You are on page 1of 204

‫تحقيق خلفـة‬

‫النسان على الرض‬


‫تأليـف‬
‫جميل بن صبيح الرويلي‬
P
‫مدونة جميل مونس الرويلي‬
Jam ee lv oi ce .ma kt oobblog. co m
‫إهـــداء‬

‫إلى النسان حيثما كان ‪...‬‬


‫‪5‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫‪m‬‬
‫الحمد لله والصلة والسلم على رسول‬
‫الله وآله وصحبه‪ ,‬أما بعد‪:‬‬
‫فإن لكل شيء أصل يرد إليه‪ ،‬وما ليس له أصل‬
‫فليس له حقيقة‪ ،‬ولهذا تجد أن الله تعالى يرد كل‬
‫شيء مشكل في فهوم البشر إلى أصله الذي نشأ‬
‫منه؛ بل إنه ليس في الكون شيء إل وقد اخبر الله عز‬
‫وجل عن أصله الول ونشأته الولى إل نفسه المقدسة‬
‫تبارك وتعالى؛ وذلك أنه الول فليس قبله شيء‪،‬‬
‫والخر فليس بعده شيء‪ ،‬أو كما قال المام الطحاوي‬
‫في عقيدته " الول بل ابتداء " ‪ .‬وهذا واضح لمن تتبع‬
‫الحجة اللهية في القرآن ‪.‬‬
‫قد يتصور الباحث عن الحقيقة المنجية أنه سوف‬
‫يجدها ذات فتح من الله جمعاء ليس فيها من جدعاء‬
‫في نص من نصوص الكتاب أو السنة‪ ،‬فيقول ‪ :‬هذه‬
‫منجيتي‪ ،‬فهي حق لنها في الكتاب أو السنة‪ ،‬وهي‬
‫النجاة لنها من الله‪ ,‬وهذا غير صحيح‪ ,‬فما أكثر‬
‫الحقائق الموجودة في نص من نصوص الكتاب العزيز‬
‫أو السنة الصحيحة؛ ولكنها في ذاتها حقائق جدعاء‪ ،‬قد‬
‫يظنها النسان " حقيقة مكتملة البناء " مع أنها جزء‬
‫من حقيقة كلية كبيرة مركبة الصور والمعاني‪ ,‬فحتى‬
‫الشريعة لم تكتمل إل قبل وفاة رسول الله ‪ r‬بمدة‬
‫وجيزة‪ ،‬بل أنه في حجة الوداع تكلم عن صفة من‬
‫الرض‬
‫تحقيق خلفة النسان على ‪6‬‬
‫صفات الله الذاتية وهي صفة العين فقال‪« :‬إن ربكم ل‬
‫يخفى عليكم‪ ,‬إن الدجال أعور وإن ربكم ليس‬
‫بأعور»(‪ .)1‬فحتى الكلم عن صفات الله لم يكتمل إل‬
‫قبل وفاته عليه الصلة والسلم بعام واحد‪ ,‬فكيف تأتي‬
‫الحقيقة بعد كل هذا في موطن واحد جمعاء ليس فيها‬
‫من جدعاء؟‪ .‬إنما تأتي الحقيقة مفرقة مبثوثة في كتاب‬
‫الله وسنة رسوله يشد بعضها بعضاً؛ لتكتمل الصورة‬
‫ويتضح المنهج‪ ،‬فل يقال حينها بتناقض ول بنقص ول‬
‫بتفاوت‪ ،‬ول يتعارض العقل والنقل‪ ،‬ول يتشابه الفهم‬
‫علينا‪ ،‬ول نمارس " الثرية العضين " التي مارسها‬
‫الخوارج من قبل‪ ،‬ول " الجاهلية الرومانسية " التي‬
‫يمارسها العصرانيون والعلمانيون اليوم المبنية على‬
‫مبدأ أن الحق في السعادة‪ ،‬وأن الطبيعة البشرية هي‬
‫ملة إبراهيم التي ينبغي لكل البشر أن يجتمعوا عليها‪,‬‬
‫ويزعمون أن السلم قائم على هذا‪ ,‬ولكي ل نمارس "‬
‫السلم النفعي " عند بعض الدعاة السلميين في هذا‬
‫العصر من أهل الجتهاد الرخيص المبني على" الدعوة‬
‫التجريبية إلى الله " والذين يسخرون السلم لكل‬
‫مشكلة تنوب أهل الرض‪ ,‬فمن مشكلة السمنة‬
‫وتصلب الشرايين التي قاموا بحلها بأحاديث فضل‬
‫المشي إلى الصلة إلى مشكلة الثقوب الكونية‬
‫ً‬
‫السوداء على أطراف المجرة التي سمعت شيخا من‬
‫كبراء هذا المنهج يقول إنها ذكرت في القرآن‪ ,‬أل تقرأ‬
‫قوله تعالى‪( :‬والسماء ذات الحبك)(‪ )2‬؟!‪ ,‬ولكل قوم‬
‫وارث!‪ ,‬فقد سبق هؤلء القوم إلى هذه النفعية المادية‬
‫رجل أعرابي كان يجلس على مائدة سليمان بن عبد‬
‫الملك يلتهم الفالوذج فقال له سليمان‪ :‬أتدري ما‬
‫تأكل؟ قال العرابي‪ :‬إن مذاقه لهني‪ ،‬وإن ازدراده‬
‫لمري‪ ،‬ول أظنه إل الصراط المستقيم الذي ذكره الله‬

‫() متفق عليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الذاريات ‪.7 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪7‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫في كتابه ! (‪.)1‬‬


‫لمثل هذه المناهج وأهلها ولكل باحث عن الحقيقة‬
‫الكلية في مسألة خلفة النسان على الرض أجتهد في‬
‫نظم هذه الكتابة الستدللية التي أرجو من الله أن‬
‫يكون أصلها ثابت وفرعها في السماء‪ ,‬على منهج رب‬
‫العالمين في حجته على خلقه بإعادة كل شيء إلى‬
‫أصله الصيل‪ ,‬والله حسبي ونعم الوكيل ‪.‬‬
‫كتبه ‪/‬‬
‫أبو بكر جميل الصبيح الرويلي‬
‫الجوف – حي الربوة ‪ 1429 \ 2 \ 10‬هـ‬
‫‪ibn-sabeeh@hotmail.com‬‬

‫() جمهرة خطب العرب ‪. 3/341 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫الرض‬
‫تحقيق خلفة النسان على ‪8‬‬

‫فصول الكتاب‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‪.‬‬
‫* العقيدة الرومانسية‪.‬‬
‫* الشريعة الرومانسية‪.‬‬
‫* الرهاب الرومانسي‪.‬‬
‫* نهاية النسان الرومانسي‪.‬‬
‫* السلم الرومانسي‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‪:‬‬


‫* مفهوم الحقيقة والمجد‪.‬‬
‫* أصل العلم كله من الله‪.‬‬
‫* حقيقة الكون والنظام‪.‬‬
‫* قصة نشوء الكون وإثبات الخالق‬
‫والمخلوق‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‪:‬‬


‫* صفة آدم وحواء‪.‬‬
‫* صفة الشيطان‪.‬‬
‫* تكريم آدم ومعصية إبليس‪.‬‬
‫* الواقع والواقعية‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق الستخلف في الرض‪:‬‬


‫* سكنى الرض وإعمارها ليس غاية‬
‫في خلق بني آدم‪.‬‬
‫* معنى العبودية‪.‬‬
‫* الستخلف ل يتحقق إل بإقامة‬
‫الميزان الكوني والشرعي‪.‬‬
‫* الخلفة الشريفة للنسان في‬
‫الرض‪.‬‬
‫خاتمة الكتاب‪.‬‬
‫الرض‬
‫تحقيق خلفة النسان على ‪10‬‬
‫‪11‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫‪‬‬
‫الجاهلية الرومانسية‬
‫‪13‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫العقيدة الرومانسية‬
‫الرومانسية مذهب أدبي ثم فلسفي في تعاطي‬
‫التصورات والنفعالت النسانية ومناقشة الكون‬
‫والحياة ‪ .‬نتج في أصل نشأته عن اضطراب المجتمع‬
‫المدني في فرنسا ثم ألمانيا ثم بقية المجتمعات في‬
‫أوروبا التي فقدت الدين ثم فقدت روح المبدأ‬
‫الجماعي ثم فقدت الحقيقة في معنى الحياة عندما‬
‫أيقن النسان الوروبي أن ثورة فرنسا ليست إل صيحة‬
‫رجل مجنون‪ ,‬جمعت الناس على أمر ل يعلمون لماذا‬
‫اجتمعوا عليه!‪.‬‬
‫لقد كان التجاه الرومانسي هو أول النتاج النفسي‬
‫للحضارة المدنية ولهذا تجد في سماته كل مؤثرات‬
‫المدنية الصلفة‪ ,‬فهو يميل إلى اللمعقول وينبذ القواعد‬
‫والصول ويطلق أجنحة العاطفة في سماء التصور بل‬
‫حدود؛ لن المدنية تقيد النسان في قفص من إسمنت‬
‫مسلح وتحوله إلى مجرد آلة في ورشة عمل كبيرة‪,‬‬
‫شعوره هو آخر شيء يحق له أن يتكلم عنه حتى يعود‬
‫إلى منزله من جديد‪ .‬ولن النسان الغربي مازال‬
‫يحمل في نفسه "عقدة الضطهاد النظامي" الموروثة‬
‫عن سيطرة الكنيسة ولصوصها في الحقبة السابقة‬
‫فقد صار يمقت الشكلية المنظمة والترتيب السلوكي‬
‫والحكم المسبق على المبادئ العامة‪ ,‬ولهذا يمتاز‬
‫المذهب الرومانسي بفرط النانية الشعورية وتسلط‬
‫الخيال الفردي دون أي اعتبار لكل مقومات التصور‬
‫والشعور المشترك‪ ,‬ولهذا تجد الب الغربي كاثوليكياً‪،‬‬
‫وزوجته بروتستانتيه‪ ،‬وابنته ملحدة‪ ،‬وابنه بوذيا ً وثنياً‪,‬‬
‫وستعلم كيف آل بهم الحال إلى هذا الوضع بعد نهاية‬
‫هذا الفصل من الكتاب‪ ,‬وهذه ردة فعل طبيعية للشعور‬
‫بالتهميش والحتقار اللي الذي ينتج عن طبيعة جريان‬
‫الحياة المدنية التي ينساب الناس في شعابها كما‬
‫تتدافع الثيران من باب الحظيرة ل تعرف شيئا ً سوى‬
‫أنها تريد أن تجتاز تلك المدنية التي تفتت أفراد‬
‫المجتمع فيها في خليا المصالح المدنية الكثيرة الناتجة‬
‫عن تنوع المعاملت والتداخلت؛ حتى يشعر الفرد بأنه‬
‫في سجن انفرادي مع أنه يعيش بين ضجيج المصانع‬
‫والناس!‪.‬‬
‫ترتبط كلمة (رومانسية) في أذهان الناس بالجلسة‬
‫ذات النوار الخافتة‪ ،‬أو تحت ضوء القمر‪ ،‬أو الكلم‬
‫الغزلي‪ ،‬أو المنظر الطبيعي الخلّب؛ وهي في حقيقتها‬
‫أكبر وأشمل وأعمق من هذا الفهم التطبيقي الساذج؛‬
‫لنها منهج حياة وتفاعل وتصور يسيطر على الداخل‬
‫الشخصي والخارج الجتماعي‪ ،‬وهي مرحلة أصدق ما‬
‫يطلق عليها بمرحلة التشويش لجل التغيير وليست‬
‫كما يصورها أصحابها بأنها التنظير لجل التغيير‪.‬‬
‫سنناقش تعريف الرومانسية على لسان القوم‬
‫الذين ولد في أحضانهم هذا المذهب‪ ,‬حيث عرفها‬
‫جوته بأنها‪ :‬مرض وضللة مهلكة!(‪ . )1‬وعرفها ووتر‬
‫هاوس بأنها ‪ :‬جهد للهروب من الواقع(‪ .)2‬وأصدق من‬
‫عرفها هو اشعيا اللماني حيث قال ‪ :‬طغيان الفن على‬
‫الحياة(‪ .)3‬والفن هنا يقصد به الخيال الحر الذي يترتب‬
‫على تصوراته السلوك النفسي والجتماعي وليس هو‬
‫الغناء والرقص فقط!‪ ,‬وإن كان يدخل فيه الغناء‬
‫والرقص ولكن بعقيدة وهدف كما يزعمون!!‪ ,‬ولهذا‬
‫كثيرا ً ما نسمع من يقول‪ " :‬الفن رسالة! "‪ ,‬أما الغناء‬
‫والرقص بل عقيدة وبل هدف فهذا ما يسمى بالجمالية‬
‫التي هي الفن من أجل الفن! ‪.‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.256 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.164 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.164 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪15‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫وأهم أصول الرومانسية هو طغيان الخيال‬
‫الشخصي على الذات‪ ،‬بحيث يبني كل فرد عقيدته‬
‫تجاه العالم بنفسه دون أي قيود‪ ،‬والخروج عن النسق‬
‫والقاعدة‪ ،‬وأن يكون له الحق في التعبير عن كل ذلك‬
‫كيفما يشاء‪.‬‬
‫وقد ذكرت ليليان فورست في بحثها المتخصص‬
‫في الرومانسية‪ ,‬مقاصد الرومانسية التي أعلنت في‬
‫نهاية القرن الثامن عشر‪ ,‬فقالت ‪ :‬نجد أن مرحلة ما‬
‫قبل الرومانسية تتحرك بفعل نفور حقيقي من كل ما‬
‫كانت تمثله الكلسيكية‪ ,‬التي هي تعظيم النظام‬
‫واحترام الماضي‪ ,‬مثل‪ :‬قواعد بليدة‪ ,‬أناقة سطحية‪,‬‬
‫نمطية‪ ,‬ترتيب‪ ,‬آراء محددة‪ ,‬تكلّف‪ ,‬أعراف‪ ,‬وعظية‪,‬‬
‫حضارة القصور‪ ,‬الحفاظ على الوضع الراهن(‪ .)1‬وتقول‬
‫‪ :‬ففي كل مجال كان التوكيد على ما هو طبيعي ضد‬
‫ما هو عقلني‪ ،‬وعلى التلقائي؛ ليأخذ مكان المحسوب‪،‬‬
‫وعلى الحرية لتكون بديل عن الخضوع لنسق (‪ .)2‬ثم‬
‫تتكلم عن الجماعات الولى التي تبنت الرومانسية‬
‫فتذكر الرومانسيين اللمان ‪ :‬جوته ــ شيلر ــ هردر ــ‬
‫كلينكر ــ لنتز ــ بركر‪ ,‬كانوا في ثورة ضد أي مذهب‬
‫منظم أدبي‪ ,‬اجتماعي‪ ,‬سياسي‪ ,‬أو ديني ففي‬
‫اندفاعهم العام للتخلص من قيود الماضي‪ ,‬رفضوا‬
‫جميع مظاهر الوضع الراهن وكل ما كان يهم في‬
‫الحياة كما في الفن هو النبوغ الصيل الخلق لدى‬
‫الفرد الذي يجب أن يكون حرا ً للتعبير عن خبرته‬
‫الشخصية تلقائياً (‪ .)3‬ثم تتكلم عن جماعة الرومانسيين‬
‫الوائل ‪ :‬كانت فئة الرومانسيين الوائل بؤرتها الخوان‬
‫شليكل‪ ,‬فريدريك وقد شملت من الشعراء فكندور‬
‫وتيك ونوقاليس‪ ,‬والمفكر الديني شليرماخر‪،‬‬
‫والفيلسوفين الطبيعيين شيلنك وبآدر والفيزيائي ريتر!‪.‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.196 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪ 196 :‬ـــ ‪.197‬‬ ‫‪2‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.211 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫ولم تكن هذه الشمولية محض تعبير عن هوس تقليدي‬
‫ألماني بالثقافة‪ ,‬فقد كانت نابعة من النظر إلى‬
‫الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملة كان‬
‫مقدرا ً لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم‬
‫أجمع(‪ .)1‬وأنا هنا ألفت النتباه إلى هذا النقل الخير فقد‬
‫ذكرت أن الرومانسية يقوم عليها العالم والفيلسوف‬
‫والمفكر الديني! والفيزيائي‪ ,‬بل والصحيح أن‬
‫الرومانسية يدخل فيها حتى البغايا والعاهرات؛ لنها‬
‫مبنية على تقديس المعتقد الشخصي‪ ،‬وحرية التعاطي‬
‫مع الحياة‪ ،‬وفتح البواب للنسان لكي يمارس الطبيعة‬
‫البشرية بل قيود‪ ،‬حتى أن أحد المنظرين الوائل‬
‫للرومانسية‪ 1739 ,‬م‪ ,‬وهو هيوم قال في كتابه (القول‬
‫في الطبيعة البشرية)‪ ,‬الكتاب الثاني‪ ,‬القسم الثالث‪,‬‬
‫المقطع الثالث‪ « :‬العقل هو النسان‪ ,‬ويجب أن ل‬
‫يكون العقل سوى العبد للعواطف! »‪ .‬وفي نفس‬
‫الحقبة الزمنية ألف منظر آخر هو ديديرو‪1757 ,‬م‪,‬‬
‫كتاب (البن الطبيعي) أي ابن الزنا‪ ,‬يمهد فيه‬
‫للرومانسية القادمة!‪ ,‬ونفس هذا السم حمله فيلم‬
‫سينمائي تم طرحه قبل سنوات قليلة وحصد الكثير‬
‫من الجوائز!‪ ,‬فنحن ل نتحدث عن مذهب منقرض أو‬
‫غير فعّال فالرومانسية تبث في بيوتنا‪ ,‬بين أطفالنا‬
‫ونسائنا‪ ,‬بل إني رأيت لوحة دعائية على جسر في‬
‫مدينة خليجية وقد كتبت عليها إحدى القنوات الفضائية‬
‫دعاية لفيلم سوف يبث عليها (تابعوا معنا الب‬
‫الطبيعي) على قناة كذا وكذا‪ ,‬والب الطبيعي هو‬
‫الزاني والد البن الطبيعي!‪ .‬وهذا الذي يحدث هو الذي‬
‫يسمونه‪( :‬دعوة العودة إلى الطبيعة! ) وهو الذي على‬
‫أساسه تم في المغرب وتونس ولبنان تشريع قانون‬
‫(الزواج المدني) أي الطبيعي!‪ ,‬بمعنى أن أي ذكر يحق‬
‫له أن يتزوج أي أنثى!‪ ,‬فهذا هو قانون الطبيعة بل‬

‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.221 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪17‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫تفاصيل رجعية زائدة!‪ .‬ولو تكلمنا بواقعية لوجدنا أن‬
‫القائم على السرة ل يستطيع السيطرة على ثقافة‬
‫من يربيهم على مستوى الفرد والفردين فكيف بمن‬
‫يقوم على المليين في فضاء مفتوح!‪ .‬العصر القادم‬
‫هو عصر الثقافات الشعبية وليس ثقافة الحكومات‪،‬‬
‫والذين سوف يخوضون صراع الهوية هم أفراد‬
‫الشعوب وليست الحكومات في أغلب الحيان‪ ،‬ولهذا‬
‫فإن العصر القادم هو (عصر العقلية الفردية‬
‫العصامية)‪ ،‬التي يجب أن تبني نفسها بنفسها؛ لتعرف‬
‫الحقيقة وتنجو من الضلل ‪ .‬كما أنه (عصر الرقابة‬
‫الذاتية) الذي سوف يدوس بقدميه الستباحيتين كل‬
‫المنافقين والمرائين والمتذبذبين والهلميين‪ ،‬فإما أن‬
‫تخلص لله بصدق‪ ،‬وإما أن تذهب إلى الجحيم!!‪.‬‬
‫لم تكن الرومانسية كمذهب هي مجرد أداة شعرية‬
‫أو أدبية وحسب؛ بل كانت في أصل نشأتها حاجة‬
‫اجتماعية أملتها تطورات المجتمع المدني الذي لم يكن‬
‫يتصور كيف تركب فتاة أوروبية تقليدية ذات ثوب‬
‫طويل تجّره خلفها على دراجة هوائية متجهة إلى‬
‫العمل!‪ ,‬ول كيف يخرج السيد البرجوازي المهيب من‬
‫قصره بنصف ملبسه ليدور على قصره ويطبق نصائح‬
‫الطبيب بكثرة الجري والحركة!‪ ,‬وتتابعت الحتياجات‪،‬‬
‫وتتابعت الخروقات للعراف والتقاليد على المستوى‬
‫الفكري‪ ،‬ثم الجتماعي والسياسي‪ ،‬ثم بدأت مرحلة‬
‫الدعوة إلى الطبيعة والتلقائية ونبذ القواعد والتقاليد‬
‫ورفض الوضع الراهن بكل تفاصيله‪ ،‬ثم بتطبيق ما قاله‬
‫اشعيا اللماني في تعريف الرومانسية ‪ « :‬طغيان الفن‬
‫على الحياة »‪ .‬وذلك بجعل الرومانسية مذهبا ً عالمياً‬
‫لمناقشة الوجود والحياة دون أي قيود‪ .‬و قد تكلم كارل‬
‫ماركس في " البيان الشيوعي " الذي أصدره قرابة‬
‫عام ‪ 1845‬م عن العولمة القتصادية و الفكرية فقال‬
‫بأن من تداعيات سيطرة رأس المال أن الدول‬
‫العظمى ستتغلغل ‪ ,‬و تعشش في كل مكان و‬
‫ستستخدم قوتها لفرض نفسها على بقية العالم ‪ ,‬و أن‬
‫الموروث المحلي بكل تقاليده سينهار نتيجة اقتحام‬
‫الثقافة الخارجية له و سيتبع ذلك انهيار ثقافي يتبعه‬
‫نشوء أدب عالمي يحمل غالبا صفات الدول العظمى‬
‫التي تمتلك رأس المال ‪ ,‬و قد أبدع ماركس في هذا‬
‫البيان في تصور مصير العالم على يد الرأسمالية‬
‫بشكل يشبه النبوءات (‪ .)1‬فالذي نمر به اليوم طور‬
‫طبيعي كان متوقعا جدا و هو سمة عالمية ‪ ,‬و ليس‬
‫كما يصور البعض بأنه " مجرد مؤامرة " على السلم ‪,‬‬
‫فمع وجود شيء من التآمر فهناك واقع مادي حتمي‬
‫يفرض نفسه اقتصاديا و ثقافيا و تقنيا ‪.‬‬
‫عندما يسقط المبدأ العام‪ ،‬وتخلوا الشوارع من‬
‫العراف‪ ،‬ويصبح ليس من حقك ول حق أي أحد أن‬
‫ينكر أي شيء لن الحرية المدنية تمنع ذلك‪ ,‬عندها لن‬
‫يكون للنسان مكان يمارس فيه إنسانيته إل في بيته‪،‬‬
‫ول أمان إل في صمته‪ ،‬ول حرية شخصية إل في‬
‫الرومانسية!‪ ,‬ولهذا تجد أن من طابع النسان المدني‬
‫شدة الحذر من إبداء رأيه في التجمعات والمرافق‬
‫العامة‪ ،‬وكثرة الصمت‪ ،‬والرغبة في النطوائية على‬
‫معتقداته الخاصة؛ حتى تجاه المجتمع؛ بل حتى تجاه‬
‫نفسه ‪ .‬وهذا ملحوظ في أي إنسان غربي !! والناس‬
‫يعتقدون أن هذا من فرط لباقتهم و ذوقهم ؟!‬
‫والصحيح أنه من شدة شعورهم بالغربة خارج منازلهم‪،‬‬
‫فهم يوقنون حق اليقين أن الشارع ليس ملكا ً لهم‪ ،‬ول‬
‫لي أحد من الناس؛ وإنما هو للمدنية الصلفة!‪.‬‬
‫ل تعترف الرومانسية بالثوابت‪ ،‬ول تعترف‬
‫بالمعقول‪ ،‬ول بالعراف‪ ،‬وتثور على كل القيود‬
‫الكلسيكية كما يسمونها‪ ,‬وتقدّس الطبيعة البشرية‬
‫والكونية وتدعو إلى الرجوع إليها‪ ,‬وكل هذا أيضا ً ناتج‬
‫() البيان الشيوعي ‪ ,‬كارل ماركس ‪ ,‬فريدريك إنجلز ‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪19‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫عن مؤثرات المدنية ‪ .‬فالثوابت إما أن تكون دينية‪ ،‬ول‬
‫دين في المدنية التي تعتبر الجنون فنا ً من الفنون‬
‫المعلنة‪ ,‬وإما أخلقية‪ ،‬ول أخلق في المدنية الصلفة؛‬
‫لن الخلق ل يكون خلقا ً إل إذا رافقه إقدام أو إحجام‪،‬‬
‫والمدنية ل أحد يستطيع أن يناقشها‪ ،‬فهي كتروس‬
‫الساعة‪ ،‬والنسان عقربها الذي عليه أن يتناغم مع‬
‫حركة التروس الخفية تحته‪ ،‬فينضبط ويعبر عنها بدقة‪،‬‬
‫وإل سوف يلقى في أقرب برميل زبالة!‪ ,‬لنه ل ينضبط‬
‫ول يمثل المدنية التي ل تؤمن إل بنفسها!‪ .‬ول تعترف‬
‫الرومانسية بالمعقول!! لنها ل يمكن أن تكون عاقلة‪،‬‬
‫وهي ناتجة أصل ً عن رغبة بالجنون ‪ .‬حتى قال أحد‬
‫أكابر المذهب الرومانسي‪ :‬ل يمكن أن تعطي تعريفاً‬
‫للرومانسية دون أن تكون مجنوناً!‪ .‬فعندما يختزل‬
‫العالم إلى بيت صغير وغرفة صغيرة تمارس فيها‬
‫إنسانيتك‪ ,‬وعندما يختزل الكلم على كثرته في حفنة‬
‫عبارات تقولها لرئيسك في العمل‪ ,‬وعندما يختزل‬
‫المان والثقة على ذات النسان فقط ويصير كل من‬
‫سواها أغراب وانتهازيون‪ ،‬وعندما يختزل الشعور‬
‫والنفعال النفسي إلى لحظات يقضيها النسان في‬
‫فسقة ليلية‪ ،‬أو رقصة هستيرية في السحر بين‬
‫صرخات الموتورين من أمثاله‪ ،‬فل بد أن يكون الحل‬
‫في الهروب إلى عالم آخر ل يعترف بالمعقول ول‬
‫بالنظام!‪.‬‬
‫قد ل يتصور البعض أن الكفر أو الفسوق عن أمر‬
‫المبدأ الموروث بما في ذلك الدين والعرف ربما يكون‬
‫رغبة ذاتية نتيجة اللحاح النفسي بضرورة إثبات الذات‬
‫‪ .‬فالمجتمع الذي يعيش الفرد فيه وهو يعتقد أن‬
‫مجتمعه هذا يسلب النسان كل القدرة على تمثيل‬
‫نفسه يورث في النفس اندفاعا ً لتحقيق المعتقد‬
‫الشخصي مهما كان انحرافه؛ لن هذا النسان المدني‬
‫المفعم بالعقد الضطهادية تجاه بيئته يتحين أي فرصة‬
‫لكي يثبت ذاته المهمشة ــ بحسب ظنه ــ فإذا كان هذا‬
‫ل يتحقق إل بمعزل عن ملحظة الخرين وسيطرة‬
‫المدنية الصلفة التي ل تعترف بقيم ثابتة يقايس‬
‫النسان عليها ذاته من حيث نفاسة ما عنده وتفاهته‬
‫فإنه لن يكون إل في زوايا النزعة الرومانسية التي‬
‫وسع خيال المؤمنين بها اليمان بشخصية الرجل‬
‫السوبرمان الذي يشبه في قدراته الخرافية المهدي‬
‫المنتظر عند الرافضة والذي بمجرد ما أن يرفع يديه‬
‫في الهواء يطير فل ينزل إل على سطح الشمس أو‬
‫القمر‪ ,‬وهذا يدلك على ما بلغته العقلية الوروبية‬
‫للنسان العادي من حيرة وضيق ورغبة جامحة في‬
‫نجدة تأتي من السماء لتنقذها من هذه الجاهلية‬
‫جل الله فرجه‬ ‫الرومانسية‪ ,‬فكان ذلك سوبرمان‪ ,‬ع ّ‬
‫كما يقولون ‪ ,‬ثم بعد أن سقط الممثل كريستوفر ريف‬
‫الذي يمثل شخصية سوبرمان ‪ ,‬فأصيب بشلل رباعي‬
‫ثم مات عام ‪ 2004‬م ‪ ,‬لم يستطع الغرب البقاء بل "‬
‫نصف إله "جديد يجد فيه سلوته فاخترع شخصية "‬
‫الترمونيتور " و هو عبارة عن رجل نصفه آلي و نصفه‬
‫الخر بشري يمارس نفس المهام النبيلة لمام الزمان‬
‫الغائب المشلول سوبرمان ‪ ,‬عجل الله فرجه !!‪.‬‬

‫الشريعة الرومانسية‬
‫أشير هنا إلى أن سلب النسان الحق في أن يمثل‬
‫نفسه في الحياة بشكل كامل بحيث ل يأمر بما يراه‬
‫معروفا ً ول ينهى عما يراه منكرا ً تبعا ً لمثل وأخلقيات‬
‫عليا يجتمع عليها كل المجتمع‪ ,‬أمر خطير له عواقب‬
‫فصامية تورث نزعات اضطهادية تجاه المجتمع وقوى‬
‫‪21‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫السيطرة فيه‪ ,‬وما التكفير ومثله العلمانية والباحية‬
‫في عصرنا إل أعراض لهذه العقد الضطهادية‪ .‬وربما‬
‫نتج عن هذه العقد الضطهادية تصورات خاصة لدى‬
‫الفرد يقابل فيها شعور التهميش والحتقار الناتج عن‬
‫سوء تصرفه بنفسه وجهله بالحقيقة المتعلقة بذاته‬
‫وبالكون وبحقوقه وحقوق الناس من حوله وبحق الله‬
‫عليه قبل كل شيء‪ ,‬لهذا يقول الله تعالى (ومن يرغب‬
‫عن ملة إبراهيم إل من سفه نفسه)(‪ )1‬قال ابن كثير‪« :‬‬
‫ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره! » (‪ .)2‬فهذه الركاكة‬
‫في تصور العالم بشكل واضح هي سبب الجنوح الول‬
‫في عقيدة النسان المنضبط‪ ,‬وهي مصدر الفسوق‬
‫واللحاد وربما الكفر وهي التي يسميها علماء السلف‬
‫بالزندقة؛ أي أن ل يكون له عقيدة معلنة واضحة‪،‬‬
‫ويبطن عقيدة خاصة يقدّسها ويضفي عليها هالة من‬
‫التصورات الخرافية‪ ،‬ويجعلها منهجا ً للحياة بتجاهل تام‬
‫لمجموع الناس وظروف البيئة من حوله‪ ,‬ول يلزم من‬
‫النسان المتزندق أن يكون يضمر المكيدة للسلم‬
‫فربما نتجت زندقته عن (دوافعه النسانية الذاتية)‪,‬‬
‫ولهذا كان ابن تيمية رحمه الله يقول لمناظريه من‬
‫الجهمية ‪ :‬بأن قولهم كفر؛ ولكنه ل يكفرهم لنهم‬
‫جهلة‪ ,‬مع أنه يكفر من يقول بقول الجهمية‪ .‬فكم حفل‬
‫التاريخ بشخصيات كانت تنافح عن زندقتها والسيوف‬
‫فوق رقابها حتى قتلت على ذلك ‪ .‬والشيء الذي أريد‬
‫أن أصل إليه هو أن المجتمع إذا أصبحت لديه قناعة‬
‫بأن الدين أداة حكم مدنية وليس له طعم العبودية ول‬
‫صبغة الله) التي ذكرها في كتابه‪,‬‬ ‫لونها‪ ,‬وأزيلت عنه ( ِ‬
‫وأن أكثر أحكامه هي رغبات تراثية قديمة مشكوك في‬
‫صحة ثبوتها ل تمثل أهل الرض ول أهل السماء‪ ,‬وأنه‬
‫سياسة من السياسات ونظام إدارة سلوكي مع إغفال‬

‫() البقرة‪.130 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() تفسير ابن كثير ‪. 256/ 1،‬‬ ‫‪2‬‬
‫تام لمعنى الحسنة والسيئة‪ ,‬فحينها سيكون قبول‬
‫أحكامه وإملءاته بل تعليل نفعي مقنع فكريا ً ونفسياً‬
‫ضربا ً من البلهة والخنوع المخجل‪ ,‬وعندها تجد أن‬
‫مناقشة ما يسمونه‪( :‬عجرفة الدين) ستكون أمرا ً من‬
‫باب المراجعة الفكرية والتنظيم السلوكي‪ ,‬ثم بعد ذلك‬
‫ينشأ جدار الوحشة بين المكلفين وبين مفهوم المجتمع‬
‫المتدين‪ ,‬ذلك المجتمع الذي صار الناس ينظرون إليه‬
‫أنه في تصوراته وعقوباته ل يختلف عن أي شرطي‬
‫أمي منفعل يقدس النظام ول يعرفه‪ ،‬ولو أراد تنفيذ‬
‫عقوبة لما استطاع كتابة قسيمة مخالفة بها‪ ,‬فهو‬
‫صورية ساذجة تقف حجر عثرة في طريق الناس‬
‫وتزعم أنها سفينة نوح‪ ,‬ثم بعد ذلك تنشأ الرغبة الذاتية‬
‫بالفسوق والتمرد الشخصي‪ ،‬ثم العائلي‪ ،‬ثم‬
‫الجتماعي‪ ،‬ثم تتطور خطوات المدنية المسخية التي‬
‫لن تنتهي إل بالكفر المقدّس المسمى الحرية!‪.‬‬
‫دعت الرومانسية إلى الطبيعة والعودة إليها وكانوا‬
‫يريدونها (عودة جذرية وحشية) بحيث ينسفون كل‬
‫المبادئ المعرفية المكتسبة المتعلقة بالخلق والعقائد‬
‫والسلوك ‪ .‬وسأضع هنا هذا النص المخيف المرعب ثم‬
‫أعلق عليه‪ ,‬الذي كتبه أحد مؤسسي الرومانسية وهو‬
‫المريكي يونك‪1759 ,‬م‪ ,‬في كتابه ‪( :‬أقوال في‬
‫الـتأليف الصيل) والذي يعد بحق الجذوة التي أشعلت‬
‫الرومانسية في أوروبا بعد ترجمته‪ ,‬يقول في صفحة‬
‫‪ « :45‬فيمكن القول بأن الصيل ذو طبيعة خضرية‪ ,‬فهو‬
‫يرتفع تلقائيا ً من جذور النبوغ الحي‪ ,‬وهو ينمو ول‬
‫يصنع‪ ,‬والتقليديات غالبا ً نوع من الصناعة يخرجها أولئك‬
‫الليون بالصنعة والجهد‪ ,‬من مواد موجودة سلفا ً ليست‬
‫مما يعود لهم »‪ ,‬هكذا بكل هذه الجرأة الطاغية على‬
‫ميراث البشرية بأسرها!‪ .‬فهو يقول بأن النسان‬
‫الصيل في تطوره هو الذي يبني مراحل التطور على‬
‫قدراته الذاتية البحتة النابعة من طبيعة ذاته النفسية‬
‫‪23‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫والعضوية كما تنبت النبتة من أصل بذرتها تستمد منها‬
‫مقومات الرقي ثم ترتفع وتنمو دون أن تدخل في ذاتها‬
‫أي شيء ليس منها‪ ،‬وهذا ما يعنيه بقوله ‪ « :‬ل يصنع » ‪.‬‬
‫ثم يصف ما ينتج عن الناس الذين ليسوا أصيلين بأنه‬
‫صناعة آلية أي أنهم يأخذون المبادئ من بعضهم‬
‫البعض التي حصلوا عليها من أسلفهم سواء كانت‬
‫سلوكية أو عقدية أو تصورية فكرية ويمزجونها‬
‫ويتطورون تبعا ً لستفادتهم من ذلك المزيج ‪ .‬وكلمه‬
‫واضح في أنه يدعو إلى نسف كل المعتقدات الدينية‬
‫والعرفية والنسانية وبناء (النسان الشخصي) الذي ل‬
‫يمت بخبرات الخرين بصلة معتمدا ً على غرائزه‬
‫وانفعالته الذاتية‪ ،‬وهذا ما يسمى عندهم تارة‬
‫بالتلقائية‪ ،‬وتارة بترك اللية الميكانيكية إلى اللية‬
‫العضوية‪ ،‬وكلها تعني‪( :‬العودة إلى الطبيعة!)‪.‬‬
‫الرومانسية هي الصل الول من حيث المبدأ لكل‬
‫ما نراه اليوم؛ ولكن عندما تعلقت بالدولة والشعب‬
‫صارت علمانية‪ ،‬وعندما تعلقت بالقتصاد صارت‬
‫رأسمالية‪ ،‬وعندما تعلقت بالحقوق المدنية صارت‬
‫ديمقراطية‪ ،‬وعندما تعلقت بالفكر النظري صارت‬
‫عقلنية‪ ،‬وعندما تعلقت بمعاني السعادة المجردة في‬
‫النفس البشرية وبالمصير الشخصي صارت وجودية‪,‬‬
‫وعندما تعلقت بالخلق والسلوك النساني صارت‬
‫إباحية‪ ,‬وعندما تعلقت بالعبث الفني والفوضى التعبيرية‬
‫وبمعاني الجمال اللغائية صارت جمالية‪ ,‬وهكذا!‪ ,‬بل‬
‫ان حتى الشيوعية هي تفريع عن الرومانسية؛ لن‬
‫الشيوعية ببساطة عودة إلى الطبيعة التي تنفي حق‬
‫التملك وتثبت الحقوق المشاعة للجميع حتى أن روسو‬
‫‪1755‬م‪ ,‬له كتاب اسمه ‪( :‬القول في أصل عدم‬
‫المساواة بين البشر)‪ ,‬يقول فيه بأن النحلل ينجم عن‬
‫الحضارة‪ ،‬وخصوصا ً حيازة الملكية التي أدت إلى عدم‬
‫المساواة‪ ،‬وكان علجه المقترح مفهوم العودة إلى‬
‫الطبيعة وإلى ما دعاه (الحالة الشتراكية الولى) وهي‬
‫تنظيم جماعي أولي يقوم على المشاركة! (‪ .)1‬وقد‬
‫يظن البعض أن الرأسمالية نظام مادي محاسباتي‬
‫اقتصادي بحت ليس له علقة بمبادئ الرومانسية‪ ,‬وهذا‬
‫غير صحيح؛ لن الرأسمالية تعتمد على (الغراق في‬
‫الشهوة)؛ لن حب المادة ونفوذها وسيطرتها في‬
‫المجتمع كل ذلك يتعلق تعلقا ً أوليا ً بالمنسوب الكمي‬
‫للشهوة‪ ،‬والحاجة في التصور الشخصي لكل فرد‪،‬‬
‫والرومانسية هي الكفيلة بأن تفتح مصاريع الشهوة‬
‫والحتياج على آخرها‪ ,‬لهذا تعلم لماذا نصبت أمريكا‬
‫لقطات الفضائيات فوق بيوت الفقراء في أفغانستان‬
‫والعراق؟! وفتحت لكل طائفة محطة فضائية قبل أن‬
‫تبني لهم خزانات الماء وأفران المخابز ؟!‪ .‬أما عن‬
‫كونها هي بذرة العلمانية فأنقل لك نص ما ذكرته ليليان‬
‫فورست في سردها تاريخ الرومانسية‪ « :‬كان صراع‬
‫الرومانسية في جوهره بين فئة عنيدة وطنية تقليدية‪,‬‬
‫غالبا ً ملكية في السياسة وكاثوليكية في الدين‪ ،‬وبين‬
‫فئة تقدمية عالمية النظرة تميل إلى التحرر في جميع‬
‫جوانب نظرتها‪ ،‬ول يعني هذا أن التقسيم كان واضح‬
‫المعالم في ذلك الحين فمثل في ‪1822‬م كان ثمة‬
‫رومانسيون ملكيون ومتحررون رومانسيون إلى جانب‬
‫الملكيين الكلسيكيين والمتحررين الكلسيكيين » (‪.)2‬‬
‫يقولون بأن الرومانسية ليست بهيمية أنيقة ول‬
‫غوغائية ساحرة‪ ,‬خالية من أي تنظيم؛ لن مؤسسي‬
‫الرومانسية دعوا إلى التمسك بالطبيعة والعودة إليها‪،‬‬
‫وهذا إطراء فارغ وتملّق أحمق للنضباط الفطري في‬
‫نفوس البشر؛ بل حتى في نفوس البهائم‪ ,‬فحتى‬
‫القطة تأخذ قطعة اللحم من أمامك وهي تتسلل في‬
‫مشيتها وتخاتل في نظرتها لنها تعلم بأنها تأخذ فضل‬
‫غيرها وأن هذه القطعة لم تصنع أصل ً لها‪ ,‬فحتى‬
‫الحيوانات ل تستطيع أن تنكر النضباط والخلق‬
‫مطلقاً‪ ,‬واحترام الطبائع البشرية الصلية أمر سيكون‬
‫رغما ً عنهم؛ لن النسان ل يمكن أن يتنكر لطبيعته‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.206 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.231 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪25‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫على وجه المنهجية واللزوم؛ وإنما يجنح عن ذلك ثم‬
‫يعود ل محالة‪ ،‬فليس هذا من ترتيب حبكتهم الفكرية‪،‬‬
‫ول من سابق ترشيدهم الفكري للرومانسية‪ ،‬لنها في‬
‫حقيقتها شيء كالمخدر الذي يتداوله الناس‪ ،‬فل يلبث‬
‫أن يكون قوت أهل المدينة وسلوتهم؛ ولكنه لن يغنيهم‬
‫عن الماء والخبز‪ ،‬فكذلك ل غنى للنسان عن مقوماته‬
‫الطبيعية وإن أغرقته في الباحية‪ ,‬ويتضح فشل من‬
‫يتنكر لهذه الطبائع في أتباع المذهب (الهيـبي)‪ ،‬الذين‬
‫صاروا ينامون بين ركام القمامات وتحت الجسور وفي‬
‫الخرب والحشوش‪ ،‬ثم يموت أحدهم موبوءا ً مرذولً‬
‫كالكلب الجرب‪ ,‬ولن الطبيعة تعني الكل والشرب‬
‫والجماع والتناسل وحب التملك والشعور بالبقاء‬
‫والمتداد والتعبير عن الذات‪ ،‬وهذه كلها وغيرها من‬
‫المور التي ل تنفك عن أحد وتلزم حتى المجانين في‬
‫عنابرهم‪ ,‬وهذه هي الشياء الوحيدة التي تعلن المدنية‬
‫الكاذبة الفاكة اليوم احترامها وتقديرها وجعلها من‬
‫المقدرات الجتماعية المقدسة التي يجب الحفاظ‬
‫عليها‪ ,‬وكأنها تستطيع قول غير ذلك!‪.‬‬
‫الرهاب الرومانسي‬
‫تفتح الجريدة وتقرأ فإذا فيها رجال كفقاقيع‬
‫الصابون!‪ ,‬تجد أحدهم منتفخاً‪ ,‬بّراقاً‪ ,‬أنيقاً‪ ,‬تشع منه‬
‫أطياف كثيرة وألوان مثيرة‪ ,‬يتسامى إلى السماء كأنه‬
‫قطعة منها‪ ,‬ولكنه خفيف الوزن‪ ,‬فارغ!‪ ,‬ما أن تلمسه‬
‫وإذا به ينفجر والماء قد مل وجهك وغطى عارضيك‪,‬‬
‫فهم يبصقون العجرفة بصقا ً ويمارسون حذلقة عبارات‬
‫المنطق الرياضي والعقلني ببهلوانية‪ ,‬فإذا فشلوا في‬
‫تزوير جدول الرياضيات أو قائمة المسلمات في تصور‬
‫من يناظرون‪ ,‬تغنوا بأهازيج الرومانسية الحالمة بعالم‬
‫مليء بالعدل والمساواة والحرية الطبيعية والتقدمية‬
‫الخلّقة الف ّعالة‪ ,‬ونشروا بين يديك سجلت المة‬
‫المنكوبة ومساوئ العهد الحاضر الليم والعهد المتحجر‬
‫القديم وترتروك وثرثروك وهولوك‪ ,‬ثم قالوا‪ :‬من‬
‫ربك؟‪ ,‬ما دينك؟‪ ,‬من نبيك؟!‪ ,‬فإذا وجدوا أنك مازلت‬
‫مسلما ً مؤمنا ً ولّى أحدهم حسيرا ً كسيرا ً وقد ذهبت‬
‫(فيهقاته الفلسفية) كما قال المعلمي عن أباطيل‬
‫الكوثري ‪ :‬كضرطة عير في فلة !!!‪.‬‬
‫هذا المنهج التشكيكي الذي يمارسة دعاة‬
‫الرومانسية‪ ,‬وسمهم كما تشاء‪ ,‬علمانيين‪ ,‬ليبراليين‪,‬‬
‫شاشين‪ ,‬مجانين!‪,‬‬ ‫صرين‪ ,‬ح ّ‬
‫عصرانيين‪ ,‬عقلنيين‪ ,‬من ّ‬
‫المهم أنهم ينتحلون هذا المنهج ليس عن عدوانية‬
‫تلقائية‪ ،‬ول نفور مجرد؛ وإنما هو عن مكر مسبق‪ ،‬وعن‬
‫عقد ذاتية تنتاب أي إنسان على وجه الرض بالرغبة‬
‫في السيطرة والعلو‪ ،‬وذلك بسبب تلك القطعة الذي‬
‫ذكرها ابن القيم عندما قال‪ :‬بأن في كل إنسان قطعة‬
‫من الهوى تدعوه ليمارس الربوبية في الرض‪ ،‬فمن‬
‫الناس من يضعها تحت ذل العبودية حتى تنكسر‬
‫‪27‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫وتستسلم لرب العالمين‪ ،‬ومنهم من تكبر فيه هذه‬
‫القطعة حتى يقول للناس (أنا ربكم العلى! )‪ ,‬وبسبب‬
‫هذه القطعة يجد المرء في نفسه شيء من الخجل إذا‬
‫دعي للستسلم اللمبرر في نصوص الشريعة‪ ,‬كتقبيل‬
‫الحجر أو رمي الجمار أو أن المرأة مرورها يقطع‬
‫الصلة ول يقطعها مرور النعجة!‪ ,‬كل هذا بسبب تلك‬
‫النزعة المتعالية على إرادات الله المبهمة والتي هي‬
‫ك العبودية الذي يميز الخبيث من الطيب‪ ,‬بل‬ ‫فعل مح ّ‬
‫بلهة من المكلف‪ ،‬وبل انقياد أحمق؛ ولكن اتباع من‬
‫بعد اقتناع بثبوت النص ولزوم الحجة وصدق العبودية!‪.‬‬
‫إن الخلفية العقدية لدى هؤلء القوم المتحذلقين‬
‫على أمر الله ل تؤمن بالعلم الخارجي؛ وإنما العلم هو‬
‫ما نبع من الداخل كما بينت ذلك في كلم يونك‬
‫المريكي وغيره من واضعي أصول المذهب‬
‫الرومانسي‪ ،‬فهم ينسفون الخبرات الموروثة‪،‬‬
‫ويشككون في الماضي مطلقاً‪ ،‬ويربطون مصادر‬
‫المعرفة بالخبرة الذاتية الفردية والجمعية النية بحيث‬
‫يكون الشارع اليوم ومن فيه هم بناة (الثقافة‬
‫المحترمة الصيلة)‪ ،‬وذلك كما قال يونك ‪ « :‬الصيل له‬
‫طبع خضري »‪ ،‬ويتم تجاهل الجيل السابق الذي سوف‬
‫يكون اسمه الن (الكلسيكي)‪ .‬ثم تبدأ مرحلة جديدة‬
‫من تقييم الذات والمجتمع والكون تنتج عنها مبادئ‬
‫جديدة حتماً؛ لن المعطيات المادية الحاضرة تختلف بل‬
‫ريب عن الماديات في الجيل السابق‪ ،‬ولهذا تجد‬
‫التفاوت بين الجيال كبيرا ً في الغرب‪ ،‬فيتحدث الب‬
‫لبنائه عن زمانه وكأنه قادم من العصور الوسطى!‪ ,‬ثم‬
‫إذا جاء الجيل القادم سوف يكفر بكل ما بناه هذا‬
‫الجيل من قيم ثقافية وسلوكية ويسميه بالجيل‬
‫(الكلسيكي الخير!) ثم يفعل كما فعل الجيل الذي‬
‫سبقه‪ ,‬وهكذا يتجدد الكفر والجحود بين الجيال‪،‬‬
‫والهدم الخرق الغوغائي لكل ما بناه الخرون ‪ .‬إن‬
‫الستمرار على هذه الطريقة الجاحدة الكفورة في‬
‫التعاطي مع الرث الثقافي للجيال وبطريقة مستمرة‬
‫أورث الغرب أجيال ً (طفولية البعاد) ل تبلغ في‬
‫اهتماماتها وأركان المعرفة فيها ما يؤهلها لنتاج‬
‫النسان الناضج الحكيم وتجد هذا واضحاً‪ ,‬على سبيل‬
‫المثال‪ ,‬في جهل بعض أفراد الشعب المريكي باسم‬
‫رئيس الوليات المتحدة! وأحيانا باسم دولة مثل‬
‫الصين!‪ ,‬هذا على مستوى المعلومة المجردة وليس‬
‫المعلومة المستنبطة أو المولدة أو المقترحة‪ ,‬فكيف‬
‫سيكون تفكير وسلوك هذا المجتمع الذي يمارس تلقي‬
‫المعرفة كما تمارسه البهائم التي تبني تصوراتها للكون‬
‫والحياة على ما تراه في قارعة الطريق!‪ ,‬فهم ليس‬
‫لهم (ميت عاقل محترم) فكل موتاهم حمقى‬
‫ورجعيون! والحي منهم فقط هو الذي يدرك ما يقول‪,‬‬
‫وهم ل يعرفون غيبا ً مقدسا ً فكل الغيب عندهم خرافة‪،‬‬
‫فإذا قلت لهم جنة ونارا ً تبرم أحدهم ولوى شدقيه‪,‬‬
‫فحالك معهم كحال كبير القوم‪ ,‬أمير الزمان يجيء إلى‬
‫ثور قيقول له‪ :‬يا ثور! عندي برسيم في المنزل!!‬
‫فيرمرم الثور ويستمر في رمرمته ل يلقي بال ً لكبير‬
‫القوم أمير الزمان!‪ ,‬لن الثيران ل تعرف الوعود‬
‫بالبرسيم وإنما تعرف البرسيم نفسه!‪ ,‬حتى إذا أشرف‬
‫طفل حاسر الرأس حافي القدمين ومعه حزمة‬
‫برسيم‪ ,‬ركض إليه الثور واعتنقه ولعق قدميه؛ لنه‬
‫يحمل كل (مقومات الثقافة البناءة) التي ل تتحدث عن‬
‫جنة فوق السماوات السبع‪ ،‬سماها صاحب رواية‬
‫مزرعة الحيوان بـ (مدينة الغراب الكذاب موسى)‬
‫يقصد موسى عليه السلم!!‪ ,‬فحال هؤلء القوم كحال‬
‫هذا الثور ذي العقيدة البرسيمية الذي إن تكلمت معه‬
‫عن أمر غير مشاهد قال‪( :‬يا شعيب ما نفقه كثيرا مما‬
‫تقول!)(‪.)1‬‬
‫وإليك هذا النموذج البائس الفقير!‪ ,‬يقول كاتب‬

‫() هود‪.91 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪29‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫خليجي ليبرالي في جريدة يومية‪ 4 ,‬شعبان ‪ 1428‬هـ‪« :‬‬
‫إن مشكلتنا الحضارية هي في تسلط أفكار متشددة‬
‫(يعني دينية) على أكثر مجريات المور ونقدها هو‬
‫أقرب الحلول للتخفيف من تسلط هذا الفكر »‪ .‬فهو‬
‫يبين أنه إنما يمارس هذا المنهج التشكيكي وليس‬
‫النقدي‪ ,‬ليوهن وليس ليمحص الحق عن الباطل أو‬
‫ليصل إلى رؤية معينة واضحة صحيحة‪ ,‬فهو لديه قوة‬
‫فكرية يريدها أن تفعل في المجتمع فعلها؛ ولكن‬
‫المجتمع مشغول بقيم ومبادئ ل تقبل المشاركة في‬
‫الحكم لنها من الله‪ ,‬على القل بحسب اجتهاد من‬
‫قررها أو دان بها‪ ,‬والمجتمع يثق في هذه القيم‪ ،‬وهو ل‬
‫يستطيع أن يفرض فكره بالنار والبارود‪ ،‬ولهذا يسعى‬
‫لحجب الثقة عن الله بقطع العلقة بين المكلف وبين‬
‫الثقة بثبوت دين الله!‪ ,‬ومن ثم طرد حكمه من الرض‪،‬‬
‫وبناء حكومة ثقافية فكرية جديدة تدير المة يكون‬
‫المرجع فيها إلى عقيدته الرومانسية البرسيمية هو‬
‫وأضرابه‪ ,‬التي تقول بأن الحق في السعادة‪ ،‬وأن قيمة‬
‫الذات تساوي قدرتها على التعبير‪ ،‬وأن العالم ملك‬
‫مشاع كروض كبير تنتفع فيه كل المخلوقات بتلقائية‬
‫وحرية طبيعية رومانسية!‪.‬‬
‫وتحت عنوان‪( :‬إستنبات السلمية في الخطاب‬
‫المعرفي) في نفس الجريدة لنفس الكاتب‪ ,‬بتاريخ ‪18‬‬
‫شوال ‪ 1428‬هـ‪ ,‬يقول منفذا ً ما أعلنه من (مكر‬
‫تشكيكي عابث)‪ « :‬خطابنا المعرفي في الواقع العربي‬
‫تشكل وفق مكونات العقل العربي إبان حركة التدوين‬
‫في العصر الذهبي للدولة العباسية » ‪ .‬فهو هنا يؤكد‬
‫على أن كل هذا التراث الفكري العربي الذي ورثته‬
‫المة على مدى ‪ 1300‬عام وهو ما تل عهد التدوين‬
‫المذكور‪ ,‬وهو يؤكد على عهد التدوين لنه يريد أن‬
‫يشكك في الدواوين!‪ ,‬يقول بأن ذلك التراث كله برمته‬
‫خرافة وأساطير بنيت على (مكونات العقل العربي‬
‫البدائي!)‪ ,‬وإليك بقية الكلم عن تشكل الخطاب‬
‫المعرفي العربي الذي يقول عنه‪ « :‬تشكل وفق‬
‫مكونات العقل العربي إبان حركة التدوين في العصر‬
‫الذهبي للدولة العباسية حسب وجهة نظر محمد عابد‬
‫الجابري‪ ،‬بعد ثقافة شفاهية تتداخل إلى جانبها النظرة‬
‫السطورية والعجائبية في كافة جوانب الحياة‪ ،‬حتى‬
‫العادية منها كالحكايات الميثيولوجية للصيد والكرم‬
‫كأقل المثلة تأثيرا ً وسذاجة‪ ،‬وإل فإن الخطاب‬
‫المعرفي العربي كان خطابا ً أسطوريا ً في الكثير من‬
‫جوانبه حتى العلمي منه آنذاك‪ ،‬بسبب أن العقل الذي‬
‫تشكل كان بدائيا ً إلى درجة كبيرة وتم تدوين كل ذلك‬
‫على أنه حقيقة معرفية ل تستطيع أن تتجاوزه العقول‬
‫النقدية »‪ .‬فكلمه واضح في أنه ينسب كل ما تم تدوينه‬
‫في عهد التدوين الذي دونت فيه كتب السنة‪ ,‬إلى‬
‫العقول البشرية المليئة بالخرافة والحكايات‬
‫الميثيولوجية وضرب مثال بالكرم! والصيد! وخاف على‬
‫نفسه من أن يرفسه المجتمع على قفاه العريض إن‬
‫هو صرح برفضه لقصص كالسراء والمعراج‪ ،‬وقصة‬
‫آدم وإبليس‪ ،‬ووصف الجنة والنار‪ ،‬والجن والحور العين؛‬
‫لنه يصرح بأن تلك الخرافات كانت موجودة في ذلك‬
‫التراث الديني (حتى العلمي منه)‪ ,‬على حد قوله‪ ،‬ثم‬
‫يتحسر بسبب ظلم ذوي القربى الجهلة الذين ل‬
‫يعلمون كل هذه الستنارة الفكرية لديه التي لعله‬
‫حصل عليها من تلك السطورة الغريقية المسماة بـ‬
‫(سارق النار)‪ ,‬وهي قصة رجل عندما ضاق ذرعاً‬
‫بالظلم الذي في الرض طار إلى الشمس فسرق منها‬
‫جذوة نار فأدخل النار ولول مرة عالم البشر‪ ,‬فصاحبنا‬
‫لعله حصل على شيء من تلك الجذوة السحرية التي‬
‫ل تمت للرض وأهلها بصلة!‪ ,‬فيقول متحسرا بسبب‬
‫تلك القداسة الوهمية للنصوص الدينية‪ « :‬ل تستطيع أن‬
‫‪31‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫تتجاوزها العقول النقدية أو حتى أن تشكك في‬
‫مصداقيتها الروائية التراثية على طريقة أهل الحديث‬
‫ووفق منطلقاتهم الفكرية ذاتها »‪ ,‬وقد كذب في هذه‬
‫الجزئية الخيرة لن أهل السنة ومن شدة تمسكهم‬
‫بميثاق الشرف العلمي الذي أخذه عليهم ربهم بأن‬
‫يبينونه للناس ول يكتمونه كتبوا المصنفات المستقلة‬
‫في نقد أعلى كتبهم في درجة الصحة وهو صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬ومن ذلك ما صنفه المام الدارقطني تحت‬
‫إسم (التتبع) لما في صحيح البخاري وهو مطبوع مع‬
‫(اللزامات) ورد عليه الحافظ في الفتح ‪ .‬ونحو هذا‬
‫التصرف ما ذكره ابن الجوزي من أحاديث المسند في‬
‫(الموضوعات)‪ ،‬وتعقبه الحافظ في (القول المسدد في‬
‫الذب عن المسند)‪ ،‬ثم تتبعهم السيوطي في (الذيل‬
‫الممهد على القول المسدد)‪ ،‬وكذلك ناقش بعض‬
‫الحاديث في الصحيح العلمة اللباني رحمه الله في‬
‫(إرواء الغليل) و(السلسلة الصحيحة) وغيرهم‪ ,‬ول تجد‬
‫هذا عند غير أهل السنة‪ ,‬أهل الحديث‪ ,‬بيّض الله‬
‫وجوههم يوم تسوّد وجوه الظالمين!‪.‬‬
‫وفي النهاية‪ ,‬يختم مقالته ساخرا ً من الدين الذي ل‬
‫ينتج إل الخرافة بزعمه‪ ,‬فيقول‪ « :‬فإن التفوق الغربي‬
‫كان محرجا ً للكثير من العقول العربية خاصة القومية‬
‫منها والسلموية‪ ،‬ولذا كان البحث عن بذور من هنا‬
‫وهناك في التاريخ السلمي أو في النصوص الدينية‬
‫السلمية أو الراء الفقهية هو الحل بالنسبة لممثلي‬
‫هذا الخطاب‪ ،‬كنوع من إعادة العتبار للذات وكنوع من‬
‫شرعنة العلوم وأسلمتها في الوقت الذي ليست بحاجة‬
‫إلى هذه الشرعنة كونها في الصل جاءت إثر خطاب‬
‫فلسفي نقدي يقوم على نقض المسلمات واليقينيات‬
‫التي تكثر لدى الخطابات الدينية في كافة الديان »‪ .‬ول‬
‫أدري متى كان العلم يبنى على نقض اليقينيات‬
‫والمسلمات ؟! والصحيح أنه يبنى على نقدها فإن‬
‫صمدت بكونها فعل ً يقينيات ومسلمات حقيقية وإل‬
‫فهي خرافة ينبغي أن تزول‪ ,‬وهذا ما فعله الغرب بنقده‬
‫التجريبي لخرافاته الدينية أما (دين السلم) فهو ليس‬
‫كأديان الغرب‪ ،‬ومن يعتقد أنه مثلها من حيث بنائه‬
‫وموافقته أو مخالفته للحق فهو يعتقد في نفس الوقت‬
‫أن أهله كأهل تلك الديان من حيث الكفر واليمان‪,‬‬
‫فهو ل يحتاج إلى كل هذه الحذلقات لعلن البراءة من‬
‫السلم‪ .‬ثم ل أدري متى كان حفظ جدول الضرب‬
‫شرطا ً في صحة المبادئ النسانية‪ ،‬فكون الدين ل‬
‫يعرف قوانين نيوتن أو جداء ديكارت أو النظرية‬
‫السموزية أو كيف يعمل مفتاح الدايود داخل‬
‫الترانزيستور في الحاسب اللي‪ ،‬فهل يعني هذا أنه ل‬
‫يستطيع أن يعطينا تفسيرا ً حقيقيا ً لذواتنا البشرية‬
‫ووجودنا الكوني وقصتنا الموغلة في الزمان الول‬
‫عندما كان الله ول شيء غير الله ثم خلق الخلق ثم‬
‫خرجنا من الجنة ثم ركبنا سفينة نوح ثم وقفنا خلف‬
‫محمد ‪ r‬عند قليب بدر إلى أن جلسنا الن نناجز‬
‫بعقولنا أغبياء العقيدة من أمثالك؟!!‪.‬‬
‫و في نفس هذا المقال ينتقد هذا الكاتب الليبرالي‬
‫حديث الذبابة الذي ورد في أصح كتب الحديث " صحيح‬
‫البخاري " و يقول بأن الدين الذي يأمر بالنظافة ل‬
‫يمكن أن يأمر بغمس الذبابة في الناء قبل شربه !‪.‬‬
‫فتجده يتجاهل تماما أن ذلك المر جاء على وجه‬
‫الستطباب حيث قال عليه الصلة و السلم ‪ ( :‬فإن‬
‫في أحد جناحيه شفاء و في الخر داء ) ثم ل تجد هذا‬
‫الكاتب يستنكر أن يأمر الغرب الذي يقدس النظافة و‬
‫الحرية الشخصية الطبيب بوضع إصبعه في دبر مريض‬
‫البروستاتا ‪ .‬و لكن يقال له ليس اللوم عليك وإنما‬
‫أنت (فروج صاح عندما صاحت الديكة)‪ ,‬وقد سبقك‬
‫من المقلدين الكثير من الذين يديرون العبارة يميناً‬
‫وشمال ً فيحسبون أنهم جاءوا بما لم يستطعه الوائل‪,‬‬
‫ول أزعم أني من اكتشف هذا الضرب من المتفلسفة‬
‫‪33‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫فقد سبقني الفيلسوف الوروبي توماس كري الذي‬
‫عاش فترة بداية الرومانسية وتأثيرها على الشعر‬
‫الكلسيكي ذي القواعد ودخول الشعر المحكي فحدثت‬
‫له هذه القصة الساخرة التي تنبئ عن شعوره‬
‫بفوضوية عبثية جلبتها تلك الرومانسية الغجرية‪ ,‬فعندما‬
‫سأله رجل يأمل أن يكون شاعراً‪ ,‬كيف يقلب قطعة‬
‫نثر بسيطة إلى الشعر‪ ,‬ــ يعني كما فعل هذا الكاتب‬
‫عندما سرق كلما ً من مفاهيم الغرب ضد كنيستهم‬
‫ليصنع منها هجاءا ً للسلم ــ‪ ،‬فلخص له كري بسخرية‬
‫كيف يحول النثر إلى قصيدة رومانسية في ثلث‬
‫خطوات‪ ,‬قال‪ « :‬أدرها قليل لتأخذ شكل حكمة!‪ ,‬وضع‬
‫فيها زهرة!‪ ,‬وامهرها بتعبير ثمين! » (‪ .)1‬كذلك الحال‬
‫في المستنيرين من أهل التقليد الغربي الذين يشبهون‬
‫أفعى الكوبرا عندما يكشف عنها غطاء الزنبيل فتخرج‪،‬‬
‫ثم يبدأ الكاهن بالنفخ في مزماره وهي تتراقص‪ ،‬فيظن‬
‫الناس أنها تتناغم مع حركات ذلك الكاهن الطروب؛‬
‫ولكن الحقيقة أن الفعى تكون في تلك اللحظة عمياء‬
‫ل ترى بعد خروجها إلى النور‪ ،‬فتتمايل لتوهم أي عدو‬
‫أمامها أنها تراه!!‪ ,‬كذلك الحال في فراريج التغريب‬
‫الذين يفعلون كما تفعل أفعى الكوبرا والصحيح أنهم‬
‫مجرد (عميان يرقصون باتجاه الصوت العلى!)‪.‬‬
‫تكمن المشكلة في الرومانسية أنها مذهب حياتي‬
‫يتسلل إلى الناس من ثقوب تعاملتهم اليومية‬
‫البسيطة والتي قد ل يخطر على بال أحد أنها ثغر‬
‫سيدخل منه الهلك والدمار والرهاب الرومانسي ‪.‬‬
‫لهذا تجد أن للرومانسية مظاهر مشاعة ومعلنة في‬
‫كثير من البلدان السلمية؛ ولكنها ل تأخذ تسمية معينة‬
‫فيظن أنها من (عموم الفسوق والعصيان)‪ ،‬والصحيح‬
‫أنها داخلة تحت منهجية تضطرد وتنمو وتتطور وتستمر‬
‫حتى تشكل طيفا ً كبيرا ً يمثل المذهب الرومانسي‬
‫() توماس كراي‪ ،‬مراسلت مع وليم ميسن ‪ ،‬ص ‪.146‬‬ ‫‪1‬‬
‫بجموحه على المعتقد والقاعدة‪ ،‬وبجرأته على إنتاج ما‬
‫ل ينتظره أحد‪ ,‬ثم يندر أن ل يقع تحت ذلك الطيف أحد‬
‫من أبناء المجتمع ‪ .‬فمثل ‪ ,‬من عربة صغيرة يصنع‬
‫صاحبها دمى خشبية صغيرة يحركها بيديه ويضحك على‬
‫ذلك الصبيان فيحصل منهم على قرش أو قرشين في‬
‫حارة تقليدية مظلمة الزوايا في عاصمة عربية ما‪,‬‬
‫استطاعت الرومانسية أن تتشكل وتتمدد إلى ما تراه‬
‫اليوم من مسارح ومراقص ومواخير ومحطات إباحية‬
‫وهذه حقيقة مثبته!‪ .‬نحن في المجتمع المسلم اليوم‬
‫بل استثناء مطلقا ً نعاني من جرأة (الفن) على الحياة‪،‬‬
‫وهذا هو تعريف اشعيا اللماني للرومانسية عندما قال‪:‬‬
‫«هي طغيان الفن على الحياة»‪ ,‬فل يوجد شيء‬
‫مقدّس‪ ،‬ول يوجد مثالية ل تقبل النتقاص‪ ,‬فكل شيء‬
‫قابل لن يكون فناً‪ ,‬وبعض الطيبين من الدعاة‬
‫السلميين التجريبيين! ينادي بهذا ويوافق عليه‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬طالما أن الحق معنا فلماذا نمنع الناس من‬
‫التساؤل؟ وهذا الشيخ المتزلف ومن معه ل يعلمون‬
‫بأن (التساؤل على الطريقة الرومانسية) شيء آخر!‪,‬‬
‫وأن النقد في المذهب الرومانسي له ضوابط أخرى‬
‫وهو كما تقول ليليان فورست‪ « :‬تقويم العمل الفني‬
‫بمقاييس جمالية إيجابية أي تقدير ما فيه من جمال‬
‫وليس بالمقياس السلبي المتفيهق الذي يعدد تجاوزات‬
‫العمل على القواعد!» (‪ )1‬يعني لو أن ماجنة مثلت دور‬
‫إحدى الصحابيات على الشاشة وكانت تلك الفنانة‪,‬‬
‫رشيقة القوام‪ ,‬دافئة المشاعر‪ ,‬أندلسية القسمات‪ ,‬فل‬
‫يحق لحد مطلقا ً أبدا ً إل أن يقول‪( :‬كانت فنانة جميلة‬
‫ورائعة وكان دورها كذلك! ) فهذا هو الجمال الذي‬
‫ينبغي إبرازه في العمل الفني‪ ,‬فأما مسألة تجاوزها‬
‫للضوابط الشرعية والعرفية وحتى العلمية في تمثيل‬
‫الشخصية وكونها في ذاتها امرأة ذات سمعة رخيصة‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.191 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪35‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫وأن شخصية الصحابية أكبر وأطهر من أن تمثلها فنانة‬
‫فهذه كلها (معتقدات ذاتية نابعة من تصور ذاتي‬
‫متدين)‪ ،‬لك الحق أن تعيش به‪ ،‬وليس لك الحق أن‬
‫تجعله المعيار المثل‪ ،‬فالرومانسية كما قلت ‪ :‬هي‬
‫«طغيان الخيال الفردي على تصور الوجود والتعبير‬
‫عنه»‪ ,‬ومثال حي على ذلك ما ذكره مدير تحرير جريدة‬
‫محلية عندما قال بأنه ل يناقش قضية الحجاب ول هيئة‬
‫الحسبة في السواق فهذه أمور تخص الرؤوس التي‬
‫تعيش فيها هذه الفكار! ولكنني أتحدث عن أحلمي‬
‫برؤية دخول أول فتاة من بلدي في دورة عالمية لكرة‬
‫التنس الرضي!!‪ ,‬فهو ل يهمه تلك الضوابط وتلك‬
‫التشريعات المتفيهقة (بفهمه) و إنما يهمه منظر جميل‬
‫لفتاة وطنية في ريعان الشباب ترتدي تنورة لنصاف‬
‫الفخذين وتركض حاسرة في ملعب رياضي مكشوف‬
‫فيجلس هو ورفاقه في المدرج الول يهتفون لها‬
‫ويصفقون بحرارة‪ ,‬ولتذهب القواعد والتشريعات‬
‫والعراف إلى الجحيم!‪ ,‬وأي شخص ينتقد هذه الرؤية‬
‫فهو متخلف! لنه يعير عقله وتصوره للحياة لمن هو‬
‫ليس في حاجة إليه؛ بل لمن هو يمقته ويزدريه‪ ,‬فهذا‬
‫هو معنى (حرية الكلمة وحرية النقد) فليفهمها كل من‬
‫يبهش إليها من إخواننا الطيبين السلميين‪ ,‬والسبيل‬
‫المثل لمقابلة مطالب هؤلء الغوغائيين الرومانسيين‬
‫بحرية النقد والتعبير هي أن تغلق البواب والنوافذ‬
‫وتضع أصبعيك في أذنيك وتستغشي ثيابك وتصر‬
‫وتستكبر استكبارا!!‪.‬‬
‫إذا فشلت الرومانسية في مهمة أرسلت بدل ً منها‬
‫فناناً!‪ .‬قد يحتقر الناس الفنان من حيث تأثيره‬
‫وينظرون إليه وهو يلوي شدقيه وينفخ منخريه ويتقمص‬
‫المشاهد فيضحكون منه وعليه ول يعلمون أن هذا‬
‫الكائن المشوّه الهلمي هو الوحيد‪ ,‬على حد علمي‬
‫بأصناف البشر‪ ,‬الذي يجتث قلب النسان ويبول عليه‬
‫وهو يضحك لضحيته وضحيته يضحك له‪ ,‬ل يعلم من‬
‫أمر مكره شيئاً‪ .‬والغريب في التصور النساني أن‬
‫الناس يربطون الجمال بالخير والسعادة‪ ،‬وهذا ربط‬
‫أحمق؛ لن أخطر المصائب التي دخلت على‬
‫المجتمعات إنما دخلت تحت وجوه جميلة‪ ،‬ومشاهد‬
‫جذابة‪ ،‬وقد علم البشر في تاريخهم الطويل هذه‬
‫الحقيقة على مختلف حضاراتهم؛ حتى قال الصينيون ‪:‬‬
‫(إذا فشل الشيطان في مهمة أرسل بدل ً منه امرأة! )‪,‬‬
‫بل إن هذه حيلة طبيعية حتى في عالم النبات حيث‬
‫توجد نباتات تقتات على قتل الحشرات فتخرج لها‬
‫أزهارا ً غاية في الجمال والجاذبية وبمجرد وقوع‬
‫الحشرة على الزهرة تنكمش النبتة على الحشرة‬
‫فتقتلها فتمتص عصارتها وتتغذى عليها‪ ,‬وفي عالم‬
‫الكائنات البحرية عشرات المثلة المشابهة‪ .‬فكون‬
‫الفن يطفح بالجمال والشهوة والخيال الحالم فهذا ل‬
‫يعني أنه مصدر من مصادر الخير في المجتمع‪ ,‬وقد‬
‫جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت‪:‬‬
‫لما اشتكى النبي ‪ ρ‬ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها‬
‫بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم‬
‫حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من‬
‫حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال‪( :‬أولئك إذا مات‬
‫منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا‬
‫فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)‪ ,‬فلم تكن‬
‫تلك التصاوير الفنية العجيبة سببا ً في تقدمهم أو النظر‬
‫إليهم بعين التقدير‪ ،‬ولم يحترم النبي ‪ ρ‬إعجاب نسائه‬
‫بتلك الحبكة الفنية في التصوير والبناء‪ ،‬فرد كما ينبغي‬
‫لمسلم أن يرد وذلك من منظور (موافقة إرادات الله)‬
‫لهذا العمل‪ ،‬فكان ذلك العمل من أشّر الشر وكانوا هم‬
‫من أفسد الناس‪ ،‬وكانت النقطة المرجعية التي يرد‬
‫إليها كل مبدأ تلك الجملة التي ختم بها عليه الصلة‬
‫والسلم كلمه عندما قال ‪( :‬عند الله! ) ‪ .‬فكل القيم‬
‫والمعايير يجب أن ترد إلى الله بتجرد وعبودية نابعة‬
‫‪37‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫عن اليمان المطلق بقوله تعالى‪( :‬وعسى أن تكرهوا‬
‫شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم‬
‫والله يعلم وأنتم ل تعلمون) (‪ ,)1‬فمهما أحببنا وأعجبنا‬
‫شغفنا بشيء ما أو مذهب ما أو مسلك ما فهو واقع‬ ‫و ُ‬
‫تحت هذه الية والمرد في كل ذلك إلى إرادة الله‬
‫الشرعية فهي مقياس الخير والشر!‪.‬‬
‫وبسبب ما للفن من سلطان الشهوة والخيال‬
‫الحالم والحرية الغوغائية في التعبير تجد أن الفنان‬
‫بكافة تطبيقاته الفنية من تمثيل ومسرح ورقص وغناء‬
‫يمثل شخصية مركزية في النظام الرومانسي لي بلد؛‬
‫لنه الساحر الوحيد في البلد المرخص له بممارسة‬
‫السحر والخرافة تحت الضواء‪ ،‬فتجد النسان الغربي‬
‫غالبا ً يسخر من الدين الذي يتحدث عن جنة فوق‬
‫السماء فيها نساء جميلت وأنهار من عسل ولبن؛ بينما‬
‫يصفقون لخرافات الذين يكتبون قصصا ً عن مخلوقات‬
‫تهاجم الرض من كواكب أخرى‪ ،‬أو شخصية عجائبية‬
‫كشخصية سوبرمان‪ ،‬أو الترمونيتور الذي نصفه بشر‬
‫ونصفه الخر آلة‪ ،‬ويرون ذلك إبداعا ً خلّقا ً وليس‬
‫خرافة ول شعوذة؛ بينما هو في الحقيقة كما وصفة‬
‫غوته عندما تكلم عن الرومانسية فقال‪ « :‬هي مرض‬
‫وضللة »‪ .‬ولو أن أهل الرومانسية فكروا كما فكر ذلك‬
‫الفيلسوف ــ أظنه ــ أرسطو عندما قال‪ « :‬إن شوق‬
‫النفس البشرية وشغفها بالفضيلة والسعادة المطلقة‬
‫والعدل المطلق دليل على أنها قد عرفت هذه الشياء‬
‫في يوم من اليام على وجه الحقيقة » لكان أجدر بهم‬
‫وأكثر حكمة‪ .‬ولو أن هذا الفيلسوف قرأ قوله تعالى‬
‫في سورة العراف‪( :‬وإذ أخذ ربك من بني آدم من‬
‫ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم‬
‫قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا‬

‫() البقرة ‪. 216 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫غافلين)‪ ,‬ثم علم تفسيرها كما ينبغي لسلم‪ ،‬وللفيته‬
‫الن إماما ً في محراب مسجد من مساجد المسلمين‬
‫يتلو قوله تعالى‪( :‬إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا‬
‫تتنزل عليهم الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا‬
‫بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة‬
‫الدنيا وفي الخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم‬
‫فيها ما تدّعون * نزل ً من غفور رحيم) (‪.)1‬‬
‫ولجل تلك الصلحيات العالية المتناقضة التي‬
‫أعطيت للفن صار الفن هو الرب الجديد الذي يملي‬
‫المعايير والقيم التي يجب أن تحترم (من كيسه) دون‬
‫الرجوع لي أحد‪ ,‬فل تندهش لتصديري موضوع‬
‫الرومانسية لهذا البحث عن (تحقيق الخلفة النسانية‬
‫على الرض)؛ لن حياتنا اليوم كلها يحكمها الفن فكراً‬
‫ة واحتراماً‪ .‬تقول ليليان فورست عن المفكر‬ ‫وقيم ً‬
‫الديني! شليرماخر وهو من جماعة الرومانسيين‬
‫الوائل بأنه‪ « :‬بدأ إعادة تقويم الوجود البشري من‬
‫موقف الذاتية المفرطة الذي نادى به زميله (فخته)‪,‬‬
‫فبما أن العالم يقوم على إدراكنا فبوسعنا إعادة‬
‫تشكيله في مثالية سحرية دائمة التقدم‪ ,‬والوسيلة‬
‫لبلوغ هذه الصيغة الشعرية هو الخيال الخلق وبخاصة‬
‫ذلك الذي يمتلكه الفنان‪ ,‬الذي لهذا السبب يشغل‬
‫منزلة سامية في هذا النظام » (‪ .)2‬هذا كله في الفن‬
‫الرومانسي المبني على الفن الهادف كما يسمونه‪ ،‬ثم‬
‫يأتي بعد ذلك الفن الجمالي المبني على نظرية الفن‬
‫لجل الفن وهو الذي ل يعترف حتى بمعاني الرذيلة‬
‫ناهيك عن الفضيلة أو المعقول‪ ,‬وهذا موجود في‬
‫عالمنا العربي والسلمي‪ ,‬حتى أنه احتفلت إحدى دور‬
‫السينما في أندونيسيا في عام ‪2007‬م بعرضها أول‬
‫فيلم يظهر فيه مشهد شاب وهو يقبل شابا ً آخر في‬
‫() فصلت ‪ 30 :‬ـــ ‪. 32‬‬ ‫‪1‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.222 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪39‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫مشهد غرامي لوطي رومانسي جمالي!!‪.‬‬
‫هذا الرهاب الرومانسي للنسان المسلم‪ ،‬وهذه‬
‫الطوار الوقحة التي توصل إليها الفن والفنانون في‬
‫مجتمعاتنا لم تكن وليدة الصدفة‪ ،‬ول وليدة المؤامرة‬
‫المجردة أيضاً‪ ،‬وإن كان هناك ثمة تآمر؛ ولكنها‬
‫بالضافة إلى ذلك وليدة الشهوة الشخصية المشتركة‬
‫كالجنس والمال المتأصلة في نفوس أفراد كل مجتمع‬
‫مدني والتي استغلها صناع الرومانسية فزرعوا البذرة‬
‫وتولى الناس رعايتها تحت ظروف (المدنية) التي تنمو‬
‫كل يوم وكلما نمت فرضت علينا أشياء ل نستطيع‬
‫ردها فمن تسلل أشرطة الكاسيت ثم الفيديو ثم‬
‫الفضاء المفتوح ثم الشبكة العنكبوتية ثم الجيل الثالث‬
‫من الجوال‪ .‬وكل هذا التحول يرافقه انهيارات تصاحب‬
‫النهيار الخلقي كانهيار الثقة بالدين والستهانة بأحكام‬
‫الشرع؛ لن التقنية ل تستفتي قبل أن تعمل‪ ،‬فالبث‬
‫يصل دون فتوى‪ ،‬والجوال يستقبل دون فتوى‪،‬‬
‫والشبكة تربط الناس دون فتوى‪ ،‬فصار الفساد يمشي‬
‫بشكل آلي ل يحتاج إلى وسائط بشرية قد تكون‬
‫التقوى فيها أو التمييز بين الشر والخير سببا ً في الحد‬
‫من الفساد المنقول‪ ,‬ومثل الذي حدث للدين حدث‬
‫للثقة بالقادة والرموز‪ ،‬فنتج عن كل ذلك الجرأة على‬
‫النقد المعلن لكل شيء من كل أحد‪ ،‬وشيوع‬
‫الرومانسية الشخصية بترويج شعارات مثل الحرية‬
‫الشخصية وتقديس الذوق العام ‪,‬وهكذا!‪.‬‬
‫إن من أشهر مدارس علم الجتماع المدرسة‬
‫الماركسية التي تفسر التاريخ البشري بأنه مجرد‪:‬‬
‫(تاريخ الصراع بين الطبقات) وهذا تفسير مادي باطل‪,‬‬
‫وتقول بأن المادة هي التي تحكم تطور التاريخ‪،‬‬
‫فالتغيرات المادية في حياة البشر هي التي تغير نمط‬
‫حياتهم وأفكارهم‪ ،‬وهذا قول على كثير من الصحة من‬
‫ناحية اجتماعية‪ ،‬أما من ناحية عقدية فهو باطل؛ لنه‬
‫ينفي أفعال الله وسننه في الكون والتاريخ؛ ولكنه من‬
‫منظور اجتماعي حقيقة ثابتة‪ ،‬فالمجتمع يتغير بقدر ما‬
‫تتغير المواد التي تقوم عليها حياته‪ ،‬ولهذا كلما زادت‬
‫المتغيرات المادية في المجتمع المدني كان ينبغي لنا‬
‫أن نتوقع الكثير من التغير الجتماعي على المستوى‬
‫المعيشي النفعي والمستوى الفكري النفسي بما في‬
‫ذلك الدين‪ ،‬وكذلك زيادة اضطراب الركنين الساسيين‬
‫اللذين يقوم عليهما أي مجتمع وهما‪( :‬الستقرار و‬
‫التكامل) وهذا سوف يقع في المجتمع الديني أو‬
‫القومي‪ ،‬والمجتمع الصغر مثل القبيلة والسرة‪ ،‬وهذا‬
‫يفسر خروج المرأة عن القوامة ‪،‬وخروج البناء عن‬
‫عرف الباء‪ ,‬وهكذا يقال في كل انسلخ جديد عن‬
‫انتماء سابق ‪.‬‬
‫إن انهيار مبدأ المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫هو في ذات الوقت نصب لعمود المذهب الرومانسي‬
‫الذي سوف ينتج تلقائيا ً بل مطالبة وبل صدام وفي‬
‫صمت ل ينتبه إليه أحد؛ لن انهيار المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر يعني أن المجتمع قد فقد (المبادئ‬
‫العامة المشتركة) التي يعرفها كل أحد أو ينكرها كل‬
‫أحد والتي يرى كل أحد جواز تبنيها والقيام عليها أمراً‬
‫ونهياً‪ ,‬فإذا زالت الحسبة من سلوك الناس فهذا يعني‬
‫أن الناس قد أقروا وبالجماع السكوتي كما يقول أهل‬
‫الصول على قبول المذهب الرومانسي الذي يقضي‬
‫باحترام تصورات الخرين للكون والحياة مهما كانت‬
‫هذه التصورات ويرفض فكرة نقد الشيء بناءا ً على‬
‫تجاوزه للقواعد‪ ,‬وهذه هي بداية الباحية التي‬
‫ستضطرد حتى يرفع الرجل ذيل المرأة فيجامعها في‬
‫الطريق ل يجد من ينكر عليه كما ثبت ذلك في صحيح‬
‫السنة!‪ ,‬وهذه ليست تصورات شخصية سوداوية مني‬
‫ولكنها خطوات الشيطان الجموحة الطامحة‪ ,‬التي ل‬
‫تنتظر المغفلين وضعيفي الفهم لكي يستوعبوها!‪.‬‬
‫‪41‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫وقد تنبه علماء الجتماع في الغرب إلى هذه‬
‫النقطة وتكلموا عنها تحت مسمى (الجماع الخلقي)‬
‫والتي تكلم عنها السلم تحت اسم (المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر)‪ ،‬ثم ل نلبث أن نجد من يكابر‬
‫ويتكبر على العلم السماوي ويصف المستمدين منه‬
‫مناهجهم الجتماعية في مواجهة المناهج الغربية بأنهم‬
‫يشرعنون نظريات الغرب في محاولة فاشلة لمضاهاته‬
‫كما قال الكاتب الخليجي البائس الفقير الذي ذكرت‬
‫نص مقالته سابقا ً عندما قال‪ « :‬فإن التفوق الغربي‬
‫كان محرجا ً للكثير من العقول العربية خاصة القومية‬
‫منها والسلموية‪ ،‬ولذا كان البحث عن بذور من هنا‬
‫وهناك في التاريخ السلمي أو في النصوص الدينية‬
‫السلمية أو الراء الفقهية هو الحل بالنسبة لممثلي‬
‫هذا الخطاب‪ ،‬كنوع من إعادة العتبار للذات وكنوع من‬
‫شرعنة العلوم وأسلمتها في الوقت الذي ليست بحاجة‬
‫إلى هذه الشرعنة كونها في الصل جاءت إثر خطاب‬
‫فلسفي نقدي يقوم على نقض المسلمات واليقينيات‬
‫التي تكثر لدى الخطابات الدينية في كافة الديان »‪.‬‬
‫وللرد على مثل هذا الفكر النهزامي المنسلخ من‬
‫كل تراثه وقيمه لصالح الشيء الغربي مهما كان ذلك‬
‫الشيء فإني أورد نص قول أحد أكابر علم الجتماع‬
‫اليوم في الغرب والذي يعد فيهم مجددا ً في هذا العلم‪,‬‬
‫تدّرس كتبه أكثر جامعات العالم‪ ،‬يقول وهو يتحدث عن‬
‫مدرسة من مدارس علم الجتماع‪ ،‬وهي المدرسة‬
‫الوظيفية التي تشدد على أن استقرار المجتمع‬
‫وتكامله قائم على معرفة كل عنصر فيه حقيقة‬
‫وظيفته التي ينبغي له أداءها في ذلك المجتمع‪ ،‬فيقول‬
‫إنتوني غدينز في كتابه (علم الجتماع) مشيرا ً إلى‬
‫أهمية أن يكون للمجتمع مبادئ تسمى معروفاً‪ ،‬ومبادئ‬
‫أخرى تسمى منكراً‪ « :‬إن المدرسة الوظيفية تشدد‬
‫على أهمية (الجماع الخلقي) في الحفاظ على‬
‫النظام والستقرار في المجتمع ‪ .‬ويتجلى الجماع‬
‫الخلقي هذا عندما يشترك أغلب الناس في المجتمع‬
‫في القِيَم نفسها‪ .‬ويرى الوظيفيون أن النظام والتوازن‬
‫يمثلن الحالة العتيادية للمجتمع‪ ،‬ويرتكز التوازن‬
‫الجتماعي على وجود إجماع أخلقي بين أعضاء‬
‫المجتمع‪ .‬إن دريكهايم‪ ,‬على سبيل المثال‪ ,‬كان يعتقد‬
‫أن الدين يؤكد تماسك الناس بالقيم الجتماعية‬
‫الجوهرية؛ ويسهم بالتالي في صيانة التماسك‬
‫الجتماعي» (‪.)1‬‬
‫وفي مقابل هذه المدرسة توجد نظرية الصراع‬
‫التي تشمل النظرة البراغماتية التي تعني تقويم‬
‫المبادئ تبعا ً لمنفعتها الناتجة عن الخطوات العملية مع‬
‫تجاهل تام لكل المثاليات والمعاني المجردة التي قد ل‬
‫تكون (واقعا ً عملياً)‪ ،‬وهذه النظرة لتقويم الكون هي‬
‫(نظرة ماركسية ذات ملكية خاصة!)‪ .‬كذلك تشمل‬
‫نظرية الصراع قانون النتقاء الطبيعي أو قانون الغابة‬
‫الذي ينص على أن البقاء للقوى‪ ،‬وأن كثرة الفوضى‬
‫الجتماعية تؤدي إلى تحرر الطاقات الكامنة‪ ،‬فتنتج‬
‫احتياجات جديدة يقابلها عمل وصناعة جديدة‪ ،‬وهذه‬
‫هي نظرية المجتمع الصناعي القائمة على استثمار‬
‫رؤوس البشر قبل رؤوس الموال بطريقة مادية تشبه‬
‫إلى حد كبير المبادئ الستثمارية التي تدار بها مزارع‬
‫الدجاج والبقار والخنازير!‪ .‬ثم يتكلم غدينز عن‬
‫(الصدمة الثقافية) التي تنتج عن إغراق مجتمع ما في‬
‫مبادئ مجتمع آخر وثقافة أخرى كما يحدث لنا اليوم‬
‫في العالم السلمي عندما أغرقنا في الثقافة الغربية‬
‫التي باتت تحيط بنا‪ ،‬فيقول غدينز في (علم الجتماع)‬
‫صفحة ‪ « :86‬كثيرا ً ما يستخدم اصطلح (الصدمة‬
‫الثقافية) في هذا المجال! فإن الناس قد يصابون‬
‫بالتشويش والحيرة عندما يجدون أنفسهم في بيئة‬
‫() علم الجتماع ‪ ,‬غدينز ‪ ,‬ص ‪174 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪43‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫ثقافية جديدة؛ لنهم يشعرون عندئذٍ بغياب النقاط‬
‫المرجعية التي درجوا على الستهداء بها في فهم‬
‫العالم المحيط بهم‪ ,‬كما أن بعضهم في إبحارهم عبر‬
‫الفضاءات الجديدة يكونون أشبه بسفينة فقدت‬
‫مراسيها »‪.‬‬
‫المشكلة في هذه التجاوزات الغير شرعية التي‬
‫تخترق مجتمعاتنا المسلمة على كافة المستويات‬
‫الدينية والعرفية والخلقية والنفعية والصناعية؛ بل‬
‫وحتى الحيوانية‪ ،‬تجد أنها تكسر حاجز الذهول لدى‬
‫النسان المنضبط‪ ،‬وتضفي على اللمعقول حالة من‬
‫الواقعية‪ ،‬وتجعل الشذوذ عن المألوف يتم في سكينة‬
‫وهدوء وكأنه شربة ماء!‪.‬‬
‫تقول كاتبة سورية مشهورة ــ أحتفظ باسمها ــ‬
‫في أحد كتبها أنها دخلت مسرحا ً في لندن‪ ،‬وبمجرد‬
‫فتح الستار وبداية المسرحية وإذا بالمشهد الول رجل‬
‫يضطجع عاريا ً تماما ً هو وامرأة على حافة المسرح بين‬
‫الجمهور‪ ،‬ثم يجري معها علقة جنسية كاملة والناس‬
‫في صمت ينظرون ثم تبدأ المسرحية‪ ,‬تقول هي‬
‫معلقة على هذا المشهد بأنها أدركت الغاية منه؛ وهي‬
‫كسر كل حواجز الشعور المنتظم في نفس الجمهور‪.‬‬
‫ثم يبدءون بعرض المسرحية لناس بل أي عقيدة‬
‫منتظمة سابقه للعرض فتؤثر فيهم المسرحية أكبر‬
‫تأثير‪ ,‬وكلمها هذا أجزم أنه صحيح جداً‪ ,‬مع أن تجربتها‬
‫هذه بحد ذاتها وذكرها في كتابها على وجه الفخر دون‬
‫خجل هي في حد ذاتها رومانسية ودعوة لستمراء‬
‫الباحية‪ ,‬وهذا ما يحدث لنا اليوم‪ ،‬فنحن نتعرض‬
‫لمرحلة من الذهول التي تهدف إلى كسر الشعور‬
‫الشرعي المنتظم لدينا لتبدأ مرحلة التشكيل!‪ ,‬وكل‬
‫هذا سيكون بالفن والمدنية القسرية الوقحة‪ ,‬و‬
‫المشكلة أنه سوف يتم التطرق لتصورنا للحياة والكون‬
‫والناس والدين وكل هذا له تأثير مباشر على مسألة‬
‫(خلفة النسان في الرض) ‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫نهاية النسان الرومانسي‬

‫لن أكتب هذا الباب وسأترك الذين ذاقوا نهاية‬


‫النسان الرومانسي يتكلمون عنها على لسان الباحثة‬
‫ليليان فورست‪ ,‬حيث تقول في مبحث نتائج ما بعد‬
‫الرومانسية وهي تتحسر على الكلسيكية‪ ,‬والتي تعني‬
‫التمسك بالماضي التقليدي وحب النظام‪ ,‬والتي نسفتها‬
‫الرومانسية بكل تقليدياتها وقواعدها وقيمها‪ ,‬تقول‪« :‬‬
‫فهي ــ تعني الكلسيكية ــ قد منحت الناس نظرة‬
‫للعالم واضحة ثابتة‪ ,‬مستقاة من الطمئنان إلى نظام‬
‫راسخ في العالم‪ ,‬يعطي الدب كذلك مستندا ثابتاً‪.‬‬
‫ولدى هجر النظام القديم ضاع شعورها بالطمئنان في‬
‫الحياة كما في الفن‪ .‬وهذا انفصام ذو نتائج بعيدة‬
‫المدى ما تزال آثاره حتى اليوم بغير حاجة إلى برهان‪,‬‬
‫فما لدينا من نسبية ومشاعر ضدين وتردد في الحكم‬
‫وعدم رغبة قادرة في الستقرار على أية مقاييس ثابتة‬
‫كل ذلك في آخر المطاف‪ ,‬ل يعدو عن كونه تطورات‬
‫عن ذلك النفي الحاسم لتعريفات الكلسيكيه المحدثة‬
‫من إجابات التساؤلت النية في عصر الستنارة وفي‬
‫تدرج ووثوق أزاحت الرومانسية النظام الموضوعي‬
‫بمبدأ ذاتي ل يستند إل على نفسه! » (‪ .)1‬أما الكاتب‬
‫الساخر موسيه فقد قال إن كلمة رومانسية في‬
‫معجمي ل يقابلها إل كلمة‪( :‬سخيف!)(‪.)2‬‬
‫وأما عالم الجتماع غدينز فيقول في صفحة ‪185‬‬
‫من كتابه (علم الجتماع) المصنف عالميا ً من أفضل‬
‫مائة كتاب في القرن العشرين في العلوم الجتماعية‪:‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.186 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() موسوعة المصطلح النقدي‪.166 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫« بعض البنات أو النساء في الغرب يتحولن إلى ذكور‬
‫مثلما يتحول بعض الذكور إلى إناث وحجتهم في ذلك‬
‫أن (الطبيعة) ارتكبت بحقهم خطأ فظيعاً‪ .‬بل إننا أخذنا‬
‫نسمع في الونة الخيرة أن بعض المجتمعات الغربية‬
‫قد بدأت تقر العلقات بين الجنسين المثيلين ل على‬
‫سبيل المعاشرة فحسب بل على سبيل الزواج»‪.‬‬
‫ويقول في صفحة ‪« :217‬في أواخر ‪1999‬م أقر‬
‫البرلمان الهولندي قانونا ً تحول بموجبه البغاء إلى مهنة‬
‫معترف بها رسميا ً وأنشئت نقابة للعاملت في صناعة‬
‫الجنس تضم أكثر من ثلثمائة ألف عضو من النساء»‪.‬‬
‫ثم يتكلم في صفحة ‪ 218‬عن رحلت جماعية سياحية‬
‫مجدولة لمجموعات من الرجال تنظمها الوليات‬
‫المتحدة وأوروبا واليابان إلى الفلبين وتايلند بغرض‬
‫ممارسة الجنس مع الطفال!‪.‬‬

‫* * *‬

‫قصيدة لـ( يونك) أحد مؤسسي الرومانسية‬


‫يبحث فيها عن رحمة السماء كتبها عام‬
‫‪1813‬م!!‬

‫م يندبون ضياعهم من ليسوا بضائعين؟‬ ‫ل َ‬


‫م يحوم فكر البؤس حول قبورهم؟‬ ‫ل َ‬
‫في أسى كافر‪ ...‬هل ثمة ملئكة؟!‬
‫أتخبو مطمورة في الرماد‪ ...‬نور السماء؟!‬
‫أحياء‪ ...‬هم!‪ ,‬يحيون على الرض‪ ...‬أي حياة؟!‬
‫و من عين عطوفة‪ ...‬لتنزل رحمة السماء!‬
‫‪47‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫كل ما في الرض وهم‪ ...‬كله!‬
‫و ما خلفه جوهر‪ ...‬وليس سوى هذا إل عقيدة‬
‫الجنون‪:‬‬
‫أي ثبات سيمل قلبي لو أن الشياء ل تتغير!‬

‫(يونك!!‪ ,‬لندن‪1813 ,‬م‪ ,‬أفكار ليل‪ ,‬الليلة ‪,1‬‬


‫ص ‪)7‬‬

‫السلم الرومانسي‬
‫لم تكن الرومانسية مذهبا ً محتكرا ً للدباء‬
‫والفلسفة؛ بل هي منهج حياة يمس العقيدة ‪ .‬وهي‬
‫مرحلة حادثة للتطور المادي والنمطي الذي تسلل إلينا‬
‫اليوم ليدخل تحت تأثيرها كل الناس‪ ,‬كما أنها (أصول‬
‫ثابتة) يمكن طردها على كل تكتل اجتماعي يمر بنفس‬
‫الظروف التي يمر بها المجتمع المدني الغربي‪ .‬فاليوم‬
‫نسمع عن من يتكلم في أمور الدين ويقول أنا مسلم‬
‫علماني!‪ ,‬وقد يكون الرجل كذلك من ناحية شرعية‬
‫لعدم تحقق شرط أو انتفاء مانع؛ ولكنه من ناحية‬
‫منهجية يؤسس إسلما ً جديداً‪ ،‬فهو يقول كما قالوا في‬
‫أصولهم الرومانسية الدبية وذلك بأن المسلم يجب أن‬
‫ل يتخلى عن طبيعته البشرية‪ ،‬ثم يسرد الحاديث‬
‫واليات التي تذكر حقوق الفطرة والمأكل والمشرب‬
‫والنكاح؛ بل ويزعمون أن الله أذن بالكفر؛ وذلك‬
‫بقولهم بالحرية العتقادية‪ ،‬فيقولون‪( :‬فمن شاء‬
‫فليؤمن ومن شاء فليكفر)(‪ ,!)1‬وأننا يجب أن نغضب‬
‫لرسولنا وندافع عنه؛ (لنه شخصية فكرية خاصة بنا)‪،‬‬
‫ونشهد أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬أما ما‬
‫عدا ذلك من أمور الشريعة فهو خاضع لمبدأ عام واحد‪،‬‬
‫وهو‪( :‬أن الحق في السعادة)‪ ،‬فل ينبغي للسلم أن‬
‫يقف في وجه سعادة الناس وراحتهم؛ لنه رحمة‬
‫للعالمين‪ .‬ثم يبدأ كل مسلم رومانسي تأسيس تصوره‬
‫الخاص وخرافته الخاصة عن السلم‪ ،‬فيحيا بها ويدعو‬
‫إليها‪ ،‬ويجتمع مع غيره على (الطبيعة البشرية‬
‫المقدسة)‪ ،‬أو ما يسمونه بملة إبراهيم كما هي حال‬
‫من سبقوه من مؤسسي الرومانسية الدبية‪.‬‬
‫سبق أن ذكرت أنه كان من مؤسسي الرومانسية‬
‫ومن أعضاء جماعة الرومانسيين الوائل المفكر الديني‬
‫شليرماخر ‪ ،‬وأنه كان ينادي بإطلق الرومانسية عن‬
‫طريق الفن‪ ،‬وجعل الفنان عنصرا ً مركزيا ً في ذلك‪,‬‬
‫وهذه اللوثة ذات الطابع الرومانسي تأثر بها جمع من‬
‫الدعاة السلميين حتى سمعنا بعضهم يفتي بجواز‬
‫التمثيل للمرأة‪ ،‬ويقول بأن الفن رسالة!‪ ,‬وهذه العبارة‬
‫هي أصل من أصول المذهب الرومانسي المتطرف‪،‬‬
‫وهي في لغة علماء العتقاد كقولك‪( :‬الخارجي يكفر‬
‫بالكبيرة‪ ،‬والمعتزلي يقول بالمنزلة بين المنزلتين)‪,‬‬
‫كذلك فالرومانسي يرى الفن رسالة كما نقلت سابقاً‬
‫عن الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملة‬
‫كان مقدرا ً لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم‬
‫أجمع ‪ .‬والناشيد والمسرحيات التي يسمونها‬
‫(إسلمية) داخلة في هذا المبدأ المنحرف؛ لن الفن‬
‫حسب تعريفه هو نقل الفكرة النسانية بطريقة معنوية‬
‫كالكتابة الدبية نثرية كانت أو شعرية‪ ،‬أو بطريقة حسيّة‬
‫كالغنية والمسرحية والرسم بحيث تترك في المتلقي‬
‫انطباعا خاصاً‪ .‬وسواء كانت معنوية أو حسيّة فالسلم‬

‫() الكهف ‪.29 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪49‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫عقيدة وشريعة‪ ,‬والفكرة السلمية ل يمثلها إل الدليل‬
‫الشرعي؛ لن هذه الفكرة بحاجة إلى ضبط وحسن‬
‫توجيه شديدين قام لجلهما علم كامل اسمه علم‬
‫الصول‪ ,‬فأما الدب والتمثيل والغناء فهي من زخارف‬
‫القول والفعل التي تضفي على الشيء ما هو أكبر منه‬
‫وتتعامل مع الشعور والحواس أكثر مما تتعامل مع‬
‫العقل والفهم المستقيم‪ ,‬حتى أن الكذب والمبالغة في‬
‫الشعر قد يكون غرضا ً شعريا ً محترما ً بل وربما كان‬
‫مطلوباً‪ ,‬بل أن بعض الدعاة اليوم صاروا يعبدون الله‬
‫بالكاذيب‪ ،‬ويمارسون مهنة القصاص التي تقوم على‬
‫مبدأ (الدعوة الرخيصة إلى الدين)‪ ،‬فل حاجة لعلم ول‬
‫عمل؛ ولكن بصناعة الروايات الخرافية ذات النهايات‬
‫اليمانية والكرامات اللدنية!!‪ ,‬والكرامات مثبتة عند‬
‫أهل السنة والجماعة؛ ولكن الزور منفي‪ .‬ولو شارك‬
‫بعض الدعاة بقصصه الدعوية في جائزة نوبل العالمية‬
‫لحصل على جائزة الرواية المأساوية‪ .‬وهذه النزعة‬
‫العجائزية للسيطرة على توجهات الناس بالخرافة‬
‫والقصص العجيبة كانت منتشرة في زمن القصاصين‬
‫الذين حذر من خرافاتهم أهل العلم؛ حتى قال عمر بن‬
‫الخطاب لكعب الحبار وهو ينشر القصص العجيبة في‬
‫كتب بني إسرائيل‪( :‬لتنتهين عن ذلك أو للحقنك بجزر‬
‫الخنازير!!)‪ .‬وقد ثبتت هذه المقولة بسند صحيح عن‬
‫عمر‪ .‬وقد يظن البعض أن هذه النزعة العجائزية (ملح‬
‫وعظية عابرة)‪ ،‬والصحيح أنها تشكل الخلفية الولى‬
‫التي يبنى عليها كل تصور جديد؛ لن مدخل الفاسق أو‬
‫الكافر إلى التدين يكون عن طريق هذه الكاذيب‬
‫الكراماتية‪ ،‬فيصير هذا المتدين الجديد عالة على أهله‬
‫وأمته‪ ،‬فل يجيد إل توهّم الكرامات وانتظار الئمة‬
‫المنتظرين‪ .‬والصحيح أن الكرامة مثبتة في عقيدة أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬وقد قرر هذا المر ابن تيمية رحمه‬
‫الله في (أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) خير تقرير؛‬
‫ولكن أن يصل المر إلى أن يقول لي أخ كريم‪ :‬دخلت‬
‫قرية لم يدخلها داعية قبلي‪ ،‬وكان معي رجل من أولياء‬
‫الله‪ ،‬وفجأة ونحن نمر بالشارع خرج من أحد البيوت‬
‫رجل أجنبي يركض!‪ ,‬أترى يا صاحبي كيف أخرجت‬
‫الدعوة العاصي وطردته عن معصيته‪ ,‬إنها بركة العمل‬
‫"‬ ‫لله!!‪ .‬اهـ ‪ .‬فنحن نعاني كثيرا من هذه‬
‫الصوفية الدارية " عند بعض الملتزمين ‪ ,‬و ل أحد ينكر‬
‫بركة العمل الصالح؛ ولكن ثبت أن الزنا وقع في‬
‫المدينة المنورة وفيها سيد الولياء محمد ‪ r‬وما خرج‬
‫الزناة منها يركضون ببركة عمله الصالح!!‪ ,‬و ثبت أنه‬
‫عليه السلم كان يطلب أن يكون الرسول الذي يرسل‬
‫في حاجة ‪،‬حسن السم حسن الهيئة ‪ ,‬لكي يكون‬
‫أدعى لقبول ما عنده من كلم ‪ .‬و أنا هنا أربط بين‬
‫الكرامات الوهمية المختلقة وبين الفن؛ لنها نوع من‬
‫الفن والدجل النفسي الذي يمارسه بعض الدعاة على‬
‫نفسه وعلى الناس من حوله فيجعل له تأثيرا ً في‬
‫مجرى الحداث من حوله‪ ،‬ثم يتطور المر حتى يصير‬
‫(قطبا ً من أقطاب الصوفية) الذين تتحرك ببركة‬
‫تسبيحهم الكواكب والفلك!!‪ .‬وكل ذلك مؤثر جدا ً في‬
‫تكوين الصورة الحقيقية للكون من حولنا ولذواتنا فيه‪.‬‬
‫كذلك الحال في سائر الفنون التعبيرية تجد أنه‬
‫يتسرب إلى العمل الكثير من المعاني التي ليس لها‬
‫معنى!‪ .‬فالفن بغض النظر عن مناقشة تفصيلته‬
‫مناقشة شرعية ففيه علة ظاهرة تجعله ل يصلح لن‬
‫يكون وسيلة دعوة إسلمية وهي ‪ :‬عدم القدرة على‬
‫ضبط حدود اليحاء ‪ .‬الذي سيقع في نفس المتلقي‬
‫نتيجة العمل الفني‪ ,‬وهذا يجعل الفن مرتعا ً خصباً‬
‫للوهام والمؤثرات المتداخلة والنتائج الغير متوقعة‪،‬‬
‫ولهذا تجد أهل البدع يغرمون بمثل هذه المور؛ لنها‬
‫تمنحهم الفرصة لممارسة المبالغة وإدخال التصورات‬
‫الشخصية داخل العمل دون تحرج اجتماعي وشرعي‬
‫بين من يقبلون ذلك ‪ .‬قد يقول قائل بأن النبي ‪ r‬قال‬
‫‪51‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫لحسان‪( :‬أهجهم ومعك روح القدس!)(‪ ,)1‬فهذا في‬
‫مواجهة الضد بالضد وليس في الدعوة إلى الله؛ لن‬
‫الدعوة ل تكون دعوة صحيحة إل إذا كانت تحقق‬
‫(البلغ المبين)‪ ،‬فالله تعالى يقول‪( :‬فهل على الرسل‬
‫إل البلغ المبين)(‪ )2‬ويقول‪( :‬فإن تولوا فإنما عليك‬
‫البلغ المبين)(‪ )3‬وفسر ذلك البلغ قوله تعالى‪( :‬يا أيها‬
‫الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما‬
‫بلغت رسالته)(‪ )4‬وقوله‪( :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين‬
‫للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)(‪ )5‬وكذلك قوله‪:‬‬
‫(وما أنزلنا عليك الكتاب إل لتبين لهم الذي اختلفوا فيه‬
‫وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)(‪ ,)6‬ولو كتب رجل قصيدة‬
‫أو أدى مسرحية لكافر أو فاسق ثم قال‪ :‬بينت له‬
‫وأقمت عليه الحجة؛ لكان من الكاذبين ‪ ,‬ل يخالف في‬
‫هذا حتى أحذق النقاد الدبيين الذين يجعلون معيار‬
‫القصيدة الرائعة بأن يكون لها في كل مرة تُقرأ فيها‬
‫ن جديدة!‪ .‬أما التمثيل والمسرح والغناء‪,‬‬ ‫إيحاءات ومعا ٍ‬
‫ً‬
‫فحدّث ول حرج!‪ ,‬خصوصا في بلد الغرب تجد أن بعض‬
‫الذين اعتنقوا السلم منهم من يمارس الرومانسية‬
‫السلمية بشكل علني‪ ،‬حتى أن مغنيا ً أمريكيا ً مشهوراً‬
‫أسلم ثم صار يسمي نفسه " يوسف إسلم " يعد الن‬
‫رأسا ً في الدعاة إلى السلم في الغرب قام بعد‬
‫اعتناقه السلم بعمل فرقة من الرجال والنساء وصار‬
‫يغني للسلم‪ ،‬وله عرض عالمي شهير اسمه ‪Peace‬‬
‫‪ Train‬أي (قطار السلم) يردد فيه عبارات حب السلم‬
‫وهو يتأبط الجيتار ويعزف وخلفه مجموعة فتيات‬

‫() ورد الحديـث بألفاظ كثيرة وفـي الصـحيحين‪( :‬أجـب عنـي اللهـم‬ ‫‪1‬‬
‫ايده بروح القدس) وفي لفظ لمسلم‪( :‬هاجهم وجبريل معك)‪.‬‬
‫() النحل‪.35 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() النحل‪.82 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫() المائدة‪.67 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫() النحل‪.44 :‬‬ ‫‪5‬‬
‫() النحل‪.64 :‬‬ ‫‪6‬‬
‫حاسرات الذرع والرؤوس يحملن دفوفا ً صغيرة‬
‫يضربن بها خلف الداعية الموسيقار ويرددن (أووه أووه‬
‫نعم! نعم!) وأشياء كهذه!‪ ,‬وتم عرض هذا العمل‬
‫السلمي ــ بزعمهم ــ في غير بلد إسلمي منها بعض‬
‫دول الخليج!‪.‬‬
‫إني أذكر أنه في مادة المطالعة في المرحلة‬
‫المتوسطة أو البتدائية قصة رجل خسر في تجارته؛‬
‫لنه كان يعرض الحذية للزبائن فوق قطعة قماش‬
‫لونها اسود؛ فلما أبدلها بقماش أخضر تضاعف ربحه!‪,‬‬
‫وكانوا يجعلون هذا مثال ً على تأثر الناس باللوان‪.‬‬
‫فكذلك هذا داخل في التمثيل والمسرح ففيه من‬
‫المؤثرات الغير ظاهرة ما قد يدخل مفاهيم ومبادئ‬
‫منحرفة للناس من حيث ل يشعرون ‪ .‬وفي يوم من‬
‫اليام صلى بجانبي عامل بناء في الثلثين من عمره‪،‬‬
‫فرأيته يسجد باسطا ً ذراعيه على الرض كما جاء في‬
‫النهي عن ذلك (انبساط الكلب)‪ ،‬وبعد الصلة وقفت له‬
‫بقرب الباب؛ فلما أراد أن يخرج أخذت بيده وقلت له‪:‬‬
‫بارك الله فيك‪ ,‬أنت فعلت كذا وكذا وهذا تشبه بالسبع‬
‫منهي عنه! فقال لي بكل صدق وحسن نية‪ :‬كنت‬
‫أجافي يدي عن جنبي حتى رأيت صورة لقطعة حجر‬
‫كبير يتداولها الناس وكأنها رجل في هيئة السجود‪،‬‬
‫وكان ذلك الحجر باسطا ً ذراعية على الرض فمنذ ذلك‬
‫الحين صرت أبسط ذراعي! اهـ ‪ .‬هذا أمر شاهدته‬
‫فعرفته‪ ،‬فكيف بمفاهيم كثيرة قد تستقر في نفوس‬
‫الناس بسبب هذه المور ل أحد يعلمها إل الله!‪.‬‬
‫إن المسلم العادي اليوم يواجه مشكلة كبيرة في‬
‫تمييز المنهج الصحيح‪ ،‬وفي معرفة المصادر النقية التي‬
‫من خللها يعرف التصور الصحيح للكون والحياة‬
‫وعلقته بمختلف عناصر الكون الفاعلة؛ حتى أن‬
‫مسائل هي من مسلمات العقيدة عند عجائز نيسابور‬
‫صار الناس اليوم يفتحون المجال فيها لراء العوام‬
‫‪53‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫الجهلة ليبدوا آرائهم فيها على شاشات التلفزيونات‬
‫وصفحات الجرائد‪ ,‬وهذه كلها خطوات رومانسية تنبع‬
‫من مبدأ (حق النقد المطلق) و (حق التعبير المطلق)‬
‫الذي تكلمت عنه سابقاً‪ .‬والمشكلة لدى هؤلء الدعاة‬
‫السلميين السذج أنهم ل يفرقون بين التعبير وبين‬
‫الحكم!! فالحكم ليس له طابع النشاء والظن؛ بينما‬
‫التعبير هو إبداء خلجات النفس على نحو يصوّر ما فيها‪.‬‬
‫ومن المثلة على هذا السلم الرومانسي قيام بعض‬
‫الدعاة بالتجاوزات الشرعية من خلط النساء بالرجال‬
‫وخروجهن متبرجات دون إبداء النكير‪ ،‬وهذا يفيد بأن‬
‫للمرأة حقوقا ً جديدة صارت تمارسها ولم تكن تمارسها‬
‫من قبل!‪ ,‬وكذلك ترويجهم لبعض المصطلحات ذات‬
‫النكهة الرومانسية مثل (حقوق المرأة) الذي في‬
‫اصطلحه فقط دليل على رغبة جادة في مراجعة‬
‫أحكام المرأة في السلم‪ ،‬وإل فإنه ل يقال حقوق‬
‫المرأة وإنما يقال (ظلم المرأة) أو (اضطهاد المرأة)؛‬
‫لن حقوقها معلومة ليست بحاجة لن تفرد في‬
‫مصطلح مستقل وبحث مستقل الن وبشكل جديد‪،‬‬
‫فهذه كلها من مبادئ الرومانسية التي تنفي العدالة‬
‫عن أحكام وأهل القرن المنصرم بمجرد موتهم‬
‫وانقراض قرنهم‪ ,‬فالنسان الرومانسي خائن بطبعة‪،‬‬
‫وأول شيء يفعله بعد دفن ميته هو أن يبصق على‬
‫قبره ويقول له‪( :‬ذهب ما تعلم!)‪ .‬وكذلك الدعوة إلى‬
‫التعايش‪ ،‬وتهافت الدعاة الرومانسيون عليها‪ ،‬وهذه‬
‫بداية تأسيس لختزال العقيدة في السلوك المنزلي‬
‫والشخصي‪ ،‬وهذا عرض من أعراض الرومانسية‪.‬‬
‫ومن ذلك الدعوة إلى (صناعة النفوذ الكمي) بغض‬
‫النظر عن اتحاد المبدأ ونقائه‪ ،‬وهذا ناتج عن (عقيدة‬
‫الخاء النفعي)‪ ،‬وهي أن يجتمع الناس على منفعة‬
‫ويتجاهلون كل المحاذير الشرعية التي قد تمنع هذا‬
‫الجتماع‪ ,‬وهو مبدأ شبيه بمبدأ النقد الرومانسي الذي‬
‫ذكرته سابقا ً والذي ينص على القتصار على ذكر‬
‫محاسن العمل دون اللتفات إلى تجاوزه للقواعد‬
‫والنمطية والشرعية‪ ,‬وقد رأينا من يزعم بأنه من‬
‫متبعي السنة ثم هو يجالس أهل البدع غلظ البدعة‬
‫والعلمانيين ويجعلهم شركاء رسالة مع أنه لو ساقهم‬
‫كلهم شفعاء في إعتاق ذبابة من العدو ما نفعوه! ؛‬
‫ولكنه يشاكلهم ويداهنهم لعقيدة نفعية رومانسية في‬
‫حسها النقدي‪ ,‬فهم يقولون ل إله ال الله وليسوا يهوداً‬
‫محتلين ول نصارى محاربين‪ ,‬ففيهم من سمات الجمال‬
‫ما يكفي لقبولهم وربما الوقوع في حبهم!!‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫‪‬‬
‫المقدمات الولية للتصور‬
‫الصحيح‬
‫‪57‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫مفهوم الحقيقة والمجد‬
‫ليست الحقيقة معنى يكتسب القداسة من تأييد‬
‫جماعة الناس أو رفضهم؛ لن الجتماع البشري كثيراً‬
‫ما يقع على الباطل؛ بل وقد تكرر كثيرا ً في التاريخ أن‬
‫اجتمع الناس على الجريمة والفعال الغير أخلقية التي‬
‫يتقزز من فعل مثلها الوحوش والمجانين واقرأ كتاب "‬
‫موسوعة العذاب " لتطلع على شيء من هذه الحقيقة‬
‫الكئيبة‪ .‬كذلك‪ ,‬ليست الحقيقة مخرجات تجربة عملية‬
‫فهذا جائز في الماديات أما البشر فالحقائق النسانية‬
‫والمعنوية بالنسبة لهم ل علقة لها بالتجربة العلمية‬
‫غالبا ‪ ،‬فلو سألت ألف شخص من مختلف أنحاء العالم‬
‫عن " حقيقة الستحمام " في حياة كل فرد منهم‬
‫لوجدت أن بعضهم يراه عبادة مقدسة‪ ،‬وبعضهم يراه‬
‫نظافة ل بد منها‪ ،‬وبعضهم يراه ترفيهاً‪ ،‬وبعضهم يراه‬
‫ترفا ً زائداً‪ ،‬وبعضهم يراه علجاً‪ ،‬وبعضهم يراه وسيلة‬
‫لتعديل مستوى الحموضة في الدم والحصول على‬
‫جسد نشيط‪ ،‬وبعضهم يكرهه ويمقته‪ ،‬وبعضهم يرى أنه‬
‫من المحرمات كما في بعض الديانات‪ ،‬وكل هذه‬
‫المعتقدات ل علقة لها بالتجربة؛ لن التجربة في هذا‬
‫السياق هي جريان الماء على البدن‪ ،‬وهذا يحدث‬
‫بنفس الطريقة لكل هؤلء الشخاص غير أن الحقائق‬
‫في النهاية تختلف تماما ً من شخص لخر‪ ,‬ولهذا كان‬
‫النص القرآني واضحا ً في ذلك عندما قال تعالى‪( :‬وإن‬
‫تطع أكثر من في الرض يضلوك عن سبيل الله إن‬
‫يتبعون إل الظن وإن هم إل يخرصون) (‪ ,)1‬ويطلق الكثر‬
‫على ما زاد على النصف في أقل الحوال!‪ .‬وقد ثبت‬

‫() النعام‪.116 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪59‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫عن النبي ‪ r‬كما في البخاري قوله‪ « :‬يوشك أن يكون‬


‫خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع‬
‫القطر يفر بدينه من الفتن »‪ .‬فهذا يدل على أن‬
‫الحقيقة قد تكون مع فرد في مقابل جماعة أو مجتمع‬
‫بأسره يغلب عليه الضلل‪ .‬وفي حديث آخر في‬
‫الصحيحين‪ « :‬أن رجل ً أتى النبي ‪ r‬فقال أي الناس‬
‫أفضل؟ فقال‪ :‬رجل يجاهد في سبيل الله بماله‬
‫ونفسه‪ .‬قال ثم من؟ قال‪ :‬مؤمن في شعب من‬
‫الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره »‪ .‬وهذا‬
‫أيضا ً يدل على أن المسلم الذي يعلم دينه حق العلم‬
‫ويوقن به حق اليقين ينبغي له أن يشتغل بالدعوة إليه‬
‫والجهاد به وله وعنه‪ ،‬فإن لم يستطع فإنه يفر بما معه‬
‫من حقيقة من وجه طوفان الضلل الذي يحيط به‬
‫فينقطع في شعب من الشعاب يعبد ربه حتى يموت‬
‫على ما معه من حق‪ .‬فوظيفة المسلم ــ والنسان‬
‫بشكل عام ــ هو أن يبحث عن الحقيقة ثم يحيا عليها‬
‫حتى يموت‪ ،‬فليست وظيفة النسان في هذا العالم أن‬
‫يمارس " العيش الكريم "‪ ،‬وإنما وظيفته ممارسة "‬
‫الحقيقة الكريمة! " التي قد تضمن له العيش الكريم‬
‫أو قد ل تضمنه فيقتصر المر على " الحياة الطيبة "‬
‫من حيث قوة اليمان والشعور بلذته‪ ،‬أما ما يتصوره‬
‫الناس من طيب عيش في مأكل ومشرب فليس شيئاً‬
‫تقتضيه "الحقيقة الكريمة"‪ ،‬حتى أن الله تعالى قال‪:‬‬
‫(و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)‪ ،‬وفي قراءة‬
‫متواترة (قُتل معه ربيون)‪ ،‬فإن كانت حقيقة النبوة‬
‫التي هي أعلى الحقائق قد يترتب عليه قتل النبي ومن‬
‫معه كما حدث ليحيى عليه السلم الذي قدم رأسه‬
‫هدية إلى عاهرة في خيمتها‪ ,‬فوقوع ذلك على من دون‬
‫النبي من باب أولى‪ .‬والحياة على الحقيقة الكريمة‬
‫والموت عليها هو النجاح الوحيد الذي تستطيع أن‬
‫تسميه " نجاحا ً حقيقيا ً "‪ ،‬وقد سماه الله عز وجل في‬
‫قصة أهل الخدود بـ " الفوز الكبير " كما في سورة‬
‫البروج مع أن القوم أحرقوا بالنار عن بكرة أبيهم مع‬
‫نسائهم وأطفالهم‪ .‬فأما ما عدا ذلك فهي نجاحات آنية‬
‫لحظية تشبه في حدوثها الحصول على أكلة لذيذة بعد‬
‫عناء في طبخها وتحضيرها مع العلم أنها سوف تنتهي‬
‫إلى أقرب مرحاض بعد ساعات قليلة‪ ,‬فالحقيقة‬
‫الكريمة لها طابع الديمومة والخلود وكلما كانت الفكرة‬
‫قابلة للتغير السريع والضمحلل في أي لحظة فهي‬
‫فكرة ل يمكن أن تبني عليها " علما ً مطمئنا ً وعقيدة‬
‫مستقيمة "‪ ،‬وهذا واضح لمن تأمله‪ ،‬ولمن يرى في‬
‫نفسه أنه يمثل في هذه الحياة شيئا ً أكبر من دور‬
‫الحمار والدجاجة البياضة والبقرة الحلوب وعلبة‬
‫الكوكاكول‪ ،‬أو ببساطة ل يرى نفسه "سلعة استهلكية"‬
‫ف في سوق كبير اسمه "القوى العاملة"!‪.‬‬ ‫على ر ٍ‬
‫ل يمكن لشخص واحد أن يدرك الحقيقة الكونية‬
‫المجملة لهذا الكون فيعرفها ويتمتع بها على يقين منها‬
‫دون الستفادة من مصدر خارجي لهذه الحقيقة ‪ .‬إن‬
‫الفكر البشري المتراكم الذي يحلل النسان وصلته‬
‫بالكون فكر متناقض يهدم بعضه بعضاً‪ ،‬ول يمكن أن‬
‫يتكامل بشكل إنساني من الناحية العقلية والروحية‬
‫بحيث يتزايد في تقدم مستمر في الفهم والستيعاب‬
‫والتكامل؛ لن كل جيل يمقت الذي سبقه غالباً‪ ،‬أو ربما‬
‫يكتب فيه قصائد الحنين والرثاء‪ ،‬فالبشر على اختلف‬
‫عقولهم وأهوائهم وشهواتهم ل يمكن أن يتكاملوا لفهم‬
‫الكون‪ ،‬ولهذا تجد أن هذا العالم ل بد له من يد خفية‬
‫تسطر له المعايير والمقاييس الصحيحة التي يسعد بها‬
‫كل إنسان‪ ،‬فالذي أتقن خلق السماء والرض وكل هذه‬
‫الكائنات جدير بأن يتقن لهم نظاما ً معنويا ً يمنحهم حق‬
‫السعادة كما منحهم حق الوجود والتنفس والكل‬
‫والشرب على حد سواء‪ ،‬ومن ينكر هذه الحقيقة‬
‫الحتمية فهو إما جاهل بمعنى الربوبية واللوهية‪ ،‬أو‬
‫جاهل بتكوين هذا العالم وأصل نشأته‪ ,‬وبداية الشعور‬
‫‪61‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫بهذا التصور هو بداية حصولك على "المفهوم الصحيح‬
‫للحقيقة"‪.‬‬
‫إن المجد الحقيقي للنسان وللنسانية بشكل عام‬
‫يكمن في تحقيق غايات وجودها‪ ،‬وفي فوزها الكلي‬
‫الذي يجمع " نجاح الدنيا " بالحياة على الحق والموت‬
‫عليه‪ ،‬ثم النجاح الخروي الذي هو " الفلح " المترتب‬
‫على النجاح الدنيوي كما في قوله تعالى‪( :‬كل نفس‬
‫ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن‬
‫زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا‬
‫إل متاع الغرور) (‪ .)1‬فهذا هو الخلص الشخصي‪ ،‬وبغير‬
‫هذا الفهم ل يمكن أن يتحقق لي فرد أي نجاح أو أي‬
‫خلص حقيقي‪ .‬وعندما أمتن الله سبحانه على البشر‬
‫بأنه جعل لهم الجبال أكناناً‪ ،‬وخلق لهم الحيوانات من‬
‫بهيمة النعام ليأكلوا منها ويصنعوا من أوبارها وأصوافها‬
‫البيوت واللباس‪ ،‬ومن دواب ليركبوا منها كالحمير‬
‫والبغال‪ ،‬وبث في الرض من كل شيء زوجين‪ ،‬وجعل‬
‫الشمس والقمر حسباناً‪ ،‬والليل لباساً‪ ،‬والنهار معاشاً؛‬
‫فإن مقتضى هذه المنة من الله هو " كمال النعمة‬
‫وصدق السعادة "‪ ،‬فلو كانت هذه الشياء تعتبر "نعمة‬
‫ناقصة "‪ ،‬أو " مقومات ناقصة " ل يمكن أن يتحقق بها‬
‫المجتمع النساني السعيد لما امتن الله بها‪ ،‬ولكان‬
‫الذين جاءوا من بعد ذلك فصنعوا اللت المصنوعة‬
‫أحق بهذه المنة من الله؛ لنهم قدّموا للبشرية أدوات‬
‫كمال إنساني حققت ما لم يحققه خلق الله الول‬
‫لمخلوقاته عندما خلق الكون من السماء والرض وما‬
‫فيهما‪ ,‬وهذا واضح؛ بل وواقع سوف يحدث في زمن‬
‫نزول عيسى عليه السلم عندما ينزل ليقاتل بالسيف‬
‫والرمح!‪ ,‬بل صناعات وبل مخترعات كما هي حالنا‬
‫اليوم‪ ,‬ثم يحكم العالم كما في صحيح مسلم‪ « :‬فيمكث‬
‫الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة » يستظلون‬

‫() آل عمران ‪.185 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫بالرمانة وتروي اللقحة من البل القبيلة‪ ,‬فإن لم يكن‬
‫هذا مجتمعا ً سعيدا ً فل أدري ما هو تعريف المجتمع‬
‫السعيد!‪ .‬فإن تحقيق المجتمع السعيد ل يفتقر إلى‬
‫الختراع أو إلى البتكار أو إلى الصناعة؛ ولكنه يفتقر‬
‫إلى " نقاء الجنس البشري من كل أنواع الشرك‬
‫والكفر والنفاق وكل مقومات تلك الشياء "‪ .‬وقد‬
‫يسخر الناس من مثل هذه المثاليات التي يندر تحققها؛‬
‫ولكنها ستتحقق‪ ،‬وثبت ذلك كما في زمن نزول عيسى‬
‫عليه السلم‪ .‬ولكن الناس ل يسخرون من مثاليات‬
‫أرضية مادية كالتي قالها كارل ماركس في تنظيره‬
‫لمستقبل الشيوعية عندما توقع أن العالم كله سيصبح‬
‫شيوعياً‪ ،‬ثم يستغني الناس في النهاية عن الحكومات‬
‫ويعيشون في "طبقة واحدة" ليس فيها حكومة ول‬
‫شرطي!!‪ ,‬ثم رأينا من يؤمن بهذا ويثور لجله الثورة‬
‫الحمراء التي يقيمها على جثث أهله وبني جلدته وهو‬
‫يغني في بعض شوارع العالم العربي‪:‬‬
‫إن تسل عني فهذي قيمي *** إنني ماركسي‬
‫لينيني أممي‬
‫وهذا والله هو العمى والصمى!!‪ .‬ولهذا عندما ينزل‬
‫عيسى عليه السلم وقبل أن يقوم له المجتمع السعيد‬
‫فإنه يقتل الدجال وحزبه الكافر‪ ،‬ويكسر الصليب‪،‬‬
‫ويقتل الخنزير‪ ،‬ثم يقوم له أمر حكمه‪ .‬وهذا ل ينفي أن‬
‫المصنوع البشري قد ل تتم السعادة إل به؛ لن الوضع‬
‫الصلي للعالم قد تغيّر‪ ،‬فصارت هناك مفاسد غيرت‬
‫هيئة المجتمع المسلم الول الذي أشرك بعد عشرة‬
‫قرون من نزول آدم على الرض‪ ,‬كما ثبت ذلك عن‬
‫ابن عباس في صحيح البخاري‪ ,‬فصار هناك عناصر‬
‫فاسدة تمتلك مصنوعات أخلّت بتوازن مقومات الخير‬
‫والشر فصار كمال مقومات المجتمع السعيد لم تعد‬
‫تقتصر على المخلوق الصلي وإنما صار داخل ً فيها "‬
‫المصنوع البشري "‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪( :‬و أنزلنا الحديد‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره‬
‫ورسله بالغيب) (‪)1‬؛ ولكن هذا ل يعني أن هذا المصنوع‬
‫صار هو الصل؛ بل هو " مطلب زائد على الصل "‪.‬‬
‫وهذا كله في سياق "الجتماع والمجتمع "‪ ،‬وإل فإن‬
‫النسان على مستوى الفرد قادر على أن يبني الحياة‬
‫السعيدة على المقومات الصلية للعالم‪ ،‬ويدل على‬
‫ذلك الحديث السابق « يوشك أن يكون خير مال‬
‫المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر‬
‫بدينه من الفتن »‪ ،‬وهذا الفهم يستسيغه فقط من يعلم‬
‫المعنى الشمل للسعادة الذي ل يقتصر على تنعّم‬
‫الحواس وحدود السمع والبصر؛ بل يكون كذلك‬
‫المسلم الذي صاح بأعلى صوته ذات يوم وهو في‬
‫جيش رسول الله ‪ ρ‬فقال‪ " :‬إني لشم ريح الجنة دون‬
‫أحد "‪ ,‬فيكفيك لتكون سعيدا ً أن تشم ريح الجنة وأنت‬
‫في الدنيا‪ ,‬وهذا أيضا ً ل يستسيغه إل من يعرف ذلك!!‪.‬‬
‫أذكر أنني أيام الدراسة الجامعية قرأت رواية‬
‫لديب فرنسي اسمها "الفنان" تحكي قصة رجل قام‬
‫بتربية أبنائه تربية كريمة‪ ،‬وبعد تخرج أبنائه واطمئنانه‬
‫عليهم وبعد حضوره لزفاف ابنته هرب في ليلة ظلماء‬
‫وعمره يناهز الخمسين عاما ً إلى قرية نائية في‬
‫ضواحي فرنسا‪ ،‬وجلس في كوخ صغير يرسم ويكتب‬
‫القصائد وقد ترك حياته السابقة‪ ،‬وترك أهله متخفياً‬
‫عنهم‪ ،‬وكذلك وظيفته المرموقة‪ ،‬واعتزل هذه العزلة‬
‫الختيارية؛ حتى إذا أدركه الموت دخلوا عليه وهو على‬
‫سريرٍ رث تحيط به لوحاته الفنية وهو يبتسم ويقول‪:‬‬
‫الن أموت سعيدا !‪ .‬فقد كانت هذه الرغبة تخالجه‪،‬‬
‫وكان يرى بأنه ما جاء إلى هذه الحياة ليلعب دور‬
‫البقرة الحلوب ثم يرحل؛ ولكن ينبغي أن يعبر وأن يحيا‬
‫الحياة كما يريدها وليس كما هي تريده‪ ،‬فانتهى به‬
‫المر إلى ذلك التصرف وذلك الجتهاد!‪ .‬فليست‬
‫() الحديد‪.25 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫السعادة إل خليط فكري وروحي يخالج النفس فتنتشي‬
‫وتفرح بغض النظر عن أدوات الواقع‪ .‬وبما أن السلم‬
‫هو الحبكة المعنوية اللهية التي تناسب كل فطرة‬
‫سليمة فبه يستطيع كل أحد أن يسعد ولو كان في‬
‫جحر جرذ قديم‪ ,‬ولكن أين الذي يصل إلى تلك التركيبة‬
‫الروحية الدقيقة من حيث اليمان والفهم والتطبيق؟!‪.‬‬
‫المشكلة في النسان المصاب بداء " الهوس‬
‫الفكري " إنه ل يقتنع بما وراء العقل حتى يفقد عقله‬
‫أو يقف على أبواب الموت فيشعر فعل ً بمعنى ما وراء‬
‫الوجود المحسوس فيستسلم ويعود إلى رشده‪ .‬تماماً‬
‫كما حدث لخر عظماء اللحاد في الغرب "جون بول‬
‫سارتر" صاحب كتاب "الوجود والعدم" الذي أقلق‬
‫حقبة الستينيات فما بعدها‪ ،‬والذي أسس مذهب‬
‫الوجودية‪ ،‬وكان يدعو إلى تحويل النسان إلى‬
‫ميكانيكي حذق يغمر نفسه في حفرة الزيت تحت‬
‫السيارات طيلة حياته ل يخرج إل للكل والنوم‪ ،‬ثم يعود‬
‫إلى الحفرة من جديد ملغيا ً من تصوراته كل ما وراء‬
‫الحفرة وما هو خارجها تحت شعار (إكدح حتى تنسى)‪،‬‬
‫و(التقط اللذة ولو من المرحاض) و ( عش كأنه لم‬
‫يكن أحد قبلك و لن يكون أحد بعدك ) ‪ ,‬ثم ماذا؟!!‪.‬‬
‫يقول سارتر في آخر حوار له عن آرائه الفلسفية‬
‫والدبية‪ :‬أنا ل أشعر بأني ذرة غبار ظهرت في هذا‬
‫الكون وإنما ككائن حساس تم التحضير لظهوره‬
‫وأحسن تكوينه أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إل‬
‫من خالق!!‪ )1( .‬اهـ ‪.‬‬
‫هكذا؟!‪ .‬نعم‪ ,‬هكذا!‪.‬‬
‫والوجودية واللحاد والتباع؟!‬
‫أين نذهب بكل هذا وأين يذهب كل هذا؟‪.‬‬

‫() انتحار المثقفين العرب ‪ ,‬محمد جابر النصاري ‪ ,‬ص ‪.146‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪65‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫"جهنم الحمرا"!!‪ ..‬هذا هو رأي سارتر الخير!‪.‬‬
‫إن تاريخ الصراع البشري في البحث عن المثالية‬
‫النسانية ليس ناتج عن فقدان الوجود الحقيقي لتلك‬
‫المثالية علما ً وعمل ً وإنما هو ناتج عن عدم فهم‬
‫"مفهوم الحقيقة الكريمة" التي تترتب عليها المثالية‬
‫والفضيلة والنجاح الكوني‪ ،‬ولهذا نجد أن بعض‬
‫المجتمعات تبحث عن تلك المثالية في جدول الضرب‪،‬‬
‫والجدول الدوري للعناصر الكيميائية‪ ،‬وبعض‬
‫المجتمعات تبحث عنها في الخرافة الموروثة عن‬
‫العصور السطورية أو الديانات المحرفة‪ ،‬وبعضها‬
‫تبحث عنها في الغراق في الشهوة واللذة والنانية‬
‫الشخصية‪ ،‬ثم ينتهي الجميع إلى فشل ذريع يلخصه لنا‬
‫البروفيسور إنتوني غدينز عندما نجده في كتابه "علم‬
‫الجتماع" يعود من حيث ل يشعر إلى البحث عن‬
‫"مقاييس ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا ً أن‬
‫يلتزموا بها" وكأنه بذلك يضع تعريفا ً لمفهوم "الدين‬
‫الحق" فهو ليس إل مقاييس ومعايير ينبغي للبشر‬
‫جميعا ً أن يلتزموا بها!!‪ ,‬حيث يقول في نفس الكتاب‬
‫ص ‪ 87‬وهو يتحدث عن شعوره بالحيرة واللتباس تجاه‬
‫نظرية "النسبية الثقافية" في علم الجتماع التي تدعو‬
‫إلى العتقاد بأن كل الثقافات على خير وهدى! فيقول‪:‬‬
‫« إن تطبيق مبدأ النسبية الثقافية وتعليق وتجميد‬
‫اقتناعاتك ومعتقداتك الشخصية العميقة قد يكون‬
‫مجلبة للحيرة واللتباس‪ ,‬ويطرح تحديا ً واضحا ً لقدرتك‬
‫على الدراسة الموضوعية‪ .‬ول يقتصر ذلك على تعطيل‬
‫القدرة على رؤية المور من وجهة نظر أخرى‪ ,‬بل‬
‫يتعداه إلى إثارة سلسلة من السئلة الشكالية‬
‫المقلقة‪ .‬هل تعني النسبية الثقافية أن جميع العادات‬
‫والمسلكيات سليمة مشروعة؟ هل ثمة مقاييس‬
‫ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا ً أن يلتزموا‬
‫بها؟ »(‪ .)1‬قلت‪ :‬نعم!‪ .‬تجدها في قوله تعالى‪( :‬اليوم‬
‫أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم‬
‫() علم الجتماع ‪ ،‬إنتوني غدينز ‪ ،‬ص ‪. 87‬‬ ‫‪1‬‬
‫السلم دينا) (‪.)1‬‬

‫() المائدة ‪. 3 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪67‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫أصل العلم كله من الله‬


‫لمعرفة الطريق الصحيح إلى الولوج في عالم‬
‫المعرفة الكلية للكون وعناصره ومظان طلب ذلك‬
‫العلم وتلك المعرفة وطرق تلقيها فإنه ينبغي الرجوع‬
‫إلى البدايات الولى لعلقة محمد ‪ r‬بربه وكيفية خطاب‬
‫الله عز وجل له؛ لكي يتعرف الدمي العادي إلى‬
‫السلوب المثل في تشرب العلم واستيعابه وإلى‬
‫الدخول في التصور الكلي للكون وكيفية بناء ذلك‬
‫التصور سواء في أولوياته أو في نسقه أو اتساقه‪.‬‬
‫من المعلوم لكل مستقرئ لنصوص الشريعة أن‬
‫الله عز وجل بدأ بالعقيدة وأركان اليمان بالذات قبل‬
‫أن يشرع التكاليف الفردية والجماعية‪ ،‬وكان الخطاب‬
‫صريحا واضحا ً يناقش الجذور الفكرية لكل إنسان‪،‬‬
‫صرها بتركيبتها‬
‫ويعظ النفس البشرية بشكل عام ويب ّ‬
‫الداخلية‪ ،‬فيتكلم لها عن الهلع والجزع والظلم والكفور‬
‫والعجلة وحب المال وكراهية الموت والتكبر والحسد‬
‫والضعف‪ ,‬وغير ذلك‪ ,‬ويأمر بالتجرد الفكري والصدق‬
‫مع الذات قبل كل شيء‪ ,‬فيقول تعالى (قل إنما‬
‫أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم‬
‫تتفكروا ما بصاحبكم من جنة)(‪ ,)1‬ويقول كذلك‬
‫(سنريهم آياتنا في الفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم‬
‫أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)(‪)2‬‬

‫فيصّرح الله عز وجل في هذه الية أن أصل اليمان‬


‫واليقين بأن الله هو الحق هو أن يكون لديك "تصور‬
‫صحيح" لهذا الكون بما في ذلك نفسك التي بين‬

‫() سبأ‪.46 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() فصلت‪.53 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫جنبيك؛ وذلك بمعرفة عناصره وتراكيبه وغايات خلق‬
‫كل مخلوق فيه؛ لن الشياء إنما يحدد موقعها في هذا‬
‫العالم غايتها التي أوجدت من أجلها‪ ،‬ووظيفتها التي‬
‫ينبغي أن تقوم بها لتحقيق تلك الغاية‪ ،‬ثم استشهد‬
‫على أنه هو المصدر الوحيد الذي ينبغي له تبيان هذه‬
‫الشياء بأنه (على كل شيء شهيد)‪ ،‬فهو الذي شهد‬
‫نشأة العالم‪ ،‬ونشأة كل ذرة فيه؛ لنه ما من غائبة في‬
‫السماء والرض إل في كتاب مبين؛ ولنه خالق كل‬
‫شيء وهو على كل شيء وكيل‪ ,‬فبث هذه العلوم في‬
‫كتابه وسنة نبيه‪ ،‬حتى صار يتحدث ‪ r‬لصحابه فيقول‬
‫كما في قصته مع أبي ذر حين غربت الشمس « تدري‬
‫أين تذهب؟ »‪ .‬قلت الله ورسوله أعلم قال‪ « :‬فإنها‬
‫تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها‪،‬‬
‫ويوشك أن تسجد فل يقبل منها‪ ،‬وتستأذن فل يؤذن‬
‫لها‪ ،‬فيقال لها‪ :‬ارجعي من حيث جئت‪ ،‬فتطلع من‬
‫مغربها فذلك قوله تعالى (الشمس تجري لمستقر لها‬
‫ذلك تقدير العزيز العليم) » (‪ .)1‬وكما في قصته ــ أيضاً‬
‫ــ مع أبي ذر ‪ t‬أن رسول الله ‪ r‬رأى شاتين تنتطحان‬
‫فقال‪ « :‬يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟»‪ ،‬قال‪ :‬ل‪،‬‬
‫قال‪ « :‬لكن الله يدرى وسيقضي بينهما » (‪ .)2‬فهما‬
‫شاتان ولكن بينهما لغة مشتركة‪ ،‬ومظلَمة قائمة‪،‬‬
‫وشعور بالحقية متنازع فيه‪ ،‬وشجار لن ينتهي إل‬
‫بالعدل‪ ،‬فإن لم يكن الن فسيكون ذلك يوم القيامة‪،‬‬
‫فكل شيء في كتاب‪ ،‬وكل شيء واقع تحت الميزان‪،‬‬
‫ولن يخسر الميزان من أمر بإقامة الوزن فيه!‪ .‬فليس‬
‫في هذا العالم شيء إل وهو آية في ذاته‪ ,‬له غاياته‬
‫وصفاته التي ما وضعت فيه إل لغاية كونية أو شرعية‬
‫فهو تبارك وتعالى (الذي خلق فسوى * والذي قدر‬
‫() يس‪.38 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() رواه أحمــد‪ ,‬وقال اللبانــي فــي الســلسلة الصــحيحة‪ :‬إســناده‬ ‫‪2‬‬
‫صحيح‪ ،‬وحسنه شعيب الرناؤوط في حكمه على أحاديث المسند‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫فهدى)(‪ .)1‬ولجل أمثال هذه النصوص قال أبو ذر رضي‬
‫الله عنه ــ أيضا ً ــ‪« :‬لقد تركنا رسول الله ‪ ρ‬وما يتقلب‬
‫في السماء طائر إل ذكر لنا منه علما ً » (‪ .)2‬ولهذا أقول‪:‬‬
‫إن العلم في المقدمات وليس في النتائج‪ .‬فهذا هو‬
‫الذي ربانا عليه القران عندما جاء ليبني الخلفية‬
‫العقدية الولى التي ستكون حاضنة لكل التصورات‬
‫القادمة لكل نص مقدّس في الشريعة؛ حتى قال بعض‬
‫أهل العلم كما ذكر السيوطي في التقان‪ « :‬كل سورة‬
‫فيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهي مكية‪ ،‬وكل‬
‫سورة فيها قصص النبياء والمم الخالية مكية» (‪.)3‬‬
‫فنحن فصل متأخر في ملحمة من القصص والمآلت‪،‬‬
‫ولن نفهم هذا الفصل الذي نعيشه حتى نراجع كل‬
‫المقدمات الولى التي منها نشأ هذا الكم الهائل من‬
‫السبل والنتائج الناجحة والفاشلة‪.‬‬
‫ويذكر الله عز وجل في القران الكريم تعليمه آدم‬
‫السماء كلها‪ ،‬وهذا هو أصل كل علم البشر مما لم‬
‫يكن من الغيبيات التي أوحيت إلى النبياء بعد ذلك‪،‬‬
‫وفيه تقرير للمبدأ اللهي الذي يذكره الله عز وجل‬
‫كثيرا ً وهو (والله يعلم وأنتم ل تعلمون)(‪ ،)4‬فالصل في‬
‫النسان الجهل‪ ،‬وان العلم بالنسبة إليه أمر أجنبي‬
‫يطلبه من غيره؛ ولكن بعض الناس ممن ل يعرف قدر‬
‫نفسه‪ ،‬وقد صار في مكانة يسمع الناس فيها لقوله‪،‬‬
‫يظن أن العلم هو مجرد أن يجلس ويحك رأسه‪،‬‬
‫ويكتب‪ ،‬ويسخر السلم لخيالته الحالمة‪ ،‬ويحتكر فهم‬
‫السلم على بنيّات أفكاره‪ ،‬تحت دعوى التجديد وإعادة‬
‫قراءة النص‪ .‬وفي يوم من اليام‪ ,‬كان يجلس شيخ‬

‫العلى‪.3 ,2 :‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫رواه أحمد وصححه اللباني في الصحيحة‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫التقان للسيوطي ‪. 1/56،‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫آل عمران‪.66 :‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫فاضل في درسه والناس من حوله فأشار إلى طفل‬
‫يجلس بالقرب منه فقال له‪ :‬أنت مسلم؟ فقال‪ :‬نعم!‬
‫قال الشيخ‪ :‬وتفكر؟ فقال‪ :‬نعم!‪ ,‬فرفع الشيخ رأسه‬
‫وقال للحضور وهو يشير إلى الطفل‪ :‬هذا " مفكر‬
‫إسلمي"‪ ,‬مسلم ويفكر!‪.‬‬
‫إن العلم الحقيقي لن يكون من سوى الله‪ ،‬ولهذا‬
‫قال تعالى لنبيه في بداية الوحي والنبوة‪( :‬إقرأ باسم‬
‫ربك الذي خلق)(‪ )1‬فربط العلم بالكتساب‪ ،‬وهو هنا‬
‫القراءة‪ ،‬ثم ذكر أن ذلك ينبغي أن يكون باسم الله‪,‬‬
‫بالله ولله‪ ،‬وختم الية بصفة الخلق؛ لكي يذكر بأن‬
‫الخالق هو الذي يعلّم وأن المخلوق هو المتعلّم‪ ،‬ول‬
‫ريب فجذور العلم وأصول أبواب المعرفة بالنسبة‬
‫للنسان شيء أجنبي يطلبه من خارجه‪ ،‬والذي يظن‬
‫بأن الحقائق المستقلة التي ل تعتمد في تصورها‬
‫وثبوتها على غيرها قد تولد بداخله فهو إما مدٍع للنبوة‬
‫أو مجنون‪ .‬يقول تعالى بعد ذلك (خلق النسان من‬
‫علق)(‪ )2‬أي يا محمد أنت مخلوق من علق فإن وجدت‬
‫نفسك في حيرة من أمر هذا الوجود والعلم بحقيقته‬
‫فل تقلق لذلك فهذا أمر ملزم لكل شيء حادث‬
‫الوجود‪ ،‬فالصل أنك علق‪ ،‬والصل أنك جاهل ول علم‬
‫لك إل ما علّمك الله‪ ،‬والله هو الذي خلقك من علق‬
‫وشهد خلقك ونشأتك وقام عليها بقيوميته فإليه الملتجأ‬
‫وعليه التكلن‪ ،‬وهو (الكرم * الذي علم بالقلم * علم‬
‫النسان ما لم يعلم)(‪ )3‬وهذا هو أول موضع يصف الله‬
‫نفسه فيه بالكرم لنبيه فربط ذلك بالعلم‪ ،‬فقال‬
‫(الكرم * الذي علم بالقلم * علم النسان ما لم‬
‫يعلم)؛ لكي يدرك النبي ‪ r‬عظمة هذا الوحي الذي‬

‫() العلق‪.1 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() العلق‪.2 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() العلق‪ 3 :‬ـــ ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪71‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫يأتيه‪ ،‬ثم قال (كل إن النسان ليطغى أن رآه‬
‫استغنى)(‪ ،)1‬فذكر الله عز وجل أن من طبيعة النسان‬
‫الطغيان‪ ،‬وهو مجاوزة الحد‪ ،‬وهو هنا مجاوزة الحد في‬
‫تعظيم النفس‪ ،‬فالنسان يطغى إذا رأى أن قد استغنى‬
‫بما لديه من مكاسب محسوسة يظن أنها تغنيه عن كل‬
‫ما سواها‪ ،‬فمن يجد نفسه قادرة على إدارة حياته‬
‫بطريقة مجدية‪ ،‬بحيث يأكل ويشرب وينكح ويجمع‬
‫المال يرى أنه قد استغنى عن عــلم الله‪ ،‬وتعليم الله‪،‬‬
‫وما جاء من الله‪ ،‬فهو يعيش بحذقه يفكر ويمضي في‬
‫حياته بما لديه من عقل يصرف به أموره‪ ،‬فيترك العلم‬
‫الذي جاء من الله‪ ،‬ويعرض عن دين الله‪ ،‬وهذه خدعة‬
‫شيطانية يقع فيها كثير من الخلق الذين يمارسون‬
‫الحياة بطريقة بهيمية‪ ،‬بحيث يرونها المأكل والمشرب‬
‫والتلذذ‪ ،‬ثم ينغمسون في ذلك كله‪ ،‬ويتركون الدين‬
‫وراء ظهورهم؛ بل ان حتى بعض السلميين ممن‬
‫يعلنون العمل للسلم إذا وجدوا القوة في شيء هو‬
‫على كثير من مخالفة دين الله أخذوا به بحجة تقدير‬
‫المصلحة والمفسدة‪ ،‬فيستغنون عن الله ليصلوا إليه‪،‬‬
‫مع أن النبي ‪ r‬ما كان يستغني إل بالحق الذي جاءه من‬
‫الله‪ ،‬وما كان يروّج السلم بين الناس كما يروّج التاجر‬
‫الحريص الجبان بضاعته بالمراوغة والمخاتلة وعدم‬
‫الوضوح؛ بل كان يصف السلم على حقيقته‪ ،‬أميناً‬
‫عليه مؤمنا ً به‪ ،‬ل يخرم من أصوله شيئا تحت أي‬
‫سة السلمي رضي الله‬ ‫ظرف؛ حتى قال عمرو بن عَب َ َ‬
‫عنه‪ :‬سمعت برجل بمكة يخبر أخباراً‪ ،‬فقعدت على‬
‫راحلتي فقدمت عليه‪ ،‬فإذا رسول الله ‪ r‬مستخفياً‬
‫جرءاء عليه قومه‪ ،‬فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة‪،‬‬
‫فقلت له‪ :‬ما أنت؟ قال ‪« :‬أنا نبي»‪ ،‬فقلت‪ :‬وما نبي؟‬
‫قال‪« :‬أرسلني الله»‪ ،‬فقلت‪ :‬وبأي شيء أرسلك؟ قال‪:‬‬
‫حد الله‬ ‫«أرسلني بصلة الرحام‪ ،‬وكسر الوثان‪ ،‬وأن يو ّ‬

‫() العلق‪.6 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫ل يشرك به شيء»‪ ،‬قلت له‪ :‬فمن معك على هذا؟‬
‫قال‪« :‬حر وعبد»‪ ،‬قال‪ :‬ومعه يومئذ أبو بكر وبلل ممن‬
‫آمن به‪ ،‬فقلت‪ :‬إني متبعك‪ ،‬قال‪ :‬إنك ل تستطيع ذلك‬
‫يومك هذا‪ ،‬أل ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى‬
‫أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني» (‪ .)1‬فل يمكن‬
‫أن تبني نفسك إل على مثل هذه الصراحة والوضوح‬
‫فهو ‪ ρ‬بين الصنام‪ ,‬جرءاء عليه قومه‪ ,‬يقول لرجل‬
‫غريب يسأله عن دعوته بأنه أتى بكسر الوثان‪ ،‬وأن‬
‫س‬
‫يعبد الله وحده‪ ،‬وبيّن له أنه ضعيف‪ ،‬فلم يزعم أنه د ّ‬
‫له أتباعا ً تسللوا إلى برلمان قريش المسمى دار‬
‫الندوة وأنهم يحكمون مكة من وراء ستار؛ ولكن قال‬
‫معي حر وعبد‪ ،‬فكان مؤمنا ً صادقا ً واقعياً‪ ،‬ومع هذا كله‬
‫كان موقنا ً بربه‪ ،‬وأنه على كل شيء قدير‪ ،‬فقال عد‬
‫فإذا سمعت بي قد نصرني الله وقد وعدني بذلك وهو‬
‫منجز وعده فأتني‪ ,‬فل يمكن أن تنشئ دعوة ناجحة إل‬
‫على مثل هذه الصراحة والوضوح وهذا العتزاز بالعلم‬
‫من الله والتمسك بذلك كله‪ ,‬فالصول يجب أن ل‬
‫يكون فيها اشتباه ول غموض ول تذبذب بين احتمالين‪،‬‬
‫وفرق بين أن تقع أنت على العقيدة وبين أن تقع‬
‫العقيدة عليك‪ ،‬فالذي يقع عليه السلم فيعتنقه يكون‬
‫على أهبة من التضحية والتغيير ولن يتحول كيفما‬
‫حوله الدين الجديد‪ ،‬وأما المتأسلم النفعي الذي وقع‬
‫من بطن أمه على السلم وأهله فهو ل يعرف‬
‫الجاهلية‪ ،‬فإنه ل يقدم إل على ما يعزز النفعية في‬
‫حياته‪ ،‬فإذا تعارض الدين والمنفعة في نظره وجد‬
‫للشذوذ تخريجا ً فقهياً‪ ،‬ولتباع الهوى بعدا ً فاضل ً في "‬
‫الجاهلية الرومانسية "‪ ,‬حتى قال قائلهم‪ :‬لول اشتغالي‬
‫بالدعوة إلى الله لكنت فنانا ً مسرحياً‪ ,‬فالفن رسالة‬
‫عظيمة!‪.‬‬

‫() رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪73‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫قد يظن متسائل أن هذا الكلم ما كان ينبغي أن‬
‫يكون تحت هذا الباب‪ ،‬والصحيح أنه ينبغي التوكيد على‬
‫هذه المسألة خصوصا في مراحل البناء الولى‬
‫لشخصية المسلم‪ ،‬فالذي يريد أن يزيل الذروة يزيل‬
‫حجراً؛ بينما الذي يريد أن يزيل الساس فعليه أن يزيل‬
‫البناء كله ولهذا يقول تعالى (أفمن أسس بنيانه على‬
‫تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على‬
‫شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم)(‪ ,)1‬فكل اليات‬
‫التي نزلت في ترك المداهنة وحثت على الصبر على‬
‫الحق وتوحيد مصدر التلقي للعلم إنما كانت في أول‬
‫السلم‪ ،‬فسورة الكافرون وسورة القلم وغير ذلك من‬
‫اليات الصريحات في التأكيد على نقاء المعتقد وصفاء‬
‫المبدأ كقوله تعالى في سورة يونس ــ وهي مكية ــ‪:‬‬
‫(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين ل يرجون لقاءنا‬
‫ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله‬
‫من تلقاء نفسي إن أتبع إل ما يوحى إلي إني أخاف إن‬
‫عصيت ربي عذاب يوم عظيم)(‪ .)2‬والمعنى من هذا‬
‫الباب الشارة إلى أن المانة التي حملها النسان‬
‫والخلفة في الرض التي جعلت له إنما هي معان‬
‫عقدية لها أبعاد موغلة في الزمان الول حيث نشأة‬
‫الكون ونشأة آدم والشيطان‪ ،‬وأن تلك المعاني كانت‬
‫منوطة بكل المم السابقة كما هي منوطة بنا اليوم‪،‬‬
‫وأن لله قصصا ً مع تلك المم تبعا ً لتحقيق هذه الخلفة‬
‫من عدم تحقيقها‪ ،‬فينبغي لنا أن نعود إلى كل تلك‬
‫المقدمات التي ل يعلم حقيقتها إل من استقاها من‬
‫الكتاب والسنة وتلقاها عن مشكاة رب العالمين الذي‬
‫هو خالق كل شيء وهو على كل شيء شهيد‪ ,‬فليست‬
‫الخلفة في الرض عيني فتاة جميلة ول ضفيرتيها‬
‫لتكون شغل ً للشعراء وأهل الخيالت الحالمة يتكلمون‬
‫فيها كيفما أملت عليهم مخيلتهم الرومانسية الخصبة‬
‫() التوبة‪.109 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() يونس‪.15 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫المتدبقة بكل أمر دنيوي مرغوب‪ ,‬ولسان حالهم قول‬
‫امرؤ القيس‪:‬‬
‫ميَّاِح‬ ‫َ‬
‫سدْفَةٍ ** تَغَُّرد َ َ‬ ‫سحارِ في ك ِّ‬
‫ل ُ‬ ‫ُيغَّرِد ُ بال ْ‬
‫النَدامى المط َرب (‪)1‬‬
‫ُ ِّ‬ ‫ّ‬
‫ولكنها الوظيفة الولى للنبياء والرسل ومن تبعهم‬
‫بإحسان إلى يوم الدين‪ ,‬قال تعالى‪( :‬يا داود إنا جعلناك‬
‫خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع‬
‫الهوى فيضلك عن سبيل الله * إن الذين يضلون عن‬
‫سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ‪.‬‬
‫)‬ ‫(‪2‬‬

‫وقال تعالى‪( :‬ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون *‬


‫ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه‬
‫فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ل‬
‫يؤمنون)(‪ )3‬إلى قوله (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات‬
‫واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم‬
‫أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم‬
‫زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم‬
‫حتى حين)(‪.)4‬‬

‫‪ )( 1‬لسان العرب ‪.1/557،‬‬


‫‪)( 2‬‬
‫‪ )( 3‬المؤمنون‪ 43 :‬ـــ ‪.44‬‬
‫‪ )( 4‬المؤمنون‪ 51 :‬ـــ ‪.53‬‬
‫‪75‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫حقيقة الكون والنظام‬


‫ل يكون النسان عالما ً بالشيء حتى يعلم حقيقته‬
‫التي خلقه الله عليها ومنفعته التي خلق لجلها‪ ،‬فإن‬
‫كان من صنع البشر ولم يكن من الشيء الذي استأثر‬
‫الله بخلقه فالعلم به هو معرفة حقيقته التي صنع عليها‬
‫والمنفعة التي صنع لجلها‪ ،‬فإن كان معنا ً مجردا ً ليس‬
‫له عين فالعلم به يكون بمعرفة حقيقة معنى اللفظ‬
‫الموضوع بترتب وقوعه على كل ما يدل عليه بغايته‬
‫التي عبر عنه لجلها‪ ,‬كالكذب والموت مثل‪ ,‬فل يكون‬
‫معنى الكذب واضحا ً في عقل من يريد التعرف عليه‬
‫حتى يخالف الخبر المخبر عنه‪ ،‬ول يمكن أن نعلم‬
‫بمعنى الموت ونتحقق من ذلك حتى تنقطع الحياة‪,‬‬
‫وهكذا‪ .‬هذه المعاني في تعريف العلم مأخوذة من‬
‫كتاب الله حيث يقول تعـالى‪( :‬سبح اسم ربك العلى *‬
‫الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى)(‪ ،)1‬وقال تعالى‪:‬‬
‫(قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل‬
‫شيء خلقه ثم هدى)(‪ ،)2‬فإن موسى عليه السلم قام‬
‫بتعريف ربه سبحانه وتعالى لفرعون بأنه هو الذي خلق‬
‫كل شيء فأعطاه خلقه وهيئته وقدر مقادير خلقته ثم‬
‫هداه لما خلقه له‪ ،‬ولهذا قال ابن عباس في تفسير‬
‫هذه الية‪« :‬خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنكحه‬
‫ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده» (‪ ,)3‬وقال مجاهد‪:‬‬
‫«(سوّى) خلق كل دابة ثم هداها لما يصلحها وعلمها‬
‫إياه ولم يجعل الناس في خلق البهائم‪ ،‬ول خلق البهائم‬

‫() العلى‪ 1 :‬ـــ ‪.3‬‬ ‫‪1‬‬


‫() طه‪ 49 :‬ـــ ‪.50‬‬ ‫‪2‬‬
‫() تفسير الطبري ‪. 421/ 8 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫في خلق الناس؛ ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا»‬
‫(‪ ,)1‬فإن كان هذا الجواب من موسى عليه السلم‬
‫لفرعون جوابا ً نافيا ً الجهل بالله في عقل فرعون فإن‬
‫عكسه هو العلم الذي ينفي الجهل عن كل مخلوق في‬
‫عقل أي متسائل‪ ,‬أي أن المخلوق المراد العلم به هو‬
‫ذلك الشيء الذي خلقه الله بتلك الخلقة والهيئة‬
‫المعينة لجل تلك الغاية المعلومة‪ ،‬فهذا هو العلم‬
‫بالشيء بأن تعرف حقيقة خلقته التي خلق عليها‬
‫بمنفعته التي خلق لجلها‪ ،‬وقل في المصنوع والمعاني‬
‫المجردة مثل ذلك‪ .‬وهذه الطريقة في تعريف الشياء‬
‫هي ما جاء في كلم الله عز وجل كما قال تعالى في‬
‫سورة الواقعة‪( :‬نحن خلقناكم فلول تصدقون * أفرأيتم‬
‫ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن‬
‫قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن‬
‫نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد علمتم‬
‫النشأة الولى فلول تذكرون * أفرأيتم ما تحرثون *‬
‫أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه‬
‫حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن‬
‫محرومون * أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم‬
‫أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء‬
‫جعلناه أجاجا فلول تشكرون * أفرأيتم النار التي تورون‬
‫* أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن‬
‫جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك‬
‫العظيم)(‪.)2‬‬
‫بعد الشارة إلى هذه المعاني المذكورة تعلم أنه ل‬
‫يمكن أن تدرك حقيقة أي نظام حتى تدرك حقيقة كل‬
‫العناصر الداخلة فيه من حيث حقيقة تركيبها وتنشئتها‪،‬‬
‫ومن حيث غايات صنعها التي أوجدت هي من أجلها‪،‬‬
‫وكذلك طريقة عملها؛ لكي تكون محققة لتلك الغايات‬

‫() تفسير الطبري ‪. 421/ 8 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الواقعة‪ 57 :‬ـــ ‪.74‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪77‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫التي تم إيجادها من أجلها‪ ,‬ولهذا تجد ان الله عز وجل‬
‫يتكلم عن تراكيب مادية في هذا الكون ليس لها دخل‬
‫بالحسنة ول السيئة‪ ،‬ول علقة لها بالمر الشرعي‪ ،‬مثل‬
‫قوله تعالى (ولقد خلقنا النسان من سللة من طين *‬
‫ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة‬
‫علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما‬
‫فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله‬
‫أحسن الخالقين)(‪ )1‬فإن قيل بأن الله ذكر هذا ــ فقط‬
‫ــ ليثبت أنه أحسن الخالقين‪ ،‬لقلنا بأنه يكفي أن يقول‬
‫لنا بأنه أحسن الخالقين فنؤمن بذلك دون كل هذه‬
‫التفاصيل‪ ،‬فإن آمنا بأنه خالق كل شيء أفل نؤمن أنه‬
‫أحسن الخالقين؟! ولكن المعنى هو أن يبين لنا حقيقة‬
‫هذا الشيء المسمى النسان الذي خلقه ولم يكن في‬
‫حين من الدهر شيئا مذكورا؛ لن هذا ركن من أركان‬
‫معرفة الدمي نفسه‪ ،‬ويبقى بعد ذلك الركن الخر وهو‬
‫لي غاية خلق الله هذا النسان؟‪ ,‬وكذلك هي الحال‬
‫في كلمه عن البرد في قوله تعالى (ألم تر أن الله‬
‫يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق‬
‫يخرج من خلله وينزل من السماء من جبال فيها من‬
‫برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد‬
‫سنا برقه يذهب بالبصار)(‪.)2‬‬
‫والفرق بين إشاراتنا هذه وبين قول من يجعل‬
‫القرآن دفترا ً يشرح كل موجود على الرض وكل‬
‫ً‬
‫مخترع جديد هو أننا نقول بأن الله ما ترك مخلوقا من‬
‫مخلوقاته التي أوجدها على الرض أو في السماء‬
‫وسيحتاج ابن آدم العلم بها في الدنيا أو الخرة إل وقد‬
‫أشار إلى أجناسها بشيء من تفصيل خلقتها أو أصل‬
‫مادتها وغاية خلقها؛ ليكون تركيب هذا العالم واضحاً‬
‫في ذهن وخيال كل مسلم‪ ،‬وقبل هذا علم آدم السماء‬

‫() المؤمنون ‪ 13 :‬ـــ ‪.14‬‬ ‫‪1‬‬


‫() النور‪.43 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫كلها حتى قال ابن عباس‪« :‬عرض عليه أسماء ولده‬
‫إنسانا ً إنسانا ً والدواب فقيل‪ :‬هذا الجمل هذا الحمار‬
‫هذا الفرس وكل شيء»(‪ .)1‬وقد تكلم النبي ‪ ρ‬في بعض‬
‫ن كان يريد التنبيه إليها تصب في‬ ‫الحاديث عن معا ٍ‬
‫مثل هذا الباب الذي نتكلم فيه الن‪ ،‬فقد جاء في‬
‫الصحيحين أنه ‪ ρ‬قال‪ « :‬بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها‬
‫فضربها فقالت ــ وفي رواية‪ :‬التفتت فقالت‪ ,‬يعني‬
‫البقرة ــ‪ :‬إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث » (‪,)2‬‬
‫وكذلك جاء في المسند بسند صحيح‪ :‬أنه أهديت إلى‬
‫رسول الله ‪ ρ‬بغلة فأعجبته فقلنا‪ :‬يا رسول الله لو‬
‫أنزينا الحمر على خيلنا فجاءت مثل هذه‪ ،‬فقال‪« :‬إنما‬
‫يفعل ذلك الذين ل يعلمون»‪ .‬ففي الحديث الول تنبيه‬
‫على أن البقرة خلقت لغراض معينه كما قال تعالى‪:‬‬
‫(وإن لكم في النعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها‬
‫ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى‬
‫الفلك تحملون)(‪ )3‬فكانت البقرة داخلة في قوله‪( :‬ولكم‬
‫فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) وليست مما يحمل‬
‫الناس عليه وقد كانت هي عالمة بذلك لنه تعالى‬
‫(أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)(‪ .)4‬فل بد للنسان‬
‫لكي يكون خليفة في الرض أن يعلم كل هذه الشياء‬
‫لكي ل يظلم فيضع الشيء في غير موضعه فإن فعل‬
‫فقد ظلم وجهل‪ ,‬ولهذا يقول ‪ ρ‬عن الذي ينزي الحمار‬
‫على الفرس بأنه فعل أفعال الذين ل يعلمون!‪,‬‬
‫فالحمار لم يخلق للفرس لنه تعالى يقول (ومن كل‬
‫شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)(‪.)5‬‬

‫تفسير ابن كثير ‪. 109/ 1،‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫رواه البخاري ‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫المؤمنون ‪.21 :‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫طه ‪.50 :‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫الذاريات‪.49 :‬‬ ‫()‬ ‫‪5‬‬
‫‪79‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫فكل جنس مكوّن من زوجين وقال تعالى (سبحان‬
‫جد نفسه‬ ‫الذي خلق الزواج كلها)(‪ ,)1‬فهو هنا يمدح ويم ّ‬
‫ت‬‫بأنه خلق لكل شيء زوج من جنسه‪ ،‬ثم يأتي آ ٍ‬
‫فينزي جنسا على غير جنسه وكأنه يقدح في حكمة‬
‫الله ويستهين بدقة حبكته وصنعته التي امتدح بها‬
‫نفسه!‪ .‬إن الحمار ليس من جنس الفرس وإنزاء‬
‫الحمار على الفرس جهل بهذه الحقيقة في تكوين‬
‫الحمار والفرس وفي غاية خلق الحمار والفرس‪ .‬وتجد‬
‫هذا المعنى في حديث البغلة يتكرر في وصفه تعالى‬
‫لعمل قوم لوط في وقوع الرجال على الرجال فإن‬
‫هذا خلل في معرفة تكوين الذكر والغاية الكونية‬
‫لتكوينه فهو خلق للنثى وليس لذكر مثله ولهذا قال‬
‫تعالى عن قوم لوط‪( :‬أئنكم لتأتون الرجال شهوة من‬
‫دون النساء بل أنتم قوم تجهلون)(‪ )2‬فوصفهم بالجهل‬
‫لنهم أغفلوا الركن الخـر في العلم بالدمي وهو الهيئة‬
‫التي خلق عليها والغاية الكونية التي خلق على هذه‬
‫الهيئة لجلها‪ ,‬فكانوا من الجاهلين جهل ً عملياً‪ .‬والذي‬
‫يجهل مثل هذه الشياء في مواطن كثيرة في نظام‬
‫الكون سيكون مصدر إفساد له ولحقيقة تكوينه‬
‫المرتبطة بمنفعته التي خلق لجلها ولهذا ينبغي أن‬
‫يكون "النسان الخليفة " عالما ً بحقائق التكوين‬
‫وغايات الخلق في كل شيء من حوله على نحو يختلف‬
‫في تفصيله وإجماله من مخلوق إلى آخر وذلك حسب‬
‫علقة الدمي بذلك المخلوق واحتياجه العلم به‪ ،‬ولجل‬
‫هذا قال تعالى‪( :‬و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت‬
‫السماوات والرض ومن فيهن)(‪ )3‬فسادا ً كونيا ً وفساداً‬
‫شرعياً؛ بل إن الساعة التي هي خراب الكون ل تكون‬
‫إل بسبب فقدان هذه المعاني الصلية في مخالفة‬
‫الشياء لغايات خلقها فقد جاء في الصحيح أن أعرابياً‬

‫() يس‪.36 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() النمل‪.55 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المؤمنون‪.71 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫سأل النبي ‪ :r‬متى الساعة؟‪ .‬وكان يسأل عن الحد‬
‫الزمني‪ ،‬فرد عليه النبي ‪ r‬بالحد السببي فقال‪« :‬إذا‬
‫ضيّعت المانة فانتظر الساعة»‪ .‬قال كيف إضاعتها؟‬
‫سد المر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ( )‪,‬‬
‫‪1‬‬
‫قال‪« :‬إذا و ّ‬
‫فأصل كل خلل في الكون هو في أن يفقد الشيء‬
‫هيئته الفاعلة التي كان يعتمد عليها في أداء وظيفته‬
‫الصلية‪ ،‬أو أن يفقد القدرة على تحقيق غايته أو‬
‫منفعته التي ينبغي له أن يحققها‪ ,‬فإذا ساد هذا الختلل‬
‫حتى صار أهم عنصر في الكون وهو الدمي ل يستطيع‬
‫تحقيق غايته التي خلق لجلها وهي التوحيد والعبودية‬
‫لله وذلك لندثار العلم وفشو الكفر كما قال ‪« :r‬ل‬
‫تقوم الساعة وعلى الرض من يقول الله الله» (‪ ,)2‬فإذا‬
‫حدث ذلك قامت الساعة؛ لن هذا العالم الذي كان‬
‫أصل خلقه ليكون حاضنا ً للنسان فقد غايته التي خلق‬
‫لجلها؛ لن النسان بدوره فقد غايته بانقراض اليمان‬
‫وتوسيده اللوهية لغير الله وصار ليس لوجوده غاية‬
‫فعندها سيعلن الله عز وجل نفخة الصعق التي ستبيد‬
‫البشر ثم يبيد من بعدهم هذا الكون بأسره حتى ينادي‬
‫سبحانه‪ :‬لمن الملك اليوم‪ ,‬فل يجيبه إل نفسه‬
‫المقدسة ‪ .‬وسنناقش هذا المر بمزيد من التفصيل في‬
‫باب العدل الكوني والشرعي‪.‬‬
‫والمعنى من إيراد هذا الباب هو الشارة إلى أن‬
‫الخلفة في الرض نوع من السيطرة أو الستمتاع أو‬
‫النتفاع‪ ،‬أو على أقل الحوال التقييم والنقد والعلم‬
‫المجرد بأن تعرف المعروف والمنكر فتعرف وتنكر‬
‫بقلبك‪ ,‬فل ينبغي لمن أُنيطت به الخلفة أن يكون جاهلً‬
‫لحقيقة الكون والنظام‪ ,‬فل بد من معرفة الشياء على‬
‫النحو النافي للجهل بها‪ ,‬بمعرفة حقيقة خلق الشيء‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪81‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫والغاية التي خلق لجلها ولهذا قال الناس عندما‬
‫كسفت الشمس‪ :‬إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم‪,‬‬
‫ولد النبي ‪ ,ρ‬فقال عليه الصلة والسلم‪« :‬إن الشمس‬
‫والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده‪،‬‬
‫وإنهما ل ينكسفان لموت أحد من الناس‪ ،‬فإذا رأيتم‬
‫منها شيئا ً فصلّوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم» (‪, 1‬‬
‫)‬

‫وما دخلت الخرافة في عقول الناس إل بجهلهم بهذا‬


‫الباب فصاروا كلما هابوا شيئا ً عبدوه‪ ،‬وكلما رأوا‬
‫مخلوقا ً ذي مركزية في نفعه عظّموه‪ ،‬فعبدوا الشمس‬
‫والقمر والنجوم والبحار والنهار والجبال والملوك‬
‫والعقل‪ ،‬واليوم يعبدون المادة وقد قال تعالى‪( :‬هو‬
‫الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل‬
‫لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إل‬
‫بالحق يفصل اليات لقوم يعلمون)(‪ ,)2‬فهو يفصل‬
‫اليات ويبين خلقتها وغاية خلقها لمن أراد أن يعلم‬
‫ويوقن بأن الله ما خلق هذا العالم باطل سبحانه‪,‬‬
‫فالذين عبدوا الشمس لم يكن لديهم من " العلم‬
‫الحقيقي " ما كان لدى يوشع بن نون عندما أراد دخول‬
‫فلسطين لقتال الكافرين كما جاء في الصحيح‪« :‬فغزا‬
‫فدنا من القرية صلة العصر أو قريبا ً من ذلك فقال‬
‫للشمس‪ :‬إنك مأمورة وأنا مأمور‪ ،‬اللهم احبسها علينا‪،‬‬
‫حبست حتى فتح الله عليه» (‪ )3‬فهو يعرف ما هي‬ ‫ف ُ‬
‫الشمس‪ ،‬ولماذا خلقت؟ وأنها مأمورة كما هو مأمور‪.‬‬
‫إن العالم في حقيقته أسهل ألف مرة مما هو عليه‬
‫في مخيّلت كثير من العقول الفاسدة التي أفسدها‬
‫الجهل بحقيقة التكوين وحقيقة الحكمة لماهيات كثير‬
‫من جزئيات هذا العالم فصارت الحياة مأساة والعالم‬

‫() متفق عليه‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() يونس‪.5 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫سجن كبير‪ ,‬فالنقص عندهم مشكلة؛ لن الكمال‬
‫الخروي مفقود‪ ،‬والحزن شعور يعني الفشل؛ لن‬
‫الشعور بالسعادة الدنيوية هو النجاح الوحيد‪ ،‬وهكذا‬
‫س ينبغي‬ ‫تتكدس الظلمات بعضها فوق بعض في أنف ٍ‬
‫أن تكون مسلمة؛ ولكنها ل تعي معنى السلم‪ ،‬ول‬
‫تعرف قصته؛ لكي تنتظم في نظامه وتسير في نسقه‪،‬‬
‫فالجهل بحقائق الشياء في ذواتهم وخارجها أفقد‬
‫الشياء منفعتها علما ً وعملً؛ حتى صار لسان حال بعض‬
‫القوم يقول ما قاله أهل الوجودية‪" :‬التقط اللذة ولو‬
‫من المرحاض! "‪ ,‬بل إن بعضهم يعيش على ما يسمى‬
‫بنظرية (النتروبي) التي تنص على أن العنصر يبلغ قمة‬
‫فاعليته في البيئة التي تحتويه إذا فقد النظام انضباطه‬
‫بشكل كامل؛ لنه حينها فقط يكون كل عنصر فيه قد‬
‫تحرر من كل القيود‪ ،‬فيبلغ ذروته في حرية التصرف‬
‫والنتقال الذين يترتب عليهما أكبر كم من المصادفات‬
‫‪ .‬وهذا ما قد يسمونه بـ "الفوضى الخلَقة" أي التي‬
‫ما ً هائل ً من الحتمالت بكافة أنواعها وتراكيبها‪,‬‬
‫تنتج ك ّ‬
‫والذي يعيش على مثل هذه المبادئ العدمية ل ينبغي‬
‫أن يؤتمن على حمار أهله ناهيك عن جعله خليفة لله‬
‫في الرض وإن صنع الصاروخ وأنشأ المدن تحت الماء‪,‬‬
‫وهؤلء قال الله عنهم‪( :‬ألم تر إلى الذين يجادلون في‬
‫آيات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبما‬
‫أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون * إذ الغلل في‬
‫أعناقهم والسلسل يسحبون * في الحميم ثم في النار‬
‫يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من‬
‫دون الله‪ ,‬قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل‬
‫شيئا كذلك يضل الله الكافرين * ذلكم بما كنتم‬
‫تفرحون في الرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون *‬
‫أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى‬
‫المتكبرين)(‪.)1‬‬

‫() غافر‪ 69 :‬ـــ ‪.76‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪83‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫قصة نشوء الكون وإثبات الخالق‬
‫والمخلوق‬
‫قال تعالى‪( :‬الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان‬
‫للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس‬
‫وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال‬
‫الكافرون إن هذا لساحر مبين * إن ربكم الله الذي‬
‫خلق السماوات والرض في ستة أيام ثم استوى على‬
‫العرش يدبر المر ما من شفيع إل من بعد إذنه ذلكم‬
‫الله ربكم فاعبدوه أفل تذكرون * إليه مرجعكم جميعا‬
‫وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين‬
‫آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم‬
‫شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو‬
‫الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل‬
‫لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إل‬
‫بالحق يفصل اليات لقوم يعلمون * إن في اختلف‬
‫الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والرض‬
‫ليات لقوم يتقون * إن الذين ل يرجون لقاءنا ورضوا‬
‫بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون‬
‫* أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون)(‪ ,)1‬وعن‬
‫عمران بن حصين قال‪ :‬إني عند النبي ‪ r‬إذ جاءه قوم‬
‫من بني تميم فقال‪« :‬اقبلوا البشرى يا بني تميم»‪.‬‬
‫شرتنا فأعطنا‪ ،‬فدخل ناس من أهل اليمن‬ ‫قالوا‪ :‬ب ّ‬
‫فقال‪« :‬اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو‬
‫تميم»‪ .‬قالوا‪ :‬قبلنا‪ ,‬جئناك لنتفقه في الدين‪ ،‬ولنسألك‬
‫عن أول هذا المر ما كان‪ ،‬قال‪« :‬كان الله ولم يكن‬

‫() يونس‪ 1 :‬ـــ ‪.8‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪85‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫شيء قبله‪ ،‬وكان عرشه على الماء‪ ،‬ثم خلق‬
‫السماوات والرض وكتب في الذكر كل شيء»‪ .‬ثم‬
‫أتاني رجل فقال‪ :‬يا عمران‪ ،‬أدرك ناقتك فقد ذهبت‪،‬‬
‫فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها‪ ،‬وايم الله‬
‫لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم (‪.)1‬‬
‫يذكرنا الله تعالى في الدليل الول في اليات‬
‫الكريمة بحكمة كلمه في قوله‪( :‬تلك آيات الكتاب‬
‫الحكيم)؛ لنه سيسوق لنا ترتيبا ً حكيما ً لمور غيبية ل‬
‫يمكن للمؤمن أن يصل إلى حقيقة تكوين العالم وكنهه‬
‫وماهيته إل بها‪ ،‬وهي كون هذا القرآن جاء على لسان‬
‫رجل نبي ل ينطق عن الهوى؛ وإن كان من القوم‬
‫ومثلهم يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون غير‬
‫أنه يوحى إليه من أمر الله ما قد كلف بتبليغه الخلق‬
‫من النذارة والبشارة والمصير الخير الذي إما أن‬
‫يكون إلى الجنة وإما أن يكون إلى النار‪ ،‬ثم يصف‬
‫تبارك وتعالى من أنكر هذه المقدمة التي هي اليمان‬
‫بنبوة محمد ‪ ρ‬بأنه كافر؛ لن كل ما سيأتي بعد ذلك من‬
‫أمر الغيب إنما هو فرع عن اليمان بذلك‪ .‬بعد ذلك‬
‫تكلم الله عز وجل عن خلق السماوات والرض‪ ،‬وأن‬
‫خالقها هو الرب الذي خلقها في ستة أيام ثم استوى‬
‫على العرش كما يليق بجلله وعظمته يدبر أمر خلقه‪،‬‬
‫ثم يذكر بأنه ل شفيع إل من بعد إذنه فهو الخالق وهو‬
‫المالك الحقيقي لكل مملوك بما في ذلك النسان‬
‫نفسه‪ ،‬فهذا الرب سبحانه الذي يملك منك نفسك من‬
‫دونك حقيق بأن يكون هو المعبود الذي ترفع إليه‬
‫الحاجات‪ ،‬وتطلب من عنده المكرمات‪ ،‬وإليه يرجع‬
‫المر كله بما في ذلك مصير النسان نفسه‪ .‬إن هذا‬
‫الرجوع إلى الله هو وعده الذي وصفه بأنه "حق "؛ لن‬
‫الذي بدأ الخلق يعلم بأن هذه النشأة الولى للخلق‬
‫سيترتب عليها كثير من المظالم‪ ،‬فكانت إعادة الخلق‬

‫() متفق عليه‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫من كمال عدله؛ ليفصل بين الناس ما ترتب على‬
‫خلقهم الول ويجزي كل نفس بما كسبت‪ ،‬ثم يختم‬
‫الكلم في هذه الجزئية بالحديث عن السيئات‬
‫والحسنات؛ لنها هي ميزان العودة الجديدة‪ ،‬والنشأة‬
‫الثانية يوم النشور‪ ،‬وقد قال قتادة في قوله تعالى‪:‬‬
‫(ولقد علمتم النشأة الولى فلول تذكرون) ‪ :‬يعني خلق‬
‫آدم لست سائل أحدا من الخلق إل أنبأك أن الله خلق‬
‫آدم من طين(‪ ,)1‬فالذي ل يكون في عقيدته اليمان‬
‫بهذه النشأة الولى لن يكون فيها شيء من إيمان‬
‫بالنشأة الثانية ولهذا يكرر الله عز وجل ذكر نشأة‬
‫العالم ونشأة النسان في مواضع كثيرة من كتابه‬
‫لنهما هما أصل كل عقيدة في الله ‪ .‬في آخر اليات‪,‬‬
‫ينتقل تبارك وتعالى إلى ذكر تكوين العالم وتفصيل‬
‫منافع ذلك التكوين وتسخيره لبني البشر‪ ،‬وأن هذا‬
‫التسخير دليل عقلي لمن تفكر‪ ،‬وأن هذه الحياة لمر‬
‫ما قد أوجدت‪ ،‬وأن الذين يكتفون منها بالستمتاع‬
‫بمنافع الدنيا دون النظر إلى غايات خلقها ويركنون إلى‬
‫ذلك سيكون مصيرهم إلى النار‪ ،‬وقد أشار إلى هذا‬
‫المعنى محمد أبو السعود في تفسيره لقوله تعالى‪:‬‬
‫(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي لليمان أن آمنوا بربكم‬
‫فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع‬
‫البرار)(‪ ,)2‬قال‪ :‬فإن معرفة سر خلق العالم وما فيه‬
‫من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه‬
‫من العمال الصالحة وتنزيه الخالق تعالى عن العبث‬
‫من دواعى الستعاذة مما يحيق بالمخلّين بذلك من‬
‫وجهين؛ أحدهما‪ :‬الوقوف على تحقق العذاب‪ ،‬فالفاء‬
‫لترتيب الدعاء على ما ذكر‪ .‬والثاني‪ :‬الستعداد لقبول‬
‫الدعاء‪ ،‬فالفاء لترتيب المدعو أعنى الوقاية على ذلك‬
‫كأنه قيل‪ :‬وإذ قد عرفنا سّرك وأطعنا أمرك ونزهناك‬
‫عما ل ينبغى فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين ل‬
‫() تفسير الطبري ‪.653/ 11،‬‬ ‫‪1‬‬
‫() آل عمران‪.193 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪87‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫يعرفون ذلك (‪ .)1‬فكلمه يدور على أن فهم قصة خلق‬
‫العالم أصل أصيل في تكوين اليمان المطلوب للنجاة‬
‫من النار‪ ،‬وهذا هو مقتضى قوله تعالى‪( :‬وما خلقنا‬
‫السماء والرض وما بينهما باطل ذلك ظن الذين كفروا‬
‫فويل للذين كفروا من النار)(‪.)2‬‬
‫في حديث عمران بن حصين ‪ t‬دليل على أن‬
‫السؤال عن نشوء العالم هو أصل اليمان الول؛ لن‬
‫النبي ‪ r‬قال مجيبا ً على سؤالهم‪ :‬حدثنا عن أول هذا‬
‫المر؟ بقوله‪« :‬كان الله ول شيء غير الله»‪ ،‬ثم تكلم‬
‫عن المخلوق بعد أن اثبت الخالق‪ .‬وفي الحديث دليل‬
‫على مدى سعة خيال الصحابة رضوان الله عليهم‬
‫ومدى شمول تفكيرهم فهم على ما هم عليه من‬
‫بساطة حال تجشموا عناء السفر من اليمن إلى‬
‫المدينة وقطعوا المفازات وتعرضوا للمشقة العظيمة‬
‫لكي يسألوا النبي ‪ :r‬كيف نشأ هذا العالم؟ حدثنا عن‬
‫أول هذا المر!‪.‬‬
‫كثير ممن تورط بثقافات الغرب وعاش تطورات‬
‫البشرية اليوم حتى صار ينظر إلى الكتاب والسنة على‬
‫أنها كتب صفراء قديمة ل تفيد في واقع الحياة ول تحل‬
‫من أزمة الفكر النساني اليوم شيئاً‪ ،‬فكثير ممن هم‬
‫على هذه الشاكلة الملحدة لم يبلغ أحدهم في قرارة‬
‫نفسه وسعة خياله أن يسأل نفسه بجدية‪ :‬كيف نشأ‬
‫هذا العالم؟ ناهيك على أن يعتقد حقا ً أن في هذا‬
‫العالم من سيجيب على تساؤله هذا بجواب صحيح‬
‫يشفي غليل الضالين عن الحقيقة‪ ,‬وما أكثرهم‪ ,‬حتى‬
‫أن فيلسوفا ً من كبار فلسفة أوروبا في عصر النهضة‬
‫اسمه " شوبنهور " عندما يأس من تفسير العالم‬
‫وتعليل تقلبات المجتمعات عبر الزمان مع إلحاده‬

‫() تفسير القران لبي السعود ‪. 131/ 2،‬‬ ‫‪1‬‬


‫() ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬
‫وضعف عقله وضع نظرية فلسفية مشهورة هي‬
‫(نظرية عدم جدوى الوجود)(‪ .)1‬التي مفادها أن البشر‬
‫في هذا العالم ــ بالتجربة واستقراء التاريخ ــ لن يبلغوا‬
‫درجة النسانية المطلوبة والمأمولة‪ ،‬بحيث يعيشون‬
‫في ود وسلم بل ظلم وبل استعلء وتكبر فيما بينهم‬
‫وبل سفك دماء‪ ،‬وأنهم سيبقون لصوصا ً وكذابين وقتلة‬
‫‪ .‬وبناءا على ذلك فقد نصت النظرية على حث البشر‬
‫على عدم التناسل؛ لكي يقوم البشر بعملية انقراض‬
‫طوعي لجنسهم وعنصرهم وجعل الجيل الذي كتبت‬
‫فيه النظرية هو آخر جيل على وجه الرض؛ لكي‬
‫تتوقف هذه التجربة الكونية الفاشلة للنسان على حد‬
‫زعم ذلك الفيلسوف!‪ .‬ولم تكن هذه نزعة فردية في‬
‫الغرب بل كان يرافقها كثير من السفاهات التي كانت‬
‫تطرح على أعلى المستويات العلمية مثل ما فعله‬
‫فيلسوف ألماني(‪ )2‬كان يقول بأنه ل يستطيع أن يتصور‬
‫بأن هذا العالم نشأ بل رب وعندما قيل له‪ :‬كيف تصر‬
‫على اليمان بأن لهذا العالم رب خلقه وأنت ترى كل‬
‫هذا الظلم فيه؟ أين ربك ليعدل بينهم؟ فما كان منه إل‬
‫أن قال عبارته المشهورة عندهم‪( :‬إن ربي خلق هذا‬
‫العالم ثم مات!) ‪ ,‬بينما اعتنق صنف آخر اللحاد مثل‬
‫نيتشه الذي قال ‪ ( :‬إن الله مات و نحن الذين قتلناه و‬
‫بات على النسان السوبرمان أن يدير هذا العالم ) ‪,‬‬
‫قتلناه أي اكتشفنا بالعلم و التجربة أن الله مجرد‬
‫خرافة ‪ ,‬تعالى الله عما يقولون ‪ ,‬و من نظرية داروين‬
‫و فلسفة نيتشه بنا هتلر منهجه النازي القائم على‬
‫و النتقاء الطبيعي ‪.‬‬ ‫الصفاء العرقي‬
‫عندما تبنى الفرضية فوق فرضية أخرى و يتحول‬
‫تطور العالم إلى سلسلة من الظنون التي يتبناها بعض‬
‫المثقفين ينتقل المجتمع بأكمله إلى عالم آخر من‬

‫() ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪89‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫المسلمات و المقاييس النسانية الجديدة ‪ .‬هنا نجد‬
‫ميرتشيا إلياده يحاول تلخيص الخطوات الفرضية التي‬
‫سبقت النمساخ الغربي فيقول ‪ ( :‬كانت الدعاية‬
‫المادية في أوجها في أواسط القرن التاسع عشر حيث‬
‫ألف أوغست كونت ‪ 1855 ,‬م ‪ ,‬كتابه " التعاليم الوضعية‬
‫" و كذلك " نسق السياسة الوضعية " ثم نشر بوخنر‬
‫كتابه " القوة و المادة " الذي يريد أن يبرهن فيه‬
‫على أن الطبيعة تفتقد للغائية و أن الحياة قد نشأت‬
‫عن التولد التلقائي و أن الروح و العقل وظيفتان‬
‫عضويتان كما أكد أن العقل عبارة عن مجموع القوى‬
‫المجتمعة في الدماغ و أن ما يسمى بالنفس أو الروح‬
‫هي عبارة عن مجالت مغناطيسية ناتجه عن كهرباء‬
‫البدن‪ .‬و في العام ‪ 1856‬م نشر ماكس موللر كتابه "‬
‫مقالت في الميثيولوجيا المقارنة " ثم ظهر " أصل‬
‫النواع " لداروين الذي أصل النزعة المادية عام ‪1858‬‬
‫م ‪ .‬ثم كتب هربرت سبنسر " المبادئ الولى " عام‬
‫‪ 1862‬م محاول إثبات أن الكون نشأ من تحول غامض‬
‫طرأ على المادة الولنية نقلها من تجانس غير محدد‬
‫إلى حال تغاير محدد ‪ .‬و سرعان ما سرت هذه‬
‫النظريات في الغرب فأخذت بعقول المتعلمين و‬
‫أفئدتهم وصار لها شعبية منقطعة النظير مما نتج عنه‬
‫كثمرة لكل هذا كتاب آرنست هايكل " قصة الخليقة‬
‫على المذهب الطبيعي " فنشر عام ‪ 1868‬م ليطبع منه‬
‫في أقل من أربعين سنة عشرين طبعة ‪ . )1( ) .‬هذا كله‬
‫يفسر شدة النزعة اللحادية لدى الغرب فكفرهم كفر‬
‫شجاع ‪ ,‬لنه يثق بنفسه بناءا على تجربة علمية و‬
‫نظريات فرضية يرى هو صحتها ‪ ,‬فهو موهوم بأنه‬
‫يمتلك على صحة كفره البرهان ‪ ,‬و لكن الغريب في‬
‫ملحد من المسلمين يزعم بأنه يؤمن بالكتاب و السنة‬
‫ثم تراه يقول بقول الغرب في كثير من مناهجه التي‬
‫() البحـث عـن التاريـخ و المعنـى فـي الديـن ‪ ,‬ميرتشيـا إلياده ‪ ,‬ص‪:‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪. 115 -114‬‬
‫بناها على كفر مبرر سابق ‪ ,‬فهما نقيضان ل يجتمعان و‬
‫لكنها لوثة التقليد العمى لدى بعض المثقفين الذين ل‬
‫يجيدون حتى الكفر ناهيك عن إجادة السلم ‪ .‬فكم‬
‫هم مساكين و بسطاء ‪ ,‬يذكرونني بقصة الحمق الذي‬
‫عندما أراد إثبات شراسته و شدته قام بقتل أبيه فهؤلء‬
‫يحسبون التقدم بمجرد الكفر بالموروث ‪ ,‬و مخالفة‬
‫الراهن بل رؤية ‪ ,‬و ل فهم ‪ ,‬مع أن الصحيح أن حتى‬
‫الكفر يحتاج إلى وعي ‪ ,‬و منطقية ‪ ,‬و خيال جريء‬
‫على التجربة ‪ ,‬فالغرب ل يترك مبدأ ما حتى يجد له‬
‫بديل منطقيا – حسب تصوره لمفهوم المنطق‪ -‬يكون‬
‫هو على قناعة به ‪ ,‬بينما كفارنا اليوم يمارسون الكفر‬
‫المعلب و استنساخ تجارب المم الخرى التي لها‬
‫معطيات و عناصر تختلف تماما عما لدينا !‪.‬‬
‫وقد ضل في مسألة تعليل العالم وما فيه من‬
‫العناصر خلق كثير؛ ولكن الضلل يكون واضحا أكثر‬
‫فيمن عاش بعيدا ً عن نور الوحي؛ لن هذا العالم مليء‬
‫بعناصر خفية لها تأثير واضح فيه نحن ل نراها ول يمكن‬
‫أن نتصور وجودها بل وحي فالملئكة والجن‪ ,‬خصوصاً‬
‫الشياطين منهم‪ ,‬الذين يديرون كل مصائب العالم‬
‫وآلمه ويقفون وراءها‪ ،‬فإبليس يضع عرشه على الماء‬
‫ويبث سراياه وجنوده في الناس‪ ،‬ويدير المؤامرات‬
‫ويؤثر في العالم والبشر تأثيرا ً منظما ً مدروساً‪ ،‬فكل‬
‫مولود يولد يوكل به قرين من أتباعه يوسوس له‪،‬‬
‫ويغري البشر بمعصية الله ويزين لهم ذلك‪ ،‬ويسعى‬
‫في الرض فساداً‪ ،‬ويجيش الجنود من بني البشر الذين‬
‫ل يؤمنون بوجوده ويجلس على عواتقهم يسوقهم‬
‫ويوحي إليهم فيتحدثون له وعنه ويدعون الناس إلى‬
‫دين الكفر بمنطق وهيئة الدميين‪ .‬ول تزال الشياطين‬
‫تشارك النسان حتى في لقمته وبضع زوجته وهو ل‬
‫يشعر ولو أن فلسفة أوروبا قرأوا صحيح البخاري‬
‫مؤمنين به لوجدوا قوله ‪« :ρ‬لتؤدن الحقوق إلى أهلها‬
‫‪91‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة‬
‫القرناء»‪ .‬ولما دعوا البشرية إلى أن تبيد كما باد‬
‫الديناصور‪ ،‬ولما زعموا أن لهم رب خلق العالم ثم‬
‫مات كأي نجارٍ هرم مسكين غير أن الله يختص بنوره‬
‫من يشاء‪ .‬أما عمران ومن معه رضوان الله عليهم‬
‫على بدائية حالهم وتقدم زمانهم فإن الله وهبهم عقولً‬
‫تستوعب الدنيا والخرة وتطلب الكمال بتكامل الدنيا‬
‫مع الخرة فهم يعلمون أن لهذا العالم رب ل يموت‪,‬‬
‫بدأ خلقه ثم يعيده وعدا ً عليه حقا ً ليجزي كل نفس بما‬
‫كسبت ولكن أكثر الناس ل يعلمون‪.‬‬
‫إن تجاهل النشأة الولى للكون وللنسان وتفصيل‬
‫علقات مقومات العالم الصلية مع بعضها البعض‬
‫يورث الرتباك في ترتيب المعتقد الفكري والنفسي‬
‫تجاه العالم وغايته‪ ،‬وتجاه القيم الحقيقية لفراد‬
‫المخلوقات في هذا الوجود‪ ،‬ولهذا يستشهد سبحانه‬
‫على وجوب المعاد بذكر المبدأ كما في قوله‪( :‬نحن‬
‫قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن‬
‫نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد علمتم‬
‫النشأة الولى فلول تذكرون)(‪ .)1‬إن اليمان بهذه النشأة‬
‫الولى للنفس البشرية وللكون يستصحب الشعور بأنه‬
‫ليس لبن آدم من المر شيء‪ ,‬وأنه أجير في ملك‬
‫غيره‪ ،‬فل يفتري الغايات من تلقاء نفسه‪ ،‬ويعطي‬
‫التقييمات لشياء هو لم يخلقها؛ بل ربما ل يعلم‬
‫حقيقتها‪ ،‬وأنه كان في يوم من اليام " شيئا ً مستقلً‬
‫بذاته " عن كل تفاصيل هذه الحياة الدنيا التي تحيط به‬
‫ليدرك أنه لم يخلق كجزء منها وهي لم تخلق لتكون‬
‫جزءا ً منه‪ ،‬فل تلزم بين مسار الدمي وتحقيقه‬
‫للشخصية الدمية المثالية وبين مسار العالم في‬
‫تطوراته المادية على شتى تفسيرات كلمة "تطوّر"‬
‫كما تفهم اليوم‪ ,‬وكم هو شخص جاهل بطوية النفس‬

‫() الواقعة ‪ 60 :‬ـــ ‪.61‬‬ ‫‪1‬‬


‫البشرية وحقيقة النتماءات العقدية في الكون من‬
‫يقول متعجبا ً متحسراً‪ :‬صعد النسان القمر ومازال‬
‫النسان يقتل النسان؟! فلعل النسان ما صعد إلى‬
‫القمر إل ليقتل النسان من هناك!‪ .‬وقد قرر علماء‬
‫الجتماع في الغرب هذه الحقيقة التي تنص على أن‬
‫التطور الصناعي ل يعني التطور النساني‪ ،‬وأن‬
‫النسانية المثالية والمجتمع المثالي ل علقة لهما من‬
‫حيث إمكانية التكوين وحقيقة الوجود بالتطور المادي‬
‫لحضارة البشر‪ ،‬فيقول العالم (إنتوني غدينز) في كتابه‬
‫"علم الجتماع " وهو يتكلم عن المجتمعات القديمة أو‬
‫ما قبل المجتمع الحديث‪ :‬إن نسبة التفاوت وعدم‬
‫المساواة في مجتمعات الصيد ضئيلة جدا ً ول يهتم‬
‫أفراد هذه المجتمعات بتجميع الثروة المادية بما يتجاوز‬
‫احتياجاتهم الساسية‪ .‬وتنحصر اهتماماتهم عادة بالقيم‬
‫الدينية والنشطة الحتفالية والشعائرية(‪ .)1‬ثم يقول‪ :‬و‬
‫ن إلى تلك‬‫جد أو نح ّ‬‫ل يعني ذلك بطبيعة المر أن نم ّ‬
‫الوضاع التي كان يعيشها الصيادون وجامعوا‬
‫المحاصيل‪ .‬بيد أن غياب الحرب وانعدام اللمساواة‬
‫في الثروة والقوة والتأكيد على التعاون بدل ً من‬
‫المنافسة في تلك المجتمعات تذكرنا كلها بأن العالم‬
‫الذي خلقته الحضارة الصناعية الحديثة ل يمكن بأي‬
‫حال من الحوال أن يكون مرادفا ً لمفهوم "التقدم" ‪.‬‬
‫)‬‫(‪2‬‬

‫وقد اختصر النبي ‪ r‬كل هذا العناء من استقراء للتاريخ‬


‫ومعاناة تجريبية للبحث عن المجتمع المثالي عندما‬
‫قال‪« :‬من أصبح منكم آمنا ً في سربه معافى في‬
‫جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا»‪ .‬فقوام‬
‫المجتمع المثالي كما يقرره علماء الجتماع يكون في‬
‫الستقرار والتكامل‪ ،‬وزاد الحديث على هذا الفهم‪،‬‬
‫فدل على أن قوام المجتمع المثالي بالضافة إلى‬

‫() علم الجتماع ‪ ،‬إنتوني غدينز ‪ ،‬ص ‪. 93‬‬ ‫‪1‬‬


‫() علم الجتماع ‪ ،‬إنتوني غدينز ‪ ،‬ص ‪. 93‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪93‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫المن والستقرار والتكامل "في السرب"‪ ,‬أيضاً‪ ,‬تمام‬
‫العافية في الجسد‪ ،‬والكتفاء الذاتي في القوت‪ ،‬فإذا‬
‫فقد شيء من هذا فقد اختل المجتمع‪ ،‬وأي مؤثر يدخل‬
‫على المجتمع ليخل بشيء من هذه الساسيات فهو‬
‫مؤثر سوء وفوضى‪.‬‬
‫إن ما يقع فيه الناس اليوم من ربط بين تطور‬
‫العالم وتطور النسان هو مجرد عرض من أعراض‬
‫"وسواس الخلود الرضي" الذي صار جزءا ً من العقل‬
‫الجمعي في كثير من المجتمعات إن لم يكن كلها؛ بل‬
‫إن فكرة الوطنية المقدسة والنتماء الوطني في كل‬
‫العالم إنما نتجت عن هذا الوسواس القديم‪ ،‬حتى قال‬
‫الله لبعض من سلف منهم‪( :‬أولم تكونوا أقسمتم من‬
‫قبل ما لكم من زوال)(‪ .)1‬مع أن الدين ل ينافي الوطنية‬
‫الخالية من المعاني الجاهلية‪ ،‬فالسلم يدعو إلى‬
‫الدفاع عن معاقل السلم التي يقطنها المسلمون‪ ،‬أو‬
‫توجد فيها مصالح المسلمين‪ ،‬فالوطن المسلم ليس‬
‫أرضا ً مجردة وإنما هو مجموع من المصلحة الدينية‬
‫والدنيوية والنتماء الشرعي والجغرافي وكل ذلك تحت‬
‫مبدأ "ليكون الدين كله لله"‪.‬‬
‫نجد أن ربط الحياة بالخلود يتردد كثيرا ً في‬
‫الخطاب العربي اليوم على المستوى الفردي‬
‫والجماعي؛ حتى قال أحد الملحدين العرب بأنه على‬
‫يقين تام من أن الغرب سيكتشفون علجا ً للموت‬
‫وتمنى أن يكون ذلك قبل وفاته!‪ ,‬وهذه ليست‬
‫شطحات عشوائية ولكنها نتاج لتراكمات ذلك‬
‫الوسواس القديم الذي يربط مثالية النسان الكونية‬
‫على القل مع حضارته المادية في تناسب طردي‪،‬‬
‫وهذا هو جوهر العقيدة الرومانسية الداعية إلى العودة‬
‫إلى الطبيعة‪ ,‬بينما الوحي يشير إلى غير هذا تماما ً كما‬
‫في قوله ‪« : ρ‬إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها أبناء‬
‫() إبراهيم ‪. 44 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫الملوك أبناء فارس والروم سلط شرارها على‬
‫خيارها»(‪ )1‬وقال‪ « :‬سيكون رجال من أمتي يأكلون‬
‫ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان‬
‫الثياب يتشدقون في الكلم أولئك شرار أمتي! » (‪,)2‬‬
‫ونحن ل نناقش بطلن قول ذلك الملحد فيغني عن‬
‫الرد عليه حكايته؛ ولكننا نناقش "جنس هذه العقلية"‬
‫التي ترى بأن القدرة على تحقيق الرغبات النسانية‬
‫ملزم للخيرية‪ ،‬وأن ازدياد إتقان الحياة ووسائلها دليل‬
‫على البعد عن ظروف البدائية المادية والفكرية‬
‫والزمان الول والنشأة الولى وما يرافق تلك المور‬
‫من تبعات!! وهذا غير صحيح فالنبي ‪ r‬قال‪« :‬أعمار‬
‫أمتي ما بين ستين إلى سبعين وأقلهم من يجوز ذلك»‬
‫(‪ )3‬فأعمار أمته في زمانه كأعمار الذين سيقاتل آخرهم‬
‫الدجال وقل فيما بين ذلك مثل ذلك فليس كل شيء‬
‫خاضع لمعيار التنمية المادية كما ظن ذلك الحالم‬
‫بإكسير الحياة!‪.‬‬
‫كما أن ظروف البيئة النسانية الكونية الصلية‬
‫ثابتة منذ النشأة الولى ل تتغير‪ ،‬فالفطرة هي الفطرة‬
‫حتى تتغير بالكتساب‪ ،‬والغرائز هي الغرائز والمؤثرات‬
‫هي المؤثرات‪ ,‬نعم تختلف في أجرامها ومصادرها‬
‫ولكنها تنبع من أجناس ثابتة في أصل الكون‪ ,‬فالحقد‬
‫هو الحقد والشهوة هي الشهوة والحسد هو الحسد‬
‫والخوف هو الخوف والتمني هو التمني وحب الدنيا‬
‫وكراهية الموت والرغبة في الخلود والتكبر وحب‬
‫التملك‪ ,‬كل ذلك كذلك‪ ,‬ولهذا يقول تعالى (إن كيد‬
‫الشيطان كان ضعيفاً)(‪)4‬؛ لن كيده واقع تحت أجناس‬

‫رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي وصححه اللباني‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫صححه اللباني في السلسلة الصحيحة ‪. 512/ 4،‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحة وحسنه اللباني‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫النساء ‪. 76 :‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫‪95‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫من أسباب الغواية ثابتة‪ ,‬وهي مكونة في النسان من‬
‫الخلق الطبيعية "فيسيولوجية البدن بهرموناته‬
‫وأنزيماته "‪ ،‬والنفسية "التصورات النسانية والغريزة‬
‫والفطرة " وهي ثابتة في أدوات تفعيلها وفي مادة‬
‫تفاعلها وإن تشكلت في صور شتى فعندما يرى الذكر‬
‫النثى يوسوس له الشيطان تصورات شهوانية‬
‫فيستجيب البدن بتفاعلته وغرائزه فتحدث محنة‬
‫البتلء والفتنة والمدافعة لكل ذلك‪ ,‬هذا مع تفاوت في‬
‫الكلءة والعصمة من الله‪ ,‬وهذا يقع في كل زمان‬
‫بنفس النمطية الشعورية ولكن بطرق مختلفة‬
‫وأساليب شتى‪ ,‬وهذه الشياء يعني البتلء والفتنة هي‬
‫الوظيفة الساسية التي خلق الله هذا الكون لجلها‬
‫فإن تساوى الناس في أول الزمان وآخرة في هذه‬
‫المسألة فكل ما عدى ذلك قشور ل قيمة لها على‬
‫مستوى الفرد والخلص الشخصي‪ ،‬ثم تأتي بعد ذلك‬
‫المؤثرات الجماعية كالستضعاف الجماعي‬
‫والضطراب الممي والبطال العام لسنن الوحي‬
‫وسقوط حاكمية الشريعة وغياب النصرة والتمكين‬
‫وهذه ل تصلح إل بصلح الفرد كل على حده فيتحقق‬
‫القول بأن ظروف الكون ثابتة في مجملها‪.‬‬
‫لهذا نجد أن الله عز وجل قد فضح الشيطان في‬
‫كل ذلك فحكى كيفية مكره تحت كل جنس من تلك‬
‫الجناس فقال بأنه يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ويمني‬
‫الماني ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويغرس في‬
‫النفوس ظن السوء‪ ,‬وهكذا‪ ,‬فالكون في مجملة وأصل‬
‫أجناسه ثابت من ناحية المؤثرات والظروف‪ ,‬وهذه‬
‫القشور الرقيقة المسماة بالحضارة المادية وتلوناتها‬
‫وتفريعاتها النفسية والفكرية وفقاقيعها الفارغة‬
‫المنتفخة وطقوسها المبهرجة المحدثة وتطبيقاتها‬
‫العملية الكثيرة ل تلبث أن تنسلخ وتطير في الهواء كما‬
‫يطير جلد الفعى ويعود النسان إلى ممارسة نفسه‬
‫واحتياجاتها الصلية الثابتة بل هالة من الزخارف الكاذبة‬
‫والمراسيم العبثية التي كانت تمليها عليه تفاهات‬
‫الحضارة المنصرمة وسيجد كل إنسان نفسه ذكراً‬
‫يبحث عن أنثى وجائعا ً يبحث عن رغيف وخائفا ً يبحث‬
‫من مأوى ومتسائل ً يبحث عن عقيدة ثم بعد ذلك هَرِماً‬
‫ينتظر الموت وهو يقرأ كتابا ً في عقائد عجائز‬
‫نيسابور!!‪ ,‬وهكذا‪ .‬فليس من ركب الطائرة بأفضل‬
‫ممن ركب الحمار من الناحية النسانية والرقي‬
‫الفكري وقد أجرى الله على أيدي أهل الحمير والخيل‬
‫والبغال من المكاشفات الكونية والمعجزات ما لم‬
‫يجره على أيدي أهل زماننا وأولهم من رعايته وشرف‬
‫العناية بذوات شخوصهم ما لم ينله أصحاب هذا الزمان‬
‫ُ‬
‫ي بن‬ ‫وذلك على مستوى عامة الناس حتى قال ‪ ρ‬لب ّ‬
‫كعب‪« :‬إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة»‪،‬‬
‫ي‪ :‬وسماني لك رب العزة؟!! قال‪« :‬نعم»‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فقال أب ّ‬
‫ي! (‪.)1‬‬ ‫ُ‬
‫فبكى أب ّ‬

‫وفي قصة لعلها لم تتكرر في تاريخ البشرية بمثل‬


‫هذه العظمة اللهية التجريدية الصريحة عندما كان‬
‫رجل بسيط يركب حماره فمر على قرية خاوية فذكر‬
‫الله قصته فقال‪( :‬أو كالذي مر على قرية وهي خاوية‬
‫على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته‬
‫الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو‬
‫بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك‬
‫وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية‬
‫للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها‬
‫لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء‬
‫قدير)(‪ ،)2‬فهذا مقام عظيم في زمان قديم ‪,‬و لو أنفق‬
‫أهل الرض اليوم كل واحد منهم مثل أحد ذهباً‬

‫() متفق عليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البقرة ‪.259 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪97‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫ليتمتعوا بممارسة ومشاهدة مثل هذا العلم اليقيني‬
‫الذي مر على صويحب القرية والحمار لما تمكنوا من‬
‫ذلك! ولهذا قال تعالى‪( :‬فكأين من قرية أهلكناها وهي‬
‫ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر‬
‫مشيد * أفلم يسيروا في الرض فتكون لهم قلوب‬
‫يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها ل تعمى البصار‬
‫ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(‪ .)3‬فالبئر‬
‫محفورة والقصر مشيد‪ ,‬قال عكـرمة‪ :‬مبني بالجص‪,‬‬
‫ولكنها ظلمت فإذا هي خاوية على عروشها‪ ,‬ما نفعتهم‬
‫البئر المحفورة وما نفعهم القصر المشيد!‪.‬‬

‫() الحج‪ 45 :‬ـــ ‪.46‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪99‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪‬‬
‫معرفة مقومات العالم‬
‫وعناصره الفاعلة‬
‫‪101‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫صفة آدم وحواء‬


‫‪ -1‬متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرج منها؟‬
‫ومتى مات؟‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫‪« :r‬خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه‬
‫خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» رواه‬
‫مسلم‪ .‬وزاد ابن حبان بسند صحيح على شرط‬
‫الشيخين‪« :‬وفيه مات وفيه تيب عليه»‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬أخذ رسول الله‬
‫‪ r‬بيدي فقال‪« :‬خلق الله عز وجل آدم عليه السلم‬
‫بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر‬
‫ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى‬
‫الليل» رواه مسلم‪.‬‬

‫فصل‪ :‬فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪-1‬أهمية يوم الجمعة في تاريخ بني آدم وأصل نشأتهم‪.‬‬
‫‪-2‬إثبات أن آدم أدخل جنة الخلد وليس كما يقول‬
‫الفلسفة جنة في الرض‪.‬‬
‫‪-3‬إثبات موت آدم عليه السلم‪.‬‬
‫‪ -2‬من أي مادة خلق ال آدم عليه السلم؟‬
‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬يا أيها الناس إن كنتم في ريب من‬
‫البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من‬
‫علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم‬
‫ونقر في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم‬
‫نخرجكم طفل ‪ ..‬الية) (‪. )1‬‬
‫‪ )2‬قال تعالى‪( :‬إني خالق بشرا من صلصال من حمأ‬
‫مسنون) (‪.)2‬‬
‫‪ )3‬قال تعالى‪( :‬فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا‬
‫إنا خلقناهم من طين لزب) (‪.)3‬‬
‫‪ )4‬عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪« : r‬إن الله خلق آدم من قبضة قبضها‬
‫من جميع الرض‪ ،‬فجاء بنو آدم على قدر الرض‪،‬‬
‫جاء منهم الحمر والبيض والسود وبين ذلك‪،‬‬
‫والسهل والحزن والخبيث والطيب»‪ .‬رواه أحمد‬
‫وغيره بسند صحيح‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬ان مادة خلق النسان لها تأثير في صفاته‪ ،‬فالطيب‬
‫من الرض الطيبة‪ ،‬والخبيث من الرض الخبيثة‪،‬‬
‫وكما قال ‪ r‬عن النساء‪« :‬إن المرأة خلقت من ضلع‬
‫أعوج وأعوج ما في الضلع أعله فإن ذهبت تقومه‬
‫كسرته»‪ .‬فهيئة الضلع وموقع العوج منه كان له‬

‫() الحج‪. 5 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الحجر‪. 28 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الصافات‪. 11 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪103‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫تأثير في هيئة المرأة وموضع الميل فيها وهو أعلها‬
‫أي لسانها‪ ،‬وقد أخبر سبحانه انه خلق آدم من‬
‫تراب‪ ،‬وأخبر انه خلقه من سللة من طين‪ ،‬وأخبر‬
‫انه خلقه من صلصال من حمأ مسنون‪ ،‬فقد وردت‬
‫النصوص بكل هذا‪ ،‬والصلصال قيل فيه هو‪ :‬الطين‬
‫اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو‬
‫فخار‪ .‬وقيل هو‪ :‬المتغيّر الرائحة من قولهم صل إذا‬
‫انتن‪ .‬أما الحمأ فالطين السود المتغيّر‪ ،‬والمسنون‬
‫سر بأنه من سننت الماء إذا صببته أي المصبوب‪،‬‬ ‫ف ّ‬
‫وقيل المنتن المسن من قولهم‪ :‬سننت الحجر على‬
‫الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين‪،‬‬
‫ول يكون إل منتنا ً وهذه كلها أطوار التراب الذي هو‬
‫مبدأ الخلق الول‪.‬‬
‫‪ -2‬قال ابن القيم في شفاء العليل‪ :‬إن المادة الرضية‬
‫اقتضت حصول التفاوت في النوع النساني كما‬
‫في المسند والترمذي عنه ‪ ρ‬أن الله خلق آدم من‬
‫قبضة قبضها من جميع الرض فكان منهم الخبيث‬
‫والطيب والسهل والحزن وغير ذلك فاقتضت مادة‬
‫النوع النساني تفاوتهم في أخلقهم وإراداتهم‬
‫وأعمالهم‪ ،‬ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن‬
‫ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب‬
‫والحب والبغض ولوازمها‪ ،‬وابتله بعدوه الذي ل‬
‫يألوه خبال ً ول يغفل عنه‪ ،‬ثم ابتله مع ذلك بزينة‬
‫الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه‬
‫وحاجته‪ ،‬وزيّن له حب الشهوات من النساء والبنين‬
‫والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل‬
‫المسوّمة والنعام والحرث‪ ،‬وأمره بترك قضاء‬
‫أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة‬
‫المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد‬
‫طي الدنيا والذهاب بها‪ .‬وكان مقتضى الطبيعة‬
‫النسانية أن ل يثبت على هذا البتلء أحد‪ ،‬وأن‬
‫يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب‬
‫والشهوة‪ ،‬فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم‬
‫وفاطرهم؛ بل أرسل إليهم رسله‪ ،‬وأنزل عليهم‬
‫كتبه‪ ،‬وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه‪ ،‬ووعدهم على‬
‫مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار‬
‫النعيم‪ ،‬فلم تقو عقول الكثرين على إيثار الجل‬
‫المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر‬
‫المشاهد‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف يباع نقد حاضر وهو قبض‬
‫باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا‬
‫وخراب العالم؟! ولسان حال أكثرهم يقول‪ :‬خذ ما‬
‫تراه ودع شيئا ً سمعت به‪ .‬فساعد التوفيق اللهي‬
‫من علم أنه يصلح لمواقع فضله‪ ،‬فأمده بقوة إيمان‬
‫وبصيرة رأى في ضوئها حقيقة الخرة ودوامها وما‬
‫أعد الله فيها لهل طاعته وأهل معصيته‪ ،‬ورأى‬
‫حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم‬
‫شركائها‪ ،‬وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو‬
‫وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الموال والولد‪ ،‬وأنها‬
‫كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ً ثم‬
‫يكون حطاما‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪ -3‬ان أصل ألوان البشر ثلثة نقية‪ :‬أحمر وأبيض‬
‫وأسود وما عدى ذلك فبين ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬ان النسان مركب من ثلثة أشياء هي التي تميزه‪:‬‬
‫لونه وهيئة شكله وحقيقة ذاته ولكل شيء من هذه‬
‫الشياء أصل وتأثير‪.‬‬

‫‪ -3‬من أي شيء خلقت حواء؟‬


‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫‪« :r‬استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع‪،‬‬
‫وإن أعوج شيء في الضلع أعله‪ ،‬فإن ذهبت تقيمه‬
‫كسرته‪ ،‬وإن تركته لم يزل أعوج‪ ،‬فاستوصوا‬
‫‪105‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫بالنساء» رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )2‬عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪« :‬خلق الرجل‬
‫من الرض فجعلت نهمته الرض وخلقت المرأة من‬
‫الرجل فجعلت نهمتها في الرجل فاحبسوا نساءكم‪,‬‬
‫أي عن الرجال»‪ .‬رواه ابن أبي حاتم في تفسيره‬
‫وقال أحمد شاكر‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪-1‬ان حواء خلقت من ضلع حي فهي حياة خلقت من‬
‫حياة‪ ،‬أما آدم فخلق من تراب ل حياة فيه‪ ،‬ثم كان‬
‫نسلهما من سللة من ماء مهين‪ ،‬ولهذا تأثير في‬
‫طبيعة الرجل والمرأة كما روى ابن ماجه عن‬
‫الشافعي بسند حسن لول أن فيه رجل مستور أنه‬
‫قال في سبب الغسل من بول الجارية والرش من‬
‫بول الغلم‪ :‬لن بول الغلم من الماء والطين‪ ،‬وبول‬
‫الجارية من اللحم والدم‪ .‬ثم قال للذي سأله عن‬
‫السبب‪ :‬فهمت؟ قال له‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬إن الله تعالى لما‬
‫خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير‪ ,‬فصار بول‬
‫الغلم من الماء والطين وصار بول الجارية من‬
‫اللحم والدم‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪ -2‬قال الحافظ في الفتح‪ :‬أعوج شيء في الضلع‬
‫أعله‪ ،‬قيل فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة‬
‫لسانها‪ ،‬وفي استعمال أعوج استعمال لفعل في‬
‫العيوب وهو شاذ‪ .‬وفائدة هذه المقدمة أن المرأة‬
‫خلقت من ضلع أعوج‪ ،‬فل ينكر اعوجاجها أو الشارة‬
‫إلى أنها ل تقبل التقويم كما أن الضلع ل يقبله قوله‪:‬‬
‫«فإن ذهبت تقيمه كسرته» قيل هو ضرب مثل‬
‫للطلق أي أن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى‬
‫المر إلى فراقها ويؤيده قوله في رواية العرج عن‬
‫أبي هريرة عند مسلم‪« :‬وأن ذهبت تقيمها كسرتها‬
‫وكسرها طلقها»‪ .‬اهـ ‪.‬‬

‫‪ -4‬كيف كانت هيئة آدم التي خلقه ال عليها؟‬


‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬عن النبي ‪ ρ‬قال‪:‬‬
‫«خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا‪ ،‬ثم قال‪ :‬اذهب‬
‫فسلّم على أولئك من الملئكة فاستمع ما يحيونك‬
‫تحيتك وتحية ذريتك‪ ،‬فقال‪ :‬السلم عليكم‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫السلم عليك ورحمة الله‪ .‬فزادوه ورحمة الله‪ ،‬فكل‬
‫من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق‬
‫ينقص حتى الن)‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪-1‬ان آدم خلق على صورته التي هي لذريته الن ولكن‬
‫كان طوله ستون ذراعاً‪ ،‬وهذا الفهم خلف فهم‬
‫الملحدة الدهريين ممن يرون أن النسان تطوّر عن‬
‫كائن آخر يقولون بأنه القرد كما في نظرية داروين "‬
‫النشوء والرتقاء " التي كان الجدر به أن يسميها "‬
‫نظرية النكوص والرتكاس! "‪.‬‬
‫‪- 2‬ان آدم تكلم مع الله وثبت ذلك مرفوعا ً عند ابن‬
‫حبان في صحيحه بسند صحيح‪ :‬أن رجل ً قال‪ :‬يا‬
‫رسول الله أنبي كان آدم؟ قال‪« :‬نعم‪ ,‬مكلّم» قال‪:‬‬
‫فكم كان بينه وبين نوح؟ قال‪« :‬عشرة قرون»‪.‬‬
‫‪- 3‬روى الطبراني وحسنه المنذري واللباني‪ :‬أن‬
‫ً‬
‫رسول الله ‪ ρ‬قال‪« :‬ما من أحد يموت سقطا ول‬
‫هرما ً إنما الناس فيما بين ذلك إل بعث ابن ثلثين‬
‫سنة‪ ،‬فمن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم‬
‫‪107‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫وصورة يوسف وقلب أيوب‪ ،‬ومن كان من أهل‬
‫النار عظموا وفخموا كالجبال»‪ .‬وعند الترمذي وقال‬
‫حسن غريب من حديث معاذ بن جبل رضي الله‬
‫عنه‪ :‬أن النبي ‪ r‬قال‪« :‬يدخل أهل الجنة الجنة جرداً‬
‫مردا ً مكحلين أبناء ثلثين أو ثلث وثلثين سنة»‪.‬‬

‫‪ -5‬أول خلق آدم عليه السلم ورؤيته لذريته‪:‬‬


‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫‪« :r‬لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال‪:‬‬
‫الحمد لله فحمد الله بإذن الله فقال له ربه‪ :‬يرحمك‬
‫ربك يا آدم اذهب إلى أولئك الملئكة ـ إلى مل منهم‬
‫جلوس ــ فسلم عليهم فقال‪ :‬السلم عليكم‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫وعليكم السلم ورحمة الله‪ .‬ثم رجع إلى ربه فقال‪:‬‬
‫هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم‪ .‬وقال الله جل وعل ــ‬
‫ويداه مقبوضتان ــ‪ :‬اختر أيهما شئت فقال‪ :‬اخترت‬
‫يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة‪ ،‬ثم بسطهما‬
‫فإذا فيهما آدم وذريته‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب ما هؤلء؟‬
‫فقال‪ :‬هؤلء ذريتك فإذا كل إنسان منهم مكتوب‬
‫عمره بين عينيه فإذا فيهم رجل أضوؤهم ــ أو من‬
‫أضوئهم ــ لم يكتب له إل أربعين سنة قال‪ :‬يا رب‬
‫ما هذا؟ قال‪ :‬هذا ابنك داود وقد كتب الله عمره‬
‫أربعين سنة‪ .‬قال‪ :‬أي رب زده في عمره‪ .‬قال‪ :‬ذاك‬
‫الذي كتبت له‪ .‬قال‪ :‬فإني قد جعلت له من عمري‬
‫ستين سنة‪ .‬قال‪ :‬أنت وذاك اسكن الجنة‪ ،‬فسكن‬
‫الجنة ما شاء الله‪ ،‬ثم أهبط منها‪ ،‬وكان آدم يعد‬
‫لنفسه‪ ،‬فأتاه ملك الموت فقال له آدم‪ :‬قد عجلت‬
‫قد كتب لي ألف سنة قال‪ :‬بلى؛ ولكنك جعلت لبنك‬
‫داود منها ستين سنة‪ ،‬فجحد‪ ،‬فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي‪،‬‬
‫فنسيت ذريته‪ ،‬فيومئذ أمر بالكتاب والشهود»‪ .‬رواه‬
‫ابن حبان في صحيحه‪ ،‬والترمذي وقال حسن غريب‪،‬‬
‫وصححه اللباني‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫ان آدم عليه السلم خلقه الله بمفرده ولم تكن معه‬ ‫‪-1‬‬
‫حواء‪.‬‬
‫ان آدم كان يعلم قبل دخول الجنة أنه سيكون له‬ ‫‪-2‬‬
‫ذرية‪.‬‬
‫ان آدم عليه السلم عاش ألف سنة‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫إثبات توريث الصفات المعنوية في قوله‪ :‬فجحد‬ ‫‪-4‬‬
‫فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي فنسيت ذريته‪.‬‬

‫‪ -6‬إن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه‬


‫‪ )1‬عن أنس رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله ‪ ρ‬قال‪:‬‬
‫«لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن‬
‫يتركه‪ ،‬فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه‬
‫أجوف عرف أنه خلق خلقا ً ل يتمالك»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وزاد أحمد في " الزهد " بسند صحيح‪« :‬ظفرت به‪,‬‬
‫خلق ل يتمالك»‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬ان الله عز وجل خلق آدم في الجنة فكان فيها قبل‬
‫أن تنفخ فيه الروح؛ ولكن عند نفخ الروح فيه كان‬
‫بين يدي ربه خارج الجنة كما في الحاديث السابقة‬
‫حيث ذكر نفخ الروح فيه ثم قال له ربه‪ :‬اسكن‬
‫الجنة‪.‬‬
‫‪ -2‬ان إبليس كان في الجنة عند خلق آدم‪ ،‬وأنه كائن‬
‫حي يفكر وله اجتهاد ومعرفة‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫‪- 3‬ان لبليس سابق عهد بالغواء قبل آدم؛ لنه يعلم‬
‫أن من كان أجوف ل يتمالك ومن ليس كذلك‬
‫يتمالك مع أن إبليس نفسه أجوف؛ لنه يبول‬
‫ويضرط ويأكل ويشرب‪.‬‬
‫‪ -4‬التنبيه على أن سر ضعف النسان هو كونه أجوف‪.‬‬
‫صفة الشيطان‬
‫‪ -1‬إثبات أن إبليس هو أبو الجن‪ ،‬وأن لبليس ذرية وانهم‬
‫يموتون‪ ،‬وأنهم أمة عظيمة العدد‪ ،‬وأن منهم الشياطين‬
‫وأن يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس؛ وإنما هم‬
‫من ذرية آدم عليه السلم‪:‬‬
‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا‬
‫إل إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‬
‫أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو‬
‫بئس للظالمين بدل) (‪.)1‬‬
‫‪ )2‬قال تعالى‪( :‬يا بني آدم ل يفتننكم الشيطان كما‬
‫أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما‬
‫سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث ل ترونهم إنا‬
‫جعلنا الشياطين أولياء للذين ل يؤمنون) (‪.)2‬‬
‫(أولياء) في الية الثانية فسرتها الية الولى‬
‫بأنهم إبليس وذريته ‪,‬و هم الشياطين‪.‬‬
‫‪ )2‬عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال‪ :‬كنا مع‬
‫النبي ‪ r‬في سفر‪ ،‬فتفاوت بين أصحابه في السير‪،‬‬
‫فرفع رسول الله ‪ r‬صوته بهاتين اليتين (يا أيها‬
‫الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)‬
‫إلى قوله (عذاب الله شديد) فلما سمع ذلك أصحابه‬
‫حثوا المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله فقال‪« :‬هل‬
‫() الكهف ‪.50 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() العراف ‪.27 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪111‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫تدرون أي يوم ذلك؟» قالوا‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ .‬قال‪:‬‬
‫«ذاك يوم ينادي الله فيه آدم فيناديه ربه فيقول يا‬
‫آدم ابعث بعث النار فيقول يا رب؟ وما بعث النار‬
‫فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في‬
‫النار وواحد في الجنة»‪ .‬فيئس القوم حتى ما أبدوا‬
‫بضاحكة؛ فلما رأى رسول الله ‪ ρ‬الذي بأصحابه قال‪:‬‬
‫«اعملوا وأبشروا فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع‬
‫خليقتين ما كانتا مع شيء إل كثرتاه يأجوج ومأجوج‬
‫ومن مات من بني آدم وبني إبليس»‪ .‬قال فسري‬
‫عن القوم بعض الذي يجدون فقال‪« :‬اعملوا وأبشروا‬
‫فو الذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إل‬
‫كالشامة في جنب البعير‪ ،‬أو كالرقعة في ذراع‬
‫الدابة»‪ .‬رواه احمد والترمذي وقال‪ :‬حسن صحيح‪،‬‬
‫وصححه اللباني‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫قوله ‪« :ρ‬إنكم لمع خليقتين» الخطاب لمة محمد ‪ρ‬‬
‫(يأجوج ومأجوج) وهم خليقة خلقوا قبل بعثته ‪ ρ‬وهم‬
‫من ذرية آدم ويموتون آخر الزمان لما روى البخاري‪:‬‬
‫«يقول الله عز وجل يوم القيامة‪ :‬يا آدم‪ ،‬يقول لبيك‬
‫ربنا وسعديك‪ ،‬فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج‬
‫من ذريتك بعثا ً إلى النار‪ ،‬قال‪ :‬يارب وما بعث النار؟‬
‫قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين‪ ،‬فحينئذ‬
‫تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى‬
‫وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‪ ,‬فشق ذلك‬
‫على الناس حتى تغيرت وجوههم‪ .‬فقال النبي ‪« :ρ‬من‬
‫يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد»‬
‫فيأجوج ومأجوج من ذرية آدم؛ لن بعث النار كله من‬
‫ذرية آدم كما نص ربنا تبارك وتعالى في الحديث؛‬
‫ولكنهم ل يموتون إل في آخر الزمان فلم يكونوا من‬
‫أمة محمد ‪ r‬لنهم خلقوا قبل بعثته وخوطبوا بالسلم‬
‫قبله كما أن عيسى عليه السلم ليس من أمته عليه‬
‫الصلة والسلم كما روى جابر في صحيح مسلم‪:‬‬
‫«فينزل عيسى ابن مريم ‪ r‬فيقول أميرهم‪ :‬تعال صل‬
‫لنا‪ .‬فيقول‪ :‬ل‪ ،‬إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله‬
‫هذه المة» فمع أن عيسى ينزل على ملة وشريعة‬
‫محمد ‪ r‬ويموت ويدفن عليها فهو ليس منها؛ لنه وجد‬
‫قبل وجود النبي ‪ r‬وخوطب بالسلم قبله‪ ،‬فكذلك‬
‫يأجوج ومأجوج من باب أولى‪ ،‬ثم ذكر الخليقة الثانية‬
‫التي هي ليست من أمة محمد ‪ r‬فقال‪« :‬و من مات‬
‫من بني آدم وبني إبليس» أي قبل بعثته ‪ r‬ومعلوم أن‬
‫الله تعالى يقول‪( :‬سنفرغ لكم أيها الثقلن) ويقصد‬
‫بهما النس والجن فعلم حينها أن من مات من هذه‬
‫الخليقة الثانية وكان مخاطبا ً بالتكليف والحسنة‬
‫والسيئة إنما هم البشر والجن فعلم من ذلك أن قوله ‪r‬‬
‫‪« :‬و بني إبليس» يقصد به الجن كافة فكان هذا نصاً‬
‫صريحا ً على أن إبليس هو أبو الجن ولم أجد ــ على حد‬
‫علمي ــ من أهل التفسير ول غيرهم من استشهد بهذا‬
‫الحديث على أن إبليس هو أبو الجن؛ وإنما عامة من‬
‫تكلم في ذلك استشهد بأقوال الحسن البصري وبعض‬
‫التابعين مع أن هذا نص في المسألة وملخصها أن‬
‫النبي ‪ r‬صنف المكلفين إلى ثلثة أصناف‪ :‬صنف خلقه‬
‫الله قبل بعثة النبي ‪ r‬ثم أن هذا الخلق يموت بعد موته‬
‫عليه الصلة والسلم فهم ليسوا من " أمة الدعوة "‪،‬‬
‫وهم يأجوج ومأجوج وعيسى عليه السلم‪ ،‬وخلق خلقوا‬
‫وماتوا قبل بعثته ‪ r‬فهم أيضا ً ليسوا من أمته‪ ،‬وهم من‬
‫مات من بني آدم وبني إبليس‪ ،‬وخلق خلقوا بعد بعثته‬
‫فكلهم داخل في " أمة الدعوة "‪ ,‬والله اعلم‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -2‬إثبات أن الجن أصناف ثلثة‬


‫‪ )1‬عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪« :ρ‬الجن ثلثة أصناف‪ :‬صنف لهم‬
‫أجنحة يطيرون في الهواء‪ ،‬وصنف حيات وكلب‪،‬‬
‫وصنف يحلّون ويظعنون»‪ .‬رواه ابن حبان في‬
‫صحيحه‪ ،‬والحاكم وقال‪ :‬هذا حديث صحيح السناد‪،‬‬
‫وصححه الذهبي واللباني‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫هذا التصنيف الذي ذكره النبي ‪ ρ‬تصنيف حاصر ل‬
‫يخرج عنه شيء من أفراد الجن‪ ،‬والجن في حقيقة‬
‫أمرهم ينقسمون من حيث وجودهم وتأثيرهم إلى ثلثة‬
‫أقسام‪ :‬قسم يقارن البشر ليغويهم‪ ،‬فكل مولود يولد‬
‫يقارنه قرين من الجن كما قال ‪« :ρ‬ما منكم من أحد إل‬
‫وقد وكّل به قرينه من الجن» وقوله‪« :‬وكّل» مبني‬
‫للمجهول والفاعل حقيقة هو إبليس حيث يوكّل بكل‬
‫مولود قرين من الشياطين إما بشكل مباشر أو عن‬
‫طريق جنوده وسراياه التي يبثها في الرض حيث قال‬
‫‪ ρ‬في الصحيح‪« :‬إن عرش إبليس على البحر فيبعث‬
‫سراياه فيفتنون الناس» وأما القرين فهو الذي يمس‬
‫الطفل عند ولدته فيستهل صارخا ً حيث قال ‪ ρ‬كما في‬
‫الصحيح‪« :‬ما من مولود يولد إل والشيطان يمسه حين‬
‫يولد فيستهل صارخا ً من مس الشيطان إياه إل مريم‬
‫وابنها»‪ ،‬فهذا صنف من أصناف الشياطين‪ ،‬وهؤلء‬
‫القرناء ل يتصورون ول يظهرون للبشر أبدا ً وإنما هم‬
‫كما وصفهم رسول الله ‪ ρ‬يجرون من ابن آدم مجرى‬
‫الدم‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬هو صنف من الجن يعيش مع البشر‬
‫كما تعيش دواجن الحيوانات‪ ،‬ومنهم المؤمن ومنهم‬
‫الكافر‪ ،‬وهذا الصنف يعيش مع الناس يوسوس لهم‬
‫ويشاركهم في أرزاقهم‪ ،‬ويسكنون أسقف البيوت‬
‫والخرب والحشوش ويتشكّلون في صور حيات وكلب‬
‫وبشر وهم في أصل خلقهم منهم من يطير ومنهم من‬
‫ل يطير؛ لنه ثبت تصور الشياطين في صور كائنات‬
‫تطير وكائنات ل تطير كما في حديث أبي هريرة رضي‬
‫ي بن‬ ‫ُ‬
‫الله عنه في الذي يسرق من الزكاة‪ ،‬وحديث أب ّ‬
‫كعب رضي الله عنه‪ ،‬وحديث ابن مسعود رضي الله‬
‫عنه في خبر الجني الذي كان على هيئة طائر أبيض‬
‫وغير ذلك‪ .‬وقد ثبت عن النبي ‪ r‬أنه قال كما في‬
‫ً‬
‫الصحيحين في حال رؤية الحيات‪« :‬إن بالمدينة جنا قد‬
‫أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا ً ــ أي على صورة حية ــ‬
‫فآذنوه ثلثة أيام‪ ،‬فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه‪ ،‬فإنما‬
‫هو شيطان»‪ ،‬فهذا يدل على أن الصنف الذي يتشكّل‬
‫ويتصوّر قد يكون منه مؤمن وكافر‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬وهم الذين يحلّون ويظعنون أي أن‬
‫لهم مجتمعات وحياة مستقلة بعيدا ً عن البشر ول‬
‫يطيرون كجن نصيبين الذين جاءوا إلى النبي ‪ r‬فقال‬
‫ابن مسعود‪« :‬فانطلق بنا ــ أي رسول الله ــ فأرانا‬
‫آثارهم وآثار نيرانهم‪ ،‬وسألوه الزاد فقال‪ :‬لكم كل‬
‫عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون‬
‫لحماً‪ ،‬وكل بعرة علف لدوابكم»‪ ،‬فل تكون لهم آثار‬
‫ونيران ودواب إل وهم يمشون ول يطيرون‪ ،‬وهذا‬
‫الصنف أيضا ً هو الذي ذكره ذلك الجني كما في حديث‬
‫عمر عندما قال بأنه في الجاهلية مع بداية بعثة النبي ‪r‬‬
‫سمع صارخ الجن ينادي عند الكعبة كما عند البخاري‪:‬‬
‫«ألم تر الجن وإبلسها ولحوقها بالقلص وأحلسها»‪،‬‬
‫والقلوص هي‪ :‬الراحلة‪ ،‬والحلس هو‪ :‬ما يضعه الراكب‬
‫‪115‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫تحته‪ ،‬وقد كانت الجن تشد الرحال إلى مكة لتعلم خبر‬
‫ل ويظعن‪،‬‬‫هذا النبي الجديد‪ ،‬فهذا هو الصنف الذي يح ّ‬
‫وهم أيضا ً قد يكون منهم مؤمن وكافر كما جاءت بذلك‬
‫النصوص‪ .‬والله اعلم‪.‬‬

‫‪ -3‬أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من الشياطين‬


‫مقلدة في عقيدتهم‪:‬‬
‫‪ )1‬عن ابن عباس قوله (وأنا منا الصالحون ومنا دون‬
‫ذلك كنا طرائق قددا) يقول‪ :‬أهواء شتى منا‬
‫المسلم ومنا المشرك (‪.)1‬‬
‫‪ )2‬قال ابن جرير الطبري‪ :‬قوله تعالى (وأنا ظننا أن‬
‫لن تقول النس والجن على الله كذبا) يقول‪ :‬قالوا‪:‬‬
‫وأنا حسبنا أن لن تقول بنو آدم والجن على الله‬
‫كذبا من القول ــ والظن هاهنا بمعنى الشك ــ‪،‬‬
‫وإنما أنكر هؤلء النفر من الجن أن تكون علمت أن‬
‫أحدا ً يجترئ على الكذب على الله لما سمعت‬
‫القرآن؛ لنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا‬
‫تكذيب الله الزاعمين أن لله صاحبة وولدا ً وغير ذلك‬
‫من معاني الكفر كانوا يحسبون أن إبليس صادق‬
‫فيما يدعو بني آدم إليه من صنوف الكفر فلما‬
‫سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذبا في كل ذلك‪،‬‬
‫فلذلك قالوا (وأنه كان يقول سفيهنا على الله‬
‫شططا) فسموه سفيها ً (‪.)2‬‬
‫‪-3‬قال تعالى‪( :‬وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن‬
‫يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما‬
‫قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا‬
‫سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين‬
‫() تفسير الطبري ‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() تفسير الطبري ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا‬
‫قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من‬
‫ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن ل يجب‬
‫داعي الله فليس بمعجز في الرض وليس له من‬
‫دونه أولياء أولئك في ضلل مبين) (‪.)1‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬قال العلماء بأن الجن تبع للنس في باب الرسالة‪،‬‬
‫فالنبياء من البشر‪ ،‬وليس من الجن رسل ول‬
‫أنبياء‪ ،‬وهذا هو المستقر‪ ،‬وفي الية الولى دليل‬
‫على أن الجن يتأثرون بمقالت النس وبسوادهم‬
‫العظم‪ ،‬وأن قول الجمهور عندنا قول معتبر‬
‫معمول به عندهم‪ ،‬فهم ظنوا بالله عز وجل ظن‬
‫السوء؛ لنهم لم يكن في خلد أحد منهم أن النس‬
‫والجن يتمالئون على الكفر والكذب على الله عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫‪ -2‬في الية الثانية (وأنه كان يقول سفيهنا على الله‬
‫شططا) دليل على أن إبليس ليس بذاك المعظّم‬
‫في عالم الجن‪ ،‬ول بذاك المام المخوف‪ ،‬فهم‬
‫يصفونه بأنه " سفيههم "‪ ،‬ويعلنون مخالفته‬
‫ودخولهم دين السلم‪ ،‬وجرأة الجن هنا أقوى‬
‫وأصدق من ردة فعل الطائفة اليزيدية الكافرة التي‬
‫تعبد الشيطان بحجة أنهم يتقون شره‪ ،‬ويقولون هو‬
‫رئيس الملئكة!‪.‬‬

‫() الحقاف ‪ 29 :‬ـــ ‪. 32‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪117‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -4‬أن إبليس كائن حي موجود على الحقيقة وأنه مخلوق‬


‫من نار‪:‬‬
‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬إنه يراكم هو وقبيله من حيث ل ترونهم‬
‫إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين ل يؤمنون) (‪.)1‬‬
‫‪ )2‬قال تعالى‪( :‬والجان خلقناه من قبل من نار‬
‫السموم) (‪.)2‬‬
‫‪ )3‬قال تعالى‪( :‬وخلق الجان من مارج من نار) (‪.)3‬‬
‫‪ )4‬عن عائشة رضي الله عنها قالت‪ :‬قال رسول الله‬
‫‪« :ρ‬خلقت الملئكة من نور وخلق الجان من مارج‬
‫من نار وخلق آدم مما وصف لكم»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫و المارج‪ :‬طرف النار ولسانها من أعلى‪ ،‬ويقال "‬
‫أمر مريج " أي مضطرب من اضطراب مارج النار أي‬
‫طرف لهبها‪ ،‬ولهذا فطبع الجان الضطراب وسرعة‬
‫التردد وعدم السكون‪.‬‬
‫فكل من ل يؤمن بالله ورسله وما جاء عنهم في‬
‫شأن خلق الله لدم والشيطان وعداوته الولى لدم‬
‫وذريته وحقيقة أمره فهو غير مدرك لحقيقة وجود‬
‫الشيطان وحقيقة علقته معه في هذه الحياة الدنيا‬
‫فيكون وليا ً له لنه ل يعلم بأن كل ما هو فيه من شر‬
‫إنما هو بإملء الشيطان ووسوسته وتزيينه فيكون له‬
‫مطيعا ً من حيث ل يعلم ول يشعر‪ ,‬قال تعالى‪( :‬أل إنهم‬
‫() العراف ‪. 27 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() الحجر ‪. 27 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الرحمن ‪. 15 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫هم السفهاء ولكن ل يعلمون)‪.‬‬

‫‪ -5‬إثبات صفة الجسم للشيطان وأن الحمار والكلب يريانه‬


‫عيانا‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ‪ r‬قال‪« :‬إذا‬
‫سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها‬
‫رأت ملكاً‪ ،‬وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله‬
‫من الشيطان فإنه رأى شيطاناً »‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )2‬عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪« :r‬إذا سمعتم نباح الكلب ونهاق الحمير‬
‫من الليل فتعوذوا بالله فإنها ترى ما ل ترون»‪ .‬رواه‬
‫أحمد وابن حبان في صحيحه‪ ،‬وقال اللباني‪ :‬إسناده‬
‫جيد رجاله ثقات رجال الشيخين‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪-1‬إثبات صفة الجسم للشيطان بهذه الحاديث دون‬
‫غيرها متعلق بأن الشيطان في حالته العادية‬
‫الصلية ل يرى‪ ،‬فإن أردت إثبات صفة الجسم له‬
‫لم يمكنك ذلك إل في حال كون الشيطان في‬
‫حالته العادية الصلية فلم يكن ذلك إل برؤية الحمار‬
‫والكلب‪ ،‬ولو أردت إثبات صفة الجسم بأحاديث ذكر‬
‫فيها أن الشيطان تصور للنسان فرآه لما كان هذا‬
‫مثبتا ً لصفة الجسم له؛ لنه خرج للعيان بجسم غير‬
‫جسمه‪ ،‬وقد قال الحافظ في الفتح‪ :‬وروى البيهقي‬
‫في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع سمعت‬
‫الشافعي يقول‪ :‬من زعم أنه يرى الجن أبطلنا‬
‫شهادته إل أن يكون نبياً‪ .‬انتهى‪ ,‬وهذا محمول على‬
‫من يدّعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها‪،‬‬
‫‪119‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫وأما من ادّعى أنه يرى شيئا ً منهم بعد أن يتطور‬
‫على صور شتى من الحيوان فل يقدح فيه‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪- 2‬إثبات أن في هذا الواقع صور تمر من حولنا ونحن‬
‫ل نراها‪ ،‬وأن فهمنا لهذه الحياة ناقص إذا كنا‬
‫نتصوره بل عقيدة‪ ،‬فباليمان بالغيب فقط تكتمل‬
‫صورة الواقع‪ ،‬ونرى بقلوبنا ما ل نراه بأعيننا‪.‬‬

‫‪ -6‬ذكر ما جاء في حجم الشيطان في حال كونه على‬


‫صورته الصلية‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول‬
‫الله ‪ ρ‬قام فصلى صلة الصبح وهو خلفه‪ ،‬فقرأ‬
‫فالتبست عليه القراءة‪ ،‬فلما فرغ من صلته قال‪:‬‬
‫«لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه‬
‫حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين البهام‬
‫والتي تليها‪ ،‬ولول دعوة أخي سليمان لصبح مربوطا‬
‫بسارية من سواري المسجد يتلعب به صبيان‬
‫المدينة»‪ .‬رواه أحمد بسند حسن وأصله في‬
‫الصحيحين‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أنس بن مالك أن النبي ‪ ρ‬قال‪« :‬راصوا‬
‫صفوفكم‪ ،‬وقاربوا بينها‪ ،‬وحاذوا بالعناق‪ ،‬فوالذي‬
‫نفس محمد بيده إني لرى الشياطين تدخل من‬
‫خلل الصف كأنها الحذف»‪ .‬رواه أحمد وغيره بسند‬
‫صحيح على شرط مسلم‪.‬‬
‫الحذف‪ :‬صغار الضأن‪ ،‬وقيل طائر بحجم طائر‬
‫البط‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫تكثر الخرافات حول حجم الشيطان في أصل‬
‫هيئته العادية فيقال أنه أكبر من كذا وكذا ويقال أصغر‬
‫من كذا وكذا‪ ،‬والصحيح أن الحاديث أشارت إلى حجمه‬
‫كما في قوله‪« :‬يتلعب به صبيان المدينة» فلن يتلعبوا‬
‫به إل وهو صغير الحجم‪ ،‬وكذلك قوله‪« :‬كأنها الحذف»‬
‫والحذف صغار الضان وهو ليس كبير الحجم‪ ,‬وقيل‬
‫الحذف طائر بحجم البط‪ .‬كذلك قوله‪« :‬فأهويت بيدي‬
‫فمازلت أخنقه» دليل على صغر حجمه؛ لن الهوي هو‬
‫النزول إلى أسفل‪ ،‬وقد أهوى ‪ r‬بيديه ومكانهما في‬
‫الصلة كان على صدره‪ ،‬فدل ذلك على صغر حجم‬
‫الشيطان‪ ،‬وأن عنقه كان تحت مستوى صدر وبطن‬
‫النبي ‪.r‬‬

‫‪ -7‬ذكر ما جاء في أن حجم الشيطان يتغير‪:‬‬


‫‪ )1‬عن أبي المليح عن أبيه رضي الله عنه قال كنت‬
‫رديف النبي ‪ r‬فعثر بعيرنا فقلت‪ :‬تعس الشيطان‬
‫فقال لي النبي ‪« :r‬ل تقل تعس الشيطان‪ ،‬فإنه‬
‫يعظم حتى يصير مثل البيت ــ وفي رواية‪ :‬مثل‬
‫الجبل ــ‪ ،‬ويقول‪ :‬بقوتي صرعته؛ ولكن قل‪ :‬بسم‬
‫الله‪ ،‬فإنه يصغر حتى يصير مثل الذباب»‪ .‬رواه أحمد‬
‫وابو داود والنسائي وهو حديث صحيح‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫يرد وصف الشيطان في آثار كثيرة بشكل مختلف‬
‫من أثر إلى أثر فيظن في ذلك التعارض كما في حديث‬
‫أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله‪ ،‬وأن‬
‫‪121‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫الشمس تخرج بين قرني شيطان‪ ،‬وأن الشيطان ينام‬
‫على خياشيم النسان إذا نام‪ ،‬فهذه الشياء ل تكون‬
‫من كائن حي له هيئة ثابتة‪ ،‬فكيف تخرج الشمس بين‬
‫قرنيه ثم ينام على الخياشيم الصغيرة في أنف‬
‫الدمي؟‪ .‬هذه الشكالت كلها تزول إذا علمت أن حجم‬
‫الشيطان يتغيّر فيكون كالجبل‪ ،‬وقد يتصاغر حتى يكون‬
‫كالذبابة‪ ،‬وكذلك الحال في كل مشكل متعلق بحجم‬
‫الشيطان‪.‬‬

‫‪ -8‬إثبات أن للشياطين أسماء‬


‫‪ )1‬عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه أتى‬
‫النبي ‪ ρ‬فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن الشيطان قد حال‬
‫بيني وبين صلتي وقراءتي يلبسها علي !! فقال‬
‫رسول الله ‪« : ρ‬ذاك شيطان يقال له‪ :‬خنزب‪ ،‬فإذا‬
‫أحسسته فتعوذ بالله منه‪ ،‬واتفل على يسارك ثلثاً »‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ففعلت ذلك‪ ،‬فأذهبه الله عني‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪-1‬أن للجن مجتمعات وتعاملت فيما بينها فل يكون‬
‫هناك اسم إل وهناك منادٍ يناديه ويتعامل معه‪ ،‬وقيل‬
‫بأن خنزب لقبه ومعناه‪ :‬قطعة اللحم النتنة‪.‬‬
‫‪-2‬أن البصاق على الشياء أو على أحد من الناس إنما‬
‫هو إهانة؛ لنه تشبيه للمبصوق عليه بالشيطان وإل‬
‫فالبصاق في حد ذاته طاهر كما أنه ثبت في السنة‬
‫النفث على المريض في القراءة؛ ولكن اليوم أصبح‬
‫البصاق على الشياء إهانة مستقلة بغض النظر عن‬
‫كونه تشبيها للمبصوق عليه بالشيطان‪ ،‬وهذا من‬
‫فساد العراف؛ حتى أن بعض الفساق يلقبون‬
‫أنفسهم بألقاب الشيطان‪ ،‬فإذا بصقت عليه غضب‬
‫مع أنه ل يجد في وصفة بالشيطان إهانة له!‪.‬‬

‫‪ -9‬إثبات صفة الكلم للشيطان وأنه قد يخاطب البشر‬


‫‪ )1‬عن عائشة رضي الله عنها قالت‪ :‬لما كان يوم أحد‬
‫هزم المشركون‪ ،‬فصاح إبليس أي عباد الله أخراكم‪،‬‬
‫فرجعت أولهم فاجتلدت هي وأخراهم‪ ،‬فنظر حذيفة‬
‫فإذا هو بأبيه اليمان‪ ،‬فقال‪ :‬أي عباد الله أبي أبي‪.‬‬
‫فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه‪ ،‬فقال حذيفة‪ :‬غفر‬
‫الله لكم‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )2‬عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‪ :‬ما‬
‫سمعت عمر قال لشيء قط يقول إني لظنه كذا إل‬
‫كان كما يظن‪,‬فبينما عمر جالس إذ مر به رجل‬
‫جميل فقال‪ :‬لقد أخطأ ظني أو ان هذا على دينه في‬
‫ي الرجل‪ ،‬فدعي‬ ‫الجاهلية‪ ،‬أو لقد كان كاهنهم‪ ،‬عل ّ‬
‫له‪ ،‬فقال له ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬ما رأيت كاليوم استقبل به‬
‫رجل مسلم‪ ،‬قال‪ :‬فإني أعزم عليك إل ما أخبرتني‪،‬‬
‫قال‪ :‬كنت كاهنهم في الجاهلية‪ ،‬قال‪ :‬فما أعجب ما‬
‫جاءتك به جنيتك؟ قال‪ :‬بينما أنا يوما ً في السوق‬
‫جاءتني فيها الفزع‪ ،‬فقالت‪ :‬ألن تر الجن وإبلسها‬
‫ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلص وأحلسها‪.‬‬
‫قال عمر‪ :‬صدق‪ ،‬بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل‬
‫بعجل فذبحه‪ ،‬فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا ً قط‬
‫أشد ّ صوتا ً منه يقول‪ :‬يا جليح‪ ،‬أمر نجيح‪ ،‬رجل‬
‫فصيح‪ ،‬يقول ل إله إل الله‪ ،‬فوثب القوم‪ ،‬قلت‪ :‬ل‬
‫أبرح حتى أعلم ما وراء هذا‪ ،‬ثم نادى يا جليح‪ ،‬أمر‬
‫نجيح‪ ،‬رجل فصيح يقول ل إله إل الله‪ ،‬فقمت فما‬
‫نشبنا أن قيل هذا نبي‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -10‬باب إثبات صفة اليدين والقدمين للشيطان وأنه يأكل‬


‫ويشرب على الحقيقة‪:‬‬
‫‪ )1‬عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‪ :‬أن رسول‬
‫الله ‪ r‬قال‪« :‬إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه‪ ،‬وإذا‬
‫شرب فليشرب بيمينه‪ ،‬فإن الشيطان يأكل بشماله‬
‫ويشرب بشماله»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )2‬عن حذيفة رضي الله عنه قال‪ :‬كنا إذا حضرنا مع‬
‫النبي ‪ r‬طعاما ً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله ‪r‬‬
‫فيضع يده‪ ،‬وإنا حضرنا معه مرة طعاماً‪ ،‬فجاءت‬
‫جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام‬
‫فأخذ رسول الله ‪ r‬بيدها‪ ،‬ثم جاء أعرابي كأنما يدفع‬
‫فأخذ بيده فقال رسول الله ‪« :r‬إن الشيطان يستحل‬
‫الطعام أن ل يذكر اسم الله عليه‪ ،‬وإنه جاء بهذه‬
‫الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها‪ ،‬فجاء بهذا‬
‫العرابي ليستحل به فأخذت بيده‪ ،‬والذي نفسي‬
‫بيده إن يده في يدي مع يدها»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )3‬عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ‪r‬‬
‫قال‪« :‬إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة»‪ .‬رواه‬
‫الطحاوي بسند صحيح‪.‬‬
‫‪ )4‬عن علقمة قال‪ :‬سألت ابن مسعود فقلت هل شهد‬
‫أحد منكم مع رسول الله ‪ r‬ليلة الجن؟ قال‪ :‬ل؛ ولكنا‬
‫كنا مع رسول الله ‪ r‬ذات ليلة ففقدناه‪ ،‬فالتمسناه‬
‫في الودية والشعاب‪ ،‬فقلنا استطير أو اغتيل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فبتنا بشّر ليلة بات بها قوم‪ ،‬فلما أصبحنا إذا هو جاء‬
‫من قبل حراء‪ ،‬قال‪ :‬فقلنا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬فقدناك‬
‫فطلبناك فلم نجدك‪ ،‬فبتنا بشّر ليلة بات بها قوم‪،‬‬
‫فقال‪« :‬أتاني داعي الجن فذهبت معه‪ ،‬فقرأت‬
‫عليهم القرآن»‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار‬
‫نيرانهم‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ -11‬إثبات أن لبليس عرش على الماء في البحر وأن له تاج‪:‬‬

‫‪ )1‬عن أبي سعيد ــ في حديثه عن ابن صياد الذي قيل‬


‫بأنه هو الدجال ــ قال‪ :‬لقيه رسول الله ‪ ρ‬وأبو بكر‬
‫وعمر في بعض طرق المدينة فقال له رسول الله‬
‫‪« :ρ‬أتشهد أني رسول الله؟» فقال هو‪ :‬أتشهد أني‬
‫رسول الله؟ فقال رسول الله ‪« :ρ‬آمنت بالله‬
‫وملئكته وكتبه ما ترى؟» قال‪ :‬أرى عرشا ً على‬
‫الماء‪ ،‬فقال رسول الله ‪« :ρ‬ترى عرش إبليس على‬
‫البحر وما ترى؟» قال‪ :‬أرى صادقين وكذاباً‪ ،‬أو‬
‫كاذبين وصادقاً‪ ،‬فقال رسول الله ‪« :ρ‬لبس عليه‬
‫دعوه»‪ .‬رواه مسلم‪ .‬وله من حديث جابر عنه عليه‬
‫الصلة والسلم‪« :‬إن إبليس يضع عرشه على الماء‬
‫ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة»‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪« :ρ‬إذا أصبح إبليس بث جنوده‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫من أضل اليوم مسلما ً ألبسته التاج‪ ،‬قال‪ :‬فيخرج‬
‫هذا فيقول‪ :‬لم أزل به حتى طلق امرأته‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫أوشك أن يتزوج‪ .‬ويجيء هذا فيقول‪ :‬لم أزل به حتى‬
‫عق والديه‪ ،‬فيقول‪ :‬يوشك أن يبرهما‪ .‬ويجيء هذا‬
‫فيقول‪ :‬لم أزل به حتى أشرك‪ ،‬فيقول‪ :‬أنت أنت!‬
‫ويجيء هذا فيقول‪ :‬لم أزل به حتى قتل‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫أنت أنت ويلبسه التاج»‪ .‬رواه ابن حبان في صحيحة‪،‬‬
‫وقال اللباني‪ :‬وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات‬
‫‪125‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫رجال البخاري‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬أن عمل الشيطان منظم وأن له عرش وسرايا‬
‫وجنود‪.‬‬
‫‪ -2‬أن فترة ما بعد الصباح هي بداية جديدة لعمل‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الشياطين يراجعون إبليس ويذكرون له ما‬
‫عملوه مع بني آدم‪.‬‬

‫‪ -12‬باب إثبات أن الشيطان يخاف من بعض البشر‬


‫‪ )1‬عن عبدالله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله ‪ r‬قال‬
‫لعمر بن الخطاب رضي الله عنه‪« :‬إن الشيطان‬
‫ليفرق ــ وفي رواية‪ :‬يخاف ــ منك يا عمر»‪ .‬رواه‬
‫أحمد وابن حبان في صحيحه‪ ،‬وقال اللباني‪ :‬سنده‬
‫صحيح على شرط مسلم‪.‬‬
‫‪ )2‬عن مجاهد قال‪ :‬بينا أنا أصلي إذ قام مثل الغلم‬
‫ذات ليلة‪ ،‬فشددت عليه لخذه‪ ،‬فوثب فوقع خلف‬
‫الحائط حتى سمعت وجبته‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنهم يهابونكم‬
‫كما تهابونهم من أجل ملك سليمان‪ .‬رواه ابن‬
‫عساكر‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪-1‬أهمية السمت الخارجي للنسان المسلم وأنه قد‬
‫يكون سببا ً في طرد الشيطان‪ ،‬فالذي يطيل لحيته‬
‫ول يسبل ثوبه يكون معلوما ً للشيطان أنه أقوى ديناً‬
‫من غيره بمجرد النظر إلى هيئته فل يتجرأ على‬
‫أذاه‪.‬‬
‫‪-2‬أن الشيطان يتعامل مع الظاهر وقد ل يتجاوزه كما‬
‫جاء عند ابن جرير في تفسير قوله تعالى‪( :‬فلما‬
‫خّر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا‬
‫في العذاب المهين) عن عطاء قال‪ :‬كان سليمان‬
‫بن داود يصلي‪ ،‬فمات وهو قائم يصلي‪ ،‬والجن‬
‫يعملون ل يعلمون بموته حتى أكلت الرضة عصاه‬
‫فخّر‪.‬‬
‫‪-3‬أن للجن تاريخ محفوظ يعلمه أفرادهم من الجن‬
‫لقوله‪« :‬يهابونكم من أجل ملك سليمان »‪ ،‬وملك‬
‫سليمان مضت عليه قرون طويلة!‪.‬‬

‫‪ -13‬إثبات أن الشيطان ينام‪:‬‬


‫‪ )1‬عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله‬
‫‪ ρ‬قال له‪« :‬فراش للرجل‪ ،‬وفراش لمرأته‪ ،‬والثالث‬
‫للضيف‪ ،‬والرابع للشيطان»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أنس رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله ‪:ρ‬‬
‫«قيلوا فإن الشياطين ل تقيل»‪ .‬أخرجه أبو نعيم في‬
‫"الطب"‪ ،‬وقال اللباني‪ :‬سنده حسن‪.‬‬
‫‪ )3‬عن قيس بن أبي حازم‪ ,‬و هو من كبار التابعين‬
‫وقيل له رؤية‪ ,‬أنه قال‪ :‬ما من فراش يكون في بيت‬
‫مفروشا ً ل ينام عليه أحد إل نام عليه الشيطان‪.‬‬
‫رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان بسند‬
‫صحيح‪.‬‬
‫‪ )4‬عن سلم بن مسكين قال‪ :‬سئل الحسن‪ :‬يا أبا‬
‫سعيد‪ ،‬هل ينام إبليس؟ قال‪ :‬لو نام لوجدنا لذلك‬
‫راحة‪ .‬رواه أحمد في الزهد بسند صحيح‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫لو كان مستقرا ً في أذهان الصحابة ان الشيطان ل‬
‫ينام لما كان لهذا القول حاجة‪ ،‬واقتصاره في نفي‬
‫النوم على المقيل دليل على ثبوته فيما عداه‪ ,‬وقد نفى‬
‫صفة النوم عن الشيطان بعض السلف واثبتها بعضهم‪,‬‬
‫والجمع بين هذه الثار أن إبليس ل ينام باعتبار أنه قد‬
‫أنظر فل يموت إلى يوم القيامة والنوم ميتة صغرى‬
‫فهو ل ينام‪ ،‬أما ذريته فقد ثبت في صحيح السنة أنهم‬
‫يموتون فل يمتنع عليهم أنهم ينامون‪ ,‬والله اعلم‪.‬‬

‫‪ -14‬إثبات أن للجن عموما ذكور وإناث وأنهم يجامعون‪:‬‬


‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬و أنه كان رجال من النس يعوذون‬
‫برجال من الجن فزادوهم رهقا) الجن‪6:‬‬
‫‪ )2‬عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي ‪r‬‬
‫قال‪« :‬أل هل عست امرأة أن تخبر القوم بما يكون‬
‫من زوجها إذا خل بها؟ أل هل عسى رجل أن يخبر‬
‫القوم بما يكون منه إذا خل بأهله؟ فقامت منهن‬
‫امرأة سفعاء الخدين فقالت‪ :‬والله إنهم ليفعلون‬
‫وإنهن ليفعلن‪ .‬قال‪ :‬فل تفعلوا ذلك‪ ،‬أفل أنبئكم ما‬
‫مثل ذلك؟ مثل شيطان أتى شيطانة بالطريق فوقع‬
‫بها والناس ينظرون»‪ .‬رواه أحمد وأبو داود‪ ،‬وقال‬
‫اللباني حديث صحيح‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫قال ابن تيمية في دقائق التفسير عن استمتاع‬
‫الجن بالنس والنس بالجن‪ :‬تارة يخدم هؤلء لهؤلء‬
‫في أغراضهم وهؤلء لهؤلء في أغراضهم فالجن تأتيه‬
‫بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه والنس تطيع‬
‫الجن فتارة يسجد له وتارة لما يأمره بالسجود له‬
‫وتارة يمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك‬
‫الجنيات منهن من يريد من النس الذي يخدمنه ما يريد‬
‫نساء النس من الرجال وهذا كثير في رجال الجن‬
‫ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء النس ما‬
‫يناله النسي وقد يفعل ذلك بالذكران (‪.)1‬‬

‫‪ -15‬إثبات صفة البكاء للشيطان‪:‬‬


‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫‪« :ρ‬إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان‬
‫يبكي يقول‪ :‬يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد‪،‬‬
‫فله الجنة‪ ،‬وأمرت بالسجود فأبيت‪ ،‬فلي النار»‪ .‬رواه‬
‫مسلم‪.‬‬

‫‪ -16‬إثبات صفة اليأس للشيطان‪:‬‬


‫‪ )1‬عن جابر رضي الله عنه قال‪ :‬سمعت النبي ‪ ρ‬يقول‪:‬‬
‫«إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في‬
‫جزيرة العرب؛ ولكن في التحريش بينهم»‪ .‬رواه‬
‫مسلم‪.‬‬

‫‪ -17‬إثبات صفة الضحك للشيطان‪:‬‬


‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ‪ ρ‬أنه قال ‪:‬‬
‫«إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب‪ ،‬فإذا عطس‬
‫فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته‪،‬‬
‫وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان‪ ،‬فليرده ما‬

‫() دقائق التفسير لبن تيمية‪. 2/127 ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪129‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫استطاع‪ ،‬فإذا قال‪ :‬ها‪ ،‬ضحك منه الشيطان»‪ .‬رواه‬
‫البخاري‪.‬‬

‫‪ -18‬إثبات صفة الحلق واللسان للشيطان على الحقيقة‬


‫وأنه يتنفس‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ‪r‬‬
‫قال‪« :‬اعترض الشيطان في مصلي فأخذت بحلقه‬
‫فخنقته حتى وجدت برد لسانه على كفي؛ ولول ما‬
‫كان من دعوة أخي سليمان لصبح موثقا تنظرون‬
‫إليه»‪ .‬رواه ابن حبان في صحيحه بسند حسن‪.‬‬
‫‪ )2‬عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول‬
‫الله ‪ r‬فقال‪ :‬يا عائشة أتعرفين هذه؟ قالت‪ :‬ل‪ ،‬يا‬
‫نبي الله‪ .‬فقال‪ :‬هذه قينه بني فلن‪ ،‬تحبين أن‬
‫تغنيك؟ قالت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فأعطاها طبقا ً فغنتها‪،‬‬
‫فقال النبي ‪ :r‬قد نفخ الشيطان في منخريها‪ .‬رواه‬
‫أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬

‫‪ -19‬ذكر ما جاء في صفة القرين‪:‬‬


‫‪ )1‬عن علي بن الحسين‪ :‬كان النبي ‪ r‬في المسجد‬
‫وعنده أزواجه فرحن‪ ،‬فقال لصفية بنت حيي ‪« :‬ل‬
‫تعجلي حتى أنصرف معك»‪ .‬وكان بيتها في دار‬
‫أسامة‪ ،‬فخرج النبي ‪ r‬معها فلقيه رجلن من‬
‫النصار‪ ،‬فنظرا إلى النبي ‪ r‬ثم أجازا‪ ،‬وقال لهما‬
‫النبي ‪« :r‬تعاليا إنها صفية بنت حيي»‪ .‬قال‪ :‬سبحان‬
‫الله يا رسول الله‪ ،‬قال‪« :‬إن الشيطان يجري من‬
‫النسان مجرى الدم‪ ،‬وإني خشيت أن يلقي في‬
‫أنفسكما شيئا»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )2‬عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول‬
‫الله ‪ ρ‬قال‪« :‬إذا كان أحدكم يصلي فل يدع أحدا ً يمر‬
‫بين يديه‪ ،‬فإن أبى فليقاتله‪ ،‬فإن معه القرين»‪ .‬رواه‬
‫مسلم‪.‬‬
‫‪ )3‬عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪« :ρ‬إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده على‬
‫فيه فإن الشيطان يدخل»‪ .‬رواه مسلم‬
‫‪ )4‬عن خالد بن معدان ــ وهو تابعي روى عن جمع من‬
‫الصحابة‪ ،‬قال عنه الذهبي‪ :‬فقيه كبير ثقة مهيب‬
‫مخلص‪ ,‬أنه قال‪ :‬ما من إنسان إل وشيطان متبطن‬
‫فقار ظهره‪ ،‬لوٍ عنقه على عاتقه‪ ،‬فاغر فاه على‬
‫قلبه‪ .‬رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان بسند‬
‫حسن‪.‬‬
‫‪ )5‬عن أبي قلبة‪ ,‬وهو من أئمة التابعين‪ ،‬أنه قال‪ :‬إن‬
‫الله عز وجل لما لعن إبليس سأله النظرة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وعزتك ل أخرج من صدر عبدك حتى تخرج نفسه‪،‬‬
‫قال‪ :‬وعزتي ل أحجب توبتي عن عبدي حتى تخرج‬
‫نفسه‪ ،‬أو قال‪ :‬روحه‪ .‬رواه البيهقي في الشعب‬
‫بسند صحيح‪.‬‬
‫‪ )6‬عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ‪ ρ‬خرج‬
‫من عندها ليلً‪ ،‬قالت‪ :‬فغرت عليه‪ ،‬فجاء فرأى ما‬
‫أصنع‪ ،‬فقال‪« :‬مالك؟ يا عائشة أغرت؟» فقلت‪ :‬وما‬
‫لي ل يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله ‪:ρ‬‬
‫«أقد جاءك شيطانك؟» قالت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أو معي‬
‫شيطان؟ قال‪« :‬نعم» قلت‪ :‬ومع كل إنسان؟ قال‪:‬‬
‫‪131‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫«نعم»‪ .‬قلت‪ :‬ومعك يا رسول الله؟ قال‪« :‬نعم؛ ولكن‬
‫ربي أعانني عليه حتى أسلم»‪ .‬رواه مسلم‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫الحديث الول والثاني والثالث‪ ،‬والثر الرابع‬
‫والخامس يؤيد أن قوله‪« :‬يجري من ابن آدم مجرى‬
‫الدم» على ظاهره؛ لن المصلي إنما يقاتل بدن المار‬
‫ويمنعه من الجتياز أمامه‪ ،‬ولو كان القرين منفصل ً عنه‬
‫ل هذا‬ ‫لما علمنا بوجوده من عدمه في أثناء المرور‪ ،‬فد ّ‬
‫أنه في بدنه‪ .‬وجعل الحديث الول على ظاهره فريق‬
‫من أهل العلم؛ ولكن الحديث السادس يدل على أن‬
‫القرين قد ينفصل فيغيب ثم يأتي وذلك في قوله‪:‬‬
‫«أجاءك شيطانك؟» فهو لن يجيء ال بعد غياب إل أن‬
‫يقال‪ :‬يقصد بذلك غياب وسوسته مع بقائه في البدن‪.‬‬
‫وعلى كل حال فدخول الشيطان البدن وخروجه منه‬
‫أمر أثبته الشرع والواقع كما في قوله تعالى‪( :‬الذين‬
‫يأكلون الربا ل يقومون إل كما يقوم الذي يتخبطه‬
‫الشيطان من المس)‪ ،‬وحديث عثمان ابن أبي العاص‪،‬‬
‫والحديث الذي في مسلم من أن إبليس عندما رأى‬
‫جسد آدم في الجنة‪( :‬فلما رآه أجوف عرف أنه خلق‬
‫خلقا ً ل يتمالك) وغيره‪ .‬فالراجح أن القرين قد يدخل‬
‫البدن وقد يوسوس من خارجه‪ ,‬والله أعلم‪.‬‬

‫‪ –20‬إثبات أن الشيطان يقوم بأفعال محسوسة تورث‬


‫المراض في البدان‪:‬‬
‫‪ )1‬عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه‬
‫أن عبدالله رأى في عنقي خيطا ً فقال‪ :‬ما هذا؟‬
‫فقلت‪ :‬خيط رقي لي فيه‪ ،‬قالت‪ :‬فأخذه فقطعه‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬أنتم آل عبدالله لغنياء عن الشرك‪ ،‬سمعت‬
‫رسول الله ‪ r‬يقول‪« :‬إن الرقى والتمائم والتولة‬
‫شرك»‪ .‬فقلت‪ :‬لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني‬
‫تقذف‪ ،‬وكنت أختلف إلى فلن اليهودي‪ ،‬فإذا رقاها‬
‫سكنت‪ .‬فقال عبدالله‪ :‬إنما ذلك عمل الشيطان كان‬
‫ينخسها بيده فإذا رقي كف عنها‪ ،‬إنما كان يكفيك أن‬
‫تقولي كما كان رسول الله ‪ r‬يقول‪« :‬أذهب البأس‬
‫رب الناس‪ ،‬واشف أنت الشافي‪ ،‬ل شفاء إل‬
‫شفاؤك‪ ،‬شفاء ل يغادر سقما»‪ .‬رواه أبو داود‬
‫وصححه اللباني‬
‫‪ )2‬عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪« :r‬فناء أمتي بالطعن والطاعون) فقيل‪:‬‬
‫يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟‬
‫قال (وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة) رواه‬
‫احمد وقال المنذري‪ :‬أحد أسانيده صحيح وصححه‬
‫اللباني‪.‬‬
‫‪ )3‬عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها قالت‪:‬‬
‫كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة‪ ،‬فأتيت النبي ‪r‬‬
‫أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت‬
‫جحش‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إني أستحاض حيضة‬
‫كثيرة شديدة فما تأمرني؟ فقال‪« :‬إنما هي ركضة‬
‫من الشيطان» رواه الترمذي وقال حسن صحيح‪،‬‬
‫وقال‪ :‬سألت محمد ــ أي البخاري ــ عن هذا‬
‫الحديث؟ فقال هو حديث حسن صحيح‪ ،‬وهكذا قال‬
‫أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫«الركضة»‪ :‬الضرب بالرجل‪ ,‬قال بعض أهل‬
‫العلم‪ :‬أي ضرب الشيطان الرحم برجله‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫‪ )4‬عن عائشة‪ ،‬قالت استحيضت أم حبيبة بنت جحش‬
‫ــ أخت زينب بنت جحش ــ زوج النبي ‪ ρ‬فاستفتت‬
‫رسول الله ‪ ،ρ‬فقال لها رسول الله ‪« :ρ‬إن هذه‬
‫ليست بحيضة‪ ،‬ولكن هذا عرق فتقه إبليس‪ ،‬فإذا‬
‫أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي‪ ،‬وإذا أقبلت فاتركي‬
‫لها الصلة»‪ .‬رواه الطحاوي والطبراني في مسند‬
‫الشاميين بسند حسن‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫فيها دليل قاطع على أن الرقية الشرعية تكون‬
‫للمرض العضوي وغير العضوي‪ ،‬وأن بعض الجروح‬
‫الداخلية والحروق والبثور وسيلن العين وغير ذلك‪ ،‬قد‬
‫يكون سبب وجودها الوحيد هو الشيطان‪ ،‬فل تعالج ال‬
‫بالرقية‪ ,‬والله أعلم‪.‬‬

‫‪ -21‬أن علقة النسان بالشيطان تنتهي بعد خروج الروح‬


‫وأن التكليف العام للنسان ل ينتهي إل بالموت‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله ‪ ρ‬قال‪:‬‬
‫«إن الشيطان قال‪ :‬وعزتك يا رب ل أبرح أغوي‬
‫عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم‪ ،‬فقال الرب‬
‫تبارك وتعالى‪ :‬وعزتي وجللي ل أزال أغفر لهم ما‬
‫استغفروني»‪ .‬رواه احمد وصححه اللباني‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫فيه دللة على أن الشيطان يتعلق إغواؤه ببقاء‬
‫الروح في الجسد وليس بقاء العقل وأن موت الدماغ‬
‫مع بقاء الروح ل يعني نهاية التكليف لن الشيطان إلى‬
‫هذه المرحلة من ضعف البدن مازال يغوي والله تبارك‬
‫وتعالى مازال يغفر وهذا نص شرعي على أن ميت‬
‫الدماغ ليس بميت ل شرعا ً ول كونا ً ‪ ,‬و أن رفع الجهزة‬
‫عن الميت دماغيا لكي تخرج روحه هو قتل لنسان‬
‫مكلف ‪ ,‬والله أعلم‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الواقع والواقعية‬
‫يقول الله عز وجل‪( :‬إن عذاب ربك لواقع * ما له‬
‫من دافع)(‪ )1‬وقال تعالى‪( :‬إذا وقعت الواقعة * ليس‬
‫لوقعتها كاذبه)(‪ )2‬فالواقع في تعريفه ل يعدو أن يكون‪:‬‬
‫الشيء الذي سيعايشه النسان حتما ً على المستوى‬
‫الحسي والمعنوي ل يستطيع أنه يدفعه عن نفسه ل‬
‫إقداما ً ول إحجاما ً ول تجاهلً‪ .‬فالموت واقع! لنك سوف‬
‫تمر به‪ ,‬والحياة واقع! لنك تعاني كَبَدَها ولوائها‪,‬‬
‫والشيطان ووسوسته واقع! لنه يؤثر فيك علمت أم لم‬
‫تعلم آمنت أم لم تؤمن‪ ,‬والملئكة واقع!‪ .‬ولهذا قال ‪:r‬‬
‫(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)‪ .‬وكان ابن‬
‫عمر يقول إذا أمسيت فل تنتظر الصباح وإذا أصبحت‬
‫فل تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك‬
‫لموتك(‪ .)3‬فهذه ليست "عزلة توحدية " أو كما يقولون‬
‫" عقدة ميتافيزيقية النتماء " وإنما هي " الواقعية‬
‫السمحة! "على نور من الله‪ ,‬لمن يعرف ما هي حقيقة‬
‫الواقع وما هي مقتضيات تلك الحقيقة‪ .‬وعند معرفة‬
‫هذا ستعلم أن أكثر الواقعيين تطرفا ً اليوم هو أبعدهم‬
‫عن الواقع والواقعية‪ ,‬فهو يقول‪ :‬كن واقعيا ً وتجاوز عن‬
‫هذا المحظور الشرعي فإن لي فيه منفعة!‪ ,‬مع أن‬
‫الذنب ل يبلى وستلقى كل نفس ما عملت من سوء‬
‫محضرا‪ ,‬فالواقعية أن ل تتجاوز‪ ,‬ويقول‪ :‬كن واقعيا ً ول‬
‫تقل ملئكة وجن وشياطين! والواقع أن الله أثبت ذلك‬
‫بل أن حتى الحمار يعلم حق العلم وعين اليقين أن‬
‫ذلك جنوح عن الواقع كما قال ‪( :r‬إذا سمعتم صياح‬
‫() الطور‪.8 ,7 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫() الواقعة‪.2 ,1 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا‬
‫سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه‬
‫رأى شيطانا)(‪ )1‬وفي رواية (إذا سمعتم نباح الكلب‬
‫ونهاق الحمير)(‪ ,)2‬ولكن بعض البشر لم يبلغ في‬
‫واقعيته ما بلغته الديكة والكلب والحمير! نسأل الله‬
‫العافية‪ ,‬وكل من قال في شيء واقع مثل ذلك فهو‬
‫كذلك‪.‬‬
‫الحسنة والسيئة هي أيضا ً من الواقع لنها تكتب‬
‫ة وقد وكل الله مخلوقات حقيقية بتولي كتابة‬ ‫حقيق ً‬
‫العمال وسماهم "الكرام الكاتبين"‪ ,‬يعيشون معنا كما‬
‫يعيش أي كائن حقيقي الوجود والمنفعة والتأثير‪,‬‬
‫وبعضهم يشتغل معنا في الليل وبعضهم في النهار!‪ ,‬ثم‬
‫ترفع العمال إلى رب العالمين وسوف تبيض بسببها‬
‫وجوه وتسود وجوه‪ .‬وقد كان الربيع بن خثيم إذا‬
‫استيقظ من نومه قال‪ :‬أكتبوا يا ملئكتي! بسم الله‪,‬‬
‫سبحان الله والحمد لله ول إله إل الله والله أكبر!‪,‬‬
‫يقول لكي تبدأ صحيفة أعمالي بذكر الله‪ ,‬فهو رجل‬
‫واقعي في تصوره وواقعي جداً!‪ .‬إن الدنيا في تقلباتها‬
‫وتفاصيلها اليومية إنما تحركها تبعات الحسنات‬
‫والسيئات بشكل كبير ‪ ,‬يقول ‪( :r‬إن الرجل ليحرم‬
‫الرزق بالذنب يصيبه ول يرد القدر ال الدعاء ول يزيد‬
‫في العمر ال البر)(‪ ,)3‬فالدينار والزوجة والعافية وكل‬
‫رزق ربما ضاع بسبب السيئة!‪ ,‬بل أن ظاهرة التصحر‬
‫وتقلص الغطاء النباتي تكون بسبب السيئات فقد قال‬
‫تعالى في ذلك‪( :‬ظهر الفساد في البر والبحر بما‬
‫كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم‬
‫يرجعون)(‪ )4‬قال زيد بن رفيع في تفسير هذه الية‪ :‬إن‬
‫() متفق عليه‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وقال اللباني‪ :‬إسناده جيد‬ ‫‪2‬‬
‫رجاله ثقات رجال الشيخين‪.‬‬
‫() رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم وحسنه اللباني‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫() الروم‪.41 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪137‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫المطر لينقطع ثم يتبعه القحط وإن دواب البحر‬
‫ليصيبها العمى في قعره(‪ ,)1‬أي بمعصية ابن آدم!‪.‬‬
‫فالواقع الشخصي والجتماعي والكوني بما في ذلك‬
‫دواب البحر‪ ,‬كلها تتأثر بأشياء ل يقيم لها أكثر الناس‬
‫في هذا الزمان اعتباراً‪ ,‬بل إن المة بأسرها قد تجتال‬
‫وتستباح ول أحد يجد في نفسه أدنى إشارة إلى‬
‫السبب الحقيقي وراء ذلك فكلهم يتحدثون عن‬
‫الطماع المعلنة والمؤامرات المدبرة والتحالفات‬
‫الخفية وربما يكون هذا واقعا ً ولكن " الواقع الول "‬
‫الذي نتج عنه هذا " الواقع العقوبة " هو الذي ينبغي أن‬
‫تناط به ألباب المفكرين والمنظرين وتعتمد على‬
‫تحليله حكمة الحاكمين على المة وأفرادها قبل أن‬
‫تشتغل هذه الفهام بأعراض المرض وتنسى علته‪,‬‬
‫فليست الواقعية في أن تتجه إلى المعركة المادية‬
‫المشاهدة فتنظر في بروتوكولت العداء وآلت‬
‫جيوشهم‪ ,‬وكيف نصنع طائرة نوقع بها طائرتهم ودبابة‬
‫نفجر بها دبابتهم!‪ ,‬هذا جزء ضئيل من الواقع بل إن‬
‫من حكمة الله التامة ورحمته السابغة على هذا الدين‬
‫أن ل تتولى أفراد أمه محمد اليوم القيام على العالم أو‬
‫ما يسمونها بـ " أستاذية العالم " لن من يسعون اليوم‬
‫لتلك الستاذية على طريقتهم التسلقية لو ملكوا العالم‬
‫كما ملكه سليمان عليه السلم لقاموا شرعا منحرفاً‬
‫ة ناقصة ولسخروا شرع الله لبنيات أفكارهم‬ ‫ومل ً‬
‫الحالمة وتوجهاتهم الرومانسية ولوقع التبديل والبطال‬
‫لكثير من شرائع الدين‪ ,‬فانظر إلى كل البلد السلمية‬
‫وكل بدعة متغلغلة فيها فلو رجعت إلى التاريخ لوجدت‬
‫أن تلك البدع المتفشية المتأصلة في تراث تلك‬
‫الشعوب‪ ,‬وبعضها قد يبلغ حد الكفر‪ ,‬إنما غرست في "‬
‫زمن القوة " عندما حكمت جماعة مسلمة ما تلك‬
‫الشعوب وأذنت بإقامة تلك البدع فيها فرسخ في‬
‫عقيدة الناس أنها هي الدين كما في القبورية في مصر‬
‫() تفسير ابن كثير (‪.)576/ 3‬‬ ‫‪1‬‬
‫التي أنشأتها الدولة العبيدية أو الصوفية التي رعتها‬
‫الدولة العثمانية والتي مازال أهل تلك البلدان التي‬
‫كانت تقع تحت حكمها يعانون تأصلها في إرثهم‬
‫النفسي والجغرافي حتى أنه بعدما حكم أهل الدعوة‬
‫النقية الحجاز وجدوا رسالة من الخليفة العثماني عند‬
‫قبر رسول الله يستغيث به ويطلب منه المدد!‪ ,‬فقبل‬
‫أن نسعى للستخلف الممي والستاذية علينا أن نتعلم‬
‫كيف نكون أساتذة وكيف نكون خلفاء!‪ ,‬فالمبتدع إن‬
‫حكم أبطل الدين وإن رأيت الذان يرفع والرؤوس‬
‫تسجد وتركع فما يفيدنا ذلك وقد نقضت " العروة‬
‫الوثقى" التي هي كما قال أحد أساتذة الزمان وأئمة‬
‫الهدى‪ ,‬الوزاعي رحمه الله‪ ,‬قال‪( :‬ل يستقيم اليمان‬
‫إل بالقول ول يستقيم القول إل بالعمل ول يستقيم‬
‫اليمان والقول والعمل إل بالنية الموافقة للسنة‪ ,‬فمن‬
‫آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله فتلك‬
‫العروة الوثقى التي ل انفصام لها)(‪ ,)1‬فأين دعاة‬
‫أستاذية العالم من هذا اليوم؟‪ ,‬بعضهم في تحالف‬
‫فكري مع الرافضي والعلماني في وجه الغرب‬
‫المتغطرس على فكرنا وحضارتنا!‪ ,‬وبعضهم عضو في‬
‫المجلس التشريعي ويزعم أنه يوسف القرن الجديد!‪,‬‬
‫حسناً‪ ,‬والناس؟ وأمة محمد ‪ρ‬؟ أين هم من الحسنة‬
‫والسيئة؟ ينتظرون على الرصفة بل علم وبل كتاب وبل‬
‫سنة إلى أن ينتصر حليف الرافضي والعلماني على‬
‫الغرب ويسود أعضاء " السلم الدسيس " في‬
‫البرلمان ويحول إلى خلفة راشدة ل يعلم برشدها إل‬
‫الله‪ ,‬ثم الستاذية!‪ ,‬ثم بعد هذه الحقب الطويلة من‬
‫الزمان‪ ,‬إن لم تكن قامت الساعة بعد‪ ,‬يلتفت بعد ذلك‬
‫إلى عوام المكلفين ليقال لهم " نحن الن خلفاء‬
‫الرض وأساتذة العالم‪ ,‬فتعالوا نبني الحياة! "‪ ,‬لن هذا‬
‫هو المعلن من الهداف الستاذية الن‪ ,‬صناعة السعادة‬
‫والحياة للبشرية!!‪.‬‬
‫() حلية الولياء (‪.)144/ 6‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪139‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫إن التفسير المادي للتاريخ والواقع الناتج عن‬
‫التداعيات السابقة هو ذاته التفكير الماركسي الذي‬
‫جاءت به الشيوعية الملحدة حيث يكرر ماركس كما‬
‫في كتابه " بؤس الفلسفة " أن كل الفكار الرضية‬
‫ناتجة عن المادة لن المادة سابقة للفكر والدماغ مادة‬
‫والفكر ناتج عن الدماغ والمادة كانت قبل كل شيء‬
‫وستبقى بعد كل شيء!‪ .‬ففكرة " الله! "‪ ,‬على حد‬
‫وصف ماركس‪ ,‬ناتجة عن العهد الزراعي الذي كان‬
‫النسان فيه بحاجة لقوة خفية تحمي محاصيله من‬
‫الفات وتساعد على كثرة النتاج فنتجت " فكرة الله "‬
‫التي اخترعها النسان لسبب اقتصادي بحت بحيث‬
‫يوكل إليها زيادة إنتاجه وحفظ محصوله ثم أن هذه‬
‫الفكرة يجب أن تنتهي الن بعد اكتشاف تركيبة النبات‬
‫والسمدة ودخول عهد الصناعة فليس هناك حاجة‬
‫لـ"فكرة الله " لن الصناعة تتم السيطرة فيها على‬
‫المصنوع بشكل كامل فليس هناك غيب يجبر النسان‬
‫على التعلق بفكرة الرب الخرافية‪ ,‬في نظره‪ ,‬التي‬
‫كان يحتاج النسان إليها لسباب اقتصادية بحيث يبارك‬
‫ذلك الرب بعنايته اللهية غلة المزارع ويحميها من‬
‫الشرور الخفية!!‪ .‬ويقول زميله فريدريك انجلز في‬
‫كتابه (أصل السرة والملكية الخاصة والدولة) بأن "‬
‫فكرة الشرف " نتجت بعد اكتشاف المحراث!!‪ ,‬حيث‬
‫زادت ثروة الرجل بسبب زيادة الرض المزروعة‬
‫فصارت هناك ثروات يتم توريثها بعد موت الرجال‬
‫فنتجت فكرة الشرف لكي يعرف الرجل أن زوجته ل‬
‫تنجب إل من صلبه فيكون على يقين أن ثروته تذهب‬
‫لبنائه الطبيعيين حال ورثهم له بعد موته وأما قبل‬
‫اكتشاف المحراث فلم يكن للرجل ثروة يرثها أحد من‬
‫بعده ولهذا يقول بأنه لم يكن هناك شرف وأن كل‬
‫رجل كان يسمح له أن يجامع كل امرأة بل حرج قبل‬
‫اكتشاف المحراث اللعين!!‪ .‬فإذا تم نزع الملكية‬
‫الفردية كما هو قانون الشيوعية فإنه لن يكون لي‬
‫شخص أي ثروة وعندها فإن سبب احتكار المرأة على‬
‫رجل واحد بدعوى الشرف أمر رجعي يجب تركه ولهذا‬
‫كانت الشيوعية في عهد فلديمير لينين تحرم الزواج‬
‫لنه استعباد وتملك بل سبب منطقي ثم سمح به بعد‬
‫ذلك دون إجبار عليه لسباب طبية بحته في مشروع‬
‫سماه (زواج الكوب) وليس هذا مجال بسط هذه‬
‫السخافات!!‪.‬‬
‫اليوم نجد من يتكلم عن الواقع بنفس هذا المنظور‬
‫المادي الملحد‪ ,‬فعندما تنسب بعض الخفاقات الرضية‬
‫لسباب غيبية كأن تجعل السيئة والمعصية سبباً‬
‫لمصيبة حلت في مكان ما من بلد المسلمين تجد من‬
‫ينظر إليك نظر المغشي عليه من الضحك ويقول‪" :‬‬
‫هذه صوفية سياسية وبوهيمية الدراويش " فالقوم ما‬
‫قتلوك إل بالبندقية والصاروخ فما دخل السيئة بذلك؟!‪.‬‬
‫فقديما عندما يمرض النسان كان يستساغ أن يقال‬
‫" مرض بذنبه ومعصيته " لننا ل نعرف الفيروس‬
‫والمجهر فأما اليوم فل حاجة لفكرة " العقوبة اللهية "‬
‫لننا بتنا نعرف السباب‪ ,‬تماما ً كما هي الحال في‬
‫مقولة ماركس بالنسبة لـ" فكرة الله!! " ولكن على‬
‫نطاق ضيق غير صريح ثم يزعم من يقول بذلك بأن‬
‫هذه هي الواقعية الصحيحة ويسميها " براغماتيه " لكي‬
‫تعتقد أنها مذهب جديد وإنما هي في الحقيقة " العقيدة‬
‫الماركسية في تحليل الحداث الكونية!! " غير أن‬
‫البراغماتية تربط المادة بالنتيجة الخارجية الناتجة عن‬
‫منظومة الفكار العملية بينما الماركسية تربط الجدلية‬
‫المادية بمرحلة المقدمات الولية والستقصاء التي‬
‫تبنى عليها المسلمات الماركسية وفي النهاية كلها "‬
‫مادية "!‪ .‬ول أحد ينفي الحداث الكونية وارتباط القوة‬
‫منِكر ذلك يسمى "‬ ‫والتأثير بالسبب المادي بل أن ُ‬
‫جبري" ولكن لكل فعل يأذن به الله حكمة بالغة تتجلى‬
‫لمن كان في قلبه نور ينظر به إلى مواطن رضا الله‬
‫وسخطه كما أن الله نص على ذلك في كتابه حيث‬
‫‪141‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫قال‪( :‬وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‬
‫ويعفو عن كثير) الشورى‪.30 :‬‬
‫فليس الواقع مداره على النتائج النيّة ‪,‬بل إن‬
‫التاريخ مليء بعبر المآلت التي لم تكن تخطر ببال أحد‬
‫مثل تسمية صلح الحديبية بـ " الفتح المبين " على ما‬
‫فيه من شروط كان ظاهرها الستضعاف والضطهاد‬
‫وكما وصف سبحانه حادثة الفك التي أبكت النبياء‬
‫والصديقين بأنها " خير لكم " أي للمسلمين!‪ .‬وكما‬
‫كانت قنبلة هيروشيما التي ظن العالم أنها نهاية مجد‬
‫اليابان فصارت بداية تحرره من عبودية العائلة‬
‫المبراطورية التي تزعم أنها من سللة الله والتي كان‬
‫يحرم على المواطن الياباني أن ينظر إلى أي فرد من‬
‫أفرادها إل بإذنه فكانوا يسجدون عند مرور أي فرد من‬
‫أفراد العائلة لكي ل ينظرون إليهم فحررتهم تلك‬
‫الكارثة من عبودية الساطير المتفرعنة والموت في‬
‫سبيل المبراطور كما فعل طيارو الكانيكازي في‬
‫عملياتهم النتحارية‪ ,‬وغير هذا من المثلة الكثير‪ .‬إن‬
‫العتماد على التدبير الذاتي بشكل كامل حماقة ل‬
‫ينكرها حتى الملحدين بل حتى المبادئ الرياضية‬
‫المنطقية والفيزيائية‪ ,‬فلو نظرت إلى هذين الخطين‬
‫كما في الرسم التالي‪:‬‬
‫إن انحراف الخط السفل قليل وكذلك العلى‬
‫سينتج عنه التقاء الخطين في تقاطع سوف يقع في‬
‫المستقبل بعد مسافة كبيرة ولكنه سوف يقع ل محالة‬
‫ومكان تلك النقطة التي سيلتقيان فيها ومدة الزمن‬
‫السابق لللتقاء كل هذا يحدده مقدار النحراف تقارباً‬
‫وتباعدا والمسافة بين أصل المستقيمين‪ .‬كذلك فإن‬
‫مقدار النحراف في الخط العلوي سينتج عنه مرور‬
‫الخط بنقاط كثيرة وهي التي تنتشر في الرسم وفي‬
‫نفس الوقت فإنه سيتجنب المرور بنقاط أخرى وتجد‬
‫أن هذا المرور والتجنب للنقاط أيضا ً متعلق بمقدار‬
‫النحراف في المستقيم‪ .‬كذلك الحياة‪ ,‬فلك أن تجعل‬
‫ذلك النحراف هو مقدار بعدك من الدين وقربك منه أو‬
‫الخرة أو المال أو العلم أو أي طبع من طباع البشر‬
‫ككثرة المزاح أو الجديّة أو الحس المرهف أو الجلفة‬
‫أو قلة الحياء أو الشجاعة أو أي شيء له تأثير أصيل‬
‫واضح في الحياة‪ ,‬ثم نظرت إلى تركيبة حياتك‬
‫والحداث التي مرت بها تجد أنها كلها متأثرة بمقدار‬
‫انحراف تلك الصفة صعودا ً أو نزول ً بما في ذلك‬
‫الشخاص الذين صاحبتهم في حياتك كلها!‪ .‬وقد تجد‬
‫أنك تغير مسار طريقك من شارع إلى شارع لجل "‬
‫مطعم " أو " مغسلة ملبس " ثم ينتج عن ذلك اللتقاء‬
‫بأشخاص كثر أنت لم تكن تسعى للقياهم وربما‬
‫صدمت أحدهم بسيارتك وربما كان أحدهم يدين لك‬
‫بمبلغ ما فيعطيك إياه وربما تشاجرت مع شخص ما‬
‫عند المطعم وربما حدثت أشياء كثيرة قد تغير مسار‬
‫حياتك وكل هذه الشياء أنت لم تكن تسعى إليها‬
‫ولكنك كنت تريد "المطعم" فقط!!‪ .‬ولو حسبت‬
‫الشياء التي تنتج عن قرار ما أنت تختاره تجد أنه ينتج‬
‫عنه " حدث واحد أو بضعة أحداث " أنت كنت تتوقعها‬
‫وتسعى إليها ولكن لو نظرت إلى كمية الحداث‬
‫الخرى المصاحبة والناتجة عن غير قصد لها والمترتبة‬
‫على ذلك الختيار المعين الذي اخترته تجد أنها قد تبلغ‬
‫‪143‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫اللف دون مبالغة‪ .‬فكيف إذا تحدثت لك عن‬
‫الفيروسات التي تمل الجو ولربما أصابك فيروس كان‬
‫في ذلك الشارع ولم يكن متواجدا ً في غيره لن ثمة‬
‫مريض بداء معين مر من هنا وحدثته نفسه في لحظة‬
‫معينة اتفقت مع مروره في هذا الشارع أن يبصق‬
‫فينتشر الفيروس فتمر أنت فتلتقطه!‪ .‬وكيف لو‬
‫تكلمت لك عن مسمار صغير قد يتلف إطار سيارتك‪,‬‬
‫سقط من جيب عامل بناء كان يمر في هذا الشارع‬
‫وكان قد أوصى زوجته أن تخيط جيب سرواله ولكنها‬
‫لم تفعل وهو صابر عليها إلى هذه اللحظة لنها ابنة‬
‫قريبه التي أجبرته أمه على الزواج منها ولو طلقها‬
‫وجاء بأخرى نشيطة قبل هذا اليوم لكانت قد خاطت‬
‫الجيب ولم يسقط المسمار ولم يتلف إطار‬
‫سيارتك!!‪.‬و لو حدثتك عن الشياطين الذين يتسكعون‬
‫في الطرقات!‪ ,‬فكم وكم من النقاط التي تزاحمك‬
‫وتصطدم بها وأنت ل تعلم وتظن أنك " تتحرك بخط‬
‫واضح مدروس! " وتظن أنك تعرف المؤثرات التي‬
‫فعل ً تقع عليك وهذا غير صحيح‪ .‬ففي مسألة المسمار‬
‫هل كان الذنب ذنب الزوج أم الزوجة أم الم أم ذنب‬
‫من صنع المسمار أم ذنبك أنت لنك مررت بهذا‬
‫الشارع أم ذنب من فتح المطعم في هذا الشارع‬
‫بالذات؟‪ .‬كل هذه المؤثرات لو غاب منها واحد فقط‬
‫لما تلف إطار سيارتك!‪ ,‬وبعضها دخل إلى هذه الدنيا‬
‫قبل عشرات السنين وبقي موجودا ً لكي يؤثر عليك‬
‫في هذه اللحظة بالذات كذلك المسمار الذي ربما صنع‬
‫في الصين وبقي في مخازنها عشرات العوام ثم أتي‬
‫به ليلعب دوره في هذه اللحظة!‪.‬‬
‫إن النسان يعمل على دفع السبب الظاهر لكي ل‬
‫تقع المصيبة الظاهرة ولكن أي مصيبة قد تقع في أي‬
‫لحظة لسباب كثيرة تحيط بك وأنت ل تعلم ولكن الله‬
‫هو الذي يحميك من هذه السباب ويعافيك منها بينما‬
‫أنت مشغول بالسباب الظاهرة‪ .‬فمثل ‪ ,‬القتل قد يقع‬
‫لي سبب وقد كان أبي بن خلف من رؤوس الكفر‬
‫والشرك ولكنه كان يعلم أن الله قد ينصر نبيه في أي‬
‫لحظة حتى قال مرة‪( :‬و الله لو بصق علي محمد‬
‫لقتلني) هذا مع أنه كافر قد حشي رأسه بعفن‬
‫الشرك!‪ .‬وقد جاء في التاريخ من تسخير الله لبعض‬
‫المور فقط لكي تتجلى هذه المسألة في فهوم البشر‬
‫وذلك كما في قصة تعذيب فرعون وقومه بالقمل‬
‫والضفادع والجراد وقد كان الله عز وجل قادر على أن‬
‫يعذبهم بالفيلة والديناصورات والمخلوقات المخيفة‬
‫ولكن الله يريد أن يبين لبني آدم أنه هو الذي يمسك‬
‫السماوات والرض أن تزول وأنه يمسك من أسباب‬
‫الهلك الشيء الكثير الذي ل نأبه به‪ ,‬بل وربما نحتقره‬
‫ولول عصمة الله لنا لقتل النسان ريقه الذي في فمه‬
‫يشرق به فيموت وقد حدث هذا كثيراً!‪ .‬وقد وقفت‬
‫بنفسي قبل أيام على قصة فتاة صغيرة خرجت من‬
‫باب المنزل فقفزت من أمامها قطة فخافت الصغيرة‬
‫وسقطت ميتة مع أن هذه القطة كانت تدخل البيت‬
‫كل يوم وكانت هذه الفتاة تراها ولكن الله قدّر في هذا‬
‫اليوم بالذات وفي هذه الساعة أن تتحول هذه القطة‬
‫إلى " سبب قاتل مميت " فحدث ذلك‪ .‬فمن الذي قدّر‬
‫كل هذا؟‪ .‬إنه الله سبحانه الذي يحول من حال إلى‬
‫حال والذي توعد الذين يجهلون قدر عظمته بأنه‬
‫سيستدرجهم من حيث ل يعلمون‪ .‬فمن الذي سيعطيك‬
‫خير هذه الشياء المحيطة بك والتي تؤثر عليك وأنت ل‬
‫تعرفها؟‪ .‬ومن الذي سيكفيك شرها ويجعلها ل تعيق "‬
‫حفنة " الهداف الصلية التي كنت أنت تسعى إليها؟؟‪.‬‬
‫إنه توفيق الله ول شيء غير توفيق الله ول أحد في‬
‫الدنيا كلها يستطيع إحصاء عُشر ما يحيط بك من‬
‫أسباب مؤذيه ناهيك عن إيجاد الضمانات بدفعها عنك‬
‫ولكن الله الذي بكل شيء محيط وهو القاهر فوق‬
‫عباده قادر على أن يحيط بذلك ويقهره بقوته وعظمته‬
‫سبحانه‪ ,‬فهذا الكون فضاء مخيف من المخلوقات ول‬
‫‪145‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫يدرك عظمة الله من ل يدرك عظمة هذا الكون الذي‬
‫يسير فيه كل مخلوق دون أن يدخل في نطاق الخر‪.‬‬
‫فالذئب يأكل الخروف والخروف يأكل العشب‬
‫والدجاجة تأكل الحب ولن يأكل الدجاج الخروف ولن‬
‫يأكل الذئب الحب وهذا معنى قوله عليه الصلة‬
‫والسلم (أعوذ بكلمات الله التامات التي ل يجاوزهن‬
‫بر ول فاجر)(‪ )1‬فهو يخلق كل شيء بكلماته فيقول له‬
‫كن هكذا فيكون كذلك ويبقى على ما خلقه الله عليه ل‬
‫يتجاوزه حتى يرث الله الرض ومن عليها‪ .‬وهي ظاهرة‬
‫حيرت علماء الجتماع عندما راقبوا الحيوانات فوجدوا‬
‫أن أخلقها ل تتطور ول تتغير على مر العصور‪ .‬فمن‬
‫الذي يحكم هذه الرواح في هذه التصرفات وهذه‬
‫الطر النفسية؟‪ .‬إنه الله!‪ .‬ثم يأتي من يريد تفريغ هذا‬
‫العالم من أفعال الله وتأثيراته ويزعم بأن ذلك "‬
‫براغماتية! " يقتضيها عصر التجربة والمادة والمنفعة‬
‫العملية!‪ .‬العيش مع المسلمات والمعاني الخفية‬
‫المستصحبة على الدوام أمر حتمي لبد منه وإل فعليك‬
‫في كل مرة تفكر فيها بواشنطن أن تذهب إلى‬
‫واشطن وتعود لكي ل تخضع للتسليم واليمان الغيبي‬
‫بوجود مدينة ربما ليس لها وجود إل في دماغك‬
‫اللبراغماتي‪ .‬ولهذا ينبه الله تبارك وتعالى على هذه‬
‫الحاطة الشديدة وهذا النظام المحكوم بقيام الله عليه‬
‫فيقول‪( :‬الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الرحام‬
‫وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب‬
‫والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول‬
‫ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار *‬
‫له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر‬
‫الله إن الله ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‬
‫وإذا أراد الله بقوم سوءا فل مرد له وما لهم من دونه‬
‫من وال * هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ‬
‫السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملئكة من‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم‬
‫يجادلون في الله وهو شديد المحال) الرعد‪,12-8 :‬‬
‫فسبحان الله العظيم‪ ,‬سبحان الله العظيم!!‪.‬‬
‫فنحن ندبر سببا ً واحدا ً والله يدبر من حيث ل نرى‬
‫ول نعلم عددا ً ل يحصى من السباب التي لو لم يتيسر‬
‫واحد منها لفشل تدبيرنا التافه الضئيل الذي كنا نظنه‬
‫هو الصل الذي عليه نبني " جدوى المشروع " الذي‬
‫نسعى إلى تحقيقه!‪ .‬لهذا تجد النبي ‪ r‬يقول‪( :‬إذا خرج‬
‫الرجل من بيته فقال‪ :‬بسم الله توكلت على الله ل‬
‫حول ول قوة إل بالله فيقال له‪ :‬حسبك قد هديت‬
‫وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان‬
‫آخر‪ :‬كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)‪ .‬فالحديث‬
‫يوضح أن التوكل على الله سبب لدفع شر من يترصد‬
‫لك عند خروجك وذلك في قوله " كفيت " وكذلك‬
‫سبب في عناية الله التي تحميك من الوقوع في كل ما‬
‫يتوقى الناس الوقوع فيه من أذى غير مقصود وذلك‬
‫في قوله " وقيت " ثم هو سبب في هدايتك إلى‬
‫السبيل المثل لبلوغ غايتك سالما ً غانما ً وذلك في قوله‬
‫" هديت "‪.‬‬
‫والمعنى من كل هذا هو أن تحديد معالم الواقع‬
‫من معطياته المادية وجعلها هي ذاتها مدخلت أي‬
‫مشروع لتنظير المستقبل بشكل حصري‪ ,‬أمر غير‬
‫حكيم ل كونا ً ول شرعا ً لن أفعال الله في الكون على‬
‫مستوى الفرد والجماعة ل تنقطع عن التدخل الذي‬
‫تدركه عقولنا أو ل تدركه وإنما يتاح لها التعامل مع تلك‬
‫الفعال بأمور وصفها الله في دينه كالتوكل والنابة‬
‫والخوف والرجاء‪ ,‬ولهذا قال الله تعالى في الحديث‬
‫القدسي كما في الصحيحين‪( :‬يؤذيني ابن آدم يسب‬
‫الدهر وأنا الدهر بيدي المر أقلب الليل والنهار)‪ .‬وفي‬
‫صحيح مسلم عن أبي موسى قال‪ :‬قام فينا رسول الله‬
‫‪ r‬بأربع‪( :‬إن الله ل ينام ول ينبغي له أن ينام يرفع‬
‫‪147‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫القسط ويخفضه ويرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل‬
‫الليل بالنهار)‪ ,‬وهذا هو تفسير قوله تعالى‪( :‬يسأله من‬
‫في السماوات والرض كل يوم هو في شأن) الرحمن‪:‬‬
‫‪ .29‬كما أن رسول الله ‪ ρ‬وصف كلمة (ل حول ول قوة‬
‫إل بالله) بأنها كنز من كنوز الجنة وهي واضحة المعنى‬
‫فل تحول ول انتقال إل بقوة الله وإذنه وتدخله‪ .‬ولو‬
‫تأملت الواقع لوجدت طرفه في قلب العبد وطرفه‬
‫الخر في يد الله‪ ,‬ولن يرى الواقع على حقيقته من ل‬
‫يرى فعل أمر الله في خلقه وقد قال ‪( :ρ‬لم تظهر‬
‫الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إل ظهر فيهم‬
‫الطاعون والوجاع التي لم تكن مضت في أسلفهم‬
‫ولم ينقصوا المكيال والميزان إل أخذوا بالسنين وشدة‬
‫المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا الزكاة إل‬
‫منعوا القطر من السماء ولول البهائم لم يمطروا ولم‬
‫ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إل سلط عليهم عدوهم‬
‫من غيرهم‪ ,‬وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا‬
‫مما أنزل الله إل جعل الله بأسهم بينهم)(‪.)1‬‬
‫إن الواقع أكبر من خرائط القادة في ساحات‬
‫القتال وأبعاد المشكلة أبعد من رائحة الدم والبارود‬
‫في بيوت المستضعفين من المسلمين والنصر رضيع‬
‫الواقع ولن يشب ويشتد ساعد النصر واللبن فاسد فإن‬
‫الله ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‪ ,‬وإنك‬
‫لترى الرجل يتعب ويشقى وينال من العذاب ما الله به‬
‫عليم فإذا سألته عن أهدافه قال‪ " :‬تحرير الرض ونيل‬
‫الحرية واستعادة الكرامة "‪ ,‬هكذا ينخلع من سبيل الله‬
‫فيوالي ويعادي على هذه المفاهيم المتأصلة في قلبه‬
‫والتي نتجت عن " وسواس الرض والكرامة والوطن‬
‫الخالد! "‪ ,‬بينما الرض في نظام سنن الله الكونية هي‬
‫لمن يقيم فيها السلم والملة وأن الله يورث الرض‬

‫() ــرواهـ ـابنـ ـماجهـ ـوحسنهـ ـاللبانيـ ـوصححهـ ـالحاكمـ ـووافقه‬ ‫‪1‬‬
‫الذهبي‪.‬‬
‫من يشاء من عباده‪ ,‬ولو كفر العرب عن بكرة أبيهم‬
‫وآمن اليهود والنصارى لكانوا أحق من المسلمين‬
‫بديارهم وكما قال عليه السلم‪( :‬أل إن آل بني فلن‬
‫ليسوا بأوليائي ولكن ولي الله وصالح المؤمنين)(‪ .)1‬ول‬
‫يكاد يخلو قلب مسلم من شائبة هذه الفة إل من رحم‬
‫الله وقد ذكرتها تحت هذا الباب لنها تحتل جزءا ً كبيراً‬
‫من الواقع المعاش ولن كثيرا ً من المسلمين يقعون‬
‫تحتها عمليا ً أو على القل تحت تأثيرها الذي تروجه‬
‫وسائل العلم وهي في الحقيقة واقع باطل ل ينبغي‬
‫لحد أن يعيش من أجله ول أن يتأثر به إل أن يكون‬
‫ذلك لله ولدين الله ولعباد الله من المؤمنين‪ .‬وقد نقل‬
‫الشيخ ابن عزام رحمه الله مشاهداته لبعض ما يقع‬
‫من بعض المنحرفين من المسلمين الذين يسمون‬
‫أنفسهم بالمناضلين من أجل الوطن والحرية والقومية‬
‫العربية في بعض البلدان السلمية العربية المحتلة‬
‫فقال أنه رأى فريقا ً منهم يطلقون النار على المآذن‬
‫عند موت رئيس عربي تبنى الدعوة القومية العربية‬
‫وكان ذلك الفعل منهم انتقاما ً من الله بزعمهم لنه‬
‫أمات زعيم القومية العربية(‪ .)2‬ومازالت بقايا هؤلء‬
‫القوم موجودة في زوايا الواقع العربي وبعضهم مازال‬
‫يحمل اللواء والناس يركضون خلفه ويتعلقون بشماليله‬
‫ويهتفون له‪ ,‬فعلى أي هباء!‪ .‬أما مشاهداتي أنا فإني‬
‫رأيت مفكرا ً إسلميا ً كان في السابق شيوعيا ً ثم ارتدى‬
‫عباءة فصار " مفكرا ً إسلمياً! "‪ ,‬يقول بأن الذي ل‬
‫يدعو لنصرة الروافض في لبنان إنما هو رجل يعمل‬
‫بفتاوى بدوية متقوقعة تصدر عن أناس ل يفقهون‬
‫شيئاً‪ ,‬ثم يستضاف في مهرجانات التقريب والتخريب‬
‫في أمريكا وأوروبا وفي الفضائيات والمجلت السيارة‬
‫ليكون " إمام التنظير والتنوير " لعقول الشباب‬

‫‪ )( 1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )( 2‬ذكره في كتابه " تفسير سورة التوبة " متداول على النترنت‬
‫ولم يطبع‪.‬‬
‫‪149‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫المسلم‪ ,‬فعلى أي هباء!!‪.‬‬
‫إن إدراك الواقع على حقيقته ومعرفة عناصره‬
‫أصل أصيل لتولي مقاليد الخلفة في الرض سواء‬
‫على المستوى الفردي بالعبودية لله أو على المستوى‬
‫الممي بالخلفة الشرعية فالذي ل يدري من أين‬
‫سيؤتى‪ ,‬لن يكون خليفة الله في الرض ‪,‬و رحم الله‬
‫إبراهيم الخواص عندما تأوه ثم تأوه فقالوا‪ :‬ما هذا‬
‫التأوه يرحمك الله؟ فقال‪ :‬أوه! أوه!‪ ,‬من كان يسره ما‬
‫يضره‪ ,‬متى يفلح؟!!(‪ .)1‬وقد ساد السلف العالم وأملوا‬
‫على الدنيا مبادئهم عندما أدركوا كل هذه المعاني حتى‬
‫قال أحدهم لصاحبه‪( :‬يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك‬
‫فأما إذا صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا التبسم!)(‪)2‬‬

‫فصارت في نفوسهم قناعة تامة بأنهم مسئولون وأنهم‬


‫" هم الناس " كما قال سنيد بن داود يقول سألت ابن‬
‫المبارك‪ " :‬من الناس؟ قال‪ :‬العلماء‪ ,‬قلت‪ :‬فمن‬
‫الملوك؟ قال‪ :‬الزهاد"(‪ ,)3‬فلن يكون عالما ً ول أستاذاً‬
‫من يجد في قرارة نفسه شعورا ً بأنه لن يكون عالما ً إل‬
‫بالناس! ‪,‬فالناس كما قال أبو الدرداء‪( :‬عالم ومتعلم‬
‫وما عدى ذلك فهمج رعاع ل خير فيهم)(‪ .)4‬وابن جلدتك‬
‫الذي حاز علم الدنيا على غير رغبة في دين الله فإن‬
‫لم يضرك فلن يسرك‪ .‬ولن يتمكن النسان المسلم‬
‫من تمثيل دور " الدمي المثالي على الرض " وهو‬
‫يعتقد أنه لن يكون مثاليا ً إل بمشابهة الخرين‬
‫ومشاكلتهم‪ ,‬فالصحيح أن هذا الواقع المرئي أمر‬
‫مشكوك فيه‪ ,‬فالفواه صارت أبواقا خرقاء والوجوه‬
‫صارت كجلد الحرباء ورؤوس أهل المناهج المبتكرة‬
‫من القوم " السلميين " يتصدرون المة بألسنتهم ثم‬
‫() حلية الولياء (‪.)326/ 10‬‬ ‫‪1‬‬
‫() حلية الولياء (‪.)143/ 6‬‬ ‫‪2‬‬
‫() حلية الولياء (‪.)167/ 8‬‬ ‫‪3‬‬
‫() ـأخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) ( ‪)27/ 1‬‬ ‫‪4‬‬
‫وغيره‪.‬‬
‫فجأة يتبرأ أحدهم حتى من كرسيه الذي كان يجلس‬
‫عليه وينخلع حتى من نعليه ويذهب من بين القوم عارياً‬
‫من كل شيء لتضيع من بعده الفراريج! التي وصفت‬
‫عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبا سلمة بن‬
‫عبد الرحمن عندما قالت‪( :‬أتدري ما مثلك يا أبا‬
‫سلمة؟ إنما أنت مثل الفروج‪ ,‬يسمع الديك يصيح‬
‫فصاح)(‪ .)1‬فلجل هذا ندعو إلى واقعية العلم الشرعي‬
‫والجذور ولجل هذا ندندن حول الصول ومن يدندن‬
‫على غير أصل فإنما هو رجل سوء يريد أن يعبده‬
‫الخلق من دون الله‪ ,‬ولو أنه فعل كما قال عامر‬
‫الشعبي للسدي لكان خيرا له عندما قال له‪( :‬لن‬
‫يضع الرجل طبل ً على أسته يضرب به في السواق‬
‫ويغني‪ ,‬خير له من أن يفعل كما تفعل يا سدي)(‪,)2‬‬
‫وكان يرى أنه يفسر القرآن برأيه‪ .‬فليست كل المبادئ‬
‫المعلنة مبادئ حقيقية‪ ,‬لن المبدأ الحقيقي هو المبدأ‬
‫الذي ل يمثل إل نفسه‪ ,‬بينما ما نراه من حولنا من‬
‫مبادئ عند أهل السلم النفعي والرومانسي ل تمثل‬
‫نفسها إل فيما يرى صاحبها أنها توافق فيه الخرين أو‬
‫على القل تجد القبول عندهم أيا ً كانوا هؤلء الخرين‪,‬‬
‫بدأ المر بأهل الظلم والجور ثم عامة الفساق إلى أن‬
‫انتهى المر إلى اليهود والنصارى الذين صار اسمهم "‬
‫الطرف الخر "‪ ,‬حتى أن رجل ً سألني مرة‪ :‬إذا أنا كنت‬
‫إمام الناس في الصلة هل يجوز لي أن أقرأ " قل يا‬
‫أيها الخرون! ل أعبد ما تعبدون؟! "‪ .‬ومعاملة الكفار‬
‫على الوجه الذي ل تظلمهم فيه مسطورة في كتاب‬
‫الله وسنة رسوله ول أحد ينكر حقوقهم التي كفلها الله‬
‫لهم لن ذلك جزء من تحقيق الخلفة على الرض‬
‫فمنهم أهل ذمة وأمان ومنهم أهل عهد‪ ,‬وليس هذا‬
‫مجال بسط ذلك‪.‬‬

‫() مصنف عبد الرزاق (‪.)246/ 1‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الكامل لبن عدي (‪.)274/ 1‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪151‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫إن في المة علماء هدى يعلمون الناس الخير‬
‫ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولكننا نتحدث‬
‫عن الذين يتصدرون لوجوه العامة من بعض الدعاة‬
‫والمفكرين الذين ل تستغرب إن قلت لك بأن لديهم‬
‫عقيدة تقول بأن اليمان يزيد وينقص تبعا ً لتقارير‬
‫الواشنطن بوست وتعاملت الوول ستريت!!‪ .‬ثم‬
‫ينصبون أنفسهم أساتذة للواقع والحياة وكأن الدين‬
‫ليس من الحياة وليس من الواقع‪ ,‬وقد كانت العذار‬
‫مقبولة نوعا ً ما لهل هذا المنحى‪ ,‬ولكن بعدما كشف‬
‫غطاء الصمت وكسرت حواجز التعتيم وصار المسلم‬
‫يقتل في مسجد ريفي في العراق فتتناقل وسائل‬
‫العلم صور قتله بعدها بلحظات‪ ,‬والطفل يقتل في‬
‫فلسطين خلف ظهر أبيه فينقل ذلك بالصوت‬
‫والصورة‪ ,‬بل أن حتى هفوات القادة والرؤساء أثناء‬
‫جلسات الستراحة في المؤتمرات العالمية تنقل‬
‫بشكل يكاد يكون مباشر(‪ ,)1‬بعد كل هذا لماذا ننادي‬
‫باليغال في " توهم واقع خفي " وننسب انحرافاتنا‬
‫المنهجية إلى اعتبارات وغايات ل يعلمها " عامة‬
‫الناس! "‪ .‬فأقول‪ ,‬وهل بقي في هذا الزمان عامة في‬
‫فهم الواقع؟!!‪ .‬حتى العجائز والطفال صاروا يعرفون‬
‫أسماء أهل السياسة وقادة القتال في كل بلد‬
‫ويتوهمون المستقبل كما يتوهمه أي خبير سياسي غير‬
‫أن الخبراء يتوهمون بلغة سياسية علمية مليئة‬
‫بالمصطلحات وشيء من الحدس الشطرنجي حتى‬
‫قال الستاذ الصحفي محمد حسنين هيكل بأن الخليج‬
‫بات مكشوفا ً بعد تجارب القارة الهندية النووية بين‬
‫الهند وباكستان وهو الن في خطر فرد عليه سفير‬
‫خليجي عمل في خمس وزارات وسفيرا ً لبلده في‬

‫‪)( 1‬كمــا نقلت الفضائيات كلمات ســوقية للرئيــس المريكــي فــي‬


‫استراحة اجتماع حلف الناتو‬
‫(‪ )2‬استراحة الخميس ‪ ,‬غازي القصيبي ‪ ,‬ص‪132 - 131 :‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫بريطانيا بأن هذا استنتاج غريب غير مفيد!!‪.‬‬
‫الصحيح هو أن تفهم الدين لتفهم الواقع وليس أن‬
‫تفهم الواقع وتجعل الدين تبعا ً له حتى وإن قلنا بقاعدة‬
‫المصلحة والمفسدة لن الواقع المرئي جزء صغير جداً‬
‫من واقع كبير اسمه " الواقع الشرعي " وهو الذي‬
‫يتركب من فهمك للكون وعناصره الفاعلة فيه ثم‬
‫فهمك لخويصة نفسك ودورها المناسب في الحياة‪,‬‬
‫والله عز وجل ما تركنا همل ً بل بصرنا وأخبرنا بأن‬
‫هناك أجناس معينة من البشر والضللت سوف تتكرر‬
‫على مر الزمان‪ ,‬فذكر سماتهم وسمات أزمنتهم التي‬
‫يخرجون فيها والله عز وجل يقول‪( :‬و الله أعلم‬
‫بأعدائكم وكفى بالله وليا ً وكفى بالله نصيراً)(‪ .)2‬لهذا‬
‫عليك أن تعود إلى ما قلنا في تفصيل معنى العلم بأن‬
‫تعرف حقيقة تركيب الشيء وهيئته ثم تعرف غايته‬
‫التي يعمل لجلها‪ ,‬وكل ذلك على أصول علمية من‬
‫الكتاب والسنة‪ ,‬فإذا أنزلت هذا على كل شيء‬
‫اكتشفت أن هذا الواقع شيء آخر تماما ً وعرفت من‬
‫الناس؟ ومن النسناس؟‪.‬‬
‫الواقع له أبعاد كثيرة بل هو عوالم في عالم واحد‬
‫فأنت كآدمي تعيش على المستوى الحسي من‬
‫مسموع ومشاهد وملموس ولك ذهن وفطرة وإيمان‬
‫بالغيب وقرينك الذي يرافقك ل ينفك عنك من‬
‫الشياطين يعيش على المستوى الغيبي فل تراه وهو‬
‫يراك ومعه أمة أخرى من بني جنسه لهم ظروفهم‬
‫وتركيبتهم وعالمهم الخر وأنت وهم تشتركون حتى‬
‫في المأكل والمشرب بل وربما شارك الجني الدمي‬
‫في زوجته وفراشه وهو ل يعلم!‪ ,‬فالشيطان كائن حي‬
‫يدخل بيتك مثلما تدخله النملة والذبابة والبعوض وله‬

‫‪1‬‬
‫() النساء‪.45 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪153‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫رأس وله قرنين ويدين وقدمين ولسان وحلق وقبل‬
‫ودبر ويبول ويأكل ويشرب وحجمه يكبر ويصغر ويجامع‬
‫ويتنفس وأخبرنا أنهم يسكنون البيوت ويقفون على‬
‫أبوابها كما قال عليه الصلة والسلم (إذا خرج الرجل‬
‫من بيته فقال‪ :‬بسم الله توكلت على الله ل حول ول‬
‫قوة إل بالله فيقال له‪ :‬حسبك قد هديت وكفيت‬
‫ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر‪:‬‬
‫كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)(‪ )1‬فهذا يدلك‬
‫على أن مخرج كل بيت يقف على بابه على القل‬
‫شيطانان!‪ .‬بعد ذلك تأتي البهائم التي تعيش على‬
‫المستوى الحسي وليس لها بعد معنوي يذكر فهي تعلم‬
‫غاية خلقها ولكن من ناحية أنها تتعارض في شيء‬
‫معنوي مع البشر فل يوجد شيء من ذلك فيبقى‬
‫النسان يعيش على المستوى الحسي والغيبي‪ ,‬والغيب‬
‫ينقسم إلى قسمين غيبي ذهني يمكن إدراكه بالفهوم‬
‫وهو " الذهن الرياضي والتصوري " وغيبي شرعي ل‬
‫نعرفه إل بالوحي‪ ,‬ثم الملئكة الكاتبون والحافظون‬
‫والموكلون بأرزاق الرض‪ ,‬والواقع هو خليط من‬
‫تقاطعات كل هذه المؤثرات الفاعلة التي تعيش فيه‬
‫وإن لم تتعرف عليها وعلى حقيقة تكوينها وغايات‬
‫خلقها فلن تفهم الواقع وسيغيب عنك على القل نصف‬
‫الواقع الحقيقي الفاعل‪ ,‬هذا مع وجوب اليمان بأثر‬
‫إرادات الله المتفرقة بين البتلء والنصرة والعقوبة‬
‫والخذلن والسباب القائمة في أفراد المكلفين‬
‫وجماعاتهم التي بسببها تكون إرادات الله على ما هي‬
‫عليه في الرض‪ ,‬وكل ذلك مذكور في الكتاب والسنة‬
‫بأماراته وإشاراته وأحيانا ً شخوصه!‪.‬‬
‫أنت بحاجة لن تبحث وتستقصي وتفكر وتنفق‬
‫الكثير من عمرك لكي تحصل على الحقيقة والنجاة‪,‬‬
‫ورحم الله الشافعي عندما عدد أصناف العلم في‬
‫‪ )( 1‬ـرواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والترمذي وقال حسن‬
‫صحيح وصححه اللباني‪.‬‬
‫رسالته لبن مهدي فقال‪( :‬و من العلم ما فرض الله‬
‫على خلقه الجتهاد َ في طلبه وابتلى طاعتهم في‬
‫الجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم‬
‫فإنه يقول تبارك وتعالى‪( :‬ولنبلونكم حتى نعلم‬
‫المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم)‪ .‬فل بد لكل‬
‫إنسان مكلف في هذه الحياة أن يجد نفسه في يوم‬
‫من اليام يقف على مفترق طرق وقد كتب عليه " إما‬
‫كمال الحياة وإما كمال الدين؟ "‪ ,‬ولهذا أمر عليه‬
‫السلم بالتسديد والمقاربة وأخبر بأنه لن يشاد الدين‬
‫أحد إل غلبه وكان يؤصل في نفوس المسلمين فكرة‬
‫أن النسان " خاطئ بطبعه " فكان يقول كما في‬
‫صحيح مسلم‪( :‬والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب‬
‫الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر‬
‫لهم)‪ .‬فأنت يجب أن تجتهد ويجب أن تعبد ويجب أن‬
‫تعيش دون أن يطغى شيء على شيء!‪.‬‬
‫إن المشكلة التي تواجه الدعاة اليوم على قلة علم‬
‫أكثرهم وعلى قلة إحاطتهم بأصول العلوم التي دخلت‬
‫في عقول كثير من الناس وكذلك الثقافات التي‬
‫صارت جزءا من واقعنا هي أنهم يحاولون جعل الدين "‬
‫أداة حياة " فيتكلمون عنه بين الناس وكأنه رغيف خبز‬
‫أو قارورة ماء فل هم فهموا ما في عقول الناس ول‬
‫هم فهموا ما يدعون إليه‪ .‬وتلك العبارة التي ذكرها‬
‫شيخ السلم ابن تيمية عندما قال " جنتي في صدري‬
‫" هي جنة يندر أن يصل إليها إل من رحم الله من‬
‫أوليائه حتى وإن وجدنا انشراح الصدر وشيء من‬
‫الرضا بعد التدين ولكن كل هذه الحاسيس الهشة‬
‫ستذوب تحت أول معول من معاول الواقع إن لم يكن‬
‫الردئ لها الصبر والحتساب‪ ,‬فكيف بعامة المسلمين؟‪,‬‬
‫وإل فالتدين في هذا الزمان هو كما قال ‪( :ρ‬يأتي زمان‬
‫على الناس الصابر على دينه كالقابض على الجمر)(‪)1‬‬

‫() رواه الترمذي وغيره وصححه اللباني‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪155‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫فالدين اليوم "جمر" وليس للجمر إل نكهة الحرقة‬
‫والحتراق والدين بحاجة لمن يصبر عليه‪ ,‬فليس هو‬
‫تلك النكهة التي يحاول بعض الدعاة غرسها في مخيلة‬
‫الناس حتى إذا قلت لحدهم الموسيقى حرام لوى‬
‫شدقيه ومط برطميه وقال‪ :‬أمر غريب!‪ .‬فعليك قبل‬
‫أن تدعو الناس إلى الدين أن تبين لهم "واقع المعركة‬
‫الشرعية" على كافة مستوياتها الشخصية والجتماعية‬
‫والممية كل مرحلة في وقتها وأن توجد له الحلول‬
‫التقية النقية فإغراء الناس بالسعادة وبالحلول‬
‫السحرية السلمية الوهمية ل يجدي شيئا ً ول ينفع‬
‫المكلف بل يضره ولهذا كانت قصة آدم وإبليس هي‬
‫محور العقيدة في العهد المكي ثم قصص النبياء‬
‫وعذابات المم السابقة من المؤمنين وما جرى لهم ثم‬
‫جاءت العبادات ثم بعد ذلك ( أذن للذين يقاتلون بأنهم‬
‫ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)(‪ .)1‬ينبغي أن نجعل‬
‫هذا الواقع الشرعي بكل تفاصيله متأصل ً في قلوب‬
‫المكلفين على مختلف درجات التزامهم بالدين وأن‬
‫يفهموا أنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا وأن سعادتهم‬
‫الكاملة لن تكون إل بعد تركهم هذا العالم إلى عالم‬
‫كمال الفضيلة والعدل المطلق الذي فيه ما ل عين‬
‫رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫اليوم نرى من يمارس عكس ذلك فيرى أن‬
‫السعادة تكمن في تولي زمام هذا العالم وإعماره‬
‫وبنائه وزخرفته وممارسة الستاذية عليه مع ان كل‬
‫هذه الشياء وسائل بينما هو يعتقد أن ذلك مقصد‬
‫مطلوب لذاته فيبتغيه بركوب الصعب والذلول ويشعر‬
‫بالشقاء والحنق لفقدان ذلك وكان الجدر به أن يشعر‬
‫بالستكانة والنابة والعودة لمناقشة الجذور والصول‬
‫التي دخل عليها عفن التبديل وأكلتها أرضة التخلف‬
‫والركود الفكري والعقدي في القرون السابقة‪ ,‬وهذا‬

‫() الحج‪.39 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫الشعور المحموم لتولي سلطة العالم لدى هؤلء‬
‫الناس فيه من نزعة الطمع وحب التسلط أكثر مما فيه‬
‫من الرأفة والشفقة على من وقع تحت ولية الكفرة‬
‫والفجرة والفساق بدليل أن كثيرا ً من أصحاب هذه‬
‫النهمة الستاذية يقرون الفساق على فسقهم‬
‫والمبتدعين على بدعتهم بل وربما شاركوا القبوريين‬
‫قبوريتهم وكل ذلك لجل أن يجمعوا لهم " تلميذا ً جهلة‬
‫" يمارسون عليهم الستاذية دون أدنى تحرج شرعي‪.‬‬
‫وهذا النكار لمعنى الستاذية منصب على فلسفة‬
‫أولئك القوم لمعنى الستاذية وطريقة الوصول إليها‬
‫وليس كمبدأ عام في السلم‪ ,‬لن علو السلم على‬
‫غيره أمر مقرر في العقيدة والشريعة فهو كما قال ‪r‬‬
‫في حديث صحيح عند أحمد وغيره (السلم يعلو ول‬
‫يعلى عليه)‪ .‬وبسبب جهل العامة أو تجهيلهم فقد نطق‬
‫الرويبضة لنه تكلم بين أناس ل يعلمون عن دينهم شيئاً‬
‫حتى سمعت أحدهم يقول " الدين ليس ببتر اليدي‬
‫والرجل وتشويه الناس! "‪ ,‬وله جمهور وله أتباع‬
‫ويقول بأنه أستاذ إسلمي!‪ .‬ولو لبس رجل بدوي عباءة‬
‫وعمامة وذهب إلى قبائل حديثة السلم في أدغال‬
‫أفريقيا وخطب بهم خطبة الجمعة وهو يقول‪ " :‬لو‬
‫جمعنا واحدا ً إلى واحد لكانت ثلثة وأن الشمس تخرج‬
‫بالليل والنجوم تخرج بالنهار"‪ ,‬لجلسوا بكل خشوع‬
‫واحترام يستمعون إلى هذا الفقيه النجدي!‪ ,‬وكذلك‬
‫الحال فيمن يعبّد الناس لربهم بالسياسة والعقائد‬
‫الرومانسية والنفعية‪ ,‬لن يفهموه‪ ,‬لنه في تجدد‬
‫وتقدميّة مستمرة!‪ ,‬وسيكتفون بإظهار المشاركة‬
‫والتفاعل بالمظاهرات والهتافات وفتات التبرعات لنه‬
‫حتى هو نفسه ل يفهم إلى أين هو ذاهب!‪ ,‬فهو‬
‫كالخائف المدلج الذي يجد في المشي ويهذي لكي يبدد‬
‫وحشة الظلم من قلبه ويمني نفسه بصبح قريب على‬
‫غير هدى وغير علم‪ ,‬وكلما جد في سيره كلما زاد في‬
‫ضياعه وأبعد النجعة عن مظنة نجاته‪.‬‬
‫‪157‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫قد يظن البعض أن هذا ضربا ً من التهويل ناتج عن‬
‫وساوس نشأة أثرية في نفسي‪ ,‬ولكن عندما ترى رجلً‬
‫تم تقليده مناصب قيادية في هيئات إسلمية عالمية‬
‫في الغرب وتم إبرازه ليكون رمزا ً في الدعوة‬
‫والصلح عند أهل السلم قاطبة‪ ,‬يقنت في صلته‬
‫فيدعو على اليهود لنهم سرقوا منا الرض ثم يجري‬
‫بعدها لقاءا ً معلنا ً يذكر فيه وفاة بابا الفاتيكان ويقول‪" :‬‬
‫أسأل الله أن يغفر له ويرحمه! فقد كان مخلصا ً لدينه‬
‫وأمته!"(‪ ,)1‬وهذا لن هذا الشيخ الداعية يرى حسب "‬
‫تركيبته الرومانسية " أن الخلص خلق فاضل والعقيدة‬
‫الرومانسية توجب تقديس مشاعر وتضحيات الخرين‬
‫واحترامها‪ ,‬وذلك كما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير‪:‬‬
‫" ربما ل أوافقك على ما تقول ولكني أدفع حياتي ثمناً‬
‫لتقول ما تريد قوله"(‪ .)2‬ولم أقابل في حياتي أسخف‬
‫من هذه المقولة الفولتيرية السمجة‪ .‬فإن كنت ل‬
‫توافقه لنك ترى رأيه مخالفا ً للصواب فالولى أن تدفع‬
‫عمرك لتمنعه من قول ما يريد قوله لن الدفاع عن‬
‫الحق أشرف من نصرة " حرية الباطل " وإن كنت‬
‫ترى أن قولك وقوله صواب أو على القل قد يكون له‬
‫وجه من الصحة فقولك ليس بأولى من قوله وفعلك‬
‫في نصرته ليس شيئا ً جديدا ً في عالم الشرفاء وأما إن‬
‫كنت ترى بأنك ل تدري أمعك الحق أم معه فأنت‬
‫أحمق قد باع حياته ثمنا ً ليمارس الخرون حماقاتهم‬
‫وأما إن كنت ترى بأن القول مهما كان مضمونه ومعناه‬
‫وموضوعه‪ ,‬جدير بأن يفسح له المجال ليخرج بكل‬
‫حرية بغض النظر عن صحته وبطلنه فإني أنا من‬
‫سيدفع عمره في سبيل إسكات الغوغائيين من أمثالك‬
‫الذين أفسدوا " قيمة الكلمة العلمية والدبية "‬
‫وأباحوها حتى للمهرجين والمومسات والكلب‬

‫‪ )( 1‬ـقالها داعية دكتور ازهري في برنامج في قناة الجزيرة وهو‬


‫يشغل منصب رئيس رابطة العلماء المسلمين العالمية!!‪.‬‬
‫‪)( 2‬‬
‫الضالة!‪ .‬وبناءا ً على هذه النظرية الفولتيرية كان ينبغي‬
‫في نظر ذلك الشيخ تقدير ذلك الخلص في قلب ذلك‬
‫البابا الهالك‪ ,,‬أنمدح الكلب على إخلصه ول نمدح بني‬
‫النسان؟‪ .‬هكذا بكل رومانسية!‪ ,‬وهذا واقع نراه بأعيننا‬
‫لم يأتنا به "من لم نزودِ"‪.‬‬
‫هناك عالم آخر قائم موجود اسمه الجنة‪ ,‬هو واقع‬
‫أيضا‪ ,‬وهو القوة الخفية التي كانت في نفوس الصحابة‬
‫من قبل والتي كانت تدفعهم إلى التجرد حتى من‬
‫ضروريات آدميتهم فكان الرجل يقبل على الموت وهو‬
‫يقول‪ " :‬إني لشم ريح الجنة من دون أحد"(‪ )1‬ويصبر‬
‫على الداء العضال لنه قيل له‪( :‬أتصبر ولك الجنة؟)( )‪,‬‬
‫‪2‬‬

‫وقد قال ‪ r‬يصف لهم الجنة‪( :‬ثم انطلق بي – يعني‬


‫جبريل ‪ -‬حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها‬
‫ألوان ل أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل‬
‫اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)(‪ )3‬وقال‪( :‬دخلت الجنة‬
‫فرأيت فيها دارا أو قصرا فقلت لمن هذا؟ فقالوا لعمر‬
‫بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك فبكى‬
‫عمر وقال أي رسول الله أو عليك يغار؟)(‪ ,)4‬ولكن هذا‬
‫لم يكن ليكفي بل أراد رسول الله ‪ r‬أن يجعل الدار‬
‫الخرة وكأنها غرفة خلف الجدار فذكر للناس أشخاصاً‬
‫كانوا يعيشون معهم يكلمونهم ويمازحونهم‬
‫ويشاركونهم الطعام والشراب والخوف والجوع في‬
‫يوم من اليام‪ ,‬وهم الن في الجنة‪ ,‬ليعلم الناس صدق‬
‫الوجود وحقيقة النتقال والترقي في ملكوت الله فقال‬
‫عليه الصلة والسلم في قصة أخرى في دخوله الجنة‪:‬‬
‫(ثم أشرف بي – يعني الملك الذي معه في السراء ‪-‬‬
‫شرفا فإذا أنا بنفر ثلثة يشربون من خمر لهم قلت‪:‬‬

‫رواه البخاري‪ ,‬قالها أنس بن النضر في معركة أحد‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫متفق عليه‪ ,‬قالها ‪ r‬لمرأة سوداء كانت تصرع‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫‪159‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫من هؤلء؟ قال‪ :‬هؤلء جعفر وزيد وابن رواحة)(‪,)1‬‬
‫يعيشون الن حياة هي الحياة التي يجدر بها أن تسمى‬
‫حقيقية بعد أن كانوا معنا هنا في هذه الحياة الدنيا هم‬
‫الن هناك حقيقة واقعا !‪.‬‬
‫كذلك‪ ,‬كما في حديث أبي هريرة ‪ τ‬قال‪( :‬كنا مع‬
‫رسول الله ‪ ρ‬إذ سمع وجبة – أي صوت سقطة ‪ -‬فقال‬
‫النبي ‪ ρ‬تدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسوله‬
‫أعلم‪.‬قال‪ :‬هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين‬
‫خريفا فهو يهوي في النار الن حتى انتهى إلى‬
‫قعرها)(‪ .)2‬فهناك واقع آخر أيضا اسمه النار هو قائم‬
‫موجود وقد سقط ذلك الحجر من شفير جهنم قبل‬
‫سبعين سنة وهو يصل إلى قعرها الن وربما يحدث هذا‬
‫كل يوم ولكن الله أسمعهم هذه الوجبة لكي تحدث‬
‫في قلوبهم هذه النكتة اليمانية لحقيقة الوجود‬
‫والواقعية في معرفة النار والشعور بها‪ .‬ولم يتوقف‬
‫واقع النار عند هذا الحد بل تجاوزه إلى الشعور بها‬
‫على وجه الدوام والعموم حيث قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪( :‬اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل‬
‫بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس‬
‫في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما‬
‫تجدون من الزمهرير)(‪ .)3‬وغير هذا من تفاصيل الكون‬
‫الكثير‪ ,‬فنحن ل نرى إل شيئا َ من الواقع وإل فقد قال‬
‫من زويت له الرض وعرف الله حق معرفته ‪( :ρ‬لو‬
‫تعلمون ما أعلم لضحكتم قليل ولبكيتم كثيرا)(‪ .)4‬قال‬
‫أنس – راوي الحديث ‪ -‬فغطى أصحاب رسول الله ‪ρ‬‬
‫وجوههم لهم خنين!‪.‬‬

‫رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان وصححه اللباني‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫تكريم آدم ومعصية إبليس‬
‫قال تعالى‪( :‬وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم‬
‫فسجدوا إل إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين *‬
‫وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكل منها رغدا‬
‫حيث شئتما ول تقربا هذه الشجرة فتكونا من‬
‫الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا‬
‫فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الرض‬
‫مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات‬
‫فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها‬
‫جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فل خوف‬
‫عليهم ول هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‬
‫أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(‪ .)1‬وقد جاء ذكر‬
‫هذه القصة في مواضع كثيرة في كتاب الله عز وجل‬
‫وذلك لن الرجوع إلى الجذور في أي مسألة ومناقشة‬
‫أصلها يجعلها أكثر وضوحا واقرب إلى نفس النسان‬
‫فمن علم قصة آدم وإبليس ثم نظر حوله فوجد مع كل‬
‫إنسان قرين من الجن ووجد الشيطان يرصد ابن آدم‬
‫عند كل شيء علم أن القصة الولى مازالت تتكرر وأن‬
‫هذه الحياة عبارة عن محاولة جديدة لبن من أبناء آدم‬
‫للنتصار على إبن من أبناء إبليس كما كان آدم يجاهد‬
‫الشيطان ويراغمه وأمامنا ذات الوعد وذات الوعيد‬
‫الذي قاله الله لدم عندما أهبطه إلى الرض‪( :‬قلنا‬
‫اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع‬
‫هداي فل خوف عليهم ول هم يحزنون * والذين كفروا‬
‫وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(‪,)2‬‬
‫فنحن اليوم نفعل نفس الشيء ونعاني نفس التجربة‬

‫() البقرة ‪ 34‬ـــ ‪.39‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البقرة ‪.39 ,38‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪161‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫بغض النظر عن كل تفاصيل الحياة ولهذا يقول تعالى‪:‬‬
‫(يا بني آدم ل يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من‬
‫الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم‬
‫هو وقبيله من حيث ل ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء‬
‫للذين ل يؤمنون)(‪.)1‬‬
‫إن في هذه اليات سر عظيم ومفتاح من مفاتيح‬
‫الفهم لهذا العالم ل تجده إل في القرآن والسنة فهذا‬
‫الصل العظيم الذي مفاده أننا جزء من قصة طويلة‬
‫وعداء قديم بين الشيطان والدمي وهذا التوجيه لكل‬
‫إنسان بأن يشعر بالنتماء الحقيقي لقوم خلقهم الله‬
‫قبل قرون عديدة ل يعلم عددها إل الله حتى أن الله‬
‫سبحانه قال‪( :‬إنا لما طغى الماء حملناكم في‬
‫الجارية)(‪ )2‬أي يمتن الله على كل من قرأ القرآن‬
‫فيقول له بأنه حمله في ظهر نوح في السفينة عندما‬
‫فاض الماء ذات يوم فهلك كل شيء فكنت أنت يا من‬
‫تقرأ هذه الية من الذين أنجيتهم في ذلك اليوم في‬
‫ظهر نوح عليه السلم فكنت من السللة الباقية ولم‬
‫نجعلك في تلك السللت التي انقرضت‪ ,‬فنوح عليه‬
‫السلم هو الذي قال الله عنه‪(:‬و جعلنا ذريته هم‬
‫الباقين)(‪ ,)3‬أل ترى كم هو بعيد خطاب القرآن؟ وكم هو‬
‫حقيقي هذا النتماء لنوح عليه السلم ومن كان قبل‬
‫نوح؟‪ .‬وفي اليات كل هذا اليجاز في تعليل الوجود‬
‫والعالم بحيث يعلم الدمي أنه ببساطة كائن مبتلى‬
‫بهذه الحياة وأن هذه الحياة هي مشكلة تحتاج إلى حل‬
‫وعقوبة تحتاج إلى صبر واحتساب قبل أن تكون أي‬
‫شيء آخر!‪ .‬على العكس مما ينادي به كثير ممن ل‬
‫يتخذون الكتاب والسنة مصدرا لوعيهم حيث ينادون‬
‫بترسيخ مفهوم أن الحياة فرصة لن تتكرر للحصول‬
‫على السعادة وأن النسان ل يفترض به في هذه‬
‫() العراف ‪.27‬‬ ‫‪1‬‬
‫() الحاقة‪.11 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الصافات‪.77 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫الحياة ال أن يكون سعيدا وأن هذه الحياة هي الوجود‬
‫الجمل والمثل وهي الحاضن الوحيد لكل ما لدى‬
‫النسان من أحلم وطموحات يجب أن يحلمها ويطمح‬
‫إليها وهذا كله بمعزل عن ذكر الخرة وهذا فهم أخرق‬
‫ول أقول بهيمي لني أجزم بأن كثير من رؤوس‬
‫الحيوانات تحمل ما هو اشرف وأعلى من هذا الفهم‬
‫حيث يقول ‪ r‬عن يوم الجمعة وشعور الحيوانات فيه‪:‬‬
‫(وفيه تقوم الساعة ما على الرض من دابة إل وهي‬
‫تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا‬
‫من الساعة إل بن آدم) رواه احمد وأهل السنن بسند‬
‫صحيح‪ ,‬فحتى البهيمة العجماء تدرك أن هذا العالم قد‬
‫ينتهي في أي لحظة وتشعر بالقلق تجاه هذا الوجود‬
‫الهش الذي ل يعلم ال الله إلى متى سيبقى ناهيك عن‬
‫الموت الذي يتخطف الناس كل لحظة‪.‬‬
‫كذلك هذه اليات تحمل تنبيها ً لكل آدمي على أن‬
‫مهمته في هذه الحياة هي الرجوع إلى الجنة وإلى بيته‬
‫القديم الذي خرج منه وهو في ظهر آدم عليه السلم‬
‫وكما كان رجوع آدم إلى الجنة مشروطا ً بالتوبة‬
‫والطاعة والصبر والحتساب فكل ذريته مطالبة أيضا‬
‫بالتوبة والحتساب والصبر على هذا البتلء وهذه‬
‫الحياة المليئة باللم والمشقة وذلك بالتوجه الصادق‬
‫إلى الله ومتابعة أمره وأمر رسوله ‪ r‬لجل الخلص من‬
‫كل هذا إلى نهاية سعيده كما ذكر الله عز وجل في‬
‫اليات السابقات‪ .‬واليات تلخص مفهوم الوجود في أنه‬
‫محنة لها طابع عام وشخصي فنحن أمة مؤمنة تجاهد‬
‫أمة كافرة مكونة من شياطين النس والجن وكذلك‬
‫نحن أفراد كل فرد منا يسعى إلى خلصه الشخصي‬
‫من سيطرة قرينه الجني عليه ومن وسوسته وذلك‬
‫باللجوء إلى الله عز وجل وكما ذكر ابن الجوزي في‬
‫تلبيس إبليس‪ :‬خير من أن تقاتل الكلب‪ ,‬أن تطلب من‬
‫صاحبه كفه عنك‪ ,‬فهذا حال كل فرد منا مع شيطانه‬
‫ومع ربه‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫‪165‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫‪‬‬
‫تحقيق معنى الستخلف‬
‫في الرض‬
‫‪167‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫سكنى الرض وإعمارها ليس غاية في‬

‫خلق بني آدم‬


‫قال تعالى‪( :‬ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي‬
‫ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم‬
‫فسجدوا إل إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك‬
‫ولزوجك فل يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك أل‬
‫تجوع فيها ول تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول تضحى *‬
‫فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على‬
‫شجرة الخلد وملك ل يبلى * فأكل منها فبدت لهما‬
‫سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة‬
‫وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه‬
‫وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما‬
‫يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فل يضل ول‬
‫يشقى)(‪ .)1‬إن المتأمل لهذه اليات سوف يعلم دون‬
‫تكلف أن آدم عليه السلم كان مأمورا ً بالبقاء في‬
‫الجنة هو وزوجه أمرا ً صريحا ً في قوله تعالى‪( :‬فل‬
‫يخرجنكما من الجنة فتشقى) ثم قال تعالى كلما ً يتضح‬
‫من سياقه أن الجنة قد أعدت ليبقى آدم وزوجه فيها‬
‫بشكل دائم حيث يقول تعالى (إن لك أل تجوع فيها ول‬
‫تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول تضحى)‪ ,‬فبقاء آدم في‬
‫الجنة كان أمرا ً محبوبا ً عند الله وهذا ما يسمى بالرادة‬
‫الشرعية أي الموافقة للمر والنهي وأما الرادة الكونية‬
‫هي أن يأذن الله بنفاذ أمر ما قدرا ً دون أن يكون محباً‬
‫لهذا المر كوقوع الزنا مثل‪ .‬ولجل ما سبق بيانه فإنه‬
‫يتضح لك خطأ من يقول بأن الله عز وجل خلق آدم‬
‫() طه‪.123 – 115 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫ليكون خليفته على الرض بمعنى أن هذه هي الغاية‬
‫الشرعية المحبوبة عند الله عز وجل‪ ,‬فالخلفة في‬
‫الرض أمر طارئ جاء على وجه العقوبة وما كان الله‬
‫ليخلق آدم لجل أن يعاقبه‪ ,‬فهذا قول مخالف للصواب‬
‫لن الله ما خلق آدم لذلك ويتضح ذلك من وجوه هي‪:‬‬
‫‪ )1‬أن الله عز وجل قال للجنة‪( :‬أنتي رحمتي أرحم‬
‫بك من أشاء)(‪ )1‬وعندما خلق آدم قال له‪( :‬يا آدم‬
‫أسكن أنت وزوجك الجنة)(‪ )2‬فكان واضحا ً أن الله عز‬
‫وجل خلق آدم ليرحمه برحمته التي هي الجنة ومن‬
‫يقول بأن الله خلق آدم عليه السلم للخلفة في‬
‫الرض فإنه يقول بأن الله خلق آدم للشقاء لنه تعالى‬
‫وصف الخروج من الجنة – الذي هو الهبوط إلى الرض‬
‫– بأنه شقاء‪ ,‬فقال‪( :‬فل يخرجنكما من الجنة فتشقى)‪,‬‬
‫ومن يقول بأن الخلفة في الرض ليست كلها شقاءاً‬
‫لن النسان يتلذذ بطاعة ربه والخضوع له وتحدث له‬
‫من الحوال اليمانية التي هي من جنس النعيم‬
‫الخالص فإن هذا متعلق بذكر الله وعبادته ونحن‬
‫نتحدث عن الخلفة بشكل عام بكل ما فيها وبكل‬
‫تبعاتها فهي بل شك شقاء‪ ,‬حتى أنه عليه الصلة‬
‫والسلم أشار إلى هذا المعنى في أن الدنيا قد ل تكون‬
‫كلها شقاء ولكن أكثرها الشقاء في قوله‪( :‬الدنيا‬
‫ملعونة ملعون ما فيها إل ذكر الله وما واله وعالم أو‬
‫متعلم)(‪ ,)3‬ول شك أنه قامت على الرض أنواع من‬
‫العبودية لله هي أعظم مما حدث لدم عليه السلم في‬
‫الجنة فقد أرسل الله الرسل وأتخذ من عباده الشهداء‬
‫غير أن هذا في حد ذاته ل يخلو من الشقاء فالنبي ‪ r‬قد‬
‫حدّث عن نبي من النبياء ضربه قومه حتى أدموه فهو‬
‫يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم‬

‫() متفق عليه‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البقرة‪.35 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي وحسنه ووافقه اللباني‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪169‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫ل يعلمون‪ ,‬فهذا نوع من العبودية في معناه وقصده‬
‫ولكنه في الشعور به وبمكابدته فهو شقاء وكان آدم‬
‫يتنعم في الجنة ول حاجة له بكل هذا هو وذريته‪ ,‬بل أن‬
‫موسى عليه السلم سمى النزول إلى الرض بأنه‬
‫شقاء حيث قال لدم عندما لقيه‪( :‬أنت آدم الذي‬
‫أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم)(‪ ,)1‬والشقاء‬
‫ثابت حتى للنبياء عليهم السلم سواء في دعوتهم أو‬
‫موتهم أو بعثهم يوم الحشر والنشور وإنما الخروج من‬
‫الجنة فيه خير من جهة المآلت التي سيصير إليها كل‬
‫فرد ورفع الدرجات وتمييز الناس فقد قال ‪( :ρ‬إن في‬
‫الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله‬
‫ما بين الدرجتين كما بين السماء والرض فإذا سالتم‬
‫الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة‬
‫فوقه عرش الرحمن)(‪ .)2‬وقال ابن القيم رحمه الله في‬
‫شفاء العليل‪( :‬أما عن حكمة الله في خلق إبليس‬
‫وجنوده ففي ذلك من الحكم مال يحيط بتفصيله إل‬
‫الله فمنها أن يكمل لنبيائه وأوليائه مراتب العبودية‬
‫بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله‬
‫وإغاظته وإغاظة أوليائه والستعاذة به منه واللجاء إليه‬
‫أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من‬
‫المصالح الدنيوية والخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا‬
‫أن الموقوف على الشيء ل يحصل بدونه ومنها خوف‬
‫الملئكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال‬
‫إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى‬
‫المنزلة البليسية يكون أقوى وأتم ول ريب أن الملئكة‬
‫لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى‬
‫وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال‬
‫عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الهانة التي بلغت‬
‫منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فل ريب أن خوفهم‬
‫وحذرهم يكون أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما‬
‫جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى‬
‫أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن‬
‫والنس بالذنب وجعل هذا الب عبرة لمن أصر وأقام‬
‫على ذنبه وهذا الب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله‬
‫كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة واليات‬
‫الظاهرة)‪ .‬كذلك‪ ,‬فإن الله عز وجل عندما تكلم عن‬
‫الشقاء في الرض تكلم عنه من جهة آدم فهو بل شك‬
‫شقاء ويكفي من ذلك الموت الذي لم يسلم من‬
‫سكراته حتى النبي ‪ ,r‬فالله سبحانه يخاطب آدم من‬
‫جهة نفسه أنه إن نزل إلى الرض فقد شقي بالمكابدة‬
‫ولهذا يقول تعالى‪( :‬لقد خلقنا النسان في كبد)(‪ )1‬وأما‬
‫الله عز وجل من جهة نفسه المقدسة فهو يحب أن‬
‫تقوم له أنواع من العبودية كالجهاد والصيام والنفاق‬
‫ولكنه لم يأمر بهذا ولم يطلبه ولم يقل بأنه يحب أن‬
‫يتعرض آدم لهذه التكليفات ولم يندب إلى القصد إلى‬
‫أسباب وقوعها بل أمر آدم أن ل يخرج من الجنة وهو‬
‫سبحانه يعلم بأن كل تلك الشياء إنما هي مترتبة على‬
‫خروج آدم ومع هذا فقد جعل " إرادته الشرعية "‬
‫الموافقة لمحبته‪ ,‬بدليل أنه أمر بها‪ ,‬أن ل يخرج آدم‬
‫من الجنة‪ .‬وقد يقال بأن الستخلف في الرض من‬
‫جنس الكفارات وهذا صحيح في معناه لن الستخلف‬
‫ليس مقصودا لذاته وما كان الله عز وجل ليشرع حد‬
‫الزنا لكي يقصد الناس الزنا فيقام عليهم الحد فتكون‬
‫تلك القامة للحد مقصودة لذاتها مع أنها محبوبة عند‬
‫الله إل أنه ما شرعها لتقصد وتطلب فهي محبوبة أداءا‬
‫وليس قصدا ً وطلباً‪ ,‬وكذلك الحال في الستخلف في‬
‫الرض فهو محبوب أدا ًء بحيث يصبر آدم وذريته على‬
‫ذلك ويمارسون العبودية لله بالصبر على قدره القاهر‬
‫وشرعه المر وما كان ينبغي لدم عليه السلم أن‬
‫يقصد طلب الستخلف في الرض لنه كان منهيا ً عن‬
‫() البلد‪.4 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪171‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫الخروج من الجنة!‪ ,‬بل لو أن آدم عليه السلم طلب‬
‫ذلك بفعله وقصده لكان عاصيا ً لله‪ ,‬وهذا واضح‪.‬‬
‫‪ -2‬أن الله عز وجل خلق آدم ليبتليه وهي غاية‬
‫شرعية محبوبة من الله وهذا البتلء كان متحققا ً في‬
‫الجنة حيث نهاه ربه عن الكل من الشجرة وكان‬
‫الشيطان يوسوس له بالكل منها فكان البتلء قائماً‬
‫حتى قبل النزول إلى الرض ولهذا قال تعالى‪( :‬ولو‬
‫شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ول يزالون مختلفين‬
‫* إل من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك‬
‫لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين)(‪ ,)1‬وعن عمرو‬
‫بن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي ‪ ρ‬لبي بكر‪( :‬يا‬
‫أبا بكر لو أراد الله أن ل يعصى ما خلق إبليس)(‪)2‬‬

‫وقال‪( :‬والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم‬


‫ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)(‪.)3‬‬
‫فإن كانت غاية البتلء غاية شرعية مقصودة لذاتها كما‬
‫قال تعالى في الحديث القدسي للنبي ‪( ρ‬إني مبتليك‬
‫ومبتل بك)(‪ ,)4‬وكانت هذه الغاية متحققة قبل‬
‫الستخلف في الرض فل يقال بأن الخلفة هي الغاية‬
‫سبقت بغاية قبلها كانت متحققة ولن‬ ‫الصلية لنها ُ‬
‫الستخلف في الرض هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية‬
‫فل يكون هو غاية في ذاته‪ ,‬ويدل على ذلك قوله‬
‫تعالى‪( :‬إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم‬
‫أحسن عمل * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)(‪.)5‬‬
‫فالله عز وجل ربط بقاء الكون ببقاء البتلء فإذا‬
‫تعطلت غاية البتلء قامت الساعة وآن خراب الكون‬
‫حيث قال ‪( :ρ‬ل تقوم الساعة وعلى الرض من يقول‬
‫() هود ‪.119-118‬‬ ‫‪1‬‬
‫() ـرواهـ ـالبيهقيـ ـقيـ ـالسماءـ ـوقالـ ـاللباني‪:‬ـ ـسندهـ ـحسنـ ـوهو‬ ‫‪2‬‬
‫صحيح بمجموع طرقه‪.‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫() الكهف‪ 7 :‬ـــ ‪.8‬‬ ‫‪5‬‬
‫الله الله)(‪ ,)1‬فإذا انقرض اليمان ودرس السلم وصار‬
‫الناس كلهم أمة واحدة على الكفر ورفع علم الله من‬
‫الرض وكتابه فقد انتفت فاعلية البتلء وتعطلت آليته‬
‫التي هي التردد بين الحق والباطل لنه قد ذهب الحق‬
‫كله فعندها تقوم الساعة وتخرب الرض وهذا يدلك‬
‫على أن البتلء هو الغاية وليس مجرد البقاء على‬
‫الرض وأن علقة النسان بالرض هي " وسيلة ل‬
‫تقصد لذاتها " فل يقال بأن الله خلق النسان ليعمر‬
‫الرض بمعزل عن معنى البتلء فهذا فهم جاهلي أما‬
‫المؤمن فيرى بأن خلفة النسان في الرض هي‬
‫ابتلؤه فيها بإقامة العبودية لله‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الفهم القائم على أن الصل في حال آدم‬
‫وذريته هو البقاء في الجنة‪ ,‬هو فهم النبياء حيث قال‬
‫موسى عليه السلم لدم عندما لقيه‪( :‬أنت آدم الذي‬
‫أخرجت الناس – وفي رواية‪ :‬ذريتك ‪ -‬من الجنة بذنبك‬
‫وأشقيتهم)(‪ . )2‬فكان يستقر في فهم موسى عليه‬
‫السلم أن الصل في آدم وذريته أن يكونوا كلهم في‬
‫الجنة ‪ ,‬ولم يعترض آدم على هذا الفهم وإنما اعترض‬
‫على اللوم لن النتيجة محسوسة‪ ,‬ويدلك على ذلك‬
‫حزن آدم عليه السلم على من سيدخل النار من‬
‫ذريته‪ ,‬لنه جاء في بعض الروايات الصحيحة لحديث‬
‫المحاجة‪( :‬أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة)(‪ )3‬فلول‬
‫معصية آدم ما وقع أحد في الكفر وما دخل أحد النار‬
‫لن الخروج كان مترتبا ً على معصية آدم ولهذا جاء عنه‬
‫عليه الصلة والسلم أنه رأى آدم في السراء فقال‪:‬‬
‫(فلما علونا إلى السماء إذا رجل عن يمينه أسودة‬
‫وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا‬
‫نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والبن‬

‫() رواه مسلم ‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() رواه البخاري ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم ‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪173‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫الصالح قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا آدم وهذه‬
‫السودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين‬
‫منهم أهل الجنة والسودة التي عن شماله أهل النار‬
‫فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله‬
‫بكى)(‪ ,)1‬فل يقال بأن آدم عليه السلم كان يبكي رأفة‬
‫ببنيه لنهم سوف يعذبون بالنار لن الله عز وجل‬
‫يقول‪( :‬فل تأس على القوم الكافرين)(‪ )2‬ويقول‪( :‬فل‬
‫أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون)(‪ )3‬ويقول‪( :‬ول تُسأل‬
‫عن أصحاب الجحيم)(‪ )4‬ويقول‪( :‬و ل تزر وازرة وزر‬
‫أخرى)(‪ )5‬ويقول (فكل ً أخذنا بذنبه)(‪ )6‬وقال لنوح عندما‬
‫سأله ابنه‪( :‬إنه ليس من أهلك)(‪ )7‬ولكنه يبكي لنه‬
‫يستقر في اعتقاده أنه لو لم يعص ربه لكانوا كلهم في‬
‫الجنة‪ ,‬ولكنه عصى فكان أولئك من أصحاب الجحيم‪,‬‬
‫وهذا هو معنى قول موسى لدم عليه السلم في أحد‬
‫ألفاظ الحديث‪( :‬أنت آدم الذي أغويت الناس‬
‫وأخرجتهم من الجنة؟)(‪ )8‬فأنكر آدم اللوم ولم ينكر‬
‫النتيجة القدرية لنها واقع محسوس‪ .‬وفي هذه النقطة‬
‫الخيرة رد على من يرى أن الستخلف في الرض‬
‫كان تشريفا وتكريما لدم عليه السلم وذريته‪ ,‬بينما‬
‫الصحيح أنه كان يبكي من تبعات هذا التشريف‬
‫المزعوم ويسأل الله منه المغفرة!!‪ ,‬والله أعلم‪.‬‬
‫‪ -4‬إن غايات الله المرعية هي في إراداته الشرعية‬
‫فعندما يأتي نهي من الله عن أمر ما ثم يخبر تعالى‬
‫بأن ذلك المر سوف يقع فهذا يدلك على أن هذا‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬
‫المائدة‪.68 :‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫المؤمنون‪.101 :‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫البقرة‪.119 :‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫النجم‪.38 :‬‬ ‫()‬ ‫‪5‬‬
‫العنكبوت‪.40 :‬‬ ‫()‬ ‫‪6‬‬
‫هود‪.46 :‬‬ ‫()‬ ‫‪7‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪8‬‬
‫الخبار هو إخبار عن إرادته الكونية القاضية بنفاذ ذلك‬
‫المر على غير محبة من الله‪ .‬ولو نظرت إلى مسألة‬
‫الستخلف وقوله تعالى (إني جاعل في الرض‬
‫خليفة)(‪ )1‬وهي الية التي يستشهد بها كل من يريد‬
‫تعظيم مسألة الخلفة على الرض في نفوس الناس‪,‬‬
‫لوجدت أنها من باب الخبار عن شيء سيقع كوناً‬
‫وليست هي إرادة الله الشرعية المحبوبة عنده لنه ل‬
‫يرتبط بها أمر ولكن المر يرتبط بقوله تعالى (فل‬
‫يخرجنكما من الجنة فتشقى)‪ ,‬والمر المعلوم عند من‬
‫يبحث في علل النصوص هو أن الغايات والمقاصد‬
‫ترتبط بإرادة الله الشرعية وليس الكونية ولهذا تعلم‬
‫بأن " غاية خلق الدمي " لبد أن تكون متحققة في‬
‫الجنة قبل النزول إلى الرض لن أمر الله وإرادته‬
‫الشرعية كانت على أن يبقى آدم في الجنة ول يخرج‬
‫منها وغاية الله ومقصده من خلق آدم لبد أن تتحقق‬
‫لنه ما خلق شيئا ً عبثا ‪ ,‬فاستقراء المر ببساطة هو أن‬
‫الله ل يخلق شيئا ً إل لغاية وأنه جعل آدم في الجنة‬
‫ونهاه عن الخروج منها فدل هذا على أن بقاء آدم في‬
‫الجنة غير معطل لغاية خلقه ومن ل يوافق في هذا‬
‫فإنه ينسب إلى الله العبث‪ ,‬فإذا كان المر كذلك فهذا‬
‫يدل على أن غاية خلق آدم كانت متحققة قبل مسألة‬
‫الستخلف وهذا يدل على أن استخلف آدم في الرض‬
‫" أمر زائد على الغاية الصلية من خلقه "‪ ,‬وهذا واضح‬
‫جلي الوضوح‪ ,‬والله أعلم‪.‬‬

‫() البقرة‪.30 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪175‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫معنى العبودية‬
‫إن قوله تعالى (و ما خلقت الجن والنس إل‬
‫ليعبدون)(‪ )1‬ليس حصرا ً لغاية الخلق في العبادات‬
‫التكليفية الدنيوية والصحيح هو أن الله خلق آدم عليه‬
‫السلم وذريته لعبادته ولعبادته فقط وهذه العبادة‬
‫كانت متحققة في الجنة قبل النزول إلى الرض وذلك‬
‫أن أهل الجنة يسبحون ويحمدون ويعبدون ربهم بكل‬
‫العبادات القلبية بل والعملية ولكن بل تكليف وكلفة‬
‫كما جاء في الصحيح مرفوعا ‪( :‬بينا أنا نائم رأيتني في‬
‫الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) وليس في‬
‫الجنة درن ول حدث ول تكاليف واجبة ذات كلفة ولكنها‬
‫عبادة النعيم واللذة كما هي لذة النظر لوجه الله عز‬
‫وجل بخضوع وتذلل وخشوع‪ ,‬وكذلك حملة العرش‬
‫الذين هم فوق مستوى الفردوس الذي هو أعلى الجنة‪,‬‬
‫يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين‬
‫آمنوا‪ .‬فليست العبادة حكرا ً على التكليف الدنيوي‬
‫ولكن لن آدم داخل في غاية خلقه " البتلء " حيث‬
‫جعل الله عز وجل هذا البتلء هو روح العبادة التي‬
‫يمارسها آدم وذريته لنه ل يلهم العبادة كما تلهمها‬
‫الملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون‪ .‬وقد‬
‫كان آدم في الجنة يبتلى بكلفة " ذاتية نفسية " هي‬
‫مدافعة الشيطان الذي كان يغريه بالكل من الشجرة‬
‫ولم يكن ثمة " تكاليف مستقلة مطلوبة " وإنما هو‬
‫الستمتاع بالجنة ومدافعة الشيطان‪ .‬لهذا تجد أن الله‬
‫عز وجل نفى عن آدم الظروف الخارجية المؤذية فقال‬
‫" إن لك أل تجوع فيها ول تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول‬

‫() الذاريات‪.56 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫تضحى * فوسوس إليه الشيطان"(‪ ,)1‬ولم ينف عنه‬
‫المشقة النفسية في مدافعة الشيطان‪ ,‬فهو لم يكلف‬
‫بعبادة مستقلة مطلوبة ولكن يتمتع في الجنة ويدافع‬
‫الشيطان فكان محققا للعبودية لربه بوقوعه تحت هذا‬
‫البتلء من حيث الصبر عليه والمتثال لمر الله فيه‪ ,‬ثم‬
‫عندما حدثت المعصية زالت الظروف الكاملة في‬
‫الجنة التي ل تقوم على السباب ونزل آدم إلى الرض‬
‫لكي يقع تحت نوع جديد من البتلء وهو البتلء بالدنيا‬
‫ذات السباب كمؤثرٍ خارجي ‪ ,‬والبتلء بالشيطان‬
‫كمؤثر داخلي وخارجي ‪ ,‬و صار آدم يواجه المشقة في‬
‫عبودية الصبر على المكروه المقدر المتعلق بالمؤثرات‬
‫الخارجية أكثر من مشقة القيام بالعبادات المستقلة‬
‫كالصلة والصوم فصار الصبر على المقدور نوعا ً من‬
‫أعظم أنواع العبودية لله الذي ليس هو عبادة تكليفية‬
‫مستقلة ذات تعاليم معينه ولكنه الصبر المطلق لله‬
‫وعلى أمر الله وفي الله‪ .‬عند تطبيق هذا الفهم ستجد‬
‫أن النسان المدرك لحقيقة الكون وحقيقة نفسه فيه‬
‫يجني من الحسنات الناتجه عن " نية العبودية " ما ل‬
‫يجنيه غيره‪ ,‬فمجرد صبره على ظروف الحياة وهو‬
‫يعتقد أنه مطالب بالصبر على ذلك لن الله أمر به‬
‫فقال‪( :‬قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى‬
‫فمن تبع هداي فل خوف عليهم ول هم يحزنون)(‪ ,)2‬ثم‬
‫بعد ذلك أعلمه بأنه الله خلق له ما في الرض جميعاً‬
‫وقال له (ل تخسروا الميزان)(‪ )3‬وأخبره بأن كل مخلوق‬
‫خلقه الله وهداه لغاية خلقه وأن الدمي على الرض‬
‫ينبغي له أن يعرف غاية خلق كل شيء حوله وكيف‬
‫يتعامل معه تبعا ً لما خلقه الله له‪ ,‬على منهج موافق‬
‫لرادات الله الشرعية وأنه في كل ذلك واقع تحت‬

‫() طه‪.120 ,119 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البقرة‪.38 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الرحمن‪.9 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪177‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫قول ربه‪( :‬أيحسب النسان أن يترك سدى)(‪ )1‬فهو‬
‫مأمور بنظام يحكم علقته بالعالم وبكل عنصر فيه بل‬
‫حتى علقته بنفسه التي بين جنبيه تدخل التشريع فيها‬
‫فقال ‪( :r‬إن لبدنك عليك حق ولنفسك عليك حق!)(‪,)2‬‬
‫فإذا علم هذا كله وعلم كيف يتصرف تبعا ً لهذا الفهم‬
‫فهو العبد المثالي وهو "النسان الخليفة" أما ما عدى‬
‫ذلك فهي عبودية المتوهمين وخلفة القراصنة!!‪.‬‬
‫وبناءً على نحو هذا الفهم‪ ,‬قال ابن عباس في‬
‫تفسيره لقوله (إل ليعبدون) قال‪" :‬إل ليقروا بالعبودة‬
‫طوعا وكرها"(‪ )3‬وقد اختار ابن جرير الطبري حمل‬
‫معنى العبادة في قوله (ليعبدون) على العبادة‬
‫الشرعية والعبادة القهرية فقال‪ ( :‬وأولى القولين في‬
‫ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس وهو أن‬
‫ما خلقت الجن والنس إل ليعبدون أي إل لعبادتنا‬
‫والتذلل لمرنا فإن قال قائل‪ :‬فكيف كفروا وقد خلقهم‬
‫للتذلل لمره إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم‬
‫لن قضاءه جار عليهم ل يقدرون من المتناع منه إذا‬
‫نزل بهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره‬
‫به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه)(‪ .)4‬فالمعنى‬
‫من هذا الباب أن الستشهاد بقوله تعالى (إل ليعبدون)‬
‫وقوله (إني جاعل في الرض خليفة) على أن الله عز‬
‫وجل ما خلق آدم إل لتحمل مشقة التكليف في الرض‬
‫خصوصا ً وذلك بطلب الحسنة وترك السيئة أو بإعمارها‬
‫الكوني المادي المباح وقصر العبودية على ذلك‪,‬‬
‫استشهاد باطل في حصره وتوجيهه فالله ما خلق آدم‬
‫إل ليبتليه ويدخله الجنة ابتداءا ً وكانت هذه الغاية‬
‫متحققة قبل الهبوط إلى الرض ل شك في ذلك‪ ,‬وكان‬
‫الله تعالى يحب أن يبقى آدم في الجنة ونهاه عن‬
‫القيامة‪.36 :‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫تفسير الطبري (‪.)475/ 11‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫تفسير الطبري (‪.)475/ 11‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫الخروج منها بالمعصية‪ ,‬فقال‪( :‬فل يخرجنكما من الجنة‬
‫فتشقى)‪ ,‬ولكن آدم عصى ربه فخرج‪ ,‬والحياة الدنيا‬
‫امتداد لجراء تلك الغاية وإن كان الله عز وجل سيدخل‬
‫خلقا من خلقه الجنة ما وطأهم التكليف قط عندما‬
‫سيفضل فضل في الجنة يخلق الله له خلقا ً ما شاء‪,‬‬
‫فمن باب أولى أن يقال بأن آدم إنما خلقه الله ليبتليه‬
‫ويدخله الجنة ابتداءا ً وأنه ما خلقه ربه ليجعل دخوله‬
‫الجنة مترتبا ً على تكليفه الدنيوي كغاية أصلية في خلقه‬
‫ول ليكون " أستاذ الرض العبقري المبتكر! "‪ ,‬وهذا‬
‫الفهم هو ما جاءت به النصوص الواضحات خلف ما‬
‫ينادي به أهل السلمية الرومانسية والنفعية المادية!‪.‬‬
‫وقد قال المام ابن منصور عبد القاهر البغدادي في "‬
‫الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية "‪( :‬وقالوا – أي‬
‫أهل الفرقة الناجية ‪ -‬لو خلق الله تعالى عباده كلهم‬
‫في الجنة لكان ذلك فضل منه خلف قول من زعم من‬
‫القدرية انه لو فعل ذلك لم يكن حكيما وهذا حجر منهم‬
‫على الله سبحانه ونحن ل نرى الحجر عليه بل نقول له‬
‫المر والنهى وله القضاء يفعل ما يشاء ويحكم ما‬
‫يريد)‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫الستخلف ل يتحقق إل بإقامة الميزان‬

‫الكوني والشرعي‬
‫إن لكل شيء نظام تنتظم فيه عناصره فيكون‬
‫لكل عنصر موقعه ومنفعته وبربط هذه العناصر بشكل‬
‫تكاملي تنتج منفعة هذا النظام ويتم تفعيله ويتحقق‬
‫الهدف العام منه وهذا ما سماه الله عز وجل بالحق‬
‫في قوله تعالى‪( :‬هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر‬
‫نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما‬
‫خلق الله ذلك إل بالحق يفصل اليات لقوم يعلمون) ‪,‬‬
‫)‬‫(‪1‬‬

‫وقال تعالى‪( :‬و السماء رفعها ووضع الميزان * أن ل‬


‫تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ول‬
‫تخسروا الميزان)(‪ .)2‬والميزان هو العدل كما قال‬
‫مجاهد وقتادة(‪ ,)3‬وذلك في كل شيء‪ ,‬والعدل عدلن‪:‬‬
‫عدل كوني وعدل شرعي‪ ,‬فالعدل الكوني يحدث بوضع‬
‫الشيء المناسب في الموضع الذي يناسبه في هيئته‬
‫وتكوينه موافقا ً في ذلك منفعته التي هو موجود لجلها‪,‬‬
‫والميزان الشرعي أن تتعامل مع الشيء تحت موافقة‬
‫للمقاصد الشرعية من حيث الحكم والغاية‪ ,‬وكل شيء‬
‫داخل تحت هذا الميزان فالله تعالى يقول‪( :‬و إن من‬
‫شيء إل عندنا خزائنه وما ننزله إل بقدر معلوم)(‪ ,)4‬ول‬
‫يخرج من هذا شيء حتى النبياء فهم رزق للمم وهم‬
‫بقدر معلوم في فضلهم ورسالتهم وزمان بعثهم‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬
‫الرحمن‪.7-4 :‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫تفسير الطبري (‪.)577/ 11‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫الحجر‪.21 :‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫والعقيدة فيهم‪ ,‬فكل هذا العالم قائم على الوزن‬
‫والتقدير وعليهما يقوم النظام الكلي والجزئي‪ ,‬وقد‬
‫روى ابن حبان عن عبد الله بن رواحة‪( :‬أنه بعثه رسول‬
‫الله ‪ ρ‬إلى يهود خيبر لكي يخرص نخلهم فأرادوا أن‬
‫يرشوه فقال‪ :‬يا أعداء الله أتطعموني السحت والله‬
‫لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولنتم أبغض إلي‬
‫من عدتكم من القردة والخنازير ول يحملني بغضي‬
‫إياكم وحبي إياه على أن ل أعدل عليكم فقالوا‪ :‬بهذا‬
‫قامت السماوات والرض)(‪ ,)1‬فالسماوات والرض‬
‫قامتا بالعدل‪ ,‬وذلك بأن يوضع الشيء في محله الذي‬
‫يناسبه وأن يوسد المر إلى أهله‪ ,‬واليهود بقولهم "‬
‫بهذا قامت السماوات والرض " يمدحون رسول الله ‪ρ‬‬
‫قبل أن يمدحوا ابن رواحه لن عدل رسول الله سابق‬
‫لعدل عبد الله بن رواحة عندما وضع رسول الله ‪ρ‬‬
‫الرجل المناسب في المكان المناسب‪.‬‬
‫ولكي يكون هذا الباب واضحا ً سأعطي بعض‬
‫المثلة التي عايشها العالم وكانت تتعلق بهذا الباب‪,‬‬
‫فمثل قضية النباتيين الذين ينادون بعدم ذبح الكائنات‬
‫أيا ً كانت بما في ذلك بهيمة النعام فمن ناحية الميزان‬
‫الكوني فإن طبيعة أبدان البشر ل تتعارض مع لحومها‬
‫بل لعلها تعتمد اعتمادا ً واضحا عليها وكذلك فإن الله‬
‫أخبرنا أنه خلقها لتكون قوتا ً لهل الرض فهي من‬
‫الناحية الكونية تكون محققة لغاية خلقها إذا كانت‬
‫طعاما ً لهم‪ ,‬وإن قلنا بأنه ل ضير في تجاوز هذا‪ ,‬من‬
‫أجل خاطر البقار في الغرب‪ ,‬فإن الميزان الشرعي‬
‫يمنع ذلك فالله عز وجل أمرنا بذبحها وتعبدنا به‪ ,‬فقال‬
‫تعالى‪( :‬ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على‬
‫ما رزقهم من بهيمة النعام فإلهكم إله واحد فله‬
‫أسلموا وبشر المخبتين)(‪ )2‬وقال‪( :‬والبدن جعلناها لكم‬

‫() رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الحج‪.34 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪181‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها‬
‫صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع‬
‫والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون)(‪ ,)1‬فالذبح‬
‫غاية وليس وسيلة للحياة والمطعم وحسب‪ ,‬بل غاية‬
‫داخلة في العبودية والذي يوافق أو يرى أنه يجوز‬
‫العتقاد بأن ذبحها مخالف لرقي العالم فهو من ناحية‬
‫شرعية قد ضاد الله في أمره وقد ظلم وأخسر‬
‫الميزان الشرعي والكوني فالظلم في ترك ذبحها‬
‫وليس في ذبحها‪ ,‬ولو رجعنا إلى مواقف بعض الدعاة‬
‫من هذه المشكلة لوجدنا أن بعضهم كان يستحي أن‬
‫يقول بأن الله خلق كل ما في هذا الكون لخدمة‬
‫النسان ومنفعته وهذا بسبب العقيدة الرومانسية‬
‫التي كما قلت في بداية هذا الكتاب تقوم على مبدأ أن‬
‫الحق في السعادة وأن النسانية هي أن تشعر بقيمة‬
‫نفسك دون أن تنتقص من قيم الخرين!‪ .‬فكل من‬
‫الشاة والبقرة تكون سعيدة إذا لم تذبح فالحق في أن‬
‫ل تذبح وهم – النباتيون في فرنسا ‪ -‬يؤمنون بهذا ولكي‬
‫تكون " مسلما ً رومانسيا ً " فعليك أن تراوغ وتخاتل‬
‫لكي تجعل هذا العمل في شريعتنا عمل نبيل في‬
‫أعينهم‪ ,‬ثم تختتم كلمك بإبداء الحترام والتقدير لوجهة‬
‫نظرهم الفاضلة هذه تجاه حرية البقار والغنام‬
‫والرانب!‪.‬‬
‫المشكلة في بعض من يتعصب للسلم ويبرز‬
‫نفسه كمنافح عنه أنه هو في ذاته ل يعرف " أصول‬
‫الفهم السلمي " للكون وعناصره‪ .‬ولكي تعرف قدر‬
‫تفكير الصحابة رضوان الله عليهم ومدى دقة ألفاظهم‬
‫في تعبيرهم‪ ,‬سأورد بعض الثار ثم نتحدث عنها تحت‬
‫ضوء معنى هذا الباب‪ ,‬فقد روى البيهقي في الشعب‬
‫عن أبي بكر الصديق ‪ t‬أنه قال‪ ( :‬والله لوددت أني‬
‫كنت شجرة إلى جانب الطريق فمر علي بعير فأخذني‬

‫() الحج‪.36 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫فأدخلني فاه فلكني ثم إزدردني ولم أكن بشرا) وعن‬
‫عمر أنه قال‪ ( :‬يا ليتني كنت كبش أهلي‪ ,‬سمنوني ما‬
‫بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من‬
‫يحبون فذبحوني لهم فجعلوا بعضه شواء وبعضه قديدا‬
‫ثم أكلوني ولم أكن بشرا) وعن أبي الدرداء أنه قال‪:‬‬
‫(يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل ثمرتي ولم أكن‬
‫بشر) وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال‪( :‬لوددت أني‬
‫كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون‬
‫مرقي)‪ .‬وهذه الثار يشتهر مثلها عن الصحابة في‬
‫تمني لو أنهم لم يكونوا بشرا‪ ,‬ولكن لننظر إلى هذه‬
‫الثار‪ ,‬فكلهم لم يتمنوا أن يكونوا شيئا ً آخر وحسب‪ ,‬أي‬
‫شيء غير النسان‪ ,‬أو أي شجرة أو أي كبش‪ ,‬بل أن‬
‫يكونوا شيئا ً محققا ً للغاية التي خلق من أجلها فهم إنما‬
‫هربوا من الدمية خشية أن يكونوا لم يحققوا ما‬
‫خلقهم الله لجله فتمنوا أن يكونوا أشياء ل يشكون‬
‫في تحقيقها للغاية التي خلقت لها‪ ,‬فقيد أبو بكر وصف‬
‫الشجرة بأنها شجرة أكلها بعير فازدردها‪ ,‬وقيد عمر‬
‫جعل شواءا وقديدا ً ثم أكله‬
‫وصف الكبش بأنه ذ ُبح و ُ‬
‫أهله وقيد أبو الدرداء الشجرة بأن تكون تعضد أو تثمر‬
‫ويأكل الناس ثمرها!‪ ,‬وقيد أبو عبيدة وصف الكبش بأن‬
‫أهله يذبحونه ويأكلون لحمه ويشربون مرقه!‪ .‬فكل‬
‫تلك التعابير في كلمهم ليست للتفنن وإنما هي عقيدة‬
‫في نفوسهم تجاه هذه الشياء التي خلقها الله في هذا‬
‫الكون‪ .‬وعند السترسال في هذا المنحى في التفكير‬
‫تجد أنه تفتح لك أبوابا من المعرفة لم تكن تخطر لك‬
‫على بال وكل هذا ببركة المنهج القرآني في التفكير‪,‬‬
‫منهج إعادة الشيء إلى أصله‪ ,‬فخذ مثل ً الفرق بين‬
‫الرجل والمرأة تجد أن الشريعة قد فرقت بين الرجل‬
‫والمرأة في مواطن كثيرة ومن ذلك قوله ‪( ρ‬يرش من‬
‫بول الغلم ويغسل من بول الجارية)(‪ ,)1‬فقد روى ابن‬
‫ماجة عن الشافعي قوله للذي سأله عن سبب‬
‫() رواه أبو داود وغيره وصححه اللباني‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪183‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫التفريق‪( :‬لن بول الغلم من الماء والطين وبول‬
‫الجارية من اللحم والدم‪ .‬ثم قال للذي سأله عن‬
‫السبب‪ :‬فهمت؟ قال له‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬إن الله تعالى لما‬
‫خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير‪ ,‬فصار بول‬
‫الغلم من الماء والطين وصار بول الجارية من اللحم‬
‫والدم)‪ ,‬وهذا لمن تأمله كلم وجيه فإن كان الصل غير‬
‫الصل فل بد أن المنفصل عن كل منهما سيكون‬
‫كذلك‪ ,‬فإذا أضفت إلى ذلك أن الله خلق آدم استقللُ‬
‫في مادته وغاية خلقه فإنه خلق حواء من مادة جنسها‬
‫من البشر فخلقها من ضلع آدم بينما آدم خلق من‬
‫تراب‪ ,‬وكذلك فإن الله خلق آدم لجل غاية ل علقة لها‬
‫بحواء بينما خلق الله حواء بسبب خلقه لدم فقال‬
‫تعالى‪( :‬هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها‬
‫زوجها ليسكن إليها)(‪ ,)1‬وأسجد الملئكة لدم ولم تكن‬
‫معه حواء لن الله قال (اسجدوا لدم)(‪ )2‬ولن‬
‫الشيطان قال‪( :‬لم أكن لسجد لبشر خلقته من‬
‫صلصال من حمأ مسنون)(‪ )3‬وحواء لم تكن كذلك وإنما‬
‫كان هذا في خلق آدم‪ ,‬وكذلك اصطفاه بالعلم فعلمه‬
‫السماء كلها ولم تكن معه حواء‪ ,‬ثم اصطفاه بالقوامة‬
‫عليها في الجنة! فقال تعالى‪( :‬و عصى آدم ربه‬
‫فغوى)(‪ )4‬مع أن حواء هي التي أغرته بالكل من‬
‫الشجرة وأكلت معه لما روى مسلم عنه ‪( r‬لول حواء‬
‫ما خانت امرأة زوجها)(‪ ,)5‬وإنما خانته بإغرائه بالكل‬
‫من الشجرة‪ ,‬ومع هذا فإن المعصية نسبت لدم حتى‬
‫قال موسى عليه السلم (أنت آدم الذي أخرجتك‬
‫خطيئتك من الجنة)(‪ )6‬لنه لو لم يأكل آدم لما أكلت‬

‫العراف‪.189 :‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫البقرة‪.34 :‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫متفق عليه بلفظ "ما خانت أنثى زوجها"‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪5‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪6‬‬
‫حواء‪ ,‬فدل هذا على أنه كان هو المر الناهي وأن‬
‫الرأي كان في يده‪ ,‬فله القوامة حتى في الجنة التي ل‬
‫تعب فيها ول نصب!‪ .‬وبمثل هذا الفهم وهذا التصور‬
‫تعلم لماذا تلعن الملئكة المرأة التي تمتنع من فراش‬
‫زوجها ولم يثبت اللعن للرجل الممتنع!‪ ,‬ولماذا قال‬
‫تعالى (وليس الذكر كالنثى)(‪ ,)1‬وغير ذلك‪.‬‬
‫نحن نتكلم عن هذا المر هنا لنه متعلق بفهم‬
‫الميزان الكوني والميزان الشرعي الذي هو أساس‬
‫العدالة التي ل يتحقق الستخلف الصحيح في الرض‬
‫إل بها‪ ,‬وقد سقت حديث البقرة التي تكلمت وقالت‬
‫لمن ركب على ظهرها ( ما خلقنا لهذا وإنما خلقنا‬
‫للحرث)(‪ ,)2‬وقد مر ابن عمر ‪ τ‬في طرقات المدينة فإذا‬
‫فتية قد نصبوا دجاجة يرمونها‪ ,‬فغضب وقال من فعل‬
‫هذا؟ قال فتفرقوا فقال ابن عمر‪( :‬لعن رسول الله ‪ρ‬‬
‫من يمثل بالحيوان)(‪ .)3‬لنه لم يخلق لهذا! ولن هذا‬
‫سخرية بمقاصد الله في خلقه‪ ,‬فإن لُعن الدمي لجل‬
‫الحيوان وهو ميت فكيف ل تحفظ هذه الشريعة "‬
‫حقوق الحيوان " وهو حي؟‪ ,‬بل إن بعض الروايات‬
‫جاءت بلفظ (لعن من أتخذ شيئا ً فيه الروح غرضاً)(‪)4‬‬

‫أي مرمى يرميه بالنبل‪ ,‬ويدخل في هذا حتى الحيوان‬


‫المأمور بقتله مثل الحدأة والغراب البقع(‪ )5‬فحتى‬
‫طريقة قتل الحيوان المأمور بقتله يجب أن تكون‬
‫بميزان‪ .‬فالمشكلة ليست في ظواهر التشريع وإنما‬
‫المشكلة في عدم تصور الغايات والصول الولى‬
‫لعناصر الكون‪ ,‬والدهى والخطر من ذلك هو سبب‬
‫تجاهل ذلك التصور أو سبب عدم الهتمام بتلك‬

‫آل عمران‪.36 :‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫رواه أحمد وقال شعيب الرنؤوط‪ :‬سنده صحيح‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪5‬‬
‫‪185‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫الصول الولى الذي ل أراه إل الشعور بالخجل من‬
‫التصريح بأن أهل الرض ينبغي أن يراجعوا في كل‬
‫تصرفاتهم ربهم الذي في السماء!‪ ,‬فهذا أمر يعتبر‬
‫التصريح به كمبدأ أصيل " خزي وعار قديم " تخلصت‬
‫منه أوروبا عند كسر أول باب في سجن الباستيل‬
‫الفرنسي!!‪.‬‬
‫المعنى من هذا الباب أن يعلم المسلم بأن الله‬
‫الذي أمره بأن ل يخسر الميزان لن يأمره بهذا إل وقد‬
‫أنزل إليه من العلم ما يؤهله للقيام بذلك‪ ,‬وأن الله‬
‫أخبرنا بأنه خلق لنا ما في الرض جميعاً‪( :‬هو الذي‬
‫خلق لكم ما في الرض جميعاً)(‪ )1‬وقال‪( :‬و سخر لكم‬
‫ما في السماوات وما في الرض جميعا ً منه)(‪ )2‬ولن‬
‫يخلقها لنا ويسخرها لنا ثم ل تكون لنا بها أية علقة أو‬
‫صلة!‪ ,‬فل بد من علقة النسان بما سخره الله له‪,‬‬
‫فإن كان المر كذلك فل بد حينها من أن ينزل الله عز‬
‫وجل من العلم ما يحكم به هذه العلقة بين النسان‬
‫وبين كل هذه الشياء لنه قال سبحانه (أل له الخلق‬
‫والمر) (‪ ,)3‬وقال (أيحسب النسان أن يترك سدى) (‪,)2‬‬
‫أي يتصرف في هذا العالم بل ضوابط وأمر ونهي ‪,‬فإن‬
‫كان ذلك كذلك‪ ,‬فل بد أن يتعلم المسلم ويبحث في‬
‫الكتاب والسنة ما تبرأ به ذمته ولكي يعرف كيف يحقق‬
‫العدالة الكونية والشرعية على الرض‪ ,‬فليست‬
‫السيطرة المجردة ول الستاذية الجاهلة المزعومة هي‬
‫الخلفة على الرض وإنما الخلفة هي العدل الكوني‬
‫والشرعي تجاه العالم كله بما في ذلك شعر عانتك‬
‫وإبطيك الذي يجب أن تزيله كل أربعين يوماً!‪.‬‬

‫() البقرة‪.29 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الجاثية‪.13 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪ )( 3‬العراف ‪54 :‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه‬
‫الخلفة الشريفة للنسان في الرض‬
‫قال ابن كثير رحمه الله‪ ( :‬قوله تعالى ‪ ( :‬وهو‬
‫الذي جعلكم خلئف الرض ) أي جعلكم تعمرونها جيل‬
‫بعد جيل وقرنا بعد قرن وخلفا بعد سلف ‪ ,‬قاله ابن‬
‫زيد وغيره كقوله ( إني جاعل في الرض خليفة) ) ‪.‬‬
‫)‬‫(‪1‬‬

‫فالخلفة الكونية الوجودية هي المحققة للمعنى اللغوي‬


‫بمعنى توارث الوجود على الرض والبقاء وعدم‬
‫انقراض العنصر ‪ ,‬وهذا ليس فيه ثمة شرف لنه ثابت‬
‫حتى للبهائم العجماء ‪ ,‬حيث أخبر ‪ r‬كما في الصحيح‬
‫بأن آخر من سيصعق يوم القيامة راعيان من مزينة‬
‫يسوقان غنمهما‪ ,‬وفي هذا إثبات بقاء الغنام‬
‫واستخلفها في الرض إلى يوم القيامة‪ .‬ويدخل في‬
‫معنى الستخلف الوجودي أيضا ً قوله تعالى‪ ( :‬هو‬
‫أنشأكم من الرض واستعمركم فيها )‪ ,‬قال ابن جرير‪:‬‬
‫(أسكنكم فيها أيام حياتكم)(‪ ,)2‬فالستخلف اللغوي أو‬
‫الكوني الوجودي‪ ,‬الذي يتعلق بالبقاء على الرض جيلً‬
‫بعد جيل‪ ,‬ثابت للكافر والمؤمن بل إن الكافر خير من‬
‫المؤمن في ذلك لنه سيبقى أكثر من المؤمن على‬
‫الرض حيث يرسل الله الريح الطيبة فتقبض أرواح‬
‫المؤمنين آخر الزمان فل يبقى إل كافر‪.‬‬

‫وهذا المعنى الوجودي للستخلف يدخل تحته‬


‫قوله تعالى‪( :‬إني جاعل في الرض خليفة)(‪ )3‬غير أن‬
‫النسان يتميز عن سائر الكائنات بأنها كلها مسخرة له‬
‫() تفسير ابن كثير (‪.)268/ 2‬‬ ‫‪1‬‬
‫() تفسير الطبري (‪.)61/ 7‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪ )( 3‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )4‬السراء ‪70 :‬‬
‫‪187‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫كونا ً فخصه الله بكونه هو الخليفة لهذه الميزة فجعله‬
‫كأنه هو المستخلف الوحيد‪ ,‬ولهذا ربط الله تعالى‬
‫تكريم بني آدم الخلقي بذلك عندما قال‪( :‬و لقد كرمنا‬
‫بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من‬
‫الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل) (‪)4‬‬

‫فهذا تفضيل كوني داخل في تركيب وتكوين الدمي ل‬


‫يخص به مؤمن دون كافر‪ ,‬ولهذا قال تعالى ( قل من‬
‫حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‬
‫قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم‬
‫القيامة ) (‪ )1‬فهي خلقت أصل للمؤمنين ولكن الكافرين‬
‫استمتعوا بها تبعا ً ثم يكون النعيم خالصا ً للمؤمنين يوم‬
‫القيامة‪ ,‬ولهذا يقول تعالى ( ويوم تقوم الساعة يومئذٍ‬
‫يتفرقون ) (‪ .)2‬فأما الستخلف الشرعي الذي يحبه الله‬
‫ويرضاه فهو الذي يكون موافقا ً لغايات الله الشرعية‬
‫من إهباط آدم وذريته إلى الرض وهي إقامة العبودية‪,‬‬
‫وهذا المعنى هو الذي يشير الله إليه في قوله‪( :‬وعد‬
‫الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم‬
‫في الرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم‬
‫دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا‬
‫يعبدونني ل يشركون بي شيئا)(‪ )3‬وقوله تعالى (ولقد‬
‫كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادي‬
‫الصالحون)(‪ )4‬وقوله‪( :‬فأوحى إليهم ربهم لنهلكن‬
‫الظالمين * ولنسكننكم الرض من بعدهم ذلك لمن‬
‫خاف مقامي وخاف وعيد)(‪ ,)5‬ويخطئ كثير من الناس‬
‫في فهم عمارة الرض ويدخل فيها غرس الجنان‬
‫وتشييد البنيان وتطوير النسان وهذه كلها وسائل‬
‫ليست غايات والله عز وجل عندما تكلم عن عمارة‬

‫العراف ‪.32 :‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫الروم ‪.55 :‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫النور‪.55 :‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫النبياء‪.105 :‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫إبراهيم‪.14-13 :‬‬ ‫()‬ ‫‪5‬‬
‫الرض جعلها غاية ولم يكن يتكلم عنها كوسيلة وقد‬
‫قال تعالى‪( :‬و لقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا‬
‫وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي‬
‫القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلئف في الرض من‬
‫بعدهم لننظر كيف تعملون)(‪ )1‬فأثبت سبحانه أنه أهلك‬
‫القرون من قبلهم بسبب ظلمهم ثم استخلفهم في‬
‫الرض لينظر كيف يعملون فهل سيكون عملهم الذي‬
‫ينظر الله إليه إل العدل بعد أن أهلك الولين‬
‫بظلمهم؟! ‪ .‬وكذلك في قوله تعالى‪( :‬و تلك القرى‬
‫أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا)(‪ , )2‬وقوله‬
‫تعالى‪( :‬فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين *‬
‫ولنسكننكم الرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي‬
‫وخاف وعيد)(‪ , )3‬وقوله تعالى‪( :‬فكأين من قرية‬
‫أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر‬
‫معطلة وقصر مشيد)(‪ )4‬فمع أنهم حفروا البئر وشادوا‬
‫القصر غير أنهم ما عدلوا فأهلكهم الله فهي خاوية‬
‫على عروشها‪.‬‬

‫وعندما خسف الله عز وجل بقارون خسف بداره‬


‫معه حيث قال ( فخسفنا به وبداره الرض)(‪ )5‬هذا مع‬
‫انه كان خارج داره عندما خسف الله به الرض حيث‬
‫قال تعالى ( فخرج على قومه في زينته)(‪ )6‬فهو في‬
‫الطريق ولم يكن في داره‪ ,‬وقد قال ‪ ρ‬كما في‬
‫الصحيحين‪( :‬بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد‬
‫أعجبته نفسه فخسف الله به الرض فهو يتجلجل فيها‬
‫إلى يوم القيامة)‪ ,‬وقد قال قتادة في قوله تعالى‬

‫فاطر‪.39 :‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬


‫الكهف‪.59 :‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪3‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫()‬ ‫‪4‬‬
‫القصص‪.81 :‬‬ ‫()‬ ‫‪5‬‬
‫القصص‪.79 :‬‬ ‫()‬ ‫‪6‬‬
‫‪189‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫(فخسفنا به وبداره الرض)‪ " :‬ذكر لنا أنه يخسف به‬
‫كل يوم قامة وأنه يتجلجل فيها ل يبلغ قعرها إلى يوم‬
‫القيامة"(‪ .)1‬وكذلك حمل هذا الحديث على أنه قارون‪,‬‬
‫مالك بن دينار وابن جريج وغيرهم(‪ )2‬وفي لفظ‬
‫للترمذي‪( :‬خرج رجل ممن كان قبلكم في حلة له‬
‫يختال فيها فأمر الله الرض فأخذته فهو يتجلجل فيها)‬
‫وقال أبو عيسى‪ :‬حديث صحيح‪ ,‬وفيه التصريح بأنه كان‬
‫خارج داره‪ ,‬ول شك أن داره كانت من أعظم وأروع ما‬
‫بناه البشر في ذلك الزمان فإن كانت مفاتيح خزائنه‬
‫تنوء بالعصبة أولي القوة فكيف بخزائن كنوزه ثم كيف‬
‫بقصره الذي فيه الخزائن وهو يسكن فيه؟ ‪ .‬مع هذا‬
‫كله أهلكه الله وخسف بداره معه فلم تكن داره عند‬
‫الله شيئا يستحق البقاء عليه ‪ ,‬مع أن قارون لم يصنع‬
‫داره بنفسه بل بناها أناس ليس لهم صلة بظلم قارون‬
‫وتكبره ‪ ,‬وإنما هم أناس فكروا وخططوا وبنوا فكان‬
‫عملهم هذا " إنجازا ً علميا ً معماريا ً " ومع هذا لم يبالي‬
‫الله عز وجل لكل هذه المعاني التي يقدسها الناس‬
‫ويعتقدون أنها هي العمارة التي طلبت منا عندما‬
‫أهبطنا الله إلى الرض حتى أن بعض من ينتسب إلى‬
‫الدعوة إلى الله يطالب بعدم هدم تماثيل بوذا بحجة‬
‫أنها إنجازات حضارية!‪ ,‬فإن كان الله خسف بدار‬
‫قارون وهو ليس فيها وليست صنما يعبد فكيف بصنم‬
‫معبود؟‪.‬‬

‫كل هذه النجازات العلمية البشرية ل تساوي عند‬


‫الله شيئا من جهة الحبكة والصنعة ‪ ,‬وإنما معناها في‬
‫غايتها بل إن رأس حمار يأكل الرجيع والحنظل في‬
‫فلة فيه من عظمة الصنعة ودقة الحبكة والعجاز ما‬
‫ليس في أعظم مصنوع بشري ‪ .‬فالله ليس بحاجة‬
‫لمن يبني له الرض أو يعينه على تمام خلقه فيها فهي‬

‫() تفسير الطبري (‪.)109/ 10‬‬ ‫‪1‬‬


‫() تفسير الطبري (‪.)109/ 10‬‬ ‫‪2‬‬
‫تامة تامة تامة ‪ ,‬والله عز وجل ذكر في كتابه غير مرة‬
‫بأنه أحسن كل شيء خلقه‪ ,‬فل يقال بأن عمارة الرض‬
‫بعمارة المادة فيها حتى أن الله عز وجل تحدى الناس‬
‫جميعا بالذبابة فأعجزهم وقطعهم وقبل هذا كله قال‬
‫تعالى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت * فارجع‬
‫البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب‬
‫إليك البصر خاسئا ً وهو حسير)(‪ )1‬فالذي نفى عن خلقه‬
‫مجرد التفاوت لم يكن ليقول بوجود النقص فيه‪.‬‬

‫وقد ثبت فيما جاء عن الله تبارك وتعالى مقت‬


‫ذلك الفهم لعمار الرض الذي يسعى به كثير من‬
‫الناس حيث يجعلون عمارة الرض زخرفة البنيان‬
‫وتشييده وبناء الجواد والقصور العالية فقال تعالى يذم‬
‫قوم هود (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع‬
‫لعلكم تخلدون)(‪ )2‬قال ابن كثير رحمه الله‪( :‬اختلف‬
‫المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع‬
‫عند جواد الطرق المشهورة يبنون هناك بنيانا محكما‬
‫هائل باهرا ‪ -‬قلت‪ :‬مثل النصاب التي تبنى اليوم على‬
‫مداخل المدن ومجمع الطرق ‪ -‬ولهذا قال "أتبنون بكل‬
‫ريع آية " أي معلما بناء مشهورا " تعبثون " أي وإنما‬
‫تفعلون ذلك عبثا ل للحتياج إليه بل لمجرد اللعب‬
‫واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه‬
‫السلم ذلك لنه تضييع للزمان وإتعاب للبدان في غير‬
‫فائدة واشتغال بما ل يجدي في الدنيا ول في الخرة‬
‫ولهذا قال " وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " قال‬
‫مجاهد‪ :‬والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد)(‪)3‬‬

‫إنتهى‪ .‬ويكفي لبطال هذا الفهم قوله تعالى‪ ( :‬إنا‬


‫جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل‬

‫() الملك‪.4 ,3 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الشعراء‪.130 -128 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫() تفسير ابن كثير (‪.)454/ 3‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪191‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫* وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)(‪ )1‬فكل تلك‬
‫الشياء الدنيوية التي قد يظن أنها من العمارة التي‬
‫يحبها الله ويرضاها إنما هي من البلء والبتلء‪ ,‬و لو‬
‫كانت غاية في ذاتها ما جعلها الله صعيدا جرزا ‪ ,‬فهو‬
‫سبحانه الذي ل يضيع عمل عامل وعندما توعد كل ما‬
‫على الرض من زينة بالزوال علمنا أنها ليست هي تلك‬
‫العمارة التي حثنا أن نعمل بها ولها ‪ ,‬وقد قال ‪ r‬كما‬
‫روى ابن حبان بسند صحيح‪( :‬إن الله يبغض كل‬
‫جعظري جواظ سخاب في السواق جيفة بالليل حمار‬
‫بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالخرة) ‪ ,‬والنكير هنا ليس‬
‫على مجرد العلم بأمر الدنيا ولكن على العلم الذي‬
‫يراد به الدنيا فقط ‪.‬‬

‫الله عز وجل ل يعبد بما نهى عنه وقد نهى عن‬


‫التوسع في الدنيا بما يصل إلى حد هدر المنفعة وذلك‬
‫على لسان نبيه حيث قال كما في صحيح مسلم‪(:‬‬
‫فراش للرجل وفراش لمرأته والثالث للضيف والرابع‬
‫للشيطان) ‪ ,‬وقال في البيت والدابة مثل ذلك‪ .‬وجعل‬
‫المبذرين إخوان الشياطين ‪ ,‬و ذم كل شيء ل يكون‬
‫وسيلة لدخول الجنة ‪ ,‬أو يكون ملهاة عن طلب الجنة ‪,‬‬
‫أو غاية تقصد لذاتها دون الجنة قل أو كثر‪ ,‬فقد روى‬
‫المام أحمد في المسند وصححه اللباني في‬
‫الصحيحة‪ ( :‬عن ضمرة بن ثعلبة انه‪ :‬أتى النبي ‪ r‬وعليه‬
‫حلتان من حلل اليمن فقال‪ ( :‬يا ضمرة أترى ثوبيك‬
‫هذين مدخليك الجنة؟ ) فقال‪ :‬لئن استغفرت لي يا‬
‫رسول الله ل أقعد حتى أنزعهما عنى فقال النبي ‪:r‬‬
‫( اللهم اغفر لضمرة بن ثعلبة) فانطلق سريعا حتى‬
‫نزعهما عنه)(‪ .)2‬واليوم تعجب من الذين يدعون الناس‬
‫إلى إنفاق أعمارهم في صناعة الدنيا وآلتها ‪ ,‬على ما‬
‫في الناس من فجور وفسق ل يناقشونهم في شأنه‬
‫() سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() رواه أحمد وصححه اللباني‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫ويقرونهم عليه ‪ ,‬ثم يزينون لهم على فسقهم النغماس‬
‫في طلب الدنيا ويقولون " المؤمن القوي خير وأحب‬
‫إلى الله من المؤمن الضعيف"(‪ . )3‬وكأنهم لم يقرأوا‬
‫القيد بأن يكون " مؤمنا " قبل أن يكون قويا أو ضعيفا‪.‬‬

‫العمارة الحقيقية للرض هي عمارتها بالطاعة‬


‫والعدل فإن كانت السماوات والرض قائمات على‬
‫العدل مع جللة خلقها ‪ ,‬و ثقل بنيانها لن يقوم عليه‬
‫بنيان الدنيا وزينتها أولى وأحرى ‪ ,‬كما قال عبد الله بن‬
‫رواحة ليهود خيبر عندما أرادوا رشوته وهو يخرص‬
‫تمرهم كما في صحيح ابن حبان بسند صحيح‪( :‬يا أعداء‬
‫الله أتطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب‬
‫الناس إلي ولنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة‬
‫والخنازير ول يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن‬
‫ل أعدل عليكم فقالوا‪ :‬بهذا قامت السماوات والرض)‪.‬‬
‫والستثمار الحقيقي الذي سيجلب كل خيرات الرض‬
‫هو استثمار الرض بالطاعة والستقامة ‪ ,‬كما سيحدث‬
‫في عهد عيسى عليه السلم عندما ينزل ويبيد كل‬
‫الملل إل السلم ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقيم‬
‫العدل في الناس ‪ ,‬عندها كما في صحيح مسلم‪:‬‬
‫( يرسل الله مطرا ل يكن منه بيت مدر ول وبر‬
‫فيغسل الرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للرض‬
‫أنبتي ثمرك وردي بركتك ‪ ,‬فيومئذ تأكل العصابة من‬
‫الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل ‪ ,‬حتى‬
‫أن اللقحة من البل لتكفي الفئام من الناس واللقحة‬
‫من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم‬
‫لتكفي الفخذ من الناس)‪ .‬فهذه هي عمارة الرض‬
‫وهذا هو الستثمار والتنمية ‪ ,‬وليس أن يبني الناس‬
‫المصانع والقصور والجواد الطوال على معصية الله ‪,‬‬
‫ومخالفة أمره ‪ ,‬حتى منعت السماء قطرها ‪ ,‬فما كان‬
‫من أهل الحضارة والعمارة ال أن بنوا مصنعا ً يكررون‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪193‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫فيه أبوالهم ثم يشربونها !‪ ,‬ويرون أن ذلك من مزيد‬
‫توفيق الله لهم في عمارتهم وبناء حضارتهم‪ ,‬والصحيح‬
‫أن هذا من فشلهم في عمارة الرض فعندما عصوا‬
‫الله أمسكت السماء القطر فضيق الله عليهم فكرروا‬
‫أبوالهم وشربوها فهذه معّرة وليست مفخرة ولكن أين‬
‫العقول!!‪.‬‬
‫وقد صار اليوم الحديث عن الزهد ضربا ً من‬
‫الدروشة‪ ,‬وصار الحتساب في هجر ملذات الدنيا‬
‫الزائدة على ما ل بد منه نوعا ً من الخيبة والعراض‬
‫النفسية النسحابية التي توحي بالحباط أكثر مما‬
‫توحي بالنضباط!‪ .‬وينبغي النتباه إلى هذه المسألة لن‬
‫النسان إذا استكثر من الدنيا كثر عمله لجلها وضاع‬
‫عمره في غير ما خلق له فيصير هو في حد ذاته "‬
‫مفسدة حية " والله عز وجل يقول ( و ل تفسدوا في‬
‫الرض بعد إصلحها)(‪ , )1‬والفساد ببساطة ووضوح هو‬
‫أن يستعمل الشيء في الرض لغير ما خلقه الله له ‪.‬‬
‫ولهذا جعل النبي ‪ ρ‬طالب الدنيا ممن دخل قلوبهم‬
‫شيء من الشرك حيث قال‪( :‬تعس عبد الدينار تعس‬
‫عبد القطيفة تعس عبد الخميصة)(‪ ,)2‬وهذا الكلم ينبغي‬
‫أن ل يستحيا منه!‪ .‬وقد نقلت كلم عالم الجتماع غدينز‬
‫عندما تكلم عن مجتمع ما قبل الصناعة فقال‪( :‬إن‬
‫غياب الحرب وانعدام اللمساواة في الثروة والقوة‬
‫والتأكيد على التعاون بدل ً من المنافسة في تلك‬
‫المجتمعات – مجتمعات الصيد والزراعة ‪ -‬تذكرنا كلها‬
‫بأن العالم الذي خلقته الحضارة الصناعية الحديثة ل‬
‫يمكن بأي حال من الحوال أن يكون مرادفا ً لمفهوم‬
‫التقدم)‪ .‬فليس الرقي وليد الصناعة ‪ ,‬حتى وإن كانت‬
‫الصناعة قد تساعد في قيامه لن الرقي النساني‬
‫يرتقي على معيار معنوي فليس ماديا ً مجردا ً ‪ ,‬فأما‬
‫النخراط في طابور عبّـاد الدنيا لجل الدنيا فهو تخلف‬

‫() العراف‪.56 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫() رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫وحمارية لنه ‪ r‬وصف الكادح لجل الدنيا بذلك فقال‪:‬‬
‫(إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب بالسواق‬
‫جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالخرة!!)‪,‬‬
‫وقال الحسن البصري‪( :‬إنك لتجد الرجل يقلب الدينار‬
‫على ظفره فيعرف نقصه وتمامه ثم هو ل يحسن أن‬
‫يصلي!)(‪ ,)1‬وقد روى أنس ‪ t‬أن رسول الله ‪ r‬خرج يوما‬
‫وهو معه فرأى قبة مشرفة فقال‪( :‬ما هذه؟) قال‬
‫أصحابه‪ :‬هذه لفلن رجل من النصار فسكت وحملها‬
‫في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله ‪ r‬فسلم‬
‫عليه في الناس فأعرض عنه رسول الله ‪ ,r‬وصنع ذلك‬
‫مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والعراض عنه‬
‫فشكا ذلك إلى أصحابه فقال‪ :‬والله إني لنكر رسول‬
‫الله ‪ r‬قالوا‪ :‬خرج فرأى قبتك فرجع إلى قبته فهدمها‬
‫حتى سواها بالرض فخرج رسول الله ‪ r‬ذات يوم فلم‬
‫يرها فقال‪( :‬ما فعلت القبة؟) قالوا‪ :‬شكا إلينا صاحبها‬
‫إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال ‪( :r‬أما إن كل بناء‬
‫وبال على صاحبه إل ما ل إل ما ل)‪ ,‬يعني ما ل بد‬
‫منه(‪.)2‬‬
‫فليست هندمة الثياب وتقبيب القباب دليل على‬
‫النجاح الكوني والشرعي ‪ ,‬بل لعل رجل فقير قد مل‬
‫رأسه القمل أحب وأصلح عند الله من عالم ذهب‬
‫بصره وتقعرت عدسات نظارته وهو يقرأ في الفيزياء‬
‫النووية ‪ ,‬أو شبكات الحاسب اللي ‪ .‬لن الصلح‬
‫والقيمة والمعيار كلها أمور متعلقة بإرادات الله وبما‬
‫يوافق إرادات الله وقد قال أبو سعيد الخدري‪ :‬يا‬
‫رسول الله أي الناس أشد بلء قال‪( :‬النبياء ثم‬
‫الصالحون وقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إل‬
‫العباءة يجوبها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله‬
‫ولحدهم كان أشد فرحا بالبلء من أحدكم بالعطاء)(‪,)3‬‬
‫() تفسير ابن كثير (‪.)560/ 3‬‬ ‫‪1‬‬
‫() رواه ابو داود و قال اللباني‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري في الدب المفرد وقال اللباني‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪195‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫فهذه بعض صفات أناس وصفهم الله بأنهم خير عباد‬
‫مشوا على الرض!‪ .‬وهذا ل يعني أن من سمات‬
‫المؤمنين أن يكونوا فقراء ومقمولين ولكنه إشارة إلى‬
‫أن قيمة النسان في الكون متعلقة بتحقيقه لغايات‬
‫الله التي هي الصبر على البتلء وإقامة العدل الكوني‬
‫والشرعي‪.‬‬
‫أما رأيت السكافي وهو يحكي خبرته في صنعته؟‪,‬‬
‫والجعلن وهو يدهده الخرأ بأنفه بعد أن درس جدوى‬
‫المشروع؟‪ .‬فضلت ل يهتم بها أحد ولن تقاتله عليها‬
‫بقية الحيوانات‪ ,‬أمن قومي كبير‪ ,‬يجعله على شكل‬
‫كرة‪ ,‬يصنع له مخبأ تحت الرض ثم يقف على يديه‬
‫ويدحرج بقدميه ثم يضع قدما ً على قدم وينتظر كل‬
‫مساء الصحافة فقد تأتيه في أي لحظة ليشرح لها كل‬
‫هذه الحبكة التي ل يجيدها إل المبتكر الكبير‪ ,‬السيد‬
‫جعلن!‪ .‬ولو زعم أي شخص أنه أسس البراجماتية‬
‫القتصادية لقلت له كذبت ‪ ,‬لن مؤسسها هو السيد‬
‫جعلن العظيم!‪ .‬فليس الحل في أن يرضى النسان‬
‫عن نفسه أو عن جدوى عمله كالسيد جعلن ‪ ,‬بقدر ما‬
‫يجب عليه أن يقيّم نفسه تبعا لمعايير كونية هي التي‬
‫تحدد من القيّم ومن التافه ‪ ,‬ومن الذي هو على صراط‬
‫مستقيم؟!‪ .‬نحن بشر ويجب أن نبحث عن الحقيقة‬
‫والمجد كبشر‪ ,‬وإل فكل شيء يستطيع أن يدّعي‬
‫الكرامة ويقول‪ :‬ل كرامة لمن يخالف‪ ,‬فحتى الكلب‬
‫لها مناقب ومنافع ومهام وتاريخ ضارب في التنوع‬
‫والصراع!‪ .‬وما عدا هذا الفهم في استقصاء القيمة‬
‫الذاتية فبهارج زائلة ‪ ,‬و وساوس باطلة ‪ ,‬وسيبدو‬
‫للمغفلين من الله ما لم يكونوا يحتسبون ‪ ,‬و ذلك بعد‬
‫أول وهلة تمر عليهم لحظة موتهم التي سماها عمر بن‬
‫الخطاب بـ" هول المطلع " ‪ ,‬فيكتشف ذلك النسان‬
‫المسكين الذي كان يعاني من " أعرابية الروح والخيال‬
‫" ول يتجاوز في ذاته النزعات الفرعونية والتصورات‬

‫(‪ )2‬الكهف ‪104 :‬‬


‫الحيوانية ونهمة الفكر والهجس و الشهوة أنه كما قال‬
‫تعالى ‪ ( :‬الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم‬
‫يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) (‪ , )2‬فهذا الكون ليس‬
‫ملعب بولينج تتناثر فيه القوارير و تقوم بل سبب ‪ ,‬و ل‬
‫صندوق تجارب مليء بالفئران ‪ ,‬و ل غابة كبيرة مليئة‬
‫بالكائنات الهاملة فكل فيها يقرر منهجه بيده و رجله‬
‫كما يشاء !‪ ,‬و لكنه قصة طويلة سرمدية الطرفين ل‬
‫يحسن شرحها إل الله سبحانه ! ‪.‬‬
‫أرأيت لو حكم ملك على بضعة أشخاص بالسجن ‪,‬‬
‫ثم قال من خرج وقد حفظ قصيدتي الفلنية فسوف‬
‫ينجو ‪ ,‬وما عدا ذلك فسيكون نصيبه الموت ‪ ,‬ثم‬
‫أمهلهم شهرا ً من الزمان‪ .‬فجلس هؤلء الرجال فمنهم‬
‫من احتقر مهنة الحفظ ‪ ,‬وقال ل يفعلها إل ساذج ‪,‬‬
‫فاشتغل بالختراع والبتكار‪ ,‬ومنهم من جلس يكتب‬
‫القصائد ويفلسف الكون من حوله ‪ ,‬ومنهم من التزم‬
‫بطلب الملك وجلس في الزاوية يحفظ القصيدة‪ .‬فمن‬
‫أكثر هؤلء القوم عقلنية وحكمة؟‪ .‬إنه الذي جلس‬
‫يحفظ قصيدة الملك ليخرج من مأزقه هذا فينال بعدها‬
‫حياة طويلة عامرة بما يحب من الختراع والبتكار وما‬
‫يشاء من المور‪ ,‬بينما قتل الذين فضلوا شهوة الحذلقة‬
‫وتكبر العناد ‪ ,‬وخسروا شهورا كثيرة كان بإمكانهم أن‬
‫يبتكروا ويفعلوا فيها ما يشاءون‪.‬‬
‫كذلك‪ ,‬ولله المثل العلى‪ ,‬حال أهل الدنيا ‪ .‬فإن‬
‫استطعت أن تبدع وتبتكر وأنت على ما يحب الله‬
‫ويرضى ‪ ,‬فهذا خير كثير فإن عجزت عن ذلك و صار‬
‫الخيار إما الدنيا وإما الخرة ‪ ,‬فعليك بطاعة الله التي‬
‫بعدها خلود فل موت في جنة تبتكر فيها وتخترع ما‬
‫تشاء ‪,‬لن الفهم والتفكير والبداع إن كان من نعيم‬
‫الدنيا فل بد أن يكون من نعيم الخرة‪ .‬فل تضيع‬
‫مستقبلك البدي لجل نزوات نفسية وذهنية واجتماعية‬
‫هنا وهناك ‪ ,‬ترضي بها شيئا ً في نفسك أو نفوس‬
‫‪197‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫الناس على حساب مرضاة الله سبحانه‪ .‬وقد ثبت كما‬
‫في صحيح البخاري أن النبي ‪ ρ‬كان يوما يحدث وعنده‬
‫رجل من أهل البادية‪( :‬أن رجل من أهل الجنة استأذن‬
‫ربه في الزرع فقال له ألست فيما شئت؟ قال بلى‬
‫ولكني أحب أن أزرع قال فبذر فبادر الطرف نباته‬
‫واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله‬
‫دونك يا ابن آدم فإنه ل يشبعك شيء)‪ .‬فقال العرابي‬
‫والله ل تجده إل قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع ‪,‬‬
‫وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ‪ ,‬فضحك رسول الله ‪.ρ‬‬
‫ومعنى الحديث ودللته في غاية الوضوح!‪.‬‬
‫خاتمة الكتاب‬
‫كان الناس في منتصف التسعينات يتكلمون عن‬
‫الكمبيوتر وكأنه أسطورة مصباح علء الدين ‪ ,‬الذي‬
‫كان كلما فركه بيديه خرج منه مارد طويل وحقق له‬
‫كل أحلمه‪ ,‬وبمجرد ما وطأت قدماي أرض جامعة‬
‫البترول والمعادن عام ‪1995‬م تقدمت لدخول كلية‬
‫هندسة الحاسب اللي ثم تخرجت وكان مشروع‬
‫تخرجي تحت عنوان ‪:‬‬

‫(‪ )The Main Concepts Of Mobile Networks Design‬لكتشف‬


‫ذلك السحر الكبير الذي هو روح هذه الحضارة الرقمية‬
‫‪ ,‬وما معنى أن يكون العالم قرية صغيرة‪ ,‬وما معنى "‬
‫العولمة " التي هي نتاج تقني قبل أن يكون نتاج‬
‫ثقافي‪ .‬فعلمت أن الكمبيوتر آلة كأي آلة وأنه ل يختلف‬
‫في ميكانيكيته عن أي آلة ميكانيكية ‪ ,‬وأنه ليس بسحر‬
‫و ل معجزة غير أنه شديد التكامل ‪ ,‬شديدة الحبكة‬
‫اللكترونية ‪ ,‬وأنه كله مبني على خاصية فريدة ل توجد‬
‫إل في حجر يسمى " الجرمانيوم! " بني عليها تصميم‬
‫اصغر وحدة في الحاسب ‪ ,‬التي هي الترانزيستور‪.‬‬
‫فالحاسب في حقيقته ليس إل أمة عظيمة من‬
‫الترانزيستورات التي رتبت بطريقة معينة لتؤدي غرضاً‬
‫معيناً‪ .‬بالنسبة لي‪ ,‬لم يعد النسان الغربي شخصية‬
‫مهيمنة وهو في الصل لم يكن كذلك‪ ,‬غير أني الن‬
‫اكتشفته أكثر على حقيقته!‪ .‬إن سوبرمان الطائر الذي‬
‫يوهم الناس بأنه المهدي المنتظر للحضارة الرقمية ‪,‬‬
‫ليس إل فيلسوف رومانسي من القرن التاسع عشر ‪,‬‬
‫طار عقله فطار هو خلفه ليبحث عنه من مكان إلى‬
‫مكان‪ ,‬فهو ليس إل رجل مجنون يجيد الطيران!‪ .‬إن‬
‫‪199‬‬ ‫خاتـمـة الكتـاب‬

‫النسان الغربي مسكين ومسكين جدا ً وهذه ليست‬


‫غطرسة مني ول هي ممارسة للظلم في هيئة إشفاق‬
‫وإنما هي حقيقة واضحة تتمطى يضحك لصدقها‬
‫الصبيان!‪.‬‬

‫ذات يوم قلت لمدربي الخبير الهولندي الملحد‪:‬‬


‫هل تسمح لحد من عائلتك أن ينظف أذنيه بالمفك‬
‫المسمى " سكروب " يا مستر ولكو؟‪ .‬فقال وهو‬
‫يضحك متعجبا ‪ :‬بالتأكيد ل!‪ .‬فقلت له‪ :‬إذن لماذا‬
‫يسمح القساوسة في بلدك بعقد النكاح بين الرجال؟!‪.‬‬
‫فقال وهو محرج بشيء من البلهة‪Because it may :‬‬
‫‪ !work‬وترجتمها‪ ":‬لنه يمكن يمشي الحال!! "‪ .‬هذا هو‬
‫مثل النسان الغربي‪ ,‬عندما يجلس في محافل الواقع‬
‫ويبدي قدراته على إدارة الحياة ‪ ,‬ويلقي بثقل‬
‫مخترعاته بين يدي الشعوب فإذا جاء إلى العقيدة التي‬
‫هي أخص خصائص النسان‪ ,‬وجدته يتصرف ببلهة‬
‫وبرود ليس لهما مثيل‪ ,‬فتراه بعد كل هذا النجاح‬
‫المادي الحضاري الكبير يسلم أمر قلبه وعقيدته وبنائه‬
‫النفسي‪ ,‬الذي هو ذاته‪ ,‬إلى حفنة فاشلة من الفلسفة‬
‫والفنانين والغوغائيين الذين ل يجيدون إل ممارسة‬
‫الشك والشهوة والتنظير السخيف!‪.‬‬
‫وهو ذا يركب صهوة المادة ويسوقها كما يساق‬
‫البعير!‪ ,‬وهو ذا يختار صفاته الوراثية من الخريطة‬
‫الجينية لوالديه!‪ ,‬يرتشف الزوج فنجان الشاي مع‬
‫زوجته‪ ,‬يقلبان صفحات الكاتالوج الوراثي ويقولن‪ :‬ابننا‬
‫القادم نريده أشقر الشعر أخضر العينين!‪ ,‬وهو ذا يقتل‬
‫الخرين بالريموت كنترول‪ ,‬وهو ذا ملء السمع‬
‫والبصر‪ .‬ولكن؟!‪ .‬أين هو من النسان المثالي؟ ‪ .‬بل‬
‫أين هو من حقيقة ذاته؟ ‪ .‬لماذا يموت النسان الغربي‬
‫كما تموت الدابة؟‪ ,‬وهو يردد جئت ول أدري من أين‬
‫جئت ولكني أتيت‪ ,‬ثم أبصرت قدامي طريقا ً فمشيت‪,‬‬
‫ثم غويت‪ ,‬ثم عانيت‪ ,‬ثم توفيت!!‪ .‬لماذا هذه النهايات‬
‫البائسة وهذه النظرات اليائسة وهذا العراض عن‬
‫الحق؟‪ .‬ولماذا هذا الهروب المرضي من الغيبيات‬
‫والمبادئ المقدسة؟‪ ,‬ثم يجلس أحدهم بعد طول ولء‬
‫للعقل المنطقي المجرد والمادية النفعية على سرير‬
‫الموت يتسول الخرافة وحكايات الرهبان السكارى في‬
‫أقبية كنائس العصور الوسطى عن السيدة العذراء‬
‫التي تنتظر الموتى ومعها باقة من ورود!‪ ,‬ليبرر لنفسه‬
‫قبول الموت القادم المتحتم‪ ,‬ونفسه الضعيفة التائهة‬
‫تتردد في صدره وهو يقول‪ :‬أنا بحاجة لعقيدة!‪ ,‬وبحاجة‬
‫لرفيق حميم ينتقل معي إلى الحياة الجديدة القادمه!‪,‬‬
‫أنا بحاجة إلى الله الذي هو بكل شيء محيط!‪.‬‬
‫أين الله؟!‪ ,‬أريد الله!!‪...‬‬
‫(آلن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ ) ‪.‬‬
‫* * *‬
‫‪201‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫فهرس الموضوعات‬
‫إهــــــــــداء‪................................ ....................‬‬
‫‪..................................................... ............m‬‬
‫فصول الكتاب‪.............................................................:‬‬
‫‪ :!+‬الجاهلية الرومانسية‪1 1 ........................................................‬‬
‫العقيدة الرومانسية‪.......................................... ..‬‬
‫الشريعة الرومانسية‪..........................................‬‬
‫الرهاب الرومانسي‪..................... ......................‬‬
‫نهاية النسان الرومانسي‪....................................‬‬
‫السلم الرومانسي‪...................................... ......‬‬
‫‪ :≅+‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‪4 6 ..................................‬‬
‫مفهوم الحقيقة والمجد‪.......................................‬‬
‫أصل العلم كله من الله‪.................................... ...‬‬
‫حقيقة الكون والنظام‪............................. ............‬‬
‫قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق‪..............‬‬
‫‪ :+‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‪8 0 ................................‬‬ ‫‪#‬‬
‫صفة آدم وحواء‪...................................................................‬‬
‫‪ -1‬متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرج منها؟ ومتى مات؟‪....‬‬
‫فصل‪ :‬فوائد الدلة‪....................................:‬‬
‫‪ -2‬من أي مادة خلق ال آدم عليه السلم‪..............................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -3‬من أي شيء خلقت حواء؟‪...........................................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -4‬كيف كانت هيئة آدم التي خلقه ال عليها‪...........................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -5‬أول خلق آدم عليه السلم ورؤيته لذريته‪..........................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -6‬أن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه‪....................................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫صفة الشيطان‪.................................... ............‬‬
‫‪ -1‬إثبات أن إبليس هو أبو الجن وأن لبليس ذرية وانهم‬
‫يموتون وأنهم أمة عظيمة العدد وأن منهم الشياطين وأن‬
‫يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس وإنما هم من ذرية‬
‫آدم عليه السلم‪.......................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -2‬إثبات أن الجن أصناف ثلثة‪........................................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -3‬أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من الشياطين مقلدة في‬
‫عقيدتهم‪............................................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -4‬أن إبليس كائن حي موجود على الحقيقة وأنه مخلوق من نار‪....:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -5‬إثبات صفة الجسم للشيطان وأن الحمار والكلب يريانه عياناً‪. :‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -6‬ذكر ما جاء في حجم الشيطان في حال كونه على صورته‬
‫الصلية‪............................................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪203‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫‪ -7‬ذكر ما جاء في أن حجم الشيطان يتغير‪..........................:‬‬


‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -8‬إثبات أن للشياطين أسماء‪............................................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -9‬إثبات صفة الكلم للشيطان وأنه قد يخاطب البشر‪.........‬‬
‫‪ -10‬باب إثبات صفة اليدين والقدمين للشيطان وأنه يأكل‬
‫ويشرب على الحقيقة‪..................................:‬‬
‫‪ -11‬إثبات أن لبليس عرش على الماء في البحر وأن له تاج‪:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -12‬باب إثبات أن الشيطان يخاف من بعض البشر‪.................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -13‬إثبات أن الشيطان ينام‪.............................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -14‬إثبات أن للجن عموما ذكور وإناث وأنهم يجامعون‪..........:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -15‬إثبات صفة البكاء للشيطان‪.............................:‬‬
‫‪ -16‬إثبات صفة اليأس للشيطان‪.............................:‬‬
‫‪ -17‬إثبات صفة الضحك للشيطان‪...........................:‬‬
‫‪ -18‬إثبات صفة الحلق واللسان للشيطان على الحقيقة وأنه يتنفس‪...:‬‬
‫‪ -19‬ذكر ما جاء في صفة القرين‪...........................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -20‬إثبات أن الشيطان يقوم بأفعال محسوسة تورث المراض‬
‫في البدان‪.........................................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪.................................:‬‬
‫‪ -21‬أن علقة النسان بالشيطان تنتهي بعد خروج الروح وأن‬
‫التكليف العام للنسان ل ينتهي إل بالموت‪...................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪............................................:‬‬
‫الواقع والواقعية‪...................................... ..........‬‬
‫تكريم آدم ومعصية إبليس ‪....................................‬‬
‫‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‪........................................‬‬
‫سكنى الرض وإعمارها ليس غاية في خلق بني آدم‪....‬‬
‫معنى العبودية‪......................... .........................‬‬
‫الستخلف ل يتحقق إل بإقامة الميزان الكوني‬
‫والشرعي‪.......................................................‬‬
‫الخلفة الشريفة للنسان في الرض‪.......................‬‬
‫خاتمة الكتاب‪............................. ......................‬‬
‫فهرس الموضوعات‪......................... ..................‬‬

You might also like