في مواطن وأنت تلحظ هنا أ ّ
عدة،لذلك كان ل بد ّ من أن يكون لها دللة.وإذا ما تأملنا تلك الّنصوص نجد
ن فرعون في شخصيتة المتعالية يرى في نفسه أّنه فوق مستوى أ ّ
البشر،ومن هذه الّنظرة الفوقية المنحرفة بغى فرعون وطغى وظلم
واعتدى وتعظم وتكبر وتجبر في الرض،وجاوز الحدود المعهودة في الظلم
والعدوان،وافتخر بنفسه ونسي العبودية في الرض،وادعى الربوبية لنفسه،
وصار غالبا قاهرا متطاول على الله،مترفعا عن عبادته،عاليا على من تحت
يده في الرض ،116قائل بلسان الحال والمقال:من أشد ّ مّني قوة!
صوَرِهِ في حياة فرعون حين حشر’’فنادى ويبرز الستعلء بأبشع ِ
117
فقال أنا ربكم العلى‘‘ ،وهذه أشد ّ حالت الستعلء البشري حيث
أدت إلى استضعاف الخرين واستخفافهم وإذللهم للتمكن منهم.وإلى هذه
مَرضية تعود طائفة كبيرة من المصائب والمحن والبتلءات التي الحالة ال َ
يعاني منها البشر قديما وحديثا.
ن تطاول الزمن على فرعون وهو يملك الثروة والمال والجاه إ ّ
و،يقولوالسلطان والقوة البدنية والعسكرية… أدخل في نفسه العل ّ
ن النسان ليطغى،أن رآه اسغنى‘‘،118وهذا يعني أ ّ
ن تعالى’’:كل ّ إ ّ
الغالبية من البشر ل يشكرون حين يستغنون،وهو ذات المعنى الذي نفهمه
من قوله تعالى’’:وقليل من عبادي الشكور‘‘119؛فحقيقة
الشكر)العتراف بالنعمة للمنعم،واستعمالها في طاعته،والكفران استعمالها
ن الخير أقل من الشر،والطاعة أقل من في المعصية،وقليل من يفعل ذلك ل ّ
المعصية بحسب سابق التقدير(.120
لقد غابت عن فرعون-غفلة منه-الحقيقة الباقية’’وما الحياة الدنيا إل ّ
متاع الغرور‘‘،121فالحياة في الرض قصيرة محدودة بأجل،متاع
خدعالغرور،تخدع من غفل قلبه عن المتاع الذي يدوم ول ينقضي.وهكذا ُ
ن أّنه كثير وهو-مع الدنيا-بأسرها ل يعدل عند الله جناح فرعون بما ظ ّ
دنيا وما الحياة الدنيا في بعوضة،يقول تعالى’’:وفرحوا بالحياة ال ّ
الخرة إل ّ متاع‘‘،122وتلك علة ُيعاني منها كثير من البشر.
دل نعمة الله كفرا،حين ثبت ملكه لم يخرج فرعون عن تلك القاعدة فب ّ
وكثر جنده،وغمرته الخيرات والرزاق،فأنهار مصر تجري من تحته ول ُيشق
ل في له عصا؛فاستغرق في المتاع وخل قلبه من ذكر المنعم ج ّ
35
دنيا
عله،واستمتع بالجاه والسلطان والملك،وقد طمست بصيرته زخارف ال ّ
ل هذا وبهارجها،فل عجب-إذن -أن يرشح من شخصية فرعون المستعلية ك ّ
و،فالذي خبث ل الظلم والعدوان،كإفراز طبيعي لما استقر في نفسه من العل ّ
يخرج إل نكدا،فكان من هذا الّنكد أن ترّفع عن عبادة ربه؛وكيف يعبد الله من
أعجبته نفسه،بل وصل به الحال إلى أن ادعى اللوهية.وما هذا إل نتيجة
ل إناء لتلك النظرة إلى الذات والعجاب بها،ول فرق بين اليوم والبارحة،فك ّ
بما فيه ينضح.
و والفساد ي للعل ّاليهود مثال ح ّ
ن من المثلة الحية والتي أشار إليها القرآن هذا العلو الكبير لبني إ ّ
ما حدث لهم قديما على يد فرعون حين إسرائيل،الذين لم يأخذوا العبرة م ّ
استعلى عليهم وأذلهم..كما لم يأخذوا العبرة من مأساتهم على يد هتلر حين
سامهم سوء العذاب فشتتهم في بقاع الرض!فتلك طبيعتهم يخضعون
فس الله عنهم كربتهم مارسوا دور الظالم لهم!ونسوا ما ويخنعون حتى إذا ن ّ
ن
حدث لهم بالمس..تغُّرهم قوتهم وإمكانياتهم وإقبال اليام عليهم،وغفلوا أ ّ
اليام دول!وتلك هي مصيبتهم في أنفسهم.
ويرجع هذا العلو إلى تلك النفسية التي يعيشها اليهود قديما وحديثا،فهم
مة مشرذمة ممزقة تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى،تسودهم روح العداوة أ ّ
والبغضاء،يقول تعالى’’:وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة‘‘،123ويشعرون بالّنقص وعقدة الجبن والخوف والشح’’،ولتجدّنهم
أحرص الّناس على حياة‘‘)،124وتنكير حياة للتحقير،أي أّنهم أحرص
125
مركبة الناس على أحقر حياة( .من هذه الشلء النسانية والعقد النفسية ال ُ
ن المشاعر الّنفسية المنحطة ل تنمو إل ّ ت علوهم وإفسادهم؛ذلك أ ّ من ْب َ ُ
كان َ
في بيئة محطمة من الداخل كما هو الحال عند يهود.
إّنهم يقومون بنفس الدور الذي مارسه فرعون ضدهم؛فيقتلون وينهبون
وُيذّلون الّناس ويرهبونهم بوسائل يطول الحديث عنها،فلم يتركوا شكل من
أشكال العذاب والهانة والقمع إل ّ ومارسوه بعنجهية وغطرسة ظاهرة
س الستعلء والّترفع..وتلك ف َل حركاتهم ن َ َ جلّية.تسمع في نبرتهم وترى في ك ّ
هي الحقيقة التي أخبرنا القرآن بها’’وقضينا إلى بني إسرائيل في
ن علوا ن في الرض مرتين ولتعل ّ الكتاب لتفسد ّ
كبيرا‘‘.126والمقصود في الرض)أرض الشام وبيت المقدس وما
والها،وأراد بالعلو التكبر والبغي والطغيان والستطالة والغلبة والعدوان(.127
ن هذا السلوك الستعلئي قديما وحديثا ما هو إل ّ نتيجة لمتلك أسباب إ ّ
القوة المادية والسيطرة عليها من قبل شخص أو أشخاص يتمّيزون بعقد
ذات وهو مرض نفسية وأفكار وتصورات جاهلية،ومثال ذلك العجاب بال ّ
مق-أن يعبد ذاته؛فكلما زاد إعجابه خم في نفسه وتع ّ يصل بصاحبه-إذا تض ّ
بذاته زاد تأليهه لنفسه حتى إذا تهيأت له الظروف المناسبة كما تهيأت
صب نفسه إلها من دون الله،أو هو الشعور بحب النتقام لسباب لفرعون ن ّ
كثيرة،أو الشعور بالّنقص حيث ُيراد تعويض هذا الّنقص بمظاهر الستعلء
]123المائدة.[64:
]124البقرة.[96:
125فتح القدير).(1/115
]126السراء.[4:
127تفسير القرطبي)(10/214مع بعض التصرف.
36
جد السلوك والّترفع..فإذا اجتمعت المكانيات وتلك الشخصية المريضة وُ ِ
الخطير في واقع الحياة.فقد ُتوجد الشخصية الحاملة للمرض ولكّنها لم تجد
فرصة للتعبير عن ذاتها،وهذا ما نفسر به خصومة بعض الّناس للطاغوت
ما ُيشبع به رغباته سكت عن المخاصمة حتى إذا ما منحه الطاغوت بعضا ً م ّ
وأصبح في سلك الّنظام.
فالعلوّ الذي ُيمارسه البشر سمة مخيفة مرعبة تجعلك تدرك مدى
الخطورة التي مّثلتها شخصية فرعون حين تطاولت على خالقها وانفلتت
ولت ل القيم،فل غرابة إذن حين نراه مستعليا متبجحا في سحق من س ّ من ك ّ
لهم أنفسهم الخروج عن سلطانه المزعوم،فها هو يقول بمليء فمه’’وإّنا
فوقهم قاهرون‘‘.128وهي نفس الكلمات التي نسمعها من فراعنة العصر
مثل:سنسحق ،وسنجتث،وسنلحقهم في كل مكان،وليس لهم مكان آمن
فوق الرض… وتلك هي )صفة الفوقية والمراد بها العلو من غير جهة،وقد
قال فرعون:وإّنا فوقهم قاهرون،ول شك أّنه لم يرد العلو المكاني(.129
ل كلمةكما أّننا نلحظ في خطابات فرعون وبياناته لقومه ثقته بك ّ
يقولها،فل يستثني أبدا!فليس عنده أدنى شك بقدرته واستطاعته على تنفيذ
ما يقول،وذلك هو الشعور بالعظمة والقتدار الذي مل نفس فرعون ففاضت
به كلماته وتصرفاته،ومن هنا كان)تفسير ذكر العلو في الرض باستضعاف
الخلق بذبح الولدان وسبي النساء(.130
ن توفر أسباب القوة والذي نشاهده اليوم عند من ل قيم عنده ول إ ّ
أخلق لهو ما ُينذر بالخطر،ويجعل البشرية جمعاء تعيش حالة من الخوف
والرعب والترقب والذل والهانة؛وقد ظهرت عليهم نزعة التسلط على
رقاب الّناس واستعبادهم لشهواتهم ونزواتهم ومصالحهم،بل سولت لهم
أنفسهم إخضاع الّناس لتصوراتهم ومعتقداتهم وطريقة ومنهج حياتهم.فلم
يعودوا يروا سوى أنفسهم.
ن الّنظام العالمي الجديد-والذي تحاول قوى البغي أن تفرضه على إ ّ
ن هذا
ي لتلك النـزعة الفوقية،وهذا يعني بالتأكيد أ ّ الشعوب-إفراز حتم ّ
الّنظام ل ُيبنى إل ّ على حطام النسانية وتحطيمها،وهو عين ما نشاهده من
تدمير للعلقات النسانية في جميع أشكالها،فانتشرت المراض الجتماعية
كالحسد والعدوان والحقد والتدابر والبغضاء والكراهية فيما بين الناس..فهو
نظام تسلطي ل يقوم إل ّ على أساس تفريغ الحياة من مضامينها النسانية
الرفيعة،وقتل القيم الخلقية.
ن للعلوّ آثار مدمرة في حياة الّناس والجماهير،فإّنه أعظم آفة وكما أ ّ
على طالبه؛فهو قد جعل نفسه إلها وشرع ينسب صفات الله لنفسه،ذلك
ن)العظيم المستحق لوصاف العلو والرفعة والجلل والعظمة والتقديس أ ّ
131
من كل آفة هو الله سبحانه وتعالى،وهو التي يستحقها بذاته( ،يقول الله
]128العراف.[127:
129اتقان ما يحسن من الخبار).(2/19
لني:أبو بكر،محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم،إعجاز القرآن،جزء 130الباق ّ
دين أحمد حيدر،ط ،3مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،لبنان1416،هـ1995-م. واحد،تحقيق:عماد ال ّ
)(1 93وسأشير إليه لحقا هكذا)اعجاز القرآن(.
131البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى458-384)،هـ(،العتقاد
والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث،جزء واحد،تحقيق:
أحمد عصام الكاتب،ط ،1دار الفاق الجديدة،بيروت1401،هـ(58).مع بعض التصرف،وسأشير
إليه لحقا هكذا)العتقاد(.وانظر :المناوي:محمد عبد الرؤوف(1031-952)،هـ،التوقيف على
37
تعالى’’:تلك الدار الخرة نجعلها للذين ل يريدون علوا فى الرض
ول فسادا‘‘.132فالله سبحانه ُيخبرنا)أ ّ
ن الدار الخرة ونعيمها المقيم الذي ل
يحول ول يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين ل يريدون علوا
133
في الرض،أي ترفعا على خلق الله وتعاظما وتجبرا بهم ول فسادا فيهم( .
المبحث الثالث
الطغيان
الطغيان لغة من)طغى(:و)السم الطغيان،وهو مجاوزة الحد،وكل شيء
جاوز المقدار والحد في العصيان فهو طاغ()،134وكل شيء جاوز القدر فقد
طغى ،كما طغى الماء على قوم نوح،وكما طغت الصيحة على ثمود…
والطواغي جمع طاغية،وهي ما كانوا يعبدونه من الصنام وغيرها،ومنه هذه
مرادطاغية دوس وخثعم،أي صنمهم ومعبودهم .ويجوز أن يكون ال ُ
بالطواغي :من طغى في الكفر وجاوز الحد وهم عظماؤهم وكبراؤهم…
والطاغية الذي ل يبالي ما أتى،يأكل الّناس ويقهرهم ل يثنيه تحرج ول
ضمير(.135
فالطغيان :تجاوز الحد في الكفر والتجبر والفساد…فليس هو ارتكاب
للمعصية فحسب بل تجاوز الحد فيها،وهكذا كان فرعون متجاوزا الحد ّ في
كل رذيلة،ففي كفره-لعنه الله -تجاوز الحد إلى إدعاء الربوبية
واللوهية،واستكبر حتى طغى في استكباره بدليل قوله تعالى’’:ولقد
ع؛وهذا لم تردعه أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‘‘،136والية الواحدة ت َْرد َ ُ
اليات!فهو بهذا الوصف طاغوت.137
38
ولقد بّين القرآن حقيقة طغيان فرعون بصريح العبارة،يقول
تعالى’’:اذهب إلى فرعون 138إّنه طغى،140‘‘139ويقول
تعالى’’:اذهبا 141إلى فرعون إّنه طغى‘‘،142ويقول تعالى’’:قال ربنا
إّننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‘‘،143ويقول تعالى’’:اذهب
إلى فرعون إّنه طغى‘‘،144فقد تجاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر
والتمرد… وتجبر على الله وعصاه ،وتجاوز قدره وتمّرد على ربه حتى
تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية واللوهية،وتجاوز الحد في
ضلله وغّيه وفساده وإفساده .145
ن طغيان فرعون لم يكن بارتكاب المعاصي بل بتجاوز الحد والفراط إ ّ
ّ ّ
فيها.فهو ُيقّتل ول يقتل،وُيصلب ول يصلب،وُيقطع ول يقطع…ويصل به
الطغيان أن ُيصّلب السحرة في جذوع الّنخل وليس على جذوعها!يقول
تعالى حكاية لقول فرعون’’:ولصلبّنكم في جذوع الّنخل‘‘).146للدللة
على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لستمرارهم عليها باستقرار المظروف
في الظرف المشتمل عليه(،147وذلك دللة على شدة حنقه منهم.
ما كان حال الطغاة بهذا الحجم من الشراسة والفراط في الجريمة ول ّ
ن من الطبيعي لمن يريد مواجهتهم أن يكون على قدر كبير من الهمة فإ ّ
مل،مع ما يصاحب ذلك من الوسائل الضرورية والتي ل بد ّ والعزيمة والّتح ّ
دها الدنى كافية للوقوف أمام الطغاة والقيام بالوظيفة منها،لتكون في ح ّ
الملقاة على عاتق الداعية إلى الله سبحانه وتعالى.
ن
ن ما ذهب إليه بعض المنحرفين في تأويل قوله تعالى) :إذهب إلى فرعون إنه طغى(من أ ّ 138إ ّ
)إّنه( إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان)صرف للفاظ الشرع
عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة ل يسبق منها إلى الفهام فائدة كدأب الباطنية في
التأويلت فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن اللفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها من غير
اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك
بطلن الثقة باللفاظ وسقط به منفعة كلم الله تعالى وكلم رسول الله فإن ما يسبق منه إلى
الفهم ل يوثق به والباطن ل ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى
وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر(مناهل العرفان).(2/66وانظر:تفسير القرطبي)
.(34-1/33
)139طغى :أي ترفع وعل حتى جاوز الحد أو كاد(المصري:شهاب الدين،أحمد بن محمد الهائم)،
(815– 753هـ ،التبيان في تفسير غريب القرآن،تحقيق :فتحي أنور الدابولي،ط ،1دار
الصحابة للتراث بطنطا ،القاهرة1992،م،(1/287).وسأشير إليه لحقا هكذا)التبيان في تفسير
غريب القرآن(.
]140طه.[24:
)141وقوله في موضع آخر ) اذهب إلى فرعون إنه طغى( ل ينافي هذا لنهما إذا كان مأمورين
فكل واحد مأمور ويجوز أن يقال أمر موسى أول ثم لما قال واجعل لي وزيرا من أهلي قال
اذهبا إلى فرعون(تفسير القرطبي)،(13/31وقيل ):خص موسى وحده بالمر بالذهاب فيما تقدم
وجمعهما هنا تشريفا لموسى بإفراده،وتأكيدا للمر بالذهاب بالتكرير.وقيل:إن فى هذا دليل على
أنه ل يكفي ذهاب أحدهما.وقيل:الول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس،والثاني أمر لهما
بالذهاب إلى فرعون(فتح القدير))،(3/366ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب فى
بعض المواطن لكونه الصل فى الرسالة والجمع بينهما فى الخطاب لكونهما مرسلين جميعا(فتح
القدير).(4/76
] 142طه.[43:
]143طه.[45:
] 144الّنازعات.[17:
145انظر :تفسير ابن كثير)(154 /3وتفسير الطبري)(16/158،168وتفسير ابي السعود )
(6/11،12وتفسير الواحدي)(2/693،695،1170وتفسير النسفي)(3/53وروح المعاني)
.(16/181
]146طه.[71:
147تفسير ابي السعود).(6/29وانظر:تفسير البيضاوي).(4/61
39
وهذا ما نفهمه من المناسبة في قوله تعالى’’:قال ألقها يا
موسى،فألقاها فإذا هي حية تسعى،قال خذها ول تخف
سنعيدها سيرتها الولى،واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء
من غير سوء آية أخرى،لنريك من آياتنا الكبرى،اذهب إلى
فرعون إّنه طغى‘‘،148فبعد أن آنسه بالعصا واليد ،وأراه ما يدل على أّنه
رسول،ومّهد له تلك المقدمات ،أمره بالذهاب إلى فرعون وأمره أن يدعوه
ن موسى عليه السلم قادم على مهمة صعبة وهي:قول ،149وليس هذا إل ّ ل ّ
الحق أمام فرعون الذي طغى.
ومن هنا كان الخطاب من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه
السلم’’:اذهب إلى فرعون‘‘)الذي خرجت فارا منه وهاربا،فادعه إلى
عبادة الله وحده ل شريك له،ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ول
يعذبهم،فإّنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب العلى…
فاستشعر موسى عليه السلم ثقل المهمة،فتوجه إلى الله بالسؤال أن
يشرح له صدره فيما بعثه به،فإّنه-سبحانه -قد أمره بأمر عظيم وخطب
جسيم،بعثه إلى أعظم ملك على وجه الرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا
وأكثرهم جنودا وأعمرهم ملكا وأطغاهم وأبلغهم تمردا،بلغ من أمره أن
ادعى أّنه ل يعرف الله ول يعلم لرعاياه إلها غيره(.150
فكان رد ّ موسى عليه السلم ببسط مسألته،وقد أحس بضخامة المهمة
ن موسى وخطورتها ووعورتها،فطلب كل ما يساعده على المواجهة؛ذلك أ ّ
عليه السلم تربى في قصر فرعون ويعلم من هو فرعون،ويعلم ماذا فعل
ببني إسرائيل،فطلب من الله التيسير’’قال رب اشرح لي
صدري،ويسر لي أمري،واحلل عقدة من لساني،يفقهوا
قولي،واجعل لي وزيرا من أهلي،هارون أخي،اشدد به
أزري،وأشركه في أمري‘‘،151لّنه ضاق موسى صدرا بما ك ُّلف من
مقاومة فرعون وجنوده،فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق وينوره
باليمان والّنبوة حتى ل يخاف فرعون وجنوده ،وليحتمل الوحي والمشاق
وردئ الخلق من فرعون،وسأل الله أن يسهل عليه ما أمره به وبعثه له
من تبليغ الرسالة إلى فرعون،وأن يحلل عقدة من لسانه،152وأن يجعل له
وزيرا من أهله هارون أخيه:أي ظهيرا يعتمد عليه ويعينه على تبليغ الرسالة
.153
ن تجاوز فرعون الحد والفراط في المعصية له أسبابه؛فالطغيان مهما إ ّ
دته ينبع من مشاعر الستغناء بسبب كثرة المال أو امتداد كانت درجة ح ّ
الجاه أو غزارة العلم أو قوة في البدن..وقد تجتمع أسباب عدة-كما هو
الحال عند فرعون حين كُثر ماله وجنده وأتباعه وامتد جاهه وسلطانه-حينئذ
ل الطغيان حالته الهستيرية وهي الحالة المتمثلة بشخص الطاغوت ص ُيَ ِ
]148طه.[24-19:
149انظر:تفسير القرطبي)(11/192وتفسير ابي السعود).(6/11
150تفسير ابن كثير)(3/147مع بعض التصرف.
] 151طه.[32-25:
)152ولو سأل الجميع لزال ولكن النبياء ل يسألون إل بحسب الحاجة،ولهذا بقيت بقية،قال الله
تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال’’:أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين‘‘أي يفصح
بالكلم(تفسير ابن كثير).(148-3/147
153انظر:تفسير القرطبي)(11/192وزاد المسير)(5/281وتفسير النسفي).(3/53،54
40
ن النسان ليطغى،أن رآه فرعون.يقول تعالى’’:كل ّ إ ّ
استغنى‘‘،154فالعلقة مطردة بين الستغناء والطغيان،فبمقدار ما يستغني
النسان-إل ّ من خاف مقام ربه ونهى الّنفس عن الهوى-بمقدار ما يطغي.
ج عنه آثار مدمرة وفساد ن تجاوز الحد ّ في الجريمة والفراط فيها َينت ُ إ ّ
وخلل في كل شيء،وهو ما ُيرشد إليه قوله تعالى’’:وفرعون ذي الوتاد،
ن الطغيان الذين طغوا في البلد،فأكثروا فيها الفساد‘‘155؛ذلك أ ّ
يفسد الطاغية ويحوله إلى كائن مفترس بل مشاعر وأحاسيس،وهذا ما نراه
ن بشرا ُيقدم في بعض الجرائم التي ترتكب ويصعب علينا أن نتصور أ ّ
عليها.إّنهم يحرقون الرض مع البشر بأبشع أنواع القتل والتدمير،وبأعتى
السحلة وأفظعها دون رحمة أو شفقة.ول عجب فتلك هي نفسية
الطاغوت،وتلك هي شخصية فرعون تظهر مرة بعد مرة!
والطغيان ُيفسد العلقة بين الطاغية والجماهير فهو ينهب خيراتهم
م ُيسيء التصرف بها،ويمنعهم من حرية التعبير وأموالهم ث ّ
والمشاركة،فتنعدم مشاعر النتماء للدولة،وتصبح الجماهير مستعدة لفعل
ل شيء تصل إليه أيديها ما دامت آمنة من الملحقة والمراقبة والقانون؛ ك ّ
فالعلقة بين الحاكم والمحكوم-في ظل الطاغوت-مشحونة بالحقد
والكراهية،تدور بين كيد الطاغية وتدبيره وبين رد ّ الجماهير على هذا الكيد
ل طرف يتربص بالطرف الخر. والتدبير،فك ّ
ل شخصيته الطاغية أصفار ل وزن لهم ول قيمة،حيث ن الّناس في ظ ّ إ ّ
ل الشجار الكبيرة،فل نور ول ل يوجد متسع للحشائش الصغيرة في ظ ّ
هواء،فيبقى الّناس في الهامش وتسلط الضواء على صاحب الجللة!فهو
الحكمة والشجاعة والكرم…وهو الملهم الذي جاد به الزمن!فلوله لما كان
الرخاء والعلم ولجاع الناس وفسدت الرض!ولوله لصبح الّناس أيتاما ل
راعي لهم…إّنه إله سواء نطق بها كما فعل فرعون أم لم ينطق بها كما هو
حاصل اليوم!
ن الطاغية فاسد في جوهره ليس عنده شيء وليس هو على ول ّ
شيء،ويعيش حالة نفسية فقيرة خاوية من المعاني التي ُترضي النسان
صغر في ذاته مناقضا لما ُيظهره وُتقنعه بمبرر وجوده،فهو يعيش عقدة ال ّ
ّ
للّناس من النتفاش،وبسبب هذا الواقع المّر نراه يحقد على كل من يرى
فيه قدرة على استمالة الجماهير والفوز بثقتها،وبهذا نفهم المحاولت
الضخمة من أجل إقصاء الجماعة المسلمة عن الحياة السياسية،بل وعزلها
ما أمكن عن حياة الّناس،لما تتمتع به من مميزات تجعلها أمل
نالجماهير.بينما يعيش الطاغوت أسير المخاوف والعقد النفسية؛ذلك أ ّ
الطاغوت ل يستمد شرعيته من الرادة الحرة للجماهير،فهو يحكمهم بالقسر
والقهر،ولذلك يبقى الطاغية متخوفا متوجسا لّنه ُيدرك تلك الحقيقة.
المبحث الرابع
الظلم
]العلق.[6،7: 154
]الفجر.[11-10: 155
41
)الظلم :وضع الشيء في غير موضعه()،156وأصل الظلم الجور
ومجاوزة الحد… والظلم الميل عن القصد(.157والظلم بكل معانيه وصوره
ظل،وهو من خصائص شخصيته التي بّينها القرآن ملزم لفرعون كال ّ
ن تلك الشخصية وضعت نفسها في غير موضعها بدعواها للربوبية الكريم،ل ّ
م ت ََرّتب
ن أساس هذه الشخصية ومنبتها قائم على الظلم،ث ّ واللوهية،بمعنى أ ّ
ن سلوك فرعون وتصوره على هذا الصل كل أنواع الظلم الخرى،ل ّ
ومنهجه…كل ذلك قائم على ذلك الصل الظالم بوضع شخصيته في غير
موضعها.وهو بذلك جار على الحق والحقيقة وجاوز كل حد،ومال عن القصد
ل الميل فكان من الناكبين،وهذا هو الظلم. ك ّ
وعلى هذا الساس-المتلبس بالظلم والمنغمس فيه-تنطلق شخصية
ن كل ما تفرزه هذه الشخصية أو تنشؤه م فإ ّ
فرعون إلى واقع الحياة،ومن ث ّ
من مناهج وأنظمة وأجهزة مرتبط بالحقيقة الولى وهي الظلم التي ُبنيت
عليه،فالشيء يرجع في المذاق لصله،وهي الحقيقة التي بّينها القرآن
الكريم.يقول تعالى’’:ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون
وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘،158ويقول
تعالى’’:وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين،159قوم
فرعون أل يتقون‘‘،160ويقول تعالى’’:فلما جاءتهم آياتنا مبصرة
قالوا هذا سحر مبين،وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا‘‘،161ويقول تعالى’’:قال ل تخف نجوت من القوم
الظالمين‘‘.162
لقد ظلموا-بزعامة فرعون وبتوجيه منه ودعم-بآيات الله،أي كفروا بها
فجعلوا موضع ما يجب من اليمان-الذي هو من حقها لوضوحها-الكفر
فقيل:ظلموا بها بمعنى كفروا بها،ولهذا أجري الظلم مجرى الكفر لكونهما
من واد واحد ) ،163فالظلم وضع الشيء في غير موضعه()،164والكفر بآيات
الله وضع لها في غير موضعها وصرف لها إلى غير وجهها الذي عنيت به(.165
156الفيروزآبادي:محمد بن يعقوب)،ت 817هـ(،القاموس المحيط،جزء واحد.فصل
الظاء،مادة:الظلم)،(1464وسأشير إليه لحقا هكذا)القاموس المحيط(،ولسان العرب،مادة ظلم)
.(12/373
157لسان العرب،مادة ظلم)(12/373مع بعض التصرف.وانظر مختار الصحاح،مادة ظلم).(170
] 158العراف.[103:
)159قوله في طه):إلى فرعون(]طه،[43:وفي الشعراء)أن ائت القوم الظالمين،قوم فرعون أل
يتقون(]الشعراء،[11 10:وفي القصص)فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه(]القصص:
،[32لن طه هي السابقة وفرعون هو الصل المبعوث إليه وقومه تبع له،وهو كالمذكورين
معه،وفي الشعراء قوم فرعون،أي قوم فرعون وفرعون،فاكتفى بذكره في الضافة عن ذكره
مفردا،ومثله’’أغرقنا آل فرعون‘‘أي آل فرعون وفرعون،وفي القصص’’إلى فرعون وملئه‘‘فجمع
بين اليتين فصار كذكر الجملة بعد التفصيل( الكرماني:محمود بن حمزة بن نصر ،أسرار
التكرار في القرآن،جزء واحد،تحقيق :عبد القادر احمد عطا ،ط ،2دار العتصام ،القاهرة،
1396هـ،(1/139).وسأشير إليه لحقا هكذا)أسرار التكرار في القرآن(.
] 160الشعراء.[11-10:
] 161الّنمل.[14-13:
] 162القصص.[25:
163انظر :النحاس:أبو جعفر)،ت ،(338معاني القرآن الكريم،تحقيق :محمد علي
الصابوني،ط ،1جامعة أم القرى ،مكة المكرمة1409 ،هـ،(3/60).وسأشير إليه لحقا
هكذا)معاني القرآن(،وتفسير البيضاوي)(3/45وتفسير ابي السعود)(3/257وتفسير النسفي)
(28-2/27والكشاف).(2/131
164تفسير القرطبي).(7/256وانظر:تفسير الطبري)(9/13وتفسير البغوي).(2/185
165تفسير الطبري).(9/13
42
ن) كفره باليات التى جاء بها موسى كان كفرا وكان ظلمه عظيما ل ّ
متبالغا،لوجود ما يوجب اليمان من المعجزات العظيمة التى جاءهم
بها،والمراد باليات هنا هى اليات التسع(،166والتي أرشد إليها قوله
تعالى’’:ولقد آتينا موسى تسع آيات بّينات‘‘.167
ويتعاظم ظلم فرعون كلما تنوعت وتعددت اليات،فرد ّ الدليل مع ازدياد
قوته يوجب أشد ّ العذاب،ولهذا كان قوله تعالى في شأن المائدة التي طلبها
بنو إسرائيل من عيسى عليه السلم’’:إّني منـّزلها عليكم فمن يكفر
بعد منكم فإّني أعذبه عذابا ل أعذبه أحدا من العالمين‘‘.168
وها هي اليات تأتي فرعون مبصرة)إشعارا بأنها لفرط اجتلئها للبصار
بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر،أو ذات تبصر من حيث إنها
تهدي،والعمي ل تهتدي فضل عن أن تهدي،أو مبصرة كل من نظر إليها
ن هذا سحر مبين واضح وتأمل فيها،فكان رد فرعون ومن تبعه أ ّ
سحريته،وجحدوا بها وكذبوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وترفعا عن
قنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا،ولكّنهم كفروا بها اليمان(،169أي تي ّ
وتكّبروا أن يؤمنوا بموسى،وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين ظالمين على
غير استحقاق للجحد ،170فالظلم يحمل صاحبه للجحود مهما كانت اليات
ن الظالمين بآيات الله والمعجزات،وهو مصداق قوله تعالى ’’:ولك ّ
يجحدون‘‘.171
ولقد أفرط فرعون في ظلمه وبارز الرب بالمخالفة،وادعى أّنه الرب
ل شخصيتة العلى،فإن لم يكن ظالما فهو الظلم بعينه،فصار الخروج من ظ ّ
الظالمة نجاة وطمأنينة،وذلك ما أراده الرجل الصالح من مدين من قوله
لموسى’’:ل تخف نجوت من القوم الظالمين‘‘)،172يريد فرعون
وقومه.فطب نفسا وقّر عينا فقد خرجت من مملكتهم فل حكم لهم في
ن مدين كانت خارجة عن بلدنا،فليس لفرعون ول لقومه علينا سلطان،ل ّ
مملكة فرعون(.173
وهكذا تتكرر صور الخروج والهجرة،وتزداد أعداد الهاربين من الظلم
ممت الفواه طالبين حق اللجوء السياسي في بلد الكفار!بعد أن ك ُ ّ وال ّ
وُنصبت أعواد المشانق في بلد العرب والمسلمين.إّنها ذات القصة القديمة.
تنوع الظلم في ظل شخصية فرعون
ظلم للحق الذي عرفوه وأيقنوه،يقول تعالى’’:والكافرون هم
ن مجرد معرفة الحق وعدم مناصرته ظلم عظيم يحاسب الظالمون‘‘،174فإ ّ
عليه النسان يوم القيامة،فكيف بمن ينكره ويحاربه؟!بل ويستخدم شّتى
166فتح القدير).(2/231
] 167السراء.[101:
] 168المائدة.[115:
169تفسير البيضاوي)(4/261مع بعض التصرف.
170انظر تفسير القرطبي)(13/163وتفسير الطبري)(15/174والثعالبي :عبد الرحمن بن محمد
بن مخلوف،الجواهر الحسان في تفسير القرآن4،أجزاء،مؤسسة العلمي
للمطبوعات،بيروت،(3/157).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير الثعالبي(.
] 171النعام.[33:
]172القصص.[25:
173تفسير ابن كثير ).(3/151،385وانظر:تفسير القرطبي)(13/271وتفسير الطبري)
(20/61ومعاني القرآن)(5/175وتفسير الواحدي)(2/816وتفسير البغوي)(3/442وفتح القدير)
(4/168وزاد المسير)(6/215وتفسير النسفي).(3/233
] 174البقرة.[254:
43
الوسائل والحيل لحجبه ومنعه وقهره ومحاصرته،ويبذل الجهد والمال بسعي
دؤوب لتشويه الحقائق كي ل تصل إلى الّناس صافية بالكذب والتضليل
المبرمج.
وظلم للنفس،حيث عّرضوها للعذاب في الدنيا،فكل من ل يرتبط بالحق
طربة يسودها القلق والخوف والهواجس والحسرة والعبثية يعيش حياة م ّ
والحزن والشقاء…وغير ذلك كثير من أمراض الّنفس الفّتاكة التي تصاحب
ل ذلك من العذاب الدنى دون العذاب إنكار الحق وعدم القبول به.وك ّ
الكبر،وهو تعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد في جهّنم يوم القيامة،يقول
ن الله غافل عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم تعالى’’:ول تحسب ّ
ليوم تشخص فيه البصار،مهطعين مقنعي رؤوسهم ل يرتد
إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء‘‘،175ويا لها من عاقبة مؤلمة ل يعلم
مداها إل ّ الله،حيث ينقلب ظلمه ظلمات عليه،يقول صلى الله عليه
وسلم’’:الظلم ظلمات يوم القيامة‘‘.176
وظلموا الناس بصدهم عن اليمان بها،وحجبوا عنهم نور الهداية ورحمة
الله،فآذوا من آمن،وعّرضوه للفتنة كي ل يبقى على إيمانه،وظلموا بني
إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب وذبح أولدهم وأخذ أموالهم
ومصادرة حقوقهم،فليس لهم إل ّ ما يبقيهم على قيد الحياة لخدمة
فرعون،والمعصية هنا أشد من غيرها لنها ل تقع غالبا إل بالضعيف الذي ل
يقدر على النتصار،وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب،لنه لو استنار بنور
الهدى لعتبر.
ل شخصية فرعون تعددت دركاته أيضا،فقد أتى وكما تنوع الظلم في ظ ّ
م
فرعون بأعظم أنواع الظلم وهو الكفر بآيات الله بل وادعى أّنه رب وإله،ث ّ
ما سفكه من الدماء بغير حق،وسلبه أموال الّناس وإذللهم..فلم يترك
ن)العلة المانعة من الظلم عقل زاجر،أو دين جريمة إل ّ وفعلها،ولقد قيل:أ ّ
177
حاجز،أو سلطان رادع،وعجز صاد( ،وإذا تأملت لم تجد عند فرعون واحدة
منها.
ل من شارك الظالمين أو سكت لغير عذر مشروع فهو منهم ك ّ
ن الذين ظلموا منكم يقول تعالى’’:واتقوا فتنة ل تصيب ّ
178
مه
صة‘‘ ،أي)ل تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل يع ّ خا ّ
وغيره،كإقرار المنكر بين أظهرهم،والمداهنة في المر بالمعروف والنهي
عن المنكر،وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد(،179فالله
سبحانه وتعالى يأخذ الظالمين وأتباعهم وأعوانهم والساكتين بغير عذر
من كتم شهادة عنده شرعي عن ظلمهم،يقول تعالى’’:ومن أظلم م ّ
من الله‘‘)،180لّنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها( .فإذا سكت
181
44
ن الذين يكتمون ما أنزلنا من يحملها العالمون بها؟يقول تعالى’’:إ ّ
البينات والهدى من بعد ما بّيناه للّناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللعنون‘‘182والكتمان)ترك إظهار الشيء قصدا مع
مساس الحاجة إليه،وتحقق الداعي إلى إظهاره،وذلك قد يكون بمجرد ستره
وإخفائه(.183
لقد أخذ الله فرعون وأخذ جنوده الذين شاركوه في ظلمه،يقول
تعالى’’:فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ،فانظر كيف كان
عاقبة الظالمين‘‘،184فانظر كيف أخذ الله فرعون على ضخامة ظلمه مع
ن أدنى مساندة للظالمين الجنود على صغر ظلمهم بالمقارنة مع فرعون،ل ّ
تجعل صاحبها يستحق العقوبة نفسها،فالتباع والمتبوعون في العقوبة سواء
ن الظالم ل يقوى كما هو واضح في كثير من المواضع في القرآن؛وذلك ل ّ
معين؛فبقاء الظلم والعدوان مرتبط على الظلم والعدوان وحده دون ُ
بالمساندين والراضين وحتى الساكتين بغير عذر شرعي،الذين ُيشكلون
البنية التحتية للظلم.يقول تعالى’’:ول تركنوا إلى الذين ظلموا
فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم ل
تنصرون‘‘،185و)الركون حقيقة الستناد والعتماد والسكون إلى الشيء
186
مل وجهه القبيح،ويؤدي إلى والرضا به( ،فالرضا بالظلم من قبل الّناس ُيج ّ
أن ُيصبح وجها مقبول بدل أن يكون منبوذا ومحاربا،كما أّنه ُيغري الظالم
بالستمرار في ظلمه،وربما ُيغريه لتوسيع دائرة ظلمه،طالما هو وجه مقبول
ي عنه. مْرض ّ
و َ
الظلم قلب للوضاع
ما دام الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فهو قلب
للوضاع،وأخطر الظلم هو وضع مناهج للحياة بدل عن منهج الله
سبحانه،فتصبح الحياة مقلوبة بالكامل،وهذا هو منشأ الظلم الذي نشاهده
اليوم بكافة أشكاله وألوانه،وذلك ما يرشد إليه قوله تعالى’’:ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‘‘،187أي)المبالغون في
الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشيء في غير
ل حكم بغير ما أنـزل الله وضع للمور في غير نك ّموضعه(،188والمعنى أ ّ
ما يفسر لنا هذا النتشار المرعب للظلم في مشارق الرض موضعها،م ّ
ومغاربها؛فمن المستحيل أن توضع المور في موضعها ما دامت شريعة الله
مستبعدة عن حياة الّناس.
وحتى تستقيم الحياة وتوضع المور في موضعها،ويقوم الّناس بالقسط
ل بد ّ من ميزان الشرع،وهذا ما ُيرشد إليه قوله تعالى’’:لقد أرسلنا
رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الّناس
بالقسط‘‘.189أي)ليعمل الناس بينهم بالعدل(.190
]182البقرة.[159:
183تفسير أبي السعود).(1/182
]184القصص.[40:
]185هود.[113:
186تفسير القرطبي).(9/108
] 187المائدة.[45:
188تفسير أبي السعود).(3/43
]189الحديد.[25:
190تفسير الطبري).(27/237
45
من تحكموا في رقاب الّناس أّنهم مسلمون وأن وقد يدعي البعض م ّ
بلدهم الذي يحكمونه مسلما…ولكّنهم كاذبون في دعواهم،فالواقع العملي
ن الحكم المطبق هو حكم الشيطان والهوى،فلعنة الله على يقول:أ ّ
الظالمين.
المبحث الخامس
الفساد
الفساد-لغة) -نقيض الصلح(،191و)المفسدة ضد المصلحة(،192فهو-أي
الفساد-خلل يطرأ على الشياء فيمنع الستفادة منها،ويحيلها إلى وضع
تستحيل معه المنفعة،فالطعام الفاسد ل ُيؤكل،والشراب الفاسد ل ُيشرب…
ل ما طرأ عليه الفساد يخرج من دائرة النتفاع به،وهكذا حياة الّناس قد وك ّ
يصيبها الفساد،فيتبدل المن خوفا،والعدل جورا،والطمأنينة قلقا واضطرابا…
وينحرف سير الحياة عن الغاية التي خلق من أجلها النسان،فتتعطل
الوظيفة المناطة بالبشر كما لو حصل الخراب بآلة فَعَ ّ
طلها عن أداء
وظيفتها.
وتكون خطورة الفساد متناسبة مع أهمية الجزء المصاب من حياة
الّناس ومدى حيويته،ففساد العقيدة والّتصور أخطر من فساد
التشريع.وتشتد ّ خطورة الفساد ويزداد تأثيره مع طول الفترة التي يبقى بها
ول إلى مرض مزمن يصعب الخلص منه. الخلل قائما،لّنه قد يتح ّ
وقد يكون الفساد في موظف صغير ولكّنه مع ترّقي الرتبة أخطر،فإذا
كان في رأس الهرم أصبح مأساة!وقد يكون في جزء من المنهج،ولكنه إذا
ما إذا كان المنهج المطبق من أساسه انتشر في أجزاء أخرى أخطر،وإ ّ
ن الحياة تصبح جحيما ل توصف.فكيف ورأس الهرم فرعون ومنبعه فاسدا فإ ّ
ّ
مفسد وليس بفاسد فحسب؟!ومنهج الحياة في ظله-جملة وتفصيل،وأصول
ن فرعون عل في الرض وجعل أهلها وفروعا-فاسد!يقول تعالى’’:إ ّ
شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إّنه
كان من المفسدين‘‘.193أي إّنه كان من الراسخين في الفساد،ولذلك
اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من ل جنحة له من أبناء النبياء عليهم
م هو من المفسدين في الرض بالعمل والمعاصي السلم لتخيل فاسد،ث ّ
ن القتل من فعل أهل الفساد والتجبر والقتل،وفي الية الكريمة بيان أ ّ
،194وفرعون أسرف في القتل،أي أسرف في الفساد.
ن الفساد نتيجة حتمية لمن ظلم وطغى وجعل نفسه إلها من دون إ ّ
الله،ومن هنا لم تكن هذه الشخصية مفسدة فحسب بل كانت كثيرة الفساد
بالجور والذى،195يقول تعالى’’:وفرعون ذي الوتاد،الذين طغوا في
46
البلد،فأكثروا فيها الفساد،فصب عليهم ربك سوط
ل مناحي الحياة،فانتشر الكفر والظلم عذاب‘‘،196حيث أصاب الخلل ك ّ
والجور والذى والقتل والمعاصي…حتى وصل الفساد والفساد عقول الّناس
وتصوراتهم ،وهو أخطر فساد يمكن أن يقع ،ولم يكن عطاؤه للسحرة
وإجابتهم لما طلبوا إل ّ في سبيل إفساد عقول الناس وأفكارهم وتصوراتهم
بهذه التهاريج.يقول تعالى’’:فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به
197
ن الله ل يصلح عمل المفسدين‘‘ )،أى ن الله سيبطله إ ّ السحر إ ّ
198
عمل جنس المفسدين على الطلق فيدخل فيه السحر دخول أوليا( ،فالية
ن السحر-الذي كان فرعون يرعاه وينفق عليه-من عمل دليل على أ ّ
ن الله ل يصلح عمل من سعى في أرض الله بما المفسدين).والمعنى أ ّ
200 199
يكرهه وعمل فيها بمعاصيه ( )ول يجعل عملهم نافعا لهم ( .
وحصل ذلك حين حاول فرعون من خلل السحر -الذي كان جزءا من
نظامه -أن ينتصر على موسى عليه السلم ويعارض ما جاء به عليه السلم
من الحق المبين بزخارف السحرة ،عند ذلك قال موسى عليه السلم’’:ما
ن الله ل ُيصلح عمل المفسدين‘‘.ن الله سيبطله،إ ّ جئتم به السحر إ ّ
وأصل فساد فرعون وإفساده أّنه كان من المكذبين الكافرين بآيات
الله،يقول تعالى’’:ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون
وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘ ،201ويقول
تعالى’’:فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين،وجحدوا
بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة
دوا عن سبيل الله وكذبوا رسله(،203وكم بذل المفسدين‘‘).202أي الذين ص ّ
ن
فرعون جهودا ليل ونهارا للصد عن سبيل الله،حتى أّنه يصح مّنا القول:إ ّ
وظيفته ووظيفة من حوله من المل والحاشية والجند ليست سوى الصد عن
سبيل الله،وهكذا هي حال كل سلطة حاكمة تمارس الفساد.
والمعنى)فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي المكذبين باليات
ن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الكافرين بها وجعلهم مفسدين ل ّ
الفساد(،204لما يترتب على هذا التكذيب من آثار خطيره،حيث ل تصلح الحياة
كفر بها،و)وضع المفسدين موضع ضمير الظالمين ذب بآيات الله و ُ إذا ك ُ ّ
205
نلليذان بأن الظلم مستلزم للفساد( ،ففرعون ظالم ومفسد،وكأ ّ
شخصيته موضع لكل رذيلة،فهذه الرذيلة مرتبطة مع رذيلة أخرى،وتلك
مفسدة تفرز مفسدة أخرى.
ن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الجتماعية حين )إ ّ
يكون أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله،وما صلحت
الرض قط ول استقامت حياة الناس إل ّ يوم أن كانت عبوديتهم لله وحده –
] 196الفجر.[13-10:
] 197يونس.[81:
198تفسير ابي السعود).(4/170وانظر:فتح القدير)(2/466وروح المعاني).(11/167
199تفسير الطبري).(11/148
200زاد المسير).(51 /4وانظر :تفسير الواحدي).(1/505
]201العراف.[103:
] 202الّنمل.[14-13:
203تفسير ابن كثير).(2/236
204فتح القدير).(2/231
205تفسير أبي السعود)(3/257وانظر:روح المعاني).(9/18
47
عقيدة وعبادة وشريعة -وما تحرر النسان قط إل ّ في ظلل الربوبية الواحدة
،ومن ّثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه’’:فانظر كيف كان عاقبة
المفسدين‘‘.206وكل طاغوت يخضع العباد بشريعة من عنده،وينبذ شريعة
الله،هو من المفسدين الذين يفسدون في الرض ول يصلحون ؟(207؛ذلك أ ّ
ن
صلح هذا الكون بالقوانين التي تحكمه،فهو مسخر من الله بتلك
القوانين،وبالتالي أصبح نافعا،وحين يطبق الّناس قانون الله-أي شرعه-في
حياتهم تصبح مفيدة مؤدية لغايتها كما هو حال هذا الكون،فالشرع هو الذي
ُينظم حياتنا لتصبح صالحة ومفيدة،فإذا استثني الشرع تصادمت الهواء
والغراض وحصل الخلل والفساد.
م كانت نهاية هذه الشخصية المفسدة بائسة وعاقبتها وخيمة،فالله ث ّ
ُيمهل ول ُيهمل،فبفسادهم صب عليهم ربك سوط عذاب،وأنزل عليهم رجزا
من السماء،وأحل بهم عقوبة ل ُترد ّ عن القوم المجرمين،وقص علينا خبرهم
ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لكل فاسد مفسد،فل يقعوا فيما وقع
ن سنة الله واحدة ل تبديل فيها ول تحويل،يقولفيه أسلفهم،ل ّ
تعالى’’:حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أّنه ل إله إل الذي آمنت
به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين،آلن وقد عصيت قبل وكنت
من المفسدين‘‘.208أي)الصادين عن سبيل الله(.209
ن فرعون من وهكذا تكون آخر اللحظات إعلن من الله سبحانه أ ّ
المفسدين ،فُتختم صفحة حياته الفاسدة بتسجيل وصمة العار التي تلحقه
وتلحق كل مفسد،وتغيب بين المواج شخصية فاسدة مفسده عليها اللعنة
من الله.
الفساد في ظل الطاغوت المعاصر
ن الفساد خلل ُيصيب الحياة،والّناظر في حياة الّناس اليوم يرىقلنا:إ ّ
ن الخلل قد أصاب معظم مناحي حياتهم؛خلل في الفكر والتصور أ ّ
والمفاهيم،أورث القلق والضطراب والمراض الّنفسية وفقدان السعادة
والطمأنينة..وخلل في الّنظام السياسي العالمي والقليمي والمحلي،أورث
انتشار الرشوة والمحسوبية واستثناء الكفاءة،وفشت عقلية المؤامرة
وفقدان الثقة،وانعدمت روح المسؤولية،وغاب حس النتماء.وخلل في
الخلق أورث انتشار الجريمة المنظمة والشذوذ الجنسي وهدم السرة
وظهور الوصوليين.وخلل في العلم الذي أصبح هدفه الهبوط بالنسان إلى
مرتبة الحيوان،وإحياء الغرائز الحيوانية فيه،وزرع الفكار المادية الخاوية من
أي روح إنسانية.وخلل في القتصاد بنشر الربا وما يتبع ذلك من فساد
وشر،ونشر الغش والحتكار والغبن وعدم المانة والختلس…إّنه الخلل
الذي نشاهد آثاره في المجاعات المنتشرة هنا وهناك وموت اللف من
البشر جوعا،ونشاهده في انتشار جيوب الفقر على أطراف الحياء المترفة
والمتخمة،وما يتبع هذا من خلل في العلقات الجتماعية وانحرافات جنونية
هستيرية.
ن أخطر ما في ظاهرة الفساد والفساد المعاصر هو أن يتحول الفساد إ ّ
ُ
إلى منظومة متكاملة من فكر فاسد،أنشأت له مدارس ومعاهد،ومناهج ُتبنى
]206النمل.[14:
207في ظلل القرآن).(597-3/596
] 208يونس.[91-90:
209تفسير الطبري).(11/164
48
ن المفسدين في الرض يسيطرون على المفاصل عليه،وخصوصا أ ّ
الحساسة في حياة الّناس.
م المفسدون مشروعهم عملوا بكل قوتهم لمنع عناصر ومن أجل أن ُيت ّ
الصلح المتمثلة بالجماعة المسلمة من الحركة،فهم يحاولون محاصرة أي
نشاط إصلحي وعلى كافة المستويات؛السياسية والجتماعية والثقافية
والعلمية..بل وصل بهم المر إلى إغلق المعاهد والمدارس السلمية ومنع
المتحجبات من دخول المؤسسات الحكومية من المدرسة والجامعة وصول
إلى البرلمان رمز الديمقراطية الحديثة!
ن المنع المفروض على القوى المصلحة،وإطلق العنان لليد المفسدة إ ّ
نذير شؤم،وناقوس خطر ندقه فوق رؤوس الّناس،فمع مرور الزمن تنكسر
الحواجز الّنفسية،والتي لول انكسارها لما أعلن فرعون ُألوهيته وربوبيته!
حينئذ ينفلت النسان من قيد القيم،وُتصبح الحياة عفنا ً كامل!وُيصبح المصلح
غريبا.وهو ما ُيريده المفسدون في الرض.
ولمنع الفساد ل بد ّ من المدافعة،يقول تعالى’’:ولول دفع الله الّناس
بعضهم ببعض لفسدت الرض‘‘،210فلول أّنه سبحانه وتعالى)يدفع بعض
الناس ببعض،وينصر المسلمين على الكفار،ويكف بهم فسادهم لغلبوا
وأفسدوا في الرض(.211ول بد ّ في مرحلة متقدمة من القتال،يقول
دين كّلهتعالى’’:وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون ال ّ
لله‘‘،212أي)حتى ل يكون شرك(،213فالشرك أساس لكل فساد.
المبحث السادس
214
الستبداد
الستبداد في اللغة من استبد) يقال استبد بالمر يستبد به استبدادا إذا
انفرد به دون غيره،واستبد برأيه انفرد به(،215و)استبد بالمر انفرد به من
ن المستبد ل يقبل قول غير مشارك له فيه(،216ويترتب على هذا التعريف أ ّ
ده
من ُيحاول مشاركته بما يع ّ فر م ّ
غيره،ويميل بطبعه للنفراد والستئثار،وين ُ
حقا خاص به.
وفرعون على هدي هذا التعريف مستبد منفرد بالرأي والتصرف
ن فرعون الدولة والدولة ويختصر الدولة في شخصيته،حتى صح القول مّنا إ ّ
فرعون!وكيف ل يكون المر كذلك وهو الذي نصب نفسه إلها؟!وهل يقبل
الله رأي الخر؟ أو حتى يسمح للخرين أن يقدموا بين يديه! وما كان للعبيد
ما يفعل وهم يسألون!فل عجب أن يناقشوا أو يحاوروا إلههم،فهو ل ُيسأل ع ّ
ي أن تتميز شخصيته بالستبداد المطلق لكونه إذن بعد هذا المنطق الفرعون ّ
إلها!وهذا يعني حرمان الناس من ممارسة حياتهم الطبيعية؛فالمستبد يفرض
]210البقرة.[251:
211تفسير البيضاوي).(1/584
]212النفال.[39:
213تفسير الطبري)(2/192وانظر :تفسير الثعالبي).(1/150
) 214الستبداد :وهو افتعال من المر كأن نفسه أمرته فائتمر أى امتثل أى ل يأتى برشد من
قبل نفسه ول يقبل قول غيره( الزمخشري:محمود بن عمر538-467)،هـ(،الفائق في غريب
الحديث4،أجزاء،تحقيق :علي محمد البجاوي –محمد أبو الفضل إبراهيم،ط ،2دار المعرفة،لبنان.
)،(4/123وسأشير إليه لحقا هكذا)الفائق(.
215لسان العرب،مادة:بدد).(3/81
216المصباح المنير،مادة :بدد)(1/38وانظر:مختار الصحاح،مادة:بدد).(18
49
مستبد نفسه على الّناس بقهرهم على ما يريد،وتصبح الدولة في ظ ّ
ل ال ُ
سخ شخصية انعكاسا لشخصيتة وتعبيرا عن طموحاته ونزواته وشهواته..وُتم َ
ل قدرتها على التغيير والتصحيح،ومع مرور الزمن تتعفن المة وتق ّ
النفوس،وتتعايش مع الذل والستحمار،وفي بعض المراحل تفقد الجماهير
القدرة على الستقلل،فتصير بحاجة إلى التدرج والتدريب حتى تستعيد
ل الحرية. عافيتها وتصبح قادرة على العيش مرة أخرى في ظ ّ
لقد ازداد استبداد فرعون تحت غطاء الدين؛فالّناس بطبعهم يخشون
ن رجال الدين في عصره الخروج عن رأي الدين ومخالفة الله،ول شك أ ّ
لعبوا دورا كبيرا في هذه القضية وإعطاء فرعون صفة القدسية،فهو-
بزعمهم-إله ل ُيخطىء ول يجوز الخطأ عليه.وهي نفس الممارسة التي
مارستها الكنيسة على الّناس في عصور الظلم في أوروبا.فباسم الدين
تكمم الفواه وتسجن الكلمة!ولهذا كانت ثورة الّناس في أوروبا على الدين
ن رفضهم للدين ن كل دين هو كدين الكنيسة،بمعنى أ ّ كل الدين،لّنهم ظّنوا أ ّ
محّرف.وما من شك أن ديانة الفراعنة كان من واقع تجربتهم مع الدين ال ُ
ليست سوى خرافات وأساطير ُقصد منها تحقيق مصالح للمستفيدين منها.
ن الستبداد ملزم لدعوى اللوهية والربوبية التي زعمها فرعون إ ّ
لنفسه،وملزم لضعف الحجة والبرهان،فعندما تفلس الحكومة المستبدة في
حججها وبراهينها-وهي التي تعلم قبل غيرها أّنها ليست على شيء-تلجأ
للعصا ترفعها فوق رؤوس الجماهير منعا ليّ رأي مخالف يكشف عن وهن
فكرها وزيف عقائدها.
ل على لقد أفرزت شخصية فرعون سلوكا ومنهجا وتصورا يد ّ
استبدادها،فالقرآن الكريم وإن لم ينص بالعبارة الصريحة على هذه الصفة
في شخصية فرعون،ولكّنها صفة تعلم بمجرد النظر فيما أورده القرآن
الكريم عن شخصية فرعون من أقوال وأفعال وسلوك ومنهج،وأهمها في
هذا الباب وأوضحها ما ادعاه فرعون من ربوبية وألوهية،وما تبع ذلك من
استعداد عند فرعون لفعل أيّ جريمة في سبيل المحافظة على ألوهيته
دعي،مستبدا ل وربوبيته المزعومة وإرغام الّناس على النصياع الّتام لما ي ّ
ن ذلك يكشف تهافت دعوته،فعدل-كما يقولون- يقبل فيها رأيا ول حجة،ل ّ
عن الحجة والبيان إلى السيف والسنان،وذلك معنى وجوهر قوله لموسى
عليه السلم’’:لئن اتخذت إلها غيري لجعلّنك من
217
ما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل المسجونين‘‘ .ذلك أّنه ل ّ
عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه،وعدل إلى التهديد بدل عن المحاجة
بعد النقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج 218الذي ل يقبل رأيا آخرا ول
يسمح ليّ إنسان أن يتنفس.
وللستبداد وسائله التي بها يخرس كل صوت ويقتل كل فكر،فها هو
وح لموسى بالعصا الغليظة المعهودة عند أولئك المستعبدين في فرعون يل ّ
ظل فرعون المستبد،يسلطها في وجه موسى عليه السلم’’،لجعلّنك من
المسجونين‘‘)،أي لجعلّنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني حيث كان
يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك لم يقل لسجننك(،219فسجونه
معروفة معهودة،تنشر الرعب وُتسكت الصوات!وهكذا تنتشر السجون في
] 217الشعراء.[29:
218انظر:تفسير البيضاوي)(4/176وتفسير ابن كثير)(3/334وتفسير الطبري).(19/70
219تفسير ابي السعود)(6/240وانظر:تفسير النسفي)(3/183وروح المعاني).(19/73
50
كل مرة تحكم فيها شخصية مستبدة،وبهذا-أيضا-نفسر حجم الشدة التي
ُيقمع بها أصحاب الدعوة السلمية في هذا الزمان.
وبحجم الستبداد الممارس من قبل فرعون-ومن شاكله-كانت سجونه
مرعبة مخيفة)،فسجنه أشد من القتل لّنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في
مكان وحده فردا ل يسمع ول يبصر فيه شيئا( )،220وكان إذا سجن أحدا لم
221
ول له نفسه رفع رأسه برأي عبرة! يخرجه حتى يموت( ،ليكون لمن ُتس ّ
ومن الدلة على استبداده قوله عز وجل’’:فما آمن لموسى إل
ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن
يفتنهم‘‘،222ومعنى الية الكريمة أّنه)ما آمن له عليه السلم في مبدأ أمره
إل ذرية من قومه أي إل أولد بعض بني إسرائيل،حيث دعا عليه السلم
الباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم فالمراد من
الذرية الشبان.
ن المؤمنين من غير بني إسرائيل-إذا كان الضمير ووجه آخر في الية أ ّ
في قومه عائدا إلى فرعون ل إلى موسى-أي من القبط قوم
فرعون،كمؤمن آل فرعون.وفي إطلق الذرية على هؤلء نوع خفاء.
ورجح بعضهم أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون،وكانوا قد ُبشروا
ن خلصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا وكذا،فلما ظهر موسى عليه بأ ّ
ن أحدا منهم خالفه،والمراد حينئذ فما أظهر إيمانه السلم إتبعوه،ولم يعرف أ ّ
وأعلن به إل ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه
بسبب خوفهم من فرعون وملئه،وربما بسبب خوفهم من أشراف بنى
إسرائيل لنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم.
ن الخلف في تحديد من آمن بموسى عليه السلم ل حال فإ ّ وعلى ك ّ
ليس هو الشاهد الذي نريد،إّنما أردت توضيح معنى الية لُيفهم الشاهد
ن من آمن -حين آمن -كان على خوف من فرعون ن الية دّلت أ ّ منها،وهو أ ّ
أن يفتنهم بالعذاب،فيصدهم ويصرفهم عن دينهم ويحملهم على الرجوع عن
إيمانهم والكفر بالله ،وإّنما أسند الفعل إلى فرعون خاصة لّنه المر
بالتعذيب .223وبهذا تظهر شخصية فرعون الستبدادية،وفي مقابلها فئة قليلة
آمنت على خوف ووجل منه،وأخرى أعرضت عن اليمان بالكلية!
ليس هذا فحسب فهناك نموذج آخر أفرزته شخصية فرعون الستبدادية
وهو كتمان اليمان،يقول تعالى’’:وقال رجل مؤمن من آل فرعون
يكتم إيمانه أتقتلون رجل أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات
سر إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه(.225 224
من ربكم‘‘ )،أي ي ُ ّ
ل شخصية مستبدة،عقدتها وهكذا سلك الّناس سلوك التخفي في ظ ّ
وسّر استبدادها يكمن في تصورها أّنها إله ورب!فنمى بسببها التخفي
سرّية،تلك الحركات التي لم والحذر،وحيثما يوجد الستبداد توجد الحركات ال ّ
220تفسير البغوي)(3/358وانظر:تفسير الجللين)(1/482وتفسير النسفي)(3/183وروح المعاني)
.(19/73
221فتح القدير).(4/98
] 222يونس.[83:
223انظر:روح المعاني)(11/168وتفسير النسفي)(2/138وتفسير ابي السعود)
(4/170،171وتفسير الطبري)(11/150،151وتفسير القرطبي)(8/369،370وتفسير البيضاوي)
.(3/211
] 224غافر.[28:
225تفسير الطبري).(24/57
51
تجد لنفسها مكانا فوق الرض فاختارت العمل من وراء الحجب،وأكثر ما
يكون هذا في دعوات الحق التي يحملها النبياء وأتباعهم،فدعوة نبينا محمد
م التضييق علينا كلما ذهبنا نحو
صلى الله عليه وسلم بدأت سرا،وكلما ت ّ
السرّية والّتخفي وسيلة مّنا لتقاء شّر المستبد.
ومن شدة استبداد فرعون استنكاره على السحرة إيمانهم بدون إذن
منه’’،آمنتم له قبل أن آذن لكم‘‘،226فالكلمة في عهد فرعون تحتاج إلى
ترخيص وإذن من الحكومة!ومن العجيب أن يدور الزمان فيجتهد بعض
المسلمين في الحصول على ترخيص لمجلة أو جريدة فل تسمح لهم
ة.تشابهت أخلقهم! الحكوم
وبلغ الستبداد في عهد فرعون أن سلك الّناس السرّية في
صلتهم،يقول تعالى’’:وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءأ لقومكما
بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة 227واقيموا الصلة‘‘،228حيث كان
بنو إسرائيل ل ُيصّلون إل في كنائسهم وكانت ظاهرة،فلما ُأرسل موسى
خّربت كلها ومنعوا من الصلة ،فأوحى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل ف ُ
الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بمصر بيوتا؛أي صّلوا
في بيوتكم سرا لتأمنوا،وذلك حين أخافهم فرعون.فأمروا بالصبر واتخاذ
المساجد في البيوت،وكان من دينهم أنهم ل يصّلون إل في البيع والكنائس
229
ما
ما داموا على أمن،فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم ،فل ّ
خافوا على أنفسهم)أمروا أن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئل
يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم،كما كان المسلمون على ذلك
فى أول السلم بمكة(.230
ن الستبداد الذي تميزت به شخصية فرعون بّين في قوله إ ّ
تعالى’’:فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا
معه واستحيوا نساءهم‘‘،231أي فلما جاءهم-موسى عليه السلم-
بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم أعاد القتل على
بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع النسان من اليمان،أي أعيدوا عليهم ما
كنتم تفعلون بهم أول كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلم.232
]226طه.[71:
) 227واجعلوا بيوتكم قبلة(أي :واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها.وهو ما اختاره ابن جرير وذلك-
ن الغلب من معاني البيوت-وإن كانت المساجد بيوتا-البيوت المسكونة إذا ذكرت كما يقول)-إ ّ
ن المساجد لها اسم هي به معروفة خاص لها وذلك باسمها المطلق دون المساجد،ل ّ
ما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ول إضافتها إلى شيء فالبيوت المساجد.فأ ّ
المسكونة،وكذلك القبلة الغلب من استعمال الناس إياها في قبل المساجد وللصلوات،فإذا كان
ذلك كذلك،وكان غير جائز توجيه معاني كلم الله إل إلى الغلب من وجوهها المستعمل بين أهل
اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دللة تدل على غير ذلك،ولم يكن على
قوله واجعلوا بيوتكم قبلة دللة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلم العرب،لم
يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا،وكذلك القول في قوله:قبلة وأقيموا الصلة(تفسير
الطبري).(156،155،153 /11
]228يونس.[87:
229انظر:تفسير القرطبي)(8/371،372وتفسير الثعالبي)(2/189وتفسير الواحدي)(1/506وروح
المعاني).(11/171
230تفسير النسفي).(2/139
] 231غافر.[25:
232انظر:تفسير القرطبي)(15/305وتفسير البيضاوي)(5/89وتفسير ابن كثير)(4/77وتفسير
الطبري).(24/56
52
ن الحق والحقيقة والبرهان…يقابلها ن من معاني الستبداد أ ّ إ ّ
ل على ذلك قوُله تعالى’’:فأراد فرعون أن يستفزهم من القتل،ود ّ
233
الرض‘‘ ،أي يستخفهم ويزعجهم و يخليهم منها ويزيلهم عنها وينفيهم
من الرض أرض مصر أو الرض مطلقا بالقتل والستئصال أو البعاد
،234فعدل فرعون عن الجدال بالحجة الى الرهاب بالقوة ).قال العلماء وفي
هذه الية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،لّنه لما خرج
موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى،وكذلك أظهر الله نبيه بعد
خروجه من مكة حتى رجع اليها ظاهرا عليها(،235وفي هذا بشرى للمطاردين
والملحقين من المسلمين أن الفرج قريب،فما تزيدنا هذه الملحقة إل ّ
ن نتائج هذه دية في انتمائنا وتنقية لصفوفنا ونفوسنا…فكأ ّ تمسكا بعقيدتنا وج ّ
ل شأنه.المجاهدة مؤهلت لستحقاق الّنصر الموعود من الله ج ّ
ول يغّرّنك-في هذا المبحث-قول فرعون لموسى عليه السلم’’:إن
كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين. 237‘‘236حيث)لم يكن
هذا من فرعون حرية رأي،بل هي فرصة أمام فرعون وملئه أن ُيظهروا
موسى عليه السلم بمظهر الكاذب الذي يزعم أّنه رسول من رب العالمين
ن الحقّ هدد بل بينة ول دليل(،238وعندما أثبت موسى بّينته،ورأى فرعو ُ
ن
موسى وتوعده،وخرج من ميدان الحجة إلى ميدان السلح والقوة؛ذلك أ ّ
فرعون صاحب الشعار المعروف’’ما أريكم إل ما أرى وما أهديكم إل
سبيل الرشاد‘‘،239أي ما أشير عليكم أيها الناس من الرأي والنصيحة وما
أهديكم بهذا الرأي إل سبيل الرشاد.240
ومثل ذلك ُيقال حين استشار فرعون قومه بشأن موسىعليه السلم بعد
أن أحس فرعون بالخطر على عرشه،يقول تعالى حكاية لقول
ن هذا لساحر عليم،يريد أن ُيخرجكم فرعون’’:قال للمل حوله إ ّ
241
من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘ ،ففي تلك اللحظة يفطنون
سون لشعوبهم،يقول سيد قطب رحمه الله):وتلك شنشنة الطغاة حينما يح ّ
أن الرض تتزلزل تحت أقدامهم .عندئذ يلينون في القول بعد التجبر
ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالقدام .ويتظاهرون بالشورى
م
باللمر وهم كانوا يستدبون بالهوى :ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر ،ث ّ
إذا هم هم جبارة مستبدون ظالمون !(.242فتلك مشورة للمناورة تقتضيها
الظروف الصعبة والخطيرة،حتى إذا مّرت العاصفة عادوا كما كانوا.
] 233السراء.[103:
234انظر :تفسير البيضاوي)(3/470وتفسير القرطبي)(10/338وتفسير ابن كثير)(3/68ومعاني
القرآن)(4/203وتذكرة الريب في تفسير الغريب).(1/310
235زاد المسير)،(5/95وانظر:روح المعاني).(15/2
)236أي من عند من أرسلك كما تدعيه فأت بها أي فأحضرها حتى تثبت بها رسالتك إن كنت من
الصادقين في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الية ل محالة(
تفسير ابي السعود)،(3/258وانظر:فتح القدير)(2/231وتفسير ابن كثير)(2/237وتفسير
الطبري).(9/14
] 237العراف.[106:
238في ظلل القرآن).(3/600
] 239غافر.[29:
240انظر :روح المعاني)(24/65وزاد المسير)(7/219وتفسير الجللين)(1/622وتفسير الطبري)
(24/59وتفسير القرطبي).(15/310
]241الشعراء.[35-34:
242في ظلل القرآن).(6/205
53
بسبب الستبداد كان مطلب موسى عليه السلم إطلق بني
إسرائيل
ول عجب أن يكون مطلب موسى عليه السلم الول والوحد هو إطلق
بني إسرائيل،حيث يقول تعالى حكاية لقوله’’:قد جئتكم ببينة من ربكم
فأرسل معي بني إسرائيل‘‘).243أي أطلقهم من أسرك وقهرك وعذابك
ودعهم وعبادة ربهم(.244فهي-إذن-رسالة مفادها التحرر من الستبداد الذي
ل شخصية فرعون،وهذا هو جوهر رسالتنا كان مسيطرا في ظ ّ
ل الرض من أن يكون عبدا السلمية،فهي تهدف لتحرير النسان في ك ّ
لشهواته ونزواته..أو أن يكون أسيرا لتصورات ومعتقدات باطلة وملوثة،فهي
م إزالة العقبات الخارجية المادية والمعنوية تحرير للنسان من داخل نفسه،ث ّ
طل حركته في الحياة. والتي تمنعه من النطلق،وتع ّ
ن الّنظام الستبدادي له عيوب وعورات كثيرة ُنجملها بما يلي: إ ّ
ن الستبداد وإكراه الّناس يقتل روح البداع في العيب الول:أ ّ
المجتمع،وهو سبب من أسباب تخلف البلد السلمية في هذه اليام،ومنبع
الزمات التي نعيشها في بلدنا ويعيشها العالم أجمع،فكثير من مظاهر
التخلف والتفتت والتأزم ترجع لهذا السبب.كما يرجع إلى الستبداد الحتقان
ما أدى إلى في العلقات بين الحاكم والمحكوم،وانعدام الثقة فيما بينهما.م ّ
انتشار الجهزة البوليسية والمخابرات وغيرها من أجهزة التنصت على
الّناس.
ن المستبد حين ينفرد بالرأي،ويمتنع عن العيب الثاني:يكمن في أ ّ
نالخذ بالمشورة والرأي الخر،يصاب بعثرات كثيرة ومطبات متعددة؛ذلك أ ّ
النسان مهما وصل من الذكاء والفطنة والنباهة والعلم يبقى محتاجا
للخرين فهو ل ُيحيط بكل شيء علما.وصدق من قال من شاور الّناس
ن المشورة تجعل الخرين ُيحسون شاركهم في عقولهم،كما أ ّ
بوجودهم،ويتحملون المسؤولية مع الحاكم.وباستثناء الّناس تقل رغبتهم في
التضحية من أجل المصلحة العامة،ويصبح سلوكهم سلبيا اتجاهها،كما ينعدم
الحساس بالنتماء،وهذا ما نلحظه في سلوك كثير من الّناس حين ُيظهرون
اللمبالة،فتنشأ حالة من الخمول والشلل،وتنعدم روح البداع والمبادرة.
ن)الستبداد السياسي-الذي نعانيه-ليس عصيانا جزئيا لتعاليم إ ّ
السلم،وليس إماتة لشرائع فرعية فيه،بل هو إفلت من ربقته ودمار على
عقيدته!!..فبقاء الكفر في الرض،والزيغ في شتى الفئدة،يرجع إلى مسالك
أولئك الذين شانوا تاريخنا ولوثوا دعوتنا،وأعزوا من أذل الله وأذلوا من أعز
ن الستبداد صنع هذه الوضاع وحماها،وقبر تحت ترابها الخوة الله.إ ّ
م فرد يرغب ويرهب وآخرون يزدلفون النسانية والدينية فليس ث ّ
ويرتقبون،ومراسم غريبة لوثنيات سياسية أعقد من الوثنيات التي اختلقتها
الجاهليات الولى(.245
إّننا نستطيع النعتاق من الّنظم الستبدادية حين ننعتق من الستعباد
للشهوة والخوف والتقاليد الميتة،وحين نعلو عن حطام الدنيا وُنقبل على
الخرة.ولنا في امرأة فرعون مثال ُيحتذى في القدرة على التحرر من أعتى
] 243العراف.[105:
244تفسير القرطبي)(7/256وانظر :تفسير البغوي)(2/195وزاد المسير).(3/237
245الغزالي محمد،الفساد السياسي في المجتمعات العربية والسلمية،ط ،2دار نهضة
مصر،مصر2000،م(57-56).مع بعض التصرف.
54
صور الرق!فهي في رغد من العيش والجاه والمنصب..ولكّنها مسترقة في
فكرها وعقيدتها..فأبت أن تكون مسترقة بأعظم جزء ُيعّبر عن ماهية
ملت تبعات هذا العلن فتحررت. النسان،وأعلنت إيمانها وتح ّ
ن النعتاق من الّنظم الستبدادية وحل مشكلة التفرد بالحكم غاية إ ّ
وهدف،ولتحقيقها في الواقع ل بد ّ من مرجعية ثابتة تتمثل بشرع اللهُ،تقّيد
الحاكم والمحكوم حتى ل يبغي أحد على أحد،ول بد ّ من صفات خاصة ُتقيدنا
في اختيار الخليفة،ول بد ّ من وعي المسلمين لدينهم كي يكونوا أدوات
ن تقويم الحاكم من صفات مراقبة وإصلح وتقويم إن حصل خلل ما؛ذلك أ ّ
المم الحّية.
م ل بد ّ من تعميق مفهوم الشورى وتأصيله كركن أساسي في الّنظام ث ّ
السياسي،وجعل الشورى ثقافة شاملة لحياة المسلمين في جميع أشكالها
ن التنشأة السلمية على الشورى في السرة والمدرسة والشارع..ذلك أ ّ
ن العيش تمنعنا من أن نكون مستبدين إن نحن تسلمنا مقاليد الحكم؛ذلك أ ّ
تحت الستبداد لفترات طويلة ُتنتج آثارا نفسية خطيرة حين تحمل الجماهير
فكرة الستبداد،فكم من مخاصم للمستبد صار مستبدا حينما صار هو في
سدة الحكم! وهذا ما ُيرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول امرأة
فرعون’’:ونجني من فرعون وعمله‘‘،246أي من كفره وظلمه
وعذابه،247فهي لم تطلب الّنجاة من فرعون وحسب،بل وطلبت الّنجاة من
عمله،فقد ينجو المسلم من الظلمة ولكّنه قد ل ينجو من الظلم،فيصير
ظالما كما فعل الظالمون ومستبدا كما كان المستبدون.
وللوقاية من الستبداد ل بد ّ من إيجاد مؤسسات تحمي الدولة من
م ل بد ّ من التسلط إن حدث،ولمنع النحراف من الحاكم والمحكوم سواء،ث ّ
المر بالمعروف والّنهي عن المنكر-كما فعل مؤمن آل فرعون حين أمر
مة وحقا لها،وليس لحد أن يمنعها من ممارسة هذا ده واجبا على ال ّ ونهى-بع ّ
ن المر صَر بالقيام بهذا الواجب؛ذلك أ ّ ق ّ الحق،وفي المقابل ل يجوز للمة أن ت ُ َ
مة لحماية مؤسساتها وبناءها بالمعروف والّنهي عن المنكر وسيلة ال ّ
الحضاري،فإذا حصل ووقع استبداد بنسبة معينة-كما حدث ببعض الفترات
في تاريخنا السلمي-فإّنما يرجع هذا إلى عدم تطبيق السلم بالصورة
طبق فيها في العصور المزدهرة وخاصة عصر الخلفة المثالية الواعية التي ُ
الراشدة.
ن الحل يكمن في نقل النموذج الغربي لنهاء وقد يتصور بعض الّناس أ ّ
م لسببين الستبداد السياسي في بلد العرب والمسلمين،وذلك وَهْ ٌ
طى للّناس ظاهرا ويملكها ن الحرية الغربية حرية شكلية ُتع َ اثنين:الول:أ ّ
على وجه الحقيقة أصحاب رؤوس الموال،فهم الذين بما يمتلكون من
فق مع مت َ ِ
أموال وعبر وسائل العلم التي يمتلكونها ُيشكلون القانون ال ُ
ميهن الّنموذج الغربي للحرية والديمقراطية أنتج ما ُنس ّ مصالحهم..الثاني:أ ّ
تسلط الدولة،فالستبداد سلوك قد يقوم به الفرد أو الجماعة أو الدولة؛
فالدول الغنية تتسلط على الفقيرة،والقوية تتسلط على الضعيفة.فهي دول
استبدادية في سياستها الداخلية والخارجية.
]246التحريم.[11:
247انظر:تفسير القرطبي).(18/203
55
المبحث السابع
الوهم والغرور
هم الشيء الوهم) :من خطرات القلب والجمع أوهام،وللقلب وهم.وتو ّ
تخيله وتمثله كان في الوجود أو لم يكن(.248و)الغرور بالضم:ما اغتر به من
متاع الدنيا.وفي التنـزيل العزيز’’:فل تغرّنكم الحياة الدنيا‘‘ ،249يقول :ل
تغرنكم الدنيا،فإن كان لكم حظ فيها ينقص من دينكم فل تؤثروا ذلك
الحظ،ول يغرّنكم بالله الغرور(،250فالغرور)سكون النفس إلى ما يوافق
الهوى ويميل إليه الطبع،وعبر عنه بعضهم بأنه كل ما يغر النسان من مال
وجاه وشيطان(،251و)المغرور:من خدعه وأطمعه الباطل(.252
فالمغرور-على هدي هذا التعريف-مخدوع دخل الوهم عليه،واغتر بما
لديه وخدعه زخرف الدنيا أو الجاه أو السلطة أو القوة،وتخّيل ما هو عكس
ميس ّالحقيقة والواقع،فالغرور نوع من الوهم والتخّيل في المحصلة.ولذلك ُ
متاع الدنيا بمتاع الغرور لّنه يخدع من ركن إليها،وهناك من تعجبه الدنيا
بمتاعها حتى يعتقد أن ل دار سواها ول معاد وراءها وهي حقيرة قليلة
بالنسبة إلى الدار الخرة.253
ن شخصية فرعون-على ضوء تلك المعاني التي أوردناها في التعريف- إ ّ
شخصية واهمة مغرورة يرى نفسه فوق الّناس،وأوضح دليل على وهمه
ن تمام الصحة وسلمة البدن،وكثرة وغروره ادعاؤه لللوهية والربوبية؛ذلك أ ّ
الجند ودعم القوم والل ومؤازرة المل،وسعة الملك وطول المكث في
الحكم والتحكم،مع ما أوتي من متاع الدنيا وزخرفها،وانتشار السحر
والشعوذة وفساد التصورات السائدة والساطير التي كانت سائدة في مصر
من نسب الملوك لللهة…254مع ما استقر في نفسه من العجاب المفرط
ل ذلك بالذات والشهوة الجامحة في الحكم والتحكم والقابلية للنحراف…ك ّ
وعت له نفسه قول كلمة الكفر.فالوهم والغرور جعل رؤيته تهيأ لفرعون فط ّ
56
للحداث وتفسيره للظروف سببا في اجترائه على تلك الفرية.وكم من
وهم دوام الحال. الّناس من غّره إقبال الحياة عليه،وت ّ
ن
ل القرآن على وهم فرعون وغروره في أكثر من موضع،مع أ ّ وقد د ّ
القرآن لم ينص على ذلك صراحة ولكّنه أمر يعرف بالّنظر في الكتاب
العزيز.وشواهدنا على ذلك كثيرة:منهاقوله تعالى -حكاية لقول فرعون حين
أعلن السحرة إيمانهم بموسى عليه السلم’’:-قال آمنتم به قبل أن
آذن لكم‘‘.255وفي آية أخرى’’قال آمنتم له 256قبل أن آذن
257
ن قلوب الناس بيده يملك حتى نأ ّلكم‘‘ .فمن وهمه وغروره ظ ّ
إيمانهم،بل ويصل به الوهم والغرور أن يبدي تعجبا وإنكارا وتوبيخا’’آمنتم به
قبل أن آذن لكم‘‘)،أي صدقتموه قبل أن آذن لكم في اليمان،فتعديتم
وفعلتم ما لم آمركم به،وكان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ول تفتاتوا
على ذلك،فإن أذنت لكم فعلتم،وإن منعتكم امتنعتم،258فإّني أنا الحاكم
المطاع( ،259فأيّ وهم وغرور غرق به فرعون إلى درجة يتصور معها أّنه
يملك قلوب الّناس!
ورّبما تصور فرعون–نتيجة وهمه وغروره-أّنه بمجرد توجيهه هذا التوبيخ
والنكار المغلف بالتهديد والوعيد للسحرة أن يتراجعوا عن إيمانهم بل
ويطلبوا منه العفو على ما فرط منهم،ولكّنهم أصروا على موقفهم،وأظهروا
استعدادا للتضحية بأرواحهم في سبيل إيمانهم.وكان هذا كافيا لخراج
فرعون من وهمه وغروره،لول أّنه وصل مرحلة من الوهم والغرور لم يعد
قادرا معها على رؤية الحقائق مهما سطعت.
وهذه زوجته التي عاشت حياة الترف والقصور..ها هي تفاجىء
فرعون بإيمانها،لعله يستيقظ من وهمه أو يترك غروره،يقول
تعالى’’:وضرب الله مثل للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب
جني جني من فرعون وعمله ون ّ ابن لي عندك بيتا في الجّنة ون ّ
ل على حالة ما يد ّ 260
من القوم الظالمين‘‘ ،ومع هذا لم يتّيقظ ولم ينتبه،م ّ
مغرقة بالوهم والغرور.
وتظهر شخصية فرعون الواهمة المغرورة في قوله’’:وما أريكم إل
ما أرى وما أهديكم إل سبيل الرشاد،262‘‘261أي ما أشير عليكم إل بما
أراه صوابا،وما أعلمكم إل ما علمت من الهدى والرشاد،263فهو يتصور –
] 255العراف.[123:
)256قوله:قال آمنتم له.يقال:آمن له وآمن به،فمن الول قوله’’:فآمن له لوط‘‘]العنكبوت:
.[26ومن الثاني قوله فى العراف’’:آمنتم به قبل أن آذن لكم‘‘]العراف.[123:وقيل:إن الفعل
هنا متضمن معنى التباع.وقرئ على الستفهام التوبيخي،أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم
بذلك( فتح القدير).(3/376
] 257طه.[71:
ن معنى خطابه كما في قوله تعالى: و)ليس معنى كلمه –لعنه الله-أنه ربما سيأذن لهم ،ولك ّ
258
) لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي(]الكهف.[109:ل أن الذن منه ممكن أو متوقع(.تفسير أبي
السعود)،(6/243وانظر:روح المعاني).(9/27
259انظر:تفسير البيضاوي)(4/61وتفسير القرطبي)(11/224)،(7/260وتفسير ابن كثير)
(3/159،336وتفسير الطبري )(9/23وتفسير أبي السعود).(6/29
] 260التحريم.[11:
)261الرشاد :ضد الغي تقول رشد يرشد مثل قعد يقعد رشدا بضم الراء وفيه لغة أخرى من باب
طرب و أرشده الله والطريق الرشد مثل القصد(مختار الصحاح،مادة:رشد)).(103و الضلل
ل).(160ضد الرشاد(مختار الصحاح،مادة:ض ّ
] 262غافر.[29:
263انظر:تفسير الطبري).(24/59
57
ل ما يقوله ويفعله صوابا ل شبهة فيه ول ريبة،وهي ذات وهما وغرورا-أن ك ّ
ل ما يفعلونه حكمة بالغة المعاني التي يرّوجها المغرورون من الح ّ
كام،فك ّ
ومصلحة سابغة!بينما نلحظ انتشار الفقر والمرض والجوع والمحسوبية
ن الزعيم يهدي ول ُيض ّ
ل! والرشوة والّتأخر العلمي والقتصادي…ومع هذا فإ ّ
وهذا عكس الحقيقة التي قررها القرآن عن فرعون حيث يقول
تعالى’’:وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘.264فبينما يخّيل إليه -وهما
ن ما يراه هو الصواب والصلح والّرشاد يقرر القرآن أّنه ضال وغرورا-أ ّ
265
ومضل،وأّنه سفيه سخيف الرأي لم يرشدهم إلى نفع أو خير.
ده على معجزات موسى عليه ويظهر وهمه وغروره في أسلوب ر ّ
266
سلم،حيث يقول’’:فلنأتيّنك بسحر مثله‘‘ ،أي)لنعارضّنك بمثل ما ال ّ
ن الذى جئت به سحر يقدر على مثله جئت به من السحر،حتى يتبّين للّناس أ ّ
الساحر( )،267وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا،واعتقد من
اعتقد منهم وأوهم من أوهم أن ماجاء موسى به عليه السلم من قبيل ما
ما يأتونه من سحرهم،فلهذا جمعوا له السحرة يعارضوه بنظير ما أراهم من
البينات(،268ولم يكن هذا إل بأمر الموهوم المغرور الذي وصل به الوهم حدا
لم يعد قادرا فيه على إبصار أعظم الحقائق وأجلها وأبينها،وهي المعجزات
التي ُأيـد بها موسى عليه السلم.
وهكذا قاده غروره ووهمه إلى تلك المعارضة التي فضحت أمره
وكشفت زيغه)،فإذا كان كل ما يقدمه موسى نوع من أنواع السحر فما
أسهل الرد عليه،وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إّنما تخفي
ورائها هدفا من أهداف هذه الرض،وأّنها ليست سوى ستار للملك
ما خارقة كآيات والحكمّ..ثم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات،إ ّ
ما مؤثرة في الّناس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من موسى،وإ ّ
الخوارق.فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا..سحر نأتي بسحر
مثله !(،269فهذا هو الوهم الذي يغرق فيه فرعون وأمثاله.
ومما يدل على غرور فرعون ووهمه تلك اللمبالة التي أظهرها في
سلم’’:فاجعل بيننا وبينك موعدا ل نخلفه نحن قوله لموسى عليه ال ّ
] 264طه.[39:
)265السفه الجهل بلغة كنانة ثم يكون لكل شيء ،يقال للكافر سفيه ،لقوله’’سيقول السفهاء من
الناس‘‘]البقرة[142:يعني اليهود.والجاهل سفيه ،لقوله’’فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو
ضعيفا‘‘]البقرة…[282:السفيه الجاهل والضعيف الحمق…وقيل السفه في اللغة الخفة(التبيان
قي تفسير غريب القرآن).(1/58
] 266طه.[58:
267فتح القدير)(3/370وتفسير النسفي).(3/58
268تفسير ابن كثير)(2/237مع بعض التصرف.
269في ظلل القرآن).(5/480
58
ى.271‘‘270أي)فاجعل بيننا وبينك موعدا أي وعدا،كما ول أنت مكانا ً سو ً
ئ عنه وصفه بقوله تعالى’’:ل نخلفه‘‘فإنه المناسب للمكان والزمان،أي ل ُينب ّ ُ
نخلف ذلك الوعد نحن ول أنت،وإّنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى
عليه الصلة والسلم للحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال
وإظهار الجلدة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلت
ن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه المغالبة طال المد أم قصر،كما أ ّ
الصلة والسلم وتوسيط كلمة النفي بينهما لليذان بمسارعته إلى عدم
الخلف(،272وهو بهذا مخدوع بما لديه من أسباب القوة والمنعة والعوان
حتى خّيل إليه أّنه قادر على إخفاء الحقيقة وطمسها.
وقوله’’:مكانا سوى‘‘ ،أي) مكانا مستويا من الرض ل وعر فيه ول جبل
ول أكمة ول مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض،ومراده
مكانا يتبين الواقفون فيه ول يكون ما يستر أحدا منهم،ليرى كل ما يصدر
منك ومن السحرة،وفيه من إظهار الجلدة وقوة الوثوق بالغلبة ما
فيه (،273فكانت كل هذه الترتيبات وبال عليه،حيث كشفت الحقيقة -التي
طالما اجتهد موسى عليه السلم لظهارها وإبرازها للّناس-كشفا هائل
وبشكل ليدع مجال ليّ شك أو ريب،فكان فرعون بغروره ووهمه أن فعل
ما يخدم قضية موسى عليه السلم خدمة جليلة كبيرة ربما لم تكن حتى في
حساب موسى عليه السلم نفسه.
ن
ومن دلئل وهم فرعون وغروره قوله للسحرة حين آمنوا’’:ولتعلم ّ
274
ن أينا يريد به نفسه وموسى أّينا أشد عذابا وأبقى‘‘ ،والمعنى)ولتعلم ّ
عليه الصلة والسلم لقوله:آمنتم له قبل أن آذن لكم،واللم مع اليمان في
ما لقصد توضيع موسى عليه الصلة كتاب الله تعالى لغيره تعالى،وهذا إ ّ
ما لراءة أن إيمانهموالسلم والهزء به لّنه لم يكن من التعذيب في شيء،وإ ّ
لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبل
موسى عليه الصلة والسلم،حيث رأوا ابتلع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا
على أنفسهم أيضا.وقيل:يريد به رب موسى الذي آمنوا به بقولهم:آمنا برب
ن هذا الموقف المتشدد والمتشنج هارون وموسى (.275وعلى كل الوجهين فإ ّ
من فرعون وتهديده للسحرة بهذه الصيغة-بعد رؤيته للمعجزات وما جرى
من إيمان السحرة-لكبر دليل على غروره،فالقوة الظاهرة بين يديه من
)270واختلفوا فى قوله تعالى ) :مكانا سوى( فى ضم السين وكسرها ،فقرأ ابن كثير ونافع وأبو
عمرو والكسائى )مكانا سوى( كسرا ،وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة سوى بضم السين(كتاب
السبعة في القراءات))،(1/418فالحجة لمن ضم أنه أراد مكانا مساويا بيننا وبينك والحجة لمن
كسر أنه أراد مكانا مستويا أي ل مانع فيه من النظر وقيل هما لغتان فصيحتان(الحجة في
القراءات السبع))،(1/241قال الفراء وأكثر كلم العرب بالفتح إذا كان في معنى نصف وعدل
فتحوه ومدوه والكسر والضم مع القصر عربيان ،وقد قرىء بهما .قال الليث تصغير سواء
الممدود سوي .وقال أبو إسحق :مكانا سوى ،ويقرأ بالضم ومعناه منصفا أي مكانا يكون للنصف
فيما بيننا وبينك وقد جاء في اللغة سواء بهذا المعنى(لسان العرب،مادة:سوا)
.(14/413وانظر:مختار الصحاح،مادة:سوا).(1/136
] 271طه.[58:
272تفسير أبي السعود)(6/24وانظر:روح المعاني).(16/216،217
273قال اللوسي ) :وهذا المعنى عندى حسن جدا واليه ذهب جماعة(روح المعاني)
،(16/217وانظر:تفسير الطبري).(16/176
] 274طه.[71:
275تفسير أبي السعود)(6/29وانظر :تفسير ابن كثير)(3/160وتفسير الطبري)(16/189وتفسير
الثعالبي).(3/33
59
الجند والمل والقوم أوهمته بالقدرة والستطاعة وعمته عن إدراك الحقائق
الكبرى التي جرت بين يديه.
وها هو المغرور الموهوم ينادي في قومه-وقد غّره زخرف الحياة الدنيا
وبهارجها’’:ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك
مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون أم أنا خير من
هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين‘‘.276يقول تعالى مخبرا عن فرعون
وتمرده وعتوه وعناده أّنه جمع قومه فنادى بنفسه أو بمناديه في قومه في
مجمعهم أو فيما بينهم -بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم-
متبجحا مفتخرا مغرورا بملك مصر وتصّرفه فيها أليس لي ملك مصر ل
ينازعني فيه أحد ول يخالفني فيه مخالف ،وهذه النهار تجري من تحتي،أنهار
النيل وفروعه وهي تجري من تحت قصري أو بين يدي في جناني .أفل ترون
ن فرعون أن تبيد هذه أبدا…مفتخرا ما أنا فيه من العظمة والملك،ومايظ ّ
سب- كن له من الدنيا استدراجا من الله له .وح ِ مغرورا بما ملك،وما قد م ّ
ن موسى وهما منه -أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحول منه وقوة،وأ ّ
إنما لم يصل إلى الذي يصفه،فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة،وهذا أشد ّ
م احتج بتلك الوهم من فرعون،إذ خّيل إليه أن ما قاله حجة وهو ليس بذلك،ث ّ
ن موسى عليه السلم لو كان محقا الوهام على جهلة قومه-مخادعا لهم -بأ ّ
فيما يأتي به من اليات والعبر ولم يكن ذلك سحرا لكسب نفسه من الملك
والنعمة مثل الذي هو فيه من ذلك،وفي هذا دللة على جهله ووهمه .277
ويتمادى فرعون في غروره حيث عد ّ نفسه خيرا من موسى عليه
السلم الذي وصفه بالحقير؛’’أم أنا خير من هذا الذي هو
ن الملك والمال والسلطان دليل على أّنه خير مهين‘‘،278فتوهم-لعنه الله-أ ّ
من موسى الذي كان صفر اليدين من هذا كله.
الوهم والغرور ُيؤديان إلى كثرة العثرات ويمنعان من رؤية
الحقيقة
ُ
ن الكثير من العثرات والخفاقات التي أصيب بها فرعون كانت نتيجة إ ّ
وهمه وغروره،فبينما هو يعيش في وهمه وغروره تصدمه الحقيقة،وهذا ما
نفسر به بعض الخفاقات التي ُيصاب بها الطواغيت،والتي كان بإمكانه
ما يصبغ حكم الطاغوت بالحماقة والتهور تلفيها وعدم الوقوع بها،م ّ
أحيانا،ويرجع ذلك إلى غياب القدرة على فهم وإدراك الحقيقة،فالغرور جعل
على قلب الطاغوت غشاوة،وجعله من الخسرين أعمال الذين ضاع سعيهم
وخاب ظّنهم’’،وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‘‘،279أي)يحسبون
أنهم يعملون ذلك على الوجه اللئق،وذلك لعجابهم بأعمالهم التي سعوا في
إقامتها وكابدوا في تحصيلها(.280
ن المغرور لم يدرك غاية خلقه وليس عنده أدنى فهم لمعنى الحياة إ ّ
ما أن ما أن تزول النعمة لسباب كثيرة،وإ ّ الدنيا،فهي دار ل يدوم نعيمها؛فإ ّ
يزول عنها صاحبها بموته.فتلك حقيقة ل يمارى فيها.فطول المل غرور
] 276الزخرف.[52-51:
277انظر:تفسير ابن كثير)(4/130،131وتفسير القرطبي)(16/99وتفسير الطبري)
(25/81،82وتفسير البغوي)(4/142وفتح القدير).(4/559
]278الزخرف.[52:
]279الكهف.[104:
280تفسير أبي السعود).(5/249
60
ن الساعة وجهل؛فمن طال أمله خدعته الدنيا،كمن قال’’:وما أظ ّ
دم الفانيل قوله على جهله لمعنى الدنيا وجوهرها لّنه ق ّ قائمة‘‘،281فد ّ
على الباقي.وصدق الله حيث يقول’’:والخرة خير وأبقى‘‘.282
والمغرور مشغول بما ليس منه فائدة ول خير،كالساعي وراء السراب
ن الغرور يمنع من إدراكيظّنه ماءا،حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؛ذلك أ ّ
ما يزيد من البلء وجود بطانة ُتزّين للطاغوت أعماله الحقائق،وم ّ
وأفعاله،فتجتمع العوامل الداخلية في ذات الطاغوت مع العوامل
الخارجية،فتنعدم الشارات المنبهة للطاغوت،فيعيش بوهم كامل.وهذا ما
نشاهده في زماننا،حين تلتف حول الحاكم بطانة سيئة وظيفتها مدح
الطاغوت وتبرئته من الزلل،فينشأ-مع ما في داخله من غرور-العمى؛فل
يعود يرى الحقائق مهما سطعت!
ن حديثنا عن الوهم والغرور عند الطاغوت ل يعني أّنه منفرد بهذا إ ّ
المرض،فهناك من ُيصابون به،بل قد ل يخلو إنسان-إل ّ من رحم ربي وقليل
ما هم-من نسبة معينة من مرض الوهم والغرور.والعلج الوحد لذلك
م النصياع لها باسشرافها وتأملها حتى تتحول المرض هو معرفة الحقيقة ث ّ
من مجرد أفكار ميتة إلى مشاعر ووجدان يعيش النسان به.ولكي ندرك
الحقيقة ل بد ّ من العودة إلى القرآن وسّنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛
دين الحق يحرر النسان من الخرافات والوهام. فال ّ
المبحث الثامن
السراف
]281الكهف.[36:
]282العلى.[17:
61
السراف لغة من )سرف :والسرف السراف مجاوزة القصد،وأسرف
سرف الذي نهى الله عنه فهو ما أنفق في ماله عجل من غير قصد،وأما ال ّ
في غير طاعة الله قليل كان أو كثيرا،والسراف في النفقة
التبذير(.283وقالوا:السراف)إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس وتجاوز
الحد في النفقة،وقيل:أن يأكل الرجل ما ل يحل له،أو يأكل مما يحل له
متجاوزا حد ّ العتدال ومقدار الحاجة.وقيل:السراف تجاوز في الكمية،فهو
جهل بمقادير الحقوق،وصرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي بخلف
التبذير(.284
والسراف في اصطلح المفسرين)الفراط في الشيء،يقال:أسرف
فلن في هذا المر إذا تجاوز مقداره فأفرط()،285وأصل السراف تجاوز
الحد المباح إلى ما لم يبح،وربما كان ذلك في الفراط وربما كان في
التقصير،غير أّنه إذا كان في الفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال:أسرف
يسرف إسرافا،وإذا كان كذلك في التقصير فالكلم منه سرف يسرف
286
سرفا،يقال:مررت بكم فسرفتكم،يراد منه فسهوت عنكم وأخطأتكم( .
وقبل أن نورد الدلة على إسراف فرعون ل بد ّ من الشارة أن هناك
فروقا بين الطغيان والسراف اللذين تمّيزت بهما شخصية فرعون.فالطغيان
مجاوزة الحد ّ في العصيان،بينما السراف تجاوز الحد ّ المباح إلى ما لم
287
ن الطغيان ليس مجرد ارتكاب للجريمة والمعصية بل المبالغة مإ ّيبح .ث ّ
فيها،فالقتل معصية والّتقتيل طغيان في القتل،بينما السراف هو الستكثار
من المعاصي،فليس هو يقتل فحسب إّنما يتعدى ذلك إلى معاص عديدة
288
ن
مإ ّ أخرى،كالذلل وأخذ أموال الّناس بالباطل وغيرها من المعاصي .ث ّ
السراف قد يكون في الفراط والتفريط،بينما ل يكون الطغيان إل ّ في
ي في المعصية،بينما السراف نمو أفقي ن الطغيان نمو رأس ّ الفراط،وكأ ّ
في المعاصي تنويعا وتكرارا.
ن السراف من خصائص شخصية فرعون-لعنه ن الدلة على أ ّ بعد هذا فإ ّ
ن ل شأنه ،يقول سبحانه وتعالى’’:وإ ّ الله-كثيرة وبّينة في كتاب الله ج ّ
289
فرعون لعال في الرض وإّنه لمن المسرفين‘‘ .ويقول سبحانه
ن ما تدعونني إليه ليس له حكاية لقول مؤمن آل فرعون’’:ل جرم أ ّ
ن
ن مردنا إلى الله وأ ّ دعوة في الدنيا ول في الخرة وأ ّ
المسرفين 290هم أصحاب النار‘‘ .291ويقول سبحانه’’:كذلك يضل الله
62
من هو مسرف مرتاب‘‘ .292ويقول تعالى’’:إن الله ل يهدي من هو
ذاب‘‘ .293ويقول سبحانه’’:ولقد نجينا بني إسرائيل من مسرف ك ّ
294
العذاب المهين،من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين‘‘ .
لقد كان فرعون-بنص القرآن الكريم-من المسرفين)في الكبر والعتو
واسترقاق أسباط النبياء()،295وتجاوز الحق إلى الباطل وذلك كفره بالله
وتركه اليمان به وجحوده وحدانية الله وادعاؤه لنفسه اللوهية وسفكه
الدماء بغير حق()،296بالقتل والصلب وتنويع العقوبات(،297فهو
من)المستكثرين من معاصى الله(.298
فالسراف الذي هو من خصائص شخصية فرعون-يقينا ل ريب فيه-
معناه الستكثار من المعاصي،حيث شهد واقع فرعون على هذا
المعنى،فتعددت معاصيه وتنوعت جرائمه حتى شملت كل حركة له في هذه
الدنيا،فليس هناك معصية إل ولفرعون كفل منها،فّربما ُوجد في حياة
مك ّ
ل ة هم الذين ت ُظ ْل ِ ُ قل ّ ٌ
ل على بعض الخير،فَ ِ العاصي بعض المساحات تد ّ
ل على هذه مساحة الحياة عندهم،كما أظلمت حياة فرعون بالمعاصي،ود ّ
الظلمة أمران:
ّ
الول:ل توجد في القرآن آية أو إشارة تدل على مثقال حبة من إيمان
ما ما قاله فرعون عند غرقه وإعلنه اليمان فقد حصل في عند فرعون،وأ ّ
ن الّنص القرآني يؤكد ساعة ل تقبل فيها التوبة،فل ُتحسب له عند الله،بل إ ّ
ن فرعون ملعون في الدنيا والخرة،يقول تعالى’’:وأتبعناهم في هذه أ ّ
299
الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‘‘ ،فحياته لعنة
مستمرة عليه،وظلم دامس ل يخالطه بصيص من نور.
ل على حقيقة الثاني:ما قصه القرآن علينا من حياة فرعون يد ّ
استكثاره من المعاصي،فليس هناك ذكر لفرعون في القرآن إل ّ وهو مرتبط
ومقترن بذكر معصية أو جريمة،فهو كافر بدعواه لللوهية والربوبية
وباعتقاده أّنه ل يرجع إلى الله.ولم يكتف بالكفر وحده بل دعا الّناس
إليه،وصد عن سبيل الله كثيرا…وهو متكبر يّترفع عن عبادة الله،ويرى نفسه
فوق الناس حيث يحتقرهم ويزدريهم…ومستكبر يرفض الحق بعد
تبّينه،فامتنع عن قبول الحق بعد العديد من اليات التي بعث الله بها
ن كثرة اليات وقوتها وتراخيها لفترات طويلة وتكرار بعضها موسى،فإ ّ
ل على قوة الحجة والبرهان الذي قام على فرعون،فكان كالعصا يد ّ
استكباره بعد ذلك إسرافا في الستكبار…وهو متجبر طاغ يبطش بقلب ل
رحمة فيه،ينشر الخوف والرعب والقتل وسفك الدماء مرة بعد مرة…وهو
يقهر الّناس بالصلب والسجن والرهاب بكل صوره وألوانه،ويعتدي على
العراض ويستحيي الّنساء لذللهم،ويأخذ الموال بالباطل،وينشر الفرقة بين
الّناس فيتحاسدون ويتباغضون ويحقدون وتمتلؤ قلوبهم وعقولهم بمعاني
] 292غافر.[34:
] 293غافر.[28:
] 294الدخان.[31-30:
295تفسيرالبيضاوي)(211 /3مع بعض التصرف.وانظر:القرطبي)(8/370وتفسير أبي السعود)
.(4/171
296تفسير الطبري).(11/151
297فتح القدير).(2/466
298فتح القدير).(4/494
] 299القصص.[42:
63
الكراهية والتباعد والتدابر،ويفسد عقول الّناس بالسحر والشعوذة والكذب
والتضليل… وهكذا كان فرعون مسرفا مستكثرا من المعاصي في مختلف
شؤون الحياة.
هناك معصية وهناك إسراف في المعصية،فإذا كانت المعصية دللة
ن الستكثار منها يدل على موت الروح النسانية.قد على الضعف البشري فإ ّ
ن المعصية ل تبرر-كمعصية الزنا تكون المعصية مفسرة-ول أقول مبررة ل ّ
بوجود التجاذب بين الجنسين..بينما اللواط إسراف في المعصية لّنه معصية
غير مفسرة،ولهذا كانت عقوبة قوم لوط قاسية،حيث أرسل الله عليهم
حجارة من طين’’مسومة عند ربك للمسرفين‘‘،300وقلب بهم الرض
ن السراف في المعاصي حالة هستيرية فجعل عاليها سافلها.والمعنى أ ّ
ُيصاب بها الطواغيت ول نجد لها تفسيرا.
وقد تكون المعصية إشباعا لرغبة أو شهوة أو غريزة بهيمية بطريق
حرام،بينما يكون السراف لمجرد النتقام وتفريغ الحقاد،فيصل المسرف
حد التمتع بآلم الخرين،والرتياح لعذاباتهم.فالفرق واضح بين من يسرق
متاعا أو مال وبين من ُيتلفه انتقاما وحقدا،فالولى جريمة ومعصية،والثانية
إسراف في الجريمة والمعصية.
ولهذا ربط التصور السلمي بين السراف وبين عدم حب الله وبغضه
لصاحبه،يقول تعالى’’:ولتسرفوا إّنه ل يحب المسرفين‘‘)301بل
يبغضهم ول يرضى أفعالهم،والجملة في موضع التعليل للنهي(302؛ذلك أ ّ
ن
السراف فساد ل صلح فيه،يقول تعالى’’:ول تطيعوا أمر المسرفين
الذين يفسدون في الرض ول يصلحون‘‘،303فالمسرفون)يفسدون
ن فسادهم فىالرض بالظلم والكفر،ول يصلحون باليمان والعدل.والمعنى أ ّ
مصمت 304ليس معه شىء من الصلح كما تكون حال بعض المفسدين( .
305
]300الذاريات.[34:
]301العراف.[31:
302روح المعاني).(8/111
]303الشعراء.[152-151:
مت..ويوم أصمت العليل فهو ص ِ
م ْ
)304يقال للرجل إذا اعتقل لسانه فلم يتكلم أصمت فهو ُ
304
64
المبحث التاسع
المكر
والمكر لغة) :احتيال في خفية… والمكر الخديعة والحتيال(.306وفي
التفسير:المكر)التدبير للمر في خفية(،307وهو)حيلة يجلب بها غيره إلى
مضرة(،308و)كل فعل قصد فاعله في باطنه غير ما يقتضيه ظاهره فهو
مكر(.309و)المكر من جانب الحق ترادف النعم مع المخالفة،ومن جانب العبد
إيصال المكروه إلى النسان من حيث ل يشعر،وعّرفه بعضهم:بأّنه صرف
الغير عما يقصده بحيلة،وذلك ضربان:محمود وهو أن يتحرى به فعل
جميل،ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيحا(.310
ن
ظل،وبيان ذلك أ ّوالمكر-بمعناه المذموم-ملزم لشخصية فرعون كال ّ
شخصية فرعون تقوم في أساسها ومنبعها على أكبر فرية وهي دعوى
اللوهية والربوبية،ولذلك فهي شخصية تحتاج حتما إلى احتيال وخديعة
وتزوير لتسويق أكذوبتها وباطلها،وهو ذات المنهج الذي يحتاجه القائمون
ن انكشاف الحقائق أمام خ َ
شوْ َ على الباطل لخفاء حقيقتهم،فهم ي َ ْ
الجماهير،ولهذا كان المكر قناعا تستتر وراءه شخصية فرعون.
لقد جعل فرعون الّناس شيعا،كتدبير ل بد منه لنظام يقوم على الكذب
والظلم والطغيان…ول عجب أن يكون فرعون وصولّيا،الغاية عنده تبرر
الوسيلة،فالمكر السيء الخبيث وسيلة متناسبة مع الغايات الخسيسة التي
ن فرعون عل في يسعى لتحقيقها فرعون ومن ماثله،يقول تعالى’’:إ ّ
الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذّبح أبناءهم
ويستحيي نساءهم‘‘.311أي جعلهم فرقا يشيعونه في كل ما يريده من
الشر والفساد،ويطيعونه ل يملك أحد منهم أن يلوي عنقه،أو يشيع بعضهم
بعضا في طاعته،أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل
ويسخره فيه من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من العمال الشاقة،ومن لم
يستعمله ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها،أو فرقا مختلفة ُيكرم طائفة
وُيهين أخرى،فأكرم القبطي وأهان السرائيلي،قد أغرى بينهم العداوة
والبغضاء لئل تتفق كلمتهم،فاستضعف طائفة منهم أي يجعلهم ضعفاء
مقهورين وهم بنو إسرائيل .312
306لسان العرب،مادة:مكر).(5/183وفي مختار الصحاح)المكر الحتيال والخديعة(مختار
الصحاح،مادة:مكر)(263وانظر:القاموس المحيط،مادة:المكر).(1/614
307تفسير القرطبي).(7/397
ما المكر من الله كما في قوله تعالى’:ويمكرون ويمكر الله والله
تفسير البيضاوي) .(2/44أ ّ
308
65
وهذا من باب سياسة فرق تسد،وقد أتقنها فرعون لتسّهل عليه مهمة
السيطرة على الناس؛فالفئة المستفيدة من هذه التفرقة ستدافع عن
النظام القائم لنها إنما تدافع عن مصالحها وامتيازاتها التي كسبتها من هذه
التفرقة،وبهذا يضمن ِقسما من الناس يؤّيده مهما كانت سياسته،ما دام
هؤلء مستفيدين من الوضع الذي خططت له الطغمة الحاكمة بشخص
فرعون.
ومن المكر والحتيال صرف نظر الجماهير كي ل ترى الحقيقة التي
يخشاها فرعون ومن شاكله سعيا منهم لتزوير الحقيقة وقلب
الموازين،ولهذا نادى فرعون في قومه و’’قال يا قوم أليس لي ملك
مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون،أم أنا خير من
هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين‘‘.313إّنه ينادي قوما تعودوا التعلق
بالحياة الدنيا وزخارفها،ل يتطلعون إل ّ إلى الرض.إّنه يلفت أنظارهم إلى ما
دم لهم المغريات. تعلقت به قلوبهم وامتلت به عقولهم،ويق ّ
وفي تلك اللحظة التي بهر بها أبصارهم-فلم يعودوا يروا غير المال
والثروة،ولسان حالهم يقول فيها يا ليتنا نحظى بالقرب من السلطان-ينفث
فرعون في روعهم مراده’’:فلول ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء
ن رسل الله ينبغي أن يكونوا معه الملئكة مقترنين‘‘)،314فأوهم قومه أ ّ
ن رسل الله إّنما أ ُّيدوا بالجنود كرسل الملوك في الشاهد،ولم يعلم أ ّ
ن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من ل عاقل يعلم أ ّالسماوية،وك ّ
فرعون مع كثرة أتباعه،وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن
يكون له أسورة أو ملئكة يكونوا معه أعوانا ،أو دليل على صدقه،وليس يلزم
ن العجاز كاف،وقد كان من الجائز أن يكذب مع مجيء الملئكة كما هذا ل ّ
كذب مع ظهور اليات،وذكر فرعون الملئكة حكاية عن لفظ موسى لّنه ل
يؤمن بالملئكة من ل يعرف خالقهم(.315ولكّنها الخديعة التي انطلت عليهم
من متمرس في المكر والحتيال.
ويمكننا أن نرى المكر الذي تميزت به شخصية فرعون من خلل حواره
مع موسى عليه السلم عندما بّلغه رسالة الله،فكان رد ّ فرعون خبيثا مراوغا
يريد تحويل الحوار عن مجراه،فبدل من مجابهة الحجة والبرهان عدل إلى ما
ظّنه احتقار وازدراء لموسى’’،قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا
من عمرك سنين،وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من
ن عليه والحتقار،317فهو المكر الذي 316
الكافرين‘‘ .قال هذا على جهة الم ّ
ن موسى عليه السلم لم يكن ليربى في قصور يخفي الحقائق،ذلك أ ّ
الظالمين لول القتل والتعذيب الذي مارسه فرعون على بني إسرائيل،ورغم
هذه الحقيقة المّرة فقد جاء فرعون في حديثه مع موسى عليه السلم على
آخر القصة المرعبة متحايل في منطقه لخفاء السباب التي جاءت بموسى
إلى قصوره،فتلك نعمة تفاخر بها فرعون وقد جاءت عقب تعبيد بني
إسرائيل وإذللهم.
] 313الزخرف.[52-51:
] 314الزخرف.[53:
315تفسير القرطبي).(101-16/100
] 316الشعراء.[19-18:
317انظر:القرطبي).(95-13/94
66
وبدأ فرعون يحتال بكل الوسائل للقضاء على موسى عليه
السلم،فيحرض الناس ويستثير فيهم الحمية الدينية الباطلة،فهو بحاجة إلى
ث الّناس للدفاع عن الدين ح ّ
حشد كل الطاقات بأيّ وسيلة كانت،وأهمها َ
التي ألفته الّنفوس’’:وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد‘‘.318أي
أريد قتله خوفا عليكم من أن يغير حالكم وعبادتكم إلى عبادة ربه،مخفيا
بذلك خوفه هو من تغيير الحكام والوضاع التي يحرص عليها،ولكّنه احتال
319
عليهم ليظهر وكأّنه يخشى أن يضل موسى الّناس ويغير دينهم وعاداتهم .
م أظهر لهم أّنه يخشى عليهم الفساد الذي سيقع بين الناس بسبب ث ّ
الخلف والفتنة؛فيقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم إذا ظهروا عليكم كما
كنتم تفعلون بهم،وهو بهذا يحشدهم في حربه ضد موسى عليه السلم.أو
أّنه أراد بالفساد ظهور عبادة رب موسى الذي يدعوهم إلى عبادته،وذلك
كان عنده هو الفساد.فجعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره فى
الرض واهتداء الناس به فسادا ،وليس الفساد إل ما هو عليه هو ومن تابعه
.320
ن هذا المكر السيء الذي يقلب الحقيقة تماما ما زلنا ومن العجيب أ ّ
نسمعه هنا وهناك،حيث يحذر الفراعنة الجدد من ظهور الفساد وخراب البلد
ن الطاغوت ُيوحي مونهم بأسماء كثيرة ومتعددة؛ذلك أ ّ على أّيد من يس ّ
ّ
ن زواله لن يكون إل بتخريب البلد وتحويلها إلى دمار كامل للجماهير أ ّ
ن الطاغوت ُيخّير الّناس بين القبول بالواقع الذي يعيشه الّناس وشامل،وكأ ّ
في ظل الطاغوت،وبين الدمار الشامل الذي ينتظرهم إذا ما قام هؤلء
دعون الصلح بعزل الطاغوت وتدميره!وقد تنطلي تلك المناورة الذين ي ّ
على بعض الجهلة،فيروحون يحذرون من الفتنة!ويروجون للمثل
القائل:عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة،فيقبلون بالفتات الذي
ُتسكتهم به حكومة الطاغوت.
وهكذا هو تمويه الطواغيت وتلبيسهم على الجماهير،كما كان يدعي
ن الّنبي صلى الله عليه وسّلم ُيفرق بين المرء وأخيه،فهو- طواغيت مكة أ ّ
مونه بالوحدة بزعمهم-تهديد خطير للمن الداخلي،وتفكيك لما ُيس ّ
الوطنية،وما ذلك إل ّ من أجل البقاء على الوضع القائم.فبعض الّناس يرضى
بالفتات وشيء من الخوف،وبعضهم ل تنطلي عليهم تلك المناورة ويعلمون
ن زوال الطاغوت معناه سطوع الشمس بعد غياب طويل.وصدق فيهم أ ّ
321
قول الله تعالى’’:أل إّنهم هم المفسدون ولكن ل يشعرون‘‘ .
ن إشغال الّناس وإبعادهم عن الحداث بقضايا تافهة،أو تشكيكهم إ ّ
بالعقيدة التي قد تشكل خطرا على الوضاع القائمة على الباطل،أو حتى
ل ذلك وأبعد منهتشويهها واللغو المتعمد فيها لتعكير صفائها ونقائها…ك ّ
يحاوله فرعون بمكر وخداع،فعندما)قال مؤمن آل فرعون ما قال،وخاف
فرعون أن يتمكن كلم هذا المؤمن في قلوب القوم،أوهم أّنه يمتحن ما جاء
] 318غافر.[26:
319انظر:تفسير ابن كثير).(4/78
320انظر :تفسير ابن كثير)(4/77،78وتفسير الطبري)(24/57والسيوطي:أبو بكر،جلل الدين
عبد الرحمن بن الكمال)،ت 911هـ( ،الدر المنثور8،أجزاء ،دار الفكر ،بيروت1993 ،م).
،(7/284وسأشير إليه لحقا هكذا)الدر المنثور(وفتح القدير)(4/488وزاد المسير).(7/416
] 321البقرة.[12:
67
به موسى من التوحيد،فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم،وإن لم يصح ثبتهم
على دينهم،فأمر وزيره هامان ببناء الصرح(’’،322وقال فرعون يا هامان
ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب أسباب السموات فأطلع الى
إله موسى وإني لظنه كاذبا‘‘،أي)قصرا طويل لعلي أبلغ أبواب
السموات وأطرافها التي توصلني إليها().323وأراد بصنيعه هذا أن يوهم به
الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلة
والسلم(،324ولهذا قال تعالى’’:وما كيد فرعون إل في
تباب‘‘،325أي)وما احتيال فرعون الذي يحتال للطلع إلى إله موسى إل في
ل وغبن(.326
خسار وذهاب ما ٍ
وه فرعون الطاغية ويحاور ويداور،كي ل يواجه الحق )وهكذا يم ّ
جهرة،ول يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه،وتهدد الساطير التي قام
عليها ملكه.وبعيد عن الحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه.وبعيد أن
يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو الساذج،وقد بلغ فراعنة
مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور.إنما هو الستهتار والسخرية من
جهة.والتظاهر بالنصاف والتثبت منه جهة أخرى.وربما كانت هذه خطة
للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن(،327وكل
هذه الفروض تدل على القدرة الكبيرة التي يتمتع بها فرعون في المكر
والحتيال،فهو يظهر غير ما يبطن ببراعة وذكاء.
داهم على سلطانه شرع يمكر بكل ما وحين أحس فرعون بالخطر ال ّ
ن هذا لساحر عليم،يريد أن يستطيع ويحتال،و’’قال للمل حوله :إ ّ
328
جه الخطاب يخرجكم من أرضكم بسحره ،فماذا تأمرون‘‘ .فهو يو ّ
للمل المستقرين حوله-فهم ل يغادرون السلطان،ويلتصقون به حفاظا على
ن السحر،وفي قولة فرعون هذه ن هذا لساحر عليم،فائق في ف ّ مصالحهم -إ ّ
ميها سحرا،فهو يصف ساحرها بأّنه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يس ّ
ساحر عليم.ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به بقوله-للمل
والجماهير من بعدهم-يريد أن يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها
وتوطنتموها بسحره ،وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلم وابتغاء الغوائل
له ،إذ من أصعب الشياء على الّنفوس مفارقة الوطن لسيما إذا كان ذلك
قسرا ،وهو السر في نسبة الخراج والرض إليهم ،329فأظهر لهم غير ما
كتمه في نفسه من خوفه على عرشه وسلطانه.
ن فرعون استعمل هذه الخديعة قبل بدء المباراة،تحريضا والعجيب أ ّ
ل جهد مستطاع’’قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك منه لحشد ك ّ
330
يا موسى،فلنأتينك بسحر مثله‘‘ .ورددها المل من بعده،يريدون
ن هذا لساحر الحتيال على الجماهير’’،قال المل من قوم فرعون إ ّ
322تفسير القرطبي).(15/314
323تفسير الواحدي).(2/945
324تفسير ابن كثير).(4/81
]325غافر.[37:
326تفسير الطبري).(24/66
327في ظلل القرآن).(184-7/183
] 328الشعراء.[35:
329انظر:تفسير ابن كثير)(3/334وتفسير أبي السعود)(6/241وتفسير النسفي)(3/184وروح
المعاني).(19/76
] 330طه.[58-57:
68
عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‘‘.331وقالها
السحرة بعد أن تنازعوا أمرهم بينهم قبل بدء المباراة’’:قالوا إن هذان
332
م يعود لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما‘‘ .ث ّ
مّتهماغلب يحتال بها على الّناس ويخدعهمُ ، إليها فرعون بعد أن ُقهر و ُ
نالسحرة بالنضمام إلى المؤامرة بعد إعلنهم اليمان’’،قال فرعون إ ّ
هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف
تعلمون‘‘،333وكأّنهم تواطؤا جميعا عليها بعد أن ابتدعها فرعون،لما لهذه
الخديعة من أثر في الّنفوس.
ده على السحرة عندما أعلنوا وتظهر شخصيته الماكرة في ر ّ
ن هذا لمكر مكرتموه في المدينة إيمانهم،فاتهمهم بما هو متلبس به’’،إ ّ
334
ن غلبته لكم في لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون‘‘ .والمعنى إ ّ
يومكم هذا إّنما كان على تشاور منكم ورضا منكم لذلك ،وحيلة احتلتموها
أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور
غلبوا ول انقطعت المعجزة،وهذا تمويه منه على القبط،يريهم أّنهم ما ُ
ن
ن هذا الذي قاله من أبطل الباطل،فإ ّ ل من له لب-أ ّحجتهم.وهو يعلم-وك ّ
موسى عليه السلم بمجرد ماجاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر
المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ماجاء به،فعند ذلك أرسل
فرعون في مدائن مملكته فجمع سحرة متفرقين من سائر القاليم ببلد
مصر ممن إختار هو والمل من قومه،وأحضرهم عنده،ووعدهم بالعطاء
الجزيل،ولهذا قد كانوا أحرص الّناس على ذلك وعلى الظهور في مقامهم
ذلك والتقدم عند فرعون ،وموسى عليه السلم ل يعرف أحدا منهم ول رآه
ول اجتمع به وفرعون يعلم ذلك،وإّنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع
دولته وجهلتهم ،335وبهذا قلب فرعون الحقيقة،فهو الذي يمكر ويدبر في
الخفاء ويجمع السحرة ويحشد الّناس والعوان ويوزع الدوار وينفق
ل من يدين بمثل الموال… ولكّنه المكر والحتيال الذي يتقنه فرعون وك ّ
منهجه.
وتهمة أخرى وبدعة كبرى تنتجها عقلية فرعون الماكرة،فهو لم يّتهم
موسى بأّنه تلميذ نجيب للسحرة،بل هو –بزعم فرعون-كبير السحرة
ومعلمهم،وذلك هو قول فرعون’’:إّنه لكبيركم الذي علمكم
السحر‘‘،336أي لعظيمكم ورئيسكم في التعليم وعنه أخذتم السحر،وإّنما
غلبكم لّنه أحذق به منكم،أو لّنه علمكم شيئا دون شيء،ولو قال تلميذكم
لما صح هذا المعنى الذي أراده لعنه الله.أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم
عليه ،وأراد به التلبيس والخداع على قومه ليشتبه المر عليهم كي ل
يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق،وإل ّ فقد علم فرعون أّنهم لم
يتعلموا من موسى بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولدته،ولكّنها
] 331العراف.[110-109:
] 332طه.[62:
]333العراف.[123:
] 334العراف.[123:
335انظر:تفسير ابن كثير)(2/239وفتح القدير)(2/234وتفسير النسفي)(2/30وروح المعاني)
.(9/27
] 336طه.[71:
69
مكابرة يعلم كل واحد بطلنها،فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم،
فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر 337؟
وتظهر شخصيته الماكرة المخادعة في طريقة تصّرفه ومخاطبته
لتباعه بعد أن علم بخروج بني إسرائيل خفية،يقول تعالى’’:فأرسل
فرعون في المدائن حاشرين،إن هؤلء لشرذمة قليلون،وإنهم
339 338
ما علم بخروج بني لنا لغائظون،وإنا لجميع حاذرون ‘‘ ،فإّنه ل ّ
إسرائيل)اشتد غضبه عليهم لما يريد الله به من الدمار،فأرسل سريعا في
ن
بلده حاشرين،أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب،ونادى فيهم:إ ّ
هؤلء يعني بني إسرائيل’’لشرذمة قليلون‘‘أي لطائفة قليلة’’،وإّنهم لنا
لغائظون‘‘أي كل وقت يصل إلينا ما يغيظنا’’،وإنا لجميع حاذرون‘‘أي نحن
كل وقت نحذر من غائلتهم ،وإّني أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد
خضراءهم(.340
فانظر كيف رّتب خطابه،حيث أشار أول إلى عدم ما يمنع اتباعهم من
م إلى شوكتهم،يريد أنهم لقلتهم ل يبالي بهم ول يتوقع غلبتهم وعلوهم،ث ّ
تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم،لّنهم يفعلون أفعال تغيظنا وتضيق
صدورنا،فيجب التيقظ في شأنهم لّننا قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال
الحزم في المور،فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إخماده.وهذه معاذير
اعتذر بها إلى أهل المدائن لئل يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه
،341وبهذه العقلية الماكرة أخفى فرعون ما أراد إخفاءه.
ل شأنه كان له ولكن ماذا كانت نتيجة مكره؟كانت وبال عليه،فالله ج ّ
بالمرصاد،يعلم تدبيره ويطلع على مكره،يقول تعالى’’:ول يحيق المكر
السيء إل ّ بأهله‘‘ .342أي)وما يعود وبال ذلك إل عليهم أنفسهم دون
343
منغيرهم( .فهل يتعظ المعاصرون بما حدث للغابرين؟فليسوا هم بأشد م ّ
سبقهم مكرا ول تدبيرا ول كيدا،فأخذهم الله بذنوبهم وكانت عاقبة أمرهم
خسرا،يقول تعالى’’:وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر
جميعا‘‘،344لقد جّرب الولون فضّروا بمكرهم أنفسهم لنهم أسخطوا ربهم
بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم ونجى رسله،فهو أحكم تدبيرا و أعظم
كيدا.345
دعاة إلى الله فنذكرهم بوصية الله لنبيه صلى الله عليه ما ال ّ
وأ ّ
وسّلم،حيث يقول سبحانه’’:واصبر وما صبرك إل بالله ول تحزن
ّ
ما يمكرون‘‘).346فل يضيق صدره بمكرهم عليهم ول تك في ضيق م ّ
337انظر:تفسير البيضاوي)(4/238وتفسير القرطبي)(11/224وتفسير ابن كثير)
(3/159،366وتفسير ابي السعود)(6/243وروح المعاني).(19/79
)338قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو )وإنا لجميع حذرون( بغير ألف،وقرأ الباقون) :حاذرون(باللف،
أي مؤدون مقوون أي ذوو أداة و ذوو سلح و قوة،فالحاذر المستعد والحذر المتيقظ أي قد أخذنا
حذرنا وتأهبنا وقالوا:الحاذر الذي يحذر الن والحذر المخلوق حذرا ل تلقاه إل حذرا حذرا وكان
الكسائي يقول أصلهما واحد من الحذر(حجة القراءات).(1/517
]339الشعراء.[56-53:
340تفسير ابن كثير ).(3/336،337
341انظر :تفسير البيضاوي)(4/239وتفسير أبي السعود)(6/244وتفسير النسفي).(3/186،187
]342فاطر.[43:
343تفسير ابن كثير).(3/563
]344الرعد.[42:
345انظر:تفسير الطبري).(13/175
]346الّنحل.[127:
70
فإنما هو داعية لله،فالله حافظه من المكر والكيد،ل يدعه للماكرين
الكائدين،وهو مخلص في دعوته ل يبتغي من ورائها شيئا لنفسه،وقد يقع به
ن العاقبة الذى لمتحان صبره،ويبطيء عليه النصر لبتلء ثقته بربه،ولك ّ
مظنونة ومعروفة،فل عليه ممن يكيدون وممن يمكرون(.347
عبرة المبحث’’:ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘‘.348
لقد حاق المكر السيء بأهله،فأغرق الله فرعون وجنوده..وها هم
أهل مكة أجبروا الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة بسبب
مكرهم وتآمرهم فأقام الله له دولة!فلماذا ل يتعظ اللحقون بالسابقين؟
ن
ولت لهم أنفسهم أ ّ أم أّنهم يحسبون أنفسهم على المكر أقدر؟فلربما س ّ
ما لديهم من الخطط والمكانيات أكثر،ولكن قد مكر الطواغيت من
قبلهم’’وعند الله مكرهم‘‘.349أي)عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم
وإبطال له(.350
ن الطواغيت يلجأون-رغم عدوانيتهم وعنفهم-إلى المكر والحتيال حين إ ّ
ل يستطيعون استخدام القوة،أو حين يحسون بالخطورة من
ل وسائل استخدامها،وبسبب انعدام الخلق والقيم فالطاغوت يستعمل ك ّ
المكر والدسيسة للوصول إلى هدفه،ول يشعر حين يرتكب جريمته بأي نوع
من التأنيب،بل ويستغل كل مناسبة لبتزاز الخرين،ولكي ل ينكشف أمره
وعها،فمرة بإلصاق تهمة مدبرة ومرة بالتظاهر فهو يطور وسائل الحتيال وُين ّ
ة مع أطراف وأشخاص متعددين يتقنون في َ ًخ ْ
بالصلح والتقوى..ويشترك ِ
الحتيال الجماعي،وبهذه العقلية الماكرة الخبيثة المتشعبة يصعب أحيانا
كشف المؤامرة،كما يصعب إقناع الّناس بها،فهي بحاجة إلى متابعة وفحص
وتدقيق وربط بين أجزائها،وهذا ما نلحظه في عالمنا من توسيع لدوائر
مونه بما المكر والحتيال،حتى أصبح للمكر مؤتمرات سرّية دورية،وهو ما يس ّ
وراء السطور!
كما تمتاز شخصية الطاغوت بالقدرة على التمثيل كلما اقتضت الحاجة
للتسويق خدعته،فيلبس ثوب الدين والوطنية والقومية والعلمانية..فَل ِك ُ ّ
ما يتفاعل مع تلك الحركات التمثيلية،وبهذا مناسبة ثوبها،وُينشؤون رأيا عا ّ
ُيفسر خوفهم من التفكير والتعبير كي ل يظهر الفرق بين التمثيل والحقيقة.
ما يفسر لنا ما كان الطاغوت يشعر بالخطر فهو على حذر دائم،م ّ ول ّ
شدته وغلظته على مخالفيه،وقمعهم والحتيال لتدميرهم،فهم يشكلون
مصدر الخوف والقلق للطاغوت،ويفسر لنا جهده الدائم على إيجاد جماهير
ساذجه تنطلي عليها حيله ومكره،وتقبل بالواقع على مرارته مع آمال وهمية
في المستقبل.
ن الدواء الوحيد أمام احتيال ومكر الطواغيت هو الوعي واليقظة إ ّ
والنتباه؛لّنه بدون الجماهير الساذجة والجاهلة ل يستطيع الطاغوت أن يمرر
مفرغة من المضمون القيمي والخلقي هي وسيلة مؤامراته،فالجماهير ال ُ
الطاغوت كما أّنها محل جريمته.وليس معنى هذا أن الباب مفتوح لتوعية
ن الطاغوت سيضع العقبات والعراقيل أمام القوى الفاعلة الجماهير،بل إ ّ
الواعية في المجتمع،وسيتهمها بالخروج والزندقة!فعملية التوعية بحاجة إلى
347في ظلل القرآن)(294-5/293مع بعض التصرف.
]348النفال.[30:
]349ابراهيم.[46:
350تفسير البيضاوي).(3/355
71
صبر وثبات ومثابرة وتضحية كما تحتاج إلى القيادة الواعية الحكيمة القادرة
رغم الظروف المأساوية أن تصل إلى الجماهير لتعبئتهم وتوعيتهم،فتحولهم
من أكداس بشرية خاوية ميتة إلى جماهير واعية حّية مثقفة بصيرة بواقعها
وحالها ومآلها.
نتيجة الفصل:العقدة الساسية في شخصية فرعون
لمعرفة العقدة الساسية في شخصية فرعون ل بد ّ من استحضار
المهمة التي ُبعث بها موسى عليه السلم،وهي إرسال بني إسرائيل من
قبضة فرعون والكف عن تعذيبهم،وذلك ما ُيرشد إليه قوله تعالى’’:فأتياه
فقول إّنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ول ُتعذبهم قد
جئناك بآية من ربك والسلم على من اتبع الهدى،إّنا قد أوحي
ذب وتولى‘‘.351وقوله تعالى’’:فأتيا ن العذاب على من ك ّ إلينا أ ّ
فرعون فقول إّنا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني
353 352
م
إسرائيل‘‘ .أي)أطلقهم ول تعذبهم بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان( ،ث ّ
ما حمله هذا الخطاب من هجوم واضح على أهم ما تقوم عليه شخصية
فرعون من دعوى اللوهية والربوبية،وظهر ذلك في قول موسى
وهارون’’:إّنا رسول ربك‘‘،354والمعنى أّنهما)ُأمرا بذلك تحقيقا للحق من
أول المر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه(355؛فالمهمة بطرفيها
المترابطين متصلة بالّنزعة الفوقية،وهي العقدة الساسية في شخصية
ن دعوى فرعون لللوهية والربوبية تكشف لنا عن مدى فرعون؛وبيان ذلك أ ّ
مهِ في خ ِ
ض ّ
وق على الخرين،فالشعور بالتفوق وت َ َ ما يشعر به من فوقية وتف ّ
نفس فرعون أدى به إلى ادعاء اللوهية والربوبية،وذلك ليضع نفسه في
إطار من القدسية ُيشبع تلك المشاعر.ولهذا تعرض موسى عليه السلم في
ما القضية الثانية فهي ناتجة عن الشعور خطابه لهذه العقدة الساسية.أ ّ
بالفوقية أيضا،حيث أفرز هذا الشعور المتضخم سلوكا تسلطيا من
فرعون،فتسلط على من هم تحت يده،ولهذا كانت القضية الثانية في
الخطاب إرسال بني إسرائيل.
ومن العوامل المساعدة في إيجاد هذه النزعة عند فرعون أّنه ُولد
ونشأ في عائلة مالكة تتمتع بالجاه والسلطة،فهو من سللة الملوك،فتربى
ن فرعون نفسه امتاز عن غيره بثبات ملكه مإ ّ في بيئة تتنفس تلك النزعة،ث ّ
ما غذى تلك النزعة عنده.يقول تعالى’’:وفرعون ذو وقوته م ّ
357 356
ن قوة الّنظام تنعكس على الوتاد‘‘ .أي ذو الملك الثابت ،ول شك أ ّ
ن)ذو الوتاد:صفة فرعون ل لجميع ما قبله وإل شخصية فرعون نفسه.ل ّ
لقيل ذوو الوتاد(.358
لقد ظهرت النـزعة الفوقية لفرعون في مقارنته لنفسه مع موسى
عليه السلم،يقول تعالى حكاية لقول فرعون’’:أم أنا خير من هذا الذي
] 351طه.[48-47:
]352الشعراء.[17-16:
353تفسير البيضاوي).(53-4/52
] 354طه.[47:
355تفسير ابي السعود).(6/19
]356الفجر.[10:
357انظر:تفسير القرطبي)(155-15/154وتفسير البيضاوي)(39-5/38ومعاني القرآن).(6/85
358روح المعاني).(23/170
72
ن احتقار الخرين هو مهين ول يكاد يبين‘‘،359أي)ضعيف حقير(360؛ذلك أ ّ
وازدرائهم من إفرازات النـزعة الفوقية،فهو يرى كل ما عداه حقيرا تافها ل
قيمة له.وهنا ندرك علة عدم اكتراث الطواغيت بآلم الجماهير
وعذاباتهم،فهم-أي الطواغيت-يتصورون الّناس كائنات منـزوعة الحاسيس
والمشاعر.
ونلحظ هذا الظهور-لتلك الّنزعة-في رده على المل حين طلبوا منه حل ً
لمشكلة موسى،فرد عليهم بقوله’’:وإّنا فوقهم قاهرون‘‘.361وأراد
بالفوقية العلو المعنوي وليس العلو المكاني،362وتلك هي العقدة الساسية
التي تتفرع عنها باقي الخصائص في شخصية فرعون،والتي تمثلت آثارها
مَرضي ومنهجه التعسفي. في سلوك فرعون ال َ
ن دعوى اللوهية والربوبية تعبير ظاهري عن تلك ولنا أن نقرر أ ّ
الّنزعة،بلغت أقصى درجاتها حين أوجب فرعون على الّناس أن يتوجهوا إليه
بنوع من العبادة،بينما هو في داخله يعبد ذاته.من هنا كان المتناع عن قبول
ن قيام البرهان أو عدمه ليس هو الحق مهما أوتي صاحبه من برهان؛ذلك أ ّ
المشكلة ما دامت تلك الشخصية ترفض أي وضع ل تستطيع فيه التعبير عن
ن العبيد ليس مكنوناتها الّنفسية،ولزم من ذلك الستعلء والستبداد؛ذلك أ ّ
لهم وظيفة بين يدي الله والرب المزعوم سوى السمع والطاعة والتنفيذ،ول
يملكون حق التصرف ولو في أنفسهم.
ن الطغيان وتجاوز الحد في المعصية ببلوغ أسفل الدركات قد تمثل إ ّ
بادعاء فرعون لللوهية والربوبية كتعبير ظاهري عن مشاعر الّتفوق
والفوقية،ولزم من ذلك الظلم بكل معانيه وأنواعه وتصاريفه حين وضع
فرعون نفسه في غير موضعها،وصاحب تلك الدعوى الفساد والفساد،إذ
كيف يكون الصلح في وضع قائم على مفسدة كبرى صار العبد فيها ربا
وإلها!فكل ما ُيبنى على تلك المقدمة الفاسدة سيصيبه الخلل والعوار.
ما كانت دعواه تصادم الفطرة وتدعو للّنفور أسرف في الجريمة ول ّ
واستكثر منها لسكات المعارضين،وفي المقابل كان المكر والحتيال لتمرير
ن فرعون يعيش عقدة داخلية متمثلة بشعوره أّنه صغير تلك الكذوبة؛ذلك أ ّ
ما يضطره للحتيال الدائم لخفاء الحقيقة وللتعويض عن يخشى النكشاف،م ّ
صَغر الذي يشعر به. ال ّ
وفرعون واهم مغرور اغتر بما لديه،وخدعه زخرف الدنيا والجاه
ده،فهو كذبه الواقع وير ّ والسلطان والقوة،وتخّيل-بسبب انبهاره بما لديه-ما ي ّ
ليس إلها ول ربا،فحصلت على عينّيه غشاوة حجبت عنه الرؤية
ول إلى ماء،وهكذا ن السراب ل يتح ّ ن هذا ل يغّير الحقيقة،كما أ ّ الصحيحة،ولك ّ
الغرور نوع من الوهم والتخّيل في المحصلة.
إّننا ما زلنا نعاني من تلك الّنزعة التي تظهر بين حين وآخر حيث تخرج
جه
مو ّوق والفوقية،ويقوم العلم ال ُ علينا شخصيات مريضة تشعر بالتف ّ
بالتعبير عن مكنونات تلك الّنفس الخبيثة المترفعة…فلوله-كما ُيقال-لما
دم البلد أو القطر أو المملكة أو الجمهورية،ولوله لما كانت المدارس تق ّ
والجامعات والمعاهد والمصانع…وهو مع هذا كّله عبقري ل ُيراجع له
]359الزخرف.[52:
360تفسير الجللين).(1/652
]361العراف.[127:
362انظر:اتقان ما يحسن من الخبار).(2/19
73
قرار،فلقد جاد الزمان به!وهو الرياضي الول والعسكري والملهم…والّناس
ينادونه بصاحب الجللة أو صاحب العظمة…وهو مولى النعمة وجالب
الخير…وأقواله تشريع وأفعاله سنن!يعني تماما أّنه رب أو إله يعبد!
الفصل الثاني
ون شخصية فرعون
السباب التي أدت إلى تك ّ
ل شيءل شيء يتوصل به إلى غيره ،والجمع أسباب.وك ّ )السبب-لغة-ك ّ
363
يتوصل به إلى الشيء فهو سبب( ،واصطلحا):ما يلزم من وجوده الوجود
ومن عدمه العدم لذاته(.364
74
ن ظهور هذه الشخصية له أسبابه،فشخصية مما لشك فيه أ ّ ن ّإ ّ
كشخصية فرعون-وبهذه الخصائص التي أشرت إليها سابقا-تجعل النسان
يفكر كيف يصل إنسان إلى هذا الدرك من النحطاط والفجور والعتو!
ل من تمّتع بفطرة سليمة وصحة نفسّية،مخافة أن يقع وهوتساؤل يطرحه ك ّ
بمثل هذا الشر،ولكي يمنع وقوعه إذا استطاع ذلك.
ن
ن السباب مقدمات إن وجدت وجدت النتائج المترتبة عليها،فإ ّ ول ّ
مية بيانها للّناس.للوقاية أول،ولمعرفة القرآن الكريم بّين هذه السباب له ّ
العلج لها إن حدثت ثانيا،فمعرفة سبب المرض تسّهل الوقاية منه،كما ل
يكون العلج إل ّ بمعرفة السبب.
ن تشخيص المرض سابق للبحث عن أسبابه ولكن ل بد ّ من ملحظة أ ّ
وطرق علجه،إذ من غير المعقول أن نبحث عن أسباب لمرض ل نعرفه أو
عن علج لداء نجهله.من هنا كان ل بد ّ أن نبدأ بتشخيص هذه الحالة
دمت خصائص شخصية فرعون-والتي تمثل تشخيصا للحالة المرضية،فق ّ
م إن تقديم تشخيص الحالة المرضية-عن البحث عن أسباب ظهورها،ث ّ
المرضية بكل ما تحمله من مساويء تجعل النسان يسأل بإلحاح عن
ما يضيف إلى البحث عنصر التشويق. أسباب ظهورها،م ّ
ونعود إلى السؤال:ما هي أسباب ظهور هذه الشخصية؟
وللجابة ل بد ّ من استقصاء السباب التي ذكرها القرآن الكريم أو أشار
إليها أو أمكن فهمها من واقع فرعون الذي أخبرنا القرآن عنه.حيث يمكننا
ون وظهور شخصية فرعون بالخصائص إجمال تلك السباب التي أدت إلى تك ّ
التي ذكرناها في ثلثة أسباب هي-1:الكفر -2والمحافظة على المكتسبات
الخاصة -3وفسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم
له.ولقد أفردت لكل سبب منها مبحثا مستقل.
المبحث الول
الكفر
)الكفر نقيض اليمان،وكفر بالله يكفر كفرا وكفورا وكفرانا .ويقال
لهل دار الحرب:قد كفروا أي عصوا وامتنعوا.والكفر كفر النعمة وهو نقيض
الشكر،والكفر جحود النعمة وهو ضد الشكر،وقوله تعالى’’:إّنا بكل
كافرون‘‘365أي جاحدون.وكفر نعمة الله يكفرها كفورا و كفرانا،وكفر بها
مكفر مجحود النعمة مع إحسانه. جحدها وسترها.وكافره حقه جحده،ورجل ُ
ورجل كافر جاحد لنعم الله مشتق من الستر،وقيل:لنه مغطى على
قلبه(.366والكفر)تغطية ما حقه الظهار،والكفران ستر نعمة المنعم بترك
أداء شكرها،وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة،والكفران
في جحود النعمة أكثر استعمال،والكفر في الدين أكثر(،367و)الكافر الليل
ل شيء غطى شيئا فقد كفره،ومنه ل شيء.وك ّالمظلم لّنه ستر بظلمته ك ّ
75
سمي الكافر لّنه يستر نعم الله عليه،والكافر الزارع لّنه يغطي البذر
بالتراب و الكفار الزراع(.368
)قال بعض أهل العلم:الكفر على أربعة أنحاء :كفر إنكار بأن ل يعرف
الله أصل ول يعترف به،وكفر جحود،وكفر معاندة،وكفر نفاق،من لقي ربه
ما كفر النكار بشيء من ذلك لم يغفر له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .فأ ّ
ما كفرفهو أن يكفر بقلبه ولسانه ول يعرف ما يذكر له من التوحيد… وأ ّ
ما كفر الجحود فأن يعترف بقلبه ول يقر بلسانه فهو كافر جاحد… وأ ّ
المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ول يدين به حسدا وبغيا…
ما كفر الّنفاق فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ول يعتقد بقلبه(.369
وأ ّ
وفي الشرع:الكفر)إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله
عليه وسلم به،مما أشتهر حتى عرفه الخواص والعوام(،370ويمكننا أن نعرفه
371
ي
إصطلحا:على أّنه)ستر الحق بالجحود( .وهذا يشمل كل من كفر بأ ّ
حق،سواء كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أم نبوة غيره من النبياء
عليهم السلم،كما جحد فرعون نبوة موسى عليه السلم.
ل مفسدة،فليس بعد الكفر ذنب؛ ل خطيئة وأساس ك ّ والكفر رأس ك ّ
372
فالكفر ظلم’’،والكافرون هم الظالمون‘‘ ).أي ول ظالم أظلم ممن
وافى الله يومئذ كافرا(،373لّنهم)الواضعون جحودهم في غير
موضعه،والفاعلون غير ما لهم فعله،والقائلون ما ليس لهم قوله(.374
ت ل أصل له،يقول تعالى’’:والذين كفروا منب ٌ
والكفر ظلمة وسرابُ ،
أعمالهم كسراب بقيعة،يحسبه الظمآن ماء ،حتى إذا جاءه لم
يجده شيئا ،ووجد الله عنده فوفاه حسابه .والله سريع
الحساب .أو كظلمات في بحر لجي ،يغشاه موج من فوقه موج
،من فوقه سحاب .ظلمات بعضها فوق بعض ،إذا أخرج يده لم
يكد يراها .ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‘‘).375فالكفر
ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون.وضلل ل يرى فيه القلب
أقرب علمات الهدى.ومخافة ل أمن فيها ول قرار…ومن لم يجعل الله له
نورا فما له من نور(.376
ما
ما بالعبارة المباشرة وإ ّ
ولقد بّين القرآن الكريم حقيقة كفر فرعون،إ ّ
من خلل أقواله وأفعاله التي تدل على كفره.ولسنا هنا بصدد استقصاء كل
ن فرعون الدلة التي تثبت كفره ،إّنما يكفي منها ما يبرهن على ذلك لنعلم أ ّ
م لنرى بعد ذلك كيف كان الكفر سببا في تكوين وتشكيل من الكافرين،ث ّ
ن كل رذيلة تلبس فيها فرعون أو جريمة ارتكبها لم شخصية فرعون،بمعنى أ ّ
تكن بهذه الصورة وهذا الحجم المأساويّ لول كفره وعدم إيمانه.
والدلة على كفره كثيرة منها:
368مختار الصحاح،مادة:كفر).(239
369لسان العرب،مادة:كفر)(5/144مع بعض التصرف.
370روح المعاني)(1/127وانظر:تفسير البيضاوي).(1/137
371تفسير النسفي).(1/14
] 372البقرة.[254:
373تفسير ابن كثير).(1/305
374تفسير الطبري).(3/4
] 375الّنور.[40-39:
376في ظلل القرآن)(6/108مع بعض التصرف.
76
قوله تعالى’’:واستكبر هو وجنوده في الرض بغير الحق
ن فرعون من الذين وظّنوا أّنهم إلينا ل يرجعون‘‘.377والشاهد فيها أ ّ
ظّنوا أّنهم ل يرجعون إلى الله،فمعنى الية أن فرعون وجنوده اعتقدوا
وحسبوا أّنهم إلى الله ل يرجعون بالنشور،فل قيامة ول معاد،فهم ل يؤمنون
378
ن هنا شك،فكفر على الشك بالبعث بعد الموت فل ثواب ول عقاب .و)الظ ّ
ن هنان الظ ّ لّنه قد رأى من البراهين ما ل ُيخّيل على ذي فطرة()،379وقيل:أ ّ
ذب موسى عليه الصلة بمعنى اليقين().380وهذا من كفره وتمرده أّنه ك ّ
ن الله عز وجل أرســله إليه(،381والسلم في أ ّ
)ويحتمل أن يكون عنى به كاذبا في دعوى الرسالة،وأن يكون عنى به كاذبا
ن له إلها غيري(،382وأيّ المعنيين أراد فرعون بقوله فهو كفر. في دعوى أ ّ
لوقوله تعالى’’:وقال موسى إّني عذت بربي وربكم من ك ّ
ن موسى عليه السلم متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‘‘ .383والشاهد فيها أ ّ
دده فرعون ما ه ّ
قصد بالمتكبر الذي ليؤمن بيوم الحساب فرعون،وذلك)ل ّ
بالقتل استعاذ موسى بالله من كل متكبر،أي متعظم عن اليمان وصفته أّنه
ل يؤمن بيوم الحساب()،384لّنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب
بالجزاء وقلة المبالة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على
ن من لم يؤمن بيوم الله وعباده ولم يترك عظيمة إل ّ ارتكبها(385؛ذلك)أ ّ
الحساب لم يكن للثواب على الحسان راجيا ول للعقاب على الساءة وقبيح
ما يأتي من الفعال خائفا،ولذلك كانت استجارته من هذا الصنف من الّناس
خاصة()،386ويدخل فرعون في هذا العموم دخول أوليا(.387
ومن الدلة على تكذيبه وكفره قوله تعالى’’:فأراه الية
م أدبر يسعى‘‘ .388فكذب نبي الله موسى الكبرى،فكذب وعصى،ث ّ
م أدبر يسعى أي ولى وعصى رّبه عز وجل بعد ظهور الية وتحقق المر ،ث ّ
مدبرا معرضا عن اليمان وطاعة ربه،يسعى أي يعمل بالفساد في
الرض.وقيل:يعمل في نكاية موسى لبطال دعوته مجتهدا في معارضة ما
جاء به موسى عليه السلم .389
وكما أّنه عاش كافرا مات كافرا،حيث لم يقبل الله توبته،يقول
تعالى’’:حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه ل إله إل الذي آمنت
به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‘‘).390فآمن حيث ل ينفعه
ما رأوا بأسنا قالوا آمّنا بالله وحده وكفرنا بما كّنا به اليمان’’،فل ّ
] 377القصص.[39:
378انظر:تفسير الطبري)(20/174وتفسير البيضاوي)(4/294وتفسير ابن كثير)(3/391وفتح
القدير)(4/174وزاد المسير).(6/223
379تفسير القرطبي).(13/289
380تفسير القرطبي).(5/315
381تفسير ابن كثير)(4/81وانظر:فتح القدير).(4/492
382روح المعاني).(24/70
]383غافر.[27:
384تفسير القرطبي)(15/305وانظر:تفسير ابن كثير).(4/78
385تفسير النسفي)(4/72وانظر:روح المعاني).(24/63
386تفسير الطبري).(24/57
387فتح القدير).(4/488
] 388الّنازعات.[22-20:
389انظر:تفسير الطبري)(30/40وتفسير البيضاوي)(5/447،448وفتح القدير)(5/376وتفسير
القرطبي).(19/202
] 390العراف.[90:
77
ما رأوا بأسنا سّنة الله التي مشركين،فلم يك ينفعهم إيمانهم ل ّ
391
قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون‘‘ .ولهذا قال الله تعالى
في جواب فرعون حين قال ما قال’’آلن وقد عصيت قبل‘‘.392أي أهذا
الوقت تقول وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه’’وكنت من
393
مة يدعون المفسدين‘‘ .أي في الرض الذين أضلوا الناس وجعلناهم أئ ّ
إلى الّنار ويوم القيامة ل ينصرون،وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون
من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله
صلى الله عليه وسلم(.394
بعض نتائج الكفر وآثاره في شخصية فرعون
أول نتائج الكفر وأقساها أن تحل لعنة الله على من كفر،يقول
ما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على تعالى’’:فل ّ
395
الكافرين‘‘ .فليس هناك أي مظهر للرحمة ل في حياته ول حين مماته
ول بعد موته.فأينما يكون الكفر تحل اللعنة،ومن هنا ندرك العلة في اختفاء
مظاهر الرحمة والتراحم في كثير من بقاع الرض.
ن الكفر أّدى بفرعون إلى الضلل عن الطريق المستقيم’’،ومن إ ّ
396
ّ
دل الكفر باليمان فقد ضل سواء السبيل‘‘ .أي )فقد خرج عن يتب ّ
الطريق المستقيم إلى الجهل والضلل،وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق
النبياء واتباعهم والنقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والقتراح عليهم
ن)المنافق بالسئلة التي ل يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر(397؛ذلك أ ّ
والكافر استبدل بالهدى الضللة والنفاق؛فأضّلهما الله وسلبهما نور الهدى
فترك جميعهم في ظلمات ل يبصرون(،398وهذا يفسر لنا حالة العمىالتي
عاشها فرعون وسبب انحرافه وشدة غّيه،وتعدى ذلك إلى إضلل قومه
وعدم هدايتهم،يقول تعالى’’:وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘.399
ما
وكفر فرعون دليل على فسقه،لّنه ل يكفر بآيات الله إل الفاسقون،م ّ
يفسر لنا تمرده على الله،ويبّين لنا أسباب عتوه وفجوره،يقول
تعالى’’:ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إل
نالفاسقون‘‘.400وما دامت العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب،فإ ّ
ل من يكفر بآيات الله فهو من الفاسقين الخارجين عن أمر الله المتمردين ك ّ
عليه.
وبسبب كفره كان فرعون على رّبه ظهيرا،وهي حقيقة بّينها القرآن
كقاعدة عامة بقوله تعالى’’:وكان الكافر على ربه ظهيرا‘‘.401أي)معينا
للشيطان على ربه مظاهرا له على معصيته(،402فهو معين للشيطان على
رّبه بأفعاله وأقواله ومنهجه…،كما أّنه داعيا لكل الّناس الذين يحكمهم إلى
] 391غافر.[85-84:
] 392يونس.[91:
] 393يونس.[91:
394تفسير ابن كثير).(2/431
]395البقرة.[89:
] 396البقرة.[180:
397تفسير ابن كثير).(1/154
398تفسير الطبري).(1/139
]399طه.[79:
] 400البقرة.[99:
] 401الفرقان.[55:
402تفسير الطبري).(19/26
78
عدم توحيد الله،بل وطلب منهم أن يعتبروه إلها لهم،وهو أيضا معاونا
ن حربا ل هوادة فيها عليهم،يقتلهم ويعذبهم للشيطان على أولياء الله،فقد ش ّ
ويسجنهم ويتهمهم بالجنون.
ّ
والكفر سبب في غروره،يقول تعالى’’:إن الكافرون إل في
غرور‘‘،403أي)إل في غرور عظيم وضلل فاحش من جهة الشيطان ليس
لهم في ذلك شيء يعتد به(.404وسبب في استكباره،يقول تعالى’’:بل
الذين كفروا في عزة وشقاق‘‘،405أي في استكبار وحمية شديدة ل
يذعنون للحق.406وسبب في مكره وكذبه واحتياله،يقول تعالى’’:بل الذين
ذبون‘‘.407وسبب في حياته البهيمية،يقول تعالى’’:والذين كفروا ُيك ّ
408
كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل النعام‘‘ )،كأنهم أنعام ليس لهم
همة إل بطونهم وفروجهم ساهون عما في غدهم(.409
ن الكفرن كفر فرعون سبب في استواء النذار له من عدمه؛ذلك أ ّ إ ّ
ن الذين كفروا سواء عليهم حجاب يمنع المعرفة والعلم،يقول تعالى’’:إ ّ
طوا الحق وستروه أأنذرتهم أم لم تنذرهم ل يؤمنون‘‘410؛ذلك لّنهم غ ّ
فاستوى النذار وعدمه عندهم.411
ل فرعون،فمن وحل لقد استبان سبب الخلل الذي أصاب الحياة في ظ ّ
الكفر نبتت تلك الشخصية بما فيها من غرور واستكبار واستبداد…ومن أجل
بيان هذا الترابط بين الكفر وأثره أهتم القرآن بتلك القصة العجيبة.
ن الخلل في أي جزء من العقيدة له آثار مدمرة تنبيه ل بدّ منه:إ ّ
على الفرد والمجتمع
ن عدم إيمان فرعون بيوم الحساب يبين لنا سببا مهما في ظهور هذه إ ّ
ن
ن)اليمان باليوم الخر له أثر عظيم في حياة الّناس،ذلك أ ّ الشخصية؛ذلك أ ّ
اليمان به وبما فيه من جّنة ونار وحساب وعقاب،وثواب وفوز وخسران له
أشد ّ الثر في توجيه النسان وانضباطه والتزامه بالعمل الصالح وتقوى الله
ل،وشتان ما بين اثنين:أحدهما ل يعتقد ببعث ول حساب على أعماله عز وج ّ
وأقواله،ول يقيده غير مصلحته الشخصية ومنفعته الذاتّية،وآخر يعتقد بيوم
يحاكم فيه النسان على أعماله وأقواله أمام أعدل العادلين فيثاب على
الخير،ويعاقب على الشر.فالول منفلت من أي ضابط سوى هواه
خُلق وأي عمل،مهما وشهوته،والغاية عنده غاية أنانية تبرر أي وسيلة وأي ُ
كان ضرره.والخر منضبط في حدود الحق والخير والصلح،وهي المور التي
لها وزن واعتبار عند الله في ذلك اليوم(، ،412كما قال تعالى’’:والوزن
يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون،ومن
]403الملك.[20:
404روح المعاني).(29/18
]405ص.[2:
406انظر:تفسير أبي السعود)(7/213وتفسير البيضاوي).(5/35
]407النشقاق.[22:
]408محمد.[12:
409تفسير الطبري)(16/235وانظر:تفسير ابن كثير).(4/176
]410البقرة.[6:
411انظر:تفسير ابن كثير).(1/46
412ياسين:محمد نعيم،اليمان أركانه حقيقته نواقضه،جزء واحد،ط ،3الطابعون،جمعية عمال
مان1402،هـ1982،م.(75-74). المطابع التعاونية،ع ّ
79
خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا
يظلمون‘‘.413
ن هناك حياة أخرى،وبتصوره ن الذي ل يؤمن بالبعث والّنشور ل يؤمن أ ّ إ ّ
هذا يعتبر هذه الحياة فرصته الوحيدة ،فيكون جشعا في اغتنام فرصته
الوحيدة-حسب تصوره واعتقاده،-وسيعمل بكل ما أوتي من قدرة على
ي مادي ليرى رسالة له سوى تحقيق أكبر استغلل فرصته الوحيدة،فهو نفع ّ
قدر من اللذة،وهذا سبب في انتشار العقلية الّنفعية في العالم،بل وسبب
في نشوء مذهب الرأسمالية.فما دام النسان ل يؤمن بالحياة الخرى فلن
يتوانى في سبيل تحقيق رغباته ومطالبه بأي وسيلة كانت لشباع نهمه،وهو
ن ما ل
يرى فرصته الوحيدة تأكلها اليام والسنون..فتغيب الخلق حتما ل ّ
يحقق لذة أو يجلب منفعة ل ُيقبل في حياتهم.
ن أيّ خلل في العقيدة له آثار سلبية،ومثال ذلك ما حصل لبني إ ّ
ذبوا في النار إل ّ أياما معدودات’’،ذلك إسرائيل حين اعتقدوا أّنهم لن ُيع ّ
بأنهم قالوا:لن تمسنا الّنار إل أياما معدودات وغّرهم في دينهم
ما كانوا يفترون‘‘414أي)بما كانوا يختلقون من الكاذيب والباطيل في
ن الله قد وعد أباهم يعقوب أن ل يدخل ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه،وأ ّ
415
أحدا من ولده الّنار إل تحلة القسم( ،فحملهم ذلك التصور الخرق على
ارتكاب المعاصي،وجّرأهم على مخالفة الحق حتى صاروا مثل للمنحرفين
والفاسقين،وأدى ذلك بهم إلى تحريف كتب الله وقتل النبياء…فكيف إذا
ن كفر فرعون أغلظ من كفرهم وأسوأ؟! علمنا أ ّ
من هنا ندرك خطورة ما تقوم به الجاهلية اليوم من إبعاد الّناس عن
دينهم سواء كان هذا البعاد بإنكار الخالق كما في الفكر الشيوعي،أو بإهمال
دين عن الحياة القضية الغيبية وحصرها في زاوية محدودة،وذلك بفصل ال ّ
ة
دين وجعله صورة باهت ً ث الّناس على عدم احترام ال ّ ح ّ كما في العلمانية،أو ب ِ َ
دين هو السبب وراء انتشار ن هذا القصاء لل ّ ل أثر له في واقع حياتهم…ل ّ
الجرائم الكبرى التي تمارسها السلطات الحاكمة،والجرائم الصغرى التي
يمارسها العالم السفلي!فهناك الرشوة والمحسوبية والصفقات المشبوهة
ما سبب ل ذلك آثار المرض،أ ّ والمخدرات والسرقة والغش والحتكار…وك ّ
المرض فهي ضعف اليمان أو انعدامه في القلوب.
الكفر عارض واليمان أصيل
ن بعض الّناس نتيجة لما يرون من الكفر والكافرين-وخصوصا قد يظ ّ
ن اليمانن الكفر أصل في النسان وأ ّ طلعهم على قصة فرعون-أ ّ عند ا ّ
ن الله تعالىطارىء،وهذا عكس الحقيقة التي يقررها القرآن والسّنة؛ذلك أ ّ
فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأّنه ل إله غيره،يقول تعالى’’:وأشهدهم
ن الله تعالى فطر على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى‘‘416؛)ذلك أ ّ
خلقه على السلم ثم طرأ على بعضهم الديان الفاسدة كاليهودية
والنصرانية والمجوسية(.417يقول تعالى’’:فأقم وجهك للدين حنيفا،
]413العراف.[9-8:
]414آل عمران.[24:
415تفسير الطبري).(3/219
]416العراف.[172:
417تفسير ابن كثير).(3/433
80
فطرة الله التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق الله ،ذلك
الدين القيم ولكن اكثر الناس ل يعلمون‘‘.418
يقول صلى الله عليه وسلم’’:ما من مولود إل يولد على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون
فيها من جدعاء‘‘ ،419ومعناه)أّنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة
على الجبلة المستقيمة ل يولد أحد إل على ذلك،ول تفاوت بين الناس في
ذلك(.420وفي الحديث القدسي’’وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم،وإنهم أتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم،وحرمت عليهم ما أحللت لهم،وأمرتهم أن
يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا‘‘.421
المبحث الثاني
المحافظة على المكتسبات الخاصة
ن المحافظة على المكتسبات الخاصة التي مّيز فرعون بها نفسه إ ّ
كانت من أهم السباب التي أدت إلى ظهور هذه الشخصية،ومن أهم
كلتها،فالمحافظة على المكتسبات انعكاس للستئثار الذي العوامل التي ش ّ
تميزت به شخصية فرعون.وفي نفس الوقت كان الحرص على متاع الحياة
الدنيا والتكالب عليها نتيجة لما يحمله فرعون من تصور فاسد حول هذه
الحياة،فهو كافر منكر للبعث والّنشور،وكل من ينكر اليوم الخر تزداد
شراهته ونهمه في الحياة الدنيا،وبهذا تكون المحافظة على المكتسبات
ن الحرص على متاع الحياة الدنيا والتعلق بها أحد الخاصة نتيجة وسببا؛ذلك أ ّ
ن
موانع اليمان’’،ذلك بأّنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة وأ ّ
الله ل يهدي القوم الكافرين‘‘،422أي بسبب أّنهم اختاروا نعيم الدنيا
423
م يكون الحرص سببا للكفر ونتيجة له كذلك؛ على نعيم الخرة .ومن ث ّ
فالعلقة بين الكفر والحرص على متاع الحياة الدنيا علقة تبادلية.
ن الحرص من طبيعة ابن آدم،يقول صلى الله عليه وسلم’’:لو كان إ ّ
ن له واديا آخر ولن يمل فاه إل التراب والله لبن آدم واد من ذهب أحب أ ّ
يتوب على من تاب‘‘،424فكيف إذا أضيف لهذه الطبيعة قلب ينكر البعث
والخرة؟!لذا كان فرعون شرسا في جمع الدنيا!ومن هنا نفهم قوله
تعالى’’:ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‘‘.425أي)حرصها
على المال(.426
]418الروم.[30:
ْ
خلق الولين(:دين419صحيح البخاري،كتاب التفسير،باب)ل تبديل لخلق الله(:لدين اللهَ )،
الولين.والفطرة السلم(5/512).رقم).(4775
420تفسير ابن كثير).(3/433
421صحيح مسلم،كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها،باب في صفة يوم القيامة)(4/2197رقم)
.(2865
]422النحل.[107:
423انظر:تفسير الطبري)(14/182وتفسير القرطبي).(10/192
424صحيح مسلم،كتاب الزكاة،باب لو أن لبن آدم واديين لبتغى ثالثا )(2/725رقم).(1048
]425الحشر.[9:
426تفسير الجللين).(1/731
81
وقن أتباع الرسل كانوا من الفقراء والضعفاء الذين ل يع ّ ومن المعلوم أ ّ
إيمانهم مصلحة ول جاه ول مال ول سلطة،وهذا ما نطق به هرقل لبي
سفيان في حواره معه حين قال’’:وسألتك أشراف الّناس يّتبعونه أم
ن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‘‘،427وفي هذا ضعفاؤهم فزعمت أ ّ
وقات بعض ما نفهم به ظهور شخصية فرعون،إذ أن تلك المكتسبات مع ّ
ل ما ليس له به حق. ن إيمان فرعون يعني التنازل عن ك ّ لليمان،ل ّ
لقد تراكمت على قلب فرعون ظلمات بعضها فوق بعض)من حب
الدنيا وحب الجاه وحب الثناء وحب الرياسة وحب الشهوات وفتن الدنيا…
فإذا عرض عليه ذكر شيء هو حق-وعلى الحق نور-حالت الظلمة بين نور
الحق ونور القلب فلم يمتزجا،ولم يعرف القلب ذلك الحق فصاحبه في
ظلمة،وإذا عرض أمر هو باطل-وعلى الباطل ظلمة-امتزج الباطل بظلمة
الشهوات ورين الذنوب(.428يقول الله تعالى’’:كل بل ران على قلوبهم
ما كانوا يكسبون‘‘،429والران)صدأ الذنوب الذي سود قلوبهم،فلم يصل
إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله ول من إجلله ومهابته
وخشيته(.430
المكتسبات أو المتيازات التي تمتع بها فرعون
ما
تدور تلك المكتسبات حول نوعين:الول:الحكم،والثاني:والملك.أ ّ
الحكم والجاه والسلطان وحب الرياسة فذلك عند فرعون حالة
صب نفسه إلها وأعلن ذلك على المل بقوله’’:يا أيها المل هستيرية،فقد ن ّ
431
ما علمت لكم من إله غيري‘‘ .وهدد موسى عليه السلم حيث قال
له’’:لئن اتخذت إلها غيري لجعلّنك من المسجونين‘‘.432وهو الذي
قال’’:أنا ربكم العلى‘‘.433بمعنى أّنه ل راد ّ لقوله ول معقب لحكمه!
يرسم ما يشاء ويأمر بما يشاء،فهي إرادة ملكية سامية،فهو المتفرد المستبد
بكل أمر،والّناس عبيد ينفذون،فهذه وظيفتهم.إّنه الحاكم المطلق وعلى
الجماهير أن تقدسه وتسبح بحمده!
وهذا ما نلحظه في بعض الوضاع السائدة حيث تستعمل بعض
دالة على هذا التوجه الفوقي التسلطي،فيقول الفرد عن نفسه: العبارات ال ّ
)نحن فلن(من باب التعظيم والعلو،ول يقول) :أنا فلن(،ومثلها أيضا ما يقال
سامية(أو)صاحب الجللة(،وغيرها من العبارات التي تدل على عنه)الرادة ال ّ
ن الحاكم ولي كل نعمة التأليه أو القتراب منه.وكذلك ما نسمعه من أ ّ
وسبب كل رخاء،فإليه ُيرد الفضل،ولذلك ينادونه ب)مولي(!
427صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم
والنبوة،وأن ل يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله،وقوله تعالى’:ما كان لبشر أن يوتيه
الله‘،إلى آخر الية)(3/1076رقم).(2782
428الترمذي :أبو عبدالله الحكيم،محمد بن علي بن الحسن،نوادر الصول في أحاديث
الرسول4،أجزاء،تحقيق:عبد الرحمن عميرة،ط ،1دار الجيل،بيروت1992،م(1/241).مع بعض
التصرف،وسأشير إليه لحقا هكذا)نوادر الصول(.
] 429المطففين.[14:
430ابن رجب:أبو الفرج،عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي795-736)،هـ(،التخويف من النار
والتعريف بحال دار البوار،جزء واحد،ط ،1مكتبة دار البيان،دمشق1399،هـ،(143).وسأشير
إليه لحقا هكذا)التخويف من الّنار(.
] 431القصص.[38:
] 432الشعراء.[29:
] 433الّنازعات.[24:
82
م بعد هذا ما يصنعونه من التعظيم والتمجيد المبرمج،فهو مع ما سبق ث ّ
خارق الذكاء وبعيد النظر ويعرف ما ل يعرفه الّناس ويدرك بحنكته ما ل
يدركون،وهو الول في كل شيء!ولن يكون مثله كما لم يكن مثله،وللسف
ن الرحام قد عجزت عن التيان بمثله!بمعنى أّنه إله وإن لم يعلن أ ّ
ذلك.وتتولى الجهزة التي وضعت لهذا الغرض تسويق هذا الدجل!وما
الستعراضات والمهرجانات إل ّ صورة معبرة عن هذا النتفاخ الزائف،وتعبير
دقيق عن مكنونات تلك الّنفوس.
ن الطاغوت مشغوف بحب الظهور فتراه يقّرب منه أصحاب الذمم إ ّ
الميتة من الشعراء والدباء والخطباء وأصحاب القلم المأجورة كي ُيكيلوا
ن وظيفة الجهاز له المديح والثناء إشباعا لنـزعته في حب الظهور،بل إ ّ
العلمي الولى هي تمجيد الزعيم والهتمام بأعياده الخاصة!
ن الحكم والجاه مدار صراع بين الّناس وعليه تكالبهم،يقول إ ّ
غيا ً بينهم‘‘ أي)فما
434
علم ب َ ْم ال ِ
تعالى’’:فما اختلفوا إل بعد ما جاءه ُ
وقع الخلف بينهم في الدين إل من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال
الخلف وهو العلم،وإّنما اختلفوا لبغى حدث بينهم حسدا وطلبا وجلبا
للرياسة(،435وإلى هذا المرض ترجع كثير من المنازعات المغلفة بشعارات
كاذبة تخفي ورائها حب الرياسة والظهور؛ذلك هو معنى الحديث’’:ما ذئبان
جائعان أرسل في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف
لدينه‘‘،436فأنت كما ترى أن حب الرياسة مرض يجلب الفساد على الحاكم
والمحكوم سواء.
)فحب الرياسة والجاه من أمراض القلوب،وهو من أضر غوائل الّنفس
من حب الرياسة شر من حب الدنيا،ومن ث ّ وبواطن مكائدها(،437بل إ ّ
قيل:الدنيا خمر الشيطان فمن شرب منها لم يفق من سكرتها إل في
عسكر الموتى خاسرا نادما،وقالوا) :حب الرياسة أصل كل موبقة(.438
ن حب الزعامة من موانع اليمان عند الطواغيت؛فالذي منع أبو جهل إ ّ
عن اليمان هو حب الزعامة،يقول تعالى’’:وقالوا لول نّزل هذا القرآن
على رجل من القريتين عظيم‘‘)،439فالرسول المخصوص بكرامة
النبوة فتنة لشراف الّناس من الكفار(440؛ذلك أّنهم امتنعوا عن اليمان
بسبب حبهم للزعامة والرياسة.
من هنا ندرك سببا مهما من أسباب ظهور هذه الشخصية الطاغوتية أل
وهو حب الرياسة والظهور والتسلط؛ذلك المرض الذي يتجاوب مع مكنونات
نفس فرعون وشعوره بالفوقية والعلو والترفع،وحب التفرد والستبداد
والستئثار بمعنى أن تخلص له الزعامة والريادة.
]434الجاثية.[17:
435تفسير النسفي)(4/131مع بعض التصرف.
436مسند أحمد)(3/456وسنن الترمذي،كتاب الزهد،باب ما جاء في أخذ المال)(4/588رقم)
(2376قال أبو عيسى:هذا حديث حسن صحيح.سنن الدارمي،كتاب الرقائق،باب ما ذئبان
جائعان)(2/394رقم).(2730
437فيض القدير).(3/196
438ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد597 -510)،هـ(،صفوة الصفوة،
4أجزاء،تحقيق :محمود فاخوري ومحمد رواس قلعه جي،ط ،2دار المعرفة،بيروت1399،هـ –
1979م،(4/236).وسأشير إليه لحقا هكذا)صفوة الصفوة(.
]439الزخرف.[31:
440تفسير القرطبي).(13/18
83
ما
ن حب الظهور يجلب على صاحبه ه ّ ومع هذا نستطيع القول أ ّ
دائما،فهو باستمرار يراقب ما يقوله الّناس عنه،ويحاول باستمرار أن يجلب
إعجابهم به،وتلك غفلة منه عن الحقائق.فماذا يستفيد النسان حين يمدحه
الخرون؟أليس في هذا حمق وسفه لمن يسعى لتلك الغاية؟!
ما النوع الثاني وهو:الملك فيعني المال والثروة وهي من أ ّ
أهم الزخارف الدنيوية التي تصرف الّناس عن الّنظر والتدبر والمعرفة
والعلم،فتصبح الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم،ينشغلون بالّتافه من المور
ويتركون العظام منها،وتصبح الدنيا محور اهتمامهم.والمنشغل في الدنيا
ذاهل عن الحقائق الكبرى هابط في اهتماماته،يقول تعالى’’:فل تغرّنكم
الحياة الدنيا‘‘،441أي)فل تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلكم التمتع بها عن طلب
الخرة والسعي لها(،442وهكذا حال الطواغيت في ذهول عن الحقائق
الكبرى ل يرون إل ّ ما بين أيديهم من متاع وزخرف،وذلك هو معنى قوله
تعالى’’:كل بل تحبون العاجلة وتذرون الخرة‘‘.443أي)إنما يحملهم
على التكذيب بيوم القيامة،ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى
مَتهم إلى الدار الدنيا
نه ّ الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم ل ّ
العاجلة وهم لهون متشاغلون عن الخرة(.444
لقد كان فرعون صاحب ثروة ومال،بل هو المالك لكل شيء له قيمة
معتبرة،وكل المال بين يديه،فها هو ينادي في قومه،أي)يرفع صوته بنفسه
فيما بين قومه بذلك القول،ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه
كشف العذاب،فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع بعد أن ُ
القبط،ويعظهم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلم
ويتركوه،أو أّنه أمر بالنداء بذلك في السواق والزقة ومجاميع
الناس(’’،445قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري
من تحتي أفل تبصرون‘‘.446فنراه متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه
فيها ،أليس لي ملك مصر من بحر السكندرية إلى أسوان بطول النيل،وهذه
النهار تجري من بين يدي في الجنان والبساتين ومن تحت القصور،وهي
الخلجان الكبار الخارجة من النيل،حيث كانت لهم جنات وأنهار ماء ،أفل
دة الملك تبصرون أي أفل ترون ما أنا فيه من النعيم والخير والعظمة وش ّ
.447
ن النظام والمنهج الذي فرضه فرعون على ويسمعه قومه ويقّرونه،ل ّ
الّناس يعطيه هذه المتيازات الخاصة،وبالتالي سيدافع فرعون عن منهجه
ونظامه،لّنه بذلك يدافع عن مكتسباته وامتيازاته مهما كانت طريقة الدفاع
ونها.
ما يفسر لنا سبب انحرافه وسّر ظهور شخصيته وتك ّ باطلة وهمجية ،م ّ
ومن الدّلة على أّنه صاحب ثروة ومال قوله تعالى’’:وقال موسى
ربنا إّنك آتيت فرعون ومله زينة وأموال في الحياة الدنيا ربنا
]441فاطر.[5:
442تفسير البيضاوي).(4/411
]443القيامة.[21-20:
444تفسير ابن كثير).(451-4/450
445روح المعاني).(25/89
]446الزخرف.[51:
447انظر:تفسير الطبري)(25/80وتفسير ابن كثير)(4/130وتفسير الثعالبي)(4/129وتفسير
البغوي)(4/142وتفسير الجللين).(1/652
84
ن موسى أخبر في دعائه ليضلوا عن سبيلك‘‘،448والشاهد في الية أ ّ
ن الله قد آتى فرعون ومله زينة وأموال،أي ما يتزين به من حقيقة هي:أ ّ
الملبس والمراكب والحلي والفراش والسلح ونحوهما من أثاث الدنيا
ومتاعها،وأموال جزيلة من أعيان الذهب والفضة،وكثيرة منوعة في هذه
الحياة الدنيا ،449ولم تكن هذه الثروة إل نتيجة للنظام المطبق والمنهج
المتبع،الذي يدافع فرعون عنه أي عن ثروته التي أفرزها ذلك الواقع.
ومن الدّلة على ثروته قوله تعالى حكاية لقول فرعون’’:فلول ألقي
عليه أسورة من ذهب‘‘،450والمعنى:فهل ألقي على موسى إن كان
صادقا أنه رسول رب العالمين أسورة من ذهب وهو جمع سوار،وهوما
ن هذا من علمات الزعامة والسيادة عندهم يلبس في اليد عادة،باعتبار أ ّ
،451ولم يكن فرعون يحتج بمثل هذا لول كونه صاحب أسورة الذهب التي
تدل على زعامته وسيادته.
وكيف ل يكون شرسا مجرما في الدفاع عن مصالحه المشبوهة وهو
الذي يراها مقياسا في تقييم البشر،ودليل ظاهرا في تمييز العلى من بين
الناس،بل هي عنده دليل على كذب موسى عليه السلم ،فلو كان نبيا كما
يدعي لكان صاحب مال وثروة’’،فلول ألقي عليه أسورة من
ذهب‘‘.452
خُر الّناس لتنمية هذه الثروة س ّن فرعون ينفق ما يشاء ولمن يشاء،وي ُ َ إ ّ
وليس لهم إل ما يجعلهم قادرين على الخدمة والعمل،وفي سبيل هذا أغرى
قسما من الّناس وحرم الغلبية ليكون المستفيدون عونا له على قمع العبيد
والخدم إذا ما سولت لهم أنفسهم التمرد على النظام القائم.
ن العلقة بين الحكم والملك ظاهرة جلّية،فمن يملك يحكم،لّنه إ ّ
بسيطرته على المال يسيطر على عصب الحياة،ويجعل الّناس في حاجة
ما
ن عليهم بشيء م ّ إليه،فيبدأ الّناس بالتودد رياءا إلى السلطان كي يم ّ
عنده،فيكون أكثرهم حظا أنفعهم في تثبيت النظام،فكلما كان الفرد قادرا
ومواليا كان حظه من المال أكثر.
ن ازدياد السيطرة والّتحكم يؤدي إلى ازدياد القدرة وفي المقابل فإ ّ
على جمع الثروه ونهب خيرات الجماهير،والعجزة غير قادرين بحكم
السيطرة والقوة على معاندة النظام.وهكذا دواليك،فكل زيادة في الّتحكم
تقابلها زيادة في السيطرة على المال والثروة،والعكس صحيح.
ومن أجل هذا الّنمو المتبادل بين الّتحكم والسيطرة على المال والثروة
كان المنهج الذي يحقق تلك الزيادة المستمرة،وهو المنهج الذي يعكس
ن المحافظة على تلك المكتسبات هي التي شخصية فرعون ويمّيزها؛ذلك أ ّ
شكلت المحور الساسي الذي يدور حوله منهج فرعون،فانعكس هذا على
الوسائل المستخدمة في الدفاع عن الوضع والمنهج القائم،والذي من
إفرازاته ونتائجه تمّيز فرعون بتلك الميزات الخاصة.
] 448يونس.[88:
449انظر:تفسير الطبري)(11/156وتفسير البيضاوي)(3/212وتفسير ابن كثير)(2/430وتفسير
البغوي)(2/365وفتح القدير)(2/468وروح المعاني).(11/172
]450الزخرف.[53:
451انظر:تفسير الطبري)(25/82وتفسير الواحدي)(2/976وتفسير البغوي).(4/142
] 452الزخرف.[53:
85
ن أي تغيير للوضاع يعني تغييرا في المتيازات المكتسبة،ولهذا رفض إ ّ
فرعون معادلة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان لّنها تهدم الّنظام
ل على هذا شكل المواجهة التي اختارها بعد أن أقام موسى الحجة القائم،ود ّ
عليه،حيث قال’’:ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل
دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد‘‘.453فالقتل هو الحل في دين
فرعون ومنهجه،وهو الحل في كل نموذج تتكرر فيه شخصية فرعون.
دين الحق ويحاربونه؛ من هنا نفهم لماذا يقف أصحاب المتيازات أمام ال ّ
)لّنه ل بقاء ول قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين.وهم إّنما
يقيمون ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته.وأقاموا أنفسهم
أربابا من دون الله ُيشّرعون للناس ما يشاؤون،ويعبدون الّناس لما
يشرعون!إّنهما منهجان ل يجتمعان،أو هما دينان ل يجتمعان..وفرعون كان
يعرف وملؤه كانوا يعرفون..ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب
ن البوصلة التي تحدد اتجاه فرعون وخط سيره هي العالمين(454؛ذلك أ ّ
ب بهذا التجاه فهو مصان في نظام المحافظة على مكتسباته،فكل ما يص ّ
فرعون.
ن الطواغيت لديهم حساسية من أي مراقبة مالية،فهم يستأثرون إ ّ
سئلواسئلوا من أين لكم هذا؟أو إن ُ بالثروة وبتوزيعها،ينتفضون بشراسة إن ُ
مة؟فتلك أسئلة محرجة قد توقظ الجهلة أين أنفقتم أموال ال ّ
والغافلين،ليسألوا عن حقوقهم،وذلك باب ل يريد الطاغوت له
فتحا.فالطاغوت ل يقبل أن ُتذاع على الّناس أخبار القصور وحياة الترف
والبذخ التي يعيشها الطواغيت على حساب الشعوب وحرمانهم.وفي
المقابل كان الطواغيت-وما زالوا-أعداءا للحرية والرأي،فهم ل يقبلون
المشاركة في الحكم وسياسة الدولة؛ذلك أن أي مشاركة ُتنقص من جاههم
المزعوم،وقد تؤدي إلى فضح ما ل يسمح الطاغوت بفضحه.
ي صلى الله عليه وسّلم ن لنا في فرعون عبرة وعظة،ولقد حذرنا النب ّ إ ّ
ن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ن الدنيا حلوة خضرة،وإ ّ بقوله’’:إ ّ
455
أل فاتقوا الدنيا‘‘ .
] 453غافر.[26:
454في ظلل القرآن).(606-3/605
455سنن الترمذي،كتاب الفتن،باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو
كائن إلى يوم القيامة )(4/483رقم)(2191وقال أبو عيسى’’:هذا حديث حسن صحيح‘‘.
86
المبحث الثالث
فسق الغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون
ومساندتهم له
ن الحاكم-أّيا كان هذا الحاكم-فهو فرد،وليس بمقدور الفرد مهما أوتي إ ّ
من قدرات ومّيزات أن يسيطر على الّناس بمفرده،ول أن يدير دفة الحكم
ويرعى شؤون الدولة وحده،فلكي يكون قادرا على السيطرة أو على رعاية
المة ل بد ّ له من أعوان يساعدونه في إدارة الحكم والمحافظة على الّنظام
وغير ذلك كثير.
وسواء كان هذا الحاكم أو السلطان فاروقا في العدل أو مغرقا في
ديق يقول للّناس)فإن أحسنت الظلم،فهو بحاجة إلى معين له.فأبو بكر الص ّ
فأعينوني(،456فل غنى لمن هو في قمة الحسان والورع عن العوان.فإن
كان الحاكم من أهل الحق فلمن عاونه أجر عظيم،لّنه لول هذه المعونة لما
ما إن كان الحاكم استطاع الحكم،وهؤلء هم بطانة الخير وأهل الفضل.وأ ّ
جائرا ظالما فعلى من سانده وعاونه إثم ووزر،لّنه لول هذه المعاونة لما
استطاع أن ُيخضع الّناس وُيذّلهم،فهم أنصار الباطل وشركاء الثم.
ما كان فرعون فردا ل يستطيع أن يفرض نظامه بمفرده كان ل بد ّ له ول ّ
من أعوان يساندونه ويشاركونه،وهم بذلك سبب في ظهور هذه الشخصية
المنحرفة ،فلولهم لما تفرعن فرعون وطغى وتجبر.وفي المقابل ل بد ّ من
جمهور يتقبل هذا الذل،ولن تخضع الجماهير للذل إل إذا كانت فاسقة،فيكون
ما اجتمع لفرعون فسق فسق الغلبية سببا في انتفاش الباطل وسيطرته.ول ّ
كن.الجمهور ومشاركة المنتفعين المتزلفين تم ّ
ويمكننا من خلل القرآن الكريم أن نحدد المشاركين والمساندين
لفرعون الذين ساهموا في إبراز شخصيته وإظهارها،وهم:
أول:هامان
والذي يمثل أقرب الّناس إلى فرعون،فهو)وزيره ومدبر رعيته ومشير
دولته(457وساعده اليمن،والشخصية الثانية في هرم الحكومة،حيث نص
ن فرعون القرآن على أّنه شريك في الخطيئة،حيث يقول تعالى’’:إ ّ
وهامان وجنودهما كانوا خاطئين‘‘.458أي كانوا خاطئين آثمين في كل
456هذا جزء من الخطاب الذي ألقاه أبو بكر بعد توّليه الخلفة حيث قال) :أيها الناس فإني وليت
عليكم ولست بخيركم،فإن أحسنت فأعينوني،وإن أسأت فقوموني،الصدق أمانة،والكذب
خيانة،والضعيف منكم قوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله تعالى،والقوي فيكم ضعيف
عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله تعالى.ل يدع قوم الجهاد في سبيل الله إل ضربهم الله
بالذل،ول تشيع الفاحشة في قوم قط إل عمهم البلء.أطيعوني ما أطعت الله ورسوله،فإذا
عصيت الله ورسوله فل طاعة لي عليكم،قوموا إلى صلتكم يرحمكم الله( الطبري:أبو
جعفر،أحمد بن عبد الله بن محمد694-615)،هـ(،الرياض النضرة في مناقب
العشرة،جزءان،تحقيق :عيسى عبد الله محمد مانع الحميري،ط ،1دار الغرب السلمي،بيروت،
(2/213).1996رقم)،(416وسأشير إليه لحقا هكذا)الرياض النضرة(،وانظر الزدي :معمر بن
راشد)،ت ،(151الجامع،جزءان،تحقيق :حبيب العظمي )منشور كملحق بكتاب المصنف
للصنعاني ج ،(10ط ،2المكتب السلمي،بيروت(11/336).1403،رقم)،(20702وسأشير إليه
لحقا هكذا)الجامع لمعمر بن راشد(وتاريخ الطبري)(2/238وابن هشام:أبو محمد،عبد الملك بن
أيوب الحميري المعافري)،ت 213هـ(،السيرة النبوية لبن هشام6،أجزاء،تحقيق :طه عبد
الرءوف سعد،ط ،1دار الجيل،بيروت1411،هـ،(6/82).وسأشير إليه لحقا هكذا)السيرة النبوية
لبن هشام(.
457تفسير ابن كثير).(3/391
]458القصص.[8:
87
شيء،في أفعالهم وأقوالهم،ومذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم
على أيديهم،ليكون لهم عدوا وحزنا .459وهامان شريك في كل ذلك فقد
جمعه الّنص مع فرعون في الثم والعقوبة.
وق دجل فرعون،ويشترك معه في خداع الّناس وهامان هو الذي ُيس ّ
وتضليلهم،فبعد أن أعلن فرعون عدم علمه بإله غيره’’-وقال فرعون يا
أّيها المل ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على
الطين فاجعل لي صرحا لعلي اطلع الى إله موسى واني لظنه
من الكاذبين‘‘-460أمر هامان بفعل ما من شأنه تضليل الّناس،فدور هامان
في إسناد الحكومة وتثبيتها دور كبير خطير،وذلك لما يتمتع به هامان من
كنته من لعب هذا الدور،ولهذا يسند إليه فرعون قدرات ومواهب شخصية م ّ
المهمة تلو المهمة،ولقد كان من أبرز هذه المهمات بناء الصرح،فهو يأتمر
بأمره ويفهم أهداف فرعون ومراميه’’.وقال فرعون يا هامان ابن لي
قى هامان أوامر فرعون وإعلنه صرحا لعلي أبلغ السباب‘‘.461فتل ّ
بالقبول والقرار،وباشر العمل مع علمه بكذب فرعون ودجله.
ن هامان يشارك فرعون القلق والحذر والّتيقظ،يقول تعالى’’:ونري إ ّ
462
فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘ .والشاهد في
ن هامان-كما هو حال فرعون-كان يحذر من ن الله سبحانه أخبرنا أ ّ
الية أ ّ
ن ُ
موسى عليه السلم)،والحذر هو الّتوقي من الضرر،وذلك أّنهم أخبروا أ ّ
هلكهم على يد رجل من بني إسرائيل،فكانوا على وجل منهم،فأراهم الله ما
كانوا يحذرون(.463والسبب لهذا الحذر من قبل هامان هو فسقه ومحافظته
على امتيازاته التي يفرزها ذلك الّنظام،فمصلحته مع بقاء الّنظام وتزول
بزواله.
ن أعوان الظلم والقهر والضطهاد ليسوا في منـزلة واحدة في القرب إ ّ
من الّنظام،فالسوأ والكثر قدرة وإمكانيات هو القرب منـزلة،فكلما أثبت
منعم بها سّلم الوظائف ال ُأّنه السوأ والقدر على الخدمة كلما كان حظه في ُ
على العوان من قبل السلطة أوفر،فهذا هو مقياس الحكومة الرشيدة!التي
مقّربا،وهكذا ل ُتري الّناس-بزعم فرعون-إل سبيل الرشاد؛ولهذا كان هامان ُ
ل من كان مثله في أيّ حكومة رشيدة كحكومة فرعون! ك ّ
ما جعله ن فرعون الحذر شاركه -أيضا-في الستكبار،م ّ وكما شارك هاما ُ
أكثر تأهيل للمشاركة الفاعلة،يقول تعالى’’:وقارون وفرعون وهامان
ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الرض بغير الحق
وما كانوا سابقين‘‘.464فهو من الممتنعين-مع السلطان-عن قبول الحق
مهما كانت البينات كثيرة وساطعة.
وهامان من الطغمة الحاكمة،فموسى عليه السلم مبعوث إليه كما هو
مبعوث إلى فرعون،يقول تعالى’’:ولقد أرسلنا موسى بآياتنا
وسلطان مبين،إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر
88
ذاب‘‘،فل ندري أهو ذاب‘‘.465فكان هامان مع فرعون قول واحدا؛’’ساحر ك ّ ك ّ
سبق الحكومة أم الحكومة سبقته!فهو في سباق الشر طائش.وهذا تفسير
لبعض ما قد يحدث،حيث نرى أذناب الّنظام أشد شراسة من الّنظام
نفسه،يبتغون عنده القرب والمنـزلة،ويحاولون بمثل هذا أن يثبتوا جدارتهم
كي يعتمد الّنظام عليهم!
وبعد هذا أل يكون هامان سببا في دعم الّنظام المتمثل بشخصية
دائم الحذر!وهو الذي فرعون،وهو المشترك في الخطيئة والمنفذ للوامر وال ّ
يسابق الحكومة في قول الزور.ولم تكن هذه المشاركة والمؤازرة من
هامان إل لكونه من أصحاب المتيازات،فمصلحته مع الّنظام القائم،وهذا سّر
دعمه لفرعون.وكم نحن نعاني من أولئك المنتفعين من الّنظام،حيث تزداد
شراستهم كلما ازدادت منفعتهم منه.فليست المسألة عندهم قناعة
يمارسونها أو إيمان يسيرون معه،فهذا شرف لمن فعله،ولكنهم مجردون
من كل شرف!
ثانيا:السرة الحاكمة
وتشمل المل من قوم فرعون وآل فرعون وقومه
السرة الحاكمة من الفئات المشاركة والمساندة لحكم فرعون،وهم
الفراعنة،و)هي السر التي حكمت مصر منذ)(3100قبل الميلد وحتى
ن الذين ملكوا السيطرة الرومانية في القرن الول قبل الميلد(.466وذكر)أ ّ
مصر-باتفاق كثير من أهل التاريخ على اختلف بينهم-من الفراعنة اثنان
ل السرة ل على طول مدة حكم الفراعنة.وتتشك ّ ُ ما يد ّ 467
وثلثون فرعونا( ،م ّ
الحاكمة من الفئات التالية:
موا بذلك لّنهم ملُء بما س ّ
أول:المل من قوم فرعون،وهم)الرؤساء ُ
يحتاج إليه،وقيل:أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذي يرجع
إلى قولهم()،468واشتقاقه من ملت الشيء،وفلن مليء إذا كان
مكثرا،فمعنى المل:الذين يملون العين والقلب وما أشبه هذا(.469ونقول:
)تمالئوا على المر اجتمعوا عليه،والمل الجماعة(،470و)هم الذين يملؤون
العيون بهجة والقلوب هيبة(،471و)المليئون بما يفوض إليهم(.472والمل من
قوم فرعون هم أشراف القوم ورؤساءهم وسادتهم وقادتهم والكبراء
منهم،473فالمل)أشراف قوم فرعون ورؤساءهم(،474و)هم أهل مشورته
]465غافر.[24-23:
466موسوعة السياسة).(4/482
467الّنجوم الزاهرة).(1/60
468لسان العرب،مادة:مل)(1/159وانظر:القاموس المحيط،فصل الميم،مادة:مل)(1/66وكتاب
العين،مادة:مل).(8/346
469التبيان في تفسير غريب القرآن).(1/132
470مختار الصحاح،مادة:مل)(1/263وانظر :ابن المطرز:أبو الفتح،ناصر الدين بن عبد السيد بن
علي610-538)،هـ(،المغرب في ترتيب المعرب،جزءان،تحقيق :محمود فاخوري وعبدالحميد
مختار،ط ،2مكتبة أسامة بن زيد،حلب1979،م.مادة:مل)،(2/272وسأشير إليه لحقا
هكذا)المغرب(.
471التعاريف).(1/673
472معاني القرآن).(3/46
473انظر:تفسير البيضاوي)(3/30وتفسير القرطبي)(7/234وتفسير ابن كثير)(2/224وتفسير
الطبري)(11/150وفتح القدير).(2/217
474تفسير الطبري).(20/52
89
ورؤساء دولته(،475وهم البطانة والحاشية المقربة المستقرون حول
فرعون،والجلساء الخاصون من أشراف قومه.476
ثانيا:آل فرعون هم)أهله وعياله()،477ول يستعمل إل فيما فيه شرف
غالبا،فل يقال:آل السكاف كما يقال:أهله(،478وقالوا:الل ليس بمعنى
ن الهل القرابة،والل من يؤول إليك في قرابة أو رأى أو الهل)ل ّ
479
مذهب( ،فالل-على هذا القول-هم التباع)وهم الذين كانوا على منهاجه
ن آل فرعون)أطلق على وطريقته في الكفر بالله من قومه (،480والظاهر أ ّ
أهل بيته وعلى التباع(481؛فآل فرعون)قومه وأهل دينه(.482
ثالثا:قوم فرعون)،وهم قبط مصر(،483وهم القاعدة العريضة في
السرة الحاكمة التي تساند فرعون.
أول:المل من قوم فرعون
وهم في مكانة مرموقة في نظام فرعون،حيث يشغلون مراكز
حساسة ووظائف مهمة،وبسبب وضعهم هذا فقد جمعهم القرآن الكريم مع
ن موسى مبعوث إليهم كما هو فرعون،وساوى بينهم وبينه من حيث أ ّ
مبعوث إلى فرعون،ولذلك)كان تخصيصهم بالذكر مع عموم الرسالة لهم
ولغيرهم لن من عداهم كالتباع لهم(.484يقول سبحانه وتعالى’’:ثم بعثنا
من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر
كيف كان عاقبة المفسدين‘‘.485بآياتنا يعني المعجزات التي بعثنا بها
موسى إليهم،فظلموا بها بأن كفروا بها مكان اليمان الذي هو من حقها
لوضوحها،فالظلم وضع الشيء في غير موضعه ،ولهذا المعنى وضع ظلموا
ن الشرك لظلم عظيم‘‘،486ولقد ظلموا موضع كفروا،كقوله تعالى’’:إ ّ
أنفسهم بسببها بأن عّرضوها للعذاب الخالد،وظلموا الّناس بصدهم عن
اليمان بها.وكان كفرهم عنادا ل عن قصور في الدليل،لقوله
تعالى’’:وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف
كان عاقبة المفسدين‘‘،487أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا
475روح المعاني).(9/21
476انظر :الكامل في التاريخ).(1/140
477لسان العرب،مادة:أول).(11/37
478القاموس المحيط،مادة:آل).(1/1245
479روح المعاني)(1/253مع بعض التصرف).وقيل:الل بمعنى الهل وألفه بدل من هاء وتصغيره
أهيل.وقيل:الل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب،فألفه بدل من واو،وتصغيره أويل.قال
الخفش ل يضاف إل إلى الر ئيس العظم نحو آل محمد وآل فرعون لنه رئيسهم في
الضللة(التبيان في تفسير غريب القرآن).(1/84
480تفسير الطبري).(9/49
481المصباح المنير،مادة:آل).(1/29
482التبيان في تفسير غريب القرآن).(1/84
483تفسير ابن كثير)(4/142وانظر:تفسير الطبري)(25/118والمنتظم في التاريخ) (1/346وابن
كثير:أبو الفداء،إسماعيل ابن عمر الدمشقي774-701)،هـ( ،البداية والنهاية14،جزء،مكتبة
المعارف،بيروت،(1/268).وسأشير إليه لحقا هكذا)البداية والنهاية(.
484فتح القدير).(2/230
] 485العراف.[103:
]486لقمان.[13:
]487النمل.[14:
90
رسله،كيف كان آخر أمرهم،ووضع المفسدين موضع ضميرهم لليذان بأن
الظلم مسلتزم للفساد .488
وكما كان المل مع فرعون مشتركين في الظلم الذي لزمه الفساد
والفساد،فهم أيضا مع فرعون في رفض الحق والمتناع عن قبوله،كما أّنهم
في الجرام سواء ،يقول تعالى’’:ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون
إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين،فلما جاءهم
ن هذا لسحر مبين،قال موسى أتقولون الحق من عندنا قالوا إ ّ
489
ما جاءكم أسحر هذا ول يفلح الساحرون‘‘ .والمعنى أّنهم للحق ل ّ
استكبروا عن اتباع الحق والنقياد له فامتنعوا عن قبوله،وكانوا قوما
مجرمين معتادين الجرام،ذوي آثام عظيمة كبيرة،فلذلك تهاونوا برسالة
ن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق دها،ل ّ ربهم واجترأوا على ر ّ
ما جاءهم الحق من عند الله وعرفوه بتظاهر المعجزات وإبصار الصواب؛فل ّ
ن هذا لسحر مبين،ظاهر أّنه الباهرة المزيلة للشك،قالوا من فرط تمردهم:إ ّ
سحر أو فائق في فّنه واضح فيما بين إخوته،كأّنهم قبحهم الله أقسموا على
ن ما قالوه كذب وبهتان .490 ذلك وهم يعلمون أ ّ
ن المل يتنفسون المنصب والجاه والسلطة ول يرون للتباع أي حق إ ّ
ولوكان مجرد الستماع لهم والتفكير-ولو لحظة-فيما يقولون؛ذلك لّنهم من
المستكبرين العالين كما بّين القرآن الكريم،يقول تعالى’’:ثم أرسلنا
موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وملئه
فاستكبروا وكانوا قوما عالين‘‘.491والمعنى أّنهم استكبروا على
اليمان والمتابعة،أى طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق،وكانوا قوما
عالين مترفعين من عادتهم الستكبار والتمرد،متكبرين على أهل ناحيتهم
ن تنفس ومن في بلدهم من بني إسرائيل وغيرهم بالظلم قاهرين لهم .492إ ّ
المل للجاه والمنصب جعلهم ُيواجهون موسى عليه السلم بالسخرية
مصابة بمرض النتفاش-الستخفاف بآيات والستهزاء،وسولت لهم أنفسهم-ال ُ
الله.يقول تعالى’’:ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه
ما جاءهم بآياتنا إذا هم منها فقال إّني رسول رب العالمين،فل ّ
يضحكون،وما نريهم من آية إل ّ هي أكبر من أختها وأخذناهم
493
ما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون بالعذاب لعلهم يرجعون‘‘ .أي)فل ّ
ن العلة فى أخذه لهم بالعذاب هو رجاء استهزاء وسخرية(.494وبّين سبحانه أ ّ
ن
ن المل لم يرجعوا عن غّيهم وضللهم،فهم أموات غير أحياء،ل ّ رجوعهم،ولك ّ
الميت من مات قلبه والعياذ بالله.
ن من يصل إلى درجة والمل من قوم فرعون كفرعون فاسقون،ل ّ
ومرتبة الشراف والسادة في نظام كنظام فرعون ل بد ّ أن يكون
91
ن غير الفاسق ل يستطيع النخراط في مثل حكومة كهذه،فلك ّ
ل فاسقا،ذلك أ ّ
ن الحكومة ل تقبل في هذا المنصب رجل مإ ّ
ي وسط يعيش فيه،ث ّ كائن ح ّ
ّ
نظيفا ل يتصف بالفسق،فالفسق شرط وضرورة للّترقي في سلم
ل على ذلك قوله تعالى’’:فذانك برهانان من ربك إلى الحكومة،ود ّ
495
فرعون وملئه،إّنهم كانوا قوما فاسقين‘‘ ،أي)من الرؤساء
والكبراء،إّنهم كانوا قوما فاسقين،أي خارجين عن طاعة الله مخالفين لمره
ودينه(،496فهم جديرون بسبب فسقهم أن ُيبعث إليهم.
إتباع المل لمر فرعون
لقد اتبع المل أمر فرعون عن علم وبينة،بعد أن جاءهم موسى عليه
السلم باليات والسلطان المبين،فلم يكن اتباعهم عن قلة علم
ومعرفة،وفي هذا زيادة سوء وقبح منهم،ودليل على غيهم وفسادهم،فبدل
من اتباع موسى-الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة-اتبعوا
داعي إلى ما ل يخفي طريقة فرعون المنهمك في الضلل والطغيان،ال ّ
فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم
استبصارهم،.497يقول تعالى’’:ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان
مبين،إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون
برشيد‘‘.498أي)ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا وحجة تبين لمن
عاينها وتأملها بقلب صحيح أنها تدل على توحيد الله وكذب كل من ادعى
الربوبية دونه،وبطلن قول من أشرك معه في اللوهة غيره إلى فرعون
وملئه(499أي أشراف قومه.فاتبعوا أمر فرعون،أي شأنه وحاله ومنهجه حتى
اتخذوه إلها وخالفوا أمر الله تعالى،ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق
المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة،ولكّنهم اتبعوا أمر فرعون الذي هو جهل
وضلل وكفر وعناد،وليس برشيد ول سديد يؤدي إلى صواب،فليس فيه رشد
ول هدى،وإّنما هو غي محض وضلل صريح .500
لقد اختار المل اتباع أمر فرعون،فاستقبلوا أكذوبة فرعون الكبرى
بالقبول والتأييد والترحيب والترويج،يقول تعالى’’:وقال فرعون يا أيها
جه لهم الخطاب المل ما علمت لكم من إله غيري‘‘.501فهم أول من ُيو ّ
الفاجر،فيذعنون ويقرون ويّتبعون.
ما كانوا تبعا لفرعون في هذا المر يمشون خلفه،ويتبعون خطواته )ول ّ
الضالة بل تدبر ول تفكر،ودون أن يكون لهم رأي،مستهينين بأنفسهم،متخلين
عن تكريم الله لهم بالرادة والعقل وحرية التجاه واختيار الطريق ..لما
ن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعا(.502يقول كانوا كذلك فإ ّ
تعالى’’:فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد،يقدم قومه
يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود،وأتبعوا في
]495 495القصص.[32:
496تفسير ابن كثير)(3/389مع بعض التصرف.وانظر:تفسير الطبري)(20/73ومعاني القرآن)
(5/179وتفسير الثعالبي)(3/176وفتح القدير).(4/170
497انظر:تفسير ابن كثير)(4/77وتفسير البيضاوي).(3/259
]498هود.[99-96:
499تفسير الطبري).(12/109
500انظر:تفسير القرطبي)(9/93وتفسير ابن كثير)(2/459وتفسير البيضاوي).(3/259
]501القصص.[38:
502في ظلل القرآن).(4/419
92
هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود‘‘)،503فأوردهم
إياها وشربوا من حياض رداها،وله في ذلك الحظ الوفر من العذاب
ن نهاية وعاقبة الذين يتبعون أئمة الضلل وخيمة وحسرتهم الكبر(504؛ذلك أ ّ
ن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا مّنا،كذلك كبيرة،حين يقولون’’:لو أ ّ
يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من
الّنار‘‘.505إّنها لحظات مّرة ومريرة،حيث ل ينفع الّندم،ول ُيقبل عدل ول
تنفع شفاعة.فهل من رجوع إلى الله قبل أن تأتي ساعة ل مرد ّ لها من الله.
السباب الحقيقة لتباع المل أمر فرعون
ن رفض الحق وعدم النصياع له بعد ظهوره من قبل المل له إ ّ
أسبابه،كما هو الحال عند كل من يمتنع عن قبول الحق،وليست هذه
ن هذا ن النصوص تثبت والوقائع كلها أ ّ السباب مرتبطة بقصور الحجة بل إ ّ
ن ما جاء به موسى هو الحق من المتناع كان بعد علمهم وتّيقنهم أ ّ
الله،فهناك موانع خاصة ومصالح دنيوية تلعب دورا مهما في قبول أو رفض
الحق،وهكذا كان المل من قوم فرعون،فعدى عن كونهم كفروا بآيات
واستكبروا وظلموا وفسقوا وأجرموا،فهم أيضا استحبوا الحياة الدنيا،وآثروا
العاجلة على الخرة،حيث أعمتهم مصالحهم القريبة الفانية عن رؤية الحق
والحقيقة،وهذه علة مزمنة وعاهة مستديمة ومرض الحكومات الفاجرة
والبطانة المساندة.
ن مصالح المل تدور على محورين هما: إ ّ
أول:الكبر والمحافظة على الموروث والحرص على الرياسة
ف المل عّلتهم حيث قالوا’’:أجئتنا لتلفتنا ع ّ
506
ما الدنيوية،حيث لم ُيخ ِ
وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الرض وما نحن لكما
507
ما وجدنا بمؤمنين‘‘ .أي أجئتنا لتلفتنا أي تثنينا وتصرفنا وتلوينا وتردنا ع ّ
عليه آباءنا،أي الدين الذي كانوا عليه من عبادة الصنام أو عبادة
فرعون.وتكون لكما أي لك ولهارون الكبرياء في الرض،أي العظمة
ن الملوك موصوفون بالكبر والرياسة والعز والسلطان والملك فيها،ل ّ
508
والعظمة والعلو..فما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به .
)وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز
الحجة،ولم يجدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم،بل لجئوا إلى ما يلجأ إليه
أهل الجهل والبلدة وهو الحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر،وضموا إلى
ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم لليات
البينة وهو الرياسة الدنيوية التى خافوا عليها،وظنوا أنها ستذهب عنهم إن
آمنوا..والحاصل أّنهم عّللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين:التمسك
بالتقليد للباء،والحرص على الرياسة الدنيوية،لّنهم إذا أجابوا الّنبي وصدقوه
ن التدبير للناس صارت مقاليد أمر أمته إليه،ولم يبق للملك رئاسة تامة،ل ّ
]503هود.[99-96:
504تفسير ابن كثير).(2/459
]505البقرة.[167:
)506اللفت الصرف،يقال :ما لفتك عن فلن أي ما صرفك عنه،واللفت لي الشيء عن جهته كما
تقبض على عنق إنسان فتلفته(لسان العرب،مادة:لفت).(85-2/84ومعنى)لتلفتنا لتصرفنا
واللتفات النصراف(التبيان في تفسير غريب القرآن).(1/232
]507يونس.[78:
508انظر:تفسير ابن كثير)(2/427وتفسير الثعالبي)(2/187وتفسير ابي السعود)(4/169وتفسير
الواحدي)(1/505وتفسير البغوي).(2/363
93
بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات.ثم قالوا وما نحن لكما
بمؤمنين تصريحا منهم بالتكذيب وقطعا للطمع في إيمانهم(.509
لقد أظهر المل أغراضهم وغاياتهم،فقد قالوها صريحة فيما
بينهم’’:أنؤمن لبشرين مثلنا510وقومهما لنا عابدون،فكذبوهما
فكانوا من المهلكين‘‘.511والمعنى ل نؤمن لبشرين مثلنا فنتبعهما
وقومهما-يعني بني إسرائيل-لنا عابدون خادمون منقادون مطيعون
متذللون،يأتمرون لمرهم ويدينون لهم،والعرب تسمي كل من دان الملك
عابدا له)،512وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما
السلم،وحط رتبتهما العلّية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير
البشرية….بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية
على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من
ل هذا القرآن على رجل المال والجاه،كدأب قريش حين قالوا’’:لول ن ُّز َ
من القريتين عظيم‘‘،513وجهلهم بأن مناط الصطفاء للرسالة هو السبق
في حيازة النعوت والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من
يشاء من خلقه(.514
إّنه)الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة،التي يقوم عليها نظامهم
السياسي والقتصادي.وهو الخوف على السلطان في الرض،هذا السلطان
الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.إّنها العلة القديمة
الجديدة،التي تدفع الطغاة إلى مقاومة الدعوات،وانتحال شتى
المعاذير،ورمي الدعاة بأشنع التهم ،والفجور في مقاومة الدعوات
والدعاة(.515
ثانيا:المحافظة على مكتسباتهم الخاصة،وثروتهم التي حازوها
بالباطل.ولقد بّين القرآن أّنهم أصحاب ثروة ومال،كما جاء في دعاء سيدنا
موسى عليه السلم’’ربنا إّنك آتيت فرعون ومله زينة وأموال في
الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘.516فهم أصحاب الزينة
والمال،وهو ما يتزين به من الملبس والمراكب والحلي والفراش والسلح
ونحوهما من أثاث الدنيا ومتاعها،وأموال جزيلة من أعيان الذهب
والفضة،وكثيرة منوعة في هذه الحياة الدنيا ،517حيث استعملها المل في
الضلل عن سبيل الله.
94
لقد رفضوا الحق الذي يحاسبهم على ثروتهم التي جلبوها من استغلل
الّناس واستعبادهم بطرق آثمة،ودعموا نظام فرعون لّنه يحافظ على تلك
الثروة ويمنع محاسبتهم،فكانوا سببا في تشكيل تلك الشخصية العاتية
المتجبرة وتثبيت ذلك الّنظام.
وفون من دعوة الرسول صلى الله عليه وهكذا كان المل من قريش يتخ ّ
وسلم من أن تسلبهم مراكزهم التي أفرزها الوضع الجاهلي الذي يعيشون
فيه،فإن ت َغَي َّر هذا الوضع زالت عنهم تلك الزعامة الظالمة والمكاسب
الخاصة،فهم المستفيدون من هذا التفاوت الطبقي الجائر،يقول
نتعالى’’:وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إ ّ
هذا لشيء يراد‘‘،518لقد أطلقوا تحذيراتهم وصفارات إنذاراتهم قائلين:
ن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء )إ ّ
يريد به الشرف عليكم والستعلء،وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه
إليه(،519إّنها العلة القديمة الجديدةَ،يسُتروَنها بأغطية متنوعة متعددة؛مرة
بدعوى المحافظة على أمن البلد..ومرة بعدم السماح للمخربين من تحقيق
مآربهم..ومرة من أجل مستقبل مشرق بأيد أمينة!وكّلها أغطية تستر وراءها
أطماع المل والحاشية المقربة.
المشاركة العملية للمل
من أجل مصالحهم شاركوا في تثبيت النظام،فهم جشعون نفعّيون
وصوليون،ولهذا دعموا فرعون في موقفه من موسى والدعوة الجديدة،فهم
ممتنعون عن قبول الحق رافضون له كما تقدم،ويعلنون اّتباعهم لفرعون
م بعد هذا يشاركون عمليا في تصريف شؤون ومنهجه وطريقة حكمه.ث ّ
ن الّنص القرآني-في أول الحكم والدولة،ويحافظون على النظام،حتى أ ّ
ن ما قاموا به إشارة منه إلى طبيعة مشاركتهم-لم يذكر معهم فرعون،فكأ ّ
من مؤامرة على موسى يقع ضمن صلحياتهم،أو أّنهم بادروا من تلقاء
أنفسهم لحماية الحكومة للتدليل على مدى إخلصهم لفرعون،وكان ذلك
عندما وكز موسى عليه السلم القبطي دفاعا عن مظلوم من بني قومه
فقضى عليه.
)لقد عرف المل من قوم فرعون،وهم رجال حاشيته وحكومته
والمقربون إليه أّنها فعلة موسى.وما من شك أّنهم أحسوا فيها بشبح
الخطر،فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد،والنتصار لبني إسرائيل؛فهي
ظاهرة خطيرة تستحق التآمر.ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن
يشتغل بها المل والكبراء(.520وفي هذا دليل على مدى حرصهم على نظام
فرعون،وحزمهم في القضاء على أي نوع من التململ الذي ينذر بالّتمرد
على النظام.
فها هم يديرون المؤامرة في الخفاء لقتل موسى،فالقتل
جزء من المعالجة لي تمرد قد يقع،كما أّنه وسيلة لرهاب من تحدثه نفسه
بالخروج على الّنظام.ويتسرب الخبر إلى رجل يميل بقلبه إلى دعوة
ذكر أن قول السرائيلي سمعه سامع فأفشاه موسى،فينطلق إليه مخبراُ ).
ما أمر بقتله وأعلم به أهل القتيل،فحينئذ طلب فرعون موسى وأمر بقتله،فل ّ
جاء موسى مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره،وأشار عليه
]518ص.[6:
519تفسير الطبري).(23/126
520في ظلل القرآن).(6/335
95
بالخروج من مصر بلد فرعون وقومه(.521وهذا ما يرشد إليه قوله
ن
تعالى’’:وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إ ّ
المل يأتمرون522بك ليقتلوك فاخرج إّني لك من
ن المل-وهم وجوه أهل دولة فرعون-يأتمرون بك أي الّناصحين‘‘.523أي)إ ّ
ن كل من المتشاورين يأمر يتشاورون بسببك،وإّنما سمي التشاور ائتمار ل ّ
الخر ويأتمر ليقتلوك،فاخرج من المدينة قبل أن يظفروا بك إّني لك من
الّناصحين(.524
ومن مظاهر مشاركتهم ومساندتهم لفرعون ترديدهم
لكلمه وتبّنيهم لمواقفه وسيرهم على نهجه،فهم مستقرون حول
فرعون-في مشهد يوحي بمدى قربهم منه وملصقتهم له-يستمعون لخطابه
ن هذا لساحر ده على موسى عليه السلم،حيث يقول لهم’’:إ ّ في معرض ر ّ
عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا
تأمرون‘‘،525وقصد-لعنه الله-تنفيرهم عن موسى عليه السلم بتذكيرهم
بسلطانهم وملكهم المهدد على يديه،من خلل نسبة الخراج من الرض
إليهم.526إّنه ُيحّرضهم وُيحّرضونه-كما سيأتي قريبا،-فكأّنهم تواصوا
به،فيوصي بعضهم بعضا،فالمشاعر متجانسة والمصالح متشابكة وهم في
سلة واحدة،فمصيرهم واحد،وجميعهم من موسى حذرون!
وسرعان ما وافقوه وقالوا كمقالته،فلكل طاغية أبواق تنعق بما تعلم
ول تعلم،يشاركون في التزوير والتضليل دعاة على أبواب جهّنم،527يقول
ن هذا لساحر عليم،يريد أن تعالى’’:قال المل من قوم فرعون528إ ّ
يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون.530‘‘529فتشاوروا)كيف يصنعون في
أمره،وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه
وافترائه،وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره-فيما يعتقدونه-فيكون ذلك سببا
521تفسير الطبري).(20/50
)522تأمروا على المر وائتمروا تماروا وأجمعوا آراءهم(لسان العرب،مادة:أمر).(4/29و)يأتمرون
بك:يتآمرون في قتلك(التبيان في تفسير غريب القرآن).(1/327
]523القصص.[20:
524روح المعاني).(20/58
]525الشعراء.[35-34:
526انظر:تفسير البيضاوي)(4/237وتفسير أبي السعود).(6/241
527روى البخاري من حديث أبي إدريس الخولني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول’’:ثم كان الناس
يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن
يدركني.فقلت يا رسول الله:إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير،فهل بعد هذا الخير من
شر؟قال:نعم.قلت:وهل بعد ذلك الشر من خير؟قال:نعم وفيه دخن.قلت:وما دخنه؟قال:قوم
يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.قلت:فهل بعد ذلك الخير من شر؟قال:نعم دعاة على أبواب
جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.قلت يا رسول الله:صفهم لنا.قال:هم من جلدتنا ويتكلمون
بألسنتنا.قلت:فما تأمرني إن أدركني ذلك؟قال:الزم جماعة المسلمين وإمامهم.قلت:فان لم يكن
لهم جماعة ول إمام؟قال:فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت
وأنت على ذلك‘‘صحيح البخاري،كتاب الفتن،باب كيف المر إذا لم تكن جماعة)(6/2595رقم)
.(6673
ن هذا الكلم قاله فرعون والمل من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء )528إ ّ
ن هذا الكلم قاله فرعون ابتداء ثم قاله المل إما بطريق الحكاية لولدهم كلمه وهنا كلمهم.أو أ ّ
وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلم فرعون ابتداء وما هنا كلم المل
نقل عنه(روح المعاني).(9/22
)529فماذا تأمرون الظاهر أنه من كلم المل بعضهم لبعض وقيل انه من كلم فرعون(تفسير
الثعالبي).(2/42
]530العراف.[110-109:
96
لظهوره عليهم وإخراجه إياهم من أرضهم،والذي خافوا منه وقعوا فيه،كما
قال تعالى’’:ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا
يحذرون‘‘.531فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ماحكاه
الله تعالى عنهم في قوله تعالى’’:قالوا أرجه وأخاه وأرسل في
المدائن حاشرين،يأتوك بكل ساحر عليم‘‘.533(532وفي قوله’’:قالوا
حار أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين،يأتوك بكل س ّ
عليم‘‘،534فهم حوله يستشيرهم فل يبخلون عليه بالمشورة.
ل على شدة حرصهم على الّنظام ما يد ّ
وقام المل بدور التحريض،م ّ
القائم،فمصيرهم مرتبط بمصير فرعون،أو كما قيل:إّنهم في قارب
واحد.وهودور خطير يلقي الضوء على سبب مهم من أسباب ظهور شخصية
فرعون.يقول تعالى’’:وقال المل من قوم فرعون أتذر موسى
وقومه ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‘‘.535أي تدعهم ليفسدوا
في الرض بتغيير الّناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك وعبادة ربهم
دونك،فتحدث الفرقة وتشتيت الشمل،ويفسدوا عليك خدمك
وعبيدك،فيحدث الفساد الديني والدنيوي،فصار هؤلء يشفقون على إفساد
موسى وقومه!536
فالفساد في الرض –من وجهة نظرهم)-هو الدعوة إلى ربوبية الله
وحده،حيث يترتب عليها تلقائيا بطلن شرعية حكم فرعون ونظامه كله.إذ
ن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون لمره –أو بتعبير مرادف إ ّ
على أساس ربوبية فرعون لقومه -وإذن فهو -بزعمهم-الفساد في
الرض،بقلب نظام الحكم،وتغيير الوضاع القائمة على ربوبية البشر
للبشر،وإنشاء وضع آخر مخالف تماما لهذه الوضاع،الربوبية فيه لله ل
م قرنوا الفساد في الرض بترك موسى وقومه لفرعون للبشر.ومن ث ّ
537
ن تلك اللهة هي الغطاء التي يعيش وللهته التي يعبدها هو وقومه( ؛ذلك ل ّ
تحته المل،ومنه يستمدون قدسيتهم وهيبتهم ومراكزهم..وإل ّ فهم يدركون
أكثر من غيرهم أّنها ل تضر ول تنفع،ولكّنها الوسيلة الموصلة إلى أهدافهم
وغاياتهم،بينما هم يعبدون في الحقيقة مصالحهم ومكتسباتهم،وتلك هي
الجاهلية في أخس مظاهرها حيث أصبح الرب شعارا عندهم،ووسيلة
للتغطية على معبودهم المرفوض أمام الجماهير،وتلك هي العلة الكامنة
معاش.وراء الفرق الشاسع بين شعارات الحكومة وواقع الحياة ال ُ
ل الطواغيت مّتبعة عند ك ّ
ن اللجوء إلى قلب الحقائق سياسة ُ إ ّ
ّ
وراتهم إل أّنهمومعاونيهم وبطاناتهم،مع إدراكهم لفساد مناهجهم وتص ّ
يزّورون الحقائق اتباعا للهوى،يقول تعالى’’:أرأيت من اتخذ إلهه هواه
أفأنت تكون عليه وكيل‘‘.538فل عجب من إضمارهم الكذب وإصرارهم
عليه؛ذلك بأّنهم اتخذوا الهوى إلها،فانفلتوا من كل القيم والخلق.
]531القصص.[6:
]532العراف.[112-111:
533تفسير ابن كثير).(4/237
]534الشعراء.[37-36:
]535العراف.[137:
536انظر:تفسير الطبري)(9/24وتفسير الواحدي)(1/408وتفسير القرطبي)(7/261وفتح القدير)
(2/235وروح المعاني).(9/28
537في ظلل القرآن).(311-3/310
]538الفرقان.[43:
97
لقد أقر المل ُ فرعو َ
ن بالقول والعمل واتبعوا أمره،ولهم أسبابهم كما
م تقدموا في شرهم وإثمهم فشاركوه هي أسباب المؤيدين للطواغيت،ث ّ
وساندوه،وبقيت حلقة أخرى غفلت قلوبهم عنها،تلك اللحظة التي يكفر
م يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا،يقول تعالى’’:ث ّ
بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ومأواكم الّنار وما لكم من
ناصرين‘‘.539
كلمة في بــطانة الســوء
ً
ة وتزيينا للباطل،يقول ن بطانة السوء تقوم بدور الشيطان وسوس ً إ ّ
تعالى’’:ياأيها الذين ءامنوا ل تتخذوا بطانة من دونكم ل يألونكم
خبال ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي
صدورهم أكبر قد بينا لكم اليات إن كنتم تعقلون‘‘540؛ذلك أ ّ
ن
خر جهدا في الفساد وجلب بطانة السوء ل تأمر إل ّ بالشر والفساد،ول تد ّ
ن بطانة السوء تمنع الحاكم من رؤية الحقيقة بسبب تزيينهم له الضرر.كما أ ّ
الباطل،وتشجع الظالم على الستمرار في ظلمه وفساده وبغيه،بل وربما
زّينت له توسيع دائرة الظلم والفساد.
ن أخطر أنواع البطانات السيئة هم أولئك الذين يلبسون ثوب الخلق وإ ّ
مة
دين..ويعتبرون أنفسهم الحرص على مقدرات ال ّ والفكر وال ّ
ومستقبلها،والخطر من ذلك أن يقوموا بعزل الحاكم عن الّناس كي يبقى
بعيدا عن الحقيقة؛ذلك من أجل المحافظة على مراكزهم ومكتسباتهم
وشركاتهم ووكالتهم!
لقد تحدث القرآن طويل عن تلك البطانة السيئة ودورها في رد ّ الحق
دوا لنوح عليه السلم،واتهموه بالضلل،يقول تعالى ومحاربته،فهم من تص ّ
حكاية لقولهم’’وقال المل من قومه إّنا لنراك في ضلل
مبين‘‘،541وذلك)حين دعاهم إلى عبادة الله وحده ل شريك له( ،وهم
542
]539العنكبوت.[25:
]540آل عمران.[118:
]541العراف.[60:
542تفسير الطبري).(8/213
]543العراف.[66:
544تفسير القرطبي).(7/236
]545العراف.[88:
546 546تفسير الطبري).(9/1
98
المل من قوم نوح-عليه السلم-حين قالوا’’:وما نراك اّتبعك إل ّ الذين
هم أراذلنا بادي الرأي‘‘،547و)إّنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم
في السباب الدنيوية(.548إّنها ذات المشاعر الهابطة التي دفعت الزعامة
فار قريش أن يطلبوا أن يكون لهم مجلس خاص ل يجلس المستعلية من ك ّ
معهم فيه الفقراء؛ذلك ليحافظوا على الفوارق التي عليها يقتاتون ومنها
يستمدون جاههم المزعوم؛فمصالحهم تتصادم مع مصالح الطبقة العريضة
المسحوقة.عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد قال):كّنا مع النبي
صلى الله عليه وسلم ستة نفر،فقال المشركون للنبي صلى الله عليه
وسلم:اطرد هؤلء ل يجترؤن علينا.قال:وكنت أنا وابن مسعود ورجل من
هذيل وبلل ورجلن لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما شاء الله أن يقع،فحدث نفسه،فأنزل الله عز وجل’’ول
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون
دين التي أرادها الله ورفضها المل! وجهه‘‘،550(549وتلك هي معجزة هذا ال ّ
ن المل يشكلون خط الدفاع الول للطاغوت،وهم الذين يكافحون إ ّ
الحق وُيلحقون الذى بالنبياء وأتباعهم،ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه
وسلم عليهم’’،اللهم عليك المل من قريش.اللهم عليك أبا جهل بن هشام
وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي
دم الحق!بن خلف‘‘551؛ذلك بأّنهم حجر عثرة أمام تق ّ
ن على)الحاكم أن ل يبادر بما تلقيه إليه حاشيته حتى وفي المقابل فإ ّ
ن المصيبة إّنما تدخليبحث عنه،وأن يتخذ لسره ثقة مأمونا فطنا عاقل ل ّ
على الحاكم المأمون من قبول موثوق به إذ كان هو حسن الظن،فيلزمه
التثبت والتدبر ويسأل الله الهداية والتبصر(.552
ثانيا:آل فرعون
وآل فرعون من الفئات المشاركة والمساندة لحكم فرعون
ونظامه،وقد لعبوا دورا مهما في ظهور شخصية فرعون؛ذلك أّنهم اتصفوا
بصفات جعلتهم أداة طّيعة بيد فرعون أهمها الكفر والتكذيب بآيات الله،حتى
صاروا لظلمهم ومظاهرتهم للظالم الطاغي مضربا للمثل في صنيعهم
ومشايعتهم لفرعون،يقول تعالى’’:كدأب آل فرعون553والذين من
قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد
العقاب‘‘،554ويقول تعالى’’:كدأب آل فرعون والذين من قبلهم
كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل
]547هود.[28:
548الكشاف).(2/374
]549النعام.[52:
550صحيح مسلم ،كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم،باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي
الله عنه)(4/1878رقم).(2413
551صحيح البخاري ،أبواب الجزية والموادعة،باب طرح جيف المشركين في البئر ول يؤخذ لهم
ثمن)(3/1163رقم).(3014
552فيض القدير).(2/252
ن دأب ههنا اجتهادهم في )553أي كشأن آل فرعون وكأمر آل فرعون كذا قال أهل اللغة.وقالوا:أ ّ
كفرهم وتظاهرهم على النبي كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلم.يقال دأبت أدأب دأبا
و دؤوبا إذا اجتهدت في الشيء،و الدائبان الليل والنهار(لسان العرب،مادة:دأب)(1/369مع بعض
التصرف ).والدأب عند أهل اللغة العادة،وحقيقتة عندهم أنه من قولك فلن يدأب أي يداوم على
الشيء(معاني القرآن).(3/163
]554آل عمران.[11:
99
كانوا ظالمين‘‘،555فمن دأبهم وشأنهم وعادتهم الكفر بآيات الله
ل هكذا والتكذيب،فكيف ل يكونون دعامة لحكم فرعون الكافر المكذب؟!فآ ٌ
نعتهم لديهم القابلية للقرار بحكم فرعون والقبول بربوبيته وألوهيته،فهم
أرض قابلة لمثل هذا الزرع الخبيث.
وبلغ الل في كفرهم وتكذيبهم وانحرافهم أن كذبوا بآيات الله كلها،بعد
أن جاءهم الّنذر،يقول تعالى’’:ولقد جاء آل فرعون النذر،كذبوا بآياتنا
كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‘‘.556أي لقد جاء آل فرعون إنذارنا
بالعقوبة بكفرهم بنا وبرسولنا موسى صلى الله عليه وسلم-واكتفى بذكرهم
عن ذكره للعلم بأّنه أولى بذلك منهم-لّنهم كذبوا بآيات الله وبالمعجزات
والحجج التي جاءتهم من عند الله،وهي العصا واليد والسنون والطمسة
ل على توحيد الله ونبوة والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم،والتي تد ّ
ذبوا فعاقبهم الله بكفرهم عقوبة أنبيائه وأّنه ل إله إل الله وحده،ولكّنهم ك ّ
شديد ل ُيغلب،مقتدر على ما يشاء غير عاجز ول ضعيف،فإّنه ل يعجزه
ن قصتهم صدرت بالتوكيد القسمي لبراز كمال شيء،557ومن الملحظ)أ ّ
العتناء بشأنها،لغاية عظم ما فيها من اليات وكثرتها،وهول ما لقوه من
العذاب وقوة إيجابها للتعاظ(.558
ن آل فرعون أداة تنفيذية في نظام فرعون بيان أ ّ
من السهل الن وبعد أن بّينا بعض صفاتهم أن ندرك لماذا كانوا أدواتا
تنفيذية عند فرعون،حيث أسند فرعون إليهم مهمة القهر والقتل
والتعذيب ودليل ذلك قوله تعالى’’:واذ نجيناكم من آل فرعون
يسومونكم سوء العذاب يذّبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم
وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘،559وقوله تعالى’’:وإذ أنجيناكم من
آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقّتلون أبناءكم ويستحيون
نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘.560ومن الملحظ أ ّ
ن
ن المر به هو فرعون،لّنهم الفاعلين لذلك القرآن أسند الفعل إليهم مع أ ّ
كله،والمرتكبين لتلك الجرائم،وتكفي هذه المشاركة العملية من آل فرعون
لتكون سببا في ظهور شخصية فرعون،وعلة تقف وراء هذه الظاهرة
البشعة في تاريخ النسانية.وستظهر شخصية فرعون مرة أخرى في ك ّ
ل
مرة تجتمع فيها تلك الظروف والملبسات والسباب.
ومن الوظائف التي قام على تنفيذها آل فرعون:وظيفة المراقبة
التي تشبه مهمة المخابرات في زماننا هذا،وهي مهمة حساسة غالبا ما
يعتمد الطواغيت على المقربين فيها،يقول تعالى’’:فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا‘‘.561أي موسى عليه السلم وهو في مرحلة
الطفولة الولى)،وهم لم يلتقطوه ليكون عدوا وحزنا وإّنما التقطوه فكان
لهم(.562
]555النفال.[54:
]556القمر.[42-41:
557انظر:تفسير الطبري)(27/107وتفسير البغوي)(4/263وتفسير النسفي).(4/198
558تفسير أبي السعود)(8/173وروح المعاني).(27/91
]559البقرة.[49:
]560العراف.[141:
]561القصص.[8:
562تفسير الطبري).(11/156
100
ن الّنظام كّله-في عهد فرعون-على حذر،وهكذا كل نظام وبيان ذلك أ ّ
جائر)،فالعدل يدعو إلى اللفة ويبعث على الطاعة وتنعم به الرض..كما قال
الهرمزان لعمر حين رآه نائما بالمسجد مبتذل:عدلت فأمنت فنمت(،563فهو
أمن وأمان،564بينما الظلم خوف وترّقب وحذر وقلق.ولول هذه المراقبة لما
ما حصل الخوف منها عليه م موسى موسى عليه السلم في اليم،فل ّ ألقت أ ّ
ّ
م،ولم يكن هذا الخوف إل من المراقبة التي أمر بها فرعون ألقته في الي ّ
واجتهاد العيون في البحث عن المواليد.
العقوبات التي أنزلها الله على آل فرعون دليل على مشاركتهم
في الثم والعدوان
لقد أنزل الله على آل فرعون عقوبات متعددة،تمثل في مجموعها
ما يؤكد لنا عظم الجريمة التي اقترفوها والمتمثلة عقوبة هائلة كبيرة،م ّ
بدعمهم ومساندتهم ومشاركتهم لنظام فرعون،ولهذا نعتبر تلك العقوبات
دليل آخر على الدور الذي لعبه آل فرعون في إظهار شخصية فرعون
وتثبيت نظام حكمه.ومن خلل النظر في الكتاب العزيز يمكن لنا أن نقسم
تلك العقوبات إلى ثلثة أنواع:
أول:عقوبة في الدنيا قبل الموت.يقول تعالى’’:ولقد أخذنا آل
فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون،فإذا جاءتهم
الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن
معه أل إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم ل يعلمون،وقالوا
مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين،فأرسلنا
عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلت
ن الله قد أخذ آلفاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘.565والمعنى أ ّ
فرعون أي اختبرهم وامتحنهم وابتلهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة
الزروع ونقص من الثمرات،وهم فى أرض مصر،المخصبة المثمرة
المعطاء،وتلك)ظاهرة تلفت النظر،وتهز القلب،وتثير القلق،وتدعو إلى
اليقظة والتفكر،لول أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت-بفسقهم عن
دين الله –فيطيعونه،ل يريدون أن يتدبروا ول أن يتفكروا(.566
ثانيا:وعقوبة عند الموت.يقول تعالى’’:وإذ فرقنا بكم البحر
فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‘‘567؛ذلك أ ّ
ن الله
تعالى أمر موسى عليه السلم أن يسري ببني إسرائيل،فخرج بهم فصبحهم
فرعون وجنوده وصادفهم على شاطىء البحر،فأوحى الله تعالى إليه أن
اضرب بعصاك البحر فضربه،فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها حتى
م لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده عبروا البحر،ث ّ
فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين.
ن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني واعلم أ ّ
إسرائيل،ومن اليات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق
101
موسى عليه الصلة والسلم)،568كذلك إقصاصها على ماهي عليه من رسول
الله معجزة جليلة تطمئن بها القلوب البية،وتنقاد لها النفوس الغبية،موجبة
لعقابهم أن يتلقوها بالذعان،فل تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها،ول
تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها،فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما
أطغاها(.569
لقد حّلت بهم نقمة الله،فكان إغراقهم بسبب تكذيبهم باليات،وعدم
فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها،أي غير معتبرين بها لّنهم ل
570
م بأّنهميتدبرونها ،يقول تعالى’’:فانتقمنا منهم فأغرقناهم في الي ّ
ذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘.571أي)كانوا عن النقمة التي أحللناها ك ّ
572
بهم غافلين-قبل حلولها بهم-أنها بهم حالة( .
ن أرواحهمثالثا:وعقوبة بعد الموت ويوم تقوم الساعة).فإ ّ
تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة،فإذا كان يوم القيامة
اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في الّنار(573يقول تعالى’’:وحاق بآل فرعون
سوء العذاب،الّنار يعرضون عليها غدوا وعشّيا ويوم تقوم
الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب‘‘،574أي)عذاب جهّنم فإنه أشد
ن عذابها ألوان بعضها أشد من مما كانوا فيه،أو أشد عذاب جهنم،فإ ّ
ن شدة العذاب بعض(،575والمعنى أدخلوهم أشده ألما وأعظمه نكال؛ذلك أ ّ
دليل على عظم الجريمة التي ارتكبوها.فيا له من مشهد مخيف ونهاية شقية
بئيسة!
ل على عظم الجرم الذي ارتكبه آل فرعون،وهو ن هذه العقوبات تد ّ إ ّ
م إظهار شخصيته،وهو ما أردت الدور الذي مّثلوه في نظام فرعون ومن ث ّ
ن آل فرعون كانوا سببا في ظهور هذه الشخصية المنحرفة. تبيانه من أ ّ
ثالثا:قوم فرعون
قوم فرعون)وهم قبط مصر(،576وهم القاعدة العريضة التي تساند
فرعون،ولقد اتصف قوم فرعون بصفات سيئة كانت في مجموعها سببا في
خضوعهم وطاعتهم لفرعون ،وكان هذا الخضوع وهذه الطاعة والمتابعة
لفرعون سببا في عتوه واستكباره وتجبره،فهناك ارتباط واضح بين صفات
القوم وبين خضوعهم وطاعتهم لفرعون؛ذلك الخضوع الذي أظهر شخصية
فرعون.ومن هنا كان ل بد ّ أن نلقي بعض الضوء على صفاتهم التي كانت
الساس الذي منه ظهرت شخصية فرعون،وكانت العلة في عتوه وتجبره.
102
بيان بعض صفات قوم فرعون وأّنها سبب في إظهار شخصية
فرعون
أول:الفسق.لقد اتصف قوم فرعون بالفسق،و)الفسق العصيان
والترك لمر الله عز وجل والخروج عن طريق الحق..والفسوق الخروج عن
الدين وكذلك الميل إلى المعصية،كما فسق إبليس عن أمر ربه.وفسق عن
أمر ربه،أي جار ومال عن طاعته..والعرب تقول إذا خرجت الرطبة من
ويسقهن الفأرة إّنما سميت فُ َ
قشرها:قد فسقت الرطبة من قشرها،وكأ ّ
577
لخروجها من جحرها على الناس.والفسق الخروج عن المر( .
كن فرعون من استخفافهم-كما بّين القرآن- ن فسق قوم فرعون م ّ إ ّ
ليصبحوا أداة طّيعة بيده الثمة،وسببا من أسباب عتوه وتجبره؛فهي جماهير
مفرغة من أي محتوى أو مضمون،يقول تعالى’’:فاستخف خاوية مّيتة ُ
579 578
قومه فأطاعوه إّنهم كانوا قوما فاسقين‘‘ .أي)طلب منهم
الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلمهم فأطاعوه فيما أمرهم به،إّنهم كانوا
قوما فاسقين فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق(،580وذلك لّنه دعاهم إلى
العتراف له باللهية فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم)،وإّنما
أطاعوه فاستجابوا لما دعاهم إليه عدو الله من تصديقه وتكذيب موسى
لنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلنه إياهم وطبعه على
ن قوما صدقوه في قوله’’:أنا ربكم العلى‘‘،582من أجهل قلوبهم()،581فإ ّ
خلق الله وأضلهم(.583
وكما كان فسق قوم فرعون علة في استخفاف فرعون لهم وطاعتهم
له،كان فسقهم-أيضا -علة في بعث موسى عليه السلم إليهم باليات،حيث
جمعهم القرآن مع فرعون في تلك المهمة التي ُبعث بها موسى عليه
السلم،ودليل ذلك قوله تعالى’’:وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء
من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إّنهم كانوا قوما
فاسقين،فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر
مبين،وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف
كان عاقبة المفسدين‘‘.584وقوله’’:إّنهم كانوا قوما فاسقين‘‘تعليل
103
للرسال،أي)خارجين عن طاعة الله()،585فهم أحقاء بأن ُيرسل
إليهم(،586حتى إذا جاءتهم آيات الله واضحة بينة قالوا:هذا سحر مبين واضح
سحريته،جروا على عادتهم من التكذيب فلهذا قال’’:وجحدوا بها‘‘أي وكذبوا
موها طوها عن رتبتها العالية وس ّ بها وقد استيقنتها أنفسهم ظلما،حيث ح ّ
مسحرا،وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أّنها آيات من عند الله ث ّ
ماها سحرا بّينا.587 س ّ
ثانيا:العلو والظلم والفساد.لقد اتصفوا بالعلوّ والستكبار؛ذلك
ن اليات التي جاء بها موسى هي من عند الله وأّنها ليست أّنهم تيقنوا أ ّ
ل على أّنهم كانوا سحرا،ولكّنهم كفروا بها وتكّبروا أن يؤمنوا بموسى،وهذا يد ّ
معاندين.فانظر كيف كان عاقبة المفسدين الكافرين الطاغين وهو الغراق
ن فيه في الدنيا فى البحر على تلك الصفة الهائلة والحراق في الخرة فإ ّ
معتبرا للمعتبرين.588يقول تعالى’’:وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘589؛ذلك أن جحود
م تظهر آثاره في واقع الحياة. الحق فساد كبير يبدأ في الّنفس ث ّ
وهم وظلمهم وإفسادهم علمة على انعدام التقوى في ن عل ّ
إ ّ
قلوبهم،يقول تعالى’’:وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم
الظالمين،قوم فرعون أل يتقون‘‘.590أي ائت قوم فرعون الظالمين
بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولدهم ،أل يتقون عقاب الله على
كفرهم به،فيطيعونه ويوحدونه،وذلك تعجيبا لهم من إفراطهم في الظلم
ل قوله’’:أل يتقون‘‘على أّنهم ل يتقون،وعلى أّنه واجترائهم عليه،591ود ّ
أمرهم بالتقوى.
592
ثالثا:الجرام.فهم قوم اعتادوا ارتكاب الجرائم والذنوب ،يقول
تعالى’’:ولقد فتّنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم،أن
ي عباد الله إّني لكم رسول أمين،وأن ل تعلوا على الله دوا إل ّأ ّ
إّني آتيكم بسلطان مبين،وإّني عذت بربي وربكم أن
ن هؤلء قوم ترجمون،وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون،فدعا رّبه أ ّ
ن هؤلء قوم مجرمون‘‘.593والمعنى أّنه)دعا ربه-بعدما كذبوه-أ ّ
سماه مجرمون،وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به،ولذلك ّ
ن هؤلء قوم مجرمون أي دعاء(،594أو)فيه حذف،أي فكفروا فدعا ربه أ ّ
مشركون،قد امتنعوا من إطلق بني إسرائيل ومن اليمان بالله(.595وكان
ذلك بعدما)طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم،وأقام حجج الله
585تفسير القرطبي).(13/163
586تفسير البيضاوي).(4/292
587انظر:تفسير أبي السعود)(6/275وتفسير البيضاوي).(4/261
588انظر:تفسير الواحدي)(2/801وتفسير القرطبي)(13/163وتفسير أبي السعود)(6/275وزاد
المسير)(6/158وتفسير النسفي)(3/206وروح المعاني).(19/168
]589الّنمل.[14:
]590الشعراء.[11-10 :
591انظر:تفسير الطبري)(19/64وتفسير الواحدي)(2/787وتفسير البيضاوي)-4/232
(233وتفسير الجللين).(1/480
)592الجريمة:الذنب(مختار الصحاح،مادة:جرم).(43
]593الدخان.[22-17:
594تفسير البيضاوي)(5/161وانظر:تفسير أبي السعود).(8/62
595تفسير القرطبي)(16/136وانظر:تفسير الثعالبي).(4/137
104
ل ذلك وما زادهم ذلك إل كفرا وعنادا،حينئذ دعا ربه عليهم تعالى عليهم،ك ّ
596
دعوة نفذت فيهم( .
ثالثا:السحرة
لقد ساهم السحرة في انحراف فرعون وإظهار شخصيته،حيث كان
ن
الفراعنة يعتمدون في وثنيتهم على الكهنة والسحرة،بل نستطيع القول أ ّ
السحرة كانوا يمثلون المرتبة الولى في طبقة الكهنة،في واقع انتشر فيه
597
ن معجزة كل رسول موافقة ما يؤّيد هذا)أ ّ
السحر إنتشارا واسعا ،وم ّ
ن موسى عليه للغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر في ناس دهره،ل ّ
السلم حين بعث في عصر السحرة خص من فلق البحر يبسا وقلب العصا
حية،ما بهر كل ساحر وأذل كل كافر(.598
ويظهر هذا في شواهد عديدة منها قول فرعون’’:فلنأتيّنك بسحر
599
ن ما جئت به،ليتبين للّناس أن ما أتيت به ليس من عند مثله‘‘ .أي)لنعارض ّ
الله(،600وإّنما هو سحر يقدر على مثله الساحر،حيث تصور فرعون أن كل ما
لدى موسى هو سحر وسوف يقابله بسحر مثله،وذلك بسبب سيطرة السحر
على عقولهم وتصوراتهم.
كما يظهر تأثير السحر في ردهم على الحق الذي جاء به موسى
ن هذا من قبيل ن هذا لساحر عليم‘‘).601فرّوج عليهم فرعون أ ّ بقولهم’’:إ ّ
602
السحر ل من قبيل المعجزة( ،فهي فرية قريبة من عقول الّناس،فهي
النسب في الرد على موسى.ولهذا كان اتهام موسى بالسحر هو الرد ّ البرز
من بين ردودهم،والكثر تداول وشيوعا فيما بينهم.
ويظهر هذا التأثير من قول عامة الّناس عندما اجتمعوا لحضور
المباراة’’:لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‘‘.603والمعنى)كي
نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى(،604ويكون)الترجي على تقدير
غلبتهم ليستمروا على دينهم فل يتبعوا موسى(.605وفي هذا دللة واضحة
ن
على مدى ثقة الّناس بالسحرة وإيمانهم بقدرتهم على الغلبة،وهذا يعني أ ّ
السحر منتشر وله فاعلية حتى في تصورات الجماهير ومعتقداتهم.
كما يظهر النتشار والتأثير في قول السحرة فيما بينهم’’:إن هذان
لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا
ن
ن السحرة قالوا فيما بينهم:تعلمون أ ّ بطريقتكم المثلى‘‘).606والغرض أ ّ
هذا الرجل وأخاه-يعنون موسى وهارون-ساحران عالمان خبيران بصناعة
السحر،يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم،ويستوليا على الناس
105
وتتبعهما العامة،ويقاتل فرعون وجنوده فينصرا عليه ويخرجاكم من
أرضكم.وقولهم’’:ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘،أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي
ظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها.يقولون إذا مع ّ
السحر،فإّنهم كانوا ُ
غلب هذان أهلكاكم ،وأخرجاكم من الرض،وتفردا بذلك،وتمحضت لهما
الرياسة بها دونكم(،607ويظهر من قولهم هذا سر وقوفهم مع فرعون في
ن هذه المقالة منهم للغراء بالمبالغة في المغالبة الرد على موسى)،على أ ّ
والهتمام بالمناصبة،فل بد ّ أن يكون النذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها
عليهم(،608أل وهو ذهاب تعظيمهم وأرزاقهم التي يكسبونها من وراء
سحرهم.وفي هذا دللة كبيرة على الحترام الذي يتمتع به السحرة في
ظم السحر والسحرة. وسط يع ّ
لقد بّين القرآن الكريم موقف السحرة قبل أن تحصل المعجزة الكبرى
أمامهم بانتصار موسى عليه السلم وهزيمتهم،حيث كان همهم هو المادة
ومتاع الدنيا،مما يدل على المستوى النفسي الذي كان يعيشه
ل على أّنهم أداة من أدوات التضليل التي استعان بها السحرة،وكذلك يد ّ
ما جاء السحرة قالوا فرعون لقلب الحقيقة وتزويرها.يقول تعالى’’:فل ّ
لفرعون أئن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين،قال نعم وإّنكم إذا
لمن المقربين‘‘.609إنهم يقفون بين يدي فرعون صفوفا )وهو يحرضهم
ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم،ويتمنون عليه وهو يعدهم
ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين؟قال:نعم،وإّنكم إذا لمن ويمنيهم.يقولون أئ ّ
المقربين.قال لهم موسى:ويلكم ل تفتروا على الله كذبا،أي ل تخيلوا الّناس-
بأعمالكم-إيجاد أشياء ل حقائق لها وإّنها مخلوقة وليست مخلوقة،فتكونون
قد كذبتم على الله،فيسحتكم بعذاب أي يهلككم بعقوبة هلكا ل بقية له،وقد
خاب من افترى(.610
ووصل المر بالسحرة أن أقسموا بعزة فرعون وعظمته،يقول
تعالى’’:فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون611إّنا لنحن
الغالبون‘‘.612وأي شيء أكبر دللة على دعمهم لفرعون من هذا
القول،حين)أقسموا بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته إّنا لنحن
ن الغلبة لهم لفرط الغالبون موسى(،613والمعنى أّنهم أقسموا)على أ ّ
اعتقادهم في أنفسهم،أو لتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من
السحر(.614
الطاغوت المعاصر والفئات المشاركة
ن إليه،وذلك من ُيواليه ويطمئ ّ
يبحث الطاغوت-حين يبحث-فقط ع ّ
ليستتر الطاغوت به ويحتمي،ولقد تعددت تلك السواتر وتنوعت،ومنها
الحزاب السياسية التي تحمل فكر الّنظام،وُيطلق على هذا الشكل من
106
ن الولء
السواتر)الحزب الحاكم(،ويكون لعناصره امتيازات خاصة،ل ّ
للطاغوت معناه ولء للمصلحة،فيقوم الّنظام الحاكم بتسهيل كل ما من
شأنه تطوير هذا الحزب وتقويته،ويفرض على الّناس-أحيانا-منهجا ثقافيا
يصب في خدمة الحزب الحاكم،كما يعمد النظام إلى تكليف عناصر الحزب
بالوظائف المهمة والحساسة في الدولة،ليضمن بذلك عدم قدرة الجماهير
في تغيير الّنظام إن هي فكرت يوما بذلك.
وقد يكون المشاركون من عشيرته،فالسرة الحاكمة هم المراء
والميرات!وكلما ازداد عددهم وتوزعت أدوارهم وبسطوا نفوذهم كلما تأكد
الطاغوت من ثبات ملكه.وزيادة في الحيطة والحذر يقوم الطاغوت بإذكاء
روح العشائرية والقبائلية،حيث يستميل بعض القبائل ببعض العطيات
والمنح!ويخلق جوا من التنافس فيما بينها في كسب وُد ّ الحكومة،فكل قبيلة
ل ُيريد أن يكون له تحافظ على هذا الود ما استطاعت إلى ذلك سبيل.وك ّ
ظهٌر عند الحكومة يساند مطالبه وقضاياه.
وقد يكونون من القليات العرقية أو الدينية بدعوى المحافظة على
م تتجاوب هذه القليات مع الّنظام حقوق القليات وضمان حرية العبادة!ث ّ
الذي يحقق مصلحتها،وُتناط بها بعض المراكز الحساسة ذات الخطورة
ن هذه القليات ل تملك بحكم حجمها القدرة على قلب العالية،ذلك ل ّ
الحكومة.بينما تقوم الحكومة باستغلل هذه القليات فتمنع الحق الساطع
ن حركتهم ُتثير الفتن والقلقل الطائفية وأصحابه من التحرك بدعوى أ ّ
والعرقية!فُيظهر الطاغوت نفسه بمظهر الذي ُيحقق التوازن ويضمن المن
للجميع!
وقد يكون المشاركون أصحاب رؤوس الموال والشركات
الكبرى،والتي بدعمها للّنظام تضمن التشريعات القانونية التي تخدم
مصلحتها؛فالمصلحة بينهما متبادلة..وقد يعتمد الطاغوت على أكثر من فئة أو
عامل من عوامل تثبيته.
ل الحوال أن هذه الفئات تمتاز بفسقها وخروجها عن والملحظ في ك ّ
ن ما تأخذه أكثر من الحق،فالحق ل ُيلئمها،ويصادم مصالحها،فهي تعلم أ ّ
حقها،أو ربما تهادن الّنظام خوفا على مصالحها.وفي كل الحوال تسعى
ل الطاغوت.جاهدة لتحصيل الحصة الكبر تحت ظ ّ
الوقاية خير من العلج
ن ظهور شخصية وفي نهاية هذا المبحث أعود لما ذكرته في أوله،وهو أ ّ
ن السباب مقدمات إن وجدت وجدت النتائج المترتبة فرعون له أسبابه،وأ ّ
عليها،والقرآن الكريم حين بّين هذه السباب بّينها للوقاية منها،ولمعرفة
العلج لها إن حدثت،فمعرفة سبب المرض تسّهل الوقاية منه،كما ل يكون
العلج إل ّ بمعرفة السبب.
ما اجتمع ن تضافر السباب التي ذكرناها أظهرت هذه الشخصية؛ذلك ل ّ إ ّ
لفرعون فسق الجمهور ومشاركة المنتفعين المتزلفين-مع ما كان عنده من
ل مّرة يحكم بها كن.وهذا يحصل في ك ّ كفر وحرص على الملك الموروث-تم ّ
كن،فلول فسق الغلبية ومشاركة المستفيدين لما استطاع الطاغوت ويتم ّ
ن زمن الرويبضة لن يكون إل ّ حين تسقط الظلمة من تثبيت ظلمهم؛ذلك أ ّ
القيم ويتنازل الّناس عن مبادئهم،فل يعودوا يملكون من المعاني النسانية
107
والكرامة البشرية شيئا،حينئذ يلجئون إلى الطاغوت ويتخذونه وليا من دون
الله.
ن الوقاية تكون بتجّنب أسباب المرض،فكلما تجنب الّناس أفرادا إ ّ
وجماعات-كل حسب مسؤوليته في المجتمع-أسباب المرض كان المجتمع
ن
معافى سليما،بحيث لو ُوجد شخص كفرعون كفرا وحرصا على مصالحه فإ ّ
هذا الشخص لن يستطيع فعل شيء ما لم تتوفر له باقي السباب،وأهمها
ن شخصية فرعون حين ظهرت ظهرت فسق الجماهير أو فسق الغلبية.ل ّ
بتضافر السباب جميعها،وهذا يعني أن انفضاض الّناس عن مظاهرة الحاكم
الظالم من أهم العوامل في إسقاط الطواغيت.
وهذا يعني بالضرورة العمل على محورين:
المحور الول:البناء الصالح في المجتمع،وتنشأة أجيال تتقي الله؛ذلك
ن الطاغوت إّنما يعمل على إيجاد جماهير فارغة من المحتوى ليس عندها أ ّ
فكر ول عقيدة ول هدف أو غاية،وليس لها قضية تحيا من أجلها أو تكافح في
سبيلهاُ،تسّيرها الغريزة والشهوة الحيوانية،فهي-إذن-عملية مسخ للمعاني
والقيم والروح النسانية يجهد في تنفيذها الطاغوت.
مق اليمان وهذا يعني خوض حملة دعوية شاملة تعيد الّناس لدينهم،وتع ّ
في قلوبهم،وعمل كل ما تقتضيه هذه الدعوة من وعظ وإرشاد وتذكير بالله
وإقامة الدلئل على وحدانيته سبحانه،والقيام بواجب المر بالمعروف والّنهي
عن المنكر،وهي دعوة مستمرة إلى يوم القيامة ل يجوز التهاون فيها أو
تركها ،يقول تعالى’’:قل هذه سبيلي أدعو إلى الله‘‘.615
م ل بد ّ من التركيز على ما قد ُيصيب القلوب من أمراض وطرق ث ّ
ن حب الدنيا أساس ن الدنيا ل تساوي عند الله جناح بعوضة،وأ ّعلجها،وبيان أ ّ
ث الّناس على الزهد فيها وعدم التكالب عليها… ح ّكل مفسدة،لذا يجب َ
وتلك أيضا دعوة مستمرة لتحرير النسان من أن يكون عبدا لشهواته
م الرزق والخوف من الموت. ونزواته وهواه،فيتحرر من ه ّ
وهذا يحتاج إلى دعاة يمتازون بالحكمة والخلص والمثابرة والجد
والجتهاد والثبات والستقامة والقدوة الحسنة،كما نحتاج إلى العمل
ل يعمل بما يستطيع،ول ُيناقض ن التكامل بالعمل،فك ّالجماعي،وإلى إتقان ف ّ
ن ذلك يذهب بالجهود هدرا’’،ول تنازعوا فتفشلوا بعضنا بعضا،فإ ّ
616
وتذهب ريحكم‘‘ .
ن العمل على المحور الثاني:محاربة المفسدين ومحاصرتهم؛ذلك أ ّ
إصلح المجتمع مع وجود المفسدين الذين ُيفسدون في الرض ول ُيصلحون
مجديا وكافيا.فل بد ّ إذن من محاولة القضاء على جيوب الفساد لن يكون ُ
أيضا،فإذا لم نستطع-ولو لبعض الوقت-القضاء عليها فل أقل من التشويش
عليها ومحاولة إشغالها وإرباكها،كي ل تستطيع العمل بأريحية كاملة بسبب
من يجلب لها القلق وعدم الستقرار،فينكمش تأثيرها كلما كانت وجود َ
ن بذور الشر تنبت في جهودنا أوسع في محاصرتها وفضح أمرها؛ذلك)أ ّ
أكناف المجتمع أول المر مخالفات محدودة محصورة الشأن،ولكنها مع
]615يوسف.[108:
]616النفال.[46:
108
الهمال والستهانة ل تزال تنمو وتغلظ حتى تفسد ما حولها،كالنبات
الشيطاني عندما يترك فيكثر فيلتهم ما حوله(.617
الفصل الثالث
الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان حكمه
سل س ُ
ل والوسائل…وتو ّ ب به إلى الغير والجمع الوُ ُ
قّر ُ
)الوسيلة ما ي ُت َ َ
618
إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل( ،و)الوسيلة هي في الصل ما يتوصل به
إلى الشيء ويتقرب به(.619
109
وعلى ضوء هذا التعريف اللغوي يمكننا أن ُنعّرف الوسائل التي
صل بها فرعون إلى استعملها فرعون على أّنها مجموع الفعال التي تو ّ
مراميه وأهدافه وغاياته،والتي تصب في نهايتها في تثبيت حكمه
ونظامه،وذلك بطريق مباشره وغير مباشرة.يحارب موسى وجها لوجه
تارة،ويحاربه من وراء ستار تارة أخرى.
ل على ولقد أنتجت هذه الوسائل نظاما قويا متينا من الّناحية المادية،ود ّ
ذلك قوله تعالى’’:وفرعون620ذو الوتاد‘‘.621أي ذو الملك الثابت،أو ذو
البناء المحكم،والجنود الكثيرة.622ومن الشواهد التي تدل على متانة نظامه
وره المادي تلك الهرامات التي ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا،وليس وتط ّ
ن للطبائع الملتوية أسلوبا تنجح به في ميادين شتى،فإذا هذا غريبا؛ذلك)أ ّ
ن
تعلق المر بالعقائد والفضائل والمبادىء لم تصب من النجاح سهما،ذلك أ ّ
طريق أصحاب المثل غير طريق أصحاب المصالح،وسياسة الدعوات القائمة
على الشرف والمرتبطة بالسماء غير سياسة التطلع والترصد(،623وتلك هي
سياسة فرعون المجردة من القيم والمثل والخلق.
لقد بّين القرآن الكريم وسائل فرعون في تثبيت حكمه وبناء
شخصيته،حيث تراوحت ما بين القهر والتعذيب تارة،والترغيب تارة
م من الّناس ُتخضعه العصا والخر ُتشترى ذممهم،وما بين العصا س ٌ أخرى.فَ ِ
ق ْ
والجزرة كان التجهيل والتضليل والكذب.فتلك هي وسائل الطاغوت ل تخرج
من وحل الرجس ومستنقع الرذيلة.
وبعد التدبر في الكتاب العزيز يمكننا أن ُنجمل وسائله في المباحث
التالية:
المبحث الول
وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلل
ب-
التعذيب بشتى صوره وسيلة فرعون الكثر رواجا واستعمال،فقد ص ّ
لعنه الله-العذاب صّبا فوق رأس كل من خالف أمره أو رابه منه شيء،حتى
ما أن تعتنقده القرآن الكريم عذابا بذاته لشدة ممارسته للتعذيب،فإ ّ
ع ّ
ما الموت بأشكال وألوان مرعبة،يقول تعالى’’:ولقد مذهب الطاغوت وإ ّ
624
نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين،من فرعون إّنه كان
عاليا من المسرفين’’.625ويعني بالعذاب المهين ما كانت القبط تفعل
)620فرعون ذو الوتاد هو الذي ُبعث إليه موسى وهارون عليهما السلم( ابن حيان :أبو محمد،عبد
الله بن محمد بن جعفر الصبهاني369 -274)،هـ(،العظمة5،أجزاء،تحقيق :رضاء الله بن محمد
إدريس المباركفوري،ط ،1دار العاصمة،الرياض1408،هـ،(5/1609).وسأشير إليه لحقا
هكذا)العظمة(.
]621الفجر.[10:
622انظر:تفسير القرطبي)(155-15/154وتفسير البيضاوي)(39-5/38ومعاني القرآن)
(6/85وتفسير ابي السعود)(7/217وفتح القدير)(4/423وتفسير النسفي).(4/34
623في موكب الدعوة).(172
)624من فرعون:هو بدل من العذاب باعادة الجار أي من عذاب فرعون ويجوز أن يكون جعل
فرعون نفسه عذابا( العكربي:أبو البقاء ،محب الدين عبدالله بن أبي عبدالله الحسين بن أبي
البقاء616 -538)،هـ( ،التبيان في إعراب القرآن،تحقيق:علي محمد البجاوى ،إحياء الكتب
العربية،(2/229).وسأشير إليه لحقا هكذا)التبيان في إعراب القرآن(.وجعل الطبري فرعون بدل
ن فرعون موصوف بالسراف والطغيان فناسبه هذا من العذاب،وهو ما اخترناه ل ّ
المعنى.وانظر:تفسير الطبري).(25/126
]625الدخان.[31-30:
110
ببني إسرائيل بأمر فرعون؛من قتل البناء واستخدام النساء واستعبادهم
ن كلمة’فرعون‘بدل من العذاب إياهم وتكلفهم العمال الشاقة.والشاهد أ ّ
المهين،أي جعله-عليه اللعنة-عين العذاب مبالغة،لفراطه في
التعذيب.626ومن هذا الّنص نعلم مدى إسرافه في التعذيب حتى صار عذابا
بذاته ونقمة على من تحته من الجماهير.
ولهذا كان مطلب موسى عليه السلم-ومعه هارون-تحرير بني
إسرائيل،يقول تعالى حكاية لقول موسى وهارون’’:فأرسل627معنا بني
إسرائيل ول تعذبهم‘‘.628وهو أمر من الله لهما،يقول تعالى’’:فأتيا
فرعون فقول إّنا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني
ل عنهم وأطلقهم ول تعذبهم،وكانت بنو إسرائيل عند إسرائيل‘‘.629أي خ ّ
فرعون في عذاب شديد،يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم،ويكلفهم من العمل
في الطين واللبن و بناء المدائن ما ل يطيقونه،وفي ذلك إشارة على أن
تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى اليمان.630
لقد جاء موسى عليه السلم بالبينة والبرهان لتحقيق مطلب وحيد هو
ن تخليص المؤمنين كد على الشارة السابقة أ ّ ما يؤ ّ
إرسال بني إسرائيل،م ّ
ن دعوتهم إلى اليمان وهم تحت من الكفرة أهم من دعوتهم إلى اليمان،ل ّ
سيطرة الطاغوت وتأثيره يعني أّننا ندعوا قوما ليس عندهم قدرة على
الختيار،ولهذا كانت الفتنة أشد من القتل وأكبر،وهو ما ُيرشد إليه قوله
تعالى حكاية لقول موسى عليه السلم’’:قد جئتكم ببينة من ربكم
فأرسل معي بني إسرائيل‘‘.631أي قد جئتكم)بحجة قاطعة من الله
أعطانيها دليل على صدقي فيما جئتكم به،فأرسل معي بني إسرائيل،أي
أطلقهم من أسرك وقهرك(،632وهذا وجه في تفسير قوله تعالى’’:ولقد
فتّنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم،أن أدوا إلي عباد
الله،إّني لكم رسول أمين‘‘،633والشاهد في الية قول موسى’’:أن أدوا
ي ول تعذبوهم،يعني بني إسرائيل(.634 إلي عباد الله‘‘أي)سّلموهم إل ّ
ذبح البناء واستحياء الّنساء لون من ألوان العذاب في نظام
فرعون
لقد كان القتل الوسيلة الشهر من بين وسائل فرعون حتى طغى على
ن القتل ينشر الرعب وُيخضع الّناس،فحب ألوان العذاب الخرى؛وذلك ل ّ
مته،بل وجميع الحياء الحياة وغريزة البقاء تضغط على الجنس البشري بر ّ
111
م كان القتل الوسيلة القصر والخصر ُتصارع الموت وتفّر منه،ومن ث ّ
وح بهللتخلص من المخالفين للّنظام،ول يزال الّتخويف من الموت سوطا ُتل ّ
ن القتل في الطواغيت،ل يقتحمه إل ّ أصحاب اليمان واليقين الذين يؤمنون أ ّ
ل الرحمة التي ل سبيل الله أو الموت له معنى واحد هو البقاء في ظ ّ
تنقطع،يقول تعالى’’:ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من
ما يجمعون‘‘.635 الله ورحمة خير م ّ
لقد أسرف فرعون في سفك الدماء وإزهاق الرواح في سبيل
جيناكم من آل فرعون المحافظة على ملكه،يقول تعالى’’:واذ ن ّ
يسومونكم636سوء العذاب يذبحون637أبناءكم ويستحيون نساءكم
وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘،638ويقول تعالى’’:وإذ أنجيناكم
قتلون أبناءكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ي ّ
639
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم‘‘ ،ويقول
تعالى حكاية لقول موسى’’:وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله
عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
ويذبحون640أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم
ن مولودا يولد في بني إسرائيل عظيم’’).641وذلك ل ّ
ن الكهنة قالوا له:إ ّ
يذهب ملكك على يديه،أو قال المنجمون له ذلك،أو رأى رؤيا هالته،رأى نارا
خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلد مصر إل بيوت بني
]635آل عمران.[157:
) 636يسومونكم :يولونكم،ويقال:يريدونه منكم ويطلبونه…ومنه يقال:سامه بخطة خسف أوله
وإياه،والثاني من مساومة البيع.وقيل :سامه كلفه العمل الشاق.وقيل:معناه يعلمونكم من
السيماء وهي العلمة.وقيل:يرسلون عليكم من إرسال البل المرعى(التبيان في تفسير غريب
القرآن)(1/84مع بعض التصرف.
)637وإنما قال ههنا يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في
قوله’’:يسومونكم سوء العذاب‘‘ثم فسره بهذا لقوله ههنا’’:اذكروا نعمتي التي أنعمت
عليكم‘‘.وأما في سورة إبراهيم فلما قال’’:وذكرهم بأيام الله‘‘أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب
أن يقول هناك’’:يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‘‘،فعطف عليه
الذبح ليدل على تعدد النعم واليادي على بني إسرائيل(تفسير ابن كثير)) .(1/91لذلك أتى
بالعاطف ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغاير لتذبيح البناء وسبى النساء،وهو ما كانوا عليه من
التسخير بخلف المذكور فى البقرة،فإن ما بعد يسومونكم تفسير له فلم يعطف عليه،ولجل
مطابقة السابق جاء فى سورة العراف’’يقتلون أبناءكم‘‘ليطابق سنقتل أبناءهم ونستحى
نساءهم( الزركشي :أبو عبد الله،محمد بن بهادر بن عبد الله794 -745 )،هـ( ،البرهان في
علوم القرآن4،أجزاء،تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار المعرفة ،بيروت1391 ،هـ).
،(1/120وسأشير إليه لحقا هكذا)البرهان في علوم القرآن().وقوله’’:يذبحون‘‘بغير واو هنا على
البدل من يسومونكم ،وفي العراف’’يقتلون‘‘،وفي إبراهيم’’ويذبحون‘‘بالواو لن ما في هذه
السورة والعراف من كلم الله تعالى فلم يرد تعداد المحن عليهم،والذي في إبراهيم من كلم
موسى فعدد المحن عليهم وكان مأمورا بذلك في قوله’’:وذكرهم بأيام الله‘‘(أسرار التكرار في
القرآن).(1/27
]638البقرة.[50:
]639العراف.[141:
)640ويذبحون أبناءكم وأدخلت الواو في هذا الموضع لنه أريد بقوله’’:ويذبحون أبناءكم‘‘الخبر عن
أن آل فرعون،كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح.وأما في موضع
آخر من القرآن فإنه جاء بغير الواو’’،يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم‘‘في موضع وفي
موضع’’يقتلون أبناءكم‘‘ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها،لنه أريد
بقوله’’:يذبحون‘‘وبقوله’’:يقتلون‘‘تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم(تفسير الطبري)
).(13/185وعطف’’يذبحون أبناءكم‘‘على’’يسومونكم سوء العذاب‘‘وإن كان التذبيح من جنس
سوء العذاب إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدة(فتح
القدير).(3/96
]641إبراهيم.[6:
112
ن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل،مضمونها أ ّ
ن الكاهن إن صدق فالقتل ل إسرائيل.وهذا من حمقه حيث لم يدر أ ّ
ن بني ماره تحدثوا عنده بأ ّ نس ّ ينفع،وإن كذب فل معنى للقتل.وقيل أ ّ
642
إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة( .
ن فرعون شرع بقتلهم ن المؤكد أ ّ وأيا ما كانت الرواية الصحيحة فإ ّ
وإذللهم منعا لهم من تدمير ملكه،فهذا هو السبب الساسي في جرائمه
وبطشه،وهو نفس السبب الذي يدفع بالطواغيت نحو البطش والجريمة.
فعندما خشي فرعون على عرشه أمر-لعنه الله-بقتل كل ذكر يولد بعد
ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات،وأمر باستعمال بني إسرائيل في
سر العذاب بذبح البناء،وفي سورة إبراهيم مشاق العمال وأرذلها)،وههنا ف ّ
عطف عليه كما قال’’:يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون
نساءكم‘‘(.643
فكانوا يوردونهم ويذيقونهم ويولونهم سوء العذاب،وكان فرعون يعذب
بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخول،وصّنفهم في أعماله:فصنف يبنون وصنف
يزرعون له،فهم في أعماله،ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه
الجزية.فسامهم سوء العذاب ،وجعلهم في العمال القذرة،وجعل يقتل
شفار يطوفون في بني أبناءهم ويستحيي نساءهم،وبعث رجال معهم ال ّ
ن الكبار من إسرائيل فل يجدون مولودا ذكرا إل ذبحوه ففعلوا ،فلما رأوا أ ّ
ن الصغار يذبحون قالوا:توشكون أن تفنوا بني إسرائيل يموتون بآجالهم وأ ّ
بني إسرائيل،فتصيروا إلى أن تباشروا من العمال والخدمة ما كانوا
م موسى بهارون في العام الذي يكفونكم،فاقتلوا عاما ودعوا عاما،فحملت أ ّ
ل يذبح فيه الغلمان فولدته علنية،حتى إذا كان القابل حملت بموسى،أي في
العام الذي يقتل فيه البناء.644
ن عقلية الطاغوت مبدعة في مجال الرهاب والجريمة،فلُيقتل إ ّ
أبناؤهم عاما بعد عام،ل رحمة بهم ول شفقة،بل ليباشروا من العمال
م)ل يخفى ما في قتل البناء والخدمة ما كانوا يكفونه فرعون وقومه!ث ّ
واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذل بهم وإلصاق الهانة الشديدة
بجميعهم،لما في ذلك من العار(.645
فرعون يجدد أوامر القتل
مارهدث بها بعض س ّ لمجرد هاجس أو حلم أو اقتراح لحرب إستباقية تح ّ
ن فرعون حملة ذبح ل هوادة فيها على شعب بأكمله! فكانت تلك هي ش ّ
م
المرحلة الولى من القتل والذبح من قبل أن ُيبعث موسى عليه السلم،ث ّ
تلتها مرحلة أخرى من القتل،ودليل ذلك قوله تعالى’’:فلما جاءهم بالحق
من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم
ن هذا المر بقتل أبناء الذين وما كيد الكافرين إل ّ في ضلل‘‘).646إ ّ
آمنوا مع موسى واستحياء نسائهم كان أمرا من فرعون وملئه من بعد المر
الول الذي كان من فرعون قبل مولد موسى(.647ويؤّيد هذا ما جاء في
642تفسير القرطبي).(248 /13وانظر:زاد المسير)(1/78وتفسير الجللين)(1/330وتفسير
النسفي).(1/43
643تفسير ابن كثير).(1/91
644انظر:تفسير الطبري)(272-1/271وتفسير البغوي)(1/70وروح المعاني).(1/253
645فتح القدير ).(1/83
]646غافر.[25:
647تفسير الطبري).(24/56
113
جواب فرعون للمل عندما قالوا له’’:أتذر موسى وقومه ليفسدوا في
الرض ويذرك وآلهتك‘‘.648حيث اعتبر المل دعوة موسى إلى الله إفساد
يضر بفرعون وبمنظومته القيمية الباطلة،فرد ّ عليهم بقوله’’:سُنقّتل
أبناءهم ونستحيي نساءهم وإّنا فوقهم649قاهرون‘‘).650وهذا أمر
كل بهم قبل ولدة موسى عليه السلم حذرا من ثان بهذا الصنيع،وقد كان ن ّ
وجوده،فكان خلف ما رامه وضد ما قصده فرعون.وهكذا عومل في صنيعه
أيضا لما أراد إذلل بني إسرائيل وقهرهم،فجاء المر على خلف ما
أراد،أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده(،651وهذا معنى قوله
تعالى’’:وما كيد الكافرين إل في ضلل،653‘‘652أي وما مكرهم إل ّ في
ن قصدهم-الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئل خسران وهلك،والمعنى أ ّ
ن احتيال أهل الكفر لهل ُينصروا عليهم-ذاهب وهالك في ضياع وخسران،ل ّ
اليمان بالله جور عن سبيل الحق،وصد عن قصد المحجة،وأخذ على غير
هدى)،654ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدللة على
العلة(،655وفي هذا غاية البلغة والبيان،فليس كيد فرعون وحده في ضلل
بل كيد الكافرين كلهم إلى قيام الساعة في ضياع،وفيه أيضا تثبيت للمؤمنين
في كل مرة يواجهون فيها شخصية كشخصية فرعون،فقد قضى الله أن
يجعل كيدهم في تضليل.
وهنا ل بد من الشارة أن تجديد أوامر القتل من فرعون بعد المر الول
ن فرعون الذي كان قبل مولد موسى يعني أحد احتمالين) :الحتمال الول:أ ّ
الذي أصدر ذلك المر كان قد مات وخلفه أبنه أو ولي عهده،ولم يكن المر
منفذا في العهد الجديد،حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد،الذي كان
يعرفه وهو ولى للعهد،ويعرف تربيته في القصر،ويعرف المر الول بتذبيح
الذكور وترك الناث من بني إسرائيل.فحاشيته تشير إلى هذا المر،وتوحي
بتخصيصه بمن آمن بموسى،سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل
القلئل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه ..والحتمال
الثاني:أّنه كان فرعون الول الذي تبنى موسى ما يزال على عرشه.وقد
تراخى تنفيذ المر الول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال
حدته.فالحاشية تشير بتجديده،وتخص به الذين أمنوا مع موسى وحدهم
للرهاب والتخويف(.656
ن أهداف ن المتيقن عندنا أ ّ وبغض الّنظر أي الحتمالين أرجح 657فإ ّ
ن القتل أقرب ما يؤكد أ ّفرعون من القتل قد تغيرت مع بقاء الوسيلة ذاتها،م ّ
الوسائل لعقله المريض،حيث أراد فرعون من تجديد القتل إظهار قوته
وسيطرته،فبينما كان المر الول)لجل الحتراز من وجود موسى،أو لذلل
]648العراف.[127:
649أراد بالفوقية-لعنه الله-العلو المعنوي وليس العلو المكاني.انظر:اتقان ما يحسن من الخبار)
.(2/19
]650العراف.[127:
651تفسير ابن كثير).(2/240
) 652الضلل والضللة ضد الهدى والرشاد(لسان العرب،مادة:ضلل).(11/390
]653غافر.[25:
654انظر:تفسير ابن كثير)(4/77وتفسير الطبري).(24/56
655تفسير البيضاوي).(5/89وانظر:تفسير أبي السعود).(7/273
656في ظلل القرآن).(7/177
657 657لقد ذكرت هذا في معرض الحديث عن فرعون موسى،ورجحت أن يكون شخصا
واحدا.راجع تعريف فرعون موسى.ص .9
114
هذا الشعب وتقليل عددهم،أو لمجموع المرين،كان المر الثاني لهانة هذا
658
ده عن مشايعة موسى،ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلم( . الشعب وص ّ
)ولئل يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولدهم،فشغلهم الله عن ذلك بما
أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن
659
ن فرعون م ليعلم موسى وقومه أ ّ خرجوا من مصر فأغرقهم الله( ،ومن ث ّ
ما زال على ما هو من القهر والغلبة،ولكي ل يتوهم موسى عليه السلم أّنه
المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده.وهذا ما
يعنيه فرعون من قوله’’:وإّنا فوقهم قاهرون‘‘،660أي غالبون وهم
مقهورون تحت أيدينا.661
وفي هذه المرحلة-أي مرحلة تجديد القتل-كان قول بني
إسرائيل’’:أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى
ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الرض فينظر كيف
تعملون‘‘.662أي)أوذينا بقتل أبنائنا من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا،ل ّ
ن
فرعون كان يقتل أولدهم الذكور حين أظله زمان موسى،ومن بعد ما جئتنا
غلبت سحرته-وقال للمل من قومه ما قال-أراد ما ُن فرعون ل ّ برسالة الله،ل ّ
663
تجديد العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم( .
)وبالجملة فهو كلم يجري مع المعهود من بني إسرائيل من
اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم،واستعطاف موسى لهم بقوله:عسى
ل على أنه ربكم أن يهلك عدوكم ووعده لهم بالستخلف في الرض،يد ّ
ن في جهة بني إسرائيل سلوكهم هذا وي هذا الظ ّق ّيستدعي نفوسا نافرة،وي ُ َ
السبيل في غير ما قصة.وقوله’’:فينظر كيف تعملون‘‘تنبيه وحض على
ن موسى عليه السلم أراد أن يرفع من معنوياتهم وهم الستقامة(664؛ذلك أ ّ
الذين ما يزالون يعيشون هاجس الكارثة وكابوس المرحلة السابقة.
فرعون يهدد بقتل موسى واستئصال بني إسرائيل
ن من أكبر المنيات عند فرعون أن يستيقظ ذات يوم فل يرى موسى إ ّ
ن أول ما يفكر مع الحياء،وليس أمرا غريبا أن يفكر فرعون بقتل موسى،فإ ّ
به الطواغيت هو الّتخلص من رأس الدعوة وقيادتها،وهو ما رآه أبو جهل بن
هشام حل نهائيا لخصومتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم،حيث أشار على
قومه)أن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا-أي قويا-حسيبا في قومه نسيبا
وسطا،ثم يعطى كل فتىمنهم سيفا صارما،ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة
رجل واحد فيقتلونه(،665لكي يستريحوا منه،وهكذا ديدن الطغاة والمتجبرين.
115
فت للّنظر هو خطابه لقومه’’:ذروني اقتل موسى وليدع مل ْ ِ
ن ال ُ
ولك ّ
ربه‘‘.666فهل هذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه
الصلة السلم؟أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا،وقد كانوا يكفونه
عن قتله،ويقولون:إّنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر،ولو قتلته ظن أنك
عجزت عن معارضته بالحجة،أم هو تعلل منه بذلك مع كونه سفاكا في أهون
ن أّنه لو حاولهل على أّنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله،أو ظ ّ ما يد ّ شيء؟م ّ
لم يتيسر له،ويؤيده قوله’’:وليدع ربه‘‘،فإّنه تجلد وعدم مبالة بدعائه،أي ل
أبالي منه وهذا في غاية الجحد والعناد،فكأّنه قيل له:إّنا نخاف أن يدعو عليك
فيجاب.فقال:وليدع ربه الذي يزعم أّنه أرسله إلينا فيمنعه مّنا،أي ل يهولنكم
ما يذكر من ربه فإّنه ل حقيقة له،وأنا ربكم العلى.667
)والظاهر أّنه-لعنه الله تعالى-استيقن أّنه عليه السلم نبي،ولكن كان
فيه خب،وكان قتال سفاكا للدماء في أهون شيء.فكيف ل يقتل من أضعف
منه بأّنه الذي يهدد عرشه ويهدم ملكه؟ولكّنه يخاف إن هم بقتله أن ُيعاجل
بالهلك.فقوله’’:ذروني أقتل موسى وليدع ربه‘‘كان تمويها على قومه
وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه،وما كان يكفه إل ّ ما في نفسه من هول
ن ظاهره الستهانة بموسى الفزع،ويرشد إلى ذلك قوله’’:وليدع ربه‘‘،ل ّ
عليه السلم بدعائه ربه سبحانه،كما يقال:ادع ناصرك فإني منتقم
منك،وباطنه أّنه كان ترعد فرائصه من دعاء موسى ربه،فلهذا تكلم به أول
ما تكلم،وأظهر أّنه ل يبالي بدعاء ربه،وما هو إل كمن قال:ذروني أفعل
كذا،وما كان فليكن،وإل ّ فما كان لمن يدعي أنه ربهم العلى أن يجعل لما
يدعيه موسى عليه السلم وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة(.668
ن عقلية القتل والتصفية والستئصال ظاهرة في وسائل الطغاة إ ّ
والعتاة،فتارة بالنفي والبعاد وتارة بالسحق والطمس والجتثاث،سعيا منهم
ن الله يأبى إل ّلبادة صوت الحق الذي يشوش حياتهم ويهدد مصالحهم،ولك ّ
م نوره ولو كره الكافرون. أن يت ّ
أراد فرعون أن يستخف موسى وقومه وينفيهم ويزيلهم من الرض
مطلقا بالقتل والستئصال أو البعاد،يقول تعالى’’:فأراد أن
يستفزهم669من الرض‘‘.670فكان عكس ما تمّناه،وارتد ّ مكره عليه دمارا
وبوارا بأن أغرقه الله ومن معه جميعا،يقول تعالى’’:فأغرقناه ومن معه
جميعا‘‘.671
)وفي هذه الية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،لّنه
لما خرج موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى،وكذلك أظهر الله
نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها(،672وتلك سّنة الله
]666غافر.[25:
667انظر:تفسير الطبري)(24/56وتفسير البيضاوي)(5/90وتفسير ابن كثير)(4/77وفتح القدير)
(4/488وتذكرة الريب في تفسير الغريب).(1/130
668روح المعاني).(24/92
) 669استفزه من الشيء أخرجه و استفزه ختله حتى ألقاه في مهلكة(لسان العرب،مادة:فزز)
.(5/391
]670السراء.[103:
]671السراء.[103:
672زاد المسير ).(5/95وانظر:روح المعاني).(15/2
116
673
ن
وإرادته الغالبة’’،فأرادوا به كيدا فجعلناهم السفلين‘‘ ،فلتطمئ ّ
قلوب الذين آمنوا وليستبشروا بفرج الله القريب.
فرعون يسجل أبشع مأساة عرفها التاريخ
لم يخطر ببال فرعون أبدا أن يؤمن السحرة بموسى حين قرر أن
يستعين بهم لمعارضة ما جاء به موسى من الحق،بل أراد أن ُيحرَز نصرا
ت به –حسب زعمه-كذب موسى،وأّنه ليس إل ّ ساحرا ماهرا.وبذلك باهرا ي ُث ْب ِ ُ
ينتهي الخطر الذي يخشاه على معتقداته الموروثة،وعلى سلطانه في
الرض،تلك هي الدوافع الحقيقة لمهرجان السحرة.
م بين لحظة وأخرى ُيفاجىء فرعون بما لم يخطر له على ث ّ
بال،حيث)كان لهذا النقلب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون
وملئه.فالجماهير حاشدة.وقد عبأهم عملء فرعون وهم يحشدونهم لشهود
ن موسى السرائيلي ساحر يريد أن يخرجهم من المباراة.عبأوهم بأكذوبة أ ّ
ن السحرة سيغلبونه أرضهم بسحره،ويريد أن يجعل الحكم لقومه،وأ ّ
م هاهم أولء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون ويفحمونه ..ث ّ
م ُيغلبون حتى ليقرون بالغلب،ويعترفون بصدق موسى برسالته من وعزته.ث ّ
عند الله.وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاؤوا لخدمته،وانتظروا
أجره،واستفتحوا بعزته!وإّنه لنقلب يتهدد عرش فرعون(.674
بدأ فرعون حربه على السحرة-حين آمنوا-بقلب الحقيقة،بل والسراف
بالتهمة،فاعتبرهم تلميذ متآمرين مع موسى ضد العرش!وضد الشعب
ن هذا مة،وقال’’:إ ّدر!فتلك-بزعمه-مؤامرة تستهدف الجماهير وال ّ مخ ّ
ال ُ
675
لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‘‘ ،يريد بذلك حشد
الّناس وإقحامهم معه في المعركة الخطيرة.وأتبع ذلك بفرية أخرى في
محاولة تعكس الرعب الذي دخل على شخص فرعون بقوله عن
سحر‘‘.676 موسى’’:إّنه لكبيركم الذي علمكم ال ّ
ومن العجيب أن يصل الحد بفرعون أن يعد ّ إيمان السحرة
م ازداد
استسلما،فهل ُيعاب النسان عند استسلمه للحق وخضوعه له؟ث ّ
غطرسة وعنجهّية عندما عد ّ إيمانهم خارجا عن القانون،لّنهم لم يطلبوا
الذن من صاحب الجللة!وهنا تظهر صفة الفوقية التي تمّيزت بها شخصية
فرعون،677يقول تعالى حكاية لقول فرعون’’:قال آمنتم له قبل أن آذن
لكم‘‘،678فلكي تؤمن ل بد لك من ترخيص وإذن من الطاغوت!وهذا مؤشر
على ذوبان المجتمع في شخصية فرعون،وعلى حجم الكارثة التي أدت إلى
انعدام إرادة الختيار أو حتى القدره عليه لدى الجماهير؛فلول ذلك لما أبدى
فرعون عجبه من هذا التصرف الخارج عن المألوف!
لجأ فرعون-حينئذ-إلى ما يلجأ الطواغيت إليه،فجعل ُيهددهم بالعذاب
الغليظ بعد إفلسه في الحجة والبرهان،يقول تعالى حكاية لقول
679
م
ن أيديكم وأرجلكم من خلف ث ّ فرعون’’:فسوف تعلمون لقطع ّ
صافات.[98:]ال ّ
673
117
680
ن أيديكم وأرجلكم لصلبنكم أجمعين‘‘ ،ويقول تعالى’’:فلقطع ّ
ن أّينا أشد عذابا من خلف ولصلبنكم في جذوع النخل ولتعلم ّ
681
ن أيديكم وأرجلكم من خلف وأبقى‘‘ ،ويقول تعالى’’:لقطع ّ
ن فرعون ولصلبنكم أجمعين‘‘،682والمعنى العام لليات الكريمات أ ّ
ن أيديكم وأرجلكم من ذرهم عاقبة فعلتهم،وهو تهديد مجمل تفصيله لقطع ّ ح ّ
خلف،أي من كل شق طرفا،ويعني هذا قطع يد الرجل اليمنى ورجله
اليسرى أو بالعكس،فيخالف بين العضوين في القطع،ثم يعمد إلى صلبهم
وهم أحياء تنـزف دماءهم تفضيحا لهم وتنكيل لمثالهم،وأك ّد َ ذلك بأجمعين
ص الّنخل لطول جذوعها،أي إعلما منه أّنه غير مستبق منهم أحدا.وخ ّ
لجعلّنكم مثلة ولقتلّنكم ولشهرّنكم،حيث شبه تمكن المصلوب بالجذع
بتمكن المظروف بالظرف المشتمل عليه،للدللة على إبقائهم عليها زمانا
مديدا،وفي هذا إفراط في تعذيبهم،وكان-لعنه الله-أول من صلب وقطع
اليدي والرجل من خلف.وإّنما فعل ما فعل لما رأى من خذلن الله إياه
وغلبة موسى عليه السلم وقهره له .683
ن لجوء فرعون إلى هذه الجريمة البشعة يعني عدة أمور،وي َْعنينا في إ ّ
ن أيّ تهديد حقيقي لعروش الطواغيت يعني حتما هذا المقام أمران؛الول:أ ّ
ما يعني حتما أن نستعد لمثل هذه مواجهة ساخنة بين الحق وبينهم،م ّ
المنازلة،والتي قد ل تحدث اليوم أو غدا ولكّنها حادثة ل محالة في مستقبل
اليام،فالطاغوت أّيا كان ل يستسلم بسهولة لدعوة الحق،فل بد ّ إذن من أن
ن الطاغوت عندما يلجأ إلى تراق الدماء الّزكية في سبيل الله.الثاني:أ ّ
القتل والستئصال إّنما يفعل هذا لهدف قريب هو القضاء على العصبة
م لتحقيق هدف بعيد،وهو زرع الرعب في قلوب الّناس كي ل المؤمنة أول،ث ّ
ُتحدثهم نفوسهم بالخروج عن السلطان!أي يريد أن ينزع من ذاكرة
الجماهير معاني التمرد والثورة.
ن وجودنا في دائرة الخصومة مع ولنا في نهاية المأساة أن نقرر أ ّ
ن التعايش معه بهدوء الطاغوت يعني حالة صحية في الجماعة المسلمة،وأ ّ
مَرضية في الجماعة المسلمة توجب علينا البحث عن الخلل؛ذلك يعني حالة َ
ن الحق ل يتعايش مع الباطل. أ ّ
الخوف في ظل فرعون وسيلة ونتيجة ّ
684
ن مكروه يناله( ،حيث انتشر الخوف)رعدة تحصل في القلب عند ظ ّ
م أعينهم أو لما تناها إلى مسامعهم من أمور بين الناس نتيجة لما رأوه بأ ّ
مرعبة ،فصاروا مكّبلين بقيد الخوف المانع من التفكير والبداع والحركة
ضّية تؤدي إلى النغلق والبحث مَر ِ
والثورة؛فالخوف-عند درجة معينة-حالة َ
م
م العام إلى التفكير باله ّالدائم عن مأمن،فينتقل الفرد من التفكير باله ّ
الخاص الذي مل حياته وأشغله عن كل شيء.
)679الخلف المخالفة أي يده اليمنى ورجله اليسرى يخالف بين قطعهما(التبيان في تفسير غريب
القرآن).(1/182
]680العراف.[124:
]681طه.[71:
]682الشعراء.[49:
683انظر:تفسير القرطبي)(7/261وتفسير البيضاوي)(3/49،61وتفسير أبي السعود)
(3/261وفتح القدير)(2/234وزاد المسير)(3/243وتفسير النسفي).(2/30
684فيض القدير).(1/215
118
وللبقاء على الوضع مشدودا ومتوترا يعمد الطاغوت عبر وسائل إعلمه
مونهإلى بث برامجه التي يهدف من ورائها إلى جعل الّناس يعرفون ما ُيس ّ
م ينشر بين الجماهير من عناصره من بالخطوط الحمراء فل يتجاوزونها،ث ّ
يرّوج لتلك الخطوط،وينصح الّناس بعدم تجاوزها!فتنشأ حالة من البلدة
ل هذا في بيئة معبئة بالخوف والرعب تجعل النسان والحجام بين الّناس،ك ّ
في حالة شلل فكري.
ل فرعون قدرتها حتى على اختيار من هنا فقدت الجماهير في ظ ّ
عقيدتها،فما آمن لموسى حين آمن إل ّ وهو على خوف وحذر ووجل،يقول
تعالى’’:فما آمن لموسى إل ّ ذرية من قومه على خوف من
فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘)،685ل خوفا من فرعون فحسب،وإّنما من
مبني إسرائيل أنفسهم،ذلك هو خبر القرآن في مثل هذه القضية الخطيرة.ث ّ
ن كثيرا من فئةيأتي الواقع الذي نحياه ونعيشه ليصدق القرآن(686؛ذلك أ ّ
كلوا بتراجعهم واستسلمهم المستضعفين أصبحوا جندا للطاغوت!وش ّ
للطاغوت طابورا من العملء.
)وهنا ل بد من إيمان يرجح هذه المخاوف،ويطمئن القلوب،ويثبتها على
الحق الذي تنحاز إليه(،687وذلك هو موقف الصحابة رضوان الله عليهم،حيث
ل سجل،يقول تعالى’’:الذين قال لهم جل موقفهم في أعظم كتاب وأج ّ س ُّ
ن الّناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا الّناس إ ّ
688
حسبنا الله ونعم الوكيل‘‘ ،أي ازدادوا يقينا إلى يقينهم وتصديقا لله
ولوعده،689وإّنها لمعجزة هذا الدين أن يزداد أتباعه إيمانا في ساعة الشدة.
ن الطاغوت مهما أوتي من قوة لن يتجاوز هذه الحياة الدنيا،وهو ما إ ّ
رد ّ به السحرة عندما أراد فرعون إدخال الخوف منه إلى قلوبهم،حين
690
قالوا’’:فاقض ما أنت قاض إّنما تقضي هذه الحياة الدنيا‘‘ ).ولم
يكن أمرهم إياه بأن يقضي ما هو قاض على معنى التكذيب،ول على الباحة
لن يفعل بهم ما قد توعدهم،ولكّنهم أعلموه أّنهم قد استعدوا له بالصبر
ل بهم من عذابه…فليفعل ما هو فاعل،فإّنهم يستقلون ذلك في على ما ح ّ
جنب ما يتوقعونه من ثواب الله عز وجل،وما يرجون أن يصرفه الله عنهم
من عذابه ثوابا على بذلهم أنفسهم(،691والمعنى)إنما تقدر أن تعذبنا في هذه
الحياة الدنيا التي تفنى(.692
ن الخوف من بطش الطواغيت أساس وسبب في نشوء الحركات إ ّ
سرّية،فإذا ضاق ظاهر الرض فما للمتمردين على الطاغوت سوى العمل ال ّ
تحت الرض سرا.فها هو موسى عليه السلم يخرج مع قومه سرا تحت جنح
الظلم كي ل يحس به فرعون وجنوده،يقول تعالى’’:وأوحينا إلى موسى
]685يونس.[83:
686عباس:فضل حسن،القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته،ط ،1دار الفرقان،عمان،الردن،
1987م.(336).
687في ظلل القرآن).(4/468
]688آل عمران.[173:
689انظر:تفسير الطبري).(4/178
]690طه.[72:
691المروزي:أبو عبد الله،محمد بن نصر بن الحجاج294-202)،هـ(،تعظيم قدر
الصلة،جزءان،تحقيق :عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي،ط ،1مكتبة الدار،المدينة المنورة،
1406م(2/561).مع بعض التصرف،وسأشير إليه لحقا هكذا)تعظيم قدر الصلة(.
692تفسير الطبري).(16/189وانظر:تفسير ابن كثير).(3/160
119
أن أسر بعبادي إّنكم متبعون‘‘،693حيث)أمر موسى عليه السلم
694
ما جعلبالخروج ليل،وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف( ،م ّ
حركتهم سّرّية.
السجون لون آخر من عذاب فرعون
ن العذاب الممارس من قبل الطواغيت متنوع ومتعدد،وليست إ ّ
السجون سوى لون من ألوان العذاب،فمن لم يردعه هذا اللون من العذاب
يردعه لون آخر.ومن العجيب أن بعض الطواغيت يعدلون عن القتل
والعدام والشنق إلى السجن بعدما رأوا حب المؤمنين إلى الشهادة!وما قد
نتتركه حالت العدام في نفوس الجماهير من تقدير عظيم للشهداء،ل ّ
دمه النسان في سبيل عقيدته وإيمانه،فهو التضحية بالّنفس أقصى ما ُيق ّ
بشهادته يحوز على إعجاب الّناس وتبقى كلماته وأهدافه التي مات عليها
ومن أجلها حّية في قلوب الّناس،فالشهادة حياة.من هنا كان السجن بدل من
الشنق والقتل ليست رأفة في القلوب السوداء،وإّنما هو إجراء آخر ليقاع
أشد ّ العذاب على من خالفهم،ولتقليل الضرار الناجمة عن أحكام العدام.
السجن وسيلة ل غنى للطواغيت عنها،فالحبس والقيد والوثاق أدوات
الرد ّ التي يرفعونها أمام الحق وأتباعه،يحاولون بذلك عزله عن محيطه
فار
الجتماعي الذي ُيؤثر فيه للحد من خطر انخراطه بين الّناس،كما حاول ك ّ
مكة أن ُيثبتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،يقول تعالى’’:وإذ يمكر بك
الذين كفروا ليثبتوك‘‘.695أي ليحبسوك 696حتى يشّلون حركته.
والسجن حالة قهرية ل يموت فيها السجين فيستريح من عناء ل
ن حياة السجن ليست حياة معتبرة،فالمقصود هو تحطيم ينقطع،ول يحيا ل ّ
الحالة النفسية للسجين وإذللها حت تخنع وتخضع،ولكي يعيد الّنظر فيما من
ب السجين ما فعل!!أو رّبما ُيطال َ ُسجن،أو حتى ُيعلن توبته وبراءته م ّ أجله ُ
برفع استرحام كشرط لخراجه من السجن!وتلك والله عقوبة أشد من
القتل.
ن موسى عليه السلم،وذلك دد فرعو ُ
وبمثل هذا النوع من العذاب ه ّ
كوسيلة لتكميم الفواه)،فالطغيان ل يخشى شيئا كما يخشى يقظة
الشعوب،وصحوة القلوب،ول يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي
697
واليقظة،ول ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية( .
لقد كانت السجون في عهد فرعون البائس معهودة ومعروفة
منتشرة،يقول تعالى حكاية قول فرعون لموسى’’:قال لئن اتخذت إلها
غيري لجعلّنك من المسجونين‘‘ )،698أي ممن عرفت حالهم في
سجوني فإّنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من
لسجننك()،699وروي أن سجنه كان أشد من القتل،وكان إذا سجن أحدا لم
700
ما أفلس فرعون في باب يخرجه من سجنه حتى يموت فكان مخوفا( .فل ّ
]693الشعراء.[52:
694تفسير القرطبي).(16/136
]695النفال.[30:
696التبيان في تفسير غريب القرآن).(1/218
697في ظلل القرآن).(6/203
]698الشعراء.[29:
699تفسير البيضاوي).(4/236وانظر:تفسير أبي السعود)(6/240وتفسير النسفي)(3/183وروح
المعاني).(19/73
700تفسير القرطبي).(13/99
120
الحجة والبرهان عدل إلى الرهاب والقمع،وتلك علمة ضعف كما أّنها علمة
استكبار عن الحق.
ولكن ورغم صعوبة السجن وقهره،وآلم العذاب بأنواعه،ورهبة الموت
ن ذلك ليمنع الدعاة إلى الله من الستمرار في حمل دعوتهم،فما والقتل،فإ ّ
عليهم إل ّ أن يتوجهوا إلى من بيده مقاليد السماوات والرض،فرحمته
ل شيء،فل أحد في هذا الوجود يستطيع أن يمسك رحمة الله)،بل وسعت ك ّ
مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لمانع ومع عدمها ل
مقتضى(،701يقول تعالى’’:ما يفتح الله للّناس من رحمة فل ممسك
لها،وما يمسك فل مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم‘‘.702فهو
ن أكثر الّناس ل يعلمون.
سبحانه الغالب على أمره ولك ّ
المبحث الثاني
استجهال المجتمع
فه أيضا،والتجهيل )الجهل ضد العلم..واستجهله عده جاهل واستخ ّ
النسبة إلى الجهل،والمجهلة بوزن المرحلة المر الذي يحمل على
الجهل(،703أي:حمل فرعون الّناس على اتباعه في الغي،704فأتباع الرذيلة
دوا لو تكفرون دون لو كان الّناس كلهم مثلهم في الرذيلة’’،و ّيو ّ
706 705
دون لكم الضللة لتستووا كما كفروا فتكونون سواء‘‘ .أي)هم يو ّ
أنتم وإياهم فيها).707والعرب تضع الضلل موضع الجهل،والجهل موضع
الضلل،فتقول:قد جهل فلن الطريق وضل الطريق بمعنى واحد(708؛ذلك أ ّ
ن
ن)الجهل خلو المة التي تجهل تضل الطريق ويصير حالها إلى ضياع؛ذلك أ ّ
النفس من العلم،واعتقاد الشيء بخلف ما هو عليه،وفعل الشيء بخلف ما
121
ن’’من أشراط الساعة أن يقل العلم حقه أن يفعل(.709ويكفى أن تعلم أ ّ
ويظهر الجهل‘‘.710
ن تجهيل المجتمع من وسائل تثبيت الّنظام الذي يريده فرعون؛ إ ّ
فشخصية فرعون مرتبطة بالّنظام المطبق في حياة الّناس وجودا
وعدما.فمن هنا وعلى أساس هذا الفهم كانت سياسة التجهيل،فاستخفاف
الطغاة للجماهير سياسة معلومة متعبة)،فهم يعزلون الجماهير أول عن كل
سبل المعرفة،ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها،ول يعودوا يبحثون
عنها،ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه
المؤثرات المصطنعة.ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك،ويلين
قيادهم(،711وكلما طال الزمن على هذه الحال أصبح المرض مزمنا والتخلص
ما يتطلب المزيد من الجهد والجتهاد للتخلص من الثار التي منه عسيرا،م ّ
أوجدها فرعون وأمثاله في حياة الّناس،وهي ل شك آثار تدميرية.
ولذلك لم تغب هذه الوسيلة عن عقل فرعون ونهجه،فهو يستدعي كل
ما به يثبت نظامه ويقوي حكمه،ودليل ذلك قوله
تعالى’’:فاستخف712قومه فأطاعوه‘‘.713والمعنى فاستجهل قومه
فأطاعوه لخفة أحلمهم وقلة عقولهم.وقيل:استخف قومه أي وجدهم خفاف
ل على أّنه يجب أن يطيعوه،فل بد من إضمار بعيد تقديره العقول.وهذا ل يد ّ
وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه.وقيل:استخف قومه
وقهرهم حتى اتبعوه،أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده
وغروره فأطاعوه فيما أمرهم به وقبلوا قوله وكذبوا موسى.714ولم تكن
خفة أحلمهم وقلة عقولهم إل نتيجة لما امتلت به من خرافات وعقائد
ور لها الطريق ويجلي ما من شأنه أن ين ّ
باطلة،ولما تعّرضت له من العزل ع ّ
لها الحقائق.
لقد استعمل فرعون لتجهيل الّناس عدة وسائل،تدور في
مجملها حول محورين:
المحور الول:منع حرية الرأي وتكميم الفواه،وذلك بنشر الخوف
بين الّناس بالقتل والسجن والتعذيب،كما سبق وبّينا،حتى ل ينتشر الّنور
ل على ذلك شواهد كثيرة،منها قوله تعالى’’:وأوحينا والهدى بين الّناس،ود ّ
إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم
قبلة وأقيموا الصلة‘‘.715حيث خاف بنو إسرائيل على أنفسهم)فأمروا
أن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئل يظهروا عليهم فيؤذوهم
ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك فى أول السلم
بمكة(،716فنشر الخوف بين الّناس أمر مقصود حتى ل يظهر لليمان في
709فيض القدير).(1/328
710صحيح البخاري،كتاب العلم،باب رفع العلم وظهور الجهل )(1/43رقم).(81
711في ظلل القرآن).(7/340
)712فاستخف قومه فأطاعوه:أي حملهم على الخفة والجهل يقال استخفه عن رأيه واستفزه
عن رأيه إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب واستخف به أهانه(لسان
العرب،مادة:خفف).(9/80
]713الزخرف.[54:
714انظر:تفسير القرطبي)(16/101وفتح القدير)(4/560وتفسير أبي السعود)(8/50وتفسير
البيضاوي)(5/149وروح المعاني).(25/91
]715يونس.[87:
716تفسير النسفي).(2/139
122
واقع الحياة أيّ مظهر،فيؤثر في نفوس الّناس فيجذبهم إليه،وهذا مال يسمح
به فرعون.
وبسبب هذا الواقع المّر انقسم الّناس في ظلل شخصية فرعون
كشف أمره ما قد يلحق به لو ُالقاتمة إلى ممتنع عن اليمان خوفا وجزعا م ّ
للطغمة الحاكمة.وشاهد ذلك ودليله ما حدث للسحرة بمجرد إعلن
إيمانهم.وقسم آخر وهو قليل آمن على خوف من فرعون وملئهم أن
يفتنهم،فهم على حذر شديد لمجرد اليمان الذي يكتمونه.وفي المحصلة ل
عون إلى الهدى والّنور لما في ذلك من خطر يتهدد نجد صنفا من الّناس َيد ُ
حياتهم،وعلى هذا فالمتكلم الوحيد هو فرعون وزمرته،وليس في المقابل
من يستطيع أن يرد عليه بهتانه وفريته،وبذلك أظلمت حياة الّناس وأغرقهم
فرعون في جهل مرعب.
ويلحق بمنع الّنور والهدى سياسة تشويه الحق لمنع وصوله صافيا إلى
الجماهير،ومن ذلك اتهام موسى عليه السلم أّنه ساحر عليم،وأّنه يريد
إخراج الّناس من أرضهم بسحره،وأّنه يسعى لن تكون له الكبرياء في
الرض،وغير ذلك من التشويهات،حيث يشبه منهج فرعون في ذلك منهج
فار مكة حين قالوا’’:ل تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم ك ّ
717
تغلبون‘‘ .أي ل تصغوا إليه،وعارضوه بالخرافات وبالكلم الخالي عن أي
فائدة والذي ل طائل تحته،وعيبوه وأنكروه وعادوه،أو ارفعوا أصواتكم
لتشوشوه بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى
الله عليه وسلم رجاء وصولكم للغلبة.718
فجمعوا بين المنع المباشر بعدم السماع وبين اللغو في القرآن،وهو
منهج ما زال مستمرا حتى يومنا هذا،حيث توظف له أجهزة ضخمة ليس لها
سوى زرع الشك والريبة في نفوس وعقول الجماهير،لئل تنجذب للحق
عندما يصلهم صافيا نقّيا،ويصاحب تلك الدعاية تشكيك بأهداف وغايات حملة
لب سلطة ومال ومآرب خاصة!وهكذا الهدى والّنور،فهم-بزعم الطواغيت-ط ّ
يتكرر المشهد القديم مرة بعد مرة.
المحور الثاني:ويتمثل في نشر الخرافات والتصورات الفاسدة،وحقن
الجماهير بها بطرق مختلفة،كالسحر والكهانة والشعوذة،باعتبارها أدوات
تجهيل للمجتمع؛حيث غُط َّيت تلك الدوات بأردية مقدسة.وقد أولى فرعون
ن السحر والكهانة جزء من الّنظام القائم على هذه الوسيلة إهتماما كبيرا،ل ّ
تقديس فرعون وإعطائه صفة اللوهية والربوبية.فهم-أي السحرة والكهنة-
يسحقون وعي الّناس سحقا ً وحشيًا،حتى أضحت الجماهير مقيدة العقول!
مأسورة في طوق من الخرافات والوهام والباطيل،وتلك هي البيئة التي
تنمو فيها شخصية فرعون.
وكما كان السحر والكهانة سبب في ظهور شخصية فرعون،فهما أيضا
ل على ذلك حشده لهم في وسيلته المفضلة في تثبيت حكمه ونظامه،ود ّ
مباراة مصيرية مع موسى عليه السلم.يقول تعالى’’:وجاء السحرة
ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين،قال نعم وإّنكم فرعون،قالوا إ ّ
719
لمن المقربين‘‘ ).إّنهم محترفون..يحترفون السحر كما يحترفون
]717فصلت.[26:
718انظر:تفسير الطبري)(24/112وتفسير ابن كثير)(4/99والدر المنثور)(7/321وتفسير ابي
السعود)(8/12وفتح القدير)(4/514وزاد المسير).(7/252
]719العراف.[114-113 :
123
الكهانة!والجر هو هدف الحتراف في هذا وذاك!وخدمة السلطان الباطل
والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين حين يفسدون!
فيصبحون أداة طّيعة لتزييف الحقائق باسم أّنهم رجال دين،فيأولون
720
الّنصوص بما يخدم الطاغوت،ويبذلون جهدا لهثا في الّتمحل والتزييف( .
وهكذا طواغيت العصر يستعينون بالمأجورين من علماء
الدين،فيحرفون الكلم عن مواضعه،ويحّرفونه من بعد مواضعه،فيغّيرون
ن
معانيه ليلئم سياسة الحكومة،ويحلون ما حرم الله،وهم بهذا ي َُزوُّرو َ
دين،ويمّيعون ما شرعه الله،ويسكتون-عمدا-عن مخازي الحكومة،بل ال ّ
م تصبح ويستشهدون بأقوال الحاكم بأمر الشيطان كما لو كانت قرآنا!ث ّ
دروسا يتعلمها التلميذ في مدارسهم ومعاهدهم؛فينتشر الجهل ويسود
الظلم وتنعدم الرؤية الصحيحة لمعنى الحياة.
م تسليطها على المة تلك هي طائفة المثقفين!! ُ
وهناك طائفة أخرى ت ّ
ل البواب،ووضعت تحت أيديهم أجهزة العلم،فدورهم حيث ُفتحت لهم ك ّ
مة ومهاجمة السلم بدعوى التنوير والعصرنة،فإذا أراد أحد تخريب فكر ال ّ
المراهقين بالفكر أن يشتهر فأقرب الطرق هي مهاجمة السلم!وتقوم
الحكومة بإيوائه وتوفير المن له والترويج لفكاره وسمومه.ويقوم العلم
جه بالترويج لهذه الطائفة بأّنها أمل المة وسبيل الخلص لكل مو ّال ُ
ما الحقيقة المّرة فليس هؤلء سوى أبواق مشكلت التي تعاني منها.أ ّ ال ُ
مى بحضارة العالم الحر!وليس دورهم ووظيفتهم للحضارة الهابطة أو ما ُتس ّ
مة بدينها وتشكيكهم به كي يسُهل استسلم المة وانقيادها سوى تجهيل ال ّ
م ليتعايش الّناس مع الوضاع القائمة،وذلك حين لمخططات الطواغيت،ث ّ
تسود الفكار والتصورات التي تتعايش مع الطاغوت ول تتمرد عليه؛فالهدف
الخير لتلك الطائفة)هو اقتلع العقيدة السلمية من قلوب المسلمين
ما وسائلهم فهي كثيرة ومتنوعة،أخطرها وصرفهم عن التمسك بالسلم،أ ّ
721
وأهمها السيطرة على مناهج التعليم ووسائل العلم( .
م إشغال الّناس بما يضر ول ينفع وبين المنع والحقن ت ّ
ن إشغال الجماهير وسيلة لبعادها عن إدراك واقعها المر،فتعيش إ ّ
حياتها لهية غافلة ل هدف ول قضية ولغاية،فهي في لهو باطل ل خير
فيه،حتى إذا جاءهم الحق استقبلوه بالهزء والسخرية)لتناهي غفلتهم،وفرط
ن قلوبهم إعراضهم عن النظر في المور والتفكر في العواقب(722؛ذلك ل ّ
لهية غافلة.يقول تعالى’’:ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إل ّ
استمعوه وهم يلعبون،لهية قلوبهم‘‘،723وهي حالة ترضى عنها
الحكومة وترعاها!
فتارة يلهيهم الطاغوت بما في ظاهره متعة ولكّنها مضللة،كالمهرجانات
مس الجماهير لحضور المباراة والمباريات والحتفالت…فها هو فرعون ُيح ّ
التاريخية المشهورة بين موسى عليه السلم وبين السحرة)،وتظهر من
التعبير حركة الهاجة والتحميس للجماهير’’،وقيل للّناس هل أنتم
124
مجتمعون،لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‘‘.724هل لكم في
التجمع وعدم التخلف عن الموعد،لنترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى
السرائيلي!والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه المور،دون أن تدرك ما وراء
هذه السياسة،فالطواغيت يشغلونها بهذه المباريات والحتفالت
725
م تطور الشكل والتجمعات،ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس( ،ث ّ
القديم إلى برامج وأجهزة ووزارات تعتنى بتلك الغاية.
ن فرعون-كما كل الطغاة-عندما ُيواجه بالحجة والدليل يبحث عن إ ّ
مخرج،ولقد رأى فرعون ببناء الصرح ما يشغل الّناس وُيلهيهم،فأمر هامان
ببنائه،كما حكى الله عنه قوله’’:فأوقد لي يا هامان على الطين
فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘.726وقوله’’:يا هامان
ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب،أسباب السماوات فأطلع إلى
إله موسى‘‘.727فاعتراف الطاغوت بالحق أمر في غاية الصعوبة،لذا)رجع
إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره(،728فهو-لعنه الله-يشغلهم
بشيء يعلم هو قبل غيره أن ل فائدة من بنائه،ولكّنه أراد أن ُيبهرهم بما
يصنع،وأن يشغلهم بتلك اللعيب عن الحقائق والبينات التي جرت على يد
موسى،وفي هذا التصرف من فرعون إشارة إلى إنحطاط الوعي العام عند
الجماهير.
ومن وسائل اللهو كثرة العياد والمناسبات،فعيد للشجرة وعيد
م…!وهكذا دواليك.ولم يكن فرعون شاذا عن هذه القاعدة للجلوس وعيد لل ّ
729
بل كان له يوم الزينة)،وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم( ،وذلك ما
ُيرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول موسى عندما طلب منه فرعون تعيين
يوم للمباراة مع السحرة’’:قال موعدكم يوم الزينة‘‘،730وهذا الختيار
ل على كثرة الّناس المجتمعين في ذلك من موسى عليه السلم يد ّ
اليوم،حيث يخرج الّناس إلى الماكن العامة المكشوفة.
ن سياسة إشغال الّناس ما زالت مستمرة كي ل يكون عندهم وقت إ ّ
للتفكير بالواقع المّر الذي يعيشونه،وليس شرطا أن يكون إشغالهم بوسائل
ترفيهية هابطة تثير أقبح ما في النفس من دوافع وغرائز حيوانية،وتخلق
ميه
أجيال كسيحة فحسب،بل تتعدى سياسة الشغال هذا الشكل إلى ما نس ّ
جد ُ الفرد نفسه يخرج من أزمة ليدخل في بخلق الزمات المستمرة،في َ ِ
م العام إلى الهم والمشكلة الخاصة. ُ
مه من اله ّ أخرى،فينتقل تفكيره وه ّ
ولنا أن نقرر أن الجهل أرض خصبة ووسط مناسب تنمو فيها الخرافات
والتصورات الفاسدة والعقائد الباطلة،وهو البيئة المناسبة لحكم
ل الجهل في قوم أو جماعة تكون القابلية لتلك الطواغيت.فأينما ح ّ
ن
الخرافات،وتكون القدرة على تسخير الّناس من قبل الطغاة أكثر،ل ّ
التجهيل شرط ل بد ّ منه لي حكومة جائرة مستبدة،وقد بدت العداوة
ي
والبغضاء بين الطواغيت وبين العلم والوعي لشدة خطورة ذلك على أ ّ
نظام ظالم.
]724الشعراء.[40-39:
725في ظلل القرآن).(6/206
]726القصص.[38 :
]727غافر.[37-36:
728فتح القدير).(4/173
729البداية والنهاية).(1/254وانظر:تفسير الثعالبي).(3/32
]730طه.[59:
125
ل يستوي الذين يعلمون والذين ل يعلمون
ن ظلم الجهل لن يزول بغير نور العلم،وتلك هي وظيفة القرآن إ ّ
732 731
العظيم ،يقول تعالى’’:قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين‘‘ ؛
ضح للّناس أبين المسالك،وينفي عنهم الضللة،ويرشدهم فالقرآن الكريم)ُيو ّ
إلى أقوم حالة(،733فتّتضح المعاني الحقيقية للحياة لمن سار على
هداه.فبينما يسيرالّناس المنقطعون عن القرآن في حيرة واضطراب وتيه
تجد أتباع القرآن مدركين لما يدور حولهم،ل تنطلي عليه مناورات الطواغيت
وألعيبهم؛ذلك بأّنهم حازوا العلم الحق،يقول تعالى’’:قل:هل يستوي
الذين يعلمون والذين ل يعلمون‘‘).734فالحق منهج واضح،والدين
ميزان راجح،والجهل ل يزيد إل عمى ول يورث إل ندما(.735
ومن هنا نفهم الستجهال المعاصر،وهو جعل الّناس يعيشون ويموتون
دون أن ُيدركوا غاية وجودهم،وُتستعمل لهذا الغرض أجهزة العلم الضخمة
والهائلة،تبث الفجور وتهبط بالنسان إلى مرتبة الحيوان!يعيش لشهوته
مونها تقدمية تحررية! ونزواته وهواه.وُتنشر لتحقيق هذا الغرض أفكار ُيس ّ
وُينفق في هذا السبيل المليارات.وأطلقوا على حملتهم إسم التنوير!
ن المسؤول-أو هكذا ُيراد-عن برامج المسلمين الثقافية والتعليمية هي إ ّ
وكالت الستخبارات الجنبية،فهم إّنما يريدون تجهييل المة بدينها شيئا
فشيئا؛يمنعون بعض المواضيع التي تؤثر في نهضة المة وخصوصا باب
دين من عبادة إلى عادة.والدهى الجهاد في سبيل الله،كما يريدون تحويل ال ّ
من ذلك ما يعقدونه من اتفاقيات ثقافية مشبوهة ُيراد منها إخراج جيل ل
يعرف من السلم إل ّ اسمه،ولديه قابلية للترويض والخنوع.
وفي المقابل ُيحاصر أصحاب الحق والحقيقة،وُيتهمون بتهم شتى،مرة
بالرهاب الفكري،ومرة باحتكار الحقيقة المطلقة..ومرة ُيزج بهم في غياهب
السجون،وتغض مؤسسة حقوق النسان الطرف!فتلك مؤامرة عالمية
لستحمار الشعوب وإفراغها من كل مضمون إنساني كي يسُهل
انقيادها..وتلك هي عقلية اليهود الذين ُيشكلون القاعدة الساسية في هذا
مر.المشروع الكبير المد ّ
وسائل الرد الممكنة
أمام هذه الحملة العلمية الضخمة ل بد ّ لنا من محاولة جادة ُتنقذ ما
م
ُيمكننا إنقاذه،فليس أمرا مقبول أن نكتفي بالشتم وبيان عورات الحكومة،ث ّ
نقف عاجزين عن فعل أي شيء.فهناك ما نستطيع أن نفعله.نبدأ بأنفسنا
فنصلحها لتكون قادرة على حمل الصلح للخرين..ونهتم بأسرنا
وأبنائنا،ونبعدهم عن كل المؤثرات التي ُيريد الطاغوت لهم البقاء تحت
تأثيرها ما استطعنا إلى ذلك سبيل.ول بد ّ أن نكون قدوة لهم كي ل تكون
تعاليمنا لهم نظرية ل ُيصدقها الواقع.
م تخطو الجماعة المسلمة خطوة أخرى نحو تحقيق القدرة القتصادية ث ّ
والتي بدورها تمكننا من إنشاء المؤسسات العلمية والمنابر الثقافية وغيرها
كالنوادي وأماكن الترفيه والتربية..وفي المحصلة نريد اعتزال الثقافة
731انظر:مناهل العرفان).(2/256
]732المائدة.[15:
733تفسير ابن كثير).(2/35
]734الزمر.[9:
735إعجاز القرآن).(1/303
126
الجاهلية وعزلها،وفي المقابل نريد امتلك وسائل التثقيف والعلم كي ننشر
ما احتوته من نور الحق والهدى،وهي عملية متكاملة لتفريغ الذهان م ّ
ل ذلك بحاجة إلى م تعبئتها بالحقيقة السلمية،وك ّ
سموم-يعني التخلية-ث ّ
تضحيات وجهود مخلصة،كي تنقشع الظلمات ويسطع الّنور.
نومع هذا الواجب الذي يقع على عاتقنا ل ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أ ّ
ل الجذريما نفعله ليس سوى خطوة على الطريق وليس بديل عن الح ّ
ن أيّ مؤسسة الذي نسعى له وهو إزالة فرعون من الوجود.كما وننبه أ ّ
ننشؤها تبقى في مهب الريح غير مستقرة بسبب السيطرة التي نعاني منها
من قبل الطواغيت،فقد ُيقدم الفراعنة الجدد على إغلق المؤسسات
العلمية وغيرها،وقد ُيحاولون إبعاد الصوت السلمي..وقد يحققون بعض
ل هذا صحيح ولكن ل يمنع من فعل الّنجاح لّنهم ُيمسكون بزمام الوضاع.ك ّ
ما نستطيع دون الغفلة عن الهدف الكبر والغاية العظمى.
المبحث الثالث
الكذب
الكذب نقيض الصدق،736و)هو الخبار عن الشيء بخلف ما هو
عليه(،737فهو تزوير وتحريف للحقيقة،بنفيها أو إثبات ما ل حقيقة له،وهو في
ن)الصدق مطابقة الخبر للواقع كل الحالتين تزوير وإخفاء للحقائق؛ذلك أ ّ
والكذب عدمها(.738وقد يكون الكذب بلسان المقال أو بلسان الحال.وهو
وسيلة الطغاة لتحقيق الغايات والهداف غير المشروعة،ومنهج كل من
ن الغاية تبرر الوسيلة،وهو سلوك العاجزين والمنافقين والضعفاء يؤمن أ ّ
والمفلسين والجبناء الذين يخافون من مواجهة الحقائق.
وهكذا كان فرعون-فاجرا منافقا عاجزا-يتوصل بالكذب الممنهج لتثبيت
ت ما َ
ن علم الحق بدليل قوله تعالى’’:لقد علم َ باطله وتدعيم نظامه ب َعْد َ أ ْ
أنزل هؤلء إل رب السماوات والرض بصائر‘‘.739فاختار-لعنه الله-
وزمرته المقربة الكذب لرد الحق وتسويق الباطل،وهم يعلمون أّنه
كذب’’ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‘‘،740ول عجب فالقيم
ل الطاغوت بضاعة ُتشترى وتباع. في ظ ّ
ن الكذب هو الساس الذي بنى ذاب أثيم؛ذلك أ ّ ن فرعون أّفاك ك ّ إ ّ
فرعون عليه نظامه والصل الذي ظهرت من خلله شخصيته،فهو-لعنه الله-
من حمل إثم أكبر كذبة وأعظم فرية،فقد ادعى كذبا أّنه رب أعلى وإله لم
م يأتي بعد ذلك دوُْر الجهزة المختصة في الترويج يعلم لقومه إلها غيره.ث ّ
ن الطاغوت خل في روع الجماهير أ ّمستمر لتلك الفرية،ومرة بعد مّرة ُيد َ ال ُ
127
ليس فردا عاديا،وليس بشرا طبيعيا،كما حصل لبني إسرائيل حين لم
دقوا موت فرعون وغرقه بعد أن تعرضوا لعملية مسح للذاكرة. ُيص ّ
الكذب وسيلة من وسائل فرعون في مواجهته لموسى عليه
السلم
وماذا يملك فرعون أمام الحجة والبرهان؟ لقد اتهم موسى-كذبا-بأّنه
ن هذا ساحر،يقول تعالى مخبرا عن قول فرعون’’:قال للمل حوله إ ّ
دقها الّناس في زمن لساحر عليم‘‘،741وتلك أقرب فرية ُيمكن أن ُيص ّ
ده على الحق ل بد ّ أن ُيفتش عن فرية ن الطاغوت في ر ّ انتشر به السحر،ل ّ
شبه معقولة!فإن لم ُتقنع الّناس فل أقل من أن ُتدخل الشك إلى قلوبهم.
يلجأ الطاغوت-حين يكذب-إلى أقرب القول،وهو ما أشار إليه الوليد بن
المغيرة حين اجتمع مع نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر
الموسم،فقال):وفود العرب ستقدم عليكم فيه،وقد سمعوا بأمر صاحبكم
هذا،فأجمعوا فيه رأيا واحدا ول تختلفوا،فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول
بعضكم بعضا .فقالوا:فأنت يا أبا عبد شمس،فقل وأقم لنا رأيا نقوم
به.فقال:بل أنتم فقولوا لسمع.فقالوا:نقول كاهن .فقال:ما هو بكاهن،لقد
رأيت الكهان فما هو بزمزمة 742الكاهن وسحره.فقالوا:نقول
مجنون.فقال:وما هو بمجنون،ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ول
تخالجه ول وسوسته.فقالوا:نقول شاعر.قال:فما هو بشاعر،قد عرفنا الشعر
برجزه وهزجه وقريضه 743ومقبوضه 744ومبسوطه؛فما هو
بالشعر.فقالوا:نقول ساحر.قال:فما هو ساحر،قد رأينا السحار وسحرهم فما
ن لقوله هو بنفثه ول عقده.فقالوا:ما تقول با أبا عبد شمس؟قال:والله إ ّ
ن فرعه لجني ،فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إل ن أصله لمعذق،وأ ّ لحلوة،وإ ّ
ن أقرب القول لن تقولوا ساحر،فتقولوا هذا ساحر يفرق عرف أنه باطل،وأ ّ
بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وبين زوجته وبين
المرء وعشيرته(.745
م أرأيت كيف وقع الختيار؟ أرأيت كيف يبحث الطاغوت عن فرية؟! ث ّ
هكذا هم الطواغيت في بحث مستمر عن فرية جديدة يصدون بها عن سبيل
الله،بل وأقاموا مجامع لهم لتشويه وجه الحق،واشتروا عقول بشرية تمتاز
بالدهاء والذكاء والمهارة العالية ُيعشعش فيها الشيطان لتعمل ليل نهار في
البحث والستقصاء عن طرق لترويج الباطل وتزوير الحقائق،وبذلوا في ذلك
أموالهم وجهدهم،وتطورت أساليبهم وطرقهم،وبقي الكذب هو الجامع بين
القديم والحديث منها.
]741الشعراء.[34:
)742 742الزمزمة صوت خفي ل يكاد يفهم(لسان العرب،مادة:زمم).(12/274
)743القريض الشعر،وهو السم كالقصيد،والتقريض صناعته(لسان العرب،مادة:قرض).(7/218
)744القبض في زحاف الشعر حذف الحرف الخامس الساكن من الجزء،نحو النون من فعولن
أينما تصرفت،ونحو الياء من مفاعيلن،وكل ما حذف خامسه فهو مقبوض،وإنما سمي مقبوضا
ليفصل بين ما حذف أوله وآخره ووسطه(لسان العرب،مادة:قبض).(7/215
745السيوطي:أبو الفضل،جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال)911-849هـ(،كفاية
الطالب اللبيب في خصائص الحبيب)الخصائص الكبرى(،ط ،1دار الكتب العلمية،بيروت،
1985م،(1/189).وسأشير إليه لحقا هكذا)الخصائص الكبرى(.وانظر:الكتفاء بما تضمنه من
مغازي الرسول) (1/219ابن إسحاق:محمد بن يسار151-85)،هـ(،سيرة إبن إسحاق
المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي،جزءان،تحقيق :محمد حميدالله،معهد
الدراسات والبحاث للتعريب،(2/132).وسأشير إليه لحقا هكذا)سيرة ابن إسحاق(.
128
لقد أراد فرعون بفريته الولى-وهي اتهام موسى أّنه ساحر-التشكيك
م تقدم خطوة أخرى للتشكيك في أهداف بنبوة موسى عليه السلم،ث ّ
الدعوة،فبينما موسى جاء لطلق بني إسرائيل من قيد فرعون،راح فرعون
ن موسى ما جاء إل ّ ليخرجكم من أرضكم،يقول ينشر بين الّناس فريته أ ّ
تعالى مخبرا عن قوله’’:قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا
موسى‘‘.746و)هذا من فرعون تعلل وتحير،ودليل على أّنه علم كونه محقا
ن الساحر ل يقدر أن يخرج ملكا مثله من حتى خاف منه على ملكه،فإ ّ
أرضه(،747ولكّنه لجأ إلى الكذب)لحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه
الصلة والسلم بإبراز أن مراده عليه الصلة والسلم ليس مجرد إنجاء بني
إسرائيل من أيديهم،بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملكهم
بالكلية ،حتى ل يتوجه إلى اتباعه أحد،ويبالغوا في المدافعة
مى ما أظهره عليه الصلة والسلم من المعجزة الباهرة والمخاصمة.وس ّ
748
سحرا لتجسيرهم على المقابلة( .
ديا ً حرصه عليهم’’،فماذامب ْ ِ
م يلتفت إلى الجماهير ُ ث ّ
751 750 749
تأمرون ‘‘ ،أي)بأي شيء تأمرونني( ،متنازل من عليائه الكاذب في
طرح المشورة عليهم،فالديمقراطية أداة في يد ّ الطاغوت يستدعيها متى
يحتاج إليها!يحاول بذلك استدرار العواطف واستدراج الجماهير بفتات يسير
من الحرية الموهومة حتى إذا هدأت العاصفة عاد إلى طبعه.
ن
وتظهر براعته في الكذب والحتيال على الحقيقة حين ادعى أ ّ
خصومته لموسى ليست إل ّ دفاعا عن مصالحهم،فهي معركتهم التي يتبناها
ن موسى’’يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا من أجلهم!فإ ّ
تأمرون‘‘.752فأي عقلية شيطانية يتمتع بها الطاغوت!
إّنه ُيخفي ذعره من تأثر القوم بدعوة موسى فهو ُيغريهم به:يريد أن
يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها وتوطنتموها بسحره،وفي هذا
ن ما غاية التنفير عنه عليه السلم وابتغاء الغوائل له،753وكان فرعون يدرك أ ّ
قاله كذب،ولكّنه ل بد ّ منه،إذ ليس هناك طريق آخر غير الحتيال.
واّتهم فرعون-لعنه الله-موسى عليه السلم بأّنه مسحور،754يقول
تعالى’’:فقال له فرعون إني لظنك يا موسى مسحورا‘‘،755
)فكلمة الحق والتوحيد والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان واليذاء ل تصدر
في عرف الطاغية إل ّ من مسحور ل يدري ما يقول!فما يستطيع الطغاة من
]746طه.[57:
747تفسير البيضاوي).(4/56وانظر:تفسير النسفي).(3/58
748تفسير أبي السعود).(6/23وانظر:فتح القدير)(3/370وروح المعاني).(16/216
)749قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم
ها هنا(تفسير البيضاوي).(3/46
]750العراف.[110:
)751وهذا من كلم فرعون،وقيل قاله المل من قبله بطريق التبليغ إلى العامة.فقوله تعالى’’:قالوا
أرجه وأخاه‘‘على الول وهو الظهر حكاية لكلم المل الذين شاورهم فرعون،وعلى الثاني لكلم
العامة الذي خاطبهم المل(تفسير أبي السعود).(3/259قال الشوكاني رحمه الله):وكون هذا من
كلم فرعون هو الولى بدليل ما بعده وهو’’:قالوا أرجه وأخاه‘‘ .قاله المل جوابا لكلم فرعون
حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي(فتح القدير).(2/231
]752الشعراء.[35:
753انظر:تفسير ابن كثير)(3/334وتفسير أبي السعود)(6/241وروح المعاني).(19/76
754أي )ذاهب العقل مفسدا(لسان العرب،مادة:سحر).(4/349
]755السراء.[101:
129
أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني،ول أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها
وهو يملك قواه العقلية!(.756
لم يكتف فرعون بفرية السحر،بل سار على نهج الطغاة،يقول
تعالى’’:كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إل ّ قالوا ساحر
أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‘‘.757و)الستفهام للتقريع
والتوبيخ والتعجيب من حالهم،أي هل أوصي أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطئوا
عليه!بل هم قوم طاغون.إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من
الطغيان،أي لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان،وهو مجاوزة الحد في
الكفر(،758فكأّنهم تواصوا على التكذيب.
ما كان فرعون من طبيعته الطغيان شارك الولين والخرين ول ّ
ن رسولكم نهجهم،فأضاف إلى تهمة السحر تهمة الجنون،حيث قال’’:إ ّ
ن رسولكم هذا الذي يزعم أنه الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘.759أي)إ ّ
أرسل إليكم لمغلوب على عقله،لّنه يقول قول ل نعرفه ول نفهمه.وإّنما قال
جّنة لّنه كان عنده وعند قومه أّنه ل رب غيره ذلك ونسب موسى إلى ال ِ
760
ن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة( ،ولّنه-لعنه الله- ُيعبد،وأ ّ
ن ما قاله عليه الصلة والسلم مما ل )خاف من تأثر قومه منه،فأراهم أ ّ
ي
يصدر عن العقلء صدا لهم عن قبوله،فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء بحرف ّ
ن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘،761ليفتنهم بذلك التأكيد’’إ ّ
ماه رسول بطريق الستهزاء،وأضافه إلى ويصرفهم عن قبول الحق،وس ّ
762
مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسل إلى نفسه( .
لقد أفرط فرعون في التهمة وتوسع فيها،فجمع بين فرية التشكيك
ما ساحر أو مجنون أو مسحور-وبين فرية بنبوة موسى وبأهليته-فهو إ ّ
ت إلى موسى م ّ
التشكيك بما جاء به،فكأّنه أراد أن يشكك بكل ما ي ُ
ل ما جاء به موسى-بزعم فرعون-سحر مبين مفترى،يقول بصلة،فك ّ
ن هذا لسحر ما جاءهم الحق من عندنا قالوا إ ّ تعالى’’:فل ّ
مبين‘‘.763ويقول تعالى’’:فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما
هذا إل ّ سحر مفترى‘‘.764أي)فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه بتظاهر
ن هذا لسحر المعجزات الباهرة المزيلة للشك،قالوا من فرط تمردهم’’:إ ّ
765
مبين‘‘ظاهر أّنه سحر أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوته( )،فهي-إذن-
المماراة في الحق الواضح الذي ل يمكن دفعه.المماراة المكرورة حيثما
دعون أّنه سحر… وهم ل واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب.إّنهم ي ّ
يناقشون بحجة،ول ُيدلون ببرهان،إّنما يقولون بهذا القول الغامض الذي ل
يحق حقا ول يبطل باطل ول يدفع دعوى(.766
756في ظلل القرآن).(5/362
]757الذاريات.[53-52:
758فتح القدير).(5/92وانظر:تفسير الطبري)(27/10وتفسير القرطبي).(17/54
]759الشعراء.[27:
760تفسير الطبري).(19/70وانظر:معاني القرآن).(5/74
]761الشعراء.[27:
762تفسير أبي السعود).(6/239
]763يونس.[76:
]764القصص.[36:
765تفسير البيضاوي).(3/210وانظر:تفسير الطبري)(11/145وتفسير القرطبي)(8/366وتفسير
ابن كثير)(2/427وتفسير النسفي).(2/137
766في ظلل القرآن).(349-6/348
130
وكان الكذب وسيلته في رده على السحرة حين آمنوا،حيث وقع إيمانهم
عليه وقع الصاعقة،فلجأ إلى وسيلته الخسيسة محاول رد المعجزة
الباهرة،باتهامهم بالّتواطيء مع موسى عليه السلم،واعتبر إيمانهم مؤامرة
ن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا حيكت في الخفاء،فقال’’:إ ّ
منها أهلها‘‘.767فليس إيمانهم-بزعم فرعون-سوى مواطأة جرت بينهم
وبين موسى ليستولوا على مصر،وكان هذا-بزعمه-في المدينة قبل أن
يبرزوا إلى هذه المباراة ،768حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته
واليمان به).وهذا الذي قاله من البهتان ،يعلم كل فرد عاقل ما فيه من
الكفر والكذب والهذيان ،بل ل ُيروج مثله على الصبيان،فإن الّناس كلهم-
769
ن موسى لم يَر هؤلء يوما من الدهر( . من أهل دولته وغيرهم -يعلمون أ ّ
ّ
م أفرط في فريته فقلب المنطق كله رأسا على عقب،فبدل من أن ث ّ
770
يقول إّنه لتلميذكم قال’’:إّنه لكبيركم الذي علمكم السحر‘‘ ،أي
رئيسكم في التعليم،وإّنما غلبكم لّنه أحذق به منكم،أو لّنه علمكم شيئا دون
شيء ولذلك غلبكم،وإّنما أراد فرعون بقوله هذا التلبيس والكذب على
الّناس كي ل يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق،حتى ل يتبعوهم
فيؤمنوا كإيمانهم،وإل ّ فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى،بل قد
علموا السحر قبل قدوم موسى وولدته.771
ن موسى عليه السلم بمجرد ماجاء وهذا قول ظاهر أّنه بهت وكذب؛)فإ ّ
من مدين دعا فرعون إلى الله،وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة
على صدق ماجاء به،فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن مملكته فجمع
سحرة متفرقين ممن اختار هو والمل من قومه،وأحضرهم عنده ووعدهم
بالعطاء الجزيل،وكانوا أحرص الناس على الظهور،والتقدم عند
فرعون.وموسى عليه السلم ل يعرف أحدا منهم ول رآه ول اجتمع
به،وفرعون يعلم ذلك،وإّنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته
وجهلتهم(.772
الكذب تزوير للحقيقة كي ل تتضح معالم المعركة بين الحق
واالطاغوت في أذهان الجماهير
ن الكذب تزوير للحقيقة،وهو ما يريده فرعون وكل طواغيت إ ّ
الرض،كي ل تتضح معالم المعركة في أذهان الجماهير،فتبقى جاهلة لسباب
الخصومة بين الحق والباطل،فتتمّيع المفاهيم في عقولها،وتتشوش
ن فهم رسالة الحق أساس في الرؤيا،فل تصبح قادرة على فعل شيء.ل ّ
مناصرتها واتباعها،كما أن فهم الباطل أساس في محاربته ومخاصمته،ولهذا
درجت الحكومات الجائرة على الكذب تزويرا للحقيقة.
]767العراف.[123:
768انظر:تفسير ابن كثير)(2/239وتفسير البيضاوي)(3/48وتذكرة الريب في تفسير الغريب)
(1/185والجصاص:أبو بكر ،أحمد بن علي الرازي370-305)،هـ(،أحكام القرآن،
5أجزاء،تحقيق :محمد الصادق قمحاوي،دار إحياء التراث العربي،بيروت1405،هـ).
،(2/170وسأشير إليه لحقا هكذا)أحكام القرآن للجصاص(.
769البداية والّنهاية).(1/256
]770طه.[71:
771انظر:تفسير الطبري)(16/188وتفسير أبي السعود)(6/243وتفسير الجللين)(1/483وتفسير
النسفي).(3/61
772تفسير ابن كثير)(2/239مع بعض التصرف.
131
فالكذب وسيلة الطواغيت في إظهار أنفسهم بمظهر ل يعكس
حقيقتهم؛وهو وسيلتهم في الرد ّ على الحق وأهله؛أي أّنهم يكذبون
مّرتين:مّرة في تقديم أنفسهم،ومّرة في ردهم على من خالفهم،ولذلك
ن الله ل يهدي ظهرت عليهم علمات الضلل وعدم الهدى،يقول تعالى’’:إ ّ
ن الله ل يوفق للحق من هو متعد إلى من هو مسرف كذاب‘‘،773أي)إ ّ
فعل ما ليس له فعله كذاب عليه يكذب ويقول عليه الباطل وغير
774
موفقة. الحق( ،ولهذا كانت الحكومات الحالية ضالة متعثرة غير ُ
دين
مس حقائق ال ّ ن الكذب الذي يمارسه الطواغيت كذب خطير لّنه ي ُ إ ّ
والمعاني الحقيقة للحياة،فل يكتفون بالكذب على الّناس في تصريف
شؤونهم وحسب بل يتعدى كذبهم ذلك،ويظهر هذا جلي ّا ً في قضية
التشريع،يقول تعالى’’:ول تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا
حلل وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على
الله الكذب ل يفلحون‘‘)،775ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له
فيها مستند شرعي،أو حلل شيئا مما حرم الله،أو حّرم شيئا مما أباح الله
بمجرد رأيه وتشهيه(،776ولهذا كان كذبهم علمة على عدم فلحهم وعلى
عدم إيمانهم،يقول تعالى’’:إنما يفتري الكذب الذين ل يؤمنون بآيات
ن كذبهم علمة نفاق الله،وأولئك هم الكاذبون‘‘.777وأقل ما ُيقال فيهم أ ّ
دث كذب‘‘،778وهؤلء يكذبون حتى في ن آية المنافق’’إذا ح ّ
فيهم؛ذلك أ ّ
ابتساماتهم وحركاتهم وسكناتهم!ومن هنا كانت حكومات الّنفاق التي
نشاهد.
ن سبيل الكذب هو سبيل الشيطان،يقول تعالى’’:ول تتبعوا إ ّ
خطوات الشيطان إّنه لكم عدو مبين،إنما يأمركم بالسوء
والفحشاء وأن تقولوا على الله ما ل تعلمون‘‘.779فقولهم على الله
ما ل يعلمون حقيقته’’:طاعة منهم للشيطان واتباعا منهم خطواته‘‘.780
والكذب جريمة نكراء وظلم للحقيقة،وهو مسلك الفاجرين إلى
ن
ن الكذب يهدى إلى الفجور وإ ّ الّنار،ففي الحديث’’إياكم والكذب،فإ ّ
الفجور يهدى إلى الّنار‘‘،781والطاغوت أيا ً كان يتقن الكذب والتمويه
والمداهنة والمراوغة ويعتبرها فّنا من فنون السياسة.وإذا ظهر من يكشف
كذب الطاغوت أرعدت الحكومة والبطانة،واتهموه بالزندقة والفتنة والفجور
والتطاول على الكابر.تنقبض قلوبهم الثمة لسماع الحق؛فكلمة الحق ثقيلة
على أسماع الطواغيت.
ما يزيد المور تعقيدا أن يقوم بعض المأجورين بترويج الكذب نم ّوإ ّ
الذي يعيش في كنفه الطواغيت،وهم يعلمون أّنه كذب.كما كان يفعل المل
]773غافر.[38:
774تفسير الطبري).(24/58
]775النحل.[117-116:
776تفسير ابن كثير).(2/591
]777النحل.[105:
778صحيح البخاري،كتاب اليمان،باب علمة المنافق)(1/21رقم).(33
]779البقرة.[169-168:
780تفسير الطبري).(2/77
781صحيح مسلم،كتاب البر والصلة والداب،باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله )(4/2013رقم)
.(2606
132
ما يستدعي المزيد من
من قوم فرعون وقومه من الذين شايعوه وناصروه.م ّ
الجهد والمثابرة في كشف الحقيقة.
ونختم هذا المبحث بتحذير الّفاكين من نقمة الله وبطشه في يوم
ن الذين يفترون على ُيجمع فيه الولون والخرون،يقول تعالى’’:وما ظ ّ
782
ن الطغاة يا ُترى؟وماذا يتصورون
الله الكذب يوم القيامة‘‘ .فما ظ ّ
شأنهم يوم القيامة؟أيحسبون أن يفلتوا من عقاب الله!
المبحث الرابع
السيطرة القتصادية
وهي من أهم الوسائل التي ثّبت بها فرعون حكمه ونظامه،فالقتصاد
عصب الحياة على مدار تاريخ المم والشعوب،وهو سّر تكالب الّناس قديما
على أماكن الكل والماء،وهو سبب تكالب الّناس حديثا على مصادر الثروة
كالّنفط والمعادن وغيره،لما في تلك المصادر والثروات من حيوية في حياة
ن من بيده المال والثروة الّناس وعيشهم،حتى صح القول:من يملك يحكم،ل ّ
كم في حياة الّناس،وبالّتالي حكمهم والسيطرة عليهم. يستطيع الّتح ّ
ولم تغب هذه الوسيلة القديمة الجديدة عن وسائل فرعون التي بها
صله،فالمالك للمال بنوعيه المنقول وغير وعليها بنى نظامه وأسسه وأ ّ
المنقول هو فرعون،فهو يملك النهار والشجار والرض والحجار…كما يملك
الذهب والفضة والخيل والبقر والبشر…فهو-بزعمه-الله والرب،وعليه فهو
دعي غير ذلك أو يشك مى في عالم المال مال،ومن ي ّ المالك لكل شيء يس ّ
فيه فقد نازع الرب المزعوم الموهوم صلحّيات الربوبية!فله الملك وحده
ل نعمة،وإليه ُيرد ّ كل فضل!والّناس يعيشون في ظل يك ّ بزعمه،فهو ول ّ
صاحب الجللة على الفتات الذي ُينعم به عليهم.
بعض الشواهد على سيطرة فرعون القتصادية
ن فرعون ذو ملكية كبيرة ضخمة،وذلك هو معنى قول بّين القرآن أ ّ
فرعون لقومه’’أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي
أفل تبصرون‘‘،783فهو ُيسائلهم:أليس لي ملك مصر)ل ينازعني فيه
أحد()،784وهذه النهار أنهار النيل تجري من تحتي من تحت قصوري،أو تجري
بين يدي في جناني وبساتيني().785أفل تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من
النعيم والخير(!786فتسمع الجماهير الّنداء وتسكت رهبة أو رغبة.وكفى بهذا
الّنداء دليل على ما يتمتع به فرعون من ملكية تشمل أرض مصر وأنهارها.
ومن الشواهد على قدرة فرعون القتصادية ما أمر به)وزيره هامان
ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين،يعني يتخذ له أجرا لبناء
]782يونس.[60:
]783الزخرف.[51:
784تفسير القرطبي).(16/98
785تفسير البغوي).(4/142
786تفسير الطبري).(25/81
133
الصرح،وهو القصر المنيف الرفيع العالي(،787وذلك معنى قوله تعالى حكاية
طين فاجعل لي صرحا لقول فرعون’’:فأوقد لي يا هامان على ال ّ
لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘.788وقوله سبحانه’’:قال فرعون يا
هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب‘‘.789ولو كان وضع فرعون
القتصادي ضعيف لما استطاع أن يبني،أو أن يأمر ببناء مثل هذا الصرح،حتى
ن)أول من أمر بصنعة الجر وبنى به فرعون(،790وليس هذا مستغربا قيل:إ ّ
عند مشاهدتنا للهرامات القائمة حتى اليوم.
ن قوة فرعون القتصادية عكست نفسها في كلم مؤمن آل إ ّ
فرعون،وهو يحذر قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم،وذلك
في قوله لهم’’:يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الرض فمن
ينصرنا من بأس الله إن جاءنا‘‘.791أي)قد أنعم الله عليكم بهذا
الملك،والظهور في الرض بالكلمة النافذة والجاه العريض،فراعوا هذه
النعمة بشكر الله تعالى،وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا
ن مؤمن آل فرعون أخبر نقمة الله إن كذبتم رسوله(.792والشاهد في الية أ ّ
من خلل خطابه لقومه أّنهم في نعمة عظيمة وجاه عريض،وفي هذا دليل
آخر على مدى الملك الذي حازه فرعون وقومه.
ي التي كانت في ومن الدلة على قوة فرعون القتصادية،تلك الحل ّ
ملكية القبط،حيث أخذ بنو إسرائيل جزءا منها عند خروجهم من مصر،والتي
ما كان يملكه القبط من أموال.وذلك ما ُيرشد إليه قوله كانت تمثل بعضا م ّ
تعالى’’:واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجل جسدا له
793
ملنا أوزارا من زينة القوم خوار‘‘ .وقوله تعالى’’:ولكّنا ح ّ
فقذفناها فكذلك ألقى السامري،فأخرج لهم عجل جسدا له
خوار‘‘.794أي ولكّنا حملنا أحمال من حلى القبط التي أستعرناها منهم حين
م لم يردوها عند هممنا بالخروج من مصر،وقيل استعاروا لعيد كان لهم ث ّ
الخروج مخافة أن يعلموا بهم،وقيل :هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد
إغراقهم فأخذوه.وأي ّا ً ما كانت طريقة أخذها فالشاهد وجودها عند
موها أوزارا لنها القبط،وهم أتباع وأعوان فرعون.ولعل بني إسرائيل س ّ
ن الغنائم لم تكن تحل بعد،أو لّنهم كانوا مستأمنين،وليس للمستأمن آثام،فإ ّ
أن يأخذ مال الحربي،فقذفوها في النار فكذلك ألقى السامري،فأخرج لهم
ي المذابة.795
عجل جسدا من تلك الحل ّ
تدفق الخيرات بين يدي فرعون ابتلء من الله،ودليل على قوته
القتصادية
لم يكن عطاء الله لفرعون علمة رضى وقرب،بل هوابتلء وامتحان من
كروا به فتحنا عليهم أبواب كل ما نسوا ما ذ ّ
الله،يقول تعالى’’:فل ّ
787تفسير ابن كثير).(3/391
]788القصص.[38:
] 789غافر.[36:
790تفسير الطبري).(20/77
]791غافر.[29:
792تفسير ابن كثير).(4/79
]793العراف.[148:
]794طه.[88-87:
795انظر:تفسير البيضاوي)(4/66وتفسير القرطبي)(11/235وتفسير أبي السعود)(3/273وتفسير
النسفي).(2/37
134
شيء،حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم
مبلسون‘‘،796أي)حتى إذا فرحوا وُأعجبوا بما أوتوا من الّنعم،ول يزيدوا غير
من ْعِم ِ والقيام بحقه سبحانه وتعالى أخذناهم
البطر والشتغال بالّنعم عن ال ُ
ُ 797
بغتة فإذا هم مبلسون متحسرون آيسون( ،ولهذا فتحت الخيرات على
فرعون وغمرته،ولكن إلى أجل،حتى إذا فرح بما لديه أخذه الله وهو في
سهوته وسكرته.فالملك والرخاء والثراء-كما بّين القرآن الكريم-لم يكن إل ّ
فتنة لهم واختبارا،يقول تعالى’’:ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون
وجاءهم رسول كريم‘‘،798أي)أوقعناهم في الفتنة بالمهال وتوسيع
الرزق عليهم(،799وابتلهم بالنعمة والسلطان،والتمكين في الرض.
م حان الجل وتركوا تلك المنازل العالية الحسنة والبساتين وعيون ث ّ
الماء والنهار والموال والرزاق وكنوز الذهب والفضة والملك والجاه الوافر
والمجالس البهية في الدنيا،800يقول تعالى’’:فأخرجناهم من جّنات
وعيون،وكنوز ومقام كريم‘‘.801وكفى بهذا دليل على ما كان القوم
بزعامة فرعون يملكون.يقول تعالى’’:كم تركوا من جّنات
وعيون،وزروع ومقام كريم،ونعمة كانوا فيها
فاكهين.803‘‘802أي)عيشة كانوا يتفكهون فيها ،فيأكلون ما شاءوا ويلبسون
سلبوا ذلك جميعه في ما أحبوا مع الموال والجاهات والحكم في البلد،ف ُ
804
صبيحة واحدة،وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير( .
مرنا ما كان يصنع فرعون ومن الشواهد أيضا قوله تعالى’’:ود ّ
وقومه وما كانوا يعرشون‘‘.805أي وخربنا ما كان فرعون وقومه
يصنعونه من العمارات والمزارع،وما كانوا يعرشون من البنية والقصور
كصرح هامان وغيرها،وقيل:هو تعريش الشجار والثمار والعناب،806وفي
ذلك شواهد وأدلة على قوة الوضع القتصادي الذي يتمتع به نظام
فرعون،فعندهم عمارات ومزارع وأبنية وقصور،بل وربما تشير الية بوجه
من وجوه التفسير-وأعني التعريش -إلى تقدمهم في المجال الزراعي،الذي
هو جزء من القوة القتصادية.
المال بين يدي الطاغوت وسيلة من وسائل التثبيت لمنهجه
ونظامه
ما سبق ندرك قوة فرعون من الّناحية القتصادية،هذه القوة التي م ّ
كانت وسيلة من وسائله في تثبيت نظامه وإظهار شخصيته،فتعددت وجوه
]796النعام.[44:
797تفسير البيضاوي).(2/409
]798الدخان.[17:
799تفسير أبي السعود).(8/61
800انظر:تفسير الطبري)(19/78وتفسير البيضاوي)(4/240وتفسير ابن كثير)(3/337وفتح
القدير).(4/101
]801الشعراء.[58-57 :
)802ونعمة كانوا فيها فكهين أي أشرين)بطرين(،وفاكهين أي ناعمين(مختار الصحاح،مادة:فكه)
.(213
]803الدخان.[27-25:
804تفسير ابن كثير)(4/142مع بعض التصرف.وانظر:تفسير الطبري)(16/116والدر المنثور)
.(7/411
]805العراف.[137:
806انظر:تفسير الطبري)(9/44وتفسير الواحدي)(1/411وتفسير القرطبي)(7/272وتفسير ابن
كثير)(2/243وتفسير البغوي)(2/194وتذكرة الريب في تفسير الغريب)(1/187وتفسير
الجللين).(1/212
135
استعماله للمال،ولكّنها في نهاية المطاف تصب في إبقاء الّنظام،وتشد
م بعد عرش الظلم المتربع فوقه فرعون،فل ُينفق إل ّ للصد عن سبيل الله،ث ّ
هذا تعود عليه بالحسرة والخسران.
ن
لقد كان المال بيد فرعون وسيلة لضلل الناس عن سبيل الله،ل ّ
إضلل الّناس شرط لبقائه في حكمه)،إما بالغراء الذي يحدثه مظهر النعمة
ما بالقوة التي يمنحها المال لصحابه فيجعلهم قادرين في نفوس الخرين،وإ ّ
على إذلل الخرين أو إغوائهم.ووجود النعمة في أيد المفسدين ل شك
ن هذه النعمة يزعزع كثيرا من القلوب التي ل يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أ ّ
ابتلء واختبار،وأّنها كذلك ليست شيئا ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا
والخرة،807(.وهذا ما نفهمه من قول موسى عليه السلم’’:ربنا إنك آتيت
فرعون ومله زينة وأموال في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا808عن
سبيلك‘‘).809وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة
الناس.ويطلب لوقف هذا الضلل،ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل
البغي والغراء،أن يطمس الله على هذه الموال بتدميرها والذهاب
بها،بحيث ل ينتفع بها أصحابها(.810
والطاغوت وعبر وسائل مختلفة،وبين حين وآخر،يستعرض أمام
الجماهير في حركة مقصودة ما يملكه من ثروة ومال ،ليلفت انتباههم
من بهرهم فيغريهم ويتمنون أن لو كان لهم مثله،فيبدأ بعض الضعفاء م ّ
زخرف الدنيا واستهوتهم العروض القريبة يتقربون منه لنيل رضاه
ن تلك الموال در في أذهانهم أ ّ
ما يملك،ولم ي ُ مبهوتين،لُينعم عليهم بعضا م ّ
إّنما جمعها من عرقهم وكدهم وتعبهم،فلول حرمانهم لما جمع الطاغوت ما
جمع!
وبالمال يشتري الطاغوت الذمم وبه ُيغري ضعاف الّنفوس،إذ لول
المال الذي يسيطر عليه فرعون لما تكلف السحرة مشاقّ السفر إلى
ل الحرص على الفوز والنتصار،ولما كانوا القصور الفرعونية،ولما حرصوا ك ّ
ت طيعة بيد فرعون.لقد فهم فرعون تلك الّنفوس،وأدرك أهداف أدوا ٍ
السحرة وغاياتهم،ولهذا أجابهم إلى مطلبهم،وزادهم عليه تحفيزا لهم في
ساعة اشتدت الحاجة إليهم،فجعل -لعنه الله-يعدهم ويمّنيهم،وما يعدهم
ن لنافرعون إل ّ غرورا.يقول تعالى’’:وجاء السحرة فرعون قالوا إ ّ
لجرا إن كّنا نحن الغالبين،قال نعم وإّنكم لمن
المقربين‘‘.811فالمصلحة بينهم متبادلة،والمال هو القاسم المشترك بين
من يملكه وبين من يرغب في الحصول عليه.وتلك هي المعادلة التي تجعلنا
807في ظلل القرآن).(4/470
)808لم يؤتوا المال ليضلوا،ولكن لما كان عاقبة أمرهم الضلل كانوا كأنهم أوتوها لذلك،فهي لم
العاقبة..هذا كله على مذهب الكوفيين،وأما البصريون فالنصب عندهم بإضمار إن وهما جارتان
للمصدر واللم الجارة هي لم الضافة،واعلم إن الناصبة للمضارع تجيء لسباب:منها القصد
والرادة إما في الثبات نحو ولتنذر أم القرى،أو النفي نحو وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إل
لنعلم،فهو على تقدير حذف المضاف أي لنعلم ملئكتنا وأولياءنا،ويجوز أن يكون تعالى خاطب
الخلق بما يشاكل طريقتهم في معرفة البواطن والظواهر على قدر فهم المخاطب.وقد تقع
موقع أن وإن كانت غير معلولة لها في المعنى وذلك إن كان الكلم متضمنا لمعنى القصد
والرادة نحو:وأمرنا لنسلم لرب العالمين،إنما يريد الله ليعذبهم بها،ومنها العاقبة على ما
سبق(البرهان في علوم القرآن).(349-4/348
]809يونس.[88:
810في ظلل القرآن).(4/470
]811العراف.[114-113:
136
نفهم لماذا تحتشد الجموع من الخطباء والشعراء والدباء وحتى بعض علماء
الدين على أبواب السلطان يعرضون قدراتهم ومهاراتهم مقابل الدرهم
والدينار…
والمال بين يدي الطاغوت وسيلة للتفرقة بين الّناس،فالمستفيد من
الحكومة يواليها،ويدافع عنها لّنها تمثل مصالحه،مهما كانت هذه الحكومة
طاغية وظالمة،فإن لم يكن من المدافعين فلن يكون من المتمردين عليها
ن هذه الفئة تدرك أن رفاهّيتها لم تكن إل ّ على أو المطالبين بتغييرها،مع أ ّ
حساب المحرومين من حقوقهم،وكفى بهذا تأجيجا للبغضاء والعداوة بين
الّناس.وقد أتقن فرعون هذه السياسة حيث)أغرى بينهم العداوة كي ل
يتفقوا عليه،يكرم طائفة ويهين أخرى،فأكرم القبطي وأهان
ن فرعون عل في الرض وجعل أهلها السرائيلي(.812يقول تعالى’’:إ ّ
شيعا‘‘.813فتحول المال بين يدي الطاغوت من نعمة إلى لعنة!
وبهذا أصبح المال وسيلة في تثبيت الّنظام الفرعوني،حيث دافعت
الفئات المستفيدة عن الّنظام كالمل من قوم فرعون وآل فرعون ومن
قبلهم هامان وزيره ومدير أعماله والمشرف على تنفيذ
خططه،فالمستفيدون من الّنظام هم المدافعون عنه،وهم أيضا الرافضون
دين الجديد الذي يجردهم من امتيازاتهم كما بّينا سالفا لل ّ
ازدياد تأثير المال في ظل طغيان المفهوم المادي للحياة في
عهد فرعون
وازدادت سيطرة فرعون القتصادية على الّناس والجماهير مع ازدياد
تعلقهم بمتاع الدنيا وازدياد حبهم لها،فكلما كان الّناس أشدا حبا للمال
وتعلقا به كان إغراؤهم به أيسر،وفي هذا بعض التفسير لفاعلية هذه
الوسيلة في نظام فرعون،حيث سادت في زمن فرعون العقلية المادّية مع
غياب عقيدة اليوم الخر،وبسبب العقائد التي كانت سائدة في ذلك الزمان
سحرة والمفاهيم المغلوطة عن الحياة،ويكفي للدللة على هذا موقف ال ّ
الذين يمثلون الّنخبة من طبقة الكهنة وهم يقفون بين يدي فرعون ل
ما جاء السحرة قالوا يطلبون غير الدرهم والدينار.يقول تعالى’’فل ّ
ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين،قال نعم وإّنكم إذا لفرعون أئ ّ
814
دين في هذا لمن المقربين‘‘ .فإذا كان هذا حال الطبقة التي تمثل ال ّ
المستوى من التفكير والنحطاط،فكيف الحال بباقي الطبقات؟!
ل على طغيان المفهوم المادي على الّناس والمجتمع نصيحة ما يد ّ
وم ّ
وموعظة مؤمن آل فرعون لقومه حين قال لهم’’:يا قوم إّنما هذه
ن الخرة هي دار القرار‘‘.815أي)ما هذه الحياة دنيا متاع وإ ّ الحياة ال ّ
الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إل متاع تستمتعون بها إلى أجل
أنتم بالغوه ثم تموتون وتزول عنكم،وإن الخرة هي دار القرار التي
تستقرون فيها فل تموتون ول تزول عنكم،فلها فاعملوا وإياها
دنيا التي تعّلقوا بها وامتلت قلوبهم فاطلبوا(.816فهو يذكرهم بحقيقة هذه ال ّ
137
ن الخرة هي دار القرار.قال لهم ذلك بحبها،فهي متاع زائل ل قيمة له،وأ ّ
دنيا الزائل،فلول هذه العلة التي يعاني منها القوم لما لّنهم تعلقوا بمتاع ال ّ
كان خطابه لهم بهذه الصيغة.
فاجتمع لفرعون أمران:قوم يحبون المال،وثروة بين يديه،حيث كان
فرعون صاحب ثروة ومال،فاستغل قوته المالية والقتصادية في تدعيم
شخصيته وتمرير مخططاته.
ارتباط السيطرة القتصادية مع السيطرة العسكرية
ما ساعد فرعون في ازدياد سيطرته القتصادية ازدياد سيطرته وم ّ
العسكرية المتمثلة بالجيش)الجنود(والمخابرات والشرطة التي كانت
ما يشكل في مجمله القوة تشرف على السجون،وغير ذلك م ّ
العسكرية.فالقوة تلزم فرعون في حماية الممتلكات الواقعة في قبضته
قى من أملك وثروات لدى الجماهير إن وفي عمليات السلب والّنهب لما تب ّ
بقي منها شيء.
وة القتصادية والقوة ي بين الق ّومن هنا نفهم الترابط الجدل ّ
العسكرية،فالزيادة هنا تعني الزيادة هناك،والعكس صحيح تماما،وهي
ل مرة يحكم بها الطاغوت وُيقصى فيها الحكم بما المعادلة الموجودة في ك ّ
أنزل الله،فالحكم حينئذ لحق القوة ل لقوة الحق.
وهكذا يعيد التاريخ نفسه،ونشاهد الساطيل والقطع الحربية وهي
طاقة كونها عصب تزحف بشتى المعاذير للسيطرة على منابع الّنفط وال ّ
الحياة المعاصرة،في زمن سيطرت فيه الرأسمالية على مناحي الحياة،وما
صاحب تلك السيطرة من تحطيم للمعاني النسانية؛فانتشرت المذاهب
ن السيطرة القتصادية للدول الغنية والقوية النفعية والوصولية؛ذلك أ ّ
عسكريا،أو الدول الصناعية والشركات الكبرى توسعت حتى أصبحت تشمل
كل العالم ضمن مفهوم العولمة الحديث،واستطاعت تلك الدول أن تفرض
بقوتها العسكرية شكل المعاملت المالية الدولية؛فالطاغوت القتصادي
المعاصر هو الذي يتحكم في السوق ورأسمال ومصادر الثروة والتجارة
العالمية.
وفي المقابل نشاهد شعوبا ودول قد غرقت بالديون التي تقدر
بالمليارات نتيجة لهذه الهيمنة القتصادية القائمة على الّنظام الربوي؛
فانقسم العالم إلى فئة قليلة من الغنياء وأغلبية من الفقراء،ودول غنية
ما أسس لنمو الّنظام ترفل بالّنعيم وأخرى تأكلها الزمات القتصادية،م ّ
الطبقي وما يتبع ذلك من أمراض اجتماعية ونفسية خطيرة تهدد الوجود
النساني برمته.فالمور تزداد سوءا مع طغيان المفهوم المادي الّنفعي
العلماني للحياة،فالذي يحكم العلقات الدولية هي المصلحة النفعية
المادية،ولم يُعد للقيم والخلق أي أثر في المعادلت الدولية.
وهنا ل بد ّ من ملحظة أن ما تقوم به بعض الدول من جدولة للديون أو
شطب قسم منها أو التنفيس بين الفينة والخرى عن الفقراء في العالم
ليس شفقة أو رحمة بل هو خوف من حدوث انفجار عند الفقراء-دول كانوا
أو أفرادا-قد تكون له نتائج عكسية.
138
المبحث الخامس
السيطرة العسكرية
ن القوة العسكرية ركيزة مهمة اعتمدها فرعون في تثبيت منهجه إ ّ
وطريقة حكمه،حيث ل بد ّ لي نظام من قوة تحميه،وتعمل على تنفيذه في
حياة الّناس،وتشتد ّ الحاجة إلى القوة إذا كان هذا الّنظام جائرا وظالما،لّنه
عند ذلك يزرع بظلمه وطغيانه بذرة التمرد والثورة،وبسبب إدراك فرعون
لهذه الحقيقة فإّنه كان يولي أهمية قصوى إلى القوة العسكرية التي بها
يستطيع قمع أيّ تمرد أو الثورة؛فهو على حذر شديد،حيث يقول تعالى
حكاية لقول فرعون’’:وإّنا لجميع حاذرون‘‘.817أي متيقظون منتبهون
متأهبون مستعدون بالسلح خائفون شرهم،فنحن قوم من عادتنا التيقظ
والحذر والحتياط،818وهكذا هو الطاغوت في حذر دائم وانتباه،فحشد القوة
والتأهب بالسلح دليل على خوفه من أن تتمرد الجماهير المظلومة
والمقهورة عليه،فهو-لعنه الله-يعلم أّنه ظالم معتد أثيم.
وظهرت أهمية هذه القوة من خلل عمليات القتل والذبح والتعذيب في
السجون وغيرها التي كان ُيراد منها تركيع الجماهير وإخضاعهم لرادة
فرعون،إذ لول تلك القوة لما استطاع فرعون تسخير الغلبية من الجماهير
مقابل لقمة العيش والبقاء على قيد في العمال الشاقة والمتعبة في ُ
ن القوة هي الداة التي أرهبت الّناس وأجبرتهم على قبول الحياة،كما أ ّ
ربوبيته المزعومة وألوهيته الكاذبة.
ل الظلم ن الواقع المّر التي كانت تعيشه أغلبية الجماهير في ظ ّ إ ّ
والطغيان جعل فرعون يحتاج إلى أدوات قمع جّبارة،بها يسكت الجماهير
وبواسطتها له يخضعون،فكان له جيش جّرار ومخابرات مبثوثة هنا
مات.ولكي نقف على حقيقة قدراته ُ
وهناك،وشرطة أنيطت بها المه ّ
العسكرية ل بد ّ لنا من تتبع الّنصوص القرآنية التي من خللها نعرف أجهزة
فرعون العسكرية وتشكيلتها،وهي على النحو الّتالي:
الجيش وهم جنود فرعون الذين يحملون السلح،ويباشرون المعارك
ميه
دولة ضد ّ فئة كبيرة ذات ثقل عسكري،وهو ما ُنس ّ التي تخوضها ال ّ
بالجيش الّنظامي،وهم الذين مهنتهم حمل السلح،والمحافظة على وجود
الدولة ككل،ودليل ذلك قوله تعالى’’:فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا
وعدوا‘‘.819وقوله تعالى’’:فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من
]817الشعراء.[56:
818انظر:تفسير القرطبي)(13/102والدر المنثور)(6/297ومعاني القرآن)(5/80والثوري:أبو عبد
الله،سفيان بن سعيد بن مسروق)،ت 161هـ(،تفسير سفيان الثوري،جزء واحد،ط ،1دار
الكتب العلمية،بيروت1403،هـ،(1/229).وسأشير إليه لحقا هكذا)تفسير الثوري(وتفسير
الواحدي)(2/790والفائق)(3/235وروح المعاني).(19/82
]819يونس.[60:
139
م ما غشيهم‘‘.820وقوله تعالى’’:واستكبر هو وجنوده في الرض الي ّ
821
بغير الحق وظّنوا أّنهم إلينا ل يرجعون‘‘ .وقوله تعالى’’:فأخذناه
م وهو مليم‘‘.822حيث تحدثت اليات في وجنوده فنبذناهم في الي ّ
مجملها عن استعمال فرعون جيشه وجنوده في مهمة ملحقة بني إسرائيل
سلم،وذلك عندما خرجوا من مصر سرا في جنح بقيادة موسى عليه ال ّ
ّ
ظلم،حيث لم يكن خروجهم في الساس إل لكونهم ل يستطيعون مجابهة ال ّ
ل عليه قول فرعون عن ل على كثرة عدده.وهذا ما يد ّ ما يد ّ جيش فرعون،م ّ
ن هؤلء م بملحقتهم’’:إ ّ بني إسرائيل وهو يه ّ
لشرذمة823قليلون‘‘ .وإّنما استقلهم مقارنة مع جنوده ،وهذه دللة
825 824
واضحة على كثرة جنده،وعلى شدة الخطر الذي مّثلته دعوة موسى على
وجود الّنظام الفرعوني.
وكما امتاز جيش فرعون بكثرة عدده امتاز كذلك بقوة تنظيمه وسرعة
ل على النضباط الّتام في صفوفه،حيث يقول ما يد ّ
حركته،م ّ
تعالى’’:فأرسل فرعون في المدائن حاشرين‘‘ .فما هي إل ّ
826
ساعات قليلة بين علم فرعون بخروج بني إسرائيل وأمره بالستنفار العام
والتعبئة العامة وبين لحاقه بهم بهذا الحشد الهائل من الجنود.فها هم بنو
ظلم ليل،وها هو سلم يخرجون تحت جنح ال ّ إسرائيل بقيادة موسى عليه ال ّ
827
فرعون يتبعهم وقت شروق الشمس’’،فأتبعوهم مشرقين‘‘ .أي
لحقوهم وقت دخولهم في شروق الشمس وهو طلوعها،حيث أشرقت
ل على سرعة حركتهم. ما يد ّ 828
الرض بالضياء ،م ّ
ل شأنه في ن مهمتهم كانت مهمة بغي وعدوان،أغرقهم الله ج ّ وبما أ ّ
ل من كان ّ
البحر عقوبة لهم لكونهم وسيلة بيد الطاغية المتجبر فرعون،فك ّ
سببا أو وسيلة في نظام الظالمين فهو ظالم مثلهم.
ل عليهم،ولكن صًا،فإّنه ذكرهم بعبارة تد ّ وكما ذكر القرآن جنود فرعون ن ّ
لعطاء معنى آخر وفائدة أخرى،يقول تعالى’’:وفي موسى إذ أرسلناه
إلى فرعون بسلطان مبين،فتوّلى بركنه829وقال ساحر أو
م وهو مليم‘‘.830والمعنى مجنون،فأخذناه وجنوده فنبذناهم في الي ّ
ن الله سبحانه وتعالى أرسل موسى إلى فرعون بسلطان مبين أي بحجة أ ّ
]820طه.[78:
]821القصص.[39:
]822الذاريات.[40:
مى شرذمة،والجمع شراذم..وثياب الشرذمة القليل من الّناس..والقطعة من الشيء ُتس ّ
823
140
بينة كالعصا واليد،فأعرض فرعون عن اليمان بموسى وتوّلى بما كان يتقوى
به من جنوده،وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به،ومنه قوله
تعالى’’:أو آوي إلى ركن شديد‘‘،831يعني المنعة والعشيرة،وركن الشيء
جانبه القوى،وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعة،وهذا عبارة عن
المبالغة في العراض عن الشيء.832ويؤيد هذا الوجه في التفسير قوله
تعالى بعد ذلك’’:فأخذناه وجنوده‘‘،أي أخذناه وركنه الذي توّلى به،وهذا
الوجه في التفسير هو اختيار الطبري.833
ن فرعون رفض اليمان معتمدا على جنوده،فلول والشاهد في الية أ ّ
ل على ما يد ّ هذا الركن الذي توّلى به لما تطاول فرعون ك ّ
ل هذا التطاول،م ّ
ن جيش فرعون وسيلة من وسائله في رد ّ الحق ورفضه،وبالّتالي وسيلة أ ّ
لتثبيت الباطل على حساب الحق.
ومن الدلة التي تثبت دور الجيش في تثبيت الّنظام الفرعوني قوله
تعالى’’:وفرعون ذو الوتاد.835‘‘834وقوله تعالى’’:وفرعون ذي
الوتاد‘‘ .836أي ذو الجنود الكثيرة فسميت الجنود أوتادا لنهم يقوون أمره
كما يقوي الوتد البيت،وهذا ما نرجحه،لّنه ليمكن لدولة أن تقوم بل جيش
ن الجيش أهم وتد في قيامها ووجودها.837 تعتمد عليه،وكأ ّ
ن هذا الجيش الجّرار ل بد ّ له من مستلزمات بعد هذا يمكننا أن نستنتج أ ّ
تابعة له،حيث ل يقوم الجيش بدونها،كالسيوف والرماح والّنبال وغير ذلك
من وسائل قتالية،وما يتبع ذلك من تصنيع لتلك الوسائل،وهذا وإن لم يذكره
ما يؤكد قدرات فرعونذكر.م ّل عليه بما ُ القرآن الكريم إل ّ أّنه د ّ
العسكرية،ويتبع ذلك أيضا كثرة الخيل والجمال كوسائل نقل في ذلك
الزمان،وبناء المعسكرات الخاصة بالجند وما تستلزمه تلك المعسكرات من
تموين وخيام وغير ذلك.
وتشمل السيطرة العسكرية جهاز المخابرات أو الجواسيس
والعيون التي يبثها فرعون هنا وهناك،يلتقطون أخبار الّناس ويراقبون
حركتهم؛فالجماهير المقموعة تتجه إلى السرّية في حركتها،حيث لم يبق لها
أيّ مساحة فوق الرض تتحرك فيها بأمان واطمئنان،ولهذا تنشأ الحركات
السرّية،ولها ُتنشيء الحكومة أجهزة الرقابة والمتابعة والملحقة.
]831هود.[80:
832انظر:تفسير البيضاوي)(5/239وتفسير القرطبي)(17/49وتفسير أبي السعود)(8/142وفتح
القدير)(5/90وروح المعاني)(27/15وفتح الباري).(6/416
)833فتولى بركنه(أي)بقومه من جنده وأصحابه،وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن
اختلفت ألفاظ قائليه فيه(تفسير الطبري).(27/3وانظر:الدر المنثور)(7/621وتفسير الصنعاني)
(3/244وتذكرة الريب في تفسير الغريب).(1/179
)834ذو الوتاد:صفة فرعون ل لجميع ما قبله وإل لقيل ذوو الوتاد(روح المعاني).(23/170
]835ص.[12:
]836الفجر.[10:
837ورد في تفسير الية وجوه متعددة فقد قيل أّنها بمعنى البناء المحكم،أو كثير البنيان والبنيان
يسمى أوتادا،وقيل:أنه كانت له أوتاد وأرسان وملعب يلعب له عليها،وقيل:كان يعذب الناس
بالوتاد،وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الرض ويرسل عليه العقارب
والحيات حتى يموت،وقيل:كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية
مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت.انظر:تفسير القرطبي)(155-15/154ومعاني
القرآن)(6/85وتفسير أبي السعود)(7/217وتفسير الواحدي)(2/920وزاد المسير)
.(7/105،106
141
م موسى ل ما سبق،فها هي أ ّ ن من يتدبر النصوص يمكنه معرفة ك ّ إ ّ
عليه السلم تخاف على ابنها القتل،وبالتالي تحاول إخفاءه عن العيون التي
تراقب وتلحق،وقد ضاقت عليها الرض بما رحبت،وهنا تدركها رحمة الله
سبحانه وتعالى،يقول تعالى’’:وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا
م ول تخافي ول تحزني إّنا رادوه إليك خفت عليه فألقيه في الي ّ
838
وجاعلوه من المرسلين‘‘ .أي أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه،فإذا خفت
عليه من جواسيس فرعون بأن يبلغ خبره إليه أو أن يحس به فألقيه في
م في البحر يريد النيل،ول تخافي عليه ضيعة ول شدة،ول تحزني لفراقه؛ الي ّ
إّنا رادوه إليك عن قريب بحيث تأمنين عليه،وجاعلوه من
المرسلين.839والشاهد في الية أّنها خافت أن تحس به عيون فرعون
وجواسيسه.
وها هو موسى عليه السلم-بعد أن قتل القبطي المعتدي الظالم-خائف
يترقب’’،فأصبح في المدينة خائفا يترقب‘‘.840حتى إذا)جاء موسى
مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره وأشار عليه بالخروج(،841حينئذ
خرج وهو على حذر من إلقاء القبض عليه؛وذلك معنى قوله تعالى’’:فخرج
جه بالدعاء منها خائفا يترقب‘‘.842أي خائفا يترقب لحوق طالب،ولذلك تو ّ
إلى ربه قائل:رب نجني من القوم الظالمين،أي خلصني منهم واحفظني من
ن لفرعون أجهزة مراقبة وملحقة،تلك لحوقهم.843وفي هذا دليل على أ ّ
الجهزة التي جعلت مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه،إذ لول شعوره وإدراكه
بوجود تلك الجهزة لما كتم مشاعره وأفكاره،يقول تعالى’’:وقال رجل
مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجل أي يقول ربي
الله‘‘.844
ولول جهاز المخابرات لما استطاع فرعون أن يكشف بني إسرائيل عند
خروجهم سرا وفي الليل،ودليل ذلك قوله تعالى لموسى عليه
السلم’’:فأسر بعبادي ليل‘‘) .845والسري ل يكون إل ليل،فالّنص عليه
م لليحاء يعيد تصوير المشهد،مشهد السري بعباد الله –وهم بنو إسرائيل .ث ّ
ن سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء بجو الخفية،ل ّ
عملئه(،846ورغم هذا التكتم والسرية علم فرعون،وهذا يدل-أيضا-على قوة
الستخبارات الفرعونية التي هي جزء من القوة العسكرية.
ن اعتماد فرعون على المخابرات إفراز طبيعي للّنظام الحاكم،حيث ل إ ّ
يمكن للظلم أن يدوم لول هذا القهر والرهاب،فهي وسيلة الطغاة في تثبيت
حكمهم الذي يفرز تلك الشخصيات المعفرة بدماء الشعوب المستضعفة.
كما تشمل قوة فرعون العسكرية جهاز الشرطة والذي يقوم بمهام
ميه اليوم شرطة مصلحة السجون.ودليل ذلك قوله تعالى السجون،أو ما نس ّ
]838القصص.[7:
839انظر:تفسير البيضاوي)(4/283وفتح القدير)(4/159وروح المعاني).(20/45
]840القصص.[18:
841تفسير الطبري).(20/50
]842القصص.[21:
843انظر:تفسير البيضاوي)(4/288وتفسير أبي السعود)(7/8وفتح القدير)(4/165وتفسير
النسفي)(3/231وروح المعاني).(20/59
]844غافر.[28:
]845الدخان.[23:
846في ظلل القرآن).(7/367
142
حكاية لقول فرعون لموسى عليه السلم’’:قال لئن اتخذت إلها غيري
لجعلنك من المسجونين‘‘ ).847أي ممن عرفت حالهم في سجوني،فإّنه
كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من
لسجنك(،848فالسجن من سياسات فرعون المعهودة والمعروفة بين
الّناس،وبالتالي يلزم تلك السجون شرطة تقوم على تعذيب المساجين
وقمعهم وحراستهم حتى ل يفروا من جحيم الطاغوت!
جنود الطاغوت خاطئون
ن الطاغوت-كما أسلفنا-فرد ل يستطيع مهما أوتي من مهارات إ ّ
وقدرات فردّية من إخضاع الّناس وسحقهم،فهو إّنما يقوم بما يقوم به بمن
ن جنود الّنظام الثم مثله آثمون لّنهم يقومون شايعه وناصره،ول شك أ ّ
ن فرعون وهامان وجنودهما بتثبت الظلم والعدوان،يقول تعالى’’:إ ّ
كانوا خاطئين‘‘ .849أي كانوا خاطئين)في كل شيء،فليس ببدع منهم أن
م أخذوه ُيربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا قتلوا ألوفا لجل موسى،ث ّ
850
م
يحذرون،أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم( .ث ّ
هذه نهايتهم أن عاقبهم الله مع فرعون فأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ذلك لّنهم
ظالمون مثل فرعون،يقول تعالى’’:فأخذناه وجنوده فنبذناهم في
اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‘‘.851وهنا ل بد ّ أن ُنشير
ن أجهزة المن والمخابرات والجيش..وكل ما من شأنه إطالة أمد بصراحة أ ّ
ن هؤلء هم أدوات القمع الظلم هم من جملة الظالمين.والواقع يقول:إ ّ
ق عند الطواغيت. ح ِس ْوال َ
وسائل فرعون تنتج نظاما يمتاز بالقوة المادية والخواء الروحي
ن الوسائل التي اعتمدها فرعون أدت إلى نظام يمتاز بالقوة إ ّ
والمتانة،تلك النتائج التي بّينها القرآن في قوله تعالى’’:وفرعون ذو
مث َّبت 852
الوتاد‘‘ .أي ذو الملك الثابت بالوتاد،وهو مأخوذ من ثبات البيت ال ُ
بالوتاد.أو ذو البناء المحكم،أو كثير البنيان والبنيان يسمى أوتادا ،وقيل:ذو
الوتاد أي ذو الجنود الكثيرة،فسميت الجنود أوتادا لّنهم يقوون أمره كما
يقوي الوتد البيت،853أو) فرعون صاحب الهرامات التي تقوم في الرض
كالوتاد(،854وهي ما زالت ماثلة إلى اليوم.
ن الختلف في هذه المعاني إختلف تنوع ل اختلف تضاد،فجميعها ولنا أ ّ
ن قوة الّنظام تنعكس على شخصية تدل على قوة وثبات حكمه.ول شك أ ّ
ن)ذو الوتاد:صفة فرعون ل لجميع ما قبله وإل لقيل ذوو فرعون نفسه؛ل ّ
الوتاد(.855
]847الشعراء.[29:
848تفسير البيضاوي).(4/236وانظر:تفسير أبي السعود)(6/240وتفسير النسفي)(3/183وروح
المعاني).(19/73
]849القصص.[8:
850تفسير البيضاوي).(4/283
]851القصص.[40-39:
]852الفجر.[10:
853انظر:تفسير القرطبي)(155-15/154وتفسير البيضاوي)(39-5/38ومعاني القرآن).(6/85
854في ظلل القرآن).(7/90
855روح المعاني).(23/170
143
مرنا ما كان يصنع ومن الدلة على قوة فرعون قوله تعالى’’:ود ّ
ن الله جّلت فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘.856والمعنى أ ّ
قدرته)أهلك ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع،وما
كانوا يعرشون أي وما كانوا يبنون من البنية والقصور،وأخرجهم من ذلك
كله،وخّرب جميع ذلك(.857وهذا يعني أّنهم كانوا في مستوى من التطور
ل على قوة فرعون بحيث يصنعون العمارات ويبنون القصور الفخمة،وهذا يد ّ
المادية.كما دل على ذلك أمر فرعون لهامان أن يبني له صرحا يبلغ
بواسطته أسباب السماوات.وقد ذكرنا فيما سبق دلئل قوته القتصادية
والعسكرية كذلك.
ن تأكيدنا لقوة نظام فرعون ليس مدحا له ،فالمور بمقاصدها و)إنما إ ّ
858
العمال بالنّيات( ،فكل فعل ُيقصد منه التفاخر والتباهي والتطاول على
الّناس،أو الركون إلى الدنيا والرضى بها والطمئنان إليها،هو فعل يمقته الله
سبحانه.فتلك حضارة قامت على غير هدى من الله؛فأنتجت الظلم والجور
م القرآن هذا النوع من الحضارة!وذلك هو معنى قوله تعالى والعدوان.ولقد ذ ّ
لعاد قوم هود’’:أتبنون بكل ريع آية تعبثون،وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون،وإذا بطشتم بطشتم جبارين‘‘859؛ذلك أّنهم كانوا في غاية من
قوة التركيب والقوة والبطش الشديد والطول المديد والرزاق الدارة
والموال والجنات والنهار والبناء والزروع والثمار،فغّرهم ما هم فيه على
عادة الطواغيت.فلم يكن بناؤهم ول تشييدهم للمصانع سوى عبثا،ل للحتياج
إليه بل لمجرد اللعب وإظهار القوة،فما ذلك إل ّ تضييع للزمان وإتعاب
للبدان بل فائدة،واشتغال بما ل يجدي في الدنيا ول في الخرة،860فتلك
حضارات جّرت معها اللم الجسام على البشرية.
والحكمة من هذا التمكين لفرعون هي اختبار فرعون،فليست الدنيا إل ّ
دار امتحان واختبار،ولقد امتحن الله سبحانه فرعون بالرخاء فسقط فرعون
ما نسوا ما ذكروا به في المتحان سقوطا ق ّ
ل مثيله،يقول تعالى’’:فل ّ
فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أؤتوا أخذناهم
بغتة فإذا هم مبلسون‘‘.861ويقول تعالى’’:والذين ك ّ
ذبوا بآياتنا
ن كيدي سنستدرجهم من حيث ل يعلمون وأملي لهم إ ّ
متين‘‘.862وفي الحديث’’إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا-على معاصيه-
ما يحب فإّنما هو استدراج‘‘.863
]856العراف.[137:
857تفسير الطبري)(9/44مع بعض التصرف.وانظر :تفسير ابن كثير)(2/243وتفسير أبي السعود)
(3/267وتذكرة الريب في تفسير الغريب)(1/187وروح المعاني).(9/40
858صحيح البخاري،كتاب بدء الوحي،باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم )(1/3رقم).(1
]859الشعراء.[130-128:
860انظر:تفسير الطبري)(19/93،95وتفسير ابن كثير).(3/342
]861النعام.[44:
]862العراف.[183-182:
863مسند أحمد)(4/145والروياني:أبو بكر،محمد بن هارون)،ت 307هـ(،مسند
الروياني،جزءان،تحقيق :أيمن علي أبو يماني،ط ،2مؤسسة قرطبة،القاهرة1416،هـ).
(1/195رقم)(261والطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب360 -260)،هـ(،المعجم
الوسط10،أجزاء،تحقيق :طارق بن عوض الله بن محمد،عبد المحسن بن إبراهيم الحسين،دار
الحرمين،القاهرة1415،هـ(9/110).رقم). (9272وسأشير إليه لحقا هكذا)المعجم
الوسط(،والطبراني في الكبير)(17/330رقم)(913والبيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي
بن عبد الله بن موسى458-384)،هـ(،شعب اليمان8،أجزاء،تحقيق :محمد السعيد بسيوني
144
وسائل الطاغوت بين المس واليوم
ن حقيقتها باقية وطبيعتها واحدة،فهي شكل الوسيلة قد يختلف ولك ّ
تدور بين الخداع والتمويه والكذب وبين القهر والتركيع،وبينهما الغراء
وشراء الذمم؛فالطاغوت مفلس في مجال الحجة والبرهان،وتلك هي علته
ن الطواغيت وإن تباعدت أزمانهم وأماكنهم يلتقون بحقيقة مزمنة،ولهذا فإ ّال ُ
وسائلهم كما يلتقون بغاياتهم.
ن الوسائل التي اعتمدها فرعون تعكس الجهد الكبير الذي بذله وأنفقه إ ّ
في تأليه نفسه،وهي ظاهرة واضحة متكررة،فالطاغوت المعاصر يحشد
الكثير من الطاقات لتثبيت نفسه،حيث ُينفق الموال الطائلة على بطانته
م ُتنفق الموال في لتبقى خط الدفاع عن الطاغوت أي عن مصالحها،ث ّ
ن الذين مسخرة لخدمة أغراضه وأهدافه،يقول تعالى’’:إ ّ أجهزة العلم ال ُ
كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله‘‘.كما ُتزهق الرواح
والعراض!لو أنفق بعضها في عمارة الرض،والنتاج المثمر،لترقية الحياة
البشرية وإغنائها،لعاد على البشرية بالخير الوفير.864
لقد تنوعت وتعددت وسائل القهر الحديثة كي تستطيع التعامل مع
مختلف الشخصيات والمجتمعات،فمن ل ُيسكته السجن لشدة صبره
ود مواجهة الشرطة ومصابرته قد ُتذله التهمة المزورة..والشعب الذي تع ّ
والتمرد على العصا ُتخضعه القلقل والنقسامت الداخلية والزمات
القتصادية،وتعدى ذلك إلى أبشع ما يتصوره العقل البشري من افتعال
المجاعات التي تحصد اللف من الرواح،وتكفي هذه المجاعات دليل على
قسوة الساليب المعاصرة في تركيع الشعوب والمم..وتلعب المخابرات
دورا بارزا في هذا المجال،فيثيرون الفتن الطائفية والقبلية والنعرات
الجاهلية..وكل ما يؤدي إلى خلخلة الّنظام الجتماعي وزعزعة أمن
المواطن،وهم إّنما يفعلون ذلك بطرق ملتوية عبر أناس مأجورين،وهكذا
تغير شكل الوسيلة فلم تعد واضحة المعالم أو ُأحادية التجاه،بل أصبحت
معقدة التركيب متعددة التجاهات،يقف وراءها علماء الّنفس وخبراء
الجتماع.
ن وجود يلجأ الطاغوت أحيانا إلى سياسة العصا والجزرة؛ذلك أ ّ
النقيضين يرفع من مستوى ضراوة المعركة مع الطاغوت،ويتطلب نفسا
ما الطاعة المستتبعة كبيرة في المواجهة،فالطاغوت يضعك بين خيارين:إ ّ
للمنصب والوظيفة والتسهيلت،أي ما يقع في دائرة الغراء لسقاط
ما التمرد المستتبع للسجن والتعذيب المجاهدين الرافضين للطاغوت..وإ ّ
ن فلنا قد تاب!وعاد إليه م بعد ذلك يرّوجون أ ّوالقمع..فأيّ الخيارين تريد؟ث ّ
رشده!وحينئذ تشتد المحنة على الحرار الرافضين استبدال الدين بعرض
145
من أعراض الدنيا،وتلك هي الحرب الّنفسية التي ُيراد منها كسر إرادتهم
وصمودهم.
وما الستعمار-بكافة صوره القديمة والحديثة،والمباشرة وغير المباشرة
والمتمثلة بإيجاد عملء من أبناء الشعوب المسحوقة يقومون بدور
المستعمر ويمّثلون مصالحه وأطماعه-إل ّ صورة من صور التسلط والقهر،بل
مستعار وصيغة ن الديقراطية العلمانية الحديثة هي وجه ُ وُيمكننا القول أ ّ
مبتدعة وبديل آخر للستعمار القديم بعد أن أفلس الوجه القديم
ن الديمقراطية للستعمار،وُفضح أمره ولم يُعد مقبول عند الجماهير؛ذلك أ ّ
الحديثة هي الستار التي ُيحارب من ورائه أهل الحق بدعوى أّنهم أعداء
ن شعوبا كاملة ُتهان وُتمتهن كرامته للديمقراطية والحرية،وأكثر من ذلك أ ّ
تحت ستار نشر الديمقراطية!
وقد ُيقدم الطاغوت-إن هو أحس بنتائج عكسية لهذا الضغط-إلى
من َْهج!وذلك كي ل يؤدي الضغط في مرحلة معينة إلى انفجار ل م َ
التنفيس ال ُ
م ما يلبثون أن يعودوا لسيرتهم ُيريده الطواغيت ول يدري ما هي عواقبه،ث ّ
الولى،وهكذا حتى يتم ترويض الجماهير،وتصل مرحلة ل تحس فيها أّنها
معذبة أو مقهورة،وتلك هي المرحلة التي يصبح الّناس فيها رقيقا وإن ركبوا
ست ََرقّ الجوهر ل
م ْ
مست ََرقّ هو ُفي الباصات وأكلوا في المطاعم..فال ُ
المظهر،وهذه هي العبودية الحديثة،أو الرق المعاصر!
146
الفصل الرابع
آثار شخصية فرعون
كد أن يكون لهذه الشخصية آثارا عميقة نظرا لما تمّيزت به ن من المؤ ّإ ّ
من قساوة وعنف واضطهاد؛فالمجتمع الذي تعرض لقسى درجات الذلل
ن المقدمات والستعباد ولمدة طويلة ظهرت عليه آثار تلك الشخصية؛ذلك أ ّ
الخبيثة والسيئة تنتج آثارا خبيثة وسيئة’’،والذي خبث ل يخرج إل ّ
نكدا‘‘،865وهكذا كان فرعون كثير الشر عديم الخير.
وليس هذا مرتبطا بشخصية فرعون فحسب،بل ستكون هذه الثار في
ل مرة يتعرض فيها المجتمع لمثل تلك الشخصية أو لمثل ذلك المنهج الذي ك ّ
أفرزها.من هنا تأتي أهمية هذا الفصل،فل يجوز أن ُنشغل أنفسنا كثيرا بما
أفسده الطاغوت فحسب،بل ننشغل بالقضاء على الطاغوت نفسه،ول يهمنا
في مرحلة المواجهة معه من المور إل ّ ما ي ُ َ
قّرُبنا لتلك الغاية وتتسع له
جهودنا.فلن يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم.فأّينما ُوجد
الطاغوت ُوجد الفساد والخلل،لذا يجب التفريق بين المرض وآثاره،فالولى
القضاء على سبب المرض ل النشعال كثيرا بمعالجة أعراضه إل ّ بمقدار ما
تنفعنا تلك المعالجات العرضية في تحقيق الهدف الساسي وهو اجتثاث
أسباب المرض والّتخلص بالكلّية من الطاغوت،على أن ل يكون هذا الصلح
ي ُيضفي صفة تجميلية للطاغوت،أو ُيضفي عليه الشرعية بحيث يظهر الفرع ّ
المصلح وكأّنه من أعوان الطاغوت ومناصريه ومؤيديه.
وللوقوف على آثار شخصية فرعون ل بد ّ من استعراض ليات القرآن
الكريم التي ذكرت تلك الثار مباشرة أو غير مباشره كي نصل من خلل
النظر فيها لتلك الثار.وعليه نستطيع أن نقسم تلك الثار إلى
مبحثين:الول:الثار المجتمعية لشخصية فرعون،والثاني:جلب العقوبات
الربانية.
المبحث الول
الثار المجتمعية لشخصية فرعون
لقد أنتجت شخصية فرعون أمراضا إجتماعية وسلبيات عميقة عديدة؛
ن المنهج الذي اعتمده فرعون-وهو المنهج الذي أفرز شخصية ذلك أ ّ
فرعون-كان له آثار سلبية خطيرة مرافقة له وملزمة،إذ ل تظهر هذه
]865العراف.[58:
147
الشخصية إل ّ في بيئة مرضية،وبالتالي فهي حريصة على تأكيد تلك المراض
وتأصيلها،فهي الوسط الملئم التي تعيش فيه شخصية فرعون.وهذه الثار
الجتماعية المتعددة يمكن حصرها فيما يلي:
أول:ضلل قومه
)الضلل والضللة ضد الهدى والرشاد(،866و)ضل الشيء ضاع( ،
867
866لسان العرب،مادة:ضلل).(11/390
867مختار الصحاح،مادة:ضلل).(160وانظر:المغرب،مادة:ضلل).(2/12
868انظر:تفسير القرطبي).(7/234)،(1/245
]869يونس.[32:
870تفسير القرطبي).(8/335
871في ظلل القرآن).(3/282
872فيض القدير).(1/202
873التعاريف).(1/474
874تفسير ابي السعود).(6/32وانظر :زكريا:أبو يحيى النصاري،فتح الرحمن بكشف ما
يلتبس في القرآن،جزء واحد،تحقيق:محمد علي الصابوني،جزء واحد،ط ،1عالم
الكتب،بيروت1405،هـ ـ 1985م.(264).
]875طه.[79:
]876غافر.[29:
877انظر:تفسير القرطبي).(11/229
148
نهاهم عن اتباع رسول الله موسى والتصديق به فأطاعوه،فلم يهدهم بأمره
إياهم بذلك،ولم يهتدوا باتباعهم إياه(.878
ن الضلل ُينتج بشرا ل يدركون سبب وجودهم ول غاية خلقهم،يعيشون إ ّ
م تنعكس تلك الحالة العبثية أمراضا نفسية ويموتون دون هدف أو غاية،ث ّ
مة بسببه تأكل الّناس وُتحيل حياتهم إلى جحيم؛فالضلل حيرة وتيه تفقد ال ّ
القدرة على تحديد نقطة النطلق نحوالهدف،فل تعود قادرة على التمييز
بين الغث والسمين.حينئذ يعيش الّناس حياة بهيمية بل أقل درجة،وذلك ما
ل سبيل‘‘)،879إذ نفهمه من قوله تعالى’’:إن هم إل ّ كالنعام بل هم أض ّ
البهيمة لم تخلق لها المعرفة والقدرة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات وهذا
قد خلق له وعطله(،880فليس هناك فارق بين النسان والبهيمة غير الّنظر
ن
والتدبر والفكر!يقول تعالى’’:ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الج ّ
والنس لهم قلوب ل يفقهون بها ولهم أعين ل يبصرون بها
ولهم آذان ل يسمعون بها أولئك كالنعام بل هم أضل أولئك هم
الغافلون‘‘)،881فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر
والضللة(،882وتلك هي النوعية التي يعيش معها الطواغيت؛جماهير فارغة ل
تدري أّنها ل تدري!وتلك علة كبرى.
883
وفي حال الضلل يكون العقل أسيرا لخرافات تضر ول تنفع كالسحر
والكهانة وغيرها،ولهذا كانت دعوة النبياء في جوهرها تحرير للعقل من أن
يكون أسيرا للخرافات والخزعبلت،حيث دعى النبياء إلى الّنظر والتفكر في
ن الحق ل يخشى التفكير والحجة والبرهان بل هو يقوم الكون والحياة؛ذلك أ ّ
على ذلك،فدعوة أهل الحق الّناس للتفكير والّنظر تنسجم مع حقهم الذي
يحملون،على عكس الجاهلية والطاغوت فإّنه يخشى يقظة الّناس لّنها
تكشف زيفه وباطله.
لقد ظهرت آثار التيه والضياع وانعدام القدرة على التمييز على
ل على هذا من طاعتهم ل شخصية فرعون،وليس أد ّ الجماهير في ظ ّ
لفرعون رغبا ورهبا في افترائه وزعمه لللوهية والربوبية،فإّنه ل يمكن
لفرعون ول لغيره أن يفكر مجرد تفكير في طرح هذه الفرية لول أن رأى
ن قوما من قومه القابلية للقبول أو السكوت في أسوأ تقدير.ول شك في أ ّ
ذبوا موسى عليه السلم بعد أن عاينوا تابعوا فرعون على فريته الكبرى وك ّ
الحق الساطع على يديه لهم أجهل الخلق وأحمق الّناس وأسفههم.
كوا في موت فرعون؛ ش ّم وصل بهم الشلل الفكري وانعدام النظر أن َ ث ّ
ل فرعون حيث دخل في وذلك بسبب ما تعّرض له بنو إسرائيل في ظ ّ
خّيل إليهم أّنه ل يهلك؛ذلك أّنهم كذبوا موسى صلى نفوسهم من عظمته ما ُ
الله عليه وسلم حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه جثة هامدة على
الساحل،حيث أمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بل روح وعليه
درعه المعروفة على نجوة من الرض-وهو المكان المرتفع-ليتحققوا موته
149
وهلكه،884ولم يكن هذا التصور وهذا العتقاد إل نتيجة لجهلهم وسفاهة
عقولهم وفساد عقائدهم،يقول تعالى’’:وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم
وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‘‘.885والشاهد في الية قوله
ن الله تعالى لما أنجاهم وأغرق عدوهم،قالوا تعالى’’:وأنتم تنظرون‘‘،وذلك)أ ّ
ن فرعون قد غرق،حتى أمر الله البحر نإ ّ ن قلوبنا ل تطمئ ّيا موسى:إ ّ
886
فلفظه فنظروا إليه( ،والمعنى أّنهم وصلوا بسبب جهلهم وضللهم حدا
ن فرعون ل يموت!أي قد خالج قلوبهم أّنه ربما يكون إلها! يتصورون أ ّ
جا الله فرعون ببدنه،يقول تعالى’’:فاليوم وبسبب هذا التصور الحمق ن ّ
887
ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية‘‘ .أي لتكون لمن وراءك
علمة،وهم بنو إسرائيل ومن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق
ولم ينته إليه هذا الخبر،لكي يعتبروا بك فينـزجروا عن معصية الله والكفر به
والسعي في أرضه بالفساد.888
ده شخصا ممّيزا ذا صفات خاصة ن تقديس الطاغوت أو ع ّ إ ّ
م وجود من يقّر نادرة،والترويج المستمر لتلك الفرية عبر وسائل العلم،ث ّ
له-من الّناس-بتلك الفرية،يورث مع توالي الزمن وتكرار المشهد وضخامة
دعاية وعدم القدرة على المعارضة بكتم صوت الحق والحقيقة…يورث ما ال ّ
يشبه التسليم بتلك الفرية واعتبارها حقيقة مسلمة ل جدال فيها،حتى إذا
قام سّيد الشهداء بكلمة الحقّ أمام الطاغوت تعجب الّناس من القول
الجديد على أسماعهم،وطالبوه بزيادة البيان وتوضيح البرهان!
ومن دلئل ضللهم تعظيمهم للسحر والسحرة،ويظهر هذا من قول
السحرة ’’:إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم
ن السحرة قد أقلقهم موسى ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘.889والمعنى أ ّ
وهارون،وأصبحت مراكزهم مهددة بالنهيار،وذلك معنى قولهم’’:ويذهبا
بطريقتكم المثلى‘‘،أي)ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر،فإّنهم كانوا
ن تعظيم السحرة ما كان إل ّ لجهل الجماهير ظمين بسببها(.890والشاهد أ ّ معَ ّ
ُ
ل شأنه يقول’’:ول ُيفلح الساحر وسفهها،وكيف ل يكون جهل والحق ج ّ
حيث أتى‘‘،891أي ل يفلح)حيث كان وأين أقبل(.892
ن ضعف الوعي والّتعود على بلدة التفكير أدى ببني إسرائيل بعد أن إ ّ
خرجوا من ظل فرعون وتحرروا من قوة فرعون الظاهرة أن يعبدواّ
العجل،بل ويطلبون من موسى أن يجعل لهم إلها كما لعبدة الصنام
آلهة’’،قالوا يا موسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة،قال إّنكم قوم
150
تجهلون‘‘)،893فلم تزجرهم تلك اليات ولم تعظهم تلك العبر والبينات(894؛
ذلك أّنهم تعرضوا إلى مسخ في الفكر والوعي،فل علم عندهم ول
ما يؤكد لنا أن المرض قد استقّر في قلوبهم وعقولهم،يقول معرفة.م ّ
896 895
تعالى’’:وأشربوا في قلوبهم العجل ‘‘ .أي)تداخلهم حبه،ورسخ في
قلوبهم صورته لفرط شغفهم به،كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق
البدن(،897وهكذا وصل جهلهم حد ّ الشباع والّتشبع!فما أن تركهم موسى
ما يكشف أياما معدودات حتى عاد إليهم وقد عبدوا العجل من دون الله،م ّ
عن مدى ما أصابهم من الخلل الّنفسي والسفه العقلي والفساد الفـكري،
يقول تعالى’’:ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من
بعده وأنتم ظالمون‘‘.898فمع ما تعرضوا له من استجهال ل ُيعفيهم من
المسؤولية بعدما تبّين لهم الحق.فكل من علم الحق وجب عليه اتباعه،ومن
أعرض عنه فهو من الظالمين.
م السحرة بعزة دالة على هذا الضلل قَ َ
س ُ ومن الشواهد ال ّ
899
فرعون،أي)بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته( .يقول تعالى
حكاية لقولهم’’:وقالوا بعزة فرعون إّنا لنحن الغالبون‘‘.900فهذا يد ّ
ل
ن فرعون قد عظم في نفوسهم حتى وصل المر بهم أن يقسموا على أ ّ
بعزته!ولو كان عندهم أدنى روّية لما تفوهوا بمثل تلك العبارة،وهم الذين
دين،وهي الطبقة التي يعتبرها الّناس قدوتهم ومثالهم يمثلون طبقة رجال ال ّ
الذي يحتذى به.فكيف سيكون الحال فيما دونهم من الطبقات التي ل تتقن
غير التقليد العمى؟!
ن المشهد المأساويّ ظاهر في ترديد مقولة فرعون دون تفكير أو نظر إ ّ
ن هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من حين’’قال للمل حوله إ ّ
901
م
م العمي مقالته وكأّنها أ ّ دد الص ّأرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘ .فر ّ
ن هذا الحقائق!فالمل يرددون قولته’’:قال المل من قوم فرعون إ ّ
لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا
تأمرون‘‘.902والسحرة يتبنون موقفه’’،إن هذان لساحران يريدان أن
يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم
المثلى‘‘،903فماذا عسى أن يكون موقف الجماهير؟!فهم على دين الحكومة
سائرين.
ليس هناك سوى صوت واحد تردده الجماهير ول تعي معانيه وأهدافه،إّنه
صوت فرعون ومن تكلم بلسانه،ومع مرور الزمن تعطلت عقولهم
وتخدرت،حتى صاروا أبواقا تردد مقولة الّنظام الحاكم بل وعي أو بصيرة،ل
]893العراف.[138:
894تفسير الطبري).(9/45
895وليس المقصود هو ذات العجل)وإنما هو حب العجل( المحاسبي:أبو عبد الله،الحارث بن أسد
بن عبد الله243-165)،هـ(،فهم القرآن ومعانيه،جزء واحد،تحقيق :حسين القوتلي،ط ،2دار
الكندي،دار الفكر،بيروت1398،هـ،(487).وسأشير إليه لحقا هكذا)فهم القرآن(.
]896البقرة.[93:
897تفسير البيضاوي).(363-1/362
]898البقرة.[92:
899تفسير الطبري).(19/72
]900الشعراء.[44:
]901الشعراء.[35-34:
]902العراف.[110-109:
]903طه.[63:
151
يسمعون إل ّ دعاء ونداءا،حتى صح القول أّنهم مّيتون ليس فيهم حياة،ل ّ
ن
وم الخطاء ويصحح العوج ويحاسب الحكومة،ول ي هو الذي يق ّ
المجتمع الح ّ
يكون هذا إل ّ إذا كان مجتمعا يستمد ّ قيمه من الله سبحانه وتعالى.
ثانيا:استمراء الذل
904
والستمراء لغة من استمرأُ،يقال) :مرىء الطعام استمرأه( و)وطعام
ل مستساغا مستطابا،فل يشعر مرىء هنيء(.905وأعني بذلك أن يصبح الذ ّ
المستذل بوجعه ول ألمه،وهو نتيجة ملزمة لما تعرضت له الجماهير في
ل شخصية فرعون من إذلل وقهر متواصل مستمر ومتعدد الوجوه،حتى ظ ّ
ن القرآن الكريم وصف فرعون بالعذاب المهين وذلك في قوله إ ّ
جينا بني إسرائيل من العذاب المهين،من تعالى’’:ولقد ن ّ
فرعون،906إّنه كان عاليا من المسرفين‘‘ .والشاهد في الية أ ّ
ن بني 907
904مختار الصحاح،مادة:مري).(259
905لسان العرب،مادة:مرأ).(1/155
)906من فرعون:هو بدل من العذاب باعادة الجار أي من عذاب فرعون ويجوز أن يكون جعل
فرعون نفسه عذابا(التبيان في إعراب القرآن).(2/229
]907الدخان .[31-30:
908انظر:تفسير البيضاوي)(5/161وتفسير ابن كثير)(4/144ومعاني القرآن)(6/406وتفسير
الواحدي)(2/984وزاد المسير)(7/347وروح المعاني).(25/125
]909المائدة.[24:
910مناهل العرفان).(2/299وانظر:تفسير ابن كثير).(2/40
]911المائدة.[26:
152
يكونوا أمثالكم‘‘،912ثم ل يكونوا أمثالكم في التولي عن الجهاد والزهد في
اليمان،ولكن يكونون سامعين مطيعين.913
وليس أدل على ذلك من عبادتهم للعجل،يقول تعالى’’:فإّنا قد فتّنا
914
ما ذهب موسى قومك من بعدك وأضلهم السامري‘‘ ،وكان ذلك)ل ّ
إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما السلم نسوا الله
تعالى،وحّنوا إلى ما وقر في نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها فعبدوا
ن الستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية العجل()،915ل ّ
كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لحتمال التكاليف والصبر
عليها والوفاء بالعهد والثبات عليه،وترك في كيانهم النفسي خلخلة
واستعدادا للنقياد والتقليد المريح ..فما يكاد موسى يتركهم في رعاية
هارون ويبعد عنهم قليل حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول
اختبار.ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلءات متكررة لعادة بنائهم
916
النفسي،وكان أول ابتلء هو ابتلءهم بالعجل الذي صنعه لهم السامري( .
ن الركون إلى الدنيا والحرص عليها والخضوع للشهوة والهوى،واعتبار إ ّ
ن
الرزق مرهون بيد الطاغوت ل بيد الله،والخوف من مواجهة الموت،وكأ ّ
ل ذلك أعراض للوهن والضعف الذي أصاب قطاعا الطاغوت يحيي ويميت..ك ّ
ما جعلها مكّبلة الرادة تقبل بالذل والهانة.بل وتعدى المر مة،م ّ واسعا من ال ّ
ذلك إلى أن يتجه بعض الّناس لتلمس العزة عند السلطان’’واتخذوا من
دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا‘‘!917فازدادوا ذل وإذلل،وذلك لّنهم
ن العزة لله جميعا‘‘،918ومن ابتغى فشلوا في إدراك مصدر العزة’’،فإ ّ
العزة لغير الله أذله الله.
مة من ذل وهوان،فلو أّنهم وفي هذا البيان تفسير شاف لما تعيشه ال ّ
ل من تلك التضحيات التي يدفعونها أذلء للطاغوت،لو أّنهم بذلوها بذلوا أق ّ
ن استصلح الّنفوس ّ
في سبيل الله لخلصهم الله مما هم فيه!وكما أّنه ُيبّين أ ّ
ن
المستذلة أمر في غاية الصعوبة،يحتاج إلى جلد ومعاناة كبيرة؛ذلك أ ّ
ل مرض عضال،فكيف يتمرد المستذل على وضع يراه طبيعيا استمراء الذ ّ
ن الحياة بهذا اللون الذي ل يمكن تغييره.وقد يصل واعتياديا؟حتى ُيخّيل إليه أ ّ
بعض المستذلين حدا ُيعظمون الباغي الظالم وُيجّلونه،بينما إذا قام المظلوم
برد الذى عن نفسه اتهموه بالفتنة والوقاحة والتطاول.
ثالثا:ظهور المجتمع الطبقي
وأعني بالمجتمع الطبقي هو الذي يسوده المفهوم الجاهلي عن
الحياة،حيث يكون التفريق فيه بين الّناس على أساس عائلي أو قبلي أو
عرق أو لون أو جنس أو كل ما ليس للنسان فيه اختيار،فل يستطيع النسان
ل مجتمع يتوارث الّناس فيه مقاماتهم دون أن ُيغير لونه أوعرقه مثل.وهو ك ّ
جهد منهم،فمن كان أبوه من طبقة المل فهو من النبلء أو الشراف..ومن
كان أبوه مستعبدا فهو عبد منذ ولدته..وهو المجتمع الذي يقوم على أساس
العدواة والبغضاء بين الّناس؛فهو مجتمع متناقض متشرذم تتصادم فيه
]912محمد.[38:
913انظر:تفسير البيضاوي)(5/197وتفسير ابن كثير)(4/183وفتح القدير).(5/42
]914طه.[85:
915مناهل العرفان).(2/299
916في ظلل القرآن).(5/490
]917مريم.[81:
] 918الّنساء.[139:
153
المصالح والهواء،يخلوا من القيم والخلق النسانية،فل ُيثمر غير الشر
والجريمة،ومثال ذلك المافيا-أي الجريمة المنظمة-الروسية كنتاج طبيعي
للشيوعية التي كانت تقوم على هذا الساس الفاشل.
ل طبقة على ن وجود صراع داخلي بين طبقات المجتمع،وحرص ك ّ إ ّ
مصالحها يؤدي حتما إلى تمزيق المجتمع وتفكيك الروابط النسانية
فيه،وُيساعد الطاغوت على البقاء والّتحكم،وهي العّلة الكامنة وراء سعيه
الدائم في اختلق الزمات الداخلية،ونشر الّنزاعات المختلفة بين الحين
والخر ضمن مخطط ومنهج مدروس تعتني به عقول شيطانية خاصة،ويعتمد
ل هذا في ذلك على فئة مأجورة مستفيدة لتخريب المجتمع وتفتيته،ولع ّ
ضح لنا لماذا جعل فرعون أهل مصر شيعا. ُيو ّ
ن تفتيت المجتمع وتحويله إلى طبقات متناحرة متباغضة متنافرة أو إ ّ
إلى أفراد ل يربط بينهم رابط هدف وغاية كما هو الحال في مناهج
الطواغيت المطبقة حاليا،وما المحاولت المحمومة لنسف السر والقيم
الجتماعية،والقضاء حتى على قوانين الحوال الشخصية المستمدة من
الشرع السلمي،وإحلل القيم الغربية مكانها إل ّ وسيلة من تلك الوسائل
ن القيم الغربية تدعو إلى تأليه الخبيثة لتشتيت المجتمع وتفريقه؛ذلك أ ّ
الذات والنكباب عليها،وعدم اللتفات إلى القيم الجتماعية أوالمشكلت
ل تلك المفاهيم يقول:اللهم نفسي! ن حال الّناس في ظ ّ
العامة،وكأ ّ
ّ
ل الطواغيت-ل يعيش إل في مجتمع ن فرعون-كما هو الحال عند ك ّ إ ّ
مريض مشرذم متصادم الغراض والهواء والمصالح،تسوده الكراهية والحقد
والعدوانية!ولهذا عمد الملعون إلى سياسة التفريق بين الّناس،يقول
ن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف تعالى’’:إ ّ
طائفة منهم ُيذّبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إّنه كان من
المفسدين‘‘.919أي)فرقا يشيعونه فيما يريد أو يشيع بعضهم بعضا في
طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل،أو أحزابا بأن
أغرى بينهم العداوة كي ل يتفقوا عليه(.920فهو يقرب فئة ويستذل
ما يضمن له عدم اتفاق الّناس أخرى،فهناك طبقة راقية وطبقة منحطة!م ّ
ن الفئات المستفيدة ستدافع عن الّنظام الذي يمثل مصالحها عليه،بل إ ّ
وامتيازاتها،ولم تكن تلك الفئات على نفس درجة القرب من الحكومة،فهناك
الطبقة الحاكمة حيث يتربع على رأس هرمها فرعون،ومن دونه هامان
وزيره وأقرب الّناس إليه،ومن دونه طبقة الشراف وهم المل من آل
فرعون،ويمثلون بطانته وحاشيته والمقربين من القصور،ومن دونهم آل
سحرة،حيث يمثل السحرة قمة هذه فرعون،ومن دونهم طبقة الكهنة وال ّ
م بنو إسرائيل والذين ُيمثلون قاعدة الهرم الطبقة،ومن دونهم قوم فرعون،ث ّ
في الّنظام الطبقي الفرعوني،وهم الطبقة المسحوقة.
ومع توالي الزمن ودوران اليام ازدادت الهوة بين الشراف!
مستويات والمسحوقين،وازدادت الفروق النفسية والجتماعية وال ُ
المعيشية..وانعكست تلك الفروق على السلوك العام وترسخت في أذهان
ل على ذلك الّناس وكأّنها قدر ل ُترد!أو كأّنها جزء من سّنة الحياة!وليس أد ّ
من قول فرعون عن موسى’’:أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ول
]919القصص.[4:
920تفسير البيضاوي).(4/282وانظر:تفسير أبي السعود).(7/2
154
يكاد ُيبين‘‘.921فهو بزعمه أفضل من)هذا الذي هو ضعيف لقلة ماله،وأّنه
ن الجواب حاضر في نفوس ليس له من الملك والسلطان شيء(،922وكأ ّ
المخاطبين الذين استقرت في أعماقهم المفاهيم الطبقية،فالذي يملك
من ل المال والسلطان وينتمي إلى طبقة اللهة والشراف-عندهم-خير م ّ
دنيا شيء.وبالطبع لم يكن هذا الجواب الحاضر لول يملك من حطام ال ّ
ن تحت وطأة الجلد. تطاول الزمن على الجماهير وهي تئ ّ
ومن الشواهد التي تؤكد لنا استقرار هذا المرض الجتماعي في عهد
فرعون ما رد ّ به المل من آل فرعون على دعوة موسى عليه السلم،حين
قالوا’’:أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون‘‘.923أي)وقومهما
من بني إسرائيل لنا عابدون يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون يأتمرون
لمرهم ويدينون لهم(،924فالمانع من اليمان بهما أّنهما من طبقة دون طبقة
المل من قوم فرعون وآله،وهي ذات القيم التي تذّرع بها قوم نوح حين
قالوا’’:أنؤمن لك واتبعك الرذلون‘‘،925أي)القلون جاها ومال(926؛فتلك
هي القيم الرخيصة التي ُيفرزها المجتمع الطبقي.
وحتى يكون المجتمع إنسانيا ل بد ّ أن يقوم على أساس من العقيدة
والفكر والتصور،وهو الساس الذي ُيمّيز النسان عن البهيمة والنعام،أي
ما يقع قي دائرة القدرة على الختيار فيحاسب النسان حينئذ على م ّ
ن الّناس كلهم اختياره.ولكي يكون إنسانيا ل بد ّ من تقرير حقيقة مفادها أ ّ
من نفس واحدة’’،يا أّيها الّناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس
واحدة‘‘،927أي)من هيئة واحدة وشكل واحد(،928تلك الحقيقة التي ُتسقط
الحدود المصطنعة بين البشر،وُتحطم مفهوم الطبقية من القواعد.
ن
ن السلم جعل التفاوت بين الّناس بالتقوى،فقال سبحانه’’:إ ّ إ ّ
929
أكرمكم عند الله أتقاكم‘‘ ،هذا العلن الذي أسقط فرق اللون
ن أباكم ن ربكم واحد وإ ّ والعرق والقوم…وفي الحديث’’يا أيها الناس أل إ ّ
واحد،أل ل فضل لعربي على أعجمي ول لعجمي على عربي ول لحمر على
أسود ول أسود على أحمر إل بالتقوى‘‘.930وجعل السلم العلقة بين الّناس
تسودها المودة والمحبة وأنكر الشحناء والبغض والحقاد…يقول صلى الله
931
عليه وسلم’’:ل تباغضوا ول تحاسدوا ول تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا‘‘ .
ن الّناس غير متفاوتين،بل هم متفاوتون بطبيعة وليس معنى هذا أ ّ
الخلق والتكوين والمواهب..يقول تعالى’’:ورفعنا بعضكم فوق بعض
]921الزخرف.[52:
922تفسير الطبري).(25/82وانظر:معاني القرآن).(6/370
]923المؤمنون.[47:
924تفسير الطبري).(18/25وانظر:فتح القدير)(3/485وزاد المسير)(5/475وتفسير الواحدي)
(2/748وتفسير البغوي).(3/310
]925هود.[111:
926تفسير البيضاوي).(4/246
]927النساء.[1:
928تفسير القرطبي).(7/339
]929الحجرات.[13:
930مسند أحمد)(5/411رقم)(23536والمعجم الوسط)(5/86رقم)(4749واللفظ لحمد.قال
الهيثمي)رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح(وانظر:مجمع الزوائد).(3/266
931صحيح البخاري،كتاب الدب،باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى:ومن شر حاسد إذا
حسد)(5/2253رقم).(5718
155
درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا‘‘،932أي فاوت بينهم في الخلق
والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم والشكال واللوان ..فخالف الله
بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا،وخفض من درجة هذا عن درجة
هذا933؛ذلك)ليستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وينتظم
بذلك نظام العالم(،934و)ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره،والفقير
في فقره ويسأله عن صبره(،935وله الحكمة في ذلك كقوله تعالى’’:نحن
قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق
بعض درجات‘‘،936أي)نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا،ولم
نفوض ذلك إليهم،وليس لحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله
وحده(،937فالمطلوب هو العدل بين الّناس وليس محو الفوارق الطبيعية
بينهم،وهي المعادلة التي ل يستطيع القيام بها وجعلها واقعا في حياة الّناس
غير السلم،وهذا ما ل يسمح به الطاغوت.
رابعا:طغيان المفهوم المادي للحياة
وهوإفراز طبيعي لتلك التصورات التي سادت المجتمع في عهد
مطبق وتلك المفاهيم علقة تبادلية،فالّنظام فرعون،والعلقة بين الّنظام ال ُ
ُيشجع وينشر تلك المفاهيم،وتلك المفاهيم ُتساعد على بقاء الّنظام،والنتيجة
لتلك العلقة تلشي المعنى الحقيقي للحياة،وغياب الروابط النسانية التي
يجب أن تسود أفراد المجتمع،وتختفي الخلق والقيم ويتحول المجتمع إلى
قطعان بشرية تسوقها الغرائز الحيوانية،ويسود الجشع والطمع والنانية…
تلك هي النتائج الحتمية لنعدام اليمان بيوم آخر يحاسب فيه الّناس على
ن أهداف الّناس وغاياتهم تنحصر في هذه الدنيا،ويزداد الجري أعمالهم فإ ّ
وراء تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة واللذة العاجلة،ويسود مذهب
النفعيين والوصوليين،ويصبح المقياس الوحيد في عقول الّناس هو المادة.
ن الكسب في الدنيا مهما بلغ ل يشبع تطلعات ومع ذلك فإ ّ
النسان،فيبقى في جوع دائم حتى يداهمه الموت،ولذلك كان اليوم الخر
والجزاء في الجّنة التي فيها للصالحين ما يشاؤون وعند الله مزيد.فهل
يستطيع فرد مهما بلغ من القدرات أن يحقق في دنياه ما يشاء؟!بالطبع ل
يستطيع،وبالتالي يبقى في جري دائم ليس له نهاية أو حد.
لقد مّهد فرعون السبيل لنفسه،وأوجد الرضية القابلة لستقبال
مهّيأة للتجاوب مع مفاهيمه وأفكاره،فها هو فرعون ُيخاطب الجماهير ال ُ
أطروحاته،ويضرب على الوتر الحساس الذي تتفاعل معه الحشود المنبهرة
ده على موسى عليه بما عنده من زينة وأموال،وذلك في معرض ر ّ
السلم،فهو يتوقع مسبقا مدى تأثير ذلك الخطاب على تلك الجماهير،يقول
تعالى’’:ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر
وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون‘‘.938وأراد بذلك أن
]932النعام.[165:
933انظر:تفسير الطبري)(8/114وتفسير القرطبي).(7/158
934تفسير البيضاوي)(5/145وانظر:تفسير ابن كثير)(4/128وتفسير أبي السعود).(8/46
935تفسير ابن كثير).(2/201
]936الزخرف.[32:
937فتح القدير).(4/554
]938الزخرف.[51:
156
يبهرهم بما عنده من متاع الدنيا الزائل،في ظرف طغت فيه المفاهيم
المادية على كل شيء.
م يزيدهم في الحجة والبرهان الزائفين بقوله’’:فلول ألقي عليه ث ّ
ُ 939
أسورة من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين‘‘ .أي)فهل ألقي
على موسى إن كان صادقا أّنه رسول رب العالمين أسورة من
ن من اقتصر نظره على الدنيا ل ذهب(،940فاستخف عقولهم بهذا فأطاعوه،ل ّ
عقل عنده ول بصر.ولقد علم فرعون الحقيقة كلها:علم أّنه ليس على
شيء،فل حجة عنده ول برهان،وعلم-في المقابل-سفاهة من يخاطبهم
وشدة تعلقهم بالدنيا،فأراد أن يبهرهم بما ينبهرون به من زخارف الرض كي
ل ُيبصروا الحقيقة التي يخشاها؛ذلك أن التعلق بالدنيا ُيفقد النسان القدرة
على استيعاب الحقائق،وُيصاب بقصر الّنظر بل وانعدامه.
ل على طغيان المفهوم المادي من موقف السحرة عندما وليس أد ّ
استدعاهم فرعون لمعارضة موسى-عليه السلم -بسحرهم،فكان مطلب
ما جاء السحرة قالوا م الغالب هو الجر’’،فل ّ السحرة الوحيد واله ّ
941
ن طغيان ن لنا لجرا إن كّنا نحن الغالبين‘‘ ؛ذلك أ ّ لفرعون أئ ّ
المفهوم المادي قد سّيطر على قلوبهم وعقولهم؛فجعلهم يرغبون في الجمع
والمنع والحرص على الدنيا،942ومن هنا نفهم سبب تملق الجماهير المصابة
بهذا الداء للحكومة وتزلفها لها،فغايتها نيل المطلوب وهو الدرهم
م تستغل الحكومة المرض والدينار،فليس هناك غاية أبعد من هذه وأبقى!ث ّ
ل أخرى،ويشتد ّ السباق بين الجماهير الذي أنشأته،فتقرب طائفة وتستذ ّ
دولة.ومن هنا كان هذا المرض أثرا من في جعبته مال ال ّ ي النعمة و َلرضاء ول ّ
للطاغوت وسببا في بقائه واستمراره.
ول النسان إلى عبد مسترق ن طغيان المفهوم المادي ُيح ّ إ ّ
لشهواته،يقول صلى الله عليه وسلم’’:تعس عبد الدينار وعبد
الدرهم‘‘،943و)خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها
ن
كالسير الذي ليجد خلصا،ولم يقل مالك الدينار ول جامع الدينار ل ّ
ن الدينار المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة(،944وكأ ّ
والدرهم إله يعبد من دون الله.
المبحث الثاني
]939الزخرف.[53:
940تفسير الطبري).(25/82وانظر:تفسير البيضاوي)(5/148وتفسير الثعالبي)(4/130وتفسير
البغوي).(4/142
]941الشعراء.[41:
942انظر:فيض القدير).(3/261
943صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب الحراسة في الغزو في سبيل الله)(3/1057رقم)
.(2730
944فتح الباري).(11/254
157
جلب العقوبات الّربانية
ن الغيوم السوداء التي انتشرت في عهد فرعون تنذر بالخطر إ ّ
الشديد’’،قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح
فيها عذاب أليم‘‘.945لقد جرت سّنة الله أّنه ل عقوبة إل ّ بذنب،يقول
تعالى’’:فكل أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم
من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الرض ومنهم من
أغرقنا‘‘.946فالذنب يجلب العقوبة،والعقوبة تتنوع بتنوع الذنب،سنة ل تبديل
لها ول تحويل.
داعي لكل رذيلة،وأساس كل ما كان فرعون رأس كل خطيئة،وال ّ ول ّ
فتنة،كان ل بد ّ أن يكون أول المعاقبين وأشدهم أخذا من الله ج ّ
ل
شأنه،يقول تعالى’’:فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا
وبيل948‘‘947؛)فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول-أي محمد صلى الله عليه
وسلم-فيصيبكم ما أصاب فرعون،حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر()،949وفيه
تخويف لهل مكة أنه سينـزل بهم من العقوبة مثل ما أنزل به،وإن اختلف
نوع العقوبة(،950وهو تخويف مستمر،فكلما عصى الّناس رسول الله محمد
صّلى الله عليه وسلم-في أي زمان ومكان -أنزل الله عليهم عقوبته.
ما تجاوز فرعون كل الحدود وادعى وتشتد ّ العقوبة مع عظم الذنب،فل ّ
الربوبية أخذه الله نكال الخرة والولى،يقول تعالى’’:فقال أنا ربكم
العلى،فأخذه الله نكال الخرة والولى‘‘.951فكان الخذ بعد
ل من تبع فرعون وسار على م اتسعت العقوبة حتى شملت ك ّ الذنب..ث ّ
نهجه،حيث أنزل الله-سبحانه-عليهم بأسه الذي ل يرد،وصب عليهم سوط
ن السوط كان دمار؛ذلك)ل ّ عذاب ل يرفع،فكانت نهايتهم البوار والهلك وال ّ
عندهم نهاية ما ُيعذب به(،952ولّنه أشد ألما من غيره عَب َّر به،بقوله
تعالى’’:وفرعون ذي الوتاد،الذين طغوا في البلد،فأكثروا فيها
ن ربكالفساد،فصب عليهم ربك سوط عذاب،إ ّ
لبالمرصاد‘‘.953وكانت عقوبة التدمير والتخريب لما صنعوه من العمارات
مرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما والمزارع،يقول تعالى’’:ود ّ
كانوا يعرشون‘‘.954ويقول تعالى’’:فقلنا اذهبا إلى القوم الذين
كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا‘‘.955
ن التكذيب بآيات الله والكفر بها سبب لخذ الله لهم وإهلكهم،يقول إ ّ
تعالى’’:كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله
ن الله قوي شديد العقاب‘‘.956ويقول فأخذهم الله بذنوبهم إ ّ
]945الحقاف.[24:
]946العنكبوت.[40:
)947وبيل أي شديدا،وضرب وبيل أي شديد(لسان العرب،مادة:وبل).(11/720وانظر:مختار
الصحاح،مادة:وبل).(1/294
]948المزمل.[16:
949تفسير ابن كثير).(4/439
950فتح القدير).(5/319
]951الّنازعات.[25-24:
952تفسير القرطبي).(20/49
]953الفجر.[14-10:
]954العراف.[137:
]955الفرقان.[36:
]956النفال.[52:
158
ذبوا بآيات ربهم تعالى’’:كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ك ّ
957
فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين‘‘ .
ن اتباع الظالمين ومشاركتهم ومساندتهم تجلب عقوبة الله،فلول هذه ذلك أ ّ
المشاركة والمساندة لما استطاع الظالم بمفرده أن يفعل شيئا.
العقوبات التي نزلت على فرعون وملئه وآله
بّين القرآن الكريم العقوبات التي أنزلها الله على أولئك القوم
الظالمين،حيث تنوعت وتعددت وتعاقبت على فترات من الزمن لعلهم إلى
ربهم يرجعون بالتوبة والنابة،و)البلوى من الله على جهتين فبلوى رحمة
وبلوى عقوبة،فبلوى رحمة يبعث صاحبه على إظهار فقره وفاقته إلى الله
وترك تدبيره،وبلوى عقوبة يترك صاحبه على اختياره وتدبيره (،958وهؤلء
صروا على غّيهم وفجورهم المرة بعد المرة حتى أخذهم الله أخذ عزيز أ ّ
مقتدر،ول حول ول قوة إل ّ بالله.
ل شأنه بالقحط ونقص كانت أولى العقوبات أن أخذهم الله ج ّ
الثمرات،يقول تعالى’’:ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من
ذكرون‘‘ .959أي)إختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم الثمرات لعلهم ي ّ
بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع ونقص من
الثمرات(،960وحدوث القحط ونقص الثمرات فى أرض مصر،المخصبة
المثمرة المعطاء،تبدو)ظاهرة تلفت النظر،وتهز القلب،وتثير القلق،وتدعو
961
صروا ن القوم قد ران الشيطان على قلوبهم فأ ّ إلى اليقظة والتفكر( .ولك ّ
على معصيتهم،وأخذتهم العزة بالثم’’،وقالوا مهما تأتنا به من آية
لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‘‘.962والمعنى أ ّ
ن)أيّ آية جئتنا بها
ودللة وحجة أقمتها رددناها فل نقبلها منك ولنؤمن بك ول بما جئت
دمه موسى عليه السلم لهم من اليات سحرا،كبرت ن ما ق ّ به(،963معتبرين أ ّ
كلمة تخرج من أفواههم،إن يقولون إل ّ كذبا.
والصرار على الذنب ل يرفع العقوبة بل يجلب المزيد من غضب الله
وسخطه،ولذلك تتابعت النكبات عليهم،فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد
دم،يقول تعالى’’:فأرسلنا عليهم الطوفان مل والضفادع وال ّ والق ّ
دم آيات مفصلت فاستكبروا مل والضفادع وال ّ والجراد والق ّ
964
وكانوا قوما مجرمين‘‘ .أي)آيات مفصلت يتبع بعضها بعضا،فكل
عذاب كان يمتد أسبوعا وبين كل عذابين شهرا(،965ولكّنهم استكبروا
وامتنعوا عن قبول الحق وكانوا قوما مجرمين.
م وقع عليهم الرجز،أي العذاب)وجائز أن يكون ذلك طاعونا وجائز ث ّ
أن يكون غيره ول دللة في ظاهر القرآن ول في أثر عن الرسول ثابت أي
ن عذابا من الله قد أصابهم ونزل أصناف ذلك كان(،966إّنما يكفي أن نعلم أ ّ
]957النفال.[54:
958حلية الولياء).(10/196
]959العراف.[130:
960تفسير ابن كثير).(2/240
961في ظلل القرآن).(3/615
]962العراف.[132:
963تفسير ابن كثير).(2/241وانظر:تفسير البيضاوي).(3/52
]964العراف.[133:
965تفسير البغوي).(2/193
966تفسير الطبري).(1/306
159
ل على ذلك قوله بهم،والظاهر أّنه عذاب لم يستطيعوا الصمود أمامه،ود ّ
ما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما تعالى’’:ول ّ
ن معك بني ن لك ولنرسل ّ عهد عندك لئن كشفت عّنا الرجز لنؤمن ّ
إسرائيل‘‘.967
ن القوم نكثوا وعادوا لغيهم وفسادهم بعد أن استجاب الله لدعاء ولك ّ
ما كشفنا عنهم الرجز إلى نبيه عليه السلم،حيث يقول تعالى’’:فل ّ
أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون‘‘،.968فكان نكثهم سببا لنتقام الله
منهم،يقول تعالى’’:فانتقمنا منهم‘‘.969فالننظر كيف كان عاقبة
الظالمين.
لقد سلبهم الله ما خولهم من الّنعم:فالشكر قيد النعم به تدوم
وتبقى وتزداد،فمن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة،970يقول تعالى’’:لئن
شكرتم لزيدّنكم‘‘،971وبتركه ُتسلب وتتحول،وهؤلء كفروا نعم الله
ما كانوا فيه،فكان خروجهم في مطاردة وعصوا رسله،فأخرجهم الله م ّ
موسى ومن معه خروجا ل عودة منه،يقول تعالى’’:فأخرجناهم من
جنات وعيون،وكنوز ومقام كريم،كذلك وأورثناها بني
إسرائيل‘‘.972ويقول تعالى’’:كم تركوا من جنات وعيون،وزروع
ومقام كريم،ونعمة كانوا فيها فاكهين‘‘).973فسلبوا ذلك جميعه في
ن خروجهم هذا ل عودة بعده،فقد قضى الله عليهم صبيحة واحدة(974؛ذلك ل ّ
بالموت غرقا،ليكونوا عبرة لمن خلفهم.يقول تعالى’’:فانتقمنا منهم
م بأّنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها فأغرقناهم في الي ّ
غافلين‘‘،975ويقول تعالى’’:فأراد أن يستفزهم من الرض
فأغرقناه ومن معه جميعا‘‘،976ويقول تعالى’’:فأخذناه وجنوده
م وهومليم‘‘.977 فنبذناهم في الي ّ
لقد خرجوا في طلب موسى وهم يظنون أّنهم عليه منتصرون،فإذا هم
ن الله قضى عليهم بالغرق بعد أن حّلت بعد خروجهم ل يرجعون،ذلك أ ّ
ل شأنه.ذلك بسبب تكذيبهم وكفرهم بآيات الله والغفلة عليهم نقمته ج ّ
عنها،يقول تعالى’’:ولقد جاء آل فرعون الّنذر،كذبوا بآياتنا
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‘‘،978ولّنهم كانوا ظالمين)لنفسهم بالكفر
والمعاصي حيث عرضوها للهلك،أو واضعين الكفر والتكذيب مكان اليمان
والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم(،979كما أّنهم كانوا )ظالمين لغيرهم كما
]967العراف.[134:
]968العراف.[135:
]969العراف.[136:
970إتقان ما يحسن من الخبار).(2/516
]971ابراهيم.[7:
]972الشعراء.[59-57:
]973الدخان.[27-25:
974تفسير ابن كثير).(4/142
]975العراف.[134:
]976السراء.[103:
]977الذاريات.[40:
] 978القمر.[42-41:
979تفسير أبي السعود).(30-4/29
160
كان يجرى منهم في معاملتهم للناس بأنواع الظلم(،980فكان مرتع الظلم
عليهم وخيما،كما كان اتباعهم لفرعون هلكا لهم ودمارا.
أراد فرعون أن يستفز موسى ومن آمن معه من الرض،فكانت عقوبته
م به،حيث أزاله الله عن وجه الرض إلى البد. من جنس ما ه ّ
ن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ومن )إ ّ
اليات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلة
والسلم(،981و)كذلك اقصاصها على ماهي عليه من رسول الله معجزة جليلة
تطمئن بها القلوب البية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لعقابهم أن
يتلقوها بالذعان فل تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها ول تذكرت أو اخرهم
بتذكيرهاوروايتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها(.982
وبعد هذا لم يسدل القرآن الستار بل كشف لنا عن مصيرهم بعد
موتهم،يقول تعالى’’:وحاق بآل فرعون سوء العذاب،الّنار يعرضون
د
عليها غدوا وعشّيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أش ّ
ن أرواحهم ُتعرض على الّنار صباحا ومساء إلى قيام العذاب‘‘).983فإ ّ
الساعة،فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في
الّنار(،984ولهذا قال’’:ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‘‘،
ن عذابها)أي عذاب جهنم،فإّنه أشد مما كانوا فيه،أو أشد عذاب جهنم،فإ ّ
ألوان بعضها أشد من بعض(،985والمعنى أدخلوهم أشده ألما وأعظمه نكال.
شقية عبر مشاهد تقشعر لها البدان فها م نتابع مع القرآن رحلتهم ال ّ ث ّ
هو فرعون)يقدم قومه يوم القيامة،يقودهم فيمضي بهم إلى النار حتى
يوردهموها ويصليهم سعيرها(،986يقول تعالى’’:يقدم قومه يوم القيامة
فأوردهم الّنار وبئس الورد المورود‘‘.987يقودهم يوم القيامة)كما كان
يقودهم في الدنيا إلى الضلل’’.فأوردهم النار‘‘،ذكره بلفظ الماضي مبالغة
مفي تحقيقه،ونزل الّنار لهم منـزلة الماء فسمى إتياناها موردا،ث ّ
قال’’:وبئس الورد المورود‘‘،أي بئس المورد الذي وردوه،فإّنه ُيراد لتبريد
الكباد وتسكين العطش والّنار بالضد(.988
فها هي آثار فرعون يجّليها لنا كتاب الله،حيث نصل إلى المشهد الخير
من فصولها المأساوية،ونحن نرى أتباعه أئمة يدعون إلى الّنار وقد حّلت
دنيا ولخرة،حيث يقول تعالى’’:وجعلناهم أئمة عليهم لعنة الله في ال ّ
يدعون إلى الّنار ويوم القيامة ل ينصرون،وأتبعناهم في هذه
الدنيا لعنة ويوم القيامةهم من المقبوحين‘‘.989أي)وجعلنا فرعون
وقومه أئمة يأتم بهم أهل العتو على الله والكفر به،يدعون الناس إلى
980فتح القدير).(2/318
981تفسير البيضاوي).(1/342
982تفسير أبي السعود).(1/101
]983غافر.[46-45 :
984تفسير ابن كثير).(4/82وانظر:تفسير الطبري)(24/71وتفسير البيضاوي)(5/95ودقائق
التفسير)(2/255وتفسير البغوي)(4/99وفتح القدير )(4/495وروح المعاني).(24/73
985تفسير أبي السعود).(7/279
986تفسير الطبري).(12/110وانظر:تفسير الواحدي)(1/533وتفسير البغوي)(3/204وفتح
القدير)(2/526وزاد المسير).(4/155
]987هود.[98:
988تفسير البيضاوي).(3/259وانظر:تفسير القرطبي)(9/93وتفسير أبي السعود)(4/239وتفسير
النسفي).(2/171
]989القصص.[42-41:
161
أعمال أهل النار.ويوم القيامة ل ينصرهم-إذا عذبهم الله-ناصر،وقد كانوا في
الدنيا يتناصرون فاضمحلت تلك النصرة يومئذ.وقوله’’:وأتبعناهم في هذه
الدنيا لعنة ويوم القيامة‘‘،أي وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيا
وغضبا مّنا عليهم فختمنا لهم فيها بالهلك والبوار والثناء السيىء،ونحن
متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة،فمخزوهم بها الخزي الدائم،ومهينوهم
الهوان اللزم(.990
162
ويكُثر النتحار والسرقة والزنا وتفكك السرة والقهر والستبداد والمراض
العصبية والنفسية والتفتت الجتماعي…
وأقسى العقوبات التى نشاهدها أن تفقد الحياة معناها وطعمها؛فترى
غالبية الغنياء قد سئموا من الحياة ومّلوها،وربما وصل الحال عند بعضهم
ما الفقراء فكثر تسخطهم وتذمرهم،وأعلنوا رفضهم أن ُيقدم على النتحار!أ ّ
وعدم رضاهم لما قسم الله لهم،وضاقت عليهم الرض بما رحبت.
163
الفصل الخامس
الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة فرعون
يأتي هذا الفصل في سياقه الطبيعي بعد أن ذكرنا خصائص ووسائل
وأسباب وآثار شخصية فرعون،فمن الطبيعي أن يطرأ في الذهن تساؤل
عن كيفية مواجهة هذه الشخصية،وهو تساؤل طبيعي يأتي متناسقا مع ما مّر
ن تشخيص المرض ل يكفي دون وصف العلج،فكثيرا ما ُيسهب مإ ّ
ذكره،ث ّ
بعض المشتغلين في الدعوة بوصف المراض دون ذكر العلج لها،من هنا
تأتي أهمية هذا الفصل.ولفهم كيفية المعالجة والمواجهة ل بد ّ من الشارة
إلى أمرين مهمين:
ُ
ن موسى عليه السلم أمر أن يذهب إلى فرعون الذي طغى الول:أ ّ
وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب العلى..وكان حال القوم من حول
فرعون شراذم،قسم يسير مع فرعون مشاركا ومؤازرا،وقسم تعود الخضوع
والخنوع،حيث أذلهم الستعباد الطويل وأفسد فطرتهم،وأضعف استعدادهم
للمقاومة،فالحالة في غاية النحطاط والهبوط.
ن كيفية المواجهة ترتبط بالغايات المرادة من تلك الثاني:أ ّ
المواجهة.فموسى عليه السلم كانت له مهمة،مفادها إرسال بني إسرائيل
من قبضة فرعون والكف عن تعذيبهم،وذلك ما ُيرشد إليه قوله
تعالى’’:فأتياه فقول إّنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ول
ُتعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلم على من اتبع الهدى،إّنا
ذب وتولى‘‘.998وقوله ن العذاب على من ك ّ قد أوحي إلينا أ ّ
تعالى’’:فأتيا فرعون فقول إّنا رسول رب العالمين،أن أرسل
معنا بني إسرائيل‘‘.999أي)أطلقهم ول تعذبهم بالتكاليف الصعبة وقتل
الولدان،فإّنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل،
ويقتلون ذكور أولدهم في عام دون عام،وفي هذا دليل على أن تخليص
المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى اليمان ويجوز أن يكون للتدريج
في الدعوة(.1000
طب-فرعون والمل وآل فرعون خا َ
م َ
فالكيفية-إذن-مرتبطة بطبيعة ال ُ
خطاب ومضمونه،فالخطاب وإن والمستعبدين من بني إسرائيل-وبطبيعة ال ِ
كان مقصوده الساسي إطلق بني إسرائيل فقد حمل في طّياته-أيضا-
هجوما واضحا على أهم ما تقوم عليه شخصية فرعون من دعوى اللوهية
والربوبية،وبيان ذلك في قول موسى وهارون’’:إّنا رسول
ربك‘‘،1001والمعنى أّنهما)ُأمرا بذلك تحقيقا للحق من أول المر ليعرف
الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه(.1002وقولهما’’:إّنا رسول رب
] 998طه.[48-47:
]999الشعراء.[17-16:
1000تفسير البيضاوي).(53-4/52
] 1001طه.[47:
1002تفسير أبي السعود).(6/19
164
1003
م ما كان من جواب فرعون’’فمن ربكما يا العالمين‘‘ ،ث ّ
موسى.1005‘‘1004وإّنما قال ذلك لموسى)منكرا وجود الصانع الخالق إله كل
شيء وربه ومليكه(،1006فلم يكن سؤال بحث عن الحقيقة،وهو مؤشر على
بدء الصدام والخصام.
من هنا يتضح أن الدعوة لطلق بني إسرائيل كانت تعني بالّنسبة
لفرعون تدمير عرشه وهّز أركان مملكته،كما تعني-لو سّلم بالمر-انكشاف
كذبه فيما ادعاه من ُألوهية وربوبية.
سم كيفيةق ّدم-وبعد الّنظر في كتاب اللهُ-يمكننا أن ن ُ َعلى ضوء ما تق ّ
المواجهة إلى ثلثة مراحل-أي ثلثة مباحث:المبحث الول:مرحلة العداد
شرة في التنفيذ.المبحث الثالث:مرحلة للمواجهة.المبحث الثاني:مرحلة المبا َ
مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت في الحجة والبرهان.
]1003الشعراء.[16:
)1004قوله تعالى’’:فمن ربكما يا موسى‘‘أي وهارون فحذف للعلم به ويجوز أن يكون طلب
الخبار من موسى وحده إذ كان هو الصل(التبيان في إعراب القرآن).(2/122
] 1005طه.[49:
1006تفسير ابن كثير).(3/156
1007مسند أحمد)(5/256رقم)(22261وشعب اليمان)(6/93رقم).(7582وانظر:سنن
الترمذي،كتاب الفتن،باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل ثم سلطان جائر(4/471)،رقم)
،(2174قال أبو عيسى وفي الباب عن أبي أمامة وهذا حديث حسن غريب.
] 1008طه.[39:
1009البيان في تفسير غريب القرآن).(1/287وانظر:تفسير الطبري)(16/162وتفسير ابن كثير)
.(3/148
] 1010طه.[41:
165
من أجلها،فالتجرد التام من حظ الّنفس والذات والقبال على التضحية ركن
أساسي في مواجهة الطواغيت.1011
ولتحقيق العداد والتهيئة كان البتلء،وذلك معنى قوله تعالى’’:وفتّناك
فتونا‘‘،1012أي)وابتليناك ابتلء،أو أنواعا من البتلء على أّنه جمع فتن أو
فتنة،فخلصناك مرة بعد أخرى،وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة
عن الوطن والمشي راجل على حذر وفَ ْ
قد ِ الزاد وتأجير نفسه(،1013وهي كلها
تجارب ضرورية لتهيأة الشخصية القادرة على المواجهة.
ن طبيعة التهيئة والعداد تتناسب مع حجم المسؤولية والتكليف،وذلك إ ّ
ما نفهمه من قوله تعالى للرسول محمد صلى الله عليه وسلم’’:قم الليل
إل ّ قليل نصفه أو انقص منه قليل،أو زد عليه ورّتل القرآن
ترتيل،إّنا سنلقي عليك قول ثقيل‘‘،1014فالقول الثقيل لما فيه من
تكاليف علة في تلك المجاهدة حيث يسهل عليه التكليف بالتهجد
والعبادة،1015ومن هنا بدأ العداد للمهمة الكبرى وليس هناك إل ّ الجد
والجتهاد.
لهذا د ُّرب موسى عليه السلم على المشاق منذ الصغر،في)خط طويل
من الرعاية والتوجيه،ومن التلقي والتجريب،قبل الّنداء وقبل التكليف…
تجربة الرعاية والحب والتدليل.وتجرية الندفاع تحت ضغط الغيظ
الحبيس،وتجربة الّندم والتحرج والستغفار.وتجربة الخوف والمطاردة
والفزع.وتجربة الغربة والحدة والجوع.وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة
القصور.وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة؛ذلك
ن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات..ورسالة موسى أ ّ
بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر-عدا رسالة محمد-صلى الله عليه
وسلم-فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر،أعتى ملوك الرض في
زمانه،وأقدمهم عرشا،وأثبتهم ملكا،وأعرقهم حضارة،وأشدهم تعبيدا للخلق
واستعلء في الرض..وهو مرسل لستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل
حتى استمرأوا مذاقه،فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويل،والذل يفسد
الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن..وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة
قديمة،انحرفوا عنها،وفسدت صورتها في قلوبهم.فل هي قلوب خامة تتقبل
العقيدة الجيدة ببراءة وسلمة،ول هي باقية على عقيدتها القديمة،ومعالجة
مثل هذه القلوب شاقة عسيرة..وهو في اختصار مرسل لعادة بناء أمة،بل
لنشاءها من الساس.فلول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقل،له حياة
خاصة،تحكمها رسالة.وإنشاء المم عمل شاق عسير.ولعله لهذا المعنى
كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة،فهي نموذج كامل لبناء أمة على
أساس دعوة(.1016
ومن هنا كانت المقارنة لبراز هذا المعنى في قوله تعالى’’:إّنا أرسلنا
إليكم رسول شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون
رسول،فعصى فرعون الرسول فاخذناه اخذا
166
وبيل‘‘،1017أي)فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب
فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر(،1018ويظهر القياس-أيضًا-في قوله
تعالى’’:يا أيها الذين آمنوا ل تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الّله
مما قالوا‘‘،1019أي)ول تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله(،1020وفي
ي رضي اللههذا المعنى يندرج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل ّ
عنه’’أل ترضى أن تكون مّنى بمنزله هارون من موسى إل ّ أّنه ليس بعدى
ن في قصة فرعون ومواجهة موسى له عبرة ومثل للمة. نبى‘‘،1021ذلك أ ّ
بعض مميزات شخصية موسى والتي ُتعدّ نموذجا للشخصية
القادرة على مواجهة الطاغوت
أول:الّنفس العزيزة.
1022
)العّز خلف الذل..والعّزة الرفعة والمتناع( ،فالّنفس العزيزة هي
الّنفس الممتنعة على الطاغوت والرافضة للتطبيع والخنوع والذ ُ ّ
ل
والمهانة،1023وهي التي ل غنى عنها في مواجهة الطاغوت،ل تلك الّنفوس
م ينحصر دورها في التي تتعايش مع الواقع الذي ُينشؤه الطاغوت،ومن ث ّ
البحث الدائم عن حياة رخيصة في الهامش المتاح لها من قبل الطاغوت،بل
مثّبطوربما تتجنب فعل أي شيء قد يؤدي للصدام معه،وربما قامت بدور ال ُ
للثائرين عليه.
لقد كان أول ظهور عملي للشخصية العزيزة المتمثلة بموسى على
شكل ردة فعل منه عليه السلم على عدوان القبطي أول مرة ثم ردة فعله
ن
في الثانية-حتى كاد أن يبطش به-دليل على رفضه للذل والمهانة؛ذلك أ ّ
الشخصية العزيزة هي)التي ل تقبل الذل والهانة،وهي التي تقابل فرعون
وتقف في وجهه،ل تلك النفوس التي ألفت رؤية الطغيان يبطش وهم
ن هذا هو ن هذا هو الفضل،وأ ّ ن هذا هو الصل،وأ ّ ليتحركون،حتى وهموا أ ّ
ن هذا هو الصلح!فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم ن هذا هو الخلق!وأ ّ الدب،وأ ّ
عن نفسه،فُيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الوضاع التي يقوم
عليها…إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا
موا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا،أو جبارا،وصبوا عليه ودهشوا،وس ّ
لومهم ونقمتهم.ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إل ّ القليل!ولم
1024
يجدوا للمظلوم عذرا-حتى على فرض تهوره-من ضيقه بالظلم الثقيل!( .
إّننا وبدون هذه الشخصية العزيزة التي لم تسمرىء الظلم لن نستطيع
ن أخطر وضع يمكن أن يتصوره النسان في ظل شخصية مواجهة فرعون،وإ ّ
فرعون-أو أي طاغوت آخر-هو استمراء وقبول الجماهير المستذلة للوضع
]1017المزمل.[16-15:
1018تفسير ابن كثير).(4/439وانظر:تفسير أبي السعود)(9/52وفتح القدير)(5/319وروح
المعاني).(19/108
]1019الحزاب.[69:
1020تفسير الطبري).(22/50
1021صحيح البخاري،كتاب المغازي،باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة)(4/1602رقم).(4154
1022لسان العرب،مادة:عزز).(5/374
)1023العز حالة مانعة للنسان من أن يغلب والعزة قد يمدح بها كقوله’’:ولله العزة
ولرسوله‘‘.وقد يذم بها كعزة الكفار’’بل الذين كفروا في عزة‘‘،والعزة التي لله ورسوله
والمؤمنين هي العزة الحقيقية الدائمة الباقية،وعزة الكفار هي التعزز وهو في الحقيقة
ذل(التعاريف).(513-512
1024في ظلل القرآن).(333-6/332
167
القائم وعدم التفكير بتغييره،فمن يُهن يسُهل الهوان عليه.من هنا كان ل بد ّ
في مرحلة العداد من تعبئة مستمرة على رفض الظلم وتحريض على
الّتمرد والثورة.
ن الطريق إلى الرفعة واحدة ل ثانية لها،يقول تعالى’’:من كان يريد إ ّ
1025
العزة فلله العزة جميعا‘‘ ،أي من أراد الشرف والمنعة فليطلبها من
ن له كلها،1026ومحال علينا التحرر من نير الذل والستعباد إل ّ عند الله فإ ّ
بالرجوع إلى الله.
ن ما نراه من خنوع وخضوع من قبل قطاع كبير من الّناس ما هو إل ّ إ ّ
دليل على ضعف العزيمة واليمان في قلوبهم،فرغم ما يعانونه من اضطهاد
وقمع وأكل لحقوقهم..رغم هذا تجدهم ساكتين ل يؤلمهم هذا الظلم
والجور.وفي المقابل نجد كثيرا منهم متمردون على الله ل ينفذون أوامره
ول ينتهون عن نواهيه.فصار خوفهم من الطاغوت أشد مرات عدة من
خوفهم من الله،والتزامهم بشرع الطاغوت أقوى من التزامهم بشرع الله!
في مثل وسط كهذا من الخانعين لن يتورع الطغاة عن تنفيذ مآربهم،بل
وسيأتون بالمزيد من المأسي على شعوبهم،والسؤال من الذي يمنعهم؟
خنوع الجماهير أم خوفهم من الله؟!!أم أولئك الذين ُيمّرغون أنوفهم على
عتبات السلطان؟
ثانيا:المروءة والفطرة السليمة.
)المروءة كمال الرجولّية(،1027وهي)قوة للنفس مبدأ لصدور الفعال
الجميلة منها المستتبعة للمدح شرعا وعقل وعرفا،وقيل:أداة نفسانية يحمل
م محاسن الخلق وجميل العادات(1028؛ مراعاتها النسان على الوقوف ث َ ّ
فالمروءة تحمل صاحبها على إغاثة المنكوبين ورفع الظلم عن
المستضعفين.ولقد تمّثل كمال المروءة في شخص نبينا صلى الله عليه
وسلم،وذلك بشهادة السيدة خديجة رضي الله عنها حين قالت له صلى الله
عليه وسلم’’:والله ل يخزيك الله أبدا.إّنك لتصل الرحم،وتصدق
الحديث،وتحمل الكل،وتكسب المعدوم،وتقري الضيف،وتعين على نوائب
الحق‘‘،1029فأين أصحاب المروءة في هذا الزمن الذي علت فيه صيحات
الثكالى واليتامى من المسلمين؟أين نحن من قوله تعالى’’:وما لكم ل
تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والّنساء
والولدان‘‘ ،1030أي)ما لكم ل تسعون في خلص هؤلء(.1031
ن مجرد رؤية موسى عليه السلم لمرأتين تذودان حّرك في نفسه إ ّ
مشاعر الّنجدة والّنخوة والرجولة،يقول تعالى’’:ولما ورد ماء مدين وجد
علية امة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين
1032
ما
تذودان‘‘ .أي)تكفكفان غنمهما أن ترد غنم أولئك الرعاء لئل يؤذيا،فل ّ
رآهما موسى عليه السلم رق لهما ورحمهما(1033وهو)مشهد ل تستريح إليه
]1025فاطر.[10:
1026وانظر:تفسير البيضاوي).(4/413
1027لسان العرب،مادة:مرأ).(1/155
1028التعاريف).(651-650
1029الخصائص الكبرى).(1/156وانظر:أعلم النبوة)(1/311والسيرة الحلبية).(1/391
]1030النساء.[75:
1031زاد المسير).(2/132وانظر:معاني القرآن)(2/133وتفسير الواحدي).(1/275
] 1032القصص.[23:
1033تفسير ابن كثير).(3/384
168
النفس ذات المروءة،السليمة الفطرة،كنفس موسى عليه السلم،حين وجد
الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء،ووجد هناك امرأتين
تمنعان غنمهما عن ورود الماء.والولى عند ذوى المروءة والفطرة
السليمة،أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامها أول،وأن يفسح لهما الرجال
ويعينوهما(.1034
ن النشغال باللذة العاجلة والجاه الكاذب والمصالح الفانية عن القيام إ ّ
م سوى ض للمروءة وقتل لها،حيث لم يُعد للفرد ه ٌ بالواجب ونصرة الحق نق ٌ
نفسه-إل ّ من رحم ربي،-فهو منشغل بتوفير المتاع لها والراحة،وإذا طلب
نالنسان من نفسه القيام بالواجب وجدها عاجزة ضعيفة ثقيلة.والعجيب أ ّ
ل يقول’يجب‘!ولكن على من’يجب‘؟إّنه واقع مّر أن ترى العراض الك ّ
مة تخلت م ل تجد من ُينجدك.فغالبية ال ُّتستباح والبيوت ُتهدم والعدو ُيعربد..ث ّ
عن واجبها في نصرة المظلوم.أين الغنياء وأصحاب المليين من شعوب
وع؟أين الّرتب العسكرية وهم ينظرون إلى المستضعفين ُيسحقون ُتقهر وُتج ّ
م بهم عدت؟ونحن نسأل:هل هؤلء ُيقاوَ ُ بآلة العدو سحقا؟لمن هذه الجيوش ُ
عدتنا للمواجهة مع أشرس عدو وأخبث مّلة؟! فرعون؟هل هذه ُ
محّرك نحو القيام بواجب الّنصرة المروءة ليست مراهقة بل هي ال ُ
والعون والنقاذ)حتى ل تبقى فينا عين تطرف،وهي بذل المال حتى ل يبقى
لحد درهم.فإّنا لله وإّنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم
في أسر العدو وبأيديهم خزائن الموال وفضول الحوال والقدرة
والعدد(.1035يقول صلى الله عليه وسلم’’من ُقتل دون ماله فهو
شهيد‘‘،1036فكيف بمن يموت دون أمته وثروتها وعزتها وكرامتها؟
ثالثا:القوة والمانة
مكلف في مواجهة فرعون قويا قادرا على تنفيذ ما ّ أراد الله أن يكون ال ُ
ُأمر به،أمينا مؤد للتكليف؛فالقوة والمانة صفتان متلزمتان لحمل الدعوة
ده العجز عن المواجهة والتحدي،ولهذا قع ِ ُ
والتكليف،فالمين الضعيف عاجز ي ُ ْ
كان’’المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن
الضعيف‘‘.1037فالتكاليف الشرعية شاقة تحتاج إلى أخذها بقوة وخصوصا
من يكون في مركز القيادة،وهو معنى قوله تعالى’’:يا يحيى خذ عند َ
1038
الكتاب بقوة‘‘ ،أي بجد وحرص واجتهاد،وذلك بالعمل به والتزام أوامره
َ
دين جد ّ ل الهزل فيه،يقول تعالى’’:إّنه لقول والكف عن نواهيه.1039فأمُر ال ّ
فصل وما هو بالهزل‘‘،1040أي)فاصل بين الحق والباطل مبالغ في ذلك
كأنه نفس الفصل،وما هو بالهزل،بل كله جد محض ل هوادة فيه(.1041
ما القوة بل أمانة فطامة كبرى ومصيبة عظمى،ويكفي دللة على وأ ّ
ن إضاعة المانة من علمات الساعه،يقول صلى الله عليه وسلم’’إذا ذلك أ ّ
169
سد المر لغير ضيعت المانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وُ ّ
أهله فانتظر الساعة‘‘.1042
ورفع القرآن من شأن المانة فقال سبحانه’’:إّنا عرضنا المانة
على السماوات والرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها‘‘ ،1043والمعنى)إنها لعظمية شأنها بحيث لو عرضت على هذه الجرام
العظام وكانت ذات شعور وإدراك لبين أن يحملنها وأشفقن
ل شيء مطلوبة،وهي أعم من منها(.1044فالمانة عظيمة وهي في ك ّ
دين.1045 العهد،وكل عهد فهو أمانة،بل هي تعم جميع وظائف ال ّ
قب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ولحكمة بالغة أرادها الله ل ُ ّ
ن الله سبحانه)قد صانه وحماه من أهل الجاهلية الولى بالمين،ل ّ
صغره،وطهره من دنس الجاهلية،ومن كل عيب،ومنحه كل خلق جميل حتى
لم يعرف بين قومه إل بالمين لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه
وأمانته،حتى إّنه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلثين من عمره
فوصلوا إلى موضع الحجر السود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه،فقالت
م اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم،وكان رسول كل قبيلة:نحن نضعه،ث ّ
1046
ن قلوب الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا:جاء المين فرضوا به( ؛ذلك أ ّ
الّناس تهفوا نحو الفضيلة،فالنسان بفطرته يتطلع إليها،ويعلم أّنها فضيلة
وإن لم يكن هو صاحبها.
من هنا أثارت قوة موسى وأمانته انتباه تلك المرأة الصالحة حتى قالت
ن خير من استأجرت القوي المين‘‘،1047 لبيها’’:يا أبت استأجره إ ّ
ن خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ ماشيتك والقيام عليها )تقول إ ّ
في إصلحها وصلحها،المين الذي ل تخاف خيانته فيما تأمنه
عليه(،1048فالقوة والمانة)تعليل لما وقع منها من الرشاد لبيها إلى استئجار
موسى،أي إّنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعا بين خصلتي القوة
1049
من يتصف بالقوة والمانة( ،فإذا كان قطيع من الغنم يحتاج إلى َ
مة ويحمل لواء المواجهة للطاغوت! والمانة،فكيف بمن يقود أ ّ
رابعا:الصلبة والخشونة.
حين مواجهة الطاغوت ل بد ّ من شخصية تمتاز بالصلبة
والخشونة،فالشخصية المدللة المنعمة ل تستطيع المواجهة،فالمواجهة تعني
السوط والسجن والزنازين الضيقة المظلمة،والتضييق في الرزق بل
والحرب على لقمة العيش،والجراح المؤلمة والمشانق المتدلية..ول ننسى
فراق الحبة والولد! ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه’’:وإياكم
1042صحيح البخاري،كتاب العلم،باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب
السائل(1/33)،رقم).(59
]1043الحزاب.[72:
1044تفسير البيضاوي).(4/388
1045انظر:تفسير القرطبي).(12/107
1046ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي774-701)،هـ(،الفصول في اختصار
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم،جزء واحد،تحقيق :محمد العيد الخطراوي،محيي
الدين مستو،ط ،1مؤسسة علوم القرآن،دار القلم،بيروت1399،هـ،(83).وسأشير إليه لحقا
هكذا)الفصول(.
]1047القصص.[26:
1048تفسير الطبري).(20/63
1049فتح القدير).(4/169
170
ن رسول الله صلى الله عليه والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإ ّ
وسلم نهى عن لبوس الحرير‘‘.1050
لهذا كله كانت شخصية موسى عليه السلم صلبة خشنة،فبعد أن
مرّفها في القصور ها نحن نراه)وحيدا مطاردا في الطرق شاهدناه ُ
الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي
الحجاز.مسافات،وأبعاد مترامية،ل زاد ول استعداد..إّنه في قلب المخافة بعد
فترة من المن.بل من الرفاهية والطراءة والّنعمى.ونجده وحيدا مجردا من
قوى الرض الظاهرة جميعا،يطارده فرعون وجنده،ويبحثون عنه في كل
مكان،لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفل(.1051
ونرى موسى عليه السلم وهو في طريق عودته بعدما قضى الجل
قد)اشتاق إلى أهله،فقصد زيارتهم ببلد مصر في صورة مختف،فلما سار
بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا:واتفق ذلك في
ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم،فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب
المألوف،وجعل يوري زناده فل يوري شيئا،واشتد الظلم والبرد،فبينما هو
كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور،وهو الجبل الغربي منه عن
ن
يمينه،فقال لهله:امكثوا إني آنست نارا-وكأنه-والله أعلم-رآها دونهم،ل ّ
هذه النار هي نور في الحقيقة،ول يصلح رؤيتها لكل أحد-لعلي آتيكم منها
بخبر،أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق،أو جذوة من النار لعلكم
تصطلون(،1052يقول تعالى’’:إذ قال موسى لهله إني آنست نارا
سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم
تصطلون‘‘،1053فدل هذا على وجود الظلم وعلى كونهم تاهوا عن الطريق.
لقد كان موسى عليه السلم)حديدا خشنا متصلبا في كل
شيء(،1054فقد صّلبته التجارب،فمن الترف إلى شظف العيش،ومن المن
إلى قلب المخافة،وتلك هي التناقضات التي تكشف عن معادن
الرجال،يقول تعالى’’:ونبلوكم بالشر والخير فتنة‘‘،1055أي)نختبركم
بالمصائب تارة وبالنعم أخرى؛فننظر من يشكر ومن يكفر،ومن يصبر ومن
يقنط(.1056إّنه البلء الذي ُينتج الصلبة المطلوبة أمام الطواغيت حين تبدأ
المواجهة.
1050صحيح مسلم،كتاب اللباس والزينة،باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال
والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد
على أربع أصابع )(3/1642رقم).(2069
1051في ظلل القرآن)(6/335مع بعض التصرف.
1052البداية والّنهاية).(247-1/246
]1053النمل.[7:
1054تفسير البيضاوي).(4/67وانظر:تفسير أبي السعود).(6/38
]1055النبياء.[35:
1056تفسير ابن كثير).(3/179وانظر:تفسير القرطبي).(11/287
171
المبحث الثاني
شرة في التنفيذ مرحلة المبا َ
تأتي مرحلة التنفيذ بعد العداد والتهيئة،تأتي وقد تجهز موسى عليه
السلم وتسّلح بكل ما هو ضروري لتلك المواجهة.ول نريد هنا سرد الحداث
فتلك مسألة معلومة،ولكن نريد أن نقرأ حدث المواجهة لستنباط العناصر
الساسية في تلك المواجهة،وفي كل مواجهة مثلها مع الطواغيت،والتي
ُيمكن إجمالها فيما يلي:
أول:بيان هدف الدعوة وغايتها مع تقديم الحجة والبرهان
)البيان إخراج الشيء من حيز الشكال إلى حيز التجلي،أو إظهار
المعنى للنفس حتى يتبين من غيره وينفصل عما يلتبس به،أو هو إظهار
المتكلم المراد للسامع(1057؛فالكلمة المبّينة لهدف الدعوة وغايتها بصورة ل
غبش فيها ول تشويش،وبذل الجهد المستطاع حتى تكون الدعوة مفهومة
ن قيمة الشيء تكمن في فهمه من تخاطبه أمر في غاية الهمية،إذ أ ّ عند َ
وإدراكه،فإذا لم ُتدرك الجماهير هدف الدعوة وغايتها تبقى الدعوة ل قيمة
لها،فنجاح الدعوة-بعد مشيئة الله سبحانه-منوط بوضوح الخطاب ويسره؛
ن الله سّهل القرآن وهيأه للذكر والتعاظ،1058يقول تعالى’’:ولقد ذلك أ ّ
1059
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‘‘ .ول بد ّ لهذه الكلمة المعبرة
الصادقة من تحريك وعي الجماهير حتى تصبح جماهير حّية قادرة على
التمييز والمعرفة،فتعبئة الجماهير فكريا أمر ملح وضروري.
والبيان الّناجح هو البيان الذي يعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة،
)أي بالمقالة المحكمة الصحيحة،والدليل الموضح للحق المزيح
مقنعة على وجه ل يخفى على الّناس وجه للشبهة،والعبر النافعة ال ُ
الحق(،1060وذلك بأسلوب ل إفراط فيه ول تفريط؛فالتشدد في غير موضعه
دين.
ن التفريط إضاعة للحق وال ّ تنفير وتدمير،كما أ ّ
نريد بيانا يكشف عن المعنى المقصود وإظهاره كما هو منهج
القرآن،يقول تعالى’’:هذا بيان للناس‘‘)،1061فالقرآن أعلى منازل البيان
وأعلى مراتبه،حيث جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه من تعديل
النظم وسلمته وحسنه وبهجته وحسن موقعه في السمع وسهولته على
اللسان ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهد..وإذا عل
الكلم في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما
يذهل،ويبهج ويقلق ويؤنس ويطمع ويؤيس ويضحك ويبكي ويحزن ويفرح
ويسكن ويزعج ويشجي ويطرب ويهز العطاف ويستميل نحوه السماع
ويورث الريحية والعزة،وقد يبعث على بذل المهج والموال شجاعة
1057والبيان أنواع) :بيان التقرير وهو توكيد الكلم بما يرفع احتمال المجاز والتخصيص.وبيان
التفسير ما فيه خفاء من المشترك أو المشكل أو المجمل أو الخفي.وبيان التغيير وهو تغيير
موجب الكلم نحو التعليق والستثناء والتخصيص .وبيان الضرورة هو نوع بيان يقع بغير ما وضع
له لضرورة إذ الموضوع له النطق وهذا يقع بالسكوت.وبيان التبديل وهو النسخ أي نسخ حكم
شرعي بدليل شرعي متأخر(.التعاريف)(150-1/149مع بعض التصرف.
1058انظر:تفسير البيضاوي)(5/266والبرهان في علوم القرآن).(3/9
]1059القمر.[17:
1060تفسير أبي السعود)(5/151مع بعض التصرف.
]1061آل عمران.[138:
172
وجودا،ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا،وله مسالك في النفوس
لطيفة ومداخل إلى القلوب دقيقة(،1062ول عجب من ذلك فالبيان الناجح له
ن من البيانتأثير عظيم على القلوب،يقول صلى الله عليه وسلم’’:إ ّ
لسحرا‘‘.1063
ما كان البيان خطوة أولى ذات أهمية قصوى سأل موسى عليه ول ّ
السلم ربه عز وجل أن يحلل عقدة من لسانه تعينه على البلغ’’،واحلل
عقدة من لساني،يفقهوا قولي‘‘)،1064أي يعلموا ما أقوله لهم
ويفهموه،والفقه في كلم العرب الفهم(،1065وذلك لّنه كانت في لسانه
عجمه.وذلك معنى قوله’’:ويضيق صدري ول ينطلق لساني فأرسل
الى هارون‘‘،1066أي ول ينطلق لساني في المحاجة على ما أحب،فأرسل
ن من ل إلى هارون ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني).وفي هذا دليل على أ ّ
يستقل بأمر ويخاف من نفسه تقصيرا أن يأخذ من يستعين به عليه،ول
ن الواقع ن الغاية هي البيان وليس التفرد فيه،بل إ ّ يلحقه في ذلك لوم(،1067ل ّ
اليوم يحتاج إلى تعاون كبير في البيان والتبليغ.
من هنا كانت نقطة البدء عند موسى عليه السلم-في مرحلة المباشرة
والتنفيذ-بيان قاعدة رسالتهما’’:إّنا رسول ربك‘‘)،1068ليشعر منذ اللحظة
ن هناك إلها هو ربه.وهورب كل الناس.فليس هو إلها خاصا بموسى الولى بأ ّ
ن لكل وهارون أو ببني إسرائيل،كما كان سائدا في خرافات الوثنية يومذاك أ ّ
قوم إلها أو آلهة،ولكل قبيل إلها أو آلهة.أو كما سائدا في بعض العصور من
أن فرعون مصر اله يعبد فيها لّنه من نسل اللهة(.1069يجب توضيح الساس
الذي تقوم عليه الدعوة مهما كّلف هذا من ثمن عظيم،لّنه الصل الذي ُيبنى
عليه كل شيء بعده،ولّنه ُينقذ الّناس من الحيرة وعدم الفهم،وحتى تكون
الّناس على بّينة من أول المر.وسنعاني كثيرا إذا لم نبّين للجماهير أصل
ن ثغرة كبيرة تحول بين الّناس دعوتنا ومنبع فكرنا،وسنجد بعد كل محاولة أ ّ
وبيننا.
لقد أوضح موسى عليه السلم حقيقة أمره هكذا مّرة واحدة واضعا
ل الحقيقة بين يدي الجماهير’’:يا فرعون إّني رسول من رب ك ّ
1070
ن وضوح الخطاب أساس في نجاح الدعوة،ولهذا كانت العالمين‘‘ ؛ذلك أ ّ
دوا إلي عباد كلمات موسى عليه السلم موجزة معبرة حين قال’’:أن أ ّ
الله إّني لكم رسول أمين،وأل ّ تعلو على الله إّني آتيكم بسلطان
مبين‘‘،1071أي)أن ل تطغو وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا
أمره(.1072
1062الباقلني:أبو بكر ،محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم،إعجاز القرآن،جزء
واحد ،تحقيق :السيد أحمد صقر،دار المعارف ،القاهرة،(277-1/276).وسأشير إليه لحقا
هكذا)إعجاز القرآن(.
1063صحيح البخاري،كتاب النكاح،باب الخطبة)(5/1976رقم).(4851
]1064طه.[28-27:
1065تفسير القرطبي).(11/193
]1066الشعراء.[13:
1067تفسير القرطبي).(13/92
]1068طه.[47:
1069في ظلل القرآن).(5/476
]1070العراف.[104:
]1071الدخان.[19-18:
1072تفسير الطبري).(25/119
173
م نبه عليه السلم إلى وجود الحجة والدليل،فالبّينة على من ث ّ
ادعى،وذلك كي يقف الّناس-ومنهم فرعون-على الحقيقة التي يدعمها
البرهان الساطع الذي ل لبس فيه،فل يطالب الّناس بالّتباع إل ّ بعد أن
تلزمهم الحجة ويقوم عليهم الدليل،فيؤمن من يؤمن عن بّينة ويكفر من
يكفر عن بّينة.ولهذا قال’’:قد جئناك بآية من ربك‘‘،1073أي ببينة تدل
على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك،في هذه المهمة التي حددناها،وذلك
مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب المتثال بأمرهما،فهو حقيق على أن ل
يقول على الله إل ّ الحق،أي جدير بذلك وحريص عليه،فذلك واجب وحق
علي أن ل أخبر عنه سبحانه إل ّ بما هو حق وصدق.1074
وإظهار اسم الرب مّرة بعد أخرى في خطاب موسى عليه السلم
ن هناك إلها هو رب فرعون ورب كل لفرعون كان لتأكيد الحقيقة الولى أ ّ
شيء ،وكذلك الحال في قوله تعالى’’:قد جئتكم ببينة من
ربكم‘‘.1075أي)قد جئتكم ببرهان من ربكم يشهد أيها القوم على صحة ما
1076
م بّين له العاقبة بقوله’’:والسلم على أقول وصدق ما أذكر لكم( ،ث ّ
من اتبع الهدى‘‘،1077دون مواربة أو مداهنة،أي)من اتبع الهدى سلم من
سخط الله عز وجل وعذابه،وليس بتحية،والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء
لقاء ول خطاب(.1078
وهذا هو معنى قوله تعالى لموسى وهارون’’:فقول له قول
لينا‘‘،1079فالقول اللّين هو)القول الذي ل خشونة فيه ..فإذا كان موسى ُأمر
بأن يقول لفرعون قول لينا فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه
وأمره بالمعروف في كلمه(،1080وقد قال تعالى’’:وقولوا للّناس
حسنا‘‘)،1081فالقول اللين ل يثير العزة بالثم،ول يهيج الكبرياء الزائف الذي
يعيش به الطغاة.ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة
الطغيان(،1082لذلك علم الله سبحانه موسى عليه السلم كيف يخاطب
الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب،لعله ينتهي،ويتقي غضب الله
ن فرعون في غاية العتو وأخذه،وفي)هذه الية عبرة عظيمة وهي أ ّ
ُ
والستكبار،وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك،ومع هذا أمر أن ل يخاطب
فرعون إل بالملطفة واللين(.1083يقول تعالى’’:اذهب إلى فرعون إّنه
طغى فقل هل لك إلى أن تزكى‘‘،1084هل لك الى أن تتطهر من
الكفر والطغيان ومن دنس الذنوب؟’’وأهديك الى ربك
]1073طه.[47:
1074انظر:تفسير ابن كثير)(2/236وتفسير القرطبي)(7/256والبرهان في علوم القرآن)
..(3/338
]1075العراف.[105:
1076تفسير الطبري).(9/14
]1077طه.[47:
1078تفسير القرطبي).(11/203
]1079طه.[44:
1080تفسير القرطبي).(11/200
]1081البقرة.[83:
1082في ظلل القرآن).(5/474
1083تفيسر ابن كثير).(3/154
]1084الّنازعات.[18-17:
174
فتخشى‘‘..1085هل لك أن أعرفك طريق ربك.فتخافه وتتقيه،إذ الخشية إّنما
تكون بعد المعرفة.فما يطغى النسان ويعصي إل ّ وهو بعيد عن ربه.1086
ومن هنا-أيضا-نفهم قوله تعالى لسيدنا محمد صّلى الله عليه
وسلم’’:فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب
لنفضوا من حولك‘‘ .1087أي)فبرحمة من الله لنت لهم أي سهلت لهم
أخلقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بالغضب،ولو كنت فظا يعني جافيا
سيء الخلق قليل الحتمال،غليظ القلب لنفضوا من حولك أي نفروا
وتفرقوا عنك(،1088فالقليل من العطف على أخطاء الّناس وهفواتهم،وعدم
لتهم تقّرب المسافة بيننا وبينهم،وليس هذا تملق أو تزييف تتبع عوراتهم وز ّ
للحقيقة بل إيصالها بوجه حسن وأسلوب يرفع قابلية الّناس لستقبال دعوتنا
إلى الله سبحانه.
وهكذا جعل لين الجانب من مظاهر رحمة الله على النبي صلى الله
عليه وسلم،ويشبه ذلك قوله تعالى’’:لقد جاءكم رسول من أنفسكم
عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف
1089
ما)يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة رحيم‘‘ .م ّ
والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى(،1090كما في قوله تعالىُ’’:أدع إلى
سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن‘‘.1091
ما كان لين القول ليس على حساب الحقيقة زاد موسى عليه السلم ول ّ
ن العذاب على من كذب في بيانه،فقال’’:إّنا قد أوحي إلينا أ ّ
ذب الرسل وتولى عن اليمان؛ ن العذاب على من ك ّوتولى‘‘،1092أي أ ّ
ن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة،ل يعني الخشونة ذلك)أ ّ
َ
والفظاظة؛فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل
ربه بالحكمة والموعظة الحسنة-وليس هنالك تعارض ول اختلف بين
التوجيهات القرآنية المتعددة-والحكمة والموعظة الحسنة ل تجافيان الحسم
والفصل في بيان كلمة الحق.فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة
التبليغ وموضوعه.والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة
في العقيدة،وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها.فالحقيقة
العتقادية ليس فيها أنصاف حلول(،1093وهكذا نفهم لين القول ل كما يفهمه
بعض المهزومين أمام ضغط الجاهلية والعلمانية والطاغوت.
ن هذا الخطاب وهذه النبرة كانت في بداية م يجب أن ندرك أ ّ ث ّ
المواجهة مع فرعون،ولكّنه حين أصر على الكفر وهدد وأرعد واتهم موسى
بالباطل رد ّ عليه موسى عليه السلم بقوله’’:وإّني لظّنك يا فرعون
]1085الّنازعات.[19:
1086انظر:تفسير الطبري)(30/39وتفسير البيضاوي)(5/447وتفسير القرطبي).(19/201
]1087آل عمران.[159:
1088تفسير البغوي)(1/365مع بعض التصرف.وانظر:تفسير النسفي)(1/188والدر المنثور)
(2/358ومعاني القرآن)(1/500وتفسير الثعالبي)(1/326وتفسير الجللين).(1/89
]1089التوبة.[128:
1090أحكام القرآن للجصاص).(2/329
]1091النحل.[125:
]1092طه.[48:
1093في ظلل القرآن).(2/805
175
ن هنا بمعنى التحقيق،1095أي)إني لظنك يا فرعون ملعونا 1094
مثبورا‘‘ ،والظ ّ
ممنوعا من الخير(،1096فل يجب أن نفهم من لين القول في بداية الدعوة
ن من الضعف والمواجهة أّنه لن تكون هناك مخاشنة إذا اقتضت المور،بل إ ّ
أن نواجه صلف الطاغوت بلين ُنخفي وراءه ضعف القدرة عن قول كلمة
الحق!
ثانيا:القدره على التعامل مع المواقف المختلفة
والمستجدة وسرعة البديهة وروح المبادرة
لن تنتهي المور بهذا الحد من البيان؛فليس قيام الدعاة بعرض دعوتهم
ل جهد مستطاع في إيصال حقائقها نهاية بالبيان الشافي والكافي لها،وبذل ك ّ
المطاف،فالطاغوت سيحاور ويناور ولن ُيقر بالحق بسهولة،وسيحاول دفع
ما يتطلب وجود مهارات الحق بكل وسيلة مستخدما كل مكره ودهائه،م ّ
وقدرات خاصة للرد ّ عليه.وهذا ما سنعرضه من خلل تعامل موسى عليه
السلم مع مواقف فرعون المختلفة بما ُيثبت ضرورة القدرة على التعامل
مع المواقف المستحدثة.ولن ُنسهب كثيرا بتعداد الردود بل يكفي منها ما
ل على تلك القدرة والبراعة التي يجب أن ُنوفرها في الدعاة إلى الله. يد ّ
موسى عليه السلم ُيدير الحوار بنباهة واقتدار
فبعد ما أتياه وقال له ما ُأمرا به.1097قال فرعون:فمن ربكما يا موسى؟
و)لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى’’:إّنا
رسول ربك‘‘،1098وقوله تعالى’’:قد جئناك بآية من ربك‘‘،1099لغاية
عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما(.1100قال موسى:ربنا الذي أعطى كل
م هدى’’1101أي)الذي أعطى كل شيء من النواع خلقه صورته شيء خلقه ث ّ
وشكله الذي يطابق كماله الممكن له،أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون
م عّرفه كيف يرتفق بما إليه ويرتفقون به..أي أعطى كل مخلوق ما يصلحه.ث ّ
ُأعطي،وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا.وهو جواب في
غاية البلغة لختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها،ودللته
ن جميع ن الغني القادر بالذات المنعم على الطلق هو الله تعالى،وأ ّ على أ ّ
1102
ماعداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله( .
و)لما شاهد اللعين مانظمه موسى عليه الصلة والسلم في سلك
الستدلل من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس أحقية
مقالته عليه الصلة والسلم وبطلن خرافات نفسه ظهورا بّينا،فأراد أن
يصرفه عليه الصلة والسلم عن سننه إلى مال يعنيه من المور التي ل تعلق
لها بالرسالة من الحكايات،ويشغله عما هو بصدده عسى أن يظهر فيه نوع
غفلة؛فيتسلق بذلك إلى أن يدعى بين يدي قومه نوع
]1094السراء.[102:
1095انظر:تفسير القرطبي).(10/337
1096تفسير الطبري).(15/175
)1097ولعله حذف لدللة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله ل محالة(تفسير البيضاوي)
.(4/53وانظر:تفسير الطبري).(16/171
]1098طه.[47:
]1099طه.[47:
1100تفسير أبي السعود).(6/19
]1101طه.[50-49:
1102تفسير البيضاوي)(4/54مع بعض التصرف.
176
مان فرعون ل ّ معرفة(،1103فقال’’:فما بال القرون الولى‘‘)،1104ذلك أ ّ
ن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى شرع أخبره موسى بأ ّ
يحتج بالقرون الولى،أي الذين لم يعبدوا الله،أي فما بالهم إذا كان المر
كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره(،1105فما حالهم بعد موتهم من السعادة
والشقاوة؟قال موسى’’:علمها عند ربي‘‘،1106أي هو غيب ل يعلمه إل
هو،وإّنما أنا عبد مثلك ل أعلم منه إل ما أخبرني به في كتاب مثبت في
اللوح المحفوظ،ويجوز أن يكون تمثيل لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم
وقيده بالكتبة،ويؤيده قوله’’:في كتاب ل يضل ربي ول
ينسى‘‘،1107والضلل أن تخطىء الشيء في مكانه فلم تهتد إليه،والنسيان
أن تذهب عنه بحيث ل يخطر ببالك،وهما محالن على العالم بالذات،ويجوز
أن يكون سؤاله دخل على إحاطة قدرة الله تعالى.1108
و)لقد أجاب عليه الصلة والسلم عن السؤال بجواب عبقري بديع،حيث
ما كان بصدده من بيان كشف عن حقيقة الحق حجابها،مع أّنه لم يخرج ع ّ
م تخلص إليه حيث قال بطريق الحكاية عن الله عز شئونه تعالى،ث ّ
وجل’’:الذي جعل لكم الرض مهدا وسلك لكم فيها سبل وأنزل
من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى‘‘،1109أي جعلها
لكم كالمهد تتمهدونها أو ذات مهد،وجعل كل موضع منها مهدا لكل واحد
منكم،وسلك لكم فيها سبل،أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال
والودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم،وتنتفعوا
بمنافعها ومرافقها،وأنزل من السماء ماء،فأخرجنا بذلك الماء أزواجا من
نبات شتى،وذلك دللة على كمال القدرة والحكمة،واليذان بأّنه ل يتأتى إل
من قادر مطاع عظيم الشأن تنقاد لمره وتذعن لمشيئته الشياء
المختلفة(.1110
الطاغوت يثير الشبهات وموسى عليه السلم يرد عليها
ويدحضها
صدم فرعون بدعوة موسى وهارون عليهما السلم،وتفاجأ بعد أن ُ
بقولهما’’:إّنا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني
إسرائيل‘‘،1111راح يفتش عن شبهة يدحض بها ما به دمار عرشه وذهاب
ملكه وبيان دجله وكذبه،فقال موجها الخطاب لموسى عليه السلم’’:ألم
نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين،وفعلت فعلتك التي
1112
ن عليهفعلت وأنت من الكافرين‘‘ .قال ذلك على جهة الم ّ
والحتقار،أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا،ولبثت فينا من
م قرره بقتل القبطي عمرك سنين فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ث ّ
بقوله:وفعلت فعلتك التي فعلت،وّبخه بها معظما إياها بعدما عدد عليه
177
نعمته،أي ِفعل ََتك الفظيعة التي تعرف،والتي ل يليق الحديث عنها بألفاظ
ن الله أرسلك؟وأنت من الكافرين صريحة،فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأ ّ
بالّنعم المعتادين لغمطها،ومن اعتاد ذلك ل يكون مثل هذه الجناية بدعا
منه،فعمدت إلى قتل خواصي،أو ممن تكفرهم الن،فإّنه عليه الصلة
والسلم معصوم من الكفر وكان يعايشهم بالتقية،أو أّنه من الكافرين بآلهيته
أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم.1113
تلك هي سياسة الطاغوت حين يعمد إلى إشغال الجماعة المسلمة في
معارك جانبية ُتبعدها عن هدفها الساسي الذي من أجله تتحرك
وتجاهد،ويحاول عبر مناوراته ومؤامراته وضعها في دائرة التهام،لتعطيل
قدرتها على إحداث التغيير المنشود.حينئذ يجب على الجماعة النتباه
واليقظة من الفخ المنصوب على الطريق،بحيث تستطيع أن تتخطاه دون أن
يؤثر ذلك على الخط العام الذي تسير الجماعة عليه.وهكذا جمع موسى
دم إلىمثارة وبين التق ّمحكم على الشبهة ال ُ عليه السلم بين الرد ّ ال ُ
المام.فماذا كان جواب موسى عليه السلم؟
قال موسى عليه السلم مجيبا له)مصدقا له في القتل ومكذبا فيما
نسبه إليه من الكفر(’’:1114فعلتها إذا وأنا من الضالين،ففررت منكم
لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين،وتلك
نعمة تمّنها علي أن عبدت بني إسرائيل‘‘،1115أي فعلتها)قبل أن
ُيوحى إلي وُينعم الله علي بالرسالة والنبوه(،1116أو)من الخاطئين لّنه لم
ما يؤول إليه الوكز لّنه أراد به التأديب،أو يتعمد قتله،أو من الذاهلين ع ّ
الّناسين(1117من قوله تعالى’’:أن تضل إحداهما‘‘ ).ففررت منكم إلى
1118
178
البراق والرعاد شرع في العتراض على دعواه ورأى أّنه لم يرعو
سل’’،قال فرعون وما رب مْر ِ
بذلك،فبدأ بالستفسار عن حقيقة ال ُ
1122
العالمين‘‘ ،حكاية لما وقع في عباراته عليه الصلة والسلم،أي أيّ
شيء رب العالمين الذي ادعيت أّنك رسوله؟متهكما على القول
والقائل،ومنكرا لن يكون للعالمين رب سواه حسبما يعرب عنه قوله’’:أنا
ربكم العلى‘‘،1123وقوله’’:ما علمت لكم من إله غيري‘‘ ،1124وينطق
به وعيده عند تمام أجوبته عليه الصلة والسلم(.1125
فأجاب موسى بقوله’’:رب السموات والرض وما بينهما‘‘،1126
)وهو جواب ُيكافئ ذلك التجاهل ويغيظه.إّنه رب هذا الكون الهائل الذي ل
يبلغ إليه سلطانك-يافرعون -ول علمك .وقصارى ما ادعاه فرعون أّنه إله
هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل.وهو ملك صغير ضئيل،كالذرة
والهباءة في ملكوت السماوات والرض وما بينهما.وكذلك كان جواب
موسى-عليه السلم-يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلنه،وتوجيه
نظره إلى هذا الكون الهائل،والتفكير فيمن يكون ربه..فهو رب
1127
م عقب على هذا التوجيه بما حكايته’’:إن كنتم العالمين!( ...ث ّ
موقنين‘‘،1128أي)إن كنتم موقنين الشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن
كنتم موقنين بشيء من الشياء فهذا أولى باليقان لظهوره وإنارة
دليله(.1129
قال فرعون عند سماع جوابه عليه الصلة والسلم خوفا من تأثيره في
قلوب قومه وإذعانهم له لمن حوله من أشراف قومه’’:أل
تستمعون‘‘،1130أي جوابه.سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله .
1131
179
رب قومه،فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم!وهو رب آبائهم
الولين.فالوارثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة.فما كان من
قبل إل الله رب للعالمين!(.1135
ن ما قاله عليه الصلة والسلم حينئذ خاف من تأثر قومه منه،فأراهم أ ّ
مما ل يصدر عن العقلء صدا لهم عن قبوله،فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء
ن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘،1136أسأله بحرفي التأكيد’’:إ ّ
عن شيء ويجيبني عن آخر.قال ذلك ليفتنهم ويصرفهم عن قبول
ماه رسول بطريق الستهزاء،وأضافه إلى مخاطبية ترفعا من أن الحق،وس ّ
1137
يكون مرسل إلى نفسه .
قال موسى تكميل لجوابه الول وتفسيرا له وتنبيها على جهلهم وعدم
فهمهم’’:رب المشرق والمغرب وما بينهما،إن كنتم
تعقلون‘‘،1138تشهدون كل يوم أّنه يأتي بالشمس من المشرق،وُيحركها
على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع
تنتظم به أمور الكائنات،فإن كان لكم عقل علمتم أن لجواب لكم فوق
ذلك،وفيه إيذان بغاية وضوح المر بحيث ل يشتبه على من له عقل في
الجملة،وتلويح بأّنهم بمعزل من دائرة العقل،وأّنهم المتصفون بما رموه عليه
م لما رأى شدة الصلة والسلم به من الجنون.لي َن َُهم-عليه السلم-أول ث ّ
شكيمتهم خاشنهم،وعارضهم بمثل مقالهم.1139
ما سمع من موسى عليه الصلة والسلم تلك المقالت قال اللعين ل ّ
مبن ِّية على أساس الحكم البالغة،وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على ال َ
شية أمره،وأّنه ممن ل ُيجاري في حلبة المحاورة،ضرب صفحا عن عن َتم ِ
المقاولة بالنصاف،ونأى بجانبه إلى عدوة الجور والعتساف.فقال مظهرا
لما كان يضمره عند السؤال والجواب’’:لئن اتخذت إلها غيري لجعلّنك
من المسجونين‘‘،1140عدول إلى التهديد عن المحاجة بعد النقطاع،وهكذا
دين المعاند المحجوج،وتلك هي مأساة الطواغيت في كل زمان ومكان.1141
ده
إّننا ومن خلل هذا الحوار الذي أداره موسى عليه السلم وكيفية ر ّ
على الشبهات والسئلة التي أثارها فرعون ندرك مدى ما كان يتمتع به
موسى من قدرة على الحوار والمناقشة والقناع بالحجة والدليل والمنطق
ن من أراد أن يتصدر للدعوة إلى الله-وخصوصا الواضح السليم.وهذا يعني أ ّ
ه من العداء-ل بد ّ له من قدرات ومهارات خاصة هذه اليام حيث تثار ال ّ
شب َ ُ
بالضافة إلى سعة العلم والطلع وخصوصا على ثقافة العصر ولغته وما
يدور فيه من أحداث وأفكار.
ن سعة الصدر وغزارة العلم مؤهلت ضرورية لكل من أراد أن يتصدر إ ّ
ن مناقشة الشبهات والراء تستلزم مثل هذه طاولة الحوار والمناقشة؛ذلك أ ّ
المؤهلت.ومن هنا فإّننا ُنؤاخذ كل من يضع نفسه في مقام ل يستطيع
ن هناك من يتصدر للدعوة في ظروف القيام بما يمليه عليه ذلك المقام،بل إ ّ
معينة ويفشل في إدارة الحوار ويعجز عن الرد،وبالتالي ُيظهر السلم وكأّنه
1135في ظلل القرآن).(6/203
]1136الشعراء.[27:
1137انظر:تفسير أبي السعود)(6/239وتفسير البيضاي)(4/235وفتح القدير).(4/97
]1138الشعراء.[28:
1139انظر:تفسير البيضاوي)(4/236وتفسير أبي السعود)(6/240وروح المعاني)(19/73
]1140الشعراء.[29:
1141انظر:تفسير أبي السعود)(6/240وتفسير البيضاوي)(4/236وفتح القدير).(4/98
180
دين ضعيف،فيسيء من حيث أراد الحسان،وربما-وللسف-هناك من يعد ّ
الظهور في الحوارات نوعا من الوجاهة ولو كانت على حساب الدين،وهذه
طامة كبرى.
كما ل بد-للمتصدر للحوار-أن تتوفر فيه الشجاعة لقول كلمة الحق ،وأن
ل يداهن على حساب هذا الدين،طمعا في منصب أو جاه أو مال!وعليه أن ل
ُيساير الباطل ولو قيد ُأنملة.وهناك من يأتي بالعبارات المبهمة يتحاشى
بذلك قول الحقيقة الساطعة الواضحة؛فتبقى المور ضبابية غير معلومة عند
الجماهير الذين يشاهدون ويسمعون،وهي علة ُيعاني منها الخطاب
السلمي،وسبب في تعثر المسير نحو الهدف.
دينوفي مقابل المبهوتين بالحضارة الغربية والداعين لتطوير ال ّ
دين كما وأّنه ليواكب-بزعمهم-لغة العصر يأتي المتنطعون،والذين ُيظهرون ال ّ
زنزانة فكرية متحجرة،ويظنون بهذا أّنهم ُيحافظون على الدين
ن هناك فّرون الّناس منه،بل إ ّ ن عليه ويخربونه وي ُن َ ِضو َ
ويخدمونه،وهم بذلك يق ُ
دين ولفقد قدرته على الحياة. من لو ترك المر إليهم لمات هذا ال ّ
نحن بحاجة إلى إتقان الوسطية وعرضها على الّناس بأسلوب
ذاب،نرد به على الشبهات بلباقة وحنكة ومهارة،ونقنع الّناس بديننا بالتي ج ّ
هي أحسن،وتلك هي الحكمة التي أرادها الله’’،ومن يؤت الحكمة فقد
أوتي خيرا كثيرا‘‘.1142أي الفقه والفهم والصابة في القول والفعل.1143
موسى عليه السلم ُيجيد ترتيب المباراة مع السحرة
ن براعة موسى علية السلم ومهارته وفطنته لتظهر ساطعة في إ ّ
ذب وأبى اليمان والطاعة ن فرعون ك ّ ترتيب المباراة مع السحرة،ذلك أ ّ
علمه ن موسى ما جاء إل ّ ليخرجهم من أرضهم بسحره،ولول ِ لعتوه،وادعى أ ّ
ن الساحر ل يقدر أن بالحق الذي جاء به موسى لما خاف منه على ملكه،فإ ّ
ُيخرج ملكا مثله من أرضه،1144ولكّنه كابر وأكد ّ أّنه سيأتي بسحر مثل سحر
موسى-بزعمه-ليعارضه به،وقال’’:فلنأتيّنك بسحر مثله فاجعل بيننا
وبينك موعدا ل ُنخلفه نحن ول أنت مكانا سوى‘‘،أي)مكان عدل
بيننا وبينك(.1145وإّنما)فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه الصلة
والسلم للحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال وإظهار
الجلدة،وإراءة أّنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلت المغالبة
طال المد أم قصر(.1146
وقبل موسى عليه السلم الّتحدي وزاد في توسيع دائرة الحضور
مستغل عنجهية فرعون وغطرسته في التحضير العريض لتلك المباراة
الشهيرة،وقال’’:موعدكم يوم الزينة وأن ُيحشر الّناس
ضحى‘‘،1147ويوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الّناس فيه،و)هو
يوم عيدهم،وتفرغهم من أعمالهم،وإجتماع جميعهم،ليشاهد الناس قدرة الله
على ما يشاء ومعجزات النبياء وبطلن معارضة السحر لخوارق العادات
النبوية،ولهذا قال:وأن ُيحشر الّناس أي جميعهم ضحى أي ضحوة من الّنهار،
]1142البقرة.[269:
1143انظر:تفسير الطبري).(90-3/89
1144انظر:تفسير البيضاوي).(4/56
1145تفسير الطبري).(16/176
1146تفسير أبي السعود).(6/24
]1147طه.[59:
181
ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح،وهكذا شأن النبياء كل أمرهم بين واضح
ليس فيه خفاء ول ترويج،ولهذا لم يقل ليل ولكن نهارا ضحى(،1148وإّنما قال
ذلك ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الشهاد،ويشيع ذلك في
القطار.1149
ده على السحرة،حين وتظهر صلبة موسى عليه كما تظهر براعته في ر ّ
بدأ مطمئنا إلى الحق الذي معه،وغير مكترث لجموع السحرة المحشودين
من المدائن المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة،ومن وراءهم
فرعون وملؤه،وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة..لقد تجلى هذا
الطمئان والثبات والصلبة والبراعة في تركه إياهم يبدأون،بل وبالجابة
ما أن نكون أول ما أن تلقي وإ ّ المختصرة،حين’’قالوا يا موسى إ ّ
من ألقى‘‘،1150فقال موسى’’:بل ألقوا‘‘ ،إظهارا لعدم المبالة
1151
المبحث الثالث
182
مرحلة مواجهة البتلءات والمحن بعد إفلس الطاغوت
في الحجة والبرهان
تبدأ مرحلة البتلء عادة بعد أن يشعر الطاغوت بالفلس
والخطر،فينتقل من الحجة والبيان إلى العصا والسنان،وتلك سنة الظالمين
على مدار التاريخ،حيث يكبر عليهم التذكير بآيات الله والدعوة إليه،فل
يعودون يتحملون سماع كلمة الحق،وتضيق بها صدورهم،فقوم نوح
ن من المرجومين‘‘،1153ويستنكر أبو قالوا’’:لئن لم تنته يا نوح لتكون ّ
إبراهيم دعوة ابنه ويقول’’:أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم
تنته لرجمّنك‘‘،1154وقوم شعيب قالوا’’:لنخرجّنك يا شعيب والذين
ن في ملتنا‘‘..1155وهكذا قالوها’’:لئن آمنوا معك من قريتنا أو لتعود ّ
1156
ن المرورلم تنتهوا لنرجمّنكم وليمسّنكم مّنا عذاب أليم‘‘ ؛ذلك أ ّ
بمرحلة البتلء سّنة من الله لتمحيص الصف المؤمن،ولتنقيته من
المنافقين،ولتخليص الّنفوس من الهواء والمصالح الخاصة..فهي مرحلة
مل الرسالة والمانة..ومن أجل هذا كانت الوسائل تهيأة للقيادة وتح ّ
م لتحقيق النجاز والنتصار.يقول محققة لتلك المعاني والقيم،ث ّ ال ُ
مل ُ ُ َ ُ َ َ
ه ْ
و ُ
مّنا َ
س أن ي ُت َْركوا أن ي َقولوا آ َ ب الّنا ُ س َح ِ تعالى’’:أ َ
ن التمكين لمن ليس أهل لتحمل المانة والقيادة ُيلحق 1157
ن‘‘ ؛ذلك أ ّ فت َُنو َيُ ْ
ضررا بسمعة الحق الذي يدعون حمله،وهو ما ُيشير إليه قوله
وا الزكاة تعالى’’:الذين إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآت َ ُ
وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‘‘،1158وفي ذلك)إشارة إلى حال
أهل التمكين وأنهم مهديون هادون(.1159
لقد فرض فرعون المعركة على موسى حين أضحى نظام فرعون قلقا
مضطربا بسبب الخفاقات المتتالية له ولحزبه،وخصوصا تلك الهزيمة النكراء
التي انتهت بها تلك المباراة الشهيرة مع السحرة؛فتوافرت بواعث المعركة
وكشف الطاغوت عن حقيقته المجرمة،وأقبلت المحن والبتلءات؛فقتل
ن السحرة بعد أن أعلنوا إيمانهم،وأعاد القتل على بني إسرائيل ونشر فرعو ُ
الرعب في قلوب الّناس..أقبلت المحن،ونحن مصرون على المضي في
الطريق،فكيف السبيل لمواجهتها؟هذا ما سنذكره بعد طول نظر بتلك
المحنة الكبرى،حيث أرشدنا القرآن الكريم لعدة وسائل لمواجهة تلك
جهنا في المستقبل. المحنة وكل محنة قد ُتوا ُ
وسائل مواجة البتلءات والمحن
ن وجود المحن ليس مبررا للقعود عن القيام بالواجب،ولو كان المر إ ّ
كذلك لما أمرنا بالجهاد في سبيل الله،ولما كان الشهداء والجرحي ُ
ن الله سبحانه وتعالى حين فرض علينا القيام بتلك المواجهة مع والسرى..إ ّ
الطاغوت أرشدنا إلى ما به نستطيع خوض غمار تلك الملحمة،وكل من ل
]1153الشعراء.[116:
]1154مريم.[46:
]1155العراف.[88:
]1156يس.[18:
]1157العنكبوت.[2:
]1158الحج.[41:
1159روح المعاني).(17/212
183
يقوم بتلك المهمة والتكليف فهو آثم عند الله،فما ل يتم الواجب إل ّ به فهو
واجب.من هنا تأتي أهمية بيان وسائل مواجهة المحن.
الوسيلة اللولى:التعبئة الروحية
ل ما من شأنه أن يقّرب العبد من ربه،وتجعله زاهدا في هذه هي فعل ك ّ
الدنيا وما فيها،مقبل على ما عند الله فهو خير وأبقى،ولقد أثبتت التجارب
ن الفئة المؤمنة المتمسكة بحبل الله هي الفئة القادرة قديمها وحديثها أ ّ
على التضحية بالمال والنفس؛فالنسان بطبعه ينظر إلى ما وراء عمله
وجهده،فإذا لم يكن عنده تطلع إلى الخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين فما
دم التضحيات؟وإذا كان تصوره محدود في هذه الرض الذي يجعله يثبت وُيق ّ
فكيف يستطيع أن يواجه الطاغوت؟فمن المستحيل قطعا أن ننتصر على
ن الله لم يجعل الطاغوت ونحن تمتلؤ قلوبنا بحب الدنيا والّتعلق بها،ذلك أ ّ
لرجل من قلبين في جوفه،فكلما)توزعت الفكرة قصرت عن درك
الحقائق(.1160
إّنها التعبئة القادرة على انتزاع الخوف من الطاغوت،يقول تعالى’’:فل
تخشوا الّناس واخشون‘‘،1161وهذا نهى ل َْتباِع الحق عن خشيتهم غير
الله،1162وبها-أيضا-نتخلص من حظ النفس وحظ الشيطان،يقول
تعالى’’:فاعبد الله مخلصا له الدين‘‘،1163أي من الشرك والرياء؛
فالخلص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه،1164ولن يكون هذا إل ّ بتعبئة
روحية مستمرة ل تنقطع أرشد الله-سبحانه-إليها موسى ومن معه من
المؤمنين،ويمكن إجمالها فيما يلي:
أول:ذكر الله
ن القلوب،وترجع لجميع أقضية الحق،يقول تعالى’’:أل بذكر الله تطمئ ّ
1166 1165
ن ؛ ن القلوب‘‘ ،أي تسكن وتستأنس بذكره فتطمئ ّ بذكر الله تطمئ ّ
فالذكر صفاء القلب وذهاب الظلمة النفسانية وحصول الذوق
والشوق.1167وذكر الله سبحانه مطلوب في كل حين،وهو عند الشدائد
ن نبي الله صلى الله عليه وسلم آكد،فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أ ّ
كان يقول عند الكرب’’:ل إله إل الله العظيم الحليم،ل إله إل الله رب
العرش العظيم،ل إله إل الله رب السماوات ورب الرض ورب العرش
الكريم‘‘.1168وكم نحن بحاجة إلى تلك الطمأنينة حين يشتد الّنزال مع
الطاغوت.
وبالذكر تكون المعية مع الله،ففي الحديث القدسي’’وأنا معه حين
يذكرني‘‘،1169أي)معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والعانة(.1170تلك
المعية التي أيقنها موسى عليه السلم حين)لحق فرعون بجمعه-أي جمع
1160أبجد العلوم).(1/124
]1161المائدة.[45:
1162انظر:تفسير النسفي).(1/284
]1163الزمر.[2:
1164انظر:تفسير البيضاوي)(5/57وفتح القدير).(4/448
]1165الرعد.[28:
1166انظر:تفسير الطبري).(13/145
1167انظر:فيض القدير).(5/409
1168صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار،باب دعاء الكرب)(4/2092رقم)
.(2730
1169صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار،باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى
الله تعالى)(4/2067رقم).(2675
184
موسى-وقرب منهم ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت
ظنونهم،وقالوا لموسى’’:إّنا لمدركون‘‘،1171فرد ّ عليهم قولهم وزجرهم
وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر(،1172فكان جوابه عليه السلم
ن معي ربي سيهدين‘‘).1173فعندما ضاق المر اتسع،فأمره لهم’’:كل ّ إ ّ
الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه،فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق
كالطود العظيم(.1174
إّنه اليقين بوعد الله’’:ل تخافا إّنني معكما أسمع وأرى‘‘،1175أي)ل
تخافا منه فإّنني معكما أسمع كلمكما وكلمه،وأرى مكانكما ومكانه ل يخفى
ن ناصيته بيدي،فل يتكلم ول يتنفس ول ي من أمركم شيء،واعلما أ ّ عل ّ
يبطش إل ّ بإذني وبعد أمري،وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي( .
1176
ولهذا ُأمر موسى عليه السلم بالذهاب إلى فرعون وُأمر كذلك
بالوسيلة التي ُتعينه على تلك المواجهة الساخنة وما تحمله من مشاق
كبيرة،حيث أرشده الله سبحانه وتعالى إلى الكثار من ذكره،فقال
سبحانه’’:ول تنيا في ذكري‘‘،1177أي)ل تفترا ول تقصرا في ذكري،أي بما
يليق بي من الصفات الجليلة والفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء
ي،وقيل:المعنى ل تنيا في تبليغ رسالتي،فإن الذكر يقع على جميع العبادات إل ّ
وهو أجلها وأعظمها،وقيل:ل تنسياني حيثما تقلبتما،واستمدا بذكري العون
ن أمرا من المور ل ي َت ََأتى ول يتسنى إل بذكري(.1178 والتأييد،واعلما أ ّ
و)ينبغي للعبد أن ل يشغله شيء عن ذكر الله،وأن يلتجئ إليه عند
ن لطفه ل ينفك عنه في شيء الشدائد،وُيقبل عليه بكلّيته فارغ البال،واثقا بأ ّ
1179
ي لتعريف أهل اليمان بالفعال من الحوال( ،ولهذا كان التوجيه الّربان ّ
التي ُترجى لهم باستعمالها عند لقائهم عدوهم النصرة عليهم والظفر
بهم’’يا أّيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
185
ُ
ن ذكره 1180كثيرا لعلكم تفلحون‘‘،1181أي أذكروا الله عند جزع قلوبكم،فإ ّ
ُيعين على الشدائد،ويثبت القلب على اليقين،وذكر اللسان الموافق للجنان
لتكون إل ّ عن قوة المعرفة واتقاد البصيرة.1182
ثانيا:إقامة الصلة.
مى هناك صلة بّينة بين الصلة والذكر،فالصلة ذكر مخصوص،وقد س ّ
الله تعالى الصلة ذكرا في قوله’’:فاسعوا إلى ذكر الله‘‘،1183وفي قوله
ن الصلة مفزع كل مؤمن حين تعالى’’:وأقم الصلة لذكري‘‘1184؛ذلك أ ّ
الشدائد والمحن والنوازل،يقول تعالى’’:وأوحينا إلى موسى وأخيه أن
تبوءا لقومكما بمصر بيتوا واجعلوا بيتكم قبلة واقيموا الصلة
1185
ما اشتد بهم البلء من قبل فرعون وقومه وبشر المؤمنين‘‘ ،وذلك)ل ّ
وضيقوا عليهم ُأمروا بكثرة الصلة(،1186وذلك كقوله تعالى’’:يا أيها الذين
آمنوا استعينوا بالصبر والصلة‘‘.1187أي)التوسل في الصلة واللتجاء
إليها فإنها جامعة لنواع العبادات النفسانية والبدنية..حتى تجابوا الى تحصيل
المآرب وجبر المصائب(.1188
وفي هذا إرشاد لنا إلى الساس الذي ُتبنى عليه الجماعة المسلمة كي
ن
تكون مؤهلة للمواجهة،سواء كان الطاغوت متمثل بفرعون أو بغيره،إذ أ ّ
المهم هو القدرة على تكلفة المواجهة،و)الصلة من أكبر العون على
الثبات(..1189ولهذا كان في ديننا صلة الخوف في ساحة المعركة لّنها)سلح
من أسلحة المعركة.بل إّنها السلح!فل بد من تنظيم استخدام هذا
السلح،بما يتناسب مع طبيعة المعركة،وجو المعركة !(1190؛فذكر الله عند
لقاء العدو ومواجهة الطواغيت)يؤدي وظائف شتى:إّنه التصال بالقوة التي
ل تغلب؛والثقة بالله الذي ينصر أولياءه..وهو في الوقت ذاته استحضار
حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها،فهي معركة لله،لتقرير ألوهيته في
الرض،وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه اللوهية؛وإذن فهي معركة لتكون
كلمة الله هي العليا؛ل للسيطرة،ول للمغنم،ول للستعلء الشخصي أو
القومي..كما أّنه توكيد لهذا الواجب-واجب ذكر الله-في أحرج الساعات
186
وأشد المواقف..وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة؛يحققها هذا التعليم
الرباني(.1191
ن الصلة طهرة من الذنوب،وهي نور المؤمنين كما في إ ّ
1192
الحديث’’والصلة نور‘‘ ،فالصلة نور مطلق،فهي للمؤمنين في الدنيا نور
في قلوبهم وبصائرهم،تشرق بها قلوبهم،وتستنير بصائرهم بأنوار المعارف
ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها وإقباله إلى الله تعالى بظاهره
وباطنه..تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى
ضح الطريق إلى الخرة..1193والصلة صلة بين العبد الصواب،وهي نور ُتو ّ
م ولم ول ه ٌ
وربه،فمن تحقق بالصلة سطعت في قلبه الحقيقة،فل وه ٌ
حيرة.1194من هنا تبدو قيمة الصلة..
ثالثا:الدعـــــاء.
والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة،وهو مطلوب من العبد لظهاره
موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل والتذلل له والخضوع،1195فمن العبد
المسألة والدعاء ومن الله الجابة والعطاء،قال الله تعالى’’:ادعوني
ن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم أستجب لكم،إ ّ
ن الذين يستكبرون عن دعائي سيدخلون جهّنم أذلء داخرين‘‘،1196أي إ ّ
ل شأنه وعيد شديد)،فهو سبحانه يحب أن صاغرين،1197وهذا من الله ج ّ
ُيسأل،وأن يلح عليه،ومن لم يسأله يبغضه،والمبغوض مغضوب عليه،وهذا
ن رضاه في مسألته وطاعته،وإذا رضي الرب تعالى فكل خير في يدل على أ ّ
1198
ن كل بلء ومصيبة في غضبه( . رضاه،كما أ ّ
والدعاء من أهم السبل التي يعتمدها المؤمن في كل وقت،وتشتد
ن أشد الحالت حرجا هي تلك التي الحاجة إليها عند المصاعب والمصائب،وإ ّ
ه بها المؤمنون بطاغية من أمثال فرعون،فيلجأون إلى من يسمع ج ُ
ُيوا َ
شكواهم ويقضي حاجاتهم ويفرج الضيق عنهم،فإّنه ل معقب لحكمه ول راد ّ
لقضائه وهو القائل في كتابه’’:وقال ربكم ادعوني أستجب
لكم.1200‘‘1199
فالواجب على المؤمنين أن يرفعوا مسألتهم إلى ربهم،فهو سبحانه
من يجيب القادر على كشف الضّر وإجابة المضطر،يقول تعالى’’:أ ّ
المضطر إذا دعاه ويكشف السوء‘‘).1201فالمضطر في لحظات الكربة
1191المصدر السابق).(4/26
1192صحيح مسلم،كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء )(1/203رقم).(223
1193انظر:فيض القدير).(4/291
1194المصدر السابق).(1/389
1195انظر:تفسير القرطبي).(7/225
]1196غافر.[60:
1197انظر:تفسير الطبري)(24/79وروح المعاني).(24/81
1198فيض القدير).(3/12
)1199والظاهر أن الجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي،وكون الدعاء من العبادة ل يستلزم أن
الجابة هي القبول للدعاء أي جعله عبادة متقبلة ،فالجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة،والمراد
أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء،فقد يحصل المطلوب قريبا،وقد يحصل بعيدا،وقد يدفع عن
الداعي من البلء ما ل يعلمه بسبب دعائه،وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه(فتح القدير)
.(185-1/184
]1200غافر.[60:
]1201النمل.[62:
187
والضيق ل يجد له ملجأ إل الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين
تضيق الحلقة،وتشتد الخنقة،وتتخاذل القوى،وتتهاوى السناد؛وينظر النسان
حوله فيجد نفسه مجردا من وسائل الّنصرة وأسباب الخلص.ل قوته،ول قوة
في الرض تنجده.وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى؛وكل
من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى..في هذه اللحظة تستيقظ
الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة(.1202يقول
ن عبدي بي وأنا مظ ّ ن الله يقول:أنا ث َ ّ رسول الله صلى الله عليه وسلم’’:إ ّ
بجه المؤمنون إلى ر ّ معه إذا دعاني‘‘،1203فإذا انقطعت السباب تو ّ
السباب.
ن الله سبحانه وتعالى قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه،يقول إ ّ
سبحانه’’:وإذا سألك عبادي عني فإّني قريب أجيب دعوة الداع إذا
دعان‘‘.1204روى البخاري عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال:كّنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،فكّنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا
ارتفعت أصواتنا،فقال النبي صلى الله عليه وسلم’’:يا أيها الناس،أربعوا
على أنفسكم،فإّنكم ل تدعون أصم ول غائبا،إّنه معكم إّنه سميع قريب تبارك
ل شأنه مفتوح ل يغلق أبدا. اسمه وتعالى جده‘‘1205؛فباب رحمته ج ّ
والدعاء سّنة النبياء والصالحين.وهكذا كان موسى عليه السلم متوجها
إلى ربه رافعا مسألته إليه،حيث نجد هذا الدعاء من موسى عليه السلم في
ن الدعاء جزء مهم من أدوات ما يؤكد لنا أ ّكتاب الله مّرة تلو مّرة ،م ّ
المواجهة مع فرعون،فعند أول مواجهة مع الظالمين،وبعد أن وكز موسى
مت ملحقته عليه السلم من قبل عليه السلم القبطي فقضى عليه،وت ّ
فرعون وجنوده وأجهزة مخابراته وأصبح في المدينة خائفا يترقب،عند ذلك
جني من القوم الظالمين‘‘،1206فهو يطلب الحماية من الله بن ّقال’’:ر ّ
سبحانه وتعالى ،وأن ينجيه منهم،ولقد استجاب الله لدعائه.
ما اقتربت ساعة المواجهة رفع موسى حاجته لمن ُترفع له الحاجات ول ّ
ويقضيها قائل’’:رب اشرح لي صدري،ويسر لي أمري،واحلل عقدة
من لساني يفقهوا قولي،واجعل لي وزيرا من أهلي هارون
أخي،اشدد به أزري،وأشركه في أمري‘‘..،1207ولقد ُأجيبت دعوته’’قد
1208
سر أمره،وقضى أوتيت سؤلك يا موسى‘‘ ،فشرح الله صدره،وي ّ
سؤله.
ما أبوا
وها نحن نرى موسى عليه السلم)يدعو على فرعون وملئه ل ّ
قبول الحق،واستمروا على ضللهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا
وتكبرا وعتوا،حينئذ قال’’:ربنا إنك آتيت فرعون ومله زينة
وأموال‘‘،1209أي من أثاث الدنيا ومتاعها،وأموال جزيلة كثيرة في هذه
188
الحياة الدنيا’’،ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘،1210أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم
أنهم ل يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم(.1211
بعد هذا يسأل موسى ربه أن يمحق أمواله ويشدد على قلوبهم’’،ربنا
اطمس على قلوبهم واشدد على قلوبهم فل يؤمنوا حتى يروا
العذاب الليم،قال قد اجيبت دعوتكما‘‘.1212إّنه عليه السلم يدعو
رّبه)لتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والغراء،وأن يطمس الّله
على هذه الموال بتدميرها والذهاب بها،بحيث ل ينتفع بها أصحابها(.1213
وها هو موسى يتوجه إلى الله بالدعاء حين أحس أن القوم لن يؤمنوا
له ولن يستجيبوا لدعوته؛ولن يسالموه أو يعتزلوه.وبدا له إجرامهم أصيل ً
عميقا ً ل أمل في تخليهم عنه.عند ذلك لجأ إلى ربه وملذه الخير’’:فدعا
ن هؤلء قوم مجرمون‘‘،1214فاستجاب الله دعاءه فأغرقهم ربه أ ّ
أجمعين.
1215
على أهمية الدعاء ما نطق به السحرة حين تعّرضوا ومن الشواهد
لفتنة القتل والصلب،حين قالوا’’:ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا
مسلمين‘‘،1216فهناك ساعات ل بد ّ فيها من معونة الله ومدده،فاستجاب
الله لهم فثّبتهم على أبشع صورة قتل في التاريخ.
ونجد الدعاء حاضرا في قلوب الفئة القليلة التي آمنت بموسى عليه
السلم حين خافت الفتنة من القوم الظالمين فتوجهت إلى الله
بالدعاء’’،ربنا ل تجعلنا فتنة للقوم الظالمين،ونجنا برحمتك من
القوم الكافرين‘‘.1217إّنهم لجئوا إلى من يجب اللجوء إليه.
ما صرون في الدعاء إ ّ ن بعض المسلمين ُيق ّ وهنا ل بد ّ من تنبيه حيث أ ّ
ما عن عدم ثقة بالجابة،وهنا تكمن الكارثة.نعم قد عن جهل وقلة علم،وإ ّ
تتأخر الجابة إلى حين ُيقدره الله بعلمه ولحكمة يعلمها هو سبحانه،ولذلك
تجد كثيرا من الّناس يقولون:قد دعونا على العداء فلم يزدادوا إل ّ قوة
ن الجابة ل تكون كما يهوى الّناس ويتصورون،فقد يكون وعنجهية!والجواب أ ّ
التأخير لبتلء اليمان في الصدور،وقد يكون لتصفية الصف المسلم من
محَبطين،وقد يكون استدراجا للعدو فيبالغ في الستكبار والتمرد والغفلة… ال ُ
فلحكمة ما ُتؤجل الجابة،والواجب إذا هو الثقة المطلقة بالجابة ولو بعد
حين،بل ربما يدخر الله إجابتها إلى يوم القيامة في ميزان الحسنات،
)فالستقامة في الدعاء ترك الستعجال في حصول المقصود،ول يسقط
الستعجال من القلب إل باستقامة السكينة فيه،ول تكون السكينة إل بالرضا
الحسن لجميع ما يبدوا من الغيب(.1218
ن رسول الله صلى وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة أ ّ
الله عليه وسلم قال’’:يستجاب لحدكم ما لم يعجل.يقول:دعوت فلم
]1210يونس.[88:
1211تفسير ابن كثير)(2/430مع بعض التصرف.
]1212يونس.[89-88:
1213في ظلل القرآن).(471-4/470
]1214الدخان.[22:
ن 1215لست هنا بصدد استقصاء كل الدعية الواردة في هذه المواجهة،وإّنما يكفي ما يد ّ
ل على أ ّ
الدعاء وسيلة حاضرة فيها.
]1216العراف.[126:
]1217يونس.[86-85:
1218تفسير القرطبي).(8/376
189
يستجب لي‘‘.1219وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أّنه قال’’:ل يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم
ما لم يستعجل.قيل يا رسول الله:ما الستعجال؟قال:يقول قد دعوت وقد
دعوت فلم أر يستجيب لي،فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء‘‘.1220
الوسيلةالثانية:التوكل على الله،وتفويض المر إليه
كل بالمر إذا ضمن القيام به،ووكلت أمري إلى فلن أي ألجأته )يقال:تو ّ
كل فلن فلنا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو إليه واعتمدت فيه عليه،وو ّ
عجزا عن القيام بأمر نفسه(،1221والتوكل لغة)إظهار العجز والعتماد على
غيرك(،1222وفي الصطلح)الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي
الناس(.1223
واختلف العلماء في حقيقة التوكل)،فقالت فرقة:الرضا بالضمان وقطع
ن التوكل على الله هو ما قول عامة الفقهاء فهو:أ ّالطمع من المخلوقين،أ ّ
ن قضاءه ماض،واتباع سّنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثقة بالله،واليقان بأ ّ
في السعي فيما لبد منه من السباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو
وإعداد السلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة،ومتى وقع
من المتوكل ركون إلى تلك السباب فقد انسلخ عن ذلك السم.
ثم المتوكلون حالين:الول:حال المتمكن في التوكل فل يلتفت إلى
شيء من تلك السباب بقلبه ول يتعاطاه إل ّ بحكم المر.الثاني:حال غير
المتمكن وهو الذي يقع له اللتفات إلى تلك السباب أحيانا غير أّنه يدفعها
عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والذواق الحالية،فل يزال
كذلك إلى أن ُيرّقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ويلحقه
بدرجات العارفين(.1224
من يدعي التجريد والتوكل على التحقيق ويقعد على )فالعجب العجب م ّ
ثنّيات الطرق،ويدع الطريق المستقيم،والمنهج الواضح القويم.ثبت في
البخاري عن ابن عباس قال’’:كان أهل اليمن يحجون ول يتزودون،ويقولون
ن خيرنحن المتوكلون،فإذا قدموا سألوا الناس،فأنزل الله تعالى:وتزودوا فإ ّ
الزاد التقوى‘‘،1225ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
رضوان الله عليهم أّنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد،وكانوا المتوكلين
حقا(.1226
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتوكل عليه فقال’’:وعلى الله
فليتوكل المؤمنون‘‘.1227على وجه الحصر والقصر،أي)فليتوكلوا عليه ول
يتوكلوا على غيره(،1228وبّين لنا عاقبة التوكل بقوله تعالى’’:ومن يتوكل
1219صحيح البخاري،كتاب الدعوات وقول الله تعالى ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن
عبادتي سيدخلون جهنم داخرين،باب يستجاب للعبد ما لم يعجل)(5/2335رقم). (5981
1220صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار،باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم
يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي)(4/2096رقم).(2735
1221لسان العرب،مادة:وكل).(11/734
1222مختار الصحاح،مادة:وكل).(306
1223التعريفات،فصل الواو).(1/97
1224تفسير القرطبي)(190-4/189مع بعض التصرف.
1225صحيح البخاري،كتاب الحج،باب قول الله تعالى:وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)(2/554رقم)
.(1451
1226تفسير القرطبي).(13/16
]1227آل عمران.[122:
1228تفسير البيضاوي).(2/88
190
على الله فهو حسبه‘‘)،1229فإن توكلت على الله كفاك وتعجلت الراحة
والبركة،وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك،وأمره سبحانه في
الوجهين نافذ(.1230
لقد استجاب الذين آمنوا لمر ربهم،وقالوا’’:حسبنا الله ونعم
الوكيل‘‘‘‘،1231قالها إبراهيم عليه السلم حين ألقى في النار،وقالها محمد
ن الّناس قد جمعوا لكم فاخشوهم’’1232؛ صلى الله عليه وسلم حين قالوا:إ ّ
ن التوكل على الله واللتجاء إليه هو الصل الذي تبنى عليه كل حركة ذلك أ ّ
ي الله وكليمه موسىفي الحياة،في الرخاء والشدة سواء.وهكذا كان نب ّ
عليه السلم متوكل عليه وآمرا للمؤمنين بالتوكل عليه،فها هو-عليه السلم-
يناديهم’’:يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم
مسلمين،فقالوا على الله توكلنا ربنا ل تجعلنا فتنة للقوم
الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‘‘،1233حيث أمرهم
بالتوكل على الله،أي)فبه فثقوا ولمره فسلموا،فإّنه لن يخذل وليه ويسلم
من توكل عليه(.1234
)فالتوكل على الّله دللة اليمان ومقتضاه.وعنصر القوة الذي يضاف
إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى
وأثبت(،1235فقالـوا’’:على الله توكـلنا ربـنا ل
تجعلنا فتنة للقوم الظالمين،ونجنا برحمتك من القوم
الكافرين‘‘،1236أي)ل تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا
لنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك(.1237
فالله سبحانه وتعالى كاف من توكل عليه،يقول تعالى’’:أليس الله
بكاف عبده‘‘،1238وهذا)إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه،كأ ّ
ن
الكفاية من التحقق والظهور بحيث ل يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو
يتلعثم في الجواب بوجودها(.1239وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة
كل عليه‘‘1240؛)فإّنه كافيك كل ما والتوكل كقوله تعالى’’:فاعبده وتو ّ
تكره،ومعطيك كل ما تحب(،1241و)في تأخير المر بالتوكل عن المر بالعبادة
إشعار أّنه ل ينفع دونها(.1242
تفويض المر إلى الله
ويلحق بالتوكل تفويض المر إلى الله،والتفويض لغة:من)فوض إليه
وض أمره إليه إذا رده إليه المر صيره إليه وجعله الحاكم فيه..ويقال:ف ّ
]1229الطلق.[3:
1230تفسير الثعالبي).(4/311
]1231آل عمران.[173:
1232صحيح البخاري،كتاب التفسير،باب إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)(4/1662رقم)
.(4287
]1233يونس.[85-84:
1234تفسير الطبري).(11/151وانظر:تفسير البيضاوي).(3/211
1235في ظلل القرآن).(4/468
]1236يونس.[85:
1237تفسير ابن كثير).(2/429
]1238الزمر.[36:
1239روح المعاني).(24/5
]1240هود.[123:
1241فتح القدير).(2/535
1242تفسير ابي السعود).(4/249
191
وجعله الحاكم فيه(،1243فهو رد ٌ للمر إلى الغير لينظر فيه،وعند المفسرين:
)رد المر إلى الله،والتبرؤ من الحول والقوة(،1244وهو)رد ما جهلت علمه
إلى عالمه،والتفويض مقدمة للرضا والرضا باب الله(.1245
لقد اجتهد مؤمن آل فرعون بالّنصيحة لقومه،ولكّنهم أعرضوا
وتولوا،حينئذ قال لهم’’:فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى
ن الله بصير بالعباد‘‘ ،1246أي)سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به الله،إ ّ
ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه،وتندمون حيث ل ينفعكم
الندم(،1247وأفوض أمي إلى الله،أي)وأسلم أمري إلى الله وأجعله إليه
وأتوكل عليه،فإّنه الكافي من توكل عليه(،1248وقيل) :هذا يدل على أّنهم
أرادوا قتله(،1249أو أّنه تعّرض لتهديد ما،وأرادوا اليقاع به لمخالفته لهم في
دين.1250
ال ّ
إّننا حين نتوكل على الله نشعر بالقوة والثبات والطمأنينة كما كان حال
مؤمن آل فرعون،فرغم الخطار التي أحاطت به استطاع أن ُيسجل هذه
الكلمة الخالدة؛ذلك أّنه استجار)بعزيز غالب يسلط القليل الضعيف على
الكثير القوي،حكيم ل ُيسوي بين وليه وعدوه(’’،1251ومن يتوكل على
ن الله عزيز حكيم‘‘،1252فل يضيع من لذ بجنابه والتجأ إلى الله فإ ّ
ل ما سوى الله حماه،وحكيم ل يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره.وك ّ
1253
نتعالى عبد مسخر.حاجته مثل حاجتنا فكيف نتوكل عليه ؟!ذلك ظ ّ
طمس على بصيرته. الواهمين والمنافقين ومن ُ
كما أّننا ندرك حين توكلنا على الله-ونحن نخوض جهادنا مع الطاغوت-
ن وراء الحداث قوة منفردة بالخلق والختيار،وأنه ليس لها في الكون كله أ ّ
منازع ول معقب؛فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،فالمور كلها خيرها
وشرها بيده ومرجعها إليه’’،1254وربك يخلق ما يشاء ويختار‘‘،1255فحذار
من الستعجال أو التردد والنكوص مهما غلت التضحيات وارتفع ثمن
المواجهة مع الطاغوت،فذلك حال المتشككين العابدين لله على حرف؛’’فإن
ولدت امرأته غلما ونتجت خيله قال هذا دين صالح،وإن لم تلد امرأته ولم
تنتج خيله قال هذا دين سوء‘‘.1256
الوسيلة الثانية:الستعانة بالله1257والصبر
1243لسان العرب،مادة:فوض)(7/210مع بعض التصرف.وانظر:مختار الصحاح،مادة:فوض)
.(1/215
1244التعاريف).(1/195
1245حلية الولياء).(10/245
]1246غافر.[44:
1247تفسير ابن كثير).(4/82
1248تفسير الطبري).(24/70
1249تفسير القرطبي).(15/318
1250انظر:تفسير الواحدي).(2/946
1251تفسير النسفي).(2/69
]1252النفال.[49:
1253انظر :إحياء علوم الدين).(4/295
1254انظر:تفسير ابن كثير).(3/398
]1255القصص.[68:
1256صحيح البخاري،كتاب التفسير،باب ومن الّناس من يعبد الله على حرف)(4/1768رقم)
.(4465
)1257الستعانة والتوكل إنما يتعلق بالمستقبل،فأما ما وقع فانما فيه الصبر والتسليم والرضى،كما
فى حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه مرفوعا إلى النبى:أسألك الرضا بعد القضاء( فتاوى ابن
192
ها هم المل من قوم فرعون يتناجون بالثم والعدوان،وُيحيكون
المؤامرت ويحّرضون فرعون’’،وقال المل من قوم فرعون أتذر
موسى وقومه ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‘‘،1258وُيستثار
فرعون ويشعر بالخطر،وكان الجواب منه قاسيا وحازما ومؤلما’’:سنقتل
أبناءهم ونستحيي نساءهم وإّنا فوقهم قاهرون‘‘،1259أي في
المنزلة والتمكن في الرض،1260وهكذا هو الطاغوت قديما وحديثا،وهذه
من وقع عليهم مر َوسائله،فبدأت المحنة واشتد ّ التنكيل،وتذ ّ
اللضطهاد،فأرشدهم موسى عليه السلم إلى الطريق’’،وقال موسى
لقومه استعينوا بالله واصبروا‘‘1261أي)،استعينوا بالله على فرعون
وقومه فيما ينوبكم من أمركم،واصبروا على ما نالكم من المكاره في
أنفسكم وأبنائكم من فرعون(،1262حتى يأتي الله بالفرج.
ن صمودنا وثباتنا في مواجهة الطاغوت أيا كان بحاجة إلى الوسيلتين إ ّ
معا:
الولى:الستعانة بالله.
1263
والستعانة بالله طلب المعونة منه سبحانه ،وهي)طلب ما يتمكن به
العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه(،1264وفي الحديث’’وإذا استعنت
ن المة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك فاستعن بالله،واعلم أ ّ
إل بشيء قد كتبه الله لك،ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
إل بشيء قد كتبه الله عليك،رفعت القلم وجفت الصحف‘‘،1265وفي
الحديث’’واستعن بالله ول تعجز وإن أصابك شيء فل تقل لو أّني فعلت
كان كذا وكذا،ولكن قل قدر الله وما شاء فعل،فإن لو تفتح عمل
الشيطان‘‘ ،1266فإذا استعنت بالله عز وجل فإّنه تعالى ل يعينك إل ّ بما هو
خير لك،فإّنه نعم المعين،ومن ترك الستعانة بالله واستعان بغيره وك َّله الله
إلى من استعان به فصار مخذول)،فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر
الستغاثة والستعانة على الله عز وجل،فهو سبحانه الحي القادر العالم
بمصالح عباده،فإّياك والنتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره
تعالى(.1267
ولهمية الستعانة بالله كان ذكرها في كل صلة،حين نقرأ
مقّرين’’وإّياك نستعين‘‘1268و)كان تقديم المفعول لقصد ُ
الختصاص،والمعنى نخصك بطلب المعونة،وأطلقت الستعانة لتتناول كل
تيمية في التفسير).(13/321
]1258العراف.[127:
]1259العراف.[127:
1260انظر:تفسير الثعالبي).(2/45
]1261العراف.[128:
1262تفسير الطبري).(9/27
1263انظر:تفسير البيضاوي).(1/67
1264روح المعاني).(1/87
1265مسند أحمد)(1/307رقم)،(2804سنن الترمذي،كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،باب ما جاء في صفة أواني الحوض )(4/667رقم)
،(2516قال أبو عيسى’’:هذا حديث حسن صحيح‘‘.
1266صحيح مسلم،كتاب القدر،باب في المر بالقوة وترك العجز والستعانة بالله وتفويض المقادير
لله )(4/2052رقم).(2664
1267روح المعاني).(14/160
]1268الفاتحة.[5:
193
ن النسان بفطرته يشعر بالضعف ومحدودية مستعان فيه(1269؛ذلك أ ّ
القدرات،يقول تعالى’’:وخلق النسان ضعيفا‘‘،1270أي)عاجزا غير قادر
على ملك نفسه(،1271ويضغط هذا الضعف على النسان كلما اشتد ّ
البلء،حينئذ تستدعي الحاجة طلب العون من الله.
الثانية:الصبر.
1272
و)أصل الصبر-لغة-الحبس وكل من حبس شيئا فقد صبره( ،و)الصبر
حبس النفس عن الجزع(،1273وعند المفسرين) :حبس النفس عن أن تنازع
إلى هواها(،1274أو هو)حبس النفس على مشاق الطاعة والنوائب
والمكاره(.1275
ن المواجهة مع فرعون والتصدي ولقد أكثر القرآن من ذكر الصبر؛ذلك أ ّ
للطاغوت يحتاجان إلى الصبر على ما تحمله هذه المواجهة من آلم
جسام،فمقارعة الطواغيت تعني جهادا ل يثبت فيه إل ّ من وهب نفسه
لله،وأيقن بوجوب حبس نفسه على ما تكره،وقدرته على دفعها رغم
المخاوف والشدائد،فالطاغوت ل يستسلم بسهولة،وسيدافع بشراسة عن
منهجه ونظامه،مستعمل كافة ما لديه من وسائل مرعبة،متجاوزا كل القيم
والمثل والخلق،ل يردعه ضمير ول يمنعه إيمان،فليس أمامه سوى مصالحه
ومكتسباته التي يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وجبروت.من هنا كان على
من أراد المواجهة أن يتزود بزاد الصبر،فهي مواجهة ساخنة مكلفة،تحتاج مّنا
ل ذلك يتطلب صبرا الشهداء والجرحى والسجناء والمعذبين…وك ّ
1276
صبر‘‘ . ن الّنصر مع ال ّ
وتجلدا،يقول صلى الله عليه وسلم’’:واعلم أ ّ
والصبر وصية المؤمنين بعضهم لبعض،يقول تعالى’’:وتواصوا
دين والدنيا،يقول بالصبر‘‘،1277وهو الطريق للمامة في ال ّ
مة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا تعالى’’:وجعلناهم أئ ّ
يوقنون‘‘ ،1278فبالصبر واليقين تنال المامة في الدين،والقيادة والريادة في
الدنيا،وبه تكون معية الله’’والله مع الصابرين‘‘،1279إّنه سبحانه معهم
ينصرهم ويكلؤهم ويرعاهم حتى يظفروا بما طلبوا.
والصبر نوعان) :نوع على المقدور كالمصائب،ونوع على المشروع،وهذا
النوع-أيضا-نوعان:صبر على الوامر وصبر عن النواهي،فذاك صبر على
1269تفسير النسفي)(1/8مع بعض التصرف.
]1270النساء.[28:
1271فتح القدير).(1/453
1272لسان العرب،مادة:صبر).(4/438
1273مختار الصحاح،مادة:صبر).(1/149
1274تفسير النسفي).(4/163وانظر :البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن
موسى458-384)،هـ(،كتاب الزهد الكبير،جزء واحد،تحقيق:عامر أحمد حيدر،ط ،3مؤسسة
الكتب الثقافية،بيروت1996،م،(342).وسأشير إليه لحقا هكذا)كتاب الزهد الكبير(.
1275فيض القدير).(1/485
1276مسند أحمد)(1/307رقم)،(2804المعجم الكبير)(11/123رقم)،(11243المستدرك على
الصحيحين)(3/623رقم)،(6303مسند عبد بن حميد)(214رقم).(636قال العجلوني):وهو حسن
وله شاهد رواه عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه بلفظ يا ابن عباس احتفظ
الله يحفظك واحفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وذكره مطول
بسند ضعيف ورواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند أصح رجال وأقوى(كشف الخفاء)
(1/366رقم).(993
]1277العصر.[3:
]1278السجدة.[24:
]1279النفال.[66:
194
ما النوع الول من الصبر الرادة والفعل وهذا صبر عن الرادة والفعل.فأ ّ
فمشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر،ل يثاب عليه لمجرده إن لم
يقترن به إيمان واختيار..يقول تعالى’’:وإن تصبروا وتتقوا‘‘،1280فالصبر
بدون اليمان والتقوى بمنـزلة قوة البدن الخالي عن اليمان والتقوى،وعلى
حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور،وقال تعالى’’:فاصبر
ن وعد الله حق ول يستخفّنك الذين ل يوقنون‘‘،1281فأمره أن إ ّ
يصبر ول يتشبه بالذين ل يقين عندهم في عدم الصبر،فإّنهم لعدم يقينهم
م صبرهم وخفوا واستخفوا قومهم،ولو حصل لهم اليقين والحق لصبروا عُدِ َ
ل يقينه قل صبره،ومن قل صبره خف وما خفوا ول استخفوا،فمن ق ّ
واستخف،فالموقن الصابر رزين لنه ذو لب وعقل،ومن ل يقين له ول صبر
عنده خفيف طائش تلعب به الهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء
د،ل
ن الصبر محمو ٌ الخفيف(،1282وفي الحديث’’:والصبر ضياء‘‘،1283والمراد)أ ّ
يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب(.1284
الصبر)نور قوي تنكشف به الكربات وتنـزاح به غياهب الظلمات،فمن
صبر على ما أصابه من مكروه-علما بأّنه من قضاء الله وقدره-هان عليه
ذلك،وكفي عنه شره،وادخر له أجره،ومن اضطرب فيه وأكثر الجزع والهلع
لم ينفعه تعبه،ول يدفع سعيه شيئا من قدر الله،بل يتضاعف به همه ويحبط
أجره،والعبد بالصبر يخرج عن عهدة التكليف،ويقوى على مخالفة الشيطان
والنفس،فيفوز في الدارين فوزا.والضياء الّنور القوي،والضاءة فرط
النارة(.1285
والصبر الذي يكون لله وفي سبيل الله ثوابه غير مقدر،يقول
فى الصابرون أجرهم بغير حساب‘‘،1286وكفى بهذا تعالى’’:إّنما يو ّ
مل أذاه،فلنصبر صبرا جميل الجر غير المقدر حافزا لمواجة الطاغوت وتح ّ
لجزع فيه ول شكوى،بل نبث همنا وكربنا إلى الله وحده.
السحرة آية من آيات الصبر والثبات
كانوا في أول الّنهار سحرة وفي آخره شهداء برره.فها هم يرفعون
دهم عن دينهم وتهددهم بالقتل ما أراد فرعون ر ّ
أكف الضراعة إلى الله،ل ّ
وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق،الذي ل يملكون دفعه بالحجة والبرهان،
)فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز
وجل،وقالوا’’:لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات‘‘،1287أي لن نختارك
على ما حصل لنا من الهدى واليقين،ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي
]1280آل عمران.[120:
]1281الروم.[60:
1282ابن القيم الجوزية:أبو عبد الله،محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي691)،ـ 751هـ(،التبيان في
أقسام القرآن،جزء واحد،دار الفكر.وسأشير إليه فيما بعد ب:التبيان في أقسام القرآن)
.(1/55وقالوا) :والصبر على أربع شعب:على الشوق والشفق والزهادة والترقب للموت،فمن
اشتاق إلى الجنة سل عن الشهوات،ومن اشفق من النار رجع عن الحرمات،ومن زهد في الدنيا
تهاون في المصيبات،ومن ترقب الموت سارع في الخيرات( .العدني:محمد بن يحيى بن أبي
عمر243 -150)،هـ(،اليمان،جزء واحد،تحقيق :حمد بن حمدي الجابري الحربي،ط ،1الدار
السلفية،الكويت1407،هـ،(1/118).وسأشير إليه لحقا هكذا)اليمان للعدني(.
1283صحيح مسلم،كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء )(1/203رقم).(223
1284شرح النووي على صحيح مسلم ).(3/101
1285فيض القدير).(4/291
]1286الزمر.[10:
]1287طه.[72:
195
أنشأنا من العدم،المبتدي خلقنا من الطين،فهو المستحق للعبادة والخضوع
ل أنت’’.فاقض ما أنت قاض‘‘،1288أي افعل ما شئت وما وصلت إليه
يدك،إّنما تقضي هذه الحياة الدنيا،أي إّنما لك تسلط في هذه الدار،وهي دار
الزوال،ونحن قد رغبنا في دار القرار’’،إّنا آمّنا بربنا ليغفر لنا
خطايانا‘‘ ،1289أي ماكان مّنا من الثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من السحر
لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه… والله خير أي لنا منك إن
ن فرعون لعنه الله صمم عصي..والظاهر أ ّ أطيع،وأبقى أي منك عذابا إن ُ
1290
على قتلهم وصلبهم وفعله بهم رحمة لهم من الله( .
وهنا تظهر أهمية العتقاد بيوم آخر كأساس في الصمود والتضحية
ن عذابه أشد من والثبات والصبر،حين تحققوا أّنهم إلى الله راجعون،وأ ّ
عذاب فرعون،ونكاله على ما يدعوهم إليه اليوم وما أكرههم عليه من
السحر أعظم من نكاله،فليصبروا اليوم على عذابه ليخلصوا من عذاب
1292 1291
م هم بعد ذلك عالمون الله ،ولهذا قالوا’’:إّنا إلى ربنا منقلبون‘‘ ،ث ّ
بطبيعة المعركة’’،وما تنقم مّنا إل ّ أن آمّنا بآيات ربنا لما
جائتنا‘‘ .1293أي)وما تنكر وتعيب منا إل أن آمّنا بآيات ربنا،وهو خير العمال
م أعرضوا عن مخاطبته إظهارا لما في قلوبهم من وأصل المفاخر..ث ّ
1294
العزيمة،وقالوا’’:ربنا أفرغ علينا صبرا‘‘( .
ّ
إّنهم موقنون بالمدد من الله،فما يعلم جنود ربك إلهو،وما إنزال الصبر
إل ّ واحدا من جنود ل عد ّ لها ول حصر.إّنهم ُيقبلون على الموت قائلين’’:ربنا
1295
منا بالصبر على دينك والثبات أفرغ علينا صبرا‘‘ ،أي ع ّ
عليه’’.1296وتوفنا مسلمين‘‘،1297أي)ثابتين على السلم(،1298وتلك هي
الغاية التي يسعى إليها كل المؤمنين.
إّنه العزم الكبير والصبر الجميل،والكلمات الفاصلت التي ُنواجه بها
الطواغيت’’،فاقض ما أنت قاض،إّنما تقضي هذه الحياة
الدنيا‘‘،1299وبها نواجه حبل المشنقة وضيق الزنزانة..دون خوف أو وجل أو
تردد،فمرارة الصبر أصبحت حلوة في قلوب العارفين.
ل ضير عليهم،نقولها لفظا بالفواه وهم قالوها معلقين على الخشب:ل
ضير،أي)ل ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا،فإّنما عذابك ساعة فنصبر
لها وقد لقينا الله مؤمنين،وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة
إيمانهم()..1300إّنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد
هذا الوجدان.القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل
بالطغيان.القلب الذي يرجوا الخرة فل يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ول
]1288طه.[72:
]1289طه.[73:
1290تفسير ابن كثير)(3/160مع بعض التصرف.
1291انظر:المصدر السابق).(2/239
]1292العراف.[126:
]1293العراف.[126:
1294تفسير أبي السعود)(3/262مع بعض التصرف.
]1295العراف.[126:
1296انظر:تفسير ابن كثير).(2/239
]1297العراف.[126:
1298تفسير البيضاوي).(3/49
]1299طه.[72:
1300تفسير القرطبي).(13/99
196
كثير’’:قالوا ل ضير إّنا إلى ربنا منقلبون إّنا نطمع أن يغفر لنا
ربنا خطايانا أن كّنا أول المؤمنين‘‘..1301يا لروعة اليمان إذا يشرق
في الضمائر.وإذ يفيض على الرواح.وإذ يسكب الطمأنينة في
النفوس(،1302وهكذا رّبى القرآن الّنفوس في مكة وهي تواجه الذى والكرب
دم لنا ل صاحب عقيدة يواجه الطغيان والظلم.إّنه ُيق ّ والضيق،وهكذا ُيرّبي ك ّ
وابةالنماذج العظيمة والدروس البليغة،فالطريق إلى تلك القمم يمّر عبر ب ّ
م الصعود بالمنية العاجزة الذليلة. الصبر والمصابرة،ولن يت ّ
امرأة فرعون مثال في الصبر أمام الطاغوت
لقد)جعل الله حال امرأة فرعون مثل لحال المؤمنين ترغيبا لهم في
الثبات على الطاعه والتمسك بالدين والصبر في الشدة(،1303يقول
تعالى’’:وضرب الله مثل للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب
ابني لي عندك بيتا في الجّنة ونجني من فرعون وعمله ونجني
ن الستعاذة بالله واللتجاء اليه ومسألة من القوم الظالمين‘‘1304؛ذلك)أ ّ
الخلص عند المحن والنوازل والصبر عليها من سير الصالحين(.1305
إّنها المرأة القدوة والنموذج والمثال.لقد اجتمعت فيها عدة عوامل
رفعتها إلى هذا النموذج النساني الرفيع:
ن الّنساء أقل قدرة على المواجهة من فهي امرأة،والمعلوم أ ّ
الرجال،ومع ذلك استطاعت أن تجتاز المحنة وتقابل الموت بقوة
واقتدار،وفي)هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة،أي ل تكونوا في
الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون(،1306فما هو قول الضعفاء
والعاجزين الذين ُيخفون عجزهم تحت معاذير واهية؟
ما يجعل النتقال إلى النقيض وهي-أيضا-تعيش حياة مترفة منعمة،م ّ
أمرا في غاية الصعوبة على الّنفس،ومع ذلك قبلت تلك الّنقلة
مل البعيدة،وتحولت من سعة القصور والحياة المترفة إلى المواجهة وتح ّ
العذاب بأقصى صوره دموّية،وفي هذا درس للمترفين الذين عبدوا شهواتهم
ونزواتهم،وخافوا على رؤوس أموالهم،وتذرعوا بمصالحهم فقعدوا عن القيام
بواجبهم،وهو درس لؤلئك الذين يقبلون بالفتات ويخنعون ويستسلمون!
ل أعتى شخصية،ولكّنها تحررت وصارت بإيمانها م هي تعيش في ظ ّ ث ّ
1307
بالله في جنات النعيم .لقد)انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله وتوكل
عليه وخوفا منه فنجاها الله وأكرمها،ولم تضرها تلك الصلة الظاهرة بأخبث
خم من شأن عبيد الله(،1308وفي هذا نسف لكل المبررات الواهية التي ُتض ّ
الطاغية وقوته وجبروته.
جيها من نفس فرعون الخبيثة فقط،بل ومن وهي لم تسأل الله أن ُين ّ
عمله وكفره وعبادته غير الله تعالى وتعذيبه للّناس وقتلهم بغير ذنب،وإلى
]1301الشعراء.[51-50:
1302في ظلل القرآن).(6/210
1303فتح القدير).(5/256
]1304التحريم.[11:
1305تفسير النسفي)(4/261مع بعض التصرف.
1306تفسير القرطبي).(18/203
1307انظر:فتح القدير).(5/256
1308البرهان في علوم القرآن)(1/416مع بعض التصرف.
197
غير ذلك من القبائح التي يرتكبها ذلك الحمق1309؛ذلك أّنها حملت قضية
ورسالة،وكفى بهذا رفعا لقدر المرأة في المفهوم القرآني.
ث المؤمنين على الصبر في ح ّ
ن امرأة فرعون مثال ُيراد منه َ إ ّ
ّ
الشدة،وأن بإمكانهم-لو أرادوا-أن يتغلبوا على الظروف والوضاع المحيطة
بهم مهما كانت هذه الوضاع صعبة وعسيرة،فليست هي بأصعب من تلك
الظروف التي واجهتها امرأة منفردة،ولكّنهم بحاجة إلى الصبر والمصابرة
كي يقفوا أمام فراعنة العصر،فنحن بحاجة إلى مواقف ولسنا بحاجة إلى
قةٍ وخطابات مزخرفة،فتلك إجابة نظرية ل فائدة منها،ونحن ُنريد م َ
من َ ّ
كلمات ُ
إجابة عملية يرضى عنها الله سبحانه وتعالى.
ن اليمان باليوم الخر وفي هذا المقام ل بد ّ من التأكيد على حقيقة أ ّ
من أهم العوامل في الثبات والصبر،وهذا ما ُيرشد إليه قوله تعالى حكاية
نلقول امرأة فرعون’’:رب ابن لي عندك بيتا في الجّنة‘‘1310؛ذلك أ ّ
ن هناك أجر ينتظره عند الله في مقابل النسان يشعر حين يصبر وُيضحي أ ّ
هذا الصبر.
وبالصبر تمت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل
م عليهم بصبرهم فضله ونعمه،وجعلهم أئمة دعاة إلى الخير،وولة فت ّ
ّ
وملوكا،وجعلهم الوارثين لملك فرعون،ومكن لهم في الرض بعدما كانوا
مستضعفين مقهورين مستعبدين،وأرى فرعون وقومه منهم ما كانوا
ن هلكهم على يد رجل من بني إسرائيل،فكانوا ُ
يحذرون،وذلك أنهم أخبروا أ ّ
مر الله ما كان يصنع على وجل منهم فأراهم الله ما كانوا يحذرون،ود ّ
1311
مت كلمة ربك فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ،يقول تعالى’’:وت ّ
مرنا ما كان يصنع الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ود ّ
فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘،1312أي)ومضت عليهم واتصلت
بالنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين(،1313وهو قوله تعالى’’:ونريد أن
ن على الذين استضعفوا في الرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم نم ّ
الوارثين ونمكن لهم في الرض ونري فرهون وهامان
وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘،1314وذلك بسبب صبرهم على
الشدائد.وبصبرهم على أذى فرعون،وعلى ما أمرهم الله به بعد أن آمنوا.
ن من قابلوا البلء بالصبر فلهم من الله ث ودليل على أ ّ وفي هذا ح ٌ
ما إذا العاقبة الحسنى،فُيسبغ عليهم نعمه،ويصبحون في الرض أئمة وقادة.أ ّ
قعد الّناس وتقاصرت هممهم ونفذ صبرهم فإّنهم يصيرون بتقاعسهم وعدم
صبرهم إلى ذيل القافلة.
الوسيلة الرابعة:الستقامة وعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون
من وسائل مواجهة الطاغوت الستقامة وعدم اتباع سبيل الذين ل
يعلمون،وهما أمران من الله سبحانه وتعالى في بضع آية يشكلن معا
ل على هذا قوله يشكلن جزءا من منهج المجابهة المتكامل مع فرعون،ود ّ
1309انظر:روح المعاني).(18/163
]1310التحريم.[11:
1311انظر:تفسير القرطبي).(13/249
]1312العراف.[137:
1313تفسير البيضاوي).(3/54
]1314القصص.[6-5:
198
ن1315سبيل ُ
تعالى’’:قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ول تتبعا ّ
الذين ل يعلمون‘‘).1316إّنه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالستقامة
والثبات على أمرهما من دعاء فرعون وقومه إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي
أخبرهما أّنه أجابهما فيه(.1317
ن المر الول يتمثل بالستقامة،ويعني)العتدال،يقال:استقام له إ ّ
1318
المر،وقوله تعالى’’:فاستقيموا إليه‘‘ ،أي في التوجه إليه دون
ن الذيناللهة،وقام الشيء واستقام اعتدل واستوى،وقوله تعالى’’:إ ّ
م استقاموا‘‘،1319أي عملوا بطاعته ولزموا سنة قالوا ربنا الله ث ّ
نبيه(1320؛)فالستقامة والطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ
المنهج:استقامة النفس وطمأنينة القلب.استقامة المشاعر والخوالج،فل
تتأرجح ول تضطرب ول تشك ول ترتاب بفعل الجواذب والدوافع
والمؤثرات.وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة.واستقامة العمل والسلوك على
المنهج المختار.وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات؛وفيه هواتف
بالنحراف من هنا ومن هناك(.1321
ما كانت الستقامة أصل وأساسا لنجاح الدعوات وانتصار المنهج ول ّ
الحق أمر الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى’’:فاستقم
كما أمرت ومن تاب معك ول تطغوا إّنه بما تعملون
بصير‘‘،.1322أي)فاستقم أنت يا محمد على أمر ربك والدين الذي ابتعثك
به،والدعاء إليه كما أمرك ربك،ومن تاب معك أي ومن رجع معك إلى طاعة
الله،والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره،ول تطغوا يقول ول تعدوا أمره
إلى ما نهاكم عنه إنه بما تعملون بصير(.1323
إّنه أمر عظيم)أحس-عليه الصلة والسلم-برهبته وقوته حتى روي عنه
أنه قال مشيرا إليه’’:شيبتني هود‘‘.1324فالستقامة:العتدال والمضي على
النهج دون انحراف.وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة،والتدبر
الدائم،والتحري الدائم لحدود الطريق،وضبط النفعالت البشرية التي تميل
)1315قرأ ابن عامر ول تتبعان بتخفيف النون،المعنى فاستقيما وأنتما ل تتبعان سبيل الذين ل
يعلمون وهو الذي يسميه بعض أهل العربية الحال،والمعنى:فاستقيما غير متبعين سبيل الذين ل
يعلمون.وقرأ الباقون بالتشديد ول تتبعان بالتشديد موضع تتبعان جزم إل أن النون ا لشديدة
دخلت للنهي مؤكدة وكسرت لسكونها،وسكون النون التي قبلها واختير له الكسر لنها بعد اللف
وهي تشبه نون الثنين(حجة القراءات).(1/336
]1316يونس.[89:
1317تفسير الطبري)(162-11/161مع بعض التصرف.وانظر:تفسير البيضاوي)(3/213وتفسير
ابي السعود)(4/172وتفسير الواحدي).(1/507
]1318فصلت.[6:
]1319فصلت.[30:
1320لسان العرب،مادة :قوم).(12/499وانظر:مختار الصحاح،مادة:قوم).(232
1321في ظلل القرآن).(7/235
]1322هود.[112:
1323تفسير الطبري).(12/126وانظر:تفسير ابي السعود)(4/244وتفسير الواحدي)
(1/535وتفسير البغوي).(2/404
1324سنن الترمذي،كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،باب ومن سورة
الواقعة)(5/402رقم)(3297قال أبو عيسى:هذا حديث حسن غريب.المستدرك على
الصحيحين،كتاب التفسير،تفسير سورة هود)(2/374رقم) ،(3314مسند أبي يعلى)(1/102رقم)
،(107المعجم الكبير)(6/148رقم).(5804قال الهيثمي) :رواه الطبراني ورجاله رجال
الصحيح(،مجمع الزوائد،كتاب التفسير،باب سورة هود)،(7/37
199
التجاه قليل أو كثيرا..ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات
الحياة.1325(.
لقد تكرر المر بالستقامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال
تعالى’’:واستقم كما أمرت ول تتبع أهواءهم‘‘،1326أي)واستقم على
الدعوة كما أمرك الله تعالى ول تتبع أهواءهم الباطلة(،1327وهو أمر ثقيل ل ّ
ن
ن اتباع المطلوب هو التزام جميع الطاعات والتكاليف،وعدم اتباع الهوى ل ّ
ل عن سبيل الله. الهوى ُيض ّ
ن استقامة الداعية على المنهج الذي يدعو إليه وثباته وعدم تردده إ ّ
يعكس مدى إيمانه بما يدعو إليه،وهو شرط-أي إيمانه بما يدعو إليه-ل بد ّ
منه لنجاح دعوته،إذ كيف يمكن له أن يدعو إلى أمر هو ليلتزم به ول
يستقيم عليه؟!وبالتالي ل تتجاوب الجماهير مع دعوة ل تظهر آثارها على
ن الستقامة على المنهج رغم صروف الّيام وتقلبات صاحبها.وفي المقابل فإ ّ
ن استمراره وثباته واستقامته الزمن ُيدخل في قلوب الّناس حقيقة مفادها:إ ّ
تعني أّنه أدرك الحق والحقيقة معا.
م
ن الذين قالوا ربنا الله ث ّ وهذا ما نفهمه من قوله تعالى’’:إ ّ
ّ
استقاموا تتنّزل عليهم الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا
ن الذين قالوا ربنا الله)اعترافابالجّنة التي كنتم توعدون‘‘.1328أي إ ّ
بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته ثم استقاموا،أي ثبتوا على القرار
ن الستقامة لها ن ‘ثم’ للتراخي في الزمان أو في الرتبة،فإ ّ ومقتضياته،على أ ّ
الشأن كله،وما روى عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم في
معناها من الثبات على اليمان،وإخلص العمل،وأداء الفرائض بيان
لجزئياتها،تتنـزل عليهم الملئكة من جهته تعالى،يمدونهم فيما يعن لهم من
المور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم،ويدفع عنهم الخوف والحزن
كد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسّلم’’:قل بطريق اللهام(،1329ويؤ ّ
م استقم‘‘)،1330فالستقامة درجة بها كمال المور وتمامها آمنت بالله ث ّ
وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع
سعيه وخاب جهده…ول يطيقها إل ّ الكابر لّنها الخروج عن
المعهودات،ومفارقة الرسوم والعادات،والقيام بين يدى الله تعالى على
حقيقة الصدق(.1331
ن الستقامة تجلب الخير الكثير،يقول تعالى’’:وأن لو استقاموا إ ّ
1332
على الطريقة لسقيناهم ماء غدقا‘‘ ،أي)لو استقاموا على
الطريقة طريقة الحق واليمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لسقيناهم
ماء كثيرا(.1333
200
ما المر الثاني فيتمثل بعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون أ ّ
الحق ول يهتدون إلى حقيقة،فهم في ريبهم يترددون،وعلى المصير
قلقون،فمن لم يجعل الله نورا فما له من نور،ول يستوي الذين يعلمون
ن سبيل الذين ل والذين ل يعلمون.يقول تعالى’’:ول تتبعا ّ
يعلمون‘‘،1334أي)ول تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي
ن وعيدي نازل بفرعون ن وعدي ل خالف له،وإ ّ فتستعجلن قضائي،فإ ّ
1335
وعذابي واقع به وبقومه( ؛فالستعجال دليل ضعف وقصر نفس،ويؤدي
إلى التساقط على الطريق وعدم إكمال المشوار إلى غايته.
ن الستقامة على المنهج وعدم اتباع سبيل الذين ل يعلمون ركن إ ّ
أساسي في النتصار على الطاغوت،فالتفريط كالفراط ُيطيل المسافة
ن أقصر الطرق وأقلها كلفة هي الطريق التي أرشد وُيكثر من التضحيات،وإ ّ
الله موسى إليها بالستقامة وعدم المداهنة مع الطاغوت.يقول الله
دوا لو تلين في دينك فيلينون دوا لو ُتدهن فيدهنون‘‘.1336أي و ّ تعالى’’:و ّ
ن المداهنة مصانعة ومجاملة وممايلة ومقاربة في الكلم في دينهم؛ذلك أ ّ
على حساب الحقيقة في هذا الدين،وهذه أمنية الكافرين أن ُيداهن أصحاب
نل الوسط!بل ونقول:إ ّ الحق في الدين.1337إّنها مساومة للوصول إلى الح ّ
الملينة في الدين من قبل بعض المسلمين أدت إلى تفرقة صفهم ووقوع
الخلفات فيما بينهم.فهي تجلب الضرر مرتين:مرة بإطماع العدو في التنازل
تلو التنازل،ومرة في زعزعة وحدة المسلمين.
الوسيلة الخامسة:الستعاذة بالله
الستعاذة اللجوء،و)استعذت به أي لجأت إليه(،1338واستعاذ بالله أي لذ
به ولجأ إليه واعتصم به،فمعنى الستعاذة هو اللتجاء إلى الله تعالى
ن اللجوء إلى الله تعبير عن حقيقة ضعف والعتصام به1339؛ذلك أ ّ
مل كل شيء،فإذا تحركت النسان،فهو ل يستطيع فعل كل شيء،أو تح ّ
عناصر الضعف فيه لجأ إلى الله يستمد منه القوة.
فالستعاذة طلب للحماية من الشرور والفتن،وليس هناك شٌر أعظم
من شر الطواغيت،وما ُينشؤونه من المحن لفتنة الذين آمنوا.ولهذا كانت
ن
الستعاذة حاضرة في المواجهة بين موسى عليه السلم وفرعون؛ذلك أ ّ
م
فرعون لم يدخر جهدا في محاربة موسى وملحقته بشتى صنوف الذى،ث ّ
أطلق العنان لزبانيته وجنوده كي يصبوا العذاب فوق رؤوس المخالفين
صبًا،وبلغ الطغيان مداه حين هدد فرعون بقتل موسى عليه السلمُ ،
مبديا
عدم اكتراثه بربه’’،وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع
ربه‘‘،1340وتكفي هذه الكلمات من فرعون للدللة على ما يخفيه من حقد
وكره وعداوة لموسى عليه السلم،كما تدل على فرط خوفه منه ومن
دعوته ربه.1341
]1334يونس.[89:
1335تفسير الطبري)(162-11/161مع بعض التصرف.وانظر:تفسير البيضاوي)(3/213وتفسير
أبي السعود)(4/172وتفسير الواحدي)(1/507وتفسير البغوي)(2/366وفتح القدير).(2/469
]1336القلم.[9:
1337انظر:تفسير الطبري)(29/21وتفسير القرطبي).(18/231
1338لسان العرب،مادة:عوذ).(3/498
1339انظر:فيض القدير).(1/408
]1340غافر.[26:
1341انظر:تفسير النسفي).(4/71
201
هنا-ومن أرض المعركة التي يخوضها المستضعفون-تبرز الستعاذة
كوسيلة من وسائل المواجهة مع فرعون،ويلتجأ الموصول بالله موسى عليه
السلم إلى من بيده مقاليد السماوات’’،وقال موسى إّني عذت بربي
ل متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‘‘،1342أي استجرت بالله وربكم من ك ّ
وعذت به من شر فرعون وشر أمثاله من المتكبرين المجرمين الذين ل
يؤمنون بيوم الحساب.1343
ن السبب المؤكد في دفع الشر هو وبّين عليه السلم في استعاذته)أ ّ
ن المطلوب هو الحفظ والتربية،وإضافته إليه ص اسم الرب ل ّ العياذ بالله،وخ ّ
وإليهم حثا لهم على موافقته.ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره
لتعميم الستعاذة،ورعاية الحق والدللة على الحامل له على
1344
ص موسى صلوات الله وسلمه عليه الستعاذة بالله ممن ل القول( ،و)خ ّ
ن من لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على يؤمن بيوم الحساب،ل ّ
الحسان راجيا ول للعقاب على الساءة وقبيح ما يأتي من الفعال
1345
خائفا،ولذلك كانت استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة( ؛)فما
يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب،وهو يتصور موقفه يومئذ حاسرا ً خاشعا ً
ل،مجردا ً من كل قوة،ما له من حميم ول شفيع يطاع(.1346 خاضعا ً ذلي ً
وهكذا يلتزم موسى الستعاذة كلما ضاقت به المور وادلهمت
الخطوب،يستعيذ بالله من شرورهم وسيئات أعملهم،يقول تعالى حكاية
لقول موسى’’:وإّني عذت بربي وربكم أن ترجمون‘‘،1347فهو يتحصن
بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه أو أن يرجموه.فإن استعصوا على اليمان فهو
عوا المر بينه وبينهم
يطلب منهم إعتزاله وأن ل يعترضوا عليه وأن ي َد َ ُ
مسالمة إلى أن يقضي الله بينهم،1348وذلك منه عليه السلم منتهى العدل
والمسالمة،ولكّنه الطاغوت ل يقبل حل سوى الستسلم التام من أهل
الحق.
ما
ليس في قلوب الطواغيت غير الكبر والستكبار عن الحق والتعظم،م ّ
يحملهم على التكذيب،والطمع في أن يغلبوا أهل الحق،وما هم ببالغي
ذلك..فلنلتجأ إلى الله من شرهم وكيدهم وبغيهم،فهوالسميع لقوالهم
ن الذين البصير بأفعالهم ل تخفى عليه من ذلك خافية.1349يقول تعالى’’:إ ّ
يجادلون بآيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إل ّ كبر
ما هم بباليغه فاستعذ بالله إّنه هو السميع البصير‘‘.1350و)ليس ما
يرومونه من إخماد الحق وإعلء الباطل بحاصل لهم،بل الحق هو
المرفوع،وقولهم وقصدهم هو الموضوع،فاستعذ بالله من حال مثل
هؤلء(.1351
]1342غافر.[27:
1343انظر:تفسير ابن كثير)(4/78وتفسير القرطبي)(15/305وتفسير الطبري).(24/57
1344تفسير البيضاوي)(5/90مع بعض التصرف.وانظر:تفسير أبي السعود).(7/274
1345تفسير الطبري).(24/57
1346في ظلل القرآن)(7/178مع بعض التصرف.
]1347الدخان.[20:
1348انظر:تفسير ابن كثير).(4/142
1349انظر:فتح القدير).(4/497
]1350غافر.[56:
1351تفسير ابن كثير).(4/85
202
ن مواجهة الطواغيت تحمل الكثير من المخاطر والمنعطفات،وذلك إ ّ
ل الّنصير ويتكالب العداء..فرّبما زّين الشيطان لبعض ضعاف حين يق ّ
ول الّنفس بمثل ذلك حين اشتداد الّنفوس المهادنة ونصف الحل!ورّبما ُتس ّ
المواجهة وازدياد التضحيات…وتلك هي وساوس الشيطان لثني المؤمنين
ما
عن مواصلة المشوار،فإذا حدث هذا فعليك بالستعاذة،يقول تعالى’’:وإ ّ
ينـزغّنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إّنه سميع عليم‘‘،1352أي
فاستجر بالله والتجيء من تلك الوسوسة لّنها تبعث على الشر،فهو السميع
لكل ما يسمع والعليم بكل ما يعلم،ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ
به.1353
الوسيلة السادسة:سرّية اليمان والنتماء.
حين ل يستطيع أهل الحق ممارسة إيمانهم علنية بسبب الضغط
كشف أمرهم لتعرضوا الهائل عليهم،والذي ل يستطيعون له دفعا،بحيث لو ُ
لفتن خطيرة تزيد عن الضرر الّناجم من كتم إيمانهم،حينئذ ل بد ّ من
الّتخفي،كما كان المر في بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما أدخل الخوف والرعب في فاكا للدماء م ّ لقد كان فرعون مجرما س ّ
ّ
قلوب الجماهير،يقول تعالى’’:فما آمن لموسى إل ذرية من قومه
ن الطاغوت على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘1354؛ذلك أ ّ
يعتمد على التخويف والقهر.ومن هنا كان وحي الله لموسى عليه السلم
ولخيه بالتخفي والحيطة والحذر،يقول تعالى’’:وأوحينا إلى موسى
وأخيه هارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة
وأقيموا الصلة‘‘،1355أي)صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا،وذلك حين أخافهم
فرعون فأمروا بالصبر،واتخاذ المساجد في البيوت(.1356
ولم يكن مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه إل ّ بسبب بطش فرعون وخوفا
على نفسه،1357وذلك ما نفهمه من قوله تعالى’’:وقال رجل مؤمن من
آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجل أن يقول ربي الله وقد
جاءكم بالبينات من ربكم وإن يكن كاذبا فعليه كذبه وإن يكن
صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم‘‘ .1358أخذهم بالحتجاج من باب
الحتياط،فقال:وإن يك كاذبا فعليه كذبه ل يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في
دفعه إلى قتله،وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم،فل أقل من أن
يصيبكم بعضه.1359فهو حذر في انتقاء كلماته لئل ينكشف أمره.
سرّية قد تكون لجميع أفراد الجماعة بما فيهم ن الّتخفي والكتمان وال ّإ ّ
رسولهم،كما كان الحال في بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم،وقد
سرّية للجماعة المؤمنة عدا الرسول،وقد ُيباح المر فيقوم بعض تكون ال ّ
أفراد الجماعة بالعلن عن إيمانهم عزيمة منهم.وقد تكون الدعوة سرا ً
م ُيعلن عنها.وقد تكون سرّية في بعض الّنشاطات دون لبعض الوقت ث ّ
]1352العراف.[200:
1353انظر:فتح القدير).(4/516
]1354يونس.[83:
]1355يونس.[87:
1356تفسير القرطبي).(8/371وانظر:تفسير ابن كثير)،(2/430تفسير الطبري)،(11/155فتح
القدير).(2/467
1357انظر:تفسير الطبري).(24/57
]1358غافر.[28:
1359انظر:تفسير البيضاوي)(5/91وتفسير ابي السعود).(7/274
203
غيرها،فهناك نشاطات بالكلمة بعضها ُينشر وبعضها ل ُينشر.وقد تكون هناك
أسرار عسكرية تنظيمية محضة ل يعرفها إل ّ أولو المر مّنا..والذي يحدد ك ّ
ل
هذا هو الواقع الحركي للجماعة في مواجهتها مع الطاغوت،وحجم الضغط
ممارس على الجماعة،ومدى قدرة الجماعة الذاتية في تلك ال ُ
المرحلة،وغيرها من الملبسات والظروف التي ُتقدر بقدرها من قبل قيادة
الجماعة..
وهكذا يتسع ميدان المواجهة مع الطاغوت ليشمل ما هو فوق الرض
دعة‘‘،1360كي خ ْ
وما هو تحت الرض،تحقيقا لمعنى الحديث الشريف’’الحرب َ
ن السرّية في نفاجىء الطواغيت بما لم يستعدوا له..مع التأكيد على أ ّ
الدعوة في أي مرحلة من مراحلها ما هي إل ّ وسيلة وليست بغاية،إذ أ ّ
ن
الحق من طبيعته أن يسعى لتعريف نفسه ودعوة الجماهير إليه،وذلك معنى
تبليغ الحق للّناس.
ن لنا في كيفية قتل كعب بن الشرف اليهودي عبرة،حيث استعمل إ ّ
المسلمون حيل وخدعا متعددة للوصول إليه وقتله.قال محمد بن سلمة
رضي الله عنه-وهو أحد الذين شاركوا في قتله) :يا رسول الله أنا
أقتله.قال:فافعل إن قدرت على ذلك،فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلثا ل
يأكل ول يشرب إل ما يعلق به نفسه،فذكر ذلك لرسول الله فدعاه فقال
له:لم تركت الطعام والشراب؟قال يا رسول الله:قلت قول ل أدري أفي به
أم ل.قال:إنما عليك الجهد.قال يا رسول الله:إنه ل بد لنا من أن
1361
م ما كان من خدعة نقول.قال:قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك( ،ث ّ
في طريقة قتله،فانظر كيف يناور محمد بن سلمة في الكلم مع كعب بن
الشرف’’:أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين.فقال:ارهنوني
نساءكم.قالوا:كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب.قال:فارهنوني
أبناءكم.قالوا:كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين
هذا عار علينا،ولكّنا نرهنك اللمة-يعني السلح-فوعده أن يأتيه فقتلوه،ثم
أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه‘‘.1362
ن هناك هامشا للمناورة كبير،ومن يظهر لنا ومن خلل تلك الحداث أ ّ
هنا يجب علينا استعمال كافة التدابير المنية والقواعد السرّية في المواجهة
المعاصرة مع الطاغوت،ول بد ّ من استعمال التكنولوجيا الحديثة،ويجب
دراسة واقع المعركة واستعمال السواتر المنية المناسبة والمعقدة التي
يصعب كشفها،كما لبد من إعطاء خصوصية للساحات والظروف
المختلفة،ويجب استغلل الثغرات المنية عند الخصم والستفادة
منها،والبحث الدائم عن نقاط الضعف لدى العدو،ويترتب على ذلك ازدياد
في القدرة على توجيه الضربات القاتلة للعدو.ويتطلب ذلك جهدا ومثابرة
وصبرا من قبل جماعة المسلمين،والعمل الدائم على تنشأة الكوادر المنية
المسلحة بالعلم واليمان.
مبدأ التقية وسرّية اليمان
من المناسب في هذا المقام أن نشير إشارة موجزة إلى مبدأ
قّية،وهي)أن يقي نفسه من اللئمة أو من العقوبة بما ُيظِهر وإن كان على الت ّ ِ
1360صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب الحرب خدعة)(3/1102رقم).(2864وصحيح
مسلم،كتاب الجهاد والسير،باب جواز الخداع في الحرب)(3/1361رقم).(1739
1361تاريخ الطبري).(2/53وانظر:البداية والنهاية).(4/5
1362صحيح البخاري،كتاب الرهن،باب رهن السلح)(2/887رقم).(2375
204
خلف ما يضمر(،1363وذلك لشدة ارتباطه بمسألة الّتخفي وكتمان
كل بالمسلمين ملحة في هذا الزمان حيث ُين ّاليمان،ولّنه من المواضيع ال ُ
عموما وبالمجاهدين على وجه الخصوص،وهم ُيواجهون الطواغيت التي ل
ترحم أبدا.يقول تعالى’’:ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ إل أن تتقوا
منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير‘‘.1364أي)من
خاف في بعض البلدان والوقات من شر العداء فله أن يتقيهم بظاهره ل
بباطنه ونيته(،1365وذلك معنى قوله تعالى’’:إل ّ من أكره وقلبه مطمئن
مكرها ً لما ناله 1366
باليمان‘‘ ؛فمن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه ُ
من ضرب وأذى،أو خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه،وقلبه يأبى ما
يقول فهو مباح له،1367ولكن)من أتى الكفر على اختيار واستحباب فعليهم
غضب من الله ولهم عذاب عظيم(.1368روى البخاري عن أبي الدرداء أّنه
قال’’:إّنا لنكشر 1369في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم‘‘،1370وفي هذا دليل على
جواز مخالفة الظاهر الباطن في بعض الحوال.
لقد كانت التقية في جدة السلم قبل قوة المسلمين،أي وهم
مستضعفون لّنه ل يلجأ القوي المنيع للتقية أبدا،وهي-أي التقية-أن يتكلم
بلسانه وقلبه مطمئن باليمان.ول ُتقية في القتل أي قتل مسلم محرم
الدم،ول يأتي مأثما،وهي جائزة للمسلم إلى يوم القيامة في كل مرحلة
يكون فيها مستضعفا أو مغلوبا على أمره،وللمؤمن إذا كان قائما بين الكفار
أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن باليمان،والتقية
ل تحل إل مع خوف القتل أو القطع أو اليذاء العظيم،ومن أكره على الكفر
فله أن يتصلب ول يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر من باب العزيمة،وإل ّ فإّنه
يجوز له ذلك.1371
فالتقية ل ُتباح ول تجوز إل ّ بشروط وظروف مخصوصة كما ذكر ذلك
الفقهاء والعلماء،وليس هنا تفصيل تلك المسألة ولكن أحببت الشارة إليها
مس واقع المسلمين،فبالضافة لما ذكره الولون تجوز التقية ما ي ُ
لّنها م ّ
للمجاهدين الذين يخشون على أنفسهم من النكشاف،كما وتجوز التقية
ل ما يجلب أيضا للمخابرات المسلمة وأجهزة المن الخاصة بالمجاهدين وك ّ
نفعا ويدرؤ مفسدة عن المسلمين في هذا العصر جازت التقية فيه.والله
أعلم.
نظرة تحليلية عامة على كيفية مواجهة فرعون
من خلل الّنظر في كيفية مواجهة فرعون،والوسائل التي استعملت
في تلك المواجهة نستطيع الخروج بعدة نتائج أهمها ما يلي:
1363المغرب،مادة:وقي).(2/367
]1364آل عمران.[28:
1365تفسير ابن كثير)(1/358مع بعض التصرف.وانظر:تفسير النسفي).(1/149
]1366النحل.[106:
1367انظر:تفسير ابن كثير)(2/588وتفسير أبي السعود).(5/143
1368تفسير الطبري).(14/182
)1369 1369الك َ ْ
شُر بدو السنان عند التبسم.ويقال:في غير ضحك كشر عن أسنانه إذا
أبداها(العين،باب الكاف والشين والراء).(5/291
1370صحيح البخاري،كتاب الدب،باب المداراة مع الناس)(5/2271أخرجه البخاري في المعلقات.
1371انظر:تفسير القرطبي)(4/57وتفسير الطبري).(3/228
205
ن جميع هذه الوسائل تندرج في مفهوم جهاد الدفع النتيجة الولى:إ ّ
وليس جهاد الطلب،بل جهاد الصبر والمصابرة والثبات،والسقف العلى لتلك
الوسائل هو الكلمة للوصول إلى حالة النسلخ عن الطاغوت والتحرر
منه،وهذا يعني القضاء على سبب من أسباب ظهور شخصية فرعون،فلو
انفض الّناس عن الطواغيت لما كان لهم شأن ُيذكر،فليس الطاغوت في
نهاية المر سوى فرد ل يملك غير قدرات محدودة.
النتيجة الثانية:إّنها وسائل تعتمد في جوهرها على الشخصية الصلبة
والصابرة،وذلك لعدم تكافؤ القوى؛فالفئة المؤمنة ل تمتلك القدرة ول
الدوات التي بها تمنع الذى عن نفسها،فليس أمامها إل ّ الصبر والّتحمل وما
قد ُيتاح لها من هامش الّتخفي.وهذا ظاهر في شخصية موسى وهارون،ومن
دونهم في الصبر كالسحرة،وظاهر أيضا في أسلوب التكتم والسرّية الذي
أشرنا إليه في مواضعه.
وذلك ما حدث للوائل من أمتنا وسادة دعوتنا من الصحابة الحباب
حين واجهوا المحن العظام بصبر تنوء عن حمله الجبال،حتى بلغ المر بهم
كوا لرسول الله أوضاعهم.روى البخاري عن خباب رضي الله عنه ش ُ
أن َ
قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل
الكعبة،ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة،،فقلت:يا
رسول الله أل تدعو الله،فقعد وهو محمر وجهه،فقال’’:لقد كان من قبلكم
ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك
عن دينه،ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن
دينه،وليتمن الله هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما
يخاف إل الله والذئب على غنمه‘‘.1372
ن هذه الوسائل متناسبة مع الهدف الذي يسعى إليه النتيجة الثالثة:إ ّ
ن الوسائل المستعملة في القضاء على موسى عليه السلم،وهذا يعني أ ّ
الطاغوت وإنهاء النظام الظالم لحلل الحق مكانه سوف تتعدى تلك
متقدمة في المواجهة،ولن الوسائل الدفاعية إلى الوسائل الهجومية كمرحلة ُ
تبقى في مستوى الدفاع فحسب.مع ملحظة أّننا في مرحلة دفاعية على
المستوى المحلي والقليمي والدولي،فنحن مثل نطلب من رأس الستكبار
ف يدها عّنا،وتدعنا وشأننا،ونطلب من النظمة العالمي أمريكيا أن تك ُ ّ
المتحكمة فينا أن تدعنا وشأننا فل ُتضّيق علينا ول تمنعنا الحقوق الساسية
للبشر..باختصار مرحلتنا بعمومها تعني الدفاع عن الّنفس كما هو حاصل في
فلسطين أيضًا.
ن التزام الوسائل الشرعية أثناء حركتنا للتحرر من النتيجة الرابعة:إ ّ
الطاغوت أو الّتخلص منه ُيحقق أغراضا أخرى غير التخلص من الظلم
ن هدف البعث السلمي لم يكن محصورا بتلك النتيجة والطغيان؛ذلك أ ّ
المباشرة،بل يتعدى تلك النتيجة إلى تحقيق المشروع السلمي
ن الله تعبدنا بالوسائل كما تعبدناالمتكامل،ومن هنا ندرك معنى أ ّ
ن أي تفريط مّنا بتلك الوسائل يعني عدم انجاز ذلك بالغايات،وندرك أيضا أ ّ
معتمد على بناء المة فكرا وسلوكا وأخلق،وهذا لن المشروع السلمي ال ُ
ن وسائل يتحقق إذا ما سلك المسلمون مسالك الجاهلية في التغيير؛ذلك أ ّ
1372صحيح البخاري،كتاب فضائل الصحابة،باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من
المشركين بمكة)(3/1398رقم).(3639
206
الجاهلية منفلتة من القيم والخلق،فل يجوز لنا أن نتخذ وسيلة خسيسة
لتحقيق غاية كريمة)،ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته
هي العليا.فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف
الكريم.ومن جهة أخرى فهو ل يعني نفسه ببلوغ الغايات،إّنما يعني نفسه
بأداء الواجبات،تحقيقا لمعنى العبادة في الداء.أما الغايات فموكولة لله،يأتي
بها وفق قدره الذي يريده.ول داعي لعتساف الوسائل والطرق للوصول
1373
إلى غاية أمرها إلى الله،وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله( ؛
ن النجاز المادي ليس غاية لحركتنا بل إفراز لتلك الحركة. ذلك أ ّ
ن فترة العداد مهما كانت ناجحة في تهيئة النتيجة الخامسة:إ ّ
الشخاص للدخول في مرحلة التنفيذ والمباشرة في الدعوة فإّنها ل ُتغني
مستجدة،فبعض عن المهارات والقدرات الخاصة في مواجهة المواقف ال ُ
المواقف يحتاج إلى نباهة وفطنة وسعة علم واطلع..وبعضها يحتاج إلى
سعة صدر وحلم ورفق..وبعضها يحتاج إلى حزم وجزم وعدم التردد
والحيرة..وبعضها بحاجة إلى قدرة على المناورة والمداورة..وهنا يبرز دور
القيادة في توزيع الدوار واختيار الكفاءات.
النتيجة السادسة:تتمثل في أن ل تتفاجأ الجماعة ببعض
العثرات،فتلك سّنة الدعوات،سواء كانت عثرات فردية أو جماعية،فالكمال
لله،والخطأ من ابن آدم وارد.قد ُنخطىء في التعجيل أو في التأجيل،أو
بحجم الرد شدةً أو تهاونا لسباب تفرضها ساحة المواجهة مع
ن فقهنا فقه حركة ل فقه الطواغيت.ومن يتحرك ُيخطىء،ومن هنا قلنا أ ّ
أوراق.
ن المطلوب هو العداد قدر المستطاع والخذ النتيجة السابعة :إ ّ
بالسباب طاعة لله ل العداد المساوي لقوة الطواغيت،فعلى المستضعفين
أن ل يحتقروا أنفسهم أو قدراتهم أمام الطاغوت،وهذا ما نفهمه من قوله
تعالى’’:وأعدوا لهم ما استطعتم‘‘،1374أي)ما أطقتم أن تعدوه لهم من
اللت التي تكون قوة لكم عليهم(.1375
الخــــاتمة
لم يكن القرآن ليذكر شخصية فرعون ك ّ
ل هذا الذكر باعتبارها شخصية
ن هذا الحديث الواسع عن تاريخية لن تعود إلى الوجود مّرة أخرى،بل إ ّ
شخصية فرعون ليؤكد أّنها شخصية تتكرر ولكن بأشكال مختلفة وجوهر
واحد؛فقد تتكرر شخصية الطاغوت فرعون بشخصية كفرعون ومن حوله
أبواق تردد أقواله وُتسبح له!وقد تتكرر في جماعة تنهج في مجموعها نهج
دولة برمتها تنهج نهجه،فتكون الشخصية العتبارية فرعون،وقد تكون ال ّ
ن وجود فرعون الطاغوت دولة حينذاك هي شخصية فرعون،بمعنى أ ّ لل ّ
ُ
يتحقق كلما طبق منهجه.
207
وعلى أي شكل تكرر فرعون تبقى وسائل الرد بخطوطها الساسية ل
تتغير،وإن حدث تغيير فإّنما هو بالفروع’التكتيك‘.فجوهر المواجهة يتمثل في
جماعة مؤمنة صابرة مصابرة تأخذ على عاتقها دفع الثمن بأعلى مستوياته
من التضحية،لتكون مثال للخرين في الثبات والتصدي.وأي قفز عن هذه
الحقيقة في مواجهة الطاغوت يعني إطالة مرحلة الستعباد والخضوع
والخنوع.لبد ّ من فئة مؤمنة تدفع الثمن الول وتكون رأس الحربة التي
مل العبء الكبر،وحين نجد من يقتحم العقبة نكون قد تطعن الطاغوت،وتتح ّ
ن لنا في قصة خطونا الخطوة الولى على طريق الّنصر أو الشهادة.إ ّ
فرعون دروسا وفوائد جمةُ،نجملها فيما يلي:
أول:البعد الغيبي في الحداث حقيقة نوقن بها ول ُتلغي
واجب الخذ بالسباب
ن أول مظهر يتجلى فيه البعد الغيبي في قصة فرعون هو الربط بين إ ّ
الحداث وسلوك الّناس مع ربهم،فليس هناك حدث إل ّ وهو مرتبط بطبيعة
علقة الّناس مع الله،فالعقوبات التي أنزلها الله على فرعون وآله وقومه ما
هي إل ّ انعكاس لتلك العلقة،يقول تعالى’’:فانتقمنا منهم فأغرقناهم
م بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘،1376فكل مأساة في الي ّ
ُتصيب البشر فبما كسبت أيديهم ويعفوا عن كثير،يقول تعالى’’:وما
1377
ي
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير‘‘ )،أ ّ
مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات فبما كسبت أيديكم
ن العقوبة دليل على سوء علقة أي معاصيكم التي اكتسبتموها(1378؛ذلك أ ّ
معاقب مع الله،وهي في ذات الوقت تحذير للمذنب كي يعود إلى الله ال ُ
ويراجع نفسه.
نعم.إذا أراد الله شيئا لم يمنعه شيء،وإذا أراد الله شيئا هيأ له السبب؛
مستفاد من قصة فرعون مع المستضعفين،وهو ذلك هو الدرس العظيم ال ُ
ن على الذين استضعفوا مراد من قوله تعالى’’:ونريد أن نم ّ المعنى ال ُ
في الرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في
1379
ن
مراد هو رفع الظلم عنهم بل جعلهم أئمة؛ل ّ الرض‘‘ ،فليس ال ُ
انتصارهم الساحق المبين رغم اختلل موازين القوى الكبير لصالح فرعون
ن إرادة الله هي النافذة،ليس في المعركة مع الطواغيت يؤكد للّناس أ ّ
ل حركة في الوجود،وذلك هو معنى قوله ل حركة الحياة،وك ّ فحسب بل في ك ّ
1380
م جئت على قدر يا موسى‘‘ ،وُبعث موسى عليه السلم تعالى’’:ث ّ
إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده..وسارت القدار كما شاء الله لها
م ما كان من أمر هلك فرعون وجنده.هناك بعد آخر للمعركة مع أن تسير..ث ّ
الطاغوت يغفل عنه كثير من الّناس،فنحن ستار لقدر ل نعلمه،ولكّننا نؤمن
به ونعلم أّنه الحق،فما من غائبة في السماوات ول في الرض إل ّ في كتاب
ل شأنه يسير. من قبل أن يبرأها الله،وهو عليه ج ّ
]1376العراف.[136:
]1377الشورى.[30:
1378روح المعاني).(25/40وهذا مخصوص بالمذنبين)فإن ما أصاب غيرهم فلسباب أخر منها
تعرضه للجر العظيم بالصبر عليه(تفسير البيضاوي).(5/131
]1379القصص.[6-5:
]1380طه.[40:
208
ن الخذ بالسباب طاعة واجبة،ولكّنها ل هذه الحقيقة المطلقة فإ ّ ومع ك ّ
ليست هي الفاعلة،وإّنما الفاعل الحقيقي في كل شيء هو الله،ومن قال
بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالف
ن الطمأنينة إلى تلك السباب واللتفات إليها بالقلوب سنة النبياء،كما أ ّ
انتكاسة خطيرة؛فإنها ل تجلب نفعا ول تدفع ضرا بل السبب والنتيجة فعل
الله تعالى،والكل منه وبمشيئته.1381فل بد ّ إذا من هذا وذاك دون إفراط أو
تفريط،فكما كان البعد الغيبي ظاهرا في قصة المواجهة مع فرعون كان
الخذ بالسباب حاضرا في كل مراحلها.
ثانيا:سّنة أخذ الله للظالمين،وقوله تعالى’’:فجعلناهم سلفا ً
ومثل ً للخرين‘‘.1382
ن قدر الله ل ُيستعجل فلكل أجل كتاب،ولنا بما حدث لفرعون وقومه إ ّ
عَبر،حين سلب الله منهم ما خولهم ،وانتقم منهم فأغرقهم،وذلك بسبب ِ
تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم..بسبب ظلمهم واستكبارهم وطغيانهم
ن ربك لبالمرصاد‘‘،1383ل يفوته وعصيانهم وجرائمهم…يقول تعالى’’:إ ّ
1384
شيء من أعمال العباد،فمرجع الخلق إلى حكمه وإليه مصيرهم .فهل
حذر الناس من التهاون في أمر الله؟أين انتفاش فرعون وسطوته حين
أدركه الغرق،وأحس ببأس الله؟لقد أعلن الستسلم في ساعة ل ينفع بها
إيمان.
ما أغضبوا الله بالفراط بالعناد والمعصية كانت سّنة الله التي ول ّ
1385
مضت ،فهو يمهل ول ُيهمل.يقول تعالى’’:فلما آسفونا انتقمنا منهم
فأغرقناهم أجمعين،فجعلناهم سلفا ومثل للخرين‘‘،1386أي
جعلناهم متقدمين في الهلك ليتعظ ويعتبر بهم من بعدهم من الطواغيت
إلى يوم القيامة.1387لقد)ذهب هؤلء الطغاة الذين كانوا ملئ العين
والنفوس في هذه الرض،ذهبوا فلم ييأس على ذهابهم أحد،ولم تشعر بهم
سماء ول أرض،ولم ُينظروا أو ُيؤجلوا عندما حل الميعاد’’:فما بكت عليهم
السماء والرض1388وما كانوا منظرين‘‘،1389وهو تعبير يلقي ظلل
الهوان،كما يلقي ظلل الجفاء..فهؤلء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد
في أرض ول سماء.ولم يأسف عليهم أحد في أرض ول سماء(.1390
ن في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله إ ّ
المؤمنين لعبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم،ومع هذا ما آمن أكثر
1381انظر:تفسير القرطبي).(4/189
]1382الزخرف.[56:
]1383الفجر.[14:
1384انظر:تفسير البغوي).(4/484
1385انظر:تفسير البيضاوي).(5/149
]1386الزخرف.[56-55:
1387انظر:تفسير الثعالبي).(4/130
)1388يراد بعدم البكاء عدم الكتراث بهلكهم ول العتداد بوجودهم وقد كثر في التعظيم لمهلك
الشخص بكت عليه السماء والرض بكته الريح ونحو ذلك وفي التفسير شواهد كثيرة من شعر
العرب عليه ومن أثبت كالصوفية للجرام السماوية والرضية وسائر الجمادات شعورا لئقا
بحالها لم يحتج إلى اعتبار المجاز وأثبت بكاء حقيقيا لها بحسب ما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله
بالحزن أو نحوه أو أثبته لها بحسب ذلك أيضا( اللوسي :أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله
بن شهاب الدين1342-1273)،هـ(،ما دل عليه القرآن مما يضد الهيئة القويمة،جزء
واحد،ط ،2المكتب السلمي،بيروت1971،م.(1/129).
]1389الدخان.[29:
1390في ظلل القرآن).(7/368
209
ن في ذلك لية وما كان أكثرهم الناس.1391يقول تعالى’’:إ ّ
مؤمنين‘‘،1392لذلك لم تنفعهم تلك المواعظ البليغة؛فلم يتنبه لها أكثر
الولين،كما لم يتنبه لها أكثر الخرين،يقول تعالى’’:فاليوم ننجيك ببدنك
ن كثيرا من الّناس عن آياتنا لتكون لمن خلفك آية وإ ّ
لغافلون‘‘1393؛فهذا التطاول والتفاخر والستعلء من قبل الطواغيت
وأعوانهم في مشارق الرض ومغاربها لدليل واضح على غفلتهم وعدم
انتفاعهم بما حدث لفرعون وغيره من الطغاة والبغاة.
ثالثا:الفتنة والختبار،وقوله تعالى’’:وجعلنا بعضكم لبعض
فتنة أتصبرون‘‘.1394
تلك هي الحكمة من وجود فرعون وأمثاله من الطواغيت،وذلك هو
قضاء الله وقدره في خلقه وله الحكمة البالغة،فالحياة دار بلء وامتحان
واختبار حيث)أراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في
جميع الناس مؤمن وكافر(،1395وعلى هذا الساس نفهم الحياة الدنيا،فهي
صراع بين الحق والباطل،ومن أسقط تلك الحقيقة من تصوره للحياة فقد
أخطأ الفهم الصحيح وضل.
ن فرعون لعنه الله وأمثاله امتحان من الله للبشرية’’،ولوشاء الله إ ّ
1396
لمن من في الرض كلهم جميعا‘‘ ،ولكّنه سبحانه جعل اليمان
كاها وقد خاب من اختيارا،وألهم الّنفس فجورها وتقواها’’قد أفلح من ز ّ
ساها‘‘).1397ول يهمنا أن نستقصي أصول هذه الّنزعات السيئة من الّناحية د ّ
التاريخية،لنعرف أهي طارئة على فطرة النسان،أم مخلوقة معها،وإّنما
ده،ومصيره معلق يهمنا أن هذه وتلك موجودتان في النسان،تتنازعان ِقيا َ
بالّناحية التي يستسلم لها(،1398ومن خلل هذا الفهم نستطيع أن نفهم أحد
أهم المحركات النسانية على مدار التاريخ.
وقد يتذرع العصاة والفجرة بالقدر،يقول تعالى’’:سيقول الذين
أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ول آباؤنا ول حّرمنا من
ذب الذين شيء‘‘،1399فهذه دعواهم،ولقد أجاب القرآن عليها’’،كذلك ك ّ
من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا،قل هل عندكم من علم فتخرجوه
ن وإن أنتم إل ّ تخرصون‘‘ ،1400أي)هل عندكم لنا،إن تّتبعون إل ّ الظ ّ
دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره والمقصود
من هذا التبكيت لهم لنه قد علم أنه ل علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به
البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم وأنهم إنما يتبعون
الظنون أي ما يتبعون إل الظن الذى هو محل الخطأ ومكان الجهل وإن أنتم
إل تخرصون أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص(،1401فنحن
210
كلفنا به من أوامر ونواه معلومة لم ُنكّلف بمعرفة قدر الله،فلننشغل بما ُ
متيقنة،وندع ما لم ُنكلف به.
ن الحجة والبرهان ل ُتؤدي إلى اليمان حتما،فبعض الّناس يسير مع إ ّ
البرهان وبعضهم ل يسير معه.فكل الّناس شاهدوا تلك المباراة الشهيرة مع
السحرة،وشاهدوا سجود السحرة وإيمانهم الصريح الثابت الواضح،ومع ذلك
شاهدنا فرعون يقود جيشا منهم ُيلحق به موسى ومن معه.إذا ً هناك مانع
يمنع الّناس من اليمان..إّنه مرض في قلوبهم.قد يكون الهوى والمصلحة،أو
المجاملة والمداهنة ومراعاة العرف والعادة،أو الحقد والحسد…ولكن لن
يكون ضعف الدليل أو عدمه سببا بعد أن ُأقيمت الحجة وسطع
ن على قلبه وسمعه و بصره موانع تصد عن الفهم البرهان.بل)ل ّ
1402
والقبول،وهكذا حال من غلب عليه هواه( ،وهذه حقيقة على حملة الدعوة
إلى الله أن يتنبهوا لها،يقول تعالى’’:ولو أّننا نّزلنا إليهم الملئكة
وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبل ما كانوا ليؤمنوا
ن المانع عن ن أكثرهم يجهلون‘‘1403؛ذلك أ ّ إل ّ أن يشاء الله ولك ّ
اليمان سبب آخر ل يتعلق بضعف الدليل أو قوته.
رابعا:ل أثر للقاعدين على رصيف الحياة
هناك صنف من الّناس يتعلقون بالضعف الموهوم،فهم في جهد دائم
فاهم ن الذين تو ّ لقة يعلقون عليها ضعفهم،يقول تعالى’’:إ ّ للبحث عن ع ّ
الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كّنا مستضعفين
في الرض،قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا
فيها،فأولئك مأواهم جهّنم وساءت مصيرا‘‘.1404هؤلء القاعدون على
رصيف الحياة أصفار ل قيمة لهم،لقد ظلموا الحق الذي من أجله
خلقوا،وظلموا الرسالة التي ُأنيطت بهم حين قعدوا،فبماذا ُيجيبون وقد ُ
حضرت الملئكة لتتوفاهم وهذا حالهم!
’ليس باليد حيلة‘،تلك هي حجة الغلبية الصامتة هذه اليام وشعار
القاعدين!إّنها الحجة الباهتة التي ُتخفي وراءها الخوف من الموت.إّنه
الهروب من المواجهة والقيام بالواجب ودفع الثمن هو الذي أقعد الكثيرين!
ولسان حالهم يقول كما قال الذلء الرقاء’’:فاذهب أنت وربك فقاتل
إّنا ها هنا قاعدون‘‘.1405ومن الّناس من يجلس مستريحا يعلل نفسه
بالكذب والدعاء الباطل قائل:ل بد ّ من التريث..ويبقى التريث شعارا أبديا ل
بد ّ منه.إّنه الستار الذي ُيخفي به هؤلء ضعف إيمانهم وعجزهم
َ
خْرت ََنا َ
ول أ ّ ل لَ ْ
قَتا َعل َي َْنا ال ْ ِ
ت َ
م كت َب ْ َوكساحهم..فهم الذين قالواَ’’:رب َّنا ل ِ َ
َ
من)يعلم أن الجال محدودة والرزاق ريب‘‘ ،وهذا ل يصدر م ّ
1406
ل َ
ق ِ إ َِلى أ َ
ج ٍ
مقسومة..إل أن يكون قائله ممن لم يرسخ في اليمان قدمه ول انشرح
بالسلم جنانه(.1407
ن ضريبة العّز وربما كان القعود بسبب وسوسة شيطانية مفادها أ ّ
باهظة الثمن!والحقيقة غير ذلك)،فحين كان بنو اسرائيل يؤدون ضريبة الذل
211
لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لدارة
ما حين المعركة.فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إل ّ ذل واستكانة وخوفا.فأ ّ
استعلن اليمان،في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لحتمال التعذيب
وهم مرفوعوا الرؤوس يجهرون بكلمة اليمان في وجه فرعون دون تلجلج
ما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لدارة ودون تحرج،ودون اتقاء للتعذيب.فأ ّ
1408
م قبل ذلك في الرواح والقلوب( . المعركة،وإعلن الّنصر الذي ت ّ
وكم نحن بحاجة لتدبر هذه العبرة،فما ندفعه من أموالنا وأرواحنا
مستذلين خانعين أضعاف ما يمكن أن ندفعه في طريق العّزة
والنتصار،فلماذا هذا التردد والحيرة في وقت ُتنهب ثرواتنا وُتداس مقدساتنا
بل وُيستهزؤ بديننا…ومّرة ُأخرى ُيعلق الّناس عجزهم وتخاذلهم على القدر!
ن الشرط يسبق جوابه’’إن تنصروا الله ينصركم‘‘،1409فنحن وما علموا أ ّ
ندفع ضريبة الجبن والخور ل ضريبة الجهاد والصبر.من هنا نعلم متى نرتقب
ن الله ل ُيغير ما بقوم حتى ُيغّيروا ما الّنصر من عند الله’’،إ ّ
بأنفسهم‘‘،1410نترقبه-إذن-حين نستعد لبذل الثمن في سبيل العزة في
سبيل الله.
ن قلة التضحية في الّنفس والمال،وقلة عدد المستعدين لهذه التضحية إ ّ
جلها،فهذا التقاعس سبب أكيد في إطالة أمد الظلم ل فرصة النتصار وأ ّ قَل ّ َ
والستعباد،وفي المقابل كان الستعداد للتضحية وبذل المال والّنفس سببا
في النتصار على الطواغيت فيما مضى من الزمان،وهذا يعني أّننا بحاجة
لمواجهة مع الذات وعدم تبرئتها أو تلمس العذار لها.
أّيها المتقاعسون الخائرون المتثاقلون:ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها ؟!أين هي المحاولت للتخلص من الرق لتبرئة الذمة أمام
الله،فإن لم تغز فل أقل أن تحدث نفسك بالغزو،يقول صلى الله عليه
وسلم’’من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من
نفاق‘‘.1411إّنه العجز والضعف والحرص على حطام الدنيا حملهم على
الخنوع والستسلم!’’فأولئك مأواهم جهنم،وساءت مصيًرا‘‘.1412ذلك
مة جهاد وتمرد على الظلم،ولّننا حملة السلح نخوض معركة الحق لّننا أ ّ
إلى يوم القيامة،فمن قعد فليس مّنا،فهو إلى جهّنم وبئس المصير.
ن القاعدين على رصيف الحياة ل أثر لهم ول أثر ليمانهم.فوجودهم إ ّ
وعدمه سواء،وذلك مناقض لحكمة الخلق،فنحن لم ُنخلق عبثا،ولم نوجد
للكل والشرب وقضاء الحاجة وإشباع الغريزة!فمن قعد على الرصيف فقد
تخلى عن وظيفته في هذه الحياة.
ي لليمان في واقع ن اليجابية في هذا الدين تعني أن يظهر أثر ح ّ إ ّ
ن الحق ن القاعدين ل يصنعون التاريخ ول يديرون دفة الحياة؛ذلك أ ّ الحياة،وإ ّ
ل يعمل بالفراغ،فل بد ّ أن يتمثل بمجموعة من الّناس،تقبل دفع الثمن في
سبيله،ولو كانت عدالة المطلب تكفي لتحقيقه لما كانت التضحيات بالمال
والّنفس.ومن عكس المسألة عاش في أمنية الشيطان؛وذلك هو النسان
212
السلبي)الذي يجنح في الغالب إلى النكماش والسلبية،ويؤثر العيش في
خذلن وانطوائية وكسل ليظل دائما مع العاجزين والخالفين
والمتخاذلين(.1413
متنازل عن حقه ن المعركة مع فرعون ليس فيها حياد،فالساكت فيها ُ إ ّ
ظالم للحق الذي أدركه.قد ل ننتصر عن قريب،ولكن لن يضيع الحق ما دام
في الساحة من يحمله.وفي المقابل لن ننتصر أبدا ونحن قاعدون!
وختاما فهذا ثمرة جهد متواصل من محب لخدمة كتاب الله،وقد بذلت
أقصى ما أستطيع لخراج هذا البحث في أحسن صورة،فإن أصبت فبتوفيق
من الله،وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان،وأسأل الله أن ينفع بهذا
البحث المسلمين،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر
مسرد اليات
مسرد الحاديث
ملخص الرسالة باللغة النجليزية
213
المصادر
التابكي :أبو المحاسن،جمال الدين يوسف بن تغرى بردى-813)، -1
874هـ(،النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة16،جزء،المؤسسة
المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر،مصر.
ابن الثير:محمد بن محمد بن عبد الواحد الشيباني)،ت 630هـ(، -2
الكامل في التاريخ 10،أجزاء،تحقيق :أبي الفداء عبد الله القاضي،ط
،2دار الكتب العلمية،بيروت1415،هـ – 1995م.
الزدي :معمر بن راشد)،ت ،(151الجامع،جزءان،تحقيق :حبيب -3
العظمي )منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني ج ،(10ط ،2المكتب
السلمي،بيروت.1403،
ابن إسحاق:محمد بن يسار151-85)،هـ(،سيرة إبن إسحاق -4
المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي،جزءان،تحقيق :محمد
حميدالله،معهد الدراسات والبحاث للتعريب.
الصبهاني:أبو نعيم،أحمد بن عبد الله)،ت 430هـ(،حلية الولياء -5
وطبقات الصفياء10،أجزاء،ط ،4دار الكتاب العربي،بيروت1405،هـ.
اللوسي :أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين)، -6
1342-1273هـ(،روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع
المثاني30،جزءا ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت.
اللوسي :أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين)، -7
1342-1273هـ(،ما دل عليه القرآن مما يضد الهيئة القويمة،جزء
واحد،ط ،2المكتب السلمي،بيروت1971،م.
أمير عبد العزيز،النسان في السلم،جزء واحد،ط ،1دار -8
الفرقان،مؤسسة الرسالة،عمان،وبيروت1404،هـ1984-م.
لني:أبو بكر،محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن الباق ّ -9
دين أحمد حيدر،ط القاسم،إعجاز القرآن،جزء واحد،تحقيق:عماد ال ّ
،3مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،لبنان1416،هـ1995-م.
البخاري :أبو عبدالله ،محمد بن إسماعيل الجعفي256 -194)،هـ(، -10
الجامع الصحيح المختصر6،أجزاء،تحقيق :مصطفى ديب البغا ،ط ،3دار
ابن كثير،اليمامة ،بيروت1407 ،هـ1987،م.
البخاري :أبو عبدالله ،محمد بن إسماعيل الجعفي256 -194)،هـ(، -11
التاريخ الكبير8،أجزاء،تحقيق :هاشم الندوي،دار الفكر.
البغوي :أبو محمد،الحسين بن مسعود الفراء)،ت ،(516معالم -12
التنزيل4،أجزاء،تحقيق :خالد العك -مروان سوار،ط ،2دار المعرفة،
بيروت1407 ،هـ – 1987م.
البهوتي :منصور بن يونس بن إدريس ،كشاف القناع عن متن -13
القناع6،أجزاء،تحقيق:هلل مصيلحي مصطفى هلل،دار الفكر،بيروت،
.1402
البيضاوي) :ت ،(791تفسير البيضاوي5،أجزاء،تحقيق :عبد -14
القادر عرفات العشا حسونة ،دار الفكر ،بيروت1416 ،هـ – 1996م.
214
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى)، -15
458-384هـ(،العتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب
السلف وأصحاب الحديث،جزء واحد،تحقيق :أحمد عصام الكاتب،ط
،1دار الفاق الجديدة،بيروت1401،هـ.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى)، -16
458-384هـ( ،سنن البيهقي الكبرى10،أجزاء،تحقيق :محمد عبد القادر
عطا ،مكتبة دار الباز ،مكة المكرمة1414 ،هـ – 1994م.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى)، -17
458-384هـ(،شعب اليمان8،أجزاء،تحقيق :محمد السعيد بسيوني
زغلول،ط ،1دار الكتب العلمية،بيروت1410،هـ.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى)، -18
458-384هـ(،كتاب الزهد الكبير،جزء واحد،تحقيق:عامر أحمد حيدر،ط
،3مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت1996،م.
الترمذي:أبو عيسى،محمد بن عيسى السلمي279-209)،هـ(، -19
الجامع الصحيح سنن الترمذي5،أجزاء،تحقيق :أحمد محمد شاكر
وآخرون ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت.
الترمذي :أبو عبدالله الحكيم،محمد بن علي بن الحسن،نوادر -20
الصول في أحاديث الرسول4،أجزاء،تحقيق:عبد الرحمن عميرة،ط ،1
دار الجيل،بيروت1992،م.
التميمي :أبو بكر ،أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي)، -21
324 -245هـ( ،كتاب السبعة في القراءات،جزء واحد،تحقيق :شوقي
ضيف،ط ،2دار المعارف ،القاهرة1400 ،هـ.
ابن تيمية:أبو العباس،أحمد بن عبد الحليم الحراني-661)، -22
728هـ(،دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية6،أجزاء،تحقيق:
محمد السيد الجليند،ط ،2مؤسسة علوم القرآن،دمشق1404،هـ.
ابن تيمية:أبو العباس،أحمد بن عبد الحليم الحراني-661)، -23
728هـ(،كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير،
17جزء،تحقيق :عبد الرحمن محمد قاسم النجدي،مكتبة ابن تيمية.
الثعالبي :عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف،الجواهر الحسان في -24
تفسير القرآن4،أجزاء،مؤسسة العلمي للمطبوعات،بيروت.
الثوري:أبو عبد الله،سفيان بن سعيد بن مسروق)،ت -25
161هـ(،تفسير سفيان الثوري،جزء واحد،ط ،1دار الكتب
العلمية،بيروت1403،هـ.
الجصاص:أبو بكر ،أحمد بن علي الرازي370-305)،هـ(،أحكام -26
القرآن5،أجزاء،تحقيق :محمد الصادق قمحاوي،دار إحياء التراث
العربي،بيروت1405،هـ.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد– 508)، -27
597هـ(،تذكرة الريب في تفسير الغريب،جزء واحد،المكتب
السلمي ،بيروت1404 ،هـ.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد– 508)، -28
597هـ( ،زاد المسير في علم التفسير9،أجزاء،ط ،3المكتب
السلمي ،بيروت1404 ،هـ.
215
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد-508)، -29
597هـ(،صفوة الصفوة4،أجزاء،تحقيق :محمود فاخوري ومحمد رواس
قلعه جي،ط ،2دار المعرفة،بيروت1399،هـ 1979 -م.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد– 508)، -30
597هـ(،المنتظم في تاريخ الملوك والمم12،جزء،تحقيق :محمد و
مصطفى عبد القادر عطا،ط ،1دار الكتب العلمية،بيروت1412،هـ –
1992م.
الحاكم :أبو عبدالله ،محمد بن عبدالله النيسابوري405-321)،هـ(، -31
المستدرك على الصحيحين4،أجزاء،تحقيق :مصطفى عبد القادر عطا،
ط ،1دار الكتب العلمية ،بيروت1411 ،هـ – 1990م.
ابن حجر:أبو الفضل ،أحمد بن علي العسقلني852-773).هـ(،فتح -32
الباري شرح صحيح البخاري13،جزء،تحقيق :محمد فؤاد عبدالباقي ,
محب الدين الخطيب،دار المعرفة،بيروت1379،هـ.
الحلبي:علي بن برهان الدين1044-975)،م(،السيرة الحلبية في -33
سيرة المين المأمون3،أجزاء،دار المعرفة،بيروت1400،هـ.
الحموي :أبو عبد الله ،ياقوت بن عبد الله).ت ،(626معجم -34
البلدان5،أجزاء ،دار الفكر ،بيروت.
ابن حنبل:أبو عبد الله ،أحمد الشيباني241 -164).هـ(،مسند المام -35
أحمد بن حنبل6،أجزاء،مؤسسة قرطبة،مصر.
ابن حيان :أبو محمد،عبد الله بن محمد بن جعفر الصبهاني-274)، -36
369هـ(،العظمة5،أجزاء،تحقيق :رضاء الله بن محمد إدريس
المباركفوري،ط ،1دار العاصمة،الرياض1408،هـ.
الخالدي:صلح عبد الفّتاح.البيان في إعجاز القرآن،جزء واحد،ط -37
مان،سوق البتراء،قرب الجامع مار للنشر والتوزيع،ألردن،ع ّ
،3دار ع ّ
الحسيني1413،هـ1992-م.
ابن خالويه :أبو عبد الله ،الحسين بن أحمد370 -314 ).هـ( ،الحجة -38
في القراءات السبع،جزء واحد،تحقيق :عبد العال سالم مكرم ،ط ،4دار
الشروق ،بيروت1401 ،هـ.
الرازي:محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر)،ت ،(721مختار -39
الصحاح،جزء واحد،تحقيق :محمود خاطر ،مكتبة لبنان ناشرون ،بيروت،
1415هـ – 1995م.
ابن رجب:أبو الفرج،عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي-736)، -40
795هـ(،التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار،جزء واحد،ط
،1مكتبة دار البيان،دمشق1399،هـ.
الروياني:أبو بكر،محمد بن هارون)،ت 307هـ(،مسند -41
الروياني،جزءان،تحقيق :أيمن علي أبو يماني،ط ،2مؤسسة
قرطبة،القاهرة1416،هـ.
الزرقاني:محمد بن عبد الباقي بن يوسف)،ت 1122هـ(،شرح -42
الزرقاني على موطأ المام مالك4،أجزاء،ط،1:دار الكتب
العلمية،بيروت1411،هـ.
216
الزرقاني :محمد بن عبدالعظيم ،مناهل العرفان في علوم -43
القرآن،جزءان،ط ،1دار الفكر ،بيروت ،مكتب البحوث والدراسات ،
1996م.
الزركشي :أبو عبد الله،محمد بن بهادر بن عبد الله794 -745 )،هـ(، -44
البرهان في علوم القرآن4،أجزاء،تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم،
دار المعرفة ،بيروت1391 ،هـ.
زكريا:أبو يحيى النصاري،فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في -45
القرآن،جزء واحد،تحقيق:محمد علي الصابوني،ط ،1عالم الكتب،بيروت،
1405هـ ـ 1985م.
الزمخشري:أبو القاسم،محمود بن عمر بن محمد-467)، -46
538هـ(،الفائق في غريب الحديث4،أجزاء،تحقيق :علي محمد البجاوي
-محمد أبو الفضل إبراهيم،ط ،2دار المعرفة،لبنان.
الزمخشري:أبو القاسم،محمود بن عمر بن محمد-467)، -47
538هـ(،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون القاويل في
وجوه التأويل4،أجزاء،تحقيق:محمد عبد السلم شاهين،ط ،1دار الكتب
العلمية،بيروت،لبنان1415،هـ1995،م.
ابن زنجلة :أبو زرعة،عبد الرحمن بن محمد .حجة القراءات،جزء -48
واحد،تحقيق :سعيد الفغاني،ط ،2مؤسسة الرسالة ،بيروت– 1402 ،
.1982
السبكي:علي بن عبد الكافي)،ت ،(756البهاج في شرح المنهاج -49
على منهاج الوصول إلى علم الصول للبيضاوي،جزءان،ط ،1دار
الكتب العلمية،بيروت1404،هـ.
أبو السعود:محمد بن محمد العمادي)،ت ،(951إرشاد العقل -50
السليم إلى مزايا القرآن الكريم9،أجزاء ،دار إحياء التراث العربي،
بيروت.
سيد قطب،في ظلل القرآن8،أجزاء،ط ،5دار إحياء التراث -51
العربي،بيروت،لبنان1386،هـ1967-م.
السيوطي:أبو الفضل،جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن -52
الكمال)911-849هـ(،وجلل الدين محمد بن أحمد،تفسير الجللين،جزء
واحد،ط ،1دار الحديث ،القاهرة.
السيوطي:أبو بكر،جلل الدين عبد الرحمن بن الكمال)،ت 911هـ(، -53
الدر المنثور8،أجزاء ،دار الفكر ،بيروت1993 ،م.
السيوطي:أبو الفضل،جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن -54
الكمال)911-849هـ(،الديباج على صحيح مسلم6،أجزاء،تحقيق :أبو
إسحاق الحويني الثري،دار ابن عفان،الخبر-السعودية1416،هـ1996-م.
السيوطي:أبو الفضل،جلل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن -55
الكمال)911-849هـ(،كفاية الطالب اللبيب في خصائص
الحبيب،جزء واحد،ط ،1دار الكتب العلمية،بيروت1985،م.
الشوكاني:محمد بن علي بن محمد1250 -1173)،هـ( ،فتح القدير -56
الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير5،أجزاء ،دار
الفكر ،بيروت.
217
الصنعاني :عبد الرزاق بن همام211 -126)،هـ( ،تفسير -57
القرآن،جزءان،تحقيق :مصطفى مسلم محمد،ط ،1مكتبة الرشد،
الرياض1410 ،هـ.
الصنعاني:محمد بن إسماعيل المير852-773)،هـ(،سبل السلم -58
شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام4،أجزاء،تحقيق :محمد عبد العزيز
الخولي،ط ،4دار إحياء التراث العربي،بيروت1379،هـ.
الطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب-260)، -59
360هـ(،المعجم الوسط10،أجزاء،تحقيق :طارق بن عوض الله بن
محمد،عبد المحسن بن إبراهيم الحسين،دار الحرمين،القاهرة1415،هـ.
الطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب-260)، -60
360هـ(،المعجم الكبير20،جزءا،تحقيق :حمدي بن عبدالمجيد السلفي،ط
،2مكتبة العلوم والحكم،الموصل1983 – 1404،م.
الطبري:أبو جعفر،محمد بن جرير بن يزيد بن خالد310-224)،هـ(، -61
تاريخ المم والملوك5،أجزاء،ط ،1دار الكتب العلمية ،بيروت1407 ،هـ.
الطبري:أبو جعفر،محمد بن جرير بن يزيد بن خالد310-224)،هـ(، -62
جامع البيان عن تأويل آي القرآن30،جزءا ،دار الفكر ،بيروت،
1405هـ.
الطبري:أبو جعفر،أحمد بن عبد الله بن محمد-615)، -63
694هـ(،الرياض النضرة في مناقب العشرة،جزءان،تحقيق :عيسى
عبد الله محمد مانع الحميري،ط ،1دار الغرب السلمي،بيروت.1996،
الطيالسي :أبو داود،سليمان بن داود الفارسي البصري)،ت -64
204هـ(،مسند أبي داود الطيالسي،جزء واحد،دار المعرفة،بيروت.
عباس:فضل حسن،القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته،جزء -65
واحد،ط ،1دار الفرقان،عمان،الردن1987،م.
العجلوني،إسماعيل بن محمد الجراحي)،ت ،(1162كشف الخفاء -66
ومزيل اللباس عما اشتهر من الحاديث على ألسنة
الّناس،تحقيق :أحمد القلش،جزءان،ط ،4مؤسسة الرسالة،بيروت،
1405هـ.
العدني:محمد بن يحيى بن أبي عمر243 -150)،هـ(،اليمان،جزء -67
واحد،تحقيق :حمد بن حمدي الجابري الحربي،ط ،1الدار السلفية،الكويت،
1407هـ.
العكربي:أبو البقاء ،محب الدين عبدالله بن أبي عبدالله الحسين بن -68
أبي البقاء616 -538)،هـ( ،التبيان في إعراب
القرآن،جزءان،تحقيق:علي محمد البجاوى ،إحياء الكتب العربية.
العكري:عبد الحي بن أحمد الدمشقي1089 -1032)،هـ( ،شذرات -69
الذهب في أخبار من ذهب4،أجزاء،دار الكتب العلمية،بيروت.
دين، الغزالي:أبو حامد،محمد بن محمد)،ت 505هـ(،إحياء علوم ال ّ -70
5أجزاء،مكتبة مصر،دار مصر للطباعة1998،م.
الغزالي:محمد،خلق المسلم،ط ،3دار الدعوة،السكندرية1411،هـ- -71
1990م.
الغزالي:محمد،الفساد السياسي في المجتمعات العربية -72
والسلمية،ط ،2دار نهضة مصر،مصر2000،م.
218
الغزالي:محمد،في موكب اليمان،ط ،1دار نهضة مصر،مصر، -73
1997م.
الغزي :محمد بن محمد بن محمد ،إتقان ما يحسن من الخبار -74
الدائرة على اللسن،جزءان،تحقيق :خليل محمد العربي ،ط ،1الفاروق
الحديثة ،القاهرة1415 ،هـ.
الفراهيدي:أبو عبد الرحمن،الخليل بن أحمد175-100)،هـ(،كتاب -75
العين5،أجزاء،تحقيق :مهدي المخزومي،وإبراهيم السامرائي،دار ومكتبة
الهلل.
الفيروزآبادي:محمد بن يعقوب)،ت 817هـ(،القاموس المحيط،جزء -76
واحد.
الفيومي:أحمد بن محمد بن علي المقري)،ت770:هـ(،المصباح -77
المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي،جزءان،المكتبة
العلمية،بيروت.
القرطبي :أبو عبد الله ،محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح)،ت -78
،(671الجامع لحكام القرآن20،جزءا ،تحقيق :أحمد عبد العليم
البردوني ،ط ،2دار الشعب ،القاهرة1372 ،هـ.
القنوجي:صديق بن حسن1307 -1248)،هـ(،أبجد العلوم الوشي -79
المرقوم في بيان أحوال العلوم3،أجزاء،تحقيق :عبد الجبار زكار،دار
الكتب العلمية،بيروت1978،م.
القيسي:أبو محمد،مكي بن أبي طالب437-355)،هـ( ،مشكل -80
إعراب القرآن،جزءان،تحقيق :حاتم صالح الضامن،ط ،2مؤسسة
الرسالة،بيروت1405،هـ.
ابن القيم الجوزية:أبو عبد الله،محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي)، -81
691ـ 751هـ(،التبيان في أقسام القرآن،جزء واحد،دار الفكر.
ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي774-701)،هـ(، -82
البداية والنهاية14،جزء،مكتبة المعارف،بيروت.
ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي774-701)،هـ(، -83
تفسير القرآن العظيم4،أجزاء ،دار الفكر،بيروت1401 ،هـ.
ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي-701)، -84
774هـ(،الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه
وسلم،جزء واحد،تحقيق :محمد العيد الخطراوي،محيي الدين مستو،ط
،1مؤسسة علوم القرآن،دار القلم،بيروت1399،هـ.
الكرماني:محمود بن حمزة بن نصر ،أسرار التكرار في -85
القرآن،جزء واحد،تحقيق :عبد القادر احمد عطا ،ط ،2دار العتصام،
القاهرة1396 ،هـ.
الكلعي:أبو الربيع،سليمان بن موسى الندلسي-565)، -86
634هـ(،الكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلثة
الخلفاء4،أجزاء،تحقيق :محمد كمال الدين عز الدين علي،ط ،1عالم
الكتب،بيروت1997،م.
الكيالي:عبد الوهاب،موسوعة السياسة6،أجزاء،ط ،1المؤسسة -87
العربية للدراسات والنشر،بيروت.1983،
219
ابن ماجه:أبو عبد الله،محمد بن يزيد القزويني275- 207)،هـ(،سنن -88
ابن ماجه،جزءان،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر،بيروت.
الماوردي:أبو الحسن،علي بن محمد بن حبيب429-370)،هـ(،أعلم -89
النبوة،جزء واحد،تحقيق :محمد المعتصم بالله البغدادي،ط ،1دار الكتاب
العربي،بيروت1987،م.
المحاسبي:أبو عبد الله،الحارث بن أسد بن عبد الله-165)، -90
243هـ(،فهم القرآن ومعانيه،جزء واحد،تحقيق :حسين القوتلي،ط ،2دار
الكندي،دار الفكر،بيروت1398،هـ.
محمد قطب،واقعنا المعاصر،ط ،1مؤسسة المدينة للصحافة -91
والطباعة والنشر،المملكة العربية السعودية1407،هـ1986،م.
المروزي:أبو عبد الله،محمد بن نصر بن الحجاج-202)، -92
294هـ(،تعظيم قدر الصلة،جزءان،تحقيق :عبد الرحمن عبد الجبار
الفريوائي،ط ،1مكتبة الدار،المدينة المنورة1406،م.
مسلم :أبو الحسين ،بن الحجاج القشيري النيسابوري-206 ). -93
261هـ( صحيح مسلم5،أجزاء،تحقيق :محمد فؤاد عبد الباقي ،دار إحياء
التراث العربي ،بيروت.
المصري:شهاب الدين أحمد بن محمد الهائم915-853)،هـ(،التبيان -94
في تفسير غريب القرآن ،جزء واحد،تحقيق :فتحي أنور الدابولي،ط
،1دار الصحابة للتراث بطنطا،القاهرة1992،م.
ابن المطرز:أبو الفتح،ناصر الدين بن عبد السيد بن علي-538)، -95
610هـ(،المغرب في ترتيب المعرب،جزءان،تحقيق :محمود فاخوري
وعبدالحميد مختار،ط ،2مكتبة أسامة بن زيد،حلب1979،م.
المقدسي:مطهر بن طاهر)،ت 507هـ(،البدء والتاريخ6،أجزاء،مكتبة -96
الثقافة الدينية،القاهرة.
المناوي:محمد عبد الرؤوف(1031-952)،هـ،التوقيف على -97
مهمات التعاريف،جزء:واحد ،تحقيق:محمد رضوان الداية،ط،1:دار الفكر
المعاصر،دار الفكر،بيروت،دمشق1410،هـ.
المناوي:محمد عبد الرؤوف(1031-952)،هـ،فيض القدير شرح -98
الجامع الصغير6،أجزاء،ط،1:المكتبة التجارية الكبرى،مصر1356،هـ.
ابن منظور:محمد بن مكرم الفريقي المصري711 -630)،هـ(، -99
لسان العرب15،جزء،ط ،1دار صادر ،بيروت.
النحاس:أبو جعفر)،ت ،(338معاني القرآن الكريم، -100
6أجزاء،تحقيق :محمد علي الصابوني،ط ،1جامعة أم القرى ،مكة المكرمة،
1409هـ.
النسفي:أبو البركات،عبد الله بن أحمد بن محمود ،تفسير -101
النسفي 4،أجزاء.
النفراوي :أحمد بن غنيم بن سالم المالكي)،ت ،(1125الفواكه -102
الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني،جزءان،،دار
الفكر،بيروت.1415،
الّنووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري676 -631)،هـ(،تحرير -103
ألفاظ التنبيه )لغة الفقه(،جزء واحد،تحقيق:عبد الغني الدقر،ط ،1دار
القلم،دمشق1408،هـ.
220
الّنووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري676 -631)،هـ(،صحيح -104
مسلم بشرح النووي18،جزء،ط ،2دار إحياء التراث العربي،بيروت،
1392هـ.
ابن هشام:أبو محمد،عبد الملك بن أيوب الحميري المعافري)،ت -105
213هـ(،السيرة النبوية لبن هشام6،أجزاء،تحقيق :طه عبد الرءوف
سعد،ط ،1دار الجيل،بيروت1411،هـ.
الهيثمي:علي بن أبي بكر)،ت 807هـ(،مجمع الزوائد ومنبع -106
الفوائد10،أجزاء،دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي،،القاهرة،بيروت،
1407هـ.
الواحدي:أبو الحسن،علي بن أحمد)،ت ،(468الوجيز في تفسير -107
الكتاب العزيز،جزءان،تجقيق :صفوان عدنان داوودي ،ط ،1دار القلم ,
الدار الشامية ،دمشق ,بيروت1415 ،هـ.
ياسين:محمد نعيم،اليمان أركانه حقيقته نواقضه،ط -108
مان1402،هـ1982-م. ،3الطابعون،جمعية عمال المطابع التعاونية،ع ّ
اليعقوبي:أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي،تاريخ
اليعقوبي،جزءان،دار صادر،بيروت.
221