Professional Documents
Culture Documents
m
الحمد لله والصلة والسلم على رسول
الله وآله وصحبه ,أما بعد:
فإن لكل شيء أصل يرد إليه ،وما ليس له أصل
فليس له حقيقة ،ولهذا تجد أن الله تعالى يرد كل
شيء مشكل في فهوم البشر إلى أصله الذي نشأ
منه؛ بل إنه ليس في الكون شيء إل وقد اخبر الله عز
وجل عن أصله الول ونشأته الولى إل نفسه المقدسة
تبارك وتعالى؛ وذلك أنه الول فليس قبله شيء،
والخر فليس بعده شيء ،أو كما قال المام الطحاوي
في عقيدته " الول بل ابتداء " .وهذا واضح لمن تتبع
الحجة اللهية في القرآن .
قد يتصور الباحث عن الحقيقة المنجية أنه سوف
يجدها ذات فتح من الله جمعاء ليس فيها من جدعاء
في نص من نصوص الكتاب أو السنة ،فيقول :هذه
منجيتي ،فهي حق لنها في الكتاب أو السنة ،وهي
النجاة لنها من الله ,وهذا غير صحيح ,فما أكثر
الحقائق الموجودة في نص من نصوص الكتاب العزيز
أو السنة الصحيحة؛ ولكنها في ذاتها حقائق جدعاء ،قد
يظنها النسان " حقيقة مكتملة البناء " مع أنها جزء
من حقيقة كلية كبيرة مركبة الصور والمعاني ,فحتى
الشريعة لم تكتمل إل قبل وفاة رسول الله rبمدة
وجيزة ،بل أنه في حجة الوداع تكلم عن صفة من
الرض
تحقيق خلفة النسان على 6
صفات الله الذاتية وهي صفة العين فقال« :إن ربكم ل
يخفى عليكم ,إن الدجال أعور وإن ربكم ليس
بأعور»( .)1فحتى الكلم عن صفات الله لم يكتمل إل
قبل وفاته عليه الصلة والسلم بعام واحد ,فكيف تأتي
الحقيقة بعد كل هذا في موطن واحد جمعاء ليس فيها
من جدعاء؟ .إنما تأتي الحقيقة مفرقة مبثوثة في كتاب
الله وسنة رسوله يشد بعضها بعضاً؛ لتكتمل الصورة
ويتضح المنهج ،فل يقال حينها بتناقض ول بنقص ول
بتفاوت ،ول يتعارض العقل والنقل ،ول يتشابه الفهم
علينا ،ول نمارس " الثرية العضين " التي مارسها
الخوارج من قبل ،ول " الجاهلية الرومانسية " التي
يمارسها العصرانيون والعلمانيون اليوم المبنية على
مبدأ أن الحق في السعادة ،وأن الطبيعة البشرية هي
ملة إبراهيم التي ينبغي لكل البشر أن يجتمعوا عليها,
ويزعمون أن السلم قائم على هذا ,ولكي ل نمارس "
السلم النفعي " عند بعض الدعاة السلميين في هذا
العصر من أهل الجتهاد الرخيص المبني على" الدعوة
التجريبية إلى الله " والذين يسخرون السلم لكل
مشكلة تنوب أهل الرض ,فمن مشكلة السمنة
وتصلب الشرايين التي قاموا بحلها بأحاديث فضل
المشي إلى الصلة إلى مشكلة الثقوب الكونية
ً
السوداء على أطراف المجرة التي سمعت شيخا من
كبراء هذا المنهج يقول إنها ذكرت في القرآن ,أل تقرأ
قوله تعالى( :والسماء ذات الحبك)( )2؟! ,ولكل قوم
وارث! ,فقد سبق هؤلء القوم إلى هذه النفعية المادية
رجل أعرابي كان يجلس على مائدة سليمان بن عبد
الملك يلتهم الفالوذج فقال له سليمان :أتدري ما
تأكل؟ قال العرابي :إن مذاقه لهني ،وإن ازدراده
لمري ،ول أظنه إل الصراط المستقيم الذي ذكره الله
فصول الكتاب:
الفصل الول :الجاهلية الرومانسية.
* العقيدة الرومانسية.
* الشريعة الرومانسية.
* الرهاب الرومانسي.
* نهاية النسان الرومانسي.
* السلم الرومانسي.
الجاهلية الرومانسية
13 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
العقيدة الرومانسية
الرومانسية مذهب أدبي ثم فلسفي في تعاطي
التصورات والنفعالت النسانية ومناقشة الكون
والحياة .نتج في أصل نشأته عن اضطراب المجتمع
المدني في فرنسا ثم ألمانيا ثم بقية المجتمعات في
أوروبا التي فقدت الدين ثم فقدت روح المبدأ
الجماعي ثم فقدت الحقيقة في معنى الحياة عندما
أيقن النسان الوروبي أن ثورة فرنسا ليست إل صيحة
رجل مجنون ,جمعت الناس على أمر ل يعلمون لماذا
اجتمعوا عليه!.
لقد كان التجاه الرومانسي هو أول النتاج النفسي
للحضارة المدنية ولهذا تجد في سماته كل مؤثرات
المدنية الصلفة ,فهو يميل إلى اللمعقول وينبذ القواعد
والصول ويطلق أجنحة العاطفة في سماء التصور بل
حدود؛ لن المدنية تقيد النسان في قفص من إسمنت
مسلح وتحوله إلى مجرد آلة في ورشة عمل كبيرة,
شعوره هو آخر شيء يحق له أن يتكلم عنه حتى يعود
إلى منزله من جديد .ولن النسان الغربي مازال
يحمل في نفسه "عقدة الضطهاد النظامي" الموروثة
عن سيطرة الكنيسة ولصوصها في الحقبة السابقة
فقد صار يمقت الشكلية المنظمة والترتيب السلوكي
والحكم المسبق على المبادئ العامة ,ولهذا يمتاز
المذهب الرومانسي بفرط النانية الشعورية وتسلط
الخيال الفردي دون أي اعتبار لكل مقومات التصور
والشعور المشترك ,ولهذا تجد الب الغربي كاثوليكياً،
وزوجته بروتستانتيه ،وابنته ملحدة ،وابنه بوذيا ً وثنياً,
وستعلم كيف آل بهم الحال إلى هذا الوضع بعد نهاية
هذا الفصل من الكتاب ,وهذه ردة فعل طبيعية للشعور
بالتهميش والحتقار اللي الذي ينتج عن طبيعة جريان
الحياة المدنية التي ينساب الناس في شعابها كما
تتدافع الثيران من باب الحظيرة ل تعرف شيئا ً سوى
أنها تريد أن تجتاز تلك المدنية التي تفتت أفراد
المجتمع فيها في خليا المصالح المدنية الكثيرة الناتجة
عن تنوع المعاملت والتداخلت؛ حتى يشعر الفرد بأنه
في سجن انفرادي مع أنه يعيش بين ضجيج المصانع
والناس!.
ترتبط كلمة (رومانسية) في أذهان الناس بالجلسة
ذات النوار الخافتة ،أو تحت ضوء القمر ،أو الكلم
الغزلي ،أو المنظر الطبيعي الخلّب؛ وهي في حقيقتها
أكبر وأشمل وأعمق من هذا الفهم التطبيقي الساذج؛
لنها منهج حياة وتفاعل وتصور يسيطر على الداخل
الشخصي والخارج الجتماعي ،وهي مرحلة أصدق ما
يطلق عليها بمرحلة التشويش لجل التغيير وليست
كما يصورها أصحابها بأنها التنظير لجل التغيير.
سنناقش تعريف الرومانسية على لسان القوم
الذين ولد في أحضانهم هذا المذهب ,حيث عرفها
جوته بأنها :مرض وضللة مهلكة!( . )1وعرفها ووتر
هاوس بأنها :جهد للهروب من الواقع( .)2وأصدق من
عرفها هو اشعيا اللماني حيث قال :طغيان الفن على
الحياة( .)3والفن هنا يقصد به الخيال الحر الذي يترتب
على تصوراته السلوك النفسي والجتماعي وليس هو
الغناء والرقص فقط! ,وإن كان يدخل فيه الغناء
والرقص ولكن بعقيدة وهدف كما يزعمون!! ,ولهذا
كثيرا ً ما نسمع من يقول " :الفن رسالة! " ,أما الغناء
والرقص بل عقيدة وبل هدف فهذا ما يسمى بالجمالية
التي هي الفن من أجل الفن! .
() موسوعة المصطلح النقدي.256 : 1
() موسوعة المصطلح النقدي.164 : 2
() موسوعة المصطلح النقدي.164 : 3
15 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
وأهم أصول الرومانسية هو طغيان الخيال
الشخصي على الذات ،بحيث يبني كل فرد عقيدته
تجاه العالم بنفسه دون أي قيود ،والخروج عن النسق
والقاعدة ،وأن يكون له الحق في التعبير عن كل ذلك
كيفما يشاء.
وقد ذكرت ليليان فورست في بحثها المتخصص
في الرومانسية ,مقاصد الرومانسية التي أعلنت في
نهاية القرن الثامن عشر ,فقالت :نجد أن مرحلة ما
قبل الرومانسية تتحرك بفعل نفور حقيقي من كل ما
كانت تمثله الكلسيكية ,التي هي تعظيم النظام
واحترام الماضي ,مثل :قواعد بليدة ,أناقة سطحية,
نمطية ,ترتيب ,آراء محددة ,تكلّف ,أعراف ,وعظية,
حضارة القصور ,الحفاظ على الوضع الراهن( .)1وتقول
:ففي كل مجال كان التوكيد على ما هو طبيعي ضد
ما هو عقلني ،وعلى التلقائي؛ ليأخذ مكان المحسوب،
وعلى الحرية لتكون بديل عن الخضوع لنسق ( .)2ثم
تتكلم عن الجماعات الولى التي تبنت الرومانسية
فتذكر الرومانسيين اللمان :جوته ــ شيلر ــ هردر ــ
كلينكر ــ لنتز ــ بركر ,كانوا في ثورة ضد أي مذهب
منظم أدبي ,اجتماعي ,سياسي ,أو ديني ففي
اندفاعهم العام للتخلص من قيود الماضي ,رفضوا
جميع مظاهر الوضع الراهن وكل ما كان يهم في
الحياة كما في الفن هو النبوغ الصيل الخلق لدى
الفرد الذي يجب أن يكون حرا ً للتعبير عن خبرته
الشخصية تلقائياً ( .)3ثم تتكلم عن جماعة الرومانسيين
الوائل :كانت فئة الرومانسيين الوائل بؤرتها الخوان
شليكل ,فريدريك وقد شملت من الشعراء فكندور
وتيك ونوقاليس ,والمفكر الديني شليرماخر،
والفيلسوفين الطبيعيين شيلنك وبآدر والفيزيائي ريتر!.
() موسوعة المصطلح النقدي.196 : 1
() موسوعة المصطلح النقدي 196 :ـــ .197 2
() موسوعة المصطلح النقدي.211 : 3
ولم تكن هذه الشمولية محض تعبير عن هوس تقليدي
ألماني بالثقافة ,فقد كانت نابعة من النظر إلى
الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملة كان
مقدرا ً لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم
أجمع( .)1وأنا هنا ألفت النتباه إلى هذا النقل الخير فقد
ذكرت أن الرومانسية يقوم عليها العالم والفيلسوف
والمفكر الديني! والفيزيائي ,بل والصحيح أن
الرومانسية يدخل فيها حتى البغايا والعاهرات؛ لنها
مبنية على تقديس المعتقد الشخصي ،وحرية التعاطي
مع الحياة ،وفتح البواب للنسان لكي يمارس الطبيعة
البشرية بل قيود ،حتى أن أحد المنظرين الوائل
للرومانسية 1739 ,م ,وهو هيوم قال في كتابه (القول
في الطبيعة البشرية) ,الكتاب الثاني ,القسم الثالث,
المقطع الثالث « :العقل هو النسان ,ويجب أن ل
يكون العقل سوى العبد للعواطف! » .وفي نفس
الحقبة الزمنية ألف منظر آخر هو ديديرو1757 ,م,
كتاب (البن الطبيعي) أي ابن الزنا ,يمهد فيه
للرومانسية القادمة! ,ونفس هذا السم حمله فيلم
سينمائي تم طرحه قبل سنوات قليلة وحصد الكثير
من الجوائز! ,فنحن ل نتحدث عن مذهب منقرض أو
غير فعّال فالرومانسية تبث في بيوتنا ,بين أطفالنا
ونسائنا ,بل إني رأيت لوحة دعائية على جسر في
مدينة خليجية وقد كتبت عليها إحدى القنوات الفضائية
دعاية لفيلم سوف يبث عليها (تابعوا معنا الب
الطبيعي) على قناة كذا وكذا ,والب الطبيعي هو
الزاني والد البن الطبيعي! .وهذا الذي يحدث هو الذي
يسمونه( :دعوة العودة إلى الطبيعة! ) وهو الذي على
أساسه تم في المغرب وتونس ولبنان تشريع قانون
(الزواج المدني) أي الطبيعي! ,بمعنى أن أي ذكر يحق
له أن يتزوج أي أنثى! ,فهذا هو قانون الطبيعة بل
الشريعة الرومانسية
أشير هنا إلى أن سلب النسان الحق في أن يمثل
نفسه في الحياة بشكل كامل بحيث ل يأمر بما يراه
معروفا ً ول ينهى عما يراه منكرا ً تبعا ً لمثل وأخلقيات
عليا يجتمع عليها كل المجتمع ,أمر خطير له عواقب
فصامية تورث نزعات اضطهادية تجاه المجتمع وقوى
21 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
السيطرة فيه ,وما التكفير ومثله العلمانية والباحية
في عصرنا إل أعراض لهذه العقد الضطهادية .وربما
نتج عن هذه العقد الضطهادية تصورات خاصة لدى
الفرد يقابل فيها شعور التهميش والحتقار الناتج عن
سوء تصرفه بنفسه وجهله بالحقيقة المتعلقة بذاته
وبالكون وبحقوقه وحقوق الناس من حوله وبحق الله
عليه قبل كل شيء ,لهذا يقول الله تعالى (ومن يرغب
عن ملة إبراهيم إل من سفه نفسه)( )1قال ابن كثير« :
ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره! » ( .)2فهذه الركاكة
في تصور العالم بشكل واضح هي سبب الجنوح الول
في عقيدة النسان المنضبط ,وهي مصدر الفسوق
واللحاد وربما الكفر وهي التي يسميها علماء السلف
بالزندقة؛ أي أن ل يكون له عقيدة معلنة واضحة،
ويبطن عقيدة خاصة يقدّسها ويضفي عليها هالة من
التصورات الخرافية ،ويجعلها منهجا ً للحياة بتجاهل تام
لمجموع الناس وظروف البيئة من حوله ,ول يلزم من
النسان المتزندق أن يكون يضمر المكيدة للسلم
فربما نتجت زندقته عن (دوافعه النسانية الذاتية),
ولهذا كان ابن تيمية رحمه الله يقول لمناظريه من
الجهمية :بأن قولهم كفر؛ ولكنه ل يكفرهم لنهم
جهلة ,مع أنه يكفر من يقول بقول الجهمية .فكم حفل
التاريخ بشخصيات كانت تنافح عن زندقتها والسيوف
فوق رقابها حتى قتلت على ذلك .والشيء الذي أريد
أن أصل إليه هو أن المجتمع إذا أصبحت لديه قناعة
بأن الدين أداة حكم مدنية وليس له طعم العبودية ول
صبغة الله) التي ذكرها في كتابه, لونها ,وأزيلت عنه ( ِ
وأن أكثر أحكامه هي رغبات تراثية قديمة مشكوك في
صحة ثبوتها ل تمثل أهل الرض ول أهل السماء ,وأنه
سياسة من السياسات ونظام إدارة سلوكي مع إغفال
* * *
السلم الرومانسي
لم تكن الرومانسية مذهبا ً محتكرا ً للدباء
والفلسفة؛ بل هي منهج حياة يمس العقيدة .وهي
مرحلة حادثة للتطور المادي والنمطي الذي تسلل إلينا
اليوم ليدخل تحت تأثيرها كل الناس ,كما أنها (أصول
ثابتة) يمكن طردها على كل تكتل اجتماعي يمر بنفس
الظروف التي يمر بها المجتمع المدني الغربي .فاليوم
نسمع عن من يتكلم في أمور الدين ويقول أنا مسلم
علماني! ,وقد يكون الرجل كذلك من ناحية شرعية
لعدم تحقق شرط أو انتفاء مانع؛ ولكنه من ناحية
منهجية يؤسس إسلما ً جديداً ،فهو يقول كما قالوا في
أصولهم الرومانسية الدبية وذلك بأن المسلم يجب أن
ل يتخلى عن طبيعته البشرية ،ثم يسرد الحاديث
واليات التي تذكر حقوق الفطرة والمأكل والمشرب
والنكاح؛ بل ويزعمون أن الله أذن بالكفر؛ وذلك
بقولهم بالحرية العتقادية ،فيقولون( :فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر)( ,!)1وأننا يجب أن نغضب
لرسولنا وندافع عنه؛ (لنه شخصية فكرية خاصة بنا)،
ونشهد أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله ،أما ما
عدا ذلك من أمور الشريعة فهو خاضع لمبدأ عام واحد،
وهو( :أن الحق في السعادة) ،فل ينبغي للسلم أن
يقف في وجه سعادة الناس وراحتهم؛ لنه رحمة
للعالمين .ثم يبدأ كل مسلم رومانسي تأسيس تصوره
الخاص وخرافته الخاصة عن السلم ،فيحيا بها ويدعو
إليها ،ويجتمع مع غيره على (الطبيعة البشرية
المقدسة) ،أو ما يسمونه بملة إبراهيم كما هي حال
من سبقوه من مؤسسي الرومانسية الدبية.
سبق أن ذكرت أنه كان من مؤسسي الرومانسية
ومن أعضاء جماعة الرومانسيين الوائل المفكر الديني
شليرماخر ،وأنه كان ينادي بإطلق الرومانسية عن
طريق الفن ،وجعل الفنان عنصرا ً مركزيا ً في ذلك,
وهذه اللوثة ذات الطابع الرومانسي تأثر بها جمع من
الدعاة السلميين حتى سمعنا بعضهم يفتي بجواز
التمثيل للمرأة ،ويقول بأن الفن رسالة! ,وهذه العبارة
هي أصل من أصول المذهب الرومانسي المتطرف،
وهي في لغة علماء العتقاد كقولك( :الخارجي يكفر
بالكبيرة ،والمعتزلي يقول بالمنزلة بين المنزلتين),
كذلك فالرومانسي يرى الفن رسالة كما نقلت سابقاً
عن الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملة
كان مقدرا ً لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم
أجمع .والناشيد والمسرحيات التي يسمونها
(إسلمية) داخلة في هذا المبدأ المنحرف؛ لن الفن
حسب تعريفه هو نقل الفكرة النسانية بطريقة معنوية
كالكتابة الدبية نثرية كانت أو شعرية ،أو بطريقة حسيّة
كالغنية والمسرحية والرسم بحيث تترك في المتلقي
انطباعا خاصاً .وسواء كانت معنوية أو حسيّة فالسلم
() ورد الحديـث بألفاظ كثيرة وفـي الصـحيحين( :أجـب عنـي اللهـم 1
ايده بروح القدس) وفي لفظ لمسلم( :هاجهم وجبريل معك).
() النحل.35 : 2
() النحل.82 : 3
() المائدة.67 : 4
() النحل.44 : 5
() النحل.64 : 6
حاسرات الذرع والرؤوس يحملن دفوفا ً صغيرة
يضربن بها خلف الداعية الموسيقار ويرددن (أووه أووه
نعم! نعم!) وأشياء كهذه! ,وتم عرض هذا العمل
السلمي ــ بزعمهم ــ في غير بلد إسلمي منها بعض
دول الخليج!.
إني أذكر أنه في مادة المطالعة في المرحلة
المتوسطة أو البتدائية قصة رجل خسر في تجارته؛
لنه كان يعرض الحذية للزبائن فوق قطعة قماش
لونها اسود؛ فلما أبدلها بقماش أخضر تضاعف ربحه!,
وكانوا يجعلون هذا مثال ً على تأثر الناس باللوان.
فكذلك هذا داخل في التمثيل والمسرح ففيه من
المؤثرات الغير ظاهرة ما قد يدخل مفاهيم ومبادئ
منحرفة للناس من حيث ل يشعرون .وفي يوم من
اليام صلى بجانبي عامل بناء في الثلثين من عمره،
فرأيته يسجد باسطا ً ذراعيه على الرض كما جاء في
النهي عن ذلك (انبساط الكلب) ،وبعد الصلة وقفت له
بقرب الباب؛ فلما أراد أن يخرج أخذت بيده وقلت له:
بارك الله فيك ,أنت فعلت كذا وكذا وهذا تشبه بالسبع
منهي عنه! فقال لي بكل صدق وحسن نية :كنت
أجافي يدي عن جنبي حتى رأيت صورة لقطعة حجر
كبير يتداولها الناس وكأنها رجل في هيئة السجود،
وكان ذلك الحجر باسطا ً ذراعية على الرض فمنذ ذلك
الحين صرت أبسط ذراعي! اهـ .هذا أمر شاهدته
فعرفته ،فكيف بمفاهيم كثيرة قد تستقر في نفوس
الناس بسبب هذه المور ل أحد يعلمها إل الله!.
إن المسلم العادي اليوم يواجه مشكلة كبيرة في
تمييز المنهج الصحيح ،وفي معرفة المصادر النقية التي
من خللها يعرف التصور الصحيح للكون والحياة
وعلقته بمختلف عناصر الكون الفاعلة؛ حتى أن
مسائل هي من مسلمات العقيدة عند عجائز نيسابور
صار الناس اليوم يفتحون المجال فيها لراء العوام
53 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
الجهلة ليبدوا آرائهم فيها على شاشات التلفزيونات
وصفحات الجرائد ,وهذه كلها خطوات رومانسية تنبع
من مبدأ (حق النقد المطلق) و (حق التعبير المطلق)
الذي تكلمت عنه سابقاً .والمشكلة لدى هؤلء الدعاة
السلميين السذج أنهم ل يفرقون بين التعبير وبين
الحكم!! فالحكم ليس له طابع النشاء والظن؛ بينما
التعبير هو إبداء خلجات النفس على نحو يصوّر ما فيها.
ومن المثلة على هذا السلم الرومانسي قيام بعض
الدعاة بالتجاوزات الشرعية من خلط النساء بالرجال
وخروجهن متبرجات دون إبداء النكير ،وهذا يفيد بأن
للمرأة حقوقا ً جديدة صارت تمارسها ولم تكن تمارسها
من قبل! ,وكذلك ترويجهم لبعض المصطلحات ذات
النكهة الرومانسية مثل (حقوق المرأة) الذي في
اصطلحه فقط دليل على رغبة جادة في مراجعة
أحكام المرأة في السلم ،وإل فإنه ل يقال حقوق
المرأة وإنما يقال (ظلم المرأة) أو (اضطهاد المرأة)؛
لن حقوقها معلومة ليست بحاجة لن تفرد في
مصطلح مستقل وبحث مستقل الن وبشكل جديد،
فهذه كلها من مبادئ الرومانسية التي تنفي العدالة
عن أحكام وأهل القرن المنصرم بمجرد موتهم
وانقراض قرنهم ,فالنسان الرومانسي خائن بطبعة،
وأول شيء يفعله بعد دفن ميته هو أن يبصق على
قبره ويقول له( :ذهب ما تعلم!) .وكذلك الدعوة إلى
التعايش ،وتهافت الدعاة الرومانسيون عليها ،وهذه
بداية تأسيس لختزال العقيدة في السلوك المنزلي
والشخصي ،وهذا عرض من أعراض الرومانسية.
ومن ذلك الدعوة إلى (صناعة النفوذ الكمي) بغض
النظر عن اتحاد المبدأ ونقائه ،وهذا ناتج عن (عقيدة
الخاء النفعي) ،وهي أن يجتمع الناس على منفعة
ويتجاهلون كل المحاذير الشرعية التي قد تمنع هذا
الجتماع ,وهو مبدأ شبيه بمبدأ النقد الرومانسي الذي
ذكرته سابقا ً والذي ينص على القتصار على ذكر
محاسن العمل دون اللتفات إلى تجاوزه للقواعد
والنمطية والشرعية ,وقد رأينا من يزعم بأنه من
متبعي السنة ثم هو يجالس أهل البدع غلظ البدعة
والعلمانيين ويجعلهم شركاء رسالة مع أنه لو ساقهم
كلهم شفعاء في إعتاق ذبابة من العدو ما نفعوه! ؛
ولكنه يشاكلهم ويداهنهم لعقيدة نفعية رومانسية في
حسها النقدي ,فهم يقولون ل إله ال الله وليسوا يهوداً
محتلين ول نصارى محاربين ,ففيهم من سمات الجمال
ما يكفي لقبولهم وربما الوقوع في حبهم!!.
55 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
المقدمات الولية للتصور
الصحيح
57 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
مفهوم الحقيقة والمجد
ليست الحقيقة معنى يكتسب القداسة من تأييد
جماعة الناس أو رفضهم؛ لن الجتماع البشري كثيراً
ما يقع على الباطل؛ بل وقد تكرر كثيرا ً في التاريخ أن
اجتمع الناس على الجريمة والفعال الغير أخلقية التي
يتقزز من فعل مثلها الوحوش والمجانين واقرأ كتاب "
موسوعة العذاب " لتطلع على شيء من هذه الحقيقة
الكئيبة .كذلك ,ليست الحقيقة مخرجات تجربة عملية
فهذا جائز في الماديات أما البشر فالحقائق النسانية
والمعنوية بالنسبة لهم ل علقة لها بالتجربة العلمية
غالبا ،فلو سألت ألف شخص من مختلف أنحاء العالم
عن " حقيقة الستحمام " في حياة كل فرد منهم
لوجدت أن بعضهم يراه عبادة مقدسة ،وبعضهم يراه
نظافة ل بد منها ،وبعضهم يراه ترفيهاً ،وبعضهم يراه
ترفا ً زائداً ،وبعضهم يراه علجاً ،وبعضهم يراه وسيلة
لتعديل مستوى الحموضة في الدم والحصول على
جسد نشيط ،وبعضهم يكرهه ويمقته ،وبعضهم يرى أنه
من المحرمات كما في بعض الديانات ،وكل هذه
المعتقدات ل علقة لها بالتجربة؛ لن التجربة في هذا
السياق هي جريان الماء على البدن ،وهذا يحدث
بنفس الطريقة لكل هؤلء الشخاص غير أن الحقائق
في النهاية تختلف تماما ً من شخص لخر ,ولهذا كان
النص القرآني واضحا ً في ذلك عندما قال تعالى( :وإن
تطع أكثر من في الرض يضلوك عن سبيل الله إن
يتبعون إل الظن وإن هم إل يخرصون) ( ,)1ويطلق الكثر
على ما زاد على النصف في أقل الحوال! .وقد ثبت
() انتحار المثقفين العرب ,محمد جابر النصاري ,ص .146 1
65 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
"جهنم الحمرا"!! ..هذا هو رأي سارتر الخير!.
إن تاريخ الصراع البشري في البحث عن المثالية
النسانية ليس ناتج عن فقدان الوجود الحقيقي لتلك
المثالية علما ً وعمل ً وإنما هو ناتج عن عدم فهم
"مفهوم الحقيقة الكريمة" التي تترتب عليها المثالية
والفضيلة والنجاح الكوني ،ولهذا نجد أن بعض
المجتمعات تبحث عن تلك المثالية في جدول الضرب،
والجدول الدوري للعناصر الكيميائية ،وبعض
المجتمعات تبحث عنها في الخرافة الموروثة عن
العصور السطورية أو الديانات المحرفة ،وبعضها
تبحث عنها في الغراق في الشهوة واللذة والنانية
الشخصية ،ثم ينتهي الجميع إلى فشل ذريع يلخصه لنا
البروفيسور إنتوني غدينز عندما نجده في كتابه "علم
الجتماع" يعود من حيث ل يشعر إلى البحث عن
"مقاييس ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا ً أن
يلتزموا بها" وكأنه بذلك يضع تعريفا ً لمفهوم "الدين
الحق" فهو ليس إل مقاييس ومعايير ينبغي للبشر
جميعا ً أن يلتزموا بها!! ,حيث يقول في نفس الكتاب
ص 87وهو يتحدث عن شعوره بالحيرة واللتباس تجاه
نظرية "النسبية الثقافية" في علم الجتماع التي تدعو
إلى العتقاد بأن كل الثقافات على خير وهدى! فيقول:
« إن تطبيق مبدأ النسبية الثقافية وتعليق وتجميد
اقتناعاتك ومعتقداتك الشخصية العميقة قد يكون
مجلبة للحيرة واللتباس ,ويطرح تحديا ً واضحا ً لقدرتك
على الدراسة الموضوعية .ول يقتصر ذلك على تعطيل
القدرة على رؤية المور من وجهة نظر أخرى ,بل
يتعداه إلى إثارة سلسلة من السئلة الشكالية
المقلقة .هل تعني النسبية الثقافية أن جميع العادات
والمسلكيات سليمة مشروعة؟ هل ثمة مقاييس
ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا ً أن يلتزموا
بها؟ »( .)1قلت :نعم! .تجدها في قوله تعالى( :اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
() علم الجتماع ،إنتوني غدينز ،ص . 87 1
السلم دينا) (.)1
() ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة . 1
() ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة. 2
89 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
المسلمات و المقاييس النسانية الجديدة .هنا نجد
ميرتشيا إلياده يحاول تلخيص الخطوات الفرضية التي
سبقت النمساخ الغربي فيقول ( :كانت الدعاية
المادية في أوجها في أواسط القرن التاسع عشر حيث
ألف أوغست كونت 1855 ,م ,كتابه " التعاليم الوضعية
" و كذلك " نسق السياسة الوضعية " ثم نشر بوخنر
كتابه " القوة و المادة " الذي يريد أن يبرهن فيه
على أن الطبيعة تفتقد للغائية و أن الحياة قد نشأت
عن التولد التلقائي و أن الروح و العقل وظيفتان
عضويتان كما أكد أن العقل عبارة عن مجموع القوى
المجتمعة في الدماغ و أن ما يسمى بالنفس أو الروح
هي عبارة عن مجالت مغناطيسية ناتجه عن كهرباء
البدن .و في العام 1856م نشر ماكس موللر كتابه "
مقالت في الميثيولوجيا المقارنة " ثم ظهر " أصل
النواع " لداروين الذي أصل النزعة المادية عام 1858
م .ثم كتب هربرت سبنسر " المبادئ الولى " عام
1862م محاول إثبات أن الكون نشأ من تحول غامض
طرأ على المادة الولنية نقلها من تجانس غير محدد
إلى حال تغاير محدد .و سرعان ما سرت هذه
النظريات في الغرب فأخذت بعقول المتعلمين و
أفئدتهم وصار لها شعبية منقطعة النظير مما نتج عنه
كثمرة لكل هذا كتاب آرنست هايكل " قصة الخليقة
على المذهب الطبيعي " فنشر عام 1868م ليطبع منه
في أقل من أربعين سنة عشرين طبعة . )1( ) .هذا كله
يفسر شدة النزعة اللحادية لدى الغرب فكفرهم كفر
شجاع ,لنه يثق بنفسه بناءا على تجربة علمية و
نظريات فرضية يرى هو صحتها ,فهو موهوم بأنه
يمتلك على صحة كفره البرهان ,و لكن الغريب في
ملحد من المسلمين يزعم بأنه يؤمن بالكتاب و السنة
ثم تراه يقول بقول الغرب في كثير من مناهجه التي
() البحـث عـن التاريـخ و المعنـى فـي الديـن ,ميرتشيـا إلياده ,ص: 1
. 115 -114
بناها على كفر مبرر سابق ,فهما نقيضان ل يجتمعان و
لكنها لوثة التقليد العمى لدى بعض المثقفين الذين ل
يجيدون حتى الكفر ناهيك عن إجادة السلم .فكم
هم مساكين و بسطاء ,يذكرونني بقصة الحمق الذي
عندما أراد إثبات شراسته و شدته قام بقتل أبيه فهؤلء
يحسبون التقدم بمجرد الكفر بالموروث ,و مخالفة
الراهن بل رؤية ,و ل فهم ,مع أن الصحيح أن حتى
الكفر يحتاج إلى وعي ,و منطقية ,و خيال جريء
على التجربة ,فالغرب ل يترك مبدأ ما حتى يجد له
بديل منطقيا – حسب تصوره لمفهوم المنطق -يكون
هو على قناعة به ,بينما كفارنا اليوم يمارسون الكفر
المعلب و استنساخ تجارب المم الخرى التي لها
معطيات و عناصر تختلف تماما عما لدينا !.
وقد ضل في مسألة تعليل العالم وما فيه من
العناصر خلق كثير؛ ولكن الضلل يكون واضحا أكثر
فيمن عاش بعيدا ً عن نور الوحي؛ لن هذا العالم مليء
بعناصر خفية لها تأثير واضح فيه نحن ل نراها ول يمكن
أن نتصور وجودها بل وحي فالملئكة والجن ,خصوصاً
الشياطين منهم ,الذين يديرون كل مصائب العالم
وآلمه ويقفون وراءها ،فإبليس يضع عرشه على الماء
ويبث سراياه وجنوده في الناس ،ويدير المؤامرات
ويؤثر في العالم والبشر تأثيرا ً منظما ً مدروساً ،فكل
مولود يولد يوكل به قرين من أتباعه يوسوس له،
ويغري البشر بمعصية الله ويزين لهم ذلك ،ويسعى
في الرض فساداً ،ويجيش الجنود من بني البشر الذين
ل يؤمنون بوجوده ويجلس على عواتقهم يسوقهم
ويوحي إليهم فيتحدثون له وعنه ويدعون الناس إلى
دين الكفر بمنطق وهيئة الدميين .ول تزال الشياطين
تشارك النسان حتى في لقمته وبضع زوجته وهو ل
يشعر ولو أن فلسفة أوروبا قرأوا صحيح البخاري
مؤمنين به لوجدوا قوله « :ρلتؤدن الحقوق إلى أهلها
91 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة
القرناء» .ولما دعوا البشرية إلى أن تبيد كما باد
الديناصور ،ولما زعموا أن لهم رب خلق العالم ثم
مات كأي نجارٍ هرم مسكين غير أن الله يختص بنوره
من يشاء .أما عمران ومن معه رضوان الله عليهم
على بدائية حالهم وتقدم زمانهم فإن الله وهبهم عقولً
تستوعب الدنيا والخرة وتطلب الكمال بتكامل الدنيا
مع الخرة فهم يعلمون أن لهذا العالم رب ل يموت,
بدأ خلقه ثم يعيده وعدا ً عليه حقا ً ليجزي كل نفس بما
كسبت ولكن أكثر الناس ل يعلمون.
إن تجاهل النشأة الولى للكون وللنسان وتفصيل
علقات مقومات العالم الصلية مع بعضها البعض
يورث الرتباك في ترتيب المعتقد الفكري والنفسي
تجاه العالم وغايته ،وتجاه القيم الحقيقية لفراد
المخلوقات في هذا الوجود ،ولهذا يستشهد سبحانه
على وجوب المعاد بذكر المبدأ كما في قوله( :نحن
قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن
نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد علمتم
النشأة الولى فلول تذكرون)( .)1إن اليمان بهذه النشأة
الولى للنفس البشرية وللكون يستصحب الشعور بأنه
ليس لبن آدم من المر شيء ,وأنه أجير في ملك
غيره ،فل يفتري الغايات من تلقاء نفسه ،ويعطي
التقييمات لشياء هو لم يخلقها؛ بل ربما ل يعلم
حقيقتها ،وأنه كان في يوم من اليام " شيئا ً مستقلً
بذاته " عن كل تفاصيل هذه الحياة الدنيا التي تحيط به
ليدرك أنه لم يخلق كجزء منها وهي لم تخلق لتكون
جزءا ً منه ،فل تلزم بين مسار الدمي وتحقيقه
للشخصية الدمية المثالية وبين مسار العالم في
تطوراته المادية على شتى تفسيرات كلمة "تطوّر"
كما تفهم اليوم ,وكم هو شخص جاهل بطوية النفس
معرفة مقومات العالم
وعناصره الفاعلة
101 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
الواقع والواقعية
يقول الله عز وجل( :إن عذاب ربك لواقع * ما له
من دافع)( )1وقال تعالى( :إذا وقعت الواقعة * ليس
لوقعتها كاذبه)( )2فالواقع في تعريفه ل يعدو أن يكون:
الشيء الذي سيعايشه النسان حتما ً على المستوى
الحسي والمعنوي ل يستطيع أنه يدفعه عن نفسه ل
إقداما ً ول إحجاما ً ول تجاهلً .فالموت واقع! لنك سوف
تمر به ,والحياة واقع! لنك تعاني كَبَدَها ولوائها,
والشيطان ووسوسته واقع! لنه يؤثر فيك علمت أم لم
تعلم آمنت أم لم تؤمن ,والملئكة واقع! .ولهذا قال :r
(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .وكان ابن
عمر يقول إذا أمسيت فل تنتظر الصباح وإذا أصبحت
فل تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك
لموتك( .)3فهذه ليست "عزلة توحدية " أو كما يقولون
" عقدة ميتافيزيقية النتماء " وإنما هي " الواقعية
السمحة! "على نور من الله ,لمن يعرف ما هي حقيقة
الواقع وما هي مقتضيات تلك الحقيقة .وعند معرفة
هذا ستعلم أن أكثر الواقعيين تطرفا ً اليوم هو أبعدهم
عن الواقع والواقعية ,فهو يقول :كن واقعيا ً وتجاوز عن
هذا المحظور الشرعي فإن لي فيه منفعة! ,مع أن
الذنب ل يبلى وستلقى كل نفس ما عملت من سوء
محضرا ,فالواقعية أن ل تتجاوز ,ويقول :كن واقعيا ً ول
تقل ملئكة وجن وشياطين! والواقع أن الله أثبت ذلك
بل أن حتى الحمار يعلم حق العلم وعين اليقين أن
ذلك جنوح عن الواقع كما قال ( :rإذا سمعتم صياح
() الطور.8 ,7 : 1
() الواقعة.2 ,1 : 2
() رواه البخاري. 3
الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا
سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه
رأى شيطانا)( )1وفي رواية (إذا سمعتم نباح الكلب
ونهاق الحمير)( ,)2ولكن بعض البشر لم يبلغ في
واقعيته ما بلغته الديكة والكلب والحمير! نسأل الله
العافية ,وكل من قال في شيء واقع مثل ذلك فهو
كذلك.
الحسنة والسيئة هي أيضا ً من الواقع لنها تكتب
ة وقد وكل الله مخلوقات حقيقية بتولي كتابة حقيق ً
العمال وسماهم "الكرام الكاتبين" ,يعيشون معنا كما
يعيش أي كائن حقيقي الوجود والمنفعة والتأثير,
وبعضهم يشتغل معنا في الليل وبعضهم في النهار! ,ثم
ترفع العمال إلى رب العالمين وسوف تبيض بسببها
وجوه وتسود وجوه .وقد كان الربيع بن خثيم إذا
استيقظ من نومه قال :أكتبوا يا ملئكتي! بسم الله,
سبحان الله والحمد لله ول إله إل الله والله أكبر!,
يقول لكي تبدأ صحيفة أعمالي بذكر الله ,فهو رجل
واقعي في تصوره وواقعي جداً! .إن الدنيا في تقلباتها
وتفاصيلها اليومية إنما تحركها تبعات الحسنات
والسيئات بشكل كبير ,يقول ( :rإن الرجل ليحرم
الرزق بالذنب يصيبه ول يرد القدر ال الدعاء ول يزيد
في العمر ال البر)( ,)3فالدينار والزوجة والعافية وكل
رزق ربما ضاع بسبب السيئة! ,بل أن ظاهرة التصحر
وتقلص الغطاء النباتي تكون بسبب السيئات فقد قال
تعالى في ذلك( :ظهر الفساد في البر والبحر بما
كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم
يرجعون)( )4قال زيد بن رفيع في تفسير هذه الية :إن
() متفق عليه. 1
() رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وقال اللباني :إسناده جيد 2
رجاله ثقات رجال الشيخين.
() رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم وحسنه اللباني. 3
() الروم.41 : 4
137 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
المطر لينقطع ثم يتبعه القحط وإن دواب البحر
ليصيبها العمى في قعره( ,)1أي بمعصية ابن آدم!.
فالواقع الشخصي والجتماعي والكوني بما في ذلك
دواب البحر ,كلها تتأثر بأشياء ل يقيم لها أكثر الناس
في هذا الزمان اعتباراً ,بل إن المة بأسرها قد تجتال
وتستباح ول أحد يجد في نفسه أدنى إشارة إلى
السبب الحقيقي وراء ذلك فكلهم يتحدثون عن
الطماع المعلنة والمؤامرات المدبرة والتحالفات
الخفية وربما يكون هذا واقعا ً ولكن " الواقع الول "
الذي نتج عنه هذا " الواقع العقوبة " هو الذي ينبغي أن
تناط به ألباب المفكرين والمنظرين وتعتمد على
تحليله حكمة الحاكمين على المة وأفرادها قبل أن
تشتغل هذه الفهام بأعراض المرض وتنسى علته,
فليست الواقعية في أن تتجه إلى المعركة المادية
المشاهدة فتنظر في بروتوكولت العداء وآلت
جيوشهم ,وكيف نصنع طائرة نوقع بها طائرتهم ودبابة
نفجر بها دبابتهم! ,هذا جزء ضئيل من الواقع بل إن
من حكمة الله التامة ورحمته السابغة على هذا الدين
أن ل تتولى أفراد أمه محمد اليوم القيام على العالم أو
ما يسمونها بـ " أستاذية العالم " لن من يسعون اليوم
لتلك الستاذية على طريقتهم التسلقية لو ملكوا العالم
كما ملكه سليمان عليه السلم لقاموا شرعا منحرفاً
ة ناقصة ولسخروا شرع الله لبنيات أفكارهم ومل ً
الحالمة وتوجهاتهم الرومانسية ولوقع التبديل والبطال
لكثير من شرائع الدين ,فانظر إلى كل البلد السلمية
وكل بدعة متغلغلة فيها فلو رجعت إلى التاريخ لوجدت
أن تلك البدع المتفشية المتأصلة في تراث تلك
الشعوب ,وبعضها قد يبلغ حد الكفر ,إنما غرست في "
زمن القوة " عندما حكمت جماعة مسلمة ما تلك
الشعوب وأذنت بإقامة تلك البدع فيها فرسخ في
عقيدة الناس أنها هي الدين كما في القبورية في مصر
() تفسير ابن كثير (.)576/ 3 1
التي أنشأتها الدولة العبيدية أو الصوفية التي رعتها
الدولة العثمانية والتي مازال أهل تلك البلدان التي
كانت تقع تحت حكمها يعانون تأصلها في إرثهم
النفسي والجغرافي حتى أنه بعدما حكم أهل الدعوة
النقية الحجاز وجدوا رسالة من الخليفة العثماني عند
قبر رسول الله يستغيث به ويطلب منه المدد! ,فقبل
أن نسعى للستخلف الممي والستاذية علينا أن نتعلم
كيف نكون أساتذة وكيف نكون خلفاء! ,فالمبتدع إن
حكم أبطل الدين وإن رأيت الذان يرفع والرؤوس
تسجد وتركع فما يفيدنا ذلك وقد نقضت " العروة
الوثقى" التي هي كما قال أحد أساتذة الزمان وأئمة
الهدى ,الوزاعي رحمه الله ,قال( :ل يستقيم اليمان
إل بالقول ول يستقيم القول إل بالعمل ول يستقيم
اليمان والقول والعمل إل بالنية الموافقة للسنة ,فمن
آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله فتلك
العروة الوثقى التي ل انفصام لها)( ,)1فأين دعاة
أستاذية العالم من هذا اليوم؟ ,بعضهم في تحالف
فكري مع الرافضي والعلماني في وجه الغرب
المتغطرس على فكرنا وحضارتنا! ,وبعضهم عضو في
المجلس التشريعي ويزعم أنه يوسف القرن الجديد!,
حسناً ,والناس؟ وأمة محمد ρ؟ أين هم من الحسنة
والسيئة؟ ينتظرون على الرصفة بل علم وبل كتاب وبل
سنة إلى أن ينتصر حليف الرافضي والعلماني على
الغرب ويسود أعضاء " السلم الدسيس " في
البرلمان ويحول إلى خلفة راشدة ل يعلم برشدها إل
الله ,ثم الستاذية! ,ثم بعد هذه الحقب الطويلة من
الزمان ,إن لم تكن قامت الساعة بعد ,يلتفت بعد ذلك
إلى عوام المكلفين ليقال لهم " نحن الن خلفاء
الرض وأساتذة العالم ,فتعالوا نبني الحياة! " ,لن هذا
هو المعلن من الهداف الستاذية الن ,صناعة السعادة
والحياة للبشرية!!.
() حلية الولياء (.)144/ 6 1
139 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
إن التفسير المادي للتاريخ والواقع الناتج عن
التداعيات السابقة هو ذاته التفكير الماركسي الذي
جاءت به الشيوعية الملحدة حيث يكرر ماركس كما
في كتابه " بؤس الفلسفة " أن كل الفكار الرضية
ناتجة عن المادة لن المادة سابقة للفكر والدماغ مادة
والفكر ناتج عن الدماغ والمادة كانت قبل كل شيء
وستبقى بعد كل شيء! .ففكرة " الله! " ,على حد
وصف ماركس ,ناتجة عن العهد الزراعي الذي كان
النسان فيه بحاجة لقوة خفية تحمي محاصيله من
الفات وتساعد على كثرة النتاج فنتجت " فكرة الله "
التي اخترعها النسان لسبب اقتصادي بحت بحيث
يوكل إليها زيادة إنتاجه وحفظ محصوله ثم أن هذه
الفكرة يجب أن تنتهي الن بعد اكتشاف تركيبة النبات
والسمدة ودخول عهد الصناعة فليس هناك حاجة
لـ"فكرة الله " لن الصناعة تتم السيطرة فيها على
المصنوع بشكل كامل فليس هناك غيب يجبر النسان
على التعلق بفكرة الرب الخرافية ,في نظره ,التي
كان يحتاج النسان إليها لسباب اقتصادية بحيث يبارك
ذلك الرب بعنايته اللهية غلة المزارع ويحميها من
الشرور الخفية!! .ويقول زميله فريدريك انجلز في
كتابه (أصل السرة والملكية الخاصة والدولة) بأن "
فكرة الشرف " نتجت بعد اكتشاف المحراث!! ,حيث
زادت ثروة الرجل بسبب زيادة الرض المزروعة
فصارت هناك ثروات يتم توريثها بعد موت الرجال
فنتجت فكرة الشرف لكي يعرف الرجل أن زوجته ل
تنجب إل من صلبه فيكون على يقين أن ثروته تذهب
لبنائه الطبيعيين حال ورثهم له بعد موته وأما قبل
اكتشاف المحراث فلم يكن للرجل ثروة يرثها أحد من
بعده ولهذا يقول بأنه لم يكن هناك شرف وأن كل
رجل كان يسمح له أن يجامع كل امرأة بل حرج قبل
اكتشاف المحراث اللعين!! .فإذا تم نزع الملكية
الفردية كما هو قانون الشيوعية فإنه لن يكون لي
شخص أي ثروة وعندها فإن سبب احتكار المرأة على
رجل واحد بدعوى الشرف أمر رجعي يجب تركه ولهذا
كانت الشيوعية في عهد فلديمير لينين تحرم الزواج
لنه استعباد وتملك بل سبب منطقي ثم سمح به بعد
ذلك دون إجبار عليه لسباب طبية بحته في مشروع
سماه (زواج الكوب) وليس هذا مجال بسط هذه
السخافات!!.
اليوم نجد من يتكلم عن الواقع بنفس هذا المنظور
المادي الملحد ,فعندما تنسب بعض الخفاقات الرضية
لسباب غيبية كأن تجعل السيئة والمعصية سبباً
لمصيبة حلت في مكان ما من بلد المسلمين تجد من
ينظر إليك نظر المغشي عليه من الضحك ويقول" :
هذه صوفية سياسية وبوهيمية الدراويش " فالقوم ما
قتلوك إل بالبندقية والصاروخ فما دخل السيئة بذلك؟!.
فقديما عندما يمرض النسان كان يستساغ أن يقال
" مرض بذنبه ومعصيته " لننا ل نعرف الفيروس
والمجهر فأما اليوم فل حاجة لفكرة " العقوبة اللهية "
لننا بتنا نعرف السباب ,تماما ً كما هي الحال في
مقولة ماركس بالنسبة لـ" فكرة الله!! " ولكن على
نطاق ضيق غير صريح ثم يزعم من يقول بذلك بأن
هذه هي الواقعية الصحيحة ويسميها " براغماتيه " لكي
تعتقد أنها مذهب جديد وإنما هي في الحقيقة " العقيدة
الماركسية في تحليل الحداث الكونية!! " غير أن
البراغماتية تربط المادة بالنتيجة الخارجية الناتجة عن
منظومة الفكار العملية بينما الماركسية تربط الجدلية
المادية بمرحلة المقدمات الولية والستقصاء التي
تبنى عليها المسلمات الماركسية وفي النهاية كلها "
مادية "! .ول أحد ينفي الحداث الكونية وارتباط القوة
منِكر ذلك يسمى " والتأثير بالسبب المادي بل أن ُ
جبري" ولكن لكل فعل يأذن به الله حكمة بالغة تتجلى
لمن كان في قلبه نور ينظر به إلى مواطن رضا الله
وسخطه كما أن الله نص على ذلك في كتابه حيث
141 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
قال( :وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
ويعفو عن كثير) الشورى.30 :
فليس الواقع مداره على النتائج النيّة ,بل إن
التاريخ مليء بعبر المآلت التي لم تكن تخطر ببال أحد
مثل تسمية صلح الحديبية بـ " الفتح المبين " على ما
فيه من شروط كان ظاهرها الستضعاف والضطهاد
وكما وصف سبحانه حادثة الفك التي أبكت النبياء
والصديقين بأنها " خير لكم " أي للمسلمين! .وكما
كانت قنبلة هيروشيما التي ظن العالم أنها نهاية مجد
اليابان فصارت بداية تحرره من عبودية العائلة
المبراطورية التي تزعم أنها من سللة الله والتي كان
يحرم على المواطن الياباني أن ينظر إلى أي فرد من
أفرادها إل بإذنه فكانوا يسجدون عند مرور أي فرد من
أفراد العائلة لكي ل ينظرون إليهم فحررتهم تلك
الكارثة من عبودية الساطير المتفرعنة والموت في
سبيل المبراطور كما فعل طيارو الكانيكازي في
عملياتهم النتحارية ,وغير هذا من المثلة الكثير .إن
العتماد على التدبير الذاتي بشكل كامل حماقة ل
ينكرها حتى الملحدين بل حتى المبادئ الرياضية
المنطقية والفيزيائية ,فلو نظرت إلى هذين الخطين
كما في الرسم التالي:
إن انحراف الخط السفل قليل وكذلك العلى
سينتج عنه التقاء الخطين في تقاطع سوف يقع في
المستقبل بعد مسافة كبيرة ولكنه سوف يقع ل محالة
ومكان تلك النقطة التي سيلتقيان فيها ومدة الزمن
السابق لللتقاء كل هذا يحدده مقدار النحراف تقارباً
وتباعدا والمسافة بين أصل المستقيمين .كذلك فإن
مقدار النحراف في الخط العلوي سينتج عنه مرور
الخط بنقاط كثيرة وهي التي تنتشر في الرسم وفي
نفس الوقت فإنه سيتجنب المرور بنقاط أخرى وتجد
أن هذا المرور والتجنب للنقاط أيضا ً متعلق بمقدار
النحراف في المستقيم .كذلك الحياة ,فلك أن تجعل
ذلك النحراف هو مقدار بعدك من الدين وقربك منه أو
الخرة أو المال أو العلم أو أي طبع من طباع البشر
ككثرة المزاح أو الجديّة أو الحس المرهف أو الجلفة
أو قلة الحياء أو الشجاعة أو أي شيء له تأثير أصيل
واضح في الحياة ,ثم نظرت إلى تركيبة حياتك
والحداث التي مرت بها تجد أنها كلها متأثرة بمقدار
انحراف تلك الصفة صعودا ً أو نزول ً بما في ذلك
الشخاص الذين صاحبتهم في حياتك كلها! .وقد تجد
أنك تغير مسار طريقك من شارع إلى شارع لجل "
مطعم " أو " مغسلة ملبس " ثم ينتج عن ذلك اللتقاء
بأشخاص كثر أنت لم تكن تسعى للقياهم وربما
صدمت أحدهم بسيارتك وربما كان أحدهم يدين لك
بمبلغ ما فيعطيك إياه وربما تشاجرت مع شخص ما
عند المطعم وربما حدثت أشياء كثيرة قد تغير مسار
حياتك وكل هذه الشياء أنت لم تكن تسعى إليها
ولكنك كنت تريد "المطعم" فقط!! .ولو حسبت
الشياء التي تنتج عن قرار ما أنت تختاره تجد أنه ينتج
عنه " حدث واحد أو بضعة أحداث " أنت كنت تتوقعها
وتسعى إليها ولكن لو نظرت إلى كمية الحداث
الخرى المصاحبة والناتجة عن غير قصد لها والمترتبة
على ذلك الختيار المعين الذي اخترته تجد أنها قد تبلغ
143 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
اللف دون مبالغة .فكيف إذا تحدثت لك عن
الفيروسات التي تمل الجو ولربما أصابك فيروس كان
في ذلك الشارع ولم يكن متواجدا ً في غيره لن ثمة
مريض بداء معين مر من هنا وحدثته نفسه في لحظة
معينة اتفقت مع مروره في هذا الشارع أن يبصق
فينتشر الفيروس فتمر أنت فتلتقطه! .وكيف لو
تكلمت لك عن مسمار صغير قد يتلف إطار سيارتك,
سقط من جيب عامل بناء كان يمر في هذا الشارع
وكان قد أوصى زوجته أن تخيط جيب سرواله ولكنها
لم تفعل وهو صابر عليها إلى هذه اللحظة لنها ابنة
قريبه التي أجبرته أمه على الزواج منها ولو طلقها
وجاء بأخرى نشيطة قبل هذا اليوم لكانت قد خاطت
الجيب ولم يسقط المسمار ولم يتلف إطار
سيارتك!!.و لو حدثتك عن الشياطين الذين يتسكعون
في الطرقات! ,فكم وكم من النقاط التي تزاحمك
وتصطدم بها وأنت ل تعلم وتظن أنك " تتحرك بخط
واضح مدروس! " وتظن أنك تعرف المؤثرات التي
فعل ً تقع عليك وهذا غير صحيح .ففي مسألة المسمار
هل كان الذنب ذنب الزوج أم الزوجة أم الم أم ذنب
من صنع المسمار أم ذنبك أنت لنك مررت بهذا
الشارع أم ذنب من فتح المطعم في هذا الشارع
بالذات؟ .كل هذه المؤثرات لو غاب منها واحد فقط
لما تلف إطار سيارتك! ,وبعضها دخل إلى هذه الدنيا
قبل عشرات السنين وبقي موجودا ً لكي يؤثر عليك
في هذه اللحظة بالذات كذلك المسمار الذي ربما صنع
في الصين وبقي في مخازنها عشرات العوام ثم أتي
به ليلعب دوره في هذه اللحظة!.
إن النسان يعمل على دفع السبب الظاهر لكي ل
تقع المصيبة الظاهرة ولكن أي مصيبة قد تقع في أي
لحظة لسباب كثيرة تحيط بك وأنت ل تعلم ولكن الله
هو الذي يحميك من هذه السباب ويعافيك منها بينما
أنت مشغول بالسباب الظاهرة .فمثل ,القتل قد يقع
لي سبب وقد كان أبي بن خلف من رؤوس الكفر
والشرك ولكنه كان يعلم أن الله قد ينصر نبيه في أي
لحظة حتى قال مرة( :و الله لو بصق علي محمد
لقتلني) هذا مع أنه كافر قد حشي رأسه بعفن
الشرك! .وقد جاء في التاريخ من تسخير الله لبعض
المور فقط لكي تتجلى هذه المسألة في فهوم البشر
وذلك كما في قصة تعذيب فرعون وقومه بالقمل
والضفادع والجراد وقد كان الله عز وجل قادر على أن
يعذبهم بالفيلة والديناصورات والمخلوقات المخيفة
ولكن الله يريد أن يبين لبني آدم أنه هو الذي يمسك
السماوات والرض أن تزول وأنه يمسك من أسباب
الهلك الشيء الكثير الذي ل نأبه به ,بل وربما نحتقره
ولول عصمة الله لنا لقتل النسان ريقه الذي في فمه
يشرق به فيموت وقد حدث هذا كثيراً! .وقد وقفت
بنفسي قبل أيام على قصة فتاة صغيرة خرجت من
باب المنزل فقفزت من أمامها قطة فخافت الصغيرة
وسقطت ميتة مع أن هذه القطة كانت تدخل البيت
كل يوم وكانت هذه الفتاة تراها ولكن الله قدّر في هذا
اليوم بالذات وفي هذه الساعة أن تتحول هذه القطة
إلى " سبب قاتل مميت " فحدث ذلك .فمن الذي قدّر
كل هذا؟ .إنه الله سبحانه الذي يحول من حال إلى
حال والذي توعد الذين يجهلون قدر عظمته بأنه
سيستدرجهم من حيث ل يعلمون .فمن الذي سيعطيك
خير هذه الشياء المحيطة بك والتي تؤثر عليك وأنت ل
تعرفها؟ .ومن الذي سيكفيك شرها ويجعلها ل تعيق "
حفنة " الهداف الصلية التي كنت أنت تسعى إليها؟؟.
إنه توفيق الله ول شيء غير توفيق الله ول أحد في
الدنيا كلها يستطيع إحصاء عُشر ما يحيط بك من
أسباب مؤذيه ناهيك عن إيجاد الضمانات بدفعها عنك
ولكن الله الذي بكل شيء محيط وهو القاهر فوق
عباده قادر على أن يحيط بذلك ويقهره بقوته وعظمته
سبحانه ,فهذا الكون فضاء مخيف من المخلوقات ول
145 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
يدرك عظمة الله من ل يدرك عظمة هذا الكون الذي
يسير فيه كل مخلوق دون أن يدخل في نطاق الخر.
فالذئب يأكل الخروف والخروف يأكل العشب
والدجاجة تأكل الحب ولن يأكل الدجاج الخروف ولن
يأكل الذئب الحب وهذا معنى قوله عليه الصلة
والسلم (أعوذ بكلمات الله التامات التي ل يجاوزهن
بر ول فاجر)( )1فهو يخلق كل شيء بكلماته فيقول له
كن هكذا فيكون كذلك ويبقى على ما خلقه الله عليه ل
يتجاوزه حتى يرث الله الرض ومن عليها .وهي ظاهرة
حيرت علماء الجتماع عندما راقبوا الحيوانات فوجدوا
أن أخلقها ل تتطور ول تتغير على مر العصور .فمن
الذي يحكم هذه الرواح في هذه التصرفات وهذه
الطر النفسية؟ .إنه الله! .ثم يأتي من يريد تفريغ هذا
العالم من أفعال الله وتأثيراته ويزعم بأن ذلك "
براغماتية! " يقتضيها عصر التجربة والمادة والمنفعة
العملية! .العيش مع المسلمات والمعاني الخفية
المستصحبة على الدوام أمر حتمي لبد منه وإل فعليك
في كل مرة تفكر فيها بواشنطن أن تذهب إلى
واشطن وتعود لكي ل تخضع للتسليم واليمان الغيبي
بوجود مدينة ربما ليس لها وجود إل في دماغك
اللبراغماتي .ولهذا ينبه الله تبارك وتعالى على هذه
الحاطة الشديدة وهذا النظام المحكوم بقيام الله عليه
فيقول( :الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الرحام
وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب
والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول
ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار *
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر
الله إن الله ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
وإذا أراد الله بقوم سوءا فل مرد له وما لهم من دونه
من وال * هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ
السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملئكة من
() رواه مسلم. 1
خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم
يجادلون في الله وهو شديد المحال) الرعد,12-8 :
فسبحان الله العظيم ,سبحان الله العظيم!!.
فنحن ندبر سببا ً واحدا ً والله يدبر من حيث ل نرى
ول نعلم عددا ً ل يحصى من السباب التي لو لم يتيسر
واحد منها لفشل تدبيرنا التافه الضئيل الذي كنا نظنه
هو الصل الذي عليه نبني " جدوى المشروع " الذي
نسعى إلى تحقيقه! .لهذا تجد النبي rيقول( :إذا خرج
الرجل من بيته فقال :بسم الله توكلت على الله ل
حول ول قوة إل بالله فيقال له :حسبك قد هديت
وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان
آخر :كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟) .فالحديث
يوضح أن التوكل على الله سبب لدفع شر من يترصد
لك عند خروجك وذلك في قوله " كفيت " وكذلك
سبب في عناية الله التي تحميك من الوقوع في كل ما
يتوقى الناس الوقوع فيه من أذى غير مقصود وذلك
في قوله " وقيت " ثم هو سبب في هدايتك إلى
السبيل المثل لبلوغ غايتك سالما ً غانما ً وذلك في قوله
" هديت ".
والمعنى من كل هذا هو أن تحديد معالم الواقع
من معطياته المادية وجعلها هي ذاتها مدخلت أي
مشروع لتنظير المستقبل بشكل حصري ,أمر غير
حكيم ل كونا ً ول شرعا ً لن أفعال الله في الكون على
مستوى الفرد والجماعة ل تنقطع عن التدخل الذي
تدركه عقولنا أو ل تدركه وإنما يتاح لها التعامل مع تلك
الفعال بأمور وصفها الله في دينه كالتوكل والنابة
والخوف والرجاء ,ولهذا قال الله تعالى في الحديث
القدسي كما في الصحيحين( :يؤذيني ابن آدم يسب
الدهر وأنا الدهر بيدي المر أقلب الليل والنهار) .وفي
صحيح مسلم عن أبي موسى قال :قام فينا رسول الله
rبأربع( :إن الله ل ينام ول ينبغي له أن ينام يرفع
147 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
القسط ويخفضه ويرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل
الليل بالنهار) ,وهذا هو تفسير قوله تعالى( :يسأله من
في السماوات والرض كل يوم هو في شأن) الرحمن:
.29كما أن رسول الله ρوصف كلمة (ل حول ول قوة
إل بالله) بأنها كنز من كنوز الجنة وهي واضحة المعنى
فل تحول ول انتقال إل بقوة الله وإذنه وتدخله .ولو
تأملت الواقع لوجدت طرفه في قلب العبد وطرفه
الخر في يد الله ,ولن يرى الواقع على حقيقته من ل
يرى فعل أمر الله في خلقه وقد قال ( :ρلم تظهر
الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إل ظهر فيهم
الطاعون والوجاع التي لم تكن مضت في أسلفهم
ولم ينقصوا المكيال والميزان إل أخذوا بالسنين وشدة
المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا الزكاة إل
منعوا القطر من السماء ولول البهائم لم يمطروا ولم
ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إل سلط عليهم عدوهم
من غيرهم ,وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا
مما أنزل الله إل جعل الله بأسهم بينهم)(.)1
إن الواقع أكبر من خرائط القادة في ساحات
القتال وأبعاد المشكلة أبعد من رائحة الدم والبارود
في بيوت المستضعفين من المسلمين والنصر رضيع
الواقع ولن يشب ويشتد ساعد النصر واللبن فاسد فإن
الله ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ,وإنك
لترى الرجل يتعب ويشقى وينال من العذاب ما الله به
عليم فإذا سألته عن أهدافه قال " :تحرير الرض ونيل
الحرية واستعادة الكرامة " ,هكذا ينخلع من سبيل الله
فيوالي ويعادي على هذه المفاهيم المتأصلة في قلبه
والتي نتجت عن " وسواس الرض والكرامة والوطن
الخالد! " ,بينما الرض في نظام سنن الله الكونية هي
لمن يقيم فيها السلم والملة وأن الله يورث الرض
() ــرواهـ ـابنـ ـماجهـ ـوحسنهـ ـاللبانيـ ـوصححهـ ـالحاكمـ ـووافقه 1
الذهبي.
من يشاء من عباده ,ولو كفر العرب عن بكرة أبيهم
وآمن اليهود والنصارى لكانوا أحق من المسلمين
بديارهم وكما قال عليه السلم( :أل إن آل بني فلن
ليسوا بأوليائي ولكن ولي الله وصالح المؤمنين)( .)1ول
يكاد يخلو قلب مسلم من شائبة هذه الفة إل من رحم
الله وقد ذكرتها تحت هذا الباب لنها تحتل جزءا ً كبيراً
من الواقع المعاش ولن كثيرا ً من المسلمين يقعون
تحتها عمليا ً أو على القل تحت تأثيرها الذي تروجه
وسائل العلم وهي في الحقيقة واقع باطل ل ينبغي
لحد أن يعيش من أجله ول أن يتأثر به إل أن يكون
ذلك لله ولدين الله ولعباد الله من المؤمنين .وقد نقل
الشيخ ابن عزام رحمه الله مشاهداته لبعض ما يقع
من بعض المنحرفين من المسلمين الذين يسمون
أنفسهم بالمناضلين من أجل الوطن والحرية والقومية
العربية في بعض البلدان السلمية العربية المحتلة
فقال أنه رأى فريقا ً منهم يطلقون النار على المآذن
عند موت رئيس عربي تبنى الدعوة القومية العربية
وكان ذلك الفعل منهم انتقاما ً من الله بزعمهم لنه
أمات زعيم القومية العربية( .)2ومازالت بقايا هؤلء
القوم موجودة في زوايا الواقع العربي وبعضهم مازال
يحمل اللواء والناس يركضون خلفه ويتعلقون بشماليله
ويهتفون له ,فعلى أي هباء! .أما مشاهداتي أنا فإني
رأيت مفكرا ً إسلميا ً كان في السابق شيوعيا ً ثم ارتدى
عباءة فصار " مفكرا ً إسلمياً! " ,يقول بأن الذي ل
يدعو لنصرة الروافض في لبنان إنما هو رجل يعمل
بفتاوى بدوية متقوقعة تصدر عن أناس ل يفقهون
شيئاً ,ثم يستضاف في مهرجانات التقريب والتخريب
في أمريكا وأوروبا وفي الفضائيات والمجلت السيارة
ليكون " إمام التنظير والتنوير " لعقول الشباب
)( 1رواه البخاري.
)( 2ذكره في كتابه " تفسير سورة التوبة " متداول على النترنت
ولم يطبع.
149 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
المسلم ,فعلى أي هباء!!.
إن إدراك الواقع على حقيقته ومعرفة عناصره
أصل أصيل لتولي مقاليد الخلفة في الرض سواء
على المستوى الفردي بالعبودية لله أو على المستوى
الممي بالخلفة الشرعية فالذي ل يدري من أين
سيؤتى ,لن يكون خليفة الله في الرض ,و رحم الله
إبراهيم الخواص عندما تأوه ثم تأوه فقالوا :ما هذا
التأوه يرحمك الله؟ فقال :أوه! أوه! ,من كان يسره ما
يضره ,متى يفلح؟!!( .)1وقد ساد السلف العالم وأملوا
على الدنيا مبادئهم عندما أدركوا كل هذه المعاني حتى
قال أحدهم لصاحبه( :يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك
فأما إذا صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا التبسم!)()2
1
() النساء.45 : 2
153 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
رأس وله قرنين ويدين وقدمين ولسان وحلق وقبل
ودبر ويبول ويأكل ويشرب وحجمه يكبر ويصغر ويجامع
ويتنفس وأخبرنا أنهم يسكنون البيوت ويقفون على
أبوابها كما قال عليه الصلة والسلم (إذا خرج الرجل
من بيته فقال :بسم الله توكلت على الله ل حول ول
قوة إل بالله فيقال له :حسبك قد هديت وكفيت
ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر:
كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)( )1فهذا يدلك
على أن مخرج كل بيت يقف على بابه على القل
شيطانان! .بعد ذلك تأتي البهائم التي تعيش على
المستوى الحسي وليس لها بعد معنوي يذكر فهي تعلم
غاية خلقها ولكن من ناحية أنها تتعارض في شيء
معنوي مع البشر فل يوجد شيء من ذلك فيبقى
النسان يعيش على المستوى الحسي والغيبي ,والغيب
ينقسم إلى قسمين غيبي ذهني يمكن إدراكه بالفهوم
وهو " الذهن الرياضي والتصوري " وغيبي شرعي ل
نعرفه إل بالوحي ,ثم الملئكة الكاتبون والحافظون
والموكلون بأرزاق الرض ,والواقع هو خليط من
تقاطعات كل هذه المؤثرات الفاعلة التي تعيش فيه
وإن لم تتعرف عليها وعلى حقيقة تكوينها وغايات
خلقها فلن تفهم الواقع وسيغيب عنك على القل نصف
الواقع الحقيقي الفاعل ,هذا مع وجوب اليمان بأثر
إرادات الله المتفرقة بين البتلء والنصرة والعقوبة
والخذلن والسباب القائمة في أفراد المكلفين
وجماعاتهم التي بسببها تكون إرادات الله على ما هي
عليه في الرض ,وكل ذلك مذكور في الكتاب والسنة
بأماراته وإشاراته وأحيانا ً شخوصه!.
أنت بحاجة لن تبحث وتستقصي وتفكر وتنفق
الكثير من عمرك لكي تحصل على الحقيقة والنجاة,
ورحم الله الشافعي عندما عدد أصناف العلم في
)( 1ـرواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والترمذي وقال حسن
صحيح وصححه اللباني.
رسالته لبن مهدي فقال( :و من العلم ما فرض الله
على خلقه الجتهاد َ في طلبه وابتلى طاعتهم في
الجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم
فإنه يقول تبارك وتعالى( :ولنبلونكم حتى نعلم
المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم) .فل بد لكل
إنسان مكلف في هذه الحياة أن يجد نفسه في يوم
من اليام يقف على مفترق طرق وقد كتب عليه " إما
كمال الحياة وإما كمال الدين؟ " ,ولهذا أمر عليه
السلم بالتسديد والمقاربة وأخبر بأنه لن يشاد الدين
أحد إل غلبه وكان يؤصل في نفوس المسلمين فكرة
أن النسان " خاطئ بطبعه " فكان يقول كما في
صحيح مسلم( :والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب
الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر
لهم) .فأنت يجب أن تجتهد ويجب أن تعبد ويجب أن
تعيش دون أن يطغى شيء على شيء!.
إن المشكلة التي تواجه الدعاة اليوم على قلة علم
أكثرهم وعلى قلة إحاطتهم بأصول العلوم التي دخلت
في عقول كثير من الناس وكذلك الثقافات التي
صارت جزءا من واقعنا هي أنهم يحاولون جعل الدين "
أداة حياة " فيتكلمون عنه بين الناس وكأنه رغيف خبز
أو قارورة ماء فل هم فهموا ما في عقول الناس ول
هم فهموا ما يدعون إليه .وتلك العبارة التي ذكرها
شيخ السلم ابن تيمية عندما قال " جنتي في صدري
" هي جنة يندر أن يصل إليها إل من رحم الله من
أوليائه حتى وإن وجدنا انشراح الصدر وشيء من
الرضا بعد التدين ولكن كل هذه الحاسيس الهشة
ستذوب تحت أول معول من معاول الواقع إن لم يكن
الردئ لها الصبر والحتساب ,فكيف بعامة المسلمين؟,
وإل فالتدين في هذا الزمان هو كما قال ( :ρيأتي زمان
على الناس الصابر على دينه كالقابض على الجمر)()1
رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان وصححه اللباني. () 1
رواه مسلم. () 2
متفق عليه. () 3
متفق عليه. () 4
تكريم آدم ومعصية إبليس
قال تعالى( :وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم
فسجدوا إل إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين *
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكل منها رغدا
حيث شئتما ول تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا
فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الرض
مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات
فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها
جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فل خوف
عليهم ول هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)( .)1وقد جاء ذكر
هذه القصة في مواضع كثيرة في كتاب الله عز وجل
وذلك لن الرجوع إلى الجذور في أي مسألة ومناقشة
أصلها يجعلها أكثر وضوحا واقرب إلى نفس النسان
فمن علم قصة آدم وإبليس ثم نظر حوله فوجد مع كل
إنسان قرين من الجن ووجد الشيطان يرصد ابن آدم
عند كل شيء علم أن القصة الولى مازالت تتكرر وأن
هذه الحياة عبارة عن محاولة جديدة لبن من أبناء آدم
للنتصار على إبن من أبناء إبليس كما كان آدم يجاهد
الشيطان ويراغمه وأمامنا ذات الوعد وذات الوعيد
الذي قاله الله لدم عندما أهبطه إلى الرض( :قلنا
اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع
هداي فل خوف عليهم ول هم يحزنون * والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(,)2
فنحن اليوم نفعل نفس الشيء ونعاني نفس التجربة
تحقيق معنى الستخلف
في الرض
167 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
معنى العبودية
إن قوله تعالى (و ما خلقت الجن والنس إل
ليعبدون)( )1ليس حصرا ً لغاية الخلق في العبادات
التكليفية الدنيوية والصحيح هو أن الله خلق آدم عليه
السلم وذريته لعبادته ولعبادته فقط وهذه العبادة
كانت متحققة في الجنة قبل النزول إلى الرض وذلك
أن أهل الجنة يسبحون ويحمدون ويعبدون ربهم بكل
العبادات القلبية بل والعملية ولكن بل تكليف وكلفة
كما جاء في الصحيح مرفوعا ( :بينا أنا نائم رأيتني في
الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) وليس في
الجنة درن ول حدث ول تكاليف واجبة ذات كلفة ولكنها
عبادة النعيم واللذة كما هي لذة النظر لوجه الله عز
وجل بخضوع وتذلل وخشوع ,وكذلك حملة العرش
الذين هم فوق مستوى الفردوس الذي هو أعلى الجنة,
يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين
آمنوا .فليست العبادة حكرا ً على التكليف الدنيوي
ولكن لن آدم داخل في غاية خلقه " البتلء " حيث
جعل الله عز وجل هذا البتلء هو روح العبادة التي
يمارسها آدم وذريته لنه ل يلهم العبادة كما تلهمها
الملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون .وقد
كان آدم في الجنة يبتلى بكلفة " ذاتية نفسية " هي
مدافعة الشيطان الذي كان يغريه بالكل من الشجرة
ولم يكن ثمة " تكاليف مستقلة مطلوبة " وإنما هو
الستمتاع بالجنة ومدافعة الشيطان .لهذا تجد أن الله
عز وجل نفى عن آدم الظروف الخارجية المؤذية فقال
" إن لك أل تجوع فيها ول تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول
الكوني والشرعي
إن لكل شيء نظام تنتظم فيه عناصره فيكون
لكل عنصر موقعه ومنفعته وبربط هذه العناصر بشكل
تكاملي تنتج منفعة هذا النظام ويتم تفعيله ويتحقق
الهدف العام منه وهذا ما سماه الله عز وجل بالحق
في قوله تعالى( :هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر
نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما
خلق الله ذلك إل بالحق يفصل اليات لقوم يعلمون) ,
)(1
فهرس الموضوعات
إهــــــــــداء................................ ....................
..................................................... ............m
فصول الكتاب.............................................................:
:!+الجاهلية الرومانسية1 1 ........................................................
العقيدة الرومانسية.......................................... ..
الشريعة الرومانسية..........................................
الرهاب الرومانسي..................... ......................
نهاية النسان الرومانسي....................................
السلم الرومانسي...................................... ......
:≅+المقدمات الولية للتصور الصحيح4 6 ..................................
مفهوم الحقيقة والمجد.......................................
أصل العلم كله من الله.................................... ...
حقيقة الكون والنظام............................. ............
قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق..............
:+معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة8 0 ................................ #
صفة آدم وحواء...................................................................
-1متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرج منها؟ ومتى مات؟....
فصل :فوائد الدلة....................................:
-2من أي مادة خلق ال آدم عليه السلم..............................
فصل في فوائد الدلة.................................:
-3من أي شيء خلقت حواء؟...........................................
فصل في فوائد الدلة.................................:
-4كيف كانت هيئة آدم التي خلقه ال عليها...........................
فصل في فوائد الدلة.................................:
-5أول خلق آدم عليه السلم ورؤيته لذريته..........................
فصل في فوائد الدلة.................................:
-6أن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه....................................
فصل في فوائد الدلة.................................:
صفة الشيطان.................................... ............
-1إثبات أن إبليس هو أبو الجن وأن لبليس ذرية وانهم
يموتون وأنهم أمة عظيمة العدد وأن منهم الشياطين وأن
يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس وإنما هم من ذرية
آدم عليه السلم.......................................:
فصل في فوائد الدلة.................................:
-2إثبات أن الجن أصناف ثلثة........................................
فصل في فوائد الدلة.................................:
-3أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من الشياطين مقلدة في
عقيدتهم............................................................:
فصل في فوائد الدلة.................................:
-4أن إبليس كائن حي موجود على الحقيقة وأنه مخلوق من نار....:
فصل في فوائد الدلة.................................:
-5إثبات صفة الجسم للشيطان وأن الحمار والكلب يريانه عياناً. :
فصل في فوائد الدلة.................................:
-6ذكر ما جاء في حجم الشيطان في حال كونه على صورته
الصلية............................................................:
فصل في فوائد الدلة.................................:
203 فهرس الموضوعات