Professional Documents
Culture Documents
com
للشتراك في هذه الخدمة الرجاء زيارة موقعنا "بلّـغوا عنّـي ولو آية" في السفل
:وتسجيل البريد اللكتروني
http://www.balligho.com
ن في السلم سنة حسنة ،فعمل بها قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :من س ّ
بعده ،كتب له مثل أجر من عمل بها .ول ينقص من أجورهم شيء ...الحديث.
فاحرصوا يرحمكم ال على نشرها فكل من يزور الموقع ويستفيد منه عن طريقك
تكسب من الجر الكثير وإن قام بدوره بالعمل بها ونشرها أيضا فكلنا نكسب أمثل
.أجورهم ول ينقص من الجر شيئا
والسّنة
ب َ
دة إلى الك َِتا ِ و َع ْ
منهاجناَ :
مة ف ال ُسل َ ِ بِ َ
ّ هم ِ َف ْ
1
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أما إن أعلن السلطان معارضته للشرع ،وتصديه لما أنزل الله ،ويرى أن فيما
يحكم به صلح المة ،وأن ما حكمت به المة في صدر السلم ،وما بعده ل
يتوافق مع واقع المة في هذا العصر ،في شؤونها الجتماعية والقتصادية
والسياسية ،ولسيما السياسية الدولية ،فإن مثل هذا كافر كفرا ً صريحًا ،لن
من يزعم أن ما أنزل الله تعالى كتابا ً وسنة ل يصلح لكل زمان ومكان ،قد
أنكر صريحا ً من الدين فيه برهان من الله ورسوله ،فالقرآن كتاب الله تعالى
الخالد هدية للمة ،المبين لها شؤون حياتها حتى تقوم الساعة ،ل تستقيم
حياة المة في أي طور من أطوارها ،وأي مناخ من مناخاتها إل بهديه ،ومن
لم يؤمن بذلك ،فقد كفر كفرا ً مخرجا ً من الملة لنه يعتقد بهذا أن الله عاجز
عن أن ينزل ما فيه صلح المة حتى قيام الساعة ،أو يعتقد أن المة ،بحاجة
إلى كتاب ونبي جديد يتناغم ـ في زعمه ـ مع واقع الحياة المعاصرة أو أن
الله عجز عن علم ما فيه صلح المة بعد خمسة عشر قرنا ً من نزول القرآن،
فلم يودع فيه ما يهدي إلى صلحها من بعد ،وكل ذلك ل يتوقف عاقل في
القول ،بأن قائله فيه من الله برهان قاطع ،بأنه كافر كفرا ً مخرجا ً من الملة.
م لَ
م ثُ ّ
جَر ب َي ْن َهُ ْ ما َ
ش َ ك ِفي َمو َ حك ّ ُ
ى يُ َ حت ّ َ ن َمُنو َ ك ل َ ي ُؤْ ِ قال عز وجل ? :فَل َ وََرب ّ َ
سِليمًا? ]النساء . [ 65 موا ْ ت َ ْسل ّ ُت وَي ُ َ ما قَ َ
ضي ْ َ حَرجا ً ّ
م ّ م َ سهِ ْ دوا ْ ِفي َأن ُ
ف ِ ج ُ
يَ ِ
فإذا ما ثبت كفر السلطان كفرا ً مخرجا ً من الملة ،فقد وجب على المة
الخروج عليه ونزع يد الطاعة منه وعزله ،ولو كان عزل ً بالسيف ،فإذا كان ل
بد من السيف فهو فريضة ،لنه ليس في المة أنكى وأنكر من أن يكون
سلطانها كافرا ً بدينها وليس لكافر على مسلم ولية.
وتلك هي الحالة التي أبيح فيها للمة بل فرض عليها الخروج على السلطان
وعزله وإن كان بالسيف :حالة كون لسلطان كافرا ً كفرا ً صراحًا.
عن جنادة بن أمية قال) :دخلنا على عبادة بن الصامت ،وهو مريض فقلنا:
حدثنا -أصلحك الله -بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم ، -فقال) :دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فبايعناه،
فكان فيما أخذه علينا ،أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا،
وعسرنا ،ويسرنا ،وأثره علينا ،وأن ل ننازع المر أهله ،قال" :إل أن تروا كفرا ً
بواحا ً عندكم من الله فيه برهان").(9
إذا ً فالسلم يدعو إلى الحفاظ على وحدة المة السلمية خلف ولي أمرها
وإن كان عاصيا ً وعلى المة أن تؤدي للوالي حقه عليها وتسأل الله تعالى
الذي لها وتصبر حتى تلقى
2
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على الحوض ،وإن ضرب المام الظهر،
وأخذ المال ،إل أن يأمر الوالي بمعصية ،أو ينهى عن طاعة عن علم ،أو يأتي
من القوال والفعال ما هو كفر صراح فيه من الله برهان ،كنزع إقامة صلة
أو امتناع عن الحكم بما أنزل الله ،على نحو ما ذكرنا ،أو مناصرة غير
المسلمين وتنفيذ مخططاتهم في إذلل المة ،والرجاف في قومه بأن أمور
العالم من حولها وتصريفها إنما هي في يد دولة ما ،غير مسلمة ،لبث روح
اليأس في قومه فيرتعوا لعدائها ...الخ.
تلك الفاعيل الماحقة لوجود المة المسلمة والعزة والمنعة فمثل ذلك ل يسع
المة قط الصبر عليه ،بل يجب عليها فريضة عين أن تنزع يد الطاعة منه،
وأن تخلع بيعته ،وإن تولى على المسلمين غيره منهم يقودهم بكتاب الله
وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن لم يكن لها سبيل إلى تحقيق هذا
إل السيف ،فإن السيف أهون من الحياة تحت ولية مثل هذا السلطان وإن
السيف حينذاك هو العدل الذي ل تقوم الحياة المسلمة إل به.
وإذا كان هدي السلم فيما دون كفر المام هو الصبر والسمع فيما ل معصية
لله تعالى فيه ،فإن من هديه أيضا ً السعي بالحسنى إلى تغييره واستبداله
بإمام صالح ،إذا كان إلى ذلك سبيل حسن ،ل يراق فيه دماء.
وعل علماء المة بيان ذلك السبيل الحسن ،والدعوة إليه ومناصرته بالحكمة
والموعظة الحسنة.
فاصل القول:
إذا كان جليا ً أن تغيير المنكر إنما هو لدرء المفاسد ،فإذا ما تيقن المسلم ،أو
غلب على ظنه الراشد ،أن تغييره منكرا ً سوف يوقعه في منكر أعظم وأعم
فجمهور العلماء يذهبون إلى ترك تغيير ذلك المنكر دفعا ً لوقوع ما هو أشد
منه وفي هذا يقول العلمة ابن القيم) :إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو
أنكر منه ،وأبغض إلى الله ورسوله فإنه ل يسوغ إنكاره ،وإن كان الله يبغضه
ويمقت أهله ،وهذا كالنكار على الملوك والولة بالخروج عليهم ،فإنه أساس
كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.( ..
)(4 /
ومن تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار ،رآها من إضاعة
هذا الصل وعدم الصبر على منكر ،فطلب إزالته ،فتولد منه ما هو أكبر منه،
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يرى بمكة أكبر المنكرات ول
يستطيع تغييرها ،بل لما فتح الله مكة ،وصارت دار إسلم ،عزم على تغيير
البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه ،خشية وقوع
ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك ،لقرب عهدهم بالسلم،
وكونهم حديثي عهد بكفر ،ولهذا لم يأذن في النكار على المراء باليد ،لما
يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ،فإنكار المنكر أربع درجات:
الولى :أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية :أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة :أن يخلف ما هو مثله.
الرابعة :أن يخلفه ما هو شر منه .
فالدرجتان الوليان مشروعتان ،والثالثة موضع اجتهاد ،والرابعة محرمة().(10
وتقدير درجات المنكر في حادثات الحياة ونوازلها ،وما بينها من مراتب بحاجة
إلى بصيرة نافذة في دقائق فقه الدين ،وفي فقه النوازل ،الذي هو أساس
3
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فقه التدين ،وبحاجة أيضا ً إلى الحكمة البالغة ،وإخلص النصح في تحقيق ما
اشتبه ،وتحرير ما اشتجر ،وذلك جهد بالغ ل يقوم به إل صفوة أهل العلم.
يقول ابن تيمية) :إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر
بحيث ل يفرقون بينهما ،بل إما يفعلوهما جميعًا ،أو يتركوهما جميعًا ،لم يجز
أن يؤمروا بمعروف ول أن ينهوا عن منكر ،بل ينظر ،فإذا كان المعروف أكثر،
ُأمر به ،وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ،ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت
معروف أعظم منه ،بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله،
والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله ،وزوال فعل الحسنات وإن كان
المنكر أغلب نهى عنه ،وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ،ويكون
المر بذلك المعروف المستلزم للمنكر ،الزائد عليه ،أمرا ً بمنكر ،وسعيا ً في
معصية الله ورسوله وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلزمان ،لم يؤمر بهما،
ولم ينه عنهما ،فتارة يصلح المر وتارة يصلح النهي ،وتارة ل يصلح ل أمر ول
نهي ،حيث كان المعروف والمنكر متلزمين وذلك في المور المعينة الواقعة.
وهذا باب واسع ول حول ول قوة إل بالله.
ي
ومن هذا الباب :إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم -لعبد الله بن أب ّ
وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ،فإزالة منكره ينوع من
عقابه ،مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ،وبنفور
الناس إذا سمعوا أن محمدا ً يقتل حاميه( ) (11فتلك حكمة النبوة التي يجب
أن يتأسى بها القائمون بتغيير المنكر ،ولهذا قال عمر -رضي الله عنه -بعد
أن استبان له نور الحكمة النبوية في هذا) :قد والله علمت لمر رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ أعظم بركة من أمري( ). (12
وذلك عندما قال عبد الله بن أبي )أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
العز منها الذل فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم -ذلك القول فقام عمر
فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ،فقال له النبي -صلى
الله عليه وسلم" :-دعه ل يتحدث الناس أن محمدا ً يقتل أصحابه" ). (13
ومن ثم فإن تغيير المنكر ،المترتب على تغييره آثار فردية وجماعية ،ل
يستقيم القيام به إل من بعد مراجعة ملبساته ،والموازنة بينه وبين آثاره وهذا
يقتضي استشارة أهل العلم والحكمة .
ولهذا ل ينبغي أن يتهم العامة والدهماء علماء المة حين يوصون بالصبر على
ذلك المنكر ،حتى يتهيأ له الظروف ومناخات وملبسات أفضل ،يؤتي التغيير
فيها ثمرا ً أطيب وأعظم ،وهذا وجه من وجوه المعنى القرآني من قوله
ة? ]النحل.[125 : م ِحك ْ َ ك ِبال ْ ِل َرب ّ َسِبي ِ تعالى ?:اد ْع ُ إ ِِلى َ
َ َ
ن ات ّب َعَِني صيَرةٍ أن َا ْ وَ َ
م ِ عو إ َِلى الل ّهِ عََلى ب َ ِ
سِبيِلي أد ْ ُ ل هَذِهِ َ وفي قوله تعالى ? :قُ ْ
ْ َ
ن ? ]يوسف.[108 : كي َ شرِ ِ م ْ ن ال ُ م َما أن َا ْ ِ
ن الل ّهِ وَ َ
حا َ
سب ْ َ
وَ ُ
ً
فالحكمة والبصيرة دعامتا النجاح في القيام بتغيير المنكر ،قياما يرضي الله
عز وجل ويحقق الغاية من التكليف به .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ،والحمد لله رب العالمين.
تأليف عادل أحمد محسن البعداني
) (1صحيح مسلم.1/69/49 :
) (2شرح النووي على صحيح مسلم.1/215 :
) (3الفتح الرباني/5/125 :رقم الحديث.1660:
) (4فقه تغيير المنكر/ص .95 :
) (5صحيح البخاري.1/304/853:
) (6جامع العلوم والحكم/2 :ص .249-248
4
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
)(1 /
5
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ن كثيرا ً من موضوعات أصول الفقه تستعصي على بعض طلبة العلم ؛ سيما أ ّ
دين ،ول مي الروم ،ممن ل يعرفون مراتب ال ّ ّ
دعي الثقافة ،ومعظ ِ بْله م ّ
يحسنون وصف الوضوء لغير المسلمين ،ول يخجلون من خدمة أطروحات
ي ،لمشهد بعنوان :حشفا ً وسوء العدو المترّبص ،حتى لكأّنك أمام مقطع ح ّ
كيلة رغم أنف الوطنية !
ولهمية هذا الموضوع ،واستشكال بعض العامة له ،وتشويش بعض الكّتاب
به ،وغضب بعض الشباب منه ،فقد اجتهدت في محاولة كشفه بأسلوب
ضح المراد -بعون الله تعالى -وذلك بيانا ً لفضل العلم على تطبيقي ،يو ّ
ب من أسباب سوء الفهم لدى ً
أهله ،وفضل أهله على المة ؛ وتوضيحا لسب ٍ
بعض الخّيرين من طلبة العلم ،فضل ً عن غيرهم ،وتظهر أهمية ذلك بجلء ،
ة بين بقية المة ،وخلخلة لثقة جيل الشباب حين يفرز هذا الستشكال ،فرق ً
ً
بجيل الشيوخ ؛ كما آمل أن يكشف هذا المقال شيئا من فقد الموضوعية -
قصدا ً أو تغريرا ً -لدى عدد من الكتاب ،ممن جعلوا همهم الول نقد العلم
وأهله .
ن الحكم الشرعي ذاته ثابت ل يتغّير متى من المور المقّررة في الشريعة أ ّ
ً
اتفقت الصور المسائل واتحد مناطها ؛ وإّنما قد يتغير مناط الحكم تبعا لتغير
م تتغّير الفتاوى
الصور أو دخول العوارض المعتبرة في الشرع ،ومن ث ّ
والحكام عند تنزيلها على المسائل والوقائع ،تبعا ً لذلك .وهذا أمر معقول ،
ومعمول به حتى عند أهل القانون -الذين يستشهد به بعض الكّتاب -فتجد
القاضي البريطاني مثل -وهو يعتمد السوابق القضائية وفق المدرسة
ض آخر في النجلوسكسونية -يحكم في قضية بحكم ،بينما يحكم هو أو قا ٍ
صورة مماثلة بحكم مختلف ،لسبب يرى أهمية مراعاته في الصورة الجديدة
عند تطبيق المبدأ القضائي الذي يستند إليه في حكمه ! وحينئذ فعدم تغّير
كل مش ِ مل -هو المر ال ُ الحكم مع تغير صور المسائل و مناطاتها -عند التأ ّ
الذي يحتاج إلى جواب .
ولكي تتضح المسألة أكثر ،أبّينها بالتعريج على شيٍء مما يضربه بعض الناس
ب للتفريق بين الفتوى في أمرٍ ، -مثل ً -في المجال العام والتنبيه على سب ٍ
ن خلفا ً لها فيه ،مثل :تعليم المرأة ،والموقف من دمج تعليم البنين وما يظ ّ
والبنات إداريا ،وفتح بنوك إسلمية ،ومنع أطباق البث الفضائي ،ومنع
الستكتاب في شركة ما ثم إجازته ،ونحو ذلك مما يفتي فيه علماء
ديانة ،مهما اختلف معه غيرهم معروفون بالعلم والفقه واليقظة وحسن ال ّ
ممن ل ُيعرف بما يعرفون به .
أ( فتعليم المرأة في المملكة العربية السعودية ،لم يحرمه أحد من العلماء
ن الختلط -في المعتبرين -كما يزعم بعض الّناس -وغاية ما في المر أ ّ
سمة العامة لتعليم النساء نظاميا في بعض البلدان -بين الجنسين كان هو ال ّ
مِنع فيها ،ولذلك استنكره -حينها -كثير من المواطنين تلك الحقبة التي ُ
ما اتفق العلماء والولة على ضمانات خلو حمّية وغيرة من غير فتوى ؛ فل ّ
التعليم من مفسدة الختلط وتوابعها ،مثل قلة الحتشام وما يترتب عليه
-لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة ،بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ،
وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلمة محمد بن
ما رأى الّناس ذلك اطمئنوا إلى التعليم الحكومي إبراهيم رحمه الله ،فل ّ
وسلمته من الختلط وتوابعه ،فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس ،
وانتشرت في البلد حتى وصلت إلى ما هي عليه الن ولله الحمد والمنة ؛
فكان المنع في حينه مستندا ً إلى سبب وجيه ل يتعلق بالتعليم ذاته ،بل إلى
6
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
ما دمج تعليم البنات مع تعليم البنين فشّغب به بعض الكّتاب ؛ والحق ب( وأ ّ
أّنه لم يستنكره من استنكره من العلماء والدعاة المخلصين الغيورين لمجرد
ن بأّنهم بهذا المستوى من النظر ،ول ن نظ ّ كونه دمجا ً إداريا ً ،ومن الظلم أ ّ
ن كثيرا ً ممن نعرف حالهم من أولئك ليسوا أهل طيش ،ول دعاة سيما أ ّ
ن من أعرفه منهم ل ينفك في خروج على أولي المر ولله الحمد .بل أجزم أ ّ
ن من أعضاء هيئة كبار العلماء المور العامة عن رأي العلماء الكبار ...ثم إ ّ
دمج ،وعّلل ذلك بعدد من السباب من أفصح عن تخوفه من قرار ال ّ
والظروف المحيطة ،والزخم العلمي المريب الذي سبق الحدث وصاحبه ،
وما تضمنه من مطالبات تغريبية تزيد الموضوع توترا ً ،وغير ذلك من المور
التي ل تخفى على من عاش الحدث وتابعه .
فالموقف المعروف حينها يمكن إيجازه في التخوف من الحال التي يخشى
س أن يؤول إليها المر ،من مثل الختلط في المدارس بين البنين الّنا ُ
والبنات ،والمعلمين والمعلمات ،ولو تدرجا بالبدء من دمج الجنسين في
الصفوف الدنيا .
ً ً ً
وقد كان هذا التخوف ظاهرا وجليا ،وواضحا لدى ولة المر ،فبادر ولي
ن ما يخشونه من قرار الدمج لن يقع بإذن الله ؛ العهد حينها بالتعهد للمة أ ّ
وعّبر عن ذلك بتعبيرات أوجدت ارتياحا عاما لدى الّناس ،وهذا ما آل إليه
دة الخيرة بعد أن اتخذت القرارات المر بحمد الله تعالى وظهر جليا ً في الم ّ
الضابطة لذلك ،نسأل الله عز وجل أن يديم علينا نعمته ،ويوفق ولة المر
لما فيه خير العباد والبلد .
ما ما يقال حول الفتوى بمشروعية فتح البنوك السلمية ،فيقال :يجب ج( وأ ّ
ً
ن العلماء لم ُيحّرموا التعامل مع بعض البنوك لكونها بنوكا ،وإّنما أن ُيعلم أ ّ
جد البديل السلمي ، و
ّ ُ ِمافل ، الربوي الغربي النسق على الجملة في لقيامها
وأمكن فتح بنوك ومصارف وبيوت تمويل تتحّرى التعامل الشرعي ،كان
الدعم لها من أهل العلم ولسيما ممن بذلوا جهدا ً عظيما ً وسنين عديدة في
دم في إيجاد البديل السلمي ،حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه من تق ّ
المصارف والبنوك ذات المعاملت السلمية ،وهي بحاجة إلى مزيد من
الفطنة والورع ومراقبة تنفيذ قرارات اللجان الشرعية كما هي .
د( وهكذا الشأن في منع أطباق البث الفضائي ،فلم يمنعها من منعها من
العلماء لمجرد كونها أطباقا ً توضع على أسطح المنازل أو ُيستجلب بها المفيد
! وإّنما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه ،لنحصار استعمالها
ما ظهرت القنوات النافعة ،لم ت ،وغلبته فيما بعد ؛ ثم ل ّ في الشّر في وق ٍ
نجد الفتوى التي تأذن فحسب ،بل وجدنا الفتوى التي تحض على الشتراك
في القنوات الصادرة عن لجان شرعية ،كقناة المجد مثل ً ،التي يكرر
ث على مشاهداتها قمة الهرم الشرعي الرسمي سماحة المفتي شكرها والح ّ
7
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
العام حفظه الله ،وهذا كّله من حرص أهل العلم على فتح الذرائع
دل المشروع ،ونشر الخير نشرا ً آمنا ً من الخلط المشروعة ،وتشجيع الب َ َ
والمزج بالشّر ما أمكن ذلك .
هـ( ومن الفتاوى التي فهمت في غير إطارها فتوى شيخنا العلمة /عبد
العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله -في الصلح مع اليهود ،فقد نال منه
ن فتواه رحمه الله جاءت على ن الشيخ قد أخطأ ،مع أ ّ م ،ظن ّا ً منهم أ ّ
بها قو ٌ
الصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى ) الهدنة ( ؛ وشّغب بها
وغوا مالم يقصده الشيخ رحمه الله فأوهموا بعض آخرون بإيعاز صهيوني ليس ّ
ن الشيخ يرى مشروعية وجود الكيان الصهيوني والستسلم لشروطه الّناس أ ّ
ن فتاواه الصريحة بعكس ذلك ،وهو مالم َيدر بخلد الشيخ رحمه الله ،بل إ ّ
وة والوضوح . في غاية الق ّ
ّ
والشيخ رحمه الله قد بّين حرمة الصلح الدائم مع اليهود ،وأكده في الفتوى
ل من أسباب ذاتها ،وفي بيانه لمراده -رحمه الله -في فتاوى لحقة ،ولع ّ
سوء فهم بعض طلبة العلم ،عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في
الشريعة السلمية ،وفي القانون الدولي ،وبيانه :
ن المراد بـ ) الصلح ( بالمعنى القانوني الدولي ،هو :عقد اتفاق دائم بين أ ّ
الطراف المتصالحة .بخلف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد
رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي السلمي وفي القانون الدولي .
وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان
الصهيوني نشر في موقع المسلم في العام الماضي .
وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة ،ولذلك نجد اللجان الشرعية في
حركة حماس السلمية ،تبني موقفها الحالي من المتناع عن الصلح على
موقف الكيان الصهيوني من عدم العتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي
سر عدم جنوح قيادات الكيان هو جزء من المة المسلمة ،وهو ما يف ّ
الصهيوني للسلم ؛ بينما لو فعل ذلك ،فلن تجد حركة حماس ما يمنعها
شرعا من الصلح ) الهدنة ( مع هذا الكيان .
)(2 /
و( ويمكن تقريب مسألة تغّير الفتوى لمن قد ل يستوعبها جيدا ً ،بالمثال
السادس في مسألة فقهية ل ترتبط بالولية ،ولكن يكثر الحديث عنها ،و
يترّدد فيها ذات السؤال ،فتجد من يقول :
لماذا منع الشيخ فلن الستكتاب في الشركة الفلنية ،ثم أباحه بعد ذلك ؟
فتجيبه :فلن منعها من أجل الربا ،فلما تخلصت من الربا -في نظره -
أجازها .فمدار الحكم على وجود الربا ،من عدمه ،ففتواه لم تتغير ،بل
تغير وضع الشركة ! ولذلك لو عادت الشركة إلى ما كانت عليه لعاد لما أفتى
به فيها من قبل ..وهكذا ..وليس عسيرا على الباحث عن الحق بسؤال
صاحب الفتوى :لم منعت الستكتاب في الشركة ثم أجزته ؟ ليجد الجواب
المنضبط في الحالين كما أسلفت .
وإّنك لتعجب ممن ينتسب للثقافة ! ثم يسود صفحته وصحيفته بالنيل من
ملها ليسأل صاحب أهل العلم دون أن يكلف نفسه عناء المانة التي تح ّ
الفتوى :لم أفتيت بالمنع ثم بالجواز أو العكس ؟ وُيلحظ في هذه الصور
ن العاِلم لم يتغير في منهجه أو يتراجع عن فتواه ؛ وغاية ما في وأمثالها أ ّ
ن مناط الحكم قد تغّير لتغّير الحال ،فوجدت حال جديدة لها حكم المر أ ّ
8
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مختلف ،وإن كانت الصورة مشابهة في الظاهر ،لكن الفتوى ل زالت ثابتة
ن الفتوى وأصول ن من ل علم عنده بف ّ في الحال الممنوعة ؛ وهنا ظ ّ
م تساءل -لجهله أو تجاهله : -كيف يحرم ن الحكم تغّير ،ومن ث ّ الستدلل :أ ّ
العلماء كذا وكذا ،ثم يحللونه بعد ذلك مع مرور الزمن ؟!
ن العلماء هم الذين رد ّ الله المسلم إليهم عند عدم العلم ،فهم والخلصة :أ ّ
ضمان الشرعية في الطرح والنصح والتعامل ،فعلى المسلم الصالح ،أن
يرتبط بأهل العلم والديانة ،وعلى رأسهم في بلدنا أعضاء هيئة كبار العلماء ،
واللجنة الدائمة للفتاء ،وغيرهم ممن عرفتهم المة وشهدت لهم بالعلم
والفضل والتوسط ،من العلماء الناصحين والدعاة المخلصين في جميع البلد
.
ولو رجعنا إلى أهل العلم وكانت صلتنا بهم صلة قوية ،لدفعنا الكثير من
الخلط الذي قد يفتن بعض الّناس عن الحق ،ويزهدهم في العلماء
الربانيين ،ولما احتجنا في معرفة الحقيقة إلى التاريخ ،ليثبت لنا صحة نهج
من أحالنا الله إليهم ،فكم ضاعت من أوقات ،ونيل من شخصيات ،في غير
حقّ ،وربما تبّين زلل طالب العلم في نقده لفتاوى الكابر ،ولكن بعد عسر
الرفع ،مهما حاول تداركه .
ن من النصح لنفسي ،ولشبابنا الكرام ،ولزملئنا الفاضل من ومن هنا أجد أ ّ
ل في تقييم فتاوى مة :التمه َ طلبة العلم بخاصة ،ولغيرهم من أهل الكتابة عا ّ
جل على جهود الناصحين ،دون العلماء المصلحين ،وعدم العتراض المتع ّ
مقة ندرك بها الدوافع ،ونعرف تفاصيل بنائها في أرض دراسة جادة متع ّ
الواقع ،مع الحرص على التقاء من ُيسَتغرب قوله من أهل العلم والديانة أو
التصال به ،ومناقشة صاحب الرأي على سنن أهل الناة والحكمة ،حتى ل
ننال من مجتهد قد بذل وسعه فنال -برحمة الله -أجرا ً إن أخطأ وأجرين إن
أصاب ،أو نؤذي مؤمنا ً حكم الله على من آذاه بأّنه قد احتمل بهتانا ً وإثما ً
ما
ت ب ِغَي ْرِ َ مؤ ْ ِ
مَنا ِ ن َوال ْ ُمِني َ ن ال ْ ُ
مؤ ْ ِ ن ي ُؤُْذو َذي َ مبينا ،في قوله سبحانه َ} :وال ّ ِ
مِبينا ً { .مُلوا ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ّحت َ َ اك ْت َ َ
سُبوا فَ َ
قد ِ ا ْ
ل نقد ٍ عاطفي يصل إلى هذا ما جال في الخاطر حول هذا المعنى في ظ ّ
ً
درجة التسفيه الممقوت ،ورأيت في تدوينه ونشره خيرا لمن أراد لنفسه
النجاة ،وحفظها من شّر حظوظها ،والله تعالى أعلم ،وصلى الله وسلم
على نبينا محمد وآله ".
)(3 /
9
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يقول الله تعالى ) بسم الله الرحمن الرحيم ،سبح اسم ربك العلى ،الذي
خلق فسوى ،والذي قدر فهدى ( وفي ظني أننا وقفنا عند هذا القول ،ثم
يقول الله تعالى ) والذي أخرج المرعى ،فجعله غثاًء أحوى ( ويلحظ قبل أي
شيء أن المعنى العام والولي لهاتين اليتين وهو ما يراد له أن يستقّر في
عقل المؤمن وحسه هو الشارة إلى فناء هذا النسان ،وإلى حتمية مرجعه
إلى الله تبارك وتعالى .وأظنكم تذكرون جيدا ً أن هذا المعنى منذ بواكير
كز القرآن أضواءه عليها ، التنزيل تكرر مرارا ً ،فما من مناسبة تعرض إل ور ّ
ليقيم في عقل النسان ويقّر في ضمير النسان حتمية المصير إلى الله .
ة غير مباشرة ) والذي أخرج وهذا المعنى ُيساق في هاتين اليتين سياق ً
المرعى ،فجعله غثاًء أحوى ( يريد الله تعالى أن يلفت نظر النسان بعيدا ً
عن المحاكمات العقلية ،وبعيدا ً عن القيسة المنطقية ،وبعيدا ً عن كل
التجريدات التي يلجأ إليها الناس عادة لتقريب المذاهب والفكار ليشده إلى
ظواهر يراها رأي العين ويلمسها لمس اليد ،أي إنسان ل يرى من حوله
ظاهرة النبات ..بذرة تلقى في الرض ثم تنشق عنها الرض نباتا ً هشا ً طريا ً
تكاد قطرات النسيم أن تقصفه وتقتلعه ،ثم إذا استجمع ري ّا ً واستوثق شدةً
كان نباتا ً يروق العيون ويريح النفوس ،ثم يأتيه من أمر الله ما يأتي على كل
أحياء الدنيا وعلى كل أشياء الدنيا ،فإذا هو بعد الشدة إلى ضعف وبعد النماء
إلى نقصان .
ل مشهود على هذا النسان وعلى مث ٌ
هذه الظاهرة التي يراها كل إنسان َ
جملة ما في الحياة ،كلها إلى زوال .وأنت أيها النسان مثلك كمثل هذا
النبات ،تخرج إلى الدنيا جنينا ً صغيرا ً ،ثم تنمو وتنمو وتنمو حتى تكون شابا ً
فرجل ً فكهل ً ثم شيخا ً ُتحني السنون ظهرك وتأخذ اليام من مّنتك وقوتك ثم
ل وعل ما ل مرد ّ له ول محيص عنه ،فتذهب حيث ذهب يأتيك من قدر الله ج ّ
الذين مضوا من قبلك .
)(1 /
ل وعل يلفت نظر النسان إلى هذه الظاهرة ليستقيم في حسه هذا الله ج ّ
الشيء ،ولكن لنا أن نتساءل :أي إنسان في هذه الدنيا في القديم وفي
الحديث وطالما ُوجد الناس على الرض ل يعرف هذا المر البدهي ،من
خلق للبقاء والخلود ؟ وهل جرى ذلك على لسان أحد ؟ قال :إن النسان ُ
نقول :ل .ويقال لنا :الكلم عبث .إذا كان كل إنسان يعرف حتمية الموت ،
فلماذا هذا المثل ؟ أليس من فارغ القول ؟ وذلك صحيح بالنسبة إلى الذين ل
يعقلون والذين ل يعرفون مواقع المثال التي يضربها الله تعالى ،وصدق الله
) وتلك المثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ( وصدق الله ) وتلك المثال
كروا بالمثل أكثر ،إن وضع الصورة نضربها للناس وما يعقلها إل العالمون ( ف ّ
أمام النسان بهذا الشكل ) والذي أخرج المرعى ،فجعله غثاًء أحوى (
كروا مع وضع الصورة بهذا الشكل في قوانين كلم العرب ،فستجدون أن وف ّ
العرب حينما تقول ) :والذي أخرج المرعى وجعله غثاًء أحوى( .فقد يكون
هذا المصير متراخيا ً ضاربا ً في الماد والباد ،ولكنها حينما تغير الواو بالفاء ،
بدل وجعله يقول :فجعله .فإنما تريد بذلك ما ُيعرف بالتعقيب ،أي أن المر
الثاني حصل عقيب المر الول ،تقول :جاء زيد وعمرو ،فيكون المعنى جاء
عمرو بعد زيد ،ولكن متى ؟ قد يكون جاء بعد ساعة وقد يكون جاء بعد مئة
سنة ،وكل المرين يصدق عليه صياغة الكلم ،لكن حينما تقول :جاء زيد
10
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فعمرو ،فهذه الفاء أحالت المعنى إلى صورة أخرى ،وجعلت مجيء الثاني
يلي مباشرة مجيئ الول ،ما لذي نريده من هذا ؟ نريد أن ُيعلم أنه حينما
ل وعل يقول ) والذي أخرج المرعى ،فجعله غثاًء أحوى ( يريد نسمع الله ج ّ
أن يشير إلى قصر المدة بين استجماع القوة والنشاط وحلول الفناء
والدمار ،كأنه ل فاصل يفصل بين المرين ،وما فائدة هذا ؟ فائدة هذا أن
يوقظ النسان الذي اعتاد بتراخي اليام ومرور الشهور والسنين أن ينسى
هذا المصير ،فالنسان ل يذكر الموت والفناء باستمرار ،ولو أن صورة الفناء
تركزت أمام ناظري النسان بصورة مستمرة لم تغب عنه أبدا ً لكان إنسانا ً
ل الكسل والخمول وعدم إرادة النشاط على غير ما هو عليه ،بل ربما ح ّ
محل هذا الذي نراه من النسان ،ولكن بين الذكر للموت بصورة مستمرة ،
وبين النسيان المطلق لهذه العاقبة الحقة حالة وسط أرادها النسان ،أراد له
أن يسعى وأن يضطرب في جنبات الرض وأن يبتغي عند الله الرزق ،وأن
يحمل على عاتقيه مهمته ووظيفته في إقرار هذا الدين في الرض ،وحمله
إلى الناس ،وأراد له في كل ذلك أن ل يغفل عن الله ،وأن ل ينسى حتمية
المصير .فمن العادة أن النسان ينسى ،بل يحاول إراديا ً أن يطرد من ذهنه
صورة الموت والفناء ،بل يحاول في بعض الحيان أن يغمس نفسه في
المسكرات والمخدرات لينسى هذه الواقعة ولكي يتهرب من ضغطها عليه .
أراد الله تعالى بهذه الصورة أن يشعر النسان أن الموت رصد قائم عليه ،
قد يأتيه وهو في أوج الشباب ،وقد يأتيه وهو في ذروة القوة ،وقد يمهله
وح كما يصوح النبات . حتى يص ّ
فهذه فائدة المثل من جهة ،وللمثل فائدة أخرى ،انظر إلى هذا النبات ...
أنت تمشي فترى نبتة في الرض ،راقبها جيدا ً ،هذه النبتة بعد شهور تكون
ة من ذات الجنس كأن تكن ،تعال في مثلها في العام القادم ،تجد أن نبت ً
نبتت في ذلك المكان أو قريبا ً من ذلك المكان ،أتظن أن هذه النبتة نبتت
من غير سبب ؟ الرائي الذي ل يراقب يظن أنها ُوجدت هكذا ،ولكن عالم
النبات يعرف أن بذرة مهما تبلغ من الدقة ومهما تبلغ من الصغر فل بد أن
تكون تساقطت من النبتة الولى فولدت النبتة الثانية .هذا النسان الذي
يموت هل انتهى أمره ؟ لو أن أمره انتهى وأسدل الموت عليه ستاره
الخير ،لكانت المسألة على خلف ذلك .الله تعالى حين يضرب لك هذا
المثل يقول لك :إن هذا الفناء الذي تراه فناًء ،تضع الميت في قبره وتغلق
عليه لحده وتتركه لعوامل التحلل والفساد ،فإذا جئته بعد عدد من السنين
وأردت أن تتعّرف على هذا الميت الذي وضعته في هذا اللحد كان في يدك
قبضة من تراب ،وأما الميت فكأنه ما وضع في هذا المكان .أتلك عاقبة
الحياة ؟ أهذا كل شيء ؟ ل .إن الميت الذي مات انتقل إلى دار أخرى
ليعيش نمطا ً آخر من الحياة ،تلك الدار هي دار البقاء ،وكما أنك تمر بالنبات
لذي تعصف به رياح السموم فتجعله كأن لم يكن فتقول :قد انتهى ،ثم إذا
بك تفاجأ به ينمو من جديد ،فكذلك هذا النسان ل بد أن يكون بين يدي ديان
جبار متكبر وهو الله تبارك وتعالى .
)(2 /
11
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القرآن وينبغي أن يفهم القرآن وأن يدركوا معنى ما يقرأون .الله تعالى
يقول ) والذي أخرح المرعى ( والمرعى هو كل ما ترعاه الدواب أو يأكله
النسان ) فجعله غثاًء أحوى ( الغثاء هو الشيء الذي ل يؤبه له ،الشيء الذي
ل قيمة له ،أرأيت حينما ينزل السيل من العالي فيجرف أمامه صخورا ً
وأحجارا ً وترابا ً وأخشابا ً ومما يلقي الناس وتلقي الدواب ؟ أرأيت هذا الشيء
الهش الذي يطفو على وجه السيل ويستقر على وجه المياه ؟ ذلك هو
الغثاء ،ذلك هو الشيء الذي ل قيمة له ،أرأيت حينما تهب العواصف فتسوق
أمامها قطعا ً صغيرة من الحشائش ؟ تلك هي غثاء من الغثاء ،فالغثاء هو كل
ما ل قيمة له ،وكل ما فقد الفائدة وإمكانية النتفاع به ،هذا النبات الذي
ينبت يقول الله تعالى إن عاقبته أن يكون غثاًء ،وبالفعل حينما يدركه
الجفاف واليبس يصبح شيئا ً بل فائدة ،ل شيء يمتع العين ول شيء يروق
النفس ،ول شيء ينتفع به الناس ،ول تنتفع به الدواب .
) فجعله غثاًء أحوى ( والحوى هم السمر الضارب إلى السواد ،ومن هنا
سميت حواء حواء ،لنها فيما يظهر كانت سمراء اللون شديدة الدمة أي
شديدة السمرة ،ولعلماء التفسير هنا كلم ،فكأنهم على معهود العرب في
تخاطباتها وأخذا ً من قوله ) أحوى ( والحوى هو شديد السمرة حين يضرب
إلى السواد ،رأوا أن في الكلم تقديما ً وتأخيرا ً ،لماذا ؟ تسمعون أن العرب
كانت تسمي المناطق الزراعية في العراق تسميها السواد ،ومن عادة
العرب أنها تسمي الشيء الخضر شديد الخضرة أسود ،فكانت تسمي
السواد بالسواد لكثرة المزروعات ولكثرة النباتات الشديدة الخضرة ،لن
الخضر حينما يستجمع اخضرارا ً يضرب إلى السواد ،فكأنهم رأوا أن النبات
ة في النماء ،يكون في تلك الساعة وفي تلك يكون أحوى حينما يكون غاي ً
الحايين أحوى ،وبناًء على ذلك قالوا :إن الكلم حقه أن يكون :والذي أخرج
المرعى أحوى فجعله غثاًء ،يعني أخرج المرعى أخضر شديد الخضرة ثم
جعله غثاًء ل ينتفع به .
ً
ويرحم الله المام الطبري رحمه الله فقد كان إنسانا من بين المفسرين
ذواقة للغة عليما ً بدقائق البيان في أساليب العرب في الخطاب ،حينما
استعرض هذا القول الذي قالوه وزعموا أن في الكلم تقديما ً وتأخيرا ً ،قال
هذا خطأ ،خطأ لن العرب ل تستخدم التأخير والتقديم إل لنكتة في الكلم
مقصودة ،أما حينما تكون هنالك فائدة من التقديم أو التأخير فالتقديم
والتأخير عجز وعي وعبث في الكلم ،وهذا صحيح ،نحن نقرأ ـ وهذا مثل
نضربه لكل إنسان لن كل إنسان يعرفه ـ نحن نقرأ في الفاتحة ) إياك نعبد
وإياك نستعين ( فها هنا تقديم ،تقديم الضمير الذي هو )إياك( وحق الكلم
في الترتيب الطبيعي أن يكون :نعبدك يا الله .لكي يكون الفعل متقدما ً ثم
يليه الفاعل ثم يليه المفعول الذي يقع عليه الفعل ،ولكن هنا نجد أن
المفعول تقدم على الفاعل والفعل جميعا ً ،حينما نقول :نعبدك يا الله .فهذا
يرتب معنى العبادة منا لله فقط ،ولكن هل ينفي أننا نعبد مع الله شيئا ً
آخر ؟ نحن نعبد الله وقد نعبد مع الله شيئا ً آخر ،فقول القائل :نعبدك يا
الله ،ل ينفي اختصاص الله بالعبادة الذي هو نكتة الكلم والغاية المقصودة
منه .
فحينما نستخدم التقديم ونقول :إياك نعبد ،فذلك يعني انصباب الفعل على
الضمير المقدم ،أي أننا نخصك يا الله فقط بالعبادة ،لهذه الغايات ولمثالها
تستخدم العرب مسألة التقديم والتأخير ،وأما حينما يكون للتقديم والتأخير
أي غرض فهو عبث بل شك .فلهذا فملحظة المام الطبري رحمه الله تعالى
12
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ملحظة وجيهة للغاية والكلم ل تقديم فيه ول تأخير ،ولكن ربنا أخرج
المرعى ثم جعله غثاًء أحوى ،أي أسمر ضاربا ً إلى السواد ككل النباتات
حينما يدركها اليبس تكون سمراء ضاربة إلى السواد .هذا ما يتعلق بهاتين
اليتين ) والذي أخرج المرعى ،فجعله غثاًء أحوى ( .
)(3 /
13
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القارئ ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وإنما الله هو المقرئ ،هذه
واحدة ،احفظوها .الشيء الثاني ارجعوا إلى معنى الفعل ) قرأ ( في كلم
العرب ،هذه المادة المؤلفة من القاف والراء والهمزة معناها في لغة العرب
الجمع والحفاظ ،لحظوا ..نحن معتادون أن نصرف لفظ القراءة إلى هذا
الشيء الذي نفعله ،قرأت الكتاب ،أي أنني مررت على ما فيه ،لكن
القراءة في لفظ العرب تدل على الجمع والملء ،فحينما نسمع الله ج ّ
ل
وعل يقول لنبيه صلوات الله عليه ) سنقرئك ( فمعنى ذلك أننا سنجمع لك
وفيك هذا القرآن ،ونملؤك بهذا القرآن .تقول :قرأت بمعنى جمعت ،
ت المرأة أي حاضت المرأة ،أي اجتمع في رحمها الدم فقذفه ، ونقول :قرأ ْ
قرء وقََرأ وما يشتق منها تدل على هذا
قرء وال َ
فهذا هو معنى القرء ،فال ُ
المعنى .ما الذي نريد تقريره من هذا الكلم ؟ نريد أن نقرر أن الكلم الذي
ُأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ُأنزل على المعهود من كلم
العرب ،وأن كلم العرب له مدلولته الخاصة التي فهمها رسول الله وفهمها
الصحاب ،وأنه من الضلل المبين أن نحمل معاني القرآن على التصورات
الباهتة التي بقيت في أذهاننا في هذه اليام لكلم العرب الذي نزل به القرآن
،ل ،ليس كل من هذى قرأ ،ل ،ليس كل من مرت عيناه على الكلم قرأ
الكلم ،أبدا ً ،إن القراءة بمعنى الجمع ومعنى الملء ل تسمى في كلم
العرب ول في استعمالت القرآن قراءة مالم تخالط النفس والعقل والقلب
ومالم تخالط اللحم والعظم والعصب ،أي أن النسان القارئ يسمى قارئا ً
حينما ُيتمثل فعل ً بهذا الشيء الذي يقرأه .
)(4 /
ولهذا فنحن حينما نقرأ أدبيات السلم نجد وصفا ً للطائفة من الناس
يسمونهم القّراء ،ليسوا عبد الباسط عبد الصمد ول محمد رفعت ول أمثالهم
من القّراء الذين يتعيشون بالقرآن ويتكسبون منه ،القّراء في أدبيات السلم
ل وعل منذروة المة ،خلصتها ،هم الذين يفهمون مرادات الخالق ج ّ
كلمه ،وهم الذين تتمثل في أقوالهم ونياتهم وفي مسالكهم وأفعالهم حقائق
هذا القرآن ،القّراء هم الذين أصبحوا أنبياء إل أنه ل يوحى إليهم .ومن هنا
نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في وصف هؤلء الناس :من أوتي
القرآن فقد أوتي النبوة ،أو فكأنما أوتي النبوة إل أنه ل يوحى إليه .فالقراءة
إذا ً التي جاءت هنا والتي وعد الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي
شحن النبي صلى الله عليه وسلم بحقائق القرآن حتى ل ينساه لفظا ً وحتى
ل يضيعه سلوكا ً .ولهذا فنحن نجد أن عائشة رضي الله عنها حينما سألها
ت تقرأ سائل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ،تساءلت :ألس َ
القرآن ؟ قال :بلى .قالت :فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن .اقرأ القرآن تكتشف خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ،لن
رسول الله بالفعل كان قرآنا ً يتحرك على ظهر هذه الرض ،هذه واحدة
أردت أن أبينها بهذا الختصار واليجاز ،مع أنها قضية تطوي وراءها أمورا ً
كثيرة لخلص بسرعة وقبل أن يفوت الوقت إلى تقرير قضية أخرى تتعلق
في المسألة .
نحن باستعراض اليات المتواردة على هذا المعنى ،وبالرجوع إلى الثار نجد
حق له أن يفاجأ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجئ بهذا القرآن ،و ُ
هذا النمط من الكلم شيء غريب على السماع ،هذا التصال بين العالم
14
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المشهود وعالم الغيب شيء غريب على الطباع ،والرسول صلى الله عليه
وسلم حينما كان في حراء قبل المبعث كان يتصور كل شيء كل شيء إل أن
ل وعل مباشرة ،فهذا ما كان يخطر له ببال ،صلوات يأتيه الوحي من الله ج ّ
الله عليه .من هنا كانت مفاجأته تامة وكانت دهشته عظيمة حينما فاجأه
طه وكان ما كان مما الوحي ،وقال له :اقرأ ،قال :ما أنا بقارئ ،ثم غ ّ
ذكرناه لكم قبل اليوم ،جاءه هذا الكلم مع توجيه بأنه سيكون لله رسول ً ،
وبأن الله اختاره ليحمل إلى الناس هذا الكلم نبراسا ً ومشكاةً يهدي به الله
ل وعل من يشاء من عباده .وإذا ً فالمسألة خطيرة ،المسألة تتطلب من ج ّ
ً
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ل يضيع من القرآن شيئا ،تتطلب منه
أل يسقط من هذا القرآن حرفا ً ،لذلك كان رسول الله صلوات الله عليه وآله
حينما يأتيه جبريل فيتلو عليه القرآن يردد القرآن معه ويحرك به شفتيه كي
يزيد في استحفاظه حرصا ً على أل يسقط منه شيئا ً .واستمرت تلك عادته
ل وعل ) ل تحرك به لسانك لتعجل صلوات الله عليه حتى جاءه قول الله ج ّ
به إن علينا جمعه وقرآنه ،فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ،ثم إن علينا بيانه ( خطاب
جازم وحاسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،حينما يأتيك الوحي كن
رابط الجأش هادئ العصاب ل تحرك لسانك أبدا ً بالتمتمة بهذا القرآن خشية
فل بأنل وعل تك ّأن تنسى شيئا ً ،فإن علينا جمعه وقرآنه ،أي أن الله ج ّ
يجمعه لك في صدرك وبأن يقدر على أن تقرأه للناس من بعد .
)(5 /
ف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاولة وبعد هذا الوعد القاطع ك ّ
فل الله تبارك وتعالى بها .لو رجعتم إلى الستحفاظ ،لن هذه المسألة تك ّ
تاريخ النبوات الولى لوجدتم ظاهرة أخرى غير هذه الظاهرة ،في السلم
الحرص شديد على أن يبقى النص القرآني كما ُأنزل بل زيادة وبل نقصان ،
بل تحريف وبل تغيير ،ولهذا جاءت الخبار المتواترة أن رسول الله صلى الله
سّري عنه أي خرج إلى الحالة عليه وسلم كان إذا نزلت عليه اليات و ُ
الطبيعية من حالة الوحي دعا بعض من كان يكتب له الوحي فقال :ضعوا
هؤلء اليات في السورة كذا في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا .فبقي
ل وعل وبإقدار المة على العناية به كل النص القرآني محفوظا ً بحفظ الله ج ّ
هذه المدة .وعلماء السلم والعلماء من غير المسلمين وأصدقاء السلم
وخصوم السلم جميعا ً يتفقون على أن النص الوحيد في الدنيا الذي ُيقرأ
الن على النحو الذي جاء عليه هو القرآن فقط ،وأما سائر النصوص الخرى
دينية أو علمية أو فلسفية أو أدبية فقد طرأ عليها التغيير والتبديل بالزيادة
والنقص والتحريف .هل المسألة مسألة وعد ُقطع لهذه المة فقط ولم
يقطع للمم الخرى ؟ أم المسألة تتعلق بصميم الرسالت ؟ نسارع فنقول :
أن المسألة تتعلق بصميم الرسالت ،فالتوراة الذي أنزلها الله على موسى
عليه السلم لم تكن نصا ً معجزا ً بذاتها ،وإنما كانت معجزات موسى عليه
السلم شيئا ً خارجا ً عن التوراة ،ضم يديه إلى جناحه فأخرجها بيضاء من غير
سوء ،ضرب الحجر فانفجرت منها اثنتا عشرة عينا ً قد علم كل إناس
ق كالطود العظيم حتى مشربهم ،ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فر ٍ
مشى موسى ومن معه من بني إسرائيل في طريق يبس ل يخافون فيه دركا ً
ول يخشون فيه شيئا ً ،تلك معجزات ل تتعلق بصميم الرسالة ول بالنص
الموحى به .وكذلك قل في النجيل ،نص النجيل الذي أنزله الله من
15
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
السماء ما كان معجزا ً يصياغته ،وإنما كانت معجزات عيسى صلوات الله
عليه من نوع معجزات موسى معجزات خارجة عن نص الرسالة ،يبرئ
الكمه وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وإلى آخر هذه
المعجزات ،أما بالنسبة للسلم فالمر مختلف ،تلك ديانات جاءت في
سياقها من الزمان والمكان ،ليست لها صفة العموم ،لم يشأ الله لها أن
تخاطب الناس أبد الدهر ،انتظارا ً لهذا النبي الخاتم ) الذين يتبعون الرسول
النبي المي الذي يجدونه مكتوبا ً عندهم في التوراة والنجيل يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
ويضع عنهم إصرهم والغلل التي كانت عليهم ( هذا شيء اّدخر في الزل
لمحمد صلى الله عليه وسلم ولهذه المة .
المعجزات الحسية من كونية وما أشبه ذلك قد تكون نافعة في زمانها وفي
مكانها فقط ،بل إن المعجزات الحسية حتى الذين يشاهدونها قد يمارون
فيها ،وكثير ما جوبه النبيون حينما يفعلون معجزات حسية بأنهم سحرة
وبأنهم سحروا أعين الناس وبأنهم وبأنهم ،فالمعجزة الحسية شيء ل يعطيك
دليل ً على صحة الرسالة مقطوعا ً به إل عند فئة قليلة من الناس رأت هذه
المعجزة أو سمعت بها في زمنها .ولكن مع تراخي الزمان لو جاءنا إنسان
وأخبرنا أن القمر انشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :إن القمر
ينشق .نقول له :ما أتيت بشيء .إن السلم لن يتقدم ولن يتأخر إن
ت انشقاق القمر ،ولكن من الذي يستطيع أن ت بانشقاق القمر أو أنكر َأقرر َ
يغفل أن معجزة السلم أساسية هي القرآن ؟ من الذي يستطيع ذلك ؟ إن
معجزة السلم في صميم الرسالة ،ومعجزة الرسالت السابقة من خارج
الرسالت ،ولهذا كان النص السلمي محفوظا ً من التغيير والتبديل ،وكانت
نصوص الرسالت القديمة غير محفوظة وغير مضمون لها البقاء على ما
ُأنزلت عليه .
من هنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا الفارق
الساسي بين القرآن وبين التوراة والنجيل وسائر الصحف التي نزلت على
النبياء السابقين فيقول :ما من نبي من النبياء أرسله الله تعالى قبلي إل
وأوتي ما مثله آمن عليه الناس ،وكان الذي أوتيته وحيا ً من الله ،فأنا أرجو
أن أكون أكثرهم تابعا ً يوم القيامة .هذا القرآن معجزة السلم فيه ،قد
يماري الناس في كل شيء ولكن أحدا ً منذ أن نزل القرآن إلى اليوم لم
يستطع برغم التحدي الذي جوبهت به فطاحل العرب وفرسان البلغة أن
يأتي بسورة من مثله ول أن يأتي بآية واحدة من مثله ،وسيبقى هذا القرآن
آية السلم الكبرى ،يختلف الناس ما يختلفون ،ولكن أحدا ً لم يختلف على
أن هذا النص أكبر من قدرة النسان .وإذا ً فهذا النص منزل من قوة أكبر من
النسان ،وإذا ً فهذا النص منزل من قبل الله تبارك وتعالى .
)(6 /
لهذا السبب نجد عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعناية الصحاب
وعناية خيار المسلمين سلفا ً وخلفا ً منصبة على تعاهد هذا القرآن ،يقرأونه
ليل ً ونهارا ً وسرا ً وجهارا ً وفرادى وجماعات ل ُيخلون أنفسهم منه آناء الليل
وأطراف النهار ،بل حتى في أشد الظروف حراجة ،في القتال فأنت حين
تقرأ أوصاف المسلمين حينما كانت جيوشهم تخرج للقتال والناس مشغولون
بالطعان والقتال ،والبطال تقابل البطال ،والرؤوس تطيح ،والعقول
16
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تطيش ،والطراف تتقطع ،يوصف جيش المسلمين بأن لهم في القرآن دويا ً
كدوي النحل ،لماذا ؟ لن دوام هذه المة بالقرآن ،ليس بأن تضع أصبعك
في أذنك فتقرأ قرآنا ً تتغّنى به كما تتغنى المطربات ،أبدا ً ،وإنما تقرأ القرآن
ل له أطرافك ، لكي يرقّ له قلبك ،وليخشع له قلبك ،وليلين له جلدك ،ولتذ ّ
ت بعيدا ً عما نهاك عنه ،هذا القرآن ت حيث أمر ،وإذا نهاك كن َ فإذا أمرك كن َ
عني به ليكون كذلك . ُ
كان عليه الصلة والسلم يقوم في الليالي بهذا القرآن ،وهو الذي وعده الله
تعالى بأن ُيقرئه هذا القرآن ،بأن يشحن به نفسه ،ومع ذلك كان يقرأ
القرآن كثيرا ً ،يقوم به الليل حتى تتورم قدماه ،وأين أنتم من حديث عبد
الله قال :جئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ،قلت
أصلي مع رسول الله ،فصليت ،فافتتح البقرة ،قلت يركع على رأس
المائة ،أي يقرأ مائة آية ويركع ،قال فقرأها ومضى ،قلت يقرأها ثم يركع ،
قال ختم البقرة وافتتح آل عمران ،قلت يختمها ويركع ،قال فختم آل
عمران وافتتح النساء ،ثم ختمها وركع .ثلث من أطول سور القرآن ،حين
تجلس وتقرأها بسرعة فأنت محتاج على القل إلى ساعتين لتفرغ من قراءة
هذه السور الثلثة ،يقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هؤلء السور ،
إذا مّر بموطن دعاء دعا ،وإذا مّر بآية عذاب استعاذ بالله تعالى ،وإذا مّر
ت أن تعد ّ كلماته عدا ً لعددتها وهوباستغفار استغفر ،ويقرأها مترسل ً ،لو شئ َ
غارق ومستغرق بجلل الله جل وعل سارح مع هذه المعاني التي تنساب
كالسلسبيل العذب تحي النفوس والقلوب ،وتنعش الضمائر .
ومن هنا كان المسلمون الذين ٌثففوا بالقرآن وعُّلموا هذا القرآن سادة المة
وكانوا خيارها ،ومن هنا استحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف الذين هم القّراء ،
ومن هنا رأينا الله جل وعل حقق على أيديهم العاجيب ،حينما كان يشغر
مكان الولية في قطر ،القطر في الماضي يا إخوة ليس محافظة من
المحافظات ،القطر مكان ذاهب في الطول والعرض ،العراق كلها قطر ،
مصر كلها قطر ،الشام ابتداًء من مشارف الجزيرة العربية الشمالية وإلى
كيليكيا كلها قطر ،يرسل واحد فقط من هؤلء القّراء ليكون واليا ً على هذا
القطر ،ومع ذلك فإن المور تستقيم والوضاع تستقر بل حاجة إلى شرطة
وبل حاجة إلى أحراس وبل حاجة إلى جواسيس ،لن الناس تساس بقرآن ل
يخرج من الشفاه وحسب ،وإنما يتفجر من أعمق حنايا القلوب ،أرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيا ً إلى
ة للمارة ؟ قال :ل ،ولكن اليمن ،فظل سنتين هناك ثم عاد ،قال :أكراه ً
ابن الخطاب جلس سنتين لم يتقاضا إليه اثنان ،لماذا ؟ لن الناس تأدبوا بهذا
القرآن وعرفت ربها بهذا القرآن وعرفت حدود الله بهذا القرآن وعلمت أنه
حينما تخترق الحدود وحينما تنتهك المحرمات فقد تنجو من العقوبة هنا ،
ولكنها سوف ل تنجو منها هناك ،وأنه من الخير أن يتعرض الناس للعقوبة هنا
،ففضوح الدنيا خير وأهون من فضوح الخرة .ومع ذلك فلقد عرفت المة
شيئا ً آخر ،عرفت أن مجرد الخلل بأمر من الوامر التي نزل بها القرآن شّر
مستطير ل يعود بالضرر على الفاعل وحسب ،وإنما يتناول المجتمع في
الزمن الحاضر وفي الزمنة المقبلة أيضا ً ،إن هذا القرآن مظهر لسنة الله
تبارك وتعالى ،ومظهر لمراد الله من هذا الكون ،وعلى المسلمين أن
يحفظوه وأن يعوه وأن ل ُيخّلوا فيه .وحين يبدأ الخلل في القرآن فكأنما
أخذ الخلل يصيب السنة الكونية برمتها ،ولو أنكم نظرتم متفحصين وبصدق
لوجدتم أن هذه المة التي سيست بالقرآن وربيت على مبادئ القرآن ،كانت
17
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(7 /
فلقد كان الظلم في الناس فاشيا ً قبل نزول الرسالة المحمدية ،وحين جاءت
هذه الرسالة واستقرت أصبح الظالمون جميعا ً في بقاع الدنيا كلها يحسبون
لها ألف حساب ،ولقد قال المؤرخون :إن أكبر نكبة أصيبت بها البشرية تلك
التي حلت بالبشرية يوم تراجعت جيوش المسلمين في أوروبا بعد ما أصابها
من اندحار .فالواقع أن هذه المة التي ُتربى على أسس القرآن خير وبركة ،
ل لنفسها وحسب ،وإنما للنسانية عامة .وانظروا إلى خريطة العالم اليوم ـ
اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية أو اعتقادية ـ فستجدون أن
الخبال والضلل قد تغلغل في كل ناحية من نواحي الناس ،لماذا ؟ ليس عند
المسلمين وحسب وإنما عند الناس عامة ،لماذا ؟ لن هداية القرآن غابت
من الوجود ،ولن القرآن استحال عند الذين يحرصون عليه ويستحفظونه
إلى تراتيل ُتقرأ إما على قبور الموتى وإما في الموالد والعياد وإما من وراء
المذياع ،لكي يعيش بها ويتكسب منها أصحاب الصوات المطلة .أما أن
يؤخذ هداية فذلك شيء بعيد .
وقفت في الحقيقة عند هذه النقطة لقرر أمرين ،لقرر أول ً ضرورة الحرص
على القرآن بنصه المنزل وبلفظه العالي وببلغته الراقية استنهاضا ً لهمم
الشباب أن يتعلموا من لغة العرب ما يستطيعون معه أن يتذوقوا معاني هذا
الكتاب ،هذا واحد .والشيء الثاني ،لقول :إن معجزة السلم مرتبطة
بالقرآن الكريم ،فمعجزة السلم معجزة داخلية وليست خارجية ،داخلية أي
أنها مرتبطة بصميم النص المنزل من قبل الله جل وعل ،هذا اثنان .الشيء
الثالث ،أن هذا القرآن على ما هو عليه وسيلة فعالة بل هو شد الوسائل
فاعلية في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ،وأن الدعوة إلى الله لن تستقيم
ول تستقيم بتة حتى يتعلم الدعاة كتاب الله جل عل علما ً وعمل ً ،وهذا مؤدى
كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم :وكان الذي أوتيته وحيا ً من الله فأنا
أرجو أن أكون أكثرهم تابعا ً يوم القيامة .في الحقيقة البوذية والبرهمية
والكونفوشوسية واليهودية والنصرانية وكل الملل تصّلبت وتجمدت ،وإذا
كانت النصرانية تستطيع أن تجد من يعتنقها ويذهب إليها في مجاهل إفريقيا
بالترغيب أو بالترهيب وبواسطة المبشرين الذين تسير أمامهم جيوش جرارة
من جيوش الستعمار تفتك وتسلب وتنهب ،إذا كانت الصليبية تجد لها مكانا ً
تنمو من خلله في تلك البقاع فإن الناس المستنيرين أصبحوا يرفضون
النصرانية ،وإن الناس المستنيرين أصبحوا ل يرضون باليهودية ،وإن عقائد
الهند وأديانها الكبرى أصبحت غير مقبولة ،ولكن الدعاية النشيطة فقط هي
لهذا القرآن .تجد النسان في الهند وفي الصين وفي أوروبا وفي أمريكا
وفي إفريقيا وفي أي قطر من القطار ،والسلم ـ للسف ليست له دولة
تحميه ،وليست لدعاته جمعيات تمدهم بالمال أو تدافع عنهم في المحافل ،
وإنما هم أناس يذهبون متطوعين ،يعيشون على قروشهم القليلة ،
ويتقحمون المخاطر ويلقون أنفسهم بين المهالك ،يعرضون على الناس هذا
القرآن ،فإذا أنت تجد اليوم أن في ألمانيا وفي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا
وأمريكا وإنكلترة وأمم كثيرة لم تتعرف على دعوة السلم ل من أحد إل من
هؤلء الدعاة ،فالسلم يمشي بين الناس باليات التي يتلوها طالب صغير
18
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ذهب من بيتك أيها المسلم فقرأ القرآن في بلد من بلد الغربة فسمعه
الناس فرأوا ما فيه من هدى وتعرفوا على ما فيه من نور وتلمسوا ما فيه
من حق وعدل فآمنوا بالسلم ..
جاليات السلم تنتشر في الدنيا انتشار النار في الهشيم ،صوروا لنفسكم
بالله عليكم لو أن وسائل العلم ولو أن أجهزة الدعاوى التي تعمل اليوم في
جنبات بلد السلم جميعا ً تعرض الميوعة وتعرض الخنوثة والنحلل
خرت لخدمة مبادئ س ّ
والفساد ..صوروا لنفسكم لو أن هذه الوسائل ُ
السلم ولخدمة قضايا القرآن ..ماذا يكون حال الناس ؟ أقول هذا لكي
ألفت النظر إلى أننا مجرمون ل بحق أنفسنا وحسب ولكن بحق النسانية
برمتها ،بحق المصير البشري كله ،لننا سكتنا عن هداية القرآن ،ولننا
أصبحنا نصدر اللهو الرخيص ،نقتل به شمائل الرجولة في نفوس الناس
وندمر به معاني الفضيلة في واقع المجتمعات الواقعة .
)(8 /
إن القرآن نزل من السماء على رسول الله صلوات الله عليه وحفظه الله
تعالى بكفالةٍ منه ،ل ككفالة البنوك يتقرض منها ما يتقرض لكي يكون وسيلة
هداية للناس عامة ،وسيكون كذلك .هو مشعل يعشو إلى نوره من أراد الله
به الخير والفلح ،فيا إخوتي إن أردتم كرامة الدنيا وكرامة الخرة فإلى
القرآن ..يا إخوتي إن أردتم العيش في بلدكم آمنين مطمئنين فإلى
القرآن..يا إخوتاه إذ حرصتم على المصير البشري وعلى سعادة النسانية
فإلى القرآن ..اعلموا أن هذه المة لن تستقيم في شئونها إل إذا أصبح
القرآن ديدنها الذي ل تغفل عنه ،اقرأوه واعرفوا حدوده وأوامره ونواهيه ،
وقفوا حيث يقفكم القرآن،واذهبوا حيث يأمركم القرآن ،وانتهوا إلى حيث
يأمركم القرآن ،تفلحوا وتسعدوا وتكونوا أدوات نافعة لهذه النسانية
المكدودة المتعبة التي أرهقتها وأذلتها دعوات الناس ومبادئ الناس والفساد
ل وعل أسأل أن يجعلكم المستعرض المتطاول الذي ل يؤذن بانتهاء .فالله ج ّ
تبعا ً لذلك الرعيل الذي سمع القرآن يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فتلقفه قرآنا ً يستقر في العقول وحقائق تمس شغاف القلوب ومنهاجا ً
يسير عليه الناس ..وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
أجمعين والحمد لله رب العالمين.
)(9 /
19
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بالتفرقة بين أمرين ،ما أحوج الناس في هذه اليام إلى أن يفرقوا بينهما ،
عنينا بالتفرقة بين مفهوم القراءة العامي المبتذل ،وهو ما يكون من الناس ُ
ً
غالبا ،وبين مفهوم القراءة وفاقا لحقائق اللغة ومعطيات اللسان وقوانين ً
الشريعة ،فرأينا أن القراءة تساوي أن يمتلئ النسان بهذا الذي يقرأ ،وأن
يخالط منه اللحم والعظم والعصب ،وأن يكون بالتالي محركا ً ومؤثرا ً بارزا ً
في السلوك ،وبغير هذا فإن القراءة ل تكون أكثر من حركة لسان ل مردود
لها ول قيمة ،ولعمري إنه يكفي للنسان المسلم أن يلتفت إلى تاريخه ..
إلى تلك الفترة المنيرة المضيئة من حياة النسانية ،ويتعرف على ما كان
يفعله أصحاب رسول الله صلوات الله عليه حينما يتلو عليهم رسول الله
عليه السلم آيات الله ،فإن تاريخ تلك الفترة مليئ بالشواهد والوقائع التي
تكشف عن الحرص البالغ الذي كان مستوليا ً على أصحاب رسول الله عليه
السلم ،من أجل أن يتعرفوا على هذا الكلم الذي يتنزل من عند الله ج ّ
ل
وعل .
لكم أن تتصوروا في أذهانكم صورة الرجل الذي آمن بالله واتبع رسوله صلى
لالله عليه وسلم وعاش في شوق شديد إلى سماع المزيد من آيات الله ج ّ
وعل ،على كثرة الشواغل وضيق ذات اليد وصعوبة طرائق المعاش في ذلك
الزمان ،وحيثما قلبتم من التاريخ صفحات فأنتم واجدون صورة هذا الرجل
الذين ُينيب عنه أحد إخوانه ليحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
كي يذهب هو ليضرب في الرض لكي يعيش ،وعهدنا بالناس أنهم إذا انتهى
ل عليهم التعب ،فهم يلتمسون الراحة ويبتغون النهار وفرغوا من العمل ح ّ
إليها الوسائل ويطلبون الترويح والتسلية عن النفس ،ولكن هذا الرجل الذي
أمضى سحابة النهار في تلك الظروف الصعبة يضرب في الرض بمحراثه أو
بفأسه أو يحمل على كتفه أو يضطرب في سوقه ل ُيحس آلم العمل
ومتاعبه ،وإنما يحس معتلج الشوق إلى أن يلقى هذا الخ الذي أوكل إليه أن
يحفظ عنه كلم رسول الله صلى الله علبيه وسلم في هذه المدة التي غابها
عن المجلس الكريم ،فهو يأخذ في آخر النهار من حقائق التنزيل ما فاته أن
يسمعه في سحابة النهار.
إن هذا الحرص وحده دليل على إدراك جيد لمعنى القراءة ،وأنها عمل يتسم
بالمسوؤلية ،وليس كما يفعل الناس اليوم ..صفحات تقلب وسطور يمر
عليها النظر ،قد تتصل بالعقل أو النفس وقد ل تتصل ،وإذا اتصلت فيا
سوأتاه ..إن هذا المجتمع المسلم منذ انشطر واقعه النساني انشطر أيضا ً
واقعه العقلي ،منذ أن أصبح الناس يعيشون في رؤوسهم بشيء وفي
سلوكهم بشيء آخر انشطر أيضا ً جانبهم العقلي ،فأصبحت القناعة شيئا ً ل
يتصل بالسلوك ول يؤثر على سير النسان ،ول ُيطلب منه أن يكون سكانا ً
دل لهم دفة الحياة .للسف ذلك هو الذي كان ،وهذا هو المغزى الذي ُيع ّ
ت الوقوف عنده في السبوع الماضي كي ألفت انتباه الخوة إلى شناعة أطل ُ
التقصير الذي وقع المسلمون فيه ،نتيجة لعدم الهتمام ،وعدم تناول المور
بالجدية اللزمة .ما لنا ؟ هذا حديث في الواقع يمزق القلب وهو تتمثل فيه
مأساة المسلمين ،لنمضي مع اليات .
ل وعل ) سنقرئك فل تنسى ،إل ما شاء الله إنه يعلم بعد أن يقول الله ج ّ
الجهر وما يخفى ( يتصل الخطاب إلى رسول الله عليه السلم قائل ً
كر إن نفعت الذكرى ،سيذكر من يخشى ،ويتجنبها ) ونيسرك لليسرى ،فذ ّ
الشقى ،الذي يصلى النار الكبرى ،ثم ل يموت فيها ول يحيا ،قد أفلح من
تزكى ،وذكر اسم ربه فصلى ،بل تأثرون الحياة الدنيا ،والخرة خير وأبقى ،
20
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن هذا لفي الصحف الولى ،صحف إبراهيم وموسى ( نحن حقا ً محتاجون
الن إلى شيء من العناية في القول وفي الستماع ،إن هذا القرآن كما
كررنا مرارا ً جسم واحد ،وكل سورة لها شخصيتها الخاصة ،ومن أشنع
الخطأ أن تفهم آيات الكتاب الكريم تفاريق وأجزاء .حاولوا أن تلتقطوا
الخيط الذي يربط هؤلء اليات ،ولنساعدكم على ذلك .
)(1 /
ل وعل ) ونيسرك لليسرى ( فهو مرتبط بالذي قبله ،لحظوا أول ً أما قوله ج ّ
ل وعل بأنه سيتولى إقراء رسوله الكريم صلوات الله عليه تعهد من الله ج ّ
هذا القرآن وعلى النحو الذي شرحنا جوانب منه ،إقراًء تمتلئ به النفس
ويعمر به القلب ويعطر على السلوك آثارا ً مادية واضحة بينة ،ثم ليس يكفي
أن نقتنع بالشيء وأن يتصل الشيء ذاته بواقع الحياة ،فأنت قد تصطدم
بظروف ل قبل لك بها ،صعبة للغاية ،ولقد كان من قبل في تاريخ النبوات
بالذات عوامل من هذا القبيل ،حينما عتت أمم على ربها وتمردت على
ل وعل ،عاقبها الله تبارك وتعالى بأن شدد شرائع أنبيائه وعصت رسل الله ج ّ
عليها الوجائب والتكاليف ،فحينما ُأقرئت كتب الله جل وعل اصطدمت
ّ
بالواقع الذي ل قبل لها به .فاليسرى جاءت هنا وصفا ً لمجمل الشريعة التي
حملها محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس ،واليسرى ليس كما يفهم
قصار النظر أنها هي الشريعة المبنية على التخفيف والتسهيل ،طبعا ً هذا
فهم قاصر ،فالحقيقة أن السهولة والصعوبة والتخفيف والشدة أمور نسبية ،
فما هو صعب على شخص قد يكون سهل ً على آخر ،وما هو سهل يسير على
زيد قد يكون عسيرا ً على عمرو ،فالمر هنا نسبي ،انتبهوا إلى ما أقرره
لكم الن ،لكن المسألة كلها ُترد إلى حقيقة ،إن الشرائع تكاليف وأعباء
وواجبات ،وحين كنا نتحدث في بدايات أحاديثنا منذ سنة وأكثر من نصف
السنة كنا نستعرض واقع العمل النبوي ،فرأينا من خلل النصوص التي
استعرضناها أن النبوة تكاليف وأثقال وشدائد ومؤونة ل يستقل بها ول يقوم
بها إل أولو العزم من الرجال بعون من الله تعالى وتوفيقه .المسألة ل أحب
أن يقع ما يتردد في كتبه الفقه وكتب أصول الفقه من أن شريعة السلم
مبنية على المياسرة وعلى المسامحة وعلى السهولة وعلى الخفة ،هذا كلم
يقال لبيان وصف فقهي وأصولي ،وأما الحقيقة فغير ذلك ،كلم الفقهاء
ينصب على واقع حصل فيه تغيير يتساوق مع حقائق الشرع ،وأما حين تختل
المور فالمسألة تختلف ،لقّرب المر ..خذ مثل ً أي جهاز ميكانيكي وخالف
بين تراكيبه وخالف بين دقائق الجهاز الذي يتركب منه ،إنك ستحصل على
ن الجهاز يتعطل ويتوقف إذا كانت المخالفة فظيعة واحدة من نتيجتين :إما أ ّ
وكبيرة ،وإما أن الجهاز يدور ويعمل لكن بمشقة وبعسر ،واحد من أمرين ل
ثالث لهما ،نفس النسان كذلك ،جهاز مجموعة من الحوافز ،مجموعة من
الدوافع ،مجموعة من القابليات ،وظيفة الشريعة ماذا ؟ أن تضع كل حافز
وكل دافع وكل قابلية في مكان الذي تؤدي فيه أداًء كامل ً غير مصطدم وغير
مضطرب ،حينما تتناسق النفس النسانية بهذا الشكل يكون العمل السلمي
يسيرا ً غير عسير ،لنه يستخدم كامل الفاعلية في الجهاز الذي هو الشخصية
النسانية ويستخدمها على وجوهها الصحيحة المضبوطة ،ليس يعني هذا نفي
التكليف ولكن يعني أن تكون للتكاليف تلك اللذة التي يجدها النسان حينما
يؤدي عمل ً ما أداًء صحيحا ً ومضبوطا ً .
21
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن النسان حينما يؤدي أي عمل على نحو نموذجي يشعر بهذه الراحة ويشعر
بهذه اللذة ،تصور أنه أوكلت لك مهمة فأديتها على أحسن ما يرام وعلى
ً
أكمل ما يرام وتحملت متاعب ،إنك في هذه الحالة تنسى متاعبك جميعا ،
بل إن النسان حينما يستغرقه هذا العمل يجد اللذة والسهولة واليسر
والراحة في هذا العمل بالذات ،في غمرة العمل وفي ذروته .ومن هنا كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادلهمت عليه الخطوب وإذا اشتدت
عليه متاعب الحياة وإذا عبس الناس في وجهه يفزع إلى الصلة وينادي بلل ً
قائل ً :أرحنا بها يا بلل .كلم يبدو للناس للذين ل يتأقلمون مع هذه الجواء
كلما ً مضطربا ً ومتناقضا ً ،إنك في غمرة التعب وتقوم إلى تعب وتصلي صلة
تقف فيها حتى تتورم قدماك ،أهذه راحة ؟ نعم راحة ،راحة عند النسان
الذي ينسجم مع العمل ،فوصف الشريعة بأنها يسرى ،ووصف هذا بأن الله
ييسر النسان له يحمل هذا المعنى ،ول ينبغي أن ُيفهم بصورة باتة عند
الناس الجادين أن المراد بتكاليف الشريعة هذه العمال الصغيرة ،ركعتان أو
أربع ينقرهما النسان نقر الديك ثم يمضي ،ول ينبغي أن ُيفهم أنها صيام
يصومه النسان على أمل أن يلقى مع المغرب مائدة متعددة اللوان وما
أشبه ذلك ،كل ،تكاليف الشريعة أكبر من هذا وأعمق من هذا ،ولكن
تيسيرها يتجلى في عبقرية السلم حين يضع كل حاسة من حواس النسان
وكل حافز من حوافز النسان وكل قابلية من قابلية النسان في المكان
الملئم له الذي يؤدي فيه أداءه بصورة حرة وبصورة متناسقة مع سائر أجزاء
هذا الجهاز ،فتكون السهولة ويكون اليسر حاصل ً من هذا الباب ل غير .
)(2 /
نقول هذا كي ل ينزلق أحد مع هذا الفهم العامي المغلوط ليسر الشريعة ،
ة ينعم معها بالسرير الوفير ت ليوفر للنسان راح ًفي الواقع السلم لم يأ ِ
وبالبال المستريح أبدا ً ،السلم نداء نزل من السماء إلى هذا النسان الذي
استخلفه الله تعالى في الرض ليمسك بزمام الحياة فيلوي عنانها لي ّا ً عنيفا ً
حتى يخرجها عن المحور الغلط الذي تسير فيه النسانية ،عمل من هذا
النوع ل يمكن أبدا ً أن يكون مبناه على السهولة والتفّلت وعلى عدم الهتمام
ورفض الجدية .يسر الشريعة يجب أن يفهم بهذا الشكل ،ولهذا ُأسند
ل وعل فل أصعب التيسير إلى الله ما لم يكن في المسألة عون من الله ج ّ
ول أشق من مواجهة هذه المهمة .
ومن هنا تكتشفون فعل ً معنى هذه الصيغة ) ونيسرك لليسرى ( لم يقل أنك
ستواجه اليسرى ،ولم يقل أنك ت ُّيسر نفسك اليسرى ،وإنما قال :نحن ـ أي
الله ـ سوف نيسرك لليسرى ،ما لم يتدارك الله بعنايته النسان فيضعه على
قاعدة اليمان فإن أي عمل من أعمال الشرع ،حتى الوضوء الذي هو نظافة
وطهارة وعمل خيري يجده النسان ثقيل ً كالجبل ،فالتيسير من الله
) ونيسرك لليسرى ( لكن متى جاء هذا ؟ بعد تعهد الله لرسوله عليه الصلة
والسلم بالقراء .
إذا ً أول خطوة في هذا المنهج الذي تخطه السورة هو عماية القراء التي
تساوي عملية الفهم والتثقيف ،أنت أيها المسلم مطلوب منك أن تؤدي
عملك ،لكن قبل أن ترفع قدمك لتخطو الخطوة الولى عليك أن تعرف ماذا
تريد ؟ ماذا تريد مسطور في هذا القرآن ،قبل أن تتحرك اعرف القرآن
كله ،والن تكتشفون أن من أكبر من الخطل أن يتطفل على القرآن ناس
22
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
عجيب هذا الكلم ..انظروا حينما نأخذ المر في إطاره الصحيح ،نحن نقرأ
ل وعل ) إن الذين حقت عليهم كلمة ربك ل يؤمنون ( في الكتاب قول الله ج ّ
وهذا نفي ليمان طوائف من الناس حق عليهم أن يموتوا على الكفر ويدخلوا
النار ،ونحن نقرأ في فواتح البقرة ) إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم
23
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أم لم تنذرهم ل يؤمنون ( فإن قمت بالنذار والبلغ وإن قعدت فهؤلء لن
يؤمنوا ،إذا ً فهنالك صنف من الناس لن تجدي فيهم الموعظة ،ولن يبلغ
فيهم التذكير أي مبلٍغ ،ما الموقف من هؤلء الناس ؟ هل نحجب عنهم
ل المشكلة معنا تماما ً ،إننا التذكرة والبلغ ؟ هنا لب المشكلة ،نسأل لتح ّ
ل وعل قضى على بعض الناس أن ل يؤمنوا مهما نعرف قطعا ً أن الله ج ّ
ل وعل تكلم جئتهم بأية آية ،لو جئتهم بكل آية ما قبلوا منك شيئا ً ،والله ج ّ
عن طوائف من أهل الكتاب فقال ) ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما
تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت
أهواءهم بعد الذي جاءك من الله من العلم مالك من الله من ولي ول نصير (
إذا ً فهناك طائفة من الناس ل سبيل إلى أن تهتم بهم ،والمشكلة تكون
صحيحة حينما نعلم أعيان هؤلء الناس ،نعرف أن فلنا ً وفلنا ً وفلنا ً محكوم
عليهم بعدم اليمان ،في هذه الحالة فقط يكون توجيه البلغ إليهم عبثا ً ،لنه
بمثابة صب الماء على الصفا والصخر الصم لكي تستنبت منه الزرع
والثمار ،شيء في غير محله .
ّ
لكن الواقع خلف هذا ،الواقع أن الله جل وعل أبهم هذا المر ،قضى أن
أناسا ً لن يؤمنوا ،ولكن لم يكشف لنا عن أسمائهم ول أشخاصهم ول أعيانهم
ل وعل أراد أن يعوم ،ولو كشف لنا ذلك لتعطلت حكمة الخلق كلها ،الله ج ّ
البلغ ،فلهذا أبهم ،وإبهامات الشرع واضحة ،أنتم الن في يوم جمعة
والرسول عليه الصلة والسلم أخبر أن في يوم الجمعة ساعة هي ساعة
الجابة ،ل يوافقها عبد مسلم فيدعُ الله تعالى بشيء من أمر الدنيا أو الخرة
إل أعطاه الله إياه ما لم يدع ُ بإثم أو بقطيعة ،لكن متى ؟ ل أحد يعلم ،
الساعة هل هي مع الفجر أم بعد الفجر بعد الشمس وقت الصلة قبل
ل وعل أراد أن يكون هذا المغرب مع المغرب ؟ ل أعلم ،حينما أبهمها الله ج ّ
البهام محرضا ً ومحركا ً للمسلم كي يرغب إلى الله تعالى في يوم الجمعة
بكامله ،هذه حكمة البهام .
حكمة البهام فيما يتعلق بأعيان الشخاص الذين لم يؤمنوا تتجلى في عموم
ل وعل ) فذكر إن نفعت الذكرى ( يجب أن نعيد البلغ ،إذا ً فمراد الله ج ّ
ل وعل الذي أبهم علينا هذه الشياء ،الذكرى ل تنفع الشرط إلى الله ج ّ
الناس الذين يعلم الله عنهم أنهم لن يؤمنوا ،وأما نحن المأمورين بالبلغ
م بالبلغ جميع الناس ،إن رأينا إعراضا ً من والتذكير فواجب علينا أن نع ّ
كرنا ،وفي الليل نذكر وفي النهار كرنا ،وإن رأينا إقبال ً من الناس ذ ّ الناس ذ ّ
كر ،وفي كل آناتنا وفي كل حالتنا نوالي التذكير ونوالي البلغ . نذ ّ
وأما أمر القلوب وانقيادها إلى هذا التذكير فليس إلينا ،وإنما إلى الله ج ّ
ل
وعل الذي بيده وبين أصبعيه قلوب العباد جميعا ً ،إن شاء أن يقيمها أقامها
وإن شاء أن يزيغها أزاغها .هنا ينحل معنا معنى الية ) فذكر إن نفعت
الذكرى ( ويزيد ذلك وضوحا ً ما يأتي بعد ذلك ) سيذكر من يخشى ،
ويتجنبها ( أي يتجنب الذكرى ويبتعد عنها ) الشقى ،الذي يصلى النار الكبرى
،ثم ل يموت فيها ول يحيا ( اليات إذا ً يحلها ما بعدها ،ها هنا في اليات التي
جاءت بعد ذلك يعرض الله لنا نموذجين من الناس ،بقطع النظر عن السماء
من يخشى وعندنا وعن الشخاص عن الزمان وعن الوصاف ،هنا عندنا َ
ل وعل ،والخشية ليست فقط مجرد هذه من يخشى الله ج ّ الشقى َ ،
القشعريرة التي تعتري النسان حينما يسيطر عليه عامل الخوف من شيء
ما ،هذا مظهر ساذج وأولي ،الخشية هي حصيلة لنظر متراحب يقوم به
النسان ،حينما ينظر النسان بصدق وأمانة وبتجرد إلى ذاته يشعر بأن هذه
24
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
جد ،ومهما سلسنا الذات لم تخلق من ذات نفسها ،وإنما ُوجدت بمو ِ
الموجدات فنحن واصلون قطعا ً بقضية العقل إلى الموجد الولي وإلى
السبب الولي وهو الله تبارك وتعالى ،وحينما ننظر في نفوسنا فنجد وكما
ل وعل خلقنا فقدر وهدى ،أي وضع كل مّر معنى في نفس السورة أن الله ج ّ
شيء في مكانه اللئق ،ونعرف من ذواتنا ومن نفوسنا ومن أشخاصنا قيمة
هذا البداع وهذا التنسيق الذي عليه القرآن سواء في الحواس الظاهرة أو
الحواس الباطنة ،سواء في القوى العضلية والبدنية أم في القوى الروحية
والعقلية ،حينما ننظر إلى هذا البداع نحكم بأن عقل ً مدبرا ً على غاية ما
يكون من القوة والقتدار هو الذي أوجد هذا النسان .
)(4 /
حينما نصل إلى قناعات من هذا النوع بمجرد النظر المخلص نحكم بأن هذا
العقل المبدع ،هذه الذات الخالقة ،ل يمكن أن تخلق النسان عبثا ً ،حينما
نظر في الفاق نتعرف على مكاننا من الوجود ونتعرف على الغاية التي خلقنا
ل وعل ) وفي أنفسكم أفل تبصرون ( من أجلها .وهنا يأتي قول الله ج ّ
ّ ً
مصداق لهذا الكلم ،وهنا يأتي أيضا جل اسمه ) سنريهم آياتنا في الفاق
ف بربك أنه على كل شيء وفي أنفسهم حتى يتبين له أنه الحق أو لم يك ِ
خلقنا ننظر لغاية ،وغاية عظيمة ، شهيد ( حينما ننظر هذا النظر نشعر بأننا ُ
رشحتنا لها تلك القوة التي أوجدتنا ،فنعلم أننا مطالبون بها ،وأننا لم نترك
في هذه الدنيا بل سؤال وبل حساب ،حينئذٍ نستشعر الخشية .
هل الخشية أن يخرج عليك سبع فتدفعك غريزة البقاء وحب الحياة إلى أن
تشعر بهذا الضطراب وهذه القشعريرة ؟ هل الخشية أن تسمع القرآن يتلى
بنغم رائع يلمس أوتار القلوب ويثيرك كلمه ويحرك حس الجمال فتشعر أن
صف ؟ ل ،المسألة أبعد من ذلك ،المسألة تتصل بصميم الرسالة جلدك يتق ّ
ومكان النسان من الوجود وغاية النسان في هذا الوجود ،هذا الصنف من
الناس الذي يوجد لديه استعداد لن يتعرف على خالقه ويتعرف على مكانه
من الوجود ويتعرف على الغاية التي ُوجد من أجلها هو الذي ُتجدي معه
الذكرى ،لكن هل تستطيع أن تقول لي إنني أستطيع وأقدر أن أتبين هؤلء
الناس بلون اللباس أو بلون الوجه أو بطريقة الكلم ؟ ل ،المسألة قلبية
صرفة ،وهذه مغيبة ل أحد يعرفها على الطلق .
كذلك الصنف الخر ) الشقى ( الذي تحجر فكره وتصلب قلبه وأعرض عن
النظر في كل آية ،هل تستطيع أن تعطيني صورة له ؟ هل تستطيع أن
ل وعل لكي يحل الشكال الذي تمنحني علمة فارقة له ؟ ل ،إذا ً فالله ج ّ
ل وعل ) فذكر إن نفعت توهمه بعض الناظرين في القرآن في قوله ج ّ
ة باليات التالية ) سيذكر من يخشى ،ويتجنبها الذكرى ( يحل الشكال كلي ً
ً
الشقى ( لحظوا كلمة ) يتجنبها ( يتجنب ماذا ؟ يتجنب الذكرى ،إذا فهنا
تذكير وهنا إنسان متجنب ،لو كان المعنى :أن عليك يا محمد أن تذكر الناس
طالما نفعتهم الذكرى وأن تكف عنهم ول تذكرهم إذا لم تنفع الذكرى .لما
كان لكلمة ) يتجنبها ( أي معنى ،لن النطباع الذي يخرج به السامع من قول
كر الذي ُيعرض كر وصورة المذ َالله ) يتجنبها ( انطباع عن صورة ،صورة المذ ِ
ويصد .وإذا ً فواقع المر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر الناس
ّ
جميعا ً .
هذا من الناحية اللغوية ومن الناحية الشرعية ومن الناحية السلوكية ل بد من
25
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
النظر ،لن المسألة لها اتصالها المباشر بعمل الدعوة ،وأنا أحب لكل
الشباب الذين يهتمون بالسلم أن يعرفوا هذا الكلم ،لو أننا فسحنا المجال
للناس أن يقوموا بالتذكير والتبليغ طالما أحسوا من الناس إقبال ً ،وأن يكفوا
عن الدعوة حينما يجدون من الناس إعراضا ً لّدى المر إلى فساد عريض ،
التقدير الشخصي يختلف ،أنا ربما تكلمت معك كلما ً فيما يتعلق بالسلم
فأجد منك صدودا ً قليل ً ،ربما أكون كسول ً ربما أكون متعاجزا ً ربما أكون غير
صادق اليمان ،فأنا أضخم هذا العراض ،حينما تكون درجته واحدا ً أرفعه
بهذه العوامل اللشعورية لتكون درجته مائة ،وإذا ً أحكم عليك سلفا ً بأنك من
الصنف الذي ل يؤمن .فمن الناحية السلوكية ل يمكن بصورة باتة أن يفتح
ل وعل هذا الباب الواسع نحو القعود والتخلف عن الدعوة ،إن على الله ج ّ
ّ
ل وعل أن يذكر ،ل عليه ما تكون عليه حال النسان الداعي إلى الله ج ّ
الناس ،قد يستجيبون وقد ل يستجيبون ،ذلك ليس إليك وأنت لن تحاسب
على هذا الساس ،أنت تحاسب فقط على أداء الواجب ،واجبك ينحصر
فقط بالتذكير ،فإن تقّبل الناس منك فبها ونعمت ،وإل فقد أديت الذي عليك
كر أن عليك أن تسير الطريق منذ أن تعقل ما ينبغي وما ل ينبغي ولكن اذ ُ
وإلى أن تموت .أما أن تقعد عن الدعوة إلى الله تحت أي ظرف من
لالظروف ،تحت أي عامل من العوامل ،فهذا هو الخطأ الذي سد الله ج ّ
وعل الباب بينك وبينه .
) الذي يصلى النار الكبرى ( ووصف النار بالكبرى وهو مبالغة لتضخيم هذا
العذاب الذي يلقاه ) ثم ل يموت فيها ول يحيا ( وهذا أيضا ً تضخيم ،إن الموت
راحة ،في الواقع في بعض الحيان حتى بالنسبة إلى الحياء يكون الموت
راحة ،ولكن أن ل يموت النسان فيستريح ،وأن ل يحيا فيشعر بلذة الحياة
ذلك هو العذاب المهين ،فالعاقبة التي خّبأها الله تعالى لهؤلء الذين
ُيعرضون عن الله بعد استفراغ المجهود في الدعوة إلى الله ،تلك هي
عاقبتهم ،نار تلظى ل يموتون فيها فيستريحون من حس العذاب وألم
العذاب ول يعيشون عيشة البرار في جنة عرضها السماوات والرض .
)(5 /
26
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ضْعه بيننعرف أن الظروف تؤثر على النسان ،تعال إلى إنسان تقي و َ
أشرار ،زناة ،شربة خمور ،وما أشبه ذلك ،فستجده مع الزمن يتأقلم مع
الجو وينسى قواعد التقوى ،وُرّبما انزلق فذهب بعيدا ً في طريق المعصية ،
إن الظروف ل شك تؤثر على النسان .
أيضا ً أنت حينما تطالب النسان بأن يكون سليم الطوية بريء الصدر من
الحقد ومن الغي ومن الحسد ،أنت مطالب بأن تضع هذا النسان في وسط
من الشروط المادية تجعله ل يقابل المهيجات التي تدفع إلى هذه الخلئق
الذميمة ،هذا كله صحيح .لكن لو جئت إلى إنسان فقير وحكمت عليه بأن
يعيش بين أصحاب القصور والمترفين والمنعمين وهو على فقره وخصاصته
ورثاثة حاله فإنه بمطالعة النعيم الذي ُيحَرم منه سيشعر بألم الحرمان
وستنمو في داخل نفسه دوافع الحسد ،وحينئذٍ يتخرب صدره ويتوسخ قلبه ،
إننا ل ننكر أهمية الشروط أبدا ً ،لكنا نسأل هذه الشروط أهي قدر المقدور ؟
أهي شيء مفروض على النسان ل حيلة له تجاهها ؟ ل ،إن الشروط قائمة
ومؤثرة ،ولكن النسان هو الذي يغير الشروط ،ومتى يغير الشروط ؟ حينما
تتحصل لديه قناعتان ،انتبه ،أول القناعتين أن يعلم أن هذه الشروط القائمة
فاسدة ،وثانية هاتين القناعتين وأهمهما أن يعلم أن تغيير هذه الشروط
يساوي حياته أو يزيد على حياته .أي حينما يشعر أن هذه الشروط القاسية
سوف تدمر حياته ،وأنه إن أراد حقا ً فعليه أن يغير هذا الشروط ولو أدى
ذلك إلى إهلك حياته ،حينئذٍ فهذا النسان هو الذي سيغير الشروط .نحن ل
نقول إن الشروط المادية والشروط المجتمعية ل قيمة لها ،ولكنا نقول إن
هذا نصف الحقيقة فقط ونصفها غير مهم ،والنصف الثاني والمهم جدا ً أن
يقوم النسان ببذل مجهود خاص ذاتي نابع من ذاته بهدف تغيير هذه الشرائط
،هذا هو المعبر عنه بالتزكية .
إن النسان حينما يتصور أننا سوف نرقيه إلى مرتبة الملئكة حينما نهّيئ له
النظام السياسي الديمقراطي ،وسوف نرقيه إلى رتبة الملئكة حينما نهيئ
له النظام الشتراكي الذي يضمن له القوت يكون واهما ً ويكون مخطئا ً خطأ
مفظعا ً جدا ً لماذا ؟ إن الديمقراطية السياسية وهي أرقى أشكال الحكم
جميعا ً ما منعت الظلم وما منعت الرهاب وثمة حد محدود تنفجر عنده
الديمقراطية ،حينما تهدد أرباب المصالح ،وفي النظام الشتراكي الذي وّفر
القوت بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي أخذه من المجتمع النساني
على حساب الحرية وعلى حساب الكرامة وعلى حساب المعنى الدمي ،مع
ذلك فالنظام الشتراكي لم يلِغ من نفس النسان هذا الشره الذي يدفع إلى
السرقة ويدفع إلى الرشوة ويدفع إلى الطمع ،ولعل الروائح كريهة جدا ً في
وسط النظمة الشتراكية التي تعيش اليوم .
)(6 /
المسألة ليست في القشور ،ما ترونه من واقع بشري فهو ظاهر يمور تحته
المعنى النساني ،إن هدف النسان المسلم ينصب على هذه العوامل التي
تغير في الشرط النسان ل في الشرط المجتمعي ،إن الشرط النساني
حين يتغير فل بد أن يتغير الشرط المجتمعي تبعا ً لذلك وحكما ً كما تقول :
واحد زائد واحد يساوي اثنين ،كذلك حينما يتغير الشرط النساني يتغير
شرط المجتمع .أما أن نكف عن بذل أي مجهود كما يفعل دعاة الحركات
والمذاهب المحدثة يريدون من النسان تأييده وانتظامه في الحزب وانتسابه
27
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إلى الجماعة ،ول عليهم أن يكون هذا النسان طاهر القلب نقي السريرة
زاكي الخلق ،هؤلء يغامرون بالمصير البشري كله ،إن البناء يبدأ من داخل
النفس ،وهنا تتركز مسؤولية كل إنسان تجاه نفسه ،إن مرقاة الصلح
ل وعل البشري تبدأ من صلح النفس النسانية بالذات .ولهذا يقول الله ج ّ
تتويجا ً لكل هذا المنهج الذي رسمته هذه السورة ) قد أفلح من تزكى ( قد
أفلح وفاز ونجح ،نجح في المتحان الرهيب من تزكى وبذل مجهودا ً خاصا ً
من أجل أن يعيد بناء نفسه على قاعدة تساعد على إصلح هذه الحياة .
) وذكر اسم ربه فصلى ( بقي متعلقا ً في ذلك الخالق الذي خلقه لغاية ،
والذي سيأخذه بالحساب العسير حين يفرط بهذه الغاية التي خلقه من
أجلها ،ولكن انظروا ..إعجاز القرآن يا إخوة إن القرآن ل يتركك أمام تقرير
هذه الواقعة الصميمية فحسب ،وإنما يكشف أمامك الغطاء عن وجه العلة ،
لماذا يشد النفس ؟ لماذا بعد أن تتضح لهم الدلئل وتقوم الحجة عليهم لماذا
ل عل ) بل تؤثرون الحياة الدنيا ،والخرة خير يعرضون ؟ يقول لك الله ج ّ
وأبقى ( ها هنا نظران ،نظر ينغمس مع واقع الحياة بأطماعها بشهواتها
بأشيائها بمالها بنسائها بكل شيء فيها مما يربط النسان إلى الرض ويشده
نحوها شدا ً عنيفا ً ،ونظر يتجاوز هذا ،بل يستخدم هذا كله من أجل أن
يستقيم الناس على الجادة الصحيحة الموصلة إلى بر السلمة بالنسبة إلى
ل وعل .إن شرط التزكي هو تخفيف النسان والموصلة إلى رضوان الله ج ّ
التعلق بأشياء الدنيا ،إنك حينما تكون مستعبدا ً لشياء الدنيا تنافي غاية
السلم ،هذا السلم جاءك أيها النسان فوجدك عبدا ً لهذه الدنيا ،عبدا ً
للعراف عبدا ً للتقاليد عبدا ً للعادات الجتماعية عبدا ً للطواغيت عبدا ً للموال ،
ل وعل أن يحررك من كل هذه العلئق ،وأن يجعل هذه العلئق فأراد الله ج ّ
ل وعل لنا عن العلة التي تشكل الدافع كلها عبيدا ً لك ،فمن هنا كشف الله ج ّ
الذي يدفع النسان عن الطريق السوي ،هي التعلق بالدنيا ،أتريدون أمثلة ؟
سأضرب لكم بعض المثلة ،سأضرب لكم أمثلة من التاريخ وسأضرب لكم
أمثلة من الواقع .
أما أمثلة التاريخ فنحن نعرف بدون حاجة إلى تفاصيل أن المسلمين ملكوا
الدنيا ،وأن كلمة واحدة تخرج من بين شفتي الحاكم أو المير أو الخليفة
كافية لتدمير مجتمعات بكاملها ،ومع ذلك فهذه القوة الهائلة التي ُوضعت
بين يدي المسلمين لم تدفع المسلمين أبدا ً إلى أن يتزحزحوا عن قسطاس
العدل والستقامة الذي فرضه الله والذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه
وسلم .لكن القوة في المجتمعات المعاصرة تجعل من الحاكم إلها ً في
الرض من دون الله ُيعبد ،وحسبك أن توجه إلى الحاكم أي نقد لتعيش
السنين تأكلك رطوبة البقية بعد أن تكون السياط قد جلدتك حتى الموت ،
هذا فارق هائل ،إن المسلمين ملكوا الدنيا وفاضت الموال بين أيديهم كأنهار
ت تجد الواحد منهم يملك عشرات اللوف يهبها ول يبالي ماذا ،ومع ذلك فكن َ
سيكون حاله في الغد ،كانت عائشة رضي الله عنها صائمة فجاءها عطاؤها ،
وعطاء أمهات المؤمنين اثنا عشر ألف درهم في السنة تساوي بعملة اليوم
مئات اللوف من حيث القوى الشرائية ،فلما جاءها قالت لجاريتها :يا فلنة
ضعي فوق هذا المال ثوبا ً فغطت المال كي ل تؤذي نفسها من منظر المال ،
وأصبحت تدخل يدها من تحت الغطاء فتقبض وتقول للجارية اذهبي بهذا إلى
كشف الغطاء لم يبقَ أي بيت فلن ،اذهبي بهذا إلى أيتام فلن ،حتى إذا ُ
شيء ،قالت لها الجارية :يا أم المؤمنين لو أبقيت لنا درهما ً نشتري لك به
لحما ً تفطرين عليه ؟ قالت يا بنيتي لو ذكرتني لفعلت .نسيت نفسها .الناس
28
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الذين ُيستعبدون لشياء الدنيا ناس فقراء من حيث التربية السلمية والتربية
اليمانية ،لكن الناس المؤمنين يستعبدون أشياء الدنيا ليسخروها نحو الغاية
المثلى .
)(7 /
أتريدون أمثلة من الواقع ؟ سأقول لكم ،إن الدنيا اليوم تزخر بالدعوات
وكلها تسير في اتجاه مضاد لهذا السلم ،في اتجاه معاد لدعوة الله ج ّ
ل
وعل ،وهذه الدعوات الفاسدة المفسدة الضالة المضلة المخربة سرت بين
المسلمين ،بل لعلها اليوم أغلب ما يكون بين المسلمين ،مع ذلك فأنت تجد
من رواد الحزاب وأحلس هذه الحركات أناسا ً مسلمين ،تعال معهم وقل :
يا أخانا أعندك شك في الله ؟ يقول لك :معاذ الله .أتشك في صلحية
السلم ؟ يقول لك :معاذ الله .إذا ً ما شأنك مع هؤلء الناس وهم كيت
وكيت وكيت ،حاضرهم مستقبلهم أخلقهم أوصافهم ،أينسجم ذلك كله مع
السلم ؟ يقول لك :مصلحة .يريد أن يتوظف ،يريد أن يحفظ رزقه ،يريد
أل تتأثر تجارته ،يريد أن يبقى محافظا ً على زراعته .إذا ً فهي شهوات وإذا ً
ل وعل ) بل تؤثرون الحياة الدنيا ( السبب الذي فصدقا ً وحقا ً ما قال الله ج ّ
يدفعكم بعيدا ً عن الله ليس سببا ً عقليا ً ول سببا ً إنسانيا ً ول سببا ً قلبيا ً ووجدانيا ً
،ولكنه سبب مصلحي رخيص جدا ً هو الذي يجعله ُتكّثرون ثواب الكافرين
وتكونون جنودا ً للظالمين .
يا إخوة السلم المر صعب والمسؤولية خطيرة ،وحري بكل أخ من إخواننا
يشهد أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله وأن هذا السلم حق وصدق
ل وعل ،وأن فيه سلمة النسانية كلها ،حق على هذا النسان أن من الله ج ّ
يقف ويطيل الوقوف ،وأن يتساءل وأن يشدد على نفسه في المسألة ،وأن
يقطع صلته بالدنيا كلها إل بالله ،وأن يطهر حياته من كل صلة بأي شيء إل
الصلة بهذا السلم .أرأيتم حينما ننظر إلى اليات نظرا ً غير مجزوء ؟ وحينما
ننظر إلى القرآن بسياقه وبتسلسله المنطقي معملين عقولنا ومفكرينا أكثر
ومتعبين أنفسنا أكثر كيف تتوضح أمام أعيننا معالم القضية وقضايا السلم ؟
أرجو إن شاء الله تعالى أن يكون عيشكم مع القرآن دائما ً ومتصل ً ،وأسأل
ل وعل أن يفتح قلوبنا وقلوبكم وقلوب المسلمين لفهم حقائق هذا الله ج ّ
الكتاب فإنه هو حبل النجاة المتين الذي أوله عندك وآخره عند الله في الجنة
،وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله
رب العالمين.
)(8 /
29
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فضرب على صدره ،وقال :ليهنك العلم يا أبا المنذر«)(1؛ ولهذا من قرأها
في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ،ول يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي
مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جدًا.
قوله -تعالى } :-الله ل إله إل هو{ :السم الكريم مبتدأ؛ وجملة} :ل إله إل
هو{ خبر؛ وما بعده :إما أخبار ثانية؛ وإما معطوفة؛ و}إله{ بمعنى مألوه؛
و»المألوه« بمعنى المعبود حبًا ،وتعظيمًا؛ ول أحد يستحق هذا الوصف إل الله
-سبحانه وتعالى-؛ واللهة المعبودة في الرض ،أو المعبودة وهي في السماء
-كالملئكة -كلها ل تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها ل تستحق ذلك؛
الذي يستحقه رب العالمين ،كما قال -تعالى } :-يا أيها الناس اعبدوا ربكم
الذي خلقكم{ ]البقرة ،[21 :وقال -تعالى } :-ذلك بأن الله هو الحق وأن ما
يدعون من دونه هو الباطل{ ]الحج.[62 :
و}إله{ اسم ل؛ و}ل{ هنا نافية للجنس؛ ول النافية للجنس تدل على النفي
المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم؛ فـ}ل إله{ نفي عام
محض شامل لجميع أفراده؛ وقوله -تعالى } :-إل هو{ بدل من خبر }ل{
المحذوف؛ لن التقدير :ل إله حق إل هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود
بالحكم ،كما قال ابن مالك:
التابع المقصود بالحكم بل *** واسطة هو المسمى بدل ً
وهذه الجملة العظيمة تدل على نفي اللوهية الحق نفيا ً عاما ً قاطعا ً إل لله -
تعالى -وحده.
وقوله -تعالى } :-الحي القيوم{ هذان اسمان من أسمائه -تعالى -؛ وهما
جامعان لكمال الوصاف ،والفعال؛ فكمال الوصاف في }الحي{؛ وكمال
الفعال في }القيوم{؛ لن معنى }الحي{ ذو الحياة الكاملة؛ ويدل على ذلك
»أل« المفيدة للستغراق؛ وكمال حياته -تعالى :-من حيث الوجود ،والعدم؛
ومن حيث الكمال ،والنقص؛ فحياته من حيث الوجود ،والعدم؛ أزلية أبدية -
لم يزل ،ول يزال حيًا؛ ومن حيث الكمال ،والنقص :كاملة من جميع أوصاف
الكمال -فعلمه كامل؛ وقدرته كاملة؛ وسمعه ،وبصره ،وسائر صفاته كاملة؛
و}القيوم{ :أصلها من القيام؛ ووزن »قيوم« فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو
القائم على نفسه فل يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد
محتاج إليه.
قوله -تعالى } :-ل تأخذه سنة ول نوم{ أي ل يعتريه نعاس ،ول نوم؛ فالنوم
معروف؛ والنعاس مقدمته.
قوله -تعالى -في الجملة الثالثة} :له ما في السموات وما في الرض{ أي
له وحده؛ ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و}السموات{
جمعت؛ و}الرض{ أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لن المراد بها الجنس.
قوله -تعالى -في الجملة الرابعة} :من ذا الذي يشفع عنده إل بإذنه{؛
}من{ اسم استفهام مبتدأ؛ و}ذا{ ملغاة إعرابًا؛ ويأتي بها العرب في مثل
هذا لتحسين اللفظ؛ و}الذي{ اسم موصول خبر }من{؛ والمراد بالستفهام
هنا النفي بدليل الثبات بعده ،حيث قال -تعالى } :-إل بإذنه{.
و»الشفاعة« في اللغة :جعل الوتر شفعًا؛ وفي الصطلح :التوسط للغير
لجلب منفعة ،أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم -في
م ما ل م ،والغ ّأهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من اله ّ
يطيقون) :(2شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة)
:(3شفاعة في جلب منفعة.
وقوله -تعالى } :-إل بإذنه{ أي الكوني؛ يعني :إل إذا أذن في هذه الشفاعة -
30
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
حتى أعظم الناس جاها ً عند الله ل يشفع إل بإذن الله؛ فالنبي -صلى الله
عليه وسلم -يوم القيامة -وهو أعظم الناس جاها ً عند الله؛ ومع ذلك ل
يشفع إل بإذن الله لكمال سلطانه -جل وعل ،-وهيبته؛ وكلما كمل السلطان
صار أهيب للمِلك ،وأعظم؛ حتى إن الناس ل يتكلمون في مجلسه إل إذا
ش النبي -صلى الله عليه وسلم -معل قري ٍتكلم؛ وانظر وصف رسو ِ
أصحابه ،حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم.
)(1 /
قوله -تعالى } :-يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم{؛ هذه هي الجملة السادسة؛
و»العلم« عند الصوليين :إدراك الشيء إدراكا ً جازما ً مطابقًا؛ فعدم الدراك:
جهل؛ والدراك على وجه ل جزم فيه :شك؛ والدراك على وجه جازم غير
مطابق :جهل مركب؛ فلو سئلت :متى كانت غزوة بدر؟ فقلت» :ل أدري«
فهذا جهل؛ ولو سئلت :متى كانت غزوة بدر؟ فقلت» :إما في الثانية؛ أو في
الثالثة« فهذا شك؛ ولو سئلت :متى كانت غزوة بدر؟ فقلت» :في السنة
الخامسة« فهذا جهل مركب؛ والله -عز وجل -يعلم الشياء علما ً تاما ً شامل ً
ل؛ وعلمه ليس كعلم العباد؛ ولذلك قال -تعالى } :-يعلم ما لها جملة ،وتفصي ً
بين أيديهم{ أي المستقبل؛ }وما خلفهم{ أي الماضي؛ وقد قيل بعكس هذا
القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ ل يساعد عليه؛ و}ما{ من صيغ العموم؛ فهي
ل؛ وسواء كان من أفعال الله أم شاملة لكل شيء سواء كان دقيقا ً أم جلي ً
من أفعال العباد.
قوله -تعالى } :-ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء{ لها معنيان؛
المعنى الول :ل يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي ل يعلمون عن الله -
سبحانه وتعالى -من أسمائه ،وصفاته ،وأفعاله ،إل بما شاء أن يعلمهم إياه،
فيعلمونه؛ المعنى الثاني :ول يحيطون بشيء من معلومه -أي مما يعلمه في
السموات ،والرض -إل بما شاء أن يعلمهم إياه ،فيعلمونه؛ وقوله -تعالى :-
}إل بما شاء{ استثناء بدل من قوله -تعالى } :-شيء{؛ لكنه بإعادة العامل؛
وهي الباء؛ و »ما« يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي :إل بمشيئته؛ ويحتمل أن
تكون موصولة؛ أي :إل بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفا؛ً
والتقدير :إل بما شاءه.
قوله -تعالى } :-وسع كرسيه السماوات والرض{؛ أي شمل ،وأحاط ،كما
يقول القائل :وسعني المكان؛ أي شملني ،وأحاط بي؛ و »الكرسي« هو
موضع قدمي الله -عز وجل -؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح
ذلك عن ابن عباس موقوفًا) ،(1ومثل هذا له حكم الرفع؛ لنه ل مجال
للجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس -رضي الله عنهما -يأخذ عن بني
إسرائيل فل صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري) (2أنه كان ينهى عن
الخذ عن بني إسرائيل؛ فأهل السّنة والجماعة عامتهم على أن الكرسي
موضع قدمي الله -عز وجل -؛ وبهذا جزم شيخ السلم ابن تيمية ،وابن
القيم ،وغيرهما من أهل العلم ،وأئمة التحقيق؛ وقد قيل :إن »الكرسي« هو
العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن »العرش« أعظم ،وأوسع ،وأبلغ إحاطة من
الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن }كرسيه{ :علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها
ل تصح عن ابن عباس)(3؛ لنه ل يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة
العربية ،ول في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جدا ً من أن يصح عن ابن عباس -
رضي الله عنهما -؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي -
31
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
صلى الله عليه وسلم -أنه قال» :ما السموات السبع والرضون بالنسبة
للكرسي إل كحلقة ألقيت في فلة من الرض وإن فضل العرش على
الكرسي كفضل الفلة على تلك الحلقة«)(4؛ وهذا يدل على سعة هذه
المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله -
عز وجل } :-أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها{ ]ق~[6 :؛ ولم
يقل :أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لن ذلك ليس مرئيا ً لنا؛ ولول
أن الله أخبرنا به ما علمنا به.
قوله -تعالى } :-ول يؤوده{؛ أي ل يثقله ،ويشق عليه }حفظهما{؛ أي حفظ
السموات ،والرض؛ وهذه الصفة صفة منفية.
قوله -تعالى } :-وهو العلي العظيم{ :مثل هذه الجملة التي طرفاها
معرفتان تفيد الحصر؛ فهو وحده العلي؛ أي ذو العلو المطلق ،وهو الرتفاع
فوق كل شيء؛ و}العظيم{ أي ذو العظمة في ذاته ،وسلطانه ،وصفاته.
الفوائد:
- 1من فوائد الية :إثبات هذه السماء الخمسة؛ وهي }الله{؛ }الحي{؛
}القيوم{؛ }العلي{؛ }العظيم{؛ وما تضمنته من الصفات.
- 2ومنها :إثبات انفراد الله -تعالى -باللوهية في قوله -تعالى } :-ل إله إل
هو{.
- 3ومنها :إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله ،وجعلوا معه آلهة.
- 4ومنها :إثبات صفة الحياة لله -عز وجل -؛ وهي حياة كاملة :لم تسبق
بعدم ،ول يلحقها زوال ،ول توصف بنقص ،كما قال -تعالى } :-هو الول
والخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم{ ]الحديد ،[3 :وقال -تعالى :-
}وتوكل على الحي الذي ل يموت{ ]الفرقان ،[58 :وقال -تعالى } :-ويبقى
وجه ربك ذو الجلل والكرام{ ]الرحمن.[27 :
)(2 /
- 5ومنها :إثبات القيومية لله -عز وجل -؛ لقوله -تعالى } :-القيوم{؛ وهذا
الوصف ل يكون لمخلوق؛ لنه ما من مخلوق إل وهو محتاج إلى غيره :فنحن
محتاجون إلى العمال ،والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء،
والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الولد ،والولد يحتاجون إلينا؛
ونحن محتاجون إلى المال ،والمال محتاج إلينا من جهة حفظه ،وتنميته؛
والكل محتاج إلى الله -عز وجل -؛ لقوله -تعالى } :-يا أيها الناس أنتم
الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد{ ]فاطر[15 :؛ وما من أحد يكون
قائما ً على غيره في جميع الحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله -
تعالى } :-أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت{ ]الرعد[33 :؛ يعني الله؛
فل أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت.
- 6ومن فوائد الية :أن الله -تعالى -غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر
إليه -تعالى -؛ فإن قلت :كيف تجمع بين هذا ،وبين قوله -تعالى } :-يا أيها
الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم{ ]محمد ،[7 :وقوله -تعالى :-
}ولينصرن الله من ينصره{ ]الحج[40 :؛ فأثبت أنه ُينصر؟
فالجواب :أن المراد بنصره -تعالى -نصر دينه.
- 7ومنها :تضمن الية لسم الله العظم الثابت في قوله -تعالى } :-الحي
القيوم{؛ وقد ذكر هذان السمان الكريمان في ثلثة مواضع من القرآن :في
»البقرة«؛ و»آل عمران«؛ و»طه«؛ في »البقرة«} :الله ل إله إل هو الحي
32
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
33
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
- 20ومنها :الرد على القدرية الغلة؛ لقوله -تعالى } :-يعلم ما بين أيديهم
وما خلفهم{؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لن القدرية الغلة أنكروا علم
الله بأفعال خلقه إل إذا وقعت.
- 21ومنها :الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لن الخوارج،
والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لن مذهبهما أن فاعل الكبيرة
مخلد في النار ل تنفع فيه الشفاعة.
ً ً
- 22ومنها :أن الله -عز وجل -ل يحاط به علما كما ل يحاط به سمعا ،ول
بصرًا؛ قال -تعالى } :-ل تدركه البصار وهو يدرك البصار{ ]النعام،[103 :
وقال -تعالى } :-ول يحيطون به علمًا{ ]طه.[110 :
- 23ومنها :أننا ل نعلم شيئا ً عن معلوماته إل ما أعلمنا به؛ لقوله -تعالى :-
}ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء{ على أحد الوجهين في تفسيرها.
- 24ومنها :تحريم تكييف صفات الله؛ لن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا
ادعينا علمه فقد قلنا على الله بل علم.
- 25ومنها :الرد على الممثلة؛ لن ذلك قول على الله بل علم؛ بل بما يعلم
خلفه؛ لقوله -تعالى } :-ليس كمثله شيء{ ]الشورى.[11 :
- 26ومنها :إثبات مشيئة الله؛ لقوله} :إل بما شاء{.
- 27ومنها :عظم الكرسي؛ لقوله -تعالى } :-وسع كرسيه السموات
والرض{.
- 28ومنها :عظمة خالق الكرسي؛ لن عظم المخلوق يدل على عظمة
الخالق.
- 29ومنها :كفر من أنكر السموات ،والرض؛ لنه يستلزم تكذيب خبر الله؛
أما الرض فل أظن أحدا ً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها ،وقالوا :ما
فوقنا فضاء ل نهاية له ،ول حدود؛ وإنما هي سدوم ،ونجوم ،وما أشبه ذلك؛
وهذا ل شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده النسان بنفسه ،ووهمه؛ أو
دق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالما ً بما دل عليه الكتاب والسّنة. ص ّ
- 30ومنها :إثبات قوة الله؛ لقوله -تعالى } :-ول يؤوده حفظهما{.
- 31ومنها :أنه -سبحانه وتعالى -ل يثقل عليه حفظ السموات ،والرض؛
لقوله -تعالى } :-ول يؤوده حفظهما{؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي
كقوله -تعالى } :-وما مسنا من لغوب{ ]ق~.[38 :
- 32ومنها :إثبات ما تتضمنه هذه الجملة} :ول يؤوده حفظهما{؛ وهي العلم،
والقدرة ،والحياة ،والرحمة ،والحكمة ،والقوة.
- 33ومنها :أن السموات ،والرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله -تعالى } :-ول
يؤوده حفظهما{؛ ولول حفظ الله لفسدتا؛ لقوله -تعالى } :-إن الله يمسك
السماوات والرض أن تزول ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان
حليما ً غفورًا{ ]فاطر.[41 :
ل ،وأبدًا؛ لقوله -تعالى :-
- 34ومنها :إثبات علو الله -سبحانه وتعالى -أز ً
و
}وهو العلي{؛ و}العلي{ صفة مشبهة تدل على الثبوت ،والستمرار؛ وعل ّ
الله عند أهل السنة ،والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الول :علو الذات؛ بمعنى
أنه -سبحانه -نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب ،والسنة،
34
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
35
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
36
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
37
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
ل ،وإنما يقول :سمعت الناس المقلد في العقائد الذي ل دليل عنده أص ً
يقولون فقلت .هذا آثم لتباعه ما ليس له به علم .فأما إذا كان عنده دليل
إجمالي كاستدلله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الثم،
لتحصيل هذا الستدلل له العلم.
والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها ،يصدق عليه باعتبار
الدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم ،ولكنه له علم من ناحية أخرى
وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام ،بما أمر
تعالى من سؤال أهل العلم ،وما رفع عن العاجز من الصر ،وهو من العامة
العاجزين عن درك أدلة الحكام.
نصيحة على هذا الفرع:
أدلة العقائد مبسوطة في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير .وأدلة
الحكام أصولها مذكورة كلها فيه ،وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صلى الله
عليه وسلم الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائد الدينية ،وأدلة تلك
العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كل مكلف أ يكون في كل عقيدة
من عقائده الدينية على علم .ولن يجد العامي الدلة لعقائد سهلة قريبة إل
في كتاب الله ،فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد
للمسلمين إليه .أما العراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المكلفين
الصعبة ذات العبارات اصطلحية ،فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق
العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه .لقد كان من نتيجة ما نراه اليوم
في عامة المسلمين من الجهل بعقائد السلم وحقائقه.
ومما ينبغي لهل العلم أيضا –إذا أفتوا أو أرشدوا -أن يذكروا أدلة القرآن
والسنة لفتاويهم ومواعظهم ،ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم
حلوته ،ويعرفوهم منزلته ،ويجعلوه منهم دائما ً على ذكر ،وينيلوهم العلم
والحكمة من قريب ،ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب ،وأثر في
38
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
النفوس .فإلى القرآن والسنة –أيها العلماء -إن كنتم للخير تريدون.
الفرع الثالث:
ً
المجتهد إذا أفتى مستندا إلى ما يفيد الظن من أخبار الحاد ،أو القيسة أو
النصوص الخرى الظنية الدللة – هل هو متبع لغير العلم؟
الجواب ل؛ بل هو متبع العلم ،وذلك من ثلثة وجوه:
الول :أن كل دليل يكون ظنيا ً بمفرده –يصير يقينا ً إذا عرض على كليات
الشرع ومقاصده ،وشهدت له الصواب ،وهذا هو شأن المجتهدين في الدلة
الفردية.
الوجه الثاني :أن المجتهد يعتمد في الخذ بالدلة الظنية لما له من العلم
بالدلة الشرعية الدالة على اعتبارها.
الوجه الثالث :أن تلك الدلة بمفردها تفيد الظن القوي ،الذي يكون جزما ً
ويسمى –كما تقدم -علما ،فما اتبع المجتهد إل العلم.
الفرع الرابع:
ل تعتمد في إثبات العقائد والحكام على ما ينسب للنبي صلى الله عليه
وسلم من الحديث الضعيف؛ لنه ليس لنا علم به .فإذا كان الحكم ثابتا ً
بالحديث الصحيح مثل قيام الليل ،ثم وجدنا حديثا ً في فضل قيام الليل يذكر
ثواب عليه مما يرغب فيه –جاز عند الكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه
الذي لم يكن شديدا ً على وجه الترغيب .ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز
اللتفات إليه ،وهذا هو معنى قولهم) :الحديث الضعيف يعمل به في فضائل
العمال( ،أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها ل في أصل ثبوتها .فما لم يثبت
بالدليل الصحيح في نفسه ،ل يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر
فضائله ،باتفاق من أهل العلم أجمعين.
الفرع الخامس:
أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب ،فل نقول فيها إل ما كان لنا به علم :بما
جاء في القرآن العظيم ،أو ثبت في الحديث الصحيح .وقد كثرت في
تفاصيلها الخبار من الروايات مما ليس بثابت ،فل يجوز اللتفات إلى شيء
من ذلك .ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملئكة والجن والعرش،
والكرسي ،واللوح ،والقلم ،وأشراط الساعة ،وما لم يصل إليه علم البشر.
سؤال الجوارح يوم الهول الكبر:
ل{ .من قال ما لم }إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤو ً
يسمع ،سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه .ومن قال :رأيت ولم ير سئل
بصره فشهد عليه .ومن قال :عرفت ،ولم يعرف ،أو اعتقد ما لم يعلم ،سئل
فؤاده فشهد عليه :لنه في هذه الحوال الثلثة قد اتبع ما ليس به علم .وهذه
الشهادة كما قال تعالى} :يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما
كانوا يعملون{ )النور (2 :هذه الثلثة تسئل على وجوه منها ما تقدم ،وهو
الذي يرتبط به هذا الكلم بما تقدم من النهي.
ومنها سؤال السمع :لم سمع ما ل يحل؟ ولم لم يسمع ما يجب؟
وسؤال البصر :لم رأى ما ل يحل؟ وعن جميع أعمال البصر ،من نظر البغض
والحتقار ونحو ذلك؟ وسؤال الفؤاد :عما اعتقد؟ وعما قصد؟ وجميع أعمال
القلوب؟
فوائد ختام الية:
)(2 /
39
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
تفسير الحلم
د .محمد بن عبد الله القناص 1/8/1425
15/09/2004
الحمد لله والصلة والسلم على رسول الله وآله وبعد:
فإن من الظواهر الملفتة للنتباه في واقعنا تعلق كثير من الناس بالرؤى
والمنامات ،واعتمادهم عليها ،وتوسعهم فيها حيث أصبحت شغلهم الشاغل،
عبر المجالس والمنتديات والمجامع ،بل والقنوات الفضائية ،وطغت على
الفتاوى الشرعية ،وأصبح السؤال عنها يفوق السؤال عما يحتاج إليه النسان
من أمور دينه ،من المعتقدات والعبادات والمعاملت وغيرها ،وابتعدوا في
تعاملهم مع الرؤى والمنامات عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ،وأضاعوا
أوقاتهم في ما ل يعود عليهم بالخير والنفع ،ولو أن الناس وقفوا تجاه الرؤى
وتعاملوا معها ،وفق الهدي النبوي لستراحوا وأراحوا ،وحصل لهم التوفيق
والسداد والطمأنينة ،ولم يوجد هذا التهافت في السؤال عنها ،والفراط في
البحث عن تأوليها ،ولجل أن نقف موقفا ً صحيحا ً سليما ً معتدل ً تجاه هذه
الرؤى المتكاثرة ،فلبد من الرجوع إلى الداب السامية ،والتوجيهات النبوية
التي فيها العصمة من الزلل والخطأ ،والوقاية من الفراط والتفريط ..
لقد دلت السنة المطهرة أن الرؤى تتنوع إلى ثلثة أنواع ،وأن هناك جملة من
الداب ينبغي أن يأخذ بها الرائي ،وإليك بيان ذلك :
ل :أنواع الرؤى : أو ً
َ
ه عَل َي ْ ِ
ه صّلى الل ّ ُ ل الل ّهِ َ سو ُ ل َر ُ لَ :قا َ ن أِبي هَُري َْرةَ – رضي الله عنهَ -قا َ فعَ ْ
ن هَ ،والّرؤَْيا ِ ّ ة بُ ْ ث :فالّرؤَْيا ال ّ َ َ
م " :الّرؤَْيا ث َل ٌ ّ
زي ِ ح ِ ن تَ ْ م ْ ن الل ِ م ْشَرى ِ ح ُ
صال ِ َ سل َ وَ َ
ه ] " ......أخرجه مسلم ح ) 2263 س ُ ف َ ُ
جل ن َ ْ ث الّر ُ حد ّ ُ ما ي ُ َ م ّ نَ ،والّرؤَْيا ِ َ
شي ْطا ِ ال ّ
( ،والترمذي ح ) ، ( 2196وقال :حديث حسن صحيح [ الحديث عند
البخاري أيضًا).(7017
ففي هذا الحديث بيان تنوع ما يراه النائم في منامه إلى ثلثة أنواع ،النوع
الول :الرؤيا الصالحة أو الصادقة ،وهي التي تكون مبشرة أو منذرة ،وقد
تكون واضحة ظاهرة ل تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم أنه يذبح ابنه في
المنام ،وقد تكون خافية تحتاج إلى عابر يعبرها ،كرؤيا صاحبي السجن مع
يوسف ،ورؤيا ملك مصر ،والنوع الثاني :رؤيا تحزين من الشيطان ،وهي ما
يدخل تحت أضغاث الحلم ،مثل أن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه ،أو يرى
أنه واقع في هول ول يجد من ينجده ،ونحو ذلك .
ن الّرؤَْيا ل " :إ ِ ّ م َقا َ ّ
سل َ َ
ه عَلي ْهِ وَ َ صّلى الل ّ ُ ل الل ّهِ َ سو ِ ن َر ُ ك عَ ْ مال ِ ٍ ن َف َب ْ ِن عَوْ ِ فعَ ْ
ج ُ
ل م ب ِهِ الّر ُ ما ي َهُ ّ
من َْها َ م ،وَ ِ ن آد َ َن ب َِها اب ْ َحُز َ ن ل ِي َ ْ َ
شي ْطا ِ ن ال ّ م ْ ل ِ هاِوي ُ
من َْها أ َ ثِ : ث ََل ٌ
َ
ن الن ّب ُوّةِ " م ْ جْزًءا ِ ن ُ ست ّةٍ وَأْرب َِعي َ ن ِ م ْ جْزٌء ِ من َْها ُ مهِ وَ ِ مَنا ِ ه ،فَي ََراه ُ ِفي َ قظ َت ِ ِ ِفي ي َ َ
] أخرجه ابن ماجه ح ) [ ( 3897
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه " :-الرؤيا ثلثة :حضور الشيطان,
40
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل ,والرؤيا التي هي الرؤيا"]أخرجه ابن
أبي شيبة).[(6/181
سولُ َ
ي إلى َر ُ راب ِ ّ وأخرج مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه -قال :جاء أعْ َ
ل إني حل َمت أ َن رأ ْسي قُطع فَأ َنا أ َ
ه ر ج زَ ف ه ع ب
ِ َ َ ِّ ُ ُ َ َ َ ُت َ ْ ُ ّ َ ِ قا َ ِ ّ م فَ َ سل ّ َ
ه عَل َي ْهِ وَ َ صّلى الل ّ ُ
الل ّهِ َ
مَنام ِ " ،ك ِفي ال ْ َ ن بِ َ شي ْ َ
طا ِ ب ال ّخب ِْر ب ِت َل َعّ ِل َل ت ُ ْ م وََقا َ سل ّ َه عَل َي ْهِ وَ َ صّلى الل ّ ُ ي َ الن ّب ِ ّ
َ
س"] ث ب ِهِ الّنا َ حد ّ ْ مهِ فََل ي ُ َمَنا ِ
م ِفي َ حدِك ُ ْ ن ب ِأ َ طا ُ شي ْ َب ال ّ وفي رواية له " :إ َِذا ل َعِ َ
أخرجه مسلم ح )[(2268
النوع الثالث :حديث النفس ،وهو أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو
يتمناه فيراه كما هو في المنام ،كمن يكون مشغول ً بسفر أو تجارة أو نحو
ذلك ،فينام فيرى في منامه ما كان يفكر فيه في يقظته .
وهذا التقسيم يدل على أنه ليس كل ما يراه النسان في منامه يكون رؤيا
صادقة تحتاج إلى تعبير ،بل منها حديث النفس ،ومنها أضغاث أحلم ،وهذان
النوعان هما الغالب على حال الكثيرين ،والله أعلم ،ومن هنا ندرك خطأ من
يسارع إلى طلب تعبير كل ما يراه في منامه ،وخطأ أيضا ً من يتصدر للتعبير،
فيقدم على تعبير كل ما يسمعه ،ولو أن الناس استحضروا ذلك لما حصل هذا
التكالب على طلب تعبير الرؤى والمنامات ،والحرص الشديد على تأويلها .
ثانيًا :الداب المشروعة إذا رأى النسان في منامه ما يكره:
)(1 /
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جملة من الداب ينبغي أن يأخذ بها من
َ
صّلى الل ّ ُ
ه ي َ رأى في منامه ما يكره ،فعن أِبي قََتاد َةَ رضي الله عنه أن الن ّب ِ ّ
حل َ َ
م ن ،فَإ َِذا َ طا ِ شي ْ َ ن ال ّ م ْ م ِ حل ُ ُ ن الّلهَِ ،وال ْ ُ م ْ ة ِ ح ُ صال ِ َ ل " :الّرؤَْيا ال ّ م َقا َ سل ّ َ عَل َي ْهِ وَ َ
ها فَإ ِن َّها َل َ
شّر َ ن َ م ْ ه ،وَل ْي َت َعَوّذ ْ ِبالل ّهِ ِ سارِ ِ ن يَ َ صقْ عَ ْ ه فَل ْي َب ْ ُ خافُ ُ ما ي َ َ حل ُ ً م ُ حد ُك ُ ْ أ َ
ما هُوَ إ ِّل ل فَ َ جب َ ِ ن ال ْ َ م ْ ي ِ ل عَل َ ّ ق َت َل ََرى الّرؤَْيا أ َث ْ َ ن ك ُن ْ ُ ة :وَإ ِ ْ م َ سل َ َ ل أُبو َ
تضره ،وَقا َ َ
َ ُ ّ ُ َ
ُ ْ َ
ما أَباِليَها " ] أخرجه البخاري ح ) ،(5747ومسلم ح ث فَ َ دي َ ح ِ ذا ال َ ت هَ َ معْ ُ س ِ ن َ أ ْ
) .[( 2261
ه َ ّ ّ َ ْ وع َ َ
ه عَلي ْ ِ صلى الل ُ ي َ معَ الن ّب ِ ّ س ِه َ ي -رضي الله عنه ، -أن ّ ُ خد ْرِ ّ سِعيدٍ ال ُ ن أِبي َ ْ
َ َ
همد ْ الل ّ َ ح َ ه ،فَل ْي َ ْ ن الل ّ ِ م ْ ي ِ ما هِ َ حب َّها ،فَإ ِن ّ َ م ُرؤَْيا ي ُ ِ حد ُك ُ ْ ل " :إ َِذا َرأى أ َ قو ُ م يَ ُ سل ّ َ وَ َ
َ َ
نشي ْطا ِ ن ال ّ م ْ ي ِ ما هِ َ َ
ه ،فإ ِن ّ َ ْ
ما ي َكَر ُ م ّ َ َ
ث ب َِها ،وَإ َِذا َرأى غي َْر ذ َل ِك ِ حد ّ ْ عَل َي َْها ،وَلي ُ َ
ْ
حد ٍ فَإ ِن َّها َل ت َ ُ َ ها ،وََل ي َذ ْك ُْر َ
ضّرهُ " ] أخرجه البخاري ح ) ها ِل َ شّر َ ن َ م ْ ست َعِذ ْ ِ فَل ْي َ ْ
.[( 6985
َ
ل" : ه َقا َ م أن ّ ُ سل ّ َ ه عَل َي ْهِ وَ َ صّلى الل ّ ُ ل الل ّهِ َ سو ِ ن َر ُ جاب ِرٍ – رضي الله عنه -عَ ْ ن َ وع َ ْ
َ َ
نم ْ ست َعِذ ْ ِبالل ّهِ ِ سارِهِ ث ََلًثا ،وَل ْي َ ْ ن يَ َ صقْ عَ ْ م الّرؤَْيا ي َك َْرهَُها ،فَل ْي َب ْ ُ حد ُك ُ ْ إ َِذا َرأى أ َ
ن عَل َي ْهِ ] " .أخرجه مسلم ح ) كا َ ذي َ جن ْب ِهِ ال ّ ِ ن َ ل عَ ْ حو ّ ْ ن ث ََلًثا ،وَل ْي َت َ َ طا ِ شي ْ َ ال ّ
[ ( 2262
َ َ ّ َ ّ ّ َ
حد ُك ُ ْ
م ن َرأى أ َ ل :فَإ ِ ْ م َقا َ سل َ ه عَلي ْهِ وَ َ صلى الل ُ ي َ ن الن ّب ِ ّ وفي حديث أِبي هَُري َْرةَ عَ ْ
س " ] أخرجه مسلم ح ) [ ( 2263 ث ب َِها الّنا َ حد ّ ْ ل وََل ي ُ َ ص ّ م فَل ْي ُ َ ق ْ ما ي َك َْره ُ فَل ْي َ ُ َ
وحاصل ما ذكر في هذه الحاديث من أدب الرؤيا المكروهة ما يأتي:
-1أن يتعوذ بالله من شرها ،وذلك لما في الستعاذة بالله من صدق اللجوء
إليه ،والعتصام به في دفع شرها ،وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر
صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة
عن إبراهيم النخعي قال " :إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره ،فليقل إذا
استيقظ أعوذ بما عاذت به ملئكة الله ورسله من شر رؤياي هذه ،أن
41
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي " ] أخرجه ابن أبي شيبة ) ، ( 5/51
وعبد الرزاق في مصنفه ) ،[ ( 11/214وعن عمر أنه كتب إلى أبي موسى:
فإذا رأى أحدكم رؤيا ،فقصها على أخيه فليقل :خير لنا وشر لعدائنا "
] أخرجه عبد الرزاق ) ، ( 11/213ورجاله ثقات [
-2أن يتعوذ من شر الشيطان ،لن الشيطان يخيل بها للتحزين والتهويل،
وقد جاء في بعض طرق الحديث أنها منه .
-3أن يتفل عن يساره ثلثًا ،ليحصل بذلك طرد الشيطان ،والستعاذة منه،
وخصت به اليسار لنها محل القذار ونحوها .
-4أن ل يذكرها لحد .
-5أن يصلي ما كتب له ،وذلك لما في الصلة من التوجه إلى الله واللجوء
إليه والستعانة به على دفع المكروه
-6التحول عن جنبه الذي كان عليه ،لما في ذلك من التفاؤل بالتحول من
تلك الحال التي كان عليها ،فهذه ستة آداب ،وزاد بعض العلماء :قراءة آية
الكرسي ،ولم يذكر لذلك مستندًا ،فإن كان أخذه من عموم قوله – صلى الله
ح" صب ِ َ حّتى ت ُ ْ
ن َ شي ْ َ
طا ٌ ك َ عليه وسلم -في حديث أبي هريرة " :وََل ي َ ْ
قَرب ُ َ
] أخرجه البخاري ح ) ، ( 3275ومسلم ح ) ،[ ( 505فيتجه ،والله أعلم .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل هذه الداب " فَإ ِن َّها َل
ضّره ُ " ،قال أهل العلم معناه أن من فعل ما أمر به مصدقا ً متكل ً على الله تَ ُ
جلت قدرته في دفع المكروه عنه ،فإنه يذهب الخوف والوجل ويندفع عنه
المكروه بإذن الله ،ويمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه ،ويكون
ذلك من السباب كما تكون الصدقة تدفع البلء ،والدعاء يمنع القضاء ،وصلة
الرحم تزيد في العمر والرزق .
قال النووي) :وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها ،ويعمل بجميع ما
تضمنته ،فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما
صرحت به الحاديث ] (...شرح النووي لصحيح مسلم ) ، [(18 /15ويغلب
على أحوال كثيرٍ من الناس اليوم إهمال هذه الداب ،والتفريط في الخذ بها،
فتجد الواحد منهم عندما يرى في منامه ما يكره ،يصيبه الخوف والهلع
والقلق ،فيسارع إلى البحث عن عابر لها يعبرها ،وعن مفسر يفسرها ،حتى
يظهر له أشر هي أم خير ،ولو وقف النسان مع هدي النبي صلى الله عليه
وسلم ،لما حصلت له هذه المعاناة والتعلق الشديد الذي أثر في نفسيات
كثير من الناس وسلوكياتهم ،واستثمرته بعض المجامع والمنتديات ،وجعلته
وسيلة لجلب الناس واستقطابهم .ثالثًا :آداب العابر
)(2 /
42
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ل:ن أ َِبي هَُري َْرةَ – رضي الله عنهَ -قا َ -1أن يكون عالما ً بهذا العلم الجليل ،فعَ ْ
َ ص الّرؤَْيا إ ِّل عََلى َ مَ " :ل ت ُ َ
صٍح عال ِم ٍ أوْ َنا ِ ق ّ سل ّ َ
ه عَل َي ْهِ وَ َ
صّلى الل ّ ُ
ل الل ّهِ َ
سو ُ َقا َ
ل َر ُ
" ] أخرجه الترمذي ح ) ، ( 2280وقال :حديث حسن صحيح [
قال القاضي عياض) :ل يعبر الرؤيا كل أحد ،ول يعبرها إل العالم بها( ] إكمال
المعلم ) ،[ ( 7/228وقال القرافي ) :ول يعبر الرؤيا إل من يعلمها ويحسنها,
وإل فليترك(
وتعبير الرؤى من المور الدقيقة التي تحتاج إلى وجود ملكة وموهبة ،وقوة
نفس لدى المعبر ،ونوع من اللهام والفراسة ،ول يحصل التمكن في التعبير
بمجرد التعلم والقراءة ،وحفظ ما يوجد في الكتب ،ولهذا لم يتأهل لتعبير
الرؤى حتى امتداد القرون إل النوادر من الناس ،بخلف العلوم والمعارف
الخرى التي تدرك بالتعلم والخذ من الكتب .
قال القرافي) :اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته ،وتشعبت
تخصيصاته ،وتنوعت تعريفاته ،بحيث صار النسان ل يقدر أن يعتمد فيه على
مجرد المنقولت ،لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين ،بخلف تفسير القرآن
العظيم ،والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم ،فإن
ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر(.
وقال) :وعلم المنامات منتشر انتشارا ً شديدا ً ل يدخل تحت ضبط ،فل جرم
احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على
الفراسة ،والطلع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء ل يكاد
يخطئ بسبب ما يخلقه الله -تعالى -في تلك النفوس من القوة المعينة
على تقريب الغيب ،أو تحققه كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما :إنه
كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق ،إشارة إلى قوة أودعه الله إياها،
فرأى بما أودعه الله -تعالى -في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة
واللطافة ،فمن الناس من هو كذلك ،وقد يكون ذلك عاما في جميع النواع،
وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط .(....
وقال) :فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير ,ول
ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم
تكن لك قوة نفس فل تجد ذلك أبدا ,ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك
بأيسر سعي وأدنى ضبط ،فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من
الناس(].ينظر :الفروق للمام القرافي)[(250-249 /4
وذكر الئمة أصول ً وضوابط لتعبير الرؤى والمنامات ،وهي موجودة في
مظانها من كتب أهل العلم ،ولكن إنما يستفيد منها من يتوفر لديه الستعداد
والموهبة لتعبير الرؤى ،والمتأمل في الواقع يجد أن هذا المجال قد اقتحمه
من ل يحسنه ،وخاض فيه من ل علم عنده ،حتى أصبح تعبير الرؤى مهنة من
ل مهنة له مع بالغ السف .
-2على العابر التثبت والتريث فيما يرد عليه ،وعدم التسرع ،والبعد عن
الجزم بما يعبر
قال ابن قتيبة – رحمه الله ) : -يجب على العابر التثبت فيما يرد عليه وترك
التعسف ول يأنف من أن يقول لما يشكل عليه ل أعرفه ,وقد كان محمد بن
سيرين إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر(.
وحدث الصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال :كنت أحضر ابن
سيرين ُيسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة .
وقال هشام بن حسان ) :كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا ،فل يجيب فيها
بشيء إل أن يقول :اتق الله وأحسن في اليقظة ،فإنه ل يضرك ما رأيت في
43
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
النوم ،وكان يجيب في خلل ذلك ،ويقول إنما أجيب بالظن ،والظن يخطئ
ويصيب(].ينظر :الداب الشرعية ) .[( 3/451
وإذا كان هذا موقف إمام المعبرين في زمانه ،فما الظن بمن جاء بعده ،لقد
توسع كثير من المعبرين في تعبير الرؤى فتجده ل يرد شيئا ً مما يرد عليه ،فل
تسمعه يقول :هذا من أضغاث الحلم ،أو من حديث النفس ،أو ل أدري .....
)(3 /
قال ابن قتيبة) :وتفهم كلم صاحب الرؤيا وتبينه ،ثم اعرضه على الصول،
فإن رأيته كلما صحيحا ًَ يدل على معاني مستقيمة ،يشبه بعضها بعضًا ،عبرت
الرؤيا بعد مسألتك الله تعالى أن يوفقك للصواب ,وإن وجدت الرؤيا تحتمل
معنيين متضادين نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب من أصولها فحملتها
عليه ,وإن رأيت الصول صحيحة ،وفي خللها أمور ل تنتظم ألقيت حشوها،
وقصدت الصحيح منها ,وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة ل تلتئم على الصول
علمت أنها من الضغاث فأعرض عنها ,وإن اشتبه عليك المر سألت الله
تعالى كشفه(.
وإذا تأملنا ما سبق من كلم أهل العلم تبين ما يحتاج إليه تعبير الرؤى من
التثبت والتريث ،وحسن التدبر ،وهذا ل يتوفر عند كثير ممن يخوض في هذا
الميدان ،ومن المور التي ينبغي الشارة إليها أن الرؤى ل يعتمد عليها في
إثبات شيء من الحكام الشرعية ،ول يعول عليها فيما يتعلق بحقوق الناس
وحرماتهم ،أو الحكم على عدالتهم ونواياهم
قال في الداب الشرعية) :قال أبو زكريا النواويُ :نقل التفاق على أنه ل
ُيغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع … .ول يجوز إثبات حكم
شرعي به ] (....الداب الشرعية ) [ ( 3/447
ن الرؤيا ل معّلمي -رحمه الله ...) : -اتفق أهل العلم على أ ّ وقال العّلمة ال ُ
جة ح ّتصلح للحجة ،وإنما هي تبشير وتنبيه ،وتصلح للستئناس بها إذا وافقت ُ
شرعية صحيحة( ] التنكيل )[ (2/242
وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله في كتابه "العتصام" -أن الخليفة المهدي
أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي ،فقال له شريك :وِلم ذلك يا أمير
المؤمنين ،ودمي حرام عليك؟! قال :لني رأيت في المنام كأني مقبل عليك
مك وأنت تكلمني من قفاك ،فأرسلت إلى من يعّبر فسألته عنها ،فقال: أكل ُ
سّر خلَفك ،فقال شريك :يا أمير المؤمنين ،إن ُ ِ ي وهو َ
طك بسا يطأ رجل هذا
فك بالحلم. رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب ،وإن دماء المسلمين ل تس َ
كس المهدي رأسه ،وأشار إليه بيده أن اخُرج ،فانصرف. فن ّ
ي- وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" أن بعضهم رأى في المنام الشافع ّ
ي يونس بن عبد العلى في حديث ،ما هذا من ب عل ّ رحمه الله -فقال له :كذ َ
ً
ت به .فقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله معلقا على هذا حديثي ول حدث ُ
الكلم) : -يونس بن عبد العلى من الثقات ،ل ُيطعن فيه بمجرد منام( .وقد
م الحصري على ت إبراهي َ
نقل الذهبي -رحمه الله -عن المروزي قال ) :أدخل ُ
أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجل ً صالحا ً فقال :إن أمي رأت لك مناما
هو كذا وكذا ،وذكرت الجنة ،فقال :يا أخي ،إن سهل بن سلمة كان الناس
يخبرونه بمثل هذا ،وخرج إلى سفك الدماء ،وقال :الرؤيا تسّر المؤمن ول
تغّره( ] .ينظر :تاريخ مدينة دمشق ) ،( 519 /47سير أعلم النبلء )
[ (11/227
44
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
تفسير الصحابة
الشيخ سعد بن عبد الله السعدان
م عظيم الشأن ،جليل القدر ،ل يستطيعه إل من فتح الله قلبه التفسير عل ٌ
سر وهو :الكشف وأنار بصيرته ،ورزقه العلم والفهم ،والتفسير مأخوذ ٌ من ال َ
ف ْ
والظهار) ،(1وفي الصطلح :علم يفهم به كتاب الله -تعالى -المنّزل على
كمه) ح َ
نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم ،-وبيان معانيه واستخراج أحكامه و ِ
.(2
ن أصحابه كان هو المرجع في ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم -ب َي ْ َ
تبيين الكتاب العزيز ،فما أشكل عليهم أو احتاجوا لبيان وتفسير آيات من
سر لهم ما سألوا عنه بكلم وتفسير القرآن هرعوا إليه وسألوه؟ فبّين وف ّ
شاف .وبعد وفاته -صلى الله عليه وسلم -واتساع البلد ودخول الناس في
السلم ،ودخول الُعجمة ،احتاج المسلمون لشرح ما لم يكن الصحابة في
عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم -بحاجة إلى شرحه من الكتاب والسنة،
فتوجهوا إلى الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لسؤالهم والستيضاح منهم.
أهمية تفسير الصحابة:
تظهر لنا أهمية تفسير الصحابة للقرآن إذا علمنا أن النبي -صلى الله عليه
وسلم -بين لصحابه معاني القرآن ،كما بين لهم ألفاظه ،ول يحصل البيان
والبلغ المقصود إل بذلك ،قال -تعالى " :-لتبين للناس ما نزل إليهم"
}النحل ،{44 :وقال" :هذا بيان للناس" }آل عمران ،{138 :وقال -تعالى
" :-وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه ليبين لهم" }إبراهيم ،{4 :وقال -
تعالى " :-فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" }الدخان ،{58 :وقال -
تعالى " :-كتاب فصلت آياته" }فصلت ،{3 :أي :بينت ،وأزيل عنها الجمال
فلو كانت آياته مجملة ،لم تكن قد فصلت ،وقال -تعالى " :-وما على
الرسول إل البلغ المبين" }العنكبوت.{18 :
وهذا يتضمن بلغ المعنى ،وأنه في أعلى درجات البيان وقد قال أبو عبد
الرحمن السلمي -أحد أكابر التابعين ،الذين أخذوا القرآن ومعانيه ،عن مثل:
45
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عبد الله بن مسعود ،وعثمان ابن عفان ،وتلك الطبقة" :حدثنا الذين كانوا
يقرؤوننا القرآن من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -عثمان بن عفان،
وعبد الله بن مسعود وغيرهما ،أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله
عليه وسلم -عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل،
فتعلمنا القرآن والعمل).(3
فالصحابة أخذوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ألفاظ القرآن
ومعانيه ،بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني من عنايتهم باللفاظ ،يأخذون
ل ،ثم يأخذون اللفاظ ،ليضبطوا بها المعاني حتى ل تشذ عنهم).(4 المعاني أو ً
وكذا إذا علمنا أن الصحابة قد سمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم -من
الحاديث الكثيرة ،ورأوا منه من الحوال المشاهدة ،وعلموا بلقوبهم من
مقاصده ،ودعوته ،ما يوجب فهم ما أراد بكلمه ،ما يتعذر على من بعدهم
مساواتهم فيه ،فليس من سمع وعلم ورأى حال المتكلم ،كمن كان غائبًا ،لم
ير ،ولم يسمع ،وعلم بواسطة ،أو وسائط كثيرة.
وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم كان الرجوع إليهم في ذلك
دون غيرهم متعينا ً قطعًا.
ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو :ما كان عليه رسول الله -صلى الله
عليه وسلم -وأصحابه ،كما شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
بذلك ،في قوله" :من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي").(5
خصائص الصحابة:
اختص الصحابة عن غيرهم بأمور منها:
-1ظفرهم بشريف الصحبة ،والخيرية المطلقة ،وفي الحديث "خير الناس
قرني ،ثم الذين يلونهم" ،وهذه خيرية مثمرة ،وليست خيرية شرف فقط.
-2مباشرتهم للوقائع والنوازل ،وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة فهم أقعد في
فهم القرائن الحالية ،وأعرف بأسباب التنزيل ،ويدركون مال يدركه غيرهم،
بسبب ذلك ،والشاهد يرى ،مال يرى الغائب).(6
-3عاصروا وشهدوا ما قبل الوحي ،أي الجاهلية ،والقرآن جاء ليهدم الجاهلية
"إنما النسيء زيادة في الكفر" }التوبة.{37 :
-4مصاحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم ،-وملزمتهم له ،والتتلمذ
على يديه ،والتعلم منه مباشرة ،وسؤاله لكل ما يدور بينهم.
-5أنهم عرب خلص ،وهي كافية عن غيرها ،والقرآن نزل بلغتهم .حتى إن
اليهود كانوا يجيدون العربية ،ويقولون الشعر أيضًا.
وهناك صفات اشترك فيها الصحابة مع غيرهم ،كالصدق في القول ،والتثبت
في نقل الخبار ،والحرص على نشر العلم ،والخروج في سبيل الله .وهي
تدخل في الخيرية.
موقع تفسير الصحابة:
تفسير الصحابة مقدم على تفسير غيرهم لما تقدم من المور الخمسة
ويكفي أحدها .ولشك أننا إذا لم نجد تفسيرا ً في الكتاب والسنة نتجه لتفسير
الصحابة.
-ولبد من إخراج ما كان خارج دائرة الجتهاد ،فنخرج:
-1ما كان في حكم المرفوع.
-2أسباب النزول.
وهو مما ل مجال للجتهاد فيه.
ويلحظ أن تفسير الصحابة أصابه ما أصاب غيره من التفسير المرفوع ،وذلك
46
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
وقع بين الصحابة بعض الختلفات في التفسير ،وهو قليل جدًا ،وأسباب قلة
الختلف بين الصحابة في التفسير ما يلي:
-1وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم -بينهم ،فقد كانوا يرجعون إليه عند
اختلفهم ،فيزيل ما لديهم من تساؤل ونحوه.
-2وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم -ينهاهم عن الخلف في القرآن.
-3سعة علم الصحابة في العلم الشرعي ،ومعرفتهم باللغة وأساليبها،
ومعانيها).(7
-4تأثير العصر عليهم ،قال شيخ السلم" :كان النزاع بين الصحابة في
تفسير القرآن قليل ً جدا ً وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة ،فهو
قليل بالنسبة إلى من بعدهم ،وكلما كان العصر أشرف كان الجتماع
والئتلف ،والعلم ،والبيان فيه أكثر").(8
ومع قلة الختلف بين الصحابة في تفسير القرآن فإن أغلبه يرجع إلى
اختلف التنوع ،ل إلى اختلف التضاد ،وهو أيسر أنواع الختلف.
أنواع اختلف التنوع:
يرجع اختلف السلف في التفسير إلى أنواع معدودة ،منها:
ل :أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المعنى المراد بعبارة غير عبارة أو ً
صاحبه ،تدل على معنى في المسمى غير المعنى الخر ،مع اتحاد المسمى،
ومثال ذلك في التفسير" :الصراط المستقيم" قيل :العبودية .وقيل :الطاعة.
فهذه القوال كلها تدل على ذات واحدة ،لكن وصفها كل منهم بصفة من
صفاتها).(9
الثاني :أن يذكر كل مفسر من السم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل،
وتنبيه المستمع على النوع ،ل على سبيل الحد المطابق للمحدود ،في عمومه
وخصوصه.
ومثال ذلك :ما نقل في قوله" :ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات" }فاطر.{32 :
فمن المفسرين من قال :السابق :الذي يصلي في أول الوقت .والمقتصد:
الذي يصلي في أثنائه.
والظالم لنفسه :الذي يؤخر العصر إلى الصفرار.
-ومنهم من قال:
السابق والمقتصد والظالم ،قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر
المحسن بالصدقة ،والظالم بأكل الربا ،والعادل بالبيع.
-ومنهم من قال :السابق ،المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات ،والظالم
آكل الربا ،أو مانع الزكاة ،والمقتصد :الذي يؤدي الزكاة المفروضة ،ول يأكل
الربا ،وأمثال هذه القاويل).(10
ً
فكل قول من هذه القوال ،إنما يذكر نوعا مما يتناوله نص الية لتعريف
المستمع ،وتنبيهه على نظائره ،ول يضاد ما ذكره غيره.
الثالث :ما يكون في اللفظ محتمل ً للمرين.
ومثاله :لفظ" :قسورة" فإنه يراد بها :الرامي ،ويراد بها :السد.
ولفظ" :عسعس" يراد به :إقبال الليل وإدباره.
47
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
-7قلة الجماع ،بمعنى :أن كل صحابي إذا سئل يجيب بما يفهمه ،ولول الفهم
لما تميز من الصحابة مفسرون.
-8خلو تفسير الصحابة من الشوائب العقدية ،وهذا ما حصل فيه الجماع،
وكذلك كان عند التابعين.
حجية أقوال الصحابة في التفسير:
أو ً
ل :تحرير محل النزاع:
48
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
قال الشاطبي :أما بيان الصحابة ،فإن أجمعوا على ما بينوه فل إشكال في
صحته ،كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين ،المبين لقوله -تعالى :-
"وإن كنتم جنبا فاطهروا" }المائدة.(19){6 :
وكذا إن كان ما يفسره الصحابي مما ل مجال فيه للجتهاد ول منقول ً عن
لسان العرب فحكمه الرفع ،كالخبار عن المور الماضية ،من بدء الخلق،
وقصص النبياء ،وعن المور التية :كالملحم ،والفتن ،والبعث ،وصفة الجنة
والنار ،والخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص ،أو عقاب مخصوص فهذه
الشياء ل مجال للجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع).(20
وكذا إن كان ما فسره الصحابي في تفسير يتعلق بسبب نزول آية محكمة
الرفع أيضًا).(21
ثانيًا :الخلف في المسألة:
المذهب الول :ذهب بعض أهل العلم إلى :أن تفسيرهم في حكم المرفوع.
قال أبو عبدالله الحاكم في مستدركه :وتفسير الصحابي عندنا في حكم
المرفوع.
ومراده :أنه في حكمه في الستدلل به والحتجاج).(22
-قال الحافظ ابن حجر :أطلق الحاكم النقل عن البخاري ومسلم أن تفسير
الصحابي -رضي الله عنه -الذي شهد الوحي ،والتنزيل ،حديث مسند).(23
-وقال ابن القيم :نص المام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة
في تفسير القرآن ،إذا لم يخالفه غيره منهم.
ثم من أصحابه من يقول هذا قول واحد ،وإن كان في الرجوع في الفتيا،
والحكام ،إليه ،روايتان ،ومنهم من يقول الخلف في الموضعين واحد).(24
-وقال المام أحمد ،في معرض رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني ،في
مسألة اليمان :وأن تأويل من تأول القرآن بل سنة ،تدل على معناها ،أو
معنى ما أراد الله -عز وجل ،-أو أثر عن أصحاب الرسول -صلى الله عليه
وسلم ،-ويعرف ذلك :بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أو عن
أصحابه ،فهم شاهدوا النبي -صلى الله عليه وسلم ،-وشهدوا تنزيله ،وما
قصه له القرآن ،وما عني به ،وما أراد به ،وخاص هو أو عام ،فأما من تأوله
على ظاهره بل دللة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم ،-ول أحد من
أصحابه ،فهذا تأويل أهل البدع.(25)...
-وقال شيخ السلم ابن تيمية :إذا لم نجد التفسير في القرآن ،ول في
السنة ،رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ،فإنهم أدرى بذلك ،لما شاهدوه
من القرآن ،والحوال ،التي اختصوا بها ...لسيما علماؤهم ،وكبراؤهم كالئمة
الربعة ،والئمة المهديين ،مثل :عبدالله بن مسعود.(26) ...
-وقال كذلك في موطن آخر :وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن والحديث،
وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة ،والتابعين ،فهو مفتر على
الله ،ملحد في آيات الله ،محرف للكلم عن مواضعه).(27
-وقال أيضا ً في موضع آخر :ولهذا جعل )أي المام أحمد( الحتجاج بالظواهر
مع العراض عن تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم ،-وأصحابه طريق أهل
البدع).(28
وقد رجح هذا المذهب الدكتور :محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير
والمفسرون).(29
المذهب الثاني :قال أبو عمرو الداني :إذا فسر )الصحابي( آية تتعلق بحكم
شرعي ،فيحتمل أن يكون ذلك مستفادا ً عن النبي -صلى الله عليه وسلم ،-
وعن القواعد ،فل يجزم برفعه ،وكذا إذا فسر مفردًا ،فهذا نقل عن اللسان
49
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
خاصة ،فل يجزم برفعه ،وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من
كبار الئمة ،كصاحبي الصحيح ،والمام الشافعي ،وأبي جعفر الطحاوي ،وأبي
بكر بن مردويه في تفسيره المسند والبيهقي ،وابن عبدالبر في آخرين).(30
________________________
*الهوامش:
-1تهذيب اللغة للزهري ).(407/12
-2البرهان للزركشي ) (13/1والتقان للسيوطي ).(174/2
-3أخرجه ابن أبي شيبة ) (29920وأحمد ) (410/5والفريابي في فضائل
القرآن ) (169بإسناد صحيح.
-4مختصر الصواعق المرسلة لبن القيم ) (511-510بتصرف ،ط دار
الحديث ،ت سيد إبراهيم.
-5المصدر السابق ص.(516) :
-6الموافقات للشاطبي ) (251/3ت عبدالله دراز.
-7بحوث في أصول التفسير ومناهجه د .فهد الرومي ).(41
-8مجموع الفتاوى ).(332/13
-9المصدر السابق ).(336/13
10المصدر السابق ).(337/13
-11المصدر السابق ).(340/13
-12المصدر السابق ).(343/13
-13البرهان للزركشي ).(160-159/2
-14بحوث في أصول التفسير للرومي ).(21
-15المصدر السابق ) ،(21والحديث أخرجه أحمد في المسند ).(387/3
-16المصدر السابق ).(21
-17المصدر السابق ).(22-21
-18إعلم الموقعين لبن القيم ).(150-149/4
-19الموافقات ).(251/3
-20النكت على كتاب ابن الصلح ،لبن حجر ) (531/2ط دار الراية.
-21تدريب الراوي للسيوطي ) (215/1ط مكتبة الكوثر.
-22إعلم الموقعين ).(153/4
-23النكت على كتاب ابن الصلح ).(531/2
)(3 /
)(4 /
50
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
51
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
52
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
على أمر بالغ الخطورة وهو أن الخسر في الطريق ذاته في نفس الطريق ،
أي في الحالة التي يكون فيها النسان ،فإذا مشيت مع اليات وجدت قول
الله تعالى ) إل الذين آمنوا ( هذه واحدة ) وعملوا الصالحات ( هذه الثانية
) وتواصوا بالحق ( هذه الثالثة ) وتواصوا بالصبر ( هذه الرابعة ،هذه
الوصاف الربعة إذا تحققت في النسان فهو ليس في خسر ،وبالتالي فهو
غير خاسر .ماذا يريد الله أن يقّر في الذهان ؟ يريد أن يضع أمام النسان
صورة عامة للنسانية ،هذه الصورة العامة ذات طريقين ،الطريق الول :
هو النسان من حيث هو إنسان ،غير مستند إلى وحي ،ول تابع إلى نبوة ،
فهو في النهاية خاسر إذا لم يأخذ بشريعة السماء .الطريق الثاني :الذي
تشير إليه السورة وهو طريق النبوات ،أي الذي يتحقق فيه اليمان بالله
ويتبعه العمل الصالح والتواصي بالحق والصبر .
)(1 /
ومسألة إلقاء كلم من هذا النوع في ذلك العصر ـ عصر الرسالة ـ أن يرد ّ
على اللغط الذي أثارته قريش وكذلك أثارته جميع من بلغته الدعوة ،
وللسف هذا اللغط يتردد على مّر العصور ،فحيثما لم يفطن الناس لكتاب
الله تعالى ،وحيثما ناديت الناس إلى أن يأخذوا بطريق الله ..كثر اللغط
مرة أخرى بل ومرات كثيرة .قريش في ذلك الزمن البعيد كانت تقارن بين
شخص محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الزعامات ،بل إن المقارنة
امتدت إلى الماضين الذين ماتوا ،فقالوا له :أأنت خير من غالب أو من فلن
أو فلن ..من أجداده ؟ وسألوه :هل دينك خير من اليهودية أو خير من
النصرانية ؟ هل دينك خير من البراهيمية الحنيفية التي آمنت بها العرب ؟
مثل هذا الكلم كان موجودا ً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ،وكذلك
تردد مثله عبر العصور ،وهو اليوم يردده بعض المتنطعين في المحافل وعلى
صفحات الجرايد والمجلت وبطون الكتب .الله عز وجل يأتي بالقسم في
السورة ليؤكد أن أي طريق أو أي سبيل يأخذه النسان ويلتزم به فنتيجته
الخسران وعقيدته دمار .وأن سلمة النسان في هذه الحياة مشروطة بما
ذكره الله في السورة :اليمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر
.فل اليهودية ول النصرانية المحرفتان تستطيعان أن تقدم الهدوء والسلمة
وعزة النفس في الدنيا والخرة للنسان .
فالله جل وعل ذكر هذا الكلم ليبين للناس من بداية الطريق ،طريق السلم
عن غيره من الطرائق ،إن كل جهود النسانية ذاهبة إلى دمار وخسارة ،
وإن الشيء الوحيد الذي يبقى ل يعتوره خراب ول يلحق به دمار ،وهو الذي
جمع هذه الشرائط الربعة التي ذكرناها في السورة ،ما هي ؟ الذين آمنوا
وعملوا الصالحات والذين تواصوا بالحق والذين تواصوا بالصبر .فيجب أن
نتعرف على الخصائص الجتماعية الموجودة في هذه السس الربعة ،إن
النسان قد يقبل بضرورة اليمان وهو فرد ولكن حينما يتحول المر لكي
يكون عمل ً صالحا ً وتواصيا ً بالحق وتواصيا ً بالصبر فهو عمل فريق ،عمل
مجموع ،فكلمة ) الذين آمنوا ( جاءت هنا لتشير إلى الفرق الساسي بين
طريق السلم وغيره من الطرق ،لنه من الواجب على هذه النسانية أن
تضع مقادتها بين يدي الله تعالى وأن توفر على نفسها هذه الجهود الطويلة
وهذه المتاعب التي ل نهاية لها .
في عصرنا الحاضر ،كانت النسانية مرت بتجارب مرة وتضحيات بل حصر ،
53
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
استطاعت أن تصل إلى درجة من السلم الحضاري ،ظن الناس قبل الحرب
العالمية الولى أنها يمكن أن تساعد على تطوير الجنس البشري وعلى منح
المجتمع النساني هذه الستقرار الذي تنشده ،وقبل فواتح هذا القرن
العشرين ظهر في التفكير النساني أفكار جديدة كالحريات العامة والدعوة
إلى الخذ بالمناهج الديمقراطية التي تمنح المواطن حق المواطنة ثم وضعت
المور موضع التطبيق بين الناس ،ولكن ما أكثر غرور النسان ،فقد أوصلته
هذه الحريات المزعومة والفكار المضللة المنقطعة عن الله إلى حربين
عالميتين طاحنتين كادتا أن تبيدا الجنس البشري برمته ،والسبب هو أن
النسان الغربي لم يربط هذه الحريات بأخلق الديان السماوية التي تفرض
على النسان أن يعامل أخاه النسان بأفضل ما يعامل به نفسه .فكان هناك
شرخ عميق بين أهل الرض وشريعة السماء ،سواء كان ذلك في أوروبا
وأمريكا أو في روسيا الشيوعية الكافرة .
فإذا ً نحن مع الجهد البشري نسير في طريق أوله جهل وآخره خراب ،ومن
الخطأ ومن المغامرة التي ل تؤمن نتائجها أن نستمر في هذا الطريق ،ومن
شاء دليل ً على ذلك فلينظر إلى رقعة العالم ،فسواء قلنا كالديمقراطيات
الغربية توفر للنسان حرية التعليم وغير ذلك ،وسواء قلنا إن الديمقراطية
الشرقية المتمثلة بالشيوعية التي تحرر العامل والفلح من سلطة المعمل
ومن سلطة القطاع ،فنحن نريد منكم أن تلتفتوا إلى الحالة التي فيها المة
العربية ،الستعمار الغربي استعمر بلدنا ثم خرج وما تزال أصابعه موجود
بيننا تنهب خيراتنا ،وبرغم هذه الدعاوي العريضة أننا ملكنا التحرر ،ولكن
أتساءل عن الديمقراطيات الشعبية وماذا فعلت بنا ؟ كم من معارك خضناها
على تطمينات وعلى وعود ومواثيق ؟ وحين جرت المعارك تبين أن يد
الصديق في يد العدو ضدنا .وكم من مرة غررنا بزهرة شبابنا هؤلء الذين
تعبنا عليهم وأنفقنا عليهم ودفعنا المليين لكي يكون الطيار طيارا ً ،وسائق
الدبابة لكي يكون قادرا ً على قيادة دبابته ،فاكتشفنا ـ مع السف وبعد فوات
الوان ـ أن الموازنة الدقيقة في السلح كانت تقوم بين المعسكرين
المتصارعين ،والنتيجة أن تقع على رؤوسنا .
فالله جل وعل حين يصف النسان والجنس النساني أنه في خسر ،أي أن
الطريق الذي يرسمه النسان لنفسه دون أن يأخذ بوحي السماء سيكون في
خسر ،ويضعنا في طريقه طريق اليمان .وتبين لنا ذلك من خلل المجتمع
ونه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة. الذي ك ّ
)(2 /
الله جل وعل يربط بين اليمان والعمل ،اليمان شعور بالقلب ،ول قيمة
لليمان إن لم يفض على الجوارح بالعمل الصالح .لهذا جاء الكلم بعد ذلك )
إل الذين آمنوا ( وعطف عليه ) وعملوا الصالحات ( فل بد أن يكون إيمانك
منتجا ً وحيويا ً وفاعل ً ،أما التصورات والخواطر التي تجول في الرؤوس دون
أن ينتج شيئا ً فهذا ل شأن لنا به .إننا كبشر نعيش في مجتمعنا ،وحين
نتعامل مع بعضنا ل بد أن تكون علمات اليمان ظاهرة بيننا تسير حياتنا كي
نعيش في سلم وطمأنينة .وهذا يكون في سائر مناحي الحياة :التعامل بين
الناس في بيعهم وشرائهم ،في أخلقهم ...
ثم الله جل وعل يدعو المؤمنين بالتواصي بالحق ،لن النسان حين يعيش
حالته الجتماعية أمامه نماذج من الناس ،فقد يخيب أمله في زيد من الناس
54
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
،كل هذه المور تترك في نفسه انطباعات قد تكون في البداية سهلة ،لكنها
مع الترسبات والتراكمات تكثر حتى يجد النسان نفسه في لحظة من
اللحظات متضايقا ً جدا ً من هذه النماذج الموجودة أمامه ،ولكن حين يتواصى
هذا النسان مع إخوانه بمعاني الحق والفضيلة عن طريق التناصح يذهب كثير
مما في النفس من الشحناء والبغضاء تجاه الخرين .
) وتواصوا بالحق ( ما هو هذا الحق ؟ حين نعود إلى كتب التفاسير القديمة
نجد أن كلم السلف رضوان الله عليهم ينصب على محورين ،أن هذا الحق
هو القرآن أو الدين ) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ( ) إنا أنزلنا إليك الكتاب
بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ( والله جل وعل سمى نفسه الحق
) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ( ،
فمسألة الحق ليست هينة ،الحق هو الذي قالت به السماوات والرض .
ولهذا كانت الوصايا في القرآن الكريم مترادفة ومشددة بالوقوف مع الحق )
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ( يعني الحق ) شهداء لله ولو على
أنفسكم أو الوالدين والقربين ( جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :
اللهم إني أسألك كلمة الحق والعدل في الرضى والغضب .وصفة المسلم
الذي هو لبنة ثمينة وصالحة في المجتمع النساني أنه مع الحق دائما ً .ولهذا
حينما سئل علي كرم الله وجهه عن بعض المور أجاب هذا الجواب المحكم :
ل تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله .بعض الناس يحسن
الظن ببعض الناس فيرى أن كل كلم يقوله حق ،ويرى أن كل تصرف يصدر
عنه أنه حق ،وهذا خطأ لن الحق قيمة ،وهذه القيمة محددة تحديدا ً قاطعا ً
بكلم الله تعالى وكلم رسوله صلى الله عليه وسلم .فمن أخذ بهذا كان
على الحق ،ومن لم يأخذ بهذا فهو ليس على الحق كائنا ً من كان .ولهذا
فواجب المجتمع أن يتواصى بالحق ،ولحظوا كلمة ) وتواصوا بالحق ( أي
التواصي هنا مشترك بين مجموعة ،أي أن الجميع يشترك بالتواصي .فكل
واحد أوصى الخر ،فحينما نسمع ربنا يصف المجتمع المسلم بأن أعضاءه
هم الذين تواصوا بالحق معنى ذلك أن كل واحد منهم يعتبر نفسه حارسا ً لهذا
الحق .ومن الضروري أن يقوم الكل بالتواصي بين الجميع .فالصيغة في
الية ل تختص بفرد وإنما بالكل الذين هم قوام المجتمع .
يا إخوة ..إن قول الحق شديد وله تكاليف ،جّرب نفسك في أي موقف
صغير أو كبير ،وجّرب نفسك أن تقف مع الصواب ومع الحق متجردا ً من
النوازع والهواء والشهوات والرغبات ،ومتجردا ً من القرابة والصداقة
والمصلحة ومن أي شيء ،ما أثقل هذا وما أشد هذا ؟ فهذا الدين أثقل
شيء عرفته النسانية ،إن هذا الدين كما وصف الله ) إنا سنلقي عليك قول ً
ثقيل ً ( فالحق أمانة في أعناق المسلمين يؤدونها كما يؤدون هذه التكاليف ،
إذا لم يصبروا على مواقف الحق ويتحملوا كل التكاليف التي تنتج عن
الوقوف مع الحق فإن العواقب ستكون وخيمة في الدنيا قبل الخرة .إن
كثيرين منكم ومن هذه المة أعفوا أنفسهم منذ زمن بعيد من الوقوف
مواقف الرجال ومن التحلي بشجاعة الرجال ،لكن الذين جّربوا هذا الطريق
قات لم يثنهم الوقوف مع الحق .إن الله تعالى حين وعرفوا ما فيه من المش ّ
ينزل عليكم هذه السورة ليس من أجل أن تقرأون ألفاظها وتترنمون
بإيقاعاتها ،ولكن من أجل أن تعيشون بمعانيها وتتمثلونها في حياتكم .
من بين حروف السورة تستطيع أن تستشف صورة المسلم المتجرد لله
وواقفا ً مع الحق ،وتستطيع أيضا ً أن تستشف صورة المجتمع المسلم ،ذلك
وام على الحق ،الحارس لمعاني العدالة على هذه الرض . المجتمع الق ّ
55
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
من بين السطور تستطيع أن ترى كم هي التكاليف الباهظة التي يتحمل هذا
المجتمع المسلم الذي ولد حول محمد صلى الله عليه وسلم وتحرك
بحركته .كم من الدماء سالت من أجل الحق ؟ ل لمغنم ول لمطمع ،ولكن
من أجل أن تسود كلمة الله ،ولكي يعيش الناس على الرض بسلم .
غالب المة أعفت نفسها من الوقوف مع الحق ولكن الله لن يضيع هذه المة
،وسيهيئ لها من يقف موقف الرجال الذين ل يهابون الموت في سبيل هذا
الحق .
)(3 /
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب
العالمين .
)(4 /
56
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التطلع ،فقديما ً جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مسهم
العذاب الليم ونال منهم التشريد وأصابتهم المسغبة واستولى عليهم الرعب
وجلسوا يفكرون في قدر الله وفي هذه الخطوب التي تنال منهم ،شكوا إلى
قائدهم ونبيهم وأعرف الخلق بطريق ربهم جل وعل :يا رسول الله قد ترى
سك منه الجانب الكبر ،أفل تدعو ما نحن فيه مما ل يخفى عليك ،بل مما م ّ
الله لنا ؟ أفل تستنصر لنا ؟ كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو
يقدر غاية التقدير هذه التطلعات المشروعة في النفس النسانية ،كان رده
رد القانون اللهي الذي ل يحابي ول يدغدغ عواطف النسان ول يجازف
بالموعودات التي ل تقبل التحقيق ،كان رده :إنكم تستعجلون .وغريب في
هذا العصر أن يقال هذا الكلم لمة قطعت في طريق التربية والنصهار في
بوتقة التجربة مراحل وأشواطا ً لو كدحت اليوم النسانية كدحها عشرات
السنين ومئات السنين ما بلغتها ول معشارها ،غريب أن يقال هذا ،ولكن
هذا إشارة مبنية على قاعدة منصوصة في الكتاب الكريم أن النبيين
يطاردون ويشردون وينال منهم الضيم ويمسهم الذى ويزلزلوا حتى يقول
الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ إلى الدرجة التي يبلغ الضيق فيها
وانتظار الفرج مبالغه النهائية من نفس النبي المرسل الذي يأتيه الوحي
ويصبحه ويمسيه ،يبلغ هذا التطلع ) متى نصر الله ( .إن هذا يفيد جدا ً ،في
هذا الحسم الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ،درس لهم
وللجيال :إنكم تستعجلون .
السلم قضية عظمى وقضية خطيرة ،وبناء السلم ليس أماني ) ليس
بأمانيكم ول أماني أهل الكتاب ( ،بناء السلم لبنة من وراء لبنة ،وقطرة دم
تليها قطرة دم ،وآهة تصعد من كبد حرة تليها آهة شبيهة بها أو أحر منها ،
كل شيء في مكانه وكل شيء في زمانه ،ولعل من أصوب ما يقوله قائل
في هذه اليام :حذار حذار ،إن إغراءات ل حصر لها قد تدفع ببعض الناس
إلى مغامرات طائشة ل تدري نتائجها ،ولكنها على كل حال تحمل في
أطوائها الدمار أشد الدمار ،وما ذلك جبن عن مواجهة الخطار ولكن
استعجال في الخطى قبل استكمال الستعداد ،ومحاولة لوضع السقف على
بناء لم تشيد أركانه بعد ،هذا ما يجب أن نتنبه إليه ونحن نواجه القضايا التي
تضعها السورة في المكان المناسب من التنزيل وسياق الحركة في أبكر
عصور التاريخ السلمي وتجربته الولى .
)(1 /
يقول الله تعالى ) والفجر ،وليال عشر ،والشفع والوتر ،والليل إذا يسر ،
هل في ذلك قسم لذي حجر ،ألم تر كيف فعل ربك بعاد ،إرم ذات العماد ،
التي لم يخلق مثلها في البلد ،وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ،وفرعون
ذي الوتاد ،الذين طغوا في البلد ،فأكثروا فيها الفساد ،فصب عليهم ربك
سوط عذاب ،إن ربك لبالمرصاد ( ينتهي إلى هنا جزء مهم من السورة يبرز
واقعا ً تاريخيا ً كان ثمرة طبيعية لعلن الدعوة والجهر بها ثم تمضي السورة
في مناٍح ،الذي ل يعرف طريقة القرآن في البناء يعجب لها ويظنها مفككة ل
رابط بينها ول جامع ،ولكنها في الحقيقة يأخذ بعضها برقاب بعض .
) فأما النسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ،وأما إذا ما
ابتله فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ،كل ( ..أي :ليس المر كما
تتصورون ) كل بل ل تكرمون اليتيم ،ول تحاضون على طعام المسكين ،
57
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ما ً ،وتحبون المال حبا ً جما ً ،كل إذا دكت الرض دكا ً دكا ً
وتأكلون التراث أكل ً ل ّ
،وجاء ربك والملك صفا ً صفا ً ،وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر النسان وأنى
له الذكرى ،يقول يا ليتني قدمت لحياتي ،فيومئذ ل يعذب عذابه أحد ،ول
يوثق وثاقه أحد ،يا أيتها النفس المطمئنة ،ارجعي إلى ربك راضية مرضية ،
فادخلي في عبادي ،وادخلي جنتي ( إلى هنا تنتهي السورة ،وما من سبيل
إلى أن نقف عند حصاد الفجر ،قبل أن نحل سياق السورة وقبل أن نترجم
هذه السورة إلى اللغة المعتادة التي يتحدث بها الناس اليوم ،وللسف
نعيش في زمن يحتاج القرآن إلى ترجمة من العربية إلى العربية وهذا من
أعجب ما يكون .
و) الفجر ( هذه الصياغة قسم لجملة من القسام ،والمقسم به هو الفجر ،
والفجر المقسم به هو هذا الفجر المعروف بين الناس والذي دلت عليه
العرب بهذه اللفظة المفردة ،الفجر هو بداية انطلقة النهار وانحسار الليل .
والليال العشر ،اختلف تراجمة القرآن في تأويلها فيذهب بعضهم إلى أنها
العشر الواخر من رمضان ويسندون ذلك على أن العشر الواخر من رمضان
كانت الوقت الذي نزل فيه القرآن ) شهر رمضان الذي ُأنزل فيه القرآن
هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ( ويستندون في هذا ل إلى أثر ولكن
من معنى من معاني القسم وهو أن القسم لكي يستجمع أسبابه الذي
تسوغه وتبرره ل بد أن يكون بشيء عظيم يتضمن خرقه انتهاك هذا الشيء
العظيم ،وشيء عظيم أن يقسم بالظرف والزمن الذي كان بداية لهذه
الدعوة النبوية ،وشيء يتساوق مع البداية وهي القسم بالفجر أن يقسم
بفجر الدعوة المحمدية ،فيكون القسم بالليالي العشر منصب على العشر
الواخر من رمضان .ويقول بعضهم :المراد هنا العشر الوائل من ذي الحجة
وهي التي يكون فيها عمل الحج ،وكما تعلمون فإن الحج واحدة من فرائض
السلم وأحد أركانه الخمسة ،عليها يقوم شيء مهم من المور التي لحظها
السلم في تقرير هذه الفريضة ،وقيل غير ذلك ل نهتم له وإنما نقرر أن
المراد قد يكون هذا وقد يكون غيره ولكنه على كل حال قسم بليال عشر
كما جاء ذلك موصوفا ً ومنطوقا ً في هذه الية تتضمن فضيلة مخصوصة ل
ضير أن تكون العشر الواخر من رمضان أو تكون العشر الوائل من ذي
الحجة أو تكون العشر التي أتم فيها لموسى ميقاته وهي العشر المكملة
للربعين والتي قال عنها الله ) وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر
فتم ميقات ربه أربعين ليلة ( ل ضير أن يكون هذا أو هذا أو ذاك ،فالمهم هو
انصباب القسم على أمر عظيم .
) والشفع والوتر ( الوتر في كلم العرب هو الفرد ،والشفع هو الفرد الخر
الذي ينضم إلى فرد مثله فيشفعه ،فهنا شفع ووتر وهما هنا مطلقان ما
بينتهما الية ول نصصتهما فذهب الذاهبون طرائق قددا ً في تأويل ذلك ،قال
قائلون :الشفع هو الخلق كله ،والوتر هو الله جل وعل ،لنه الخلق كله
شفع ،أرض وسماء فهما شفع ،ليل ونهار وهما شفع ،ذكر وأنثى وهما شفع
،ولو ذهبت على ضوء الكشوف العلمية لتبين لنا أن الكون كله يتألف من
شيئين يتناقضان ولو في الظاهر .وقال قائلون بأن المراد بالشفع والوتر
الصلة فالصلة منها شفع كصلة الصبح والظهر والعصر والعشاء فهي
صلوات ثنائية أو رباعية وهي من هذا القبيل شفع ،أو هي وتر كصلة
المغرب التي هي ثلث ركعات ،وأيا ً ما كان فسواء كان القسم منصبا على
ً
المخلوقات باعتبارها كل ً ،وعلى الخالق باعتباره موجدا ً أو كان منصبا ً على
هذه الفريضة أو على غيرها من الفرائض فما من شك في أن القسم واقع
58
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في مكانه مستجمع لشرائطه إذ هو قسم بأمر عظيم وشيء مقدس يتضمن
الخلل به انتهاك هذا الشيء العظيم .
)(2 /
سرى هو الشد ّ والمشي من آخر الليل ، ) والليل إذا يسر ( والسريان وال ّ
والشارة هنا واضحة لمن يتبصر ،ل يقال لحد أنه أسرى أو سرى وأنه تحمل
السرى في الليل إل إذا كان مشيه من آخر الليل فهو على شرف الفجر
بانتظار انبثاق النور والضياء ،هذا الليل المشخص هنا كأنما هو شبح يتجرد
من هذا الليل كله ليسير ضمن هذا الليل ضمن نفسه إلى غاية هو مدركها ل
محالة أن ينشق الفجر وينقضي الليل ،لعلها تحمل معنى التضمين لذلك
الجيل العظيم الذي سمع أول مرة هذا الكلم وهو يكابد من الجاهلية ليل ً
طويل ً ثقيل ً ،ولعل هذا الليل بهذه المثابة وعلى هذا النحو من التشخيص
والتصوير يحمل العزاء كل العزاء لهؤلء الذين ينبثون اليوم وقبل وبعد في
مشارق الرض ومغاربها ،يعملون لله ولنهاض هذه المة من كبوتها ،
يكابدون ويجاهدون من هذه الجاهلية المحدثة ليلها الطويل الثقيل ،لعله
يحمل أيضا ً مثل هذه البشارة المطمئنة أن هذا إلى انقضاء ،وأن عاقبة
سام .
السرى إلى فجر ينشق عن نور مبين وصبح ب ّ
)هل في ذلك قسم لذي حجر( تساؤل في موضعه ،والحجر هو العقل
وسمي العقل حجرا ً لنه يحجر النسان عما ل ينبغي ويرده عما ل يليق ،ومن
هنا يقال حجر القاضي على السفيه أي منعه من أن يتصرف بأمواله تصرفا ً
يعود بالضرر عليه وعلى المجتمع ) ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله
لكم قياما ً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قول ً معروفا ً ( فذو الحجر هو
ذو العقل ) هل في ذلك قسم لذي حجر ( وما في النية أن أفصل لكم عن
مدلولت الستفهام في قواعد اللغة وفقه العربية ولكني أحب أن أقول لكم
إن هذا اللون من الستفهام يسمى استفهاما ً تقريريا ً أي أنه جاء يقرر ويثبت
دقت ؟ الشيء الذي سبقه كما تقول :والله ل أفعل كذا ول أفعل كذا هل ص ّ
دقني .فسؤال القرآن هنا ) هل في ذلك قسم لذي تريد أن تقول له :ص ّ
حجر ( يعني بالضبط إن هذا القسم الذي مّر وانقضى بالفجر وبالليالي العشر
وبالشفع والوتر وبالليل إذا يسر فيه غنى ومكتفى لذي اللب ولذي العقل
الذي يدرك أن المقسم وهو الله جل وعل يقسم بآيات بينات ملموسات من
آياته الباهرة الدالة على عظمته ووحدانيته وقدرته وقهره وجبروته ) هل في
ذلك قسم لذي حجر ( .
)(3 /
لحظوا معي ..والخطاب هنا يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ) ألم تر
كيف فعل ربك بعاد ،إرم ذات العماد ،التي لم يخلق مثلها في البلد ،وثمود
الذين جابوا الصخر بالواد ،وفرعون ذي الوتاد ،الذين طغوا في البلد ،
فأكثروا فيها الفساد ،فصب عليهم ربك سوط عذاب ،إن ربك لبالمرصاد (
من هؤلء ؟ بل قبل أن نتساءل من هؤلء الناس علينا أن نتساءل :هل في
الصياغة خلل ظاهري ؟ نحن نعرف أن حق الكلم يقتضي أن يكون للقسم
جواب ،ولو أننا أخذنا الكلم على ما يقتضيه ظاهر القول مع حذف وسيلة
البلغة التي تعمل هنا عملها المقصود بالذات لكان حقا ً أن يقال :والفجر ..
59
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إلى آخره ،ليفعلن الله كذا وكذا بقومك المكذبين هؤلء كما فعل ذلك بعاد
وبثمود وبفرعون ذي الوتاد ،ولكنا نلحظ أن القسم هنا يخلو تماما ً من
جواب القسم ،لقد طواه السياق طيا ً ولم يعرض له ل تصريحا ً ول تلميحا ً ،
وأنا أقول ل تصريحا ً ول تلميحا ً مع علمي بأن معظم المفسرين من قدماء
ومحدثين يذهبون إلى أن جواب القسم ملمح عليه في المصير الذي واجهته
القوام المعدودة هنا قوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون ،إن السياق كما قلنا
طوى الجواب طيا ً وأعرض عن ذكره ،لماذا ؟ ل بد أن تكون هناك نكتة
بلغية أراد السياق القرآني تقريرها في الذهان تقريريا ً صحيحا ً ،قد يكون
المر ول أحذف من ساحة التأويلت أي تأويل مما جاء به القدمون
والمحدثون ،ولكني أذهب في مذهبي الخاص المبني على اجتهادي الشخصي
والذي أرى أنه يتساوق مع مجموع معطيات الدعوة ،ول أسمح لنفسي كما
قلت بأن أنظر في القرآن وفي الدعوة السلمية نظرا ً مجزءا ً ،لن ذلك
يفوت علي أعظم الغايات التي أتوخاها وأرهق نفسي من أجل الوصول
إليها ،قد يكون طي القسم هنا لهوان شأن هؤلء الناس إذا كان الله جل
وعل قد أهلك عادا ً الولى والذين كانوا يقولون :من أشد منا قوة ؟ كما
تقرأون ذلك مصرحا ً به في الكتاب ،وإذا كان الله قد أهلك ثمودا ً فما أبقى ،
مر على ما كان وإذا كان الله قد غشى المؤتفكة ما غشى ،وإذا كان الله د ّ
يصنع فرعون وما كانوا يعرشون ،فمن هؤلء بالقياس إلى أمم عاتية جبارة
بلغت أوج القوة ونهاية العظمة ،من هؤلء الشراذم الذين يضطربون بين
جنبات مكة وقصاراهم إذا طمحت هممهم وأبصارهم أن يبلغوا اليمن أو
أطراف الشام ؟ إلى جانب الدول والممالك العظيمة التي جاءها من أمر
ربك ما ل مرد له فواجهت المصير المؤلم .إن هؤلء أهون شأنا ً وأقل مقاما ً
وأقل من أن يؤبه لهم ويكترث بشأنهم .فإذا قلنا إن السياق طوى جواب
القسم معرضا ً عن التعرض لذكر ما أعد ّ الله لهؤلء من أليم العقاب فنحن
غير بعداء إذا قلنا :كان ذلك لهوانهم على الله .ولكن تساءلوا معي :هل
وضع هذه المة المحمدية في التاريخ النساني ومن حيث قيادة الجنس
البشري ومن حيث المانة على المصير النساني بالمثابة التي كانت فيها
المم الماضية ؟ ل ,إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر لنا في كلم
رائع فضل ً وتمييزا ً بين هذه المة وغيرها من المم ول يبرزه عليه الصلة
والسلم لينفخ في أنوف هذه المة حتى تأخذها هذه الخنزوانة التي تأخذ
المستكبرين والمتجبرين ،وإنما يبرز هذه المزايا لكي يضع أمام هذه المة
مهماتها ووجائبها ،لكي يحث بعضها بعضا ً أبدا ً حتى تقوم بما يتوجب عليها
تجاه الرسالة التي أنيطت بها .إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :أنتم
توفون أي تكملون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى ،هذه
واحدة .
)(4 /
إن هذا الكلم يعني أن هذه المة هي آخر شيء يكون ،ولكنه يعني التمييز
والفضل على سائر المم التي مضت قبلها ،فإذا جئنا نستفتي محمدا ً عليه
الصلة والسلم مزيدا ً من اليضاح في هذه المسألة الهامة ،ما الذي
نسمعه ؟ نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :أنا آخر النبياء فل
نبي من بعدي وأنتم آخر المم فل أمة بعدها .فإذا ً فقد أغلق الباب بين
السماء والرض ،ما كان من قبل من تعاقب النبوات وتعاون المم على
60
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
النهوض بالرسالت شيء طواه التاريخ وانتهى بمجرد بزوغ فجر الرسالة في
غار حراء ،سدت منافذ السماء أمام المتنبئين والمتقولين على الله تعالى
وانتهت النسانية من هذا ،وقد آن للنسانية أن تأخذ بيديها زمام مصيرها .
ولقد سئلت من ثلث أو أربع سنوات من قبل أحد الخوة عن معنى آية ) وما
ذب بها الولون ( أقول إن الله تعالى مضت منعنا أن نرسل باليات إل أن ك ّ
سنته في خلقه بالنسبة إلى المم الماضية التي ابتعث فيها أنبياء وأنزل عليها
شرائعه أن يعاقب العناد والعتو عن أمر الله تعالى بلون من العقاب ،كانت
المم لجهلها وقصور تفكيرها تتمرد على أنبيائها وتطلب طلبات ل يطلبها إل
ذو عقل صغير ) أسقط علينا السماء كما زعمت كسفا ً ( ) آتنا بالله والملئكة
قبيل ً ( افعل كذا وكذا ..إلى آخره ،كان الله حينما تطلب المة المتمردة طلبا ً
يعّلق تحقيق الطلب على شرط ،سأفعل ولكن إذا آمنتم فبها ونعمت ،وإن
لم تؤمنوا فأمامكم عذاب الستئصال والمحق .من هنا كان التعجيز الذي
م قبل أمتنا في مواجهة نبوات قبل نبوة محمد صلى الله عليه قامت به أم ٌ
وسلم إنذار بإهلك المم ،وكم من أمم جاءتها أنبياؤها ودعتها إلى الله
فطلبت طلبات ل تحقق ،ثم حقق الله لها بعض ما طلبت ،فاستمرت في
عنادها وتكذيبها ،فأنزل الله عليها قارعة فأهلكتها وأبادتها .
وأنتم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم شيئا ً كثيرا ً ،إن بني إسرائيل حينما
جاءهم المسيح عليه السلم طلبوا من المسيح ) يا عيسى بن مريم هل
يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم
مؤمنين ،قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون
عليها من الشاهدين ،قال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا
عيدا ً لولنا وآخرنا وآية منك قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم
فإني أعذبه عذابا ً ل أعذبه أحدا ً من العالمين ( ونزلت المائدة وأكل منها
أصحاب عيسى بن مريم وأعاذ منها ذلك الجيل من المحق والستئصال .هذه
المة هل يمكن لنا أن نطبق عليها ذلك القانون نقول :ل .ما دامت هذه
المة آخر المم وما دامت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبوات ،
فحينما نقول بتماثل العقاب والعذاب بين هذه المة وبين عاد ٍ الولى التي
أهلكها الله إهلكا ً تاما ً والتي تفتحون الن كتب التاريخ وكتب النساب
فتجدون قبيلة عاد ٍ الولى مصنفة ضمن العرب البائدة التي بادت ولم يبقَ لها
أثر إل بقايا ذكر في كتب التاريخ ،وثمود كذلك والعرب البائدة وفرعون الذي
أغرقه الله هو وجنوده بعد أن نبذهم في اليم ،ما دام المر كذلك فإن
التماثل ممنوع ول يمكن .
)(5 /
حينما نقول ذات العذاب الذي واجه المم الماضية سوف يواجه أمتنا هذا
حينما تتمرد على أمر ربها ،فنحن نضرب قاعدة أساسية وهي أن هذه
الدعوة هي الخاتمة ،لو بادت هذه الدعوة وباد رسولها بعد ،إذا ً لحتاجت
البشرية إلى أن يرسل إليها رسول جديد وهذا لم ولن يحصل ،والله ذكر هذا
في القرآن بشكل صريح قال ) وإن كادوا ليستفزونك من الرض ليخرجوك
منها وإذا ً ل يلبثون خلفك إل قليل ً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولن
تجد لسنتنا تبديل ً ( إن سنة الله مضت حينما يبلغ العذاب من قبل المشركين
بنبيهم الحد الذي يخرج مغاضبا ً لهم ويهجر الرض كلها بعد اليأس الكامل
منهم ،تلك سنة مضت من قبل الله جل وعل .ولقد كاد العرب أن يبلغوا هذا
61
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المبلغ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكن منذ الزل سبق في علم
الله جل وعل أن هذا القرآن سينزل على محمد بين العرب وبلسان العرب
لمزايا اختصت بها هذه المة ولسابق علم الله جل وعل بها ما نحاول أن
نبحث فيها فأعطيت من أجل ذلك مكانة خاصة ،كم من المرات تقرأون في
كتب السيرة والقرآن كيف وقف المشركون معجزين لرسول الله قالوا له :
يا محمد أنت ترى نحن نعيش في وادٍ غير زرع ل ماء ول شجر ول وتعيش
بلدتنا في هذا الوادي تكتنفها الجبال التي ترسل عليها السموم اللفح وترسل
عليها كميات متكاثرة من رمال الصحراء الحارقة فاسأل الله إن كنت كريما ً
عليه وإن كان فعل ً قد أرسلك أن يحول عنا هذه الجبال وأن يحيل هذه
الصحراء إلى جنات وحدائق كجنات الشام وحدائق الشام .وكان ل يزيد على
أن يقول :سبحان ربي هل كنت إل بشرا ً رسول ؟ يقولون له :يا محمد نحن
نراك تكتسب ونراك تحترف ونراك في ضيق ل تملك المال فاسأل الله أن
يوسع عليك .يقول :سبحان ربي هل كنت إل بشرا ً رسول ً ؟ يقولون له :يا
محمد سل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ً وفضة .فيقول :سبحان ربي هل
كنت إل بشرا ً رسول ً ؟ يقف بعض المتعنتين فيقول له :والله ل أؤمن بك
ب من السماء نقرأه ويأتي معك أربعة حتى ترقى في السماء ثم تأتينا بكتا ٍ
شهود من الملئكة على صحة هذا الكتاب ومع ذلك فوالله ما أظن أني
سأصدقك .فل يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرر لهم أنه
رسول ل يملك لهم من الدنيا منفعا ً ول من الخرة حظا ً ول نصيبا ً إل أن
يقولوا ل إله إل الله .
ومع ذلك هل بلغ الغضب اللهي الحد الذي يدمر هذه المة مع أن مطالبها
في الواقع ل تفترق عن مطالب المم السابقة التي عتت عن أمر ربها
وحاربت رسلها وأنبياءها ،كذبوهم وكذبوه وطاردوهم وطاردوه وحاولوا أن
يقتلوهم وحاولوا أن يقتلوه وكل شيء فعلته المم الماضية مع أنبيائها فعله
سفهاء قريش وسفهاء أعراب البادية مع محمد الله صلى الله عليه وسلم ،
ولكن الله جل وعل استوعب هذه المة بحلمه الواسع ،لي شيء ؟ لكرامة
ذاتية لهذه المة على الله ؟ أبدا ً ولكن لن المر مؤسس ومشتق على قاعدة
،على قاعدة ختم الرسالة وعموم الرسالة ،فهذه المة إن حفظت فبحفظ
الله لها بسبب قوامتها على رسالتها وهذه قضية من أخطر ما يمكن أن
يستقر في أذهان المة ،لقد استقر هذا في أذهان العرب القدمين الذين
آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا معه وعزروه ونصروه ،
وعرفوا أن كرامتهم مشتقة من كرامة الرسالة وبقاءهم مؤسس على بقاء
الرسالة .وحينما كان فتح بيت المقدس وأصرت العرب والروم و النصارى
الذين يسكنون تلك البقاع أن ل يسلموا مفاتيح بيت المقدس إل لخليفة
المسلمين عمر رضي الله عنه ،جاءه كتاب أبي عبيدة قائد جيوش الشام
يكشف له الحقيقة ويقول له :إن القوم قد اشترطوا حضورك فإن رأيت أن
تحضر فافعل والسلم .جاء عمر ،ليس على رأسه عمامة ،صلعته تلوح في
الشمس ،يركب حمارا ً ،وكان رجل ً طويل ً فكان إذا ركب الحمار ومشى
تخط رجله الرض ،وليس معه أحد في هذه المفازة إل خادم له ،وكان
يتناوبان على ركوب الحمار ،قاربوا بيت المقدس فاعترضتهم مخاضة أي
بركة ماء ،كان الروم مشرفين ينظرون إلى هذا الركب المقبل ،وجيوش
المسلمين في الطرف الثاني من البركة وأمير المؤمنين قادم ،وللسف
كانت نوبة الخادم في ركوب الحمار في هذه اللحظات ،وأمير المؤمنين يقود
الحمار وهو يمشي حافيا ً ،وأمير المؤمنين يلبس ثيابا ً من الصوف الخشن
62
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تبلغ أنصاف ساقيه ،ويقول :بسم الله ويخوض في البركة ،ينظر أبو عبيدة ،
ما هذه المصيبة ؟ إن جيوش وقواد الروم ينظرون إلى هذا المشهد ،يقول
له :يا أمير المؤمنين إن القوم ينظرون إليك ،يلتفت إليه عمر ويقول له :لو
غيرك قالها يا أبا عبيدة لجعلته نكال ً للمسلمين ،إنا قوم أعزنا الله بالسلم
فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله .
)(6 /
عرفت هذه المة القيمة التي اشتقت قيمتها منها وهي القيمة العليا من خلود
هذه الرسالة .إذا ً فهذه المة محصنة ضد عوامل الفناء والهلك ،ولكن هل
هي محصنة ضد أن يأخذها الله بالبأساء والضراء ؟ الجواب :ل .إن هذه
المة كلما تمردت على أوامر الله وتركت شريعة الله واتبعت كل ناعق مسها
الله جل وعل بما شاء من أفانين العذاب وألوان البتلء .إن الرسول صلى
الله عليه وسلم يقول ) :يوشك أن تتداعى عليكم المم كما تتداعى الكلة
إلى قصعتها ( كيف يهجم الناس حينما يدعون إلى الطعام كذلك أمم الرض
سوف تتداعى عليكم ) .ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم
وليسلطن عليكم عدوكم حتى يستنقذوا بعض ما في أيديكم ( وهذا الكلم
غريب فأن يقال مثل هذا في عز السلم وعنفوان الحركة ) قالوا أمن قلة
نحن يا رسول الله ؟ ( كأنما الصحاب غابت عنهم حقائق التجربة ،إن مسألة
القلة والكثرة أمر ل قيمة له في سياق الدعوات وتقرير المصائر أبدا ً ،
المناط كله مبني على ثبوت اليقين واليمان ومعرفة الطريق ووضوح الهدف
) قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله ؟ قال :ل ،إنكم يومئذ لكثير ولكنكم غثاء
كغثاء السيل ( الغثاء هو ما خف من الخشاب والوساخ التي تطفو على
الماء حين يجرفها السيل ) ولكنكم غثاء كغثاء السيل ( وحين تساءلوا عن
السبب في ذلك قال :حب الدنيا وكراهية الموت .هذه المة ليست محصنة
عن أنواع من البلء ولكن لن تهلكها نهائيا ً ،تؤثر على كرامتها وعلى مكانتها
وعلى واجب القيادة التي تفرضها عليها هذه الرسالة ،إن أمم العالم كما
ترون أذاقتنا كأس الذل والهوان ،فيما مضى نفذ إلى جسم المة أبالسة
الجن والنس ينفثون سموم الفرقة والشتات حتى أصبحت المة وقد ألبسها
الله شيعا ً وأحزابا ً يضرب بعضها رقاب بعض ،وبعد أن كانت السيوف
مسلطة والرماح مشرعة على رقاب العدو ونحور العدو أصبحت هذه
ل وعل فتمزقت المة وذهبت السلحة توجه إلى صدور الخوة في الله ج ّ
وحدتها ،ثم كانت النتائج التي ل بد منها أن تبلغ المة حالة الضعف حتى
يطمع فيها من لم يكن يطمع فيها من قبل وحتى يتجرأ عليها فيمد يده فيأخذ
بعض ممتلكاتها .
ً
ن أحدا ،فهذه المم كلما جاءت أمة ً
انظر الن إلى أمم الرض جميعا ل تستث ِ
لعنت أختها ،وجدير بنا أن ندرك جيدا ً أن الكفر ملة واحدة ،إن أمم الرض
جميعا ً تعمل على أن نزداد خبال ً ونزداد تمزقا ً ونزداد بعدا ً عن حقائق هذا
الدين ،وهو بلء كما ترون عظيم ،إننا نودينا من قبل معسكرات في تاريخنا
القديم وفي تاريخنا الحديث ولعلي في مناسبات قادمة سأفتح أمامكم صحفا ً
من التاريخ تزكم النوف روائحها الكريهة ولعلي سأكشف لكم صحفا ً من
غلبنا على الصداقة منالتاريخ مؤلمة .نحن الن ينبغي أن نعلم أننا ُ
معسكرات ومن قبل أناس ،ثم اكتشفنا في غمرة الكارثة أننا كنا ضحايا
الخديعة والمؤامرة الكبيرة .إن هذه عقوبة وهي في مكانها ،حينما تجد
63
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المة نفسها في وضع قد فقدت الثقة بنفسها فمن الحق ومن العدل أن
تقسم إلى شيع وطوائف وأحزاب وأن ينضوي كل جزء من هذه المة تحت
معسكر معاد .ولقد مرت بهذه المة في تاريخها الحاضر المعاصر سويعات
وسنوات ما تسمع فيها من جانب إل بحمد روسيا ،وتسبيحا ً من الجانب الخر
بحمد أمريكا ،وأنت اليوم تسمع أنغاما ً ترقص عليها أبالسة الجحيم مثل هذه
النغام ما الذي يراد بذلك ؟ أمستقبل المة ؟ ل .أن تقف المة على
قدميها ؟ أبدا ً .إن الذي يراد مزيد من الفرقة ومن الدفع إلى الخلف يبعد
هذه المة عن حقائق هذا الدين .وهذه عقوبة وأية عقوبة ؟
إن الله جل وعل حين طوى جواب القسم فلم يذكره ،ما طواه هوانا ً
واحتقارا ً لشأن المة فالدنيا كلها وما فيها من أحياء وما فيها من أشياء هينة
ل وعل حين تعصي أمره وتشذ ّ عن قاعدته ،والنبي صلى الله على الله ج ّ
عليه وسلم يقول :الناس رجلن :مؤمن تقي كريم على الله تعالى ،وفاجر
شقي هين على الله تعالى .كل من ابتعد عن أمر الله وتمرد على رسله
وأنبيائه فهو هين ..عاد وثمود وفرعون وغيرهم من المم والقوام التي
طواها الزمان بفعل التدمير ،والهلك المقصود إهلكا ً هينا ً على الله ،كما أن
سفهاء قريش وزعماء الكفر هينون على الله جل وعل .ولكن المماثلة بين
المرين وبين أمتنا وبين من سبقها من المم منعدم ،ولهذا طوى السياق
جواب القسم ،لن جواب القسم حين يليه مصير أقوام أخرى ويكون
منصوصا ً فيه على أن ينال هذه المة جزاء العقوق والتمرد مثلما نال أولئك ،
فإن ذلك يكون تدميرا ً للقاعدة التي أبرزناها وهي قاعدة الخلود لهذه الرسالة
وكون هذه المة آخر المم وهذه الرسالة آخر الرسالت وأن القوامة
محصورة فيها .
)(7 /
)(8 /
64
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
اتخذته في هذا الموضوع قرار يتسم بالعقلنية الكاملة ،وكنت أسوق ـ وأنا
أتحدث في الجمعة الماضية ـ مثل ً منتزعا ً من التاريخ لنماذج من الناس توجد
هنا وهناك ،وفي هذا الزمان أو ذاك ،علتها أو علة زمانها أنها غير قابلة
للفهم ،لن خطوط تفكيرها تنحو نحوا ً قد ل يطيقه كثير من الناس .
قدمت بين يدي هذا مثل ً شيخ المعرة رحمه الله تعالى حينما رأى ما عليه
الناس وحينما صدمته بواكير حياته بما لم يكن يتوقعه ،فقرر أن يدير ظهره
للناس وحاول أن ينسحب من الحياة إل أن الناس لم يتركوه لقراره هذا ،
فلم ينسحب من الحياة لن الحياة أقبلت تزدحم على باب دهليزه ،لنه كان
يعّبر عن الحياة في صميمها وفي أبعادها الصحيحة ،وفي غاياتها التي يتوجب
على النسان أن يضعها دائما ً نصب عينيه من الصراحة والصدق والمانة مع
النفس ومع الناس ،وعجيب فعل ً أن يكون هذا المثل غير مفهوم ،ما
المشكلة هنا ؟ المشكلة في جوهرها أن الموقف بالنسبة إلي كان مبنيا ً على
الحساب ول شيء وراء ذلك بإطلق .
فجأة وتحت ظروف المرض وطوارئ العلل أدرت وجهي إلى الخلق ،
فوجدتني في طريق اخترته بمحض إرادتي ،واخترته نزول ً على ضرورات ،
تتصل بهذه المة في حاضرها وفي مستقبلها على السواء ،إن الجو
السلمي على صعيد الفكر وعلى صعيد العمل جميعا ً يعيش ارتباكات خطيرة
ل يظن أنه الحق الذي ليس وراءه وتضطرب في أحشائه اتجاهات متباينة ،ك ٌ
إل الباطل ،وهذه مصيبة كبيرة ،ونظرت وأنا أفكر طيلة السنوات الماضية
أتلمس العلل وأحاول أن أقف على حقيقة الداء ،وهذه أيضا ً مصيبة ولكن
مصيبتي أنا بالذات لني ل أملك ول أستطيع أن أزّيف المور إلى نفسي ول
إلى الناس .فتبّين لي بعد التفكير الطويل والبحث المستفيض والدرس
العميق أن العلة في كل هذا الرتباك والضطراب تنحسر في عدم الفهم
طه ربنا جل وعل في الصحيح لمراحل العمل السلمي على النحو الذي خ ّ
فذه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ُنقل إلينا في الكتاب والكريم ون ّ
سيرته الطاهرة .وأن عصرنا الحاضر عصر يشكو من عيب أساسي وهو
عيب ملزم في التاريخ البشري في كل فترات النهوض لدى جميع الشعوب ،
قظ على ذاتيته حديثا ً ل يمكن أن يعود إلى أصالته وأن وهو أن الشعب المتي ّ
يتعّرف على حقيقته بين عشية وضحاها ،فل بد من المعاناة ول بد للخضوع
للكوارث ول بد من الستفادة من الدروس التي تمر بها المم السابقة ..
فحين فتحنا أعيننا في مطالع هذا القرن وقبله بقليل على ُنذر الهجمة
الستعمارية الصليبية الصهيونية اللحادية كنا أشبه ما نكون بالغريق يتمسك
بأي شيء خضوعا ً لنازع الحفاظ على الذات ،وقد وقع في وهم معظم قادة
الفكر وقادة الحياة الجتماعية والسياسية في عالمنا السلمي المهدد بخطر
الفناء أنه إذا كانت هناك علة قادت المة إلى الضعف والتدهور والنحلل
فهي هذا الدين ،وساعد على تجسيم هذه الفكرة في أذهان قادة الرأي
وقادة الحياة العملية أن أمم الغرب التي قادت التحرك الستعماري نحو بلدنا
خرجت إلى عصر النهضة وعصر الصناعة وعصر التقدم على الصعيد المادي
من خلل صراع طويل مع الكنسية بسلطانها وهيمنتها على النفوس وقهرها
واستبدادها ..فكان يسيرا ً جدا ً بالنسبة إلى قادة الرأي والسياسة عندنا أن
يسقطوا هذه المشابهة أيضا ً على السلم ،وظنوا أن أمم الغرب وصلت إلى
مراحل التقدم والعمران من باب رفض الدين والتمرد على أحكامه بل
الوقوف منه موقف العداء فكذلك يجب أن يكون عندنا ،فليكن السلم هو
الهدف ،ومن المحزن حقا ً أن هذا التصور الذي يشبه أن يكون انطباعا ً
65
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
طبيعيا ً وغير مستغرب في حياة الشعوب ترافق مع عامل مشدد وهو أن
الستعمار قاد في ركابه التبشير فكانت جحافل القسس والرهبان ومدارس
الهدم والتخريب تحل من ديار السلم حيثما ح ّ
ل الستعمار ..فحصل بلبلة ،
بل حصل انصهار ،ولعل الخوة لو حاولوا التعّرف عليه بالرجوع إلى ما كان
يصدر من كتابات ومؤلفات في مطالع هذا القرن ..حصل عندنا نوع من
الهجمة الشرسة على السلم قابلها رد ّ فعل نحاول أن ندافع مجرد دفاع وأن
نبرر مجرد تبرير هذا السلم .
)(1 /
إن الحركة السلمية المعاصرة نشأت في هذا المحضن المضطرب الذي قد
ل يفتقر إلى شيء كما يفتقر إلى عناصر الصحة والحقيقة وكان ل بد من
مخاض ول بد من معاناة ول بد من آلم ..حينما نشأت الحركة السلمية
ة وعالمية ،ولعل الذين قادوها شغلتهم كانت تخضع للضغوط المجتمعية محلي ً
هموم الحاضر الذي كانوا يعيشونها عن اللتفات إلى ما كان يجب أن يكون
نقطة البداية في أي تحرك .
ل أريد أن أحاكم التجاهات التي نتجت في مطالع القرن وكانت حصيلتها
الخلفة السلمية وإلغاء الكيان السلمي جملة وتفصيل ً وتمزيق المة
الواحدة إلى أمم ما تزال إلى الن تلد أجنة مشوهة وكريهة تنفصل عن جسم
الم باستمرار ،مزيدا ً في النكاية في هذه المة ،وجريا ً في الطريق المفضي
إلى تدميرها ومحوها من الوجود ،ل أريد أن أتعّرض لهذا الجانب ولكن أريد
أن أسّلط الضوء فقط وبصورة مبدئية وبسيطة إلى أن الواجب على العقلء
ب أن ابنك أصابه المرض فهل ذلك أن يلتفتوا إلى حقيقة بسيطة جدا ً ،ه ْ
يعني أن تتركه لعوامل المرض والفناء تفتك به وتفترسه أم تفتش عن مكان
ب لها بدوائها المعقول ،إن المسلك الول هو مسلك البله العلة لكي تط ّ
والمجانين ،ولكن مسلك العقلء هو المسلك الثاني ،وكان ل بد أن تمر المة
بهذا الخبل العام ،الخبل الذي حملها على أن تنفض يدها من كيانها
وحقيقتها ،ل شك أن الصورة السياسية والقتصادية والجتماعية والفكرية ،
بل قل حتى الروحية التي سادت قبيل الحرب العالمية الولى شيء يدعو إلى
السف وإلى الحزن ..ولكنه ل يعني إل عند العدو المجاهر بالعداوة أن نكون
عونا ً للعداء على أنفسنا وأن نمزق بأيدينا جسم أمتنا ،لكن هذا هو الذي
كان وهو الذي حصل .
منذ ذلك التاريخ كان على المة أن تعرف أن حق السوة وأن حق القدوة
المفترضة على المسلم لكي يأخذ بها نفسه مهتديا ً بنبيه صلى الله عليه
وسلم يحّتم عليها أن ُتعيد فحص حالتها على ضوء خطوات نبيها صلى الله
قد المور أن هذه عيه وسلم ..لكن هذا لم يحدث ،والذي زاد الطينة بلة وع ّ
الحالة استهلكت وقتا ً طويل ً من حياة المة ،وقتا ً سمح لكل النباتات الضارة
أن تنمو على الساحة العربية وعلى الساحة السلمية ..اسأل نفسك أيها
الخ بصراحة وبوضوح وبأمانة وانسجام مع السلم :هل من المعقول أن
تنشأ في الساحة العربية والسلمية حركات وأحزاب ومذاهب واتجاهات ل
م لها ول وظيفة لها ول غرض لها إل اليذاء للسلم وإل محو السلم ؟ أهذه ه ّ
ظاهرة طبيعية ؟ هل من المعقول أن ُتنشد الناشيد الحمراء في ديار
المسلمين وأن ُيشتم الله وأن ُيهان محمد في ديار المسلمين ؟ هذا شيء
غير معقول ،بل اسأل نفسك :هل من طبائع الشياء ومن المور السوية
66
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في حياة المم أو في حياة أمة كأمتنا هي أمل الدنيا وضمانة المصير بالنسبة
ب ولكل ماب ود ّ
إلى البشرية جمعاء أن يباح الضجيج والعجيج لكل من ه ّ
عرفت الدنيا من شرور ومفاسد وأن ُتضرب السوار من حول الدعوة
السلمية :
س
أحرام على بلبله الدوح حلل للطير من كل جن ِ
ذلك أمر غير معقول ،لول أن المور ل تسير على محاورها الصحيحة ،إن
بلد السلم كما يجب أن يعلم العدو قبل الصديق للسلم طال الزمان أو
قصر ،صعبت الطريق أو هانت ،ديار المسلمين للمسلمين ،وهذه الخلئق
الشائهة ل بد أن تأتيها يوم أو أيام تجد نفسها مرغمة على أن تعاود حساباتها
وعلى أن تطيع لله جل وعل ،كارهة أو راضية ،لكن كما قلت لكم إن الزمان
طال ،وإن ارتباكات الحركة السلمية وأشدد الحركة السلمية وأنا هنا مبرر
وجودي هي هذه الحركة ول شيء غيرها .
إن ارتباكات هذه الحركة تجاوزت الحدود المعقولة وإنه من الحق على كل
مدرك وعلى كل عاقل أن ينفض الغبار عن التاريخ ،وأن يعيد الحسابات لهذه
المة تحت ضوء الكتاب وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ،وهذا هو المر
الذي ندبت نفسي له منذ سنوات قريبة .حينما التفت إلى الخلف تحت
عوامل المرض واللم أخذتني الروح ،إنني أمسك بأطراف النهج منذ سنتين
وأمامي عمل هو تفكيك السيرة وإثارة ساحتها للتعّرف على كل قضاياها ،
صغيرها وكبيرها ،لعود إلى عملية تنسيق وتجميع تؤدي إلى استخلص
القوانين التي وضعتها الحركة السلمية بالعمل كي ل يكون إنسان أمام
اجتهاده الخاص ،بل يكون أمام القضية السلمية بالذات ،ولكي نحسم هذه
المشكلة من جذورها ،ولكي نغطي على كل ارتباكات الماضي .
)(2 /
حين نظرت منذ سنتين وإلى الن وأنا ما أزال في بدايات الطريق وقلت لكم
أنا الن في الخمسين من العمر أو قريبا ً من ذلك .ما زلنا بعد سنتين لم
ندرس واحدا ً من اللف مما يقتضي أن ُيدرس ،وإذا كنا نريد أن نستمر في
الطريق وكما قلت أن المسألة مبناها على الحساب فنقول في كل جمعة
ساعة فنحن نحتاج إلى ما تبقى من العمر يضاف إليه عدة أعمار أخرى فكان
القرار هكذا ،تبديل ميدان بميدان ،أردت أن ُافرغ نفسي لعمل أشعر من
صميم قلبي ووجداني أنني مطالب به عن قناعة ،وأردت أن أترك المنبر
دى ليلمن يشاء أن يعتليه ،فهذه هي القضية ل أكثر ،ولمصلحة المة كما تب ّ
.إل أن الشيء المؤلم أن هذه القضية على بساطتها على الرغم أنني طلبت
من الخوة أن يفهموني ،ولكن لم ُيفهم مني ذلك .وقيل شيء كثير ،وخلل
الجمعة الماضية وما وليها من أيام سمعت أشياء كثيرة وعجبت لهذا
النسان ،لماذا ؟ أنا قلت كلما ً ذكرته للخوة على سبيل التعريف بمخاطر
الطريق ،قلت إنني الن رجل مسقام كثير المراض وأنني تعبت وخاصة في
السنوات العشر الخيرة ،وذكرت شيئا ً مما سبب هذه الحالة ..المتاعب
واللم والتهامات إلى آخره ..أردت أن يكون في ذهن كل أخ أن طريقنا
ليس طريقا ً مجانا ً ولكنه مشحون بهذه الشياء ،أشياء ليس فقط ترهق
سرت المور على النفس وتؤذي المشاعر ولكن تزرع الداء في الجسد ،وفُ ّ
أمر غريب .
ً
قيل أن خلفا وقع بيني وبين إخوتي من الشباب ،وأنا ل أنفي الخلف ولكن
67
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أنا أنفر من عدم الخلف ،أنا أعتبر النسجام المطلق قرين الموت ،وأعتبر
الحياة هي التي تحفل بصراع العقول وصراع الرادات ،ولكن هل الذي
استنتجه الخوة أو بعض الخوة صحيح ،أحب أن يكون واضحا ً من الن ودائما ً
،أن هذه الوجوه ووجوها ً أخرى ل أعرفها ممن يحملون لي الحب والتقدير
والحترام جزء من نفسي ،جزء من ذاتي ،جزء من كياني ،والله يعلم أن
أولدي من صلبي ليس أغلى علي منهم ،إنه ل يمكن أن يكون بيني وبين
إخوتي خلف ،فليطمئن الناس جميعا ً ،إننا دائما ً نتعامل مع الناس وفاقا ً
وة وقانون المحبة ،وإذا كان هذا واجبا ً مع العدو فهو مع الصديق لقانون الخ ّ
أوجب .
ً
وقيل فيما قيل تهديدا من بعض الناس ،ولقد قلت أكثر من مرة إنني رجل ل
ترهبه بوارق الوعيد والتهديد ،ومنذ عرفت السجود لله لم أعرف النحناء إل
لله جل وعل ،لقد عشت طيلة حياتي بفضل الله تعالى مرفوع الرأس بل
شامخ الرأس متمتعا ً بكل معاني الرجولة والثبات والصدق ،ومع ذلك فهذا لم
يحصل .
وقيل فيما قيل أنني منعت من السلطة ،وأنا رجل ل أّدعي صداقة السلطة ،
دعي صداقتي ،ولكني في كل الحوال رجل يكره الظلم كما والسلطة ل ت ّ
يكره الظالمين ،فأشهد غير متحّرج أنه حتى في الوقات العاصفة منذ
سنوات حينما كانت كل جمعة تحمل معها أزمة وتحمل معها مواجهة عاصفة
مع السلطة لم يفكر
أحد من عناصر السلطة أن يطلب إلي أن أتخلى عن الخطابة ،إن السلطة
غير محتاجة إلى هذه الشهادة مني ،ولكني أقولها للمانة لم يكن شيء من
ذلك ،كل ما في المر أني أردت أن أتفرغ لعمل أشعر أنني مطالب به ،
لكنني وجدت من الخوة الحباب بما ل أملك له ردا ّ ،وبما حملني على تفكير
طويل ،بل بما حملني أعيش تناقضا ً خطيرا ً ومؤسفا ً .إن المظاهر التي
رأيتها من الطوائف التي قابلتني عادت إلى ذهني سير الولين ،أعادت إلى
ذهني تلك الصور الوضيئة جدا ً من تلك الجماعة الولى التي سمعت الوحي
من ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتأثرت به وتفاعلت معه ،أعادت إلى
ذهني تلك الصورة التي كان وصفها الساسي أنها جماعة من المؤمنين تجد
خيرها المشترك في الوحدة الجامعة على طريق يؤدي إلى الله تعالى .
أعادت إلى ذهني ذلك المعنى الكبير الذي حفظ هذه المة في وجه جميع
الزعازع هذه الوحدة التي عَلت على الجناس واللوان ورفضت عصبيات
السر ورفضت عصبيات القبائل ،أعادت إلى ذهني تلك الصورة التي أشار
إليها محمد عليه الصلة والسلم حينما ذكر طوائف من الناس حينما يحشر
الناس إلى الله على منابر من نور ما هم بالنبيين وما هم بالصديقين وما هم
بالشهداء يحسدهم النبيون ويحسدهم الصديقون ويحسدهم الشهداء على
مكانهم من الله جل وعل ،وحين طلب الصحاب من نبيهم عليه الصلة
والسلم أن يجليهم لهم وأن يصفهم لهم ،قال لهم :أناس من قبائل شتى
أوزاع ل تجمعهم رابطة الدم ول تجمعهم عواطف القبيلة ولكن يجمعهم حب
الله تعالى .إن هذه الظواهر التي عشتها في السبوع الماضي أعادت إلى
ذهني التي تجعل كل ذرة في الكيان تختلج شوقا ً إلى الله وشوقا ً إلى هذا
البناء المعجز الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا .
)(3 /
68
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن الموقف عابر ولكن أسأل نفسي وأسألكم :هل المنعطفات الخطيرة في
التاريخ البشري كانت مؤسسة كلها على العقل والعقلنية ؟ ألم يكن نصيب
العاطفة بل العاطفة المتأججة هي الرجح ؟ بلى ،فأنا من أجل هذا أخضع
نزول ً عند سؤال صغير وجهته إلى نفسي ووجهه إلي العديد من الخوة :هل
دس الكتب أم أن الضرورة الضرورة الن تقتضي منا أن نؤلف وأن نك ّ
تتقاضانا أم نصنع الرجال ؟ ل شك أنه سؤال صغير ،ولكنه خطير ،الحقيقة
أننا في هذه المرحلة بحاجة إلى هذه النماذج من الرجال .
وإذا كنت هدفت من كلمي الماضي أن أنصرف إلى التأليف ـ وقلت بصراحة
ـ إنني بلغت أواخر العمر ولم أترك ورائي إل هذه الشرطة القليلة وأريد أن
أكتب ،فإن هذا الكلم يتضمن لونا ً بغيضا ً من النانية ،إنني إذا ً أطلب انتباذ
ل باحتياج المة الراهنة ، الذكر ،وأطلب السمعة ول أبالي ضحيت أم لم أبا ِ
من أجل هذا أقول أنا معكم ،وليدركنا الجل على المنبر أو في مجلس
الدرس ،لن أترككم ،سأعيش معكم ،وأموت بينكم إن شاء الله على هذا
الدرب وفي هذا الطريق ،وغاية ما نتمناه أن يرضى الله تعالى عنا ،وأن
يبارك الله تعالى مسعانا ،مع كلم بسيط ،كانت لنا مجالس ودروس مرتين
في السبوع أرجو أن يعذرني الخوة إذا قلت لكم إنني ـ صحيا ً ـ محتاج إلى
شيء من الراحة ل تقل عن أسبوعين ،فأسألهم أن يخففوا عني هذا
العبء ،وأعدهم إن أحيانا الله أن نعود إلى ما كنا عليه إن لم يكن إلى أكثر
مما كنا عليه .
نمضي الن في طريقنا ..
فرغنا في الجمعة الماضية من سورة البروج وهي السورة السادسة
والعشرون في سياق التنزيل ،والن نواجه السورة السابعة والعشرين ،
والثامنة والعشرين ،والتاسعة والعشرين ) ،سورة التين وسورة قريش
وسورة القارعة ( ول تستغربوا حينما أقرن السور الثلثة في حديث واحد
وسأمّر عليها مرورا ً سريعا ً .
أما سورة التين فتمضي هكذا ) :والتين والزيتون ،وطور سينين ،وهذا البلد
المين ،لقد خلقنا النسان في أحسن تقويم ،ثم رددناه أسفل سافلين ،إل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ،فما يكذبك بعد بالدين ،
أليس الله بأحكم الحاكمين ( هذه السورة سمعتموها مرارا ً وسأشير فقط
إلى إشارات وجيزة لبعض المعاني البارزة التي تتضمنها هذه السورة .
أما قول الله جل اسمه ) والتين والزيتون ،وطور سينين ،وهذا البلد المين (
فقد اختلف تراجمة القرآن في تفسير معناها ،فذهب ذاهبون إلى أن المراد
بالتين والزيتون هاتان الثمرتان المعروفتان ،وذهب ذاهبون إلى غير ذلك ،
وعندنا أن النص على التين والزيتون المراد به هاتين الثمرتين شيء ل
يتناسب مع جلل الموقف ،وإن كان كثير من المفسرين أن المراد هو هذا
بداعي أن القول بغير هذا الكلم ذهاب إلى المجاز ،ول ُيعدل عن الحقيقة إل
بدليل راجح ول دليل هنا ،والذين حاولوا التأويل قالوا إن في قول الله
) والتين والزيتون ،وطور سينين ،وهذا البلد المين ( إشارة إلى المراحل
الربعة التي مّر بها هذا الركب البشري ..ففي التوراة التي ُأنزلت على
موسى عليه السلم ما يشير إلى أن الله جل وعل حين خلق آدم واشتقّ من
ضلعه زوجه حواء ليسكن إليها كان يجلسان في الجنة تحت شجرة التين ،
وحين أكل ما نهاهما الله تعالى عن قربانه فبدأت لهما سوءاتهما وطفقا
يخصفان من ورق الجنة ،وكان هذا الورق هو ورق التين ،فقوله تعالى
) والتين ( إشارة إلى تلك المرحلة التي سلخها النسان في الجنة في مبدأ
69
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الخلق ،وأما قوله ) والزيتون ( فإشارة إلى ما كان بعد الهباط من الجنة
إلى الرض وما كان بالتحديد على زمن نوح صلى الله تعالى عليه وسلم وهو
أول الرسل من أولي العزم ،فالذي ينبغي أن يكون معلوما ً أن الله جل وعل
ل زوجين حين أمر نوحا ً عليه السلم بأن يصنع الفلك وأن يحمل فيه من ك ٍ
اثنين وأن يرفض دخول الفاسقين والمارقين في هذا الفلك أمر الله جل وعل
السماء أن ترسل الماء مدرارا ً وأمر الرض أن تتفجر عيونا ً فكان الطوفان ،
ومضت السفينة بنوح ومن معه مدةً الله أعلم بها وغشى الماء كل الرض
وطال الزمان فأراد نوح عليه السلم أن يعلم هل عادت الحياة إلى الرض أم
مازال أديمها مغطى بالماء فأرسل حمامة ترود الفاق فعادت الحمامة تحمل
في منقارها وريقات من شجرة الزيتون فعلم نوح عليه السلم أن الرض
عادت لها الحياة فنزل بالسفينة حتى استوت على الجودي ) وقيل يا أرض
ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا ً
للقوم الظالمين ( فقوله ) والزيتون ( إشارة إلى هذه المرحلة الثانية من
مراحل الوجود البشري وهي مرحلة تتمتع بخطورة خاصة .
وأما قوله ) وطور سينين ( فطور سينين هو جبل سيناء وهو المكان الذي
تجلى فيه الله جل وعل لموسى عليه السلم حين أنزل عليه اللواح وأعطاه
الشرائع التي أمر بني إسرائيل أن يأخذوا بها .
)(4 /
وأما قوله ) وهذا البلد المين ( فبإجماع الناس جميعا ً أن البلد المين هو مكة
مسقط رأس محمد صلى الله عليه وسلم ،فكأن الذين ذهبوا هذا المذهب
في التأويل لحظوا أن المواقف الربعة في حياة البشرية مراحل ذات صفة
خاصة أي أنها تشكل مراحل حاسمة في تاريخ البشرية من أجل هذا
استحقت أن يقسم بها الله جل وعل على ما يلي من ما ذكر في السورة
الكريمة .لكننا في الحق ل نملك دليل ً يسمح لنا بأن نذهب هذا المذهب ،
غاية ما نستطيع أن نقوله ظنا ً والله أعلم أن في قول الله جل وعل ) والتين
والزيتون ( إشارة إلى المكان الذي تنبت فيه هاتان الشجرتان وهو مهد مولد
المسيح عليه الصلة والسلم من أرض فلسطين هذه الرض التي يجري
التآمر عليها الن من قبل أهلها ومن قبل أعدائها على السواء .وأما قوله جل
وعل ) وطور سينين ( إشارة إلى الديانة الموسمية اليهودية التي حملها
موسى إلى الناس .وأن قول الله جل وعل ) وهذا البلد المين ( إشارة إلى
رسالة محمد ،ومن البّين أن الرسائل الثلثة هذه ) اليهودية والنصرانية
والسلم (هي الديان الثلثة الكبرى وذات الطابع الكلي الشمولي المعروفة
في التاريخ البشري عموما ً .
فمن هنا كان معقول ً أن يجري القسم بها وكان غير معقول أن يكون القسم
بثمرة التين أو بثمرة الزيتون ،لونان من ألوان الفاكهة تزدحم الرض بما هو
أطيب منهما طعما ً وأكثر شهية .ما الذي أقسم الله جل وعل بها عليه ؟ هو
أن الله جل وعل خلق النسان في أحسن تقويم وهنا ولكي ل يزل قارئ
التفسير وقارئ القرآن أقول :إن كثيرين من المفسرين عليهم رحمة الله
جل وعل أخذوا النسان بمعناه الضيق ،فمن أجل ذلك قالوا إن الله أشار
بذلك إلى إبداء خلق النسان ثم رده أسفل سافلين أي أنه نشأ نشأة حسنة ،
شيء جميل ومسوى وعظيم ،ولكنه ُيرد ّ إلى أرذل العمر ،يرد إلى حيث
يكون إنسانا ً مخّرفا ً بعد أن كان عاقل ً لكي ل يعلم من بعد علم شيئا ً ،يرد
70
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إلى أن يكون إنسانا ً يتحكم فيه الهزال والمرض بعد أن كان يتفجر قوة
ونشاطا ً وحيوية ،يرد ّ إلى أن يكون جيفة تركتها الحياة يرفضها أقرب الناس
إليها .وهذا مدلول ) أسفل سافلين ( لكن لو أردنا أن نعتمد كلما ً من هذا
القبيل لوجدنا أنفسنا نصطدم بما بعد ذلك مباشرة وهو قول الله تعالى ) إل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ومعلوم أن ) إل ( أداة من أدوات الستثناء
بل هي أم هذه الدوات وأن الستثناء هو إخراج شيء من الجملة لفرادها
بحكم خاص بها غير الحكم الذي يترتب عليه ،فإذا قلنا إن حال النسان كهذا
فهل المؤمنون ينفردون بشيء غير هذا ؟ هل المؤمن ل يجري عليه ما يجري
على الكافر من هذه الظواهر المادية ؟ أل يشيخ المؤمن ؟ أل يشيب المؤمن
؟ أل يهرم ويخرف المؤمن ؟ أل يموت المؤمن ؟ أل تجّيف جثة المؤمن ؟ بلى
،إن المؤمن وغير المؤمن من حيث قوانين المادة ومن حيث قوانين
الفيزيائية سواء .وإذا ً فل بد أن نلتمس معنى ،وفي تقديري أننا حينما نجعل
السورة أمام منظارنا فسوف نرى أن الله سبحانه وتعالى أشار بهذه السورة
إلى طوائف ل تحصى من هذا النسان ،والنسان هنا لفظ جنس ،يتناول
البشرية بمجموعها في غابرها وفي حاضرها وفي مستقبلها ،هذه الطوائف
ترى أن التاريخ البشري سير في طريق مجهول البداية كما هو مجهول النهاية
،فمن أجل ذلك كانت هذه الطوائف من البشر من الناس أناسي ينبت في
الساحة البشرية كما ينبت النبات الشيطاني ل هدف له ول غاية ول شيء
جميل يتمسك به النسان وإنهم يمثلون الضيعة والفراغ وعدم الجدوى .والله
تعالى يريد أن تعرف البشرية أن تاريخها أو النسانية ليست ضربا ً في طريق
من هذا القبيل ،فالبداية معلومة والنهاية معلومة ،وللنسانية غاية هي التي
يجب على النسانية أن تكدح لكي تصل إليها ) يا أيها النسان إن كادح إلى
ربك كدحا ً فملقيه ( يا أيها الناس إن لكم غاية فانتبهوا إلى غايتكم كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم .ومن هذا تعتدل وتنبثق الجماعة السلمية
ول تكون هذه الجماعة كهذه الطوائف المتكاثرة من الناس التي رفضت
العتراف على أن الكون صادر عن الله جل وعل ،مخلوق من الله جل وعل ،
فوقعت في عقد والتواءات نفسية وفكرية وعملية ل تعرف كيف تتخلص منها
ول تعتقد كما تعتقد هذه الطوائف المتكاثرة من الناس أن البشرية تجري بل
هدف ول غاية ) نموت ونحيا وما ُيهلكنا إل الدهر ( كما قال الله جل وعل لنبيه
عليه الصلة والسلم قبل ألف وأربعمائة عام وكما يقول الماركسيون اليوم
أن النسان يولد ويموت بدفعة الحياة ،ويولد وبقانون الموت يموت ول شيء
وراء ذلك ،فل يعود إلى بعث ول إلى نشور ول ُيجزى بأعماله ،وكما يقول
الوجوديون والمتحللون من كل الملل .
)(5 /
إن الله جل وعل مّيز في هذه السورة بين طائفتين من الناس ،طائفة
المؤمنين وطائفة الكافرين ،فالكافرون ل يعرفون مبدأ ً ول معادا ً ،فمن أجل
ذلك كانت حياتهم منتكسة إلى أسفل سافلين ،ومن شاء الدليل على ذلك
فل عليه أكثر من أن ينظر إلى ما يمور به الواقع النساني في هذه اليام ،
هذه الحروب والمؤامرات الرهيبة ،هذا الكذب المستعلن ،هذا الصدق
المطارد ،هذا الكفر البواح ،وهذا اليمان المعزول ،كيف يمكن أن يحصل
هذا إل في ظل قيم لنسان كما ذكر الله يسير في طريق مجهول البداية
ومجهول النهاية ويؤدي إلى ضيعة ل ريب فيها .
71
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن الدليل على ما وصف الله به مسيرة النسانية من أنها ترتد ّ إلى أسفل
سافلين قائم في عصرنا الذي نعيش فيه ،وتبارك الله الذي قال ) سنريهم
آياتنا في الفاق وفي أنفسهم حتى يتبّين لهم أنه الحق ( لقد ظهرت آية الله
الن في عصرنا هذا الذي كفر بالله ورفض أن يتخذ منه ربا ً وكفر بالمعاد إليه
،فكانت حياة الناس اليوم مأساة ،بل هي كارثة وتقف على شفا الترهيب ،
ضغطة بسيطة على زر صغير من مجهول مأفون تؤدي إلى دمار البشرية
بكاملها .ذلك هو المصير الذي يؤدي إليه الكفر والضلل .ولكن المصير الذي
يؤدي إليه اليمان هو السعادة ..فمن ذلك استقام مكان الستثناء في سياق
الية ) إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( فالذين آمنوا بالله جل وعل ربا ً
وخالقا ً عارفين بالبداية التي صدروا عنها وعملوا الصالحات في هذه الدنيا
ف عنها ،هؤلء فقط هم وهي جملة الوامر بأن تؤتى وجملة النواهي أن ُيك ّ
الذين يصلحون لعمارة الدنيا وقيادة الركب البشري .
فنحن إذا ً أمام تيارين حضاريين ،ولسنا أمام نموذجين ماديين ،أحدهما يقود
إلى الدمار والثاني يقود إلى السعادة والزدهار ..هؤلء الذين آمنوا وعملوا
ن ( من الصالحات لهم عند الله أجر غير ممنون ،يعني غير مقطوع ،لن ) م ّ
جملة معانيها ) قطع ( تقول :مننت الحبل إذا قطعته ،فالجر الموعود به
هؤلء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجر دائم ،إنك مهما تسن في هذه الدنيا
ق ودائم ل ينقطع بموتك ،ألم تسمع نبيك من سنة صالحة فأجرك عليها با ٍ
ن في السلم سنة حسنة كان له عليه الصلة والسلم وهو يقول :من س ّ
أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ُينتقص من أجورهم
ق عند الله جل وعل . شيء .إن أجرك با ٍ
ثم بعد ،ما يكذبك بالدين ؟ ما الذي يجعلك يا أيها النسان تكذب بيوم
الحساب ،وهذه مشكلة خطيرة كما سيأتي عندا بعد قليل ،ما الذي يكذبك
بذلك ؟ أليس الله بأحكم الحاكمين ؟ إن كنت تقر بأنك مخلوق من قبل الله
وأن الله هو الخالق فالمفروض بأن الخالق أن يكون حكيما ً وإذا أعوزك
الدليل العقلي على اتصاف الخالق بالحكمة فانظر في نفسك وفي الفاق
تجد أن هذا النظام البديع والنسق المعجز ل يمكن أن يصدر إل عن إله حكيم
غاية الحكمة ،فهل من الحكمة أن يخبص النسان في هذه الدنيا أو يظلم
وأن يسرق وأن يزني وأن يفجر وما إلى ذلك ..؟ ثم يمضي موفورا ً .هل من
حكمة الخالق أن ُيترك المجرم ليفلت بجرائمه ؟ أم من حكمة الخالق أن
ينال المحسن ثواب إحسانه وأن ينال المسيء جزاء إساءته ؟ إن الحكمة في
معناها اللغوي والوضع العربي هي وضع الشيء في مكانه ،ووضع كل شيء
في مكانه يقتضي أن ينال كل إنسان ما يستحقه من جزاء خيرا ً كان أو شرا ً .
فإذا كان المر كذلك فل بد خضوعا ً لناموس الحكمة من يوم تشخص فيه
البصار ويقوم الناس فيه لرب العالمين وتنصب الموازين القسط ليوم
القيامة فل ُتظلم نفس شيئا ً ويثاب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء
بإساءته .
فإذا تركنا السورة هذه وذهبنا إلى سورة قريش ،فسورة قريش يخّيل إلي
أنني تحدثت عنها من قبل ولو من بعض الوجوه ،حينما كنت أتحدث عن
سورة الفيل ،لكني سأقول إن السورة تبدأ هكذا ) ليلف قريش ،إيلفهم
رحلة الشتاء والصيف ،فليعبدوا رب هذا البيت ،الذي أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف ( مدار على واقعة تاريخية اجتماعية معروفة لدى الجاهليين
،وهو هذه الرحلة بين مكة واليمن شتاًء ،ومكة والشام صيفا ً ،والتي ألفتها
ش
قريش ،واليلف هي البل ،فتذهب غادية وجائية ،متمتعة بالمن .كل ما ٍ
72
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في الصحراء معرض للسلب والنهب والقتل إل قطان الحرم إل أهل مكة إل
قريش ،فحيثما مشوا آخذين باتجاه الجنوب إلى اليمن ،أو إلى الشمال إلى
الشام ،حيثما أقاموا وحيثما حلوا فهم موضع العزاز وموضع التكريم بين
قبائل العرب جميعا ً .
)(6 /
أذلك لن الدم الذي يجري في عروق القرشيين غير الدم الذي يجري في
عروق بقية القبائل العربية ؟ ل ،ولكن لن القرشيين هم جيران الله جل
وعل ،فمكانتهم ومنزلتهم والحترام المقدور لهم بين الناس ناشئ عن البيت
،هذا البيت الذي يجاوروه ويعرفون بناءه منذ إبراهيم أبيهم عليه الصلة
والسلم ،ويعرفون أن إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت وطهراه للقائمين
والطائفين والعاكفين والركع السجود ،ثم هم يلحدون فيه ،ويكفرون برب
هذا البيت الذي أمرهم إبراهيم وإسماعيل أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا ً ..
وهي تذكرة سبقتها تذكرة أخرى ،وهي التي في سورة الفيل ،حينما حبس
الله الفيل عن مكة وأنجاها من التخريب ،بل حينما بطش الله تعالى بجيش
أبرهة البطشة الكبرى .
ّ ً
شيء من التاريخ أريد أن ألمح به تلميحا يتعلق بالبيت ،وموضوع البيت تكرر
ذكره في القرآن الكريم مرارا ً كثيرا ً ،تكرر ذكره في معرض الدفع عنه حين
رد ّ الله أبرهة وجيش الحبشة ،وتكرر ذكره في معرض المنة على القرشيين
في إيلفهم لهاتين الرحلتين آمنين موفورين ،وتكرر ذكره حينما قال ربنا جل
طف الناس من حولهم ( بل حتى وعل ) أو لم يروا أنا جعلنا حرما ً آمنا ً ويتخ ّ
في المرحلة المدنية تكرر ذكر البيت عددا ً من المرات وحسبنا أن نشير إلى
الية الكريمة التي ذكرها الله في سورة البقرة ) قد نرى تقلب وجهك في
ل وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم السماء فلنولينك قبلة ترضاها فو ِ
فولوا وجوهكم شطره ( إن الرابط بين هذا الدين وبين هذا البيت رابطة غير
قابلة للفصل ،بل إن البيت آخر مظهر من مظاهر هذا السلم ..ففي
أحاديث الفتون وما يجري في آخر الزمان وعند اقتراب الساعة ذكر لرجل
ُأحيمش الساقين يغزو البيت فينقضه حجرا ً حجرا ً ،ويكون تهديم البيت
ونقضه آيات على اقتراب الساعة .
والله جل وعل حين أشار إلى هذه البيت في هذه الية لفت نظر ما نحن
المتأخرين على القل إلى أن ننظر إلى القضية نظرا ً أعمق .
نحن نعرف أن العرب وليس فقط عرب اليوم ،هم الذين يتآمرون على
قضاياهم وليس فقط عرب اليوم هم الذين يساعدون أعداءهم على
أنفسهم ،نحن نعرف أن العرب في الجاهلية كانوا يركبون هذا المركب
الخشن والمعيب ،كانت في جنوب الجزيرة طوائف من النصارى تحدثنا
عنهم من قبل ،هم النصارى في نجران ،ومن قبل هاجمت الحبشة اليمن
واحتلتها ،وقادت الحبشة الجيش لتهدم البيت فرّدها الله جل وعل ،وعلى
مر التاريخ فإن البيت كان موضعا ً ومحل ً للمؤامرات المستمرة ،فأريد أن
ألفت نظركم إلى مرحلة من مراحل تاريخ هذا البيت ،أنتم تقرأون آية
المباهلة في سورة آل عمران ،حينما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه
وسلم أن يباهل أو يلعن الوفد النجراني الذي جاءه في السنة التاسعة أو
العاشرة من الهجرة ) تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ( ففيما يتعلق بالمور
73
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التاريخية ليس لدينا تاريخ مضبوط على النحو الذي يسمح لنا بالحكم القاطع
على الشياء ،ولكن أختار رواية تكشف لكم عن ما أحاط بالبيت من
مؤامرات .
إن المفهوم السائد عن الوفد النجراني أنه وفد جاء يطلب الموادعة ولكن
الروايات المفصلة تقول لنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استتب
له أمر الجزيرة العربية أو كاد فبادر بعض الصحاب إلى النصارى في نجران
فجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وأنا أشك في هذه الرواية وأقول
إن الوفد جاء من نفسه دون طلب من الرسول عليه الصلة والسلم ،ودون
مبادرة من أحد من الصحاب ،وفي الروايات التفصيلية أنه حينما جرى
التفكير بإرسال وفد إلى المدينة يتعرف على حقيقة الدعوة وعلى شخص
الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثار جدل طويل ،وقام من بين
النجرانيين من يدعو إلى ضرورة تشكيل حلف يتكون من بيزنطة التي هي
دولة الروم ،لحظوا التاريخ يكاد يعيد نفسه ،ومن إمارة الغساسنة في
جنوب الشام وهم نصارى ،ومن إمارة المناذرة في الحيرة وهم نصارى أيضا ً
،ومن الممالك الفريقية الخمسة التي كانت معروفة في ذلك الزمان وهي
الحبشة وعلوة وزواو والنوبة ومريسة ،ومن النصارى النجرانيين ،وهؤلء
كلهم نصارى على مذهب الملكانية ،أي أنهم يدينون بالطاعة والولء للمذهب
النصراني الرسمي السائد في الدولة البيزنطية .
وأن الغرض من هذا الحلف هو الهجوم على المدينة واجتثاث الدعوة ،ثم
تدمير الكعبة باعتبارها الرمز الذي يشد المؤمنين إليها جميعا ً .إل أن أصواتا ً
كرت النجرانيين بأن سفر الجامعة في العهد القديم فيه بشارة عالية ذ ّ
صريحة بالنسية أي المخلص ،بنبي يأتي من بعد موسى اسمه أحمد ،بنبي
يأتي من بعد عيسى اسمه أحمد أو محمد ،فارعوى الناس وذهب الوفد ،
على القل جاء ليختبر قوة الخصم على الطبيعة ،وحين اكتشف الوفد ذلك
عاد بعد أن رضي بالموادعة وقبل أداء الجزية .
)(7 /
هذه القضية سأعرض لها إن شاء الله إذا أحياني الله وفاقا ً للنظر التاريخي
العلمي الصارم لكي ُيعرف أن الشيء الذي قيل ويقال اليوم إن باب
السيطرة على العالم السلمي يعتمد على شيئين :محو القرآن أول ً وهدم
الكعبة ثانيا ً .فما دام القرآن موجودا ً يقرأه المسلمون وما دام الكعبة
موجودة في مكة تشد إليها أبصار المؤمنين وتشعل جذوة الحماس في
نفوسهم فل سبيل للسيطرة على العالم السلمي .إنها كما ترون معزوفة
قديمة ،ويعاد اليوم العزف عليها ولكن مع اختلف في الوكسترا ،إن
الممثلين والعازفين اليوم من المسلمين بالذات ،في الماضي كانوا نصارى
ول بأس ،ونحن بلغ بنا التمرد على الله أن نؤخر النصارى ونضعهم وراء
ظهورنا لكي نقوم نحن بأيدينا بتنفيذ أغراض النصارى وتنفيذ أغراض اليهود .
شيء مؤسف أليس كذلك ؟ ولكن هذه هي المسألة ،بكل عريها وبكل خزيها
وبكل عارها ،مسألة قديمة يعاد تنفيذها اليوم .
فإذا تركنا سورة قريش وتذكيره إياهم بهذه النعمة السابغة وهي نعمة ينبغي
أن يذكرها المسلمون اليوم ..وجئنا إلى القارعة فهي ) :القارعة ،ما
القارعة ،وما أدراك ما القارعة ( للتهويل ) يوم يكون الناس كالفراش
المبثوث ( ولحظوا التعبير اللطيف المعجز ،يوم القيامة يكون الناس
74
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
كالفراش المبثوث ،فيه إشارة لطيفة بعيدة نوعا ً ما ،حينما تشعل نارا ً ،ما
الذي يدور حول النار ؟ الفراش ،في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم
يقول :إن مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا ً فجعلت هذه الهوام
والفراش تتهافت فيها ،أي تنكب على النار ،فأنتم تتهافتون في النار وأنا
آخذ بحجزكم ،يعني أمسك بكم من أوساطكم لكي ل تتهافتوا في النار ،إن
التعبير ) يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ( يشير إلى أن الناس بخطاياهم
يحومون حول النار ويوشكون أن يتساقطون فيها .
) وتكون الجبال ( وهي أرسى شيء وأقوى شيء ) كالعهن المنفوش ( وفيها
أيضا ً إشارة لطيفة وبعيدة نوعا ً ما ،والعهن هو الصوف ،والصوف عادة
تتماسك شعيراته وإل فل فائدة فيه ،ولكنك حينما تعطيه للنداف فينفشه
فتنحل هذه الشعيرات حتى يوشك أن تكون كل شعيرة ذاتا ً قائمة على حيالها
،فكذلك الناس يوم القيامة ) كالعهن المنفوش ( تتفكك كل ذرة عن أختها
وهنا إشارة إلى أن أحدا ً ل يعرف أحدا ً يوم القيامة ) ،ل أنساب بينهم يومئذ
فت ول يتساءلون ( لكن من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ،ومن خ ّ
موازينه فأولئك هم الخاسرون ،والناس يرفضون أو تذهب عليهم كل العلئق
التي كانوا يعيشون عليها في الدنيا ليقف كل إنسان بمفرده أمام المصير
والحساب والثواب والعقاب ..
) فأما من ثقلت موازينه ،فهو في عيشة راضية ( هناك مصير في الخلود
والنعيم البدي ) وأما من خفت موازينه ،فأمه هاوية ( يعني جهنم يهوي فيها
إلى قعرها ) وما أدراك ما هيه ،نار حامية ( ..بل شعور مني بأن أستفيض
في شرح هذه المسألة أقول إن السورة تثير موضوعا ً من أخطر
الموضوعات التي واجهتها الدعوة هو صدق وأحقية يوم الخر ،إن النسان
المسلم المفتاح الذي يضبط شخصيته ويحدد له أهدافه إيمانه بالمصير
والمنقلب إلى الله ،إيمانه باليوم الخر ،ومن كان ل يؤمن باليوم الخر إيمانا ً
راسخا ً ثابتا ً فل خير فيه .
وهذه القضية سوف تقابلنا بعد الن ،لن المكيين أثاروا حولها جدل ً طويل ً
وغبارا ً كثيفا ً ،وتولى القرآن الرد ّ ،وتولى الكشف والبيان .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب
العالمين ..
)(8 /
تفسير سورة ص (
الجمعة 30ذي القعدة 11 / 1397تشرين الثاني 1977
) 1من ( 5
شوح العلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
ما نكد ،وكل
فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة القمر ول ّ
سورة بل كل آية من آي الذكر الحكيم تتطلب من المؤمنين المزيد من
المعان والتدّبر ،فنسأل الله تعالى أن يرزقنا أن نبذل قصارى ما في جهدنا
من الفهم عن الله جل وعل ،نعنى ما أراد في محكم تنزيله وعلى لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم .
وها نحن الن نستقبل السورة السابعة والثلثين في سياق التنزيل وهي
75
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
سورة ) ص ( وعدد آياتها ثمان وثمانون آية ،وهي مكية بالجماع ولعلها تكون
من بواكير ما نزل من كتاب الله تعالى في المرحلة المكية بحيث تنتمي كما
تكشف عن ذلك موحياتها وإشاراتها إلى نفس المنظور الزمني الذي حددناه
للحديث عنها .
وطبعا ً ككل سورة من السور التي تبلغ حدا ً معينا ً من الطول وتنوع الغراض
فإن من غير الحكمة أن يصار إلى استعراضها مرة واحدة ،لن ذلك فوق
الطاقة ،ولو أن أحدا ً أطاقه لجنى دون ريب على جملة القضايا التي عرضت
لها السورة الكريمة والتي ينبغي للمسلمين اليوم أن يتعرفوا عليها تعرفا ً
واضحا ً ومستقيما ً .
قبل هذا ل بد أن نعيد إلى أذهان الخوة ما يساعد على فهم الجواء التي
تحركت فيها آيات هذه السورة الكريمة ،فالدعوة وحتى الن بل وحتى
الوقت الذي نزلت فيه سورة ) ص ( مرت بمراحل يشبه أن تكون قابلة
للتمييز ،ففي بداية الدعوة كان الستنكار والستغراب المصحوبان بعدم
المبالة والستهجان والستخفاف ،كشأن الناس مع كل جديد يلقى إليهم
ويصافح أسماعهم ،ثم لما تبّين للمشركين إصرار النبي صلى الله عليه
وسلم على الوقوف مع كلمات ربه كان بعد موقف الستكبار والستعلء
ومحاولة الصد ّ بالقوة أو بالزجر على اعتبار ـ وهذا أيضا ً يتساوق مع طبائع
المور وسنن الجتماع ـ على اعتبار أن الجهة القوى ل ترى ضرورة ماسة
إلى استعمال ما هو أعنف إذا كان ما هو أخف منه يقوم مقامه ،وعهدنا دائما ً
مة المور في كل مجتمع من المجتمعات أن الطبقات العليا ومن بيدهم أز ّ
يرون الدعوات الوليدة شيئا ً ل يتقاضاهم أكثر من التجّهم والستنكار ،ولكن
الدعوة تمضي والمؤمنون يزدادون عددا ً والناس يفتحون آذانهم لهذا الكلم
المعجز الذي يتلوه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم مما ل عهد لهم بمثله
حتى إنهم وهم الخصوم اللداء وقادة الكفر ورؤوس الشرك لم يقدروا على
أن يمنعوا أنفسهم من أن يتسللوا لواذا ً تحت جنح الليل لينصتوا إلى قراءة
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في صلته في جوف الليل .
فكان بعض العدوان ،وانصب العدوان في معظمه على المستضعفين ،
ورافقت ذلك حملة دعاوى استهدفت صد ّ الناس عن الستماع للذكر ،حتى
إنهم ليأخذون أفواه الطرق وسكك مكة كي يبلغوا الوافدين عليها من القبائل
أن ل يلقوا محمدا ً صلى الله عليه وسلم ،وأن ل يستمعوا إليه ،لنه يقول
كلما ً يشكل خطرا ً على كيان المة وعلى كيان الفراد والسر جميعا ً فكانت
قالتهم المشهورة إنه جاء بسحر يفرق به بين المرء وزوجه ،وبين الرجل
وولده ،وبين الولد وأبيه ،ولكنها ألعيب صبية وحيلة عاجزين .فالمسألة هي
خلف كل ما جّرب الناس من قبل ،ليست نزوة فرد ول شهوة طامع ،ول
شره إنسان تتحّلب أشداقه على ما عند الناس ،وإنما هو كلم الله ودعوة
الله تعالى إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم
إلى صراط مستقيم .
وإذا ً فالعرب المكيون ُووجهوا بشيء ل يملكون معه حيلة ،كما ل يملكون له
ردا ً ول يطيقون له دفعا ً ،فما الذي يكون ؟ إن الذي يقضي به طبائع
المجتمعات وسننها وقوانينها أنك ل تستطيع أبدا ً وبصورة مستمرة أن تبقى
على وتيرة واحدة في الحرب والنضال ،ل بد من تنويع السلحة ،ومع تنويع
السلحة والمستويات التي تقاتل عليها فأنت خلل ذلك ولجل أن تحمي من
حولك ممن هم على مشربك وعلى منهجك أنت مضطر لن تنظر إلى هذا
الشيء الذي يقال ،من هنا ومنذ عدد من السور قلت لكم إن المشركين
76
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
استنفذوا على القل مؤقتا ً بعض الطاقة على رعونة المجابهة ،على ل
عقلنية المجابهة ،على المجابهة الفاشلة ،ووجدوا أنفسهم في مواجهة أمور
وقضايا ل تفلح فيها سفاهة السفهاء ول تجدي في ردها اختلقات الكاذيب ،
ول بد من مواجهتها ،ول بد من النظر فيها ،وإذا ً فقد أصبحت آيات الله جل
وعل منذ ذلك الحين تأخذ منحى آخر يواجه أمورا ً جدية وبالغة الخطورة .
)(1 /
تعلمون أن السلم دين التوحيد ،ودين التوحيد كلمة تقال اليوم بين قوم ل
يدركون أبعادها ول يحسون خطرها ول يشعرون ول يتصورون الثار الهائلة
التي تترتب عليها ،لنهم ألفوا منذ ُولدوا ومع لبن أمهاتهم أن يعرفوا أن
عرضت لول مرة في جنبات السلم دين التوحيد ،لكن هذه القضية حين ُ
مكة في أم القرى بين قوم تتعدد آلهتهم وتتكاثر معبوداتهم ،وفي مجتمع
ة بالغة إنساني من أقصاه إلى أقصاه يستغرب كلمة التوحيد كانت قضي ً
الضخامة شديدة الخطورة ،فجاءت آيات الله جل وعل تنافح ،مما يوحي أن
طرح القضية بهذا الشكل أثار لدى المكيين ولدى غير المكيين ممن يهتمون
كز الكلم بقضية الدين عموما ً جدل ً كبيرا ً ،فانصّبت آيات الله جل وعل تر ّ
حول نقطتين أساسيتين ،أولى النقطتين أن أيسر النظر وأهون الفكر وأقل
ن لمواقف تطلع إلى النفس وإلى الفاق وملحظة إلى النظام والنسجام وتبي ّ ٍ
اللطف والعناية اللهيتين يوحي ذلك كله بالقصدية المحّتمة في هذا الكون .
والنتيجة التي تنبني على هذا الكلم أن الكون لم ُيخَلق عبثا ً ،في الوقت
الذي يستحيل أن يوجد من غير موجد ،وهذه قضية أولية وأساسية ورئيسية ،
لكن المشكلة مشكلة اللوهية التي ل تنحل عند هذا الحد ،فقد رأيتم في
سورة ) ق ( وقبلها بقليل وبعدها بقليل أن آيات الله جل وعل جاءت لتسبغ
على قضية اللوهية أوصافا ً معينة .إن الذهن البشري في دللته المزمنة
وخبله الدائم كان له تصور ،أن هؤلء الناس شيء كثير ليسوا مفردا ً ،نحن
هنا أمة تجاورنا أمم ،وهذه المم تجاورها أمم أخرى ،ومن قبلنا أمم مضت
وقبلهم أمم مضت في آزال ل يعلمها إل الله تعالى ،ومن بعد فالرحام تدفع
والرض تبلع ،وإذا ً فثمة أجيال يستعد الوجود لستقبالها ،ما عددها ؟ ما
كثافتها ؟ الله أعلم بذلك .وأيضا ً فنحن كوكب صغير في زاوية ل يكاد يؤبه لها
من هذا الكون ،شظية من شظايا هذا الكون جّهزها الله تعالى لسكنى آدم
وذريته ،وأيا ً ما كان فكون الله تعالى أوسع من كوننا وأعرض من كوننا ،وما
يدرينا لعل لله مخلوقات من جنسنا أو من غير جنسنا تكون في كواكب أخرى
وعوالم ،هنا يبدأ الشكال في الذهن البشري المخّبل :هل يمكن ويستقيم
عقل ً أن يكون لكل هذه الخلئق الضاربة في الزل والموغلة في البد إله
واحد يسمع شكاة الجميع ويأذن لرغبة الجميع ويستجيب لدعوة الجميع في
ن واحد ؟ تلك ربما تكون نقيضة أكبر من أن يستوعبها ذهن النسان وهو آ ٍ
يتخّبط في خبله المادي المشدود إلى قيمة الرض .من هنا جاءت لوثة
التعدد وجاءت لوثة الشرك ،فلكي نقرر أن هذا الكون مخلوق لخالق
ومربوب لرب فل بد إذا ً أن يكون أرباب متعددة ،كيف نوزع في حياتنا
البشرية المهام والمسؤوليات والختصاصات على المسؤولين عنها وعلى
المنوط بهم إدارتها ونفاذها ،كذلك ينبغي أن يكون في هذه المقايسة
العرجاء شأن المل العلى ،ل بد أن تكون ثمة آلهة ،لكل آلهة اختصاص وهو
يفصل ويقضي في اختصاصه ،فجاءت قضية الشرك وتعدد اللهة من هنا ،
77
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وقاتل السلم في هذا الباب قتال ً راشدا ً ولكنه مجيد ،لكي ينفي عن ذهن
البشر هذه اللوثة ،وهو أن الله الذي صدرت عنه هذه الموجودات ل يشذ
عن علمه ،ول تخرج عن شطآنه ،ول مناص من أن تبقى تحت قهره ،وتحت
سيطرته .
فآيات القرآن التي جاءت أول ً والتي مضى قسم كبير منها وبقي ما هو أكبر
وأخطر جاءت تلفت الناس إلى هذه القضية بشعبتيها ،قضية ضرورة وجود
الخالق الذي صدرت عنه الموجودات ووحدانية هذا الخالق ) قل لو كان فيهما
آلهة إل الله لفسدتا ( إذا ً لذهب كل إله بما خلق ولعل بعضهم على بعض ،فل
يستقيم في الذهن السوي وفي العقل المستقيم أن تتعدد الرادات إل في
كون ل يجري على نسق مضبوط .وأما في كون منذ أن وعى النسان وأدرك
يمشي بنظام ل يحيد شعرة ول يستأخر لحظة ول يستقدم لحظة فمن
النقائض التي ل تستقيم في عقل عاقل أن يكون هناك أكثر من إله ،لن
مر الكون
تنازع الختصاص يؤدي إلى خلل في النظام هو الفوضى التي تد ّ
وتأتي على كل ما فيه .وما دمنا نرى كل ما في الكون على أبدع ما يكون
من النسق والنتظام فل بد ضرورة من أن نقّر بمبدأ التوحيد .هذه واحدة .
)(2 /
الثانية أن المشركين بدأوا ينظرون إلى قضية ذات شعبتين أيضا ً مضى
الحديث عنهما قبل هذه السورة ،وجاءت تعقيبات القرآن تترا في هذا
المجال ،ل بأس أن نقول أن الكون موجود عن موجد وأن هذا الموجد واحد
ل شريك له ،لكن لماذا يكون الرسول بشرا ً من الناس ؟ ولماذا ل يكون
ملكا ً من الملئكة ؟ أليس لو كان ملكا ً أليس ذلك أدعى لن يكون أهيب
لسلطانه وأكثر حمل ً للناس على الصاخة لقوله واتباع أمره ؟ فرد ّ الله تعالى
عليهم هذه النقيضة ،وأبان لهم أن رسالة الله إلى الناس ُيقصد منها الفهم
والفهام ،والفهم والفهام يستحيلن إل مع اتحاد الجنس ،ولو أن الله أجاب
المتسائلين المتشككين إلى طلبهم لكان ضرورة الفهام قاضية أن يرسل
الله ملكا ً في صورة رجل ،وإذا ً فقد عدنا إلى بداية المر وبداية الشكال ،
وهذا ما ترجم الله عنه بقوله ) ولو جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبسنا عليهم
ما يلبسون ( أي عدنا إلى بداية النقيضة التي استشكلوها ،وكذلك ليكن
رجل ً ،فلماذا يكون من أوساط الناس ؟ ولماذا ل يكون من الزعماء الذين
عرفوا بالبسطة في الجاه والسلطان ،أو عرفوا بقيادة المعارك ،أي الذين ُُ
عرفوا بكثرة المال والثراء ؟ ولماذا ُيختار لها إنسان ليس من هذه من الذين ُ
البواب ل من قليل ول من كثير ؟ ويرد ّ الله تعالى عليهم ،انظر أيها النسان
إلى مجتمعك الذي تعيش فيه ،ذكر وأنثى ،صغير وكبير ،أسود وأبيض ،
جاهل ومتعلم ،غني وفقير ،ألك يدان في صنع هذه الفوارق ؟ أم الله جلت
قدرته هو الذي قضى أن يكون المر بهذا الشكل ؟ وإذا ً فالمسألة مسألة
إرسال الرسول بعينه فلن من القوم الفلنيين مسألة اختصاص نابعة
ومؤسسة على مطلق الملك الذي هو لله جل وعل ) أهم يقسمون رحمة
ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
قضي درجات ليتخذ بعضهم بعضا ً سخريا ً ورحمة ربك خير مما يجمعون ( ف ُ
طرحت مشكلة أخرى ،ل بأس لنسّلم على هذا ،ولكن المر أخذ ُبعدا ً آخر و ُ
بكل هذا الذي قيل حتى الن ،وماذا علينا لو قلنا إننا نريد أن نقيم حياتنا على
هذا الساس ؟ حياتنا الدنيا ،هل رضي القرآن منهم بذلك ؟ ل ،ولكنه
78
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أخبرهم أن القصدية التي هي أساس الوجود عاملة في نهاية هذا الوجود ،
يعني أن الله تعالى حين خلق الخلق وبّثهم على ظهر هذا الكوكب فمن أجل
أن يوحدوه ويعبدوه ولكي ينتهوا إلى أمره وإلى نهيه .
ومعلوم أن الناس منهم من ُيضرب صفحا ً عن كل هذا ،ومنهم من ُيفرغ
جهده في إرضاء الله تعالى فيما أمر ونهى ،ومنهم بين بين ،فهل يليق في
حكمة الحكيم أن يسوي بين هؤلء الناس جميعا ً ؟ ل ،ل بد من يوم تعزو
الرؤوس جميعا ً لله ،يوم يقف الناس جميعا ً للواحد القهار ) ويوم نضع
ة من خردل الموازين القسط ليوم القيامة فل ُتظَلم نفس شيئا ً وإن كان حب ً
أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( هذه القضايا الرئيسية قضايا اللوهية والنبوة
والكتاب واليوم الخر هي عماد ما أثير في المرحلة المكية .
)(3 /
والناس بعد ذلك يراد بهم أمر ،ويراد منهم أمر ،وما يراد بهم ويراد منهم
فمسطور في كتاب الله جل وعل ،يراد منهم أن يعبدوا الله ويوحدوه ،ول
يشركوا به شيئا ً ،وأن يعملوا بجملة ما أمر وينتهوا عن جملة ما نهى عنه ،
ويراد بهم أن يتجاوزوا هذه الفاق الوضيعة التي يتخّبط الناي فيها شرقا ً
وغربا ً ،ليكون النسان إنسانا ً له من المَلك شفافية الروح وله من المَلك
غريزة الطاعة وله من النسان هذا الجسد الذي ينازع إلى تحت ،ولكن
ُيطَهر بالرتفاع إلى العلى .هذا الذي يراد بالنسان ،وذلك شيء ليس تمرا ً
تأكله فتسيغه حلوا ً في حلقومك ،وليس كأسا ً باردة من الشراب تشربها
لتستريح إليها نفسك ،ولكنه مكابدة التعب وسهر الليل وألم النهار ،لنها
قضية تجاوز الذات وقضية النتصار على الضرورات وقضية تأهيل النسان
لن يكون في جوار الله جل وعل حيث الملئكة والنبيون والصديقون
والشهداء والصالحين ..ليس المر هينا ً .من هنا انجفل الناس عن السلم
بحكم الضرورات والمألوفات ولكن هذا ل ينقص أحدا ً من المسلمين
المؤمنين ،فالصرار على الطريق والمثابرة والدأب والمضي قدما ً دون أن
ما ً وقلوبا ً يلتفت النسان يمنة ول يسرة ،كفيل بأن يفتح عيونا ً عمياء وآذانا ً ص ّ
غلفا ً .وهذا الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي كان
أيضا ً في كل وقت وضعت فيه الدعوة إلى الله جل وعل موضع التطبيق
والتنفيذ بشرائطها المسطورة في كتاب الله وسنن رسوله صلى الله عليه
وسلم .على أي حال فليس غريبا ً أن ينفر الناس مما دعاهم إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،فما الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ كان
وف ووعد وأوعد ،كان كما قال عنه الله ) بشيرا ً ونذيرا ً ( منه بأن ح ّ
ذر وخ ّ
بّين لهم عاقبة المكذبين ،كما بّين لهم عاقبة المؤمنين ،تمكينا ً في الرض
ورضانا ً في السماء ،وهذه طريقة ناجعة ومجدية ،لنها طريقة التاريخ ،
والنسان بحكم إنه إنسان كائن تاريخي يعلم ما تعنيه كلمة التاريخ ،بّين لهم
قصص الماضين ومصارع المم المكذبة التي جاءها النذير من الله على
ل الله بها من نقماته ما أح ّ
ل مت آذانها وأدارت ظهورها فأح ّألسنة رسلها فأص ّ
.وبّين لهم ما أعد ّ الله لهم من الروح والريحان والبشرى والنعيم للمؤمنين
الصادقين وجاء ذلك دون أن أذكر لكم السور الماضيات .
في السورة الماضية التي فرغنا منها في الجمعة الماضية في سورة القمر
عرض الله تعالى كما رأيتم صورا ً لعدة أقوام جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا
ص الله علينا ذلك ، أيديهم في أفواههم وقالوا ) إنا كفرنا بما أرسلتم به ( ق ّ
79
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ،أم يقولون نحن جميع
منتصر ( هذه هي القضية التي تحول بينكم وبين اليمان بمحمد ؟ هذه هي
القضية التي تمنعكم من التصديق بالذي يتلوه عليكم محمد ؟ تعالوا إلى
الحساب إلى النقاش النساني ،دعونا من الخرة وما فيها ،هل المسألة
عرف مسألة جموع وتحزبات ؟ ومتى رأى الناس أن أمة من المم منذ ُ
ً
التاريخ إلى الن بقيت في مراكز الصدارة ،أما يرى الناس أن أمما تبلغ الوج
والذرا في العز والسيادة ثم تشيخ وتنهار ؟ أما يرى الناس على مستوى
الفراد عزيزا ً ذل وغنيا ً افتقر ،وإذا ً فنظر يسير في تقادير الله جدير بأن
يكشف النظر ويجلو اللوحة أمام النسان ) أم يقولون نحن جميع منتصر (
نحن كثر ،ومحمد ومن معه قلة ،وهذه مشكلة للسف تعيش في أذهان
الذين يدورون في فلك المتنفذين والذين في أيديهم بعض النفع الخفيف
لذوي النفوس المريضة ،فيظنون أن الغلبة لهم ل محالة ،وأن العاقبة لهم ل
ريب ،على المدار ليس على الكثرة ول على القلة ،إنما المدار يتركز في
أهلية البقاء ،القدرة على الوفاء لحاجات المستقبل والحاضر جميعا ً ،إذا
كانت الدعوة قادرة على إشباع احتياجات المستقبل ماديا ً ومعنويا ً إيمانيا ً
وأخلقيا ً فهي الجديرة بأن تبقى ،وإذا كانت الدعوة على خلف ذلك وإذا كان
النظام على خلف ذلك فليتحّزب معه أهل الرض جميعا ً ،إنه يحمل في
تركيبه بذور الفناء وجراثيم الموت وأسباب البادة ،ولهذا قال الله لهم ) أم
يقولون نحن جميع منتصر ،سيهزم الجمع ويولون الدّبر ( وبالفعل القلة
المؤمنة التي آمنت بالنبي عليه الصلة والسلم في مكة وخرجت منها تتسلل
80
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في جنح الظلم مهاجرة إلى الله بدينها إلى يثرب هي التي لقيت المشركين
بعنجهيتهم وبحدهم وبحديدهم وبكبريائهم وبفخرهم ) يحادون الله ورسوله (
فلم يثبتوا أمامهم إل ضحوة من نهار ثم كانوا خبرا ً ُيذكر ويلعن إلى أبد
الدهر .
فالمسألة إذا ً ليست الجموع الكثيفة ولكن هذه القضية قضية تحتاج إلى نظر
عميق وإلى نوعية من الرجال ُأشبعت إيمانا ً وُأشبعت يقينا ً ،حينما جاء عدي
بن حاتم بعد أن كتبت إليه أخته بأن يقدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم جاء عدي حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وكان تحت النبي صلى الله عليه وسلم حصير فدفعه إليه فجلس عليه عدي
وجلس عليه الصلة والسلم على الرض ،قال له :يا عدي ما أفّرك ؟ أي
لماذا فررت من وجهنا ؟ هل تعلم يا عدي إلها ً غير الله ؟ يا عدي أفّرك أن
يقال الله أكبر ؟ تعلم شيئا ً أكبر من الله ؟ يا عدي لعله وقع في نفسك أن
المسلمين قلة وأن عدوهم كثرة وأن المسلمين في ضعف وفاقة وأن
عدوهم في غنى ،والله يا عدي ليوشكن أن تسير الظعينة من هنا إلى صنعاء
ل تخشى إل الله والذئب ،يا عدي والله ليفيضن المال فيضا ً ولتفتحن كنوز
كسرى وقيصر ولتنفقنها في سبيل الله .قال :كسرى بن هرمز ؟ قال نعم
كسرى بن هرمز .ومات رسول الله ومات بعده أبو بكر ،وجاءت خلفة عمر
طم ملك كسرى ،وكان فيمن شارك في ،وكان عدي رضي الله عنه فيمن ح ّ
تحطيم ملك قيصر ،وخرج المسلمون من القلة إلى الكثرة ،ومن الذلة إلى
العزة ،ومن الفقر إلى الغنى والسؤدد ،فالذين ل يعلمون ول يستبصرون
المور هم الذين يؤخذون بظواهر المر ) يعلمون ظاهرا ً من الحياة الدنيا (
وما جدوى أن يعلم الناس ظاهر الحياة الدنيا وهم في غفلة عن قانون الله
جل وعل .
هذه الذكريات التي ساقها الله جل وعل أمام أنظار المشركين ساقها في
مجال العظة والعتبار ،ونحن الن أمام السورة الثامنة والثلثين سورة
) ص ( وأنا قصدا ً أطلت لكم الستعراض لكي تعلموا شيئا ً ،إن السلم ل
يستطيع أن يقول كما يقول سفهاء السياسة أن الجهة الفلنية هي العدو رقم
واحد ،أو أن الشخص الفلني هو العدو رقم واحد ،تلك سفاهات تستجيش
الغرائز المنحطة للناس المنحطين ،ونحن نتكلم في جيل يحرص على أن
يبقى النسان إنسانا ً ،إنسانا ً لو دام على ما هو عليه لصافحته الملئكة وهو
في الطرقات ،إن السلم ل يرتب اللويات بهذا الشكل ،السلم جهاز يعمل
في كل التجاهات ،وعلى جميع المستويات ،وككل جهاز حينما تعطيه طاقة
الشحن لجميع أجهزته يمنحك كفاءة عالية جدا ً من حيث القدرة ومن حيث
النتاج ،لكنك حينما ُتخل بترتيبات الجهاز فذلك على حساب الكفاءة التي
ُتطلب من الجهاز .
)(5 /
إنما ونحن نتوجه إلى الخصم الرئيسي على العدو المباشر إلى الحكم المادي
الذي نراه أمام أعيننا يجب أن ل يغيب عن بالنا أننا نحن الداة ،ما معنى ذلك
؟ معنى ذلك أن تحطيم الباطل العظيم يفتقر إلى تواجد حق عظيم ،ومعنى
ذلك أيضا ً أن الناس المؤهلين للدمدمة على آثار الباطل وإزالة آثار الطغيان
وكنس بقايا الذل هم الرجال الذين ارتفعوا إلى مستوى رائع من حيث
الكمال النساني المقدور للطاقة البشرية ،ولهذا فنحن نجد بالمقارنة
81
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
والمقايسة حينما نقرأ سورة القمر أن الله تعالى اتجه بالخطاب إلى
المشركين ،فبّين قصص أقوام جاءتها رسل الله كما جاء المكيين محمد
صلى الله عليه وسلم فكذبت رسلها فأخذها الله أخذ عزيز مقتدر ،لتتعظ
أمة العرب أن تقع في نفس المحظور الذي وقعت فيه المم الماضية .
فإذا جئنا إلى سورة ) ص ( فنحن نواجه أمرا ً عجبا ً ،نواجه فاتحة أقرأها
عليكم لتعرفوا كيف ترشح لمحتويات السورة بمذاق هي من خصائص القرآن
) ص والقرآن ذي الذكر ،بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( انتبه أيها
المسلم ،لو أردت أن أقف معك ساعات عند هذه الكلمة ما فرغت ) .ص
والقرآن ذي الذكر ( و ) ص ( كما قلت لكم من قبل إشارة إلى إعجاز هذا
القرآن ،بمعنى أن هذا القرآن يملك من الحيوية مثلما يملك النسان من
الحيوية ،وأنه في العجاز كدللة النسان على صنع الله المعجز ،وأن هذا
الحرف المفرد من حروف المعجم هو الذي تأّلف منه الكلم القرآني الذي
دى الله به النس والجن وقال ) ل يأتون أعجز البلغاء والفصحاء ،والذي تح ّ
ض ظهيرا ً ( لماذا ؟ لن التأليف غير التأليف ،بمثله ولو كان بعضهم لبع ٍ
فالحروف المفردة في أوائل السور من حروف اللغة العربية التي نؤلف بها
كلمنا ،ولكننا في الواقع نؤلف الكلم فل يكون عليه هذه الطلوة ول هذا
الرونق ،لماذا ؟ لن الفرق بين صنعة الله وصنعة النسان ،ونحن اتفقنا أن
نحلل الجسم البشري تحليل ً كامل ً ،ونحن قادرون على أن نعطي نسبا ً دقيقة
وصحيحة لكل ما في جسم النساني من عناصر ،ومع ذلك فلو أتيح لنا أن
نخرج من المعمل كيانا ً في صورة النسان فهل هذا إنسان ؟ ل ،ضربت لكم
سابقا ً النفخ فقلت لكم إن الله تعالى قال ) فإذا سويته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين ( يعني أن خلق آدم مّر بمرحلتين ،الولى هي
التسوية أي جعله مخلوقا ً متساويا ً على الشكل المقبول الذي عليه الن ،
ولكنه في هذا الحالة لم يستحق السجود ،فقال ) فإذا سويته ونفخت فيه
من روحي فقعوا له ساجدين ( فاستحق الكرامة وسجود الملئكة له بماذا ؟
بالنفخة اللهية ،فبمثل هذه النفخة اللهية التي كّرمت ابن آدم وجعلته معجزا ً
كل منه كلم ش ّفي خلق الله نفخة الله تعالى في هذا الحرف المفرد الذي ُ
الله تبارك وتعالى ،وإذا ً فحرف صاد بمفرده يشير إليك أنك قد تملك العنصر
الذي يترتب منه الكلم ولكنك ل تملك القدرة على أن تأتي بمثل هذا القرآن
المعجز .
) ص والقرآن ذي الذكر ( يعني الذي يذكر الناس ،الوعاء الذي حوى كل
شيء يذكر الناس بالله واليوم الخر ،ويلفت نظره إلى ما يعطيه الخير في
الدنيا والخرة ) ،بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( ماذا ينتج الكفر ؟ عزة
وشقاقا ً ،والعزة ما هي ؟ العزة هي التصور أنك في مركز منيع ل تستطيع
قوة أن تنالك فيه ،ولهذا قالت العرب :من عّز بّز .يعني من عّز غلب ،
فالعزة هي تصور الناس أنهم في موقف ل ُيغلبون معه ول يقهرون ،وماذا
ينسج عن تطورٍ من هذا القبيل ؟ الشقاق والنزاع والتفرق والختلف ،منذ
ت تسمع وحتى بدايات القرن الثامن عشر وبداية تشكل الدول القومية كن َ
الن ،وفي بلدنا أيضا ً مع أن الموضة سقطت ،ونحن على العادة لسخافة
عقولنا ولسوء اختيار لنفسنا نلتقط قمامة الفكار والزياء التي يتخلى عنها
ت تسمع دوما ً ألمانيا فوق أصحابها ،حينما بدأت الدعوة القومية من أوروبا كن َ
الجميع ،إيطاليا فوق الجميع ،فرنسا فوق الجميع ،هولندة فوق الجميع ،
روسيا فوق الجميع ...فمن هو فوق الجميع ؟ من الذي بقي تحت الغربال ،
إذا كان الكل فوق الجميع ،لماذا ينتج شيء من هذا القبيل ؟ لماذا تبرز
82
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ظواهر من هذا القبيل ؟ إن الكفر أول ما يعطيك استكبارا ً ورؤية أنك فوق
القوانين وفوق أن تخضع للوامر والنواهي فأنت وحدك عالم مستقل لك
ذاتك التي ل يمكن أن تخضع أو تذل لمر ل من فوق ول من تحت ،وهذا أول
الشقاق ،فكانت من نتيجة ذلك الشيء الذي ل بد منه شقاق ونزاع وحروب
ودماء تسير بالمليين وإلى الن .
)(6 /
فالذين كفروا الذين تحدثت عنهم سورة القمر وهي تعرض نماذج منهم
جاءت سورة ) ص ( لتكشف منذ البداية عن العلة التي أوصلتهم إلى أن
يكونوا مهزومين حكما ً قانونا ً ل يتخلف ،إن الكفر بمجرده هزيمة ،لن الكفر
له نتائج ،ونتائجه الستكبار في الرض ،والستكبار في الرض فساد عريض
وشر مستطير ،ونتائجه الشقاق المستمر ،وإذا ً فالمجتمع الكافر مجتمع
ملغوم يمكن أن ينفجر في كل لحظة ،لكن فتيل البارود التي تشعل هذا
البرميل ستفجره وستبدد هذا المجتمع المتداعي المهترء ،وجود القوة
المؤمنة التي تشير بأصبعها إلى الطريق إلى الله وإلى طريقه المستقيم ،
هذا شرط يجب أن يعرفه المسلمون ،وقد أبرزته فاتحة سورة ) ص ( .
) ص والقرآن ذي الذكر ،بل الذين كفروا في عزة وشقاق ،كم أهلكنا من
قبلهم من قرن فنادوا ول حين مناص ( وجاءت بعد ذلك اليات التي تتحدث
عن بعض الحتجاجات على بعض النبوات كيف أنهم ) عجبوا أن جاءهم منذر
منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ( لست بصدد عرض بداية السورة
ولكن أريد أن أقول إن الله تعالى حين فرغ من عرض فاتحة السورة قال
) اصبر على ما يقولون ( والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ) واذكر
عبدنا داوود ذا اليدي إنه أواب ( وينتهي من قصص داوود ،ويقول ) ووهبنا
لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب ( وينتهي من قصص سليمان ،ويقول
) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ( وينتهي
من قصص أيوب ،ويقول ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولو
اليدي والبصار ،إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ،وإنهم عندنا لمن
ل من الخيار ( فين الخيار ،واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وك ٌ
المصط َ
ً
ونقف هنا وقفة صغيرة لنقول ،في سورة القمر كان النتباه مشدودا إلى
عواقب المكذبين من المم لكي ترعوي المة العربية التي كذبت محمدا ً
صلى الله عليه وسلم ،في سورة ) ق ( كان النتباه مشدودا ً إلى أنبياء
ل رفيع ،فكان وليس إلى أقوام ،أنبياء وضعهم الله بحكم النبوة في أفق عا ٍ
منهم في بعض الحايين ما يعتري الطبع البشري من هبوط بعض الشيء
فعاقبهم وعاتبهم الله وهو عقاب وعتاب ليس من باب الزلة التي هي من
َ
زلت الحاد وإنما هي من باب سيئات المقربين حسنات البرار .هؤلء ُيطلب
منهم أن يحاسبوا دائما ً على المستوى الرفيع الذي وضعهم الله جل وعل
فيه ،وبعد ذلك فكل الدعاة إلى الله جل وعل من غير النبياء على قدم
النبياء ،أراد الله تعالى منهم أمرا ً ،فحين يعملون وحين يرون من المجتمع
إعراضا ً وحين يبطء عليهم النصر وحين تصد عنهم وتنغلق عليهم القلوب
ليس لهم أبدا ً أن يفتشوا عن العلل في ثنايا المجتمع ،لن المجتمع أمانة في
أعناقهم ،بل عليهم أن يفتشوا في أعماق قلوبهم .حين وصف الله هؤلء
الخيار قال عنهم ) :إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ،وإنهم عندنا لمن
فين الخيار ( وظني أن الكثير منكم ل يدركون بحكم النشأة اللغوية المصط َ
83
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
للسف معرفة ما يعنيه هذا التركيب ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ( ما
معنى أخلصناهم ؟ أخلصناهم معناها جعلناهم خالصين لنا ،وما هي الخالصة
الخرى ؟ هي الخصلة الخالصة المخلصة من شوائب الدنيا ،ما هي هذه
الخلصة المخلصة من شوائب الدنيا ؟ هي ذكرى الدار ،وإذا ً فالمعنى يكون :
إنا اصطفيناهم على علم منا بهم من حيث أنهم تمّيزوا بخصلة خالصة هي
فوق كل الخصال وهي أنهم دائما ً يذكرون الله واليوم الخر ،دائما ً يذكرون
الدار الخرة .
وإذا ً فبداية السورة وما جاء من قصص فيها يعطينا انطباعا بأن الله يريد أن
ً
يضع أمام نبيه صلى الله عليه وسلم أنموذجات من حياة النبياء الذين مضوا ،
عاشوا بليا وعاشوا محنا ً وعاشوا كوارث ،وأراد الله لهم أن يبقوا كذلك دون
أن يتضعضعوا ودون أن يستيئسوا ،ولهذا كانت فاتحة الكلم بالنسبة له أن
يقال له ) اصبر على ما يقولون ( تلك طبيعة الحياة ،وهؤلء هم الناس ول
حيلة في تغيير طبائع الناس ،والحل أول ً وآخرا ً في الستمرار والمصابرة
على العمل وفي الصبر على سيئات الناس .
جل الخطى في سورة ) ص ( ولكن بدا لي في أحسب أنني كنت أريد أن أع ّ
المس وأنا أستعرض في ذهني جوانب السورة أنني سوف أسمح لنفسي
بالوقوف مطول ً إلى حد ٍ ما عند السورة .الكلم الذي قلته الن فيما أتصور
يكفي في كشف الجو العام الذي تتحرك من خلله آيات سورة صاد ،أطلب
إليكم جميعا ً أن تقرأوا السورة مرة ومرات لنستعد ّ للسابيع القادمة في
تناول السورة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..والحمد لله رب
العالمين
)(7 /
84
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
جزءه الهم يتصل بالذهن ولكن بالرد إلى حديثنا في الجمعة الماضية فقد
ينبغي أن يكون واضحا ً أن أي فهم ل يتصل بالتفاعل مع صيرورة الحياة
ومسيرة الحركة ومع التعامل اليومي المباشر فهو فهم أبتر وناقص ،وتدّبر
دخله التحّيف على كل حال .
ُ
نواصل الية ،وأطلب مزيدا ً من النتباه ) ..كتاب أنزل إليك فل يكن في
صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( قلت لكم سابقا ً إن الحرج هو
المشقة ،وذلك هو المفهوم الظاهر من المادة بتقاليبها المختلفة ،تدل على
المشقة والضيق واللم وما في هذا الباب .وألفت انتباهكم إلى ضرورة
المقارنة بين الطلبات القرآنية ،فهنا طلب بصيغة النهي موجه إلى النبي
الكريم عليه الصلة والسلم ) ل يكن في صدرك حرج منه ( يعني من هذا
ت من قراءة الية الكريمة واجهك طلب آخر ) اتبعوا ما الكتاب ،فإذا فرغ َ
ُأنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء قليل ما تذكرون ( فهنا طلب
ً
جاء بصيغة المر ،لكن ليس موجها ً بصورة مباشرة إلى شخص النبي الكريم
عليه الصلة والسلم ولكنه موجه إلى الكافة ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم
( وبالنظر إلى مدلول اللفظتين ،مرة أخرى أحب أو أؤكد على ضرورة
النتباه حرصا ً على الفائدة ،بالنظر إلى مدلول الصيغتين أو اللفظين نكتشف
فوارق ) ل يكن في صدرك حرج منه ( ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ( مع
حسبان الفارق بين الصيغة الموجهة بصورة مباشرة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم والصيغة الموجهة إلى الكافة فثمة فارق يحتويه اللفظ ،
موضوع نفي الحرج موضوع داخلي ووجداني وجواني ،الحرج حالة نفسية
تعتري النسان ربما يؤدي الفعل وهو يجد هذا الكره الذي يسكن في القلب
للفعل فهو يؤديه صورته الظاهرة تامة ،لكن سنده الباطن مختلف .
) اتبعوا ( أيضا ً صورة ظاهرة ،فالتباع هو النقياد ،تقول :اتبع هذا الطريق ،
ت إليه
فتجد النسان المخاطب المأمور يدرج على هذا الطريق الذي أشر َ
ت إليه أن يتبعه ،لكن ما علمك بدخيلة نفسك ؟ أهو ينفذ أمرك بالرضى وطلب َ
الكامل والطمأنينة التامة والنشراح اللزم ؟ أم هو يأتي بظاهر العمل على
كره وعلى غير انشراح ؟ ذلك أمر ل علقة له باللفظ مطلقا ً ،وإذا ً فثمة فرق
دم النسان على الفعل وهو منشرح الصدر ل يجد في فعله حرجا ً ق ِ
بين أن ي ُ ْ
ول عنتا ً ول ضيقا ول ألما ول شيء مما في هذا المعنى ،وبين أن يؤدى الفعل
ً ً
على استكراه وضيق ومشقة وتقزز .
)(1 /
نرجع مرة أخرى إلى اللفظ ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كلم موجه إلى
النبي عليه الصلة والسلم ،هل ُيتصور أن امرأ في مكانة محمد عليه الصلة
والسلم من ربه ومن دينه وشرعه وفي موضع القدوة بالنسبة لخلقه أن ينفذ
أوامر الله وهو كاره ؟ ما أتصور .في حديث شق الصدر يتناجى المَلكان كما
يروي النبي عليه الصلة والسلم يقول أحدهما للخر :أهو نائم ؟ فيجيبه
الخر :العين نائمة والقلب يقظان .وفي حديث عائشة رضي الله عنها يقول
عليه الصلة والسلم :يا عائشة إنه تنام عيناي ول ينام قلبي .في حديث
الصحابة الذين جاءوا يسألون في أبيات رسول الله عن عبادته عليه الصلة
والسلم ،فلما ُأخبروا بها كأنهم تقاّلوها ،أي وجدوها قليلة فقالوا :وأين نحن
من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ يخاطبهم عليه
الصلة والسلم بقوله :والله إني لعرفكم بالله وأشدكم له خشية .وأحدنا
85
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يرى سحابة مقبلة فيستبشر وينتظر هطول الغيث ويقول مقالة الغافلين ) إنه
عارض ممطرنا( ولكن النبي عليه الصلة والسلم كان إذا هبت الريح
ونواضطربت عوامل الطبيعة أكثر الدخول والخروج وأكثر القيام والقعود وتل ّ
ذب وجهه الشريف فإذا سئل قال :ما يدريني أن يكون هذا عذابا ً فإن الله ع ّ
ذب أقواما ً بالريح .
أقواما ً بالمطر وع ّ
امرؤ هذه صلته بالله وهذا هو اندماجه بالمل العلى وهذا هو مبلغ عرفانه
ور بتاتا ً أن ينفذ ما أراد اللهبقدرة القادر المهيمن الغالب الذي ل ُيغالب ل ُيتص َ
ً
منه وهو يجد ظل ً من الحرج في ذاته الشريفة .وإذا فل بد أن يكون لهذا
اللفظ وجه آخر .لننظر كذلك ،الصيغة هنا لحظوها ) ل يكن في صدرك
حرج منه ( خطاب لمحمد عليه الصلة والسلم ،وهو خطاب فيه عنف وفيه
عنفوان ،لحظوا أنماط المخاطبات مع النبي عليه الصلة والسلم إزاء
أخطاء ولنتجوز ولنسمها أخطاًء ،إن الله جل وعل حينما أخذ عليه الصلة
والسلم الفداء من أسرى بدر في أول معركة حقيقية مع أعداء الله تعالى
كان ذلك مغايرا ً لمقتدى الحكمة الربانية ،والله جل وعل ل يحابي ،فما لبث
أن أنزل قرآنا ً ُيتلى إلى أن تقوم الساعة ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى
حتى يثخن في الرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الخرة ( لحظوا ،لم
يتجه العتاب واللوم بصورة مباشرة إلى شخص الحبيب المصطفى عليه
الصلة والسلم ،وإنما جاء بهذه الصياغة اللطيفة ،عتب الحبيب على
الحبيب ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى ( لم ُيفتتح الكلم بأمر ول بنهي ،
وإنما بخبر أن النبياء شأنهم أل يكون لهم أسرى في أول معركة حتى يثخنوا
في العدو وحتى يوقعوا الرهبة في قلب العدو ،وبإذاك حينما تستمكن رهبة
الله ورهبة رسوله ورهبة المؤمنين من قلوب العداء فل بأس بأخذ السرى
وأخذ الفداء ،وهل انتهى المر عند هذا العتب المهذب اللطيف ؟ ل ،
) تريدون عرض الدنيا ( لم يوجه الكلم بتة إلى شخص النبي عليه الصلة
والسلم ،وكأنه ينصب مباشرة على هؤلء الذين شدوا وثاق السرى
صرف اللفظ بتة عن شخص النبي صلى الله عليه وأسروهم من الجيش ،و ُ
وسلم .
وارين والجبناء من المنافقين أن في غزوة تبوك حينما استأذن بعض الخ ّ
يرجعوا إلى أهاليهم وهي غزوة عسيرة وتحتاج أن يتحرك كل قادر ليوقع
الرعب في قلوب العداء ،لم يكن العتاب بهذه الصياغة التي تشعر أن ثمة
رعودا ً وبروقا ً تجلجل من وراء الكلم ،وإنما افتتح الكلم بهذا اللفظ اللطيف
دم العفو أول ً ثم سأله هذا السؤال اللطيف ) م أذنت لهم ( ق ّ ) عفا الله عنك ل َ
لم أذنت لهم ( .في الخطابات التي جاءت مفتتحة بالنهي على غرار ما هو
وارد في فواتح هذه السورة ،الخطاب الوارد بالنهي ) بل ( حينما مات
عبدالله بن أبي كبير المنافقين والذي جّرح رسول الله عليه السلم والذي
كان يعمل على تحزيب الحزاب والذي والذي ،حينما مات وتقدم النبي عليه
ل
الصلة والسلم فصلى عليه جاءه المر الجازم من الله جل وعل ) ول تص ِ
على أحد مات منهم أبدا ً ول تقم على قبره ( كلم مفتتح بل الناهية ،يحمل
المر الجازم ،ولكن أمعن النظر في الصياغة ،إن الله حينما يقول لنبيه ) ول
ل على أحد منهم مات أبدا ً ول تقم على قبره ( تستشف فورا ً أن تص ِ
المقصود بذلك أن ينزه هذا المقام الكريم ،مقام النبوة أن يصلي على كبير
النافقين ،وإذا ً فالنهي ل ينصب أساسا ً على شخص النبي عليه الصلة
والسلم لمجرد النهي ،وإنما ليرفع مقام النبوة فوق أن يتقدم نبي كريم من
أولي العزم ليصلي على منافق من المنافقين .
86
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
لكن هنا المر يختلف ،كل الصياغات التي تلوتها عليكم مما تضمن مخاطبات
ت على نحو ما من قبل الله مع رسوله الحبيب عليه الصلة والسلم لم تأ ِ
جاءت هنا ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كأنما يشعر النسان بهذه الجفوة
التي يتضمنها اللفظ ،كأنما يريد أن يستقر في وهم القارئ أو السامع أن
فذ مرادات الرسول عليه الصلة والسلم يمكن ولو من باب التوهم أن ين ّ
الخالق تبارك اسمه وهو كاره لهذه المرادات ،كيف ؟ في الجمعة الماضية
قلت لكم يحسن لكي يستقيم فهم سورة العراف أن ترجعوا بالقراءة إلى
سورتي القمر وصاد اللتين سبقتا في النزول هذه السورة الكريمة .
ص في سورة القمر لمحة خاطفة نلقيها الن ،نحن نجد أن الله تعالى اقت ّ
وفي سورة صاد وفي سورة العراف قصصا ً من قصص النبياء مع أممهم
جل للوقفة التي سأقفها السابقة قبل أمتنا المسلمة هذه ،ولكن وبدون تع ّ
بإذن مع مدلولت القصص القرآني في مختلف السور ل بد أن ألفت انتباهكم
وأنعش ذاكرتكم فيما يختص بهذه القصص .في سورة القمر كل القصص
التي وردت جاءت تثبيتا ً وتطمينا ً للنبي الكريم إل أن ظواهر الكنود والجحود
ومظاهر العداء والصد والنفور والتنكيل والتعذيب ليس شيئا ً مستغربا ً ،ذلك
شأن كل أمة مع نبيها ،عتت وتمردت ورفضت النصياع لمر الله تعالى ،
لكن العاقبة مقررة .كما تشرق الشمس من المشرق لتغيب في المغرب
كذلك قانونا ً مقدورا ً ل بد أن يتغّلب الحق ولكن بشروطه المعروفة طبعا ً
والمعروضة بكتاب الله .
والباطل مهما استشرى وتمادى في العناد ل بد أن ينهار ،لن الباطل في
ذاته يحمل جراثيم الفناء والموت ،ذلك أمر ل ريب فيه .فإذا جئنا إلى سورة
صاد وهي السورة التي جاءت بعد سورة القمر مباشرة وألقينا النظرة
العجلى على قصص القرآن نجد القصص القرآني ينحو في التقرير نحوا ً
جديدا ً ،إن القرآني في سورة صاد استعرض وقائع نبيين معينين آخذهم الله
لهفوات بسيطة ) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورا المحراب إذ دخلوا على داود
ففزع منهم قالوا ل تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق
ول تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة
ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعّزني في الخطاب ( انتهى عرض الخصومة
من قبل عرض واحد ،داوود نبي وخليفة الله تعالى في أرضه سمع من
طرف واحد فما لبث أن قال ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن
كثيرا ً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وقليل ما هم ( هنا انتهى نطق داوود عليه السلم بالحكم باعتباره قاضيا ً من
حيث هو خليفة الله في أرضه .لكن داوود بالصلة الموصولة بينه وبين الله
تعالى أدرك الخطأ ) وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب (
وجاءه التوجيه اللهي ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض ( ما مقتضاها
) فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين
م ُأخذ يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحياب ( هنا ب َ
داوود عليه السلم ؟ بقطع النظر عن تخبيص كثير من المفسرين الذين
اعتمدوا الدسائس السرائيلية نجد المر واضح ،داوود عليه السلم من حيث
ض سمع من طرف واحد وكان الواجب أن يترّيث فل ُيصدر الحكم حتى قا ٍ
يسمع الطرف الخر ،فقد يكون هذا ألحن بحجته من أخيه فيقضي له على
نحوٍ مما سمع ،وهذا هو الذي حصل .
87
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ومقام النبوة ل يحتمل مثل هذه الهفوات ،وكذلك بقية القصص التي جاءت
في سورة صاد ،جات لتضع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في
وسط المعركة المحتدمة بينه وبين المشركين والتي تثير كل خلية في جسم
النسان ،وكل هاجس في خاطر النسان باللم والمرارة ،ألم النسان الذي
يعرف الطريق حق المعرفة ،ويعرف أيضا ً أن هؤلء ينكبون عن الطريق
الصحيح عن عمد وعن اصرار ،ألم كاسح ،ولكن مقام النبوة مقام النيابة
عن الله ل يحتمل هذه النظرات المجزوءة المحدود بحدود الزمان والمكان ،
بل يجب أن يكون النبي متجاوبا ً عن الضمير الكوني كله ومنسجما ً مع الرادة
فه الذين ل يستيقنون ،هذا الدرس اللهية التامة .ولهذا فعليه أن ل يستخ ّ
العظيم هو الذي كان زبدة قصص النبياء في سورة صاد ،إننا حين نحاول أن
سر لنا مراد الله
نعقد الحبل من طرفين بين سورة صاد وسور العراف يتف ّ
تعالى من قوله ) ل يكن في صدرك حرج منه ( لماذا ؟
)(3 /
أول ً :لننا ما نزال ضمن الفق العالي الذي وضع الله نبيه عليه الصلة
والسلم كمثل ما وضع إخوانه النبياء صلوات الله عليهم .ثانيا ً :لننا بعد ُ ما
نزال ضمن المعركة إياها ..جماهير كثيفة ل ينقصها العقل ول الدراك ،بل
جل حكما ً على أن الجاهليين لها أحلم راجحة ،وليس صحيحا ً أن نصدر بتع ّ
غير عقلء ،ل ،في مقاييس ذلك الزمان كانت أحلمهم تزن الجبال رجاحة
بدون شك ،ولكن المسألة تحتاج إلى نمط معين من الرجال ُيصاغ وُيصنع ،ل
بد ،في الحياة الجتماعية كما في الحياة المادية سواء بسواء قانون الفعل
ورد ّ الفعل نافذ ،كل فعل يقابله رد ّ فعل يتسق معه من حيث شموله ومداه .
والنسان حينما يوجه الدعوة فيقابل بالعنف وبالتكذيب والتهامات الباطلة
فيجب أن ل يسقط من بالنا أنه بشر ،ولكن في اللحظات الحرجة ل بد من
وجود نماذج معينة من الناس ،لحظات النحدار والهبوط المريع تحتاج إلى
عمالقة بكل معنى الكلمة ،في كلمتي الشاملة التي تحدثت إليكم بها في
الجمعة قبل الماضية قلت لكم :إننا يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ،إن
طريق النبياء ليس بالطبع هو الطريق الذي نحن فيه ،لماذا ؟ إن الحياة
الجتماعية تفرض على الناس أنماطا ً معينة من السلوك ،مرة دون أن أشعر
بأية ضغوط تسيطر علي ،لكني حينما أكون في جماعة يتغير الموقف
فأتصرف على نحو آخر وأفكر على نحو آخر ،للحياة الجتماعية ثقلها
المعروف ،لها ضغوطها الملموسة التي يدركها كل إنسان في حياته اليومية
بل في كل دقيقة من دقائق الحياة .
)(4 /
الحياة الجتماعية باختصار قائمة على قانون الخذ والعطاء ،إنك حينما تقبل
الدخول في مجتمع فأنت تقبل ذلك لما يحققه لك كونك في المجتمع من
مزايا وفوائد ،ولما يقدمه لك هذا المجتمع من حماية ،وإذا ً فأنت لقاء المزايا
والفوائد ولقاء الحماية التي تأخذها من مجتمعك الذي تعيش فيه تتنازل
وتغضي عن أمور كثيرة ،لول أنك مستفيد من مجتمعك الذي تعيش فيه ،
ولول أنك مفتقر إلى الحماية التي يقدمها إليك هذا المجتمع ،ما كنت تقبل
بها بحال من الحوال ،تصرفاتنا عند التحليل النهائي ترتد إلى هذه القاعدة ،
88
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
نحن بفعل اللف وبفعل الستمرار ألفنا هذا الشيء المر أول ً يتم ضمن
ساحة الشعوب ،ولكنه مع التكرار يتم خارج ساحة هذه الشعوب ،ولهذا
فنحن نتصرف ل شعوريا ً مغضين عن كثير من الواجبات ،مسقطين حساب
كثير من التبعات ،لماذا ؟ تحت ضغط هذا الشيء الذي يفرضه قانون
المجتمع ،لكن ما نتيجة ذلك ؟ إن طاحونة المجتمع سوف تسحق كل شيء
من حيث النتيجة ،النبياء في الواقع رفضوا الدخول في هذه اللعبة ،لم
يقبلوها رفضوها بدءا ً كما رفضوها نهاية ،إنهم ل يريدون من الناس شيئا ،
ً
المزايا التي يوفرها كون النسان في مجتمع ل يريدها النبياء ،وهذه الدنيا
بلغ ،ول تستحق أبدا ً أن يضحي النسان من أجلها بالمثل ول بالقيم بتاتا ً ،
لماذا ؟ ما الذي يلزمك بذلك ؟ إن محمد عليه الصلة والسلم هاجر من مكة
إلى المدينة ،كان تحت الخوف والرعب وتحت التشريد والتطريد فجاء إلى
المدينة بيت الستقرار ،كان مضمونا ً أن يستريح إلى بيت واسع نظيف عالي
الشرفات ،ذلك هو المألوف والمعروف ،ولقد أراد الصحاب رضي الله
عنهم بحبهم لنبيهم عليه الصلة والسلم أن يشيدوا له أفضل بناء ممكن في
ذلك الزمان ،ولكنه قال لهم هذه القالة التي هي شعار النبياء عامة :المر
أعجل من ذلك ،إنكم تبنون الن لي بيتا ً ولكني سأموت قبل أن يتهدم
البيت ،المر أعجل من ذلك ،إنما مثلي ومثل هذه الدنيا كمثل راكب في
فلء استظل بظل شجرة ثم تركها ومضى .هذه هي الحياة الدنيا ،لحظة من
زمان ،خطرة من منام ،ثم ينتهي كل شيء .وإذا ً فهي ل تستحق بتاتا ً أن
يضحى من أجلها بشيء .جيئ برجل من سلفنا الصالح رضي الله عنهم إلى
أحد الخلفاء مما حملوا هذا القب زورا ً وبهتاتا ً ومن غير استحقاق ،وقال له :
يا فلن لماذا ل تزورنا ،لماذا ل تنتفع بدنيانا ؟ فقال له :يا عبد الله إن الله
جل وعل يقول مخاطبا ً نبيه عليه الصلة والسلم ) قل متاع الدنيا قليل
والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون فتيل ً ( وإن النبي عليه الصلة والسلم
يقول :لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا ً شربة
ماء .فانظر رحمك الله ما الذي عندك من هذه الدنيا منذ أن خلق الله خلق
وبرء النسم وإلى أن تقوم الساعة ،ثم انظر رحمك الله قدر هذا الذي تعطيه
من هذه الدنيا ،ثم انظر أين يقع من هذا القليل الذي قال الله عنه ) قل
متاع الدنيا قليل ( وإذا ً فالحياة الدنيا في ذهنية النبياء عليهم الصلة والسلم
ليست شيئا ً أن يضحي من أجلها بالمثل وبالقيم العالية وبالمصالح البشرية ،
ولهذا فالنبياء جميعا ً رفضوا ابتداًء أن يكونوا مستفيدين من هذه الحماية التي
يقدمها المجتمع ،رفضوا أن يكونوا مستفيدين من هذه المزايا التي يقدمها
المجتمع ،وأعلنوا بكل صراحة وبكل وضوح ) قل ما أسألكم عليه من أجر (
ت ليكثر التباع من حوله ،ذلك شأن الفاقين وقطاع الطرق إن النبي لم يأ ِ
من الزعماء الذين يستجدون تصفيق الناس وتهليلهم وتطبيلهم وتزميرهم ،
وأما النبياء فإنهم يقولون إن ما عند الله خير وإن هذه الظواهر التي يظهرها
التباع للمتبوعين ظواهر خداعة ومضللة لنها ستنقلب حتما ً إلى تلعن وإلى
تباغض وإلى تبرء الخلء يومئذ بعضهم لبعضهم عدو إل المتقين ،وسترون
في سورة العراف مزيدا ً من التقرير لهذه الفكرة ومن النبي الذي خرج من
هذه الدنيا وهو يملك منها شيء ومحمد عليه الصلة والسلم كان يغشى عليه
حين النزع فيفيق فإذا أفاق قال :ما صنعتم بالذهب ؟ يقصد ما عنده من
المال في بيته ،فكانوا يقولون له :هو في البيت .فيقول :فرقوه .فلما
أفاق مرة سأل السؤال فقالوا له :أنفقناه يا رسول الله .قال :الحمد لله ل
عذر لمحمد عند ربه إذا لقي الله وعنده هذا الذهب .إنه جاء للدنيا من أجل
89
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ذلك فهو من أجل ذلك ل يشعر أنه مدين لحد بصورة باتة ،وإن المن
والفضل لله تباراك وتعالى ) يمنون عليكم أن أسلموا قل ل تمنوا علي
إسلمكم بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى اليمان إن كنتم صادقين ( هذا
النموذج الفذ من الرجال الذين ل يريدون علوا ً في الرض ول فسادا ً والذين
يرفضون أي مزية يقدمها إليهم انخراطهم في المجتمع ،والذين يرفضون أية
حماية يقدمها إليهم المجتمع لنهم يعتزون بالله ..هؤلء هم الفئة الوحيدة
المؤثرة والتي تلوي زمام التاريخ لتأخذ القافلة النسانية
)(5 /
طريقا ً جديدا ً ،لكن هؤلء ل بد أن يكونوا مصوغين على طراز خاص ثمت
قانون واحد يحكم هذا الكون برمته هو إرادة الله النافذة في الصغير وفي
الكبير ،النسجام مع هذا القانون مع المشيئة اللهية المطلقة دون تردد دون
المحاولة عليها ،ذاك شأن النبياء وشأن المصلحين الذين يتركون الثار البينة
الواضحة على مسيرة التاريخ البشري هم الذين ينفذون أمر الله جل وعل
راغبين راضين طائعين .ولكن أولئك الذين يساقون في طريق الحق ،أولئك
الذين ُيدفعون في ذلك الطريق بالسياط بل وركل ً بالقدام لن يكونوا نافعين
في المراحل الولى من مراحل البناء .
فهناك فرق ما بين الصياغتين ) فل يكن في صدرك حرج منه ( وهو خطاب
إلى المثل العلى محمد عليه الصلة والسلم ،والخطاب الذي وجه في الية
التي تليها ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( هل نستطيع أن نتصور أن
اكتساب هذه الحالة من الطواعية ،اكتساب هذه الحالة من الشفافية ،
اكتساب هذه الحالة من التفاعل الحر بين النسان وبين القانون اللهي
المطلق يمكن أن يتم بالتأمل النظري ؟ أبدا ً هذه القضية يجب أن تكون
واضحة ابتداًء .كثيرا ً ما يأتيك إنسان ل يحسن في هذه الدنيا إل الكلم
فيناقشك في أمور الدين من صلحية هذا المبدأ ومدى قدرة هذه القاعدة
على الفعل والنجاز ..يا أخانا بل يا إخواننا إن ثمت لكل أمر جانبين :جانبه
العقلني النظري وجانبه العملي ،وليس ميسورا ً ل نظريا ً ول عمليا ً أن يفصل
بين الجانبين ،إن الله يقول ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( والله سبحانه تعالى
بّين لنا أن وضع النسان نفسه في الطريق هو الذي ينير له الطريق ولهذا
كان ل بد أن يكون الخطاب ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ل بد أول ً من
أن تضع نفسك في كليتها ضمن الطريق الذي رسمته آيات الكتاب الكريم ،
هذا شيء ل بد منه بحال من الحوال وأنت مع الزمن تكتسب شيئا ً فشيئا ً
خبرة إلى خبرة تجربة إلى تجربة قناعة إلى قناعة ،سوف تكتسب هذه
الخاصية التي تجعلك تنفذ أمر الله جل وعل من غير حرج لماذا ؟ في مبادئ
الناس وفي أنظمة الدميين يمشي النسان ويعمل والنسان ويترك النسان
وفي ذهنه مصالح قد تتحقق وقد تتخلف فإذا تحققت فرح ،وإذا تخلفت
سخط ،ولكنه ضمن قوانين الله وضمن شرائع السلم التي أحاطت بمصالح
الفراد والجماعات عموما ً يمشي النسان وهو في غمرة العمل يكشف آنا ً
بعد آن ويوما ً بعد يوم أنه من حيث اليمان ازداد وأنه من حيث الفكر اتسع
وأنه من حيث الخلق ازداد طهرا ً ونقاًء وأنه من حيث الرفاه اكتسب
بالتعاون مع إخوانه حماية حقيقية ليست كتلك الحماية التي تقدمها
ً
المجتمعات المجرمة اليوم ..أعطني صوتك لعطيك لقمة الخبز ،أبدا إنها
الحماية التي تقول لك أن تعيش ذلك حقك ل يناقشك فيه مناقش ول يدفعه
90
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عنك ،أنت تعارض الحاكم ولكنك إن كنت اليوم رجل ً في مجتمعات الجاهلية
الحديثة فقف أمام حاكم من هؤلء الحكام لترى أن أول شيء يغلق فمك
وفم أولدك ،إن الحماية التي تقدمها المجتمعات الزائفة اليوم حماية
مضللة ،لكن الحماية الحقيقية هي التي يقدمها مجتمع السلم .جاء رجل
ت أنت قاتل ضرار بن بعد حروب اليمامة إلى عمر فقال له عمر :ألس َ
الخطاب ؟ قال :نعم يا أمير المؤمنين أنا قتلت أخاك .قال عمر :والله ل
أحبك .قال :يا أمير المؤمنين أذلك ينقصني من حقي شيئا ً ؟ قال :ل ،ذلك
شيء وهذا شيء آخر ،هذه عاطفة شخصية ،أنت قاتل أخي ،ولكن هذا
حقك .قال له :إذا ً ل بأس إنما يأسى على الحب النساء .إن أحببتني أو لم
تحبني ل فرق ول أهتم لذلك ،المهم أنك ل تتزحزح عن قاعدة السلم .
إذا ً فمع غمرة العمل ومع مسيرة النضال ومع تحقق المكاسب الحقة يوما ً
بعد يوم يشعر الفرد المسلم وتشعر الجماعة المسلمة أنها في ظلل الله
جل وعل تتحرك وتتصرف ل بسائق التباع ولكن انتهاًء في هذه الروح التي
تقدم باتجاه العمل ول تشعر بآية حرج .هذه الصياغة هذا التصور هو الذي
أوجد النماذج العاملة ،كان محمد عليه الصلة والسلم كذلك ولم يكن قول
الله له ـ والله أعلم ـ ) فل يكن في صدرك حرج منه ( إل خطاب للمة
لشخص عظيم لم يكن إل كذلك فيما أظن ،وبعد التحليل الذي قلته لكم الن
ولكن مع الزمن رأيتم أبا بكر ورأيتم عمر ورأيتم عثمان ورأيتم عليا ً ورأيتم
مالكا ً ورأيتم الشافعي وأحمد وأبا حنيفة ورأيتم عبدالله بن المبارك وسفيان
الثوري والحارس المحاسبي إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي ل تنتهي من
الرجال العظام الذين يقومون اليوم كما قاموا بالمس وسيقومون أبد الدهر
شاهدا ً ل ينقضي على قدرة هذا الدين على أن يقدم وباستمرار للنسانية
النماذج التي تنفع في ساعات الشدة وتفعل عند الزمات .
)(6 /
ذلك هو مدلول قول الله جل وعل والحصيلة النهائية لقوله تبارك اسمه
) كتاب أنزل إليه فل يكن في صدرك حرج منه ( يجب أن تتحرك بملء
الحرية ،الحرية التي تسكن في داخلك لتنشأ المجتمع الحر ،كما قلت لكم
من قبل إن مجتمع السلم الذي يتألف من الرجال والنساء الحرار الذين ل
يشعرون بأي ضغط ول بأي إكراه ويندفعون قدما ً في طريق الغاية التي
حددها الله تبارك وتعالى .
ل أعتقد أيها الخوة الحبة أنني لن أعود إلى هذا السلوب من التعامل مع
نص القرآن فقد يكفي ما ذكرت لكم في هذه الجمعة الماضية ليكون نموذجا ً
بأسلوب معين من التدبر والفهم لكتاب الله جل وعل ،وأنا شديد المل
وعظيم الرجاء في أن تنتفوا في زيادة المعان والتدبر مع المقارنات .وألفت
أنظاركم إلى أمر أساسي إن أي نظر في كتاب الله يغفل قاعدة الكلية
والشمول سيكون نظرا ً مختل ً بل سيكون نظرا ً مضلل ً إن القرآن يجب أن
ينظر إليه في كليته لنه جسم واحد فل تستطيع أن تنظر إلى يدك وأنت
تغفل رأسك ،إن أعضاءك تتعاون كلها لتشكل دفة الحياة التي تتحرك به ،
كذلك آيات الله المبثوثة في سور القرآن المجموعة بين دفتين المصحف لو
أنك أخذت آية معينة وأردت أن تفهمها مفصولة عن غيرها فلن تصل إلى
نتيجة ،ل بد أن يكون أمامك دائما ً أن تنظر إلى القرآن في شموله وفي
كليته ستجد أن الفهم وأن الفكار تتدفق أمامك كالنهر الذي تصطخب أواذيه
91
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(7 /
92
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فقوله تعالى ) كتاب ُأنزل إليك ( يشعر بتحميل رسول الله عليه الصلة
والسلم ،وتحميل المؤمنين معه والذين سيأتون من بعد ،فيؤمنون بما أنزل
إليهم من ربهم مسؤولية البلغ وإيصال الدعوة إلى من لم تصل إليهم هذه
الدعوة ،وتصحيح مفاهيم المؤمنين إذا تراكمت عبر العصور المتعاقبة
اجتهادات خاطئة وتفسيرات مضللة ،تشوه نضارة السلم ،وذلك منتزع من
استعمال حرف تحدثنا عنه وهو حرف الجر ) إلى ( لن هذا الحرف يفيد
النتقال من الذات إلى الموضوع ،من الداخل إلى الخارج ،ثم ترون أن ما
فتجاء بعد ذلك من كلم في الية ذاتها ،وفي اليات التي وليتها قرائن ،احت ّ
بالقضية فجعلت مهمة المسلم هي أن يفهم وأن يعلم وأن يبلغ وأن يعّلم ،
ضمن شرائط أشارت إليها هؤلء اليات بصورةٍ غاية في العجاز .
) كتاب أنزل إليك فل يكن في صدرك حرج منه ( يعني من هذا الكتاب ،لكن
لماذا ؟ ) لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( وإذا ً فنحن في الصورة أمام جانبين ،
جانب يتناول ضرورة طرد جميع أحاسيس الحرج والضيق واللم التي يحس
بها النسان عادة ً وطبعا ً حينما يواجه مجتمعا ً ما بما يغاير معتقداته ،وبما
يصادم عوائده وأعرافه ،لن هذا يؤكد ضرورةً أن الداعي إلى الجديد يشعر
أنه يعيش في وسط غريب عليه ،ويعيش أيضا ً في وسط يعاديه .وهو من
حيث هو بشر حزمة من الحاسيس ،كتلة من المشاعر ،ل بد أن يألم ول بد
أن يضيق ذرعا ً بهذه الظواهر التي يصادفها أثناء طريقه وهو يدعو الناس إلى
الله تبارك وتعالى .
في الجمعة الماضية فصلت لكم فرق ما بين المرين ) فل يكن في صدرك
حرج منه ( وبين قول الله أيضا ً خطابا ً للكافة ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم
( وأوضحت لكم أن الحرص على اقتلع عوامل الحرج واللم والضيق من
نفس النبي عليه الصلة والسلم شيء يشبه أل يكون موجها ً إلى ذاته
شح لما ستكون عليه حال المؤمنين من بعد ،لن الكريمة ،ولكن هو مر ّ
موضوع نفي الحرج بصورة باتة أمر باطل ،يعني يوجب أن يحصل على
النسان على هذا السلم الداخلي والطمئنان المطلق في الداخل وفي
القلب وفي الحس وفي الشعور وفي الدراك وفي العقل ،إل أنه يعيش
متوازنا ً ومتناغما ً ،ل يشعر أن كل الشياء الخطأ التي تعيش خارج نفسه
يمكن أن تترك أي انعكاس على داخل نفسه لتشوش عليه حاضره .
)(1 /
93
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
،أصبح يمشي تارة عن يمين النبي عليه الصلة والسلم ،وتارة عن يساره ،
وتارة من خلفه ،وأخرى من أمامه ،ل يكاد يستقر خوف الطلب ،ل على
شخص ،ولكن على شخص الحبيب الغالي محمد صلى الله عليه وسلم ،هو
يعرف حقد قريش ،ويعرف مبلغ شراسة هذا الحقد ،ويعرف المصير المقرر
الذي سيكون فيما لو وقع عليه الصلة والسلم بين أيدي قريش .
هذا موقف أبي بكر وهو أكمل المة إيمانا ً بعد نبيه صلى الله عليه وسلم
ن إيمان أبي بكر بإيمان بشهادة النبي عليه الصلة والسلم ،إذ يقول :لو وُزِ َ
ديقالمة ل رجح إيمان أبي بكر .تلك خصيصة من الله اختص الله بها الص ّ
رضوان الله عليه ،ومع ذلك كان بهذا الشكل .انظر إلى الصورة الخرى ،
صورة الهارب المطلوب محمد عليه الصلة والسلم ،ولنترك الحديث
لسراقة ،يقول :جئت أشتد ،يعني يعنف على فرسه لكي تلحق بالهارب
المطلوب ،ومع ذلك فالنبي عليه الصلة والسلم ل يلتفت حتى اقترب منه ،
قال :فسمع صوته وهو يقرأ القرآن ويدعو الله تبارك وتعالى ،ومع ذلك لم
يلتفت إليه أبدا ً ،أين أنت ؟ بيد الله .سراقة ومحمد وأبو بكر وقريش ومن
في الرض جميعا ً بيد الله تبارك وتعالى ،وإذا ً فأية شعرة تهتز في جسد
النسان بعامل الرعب أو الخوف تؤكد أن ثمة نقصا ً في إيمان النسان ،لم
سهت به فر ُ يكن عليه الصلة والسلم يلتفت إلى سراقة أبدا ً ،حتى إذا ك َب َ ْ
وأيقن أنه ل سبيل إلى أن يأسر محمدا ً عليه الصلة والسلم ،طلب منه
المان ،هنا فقط التفت إليه النبي عليه الصلة والسلم ،ل ليكلفه بمهمات ،
ول ول ول وإنما ليقول له هذه القولة المطمئنة التي تتحدث بلسان القدر
الذي ل سبيل إلى رده :كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري الكسرى بن
هرمز ؟ عجيب ! إنسان مطلوب ليقتل ،ومع ذلك ل تهتز في جسده شعرة
واحدة أمام الهول الهائل والخطر القريب ،ثم ل يكتفي بهذا ،وإنما يلتفت
إلى هذا الذي جاء ليأسره وليبشره :كيف بك إذا لبست سواري الكسرى بن
هرمز .في الوقت الذي كان كسرى ترتعد لذكر اسمه فرائص العرب
جميعا ً ،وأفضل العرب مقاما ً وخيرهم دارا ً هو ذلك الذي يحظى يوما ً من
اليام بنظرة من كسرى .
ي الحرج من القرآن موجه لشخص النبي ور أن طلب نف ّبذلك ل يمكن أن ُيتص ّ
ً
عليه الصلة والسلم ،بل موجه إلى المة اعتبارا لما سوف يكون ،لكن
كيف يكون هذا ؟ إن النسانية في طريقها الطويل شهدت أشياء كثيرة ،
شهدت فلسفة وشهدت مفكرين وشهدت مصلحين ،وشهدت ثورات
وشهدت كل شيء ،لم يبقَ شيء لم يجّرب ،وما ُيظن أنه إنتاج حديث
وبدعة حديثة فغلط ،يكشف عن جهل القائلين بجملة التاريخ الحضاري لهذه
البشرية المعذبة ،كل ما ترونه الن موجود مثله في الماضي حذو النعل
بالنعل ،لم يتغير شيء ،شهدت النسانية أشياء من هذا القبيل ،ومع ذلك
خر ،ورأيناها تذهب أدراج الرياح ،ولو ذهبت بهذا الشكل لذهبت رأيناها تتب ّ
مشيعة غير مأسوف عليها ،ولكنها ذهبت بأضاحي مليين من النفس أزهقت
من غير ذنب ،أنهار من الدماء جرت ل لسبب معقول ووجيه ،إمكانات
ُأهدرت ،لو ُوظفت توظيفا ً صحيحا ً لكان الداء النساني أكمل ،ولكانت
الثمرة البشرية أنضج ،ولكان الناس اليوم في مستوى إنساني أرقى .
)(2 /
94
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لماذا ذهبت ؟ لن الناس يميلون إلى أن يتخففوا من عبء العمل ،افهم ،ما
كل إنسان يطيق تكاليف العمل ،ل ،نخدع أنفسنا كثيرا ً إذا قلنا إن الناس
جميعا ً عندهم الستعداد لن يخوضوا غمرات العمل ،نحن الن هنا في
ف أقدامنا بين يدي الله راكعين ساجدين يبدوا أننا المسجد مسلمون ،نص ّ
خاشعون والعلم عند الله ،ومع ذلك ومع عرفاننا جميعا ً بأن إسلمنا في خطر
،وبأن ديننا في حرب شرسة ،وبأن وجودنا كله يستهدف للضياع .فنحن
حدوا جهودكم ،كّتلوا أنفسكم ،اجمعوا كلمتكم على حينما نصرخ بالناس :و ّ
ور وتذهب أمر الله تبارك وتعالى ،ترى أن الفرائص ترتعد .هنا يبطل التص ّ
القناعات ويتبّين أن الكلمة النهائية لحساب سلمة الذات ،نحن نحسب لو
أنني عملت ضد رغبات المجتمع فلن أكترث بها ،ولو أنني عارضت التيار
العام واحتقرته ورفضته فما الذي يحصل ؟ إن كنت موظفا ً فسُأطرد من
وظيفتي ،وإن كنت تاجرا ً فستبور تجارتي ،وإن كنت وجيها ً فسيسقط
اعتباري وتذهب مكانتي ،وإلى آخر هذه الخدع الشيطانية التي ل نهاية لها .
ك ورقة وقلما ً س ْ يا أخي دعك من السلم ،ودعك من مقررات اليمان ،وأم ِ
واحسب القضية حساب التاجر الشحيح ،تجد أنك مأكول ،إن لم تؤكل اليوم
فستؤكل غدا ً ،ومن الخير لك ومن الكرم إليك أن تموت تحت بوارق
السيوف مدافعا ً عن قضية قامت عليها السماوات والرض .وأما صعودك ،
وأما تعلتك هذه فثق تماما ً أنها لن تغنيك شيئا ً ،قد تجعلك تعيش في
البحبوحة أياما ً وشهورا ً وسنين قلئل ،ولكن ل إلى نهاية .المسلمون في
دون خمسين أو ستين روسيا ـ مثل ً ـ ول حاجة إلى التاريخ البعيد ،كانوا يع ّ
ة
مليون مسلم يعيشون في عز وسلطان وممالك ،ومع ذلك بين عشي ٍ
وضحاها قامت الثورة الحمراء ،واسألوا الن أين المسلمون في روسيا ؟
المسلمون في الصين كانوا أسياد الصين ،كانوا أكثر ستين مليونا ً من
الناس ،وقامت المسيرة الطويلة مسيرة اللف ميل بقيادة ) ماوتس تونغ (
واسألوا الن أين أصبح المسلمون في الصين ؟ المسلمون في إرتيريا
مسلمون عرب عرب عرب ،يقال هذا للذين يتشدقون بالعروبة ول يجري
في عروقهم دم عربي أبدا ً ،عرب مسلمون يذبحون كما تذبح النعاج .
المسلمون في جنوب لبنان تهدم المساجد على رؤوسهم ويذبح الرجال
والنساء والصبيان من غير تمييز ،ويعتذر الرهبان بأنها مسألة ثأر ،الرهبان
رجال الدين المسيحي الصدقاء الحلف الخوان الذين يريدون أن يكونوا
أتباعا ً للرجل العبد المسيح الذي يقول :جئت للقي على الرض سلما ً .
جر الباقون ، المسلمون في الندلس دولة أمة ُذبح منهم خمسة مليين وهُ ّ
جر ُأدخل في النصرانية كرها ً ،وإلى الن يتحدث مفكروهم ومن لم يه ّ
فيقولون :أنا فكتور بن جورج بن كذا بن كذا بن محمد بن عبد الله ،رأيتم ؟
ت أن القعود ت المر حساب التاجر الشحيح بالورقة والقلم لوجد َ فإذا ً لو حسب َ
غير منتج ،قد يؤجل الكارثة ،ولكنه لن يلغي الكارثة أبدا ً .
المعلوم أن الحرب منذ أن وجدت النسانية وكما ستكشف لكم سورة
العراف هذه ،ومنذ أن نفخ الكبر في أنف الشيطان فعادى آدم قائمة
ومستعرة بين الحق والباطل ،والدنيا هذه ل تتسع للمرين ،ول يمكن أن
يتعايش الحق والباطل بسلم أبدا ً ،إما للحق وإما للباطل .من أجل ذلك نجد
أن طلب الله تعالى من المة بشخص النبي عليه الصلة والسلم أن تتقدم
لللعمل بغير حرج أخذ طريقه المنطقي دون أن نغفل الطبيعة البشرية بحا ٍ
من الحوال .
جاء الخطاب أول ً للنبي عليه الصلة والسلم ترشيحا ً للمستقبل ) فل يكن في
95
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
صدرك حرج منه ( ثم جاء من بعد خطابا ً للكافة ) اتبعوا ما أنزل إليكم من
ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء ( لماذا ؟ قلت لكم في الجمعة الماضية أن
هذا الدين ليس ككل شيء ،ربما ذهبت أنا إلى حزب من الحزاب وقدمت
طلب النتساب وملت الستمارة وُقبلت عضوا ً في الحزب .والتقدم
والصدارة والمكاسب ل تتوقف على شيء أكثر من التزلف ومسح الجوخ ،
بل ل تتوقف على شيء أكثر من سقوط الخلق وإغفال كل معاني الشرف ،
هذا ممكن ،لكن في هذا الدين المر يختلف بتاتا ً .هنا كل شيٍء يوزن
بالميزان الرباني ،فما رجح في الميزان الرباني فمقبول ،وما شالت كفته
فمرفوض ،فهمتم ؟ ل يمكن أن نضع هذا الدين بمقرارته وقضاياه مع أي
مبدأ من المبادئ في مجال المقارنة والموازنة ،نحن نريد ـ إسلميا ً ـ أن نعيد
صياغة الجنس البشري من جديد ،نحن نريد أن نوجد النسان الذي يمتلئ
بالمشاعر النسانية ،والذي يشعر بآلم الناس وإن كانت في أقصى الرض ،
والذي يمشي وفق نهٍج مرسوم فل يتخبط في الظلم ول يسير في التيه .
)(3 /
هذا الشيء في الكلم هين ،ولكن في العمل صعب ،ولما كان في العمل
صعبا ً كان ل بد من الممارسة ول بد من التجربة ول بد من الوعي أثناء
الممارسة وأثناء التجربة واستحضار النتائج أو الغايات التي نريد أن نصل إليها
كي نجني الثمرة كامل ً ..كيف ؟ دعني أحدثك عن الله وعن وجوده وعن
الصلة وعن ثمراتها وعن الزكاة وعن فوائدها وعن الصوم وعن حكمه وعن
أسراره وعن أخلقيات السلم وما أشبه إلى ما ل نهاية ،إنك ل تستطيع أن
تستفيد من هذا الكلم كما تستفيد من فريضة واحدة تصليها في المسجد
وفي جماعة لنك حينئذ في غمرة العمل في صلب الممارسة تشعر بالمعاني
التي ل تستطيع أن تعّبر عنها .إذا ً فل بد من أجل اكتساب غايات السلم
وأهدافه ،واكتساب طرائق السلم الصحيحة من أن تضع نفسك في غمرة
جه للكافة في الية العمل ،هذا شيء ل بد منه ،ولهذا كان الخطاب المو ّ
الخرى ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ( اتبع ،ل بد أن تتبع ،أما متى يحصل
لك هذا الطمئنان ؟ متى تكتسب هذه النفسية السليمة التي تشعر بالمن
والطمأنينة وبالثقة من الطريق ومن غاية الطريق فذلك يأتيك أثناء العمل ،
أعيدكم إلى واقع السلم ،إن المسلمين خوطبوا بهذا الكلم ) اتبعوا ما أنزل
إليكم من ربكم ( ولكن هؤلء المسلمين بالعمل ،بالليالي الطويلة التي
قضوها واقفين بين يدي الله يرتلون كلمه متأملين متدبرين ،بالمواجهات
اليومية لمؤامرات المشركين ،بالصبر الطويل الرائع الذي قدموها بين يدي
اللم وصنوف العذاب ،وصلوا إلى المرحلة التي أرادها الله ُ ،وجدت النماذج
النسانية التي تقوم الن حجة على الخلق ُ ،وجد أصحاب رسول الله ،هؤلء
الذين قال الله عنهم ) فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
ل يجدوا في أنفسهم حرجا ً مما قضيت ويسلموا تسليما ً ( إن الثلث عشرة
سنة التي ُقضيت في غمرة العذاب المؤلم المّر ،وفي مواجهات الصعاب
المستحكمة ،وفي مقارعة شراسة قريش ،لم تذهب عبثا ً ،غنها أوجدت
ُأنموذجات الكبيرة التي استعدت فعل ً لتلقي أوامر الله دون مناقشة ودون
جدل .
في حادثة تحريم الخمر حينما جاء رجل فأخبر بعض الصحاب وهم في
مجلسهم وهم يشربون الخمر أن الله أنزل في الخمر قرآنا ً وتل عليهم قول
96
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الله تعالى ) إنما يريد الشيطان أو يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر
والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلة فهل أنتم منتهون ( كان منهم من
يمسك الكأس بيده ،ومنهم من يدنيها من شفتيه فما فرغ القارئ من قراءة
الية حتى أسقط الجميع ما في أيديهم قائلين :انتهينا يا رب .
هذا الستعداد لتلقي المر اللهي ووضعه موضع التنفيذ فورا ً دون مناقشة
ودون تحايل ودون محاولة تبرير ل معنى له ول سند لها من القيم ول سند لها
من الخلق هي الشيء الذي حصل المسلمون عليه نتيجة للمسيرة التي
قادها الرسول صلى الله عليه وسلم .لكن هل جاء ذلك عبثا ً ؟ ل ،جاء من
خلل العمل ،جاء من خلل التباع ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا
من دونه أولياء قليل ً ما تذكرون ( .
ً
ل أتصور أنني قادر الن على الفراغ من رسم الصورة جميعا ،لكني أحب أن
خص لكم شيئا ً أساسيا ً تعرضت إليه من قبل في مناسبات ،لكنا في سورة ُأل ّ
العراف في مرحلة متقدمة إلى حدٍ بعيد من مراحل الدعوة السلمية ،
مرحلة تحتاج إلى هذا النوع من الرجال ،الرجال الذين تسكن الثقة بالله
أعمق قلوبهم ،والذين تسيطر عليهم فكرة أنهم قادرون على النجاز والفعل
..يشعرون بقيمتهم الشخصية ويشعرون أنهم يستندون إلى ركن ركين .
)(4 /
في سورة العراف نحن نواجه هذه المهمة ،كتب الجنرال ديجول بعد
الحرب العالمية الثانية وبعد أن خاض حرب تحرير فرنسا من اللمان ،كتب
نبذة شديدة اليحاء وهي ضرورية ،وهي ليست جديدة علينا ،عندنا في
السلم موجودة ،لكن سبب إيرادي لها هنا هو أن أقول لكم إن الحاجة إليها
متجددة ،يشعر أن الناس بضرورتها في كل وقت .يقول الجنرال ديجول إنه
حينما بدأ حرب المقاومة السرية للحتلل اللماني خلل الحرب العالمية
الثانية وفي منتصف الربعينات كان أهم شيء وأصعب شيء يواجهه هذا
الرعب الذي يسكن قلب المواطن الفرنسي ،وهذا العجاب المنقطع النظير
الذي يسكن قلب المواطن الفرنسي تجاه كل ما هو ألماني ،االمواطن
الفرنسي مثله العلى المواطن اللماني ،المرأة الفرنسية مثلها العلى
المرأة اللمانية ،الجندي الفرنسي مثله العلى الجندي اللماني ،الضابط
ت المر عبثا ً بالطبع ،الفرنسي مثله العلى الضابط اللماني ..لماذا ؟ لم يأ ِ
إن فرنسا في كانت في عام 1939عشية الحرب العالمية الثانية تقول :إن
خط ماشينو ل يمكن اختراقه ،وإن الشعب الفرنسي سليل الثورات ومحطم
العروش لوروبا وحامل مشعل المدنية للعالم وأبو العقل الحديث ل يمكن أن
ُيغلب ،ومع ذلك فحين وقعت الحرب العالمية الثانية تحطمت المة الفرنسية
كأمة وكدولة خلل أربعة عشر يوما ً فقط ،جرى احتلل فرنسا وسقطت
مدينة باريس بعد أن ُأعلنت مدينة مكشوفة وخرجت فتيات باريس ينثر
الزهور على الجنود اللمان ،على الجنود الفاتحين ،على الغزاة .
هذه الواقعة يقول ديجول إنها أشد شيء واجهها ،كان محتاجا ً إلى أن يعيد
إلى النسان الفرنسي ثقته في نفسه ،وقبل ذلك ل فائدة أبدا ً .ما قيمة أن
تخوض حربا ً وأنت قانع منذ البداية أنك ل يمكن أن تغلب هذه المة ؟ ما قيمة
هذه الحرب ؟ هذه حرب مقررة النتائج سلفا ً ،كل إنسان شهد حربا ً يعرف
هذه الحقيقة ،إنك حينما تدخل معركة وأنت على ثقة من أن خصمك ذبابة
فسوف تنتصر ،ولكنك إذا تصورته بعبعا ً فأنت مهزوم ومن الخير لك أن ل
97
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
المقصود إذا ً أن ُيقضى على هذا الوثوق بقدرة المة على النهوض وعلى
الفعل وعلى النجاز ،وأن تسكن بدل ذلك هذه الخرافة المزعجة أن الجندي
السرائيلي ل ُيغلب ،ذلك بأن الصراع كما يجب أن يحدد وكما يجب أن ُيعرف
فوق كل العتبارات وبالرغم من كل الدعاوى التي ُتطلق الن وتطلق إلى ما
ل أدري متى ينقضي ذلك من أن الصراع بيننا كعرب وبين اليهود ،أو بيننا
كدول العالم الثالث وبين المبريالية ،كل هذه أخطاء وأضاليل ينبغي أن ل
تتكرر ،الصراع كما يجب أن يكون مفهوما ً بين السلم من حيث هو دين قادر
على تغيير وجه الرض وبين أحلس الباطل جميعا ً ،وإل فخبروني ما الذي
يجمع اليهودي مع النصراني ؟ مع أن النصراني يعتقد أن اليهود صلبوا المسيح
،ما الذي يجمع التحاد السوفييتي مع أمريكا في التآمر على المسلمين في
باكستان وفي الحبشة وإريتيريا ،وفي التآمر على المسلمين في الصومال ،
وفي التآمر على المسلمين في لبنان بل وفي كل مكان ؟ ما الذي يجمع
النصراني واليهودي والبوذي وعابد البقر ..ما الذي يجمع هؤلء جميعا ً على
المسلمين لول هذا الكره العميق لكل ما هو إسلمي ؟ إن أعداءنا ـ للسف ـ
يعرفون عن السلم وقدراته أكثر مما نعرف ،إن أعداءنا يدركون جيدا ً أنه
98
ًًً
ًًً
ًًً
ًًً
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية ًًً
http://www.balligho.com
ًًً ً
ًًً
ًًً
للسلم أن يتنفس وأن يأخذ مداه بالفعل فلن تكون الرض هي ًًً حين يتاح
يكون الناس هم الناس .إن هذا العدوان الخطير على حريات ً الرض ،ولن ًًً
الناس وأموال الناس وعلى كل ما هو كريم وشريف بين الناس الناس ودماء ًًً
ًً
سوف يقضي ًًًًعليه السلم ،إن هذه المسوخ من أصنام القرن العشرين
ًًً
بزعماء لن تكون زعماء ،سوف تجد اللص مقطوع اليد ،وستجد التي تسمى ًًً
الزاني مرجوما ً بحجارته ،وسوف تجد الذي أزهق النفوس مقطوع الرأس
بالسيف .كل السخف الذي يجري الن وكل الظلم الذي يجري الن لن يكون
لو ُوجد السلم .
وإن التفوق والسلم المسلح وسياسة العصا الغليظة المفروضة على العالم
لن يكون لها وجود أبدا ً ،فمن هنا تجدون أن أعداء السلم جميعا ً يختلفون ما
يختلفون ولكنهم يتفقون علينا ..كيف نستطيع أن نقضي على ذلك ؟ نحن
بشر ونحن رجال ونحن الن في موقف المانة التي ُنسأل عنها أمام الله
تبارك وتعالى .أول عدو لنا هو في داخل أنفسنا ،شهواتنا ،حبنا للدنيا ،
استنامتنا إليها ،إن النبي عليه الصلة والسلم ذكر ما سيؤول إليه أمر المة
مع الزمن قال :وليسلطن الله عليكم عدوكم حتى يأخذوا بعض ما في
بأيديكم ،وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ،قالوا :وما الوهن يا رسول الله ؟
قال :حب الدنيا وكراهية الموت .نحن في الواقع نكره الموت ،نحن في
الواقع نفر من مواطن الكرامة ،نحن في الواقع ننسحب بحرية إرادة غريبة
من ساحة التاريخ كلها ،علما ً بأن أسلفنا الذين رباهم السلم لم يكونوا
كذلك بحال ،ألم تسمعوا بحنظلة الغسيل ،تزوج أمس وأصبح في العرس
ي على الجهاد إلى معركة أحد ، ونادى منادي رسول الله في الصباح أن ح ّ
ووجد أن ضيقا ً عليه وأن حرجا ً عليه بأن يتأخر عن تلبية نداء الرسول الكريم
حتى يغتسل من الجنابة ،فطار إلى الموت وقاتل حتى ُقتل وهو جنب ،فقال
النبي عليه السلم :إن صاحبكم تغسله الملئكة فسلوا عرسه ،قالت :إن
النداء أعجله عن الغتسال .
إن المسلمين خاضوا غمرات الموت ولسانهم يردد :
ركضا ً إلى الله بغير زادِ إل التقى وعمل ال َ
معادِ
أذلك منفخة ؟ غرور ؟ ل ،ولكن عمل موصول وصبر وطويل وجهاد متصل
ووقوف مع أمر الله تبارك وتعالى حتى جعلهم ذلك يشعرون فعل ً أنهم أكبر
من الناس جميعا ً ،وأنهم هم وحدهم ول أحد أبدا ً سواهم المرشحون لعمارة
الدنيا ،وأنهم هم وحدهم المرشحون لتحرير الناس .
)(6 /
حينما لقي واحد من الفرس شداد بن الهاد في معارك القادسية قال له :إلى
أين وماذا أخرجكم ؟ قال :إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد
إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الديان إلى عدل
السلم .وحينما لقي بعض قواد الفرس أعرابيا ً مسلما ً من أعراب المسلمين
عدل ًقال له :كيف تقاتلون فارس وغاية ما يطمع فيه الواحد منكم أن يأخذ ِ
من تمر ؟ قال له :يا هذا دعك من هذا الكلم إنك ل تجادل البشر ولكنك
تجادل القدر .إن المة بلغت هذه المراحل العالية من الوثوق بأنها تترجم
عن ضمير المستقبل ،وبأنها تتحدث عن الجيال الواعدة التي سوف تأتي .
لذلك شادت وسادت ،وبذلك فقط عزت ،وغاية ما يراد اليوم أن تحطم في
نفوس هذه المة هذه المعاني الكبيرة ،إن وزير خارجية فرنسا ل يجمجم ول
99
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يداور ول يداهي ،في اجتماع معين للوزارة تحدث متحدثون عن الخطر الذي
يأتي من الشرق ،تحدث متحدثون عن خطر الشيوعية على فرنسا ،وقام
سن بنا أن نعرفها ،قال لهم :ياوزير الخارجية فقال هذه الكلمات التي يح ُ
ناس ل تصوروا أن علينا خطرا ً من الشرق ،إن التحاد السوفييتي ل يشكل
بالنسبة لفرنسا ول بالنسبة لوروبا أية خطر ،إن الشيوعية ثمرة من ثمرات
الحضارة البيزنطية التي ننتمي إليها جميعا ً ،أتريدون أن أدلكم على خطر ؟
إن الخطر عبر مضيق جبل طارق ،متى عبرتم مضيق جبل طارق ووصلتم
إلى المغرب العربي وعرفتم هناك المسلمين فهناك الخطر ،الخطر في
المسلمين وليس في التحاد السوفييتي .
ومنا أعداؤنا ؟ ولكن نحن نظلم أنفسنا ،لننا نجهل للسف أرأيتم كيف يق ّ
ً
قيمة أنفسنا .كيف نستعيد معرفة هذه القيمة ؟ بالوقوف طويل مع آيات الله
تبارك وتعالى ،وبالوثوق من خلل العمل بأننا ضمن دين مختار لم يصنعه
زعيم من الزعماء ،ولم تولده إرادة من إرادات البشر ،وإنما أنزله الله الذي
يعلمه الخبء في السماوات والرض ،وأننا من أجل ذلك حماة النسانية
وحراس حاضرها ومستقبلها ،وأولى الناس جميعا ً بأن نكون القّيمين على
الفضائل ،والمحافظين على المثل ،والرافعين لراية الحق ،والمعدلة بين
الناس .ذلك كلم يقال الن ،ولكنه في التطبيق شيء عسير للغاية ،عسير
لماذا ؟ لننا بعد ُ لم نلمس حقيقة السلم .
نحن الن نتحدث عن نظام رأسمالي ،ونتحدث عن نظام اشتراكي ،ونتحدث
عن نظام شيوعي ،ونتحدث عن أخلقيات غربية ،ونتحدث عن أخلق
ماركسية ،ونتحدث عن أشياء ل أدري ماذا أقول عنها ،لكني ألفت أنظار
الخوة ول سيما المثقفين الذين يتابعون على القل بعض إنتاج العصر الحاضر
في ديار الغرب ،إن كبار المفكرين يدينون المدنية الحاضرة ،ويقولون إنها
شاخت وإنها مريضة وإنها تدفع إلى الجنون وتدفع للنتحار .والنسانية اليوم
وصلت مرحلة ل أدري ماذا أقول عنها ،ولكن مجنونا ً واحدا ً تتحرك في نفسه
نزوة شاذة فيضغط على زر من الزرار كفيل بأن يدمر وجه الرض كلها .إن
النسانية اليوم تئن تحت أسواط العذاب ،ليس لها إل الله وأنتم ،ليس لها
إل الله والمسلمون ،إن الموازين طاشت ،وإن المسلمين مدعوون اليوم
بأن يعيدوا المور إلى مجالها الطبيعي .ولكن ما لم يشعروا أنهم دائما ً وأبدا ً
مع الله ،ينفذون أمره من غير حرج ومن غير تململ ومن غير آية محاولة
للتحايل على نصوص السلم فلن ينفعوا أنفسهم ولن ينفعوا النسانية بشيء
.
)(7 /
أنبه ..بعض الناس يتصور أنني وأنا أتحدث عن هذه الموضوعات قد أكون
مولعا ً بتجريح بعض الناس وبعض الهيئات وبعض الشخاص ،ل ل ،اعلموا
تماما ً عني أنا بالذات أنني أحكم حكما ً قاطعا ً على كل ما هو موجود في
العالم السلمي من الدار البيضاء إلى جاكرتا ،مفهوم بأنه باطل ول خير فيه
ل اليوم ول غدا ً ،ولو عاش مليين السنين فستظل كل النظمة التي تسرح
وتمرح على الساحة السلمية عوامل هدم وتخريب ،اعرفوا هذا ،ولكني
لست من الغفلة ول من البلهة ول من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة المة
تتمثل في شخص ،ولست من البلهة ول من الغفلة ول من الغرارة بحيث
أتصور أن نكبة المة تتمثل في حزب ،ولست من الغفلة ول من البلهة ول
100
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة المة تتمثل في قطر ،ل ،إن هذه كلها
أجزاء من الظاهرة الحضارية المتدهورة التي نعيش فيها ،وإن الداء فينا
جميعا ً ،ونحن كلنا رضينا أم كرهنا ،أحببنا أم أبغضنا ،شركاء في المسؤولية
عما صرنا إليه من تدهور وانحلل وانحطاط ،شركاء أيضا ً في المسؤولية عما
ينبغي أن نصل إليه من عز ومن رفعة ،وأنه ينبغي أن يكون واضحا ً أن كل
أحد منكم يجب أن يحمل في يده صابونة ديلفيوس ،حينما جاء اليهود
وقع قرار بالمسيح ليصلبوه وطلبوا من ديلفيوس الحاكم الروماني آنذاك أن ي ّ
الحكم بصلب المسيح ،دعا بقطعة صابون وغسل يده وقال إنني بريء
ونظيف اليد من دم هذا القديس .ونحن يجب علينا أن نفعل العكس ،يجب
أن نغسل أيدينا جميعا ً ونقول إننا برآء من كل هذا العمل الشيطاني الموجود
على الرقعة السلمية ،وعلينا فورا ً ومن غير تلكؤ أن نجدد علقتنا بالله وأن
نعيد ارتباطنا بالله ،المسألة ليست مسألة أشخاص ول مسألة أحزاب ول
مسألة تكتلت ول مسألة أقطاب ول مسألة مرحلة زمنية معينة ،المسألة
مسألة الجنس برمته ،ومسألة الحاضر والمستقبل إلى أن تقوم الساعة .
ل تحتقر نفسك أيها المؤمن ،أنت مجلى إرادة الله ،أنت مظهر قدر الله
تعالى ،أنت شيء عظيم ،ولكن أنت أنت الذي تحطم نفسك ،ما الذي
فيك ؟ ما الذي ينقصك ؟ إن أكبر إنسان في الدنيا يملك رأسا ً كرأسك ،ل
تزيد تلفيف مخه على تلفيف مخك أبدا ً ،يملك أنفا ً كأنفك ،يعمل نفس
اللية ،يملك قدمين كقدميك ،يملك عينين كعينيك ،مثلك تماما ً ل ينماز عنك
إل بتقوى الله وصالح العمل ..فلماذا تهين نفسك ؟ لماذا تذل نفسك ؟
كتب عليك أن تبقى مصفقا ً ومطبل ً ويحك لماذا ترضى لنفسك الدود ؟ هل ُ
ومزمرا ً للماعات والتافهين ولقطاع الطرق والفاسدين والمفسدين ؟ أنت
رجل أنت إنسان أنت مكّرم ،أنت أسجد الله لك ملئكته ،المل العلى ،
فلماذا تهين نفسك ؟ ما الذي يدفعك إلى ذلك ؟ لقمة الخبز ؟ ويحك ،الكلب
على المزبلة يعيش ،ويحك ،الحمار يجد شيئا ً يأكله ،تذل نفسك من أجل
هذه الصغائر ؟ عجيب ،نحن الن في موقف محرج ،كما قلت لكم ليس
بالنسبة لنا فحسب ،بالنسبة للناس جميعا ً ،والقّيمون نحن ،والمحاسبون
نحن ،واعلموا أن الله ل يحاسب الكافرين كما يحاسبنا ،أبدا ً أبدا ً ،نحن
سوف نتحمل الحساب العسير .
افهموا ..ففي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلة والسلم :إن أول
خلق الله تسّعر بهم النار يوم القيامة ..من ؟ رجل أتاه الله مال ً ،فيجاء به
فيعرفه ربه نعمه فيعرفها ،فيقول له :فماذا عملت ؟ يقول :يا رب ما
تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إل أنفقت .فيقول الله له :كذبت ،
ت ليقال فلن جواد وتقول الملئكة :كذبت ،ويقول الباري تعالى :بل أنفق َ
وقد قيل ،اذهبوا به إلى النار .ورجل آتاه الله علما ً فجيء به فعّرفه الله
نعمه عليه فعرفها ،فيقول له :ماذا عملت فيما علمتك ؟ يقول :يا رب
قرأت القرآن وأقرأته ،وتعلمت العلم وعّلمته .فيقول الله له :كذبت ،
ت ليقال فلن ل اسمه :بل تعلم َ وتقول الملئكة له :كذبت .يقول الله ج ّ
حط عالم ،وقد قيل ،اذهبوا به إلى النار .ورجل قاتل حتى ُقتل فيجاء به يتش ّ
بدمه ،فيعّرفه الله نعمه عليه فيعرفها ،فيقول له :ماذا عملت ؟ ألم أصحح
لك بدنك ؟ ألم أقوي لك جسمك ؟ فيقول :يا رب قاتلت فيك حتى ُقتلت .
فيقول الله له :كذبت ،وتقول الملئكة له :كذبت ،يقول له الله :لقد
قاتلت ليقال فلن جريء ،وقد قيل ،اذهبوا به إلى النار .
101
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(8 /
المجاهد والمنفق والعالم ،ذروة المجتمع ،أيوجد فوق هؤلء أحد ؟ مع ذلك
إن الله لم يقبل من عمل هؤلء صورته الظاهرة ،إنها نظر إلى الدافع
وكشفه ،وجعل صورة العمل بغير قيمة ،وجعل القيمة الكلية للدافع .الدافع
هو الذي تحدثنا عنه في أول الية ،هو الذي يجعلك قائما ً مع المر ،قاعدا ً مع
المر ،ناطقا ً مع المر ،ساكتا ً مع المر ،أي أنك مع الله ،تلتمس رضا الله
تعالى ،ولهذا النبي عليه الصلة والسلم يقول :والذي نفسي بيده ل يؤمن
أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به .أي كل طاقة النسان مسخرة لكي
ل وعل التي جاء بها الرسول صلى الله تتلءم وتنسجم مع مرادات الخالق ج ّ
عليه وسلم .
ن فيه وجد حلوة اليمان ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ) :ثلثة من ك ّ
في قلبه ،أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممما سواهما . ( ..أنا أعرض
عليكم ميزانا ً وليس قبان جزر ،أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
،ضع نفسك أمام هذه القاعدة ،وتصور نفسك بين أمرين ،أمر يدعوك إلى
ت مع طاعة الله ،وأمر يدعوك إلى طاعة نفسك واتباع شهواتك ،إن وقف َ
ت هوى نفسك فأنت تجد حلوة اليمان في قلبك ) .وأن يحب الله وخالف َ
المرء ل يحبه إل لله ( واعرضوا أنفسكم على هذه القاعدة ،ماذا يحب بعضنا
بعضا ً عليه ،أنا أحبك لنك صديقي أو لنك قريبي أو لني أرجو من ورائك
نفعا ً ،أو أحبك لني أخشى منك شرا ً أريد أن أدرأه عن نفسي بهذه المحبة
ولو كانت مزيفة ..أما أن أحبك لن الله جمعني وإياك على كلمته الخالدة ؟
فهذا شيء نادر ) .وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن ُيقذف في
جل في النار ( اعرضوا هذه القاعدة على أنفسكم ،قل لفلن :تعال س ّ
الحزب الفلني ،يقول لك :نعم ..لماذا ؟ من ورائها وظيفة ،ومن ورائها
راحة بال من ملحقة كلب البوليس ،ومن ورائها ومن ورائها ..قل له :
ت بين يديه عقربا ً ساما ً ،أهذا هو السلم ؟ تعالى قف مع الله .كأنما وضع َ
أهذه هي الحالة التي نريد أن ننهض معها لنصحح أوضاعنا وأوضاع البشرية ؟
أرأيتم الهاوية التي نتردى فيها يا إخوة ؟ أأدركتم عظم المسؤولية التي
نتعرض لها ؟ مع الله جميعا ً من فوق كل شيء ،جددوا صلتكم بالله ،ول
ل وعل أن يكون رضاه آثر على أنفسكم تخرجوا من هنا حتى تعاهدوا الله ج ّ
ً
من رضا أنفسكم ،وآثر على أنفسكم من رضا أيا كان ،فإن كنتم كذلك
فأنتم فعل ً جند الله ،وأنتم فعل ً ورثة محمد وأبناء محمد صلى الله عليه
وسلم ..أسأل الله تعالى أن يفتح قلوبنا جميعا ً وأن ينير قلوبنا ً جميعا ً بهمة
وقوة التي ترشحنا للتمسك الكامل لكل أوامر الله تعالى ..وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .
)(9 /
102
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فمع السورة الثامنة والثلثين ) سورة العراف ( ومع الحلقة الثانية من
أحاديثنا حول هذه السورة ُ ،أوثر وأحب أن أستمر اليوم في حدود نهج
الجمعة الماضية في صورة من صور التعامل مع نصوص كتاب الله جل وعل ،
وإنما يدفعني إلى ذلك حرصي الكبير على أن تكون بين يدي الخوة من
شباب أمتنا الكريمة طرائق منتجة في التعامل مع نصوص السلم تضع
ل اسمه النسان إن شاء الله تعالى على أبواب فهم أفضل لكلم الله ج ّ
وكلم نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمعة الماضية أدرنا الحديث كله حول جزء من الية التي افتتحت بها
السورة الكريمة بعد الحروف المقطعة ) ..بسم الرحمن الرحيم ،المص ،
كتاب ُأنزل إليك ( استغرق حديثنا في الجمعة الماضية ما اقتضى أن يقال
حول هذا المقطع وحسب .وفي الدرب ذاته أواصل اليوم نفس المنهج وعلى
أسلوب آخر ،فقد ينبغي أن ل يسقط من ذهن أحد من الخوة أن هذا الكتاب
ُأنزل من الله ليدّبروا آياته وليتذكر أولو اللباب ،والتدّبر عمل ،صحيح أن
جزءه الهم يتصل بالذهن ولكن بالرد إلى حديثنا في الجمعة الماضية فقد
ينبغي أن يكون واضحا ً أن أي فهم ل يتصل بالتفاعل مع صيرورة الحياة
ومسيرة الحركة ومع التعامل اليومي المباشر فهو فهم أبتر وناقص ،وتدّبر
دخله التحّيف على كل حال .
ُ
نواصل الية ،وأطلب مزيدا ً من النتباه ) ..كتاب أنزل إليك فل يكن في
صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( قلت لكم سابقا ً إن الحرج هو
المشقة ،وذلك هو المفهوم الظاهر من المادة بتقاليبها المختلفة ،تدل على
المشقة والضيق واللم وما في هذا الباب .وألفت انتباهكم إلى ضرورة
المقارنة بين الطلبات القرآنية ،فهنا طلب بصيغة النهي موجه إلى النبي
الكريم عليه الصلة والسلم ) ل يكن في صدرك حرج منه ( يعني من هذا
ت من قراءة الية الكريمة واجهك طلب آخر ) اتبعوا ما الكتاب ،فإذا فرغ َ
ُأنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء قليل ما تذكرون ( فهنا طلب
ً
جاء بصيغة المر ،لكن ليس موجها ً بصورة مباشرة إلى شخص النبي الكريم
عليه الصلة والسلم ولكنه موجه إلى الكافة ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم
( وبالنظر إلى مدلول اللفظتين ،مرة أخرى أحب أو أؤكد على ضرورة
النتباه حرصا ً على الفائدة ،بالنظر إلى مدلول الصيغتين أو اللفظين نكتشف
فوارق ) ل يكن في صدرك حرج منه ( ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ( مع
حسبان الفارق بين الصيغة الموجهة بصورة مباشرة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم والصيغة الموجهة إلى الكافة فثمة فارق يحتويه اللفظ ،
موضوع نفي الحرج موضوع داخلي ووجداني وجواني ،الحرج حالة نفسية
تعتري النسان ربما يؤدي الفعل وهو يجد هذا الكره الذي يسكن في القلب
للفعل فهو يؤديه صورته الظاهرة تامة ،لكن سنده الباطن مختلف .
) اتبعوا ( أيضا ً صورة ظاهرة ،فالتباع هو النقياد ،تقول :اتبع هذا الطريق ،
ت إليه
فتجد النسان المخاطب المأمور يدرج على هذا الطريق الذي أشر َ
ت إليه أن يتبعه ،لكن ما علمك بدخيلة نفسك ؟ أهو ينفذ أمرك بالرضى وطلب َ
الكامل والطمأنينة التامة والنشراح اللزم ؟ أم هو يأتي بظاهر العمل على
كره وعلى غير انشراح ؟ ذلك أمر ل علقة له باللفظ مطلقا ً ،وإذا ً فثمة فرق
دم النسان على الفعل وهو منشرح الصدر ل يجد في فعله حرجا ً ق ِ
بين أن ي ُ ْ
ول عنتا ً ول ضيقا ول ألما ول شيء مما في هذا المعنى ،وبين أن يؤدى الفعل
ً ً
على استكراه وضيق ومشقة وتقزز .
103
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
نرجع مرة أخرى إلى اللفظ ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كلم موجه إلى
النبي عليه الصلة والسلم ،هل ُيتصور أن امرأ في مكانة محمد عليه الصلة
والسلم من ربه ومن دينه وشرعه وفي موضع القدوة بالنسبة لخلقه أن ينفذ
أوامر الله وهو كاره ؟ ما أتصور .في حديث شق الصدر يتناجى المَلكان كما
يروي النبي عليه الصلة والسلم يقول أحدهما للخر :أهو نائم ؟ فيجيبه
الخر :العين نائمة والقلب يقظان .وفي حديث عائشة رضي الله عنها يقول
عليه الصلة والسلم :يا عائشة إنه تنام عيناي ول ينام قلبي .في حديث
الصحابة الذين جاءوا يسألون في أبيات رسول الله عن عبادته عليه الصلة
والسلم ،فلما ُأخبروا بها كأنهم تقاّلوها ،أي وجدوها قليلة فقالوا :وأين نحن
من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ يخاطبهم عليه
الصلة والسلم بقوله :والله إني لعرفكم بالله وأشدكم له خشية .وأحدنا
يرى سحابة مقبلة فيستبشر وينتظر هطول الغيث ويقول مقالة الغافلين ) إنه
عارض ممطرنا( ولكن النبي عليه الصلة والسلم كان إذا هبت الريح
ون واضطربت عوامل الطبيعة أكثر الدخول والخروج وأكثر القيام والقعود وتل ّ
ذب وجهه الشريف فإذا سئل قال :ما يدريني أن يكون هذا عذابا ً فإن الله ع ّ
ذب أقواما ً بالريح .
أقواما ً بالمطر وع ّ
امرؤ هذه صلته بالله وهذا هو اندماجه بالمل العلى وهذا هو مبلغ عرفانه
ور بتاتا ً أن ينفذ ما أراد الله بقدرة القادر المهيمن الغالب الذي ل ُيغالب ل ُيتص َ
ً
منه وهو يجد ظل ً من الحرج في ذاته الشريفة .وإذا فل بد أن يكون لهذا
اللفظ وجه آخر .لننظر كذلك ،الصيغة هنا لحظوها ) ل يكن في صدرك
حرج منه ( خطاب لمحمد عليه الصلة والسلم ،وهو خطاب فيه عنف وفيه
عنفوان ،لحظوا أنماط المخاطبات مع النبي عليه الصلة والسلم إزاء
أخطاء ولنتجوز ولنسمها أخطاًء ،إن الله جل وعل حينما أخذ عليه الصلة
والسلم الفداء من أسرى بدر في أول معركة حقيقية مع أعداء الله تعالى
كان ذلك مغايرا ً لمقتدى الحكمة الربانية ،والله جل وعل ل يحابي ،فما لبث
أن أنزل قرآنا ً ُيتلى إلى أن تقوم الساعة ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى
حتى يثخن في الرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الخرة ( لحظوا ،لم
يتجه العتاب واللوم بصورة مباشرة إلى شخص الحبيب المصطفى عليه
الصلة والسلم ،وإنما جاء بهذه الصياغة اللطيفة ،عتب الحبيب على
الحبيب ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى ( لم ُيفتتح الكلم بأمر ول بنهي ،
وإنما بخبر أن النبياء شأنهم أل يكون لهم أسرى في أول معركة حتى يثخنوا
في العدو وحتى يوقعوا الرهبة في قلب العدو ،وبإذاك حينما تستمكن رهبة
الله ورهبة رسوله ورهبة المؤمنين من قلوب العداء فل بأس بأخذ السرى
وأخذ الفداء ،وهل انتهى المر عند هذا العتب المهذب اللطيف ؟ ل ،
) تريدون عرض الدنيا ( لم يوجه الكلم بتة إلى شخص النبي عليه الصلة
والسلم ،وكأنه ينصب مباشرة على هؤلء الذين شدوا وثاق السرى
صرف اللفظ بتة عن شخص النبي صلى الله عليه وأسروهم من الجيش ،و ُ
وسلم .
وارين والجبناء من المنافقين أن في غزوة تبوك حينما استأذن بعض الخ ّ
يرجعوا إلى أهاليهم وهي غزوة عسيرة وتحتاج أن يتحرك كل قادر ليوقع
الرعب في قلوب العداء ،لم يكن العتاب بهذه الصياغة التي تشعر أن ثمة
رعودا ً وبروقا ً تجلجل من وراء الكلم ،وإنما افتتح الكلم بهذا اللفظ اللطيف
104
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
لكن هنا المر يختلف ،كل الصياغات التي تلوتها عليكم مما تضمن مخاطبات
ت على نحو ما من قبل الله مع رسوله الحبيب عليه الصلة والسلم لم تأ ِ
جاءت هنا ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كأنما يشعر النسان بهذه الجفوة
التي يتضمنها اللفظ ،كأنما يريد أن يستقر في وهم القارئ أو السامع أن
فذ مرادات الرسول عليه الصلة والسلم يمكن ولو من باب التوهم أن ين ّ
الخالق تبارك اسمه وهو كاره لهذه المرادات ،كيف ؟ في الجمعة الماضية
قلت لكم يحسن لكي يستقيم فهم سورة العراف أن ترجعوا بالقراءة إلى
سورتي القمر وصاد اللتين سبقتا في النزول هذه السورة الكريمة .
ص في سورة القمر لمحة خاطفة نلقيها الن ،نحن نجد أن الله تعالى اقت ّ
وفي سورة صاد وفي سورة العراف قصصا ً من قصص النبياء مع أممهم
جل للوقفة التي سأقفها السابقة قبل أمتنا المسلمة هذه ،ولكن وبدون تع ّ
بإذن مع مدلولت القصص القرآني في مختلف السور ل بد أن ألفت انتباهكم
وأنعش ذاكرتكم فيما يختص بهذه القصص .في سورة القمر كل القصص
التي وردت جاءت تثبيتا ً وتطمينا ً للنبي الكريم إل أن ظواهر الكنود والجحود
ومظاهر العداء والصد والنفور والتنكيل والتعذيب ليس شيئا ً مستغربا ً ،ذلك
شأن كل أمة مع نبيها ،عتت وتمردت ورفضت النصياع لمر الله تعالى ،
لكن العاقبة مقررة .كما تشرق الشمس من المشرق لتغيب في المغرب
كذلك قانونا ً مقدورا ً ل بد أن يتغّلب الحق ولكن بشروطه المعروفة طبعا ً
والمعروضة بكتاب الله .
والباطل مهما استشرى وتمادى في العناد ل بد أن ينهار ،لن الباطل في
ذاته يحمل جراثيم الفناء والموت ،ذلك أمر ل ريب فيه .فإذا جئنا إلى سورة
صاد وهي السورة التي جاءت بعد سورة القمر مباشرة وألقينا النظرة
العجلى على قصص القرآن نجد القصص القرآني ينحو في التقرير نحوا ً
جديدا ً ،إن القرآني في سورة صاد استعرض وقائع نبيين معينين آخذهم الله
لهفوات بسيطة ) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورا المحراب إذ دخلوا على داود
ففزع منهم قالوا ل تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق
ول تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة
ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعّزني في الخطاب ( انتهى عرض الخصومة
105
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
من قبل عرض واحد ،داوود نبي وخليفة الله تعالى في أرضه سمع من
طرف واحد فما لبث أن قال ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن
كثيرا ً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وقليل ما هم ( هنا انتهى نطق داوود عليه السلم بالحكم باعتباره قاضيا ً من
حيث هو خليفة الله في أرضه .لكن داوود بالصلة الموصولة بينه وبين الله
تعالى أدرك الخطأ ) وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب (
وجاءه التوجيه اللهي ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض ( ما مقتضاها
) فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين
م ُأخذ
يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحياب ( هنا ب َ
داوود عليه السلم ؟ بقطع النظر عن تخبيص كثير من المفسرين الذين
اعتمدوا الدسائس السرائيلية نجد المر واضح ،داوود عليه السلم من حيث
ض سمع من طرف واحد وكان الواجب أن يترّيث فل ُيصدر الحكم حتى قا ٍ
يسمع الطرف الخر ،فقد يكون هذا ألحن بحجته من أخيه فيقضي له على
نحوٍ مما سمع ،وهذا هو الذي حصل .
ومقام النبوة ل يحتمل مثل هذه الهفوات ،وكذلك بقية القصص التي جاءت
في سورة صاد ،جات لتضع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في
وسط المعركة المحتدمة بينه وبين المشركين والتي تثير كل خلية في جسم
النسان ،وكل هاجس في خاطر النسان باللم والمرارة ،ألم النسان الذي
يعرف الطريق حق المعرفة ،ويعرف أيضا ً أن هؤلء ينكبون عن الطريق
الصحيح عن عمد وعن اصرار ،ألم كاسح ،ولكن مقام النبوة مقام النيابة
عن الله ل يحتمل هذه النظرات المجزوءة المحدود بحدود الزمان والمكان ،
بل يجب أن يكون النبي متجاوبا ً عن الضمير الكوني كله ومنسجما ً مع الرادة
فه الذين ل يستيقنون ،هذا الدرس اللهية التامة .ولهذا فعليه أن ل يستخ ّ
العظيم هو الذي كان زبدة قصص النبياء في سورة صاد ،إننا حين نحاول أن
سر لنا مراد اللهنعقد الحبل من طرفين بين سورة صاد وسور العراف يتف ّ
تعالى من قوله ) ل يكن في صدرك حرج منه ( لماذا ؟
)(3 /
أول ً :لننا ما نزال ضمن الفق العالي الذي وضع الله نبيه عليه الصلة
والسلم كمثل ما وضع إخوانه النبياء صلوات الله عليهم .ثانيا ً :لننا بعد ُ ما
نزال ضمن المعركة إياها ..جماهير كثيفة ل ينقصها العقل ول الدراك ،بل
جل حكما ً على أن الجاهليين لها أحلم راجحة ،وليس صحيحا ً أن نصدر بتع ّ
غير عقلء ،ل ،في مقاييس ذلك الزمان كانت أحلمهم تزن الجبال رجاحة
بدون شك ،ولكن المسألة تحتاج إلى نمط معين من الرجال ُيصاغ وُيصنع ،ل
بد ،في الحياة الجتماعية كما في الحياة المادية سواء بسواء قانون الفعل
ورد ّ الفعل نافذ ،كل فعل يقابله رد ّ فعل يتسق معه من حيث شموله ومداه .
والنسان حينما يوجه الدعوة فيقابل بالعنف وبالتكذيب والتهامات الباطلة
فيجب أن ل يسقط من بالنا أنه بشر ،ولكن في اللحظات الحرجة ل بد من
وجود نماذج معينة من الناس ،لحظات النحدار والهبوط المريع تحتاج إلى
عمالقة بكل معنى الكلمة ،في كلمتي الشاملة التي تحدثت إليكم بها في
الجمعة قبل الماضية قلت لكم :إننا يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ،إن
طريق النبياء ليس بالطبع هو الطريق الذي نحن فيه ،لماذا ؟ إن الحياة
الجتماعية تفرض على الناس أنماطا ً معينة من السلوك ،مرة دون أن أشعر
106
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بأية ضغوط تسيطر علي ،لكني حينما أكون في جماعة يتغير الموقف
فأتصرف على نحو آخر وأفكر على نحو آخر ،للحياة الجتماعية ثقلها
المعروف ،لها ضغوطها الملموسة التي يدركها كل إنسان في حياته اليومية
بل في كل دقيقة من دقائق الحياة .
)(4 /
الحياة الجتماعية باختصار قائمة على قانون الخذ والعطاء ،إنك حينما تقبل
الدخول في مجتمع فأنت تقبل ذلك لما يحققه لك كونك في المجتمع من
مزايا وفوائد ،ولما يقدمه لك هذا المجتمع من حماية ،وإذا ً فأنت لقاء المزايا
والفوائد ولقاء الحماية التي تأخذها من مجتمعك الذي تعيش فيه تتنازل
وتغضي عن أمور كثيرة ،لول أنك مستفيد من مجتمعك الذي تعيش فيه ،
ولول أنك مفتقر إلى الحماية التي يقدمها إليك هذا المجتمع ،ما كنت تقبل
بها بحال من الحوال ،تصرفاتنا عند التحليل النهائي ترتد إلى هذه القاعدة ،
نحن بفعل اللف وبفعل الستمرار ألفنا هذا الشيء المر أول ً يتم ضمن
ساحة الشعوب ،ولكنه مع التكرار يتم خارج ساحة هذه الشعوب ،ولهذا
فنحن نتصرف ل شعوريا ً مغضين عن كثير من الواجبات ،مسقطين حساب
كثير من التبعات ،لماذا ؟ تحت ضغط هذا الشيء الذي يفرضه قانون
المجتمع ،لكن ما نتيجة ذلك ؟ إن طاحونة المجتمع سوف تسحق كل شيء
من حيث النتيجة ،النبياء في الواقع رفضوا الدخول في هذه اللعبة ،لم
يقبلوها رفضوها بدءا ً كما رفضوها نهاية ،إنهم ل يريدون من الناس شيئا ً ،
المزايا التي يوفرها كون النسان في مجتمع ل يريدها النبياء ،وهذه الدنيا
بلغ ،ول تستحق أبدا ً أن يضحي النسان من أجلها بالمثل ول بالقيم بتاتا ً ،
لماذا ؟ ما الذي يلزمك بذلك ؟ إن محمد عليه الصلة والسلم هاجر من مكة
إلى المدينة ،كان تحت الخوف والرعب وتحت التشريد والتطريد فجاء إلى
المدينة بيت الستقرار ،كان مضمونا ً أن يستريح إلى بيت واسع نظيف عالي
الشرفات ،ذلك هو المألوف والمعروف ،ولقد أراد الصحاب رضي الله
عنهم بحبهم لنبيهم عليه الصلة والسلم أن يشيدوا له أفضل بناء ممكن في
ذلك الزمان ،ولكنه قال لهم هذه القالة التي هي شعار النبياء عامة :المر
أعجل من ذلك ،إنكم تبنون الن لي بيتا ً ولكني سأموت قبل أن يتهدم
البيت ،المر أعجل من ذلك ،إنما مثلي ومثل هذه الدنيا كمثل راكب في
فلء استظل بظل شجرة ثم تركها ومضى .هذه هي الحياة الدنيا ،لحظة من
زمان ،خطرة من منام ،ثم ينتهي كل شيء .وإذا ً فهي ل تستحق بتاتا ً أن
يضحى من أجلها بشيء .جيئ برجل من سلفنا الصالح رضي الله عنهم إلى
أحد الخلفاء مما حملوا هذا القب زورا ً وبهتاتا ً ومن غير استحقاق ،وقال له :
يا فلن لماذا ل تزورنا ،لماذا ل تنتفع بدنيانا ؟ فقال له :يا عبد الله إن الله
جل وعل يقول مخاطبا ً نبيه عليه الصلة والسلم ) قل متاع الدنيا قليل
والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون فتيل ً ( وإن النبي عليه الصلة والسلم
يقول :لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا ً شربة
ماء .فانظر رحمك الله ما الذي عندك من هذه الدنيا منذ أن خلق الله خلق
وبرء النسم وإلى أن تقوم الساعة ،ثم انظر رحمك الله قدر هذا الذي تعطيه
من هذه الدنيا ،ثم انظر أين يقع من هذا القليل الذي قال الله عنه ) قل
متاع الدنيا قليل ( وإذا ً فالحياة الدنيا في ذهنية النبياء عليهم الصلة والسلم
ليست شيئا ً أن يضحي من أجلها بالمثل وبالقيم العالية وبالمصالح البشرية ،
107
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ولهذا فالنبياء جميعا ً رفضوا ابتداًء أن يكونوا مستفيدين من هذه الحماية التي
يقدمها المجتمع ،رفضوا أن يكونوا مستفيدين من هذه المزايا التي يقدمها
المجتمع ،وأعلنوا بكل صراحة وبكل وضوح ) قل ما أسألكم عليه من أجر (
ت ليكثر التباع من حوله ،ذلك شأن الفاقين وقطاع الطرق إن النبي لم يأ ِ
من الزعماء الذين يستجدون تصفيق الناس وتهليلهم وتطبيلهم وتزميرهم ،
وأما النبياء فإنهم يقولون إن ما عند الله خير وإن هذه الظواهر التي يظهرها
التباع للمتبوعين ظواهر خداعة ومضللة لنها ستنقلب حتما ً إلى تلعن وإلى
تباغض وإلى تبرء الخلء يومئذ بعضهم لبعضهم عدو إل المتقين ،وسترون
في سورة العراف مزيدا ً من التقرير لهذه الفكرة ومن النبي الذي خرج من
هذه الدنيا وهو يملك منها شيء ومحمد عليه الصلة والسلم كان يغشى عليه
حين النزع فيفيق فإذا أفاق قال :ما صنعتم بالذهب ؟ يقصد ما عنده من
المال في بيته ،فكانوا يقولون له :هو في البيت .فيقول :فرقوه .فلما
أفاق مرة سأل السؤال فقالوا له :أنفقناه يا رسول الله .قال :الحمد لله ل
عذر لمحمد عند ربه إذا لقي الله وعنده هذا الذهب .إنه جاء للدنيا من أجل
ذلك فهو من أجل ذلك ل يشعر أنه مدين لحد بصورة باتة ،وإن المن
والفضل لله تباراك وتعالى ) يمنون عليكم أن أسلموا قل ل تمنوا علي
إسلمكم بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى اليمان إن كنتم صادقين ( هذا
النموذج الفذ من الرجال الذين ل يريدون علوا ً في الرض ول فسادا ً والذين
يرفضون أي مزية يقدمها إليهم انخراطهم في المجتمع ،والذين يرفضون أية
حماية يقدمها إليهم المجتمع لنهم يعتزون بالله ..هؤلء هم الفئة الوحيدة
المؤثرة والتي تلوي زمام التاريخ لتأخذ القافلة النسانية
)(5 /
طريقا ً جديدا ً ،لكن هؤلء ل بد أن يكونوا مصوغين على طراز خاص ثمت
قانون واحد يحكم هذا الكون برمته هو إرادة الله النافذة في الصغير وفي
الكبير ،النسجام مع هذا القانون مع المشيئة اللهية المطلقة دون تردد دون
المحاولة عليها ،ذاك شأن النبياء وشأن المصلحين الذين يتركون الثار البينة
الواضحة على مسيرة التاريخ البشري هم الذين ينفذون أمر الله جل وعل
راغبين راضين طائعين .ولكن أولئك الذين يساقون في طريق الحق ،أولئك
الذين ُيدفعون في ذلك الطريق بالسياط بل وركل ً بالقدام لن يكونوا نافعين
في المراحل الولى من مراحل البناء .
فهناك فرق ما بين الصياغتين ) فل يكن في صدرك حرج منه ( وهو خطاب
إلى المثل العلى محمد عليه الصلة والسلم ،والخطاب الذي وجه في الية
التي تليها ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( هل نستطيع أن نتصور أن
اكتساب هذه الحالة من الطواعية ،اكتساب هذه الحالة من الشفافية ،
اكتساب هذه الحالة من التفاعل الحر بين النسان وبين القانون اللهي
المطلق يمكن أن يتم بالتأمل النظري ؟ أبدا ً هذه القضية يجب أن تكون
واضحة ابتداًء .كثيرا ً ما يأتيك إنسان ل يحسن في هذه الدنيا إل الكلم
فيناقشك في أمور الدين من صلحية هذا المبدأ ومدى قدرة هذه القاعدة
على الفعل والنجاز ..يا أخانا بل يا إخواننا إن ثمت لكل أمر جانبين :جانبه
العقلني النظري وجانبه العملي ،وليس ميسورا ً ل نظريا ً ول عمليا ً أن يفصل
بين الجانبين ،إن الله يقول ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( والله سبحانه تعالى
بّين لنا أن وضع النسان نفسه في الطريق هو الذي ينير له الطريق ولهذا
108
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
ذلك هو مدلول قول الله جل وعل والحصيلة النهائية لقوله تبارك اسمه
) كتاب أنزل إليه فل يكن في صدرك حرج منه ( يجب أن تتحرك بملء
الحرية ،الحرية التي تسكن في داخلك لتنشأ المجتمع الحر ،كما قلت لكم
من قبل إن مجتمع السلم الذي يتألف من الرجال والنساء الحرار الذين ل
109
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يشعرون بأي ضغط ول بأي إكراه ويندفعون قدما ً في طريق الغاية التي
حددها الله تبارك وتعالى .
ل أعتقد أيها الخوة الحبة أنني لن أعود إلى هذا السلوب من التعامل مع
نص القرآن فقد يكفي ما ذكرت لكم في هذه الجمعة الماضية ليكون نموذجا ً
بأسلوب معين من التدبر والفهم لكتاب الله جل وعل ،وأنا شديد المل
وعظيم الرجاء في أن تنتفوا في زيادة المعان والتدبر مع المقارنات .وألفت
أنظاركم إلى أمر أساسي إن أي نظر في كتاب الله يغفل قاعدة الكلية
والشمول سيكون نظرا ً مختل ً بل سيكون نظرا ً مضلل ً إن القرآن يجب أن
ينظر إليه في كليته لنه جسم واحد فل تستطيع أن تنظر إلى يدك وأنت
تغفل رأسك ،إن أعضاءك تتعاون كلها لتشكل دفة الحياة التي تتحرك به ،
كذلك آيات الله المبثوثة في سور القرآن المجموعة بين دفتين المصحف لو
أنك أخذت آية معينة وأردت أن تفهمها مفصولة عن غيرها فلن تصل إلى
نتيجة ،ل بد أن يكون أمامك دائما ً أن تنظر إلى القرآن في شموله وفي
كليته ستجد أن الفهم وأن الفكار تتدفق أمامك كالنهر الذي تصطخب أواذيه
وأمواجه .فاعملوا على أن يكون فهمكم للقرآن كذلك .
أقول لكم اليوم ما نسيته في الجمعة الماضية ،وعدناكم منذ أسبوعين أن
نعود إن شاء الله إلى الدروس التي قطعناها بعد نتهاء رمضان الفائت أعلن
لكم الن أننا بحول الله عازمون بعد اليوم واعتبارا ً من يوم الثلثاء القادم
بالتعاون مع الخ الكريم أبي محمد الشيخ عبد القادر على القيام بدروس
معينة في الجامع الوسط بين المغرب والعشاء يوم الثلثاء ويوم الجمعة بعد
صلة المغرب مباشرة ،فمن شاء أن يفيد من هذه الفرصة فنحن سنكون
مسرورين إن شاء الله إذا استطعنا أن نقدم لخواننا أية مساعدة طبعا ً على
صعيد القضايا السلمية مذكرا ً على أن الدروس على الصيغة المعهودة واحد
يقرأ أو يتكلم والباقي ينصتون ،شيء قل ما ينفع .اعملوا على أن تكون
الدروس ميدانا ً للمحاورة للحوار من كان عنده شيء ليسأل ول يتحرج
بالنسبة إلي لو أن أحدكم رد علي وأنا على المنبر فل بأس ،لقول شيء
وأكون في غاية السعادة وغاية السرور وكذلك في الدرس سواًء اعطوا
الدروس هذه الحيوية المطلوبة التي تشعر بالمشاركة الفعلية بين الذي
يعطي الدرس وبين الذي يستمع الدرس .
أسأل الله جل وعل أن يردنا جميعا ً إلى سواء السبيل وأن يضعنا على مراشد
المور وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وآصحابه أجمعين والحمد لله
رب العالمين
)(7 /
110
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وانحطاطا ً ،إن هذه المة ومنذ مئات السنين مع السف الشديد تنفر من
معالم المور وتفر مما يكلف مشقة ،وآية ذلك أن هذا الخلط الوبيل يتجلى
حتى في صغائر المور فنحن نحب السرعة ونحب الخفة ونحب أن نعيش
أكثر أوقاتنا مع الماني والحلم ،أن تكون المة التي أراد الله لها أن تعّلم
الناس الجد في المر كله ،وأن تعّلم الناس قيمة الوقت ،وأن تعّلم الناس
أن الحياة تكاليف ومشقات ،هذه المة بالذات أصبحت من رسالتها على
النقيض .وصدقوني حين أقول لكم واللم يحز في نفسي أنني منذ سنوات
ومنذ بدأت أتحدث إليكم وإلى الناس على النحو الذي أتحدث به أعيش ما
يشبه الغربة وأتقلب في اللم .إن كل شيء من حولنا يريد منا الجد ،
وبالمقابل كل خلية من كياننا تريد السهولة والهزل ،وما من غرابة بعد ذلك
أن تكون أحوال المة في مشارق الرض ومغاربها على النحو الذي ترون
هزائم متلحقة وفشل المستمر .
وحسبنا أننا أضحوكة الناس في هذه اليام ،إن السلم حين بدأ من أول
الطريق في بواكيره الولى ،اعتمد على الرصيد الذي ل رصيد سواه بعد الله
تعالى وهو هذا النسان ،فهو بحكم استخلفه في الرض مكّلف ومطالب ،
وحين يميل إلى الرخاوة والطراوة فقد نبه السلم إلى أن ذلك علمة الدمار
) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها فدمرناها
تدميرا ً ( .وحين شحن هذا النسان بالطاقة وبعثه عنصر فعال ً في هذا الوجود
أحدث المعجزة التي ما تزال آية في التاريخ ل تسبق ول تلحق .
ونحن منذ بداية الطريق ومنذ سنوات ـ كما قلت لكم ـ ما غابت عنا هذه
الحقيقة وكنا بين أمرين ،إما أن نعض بالنواجز على البداية التي بدأها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فنكابد المشقة ونريح أنفسنا ونتملق عواطف
الجماهير ونسد كثيرا ً من البواب التي تزعج وتؤذي وتسيء ،وإما أن نجد
وندخل من الباب الضيق ونعمل للمد الطويل ،ولعل منكم من يذكر أنني
في هذا المكان قلت منذ سنوات :إنني قررت أن أتحدث إلى الجيال
المقبلة ،ما أقول هذا ـ يشهد الله ـ لبعث اليأس في النفوس ول لحطم
سم خطرا ً ماثل ً ،ربما يختدعالهمم التي تريد أن تتوثب ،ولكني أريد أن أج ّ
ً ً
بعض الناس فيه ،ولكنه َيضل وُيضل ،ومن الخير لنا قول واحدا أن نعرف ما
نريد وبالحجم الذي نريد ،وأن نوفر من الطاقة كفاء هذا الذي نريد .
هذا كلم أقوله وأن أستذكر بعض ما قلت في السبوع الماضي ،لعلي ذكرت
لكم أني سأمّر على السورة ،ومن صنع الله تبارك وتعالى أنني ما استطعت
على مدى ساعة كاملة أن أتجاوز كلمة واحدة ،مضت الساعة كلها ونحن
نتحدث إليكم عن معنى ) سبح ( معنى التسبيح ،وحين كنت أتحدث يشهد
الله أنني كنت أتمزق ،أعرف أن كثيرا ً من هذا الذي أقول غير مفهوم ،
ولكن ل بأس ،ورجوت أن يكون هذا السبوع خيرا ً من الذي مضى ،وأن
ُأدخل على نفوسكم بعض السهولة والليونة ولكني مضطر إلى أن آخذ نفسي
وإلى أن آخذكم أيضا ً بألوان من مشقات ،ل بد من الصبر عليها .
إن هذا القرآن قائد هذه المة ودليلها والضوء الذي تعشو إليه والحداء الذي
تسير من خلفه ،وهذا القرآن معجزة الله الباقية على الدهر ،ل يبليها كر
الليالي ول مر اليام ،ثم هو صياغة الحكيم الخبير ،ثم هو عهد الله وميثاقه
إلى الناس عامة ،وإلى أن يرث الله الرض ومن عليها .فهو بهذه المثابة
نمط فريد ومعجز وعجيب من القول ،بل لعلنا نظلم القرآن إذا سميناه
ل وعل سماه كذلك في بعض الحيان ،لعل من الخير أن قول ً ،لول أن الله ج ّ
نركز على التسمية الخرى التي وردت في القرآن وهي أنه روح ،فالكلم
111
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
هذا القرآن يجب أن نعطيه ما يستحق ،ومن الظلم البين له أن ننزل على
حكم الضرورات ،فنستخف به ،بصياغته بمعانيه بإيحاءاته ،إن على الناس
جميعا ً أن يبذلوا من ذات أنفسهم كي يتعرفوا على كلم الله ،وإذا قصرت
بالنسان وسائله في بعض الحيان فليس من المنطق ـ كل ول من الوفاء
لهذا لدين ـ أن نتنازل لنتساوق مع إمكانيات الناس ،ولكن نحن نستنهض
دوه من أنفسهم من أجل الهمم كي يستدرك بعض الناس ما ينبغي لهم أن ُيع ّ
أن يفقهوا كتاب الله تعالى .
وآلم شيء إلى نفسي أن أضطر في بعض الحيان إلى خوض بعض الدقائق
صنعتاللغوية وأسرار البيان ،فأنا وأنتم نعرف المؤامرة الرهيبة التي ُ
لغتيال هذه اللغة ،من المؤسف أن الجامعات في الدنيا تدرس اللغات
الميتة ،لغات ل يتحدث بها اليوم ،تحي من آدابها وتنشر من روائعها وتحاول
الفادة منها .ولكن لغة العرب تعيش في وسط هذه المؤامرة القاتلة ،ل
لشيء إل لنها لغة القرآن ،وإل لن هؤلء العداء والخصوم أدركوا ما آثر
ض بالنواجز على الخوة المتقدميون أن ينسوه ،أدركوا أن الوفاء للعروبة ع ّ
السلم ،وأن الحرص على اللغة فقه في دين الله تبارك وتعالى ،وأن
النسان الذي يتنكر للسلم فآخر إنسان يستحق شرف النتماء للمة
العربية ،وأن النسان الذي يستعجم لسانه بلغة القرآن آخر من يتصد ّ لتعليم
الناس المبادئ القومية ،هذا المعنى الذي نسيه وأسقطه إخواننا التقدميون
مع السف ،أدركه خصوم المة وأعداؤها ،وعلموا أن أي إنهاض للسان
العربي فهو إنهاض بالضرورة لهذا السلم ،لن الرابطة بين القرآن وبين لغة
العرب رابطة ل تنفصل ،والوشيجة التي تربط العرب إلى السلم وشيجة ل
تضعف ول تنحل ،لن العرب يحتل السلم منها محل القلب من الجسد ،
محل الروح من الكيان الحي .مع ذلك فل بد لنا من أن نقف في الن بعد
الن ولو على سبيل لفت النظر عند بعض الدقائق اللغوية وأسرار البيان ،
لكي ننادي إخواننا الذي يرغبون في فهم كلم الله تعالى ،أن يستحضروا
العدة لذلك ،من التعرف على أساليب العرب في الخطاب ،وأنه ل وفاء
صر المسلمون في فهم كلم الله تعالى . للسلم أبدا ً إذا ق ّ
نعود الن إلى ما مضى أن قلناه من قبل ،مع أن منادح القول في هذا
واسع ،ولكن نمضي مع السورة .
يقول الله تعالى ) سبح اسم ربك العلى ( وأول ما يلفت النظر في هذه الية
لفظان ،لفظ الرب ولفظ العلى ،ومعلوم لكل من قرأ القرآن ولو قراءة
سطحية أن الرب جل وعل وصف نفسه بأوصاف متعددة في القرآن الكريم ،
ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصاف ،وأحصاه عليه الصلة
112
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
والسلم في حديث الذي قال فيه :إن لله تسعة وتسعين اسما ً مائة إل
واحدة .وترد هذه الوصاف في القرآن متغايرة ومتباينة ،القارئ العادي
يقرأها دون أن يحس ما يعنيه الفرق بين استعمال الوصف هنا واستعماله
هناك .في الحقيقة الوصاف اللهية والسماء الحسنى تعبر عن حقائق ،
وحينما تنّزل صفة من الصفات اللهية ،أو ُينّزل اسم من أسماء الله في
مكان ما من سورة ما من آية ما ،فعلى قارئ القرآن أن يعرف مجمل الجو
لكي يدرك لماذا اختير الوصف ولم ُيختر وصف آخر ؟ فكلمة الرب هنا لو أنك
ت أنها الوصف الذي ل يصلح غيره في هذا ت فواتح السورة لدرك َقرأ َ
در
المكان ،اسمع ) سبح اسم ربك العلى ،الذي خلق فسوى ،والذي ق ّ
فهدى ،والذي أخرج المرعى ،فجعله غثاًء أحوى ( سأترك لكم إعطاء الحكم
النهائي قليل ً كي نتعرف على على المسألة شيئا ً فشيئا ً .
)(2 /
معلوم أن القرآن نزل بلغة العرب ،والعرب حين نطقت بهذه اللغة الشريفة
عبرت بها عن حقائق قائمة في النفس منطبعة عن وقائع في الوجود ،
مفهوم فيما أعتقد ؟ فكلمة الرب في اللغة مأخذوة من مادة لها معناها
ب وربا ( هاتان المادتان أو هما مادة واحدة وأقول مادتان الخاص ،مادة ) ر ّ
تسهيل ً تعنيان التنمية والحفاظ شيئا ً بعد شيء ،وتعنيان مع ذلك عدم ترك
الشيء المربوب من قبل الذي يرب أو من قبل الرب ،أعيد ؟ نعم سأعيد ،
هذه الكلمة تعني التنمية والمحافظة والزيادة ،وتعني أيضا ً المواصلة
والمواظبة على ذلك ،وعدم ترك الشيء المربوب ول لحظة واحدة ،فالرب
هو الذي يشرف على ما يصنع حال ً بعد حال ،وزمان بعد زمان ،ول يتركه
حتى يصل تمامه وكماله ،وهو الذي أيضا ً يحوطه ويحفظه من سائر الجهات ،
وفي الثر :ألك نعمة عند فلن تردها .يعنون بذلك أنك بربك للنعمة تحافظ
عليها وتحرسها وتحوطها ممن يفسدها .ومن هذه المادة جاء معنى الربا ،
والربا هو الزيادة ،والزيادة المستمرة ،ولول الستمرار المتلحق ،ولول
سهر المربي كان من العبث أن يسمى الربا ربا ،ونحن لو أخذنا مقطعا ً من
القرآن الكريم يبين فيه لونين من الزيادة لتضح لنا المعنى المراد .قال الله
تعالى في موطن آخر من الكتاب ) وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس
فل يربو عند الله ،وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون
( والمضعفون هم الذين تضاعف لهم الجور ،فحين نقابل بين الضعاف وبين
الربا يتضح لنا الفارق بين معنى الرب الذي ينمي ويزيد شيئا ً بعد شيء وعلى
وتيرة متصاعدة والذي يحافظ ،وبين الزيادة التي تطرأ في إبانها وفي
مناسباتها ولضروراتها ودواعيها .
ً ً
فالربا زيادة في المال يأخذها المربي تزيد عاما بعد عام ،أو تزيد شهرا بعد
شهر .هذا من جهة المال .ومن جهة صاحب المال فهو حريص عليه محافظ
على إنمائه وعلى زيادته ،فالزيادة شيء نابع من طبيعة الربا ،وحين نأتي
إلى معنى ) فأولئك هم المضعفون ( فالضعاف هو الزيادة تقول :أعطيت
فلنا ً مثل أجره ،أي مثله بالضبط ،وأعطيته ضعفه أي مثله مرتين ،
والمضعفون هم الذين يضاعف لهم الجر مرة أو مرتين أو سبعة مائة
ضعف .لكن هنالك فرق في ما يتعلق بالجور المستحقة على العمال ،
فالجر عليها ل يتبع قاعدة النماء شيئا ً بعد شيء ،ول يتبع الستمرار ول
يستلزم الحياطة .أنت تعمل العمل اليوم تستحق عليه أجرك اليوم ،وتعمل
113
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مثله أو غيره بعد سنة أو بعد عشرات السنين تستحق عليه أجره الذي
يستحقه ،فظاهرة التسلسل والنماء المستمر غير موجودة في الضعاف ،
بينما هي موجودة في الرباء .
هذا المعنى بالضبط ملحوظ في كلمة الرب ،حين يستعمل في القرآن في
ل وعل فإنما ذلك لفت نظر صف الرب ج ّ ل وعل ،و ْ هذا الموطن اسم الرب ج ّ
ابن آدم بقوة إلى حقيقة يذهل عنها كثير من الناس ،وهو أنك أيها النسان لو
ل وعل ،ثم أصبحت تصورت ما أنت ؟ لوجدت أنك كنت شيئا ً في علم الله ج ّ
نطفة قطرة من ماء في رحم أمك وعناية الله معك تحوطك وتربيك وتنميك ،
لو أن أي خلل جزئي بسيط وقع في تركيب هذه المادة التي نزلت من
ل وعل بعلمه وبرحمته الرجل في رحم الم ما كنت شيئا ً مذكورا ً ،الله ج ّ
وبمقتضى ربوبيته قدر أن تكون نطفة أبيك على النحو الذي هي عليه كي
تنتجك أنت ،ثم وأنت في ظلمات الرحم تحوطك عناية الله يأتي الغذاء من
حيث ل يقوم غذاء في العادة للحياء ،ولكن قدرة الله التي ل تغفل عنك
ورحمته التي تحيط به صحبتك أيضا ً وأنت تتخلق أطوارا ً في رحم أمك ،حتى
إذا ضرب المخاض أمك نزلت طفل ً سويا ً ،لك كل معالم النسان وكل
قسيمات النسان ،ومع هذا فأنت بعد أن كمل تكوينك واستقامت خلقتك
قادر على أن تستقل بنفسك ؟ ل ،أنت محتاج إلى ماذا ؟ محتاج إلى الله
طبعا ً ،ولكن أي وصف هذا الذي ينبغي أن يستصحبك وأنت تمر في
أطواره ؟ وصف الرب ،الرب الذي ل تغفل عين عنايته عنك لحظة واحدة ،
معك وأنت جنين ،ومعك وأنت طفل تمص ثدي أمك وتغتذي بلبنها ،ومعك
وأنت تتمرن على إساغة بعض ألوان الطعام ،ومعك وأنت تحاول أن تقعد ،
ومعك وأنت تكبو وتتعثر لكي تمشي ،ثم هو معك حينما تشب أطوارا ً ،وهو
معك حين الكهولة وفي الشيخوخة وإلى أن تفارقك أنفاسك .
)(3 /
هذا الوصف الذي يعني مداووة العناية ،والذي يعني الحياطة ورد الفات
ل وعل ، والسواء عنك ،هذا المعنى ل يليق به إل الرب ،إل وصف الرب ج ّ
فمن هنا ترون أنه لو اختير في هذا الكلم أي وصف من أوصاف الباري تبارك
اسمه لكان غير مؤد ٍ للمعنى نظرا ً إلى السياق الذي مرت به اليات ) سبح
اسم ربك العلى ،الذي خلق فسوى ( فأشار لك إلى هذه الخلقة التي خلقك
عليها ) والذي قدر فهدى ( فلفت نظرك هنا إلى دوام عنايته بك وبالكون كله
) والذي أخرج المرعى ،فجعله غثاًء أحوى ( هذا الرب أيضا ً ل تظنن بتاتا ً أن
عنايته تحيطك وحدك ،فعنايته ودوام رحمته محيطة بالكون كله معك ،وحين
يضرب لك هذا المثل البسيط والقريب جدا ً يريد أن يلفت نظرك إلى معنى
الرب ،كما يريد أن يفلت نظرك إلى أنك ثمرة من ثمرات القوة التي أنشأت
هذا الوجود ،أنت لست بدعا ً في الكون طبعا ً ،أل ترى إلى النبات تنشق عنه
البذور ويبسق في الجواء ثم ينمو ،أنت كذلك ،العناية التي صحبت النبات
وح وانتهى هي هي العناية التي صحبتك منذ كنت ص ّ
منذ كان بذرة وإلى أن ُ
نطفة في رحم الم وإلى أن يضمك القبر .
ً
وكلمة ) العلى ( كما يعرف كل من شدا شيئا من علوم العربية صيغة
تفضيل ،تقول :فلن أعلم من فلن ،وفلن أكرم من فلن ،وفلن أعلى
من فلن .هذه الصيغة هي ما ُيطلق عليها في اللغة اسم التفضيل ،
والتفضيل كما هو معروف في قواعد اللغة وأساليبها يتقتضي وجود فاضل
114
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
) سبح اسم ربك العلى ( من ؟ ) الذي خلق فسوى ( وأية بادرة من الذهن
تشعر بأن ترتيب الكلم على هذا النحو ) سبح اسم ربك العلى ،الذي خلق
فسوى ( نزول من العلى إلى الدنى مباشرة ليستقّر في الذهن أن ما سوى
الله فمخلوق ،وأن ما سوى الله فمربوب ،وأن ما سوى الله فمحتاج إلى
در فهدى ( خلق فسوى ، الله تبارك وتعالى ) .الذي خلق فسوى ،والذي ق ّ
كلمتان تأتيان وراء بعضهما ،ماذا تعنيان ؟ أنت يا أنت قارئ القرآن ماذا تفهم
من ذلك ؟ الخلق هو الصنع ،وكل عامل في الحدادة أو في النجارة أو في
ة،ٌ ل وليست كل صنعةٍ صنع ُ ل عم ٌ
أي عمل من العمال يعلم أن ليس كل عم ٍ
115
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وأن العمال والصانعين يتفاوتون من حيث التقان تبعا ً لدرجة المران وبقدر ما
أنتجوا من المادة التي صنعوها ،فحين تصنع شيئا ً قد يخرج معك على نحو
بدائي غير منسق وغير مرتب ناقص الداء ،ولكن الله تعالى أراد أن ل يلحق
خلقة الله على أتم بخلقه هذا التصور ،وأراد أن يستقر في عقل النسان إن ِ
وأكمل ما يكون ،فالخلق هو اليجاد ،ولكن التسوية هي التهذيب والتشذيب
والتعديل ،أنت تقتطع قطعة من الجبل حجارة فأنت صنعتها بهذا الشكل
ت حجر ،ولكن ل يقول قائل :إنك باقتطاعك لها ،بمجرد هذا القتطاع صنع َ
و
ت منها لبنة تصلح في مكان مست ٍ ت منها تمثال ً ،ول يقول قائل :إنك جعل َ نح َ
،ولكنك حين ُتعمل الزميل والفأس فتسوي من هذه الكتلة تمثال ً جميل ً ،أو
شب أطرافها حتى تكون حجارة تأخذ مكانها حينما ُتعمل الزميل والفأس فت ّ
في الجدار على استقامة فأنت في هذه الحالة لم تخلقها وحسب وإنما
خلقتها وسويتها .وهذا هو معنى التقويم الذي ورد في مواطن أخرة من
القرآن الكريم ) لقد خلقنا النسان في أحسن تقويم ( فأنت لم يخلقك الله
ت لهدف ،أنت خلق َت لغاية و ُ
خلق َ
ل أي شيء بل قيمة ،ل ،أنت ُ تعالى كما ُيخ َ
ً ً
ت لكي تكون خليفة الله في الرض فاهما عنه قّيما على شئون الدنيا ، شح َ ُر ّ
ً
قّيما على حراسة دين الله ،حارسا على كلمات الله تبارك وتعالى . ً
فمن أجل ذلك أنت ل بد أن يكون قد سواك الله تعالى تسوية لكي تؤدي هذه
المعمة ،فأنت أيها النسان مخلوق على أحسن صورة وأكمل خلق يساعدك
على أداء هذه الغاية .
در فهدى ( والذي ُيفهم من التقدير طبعا ً هو قضاء الله تعالى أن ) والذي ق ّ
يكون المر الفلني على الشكل الفلني ،ولكن للعلماء في هذا المجال كلما ً
وإن كان غالبهم ل يأخذ به إل أنني أجدني أميل إلى اعتناقه وتبّنيه ،فكلمة
در ( بهذا البناء في اللغة تعني :جعل الشيء وفقا ً لمقدار ،وجعله مؤديا ً )ق ّ
در ( بهذا البناء إعطاء القدرة ،تقول : لغاية .وتعني من جانب آخر كلمة ) ق ّ
ت فلنا ً على أن يفعل كذا ،أي منحته القدرة والقوة على أن يؤدي در ُ ق ّ
ً
الشيء الفلني .وفي تقديري ول أدري فقد أكون مصيبا أو ل ،أن هذا لمعنى
الثاني أولى بأن يؤخذ به في تأويل الية ،فالله تعالى أوجد هذا النسان
وأوجد هذه المخلوقات جميعا ً ،منها الناطق ومنها الصامت ،ومنها الحي
ومنها الجامد ،لكن كل ما أوجد الله تعالى تضمن سننا ً وتضمن قوانين لها
فعلها ولها أثرها في الكون ولها وظيفتها في هذا الوجود ،من الذي أعطاها
در هذا
القدرة على أن تؤدي ما يراد لها أن تؤديه ؟ الله .فالله تعالى ق ّ
النسان ،أي أقدر هذا النسان على أن يتحرك في المسار الذي أراده الله
تعالى له ،ويزيدني قناعة وميل ً إلى هذه التأويل كلمة ) هدى ( فالله تعالى
در فهدى ( أي أعطاك القوة على الحركة ،والحركة ل يقول ) والذي ق ّ
ُيشترط فيها أن تكون مستقيمة ،فدوران النسان حول نفسه حركة ،وأخذه
يمينا ً وشمال ً حركة ،وضربه في التيه حركة ،واستواؤه على جادة مستقيمة
حركة ،لكن هذا القدار حكمه الله تعالى بأنه مقصود منه الهداية ،عند هذه
النقطة أريد أن أقول كلمتين لقف .
)(5 /
116
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ت ما تقويم ،ثن أعطيتك القوة لتتحرك وتعمل وأقدرتك على ذلك ،ولو شئ ُ
أعطيتكها أبدا ً ،ثم هديتك ) وهدايناه النجدين ( فأنت يا ابن آدم حينما
تستخدم نعم الله عليك من اليجاد والخلق ،والتسوية والقدار في غير ما
أراد الله تبارك وتعالى فأنت عندي كافر جاحد ،وأنت في أعراف بني آدم
ور أن رجل ً أعطاك مبلغا ً من المال لكي تستعين بها على ناكر للجميل .تص ّ
ت واشتريت بها مسدسا ً قضاء حوائجك وإرضاء ضروراتك ومصالحك ،فذهب َ
ت تصوبه إلى صدر هذا الذي أعطاك هذا المال ،ما أنت ؟ أأنت إنسان ؟ وجئ َ
أم أنت مخلوق نكد ناكر للجميل ؟ في أعراف بني آدم في فطرهم وفي
سلئقهم وفي أخلق الناس استعمال النعم ضد الذي أنعم بها سقوط في
الخلق وانتكاس في الطبع ،فالله تعالى إذ يعد ّ عليك نعمه بهذا الشكل ل
الشكل الغيبي وإنما بالشكل المحسوس ،الذي تحسه في نفسك وفيما
حولك ومن حولك ،يريد منك بكلمة هدى أن تلتزم الطريق الذي أراده لك .
أما أن تستخدم نعم الله لكي تعصي بها الله فذلك خلف مقتضى النسانية ،
ولو أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا الدنيا إلى هذا المعنى الذي فهمه النسان
العربي يوم تله محمد صلى الله عليه وسلم فاستقام عليه طبيعته كلها ،لو
أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا النسانية إلى هذا وتساءلنا :كم من النعم التي
يتكلم فيها أيها الخوة ؟ هل نحن الذين أوجدنا هذه النعم ؟ ل ،هل نحن
الذين أوصلناها إلى أنفسنا ؟ ل ،ل يتوهمن متوهم أن عمله وسعيه وكدحه
هو الذي يجلب عليه الرزق ويرد ّ عنه السيئات ،أبدا ً ،ل بد من عون الله ،ول
بد من إرادة الله ومن مشيئة الله ،وقديما ً قال قائلهم :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده
دكوكم من لقمة وصلت إلى الفم ثم اختطفت ،وعملك وكدحك وج ّ
ونشاطك ليس هو الذي يقرب إليك الخير ويدفع عنك الضير ،أبدا ً ،الله هو
الذي يعطيك ،والله هو الذي يحرمك إن شاء ،والله هو الذب يمتحنك
ويبتليك ،والله هو الذي يسامحك ويعافيك .
فالله تعالى يريد لك أن تعلم أن استخدام هذه النعم على النحو الذي
تستخدمه أنت أيها النسان ،هذه النعم التي تتقلب بين أعطافها وتتمتع بها
وتتملها عينك ،وتسعدك بها حواسك ،من أين لك ؟ من الله ،أفجائز لك
في قضية العقل ..أيسوغ لك في قانون الخلق أن تستخدم ما أعطاك الله
فيما يغضب الله تعالى ؟ سل نفسك ..أنت تعطي الدنيا من ذاتك الشيء
الكثير والكثير الكثير ..كم من الوقت تذكر الله فيه ول تنساه ؟ إن الله
فرض عليك فرائض فهل أنت مؤدٍ لما افترض الله عليك ؟ إن الله منعك
أشياء أفانت مع هذا المنع ؟ إن الله أراد لك أن تسلك طريقا ً أفأنت سالك
هذا الطريق ؟ بل أفأنت معين على سلوك هذا الطريق ؟ كل هذه السئلة لو
أردنا أن نجيب عليها بحرية واطمئنان لوجدنا أنفسنا نقف في الصف
الخاسر ،نحن مع الله لسنا أوفياء ولسنا أخلقيين ولسنا راغبين في خفض
العيش ورغده ولسنا راغبين في سعادة مرموقة عند الله تبارك وتعالى ) أم
ن لك ن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ( ألم يأ ِ يأ ِ
أيها النسان أن تذكر الله الذي خلقك وحاطك ورباك وسخر لك ما في
ن لك أن تفيء لله ربك ؟ آن لك أيها السماوات والرض جميعا ً منه ..ألم يأ ِ
النسان ؟ آن لك أن تصيخ للنداء فإنه النداء الذي يتغلغل في أعماق الذي
صغت قلوبهم لذكر الله تبارك وتعالى .
) يا أيها النسان ما غّرك بربك الكريم ،الذي خلقك فسواك فعدلك ،في أي
صورة ما شاء ركبك ( إن لك غاية فاكدح نحوها ،وإن لك هدف لم تصنعه
117
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يداك ،ولكن رحمة الله أنزلته قرآنا ً يتلى وشريعة ُتتبع وتسلك ،فاعمل على
أن تكون مع الله ومع شريعة الله واجتهد في أن تسير في طريق الله ،ذلك
خير للذين يريدون وجه الله ،وذلك علمة على كمال النسانية ل سقوطها ،
ولعلي ل أقول عجيبا ً إذا قلت إن إنسانية اليوم كلها محتاجة إلى أن تعيد
النظر في أمور تعتبر ألف باء الوجود النساني ،محتاجة أن تعيد النظر في
قواعد الخلق ،إن الخلق تقتضي أن تستخدم نعمة الله فيما يرضي الله ،
وأكبر نعمة عليك أن الله أوجدك .
شحنت فيه من إمكانات خْر وجودك كله بكل ما فيه من طاقات وما ُ فس ّ
ب إل سواه ،ول منقلب لك ومواهب لكي ترضي الله تبارك وتعالى .فل ر ّ
إلى غيره ،فأعد الجواب ليوم تشخص فيه البصار ،أجارنا الله وإياكم من
سوء المنقلب وسوء العاقبة وكتب لنا ولكم وللمسلمين سلوك سبل الهداية
والتوفيق وما يريضي الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه
أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(6 /
118
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
صلوات الله عليه ،أي في الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما
وعلى جميع إخوانهما من جميع النبياء والمرسلين .
فإذا نحن رحنا نتعرف على مسيرة الدعوة المسيحية بعد رفع المسيح عليه
السلم فإننا نجد في تاريخ المسيحية منعطفا ً خطيرا ً كان ذلك في بداية
القرن الرابع الميلدي ،وكان ذلك بعد أن أسلم قسطنطين إمبراطور
الرومان ،وكان ذلك بعد أن بذل هذا المبراطور محاولة جاهدة لتوحيد
التيارات الدينية في مملكته ضمن تيار واحد .وهذا طبعا ً شأن السياسة ،
فالساسة في أي زمان وأي مكان ضد التطور وضد التقدم ،ل يمكن أن
يوافقوا على العمليات النفجارية ول يمكن إل أن يقفوا في وجهها .
والمبراطورية الرومانية في الرض إمبراطورية وثنية ،أي أنها كانت تعبد
الصنام والتماثيل .وليست تماثيل اليونان المشهورة في التاريخ إل أثرا ً من
هذه الثار الوثنية التي كانت عليها روما بعد أن ورثت حضارة اليونان .
لكن ضمن المبراطورية الرومانية كان يوجد يهود ويوجد المسيحيون ويوجد
وثنيون ويوجد فلسفة ومفكرون مؤلهون ويوجد فلسفة ومفكرون ماديون ،
كما يوجد مجوسيون على مذاهب ونحل وآراء متعددة ومختلفة .
إن شؤون السياسة طبعا ً ل تستقيم على حالة كهذه من التشتت وتفرق
المنازع والراء والهواء ،فالمحاولة التي بذلها قسطنطين ظاهرة طبيعية في
علم السياسة ،ل استنكار تستدعيه ول شيء مما يخرج على مألوف الساسة
في أي زمان ومكان .لكن المهم أن نقرر حقيقة يجب أن يستحضرها كل
إنسان هي أن مسائل العقيدة ليست مما يصلح معها أن تبذل المحاولت
لتوحيدها بقوة القانون وبرغبة السلطة ،فالقانون والسلطة يتناولن الجسام
،ولكن ل شأن لهما بقلوب الناس ول يستطيعان تغيير شيء من اتجاهات
الناس العقلية ،إل أنه حينما يكون الموقف من الجهة المعارضة متصل ً
بالصلبة والرسوخ فبالسلطة في ذلك الحين موقف معروف أيضا ً هو التناهي
في الضغط والتناهي في الكراه والتناهي في بذل الجهود لملحقة الخارجين
على القانون السائد والعرف المتبع .إن قسطنطين فكر في أن يجمع كل
هذه الراء والهواء والمتجهات في مذهب واحد ،وجمع الساقفة بعد أن
انتشرت الديانة النصرانية في جزء كبير من أجزاء المبراطورية الرومانية
وخرج بقرارات ،الهدف منها إيجاد صيغة يمكن أن تستوعب كل هذه
التجاهات المتضاربة .
خرج بصيغة تقول:إن المسيح عليه السلم ليس رسول ً فحسب ولكنه هو ابن
الله وهو التجسيد الحي لله خالق السماوات والرض.وخرج بسلسلة من
التصورات والمفاهيم جعلت المسيحية بعد أن كانت توحيدا ً وإسلما ً لله تعالى
أصبحت ضمن الديان الوثنية وليس مع الديان الموحدة.
)(1 /
إل أن حقائق الدين كما قلنا ومسائل العقيدة ترفضان الخضوع كل الخضوع ،
فخرج على قسطنطين ناس ،فلحقهم في البراري والصحاري ،وشردهم
في الديرة ،فخرجوا فارين بدينهم .وبقيت عنده بعض حقائق الدين ،وكان
من ضمن من خرج شرذمة من النصارى الذين فروا من قسطنطين وتوغلوا
في جزيرة العرب واستوطنوا في وسط الجزيرة في منطقة نجران بين
الحدود بين السعودية الحالية واليمن .
إن الشيء الذي يلفت النظر ليس أن تعمد اليهودية إلى امتحان النصارى ،
119
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
120
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الكون كله ،وحينما نقر أن هذا الكون مخلوق فنحن نقول بديهة أنك أنت أيها
النسان الذي أنت جزء من هذا الكون أيضا ً مخلوق .ومصيرك مرهون بهذا
الخالق طالما أنت جزء من مخلوقاته .وكل مخلوقات الله تسير وفق
القوانين التي وضعها الله لها ،فمن غير المعقول أن تكون أنت وحدك أيها
النسان من بين مخلوقات الله أن ترفض أن تسير وفق القوانين والنظم
التي شرعها الله لك .فمن غير المعقول أن تكون أنت أيها النسان الشاذ
من بين مخلوقات الله .
)(2 /
انظر إلى نفسك ..انظر إلى قدراتك ..والله يقول لك ) وفي أنفسكم أفل
تبصرون ( فستجد أنك من حيث العمر محكوم بقانون الولدة ثم النشأة ثم
الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة فالموت ،أي أنك محكوم من الزمان من
طرفين ،من البداية والنهاية ،وبالتالي أنت تدرك بضرورة الحساس
والمشاهدة أنك كائن طارئ في هذا الوجود ،ليس لك صفة الخلود ول
السرمدية ،فأنت من حيث العمر الذي نضعه أساسا ً للنظر مؤقت بزمن
ت إلى قواكبسيط ل يساوي في عمر الزمان طرفة عين .فإذا نظر َ
والمكانات والمواهب والحوافز والدوافع التي أودعها الله فيك والتي جبلك
عليها فسوف تخرج بنهاية القياس أنك مستطيع بغيرك غير مستطيع بنفسك ،
ت قادرا ً على أن تحصل الضرورات اللزمة لقوام عيشك ، أي أنك كفرد ليس َ
فل بد في صفاتك المعيشية من أن تستعين بإخوانك من بني البشر .
والناس كمجموعة ،مجموعة لهذه الطاقات ،صحيح أن مجموعة الطاقات
أقوى وأعظم وأكبر من طاقات الفراد ،ولنضربه بواحد واثنين وبعشرة
وبألوف وبمليين ومع ذلك فسيظل معنا في نهاية المطاف أن النسانية
عاجزة من حيث هي موكولة إلى قدراتها عن تحصيل أسباب السلمة
والهدوء والطمأنينة في هذه الحياة .من الذي يستطيع أن يرشد النسان إلى
سلوك السبيل القوى والقوم لنتهاج الطريق المستقيم ؟ أنت في لقمة
العيش ل تجد غضاضة ول عيبا ً في أن تستعين بإخوانك من بني البشر ،فإذا
ت في لقمة العيش محتاجا ً إلى الخرين فأنت محتاج أكثر فيما هو أهم من كن َ
س
لقمة العيش مما يتناول استقرار الكائن البشري ..فيجب أن ل تح ّ
بالغضاضة ول تشعر بالعيب حينما ُيقال إنك أيها النسان ل تستطيع من غير
هداية الوحي ،ول تستطيع من غير دعم من الله أن تهتدي إلى الطريق الذي
يدلك إلى السعادة في الدنيا والفوز والفلح في الخرة .
من هذا التحليل الموجز لصول قضية اليمان نصل إلى أنه ل يكفي في
ميدان في عقيدة التوحيد أن يقول النسان أنا مؤمن بالله ،تلك دعوى يقدر
عليها ويطيقها كل إنسان ولكنها ليست كل شيء بل ربما كانت في كثير من
الحيان ل تدل على شيء على الطلق .إن فيصل التفرقة بين من يؤمن
بالله العزيز الحميد والذي ل يؤمن بالله العزيز الحميد أن المؤمن ملتزم
بمنهاج الله تعالى الذي أنزله على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم جميعا ً
والذي ل يؤمن بالله هو ذلك النسان الذي يكتفي من عالم اليمان بالدعوى
وبالتبجح ثم يضرب بكل مقررات الدين وبكل أوامر الله وبكل تعليمات رسل
الله عرض الحائط ليتخذ لنفسه منهاجا ً ونظاما ً من اختراع نفسه ومن
تصورات عقله ل ينتج عنه إل الخلل والدمار والهلك .
اليهودية لماذا حاربت النصرانية ؟ حينما نقول إن اليهود مؤمنون ،والنصارى
121
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
حينما ُوجدت هذه الجماعة المؤمنة الذين هم أصحاب الخدود والذين تلقوا
هذه الصدمة ..ماذا كانت النتائج ؟ كانت النتائج هذا البلء المستطير .لي
سبب ؟ لن هذه الصفوة والبقية كانت تحمل شعلة اليمان الحقيقي في
نفوسها ،كانت تدعو إلى الحتكام إلى شرع الله في وجه من يتحاكم إلى
شرائعهم الخاصة التي صنعتها من ذات أنفسها وفاقا ً لتصوراتها وأفكارها .
فنحن في هذه الصورة أمام نوعين من التدّين ،لون صحيح ،ولون محّرف ،
أو لنصطلح على أن نقول أنه مزيف .حينما يتقابل في ميدان العقيدة الزيف
ل عنفا ً وشراسة وخصومة وفي الحرب مع الدين الصحيح فإن الزيف ل يق ّ
والعنف عن العداء الصليين .نحن من هنا نستطيع أن نفسر وأن نحل كثيرا ً
من المشكلت التي تحّير كثيرا ً من قصار النظر .إن التاريخ عرف حركات
حوربت من أبنائها ،لماذا ؟ لن هناك دينية تحمل الصيغة الدينية الصحيحة ،ف ُ
أناسا ً تزحزحوا عن قواعد الوحي ووقفوا مع الذي ل يؤمنون ،أي انسحبت
الصالح ،أي الخطر على مصالحهم ،فمن أجل ذلك وقعت الواقعة .
إننا نقول هذا وفي الذهن أمور ،ما أريد أن أنظر إليها لنها في الواقع أمور
122
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مؤلمة ،في الذهن أمور وصور ،جعلتنا عبر تاريخنا الطويل نقف في
مواجهتنا بعضنا بعضا ً ،ويحمل بعضنا السلح في وجه الخر ،برغم من أننا
ننتمي إلى دين واحد .وبرغم أننا نسجد لرب واحد ونبي واحد ونستقبل قبلة
واحدة .إن المسألة بسيطة وواضحة ،إن الزيف والصالة يتقابلن ،وكلما
تقابل الزيف والصالة حصل هذا الصراع ،وإن هذا الصراع مؤسس على هذه
الحقيقة التي عرضتها هذه الية ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز
الحميد ( لو أنك ُأتيح لك أن تضع التاريخ في صفحة واحدة تستعرضها بلمحة
ت أن رجال ً أتقياء قاموا يدعون إلى صراط الله العزيز الحميد عين لعرف َ
حّرض عليهم من قبل السلطات ..وقيل فيهم أشياء كثيرة ..قيل أنهم ُ
ً
طامعون في الجاه أو في المنصب أو في المال ..وهم ليس في هذه أبدا .
إن المؤمن من حيث هو مؤمن ل يكون في نفسه كذلك وهو في نفسه شره
إلى السلطة أو شره إلى المال أو الجاه ،ول يكون مؤمنا ً وهو يحاول أن
يكّثر من حوله النصار ليصل إلى السلطة .إن هذه النوازع والتطلعات
ف المؤمن أن يكون مؤمنا ً .إنالرديئة متى ُوجدت في نفس النسان ك ّ
المؤمنين قوم نصحوا لنفسهم ولعباد الله تعالى ،ل يمكن أن يغشوا بحال
من الحوال ،ل يريدون إل استقامة الحوال وإل أن تنصلح شؤون الناس ،
ولكن أنت إذا رأيت إنسانا ً مفسدا ً يرى إنسانا ً آخر صالحا ً ،إن هذا المفسد
يرى في هذا الصالح شهادة بينة وواقعية على هوانه وعلى خساسة قدره ،
فمن أجل ذلك هو ينتقم لخسته ولهوانه بالتنكيل بالناس الصالحين وبالناس
الطيبين .هذا على صعيد الفراد .
فإذا نقلت إلى الصعيد العام وأخذت شريحة من التاريخ البشري تحاكم إليها
هذه القاعدة ،فاسأل نفسك :من الذي دعاه محمد صلى الله عليه وسلم
في هذا الدين ؟ ما هو جوهر الخلف بينه وبين الناس ؟ قال للناس :إن ما
تعبدون من أصنام وأوثان باطلة ،فاعبدوا الله الذي خلقكم والذي إليه
ترجعون ،وإن ما تتحاكمون إليه من أعراف وتقاليد هي بالية وعتيقة ضارة
وتقولون وجدنا عليها الباء والجداد ،لن تنفعكم شيئا ً ولن تسهم أي إسهام
في حل مشكلت الحياة ول في تذليل الصعوبات الموجودة في وجه هذه
النسانية المعذبة ،فتعالوا إلى كلمة الله الجامعة غير المفرقة ،وتعالوا إلى
الله الذي يردوا الحقوق إلى أربابها ،ل كعدل البشر الذي يسلب الحقوق
ويمكن للظالمين من الظلم ) يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم أل نعبد إل الله ول نشرك به شيئا ً ول يتخذ بعضنا بعضا ً أربابا ً من دون
الله (
إذا ً هي صيحة السلم .فثارت عناصر الشر والفساد في وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،لكن كان قد ربى أصحابه ،وكان قد قطع الشوط
الذي كان الخطر فيه ماثل ً على القلة المؤمنة ،وخرج بالمؤمنين إلى رحابة
اليمان ،وبقيت المسألة في قانون النبوة والرسالة مسألة وقت ل أقل ول
أكثر ،إن أسس الحياة الجاهلية قد تهاوت ولم تبقَ إل سنوات وسينقض هذا
البناء برمته لتقوم على أنقاضه أمة السلم ولتقوم دولة السلم .
)(4 /
123
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ب) لتتبعن سنن من قبلكم شبرا ً بشبر وذراعا ً بذراع حتى لو دخلوا جحر ض ٍ
لدخلتموه ( كذلك فعلت هذه المة نفس الدواء نفس المشكلت نفس
الصعوبات نفس المتاعب قابلت هذه المة المسلمة ،ومع ذلك فإن أمتنا كما
ذكرت لكم من قبل تمتاز عن النبوات السابقة بميزتين لم تتوفرا في جيل
من الجيال ول في أمة من المم ،أولى هاتين الميزتين أن الله جل وعل
حفظ حقائق وحيه المنزل على نبيه المكرم صلوات الله وسلمه عليه وآخر
السورة التي نحن بصددها يشير إلى هذا الحفظ ) بل هو قرآن مجيد ،في
لوح محفوظ ( وكم ُبذلت من محاولت عبر التاريخ وعلى اختلف العناصر
والجناس واللوان لكي تغّير حقيقة بسيطة من حقائق الوحي فما أمكن ذلك
،لن كفالة الله ل تثقبها محاولت الدميين ،والله قد تكفل بهذا الدين
بالحفظ ،كم من أبالسة ،كم من شياطين ،كم من أفاكين ،كم من كذابين
حاولوا أن يزيدوا في كلم الله أو ينقصوا منه فباءت محاولتهم بالخسران .
وهذه إسرائيل طبعت قبل سنوات من المصحف نسخا ً بمئات اللوف تزيد
منها وتنقص وتوزعها في بقاع الرض فيتلقى المسلمون النبأ ببرود ،لن
النسخ جميعا ً تأخذ طريقها إلى الحرق ،لن الله تعالى لم يسمح ولم يأذن
لحقيقة واحدة من حقائق الوحي أن يتطرق إليها الخلل ..فهذه الكفالة لم
تتوفر لدين من الديان في الماضي ولكنها توفرت لهذا الدين الذي هو
السلم .
حرمت منها المم الخرى الميزة الثانية التي توفرت لهذه المة ولهذا الدين و ُ
جميعا ً أن سبيل السلم في العمل سبيل بشري وجماعي ،أي أن حقائق
الوحي كانت تنزل منجمة ومفرقة على رسول الله بالية وبالعدد من اليات
فيأخذ الرسول عليه الصلة والسلم بتنظيم الجماعة المؤمنة وفاقا ً لحقائق
هذه التوجيهات الربانية .فالوحي كان يوافقه عمل بنائي جماعي تنظيمي
جعل المة المسلمة أن قوام حياتها وحياة مستقبلها تتمثل في هذا العمل
الجماعي الذي ل يجوز التفريط فيه .
ومع أن المة تعرضت لسباب شتى من ألوان التدمير المقصود والمتعمد ،
وتعرضت إلى ألوان من الدعاوى والدس فإن أمة السلم ما تزال حتى
الساعة بالرغم من تفرق الحدود وبالرغم من تعدد اللسنة واللوان
والجناس تشعر أنها أمة واحدة تجمعها رابطة العقيدة في الله ،ويشدها إلى
الرض من جهة وإلى الجنة من جهة أخرى نداء الله تعالى المتمثل في آيات
الله تعالى .
إن شئت مصداقا ً لذلك فاذهب إلى الحج ،وانظر إلى هناك كيف يتجمع
الناس في المشاعر في تلك البقاع الطاهرة ..الزنجي والهندي والعربي ومن
كل لون ومن كل ملة ..ل تفرق بينهم اللوان والجناس واللسنة ،لن
الجامعة الدينية ربطت بينهم جميعا ً .
ولهذا فنحن نجد على ألسنة الدهاقنة من الستعمار وتجار السياسة وزبانية
التلفيق والملحدة في كل جيل كلمة واحدة تتردد على ألسنتهم جميعا ً :ما
دام هذا القرآن موجودا ً وما دامت مكة موجودة فل سبيل إلى السيطرة على
العالم السلمي بحال من الحوال .اسألوا أنفسكم ،لماذا هذه الخصومة ؟
ألسنا نحن أمة نعيش على أرضنا وفي بيوتنا وبين أبنائنا ومن حقنا أن نتمتع
بخيراتنا ومن حقنا أن نكون آمنين وادعين .لماذا إذا ً ؟ ترمينا المم جميعا ً
عن قوس واحد .لماذا إن تحركنا لكي نزيل عن أمتنا لعنة التفرق والتمزق
التي صنعت في ديار الغرب فجعلت المة الواحدة أمما ً والدولة الواحدة
دول ؟ لماذا حينما نتحرك نحو الدولة الجامعة تنطلق الدعوات من أقطار
124
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الرض جميعا ً لتحطم هذه الوحدة ؟ لماذا حينما ننادي بوضع شرائع الله
موضع التطبيق أذلك شأن يخصنا أم يخصهم ؟ يخصنا ول يخصهم .لماذا
جميعا ً ينادون بالويل والثبور وعظائم المور ؟ لماذا ينادونا بالرجعية والتخلف
وعدم المساير ركب التقدم .لماذا ؟
إن مسألة عناد كما قلنا لكم ،ثم جوهر الصراع بين هذه المة وبين أعدائها
في القديم وأعدائها في الحديث وأعدائها في المستقبل يتمثل في هذه
الحقيقة البسيطة أننا أمة تؤمن الله العزيز الحميد وأن هؤلء ل يؤمنون بالله
العزيز الحميد .إن الشرق سابقا ً حاربنا ،وإن الغرب حاربنا بالرغم من
الغزل الرخيص الذي يقوم الن بيننا وبينه ،ولم يدخر وسعا ً في تحطيمنا
وابتغاء الدمار لمتنا ،ول أعرف أمة من المم ل في القديم ول في الحديث
وقفت موقفا ً قاسيا ً مع أمة السلم .إن الكل متفقون اتفاقا ً ل ريب فيه ول
شبهة على ضرورة تحطيم السلم ،ولكن الله من ورائهم محيط .
)(5 /
أيها الخوة ليس القضية هنا ،في الواقع خصمك إن لم يكن بهذا الشكل فلن
يكون خصمك .الستعمار إن لم يكن بالصورة التي عرفناها فلن يكون
استعمارًا .والصليبية العالمية إن لم تفعل هذا بنا فما هي بصليبية ،ستكون
إيمانا ً وستكون إسلما ً .العدو هو العدو .ما نحن هنا ؟ نحن فقط عند أصوات
النشاز ،عند أصوات المنكر ،تصدر من أناس لهم دائما ً مكان الصدارة في
ميدان التدّين الرسمي ،وأقول ميدان التدين الرسمي إن هؤلء حملة
الشباك وصيادون في الماء العكر وأجراء خسيسون ،رخيصون ،يعملون
على ذبح أمتنا ويعملون على التضحية بدينهم ويعملون على إغضاب ربهم جل
وعل .إن هؤلء موجودون ،وموجودون في كل مكان كما وجدوا في كل
مكان ،وسيوجدون في كل زمان كما وجدوا من قبل في كل زمان ،وإن
سبيل الخلص من شعور الثمين والظالمين سواء في الداخل أو في الخارج
التمسك بهذه الحقيقة التي هي عقدة العقد بيننا وبين أعداء هذه المة جميعا ً
اليمان بالله العزيز الحميد .
إن الناس يناصبوننا العداء لننا مؤمنون ،فلكي نتخلص منهم ولكي نتغلب
عليهم لنحقق هذا اليمان في نفوسنا .كيف ؟ كيف يتحقق كذلك ؟
بالقاعدتين اللتين أشرت إليهما سابقا ً ،بما حفظ الله به محمد عليه السلم
وما حفظ به القلة المؤمنة ،باعتماد القرآن منهجا ً في السلوك والعتقاد
والتشريع وفي كل شيء والتحاكم إلى الله في كل ما يحدث بين الناس من
شؤون وشجون .ثم في ترابط الجماعة المؤمنة تضامنها تناسقها شعورها
بأنها في وجه خطر مستشرى إن لم تدرأه عن أنفسها في هذا التضامن الذي
ل حدود له ،لهذه الخوة التي يفرقها شيء ،بهذه الصفاء الذي ل يعكره أي
معكر فنحن ثائرون إلى هناء ،ولكن كما قلت هذا قبل مدة طويلة إن الله
باق ليس لحد سبيل عليه ،لكن الذي يحدث أن الله يغضب على جيل من
الجيال فقط فيسلبه شرف خدمته تعالى ويسلبه شرف النتماء الصحيح إليه
جل وعل ،ثم يستبدل من بعده قوما ً آخرين .
فاتقوا الله أيها الخوة واعملوا على ترسيخ اليمان في قلوبكم وسارعوا إلى
تلوة قرآنكم والتعرف على أحكام ربكم من خلل هذا القرآن ،ومن خلل
سنن النبي عليه الصلة والسلم ،واتقوا الله في هذه الوحدة الجامعة في
هذه الخوة العظيمة التي عقد الله عقدتها بيمينه بين قلوبكم ل تفرطوا
125
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
جنتكم فيها .إنها عصمتكم يوم تزيغ الراء ويوم تتفرق السبل وإنها عدتكم و ُ
إذ يدلهم الخطر ،إن الشيطان ل يمكن أن يتسلل إلى الصف المتناسق ولكنه
يجد طريقه واسعا ً حينما يكون الصف مخلخل ً .
فأسأل الله العلي القدير أن يرسخ معاني اليمان في قلوبنا وأن يحبب إلينا
هذا اليمان وأن يكّره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأسأله جل وعل أن
زم قلوبنا تعرف معنى هذه الخوة ،إنه هو المسؤول وهو الملجأ حين ُيل ِ
تدلهم الخطوب وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(6 /
126
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
إن هذه القلة التي آمنت برسول الله صلى الله عليه ترى ما حولها وتراه
على الطبيعة ،إنها بشر من البشر ،ولو أنها ُتركت للمشاعر النسانية البحتة
ولنتائج الفعل التي تتوّلد عنها لستيأسوا وألقوا بأيديهم ،ولكن القرآن بأنا ٍ
ة
عجيبة كان يأخذ بالهمم حتى ل تسقط ،كان يتناول هذه العزائم في ذروة
الخطر ليحقنها بالمادة الصالحة والمؤهلة لتجديد الحيوية والنشاط .
إن المسلم يعرف من حقائق إيمانه الولية أنه ل يعطي للناس رسالة نفسه ،
ولكنه يقدم لهم رسالة الله ،وحين تدلهم الخطوب من حولنا ونكون في
وسط الصراع وجها ً لوجه أمام أعداء الله تعالى ،من هنا يتطّرق اليأس إلى
قلوب الناس حينما يعالجون أمر الرسالة وحينما يجابهون أعداء الله تعالى ،
لكن المؤمن حينما يستحضر في ذهنه أنه مجرد أداة ووسيلة بيد القادر
127
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القاهر الجبار المنتقم ،وبأن أمر الرسالة نصرا ً أو هزيمة ليس إليه ،والذي
هو فعل ً مسؤول عنه ومطالب عنه هو تحرير النية وإخلص القلب لله تعالى
والتدّرع بالثبات والصبر ،لو أن المسلم في معترك الصراع ذكر هذا لنزاحت
عنه غاشية الهزيمة ،وَلشعر أنه يفيء إلى جانب عزيز كريم قوي قادر قاهر
ل ُيغالبه أحد إل غلبه ول يتصدى له أحد إل دندن عليه .
هذه الحقيقة كما قلنا من أوليات اليمان موجودة في الية التي نتلوها ،إن
الله يقول ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ،الذي له ملك
السماوات والرض والله على كل شيء شهيد ( فيناسب بعد تحديد جوهر
الصراع بأنه ل خلف بين المؤمنين ومن عداهم إل على حقيقة اليمان وبأنه
ل صح ما يقال بأن الذين يقفون مع حقائق الكتاب المنزل ويحاولون إيصال
حرموا منه لعوامل وذرائع شتى ل أرب لهم في هذا النور إلى الناس الذين ُ
عرفوا أم لم ُيعَرفوا ،بل إن أموال الناس ول شيء آخر ..وسواء عليهم ُ
المؤمنين حينما ُيعَرفون من قبل الناس يتمنون لو أن الله أخفى لهم أعمالهم
.إن المؤمنين ليسوا في سبيل من هذه السبل التي يتحدث عنها الناس في
مختلف القطار وفي مختلف الجناس ،ولكنهم إن كان لهم جرم ،إن كان
لهم ذنب ،فذنبهم وجرمهم هو هذا اليمان ،والذي حّرض عليه دعاة السوء
والفساد هو أنهم آمنوا بالله ربهم .
بعد أن حرر الله تعالى جوهر الصراع لكي يقطع على المؤمنين طريق التأثر
بما يثيره أعداء الله في وجوههم وبين أقوامهم من المغفلين من أن
المؤمنين يريدون كذا وكذا ،بعد أن وقعت المثولة البارزة أمام أعين
المؤمنين والكافرين جميعا ً هو أنها جاءت وفود المكيين إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم تعرض عليه المغريات وتنثر بين يديه المفاتن ..إن كنت تريد
مال ً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مال ً ..وإن كنت تريد ملكا ً
ودناك علينا فل نقطع أمرا ً دونك ..وإن كنت تريد النساء زوجناك من س ّ
تشتهي وتختار من أجمل نسائنا وأكرم بيوتاتنا ..بعد هذا كله يقول لهم
الرسول صلى الله عليه وسلم :إن النسان المؤمن ل يسعى إلى شيء من
هذا القبيل ول يطلب أغراضا ً من هذا المستوى ،إنه يقول لهم :ما لي هذا
الذي قلتم ولكن الله بعثني بشيرا ً ونذيرا ً فإن تقبلوا مني فذلك حظكم في
الدنيا والخرة ،وإن تردوه علي أصبر لمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
وهو خير الحاكمين .
ومع ذلك فإن المؤمن ككل جهاز من أجهزة الدنيا محتاج إلى أن ُيشحن
بالطاقة كلما كادت هذه الطاقة أن تفرغ .وفي الصراع ُينفق النسان كمية
هائلة من الطاقة فهو بحاجة إلى أن ُيشحن باستمرار .فإذا جئتم إلى اليات
وذلك هو الغرض الذي أريد أن أقف اليوم عنده وأقف وقوف النسان المتدّبر
المتأمل الذي يعلم أن هذا القرآن سلح المسلمين في معركتهم مع أعداء
الله تعالى ،فمن أجل ذلك عليهم أن يتدّبروه ) أفل يتدّبرون القرآن ( ومن
ذر النبي عليه الصلة والسلم من عدم التدّبر ليات الله وأشار أجل ذلك ح ّ
إلى أن قوما ً ينزلون بين المسلمين يقرأون القرآن ولكن ل يجاور حناجرهم ،
ولذلك أريد أن ألفت نظركم إلى أن الية حملت صفات من صفات الله
تعالى ،والذي يلفت الذهن وينير الطريق أمام المؤمن هو الدقة في اختيار
في اللفاظ ،إن الله تعالى يقول ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله ( كان
يمكن أن ُيكتفى بالكلم عند هذا الحد وتكون القضية على سوائها ،إن جوهر
الصراع مع هؤلء الناس أنهم آمنوا بالله ،ويمكن أن ينتهي كل شيء عند
هذه الكلمة ولكن الله تعالى أردف اسمه الكريم الذي هو ) الله ( بأوصاف ،
128
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ما هذه الوصاف؟ الوصف الول أنه العزيز ،والوصف الثاني أنه الحميد ،
والصف الثالث أنه مالك كل شيء ،والوصف الرابع أنه شهيد على كل
شيء .
)(2 /
129
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ل شأن لها ول صلة بينها وبين الحياة التي كانت عليها فيما مضى ،إن رستم
ما تعلمون أننا أقوى منكم عدة وأكثريسأل هذا العرابي :ما أخرجكم ؟ أ َ
منكم عددا ً وأوسع منكم رقعة أرض ؟ ما يكون الجواب ؟ وماذا سيجيب هذا
العرابي ؟
لو كان جاهليا ً لجاء إلى رستم سائل ً متسوّل ً يطلب شيئا ً من الميرة ويرجع
بشيء من التمر .ولكنه النسان المؤمن المسلم الذي شرب حقيقة اليمان
وعرف أنه يستند إلى ركن شديد ،قال له :يا هذا دعك من هذا الكلم ،إنك
ل تجادل البشر ،ولكن تجادل القدر .إن كل مسلم كان يشعر أنه قذيفة
درية من الله تعالى ل يقف في وجهها شيء ،وبذلك انتصروا ،وبذلك ق َ
عّزوا .والمسلمون حين ُوضعت أمامهم صفة الله العزيز إنما ُوضعت تذكيرا ً
ملهم هذه المانةلهم بالملجأ الذي يلجئون إليه تذكيرا ً لهم بأن الله الذي ح ّ
مر أعداءهم بشرط أن ُيخلصوا معهم نواياهم وأن سيتولى كفايتهم وسيد ّ
يحرروا قلوبهم خالصة لوجهه الكريم ،وكذلك هي إشعار للصف الكافر لكي
يعلم بأن معركته ليست مع هؤلء ولكن مع الله تعالى ،وهذا يعني أن
المعركة محسومة منذ بداية الطريق .وعلى كل عاقل أن يجنب نفسه أن
يخوض معركة من هذا القبيل في كل زمان وفي كل مكان .في الوقت الذي
تتحرك فيه المعركة بهذا الشكل فإن قانون العبث ُيلغى ،وإن قانون العدة
ُيلغى ،ول يبقى إل قانون واحد هو قانون الله العزيز الذي يغلب كل شيء ول
يغلبه أي شيء .
)(3 /
دث بعض المكيين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا حينما تح ّ
قريشا ً إلى العودة إلى عبادة هبل والعزى والصنام قال سهيل بن عمرو
رضي الله عنه يذكرهم بالله ويقول لهم :يا قوم ..الله الله في أنفسكم ل
من الله هذا تكونوا آخر الناس إسلما ً وأولهم ارتدادا ً عن هذا الدين ،والله ليت ّ
ت ورأيتم محمدا ً الدين .قال قائل منهم :ما يدريك ؟ قال سهيل :لقد رأي ُ
صلى الله عليه وسلم يقف إلى جوار هذا البيت وحيدا ً ل يوجد معه أحد يقول
ن في هذا الدين لكم :إن الله غالب على أمره ،ويقول لكم :والله لتدخل ّ
طائعين أو كارهين .ولقد كان محمد في ذلك الزمن أهون على أحدنا من
كسرة الخبز في يد الصبي ،ولقد رأيتم ما حقق الله موعوده على لسان نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم .
إن تحرير المعركة كما قلنا على الشكل الذي توحيه هذه اللفظة المفردة
) الله العزيز ( شيء ضروري ،كي تنقطع في نفوس المسلمين اللتفات إلى
غير الله تعالى .
ثم هو أيضا ً ) الحميد ( وقد يكون من الغريب أن يأتي وصف الحميد بعد
وصف العزيز ،ولكن ل غرابة إذا مددنا البصر إلى ما بعد هذه الية فقط ) إن
الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب
الحريق ( إن بين المعترضتين تتركز العلقة بين الحميد وبين مناسبة هذا
الكلم ،نرجع إلى وصف الله جل وعل بأنه الحميد إن المعركة كما قلنا
ليست مع الناس ولكن مع الله وإن المؤمنين كما قلنا ليس لهم مطمع ول
مناصب ،وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله
سد العلقة ُ
عليه وسلم وليكن منهم ما يكون ،سنشرح هذا ولكن أريد أن أج ّ
بين الصفة الكريمة لله ) الحميد ( وبين مناسبتها لهذا الكلم ،إن المؤمنين
130
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تعرضوا عبر أزمانهم لما ل يحصيه إل الله من الكوارث والهوال على يد
الصديق أو العدو أو القريب أو البعيد ،ومن حكمة الله تعالى بهذه النسانية
أن جعل المؤمنين برآء من الحقد ومن الضغينة .إن الفاسد في الرض
وقاتل الخ وقاتل العم ل شيء بيننا وبينه حينما يؤمن بالله العزيز الحميد .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبل أبطال المعارك الذين مّثلوا
بأصحابه بالحضان ،استقبلهم باسما ً .إن الحقاد ل سبيل لها إلى قلبه ،فهو
ب ما قبله سد .ومن هنا كان السلم يج ّ ل يتحرك بالحقاد ،إنه حب غامر مج ّ
،جاء عمرو بن العاص رضي الله عنه في السنة الثامنة من الهجرة ليسلم
فلما أراد أن يبسط يده لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم قال :يا رسول الله
إني أريد أن أشترط لنفسي .قال :تشترط ماذا ؟ قال :أن ُيغفر لي ما
تقدم من ذنبي .إن ابن العاص يعلم أن آذى المسلمين كثيرا ً ،فهو سافر إلى
الحبشة لكي يرد ّ المسلمين من هناك كما تعلمون من القصة .فيقول له
ب ما قبله ، الرسول صلى الله عليه وسلم :يا عمرو ألم تعلم أن السلم يج ّ
أي ُفتحت صفحة جديدة .
إن الله تعالى حين يقول ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (
تجيء كلمة الحميد لتفتح بابا ً واسعا ً من اللم والرحمة أمام هؤلء الذين
يبذلون قصارى جهودهم من أجل إطفاء شعلة اليمان ..من أجل إطفاء نور
الله تعالى ،ل يا معاشر بني آدم ،إن رحمة الله مفتحة أبوابها ،وإن عليكم
أن تعلموا أن الله حميد ،ووصف الحميد يتضمن معنيين متلزمين ،الول :
أن الله هو المستحق للحمد ،بمعنى أنه هو واهب النعم وليس معه أحد من
الناس ،ل من شريك ول وزير ،فمن حقه على الناس أن يحمدوه ،إنك ترى
أن من صميم الطبع البشري أن يحمد النسان من يقدم له معروفا ً .ولو أن
أحدا ً أسدى إليك معروفا ً بسيطا ً فمن الطبيعي أن تشكره على ذلك .ذلك
شيء موجود في طبع النسان ولكن النسان كما قلنا أكثر من مرة محكوم
بقوانين الزمان والمكان فهو من أجل ذلك قّلما يتسامى بنظره وببصيرته إلى
ما وراء قوانين الزمان وقوانين المكان ،انظر إلى ما وراء هذه الحجب التي
أمامك لترى أن الله تعالى هو واهب النعم ل أحد معه في ذلك ) وما بكم من
نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضّر فإليه تجأرون ( إن كل خير وكل نعمة
يتقلب فيها ابن آدم فمرجعها إلى الله تعالى .فمن هنا كان الله مستحقا ً
للحمد سبحانه وتعالى .
)(4 /
وأيضا ً ثمة معنى آخر ،وهو أن الله يحمد عباده المؤمنين ،الله ليس بحاجة
إليكم أبدا ً ،ليس بحاجة إلى عبادتكم ،ولكن من واسع فضل الله ومن عميم
نعمة الله أنه يحمدكم أيضا ً حينما تحمدونه على نعمة أنعمها عليكم .يقول
النبي عليه الصلة والسلم :إن الله يرضى من المسلم إذا أكل الكلة أو
دم كل شيء ، شرب الشربة أن يحمده عليها .ويقول أيضا ً :لو أن النسان ق ّ
أي أخذ كل شيء من الله تعالى ،كل النعم الموجودة على الرض ،لو أن
النسان أخذها فقال :الحمد لله لكانت كلمة الحمد لله خيرا ً وأثقل في
الميزان من كل هذه النعم التي أعطاها الله للنسان .إن النعم يتمتع بها
النسان والحيوان ،وتكون كلمة الحمد لله في مجال العتراف لصاحب
النعمة بأنه هو الذي أوصلها إليك وهو الذي يسرها لك .
إن معنى الحميد تتجلى أن الله أيضا ً يحمد عباده ،وفي ذلك يأتي الحديث
131
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القدسي الذي يرويه النبي عليه الصلة والسلم عن ربنا تبارك وتعالى يقول :
وإذا ذكرني في مل ذكرته في مل خير من ملئه ،وإذا تقّرب إلي شبرا ً تقربت
إليه ذراعا ً ،وإذا تقّرب إلي ذراعا ً تقّربت إليه باعا ً ،وإن جاءني يسعى أتيته
هرولة .إن الله جل وعل يحمد عباده ول يوجد شيء يعيبه في ذلك .
إن وصف الحميد في هذه الية يفتح أمام هؤلء المعاندين البواب مشرعة
كي ل يتمادوا في هذا الطريق البغيض ،طريق الضلل وطريق البعد عن الله
تعالى .
والوصف الثالث الذي جاء هنا هو أنه تعالى مالك كل شيء ،وينفع في هذا
المقام أن نقول أننا نحن وخصومنا وكل ما في السماوات وما في الرض ،
ومن في السماوات ومن في الرض بيد الله ل إله إل هو ،يتصرف بنا كيفما
يشاء ،ل نخرج عن إرادته ،ول نغيب عن علمه ،هو المالك لكل شيء الذي
له ملك السماوات والرض .فإذا كان المر كذلك فيجب علينا نحن المؤمنين
أن ل نبتئس وأن ل نيأس ،ويجب أن ل نشمئز ول نتضعضع حينما تكثر
النكبات والكوارث والمحن .وعلى هؤلء الذين يقاتلون المؤمنين أن يتذكروا
أنهم خلق من خلق الله دائما ً تحت مفهوم الملك لله تعالى .
لو أنني أردت أن آخذ بأيديكم إلى الخوارق لذكرت لكم شأن ذلك الرجل
التقي العابد الذي غضب عليه سلطان من الجائرين فأمر بأن ُيلقى في الجب
وأن تطلق عليه السباع لكي تفترسه ،وبالفعل ألقي هذا النسان التقي في
الجب وأطلق عليه السبع وقال الناس :مات الرجل .ومن عجب أن يط ّ
ل
المطّلون على الجب فيروا أن الرجل مستغرقا ً في الذكر والتأمل ،ويرون
السبع السد يدور حول هذا النسان التقي .وحين ُأخرج من الجب سألوه
فقال :ما كان علي من بأس وكنت أفكر في لعاب السد ،هل هو طاهر أم
نجس .هذا هو الشيء الذي خطر على بالي .
إذا ً فل ينبغي للمؤمنين أن يلقوا بال ً للمتاعب والمصاعب التي يرونها وهم في
طريق الدعوة ،ذلك شيء من طبيعة الطريق ،وإنه ل علج لهذه الحالة إل
الشعور بأننا جميعا ً ملك لله تعالى .
ويأتي الوصف الرابع ،إنك حين تفعل السيئة وتستخفي بها عن أعين الناس
ل تشعر بوخذ الضمير بنفس النسبة وبنفس المقدار الذي يكون عليه شعورك
وأنت فعلت نفس السيئة أمام أعين الناس ،حين يكون ذنبك أمام الجمهور
فإنك تتضاءل وتستحي وتخجل ،لنك تشعر أنها الفضيحة التي ل يمكن أن
ُيغطى عليها .والله تعالى بإيراد هذا الوصف ) والله على كل شيء شهيد (
يريد أن ُيعِلم هؤلء الذين يناوئون المؤمنين أن جريمتهم كبيرة ،أل يعلمون
أن الله ل يعلم سرهم ونجواهم ؟ بلى ورسل الله لديه يكتبون ،إن الله على
كل شيء شهيد ،إن الله يستجيش عاطفة الحياء في نفوس هؤلء الناس
لكي يفيئوا إلى شيء من المعاني الكريمة التي تتحرك عادة في نفس
النسان .
ً
هذه أوصاف أربعة ،كنت خليقا أن أمّر عليها حتى نبرزها كي يكون فهمنا
للقرآن الكريم صحيحا ً وسليما ً ،على نحو مقارب مما كان يفهمه الرسول
صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ،ومما كان يفهمه أيضا ً أعداء الله من
المشركين والجبارين في ذلك الزمان .
وما أعظمها من عبر ودروس للمؤمنين لو أنها استقرت في النفوس لجعلت
من الناس أناسا ً آخرين ،ولحالت هذا النسان مخلوقا ً آخر يستصغر كل
شيء في جنب الله تعالى ،ويستهين بكل شيء طالما هو مؤمن بأنه يأوي
إلى ركن شديد ،يأوي إلى الله العزيز الحميد .
132
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ولو أننا عرفنا معاني أوصاف الله تعالى وانتفعنا بهذه المعرفة في حياتنا
العملية لتغيرت الحوال ولذللت مصاعبنا ،ولكن الله وحده هو الذي بيده كل
شيء ،فنسأله وهو المعين أن يهدينا سبل السلم وأن يحبب إلينا اليمان
وأن يزينه في قلوبنا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين .
)(5 /
133
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
على صدرها ،فلما أرادت أن تقتحم النار فكأنما أدركها ما يدرك الم من
شفقة على الوليد فأحجمت وترددت ،فقال لها هذا الغلم الرضيع :يا أماه
ضع فيشبه اثبتي واصبري فإنك على الحق .فإذا كان العذاب ينال الطفال الر ّ
أن يكون هذا العذاب قد أتى على جميع المؤمنين في تلك اللحظة .إل أن
الذي يدهش هو مكر الله تعالى ) ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (
فقد وقع في ذهن الملك الجبار أنه بقتله لكل المؤمنين أنه سيخل له وجه
الناس ولن تشكل هذه الدعوة عليه بعد الن أي خطر ،فقلب الله عليه
مقصوده ،فحين ضرب الغلم وقال بسم الله رب الغلم تنبه الناس إلى أن
الملك قد استفرغ جهوده كلها ولم يترك وسيلة ول حيلة من أجل أن يقتل
هذا الغلم فأنجاه الله تعالى ،ولم يبقى في يد الملك شيء يستطيع أن
يفعله تجاه هذا الغلم المؤمن ،فلما ضربه مسميا ً بسم رب الغلم أدرك
الناس أن الملك ليس تلك الذات المتعالية عن البشر وعن سواد الناس
وجماهير الشعب ،أن الملك ليس تلك التي تملك العطاء والرزق والحرمان
والحياء والماتة ،وأن فوق هذا الملك قوة هي أعلى وأقوى وأقدر ،ولو لم
يكن المر بهذه المثابة لما مات الغلم إذ سمى عليه بسم الله رب الغلم ،
وحين رأى الناس هذه الواقعة تحدث أمام أعينهم قالوا جميعا ً آمنا برب الغلم
.أي أنه جيل مضى حرقا ً في الخاديد ولكن الرض في اللحظة ذاتها أنبتت
جيل ً آخر أخذ بالقضية ومشى بها وكان من سللتها والله أعلم ذلك الوفد
النصراني الذي جاء زائرا ً النبي عليه الصلة والسلم في السنة التاسعة أو
العاشرة من الهجرة .
)(1 /
134
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
كانت تعتري نفس محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ل ،أبدا ً ،بل إننا لنجد أن
القرآن يحرص أبلغ الحرص على الفصل الكامل بين حقيقة الوحي وبين
شخص النبي صلى الله عليه وسلم .إن الرسول عليه السلم حينما جاءته
هذه النعمة من الله كان حريصا ً عليها غاية الحرص يحبها ويريدها ويشتهي أن
تدوم له آناء الليل وأطراف النهار ،وليس بعيدا ً عنكم تلك الواقعة من
حوادث السيرة التي تقص عليكم خلل البحث في فترة الوحي ،فإن الوحي
فتر عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة يختلف في تقديرها وتحديثها رواة
السيرة إل أن الشيء الذي نقف عنده متأملين هو أن النبي عليه السلم
حينما تلّبث عليه الوحي وفتر حاول أن يتردى من شواهق الجبال ،حاول أن
يلقي بنفسه من رأس جبل من هذه الجبال التي تحيط بمكة لكي يريح نفسه
من هذا العذاب المر الذي نتج عن فترة الوحي إليه وغياب جبريل أمين
الوحي .فهو إذا ً عليه السلم كان ل أحرص منه على أن يبقى معايشا ً لهذا
الوحي ،ولهذا نجده عليه الصلة والسلم حينما كان جبريل عليه السلم يأتيه
بالوحي من وحي الله جل وعل فيقرأه عليه يقرأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع جبريل حرصا ً منه على أن يثّبت في قلبه وفي لبه هذا الوحي كي ل
يذهب عليه شيء وكي ل يتفّلت منه شيء ،فالله جل وعل عزل ً للرادة
البشرية وفصل ً بين الوحي وبين النازع البشري قال له في محكم التنزيل ) ل
تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم
إن علينا بيانه ( أي ل تسمح لعواطف الرغبة هذه التي تعتمل في داخل
نفسك أن تصرفك عما ينبغي لك من الهدوء والسكينة والتوقر في ملقاة
وحي الله جل وعل ول تخف أن يذهب عليك منه شيء أو أن تنسى منه أي
فل له بأن يجمعه بصدره فل بجمعه وقرآنه ،تك ّ شيء ،فإن الله جل وعل تك ّ
فل ينساه وأن يعينه على أن يقرأه على الناس .
وفي آية أخرى في نفس المعنى يقول الله جل وعل لنبيه الكريم ) ول تعجل
بالقرآن من قبل أن ُيقضى إليك وحيه ( فل سبيل إلى أن يجري أي اختلط
بين حقيقة الوحي وبين جملة ما يجيش في صدر النبي عليه الصلة والسلم
من عواطف ومن رغبات ومن اندفاعات .ألم يسأل المشركون صلى الله
عليه وسلم جملة من السئلة فوعدهم بأن يخبرهم عنها في أمد حدده لهم ؟
هذا معروف ،فماذا كان موقف الوحي ؟ إن الوحي ظل هناك على حياله ل
يتأثر برغبة النبي صلى الله عليه وسلم ول يميل مع أهواء النبي عليه الصلة
والسلم وإنما ظل هو الحقيقة الثابتة التي تشد إليها كل ما في نفس النبي
صلى الله عليه وسلم من عواطف ورغبات واندفاعات .إن الله يعلم أن
وعدا ً ُقطع من محمد صلى الله عليه وسلم لهؤلء المشركين بأن يجيبهم
على أسئلتهم ،وإذا تأخر الوعد فإن الله يعلم أي غبار كثيف سوف يثيره
المشركون تشكيكا ً وطعنا ً برسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكن الوحي
ظل على سكوته لم يكترث أبدا ً ،ثم جاء بعد انقضاء المدة ،جاء ل ليبدأ
بالجواب على أسئلة المشركين ،بل ليبدأ بالعتاب لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال له ) ول تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ً إل أن يشاء الله
واذكر ربك إذا نسيت ( هذه الحالة تلفت النظر إلى حقيقة من حقائق التربية
اليمانية تشير إليها الية التي تلوناها .
)(2 /
135
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن الية التي تقول في معرض التهديد المرعب والوعيد الشديد للمعتدين
على المؤمنين ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم
عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( مرة أخرى أقول لكم ـ للسف ـ إن قوانين
السلم وقضاياه الكبرى بعيدة عن المسلمين وغريبة على المسلمين في
هذه اليام بل منذ قرون ،إن علينا أن نستحضر في أذهاننا ساحة المعركة
التي كانت تدور حينما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،يشبه
والله أعلم أننا نتحدث في حدود السنة الثالثة من البعثة والنبي صلى الله
عرف أمره وشاع خبره ومشت الركبان بذكره ،والناس قد عليه وسلم قد ُ
ُ
آمن بعضهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ،والمجتمع المشرك قد أخذ أهبته
للدفاع عن نفسه فأصبح ينتقد ويعيب ويعتدي ،إن المسلمين في هذا الطار
يعيشون في عقلية ونفسية خاصة ،تصوروا أنفسكم في ذلك الزمن ،إنك
ترى أنك من غير ذنب جنيت هدفا ً للعدوان وغرضا ً للتشكيك والمقاطعة
والبتلء بكل صنوف الذى ،وأنت بشر مخلوق من لحم ودم ،حزمة من
العصاب التي أثارتها المرحلة الصعبة التي كان المسلمون يمرون بها .ينظر
أحدهم فيرى أباه قد هجره ويرى أمه قد تخلت عنه ،ويرى أخاه معرضا ً ،
وينظر الخر فيرى نفسه مقيد اليدين والرجلين ،وينظر الخر فيرى أنه هدف
للجلد بالسياط والجّر على الرمال الحارقة بيد أقرب الناس إليه ،أية
عواطف هذه التي كانت تسكن نفوس هؤلء القوام الذين ل ذنب لهم إل أن
يقولوا ربنا الله .
إن الحالة الشعورية ل بد أنها كانت على أشد ما تكون المشاعر توّثبا ً وقربا ً
من النفجار .تصوروا أنفسكم في ذلك الموقف كم تسكن قلوبكم من
عواطف الحقد والبغضاء لهؤلء الذين يعذبونكم بل سبب ،إنكم سوف
ن
تقولون على القل فيما بينكم وبين أنفسكم :لئن أمكننا الله منهم لنفعل ّ
ن ..تصوروا أنفسكم في هذا الموقف في ذروة الشعور بالحنين بهم ولنفعل ّ
دئ والرغبة الجارفة بالنتقام يأتيكم الوحي كإناء الماء البارد يصب عليك ليه ّ
أعصابك وليشعرك أنك تفكر في طريق غلط .إن الية تقول للمؤمنين في
معرض الكشف عما أعد ّ الله للمتجبرين ) إن الذين فتنوا المؤمنين
ت والمؤمنات ثم لم يتوبوا ( فالية تقيد ول تطلق ،إن الوعيد والتهديد لم يأ ِ
مطلقا ً لم يقل الله :إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات لهم عذاب
الحريق .ولو كان هذا الكلم بهذا الشكل لكان حقا ً أن ينزل الله العذاب بكل
إنسان آذى مؤمنا ً أيا ً كانت العاقبة التي انتهى إليها ،وأي ّا ً كانت الخاتمة التي
مات عليها .ولكن الية تقيد لتقول للمؤمنين بكلم بليغ غاية في البلغة ،
نهاية في اليحاء المؤثر إن العذاب سينال هؤلء المشركين تحت شرط أن
يموتوا على شركهم وأن يموتوا وهم متمادون في سوم المؤمنين سوء
العذاب ،ولكن هؤلء المشركين الذين سفكوا دماءكم ومزقوا جلودكم
وقطعوا أرحامكم وأجاعوكم وأعطشوكم وشردوا بكم هؤلء إذا تابوا وأقلعوا
عما هم فيه ورجعوا إلى الله جل وعل فل عذاب ول شيء مما تفكرون به ول
شيء مما تنذر به عواطفكم المتأججة ول شيء مما تحدثونه أنفسكم .
قد تتعرضون للعذاب على يد الجبارين والمتكبرين ،ولكن هذا ل يعني أنك
من حيث أنك مسلم مؤمن بالله وكلماته يجوز لك أن تحافظ على الحقاد
وطن النفس توطين ل استثناء له على قبول أي في قلبك ،إن عليك أن ت ّ
ً ً ً
إنسان في حظيرة اليمان وفي ساحة السلم أخا محبوبا مرغوبا فيه لمجرد
أن يؤمن بمثل هذا اليمان الذي آمنت به .إن الية لو تأخرت عن هذا الموعد
لفقدت قيمتها ،لو تأخرت عن هذا الموقف لم يبقَ لها أي مفعول ،ولكن
136
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
إن قضية السلم وإن قضاياه غريبة عن الناس اليوم ،إن قضيته ل تشبه ما
يفكر به الناس اليوم ،ول تشبه ما تعارفوا عليه وأخذوا أنفسهم به من مناهج
جاهلية .وكيف كان الفصل جازما ً وحازما ً بين شخص النبي صلى الله عليه
وسلم ورغباته وبين حقيقة الوحي ،فكذلك أيضا ً ،هذا الفصل على ذات
الهيئة وعلى ذات الصورة قائم بين القرآن وحقائق السلم وبين عواطف
المسلمين ورغباتهم .إن المسلمين ُأخذوا على يد النبي صلى الله عليه
وسلم بألوان من التربية ل شيئا ً أكاديميا ً يتلقونه في المدارس ولكن على
محرقة الواقع ،في نار التجربة ،وهم يخوضون معركة السلم ضد أعداء
الله من كل صنف ولون ،حتى خلصت لله ضمائرهم ،وصغت لله قلوبهم ،
وتطهرت نفوسهم من جميع الرادات البشرية ،واستطاعوا بنتيجة ذلك
السيطرة التامة على عواطفهم وعلى رغباتهم ،وإل فكيف يستطيع المسلم
سر قول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفه للمؤمن :والذي أن يف ّ
نفسي بيده ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به .ل يمكن أن
يفسر المؤمن بهذا الشكل إل بعد أن يخالط حب السلم وحب قضاياه وحب
خدمته الحد الذي يمتزج باللحم والعظم والدم ،حتى يتغلغل في أعماق
النفس ،الحد الذي يستولي على نهاية شعور النسان .حينئذ يكون النسان
وّقافا ً عند حدود الله فوق رغباته جميعا ً بل ضد رغباته جميعا ً .
هل نستطيع أن نقول :إن المسلمين الذين قادهم الرسول صلى الله عليه
وسلم حينما ذهب ليفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة ،ففتحوا مكة ،
وكان عددهم عشرة آلف ،جيش في مقاييس ذلك الزمان ترتعد له الفرائص
،هل نستطيع أن هؤلء المسلمين حينما شاهدوا أعداء الله وأعداءهم أمام
دخرون وسعا ً من أعينهم ،هؤلء الذين كانوا حتى صبيحة اليوم يحابونهم ول ي ّ
أجل إفنائهم والقضاء عليهم ؟ هل نستطيع أن نقول :إن المسلمين كانوا بل
قلوب ،كانوا بل مشاعر ،كانوا بل أحاسيس ؟ إن أي إنسان يحس ويشعر
ويتأثر ،ولكن النسان من بين مخلوقات الله هو المخلوق الوحيد الذي ُأتي
كم في إرادته بطواعية واختيار ،إن الحيوان تسوقه القدرة على أن يتح ّ
الغريزة يأكل حين يجوع ،وينكح حين تشتد عليه شهوته ،ويشرب حين يحس
بالعطش .ولكن النسان يمسك نفسه ،يجوع فل يأكل ،ويعطش فل يشرب
،ويشعر بالدافع الجنسي فل يقترب منه ،ويريد الشيء ويمنع نفسه من ذلك
،إن هذه الرادة الحرة الطليقة هي التي حرص السلم على أن يربيها في
نفوس المسلمين .اسألوا أنفسكم :لماذا كل هذا التعب ؟ أذلك من أجل
معركة تكتيكية ؟ نحن نعلم خاصة في هذه اليام أشياء كثيرة وغريبة ،نعلم
أن دول ً قامت ولها ثقلها في الميزان الدولي ولها تأثيرها علينا ..قامت على
أساس معتقد يقول :إن الذين يملكون المال أو الرض أو العقار ل يمكن أم
يكونوا أصدقاء أوفياء للشعب ،إنهم أعداء الشعب ،ليكن مثقفا ً ،ليكن جاهل ً
،ليكن مهذبا ً ،ليكن شريرا ً ،إن هذا ل يغير من الواقع شيئا ً ،إن طبقة
الرأسماليين من حيث هي طبقة رذيلة وشريرة ومستغلة ويجب أن ُتفنى
إفناًء كامل ً .وما يقوله هؤلء يقوله المعسكر المضاد .
137
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
من أجل ذلك رأينا في تاريخنا المعاصر حركات تأخذ الناس بمجرد أنهم كتل
تنضوي تحت مفهوم ،تأخذهم بالفناء والتقتيل ،ل تسأل نفسها ..هل يمكن
لهذا النسان أن يكون طيبا ً أو ل يمكن ؟ أبدا ً ،ثمة حكم مسبق ،كل إنسان
ينتمي إلى طبقة معينة فوصفه كذا وكذا ..إننا في السلم نقول هذا خطأ ،
إننا نقول عن النسان من حيث هو إنسان هو المنظور إليه ،ليكن من أية
طبقة كانت .وتاريخنا السلمي يعطينا الصياغة التي صاغها الرسول صلى
الله عليه وسلم والتي هي بشهادة القدمين وشهادة المحدثين وشهادة
العداء والصدقاء أفضل صياغة اجتماعية ممكنة ،فإذا فتشت عن عناصرها
ت الشريف والوضيع .. ت الغني والفقير ..وجد َ
ت الحر والعبد ..وجد َوجد َ
جمعوا في بوتقة السلم وعمل السلم ت الذكر والنثى ..كل هؤلء ُ ووجد َ
على تكوينهم ..هذا التكوين الرائع الذي شهد له العداء والصدقاء .
)(4 /
هل ننظر إلى الطبقة ؟ هل ننظر إلى الطبقة الجتماعية ؟ ل ،هذا خطل في
الرأي وهذا انسياق مع العواطف التي لم يصل النسان إلى المرحلة التي
كم فيها ويضبطها ويكبتها ويمنعها عن النطلق إلى مراحل التخريب يتح ّ
والهدم .إننا في السلم ننظر إلى الجوهر الكريم في النسان ،إلى المعنى
النساني ،ونحن نعتقد كما علمنا القرآن أن الله برأ الناس على فطرة
السلم ،قابلين أن يميزوا بين الخير والشر ،نفرق بين الهدى والضلل ،وأن
يلتزموا جانب الحق والصواب ،ولكنهم بتعاملهم مع البيئات التي نشأوا بفعل
قوانين الزمان والمكان ،بفعل مؤثرات ل ُتعد ّ ول ُتحصى ُ ،أصيب بهذه
النكسة ،فالنكسة عارضة .المرض شيء طارئ ،ول يمكن أن نرتب عليها
حكما ً ،ومن هنا كان موقف النسان المسلم هو موقف النسان الذي يصبر
على هذه الطبيعة البشرية ،ويروضها شيئا ً فشيئا ً ،ويأخذها بين الن والن ،
ويطيل الصبر عليها حتى يزيل عنها هذه الغشاوة التي لحقت بها عبر الزمان
والدهور لتفيء إلى أمر الله وليعلم الكل أن السلم فطرة الله التي فطر
الناس عليها .
ولننظر إلى ما بعد هذه الية ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لو
يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( إن بين المعترضتين تتركز
العلقة بين ) الحميد ( وبين مناسبتها لهذا الكلم .إن المعركة كما قلنا
ليست مع الناس وإنما مع الله ،وإن المؤمنين ل غاية لهم ول أَرب ،ول
مطمع لهم في أموال الناس ول في مناصب الناس ول في الجاه ول في غير
ذلك ،وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله عليه
ون فكرة وسلم .ننظر إلى هذا المعنى ل نستطيع بسبب من المواقف أن نك ّ
ون موقفا ً مسبقا ً عن هيئة أو حزب أو أي شيء مسبقة عن إنسان أو نك ّ
آخر ..نحن نطمع في الجميع ،ونحن نصبر على الجميع ،ونحن نطالب
ت من القرآن بعض من الجميع ) ومن أصدق من الله قيل ً ( إنك لو أخذ َ
آياته ..اذهب مع الزمن ..مع وقت الهجرة وانظر في سورة الممتحنة التي
أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في المدينة ،وانظر كيف
حددت علقة المسلمين مع غير المسلمين ..مع العداء ،وانظر بأي ميزان
وزنتهم ،وانظر إلى هذا الميزان العميق الذي شدت المسلمين إليه ،ثم إن
السورة ُتفتتح هكذا ) يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون
إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ُيخرجون الرسول وإياكم أن
138
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا ً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ُتسّرون
إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل
سواء السبيل ،إن يثقفوكم ( أي يستطيعوا السيطرة عليكم ) يكونوا لكم
أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ووّدوا لو تكفرون ،لن تنفعكم
أرحامكم ول أولدكم ،يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ( ثم
تأخذ السورة بعرض المثال النّير ) لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم
والذين معه ( انظر أيضا ً تجد الله تعالى قبل أن ينفض الميزان الذي يحدد
العلقة بين المسلمين وغير المسلمين بقوله ) ل ينهاكم عن الذين لم
يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبّروهم وتقسطوا إليهم ( ثم
) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم
وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( قبل
نصب الميزان ماذا يقول الله تعالى ؟ إنه يقول للمؤمنين ) عسى الله أن
يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ( وإذا ً
فالموقف العصبي المهتاج غير المبصر والعمى الذي يقفه النسان أسيرا ً
لهذه العواطف الهائجة المتمردة موقف ليس فقط غير عقلني وإنما هو
موقف غير إسلمي ،إنما السلم يفتح أبواب المن أمام الناس وأمام
المؤمنين بالذات ،ومن الخطر أن يفقد النسان المسلم ثقته بالطبيعة
البشرية ،ومن الخطر أن تكون نظرة النسان المسلم إلى الناس نظرة
سوداوية .
إن رسالة الله موجهة إلى الناس كافة سواء أكانوا يهودا ً أم نصارى أم
مجوسا ً أم عبدة أوثان ،هم ناس قبل أي شيء وبعد أي شيء ،فالرجاء
أمامهم وارد ،وبذلك يكون موقف العدوان المبدئي موقفا ً ل ينسجم مع
الطبيعة النسانية كما ل ينسجم مع حقيقة السلم .ثم هو ل ينسجم مع
التكتيك الذي تنتهجه النظمة والمناهج في بناء المم والشعوب .
)(5 /
نحن الن نعيش في زمن ،نجد فيه هذا المبدأ غريبا ً ،لماذا ؟ لننا تعودنا أن
الطبقة الفلنية كلها عدو وخصم ل يمكن أن يأتي منها خير ،وبذلك هي ل
تستحق الشفقة ،وليس من أخلق المناضلين ول من أخلق الكادحين ول من
سوا أي إحساس بالشفقة على أي إنسان من هذه أخلق الثوريين أن يح ّ
الطبقة العدوة .أما أن يسأل نفسه :أليس من الممكن أن يوجد بين هؤلء
الناس ُأناس طيبون ؟ فهذا غير وارد .ونعيش في زمن أيضا ً نعرف أن حركة
ما قامت ونجحت ،لكنها تعرضت للبلء قبل أن تنتصر ،ما هي سياستها
الرشيد بعد أن تستلم الحكم ؟ تصفية الخصوم .تعرفون هذا طبعا ً ،تصفية
الخصوم ولكن بطريقة مهذبة ،هذا في السجن ،هذا في البعاد ،هذا تحت
ستار من الصمت ،وهذا ُيشنق اليوم ويلحقه آخر .بعد شهر وخلل فترة
زمنية محددة ُيصفى الخصوم بطريقة مهذبة ل تثير لها لغطا ً أبدا ً .إن هذا
الشيء هو الوارد في حياة الناس في هذه اليام ،فهل ينسجم هذا مع
قوانين السلم ؟ ل ،هذا جانب من القضية فقط .
إن هذا في الواقع الجانب السلبي ،ويكون الجانب اليجابي الذي يكمل
الصورة هو كما جاء في الية بعد هذه الية مباشرة ) إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ( ما كان أحوج
المسلمين إلى أن يقرأوا هذا الدرس وهم يتقلبون في المحن والبتلءات
139
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
140
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ت
في أي شيء تستطيع أن تفسر يا أيها المسلم هذا الكلم الفصيح الذي كن َ
تسمعه من النسان المؤمن حينما كان ُيقتل في سبيل الله ،إن النسان
المسلم حينما كان يقود المعركة فيتلقى ضربة السيف أو طعنة الرمح
المميتة كان يقول :فزت ورب الكعبة ،فاز ،إن هذا ل يمكن تعليله ،ول
يمكن تفسيره ،إل على ضوء واحد هو العرفان الكامل من قبل المسلمين
بحقيقة المهمة وطبيعة القضية التي يحملونها وبالموقف الدقيق إزاء البشرية
التي يواجهونها بهذا الدين .
ً
أقول هذا الكلم وأنا أطمع إن شاء الله تعالى أن يلمس آذانا سميعة وأن
يصل إلى قلوب مفتحة ،أقول هذا وأنا أطمع أن يتخّلق كل مسلم بأخلق
محمد صلى الله عليه وسلم وبأخلق القرآن ،وأن ُيشعر نفسه محبة الناس
وأن يشعر قبل وبعد ذلك بحقيقة وظيفته مع هؤلء الناس .أقول هذا وأنا
أطمع أن يبلغ هذا الكلم عقول ً وقلوبا ً تستفيد منه حقيقة بسيطة هو أن الله
وع لها العواطف والرغبات أنزل هذه الشريعة وأنزل هذا القرآن لكي ُتط ّ
وع قضايا السلم والهواء والفكار والتجاهات .ولكن من غير الجائز أن ُتط ّ
لرغبات النفوس ،وأن توضع أمور السلم في خدمة العواطف التي ل ُتبصر
ول تعقل ول تفهم .
كيف كان الفاصل والحاجز قائما ً بين محمد عليه الصلة والسلم وبين الوحي
،اعلم أيها المسلم أن الحاجز بذاته موجود بينك وبين حقائق الشريعة ،إن
وع نفسك لشريعة الله ،وحذارِ حذار أن يقع في وهمك أنك عليك أن ُتط ّ
يمكن لك يوما ً ما أن تلوي عنق الشريعة ليساير رغباتك وأهواءك .فهل من
سميع ؟ وهل من عالم بأن الوقت الذي تعيشه المة الن أحوج الوقات كلها
إلى يعلم المسلمون العاملون هذا الدرس الكبير ،هذا الدرس الذي جاء إلى
المسلمين في كلمات ثلثة ) :ثم لم يتوبوا ( ضعها دائما ً في ذهنك ،واعلم
أن خصومتك مع النسان غير التائب إلى أن يتوب إلى الله تعالى ،فإذا تاب
فهو الصديق وهو الخ وهو الحبيب وهو الولي الحميم .
والله أسأل أن يزيدنا فهما ً بحقائق كتابه ومواقف نبيه ،وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
141
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ( وأحسب أن منكم من لحظ
عنيت بشرح الوعيد الشديد المذكور في الية الكريمة الولى ،وإنما أنني ما ُ
ّ
كزت الكلم وسلطت الضواء كلها على ما حوته الية من قول الله تعالى ر ّ
ُ
عن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ،وإنما أردت لذلك أن أبرز
هذه القضية لما لها من أهمية حاسمة في أخلقيات الدعوة ،بل وفي طرائق
الدعوة ذاتها .
فينبغي أن ل يغيب عن بالنا أننا نعيش عصر فتنة في الشياء الفكرية
والنماط المذهبية ،وينبغي أيضا ً أن ل يغيب عن بالنا أن رجال المة وأخص
الشباب منهم يتغايرون بهذه المذاهب والمناهج الفكرية كما تتغاير النساء في
أزياء اللباس وتصفيف الشعر أو أشد .وإنما يأتي ذلك دائما ً من فقر
الشخصية ،فقد ترى الرجل يعجبك جسمه ويروقك منظره ولكنك إذا بلوته
شف لك عن إنسان يرزح تحت فقر مدقع ل يعرف لشخصيته مرجعا ً يرجع تك ّ
إليه ،ول قاعدة يستقر عليها ،ول غاية ينتهي إليها .وما أقول هذا لقّرع أحدا ً
،ول لوّبخ أحدا ً ،فأنا واحد منكم ،مررت بالشيء الذي مررتموه ،وعشت
الداء الذي تعانون منه ،وكدت أن أكون واحدا ً من صرعى هذه المذاهب
الضالة الباطلة .ولكن أقول بأناة أن يستيقظ شباب هذه المة ويبذلوا من
ذوات أنفسهم مجهودات صادقة ومخلصة وأمينة بغية اكتشاف حقيقتهم
ومعرفة معنى وجودهم وغاية الستخلف التي أكرمهم ربهم جل وعل به .
كر الخوة جميعا ً بأننا إذا كنا في الربعينات والخمسينات نفتقر ول بد أن أذ ّ
إلى مردود جيد من التجارب ونحتاج إلى وقود ل بأس به من المحن والبليا
والمصائب والكوارث ففي ظني أن إخوتنا اليوم يملكون بين أيديهم من
حاضرهم المشهود وماضيهم القريب جدا ً ما يكفي لقناع من أراد الله به
الخير أن ما مضى كله بلء ،وأن ما يتعاجب به الناس اليوم فشؤم وشر ،
وأنه مضى الزمان الذي كانت فيه المة ُتختدع بصداقات ذات ظاهر بّراق
ووعود خلبة بعد تكشف الناس جميعا ً في كل أركان الرض عن عداوة مّرة ل
يغسلها الماء ،ل من حيث أنها بشر ينطقون العربية فذلك شيء ل أهمية له ،
وبين أمم الرض من يعد ّ أضعافنا وأضعاف أضعافنا ل يؤبه لهم ول يقيم لهم
أحد وزنا ً ،ول لننا نملك الخيرات ونجلس فوق بحر عائم من البترول
والخامات ،فقد ينبغي أن يعلم الخوة وعلى الخص من أخذ شيئا ً من العلوم
والتقدم العلمي أن هذه الثروات الطبيعية التي قضينا من عمرنا زمانا ً ونحن
نلوح بها ونهدد ونرعد دون أن نستخدمها ،هذه الثروات الطبيعية لم يعد لها
وزن في تقرير مصائر الشعوب ول في رسم مخططات السياسة التي
تخطط لعشرات السنين .
إن العداء الصيل مع عقيدة هذه المة ،الخصومة مع السلم وليست مع
العرب من حيث هم عرب ،ول مع سكان الشرق الوسط من حيث هم
سكان الشرق الوسط ،وليس معركة قواعد تستخدم في الحروب ،فيجب
أن يعلم ابن الشعب العامي أن هذا الكلم الذي يسمعه ل قيمة له ،إن
القواعد أيضا ً فقدت قيمتها بعد غزو الفضاء ،كل ما في المر أن الصراع الن
وما ً ل يكادون
يتمثل بين حضارتين :حضارة تحمل السلم وإن كان أهلها ن ُ ّ
يهتمون بها ،وحضارة تجمع كل ما خلق الله من أوشاج عبدة الشر وعبدة
الفروج والعقول ،الصراع هذا وكل كلم سواه فهو باطل وأكذوبة ليس في
حق أمة ولكن في حق العلم وفي حق المستقبل .من أجل هذا كنت شديد
الحرص بكل أحاديثي الماضية على إبراز المعالم الساسية التي غابت عن
عمّيت العين ،بعد الضجيج الذي ل يريد دت آذانها و ُس ّ
أعين أبناء المة بعد ُ
142
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أن ينتهي يرّوج للمذهب الفلني ويدعو إلى المنهج الفلني ويرفع عينا ً إلى
أعلى عليين لينزل به غدا ً إلى أسفل سافلين ،هذه المهزلة التي تكون عذرا ً
غرر بهم كثيرا ً ،ثم ضّللوا طويل ً و ُ
كافيا ً ولكن إلى حد ما أمام الشباب الذين ُ
مة مصائر آن أن يواجهوا مسؤولياتهم ،ويعملون على أن يأخذوا بين أيديهم أز ّ
أمتهم دون أن يتركوها للبالسة الذين يخططون من الخارج ،وصغار البالسة
الذين يعبثون في الداخل .
)(1 /
ولذلك أنا أشدد على المعالم البارزة في حركة السلم ،هذه الحركة التي
أنزلها الله تعالى في مكة وحول مكة قبل ألف وأربع مائة سنة .ثم شاء أن
تتحرك في جيلنا وتكون أيضا ً قاتلة ومحرقة لكل الذين ل يؤمنون بالله ولكل
الذين يدبرون المكائد لعباد الله .زبدة الفكرة التي قلتها لكم في الجمعة
الماضية والتي اسُتخلصت من قول الله ) ولم يتوبوا ( أن هذا السلم له
طريقه المتفرد وله نهجه الخاص في صياغة النفوس .إن السلم في الواقع
ليس كما يحاول بعض دعاته والمحسوبين عليه والناطقين باسمه دون
البقية ..هل هو دين يريد أن يرقع الحياة من هنا وهناك ،وأنا أريد أن أتحدث
وبكل إخلص إن شاء الله فأحذر من النزلق وراء المفاهيم السائدة في
العصر ،لنها لن تعدم ونحن نحاول أن نفهم السلم إل أن تصل إلى حقيقة
السلم إذا أخذت طريق البحث عن الحق .إن الفردية تعني أننا يجب أن
نضع في كل مخططاتنا وجميع مناهجنا كل ً وتحصيل ً مصلحة الفراد ،وإن
طغيان الفرد من طغيان المجتمع ،فالمذهب الجماعي ينادي بأن الولوية
يجب أن ُتمنح له ،وفي حال التعارض مع مصلحة الفرد ومصلحة المجموع
فينبغي أن تهدر مصلحة الفرد وأن تقرر مصلحة المجموع .
وإذا ذهبتم تتلمسون نتائج وآثار هذا المفهوم فأنا أطمئنكم منذ البداية أن كل
هذه الموضوعات سفسطة وأنها ليس أكثر من شراك وأحابيل ُوضعت
لوصول أناس إلى السلطة لكي يتحكموا في مصائر الناس إلى أمد يطول أو
يقصر ،أما البحث عن نظافة اليدي وعن سلمة المقاصد والهداف وعن
سمو المناهج فذلك شيء ل يقتنع به المذهب الجماعي ،كما ل يبحث فيه
المذهب الفردي .
......................حدث هنا خلل في الشريط ........................
إن السلم بناء غير معهود وغير معروف عند البشرية من قبل ،لم يكن
الناس يعرفون من قبل أن صحة النسان العقلية والروحية والبدنية
والشخصية تتوقف على مخالفة الطباع ،وتتوقف على مكافحة الشهوات ،
لم يكن الناس يعرفون هذا ،الناس يعرفون أن من أكبر الخطأ أن تصد
إنسانا ً ما عما يريد ،يقول لك :إذا أراد النسان أن يأكل فل تمنعه ،وإذا أراد
أن يعتدي فل تمنعه ،وإذا أراد أن يزني فل تمنعه ،وإذا أراد أن يعاقر الخمر
فل تمنعه ،لن هذه طاقات فإما أن تفرغ وإما أن يكون الكبت .وما أدراك
ما يجره الكبت من عقد والتواءات ،ولعل الخوة المعلمين يعرفون مما
قرأوا من مناهج التربية كم يشدد علماء التربية الذين ُيسمون علماء زورا ً
وبهتانا ً وهم ل يستحقون أقل من وصف الشياطين ،يعرف هؤلء الخوة كم
يشدد هؤلء على ضرورية إطلق الحوافز وإطلق الرغبات ورعايتهما ،إن
السلم يقول خلف هذا ،يقوله في الول ويقوله في الخر ،ويقوله في كل
مناسبة ،إن النسان كما قال الله عنه :ظلوم وجهول وشحيح وحريص
143
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وطماع ومعتدي وظالم .تلك كلها أوصاف دمغ الله به النسان في القرآن
الكريم تسمعونها فيه .
ووظيفة الرسالة ووظيفة النبوة أن تأتي إلى هذه الشجرة التي نبتت في
الغابة كيفما اتفق ،تذهب أغصانها يمينا ً وشمال ً ،وتمتد إلى الوراء وإلى
المام وتروح في السماء وتتدلى إلى الرض ،فيها كل معاني الروعة التي
س
تدل على الجمال وعلى الجلل ولكنها تخلو من التناسق الذي يوفر ح ّ
الجمال المريح للعصاب والنظر .إن النسان كذلك ،النسان على طبيعته
إنسان الغابة ،إنسان فيه كل هذه القوى ،وكل هذه المواهب التي فتنت
عقول ً كبيرة ولعل الكثيرين من الخوة يعرفون دعوة روسو وأمثاله من الذين
كانوا ينادون بالعودة إلى الطبيعة ،وكان المثل العلى للنسان عندهم إنسان
الغابة الذي كان يعيش كيفما اتفق .
إن السلم يرفض هذا التفكير ،طريق النسان إلى الرقي والسمو يسير
على أشلء الشخصية النسانية العابثة ليقيم على هذا التفكيك بناًء مركبا ً
كأدق ما يكون التفكيك .لهذا كانت آيات الله وكان أحاديث الرسول عليه
الصلة والسلم قاضية على النسان أن يكون قيما ً على نفسه ،إن طغت
يرّدها عن ذلك ،وإن نازعته نفسه إلى ما ل ينبغي خطمها بزمام العلم
والحكمة والمعرفة وردها إلى تقوى الله ومخافة الله .وهذا النسان الذي
يدفعه تيار الحياة بكل ما يزخر به ويموج به من قوى ،هذا النسان محتاج
إلى أن يبذل طاقات هائلة لكي يكون ذلك النسان الخّير المرشح لن يسكن
جنة الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ً .
)(2 /
إن السلم جاء ليعلم المسلمين هذه القضية البسيطة ،جاء ليعلمهم أن
النسان إذا ُترك وما يعتمل في نفسه من قوى فهو أداة مخربة ومدمرة ،
م بخطام القرآن فسيكون ذلك النسان ولكنه حين يؤخذ بحبال الشريعة وُيز ّ
الباني والخّير ،ذلك النسان الذي يكتب في سفر الوجود كلمات الحضارة
التي يعاديها الناس جميعا ً بما فيها طوائف من السلمين ل تقع تحت حصر .
وقفنا عند جزئية وعرفنا منها هذا الشيء ،عرفنا من هذا الصراع أن عواطف
تسكن القلوب وتتحكم بتحركات النسان ،وكم يكون في ذهنك من تصورات
عن خصمك وأنت وإياه في معركة تتقابلن وجها ً لوجه ،كل واحد منكما يريد
أن يقتل الخر ،لكن السلم حتى وهو في أوج المعركة ،حتى والنفوس عند
الذروة من النفعال ،ل يسمح لهذه العواطف التي قد ُيخّيل للبعض أنها
مشروعة وأن فيها شفاء للغيظ الذي في الصدور وشفاًء وُبرءا ً من حزازات
الصدور ،ومع ذلك ل يسمح بهذا ،إن الله أنزل على عبده محمد صلى الله
عليه وسلم كتابه وأوحى إليه شريعة ليست موقوتة بزمن كما هي غير
محصورة بمكان معين ،ولكنها للناس جميعا ً وعلى ظهر الرض كلها .
ومن هنا ل بد أن يؤخذ بالعتبار حين التحرك أن نضع في أذهاننا ضمانات
المستقبل ،وضمانات المستقبل أن يعرف الناس كلهم بل استثناء ،أعداؤك
قبل أصدقائك ،أنك ل تحرث لنفسك ،وإنما تحرث لله وتسعى نحو مكسب
يعود على هذه الرسالة التي أنت من جنودها ،واحد من هذا الرعيل الذي بدأ
بآدم وانتهى بمحمد صلى الله عليه وسلم ،ثم هو ممتد من بعد إلى أن تقوم
الساعة ،أنت كائن تاريخي تشعر بانتماء إلى النسانية ،وأية شريحة من
النسانية في أي زمان وفي أي مكان تشكل معنى الساءة لهذه القيم العالية
144
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الرفيعة التي نادى بها القرآن وجاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فإنما هي
معول تخريب ،ليس في عصرك فقط وإنما في كل العصور التي تأتي فيما
بعد لنها ستكون الحجة التي يلوح بها الفاسدون والمفسدون والضالون
والمضلون والذين يتبعون الشهوات في وجه الداعين إلى الله للدللة على
فساد السلم .
أغريب عن السماع ما يروجه أعداء الله تعالى من فساد بعض الملوك
وبعض السلطين ؟ أغريب على السماع ما أصبح علكا ً يلوكه الناس من
حديث القصور والجواري ومباذل الكبراء والزعماء ..؟ كل ذلك يا إخوة
مضاف على السلم ،محسوب على السلم ،ولهذا كان محمد عليه الصلة
والسلم حريصا ً جدا ً على أن ل تظهر في الساحة مثل هذه الموبقات ،لنها
ستكون في المستقبل معوقات ،أوليس عليه الصلة والسلم قد عزم علينا
ن على يد الظالم ولتأمرّنه على الحق أطرا ً ؟ أليس معنى هذا عزما ً :لتأخذ ّ
أن المة المسلمة مأمورة ومطالبة بأن تقود الضالين والمضلين من آذانهم
كما ُيقاد الكلب لكي يقف على الطريق الصحيح ،لماذا ؟ أغيرة على شريحة
بسيطة في زمن ما وفي زاوية مهملة من زوايا الرض ؟ ل ،ولكن السلم
يفتش عن ضمانات المستقبل لكي يكون كل تصرف من كل مسلم على
صعيد الفردي أو على صعيد الجماعي دليل ً ل ُيدفع على صلحية هذا السلم
ومنازلة الفساد .
إن القضية هنا ،من أجل هذا رأينا القرآن في اليتين اللتين مّرتا يبرز قضية
بأنه ل بد ّ أن يعرف المسلم من بداية الطريق ،أن السلم شيء وشخص
المسلم شخص آخر ،إن السلم حقيقة ثابتة ،محور ثابت ،وإن الشخصية
كائن أو تركيب أو جهاز تتحرك في داخله نوازع ودوافع ورغبات وأهواء ل تعد ّ
ول تحصى ،وقيمة النسان هي أن يبقى يلحظ ثبات المنهج وأن يشد دائما ً
هذه الدوافع والنوازع إلى ذلك المحور الثابت وأن ل يعكس القضية .
إننا نعرف على مستوى الفراد أناسا ً يتظاهرون بالتقى وباللحى والعمائم
ومسابح وارتياد للمساجد آناء الليل وأطراف النهار ،منظر يخدع ويغش ،
يخّيل إليك أنك أمام قديس ،ولكنك حين تبلوه وتختبره تجد أنه واحد من
غمار الناس ،ل ،بل هو أعرقهم بالسوء وبالفساد ،إنهم يتخذون من الدين
ستارا ً يريدون أن يغشوا به الناس .أنت وئيد الخطو على الرض ووقور ،ل
لن الوقار شيء أمر به الدين ولكن لن الساحة خَلت لك من المطمع فإذا
ت ثوب الوقار وعبثت مع العابثين ونسيت أمر الله برز المطمع أمامك خلع َ
بل نسيت الله نفسه .إن هؤلء موجودون في كل زمان ومكان من ديار
المسلمين ،وهم الن عملة رائجة رواجا ً شديدا ً لظروف ل يجهلها أحد ،إن
الزمان منقلب ،وإن المفاهيم منتكسة ،ولو أن الميزان اعتدلت كفتاه لكان
هؤلء إما مجلودين أو مرجومين أو مقطوعي اليدي أو مصلبين بعد أن ُتقطع
أيديهم وأرجلهم من خلف .
)(3 /
إن هؤلء موجودون ورائجون ويا ليت المر انتهى عند هذا الحد ،فكما
تعلمون أن العملة الزائفة تطرد العملة الصحيحة ،إن هؤلء يشكل وجودهم
خطرا ً مزدوجا ً ،هم في ذاتهم بلء وهم على الناس أيضا ً بلء ،إنهم يثيرون
الغبار المخيف في وجوه المخلصين الذين يدعون إلى الله تعالى ويريدون
للناس أن يستقيموا على أمر الله ل يطلبون من منهم جزاًء ول شكورا ً ،إنما
145
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
146
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
إن تحرير المعركة بين المعاني التي يحملها الناس هو الذي يضمن بالفعل
سلمة النسانية ورخاء النسانية ومستقبل النسانية ،وحين تتحول المعركة
لتكون شيئا ً بين الشخاص بالذات فإن المعنى النساني يهون إلى الدرجة
التي شهدنا معها في أيامنا في جيلنا في عمرنا كيف كان الناس ومازالوا
يتسلى بعضهم بذبح بعض ،رأينا هذه النسانية التائهة الضالة لهوان معنى
النسانية عليها ولغيبة مبدأ الصراع بين الراء وبين الفكار تحول المعركة إلى
الذوات فتكون تدميرا ً شامل ً ،في الحرب العالمية الثانية دمرت ألمانية
تدميرا ً لم تعرف له النسانية مثيل ً من قبل ،ومات ناس ما رفعوا يدا ً ول
حملوا سلحا ً ول خاضوا معركة ،ماتوا لن الحمم تساقطت عليهم من
مية المجنحة ،ولن الحرائق شبت في السماء قنابل تحملها هذه اللت الجهن ّ
البيوت فمات الناس ،وفي اليابان وفي غير اليابان ،وقل إنها الحرب قل إنها
الحرب تشفع لصحابها ،والقائد في الحرب ُيعذر ما ل ُيعذر المواطن العادي
لكن ما رأيكم يا إخوة ؟ ما رأي النسانية اليوم إذا عرفت أن أبالسة الحرب
وشياطين الشر يجّربون السلحة المتطورة في أجزاء يختارونها من العالم ،
تجّرب كل كتلة مدى صلحية وفعالية السلح الذي ابتكرته ووصلت إلى
اختراعه .هل الحرب في فيتنام وفي كوريا وفي الشرق الوسط وبين الهند
وباكستان وفي أية بقعة أخرى قامت وتقوم الن من أجل مصالح حقيقية ؟ ل
،المسألة بسيطة ملخصها أن السلحة في تطورٍ مستمر ،ولكن السلحة
بحاجة إلى التأكد من سلمتها والتأكد من صلحيتها ول يمكن التأكد من ذلك
إل على أجسام الناس ،إل على أرواح الناس ،ول بأس بعد ذلك أن يموت
عدد يكثر أو يقل من مليين الناس .
ألم يقل هذا المأفون المجنون الذي ذهب إلى لعنة الله غير مأسوف عليه
والذي أسأل الله أن ُيلحق به كل من على شاكلته ماوسيتونغ حيث قال :إنه
ل بأس أن يموت ثلثا البشرية من أجل أن يعيش الثلث الخر بسلم وراحة
ن النتائج كما ترون وخيمة ،حينما تتحول معارك الصراع إلى وكفاية .إ ّ
ً
معارك بين الناس بالذات تكون المجازر ،وحينما تكون صراعا على المبادئ ،
صراعا ً على الفكار ،ينتهي بانتهاء الوصف الذي كان يحمله النسان ،يكون
المر على النحو الذي عرضه تاريخ المسلمين .
ً
عمر الدعوة ثلثا وعشرين تصوّْر ،الرسول عليه الصلة والسلم عاش من ُ
سنة بعد أن هاجر إلى المدينة عاش عشر سنوات فقط ،خلل هذه المدة
خاض معارك وحروب قادها بنفسه وأرسل سرايا قادها بعض من أصحابه
147
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
إن المسألة تعود إلى تحديد وصف المعركة التي حددها القرآن الكريم جاءت
الية لتقول ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب
جهنم ولهم عذاب الحريق ( استعرضوا القرآن من أول كلمة في البقرة ) ألم
( إلى آخر الفاتحة إلى ) الضالين ( لن تجد تهديدا ً مثل هذا التهديد وجهه الله
تعالى إلى أي مخلوق من مخلوقاته ،حتى شّرهم وأردئهم إبليس لم يتعّرض
مع له هذان الوصفان ) فلهم عذاب جهنم إلى تهديد من هذا القبيل ،أن ُيج َ
ولهم عذاب الحريق ( فعل ً العملية صعبة ،أناس آمنوا بالله ،ما لك ولهم ؟
أناس اختاروا لنفسهم طريقا ُ ،ما الذي يضرك من أن يختار هؤلء الناس لهم
طريقا ً ؟ لماذا تقتلهم ؟ أهم انتزعوا خبزتك من فمك ؟ أهم جاؤوك
فزحزحوك عن كرسيك ؟ ل ،ولكنهم قالوا :ل إله إل الله .ولهذا كان أبو بكر
رضي الله عنه يستنكر حين وجدوا المشركين في مكة وقد تجمعوا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاولون الفتك به ،قال لهم :أتقتلون رجل ً
أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك صادقا ً يصبكم بعض
الذي يعدكم وإن يك كاذبا ً فعليه كذبه .ل معنى أبدا ً لكل هذه العصبية التي
ظهرت من قبل وتظهر في كل وقت حينما يقوم قائم يدعو إلى الله تعالى ،
ولكن الحقيقة التي قلناها أكثر من مرة والتي يجب أن نقولها باستمرار
ليعرفها عدو الله قبل ولي الله ،الحقيقة أن عبادة الله وعبادة البشر ل
يجتمعان في قلب الناس أبدا ً ،من آمن بالله ربا ً بارئا ً خالقا ً مصورا ً رازقا ً
فق للسادة والزعماء . محييا ً مميتا ً فمن المستحيل أن يص ّ
المشكلة أن حقيقة اليمان تنفي ألوهية الناس ،والمشكلة أن حقيقة اليمان
تضع الناس جميعا ً على صعيد العبودية لله جل وعل ،كن رئيسا ً ،املك أموال
قارون ،مهما فعلت فأنت عبد ،أنت مثلي وأنا مثلك .إن عمر رضي الله
عنه قال لصحابه مباسطا ً وقلما كان يباسطهم رضي الله عنه :أرأيتم لو
قلت للدنيا بعنقي هكذا ،يعني ملت إلى الدنيا ،ما أنتم قائلون ؟ قام رجل
دل رقبتك بالسيف . ل سيفه وقال :نقول لك هكذا ،أي نع ّ من الصحاب وس ّ
قال :الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقيم عمر بسيفه .جّرب اليوم
ل خيوط نعلك ، أن تشتم إنسانا ً تافها ً ،في الحالة العادية ل تسمح له أن يح ّ
فنجّرب أن تشتمه ،اشتم الله فلن يحاسبك أحد ،اشتم الزعيم فسوف تع ّ
في القبية والسجون .إن العبودية لله ُتنزل الناس جميعا منزلة واحدة ،ومن
هنا هذه الشراسة التي يبديها أعداء الله جميعا ً في وجه الداعين المخلصين
148
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إلى الله تعالى ،ولهذا استحق هذا الصنف الكريه المقيت عدو الله وعدو
جه إليه هذا التهديد الرعيب المخيف ) إن الذين فتنوا المؤمنين النسان أن ُيو ّ
والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( ومع هذا
ففي وسط هذا التهديد الذي ل مثيل في القرآن كما قلت لكم يستل الله
تعالى هذا المعنى ليحدد معنى المعركة ووصف المعركة وواجب المسلم
حيال نفسه وحيال عدوه ،إن خصمك مهما يفعل ،فبمجرد أن يتوب من ذنبه
ويؤمن بالله العزيز الحميد لم يبقَ بينك وبينه أي حساب .
ومن هنا كانت دعوة السلم رحبة وسماحة وخير وبر ومرحمة ،ومن أجل
ذلك كانت هي الوحيدة في موج هذه البحار المتلطمة من المذاهب ومن
الراء ومن التصورات ومن المناهج ..الدعوة الوحيدة المؤهلة ليس فقط
لنقاذ العالم العربي وليس فقط لنقاذ العالم السلمي وإنما لنقاذ البشرية
جميعا ً من محنتها التي تتردى فيها والتي تسعى حثيثا ً للسقوط فيها .
أقول هذا الكلم وفي النفس ما فيها من الحسرات ومن اللم ..ألم يكن
خيرا ً وأكرم لهذه المة لو أن ساستها وزعماءها ـ وأقول هذا من باب رفع
العتب في الواقع ـ قلت لكم قبل اليوم :في كل تجمع بشري وفي كل
تركيبة اجتماعية أسوء ما في الناس رؤوس الناس ،هم الطبقة والفئة التي
اسُتهلكت وفسدت ولم يبقَ فيها خير ،ولكن من باب رفع العتب ،أقول :ألم
يكن خيرا ً وأكرم لو أن كبراء المة ومفكريها وساستها وزعماءها التفتوا إلى
عموا بناء السلم داخل هذه المة هذه الغايات العظيمة والهداف العالية فد ّ
وحلوا مشكلتهم في نور القرآن وفي ضوء السلم وعلى هدي من تعاليم
محمد صلى الله عليه وسلم ثم التفتوا إلى النسانية المعذبة يحملون إليها
العلج التي تحتاجه أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب ؟ أهذا خير أم أن
يطير الزعيم الفلني إلى العاصمة الفلنية ،وأن يطير الملك هذا إلى
العاصمة الفلنية ،أو أن يذهب المير هنا أو هناك ،وبين ركام من السفاسف
والموبقات ُتقال كلمة استجداء لهذه الدولة الكبيرة ،وكلمة تملق لهذه
الدولة الكبيرة .
)(6 /
وكل ذلك منتهٍ إلى أن نعود إلى النقطة التي انطلقنا منها ،لن كل هذه
المحاولت فاشلة ل تؤدي إلى نتيجة ،وأضل الناس عقل ً وأقلهم سعيا ً هو
ذلك الذي يطلب الدواء عند عدوه ،هو ذلك الذي يطلب النصر عند خصمه ،
أليس خيرا ً لو أن المة بمفكريها وكبرائها التفتت إلى ذاتها فوعت حقيقة
الرسالة السلمية وحلت مشكلتها لتكون عامل ً أساسيا ً بل ووحيدا ً لحل
معضلت النسانية المستعصية ؟ كان ذلك أكرم ولكننا سفهاء ،وتعرفون
معنى السفيه ،السفيه ليس هذا الذي يضرب هذا على وجهه أو يركل هذا
وله الله نعمة جمعها أو ورثها فهو ينفقها بغير برجله ،ل ،السفيه هو الذي خ ّ
عقل وبغير تدّبر ،أي بسفاهة ،فهذا ُيحجر عليه ،تأتي السلطة لتضع إشارة
الحجر على أمواله وتتولى هي النفاق عليه .نحن المسلمين ورثنا كنزا ً بل
كنوزا ً ،ورثنا هذه الرسالة العظيمة ،فماذا نفعل بها الن ؟ ما موقفنا منها ؟
موقفنا منها أسوء من موقف السفيه الذي ورث المليين من أبيه أو من جده
فهو ينفقها على الليالي الحمراء وعلى موائد القمار وعلى كل ما ل يرضي
الله تعالى ول يعود عليه بذرة من نفع ،قلت لكم :ل ألوم ول أعتب ول أؤنب
ول أوّبخ ،كل ما هنالك أني أبسط إليكم الساحة لضع الجميع أمام
149
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مسؤولياتهم .
ً
إننا نعيش فترة حرجة جدا من تاريخنا ،ومن الواجب على كل أحد أن يواجه
مسؤوليته ،ول يستقّلن أحد نفسه ،فمحمد صلى الله عليه وسلم فرد
فاستطاع في ثلث عشرة سنة أن يرسي دعائم هذه المة واستطاع في
عشرة أعوام بعد ذلك أن يمّهد الجزيرة العربية لهذا الدين وأن يناوش الروم
الذين كانوا يتربصون للنقضاض على المسلمين في الشام .ل يستهن أحد ما
أودع الله فيه من خير ،وما أعطاه من قوى ،فإن المة في غمرة الصراع
وفي فترات النهوض محتاجة إلى كل قطرة من دم أبنائها ،وإلى كل لحظة
من وقت أبنائها ،وإلى كل ذرة من جهود أبنائها ..فاستعينوا بالله والجأوا إليه
وقولوا يا معلم إبراهيم عّلمنا وقولوا اللهم إنا نبرأ من حولنا وقوتنا ..نبرأ
بذلك إلى حولك وقوتك ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
150
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
يقينا ً إن محمد صلى الله عليه وآله وإن المؤمنين معه ..المطرودين في
شعاب مكة واللئذين في بعض دورها والممددين على رمضائها والذين
تمسهم أيدي المشركين بأقصى ما يستطيعه النسان في ذلك الوقت من
تنكيل وبلء ،إن رسول الله والمؤمنين كانوا يدركون أنهم على بصيرة من
م الرض أو لنزل عليهم قارعة من أمرهم ،وأن الله لو شاء لخسف به ُ
السماء ،كما أنه من جانب آخر لو شاء لعطف هذه القلوب المتحجرة الصلبة
الغليظة فجاء بها إلى رحاب الله طائعة راضية ،وما دام المر على غير هذا
151
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الشكل فإنها إرادة الله جل وعل ،وإرادة منظور منها أن تعالج وضعا ً يعيشه
المسلمون ،فثمة رجال ما عرفوا بعد من السلم إل العدد القليل من
قضاياه الساسية ،أما أهدافه الكبرى ،غاياته البعيدة ،مراده بالنفس
النسانية ،أسلوبه ،نظرته في إعادة وصياغة تكوين النسان ،فتلك أمور ما
توضحت بعد بالنسبة للمسلمين .
ة جوهرية هي لكن المسلمين على أي حال كان مطلوبا ً لهم أن يعرفوا حقيق ً
فيصل التفرقة بين السلم النازل من عند الله وبين ما يتبعه الناس اليوم
لنفسهم ولغيرهم من مناهج وسبل ،تلك هي أن السلم قاعدة ثابت ومحور
أساسي ،وأن هذه القاعدة ل تكترث بعواطف الناس ول تتأثر بانفعالت
الناس ،ألم يوجه الله جل وعل هذا الكلم القاسي إلى الرسول صلى الله
عليه وآله في موقف من أحرج المواقف وأشدها إيلما ً للنفس في غزوة أحد
في ساعة الكسرة في اللحظة التي تجول فيها عينا محمد صلى الله عليه
وسلم على الرض التي شهدت وقائع القتال فيرى خيار أصحابه مجندلين
على الثرى ل تسترهم إل السماء ،ممثل ً بهم ،كأن الذي فعلوا هذا ل ينتمون
إلى بني آدم .ومع ذلك فلكي يفهم محمد عليه السلم ويفهم المسلمون
كلهم أن السلم ل يكترث لهذه العواطف العارضة والنفعالت الزائلة قال له
هذا الكلم القاسي ) ليس لك من المر ( حقيقة الوحي في مكانها وهذا
شيء يعتبر عندنا نحن المسلمين كالساس بل هو الساس ،وحينما نحاول
أن ننساه ولو لحظة واحدة فسوف نسيء إلى أنفسنا ولن نضر الله شيئا ً
ولن نسيء إلى هذا السلم ،لن السلم أمنع بذلك بكثير ،لنه حقيقة
الحقائق ،كلمة الله النهائية إلى الناس والباقية إلى يوم الدين .فوظيفة هذا
الكلم أن ينمي في صدور المسلمين وهم يعانون المشقة عزيمة الصبر على
المكروب الذي يرونه صباح مساء ) إن بطش ربك لشديد ( كلمة تبعث
الطمأنينة في نفسية النسان السلم ،وتجعله يشعر بأن الله الذي اصطفاه
ليكون جنديا ً تحت هذه الراية الربانية ليس غائبا ً عن المعركة بل هو الذي
يقود المعركة ،وأنه يصّرفها كيفما يشاء ،وأن له من وراء تعريض هذه
العناصر المؤمنة للمحنة والختبار غاية هي أن يكونوا نموذجا ً آخر ،طرازا ً
آخر ،خلقا ً آخر .
إن أقتل شيء يكون بالنسبة إلى السلم أن يتساوى المسلمون وغير
المسلمين في المسالك ومناهج الفكر ،وإن أعظم سلح وأقطع سلح يمكن
أن يحمله المسلمون هي هذه الخلقية العالية التي يجب أن يتمّثل بها
جهت لهذه المة ،لعقيدتها وتاريخها ،هي أنها المسلم ،وإن أعظم إساءة وُ ّ
انتصرت على أعدائها بالقوة السلح ،ل ،إن النصر الحقيقي الذي استطاعت
هذه المة أن تحققها على أعدائها هو نصرها على أنفسها ،وهو ظهورها
بمظهر بشري إنساني يغاير كل النموذجات التي كانت معروفة في
الماضي .
) إن بطش ربك لشديد ،إنه يبدئ ويعيد ( كما قلنا حرية مطلقة ) وهو الغفور
الودود ( وهذا خليق بأن يجعل المسلم يعرف أن الله هو ربك ورب الكل وأن
هؤلء الناس مهما تكن إساءاتهم ومهما تبلغ جرائمهم من الشناعة ومن
القسوة فل شيء بيننا وبينهم حين يشهدوا أن ل إله إل الله وأن محمدا ً
رسول الله ،وأن يسلموا مقادتهم إلى الله جل وعل .
)(2 /
152
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بعد أن يعرض الله تعالى هذا يأتي دور التطمين إلى العواقب ،وجميل جدا ً
وحسن في باب المنهج أن يأتي التطمين من وقائع الصراع ،والتطمين هنا
يأخذ شكلين ،معروف لدى كل أحد أن هذه المة أمة من المم مضت قبلها
أمم ،وستأتي بعدها أمم ،وستواكبها أمم ،وأن الله من حيث الله الذي
صدر الخلق كلهم عنه ،ويألهون جميعا ً له فإن قوانينه ونواميسه وسننه في
خلقه واحدة ل تتغير .لقد مضت قبل هذه المة المخاطبة في زمن الرسول
صلى الله عليه وسلم أمم ،وفي حديث للنبي صلى الله عليه وآله يقول :
أنتم توّفون سبعين أمة ،أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعل .قبل هذه
المة مضت أمم ،والتاريخ وعى سواء في الحافير وفي شواهد الحجارة
التي لفت الله النظار إليها ) وإنكم لتمّرون عليها مصبحين ( ولفت إليها بأن
قال لهم إنه ) أسكنهم ديارهم ( وسواء في الوثائق التي تركها النسان حين
عرف القراءة والكتابة ،أو في المرويات التي يتناقلها السلف عن الخلف ،
ترك النسان وقائع تخبر عما مضى وتكشف زوايا من خبايا التاريخ ،والقرآن
زيادة على هذا ألقى الضواء على جوانب من حياة أمم مذكورة في القرآن
لم يعرفها أهل الكتاب الول ،لم تذكرها التوراة ول الناجيل ،وحتى الن
وبعد استبحار عمليات الكشوف ما تزال هذه المم والقوام التي تعرض
ص علينا منها مجهولة الخبر .والحكمة والعبرة من كل القرآن لذكرها وق ّ
تجربة النسان سواء كانت باقية فوق سطح الرض أو قطعة مطمورة في
التراب أو كلمة منقوشة على لوح حجارة أو جلد غزال أو ورقة ُيكتب عليها أو
خبر يدور على اللسنة ينقله قوم إلى قوم ..حكمة هذا كله أن يعتبر التي
بالماضي وأن يخرج الناظر في تاريخ النسانية بحقائق تنفعه وهو يعالج
صعوبات الحاضر الذي يعيشه ،إن الله تعالى يذكر نبأ أقوام في هذه السورة
أي سورة البروج تعقيبا ً على واقعة كانت قريبة جدا ً من عصر الرسالة ..
ب لهاربين من النصارى والذين استقروا في نجران وما حولها .. واقعة تعذي ٍ
يذكر المحور الول من محاور التطمين باستعراض وقائع الماضي ولكن
يذكره بصيغة قرآنية كثيرا ً ما تتكرر في القرآن وهي صيغة تلفت النظر ) هل
أتاك حديث الجنود ،فرعون وثمود ( أحب لو أنكم حاولتم أن تذوقوا معنى
اللغة التي صيغت بها هذه العبارة على النحو الذي أذوق ،ومع ذلك ففي
التدقيق في العبارة يتكشف لكم أن الله جل وعل عدل عن ذكر القوام إلى
ذكر وصف ،فرعون كان يحكم مصر ،ومصر أمة من القبط ذات عراقة في
التاريخ وذات حضارة مشهورة غير منكورة ،وهي كثيرة العدد ،وكان لها في
زمن الفراعنة شأن ،كانت تشكل ثقل ً بالنسبة إلى العالم القديم .قل ذلك
أيضا ً بالنسبة إلى ثمود ،قبائل كانت تتمتع بجبروت وبالقوة الخارقة ،لكن
لكي تتكشف لكم جوانب من إعجاز القرآن اسألوا أنفسكم :هل كانت أمة
القبط في مصر التي كان يحكمها فرعون كلها عساكر ،هذا مستحيل ،
ومعروف من واقع المم ،المم شعوب ويكون في هذه الشعوب عساكر
وجنود ،هل كانت قبيلة ثمود كلها جنودا ً ؟ ل ،وإنما المقاتلون منها قد ل
يشكلون منها واحدا ً من اللف من جملة هذه القبائل ،ومع هذا فأنتم
تسمعون التعبير القرآني يعدل عن ذكر المة إلى التنصيص على الوصف
على سبيل التهويل ) هل أتاك حديث الجنود ،فرعون وثمود ( أي تصوّْر يا
محمد أن تلك المم التي أبدتها بقوتي وبقهري واقتداري ،لو أنها كانت
بشيبها وشبانها وبرجالها وبنسائها جنودا ً كلها ما أعجزتني ،ومع ذلك أبدتها
ومتى ؟ حينما حاولت أن تخرج على نواميس الله جل وعل وأن تتكبر على
أمر الله تبارك وتعالى وأن تسوم المؤمنين سوء العذاب ومّر العذاب .
153
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فأنتم حينما ترون أنفسكم يا معاشر المؤمنين في هذا الوضع الذي أنتم فيه
كر عليكم أن تنسوا أنكم بعين الله وأن كر عليكم أن تتأثروا ولكن ُين َل ُين َ
ب الذي اختاركم وندبكم لهذه المهمة أهلك من كان قبل هؤلء تنسوا أن الر ّ
الكفار ممن كانوا أكثر جمعا ً وأعظم قوة وأعرق حضارة وأكثر علما ً ولم
ل اسمه ) ،إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( يعجزه ذلك ج ّ
وهذا هو المحور الول من محاور التطمين التي ساقها الله جل وعل
للمؤمنين وهم في أوجه الصراع مع المشركين في الوقات التي يستيئس
فيها حتى أشد الناس قوة وأكثرهم صبرا ً ،ولكن يجب أل نسقط من حسابنا
أن السلم كان يعالج في تلك الساعة أمرا ً عظيما ً كان يريد أن يبدع
للنسانية إنسانية جديدة لها مقاييس لم تكن البشرية تعرفها من قبل ،
وكضميمة لهذا المحور من محاوره فمن الضروري أن يكشف الله جل وعل
لهذا النبي الكريم النبي النسان النبي البشر من الضروري أن يكشف له
حقيقة هذه الخصم وهذا العدو الذي يقارع ) بل الذين كفروا في تكذيب ( .
)(3 /
إن الرسالة التي تحملها ل غبار عليها ،إنها الحق المطلق ،إنها العدل الكامل
،بل هي النسانية التامة التي ل مطمع ورائها لطامع ،ولكن هل الناس كل
الناس قادرون على استيعاب الحقيقة ؟ وهل الناس كل الناس إذا قدروا
على استيعاب الحقيقة هم في الوقت ذاته قادرون على أن يعيشوا هذه
الحقيقة ؟ ل ،من أجل هذا نسمع الله جل وعل يقول في الكتاب مخاطبا ً
رسوله عليه الصلة والسلم ) وإن تطع أكثر من في الرض يضلوك عن
سبيل الله ( إن الحقيقة الدينية تشكل دائما ً وأبدا ً صدمة عنيفة للرغبات
البشرية ،ومن هنا هذه النفرة التي يعاني منها النبياء ويعاني منها الدعاة
ويعاني منها المصلحون ،ولكن ربما والنسان إنسان ومسارب الشيطان في
النفس ل تقع تحت حق ربما في ساعة من الساعات تجد أكثر الناس ثباتا ً
ورسوخا ً في باب اليمان يجد أنه يقف على أرض تتحرك من تحته ،في صلح
الحديبية جاء سهيل بن عمر رضي الله عنه في خاتمة المطاف بعد تردد
الرسل والوفود بين المشركين والرسول صلى الله عليه وآله ،وبدأت كتابة
نصوص العقد وكانت نصوصا ً مجحفة في ظاهر المر ،ما تقولون في عمر
بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أذلك إنسان يتطاول أحد إلى أن يسامته في
الذروة السامقة التي بلغها في باب اليمان ؟
فإن عمر جاء كالجمل الهائج إلى رسول الله صلوات الله عليه يقول :يا
رسول الله ألسنا بالمسلمين ؟ قال :بلى يا عمر ،قال :ألسنا على الحق
وهم على الباطل ؟ قال :بلى يا عمر :أليس قتلنا في الجنة وقتلهم في
النار ؟ قال :بلى يا عمر ،قال يا رسول الله :فعلم نعطي الدنية في ديننا ؟
أين عمر ؟ وأين حقائق اليمان العليا ؟ قال له :يا عمر إني عبد الله ورسوله
ولن يضيعني الله .في بعض الساعات ،الشيطان قد يدخل إلى النسان من
مدخل خبيث حتى يصيب قاعدة اليمان في نفسه ،استمرار المحنة
واستمرار العذاب واستمرار البلء ربما يزلزل قاعدة اليمان ،ولعل من
المفيد أن أذكر لكم في الدراسات الحديثة أن العلماء أو من يسمون هكذا
من الجانب وممن قلدهم من أبنائنا نحن المسلمين خرجوا من دراسة وقائع
الضطهاد البشري عبر التاريخ الديني والسياسي بنتيجة هي أن الضطهاد إذا
طال أكثر مما يجب فإنه سوف يحطم العقائد السائدة وإن كانت عقائد حق ،
154
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لست محتاجا ً إلى أن أقول لكم أن هذا كلم أناس يسمون أنفسهم علماء
وما هم علماء أبدا ً ولكن أقول إن المسألة في ذاتها مشكلة ،ومن الممكن
أن يتساءل النسان في لحظة من لحظات البلء عن مدى أحقية الموقف
الذي يقفه .والله جل وعل ذكر بعضا ً من هذا في القرآن الكريم قال ) حتى
إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا ول مبدل لكلمات الله (
وإذا ً ففي مراحل البلء هنالك مراحل يشعر الرسل بالذات بأنه ربما يكون
في الموقف خطأ في زاوية ما ،ولكن الله جل وعل يتدارك المور بنفخ
العزيمة في صدور المؤمنين حتى تفّرغ الخصم من جميع عوامل القوة
وتتركه فريسة هينة بين أيدي المسلمين .
من أجل ذلك كانت الضرورة ماسة إلى كشف حقيقة العداء ،هل هؤلء
المكيون المشركون الذين يتصلبون في مواقفهم تصلبا ً غير معقول على حق
؟ وإذا ً لماذا يتمسكون بالمر على هذا الشكل ؟هل من المعقول أن يتمسك
النسان بالباطل ويكابر ذاته ويعالج نداء الفطرة الذي يتفجر في داخل
كيانه ؟ نقول نعم ممكن ،ألم يقل الله جل وعل ) وكذلك زيّنا لكل أمة
عملهم ( بلى ،هذا كلم تقرأونه في القرآن .
وإذا جئت الن برجل أخرجته من مستشفى المجانين ل يعرف الطين من
العجين ووضعت أمامه أرسطو أو أفلطون ،لقال لك هذا المجنون المأفون :
عقلي خير من عقل هذا .وإذا ً فمن الممكن للنسان أن يقف ضد الحق على
رغم قناعاته بهذا التزييف الذي يدفع النسان للوقوف مع الباطل وقوفا ً ل
يقر به النسان في الحالة العادية .ما معنى هذا ؟ معناه أن المسلم عليه أن
يعرف حقيقة بسيطة ،إن تكاثر الخصوم وتكالب الخصوم وثبات الخصوم
على مواقف الضلل والكفر ل يعني أن موقفك تلحقه شائبة من شوائب
الباطل ،يجب أن تبقى متمسكا ً بقناعتك أنك على الحق ،وهؤلء لم يقل الله
جل عل أنهم مكذبون فلو قال :بل الذين كفروا يكذبون أو مكذبون لكان
ذلك وصفا ً عارضا ً يلحق الجماعة المناوئة للسلم ،ولكن الله قال ) بل الذين
كفروا في تكذيب ( إشارة إلى الغراق في هذه الرذيلة التي يتمسك بها
المشركون كأنما صور الله جل وعل التكذيب بحرا ً أو إناًء أو ظرفا ً أوقعه
هؤلء أنفسهم فيه حتى استولى عليهم من جميع أقطار الدنيا ،فإذا ً كضميمة
للضمانة الولى التي أشارت إليها السورة الكريمة كشف الله جل وعل
حقيقة الموقف الذي عليه المشركون حتى ل يتطرق اليأس ول تتطرق
الشبهة ول يتطرق الشك إلى نفوس المؤمنين الذين يخوضون معركة
النسانية كلها ،والتي لو خسروها في ذلك الوقت لخسروا أنفسهم ،بل
ولخسرت النسانية كلها هذا الخير العظيم .
)(4 /
ثم يقول ) والله من ورائهم محيط ( وهذا أيضا ً تطمين عظيم ،إذا كان الله
من وراء هؤلء محيط فل بأس على المؤمنين ول خوف من العواقب ،
والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين ،والنصر للمؤمنين ) إنا لننصر رسلنا
والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد ( .
ثم يأتي المحور الثاني الذي يشكل الضمانة الباقية ،والذي يشكل عامل
تطمين ل يغفل عنه إل غافل ) بل هو قرآن مجيد ،في لوح محفوظ ( مهما
حفظ فيه القرآن فعلينا أن نذكر يكن من آراء المفسرين في هذا اللوح الذي ُ
أن الله تعالى قال لنبيه عليه الصلة والسلم فيما يرويه عن ربه تبارك
155
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
بقي أن أتحدث إليكم حديثا ً خاصا ً ،أرجو قبل كل شيء أن تسمعوني وأرجو
أن تفهموني ..أحب أن ل ينسى أحد ،أحب أن ل يتأثر أحد ،أنا الن أبلغ من
العمر الخمسين من العمر ،عشت بينكم ولكم ،فرضت على نفسي سلوكا ً
ة ل ُيقدر عليها ،وأقول هذا تحدثا ً بنعمة الله ،وإذا حذفت كل
صارما ً ،طريق ً
شيء فل أستطيع أن أحذف من حياتي السنوات العشرة الخيرة ،كانت لي
آمال حدثتكم ببعضها ،وطويت القسم الكبر منها ،مضينا في مسيرة ،كثيرا ً
ما قلت لنفسي لعلك يا فلن لم تكن موّفقا ً في اختيار الموضوعات ولم تكن
موّفقا ً في الداء ،وكنت أجّرب تجربة ،ومن جّرب مثل تجربتي عرف الذي
أعرف ،ثم أقول لكم إن طريق الدعوة إلى الله زرع الداء في جسمي
فيجب أن تعرفوا أن هذه حقيقة ،منذ سنوات وبين إخواني في دير الزور
دمت فيه أخي وصديقي ورفيق طريقي المرحوم الدكتور عبد قلت كلما ً ق ّ
الكريم عثمان ،وفي مسجد من مساجد دير الزور قلت :إن هذه الدعوة
فيما يبدو لي كالقطة تأكل أبناءها .وحين أستعرض رجال الدعوة أراهم
مصّرعين على الرض أو رازحين تحت أعباء الداء ،ذلك قدر ،ول أبحث في
هذه الناحية ،لكني أريد أن أقول لكم ومن غير مجاملة :إنني أشعر منذ
زمن أنني غير مقبول وغير مفهوم لسبب إن مجتمعنا هذا يمكن أن نستعير
له الوصف الذي ُوصف به تفسير الرازي رحمه الله فقد كانوا يقولون :إن
تفسير الرازي فيه كل شيء إل التفسير .ومجتمعنا هذا فيه كل شيء إل
156
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
السلم ،الواقع أن رواسب جاهلية وعقد والتواءات ُتحسد عليها المة هي
التي ل تلبس بالسلم وما هي من السلم ،وحين يجد النسان نفسه ضمن
مجموعة من هذا القبيل بهذا الشكل تكون المسألة مهمة ،كنت سابقا ً ول
أدري إن كنت قلت لكم إني عشت مع شيخ المعرة أبي العلء رحمه الله
سبع سنوات أقرأ شعره ونثره ،المهم أن تعرفوا أن مؤرخي الحضارة
السلمية يقولون إن القرن الرابع الذي عاش فيه المعري عصر الزدهار
والرقي والعطاء ،هو أن الواقع أن هذه أكذوبة تاريخية ضخمة ،فالحقيقة أن
الجنوح نحو النحدار كانت أشد ما يتمّثل في عصر شيخ المعرة رحمه الله
تعالى ،كنت أعجب وأقرأ وأفكر ،هذا النسان الذي أثار نقاشا ً طويل ً عاش
وهو حي وما زال مستمرا ً بعد ألف وخمس أو سبع وعشرين سنة ما زال
حّلت مشكلته عندي ،إن النقاش محتدما ً للتعرف على صفة هذا المخلوق ُ ،
الرجل عاش في عصر فرض عليه أن يكون غير مكفوف ،إنه عاش عصرا ً
فيه ظواهر ُتخّيل إليك أن المجتمع مسلم ،ولكن حقائق المور وبواطن
الشياء بعيدة جدا ُ عن هذا الواقع ،تواطؤ مع البيزنطيين ،قتال وحروب بين
أمراء المسلمين ،تقاطع وتدابر بين البلد السلمية ،سلب ونهب وهتك
أعراض وفتك ،بكل ما تحمله هذه المعاني على الصعيد الشخصي ،تجد غشا ً
في التعامل ،وتجد حقدا ً وبغضاء .ومع ذلك تدخل المسجد فتغّرك المظاهر ،
كان شيخ المعرة رحمه الله تعالى بما ُوهب من رهافة الحس وسلمة
الدراك يعلم ُبعد الفارق بين الصورة الوضيئة التي نزلت على محمد عليه
الصلة والسلم وطّبقها في عصره ،وبين الصورة الكريهة التي يعيشها ،
فمن أجل ذلك كان ولوعا ً غاية الولوع بأن يرفض الواقع ،إنك ُتجّرب أن
تسير ضد التيار ،وحين تملك الطبع الحّر والخليقة المستقيمة والجبهة التي
تناطح السماء والعزيمة التي ل تعرف النحناء بين يدي المخلوقات بعد أن
عرفت النحناء لله ،فمن الصعب أن تعيش في مجتمع زائف وكريه ومخّرب
كذلك المجتمع الذي كان يعيش في شيخ المعرة ،كان يقول رحمه الله :
إذا قلتم محال رفعت صوتي وإن قلتم صحيح عطيت همسي
جل وافعل كل شيء فسوف تجد الذان الصاغية ، كهذا المجتمع ،اكذب ود ّ
بل أكثر ،ستجد من يمسح لك أطراف ذيلك ،ولكنما حين تريد أن تقول
ً
الحقيقة فأنت مضطر لن تقولها بين أربعة جدران ،إلى أن تقول همسا ،
وإياك أن ترفع صوتك ،ومن أجل هذا كان رحمه الله حريصا على أن يذبل
هذه الدنيا وأن ل يكترث لها وأن يبقى وفيا ً لمبادئه ،منسجما ً مع آرائه
ونظراته ،كان يقول في أوائل اللزوميات :
وما لي ل أكون وصي نفسي ول تعصي أموري الوصياء
وقد فتشت عن أصحاب دين لهم نسك وليس بهم رياء
فألفيت البهائم ل عقول تنير لها الطريق ول ضياء
وأرباب الفطانة في اختيال كأنهم لقوم أنبياء
)(6 /
إن الرجل عاش مجهول ً في عصره ،فمن أجل ذلك عاش ومات مهضوم
الحق ،وهذا شيء أقوله لكم ،بعد الن لن تسمعوا مني شيئا ً إن شاء الله ،
كنت أدّرس في الجامع الوطني درسين في السبوع ،فلن تكون ثمة دروس
بعد اليوم ،والشوط الذي قطعته في هذه الخطب سيكون يتيما ً بإذن الله ،
وغاية ما أرجوه أن ألقى الله تعالى على هذه الحال ،ليس عارا ً أن أقول لكم
157
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أنني لم أعد ّ أتحمل ،جسم مسقام كثير المراض ،وأناس ل يتقون الله ،
حسبنا الله ونعم الوكيل ،أقول هذا وأعيد أليس من الحق أنني أخطأت
اختيار الساحة وأخطأت استعمال الداء ،نعم ،أنا الن قريب من الخمسين ،
جل ،وبين ُأنملين قلم لو لم أترك للناس من بعدي إل هذه الشرائط التي ُتس ّ
جرى لجرى الذهب معه ،ولو جرى لخط في التاريخ خطا ً ،أحب أن تعلموا
إن الناس ثلثة ،واحد يسمح للتيار أن يسحقه ،أي مسلوب الرادة ،وواحد
يترك على التيار بصماته ،وهو خير من الول ،وواحد يصنع التيار ،ليس من
دح ولكن لعّرفكم بطبيعتي ،أنا ليست من الذين يحنون رؤوسهم باب التم ّ
للرعاع وليست من الذين يتملقون عواطف الناس ،ومن هذا المكان منذ
سنوات قلت لكم :يا إخوتي والله كدت أقول ما قال ذلك العالم في بغداد
حين قرر الرحيل من بغداد :لو وجدت عندكم رغيفا ً آكله في الصباح ورغيفا ً
آكله في المساء ما فارقتكم .والله ثم والله ثم والله فقد عشت لكم ومن
ملها بشر ،ومع ذلك انتهيت ،ذهبت أجلكم ابتغاء مرضاة الله ظروفا ً ل يتح ّ
ُ
القوة وانقطعت المّنة وأنا الن بحاجة إلى أن أعيد حساباتي من أولها إلى
آخرها ،أنا واثق ابتداًء أنني كان أحب أن أعمل في هذا الميدان وأن ل أسمح
لملكة الخطابة أن تعدو على ملكة الكتابة ،وما يجد بعضكم من متاع ولذة
بالستماع إلي مرة أو مرتين في السبوع كان يمكن أن يكون ما هو خير منه
وأبقى حين أترك للناس نتاج عقلي وثمرة تفكيري بل ثمرة فؤادي ووجداني
شيئا ً ُيقرأ بعد مئات السنين وبعد آلف السنين ،ول ضير فيما أقول ،فليس
أول من وقع ضحية الخداع ،إن الستمرار في الطريق في تقديري الن خطأ
،وإن علي أن أختار ميدانا ً آخر ،إن العمل بين الناس ميدان يحتاج إلى
مراعاة الناس ،وميدان يحتاج إلى مسايرة التيار ،وأنا ليست واحدا ً ممن
يحنون رؤوسهم للتيار ،وليست واحدا ً ممن يرضون بأن يتركوا بعض
ل من بصماتهم على التيار ،أنا ـ بفضل الله ـ من صنعة التيارات وليست أق ّ
ذلك في كل حال .
بعد الن ل خطابة ول دروس ،علي واجب إذا أشكل على إنسان من أمر
دينه أمر فليسألني وسأجيبه بإذن الله تعالى ،وكلمة أخيرة أقولها :ل سيما
جلت الخطب كلها على الشرطة ،وانتشرت الشرطة هنا س ّ
المرحلة الخيرة ُ
ً
وهناك في كل مكان في العالم العربي والعالم السلمي ،ليكن واضحا أنني
ل لحد أن يستخدم هذه الفكار ل أسمح ثم ل أسمح ثم ل أسمح ول أح ّ
مضافة إليه ،إنني كنت أعمل على إثارة الساحة وإثارة الفكار ،وتأتي هنا
فكرة وهناك فكرة ووعدت بأن نجرد هذه الحصيلة في المستقبل لنستخرج
قواعد الحركة ،وأنا أعرف أن في هذه الدنيا أناسا ً يأتون إلى الشيء الكامل
فينتقصوه فما بالك بالشيء الذي لم يكتمل بعد ،إن الفكار التي طرحتها
جزء من عمل ل أريد ول أقبل أن يضيفها إليه أحد لنها ل تمّثل فكرة نهائية ،
الفكرة النهائية لم ُتطرح بعد ،وأنا آمل وأستعين الله جل وعل على أن
يعينني على تسجيلها وكتابتها وإذاعتها بين الناس ،هذا شيء ضروري ،
جلت عليها أحاديثي ليستخدمها من شاء كيفما شاء إل أن س ّأشرطتي التي ُ
يقول أن هذه آراء فلن وهي ليست آرائي ،آرائي لم يكمل بناؤها حتى
الساعة ،ومع ذلك فللشباب أن يستخدموها كيفما شاءوا ،مع زيادة هو أن
ور أنه وضع في طريق المنهج لبنات ،ننصح الشوط الذي قطعناه أعتقد وأتص ّ
الخوة الذين يريدون أن يبحثوا في التاريخ النبوي والتاريخ السلمي بعامة
وحقائق السلم يمكن أن يستخدموها ويستفيدوا منها وأن يضيفوا إليها إن
شاء الله تعالى إضافات موّفقة ومباركة .
158
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
رجائي إلى الله جل وعل أن يعينكم وأن يهدي قلوبكم وأن يوفقكم وأن يسدد
خطاكم ،وقلت لكم أن ل يغضب أحد ،إن المة ليست متوقفة علي ،وإذا
كانت متوقفة علي فمن الخير أن تموت ،إن المة فيها خير له أول وليس له
آخر ،وغاية المر أن نبدل ميدانا ً بميدان ،وأن الساس فنحن وأنتم على
العهد ،حياتنا ومماتنا وصحتنا وسقمنا وشبابنا وهرمنا ودماؤنا وأموالنا نرجو
أن تكون لله جل وعل ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم .والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
159
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بيضاء نقية طاهرة يخط فيها السلم قدرا ً بالدنيا جديدا ً ومصيرا ً لهذه
النسانية سعيدا ً ويمضي الركب على اسم الله وبركاته ،يقوده اليتيم الثاوي
في بطن الغار عليه أفضل الصلة والسلم ،لتظل من بعد كلمة الله تدوي
في الخافقين من بين الدماء والدموع ،ومن وسط الكوارث والهوال ،ومن
خلل النكبات والزوابع يشع نور الله جل وعل يلوح للحائرين والضالين أن من
ههنا الطريق .
قف محمد صلى الله عليه وآله هؤلء الكلمات البيضاء عرف لها ومنذ أن تل ّ
ً
قيمتها وعرف لها قدرها ،وأدرك جيدا ـ بأبي هو وأمي ـ أن الدنيا بدأت
تستقيم وأن النسان قد آن أن يستعيد كرامته المهدورة وحقه المسلوب في
أن يكون إنسانا ً كامل النسانية ،موفور الكرامة عزيز الجانب سيد مخلوقات
الله جل وعل ،ول يعيب القرآن ول يعيب هذا الدين أن يتناسى هؤلء الخلئف
من المسلمين قيمة هذه الكلمات المنيرات ،وأن يهمل هؤلء الخلئف من
المسلمين التعرف على قدرهم وقيمتهم المشتقة من السلم والمستمدة
من القرآن ،وإنما كلمنا كله ما مضى وما هو حاضر وما هو آت ،من أجل
هذا فقط ،من أجل أن يدرك المسلمون أنهم ناس لهم في الدنيا قدر وقيمة
مؤسسان على كلمات الله ومشتقان من دين الله عز وجل .
فإذا وقفنا عند سورة الشمس وجدنا أمرا ً عجبا ً وجدنا الله جل وعل يعرض
قضية السلم خلل مشاهد الكون التي تمضي رتيبة منتظمة ،ل يطرأ عليها
خلف ول يلحقها انحراف ول انخراق تحت طائلة التخريب والفناء ،فيستشف
المسلم من خلل ذلك أن هذا الدين الذي جاء به محمد عليه وعلى آله الصلة
والسلم إنما شأنه شأن الظواهر الكونية سواء بسواء ،وأن العدوان عليه
يشبه من كل الوجوه العدوان على النظام الكوني ،وكما أن النظام الكوني
حينما يتطرق إليه الخلل تكون العاقبة فسادا ً وتخريبا ً ودمارا ً وفناًء وكذلك
بالضبط العدوان على هذا الدين واختراق حدود القرآن وتجاوز أوامر الله
تعالى ل ينتج عنها إل الفساد والخلل والخراب .والله تعالى ذكر في مواطن
عدة من كتابه أمر الذين يفسدون في الرض ول يصلحون ،ونهى في مواطن
عدة عن الفساد في الرض .
واتفقت كلمة المفسرين وتراجمة القرآن الكريم على أن الفساد في الرض
هو ارتكاب المعاصي ،لن إهمال التطبيق الكامل لشرائع الله ل ينتج عنه إل
فساد الدنيا وضياع الخرة على النحو الذي يشهده الناس في هذه اليام .
)(1 /
ل على أمر آخر ،فحينما ذكر الله تعالى أمر ثمود فقال ) كذبت ثمود ود ّ
بطغواها ،إذ انبعث أشقاها ،فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ،
فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ،ول يخاف عقباها ( حين
قال الله تعالى هذا كان في هذه الصياغة معتبر لولي اللباب ،وكان فيها
أيضا ً ضياء يشير إلى واقع تحقق في الجماعة المسلمة ستلحقه وقائع ،
وسيزداد اتضاحا ً وجلء .إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس فرادا ً
كما دعا الناس جماعات ،ودعاهم وهو يتردد حول البيت ،كما دعاهم وهو
يغشاهم في نواديهم ،وتحّرى أن يلقاهم في المواسم فوقف عليهم وقرأ
عليهم القرآن ،وذكرهم بأيام الله تعالى ،فاستجاب من كتب له الله التوفيق
والحسان ،وأعرض عنه من حق عليه كلمة الضللة ،وعلى أي الحوال ففي
سياق الزمن فإن هذه الجماعة الملتفة حول محمد صلى الله عليه وسلم
160
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
كانت تكتسب مع اليام مواصفات كلها في صالح القضية ،وكلها يمّهد ماضيها
للحقها ،تمهيد السبب للمسبب ،إننا نعثر الن على أوائل الشارات التي
تشير إلى مسؤولية الجماعة المؤمنة .من أكبر الخطاء ومن أشدها فتكا ً
وتدميرا ً بالنسبة للدعوة أن يفصل النسان المسلم بين ذاته واهتماماته وبين
مصالح واهتمامات الجماعة ومآلت السلم .
ون يعني أنها قررت قرارا ً ل رجعة فيه أن تحمل إن الجماعة المؤمنة حين تتك ّ
على عاتقها أن تصل الليل بالنهار وتصل النهار بالليل من أجل أن يترقى حال
الناس وشأنهم .
حينما تضع أمامك صياغة اليات من آخر سورة الشمس فستدرك إن شاء
الله أن القرآن يعرض عليك قضية غير مصرحة من خلل صياغة اليات
وتركيب الجمل والكلمات ،عرض عليك قصة ثمود ،وثمود مجموعة من
القبائل التي مضت قبل أمتنا ،جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في
أفواههم وقالوا :إنا كفرنا بما ُأرسلتم به .أمة بالكامل ،ولكن إعجاز القرآن
في إيحائه بالمعاني من خلل الصياغة وحروف الكلمة الواحدة يتجلى في
هذه الهندسة البديعة في نمط الكلم .أمة أعرضت ولكن حين نهى نبيها عن
العتداء على الية التي طلبها القوم من رسولهم فكانت ناقة الله لم تتآمر
المة بمجموعها على هذه الية ،هنا جاء النص على أنه بعث أشقاها ،أي أن
المباشرة في قتل الناقة كان رجل ً واحدا ً ،وإذا ذهبنا نتعرف على حقائق
القصة من خلل سور القرآن الكريم فسنجد أن المؤامرة حيكت من خلل
نفر ،قال الله تعالى في موضع آخر ) وكان في المدينة تسعة رهط
مفسدون في الرض ول يصلحون ( تسعة هو الذين تآمروا على قتل الناقة ،
وواحد فقط هو الذي باشر في تنفيذ الجريمة التي تشكل اعتداًء على أوامر
الله .فما الذي كان ؟ إن موازين العدل الظاهر تقتضي أن يؤخذ المجرم
بذنبه ،وأن ل ُيتعدى بالعقوبة إلى من لم يباشر الفعل ،ذلك صحيح بالنسبة
إلى قوانين الدنيا وإلى أنظمة الناس ،هذه التي تشّرع لناس محصورين في
بقعة من الرض معلومة وفي فترة من الزمان محدودة ،وأما رسالت الله
التي تتغلغل في البواطن وتتشعب مع ضمير الغيب فشأنها في إنزال العقوبة
شأن آخر .
إننا على الصعيد الجتماعي نتعامل مع كتلة ل مع فرد ،وهذه الكتلة منظومة
من أفراد ،وإذا ً فالفراد يشكلون الكتلة والكتلة تتضمن الفراد ،وما يجوز
في هذا العتبار أن ُتفصل العقوبة عن الجريمة من جسم هذه الكتلة لُينزل
العقاب بفرد آخر .إن قوانين الجتماع كما انتهى إليها علم الجتماع في
زماننا هذا وقبله تشير إلى بدايات الرسالت قبل آلف السنين ..إن قوانين
الجتماع تقول :إن النسان الفرد غير مأذون له أن يعتدي على القوانين
س مصالح الجماعة العامة في الجماعة ،لن القوانين العامة في الجماعة تم ّ
ككل ،وتنعكس آثارها على الكل ،فمن أجل ذلك كانت مسؤولية الحفاظ
عليها ومسؤولية حراستها مترتبة على الكل .فمن هنا حين نرى كتلة
اجتماعية تؤمن بالنظر الواسع العريض ونجد بينها أفرادا ً أو عشرات أو مئات
أو ألوفا ً يعملون بالطاعة ويبتعدون عن المعصية ولكن ضمن إطارهم
الخاص ،وفي حدود ذواتهم فقط فإننا يجب أن ل نستغرب حين تسوء المور
شر ويرى المنكر ُيجَهر بهويمر النسان المؤمن التقي فيرى المعصية وهي ُتبا َ
وط ،ثم يقول :ما لي ؟ يجب أن ل نستغرب حين ينزل بغير استحياء ول تح ّ
البلء عاما ً وصدق الله العظيم ) واتقوا فتنة ل تصيبن الذين ظلموا منكم
خاصة ( وما أصدق الكلمة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما
161
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
سألته عائشة رضي الله عنها قالت :يا نبي الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال
:نعم إذا كثر الخبث .
)(2 /
إذا استعَلمت المعصية وإذا عربد المنكر وإذا تجاهر الشذوذ ،مهما يكن في
المة من صالحين فالهلك واقع ،لن الصلح بمجرده ليس الصلح المحدود
بحدود الظرف ،ولكن الصلح الذي يبغيه القرآن ورسمته الشريعة هو ذلك
الصلح الذي تتراحب آفاقه لتشمل مصالح المة في حاضرها ومستقبلها ومن
أقصاها إلى أقصاها ،والنبي عليه الصلة والسلم يقول :ما من قوم ُيعمل
فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا ثم ل يغيرون إل عمهم الله جل وعل
بالعذاب.
فهذه الظاهرة التي نتعرف على بدايات الحديث عنها والتي سترد معنا فيما
سنستقدم من كلمات الله شيء عظيم الهمية .
إن الذي قام بالجرم واحد ،وإن الذين تآمروا تسعة ،ومع ذلك فإن الله
ل بها دمارا ً وألحقهاتعالى جّلل تلك المة بالعقوبة فجعل عاليها سافلها وأح ّ
بالمم السابقة التي عصت أوامر الله .وأنت الن تفتش عن ثمود فتقرأ
بجانب اسمها أنها من القبائل العربية البائدة ،أي التي بادت ولم يبقَ لها ذكر
.
ماذا يترك من انطباع طرق المسألة بهذا الشكل على تلك الجماعة المؤمنة
الناشئة حول محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إنه يضع النذير أمام أعينها ،
ويخط لها في مزدحم المسالك طريقا ٌ واضحا ً ،إنه على المة المسلمة وهي
تأخذ أمر الله بقوة وتباشر شريعة الله بجدية كاملة أن ل تغفل عن سلمة
البناء لحظة واحدة ،وعليها أن تعلم أن أي شذوذ من أي مصدر كان ،من
أسفل البناء أو من أعله أو من وسطه فإنما يعني الجميع .وأن الخرافة
المقيتة التي تقول أن هذا من شأن الدين وأن ذاك من شأن السياسة ،هذا
من شأن الرعية وهذا من شأن الحاكم ،فهي خرافة ل تقوم على رجل
سليمة ،كما ل تقوم على رجل عرجاء .وأنها وسيلة الّفاقين والضالين
والمضلين إلى حرف المة عن طريقها وإبعادها عن هدي ربها .
إن أي شيء ما ل يمكن أن يسقط من اهتمام أي فرد في المجتمع ،وليس
شيئا ً يختص بالقاعدة أو بالقمة ،وإنما المر كله لله .
إن تتبع أخبار تلك الجماعة التي نشأت حول محمد صلى الله عليه وسلم
يكشف أمامنا ما اكتسبه المسلمون من هذا الدرس البليغ ،لقد كان كل
واحد من هؤلء النجباء البرار وجنود محمد صلى الله عليه وسلم يشعر بأنه
قّيم على رسالة السماء ،هو نفسه يشعر بأنه يحمل مسؤولية الدنيا من
أولها إلى آخرها ،ومن هنا كانت هناك يقظة دائمة وحراسة دائمة .
وكان المسلمون بفضل الله تعالى عونا ً لبعضهم على إقامة أمر الله حيثما
ُوجد تعب ،إن أي انهيار في أية جهة كان المسلمون يسارعون كلهم لدعم
دت البواب س ّ
هذا النهيار ولبعث النشاط في هذا التعب ،حيثما ُوجد خلل ُ
في وجه الشيطان حفاظا ً على أمر الله تعالى ،ولكي ل ُيترك المجال مفتوحا ً
أمام الشيطان ليعبث في هذا البناء الرباني الذي أقام الله المسلمين عليه .
هذا المعنى لم أشرحه من قبل ،ولم أشرحه الن ،وإنما المسألة عميقة
وكثيرة الفروع والتشعبات ،إن القرآن كان يقود المسلمين في معركتهم
المشرفة ..ضد اللحاد والتخريب ،وهو في نفس الوقت يؤرخ للجماعة
162
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
سمعتم هذا الكلم الذي ينساب منسابا ً تارة ويعنف مزمجرا ً مدمرا ً تارة
أخرى ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم
وج هبوطا ً وارتفاعا ً في ولهم عذاب الحريق ( سمعتم هذا الكلم الذي يتم ّ
النبرة والسياق ،ماذا كان يريد أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟
وماذا كان يريد أن يقول للعصبة المؤمنة ؟ أرأيتم سورة الشمس كيف أبانت
لنا أن نظام السلم وأن شريعة السلم جزء من النظام الكوني برمته وأن
العدوان على هذه الشريعة فمرده إلى الناس بالذات ،لنهم هم الذين
سيألمون منه ،أرأيتم كيف أن خواتيم سورة الشمس أبانت لنا أن نظام
السلم جزء من النظام الكوني ول يمكن أن ينهزم ؟ أرأيتم هذا المعنى ؟ إن
التطمين في سورة البروج يأتي على نحو أوضح ولكن من إعجاز القرآن أن
يساق القرآن مساقا ً يختلف شدة ولينا ً وارتفاعا ً وهبوطا ً ثم ل يأتي الوعد
بالحفظ إل في آخر السورة ) بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ( .
هذا الدين له الغلبة ،وإن الذين تحدثهم أنفسهم وتسول لهم شياطينهم أن
يعبثوا بحقائق هذا الدين ..أن يريحوا أنفسهم من هذا ،لن جهدهم في
فل بالحفظ لهذا الدين ) بل هو هباء .إن الله الذي ل يعجزه شيء ،لقد تك ّ
قرآن مجيد ،في لوح محفوظ ( .
ً
فل للذين اكتسبوا شرف النتماء إليه بأن يكونوا دائما هم وإن الله تعالى تك ّ
الغالبين ) كتب الله لغلبن أنا ورسلي وإن جندنا لهم الغالبون ( هذه بشارة
كبيرة بالحفظ والتمكين وعدم فتح المجال أمام الضالين لكي يعبثوا بحقائق
السلم .هذا الوعد ل يأتي إل أخيرا ً ،ولكنه وعد صدق وحق ،إن أمامنا
تاريخا ً طويل ً وحافل ً ،وإن وقائع في التاريخ محفوظة ،وإنه في أية نزاع كان
بين السلم وبين أعداء الله تعالى فإن الغلبة في الجولة الخيرة كانت لله
163
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ولكلمات الله ولجند الله ،ورجع الضالون بالخيبة والخسران وشيعتهم الجيال
باللعنات المتلحقة .إن هذا وعد مقطوع للناس لكي ل يستيئس الناس ولكي
تدرك النسانية أن الله الذي رحمها بمحمد صلى الله عليه وسلم لن يتركها
فريسة للشياطين وللبالسة ،لن يتركها فريسة للضالين والمضلين ولكن
متى ؟ في آخر السورة ،ولماذا ؟
قلت لكم مرارا ً :هذا الكتاب معجز ،وإعجازه ليس فقط في المعاني ،كل
وليس فقط في اللفاظ ول في التراكيب ،وإنما كذلك في هندسة الكلم ،
في توزيع السور ،توزيع الخيلة ،توزيع القضايا من خلل الطار العام .إن
الوعد جاء بعد عرض صورة وبعد مشهد كوني )والسماء ذات البروج ( ما هي
البروج ؟ إن المتبادر أن البروج هي الطرائق التي تسلكها النجوم في السماء
،وآن أن نكشف لبسا ً يتعلق في هذا الموضوع .
إن تراجمة القرآن اختلفت حول هذا الموضوع ،واختلفها جاء من جراء علوم
كونية نجمت في تلك العصور ..وماذا الن ..إننا نعتمد في صورة أساسية
على دلئل اللغة وعلى سلئق العرب في فهم كلمها الذي نطقت به .وأننا
حين تتعارض الراء فإننا نرجع إلى ما صح نقل ً عن الرسول صلى الله عليه
وسلم .فإن لم نجد فنأخذ من كلم الصحاب والتابعين ما كان أقرب إلى
مل .
مل ما ل يتح ّدللت اللغة كي ل نح ّ
ما معنى البروج ؟ البروج مادة مشتقة من جذر من ثلثة حروف وهي الباء
والراء والجيم ،مادة برج ،برج في اللغة تعني ظهر ،ومن هنا نقول :هذه
امرأة متبرجة يعني ظاهرة الزينة ،لكن في المادة إيحاء بمعنى آخر هو
معنى السمو والرتفاع ،فالشيء الذي يظهر ل يمكن أن يظهر بين ما هو
أعلى منه ،إنك إذا وضعت مصباحا ً صغيرا ً بين أضواء قوية فإن أضواء القوية
تخفي ضوء المصباح وتلشيه ،ول يكون هذا ظاهرا ً .ل يقتضي أن يكون أكثر
ضوءا ً وأعلى مكانا ً من سائر الضواء الخرى لكي ينطبق عليه وصف أنه من
البروج .
ومن هنا قلنا عن المرأة أنها متبرجة أي أنها تضع الزينة على وجهها ،وهو
أعلى شيء فيها وهو أظهر شيء فيها ثم هي تظهره وتسفر فيه .من هنا
جاء لفظ البروج إلى كل ما هو ظاهر ومرتفع ،نقول :بنينا برجا ً أي أقمنا بناًء
هو أعلى من جميع البنية ،فالبراج في القلع التي كان الناس يبنونها قديما ً
كان أعلى شيء في بناء القلعة وكان مخصصة لتكون مرقبا ً يرقب منه أهل
القلعة مجيء العداء إليهم .
حينما نطقت العرب بهذا اللفظة وقالت بها في هذا المعنى المتساوق مع
مت كل بناء مرتفع برجا ً ،فالقصر الشامخ المزّين يسمى الجذر اللغوي س ّ
أيضا ً برجا ً ،فالقصور بروج .فمن حيث أن النجوم في السماء وأنها عظيمة
الجرام وظاهرة البريق واللمعان سمتها العرب بروجا ً .ولذلك قال الله
) تبارك الله الذي جعل في السماء بروجا ً وجعل فيها سراجا ً وقمرا ً منيرا ً (
فالسراج هو الشمس ،والقمر هو هذا المعروف عند الناس ،والبروج هي
النجوم .
)(4 /
فالبروج هنا ليست الطرائق التي تمشي فيها النجوم ،كما أنها ليست قصورا ً
مبنية في السماء كما ذهب إلى ذلك بعض قدامى المفسرين ،وإنما هي
النجوم في السماء ) .والسماء ذات البروج (هي تلك الجرام الهائلة البالغة
164
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في العلو والرتفاع والسمو والضخامة ) .واليوم الموعود ( وهو يوم القيامة .
) وشاهد ومشهود ( وهنا اضطربت آراء المفسرين اضطرابا ً واسعا ً ،قالوا إن
الشاهد هو الله والمشهود هم الخلق ،وقال قائلون إن الشاهد هو محمد
صلى الله عليه وسلم والمشهود هم المة ،وقال آخرون إن الشاهد هو يوم
الجمعة والشهود هو يوم عرفة .
ونحن ..ما لم تكن بين أيدينا دللة تدل على صدق التأويل فلسنا ملزمين أن
نأخذ بها .وعلى أية حال فينبغي أن نعلم أن كل من قال قول ً فإنما استند
بقوله هذا إلى دليل لقى رأيه ،فالله تعالى سمى محمدا ً صلى الله عليه
وسلم شاهدا ً فقال ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ً ومبشرا ً ( كما سمى
هذه المة المحمدية شاهدة قال ) وجعلناكم أمة وسطا ً لتكون شهداء للناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا ً ( كما سمى يوم القيامة مشهودا ً فقال ) ذلك
يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إل لجل معدود ،يوم
يأتي ل تكلم نفس إل بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( فإذا ً ففي كلمات الله تعالى
ما يسند هذه التأويلت الذي ذهب إليها هؤلء .
ولكنا نريد أن ننبه إلى أمر ..الله تعالى يقسم بالسماء ذات البروج ويقسم
باليوم الموعود وهو اتفاقا ً اليوم الخر .من الذي يناسب قسما ً كونيا ً هائل ً
مصيريا ً كهذا ؟ يناسبه أن يكون الشاهد هو ابن آدم وسائر الخلئق الموقوفة
للحساب يوم القيامة ،وأن يكون المشهود هو ما يعانيه الناس من أهوال يوم
القيامة .ذلك هو المناسب لكي يوضع النسان في الصورة ولكي يدرك قيمة
هذا القسم الذي جاء مرشحا ً لسياق أمر عظيم ) وشاهد ومشهود ( أين
جواب القسم ؟ ) ُقتل أصحاب الخدود ( فكأن الله تعالى قال :لقد ُقتل
أصحاب الخدود .وقتلهم ل يعني هنا القتل المادي ،ولكن يعني اللعن
والطرد من رحمة الله ،فما شأن أصحاب الخدود ؟
)(5 /
إن أصحاب الخدود قوم من المم السابقة ،لهم نبأ عظيم ،ونبأهم له اتصال
بمجرى الدعوة وسياق القضية السلمية .والذي يضفي على نبئهم أهمية
خاصة أن هذه التجربة المقيتة تتكرر عبر القرون ..إن المفسرين اختلفوا
في ماهية أصحاب الخدود ،من هم ؟ ذهب منهم إلى أنهم كانوا في الزمن
الول ،قال قائلون إنهم كانوا قبل إبراهيم ،وقال غيرهم إنهم كانوا بعد
إسماعيل بخمسمائة سنة ،لكن نحن في حل من الخذ بكل هذه الراء ،
قلت لكم إننا حين نعثر على نص مسند بطريق صحيح إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم فل علينا أن نكب كل شيء ،وأن نقف مع النص النبوي ول نتعداه
.قال المام أحمد رحمه الله :إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
كان فيمن كان قبلكم ملك ،وكان للملك ساحر ،فقال الساحر للملك ذات
يوم :إنه قد كبر سني واقترب أجلي فادفع إلي غلما ً أعلمه السحر قبل أن
أموت ،قال فدفع إليه الملك غلما ً لبيبا ً ،فصار الغلم يختلف إلى الساحر ،
وكان بين بيت الغلم وبين بين الساحر راهب ،فكان الغلم يمّر بطريقه إلى
الساحر بالراهب ،فجلس إليه ذات يوم ،فأعجبه كلمه ،فآمن بما عند
الراهب ،وأصبح الغلم يقضي أوقاتا ً عند الراهب فيتأخر ،فإذا جاء إلى
خرك ؟ ويضربه ،وإذا رجع إلى أهله يضربونه على الساحر قال له :ما أ ّ
التأخير ،فشكى إلى الراهب أمره ،قال له :إذا جئت إلى أهلك فقل لهم :
خرني أهلي .ومضى المر كنت عند الساحر ،وإذا جئت إلى الساحر فقل :أ ّ
165
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
هكذا .وكان للملك جليس ،فعمي ذلك الجليس وانقطع عن الملك ،وبينما
كان الغلم ذات يوم في طريقه إلى مقصده فجاء إلى مكان فيه الناس
محتجزون والطريق مقطوع ،وإذا حية عظيمة قطعت على الناس الطريق ،
ول يستطيع الناس أن يمروا ،قال الغلم في نفسه :اليوم أعلم :أمر
الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟ فتناول حجرا ً وقال :اللهم إن كان
أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة وأرح الناس منها ،
قتلت الدابة .فاجتاز الناس .وأصبح الغلم يبرئ العمى ورمى الحجر ف ُ
والبرص ويشفي المراض والدواء ،فلما جاء إلى الراهب قال له يا بني أنت
الن أفضل مني ولكن إذا سألك الملك عني فل تدله علي .فلما سمع الناس
بأمر الغلم وقدرته على معالجة المراض والسقام ،سمع من جملة ذلك
جليس الملك ذلك الذي عمي ،فجاءه وطلب منه أن يشفيه ،قال له :أنا ل
أشفي ،إن الذي يشفي هو الله ،فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك
فسيشفيك إن شاء الله .قال فآمن جليس الملك ودعا الغلم ربه فرد ّ الله
البصر إلى جليس الملك .ويفاجأ الملك بجليسه مبصرا ً يدخل مجلسه ،قال
له :ما شأنك ؟ قال :شافاني ربي .قال الملك :أنا ؟ قال :ل ،ربي وربك
الله .قال :هل لك من إله غيري ؟ قال :نعم ،الله .فما زال الملك يعذبه
ل على الراهب .وجيء ل على الغلم .وجيء بالغلم فُعذب فد ّ حتى د ّ
بالراهب واجتمع الثلث .اجتمع هؤلء الثلثة أمام الملك .قال لجليسه :ارجع
قتل .قال للراهب :ارجع عن دينك .قال : عن دينك .قال :ل .فأمر به ف ُ
ل .فأمر به فربط على جذع شجرة ،ثم جيء بالمنشار فقطع نصفين .قال
للغلم :ارجع عن دينك .قال الغلم :ل ،الله ربي .فأمر الملك رجاله أن
يأخذوه ويصعدوا به إلى أعلى الجبل ،وقال لهم :إن أنتم وصلتم إلى أعلى
الجبل فخّيروه بين أن يرجع عن دينه أو يرموه من الجبل .فلما صعدوا به
خّيروه ،فقال الغلم :اللهم اكفنيهم بما شئت ،فرجف بهم الجبل فسقط
أتباع الملك جميعا ً ،وفوجئ الملك بالغلم وهو يدخل عليه .قال :ما شأنك ؟
قال :أنجاني الله تعالى .فأمر به أن يحمل في قارب صغير فإذا وصلوا به
إلى المكان العميق في البحر خّيروه فإما أن يعود عن دينه أو يرموه في
البحر .فأخذوه فلما كانوا في وسط البحر خّيروه ،فدعا الغلم وقال :اللهم
اكفنيهم بما شئت .فتحركت المواج فغرق أتباع الملك ،ونجا الغلم ودخل
على الملك .عجب الملك وقال :ما شأنك ؟ قال :دعوت الله فنجاني منهم
وأغرقهم .فتحّير الملك ،فقال الغلم له :أنا أدلك على ماذا تفعل بي ،إن
أنت أردت أن تقتلني فاجمع الناس واربطني على شجرة وخذ سهما ً من
كنانتي وإذا وضعته في القوس فقل :باسم الله رب الغلم واضربني فإنك
سوف تقتلني .وحشر الملك فنادى واجتمع الناس وجيء بالغلم وُربط على
الجذع وتناول الملك الغشيم سهما ً من كنانة الغلم فوضعه في القوس وقال
أمام المل :باسم الله رب الغلم وأطلق السهم فوقع في صدر الغلم ،
ومات الغلم .حينها قال الناس :آمنا برب الغلم .قال التباع والمنافقون
والدجالون والمرتزقة ..قالوا للملك :قد وقع ما كنت تخشاه .كنت تريد من
الناس أن ل يؤمنوا فها هم قد آمنوا .
)(6 /
هذا الحديث ذكره المام أحمد ،كما رواه المام مسلم في آخر صحيحه ،كما
رواه أيضا ً المام النسائي والمام الترمذي ،رووه جميعا ً بنحو من صياغة
166
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أحمد تقريبا ً .والواقعة وقعت في جزيرة العرب ،وأن السورة نزلت من
أجلها ،وأن العرب كان عندهم علم بهذه الحادثة ،مما يرجح أن الحادثة
وقعت في الفترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلة والسلم .ومما يؤكد
على أن الحادثة معلومة عند العرب قوله تعالى )هل أتاك حديث الجنود ( و )
صل القرآن قصة أصحاب الخدود ل في هذه ُقتل أصحاب الخدود ( ثم ل ُيف ّ
السورة ول في غيرها كما هو العادة في بقية قصص القرآن التي ل يعرف
عنها العرب شيئا ً .
ل عليه السياق أن العرب تعرف قصة أصحاب الخدود ،ولحظوا ، الذي يد ّ
ن وهو ثمين ومفيد ،كما قلت لكم أن المفسرين أمامنا نص يحتاج إلى تأ ٍ
اختلفوا في أصحاب الخدود ،المكان ومن هم وفي أي وقت .الراجح عندنا
كما سنشرحه في الجمعة القادمة أنهم كانوا في جنوب الجزيرة العربية ،
وعلى تحديد أدق في نجران التي بين الحدود السعودية واليمن الن ،
والراجح عندنا أنهم في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلة والسلم ،
والراجح عندنا أن العرب كان عندهم خبر بهذه القصة .وهناك روايات تقول
أن الخدود كان في الشام على زمن قسطنطين حين أراد أن يحرق النصارى
،يقولون أن الخدود كان في اليمن في زمن تّبع ،وكان في العراق في أرض
بابل حينما دعا بختنصر الناس للسجود له فأبى عليه دانيال ومن كان معه .
هذا النص يشعرنا أن حوادث تعذيب المؤمنين ل لسبب إل أن يؤمنوا بالله
العزيز الحميد ،إل أن يقولوا ربنا الله .
عادة مكرورة من جميع أعداء الله تعالى في وجه المؤمنين الذين ل يريدون
علوا ً في الرض ول فسادا ً ،والذين يقولون ل إله إل الله ،والذين ل يجرون
وراء الحطام ،والذين يصلحون في الرض ول يفسدون ،والذين يحرثون
للخرة ويشرونها بدنياهم ،هم الذين ثبتوا على كلمات الله ووقفوا مع كلمات
الله ومع أوامر الله فتعرضوا إلى العذاب والمحن .
إن الملك حين رأى الناس قد أسلموا هددهم بالقوة وأمر بأن ُتحفر الخنادق
في الشوارع والدروب وأن ُتمل بالحطب والنيران ،قالت القوة الباغية :
اعرضوا الناس على النيران فمن أبى أن يرجع عن دينه فاطرحوه في النار
حم المؤمنون يدخلون النار أفواجا ً حيا ً .ومن تراجع عن دينه فخلوا عنه .وتق ّ
يستعذبون العذاب في ذات الله ،ويرون أن الموت في سبيل الله غاية ،
وليس بينهم وبين الجنة إل أن ُتنتزع هذه الروح من البدن .
ويروى في الحديث نفسه أن امرأة من المؤمنات جاءت تحمل طفل ً صغيرا ً
على صدرها فلما مسها لفح النار فكأنها تقاعست وكادت أن ترجع ،فأنطق
الله الصبي وقال لها :يا أماه اثبتي فإنك على الحق .فاقتحمت المرأة النار
ودخلت النار .
هذه الصورة التي عرضتها سورة البروج من جملة ما عرضت ،كانت درسا ً
في مكانه وفي زمانه ومتساوقا ُ مع درجة النمو التي بلغتها الجماعة حول
محمد ،كما هو متساوق مع مبلغ الشراسة والعنف والعنفوان الذي بدأ يتفجر
في صدور القرشيين وسائر أعداء الله تعالى .
وفي السبوع المقبل إن شاء الله ..نفصل في الحديث عن الدروس
والشارات البالغة التي تضمنتها هذه السورة الكريمة ..سائل ً الله تعالى أن
يفتح قلوبنا لفهم كتابه الكريم وأن يثبت عزائمنا لكي نقف مع الله أمام كل
متكبر جبار .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..والحمد لله رب
العالمين .
167
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(7 /
168
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لنه فوق القسم ،فقوله تعالى ) ل أقسم بهذا البلد ( هو من هذا الباب ،
تأكيد للمقسم عليه ورفعه إلى مكان البداهة لنه واقع مشهود .
)(1 /
) والبلد ( هنا ظاهر أنه هو مكة الموطن الذي يقع فيه بيت الله الحرام ،
ومعلوم أن مكة بلد حرمه الله تعالى ل لنه تربة وحجارة يسكنه آدميون ،
ولكن لنه مقر البيت الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم
قواعده ليكون للناس سواء في العاكف والباد ،وليكون مطهرا ً من الرجاس
والصنام والوثان ،ولينتفي فيه القتل والقتال ،وليكون مثابة للناس وأمنا ً ،
وليكون محل ً للخطرات النبيلة والفكار النظيفة ) ومن يرد فيه بإلحاد بظلم
نذقه من عذاب أليم ( وإل فبلد الله واحدة تستوي من حيث القدر والمنزلة
إل ما كان في بعضها من معالم العبادة ومظاهر التقى ومعالم الشرع الذي
ارتضاه الله جل وعل طريقا ً للعباد .وكذلك شأن كل شيء في هذه الدنيا ،
فالناس والشياء ل تأخذ قيمتها إل من هذا المعنى الذي هو تقوى الله تعالى .
هذا المسجد مثل ً :ما الذي يميز بينه وبين أي شبر خارج حدود المسجد ،إل
حدد وحجز عن أن يكون محل ً لشياء الناس وُوقف ليكون أن المسجد مكان ُ
ً ً
محل ً للصلة .وكذلك هذا البيت يقسم به الله جل وعل قسما منفيا ليبرز
قيمته وليؤكد المقسم عليه ،ومعلوم أن النبي عليه الصلة والسلم حينما
اضطره قومه إلى الخروج من مكة استقبل البيت وقال :والله إني لعلم
أنك أحب البلد إلى الله ولول أن قومك أخرجوني منك ما خرجت .فمكة
المعظمة محرمة ومقدسة في تقديس الله إياها وتحريم الله لها بسبب هذا
البيت الذي جاء ذكره في القرآن مرارا ً من قبل في سورة قريش وفي
سورة الفيل وفي المناسبات الخرى ،والشيء الجديد هنا أن الله أردف
القسم هنا بالبلد الذي هو مكة المكرمة بذات الرسول عليه الصلة والسلم
فقال ) وأنت حل بهذا البلد ( وبسبب أن تفسير المام ابن كثير رحمه الله
تعالى تفسير مقروء ومتداول بين الناس ،فأنا أحب أن أزيل وهما ً ربما يقع
فيه من يحسن الظن بكل ما يقرأ بالكتب دون بحث ول تمحيص ،فابن كثير
يروي عن بعض السلف ،والقرآن كما قال علي كرم الله وجهه لبن عباس
مال أوجه ،يروي أن المراد ) وأنت حل بهذا البلد ( يعني حال إحلل الله ح ّ
لك مكة لتمارس فيها القتال حين الفتح ،بمعنى أن الله جل وعل يقسم بتلك
الساعة التي أباح الله فيها لنبيه عليه الصلة والسلم أن يرفع السلح في
مكة مع أنها بلد حرام حين الفتح ،ولعمري إن هذا التفسير ل يسعف عليه
سياق القرآن ول يتساوق مع الفاق الرفيعة التي تنساب فيها آيات هذه
السورة ،وبين نزول هذه السورة وبين الواقعة التي يشير إليه إليها ابن كثير
ويريدها مقتصر عليها كأنه ل يرى تأويل ً غيرها فرق في الزمان بعيد ل يقل
عن خمس عشرة أو ثمان عشرة سنة ،فالحادثة التي يذكرها ابن كثير كانت
في عام الفتح من السنة الثامنة للهجرة أي بعد البعثة النبوية بواحد وعشرين
سنة ،وصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف إما في تلك
المناسبة وإما في حجة الوداع وهو الرجح يخاطب الناس فيقول :يا آيها
الناس إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والرض وإنها حرام
بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ،وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار ثم
خص لقتال رسول الله صلى الله عليه عادت حرمتها كما كانت فإن أحد تر ّ
وسلم فقولوا إن الله أحلها لرسوله ولم يحلها لكم ،أل فليبلغ الشاهد منكم
169
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الغائب .
هذا ما كان من نص الرسول عليه السلم في تلك المناسبة ،وهي مناسبة
واقعية في سياق الدعوة لكننا حينما نأتي إلى النص فنجد أن معنى الحل هو
الحلل المطلق وهذا ما يتفق مع رأي ابن كثير ،وأن معنى الحل هو الحال
المقيم وهذا أشهر وأظهر استعمال المفرد أي هذه اللغة في هذا الموقف ،
نتساءل :ما قيمة القسم بتلك اللحظة ؟ إنه ل يكاد النسان يتبين للقسم
بهذا من معنى مفهوم ،ولكن إذا رجعنا إلى مقررات القرآن الكريم فنحن
نجد أن الله جل وعل رفع ابن آدم فوق قدر الكعبة المشرفة ،فإنه ورد
صحيحا ً عن رسول الله عليه السلم أنه نظر إلى بيت الله إلى الكعبة وقال :
ما أعظم حرمتك عند الله ،وإن عرض الرجل المسلم أعظم حرمة منك .
فالله جل وعل صحيح أنه حرم بيته الحرام ومنحه من القداسة ما ل يبلغه
الوصف ،ولكن حرمة النسان المسلم أكبر من حرمة الكعبة .وهذا من
حيث المبدأ ،والناس كما قلنا يتساوون من حيث الجوهر النساني وإنما
يتفاضل الناس بعضهم على بعض بالتقوى والعافية ،وأفضل الناس هم
النبياء والمرسلون ،وأفضل النبياء أولوا العزم ،وأفضل أولوا العزم محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم .
)(2 /
ب شديد مع ت القرآن فأنت تجد الله جل وعل يأخذ المسلمين بأد ٍ وحيثما قلب َ
نبيهم صلى الله عليه وسلم ) ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم
لبعض ( ) يا آيها الذين آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ول تجهروا
له بالقول كجهر بعضكم لبعض ( ) لتعزروه وتوقروه ( وهكذا فحيثما سرحت
طرفك في آيات الله وجدت الله يدعوك إلى توقير رسوله وإلى احترام
رسوله وإلى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم .وفي الصحيحين أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال :ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
ماله وولده والناس أجمعين .وفي القرآن الكريم ) قل إن كان أباؤكم
وأبناؤكم وأزواجكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون
كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ( وإذا ً فنحن من هنا نستطيع أن نقول إن الله
ظم شأن القسم بإضافة نبيه عليه الصلة والسلم إلى البيت الذي جل وعل ع ّ
أقسم به ،أي أنه لم يقسم بالبيت مجردا ً وإنما أقسم بالبيت في حال وجود
رسول صلى الله عليه وسلم فيه ،وهذا معنى قوله ) وأنت حل بهذا البلد ( .
ثم ) ووالد وما ولد ( وأوجه ما يأخذ في هذا المعنى أن تكون الشارة هنا إلى
الذرية النسانية المسلسلة من لدن آدم أبي البشر صلوات الله عليه إلى أن
يشاء الله أن يأخذ هذه الدنيا ،لن فيها مظهرا ً بارزا ً من مظاهر قدرة الله
جل وعل أن جعل الناس يتوالد بعضهم من بعض ولم يجعل الخلقة مفتقرة
إلى التدخل اللهي المباشر بواسطة المر ) كن فيكون ( أو بواسطة النفخ
كما حدث في بعض الحايين .
) لقد خلقنا النسان في كبد ( هذا هو المقسم عليه ،والكبد هو المشقة
والتعب والنصب ،ماذا يريد الله أن يلقن الناس بهذا القسم ؟ كان يمكن أن
يقال :قد خلقنا النسان ليكابد المشقة والتعب .وفي صياغة من هذا النوع
يكون المعنى أن أمامنا أمرين ،المر الول :النسان .والمر الثاني :
المشقة والتعب .لكن بين المرين انفصال ول يوجد اتصال ،النسان شيء
170
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
) لقد خلقنا النسان في كبد ،أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ،يقول أهلكت
مال ً لبدا ً ،أيحسب أن لم يره أحد ( هنا المراد والله أعلم بقطع النظر عن
تشقيق المعاني الرد إلى ما سبق أن أثاره القرآن من حجاج حول وجود الله
واليوم الخر وحول بعض الوصاف التي ينبغي أن يتصف بها الله .فالنسان
يشعر ،وهذا شعور مباشر بل ريب ،أنه يتحرك في الدنيا يخذ ويترك
ويشتري ويبيع ويجمع ..ثم هو ينفق هذه الموال ويشعر أن حركته
واضطرابه هما اللذان جمعا له المال ،وحين ينفق المال الكثير ،واللبد هو
الكثير ،كأنما يتلبد فوقه فوق بعض حتى يكون كالتلل والجبال ،يشعر بأنه
ينفق من داخل نفسه ،ل أمر عليه وهو حّر في هذا النفاق .هذا الشعور بل
رقابة يوّلد لدى النسان نوعا ً من التسيب والتفلت ،ارجع إلى الية ) أيحسب
أن لن يقدر عليه أحد ( النسان قدر على جمع المال وقدر على إنفاق المال
171
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الكثير والقليل ،وكأنما استقر في نفسه أنه سيد الكون وأنه ل سلطان
عليه ،فجاءه هذا التساؤل النكاري ) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ،يقول
أهلكت مال ً لبدا ً ،أيحسب أن لم يره أحد ( والحد هنا هو الله جل وعل ،
ومعلوم عندكم أن علم الله جل وعل كان مدار حجاج وتساؤل ،وجاءت آيات
القرآن ول سيما في سورة ) ق ( لتبّين للنسان أنه في وهم وأنه في ضلل
حينما يتصور أنه بعيد عن رقابة الله جل وعل ،الله جل وعل قال في سورة )
ق ( ) :ولقد خلقنا النسان ونعلم ما توسوس به نفسه ( حتى هذا الصوت
الخفي الهاجس البعيد يعلمه الله تعالى ) ،ولقد خلقنا النسان ونعلم ما
توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ،إذ يتلقى المتلقيان عن
اليمين وعن الشمال قعيد ،ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد ( فهؤلء
اليات أبانت علم الله تعالى بحال النسان وإحاطة هذا العلم بأخفى خفيات
النسان ،فحين تأتي الية ) أيحسب أن لم يره أحد ( فإنما يريد الله أن يقول
للنسان والله أعلم :إذا كنت أيها المخلوق ترى أنك تسمع وترى وتبصر
فكيف تستكثر على الله الذي خلقك أنه ل يراك ،فالله جل وعل يراك ،إن
كنت في ليل يراك ،وإن كنت في نهار يراك ،إن كنت في جمع يراك ،ل
تستطيع أن تفلت من رقابة الله تعالى .
ثم يأتي هذا التساؤل الذي يشد هذا المعنى ) ألم نجعل له عينين ( يرى بهما
ويبصر ) ولسانا ً وشفتين ( يتكلم ويصمت فكيف تستكثر على الله أن ُينزل
كلمه وأن يأمر وينهى ) وهديناه النجدين ( والنجد في الصل هو ما ارتفع من
الرض قليل ً ،فكأنما المراد بإيحاء اللغة وإشعاع اللفظ أن طريق الخير ل
يخفى وأن طريق الشر ل يخفى ،يمكن في الرض المنبسطة المستوية أن
يخفى عليك الشيء ،لكن إذا رأيت الهضبة والجبل فل يعي عن النظر إليها
إل أعمى ،وأما الذي يتمتع بالبصر فيرى ،فحين يقول الله ) وهديناه النجدين
( أي هديناه طريقي الخير والشر ،بمعنى أننا بّينا له طريق الخير كما بّينا له
طريق الشر .وفي التعبير بالنجدين عن الطريقين والسبيلين والنهجين دللة
بّينة من أصل الوضع اللغوي على أن كل شيء واضح .والمور حين تشتبه
على الناس فل تشتبه لنها غامضة في ذاتها ولكن تشتبه لن الشهوات تغطي
على البصار والبصائر ،وحبك الشيء يعمي ويصم ،يجعلك ل يرى ول
تسمع ،وإل فمن يجادل بأن حياة العفة والطهارة خير وأكرم من حياة
الرذيلة والفسوق ؟ وأن حب الناس خير وأكرم من الحقد والبغض
والكراهية ؟ وأن الحرث للخرة خير وأكرم من صغائر الدنيا ؟ هذه أشياء ل
يعمى عن رؤيتها إل أعمى مطموس البصر والبصيرة ،ولهذا جاء التعبير هنا )
وهديناه النجدين ( .
)(4 /
) فل اقتحم العقبة ( ارجع إلى قوله جل وعل ) لقد خلقنا النسان في كبد (
كر أن أمر السلم جد كر أن الكبد هنا هو المشقة والتعب والنصب وتذ ّ وتذ ّ
ومقاساة ومعاناة وتعب ،والعقبة ما هي ؟ العقبة هي في الصل كل شيء
ت سائرا ً في طريق فاعترضك يحول بينك وبين الوصول إلى غرضك ،إذا كن َ
ت تسير في ل ل تستطيع تسلقه ول تخطيه فهذه عقبة ،وإذا كن َ جبل عا ٍ
طريق تقصد غاية معينة فاعترضك أخدود ل تستطيع النزول فيه ول القفز من
فوقه فهو عقبة ،إذا كنت تسير في طريق فاعترضك نهر ل تستطيع قطعه
ت تهدف إلى محل فاعترضك عدو قطع عليك الطريق فهذا عقبة ،إذا كن َ
172
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فهذا عقبة ،فالعقبة كل أمر مادي أو معنوي يحول بينك وبين الوصول إلى
غرضك .هذا هو الصل في العقبة ..تعالوا ننظر ماذا أراد الله تعالى بهذه
العقبة ؟ هل هي عقبة من العقبات المادية أم هناك معنى آخر ؟ ل نحتاج إلى
كثير تأمل وفلسفة ل معنى لها ،لن الله بّين كل شيء ،جاء في التفسير
المبّين ) فل اقتحم العقبة ،وما أدراك ما العقبة ( وهذا التساؤل ليجعلك تنتبه
إلى المراد بالعقبة فقال ) فك رقبة ،أو إطعام في يوم ذي مسغبة ،يتيما ً ذا
مقربة ،أو مسكينا ً ذا متربة ( والمتربة هي الفقر ،لن الفقير لصق بالتراب
فجاءت المتربة من هذا الباب ،وانظر تجد الله تعالى أبان عن العقبة بما يلي
:فك الرقاب أي تحرير الرقاء ،ويدخل فيه طبعا ً إنقاذ الضعفاء والمظلومين
والمقهورين ) أو إطعام في يوم ذي مسغبة ،يتيما ً ذا مقربة ( يتيما ً في
حجرك وتحت كنفك ) أو مسكينا ً ذا متربة ( فالعقبة جاء ممثل ً لها بشيئين
يحملن كلهما معنى الحياة ويدلن على ما وراءهما من معاني السلم .
السلم حين اعتبر فك الرقبة وتحرير الرقاء وإعتاق الناس وإخراجهم من
ربقة الظلم والبغي والعدوان إلى حياة الحرية والنسانية الكاملة ،فإنما أكدّ
ور أن جائحة على معنى الحياة ،وكذلك الشأن في موضوع الطعام ،تص ّ
مرت من الجوع سنة أصابت الناس فإن الناس رأوا على ممر التاريخ سنين
من القحط والجوع إلى حد الذي أكل بعضهم بعضا ً ،وفي مصر كما يحدثنا
جلت عدة الجبرتي في تاريخه في القرن الثامن عشر أو في التاسع عشر س ّ
حوادث في المجاعات العامة أكل الناس فيها أولدهم من الجوع ،فحين
يشدد القرآن على هذا المعنى فإنما يريد من النسان أن يعلم أن اللقمة في
فم الجائع توازي وتكافئ عتق الرقيق وإعادته إلى الحرية ،لن الرقيق في
حكم الميت ،وحين تعيد إليه حريته وتعطيه كمال الهلية للتصرف والخذ
والعطاء فإنما تجعله إنسانا ً يساوي بني آدم ،وكذلك الجائع فحينما يعضه
الجوع عضا ً بليغا ً فإنما تعيده إلى هذه الحياة بهذه اللقمة التي تمنحه إياها .
كم من الناس من يفعل هذا ؟ بل ماذا ينفق الناس من الجهد ومن التعب
ومن المعالجة مع نفوسهم لكي يصلوا إلى المرحلة التي يحررون فيها
الرقيق بل أدنى شعور يخالجهم بالجشع والشح .كان المام جعفر الصادق
رضي الله عنه أمر غلما ً له بأن يحضر له إناًء من ماء يتوضأ منه وقال له :
ب علي الماء يا بني ،وأخذ المام يصب الماء ،والغلم سهى ،وأراد الله ص ّ
الحسنى فسقط الماء والناء كله على المام ،ونظر إليه ،وكأن الغلم لمح
في عيني المام بعض الغضب ،فقال :يا إمام إن الله تعالى يقول
) والكاظمين الغيظ ( فقال المام :يا بني قد كظمت غيظي ،قال وقال
) والعافين عن الناس ( قال يا بني عفوت عنك ،قال وقال ) والله يحب
المحسنين ( فقال المام :اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى .
)(5 /
فالمسلمون حقا ً حينما يخرجون عن أموالهم يخرجون بهذه الروح السمحة ،
ويشعرون بأن اللقمة أو الخير أو المنفعة حينما تساق إلى إخوانهم في الله
وفي النسانية فهي زكاة للنفوس ) ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون ( وهي أيضا ً إحياء للناس وهي الحياة التي أراد الله جل وعل أن
يحياها الناس مليئة عامرة ،وهي أيضا ً انتصار على النفس وعلى الشهوات
ت بحاجة إلى الوقائع وإلى استقراء
واقتحام لهذه العقبة .اسأل نفسك ،لس َ
التاريخ ..انظر حواليك ..كم في جوارك وفي حيك وفي أسرتك من أناس
173
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يملكون من المال والمتاع ينفقونها هنا وهناك على الشهوات على وعلى ..؟
وإلى جوارهم أناس يتضورون من الجوع ،وإلى جوارهم يعرون ،ويرونهم بأم
أعينهم .والنبي عليه الصلة والسلم يقول :ليس بمؤمن من بات شبعان
وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم .ومع هذا فأنت تجد أن الغنياء يشحون
بأموالهم ،لماذا ؟ لن ثقتهم بالله ضعيفة ،ثقتهم بأن الله يخلف ما عندهم
معدومة بالمرة ،إن الله تعال يقول ) وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو
خير الرازقين ( والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :ل يكون المؤمن مؤمنا ً
حتى يكون بما في يد الله أوثق منه مما في يده .كيف أمسك بهذا الشيء
وأقول أنه حق ،فيجب أن أثق بوعد الله أكثر من ثقتي بأنني أحمل هذا
الشيء .هذا شرط اليمان ،ولهذا سن الله تعالى النتصار على النفس
بتحرير النفوس وبإطعام الجائع وإكساء العاري ،لنه ليس أمرا ً سهل ً ولكنه
شديد ) فل اقتحم العقبة ،وما أدراك ما العقبة ،فك رقبة ،أو إطعام في يوم
ذي مسغبة ( والمسغبة هي شدة الجوع ) يتيما ً ذا مقربة أو مسكينا ً ذا
متربة ،ثم كانوا من الذين آمنوا ( وقلنا عشرات المرات إن سنة الله مضت
وإن قضاء الله حكم أن ل يقبل من العمل إل ما خلص لوجهه ،وإن اليمان
بالله واليمان برسله شرط لقبول العمال ،وإن الكافر يعمل الخير ويعمل
المعروف ،ولكن الله يطعمه في الدنيا حتى يلقى الله تعالى وليست له
حسنة على الطلق ،ولكن النسان المؤمن يثاب على مجرد خاطرة الخير ،
م بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة ،فإن عملها فاكتبوها له من ه ّ
عشرة .
فل بد من تقدم شرط اليمان لكي يكون العمل مقبول ً ) ثم كان من الذين
آمنوا ( ولكن اليمان لفظ مبهم ،شرط يكاد أن يكون إلى التجريد أقرب ،
والله تعالى يبين بعض خصائص اليمان ) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا
بالحق وتواصوا بالمرحمة ( أمران يغفل عنهما أكثر الناس ،إن الحق ليس
شيئا ً بسيطا ً ول قضية هينة ،الحق صعب على النفوس ،أصعب مما
تتصورون ،ولكن المؤمن إذا ُووجه بالحق أذعن بل مجادلة وبل محاولة
التملص ،والمنافق يحاول أن يدور ويلف من حول الحق .الحق مّر المذاق ،
ولهذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم :وأسألك كلمة العدل ،
وفي بعض الروايات كلمة الحق في الرضا والغضب .فالحق ل يطيقه كل
الناس ،ولكن يطيقه الناس الذي مّرنوا أنفسهم على ممارسة مناهج
اليمان ،جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلفة عمر ،
وعمر الحاكم الذي ترتعد الفرائص حين ُيذكر ،ليس العداء فقط حتى
المسلمون ،أذكر لكم واقعة طريفة ،كان عمر يمشي في طرقات المدينة
وخلفه جمهور من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،كل واحد منهم آمن
بالذي آمن به عمر ،وصحب النبي كما صحبه عمر ،وشهد من النبي كما
شهد عمر ،ولكن عمر صياغة معينة ،ول أدري ما الذي كان من المناسبة ،
الناس يمشون خلفه فالتفت فجأة إلى الوراء ،حينما وقعت عينه على
جمهور الصحاب ووقعت عيونهم على عينه جثوا جميعا ً على ركبهم خوفا ً
ورعبا ً من عمر رضي الله عنه .هذا الرجل الشديد القوي ،جاءه رجل ودخل
ت قاتل زيد بن الخطاب ،أي أخوه الذي ُقتل في مجلسه وقال له :ألس َ
حرب اليمامة ،قال :بلى يا أمير المؤمنين .قال له :والله ل أحبك .فتبسم
الرجل وقال :يا أمير المؤمنين أذلك يمنعني حقا ً هو لي عندك ؟ عدم حبك
إياي يحملك على ظلمي ؟ فال :ل .قال :إنما يأسى على الحب النساء .
174
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
فالحق في الحقيقة ل يطيقه كل الناس لنه شديد وصعب ومّر المذاق على
النفوس ،ولهذا كان من شرط اليمان أن ل يعتقدوا الحق فقط وإنما
يتواصون به ،لن النسان ربما يضله الهوى وتجره القرابة أو تلفته بعض
العلئق فيتجاوز الحق ،وفي تجاوز الحق هلكة التي ل حياة بعدها .وإنما
يجب دائما ً أن يتواصوا بالحق ،ولهذا فنحن نعلم من أخلق ومسالك أصحاب
نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم إذا التقى منهما اثنان سلم الواحد منهم على
الخر وأخذ يده مصافحا ً إياه وقرأ كل واحد منهما على الخر ) والعصر ،إن
النسان لفي خسر ،إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر ( يقرأ بعضهم على بعض هذه السورة مع كل لقاء لكي يتذكر
المسلمون دائما ً أنهم ممثلو الحق والقائمون على الحق في هذه الدنيا .
والشيء الثاني هو التواصي بالمرحمة ،دخل رجل على النبي عليه الصلة
والسلم وعنده الحسن أو الحسين ،والنبي عليه الصلة والسلم يقبله ،وهذا
أعرابي ،والعراب نعرة نستعيذ بالله منها ،فكأن هذا العرابي استنكر أن
يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصبي .فقال :يا رسول الله أتقبله ؟
م ؟ قال :يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحد منهم قال :ول َ
قط .ونظر إليه النبي الحنون والعطوف وقال له :وماذا أملك لك إذا كان
الله قد نزع الرحمة من قلبك .
والنبي عليه الصلة والسلم يقول :من ل يرحم ل ُيرحم ،ارحموا من في
الرض يرحمكم من في السماء .التواصي بالمرحمة هو نظر رقيق إلى
عواقب ما فيه ابن آدم ،مثل ً :ترى إنسانا ً فقيرا ً فتشعر بهذا النعطاف النبيل
والطيب والطاهر ،ماذا يكون من شأن هذا لو أنه استمر في هذا الفقر
المدقع ،أل يشرف على الجوع والهلكة ؟ فتأخذك الشفقة والمرحمة فتعينه .
تمّر على النسان الخر تراه واقعا ً تحت الظلم يعذب ويهان فتتساءل :وإلى
متى ؟ وإذا كانت السماوات والرض قامتا على الحق والعدل فكيف يكون
صلح الناس إذا ُأخل بالعدل وبالحق ؟ فتأخذك الرحمة فتنتصر للمظلوم .
وإذا ً فالتواصي بالمرحمة هو استحياء مستمر لهذا الشعور العظيم النبيل
الذي يجعلك وقافا ً مع أعلى ما في الحياة النسانية من مستويات النبل
والكرامة والشرف .
) أولئك أصحاب الميمنة ( ودائما ً حيثما مّر معكم لفظ الميمنة فالمراد به
التعبير عن رضوان الله تعالى ،وحيثما مّر معكم التعبير بالمشئمة فذلك
كناية عن سخط الله جل وعل .
) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا هو أصحاب المشئمة ،عليهم نار مؤصدة ( أي
أن الله تعالى أعد ّ للمؤمنين الذين يتواصون بالصبر وبالحق وبالرحمة
والشفقة على عيال الله ،والخلق كلهم عيال الله كما قال عليه الصلة
والسلم وأحبهم إلى الله أبرهم وأشفقهم إلى عياله ،هؤلء هو أصحاب
اليمين الذين ينالهم الله برحمة منه .وأما العتاة والكفرة والفساق وقساة
عدهم الله تعالى بأن يدخلهم جهنم ليذيقهم العذاب القلوب فهو الذين تو ّ
الليم .
حبذا لو كان لدي بعض الوقت لنتهي من سورة الطارق ،وأفرغ لما بعدها ،
175
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ولكن ل بأس أن نكتفي بهذا القدر الذي قلناه ،وأنا أرجو أن يعود كل واحد
منكم دائما ً إلى القرآن يستفتيه ويسأله ويتدبر في آياته ،فتحت كلمة من
كلمات الله عالم مضيء من الطهر والعفاف والكرامة والشهامة
والستقامة .اتركوا هذا الواقع المّر الوبيئ البغيض الذي يعيش فيه الناس
م لهم إل الشهوات والعواطف الرخيصة والدوافع تافهين كما يعيش الدود ل ه ّ
الخبيثة ..اتركوا هذا كله ،هذا ل يعمر الحياة ول يفيء الطمئنان على الناس
ودوا على أن تكونوا أكبر من ،وعيشوا مع القرآن وعانقوا المثل العليا وتع ّ
ودوا على أن تكونوا مؤمنين تجدون أنفسكم أكبر من الدنيا وما ذواتكم ..تع ّ
فيها ،في حديث يروى عن الله جل وعل من الحاديث القدسية :ما وسعتني
أرضي ول سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن .
إن النسان المؤمن إذا سكنت قلبه معاني اليمان كان أكبر من الكون كله ،
فارفعوا أنفسكم عن الصغائر وعيشوا مع الله ومع حقائق كتابه ومع حقائق
نبيه صلى الله عليه وسلم ،والله المستعان ..وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
176
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القصيرة جدا ً والكلم البالغ غاية حدود الوجازة والكثافة والختصار يؤكد الله
تعالى فرق ما بين القرآن الذي يتولوه على الناس محمد صلى الله عليه
وسلم وبين ما يهرف به الناس من كلم يظنونه حقا ً وهو باطل ،فإذا انتهى
بهذا الشكل من الوجازة والختصار سيق الكلم نحو قضية هامة ولها امتدادها
في الزمان والمكان ) إنهم يكيدون كيدا ً ،وأكيد كيدا ً ،فمّهل الكافرين أمهلهم
رويدا ً ( وبهؤلء اليات الوجيزات كذلك تساق قضية من قضايا الحركة والعمل
لعلها تكون أضخم القضايا وفي نفس الوقت أول ما ُينسى من قضايا الحركة
والعمل من أجل السلم .
وكشأن عديد من اليات التي مرت من قبل فالسورة مبدوءة بالقسم ،ولقد
يجب أن ننبه باستمرار إلى حكمة القسم ،ففي الحالة العادية وفيما يتعاطاه
الناي في الكلم فوظيفة القسم في اللغة معروفة ،إن القسم يشد الكلم
ويؤكد المقسم عليه وإذا كان القسم صادرا ً ممن يؤنس فيه الصدق وُيظن
فيه الخير فإن القسم يأتي بمثابة جيش من الشهود ويغني غناء جيش من
الشهود .وحين يأتي القسم من الله تعالى فمن بدائه المور أن الله تعالى
أصدق القائلين ،ل تبديل لكلماته ول خلف لوعده ،وهذا يعطي الكلم
المقسم عليه قوة تأكيدية بالغة ،ولكن حس المسلم ل يحتاج مطلقا ً إلى ما
يؤكد له صدق الله تعالى ،فهذا الموضوع فوق الظنون والشبهات ،فإذا ً
للقسم فائدة أخرى يجب أن تغيب عن بال قارئ القرآن وهي إبراز شرف
المقسم عليه وقيمته .
فالله تعالى أقسم بشخص رسوله عليه الصلة والسلم فقال ) لعمرك إنهم
لفي سكرتهم يعمهون ( وعلى لسان بعض خلقه أقسم بذاته الكريمة فقال
ن أصنامكم بعد أن تولوا
على لسان إبراهيم عليه السلم ) وتالله لكيد ّ
مدبرين ( وأقسم بمظاهر من مظاهر الكون وهذا وجه من وجوه الحكم في
القسم غير داخل في إبراز شرف المقسم عليه ولكنه يتعلق بالمقسم به
ويجب أن ل يتخطاه القارئ لكتاب الله تعالى .
)(1 /
177
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المنظر ،وإنما يراها وهي متهيئة بزينتها لستقبال الزوج ،فالمرأة المهيبة
ذل وتترك الزينة ول ُتعنى بكمال الشكل وجمال المظهر ،فإذا جاء غالبا ً ما تتب ّ
الرجل أهله ليل ً على غير انتظار فقد يجد أهله على حالة ل تدعو إلى الرتياح
من حيث المنظر العام والمظهر الواضح .
غب في الستر وقد يحتمل هذا معنى آخر فالسلم الذي يدعو إلى الصوم وير ّ
ينهى الرجل عن أن يطرق أهله ليل ً لحتمال ولو كان ضعيفا ً ولو كان بعيدا ً ،
فقد يجد الرجل في بيته من الغرباء أو القرباء من ل يرتاح إلى وجوده في
حال غيابه مع أهله ،فيكون من ذلك ما يدعو إلى النفرة وإلى سوء العشرة
وإلى تهديد الحياة الزوجية .فمن هنا كان نهي النبي عليه السلم المؤمن عن
أن يطرق أهله ليل ً وكان ترغيبه في القدوم إذا قدم المسافر نهارا ً .
وموضع الشاهد أن النجم سمي طارقا ً لنه يعرض في أفق السماء ليل ً
فسمي طارقا ً لهذا ،ووصف بأنه الثاقب لن ضوء النجوم هو الذي يجعل أديم
السماء السود المكفهر يزدهر بالنور .
هذه النجوم التي تكرر القسم بها تنفع الناس على الرض كما تنفع مخلوقات
الله جميعا ً ،وهي عرى في شد النظام الكوني والناس يعرفون منها قديما ً
الشيء الكثير ،والعلم كشف اليوم منها أكثر مما كان الناس يعرفون ،ول
حاجة بنا إلى الخوض عن ما لهذه النجوم من تأثيرات ،ويكفي أن نعلم أن
توزيع النجوم في السماء بالنسب التي هي عليها وبالحجوم التي هي عليها
عامل أساسي في حفظ النظام الكوني ،ولو أن نجما ً من نجوم السماء
انزاح عن مكانه ومداره ومساره المرسوم شيئا ً ولو طفيفا ً لدى ذلك إلى
اختلل في نسب الجاذبية وتغيرات واضحة في الجواء التي يتنفس فيها
النسان ،وإذا ً فالله يقسم بشيء ذي أهمية بالغة بالنسبة لحياة الناس في
موضوع هو برمته يتعلق بحياة الناس .
)(2 /
) والسماء والطارق ،وما أدراك ما الطارق ،النجم الثاقب ( على ماذا أقسم
) إن كل نفس لما عليها حافظ ( بعض الكاتبين في القرآن من المفسرين
يذهبون في تأويل هذا الحرف مذهبا ً يساعد عليه ظاهر اللفظ ول غرابة فيه ،
فظة يسجلون عليه كلما يقول ح َ
كل بكل إنسان َأي أن الله سبحانه وتعالى و ّ
وكلما يفعل ليكون هذا التسجيل معدا ً لمناقشته في يوم الحساب .ولكنا نرى
والله أعلم أن المسألة أبعد من هذا وأن المر في جوهره أمر بيان للمنة
العظيمة التي امتن الله بها على الناس ،فالنسان لول عناية الله وكلءة
الرحمن وحفظه لما استطاع التماسك في هذه الدنيا بحال من الحوال ،
والله جل وعل بنواميسه التي زرعها في الكون وقوانينه وسننه الثابتة التي ل
تتبدل ول تتغير حفظ النسان من شرور كثير ة ،والله جل وعل تولى رعاية
النسان بأمور ل يدركها ول يبلغها علمه ول ينالها وهمه إل من طريق الخبر
الصادق عن الصادق المعصوم عليه الصلة والسلم ،ولقد جاء في بعض
الثار أن الشياطين يتكأكؤن من حول ابن آدم ولو أن ملئكة الرحمن تخلت
عن النسان طرفة عين لتخطفته الشياطين من كل جانب ،فهذا جانب من
حفظ الله جل وعل لهذا النسان ،والله جل وعل ذكر ذلك واضحا ً بّينا ً في
ل اسمه ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه القرآن الكريم فقال ج ّ
يحفظونه من أمر الله ( والمعقبات هم الملئكة الذين يتعاقبون على كلءة
ابن آدم وحفظه ،ومن ذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
178
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل والنهار .فهذا جانب من الحفظ الذي رعى الله
به هذا النسان وهذه هي المعقبات التي ذكر الله جل وعل أنها تحفظ
النسان من أمر الله ليس أن تحفظ النسان من أن تصيبه شيء من أمر
الله وقضائه وقدره ،ولكن معنى ذلك أنها تحفظ النسان بأمر الله جل
وعل ،فمن هنا ليست على بابها بعضية ولكن هي سببية أي بسبب أمر الله
جل وعل .
ما عليها حافظ ( يعني ما من نفس فهذا معنى قوله تعالى ) إن كل نفس ل ّ
منفوسة إل عليها حافظ يحفظها بأمر الله تعالى ،ولو ارتفع عنها حفظ الله
ن
وكلءة الله تعالى لتخطفتها الشياطين .ومن ظواهر الحفظ هذه ما امت ّ
الله تعالى به على عباده من إنزال الكتب ومن إرسال الرسل ،فهذه وجوه
من وجوه الحفظ ،ل يذكرها الله تعالى في مجال المنة وحسب ،وإنما
يذكرها في مجال التكريم ،فالنسان الذي اختصه الله تعالى بالسمع والبصر
والفؤاد والنطق والقدرة على التصرف والخذ والعطاء وبمواجهة المسؤولية
والتبعة إنسان متميز من بين خلق الله تعالى ،وبسبب من هذا التميز استحق
كرامة الله تعالى إذا قال ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل ً ( فهذا جانب مما يوحيه قول الله
ما عليها حافظ ( .
تعالى ) إن كل نفس ل ّ
هذا النسان المحفوظ ل من ذاته ولكن من القوة الخارجة عنه هي قوة
خر الله له كل الله ،هذا النسان المعتنى به ،هذا النسان المكرم والذي س ّ
شيء ،والذي أسجد الله له ملئكته الذين اختصهم لتسبيحه وتقديسه ،هذا
النسان المتمرد الطاغي يزعم كما رأينا في السور الماضيات أن الله لن
يقدر عليه ،وأنه لن يعيده كما بدأه ،وهذه غفلة ونفسة كبرياء ل تصيب إل
الغافلين عن أنفسهم ) نسوا الله فنسيهم ( ) ونسوا الله فأنساهم
أنفسهم ( .النسان من أجل القرار واليمان بحتمية المصير إلى ربه ل
يحتاج إلى مجهود كبير أقام الله الشواهد ونصب الدلئل على ذلك في
تصاريف الكون وفي خلقة وجسم النسان وصدق الله ) سنريهم آياتنا في
ف بربك أنه على كل الفاق وفي أنفسهم حتى يتبّين لهم أنه الحق أو لم يك ِ
شيء شهيد ( .
م خلق ،خلق انظر إلى نفسك ،المسألة في متناول يدك ) فلينظر النسان م َ
من ماء دافق ،يخرج من بين الصلب والترائب ( والصلب هو فقار ظهر
الرجل ،والترائب هي عظام صدر المرأة ،وما يتخّلق منه النسان إنما هو
نطف قليلة من هذا الماء الذي يخرج من فقار الرجل وترائب المرأة على
نسب مضبوطة ومقادير موزونة .إذا ً فنحن ما زلنا في جو التناسق وفي جو
التناسب وفي جو السماء والطارق وفي جو هذه النسب التي تشكل مظهرا ً
من مظاهر سنن الله تعال لكي يرتفع الله بالنسان من مقام الهوان ،دودة
تدب على ظهر الرض إلى ظاهرة كونية شأنها من حيث الضبط والنفع
للكون كله كشأن أية ظاهرة كونية أخرى ،فل ينبغي للنسان أن يبخس
نفسه ول ينبغي أن يغفل عن قيمته ،بل الله الذي كّرم هذا النسان أراد له
أن يعي قيمة نفسه لكي ُيذلها ول يهينها فل تقدر بعدها أن تترشح إلى عظائم
المور .
)(3 /
179
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
) يخرج من بين الصلب والترائب ،إنه على رجعه لقادر ( والهاء في ) إنه (
أي الضمير يعود إلى الله تعالى ،أي إن الله تعالى قادر على رجعه ،
وللمفسرين تأويلت ،أحدهما أقرب إلى الخر وإلى المعنى وأدعى إلى
الطمئنان ،قال قائلون :إن الله على رجع هذا الماء المتولد من فقار الرجل
أي صلبه ،ومن ترائب المرأة قادر على إعادته من حيث خرج ،ول جدال في
قدرة الله تعالى على ذلك ،ولعل الذي هّيأ لهم أن يذهبوا هذا المذهب قرب
الحديث عن الماء ) فلينظر النسان مما خلق ،خلق من ماء دافق ،يخرج
من بين الصلب والترائب ( ولكن لو أننا ذهبنا مع اليات قليل ً لوجدنا أن
المعنى يتعين في ناحية أخرى ) إنه على رجعه لقادر ،يوم تبلى السرائر (
فالرجع مرتبط بيوم وصفه الله تعالى بأنه يوم تبلى فيه السرائر ،والسرائر
هي خفيات النفوس وما يسره النسان ويخفيه عن كل أحد ،وبلء السرائر
هو إظهار ما فيها وكشفها واضحة معلنة ،وهذا ل يكون طبعا ً إل يوم القيامة
حين تنصب الموازين القسط لذلك اليوم ويقف الناس ليوم الحساب ،وإذا ً
فأقرب التأويلت إلى هذا أن يصار إلى القول :إن الله قادر على أن يرجع
هذا النسان إلى الحياة مرة أخرى في الدار الخرة برغم البلى والتحلل
والتفرق في جميع النحاء .والكلم بعد كما مّر معنا في سور أخرى كلم
يدور حول هذا المحور حول إثبات اليوم الخر وضرورة إقام الناس ليوم
الخر ،لن الموضوع جد خطير ،فمن ل يؤمن باليوم الخر وبحتمية المصير
إلى ربه والوقف بين يديه وتقديم كشف الحساب إليه يفعل ما يشاء دون
رادع يردعه ،وإنما الخير كل الخير في الذين يخافون الله ويرجون رضاه في
اليوم الخر .
هنالك في اليوم الخر وصف آخر جاء وهو وصف بالغ الدللة ،هذا النسان
وصفه الله تعالى بأنه في دار الدنيا بأنه في صفات متعددة :جبار وطاٍغ
ومتمرد وعنيد وخصم وجدل ..وبسائر هذه الوصاف والنعوت التي تشير إلى
العظمة والجبروت ،ووصفه هنا حينما يكون في اليوم الخر بهذا الوصف
المعبر ) فما له من قوة ول ناصر ( كلمتان :قوة وناصر .والقوة عادة من
حيث أصل الوضع ذاتية ،يعني أن النسان يوصف بأنه قوي ،إذا كانت القوة
وصفا ً ذاتيا ً له ،ولكن العرف العامي يقول إن فلنا ً قوي ،بمعنى أن من
ورائه أشياع وأتباع ونصراء ،هذه ليست قوة في مدلول اللغة وفي أصل
الوضع .فإذا رأينا الية تقول هنا ) فما له من قوة ول ناصر ( فمعنى هذا أن
الله يوقف النسان في اليوم الخر بحيث أنه يلتمس من نفسه القوة فل
يجدها ،ويلتمس النصراء فل يجدهم ..وإذا ً فقد تقطعت به السباب ،هذه
النسان وصفه الملزم له هو هذا ،في الدنيا كذلك هو ،لو أن النسان كان
كما يظن بنفسه لستحق أن يكون غير ما هو عليه .ولكن النسان المنصف
لنفسه يعرف أنه ضعيف ،وأن كثيرا ً مما زرأ الله على الرض من حشرات
أقوى منه ،والنمرود مات بذبابة ،وأصغر الجراثيم تبث بين الناس وباًء يحصد
المئات واللوف من الناس ..ومع أصدق المتنبي حين كان يشير إلى هذا
المعنى فيقول في قصيدة طويلة ما معناه :لو أن المر أمر قوة وأن شرف
النسان ومنزلته تقاس بالقوة وبضخامة البدن لكان أدنى حيوان أدنى إلى
الشرف من هذا النسان .ولكن النسان ضعيف ذاتيا ً بكل ما في الكلمة ،
م بك شيء من المرض فإذا أنت مطروح على الفراش ،ل حسبك أن يل ّ
ً
تستطيع لنفسك حول ول قوة .
والمظهر الخر من مظاهر القوة وهي قوة النصراء والتباع ،فنحن نرى أن
كثيرا ً من الناس تأتي عليهم أويقات يرون من ورائهم اللوف والمليين
180
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مساندين له ،ولكنهم ينفضون بعد ذلك .فإذا ً ليس شيء من أسباب القوة
لزم للنسان بأي حال من الحوال ،ومع هذا فانظروا إلى ما ذكر الله تعالى
في هذه الية من حفظ الله تعالى للنسان لتروا أن الله تعالى أكرم النسان
على غير استحقاق ذاتي لغاية أرادها الله تعالى هو ترشيحه للقيام بتبعات
الدعوة إلى الله تعالى .
وأظن أنني أشرت إلى هذا المعنى قبل زمن وجيز حينما تطرقت إلى ذكر
هذه الفكرة فقلت إن الرض من حيث هي أرض تتساوى بقاعها وأماكنها من
حيث الشرف ،ولكن الله تعالى يخص ما يشاء من بقاع الرض لشرف ما
يكون فيها من عمل ،فمكة ليست كسائر بلد الله ،والحرم ليس كسائر مكة
،والمدينة ليست كسائر بلد الله ،وقبر الرسول عليه الصلة والسلم ليس
كسائر أجزاء المدينة ،وليلة القدر ليست كسائر الليالي ،والحجر السود
ليس كبقية الحجار التي بنيت منها الكعبة ..وإذا ً فالتشريف والتكريم
اختصاص مطلق من الله جل وعل ،ومن هذا الختصاص اختصاص النسان
بهذه الكرامة ل على استحقاق منه وإل فالنسان ل قوة له ول ناصر له .
)(4 /
ثم تساق اليات مساقا ً آخر فيه شيء من هذا التناسق الذي ذكرناه
) والسماء ذات الرجع ،والرض ذات الصدع ( وقلنا إن هذا قسم جديد ،
ومعنى أن السماء ذات الرجع ،والرجع هو الرجاع ،المراد بذلك السماء ذات
المطر الذي يصعد إليها من الرض ثم يرجع إلى الرض من السماء ،فهذا هو
معنى كون السماء ذات رجع .والرض ذات الصدع معناها أن الرض حين
ينزل عليها الماء تهتز وتربو وتتشقق وتتصدع وتقبل الماء وينبت العشب
والكل والخير الكثير .أين وجه التناسق والرتباط ؟ التناسق والرتباط بين
هذه الصورة ..صورة السماء التي تتصاعد إليها أبخرة الماء فتنعقد في الجو
سحبا ً مركومة ،ثم ترجع إلى الرض ،ثم إذا رجعت إلى الرض أنبتت
ق هذا الماء الراجع إليها
العشب والخير الكثير بعد أن تتصدع لتتلقى أكرم تل ٍ
من السماء ،صورة شديدة الرتباط ووثيقة المشابهة مع الماء الدافق
المتولد من صلب الذكر وترائب النثى ،والملقى في رحم المرأة لتقبله
فيتصدع ويخرج هذا الكائن الحي .وإذا ً فنحن ما زلنا في الجو الذي أبرزته
اليات في أول السورة ..
) والسماء ذات الرجع ،والرض ذات الصدع ( هذه العملية بشقيها ..عملية
التقاء العنصرين الذكر والنثى في رحم المرأة ،وعملية انصداع الرض
لتتلقى وهي تتلقى الماء النازل من السماء لتنشق عن الخير والنبات
والعشب ..هذا شيء ليس هينا ً ،وإنما هو مظهر من مظاهر العجاز والقدرة
الباهرة والعظمة الخارقة الدالة على وجود الخالق القادر على كل شيء
الذي ل يعجزه شيء ،وإذا ً فالله تعالى يقسم بأبرز مظهر من مظاهر قدرته
على أمر أريد أن نتمعن فيه قليل ً .
) إنه لقول فصل ،وما هو بالهزل ( والهاء في ) إنه ( قد يكون المراد بها إن
الحديث عن المور التي مرت بالسورة شيء حقيقي ،ولكن الوجه أن يساق
ويوجه الضمير إلى القرآن الذي حوى كل هذه الشياء ) إنه لقول فصل (
والقول الفصل هو الذي يصيب وسط الحقيقة ) وما هو بالهزل ( ومعنى
الهزل هو المزاح ،ولكن الهزل في دللة اللغة معنى أبعد من معنى المزاح ،
أو هو معنى يعطي للمزاح محتواه الصحيح ،الهزل مشتق من الفعل
181
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
) هزل ( ومعنى هزل أي ضعف ،والضعيف هو الذي ل قوة فيه ول قدرة له ،
وإنما يقال هذا كلم هزل بمعنى أنه كلم ل يعد أن يكون هواًء منطلقا ً من
الفم ،وحروفا ً مرصوفة ولكنها ل ترجع إلى معنى حقيقي ،وليس لها أي
وصف ول خصيصة من أوصاف وخصائص القوة ،وجوهر الحقيقة أنه قوة ،
وجوهر الهزل أنه ل شيء ،وإنما يسمى هزل الهازل هزل ً لن صاحبه ل يعود
صل ،فكأنه هراء ل شيء وراءه على الطلق .وذلك شأن الناس وليس بمح ّ
شأن الله ،الناس يهزلون ول يبالون أن يقولوا ويتحدثوا بما ل يعود بخير ،ول
يرجع إلى قاعدة معروفة من قواعد الحقيقة ،ولكن الله يقول الحق ويهدي
السبيل ،فالله تعالى إذا ً يفّرق بين هذا الكلم الذي يأتي به محمد من عند
ربه وبين كلم المخلوقين ،ليهيب بالناس من بعد أن يكونوا إلى الحقيقة
أقرب ومن الهزل أبعد ،ليكونوا إلى الحق أرقب ومن الباطل أبعد ،فكلم
الله تعالى هو الحق المّر ،وكلم الخلق هو الهزل الذي ل يرجع منه صاحبه
بقليل ول كثير .
ً ً
ثم تأتي القضية الثانية ) إنهم يكيدون كيدا ،وأكيد كيدا ،فمّهل الكافرين
أمهلهم رويدا ً ( أما الكيد فهو التدبير الخفي ،ول يسمى كل تدبير كيدا ً إل إذا
كان تآمرا ً في الظلم ومن وراء الجدر ،أما التدبير الواضح فل يسمى كيدا ً .
وحينما ننظر إلى هذه الية وهذه السورة وهذا الطور من أطوار الدعوة في
ضوء هذه اللفظة المفردة ) الكيد ( فسنجد أن الدعوة بلغت مرحلة طيبة في
طريق التقدم والتقاء والرسوخ والنماء ،إنك حينما يكون أمامك خصم ل
تكترث به ول تأبه له ول تقيم له وزنا ً ول تلقي له بال ً ،فأنت ل تهتم بأن يكون
تدبيرك ضده تدبيرا ً خفيا ً ،وإنما تجاهر وتقول :ماذا يستطيع هذا أن يفعل
تجاهي ؟ ل شيء إنه في حالة من الضعف جردته من كل قوة ،وإذا ً فأنا في
ل من أن أكتم أي تصرف من تصرفاتي ،ولكنك حينما تواجه إنسانا ً له حظ ح ٍ
ً
من القوة أو مجموعة من الناس بلغت شأنا من الرسوخ والقوة فأنت محتاج
إلى أن تحكم تدبيرك وإلى أن تخفي كثيرا ً من وجوه أمرك .
)(5 /
إذا ً هذه الكلمة توحي لنا بأن المرحلة التي نتحدث عنها بلغت مرحلة يحسب
لها الخصوم حسابا ً ،فهم يكيدون ،والله جل وعل يكيد ،وإنما يكيد الله جل
وعل على سبيل المجازاة ،فالعرب تأتي باللفظ مشتقا ً من جنسه لتجازي أي
لتقابل بين الفعلين مقابلة لفظية ل مريدة بذلك أن الله فعل ً يريد اللفظ
بحقيقة معناه .فحينما نسمع الله يقول ) نسوا الله فنسيهم ( نعلم أن هذا
اللفظ من باب المجازاة اللفظية ،وإل فالله يستحيل عليه النسيان ،ويقول
أيضا ً ) يخادعون الله وهو خادعهم ( فهذا ل يعني أن الله يلجأ إلى طريقة
الخداع ولكن هو من باب المجازاة اللفظية وهو أسلوب يعرفه الذين
يدرسون خصائص السلوب العربي الذي نزل به القرآن .وقوله تعالى ) إنهم
يكيدون كيدا ً ،وأكيد كيدا ً ( من هذه الباب .
يا إخوة أريد أن أقف معكم في هذه النقطة قليل ً ..ل لني لم أقف عندها من
قبل ،ولكن للتذكير ..المسألة في نظري بالغة الخطورة ،شديدة الحساسية
،وفي ميدان الماديات فأنت تلقي الحصاة في النهر فتتولد في النهر دوائر
تنداح وقد ل تراها ولكن اهتزازات الماء ل تنقطع ..فتصل شاطئ النهر فترتد
في حركة حتى تختفي رويدا ً رويدا ً .والكلمة تقولها في مجال المعنويات
تترك في العواطف والمشاعر والنفوس والعقول أصداء لها مثل هذه الدوائر
182
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التي في الماء فتذهب وترجع متذبذبة من غير انتهاء .والسلم حركة ،جاء
قول ً وجاء عمل ً ،وجاء حركة لمست الواقع ولم تكن تصورات في عقل
فيلسوف ول حكمة في رأس حكيم ،وإنما هي رسالة خوطب بها الناس
بصورة مباشرة ووضعت موضع التطبيق من أول مرحلة من مراحله ،ومن
الطبيعي أن تكون لها هذه الرجاء وهذه الصداء في حياة الناس ،بين راضين
وبين ساخطين ومنكرين ،وبطبيعة فالمنكرون ينكرون والساخطون
يسخطون حينما ُتهدد لهم مصالح ذاتية معنوية أو مادية ،يرون في الدعوة
الجديدة خطرا ً عليهم .
وهذا الذي كان من زعماء مكة وأغنياء مكة وكبراء ساسة مكة ،فقد أنكروا
على رسول الله ما جاء به من عند ربه ،وردوه عليه ،وصبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ذلك ،واستمر المكيون في النكار ،ثم ل يكتفون
بالنكار ،وإنما يدّبرون بالكيد المحكم الخفي ،لينالوا من الدعوة بالتشكيك
والتشويش ،ولينالوا من المسلمين بالمطاردة والتعذيب ،ولينالوا من قائد
الدعوة بالطعن والتجريح ..وكل هذه الشياء مرت معنا صورها ،والمسألة
كما يلي :المسألة هو أن الناس على المستوى الدنيوي وعلى مستوى
الدعوات ذات الطبيعة الرضية لهم أن يكّيفوا أنفسهم وفاقا ً لما يشاؤون ،
ولهم أن يعملوا بعد كل حركة حسابا ً للخسائر والرباح ،ولهم أم يعملوا
حسابا ً للحتمالت ،ولهم أن يقدروا مواقفهم وفاقا ً لكل هذه الحسابات
والمعطيات .أما نحن في ميدان السلم فالحركة وقوانينها وقواعدها ليست
إلينا ،وهذا الكلم قلته أكثر من مرة ،قلته حتى مللت من قوله ،وحتى ظن
المشككون والطاعنون والصائدون في الماء العكر أنني أسكت على مظاهر
النحراف والنحلل والجرام بحق المة وأدعو الناس إلى ذلك ،وحبذا لو كان
الذين يطعنون ويشككون أناسا ً يتمتعون بذرة من الشجاعة ،ولكنهم جبناء
وأذلة وسكان جحور ،ومع هذا فأنا أصر على هذا القول ،وأرى فيه مقطع
الصواب فيما يتعلق بجوهر الحركة وقانون الحركة الول .
نحن ل نملك أن نسخر مقتضيات الحركة للصداء والرجاع التي تقع في
نفوسنا ومشاعرنا من جّراء مواجهات الناس ،نحن بشر لنا عواطف تهتاج
وتثور ،ولكن لو كنا نعمل لحسابنا لكان ذلك مقبول ً ،واذهب أنت وما تشاء
لنفسك ،ولكن تعمل لحساب دعوة لها امتدادها في الزمان والمكان ،
امتدادها في الرض ظهر الكرة الرضية وأنت مخاطب بذلك ونبيك عليه
الصلة والسلم يقول فيما صح عنه صلوات الله عليه :إن الله زوى لي
مشارق الرض ومغاربها ،أي جمع لي مشارق الرض ومغاربها حتى نظر
عليه الصلة والسلم إلى مشارق الرض ومغاربها ،وإن ملك أمتي سيبلغ
مبلغ ما ُزوي لي من الرض ،أي أن هذا السلم ل بد أن يلف الكرة الرضية
برمتها ،ذلك وعد غير مكذوب ،ومن شاء أن يغّر نفسه بمظاهر الطغيان
والباطل والفساد فله ذلك ،فأما نحن المسلمين فنحن نثق بموعود الله
وبموعود رسوله صلى الله عليه وسلم .وإذا ً فساحة الدعوة من حيث
المكان ظهر الرض جميعا ً .
)(6 /
ومن حيث الزمان فهي موغلة في الزال ،ضاربة في الباد ،أي أنه ما دام
لهذا الكون عمر فالدعوة قائمة ،وما دام المر كذلك فنحن نعالج أمرا ً
عظيما ً وكبيرا ً أكبر من ذواتنا وأخطر من عواطفنا ,أبعد مدىً من تحركاتنا
183
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
من هذه الدوافع النانية الصغيرة .وإذا ً فقاعدة الحركة ل تسخر لصالح
العاطفة التي تثور في قلبك وفي شعورك حينما تطارد أو حينما توجه إليك
إهانة ،لنك مطالب بموقف محدد سلفا ً من قبل الله ،لن الصبر الجميل
أمر وارد في القرآن مع أوائل ما نزل من القرآن ،من هذا الباب لول سورة
حينما ذكر الله تعالى رد ّ الفعل على المشركين على أول حديث ألقاه
الرسول عليه الصلة والسلم إلى المشركين داعيا ً إلى الله قال الله تعالى
بهذا السلوب التعجيبي ) أرأيت الذي ينهى ،عبدا ً إذا صلى ،أرأيت إن كان
ه
على الهدى ،أو أمر بالتقوى ،ألم يعلم بأن الله يرى ،كل لئن لم ينت ِ
لنسنفعن بالناصية ،ناصية كاذبة خاطئة ،فليدعُ ناديه ،سندعو الزبانيه ( عند
هذا الحد يكون الله تعالى عرض مشهدا ً لموقف الكافرين الرعن حينما رأوا
أن ما يدعو إليه محمد عليه الصلة والسلم شيء يخرج على عرف الباء
والجداد ،وإذا ً فهو شيء مستحق للنكار والرد والصد .
ثم تطور المر بعد إلى محاولت إلى الرد عن هذا الطريق فماذا كان الجواب
؟ كان الجواب أن الله تعالى تهدد وتوعد ) كل لئن لم ينتهِ ( هذا المخلوق عن
نهي عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن موالة الدعوة ) لنسفعن بالناصية
( أي ليسمن النار ناصيته وهي مقدمة رأسه وهي أشرف ما في النسان
) ناصية كاذبة خاطئة ( وهذا النسان المغرور الذي يتكثر على عبدنا ونبينا
محمد عليه السلم بالنصار والتباع ليدعً ناديه ) سندعو الزبانية ( فإن ملئكة
الله جل وعل حاضرين .
لكن المر لم يقف عند هذا الحد ،وهذه هي النقطة التي أريد أن أثيرها
الن ..موضوع الموقف ذو شقين ،هذا الشق الذي يتوله الله ،والشق
الخر الذي يجب على النسان أن يحمل أعباءه ،يقول الله تعالى ) كل ل
تطعه واسجد واقترب ( هذا في أول سورة نزلت من القرآن الكريم ،بعد أن
بّين الله تعالى أن الموقف بهذا الشكل وأن تولي الله نصرة دينه ونصرة
عباده المؤمنين أمر غير مشكوك فيه ،لكن يجب أن ل يغيب عن البال أن
هذه القاعدة لها جانبها البشري الذي إن ُأهمل أدى إلى كوارث رهيبة ) كل ل
تطعه واسجد واقترب ( فأراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون رد
الفعل عنده على رعونة المشركين والمارقين سجوده واقترابه من ربه ،أي
مداومته ومثابرته ومواصلته للطريق الذي أراده الله جل وعل مع التذرع
بالصبر الجميل والهجر الجميل .
بعد هذا لم يعد ضروريا ً أن تفصل المور بهذا الشكل في كل مكان ،في
سادس سورة وهي سورة المزمل يقول الله تعالى ) فذرني والمكذبين أولي
النعمة ومّهلهم قليل ً ( أي دعني ل تشغل نفسك بهم ..دعني مع هؤلء
المكذبين المتنعمين والمترفين الذين أنستهم أموالهم وشهواتهم أهوال الله
ل بالسابقين من المم ممن يرونهم رأي العين ،أو يرون جل وعل ،وما ح ّ
ً
بقاياهم وآثارهم ) ومّهلهم قليل ً ( أي اصبر وواصل أيضا .
وحينما تأتي السورة لتؤكد هذا المعنى ،ويقول الله تعالى ) والسماء
والطارق ،وما أدراك ما الطارق ،النجم الثاقب ( نأتي لنستشف المعنى
الذي نشد به آخر الية إلى أولها ،هذا التناسق العجيب والحكام الغريب من
ورائه قوة ومن ورائه قدرة ،قوة قادرة وقوة غلبة ) إن كل نفس لما عليها
حافظ ( هي القدرة التي تفعل كل شيء ) فلينظر النسان مما خلق ،خلق
من ماء دافق ،يخرج من بين الصلب والترائب ( إن القوة التي عرضت
نفسها في أوائل السورة هي التي أكرمتك وأعطتك هذه القيمة العالية من
بين كائنات الله تعالى ،بالرغم من هوان شأنك وتفاهة منشئك ) إنه على
184
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
رجعه لقادر ( هي القوة التي تعيدك بعد أن هرمت وبعد أن بليت ) يوم تبلى
السرائر ،فما له من قوة ول ناصر ( هناك تعاين القوة معاينة ول يبقى المر
خبرا ً ) والسماء ذات الرجع ،والرض ذات الصدع ( هذا المظهر الكوني
المنسق بهذا الشكل المقصود الهادف من ورائه القوة التي عرضت نفسها
في أول السورة ) إنه لقول فصل ،وما هو بالهزل ( إن القوة التي قالت هذا
الكلم هي التي ترفعه أيضا ً عن هزل ً كهزل الناس ) إنهم يكيدون كيدا ً ،وأكيد
كيدا ً ( هؤلء يكيدون وأنا أفعل ما أريد ) فمّهل الكافرين أمهلهم رويدا ً ( بعض
الناس فهم هذا الكلم فهما ً أعرج ،قلت لكم ل ضرورة لتكرير جميع جوانب
القضية في كل سورة وفي كل موضع .
)(7 /
الموقف البشري منظور إليه وملحوظ في الدعوة ،كوننا نمّهل الكافرين ،
وكون الله تعالى يمهلهم ول يهملهم ،ل يعني بتاتا ً أن نعفي أنفسنا من
مشقات العمل ،ل ،موقف السلم يتلخص بالختصار :أنت مخاطب بأوامر
ومخاطب بنواهي ،أي أنك مكلف بواجبات ،وظيفتك هي قيامك على هذه
الواجبات ،وقوف عند المر والنهي ،عمل لما هو مأمور ،كف عما هو منهي
عنه ،وبعد ذلك ل شيء عليك بحال من الحوال .فما تبقى فإن الله تعالى
هو الذي يتولى ،ويتوله بجهدك الموصول ،لكن حينما نرى بعض الناس
يكسر إحدى رجلي القضية ليرى أن الله سينصر دينه دون تدخل بشري على
طلوا الوامر والنواهي فإلى هؤلء نسوق الطلق ،وحتى لو أن الناس ع ّ
الخطاب ،إلى هؤلء نقول نحن نفهم أن يتحمس النسان ويتهم المتعقلين ،
نفهم هذا كل الفهم ،ونرى أن الحماس الزائد أخرج هذا النسان عن سواء
النظر ول شيء ،ولكن حينما يكون المر أمر اتكالية مقيتة وعجز عن
المواجهة إلى الحد الذي يصل إلى تعطيل المر والنهي فالمشكلة كبيرة
جدا ً ،بل مصيبة ول ُيسكت عنها أبدا ً ،المسألة خطيرة جدا ً وخطورتها تتأتى
من هذا التفلت المستمر والمتصاعد بين الناس ،قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالدعوة فجهر بها ،وكان قائدها ولم يتخفى ،ولم يخرج خارج
البلد ،ولم يقل إنني لم أقل كذا ،ولم يقل إنني لم أفعل كذا ،ولم يسكن
وراء الجدران ،ولم يتنصل من تبعات أفعاله ،طاف النبي عليه الصلة
والسلم يوما ً في الكعبة فتثاور إليه الناس من المشركين وأخذوا بمجمع
ردائه وقالوا له :أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ فقال :نعم أنا الذي أقول كذا
وكذا .وما زالوا به حتى كادوا يقتلونه ،وأمسك به أبو بكر يبكي ويقول :
أتقتلون رجل ً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات ؟ محمد صلى الله عليه
وسلم فعل هذا ،والمسلمون معه لم تمضي عليهم في الدعوة سنة إل كانوا
يزحمون طرقات مكة ويجاهرون بالدعوة إلى الله بين أبالسة الطغيان
والشرك ،متحملين في ذات الله كل العباء التي ألقاها عليهم ،مواجهين كل
التبعات التي تترتب على التحرك في اتجاه السلم .
ومضت الدعوة في طريقها متصاعدة ل يأتي ول تطلع شمس إل وهي تسجل
للمسلمين تقدما ً وانتصارا ً .وتسأل عن السبب فتجده بالخذ الحازم بأوامر
الله تعالى ونواهيه ،أي بالوقوف مع الواجبات التي ألقاها الله تعالى على
عاتق النسان المسلم .
ومضت ثلث وعشرون سنة تحقق فيها النتصار الكامل لدعوة الله تعالى ،
وحين كان عليه الصلة والسلم يحج بالمسلمين حجة الوداع نزل عليه من
185
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فوق سبع سماوات قول الله تعالى ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم السلم دينا ً ( .هذه قضية من بدهيات السيرة النبوية
كما هو معلوم ،ونسأل :دعوة السلم في هذا الزمان العجب تعمل وُترفع
في مشارق الرض ومغاربها ول أجهل قدرة وقوة الخصوم وأنا الذي اكتويت
بنار ذلك مرارا ً ،أعرف ذلك ولكن يجب أن يعلم كل مسلم أن السلم أقوى
من كل قوة ،وأن جيوش الرض جميعا ً لو اجتمعت على أن تكسر إرادته
ت من أشباه الرجال أو ربات الخدور فخير لك أن فلن تكسرها ،ولكن إن كن َ
ل تتقدم إلى هذا الميدان بإطلق بالمرة ،ذلك ليس مكانك ،وينبغي أن ل
تضع نفسك في غير مكانك .
إن دعوة السلم تطلق وترفع في كل مكان ومع ذلك فهي تسجل هزائم
وتراجع ،لماذا ؟ يجب أن يبحث عن العلة بصدق ورجولة وبشرف ،علة
العلل هي أننا غير صادقين في أخذنا بهذا السلم .نحن حينما نضع قضايا
السلم أمام أنظارنا وندعي أننا نعمل من أجله نتحرك ومع كل حركة
حسابان :حساب لله وحساب للدنيا ،حساب للسلم وحساب للذات ،
ودائما ً وأبدا ً حساب الذات أرجح وحساب الدنيا أوسع ،وهنا الخطأ .
)(8 /
إننا حين نسمع الله يقول ) كل ل تطعه واسجد واقترب ( ) وذرني والمكذبين
أولي النعمة ومّهلهم قليل ً ( وما قاله الله هنا يجب أن نعلم أن الله أراد منا
أن نأتي بالمطلوب منا وبالواجب علينا ،ودائما ً الواجب علينا محدود
ور حينما قامت دعوة السلم الطريق ،ومحسوب في علم الله تعالى ،تص ّ
وبثها عليه الصلة والسلم في جنبات مكة ،ألم يكن في إمكانه صلوات الله
عليه أن يستخدم العشائرية والقبلية وأعراف الجاهلية ؟ وإذا كنتم اليوم
ترون القبلية والعشائرية تمد عنقها وتؤثر تأثيرا ً بارزا ً في مجرى حياة الناس ،
فثقوا أن القبلية والعشائرية كانت تفعل هذا مضروبا ً وعشرات اللوف ،
كانت القبلية تستطيع أن تحسم المور ،لكن على كل حال ليس لصالح
السلم ،بل لتدعيم القبلية والعشائرية .وكان المسلمون يقفون متعجبين
مذهولين من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه العداء ،البلء
ينصب عليهم انصباب المطر ،والرسول عليه الصلة والسلم آخذ ٌ بحجزهم
وممسك بهم كي ل يفلتوا ويوصي بالصبر والثبات ول يسمح برفع اليد ول
يسمح برد الساءة ،والله تعالى وصف هذه الحالة العصيبة بأنها حالة
تستيئس معها حتى الرسل ،حينئذ يأتي أمر الله ويأتي بالنصر .
لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح بالعراك والقتال والمهاترة إذا ً
لضربت هذه النباتات من أول الطريق ،ولكن المسلمين كانوا يأخذون
بالعزائم عبادة وأخلقا ً وسلوكا ً وتطهيرا ً لمسالك الدراك والفهم ،ومع التقدم
تتنامى قواهم وتتصاعد قوى المشركين وهي دائما ً تمشي في خطين
متوازيين ،ولكن عموما ً تجد أن الشرك في مواجهة السلم يقف عاجزا ً
باستمرار ،لماذا ؟ لن المسلم ل يواجه الموقف الجديد إل بعد أن يكون قد
تسلح له بالسلح الملئم له القادر على أن يتغلب على مشقاته وعقباته .
طرحت في ميدان التعامل الواقعي نماذج المسلمين التي ُرّبيت وبهذا فحينما ُ
طرحت هذه النماذج في بدر وفي وصهرت على نار التجربة في مكة ..حينما ُ
أحد وفي سائر معارك السلم أثبتت جدارتها وثبت لنا وللناس قاطبة أن
الجيش المسلم كان ل يعد بضع ألوف ،وكان يقابل مئات اللوف فيتغلب
186
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عليه ويحطمها وينتصر عليها ..لي سبب ؟ هذا رجل وهذا رجل ..ولكن
المسألة في هذا الشوط الطويل الذي قطعه السلم وهو يبني هذه اللبنات
تربية وبناًء مؤسسين على أمر الله جل وعل معزولين عن كل العواطف التي
تثور في النسان حينما يتصدى له الخصوم .
وإذا ً ..فالله تعالى حينما يريد منا هذا يريد شيئا ً هينا ً وداخل ً في طوقنا
وإمكاننا ،قم بواجباتك وأدِ التكاليف عليك ،ل شك أنك ستغيظ ناسا ً ولكن ل
ض ،حينما تتصاعد هذه الموجة من الغضب في قلوب العداء تبالي ،ام ِ
ً
ت طورا أعلى وهكذا بغير انتهاء . المارقين عن أمر الله تكون أنت قد بلغ َ
والله تعالى قال ) لن يضروكم إل أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الدبار ثم ل
ُينصرون ( العداء حينما ُتربى المة بهذا الشكل الهادئ المنظم القائم على
أمر الله المؤسس على قواعد الحركة بل على قاعدة الحركة الولى لن يبلغ
العداء من المسلمين حد الضرار ،والضرار ماذا ؟ الضرار هو أن تضر حتى
تلتصق بالرض فل تستطيع أن تتحرك ،وأما الذى فل بد أن تسمعه ول بد أن
تلقيه ،فهذا شيء مفروغ ) لن يضروكم إل أذى ( ولكن حين يجد ) وإن
يقاتلوكم يولوكم الدبار ثم ل ينصرون ( ما أريد قوله باختصار ..نصيحة
صادقة من القلب للخوة جميعا ً ،عار علينا أن نخدع أنفسنا ،أما أن نخدع
الله فذلك شيء ل سبيل إليه ،عار علينا أن نخدع أنفسنا ،نحن محتاجون
إلى مزيد من الصدق مع الله ،محتاجون إلى مزيد من الوفاء لوامر الله
ونواهي الله جل وعل ،وبغير هذا فلو أن البواق زرعت على ظهر كل منزل ،
شقت حناجرهم من النداء فل نصر ول تقدم .إن للنصر ولو أن أهل الرض ُ
وللتقدم شروطا ً إذا أغفلت كانت الكارثة ،وإذا أعملت كان النصر بإذن الله ،
ونحن نرجو الله جل وعل أل يخزينا وإياكم وأن يشرح صدورنا بهذا النور
العظيم المبين ،نور السلم ،وأن يرشحنا وان يؤهلنا لحمل هذه الدعوة
ووراثة النبي صلوات الله عليه وخدمة هذه المة وصلى الله تعالى على
سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(9 /
187
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن هذه المة التي تعيش على هذا الكوكب والتي أكرمها الله بالسلم وزانها
وأعلى قدرها ونوه بذكرها بمحمد صلى الله عليه وسلم ،ترث أمرا ً عظيما ً ،
ترث مسؤولية الجنس البشري برمته ،وإنه يكون قدرا ً لزما ً أن تظل
النسانية كلها تخبط في بيداء التيه والضلل والحيرة والضياع إلى أن يأذن
الله لهذه المة أن تلتقط طرف الخيط لتسير مع هداية الله مبتغية خير
البشرية ،ومتى ؟ هنا موضع اللم ،إنه ل شيء مجهول ،فالسلم بحمد الله
واضح ،خاطب الناس يوم كان الناس يقرون على أنفسهم بالجهل والعجز
دل من فأفاد منه الناس وفهموه ،كان للعقول نور وكان للخلق زكاة ،وع ّ
جبك من هذا الزمان أن الناس بعد أن مسار البشرية تعديل ً جوهريا ً .والذي ي ُعَ ّ
اتسعت معارفهم وارتقت مداركهم واستبحرت تجاربهم ما يزالون بعداء جدا ً
عن الطريق ،لماذا ؟ أهذا الكلم الذي فهمته العرب يوم كانت على جاهليتها
جز الناس أن يفهموه اليوم بعد أن انتشرت هذه العلوم ؟ ل ،وآية ذلك أنك ُيع ِ
تقرأ الجملة من آيات القرآن على النسان المي الذي ل يقرأ ول يكتب
فينفعل معها ويتحرك لها ويفهم عنك ،ثم إذا قلت له يا أخا السلم انهض
وتحرك ،ربطته أثقال الشهوات إلى الرض فأحس أنه ل يستطيع أن يستقل
على قدميه ،إنها الشهوات إذا ً ،إنه العمى أو إنه أخطر من العمى ،إنه
الضيعة وراء ضللة قريبة يمكن للنسان بعزمة صغيرة أن يقضي عليها وأن
يتجاوزها .
َ
كلما وقفت أحدثكم شعرت بألم ،أَلم الذي يدري كل شيء ،ألم الذي يتمثل
بقول القائل في الخرافة المشهورة ) في فمي ماء وهل ينطق من في فيه
ماء ( أعرف كل شيء ،وليس المصيبة أننا نحاول فنخطئ فتلك سنة
الحياة ،لكن المصيبة أننا نحاول ونعرف أننا سنخطئ ،تلك مصيبة ضخمة ،
تحتاج منا إلى أشياء كثيرة .
وح أمام أنظار المة بصورة َ
هدفنا كله من استعراض بواكير الدعوة أن ن ُل ّ
ت ،ل نقول نريد ح ْ َ
الحركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم فنجح وأفل َ
أن ننقل تلك التجربة بحذافيرها وبحروفها بالحجم التي كانت به إلى هذا
الزمان عبر القرون المتطاولة ،ل ،لكن من فضل الله على المة وعلى
النسانية التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم هي جملة قواعد يمكن أن
توضع موضع التنفيذ والتطبيق في أية بيئة ،وفي أي زمان ،ومهما يكن
المستوى العلمي والثقافي ومهما تكن درجة الحضارة التي توضع في قواعد
السلم موضع التطبيق فتنجح وتثمر وتؤتي أكلها .
إننا نواجه اليوم سورة صغيرة ،وجيزة اللفاظ ،قصيرة الفواصل ،يقرأها
القارئ فتخف على لسانه ،فيسمعها فل تؤود سمعه ،ولكنها في الميزان
عظيمة ،إنها سورة العصر ،يقول الله تعالى ) والعصر ،إن النسان لفي
خسر ،إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (
إنها قصيرة ،لكن أمتنا يوم كانت أمة ،ولكن رجال السلم يوم كانوا رجال ً ،
يوم كانوا يقدرون لهذه السورة قدرها ويعطون مكانتها حقها ،كان المام
ح عنه :لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم .أي الشافعي يقول فيما ص ّ
لكفتهم ولغنتهم عن سائر القرآن .وكان الرجلن من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم يلتقيان إذا التقيا فيسلم أحدهم على صاحبه ول يفارقه حتى
يقرأ أحدهما على الخر هذه السورة ،كالتذكرة والتنبيه على الواجب
المترتب على النسان المسلم وعلى المة المسلمة .وهذا كله يكشف لنا
عن درجة التقدير التي حظيت بها هذه السورة ذات اليات القلئل والفواصل
القصيرة ،لكن المثقلة بالمعاني ،الحبلى بالقضايا الخطيرة .هذه السورة
188
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لها جوها الخاص ،ومن الظلم لها أن نتحدث عنها معزولة عن جوها الخاص ،
ل بد أن نعود إلى الوراء .
)(1 /
سبق أن قلنا ونحن نستعرض سورة الفجر وما قبلها بقليل إن ملمح الطريق
التي تتجه نحوها حركة السلم بدأت تتضح ،إنه يطرح على بساط البحث
عدد من الخيارات حينما تقوم حركة ما تجد نفسها أمام عدد من الطرق
يمكن أن تسلك هذا أو هذا أو ذاك ،والنسانية تعرف وعرفت من قبل
وتجرب في كل يوم جديدا ً من هذه التجارب ،عرفت ما سبق من قبل أن
ل كبيرة مرت في هذه الدنيا ومضت كانت تتلمس الحق وتجهد ُألهمت عقو ٌ
من أجل الوصول إليه ،وقد توفق إلى بعض منه وقد ل توفق ،ليس هذا
مهما ً ،لكنها عقليات وتيارات فكرية ومذاهب فلسفية ونماذج وأنماط
سياسية أو اجتماعية يتخيلها المتخيلون ممن أعفوا أنفسهم من مشقات
الكفاح والكدح والمعاناة والصبر والمصابرة ،فكانت كلمات ضائعة في الهواء
،ليس لها رجع على أرض الواقع ول أثر ،ذلك ما يعرف في التاريخ النساني
بالمدارس والمذاهب الفلسفية ،وكانت أيضا ً مع هذا وبعد تجارب النبوات
السابقة دروسا ً غنية بالمواعظ تشير إلى مواطن الداء وتصف الدواء وتشير
إلى أسباب النهوض بالمم وتصف السباب التي أدت إلى النتكاس وعجز
المم عن مجاراة الفاق العالية التي كانت تتخاطب معها النبوات السابقة .
وجاء السلم فتحا ً جديدا ً وكلما ً معجزا ً ولكن معه أيضا ً نبوة معجزة ،وكان
من أول شيء هدي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حياة النسانية
ليس كلما ً يقال ولكنه معاناة تعاش ،وليس تصورات يتخيلها الذهن ولكنه
ي موصول ،وأما ما وقع في أذهان الذين مضوا من قبل وما يقع م ٌ
مجهود ٌ ي َوْ ِ
في أذهان الناس تحت ضغوط متباينة ومتعددة من أن الفصل بين المعرفة
وبين العمل ،بين العلم والممارسة اليومية شيء ل ينبغي أن ينزل في
قاموس السلم ،إن العلم والعمل قرينان ،بل إن العمل هو المقصود
لذاته ،والعلم مصباح ودليل وإشارة يكشف لك جنبات الطريق كي ل تضل
ول تضيع ،وهذا التفاعل المستمر والخذ والعطاء بين والعلم والعمل هو
قوام هذه العملية التي تستهدف اجتماعيا ً إغناء التجربة النسانية ورفع الواقع
النساني من مستوى الحيوانية التي تدنت إليه هذه البشرية في سلسلة
النحدار المتسارعة يوما ً بعد يوم .
ولكن هل هذه البداية تكفي ؟ قلنا إن الحركة السلمية كان أمامها عدة
خيارات ،كان يمكن أن تسلك هذا الطريق أو ذاك ،ولكنها حركة قيدت من
أول يوم بيد الله سبحانه وتعالى ،وكان الوحي حارسها الذي ل ينام ورقيبها
الذي ل يغفل ،كل خطوة مسددة بأمر الله تعالى .كان يمكن أن يصرخ
محمد صلى الله عليه وسلم في العراء لكي يخرجوا من تلك الحالة الزرية
التي كانوا فيها قبل السلم ،ما معنى أن يكون آلف الناس ضائعين في هذه
الصحراء المؤلمة ؟ ما معنى أن تكون أمة برمتها ذات تجارب وأبناؤها
أصحاب عقول وأرباب حساسيات ومشاعر عالية ؟ ما معنى أن تسخر هذه
القوى وأن تجمد هذه المواهب والطاقات لتوضع في خدمة فارس أو توضع
في خدمة الروم ؟ وإلى متى يظل العرب في بيدائهم وفي صحرائهم أجراء
لدى فارس والروم ولدى القوياء من أمم الرض ؟ كان يمكن أن يصرخ
محمد عليه الصلة والسلم بهذا النداء أن يا أمة العرب توحدي ،وأن يا أمة
189
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
العرب عزي بعد ذل ،وارتفعي بعد هبوط ،وسودي بعد هوان .وممكن والله
أعلم أن تستجيب له بعض القلوب والعقول ،ولكن لم يكن يخطط لشيء
من هذا القبيل .
قلنا من قبل إن النسانية بلغت في نضجها الحد الذي أصبح جديرا ً بها أن
تأخذ زمام مصيرها بين يديه ،وأن هذا الوحي الذي جاء به محمد صلوات الله
عليه آخر شيء تسمعه الرض من السماء وبعد الن فعلى النسان أن يعتمد
على نفسه ،وعلى البشرية أن تحسن الفادة من هذا الوحي الكريم ،
والسلم جاء بهذه المفادة ..رسالة ليس فقط لهذه المة التائهة الضائعة
وإنما للناس كافة ) قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ً الذي له
ملك السماوات والرض ( وصدق رسول الله عليه الصلة والسلم إذ يقول له
ويشير إلى ما فرق الله به بينه وبين النبياء السابقين إذ كان النبي يبعث إلى
قومه وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .
)(2 /
لكن ،هنا يبرز سؤال :أليس من الجائز كأحد من الخيارات المطروحة أمام
الدعوة أن نعتبر أن هذه الرسالة للناس عامة ،ل بأس ،ولكن ما الذي يمنع
أن تكون هذه المة التي جاء السلم ونزل القرآن على رجل منها وكان
الوحي بلسانها ولغتها وخوطبت قبل الناس كافة بهذا الخطاب ،ما الذي يمنع
أن تتولى هذه المة قيادة البشرية جميعا ً وأن تكون لها الريادة بالنسبة إلى
الحضارة النسانية عامة ؟ وإذا رجعنا إلى مقررات السلم ولكي ُيعَرف أن
هذا السلم يقاد بالوحي يتبين للدارسين أن هذه الخطوات الولى تتنافى مع
النهايات التي انتهى إليها ،لكي يتبين هذا ،علينا أن نعرف أن السلم حين
نظر إلى الواقع البشري وضع أصبعه على مرض خطير وداء فتاك يعذب
البشرية ويقلقها بالفناء والدمار ،هو هذا التمايز ،التمايز بين أبناء المة
الواحدة مرفوض في نظر السلم ومدان ،وهو أيضا ً بين المم مرفوض ،
كيف ل تقبل أنت أن يكون أخوك ابن أمك وأبيك متميزا ً عليك ،كذلك أنت ل
تقبل أن يكون ابن بلدك متميزا ً عليك ،إل بما مّيز الله وبما فضل ،وكذلك
أنت ل تقبل أن يكون ابن وطنك متميزا ً ،وكذلك غير مقبول في الساحة
السلمية أن يتمايز الناس بعضهم على بعض وأن تعلو المم بعضها على
بعض.
إن السلم يغلق الباب نهائيا ً ومن أول الطريق في وجه هذا النازع الخبيث أن
ة
تكون أمة هي أربى من أمة ،أن يستعلي فريق على فريق ،أن تستذل أم ٌ
ة أخرى ،فالنبي عليه الصلة والسلم ل يمكن في أية صورة أن يأخذ هذا أم ً
الطريق .هذا شيء يجب أن ُيعرف .
عرفنا السلم بغاياته العليا بأهدافه البعيدة ،ما هي الخطوات التي يجب أن
نتبعها ؟ كذلك هنا خيارات متعددة ،ولكي يعرف إخواننا وأخص منهم
المثقفين ثقافة عصرية أن الخيارات كثيرة ،ألفت نظرهم إلى الساحة
المعاصرة ،كم من الساليب والطرق موجودة بين يدي الناس ،إن الفقه
السياسي اليوم وإن علم الجتماع المعاصر ليزخران بالطرائق والساليب
التي يخطط بها الناس للوصول إلى الهداف والغايات التي يريدونها ،لكن
أمامنا طريقين واضحين ،سوف أشير إليهما مجرد إشارة فقط لكشف
للناظرين عمق التباين بين وجهة نظر السلم ووجهة نظر الناس .
عندنا طريق معروف ،في التراث الشرقي في الهند وما واله ،وهذا
190
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الطريق تمّثل على أكمل ما يكون في سلوك غاندي ،هذا الرجل رأى أنه ل
ضرورة للعنف ول داعي لستعمال السلح ،ورأى كذلك أن المسألة هذه
ليست مسألة مرحلية وإنما هي مسألة مبدئية ونهائية ،وكان سلوك الرجل
إقرارا ً بالحقيقة واعترافا ً بالواقع ،كان سلوك الرجل متطابقا ً على أعلى ما
يكون مع ما يؤمن به ،لقد قارع الستعمار النكليزي في بلده كما قارع
الستعمار في جنوب أفريقيا يوم كان محاميا ً هناك بهذه الروح وبهذه
العقلية ،لقد أفلح في أن يهز دعائم المبراطورية البريطانية يوم كانت أقوى
طرد النكليز من الهند ،وبالفعلإمبراطورية عدوانية على وجه الرض ،و ُ
يعود ذلك إلى هذا السلوك الفذ الذي سلكه غاندي وسار عليه ،ولكن ذهب
هو ضحيته على يد شاب مجهول أرعن أطلق عليه النار وهو يصرخ بدعوة
السلم .
هذا خيار من الخيارات المعاصرة كانت المدارس الماركسية الرد المقابل
له ،وطرحت شعارا ً هو في ظاهره صحيح ولكن قيادته حتى النهاية مشكلة
ومستحيلة ،إن الثورة لكي تكون ناجحة يجب أن تكون ثورة مسلحة لسقاط
السلطة المسلحة ،تلك موضوعة ل شك أنها صادقة حينما ننظر إليها نظرة
أولية ،وكل المرين كان يمكن أن ُيسلك في ذلك الزمان حينما اتجه محمد
عليه الصلة والسلم بالدعوة إلى الناس ،كان يمكن أن يسلك طريق السلم
باعتباره مبدأ ً ل يجوز الخلل به ،وكان ممكنا ً أن يسلك سبيل العنف وكان
قادرا ً على ذلك ،كان سبيل العنف أقرب السبل وأدعاها إلى أن يفلح وأن
يؤتي ُأكله حينما ننظر إلى المسألة بمناهج قريبة ومبسطة إلى حد البتذال
والسفاف ،يمكن ذلك ،ما زلنا حتى اليوم وفي القبائل العربية في الرياف
وفي البادية أنه حينما يحصل اعتداء على فرد من أفراد القبيلة فإن كل
أقاربه يثورون من أجله ويدافعون عنه دون أن يسألوا أنفسهم لماذا هم
يحملون السلح ولماذا يريقون الدماء ؟ وكما كان الشاعر العربي في القديم
يقول مادحا ً قومه :
ل يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهان
)(3 /
كان يمكن أن يتحّرش محمد صلى الله عليه وسلم بقبائل قريش ول سيما
بعد أن دخل في دين الله أناس من قبائل متعددة كان يمكن أن يوعز إلى
أتباعه بأن يسلكوا طريق العنف ،ويكفي أن يقع قتيل أو قتيلن في مكة لكي
تتقاتل الحياء مع بعضها ،ولكي تقع الدماء أنهارا ً ،ولكن تكون في النهاية
فتنة عمياء .أذلك كان يمكن أن يأخذ به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ل ،
لماذا ؟ السلم غريبة مفاهيمه في هذه اليام لن قعقعة الدعاوي الحديثة
بالمناهج والنظم المستحدثة أوقرت السماع فلم تعد تسمع إل قعقعة السلح
،والعصر الحاضر طرح على البشرية مشكلة من أخطر المشاكل وهي
مشكلة هوان النسان .
إن النسان الثوري يتحدث عن الدماء والقتل وعن السفك وعن العنف بلذاذة
وبنشوة دونها نشوة الخمر حين تلعب برؤوس الشاربين ،فمن أجل ذلك
حينما نتحدث عن مناهج السلم وقواعده في العمل وفي التطبيق نجد هذه
الغربة ونحس في نفوسنا هذا اللم العميق .
إن السلم يوم أن نظر أيها الحباب إلى موضوع المستقبل النساني نظر
إليه متسلحا ً بشعور ل ينطفئ بضخامة المانة التي بين يديه ،إن مستقبل ً
191
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ممتدا ً في الزمان والمكان ينتظر الناس ،وإن أي خلل في البناء يوشك أن
يقع البناء على رأس البناة وساكني البناء ،فمن أجل ذلك كان السلم دقيقا ً
منذ البداية في وضع لبناته الولى ،وأخذ النفس النسانية من مقادها الصحيح
.إننا نجد في العنف والقهر والسلطان ول سيما في الزمان الذي وضع أيدي
الدولة حوله حول ً وطول ً ما عرفناها من قبل وسخر لها إمكانات العلم وهي
إمكانات مخيفة ،وأمكنها من أن تتغفل الشعوب وتقودهم في طرق ل تريدها
ول تحبها ،في هذه اليام نعرف إلى أية درجة كان السلم حكيما ً ،يمكن
تحت قهر السلطة وقوة السلح أن نبني المم وأن نشيد البناء ونعليه ولكن
ذر الفناء ومقدمات الموت عوامل السوس والدمار موجودة ،وهي ن ُ ُ
موجودة ،إن إمكانية النقضاض على السلطة والثورة في وجه السلطة
قائمة ،والفكر السياسي المعاصر الذي يعرفه الشباب المثقفون اليوم أن
السلطة مهما تتمتع به من طرق ورفعة وتجرد في الغاية فإنه مع الزمن
يصيبها بما ُيعرف في الفقه السياسي بتسلم السلطة كيف يدخل تسلم
السلطة إلى الجسم فيقتله ويميته ،كذلك السلطة حينما تجد أنها تملك
القدرة على كل شيء تصاب بالستئثار الذي يجعلها تحتقر الشعب ول تلقي
له بال ً ،ترى أنه مجموعة من الوباش والمغفلين والتافهين والمجانين وأنه
سلعة رخيصة يمكن أن تشتريها بدريهمات معدودة ثم تسوقها سوق النعام
كما يسوق الراعي بعصاه ،بل كيف يوضع فحل الغنم مربوطا ً إلى ذيل حمار
فيقود الغنم كلها ،كذلك يمكن للسلطة أن تفعل ،يتصورون هذا ،إل أنه نجد
عَبر التاريخ الصارخة جميعا ً تكشف عن ثمة نقطة هي أن حوادث التاريخ ِ ،
نقطة النفجار ،ل يمكن أن تساس النسانية بالقهر ،ل يمكن أن تصبر
النسانية على الغلبة بحال من الحوال ،وتتحطم السلطة ولكن متى ؟ بعد
أن تكون قد دمرت كل شيء وأفسدت كل شيء .ما هي الضمانة التي بحث
ة أولى في عنها السلم والتي وجدها السلم والتي وضعها السلم كان كلم ً
نهجه البنائي ؟ هي النفس النسانية ،ضمانتنا من أجل سلمة البناء في
المستقبل البعيد والقريب على حد ٍ سواء أن يستقيم النسان على طريق الله
تبارك وتعالى وأن يرّبى النسان هذه التربية التي تجعله قادرا ً على أن يرى
وأن يعتنق الحق وأن يقف مع الحق وأن يضحي من أجل الحق وهذه تكاليف
ل يستهين بها أحد من الناس .
فمن أجل ذلك رأينا في السيرة التي قطعناها من قبل ،أن السلم أضرب
عن هذا الطريق ،ولكنه حين أضرب عن طريق العنف وإثارة الفتن والبؤر
الثورية فإنما أضرب عنها نزول ً عند قاعدة أصيلة من قواعده في البناء ،
وإنما أضرب عنها من أجل قاعدةٍ أخرى تربوية ،إنما ونحن نبني ونحن نسير
ماذا ندري ؟ ندري في المراحل الولى أن نعد ذلك الصنف من الرجال الذي
يستحق أن يوصف بأنه أمين على مستقبل النسان ،نحن نعد ذلك الصنف
من الناس الذي نثق أنه أمين على حقائق الوحي ،لقد رأينا من قبل في
تجارب النبوات السابقة أن الكهنة والحبار والرهبان خانوا مبادئ السماء
حّرفوا كلم الله واشتروا به ثمنا ً قليل ً فبئس ما يشترون ،ونحن نرى أن فَ َ
خدع الناس خدع الناس بظواهرهم و ُ مقاليد السلطة وضعت في أيدي رجال ُ
بما يبدو من لين قولهم ومعسول كلمهم حتى إذا ملكوا كل شيء طرحوا
عن ظهورهم جلد الضأن ليلبسوا جلود الذئاب ،كل ذلك كان ،ما الذي يفتقر
إليه هذا الصنف من الناس؟ هذه التربية الرائعة البليغة التي سلكها محمد
صلى الله عليه وسلم ،كان عمله عليه الصلة والسلم يتواكب ،حين كان
ذب النفس البشرية ،كان يبني المجتمع السلمي . يه ّ
192
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
قلت قبل اليوم كان من جملة ما يمكن أن يفكر به رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما ل يزيد عن ذهن أحد أن يشكل حزبا ً ،اسخروا ما شئتم أن
تسخروا ،ما الذي يأتي بخاطر الحزب في ذلك الزمان ؟ لكنه كان واردا ً ،
ولكن المسألة ل تحلها الحزاب ،إنها حينما نتصور تصورا ً من هذا النوع
فسوف ننتهي إلى نتائج راهنة نحن في غنى عن الفاضة في شرحها ولكن
نشير إلى أن الحزب قانونه الساسي الذي يتحكم به هم القلة ،فالحزب في
كل أمة قلة في وسط كثرة ،الحزب الشيوعي في روسيا في عام 1917
حينما نجحت الثورة الروسية كان يعد مائتي ألف إنسان منظم ملتزم بالحزب
وسط مائة وخمسين مليون من الناس ،فهو قلة قليلة ،وهذا شأن كل حزب
.حينما تتوفر ظروف الحكم ،ودعونا من التفسير المادي والحتميات التي ل
معنى لها والكلم الفارغ الذي تفلسف به هذه المور ،دعونا مع الواقع ،إن
فرصا ً تعرض أثناء مسيرة المجتمع ينتهزها بعض الذكياء فيقفزون على
السلطة في غفلة عن الخرين ،وحينما يضعون مفاتيح السلطة في أيديهم
يفعلون ما يحلو لهم عند هذه النقطة تبدأ المشاكل إلى أن يكون الستيلء
على السلطة فالمر طبيعي ،ولكن المور تكون غير طبيعية والمشاكل تبدأ
عند هذه النقطة .إن الحزب يعاني دائما ً هذا الشعور الناتج عن إحساسه بأنه
قلة في وسط كثرةٍ تعاديه ،ماذا يفعل ؟ إنه مضطر للمحافظة على ذاته
والمحافظة على بقائه ،تلك غريزة المحافظة على الحياة والبقاء ،غريزةٌ
مشروعة وحيوية يحس بها حتى حيوان الميبيا ذي الخلية الواحدة حينما
تحرضه يستجيب للتحريض دفاعا ً عن نفسه .
)(5 /
فغريزة حفظ الذات تجعل الحزب حريصا ً بل حساسا ً غاية الحساسية في
هذه القضية إنه محتاج إلى أن يحافظ على بقائه ،إنه حين يفّرط في بقائه
ينتحر ويموت ،فهو إذا ً بحاجةٍ إلى البقاء .ماذا يفعل القليل بين الكثير ،
ليفرق ويمزق ويضرب صفوف الناس بعضها ببعض كي يوقع الناس في خبا ٍ
حتى يتبين خطوات أخرى ،يركز بها نفسه أكثر .وهكذا دوامة ل أفظع منها
ول أبشع منها ول أخطر منها .كل الكرة الرضية الن تعاني من هذه الزمة
وهي موجودة بحمد الله يعرفها القاصي كما يعرفها الداني ويعرفها المثقف
كما يعرفها قليل الثقافة .فالسلم لم يكن أمامه سبيل كي يختار هذا
الخيار ،إطلقا ً ،لن المسألة حينئذ تتصادم مع جلة المعطيات التي جاء بها
السلم ،كل معاني الخوة والمساواة والعدالة تذهب هباء حينما تكون
القضية قضية دفاع عن الذات ،قضية محافظة على البقاء ،قضية حياة أو
موت ،فأنا مضطر إلى أن أعطيك وأشتري ولءك ،وأنا مضطر إلى أن
أجاملك وأغضي عن سيئاتك ،وأنا مضطر إلى أن أتحمل منك ما يحتمل وما
ل يحتمل .وتاريخنا السلمي بالذات في مراحله البعيدة مليئ بالشواهد على
هذا ،لقد وجدنا في تاريخنا عددا ً من الخلفاء يكسرون قواعد السلم
ليشتروا النصار والعوان ليسكتوا أفواه الخصوم .هذا شيء طبيعي فهل
كان السلم يستطيع فعل شيء كهذا ؟ ل ،إذا ً ماذا ؟ هنا السؤال ،السؤال
الذي حارت النسانية فيه فعل ً منذ كانت النسانية ،وجاءت النبوات جميعا ً
لتتمخض عن هذه التجربة العالية التي جاء السلم ليدعم بناءها ويشيد
193
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
194