You are on page 1of 194

‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.

com‬‬

‫تم تحميل هذا الكتاب‬


‫من مكتبة موقع‬
‫"بّلغوا عّني ولو آية"‬
‫رسالتنا‪ :‬يصل الكثير من الناس بعض الرسائل اللكترونية عن السلم ويقومون‬
‫صصنا هذه‬‫بحذفها أو تجاهلها بحجة أنها طويلة ويثقل عليهم قراءتها‪ .‬لذلك خ ّ‬
‫الصفحة للشتراك في عظة يومية قصيرة أو حديث شريف أو آية تصل إلى بريد‬
‫المشترك بحيث لن يصعب قرائتها والستفادة منها راجيا من المولى عز وجل‬
‫الجر والثواب‪ .‬مثال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬بلّـغوا عنّـي ولو‬
‫‪".‬آية‬

‫للشتراك في هذه الخدمة الرجاء زيارة موقعنا "بلّـغوا عنّـي ولو آية" في السفل‬
‫‪ :‬وتسجيل البريد اللكتروني‬
‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ :‬أو عن طريق إرسال رسالة ولو فارغة إلى‬


‫‪subscribe@balligho.com‬‬

‫‪.‬ويمكنكم أيضا أن تتصفحوا الرشيف بالحاديث المرسلة مسبقًا‬

‫ن في السلم سنة حسنة‪ ،‬فعمل بها‬ ‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من س ّ‬
‫بعده‪ ،‬كتب له مثل أجر من عمل بها‪ .‬ول ينقص من أجورهم شيء‪ ...‬الحديث‪.‬‬
‫فاحرصوا يرحمكم ال على نشرها فكل من يزور الموقع ويستفيد منه عن طريقك‬
‫تكسب من الجر الكثير وإن قام بدوره بالعمل بها ونشرها أيضا فكلنا نكسب أمثل‬
‫‪.‬أجورهم ول ينقص من الجر شيئا‬

‫والسّنة‬
‫ب َ‬
‫دة إلى الك َِتا ِ‬ ‫و َ‬‫ع ْ‬
‫منهاجنا‪َ :‬‬
‫مة‬ ‫ف ال ُ‬‫سل َ ِ‬ ‫بِ َ‬
‫ّ‬ ‫هم ِ َ‬‫ف ْ‬

‫‪1‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ةة ةةةةة ةةة ةةةةةة ةةةة ةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة‬


‫)ةةةة ةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة ةةة‬
‫ةةةةةةةة(‬

‫الكتاب ‪ :‬موسوعة البحوث والمقالت العلمية‬


‫جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة‬
‫حوالي خمسة آلف وتسعمائة مقال وبحث‬
‫علي بن نايف الشحود‬

‫أما إن أعلن السلطان معارضته للشرع‪ ،‬وتصديه لما أنزل الله‪ ،‬ويرى أن فيما‬
‫يحكم به صلح المة‪ ،‬وأن ما حكمت به المة في صدر السلم‪ ،‬وما بعده ل‬
‫يتوافق مع واقع المة في هذا العصر‪ ،‬في شؤونها الجتماعية والقتصادية‬
‫والسياسية‪ ،‬ولسيما السياسية الدولية‪ ،‬فإن مثل هذا كافر كفرا ً صريحًا‪ ،‬لن‬
‫من يزعم أن ما أنزل الله تعالى كتابا ً وسنة ل يصلح لكل زمان ومكان‪ ،‬قد‬
‫أنكر صريحا ً من الدين فيه برهان من الله ورسوله‪ ،‬فالقرآن كتاب الله تعالى‬
‫الخالد هدية للمة‪ ،‬المبين لها شؤون حياتها حتى تقوم الساعة‪ ،‬ل تستقيم‬
‫حياة المة في أي طور من أطوارها‪ ،‬وأي مناخ من مناخاتها إل بهديه‪ ،‬ومن‬
‫لم يؤمن بذلك‪ ،‬فقد كفر كفرا ً مخرجا ً من الملة لنه يعتقد بهذا أن الله عاجز‬
‫عن أن ينزل ما فيه صلح المة حتى قيام الساعة‪ ،‬أو يعتقد أن المة‪ ،‬بحاجة‬
‫إلى كتاب ونبي جديد يتناغم ـ في زعمه ـ مع واقع الحياة المعاصرة أو أن‬
‫الله عجز عن علم ما فيه صلح المة بعد خمسة عشر قرنا ً من نزول القرآن‪،‬‬
‫فلم يودع فيه ما يهدي إلى صلحها من بعد‪ ،‬وكل ذلك ل يتوقف عاقل في‬
‫القول‪ ،‬بأن قائله فيه من الله برهان قاطع‪ ،‬بأنه كافر كفرا ً مخرجا ً من الملة‪.‬‬
‫م لَ‬
‫م ثُ ّ‬
‫جَر ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ما َ‬
‫ش َ‬ ‫ك ِفي َ‬‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬
‫ى يُ َ‬ ‫حت ّ َ‬ ‫ن َ‬‫مُنو َ‬ ‫ك ل َ ي ُؤْ ِ‬ ‫قال عز وجل‪ ? :‬فَل َ وََرب ّ َ‬
‫سِليمًا? ]النساء ‪. [ 65‬‬ ‫موا ْ ت َ ْ‬‫سل ّ ُ‬‫ت وَي ُ َ‬ ‫ما قَ َ‬
‫ضي ْ َ‬ ‫حَرجا ً ّ‬
‫م ّ‬ ‫م َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫دوا ْ ِفي َأن ُ‬
‫ف ِ‬ ‫ج ُ‬
‫يَ ِ‬
‫فإذا ما ثبت كفر السلطان كفرا ً مخرجا ً من الملة‪ ،‬فقد وجب على المة‬
‫الخروج عليه ونزع يد الطاعة منه وعزله‪ ،‬ولو كان عزل ً بالسيف‪ ،‬فإذا كان ل‬
‫بد من السيف فهو فريضة‪ ،‬لنه ليس في المة أنكى وأنكر من أن يكون‬
‫سلطانها كافرا ً بدينها وليس لكافر على مسلم ولية‪.‬‬
‫وتلك هي الحالة التي أبيح فيها للمة بل فرض عليها الخروج على السلطان‬
‫وعزله وإن كان بالسيف‪ :‬حالة كون لسلطان كافرا ً كفرا ً صراحًا‪.‬‬
‫عن جنادة بن أمية قال‪) :‬دخلنا على عبادة بن الصامت‪ ،‬وهو مريض فقلنا‪:‬‬
‫حدثنا ‪-‬أصلحك الله ‪ -‬بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله ‪-‬صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ، -‬فقال‪) :‬دعانا رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فبايعناه‪،‬‬
‫فكان فيما أخذه علينا‪ ،‬أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا‪،‬‬
‫وعسرنا‪ ،‬ويسرنا‪ ،‬وأثره علينا‪ ،‬وأن ل ننازع المر أهله‪ ،‬قال‪" :‬إل أن تروا كفرا ً‬
‫بواحا ً عندكم من الله فيه برهان")‪.(9‬‬
‫إذا ً فالسلم يدعو إلى الحفاظ على وحدة المة السلمية خلف ولي أمرها‬
‫وإن كان عاصيا ً وعلى المة أن تؤدي للوالي حقه عليها وتسأل الله تعالى‬
‫الذي لها وتصبر حتى تلقى‬

‫‪2‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬على الحوض‪ ،‬وإن ضرب المام الظهر‪،‬‬
‫وأخذ المال‪ ،‬إل أن يأمر الوالي بمعصية‪ ،‬أو ينهى عن طاعة عن علم‪ ،‬أو يأتي‬
‫من القوال والفعال ما هو كفر صراح فيه من الله برهان‪ ،‬كنزع إقامة صلة‬
‫أو امتناع عن الحكم بما أنزل الله‪ ،‬على نحو ما ذكرنا‪ ،‬أو مناصرة غير‬
‫المسلمين وتنفيذ مخططاتهم في إذلل المة‪ ،‬والرجاف في قومه بأن أمور‬
‫العالم من حولها وتصريفها إنما هي في يد دولة ما‪ ،‬غير مسلمة‪ ،‬لبث روح‬
‫اليأس في قومه فيرتعوا لعدائها‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫تلك الفاعيل الماحقة لوجود المة المسلمة والعزة والمنعة فمثل ذلك ل يسع‬
‫المة قط الصبر عليه‪ ،‬بل يجب عليها فريضة عين أن تنزع يد الطاعة منه‪،‬‬
‫وأن تخلع بيعته‪ ،‬وإن تولى على المسلمين غيره منهم يقودهم بكتاب الله‬
‫وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن لم يكن لها سبيل إلى تحقيق هذا‬
‫إل السيف‪ ،‬فإن السيف أهون من الحياة تحت ولية مثل هذا السلطان وإن‬
‫السيف حينذاك هو العدل الذي ل تقوم الحياة المسلمة إل به‪.‬‬
‫وإذا كان هدي السلم فيما دون كفر المام هو الصبر والسمع فيما ل معصية‬
‫لله تعالى فيه‪ ،‬فإن من هديه أيضا ً السعي بالحسنى إلى تغييره واستبداله‬
‫بإمام صالح ‪ ،‬إذا كان إلى ذلك سبيل حسن‪ ،‬ل يراق فيه دماء‪.‬‬
‫وعل علماء المة بيان ذلك السبيل الحسن‪ ،‬والدعوة إليه ومناصرته بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة‪.‬‬
‫فاصل القول‪:‬‬
‫إذا كان جليا ً أن تغيير المنكر إنما هو لدرء المفاسد‪ ،‬فإذا ما تيقن المسلم‪ ،‬أو‬
‫غلب على ظنه الراشد‪ ،‬أن تغييره منكرا ً سوف يوقعه في منكر أعظم وأعم‬
‫فجمهور العلماء يذهبون إلى ترك تغيير ذلك المنكر دفعا ً لوقوع ما هو أشد‬
‫منه وفي هذا يقول العلمة ابن القيم‪) :‬إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو‬
‫أنكر منه‪ ،‬وأبغض إلى الله ورسوله فإنه ل يسوغ إنكاره‪ ،‬وإن كان الله يبغضه‬
‫ويمقت أهله‪ ،‬وهذا كالنكار على الملوك والولة بالخروج عليهم‪ ،‬فإنه أساس‬
‫كل شر وفتنة إلى آخر الدهر‪.( ..‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ومن تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار‪ ،‬رآها من إضاعة‬
‫هذا الصل وعدم الصبر على منكر‪ ،‬فطلب إزالته‪ ،‬فتولد منه ما هو أكبر منه‪،‬‬
‫فقد كان رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬يرى بمكة أكبر المنكرات ول‬
‫يستطيع تغييرها‪ ،‬بل لما فتح الله مكة‪ ،‬وصارت دار إسلم‪ ،‬عزم على تغيير‬
‫البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه‪ ،‬خشية وقوع‬
‫ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك‪ ،‬لقرب عهدهم بالسلم‪،‬‬
‫وكونهم حديثي عهد بكفر‪ ،‬ولهذا لم يأذن في النكار على المراء باليد‪ ،‬لما‬
‫يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه‪ ،‬فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يخلف ما هو مثله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه ‪.‬‬
‫فالدرجتان الوليان مشروعتان‪ ،‬والثالثة موضع اجتهاد‪ ،‬والرابعة محرمة()‪.(10‬‬
‫وتقدير درجات المنكر في حادثات الحياة ونوازلها‪ ،‬وما بينها من مراتب بحاجة‬
‫إلى بصيرة نافذة في دقائق فقه الدين‪ ،‬وفي فقه النوازل‪ ،‬الذي هو أساس‬

‫‪3‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فقه التدين‪ ،‬وبحاجة أيضا ً إلى الحكمة البالغة‪ ،‬وإخلص النصح في تحقيق ما‬
‫اشتبه‪ ،‬وتحرير ما اشتجر‪ ،‬وذلك جهد بالغ ل يقوم به إل صفوة أهل العلم‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪) :‬إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر‬
‫بحيث ل يفرقون بينهما‪ ،‬بل إما يفعلوهما جميعًا‪ ،‬أو يتركوهما جميعًا‪ ،‬لم يجز‬
‫أن يؤمروا بمعروف ول أن ينهوا عن منكر‪ ،‬بل ينظر‪ ،‬فإذا كان المعروف أكثر‪،‬‬
‫ُأمر به‪ ،‬وإن استلزم ما هو دونه من المنكر‪ ،‬ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت‬
‫معروف أعظم منه‪ ،‬بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله‪،‬‬
‫والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وزوال فعل الحسنات وإن كان‬
‫المنكر أغلب نهى عنه‪ ،‬وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف‪ ،‬ويكون‬
‫المر بذلك المعروف المستلزم للمنكر‪ ،‬الزائد عليه‪ ،‬أمرا ً بمنكر‪ ،‬وسعيا ً في‬
‫معصية الله ورسوله وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلزمان‪ ،‬لم يؤمر بهما‪،‬‬
‫ولم ينه عنهما‪ ،‬فتارة يصلح المر وتارة يصلح النهي‪ ،‬وتارة ل يصلح ل أمر ول‬
‫نهي‪ ،‬حيث كان المعروف والمنكر متلزمين وذلك في المور المعينة الواقعة‪.‬‬
‫وهذا باب واسع ول حول ول قوة إل بالله‪.‬‬
‫ي‬
‫ومن هذا الباب‪ :‬إقرار النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬لعبد الله بن أب ّ‬
‫وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان‪ ،‬فإزالة منكره ينوع من‬
‫عقابه‪ ،‬مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم‪ ،‬وبنفور‬
‫الناس إذا سمعوا أن محمدا ً يقتل حاميه( )‪ (11‬فتلك حكمة النبوة التي يجب‬
‫أن يتأسى بها القائمون بتغيير المنكر‪ ،‬ولهذا قال عمر ‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬بعد‬
‫أن استبان له نور الحكمة النبوية في هذا‪) :‬قد والله علمت لمر رسول الله ـ‬
‫صلى الله عليه وسلم ـ أعظم بركة من أمري( )‪. (12‬‬
‫وذلك عندما قال عبد الله بن أبي )أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن‬
‫العز منها الذل فبلغ النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ذلك القول فقام عمر‬
‫فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق‪ ،‬فقال له النبي ‪ -‬صلى‬
‫الله عليه وسلم‪" :-‬دعه ل يتحدث الناس أن محمدا ً يقتل أصحابه" )‪. (13‬‬
‫ومن ثم فإن تغيير المنكر‪ ،‬المترتب على تغييره آثار فردية وجماعية‪ ،‬ل‬
‫يستقيم القيام به إل من بعد مراجعة ملبساته‪ ،‬والموازنة بينه وبين آثاره وهذا‬
‫يقتضي استشارة أهل العلم والحكمة ‪.‬‬
‫ولهذا ل ينبغي أن يتهم العامة والدهماء علماء المة حين يوصون بالصبر على‬
‫ذلك المنكر‪ ،‬حتى يتهيأ له الظروف ومناخات وملبسات أفضل‪ ،‬يؤتي التغيير‬
‫فيها ثمرا ً أطيب وأعظم‪ ،‬وهذا وجه من وجوه المعنى القرآني من قوله‬
‫ة? ]النحل‪.[125 :‬‬ ‫م ِ‬‫حك ْ َ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬‫ل َرب ّ َ‬‫سِبي ِ‬ ‫تعالى‪ ?:‬اد ْع ُ إ ِِلى َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ات ّب َعَِني‬ ‫صيَرةٍ أن َا ْ وَ َ‬
‫م ِ‬ ‫عو إ َِلى الل ّهِ عََلى ب َ ِ‬
‫سِبيِلي أد ْ ُ‬ ‫ل هَذِهِ َ‬ ‫وفي قوله تعالى‪ ? :‬قُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ? ]يوسف‪.[108 :‬‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬‫ما أن َا ْ ِ‬
‫ن الل ّهِ وَ َ‬
‫حا َ‬
‫سب ْ َ‬
‫وَ ُ‬
‫ً‬
‫فالحكمة والبصيرة دعامتا النجاح في القيام بتغيير المنكر‪ ،‬قياما يرضي الله‬
‫عز وجل ويحقق الغاية من التكليف به ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ‪ ،‬والحمد لله رب العالمين‪.‬‬
‫تأليف عادل أحمد محسن البعداني‬
‫)‪ (1‬صحيح مسلم‪.1/69/49 :‬‬
‫)‪ (2‬شرح النووي على صحيح مسلم‪.1/215 :‬‬
‫)‪ (3‬الفتح الرباني‪/5/125 :‬رقم الحديث‪.1660:‬‬
‫)‪ (4‬فقه تغيير المنكر‪/‬ص ‪.95 :‬‬
‫)‪ (5‬صحيح البخاري‪.1/304/853:‬‬
‫)‪ (6‬جامع العلوم والحكم‪/2 :‬ص ‪.249-248‬‬

‫‪4‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪ (7‬إحياء علوم الدين ‪.2/314 :‬‬


‫)‪ (8‬راجع في الكفر الذي ل يخرج من السلم ‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب اليمان ‪،‬‬
‫شروحه للنووي‪.‬‬
‫)‪ (9‬صحيح مسلم ‪. 1709 / 3/1469‬‬
‫)‪ (10‬إعلم الموقعين‪ ،‬لبن القيم ‪. 5-3/4‬‬
‫)‪ (11‬الحسبة‪ ،‬لبن تيمية ص ‪. 39-38‬‬
‫)‪ (12‬البداية والنهاية ‪ ،‬لبن كثير ‪. 4/185‬‬
‫)‪ (13‬البخاري ‪ ،‬ج ‪ 4/1861/4622‬ومسلم ‪. 2589/ 4/1998‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫تغيير تراب القبر ونصائبه‬


‫المجيب ‪ ...‬أ‪.‬د‪ .‬سعود بن عبدالله الفنيسان‬
‫عميد كلية الشريعة بجامعة المام محمد بن سعود السلمية سابقا ً‬
‫التصنيف ‪...‬‬
‫التاريخ ‪14/08/1425 ...‬هـ‬
‫السؤال‬
‫هل لولي الميت تغيير البطحاء الموجودة على القبر‪ ،‬أو النصائب الموجودة‬
‫بغيرها‪ ،‬أو تجديد بطحاء القبر؟‬
‫الجواب‬
‫الحمد لله وحده‪ ،‬والصلة والسلم على رسول الله‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫إذا خشي ولي الميت من اندثار القبر‪ ،‬وانطماسه متطؤه القدام‪،‬‬
‫والحيوانات‪ ،‬أو أن تحفره الكلب والهوام جاز له حينئذ تجديده‪ ،‬بوضع حصباء‬
‫أو نصائب تميزه عن غيره مما حوله من أرض‪ ،‬أو قبور أخرى‪ ،‬وهذا كله إذا‬
‫لم تقم برعاية المقابر‪ ،‬وصيانتها جهة معينة؛ كالبلدية أو غيرها‪ ،‬أما إذا وجدت‬
‫جهة مختصة تعنى بذلك فل يجوز حينئذ لولي الميت القيام بشيء مما ذكر‪،‬‬
‫بل يعتبر ذلك منه تعدًيا‪ ،‬وافتئاًتا على صاحب الولية الشرعية في هذا‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫تغّير الفتوى بين سوء الفهم وسوء القصد !‬


‫‪06-4-2006‬‬
‫بقلم د‪ .‬سعد بن مطر العتيبي‬
‫"‪...‬وإّنك لتعجب ممن ينتسب للثقافة ! ثم يسود صفحته وصحيفته بالنيل من‬
‫ملها ليسأل صاحب‬ ‫أهل العلم دون أن يكلف نفسه عناء المانة التي تح ّ‬
‫الفتوى ‪ :‬لم أفتيت بالمنع ثم بالجواز أو العكس ؟‪"...‬‬
‫الحمد لله والصلة والسلم على رسول الله وعلى آله ومن واله ‪ ..‬أما بعد ‪..‬‬
‫ن من الموضوعات السهلة الممتنعة أن تجيب على سؤال ظاهره الوجاهة‬ ‫فإ ّ‬
‫قف ! لماذا تختلف فتوى العالم‬ ‫ّ‬
‫وباطنه قلة المعرفة ‪ ..‬ومن ذلك أن يسألك مث ّ‬
‫الفلني في المسألة ذاتها إذا كان اجتهاده لم يتغّير ؟ فتجيبه ‪:‬‬
‫هناك صور كثيرة لهذه المسألة ‪ ،‬تكّلم عنها العلماء في القديم والحديث ‪،‬‬
‫دد سؤالك ؟‬‫فح ّ‬
‫ن المسألة‬ ‫صعداء ‪ ،‬ل ّ‬ ‫فس ال ّ‬ ‫َ‬
‫مد َْركة ؛ وحينها تتن ّ‬
‫عندئذ يجيبك بطرح أمثلة ُ‬
‫ن الفتوى وأصول الستدلل ‪ ،‬ول‬ ‫صارت أهون بكثير من أن تشرح له أسس ف ّ‬

‫‪5‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ن كثيرا ً من موضوعات أصول الفقه تستعصي على بعض طلبة العلم ؛‬ ‫سيما أ ّ‬
‫دين ‪ ،‬ول‬ ‫مي الروم ‪ ،‬ممن ل يعرفون مراتب ال ّ‬ ‫ّ‬
‫دعي الثقافة ‪ ،‬ومعظ ِ‬ ‫بْله م ّ‬
‫يحسنون وصف الوضوء لغير المسلمين ‪ ،‬ول يخجلون من خدمة أطروحات‬
‫ي ‪ ،‬لمشهد بعنوان ‪ :‬حشفا ً وسوء‬ ‫العدو المترّبص ‪ ،‬حتى لكأّنك أمام مقطع ح ّ‬
‫كيلة رغم أنف الوطنية !‬
‫ولهمية هذا الموضوع ‪ ،‬واستشكال بعض العامة له ‪ ،‬وتشويش بعض الكّتاب‬
‫به ‪ ،‬وغضب بعض الشباب منه ‪ ،‬فقد اجتهدت في محاولة كشفه بأسلوب‬
‫ضح المراد ‪ -‬بعون الله تعالى ‪ -‬وذلك بيانا ً لفضل العلم على‬ ‫تطبيقي ‪ ،‬يو ّ‬
‫ب من أسباب سوء الفهم لدى‬ ‫ً‬
‫أهله ‪ ،‬وفضل أهله على المة ؛ وتوضيحا لسب ٍ‬
‫بعض الخّيرين من طلبة العلم ‪ ،‬فضل ً عن غيرهم ‪ ،‬وتظهر أهمية ذلك بجلء ‪،‬‬
‫ة بين بقية المة ‪ ،‬وخلخلة لثقة جيل الشباب‬ ‫حين يفرز هذا الستشكال ‪ ،‬فرق ً‬
‫ً‬
‫بجيل الشيوخ ؛ كما آمل أن يكشف هذا المقال شيئا من فقد الموضوعية ‪-‬‬
‫قصدا ً أو تغريرا ً ‪ -‬لدى عدد من الكتاب ‪ ،‬ممن جعلوا همهم الول نقد العلم‬
‫وأهله ‪.‬‬
‫ن الحكم الشرعي ذاته ثابت ل يتغّير متى‬ ‫من المور المقّررة في الشريعة أ ّ‬
‫ً‬
‫اتفقت الصور المسائل واتحد مناطها ؛ وإّنما قد يتغير مناط الحكم تبعا لتغير‬
‫م تتغّير الفتاوى‬
‫الصور أو دخول العوارض المعتبرة في الشرع ‪ ،‬ومن ث ّ‬
‫والحكام عند تنزيلها على المسائل والوقائع ‪ ،‬تبعا ً لذلك ‪ .‬وهذا أمر معقول ‪،‬‬
‫ومعمول به حتى عند أهل القانون ‪ -‬الذين يستشهد به بعض الكّتاب ‪ -‬فتجد‬
‫القاضي البريطاني مثل ‪ -‬وهو يعتمد السوابق القضائية وفق المدرسة‬
‫ض آخر في‬ ‫النجلوسكسونية ‪ -‬يحكم في قضية بحكم ‪ ،‬بينما يحكم هو أو قا ٍ‬
‫صورة مماثلة بحكم مختلف ‪ ،‬لسبب يرى أهمية مراعاته في الصورة الجديدة‬
‫عند تطبيق المبدأ القضائي الذي يستند إليه في حكمه ! وحينئذ فعدم تغّير‬
‫كل‬ ‫مش ِ‬ ‫مل ‪ -‬هو المر ال ُ‬ ‫الحكم مع تغير صور المسائل و مناطاتها ‪ -‬عند التأ ّ‬
‫الذي يحتاج إلى جواب ‪.‬‬
‫ولكي تتضح المسألة أكثر ‪ ،‬أبّينها بالتعريج على شيٍء مما يضربه بعض الناس‬
‫ب للتفريق بين الفتوى في أمرٍ ‪،‬‬ ‫‪ -‬مثل ً ‪ -‬في المجال العام والتنبيه على سب ٍ‬
‫ن خلفا ً لها فيه ‪ ،‬مثل ‪ :‬تعليم المرأة ‪ ،‬والموقف من دمج تعليم البنين‬ ‫وما يظ ّ‬
‫والبنات إداريا ‪ ،‬وفتح بنوك إسلمية ‪ ،‬ومنع أطباق البث الفضائي ‪ ،‬ومنع‬
‫الستكتاب في شركة ما ثم إجازته ‪ ،‬ونحو ذلك مما يفتي فيه علماء‬
‫ديانة ‪ ،‬مهما اختلف معه غيرهم‬ ‫معروفون بالعلم والفقه واليقظة وحسن ال ّ‬
‫ممن ل ُيعرف بما يعرفون به ‪.‬‬
‫أ( فتعليم المرأة في المملكة العربية السعودية ‪،‬لم يحرمه أحد من العلماء‬
‫ن الختلط ‪ -‬في‬ ‫المعتبرين ‪ -‬كما يزعم بعض الّناس ‪ -‬وغاية ما في المر أ ّ‬
‫سمة العامة لتعليم النساء نظاميا في‬ ‫بعض البلدان ‪ -‬بين الجنسين كان هو ال ّ‬
‫مِنع فيها ‪ ،‬ولذلك استنكره ‪ -‬حينها ‪ -‬كثير من المواطنين‬ ‫تلك الحقبة التي ُ‬
‫ما اتفق العلماء والولة على ضمانات خلو‬ ‫حمّية وغيرة من غير فتوى ؛ فل ّ‬
‫التعليم من مفسدة الختلط وتوابعها ‪ ،‬مثل قلة الحتشام وما يترتب عليه‬
‫‪-‬لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة ‪ ،‬بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ‪،‬‬
‫وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلمة محمد بن‬
‫ما رأى الّناس ذلك اطمئنوا إلى التعليم الحكومي‬ ‫إبراهيم رحمه الله ‪ ،‬فل ّ‬
‫وسلمته من الختلط وتوابعه ‪ ،‬فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس ‪،‬‬
‫وانتشرت في البلد حتى وصلت إلى ما هي عليه الن ولله الحمد والمنة ؛‬
‫فكان المنع في حينه مستندا ً إلى سبب وجيه ل يتعلق بالتعليم ذاته ‪ ،‬بل إلى‬

‫‪6‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫آليته ‪ ،‬وسلمته من المحظور ‪ ،‬وكان الذن به وتنفيذه مستندا ً إلى ضمان‬


‫ل عّلته وحكمه ؛ ومن يرجع إلى فتاوى الشيخ رحمه‬ ‫خلوه من المحظور ؛ فلك ٍ‬
‫الله يجد ذلك واضحا غاية الوضوح ‪ ،‬فقد صرح بالعلة — كعادته ‪ -‬تصريحا ل‬
‫لبس فيه ‪.‬‬
‫مل أخي ‪ -‬المبارك ‪ -‬كيف يحاول بعض المستغربين خطف شرف رفع‬ ‫فتأ ّ‬
‫شأن المرأة في بلدنا ‪ ،‬بمثل هذه الساليب التي يفضحها التاريخ ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ما دمج تعليم البنات مع تعليم البنين فشّغب به بعض الكّتاب ؛ والحق‬ ‫ب( وأ ّ‬
‫أّنه لم يستنكره من استنكره من العلماء والدعاة المخلصين الغيورين لمجرد‬
‫ن بأّنهم بهذا المستوى من النظر ‪ ،‬ول‬ ‫ن نظ ّ‬ ‫كونه دمجا ً إداريا ً ‪ ،‬ومن الظلم أ ّ‬
‫ن كثيرا ً ممن نعرف حالهم من أولئك ليسوا أهل طيش ‪ ،‬ول دعاة‬ ‫سيما أ ّ‬
‫ن من أعرفه منهم ل ينفك في‬ ‫خروج على أولي المر ولله الحمد ‪ .‬بل أجزم أ ّ‬
‫ن من أعضاء هيئة كبار العلماء‬ ‫المور العامة عن رأي العلماء الكبار ‪ ...‬ثم إ ّ‬
‫دمج ‪ ،‬وعّلل ذلك بعدد من السباب‬ ‫من أفصح عن تخوفه من قرار ال ّ‬
‫والظروف المحيطة ‪ ،‬والزخم العلمي المريب الذي سبق الحدث وصاحبه ‪،‬‬
‫وما تضمنه من مطالبات تغريبية تزيد الموضوع توترا ً ‪ ،‬وغير ذلك من المور‬
‫التي ل تخفى على من عاش الحدث وتابعه ‪.‬‬
‫فالموقف المعروف حينها يمكن إيجازه في التخوف من الحال التي يخشى‬
‫س أن يؤول إليها المر ‪ ،‬من مثل الختلط في المدارس بين البنين‬ ‫الّنا ُ‬
‫والبنات ‪ ،‬والمعلمين والمعلمات ‪ ،‬ولو تدرجا بالبدء من دمج الجنسين في‬
‫الصفوف الدنيا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وقد كان هذا التخوف ظاهرا وجليا ‪ ،‬وواضحا لدى ولة المر ‪ ،‬فبادر ولي‬
‫ن ما يخشونه من قرار الدمج لن يقع بإذن الله ؛‬ ‫العهد حينها بالتعهد للمة أ ّ‬
‫وعّبر عن ذلك بتعبيرات أوجدت ارتياحا عاما لدى الّناس ‪ ،‬وهذا ما آل إليه‬
‫دة الخيرة بعد أن اتخذت القرارات‬ ‫المر بحمد الله تعالى وظهر جليا ً في الم ّ‬
‫الضابطة لذلك ‪ ،‬نسأل الله عز وجل أن يديم علينا نعمته ‪ ،‬ويوفق ولة المر‬
‫لما فيه خير العباد والبلد ‪.‬‬
‫ما ما يقال حول الفتوى بمشروعية فتح البنوك السلمية ‪ ،‬فيقال ‪ :‬يجب‬ ‫ج( وأ ّ‬
‫ً‬
‫ن العلماء لم ُيحّرموا التعامل مع بعض البنوك لكونها بنوكا ‪ ،‬وإّنما‬ ‫أن ُيعلم أ ّ‬
‫جد البديل السلمي ‪،‬‬ ‫و‬
‫ّ ُ ِ‬‫ما‬‫فل‬ ‫‪،‬‬ ‫الربوي‬ ‫الغربي‬ ‫النسق‬ ‫على‬ ‫الجملة‬ ‫في‬ ‫لقيامها‬
‫وأمكن فتح بنوك ومصارف وبيوت تمويل تتحّرى التعامل الشرعي ‪ ،‬كان‬
‫الدعم لها من أهل العلم ولسيما ممن بذلوا جهدا ً عظيما ً وسنين عديدة في‬
‫دم في‬ ‫إيجاد البديل السلمي ‪ ،‬حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه من تق ّ‬
‫المصارف والبنوك ذات المعاملت السلمية ‪ ،‬وهي بحاجة إلى مزيد من‬
‫الفطنة والورع ومراقبة تنفيذ قرارات اللجان الشرعية كما هي ‪.‬‬
‫د( وهكذا الشأن في منع أطباق البث الفضائي ‪ ،‬فلم يمنعها من منعها من‬
‫العلماء لمجرد كونها أطباقا ً توضع على أسطح المنازل أو ُيستجلب بها المفيد‬
‫! وإّنما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه ‪ ،‬لنحصار استعمالها‬
‫ما ظهرت القنوات النافعة ‪ ،‬لم‬ ‫ت ‪ ،‬وغلبته فيما بعد ؛ ثم ل ّ‬ ‫في الشّر في وق ٍ‬
‫نجد الفتوى التي تأذن فحسب ‪ ،‬بل وجدنا الفتوى التي تحض على الشتراك‬
‫في القنوات الصادرة عن لجان شرعية ‪ ،‬كقناة المجد مثل ً ‪ ،‬التي يكرر‬
‫ث على مشاهداتها قمة الهرم الشرعي الرسمي سماحة المفتي‬ ‫شكرها والح ّ‬

‫‪7‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫العام حفظه الله ‪ ،‬وهذا كّله من حرص أهل العلم على فتح الذرائع‬
‫دل المشروع ‪ ،‬ونشر الخير نشرا ً آمنا ً من الخلط‬ ‫المشروعة ‪ ،‬وتشجيع الب َ َ‬
‫والمزج بالشّر ما أمكن ذلك ‪.‬‬
‫هـ( ومن الفتاوى التي فهمت في غير إطارها فتوى شيخنا العلمة ‪ /‬عبد‬
‫العزيز بن عبد الله بن باز ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في الصلح مع اليهود ‪ ،‬فقد نال منه‬
‫ن فتواه رحمه الله جاءت على‬ ‫ن الشيخ قد أخطأ ‪ ،‬مع أ ّ‬ ‫م ‪ ،‬ظن ّا ً منهم أ ّ‬
‫بها قو ٌ‬
‫الصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى ) الهدنة ( ؛ وشّغب بها‬
‫وغوا مالم يقصده الشيخ رحمه الله فأوهموا بعض‬ ‫آخرون بإيعاز صهيوني ليس ّ‬
‫ن الشيخ يرى مشروعية وجود الكيان الصهيوني والستسلم لشروطه‬ ‫الّناس أ ّ‬
‫ن فتاواه الصريحة بعكس ذلك‬ ‫‪ ،‬وهو مالم َيدر بخلد الشيخ رحمه الله ‪ ،‬بل إ ّ‬
‫وة والوضوح ‪.‬‬ ‫في غاية الق ّ‬
‫ّ‬
‫والشيخ رحمه الله قد بّين حرمة الصلح الدائم مع اليهود ‪ ،‬وأكده في الفتوى‬
‫ل من أسباب‬ ‫ذاتها ‪ ،‬وفي بيانه لمراده ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في فتاوى لحقة ‪ ،‬ولع ّ‬
‫سوء فهم بعض طلبة العلم ‪ ،‬عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في‬
‫الشريعة السلمية ‪ ،‬وفي القانون الدولي ‪ ،‬وبيانه ‪:‬‬
‫ن المراد بـ ) الصلح ( بالمعنى القانوني الدولي ‪ ،‬هو ‪ :‬عقد اتفاق دائم بين‬ ‫أ ّ‬
‫الطراف المتصالحة ‪ .‬بخلف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد‬
‫رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي السلمي وفي القانون الدولي ‪.‬‬
‫وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان‬
‫الصهيوني نشر في موقع المسلم في العام الماضي ‪.‬‬
‫وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة ‪ ،‬ولذلك نجد اللجان الشرعية في‬
‫حركة حماس السلمية ‪ ،‬تبني موقفها الحالي من المتناع عن الصلح على‬
‫موقف الكيان الصهيوني من عدم العتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي‬
‫سر عدم جنوح قيادات الكيان‬ ‫هو جزء من المة المسلمة ‪ ،‬وهو ما يف ّ‬
‫الصهيوني للسلم ؛ بينما لو فعل ذلك ‪ ،‬فلن تجد حركة حماس ما يمنعها‬
‫شرعا من الصلح ) الهدنة ( مع هذا الكيان ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫و( ويمكن تقريب مسألة تغّير الفتوى لمن قد ل يستوعبها جيدا ً ‪ ،‬بالمثال‬
‫السادس في مسألة فقهية ل ترتبط بالولية ‪ ،‬ولكن يكثر الحديث عنها ‪ ،‬و‬
‫يترّدد فيها ذات السؤال ‪ ،‬فتجد من يقول ‪:‬‬
‫لماذا منع الشيخ فلن الستكتاب في الشركة الفلنية ‪ ،‬ثم أباحه بعد ذلك ؟‬
‫فتجيبه ‪ :‬فلن منعها من أجل الربا ‪ ،‬فلما تخلصت من الربا ‪ -‬في نظره ‪-‬‬
‫أجازها ‪ .‬فمدار الحكم على وجود الربا ‪ ،‬من عدمه ‪ ،‬ففتواه لم تتغير ‪ ،‬بل‬
‫تغير وضع الشركة ! ولذلك لو عادت الشركة إلى ما كانت عليه لعاد لما أفتى‬
‫به فيها من قبل ‪ ..‬وهكذا ‪ ..‬وليس عسيرا على الباحث عن الحق بسؤال‬
‫صاحب الفتوى ‪ :‬لم منعت الستكتاب في الشركة ثم أجزته ؟ ليجد الجواب‬
‫المنضبط في الحالين كما أسلفت ‪.‬‬
‫وإّنك لتعجب ممن ينتسب للثقافة ! ثم يسود صفحته وصحيفته بالنيل من‬
‫ملها ليسأل صاحب‬ ‫أهل العلم دون أن يكلف نفسه عناء المانة التي تح ّ‬
‫الفتوى ‪ :‬لم أفتيت بالمنع ثم بالجواز أو العكس ؟ وُيلحظ في هذه الصور‬
‫ن العاِلم لم يتغير في منهجه أو يتراجع عن فتواه ؛ وغاية ما في‬ ‫وأمثالها أ ّ‬
‫ن مناط الحكم قد تغّير لتغّير الحال ‪ ،‬فوجدت حال جديدة لها حكم‬ ‫المر أ ّ‬

‫‪8‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مختلف ‪ ،‬وإن كانت الصورة مشابهة في الظاهر ‪ ،‬لكن الفتوى ل زالت ثابتة‬
‫ن الفتوى وأصول‬ ‫ن من ل علم عنده بف ّ‬ ‫في الحال الممنوعة ؛ وهنا ظ ّ‬
‫م تساءل ‪ -‬لجهله أو تجاهله ‪ : -‬كيف يحرم‬ ‫ن الحكم تغّير ‪ ،‬ومن ث ّ‬ ‫الستدلل ‪ :‬أ ّ‬
‫العلماء كذا وكذا ‪ ،‬ثم يحللونه بعد ذلك مع مرور الزمن ؟!‬
‫ن العلماء هم الذين رد ّ الله المسلم إليهم عند عدم العلم ‪ ،‬فهم‬ ‫والخلصة ‪ :‬أ ّ‬
‫ضمان الشرعية في الطرح والنصح والتعامل ‪ ،‬فعلى المسلم الصالح ‪ ،‬أن‬
‫يرتبط بأهل العلم والديانة ‪ ،‬وعلى رأسهم في بلدنا أعضاء هيئة كبار العلماء ‪،‬‬
‫واللجنة الدائمة للفتاء ‪ ،‬وغيرهم ممن عرفتهم المة وشهدت لهم بالعلم‬
‫والفضل والتوسط ‪ ،‬من العلماء الناصحين والدعاة المخلصين في جميع البلد‬
‫‪.‬‬
‫ولو رجعنا إلى أهل العلم وكانت صلتنا بهم صلة قوية ‪ ،‬لدفعنا الكثير من‬
‫الخلط الذي قد يفتن بعض الّناس عن الحق ‪ ،‬ويزهدهم في العلماء‬
‫الربانيين ‪ ،‬ولما احتجنا في معرفة الحقيقة إلى التاريخ ‪ ،‬ليثبت لنا صحة نهج‬
‫من أحالنا الله إليهم ‪ ،‬فكم ضاعت من أوقات ‪ ،‬ونيل من شخصيات ‪ ،‬في غير‬
‫حقّ ‪ ،‬وربما تبّين زلل طالب العلم في نقده لفتاوى الكابر ‪ ،‬ولكن بعد عسر‬
‫الرفع ‪ ،‬مهما حاول تداركه ‪.‬‬
‫ن من النصح لنفسي ‪ ،‬ولشبابنا الكرام ‪ ،‬ولزملئنا الفاضل من‬ ‫ومن هنا أجد أ ّ‬
‫ل في تقييم فتاوى‬ ‫مة ‪ :‬التمه َ‬ ‫طلبة العلم بخاصة ‪ ،‬ولغيرهم من أهل الكتابة عا ّ‬
‫جل على جهود الناصحين ‪ ،‬دون‬ ‫العلماء المصلحين ‪ ،‬وعدم العتراض المتع ّ‬
‫مقة ندرك بها الدوافع ‪ ،‬ونعرف تفاصيل بنائها في أرض‬ ‫دراسة جادة متع ّ‬
‫الواقع ‪ ،‬مع الحرص على التقاء من ُيسَتغرب قوله من أهل العلم والديانة أو‬
‫التصال به ‪ ،‬ومناقشة صاحب الرأي على سنن أهل الناة والحكمة ‪ ،‬حتى ل‬
‫ننال من مجتهد قد بذل وسعه فنال ‪ -‬برحمة الله ‪ -‬أجرا ً إن أخطأ وأجرين إن‬
‫أصاب ‪ ،‬أو نؤذي مؤمنا ً حكم الله على من آذاه بأّنه قد احتمل بهتانا ً وإثما ً‬
‫ما‬
‫ت ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ن ي ُؤُْذو َ‬‫ذي َ‬ ‫مبينا ‪ ،‬في قوله سبحانه ‪َ} :‬وال ّ ِ‬
‫مِبينا ً { ‪.‬‬‫مُلوا ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ّ‬‫حت َ َ‬ ‫اك ْت َ َ‬
‫سُبوا فَ َ‬
‫قد ِ ا ْ‬
‫ل نقد ٍ عاطفي يصل إلى‬ ‫هذا ما جال في الخاطر حول هذا المعنى في ظ ّ‬
‫ً‬
‫درجة التسفيه الممقوت ‪ ،‬ورأيت في تدوينه ونشره خيرا لمن أراد لنفسه‬
‫النجاة ‪ ،‬وحفظها من شّر حظوظها ‪ ،‬والله تعالى أعلم ‪ ،‬وصلى الله وسلم‬
‫على نبينا محمد وآله "‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫تفسير سورة العلى الحلقة الثالثة‬


‫‪1976 / 10 / 29‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فإنا نعود اليوم لنصل بحول الله وعونه ما انقطع من حبل الكلم حول سورة‬
‫العلى ‪ ،‬مضت الجمعة الماضية في حديث عن الحج ‪ ،‬كان ضروريا ً أن يقال ‪.‬‬
‫والتي قبلها لم ُيقدر لنا أن نلتقي ‪ ،‬ولست أدري بالضبط ما الذي قلته من‬
‫قبل ولم يتيسر لي أن أستمع إلى الشريط المسجل لخر خطبة من سورة‬
‫العلى ‪ ،‬من أجل ذلك أتوقع أن يكون في الفكار بعض التكرار ‪ ،‬فإن حصل‬
‫فلست أظن ذلك من غير فائدة ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يقول الله تعالى ) بسم الله الرحمن الرحيم ‪ ،‬سبح اسم ربك العلى ‪ ،‬الذي‬
‫خلق فسوى ‪ ،‬والذي قدر فهدى ( وفي ظني أننا وقفنا عند هذا القول ‪ ،‬ثم‬
‫يقول الله تعالى ) والذي أخرج المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى ( ويلحظ قبل أي‬
‫شيء أن المعنى العام والولي لهاتين اليتين وهو ما يراد له أن يستقّر في‬
‫عقل المؤمن وحسه هو الشارة إلى فناء هذا النسان ‪ ،‬وإلى حتمية مرجعه‬
‫إلى الله تبارك وتعالى ‪ .‬وأظنكم تذكرون جيدا ً أن هذا المعنى منذ بواكير‬
‫كز القرآن أضواءه عليها ‪،‬‬ ‫التنزيل تكرر مرارا ً ‪ ،‬فما من مناسبة تعرض إل ور ّ‬
‫ليقيم في عقل النسان ويقّر في ضمير النسان حتمية المصير إلى الله ‪.‬‬
‫ة غير مباشرة ) والذي أخرج‬ ‫وهذا المعنى ُيساق في هاتين اليتين سياق ً‬
‫المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى ( يريد الله تعالى أن يلفت نظر النسان بعيدا ً‬
‫عن المحاكمات العقلية ‪ ،‬وبعيدا ً عن القيسة المنطقية ‪ ،‬وبعيدا ً عن كل‬
‫التجريدات التي يلجأ إليها الناس عادة لتقريب المذاهب والفكار ليشده إلى‬
‫ظواهر يراها رأي العين ويلمسها لمس اليد ‪ ،‬أي إنسان ل يرى من حوله‬
‫ظاهرة النبات ‪ ..‬بذرة تلقى في الرض ثم تنشق عنها الرض نباتا ً هشا ً طريا ً‬
‫تكاد قطرات النسيم أن تقصفه وتقتلعه ‪ ،‬ثم إذا استجمع ري ّا ً واستوثق شدةً‬
‫كان نباتا ً يروق العيون ويريح النفوس ‪ ،‬ثم يأتيه من أمر الله ما يأتي على كل‬
‫أحياء الدنيا وعلى كل أشياء الدنيا ‪ ،‬فإذا هو بعد الشدة إلى ضعف وبعد النماء‬
‫إلى نقصان ‪.‬‬
‫ل مشهود على هذا النسان وعلى‬ ‫مث ٌ‬
‫هذه الظاهرة التي يراها كل إنسان َ‬
‫جملة ما في الحياة ‪ ،‬كلها إلى زوال ‪ .‬وأنت أيها النسان مثلك كمثل هذا‬
‫النبات ‪ ،‬تخرج إلى الدنيا جنينا ً صغيرا ً ‪ ،‬ثم تنمو وتنمو وتنمو حتى تكون شابا ً‬
‫فرجل ً فكهل ً ثم شيخا ً ُتحني السنون ظهرك وتأخذ اليام من مّنتك وقوتك ثم‬
‫ل وعل ما ل مرد ّ له ول محيص عنه ‪ ،‬فتذهب حيث ذهب‬ ‫يأتيك من قدر الله ج ّ‬
‫الذين مضوا من قبلك ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ل وعل يلفت نظر النسان إلى هذه الظاهرة ليستقيم في حسه هذا‬ ‫الله ج ّ‬
‫الشيء ‪ ،‬ولكن لنا أن نتساءل ‪ :‬أي إنسان في هذه الدنيا في القديم وفي‬
‫الحديث وطالما ُوجد الناس على الرض ل يعرف هذا المر البدهي ‪ ،‬من‬
‫خلق للبقاء والخلود ؟ وهل جرى ذلك على لسان أحد ؟‬ ‫قال ‪ :‬إن النسان ُ‬
‫نقول ‪ :‬ل ‪ .‬ويقال لنا ‪ :‬الكلم عبث ‪ .‬إذا كان كل إنسان يعرف حتمية الموت ‪،‬‬
‫فلماذا هذا المثل ؟ أليس من فارغ القول ؟ وذلك صحيح بالنسبة إلى الذين ل‬
‫يعقلون والذين ل يعرفون مواقع المثال التي يضربها الله تعالى ‪ ،‬وصدق الله‬
‫) وتلك المثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ( وصدق الله ) وتلك المثال‬
‫كروا بالمثل أكثر ‪ ،‬إن وضع الصورة‬ ‫نضربها للناس وما يعقلها إل العالمون ( ف ّ‬
‫أمام النسان بهذا الشكل ) والذي أخرج المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى (‬
‫كروا مع وضع الصورة بهذا الشكل في قوانين كلم العرب ‪ ،‬فستجدون أن‬ ‫وف ّ‬
‫العرب حينما تقول ‪) :‬والذي أخرج المرعى وجعله غثاًء أحوى( ‪ .‬فقد يكون‬
‫هذا المصير متراخيا ً ضاربا ً في الماد والباد ‪ ،‬ولكنها حينما تغير الواو بالفاء ‪،‬‬
‫بدل وجعله يقول ‪ :‬فجعله ‪ .‬فإنما تريد بذلك ما ُيعرف بالتعقيب ‪ ،‬أي أن المر‬
‫الثاني حصل عقيب المر الول ‪ ،‬تقول ‪ :‬جاء زيد وعمرو ‪ ،‬فيكون المعنى جاء‬
‫عمرو بعد زيد ‪ ،‬ولكن متى ؟ قد يكون جاء بعد ساعة وقد يكون جاء بعد مئة‬
‫سنة ‪ ،‬وكل المرين يصدق عليه صياغة الكلم ‪ ،‬لكن حينما تقول ‪ :‬جاء زيد‬

‫‪10‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فعمرو ‪ ،‬فهذه الفاء أحالت المعنى إلى صورة أخرى ‪ ،‬وجعلت مجيء الثاني‬
‫يلي مباشرة مجيئ الول ‪ ،‬ما لذي نريده من هذا ؟ نريد أن ُيعلم أنه حينما‬
‫ل وعل يقول ) والذي أخرج المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى ( يريد‬ ‫نسمع الله ج ّ‬
‫أن يشير إلى قصر المدة بين استجماع القوة والنشاط وحلول الفناء‬
‫والدمار ‪ ،‬كأنه ل فاصل يفصل بين المرين ‪ ،‬وما فائدة هذا ؟ فائدة هذا أن‬
‫يوقظ النسان الذي اعتاد بتراخي اليام ومرور الشهور والسنين أن ينسى‬
‫هذا المصير ‪ ،‬فالنسان ل يذكر الموت والفناء باستمرار ‪ ،‬ولو أن صورة الفناء‬
‫تركزت أمام ناظري النسان بصورة مستمرة لم تغب عنه أبدا ً لكان إنسانا ً‬
‫ل الكسل والخمول وعدم إرادة النشاط‬ ‫على غير ما هو عليه ‪ ،‬بل ربما ح ّ‬
‫محل هذا الذي نراه من النسان ‪ ،‬ولكن بين الذكر للموت بصورة مستمرة ‪،‬‬
‫وبين النسيان المطلق لهذه العاقبة الحقة حالة وسط أرادها النسان ‪ ،‬أراد له‬
‫أن يسعى وأن يضطرب في جنبات الرض وأن يبتغي عند الله الرزق ‪ ،‬وأن‬
‫يحمل على عاتقيه مهمته ووظيفته في إقرار هذا الدين في الرض ‪ ،‬وحمله‬
‫إلى الناس ‪ ،‬وأراد له في كل ذلك أن ل يغفل عن الله ‪ ،‬وأن ل ينسى حتمية‬
‫المصير ‪ .‬فمن العادة أن النسان ينسى ‪ ،‬بل يحاول إراديا ً أن يطرد من ذهنه‬
‫صورة الموت والفناء ‪ ،‬بل يحاول في بعض الحيان أن يغمس نفسه في‬
‫المسكرات والمخدرات لينسى هذه الواقعة ولكي يتهرب من ضغطها عليه ‪.‬‬
‫أراد الله تعالى بهذه الصورة أن يشعر النسان أن الموت رصد قائم عليه ‪،‬‬
‫قد يأتيه وهو في أوج الشباب ‪ ،‬وقد يأتيه وهو في ذروة القوة ‪ ،‬وقد يمهله‬
‫وح كما يصوح النبات ‪.‬‬ ‫حتى يص ّ‬
‫فهذه فائدة المثل من جهة ‪ ،‬وللمثل فائدة أخرى ‪ ،‬انظر إلى هذا النبات ‪...‬‬
‫أنت تمشي فترى نبتة في الرض ‪ ،‬راقبها جيدا ً ‪ ،‬هذه النبتة بعد شهور تكون‬
‫ة من ذات الجنس‬ ‫كأن تكن ‪ ،‬تعال في مثلها في العام القادم ‪ ،‬تجد أن نبت ً‬
‫نبتت في ذلك المكان أو قريبا ً من ذلك المكان ‪ ،‬أتظن أن هذه النبتة نبتت‬
‫من غير سبب ؟ الرائي الذي ل يراقب يظن أنها ُوجدت هكذا ‪ ،‬ولكن عالم‬
‫النبات يعرف أن بذرة مهما تبلغ من الدقة ومهما تبلغ من الصغر فل بد أن‬
‫تكون تساقطت من النبتة الولى فولدت النبتة الثانية ‪ .‬هذا النسان الذي‬
‫يموت هل انتهى أمره ؟ لو أن أمره انتهى وأسدل الموت عليه ستاره‬
‫الخير ‪ ،‬لكانت المسألة على خلف ذلك ‪ .‬الله تعالى حين يضرب لك هذا‬
‫المثل يقول لك ‪ :‬إن هذا الفناء الذي تراه فناًء ‪ ،‬تضع الميت في قبره وتغلق‬
‫عليه لحده وتتركه لعوامل التحلل والفساد ‪ ،‬فإذا جئته بعد عدد من السنين‬
‫وأردت أن تتعّرف على هذا الميت الذي وضعته في هذا اللحد كان في يدك‬
‫قبضة من تراب ‪ ،‬وأما الميت فكأنه ما وضع في هذا المكان ‪ .‬أتلك عاقبة‬
‫الحياة ؟ أهذا كل شيء ؟ ل ‪ .‬إن الميت الذي مات انتقل إلى دار أخرى‬
‫ليعيش نمطا ً آخر من الحياة ‪ ،‬تلك الدار هي دار البقاء ‪ ،‬وكما أنك تمر بالنبات‬
‫لذي تعصف به رياح السموم فتجعله كأن لم يكن فتقول ‪ :‬قد انتهى ‪ ،‬ثم إذا‬
‫بك تفاجأ به ينمو من جديد ‪ ،‬فكذلك هذا النسان ل بد أن يكون بين يدي ديان‬
‫جبار متكبر وهو الله تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ففائدة المثل الذي يضربه الله من واقع الحياة من المشهود من الحسوس‬


‫الذي ل يغيب عن بصر أحد ‪ ،‬هي هذا الذي ذكرنا جانبا ً منه وبعضا ً صغيرا ً جدا ً‬
‫من بعض موحياته ‪ .‬بقي أن ننظر في صياغة القضية ‪ ،‬لن الناس يقرأون‬

‫‪11‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القرآن وينبغي أن يفهم القرآن وأن يدركوا معنى ما يقرأون ‪ .‬الله تعالى‬
‫يقول ) والذي أخرح المرعى ( والمرعى هو كل ما ترعاه الدواب أو يأكله‬
‫النسان ) فجعله غثاًء أحوى ( الغثاء هو الشيء الذي ل يؤبه له ‪ ،‬الشيء الذي‬
‫ل قيمة له ‪ ،‬أرأيت حينما ينزل السيل من العالي فيجرف أمامه صخورا ً‬
‫وأحجارا ً وترابا ً وأخشابا ً ومما يلقي الناس وتلقي الدواب ؟ أرأيت هذا الشيء‬
‫الهش الذي يطفو على وجه السيل ويستقر على وجه المياه ؟ ذلك هو‬
‫الغثاء ‪ ،‬ذلك هو الشيء الذي ل قيمة له ‪ ،‬أرأيت حينما تهب العواصف فتسوق‬
‫أمامها قطعا ً صغيرة من الحشائش ؟ تلك هي غثاء من الغثاء ‪ ،‬فالغثاء هو كل‬
‫ما ل قيمة له ‪ ،‬وكل ما فقد الفائدة وإمكانية النتفاع به ‪ ،‬هذا النبات الذي‬
‫ينبت يقول الله تعالى إن عاقبته أن يكون غثاًء ‪ ،‬وبالفعل حينما يدركه‬
‫الجفاف واليبس يصبح شيئا ً بل فائدة ‪ ،‬ل شيء يمتع العين ول شيء يروق‬
‫النفس ‪ ،‬ول شيء ينتفع به الناس ‪ ،‬ول تنتفع به الدواب ‪.‬‬
‫) فجعله غثاًء أحوى ( والحوى هم السمر الضارب إلى السواد ‪ ،‬ومن هنا‬
‫سميت حواء حواء ‪ ،‬لنها فيما يظهر كانت سمراء اللون شديدة الدمة أي‬
‫شديدة السمرة ‪ ،‬ولعلماء التفسير هنا كلم ‪ ،‬فكأنهم على معهود العرب في‬
‫تخاطباتها وأخذا ً من قوله ) أحوى ( والحوى هو شديد السمرة حين يضرب‬
‫إلى السواد ‪ ،‬رأوا أن في الكلم تقديما ً وتأخيرا ً ‪ ،‬لماذا ؟ تسمعون أن العرب‬
‫كانت تسمي المناطق الزراعية في العراق تسميها السواد ‪ ،‬ومن عادة‬
‫العرب أنها تسمي الشيء الخضر شديد الخضرة أسود ‪ ،‬فكانت تسمي‬
‫السواد بالسواد لكثرة المزروعات ولكثرة النباتات الشديدة الخضرة ‪ ،‬لن‬
‫الخضر حينما يستجمع اخضرارا ً يضرب إلى السواد ‪ ،‬فكأنهم رأوا أن النبات‬
‫ة في النماء ‪ ،‬يكون في تلك الساعة وفي تلك‬ ‫يكون أحوى حينما يكون غاي ً‬
‫الحايين أحوى ‪ ،‬وبناًء على ذلك قالوا ‪ :‬إن الكلم حقه أن يكون ‪ :‬والذي أخرج‬
‫المرعى أحوى فجعله غثاًء ‪ ،‬يعني أخرج المرعى أخضر شديد الخضرة ثم‬
‫جعله غثاًء ل ينتفع به ‪.‬‬
‫ً‬
‫ويرحم الله المام الطبري رحمه الله فقد كان إنسانا من بين المفسرين‬
‫ذواقة للغة عليما ً بدقائق البيان في أساليب العرب في الخطاب ‪ ،‬حينما‬
‫استعرض هذا القول الذي قالوه وزعموا أن في الكلم تقديما ً وتأخيرا ً ‪ ،‬قال‬
‫هذا خطأ ‪ ،‬خطأ لن العرب ل تستخدم التأخير والتقديم إل لنكتة في الكلم‬
‫مقصودة ‪ ،‬أما حينما تكون هنالك فائدة من التقديم أو التأخير فالتقديم‬
‫والتأخير عجز وعي وعبث في الكلم ‪ ،‬وهذا صحيح ‪ ،‬نحن نقرأ ـ وهذا مثل‬
‫نضربه لكل إنسان لن كل إنسان يعرفه ـ نحن نقرأ في الفاتحة ) إياك نعبد‬
‫وإياك نستعين ( فها هنا تقديم ‪ ،‬تقديم الضمير الذي هو )إياك( وحق الكلم‬
‫في الترتيب الطبيعي أن يكون ‪ :‬نعبدك يا الله ‪ .‬لكي يكون الفعل متقدما ً ثم‬
‫يليه الفاعل ثم يليه المفعول الذي يقع عليه الفعل ‪ ،‬ولكن هنا نجد أن‬
‫المفعول تقدم على الفاعل والفعل جميعا ً ‪ ،‬حينما نقول ‪ :‬نعبدك يا الله ‪ .‬فهذا‬
‫يرتب معنى العبادة منا لله فقط ‪ ،‬ولكن هل ينفي أننا نعبد مع الله شيئا ً‬
‫آخر ؟ نحن نعبد الله وقد نعبد مع الله شيئا ً آخر‪ ،‬فقول القائل ‪ :‬نعبدك يا‬
‫الله ‪ ،‬ل ينفي اختصاص الله بالعبادة الذي هو نكتة الكلم والغاية المقصودة‬
‫منه ‪.‬‬
‫فحينما نستخدم التقديم ونقول ‪ :‬إياك نعبد ‪ ،‬فذلك يعني انصباب الفعل على‬
‫الضمير المقدم ‪ ،‬أي أننا نخصك يا الله فقط بالعبادة ‪ ،‬لهذه الغايات ولمثالها‬
‫تستخدم العرب مسألة التقديم والتأخير ‪ ،‬وأما حينما يكون للتقديم والتأخير‬
‫أي غرض فهو عبث بل شك ‪ .‬فلهذا فملحظة المام الطبري رحمه الله تعالى‬

‫‪12‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ملحظة وجيهة للغاية والكلم ل تقديم فيه ول تأخير ‪ ،‬ولكن ربنا أخرج‬
‫المرعى ثم جعله غثاًء أحوى ‪ ،‬أي أسمر ضاربا ً إلى السواد ككل النباتات‬
‫حينما يدركها اليبس تكون سمراء ضاربة إلى السواد ‪ .‬هذا ما يتعلق بهاتين‬
‫اليتين ) والذي أخرج المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى ( ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫لن نواجه مسألة أخرى من المسائل الهامة في قضايا الدعوة السلمية‬


‫) سنقرئك فل تنسى ‪ ،‬إل ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( الكلم هنا‬
‫طبعا ً موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وقبل أن نخوض في‬
‫المسألة نحاول أن نقول في السلوب ‪ ،‬قلنا إن الكلم موجه إلى رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم مشعرا ً إياه بأن الله سيقرئه هذا القرآن ‪ ،‬وأنه سوف ل‬
‫ينساه ‪ ،‬هنا نفي وليس نهيا ً ‪ ،‬لكن هنا استثناء )ما شاء الله( فهل هذا يعني أن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم سينسى شيئا ً من القرآن الذي ُتلي عليه‬
‫وُأقرئ إياه ؟ بعض القائلين في القرآن قالوا ‪ :‬إن الكلم هنا خرج مخرج ما‬
‫هو متعارف عليه بين العرب في تخاطباتها فيما بينها ‪ ،‬فهو يقول لك ‪:‬‬
‫ً‬
‫سأعطيك كل ما لدي إل ما أشاء ‪ ،‬ولكنه ل يشاء أن يحجب عنك شيئا ‪ ،‬وهذا‬
‫من هذا ‪ ،‬فالله يقول ) سنقرئك فل تنسى ‪ ،‬إل ما شاء الله ( ولكن الله شاء‬
‫أن ل ينسى رسوله شيئا ًً ‪ ،‬فهم يرون أن الكلم خرج هذا المخرج ‪.‬‬
‫وفي رأينا والله أعلم أن هذا القول مؤسس على غفلة عن جملة معطيات‬
‫القضية كما وردت في القرآن الكريم ‪ ،‬فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫قد نسي أشياء فعل ً ‪ ،‬وإن القرآن الذي ُأنزل على رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم قد رفعت منه أشياء فعل ً ‪ ،‬وما لنا نحاول أن ندلل على ذلك‬
‫بالمقايسات ؟ لنرجع إلى القرآن ‪ ،‬في سورة البقرة يقول الله تعالى ) ما‬
‫ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل‬
‫شيء قدير ‪ ،‬ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والرض ومالكم من دون‬
‫الله من ولي ول نصير ( وإذا ً فالنص القرآني قاطع الدللة على أن الله تعالى‬
‫شاء أن ُينسي رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما أوحى إليه ‪ ،‬وذلك باب‬
‫من أبواب النسخ الذي خالفت فيه الشريعة السلمية سائر الشرائع الخرى ‪،‬‬
‫فاليهود قالوا ‪ :‬إن النسخ محال ‪ .‬والمسلمون قالوا ‪ :‬النسخ جائز لن الله‬
‫يثبت من شرعه ما يشاء ويرفع ما يشاء ويحكم ل معقب لحكمه وهو العليم‬
‫الخبير ‪ .‬وجاء النص على النسخ في القرآن الكريم ‪ ،‬وحينما نضع اليتين ـ آية‬
‫ت‬
‫البقرة وآية العلى ـ إلى جوار بعضهما فسوف نجد أن هذا الكلم لم يأ ِ‬
‫على المعهود من كلم العرب ‪ ،‬بأنه إل ما شاء الله لكن الله ما يشاء ‪ ،‬فذلك‬
‫ل وعل معلقا ً إياه على‬‫تكلف ل ضرورة له ‪ ،‬وإنما ما يشير إليه الله ج ّ‬
‫المشيئة أمر واقع ومعروف من سورة أخرى هي سورة البقرة ‪ ،‬وفي الية‬
‫الدالة على النسخ ‪.‬‬
‫ً‬
‫) سنقرئك فل تنسى ( أي سنقرئك هذا القرآن حتى ل تنسى شيئا منه إل ما‬
‫يشاء ربنا أن ينسيك إياه ‪ .‬وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن سورة‬
‫ل وعل يرفع‬ ‫الحزاب كانت تقابل سورة البقرة في الطول ‪ ،‬فما زال الله ج ّ‬
‫منها الشيء بعد الشيء حتى استقرت على ما هي عليه ‪.‬‬
‫هذا من حيث المعنى العام الذي اختلف فيه بعض المفسرين عن بعض ‪ .‬بقي‬
‫أن نواجه هذه القضية ونواجهها مواجهة صحيحة ‪ .‬الله تعالى يقول لنبيه‬
‫) سنقرئك فل تنسى ( ولحظوا أن الكلم بناؤه على المجهول ‪ ،‬أي أن‬

‫‪13‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القارئ ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وإنما الله هو المقرئ ‪ ،‬هذه‬
‫واحدة ‪ ،‬احفظوها ‪ .‬الشيء الثاني ارجعوا إلى معنى الفعل ) قرأ ( في كلم‬
‫العرب ‪ ،‬هذه المادة المؤلفة من القاف والراء والهمزة معناها في لغة العرب‬
‫الجمع والحفاظ ‪ ،‬لحظوا ‪ ..‬نحن معتادون أن نصرف لفظ القراءة إلى هذا‬
‫الشيء الذي نفعله ‪ ،‬قرأت الكتاب ‪ ،‬أي أنني مررت على ما فيه ‪ ،‬لكن‬
‫القراءة في لفظ العرب تدل على الجمع والملء ‪ ،‬فحينما نسمع الله ج ّ‬
‫ل‬
‫وعل يقول لنبيه صلوات الله عليه ) سنقرئك ( فمعنى ذلك أننا سنجمع لك‬
‫وفيك هذا القرآن ‪ ،‬ونملؤك بهذا القرآن ‪ .‬تقول ‪ :‬قرأت بمعنى جمعت ‪،‬‬
‫ت المرأة أي حاضت المرأة ‪ ،‬أي اجتمع في رحمها الدم فقذفه ‪،‬‬ ‫ونقول ‪ :‬قرأ ْ‬
‫قرء وقََرأ وما يشتق منها تدل على هذا‬
‫قرء وال َ‬
‫فهذا هو معنى القرء ‪ ،‬فال ُ‬
‫المعنى ‪ .‬ما الذي نريد تقريره من هذا الكلم ؟ نريد أن نقرر أن الكلم الذي‬
‫ُأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ُأنزل على المعهود من كلم‬
‫العرب ‪ ،‬وأن كلم العرب له مدلولته الخاصة التي فهمها رسول الله وفهمها‬
‫الصحاب ‪ ،‬وأنه من الضلل المبين أن نحمل معاني القرآن على التصورات‬
‫الباهتة التي بقيت في أذهاننا في هذه اليام لكلم العرب الذي نزل به القرآن‬
‫‪ ،‬ل ‪ ،‬ليس كل من هذى قرأ ‪ ،‬ل ‪ ،‬ليس كل من مرت عيناه على الكلم قرأ‬
‫الكلم ‪ ،‬أبدا ً ‪ ،‬إن القراءة بمعنى الجمع ومعنى الملء ل تسمى في كلم‬
‫العرب ول في استعمالت القرآن قراءة مالم تخالط النفس والعقل والقلب‬
‫ومالم تخالط اللحم والعظم والعصب ‪ ،‬أي أن النسان القارئ يسمى قارئا ً‬
‫حينما ُيتمثل فعل ً بهذا الشيء الذي يقرأه ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ولهذا فنحن حينما نقرأ أدبيات السلم نجد وصفا ً للطائفة من الناس‬
‫يسمونهم القّراء ‪ ،‬ليسوا عبد الباسط عبد الصمد ول محمد رفعت ول أمثالهم‬
‫من القّراء الذين يتعيشون بالقرآن ويتكسبون منه ‪ ،‬القّراء في أدبيات السلم‬
‫ل وعل من‬‫ذروة المة ‪ ،‬خلصتها ‪ ،‬هم الذين يفهمون مرادات الخالق ج ّ‬
‫كلمه ‪ ،‬وهم الذين تتمثل في أقوالهم ونياتهم وفي مسالكهم وأفعالهم حقائق‬
‫هذا القرآن ‪ ،‬القّراء هم الذين أصبحوا أنبياء إل أنه ل يوحى إليهم ‪ .‬ومن هنا‬
‫نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في وصف هؤلء الناس ‪ :‬من أوتي‬
‫القرآن فقد أوتي النبوة ‪ ،‬أو فكأنما أوتي النبوة إل أنه ل يوحى إليه ‪ .‬فالقراءة‬
‫إذا ً التي جاءت هنا والتي وعد الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي‬
‫شحن النبي صلى الله عليه وسلم بحقائق القرآن حتى ل ينساه لفظا ً وحتى‬
‫ل يضيعه سلوكا ً ‪ .‬ولهذا فنحن نجد أن عائشة رضي الله عنها حينما سألها‬
‫ت تقرأ‬ ‫سائل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬تساءلت ‪ :‬ألس َ‬
‫القرآن ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ .‬قالت ‪ :‬فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫القرآن ‪ .‬اقرأ القرآن تكتشف خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لن‬
‫رسول الله بالفعل كان قرآنا ً يتحرك على ظهر هذه الرض ‪ ،‬هذه واحدة‬
‫أردت أن أبينها بهذا الختصار واليجاز ‪ ،‬مع أنها قضية تطوي وراءها أمورا ً‬
‫كثيرة لخلص بسرعة وقبل أن يفوت الوقت إلى تقرير قضية أخرى تتعلق‬
‫في المسألة ‪.‬‬
‫نحن باستعراض اليات المتواردة على هذا المعنى ‪ ،‬وبالرجوع إلى الثار نجد‬
‫حق له أن يفاجأ ‪،‬‬ ‫أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجئ بهذا القرآن ‪ ،‬و ُ‬
‫هذا النمط من الكلم شيء غريب على السماع ‪ ،‬هذا التصال بين العالم‬

‫‪14‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المشهود وعالم الغيب شيء غريب على الطباع ‪ ،‬والرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم حينما كان في حراء قبل المبعث كان يتصور كل شيء كل شيء إل أن‬
‫ل وعل مباشرة ‪ ،‬فهذا ما كان يخطر له ببال ‪ ،‬صلوات‬ ‫يأتيه الوحي من الله ج ّ‬
‫الله عليه ‪ .‬من هنا كانت مفاجأته تامة وكانت دهشته عظيمة حينما فاجأه‬
‫طه وكان ما كان مما‬ ‫الوحي ‪ ،‬وقال له ‪ :‬اقرأ ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أنا بقارئ ‪ ،‬ثم غ ّ‬
‫ذكرناه لكم قبل اليوم ‪ ،‬جاءه هذا الكلم مع توجيه بأنه سيكون لله رسول ً ‪،‬‬
‫وبأن الله اختاره ليحمل إلى الناس هذا الكلم نبراسا ً ومشكاةً يهدي به الله‬
‫ل وعل من يشاء من عباده ‪ .‬وإذا ً فالمسألة خطيرة ‪ ،‬المسألة تتطلب من‬ ‫ج ّ‬
‫ً‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ل يضيع من القرآن شيئا ‪ ،‬تتطلب منه‬
‫أل يسقط من هذا القرآن حرفا ً ‪ ،‬لذلك كان رسول الله صلوات الله عليه وآله‬
‫حينما يأتيه جبريل فيتلو عليه القرآن يردد القرآن معه ويحرك به شفتيه كي‬
‫يزيد في استحفاظه حرصا ً على أل يسقط منه شيئا ً ‪ .‬واستمرت تلك عادته‬
‫ل وعل ) ل تحرك به لسانك لتعجل‬ ‫صلوات الله عليه حتى جاءه قول الله ج ّ‬
‫به إن علينا جمعه وقرآنه ‪ ،‬فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ‪ ،‬ثم إن علينا بيانه ( خطاب‬
‫جازم وحاسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬حينما يأتيك الوحي كن‬
‫رابط الجأش هادئ العصاب ل تحرك لسانك أبدا ً بالتمتمة بهذا القرآن خشية‬
‫فل بأن‬‫ل وعل تك ّ‬‫أن تنسى شيئا ً ‪ ،‬فإن علينا جمعه وقرآنه ‪ ،‬أي أن الله ج ّ‬
‫يجمعه لك في صدرك وبأن يقدر على أن تقرأه للناس من بعد ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاولة‬ ‫وبعد هذا الوعد القاطع ك ّ‬
‫فل الله تبارك وتعالى بها ‪ .‬لو رجعتم إلى‬ ‫الستحفاظ ‪ ،‬لن هذه المسألة تك ّ‬
‫تاريخ النبوات الولى لوجدتم ظاهرة أخرى غير هذه الظاهرة ‪ ،‬في السلم‬
‫الحرص شديد على أن يبقى النص القرآني كما ُأنزل بل زيادة وبل نقصان ‪،‬‬
‫بل تحريف وبل تغيير ‪ ،‬ولهذا جاءت الخبار المتواترة أن رسول الله صلى الله‬
‫سّري عنه أي خرج إلى الحالة‬ ‫عليه وسلم كان إذا نزلت عليه اليات و ُ‬
‫الطبيعية من حالة الوحي دعا بعض من كان يكتب له الوحي فقال ‪ :‬ضعوا‬
‫هؤلء اليات في السورة كذا في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا ‪ .‬فبقي‬
‫ل وعل وبإقدار المة على العناية به كل‬ ‫النص القرآني محفوظا ً بحفظ الله ج ّ‬
‫هذه المدة ‪ .‬وعلماء السلم والعلماء من غير المسلمين وأصدقاء السلم‬
‫وخصوم السلم جميعا ً يتفقون على أن النص الوحيد في الدنيا الذي ُيقرأ‬
‫الن على النحو الذي جاء عليه هو القرآن فقط ‪ ،‬وأما سائر النصوص الخرى‬
‫دينية أو علمية أو فلسفية أو أدبية فقد طرأ عليها التغيير والتبديل بالزيادة‬
‫والنقص والتحريف ‪ .‬هل المسألة مسألة وعد ُقطع لهذه المة فقط ولم‬
‫يقطع للمم الخرى ؟ أم المسألة تتعلق بصميم الرسالت ؟ نسارع فنقول ‪:‬‬
‫أن المسألة تتعلق بصميم الرسالت ‪ ،‬فالتوراة الذي أنزلها الله على موسى‬
‫عليه السلم لم تكن نصا ً معجزا ً بذاتها ‪ ،‬وإنما كانت معجزات موسى عليه‬
‫السلم شيئا ً خارجا ً عن التوراة ‪ ،‬ضم يديه إلى جناحه فأخرجها بيضاء من غير‬
‫سوء ‪ ،‬ضرب الحجر فانفجرت منها اثنتا عشرة عينا ً قد علم كل إناس‬
‫ق كالطود العظيم حتى‬ ‫مشربهم ‪ ،‬ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فر ٍ‬
‫مشى موسى ومن معه من بني إسرائيل في طريق يبس ل يخافون فيه دركا ً‬
‫ول يخشون فيه شيئا ً ‪ ،‬تلك معجزات ل تتعلق بصميم الرسالة ول بالنص‬
‫الموحى به ‪ .‬وكذلك قل في النجيل ‪ ،‬نص النجيل الذي أنزله الله من‬

‫‪15‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫السماء ما كان معجزا ً يصياغته ‪ ،‬وإنما كانت معجزات عيسى صلوات الله‬
‫عليه من نوع معجزات موسى معجزات خارجة عن نص الرسالة ‪ ،‬يبرئ‬
‫الكمه وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وإلى آخر هذه‬
‫المعجزات ‪ ،‬أما بالنسبة للسلم فالمر مختلف ‪ ،‬تلك ديانات جاءت في‬
‫سياقها من الزمان والمكان ‪ ،‬ليست لها صفة العموم ‪ ،‬لم يشأ الله لها أن‬
‫تخاطب الناس أبد الدهر ‪ ،‬انتظارا ً لهذا النبي الخاتم ) الذين يتبعون الرسول‬
‫النبي المي الذي يجدونه مكتوبا ً عندهم في التوراة والنجيل يأمرهم‬
‫بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‬
‫ويضع عنهم إصرهم والغلل التي كانت عليهم ( هذا شيء اّدخر في الزل‬
‫لمحمد صلى الله عليه وسلم ولهذه المة ‪.‬‬
‫المعجزات الحسية من كونية وما أشبه ذلك قد تكون نافعة في زمانها وفي‬
‫مكانها فقط ‪ ،‬بل إن المعجزات الحسية حتى الذين يشاهدونها قد يمارون‬
‫فيها ‪ ،‬وكثير ما جوبه النبيون حينما يفعلون معجزات حسية بأنهم سحرة‬
‫وبأنهم سحروا أعين الناس وبأنهم وبأنهم ‪ ،‬فالمعجزة الحسية شيء ل يعطيك‬
‫دليل ً على صحة الرسالة مقطوعا ً به إل عند فئة قليلة من الناس رأت هذه‬
‫المعجزة أو سمعت بها في زمنها ‪ .‬ولكن مع تراخي الزمان لو جاءنا إنسان‬
‫وأخبرنا أن القمر انشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‪ :‬إن القمر‬
‫ينشق ‪ .‬نقول له ‪ :‬ما أتيت بشيء ‪ .‬إن السلم لن يتقدم ولن يتأخر إن‬
‫ت انشقاق القمر ‪ ،‬ولكن من الذي يستطيع أن‬ ‫ت بانشقاق القمر أو أنكر َ‬‫أقرر َ‬
‫يغفل أن معجزة السلم أساسية هي القرآن ؟ من الذي يستطيع ذلك ؟ إن‬
‫معجزة السلم في صميم الرسالة ‪ ،‬ومعجزة الرسالت السابقة من خارج‬
‫الرسالت ‪ ،‬ولهذا كان النص السلمي محفوظا ً من التغيير والتبديل ‪ ،‬وكانت‬
‫نصوص الرسالت القديمة غير محفوظة وغير مضمون لها البقاء على ما‬
‫ُأنزلت عليه ‪.‬‬
‫من هنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا الفارق‬
‫الساسي بين القرآن وبين التوراة والنجيل وسائر الصحف التي نزلت على‬
‫النبياء السابقين فيقول ‪ :‬ما من نبي من النبياء أرسله الله تعالى قبلي إل‬
‫وأوتي ما مثله آمن عليه الناس ‪ ،‬وكان الذي أوتيته وحيا ً من الله ‪ ،‬فأنا أرجو‬
‫أن أكون أكثرهم تابعا ً يوم القيامة ‪ .‬هذا القرآن معجزة السلم فيه ‪ ،‬قد‬
‫يماري الناس في كل شيء ولكن أحدا ً منذ أن نزل القرآن إلى اليوم لم‬
‫يستطع برغم التحدي الذي جوبهت به فطاحل العرب وفرسان البلغة أن‬
‫يأتي بسورة من مثله ول أن يأتي بآية واحدة من مثله ‪ ،‬وسيبقى هذا القرآن‬
‫آية السلم الكبرى ‪ ،‬يختلف الناس ما يختلفون ‪ ،‬ولكن أحدا ً لم يختلف على‬
‫أن هذا النص أكبر من قدرة النسان ‪ .‬وإذا ً فهذا النص منزل من قوة أكبر من‬
‫النسان ‪ ،‬وإذا ً فهذا النص منزل من قبل الله تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫لهذا السبب نجد عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعناية الصحاب‬
‫وعناية خيار المسلمين سلفا ً وخلفا ً منصبة على تعاهد هذا القرآن ‪ ،‬يقرأونه‬
‫ليل ً ونهارا ً وسرا ً وجهارا ً وفرادى وجماعات ل ُيخلون أنفسهم منه آناء الليل‬
‫وأطراف النهار ‪ ،‬بل حتى في أشد الظروف حراجة ‪ ،‬في القتال فأنت حين‬
‫تقرأ أوصاف المسلمين حينما كانت جيوشهم تخرج للقتال والناس مشغولون‬
‫بالطعان والقتال ‪ ،‬والبطال تقابل البطال ‪ ،‬والرؤوس تطيح ‪ ،‬والعقول‬

‫‪16‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تطيش ‪ ،‬والطراف تتقطع ‪ ،‬يوصف جيش المسلمين بأن لهم في القرآن دويا ً‬
‫كدوي النحل ‪ ،‬لماذا ؟ لن دوام هذه المة بالقرآن ‪ ،‬ليس بأن تضع أصبعك‬
‫في أذنك فتقرأ قرآنا ً تتغّنى به كما تتغنى المطربات ‪ ،‬أبدا ً ‪ ،‬وإنما تقرأ القرآن‬
‫ل له أطرافك ‪،‬‬ ‫لكي يرقّ له قلبك ‪ ،‬وليخشع له قلبك ‪ ،‬وليلين له جلدك ‪ ،‬ولتذ ّ‬
‫ت بعيدا ً عما نهاك عنه ‪ ،‬هذا القرآن‬ ‫ت حيث أمر ‪ ،‬وإذا نهاك كن َ‬ ‫فإذا أمرك كن َ‬
‫عني به ليكون كذلك ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كان عليه الصلة والسلم يقوم في الليالي بهذا القرآن ‪ ،‬وهو الذي وعده الله‬
‫تعالى بأن ُيقرئه هذا القرآن ‪ ،‬بأن يشحن به نفسه ‪ ،‬ومع ذلك كان يقرأ‬
‫القرآن كثيرا ً ‪ ،‬يقوم به الليل حتى تتورم قدماه ‪ ،‬وأين أنتم من حديث عبد‬
‫الله قال ‪ :‬جئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ‪ ،‬قلت‬
‫أصلي مع رسول الله ‪ ،‬فصليت ‪ ،‬فافتتح البقرة ‪ ،‬قلت يركع على رأس‬
‫المائة ‪ ،‬أي يقرأ مائة آية ويركع ‪ ،‬قال فقرأها ومضى ‪ ،‬قلت يقرأها ثم يركع ‪،‬‬
‫قال ختم البقرة وافتتح آل عمران ‪ ،‬قلت يختمها ويركع ‪ ،‬قال فختم آل‬
‫عمران وافتتح النساء ‪ ،‬ثم ختمها وركع ‪ .‬ثلث من أطول سور القرآن ‪ ،‬حين‬
‫تجلس وتقرأها بسرعة فأنت محتاج على القل إلى ساعتين لتفرغ من قراءة‬
‫هذه السور الثلثة ‪ ،‬يقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هؤلء السور ‪،‬‬
‫إذا مّر بموطن دعاء دعا ‪ ،‬وإذا مّر بآية عذاب استعاذ بالله تعالى ‪ ،‬وإذا مّر‬
‫ت أن تعد ّ كلماته عدا ً لعددتها وهو‬‫باستغفار استغفر ‪ ،‬ويقرأها مترسل ً ‪ ،‬لو شئ َ‬
‫غارق ومستغرق بجلل الله جل وعل سارح مع هذه المعاني التي تنساب‬
‫كالسلسبيل العذب تحي النفوس والقلوب ‪ ،‬وتنعش الضمائر ‪.‬‬
‫ومن هنا كان المسلمون الذين ٌثففوا بالقرآن وعُّلموا هذا القرآن سادة المة‬
‫وكانوا خيارها ‪ ،‬ومن هنا استحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف الذين هم القّراء ‪،‬‬
‫ومن هنا رأينا الله جل وعل حقق على أيديهم العاجيب ‪ ،‬حينما كان يشغر‬
‫مكان الولية في قطر ‪ ،‬القطر في الماضي يا إخوة ليس محافظة من‬
‫المحافظات ‪ ،‬القطر مكان ذاهب في الطول والعرض ‪ ،‬العراق كلها قطر ‪،‬‬
‫مصر كلها قطر ‪ ،‬الشام ابتداًء من مشارف الجزيرة العربية الشمالية وإلى‬
‫كيليكيا كلها قطر ‪ ،‬يرسل واحد فقط من هؤلء القّراء ليكون واليا ً على هذا‬
‫القطر ‪ ،‬ومع ذلك فإن المور تستقيم والوضاع تستقر بل حاجة إلى شرطة‬
‫وبل حاجة إلى أحراس وبل حاجة إلى جواسيس ‪ ،‬لن الناس تساس بقرآن ل‬
‫يخرج من الشفاه وحسب ‪ ،‬وإنما يتفجر من أعمق حنايا القلوب ‪ ،‬أرسل‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيا ً إلى‬
‫ة للمارة ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ولكن‬ ‫اليمن ‪ ،‬فظل سنتين هناك ثم عاد ‪ ،‬قال ‪ :‬أكراه ً‬
‫ابن الخطاب جلس سنتين لم يتقاضا إليه اثنان ‪ ،‬لماذا ؟ لن الناس تأدبوا بهذا‬
‫القرآن وعرفت ربها بهذا القرآن وعرفت حدود الله بهذا القرآن وعلمت أنه‬
‫حينما تخترق الحدود وحينما تنتهك المحرمات فقد تنجو من العقوبة هنا ‪،‬‬
‫ولكنها سوف ل تنجو منها هناك ‪ ،‬وأنه من الخير أن يتعرض الناس للعقوبة هنا‬
‫‪ ،‬ففضوح الدنيا خير وأهون من فضوح الخرة ‪ .‬ومع ذلك فلقد عرفت المة‬
‫شيئا ً آخر ‪ ،‬عرفت أن مجرد الخلل بأمر من الوامر التي نزل بها القرآن شّر‬
‫مستطير ل يعود بالضرر على الفاعل وحسب ‪ ،‬وإنما يتناول المجتمع في‬
‫الزمن الحاضر وفي الزمنة المقبلة أيضا ً ‪ ،‬إن هذا القرآن مظهر لسنة الله‬
‫تبارك وتعالى ‪ ،‬ومظهر لمراد الله من هذا الكون ‪ ،‬وعلى المسلمين أن‬
‫يحفظوه وأن يعوه وأن ل ُيخّلوا فيه ‪ .‬وحين يبدأ الخلل في القرآن فكأنما‬
‫أخذ الخلل يصيب السنة الكونية برمتها ‪ ،‬ولو أنكم نظرتم متفحصين وبصدق‬
‫لوجدتم أن هذه المة التي سيست بالقرآن وربيت على مبادئ القرآن ‪ ،‬كانت‬

‫‪17‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في أوقات مجدها وفي أوقات عزها وسيادتها ل خيرا ً وبرك ً‬


‫ة على نفسها‬
‫وحسب ‪ ،‬وإنما هي خير وبركة على النسانية بعامة ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫فلقد كان الظلم في الناس فاشيا ً قبل نزول الرسالة المحمدية ‪ ،‬وحين جاءت‬
‫هذه الرسالة واستقرت أصبح الظالمون جميعا ً في بقاع الدنيا كلها يحسبون‬
‫لها ألف حساب ‪ ،‬ولقد قال المؤرخون ‪ :‬إن أكبر نكبة أصيبت بها البشرية تلك‬
‫التي حلت بالبشرية يوم تراجعت جيوش المسلمين في أوروبا بعد ما أصابها‬
‫من اندحار ‪ .‬فالواقع أن هذه المة التي ُتربى على أسس القرآن خير وبركة ‪،‬‬
‫ل لنفسها وحسب ‪ ،‬وإنما للنسانية عامة ‪ .‬وانظروا إلى خريطة العالم اليوم ـ‬
‫اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية أو اعتقادية ـ فستجدون أن‬
‫الخبال والضلل قد تغلغل في كل ناحية من نواحي الناس ‪ ،‬لماذا ؟ ليس عند‬
‫المسلمين وحسب وإنما عند الناس عامة ‪ ،‬لماذا ؟ لن هداية القرآن غابت‬
‫من الوجود ‪ ،‬ولن القرآن استحال عند الذين يحرصون عليه ويستحفظونه‬
‫إلى تراتيل ُتقرأ إما على قبور الموتى وإما في الموالد والعياد وإما من وراء‬
‫المذياع ‪ ،‬لكي يعيش بها ويتكسب منها أصحاب الصوات المطلة ‪ .‬أما أن‬
‫يؤخذ هداية فذلك شيء بعيد ‪.‬‬
‫وقفت في الحقيقة عند هذه النقطة لقرر أمرين ‪ ،‬لقرر أول ً ضرورة الحرص‬
‫على القرآن بنصه المنزل وبلفظه العالي وببلغته الراقية استنهاضا ً لهمم‬
‫الشباب أن يتعلموا من لغة العرب ما يستطيعون معه أن يتذوقوا معاني هذا‬
‫الكتاب ‪ ،‬هذا واحد ‪ .‬والشيء الثاني ‪ ،‬لقول ‪ :‬إن معجزة السلم مرتبطة‬
‫بالقرآن الكريم ‪ ،‬فمعجزة السلم معجزة داخلية وليست خارجية ‪ ،‬داخلية أي‬
‫أنها مرتبطة بصميم النص المنزل من قبل الله جل وعل ‪ ،‬هذا اثنان ‪ .‬الشيء‬
‫الثالث ‪ ،‬أن هذا القرآن على ما هو عليه وسيلة فعالة بل هو شد الوسائل‬
‫فاعلية في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وأن الدعوة إلى الله لن تستقيم‬
‫ول تستقيم بتة حتى يتعلم الدعاة كتاب الله جل عل علما ً وعمل ً ‪ ،‬وهذا مؤدى‬
‫كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬وكان الذي أوتيته وحيا ً من الله فأنا‬
‫أرجو أن أكون أكثرهم تابعا ً يوم القيامة ‪ .‬في الحقيقة البوذية والبرهمية‬
‫والكونفوشوسية واليهودية والنصرانية وكل الملل تصّلبت وتجمدت ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت النصرانية تستطيع أن تجد من يعتنقها ويذهب إليها في مجاهل إفريقيا‬
‫بالترغيب أو بالترهيب وبواسطة المبشرين الذين تسير أمامهم جيوش جرارة‬
‫من جيوش الستعمار تفتك وتسلب وتنهب ‪ ،‬إذا كانت الصليبية تجد لها مكانا ً‬
‫تنمو من خلله في تلك البقاع فإن الناس المستنيرين أصبحوا يرفضون‬
‫النصرانية ‪ ،‬وإن الناس المستنيرين أصبحوا ل يرضون باليهودية ‪ ،‬وإن عقائد‬
‫الهند وأديانها الكبرى أصبحت غير مقبولة ‪ ،‬ولكن الدعاية النشيطة فقط هي‬
‫لهذا القرآن ‪ .‬تجد النسان في الهند وفي الصين وفي أوروبا وفي أمريكا‬
‫وفي إفريقيا وفي أي قطر من القطار ‪ ،‬والسلم ـ للسف ليست له دولة‬
‫تحميه ‪ ،‬وليست لدعاته جمعيات تمدهم بالمال أو تدافع عنهم في المحافل ‪،‬‬
‫وإنما هم أناس يذهبون متطوعين ‪ ،‬يعيشون على قروشهم القليلة ‪،‬‬
‫ويتقحمون المخاطر ويلقون أنفسهم بين المهالك ‪ ،‬يعرضون على الناس هذا‬
‫القرآن ‪ ،‬فإذا أنت تجد اليوم أن في ألمانيا وفي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا‬
‫وأمريكا وإنكلترة وأمم كثيرة لم تتعرف على دعوة السلم ل من أحد إل من‬
‫هؤلء الدعاة ‪ ،‬فالسلم يمشي بين الناس باليات التي يتلوها طالب صغير‬

‫‪18‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ذهب من بيتك أيها المسلم فقرأ القرآن في بلد من بلد الغربة فسمعه‬
‫الناس فرأوا ما فيه من هدى وتعرفوا على ما فيه من نور وتلمسوا ما فيه‬
‫من حق وعدل فآمنوا بالسلم ‪..‬‬
‫جاليات السلم تنتشر في الدنيا انتشار النار في الهشيم ‪ ،‬صوروا لنفسكم‬
‫بالله عليكم لو أن وسائل العلم ولو أن أجهزة الدعاوى التي تعمل اليوم في‬
‫جنبات بلد السلم جميعا ً تعرض الميوعة وتعرض الخنوثة والنحلل‬
‫خرت لخدمة مبادئ‬ ‫س ّ‬
‫والفساد ‪ ..‬صوروا لنفسكم لو أن هذه الوسائل ُ‬
‫السلم ولخدمة قضايا القرآن ‪ ..‬ماذا يكون حال الناس ؟ أقول هذا لكي‬
‫ألفت النظر إلى أننا مجرمون ل بحق أنفسنا وحسب ولكن بحق النسانية‬
‫برمتها ‪ ،‬بحق المصير البشري كله ‪ ،‬لننا سكتنا عن هداية القرآن ‪ ،‬ولننا‬
‫أصبحنا نصدر اللهو الرخيص ‪ ،‬نقتل به شمائل الرجولة في نفوس الناس‬
‫وندمر به معاني الفضيلة في واقع المجتمعات الواقعة ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫إن القرآن نزل من السماء على رسول الله صلوات الله عليه وحفظه الله‬
‫تعالى بكفالةٍ منه ‪ ،‬ل ككفالة البنوك يتقرض منها ما يتقرض لكي يكون وسيلة‬
‫هداية للناس عامة ‪ ،‬وسيكون كذلك ‪ .‬هو مشعل يعشو إلى نوره من أراد الله‬
‫به الخير والفلح ‪ ،‬فيا إخوتي إن أردتم كرامة الدنيا وكرامة الخرة فإلى‬
‫القرآن ‪ ..‬يا إخوتي إن أردتم العيش في بلدكم آمنين مطمئنين فإلى‬
‫القرآن‪..‬يا إخوتاه إذ حرصتم على المصير البشري وعلى سعادة النسانية‬
‫فإلى القرآن ‪ ..‬اعلموا أن هذه المة لن تستقيم في شئونها إل إذا أصبح‬
‫القرآن ديدنها الذي ل تغفل عنه ‪ ،‬اقرأوه واعرفوا حدوده وأوامره ونواهيه ‪،‬‬
‫وقفوا حيث يقفكم القرآن‪،‬واذهبوا حيث يأمركم القرآن ‪ ،‬وانتهوا إلى حيث‬
‫يأمركم القرآن ‪ ،‬تفلحوا وتسعدوا وتكونوا أدوات نافعة لهذه النسانية‬
‫المكدودة المتعبة التي أرهقتها وأذلتها دعوات الناس ومبادئ الناس والفساد‬
‫ل وعل أسأل أن يجعلكم‬ ‫المستعرض المتطاول الذي ل يؤذن بانتهاء‪ .‬فالله ج ّ‬
‫تبعا ً لذلك الرعيل الذي سمع القرآن يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم فتلقفه قرآنا ً يستقر في العقول وحقائق تمس شغاف القلوب ومنهاجا ً‬
‫يسير عليه الناس ‪ ..‬وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه‬
‫أجمعين والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫)‪(9 /‬‬

‫تفسير سورة العلى الحلقة الرابعة‬


‫‪1976 / 11 / 5‬‬
‫العلمة محمود م ّ‬
‫شوح‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫استعرضنا معكم في الجمعة الماضية جانبا ً من سورة العلى ونأمل اليوم إذا‬
‫يسر الله تعالى أن نفرغ من الحديث عن هذه السورة إن استيسر ذلك ‪.‬‬
‫ل اسمه ) سنقرئك فل تنسى ‪ ،‬إل ما شاء‬ ‫انتهينا من البحث في قول الله ج ّ‬
‫الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( وعرضنا لبعض التفصيل لما يعنيه هذا‬
‫عنينا بصورة خاصة‬ ‫الكلم ‪ ،‬وعلى وجه الخصوص لما ُيفهم من القراء ‪ ،‬و ُ‬

‫‪19‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالتفرقة بين أمرين ‪ ،‬ما أحوج الناس في هذه اليام إلى أن يفرقوا بينهما ‪،‬‬
‫عنينا بالتفرقة بين مفهوم القراءة العامي المبتذل ‪ ،‬وهو ما يكون من الناس‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫غالبا ‪ ،‬وبين مفهوم القراءة وفاقا لحقائق اللغة ومعطيات اللسان وقوانين‬ ‫ً‬
‫الشريعة ‪ ،‬فرأينا أن القراءة تساوي أن يمتلئ النسان بهذا الذي يقرأ ‪ ،‬وأن‬
‫يخالط منه اللحم والعظم والعصب ‪ ،‬وأن يكون بالتالي محركا ً ومؤثرا ً بارزا ً‬
‫في السلوك ‪ ،‬وبغير هذا فإن القراءة ل تكون أكثر من حركة لسان ل مردود‬
‫لها ول قيمة ‪ ،‬ولعمري إنه يكفي للنسان المسلم أن يلتفت إلى تاريخه ‪..‬‬
‫إلى تلك الفترة المنيرة المضيئة من حياة النسانية ‪ ،‬ويتعرف على ما كان‬
‫يفعله أصحاب رسول الله صلوات الله عليه حينما يتلو عليهم رسول الله‬
‫عليه السلم آيات الله ‪ ،‬فإن تاريخ تلك الفترة مليئ بالشواهد والوقائع التي‬
‫تكشف عن الحرص البالغ الذي كان مستوليا ً على أصحاب رسول الله عليه‬
‫السلم ‪ ،‬من أجل أن يتعرفوا على هذا الكلم الذي يتنزل من عند الله ج ّ‬
‫ل‬
‫وعل ‪.‬‬
‫لكم أن تتصوروا في أذهانكم صورة الرجل الذي آمن بالله واتبع رسوله صلى‬
‫ل‬‫الله عليه وسلم وعاش في شوق شديد إلى سماع المزيد من آيات الله ج ّ‬
‫وعل ‪ ،‬على كثرة الشواغل وضيق ذات اليد وصعوبة طرائق المعاش في ذلك‬
‫الزمان ‪ ،‬وحيثما قلبتم من التاريخ صفحات فأنتم واجدون صورة هذا الرجل‬
‫الذين ُينيب عنه أحد إخوانه ليحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫كي يذهب هو ليضرب في الرض لكي يعيش ‪ ،‬وعهدنا بالناس أنهم إذا انتهى‬
‫ل عليهم التعب ‪ ،‬فهم يلتمسون الراحة ويبتغون‬ ‫النهار وفرغوا من العمل ح ّ‬
‫إليها الوسائل ويطلبون الترويح والتسلية عن النفس ‪ ،‬ولكن هذا الرجل الذي‬
‫أمضى سحابة النهار في تلك الظروف الصعبة يضرب في الرض بمحراثه أو‬
‫بفأسه أو يحمل على كتفه أو يضطرب في سوقه ل ُيحس آلم العمل‬
‫ومتاعبه ‪ ،‬وإنما يحس معتلج الشوق إلى أن يلقى هذا الخ الذي أوكل إليه أن‬
‫يحفظ عنه كلم رسول الله صلى الله علبيه وسلم في هذه المدة التي غابها‬
‫عن المجلس الكريم ‪ ،‬فهو يأخذ في آخر النهار من حقائق التنزيل ما فاته أن‬
‫يسمعه في سحابة النهار‪.‬‬
‫إن هذا الحرص وحده دليل على إدراك جيد لمعنى القراءة ‪ ،‬وأنها عمل يتسم‬
‫بالمسوؤلية ‪ ،‬وليس كما يفعل الناس اليوم ‪ ..‬صفحات تقلب وسطور يمر‬
‫عليها النظر ‪ ،‬قد تتصل بالعقل أو النفس وقد ل تتصل ‪ ،‬وإذا اتصلت فيا‬
‫سوأتاه ‪ ..‬إن هذا المجتمع المسلم منذ انشطر واقعه النساني انشطر أيضا ً‬
‫واقعه العقلي ‪ ،‬منذ أن أصبح الناس يعيشون في رؤوسهم بشيء وفي‬
‫سلوكهم بشيء آخر انشطر أيضا ً جانبهم العقلي ‪ ،‬فأصبحت القناعة شيئا ً ل‬
‫يتصل بالسلوك ول يؤثر على سير النسان ‪ ،‬ول ُيطلب منه أن يكون سكانا ً‬
‫دل لهم دفة الحياة ‪ .‬للسف ذلك هو الذي كان ‪ ،‬وهذا هو المغزى الذي‬ ‫ُيع ّ‬
‫ت الوقوف عنده في السبوع الماضي كي ألفت انتباه الخوة إلى شناعة‬ ‫أطل ُ‬
‫التقصير الذي وقع المسلمون فيه ‪ ،‬نتيجة لعدم الهتمام ‪ ،‬وعدم تناول المور‬
‫بالجدية اللزمة ‪ .‬ما لنا ؟ هذا حديث في الواقع يمزق القلب وهو تتمثل فيه‬
‫مأساة المسلمين ‪ ،‬لنمضي مع اليات ‪.‬‬
‫ل وعل ) سنقرئك فل تنسى ‪ ،‬إل ما شاء الله إنه يعلم‬ ‫بعد أن يقول الله ج ّ‬
‫الجهر وما يخفى ( يتصل الخطاب إلى رسول الله عليه السلم قائل ً‬
‫كر إن نفعت الذكرى ‪ ،‬سيذكر من يخشى ‪ ،‬ويتجنبها‬ ‫) ونيسرك لليسرى ‪ ،‬فذ ّ‬
‫الشقى ‪ ،‬الذي يصلى النار الكبرى ‪ ،‬ثم ل يموت فيها ول يحيا ‪ ،‬قد أفلح من‬
‫تزكى ‪ ،‬وذكر اسم ربه فصلى ‪ ،‬بل تأثرون الحياة الدنيا ‪ ،‬والخرة خير وأبقى ‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن هذا لفي الصحف الولى ‪ ،‬صحف إبراهيم وموسى ( نحن حقا ً محتاجون‬
‫الن إلى شيء من العناية في القول وفي الستماع ‪ ،‬إن هذا القرآن كما‬
‫كررنا مرارا ً جسم واحد ‪ ،‬وكل سورة لها شخصيتها الخاصة ‪ ،‬ومن أشنع‬
‫الخطأ أن تفهم آيات الكتاب الكريم تفاريق وأجزاء ‪ .‬حاولوا أن تلتقطوا‬
‫الخيط الذي يربط هؤلء اليات ‪ ،‬ولنساعدكم على ذلك ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ل وعل ) ونيسرك لليسرى ( فهو مرتبط بالذي قبله ‪ ،‬لحظوا أول ً‬ ‫أما قوله ج ّ‬
‫ل وعل بأنه سيتولى إقراء رسوله الكريم صلوات الله عليه‬ ‫تعهد من الله ج ّ‬
‫هذا القرآن وعلى النحو الذي شرحنا جوانب منه ‪ ،‬إقراًء تمتلئ به النفس‬
‫ويعمر به القلب ويعطر على السلوك آثارا ً مادية واضحة بينة ‪ ،‬ثم ليس يكفي‬
‫أن نقتنع بالشيء وأن يتصل الشيء ذاته بواقع الحياة ‪ ،‬فأنت قد تصطدم‬
‫بظروف ل قبل لك بها ‪ ،‬صعبة للغاية ‪ ،‬ولقد كان من قبل في تاريخ النبوات‬
‫بالذات عوامل من هذا القبيل ‪ ،‬حينما عتت أمم على ربها وتمردت على‬
‫ل وعل ‪ ،‬عاقبها الله تبارك وتعالى بأن شدد‬ ‫شرائع أنبيائه وعصت رسل الله ج ّ‬
‫عليها الوجائب والتكاليف ‪ ،‬فحينما ُأقرئت كتب الله جل وعل اصطدمت‬
‫ّ‬
‫بالواقع الذي ل قبل لها به ‪ .‬فاليسرى جاءت هنا وصفا ً لمجمل الشريعة التي‬
‫حملها محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس ‪ ،‬واليسرى ليس كما يفهم‬
‫قصار النظر أنها هي الشريعة المبنية على التخفيف والتسهيل ‪ ،‬طبعا ً هذا‬
‫فهم قاصر ‪ ،‬فالحقيقة أن السهولة والصعوبة والتخفيف والشدة أمور نسبية ‪،‬‬
‫فما هو صعب على شخص قد يكون سهل ً على آخر ‪ ،‬وما هو سهل يسير على‬
‫زيد قد يكون عسيرا ً على عمرو ‪ ،‬فالمر هنا نسبي ‪ ،‬انتبهوا إلى ما أقرره‬
‫لكم الن ‪ ،‬لكن المسألة كلها ُترد إلى حقيقة ‪ ،‬إن الشرائع تكاليف وأعباء‬
‫وواجبات ‪ ،‬وحين كنا نتحدث في بدايات أحاديثنا منذ سنة وأكثر من نصف‬
‫السنة كنا نستعرض واقع العمل النبوي ‪ ،‬فرأينا من خلل النصوص التي‬
‫استعرضناها أن النبوة تكاليف وأثقال وشدائد ومؤونة ل يستقل بها ول يقوم‬
‫بها إل أولو العزم من الرجال بعون من الله تعالى وتوفيقه ‪ .‬المسألة ل أحب‬
‫أن يقع ما يتردد في كتبه الفقه وكتب أصول الفقه من أن شريعة السلم‬
‫مبنية على المياسرة وعلى المسامحة وعلى السهولة وعلى الخفة ‪ ،‬هذا كلم‬
‫يقال لبيان وصف فقهي وأصولي ‪ ،‬وأما الحقيقة فغير ذلك ‪ ،‬كلم الفقهاء‬
‫ينصب على واقع حصل فيه تغيير يتساوق مع حقائق الشرع ‪ ،‬وأما حين تختل‬
‫المور فالمسألة تختلف ‪ ،‬لقّرب المر ‪ ..‬خذ مثل ً أي جهاز ميكانيكي وخالف‬
‫بين تراكيبه وخالف بين دقائق الجهاز الذي يتركب منه ‪ ،‬إنك ستحصل على‬
‫ن الجهاز يتعطل ويتوقف إذا كانت المخالفة فظيعة‬ ‫واحدة من نتيجتين ‪ :‬إما أ ّ‬
‫وكبيرة ‪ ،‬وإما أن الجهاز يدور ويعمل لكن بمشقة وبعسر ‪ ،‬واحد من أمرين ل‬
‫ثالث لهما ‪ ،‬نفس النسان كذلك ‪ ،‬جهاز مجموعة من الحوافز ‪ ،‬مجموعة من‬
‫الدوافع ‪ ،‬مجموعة من القابليات ‪ ،‬وظيفة الشريعة ماذا ؟ أن تضع كل حافز‬
‫وكل دافع وكل قابلية في مكان الذي تؤدي فيه أداًء كامل ً غير مصطدم وغير‬
‫مضطرب ‪ ،‬حينما تتناسق النفس النسانية بهذا الشكل يكون العمل السلمي‬
‫يسيرا ً غير عسير ‪ ،‬لنه يستخدم كامل الفاعلية في الجهاز الذي هو الشخصية‬
‫النسانية ويستخدمها على وجوهها الصحيحة المضبوطة ‪ ،‬ليس يعني هذا نفي‬
‫التكليف ولكن يعني أن تكون للتكاليف تلك اللذة التي يجدها النسان حينما‬
‫يؤدي عمل ً ما أداًء صحيحا ً ومضبوطا ً ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن النسان حينما يؤدي أي عمل على نحو نموذجي يشعر بهذه الراحة ويشعر‬
‫بهذه اللذة ‪ ،‬تصور أنه أوكلت لك مهمة فأديتها على أحسن ما يرام وعلى‬
‫ً‬
‫أكمل ما يرام وتحملت متاعب ‪ ،‬إنك في هذه الحالة تنسى متاعبك جميعا ‪،‬‬
‫بل إن النسان حينما يستغرقه هذا العمل يجد اللذة والسهولة واليسر‬
‫والراحة في هذا العمل بالذات ‪ ،‬في غمرة العمل وفي ذروته ‪ .‬ومن هنا كان‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادلهمت عليه الخطوب وإذا اشتدت‬
‫عليه متاعب الحياة وإذا عبس الناس في وجهه يفزع إلى الصلة وينادي بلل ً‬
‫قائل ً ‪ :‬أرحنا بها يا بلل ‪ .‬كلم يبدو للناس للذين ل يتأقلمون مع هذه الجواء‬
‫كلما ً مضطربا ً ومتناقضا ً ‪ ،‬إنك في غمرة التعب وتقوم إلى تعب وتصلي صلة‬
‫تقف فيها حتى تتورم قدماك ‪ ،‬أهذه راحة ؟ نعم راحة ‪ ،‬راحة عند النسان‬
‫الذي ينسجم مع العمل ‪ ،‬فوصف الشريعة بأنها يسرى ‪ ،‬ووصف هذا بأن الله‬
‫ييسر النسان له يحمل هذا المعنى ‪ ،‬ول ينبغي أن ُيفهم بصورة باتة عند‬
‫الناس الجادين أن المراد بتكاليف الشريعة هذه العمال الصغيرة ‪ ،‬ركعتان أو‬
‫أربع ينقرهما النسان نقر الديك ثم يمضي ‪ ،‬ول ينبغي أن ُيفهم أنها صيام‬
‫يصومه النسان على أمل أن يلقى مع المغرب مائدة متعددة اللوان وما‬
‫أشبه ذلك ‪ ،‬كل ‪ ،‬تكاليف الشريعة أكبر من هذا وأعمق من هذا ‪ ،‬ولكن‬
‫تيسيرها يتجلى في عبقرية السلم حين يضع كل حاسة من حواس النسان‬
‫وكل حافز من حوافز النسان وكل قابلية من قابلية النسان في المكان‬
‫الملئم له الذي يؤدي فيه أداءه بصورة حرة وبصورة متناسقة مع سائر أجزاء‬
‫هذا الجهاز ‪ ،‬فتكون السهولة ويكون اليسر حاصل ً من هذا الباب ل غير ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫نقول هذا كي ل ينزلق أحد مع هذا الفهم العامي المغلوط ليسر الشريعة ‪،‬‬
‫ة ينعم معها بالسرير الوفير‬ ‫ت ليوفر للنسان راح ً‬‫في الواقع السلم لم يأ ِ‬
‫وبالبال المستريح أبدا ً ‪ ،‬السلم نداء نزل من السماء إلى هذا النسان الذي‬
‫استخلفه الله تعالى في الرض ليمسك بزمام الحياة فيلوي عنانها لي ّا ً عنيفا ً‬
‫حتى يخرجها عن المحور الغلط الذي تسير فيه النسانية ‪ ،‬عمل من هذا‬
‫النوع ل يمكن أبدا ً أن يكون مبناه على السهولة والتفّلت وعلى عدم الهتمام‬
‫ورفض الجدية ‪ .‬يسر الشريعة يجب أن يفهم بهذا الشكل ‪ ،‬ولهذا ُأسند‬
‫ل وعل فل أصعب‬ ‫التيسير إلى الله ما لم يكن في المسألة عون من الله ج ّ‬
‫ول أشق من مواجهة هذه المهمة ‪.‬‬
‫ومن هنا تكتشفون فعل ً معنى هذه الصيغة ) ونيسرك لليسرى ( لم يقل أنك‬
‫ستواجه اليسرى ‪ ،‬ولم يقل أنك ت ُّيسر نفسك اليسرى ‪ ،‬وإنما قال ‪ :‬نحن ـ أي‬
‫الله ـ سوف نيسرك لليسرى ‪ ،‬ما لم يتدارك الله بعنايته النسان فيضعه على‬
‫قاعدة اليمان فإن أي عمل من أعمال الشرع ‪ ،‬حتى الوضوء الذي هو نظافة‬
‫وطهارة وعمل خيري يجده النسان ثقيل ً كالجبل ‪ ،‬فالتيسير من الله‬
‫) ونيسرك لليسرى ( لكن متى جاء هذا ؟ بعد تعهد الله لرسوله عليه الصلة‬
‫والسلم بالقراء ‪.‬‬
‫إذا ً أول خطوة في هذا المنهج الذي تخطه السورة هو عماية القراء التي‬
‫تساوي عملية الفهم والتثقيف ‪ ،‬أنت أيها المسلم مطلوب منك أن تؤدي‬
‫عملك ‪ ،‬لكن قبل أن ترفع قدمك لتخطو الخطوة الولى عليك أن تعرف ماذا‬
‫تريد ؟ ماذا تريد مسطور في هذا القرآن ‪ ،‬قبل أن تتحرك اعرف القرآن‬
‫كله ‪ ،‬والن تكتشفون أن من أكبر من الخطل أن يتطفل على القرآن ناس‬

‫‪22‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يقتطعون منه آيات ليحاولوا فهمها على طرائقهم الخاصة وبأسلوبهم‬


‫المزاجي المائع الخطر ‪ ،‬الن تكتشفون ‪.‬‬
‫بعد أن يقول الله ) ونيسرك لليسرى ( ماذا يقول ؟ يقول ) فذكر ( والخطاب‬
‫ما زال مستمرا ً باتجاهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فذكر إن‬
‫نفعت الذكرى ‪ ،‬سيذكر من يخشى ‪ ،‬ويتجنبها الشقى ‪ ،‬الذي يصلى النار‬
‫الكبرى ‪ ،‬ثم ل يموت فيها ول يحيا ( حينما تعودون إلى كتب التفسير‬
‫وتطالعون فيها ما قاله المفسرون عن هذه الية ‪ ،‬فأنتم تجدون للمفسرين‬
‫كر ( ولكن تتمثل في‬ ‫رأيين بارزين ‪ ،‬المشكلة ليست تتجلى في كلمة ) فذ ّ‬
‫كلمة ) إن نفعت الذكرى ( هذا شرط ‪ ،‬الذين يعرفون اللغة العربية يعرفون‬
‫معنى الشرط ‪ ،‬كأنما ظاهر الية يقول لرسول الله عليه السلم ‪ :‬ذك ّْر طالما‬
‫ت أن الذكرى نافعة ‪ ،‬وأما إذا كانت الذكرى غير نافعة فل عليك أل‬ ‫وجد َ‬
‫كر ‪ ،‬هذا ظاهر الكلم ‪ ،‬وللسف بعض المفسرين سقطوا في هذا الفهم‬ ‫ُتذ ّ‬
‫القاصر ‪ ،‬بعضهم الخر حمل المسألة على اتجاه غير هذا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬مراد الله‬
‫ل وعل في ذلك أنه ) فذكر إن نفعت الذكرى ( بالنسبة للناس الذين‬ ‫ج ّ‬
‫يؤمنون ‪ ،‬وأما بالنسبة للناس الذين أعلمناك أنهم لن يؤمنوا كالوليد بن‬
‫كرهم ‪ ،‬وعجيب أن تفهم آيات الله على هذا النحو ‪،‬‬ ‫المغيرة وأضرابه فل تذ ّ‬
‫وهذا هو خطر التجزئة في فهم القرآن الكريم ‪ ،‬إن أي معنى وأية فكرة تريد‬
‫أنت أن تفهمها بالضبط فعليك أن تستجمع كل الصيغ الواردة في هذا المعنى‬
‫وتضعها أمامك ‪ ،‬وعليك أن تنسق وترتب وأن تصل إلى الفهم من خلل هذه‬
‫الصيغ جميعا ً ‪ ،‬أما من صيغة واحدة فالمر خطر ‪ ،‬قلنا للمفسرين رأيان‬
‫أحدهما هذا الخير والثاني الذي قلناه لكم أول ً ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنه جاء على سبيل‬
‫التعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لماذا ؟ قالوا ‪ :‬إن رسول الله‬
‫حين جاءته الرسالة من الله تبارك وتعالى وُأمر بالبلغ صدع بأمر ربه وأبلغ‬
‫الناس وكانت مواقف الناس منه متباينة ‪ ،‬منهم من قبل ومنهم من أعرض‬
‫ومنهم بين بين ومنهم من تمادى في العنفوان ‪ ،‬ومن تمادى في الصد ومن‬
‫تمادى في العداوة ‪ ،‬والرسول عليه الصلة والسلم بشر يتألم كما يتألم‬
‫ل وعل أبان‬ ‫البشر ‪ ،‬وينزعج لهذه الظواهر ‪ ،‬ويضيق صدره ‪ ،‬ويحزن ‪ ،‬والله ج ّ‬
‫ذلك في الكتاب ) قد نعلم أنه يحزنك الذين يقولون ( وأبان عن جانب مقابل‬
‫وهو أن هذا النبي المكلف كان يتحّرق شوقا ً أن يتقبل الناس كلهم هذه‬
‫الرسالة ) فلعلك باخع نفسك ( أي مهلكها وقاتلها ) على آثارهم إن لم يؤمنوا‬
‫بهذا الحديث أسفا ( كانت رغبة الرسول عليه الصلة والسلم من الشدة في‬
‫الحد الذي استوجبت أن ينزل الله عليه آيات تعزيه وتسليه وتهون عليه من‬
‫شأن هذا العراض كي ل تتأثر صحة الرسول عليه الصلة والسلم ‪ ،‬قالوا هذا‬
‫من ذلك الباب ‪ ،‬فحينما كان الرسول عليه الصلة والسلم يقاَبل في‬
‫كر ( طالما رأيت أن المور‬ ‫العراض أنزل الله عليه هذا الكلم ليعزيه ) فذ ّ‬
‫ماشية في طريقها ‪ ،‬وأن التذكير نافع ‪ ،‬وأما في غير هذه الحالت فخذ راحتك‬
‫‪ ،‬ل تذكر أحدا ً ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫عجيب هذا الكلم ‪ ..‬انظروا حينما نأخذ المر في إطاره الصحيح ‪ ،‬نحن نقرأ‬
‫ل وعل ) إن الذين حقت عليهم كلمة ربك ل يؤمنون (‬ ‫في الكتاب قول الله ج ّ‬
‫وهذا نفي ليمان طوائف من الناس حق عليهم أن يموتوا على الكفر ويدخلوا‬
‫النار ‪ ،‬ونحن نقرأ في فواتح البقرة ) إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم‬

‫‪23‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أم لم تنذرهم ل يؤمنون ( فإن قمت بالنذار والبلغ وإن قعدت فهؤلء لن‬
‫يؤمنوا ‪ ،‬إذا ً فهنالك صنف من الناس لن تجدي فيهم الموعظة ‪ ،‬ولن يبلغ‬
‫فيهم التذكير أي مبلٍغ ‪ ،‬ما الموقف من هؤلء الناس ؟ هل نحجب عنهم‬
‫ل المشكلة معنا تماما ً ‪ ،‬إننا‬ ‫التذكرة والبلغ ؟ هنا لب المشكلة ‪ ،‬نسأل لتح ّ‬
‫ل وعل قضى على بعض الناس أن ل يؤمنوا مهما‬ ‫نعرف قطعا ً أن الله ج ّ‬
‫ل وعل تكلم‬ ‫جئتهم بأية آية ‪ ،‬لو جئتهم بكل آية ما قبلوا منك شيئا ً ‪ ،‬والله ج ّ‬
‫عن طوائف من أهل الكتاب فقال ) ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما‬
‫تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت‬
‫أهواءهم بعد الذي جاءك من الله من العلم مالك من الله من ولي ول نصير (‬
‫إذا ً فهناك طائفة من الناس ل سبيل إلى أن تهتم بهم ‪ ،‬والمشكلة تكون‬
‫صحيحة حينما نعلم أعيان هؤلء الناس ‪ ،‬نعرف أن فلنا ً وفلنا ً وفلنا ً محكوم‬
‫عليهم بعدم اليمان ‪ ،‬في هذه الحالة فقط يكون توجيه البلغ إليهم عبثا ً ‪ ،‬لنه‬
‫بمثابة صب الماء على الصفا والصخر الصم لكي تستنبت منه الزرع‬
‫والثمار ‪ ،‬شيء في غير محله ‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن الواقع خلف هذا ‪ ،‬الواقع أن الله جل وعل أبهم هذا المر ‪ ،‬قضى أن‬
‫أناسا ً لن يؤمنوا ‪ ،‬ولكن لم يكشف لنا عن أسمائهم ول أشخاصهم ول أعيانهم‬
‫ل وعل أراد أن يعوم‬ ‫‪ ،‬ولو كشف لنا ذلك لتعطلت حكمة الخلق كلها ‪ ،‬الله ج ّ‬
‫البلغ ‪ ،‬فلهذا أبهم ‪ ،‬وإبهامات الشرع واضحة ‪ ،‬أنتم الن في يوم جمعة‬
‫والرسول عليه الصلة والسلم أخبر أن في يوم الجمعة ساعة هي ساعة‬
‫الجابة ‪ ،‬ل يوافقها عبد مسلم فيدعُ الله تعالى بشيء من أمر الدنيا أو الخرة‬
‫إل أعطاه الله إياه ما لم يدع ُ بإثم أو بقطيعة ‪ ،‬لكن متى ؟ ل أحد يعلم ‪،‬‬
‫الساعة هل هي مع الفجر أم بعد الفجر بعد الشمس وقت الصلة قبل‬
‫ل وعل أراد أن يكون هذا‬ ‫المغرب مع المغرب ؟ ل أعلم ‪ ،‬حينما أبهمها الله ج ّ‬
‫البهام محرضا ً ومحركا ً للمسلم كي يرغب إلى الله تعالى في يوم الجمعة‬
‫بكامله ‪ ،‬هذه حكمة البهام ‪.‬‬
‫حكمة البهام فيما يتعلق بأعيان الشخاص الذين لم يؤمنوا تتجلى في عموم‬
‫ل وعل ) فذكر إن نفعت الذكرى ( يجب أن نعيد‬ ‫البلغ ‪ ،‬إذا ً فمراد الله ج ّ‬
‫ل وعل الذي أبهم علينا هذه الشياء ‪ ،‬الذكرى ل تنفع‬ ‫الشرط إلى الله ج ّ‬
‫الناس الذين يعلم الله عنهم أنهم لن يؤمنوا ‪ ،‬وأما نحن المأمورين بالبلغ‬
‫م بالبلغ جميع الناس ‪ ،‬إن رأينا إعراضا ً من‬ ‫والتذكير فواجب علينا أن نع ّ‬
‫كرنا ‪ ،‬وفي الليل نذكر وفي النهار‬ ‫كرنا ‪ ،‬وإن رأينا إقبال ً من الناس ذ ّ‬ ‫الناس ذ ّ‬
‫كر ‪ ،‬وفي كل آناتنا وفي كل حالتنا نوالي التذكير ونوالي البلغ ‪.‬‬ ‫نذ ّ‬
‫وأما أمر القلوب وانقيادها إلى هذا التذكير فليس إلينا ‪ ،‬وإنما إلى الله ج ّ‬
‫ل‬
‫وعل الذي بيده وبين أصبعيه قلوب العباد جميعا ً ‪ ،‬إن شاء أن يقيمها أقامها‬
‫وإن شاء أن يزيغها أزاغها ‪ .‬هنا ينحل معنا معنى الية ) فذكر إن نفعت‬
‫الذكرى ( ويزيد ذلك وضوحا ً ما يأتي بعد ذلك ) سيذكر من يخشى ‪،‬‬
‫ويتجنبها ( أي يتجنب الذكرى ويبتعد عنها ) الشقى ‪ ،‬الذي يصلى النار الكبرى‬
‫‪ ،‬ثم ل يموت فيها ول يحيا ( اليات إذا ً يحلها ما بعدها ‪ ،‬ها هنا في اليات التي‬
‫جاءت بعد ذلك يعرض الله لنا نموذجين من الناس ‪ ،‬بقطع النظر عن السماء‬
‫من يخشى وعندنا‬ ‫وعن الشخاص عن الزمان وعن الوصاف ‪ ،‬هنا عندنا َ‬
‫ل وعل ‪ ،‬والخشية ليست فقط مجرد هذه‬ ‫من يخشى الله ج ّ‬ ‫الشقى ‪َ ،‬‬
‫القشعريرة التي تعتري النسان حينما يسيطر عليه عامل الخوف من شيء‬
‫ما ‪ ،‬هذا مظهر ساذج وأولي ‪ ،‬الخشية هي حصيلة لنظر متراحب يقوم به‬
‫النسان ‪ ،‬حينما ينظر النسان بصدق وأمانة وبتجرد إلى ذاته يشعر بأن هذه‬

‫‪24‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫جد ‪ ،‬ومهما سلسنا‬ ‫الذات لم تخلق من ذات نفسها ‪ ،‬وإنما ُوجدت بمو ِ‬
‫الموجدات فنحن واصلون قطعا ً بقضية العقل إلى الموجد الولي وإلى‬
‫السبب الولي وهو الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وحينما ننظر في نفوسنا فنجد وكما‬
‫ل وعل خلقنا فقدر وهدى ‪ ،‬أي وضع كل‬ ‫مّر معنى في نفس السورة أن الله ج ّ‬
‫شيء في مكانه اللئق ‪ ،‬ونعرف من ذواتنا ومن نفوسنا ومن أشخاصنا قيمة‬
‫هذا البداع وهذا التنسيق الذي عليه القرآن سواء في الحواس الظاهرة أو‬
‫الحواس الباطنة ‪ ،‬سواء في القوى العضلية والبدنية أم في القوى الروحية‬
‫والعقلية ‪ ،‬حينما ننظر إلى هذا البداع نحكم بأن عقل ً مدبرا ً على غاية ما‬
‫يكون من القوة والقتدار هو الذي أوجد هذا النسان ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫حينما نصل إلى قناعات من هذا النوع بمجرد النظر المخلص نحكم بأن هذا‬
‫العقل المبدع ‪ ،‬هذه الذات الخالقة ‪ ،‬ل يمكن أن تخلق النسان عبثا ً ‪ ،‬حينما‬
‫نظر في الفاق نتعرف على مكاننا من الوجود ونتعرف على الغاية التي خلقنا‬
‫ل وعل ) وفي أنفسكم أفل تبصرون (‬ ‫من أجلها ‪ .‬وهنا يأتي قول الله ج ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مصداق لهذا الكلم ‪ ،‬وهنا يأتي أيضا جل اسمه ) سنريهم آياتنا في الفاق‬
‫ف بربك أنه على كل شيء‬ ‫وفي أنفسهم حتى يتبين له أنه الحق أو لم يك ِ‬
‫خلقنا ننظر لغاية ‪ ،‬وغاية عظيمة ‪،‬‬ ‫شهيد ( حينما ننظر هذا النظر نشعر بأننا ُ‬
‫رشحتنا لها تلك القوة التي أوجدتنا ‪ ،‬فنعلم أننا مطالبون بها ‪ ،‬وأننا لم نترك‬
‫في هذه الدنيا بل سؤال وبل حساب ‪ ،‬حينئذٍ نستشعر الخشية ‪.‬‬
‫هل الخشية أن يخرج عليك سبع فتدفعك غريزة البقاء وحب الحياة إلى أن‬
‫تشعر بهذا الضطراب وهذه القشعريرة ؟ هل الخشية أن تسمع القرآن يتلى‬
‫بنغم رائع يلمس أوتار القلوب ويثيرك كلمه ويحرك حس الجمال فتشعر أن‬
‫صف ؟ ل ‪ ،‬المسألة أبعد من ذلك ‪ ،‬المسألة تتصل بصميم الرسالة‬ ‫جلدك يتق ّ‬
‫ومكان النسان من الوجود وغاية النسان في هذا الوجود ‪ ،‬هذا الصنف من‬
‫الناس الذي يوجد لديه استعداد لن يتعرف على خالقه ويتعرف على مكانه‬
‫من الوجود ويتعرف على الغاية التي ُوجد من أجلها هو الذي ُتجدي معه‬
‫الذكرى ‪ ،‬لكن هل تستطيع أن تقول لي إنني أستطيع وأقدر أن أتبين هؤلء‬
‫الناس بلون اللباس أو بلون الوجه أو بطريقة الكلم ؟ ل ‪ ،‬المسألة قلبية‬
‫صرفة ‪ ،‬وهذه مغيبة ل أحد يعرفها على الطلق ‪.‬‬
‫كذلك الصنف الخر ) الشقى ( الذي تحجر فكره وتصلب قلبه وأعرض عن‬
‫النظر في كل آية ‪ ،‬هل تستطيع أن تعطيني صورة له ؟ هل تستطيع أن‬
‫ل وعل لكي يحل الشكال الذي‬ ‫تمنحني علمة فارقة له ؟ ل ‪ ،‬إذا ً فالله ج ّ‬
‫ل وعل ) فذكر إن نفعت‬ ‫توهمه بعض الناظرين في القرآن في قوله ج ّ‬
‫ة باليات التالية ) سيذكر من يخشى ‪ ،‬ويتجنبها‬ ‫الذكرى ( يحل الشكال كلي ً‬
‫ً‬
‫الشقى ( لحظوا كلمة ) يتجنبها ( يتجنب ماذا ؟ يتجنب الذكرى ‪ ،‬إذا فهنا‬
‫تذكير وهنا إنسان متجنب ‪ ،‬لو كان المعنى ‪ :‬أن عليك يا محمد أن تذكر الناس‬
‫طالما نفعتهم الذكرى وأن تكف عنهم ول تذكرهم إذا لم تنفع الذكرى ‪ .‬لما‬
‫كان لكلمة ) يتجنبها ( أي معنى ‪ ،‬لن النطباع الذي يخرج به السامع من قول‬
‫كر الذي ُيعرض‬ ‫كر وصورة المذ َ‬‫الله ) يتجنبها ( انطباع عن صورة ‪ ،‬صورة المذ ِ‬
‫ويصد ‪ .‬وإذا ً فواقع المر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر الناس‬
‫ّ‬
‫جميعا ً ‪.‬‬
‫هذا من الناحية اللغوية ومن الناحية الشرعية ومن الناحية السلوكية ل بد من‬

‫‪25‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النظر ‪ ،‬لن المسألة لها اتصالها المباشر بعمل الدعوة ‪ ،‬وأنا أحب لكل‬
‫الشباب الذين يهتمون بالسلم أن يعرفوا هذا الكلم ‪ ،‬لو أننا فسحنا المجال‬
‫للناس أن يقوموا بالتذكير والتبليغ طالما أحسوا من الناس إقبال ً ‪ ،‬وأن يكفوا‬
‫عن الدعوة حينما يجدون من الناس إعراضا ً لّدى المر إلى فساد عريض ‪،‬‬
‫التقدير الشخصي يختلف ‪ ،‬أنا ربما تكلمت معك كلما ً فيما يتعلق بالسلم‬
‫فأجد منك صدودا ً قليل ً ‪ ،‬ربما أكون كسول ً ربما أكون متعاجزا ً ربما أكون غير‬
‫صادق اليمان ‪ ،‬فأنا أضخم هذا العراض ‪ ،‬حينما تكون درجته واحدا ً أرفعه‬
‫بهذه العوامل اللشعورية لتكون درجته مائة ‪ ،‬وإذا ً أحكم عليك سلفا ً بأنك من‬
‫الصنف الذي ل يؤمن ‪ .‬فمن الناحية السلوكية ل يمكن بصورة باتة أن يفتح‬
‫ل وعل هذا الباب الواسع نحو القعود والتخلف عن الدعوة ‪ ،‬إن على‬ ‫الله ج ّ‬
‫ّ‬
‫ل وعل أن يذكر ‪ ،‬ل عليه ما تكون عليه حال‬ ‫النسان الداعي إلى الله ج ّ‬
‫الناس ‪ ،‬قد يستجيبون وقد ل يستجيبون ‪ ،‬ذلك ليس إليك وأنت لن تحاسب‬
‫على هذا الساس ‪ ،‬أنت تحاسب فقط على أداء الواجب ‪ ،‬واجبك ينحصر‬
‫فقط بالتذكير ‪ ،‬فإن تقّبل الناس منك فبها ونعمت ‪ ،‬وإل فقد أديت الذي عليك‬
‫كر أن عليك أن تسير الطريق منذ أن تعقل ما ينبغي وما ل ينبغي‬ ‫ولكن اذ ُ‬
‫وإلى أن تموت ‪ .‬أما أن تقعد عن الدعوة إلى الله تحت أي ظرف من‬
‫ل‬‫الظروف ‪ ،‬تحت أي عامل من العوامل ‪ ،‬فهذا هو الخطأ الذي سد الله ج ّ‬
‫وعل الباب بينك وبينه ‪.‬‬
‫) الذي يصلى النار الكبرى ( ووصف النار بالكبرى وهو مبالغة لتضخيم هذا‬
‫العذاب الذي يلقاه ) ثم ل يموت فيها ول يحيا ( وهذا أيضا ً تضخيم ‪ ،‬إن الموت‬
‫راحة ‪ ،‬في الواقع في بعض الحيان حتى بالنسبة إلى الحياء يكون الموت‬
‫راحة ‪ ،‬ولكن أن ل يموت النسان فيستريح ‪ ،‬وأن ل يحيا فيشعر بلذة الحياة‬
‫ذلك هو العذاب المهين ‪ ،‬فالعاقبة التي خّبأها الله تعالى لهؤلء الذين‬
‫ُيعرضون عن الله بعد استفراغ المجهود في الدعوة إلى الله ‪ ،‬تلك هي‬
‫عاقبتهم ‪ ،‬نار تلظى ل يموتون فيها فيستريحون من حس العذاب وألم‬
‫العذاب ول يعيشون عيشة البرار في جنة عرضها السماوات والرض ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫بعد كل هذا وبعد كل المراحل ‪ ،‬القراء أول ً والفهم والمعرفة والوعي‬


‫والتيسير من الله جل وعل إلى الطريقة المثلى أن يعرف النسان أن عليه ـ‬
‫لكي تكون المور يسيرة بالنسبة إليه ـ أن يضع نفسه على المحاور التي‬
‫خطها الله جل وعل ‪ ،‬والتذكير بعد ذلك للناس بعد امتلء النفس بالقرآن وبعد‬
‫معرفة النسان بالشريعة وأسرارها ‪ ،‬تذكير الناس ودعوتهم إلى الله ‪ ،‬يأتينا‬
‫درس من أبلغ الدروس ولعله أن يكون الفارق الحاسم بين هذا السلم وبين‬
‫كل دعوة عرفتها الدنيا منذ أن بدأت الدنيا وإلى أن تقوم الساعة ‪.‬‬
‫ل وعل ) قد أفلح من تزكى ‪ ،‬وذكر اسم ربه فصلى ‪ ،‬بل تؤثرون‬ ‫يقول الله ج ّ‬
‫الحياة الدنيا ‪ ،‬والخرة خير وأبقى ‪ ،‬إن هذا لفي الصحف الولى ‪ ،‬صحف‬
‫إبراهيم وموسى ( يعني هذه الطريقة هذا الكلم مسطور في الصحف الولى‬
‫‪ ،‬صحف إبراهيم وموسى ‪ ،‬يعني أن هذا نهج النبياء ونهج النبوات وصميم‬
‫الرسالت كلها ‪ ،‬ما خلت رسالة لله جل وعل من الضرب على هذا الوتر ‪ ،‬ما‬
‫هو هذا الوتر ؟ ) قد أفلح من تزكى ( نحن نسمع يا إخوة ول سيما في هذا‬
‫العصر أن النسان تؤثر فيه الظروف والعوامل الخارجية ‪ ،‬وهذا صحيح ول‬
‫مجال للنقاش من حوله ‪ ،‬ولكنه نصف الحقيقة ‪ ،‬ونصفها غير المهم ‪ ،‬نحن‬

‫‪26‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ضْعه بين‬‫نعرف أن الظروف تؤثر على النسان ‪ ،‬تعال إلى إنسان تقي و َ‬
‫أشرار ‪ ،‬زناة ‪ ،‬شربة خمور ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬فستجده مع الزمن يتأقلم مع‬
‫الجو وينسى قواعد التقوى ‪ ،‬وُرّبما انزلق فذهب بعيدا ً في طريق المعصية ‪،‬‬
‫إن الظروف ل شك تؤثر على النسان ‪.‬‬
‫أيضا ً أنت حينما تطالب النسان بأن يكون سليم الطوية بريء الصدر من‬
‫الحقد ومن الغي ومن الحسد ‪ ،‬أنت مطالب بأن تضع هذا النسان في وسط‬
‫من الشروط المادية تجعله ل يقابل المهيجات التي تدفع إلى هذه الخلئق‬
‫الذميمة ‪ ،‬هذا كله صحيح ‪ .‬لكن لو جئت إلى إنسان فقير وحكمت عليه بأن‬
‫يعيش بين أصحاب القصور والمترفين والمنعمين وهو على فقره وخصاصته‬
‫ورثاثة حاله فإنه بمطالعة النعيم الذي ُيحَرم منه سيشعر بألم الحرمان‬
‫وستنمو في داخل نفسه دوافع الحسد ‪ ،‬وحينئذٍ يتخرب صدره ويتوسخ قلبه ‪،‬‬
‫إننا ل ننكر أهمية الشروط أبدا ً ‪ ،‬لكنا نسأل هذه الشروط أهي قدر المقدور ؟‬
‫أهي شيء مفروض على النسان ل حيلة له تجاهها ؟ ل ‪ ،‬إن الشروط قائمة‬
‫ومؤثرة ‪ ،‬ولكن النسان هو الذي يغير الشروط ‪ ،‬ومتى يغير الشروط ؟ حينما‬
‫تتحصل لديه قناعتان ‪ ،‬انتبه ‪ ،‬أول القناعتين أن يعلم أن هذه الشروط القائمة‬
‫فاسدة ‪ ،‬وثانية هاتين القناعتين وأهمهما أن يعلم أن تغيير هذه الشروط‬
‫يساوي حياته أو يزيد على حياته ‪ .‬أي حينما يشعر أن هذه الشروط القاسية‬
‫سوف تدمر حياته ‪ ،‬وأنه إن أراد حقا ً فعليه أن يغير هذا الشروط ولو أدى‬
‫ذلك إلى إهلك حياته ‪ ،‬حينئذٍ فهذا النسان هو الذي سيغير الشروط ‪ .‬نحن ل‬
‫نقول إن الشروط المادية والشروط المجتمعية ل قيمة لها ‪ ،‬ولكنا نقول إن‬
‫هذا نصف الحقيقة فقط ونصفها غير مهم ‪ ،‬والنصف الثاني والمهم جدا ً أن‬
‫يقوم النسان ببذل مجهود خاص ذاتي نابع من ذاته بهدف تغيير هذه الشرائط‬
‫‪ ،‬هذا هو المعبر عنه بالتزكية ‪.‬‬
‫إن النسان حينما يتصور أننا سوف نرقيه إلى مرتبة الملئكة حينما نهّيئ له‬
‫النظام السياسي الديمقراطي ‪ ،‬وسوف نرقيه إلى رتبة الملئكة حينما نهيئ‬
‫له النظام الشتراكي الذي يضمن له القوت يكون واهما ً ويكون مخطئا ً خطأ‬
‫مفظعا ً جدا ً لماذا ؟ إن الديمقراطية السياسية وهي أرقى أشكال الحكم‬
‫جميعا ً ما منعت الظلم وما منعت الرهاب وثمة حد محدود تنفجر عنده‬
‫الديمقراطية ‪ ،‬حينما تهدد أرباب المصالح ‪ ،‬وفي النظام الشتراكي الذي وّفر‬
‫القوت بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي أخذه من المجتمع النساني‬
‫على حساب الحرية وعلى حساب الكرامة وعلى حساب المعنى الدمي ‪ ،‬مع‬
‫ذلك فالنظام الشتراكي لم يلِغ من نفس النسان هذا الشره الذي يدفع إلى‬
‫السرقة ويدفع إلى الرشوة ويدفع إلى الطمع ‪ ،‬ولعل الروائح كريهة جدا ً في‬
‫وسط النظمة الشتراكية التي تعيش اليوم ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫المسألة ليست في القشور ‪ ،‬ما ترونه من واقع بشري فهو ظاهر يمور تحته‬
‫المعنى النساني ‪ ،‬إن هدف النسان المسلم ينصب على هذه العوامل التي‬
‫تغير في الشرط النسان ل في الشرط المجتمعي ‪ ،‬إن الشرط النساني‬
‫حين يتغير فل بد أن يتغير الشرط المجتمعي تبعا ً لذلك وحكما ً كما تقول ‪:‬‬
‫واحد زائد واحد يساوي اثنين ‪ ،‬كذلك حينما يتغير الشرط النساني يتغير‬
‫شرط المجتمع ‪ .‬أما أن نكف عن بذل أي مجهود كما يفعل دعاة الحركات‬
‫والمذاهب المحدثة يريدون من النسان تأييده وانتظامه في الحزب وانتسابه‬

‫‪27‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إلى الجماعة ‪ ،‬ول عليهم أن يكون هذا النسان طاهر القلب نقي السريرة‬
‫زاكي الخلق ‪ ،‬هؤلء يغامرون بالمصير البشري كله ‪ ،‬إن البناء يبدأ من داخل‬
‫النفس ‪ ،‬وهنا تتركز مسؤولية كل إنسان تجاه نفسه ‪ ،‬إن مرقاة الصلح‬
‫ل وعل‬ ‫البشري تبدأ من صلح النفس النسانية بالذات ‪ .‬ولهذا يقول الله ج ّ‬
‫تتويجا ً لكل هذا المنهج الذي رسمته هذه السورة ) قد أفلح من تزكى ( قد‬
‫أفلح وفاز ونجح ‪ ،‬نجح في المتحان الرهيب من تزكى وبذل مجهودا ً خاصا ً‬
‫من أجل أن يعيد بناء نفسه على قاعدة تساعد على إصلح هذه الحياة ‪.‬‬
‫) وذكر اسم ربه فصلى ( بقي متعلقا ً في ذلك الخالق الذي خلقه لغاية ‪،‬‬
‫والذي سيأخذه بالحساب العسير حين يفرط بهذه الغاية التي خلقه من‬
‫أجلها ‪ ،‬ولكن انظروا‪ ..‬إعجاز القرآن يا إخوة إن القرآن ل يتركك أمام تقرير‬
‫هذه الواقعة الصميمية فحسب ‪ ،‬وإنما يكشف أمامك الغطاء عن وجه العلة ‪،‬‬
‫لماذا يشد النفس ؟ لماذا بعد أن تتضح لهم الدلئل وتقوم الحجة عليهم لماذا‬
‫ل عل ) بل تؤثرون الحياة الدنيا ‪ ،‬والخرة خير‬ ‫يعرضون ؟ يقول لك الله ج ّ‬
‫وأبقى ( ها هنا نظران ‪ ،‬نظر ينغمس مع واقع الحياة بأطماعها بشهواتها‬
‫بأشيائها بمالها بنسائها بكل شيء فيها مما يربط النسان إلى الرض ويشده‬
‫نحوها شدا ً عنيفا ً ‪ ،‬ونظر يتجاوز هذا ‪ ،‬بل يستخدم هذا كله من أجل أن‬
‫يستقيم الناس على الجادة الصحيحة الموصلة إلى بر السلمة بالنسبة إلى‬
‫ل وعل ‪ .‬إن شرط التزكي هو تخفيف‬ ‫النسان والموصلة إلى رضوان الله ج ّ‬
‫التعلق بأشياء الدنيا ‪ ،‬إنك حينما تكون مستعبدا ً لشياء الدنيا تنافي غاية‬
‫السلم ‪ ،‬هذا السلم جاءك أيها النسان فوجدك عبدا ً لهذه الدنيا ‪ ،‬عبدا ً‬
‫للعراف عبدا ً للتقاليد عبدا ً للعادات الجتماعية عبدا ً للطواغيت عبدا ً للموال ‪،‬‬
‫ل وعل أن يحررك من كل هذه العلئق ‪ ،‬وأن يجعل هذه العلئق‬ ‫فأراد الله ج ّ‬
‫ل وعل لنا عن العلة التي تشكل الدافع‬ ‫كلها عبيدا ً لك ‪ ،‬فمن هنا كشف الله ج ّ‬
‫الذي يدفع النسان عن الطريق السوي ‪ ،‬هي التعلق بالدنيا ‪ ،‬أتريدون أمثلة ؟‬
‫سأضرب لكم بعض المثلة ‪ ،‬سأضرب لكم أمثلة من التاريخ وسأضرب لكم‬
‫أمثلة من الواقع ‪.‬‬
‫أما أمثلة التاريخ فنحن نعرف بدون حاجة إلى تفاصيل أن المسلمين ملكوا‬
‫الدنيا ‪ ،‬وأن كلمة واحدة تخرج من بين شفتي الحاكم أو المير أو الخليفة‬
‫كافية لتدمير مجتمعات بكاملها ‪ ،‬ومع ذلك فهذه القوة الهائلة التي ُوضعت‬
‫بين يدي المسلمين لم تدفع المسلمين أبدا ً إلى أن يتزحزحوا عن قسطاس‬
‫العدل والستقامة الذي فرضه الله والذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ .‬لكن القوة في المجتمعات المعاصرة تجعل من الحاكم إلها ً في‬
‫الرض من دون الله ُيعبد ‪ ،‬وحسبك أن توجه إلى الحاكم أي نقد لتعيش‬
‫السنين تأكلك رطوبة البقية بعد أن تكون السياط قد جلدتك حتى الموت ‪،‬‬
‫هذا فارق هائل ‪ ،‬إن المسلمين ملكوا الدنيا وفاضت الموال بين أيديهم كأنهار‬
‫ت تجد الواحد منهم يملك عشرات اللوف يهبها ول يبالي ماذا‬ ‫‪ ،‬ومع ذلك فكن َ‬
‫سيكون حاله في الغد ‪ ،‬كانت عائشة رضي الله عنها صائمة فجاءها عطاؤها ‪،‬‬
‫وعطاء أمهات المؤمنين اثنا عشر ألف درهم في السنة تساوي بعملة اليوم‬
‫مئات اللوف من حيث القوى الشرائية ‪ ،‬فلما جاءها قالت لجاريتها ‪ :‬يا فلنة‬
‫ضعي فوق هذا المال ثوبا ً فغطت المال كي ل تؤذي نفسها من منظر المال ‪،‬‬
‫وأصبحت تدخل يدها من تحت الغطاء فتقبض وتقول للجارية اذهبي بهذا إلى‬
‫كشف الغطاء لم يبقَ أي‬ ‫بيت فلن ‪ ،‬اذهبي بهذا إلى أيتام فلن ‪ ،‬حتى إذا ُ‬
‫شيء ‪ ،‬قالت لها الجارية ‪ :‬يا أم المؤمنين لو أبقيت لنا درهما ً نشتري لك به‬
‫لحما ً تفطرين عليه ؟ قالت يا بنيتي لو ذكرتني لفعلت ‪ .‬نسيت نفسها ‪ .‬الناس‬

‫‪28‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الذين ُيستعبدون لشياء الدنيا ناس فقراء من حيث التربية السلمية والتربية‬
‫اليمانية ‪ ،‬لكن الناس المؤمنين يستعبدون أشياء الدنيا ليسخروها نحو الغاية‬
‫المثلى ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫أتريدون أمثلة من الواقع ؟ سأقول لكم ‪ ،‬إن الدنيا اليوم تزخر بالدعوات‬
‫وكلها تسير في اتجاه مضاد لهذا السلم ‪ ،‬في اتجاه معاد لدعوة الله ج ّ‬
‫ل‬
‫وعل ‪ ،‬وهذه الدعوات الفاسدة المفسدة الضالة المضلة المخربة سرت بين‬
‫المسلمين ‪ ،‬بل لعلها اليوم أغلب ما يكون بين المسلمين ‪ ،‬مع ذلك فأنت تجد‬
‫من رواد الحزاب وأحلس هذه الحركات أناسا ً مسلمين ‪ ،‬تعال معهم وقل ‪:‬‬
‫يا أخانا أعندك شك في الله ؟ يقول لك ‪ :‬معاذ الله ‪ .‬أتشك في صلحية‬
‫السلم ؟ يقول لك ‪ :‬معاذ الله ‪ .‬إذا ً ما شأنك مع هؤلء الناس وهم كيت‬
‫وكيت وكيت ‪ ،‬حاضرهم مستقبلهم أخلقهم أوصافهم ‪ ،‬أينسجم ذلك كله مع‬
‫السلم ؟ يقول لك ‪ :‬مصلحة ‪ .‬يريد أن يتوظف ‪ ،‬يريد أن يحفظ رزقه ‪ ،‬يريد‬
‫أل تتأثر تجارته ‪ ،‬يريد أن يبقى محافظا ً على زراعته ‪ .‬إذا ً فهي شهوات وإذا ً‬
‫ل وعل ) بل تؤثرون الحياة الدنيا ( السبب الذي‬ ‫فصدقا ً وحقا ً ما قال الله ج ّ‬
‫يدفعكم بعيدا ً عن الله ليس سببا ً عقليا ً ول سببا ً إنسانيا ً ول سببا ً قلبيا ً ووجدانيا ً‬
‫‪ ،‬ولكنه سبب مصلحي رخيص جدا ً هو الذي يجعله ُتكّثرون ثواب الكافرين‬
‫وتكونون جنودا ً للظالمين ‪.‬‬
‫يا إخوة السلم المر صعب والمسؤولية خطيرة ‪ ،‬وحري بكل أخ من إخواننا‬
‫يشهد أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله وأن هذا السلم حق وصدق‬
‫ل وعل ‪ ،‬وأن فيه سلمة النسانية كلها ‪ ،‬حق على هذا النسان أن‬ ‫من الله ج ّ‬
‫يقف ويطيل الوقوف ‪ ،‬وأن يتساءل وأن يشدد على نفسه في المسألة ‪ ،‬وأن‬
‫يقطع صلته بالدنيا كلها إل بالله ‪ ،‬وأن يطهر حياته من كل صلة بأي شيء إل‬
‫الصلة بهذا السلم ‪ .‬أرأيتم حينما ننظر إلى اليات نظرا ً غير مجزوء ؟ وحينما‬
‫ننظر إلى القرآن بسياقه وبتسلسله المنطقي معملين عقولنا ومفكرينا أكثر‬
‫ومتعبين أنفسنا أكثر كيف تتوضح أمام أعيننا معالم القضية وقضايا السلم ؟‬
‫أرجو إن شاء الله تعالى أن يكون عيشكم مع القرآن دائما ً ومتصل ً ‪ ،‬وأسأل‬
‫ل وعل أن يفتح قلوبنا وقلوبكم وقلوب المسلمين لفهم حقائق هذا‬ ‫الله ج ّ‬
‫الكتاب فإنه هو حبل النجاة المتين الذي أوله عندك وآخره عند الله في الجنة‬
‫‪ ،‬وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله‬
‫رب العالمين‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير آية الكرسي ‪... ... ...‬‬


‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫ما‬
‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫مل ُ‬ ‫ة َول ن َوْ ٌ‬ ‫خذ ُه ُ ِ‬
‫سن َ ٌ‬ ‫م ل ت َأ ُ‬ ‫قّيو ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫)الل ّ ُ‬
‫خل ْ َ‬ ‫عنده إّل بإذ ْن ِه يعل َم ما بي َ‬ ‫ِفي اْل َْر‬
‫م‬‫فهُ ْ‬ ‫ما َ‬‫م وَ َ‬‫ديهِ ْ‬‫ن أي ْ ِ‬‫فع ُ ِ ْ َ ُ ِ ِ ِ ِ َ ْ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ش َ‬ ‫ذي ي َ ْ‬ ‫ن َذا ال ّ ِ‬‫م ْ‬‫ض َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ض َول‬ ‫ت َواْلْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫سي ّ ُ‬‫سعَ ك ُْر ِ‬‫شاَء وَ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫مهِ إ ِّل ب ِ َ‬ ‫عل ْ ِ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫طو َ‬ ‫حي ُ‬ ‫َول ي ُ ِ‬
‫م( )البقرة‪(255 :‬‬ ‫ظي ُ‬‫ي العَ ِ‬‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ما وَهُوَ العَل ِ ّ‬ ‫فظهُ َ‬‫ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫ؤود ُه ُ ِ‬ ‫يَ ُ‬
‫التفسير‪:‬‬
‫هذه الية أعظم آية في كتاب الله كما سأل النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪-‬‬
‫ي بن كعب‪ ،‬وقال‪» :‬أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال‪ :‬آية الكرسي؛‬ ‫أب ّ‬

‫‪29‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فضرب على صدره‪ ،‬وقال‪ :‬ليهنك العلم يا أبا المنذر«)‪(1‬؛ ولهذا من قرأها‬
‫في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ‪ ،‬ول يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي‬
‫مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جدًا‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬الله ل إله إل هو{‪ :‬السم الكريم مبتدأ؛ وجملة‪} :‬ل إله إل‬
‫هو{ خبر؛ وما بعده‪ :‬إما أخبار ثانية؛ وإما معطوفة؛ و}إله{ بمعنى مألوه؛‬
‫و»المألوه« بمعنى المعبود حبًا‪ ،‬وتعظيمًا؛ ول أحد يستحق هذا الوصف إل الله‬
‫‪ -‬سبحانه وتعالى‪-‬؛ واللهة المعبودة في الرض‪ ،‬أو المعبودة وهي في السماء‬
‫‪ -‬كالملئكة ‪ -‬كلها ل تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها ل تستحق ذلك؛‬
‫الذي يستحقه رب العالمين‪ ،‬كما قال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يا أيها الناس اعبدوا ربكم‬
‫الذي خلقكم{ ]البقرة‪ ،[21 :‬وقال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ذلك بأن الله هو الحق وأن ما‬
‫يدعون من دونه هو الباطل{ ]الحج‪.[62 :‬‬
‫و}إله{ اسم ل؛ و}ل{ هنا نافية للجنس؛ ول النافية للجنس تدل على النفي‬
‫المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم؛ فـ}ل إله{ نفي عام‬
‫محض شامل لجميع أفراده؛ وقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬إل هو{ بدل من خبر }ل{‬
‫المحذوف؛ لن التقدير‪ :‬ل إله حق إل هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود‬
‫بالحكم‪ ،‬كما قال ابن مالك‪:‬‬
‫التابع المقصود بالحكم بل *** واسطة هو المسمى بدل ً‬
‫وهذه الجملة العظيمة تدل على نفي اللوهية الحق نفيا ً عاما ً قاطعا ً إل لله ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬وحده‪.‬‬
‫وقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬الحي القيوم{ هذان اسمان من أسمائه ‪ -‬تعالى ‪-‬؛ وهما‬
‫جامعان لكمال الوصاف‪ ،‬والفعال؛ فكمال الوصاف في }الحي{؛ وكمال‬
‫الفعال في }القيوم{؛ لن معنى }الحي{ ذو الحياة الكاملة؛ ويدل على ذلك‬
‫»أل« المفيدة للستغراق؛ وكمال حياته ‪ -‬تعالى ‪ :-‬من حيث الوجود‪ ،‬والعدم؛‬
‫ومن حيث الكمال‪ ،‬والنقص؛ فحياته من حيث الوجود‪ ،‬والعدم؛ أزلية أبدية ‪-‬‬
‫لم يزل‪ ،‬ول يزال حيًا؛ ومن حيث الكمال‪ ،‬والنقص‪ :‬كاملة من جميع أوصاف‬
‫الكمال ‪ -‬فعلمه كامل؛ وقدرته كاملة؛ وسمعه‪ ،‬وبصره‪ ،‬وسائر صفاته كاملة؛‬
‫و}القيوم{‪ :‬أصلها من القيام؛ ووزن »قيوم« فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو‬
‫القائم على نفسه فل يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد‬
‫محتاج إليه‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ل تأخذه سنة ول نوم{ أي ل يعتريه نعاس‪ ،‬ول نوم؛ فالنوم‬
‫معروف؛ والنعاس مقدمته‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في الجملة الثالثة‪} :‬له ما في السموات وما في الرض{ أي‬
‫له وحده؛ ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و}السموات{‬
‫جمعت؛ و}الرض{ أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لن المراد بها الجنس‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في الجملة الرابعة‪} :‬من ذا الذي يشفع عنده إل بإذنه{؛‬
‫}من{ اسم استفهام مبتدأ؛ و}ذا{ ملغاة إعرابًا؛ ويأتي بها العرب في مثل‬
‫هذا لتحسين اللفظ؛ و}الذي{ اسم موصول خبر }من{؛ والمراد بالستفهام‬
‫هنا النفي بدليل الثبات بعده‪ ،‬حيث قال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬إل بإذنه{‪.‬‬
‫و»الشفاعة« في اللغة‪ :‬جعل الوتر شفعًا؛ وفي الصطلح‪ :‬التوسط للغير‬
‫لجلب منفعة‪ ،‬أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬في‬
‫م ما ل‬ ‫م‪ ،‬والغ ّ‬‫أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من اله ّ‬
‫يطيقون)‪ :(2‬شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة)‬
‫‪ :(3‬شفاعة في جلب منفعة‪.‬‬
‫وقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬إل بإذنه{ أي الكوني؛ يعني‪ :‬إل إذا أذن في هذه الشفاعة ‪-‬‬

‫‪30‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫حتى أعظم الناس جاها ً عند الله ل يشفع إل بإذن الله؛ فالنبي ‪ -‬صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ -‬يوم القيامة ‪ -‬وهو أعظم الناس جاها ً عند الله؛ ومع ذلك ل‬
‫يشفع إل بإذن الله لكمال سلطانه ‪ -‬جل وعل ‪ ،-‬وهيبته؛ وكلما كمل السلطان‬
‫صار أهيب للمِلك‪ ،‬وأعظم؛ حتى إن الناس ل يتكلمون في مجلسه إل إذا‬
‫ش النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬مع‬‫ل قري ٍ‬‫تكلم؛ وانظر وصف رسو ِ‬
‫أصحابه‪ ،‬حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم{؛ هذه هي الجملة السادسة؛‬
‫و»العلم« عند الصوليين‪ :‬إدراك الشيء إدراكا ً جازما ً مطابقًا؛ فعدم الدراك‪:‬‬
‫جهل؛ والدراك على وجه ل جزم فيه‪ :‬شك؛ والدراك على وجه جازم غير‬
‫مطابق‪ :‬جهل مركب؛ فلو سئلت‪ :‬متى كانت غزوة بدر؟ فقلت‪» :‬ل أدري«‬
‫فهذا جهل؛ ولو سئلت‪ :‬متى كانت غزوة بدر؟ فقلت‪» :‬إما في الثانية؛ أو في‬
‫الثالثة« فهذا شك؛ ولو سئلت‪ :‬متى كانت غزوة بدر؟ فقلت‪» :‬في السنة‬
‫الخامسة« فهذا جهل مركب؛ والله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يعلم الشياء علما ً تاما ً شامل ً‬
‫ل؛ وعلمه ليس كعلم العباد؛ ولذلك قال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يعلم ما‬ ‫لها جملة‪ ،‬وتفصي ً‬
‫بين أيديهم{ أي المستقبل؛ }وما خلفهم{ أي الماضي؛ وقد قيل بعكس هذا‬
‫القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ ل يساعد عليه؛ و}ما{ من صيغ العموم؛ فهي‬
‫ل؛ وسواء كان من أفعال الله أم‬ ‫شاملة لكل شيء سواء كان دقيقا ً أم جلي ً‬
‫من أفعال العباد‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء{ لها معنيان؛‬
‫المعنى الول‪ :‬ل يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي ل يعلمون عن الله ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى‪ -‬من أسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬إل بما شاء أن يعلمهم إياه‪،‬‬
‫فيعلمونه؛ المعنى الثاني‪ :‬ول يحيطون بشيء من معلومه ‪ -‬أي مما يعلمه في‬
‫السموات‪ ،‬والرض ‪ -‬إل بما شاء أن يعلمهم إياه‪ ،‬فيعلمونه؛ وقوله ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫}إل بما شاء{ استثناء بدل من قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬شيء{؛ لكنه بإعادة العامل؛‬
‫وهي الباء؛ و »ما« يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي‪ :‬إل بمشيئته؛ ويحتمل أن‬
‫تكون موصولة؛ أي‪ :‬إل بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفا؛ً‬
‫والتقدير‪ :‬إل بما شاءه‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬وسع كرسيه السماوات والرض{؛ أي شمل‪ ،‬وأحاط‪ ،‬كما‬
‫يقول القائل‪ :‬وسعني المكان؛ أي شملني‪ ،‬وأحاط بي؛ و »الكرسي« هو‬
‫موضع قدمي الله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح‬
‫ذلك عن ابن عباس موقوفًا)‪ ،(1‬ومثل هذا له حكم الرفع؛ لنه ل مجال‬
‫للجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس ‪ -‬رضي الله عنهما ‪ -‬يأخذ عن بني‬
‫إسرائيل فل صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري)‪ (2‬أنه كان ينهى عن‬
‫الخذ عن بني إسرائيل؛ فأهل السّنة والجماعة عامتهم على أن الكرسي‬
‫موضع قدمي الله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ وبهذا جزم شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬وابن‬
‫القيم‪ ،‬وغيرهما من أهل العلم‪ ،‬وأئمة التحقيق؛ وقد قيل‪ :‬إن »الكرسي« هو‬
‫العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن »العرش« أعظم‪ ،‬وأوسع‪ ،‬وأبلغ إحاطة من‬
‫الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن }كرسيه{‪ :‬علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها‬
‫ل تصح عن ابن عباس)‪(3‬؛ لنه ل يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة‬
‫العربية‪ ،‬ول في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جدا ً من أن يصح عن ابن عباس ‪-‬‬
‫رضي الله عنهما ‪-‬؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي ‪-‬‬

‫‪31‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫صلى الله عليه وسلم ‪ -‬أنه قال‪» :‬ما السموات السبع والرضون بالنسبة‬
‫للكرسي إل كحلقة ألقيت في فلة من الرض وإن فضل العرش على‬
‫الكرسي كفضل الفلة على تلك الحلقة«)‪(4‬؛ وهذا يدل على سعة هذه‬
‫المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله ‪-‬‬
‫عز وجل ‪} :-‬أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها{ ]ق~‪[6 :‬؛ ولم‬
‫يقل‪ :‬أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لن ذلك ليس مرئيا ً لنا؛ ولول‬
‫أن الله أخبرنا به ما علمنا به‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يؤوده{؛ أي ل يثقله‪ ،‬ويشق عليه }حفظهما{؛ أي حفظ‬
‫السموات‪ ،‬والرض؛ وهذه الصفة صفة منفية‪.‬‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬وهو العلي العظيم{‪ :‬مثل هذه الجملة التي طرفاها‬
‫معرفتان تفيد الحصر؛ فهو وحده العلي؛ أي ذو العلو المطلق‪ ،‬وهو الرتفاع‬
‫فوق كل شيء؛ و}العظيم{ أي ذو العظمة في ذاته‪ ،‬وسلطانه‪ ،‬وصفاته‪.‬‬
‫الفوائد‪:‬‬
‫‪ - 1‬من فوائد الية‪ :‬إثبات هذه السماء الخمسة؛ وهي }الله{؛ }الحي{؛‬
‫}القيوم{؛ }العلي{؛ }العظيم{؛ وما تضمنته من الصفات‪.‬‬
‫‪ - 2‬ومنها‪ :‬إثبات انفراد الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬باللوهية في قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ل إله إل‬
‫هو{‪.‬‬
‫‪ - 3‬ومنها‪ :‬إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله‪ ،‬وجعلوا معه آلهة‪.‬‬
‫‪ - 4‬ومنها‪ :‬إثبات صفة الحياة لله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ وهي حياة كاملة‪ :‬لم تسبق‬
‫بعدم‪ ،‬ول يلحقها زوال‪ ،‬ول توصف بنقص‪ ،‬كما قال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬هو الول‬
‫والخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم{ ]الحديد‪ ،[3 :‬وقال ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫}وتوكل على الحي الذي ل يموت{ ]الفرقان‪ ،[58 :‬وقال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ويبقى‬
‫وجه ربك ذو الجلل والكرام{ ]الرحمن‪.[27 :‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪ - 5‬ومنها‪ :‬إثبات القيومية لله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬القيوم{؛ وهذا‬
‫الوصف ل يكون لمخلوق؛ لنه ما من مخلوق إل وهو محتاج إلى غيره‪ :‬فنحن‬
‫محتاجون إلى العمال‪ ،‬والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء‪،‬‬
‫والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الولد‪ ،‬والولد يحتاجون إلينا؛‬
‫ونحن محتاجون إلى المال‪ ،‬والمال محتاج إلينا من جهة حفظه‪ ،‬وتنميته؛‬
‫والكل محتاج إلى الله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يا أيها الناس أنتم‬
‫الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد{ ]فاطر‪[15 :‬؛ وما من أحد يكون‬
‫قائما ً على غيره في جميع الحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله ‪-‬‬
‫تعالى ‪} :-‬أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت{ ]الرعد‪[33 :‬؛ يعني الله؛‬
‫فل أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت‪.‬‬
‫‪ - 6‬ومن فوائد الية‪ :‬أن الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر‬
‫إليه ‪ -‬تعالى ‪-‬؛ فإن قلت‪ :‬كيف تجمع بين هذا‪ ،‬وبين قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم{ ]محمد‪ ،[7 :‬وقوله ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫}ولينصرن الله من ينصره{ ]الحج‪[40 :‬؛ فأثبت أنه ُينصر؟‬
‫فالجواب‪ :‬أن المراد بنصره ‪ -‬تعالى ‪ -‬نصر دينه‪.‬‬
‫‪ - 7‬ومنها‪ :‬تضمن الية لسم الله العظم الثابت في قوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬الحي‬
‫القيوم{؛ وقد ذكر هذان السمان الكريمان في ثلثة مواضع من القرآن‪ :‬في‬
‫»البقرة«؛ و»آل عمران«؛ و»طه«؛ في »البقرة«‪} :‬الله ل إله إل هو الحي‬

‫‪32‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القيوم{ ]البقرة‪[255 :‬؛ وفي »آل عمران«‪} :‬الله ل إله إل هو الحي‬


‫القيوم{؛ وفي »طه«‪} :‬وعنت الوجوه للحي القيوم{ ]طه‪[111 :‬؛ قال أهل‬
‫العلم‪ :‬وإنما كان السم العظم في اجتماع هذين السمين؛ لنهما تضمنا‬
‫جميع السماء الحسنى؛ فصفة الكمال في }الحي{؛ وصفة الحسان‪،‬‬
‫والسلطان في }القيوم{‪.‬‬
‫سَنة والنوم لله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ وذلك لكمال‬ ‫‪ - 8‬ومن فوائد الية‪ :‬امتناع ال ّ‬
‫حياته‪ ،‬وقيوميته‪ ،‬بحيث ل يعتريهما أدنى نقص؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ل تأخذه‬
‫سنة ول نوم{؛ وهذه من الصفات المنفية؛ واليمان بالصفات المنفية يتضمن‬
‫شيئين؛ أحدهما‪ :‬اليمان بانتفاء الصفة المذكورة؛ والثاني‪ :‬إثبات كمال ضدها؛‬
‫لن الكمال قد يطلق باعتبار الغلب الكثر‪ ،‬وإن كان يرد عليه النقص من‬
‫بعض الوجوه؛ لكن إذا نفي النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق ل يرد عليه‬
‫ص أبدا ً بوجه من الوجوه؛ مثال ذلك‪ :‬إذا قيل‪» :‬فلن كريم« فقد يراد به‬ ‫نق ٌ‬
‫علم أن المراد‬‫أنه كريم في الغلب الكثر؛ فإذا قيل‪» :‬فلن كريم ل يبخل« ُ‬
‫كمال كرمه‪ ،‬بحيث ل يحصل منه بخل؛ وهنا النفي حصل بقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ل‬
‫تأخذه سنة ول نوم{؛ فدل على كمال حياته‪ ،‬وقيوميته‪.‬‬
‫‪ - 9‬ومن فوائد الية‪ :‬إثبات الصفات المنفية؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ل تأخذه سنة‬
‫ول نوم{‪ ،‬وقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يؤوده حفظهما{؛ و»الصفات المنفية« ما‬
‫نفاه الله عن نفسه؛ وهي متضمنة لثبوت كمال ضدها‪.‬‬
‫‪ - 10‬ومنها‪ :‬عموم ملك الله؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬له ما في السموات وما في‬
‫الرض{‪.‬‬
‫ويتفرع على كون الملك لله أل نتصرف في ملكه إل بما يرضاه‪.‬‬
‫‪ - 11‬ومنها‪ :‬أن الحكم الشرعي بين الناس‪ ،‬والفصل بينهم يجب أن يكون‬
‫مستندا ً على حكم الله؛ وأن اعتماد النسان على حكم المخلوقين‪ ،‬والقوانين‬
‫الوضعية نوع من الشراك بالله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ لن الملك لله ‪ -‬عز وجل ‪.-‬‬
‫‪ - 12‬ومنها‪ :‬تسلية النسان على المصائب‪ ،‬ورضاه بقضاء الله ‪ -‬عز وجل ‪،-‬‬
‫وقدره؛ لنه متى علم أن الملك لله وحده رضي بقضائه‪ ،‬وسّلم؛ ولهذا كان‬
‫في تعزية النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬لبنته أنه قال‪» :‬إن لله ما أخذ وله‬
‫ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى«)‪.(1‬‬
‫‪ - 13‬ومنها‪ :‬عدم إعجاب النسان بما حصل بفعله؛ لن هذا من الله؛ والملك‬
‫له‪.‬‬
‫‪ - 14‬ومنها‪ :‬اختصاص الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬بهذا الملك؛ يؤخذ من تقديم الخبر‪} :‬له‬
‫ما في السموات{؛ لن الخبر حقه التأخير؛ فإذا قُ ّ‬
‫دم أفاد الحصر‪.‬‬
‫‪ - 15‬ومنها‪ :‬إثبات أن السموات عدد؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬السموات{؛ وأما‬
‫كونها سبعًا‪ ،‬أو أقل‪ ،‬أو أكثر‪ ،‬فمن دليل آخر‪.‬‬
‫‪ - 16‬ومنها‪ :‬كمال سلطان الله لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬من ذا الذي يشفع عنده إل‬
‫بإذنه{؛ وهذا غير عموم الملك؛ لكن إذا انضمت قوة السلطان إلى عموم‬
‫الملك صار ذلك أكمل‪ ،‬وأعلى‪.‬‬
‫‪ - 17‬ومنها‪ :‬إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬إل بإذنه{؛ وإل لما‬
‫صح الستثناء‪.‬‬
‫‪ - 18‬ومنها‪ :‬إثبات الذن ‪ -‬وهو المر ‪-‬؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬إل بإذنه{؛ وشروط‬
‫إذن الله في الشفاعة‪ :‬رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ لقوله ‪-‬‬
‫تعالى ‪} :-‬وكم من ملك في السموات ل تغني شفاعتهم شيئا ً إل من بعد أن‬
‫يأذن الله لمن يشاء ويرضى{ ]النجم‪ ،[26 :‬وقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يشفعون‬
‫إل لمن ارتضى{ ]النبياء‪.[28 :‬‬

‫‪33‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ - 19‬ومنها‪ :‬إثبات علم الله‪ ،‬وأنه عام في الماضي‪ ،‬والحاضر‪ ،‬والمستقبل؛‬


‫لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم{‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪ - 20‬ومنها‪ :‬الرد على القدرية الغلة؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬يعلم ما بين أيديهم‬
‫وما خلفهم{؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لن القدرية الغلة أنكروا علم‬
‫الله بأفعال خلقه إل إذا وقعت‪.‬‬
‫‪ - 21‬ومنها‪ :‬الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لن الخوارج‪،‬‬
‫والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لن مذهبهما أن فاعل الكبيرة‬
‫مخلد في النار ل تنفع فيه الشفاعة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ - 22‬ومنها‪ :‬أن الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ل يحاط به علما كما ل يحاط به سمعا‪ ،‬ول‬
‫بصرًا؛ قال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ل تدركه البصار وهو يدرك البصار{ ]النعام‪،[103 :‬‬
‫وقال ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يحيطون به علمًا{ ]طه‪.[110 :‬‬
‫‪ - 23‬ومنها‪ :‬أننا ل نعلم شيئا ً عن معلوماته إل ما أعلمنا به؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫}ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء{ على أحد الوجهين في تفسيرها‪.‬‬
‫‪ - 24‬ومنها‪ :‬تحريم تكييف صفات الله؛ لن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا‬
‫ادعينا علمه فقد قلنا على الله بل علم‪.‬‬
‫‪ - 25‬ومنها‪ :‬الرد على الممثلة؛ لن ذلك قول على الله بل علم؛ بل بما يعلم‬
‫خلفه؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ليس كمثله شيء{ ]الشورى‪.[11 :‬‬
‫‪ - 26‬ومنها‪ :‬إثبات مشيئة الله؛ لقوله‪} :‬إل بما شاء{‪.‬‬
‫‪ - 27‬ومنها‪ :‬عظم الكرسي؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬وسع كرسيه السموات‬
‫والرض{‪.‬‬
‫‪ - 28‬ومنها‪ :‬عظمة خالق الكرسي؛ لن عظم المخلوق يدل على عظمة‬
‫الخالق‪.‬‬
‫‪ - 29‬ومنها‪ :‬كفر من أنكر السموات‪ ،‬والرض؛ لنه يستلزم تكذيب خبر الله؛‬
‫أما الرض فل أظن أحدا ً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها‪ ،‬وقالوا‪ :‬ما‬
‫فوقنا فضاء ل نهاية له‪ ،‬ول حدود؛ وإنما هي سدوم‪ ،‬ونجوم‪ ،‬وما أشبه ذلك؛‬
‫وهذا ل شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده النسان بنفسه‪ ،‬ووهمه؛ أو‬
‫دق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالما ً بما دل عليه الكتاب والسّنة‪.‬‬ ‫ص ّ‬
‫‪ - 30‬ومنها‪ :‬إثبات قوة الله؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يؤوده حفظهما{‪.‬‬
‫‪ - 31‬ومنها‪ :‬أنه ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬ل يثقل عليه حفظ السموات‪ ،‬والرض؛‬
‫لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول يؤوده حفظهما{؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي‬
‫كقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬وما مسنا من لغوب{ ]ق~‪.[38 :‬‬
‫‪ - 32‬ومنها‪ :‬إثبات ما تتضمنه هذه الجملة‪} :‬ول يؤوده حفظهما{؛ وهي العلم‪،‬‬
‫والقدرة‪ ،‬والحياة‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والقوة‪.‬‬
‫‪ - 33‬ومنها‪ :‬أن السموات‪ ،‬والرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬ول‬
‫يؤوده حفظهما{؛ ولول حفظ الله لفسدتا؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬إن الله يمسك‬
‫السماوات والرض أن تزول ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان‬
‫حليما ً غفورًا{ ]فاطر‪.[41 :‬‬
‫ل‪ ،‬وأبدًا؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫‪ - 34‬ومنها‪ :‬إثبات علو الله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬أز ً‬
‫و‬
‫}وهو العلي{؛ و}العلي{ صفة مشبهة تدل على الثبوت‪ ،‬والستمرار؛ وعل ّ‬
‫الله عند أهل السنة‪ ،‬والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الول‪ :‬علو الذات؛ بمعنى‬
‫أنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب‪ ،‬والسنة‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وإجماع السلف‪ ،‬والعقل‪ ،‬والفطرة؛ وتفصيل هذه الدلة في كتب العقائد؛‬


‫وخالفهم في ذلك طائفتان؛ الولى‪ :‬من قالوا‪ :‬إنه نفسه في كل مكان في‬
‫السماء‪ ،‬والرض؛ وهؤلء حلولية الجهمية‪ ،‬ومن وافقهم؛ وقولهم باطل‬
‫بالكتاب‪ ،‬والسّنة‪ ،‬وإجماع السلف‪ ،‬والعقل‪ ،‬والفطرة؛ الطائفة الثانية‪ :‬قالوا‪:‬‬
‫و‪ ،‬ول غيره؛ فهو ليس فوق العالم‪ ،‬ول تحته‪ ،‬ول عن يمين‪،‬‬ ‫إنه ل يوصف بعل ّ‬
‫ول عن شمال‪ ،‬ول متصل‪ ،‬ول منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لنه‬
‫َيؤول إلى القول بالعدم المحض؛ إذ ما من موجود إل وهو فوق‪ ،‬أو تحت‪ ،‬أو‬
‫عن يمين‪ ،‬أو شمال‪ ،‬أو متصل‪ ،‬أو منفصل؛ فالحمد لله الذي هدانا للحق؛‬
‫ونسأل الله أن يثبتنا عليه؛ والقسم الثاني‪ :‬علو الصفة‪ :‬وهو أنه كامل‬
‫الصفات من كل وجه ل يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق‬
‫المة‪ ،‬وإن اختلفوا في تفسير الكمال‪.‬‬
‫‪ - 35‬ومن فوائد الية‪ :‬الرد على الحلولية‪ ،‬وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية‬
‫ل؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا‪ :‬ل يوصف‬ ‫قالوا‪ :‬إنه ليس بعا ٍ‬
‫بعلو‪ ،‬ول سفل‪ ،‬ول يمين‪ ،‬ول شمال‪ ،‬ول اتصال‪ ،‬ول انفصال‪.‬‬
‫‪ - 36‬ومنها‪ :‬التحذير من الطغيان على الغير؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬وهو العلي‬
‫العظيم{؛ ولهذا قال الله في سورة النساء‪} :‬فإن أطعنكم فل تبغوا عليهن‬
‫سبيل ً إن الله كان عليا ً كبيرًا{ ]النساء‪[34 :‬؛ فإذا كنت متعاليا ً في نفسك‬
‫فاذكر علو الله ‪ -‬عز وجل ‪-‬؛ وإذا كنت عظيما ً في نفسك فاذكر عظمة الله؛‬
‫وإذا كنت كبيرا ً في نفسك فاذكر كبرياء الله‪.‬‬
‫‪ - 37‬ومنها‪ :‬إثبات العظمة لله؛ لقوله ‪ -‬تعالى ‪} :-‬العظيم{‪.‬‬
‫و‪،‬‬
‫‪ - 38‬ومنها‪ :‬إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين؛ وهما العل ّ‬
‫والعظمة‪... ... .‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫تفسير أول الغاشية‬


‫إحسان بن محمد العتيبي‬
‫قال شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫قوله }هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا‬
‫حامية تسقى من عين آنية{ فيها قولن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن المعنى وجوه في الدنيا خاشعة عاملة ناصبة تصلى يوم القيامة‬
‫نارا ً حامية ويعنى بها عباد الكفار كالرهبان وعباد البدو وربما تؤولت في أهل‬
‫البدع كالخوارج‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع أي‪ :‬تذل وتعمل وتنصب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا هو الحق لوجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه أي وجوه يوم الغاشية‬
‫خاشعة عاملة ناصبة صالية‪ .‬وعلى الول‪ :‬ل يتعلق إل بقوله }تصلى{‪ .‬ويكون‬
‫قوله }خاشعة{ صفة للوجوه قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي متعلق‬
‫بصفة أخرى متأخرة والتقدير وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارا‬
‫حامية‪ .‬والتقديم والتأخير على خلف الصل‪ .‬فالصل إقرار الكلم على نظمه‬
‫وترتيبه ل تغيير ترتيبه‪.‬‬
‫ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة أما مع اللبس فل يجوز لنه‬
‫يلتبس على المخاطب ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم والتأخير‬
‫بل القرينة تدل على خلف ذلك فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب‬

‫‪35‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫خلف البيان وأمر المخاطب بفهمه تكليف لما ل يطاق‪.‬‬


‫الوجه الثاني‪ :‬أن الله قد ذكر وجوه الشقياء ووجوه السعداء في السورة‬
‫فقال بعد ذلك وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية‪ .‬ومعلوم أنه‬
‫إنما وصفها بالنعمة يوم القيامة ل في الدنيا إذ هذا ليس بمدح‪ ،‬فالواجب‬
‫تشابه الكلم وتناظر القسمين ل اختلفهما وحينئذ فيكون الشقياء وصفت‬
‫وجوههم بحالها في الخرة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن نظير هذا التقسيم قوله }وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‬
‫ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة{ وقوله }وجوه يومئذ مسفرة‬
‫ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة‬
‫الفجرة{‪ .‬وهذا كله وصف للوجوه لحالها في الخرة ل في الدنيا‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن وصف الوجوه بالعمال ليس في القرآن وإنما في القرآن ذكر‬
‫العلمة كقوله }سيماهم في وجوههم{ وقوله }و لو نشاء لريناكهم‬
‫فلعرفتهم بسيماهم{ وقوله }تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون‬
‫يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا{‪ ،‬وذلك لن العمل والنصب ليس قائما‬
‫بالوجوه فقط بخلف السيما والعلمة‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن قوله "خاشعة" "عاملة" "ناصبة" لو جعل صفة لهم في الدنيا لم‬
‫يكن في هذا اللفظ ذم فإن هذا إلى المدح أقرب وغايته أنه وصف مشترك‬
‫بين عباد المؤمنين وعباد الكفار والذم ل يكون بالوصف المشترك ولو أريد‬
‫المختص لقيل‪ :‬خاشعة للوثان مثل عاملة لغير الله ناصبة في طاعة‬
‫الشيطان وليس في الكلم ما يقتضي كون هذا الوصف مختصا بالكفار ول‬
‫مله‬
‫كونه مذموما وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقا ول وعيد عليه‪ ،‬فح ْ‬
‫على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أن هذا الوصف مختص ببعض الكفار ول موجب للتخصيص فإن‬
‫الذين ل يتعبدون من الكفار أكثر وعقوبة فساقهم في دينهم أشد في الدنيا‬
‫والخرة فإن من كف منهم عن المحرمات المتفق عليها وأدى الواجبات‬
‫المتفق عليها لم تكن عقوبته كعقوبة الذين يدعون مع الله إلها آخر ويقتلون‬
‫النفس التي حرم الله إل بالحق ويزنون فإذا كان الكفر والعذاب على هذا‬
‫التقدير في القسم المتروك أكثر وأكبر كان هذا التخصيص عكس الواجب‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أن هذا الخطاب فيه تنفير عن العبادة والنسك ابتداء ثم إذا قيد ذلك‬
‫بعبادة الكفار والمبتدعة وليس في الخطاب تقييد كان هذا سعيا في إصلح‬
‫الخطاب بما لم يذكر فيه‪.‬‬
‫"مجموع الفتاوى" )‪(220-16/217‬‬
‫‪ http://saaid.net‬المصدر‪:‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫تفسير ابن باديس ‪(2‬‬


‫في مجالس التذكير من كلم الحكيم الخبير‬
‫لمة‪ :‬عبد الحميد بن محمد ابن باديس الصنهاجي‬‫للمام الع ّ‬
‫الحلقة الثانية‬
‫إعداد وتقديم د‪.‬البشير صوالحي‬
‫قال تعالى‪} :‬ول تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل‬
‫أولئك كان عنه مسؤول{ )السراء‪.(36 :‬‬
‫العلم وحده المام المتبع في الحياة في القوال والفعال والعتقادات‬

‫‪36‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سلوك النسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطا وثيقًا‪ :‬يستقيم باستقامته‬


‫ويعوج باعوجاجه‪ ،‬ويثمر بإثماره‪ ،‬ويعقم بعقمه؛ لن أفعاله ناشئة عن‬
‫اعتقاداته‪ ،‬وأقواله إعراب عن تلك العتقادات‪ ،‬واعتقاداته ثمرة إدراكه عن‬
‫تفكيره ونظره‪ .‬وهذه الدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على‬
‫درجة واحدة في القوة والضعف فمنها ما هو قوي معبر‪ ،‬ومنها ما هو ضعيف‬
‫ساقط عن العتبار‪.‬‬
‫فالول‪ :‬العلم وهو إدراك أمر على وجه ل يحتمل أن يكون ذلك المر على‬
‫وجه من الوجوه سواه‪ ،‬وهو علم العتبار‪ .‬ويليه الظن‪ ،‬وهو إدراك لمر على‬
‫وجه هو أرجح الوجوه المحتلة‪ ،‬وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما ل‬
‫يمكن فيه إل ذاك‪ .‬وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازا‪ً.‬‬
‫والثاني‪ :‬الوهم‪ ،‬وهو إدراك المر على الوجه المرجح‪.‬‬
‫والشك‪ ،‬وهو إدراك المر على وجهين‪ ،‬أو وجوه متساوية في الحتمال‪ ،‬وكل‬
‫هذين ل يعول عليه‪.‬‬
‫ً‬
‫ولما كان النسان – بما فطر عليه من الضعف والستعجال – كثيرا ما يبني‬
‫أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه‪ ،‬وعلى ظنونه حيث ل يكتفي‬
‫بالظن‪ ،‬وفي هذا البناء الضرر والضلل‪ ..‬بّين الله تعالى لعباده في محكم‬
‫كتابه أنه ل يجوز لهم‪ ،‬ول يصح منهم البناء لقوالهم وأعمالهم‪ ،‬واعتقاداتهم إل‬
‫على إدراك واحد وهو العلم‪ ،‬فقال تعالى‪} :‬ول تقف ما ليس لك به علم{ أي‬
‫ل تتبع ما ل علم لك به فل يكن منك اتباع بالقول‪ ،‬أو بالفعل‪ ،‬أو بالقلب‪ ،‬لما ل‬
‫تعلم‪ ،‬فنهانا عن أن نعتقد إل عن علم أو نفعل إل عن علم‪ ،‬أو نقول إل عن‬
‫علم‪.‬‬
‫فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا‪ ،‬بل علينا أن ننظر‬
‫فيه‪ ،‬ونفكر‪ ،‬فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه‪ ،‬وإل تركناه حيث هو‪ ،‬في دائرة‬
‫الشكوك والوهام‪ ،‬أو الظنون التي ل تعتبر‪ .‬ول كل ما نسمعه أو نراه نتخيله‬
‫نقوله‪ .‬فكفى بالمرء كذبا ً أن يحدث بكل ما سمع‪ ،‬كما جاء في الصحيح‪.‬‬
‫بل علينا أن نعرضه على محك الفكر‪ ،‬فإن صرنا منه على علم قلناه‪ ،‬مراعين‬
‫فيه آداب القول الشرعية‪ ،‬ومقتضيات الزمان والمكان والحال‪ ،‬فقد أمرنا أن‬
‫نحدث الناس‪ ،‬بما يفهمون – وما حدث قوم بحديث ل تبلغه عقولهم إل كان‬
‫عليهم فتنة –وإل طرحناه‪ .‬ول كل فعل ظهر لنا نفعله‪ .‬بل حتى نعلم حكم الله‬
‫تعالى فيه‪ ،‬لنكون على بينة من خيره وشره‪ ،‬ونفعه وضره‪ .‬فما أمر تعالى إل‬
‫بما هو خير وصلح لعباده‪ ،‬وما نهى تعالى إل عما هو شر وفساد لهم‪ ،‬أو مؤد‬
‫إلى ذلك‪.‬‬
‫وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها‪ ،‬فإذا علمنا بعد‬
‫هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإل تركناه‪ .‬فل تكون‬
‫عقائدنا –إذا تمسكنا بهذا الصل السلمي العظيم‪ -‬إل حقًا‪ .‬ول تكون أقوالنا‬
‫إل صدقًا‪ .‬ول تكون أفعالنا إل سدادًا‪.‬‬
‫ولعمر الله إنه ما دخل الضلل في عقائد الناس‪ ،‬ول جرى الباطل والزور‬
‫على ألسنتهم‪ ،‬ول كان الفساد والشر في أفعالهم‪ ،‬وإل بإهمالهم‪ ،‬أو تساهلهم‬
‫في هذا الصل العظيم‪.‬‬
‫المعنى‪:‬‬
‫نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم‪ ،‬فالذي نتبعه هو ما لنا به علم؛ أي لنا به‬
‫علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق‪ ،‬وأقوال الصدق‪ ،‬وأفعال‬
‫السداد‪ .‬فأما كان من عقائد الحق في أمر الدين‪ ،‬أو في أمر الدنيا‪ ،‬فل حظر‬
‫في اعتقاد شيء منه‪ .‬وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك‪ .‬وأما ما كان من‬

‫‪37‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أقوال الصدق ففيه تفصيل‪ :‬إذ ليس كل قول صدق يقال‪.‬‬


‫فالنقائص الشخصية في النسان ل تقال في غيبته‪ :‬لنها غيبة محرمة‪ ،‬ول‬
‫يجابه بها في حضوره لنها أداة؛ إل إذا ووجه بها على وجه النصيحة بشروطها‬
‫المعتبرة‪ ،‬التي من أولها أل تكون في المل‪ .‬وهكذا يحدث في مثل هذه‬
‫الصول الكلية عندما يتفقه فيها‪ ،‬أن ينظر فيما جاء من اليات والحاديث مما‬
‫في البيان لها‪ ،‬والتفصيل في مفاهيمها‪.‬‬
‫تفريع‪:‬‬
‫الفرع الول‪:‬‬
‫من اتبع ما ليس به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين‪ ،‬أو في حق الناس‪ ،‬أو‬
‫قال الباطل كذلك فيهما‪ ،‬أو فعل المحظور‪ ..‬فهو آثم من جهتين‪:‬‬
‫‪ .1‬اتباعه ما ليس له به علم‪.‬‬
‫‪ .2‬واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور‪.‬‬
‫ومن اعتقد حقا ً من غير علم‪ ،‬أو قال في الناس صدقا عن غير علم‪ ،‬أو فعل‬
‫ً‬
‫غير محظور عن غير علم فإنه –مع ذلك‪ -‬آثم من جهة واحدة‪ ،‬وهي اتباعه ما‬
‫ليس له به علم‪ ،‬ومخالفته لمقتضى هذا النهي‪.‬‬
‫الفرع الثاني‪:‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ل‪ ،‬وإنما يقول‪ :‬سمعت الناس‬ ‫المقلد في العقائد الذي ل دليل عنده أص ً‬
‫يقولون فقلت‪ .‬هذا آثم لتباعه ما ليس له به علم‪ .‬فأما إذا كان عنده دليل‬
‫إجمالي كاستدلله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الثم‪،‬‬
‫لتحصيل هذا الستدلل له العلم‪.‬‬
‫والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها‪ ،‬يصدق عليه باعتبار‬
‫الدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم‪ ،‬ولكنه له علم من ناحية أخرى‬
‫وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام‪ ،‬بما أمر‬
‫تعالى من سؤال أهل العلم‪ ،‬وما رفع عن العاجز من الصر‪ ،‬وهو من العامة‬
‫العاجزين عن درك أدلة الحكام‪.‬‬
‫نصيحة على هذا الفرع‪:‬‬
‫أدلة العقائد مبسوطة في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير‪ .‬وأدلة‬
‫الحكام أصولها مذكورة كلها فيه‪ ،‬وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم‪.‬‬
‫فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائد الدينية‪ ،‬وأدلة تلك‬
‫العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كل مكلف أ يكون في كل عقيدة‬
‫من عقائده الدينية على علم‪ .‬ولن يجد العامي الدلة لعقائد سهلة قريبة إل‬
‫في كتاب الله‪ ،‬فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد‬
‫للمسلمين إليه‪ .‬أما العراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المكلفين‬
‫الصعبة ذات العبارات اصطلحية‪ ،‬فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق‬
‫العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه‪ .‬لقد كان من نتيجة ما نراه اليوم‬
‫في عامة المسلمين من الجهل بعقائد السلم وحقائقه‪.‬‬
‫ومما ينبغي لهل العلم أيضا –إذا أفتوا أو أرشدوا‪ -‬أن يذكروا أدلة القرآن‬
‫والسنة لفتاويهم ومواعظهم‪ ،‬ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم‬
‫حلوته‪ ،‬ويعرفوهم منزلته‪ ،‬ويجعلوه منهم دائما ً على ذكر‪ ،‬وينيلوهم العلم‬
‫والحكمة من قريب‪ ،‬ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب‪ ،‬وأثر في‬

‫‪38‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النفوس‪ .‬فإلى القرآن والسنة –أيها العلماء‪ -‬إن كنتم للخير تريدون‪.‬‬
‫الفرع الثالث‪:‬‬
‫ً‬
‫المجتهد إذا أفتى مستندا إلى ما يفيد الظن من أخبار الحاد‪ ،‬أو القيسة أو‬
‫النصوص الخرى الظنية الدللة – هل هو متبع لغير العلم؟‬
‫الجواب ل؛ بل هو متبع العلم‪ ،‬وذلك من ثلثة وجوه‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن كل دليل يكون ظنيا ً بمفرده –يصير يقينا ً إذا عرض على كليات‬
‫الشرع ومقاصده‪ ،‬وشهدت له الصواب‪ ،‬وهذا هو شأن المجتهدين في الدلة‬
‫الفردية‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن المجتهد يعتمد في الخذ بالدلة الظنية لما له من العلم‬
‫بالدلة الشرعية الدالة على اعتبارها‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أن تلك الدلة بمفردها تفيد الظن القوي‪ ،‬الذي يكون جزما ً‬
‫ويسمى –كما تقدم‪ -‬علما‪ ،‬فما اتبع المجتهد إل العلم‪.‬‬
‫الفرع الرابع‪:‬‬
‫ل تعتمد في إثبات العقائد والحكام على ما ينسب للنبي صلى الله عليه‬
‫وسلم من الحديث الضعيف؛ لنه ليس لنا علم به‪ .‬فإذا كان الحكم ثابتا ً‬
‫بالحديث الصحيح مثل قيام الليل‪ ،‬ثم وجدنا حديثا ً في فضل قيام الليل يذكر‬
‫ثواب عليه مما يرغب فيه –جاز عند الكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه‬
‫الذي لم يكن شديدا ً على وجه الترغيب‪ .‬ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز‬
‫اللتفات إليه‪ ،‬وهذا هو معنى قولهم‪) :‬الحديث الضعيف يعمل به في فضائل‬
‫العمال(‪ ،‬أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها ل في أصل ثبوتها‪ .‬فما لم يثبت‬
‫بالدليل الصحيح في نفسه‪ ،‬ل يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر‬
‫فضائله‪ ،‬باتفاق من أهل العلم أجمعين‪.‬‬
‫الفرع الخامس‪:‬‬
‫أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب‪ ،‬فل نقول فيها إل ما كان لنا به علم‪ :‬بما‬
‫جاء في القرآن العظيم‪ ،‬أو ثبت في الحديث الصحيح‪ .‬وقد كثرت في‬
‫تفاصيلها الخبار من الروايات مما ليس بثابت‪ ،‬فل يجوز اللتفات إلى شيء‬
‫من ذلك‪ .‬ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملئكة والجن والعرش‪،‬‬
‫والكرسي‪ ،‬واللوح‪ ،‬والقلم‪ ،‬وأشراط الساعة‪ ،‬وما لم يصل إليه علم البشر‪.‬‬
‫سؤال الجوارح يوم الهول الكبر‪:‬‬
‫ل{‪ .‬من قال ما لم‬ ‫}إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤو ً‬
‫يسمع‪ ،‬سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه‪ .‬ومن قال‪ :‬رأيت ولم ير سئل‬
‫بصره فشهد عليه‪ .‬ومن قال‪ :‬عرفت‪ ،‬ولم يعرف‪ ،‬أو اعتقد ما لم يعلم‪ ،‬سئل‬
‫فؤاده فشهد عليه‪ :‬لنه في هذه الحوال الثلثة قد اتبع ما ليس به علم‪ .‬وهذه‬
‫الشهادة كما قال تعالى‪} :‬يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما‬
‫كانوا يعملون{ )النور‪ (2 :‬هذه الثلثة تسئل على وجوه منها ما تقدم‪ ،‬وهو‬
‫الذي يرتبط به هذا الكلم بما تقدم من النهي‪.‬‬
‫ومنها سؤال السمع‪ :‬لم سمع ما ل يحل؟ ولم لم يسمع ما يجب؟‬
‫وسؤال البصر‪ :‬لم رأى ما ل يحل؟ وعن جميع أعمال البصر‪ ،‬من نظر البغض‬
‫والحتقار ونحو ذلك؟ وسؤال الفؤاد‪ :‬عما اعتقد؟ وعما قصد؟ وجميع أعمال‬
‫القلوب؟‬
‫فوائد ختام الية‪:‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪39‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ة‪ .‬وترهيب للنسان‬


‫فختام لطرق العلم‪ ،‬وتنبيه على لزوم حفظها واحدة واحد ً‬
‫من اتباع ما لم يعلم بما يؤول إليه أمره من فضيحة يوم القيامة‪ ،‬وخزي‬
‫بشهادة جوارحه عليه‪ .‬فالله نسأل أن يجعلنا متبعين للعلم في جميع ما‬
‫نعمل‪ ،‬ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬إنه يهدي من يشاء‬
‫إلى صراط مستقيم‬

‫)‪(3 /‬‬

‫تفسير الحلم‬
‫د‪ .‬محمد بن عبد الله القناص ‪1/8/1425‬‬
‫‪15/09/2004‬‬
‫الحمد لله والصلة والسلم على رسول الله وآله وبعد‪:‬‬
‫فإن من الظواهر الملفتة للنتباه في واقعنا تعلق كثير من الناس بالرؤى‬
‫والمنامات‪ ،‬واعتمادهم عليها‪ ،‬وتوسعهم فيها حيث أصبحت شغلهم الشاغل‪،‬‬
‫عبر المجالس والمنتديات والمجامع‪ ،‬بل والقنوات الفضائية‪ ،‬وطغت على‬
‫الفتاوى الشرعية‪ ،‬وأصبح السؤال عنها يفوق السؤال عما يحتاج إليه النسان‬
‫من أمور دينه‪ ،‬من المعتقدات والعبادات والمعاملت وغيرها‪ ،‬وابتعدوا في‬
‫تعاملهم مع الرؤى والمنامات عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأضاعوا‬
‫أوقاتهم في ما ل يعود عليهم بالخير والنفع‪ ،‬ولو أن الناس وقفوا تجاه الرؤى‬
‫وتعاملوا معها‪ ،‬وفق الهدي النبوي لستراحوا وأراحوا‪ ،‬وحصل لهم التوفيق‬
‫والسداد والطمأنينة‪ ،‬ولم يوجد هذا التهافت في السؤال عنها‪ ،‬والفراط في‬
‫البحث عن تأوليها‪ ،‬ولجل أن نقف موقفا ً صحيحا ً سليما ً معتدل ً تجاه هذه‬
‫الرؤى المتكاثرة‪ ،‬فلبد من الرجوع إلى الداب السامية‪ ،‬والتوجيهات النبوية‬
‫التي فيها العصمة من الزلل والخطأ‪ ،‬والوقاية من الفراط والتفريط ‪..‬‬
‫لقد دلت السنة المطهرة أن الرؤى تتنوع إلى ثلثة أنواع‪ ،‬وأن هناك جملة من‬
‫الداب ينبغي أن يأخذ بها الرائي‪ ،‬وإليك بيان ذلك ‪:‬‬
‫ل‪ :‬أنواع الرؤى ‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫َ‬
‫ه عَل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صّلى الل ّ ُ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ل‪َ :‬قا َ‬ ‫ن أِبي هَُري َْرةَ – رضي الله عنه‪َ -‬قا َ‬ ‫فعَ ْ‬
‫ن‬ ‫ه‪َ ،‬والّرؤَْيا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ة بُ ْ‬ ‫ث‪ :‬فالّرؤَْيا ال ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‪ " :‬الّرؤَْيا ث َل ٌ‬ ‫ّ‬
‫زي ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م ْ‬‫شَرى ِ‬ ‫ح ُ‬
‫صال ِ َ‬ ‫سل َ‬ ‫وَ َ‬
‫ه ‪ ] " ......‬أخرجه مسلم ح ) ‪2263‬‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ُ‬
‫جل ن َ ْ‬ ‫ث الّر ُ‬ ‫حد ّ ُ‬ ‫ما ي ُ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن‪َ ،‬والّرؤَْيا ِ‬ ‫َ‬
‫شي ْطا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫( ‪ ،‬والترمذي ح ) ‪ ، ( 2196‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح [ الحديث عند‬
‫البخاري أيضًا)‪.(7017‬‬
‫ففي هذا الحديث بيان تنوع ما يراه النائم في منامه إلى ثلثة أنواع‪ ،‬النوع‬
‫الول ‪ :‬الرؤيا الصالحة أو الصادقة‪ ،‬وهي التي تكون مبشرة أو منذرة‪ ،‬وقد‬
‫تكون واضحة ظاهرة ل تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم أنه يذبح ابنه في‬
‫المنام‪ ،‬وقد تكون خافية تحتاج إلى عابر يعبرها‪ ،‬كرؤيا صاحبي السجن مع‬
‫يوسف‪ ،‬ورؤيا ملك مصر‪ ،‬والنوع الثاني‪ :‬رؤيا تحزين من الشيطان‪ ،‬وهي ما‬
‫يدخل تحت أضغاث الحلم‪ ،‬مثل أن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه‪ ،‬أو يرى‬
‫أنه واقع في هول ول يجد من ينجده‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن الّرؤَْيا‬ ‫ل‪ " :‬إ ِ ّ‬ ‫م َقا َ‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ّ ُ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫سو ِ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫مال ِ ٍ‬ ‫ن َ‬‫ف َب ْ ِ‬‫ن عَوْ ِ‬ ‫فعَ ْ‬
‫ج ُ‬
‫ل‬ ‫م ب ِهِ الّر ُ‬ ‫ما ي َهُ ّ‬
‫من َْها َ‬ ‫م‪ ،‬وَ ِ‬ ‫ن آد َ َ‬‫ن ب َِها اب ْ َ‬‫حُز َ‬ ‫ن ل ِي َ ْ‬ ‫َ‬
‫شي ْطا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫هاِوي ُ‬
‫من َْها أ َ‬ ‫ث‪ِ :‬‬ ‫ث ََل ٌ‬
‫َ‬
‫ن الن ّب ُوّةِ "‬ ‫م ْ‬ ‫جْزًءا ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ست ّةٍ وَأْرب َِعي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫جْزٌء ِ‬ ‫من َْها ُ‬ ‫مهِ وَ ِ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ه‪ ،‬فَي ََراه ُ ِفي َ‬ ‫قظ َت ِ ِ‬ ‫ِفي ي َ َ‬
‫] أخرجه ابن ماجه ح ) ‪[ ( 3897‬‬
‫وقال عبد الله بن مسعود‪ -‬رضي الله عنه‪ " :-‬الرؤيا ثلثة‪ :‬حضور الشيطان‪,‬‬

‫‪40‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل‪ ,‬والرؤيا التي هي الرؤيا"]أخرجه ابن‬
‫أبي شيبة)‪.[(6/181‬‬
‫سولُ‬ ‫َ‬
‫ي إلى َر ُ‬ ‫راب ِ ّ‬ ‫وأخرج مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه‪ -‬قال‪ :‬جاء أعْ َ‬
‫ل إني حل َمت أ َن رأ ْسي قُطع فَأ َنا أ َ‬
‫ه‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ب‬
‫ِ َ َ ِّ ُ ُ َ َ َ ُ‬‫ت‬ ‫َ ْ ُ ّ َ ِ‬ ‫قا َ ِ ّ‬ ‫م فَ َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ّ ُ‬
‫الل ّهِ َ‬
‫مَنام ِ " ‪،‬‬‫ك ِفي ال ْ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ب ال ّ‬‫خب ِْر ب ِت َل َعّ ِ‬‫ل َل ت ُ ْ‬ ‫م وََقا َ‬ ‫سل ّ َ‬‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ّ ُ‬ ‫ي َ‬ ‫الن ّب ِ ّ‬
‫َ‬
‫س"]‬ ‫ث ب ِهِ الّنا َ‬ ‫حد ّ ْ‬ ‫مهِ فََل ي ُ َ‬‫مَنا ِ‬
‫م ِفي َ‬ ‫حدِك ُ ْ‬ ‫ن ب ِأ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬‫ب ال ّ‬ ‫وفي رواية له‪ " :‬إ َِذا ل َعِ َ‬
‫أخرجه مسلم ح )‪[(2268‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬حديث النفس‪ ،‬وهو أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو‬
‫يتمناه فيراه كما هو في المنام‪ ،‬كمن يكون مشغول ً بسفر أو تجارة أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬فينام فيرى في منامه ما كان يفكر فيه في يقظته ‪.‬‬
‫وهذا التقسيم يدل على أنه ليس كل ما يراه النسان في منامه يكون رؤيا‬
‫صادقة تحتاج إلى تعبير‪ ،‬بل منها حديث النفس‪ ،‬ومنها أضغاث أحلم‪ ،‬وهذان‬
‫النوعان هما الغالب على حال الكثيرين‪ ،‬والله أعلم‪ ،‬ومن هنا ندرك خطأ من‬
‫يسارع إلى طلب تعبير كل ما يراه في منامه‪ ،‬وخطأ أيضا ً من يتصدر للتعبير‪،‬‬
‫فيقدم على تعبير كل ما يسمعه‪ ،‬ولو أن الناس استحضروا ذلك لما حصل هذا‬
‫التكالب على طلب تعبير الرؤى والمنامات‪ ،‬والحرص الشديد على تأويلها ‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الداب المشروعة إذا رأى النسان في منامه ما يكره‪:‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جملة من الداب ينبغي أن يأخذ بها من‬
‫َ‬
‫صّلى الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ي َ‬ ‫رأى في منامه ما يكره‪ ،‬فعن أِبي قََتاد َةَ رضي الله عنه أن الن ّب ِ ّ‬
‫حل َ َ‬
‫م‬ ‫ن‪ ،‬فَإ َِذا َ‬ ‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫حل ُ ُ‬ ‫ن الّلهِ‪َ ،‬وال ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ل‪ " :‬الّرؤَْيا ال ّ‬ ‫م َقا َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫ها فَإ ِن َّها َل‬ ‫َ‬
‫شّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه‪ ،‬وَل ْي َت َعَوّذ ْ ِبالل ّهِ ِ‬ ‫سارِ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫صقْ عَ ْ‬ ‫ه فَل ْي َب ْ ُ‬ ‫خافُ ُ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫حل ُ ً‬ ‫م ُ‬ ‫حد ُك ُ ْ‬ ‫أ َ‬
‫ما هُوَ إ ِّل‬ ‫ل فَ َ‬ ‫جب َ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ي ِ‬ ‫ل عَل َ ّ‬ ‫ق َ‬‫ت َل ََرى الّرؤَْيا أ َث ْ َ‬ ‫ن ك ُن ْ ُ‬ ‫ة‪ :‬وَإ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ل أُبو َ‬
‫تضره‪ ،‬وَقا َ َ‬
‫َ ُ ّ ُ َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما أَباِليَها " ] أخرجه البخاري ح ) ‪ ،(5747‬ومسلم ح‬ ‫ث فَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ذا ال َ‬ ‫ت هَ َ‬ ‫معْ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫أ ْ‬
‫) ‪.[( 2261‬‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وع َ َ‬
‫ه عَلي ْ ِ‬ ‫صلى الل ُ‬ ‫ي َ‬ ‫معَ الن ّب ِ ّ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫ي‪ -‬رضي الله عنه‪ ، -‬أن ّ ُ‬ ‫خد ْرِ ّ‬ ‫سِعيدٍ ال ُ‬ ‫ن أِبي َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ‬
‫ه‬‫مد ْ الل ّ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ه‪ ،‬فَل ْي َ ْ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ي ِ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫حب َّها‪ ،‬فَإ ِن ّ َ‬ ‫م ُرؤَْيا ي ُ ِ‬ ‫حد ُك ُ ْ‬ ‫ل‪ " :‬إ َِذا َرأى أ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫شي ْطا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ي ِ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫َ‬
‫ه‪ ،‬فإ ِن ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ما ي َكَر ُ‬ ‫م ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ث ب َِها‪ ،‬وَإ َِذا َرأى غي َْر ذ َل ِك ِ‬ ‫حد ّ ْ‬ ‫عَل َي َْها‪ ،‬وَلي ُ َ‬
‫ْ‬
‫حد ٍ فَإ ِن َّها َل ت َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ها‪ ،‬وََل ي َذ ْك ُْر َ‬
‫ضّرهُ " ] أخرجه البخاري ح )‬ ‫ها ِل َ‬ ‫شّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ست َعِذ ْ ِ‬ ‫فَل ْي َ ْ‬
‫‪.[( 6985‬‬
‫َ‬
‫ل‪" :‬‬ ‫ه َقا َ‬ ‫م أن ّ ُ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ّ ُ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫سو ِ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫جاب ِرٍ – رضي الله عنه‪ -‬عَ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫وع َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ست َعِذ ْ ِبالل ّهِ ِ‬ ‫سارِهِ ث ََلًثا‪ ،‬وَل ْي َ ْ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫صقْ عَ ْ‬ ‫م الّرؤَْيا ي َك َْرهَُها‪ ،‬فَل ْي َب ْ ُ‬ ‫حد ُك ُ ْ‬ ‫إ َِذا َرأى أ َ‬
‫ن عَل َي ْهِ ‪ ] " .‬أخرجه مسلم ح )‬ ‫كا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫جن ْب ِهِ ال ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫حو ّ ْ‬ ‫ن ث ََلًثا‪ ،‬وَل ْي َت َ َ‬ ‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ال ّ‬
‫‪[ ( 2262‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫حد ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن َرأى أ َ‬ ‫ل‪ :‬فَإ ِ ْ‬ ‫م َقا َ‬ ‫سل َ‬ ‫ه عَلي ْهِ وَ َ‬ ‫صلى الل ُ‬ ‫ي َ‬ ‫ن الن ّب ِ ّ‬ ‫وفي حديث أِبي هَُري َْرةَ عَ ْ‬
‫س " ] أخرجه مسلم ح ) ‪[ ( 2263‬‬ ‫ث ب َِها الّنا َ‬ ‫حد ّ ْ‬ ‫ل وََل ي ُ َ‬ ‫ص ّ‬ ‫م فَل ْي ُ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ي َك َْره ُ فَل ْي َ ُ‬ ‫َ‬
‫وحاصل ما ذكر في هذه الحاديث من أدب الرؤيا المكروهة ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يتعوذ بالله من شرها‪ ،‬وذلك لما في الستعاذة بالله من صدق اللجوء‬
‫إليه‪ ،‬والعتصام به في دفع شرها‪ ،‬وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر‬
‫صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة‬
‫عن إبراهيم النخعي قال‪ " :‬إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره‪ ،‬فليقل إذا‬
‫استيقظ أعوذ بما عاذت به ملئكة الله ورسله من شر رؤياي هذه‪ ،‬أن‬

‫‪41‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي " ] أخرجه ابن أبي شيبة ) ‪، ( 5/51‬‬
‫وعبد الرزاق في مصنفه ) ‪ ،[ ( 11/214‬وعن عمر أنه كتب إلى أبي موسى‪:‬‬
‫فإذا رأى أحدكم رؤيا‪ ،‬فقصها على أخيه فليقل‪ :‬خير لنا وشر لعدائنا "‬
‫] أخرجه عبد الرزاق ) ‪ ، ( 11/213‬ورجاله ثقات [‬
‫‪ -2‬أن يتعوذ من شر الشيطان‪ ،‬لن الشيطان يخيل بها للتحزين والتهويل‪،‬‬
‫وقد جاء في بعض طرق الحديث أنها منه ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يتفل عن يساره ثلثًا‪ ،‬ليحصل بذلك طرد الشيطان‪ ،‬والستعاذة منه‪،‬‬
‫وخصت به اليسار لنها محل القذار ونحوها ‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ل يذكرها لحد ‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يصلي ما كتب له‪ ،‬وذلك لما في الصلة من التوجه إلى الله واللجوء‬
‫إليه والستعانة به على دفع المكروه‬
‫‪ -6‬التحول عن جنبه الذي كان عليه‪ ،‬لما في ذلك من التفاؤل بالتحول من‬
‫تلك الحال التي كان عليها‪ ،‬فهذه ستة آداب‪ ،‬وزاد بعض العلماء‪ :‬قراءة آية‬
‫الكرسي‪ ،‬ولم يذكر لذلك مستندًا‪ ،‬فإن كان أخذه من عموم قوله – صلى الله‬
‫ح"‬ ‫صب ِ َ‬ ‫حّتى ت ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ٌ‬ ‫ك َ‬ ‫عليه وسلم ‪ -‬في حديث أبي هريرة‪ " :‬وََل ي َ ْ‬
‫قَرب ُ َ‬
‫] أخرجه البخاري ح ) ‪ ، ( 3275‬ومسلم ح ) ‪ ،[ ( 505‬فيتجه‪ ،‬والله أعلم ‪.‬‬
‫وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل هذه الداب " فَإ ِن َّها َل‬
‫ضّره ُ "‪ ،‬قال أهل العلم معناه أن من فعل ما أمر به مصدقا ً متكل ً على الله‬ ‫تَ ُ‬
‫جلت قدرته في دفع المكروه عنه ‪ ،‬فإنه يذهب الخوف والوجل ويندفع عنه‬
‫المكروه بإذن الله ‪ ،‬ويمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه ‪ ،‬ويكون‬
‫ذلك من السباب كما تكون الصدقة تدفع البلء‪ ،‬والدعاء يمنع القضاء‪ ،‬وصلة‬
‫الرحم تزيد في العمر والرزق ‪.‬‬
‫قال النووي‪) :‬وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها‪ ،‬ويعمل بجميع ما‬
‫تضمنته‪ ،‬فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما‬
‫صرحت به الحاديث ‪] (...‬شرح النووي لصحيح مسلم ) ‪ ، [(18 /15‬ويغلب‬
‫على أحوال كثيرٍ من الناس اليوم إهمال هذه الداب‪ ،‬والتفريط في الخذ بها‪،‬‬
‫فتجد الواحد منهم عندما يرى في منامه ما يكره‪ ،‬يصيبه الخوف والهلع‬
‫والقلق‪ ،‬فيسارع إلى البحث عن عابر لها يعبرها‪ ،‬وعن مفسر يفسرها‪ ،‬حتى‬
‫يظهر له أشر هي أم خير‪ ،‬ولو وقف النسان مع هدي النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬لما حصلت له هذه المعاناة والتعلق الشديد الذي أثر في نفسيات‬
‫كثير من الناس وسلوكياتهم‪ ،‬واستثمرته بعض المجامع والمنتديات‪ ،‬وجعلته‬
‫وسيلة لجلب الناس واستقطابهم‪ .‬ثالثًا‪ :‬آداب العابر‬

‫)‪(2 /‬‬

‫وأما عن المعبرين فل يخفى ما للرؤيا الصادقة من مكانة ومنزلة‪ ،‬حيث بين‬


‫النبي صلى الله عليه وسلم أنها جزء من النبوة‪ ،‬وأنه لم يبق من المبشرات‬
‫إل الرؤيا الصادقة‪ ،‬وعلى المعبر أن يستشعر المسئولية العظيمة تجاه تعبير‬
‫الرؤى‪ ،‬سئل مالك ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬أيفسر الرؤيا كل أحد ؟ قال‪) :‬أبالنبوة‬
‫يلعب!( قيل له‪ :‬أيفسرها على الخير‪ ,‬وهي عنده على الشر لقول من يقول‪:‬‬
‫الرؤيا على ما أولت فقال‪) :‬الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أفيتلعب بأمر‬
‫النبوة(‪ ] .‬التمهيد لبن عبد البر ) ‪.[( 1/288‬‬
‫وهناك صفات وشروط لبد من توفرها لمن يقوم بتعبير الرؤى‪ ،‬أشير إلى‬
‫بعضها‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ل‪:‬‬‫ن أ َِبي هَُري َْرةَ – رضي الله عنه‪َ -‬قا َ‬ ‫‪ -1‬أن يكون عالما ً بهذا العلم الجليل‪ ،‬فعَ ْ‬
‫َ‬ ‫ص الّرؤَْيا إ ِّل عََلى َ‬ ‫م‪َ " :‬ل ت ُ َ‬
‫صٍح‬ ‫عال ِم ٍ أوْ َنا ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ّ ُ‬
‫ل الل ّهِ َ‬
‫سو ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل َر ُ‬
‫" ] أخرجه الترمذي ح ) ‪ ، ( 2280‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح [‬
‫قال القاضي عياض‪) :‬ل يعبر الرؤيا كل أحد‪ ،‬ول يعبرها إل العالم بها( ] إكمال‬
‫المعلم ) ‪ ،[ ( 7/228‬وقال القرافي ‪) :‬ول يعبر الرؤيا إل من يعلمها ويحسنها‪,‬‬
‫وإل فليترك(‬
‫وتعبير الرؤى من المور الدقيقة التي تحتاج إلى وجود ملكة وموهبة‪ ،‬وقوة‬
‫نفس لدى المعبر‪ ،‬ونوع من اللهام والفراسة‪ ،‬ول يحصل التمكن في التعبير‬
‫بمجرد التعلم والقراءة‪ ،‬وحفظ ما يوجد في الكتب‪ ،‬ولهذا لم يتأهل لتعبير‬
‫الرؤى حتى امتداد القرون إل النوادر من الناس‪ ،‬بخلف العلوم والمعارف‬
‫الخرى التي تدرك بالتعلم والخذ من الكتب ‪.‬‬
‫قال القرافي‪) :‬اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته‪ ،‬وتشعبت‬
‫تخصيصاته‪ ،‬وتنوعت تعريفاته‪ ،‬بحيث صار النسان ل يقدر أن يعتمد فيه على‬
‫مجرد المنقولت‪ ،‬لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين‪ ،‬بخلف تفسير القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم‪ ،‬فإن‬
‫ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر(‪.‬‬
‫وقال‪) :‬وعلم المنامات منتشر انتشارا ً شديدا ً ل يدخل تحت ضبط‪ ،‬فل جرم‬
‫احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على‬
‫الفراسة‪ ،‬والطلع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء ل يكاد‬
‫يخطئ بسبب ما يخلقه الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في تلك النفوس من القوة المعينة‬
‫على تقريب الغيب‪ ،‬أو تحققه كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما‪ :‬إنه‬
‫كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق‪ ،‬إشارة إلى قوة أودعه الله إياها‪،‬‬
‫فرأى بما أودعه الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة‬
‫واللطافة‪ ،‬فمن الناس من هو كذلك‪ ،‬وقد يكون ذلك عاما في جميع النواع‪،‬‬
‫وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط ‪.(....‬‬
‫وقال‪) :‬فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير‪ ,‬ول‬
‫ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم‬
‫تكن لك قوة نفس فل تجد ذلك أبدا ‪ ,‬ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك‬
‫بأيسر سعي وأدنى ضبط‪ ،‬فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من‬
‫الناس(‪].‬ينظر‪ :‬الفروق للمام القرافي)‪[(250-249 /4‬‬
‫وذكر الئمة أصول ً وضوابط لتعبير الرؤى والمنامات‪ ،‬وهي موجودة في‬
‫مظانها من كتب أهل العلم‪ ،‬ولكن إنما يستفيد منها من يتوفر لديه الستعداد‬
‫والموهبة لتعبير الرؤى‪ ،‬والمتأمل في الواقع يجد أن هذا المجال قد اقتحمه‬
‫من ل يحسنه‪ ،‬وخاض فيه من ل علم عنده‪ ،‬حتى أصبح تعبير الرؤى مهنة من‬
‫ل مهنة له مع بالغ السف ‪.‬‬
‫‪ -2‬على العابر التثبت والتريث فيما يرد عليه‪ ،‬وعدم التسرع‪ ،‬والبعد عن‬
‫الجزم بما يعبر‬
‫قال ابن قتيبة – رحمه الله ‪) : -‬يجب على العابر التثبت فيما يرد عليه وترك‬
‫التعسف ول يأنف من أن يقول لما يشكل عليه ل أعرفه‪ ,‬وقد كان محمد بن‬
‫سيرين إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر(‪.‬‬
‫وحدث الصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال‪ :‬كنت أحضر ابن‬
‫سيرين ُيسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة ‪.‬‬
‫وقال هشام بن حسان ‪) :‬كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا‪ ،‬فل يجيب فيها‬
‫بشيء إل أن يقول‪ :‬اتق الله وأحسن في اليقظة‪ ،‬فإنه ل يضرك ما رأيت في‬

‫‪43‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النوم‪ ،‬وكان يجيب في خلل ذلك‪ ،‬ويقول إنما أجيب بالظن‪ ،‬والظن يخطئ‬
‫ويصيب(‪].‬ينظر‪ :‬الداب الشرعية ) ‪.[( 3/451‬‬
‫وإذا كان هذا موقف إمام المعبرين في زمانه‪ ،‬فما الظن بمن جاء بعده ‪ ،‬لقد‬
‫توسع كثير من المعبرين في تعبير الرؤى فتجده ل يرد شيئا ً مما يرد عليه‪ ،‬فل‬
‫تسمعه يقول‪ :‬هذا من أضغاث الحلم‪ ،‬أو من حديث النفس‪ ،‬أو ل أدري ‪.....‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫قال ابن قتيبة‪) :‬وتفهم كلم صاحب الرؤيا وتبينه‪ ،‬ثم اعرضه على الصول‪،‬‬
‫فإن رأيته كلما صحيحا ًَ يدل على معاني مستقيمة‪ ،‬يشبه بعضها بعضًا‪ ،‬عبرت‬
‫الرؤيا بعد مسألتك الله تعالى أن يوفقك للصواب‪ ,‬وإن وجدت الرؤيا تحتمل‬
‫معنيين متضادين نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب من أصولها فحملتها‬
‫عليه‪ ,‬وإن رأيت الصول صحيحة‪ ،‬وفي خللها أمور ل تنتظم ألقيت حشوها‪،‬‬
‫وقصدت الصحيح منها‪ ,‬وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة ل تلتئم على الصول‬
‫علمت أنها من الضغاث فأعرض عنها‪ ,‬وإن اشتبه عليك المر سألت الله‬
‫تعالى كشفه(‪.‬‬
‫وإذا تأملنا ما سبق من كلم أهل العلم تبين ما يحتاج إليه تعبير الرؤى من‬
‫التثبت والتريث‪ ،‬وحسن التدبر‪ ،‬وهذا ل يتوفر عند كثير ممن يخوض في هذا‬
‫الميدان‪ ،‬ومن المور التي ينبغي الشارة إليها أن الرؤى ل يعتمد عليها في‬
‫إثبات شيء من الحكام الشرعية‪ ،‬ول يعول عليها فيما يتعلق بحقوق الناس‬
‫وحرماتهم‪ ،‬أو الحكم على عدالتهم ونواياهم‬
‫قال في الداب الشرعية‪) :‬قال أبو زكريا النواوي‪ُ :‬نقل التفاق على أنه ل‬
‫ُيغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع …‪ .‬ول يجوز إثبات حكم‬
‫شرعي به ‪ ] (....‬الداب الشرعية ) ‪[ ( 3/447‬‬
‫ن الرؤيا ل‬ ‫معّلمي ‪ -‬رحمه الله ‪ ...) : -‬اتفق أهل العلم على أ ّ‬ ‫وقال العّلمة ال ُ‬
‫جة‬ ‫ح ّ‬‫تصلح للحجة‪ ،‬وإنما هي تبشير وتنبيه‪ ،‬وتصلح للستئناس بها إذا وافقت ُ‬
‫شرعية صحيحة( ] التنكيل )‪[ (2/242‬‬
‫وقد ذكر الشاطبي ‪ -‬رحمه الله في كتابه "العتصام" ‪ -‬أن الخليفة المهدي‬
‫أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي‪ ،‬فقال له شريك‪ :‬وِلم ذلك يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬ودمي حرام عليك؟! قال‪ :‬لني رأيت في المنام كأني مقبل عليك‬
‫مك وأنت تكلمني من قفاك‪ ،‬فأرسلت إلى من يعّبر فسألته عنها‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫أكل ُ‬
‫سّر خلَفك‪ ،‬فقال شريك‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن‬ ‫ُ ِ‬ ‫ي‬ ‫وهو‬ ‫َ‬
‫طك‬ ‫بسا‬ ‫يطأ‬ ‫رجل‬ ‫هذا‬
‫فك بالحلم‪.‬‬ ‫رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب‪ ،‬وإن دماء المسلمين ل تس َ‬
‫كس المهدي رأسه‪ ،‬وأشار إليه بيده أن اخُرج‪ ،‬فانصرف‪.‬‬ ‫فن ّ‬
‫ي‪-‬‬ ‫وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" أن بعضهم رأى في المنام الشافع ّ‬
‫ي يونس بن عبد العلى في حديث‪ ،‬ما هذا من‬ ‫ب عل ّ‬ ‫رحمه الله ‪ -‬فقال له‪ :‬كذ َ‬
‫ً‬
‫ت به‪ .‬فقال الحافظ ابن كثير ‪ -‬رحمه الله معلقا على هذا‬ ‫حديثي ول حدث ُ‬
‫الكلم‪) : -‬يونس بن عبد العلى من الثقات‪ ،‬ل ُيطعن فيه بمجرد منام(‪ .‬وقد‬
‫م الحصري على‬ ‫ت إبراهي َ‬
‫نقل الذهبي ‪ -‬رحمه الله‪ -‬عن المروزي قال‪ ) :‬أدخل ُ‬
‫أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجل ً صالحا ً فقال‪ :‬إن أمي رأت لك مناما‬
‫هو كذا وكذا‪ ،‬وذكرت الجنة‪ ،‬فقال‪ :‬يا أخي‪ ،‬إن سهل بن سلمة كان الناس‬
‫يخبرونه بمثل هذا‪ ،‬وخرج إلى سفك الدماء‪ ،‬وقال‪ :‬الرؤيا تسّر المؤمن ول‬
‫تغّره( ‪ ] .‬ينظر‪ :‬تاريخ مدينة دمشق ) ‪ ،( 519 /47‬سير أعلم النبلء )‬
‫‪[ (11/227‬‬

‫‪44‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وإن من الخطأ في المنهج التعويل على الرؤى والمنامات والغترار بها‪،‬‬


‫والمسارعة في تنزيلها على الواقع وتفسير المستقبل من خللها في قضايا‬
‫المة وشئونها‪ ،‬وإغفال السنن الربانية الثابتة‪ ،‬وترك النظر في السباب‪ ،‬وقد‬
‫عبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع في‬ ‫تسامع الناس في هذه اليام برؤيا ُ‬
‫فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جدا ً !!‬
‫‪ -3‬على المعبر أن يراعي جانب المصالح والمفاسد في تعبيره‪ ،‬فل يلقي‬
‫بالتعبير على عواهنه ‪ ،‬فربما أوقع تعبيره في فتنة أو مفسدة أو ضرر وهو ل‬
‫س‬‫حد ُّثوا الّنا َ‬ ‫يشعر‪ ،‬أخرج البخاري في صحيحه قول علي رضي الله عنه‪َ " :‬‬
‫حبو َ‬ ‫َ‬
‫ه؟! " ] أخرجه البخاري ح ) ‪( 127‬‬ ‫سول ُ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬‫ب الل ّ ُ‬ ‫ن ي ُك َذ ّ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ن‪ ،‬أت ُ ِ ّ َ‬ ‫ما ي َعْرُِفو َ‬ ‫بِ َ‬
‫َ‬
‫ما‬‫ث قَوْ ً‬‫حد ّ ٍ‬
‫م َ‬
‫ت بِ ُ‬
‫ما أن ْ َ‬
‫[ ‪ ،‬وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‪َ " :‬‬
‫ة "‪ ] .‬صحيح مسلم ) ‪[ ( 1/11‬‬ ‫م فِت ْن َ ً‬‫ضهِ ْ‬
‫ن ل ِب َعْ ِ‬‫كا َ‬‫م إ ِّل َ‬ ‫قول ُهُ ْ‬
‫ه عُ ُ‬‫ديًثا َل ت َب ْل ُغُ ُ‬
‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله‪) : -‬المفتي والمعّبر والطبيب يطلعون من أسرار‬
‫الناس وعوراتهم على ما ل يطلع عليه غيرهم‪ ،‬فعليهم استعمال الستر فيما ل‬
‫يحسن إظهاره(‪.‬‬
‫هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫تفسير الصحابة‬
‫الشيخ سعد بن عبد الله السعدان‬
‫م عظيم الشأن‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬ل يستطيعه إل من فتح الله قلبه‬ ‫التفسير عل ٌ‬
‫سر وهو‪ :‬الكشف‬ ‫وأنار بصيرته‪ ،‬ورزقه العلم والفهم‪ ،‬والتفسير مأخوذ ٌ من ال َ‬
‫ف ْ‬
‫والظهار)‪ ،(1‬وفي الصطلح‪ :‬علم يفهم به كتاب الله ‪ -‬تعالى ‪-‬المنّزل على‬
‫كمه)‬ ‫ح َ‬
‫نبيه محمد ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وبيان معانيه واستخراج أحكامه و ِ‬
‫‪.(2‬‬
‫ن أصحابه كان هو المرجع في‬ ‫ولما كان النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬ب َي ْ َ‬
‫تبيين الكتاب العزيز‪ ،‬فما أشكل عليهم أو احتاجوا لبيان وتفسير آيات من‬
‫سر لهم ما سألوا عنه بكلم وتفسير‬ ‫القرآن هرعوا إليه وسألوه؟ فبّين وف ّ‬
‫شاف‪ .‬وبعد وفاته ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬واتساع البلد ودخول الناس في‬
‫السلم‪ ،‬ودخول الُعجمة‪ ،‬احتاج المسلمون لشرح ما لم يكن الصحابة في‬
‫عهد الرسول ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬بحاجة إلى شرحه من الكتاب والسنة‪،‬‬
‫فتوجهوا إلى الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لسؤالهم والستيضاح منهم‪.‬‬
‫أهمية تفسير الصحابة‪:‬‬
‫تظهر لنا أهمية تفسير الصحابة للقرآن إذا علمنا أن النبي ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ -‬بين لصحابه معاني القرآن‪ ،‬كما بين لهم ألفاظه‪ ،‬ول يحصل البيان‬
‫والبلغ المقصود إل بذلك‪ ،‬قال ‪ -‬تعالى ‪" :-‬لتبين للناس ما نزل إليهم"‬
‫}النحل‪ ،{44 :‬وقال‪" :‬هذا بيان للناس" }آل عمران‪ ،{138 :‬وقال ‪ -‬تعالى‬
‫‪" :-‬وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه ليبين لهم" }إبراهيم‪ ،{4 :‬وقال ‪-‬‬
‫تعالى ‪" :-‬فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" }الدخان‪ ،{58 :‬وقال ‪-‬‬
‫تعالى ‪" :-‬كتاب فصلت آياته" }فصلت‪ ،{3 :‬أي‪ :‬بينت‪ ،‬وأزيل عنها الجمال‬
‫فلو كانت آياته مجملة‪ ،‬لم تكن قد فصلت‪ ،‬وقال ‪ -‬تعالى ‪" :-‬وما على‬
‫الرسول إل البلغ المبين" }العنكبوت‪.{18 :‬‬
‫وهذا يتضمن بلغ المعنى‪ ،‬وأنه في أعلى درجات البيان وقد قال أبو عبد‬
‫الرحمن السلمي ‪ -‬أحد أكابر التابعين‪ ،‬الذين أخذوا القرآن ومعانيه‪ ،‬عن مثل‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عبد الله بن مسعود‪ ،‬وعثمان ابن عفان‪ ،‬وتلك الطبقة‪" :‬حدثنا الذين كانوا‬
‫يقرؤوننا القرآن من أصحاب النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬عثمان بن عفان‪،‬‬
‫وعبد الله بن مسعود وغيرهما‪ ،‬أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ‪ -‬صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ -‬عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل‪،‬‬
‫فتعلمنا القرآن والعمل)‪.(3‬‬
‫فالصحابة أخذوا عن رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬ألفاظ القرآن‬
‫ومعانيه‪ ،‬بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني من عنايتهم باللفاظ‪ ،‬يأخذون‬
‫ل‪ ،‬ثم يأخذون اللفاظ‪ ،‬ليضبطوا بها المعاني حتى ل تشذ عنهم)‪.(4‬‬ ‫المعاني أو ً‬
‫وكذا إذا علمنا أن الصحابة قد سمعوا من النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬من‬
‫الحاديث الكثيرة‪ ،‬ورأوا منه من الحوال المشاهدة‪ ،‬وعلموا بلقوبهم من‬
‫مقاصده‪ ،‬ودعوته‪ ،‬ما يوجب فهم ما أراد بكلمه‪ ،‬ما يتعذر على من بعدهم‬
‫مساواتهم فيه‪ ،‬فليس من سمع وعلم ورأى حال المتكلم‪ ،‬كمن كان غائبًا‪ ،‬لم‬
‫ير‪ ،‬ولم يسمع‪ ،‬وعلم بواسطة‪ ،‬أو وسائط كثيرة‪.‬‬
‫وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم كان الرجوع إليهم في ذلك‬
‫دون غيرهم متعينا ً قطعًا‪.‬‬
‫ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو‪ :‬ما كان عليه رسول الله ‪ -‬صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ -‬وأصحابه‪ ،‬كما شهد لهم رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪-‬‬
‫بذلك‪ ،‬في قوله‪" :‬من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي")‪.(5‬‬
‫خصائص الصحابة‪:‬‬
‫اختص الصحابة عن غيرهم بأمور منها‪:‬‬
‫‪ -1‬ظفرهم بشريف الصحبة‪ ،‬والخيرية المطلقة‪ ،‬وفي الحديث "خير الناس‬
‫قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم"‪ ،‬وهذه خيرية مثمرة‪ ،‬وليست خيرية شرف فقط‪.‬‬
‫‪ -2‬مباشرتهم للوقائع والنوازل‪ ،‬وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة فهم أقعد في‬
‫فهم القرائن الحالية‪ ،‬وأعرف بأسباب التنزيل‪ ،‬ويدركون مال يدركه غيرهم‪،‬‬
‫بسبب ذلك‪ ،‬والشاهد يرى‪ ،‬مال يرى الغائب)‪.(6‬‬
‫‪ -3‬عاصروا وشهدوا ما قبل الوحي‪ ،‬أي الجاهلية‪ ،‬والقرآن جاء ليهدم الجاهلية‬
‫"إنما النسيء زيادة في الكفر" }التوبة‪.{37 :‬‬
‫‪ -4‬مصاحبتهم للرسول ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وملزمتهم له‪ ،‬والتتلمذ‬
‫على يديه‪ ،‬والتعلم منه مباشرة‪ ،‬وسؤاله لكل ما يدور بينهم‪.‬‬
‫‪ -5‬أنهم عرب خلص‪ ،‬وهي كافية عن غيرها‪ ،‬والقرآن نزل بلغتهم‪ .‬حتى إن‬
‫اليهود كانوا يجيدون العربية‪ ،‬ويقولون الشعر أيضًا‪.‬‬
‫وهناك صفات اشترك فيها الصحابة مع غيرهم‪ ،‬كالصدق في القول‪ ،‬والتثبت‬
‫في نقل الخبار‪ ،‬والحرص على نشر العلم‪ ،‬والخروج في سبيل الله‪ .‬وهي‬
‫تدخل في الخيرية‪.‬‬
‫موقع تفسير الصحابة‪:‬‬
‫تفسير الصحابة مقدم على تفسير غيرهم لما تقدم من المور الخمسة‬
‫ويكفي أحدها‪ .‬ولشك أننا إذا لم نجد تفسيرا ً في الكتاب والسنة نتجه لتفسير‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫‪ -‬ولبد من إخراج ما كان خارج دائرة الجتهاد‪ ،‬فنخرج‪:‬‬
‫‪ -1‬ما كان في حكم المرفوع‪.‬‬
‫‪ -2‬أسباب النزول‪.‬‬
‫وهو مما ل مجال للجتهاد فيه‪.‬‬
‫ويلحظ أن تفسير الصحابة أصابه ما أصاب غيره من التفسير المرفوع‪ ،‬وذلك‬

‫‪46‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من الوضع في الحديث وخلفه‪.‬‬


‫أسباب قلة اختلف الصحابة في التفسير‪:‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وقع بين الصحابة بعض الختلفات في التفسير‪ ،‬وهو قليل جدًا‪ ،‬وأسباب قلة‬
‫الختلف بين الصحابة في التفسير ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬وجود الرسول ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬بينهم‪ ،‬فقد كانوا يرجعون إليه عند‬
‫اختلفهم‪ ،‬فيزيل ما لديهم من تساؤل ونحوه‪.‬‬
‫‪ -2‬وكان الرسول ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬ينهاهم عن الخلف في القرآن‪.‬‬
‫‪ -3‬سعة علم الصحابة في العلم الشرعي‪ ،‬ومعرفتهم باللغة وأساليبها‪،‬‬
‫ومعانيها)‪.(7‬‬
‫‪ -4‬تأثير العصر عليهم‪ ،‬قال شيخ السلم‪" :‬كان النزاع بين الصحابة في‬
‫تفسير القرآن قليل ً جدا ً وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة‪ ،‬فهو‬
‫قليل بالنسبة إلى من بعدهم‪ ،‬وكلما كان العصر أشرف كان الجتماع‬
‫والئتلف‪ ،‬والعلم‪ ،‬والبيان فيه أكثر")‪.(8‬‬
‫ومع قلة الختلف بين الصحابة في تفسير القرآن فإن أغلبه يرجع إلى‬
‫اختلف التنوع‪ ،‬ل إلى اختلف التضاد‪ ،‬وهو أيسر أنواع الختلف‪.‬‬
‫أنواع اختلف التنوع‪:‬‬
‫يرجع اختلف السلف في التفسير إلى أنواع معدودة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ل‪ :‬أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المعنى المراد بعبارة غير عبارة‬ ‫أو ً‬
‫صاحبه‪ ،‬تدل على معنى في المسمى غير المعنى الخر‪ ،‬مع اتحاد المسمى‪،‬‬
‫ومثال ذلك في التفسير‪" :‬الصراط المستقيم" قيل‪ :‬العبودية‪ .‬وقيل‪ :‬الطاعة‪.‬‬
‫فهذه القوال كلها تدل على ذات واحدة‪ ،‬لكن وصفها كل منهم بصفة من‬
‫صفاتها)‪.(9‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يذكر كل مفسر من السم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل‪،‬‬
‫وتنبيه المستمع على النوع‪ ،‬ل على سبيل الحد المطابق للمحدود‪ ،‬في عمومه‬
‫وخصوصه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬ما نقل في قوله‪" :‬ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا‬
‫فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات" }فاطر‪.{32 :‬‬
‫فمن المفسرين من قال‪ :‬السابق‪ :‬الذي يصلي في أول الوقت‪ .‬والمقتصد‪:‬‬
‫الذي يصلي في أثنائه‪.‬‬
‫والظالم لنفسه‪ :‬الذي يؤخر العصر إلى الصفرار‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من قال‪:‬‬
‫السابق والمقتصد والظالم‪ ،‬قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر‬
‫المحسن بالصدقة‪ ،‬والظالم بأكل الربا‪ ،‬والعادل بالبيع‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من قال‪ :‬السابق‪ ،‬المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات‪ ،‬والظالم‬
‫آكل الربا‪ ،‬أو مانع الزكاة‪ ،‬والمقتصد‪ :‬الذي يؤدي الزكاة المفروضة‪ ،‬ول يأكل‬
‫الربا‪ ،‬وأمثال هذه القاويل)‪.(10‬‬
‫ً‬
‫فكل قول من هذه القوال‪ ،‬إنما يذكر نوعا مما يتناوله نص الية لتعريف‬
‫المستمع‪ ،‬وتنبيهه على نظائره‪ ،‬ول يضاد ما ذكره غيره‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما يكون في اللفظ محتمل ً للمرين‪.‬‬
‫ومثاله‪ :‬لفظ‪" :‬قسورة" فإنه يراد بها‪ :‬الرامي‪ ،‬ويراد بها‪ :‬السد‪.‬‬
‫ولفظ‪" :‬عسعس" يراد به‪ :‬إقبال الليل وإدباره‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولفظ‪" :‬القرء" يراد به الحيض والطهر)‪.(11‬‬


‫الرابع‪ :‬أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة‪.‬‬
‫ومثاله‪ :‬أن يفسر أحدهم قوله ‪ -‬تعالى ‪ :-‬أن تبسل تحبس‪ .‬ويقول الخر‪:‬‬
‫ترتهن‪ ،‬ونحو ذلك)‪.(12‬‬
‫قال الزركشي‪:‬‬
‫يكثر في معنى الية أقوالهم‪ ،‬واختلفهم‪ ،‬ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات‬
‫متباينة اللفاظ‪ ،‬ويظن من ل فهم عنده أن في ذلك اختلف‪ ،‬فيحكيه أقوا ً‬
‫ل‪،‬‬
‫وليس كذلك‪ ،‬بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الية‪ ،‬وإنما اقتصر‬
‫عليه لنه أظهر عند ذلك القائل‪ ،‬أو لكونه أليق بحال السائل‪ ،‬وقد يكون‬
‫بعضهم يخبر عن الشيء بلزمه‪ ،‬ونظيره والخر‪ :‬بمقصوده وثمرته‪ ،‬والكل‬
‫يؤول إلى معنى واحد غالبًا‪ ،‬والمراد الجميع‪ ،‬وليتفطن لذلك‪ ،‬ول يفهم من‬
‫اختلف العبارات اختلف المرادات)‪.(13‬‬
‫مميزات تفسيرهم‪:‬‬
‫‪ -1‬يلحظ في تفسيرهم أنه موجز‪ ،‬وأكثره يعتمد على اللغة‪.‬‬
‫‪ -2‬ل يتكلفون التفسير‪ ،‬ول يتعمقون فيه تعمقا ً مذمومًا‪ ،‬فقد كانوا يكتفون‬
‫في بعض اليات بالمعنى العام‪ ،‬ول يلتزمون بالتفصيل فيما ل فائدة فيه‪،‬‬
‫فيكتفون مثل ً بمعرفة أن المراد بقوله ‪ -‬تعالى ‪ :-‬وفاكهة وأبا ‪ - 31‬صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪-‬عبس‪ {31 :‬أنه‪ :‬تعداد لنعم الله ‪ -‬تعالى ‪-‬على عباده)‪.(14‬‬
‫‪ -3‬قلة الخذ بالسرائيليات‪ ،‬وتناولها في التفسير‪ ،‬لحرصه ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ -‬على اقتصار أصحابه على نبع السلم الصافي الذي لم تكدره‬
‫شبه الختلفات‪ ،‬والفتراءات يدل على هذا المقصد‪" :‬غضبه ‪-‬‬ ‫الهواء‪ ،‬ولم ت ُ‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ -‬حين رأى عمر ‪ -‬رضي الله عنه ‪ ،-‬وفي يده صحيفة‬
‫من التوراة")‪.(15‬‬
‫‪ -4‬لم يكن تفسيرهم يشمل القرآن كله‪ ،‬إذ أن بعض اليات من الوضوح‬
‫لديهم‪ ،‬بحيث ل يحتاج إلى خوض في تفسيرها‪ ،‬لتضلعهم في اللغة‪ ،‬ومعرفتهم‬
‫بأحوال المجتمع آنذاك وغير ذلك)‪.(16‬‬
‫‪ -5‬قلة تدوينهم للتفسير‪ ،‬وأن أغلب ما روي عنهم كان بالرواية‪ ،‬والتلقين‪،‬‬
‫وليس بالتدوين‪ ،‬وإن كان بعض الصحابة يعتني بالتدوين‪ ،‬مثل‪ :‬عبد الله بن‬
‫عمرو ابن العاص فقد دّون صحيفته التي تسمى "الصادقة" ولكن هذا التدوين‬
‫كان نادرًا)‪.(17‬‬
‫‪ -6‬التوفيق للصواب‪ ،‬لما خصهم الله ‪ -‬تعالى ‪-‬بعدة خصائص من توقد‬
‫الذهان‪ ،‬وفصاحة اللسان‪ ،‬وسعة العلم‪ ،‬وسهولة الخذ‪ ،‬وحسن الدراك‬
‫وسرعته‪ ،‬وقلة المعارض أو عدمه‪ ،‬وحسن القصد‪ ،‬وتقوى الرب‪ ،‬وكثرة‬
‫المعاون وقلة الصارف‪ ،‬وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة‬
‫النبوية)‪.(18‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪ -7‬قلة الجماع‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن كل صحابي إذا سئل يجيب بما يفهمه‪ ،‬ولول الفهم‬
‫لما تميز من الصحابة مفسرون‪.‬‬
‫‪ -8‬خلو تفسير الصحابة من الشوائب العقدية‪ ،‬وهذا ما حصل فيه الجماع‪،‬‬
‫وكذلك كان عند التابعين‪.‬‬
‫حجية أقوال الصحابة في التفسير‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬تحرير محل النزاع‪:‬‬

‫‪48‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قال الشاطبي‪ :‬أما بيان الصحابة‪ ،‬فإن أجمعوا على ما بينوه فل إشكال في‬
‫صحته‪ ،‬كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين‪ ،‬المبين لقوله ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫"وإن كنتم جنبا فاطهروا" }المائدة‪.(19){6 :‬‬
‫وكذا إن كان ما يفسره الصحابي مما ل مجال فيه للجتهاد ول منقول ً عن‬
‫لسان العرب فحكمه الرفع‪ ،‬كالخبار عن المور الماضية‪ ،‬من بدء الخلق‪،‬‬
‫وقصص النبياء‪ ،‬وعن المور التية‪ :‬كالملحم‪ ،‬والفتن‪ ،‬والبعث‪ ،‬وصفة الجنة‬
‫والنار‪ ،‬والخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص‪ ،‬أو عقاب مخصوص فهذه‬
‫الشياء ل مجال للجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع)‪.(20‬‬
‫وكذا إن كان ما فسره الصحابي في تفسير يتعلق بسبب نزول آية محكمة‬
‫الرفع أيضًا)‪.(21‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الخلف في المسألة‪:‬‬
‫المذهب الول‪ :‬ذهب بعض أهل العلم إلى‪ :‬أن تفسيرهم في حكم المرفوع‪.‬‬
‫قال أبو عبدالله الحاكم في مستدركه‪ :‬وتفسير الصحابي عندنا في حكم‬
‫المرفوع‪.‬‬
‫ومراده‪ :‬أنه في حكمه في الستدلل به والحتجاج)‪.(22‬‬
‫‪ -‬قال الحافظ ابن حجر‪ :‬أطلق الحاكم النقل عن البخاري ومسلم أن تفسير‬
‫الصحابي ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬الذي شهد الوحي‪ ،‬والتنزيل‪ ،‬حديث مسند)‪.(23‬‬
‫‪ -‬وقال ابن القيم‪ :‬نص المام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة‬
‫في تفسير القرآن‪ ،‬إذا لم يخالفه غيره منهم‪.‬‬
‫ثم من أصحابه من يقول هذا قول واحد‪ ،‬وإن كان في الرجوع في الفتيا‪،‬‬
‫والحكام‪ ،‬إليه‪ ،‬روايتان‪ ،‬ومنهم من يقول الخلف في الموضعين واحد)‪.(24‬‬
‫‪ -‬وقال المام أحمد‪ ،‬في معرض رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني‪ ،‬في‬
‫مسألة اليمان‪ :‬وأن تأويل من تأول القرآن بل سنة‪ ،‬تدل على معناها‪ ،‬أو‬
‫معنى ما أراد الله ‪ -‬عز وجل ‪ ،-‬أو أثر عن أصحاب الرسول ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،-‬ويعرف ذلك‪ :‬بما جاء عن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬أو عن‬
‫أصحابه‪ ،‬فهم شاهدوا النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وشهدوا تنزيله‪ ،‬وما‬
‫قصه له القرآن‪ ،‬وما عني به‪ ،‬وما أراد به‪ ،‬وخاص هو أو عام‪ ،‬فأما من تأوله‬
‫على ظاهره بل دللة من رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬ول أحد من‬
‫أصحابه‪ ،‬فهذا تأويل أهل البدع‪.(25)...‬‬
‫‪ -‬وقال شيخ السلم ابن تيمية‪ :‬إذا لم نجد التفسير في القرآن‪ ،‬ول في‬
‫السنة‪ ،‬رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة‪ ،‬فإنهم أدرى بذلك‪ ،‬لما شاهدوه‬
‫من القرآن‪ ،‬والحوال‪ ،‬التي اختصوا بها‪ ...‬لسيما علماؤهم‪ ،‬وكبراؤهم كالئمة‬
‫الربعة‪ ،‬والئمة المهديين‪ ،‬مثل‪ :‬عبدالله بن مسعود‪.(26) ...‬‬
‫‪-‬وقال كذلك في موطن آخر‪ :‬وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن والحديث‪،‬‬
‫وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة‪ ،‬والتابعين‪ ،‬فهو مفتر على‬
‫الله‪ ،‬ملحد في آيات الله‪ ،‬محرف للكلم عن مواضعه)‪.(27‬‬
‫‪ -‬وقال أيضا ً في موضع آخر‪ :‬ولهذا جعل )أي المام أحمد( الحتجاج بالظواهر‬
‫مع العراض عن تفسير النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وأصحابه طريق أهل‬
‫البدع)‪.(28‬‬
‫وقد رجح هذا المذهب الدكتور‪ :‬محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير‬
‫والمفسرون)‪.(29‬‬
‫المذهب الثاني‪ :‬قال أبو عمرو الداني‪ :‬إذا فسر )الصحابي( آية تتعلق بحكم‬
‫شرعي‪ ،‬فيحتمل أن يكون ذلك مستفادا ً عن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪،-‬‬
‫وعن القواعد‪ ،‬فل يجزم برفعه‪ ،‬وكذا إذا فسر مفردًا‪ ،‬فهذا نقل عن اللسان‬

‫‪49‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫خاصة‪ ،‬فل يجزم برفعه‪ ،‬وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من‬
‫كبار الئمة‪ ،‬كصاحبي الصحيح‪ ،‬والمام الشافعي‪ ،‬وأبي جعفر الطحاوي‪ ،‬وأبي‬
‫بكر بن مردويه في تفسيره المسند والبيهقي‪ ،‬وابن عبدالبر في آخرين)‪.(30‬‬
‫________________________‬
‫*الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬تهذيب اللغة للزهري )‪.(407/12‬‬
‫‪ -2‬البرهان للزركشي )‪ (13/1‬والتقان للسيوطي )‪.(174/2‬‬
‫‪ -3‬أخرجه ابن أبي شيبة )‪ (29920‬وأحمد )‪ (410/5‬والفريابي في فضائل‬
‫القرآن )‪ (169‬بإسناد صحيح‪.‬‬
‫‪ -4‬مختصر الصواعق المرسلة لبن القيم )‪ (511-510‬بتصرف‪ ،‬ط دار‬
‫الحديث‪ ،‬ت سيد إبراهيم‪.‬‬
‫‪ -5‬المصدر السابق ص‪.(516) :‬‬
‫‪ -6‬الموافقات للشاطبي )‪ (251/3‬ت عبدالله دراز‪.‬‬
‫‪ -7‬بحوث في أصول التفسير ومناهجه د‪ .‬فهد الرومي )‪.(41‬‬
‫‪ -8‬مجموع الفتاوى )‪.(332/13‬‬
‫‪ -9‬المصدر السابق )‪.(336/13‬‬
‫‪ 10‬المصدر السابق )‪.(337/13‬‬
‫‪ -11‬المصدر السابق )‪.(340/13‬‬
‫‪ -12‬المصدر السابق )‪.(343/13‬‬
‫‪ -13‬البرهان للزركشي )‪.(160-159/2‬‬
‫‪ -14‬بحوث في أصول التفسير للرومي )‪.(21‬‬
‫‪ -15‬المصدر السابق )‪ ،(21‬والحديث أخرجه أحمد في المسند )‪.(387/3‬‬
‫‪ -16‬المصدر السابق )‪.(21‬‬
‫‪ -17‬المصدر السابق )‪.(22-21‬‬
‫‪ -18‬إعلم الموقعين لبن القيم )‪.(150-149/4‬‬
‫‪ -19‬الموافقات )‪.(251/3‬‬
‫‪ -20‬النكت على كتاب ابن الصلح‪ ،‬لبن حجر )‪ (531/2‬ط دار الراية‪.‬‬
‫‪ -21‬تدريب الراوي للسيوطي )‪ (215/1‬ط مكتبة الكوثر‪.‬‬
‫‪ -22‬إعلم الموقعين )‪.(153/4‬‬
‫‪ -23‬النكت على كتاب ابن الصلح )‪.(531/2‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪ -24‬مختصر الصواعق )‪.(516‬‬


‫‪ -25‬السنة للخلل )‪ (23/4‬ت عطية الزهراني‪ ،‬ط دار الراية‪.‬‬
‫‪ -26‬مجموع الفتاوى )‪.(364/13‬‬
‫‪ -27‬رسالة في علم الباطن والظاهر لبن تيمية‪) ،‬مجموعة الرسائل‬
‫المنيريه( )‪.(236/1‬‬
‫‪ -28‬اليمان لبن تيمية )‪ (375‬ت اللباني‪ .‬ط المكتب السلمي‪.‬‬
‫‪ -29‬التفسير والمفسرون )‪.(96/1‬‬
‫‪ -30‬النكت لبن حجر )‪.(532/2‬‬
‫‪ http://jmuslim.naseej.com‬المصدر‪:‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫‪50‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تفسير حديث بدأ السلم غريبا‪...‬‬


‫الكاتب ‪ :‬أبن باز رحمه الله‬
‫س ‪ -‬عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال الحبيب صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫" بدأ السلم غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" نرجو تفسير هذا‬
‫الحديث وبيان مدى صحته؟‬
‫الجواب‪ :‬هذا الحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي‬
‫الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‪ :‬بدأ السلم غريبا وسيعود‬
‫غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله عليه‬
‫الصلة والسلم‪.‬‬
‫زاد جماعة من أئمة الحديث في رواية أخرى‪ :‬قيل يا رسول الله من الغرباء؟‬
‫قال الذين يصلحون إذا فسد الناس‬
‫وفي لفظ آخر‪ :‬الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي وفي لفظ آخر‪ :‬هم‬
‫النزاع من القبائل وفي لفظ آخر‪ :‬هم أناس صالحون قليل في أناس سوء‬
‫كثير‬
‫فالمقصود أن الغرباء هم أهل الستقامة‪ ،‬وأن الجنة والسعادة للغرباء الذين‬
‫يصلحون عند فساد الناس إذا تغيرت الحوال والتبست المور وقل أهل الخير‬
‫ثبتوا هم على الحق واستقاموا على دين الله ووحدوا الله وأخلصوا له العبادة‬
‫واستقاموا على الصلة والزكاة والصيام والحج وسائر أمور الدين‪ ،‬هؤلء هم‬
‫م‬‫ه ثُ ّ‬ ‫ن َقاُلوا َرب َّنا الل ّ ُ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫الغرباء‪ ،‬وهم الذين قال الله فيهم وفي أشباههم‪ :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ة َأل ت َ َ‬
‫جن ّةِ ال ِّتي ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫شُروا ِبال ْ َ‬‫حَزُنوا وَأب ْ ِ‬ ‫خاُفوا َول ت َ ْ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬‫م ال ْ َ‬‫ل عَل َي ْهِ ُ‬‫موا ت َت َن َّز ُ‬ ‫قا ُ‬‫ست َ َ‬‫ا ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شت َِهي‬‫ما ت َ ْ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫خَرةِ وَلك ُ ْ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَِفي ال ِ‬ ‫م ِفي ال َ‬ ‫ن أوْل َِياؤُك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن نَ ْ‬‫دو َ‬‫ُتوعَ ُ‬
‫حيم ٍ ]فصلت‪ . [32-30 :‬ما‬ ‫فورٍ َر ِ‬‫ن غَ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ً‬
‫ن ن ُُزل ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ت َد ّ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫َ‬
‫م وَلك ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫تدعون‪ :‬أي ما تطلبون‪ .‬فالسلم بدأ قليل غريبا في مكة لم يؤمن به إل‬
‫القليل‪ ،‬وأكثر الخلق عادوه وعاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وآذوه‪ ،‬وآذوا‬
‫أصحابه الذين أسلموا‪ ،‬ثم انتقل إلى المدينة مهاجرا وانتقل معه من قدر من‬
‫أصحابه‪ ،‬وكان غريبا أيضا حتى كثر أهله في المدينة وفي بقية المصار‪ ،‬ثم‬
‫دخل الناس في دين الله أفواجا بعد أن فتح الله على نبيه مكة عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬فأوله كان غريبا بين الناس وأكثر الخلق على الكفر بالله والشرك‬
‫بالله وعبادة الصنام والنبياء والصالحين والشجار والحجار ونحو ذلك‪.‬‬
‫ثم هدى الله من هدى على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى يد‬
‫أصحابه فدخلوا في دين الله وأخلصوا العبادة لله وتركوا عباده الصنام‬
‫والوثان والنبياء والصالحين وأخلصوا لله العبادة فصاروا ل يعبدون إل الله‬
‫وحده؟ ل يصلون إل له؟ ول يسجدون إل له؛ ول يتوجهون بالدعاء والستعانة‬
‫وطلب الشفاء إل له سبحانه وتعالى‪ ،‬ل يسألون أصحاب القبور‪ ،‬ول يطلبون‬
‫منهم المدد‪ ،‬ول يستغيثون بهم‪ ،‬ول يستغيثون بالصنام والشجار والحجار ول‬
‫بالكواكب والجن والملئكة‪ ،‬بل ل يعبدون إل الله وحده سبحانه وتعالى‪ ،‬هؤلء‬
‫هم الغرباء‪.‬‬
‫وهكذا في آخر الزمان هم الذين يستقيمون على دين الله عندما يتأخر الناس‬
‫عن دين الله‪ ،‬وعندما يكفر الناس‪ ،‬وعندما تكثر معاصيهم وشرورهم يستقيم‬
‫هؤلء الغرباء على طاعة الله ودينه‪ ،‬فلهم الجنة والسعادة ولهم العاقبة‬
‫الحميدة في الدنيا وفي الخرة‪.‬‬
‫* الشيخ ‪ :‬عبدالعزيز أبن باز رحمه الله ‪ -‬فتاوى نور على الدرب‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪51‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تفسير سورة العصر‬


‫الجمعة ‪ 3‬محرم ‪ 24 / 1397‬كانون الول ‪1976‬‬
‫الحلقة ) ‪ 2‬ـ ‪( 2‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ،‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد كان حديثنا في الجمعة الماضية عن سورة العصر كمقدمة لها ‪ ،‬قال الله‬
‫تعالى ) والعصر ‪ ،‬إن النسان لفي خسر ‪ ،‬إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات‬
‫وتوصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( والعلماء يختلفون في المراد في معنى كلمة‬
‫) العصر ( بعد اتفاقهم على أنها قسم ‪ ،‬أقسم الله تعالى به ‪ ،‬فمن قائل أن‬
‫المراد بالعصر هو هذا الوقت الذي تؤدى فيه صلة العصر ويستندون بكلمهم‬
‫لما جاء عن فضيلة صلة العصر أن كثيرا ً من العلماء رحمة الله تعالى عليهم‬
‫يذهبون إلى أن صلة العصر هي الصلة الوسطى التي جاء ذكرها في قول‬
‫الله تعالى ) حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وقوموا لله قانتين (‬
‫فكثير من العلماء ذهب إلى أن صلة الوسطى هي صلة العصر ‪ ،‬والصلة‬
‫الوسطى لها فضائل يعرفها من ينظر في كتب الحديث ‪ .‬ويذهب غيرهم إلى‬
‫أن المراد بالعصر هو الزمان ‪ ،‬والزمان هو هذا الظرف الذي تقع في أعمال‬
‫الناس خيرا ً وشرا ً وحسنا ً وسوءا ً ‪ ،‬والذي نذهب إليه هو هذا المعنى الخير لما‬
‫ثبت من قراءة علي كرم الله تعالى وجهه بهذه السورة فقد كان يقرأها هكذا‬
‫) والعصر ـ ونوائب الدهر ـ إن النسان لفي خسر ـ وإنه فيه إلى آخر العمر ـ‬
‫إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( وأيا ً ما‬
‫كان المراد فذلك ل يؤثر على جوهر المعاني التي وردت في السورة ‪ ،‬وليس‬
‫في نيتي أن أطيل الحديث في هذه النقطة لعدم جدواها في ما نحن بصدده ‪.‬‬
‫أما الشيء الذي ألفت إليه أنظاركم فهو هذه الصياغة الموحية للية ) والعصر‬
‫إن النسان لفي خسر ( لحظوا ‪ ،‬الخسر معروف عندكم ‪ ،‬خسران الشيء‬
‫هو فقدانه ‪ ،‬ولكن المشكلة ليست في اللفظة المفردة بل في الصياغة‬
‫المعجزة ‪ ،‬فقول الله تعالى ) إن النسان لفي خسر ( المراد منه هو الحكم‬
‫على النسان بالخسران ‪ ،‬أي على جنس النسان أي شمل كل إنسان ‪ ،‬إل‬
‫الذين آمنوا إلى آخر السورة ‪ ،‬هذا المعنى يتبادر إلى الذهن أول ً ‪ ،‬لكن انظروا‬
‫إلى الصياغة ‪ ،‬نحن نقول مثل ً ‪ :‬اشترى فلن الحاجة الفلنية وباعها فخسر‬
‫فيها ‪ ،‬فقد يكون هذا الخسران غير وارد في مرة مقبلة ‪ ،‬قد تشتري شيئا ً‬
‫فتخسر ‪ ،‬لكن هذا ل يعني أنه كلما اشتريت شيئا ً خسرت ‪ ،‬ربما تربح في‬
‫عملية قادمة ‪ ،‬تقول ‪ :‬جّرب فلن العملية الفلنية فخسر فيها وهذا يعني أن‬
‫هذه المرة التي جرت عليها التجربة كانت العاقبة الخسران ‪ ،‬ولكن قد ل‬
‫يخسر في المرة القادمة ‪ ،‬فنحن حين نصف النسان بالخسر علينا أن نربط‬
‫الخسر بالنسان ‪ ،‬يعني أننا حين نريد أن نصف النسان بالخسر ل بد أن‬
‫يكون صياغة الية كالتي ) والعصر إن النسان لخاسر ( في هذا الحالة وفي‬
‫هذه الصياغة فالخسران لصق بالنسان لن النسان وصف بالخسران ‪ ،‬لكن‬
‫الصياغة المعجزة جاءت ) إن النسان لفي خسر ( خذ أول ً كلمة ) في ( هذا‬
‫الحرف الذي هو ظرف ‪ ،‬تقول ‪ :‬هذا الرجل في المسجد ‪ ،‬أي أنه ضمن‬
‫المسجد ‪ ،‬فحينما نسمع الله يقول ) إن النسان لفي خسر ( فذلك أن‬
‫النسان واقع في خسر ‪ ،‬أي متضمن لهذا الخسر ‪ ،‬فالخسر هل وصف به‬
‫النسان ؟ الخسر وصف عارض للنسان ينفك عن صاحبه ‪ ،‬لكن الية تنصب‬

‫‪52‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫على أمر بالغ الخطورة وهو أن الخسر في الطريق ذاته في نفس الطريق ‪،‬‬
‫أي في الحالة التي يكون فيها النسان ‪ ،‬فإذا مشيت مع اليات وجدت قول‬
‫الله تعالى ) إل الذين آمنوا ( هذه واحدة ) وعملوا الصالحات ( هذه الثانية‬
‫) وتواصوا بالحق ( هذه الثالثة ) وتواصوا بالصبر ( هذه الرابعة ‪ ،‬هذه‬
‫الوصاف الربعة إذا تحققت في النسان فهو ليس في خسر ‪ ،‬وبالتالي فهو‬
‫غير خاسر ‪ .‬ماذا يريد الله أن يقّر في الذهان ؟ يريد أن يضع أمام النسان‬
‫صورة عامة للنسانية ‪ ،‬هذه الصورة العامة ذات طريقين ‪ ،‬الطريق الول ‪:‬‬
‫هو النسان من حيث هو إنسان ‪ ،‬غير مستند إلى وحي ‪ ،‬ول تابع إلى نبوة ‪،‬‬
‫فهو في النهاية خاسر إذا لم يأخذ بشريعة السماء ‪ .‬الطريق الثاني ‪ :‬الذي‬
‫تشير إليه السورة وهو طريق النبوات ‪ ،‬أي الذي يتحقق فيه اليمان بالله‬
‫ويتبعه العمل الصالح والتواصي بالحق والصبر ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ومسألة إلقاء كلم من هذا النوع في ذلك العصر ـ عصر الرسالة ـ أن يرد ّ‬
‫على اللغط الذي أثارته قريش وكذلك أثارته جميع من بلغته الدعوة ‪،‬‬
‫وللسف هذا اللغط يتردد على مّر العصور ‪ ،‬فحيثما لم يفطن الناس لكتاب‬
‫الله تعالى ‪ ،‬وحيثما ناديت الناس إلى أن يأخذوا بطريق الله ‪ ..‬كثر اللغط‬
‫مرة أخرى بل ومرات كثيرة ‪ .‬قريش في ذلك الزمن البعيد كانت تقارن بين‬
‫شخص محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الزعامات ‪ ،‬بل إن المقارنة‬
‫امتدت إلى الماضين الذين ماتوا ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬أأنت خير من غالب أو من فلن‬
‫أو فلن ‪ ..‬من أجداده ؟ وسألوه ‪ :‬هل دينك خير من اليهودية أو خير من‬
‫النصرانية ؟ هل دينك خير من البراهيمية الحنيفية التي آمنت بها العرب ؟‬
‫مثل هذا الكلم كان موجودا ً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وكذلك‬
‫تردد مثله عبر العصور ‪ ،‬وهو اليوم يردده بعض المتنطعين في المحافل وعلى‬
‫صفحات الجرايد والمجلت وبطون الكتب ‪ .‬الله عز وجل يأتي بالقسم في‬
‫السورة ليؤكد أن أي طريق أو أي سبيل يأخذه النسان ويلتزم به فنتيجته‬
‫الخسران وعقيدته دمار ‪ .‬وأن سلمة النسان في هذه الحياة مشروطة بما‬
‫ذكره الله في السورة ‪ :‬اليمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر‬
‫‪ .‬فل اليهودية ول النصرانية المحرفتان تستطيعان أن تقدم الهدوء والسلمة‬
‫وعزة النفس في الدنيا والخرة للنسان ‪.‬‬
‫فالله جل وعل ذكر هذا الكلم ليبين للناس من بداية الطريق ‪ ،‬طريق السلم‬
‫عن غيره من الطرائق ‪ ،‬إن كل جهود النسانية ذاهبة إلى دمار وخسارة ‪،‬‬
‫وإن الشيء الوحيد الذي يبقى ل يعتوره خراب ول يلحق به دمار ‪ ،‬وهو الذي‬
‫جمع هذه الشرائط الربعة التي ذكرناها في السورة ‪ ،‬ما هي ؟ الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصالحات والذين تواصوا بالحق والذين تواصوا بالصبر ‪ .‬فيجب أن‬
‫نتعرف على الخصائص الجتماعية الموجودة في هذه السس الربعة ‪ ،‬إن‬
‫النسان قد يقبل بضرورة اليمان وهو فرد ولكن حينما يتحول المر لكي‬
‫يكون عمل ً صالحا ً وتواصيا ً بالحق وتواصيا ً بالصبر فهو عمل فريق ‪ ،‬عمل‬
‫مجموع ‪ ،‬فكلمة ) الذين آمنوا ( جاءت هنا لتشير إلى الفرق الساسي بين‬
‫طريق السلم وغيره من الطرق ‪ ،‬لنه من الواجب على هذه النسانية أن‬
‫تضع مقادتها بين يدي الله تعالى وأن توفر على نفسها هذه الجهود الطويلة‬
‫وهذه المتاعب التي ل نهاية لها ‪.‬‬
‫في عصرنا الحاضر ‪ ،‬كانت النسانية مرت بتجارب مرة وتضحيات بل حصر ‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫استطاعت أن تصل إلى درجة من السلم الحضاري ‪ ،‬ظن الناس قبل الحرب‬
‫العالمية الولى أنها يمكن أن تساعد على تطوير الجنس البشري وعلى منح‬
‫المجتمع النساني هذه الستقرار الذي تنشده ‪ ،‬وقبل فواتح هذا القرن‬
‫العشرين ظهر في التفكير النساني أفكار جديدة كالحريات العامة والدعوة‬
‫إلى الخذ بالمناهج الديمقراطية التي تمنح المواطن حق المواطنة ثم وضعت‬
‫المور موضع التطبيق بين الناس ‪ ،‬ولكن ما أكثر غرور النسان ‪ ،‬فقد أوصلته‬
‫هذه الحريات المزعومة والفكار المضللة المنقطعة عن الله إلى حربين‬
‫عالميتين طاحنتين كادتا أن تبيدا الجنس البشري برمته ‪ ،‬والسبب هو أن‬
‫النسان الغربي لم يربط هذه الحريات بأخلق الديان السماوية التي تفرض‬
‫على النسان أن يعامل أخاه النسان بأفضل ما يعامل به نفسه ‪ .‬فكان هناك‬
‫شرخ عميق بين أهل الرض وشريعة السماء ‪ ،‬سواء كان ذلك في أوروبا‬
‫وأمريكا أو في روسيا الشيوعية الكافرة ‪.‬‬
‫فإذا ً نحن مع الجهد البشري نسير في طريق أوله جهل وآخره خراب ‪ ،‬ومن‬
‫الخطأ ومن المغامرة التي ل تؤمن نتائجها أن نستمر في هذا الطريق ‪ ،‬ومن‬
‫شاء دليل ً على ذلك فلينظر إلى رقعة العالم ‪ ،‬فسواء قلنا كالديمقراطيات‬
‫الغربية توفر للنسان حرية التعليم وغير ذلك ‪ ،‬وسواء قلنا إن الديمقراطية‬
‫الشرقية المتمثلة بالشيوعية التي تحرر العامل والفلح من سلطة المعمل‬
‫ومن سلطة القطاع ‪ ،‬فنحن نريد منكم أن تلتفتوا إلى الحالة التي فيها المة‬
‫العربية ‪ ،‬الستعمار الغربي استعمر بلدنا ثم خرج وما تزال أصابعه موجود‬
‫بيننا تنهب خيراتنا ‪ ،‬وبرغم هذه الدعاوي العريضة أننا ملكنا التحرر ‪ ،‬ولكن‬
‫أتساءل عن الديمقراطيات الشعبية وماذا فعلت بنا ؟ كم من معارك خضناها‬
‫على تطمينات وعلى وعود ومواثيق ؟ وحين جرت المعارك تبين أن يد‬
‫الصديق في يد العدو ضدنا ‪ .‬وكم من مرة غررنا بزهرة شبابنا هؤلء الذين‬
‫تعبنا عليهم وأنفقنا عليهم ودفعنا المليين لكي يكون الطيار طيارا ً ‪ ،‬وسائق‬
‫الدبابة لكي يكون قادرا ً على قيادة دبابته ‪ ،‬فاكتشفنا ـ مع السف وبعد فوات‬
‫الوان ـ أن الموازنة الدقيقة في السلح كانت تقوم بين المعسكرين‬
‫المتصارعين ‪ ،‬والنتيجة أن تقع على رؤوسنا ‪.‬‬
‫فالله جل وعل حين يصف النسان والجنس النساني أنه في خسر ‪ ،‬أي أن‬
‫الطريق الذي يرسمه النسان لنفسه دون أن يأخذ بوحي السماء سيكون في‬
‫خسر ‪ ،‬ويضعنا في طريقه طريق اليمان ‪ .‬وتبين لنا ذلك من خلل المجتمع‬
‫ونه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة‪.‬‬ ‫الذي ك ّ‬
‫)‪(2 /‬‬

‫الله جل وعل يربط بين اليمان والعمل ‪ ،‬اليمان شعور بالقلب ‪ ،‬ول قيمة‬
‫لليمان إن لم يفض على الجوارح بالعمل الصالح ‪ .‬لهذا جاء الكلم بعد ذلك )‬
‫إل الذين آمنوا ( وعطف عليه ) وعملوا الصالحات ( فل بد أن يكون إيمانك‬
‫منتجا ً وحيويا ً وفاعل ً ‪ ،‬أما التصورات والخواطر التي تجول في الرؤوس دون‬
‫أن ينتج شيئا ً فهذا ل شأن لنا به ‪ .‬إننا كبشر نعيش في مجتمعنا ‪ ،‬وحين‬
‫نتعامل مع بعضنا ل بد أن تكون علمات اليمان ظاهرة بيننا تسير حياتنا كي‬
‫نعيش في سلم وطمأنينة ‪ .‬وهذا يكون في سائر مناحي الحياة ‪ :‬التعامل بين‬
‫الناس في بيعهم وشرائهم ‪ ،‬في أخلقهم ‪...‬‬
‫ثم الله جل وعل يدعو المؤمنين بالتواصي بالحق ‪ ،‬لن النسان حين يعيش‬
‫حالته الجتماعية أمامه نماذج من الناس ‪ ،‬فقد يخيب أمله في زيد من الناس‬

‫‪54‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ ،‬كل هذه المور تترك في نفسه انطباعات قد تكون في البداية سهلة ‪ ،‬لكنها‬
‫مع الترسبات والتراكمات تكثر حتى يجد النسان نفسه في لحظة من‬
‫اللحظات متضايقا ً جدا ً من هذه النماذج الموجودة أمامه ‪ ،‬ولكن حين يتواصى‬
‫هذا النسان مع إخوانه بمعاني الحق والفضيلة عن طريق التناصح يذهب كثير‬
‫مما في النفس من الشحناء والبغضاء تجاه الخرين ‪.‬‬
‫) وتواصوا بالحق ( ما هو هذا الحق ؟ حين نعود إلى كتب التفاسير القديمة‬
‫نجد أن كلم السلف رضوان الله عليهم ينصب على محورين ‪ ،‬أن هذا الحق‬
‫هو القرآن أو الدين ) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ( ) إنا أنزلنا إليك الكتاب‬
‫بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ( والله جل وعل سمى نفسه الحق‬
‫) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ( ‪،‬‬
‫فمسألة الحق ليست هينة ‪ ،‬الحق هو الذي قالت به السماوات والرض ‪.‬‬
‫ولهذا كانت الوصايا في القرآن الكريم مترادفة ومشددة بالوقوف مع الحق )‬
‫يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ( يعني الحق ) شهداء لله ولو على‬
‫أنفسكم أو الوالدين والقربين ( جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫اللهم إني أسألك كلمة الحق والعدل في الرضى والغضب ‪ .‬وصفة المسلم‬
‫الذي هو لبنة ثمينة وصالحة في المجتمع النساني أنه مع الحق دائما ً ‪ .‬ولهذا‬
‫حينما سئل علي كرم الله وجهه عن بعض المور أجاب هذا الجواب المحكم ‪:‬‬
‫ل تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله ‪ .‬بعض الناس يحسن‬
‫الظن ببعض الناس فيرى أن كل كلم يقوله حق ‪ ،‬ويرى أن كل تصرف يصدر‬
‫عنه أنه حق ‪ ،‬وهذا خطأ لن الحق قيمة ‪ ،‬وهذه القيمة محددة تحديدا ً قاطعا ً‬
‫بكلم الله تعالى وكلم رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ .‬فمن أخذ بهذا كان‬
‫على الحق ‪ ،‬ومن لم يأخذ بهذا فهو ليس على الحق كائنا ً من كان ‪ .‬ولهذا‬
‫فواجب المجتمع أن يتواصى بالحق ‪ ،‬ولحظوا كلمة ) وتواصوا بالحق ( أي‬
‫التواصي هنا مشترك بين مجموعة ‪ ،‬أي أن الجميع يشترك بالتواصي ‪ .‬فكل‬
‫واحد أوصى الخر ‪ ،‬فحينما نسمع ربنا يصف المجتمع المسلم بأن أعضاءه‬
‫هم الذين تواصوا بالحق معنى ذلك أن كل واحد منهم يعتبر نفسه حارسا ً لهذا‬
‫الحق ‪ .‬ومن الضروري أن يقوم الكل بالتواصي بين الجميع ‪ .‬فالصيغة في‬
‫الية ل تختص بفرد وإنما بالكل الذين هم قوام المجتمع ‪.‬‬
‫يا إخوة ‪ ..‬إن قول الحق شديد وله تكاليف ‪ ،‬جّرب نفسك في أي موقف‬
‫صغير أو كبير ‪ ،‬وجّرب نفسك أن تقف مع الصواب ومع الحق متجردا ً من‬
‫النوازع والهواء والشهوات والرغبات ‪ ،‬ومتجردا ً من القرابة والصداقة‬
‫والمصلحة ومن أي شيء ‪ ،‬ما أثقل هذا وما أشد هذا ؟ فهذا الدين أثقل‬
‫شيء عرفته النسانية ‪ ،‬إن هذا الدين كما وصف الله ) إنا سنلقي عليك قول ً‬
‫ثقيل ً ( فالحق أمانة في أعناق المسلمين يؤدونها كما يؤدون هذه التكاليف ‪،‬‬
‫إذا لم يصبروا على مواقف الحق ويتحملوا كل التكاليف التي تنتج عن‬
‫الوقوف مع الحق فإن العواقب ستكون وخيمة في الدنيا قبل الخرة ‪ .‬إن‬
‫كثيرين منكم ومن هذه المة أعفوا أنفسهم منذ زمن بعيد من الوقوف‬
‫مواقف الرجال ومن التحلي بشجاعة الرجال ‪ ،‬لكن الذين جّربوا هذا الطريق‬
‫قات لم يثنهم الوقوف مع الحق ‪ .‬إن الله تعالى حين‬ ‫وعرفوا ما فيه من المش ّ‬
‫ينزل عليكم هذه السورة ليس من أجل أن تقرأون ألفاظها وتترنمون‬
‫بإيقاعاتها ‪ ،‬ولكن من أجل أن تعيشون بمعانيها وتتمثلونها في حياتكم ‪.‬‬
‫من بين حروف السورة تستطيع أن تستشف صورة المسلم المتجرد لله‬
‫وواقفا ً مع الحق ‪ ،‬وتستطيع أيضا ً أن تستشف صورة المجتمع المسلم‪ ،‬ذلك‬
‫وام على الحق ‪ ،‬الحارس لمعاني العدالة على هذه الرض ‪.‬‬ ‫المجتمع الق ّ‬

‫‪55‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من بين السطور تستطيع أن ترى كم هي التكاليف الباهظة التي يتحمل هذا‬
‫المجتمع المسلم الذي ولد حول محمد صلى الله عليه وسلم وتحرك‬
‫بحركته ‪ .‬كم من الدماء سالت من أجل الحق ؟ ل لمغنم ول لمطمع ‪ ،‬ولكن‬
‫من أجل أن تسود كلمة الله ‪ ،‬ولكي يعيش الناس على الرض بسلم ‪.‬‬
‫غالب المة أعفت نفسها من الوقوف مع الحق ولكن الله لن يضيع هذه المة‬
‫‪ ،‬وسيهيئ لها من يقف موقف الرجال الذين ل يهابون الموت في سبيل هذا‬
‫الحق ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫تفسير سورة الفجر (‬


‫الجمعة ‪ 26‬ذي القعدة ‪ 1396‬ـ ‪ 19‬تشرين الثاني ‪1976‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫الحمد لله رب العالمين والصلة والسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين ‪ .‬أما بعد ‪:‬‬
‫نمر بعاشرة السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاقا ً‬
‫لسياق التنزيل على الرأي الشهر والرجح ‪ ،‬وهذه السورة هي سورة الفجر ‪،‬‬
‫كم يطيب للنسان أن يتملى معالمها ‪ ،‬وأن يطيل الوقوف عند سماتها ‪،‬‬ ‫ول َ َ‬
‫ولو أننا عند الرأي الثابت الذي أعلناه لكم من قبل من ضرورة السراع ما‬
‫أمكن ونفض اليد من أمهات القضايا التي عرضتها المرحلة المكية ‪ ،‬وما من‬
‫بأس إن شاء الله تعالى على السامع ‪ ،‬فبحسب النسان المسلم إذا صحبته‬
‫عناية الله تعالى وقدم بين يدي قراءته للقرآن الرغبة فيما عند الله والحرص‬
‫على أن يتعرف على مرادات الله من كلمه أقول ‪ :‬ما على السامع من بأس‬
‫من السراع والنجاز ‪.‬‬
‫إن هذه السورة كما قلنا هي العاشرة في سياق التنزيل ‪ ،‬فهي بهذه المثابة‬
‫من السور المبكرة جدا ً في النزول ‪ ،‬وتذكر التبكير هنا وسبق النزول ينفع‬
‫في وضع القضايا التي تطرحها السورة ونظائرها في موضعها الصحيح من‬
‫سياق الحركة ‪ .‬فكم من أخطاء وأخطار تعرضت لها الحركة السلمية لنها ما‬
‫استطاعت وهي في غمرة عملها أن تتعرف على المواضع الحقة من الكثير‬
‫من المور ‪ .‬إن من أخطر ما يصيب الدعوات وهي تخطو طريقها نحتا ً بين‬
‫الصخور أن تتعجل وأن تحاول حرق المراحل ‪ ،‬إن هذا يشكل مغامرة كبيرة‬
‫وخطيرة ‪ ،‬وما من ضير علينا لو اعترفنا بل تردد بأن الطاقة البشرية قد تنوء‬
‫بطول الطريق وقد تتضعضع تحت أثقال التكاليف ‪ ،‬وإنه لتطلع إلى مشروع ‪،‬‬
‫ذلك التطلع الذي يشرئب في قلب النسان متمنيا ً أن يجني ثمار النصر ‪،‬‬
‫ولكني أقول ‪ :‬إن قوانين الحركة شيء ورغبة النسان شيء آخر ‪ ،‬وليس‬
‫جائزا ً أبدا ً الخلط ول في أية صورة من الصور ول تحت ضغط من الضغوط‬
‫بين ما يرغب فيه النسان وبين ما تتطلبه قواعد الحركة وقوانينها ‪ ،‬إن خير‬
‫جيل بشهادة الله وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عالج مثل هذا‬

‫‪56‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التطلع ‪ ،‬فقديما ً جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مسهم‬
‫العذاب الليم ونال منهم التشريد وأصابتهم المسغبة واستولى عليهم الرعب‬
‫وجلسوا يفكرون في قدر الله وفي هذه الخطوب التي تنال منهم ‪ ،‬شكوا إلى‬
‫قائدهم ونبيهم وأعرف الخلق بطريق ربهم جل وعل ‪ :‬يا رسول الله قد ترى‬
‫سك منه الجانب الكبر ‪ ،‬أفل تدعو‬ ‫ما نحن فيه مما ل يخفى عليك ‪ ،‬بل مما م ّ‬
‫الله لنا ؟ أفل تستنصر لنا ؟ كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو‬
‫يقدر غاية التقدير هذه التطلعات المشروعة في النفس النسانية ‪ ،‬كان رده‬
‫رد القانون اللهي الذي ل يحابي ول يدغدغ عواطف النسان ول يجازف‬
‫بالموعودات التي ل تقبل التحقيق ‪ ،‬كان رده ‪ :‬إنكم تستعجلون ‪ .‬وغريب في‬
‫هذا العصر أن يقال هذا الكلم لمة قطعت في طريق التربية والنصهار في‬
‫بوتقة التجربة مراحل وأشواطا ً لو كدحت اليوم النسانية كدحها عشرات‬
‫السنين ومئات السنين ما بلغتها ول معشارها ‪ ،‬غريب أن يقال هذا ‪ ،‬ولكن‬
‫هذا إشارة مبنية على قاعدة منصوصة في الكتاب الكريم أن النبيين‬
‫يطاردون ويشردون وينال منهم الضيم ويمسهم الذى ويزلزلوا حتى يقول‬
‫الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ إلى الدرجة التي يبلغ الضيق فيها‬
‫وانتظار الفرج مبالغه النهائية من نفس النبي المرسل الذي يأتيه الوحي‬
‫ويصبحه ويمسيه ‪ ،‬يبلغ هذا التطلع ) متى نصر الله ( ‪ .‬إن هذا يفيد جدا ً ‪ ،‬في‬
‫هذا الحسم الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ‪ ،‬درس لهم‬
‫وللجيال ‪ :‬إنكم تستعجلون ‪.‬‬
‫السلم قضية عظمى وقضية خطيرة ‪ ،‬وبناء السلم ليس أماني ) ليس‬
‫بأمانيكم ول أماني أهل الكتاب ( ‪ ،‬بناء السلم لبنة من وراء لبنة ‪ ،‬وقطرة دم‬
‫تليها قطرة دم ‪ ،‬وآهة تصعد من كبد حرة تليها آهة شبيهة بها أو أحر منها ‪،‬‬
‫كل شيء في مكانه وكل شيء في زمانه ‪ ،‬ولعل من أصوب ما يقوله قائل‬
‫في هذه اليام ‪ :‬حذار حذار ‪ ،‬إن إغراءات ل حصر لها قد تدفع ببعض الناس‬
‫إلى مغامرات طائشة ل تدري نتائجها ‪ ،‬ولكنها على كل حال تحمل في‬
‫أطوائها الدمار أشد الدمار ‪ ،‬وما ذلك جبن عن مواجهة الخطار ولكن‬
‫استعجال في الخطى قبل استكمال الستعداد ‪ ،‬ومحاولة لوضع السقف على‬
‫بناء لم تشيد أركانه بعد ‪ ،‬هذا ما يجب أن نتنبه إليه ونحن نواجه القضايا التي‬
‫تضعها السورة في المكان المناسب من التنزيل وسياق الحركة في أبكر‬
‫عصور التاريخ السلمي وتجربته الولى ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫يقول الله تعالى ) والفجر ‪ ،‬وليال عشر ‪ ،‬والشفع والوتر ‪ ،‬والليل إذا يسر ‪،‬‬
‫هل في ذلك قسم لذي حجر ‪ ،‬ألم تر كيف فعل ربك بعاد ‪ ،‬إرم ذات العماد ‪،‬‬
‫التي لم يخلق مثلها في البلد ‪ ،‬وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ‪ ،‬وفرعون‬
‫ذي الوتاد ‪ ،‬الذين طغوا في البلد ‪ ،‬فأكثروا فيها الفساد ‪ ،‬فصب عليهم ربك‬
‫سوط عذاب ‪ ،‬إن ربك لبالمرصاد ( ينتهي إلى هنا جزء مهم من السورة يبرز‬
‫واقعا ً تاريخيا ً كان ثمرة طبيعية لعلن الدعوة والجهر بها ثم تمضي السورة‬
‫في مناٍح ‪ ،‬الذي ل يعرف طريقة القرآن في البناء يعجب لها ويظنها مفككة ل‬
‫رابط بينها ول جامع ‪ ،‬ولكنها في الحقيقة يأخذ بعضها برقاب بعض ‪.‬‬
‫) فأما النسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ‪ ،‬وأما إذا ما‬
‫ابتله فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ‪ ،‬كل ‪ ( ..‬أي ‪ :‬ليس المر كما‬
‫تتصورون ) كل بل ل تكرمون اليتيم ‪ ،‬ول تحاضون على طعام المسكين ‪،‬‬

‫‪57‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ما ً ‪ ،‬وتحبون المال حبا ً جما ً ‪ ،‬كل إذا دكت الرض دكا ً دكا ً‬
‫وتأكلون التراث أكل ً ل ّ‬
‫‪ ،‬وجاء ربك والملك صفا ً صفا ً ‪ ،‬وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر النسان وأنى‬
‫له الذكرى ‪ ،‬يقول يا ليتني قدمت لحياتي ‪ ،‬فيومئذ ل يعذب عذابه أحد ‪ ،‬ول‬
‫يوثق وثاقه أحد ‪ ،‬يا أيتها النفس المطمئنة ‪ ،‬ارجعي إلى ربك راضية مرضية ‪،‬‬
‫فادخلي في عبادي ‪ ،‬وادخلي جنتي ( إلى هنا تنتهي السورة ‪ ،‬وما من سبيل‬
‫إلى أن نقف عند حصاد الفجر ‪ ،‬قبل أن نحل سياق السورة وقبل أن نترجم‬
‫هذه السورة إلى اللغة المعتادة التي يتحدث بها الناس اليوم ‪ ،‬وللسف‬
‫نعيش في زمن يحتاج القرآن إلى ترجمة من العربية إلى العربية وهذا من‬
‫أعجب ما يكون ‪.‬‬
‫و) الفجر ( هذه الصياغة قسم لجملة من القسام ‪ ،‬والمقسم به هو الفجر ‪،‬‬
‫والفجر المقسم به هو هذا الفجر المعروف بين الناس والذي دلت عليه‬
‫العرب بهذه اللفظة المفردة ‪ ،‬الفجر هو بداية انطلقة النهار وانحسار الليل ‪.‬‬
‫والليال العشر ‪ ،‬اختلف تراجمة القرآن في تأويلها فيذهب بعضهم إلى أنها‬
‫العشر الواخر من رمضان ويسندون ذلك على أن العشر الواخر من رمضان‬
‫كانت الوقت الذي نزل فيه القرآن ) شهر رمضان الذي ُأنزل فيه القرآن‬
‫هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ( ويستندون في هذا ل إلى أثر ولكن‬
‫من معنى من معاني القسم وهو أن القسم لكي يستجمع أسبابه الذي‬
‫تسوغه وتبرره ل بد أن يكون بشيء عظيم يتضمن خرقه انتهاك هذا الشيء‬
‫العظيم ‪ ،‬وشيء عظيم أن يقسم بالظرف والزمن الذي كان بداية لهذه‬
‫الدعوة النبوية ‪ ،‬وشيء يتساوق مع البداية وهي القسم بالفجر أن يقسم‬
‫بفجر الدعوة المحمدية ‪ ،‬فيكون القسم بالليالي العشر منصب على العشر‬
‫الواخر من رمضان ‪ .‬ويقول بعضهم ‪ :‬المراد هنا العشر الوائل من ذي الحجة‬
‫وهي التي يكون فيها عمل الحج ‪ ،‬وكما تعلمون فإن الحج واحدة من فرائض‬
‫السلم وأحد أركانه الخمسة ‪ ،‬عليها يقوم شيء مهم من المور التي لحظها‬
‫السلم في تقرير هذه الفريضة ‪ ،‬وقيل غير ذلك ل نهتم له وإنما نقرر أن‬
‫المراد قد يكون هذا وقد يكون غيره ولكنه على كل حال قسم بليال عشر‬
‫كما جاء ذلك موصوفا ً ومنطوقا ً في هذه الية تتضمن فضيلة مخصوصة ل‬
‫ضير أن تكون العشر الواخر من رمضان أو تكون العشر الوائل من ذي‬
‫الحجة أو تكون العشر التي أتم فيها لموسى ميقاته وهي العشر المكملة‬
‫للربعين والتي قال عنها الله ) وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر‬
‫فتم ميقات ربه أربعين ليلة ( ل ضير أن يكون هذا أو هذا أو ذاك ‪ ،‬فالمهم هو‬
‫انصباب القسم على أمر عظيم ‪.‬‬
‫) والشفع والوتر ( الوتر في كلم العرب هو الفرد ‪ ،‬والشفع هو الفرد الخر‬
‫الذي ينضم إلى فرد مثله فيشفعه ‪ ،‬فهنا شفع ووتر وهما هنا مطلقان ما‬
‫بينتهما الية ول نصصتهما فذهب الذاهبون طرائق قددا ً في تأويل ذلك ‪ ،‬قال‬
‫قائلون ‪ :‬الشفع هو الخلق كله ‪ ،‬والوتر هو الله جل وعل ‪ ،‬لنه الخلق كله‬
‫شفع ‪ ،‬أرض وسماء فهما شفع ‪ ،‬ليل ونهار وهما شفع ‪ ،‬ذكر وأنثى وهما شفع‬
‫‪ ،‬ولو ذهبت على ضوء الكشوف العلمية لتبين لنا أن الكون كله يتألف من‬
‫شيئين يتناقضان ولو في الظاهر ‪ .‬وقال قائلون بأن المراد بالشفع والوتر‬
‫الصلة فالصلة منها شفع كصلة الصبح والظهر والعصر والعشاء فهي‬
‫صلوات ثنائية أو رباعية وهي من هذا القبيل شفع ‪ ،‬أو هي وتر كصلة‬
‫المغرب التي هي ثلث ركعات ‪ ،‬وأيا ً ما كان فسواء كان القسم منصبا على‬
‫ً‬
‫المخلوقات باعتبارها كل ً ‪ ،‬وعلى الخالق باعتباره موجدا ً أو كان منصبا ً على‬
‫هذه الفريضة أو على غيرها من الفرائض فما من شك في أن القسم واقع‬

‫‪58‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في مكانه مستجمع لشرائطه إذ هو قسم بأمر عظيم وشيء مقدس يتضمن‬
‫الخلل به انتهاك هذا الشيء العظيم ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫سرى هو الشد ّ والمشي من آخر الليل ‪،‬‬ ‫) والليل إذا يسر ( والسريان وال ّ‬
‫والشارة هنا واضحة لمن يتبصر ‪ ،‬ل يقال لحد أنه أسرى أو سرى وأنه تحمل‬
‫السرى في الليل إل إذا كان مشيه من آخر الليل فهو على شرف الفجر‬
‫بانتظار انبثاق النور والضياء ‪ ،‬هذا الليل المشخص هنا كأنما هو شبح يتجرد‬
‫من هذا الليل كله ليسير ضمن هذا الليل ضمن نفسه إلى غاية هو مدركها ل‬
‫محالة أن ينشق الفجر وينقضي الليل ‪ ،‬لعلها تحمل معنى التضمين لذلك‬
‫الجيل العظيم الذي سمع أول مرة هذا الكلم وهو يكابد من الجاهلية ليل ً‬
‫طويل ً ثقيل ً ‪ ،‬ولعل هذا الليل بهذه المثابة وعلى هذا النحو من التشخيص‬
‫والتصوير يحمل العزاء كل العزاء لهؤلء الذين ينبثون اليوم وقبل وبعد في‬
‫مشارق الرض ومغاربها ‪ ،‬يعملون لله ولنهاض هذه المة من كبوتها ‪،‬‬
‫يكابدون ويجاهدون من هذه الجاهلية المحدثة ليلها الطويل الثقيل ‪ ،‬لعله‬
‫يحمل أيضا ً مثل هذه البشارة المطمئنة أن هذا إلى انقضاء ‪ ،‬وأن عاقبة‬
‫سام ‪.‬‬
‫السرى إلى فجر ينشق عن نور مبين وصبح ب ّ‬
‫)هل في ذلك قسم لذي حجر( تساؤل في موضعه ‪ ،‬والحجر هو العقل‬
‫وسمي العقل حجرا ً لنه يحجر النسان عما ل ينبغي ويرده عما ل يليق ‪ ،‬ومن‬
‫هنا يقال حجر القاضي على السفيه أي منعه من أن يتصرف بأمواله تصرفا ً‬
‫يعود بالضرر عليه وعلى المجتمع ) ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله‬
‫لكم قياما ً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قول ً معروفا ً ( فذو الحجر هو‬
‫ذو العقل ) هل في ذلك قسم لذي حجر ( وما في النية أن أفصل لكم عن‬
‫مدلولت الستفهام في قواعد اللغة وفقه العربية ولكني أحب أن أقول لكم‬
‫إن هذا اللون من الستفهام يسمى استفهاما ً تقريريا ً أي أنه جاء يقرر ويثبت‬
‫دقت ؟‬ ‫الشيء الذي سبقه كما تقول ‪ :‬والله ل أفعل كذا ول أفعل كذا هل ص ّ‬
‫دقني ‪ .‬فسؤال القرآن هنا ) هل في ذلك قسم لذي‬ ‫تريد أن تقول له ‪ :‬ص ّ‬
‫حجر ( يعني بالضبط إن هذا القسم الذي مّر وانقضى بالفجر وبالليالي العشر‬
‫وبالشفع والوتر وبالليل إذا يسر فيه غنى ومكتفى لذي اللب ولذي العقل‬
‫الذي يدرك أن المقسم وهو الله جل وعل يقسم بآيات بينات ملموسات من‬
‫آياته الباهرة الدالة على عظمته ووحدانيته وقدرته وقهره وجبروته ) هل في‬
‫ذلك قسم لذي حجر ( ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫لحظوا معي ‪ ..‬والخطاب هنا يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ) ألم تر‬
‫كيف فعل ربك بعاد ‪ ،‬إرم ذات العماد ‪ ،‬التي لم يخلق مثلها في البلد ‪ ،‬وثمود‬
‫الذين جابوا الصخر بالواد ‪ ،‬وفرعون ذي الوتاد ‪ ،‬الذين طغوا في البلد ‪،‬‬
‫فأكثروا فيها الفساد ‪ ،‬فصب عليهم ربك سوط عذاب ‪ ،‬إن ربك لبالمرصاد (‬
‫من هؤلء ؟ بل قبل أن نتساءل من هؤلء الناس علينا أن نتساءل ‪ :‬هل في‬
‫الصياغة خلل ظاهري ؟ نحن نعرف أن حق الكلم يقتضي أن يكون للقسم‬
‫جواب ‪ ،‬ولو أننا أخذنا الكلم على ما يقتضيه ظاهر القول مع حذف وسيلة‬
‫البلغة التي تعمل هنا عملها المقصود بالذات لكان حقا ً أن يقال ‪ :‬والفجر ‪..‬‬

‫‪59‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إلى آخره ‪ ،‬ليفعلن الله كذا وكذا بقومك المكذبين هؤلء كما فعل ذلك بعاد‬
‫وبثمود وبفرعون ذي الوتاد ‪ ،‬ولكنا نلحظ أن القسم هنا يخلو تماما ً من‬
‫جواب القسم ‪ ،‬لقد طواه السياق طيا ً ولم يعرض له ل تصريحا ً ول تلميحا ً ‪،‬‬
‫وأنا أقول ل تصريحا ً ول تلميحا ً مع علمي بأن معظم المفسرين من قدماء‬
‫ومحدثين يذهبون إلى أن جواب القسم ملمح عليه في المصير الذي واجهته‬
‫القوام المعدودة هنا قوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون ‪ ،‬إن السياق كما قلنا‬
‫طوى الجواب طيا ً وأعرض عن ذكره ‪ ،‬لماذا ؟ ل بد أن تكون هناك نكتة‬
‫بلغية أراد السياق القرآني تقريرها في الذهان تقريريا ً صحيحا ً ‪ ،‬قد يكون‬
‫المر ول أحذف من ساحة التأويلت أي تأويل مما جاء به القدمون‬
‫والمحدثون ‪ ،‬ولكني أذهب في مذهبي الخاص المبني على اجتهادي الشخصي‬
‫والذي أرى أنه يتساوق مع مجموع معطيات الدعوة ‪ ،‬ول أسمح لنفسي كما‬
‫قلت بأن أنظر في القرآن وفي الدعوة السلمية نظرا ً مجزءا ً ‪ ،‬لن ذلك‬
‫يفوت علي أعظم الغايات التي أتوخاها وأرهق نفسي من أجل الوصول‬
‫إليها ‪ ،‬قد يكون طي القسم هنا لهوان شأن هؤلء الناس إذا كان الله جل‬
‫وعل قد أهلك عادا ً الولى والذين كانوا يقولون ‪ :‬من أشد منا قوة ؟ كما‬
‫تقرأون ذلك مصرحا ً به في الكتاب ‪ ،‬وإذا كان الله قد أهلك ثمودا ً فما أبقى ‪،‬‬
‫مر على ما كان‬ ‫وإذا كان الله قد غشى المؤتفكة ما غشى ‪ ،‬وإذا كان الله د ّ‬
‫يصنع فرعون وما كانوا يعرشون ‪ ،‬فمن هؤلء بالقياس إلى أمم عاتية جبارة‬
‫بلغت أوج القوة ونهاية العظمة ‪ ،‬من هؤلء الشراذم الذين يضطربون بين‬
‫جنبات مكة وقصاراهم إذا طمحت هممهم وأبصارهم أن يبلغوا اليمن أو‬
‫أطراف الشام ؟ إلى جانب الدول والممالك العظيمة التي جاءها من أمر‬
‫ربك ما ل مرد له فواجهت المصير المؤلم ‪ .‬إن هؤلء أهون شأنا ً وأقل مقاما ً‬
‫وأقل من أن يؤبه لهم ويكترث بشأنهم ‪ .‬فإذا قلنا إن السياق طوى جواب‬
‫القسم معرضا ً عن التعرض لذكر ما أعد ّ الله لهؤلء من أليم العقاب فنحن‬
‫غير بعداء إذا قلنا ‪ :‬كان ذلك لهوانهم على الله ‪ .‬ولكن تساءلوا معي ‪ :‬هل‬
‫وضع هذه المة المحمدية في التاريخ النساني ومن حيث قيادة الجنس‬
‫البشري ومن حيث المانة على المصير النساني بالمثابة التي كانت فيها‬
‫المم الماضية ؟ ل ‪ ,‬إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر لنا في كلم‬
‫رائع فضل ً وتمييزا ً بين هذه المة وغيرها من المم ول يبرزه عليه الصلة‬
‫والسلم لينفخ في أنوف هذه المة حتى تأخذها هذه الخنزوانة التي تأخذ‬
‫المستكبرين والمتجبرين ‪ ،‬وإنما يبرز هذه المزايا لكي يضع أمام هذه المة‬
‫مهماتها ووجائبها ‪ ،‬لكي يحث بعضها بعضا ً أبدا ً حتى تقوم بما يتوجب عليها‬
‫تجاه الرسالة التي أنيطت بها ‪ .‬إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ‪ :‬أنتم‬
‫توفون أي تكملون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى ‪ ،‬هذه‬
‫واحدة ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن هذا الكلم يعني أن هذه المة هي آخر شيء يكون ‪ ،‬ولكنه يعني التمييز‬
‫والفضل على سائر المم التي مضت قبلها ‪ ،‬فإذا جئنا نستفتي محمدا ً عليه‬
‫الصلة والسلم مزيدا ً من اليضاح في هذه المسألة الهامة ‪ ،‬ما الذي‬
‫نسمعه ؟ نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ‪ :‬أنا آخر النبياء فل‬
‫نبي من بعدي وأنتم آخر المم فل أمة بعدها ‪ .‬فإذا ً فقد أغلق الباب بين‬
‫السماء والرض ‪ ،‬ما كان من قبل من تعاقب النبوات وتعاون المم على‬

‫‪60‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النهوض بالرسالت شيء طواه التاريخ وانتهى بمجرد بزوغ فجر الرسالة في‬
‫غار حراء ‪ ،‬سدت منافذ السماء أمام المتنبئين والمتقولين على الله تعالى‬
‫وانتهت النسانية من هذا ‪ ،‬وقد آن للنسانية أن تأخذ بيديها زمام مصيرها ‪.‬‬
‫ولقد سئلت من ثلث أو أربع سنوات من قبل أحد الخوة عن معنى آية ) وما‬
‫ذب بها الولون ( أقول إن الله تعالى مضت‬ ‫منعنا أن نرسل باليات إل أن ك ّ‬
‫سنته في خلقه بالنسبة إلى المم الماضية التي ابتعث فيها أنبياء وأنزل عليها‬
‫شرائعه أن يعاقب العناد والعتو عن أمر الله تعالى بلون من العقاب ‪ ،‬كانت‬
‫المم لجهلها وقصور تفكيرها تتمرد على أنبيائها وتطلب طلبات ل يطلبها إل‬
‫ذو عقل صغير ) أسقط علينا السماء كما زعمت كسفا ً ( ) آتنا بالله والملئكة‬
‫قبيل ً ( افعل كذا وكذا ‪..‬إلى آخره ‪ ،‬كان الله حينما تطلب المة المتمردة طلبا ً‬
‫يعّلق تحقيق الطلب على شرط ‪ ،‬سأفعل ولكن إذا آمنتم فبها ونعمت ‪ ،‬وإن‬
‫لم تؤمنوا فأمامكم عذاب الستئصال والمحق ‪ .‬من هنا كان التعجيز الذي‬
‫م قبل أمتنا في مواجهة نبوات قبل نبوة محمد صلى الله عليه‬ ‫قامت به أم ٌ‬
‫وسلم إنذار بإهلك المم ‪ ،‬وكم من أمم جاءتها أنبياؤها ودعتها إلى الله‬
‫فطلبت طلبات ل تحقق ‪ ،‬ثم حقق الله لها بعض ما طلبت ‪ ،‬فاستمرت في‬
‫عنادها وتكذيبها ‪ ،‬فأنزل الله عليها قارعة فأهلكتها وأبادتها ‪.‬‬
‫وأنتم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم شيئا ً كثيرا ً ‪ ،‬إن بني إسرائيل حينما‬
‫جاءهم المسيح عليه السلم طلبوا من المسيح ) يا عيسى بن مريم هل‬
‫يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم‬
‫مؤمنين ‪ ،‬قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون‬
‫عليها من الشاهدين ‪ ،‬قال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا‬
‫عيدا ً لولنا وآخرنا وآية منك قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم‬
‫فإني أعذبه عذابا ً ل أعذبه أحدا ً من العالمين ( ونزلت المائدة وأكل منها‬
‫أصحاب عيسى بن مريم وأعاذ منها ذلك الجيل من المحق والستئصال ‪ .‬هذه‬
‫المة هل يمكن لنا أن نطبق عليها ذلك القانون نقول ‪ :‬ل ‪ .‬ما دامت هذه‬
‫المة آخر المم وما دامت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبوات ‪،‬‬
‫فحينما نقول بتماثل العقاب والعذاب بين هذه المة وبين عاد ٍ الولى التي‬
‫أهلكها الله إهلكا ً تاما ً والتي تفتحون الن كتب التاريخ وكتب النساب‬
‫فتجدون قبيلة عاد ٍ الولى مصنفة ضمن العرب البائدة التي بادت ولم يبقَ لها‬
‫أثر إل بقايا ذكر في كتب التاريخ ‪ ،‬وثمود كذلك والعرب البائدة وفرعون الذي‬
‫أغرقه الله هو وجنوده بعد أن نبذهم في اليم ‪ ،‬ما دام المر كذلك فإن‬
‫التماثل ممنوع ول يمكن ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫حينما نقول ذات العذاب الذي واجه المم الماضية سوف يواجه أمتنا هذا‬
‫حينما تتمرد على أمر ربها ‪ ،‬فنحن نضرب قاعدة أساسية وهي أن هذه‬
‫الدعوة هي الخاتمة ‪ ،‬لو بادت هذه الدعوة وباد رسولها بعد ‪ ،‬إذا ً لحتاجت‬
‫البشرية إلى أن يرسل إليها رسول جديد وهذا لم ولن يحصل ‪ ،‬والله ذكر هذا‬
‫في القرآن بشكل صريح قال ) وإن كادوا ليستفزونك من الرض ليخرجوك‬
‫منها وإذا ً ل يلبثون خلفك إل قليل ً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولن‬
‫تجد لسنتنا تبديل ً ( إن سنة الله مضت حينما يبلغ العذاب من قبل المشركين‬
‫بنبيهم الحد الذي يخرج مغاضبا ً لهم ويهجر الرض كلها بعد اليأس الكامل‬
‫منهم ‪ ،‬تلك سنة مضت من قبل الله جل وعل ‪ .‬ولقد كاد العرب أن يبلغوا هذا‬

‫‪61‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المبلغ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ولكن منذ الزل سبق في علم‬
‫الله جل وعل أن هذا القرآن سينزل على محمد بين العرب وبلسان العرب‬
‫لمزايا اختصت بها هذه المة ولسابق علم الله جل وعل بها ما نحاول أن‬
‫نبحث فيها فأعطيت من أجل ذلك مكانة خاصة ‪ ،‬كم من المرات تقرأون في‬
‫كتب السيرة والقرآن كيف وقف المشركون معجزين لرسول الله قالوا له ‪:‬‬
‫يا محمد أنت ترى نحن نعيش في وادٍ غير زرع ل ماء ول شجر ول وتعيش‬
‫بلدتنا في هذا الوادي تكتنفها الجبال التي ترسل عليها السموم اللفح وترسل‬
‫عليها كميات متكاثرة من رمال الصحراء الحارقة فاسأل الله إن كنت كريما ً‬
‫عليه وإن كان فعل ً قد أرسلك أن يحول عنا هذه الجبال وأن يحيل هذه‬
‫الصحراء إلى جنات وحدائق كجنات الشام وحدائق الشام ‪ .‬وكان ل يزيد على‬
‫أن يقول ‪ :‬سبحان ربي هل كنت إل بشرا ً رسول ؟ يقولون له ‪ :‬يا محمد نحن‬
‫نراك تكتسب ونراك تحترف ونراك في ضيق ل تملك المال فاسأل الله أن‬
‫يوسع عليك ‪ .‬يقول ‪ :‬سبحان ربي هل كنت إل بشرا ً رسول ً ؟ يقولون له ‪ :‬يا‬
‫محمد سل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ً وفضة ‪ .‬فيقول ‪ :‬سبحان ربي هل‬
‫كنت إل بشرا ً رسول ً ؟ يقف بعض المتعنتين فيقول له ‪ :‬والله ل أؤمن بك‬
‫ب من السماء نقرأه ويأتي معك أربعة‬ ‫حتى ترقى في السماء ثم تأتينا بكتا ٍ‬
‫شهود من الملئكة على صحة هذا الكتاب ومع ذلك فوالله ما أظن أني‬
‫سأصدقك ‪ .‬فل يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرر لهم أنه‬
‫رسول ل يملك لهم من الدنيا منفعا ً ول من الخرة حظا ً ول نصيبا ً إل أن‬
‫يقولوا ل إله إل الله ‪.‬‬
‫ومع ذلك هل بلغ الغضب اللهي الحد الذي يدمر هذه المة مع أن مطالبها‬
‫في الواقع ل تفترق عن مطالب المم السابقة التي عتت عن أمر ربها‬
‫وحاربت رسلها وأنبياءها ‪ ،‬كذبوهم وكذبوه وطاردوهم وطاردوه وحاولوا أن‬
‫يقتلوهم وحاولوا أن يقتلوه وكل شيء فعلته المم الماضية مع أنبيائها فعله‬
‫سفهاء قريش وسفهاء أعراب البادية مع محمد الله صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫ولكن الله جل وعل استوعب هذه المة بحلمه الواسع ‪ ،‬لي شيء ؟ لكرامة‬
‫ذاتية لهذه المة على الله ؟ أبدا ً ولكن لن المر مؤسس ومشتق على قاعدة‬
‫‪ ،‬على قاعدة ختم الرسالة وعموم الرسالة ‪ ،‬فهذه المة إن حفظت فبحفظ‬
‫الله لها بسبب قوامتها على رسالتها وهذه قضية من أخطر ما يمكن أن‬
‫يستقر في أذهان المة ‪ ،‬لقد استقر هذا في أذهان العرب القدمين الذين‬
‫آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا معه وعزروه ونصروه ‪،‬‬
‫وعرفوا أن كرامتهم مشتقة من كرامة الرسالة وبقاءهم مؤسس على بقاء‬
‫الرسالة ‪ .‬وحينما كان فتح بيت المقدس وأصرت العرب والروم و النصارى‬
‫الذين يسكنون تلك البقاع أن ل يسلموا مفاتيح بيت المقدس إل لخليفة‬
‫المسلمين عمر رضي الله عنه ‪ ،‬جاءه كتاب أبي عبيدة قائد جيوش الشام‬
‫يكشف له الحقيقة ويقول له ‪ :‬إن القوم قد اشترطوا حضورك فإن رأيت أن‬
‫تحضر فافعل والسلم ‪ .‬جاء عمر ‪ ،‬ليس على رأسه عمامة ‪ ،‬صلعته تلوح في‬
‫الشمس ‪ ،‬يركب حمارا ً ‪ ،‬وكان رجل ً طويل ً فكان إذا ركب الحمار ومشى‬
‫تخط رجله الرض ‪ ،‬وليس معه أحد في هذه المفازة إل خادم له ‪ ،‬وكان‬
‫يتناوبان على ركوب الحمار ‪ ،‬قاربوا بيت المقدس فاعترضتهم مخاضة أي‬
‫بركة ماء ‪ ،‬كان الروم مشرفين ينظرون إلى هذا الركب المقبل ‪ ،‬وجيوش‬
‫المسلمين في الطرف الثاني من البركة وأمير المؤمنين قادم ‪ ،‬وللسف‬
‫كانت نوبة الخادم في ركوب الحمار في هذه اللحظات ‪ ،‬وأمير المؤمنين يقود‬
‫الحمار وهو يمشي حافيا ً ‪ ،‬وأمير المؤمنين يلبس ثيابا ً من الصوف الخشن‬

‫‪62‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تبلغ أنصاف ساقيه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬بسم الله ويخوض في البركة ‪ ،‬ينظر أبو عبيدة ‪،‬‬
‫ما هذه المصيبة ؟ إن جيوش وقواد الروم ينظرون إلى هذا المشهد ‪ ،‬يقول‬
‫له ‪ :‬يا أمير المؤمنين إن القوم ينظرون إليك ‪ ،‬يلتفت إليه عمر ويقول له ‪ :‬لو‬
‫غيرك قالها يا أبا عبيدة لجعلته نكال ً للمسلمين ‪ ،‬إنا قوم أعزنا الله بالسلم‬
‫فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫عرفت هذه المة القيمة التي اشتقت قيمتها منها وهي القيمة العليا من خلود‬
‫هذه الرسالة ‪ .‬إذا ً فهذه المة محصنة ضد عوامل الفناء والهلك ‪ ،‬ولكن هل‬
‫هي محصنة ضد أن يأخذها الله بالبأساء والضراء ؟ الجواب ‪ :‬ل ‪ .‬إن هذه‬
‫المة كلما تمردت على أوامر الله وتركت شريعة الله واتبعت كل ناعق مسها‬
‫الله جل وعل بما شاء من أفانين العذاب وألوان البتلء ‪ .‬إن الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم يقول ‪ ) :‬يوشك أن تتداعى عليكم المم كما تتداعى الكلة‬
‫إلى قصعتها ( كيف يهجم الناس حينما يدعون إلى الطعام كذلك أمم الرض‬
‫سوف تتداعى عليكم ‪ ) .‬ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم‬
‫وليسلطن عليكم عدوكم حتى يستنقذوا بعض ما في أيديكم ( وهذا الكلم‬
‫غريب فأن يقال مثل هذا في عز السلم وعنفوان الحركة ) قالوا أمن قلة‬
‫نحن يا رسول الله ؟ ( كأنما الصحاب غابت عنهم حقائق التجربة ‪ ،‬إن مسألة‬
‫القلة والكثرة أمر ل قيمة له في سياق الدعوات وتقرير المصائر أبدا ً ‪،‬‬
‫المناط كله مبني على ثبوت اليقين واليمان ومعرفة الطريق ووضوح الهدف‬
‫) قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬إنكم يومئذ لكثير ولكنكم غثاء‬
‫كغثاء السيل ( الغثاء هو ما خف من الخشاب والوساخ التي تطفو على‬
‫الماء حين يجرفها السيل ) ولكنكم غثاء كغثاء السيل ( وحين تساءلوا عن‬
‫السبب في ذلك قال ‪ :‬حب الدنيا وكراهية الموت ‪ .‬هذه المة ليست محصنة‬
‫عن أنواع من البلء ولكن لن تهلكها نهائيا ً ‪ ،‬تؤثر على كرامتها وعلى مكانتها‬
‫وعلى واجب القيادة التي تفرضها عليها هذه الرسالة ‪ ،‬إن أمم العالم كما‬
‫ترون أذاقتنا كأس الذل والهوان ‪ ،‬فيما مضى نفذ إلى جسم المة أبالسة‬
‫الجن والنس ينفثون سموم الفرقة والشتات حتى أصبحت المة وقد ألبسها‬
‫الله شيعا ً وأحزابا ً يضرب بعضها رقاب بعض ‪ ،‬وبعد أن كانت السيوف‬
‫مسلطة والرماح مشرعة على رقاب العدو ونحور العدو أصبحت هذه‬
‫ل وعل فتمزقت المة وذهبت‬ ‫السلحة توجه إلى صدور الخوة في الله ج ّ‬
‫وحدتها ‪ ،‬ثم كانت النتائج التي ل بد منها أن تبلغ المة حالة الضعف حتى‬
‫يطمع فيها من لم يكن يطمع فيها من قبل وحتى يتجرأ عليها فيمد يده فيأخذ‬
‫بعض ممتلكاتها ‪.‬‬
‫ً‬
‫ن أحدا ‪ ،‬فهذه المم كلما جاءت أمة‬ ‫ً‬
‫انظر الن إلى أمم الرض جميعا ل تستث ِ‬
‫لعنت أختها ‪ ،‬وجدير بنا أن ندرك جيدا ً أن الكفر ملة واحدة ‪ ،‬إن أمم الرض‬
‫جميعا ً تعمل على أن نزداد خبال ً ونزداد تمزقا ً ونزداد بعدا ً عن حقائق هذا‬
‫الدين ‪ ،‬وهو بلء كما ترون عظيم ‪ ،‬إننا نودينا من قبل معسكرات في تاريخنا‬
‫القديم وفي تاريخنا الحديث ولعلي في مناسبات قادمة سأفتح أمامكم صحفا ً‬
‫من التاريخ تزكم النوف روائحها الكريهة ولعلي سأكشف لكم صحفا ً من‬
‫غلبنا على الصداقة من‬‫التاريخ مؤلمة ‪ .‬نحن الن ينبغي أن نعلم أننا ُ‬
‫معسكرات ومن قبل أناس ‪ ،‬ثم اكتشفنا في غمرة الكارثة أننا كنا ضحايا‬
‫الخديعة والمؤامرة الكبيرة ‪ .‬إن هذه عقوبة وهي في مكانها ‪ ،‬حينما تجد‬

‫‪63‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المة نفسها في وضع قد فقدت الثقة بنفسها فمن الحق ومن العدل أن‬
‫تقسم إلى شيع وطوائف وأحزاب وأن ينضوي كل جزء من هذه المة تحت‬
‫معسكر معاد ‪ .‬ولقد مرت بهذه المة في تاريخها الحاضر المعاصر سويعات‬
‫وسنوات ما تسمع فيها من جانب إل بحمد روسيا ‪ ،‬وتسبيحا ً من الجانب الخر‬
‫بحمد أمريكا ‪ ،‬وأنت اليوم تسمع أنغاما ً ترقص عليها أبالسة الجحيم مثل هذه‬
‫النغام ما الذي يراد بذلك ؟ أمستقبل المة ؟ ل ‪ .‬أن تقف المة على‬
‫قدميها ؟ أبدا ً ‪ .‬إن الذي يراد مزيد من الفرقة ومن الدفع إلى الخلف يبعد‬
‫هذه المة عن حقائق هذا الدين ‪ .‬وهذه عقوبة وأية عقوبة ؟‬
‫إن الله جل وعل حين طوى جواب القسم فلم يذكره ‪ ،‬ما طواه هوانا ً‬
‫واحتقارا ً لشأن المة فالدنيا كلها وما فيها من أحياء وما فيها من أشياء هينة‬
‫ل وعل حين تعصي أمره وتشذ ّ عن قاعدته ‪ ،‬والنبي صلى الله‬ ‫على الله ج ّ‬
‫عليه وسلم يقول ‪ :‬الناس رجلن ‪ :‬مؤمن تقي كريم على الله تعالى ‪ ،‬وفاجر‬
‫شقي هين على الله تعالى ‪ .‬كل من ابتعد عن أمر الله وتمرد على رسله‬
‫وأنبيائه فهو هين ‪ ..‬عاد وثمود وفرعون وغيرهم من المم والقوام التي‬
‫طواها الزمان بفعل التدمير ‪ ،‬والهلك المقصود إهلكا ً هينا ً على الله ‪ ،‬كما أن‬
‫سفهاء قريش وزعماء الكفر هينون على الله جل وعل ‪ .‬ولكن المماثلة بين‬
‫المرين وبين أمتنا وبين من سبقها من المم منعدم ‪ ،‬ولهذا طوى السياق‬
‫جواب القسم ‪ ،‬لن جواب القسم حين يليه مصير أقوام أخرى ويكون‬
‫منصوصا ً فيه على أن ينال هذه المة جزاء العقوق والتمرد مثلما نال أولئك ‪،‬‬
‫فإن ذلك يكون تدميرا ً للقاعدة التي أبرزناها وهي قاعدة الخلود لهذه الرسالة‬
‫وكون هذه المة آخر المم وهذه الرسالة آخر الرسالت وأن القوامة‬
‫محصورة فيها ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫أشعر أنني أطلت ‪ ،‬إنما أشعر أن من الضرورة بمكان أن يعرف ك ً‬


‫ل منا‬
‫مكانه من أمته ومكان أمته من أمم الرض وأن يشحذ مواهبه وقواه على‬
‫هذا الساس ‪ .‬وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورة التين قريش القارعة (‬


‫الجمعة ‪ 2‬جمادى الخر ‪ 20 / 1397‬أيار ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد يكون من غير الحكمة أن أواصل الحديث في المنحى الذي كنا نتحدث‬
‫فيه من قبل ‪ ،‬كأن لم يحدث شيء ‪ ،‬فالواقع أن وقوفي على المنبر بعد‬
‫الكلم الذي قلته في الجمعة الماضية قد يكون مدعاة للستغراب لدى البعض‬
‫‪ ،‬والحق أنه بالنسبة إلي على القل قد حدث شيء كبير وخطير ‪ ،‬لقد قدمت‬
‫في نهاية الخطبة الماضية اعتذارا ً رجوت أن يكون مفهوما ً ‪ ،‬وحين تحدث‬
‫معي طوائف من الشباب ‪ ،‬وأقول طوائف ‪ ،‬وكثير من الناس ممن لم يكونوا‬
‫حاضري الخطبة ‪ ،‬كنت أقول وما زلت مصرا ً على هذا القول إن القرار الذي‬

‫‪64‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫اتخذته في هذا الموضوع قرار يتسم بالعقلنية الكاملة ‪ ،‬وكنت أسوق ـ وأنا‬
‫أتحدث في الجمعة الماضية ـ مثل ً منتزعا ً من التاريخ لنماذج من الناس توجد‬
‫هنا وهناك ‪ ،‬وفي هذا الزمان أو ذاك ‪ ،‬علتها أو علة زمانها أنها غير قابلة‬
‫للفهم ‪ ،‬لن خطوط تفكيرها تنحو نحوا ً قد ل يطيقه كثير من الناس ‪.‬‬
‫قدمت بين يدي هذا مثل ً شيخ المعرة رحمه الله تعالى حينما رأى ما عليه‬
‫الناس وحينما صدمته بواكير حياته بما لم يكن يتوقعه ‪ ،‬فقرر أن يدير ظهره‬
‫للناس وحاول أن ينسحب من الحياة إل أن الناس لم يتركوه لقراره هذا ‪،‬‬
‫فلم ينسحب من الحياة لن الحياة أقبلت تزدحم على باب دهليزه ‪ ،‬لنه كان‬
‫يعّبر عن الحياة في صميمها وفي أبعادها الصحيحة ‪ ،‬وفي غاياتها التي يتوجب‬
‫على النسان أن يضعها دائما ً نصب عينيه من الصراحة والصدق والمانة مع‬
‫النفس ومع الناس ‪ ،‬وعجيب فعل ً أن يكون هذا المثل غير مفهوم ‪ ،‬ما‬
‫المشكلة هنا ؟ المشكلة في جوهرها أن الموقف بالنسبة إلي كان مبنيا ً على‬
‫الحساب ول شيء وراء ذلك بإطلق ‪.‬‬
‫فجأة وتحت ظروف المرض وطوارئ العلل أدرت وجهي إلى الخلق ‪،‬‬
‫فوجدتني في طريق اخترته بمحض إرادتي ‪ ،‬واخترته نزول ً على ضرورات ‪،‬‬
‫تتصل بهذه المة في حاضرها وفي مستقبلها على السواء ‪ ،‬إن الجو‬
‫السلمي على صعيد الفكر وعلى صعيد العمل جميعا ً يعيش ارتباكات خطيرة‬
‫ل يظن أنه الحق الذي ليس وراءه‬ ‫وتضطرب في أحشائه اتجاهات متباينة ‪ ،‬ك ٌ‬
‫إل الباطل ‪ ،‬وهذه مصيبة كبيرة ‪ ،‬ونظرت وأنا أفكر طيلة السنوات الماضية‬
‫أتلمس العلل وأحاول أن أقف على حقيقة الداء ‪ ،‬وهذه أيضا ً مصيبة ولكن‬
‫مصيبتي أنا بالذات لني ل أملك ول أستطيع أن أزّيف المور إلى نفسي ول‬
‫إلى الناس ‪ .‬فتبّين لي بعد التفكير الطويل والبحث المستفيض والدرس‬
‫العميق أن العلة في كل هذا الرتباك والضطراب تنحسر في عدم الفهم‬
‫طه ربنا جل وعل في‬ ‫الصحيح لمراحل العمل السلمي على النحو الذي خ ّ‬
‫فذه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ُنقل إلينا في‬ ‫الكتاب والكريم ون ّ‬
‫سيرته الطاهرة ‪ .‬وأن عصرنا الحاضر عصر يشكو من عيب أساسي وهو‬
‫عيب ملزم في التاريخ البشري في كل فترات النهوض لدى جميع الشعوب ‪،‬‬
‫قظ على ذاتيته حديثا ً ل يمكن أن يعود إلى أصالته وأن‬ ‫وهو أن الشعب المتي ّ‬
‫يتعّرف على حقيقته بين عشية وضحاها ‪ ،‬فل بد من المعاناة ول بد للخضوع‬
‫للكوارث ول بد من الستفادة من الدروس التي تمر بها المم السابقة ‪..‬‬
‫فحين فتحنا أعيننا في مطالع هذا القرن وقبله بقليل على ُنذر الهجمة‬
‫الستعمارية الصليبية الصهيونية اللحادية كنا أشبه ما نكون بالغريق يتمسك‬
‫بأي شيء خضوعا ً لنازع الحفاظ على الذات ‪ ،‬وقد وقع في وهم معظم قادة‬
‫الفكر وقادة الحياة الجتماعية والسياسية في عالمنا السلمي المهدد بخطر‬
‫الفناء أنه إذا كانت هناك علة قادت المة إلى الضعف والتدهور والنحلل‬
‫فهي هذا الدين ‪ ،‬وساعد على تجسيم هذه الفكرة في أذهان قادة الرأي‬
‫وقادة الحياة العملية أن أمم الغرب التي قادت التحرك الستعماري نحو بلدنا‬
‫خرجت إلى عصر النهضة وعصر الصناعة وعصر التقدم على الصعيد المادي‬
‫من خلل صراع طويل مع الكنسية بسلطانها وهيمنتها على النفوس وقهرها‬
‫واستبدادها ‪ ..‬فكان يسيرا ً جدا ً بالنسبة إلى قادة الرأي والسياسة عندنا أن‬
‫يسقطوا هذه المشابهة أيضا ً على السلم ‪ ،‬وظنوا أن أمم الغرب وصلت إلى‬
‫مراحل التقدم والعمران من باب رفض الدين والتمرد على أحكامه بل‬
‫الوقوف منه موقف العداء فكذلك يجب أن يكون عندنا ‪ ،‬فليكن السلم هو‬
‫الهدف ‪ ،‬ومن المحزن حقا ً أن هذا التصور الذي يشبه أن يكون انطباعا ً‬

‫‪65‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫طبيعيا ً وغير مستغرب في حياة الشعوب ترافق مع عامل مشدد وهو أن‬
‫الستعمار قاد في ركابه التبشير فكانت جحافل القسس والرهبان ومدارس‬
‫الهدم والتخريب تحل من ديار السلم حيثما ح ّ‬
‫ل الستعمار ‪ ..‬فحصل بلبلة ‪،‬‬
‫بل حصل انصهار ‪ ،‬ولعل الخوة لو حاولوا التعّرف عليه بالرجوع إلى ما كان‬
‫يصدر من كتابات ومؤلفات في مطالع هذا القرن ‪ ..‬حصل عندنا نوع من‬
‫الهجمة الشرسة على السلم قابلها رد ّ فعل نحاول أن ندافع مجرد دفاع وأن‬
‫نبرر مجرد تبرير هذا السلم ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫إن الحركة السلمية المعاصرة نشأت في هذا المحضن المضطرب الذي قد‬
‫ل يفتقر إلى شيء كما يفتقر إلى عناصر الصحة والحقيقة وكان ل بد من‬
‫مخاض ول بد من معاناة ول بد من آلم ‪ ..‬حينما نشأت الحركة السلمية‬
‫ة وعالمية ‪ ،‬ولعل الذين قادوها شغلتهم‬ ‫كانت تخضع للضغوط المجتمعية محلي ً‬
‫هموم الحاضر الذي كانوا يعيشونها عن اللتفات إلى ما كان يجب أن يكون‬
‫نقطة البداية في أي تحرك ‪.‬‬
‫ل أريد أن أحاكم التجاهات التي نتجت في مطالع القرن وكانت حصيلتها‬
‫الخلفة السلمية وإلغاء الكيان السلمي جملة وتفصيل ً وتمزيق المة‬
‫الواحدة إلى أمم ما تزال إلى الن تلد أجنة مشوهة وكريهة تنفصل عن جسم‬
‫الم باستمرار ‪ ،‬مزيدا ً في النكاية في هذه المة ‪ ،‬وجريا ً في الطريق المفضي‬
‫إلى تدميرها ومحوها من الوجود ‪ ،‬ل أريد أن أتعّرض لهذا الجانب ولكن أريد‬
‫أن أسّلط الضوء فقط وبصورة مبدئية وبسيطة إلى أن الواجب على العقلء‬
‫ب أن ابنك أصابه المرض فهل ذلك‬ ‫أن يلتفتوا إلى حقيقة بسيطة جدا ً ‪ ،‬ه ْ‬
‫يعني أن تتركه لعوامل المرض والفناء تفتك به وتفترسه أم تفتش عن مكان‬
‫ب لها بدوائها المعقول ‪ ،‬إن المسلك الول هو مسلك البله‬ ‫العلة لكي تط ّ‬
‫والمجانين ‪ ،‬ولكن مسلك العقلء هو المسلك الثاني ‪ ،‬وكان ل بد أن تمر المة‬
‫بهذا الخبل العام ‪ ،‬الخبل الذي حملها على أن تنفض يدها من كيانها‬
‫وحقيقتها ‪ ،‬ل شك أن الصورة السياسية والقتصادية والجتماعية والفكرية ‪،‬‬
‫بل قل حتى الروحية التي سادت قبيل الحرب العالمية الولى شيء يدعو إلى‬
‫السف وإلى الحزن ‪ ..‬ولكنه ل يعني إل عند العدو المجاهر بالعداوة أن نكون‬
‫عونا ً للعداء على أنفسنا وأن نمزق بأيدينا جسم أمتنا ‪ ،‬لكن هذا هو الذي‬
‫كان وهو الذي حصل ‪.‬‬
‫منذ ذلك التاريخ كان على المة أن تعرف أن حق السوة وأن حق القدوة‬
‫المفترضة على المسلم لكي يأخذ بها نفسه مهتديا ً بنبيه صلى الله عليه‬
‫وسلم يحّتم عليها أن ُتعيد فحص حالتها على ضوء خطوات نبيها صلى الله‬
‫قد المور أن هذه‬ ‫عيه وسلم ‪ ..‬لكن هذا لم يحدث ‪ ،‬والذي زاد الطينة بلة وع ّ‬
‫الحالة استهلكت وقتا ً طويل ً من حياة المة ‪ ،‬وقتا ً سمح لكل النباتات الضارة‬
‫أن تنمو على الساحة العربية وعلى الساحة السلمية ‪ ..‬اسأل نفسك أيها‬
‫الخ بصراحة وبوضوح وبأمانة وانسجام مع السلم ‪ :‬هل من المعقول أن‬
‫تنشأ في الساحة العربية والسلمية حركات وأحزاب ومذاهب واتجاهات ل‬
‫م لها ول وظيفة لها ول غرض لها إل اليذاء للسلم وإل محو السلم ؟ أهذه‬ ‫ه ّ‬
‫ظاهرة طبيعية ؟ هل من المعقول أن ُتنشد الناشيد الحمراء في ديار‬
‫المسلمين وأن ُيشتم الله وأن ُيهان محمد في ديار المسلمين ؟ هذا شيء‬
‫غير معقول ‪ ،‬بل اسأل نفسك ‪ :‬هل من طبائع الشياء ومن المور السوية‬

‫‪66‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في حياة المم أو في حياة أمة كأمتنا هي أمل الدنيا وضمانة المصير بالنسبة‬
‫ب ولكل ما‬‫ب ود ّ‬
‫إلى البشرية جمعاء أن يباح الضجيج والعجيج لكل من ه ّ‬
‫عرفت الدنيا من شرور ومفاسد وأن ُتضرب السوار من حول الدعوة‬
‫السلمية ‪:‬‬
‫س‬
‫أحرام على بلبله الدوح حلل للطير من كل جن ِ‬
‫ذلك أمر غير معقول ‪ ،‬لول أن المور ل تسير على محاورها الصحيحة ‪ ،‬إن‬
‫بلد السلم كما يجب أن يعلم العدو قبل الصديق للسلم طال الزمان أو‬
‫قصر ‪ ،‬صعبت الطريق أو هانت ‪ ،‬ديار المسلمين للمسلمين ‪ ،‬وهذه الخلئق‬
‫الشائهة ل بد أن تأتيها يوم أو أيام تجد نفسها مرغمة على أن تعاود حساباتها‬
‫وعلى أن تطيع لله جل وعل ‪ ،‬كارهة أو راضية ‪ ،‬لكن كما قلت لكم إن الزمان‬
‫طال ‪ ،‬وإن ارتباكات الحركة السلمية وأشدد الحركة السلمية وأنا هنا مبرر‬
‫وجودي هي هذه الحركة ول شيء غيرها ‪.‬‬
‫إن ارتباكات هذه الحركة تجاوزت الحدود المعقولة وإنه من الحق على كل‬
‫مدرك وعلى كل عاقل أن ينفض الغبار عن التاريخ ‪ ،‬وأن يعيد الحسابات لهذه‬
‫المة تحت ضوء الكتاب وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وهذا هو المر‬
‫الذي ندبت نفسي له منذ سنوات قريبة ‪ .‬حينما التفت إلى الخلف تحت‬
‫عوامل المرض واللم أخذتني الروح ‪ ،‬إنني أمسك بأطراف النهج منذ سنتين‬
‫وأمامي عمل هو تفكيك السيرة وإثارة ساحتها للتعّرف على كل قضاياها ‪،‬‬
‫صغيرها وكبيرها ‪ ،‬لعود إلى عملية تنسيق وتجميع تؤدي إلى استخلص‬
‫القوانين التي وضعتها الحركة السلمية بالعمل كي ل يكون إنسان أمام‬
‫اجتهاده الخاص ‪ ،‬بل يكون أمام القضية السلمية بالذات ‪ ،‬ولكي نحسم هذه‬
‫المشكلة من جذورها ‪ ،‬ولكي نغطي على كل ارتباكات الماضي ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫حين نظرت منذ سنتين وإلى الن وأنا ما أزال في بدايات الطريق وقلت لكم‬
‫أنا الن في الخمسين من العمر أو قريبا ً من ذلك ‪ .‬ما زلنا بعد سنتين لم‬
‫ندرس واحدا ً من اللف مما يقتضي أن ُيدرس ‪ ،‬وإذا كنا نريد أن نستمر في‬
‫الطريق وكما قلت أن المسألة مبناها على الحساب فنقول في كل جمعة‬
‫ساعة فنحن نحتاج إلى ما تبقى من العمر يضاف إليه عدة أعمار أخرى فكان‬
‫القرار هكذا ‪ ،‬تبديل ميدان بميدان ‪ ،‬أردت أن ُافرغ نفسي لعمل أشعر من‬
‫صميم قلبي ووجداني أنني مطالب به عن قناعة ‪ ،‬وأردت أن أترك المنبر‬
‫دى لي‬‫لمن يشاء أن يعتليه ‪ ،‬فهذه هي القضية ل أكثر ‪ ،‬ولمصلحة المة كما تب ّ‬
‫‪ .‬إل أن الشيء المؤلم أن هذه القضية على بساطتها على الرغم أنني طلبت‬
‫من الخوة أن يفهموني ‪ ،‬ولكن لم ُيفهم مني ذلك ‪ .‬وقيل شيء كثير ‪ ،‬وخلل‬
‫الجمعة الماضية وما وليها من أيام سمعت أشياء كثيرة وعجبت لهذا‬
‫النسان ‪ ،‬لماذا ؟ أنا قلت كلما ً ذكرته للخوة على سبيل التعريف بمخاطر‬
‫الطريق ‪ ،‬قلت إنني الن رجل مسقام كثير المراض وأنني تعبت وخاصة في‬
‫السنوات العشر الخيرة ‪ ،‬وذكرت شيئا ً مما سبب هذه الحالة ‪ ..‬المتاعب‬
‫واللم والتهامات إلى آخره ‪ ..‬أردت أن يكون في ذهن كل أخ أن طريقنا‬
‫ليس طريقا ً مجانا ً ولكنه مشحون بهذه الشياء ‪ ،‬أشياء ليس فقط ترهق‬
‫سرت المور على‬ ‫النفس وتؤذي المشاعر ولكن تزرع الداء في الجسد ‪ ،‬وفُ ّ‬
‫أمر غريب ‪.‬‬
‫ً‬
‫قيل أن خلفا وقع بيني وبين إخوتي من الشباب ‪ ،‬وأنا ل أنفي الخلف ولكن‬

‫‪67‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أنا أنفر من عدم الخلف ‪ ،‬أنا أعتبر النسجام المطلق قرين الموت ‪ ،‬وأعتبر‬
‫الحياة هي التي تحفل بصراع العقول وصراع الرادات ‪ ،‬ولكن هل الذي‬
‫استنتجه الخوة أو بعض الخوة صحيح ‪ ،‬أحب أن يكون واضحا ً من الن ودائما ً‬
‫‪ ،‬أن هذه الوجوه ووجوها ً أخرى ل أعرفها ممن يحملون لي الحب والتقدير‬
‫والحترام جزء من نفسي ‪ ،‬جزء من ذاتي ‪ ،‬جزء من كياني ‪ ،‬والله يعلم أن‬
‫أولدي من صلبي ليس أغلى علي منهم ‪ ،‬إنه ل يمكن أن يكون بيني وبين‬
‫إخوتي خلف ‪ ،‬فليطمئن الناس جميعا ً ‪ ،‬إننا دائما ً نتعامل مع الناس وفاقا ً‬
‫وة وقانون المحبة ‪ ،‬وإذا كان هذا واجبا ً مع العدو فهو مع الصديق‬ ‫لقانون الخ ّ‬
‫أوجب ‪.‬‬
‫ً‬
‫وقيل فيما قيل تهديدا من بعض الناس ‪ ،‬ولقد قلت أكثر من مرة إنني رجل ل‬
‫ترهبه بوارق الوعيد والتهديد ‪ ،‬ومنذ عرفت السجود لله لم أعرف النحناء إل‬
‫لله جل وعل ‪ ،‬لقد عشت طيلة حياتي بفضل الله تعالى مرفوع الرأس بل‬
‫شامخ الرأس متمتعا ً بكل معاني الرجولة والثبات والصدق ‪ ،‬ومع ذلك فهذا لم‬
‫يحصل ‪.‬‬
‫وقيل فيما قيل أنني منعت من السلطة ‪ ،‬وأنا رجل ل أّدعي صداقة السلطة ‪،‬‬
‫دعي صداقتي ‪ ،‬ولكني في كل الحوال رجل يكره الظلم كما‬ ‫والسلطة ل ت ّ‬
‫يكره الظالمين ‪ ،‬فأشهد غير متحّرج أنه حتى في الوقات العاصفة منذ‬
‫سنوات حينما كانت كل جمعة تحمل معها أزمة وتحمل معها مواجهة عاصفة‬
‫مع السلطة لم يفكر‬
‫أحد من عناصر السلطة أن يطلب إلي أن أتخلى عن الخطابة ‪ ،‬إن السلطة‬
‫غير محتاجة إلى هذه الشهادة مني ‪ ،‬ولكني أقولها للمانة لم يكن شيء من‬
‫ذلك ‪ ،‬كل ما في المر أني أردت أن أتفرغ لعمل أشعر أنني مطالب به ‪،‬‬
‫لكنني وجدت من الخوة الحباب بما ل أملك له ردا ّ ‪ ،‬وبما حملني على تفكير‬
‫طويل ‪ ،‬بل بما حملني أعيش تناقضا ً خطيرا ً ومؤسفا ً ‪ .‬إن المظاهر التي‬
‫رأيتها من الطوائف التي قابلتني عادت إلى ذهني سير الولين ‪ ،‬أعادت إلى‬
‫ذهني تلك الصور الوضيئة جدا ً من تلك الجماعة الولى التي سمعت الوحي‬
‫من ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتأثرت به وتفاعلت معه ‪ ،‬أعادت إلى‬
‫ذهني تلك الصورة التي كان وصفها الساسي أنها جماعة من المؤمنين تجد‬
‫خيرها المشترك في الوحدة الجامعة على طريق يؤدي إلى الله تعالى ‪.‬‬
‫أعادت إلى ذهني ذلك المعنى الكبير الذي حفظ هذه المة في وجه جميع‬
‫الزعازع هذه الوحدة التي عَلت على الجناس واللوان ورفضت عصبيات‬
‫السر ورفضت عصبيات القبائل ‪ ،‬أعادت إلى ذهني تلك الصورة التي أشار‬
‫إليها محمد عليه الصلة والسلم حينما ذكر طوائف من الناس حينما يحشر‬
‫الناس إلى الله على منابر من نور ما هم بالنبيين وما هم بالصديقين وما هم‬
‫بالشهداء يحسدهم النبيون ويحسدهم الصديقون ويحسدهم الشهداء على‬
‫مكانهم من الله جل وعل ‪ ،‬وحين طلب الصحاب من نبيهم عليه الصلة‬
‫والسلم أن يجليهم لهم وأن يصفهم لهم ‪ ،‬قال لهم ‪ :‬أناس من قبائل شتى‬
‫أوزاع ل تجمعهم رابطة الدم ول تجمعهم عواطف القبيلة ولكن يجمعهم حب‬
‫الله تعالى ‪ .‬إن هذه الظواهر التي عشتها في السبوع الماضي أعادت إلى‬
‫ذهني التي تجعل كل ذرة في الكيان تختلج شوقا ً إلى الله وشوقا ً إلى هذا‬
‫البناء المعجز الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪68‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن الموقف عابر ولكن أسأل نفسي وأسألكم ‪ :‬هل المنعطفات الخطيرة في‬
‫التاريخ البشري كانت مؤسسة كلها على العقل والعقلنية ؟ ألم يكن نصيب‬
‫العاطفة بل العاطفة المتأججة هي الرجح ؟ بلى ‪ ،‬فأنا من أجل هذا أخضع‬
‫نزول ً عند سؤال صغير وجهته إلى نفسي ووجهه إلي العديد من الخوة ‪ :‬هل‬
‫دس الكتب أم أن الضرورة‬ ‫الضرورة الن تقتضي منا أن نؤلف وأن نك ّ‬
‫تتقاضانا أم نصنع الرجال ؟ ل شك أنه سؤال صغير ‪ ،‬ولكنه خطير ‪ ،‬الحقيقة‬
‫أننا في هذه المرحلة بحاجة إلى هذه النماذج من الرجال ‪.‬‬
‫وإذا كنت هدفت من كلمي الماضي أن أنصرف إلى التأليف ـ وقلت بصراحة‬
‫ـ إنني بلغت أواخر العمر ولم أترك ورائي إل هذه الشرطة القليلة وأريد أن‬
‫أكتب ‪ ،‬فإن هذا الكلم يتضمن لونا ً بغيضا ً من النانية ‪ ،‬إنني إذا ً أطلب انتباذ‬
‫ل باحتياج المة الراهنة ‪،‬‬ ‫الذكر ‪ ،‬وأطلب السمعة ول أبالي ضحيت أم لم أبا ِ‬
‫من أجل هذا أقول أنا معكم ‪ ،‬وليدركنا الجل على المنبر أو في مجلس‬
‫الدرس ‪ ،‬لن أترككم ‪ ،‬سأعيش معكم ‪ ،‬وأموت بينكم إن شاء الله على هذا‬
‫الدرب وفي هذا الطريق ‪ ،‬وغاية ما نتمناه أن يرضى الله تعالى عنا ‪ ،‬وأن‬
‫يبارك الله تعالى مسعانا ‪ ،‬مع كلم بسيط ‪ ،‬كانت لنا مجالس ودروس مرتين‬
‫في السبوع أرجو أن يعذرني الخوة إذا قلت لكم إنني ـ صحيا ً ـ محتاج إلى‬
‫شيء من الراحة ل تقل عن أسبوعين ‪ ،‬فأسألهم أن يخففوا عني هذا‬
‫العبء ‪ ،‬وأعدهم إن أحيانا الله أن نعود إلى ما كنا عليه إن لم يكن إلى أكثر‬
‫مما كنا عليه ‪.‬‬
‫نمضي الن في طريقنا ‪..‬‬
‫فرغنا في الجمعة الماضية من سورة البروج وهي السورة السادسة‬
‫والعشرون في سياق التنزيل ‪ ،‬والن نواجه السورة السابعة والعشرين ‪،‬‬
‫والثامنة والعشرين ‪ ،‬والتاسعة والعشرين ‪ ) ،‬سورة التين وسورة قريش‬
‫وسورة القارعة ( ول تستغربوا حينما أقرن السور الثلثة في حديث واحد‬
‫وسأمّر عليها مرورا ً سريعا ً ‪.‬‬
‫أما سورة التين فتمضي هكذا ‪ ) :‬والتين والزيتون ‪ ،‬وطور سينين ‪ ،‬وهذا البلد‬
‫المين ‪ ،‬لقد خلقنا النسان في أحسن تقويم ‪ ،‬ثم رددناه أسفل سافلين ‪ ،‬إل‬
‫الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ‪ ،‬فما يكذبك بعد بالدين ‪،‬‬
‫أليس الله بأحكم الحاكمين ( هذه السورة سمعتموها مرارا ً وسأشير فقط‬
‫إلى إشارات وجيزة لبعض المعاني البارزة التي تتضمنها هذه السورة ‪.‬‬
‫أما قول الله جل اسمه ) والتين والزيتون ‪ ،‬وطور سينين ‪ ،‬وهذا البلد المين (‬
‫فقد اختلف تراجمة القرآن في تفسير معناها ‪ ،‬فذهب ذاهبون إلى أن المراد‬
‫بالتين والزيتون هاتان الثمرتان المعروفتان ‪ ،‬وذهب ذاهبون إلى غير ذلك ‪،‬‬
‫وعندنا أن النص على التين والزيتون المراد به هاتين الثمرتين شيء ل‬
‫يتناسب مع جلل الموقف ‪ ،‬وإن كان كثير من المفسرين أن المراد هو هذا‬
‫بداعي أن القول بغير هذا الكلم ذهاب إلى المجاز ‪ ،‬ول ُيعدل عن الحقيقة إل‬
‫بدليل راجح ول دليل هنا ‪ ،‬والذين حاولوا التأويل قالوا إن في قول الله‬
‫) والتين والزيتون ‪ ،‬وطور سينين ‪ ،‬وهذا البلد المين ( إشارة إلى المراحل‬
‫الربعة التي مّر بها هذا الركب البشري ‪ ..‬ففي التوراة التي ُأنزلت على‬
‫موسى عليه السلم ما يشير إلى أن الله جل وعل حين خلق آدم واشتقّ من‬
‫ضلعه زوجه حواء ليسكن إليها كان يجلسان في الجنة تحت شجرة التين ‪،‬‬
‫وحين أكل ما نهاهما الله تعالى عن قربانه فبدأت لهما سوءاتهما وطفقا‬
‫يخصفان من ورق الجنة ‪ ،‬وكان هذا الورق هو ورق التين ‪ ،‬فقوله تعالى‬
‫) والتين ( إشارة إلى تلك المرحلة التي سلخها النسان في الجنة في مبدأ‬

‫‪69‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الخلق ‪ ،‬وأما قوله ) والزيتون ( فإشارة إلى ما كان بعد الهباط من الجنة‬
‫إلى الرض وما كان بالتحديد على زمن نوح صلى الله تعالى عليه وسلم وهو‬
‫أول الرسل من أولي العزم ‪ ،‬فالذي ينبغي أن يكون معلوما ً أن الله جل وعل‬
‫ل زوجين‬ ‫حين أمر نوحا ً عليه السلم بأن يصنع الفلك وأن يحمل فيه من ك ٍ‬
‫اثنين وأن يرفض دخول الفاسقين والمارقين في هذا الفلك أمر الله جل وعل‬
‫السماء أن ترسل الماء مدرارا ً وأمر الرض أن تتفجر عيونا ً فكان الطوفان ‪،‬‬
‫ومضت السفينة بنوح ومن معه مدةً الله أعلم بها وغشى الماء كل الرض‬
‫وطال الزمان فأراد نوح عليه السلم أن يعلم هل عادت الحياة إلى الرض أم‬
‫مازال أديمها مغطى بالماء فأرسل حمامة ترود الفاق فعادت الحمامة تحمل‬
‫في منقارها وريقات من شجرة الزيتون فعلم نوح عليه السلم أن الرض‬
‫عادت لها الحياة فنزل بالسفينة حتى استوت على الجودي ) وقيل يا أرض‬
‫ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا ً‬
‫للقوم الظالمين ( فقوله ) والزيتون ( إشارة إلى هذه المرحلة الثانية من‬
‫مراحل الوجود البشري وهي مرحلة تتمتع بخطورة خاصة ‪.‬‬
‫وأما قوله ) وطور سينين ( فطور سينين هو جبل سيناء وهو المكان الذي‬
‫تجلى فيه الله جل وعل لموسى عليه السلم حين أنزل عليه اللواح وأعطاه‬
‫الشرائع التي أمر بني إسرائيل أن يأخذوا بها ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫وأما قوله ) وهذا البلد المين ( فبإجماع الناس جميعا ً أن البلد المين هو مكة‬
‫مسقط رأس محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فكأن الذين ذهبوا هذا المذهب‬
‫في التأويل لحظوا أن المواقف الربعة في حياة البشرية مراحل ذات صفة‬
‫خاصة أي أنها تشكل مراحل حاسمة في تاريخ البشرية من أجل هذا‬
‫استحقت أن يقسم بها الله جل وعل على ما يلي من ما ذكر في السورة‬
‫الكريمة ‪ .‬لكننا في الحق ل نملك دليل ً يسمح لنا بأن نذهب هذا المذهب ‪،‬‬
‫غاية ما نستطيع أن نقوله ظنا ً والله أعلم أن في قول الله جل وعل ) والتين‬
‫والزيتون ( إشارة إلى المكان الذي تنبت فيه هاتان الشجرتان وهو مهد مولد‬
‫المسيح عليه الصلة والسلم من أرض فلسطين هذه الرض التي يجري‬
‫التآمر عليها الن من قبل أهلها ومن قبل أعدائها على السواء ‪ .‬وأما قوله جل‬
‫وعل ) وطور سينين ( إشارة إلى الديانة الموسمية اليهودية التي حملها‬
‫موسى إلى الناس ‪ .‬وأن قول الله جل وعل ) وهذا البلد المين ( إشارة إلى‬
‫رسالة محمد ‪ ،‬ومن البّين أن الرسائل الثلثة هذه ) اليهودية والنصرانية‬
‫والسلم (هي الديان الثلثة الكبرى وذات الطابع الكلي الشمولي المعروفة‬
‫في التاريخ البشري عموما ً ‪.‬‬
‫فمن هنا كان معقول ً أن يجري القسم بها وكان غير معقول أن يكون القسم‬
‫بثمرة التين أو بثمرة الزيتون ‪ ،‬لونان من ألوان الفاكهة تزدحم الرض بما هو‬
‫أطيب منهما طعما ً وأكثر شهية ‪ .‬ما الذي أقسم الله جل وعل بها عليه ؟ هو‬
‫أن الله جل وعل خلق النسان في أحسن تقويم وهنا ولكي ل يزل قارئ‬
‫التفسير وقارئ القرآن أقول ‪ :‬إن كثيرين من المفسرين عليهم رحمة الله‬
‫جل وعل أخذوا النسان بمعناه الضيق ‪ ،‬فمن أجل ذلك قالوا إن الله أشار‬
‫بذلك إلى إبداء خلق النسان ثم رده أسفل سافلين أي أنه نشأ نشأة حسنة ‪،‬‬
‫شيء جميل ومسوى وعظيم ‪ ،‬ولكنه ُيرد ّ إلى أرذل العمر ‪ ،‬يرد إلى حيث‬
‫يكون إنسانا ً مخّرفا ً بعد أن كان عاقل ً لكي ل يعلم من بعد علم شيئا ً ‪ ،‬يرد‬

‫‪70‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إلى أن يكون إنسانا ً يتحكم فيه الهزال والمرض بعد أن كان يتفجر قوة‬
‫ونشاطا ً وحيوية ‪ ،‬يرد ّ إلى أن يكون جيفة تركتها الحياة يرفضها أقرب الناس‬
‫إليها ‪ .‬وهذا مدلول ) أسفل سافلين ( لكن لو أردنا أن نعتمد كلما ً من هذا‬
‫القبيل لوجدنا أنفسنا نصطدم بما بعد ذلك مباشرة وهو قول الله تعالى ) إل‬
‫الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ومعلوم أن ) إل ( أداة من أدوات الستثناء‬
‫بل هي أم هذه الدوات وأن الستثناء هو إخراج شيء من الجملة لفرادها‬
‫بحكم خاص بها غير الحكم الذي يترتب عليه ‪ ،‬فإذا قلنا إن حال النسان كهذا‬
‫فهل المؤمنون ينفردون بشيء غير هذا ؟ هل المؤمن ل يجري عليه ما يجري‬
‫على الكافر من هذه الظواهر المادية ؟ أل يشيخ المؤمن ؟ أل يشيب المؤمن‬
‫؟ أل يهرم ويخرف المؤمن ؟ أل يموت المؤمن ؟ أل تجّيف جثة المؤمن ؟ بلى‬
‫‪ ،‬إن المؤمن وغير المؤمن من حيث قوانين المادة ومن حيث قوانين‬
‫الفيزيائية سواء ‪ .‬وإذا ً فل بد أن نلتمس معنى ‪ ،‬وفي تقديري أننا حينما نجعل‬
‫السورة أمام منظارنا فسوف نرى أن الله سبحانه وتعالى أشار بهذه السورة‬
‫إلى طوائف ل تحصى من هذا النسان ‪ ،‬والنسان هنا لفظ جنس ‪ ،‬يتناول‬
‫البشرية بمجموعها في غابرها وفي حاضرها وفي مستقبلها ‪ ،‬هذه الطوائف‬
‫ترى أن التاريخ البشري سير في طريق مجهول البداية كما هو مجهول النهاية‬
‫‪ ،‬فمن أجل ذلك كانت هذه الطوائف من البشر من الناس أناسي ينبت في‬
‫الساحة البشرية كما ينبت النبات الشيطاني ل هدف له ول غاية ول شيء‬
‫جميل يتمسك به النسان وإنهم يمثلون الضيعة والفراغ وعدم الجدوى ‪ .‬والله‬
‫تعالى يريد أن تعرف البشرية أن تاريخها أو النسانية ليست ضربا ً في طريق‬
‫من هذا القبيل ‪ ،‬فالبداية معلومة والنهاية معلومة ‪ ،‬وللنسانية غاية هي التي‬
‫يجب على النسانية أن تكدح لكي تصل إليها ) يا أيها النسان إن كادح إلى‬
‫ربك كدحا ً فملقيه ( يا أيها الناس إن لكم غاية فانتبهوا إلى غايتكم كما قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ .‬ومن هذا تعتدل وتنبثق الجماعة السلمية‬
‫ول تكون هذه الجماعة كهذه الطوائف المتكاثرة من الناس التي رفضت‬
‫العتراف على أن الكون صادر عن الله جل وعل ‪ ،‬مخلوق من الله جل وعل ‪،‬‬
‫فوقعت في عقد والتواءات نفسية وفكرية وعملية ل تعرف كيف تتخلص منها‬
‫ول تعتقد كما تعتقد هذه الطوائف المتكاثرة من الناس أن البشرية تجري بل‬
‫هدف ول غاية ) نموت ونحيا وما ُيهلكنا إل الدهر ( كما قال الله جل وعل لنبيه‬
‫عليه الصلة والسلم قبل ألف وأربعمائة عام وكما يقول الماركسيون اليوم‬
‫أن النسان يولد ويموت بدفعة الحياة ‪ ،‬ويولد وبقانون الموت يموت ول شيء‬
‫وراء ذلك ‪ ،‬فل يعود إلى بعث ول إلى نشور ول ُيجزى بأعماله ‪ ،‬وكما يقول‬
‫الوجوديون والمتحللون من كل الملل ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫إن الله جل وعل مّيز في هذه السورة بين طائفتين من الناس ‪ ،‬طائفة‬
‫المؤمنين وطائفة الكافرين ‪ ،‬فالكافرون ل يعرفون مبدأ ً ول معادا ً ‪ ،‬فمن أجل‬
‫ذلك كانت حياتهم منتكسة إلى أسفل سافلين ‪ ،‬ومن شاء الدليل على ذلك‬
‫فل عليه أكثر من أن ينظر إلى ما يمور به الواقع النساني في هذه اليام ‪،‬‬
‫هذه الحروب والمؤامرات الرهيبة ‪ ،‬هذا الكذب المستعلن ‪ ،‬هذا الصدق‬
‫المطارد ‪ ،‬هذا الكفر البواح ‪ ،‬وهذا اليمان المعزول ‪ ،‬كيف يمكن أن يحصل‬
‫هذا إل في ظل قيم لنسان كما ذكر الله يسير في طريق مجهول البداية‬
‫ومجهول النهاية ويؤدي إلى ضيعة ل ريب فيها ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن الدليل على ما وصف الله به مسيرة النسانية من أنها ترتد ّ إلى أسفل‬
‫سافلين قائم في عصرنا الذي نعيش فيه ‪ ،‬وتبارك الله الذي قال ) سنريهم‬
‫آياتنا في الفاق وفي أنفسهم حتى يتبّين لهم أنه الحق ( لقد ظهرت آية الله‬
‫الن في عصرنا هذا الذي كفر بالله ورفض أن يتخذ منه ربا ً وكفر بالمعاد إليه‬
‫‪ ،‬فكانت حياة الناس اليوم مأساة ‪ ،‬بل هي كارثة وتقف على شفا الترهيب ‪،‬‬
‫ضغطة بسيطة على زر صغير من مجهول مأفون تؤدي إلى دمار البشرية‬
‫بكاملها ‪ .‬ذلك هو المصير الذي يؤدي إليه الكفر والضلل ‪ .‬ولكن المصير الذي‬
‫يؤدي إليه اليمان هو السعادة ‪ ..‬فمن ذلك استقام مكان الستثناء في سياق‬
‫الية ) إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( فالذين آمنوا بالله جل وعل ربا ً‬
‫وخالقا ً عارفين بالبداية التي صدروا عنها وعملوا الصالحات في هذه الدنيا‬
‫ف عنها ‪ ،‬هؤلء فقط هم‬ ‫وهي جملة الوامر بأن تؤتى وجملة النواهي أن ُيك ّ‬
‫الذين يصلحون لعمارة الدنيا وقيادة الركب البشري ‪.‬‬
‫فنحن إذا ً أمام تيارين حضاريين ‪ ،‬ولسنا أمام نموذجين ماديين ‪ ،‬أحدهما يقود‬
‫إلى الدمار والثاني يقود إلى السعادة والزدهار ‪ ..‬هؤلء الذين آمنوا وعملوا‬
‫ن ( من‬ ‫الصالحات لهم عند الله أجر غير ممنون ‪ ،‬يعني غير مقطوع ‪ ،‬لن ) م ّ‬
‫جملة معانيها ) قطع ( تقول ‪ :‬مننت الحبل إذا قطعته ‪ ،‬فالجر الموعود به‬
‫هؤلء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجر دائم ‪ ،‬إنك مهما تسن في هذه الدنيا‬
‫ق ودائم ل ينقطع بموتك ‪ ،‬ألم تسمع نبيك‬ ‫من سنة صالحة فأجرك عليها با ٍ‬
‫ن في السلم سنة حسنة كان له‬ ‫عليه الصلة والسلم وهو يقول ‪ :‬من س ّ‬
‫أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ُينتقص من أجورهم‬
‫ق عند الله جل وعل ‪.‬‬ ‫شيء ‪ .‬إن أجرك با ٍ‬
‫ثم بعد ‪ ،‬ما يكذبك بالدين ؟ ما الذي يجعلك يا أيها النسان تكذب بيوم‬
‫الحساب ‪ ،‬وهذه مشكلة خطيرة كما سيأتي عندا بعد قليل ‪ ،‬ما الذي يكذبك‬
‫بذلك ؟ أليس الله بأحكم الحاكمين ؟ إن كنت تقر بأنك مخلوق من قبل الله‬
‫وأن الله هو الخالق فالمفروض بأن الخالق أن يكون حكيما ً وإذا أعوزك‬
‫الدليل العقلي على اتصاف الخالق بالحكمة فانظر في نفسك وفي الفاق‬
‫تجد أن هذا النظام البديع والنسق المعجز ل يمكن أن يصدر إل عن إله حكيم‬
‫غاية الحكمة ‪ ،‬فهل من الحكمة أن يخبص النسان في هذه الدنيا أو يظلم‬
‫وأن يسرق وأن يزني وأن يفجر وما إلى ذلك ‪ ..‬؟ ثم يمضي موفورا ً ‪ .‬هل من‬
‫حكمة الخالق أن ُيترك المجرم ليفلت بجرائمه ؟ أم من حكمة الخالق أن‬
‫ينال المحسن ثواب إحسانه وأن ينال المسيء جزاء إساءته ؟ إن الحكمة في‬
‫معناها اللغوي والوضع العربي هي وضع الشيء في مكانه ‪ ،‬ووضع كل شيء‬
‫في مكانه يقتضي أن ينال كل إنسان ما يستحقه من جزاء خيرا ً كان أو شرا ً ‪.‬‬
‫فإذا كان المر كذلك فل بد خضوعا ً لناموس الحكمة من يوم تشخص فيه‬
‫البصار ويقوم الناس فيه لرب العالمين وتنصب الموازين القسط ليوم‬
‫القيامة فل ُتظلم نفس شيئا ً ويثاب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء‬
‫بإساءته ‪.‬‬
‫فإذا تركنا السورة هذه وذهبنا إلى سورة قريش ‪ ،‬فسورة قريش يخّيل إلي‬
‫أنني تحدثت عنها من قبل ولو من بعض الوجوه ‪ ،‬حينما كنت أتحدث عن‬
‫سورة الفيل ‪ ،‬لكني سأقول إن السورة تبدأ هكذا ) ليلف قريش ‪ ،‬إيلفهم‬
‫رحلة الشتاء والصيف ‪ ،‬فليعبدوا رب هذا البيت ‪ ،‬الذي أطعمهم من جوع‬
‫وآمنهم من خوف ( مدار على واقعة تاريخية اجتماعية معروفة لدى الجاهليين‬
‫‪ ،‬وهو هذه الرحلة بين مكة واليمن شتاًء ‪ ،‬ومكة والشام صيفا ً ‪ ،‬والتي ألفتها‬
‫ش‬
‫قريش ‪ ،‬واليلف هي البل ‪ ،‬فتذهب غادية وجائية ‪ ،‬متمتعة بالمن ‪ .‬كل ما ٍ‬

‫‪72‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في الصحراء معرض للسلب والنهب والقتل إل قطان الحرم إل أهل مكة إل‬
‫قريش ‪ ،‬فحيثما مشوا آخذين باتجاه الجنوب إلى اليمن ‪ ،‬أو إلى الشمال إلى‬
‫الشام ‪ ،‬حيثما أقاموا وحيثما حلوا فهم موضع العزاز وموضع التكريم بين‬
‫قبائل العرب جميعا ً ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫أذلك لن الدم الذي يجري في عروق القرشيين غير الدم الذي يجري في‬
‫عروق بقية القبائل العربية ؟ ل ‪ ،‬ولكن لن القرشيين هم جيران الله جل‬
‫وعل ‪ ،‬فمكانتهم ومنزلتهم والحترام المقدور لهم بين الناس ناشئ عن البيت‬
‫‪ ،‬هذا البيت الذي يجاوروه ويعرفون بناءه منذ إبراهيم أبيهم عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬ويعرفون أن إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت وطهراه للقائمين‬
‫والطائفين والعاكفين والركع السجود ‪ ،‬ثم هم يلحدون فيه ‪ ،‬ويكفرون برب‬
‫هذا البيت الذي أمرهم إبراهيم وإسماعيل أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا ً ‪..‬‬
‫وهي تذكرة سبقتها تذكرة أخرى ‪ ،‬وهي التي في سورة الفيل ‪ ،‬حينما حبس‬
‫الله الفيل عن مكة وأنجاها من التخريب ‪ ،‬بل حينما بطش الله تعالى بجيش‬
‫أبرهة البطشة الكبرى ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫شيء من التاريخ أريد أن ألمح به تلميحا يتعلق بالبيت ‪ ،‬وموضوع البيت تكرر‬
‫ذكره في القرآن الكريم مرارا ً كثيرا ً ‪ ،‬تكرر ذكره في معرض الدفع عنه حين‬
‫رد ّ الله أبرهة وجيش الحبشة ‪ ،‬وتكرر ذكره في معرض المنة على القرشيين‬
‫في إيلفهم لهاتين الرحلتين آمنين موفورين ‪ ،‬وتكرر ذكره حينما قال ربنا جل‬
‫طف الناس من حولهم ( بل حتى‬ ‫وعل ) أو لم يروا أنا جعلنا حرما ً آمنا ً ويتخ ّ‬
‫في المرحلة المدنية تكرر ذكر البيت عددا ً من المرات وحسبنا أن نشير إلى‬
‫الية الكريمة التي ذكرها الله في سورة البقرة ) قد نرى تقلب وجهك في‬
‫ل وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم‬ ‫السماء فلنولينك قبلة ترضاها فو ِ‬
‫فولوا وجوهكم شطره ( إن الرابط بين هذا الدين وبين هذا البيت رابطة غير‬
‫قابلة للفصل ‪ ،‬بل إن البيت آخر مظهر من مظاهر هذا السلم ‪ ..‬ففي‬
‫أحاديث الفتون وما يجري في آخر الزمان وعند اقتراب الساعة ذكر لرجل‬
‫ُأحيمش الساقين يغزو البيت فينقضه حجرا ً حجرا ً ‪ ،‬ويكون تهديم البيت‬
‫ونقضه آيات على اقتراب الساعة ‪.‬‬
‫والله جل وعل حين أشار إلى هذه البيت في هذه الية لفت نظر ما نحن‬
‫المتأخرين على القل إلى أن ننظر إلى القضية نظرا ً أعمق ‪.‬‬
‫نحن نعرف أن العرب وليس فقط عرب اليوم ‪ ،‬هم الذين يتآمرون على‬
‫قضاياهم وليس فقط عرب اليوم هم الذين يساعدون أعداءهم على‬
‫أنفسهم ‪ ،‬نحن نعرف أن العرب في الجاهلية كانوا يركبون هذا المركب‬
‫الخشن والمعيب ‪ ،‬كانت في جنوب الجزيرة طوائف من النصارى تحدثنا‬
‫عنهم من قبل ‪ ،‬هم النصارى في نجران ‪ ،‬ومن قبل هاجمت الحبشة اليمن‬
‫واحتلتها ‪ ،‬وقادت الحبشة الجيش لتهدم البيت فرّدها الله جل وعل ‪ ،‬وعلى‬
‫مر التاريخ فإن البيت كان موضعا ً ومحل ً للمؤامرات المستمرة ‪ ،‬فأريد أن‬
‫ألفت نظركم إلى مرحلة من مراحل تاريخ هذا البيت ‪ ،‬أنتم تقرأون آية‬
‫المباهلة في سورة آل عمران ‪ ،‬حينما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه‬
‫وسلم أن يباهل أو يلعن الوفد النجراني الذي جاءه في السنة التاسعة أو‬
‫العاشرة من الهجرة ) تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا‬
‫وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ( ففيما يتعلق بالمور‬

‫‪73‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التاريخية ليس لدينا تاريخ مضبوط على النحو الذي يسمح لنا بالحكم القاطع‬
‫على الشياء ‪ ،‬ولكن أختار رواية تكشف لكم عن ما أحاط بالبيت من‬
‫مؤامرات ‪.‬‬
‫إن المفهوم السائد عن الوفد النجراني أنه وفد جاء يطلب الموادعة ولكن‬
‫الروايات المفصلة تقول لنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استتب‬
‫له أمر الجزيرة العربية أو كاد فبادر بعض الصحاب إلى النصارى في نجران‬
‫فجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وأنا أشك في هذه الرواية وأقول‬
‫إن الوفد جاء من نفسه دون طلب من الرسول عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ودون‬
‫مبادرة من أحد من الصحاب ‪ ،‬وفي الروايات التفصيلية أنه حينما جرى‬
‫التفكير بإرسال وفد إلى المدينة يتعرف على حقيقة الدعوة وعلى شخص‬
‫الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثار جدل طويل ‪ ،‬وقام من بين‬
‫النجرانيين من يدعو إلى ضرورة تشكيل حلف يتكون من بيزنطة التي هي‬
‫دولة الروم ‪ ،‬لحظوا التاريخ يكاد يعيد نفسه ‪ ،‬ومن إمارة الغساسنة في‬
‫جنوب الشام وهم نصارى ‪ ،‬ومن إمارة المناذرة في الحيرة وهم نصارى أيضا ً‬
‫‪ ،‬ومن الممالك الفريقية الخمسة التي كانت معروفة في ذلك الزمان وهي‬
‫الحبشة وعلوة وزواو والنوبة ومريسة ‪ ،‬ومن النصارى النجرانيين ‪ ،‬وهؤلء‬
‫كلهم نصارى على مذهب الملكانية ‪ ،‬أي أنهم يدينون بالطاعة والولء للمذهب‬
‫النصراني الرسمي السائد في الدولة البيزنطية ‪.‬‬
‫وأن الغرض من هذا الحلف هو الهجوم على المدينة واجتثاث الدعوة ‪ ،‬ثم‬
‫تدمير الكعبة باعتبارها الرمز الذي يشد المؤمنين إليها جميعا ً ‪ .‬إل أن أصواتا ً‬
‫كرت النجرانيين بأن سفر الجامعة في العهد القديم فيه بشارة‬ ‫عالية ذ ّ‬
‫صريحة بالنسية أي المخلص ‪ ،‬بنبي يأتي من بعد موسى اسمه أحمد ‪ ،‬بنبي‬
‫يأتي من بعد عيسى اسمه أحمد أو محمد ‪ ،‬فارعوى الناس وذهب الوفد ‪،‬‬
‫على القل جاء ليختبر قوة الخصم على الطبيعة ‪ ،‬وحين اكتشف الوفد ذلك‬
‫عاد بعد أن رضي بالموادعة وقبل أداء الجزية ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫هذه القضية سأعرض لها إن شاء الله إذا أحياني الله وفاقا ً للنظر التاريخي‬
‫العلمي الصارم لكي ُيعرف أن الشيء الذي قيل ويقال اليوم إن باب‬
‫السيطرة على العالم السلمي يعتمد على شيئين ‪ :‬محو القرآن أول ً وهدم‬
‫الكعبة ثانيا ً ‪ .‬فما دام القرآن موجودا ً يقرأه المسلمون وما دام الكعبة‬
‫موجودة في مكة تشد إليها أبصار المؤمنين وتشعل جذوة الحماس في‬
‫نفوسهم فل سبيل للسيطرة على العالم السلمي ‪ .‬إنها كما ترون معزوفة‬
‫قديمة ‪ ،‬ويعاد اليوم العزف عليها ولكن مع اختلف في الوكسترا ‪ ،‬إن‬
‫الممثلين والعازفين اليوم من المسلمين بالذات ‪ ،‬في الماضي كانوا نصارى‬
‫ول بأس ‪ ،‬ونحن بلغ بنا التمرد على الله أن نؤخر النصارى ونضعهم وراء‬
‫ظهورنا لكي نقوم نحن بأيدينا بتنفيذ أغراض النصارى وتنفيذ أغراض اليهود ‪.‬‬
‫شيء مؤسف أليس كذلك ؟ ولكن هذه هي المسألة ‪ ،‬بكل عريها وبكل خزيها‬
‫وبكل عارها ‪ ،‬مسألة قديمة يعاد تنفيذها اليوم ‪.‬‬
‫فإذا تركنا سورة قريش وتذكيره إياهم بهذه النعمة السابغة وهي نعمة ينبغي‬
‫أن يذكرها المسلمون اليوم ‪ ..‬وجئنا إلى القارعة فهي ‪ ) :‬القارعة ‪ ،‬ما‬
‫القارعة ‪ ،‬وما أدراك ما القارعة ( للتهويل ) يوم يكون الناس كالفراش‬
‫المبثوث ( ولحظوا التعبير اللطيف المعجز ‪ ،‬يوم القيامة يكون الناس‬

‫‪74‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كالفراش المبثوث ‪ ،‬فيه إشارة لطيفة بعيدة نوعا ً ما ‪ ،‬حينما تشعل نارا ً ‪ ،‬ما‬
‫الذي يدور حول النار ؟ الفراش ‪ ،‬في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم‬
‫يقول ‪ :‬إن مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا ً فجعلت هذه الهوام‬
‫والفراش تتهافت فيها ‪ ،‬أي تنكب على النار ‪ ،‬فأنتم تتهافتون في النار وأنا‬
‫آخذ بحجزكم ‪ ،‬يعني أمسك بكم من أوساطكم لكي ل تتهافتوا في النار ‪ ،‬إن‬
‫التعبير ) يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ( يشير إلى أن الناس بخطاياهم‬
‫يحومون حول النار ويوشكون أن يتساقطون فيها ‪.‬‬
‫) وتكون الجبال ( وهي أرسى شيء وأقوى شيء ) كالعهن المنفوش ( وفيها‬
‫أيضا ً إشارة لطيفة وبعيدة نوعا ً ما ‪ ،‬والعهن هو الصوف ‪ ،‬والصوف عادة‬
‫تتماسك شعيراته وإل فل فائدة فيه ‪ ،‬ولكنك حينما تعطيه للنداف فينفشه‬
‫فتنحل هذه الشعيرات حتى يوشك أن تكون كل شعيرة ذاتا ً قائمة على حيالها‬
‫‪ ،‬فكذلك الناس يوم القيامة ) كالعهن المنفوش ( تتفكك كل ذرة عن أختها‬
‫وهنا إشارة إلى أن أحدا ً ل يعرف أحدا ً يوم القيامة ‪ ) ،‬ل أنساب بينهم يومئذ‬
‫فت‬ ‫ول يتساءلون ( لكن من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ‪ ،‬ومن خ ّ‬
‫موازينه فأولئك هم الخاسرون ‪ ،‬والناس يرفضون أو تذهب عليهم كل العلئق‬
‫التي كانوا يعيشون عليها في الدنيا ليقف كل إنسان بمفرده أمام المصير‬
‫والحساب والثواب والعقاب ‪..‬‬
‫) فأما من ثقلت موازينه ‪ ،‬فهو في عيشة راضية ( هناك مصير في الخلود‬
‫والنعيم البدي ) وأما من خفت موازينه ‪ ،‬فأمه هاوية ( يعني جهنم يهوي فيها‬
‫إلى قعرها ) وما أدراك ما هيه ‪ ،‬نار حامية ( ‪ ..‬بل شعور مني بأن أستفيض‬
‫في شرح هذه المسألة أقول إن السورة تثير موضوعا ً من أخطر‬
‫الموضوعات التي واجهتها الدعوة هو صدق وأحقية يوم الخر ‪ ،‬إن النسان‬
‫المسلم المفتاح الذي يضبط شخصيته ويحدد له أهدافه إيمانه بالمصير‬
‫والمنقلب إلى الله ‪ ،‬إيمانه باليوم الخر ‪ ،‬ومن كان ل يؤمن باليوم الخر إيمانا ً‬
‫راسخا ً ثابتا ً فل خير فيه ‪.‬‬
‫وهذه القضية سوف تقابلنا بعد الن ‪ ،‬لن المكيين أثاروا حولها جدل ً طويل ً‬
‫وغبارا ً كثيفا ً ‪ ،‬وتولى القرآن الرد ّ ‪ ،‬وتولى الكشف والبيان ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪..‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورة ص (‬
‫الجمعة ‪ 30‬ذي القعدة ‪ 11 / 1397‬تشرين الثاني ‪1977‬‬
‫) ‪ 1‬من ‪( 5‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫ما نكد ‪ ،‬وكل‬
‫فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة القمر ول ّ‬
‫سورة بل كل آية من آي الذكر الحكيم تتطلب من المؤمنين المزيد من‬
‫المعان والتدّبر ‪ ،‬فنسأل الله تعالى أن يرزقنا أن نبذل قصارى ما في جهدنا‬
‫من الفهم عن الله جل وعل ‪ ،‬نعنى ما أراد في محكم تنزيله وعلى لسان‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وها نحن الن نستقبل السورة السابعة والثلثين في سياق التنزيل وهي‬

‫‪75‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سورة ) ص ( وعدد آياتها ثمان وثمانون آية ‪ ،‬وهي مكية بالجماع ولعلها تكون‬
‫من بواكير ما نزل من كتاب الله تعالى في المرحلة المكية بحيث تنتمي كما‬
‫تكشف عن ذلك موحياتها وإشاراتها إلى نفس المنظور الزمني الذي حددناه‬
‫للحديث عنها ‪.‬‬
‫وطبعا ً ككل سورة من السور التي تبلغ حدا ً معينا ً من الطول وتنوع الغراض‬
‫فإن من غير الحكمة أن يصار إلى استعراضها مرة واحدة ‪ ،‬لن ذلك فوق‬
‫الطاقة ‪ ،‬ولو أن أحدا ً أطاقه لجنى دون ريب على جملة القضايا التي عرضت‬
‫لها السورة الكريمة والتي ينبغي للمسلمين اليوم أن يتعرفوا عليها تعرفا ً‬
‫واضحا ً ومستقيما ً ‪.‬‬
‫قبل هذا ل بد أن نعيد إلى أذهان الخوة ما يساعد على فهم الجواء التي‬
‫تحركت فيها آيات هذه السورة الكريمة ‪ ،‬فالدعوة وحتى الن بل وحتى‬
‫الوقت الذي نزلت فيه سورة ) ص ( مرت بمراحل يشبه أن تكون قابلة‬
‫للتمييز ‪ ،‬ففي بداية الدعوة كان الستنكار والستغراب المصحوبان بعدم‬
‫المبالة والستهجان والستخفاف ‪ ،‬كشأن الناس مع كل جديد يلقى إليهم‬
‫ويصافح أسماعهم ‪ ،‬ثم لما تبّين للمشركين إصرار النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم على الوقوف مع كلمات ربه كان بعد موقف الستكبار والستعلء‬
‫ومحاولة الصد ّ بالقوة أو بالزجر على اعتبار ـ وهذا أيضا ً يتساوق مع طبائع‬
‫المور وسنن الجتماع ـ على اعتبار أن الجهة القوى ل ترى ضرورة ماسة‬
‫إلى استعمال ما هو أعنف إذا كان ما هو أخف منه يقوم مقامه ‪ ،‬وعهدنا دائما ً‬
‫مة المور‬ ‫في كل مجتمع من المجتمعات أن الطبقات العليا ومن بيدهم أز ّ‬
‫يرون الدعوات الوليدة شيئا ً ل يتقاضاهم أكثر من التجّهم والستنكار ‪ ،‬ولكن‬
‫الدعوة تمضي والمؤمنون يزدادون عددا ً والناس يفتحون آذانهم لهذا الكلم‬
‫المعجز الذي يتلوه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم مما ل عهد لهم بمثله‬
‫حتى إنهم وهم الخصوم اللداء وقادة الكفر ورؤوس الشرك لم يقدروا على‬
‫أن يمنعوا أنفسهم من أن يتسللوا لواذا ً تحت جنح الليل لينصتوا إلى قراءة‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في صلته في جوف الليل ‪.‬‬
‫فكان بعض العدوان ‪ ،‬وانصب العدوان في معظمه على المستضعفين ‪،‬‬
‫ورافقت ذلك حملة دعاوى استهدفت صد ّ الناس عن الستماع للذكر ‪ ،‬حتى‬
‫إنهم ليأخذون أفواه الطرق وسكك مكة كي يبلغوا الوافدين عليها من القبائل‬
‫أن ل يلقوا محمدا ً صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وأن ل يستمعوا إليه ‪ ،‬لنه يقول‬
‫كلما ً يشكل خطرا ً على كيان المة وعلى كيان الفراد والسر جميعا ً فكانت‬
‫قالتهم المشهورة إنه جاء بسحر يفرق به بين المرء وزوجه ‪ ،‬وبين الرجل‬
‫وولده ‪ ،‬وبين الولد وأبيه ‪ ،‬ولكنها ألعيب صبية وحيلة عاجزين ‪ .‬فالمسألة هي‬
‫خلف كل ما جّرب الناس من قبل ‪ ،‬ليست نزوة فرد ول شهوة طامع ‪ ،‬ول‬
‫شره إنسان تتحّلب أشداقه على ما عند الناس ‪ ،‬وإنما هو كلم الله ودعوة‬
‫الله تعالى إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم‬
‫إلى صراط مستقيم ‪.‬‬
‫وإذا ً فالعرب المكيون ُووجهوا بشيء ل يملكون معه حيلة ‪ ،‬كما ل يملكون له‬
‫ردا ً ول يطيقون له دفعا ً ‪ ،‬فما الذي يكون ؟ إن الذي يقضي به طبائع‬
‫المجتمعات وسننها وقوانينها أنك ل تستطيع أبدا ً وبصورة مستمرة أن تبقى‬
‫على وتيرة واحدة في الحرب والنضال ‪ ،‬ل بد من تنويع السلحة ‪ ،‬ومع تنويع‬
‫السلحة والمستويات التي تقاتل عليها فأنت خلل ذلك ولجل أن تحمي من‬
‫حولك ممن هم على مشربك وعلى منهجك أنت مضطر لن تنظر إلى هذا‬
‫الشيء الذي يقال ‪ ،‬من هنا ومنذ عدد من السور قلت لكم إن المشركين‬

‫‪76‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫استنفذوا على القل مؤقتا ً بعض الطاقة على رعونة المجابهة ‪ ،‬على ل‬
‫عقلنية المجابهة ‪ ،‬على المجابهة الفاشلة ‪ ،‬ووجدوا أنفسهم في مواجهة أمور‬
‫وقضايا ل تفلح فيها سفاهة السفهاء ول تجدي في ردها اختلقات الكاذيب ‪،‬‬
‫ول بد من مواجهتها ‪ ،‬ول بد من النظر فيها ‪ ،‬وإذا ً فقد أصبحت آيات الله جل‬
‫وعل منذ ذلك الحين تأخذ منحى آخر يواجه أمورا ً جدية وبالغة الخطورة ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫تعلمون أن السلم دين التوحيد ‪ ،‬ودين التوحيد كلمة تقال اليوم بين قوم ل‬
‫يدركون أبعادها ول يحسون خطرها ول يشعرون ول يتصورون الثار الهائلة‬
‫التي تترتب عليها ‪ ،‬لنهم ألفوا منذ ُولدوا ومع لبن أمهاتهم أن يعرفوا أن‬
‫عرضت لول مرة في جنبات‬ ‫السلم دين التوحيد ‪ ،‬لكن هذه القضية حين ُ‬
‫مكة في أم القرى بين قوم تتعدد آلهتهم وتتكاثر معبوداتهم ‪ ،‬وفي مجتمع‬
‫ة بالغة‬ ‫إنساني من أقصاه إلى أقصاه يستغرب كلمة التوحيد كانت قضي ً‬
‫الضخامة شديدة الخطورة ‪ ،‬فجاءت آيات الله جل وعل تنافح ‪ ،‬مما يوحي أن‬
‫طرح القضية بهذا الشكل أثار لدى المكيين ولدى غير المكيين ممن يهتمون‬
‫كز الكلم‬ ‫بقضية الدين عموما ً جدل ً كبيرا ً ‪ ،‬فانصّبت آيات الله جل وعل تر ّ‬
‫حول نقطتين أساسيتين ‪ ،‬أولى النقطتين أن أيسر النظر وأهون الفكر وأقل‬
‫ن لمواقف‬ ‫تطلع إلى النفس وإلى الفاق وملحظة إلى النظام والنسجام وتبي ّ ٍ‬
‫اللطف والعناية اللهيتين يوحي ذلك كله بالقصدية المحّتمة في هذا الكون ‪.‬‬
‫والنتيجة التي تنبني على هذا الكلم أن الكون لم ُيخَلق عبثا ً ‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي يستحيل أن يوجد من غير موجد ‪ ،‬وهذه قضية أولية وأساسية ورئيسية ‪،‬‬
‫لكن المشكلة مشكلة اللوهية التي ل تنحل عند هذا الحد ‪ ،‬فقد رأيتم في‬
‫سورة ) ق ( وقبلها بقليل وبعدها بقليل أن آيات الله جل وعل جاءت لتسبغ‬
‫على قضية اللوهية أوصافا ً معينة ‪ .‬إن الذهن البشري في دللته المزمنة‬
‫وخبله الدائم كان له تصور ‪ ،‬أن هؤلء الناس شيء كثير ليسوا مفردا ً ‪ ،‬نحن‬
‫هنا أمة تجاورنا أمم ‪ ،‬وهذه المم تجاورها أمم أخرى ‪ ،‬ومن قبلنا أمم مضت‬
‫وقبلهم أمم مضت في آزال ل يعلمها إل الله تعالى ‪ ،‬ومن بعد فالرحام تدفع‬
‫والرض تبلع ‪ ،‬وإذا ً فثمة أجيال يستعد الوجود لستقبالها ‪ ،‬ما عددها ؟ ما‬
‫كثافتها ؟ الله أعلم بذلك ‪ .‬وأيضا ً فنحن كوكب صغير في زاوية ل يكاد يؤبه لها‬
‫من هذا الكون ‪ ،‬شظية من شظايا هذا الكون جّهزها الله تعالى لسكنى آدم‬
‫وذريته ‪ ،‬وأيا ً ما كان فكون الله تعالى أوسع من كوننا وأعرض من كوننا ‪ ،‬وما‬
‫يدرينا لعل لله مخلوقات من جنسنا أو من غير جنسنا تكون في كواكب أخرى‬
‫وعوالم ‪ ،‬هنا يبدأ الشكال في الذهن البشري المخّبل ‪ :‬هل يمكن ويستقيم‬
‫عقل ً أن يكون لكل هذه الخلئق الضاربة في الزل والموغلة في البد إله‬
‫واحد يسمع شكاة الجميع ويأذن لرغبة الجميع ويستجيب لدعوة الجميع في‬
‫ن واحد ؟ تلك ربما تكون نقيضة أكبر من أن يستوعبها ذهن النسان وهو‬ ‫آ ٍ‬
‫يتخّبط في خبله المادي المشدود إلى قيمة الرض ‪ .‬من هنا جاءت لوثة‬
‫التعدد وجاءت لوثة الشرك ‪ ،‬فلكي نقرر أن هذا الكون مخلوق لخالق‬
‫ومربوب لرب فل بد إذا ً أن يكون أرباب متعددة ‪ ،‬كيف نوزع في حياتنا‬
‫البشرية المهام والمسؤوليات والختصاصات على المسؤولين عنها وعلى‬
‫المنوط بهم إدارتها ونفاذها ‪ ،‬كذلك ينبغي أن يكون في هذه المقايسة‬
‫العرجاء شأن المل العلى ‪ ،‬ل بد أن تكون ثمة آلهة ‪ ،‬لكل آلهة اختصاص وهو‬
‫يفصل ويقضي في اختصاصه ‪ ،‬فجاءت قضية الشرك وتعدد اللهة من هنا ‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وقاتل السلم في هذا الباب قتال ً راشدا ً ولكنه مجيد ‪ ،‬لكي ينفي عن ذهن‬
‫البشر هذه اللوثة ‪ ،‬وهو أن الله الذي صدرت عنه هذه الموجودات ل يشذ‬
‫عن علمه ‪ ،‬ول تخرج عن شطآنه ‪ ،‬ول مناص من أن تبقى تحت قهره ‪ ،‬وتحت‬
‫سيطرته ‪.‬‬
‫فآيات القرآن التي جاءت أول ً والتي مضى قسم كبير منها وبقي ما هو أكبر‬
‫وأخطر جاءت تلفت الناس إلى هذه القضية بشعبتيها ‪ ،‬قضية ضرورة وجود‬
‫الخالق الذي صدرت عنه الموجودات ووحدانية هذا الخالق ) قل لو كان فيهما‬
‫آلهة إل الله لفسدتا ( إذا ً لذهب كل إله بما خلق ولعل بعضهم على بعض ‪ ،‬فل‬
‫يستقيم في الذهن السوي وفي العقل المستقيم أن تتعدد الرادات إل في‬
‫كون ل يجري على نسق مضبوط ‪ .‬وأما في كون منذ أن وعى النسان وأدرك‬
‫يمشي بنظام ل يحيد شعرة ول يستأخر لحظة ول يستقدم لحظة فمن‬
‫النقائض التي ل تستقيم في عقل عاقل أن يكون هناك أكثر من إله ‪ ،‬لن‬
‫مر الكون‬
‫تنازع الختصاص يؤدي إلى خلل في النظام هو الفوضى التي تد ّ‬
‫وتأتي على كل ما فيه ‪ .‬وما دمنا نرى كل ما في الكون على أبدع ما يكون‬
‫من النسق والنتظام فل بد ضرورة من أن نقّر بمبدأ التوحيد ‪ .‬هذه واحدة ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫الثانية أن المشركين بدأوا ينظرون إلى قضية ذات شعبتين أيضا ً مضى‬
‫الحديث عنهما قبل هذه السورة ‪ ،‬وجاءت تعقيبات القرآن تترا في هذا‬
‫المجال ‪ ،‬ل بأس أن نقول أن الكون موجود عن موجد وأن هذا الموجد واحد‬
‫ل شريك له ‪ ،‬لكن لماذا يكون الرسول بشرا ً من الناس ؟ ولماذا ل يكون‬
‫ملكا ً من الملئكة ؟ أليس لو كان ملكا ً أليس ذلك أدعى لن يكون أهيب‬
‫لسلطانه وأكثر حمل ً للناس على الصاخة لقوله واتباع أمره ؟ فرد ّ الله تعالى‬
‫عليهم هذه النقيضة ‪ ،‬وأبان لهم أن رسالة الله إلى الناس ُيقصد منها الفهم‬
‫والفهام ‪ ،‬والفهم والفهام يستحيلن إل مع اتحاد الجنس ‪ ،‬ولو أن الله أجاب‬
‫المتسائلين المتشككين إلى طلبهم لكان ضرورة الفهام قاضية أن يرسل‬
‫الله ملكا ً في صورة رجل ‪ ،‬وإذا ً فقد عدنا إلى بداية المر وبداية الشكال ‪،‬‬
‫وهذا ما ترجم الله عنه بقوله ) ولو جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبسنا عليهم‬
‫ما يلبسون ( أي عدنا إلى بداية النقيضة التي استشكلوها ‪ ،‬وكذلك ليكن‬
‫رجل ً ‪ ،‬فلماذا يكون من أوساط الناس ؟ ولماذا ل يكون من الزعماء الذين‬
‫عرفوا بالبسطة في الجاه والسلطان ‪ ،‬أو‬ ‫عرفوا بقيادة المعارك ‪ ،‬أي الذين ُ‬‫ُ‬
‫عرفوا بكثرة المال والثراء ؟ ولماذا ُيختار لها إنسان ليس من هذه‬ ‫من الذين ُ‬
‫البواب ل من قليل ول من كثير ؟ ويرد ّ الله تعالى عليهم ‪ ،‬انظر أيها النسان‬
‫إلى مجتمعك الذي تعيش فيه ‪ ،‬ذكر وأنثى ‪ ،‬صغير وكبير ‪ ،‬أسود وأبيض ‪،‬‬
‫جاهل ومتعلم ‪ ،‬غني وفقير ‪ ،‬ألك يدان في صنع هذه الفوارق ؟ أم الله جلت‬
‫قدرته هو الذي قضى أن يكون المر بهذا الشكل ؟ وإذا ً فالمسألة مسألة‬
‫إرسال الرسول بعينه فلن من القوم الفلنيين مسألة اختصاص نابعة‬
‫ومؤسسة على مطلق الملك الذي هو لله جل وعل ) أهم يقسمون رحمة‬
‫ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض‬
‫قضي‬ ‫درجات ليتخذ بعضهم بعضا ً سخريا ً ورحمة ربك خير مما يجمعون ( ف ُ‬
‫طرحت مشكلة أخرى ‪ ،‬ل بأس لنسّلم‬ ‫على هذا ‪ ،‬ولكن المر أخذ ُبعدا ً آخر و ُ‬
‫بكل هذا الذي قيل حتى الن ‪ ،‬وماذا علينا لو قلنا إننا نريد أن نقيم حياتنا على‬
‫هذا الساس ؟ حياتنا الدنيا ‪ ،‬هل رضي القرآن منهم بذلك ؟ ل ‪ ،‬ولكنه‬

‫‪78‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أخبرهم أن القصدية التي هي أساس الوجود عاملة في نهاية هذا الوجود ‪،‬‬
‫يعني أن الله تعالى حين خلق الخلق وبّثهم على ظهر هذا الكوكب فمن أجل‬
‫أن يوحدوه ويعبدوه ولكي ينتهوا إلى أمره وإلى نهيه ‪.‬‬
‫ومعلوم أن الناس منهم من ُيضرب صفحا ً عن كل هذا ‪ ،‬ومنهم من ُيفرغ‬
‫جهده في إرضاء الله تعالى فيما أمر ونهى ‪ ،‬ومنهم بين بين ‪ ،‬فهل يليق في‬
‫حكمة الحكيم أن يسوي بين هؤلء الناس جميعا ً ؟ ل ‪ ،‬ل بد من يوم تعزو‬
‫الرؤوس جميعا ً لله ‪ ،‬يوم يقف الناس جميعا ً للواحد القهار ) ويوم نضع‬
‫ة من خردل‬ ‫الموازين القسط ليوم القيامة فل ُتظَلم نفس شيئا ً وإن كان حب ً‬
‫أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( هذه القضايا الرئيسية قضايا اللوهية والنبوة‬
‫والكتاب واليوم الخر هي عماد ما أثير في المرحلة المكية ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫والناس بعد ذلك يراد بهم أمر ‪ ،‬ويراد منهم أمر ‪ ،‬وما يراد بهم ويراد منهم‬
‫فمسطور في كتاب الله جل وعل ‪ ،‬يراد منهم أن يعبدوا الله ويوحدوه ‪ ،‬ول‬
‫يشركوا به شيئا ً ‪ ،‬وأن يعملوا بجملة ما أمر وينتهوا عن جملة ما نهى عنه ‪،‬‬
‫ويراد بهم أن يتجاوزوا هذه الفاق الوضيعة التي يتخّبط الناي فيها شرقا ً‬
‫وغربا ً ‪ ،‬ليكون النسان إنسانا ً له من المَلك شفافية الروح وله من المَلك‬
‫غريزة الطاعة وله من النسان هذا الجسد الذي ينازع إلى تحت ‪ ،‬ولكن‬
‫ُيطَهر بالرتفاع إلى العلى ‪ .‬هذا الذي يراد بالنسان ‪ ،‬وذلك شيء ليس تمرا ً‬
‫تأكله فتسيغه حلوا ً في حلقومك ‪ ،‬وليس كأسا ً باردة من الشراب تشربها‬
‫لتستريح إليها نفسك ‪ ،‬ولكنه مكابدة التعب وسهر الليل وألم النهار ‪ ،‬لنها‬
‫قضية تجاوز الذات وقضية النتصار على الضرورات وقضية تأهيل النسان‬
‫لن يكون في جوار الله جل وعل حيث الملئكة والنبيون والصديقون‬
‫والشهداء والصالحين ‪ ..‬ليس المر هينا ً ‪ .‬من هنا انجفل الناس عن السلم‬
‫بحكم الضرورات والمألوفات ولكن هذا ل ينقص أحدا ً من المسلمين‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فالصرار على الطريق والمثابرة والدأب والمضي قدما ً دون أن‬
‫ما ً وقلوبا ً‬ ‫يلتفت النسان يمنة ول يسرة ‪ ،‬كفيل بأن يفتح عيونا ً عمياء وآذانا ً ص ّ‬
‫غلفا ً ‪ .‬وهذا الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي كان‬
‫أيضا ً في كل وقت وضعت فيه الدعوة إلى الله جل وعل موضع التطبيق‬
‫والتنفيذ بشرائطها المسطورة في كتاب الله وسنن رسوله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ .‬على أي حال فليس غريبا ً أن ينفر الناس مما دعاهم إليه رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فما الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ كان‬
‫وف ووعد وأوعد ‪ ،‬كان كما قال عنه الله ) بشيرا ً ونذيرا ً (‬ ‫منه بأن ح ّ‬
‫ذر وخ ّ‬
‫بّين لهم عاقبة المكذبين ‪ ،‬كما بّين لهم عاقبة المؤمنين ‪ ،‬تمكينا ً في الرض‬
‫ورضانا ً في السماء ‪ ،‬وهذه طريقة ناجعة ومجدية ‪ ،‬لنها طريقة التاريخ ‪،‬‬
‫والنسان بحكم إنه إنسان كائن تاريخي يعلم ما تعنيه كلمة التاريخ ‪ ،‬بّين لهم‬
‫قصص الماضين ومصارع المم المكذبة التي جاءها النذير من الله على‬
‫ل الله بها من نقماته ما أح ّ‬
‫ل‬ ‫مت آذانها وأدارت ظهورها فأح ّ‬‫ألسنة رسلها فأص ّ‬
‫‪ .‬وبّين لهم ما أعد ّ الله لهم من الروح والريحان والبشرى والنعيم للمؤمنين‬
‫الصادقين وجاء ذلك دون أن أذكر لكم السور الماضيات ‪.‬‬
‫في السورة الماضية التي فرغنا منها في الجمعة الماضية في سورة القمر‬
‫عرض الله تعالى كما رأيتم صورا ً لعدة أقوام جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا‬
‫ص الله علينا ذلك ‪،‬‬ ‫أيديهم في أفواههم وقالوا ) إنا كفرنا بما أرسلتم به ( ق ّ‬

‫‪79‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ص ذلك بأسانيده وبشواهده وبمبرراته التفت إلى المخاطبين من‬ ‫وبعد أن ق ّ‬


‫قريش الذي كانوا يقفون من النبي عليه الصلة والسلم موقف الصد‬
‫والعراض والخصومة والحرب قال لهم هذا القول البليغ ) أكفاركم خير من‬
‫أولئكم أم لكم براءة في الزبر ‪ ،‬أم يقولون نحن جميع منتصر ‪ ،‬سيهزم الجمع‬
‫ويولون الدبر ‪ ،‬بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( إن المة التي‬
‫خوطبت على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الكلم أمة ل تملك‬
‫على الله صكا ً بالنجاة من العذاب ‪ ،‬فتلك دعاوى بغيضة ‪ ،‬وهي دعاوى ل‬
‫مستند لها ول تستقر على قرار تقبله العقول ‪ ،‬وإنما الناس جميعا ً عباد الله‬
‫ليس بين أحد منهم وبين الله نسب ول سبب ‪ ،‬وإنما يتفاضلون عنده بالتقوى‬
‫والعافية ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( وأنهم أول ً وآخرا ً ليسوا شيئا ً شاذا ً‬
‫في هذا الكون ‪ ،‬فسنن الله الماضية في الكون والفاق ماضية عليهم أيضا ً ‪،‬‬
‫وإذ هم يعلمون مصارع الماضين لنهم يعيشون في نفس الديار التي عاشت‬
‫فيها المم المكذبة من قبل ‪ ،‬ولنهم يمّرون عليهم مصبحين وفي الليل أفل‬
‫كرهم الله جل وعل ما هو قريب من أعينهم ‪ ،‬إنهم يعيشون‬ ‫يبصرون ‪ ،‬فلقد ذ ّ‬
‫فهم الفناء وباءوا‬ ‫في مساكن الذين ظلموا ‪ ،‬أين ذهب هؤلء ولماذا ذهبوا ؟ ل ّ‬
‫باللعنة المذكورة إلى قيام الساعة وكان ذلك بسبب عصيان أوامر الله تعالى‬
‫) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض‬
‫ولكن كذبوا ( فسبب الهلك هو هذا التكذيب الذي تمسكت به المم الماضية‬
‫‪ ،‬وهم أيضا ً إذا تمسكوا بمثل ما تمسك به الماضون فهم خاضعون إلى نفس‬
‫ل بكل المكذبين لمر الله جل‬ ‫القانون الكوني اللهي الذي ل يتخّلف والذي يح ّ‬
‫وعل ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ‪ ،‬أم يقولون نحن جميع‬
‫منتصر ( هذه هي القضية التي تحول بينكم وبين اليمان بمحمد ؟ هذه هي‬
‫القضية التي تمنعكم من التصديق بالذي يتلوه عليكم محمد ؟ تعالوا إلى‬
‫الحساب إلى النقاش النساني ‪ ،‬دعونا من الخرة وما فيها ‪ ،‬هل المسألة‬
‫عرف‬ ‫مسألة جموع وتحزبات ؟ ومتى رأى الناس أن أمة من المم منذ ُ‬
‫ً‬
‫التاريخ إلى الن بقيت في مراكز الصدارة ‪ ،‬أما يرى الناس أن أمما تبلغ الوج‬
‫والذرا في العز والسيادة ثم تشيخ وتنهار ؟ أما يرى الناس على مستوى‬
‫الفراد عزيزا ً ذل وغنيا ً افتقر ‪ ،‬وإذا ً فنظر يسير في تقادير الله جدير بأن‬
‫يكشف النظر ويجلو اللوحة أمام النسان ) أم يقولون نحن جميع منتصر (‬
‫نحن كثر ‪ ،‬ومحمد ومن معه قلة ‪ ،‬وهذه مشكلة للسف تعيش في أذهان‬
‫الذين يدورون في فلك المتنفذين والذين في أيديهم بعض النفع الخفيف‬
‫لذوي النفوس المريضة ‪ ،‬فيظنون أن الغلبة لهم ل محالة ‪ ،‬وأن العاقبة لهم ل‬
‫ريب ‪ ،‬على المدار ليس على الكثرة ول على القلة ‪ ،‬إنما المدار يتركز في‬
‫أهلية البقاء ‪ ،‬القدرة على الوفاء لحاجات المستقبل والحاضر جميعا ً ‪ ،‬إذا‬
‫كانت الدعوة قادرة على إشباع احتياجات المستقبل ماديا ً ومعنويا ً إيمانيا ً‬
‫وأخلقيا ً فهي الجديرة بأن تبقى ‪ ،‬وإذا كانت الدعوة على خلف ذلك وإذا كان‬
‫النظام على خلف ذلك فليتحّزب معه أهل الرض جميعا ً ‪ ،‬إنه يحمل في‬
‫تركيبه بذور الفناء وجراثيم الموت وأسباب البادة ‪ ،‬ولهذا قال الله لهم ) أم‬
‫يقولون نحن جميع منتصر ‪ ،‬سيهزم الجمع ويولون الدّبر ( وبالفعل القلة‬
‫المؤمنة التي آمنت بالنبي عليه الصلة والسلم في مكة وخرجت منها تتسلل‬

‫‪80‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في جنح الظلم مهاجرة إلى الله بدينها إلى يثرب هي التي لقيت المشركين‬
‫بعنجهيتهم وبحدهم وبحديدهم وبكبريائهم وبفخرهم ) يحادون الله ورسوله (‬
‫فلم يثبتوا أمامهم إل ضحوة من نهار ثم كانوا خبرا ً ُيذكر ويلعن إلى أبد‬
‫الدهر ‪.‬‬
‫فالمسألة إذا ً ليست الجموع الكثيفة ولكن هذه القضية قضية تحتاج إلى نظر‬
‫عميق وإلى نوعية من الرجال ُأشبعت إيمانا ً وُأشبعت يقينا ً ‪ ،‬حينما جاء عدي‬
‫بن حاتم بعد أن كتبت إليه أخته بأن يقدم على رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم جاء عدي حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وكان تحت النبي صلى الله عليه وسلم حصير فدفعه إليه فجلس عليه عدي‬
‫وجلس عليه الصلة والسلم على الرض ‪ ،‬قال له ‪ :‬يا عدي ما أفّرك ؟ أي‬
‫لماذا فررت من وجهنا ؟ هل تعلم يا عدي إلها ً غير الله ؟ يا عدي أفّرك أن‬
‫يقال الله أكبر ؟ تعلم شيئا ً أكبر من الله ؟ يا عدي لعله وقع في نفسك أن‬
‫المسلمين قلة وأن عدوهم كثرة وأن المسلمين في ضعف وفاقة وأن‬
‫عدوهم في غنى ‪ ،‬والله يا عدي ليوشكن أن تسير الظعينة من هنا إلى صنعاء‬
‫ل تخشى إل الله والذئب ‪ ،‬يا عدي والله ليفيضن المال فيضا ً ولتفتحن كنوز‬
‫كسرى وقيصر ولتنفقنها في سبيل الله ‪ .‬قال ‪ :‬كسرى بن هرمز ؟ قال نعم‬
‫كسرى بن هرمز ‪ .‬ومات رسول الله ومات بعده أبو بكر ‪ ،‬وجاءت خلفة عمر‬
‫طم ملك كسرى ‪ ،‬وكان فيمن شارك في‬ ‫‪ ،‬وكان عدي رضي الله عنه فيمن ح ّ‬
‫تحطيم ملك قيصر ‪ ،‬وخرج المسلمون من القلة إلى الكثرة ‪ ،‬ومن الذلة إلى‬
‫العزة ‪ ،‬ومن الفقر إلى الغنى والسؤدد ‪ ،‬فالذين ل يعلمون ول يستبصرون‬
‫المور هم الذين يؤخذون بظواهر المر ) يعلمون ظاهرا ً من الحياة الدنيا (‬
‫وما جدوى أن يعلم الناس ظاهر الحياة الدنيا وهم في غفلة عن قانون الله‬
‫جل وعل ‪.‬‬
‫هذه الذكريات التي ساقها الله جل وعل أمام أنظار المشركين ساقها في‬
‫مجال العظة والعتبار ‪ ،‬ونحن الن أمام السورة الثامنة والثلثين سورة‬
‫) ص ( وأنا قصدا ً أطلت لكم الستعراض لكي تعلموا شيئا ً ‪ ،‬إن السلم ل‬
‫يستطيع أن يقول كما يقول سفهاء السياسة أن الجهة الفلنية هي العدو رقم‬
‫واحد ‪ ،‬أو أن الشخص الفلني هو العدو رقم واحد ‪ ،‬تلك سفاهات تستجيش‬
‫الغرائز المنحطة للناس المنحطين ‪ ،‬ونحن نتكلم في جيل يحرص على أن‬
‫يبقى النسان إنسانا ً ‪ ،‬إنسانا ً لو دام على ما هو عليه لصافحته الملئكة وهو‬
‫في الطرقات ‪ ،‬إن السلم ل يرتب اللويات بهذا الشكل ‪ ،‬السلم جهاز يعمل‬
‫في كل التجاهات ‪ ،‬وعلى جميع المستويات ‪ ،‬وككل جهاز حينما تعطيه طاقة‬
‫الشحن لجميع أجهزته يمنحك كفاءة عالية جدا ً من حيث القدرة ومن حيث‬
‫النتاج ‪ ،‬لكنك حينما ُتخل بترتيبات الجهاز فذلك على حساب الكفاءة التي‬
‫ُتطلب من الجهاز ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫إنما ونحن نتوجه إلى الخصم الرئيسي على العدو المباشر إلى الحكم المادي‬
‫الذي نراه أمام أعيننا يجب أن ل يغيب عن بالنا أننا نحن الداة ‪ ،‬ما معنى ذلك‬
‫؟ معنى ذلك أن تحطيم الباطل العظيم يفتقر إلى تواجد حق عظيم ‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك أيضا ً أن الناس المؤهلين للدمدمة على آثار الباطل وإزالة آثار الطغيان‬
‫وكنس بقايا الذل هم الرجال الذين ارتفعوا إلى مستوى رائع من حيث‬
‫الكمال النساني المقدور للطاقة البشرية ‪ ،‬ولهذا فنحن نجد بالمقارنة‬

‫‪81‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والمقايسة حينما نقرأ سورة القمر أن الله تعالى اتجه بالخطاب إلى‬
‫المشركين ‪ ،‬فبّين قصص أقوام جاءتها رسل الله كما جاء المكيين محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم فكذبت رسلها فأخذها الله أخذ عزيز مقتدر ‪ ،‬لتتعظ‬
‫أمة العرب أن تقع في نفس المحظور الذي وقعت فيه المم الماضية ‪.‬‬
‫فإذا جئنا إلى سورة ) ص ( فنحن نواجه أمرا ً عجبا ً ‪ ،‬نواجه فاتحة أقرأها‬
‫عليكم لتعرفوا كيف ترشح لمحتويات السورة بمذاق هي من خصائص القرآن‬
‫) ص والقرآن ذي الذكر ‪ ،‬بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( انتبه أيها‬
‫المسلم ‪ ،‬لو أردت أن أقف معك ساعات عند هذه الكلمة ما فرغت ‪ ) .‬ص‬
‫والقرآن ذي الذكر ( و ) ص ( كما قلت لكم من قبل إشارة إلى إعجاز هذا‬
‫القرآن ‪ ،‬بمعنى أن هذا القرآن يملك من الحيوية مثلما يملك النسان من‬
‫الحيوية ‪ ،‬وأنه في العجاز كدللة النسان على صنع الله المعجز ‪ ،‬وأن هذا‬
‫الحرف المفرد من حروف المعجم هو الذي تأّلف منه الكلم القرآني الذي‬
‫دى الله به النس والجن وقال ) ل يأتون‬ ‫أعجز البلغاء والفصحاء ‪ ،‬والذي تح ّ‬
‫ض ظهيرا ً ( لماذا ؟ لن التأليف غير التأليف ‪،‬‬‫بمثله ولو كان بعضهم لبع ٍ‬
‫فالحروف المفردة في أوائل السور من حروف اللغة العربية التي نؤلف بها‬
‫كلمنا ‪ ،‬ولكننا في الواقع نؤلف الكلم فل يكون عليه هذه الطلوة ول هذا‬
‫الرونق ‪ ،‬لماذا ؟ لن الفرق بين صنعة الله وصنعة النسان ‪ ،‬ونحن اتفقنا أن‬
‫نحلل الجسم البشري تحليل ً كامل ً ‪ ،‬ونحن قادرون على أن نعطي نسبا ً دقيقة‬
‫وصحيحة لكل ما في جسم النساني من عناصر ‪ ،‬ومع ذلك فلو أتيح لنا أن‬
‫نخرج من المعمل كيانا ً في صورة النسان فهل هذا إنسان ؟ ل ‪ ،‬ضربت لكم‬
‫سابقا ً النفخ فقلت لكم إن الله تعالى قال ) فإذا سويته ونفخت فيه من‬
‫روحي فقعوا له ساجدين ( يعني أن خلق آدم مّر بمرحلتين ‪ ،‬الولى هي‬
‫التسوية أي جعله مخلوقا ً متساويا ً على الشكل المقبول الذي عليه الن ‪،‬‬
‫ولكنه في هذا الحالة لم يستحق السجود ‪ ،‬فقال ) فإذا سويته ونفخت فيه‬
‫من روحي فقعوا له ساجدين ( فاستحق الكرامة وسجود الملئكة له بماذا ؟‬
‫بالنفخة اللهية ‪ ،‬فبمثل هذه النفخة اللهية التي كّرمت ابن آدم وجعلته معجزا ً‬
‫كل منه كلم‬ ‫ش ّ‬‫في خلق الله نفخة الله تعالى في هذا الحرف المفرد الذي ُ‬
‫الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وإذا ً فحرف صاد بمفرده يشير إليك أنك قد تملك العنصر‬
‫الذي يترتب منه الكلم ولكنك ل تملك القدرة على أن تأتي بمثل هذا القرآن‬
‫المعجز ‪.‬‬
‫) ص والقرآن ذي الذكر ( يعني الذي يذكر الناس ‪ ،‬الوعاء الذي حوى كل‬
‫شيء يذكر الناس بالله واليوم الخر ‪ ،‬ويلفت نظره إلى ما يعطيه الخير في‬
‫الدنيا والخرة ‪ ) ،‬بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( ماذا ينتج الكفر ؟ عزة‬
‫وشقاقا ً ‪ ،‬والعزة ما هي ؟ العزة هي التصور أنك في مركز منيع ل تستطيع‬
‫قوة أن تنالك فيه ‪ ،‬ولهذا قالت العرب ‪ :‬من عّز بّز ‪ .‬يعني من عّز غلب ‪،‬‬
‫فالعزة هي تصور الناس أنهم في موقف ل ُيغلبون معه ول يقهرون ‪ ،‬وماذا‬
‫ينسج عن تطورٍ من هذا القبيل ؟ الشقاق والنزاع والتفرق والختلف ‪ ،‬منذ‬
‫ت تسمع وحتى‬ ‫بدايات القرن الثامن عشر وبداية تشكل الدول القومية كن َ‬
‫الن ‪ ،‬وفي بلدنا أيضا ً مع أن الموضة سقطت ‪ ،‬ونحن على العادة لسخافة‬
‫عقولنا ولسوء اختيار لنفسنا نلتقط قمامة الفكار والزياء التي يتخلى عنها‬
‫ت تسمع دوما ً ألمانيا فوق‬ ‫أصحابها ‪ ،‬حينما بدأت الدعوة القومية من أوروبا كن َ‬
‫الجميع ‪ ،‬إيطاليا فوق الجميع ‪ ،‬فرنسا فوق الجميع ‪ ،‬هولندة فوق الجميع ‪،‬‬
‫روسيا فوق الجميع ‪ ...‬فمن هو فوق الجميع ؟ من الذي بقي تحت الغربال ‪،‬‬
‫إذا كان الكل فوق الجميع ‪ ،‬لماذا ينتج شيء من هذا القبيل ؟ لماذا تبرز‬

‫‪82‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ظواهر من هذا القبيل ؟ إن الكفر أول ما يعطيك استكبارا ً ورؤية أنك فوق‬
‫القوانين وفوق أن تخضع للوامر والنواهي فأنت وحدك عالم مستقل لك‬
‫ذاتك التي ل يمكن أن تخضع أو تذل لمر ل من فوق ول من تحت ‪ ،‬وهذا أول‬
‫الشقاق ‪ ،‬فكانت من نتيجة ذلك الشيء الذي ل بد منه شقاق ونزاع وحروب‬
‫ودماء تسير بالمليين وإلى الن ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫فالذين كفروا الذين تحدثت عنهم سورة القمر وهي تعرض نماذج منهم‬
‫جاءت سورة ) ص ( لتكشف منذ البداية عن العلة التي أوصلتهم إلى أن‬
‫يكونوا مهزومين حكما ً قانونا ً ل يتخلف ‪ ،‬إن الكفر بمجرده هزيمة ‪ ،‬لن الكفر‬
‫له نتائج ‪ ،‬ونتائجه الستكبار في الرض ‪ ،‬والستكبار في الرض فساد عريض‬
‫وشر مستطير ‪ ،‬ونتائجه الشقاق المستمر ‪ ،‬وإذا ً فالمجتمع الكافر مجتمع‬
‫ملغوم يمكن أن ينفجر في كل لحظة ‪ ،‬لكن فتيل البارود التي تشعل هذا‬
‫البرميل ستفجره وستبدد هذا المجتمع المتداعي المهترء ‪ ،‬وجود القوة‬
‫المؤمنة التي تشير بأصبعها إلى الطريق إلى الله وإلى طريقه المستقيم ‪،‬‬
‫هذا شرط يجب أن يعرفه المسلمون ‪ ،‬وقد أبرزته فاتحة سورة ) ص ( ‪.‬‬
‫) ص والقرآن ذي الذكر ‪ ،‬بل الذين كفروا في عزة وشقاق ‪ ،‬كم أهلكنا من‬
‫قبلهم من قرن فنادوا ول حين مناص ( وجاءت بعد ذلك اليات التي تتحدث‬
‫عن بعض الحتجاجات على بعض النبوات كيف أنهم ) عجبوا أن جاءهم منذر‬
‫منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ( لست بصدد عرض بداية السورة‬
‫ولكن أريد أن أقول إن الله تعالى حين فرغ من عرض فاتحة السورة قال‬
‫) اصبر على ما يقولون ( والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ) واذكر‬
‫عبدنا داوود ذا اليدي إنه أواب ( وينتهي من قصص داوود ‪ ،‬ويقول ) ووهبنا‬
‫لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب ( وينتهي من قصص سليمان ‪ ،‬ويقول‬
‫) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ( وينتهي‬
‫من قصص أيوب ‪ ،‬ويقول ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولو‬
‫اليدي والبصار ‪ ،‬إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ‪ ،‬وإنهم عندنا لمن‬
‫ل من الخيار (‬ ‫فين الخيار ‪ ،‬واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وك ٌ‬
‫المصط َ‬
‫ً‬
‫ونقف هنا وقفة صغيرة لنقول ‪ ،‬في سورة القمر كان النتباه مشدودا إلى‬
‫عواقب المكذبين من المم لكي ترعوي المة العربية التي كذبت محمدا ً‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬في سورة ) ق ( كان النتباه مشدودا ً إلى أنبياء‬
‫ل رفيع ‪ ،‬فكان‬ ‫وليس إلى أقوام ‪ ،‬أنبياء وضعهم الله بحكم النبوة في أفق عا ٍ‬
‫منهم في بعض الحايين ما يعتري الطبع البشري من هبوط بعض الشيء‬
‫فعاقبهم وعاتبهم الله وهو عقاب وعتاب ليس من باب الزلة التي هي من‬
‫َ‬
‫زلت الحاد وإنما هي من باب سيئات المقربين حسنات البرار ‪ .‬هؤلء ُيطلب‬
‫منهم أن يحاسبوا دائما ً على المستوى الرفيع الذي وضعهم الله جل وعل‬
‫فيه ‪ ،‬وبعد ذلك فكل الدعاة إلى الله جل وعل من غير النبياء على قدم‬
‫النبياء ‪ ،‬أراد الله تعالى منهم أمرا ً ‪ ،‬فحين يعملون وحين يرون من المجتمع‬
‫إعراضا ً وحين يبطء عليهم النصر وحين تصد عنهم وتنغلق عليهم القلوب‬
‫ليس لهم أبدا ً أن يفتشوا عن العلل في ثنايا المجتمع ‪ ،‬لن المجتمع أمانة في‬
‫أعناقهم ‪ ،‬بل عليهم أن يفتشوا في أعماق قلوبهم ‪ .‬حين وصف الله هؤلء‬
‫الخيار قال عنهم ‪ ) :‬إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ‪ ،‬وإنهم عندنا لمن‬
‫فين الخيار ( وظني أن الكثير منكم ل يدركون بحكم النشأة اللغوية‬ ‫المصط َ‬

‫‪83‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫للسف معرفة ما يعنيه هذا التركيب ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ( ما‬
‫معنى أخلصناهم ؟ أخلصناهم معناها جعلناهم خالصين لنا ‪ ،‬وما هي الخالصة‬
‫الخرى ؟ هي الخصلة الخالصة المخلصة من شوائب الدنيا ‪ ،‬ما هي هذه‬
‫الخلصة المخلصة من شوائب الدنيا ؟ هي ذكرى الدار ‪ ،‬وإذا ً فالمعنى يكون ‪:‬‬
‫إنا اصطفيناهم على علم منا بهم من حيث أنهم تمّيزوا بخصلة خالصة هي‬
‫فوق كل الخصال وهي أنهم دائما ً يذكرون الله واليوم الخر ‪ ،‬دائما ً يذكرون‬
‫الدار الخرة ‪.‬‬
‫وإذا ً فبداية السورة وما جاء من قصص فيها يعطينا انطباعا بأن الله يريد أن‬
‫ً‬
‫يضع أمام نبيه صلى الله عليه وسلم أنموذجات من حياة النبياء الذين مضوا ‪،‬‬
‫عاشوا بليا وعاشوا محنا ً وعاشوا كوارث ‪ ،‬وأراد الله لهم أن يبقوا كذلك دون‬
‫أن يتضعضعوا ودون أن يستيئسوا ‪ ،‬ولهذا كانت فاتحة الكلم بالنسبة له أن‬
‫يقال له ) اصبر على ما يقولون ( تلك طبيعة الحياة ‪ ،‬وهؤلء هم الناس ول‬
‫حيلة في تغيير طبائع الناس ‪ ،‬والحل أول ً وآخرا ً في الستمرار والمصابرة‬
‫على العمل وفي الصبر على سيئات الناس ‪.‬‬
‫جل الخطى في سورة ) ص ( ولكن بدا لي في‬ ‫أحسب أنني كنت أريد أن أع ّ‬
‫المس وأنا أستعرض في ذهني جوانب السورة أنني سوف أسمح لنفسي‬
‫بالوقوف مطول ً إلى حد ٍ ما عند السورة ‪ .‬الكلم الذي قلته الن فيما أتصور‬
‫يكفي في كشف الجو العام الذي تتحرك من خلله آيات سورة صاد ‪ ،‬أطلب‬
‫إليكم جميعا ً أن تقرأوا السورة مرة ومرات لنستعد ّ للسابيع القادمة في‬
‫تناول السورة ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ..‬والحمد لله رب‬
‫العالمين‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة العراف‬


‫الجمعة ‪ 29‬ربيع الخر ‪ 7 / 1398‬نيسان ‪1978‬‬
‫)‪(2‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فمع السورة الثامنة والثلثين ) سورة العراف ( ومع الحلقة الثانية من‬
‫أحاديثنا حول هذه السورة ‪ُ ،‬أوثر وأحب أن أستمر اليوم في حدود نهج‬
‫الجمعة الماضية في صورة من صور التعامل مع نصوص كتاب الله جل وعل ‪،‬‬
‫وإنما يدفعني إلى ذلك حرصي الكبير على أن تكون بين يدي الخوة من‬
‫شباب أمتنا الكريمة طرائق منتجة في التعامل مع نصوص السلم تضع‬
‫ل اسمه‬ ‫النسان إن شاء الله تعالى على أبواب فهم أفضل لكلم الله ج ّ‬
‫وكلم نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وفي الجمعة الماضية أدرنا الحديث كله حول جزء من الية التي افتتحت بها‬
‫السورة الكريمة بعد الحروف المقطعة ‪ ) ..‬بسم الرحمن الرحيم ‪ ،‬المص ‪،‬‬
‫كتاب ُأنزل إليك ( استغرق حديثنا في الجمعة الماضية ما اقتضى أن يقال‬
‫حول هذا المقطع وحسب ‪ .‬وفي الدرب ذاته أواصل اليوم نفس المنهج وعلى‬
‫أسلوب آخر ‪ ،‬فقد ينبغي أن ل يسقط من ذهن أحد من الخوة أن هذا الكتاب‬
‫ُأنزل من الله ليدّبروا آياته وليتذكر أولو اللباب ‪ ،‬والتدّبر عمل ‪ ،‬صحيح أن‬

‫‪84‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫جزءه الهم يتصل بالذهن ولكن بالرد إلى حديثنا في الجمعة الماضية فقد‬
‫ينبغي أن يكون واضحا ً أن أي فهم ل يتصل بالتفاعل مع صيرورة الحياة‬
‫ومسيرة الحركة ومع التعامل اليومي المباشر فهو فهم أبتر وناقص ‪ ،‬وتدّبر‬
‫دخله التحّيف على كل حال ‪.‬‬
‫ُ‬
‫نواصل الية ‪ ،‬وأطلب مزيدا ً من النتباه ‪ ) ..‬كتاب أنزل إليك فل يكن في‬
‫صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( قلت لكم سابقا ً إن الحرج هو‬
‫المشقة ‪ ،‬وذلك هو المفهوم الظاهر من المادة بتقاليبها المختلفة ‪ ،‬تدل على‬
‫المشقة والضيق واللم وما في هذا الباب ‪ .‬وألفت انتباهكم إلى ضرورة‬
‫المقارنة بين الطلبات القرآنية ‪ ،‬فهنا طلب بصيغة النهي موجه إلى النبي‬
‫الكريم عليه الصلة والسلم ) ل يكن في صدرك حرج منه ( يعني من هذا‬
‫ت من قراءة الية الكريمة واجهك طلب آخر ) اتبعوا ما‬ ‫الكتاب ‪ ،‬فإذا فرغ َ‬
‫ُأنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء قليل ما تذكرون ( فهنا طلب‬
‫ً‬
‫جاء بصيغة المر ‪ ،‬لكن ليس موجها ً بصورة مباشرة إلى شخص النبي الكريم‬
‫عليه الصلة والسلم ولكنه موجه إلى الكافة ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم‬
‫( وبالنظر إلى مدلول اللفظتين ‪ ،‬مرة أخرى أحب أو أؤكد على ضرورة‬
‫النتباه حرصا ً على الفائدة ‪ ،‬بالنظر إلى مدلول الصيغتين أو اللفظين نكتشف‬
‫فوارق ) ل يكن في صدرك حرج منه ( ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ( مع‬
‫حسبان الفارق بين الصيغة الموجهة بصورة مباشرة إلى رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم والصيغة الموجهة إلى الكافة فثمة فارق يحتويه اللفظ ‪،‬‬
‫موضوع نفي الحرج موضوع داخلي ووجداني وجواني ‪ ،‬الحرج حالة نفسية‬
‫تعتري النسان ربما يؤدي الفعل وهو يجد هذا الكره الذي يسكن في القلب‬
‫للفعل فهو يؤديه صورته الظاهرة تامة ‪ ،‬لكن سنده الباطن مختلف ‪.‬‬
‫) اتبعوا ( أيضا ً صورة ظاهرة ‪ ،‬فالتباع هو النقياد ‪ ،‬تقول ‪ :‬اتبع هذا الطريق ‪،‬‬
‫ت إليه‬
‫فتجد النسان المخاطب المأمور يدرج على هذا الطريق الذي أشر َ‬
‫ت إليه أن يتبعه ‪ ،‬لكن ما علمك بدخيلة نفسك ؟ أهو ينفذ أمرك بالرضى‬ ‫وطلب َ‬
‫الكامل والطمأنينة التامة والنشراح اللزم ؟ أم هو يأتي بظاهر العمل على‬
‫كره وعلى غير انشراح ؟ ذلك أمر ل علقة له باللفظ مطلقا ً ‪ ،‬وإذا ً فثمة فرق‬
‫دم النسان على الفعل وهو منشرح الصدر ل يجد في فعله حرجا ً‬ ‫ق ِ‬
‫بين أن ي ُ ْ‬
‫ول عنتا ً ول ضيقا ول ألما ول شيء مما في هذا المعنى ‪ ،‬وبين أن يؤدى الفعل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على استكراه وضيق ومشقة وتقزز ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫نرجع مرة أخرى إلى اللفظ ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كلم موجه إلى‬
‫النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬هل ُيتصور أن امرأ في مكانة محمد عليه الصلة‬
‫والسلم من ربه ومن دينه وشرعه وفي موضع القدوة بالنسبة لخلقه أن ينفذ‬
‫أوامر الله وهو كاره ؟ ما أتصور ‪ .‬في حديث شق الصدر يتناجى المَلكان كما‬
‫يروي النبي عليه الصلة والسلم يقول أحدهما للخر ‪ :‬أهو نائم ؟ فيجيبه‬
‫الخر ‪ :‬العين نائمة والقلب يقظان ‪ .‬وفي حديث عائشة رضي الله عنها يقول‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ :‬يا عائشة إنه تنام عيناي ول ينام قلبي ‪ .‬في حديث‬
‫الصحابة الذين جاءوا يسألون في أبيات رسول الله عن عبادته عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬فلما ُأخبروا بها كأنهم تقاّلوها ‪ ،‬أي وجدوها قليلة فقالوا ‪ :‬وأين نحن‬
‫من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ يخاطبهم عليه‬
‫الصلة والسلم بقوله ‪ :‬والله إني لعرفكم بالله وأشدكم له خشية ‪ .‬وأحدنا‬

‫‪85‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يرى سحابة مقبلة فيستبشر وينتظر هطول الغيث ويقول مقالة الغافلين ) إنه‬
‫عارض ممطرنا( ولكن النبي عليه الصلة والسلم كان إذا هبت الريح‬
‫ون‬‫واضطربت عوامل الطبيعة أكثر الدخول والخروج وأكثر القيام والقعود وتل ّ‬
‫ذب‬ ‫وجهه الشريف فإذا سئل قال ‪ :‬ما يدريني أن يكون هذا عذابا ً فإن الله ع ّ‬
‫ذب أقواما ً بالريح ‪.‬‬
‫أقواما ً بالمطر وع ّ‬
‫امرؤ هذه صلته بالله وهذا هو اندماجه بالمل العلى وهذا هو مبلغ عرفانه‬
‫ور بتاتا ً أن ينفذ ما أراد الله‬‫بقدرة القادر المهيمن الغالب الذي ل ُيغالب ل ُيتص َ‬
‫ً‬
‫منه وهو يجد ظل ً من الحرج في ذاته الشريفة ‪ .‬وإذا فل بد أن يكون لهذا‬
‫اللفظ وجه آخر ‪ .‬لننظر كذلك ‪ ،‬الصيغة هنا لحظوها ) ل يكن في صدرك‬
‫حرج منه ( خطاب لمحمد عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وهو خطاب فيه عنف وفيه‬
‫عنفوان ‪ ،‬لحظوا أنماط المخاطبات مع النبي عليه الصلة والسلم إزاء‬
‫أخطاء ولنتجوز ولنسمها أخطاًء ‪ ،‬إن الله جل وعل حينما أخذ عليه الصلة‬
‫والسلم الفداء من أسرى بدر في أول معركة حقيقية مع أعداء الله تعالى‬
‫كان ذلك مغايرا ً لمقتدى الحكمة الربانية ‪ ،‬والله جل وعل ل يحابي ‪ ،‬فما لبث‬
‫أن أنزل قرآنا ً ُيتلى إلى أن تقوم الساعة ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى‬
‫حتى يثخن في الرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الخرة ( لحظوا ‪ ،‬لم‬
‫يتجه العتاب واللوم بصورة مباشرة إلى شخص الحبيب المصطفى عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،‬وإنما جاء بهذه الصياغة اللطيفة ‪ ،‬عتب الحبيب على‬
‫الحبيب ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى ( لم ُيفتتح الكلم بأمر ول بنهي ‪،‬‬
‫وإنما بخبر أن النبياء شأنهم أل يكون لهم أسرى في أول معركة حتى يثخنوا‬
‫في العدو وحتى يوقعوا الرهبة في قلب العدو ‪ ،‬وبإذاك حينما تستمكن رهبة‬
‫الله ورهبة رسوله ورهبة المؤمنين من قلوب العداء فل بأس بأخذ السرى‬
‫وأخذ الفداء ‪ ،‬وهل انتهى المر عند هذا العتب المهذب اللطيف ؟ ل ‪،‬‬
‫) تريدون عرض الدنيا ( لم يوجه الكلم بتة إلى شخص النبي عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬وكأنه ينصب مباشرة على هؤلء الذين شدوا وثاق السرى‬
‫صرف اللفظ بتة عن شخص النبي صلى الله عليه‬ ‫وأسروهم من الجيش ‪ ،‬و ُ‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫وارين والجبناء من المنافقين أن‬ ‫في غزوة تبوك حينما استأذن بعض الخ ّ‬
‫يرجعوا إلى أهاليهم وهي غزوة عسيرة وتحتاج أن يتحرك كل قادر ليوقع‬
‫الرعب في قلوب العداء ‪ ،‬لم يكن العتاب بهذه الصياغة التي تشعر أن ثمة‬
‫رعودا ً وبروقا ً تجلجل من وراء الكلم ‪ ،‬وإنما افتتح الكلم بهذا اللفظ اللطيف‬
‫دم العفو أول ً ثم سأله هذا السؤال اللطيف )‬ ‫م أذنت لهم ( ق ّ‬ ‫) عفا الله عنك ل َ‬
‫لم أذنت لهم ( ‪ .‬في الخطابات التي جاءت مفتتحة بالنهي على غرار ما هو‬
‫وارد في فواتح هذه السورة ‪ ،‬الخطاب الوارد بالنهي ) بل ( حينما مات‬
‫عبدالله بن أبي كبير المنافقين والذي جّرح رسول الله عليه السلم والذي‬
‫كان يعمل على تحزيب الحزاب والذي والذي ‪ ،‬حينما مات وتقدم النبي عليه‬
‫ل‬
‫الصلة والسلم فصلى عليه جاءه المر الجازم من الله جل وعل ) ول تص ِ‬
‫على أحد مات منهم أبدا ً ول تقم على قبره ( كلم مفتتح بل الناهية ‪ ،‬يحمل‬
‫المر الجازم ‪ ،‬ولكن أمعن النظر في الصياغة ‪ ،‬إن الله حينما يقول لنبيه ) ول‬
‫ل على أحد منهم مات أبدا ً ول تقم على قبره ( تستشف فورا ً أن‬ ‫تص ِ‬
‫المقصود بذلك أن ينزه هذا المقام الكريم ‪ ،‬مقام النبوة أن يصلي على كبير‬
‫النافقين ‪ ،‬وإذا ً فالنهي ل ينصب أساسا ً على شخص النبي عليه الصلة‬
‫والسلم لمجرد النهي ‪ ،‬وإنما ليرفع مقام النبوة فوق أن يتقدم نبي كريم من‬
‫أولي العزم ليصلي على منافق من المنافقين ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫لكن هنا المر يختلف ‪ ،‬كل الصياغات التي تلوتها عليكم مما تضمن مخاطبات‬
‫ت على نحو ما‬ ‫من قبل الله مع رسوله الحبيب عليه الصلة والسلم لم تأ ِ‬
‫جاءت هنا ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كأنما يشعر النسان بهذه الجفوة‬
‫التي يتضمنها اللفظ ‪ ،‬كأنما يريد أن يستقر في وهم القارئ أو السامع أن‬
‫فذ مرادات‬ ‫الرسول عليه الصلة والسلم يمكن ولو من باب التوهم أن ين ّ‬
‫الخالق تبارك اسمه وهو كاره لهذه المرادات ‪ ،‬كيف ؟ في الجمعة الماضية‬
‫قلت لكم يحسن لكي يستقيم فهم سورة العراف أن ترجعوا بالقراءة إلى‬
‫سورتي القمر وصاد اللتين سبقتا في النزول هذه السورة الكريمة ‪.‬‬
‫ص في سورة القمر‬ ‫لمحة خاطفة نلقيها الن ‪ ،‬نحن نجد أن الله تعالى اقت ّ‬
‫وفي سورة صاد وفي سورة العراف قصصا ً من قصص النبياء مع أممهم‬
‫جل للوقفة التي سأقفها‬ ‫السابقة قبل أمتنا المسلمة هذه ‪ ،‬ولكن وبدون تع ّ‬
‫بإذن مع مدلولت القصص القرآني في مختلف السور ل بد أن ألفت انتباهكم‬
‫وأنعش ذاكرتكم فيما يختص بهذه القصص ‪ .‬في سورة القمر كل القصص‬
‫التي وردت جاءت تثبيتا ً وتطمينا ً للنبي الكريم إل أن ظواهر الكنود والجحود‬
‫ومظاهر العداء والصد والنفور والتنكيل والتعذيب ليس شيئا ً مستغربا ً ‪ ،‬ذلك‬
‫شأن كل أمة مع نبيها ‪ ،‬عتت وتمردت ورفضت النصياع لمر الله تعالى ‪،‬‬
‫لكن العاقبة مقررة ‪ .‬كما تشرق الشمس من المشرق لتغيب في المغرب‬
‫كذلك قانونا ً مقدورا ً ل بد أن يتغّلب الحق ولكن بشروطه المعروفة طبعا ً‬
‫والمعروضة بكتاب الله ‪.‬‬
‫والباطل مهما استشرى وتمادى في العناد ل بد أن ينهار ‪ ،‬لن الباطل في‬
‫ذاته يحمل جراثيم الفناء والموت ‪ ،‬ذلك أمر ل ريب فيه ‪ .‬فإذا جئنا إلى سورة‬
‫صاد وهي السورة التي جاءت بعد سورة القمر مباشرة وألقينا النظرة‬
‫العجلى على قصص القرآن نجد القصص القرآني ينحو في التقرير نحوا ً‬
‫جديدا ً ‪ ،‬إن القرآني في سورة صاد استعرض وقائع نبيين معينين آخذهم الله‬
‫لهفوات بسيطة ) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورا المحراب إذ دخلوا على داود‬
‫ففزع منهم قالوا ل تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق‬
‫ول تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة‬
‫ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعّزني في الخطاب ( انتهى عرض الخصومة‬
‫من قبل عرض واحد ‪ ،‬داوود نبي وخليفة الله تعالى في أرضه سمع من‬
‫طرف واحد فما لبث أن قال ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن‬
‫كثيرا ً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات‬
‫وقليل ما هم ( هنا انتهى نطق داوود عليه السلم بالحكم باعتباره قاضيا ً من‬
‫حيث هو خليفة الله في أرضه ‪ .‬لكن داوود بالصلة الموصولة بينه وبين الله‬
‫تعالى أدرك الخطأ ) وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب (‬
‫وجاءه التوجيه اللهي ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض ( ما مقتضاها‬
‫) فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين‬
‫م ُأخذ‬ ‫يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحياب ( هنا ب َ‬
‫داوود عليه السلم ؟ بقطع النظر عن تخبيص كثير من المفسرين الذين‬
‫اعتمدوا الدسائس السرائيلية نجد المر واضح ‪ ،‬داوود عليه السلم من حيث‬
‫ض سمع من طرف واحد وكان الواجب أن يترّيث فل ُيصدر الحكم حتى‬ ‫قا ٍ‬
‫يسمع الطرف الخر ‪ ،‬فقد يكون هذا ألحن بحجته من أخيه فيقضي له على‬
‫نحوٍ مما سمع ‪ ،‬وهذا هو الذي حصل ‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ومقام النبوة ل يحتمل مثل هذه الهفوات ‪ ،‬وكذلك بقية القصص التي جاءت‬
‫في سورة صاد ‪ ،‬جات لتضع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في‬
‫وسط المعركة المحتدمة بينه وبين المشركين والتي تثير كل خلية في جسم‬
‫النسان ‪ ،‬وكل هاجس في خاطر النسان باللم والمرارة ‪ ،‬ألم النسان الذي‬
‫يعرف الطريق حق المعرفة ‪ ،‬ويعرف أيضا ً أن هؤلء ينكبون عن الطريق‬
‫الصحيح عن عمد وعن اصرار ‪ ،‬ألم كاسح ‪ ،‬ولكن مقام النبوة مقام النيابة‬
‫عن الله ل يحتمل هذه النظرات المجزوءة المحدود بحدود الزمان والمكان ‪،‬‬
‫بل يجب أن يكون النبي متجاوبا ً عن الضمير الكوني كله ومنسجما ً مع الرادة‬
‫فه الذين ل يستيقنون ‪ ،‬هذا الدرس‬ ‫اللهية التامة ‪ .‬ولهذا فعليه أن ل يستخ ّ‬
‫العظيم هو الذي كان زبدة قصص النبياء في سورة صاد ‪ ،‬إننا حين نحاول أن‬
‫سر لنا مراد الله‬
‫نعقد الحبل من طرفين بين سورة صاد وسور العراف يتف ّ‬
‫تعالى من قوله ) ل يكن في صدرك حرج منه ( لماذا ؟‬

‫)‪(3 /‬‬

‫أول ً ‪ :‬لننا ما نزال ضمن الفق العالي الذي وضع الله نبيه عليه الصلة‬
‫والسلم كمثل ما وضع إخوانه النبياء صلوات الله عليهم ‪ .‬ثانيا ً ‪ :‬لننا بعد ُ ما‬
‫نزال ضمن المعركة إياها ‪ ..‬جماهير كثيفة ل ينقصها العقل ول الدراك ‪ ،‬بل‬
‫جل حكما ً على أن الجاهليين‬ ‫لها أحلم راجحة ‪ ،‬وليس صحيحا ً أن نصدر بتع ّ‬
‫غير عقلء ‪ ،‬ل ‪ ،‬في مقاييس ذلك الزمان كانت أحلمهم تزن الجبال رجاحة‬
‫بدون شك ‪ ،‬ولكن المسألة تحتاج إلى نمط معين من الرجال ُيصاغ وُيصنع ‪ ،‬ل‬
‫بد ‪ ،‬في الحياة الجتماعية كما في الحياة المادية سواء بسواء قانون الفعل‬
‫ورد ّ الفعل نافذ ‪ ،‬كل فعل يقابله رد ّ فعل يتسق معه من حيث شموله ومداه ‪.‬‬
‫والنسان حينما يوجه الدعوة فيقابل بالعنف وبالتكذيب والتهامات الباطلة‬
‫فيجب أن ل يسقط من بالنا أنه بشر ‪ ،‬ولكن في اللحظات الحرجة ل بد من‬
‫وجود نماذج معينة من الناس ‪ ،‬لحظات النحدار والهبوط المريع تحتاج إلى‬
‫عمالقة بكل معنى الكلمة ‪ ،‬في كلمتي الشاملة التي تحدثت إليكم بها في‬
‫الجمعة قبل الماضية قلت لكم ‪ :‬إننا يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ‪ ،‬إن‬
‫طريق النبياء ليس بالطبع هو الطريق الذي نحن فيه ‪ ،‬لماذا ؟ إن الحياة‬
‫الجتماعية تفرض على الناس أنماطا ً معينة من السلوك ‪ ،‬مرة دون أن أشعر‬
‫بأية ضغوط تسيطر علي ‪ ،‬لكني حينما أكون في جماعة يتغير الموقف‬
‫فأتصرف على نحو آخر وأفكر على نحو آخر ‪ ،‬للحياة الجتماعية ثقلها‬
‫المعروف ‪ ،‬لها ضغوطها الملموسة التي يدركها كل إنسان في حياته اليومية‬
‫بل في كل دقيقة من دقائق الحياة ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫الحياة الجتماعية باختصار قائمة على قانون الخذ والعطاء ‪ ،‬إنك حينما تقبل‬
‫الدخول في مجتمع فأنت تقبل ذلك لما يحققه لك كونك في المجتمع من‬
‫مزايا وفوائد ‪ ،‬ولما يقدمه لك هذا المجتمع من حماية ‪ ،‬وإذا ً فأنت لقاء المزايا‬
‫والفوائد ولقاء الحماية التي تأخذها من مجتمعك الذي تعيش فيه تتنازل‬
‫وتغضي عن أمور كثيرة ‪ ،‬لول أنك مستفيد من مجتمعك الذي تعيش فيه ‪،‬‬
‫ولول أنك مفتقر إلى الحماية التي يقدمها إليك هذا المجتمع ‪ ،‬ما كنت تقبل‬
‫بها بحال من الحوال ‪ ،‬تصرفاتنا عند التحليل النهائي ترتد إلى هذه القاعدة ‪،‬‬

‫‪88‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫نحن بفعل اللف وبفعل الستمرار ألفنا هذا الشيء المر أول ً يتم ضمن‬
‫ساحة الشعوب ‪ ،‬ولكنه مع التكرار يتم خارج ساحة هذه الشعوب ‪ ،‬ولهذا‬
‫فنحن نتصرف ل شعوريا ً مغضين عن كثير من الواجبات ‪ ،‬مسقطين حساب‬
‫كثير من التبعات ‪ ،‬لماذا ؟ تحت ضغط هذا الشيء الذي يفرضه قانون‬
‫المجتمع ‪ ،‬لكن ما نتيجة ذلك ؟ إن طاحونة المجتمع سوف تسحق كل شيء‬
‫من حيث النتيجة ‪ ،‬النبياء في الواقع رفضوا الدخول في هذه اللعبة ‪ ،‬لم‬
‫يقبلوها رفضوها بدءا ً كما رفضوها نهاية ‪ ،‬إنهم ل يريدون من الناس شيئا ‪،‬‬
‫ً‬
‫المزايا التي يوفرها كون النسان في مجتمع ل يريدها النبياء ‪ ،‬وهذه الدنيا‬
‫بلغ ‪ ،‬ول تستحق أبدا ً أن يضحي النسان من أجلها بالمثل ول بالقيم بتاتا ً ‪،‬‬
‫لماذا ؟ ما الذي يلزمك بذلك ؟ إن محمد عليه الصلة والسلم هاجر من مكة‬
‫إلى المدينة ‪ ،‬كان تحت الخوف والرعب وتحت التشريد والتطريد فجاء إلى‬
‫المدينة بيت الستقرار ‪ ،‬كان مضمونا ً أن يستريح إلى بيت واسع نظيف عالي‬
‫الشرفات ‪ ،‬ذلك هو المألوف والمعروف ‪ ،‬ولقد أراد الصحاب رضي الله‬
‫عنهم بحبهم لنبيهم عليه الصلة والسلم أن يشيدوا له أفضل بناء ممكن في‬
‫ذلك الزمان ‪ ،‬ولكنه قال لهم هذه القالة التي هي شعار النبياء عامة ‪ :‬المر‬
‫أعجل من ذلك ‪ ،‬إنكم تبنون الن لي بيتا ً ولكني سأموت قبل أن يتهدم‬
‫البيت ‪ ،‬المر أعجل من ذلك ‪ ،‬إنما مثلي ومثل هذه الدنيا كمثل راكب في‬
‫فلء استظل بظل شجرة ثم تركها ومضى ‪ .‬هذه هي الحياة الدنيا ‪ ،‬لحظة من‬
‫زمان ‪ ،‬خطرة من منام ‪ ،‬ثم ينتهي كل شيء ‪ .‬وإذا ً فهي ل تستحق بتاتا ً أن‬
‫يضحى من أجلها بشيء ‪ .‬جيئ برجل من سلفنا الصالح رضي الله عنهم إلى‬
‫أحد الخلفاء مما حملوا هذا القب زورا ً وبهتاتا ً ومن غير استحقاق ‪ ،‬وقال له ‪:‬‬
‫يا فلن لماذا ل تزورنا ‪ ،‬لماذا ل تنتفع بدنيانا ؟ فقال له ‪ :‬يا عبد الله إن الله‬
‫جل وعل يقول مخاطبا ً نبيه عليه الصلة والسلم ) قل متاع الدنيا قليل‬
‫والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون فتيل ً ( وإن النبي عليه الصلة والسلم‬
‫يقول ‪ :‬لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا ً شربة‬
‫ماء ‪ .‬فانظر رحمك الله ما الذي عندك من هذه الدنيا منذ أن خلق الله خلق‬
‫وبرء النسم وإلى أن تقوم الساعة ‪ ،‬ثم انظر رحمك الله قدر هذا الذي تعطيه‬
‫من هذه الدنيا ‪ ،‬ثم انظر أين يقع من هذا القليل الذي قال الله عنه ) قل‬
‫متاع الدنيا قليل ( وإذا ً فالحياة الدنيا في ذهنية النبياء عليهم الصلة والسلم‬
‫ليست شيئا ً أن يضحي من أجلها بالمثل وبالقيم العالية وبالمصالح البشرية ‪،‬‬
‫ولهذا فالنبياء جميعا ً رفضوا ابتداًء أن يكونوا مستفيدين من هذه الحماية التي‬
‫يقدمها المجتمع ‪ ،‬رفضوا أن يكونوا مستفيدين من هذه المزايا التي يقدمها‬
‫المجتمع ‪ ،‬وأعلنوا بكل صراحة وبكل وضوح ) قل ما أسألكم عليه من أجر (‬
‫ت ليكثر التباع من حوله ‪ ،‬ذلك شأن الفاقين وقطاع الطرق‬ ‫إن النبي لم يأ ِ‬
‫من الزعماء الذين يستجدون تصفيق الناس وتهليلهم وتطبيلهم وتزميرهم ‪،‬‬
‫وأما النبياء فإنهم يقولون إن ما عند الله خير وإن هذه الظواهر التي يظهرها‬
‫التباع للمتبوعين ظواهر خداعة ومضللة لنها ستنقلب حتما ً إلى تلعن وإلى‬
‫تباغض وإلى تبرء الخلء يومئذ بعضهم لبعضهم عدو إل المتقين ‪ ،‬وسترون‬
‫في سورة العراف مزيدا ً من التقرير لهذه الفكرة ومن النبي الذي خرج من‬
‫هذه الدنيا وهو يملك منها شيء ومحمد عليه الصلة والسلم كان يغشى عليه‬
‫حين النزع فيفيق فإذا أفاق قال ‪ :‬ما صنعتم بالذهب ؟ يقصد ما عنده من‬
‫المال في بيته ‪ ،‬فكانوا يقولون له ‪ :‬هو في البيت ‪ .‬فيقول ‪ :‬فرقوه ‪ .‬فلما‬
‫أفاق مرة سأل السؤال فقالوا له ‪ :‬أنفقناه يا رسول الله ‪ .‬قال ‪ :‬الحمد لله ل‬
‫عذر لمحمد عند ربه إذا لقي الله وعنده هذا الذهب ‪ .‬إنه جاء للدنيا من أجل‬

‫‪89‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ذلك فهو من أجل ذلك ل يشعر أنه مدين لحد بصورة باتة ‪ ،‬وإن المن‬
‫والفضل لله تباراك وتعالى ) يمنون عليكم أن أسلموا قل ل تمنوا علي‬
‫إسلمكم بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى اليمان إن كنتم صادقين ( هذا‬
‫النموذج الفذ من الرجال الذين ل يريدون علوا ً في الرض ول فسادا ً والذين‬
‫يرفضون أي مزية يقدمها إليهم انخراطهم في المجتمع ‪ ،‬والذين يرفضون أية‬
‫حماية يقدمها إليهم المجتمع لنهم يعتزون بالله ‪ ..‬هؤلء هم الفئة الوحيدة‬
‫المؤثرة والتي تلوي زمام التاريخ لتأخذ القافلة النسانية‬

‫)‪(5 /‬‬

‫طريقا ً جديدا ً ‪ ،‬لكن هؤلء ل بد أن يكونوا مصوغين على طراز خاص ثمت‬
‫قانون واحد يحكم هذا الكون برمته هو إرادة الله النافذة في الصغير وفي‬
‫الكبير ‪ ،‬النسجام مع هذا القانون مع المشيئة اللهية المطلقة دون تردد دون‬
‫المحاولة عليها ‪ ،‬ذاك شأن النبياء وشأن المصلحين الذين يتركون الثار البينة‬
‫الواضحة على مسيرة التاريخ البشري هم الذين ينفذون أمر الله جل وعل‬
‫راغبين راضين طائعين ‪ .‬ولكن أولئك الذين يساقون في طريق الحق ‪ ،‬أولئك‬
‫الذين ُيدفعون في ذلك الطريق بالسياط بل وركل ً بالقدام لن يكونوا نافعين‬
‫في المراحل الولى من مراحل البناء ‪.‬‬
‫فهناك فرق ما بين الصياغتين ) فل يكن في صدرك حرج منه ( وهو خطاب‬
‫إلى المثل العلى محمد عليه الصلة والسلم ‪ ،‬والخطاب الذي وجه في الية‬
‫التي تليها ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( هل نستطيع أن نتصور أن‬
‫اكتساب هذه الحالة من الطواعية ‪ ،‬اكتساب هذه الحالة من الشفافية ‪،‬‬
‫اكتساب هذه الحالة من التفاعل الحر بين النسان وبين القانون اللهي‬
‫المطلق يمكن أن يتم بالتأمل النظري ؟ أبدا ً هذه القضية يجب أن تكون‬
‫واضحة ابتداًء ‪ .‬كثيرا ً ما يأتيك إنسان ل يحسن في هذه الدنيا إل الكلم‬
‫فيناقشك في أمور الدين من صلحية هذا المبدأ ومدى قدرة هذه القاعدة‬
‫على الفعل والنجاز ‪ ..‬يا أخانا بل يا إخواننا إن ثمت لكل أمر جانبين ‪ :‬جانبه‬
‫العقلني النظري وجانبه العملي ‪ ،‬وليس ميسورا ً ل نظريا ً ول عمليا ً أن يفصل‬
‫بين الجانبين ‪ ،‬إن الله يقول ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( والله سبحانه تعالى‬
‫بّين لنا أن وضع النسان نفسه في الطريق هو الذي ينير له الطريق ولهذا‬
‫كان ل بد أن يكون الخطاب ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ل بد أول ً من‬
‫أن تضع نفسك في كليتها ضمن الطريق الذي رسمته آيات الكتاب الكريم ‪،‬‬
‫هذا شيء ل بد منه بحال من الحوال وأنت مع الزمن تكتسب شيئا ً فشيئا ً‬
‫خبرة إلى خبرة تجربة إلى تجربة قناعة إلى قناعة ‪ ،‬سوف تكتسب هذه‬
‫الخاصية التي تجعلك تنفذ أمر الله جل وعل من غير حرج لماذا ؟ في مبادئ‬
‫الناس وفي أنظمة الدميين يمشي النسان ويعمل والنسان ويترك النسان‬
‫وفي ذهنه مصالح قد تتحقق وقد تتخلف فإذا تحققت فرح ‪ ،‬وإذا تخلفت‬
‫سخط ‪ ،‬ولكنه ضمن قوانين الله وضمن شرائع السلم التي أحاطت بمصالح‬
‫الفراد والجماعات عموما ً يمشي النسان وهو في غمرة العمل يكشف آنا ً‬
‫بعد آن ويوما ً بعد يوم أنه من حيث اليمان ازداد وأنه من حيث الفكر اتسع‬
‫وأنه من حيث الخلق ازداد طهرا ً ونقاًء وأنه من حيث الرفاه اكتسب‬
‫بالتعاون مع إخوانه حماية حقيقية ليست كتلك الحماية التي تقدمها‬
‫ً‬
‫المجتمعات المجرمة اليوم ‪ ..‬أعطني صوتك لعطيك لقمة الخبز ‪ ،‬أبدا إنها‬
‫الحماية التي تقول لك أن تعيش ذلك حقك ل يناقشك فيه مناقش ول يدفعه‬

‫‪90‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عنك ‪ ،‬أنت تعارض الحاكم ولكنك إن كنت اليوم رجل ً في مجتمعات الجاهلية‬
‫الحديثة فقف أمام حاكم من هؤلء الحكام لترى أن أول شيء يغلق فمك‬
‫وفم أولدك ‪ ،‬إن الحماية التي تقدمها المجتمعات الزائفة اليوم حماية‬
‫مضللة ‪ ،‬لكن الحماية الحقيقية هي التي يقدمها مجتمع السلم ‪ .‬جاء رجل‬
‫ت أنت قاتل ضرار بن‬ ‫بعد حروب اليمامة إلى عمر فقال له عمر ‪ :‬ألس َ‬
‫الخطاب ؟ قال ‪ :‬نعم يا أمير المؤمنين أنا قتلت أخاك ‪ .‬قال عمر ‪ :‬والله ل‬
‫أحبك ‪ .‬قال ‪ :‬يا أمير المؤمنين أذلك ينقصني من حقي شيئا ً ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ذلك‬
‫شيء وهذا شيء آخر ‪ ،‬هذه عاطفة شخصية ‪ ،‬أنت قاتل أخي ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫حقك ‪ .‬قال له ‪ :‬إذا ً ل بأس إنما يأسى على الحب النساء ‪ .‬إن أحببتني أو لم‬
‫تحبني ل فرق ول أهتم لذلك ‪ ،‬المهم أنك ل تتزحزح عن قاعدة السلم ‪.‬‬
‫إذا ً فمع غمرة العمل ومع مسيرة النضال ومع تحقق المكاسب الحقة يوما ً‬
‫بعد يوم يشعر الفرد المسلم وتشعر الجماعة المسلمة أنها في ظلل الله‬
‫جل وعل تتحرك وتتصرف ل بسائق التباع ولكن انتهاًء في هذه الروح التي‬
‫تقدم باتجاه العمل ول تشعر بآية حرج ‪ .‬هذه الصياغة هذا التصور هو الذي‬
‫أوجد النماذج العاملة ‪ ،‬كان محمد عليه الصلة والسلم كذلك ولم يكن قول‬
‫الله له ـ والله أعلم ـ ) فل يكن في صدرك حرج منه ( إل خطاب للمة‬
‫لشخص عظيم لم يكن إل كذلك فيما أظن ‪ ،‬وبعد التحليل الذي قلته لكم الن‬
‫ولكن مع الزمن رأيتم أبا بكر ورأيتم عمر ورأيتم عثمان ورأيتم عليا ً ورأيتم‬
‫مالكا ً ورأيتم الشافعي وأحمد وأبا حنيفة ورأيتم عبدالله بن المبارك وسفيان‬
‫الثوري والحارس المحاسبي إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي ل تنتهي من‬
‫الرجال العظام الذين يقومون اليوم كما قاموا بالمس وسيقومون أبد الدهر‬
‫شاهدا ً ل ينقضي على قدرة هذا الدين على أن يقدم وباستمرار للنسانية‬
‫النماذج التي تنفع في ساعات الشدة وتفعل عند الزمات ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫ذلك هو مدلول قول الله جل وعل والحصيلة النهائية لقوله تبارك اسمه‬
‫) كتاب أنزل إليه فل يكن في صدرك حرج منه ( يجب أن تتحرك بملء‬
‫الحرية ‪ ،‬الحرية التي تسكن في داخلك لتنشأ المجتمع الحر ‪ ،‬كما قلت لكم‬
‫من قبل إن مجتمع السلم الذي يتألف من الرجال والنساء الحرار الذين ل‬
‫يشعرون بأي ضغط ول بأي إكراه ويندفعون قدما ً في طريق الغاية التي‬
‫حددها الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫ل أعتقد أيها الخوة الحبة أنني لن أعود إلى هذا السلوب من التعامل مع‬
‫نص القرآن فقد يكفي ما ذكرت لكم في هذه الجمعة الماضية ليكون نموذجا ً‬
‫بأسلوب معين من التدبر والفهم لكتاب الله جل وعل ‪ ،‬وأنا شديد المل‬
‫وعظيم الرجاء في أن تنتفوا في زيادة المعان والتدبر مع المقارنات ‪ .‬وألفت‬
‫أنظاركم إلى أمر أساسي إن أي نظر في كتاب الله يغفل قاعدة الكلية‬
‫والشمول سيكون نظرا ً مختل ً بل سيكون نظرا ً مضلل ً إن القرآن يجب أن‬
‫ينظر إليه في كليته لنه جسم واحد فل تستطيع أن تنظر إلى يدك وأنت‬
‫تغفل رأسك ‪ ،‬إن أعضاءك تتعاون كلها لتشكل دفة الحياة التي تتحرك به ‪،‬‬
‫كذلك آيات الله المبثوثة في سور القرآن المجموعة بين دفتين المصحف لو‬
‫أنك أخذت آية معينة وأردت أن تفهمها مفصولة عن غيرها فلن تصل إلى‬
‫نتيجة ‪ ،‬ل بد أن يكون أمامك دائما ً أن تنظر إلى القرآن في شموله وفي‬
‫كليته ستجد أن الفهم وأن الفكار تتدفق أمامك كالنهر الذي تصطخب أواذيه‬

‫‪91‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وأمواجه ‪ .‬فاعملوا على أن يكون فهمكم للقرآن كذلك ‪.‬‬


‫أقول لكم اليوم ما نسيته في الجمعة الماضية ‪ ،‬وعدناكم منذ أسبوعين أن‬
‫نعود إن شاء الله إلى الدروس التي قطعناها بعد نتهاء رمضان الفائت أعلن‬
‫لكم الن أننا بحول الله عازمون بعد اليوم واعتبارا ً من يوم الثلثاء القادم‬
‫بالتعاون مع الخ الكريم أبي محمد الشيخ عبد القادر على القيام بدروس‬
‫معينة في الجامع الوسط بين المغرب والعشاء يوم الثلثاء ويوم الجمعة بعد‬
‫صلة المغرب مباشرة ‪ ،‬فمن شاء أن يفيد من هذه الفرصة فنحن سنكون‬
‫مسرورين إن شاء الله إذا استطعنا أن نقدم لخواننا أية مساعدة طبعا ً على‬
‫صعيد القضايا السلمية مذكرا ً على أن الدروس على الصيغة المعهودة واحد‬
‫يقرأ أو يتكلم والباقي ينصتون ‪ ،‬شيء قل ما ينفع ‪ .‬اعملوا على أن تكون‬
‫الدروس ميدانا ً للمحاورة للحوار من كان عنده شيء ليسأل ول يتحرج‬
‫بالنسبة إلي لو أن أحدكم رد علي وأنا على المنبر فل بأس ‪ ،‬لقول شيء‬
‫وأكون في غاية السعادة وغاية السرور وكذلك في الدرس سواًء اعطوا‬
‫الدروس هذه الحيوية المطلوبة التي تشعر بالمشاركة الفعلية بين الذي‬
‫يعطي الدرس وبين الذي يستمع الدرس ‪.‬‬
‫أسأل الله جل وعل أن يردنا جميعا ً إلى سواء السبيل وأن يضعنا على مراشد‬
‫المور وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وآصحابه أجمعين والحمد لله‬
‫رب العالمين‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة العراف‬


‫الجمعة ‪ 7‬جمادى الولى ‪ 14 / 1398‬نيسان ‪1978‬‬
‫)‪(3‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فمع فواتح سورة العراف نواصل السير مستعينين بالله تبارك وتعالى ‪ ،‬ومن‬
‫غير مزيد من الشروح نريد أن نقطع شوطا ً مناسبا ً في السورة الكريمة ‪.‬‬
‫يقول الله تبارك وتقدس ) بسم الله الرحمن الرحيم ‪ ،‬المص ‪ ،‬كتاب ُأنزل‬
‫إليك فل يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ‪ ،‬اتبعوا ما ُأنزل‬
‫إليكم من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء قليل ً ما تذكرون ‪ ،‬وكم من قرية‬
‫أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا ً أو هم قائلون ‪ ،‬فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا‬
‫إل أن قالوا إنا كنا ظالمين ‪ ،‬فلنسألن الذين ُأرسل إليهم ولنسألن المرسلين ‪،‬‬
‫فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ‪ ،‬والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه‬
‫فأولئك هم المفلحون ‪ ،‬ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما‬
‫در إن شاء الله تعالى أن جملة المعاني المبثوثة في‬ ‫ُ‬
‫كانوا بآياتنا يظلمون ( وأق ّ‬
‫هذا المقطع الذي تلوناه الن واضحة في أذهان معظمكم ‪ ،‬فقد يشبه أن‬
‫تكون هذه اليات الوجيزة قد ّلخصت بصورة بارعة غاية في البراعة محتويات‬
‫السورة بعامة ‪ ،‬كما سوف يتضح لكم بإذن الله من خلل متابعة أحاديثنا عن‬
‫هذه السورة الكريمة ‪ .‬وما سبق من حديث عن جزء من الية الولى بعد‬
‫الحروف المقطعة ل داعي إلى تكراره إن شاء الله ‪ ،‬ولكن التذكير بعموده‬
‫الفقري ضروري ‪ ،‬من أجل تماسك أجزاء الصورة التي نريد أن نبرزها كاملة‬
‫سر لنا ذلك اليوم ‪.‬‬
‫إذا تي ّ‬

‫‪92‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فقوله تعالى ) كتاب ُأنزل إليك ( يشعر بتحميل رسول الله عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬وتحميل المؤمنين معه والذين سيأتون من بعد ‪ ،‬فيؤمنون بما أنزل‬
‫إليهم من ربهم مسؤولية البلغ وإيصال الدعوة إلى من لم تصل إليهم هذه‬
‫الدعوة ‪ ،‬وتصحيح مفاهيم المؤمنين إذا تراكمت عبر العصور المتعاقبة‬
‫اجتهادات خاطئة وتفسيرات مضللة ‪ ،‬تشوه نضارة السلم ‪ ،‬وذلك منتزع من‬
‫استعمال حرف تحدثنا عنه وهو حرف الجر ) إلى ( لن هذا الحرف يفيد‬
‫النتقال من الذات إلى الموضوع ‪ ،‬من الداخل إلى الخارج ‪ ،‬ثم ترون أن ما‬
‫فت‬‫جاء بعد ذلك من كلم في الية ذاتها ‪ ،‬وفي اليات التي وليتها قرائن ‪ ،‬احت ّ‬
‫بالقضية فجعلت مهمة المسلم هي أن يفهم وأن يعلم وأن يبلغ وأن يعّلم ‪،‬‬
‫ضمن شرائط أشارت إليها هؤلء اليات بصورةٍ غاية في العجاز ‪.‬‬
‫) كتاب أنزل إليك فل يكن في صدرك حرج منه ( يعني من هذا الكتاب ‪ ،‬لكن‬
‫لماذا ؟ ) لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( وإذا ً فنحن في الصورة أمام جانبين ‪،‬‬
‫جانب يتناول ضرورة طرد جميع أحاسيس الحرج والضيق واللم التي يحس‬
‫بها النسان عادة ً وطبعا ً حينما يواجه مجتمعا ً ما بما يغاير معتقداته ‪ ،‬وبما‬
‫يصادم عوائده وأعرافه ‪ ،‬لن هذا يؤكد ضرورةً أن الداعي إلى الجديد يشعر‬
‫أنه يعيش في وسط غريب عليه ‪ ،‬ويعيش أيضا ً في وسط يعاديه ‪ .‬وهو من‬
‫حيث هو بشر حزمة من الحاسيس ‪ ،‬كتلة من المشاعر ‪ ،‬ل بد أن يألم ول بد‬
‫أن يضيق ذرعا ً بهذه الظواهر التي يصادفها أثناء طريقه وهو يدعو الناس إلى‬
‫الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫في الجمعة الماضية فصلت لكم فرق ما بين المرين ) فل يكن في صدرك‬
‫حرج منه ( وبين قول الله أيضا ً خطابا ً للكافة ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‬
‫( وأوضحت لكم أن الحرص على اقتلع عوامل الحرج واللم والضيق من‬
‫نفس النبي عليه الصلة والسلم شيء يشبه أل يكون موجها ً إلى ذاته‬
‫شح لما ستكون عليه حال المؤمنين من بعد ‪ ،‬لن‬ ‫الكريمة ‪ ،‬ولكن هو مر ّ‬
‫موضوع نفي الحرج بصورة باتة أمر باطل ‪ ،‬يعني يوجب أن يحصل على‬
‫النسان على هذا السلم الداخلي والطمئنان المطلق في الداخل وفي‬
‫القلب وفي الحس وفي الشعور وفي الدراك وفي العقل ‪ ،‬إل أنه يعيش‬
‫متوازنا ً ومتناغما ً ‪ ،‬ل يشعر أن كل الشياء الخطأ التي تعيش خارج نفسه‬
‫يمكن أن تترك أي انعكاس على داخل نفسه لتشوش عليه حاضره ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫والمعروف عن النبي عليه الصلة والسلم المقطوع به أنه لم يكن ذلك‬


‫س بشيء من هذا الحرج ‪ .‬بعد أن انقضت المرحلة‬ ‫النسان الذي يمكن أن يح ّ‬
‫المكية وأذن الله تعالى لنبيه عليه الصلة والسلم بالهجرة إلى المدينة خرج‬
‫النبي عليه الصلة والسلم مستخفيا ً ‪ ،‬طبعا ً هو إنسان مطلوب ‪ ،‬وضعت‬
‫قريش جائزة ضخمة مائة ناقة ‪ ،‬شيء كبير في مقاييس القتصاد لذلك‬
‫الزمان ‪ ،‬لمن يأتيهم بمحمد عليه السلم حيا ً أو ميتا ً ‪ .‬فخرج مستخفيا ً يصحبه‬
‫ديق ) ثاني اثنين إذ هما في الغار ( ليس المهم أن نتتبع خطى المسيرة‬ ‫الص ّ‬
‫الكريمة العظيمة التي غّيرت وجه الدنيا ‪ ،‬وغّيرت من صياغة النسان ‪ ،‬وإنما‬
‫المهم أن نقف مستطلعين متأملين بل خاشعين أمام موقف ‪ ،‬حينما لحق‬
‫سراقة بن مالك بالنبي عليه الصلة والسلم في طريق هجرته طامعا ً‬
‫بالجائزة الكبيرة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بالرسول عليه السلم ‪ ،‬وتبّين‬
‫لبي بكر سواد سراقة قاصدا ً إياهم أخذه رضي الله عنه شيء كثير من الروع‬

‫‪93‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ ،‬أصبح يمشي تارة عن يمين النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وتارة عن يساره ‪،‬‬
‫وتارة من خلفه ‪ ،‬وأخرى من أمامه ‪ ،‬ل يكاد يستقر خوف الطلب ‪ ،‬ل على‬
‫شخص ‪ ،‬ولكن على شخص الحبيب الغالي محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬هو‬
‫يعرف حقد قريش ‪ ،‬ويعرف مبلغ شراسة هذا الحقد ‪ ،‬ويعرف المصير المقرر‬
‫الذي سيكون فيما لو وقع عليه الصلة والسلم بين أيدي قريش ‪.‬‬
‫هذا موقف أبي بكر وهو أكمل المة إيمانا ً بعد نبيه صلى الله عليه وسلم‬
‫ن إيمان أبي بكر بإيمان‬ ‫بشهادة النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬إذ يقول ‪ :‬لو وُزِ َ‬
‫ديق‬‫المة ل رجح إيمان أبي بكر ‪ .‬تلك خصيصة من الله اختص الله بها الص ّ‬
‫رضوان الله عليه ‪ ،‬ومع ذلك كان بهذا الشكل ‪ .‬انظر إلى الصورة الخرى ‪،‬‬
‫صورة الهارب المطلوب محمد عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ولنترك الحديث‬
‫لسراقة ‪ ،‬يقول ‪ :‬جئت أشتد ‪ ،‬يعني يعنف على فرسه لكي تلحق بالهارب‬
‫المطلوب ‪ ،‬ومع ذلك فالنبي عليه الصلة والسلم ل يلتفت حتى اقترب منه ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فسمع صوته وهو يقرأ القرآن ويدعو الله تبارك وتعالى ‪ ،‬ومع ذلك لم‬
‫يلتفت إليه أبدا ً ‪ ،‬أين أنت ؟ بيد الله ‪ .‬سراقة ومحمد وأبو بكر وقريش ومن‬
‫في الرض جميعا ً بيد الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وإذا ً فأية شعرة تهتز في جسد‬
‫النسان بعامل الرعب أو الخوف تؤكد أن ثمة نقصا ً في إيمان النسان ‪ ،‬لم‬
‫سه‬‫ت به فر ُ‬ ‫يكن عليه الصلة والسلم يلتفت إلى سراقة أبدا ً ‪ ،‬حتى إذا ك َب َ ْ‬
‫وأيقن أنه ل سبيل إلى أن يأسر محمدا ً عليه الصلة والسلم ‪ ،‬طلب منه‬
‫المان ‪ ،‬هنا فقط التفت إليه النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ل ليكلفه بمهمات ‪،‬‬
‫ول ول ول وإنما ليقول له هذه القولة المطمئنة التي تتحدث بلسان القدر‬
‫الذي ل سبيل إلى رده ‪ :‬كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري الكسرى بن‬
‫هرمز ؟ عجيب ! إنسان مطلوب ليقتل ‪ ،‬ومع ذلك ل تهتز في جسده شعرة‬
‫واحدة أمام الهول الهائل والخطر القريب ‪ ،‬ثم ل يكتفي بهذا ‪ ،‬وإنما يلتفت‬
‫إلى هذا الذي جاء ليأسره وليبشره ‪ :‬كيف بك إذا لبست سواري الكسرى بن‬
‫هرمز ‪ .‬في الوقت الذي كان كسرى ترتعد لذكر اسمه فرائص العرب‬
‫جميعا ً ‪ ،‬وأفضل العرب مقاما ً وخيرهم دارا ً هو ذلك الذي يحظى يوما ً من‬
‫اليام بنظرة من كسرى ‪.‬‬
‫ي الحرج من القرآن موجه لشخص النبي‬ ‫ور أن طلب نف ّ‬‫بذلك ل يمكن أن ُيتص ّ‬
‫ً‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ ،‬بل موجه إلى المة اعتبارا لما سوف يكون ‪ ،‬لكن‬
‫كيف يكون هذا ؟ إن النسانية في طريقها الطويل شهدت أشياء كثيرة ‪،‬‬
‫شهدت فلسفة وشهدت مفكرين وشهدت مصلحين ‪ ،‬وشهدت ثورات‬
‫وشهدت كل شيء ‪ ،‬لم يبقَ شيء لم يجّرب ‪ ،‬وما ُيظن أنه إنتاج حديث‬
‫وبدعة حديثة فغلط ‪ ،‬يكشف عن جهل القائلين بجملة التاريخ الحضاري لهذه‬
‫البشرية المعذبة ‪ ،‬كل ما ترونه الن موجود مثله في الماضي حذو النعل‬
‫بالنعل ‪ ،‬لم يتغير شيء ‪ ،‬شهدت النسانية أشياء من هذا القبيل ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫خر ‪ ،‬ورأيناها تذهب أدراج الرياح ‪ ،‬ولو ذهبت بهذا الشكل لذهبت‬ ‫رأيناها تتب ّ‬
‫مشيعة غير مأسوف عليها ‪ ،‬ولكنها ذهبت بأضاحي مليين من النفس أزهقت‬
‫من غير ذنب ‪ ،‬أنهار من الدماء جرت ل لسبب معقول ووجيه ‪ ،‬إمكانات‬
‫ُأهدرت ‪ ،‬لو ُوظفت توظيفا ً صحيحا ً لكان الداء النساني أكمل ‪ ،‬ولكانت‬
‫الثمرة البشرية أنضج ‪ ،‬ولكان الناس اليوم في مستوى إنساني أرقى ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪94‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لماذا ذهبت ؟ لن الناس يميلون إلى أن يتخففوا من عبء العمل ‪ ،‬افهم ‪ ،‬ما‬
‫كل إنسان يطيق تكاليف العمل ‪ ،‬ل ‪ ،‬نخدع أنفسنا كثيرا ً إذا قلنا إن الناس‬
‫جميعا ً عندهم الستعداد لن يخوضوا غمرات العمل ‪ ،‬نحن الن هنا في‬
‫ف أقدامنا بين يدي الله راكعين ساجدين يبدوا أننا‬ ‫المسجد مسلمون ‪ ،‬نص ّ‬
‫خاشعون والعلم عند الله ‪ ،‬ومع ذلك ومع عرفاننا جميعا ً بأن إسلمنا في خطر‬
‫‪ ،‬وبأن ديننا في حرب شرسة ‪ ،‬وبأن وجودنا كله يستهدف للضياع ‪ .‬فنحن‬
‫حدوا جهودكم ‪ ،‬كّتلوا أنفسكم ‪ ،‬اجمعوا كلمتكم على‬ ‫حينما نصرخ بالناس ‪ :‬و ّ‬
‫ور وتذهب‬ ‫أمر الله تبارك وتعالى ‪ ،‬ترى أن الفرائص ترتعد ‪ .‬هنا يبطل التص ّ‬
‫القناعات ويتبّين أن الكلمة النهائية لحساب سلمة الذات ‪ ،‬نحن نحسب لو‬
‫أنني عملت ضد رغبات المجتمع فلن أكترث بها ‪ ،‬ولو أنني عارضت التيار‬
‫العام واحتقرته ورفضته فما الذي يحصل ؟ إن كنت موظفا ً فسُأطرد من‬
‫وظيفتي ‪ ،‬وإن كنت تاجرا ً فستبور تجارتي ‪ ،‬وإن كنت وجيها ً فسيسقط‬
‫اعتباري وتذهب مكانتي ‪ ،‬وإلى آخر هذه الخدع الشيطانية التي ل نهاية لها ‪.‬‬
‫ك ورقة وقلما ً‬ ‫س ْ‬ ‫يا أخي دعك من السلم ‪ ،‬ودعك من مقررات اليمان ‪ ،‬وأم ِ‬
‫واحسب القضية حساب التاجر الشحيح ‪ ،‬تجد أنك مأكول ‪ ،‬إن لم تؤكل اليوم‬
‫فستؤكل غدا ً ‪ ،‬ومن الخير لك ومن الكرم إليك أن تموت تحت بوارق‬
‫السيوف مدافعا ً عن قضية قامت عليها السماوات والرض ‪ .‬وأما صعودك ‪،‬‬
‫وأما تعلتك هذه فثق تماما ً أنها لن تغنيك شيئا ً ‪ ،‬قد تجعلك تعيش في‬
‫البحبوحة أياما ً وشهورا ً وسنين قلئل ‪ ،‬ولكن ل إلى نهاية ‪ .‬المسلمون في‬
‫دون خمسين أو ستين‬ ‫روسيا ـ مثل ً ـ ول حاجة إلى التاريخ البعيد ‪ ،‬كانوا يع ّ‬
‫ة‬
‫مليون مسلم يعيشون في عز وسلطان وممالك ‪ ،‬ومع ذلك بين عشي ٍ‬
‫وضحاها قامت الثورة الحمراء ‪ ،‬واسألوا الن أين المسلمون في روسيا ؟‬
‫المسلمون في الصين كانوا أسياد الصين ‪ ،‬كانوا أكثر ستين مليونا ً من‬
‫الناس ‪ ،‬وقامت المسيرة الطويلة مسيرة اللف ميل بقيادة ) ماوتس تونغ (‬
‫واسألوا الن أين أصبح المسلمون في الصين ؟ المسلمون في إرتيريا‬
‫مسلمون عرب عرب عرب ‪ ،‬يقال هذا للذين يتشدقون بالعروبة ول يجري‬
‫في عروقهم دم عربي أبدا ً ‪ ،‬عرب مسلمون يذبحون كما تذبح النعاج ‪.‬‬
‫المسلمون في جنوب لبنان تهدم المساجد على رؤوسهم ويذبح الرجال‬
‫والنساء والصبيان من غير تمييز ‪ ،‬ويعتذر الرهبان بأنها مسألة ثأر ‪ ،‬الرهبان‬
‫رجال الدين المسيحي الصدقاء الحلف الخوان الذين يريدون أن يكونوا‬
‫أتباعا ً للرجل العبد المسيح الذي يقول ‪ :‬جئت للقي على الرض سلما ً ‪.‬‬
‫جر الباقون ‪،‬‬ ‫المسلمون في الندلس دولة أمة ُذبح منهم خمسة مليين وهُ ّ‬
‫جر ُأدخل في النصرانية كرها ً ‪ ،‬وإلى الن يتحدث مفكروهم‬ ‫ومن لم يه ّ‬
‫فيقولون ‪ :‬أنا فكتور بن جورج بن كذا بن كذا بن محمد بن عبد الله ‪ ،‬رأيتم ؟‬
‫ت أن القعود‬ ‫ت المر حساب التاجر الشحيح بالورقة والقلم لوجد َ‬ ‫فإذا ً لو حسب َ‬
‫غير منتج ‪ ،‬قد يؤجل الكارثة ‪ ،‬ولكنه لن يلغي الكارثة أبدا ً ‪.‬‬
‫المعلوم أن الحرب منذ أن وجدت النسانية وكما ستكشف لكم سورة‬
‫العراف هذه ‪ ،‬ومنذ أن نفخ الكبر في أنف الشيطان فعادى آدم قائمة‬
‫ومستعرة بين الحق والباطل ‪ ،‬والدنيا هذه ل تتسع للمرين ‪ ،‬ول يمكن أن‬
‫يتعايش الحق والباطل بسلم أبدا ً ‪ ،‬إما للحق وإما للباطل ‪ .‬من أجل ذلك نجد‬
‫أن طلب الله تعالى من المة بشخص النبي عليه الصلة والسلم أن تتقدم‬
‫ل‬‫للعمل بغير حرج أخذ طريقه المنطقي دون أن نغفل الطبيعة البشرية بحا ٍ‬
‫من الحوال ‪.‬‬
‫جاء الخطاب أول ً للنبي عليه الصلة والسلم ترشيحا ً للمستقبل ) فل يكن في‬

‫‪95‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫صدرك حرج منه ( ثم جاء من بعد خطابا ً للكافة ) اتبعوا ما أنزل إليكم من‬
‫ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء ( لماذا ؟ قلت لكم في الجمعة الماضية أن‬
‫هذا الدين ليس ككل شيء ‪ ،‬ربما ذهبت أنا إلى حزب من الحزاب وقدمت‬
‫طلب النتساب وملت الستمارة وُقبلت عضوا ً في الحزب ‪ .‬والتقدم‬
‫والصدارة والمكاسب ل تتوقف على شيء أكثر من التزلف ومسح الجوخ ‪،‬‬
‫بل ل تتوقف على شيء أكثر من سقوط الخلق وإغفال كل معاني الشرف ‪،‬‬
‫هذا ممكن ‪ ،‬لكن في هذا الدين المر يختلف بتاتا ً ‪ .‬هنا كل شيٍء يوزن‬
‫بالميزان الرباني ‪ ،‬فما رجح في الميزان الرباني فمقبول ‪ ،‬وما شالت كفته‬
‫فمرفوض ‪ ،‬فهمتم ؟ ل يمكن أن نضع هذا الدين بمقرارته وقضاياه مع أي‬
‫مبدأ من المبادئ في مجال المقارنة والموازنة ‪ ،‬نحن نريد ـ إسلميا ً ـ أن نعيد‬
‫صياغة الجنس البشري من جديد ‪ ،‬نحن نريد أن نوجد النسان الذي يمتلئ‬
‫بالمشاعر النسانية ‪ ،‬والذي يشعر بآلم الناس وإن كانت في أقصى الرض ‪،‬‬
‫والذي يمشي وفق نهٍج مرسوم فل يتخبط في الظلم ول يسير في التيه ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫هذا الشيء في الكلم هين ‪ ،‬ولكن في العمل صعب ‪ ،‬ولما كان في العمل‬
‫صعبا ً كان ل بد من الممارسة ول بد من التجربة ول بد من الوعي أثناء‬
‫الممارسة وأثناء التجربة واستحضار النتائج أو الغايات التي نريد أن نصل إليها‬
‫كي نجني الثمرة كامل ً ‪ ..‬كيف ؟ دعني أحدثك عن الله وعن وجوده وعن‬
‫الصلة وعن ثمراتها وعن الزكاة وعن فوائدها وعن الصوم وعن حكمه وعن‬
‫أسراره وعن أخلقيات السلم وما أشبه إلى ما ل نهاية ‪ ،‬إنك ل تستطيع أن‬
‫تستفيد من هذا الكلم كما تستفيد من فريضة واحدة تصليها في المسجد‬
‫وفي جماعة لنك حينئذ في غمرة العمل في صلب الممارسة تشعر بالمعاني‬
‫التي ل تستطيع أن تعّبر عنها ‪ .‬إذا ً فل بد من أجل اكتساب غايات السلم‬
‫وأهدافه ‪ ،‬واكتساب طرائق السلم الصحيحة من أن تضع نفسك في غمرة‬
‫جه للكافة في الية‬ ‫العمل ‪ ،‬هذا شيء ل بد منه ‪ ،‬ولهذا كان الخطاب المو ّ‬
‫الخرى ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ( اتبع ‪ ،‬ل بد أن تتبع ‪ ،‬أما متى يحصل‬
‫لك هذا الطمئنان ؟ متى تكتسب هذه النفسية السليمة التي تشعر بالمن‬
‫والطمأنينة وبالثقة من الطريق ومن غاية الطريق فذلك يأتيك أثناء العمل ‪،‬‬
‫أعيدكم إلى واقع السلم ‪ ،‬إن المسلمين خوطبوا بهذا الكلم ) اتبعوا ما أنزل‬
‫إليكم من ربكم ( ولكن هؤلء المسلمين بالعمل ‪ ،‬بالليالي الطويلة التي‬
‫قضوها واقفين بين يدي الله يرتلون كلمه متأملين متدبرين ‪ ،‬بالمواجهات‬
‫اليومية لمؤامرات المشركين ‪ ،‬بالصبر الطويل الرائع الذي قدموها بين يدي‬
‫اللم وصنوف العذاب ‪ ،‬وصلوا إلى المرحلة التي أرادها الله ‪ُ ،‬وجدت النماذج‬
‫النسانية التي تقوم الن حجة على الخلق ‪ُ ،‬وجد أصحاب رسول الله ‪ ،‬هؤلء‬
‫الذين قال الله عنهم ) فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم‬
‫ل يجدوا في أنفسهم حرجا ً مما قضيت ويسلموا تسليما ً ( إن الثلث عشرة‬
‫سنة التي ُقضيت في غمرة العذاب المؤلم المّر ‪ ،‬وفي مواجهات الصعاب‬
‫المستحكمة ‪ ،‬وفي مقارعة شراسة قريش ‪ ،‬لم تذهب عبثا ً ‪ ،‬غنها أوجدت‬
‫ُأنموذجات الكبيرة التي استعدت فعل ً لتلقي أوامر الله دون مناقشة ودون‬
‫جدل ‪.‬‬
‫في حادثة تحريم الخمر حينما جاء رجل فأخبر بعض الصحاب وهم في‬
‫مجلسهم وهم يشربون الخمر أن الله أنزل في الخمر قرآنا ً وتل عليهم قول‬

‫‪96‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الله تعالى ) إنما يريد الشيطان أو يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر‬
‫والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلة فهل أنتم منتهون ( كان منهم من‬
‫يمسك الكأس بيده ‪ ،‬ومنهم من يدنيها من شفتيه فما فرغ القارئ من قراءة‬
‫الية حتى أسقط الجميع ما في أيديهم قائلين ‪ :‬انتهينا يا رب ‪.‬‬
‫هذا الستعداد لتلقي المر اللهي ووضعه موضع التنفيذ فورا ً دون مناقشة‬
‫ودون تحايل ودون محاولة تبرير ل معنى له ول سند لها من القيم ول سند لها‬
‫من الخلق هي الشيء الذي حصل المسلمون عليه نتيجة للمسيرة التي‬
‫قادها الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ .‬لكن هل جاء ذلك عبثا ً ؟ ل ‪ ،‬جاء من‬
‫خلل العمل ‪ ،‬جاء من خلل التباع ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا‬
‫من دونه أولياء قليل ً ما تذكرون ( ‪.‬‬
‫ً‬
‫ل أتصور أنني قادر الن على الفراغ من رسم الصورة جميعا ‪ ،‬لكني أحب أن‬
‫خص لكم شيئا ً أساسيا ً تعرضت إليه من قبل في مناسبات ‪ ،‬لكنا في سورة‬ ‫ُأل ّ‬
‫العراف في مرحلة متقدمة إلى حدٍ بعيد من مراحل الدعوة السلمية ‪،‬‬
‫مرحلة تحتاج إلى هذا النوع من الرجال ‪ ،‬الرجال الذين تسكن الثقة بالله‬
‫أعمق قلوبهم ‪ ،‬والذين تسيطر عليهم فكرة أنهم قادرون على النجاز والفعل‬
‫‪ ..‬يشعرون بقيمتهم الشخصية ويشعرون أنهم يستندون إلى ركن ركين ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫في سورة العراف نحن نواجه هذه المهمة ‪ ،‬كتب الجنرال ديجول بعد‬
‫الحرب العالمية الثانية وبعد أن خاض حرب تحرير فرنسا من اللمان ‪ ،‬كتب‬
‫نبذة شديدة اليحاء وهي ضرورية ‪ ،‬وهي ليست جديدة علينا ‪ ،‬عندنا في‬
‫السلم موجودة ‪ ،‬لكن سبب إيرادي لها هنا هو أن أقول لكم إن الحاجة إليها‬
‫متجددة ‪ ،‬يشعر أن الناس بضرورتها في كل وقت ‪ .‬يقول الجنرال ديجول إنه‬
‫حينما بدأ حرب المقاومة السرية للحتلل اللماني خلل الحرب العالمية‬
‫الثانية وفي منتصف الربعينات كان أهم شيء وأصعب شيء يواجهه هذا‬
‫الرعب الذي يسكن قلب المواطن الفرنسي ‪ ،‬وهذا العجاب المنقطع النظير‬
‫الذي يسكن قلب المواطن الفرنسي تجاه كل ما هو ألماني ‪ ،‬االمواطن‬
‫الفرنسي مثله العلى المواطن اللماني ‪ ،‬المرأة الفرنسية مثلها العلى‬
‫المرأة اللمانية ‪ ،‬الجندي الفرنسي مثله العلى الجندي اللماني ‪ ،‬الضابط‬
‫ت المر عبثا ً بالطبع ‪،‬‬‫الفرنسي مثله العلى الضابط اللماني ‪ ..‬لماذا ؟ لم يأ ِ‬
‫إن فرنسا في كانت في عام ‪ 1939‬عشية الحرب العالمية الثانية تقول ‪ :‬إن‬
‫خط ماشينو ل يمكن اختراقه ‪ ،‬وإن الشعب الفرنسي سليل الثورات ومحطم‬
‫العروش لوروبا وحامل مشعل المدنية للعالم وأبو العقل الحديث ل يمكن أن‬
‫ُيغلب ‪ ،‬ومع ذلك فحين وقعت الحرب العالمية الثانية تحطمت المة الفرنسية‬
‫كأمة وكدولة خلل أربعة عشر يوما ً فقط ‪ ،‬جرى احتلل فرنسا وسقطت‬
‫مدينة باريس بعد أن ُأعلنت مدينة مكشوفة وخرجت فتيات باريس ينثر‬
‫الزهور على الجنود اللمان ‪ ،‬على الجنود الفاتحين ‪ ،‬على الغزاة ‪.‬‬
‫هذه الواقعة يقول ديجول إنها أشد شيء واجهها ‪ ،‬كان محتاجا ً إلى أن يعيد‬
‫إلى النسان الفرنسي ثقته في نفسه ‪ ،‬وقبل ذلك ل فائدة أبدا ً ‪ .‬ما قيمة أن‬
‫تخوض حربا ً وأنت قانع منذ البداية أنك ل يمكن أن تغلب هذه المة ؟ ما قيمة‬
‫هذه الحرب ؟ هذه حرب مقررة النتائج سلفا ً ‪ ،‬كل إنسان شهد حربا ً يعرف‬
‫هذه الحقيقة ‪ ،‬إنك حينما تدخل معركة وأنت على ثقة من أن خصمك ذبابة‬
‫فسوف تنتصر ‪ ،‬ولكنك إذا تصورته بعبعا ً فأنت مهزوم ومن الخير لك أن ل‬

‫‪97‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تخوض الحرب ‪.‬‬


‫وخلل مسيرة طويلة وعناء أطول استطاع ديجول أن يعيد للفرنسيين ثقتهم‬
‫بأنفسهم كأمة ‪ ،‬وأن يعيد لفلول الجيش الفرنسي ثقته بقدرة الجندي‬
‫الفرنسي وقدرة الضابط الفرنسي على مقارعة الجندي اللماني والضابط‬
‫اللماني ‪ ،‬وحصل التحرير ‪.‬‬
‫ولماذا نذهب بعيدا ً ؟ نحن عندنا الواقع الذي عشناه جميعا ً ‪ ،‬قبل عام ‪، 1956‬‬
‫ت ل تستطيع أن تهرب من الحصار المضروب عليك في الصحف الذاعات‬ ‫كن َ‬
‫وأجهزة العلم والدعاوى والنشر والمؤسسات الشعبية ‪ ،‬والمؤسسات‬
‫الشعبية تحدثك عن الظافر والناصر والقاهر وعن القوة التي ل ُتغلب وعن‬
‫أكبر قوة ضاربة في الشرق الوسط وعن وعن ‪ ..‬وقام العدوان الثلثي على‬
‫هزمنا ‪ ،‬بالرغم من أننا ما زلنا نحتفل بالنصر في السويس وفي بور‬ ‫مصر و ُ‬
‫حل في أبو‬ ‫هزمنا‪ ،‬وبالرغم من أن الزعماء كانوا يقولون العدو و ّ‬‫سعيد ُ‬
‫هزمنا ‪ ،‬وذهبنا نبتلع هذه الكاذيب بسخف وببلهة وبقلة عقل ‪،‬‬ ‫ركيلة ‪ ،‬كذب ‪ُ ،‬‬
‫وجاءت ‪ ، 1967‬وللسف تصور أناس كثيرون أن إسرائيل زالت وانتهت ‪ ،‬ولم‬
‫يدرِ المغفلون من أبناء المة أن جيوش العرب جميعا ً خلل ساعتين في‬
‫الفجر تحطمت كلها ‪ ،‬وأننا بقينا مجردين من السلح ‪ .‬وتلك خطة مرسومة‬
‫بذكاء وبألمعية أشهد لها ‪ ،‬ل ُيقصد منها كما يتصور الناس اليوم أن تحقق‬
‫مكاسب على الرض ‪ ،‬ل ‪ ،‬إن الدوائر الستعمارية التي تحركها وتحرك‬
‫إسرائيل ل تهتم بالسويس ول بالضفة الغربية ول بمرتفعات الجولن ‪ ،‬افهموا‬
‫الحقائق ‪ ،‬كونوا أبناء زمانكم يا ناس ‪ .‬إن الدوائر الستعمارية التي ترسم لنا‬
‫وتضعنا ضمن الخطبوط العظيم الكبير الخطير ل تهتم بهذه الصغائر ‪ ،‬إنها‬
‫تهتم بشيء واحد ‪ ،‬هو أن تتحطم ثقتنا بالله وثقتنا بأنفسنا ‪ ،‬وبالفعل فبعد‬
‫‪ 1967‬أصبح كل مواطن في العالم العربي من أوله إلى آخره أن الجندي‬
‫السرائيلي ل ُيغلب ‪ ،‬بل سمعنا في حرب ‪ 1973‬أن الصراع بيننا وبين‬
‫إسرائيل صراع بين العلم والجهل ‪ ،‬نحن كأمة كنا نخوض الحرب بجهل‬
‫وغباء ‪ ،‬وإسرائيل كانت تخوض الحرب بعلم وذكاء ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫المقصود إذا ً أن ُيقضى على هذا الوثوق بقدرة المة على النهوض وعلى‬
‫الفعل وعلى النجاز ‪ ،‬وأن تسكن بدل ذلك هذه الخرافة المزعجة أن الجندي‬
‫السرائيلي ل ُيغلب ‪ ،‬ذلك بأن الصراع كما يجب أن يحدد وكما يجب أن ُيعرف‬
‫فوق كل العتبارات وبالرغم من كل الدعاوى التي ُتطلق الن وتطلق إلى ما‬
‫ل أدري متى ينقضي ذلك من أن الصراع بيننا كعرب وبين اليهود ‪ ،‬أو بيننا‬
‫كدول العالم الثالث وبين المبريالية ‪ ،‬كل هذه أخطاء وأضاليل ينبغي أن ل‬
‫تتكرر ‪ ،‬الصراع كما يجب أن يكون مفهوما ً بين السلم من حيث هو دين قادر‬
‫على تغيير وجه الرض وبين أحلس الباطل جميعا ً ‪ ،‬وإل فخبروني ما الذي‬
‫يجمع اليهودي مع النصراني ؟ مع أن النصراني يعتقد أن اليهود صلبوا المسيح‬
‫‪ ،‬ما الذي يجمع التحاد السوفييتي مع أمريكا في التآمر على المسلمين في‬
‫باكستان وفي الحبشة وإريتيريا ‪ ،‬وفي التآمر على المسلمين في الصومال ‪،‬‬
‫وفي التآمر على المسلمين في لبنان بل وفي كل مكان ؟ ما الذي يجمع‬
‫النصراني واليهودي والبوذي وعابد البقر ‪ ..‬ما الذي يجمع هؤلء جميعا ً على‬
‫المسلمين لول هذا الكره العميق لكل ما هو إسلمي ؟ إن أعداءنا ـ للسف ـ‬
‫يعرفون عن السلم وقدراته أكثر مما نعرف ‪ ،‬إن أعداءنا يدركون جيدا ً أنه‬

‫‪98‬‬
‫ًًً‬
‫ًًً‬
‫ًًً‬
‫ًًً‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫ًًً‬
‫‪http://www.balligho.com‬‬
‫ًًً‬ ‫ً‬
‫ًًً‬
‫ًًً‬
‫للسلم أن يتنفس وأن يأخذ مداه بالفعل فلن تكون الرض هي‬ ‫ًًً‬ ‫حين يتاح‬
‫يكون الناس هم الناس ‪ .‬إن هذا العدوان الخطير على حريات‬ ‫ً‬ ‫الرض ‪ ،‬ولن ًًً‬
‫الناس وأموال الناس وعلى كل ما هو كريم وشريف بين الناس‬ ‫الناس ودماء ًًً‬
‫ًً‬
‫سوف يقضي ًًًًعليه السلم ‪ ،‬إن هذه المسوخ من أصنام القرن العشرين‬
‫ًًً‬
‫بزعماء لن تكون زعماء ‪ ،‬سوف تجد اللص مقطوع اليد ‪ ،‬وستجد‬ ‫التي تسمى ًًً‬
‫الزاني مرجوما ً بحجارته ‪ ،‬وسوف تجد الذي أزهق النفوس مقطوع الرأس‬
‫بالسيف ‪ .‬كل السخف الذي يجري الن وكل الظلم الذي يجري الن لن يكون‬
‫لو ُوجد السلم ‪.‬‬
‫وإن التفوق والسلم المسلح وسياسة العصا الغليظة المفروضة على العالم‬
‫لن يكون لها وجود أبدا ً ‪ ،‬فمن هنا تجدون أن أعداء السلم جميعا ً يختلفون ما‬
‫يختلفون ولكنهم يتفقون علينا ‪ ..‬كيف نستطيع أن نقضي على ذلك ؟ نحن‬
‫بشر ونحن رجال ونحن الن في موقف المانة التي ُنسأل عنها أمام الله‬
‫تبارك وتعالى ‪ .‬أول عدو لنا هو في داخل أنفسنا ‪ ،‬شهواتنا ‪ ،‬حبنا للدنيا ‪،‬‬
‫استنامتنا إليها ‪ ،‬إن النبي عليه الصلة والسلم ذكر ما سيؤول إليه أمر المة‬
‫مع الزمن قال ‪ :‬وليسلطن الله عليكم عدوكم حتى يأخذوا بعض ما في‬
‫بأيديكم ‪ ،‬وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما الوهن يا رسول الله ؟‬
‫قال ‪ :‬حب الدنيا وكراهية الموت ‪ .‬نحن في الواقع نكره الموت ‪ ،‬نحن في‬
‫الواقع نفر من مواطن الكرامة ‪ ،‬نحن في الواقع ننسحب بحرية إرادة غريبة‬
‫من ساحة التاريخ كلها ‪ ،‬علما ً بأن أسلفنا الذين رباهم السلم لم يكونوا‬
‫كذلك بحال ‪ ،‬ألم تسمعوا بحنظلة الغسيل ‪ ،‬تزوج أمس وأصبح في العرس‬
‫ي على الجهاد إلى معركة أحد ‪،‬‬ ‫ونادى منادي رسول الله في الصباح أن ح ّ‬
‫ووجد أن ضيقا ً عليه وأن حرجا ً عليه بأن يتأخر عن تلبية نداء الرسول الكريم‬
‫حتى يغتسل من الجنابة ‪ ،‬فطار إلى الموت وقاتل حتى ُقتل وهو جنب ‪ ،‬فقال‬
‫النبي عليه السلم ‪ :‬إن صاحبكم تغسله الملئكة فسلوا عرسه ‪ ،‬قالت ‪ :‬إن‬
‫النداء أعجله عن الغتسال ‪.‬‬
‫إن المسلمين خاضوا غمرات الموت ولسانهم يردد ‪:‬‬
‫ركضا ً إلى الله بغير زادِ إل التقى وعمل ال َ‬
‫معادِ‬
‫أذلك منفخة ؟ غرور ؟ ل ‪ ،‬ولكن عمل موصول وصبر وطويل وجهاد متصل‬
‫ووقوف مع أمر الله تبارك وتعالى حتى جعلهم ذلك يشعرون فعل ً أنهم أكبر‬
‫من الناس جميعا ً ‪ ،‬وأنهم هم وحدهم ول أحد أبدا ً سواهم المرشحون لعمارة‬
‫الدنيا ‪ ،‬وأنهم هم وحدهم المرشحون لتحرير الناس ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫حينما لقي واحد من الفرس شداد بن الهاد في معارك القادسية قال له ‪ :‬إلى‬
‫أين وماذا أخرجكم ؟ قال ‪ :‬إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد‬
‫إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الديان إلى عدل‬
‫السلم ‪ .‬وحينما لقي بعض قواد الفرس أعرابيا ً مسلما ً من أعراب المسلمين‬
‫عدل ً‬‫قال له ‪ :‬كيف تقاتلون فارس وغاية ما يطمع فيه الواحد منكم أن يأخذ ِ‬
‫من تمر ؟ قال له ‪ :‬يا هذا دعك من هذا الكلم إنك ل تجادل البشر ولكنك‬
‫تجادل القدر ‪ .‬إن المة بلغت هذه المراحل العالية من الوثوق بأنها تترجم‬
‫عن ضمير المستقبل ‪ ،‬وبأنها تتحدث عن الجيال الواعدة التي سوف تأتي ‪.‬‬
‫لذلك شادت وسادت ‪ ،‬وبذلك فقط عزت ‪ ،‬وغاية ما يراد اليوم أن تحطم في‬
‫نفوس هذه المة هذه المعاني الكبيرة ‪ ،‬إن وزير خارجية فرنسا ل يجمجم ول‬

‫‪99‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يداور ول يداهي ‪ ،‬في اجتماع معين للوزارة تحدث متحدثون عن الخطر الذي‬
‫يأتي من الشرق ‪ ،‬تحدث متحدثون عن خطر الشيوعية على فرنسا ‪ ،‬وقام‬
‫سن بنا أن نعرفها ‪ ،‬قال لهم ‪ :‬يا‬‫وزير الخارجية فقال هذه الكلمات التي يح ُ‬
‫ناس ل تصوروا أن علينا خطرا ً من الشرق ‪ ،‬إن التحاد السوفييتي ل يشكل‬
‫بالنسبة لفرنسا ول بالنسبة لوروبا أية خطر ‪ ،‬إن الشيوعية ثمرة من ثمرات‬
‫الحضارة البيزنطية التي ننتمي إليها جميعا ً ‪ ،‬أتريدون أن أدلكم على خطر ؟‬
‫إن الخطر عبر مضيق جبل طارق ‪ ،‬متى عبرتم مضيق جبل طارق ووصلتم‬
‫إلى المغرب العربي وعرفتم هناك المسلمين فهناك الخطر ‪ ،‬الخطر في‬
‫المسلمين وليس في التحاد السوفييتي ‪.‬‬
‫ومنا أعداؤنا ؟ ولكن نحن نظلم أنفسنا ‪ ،‬لننا نجهل للسف‬ ‫أرأيتم كيف يق ّ‬
‫ً‬
‫قيمة أنفسنا ‪ .‬كيف نستعيد معرفة هذه القيمة ؟ بالوقوف طويل مع آيات الله‬
‫تبارك وتعالى ‪ ،‬وبالوثوق من خلل العمل بأننا ضمن دين مختار لم يصنعه‬
‫زعيم من الزعماء ‪ ،‬ولم تولده إرادة من إرادات البشر ‪ ،‬وإنما أنزله الله الذي‬
‫يعلمه الخبء في السماوات والرض ‪ ،‬وأننا من أجل ذلك حماة النسانية‬
‫وحراس حاضرها ومستقبلها ‪ ،‬وأولى الناس جميعا ً بأن نكون القّيمين على‬
‫الفضائل ‪ ،‬والمحافظين على المثل ‪ ،‬والرافعين لراية الحق ‪ ،‬والمعدلة بين‬
‫الناس ‪ .‬ذلك كلم يقال الن ‪ ،‬ولكنه في التطبيق شيء عسير للغاية ‪ ،‬عسير‬
‫لماذا ؟ لننا بعد ُ لم نلمس حقيقة السلم ‪.‬‬
‫نحن الن نتحدث عن نظام رأسمالي ‪ ،‬ونتحدث عن نظام اشتراكي ‪ ،‬ونتحدث‬
‫عن نظام شيوعي ‪ ،‬ونتحدث عن أخلقيات غربية ‪ ،‬ونتحدث عن أخلق‬
‫ماركسية ‪ ،‬ونتحدث عن أشياء ل أدري ماذا أقول عنها ‪ ،‬لكني ألفت أنظار‬
‫الخوة ول سيما المثقفين الذين يتابعون على القل بعض إنتاج العصر الحاضر‬
‫في ديار الغرب ‪ ،‬إن كبار المفكرين يدينون المدنية الحاضرة ‪ ،‬ويقولون إنها‬
‫شاخت وإنها مريضة وإنها تدفع إلى الجنون وتدفع للنتحار ‪ .‬والنسانية اليوم‬
‫وصلت مرحلة ل أدري ماذا أقول عنها ‪ ،‬ولكن مجنونا ً واحدا ً تتحرك في نفسه‬
‫نزوة شاذة فيضغط على زر من الزرار كفيل بأن يدمر وجه الرض كلها ‪ .‬إن‬
‫النسانية اليوم تئن تحت أسواط العذاب ‪ ،‬ليس لها إل الله وأنتم ‪ ،‬ليس لها‬
‫إل الله والمسلمون ‪ ،‬إن الموازين طاشت ‪ ،‬وإن المسلمين مدعوون اليوم‬
‫بأن يعيدوا المور إلى مجالها الطبيعي ‪ .‬ولكن ما لم يشعروا أنهم دائما ً وأبدا ً‬
‫مع الله ‪ ،‬ينفذون أمره من غير حرج ومن غير تململ ومن غير آية محاولة‬
‫للتحايل على نصوص السلم فلن ينفعوا أنفسهم ولن ينفعوا النسانية بشيء‬
‫‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫أنبه ‪ ..‬بعض الناس يتصور أنني وأنا أتحدث عن هذه الموضوعات قد أكون‬
‫مولعا ً بتجريح بعض الناس وبعض الهيئات وبعض الشخاص ‪ ،‬ل ل ‪ ،‬اعلموا‬
‫تماما ً عني أنا بالذات أنني أحكم حكما ً قاطعا ً على كل ما هو موجود في‬
‫العالم السلمي من الدار البيضاء إلى جاكرتا ‪ ،‬مفهوم بأنه باطل ول خير فيه‬
‫ل اليوم ول غدا ً ‪ ،‬ولو عاش مليين السنين فستظل كل النظمة التي تسرح‬
‫وتمرح على الساحة السلمية عوامل هدم وتخريب ‪ ،‬اعرفوا هذا ‪ ،‬ولكني‬
‫لست من الغفلة ول من البلهة ول من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة المة‬
‫تتمثل في شخص ‪ ،‬ولست من البلهة ول من الغفلة ول من الغرارة بحيث‬
‫أتصور أن نكبة المة تتمثل في حزب ‪ ،‬ولست من الغفلة ول من البلهة ول‬

‫‪100‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة المة تتمثل في قطر ‪ ،‬ل ‪ ،‬إن هذه كلها‬
‫أجزاء من الظاهرة الحضارية المتدهورة التي نعيش فيها ‪ ،‬وإن الداء فينا‬
‫جميعا ً ‪ ،‬ونحن كلنا رضينا أم كرهنا ‪ ،‬أحببنا أم أبغضنا ‪ ،‬شركاء في المسؤولية‬
‫عما صرنا إليه من تدهور وانحلل وانحطاط ‪ ،‬شركاء أيضا ً في المسؤولية عما‬
‫ينبغي أن نصل إليه من عز ومن رفعة ‪ ،‬وأنه ينبغي أن يكون واضحا ً أن كل‬
‫أحد منكم يجب أن يحمل في يده صابونة ديلفيوس ‪ ،‬حينما جاء اليهود‬
‫وقع قرار‬ ‫بالمسيح ليصلبوه وطلبوا من ديلفيوس الحاكم الروماني آنذاك أن ي ّ‬
‫الحكم بصلب المسيح ‪ ،‬دعا بقطعة صابون وغسل يده وقال إنني بريء‬
‫ونظيف اليد من دم هذا القديس ‪ .‬ونحن يجب علينا أن نفعل العكس ‪ ،‬يجب‬
‫أن نغسل أيدينا جميعا ً ونقول إننا برآء من كل هذا العمل الشيطاني الموجود‬
‫على الرقعة السلمية ‪ ،‬وعلينا فورا ً ومن غير تلكؤ أن نجدد علقتنا بالله وأن‬
‫نعيد ارتباطنا بالله ‪ ،‬المسألة ليست مسألة أشخاص ول مسألة أحزاب ول‬
‫مسألة تكتلت ول مسألة أقطاب ول مسألة مرحلة زمنية معينة ‪ ،‬المسألة‬
‫مسألة الجنس برمته ‪ ،‬ومسألة الحاضر والمستقبل إلى أن تقوم الساعة ‪.‬‬
‫ل تحتقر نفسك أيها المؤمن ‪ ،‬أنت مجلى إرادة الله ‪ ،‬أنت مظهر قدر الله‬
‫تعالى ‪ ،‬أنت شيء عظيم ‪ ،‬ولكن أنت أنت الذي تحطم نفسك ‪ ،‬ما الذي‬
‫فيك ؟ ما الذي ينقصك ؟ إن أكبر إنسان في الدنيا يملك رأسا ً كرأسك ‪ ،‬ل‬
‫تزيد تلفيف مخه على تلفيف مخك أبدا ً ‪ ،‬يملك أنفا ً كأنفك ‪ ،‬يعمل نفس‬
‫اللية ‪ ،‬يملك قدمين كقدميك ‪ ،‬يملك عينين كعينيك ‪ ،‬مثلك تماما ً ل ينماز عنك‬
‫إل بتقوى الله وصالح العمل ‪ ..‬فلماذا تهين نفسك ؟ لماذا تذل نفسك ؟‬
‫كتب عليك أن تبقى مصفقا ً ومطبل ً‬ ‫ويحك لماذا ترضى لنفسك الدود ؟ هل ُ‬
‫ومزمرا ً للماعات والتافهين ولقطاع الطرق والفاسدين والمفسدين ؟ أنت‬
‫رجل أنت إنسان أنت مكّرم ‪ ،‬أنت أسجد الله لك ملئكته ‪ ،‬المل العلى ‪،‬‬
‫فلماذا تهين نفسك ؟ ما الذي يدفعك إلى ذلك ؟ لقمة الخبز ؟ ويحك ‪ ،‬الكلب‬
‫على المزبلة يعيش ‪ ،‬ويحك ‪ ،‬الحمار يجد شيئا ً يأكله ‪ ،‬تذل نفسك من أجل‬
‫هذه الصغائر ؟ عجيب ‪ ،‬نحن الن في موقف محرج ‪ ،‬كما قلت لكم ليس‬
‫بالنسبة لنا فحسب ‪ ،‬بالنسبة للناس جميعا ً ‪ ،‬والقّيمون نحن ‪ ،‬والمحاسبون‬
‫نحن ‪ ،‬واعلموا أن الله ل يحاسب الكافرين كما يحاسبنا ‪ ،‬أبدا ً أبدا ً ‪ ،‬نحن‬
‫سوف نتحمل الحساب العسير ‪.‬‬
‫افهموا ‪ ..‬ففي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلة والسلم ‪ :‬إن أول‬
‫خلق الله تسّعر بهم النار يوم القيامة ‪ ..‬من ؟ رجل أتاه الله مال ً ‪ ،‬فيجاء به‬
‫فيعرفه ربه نعمه فيعرفها ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬فماذا عملت ؟ يقول ‪ :‬يا رب ما‬
‫تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إل أنفقت ‪ .‬فيقول الله له ‪ :‬كذبت ‪،‬‬
‫ت ليقال فلن جواد‬ ‫وتقول الملئكة ‪ :‬كذبت ‪ ،‬ويقول الباري تعالى ‪ :‬بل أنفق َ‬
‫وقد قيل ‪ ،‬اذهبوا به إلى النار ‪ .‬ورجل آتاه الله علما ً فجيء به فعّرفه الله‬
‫نعمه عليه فعرفها ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬ماذا عملت فيما علمتك ؟ يقول ‪ :‬يا رب‬
‫قرأت القرآن وأقرأته ‪ ،‬وتعلمت العلم وعّلمته ‪ .‬فيقول الله له ‪ :‬كذبت ‪،‬‬
‫ت ليقال فلن‬ ‫ل اسمه ‪ :‬بل تعلم َ‬ ‫وتقول الملئكة له ‪ :‬كذبت ‪ .‬يقول الله ج ّ‬
‫حط‬ ‫عالم ‪ ،‬وقد قيل ‪ ،‬اذهبوا به إلى النار ‪ .‬ورجل قاتل حتى ُقتل فيجاء به يتش ّ‬
‫بدمه ‪ ،‬فيعّرفه الله نعمه عليه فيعرفها ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬ماذا عملت ؟ ألم أصحح‬
‫لك بدنك ؟ ألم أقوي لك جسمك ؟ فيقول ‪ :‬يا رب قاتلت فيك حتى ُقتلت ‪.‬‬
‫فيقول الله له ‪ :‬كذبت ‪ ،‬وتقول الملئكة له ‪ :‬كذبت ‪ ،‬يقول له الله ‪ :‬لقد‬
‫قاتلت ليقال فلن جريء ‪ ،‬وقد قيل ‪ ،‬اذهبوا به إلى النار ‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫المجاهد والمنفق والعالم ‪ ،‬ذروة المجتمع ‪ ،‬أيوجد فوق هؤلء أحد ؟ مع ذلك‬
‫إن الله لم يقبل من عمل هؤلء صورته الظاهرة ‪ ،‬إنها نظر إلى الدافع‬
‫وكشفه ‪ ،‬وجعل صورة العمل بغير قيمة ‪ ،‬وجعل القيمة الكلية للدافع ‪ .‬الدافع‬
‫هو الذي تحدثنا عنه في أول الية ‪ ،‬هو الذي يجعلك قائما ً مع المر ‪ ،‬قاعدا ً مع‬
‫المر ‪ ،‬ناطقا ً مع المر ‪ ،‬ساكتا ً مع المر ‪ ،‬أي أنك مع الله ‪ ،‬تلتمس رضا الله‬
‫تعالى ‪ ،‬ولهذا النبي عليه الصلة والسلم يقول ‪ :‬والذي نفسي بيده ل يؤمن‬
‫أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به ‪ .‬أي كل طاقة النسان مسخرة لكي‬
‫ل وعل التي جاء بها الرسول صلى الله‬ ‫تتلءم وتنسجم مع مرادات الخالق ج ّ‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫ن فيه وجد حلوة اليمان‬ ‫ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬ثلثة من ك ّ‬
‫في قلبه ‪ ،‬أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممما سواهما ‪ . ( ..‬أنا أعرض‬
‫عليكم ميزانا ً وليس قبان جزر ‪ ،‬أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما‬
‫‪ ،‬ضع نفسك أمام هذه القاعدة ‪ ،‬وتصور نفسك بين أمرين ‪ ،‬أمر يدعوك إلى‬
‫ت مع‬ ‫طاعة الله ‪ ،‬وأمر يدعوك إلى طاعة نفسك واتباع شهواتك ‪ ،‬إن وقف َ‬
‫ت هوى نفسك فأنت تجد حلوة اليمان في قلبك ‪ ) .‬وأن يحب‬ ‫الله وخالف َ‬
‫المرء ل يحبه إل لله ( واعرضوا أنفسكم على هذه القاعدة ‪ ،‬ماذا يحب بعضنا‬
‫بعضا ً عليه ‪ ،‬أنا أحبك لنك صديقي أو لنك قريبي أو لني أرجو من ورائك‬
‫نفعا ً ‪ ،‬أو أحبك لني أخشى منك شرا ً أريد أن أدرأه عن نفسي بهذه المحبة‬
‫ولو كانت مزيفة ‪ ..‬أما أن أحبك لن الله جمعني وإياك على كلمته الخالدة ؟‬
‫فهذا شيء نادر ‪ ) .‬وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن ُيقذف في‬
‫جل في‬ ‫النار ( اعرضوا هذه القاعدة على أنفسكم ‪ ،‬قل لفلن ‪ :‬تعال س ّ‬
‫الحزب الفلني ‪ ،‬يقول لك ‪ :‬نعم ‪ ..‬لماذا ؟ من ورائها وظيفة ‪ ،‬ومن ورائها‬
‫راحة بال من ملحقة كلب البوليس ‪ ،‬ومن ورائها ومن ورائها ‪ ..‬قل له ‪:‬‬
‫ت بين يديه عقربا ً ساما ً ‪ ،‬أهذا هو السلم ؟‬ ‫تعالى قف مع الله ‪ .‬كأنما وضع َ‬
‫أهذه هي الحالة التي نريد أن ننهض معها لنصحح أوضاعنا وأوضاع البشرية ؟‬
‫أرأيتم الهاوية التي نتردى فيها يا إخوة ؟ أأدركتم عظم المسؤولية التي‬
‫نتعرض لها ؟ مع الله جميعا ً من فوق كل شيء ‪ ،‬جددوا صلتكم بالله ‪ ،‬ول‬
‫ل وعل أن يكون رضاه آثر على أنفسكم‬ ‫تخرجوا من هنا حتى تعاهدوا الله ج ّ‬
‫ً‬
‫من رضا أنفسكم ‪ ،‬وآثر على أنفسكم من رضا أيا كان ‪ ،‬فإن كنتم كذلك‬
‫فأنتم فعل ً جند الله ‪ ،‬وأنتم فعل ً ورثة محمد وأبناء محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ..‬أسأل الله تعالى أن يفتح قلوبنا جميعا ً وأن ينير قلوبنا ً جميعا ً بهمة‬
‫وقوة التي ترشحنا للتمسك الكامل لكل أوامر الله تعالى ‪ ..‬وصلى الله على‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(9 /‬‬

‫تفسير سورة العراف‬


‫الجمعة ‪ 29‬ربيع الخر ‪ 7 / 1398‬نيسان ‪1978‬‬
‫)‪(2‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فمع السورة الثامنة والثلثين ) سورة العراف ( ومع الحلقة الثانية من‬
‫أحاديثنا حول هذه السورة ‪ُ ،‬أوثر وأحب أن أستمر اليوم في حدود نهج‬
‫الجمعة الماضية في صورة من صور التعامل مع نصوص كتاب الله جل وعل ‪،‬‬
‫وإنما يدفعني إلى ذلك حرصي الكبير على أن تكون بين يدي الخوة من‬
‫شباب أمتنا الكريمة طرائق منتجة في التعامل مع نصوص السلم تضع‬
‫ل اسمه‬ ‫النسان إن شاء الله تعالى على أبواب فهم أفضل لكلم الله ج ّ‬
‫وكلم نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وفي الجمعة الماضية أدرنا الحديث كله حول جزء من الية التي افتتحت بها‬
‫السورة الكريمة بعد الحروف المقطعة ‪ ) ..‬بسم الرحمن الرحيم ‪ ،‬المص ‪،‬‬
‫كتاب ُأنزل إليك ( استغرق حديثنا في الجمعة الماضية ما اقتضى أن يقال‬
‫حول هذا المقطع وحسب ‪ .‬وفي الدرب ذاته أواصل اليوم نفس المنهج وعلى‬
‫أسلوب آخر ‪ ،‬فقد ينبغي أن ل يسقط من ذهن أحد من الخوة أن هذا الكتاب‬
‫ُأنزل من الله ليدّبروا آياته وليتذكر أولو اللباب ‪ ،‬والتدّبر عمل ‪ ،‬صحيح أن‬
‫جزءه الهم يتصل بالذهن ولكن بالرد إلى حديثنا في الجمعة الماضية فقد‬
‫ينبغي أن يكون واضحا ً أن أي فهم ل يتصل بالتفاعل مع صيرورة الحياة‬
‫ومسيرة الحركة ومع التعامل اليومي المباشر فهو فهم أبتر وناقص ‪ ،‬وتدّبر‬
‫دخله التحّيف على كل حال ‪.‬‬
‫ُ‬
‫نواصل الية ‪ ،‬وأطلب مزيدا ً من النتباه ‪ ) ..‬كتاب أنزل إليك فل يكن في‬
‫صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( قلت لكم سابقا ً إن الحرج هو‬
‫المشقة ‪ ،‬وذلك هو المفهوم الظاهر من المادة بتقاليبها المختلفة ‪ ،‬تدل على‬
‫المشقة والضيق واللم وما في هذا الباب ‪ .‬وألفت انتباهكم إلى ضرورة‬
‫المقارنة بين الطلبات القرآنية ‪ ،‬فهنا طلب بصيغة النهي موجه إلى النبي‬
‫الكريم عليه الصلة والسلم ) ل يكن في صدرك حرج منه ( يعني من هذا‬
‫ت من قراءة الية الكريمة واجهك طلب آخر ) اتبعوا ما‬ ‫الكتاب ‪ ،‬فإذا فرغ َ‬
‫ُأنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء قليل ما تذكرون ( فهنا طلب‬
‫ً‬
‫جاء بصيغة المر ‪ ،‬لكن ليس موجها ً بصورة مباشرة إلى شخص النبي الكريم‬
‫عليه الصلة والسلم ولكنه موجه إلى الكافة ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم‬
‫( وبالنظر إلى مدلول اللفظتين ‪ ،‬مرة أخرى أحب أو أؤكد على ضرورة‬
‫النتباه حرصا ً على الفائدة ‪ ،‬بالنظر إلى مدلول الصيغتين أو اللفظين نكتشف‬
‫فوارق ) ل يكن في صدرك حرج منه ( ) اتبعوا ما ُأنزل إليكم من ربكم ( مع‬
‫حسبان الفارق بين الصيغة الموجهة بصورة مباشرة إلى رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم والصيغة الموجهة إلى الكافة فثمة فارق يحتويه اللفظ ‪،‬‬
‫موضوع نفي الحرج موضوع داخلي ووجداني وجواني ‪ ،‬الحرج حالة نفسية‬
‫تعتري النسان ربما يؤدي الفعل وهو يجد هذا الكره الذي يسكن في القلب‬
‫للفعل فهو يؤديه صورته الظاهرة تامة ‪ ،‬لكن سنده الباطن مختلف ‪.‬‬
‫) اتبعوا ( أيضا ً صورة ظاهرة ‪ ،‬فالتباع هو النقياد ‪ ،‬تقول ‪ :‬اتبع هذا الطريق ‪،‬‬
‫ت إليه‬
‫فتجد النسان المخاطب المأمور يدرج على هذا الطريق الذي أشر َ‬
‫ت إليه أن يتبعه ‪ ،‬لكن ما علمك بدخيلة نفسك ؟ أهو ينفذ أمرك بالرضى‬ ‫وطلب َ‬
‫الكامل والطمأنينة التامة والنشراح اللزم ؟ أم هو يأتي بظاهر العمل على‬
‫كره وعلى غير انشراح ؟ ذلك أمر ل علقة له باللفظ مطلقا ً ‪ ،‬وإذا ً فثمة فرق‬
‫دم النسان على الفعل وهو منشرح الصدر ل يجد في فعله حرجا ً‬ ‫ق ِ‬
‫بين أن ي ُ ْ‬
‫ول عنتا ً ول ضيقا ول ألما ول شيء مما في هذا المعنى ‪ ،‬وبين أن يؤدى الفعل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على استكراه وضيق ومشقة وتقزز ‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫نرجع مرة أخرى إلى اللفظ ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كلم موجه إلى‬
‫النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬هل ُيتصور أن امرأ في مكانة محمد عليه الصلة‬
‫والسلم من ربه ومن دينه وشرعه وفي موضع القدوة بالنسبة لخلقه أن ينفذ‬
‫أوامر الله وهو كاره ؟ ما أتصور ‪ .‬في حديث شق الصدر يتناجى المَلكان كما‬
‫يروي النبي عليه الصلة والسلم يقول أحدهما للخر ‪ :‬أهو نائم ؟ فيجيبه‬
‫الخر ‪ :‬العين نائمة والقلب يقظان ‪ .‬وفي حديث عائشة رضي الله عنها يقول‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ :‬يا عائشة إنه تنام عيناي ول ينام قلبي ‪ .‬في حديث‬
‫الصحابة الذين جاءوا يسألون في أبيات رسول الله عن عبادته عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬فلما ُأخبروا بها كأنهم تقاّلوها ‪ ،‬أي وجدوها قليلة فقالوا ‪ :‬وأين نحن‬
‫من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ يخاطبهم عليه‬
‫الصلة والسلم بقوله ‪ :‬والله إني لعرفكم بالله وأشدكم له خشية ‪ .‬وأحدنا‬
‫يرى سحابة مقبلة فيستبشر وينتظر هطول الغيث ويقول مقالة الغافلين ) إنه‬
‫عارض ممطرنا( ولكن النبي عليه الصلة والسلم كان إذا هبت الريح‬
‫ون‬ ‫واضطربت عوامل الطبيعة أكثر الدخول والخروج وأكثر القيام والقعود وتل ّ‬
‫ذب‬ ‫وجهه الشريف فإذا سئل قال ‪ :‬ما يدريني أن يكون هذا عذابا ً فإن الله ع ّ‬
‫ذب أقواما ً بالريح ‪.‬‬
‫أقواما ً بالمطر وع ّ‬
‫امرؤ هذه صلته بالله وهذا هو اندماجه بالمل العلى وهذا هو مبلغ عرفانه‬
‫ور بتاتا ً أن ينفذ ما أراد الله‬ ‫بقدرة القادر المهيمن الغالب الذي ل ُيغالب ل ُيتص َ‬
‫ً‬
‫منه وهو يجد ظل ً من الحرج في ذاته الشريفة ‪ .‬وإذا فل بد أن يكون لهذا‬
‫اللفظ وجه آخر ‪ .‬لننظر كذلك ‪ ،‬الصيغة هنا لحظوها ) ل يكن في صدرك‬
‫حرج منه ( خطاب لمحمد عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وهو خطاب فيه عنف وفيه‬
‫عنفوان ‪ ،‬لحظوا أنماط المخاطبات مع النبي عليه الصلة والسلم إزاء‬
‫أخطاء ولنتجوز ولنسمها أخطاًء ‪ ،‬إن الله جل وعل حينما أخذ عليه الصلة‬
‫والسلم الفداء من أسرى بدر في أول معركة حقيقية مع أعداء الله تعالى‬
‫كان ذلك مغايرا ً لمقتدى الحكمة الربانية ‪ ،‬والله جل وعل ل يحابي ‪ ،‬فما لبث‬
‫أن أنزل قرآنا ً ُيتلى إلى أن تقوم الساعة ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى‬
‫حتى يثخن في الرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الخرة ( لحظوا ‪ ،‬لم‬
‫يتجه العتاب واللوم بصورة مباشرة إلى شخص الحبيب المصطفى عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،‬وإنما جاء بهذه الصياغة اللطيفة ‪ ،‬عتب الحبيب على‬
‫الحبيب ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى ( لم ُيفتتح الكلم بأمر ول بنهي ‪،‬‬
‫وإنما بخبر أن النبياء شأنهم أل يكون لهم أسرى في أول معركة حتى يثخنوا‬
‫في العدو وحتى يوقعوا الرهبة في قلب العدو ‪ ،‬وبإذاك حينما تستمكن رهبة‬
‫الله ورهبة رسوله ورهبة المؤمنين من قلوب العداء فل بأس بأخذ السرى‬
‫وأخذ الفداء ‪ ،‬وهل انتهى المر عند هذا العتب المهذب اللطيف ؟ ل ‪،‬‬
‫) تريدون عرض الدنيا ( لم يوجه الكلم بتة إلى شخص النبي عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬وكأنه ينصب مباشرة على هؤلء الذين شدوا وثاق السرى‬
‫صرف اللفظ بتة عن شخص النبي صلى الله عليه‬ ‫وأسروهم من الجيش ‪ ،‬و ُ‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫وارين والجبناء من المنافقين أن‬ ‫في غزوة تبوك حينما استأذن بعض الخ ّ‬
‫يرجعوا إلى أهاليهم وهي غزوة عسيرة وتحتاج أن يتحرك كل قادر ليوقع‬
‫الرعب في قلوب العداء ‪ ،‬لم يكن العتاب بهذه الصياغة التي تشعر أن ثمة‬
‫رعودا ً وبروقا ً تجلجل من وراء الكلم ‪ ،‬وإنما افتتح الكلم بهذا اللفظ اللطيف‬

‫‪104‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫دم العفو أول ً ثم سأله هذا السؤال اللطيف )‬ ‫م أذنت لهم ( ق ّ‬


‫) عفا الله عنك ل َ‬
‫لم أذنت لهم ( ‪ .‬في الخطابات التي جاءت مفتتحة بالنهي على غرار ما هو‬
‫وارد في فواتح هذه السورة ‪ ،‬الخطاب الوارد بالنهي ) بل ( حينما مات‬
‫عبدالله بن أبي كبير المنافقين والذي جّرح رسول الله عليه السلم والذي‬
‫كان يعمل على تحزيب الحزاب والذي والذي ‪ ،‬حينما مات وتقدم النبي عليه‬
‫ل‬‫الصلة والسلم فصلى عليه جاءه المر الجازم من الله جل وعل ) ول تص ِ‬
‫على أحد مات منهم أبدا ً ول تقم على قبره ( كلم مفتتح بل الناهية ‪ ،‬يحمل‬
‫المر الجازم ‪ ،‬ولكن أمعن النظر في الصياغة ‪ ،‬إن الله حينما يقول لنبيه ) ول‬
‫ل على أحد منهم مات أبدا ً ول تقم على قبره ( تستشف فورا ً أن‬ ‫تص ِ‬
‫المقصود بذلك أن ينزه هذا المقام الكريم ‪ ،‬مقام النبوة أن يصلي على كبير‬
‫النافقين ‪ ،‬وإذا ً فالنهي ل ينصب أساسا ً على شخص النبي عليه الصلة‬
‫والسلم لمجرد النهي ‪ ،‬وإنما ليرفع مقام النبوة فوق أن يتقدم نبي كريم من‬
‫أولي العزم ليصلي على منافق من المنافقين ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫لكن هنا المر يختلف ‪ ،‬كل الصياغات التي تلوتها عليكم مما تضمن مخاطبات‬
‫ت على نحو ما‬ ‫من قبل الله مع رسوله الحبيب عليه الصلة والسلم لم تأ ِ‬
‫جاءت هنا ) ل يكن في صدرك حرج منه ( كأنما يشعر النسان بهذه الجفوة‬
‫التي يتضمنها اللفظ ‪ ،‬كأنما يريد أن يستقر في وهم القارئ أو السامع أن‬
‫فذ مرادات‬ ‫الرسول عليه الصلة والسلم يمكن ولو من باب التوهم أن ين ّ‬
‫الخالق تبارك اسمه وهو كاره لهذه المرادات ‪ ،‬كيف ؟ في الجمعة الماضية‬
‫قلت لكم يحسن لكي يستقيم فهم سورة العراف أن ترجعوا بالقراءة إلى‬
‫سورتي القمر وصاد اللتين سبقتا في النزول هذه السورة الكريمة ‪.‬‬
‫ص في سورة القمر‬ ‫لمحة خاطفة نلقيها الن ‪ ،‬نحن نجد أن الله تعالى اقت ّ‬
‫وفي سورة صاد وفي سورة العراف قصصا ً من قصص النبياء مع أممهم‬
‫جل للوقفة التي سأقفها‬ ‫السابقة قبل أمتنا المسلمة هذه ‪ ،‬ولكن وبدون تع ّ‬
‫بإذن مع مدلولت القصص القرآني في مختلف السور ل بد أن ألفت انتباهكم‬
‫وأنعش ذاكرتكم فيما يختص بهذه القصص ‪ .‬في سورة القمر كل القصص‬
‫التي وردت جاءت تثبيتا ً وتطمينا ً للنبي الكريم إل أن ظواهر الكنود والجحود‬
‫ومظاهر العداء والصد والنفور والتنكيل والتعذيب ليس شيئا ً مستغربا ً ‪ ،‬ذلك‬
‫شأن كل أمة مع نبيها ‪ ،‬عتت وتمردت ورفضت النصياع لمر الله تعالى ‪،‬‬
‫لكن العاقبة مقررة ‪ .‬كما تشرق الشمس من المشرق لتغيب في المغرب‬
‫كذلك قانونا ً مقدورا ً ل بد أن يتغّلب الحق ولكن بشروطه المعروفة طبعا ً‬
‫والمعروضة بكتاب الله ‪.‬‬
‫والباطل مهما استشرى وتمادى في العناد ل بد أن ينهار ‪ ،‬لن الباطل في‬
‫ذاته يحمل جراثيم الفناء والموت ‪ ،‬ذلك أمر ل ريب فيه ‪ .‬فإذا جئنا إلى سورة‬
‫صاد وهي السورة التي جاءت بعد سورة القمر مباشرة وألقينا النظرة‬
‫العجلى على قصص القرآن نجد القصص القرآني ينحو في التقرير نحوا ً‬
‫جديدا ً ‪ ،‬إن القرآني في سورة صاد استعرض وقائع نبيين معينين آخذهم الله‬
‫لهفوات بسيطة ) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورا المحراب إذ دخلوا على داود‬
‫ففزع منهم قالوا ل تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق‬
‫ول تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة‬
‫ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعّزني في الخطاب ( انتهى عرض الخصومة‬

‫‪105‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من قبل عرض واحد ‪ ،‬داوود نبي وخليفة الله تعالى في أرضه سمع من‬
‫طرف واحد فما لبث أن قال ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن‬
‫كثيرا ً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات‬
‫وقليل ما هم ( هنا انتهى نطق داوود عليه السلم بالحكم باعتباره قاضيا ً من‬
‫حيث هو خليفة الله في أرضه ‪ .‬لكن داوود بالصلة الموصولة بينه وبين الله‬
‫تعالى أدرك الخطأ ) وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب (‬
‫وجاءه التوجيه اللهي ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض ( ما مقتضاها‬
‫) فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين‬
‫م ُأخذ‬
‫يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحياب ( هنا ب َ‬
‫داوود عليه السلم ؟ بقطع النظر عن تخبيص كثير من المفسرين الذين‬
‫اعتمدوا الدسائس السرائيلية نجد المر واضح ‪ ،‬داوود عليه السلم من حيث‬
‫ض سمع من طرف واحد وكان الواجب أن يترّيث فل ُيصدر الحكم حتى‬ ‫قا ٍ‬
‫يسمع الطرف الخر ‪ ،‬فقد يكون هذا ألحن بحجته من أخيه فيقضي له على‬
‫نحوٍ مما سمع ‪ ،‬وهذا هو الذي حصل ‪.‬‬
‫ومقام النبوة ل يحتمل مثل هذه الهفوات ‪ ،‬وكذلك بقية القصص التي جاءت‬
‫في سورة صاد ‪ ،‬جات لتضع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في‬
‫وسط المعركة المحتدمة بينه وبين المشركين والتي تثير كل خلية في جسم‬
‫النسان ‪ ،‬وكل هاجس في خاطر النسان باللم والمرارة ‪ ،‬ألم النسان الذي‬
‫يعرف الطريق حق المعرفة ‪ ،‬ويعرف أيضا ً أن هؤلء ينكبون عن الطريق‬
‫الصحيح عن عمد وعن اصرار ‪ ،‬ألم كاسح ‪ ،‬ولكن مقام النبوة مقام النيابة‬
‫عن الله ل يحتمل هذه النظرات المجزوءة المحدود بحدود الزمان والمكان ‪،‬‬
‫بل يجب أن يكون النبي متجاوبا ً عن الضمير الكوني كله ومنسجما ً مع الرادة‬
‫فه الذين ل يستيقنون ‪ ،‬هذا الدرس‬ ‫اللهية التامة ‪ .‬ولهذا فعليه أن ل يستخ ّ‬
‫العظيم هو الذي كان زبدة قصص النبياء في سورة صاد ‪ ،‬إننا حين نحاول أن‬
‫سر لنا مراد الله‬‫نعقد الحبل من طرفين بين سورة صاد وسور العراف يتف ّ‬
‫تعالى من قوله ) ل يكن في صدرك حرج منه ( لماذا ؟‬

‫)‪(3 /‬‬

‫أول ً ‪ :‬لننا ما نزال ضمن الفق العالي الذي وضع الله نبيه عليه الصلة‬
‫والسلم كمثل ما وضع إخوانه النبياء صلوات الله عليهم ‪ .‬ثانيا ً ‪ :‬لننا بعد ُ ما‬
‫نزال ضمن المعركة إياها ‪ ..‬جماهير كثيفة ل ينقصها العقل ول الدراك ‪ ،‬بل‬
‫جل حكما ً على أن الجاهليين‬ ‫لها أحلم راجحة ‪ ،‬وليس صحيحا ً أن نصدر بتع ّ‬
‫غير عقلء ‪ ،‬ل ‪ ،‬في مقاييس ذلك الزمان كانت أحلمهم تزن الجبال رجاحة‬
‫بدون شك ‪ ،‬ولكن المسألة تحتاج إلى نمط معين من الرجال ُيصاغ وُيصنع ‪ ،‬ل‬
‫بد ‪ ،‬في الحياة الجتماعية كما في الحياة المادية سواء بسواء قانون الفعل‬
‫ورد ّ الفعل نافذ ‪ ،‬كل فعل يقابله رد ّ فعل يتسق معه من حيث شموله ومداه ‪.‬‬
‫والنسان حينما يوجه الدعوة فيقابل بالعنف وبالتكذيب والتهامات الباطلة‬
‫فيجب أن ل يسقط من بالنا أنه بشر ‪ ،‬ولكن في اللحظات الحرجة ل بد من‬
‫وجود نماذج معينة من الناس ‪ ،‬لحظات النحدار والهبوط المريع تحتاج إلى‬
‫عمالقة بكل معنى الكلمة ‪ ،‬في كلمتي الشاملة التي تحدثت إليكم بها في‬
‫الجمعة قبل الماضية قلت لكم ‪ :‬إننا يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ‪ ،‬إن‬
‫طريق النبياء ليس بالطبع هو الطريق الذي نحن فيه ‪ ،‬لماذا ؟ إن الحياة‬
‫الجتماعية تفرض على الناس أنماطا ً معينة من السلوك ‪ ،‬مرة دون أن أشعر‬

‫‪106‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بأية ضغوط تسيطر علي ‪ ،‬لكني حينما أكون في جماعة يتغير الموقف‬
‫فأتصرف على نحو آخر وأفكر على نحو آخر ‪ ،‬للحياة الجتماعية ثقلها‬
‫المعروف ‪ ،‬لها ضغوطها الملموسة التي يدركها كل إنسان في حياته اليومية‬
‫بل في كل دقيقة من دقائق الحياة ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫الحياة الجتماعية باختصار قائمة على قانون الخذ والعطاء ‪ ،‬إنك حينما تقبل‬
‫الدخول في مجتمع فأنت تقبل ذلك لما يحققه لك كونك في المجتمع من‬
‫مزايا وفوائد ‪ ،‬ولما يقدمه لك هذا المجتمع من حماية ‪ ،‬وإذا ً فأنت لقاء المزايا‬
‫والفوائد ولقاء الحماية التي تأخذها من مجتمعك الذي تعيش فيه تتنازل‬
‫وتغضي عن أمور كثيرة ‪ ،‬لول أنك مستفيد من مجتمعك الذي تعيش فيه ‪،‬‬
‫ولول أنك مفتقر إلى الحماية التي يقدمها إليك هذا المجتمع ‪ ،‬ما كنت تقبل‬
‫بها بحال من الحوال ‪ ،‬تصرفاتنا عند التحليل النهائي ترتد إلى هذه القاعدة ‪،‬‬
‫نحن بفعل اللف وبفعل الستمرار ألفنا هذا الشيء المر أول ً يتم ضمن‬
‫ساحة الشعوب ‪ ،‬ولكنه مع التكرار يتم خارج ساحة هذه الشعوب ‪ ،‬ولهذا‬
‫فنحن نتصرف ل شعوريا ً مغضين عن كثير من الواجبات ‪ ،‬مسقطين حساب‬
‫كثير من التبعات ‪ ،‬لماذا ؟ تحت ضغط هذا الشيء الذي يفرضه قانون‬
‫المجتمع ‪ ،‬لكن ما نتيجة ذلك ؟ إن طاحونة المجتمع سوف تسحق كل شيء‬
‫من حيث النتيجة ‪ ،‬النبياء في الواقع رفضوا الدخول في هذه اللعبة ‪ ،‬لم‬
‫يقبلوها رفضوها بدءا ً كما رفضوها نهاية ‪ ،‬إنهم ل يريدون من الناس شيئا ً ‪،‬‬
‫المزايا التي يوفرها كون النسان في مجتمع ل يريدها النبياء ‪ ،‬وهذه الدنيا‬
‫بلغ ‪ ،‬ول تستحق أبدا ً أن يضحي النسان من أجلها بالمثل ول بالقيم بتاتا ً ‪،‬‬
‫لماذا ؟ ما الذي يلزمك بذلك ؟ إن محمد عليه الصلة والسلم هاجر من مكة‬
‫إلى المدينة ‪ ،‬كان تحت الخوف والرعب وتحت التشريد والتطريد فجاء إلى‬
‫المدينة بيت الستقرار ‪ ،‬كان مضمونا ً أن يستريح إلى بيت واسع نظيف عالي‬
‫الشرفات ‪ ،‬ذلك هو المألوف والمعروف ‪ ،‬ولقد أراد الصحاب رضي الله‬
‫عنهم بحبهم لنبيهم عليه الصلة والسلم أن يشيدوا له أفضل بناء ممكن في‬
‫ذلك الزمان ‪ ،‬ولكنه قال لهم هذه القالة التي هي شعار النبياء عامة ‪ :‬المر‬
‫أعجل من ذلك ‪ ،‬إنكم تبنون الن لي بيتا ً ولكني سأموت قبل أن يتهدم‬
‫البيت ‪ ،‬المر أعجل من ذلك ‪ ،‬إنما مثلي ومثل هذه الدنيا كمثل راكب في‬
‫فلء استظل بظل شجرة ثم تركها ومضى ‪ .‬هذه هي الحياة الدنيا ‪ ،‬لحظة من‬
‫زمان ‪ ،‬خطرة من منام ‪ ،‬ثم ينتهي كل شيء ‪ .‬وإذا ً فهي ل تستحق بتاتا ً أن‬
‫يضحى من أجلها بشيء ‪ .‬جيئ برجل من سلفنا الصالح رضي الله عنهم إلى‬
‫أحد الخلفاء مما حملوا هذا القب زورا ً وبهتاتا ً ومن غير استحقاق ‪ ،‬وقال له ‪:‬‬
‫يا فلن لماذا ل تزورنا ‪ ،‬لماذا ل تنتفع بدنيانا ؟ فقال له ‪ :‬يا عبد الله إن الله‬
‫جل وعل يقول مخاطبا ً نبيه عليه الصلة والسلم ) قل متاع الدنيا قليل‬
‫والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون فتيل ً ( وإن النبي عليه الصلة والسلم‬
‫يقول ‪ :‬لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا ً شربة‬
‫ماء ‪ .‬فانظر رحمك الله ما الذي عندك من هذه الدنيا منذ أن خلق الله خلق‬
‫وبرء النسم وإلى أن تقوم الساعة ‪ ،‬ثم انظر رحمك الله قدر هذا الذي تعطيه‬
‫من هذه الدنيا ‪ ،‬ثم انظر أين يقع من هذا القليل الذي قال الله عنه ) قل‬
‫متاع الدنيا قليل ( وإذا ً فالحياة الدنيا في ذهنية النبياء عليهم الصلة والسلم‬
‫ليست شيئا ً أن يضحي من أجلها بالمثل وبالقيم العالية وبالمصالح البشرية ‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولهذا فالنبياء جميعا ً رفضوا ابتداًء أن يكونوا مستفيدين من هذه الحماية التي‬
‫يقدمها المجتمع ‪ ،‬رفضوا أن يكونوا مستفيدين من هذه المزايا التي يقدمها‬
‫المجتمع ‪ ،‬وأعلنوا بكل صراحة وبكل وضوح ) قل ما أسألكم عليه من أجر (‬
‫ت ليكثر التباع من حوله ‪ ،‬ذلك شأن الفاقين وقطاع الطرق‬ ‫إن النبي لم يأ ِ‬
‫من الزعماء الذين يستجدون تصفيق الناس وتهليلهم وتطبيلهم وتزميرهم ‪،‬‬
‫وأما النبياء فإنهم يقولون إن ما عند الله خير وإن هذه الظواهر التي يظهرها‬
‫التباع للمتبوعين ظواهر خداعة ومضللة لنها ستنقلب حتما ً إلى تلعن وإلى‬
‫تباغض وإلى تبرء الخلء يومئذ بعضهم لبعضهم عدو إل المتقين ‪ ،‬وسترون‬
‫في سورة العراف مزيدا ً من التقرير لهذه الفكرة ومن النبي الذي خرج من‬
‫هذه الدنيا وهو يملك منها شيء ومحمد عليه الصلة والسلم كان يغشى عليه‬
‫حين النزع فيفيق فإذا أفاق قال ‪ :‬ما صنعتم بالذهب ؟ يقصد ما عنده من‬
‫المال في بيته ‪ ،‬فكانوا يقولون له ‪ :‬هو في البيت ‪ .‬فيقول ‪ :‬فرقوه ‪ .‬فلما‬
‫أفاق مرة سأل السؤال فقالوا له ‪ :‬أنفقناه يا رسول الله ‪ .‬قال ‪ :‬الحمد لله ل‬
‫عذر لمحمد عند ربه إذا لقي الله وعنده هذا الذهب ‪ .‬إنه جاء للدنيا من أجل‬
‫ذلك فهو من أجل ذلك ل يشعر أنه مدين لحد بصورة باتة ‪ ،‬وإن المن‬
‫والفضل لله تباراك وتعالى ) يمنون عليكم أن أسلموا قل ل تمنوا علي‬
‫إسلمكم بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى اليمان إن كنتم صادقين ( هذا‬
‫النموذج الفذ من الرجال الذين ل يريدون علوا ً في الرض ول فسادا ً والذين‬
‫يرفضون أي مزية يقدمها إليهم انخراطهم في المجتمع ‪ ،‬والذين يرفضون أية‬
‫حماية يقدمها إليهم المجتمع لنهم يعتزون بالله ‪ ..‬هؤلء هم الفئة الوحيدة‬
‫المؤثرة والتي تلوي زمام التاريخ لتأخذ القافلة النسانية‬

‫)‪(5 /‬‬

‫طريقا ً جديدا ً ‪ ،‬لكن هؤلء ل بد أن يكونوا مصوغين على طراز خاص ثمت‬
‫قانون واحد يحكم هذا الكون برمته هو إرادة الله النافذة في الصغير وفي‬
‫الكبير ‪ ،‬النسجام مع هذا القانون مع المشيئة اللهية المطلقة دون تردد دون‬
‫المحاولة عليها ‪ ،‬ذاك شأن النبياء وشأن المصلحين الذين يتركون الثار البينة‬
‫الواضحة على مسيرة التاريخ البشري هم الذين ينفذون أمر الله جل وعل‬
‫راغبين راضين طائعين ‪ .‬ولكن أولئك الذين يساقون في طريق الحق ‪ ،‬أولئك‬
‫الذين ُيدفعون في ذلك الطريق بالسياط بل وركل ً بالقدام لن يكونوا نافعين‬
‫في المراحل الولى من مراحل البناء ‪.‬‬
‫فهناك فرق ما بين الصياغتين ) فل يكن في صدرك حرج منه ( وهو خطاب‬
‫إلى المثل العلى محمد عليه الصلة والسلم ‪ ،‬والخطاب الذي وجه في الية‬
‫التي تليها ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( هل نستطيع أن نتصور أن‬
‫اكتساب هذه الحالة من الطواعية ‪ ،‬اكتساب هذه الحالة من الشفافية ‪،‬‬
‫اكتساب هذه الحالة من التفاعل الحر بين النسان وبين القانون اللهي‬
‫المطلق يمكن أن يتم بالتأمل النظري ؟ أبدا ً هذه القضية يجب أن تكون‬
‫واضحة ابتداًء ‪ .‬كثيرا ً ما يأتيك إنسان ل يحسن في هذه الدنيا إل الكلم‬
‫فيناقشك في أمور الدين من صلحية هذا المبدأ ومدى قدرة هذه القاعدة‬
‫على الفعل والنجاز ‪ ..‬يا أخانا بل يا إخواننا إن ثمت لكل أمر جانبين ‪ :‬جانبه‬
‫العقلني النظري وجانبه العملي ‪ ،‬وليس ميسورا ً ل نظريا ً ول عمليا ً أن يفصل‬
‫بين الجانبين ‪ ،‬إن الله يقول ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( والله سبحانه تعالى‬
‫بّين لنا أن وضع النسان نفسه في الطريق هو الذي ينير له الطريق ولهذا‬

‫‪108‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كان ل بد أن يكون الخطاب ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ل بد أول ً من‬


‫أن تضع نفسك في كليتها ضمن الطريق الذي رسمته آيات الكتاب الكريم ‪،‬‬
‫هذا شيء ل بد منه بحال من الحوال وأنت مع الزمن تكتسب شيئا ً فشيئا ً‬
‫خبرة إلى خبرة تجربة إلى تجربة قناعة إلى قناعة ‪ ،‬سوف تكتسب هذه‬
‫الخاصية التي تجعلك تنفذ أمر الله جل وعل من غير حرج لماذا ؟ في مبادئ‬
‫الناس وفي أنظمة الدميين يمشي النسان ويعمل والنسان ويترك النسان‬
‫وفي ذهنه مصالح قد تتحقق وقد تتخلف فإذا تحققت فرح ‪ ،‬وإذا تخلفت‬
‫سخط ‪ ،‬ولكنه ضمن قوانين الله وضمن شرائع السلم التي أحاطت بمصالح‬
‫الفراد والجماعات عموما ً يمشي النسان وهو في غمرة العمل يكشف آنا ً‬
‫بعد آن ويوما ً بعد يوم أنه من حيث اليمان ازداد وأنه من حيث الفكر اتسع‬
‫وأنه من حيث الخلق ازداد طهرا ً ونقاًء وأنه من حيث الرفاه اكتسب‬
‫بالتعاون مع إخوانه حماية حقيقية ليست كتلك الحماية التي تقدمها‬
‫ً‬
‫المجتمعات المجرمة اليوم ‪ ..‬أعطني صوتك لعطيك لقمة الخبز ‪ ،‬أبدا إنها‬
‫الحماية التي تقول لك أن تعيش ذلك حقك ل يناقشك فيه مناقش ول يدفعه‬
‫عنك ‪ ،‬أنت تعارض الحاكم ولكنك إن كنت اليوم رجل ً في مجتمعات الجاهلية‬
‫الحديثة فقف أمام حاكم من هؤلء الحكام لترى أن أول شيء يغلق فمك‬
‫وفم أولدك ‪ ،‬إن الحماية التي تقدمها المجتمعات الزائفة اليوم حماية‬
‫مضللة ‪ ،‬لكن الحماية الحقيقية هي التي يقدمها مجتمع السلم ‪ .‬جاء رجل‬
‫ت أنت قاتل ضرار بن‬ ‫بعد حروب اليمامة إلى عمر فقال له عمر ‪ :‬ألس َ‬
‫الخطاب ؟ قال ‪ :‬نعم يا أمير المؤمنين أنا قتلت أخاك ‪ .‬قال عمر ‪ :‬والله ل‬
‫أحبك ‪ .‬قال ‪ :‬يا أمير المؤمنين أذلك ينقصني من حقي شيئا ً ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ذلك‬
‫شيء وهذا شيء آخر ‪ ،‬هذه عاطفة شخصية ‪ ،‬أنت قاتل أخي ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫حقك ‪ .‬قال له ‪ :‬إذا ً ل بأس إنما يأسى على الحب النساء ‪ .‬إن أحببتني أو لم‬
‫تحبني ل فرق ول أهتم لذلك ‪ ،‬المهم أنك ل تتزحزح عن قاعدة السلم ‪.‬‬
‫إذا ً فمع غمرة العمل ومع مسيرة النضال ومع تحقق المكاسب الحقة يوما ً‬
‫بعد يوم يشعر الفرد المسلم وتشعر الجماعة المسلمة أنها في ظلل الله‬
‫جل وعل تتحرك وتتصرف ل بسائق التباع ولكن انتهاًء في هذه الروح التي‬
‫تقدم باتجاه العمل ول تشعر بآية حرج ‪ .‬هذه الصياغة هذا التصور هو الذي‬
‫أوجد النماذج العاملة ‪ ،‬كان محمد عليه الصلة والسلم كذلك ولم يكن قول‬
‫الله له ـ والله أعلم ـ ) فل يكن في صدرك حرج منه ( إل خطاب للمة‬
‫لشخص عظيم لم يكن إل كذلك فيما أظن ‪ ،‬وبعد التحليل الذي قلته لكم الن‬
‫ولكن مع الزمن رأيتم أبا بكر ورأيتم عمر ورأيتم عثمان ورأيتم عليا ً ورأيتم‬
‫مالكا ً ورأيتم الشافعي وأحمد وأبا حنيفة ورأيتم عبدالله بن المبارك وسفيان‬
‫الثوري والحارس المحاسبي إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي ل تنتهي من‬
‫الرجال العظام الذين يقومون اليوم كما قاموا بالمس وسيقومون أبد الدهر‬
‫شاهدا ً ل ينقضي على قدرة هذا الدين على أن يقدم وباستمرار للنسانية‬
‫النماذج التي تنفع في ساعات الشدة وتفعل عند الزمات ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫ذلك هو مدلول قول الله جل وعل والحصيلة النهائية لقوله تبارك اسمه‬
‫) كتاب أنزل إليه فل يكن في صدرك حرج منه ( يجب أن تتحرك بملء‬
‫الحرية ‪ ،‬الحرية التي تسكن في داخلك لتنشأ المجتمع الحر ‪ ،‬كما قلت لكم‬
‫من قبل إن مجتمع السلم الذي يتألف من الرجال والنساء الحرار الذين ل‬

‫‪109‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يشعرون بأي ضغط ول بأي إكراه ويندفعون قدما ً في طريق الغاية التي‬
‫حددها الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫ل أعتقد أيها الخوة الحبة أنني لن أعود إلى هذا السلوب من التعامل مع‬
‫نص القرآن فقد يكفي ما ذكرت لكم في هذه الجمعة الماضية ليكون نموذجا ً‬
‫بأسلوب معين من التدبر والفهم لكتاب الله جل وعل ‪ ،‬وأنا شديد المل‬
‫وعظيم الرجاء في أن تنتفوا في زيادة المعان والتدبر مع المقارنات ‪ .‬وألفت‬
‫أنظاركم إلى أمر أساسي إن أي نظر في كتاب الله يغفل قاعدة الكلية‬
‫والشمول سيكون نظرا ً مختل ً بل سيكون نظرا ً مضلل ً إن القرآن يجب أن‬
‫ينظر إليه في كليته لنه جسم واحد فل تستطيع أن تنظر إلى يدك وأنت‬
‫تغفل رأسك ‪ ،‬إن أعضاءك تتعاون كلها لتشكل دفة الحياة التي تتحرك به ‪،‬‬
‫كذلك آيات الله المبثوثة في سور القرآن المجموعة بين دفتين المصحف لو‬
‫أنك أخذت آية معينة وأردت أن تفهمها مفصولة عن غيرها فلن تصل إلى‬
‫نتيجة ‪ ،‬ل بد أن يكون أمامك دائما ً أن تنظر إلى القرآن في شموله وفي‬
‫كليته ستجد أن الفهم وأن الفكار تتدفق أمامك كالنهر الذي تصطخب أواذيه‬
‫وأمواجه ‪ .‬فاعملوا على أن يكون فهمكم للقرآن كذلك ‪.‬‬
‫أقول لكم اليوم ما نسيته في الجمعة الماضية ‪ ،‬وعدناكم منذ أسبوعين أن‬
‫نعود إن شاء الله إلى الدروس التي قطعناها بعد نتهاء رمضان الفائت أعلن‬
‫لكم الن أننا بحول الله عازمون بعد اليوم واعتبارا ً من يوم الثلثاء القادم‬
‫بالتعاون مع الخ الكريم أبي محمد الشيخ عبد القادر على القيام بدروس‬
‫معينة في الجامع الوسط بين المغرب والعشاء يوم الثلثاء ويوم الجمعة بعد‬
‫صلة المغرب مباشرة ‪ ،‬فمن شاء أن يفيد من هذه الفرصة فنحن سنكون‬
‫مسرورين إن شاء الله إذا استطعنا أن نقدم لخواننا أية مساعدة طبعا ً على‬
‫صعيد القضايا السلمية مذكرا ً على أن الدروس على الصيغة المعهودة واحد‬
‫يقرأ أو يتكلم والباقي ينصتون ‪ ،‬شيء قل ما ينفع ‪ .‬اعملوا على أن تكون‬
‫الدروس ميدانا ً للمحاورة للحوار من كان عنده شيء ليسأل ول يتحرج‬
‫بالنسبة إلي لو أن أحدكم رد علي وأنا على المنبر فل بأس ‪ ،‬لقول شيء‬
‫وأكون في غاية السعادة وغاية السرور وكذلك في الدرس سواًء اعطوا‬
‫الدروس هذه الحيوية المطلوبة التي تشعر بالمشاركة الفعلية بين الذي‬
‫يعطي الدرس وبين الذي يستمع الدرس ‪.‬‬
‫أسأل الله جل وعل أن يردنا جميعا ً إلى سواء السبيل وأن يضعنا على مراشد‬
‫المور وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وآصحابه أجمعين والحمد لله‬
‫رب العالمين‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة العلى الحلقة الثانية‬


‫الجمعة ‪1976 / 10 / 8‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫ففي الجمعة الماضية افتتحنا الحديث عن السورة الثامنة ‪ ،‬وفاقا ً لترتيب‬
‫المصحف بحسب سياق النزول على الرجح ‪ ،‬وَلكم كنت حريصا ً على أن‬
‫أكون في التتبع والسرد أسرع من تطلعاتكم ورغباتكم ‪ ،‬ولكنا جميعا ً وبغير‬
‫استثناء نعاني من مرض قديم ونلمس آثاره وعقابيله تقهقرا ً وتخلفا ً‬

‫‪110‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وانحطاطا ً ‪ ،‬إن هذه المة ومنذ مئات السنين مع السف الشديد تنفر من‬
‫معالم المور وتفر مما يكلف مشقة ‪ ،‬وآية ذلك أن هذا الخلط الوبيل يتجلى‬
‫حتى في صغائر المور فنحن نحب السرعة ونحب الخفة ونحب أن نعيش‬
‫أكثر أوقاتنا مع الماني والحلم ‪ ،‬أن تكون المة التي أراد الله لها أن تعّلم‬
‫الناس الجد في المر كله ‪ ،‬وأن تعّلم الناس قيمة الوقت ‪ ،‬وأن تعّلم الناس‬
‫أن الحياة تكاليف ومشقات ‪ ،‬هذه المة بالذات أصبحت من رسالتها على‬
‫النقيض ‪ .‬وصدقوني حين أقول لكم واللم يحز في نفسي أنني منذ سنوات‬
‫ومنذ بدأت أتحدث إليكم وإلى الناس على النحو الذي أتحدث به أعيش ما‬
‫يشبه الغربة وأتقلب في اللم ‪ .‬إن كل شيء من حولنا يريد منا الجد ‪،‬‬
‫وبالمقابل كل خلية من كياننا تريد السهولة والهزل ‪ ،‬وما من غرابة بعد ذلك‬
‫أن تكون أحوال المة في مشارق الرض ومغاربها على النحو الذي ترون‬
‫هزائم متلحقة وفشل المستمر ‪.‬‬
‫وحسبنا أننا أضحوكة الناس في هذه اليام ‪ ،‬إن السلم حين بدأ من أول‬
‫الطريق في بواكيره الولى ‪ ،‬اعتمد على الرصيد الذي ل رصيد سواه بعد الله‬
‫تعالى وهو هذا النسان ‪ ،‬فهو بحكم استخلفه في الرض مكّلف ومطالب ‪،‬‬
‫وحين يميل إلى الرخاوة والطراوة فقد نبه السلم إلى أن ذلك علمة الدمار‬
‫) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها فدمرناها‬
‫تدميرا ً ( ‪ .‬وحين شحن هذا النسان بالطاقة وبعثه عنصر فعال ً في هذا الوجود‬
‫أحدث المعجزة التي ما تزال آية في التاريخ ل تسبق ول تلحق ‪.‬‬
‫ونحن منذ بداية الطريق ومنذ سنوات ـ كما قلت لكم ـ ما غابت عنا هذه‬
‫الحقيقة وكنا بين أمرين ‪ ،‬إما أن نعض بالنواجز على البداية التي بدأها رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم فنكابد المشقة ونريح أنفسنا ونتملق عواطف‬
‫الجماهير ونسد كثيرا ً من البواب التي تزعج وتؤذي وتسيء ‪ ،‬وإما أن نجد‬
‫وندخل من الباب الضيق ونعمل للمد الطويل ‪ ،‬ولعل منكم من يذكر أنني‬
‫في هذا المكان قلت منذ سنوات ‪ :‬إنني قررت أن أتحدث إلى الجيال‬
‫المقبلة ‪ ،‬ما أقول هذا ـ يشهد الله ـ لبعث اليأس في النفوس ول لحطم‬
‫سم خطرا ً ماثل ً ‪ ،‬ربما يختدع‬‫الهمم التي تريد أن تتوثب ‪ ،‬ولكني أريد أن أج ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بعض الناس فيه ‪ ،‬ولكنه َيضل وُيضل ‪ ،‬ومن الخير لنا قول واحدا أن نعرف ما‬
‫نريد وبالحجم الذي نريد ‪ ،‬وأن نوفر من الطاقة كفاء هذا الذي نريد ‪.‬‬
‫هذا كلم أقوله وأن أستذكر بعض ما قلت في السبوع الماضي ‪ ،‬لعلي ذكرت‬
‫لكم أني سأمّر على السورة ‪ ،‬ومن صنع الله تبارك وتعالى أنني ما استطعت‬
‫على مدى ساعة كاملة أن أتجاوز كلمة واحدة ‪ ،‬مضت الساعة كلها ونحن‬
‫نتحدث إليكم عن معنى ) سبح ( معنى التسبيح ‪ ،‬وحين كنت أتحدث يشهد‬
‫الله أنني كنت أتمزق ‪ ،‬أعرف أن كثيرا ً من هذا الذي أقول غير مفهوم ‪،‬‬
‫ولكن ل بأس ‪ ،‬ورجوت أن يكون هذا السبوع خيرا ً من الذي مضى ‪ ،‬وأن‬
‫ُأدخل على نفوسكم بعض السهولة والليونة ولكني مضطر إلى أن آخذ نفسي‬
‫وإلى أن آخذكم أيضا ً بألوان من مشقات ‪ ،‬ل بد من الصبر عليها ‪.‬‬
‫إن هذا القرآن قائد هذه المة ودليلها والضوء الذي تعشو إليه والحداء الذي‬
‫تسير من خلفه ‪ ،‬وهذا القرآن معجزة الله الباقية على الدهر ‪ ،‬ل يبليها كر‬
‫الليالي ول مر اليام ‪ ،‬ثم هو صياغة الحكيم الخبير ‪ ،‬ثم هو عهد الله وميثاقه‬
‫إلى الناس عامة ‪ ،‬وإلى أن يرث الله الرض ومن عليها ‪ .‬فهو بهذه المثابة‬
‫نمط فريد ومعجز وعجيب من القول ‪ ،‬بل لعلنا نظلم القرآن إذا سميناه‬
‫ل وعل سماه كذلك في بعض الحيان ‪ ،‬لعل من الخير أن‬ ‫قول ً ‪ ،‬لول أن الله ج ّ‬
‫نركز على التسمية الخرى التي وردت في القرآن وهي أنه روح ‪ ،‬فالكلم‬

‫‪111‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الذي يتلى له من العجاز والفاعلية ما للروح في جسم النسان ‪ .‬وكلم من‬


‫هذا النوع خليق أن ل يتنطح للقول فيه إل من أخذ له أهبته وأعد عدته ‪،‬‬
‫ولكننا في زمان عضوض ‪ ،‬ولول أن هذا الزمان منتكس ما كنت بينكم خطيبا ً‬
‫ول معلما ً ول مرشدا ً ‪ ،‬ومن أنا وأضرابي حتى نقف المواقف التي وقفها‬
‫الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس آيات الله ‪ ،‬وينثر‬
‫عليهم حكمه الشريفة ‪ ،‬ويكون صدى ضخما ً جدا ً لهذا الوصف الباهت الذي‬
‫قاله فيه شوقي ‪:‬‬
‫ت فللمنابر هزة تعرو النبي وللقلوب بكاء‬
‫وإذا خطب َ‬

‫)‪(1 /‬‬

‫هذا القرآن يجب أن نعطيه ما يستحق ‪ ،‬ومن الظلم البين له أن ننزل على‬
‫حكم الضرورات ‪ ،‬فنستخف به ‪ ،‬بصياغته بمعانيه بإيحاءاته ‪ ،‬إن على الناس‬
‫جميعا ً أن يبذلوا من ذات أنفسهم كي يتعرفوا على كلم الله ‪ ،‬وإذا قصرت‬
‫بالنسان وسائله في بعض الحيان فليس من المنطق ـ كل ول من الوفاء‬
‫لهذا لدين ـ أن نتنازل لنتساوق مع إمكانيات الناس ‪ ،‬ولكن نحن نستنهض‬
‫دوه من أنفسهم من أجل‬ ‫الهمم كي يستدرك بعض الناس ما ينبغي لهم أن ُيع ّ‬
‫أن يفقهوا كتاب الله تعالى ‪.‬‬
‫وآلم شيء إلى نفسي أن أضطر في بعض الحيان إلى خوض بعض الدقائق‬
‫صنعت‬‫اللغوية وأسرار البيان ‪ ،‬فأنا وأنتم نعرف المؤامرة الرهيبة التي ُ‬
‫لغتيال هذه اللغة ‪ ،‬من المؤسف أن الجامعات في الدنيا تدرس اللغات‬
‫الميتة ‪ ،‬لغات ل يتحدث بها اليوم ‪ ،‬تحي من آدابها وتنشر من روائعها وتحاول‬
‫الفادة منها ‪ .‬ولكن لغة العرب تعيش في وسط هذه المؤامرة القاتلة ‪ ،‬ل‬
‫لشيء إل لنها لغة القرآن ‪ ،‬وإل لن هؤلء العداء والخصوم أدركوا ما آثر‬
‫ض بالنواجز على‬ ‫الخوة المتقدميون أن ينسوه ‪ ،‬أدركوا أن الوفاء للعروبة ع ّ‬
‫السلم ‪ ،‬وأن الحرص على اللغة فقه في دين الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وأن‬
‫النسان الذي يتنكر للسلم فآخر إنسان يستحق شرف النتماء للمة‬
‫العربية ‪ ،‬وأن النسان الذي يستعجم لسانه بلغة القرآن آخر من يتصد ّ لتعليم‬
‫الناس المبادئ القومية ‪ ،‬هذا المعنى الذي نسيه وأسقطه إخواننا التقدميون‬
‫مع السف ‪ ،‬أدركه خصوم المة وأعداؤها ‪ ،‬وعلموا أن أي إنهاض للسان‬
‫العربي فهو إنهاض بالضرورة لهذا السلم ‪ ،‬لن الرابطة بين القرآن وبين لغة‬
‫العرب رابطة ل تنفصل ‪ ،‬والوشيجة التي تربط العرب إلى السلم وشيجة ل‬
‫تضعف ول تنحل ‪ ،‬لن العرب يحتل السلم منها محل القلب من الجسد ‪،‬‬
‫محل الروح من الكيان الحي ‪ .‬مع ذلك فل بد لنا من أن نقف في الن بعد‬
‫الن ولو على سبيل لفت النظر عند بعض الدقائق اللغوية وأسرار البيان ‪،‬‬
‫لكي ننادي إخواننا الذي يرغبون في فهم كلم الله تعالى ‪ ،‬أن يستحضروا‬
‫العدة لذلك ‪ ،‬من التعرف على أساليب العرب في الخطاب ‪ ،‬وأنه ل وفاء‬
‫صر المسلمون في فهم كلم الله تعالى ‪.‬‬ ‫للسلم أبدا ً إذا ق ّ‬
‫نعود الن إلى ما مضى أن قلناه من قبل ‪ ،‬مع أن منادح القول في هذا‬
‫واسع ‪ ،‬ولكن نمضي مع السورة ‪.‬‬
‫يقول الله تعالى ) سبح اسم ربك العلى ( وأول ما يلفت النظر في هذه الية‬
‫لفظان ‪ ،‬لفظ الرب ولفظ العلى ‪ ،‬ومعلوم لكل من قرأ القرآن ولو قراءة‬
‫سطحية أن الرب جل وعل وصف نفسه بأوصاف متعددة في القرآن الكريم ‪،‬‬
‫ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصاف ‪ ،‬وأحصاه عليه الصلة‬

‫‪112‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والسلم في حديث الذي قال فيه ‪ :‬إن لله تسعة وتسعين اسما ً مائة إل‬
‫واحدة ‪ .‬وترد هذه الوصاف في القرآن متغايرة ومتباينة ‪ ،‬القارئ العادي‬
‫يقرأها دون أن يحس ما يعنيه الفرق بين استعمال الوصف هنا واستعماله‬
‫هناك ‪ .‬في الحقيقة الوصاف اللهية والسماء الحسنى تعبر عن حقائق ‪،‬‬
‫وحينما تنّزل صفة من الصفات اللهية ‪ ،‬أو ُينّزل اسم من أسماء الله في‬
‫مكان ما من سورة ما من آية ما ‪ ،‬فعلى قارئ القرآن أن يعرف مجمل الجو‬
‫لكي يدرك لماذا اختير الوصف ولم ُيختر وصف آخر ؟ فكلمة الرب هنا لو أنك‬
‫ت أنها الوصف الذي ل يصلح غيره في هذا‬ ‫ت فواتح السورة لدرك َ‬‫قرأ َ‬
‫در‬
‫المكان ‪ ،‬اسمع ) سبح اسم ربك العلى ‪ ،‬الذي خلق فسوى ‪ ،‬والذي ق ّ‬
‫فهدى ‪ ،‬والذي أخرج المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى ( سأترك لكم إعطاء الحكم‬
‫النهائي قليل ً كي نتعرف على على المسألة شيئا ً فشيئا ً ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫معلوم أن القرآن نزل بلغة العرب ‪ ،‬والعرب حين نطقت بهذه اللغة الشريفة‬
‫عبرت بها عن حقائق قائمة في النفس منطبعة عن وقائع في الوجود ‪،‬‬
‫مفهوم فيما أعتقد ؟ فكلمة الرب في اللغة مأخذوة من مادة لها معناها‬
‫ب وربا ( هاتان المادتان أو هما مادة واحدة وأقول مادتان‬ ‫الخاص ‪ ،‬مادة ) ر ّ‬
‫تسهيل ً تعنيان التنمية والحفاظ شيئا ً بعد شيء ‪ ،‬وتعنيان مع ذلك عدم ترك‬
‫الشيء المربوب من قبل الذي يرب أو من قبل الرب ‪ ،‬أعيد ؟ نعم سأعيد ‪،‬‬
‫هذه الكلمة تعني التنمية والمحافظة والزيادة ‪ ،‬وتعني أيضا ً المواصلة‬
‫والمواظبة على ذلك ‪ ،‬وعدم ترك الشيء المربوب ول لحظة واحدة ‪ ،‬فالرب‬
‫هو الذي يشرف على ما يصنع حال ً بعد حال ‪ ،‬وزمان بعد زمان ‪ ،‬ول يتركه‬
‫حتى يصل تمامه وكماله ‪ ،‬وهو الذي أيضا ً يحوطه ويحفظه من سائر الجهات ‪،‬‬
‫وفي الثر ‪ :‬ألك نعمة عند فلن تردها ‪ .‬يعنون بذلك أنك بربك للنعمة تحافظ‬
‫عليها وتحرسها وتحوطها ممن يفسدها ‪ .‬ومن هذه المادة جاء معنى الربا ‪،‬‬
‫والربا هو الزيادة ‪ ،‬والزيادة المستمرة ‪ ،‬ولول الستمرار المتلحق ‪ ،‬ولول‬
‫سهر المربي كان من العبث أن يسمى الربا ربا ‪ ،‬ونحن لو أخذنا مقطعا ً من‬
‫القرآن الكريم يبين فيه لونين من الزيادة لتضح لنا المعنى المراد ‪ .‬قال الله‬
‫تعالى في موطن آخر من الكتاب ) وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس‬
‫فل يربو عند الله ‪ ،‬وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون‬
‫( والمضعفون هم الذين تضاعف لهم الجور ‪ ،‬فحين نقابل بين الضعاف وبين‬
‫الربا يتضح لنا الفارق بين معنى الرب الذي ينمي ويزيد شيئا ً بعد شيء وعلى‬
‫وتيرة متصاعدة والذي يحافظ ‪ ،‬وبين الزيادة التي تطرأ في إبانها وفي‬
‫مناسباتها ولضروراتها ودواعيها ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فالربا زيادة في المال يأخذها المربي تزيد عاما بعد عام ‪ ،‬أو تزيد شهرا بعد‬
‫شهر ‪ .‬هذا من جهة المال ‪ .‬ومن جهة صاحب المال فهو حريص عليه محافظ‬
‫على إنمائه وعلى زيادته ‪ ،‬فالزيادة شيء نابع من طبيعة الربا ‪ ،‬وحين نأتي‬
‫إلى معنى ) فأولئك هم المضعفون ( فالضعاف هو الزيادة تقول ‪ :‬أعطيت‬
‫فلنا ً مثل أجره ‪ ،‬أي مثله بالضبط ‪ ،‬وأعطيته ضعفه أي مثله مرتين ‪،‬‬
‫والمضعفون هم الذين يضاعف لهم الجر مرة أو مرتين أو سبعة مائة‬
‫ضعف ‪ .‬لكن هنالك فرق في ما يتعلق بالجور المستحقة على العمال ‪،‬‬
‫فالجر عليها ل يتبع قاعدة النماء شيئا ً بعد شيء ‪ ،‬ول يتبع الستمرار ول‬
‫يستلزم الحياطة ‪ .‬أنت تعمل العمل اليوم تستحق عليه أجرك اليوم ‪ ،‬وتعمل‬

‫‪113‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مثله أو غيره بعد سنة أو بعد عشرات السنين تستحق عليه أجره الذي‬
‫يستحقه ‪ ،‬فظاهرة التسلسل والنماء المستمر غير موجودة في الضعاف ‪،‬‬
‫بينما هي موجودة في الرباء ‪.‬‬
‫هذا المعنى بالضبط ملحوظ في كلمة الرب ‪ ،‬حين يستعمل في القرآن في‬
‫ل وعل فإنما ذلك لفت نظر‬ ‫صف الرب ج ّ‬ ‫ل وعل ‪ ،‬و ْ‬ ‫هذا الموطن اسم الرب ج ّ‬
‫ابن آدم بقوة إلى حقيقة يذهل عنها كثير من الناس ‪ ،‬وهو أنك أيها النسان لو‬
‫ل وعل ‪ ،‬ثم أصبحت‬ ‫تصورت ما أنت ؟ لوجدت أنك كنت شيئا ً في علم الله ج ّ‬
‫نطفة قطرة من ماء في رحم أمك وعناية الله معك تحوطك وتربيك وتنميك ‪،‬‬
‫لو أن أي خلل جزئي بسيط وقع في تركيب هذه المادة التي نزلت من‬
‫ل وعل بعلمه وبرحمته‬ ‫الرجل في رحم الم ما كنت شيئا ً مذكورا ً ‪ ،‬الله ج ّ‬
‫وبمقتضى ربوبيته قدر أن تكون نطفة أبيك على النحو الذي هي عليه كي‬
‫تنتجك أنت ‪ ،‬ثم وأنت في ظلمات الرحم تحوطك عناية الله يأتي الغذاء من‬
‫حيث ل يقوم غذاء في العادة للحياء ‪ ،‬ولكن قدرة الله التي ل تغفل عنك‬
‫ورحمته التي تحيط به صحبتك أيضا ً وأنت تتخلق أطوارا ً في رحم أمك ‪ ،‬حتى‬
‫إذا ضرب المخاض أمك نزلت طفل ً سويا ً ‪ ،‬لك كل معالم النسان وكل‬
‫قسيمات النسان ‪ ،‬ومع هذا فأنت بعد أن كمل تكوينك واستقامت خلقتك‬
‫قادر على أن تستقل بنفسك ؟ ل ‪ ،‬أنت محتاج إلى ماذا ؟ محتاج إلى الله‬
‫طبعا ً ‪ ،‬ولكن أي وصف هذا الذي ينبغي أن يستصحبك وأنت تمر في‬
‫أطواره ؟ وصف الرب ‪ ،‬الرب الذي ل تغفل عين عنايته عنك لحظة واحدة ‪،‬‬
‫معك وأنت جنين ‪ ،‬ومعك وأنت طفل تمص ثدي أمك وتغتذي بلبنها ‪ ،‬ومعك‬
‫وأنت تتمرن على إساغة بعض ألوان الطعام ‪ ،‬ومعك وأنت تحاول أن تقعد ‪،‬‬
‫ومعك وأنت تكبو وتتعثر لكي تمشي ‪ ،‬ثم هو معك حينما تشب أطوارا ً ‪ ،‬وهو‬
‫معك حين الكهولة وفي الشيخوخة وإلى أن تفارقك أنفاسك ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫هذا الوصف الذي يعني مداووة العناية ‪ ،‬والذي يعني الحياطة ورد الفات‬
‫ل وعل ‪،‬‬ ‫والسواء عنك ‪ ،‬هذا المعنى ل يليق به إل الرب ‪ ،‬إل وصف الرب ج ّ‬
‫فمن هنا ترون أنه لو اختير في هذا الكلم أي وصف من أوصاف الباري تبارك‬
‫اسمه لكان غير مؤد ٍ للمعنى نظرا ً إلى السياق الذي مرت به اليات ) سبح‬
‫اسم ربك العلى ‪ ،‬الذي خلق فسوى ( فأشار لك إلى هذه الخلقة التي خلقك‬
‫عليها ) والذي قدر فهدى ( فلفت نظرك هنا إلى دوام عنايته بك وبالكون كله‬
‫) والذي أخرج المرعى ‪ ،‬فجعله غثاًء أحوى ( هذا الرب أيضا ً ل تظنن بتاتا ً أن‬
‫عنايته تحيطك وحدك ‪ ،‬فعنايته ودوام رحمته محيطة بالكون كله معك ‪ ،‬وحين‬
‫يضرب لك هذا المثل البسيط والقريب جدا ً يريد أن يلفت نظرك إلى معنى‬
‫الرب ‪ ،‬كما يريد أن يفلت نظرك إلى أنك ثمرة من ثمرات القوة التي أنشأت‬
‫هذا الوجود ‪ ،‬أنت لست بدعا ً في الكون طبعا ً ‪ ،‬أل ترى إلى النبات تنشق عنه‬
‫البذور ويبسق في الجواء ثم ينمو ‪ ،‬أنت كذلك ‪ ،‬العناية التي صحبت النبات‬
‫وح وانتهى هي هي العناية التي صحبتك منذ كنت‬ ‫ص ّ‬
‫منذ كان بذرة وإلى أن ُ‬
‫نطفة في رحم الم وإلى أن يضمك القبر ‪.‬‬
‫ً‬
‫وكلمة ) العلى ( كما يعرف كل من شدا شيئا من علوم العربية صيغة‬
‫تفضيل ‪ ،‬تقول ‪ :‬فلن أعلم من فلن ‪ ،‬وفلن أكرم من فلن ‪ ،‬وفلن أعلى‬
‫من فلن ‪ .‬هذه الصيغة هي ما ُيطلق عليها في اللغة اسم التفضيل ‪،‬‬
‫والتفضيل كما هو معروف في قواعد اللغة وأساليبها يتقتضي وجود فاضل‬

‫‪114‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ومفضول ‪ ،‬ويتقتضي اشتراك الطرفين في الصفة التي هي مجال التفضيل ‪.‬‬


‫فحين نقول ) سبح اسم ربك العلى ( فقد يتبادر إلى أذهاننا ‪ ،‬ويقينا ً النسان‬
‫العامي الذي ل ُيكلف نفسه مشقة معرفة قوانين اللغة يتصور أن العلى‬
‫يشكل طبقة لما هو أدنى منه ‪ ،‬وأن الدنى والعلى يشتركان في الصفة‬
‫العلو ‪ ،‬فهل يعني هذا أن الله حين يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ) سبح‬
‫اسم ربك العلى ( يريد أن يقّر في ذهنه أن الله إله أعلى من كل اللهة ‪،‬‬
‫كمنا ما يتبادر إلى الذهان للوهلة الولى‬ ‫هذا خطأ في في التصور ‪ ،‬ولو أننا ح ّ‬
‫لقلنا إن هذا مقتضى اللغة ‪ ،‬ولكنا نلفت النظر إلى قاعدة في التفضيل ‪.‬‬
‫إن التفضيل الذي يدل على اشتراك طرفين في صفة واحدة ينبغي أن يكون‬
‫مضافا ً ل مقطوعا ً ‪ ،‬فهنا التفضيل مقطوع ‪ ،‬نقول ‪ :‬الله أعلى وأجل ‪ .‬ولكنا‬
‫إذا قلنا ‪ :‬الله أعلى من اللت وأعلى من هبل وأعلى من العزى ‪ ،‬فمعنى ذلك‬
‫أننا أضفنا التفضيل ‪ ،‬وإضافة التفضيل تقتضي الشتراك في صفة الفضل ‪.‬‬
‫نقول ‪ :‬فلن أكرم من فلن ‪ .‬ذلك يعني أن فلنا ً وفلنا ً يشترك في هذه‬
‫الصفة ‪ ،‬وأن الكرم خصيصة تنتظم الجانبين ‪ .‬فهل المر كذلك حينما نقول‬
‫) سبح اسم ربك العلى ( لو قلنا ذلك لسقطنا في حضيض الكفر ‪ ،‬لننا‬
‫سنثبت للهة العرب المدعاة الزائفة شيئا ً من صفة العلو وهي في‬
‫الحضيض ‪ .‬فالتفضيل حينما يكون مقطوعا ً على هذا النحو يخرج عن بابه ‪،‬‬
‫ويكون المراد منه أن ُيرفع الرب إلى أقصى مقامات الجلل والكمال ‪.‬‬
‫فالله جل وعل حين يقول لنبيه عليه عليه الصلة والسلم ) سبح اسم ربك‬
‫العلى ( يريد أن يقول له ‪ :‬إن ربك هو العلى ول علو مستحق لغيره بوجه‬
‫من الوجوه ‪ .‬الله هو العلى ‪ ،‬والكون كله بما فيه من مخلوقات مقامهم‬
‫مقام العبودية ‪.‬‬
‫ثم بعد أن فرغنا من هذا الكلم العسير ومن هذا الكلم الذي قد يتصور‬
‫البعض أنه يجب أن ل يقال مع أنه يجب أن يقال ‪ ،‬مع أنه يجب على كل‬
‫إنسان من المسلمين ومن العرب أن يتعرف على حقائق اللغة ليعرف‬
‫مدلولتها وليدرك مرادات الله تتبارك وتعالى ‪ ،‬وأنه يجب أن يعرف أن العرب‬
‫في سلئقها وفي فطرها المستقيمة كانت تنفر من طول الكلم ومن تشقيق‬
‫اللسان وتعد ذلك عجزا ً وتعده عيا ً وتعده من معايب الخطاب ومن معايب‬
‫الكلم ‪ ،‬لن القرآن نزل لكي يخاطب ما استقّر في الطبيعة العربية من‬
‫قابلية للتفاعل مع أبعد نأمات اليحاءات التي توحيها الكلمة ‪.‬‬
‫العربي الذي يسمع هذا الكلم ) سبح اسم ربك العلى ( يتصور مباشرة‬
‫وبدون أن يمّر بكل هذه التحاليل التي مررنا بها ‪ ،‬وبكل هذا الكلم الذي قلناه‬
‫ي إل الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫‪ ،‬يتصور ربه هو العلى وأنه ل عل ّ‬
‫)‪(4 /‬‬

‫) سبح اسم ربك العلى ( من ؟ ) الذي خلق فسوى ( وأية بادرة من الذهن‬
‫تشعر بأن ترتيب الكلم على هذا النحو ) سبح اسم ربك العلى ‪ ،‬الذي خلق‬
‫فسوى ( نزول من العلى إلى الدنى مباشرة ليستقّر في الذهن أن ما سوى‬
‫الله فمخلوق ‪ ،‬وأن ما سوى الله فمربوب ‪ ،‬وأن ما سوى الله فمحتاج إلى‬
‫در فهدى ( خلق فسوى ‪،‬‬ ‫الله تبارك وتعالى ‪ ) .‬الذي خلق فسوى ‪ ،‬والذي ق ّ‬
‫كلمتان تأتيان وراء بعضهما ‪ ،‬ماذا تعنيان ؟ أنت يا أنت قارئ القرآن ماذا تفهم‬
‫من ذلك ؟ الخلق هو الصنع ‪ ،‬وكل عامل في الحدادة أو في النجارة أو في‬
‫ة‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ل وليست كل صنعةٍ صنع ُ‬ ‫ل عم ٌ‬
‫أي عمل من العمال يعلم أن ليس كل عم ٍ‬

‫‪115‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وأن العمال والصانعين يتفاوتون من حيث التقان تبعا ً لدرجة المران وبقدر ما‬
‫أنتجوا من المادة التي صنعوها ‪ ،‬فحين تصنع شيئا ً قد يخرج معك على نحو‬
‫بدائي غير منسق وغير مرتب ناقص الداء ‪ ،‬ولكن الله تعالى أراد أن ل يلحق‬
‫خلقة الله على أتم‬ ‫بخلقه هذا التصور ‪ ،‬وأراد أن يستقر في عقل النسان إن ِ‬
‫وأكمل ما يكون ‪ ،‬فالخلق هو اليجاد ‪ ،‬ولكن التسوية هي التهذيب والتشذيب‬
‫والتعديل ‪ ،‬أنت تقتطع قطعة من الجبل حجارة فأنت صنعتها بهذا الشكل‬
‫ت حجر ‪ ،‬ولكن ل يقول قائل ‪ :‬إنك‬ ‫باقتطاعك لها ‪ ،‬بمجرد هذا القتطاع صنع َ‬
‫و‬
‫ت منها لبنة تصلح في مكان مست ٍ‬ ‫ت منها تمثال ً ‪ ،‬ول يقول قائل ‪ :‬إنك جعل َ‬ ‫نح َ‬
‫‪ ،‬ولكنك حين ُتعمل الزميل والفأس فتسوي من هذه الكتلة تمثال ً جميل ً ‪ ،‬أو‬
‫شب أطرافها حتى تكون حجارة تأخذ مكانها‬ ‫حينما ُتعمل الزميل والفأس فت ّ‬
‫في الجدار على استقامة فأنت في هذه الحالة لم تخلقها وحسب وإنما‬
‫خلقتها وسويتها ‪ .‬وهذا هو معنى التقويم الذي ورد في مواطن أخرة من‬
‫القرآن الكريم ) لقد خلقنا النسان في أحسن تقويم ( فأنت لم يخلقك الله‬
‫ت لهدف ‪ ،‬أنت‬ ‫خلق َ‬‫ت لغاية و ُ‬
‫خلق َ‬
‫ل أي شيء بل قيمة ‪ ،‬ل ‪ ،‬أنت ُ‬ ‫تعالى كما ُيخ َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ت لكي تكون خليفة الله في الرض فاهما عنه قّيما على شئون الدنيا ‪،‬‬ ‫شح َ‬ ‫ُر ّ‬
‫ً‬
‫قّيما على حراسة دين الله ‪ ،‬حارسا على كلمات الله تبارك وتعالى ‪.‬‬ ‫ً‬
‫فمن أجل ذلك أنت ل بد أن يكون قد سواك الله تعالى تسوية لكي تؤدي هذه‬
‫المعمة ‪ ،‬فأنت أيها النسان مخلوق على أحسن صورة وأكمل خلق يساعدك‬
‫على أداء هذه الغاية ‪.‬‬
‫در فهدى ( والذي ُيفهم من التقدير طبعا ً هو قضاء الله تعالى أن‬ ‫) والذي ق ّ‬
‫يكون المر الفلني على الشكل الفلني ‪ ،‬ولكن للعلماء في هذا المجال كلما ً‬
‫وإن كان غالبهم ل يأخذ به إل أنني أجدني أميل إلى اعتناقه وتبّنيه ‪ ،‬فكلمة‬
‫در ( بهذا البناء في اللغة تعني ‪ :‬جعل الشيء وفقا ً لمقدار ‪ ،‬وجعله مؤديا ً‬ ‫)ق ّ‬
‫در ( بهذا البناء إعطاء القدرة ‪ ،‬تقول ‪:‬‬ ‫لغاية ‪ .‬وتعني من جانب آخر كلمة ) ق ّ‬
‫ت فلنا ً على أن يفعل كذا ‪ ،‬أي منحته القدرة والقوة على أن يؤدي‬ ‫در ُ‬ ‫ق ّ‬
‫ً‬
‫الشيء الفلني ‪ .‬وفي تقديري ول أدري فقد أكون مصيبا أو ل ‪ ،‬أن هذا لمعنى‬
‫الثاني أولى بأن يؤخذ به في تأويل الية ‪ ،‬فالله تعالى أوجد هذا النسان‬
‫وأوجد هذه المخلوقات جميعا ً ‪ ،‬منها الناطق ومنها الصامت ‪ ،‬ومنها الحي‬
‫ومنها الجامد ‪ ،‬لكن كل ما أوجد الله تعالى تضمن سننا ً وتضمن قوانين لها‬
‫فعلها ولها أثرها في الكون ولها وظيفتها في هذا الوجود ‪ ،‬من الذي أعطاها‬
‫در هذا‬
‫القدرة على أن تؤدي ما يراد لها أن تؤديه ؟ الله ‪ .‬فالله تعالى ق ّ‬
‫النسان ‪ ،‬أي أقدر هذا النسان على أن يتحرك في المسار الذي أراده الله‬
‫تعالى له ‪ ،‬ويزيدني قناعة وميل ً إلى هذه التأويل كلمة ) هدى ( فالله تعالى‬
‫در فهدى ( أي أعطاك القوة على الحركة ‪ ،‬والحركة ل‬ ‫يقول ) والذي ق ّ‬
‫ُيشترط فيها أن تكون مستقيمة ‪ ،‬فدوران النسان حول نفسه حركة ‪ ،‬وأخذه‬
‫يمينا ً وشمال ً حركة ‪ ،‬وضربه في التيه حركة ‪ ،‬واستواؤه على جادة مستقيمة‬
‫حركة ‪ ،‬لكن هذا القدار حكمه الله تعالى بأنه مقصود منه الهداية ‪ ،‬عند هذه‬
‫النقطة أريد أن أقول كلمتين لقف ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫حينما نسمع الله تعالى وممتنا ً على ابن آدم ) والذي ق ّ‬


‫در فهدى ( بعد أن أبان‬
‫له أنه خلقه فسوى ‪ ،‬يريد أن يقول له ‪ :‬يا ابن آدم أنا الذي خلقتك ‪ ،‬ولم‬
‫أخلقك خلقا ً ناقصا ً وكنت على ذلك قديرا ً ‪ ،‬فسويتك وجعلتك في أحسن‬

‫‪116‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ت ما‬ ‫تقويم ‪ ،‬ثن أعطيتك القوة لتتحرك وتعمل وأقدرتك على ذلك ‪ ،‬ولو شئ ُ‬
‫أعطيتكها أبدا ً ‪ ،‬ثم هديتك ) وهدايناه النجدين ( فأنت يا ابن آدم حينما‬
‫تستخدم نعم الله عليك من اليجاد والخلق ‪ ،‬والتسوية والقدار في غير ما‬
‫أراد الله تبارك وتعالى فأنت عندي كافر جاحد ‪ ،‬وأنت في أعراف بني آدم‬
‫ور أن رجل ً أعطاك مبلغا ً من المال لكي تستعين بها على‬ ‫ناكر للجميل ‪ .‬تص ّ‬
‫ت واشتريت بها مسدسا ً‬ ‫قضاء حوائجك وإرضاء ضروراتك ومصالحك ‪ ،‬فذهب َ‬
‫ت تصوبه إلى صدر هذا الذي أعطاك هذا المال ‪ ،‬ما أنت ؟ أأنت إنسان ؟‬ ‫وجئ َ‬
‫أم أنت مخلوق نكد ناكر للجميل ؟ في أعراف بني آدم في فطرهم وفي‬
‫سلئقهم وفي أخلق الناس استعمال النعم ضد الذي أنعم بها سقوط في‬
‫الخلق وانتكاس في الطبع ‪ ،‬فالله تعالى إذ يعد ّ عليك نعمه بهذا الشكل ل‬
‫الشكل الغيبي وإنما بالشكل المحسوس ‪ ،‬الذي تحسه في نفسك وفيما‬
‫حولك ومن حولك ‪ ،‬يريد منك بكلمة هدى أن تلتزم الطريق الذي أراده لك ‪.‬‬
‫أما أن تستخدم نعم الله لكي تعصي بها الله فذلك خلف مقتضى النسانية ‪،‬‬
‫ولو أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا الدنيا إلى هذا المعنى الذي فهمه النسان‬
‫العربي يوم تله محمد صلى الله عليه وسلم فاستقام عليه طبيعته كلها ‪ ،‬لو‬
‫أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا النسانية إلى هذا وتساءلنا ‪ :‬كم من النعم التي‬
‫يتكلم فيها أيها الخوة ؟ هل نحن الذين أوجدنا هذه النعم ؟ ل ‪ ،‬هل نحن‬
‫الذين أوصلناها إلى أنفسنا ؟ ل ‪ ،‬ل يتوهمن متوهم أن عمله وسعيه وكدحه‬
‫هو الذي يجلب عليه الرزق ويرد ّ عنه السيئات ‪ ،‬أبدا ً ‪ ،‬ل بد من عون الله ‪ ،‬ول‬
‫بد من إرادة الله ومن مشيئة الله ‪ ،‬وقديما ً قال قائلهم ‪:‬‬
‫إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده‬
‫دك‬‫وكم من لقمة وصلت إلى الفم ثم اختطفت ‪ ،‬وعملك وكدحك وج ّ‬
‫ونشاطك ليس هو الذي يقرب إليك الخير ويدفع عنك الضير ‪ ،‬أبدا ً ‪ ،‬الله هو‬
‫الذي يعطيك ‪ ،‬والله هو الذي يحرمك إن شاء ‪ ،‬والله هو الذب يمتحنك‬
‫ويبتليك ‪ ،‬والله هو الذي يسامحك ويعافيك ‪.‬‬
‫فالله تعالى يريد لك أن تعلم أن استخدام هذه النعم على النحو الذي‬
‫تستخدمه أنت أيها النسان ‪ ،‬هذه النعم التي تتقلب بين أعطافها وتتمتع بها‬
‫وتتملها عينك ‪ ،‬وتسعدك بها حواسك ‪ ،‬من أين لك ؟ من الله ‪ ،‬أفجائز لك‬
‫في قضية العقل ‪ ..‬أيسوغ لك في قانون الخلق أن تستخدم ما أعطاك الله‬
‫فيما يغضب الله تعالى ؟ سل نفسك ‪ ..‬أنت تعطي الدنيا من ذاتك الشيء‬
‫الكثير والكثير الكثير ‪ ..‬كم من الوقت تذكر الله فيه ول تنساه ؟ إن الله‬
‫فرض عليك فرائض فهل أنت مؤدٍ لما افترض الله عليك ؟ إن الله منعك‬
‫أشياء أفانت مع هذا المنع ؟ إن الله أراد لك أن تسلك طريقا ً أفأنت سالك‬
‫هذا الطريق ؟ بل أفأنت معين على سلوك هذا الطريق ؟ كل هذه السئلة لو‬
‫أردنا أن نجيب عليها بحرية واطمئنان لوجدنا أنفسنا نقف في الصف‬
‫الخاسر ‪ ،‬نحن مع الله لسنا أوفياء ولسنا أخلقيين ولسنا راغبين في خفض‬
‫العيش ورغده ولسنا راغبين في سعادة مرموقة عند الله تبارك وتعالى ) أم‬
‫ن لك‬ ‫ن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ( ألم يأ ِ‬ ‫يأ ِ‬
‫أيها النسان أن تذكر الله الذي خلقك وحاطك ورباك وسخر لك ما في‬
‫ن لك أن تفيء لله ربك ؟ آن لك أيها‬ ‫السماوات والرض جميعا ً منه ‪ ..‬ألم يأ ِ‬
‫النسان ؟ آن لك أن تصيخ للنداء فإنه النداء الذي يتغلغل في أعماق الذي‬
‫صغت قلوبهم لذكر الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫) يا أيها النسان ما غّرك بربك الكريم ‪ ،‬الذي خلقك فسواك فعدلك ‪ ،‬في أي‬
‫صورة ما شاء ركبك ( إن لك غاية فاكدح نحوها ‪ ،‬وإن لك هدف لم تصنعه‬

‫‪117‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يداك ‪ ،‬ولكن رحمة الله أنزلته قرآنا ً يتلى وشريعة ُتتبع وتسلك ‪ ،‬فاعمل على‬
‫أن تكون مع الله ومع شريعة الله واجتهد في أن تسير في طريق الله ‪ ،‬ذلك‬
‫خير للذين يريدون وجه الله ‪ ،‬وذلك علمة على كمال النسانية ل سقوطها ‪،‬‬
‫ولعلي ل أقول عجيبا ً إذا قلت إن إنسانية اليوم كلها محتاجة إلى أن تعيد‬
‫النظر في أمور تعتبر ألف باء الوجود النساني ‪ ،‬محتاجة أن تعيد النظر في‬
‫قواعد الخلق ‪ ،‬إن الخلق تقتضي أن تستخدم نعمة الله فيما يرضي الله ‪،‬‬
‫وأكبر نعمة عليك أن الله أوجدك ‪.‬‬
‫شحنت فيه من إمكانات‬ ‫خْر وجودك كله بكل ما فيه من طاقات وما ُ‬ ‫فس ّ‬
‫ب إل سواه ‪ ،‬ول منقلب لك‬ ‫ومواهب لكي ترضي الله تبارك وتعالى ‪ .‬فل ر ّ‬
‫إلى غيره ‪ ،‬فأعد الجواب ليوم تشخص فيه البصار ‪ ،‬أجارنا الله وإياكم من‬
‫سوء المنقلب وسوء العاقبة وكتب لنا ولكم وللمسلمين سلوك سبل الهداية‬
‫والتوفيق وما يريضي الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه‬
‫أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تفسير سورة البروج )‪(2‬‬


‫الجمعة ‪ 26‬ربيع الخر ‪ 15 / 1397‬نيسان ‪1977‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫في الجمعة الماضية تحدثنا إليكم مطول ً عن فضل سورة البروج ‪ ،‬وهي كما‬
‫ل يخفى سورة عظيمة وكريمة وإذا جاز لنا أن نتعرف على السس التي تأخذ‬
‫هذه السورة أهميتها منها ‪ ،‬فإن من بين هذه السس بل شك أن هذه السورة‬
‫العظيمة أّرخت لمرحلة هامة وحاسمة من مراحل الدعوة السلمية زمن‬
‫مؤسسها وقائدها محمد صلوات الله وسلمه عليه ‪.‬‬
‫ولقد قمنا في الجمعة الماضية والتي قبلها بالبحث عن الواقعة التاريخية التي‬
‫أشارت إليها السورة الكريمة إشارة عامة ‪ ،‬ثم عقبت بعد ذلك على هذه‬
‫الواقعة بجملة من الدروس والمواعظ المنبثقة عن هذه الواقعة والمؤسسة‬
‫عليها ‪ .‬وأنتم بطبيعة الحال في غنى عن إعادة الواقعة ‪ ،‬ولكننا جميعا ً لسنا‬
‫أغنياء عن دراسة الواقعة ‪ ،‬وعن محاولة التعرف على أهم ما فيها من دروس‬
‫وحكم ‪ .‬إن مسألة المحنة والبتلء في الدعوات مسألة طبيعية ‪ ،‬وأقصد أنه ل‬
‫بد في كل نظام اجتماعي بشري حين تخرج من بين صفوفه دعوة تهز أركانه‬
‫وتضع أسسه وقواعده موضع التساؤل ل بد لهذا النظام من أن يأخذ أهبته‬
‫في الدفاع ‪.‬‬
‫تلك ظاهرة معروفة وأظن أن أي دارس للتاريخ العام ولتاريخ الديانات ‪ ،‬وإن‬
‫أي مطلع ولو بصورة سطحية على تاريخ السلم في صدره الول يدرك بجلء‬
‫ل مزيد عليه أن المؤمنين أوذوا في الله ‪ ،‬وأن الشدة والبأساء والبلء أخذتهم‬
‫من جميع أقطارهم ومن البعداء والقرباء والعداء والصدقاء على حد سواء ‪.‬‬
‫لكن هذه الحادثة لها طعم خاص ‪ ،‬لها لون خاص ‪ ،‬لها مدلول خاص ‪ .‬ولكي ل‬
‫نقفز من فوق القضايا التي ينبغي إبرازها والعناية بالتفكير بها فل بد أن نشير‬
‫إلى ما سبق أن قلناه قبل الن ‪ ،‬إن سياق اليات ودراسة وقائع التاريخ تشهد‬
‫على الرجح أن الحادثة وقعت قبل بعثة النبي عليه السلم وبعد ميلد عيسى‬

‫‪118‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫صلوات الله عليه ‪ ،‬أي في الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما‬
‫وعلى جميع إخوانهما من جميع النبياء والمرسلين ‪.‬‬
‫فإذا نحن رحنا نتعرف على مسيرة الدعوة المسيحية بعد رفع المسيح عليه‬
‫السلم فإننا نجد في تاريخ المسيحية منعطفا ً خطيرا ً كان ذلك في بداية‬
‫القرن الرابع الميلدي ‪ ،‬وكان ذلك بعد أن أسلم قسطنطين إمبراطور‬
‫الرومان ‪ ،‬وكان ذلك بعد أن بذل هذا المبراطور محاولة جاهدة لتوحيد‬
‫التيارات الدينية في مملكته ضمن تيار واحد ‪ .‬وهذا طبعا ً شأن السياسة ‪،‬‬
‫فالساسة في أي زمان وأي مكان ضد التطور وضد التقدم ‪ ،‬ل يمكن أن‬
‫يوافقوا على العمليات النفجارية ول يمكن إل أن يقفوا في وجهها ‪.‬‬
‫والمبراطورية الرومانية في الرض إمبراطورية وثنية ‪ ،‬أي أنها كانت تعبد‬
‫الصنام والتماثيل ‪ .‬وليست تماثيل اليونان المشهورة في التاريخ إل أثرا ً من‬
‫هذه الثار الوثنية التي كانت عليها روما بعد أن ورثت حضارة اليونان ‪.‬‬
‫لكن ضمن المبراطورية الرومانية كان يوجد يهود ويوجد المسيحيون ويوجد‬
‫وثنيون ويوجد فلسفة ومفكرون مؤلهون ويوجد فلسفة ومفكرون ماديون ‪،‬‬
‫كما يوجد مجوسيون على مذاهب ونحل وآراء متعددة ومختلفة ‪.‬‬
‫إن شؤون السياسة طبعا ً ل تستقيم على حالة كهذه من التشتت وتفرق‬
‫المنازع والراء والهواء ‪ ،‬فالمحاولة التي بذلها قسطنطين ظاهرة طبيعية في‬
‫علم السياسة ‪ ،‬ل استنكار تستدعيه ول شيء مما يخرج على مألوف الساسة‬
‫في أي زمان ومكان ‪ .‬لكن المهم أن نقرر حقيقة يجب أن يستحضرها كل‬
‫إنسان هي أن مسائل العقيدة ليست مما يصلح معها أن تبذل المحاولت‬
‫لتوحيدها بقوة القانون وبرغبة السلطة ‪ ،‬فالقانون والسلطة يتناولن الجسام‬
‫‪ ،‬ولكن ل شأن لهما بقلوب الناس ول يستطيعان تغيير شيء من اتجاهات‬
‫الناس العقلية ‪ ،‬إل أنه حينما يكون الموقف من الجهة المعارضة متصل ً‬
‫بالصلبة والرسوخ فبالسلطة في ذلك الحين موقف معروف أيضا ً هو التناهي‬
‫في الضغط والتناهي في الكراه والتناهي في بذل الجهود لملحقة الخارجين‬
‫على القانون السائد والعرف المتبع ‪ .‬إن قسطنطين فكر في أن يجمع كل‬
‫هذه الراء والهواء والمتجهات في مذهب واحد ‪ ،‬وجمع الساقفة بعد أن‬
‫انتشرت الديانة النصرانية في جزء كبير من أجزاء المبراطورية الرومانية‬
‫وخرج بقرارات ‪ ،‬الهدف منها إيجاد صيغة يمكن أن تستوعب كل هذه‬
‫التجاهات المتضاربة ‪.‬‬
‫خرج بصيغة تقول‪:‬إن المسيح عليه السلم ليس رسول ً فحسب ولكنه هو ابن‬
‫الله وهو التجسيد الحي لله خالق السماوات والرض‪.‬وخرج بسلسلة من‬
‫التصورات والمفاهيم جعلت المسيحية بعد أن كانت توحيدا ً وإسلما ً لله تعالى‬
‫أصبحت ضمن الديان الوثنية وليس مع الديان الموحدة‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫إل أن حقائق الدين كما قلنا ومسائل العقيدة ترفضان الخضوع كل الخضوع ‪،‬‬
‫فخرج على قسطنطين ناس ‪ ،‬فلحقهم في البراري والصحاري ‪ ،‬وشردهم‬
‫في الديرة ‪ ،‬فخرجوا فارين بدينهم ‪ .‬وبقيت عنده بعض حقائق الدين ‪ ،‬وكان‬
‫من ضمن من خرج شرذمة من النصارى الذين فروا من قسطنطين وتوغلوا‬
‫في جزيرة العرب واستوطنوا في وسط الجزيرة في منطقة نجران بين‬
‫الحدود بين السعودية الحالية واليمن ‪.‬‬
‫إن الشيء الذي يلفت النظر ليس أن تعمد اليهودية إلى امتحان النصارى ‪،‬‬

‫‪119‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لن اليهودية في وطن النصارى في الشام ‪ ،‬حاربت المسيحية ‪ ،‬وسعى رجال‬


‫الدين اليهودي لدى المبراطور الروماني لستصدار حكم الصلب على السيد‬
‫المسيح عليه السلم ‪ .‬وكانوا الساعد اليمن في مطاردة المسيحيين ‪ .‬ليست‬
‫المسألة التي تلفت النظر هي هذه أبدا ً ‪ ،‬ولكن الشيء الذي يلفت النظر هو‬
‫أن شركاء العقيدة ل يمدون يد المساعدة لبعضهم ‪ ،‬حينما قال أحدهم بنشر‬
‫اليهودية في اليمن ومضى ‪ ،‬ووقعت واقعة الخدود التي تحدثت عنها سورة‬
‫البروج في نجران ‪ ،‬وشقوا للناس الخنادق والخاديد وملؤوها بالنيران‬
‫المتأججة وألقى فيها اليهود المسيحيين وأحرقوهم وهم أحياء ‪ ،‬لماذا لم‬
‫تكترث الدولة النصرانية في الشام ؟ ولماذا لم تتحرك الولية الرومانية في‬
‫مصر ؟ ولماذا لم تتحرك الدولة النصرانية في الحبشة ؟ علما ً بأن مجال‬
‫النجاد مفتوح ‪ ،‬لماذا ؟ إن هنا موضعا ً للتأمل والتفكير الطويل ‪.‬‬
‫نرجع إلى اليات لنعرف ما أسباب المحنة كما شرحها الله تعالى ‪ ،‬ومعهودنا‬
‫من الله أنه حينما يعرض الدرس الكبير ويتناول الموقف الخطير ل يلقيها إلى‬
‫المسلمين مجردا ً بل يبرز السباب ‪ .‬اسمعوا ‪ ) :‬والسماء ذات البروج ‪،‬‬
‫واليوم الموعود ‪ ،‬وشاهد ومشهود ‪ُ ،‬قتل أصحاب الخدود ‪ ،‬النار ذات الوقود ‪،‬‬
‫إذ هم عليها قعود ‪ ،‬وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( إلى هنا ينتهي‬
‫عرض المسألة ‪ ،‬لنأتي مباشرة إلى استماع التعليل وإلى إبراز السبب الذي‬
‫س ‪ ،‬قال الله تعالى ) وما‬ ‫من أجله تعّرض هؤلء المؤمنون إلى امتحان قا ٍ‬
‫نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ‪ ،‬الذي له ملك السماوات‬
‫والرض والله على كل شيء شهيد ( إذا ً فنحن نستطيع أن نعرف السبب‬
‫الذي من أجله تعّرضت هذه العصابة المؤمنة لهذا البلء العظيم ‪ .‬أهي نزاع‬
‫على الدنيا أو على السلطان ؟ ل شيء من هذا ‪ .‬لكن الجريمة التي ارتكبها‬
‫المؤمنون هي أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد ‪ .‬ندع هذا الكلم مؤقتا ً لنعود إلى‬
‫صلب الواقعة التاريخية ‪.‬‬
‫ونتساءل ‪ :‬ألم تكن نصرانية الرومان تؤمن بالله العزيز الحميد ؟ ألم تكن‬
‫اليهودية تؤمن بالله العزيز الحميد ونحن ما زلنا في تاريخ الديان المقارن‬
‫نعتبر اليهودية من ديانات التوحيد ؟ إن إلقاء السبب بهذا الشكل مجردا ً عن‬
‫علئقه جميعا ً يوحي ويطبع في الذهان أن ثمة معسكرين ‪ ،‬معسكر يؤمن‬
‫بالله العزيز الحميد فهو من أجل ذلك تعّرض لهذا البلء الشديد ‪ ،‬ومعسكر‬
‫آخر يظن كل هؤلء الناس الذين أشرنا إليهم ل يؤمنوا بالله العزيز الحميد ‪.‬‬
‫ولكن الن تذهب وتقول لليهودي ‪ :‬أنت ل تؤمن بالله ‪ ،‬فسيقابلك بالنكار ‪،‬‬
‫سيرى أنك تجرح إيمانه وتعتدي على دينه ‪ .‬وتذهب إلى النصراني وتقول له ‪:‬‬
‫أنت ل تؤمن بالله العزيز الحميد ‪ .‬فسيقابلك بالنكار ويرى أنك ألحقت به‬
‫إهانة ل ُتغتفر ‪ .‬لكن واقع المر يختلف ‪.‬‬
‫إننا حين نضع قضية اليمان في مجال التفكير فإن اليمان ينحل معنا من‬
‫حيث النتيجة ودون حاجة إلى بحوث مستفيضة ‪ ،‬إلى عدد من الفكار ‪ ،‬أول ً ‪:‬‬
‫هذا الكون العظيم الهائل ل يعقل أنه نشأ هكذا مصادفة ‪ ،‬كما أنه ل يعقل أنه‬
‫خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون( إن العقل السوي‬ ‫أنشأ نفسه )أم ُ‬
‫ً‬
‫السليم ل يستوعب هذين الحتمالين أبدا ‪ ،‬ل يقر أن الكون ُوجد من غير‬
‫مع الفعل والفاعل‬ ‫شيء ‪ ،‬كما ل يقر أن الكون أوجد نفسه ‪ ،‬فمحال أن ُيج َ‬
‫في آن لستحالة أن يكون الخالق والمخلوق في آن واحد ‪ .‬وإذا فلم يبقَ في‬
‫مجال الفروض إل هذا الفرض الواحد الصحيح وهو أن هذا الكون الهائل الخذ‬
‫بالتساع من صنع الله تعالى ‪.‬‬
‫أنت أيها النسان جزء من هذا الكون يسري عليك القانون الذي يسري على‬

‫‪120‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الكون كله ‪ ،‬وحينما نقر أن هذا الكون مخلوق فنحن نقول بديهة أنك أنت أيها‬
‫النسان الذي أنت جزء من هذا الكون أيضا ً مخلوق ‪ .‬ومصيرك مرهون بهذا‬
‫الخالق طالما أنت جزء من مخلوقاته ‪ .‬وكل مخلوقات الله تسير وفق‬
‫القوانين التي وضعها الله لها ‪ ،‬فمن غير المعقول أن تكون أنت وحدك أيها‬
‫النسان من بين مخلوقات الله أن ترفض أن تسير وفق القوانين والنظم‬
‫التي شرعها الله لك ‪ .‬فمن غير المعقول أن تكون أنت أيها النسان الشاذ‬
‫من بين مخلوقات الله ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫انظر إلى نفسك ‪ ..‬انظر إلى قدراتك ‪ ..‬والله يقول لك ) وفي أنفسكم أفل‬
‫تبصرون ( فستجد أنك من حيث العمر محكوم بقانون الولدة ثم النشأة ثم‬
‫الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة فالموت ‪ ،‬أي أنك محكوم من الزمان من‬
‫طرفين ‪ ،‬من البداية والنهاية ‪ ،‬وبالتالي أنت تدرك بضرورة الحساس‬
‫والمشاهدة أنك كائن طارئ في هذا الوجود ‪ ،‬ليس لك صفة الخلود ول‬
‫السرمدية ‪ ،‬فأنت من حيث العمر الذي نضعه أساسا ً للنظر مؤقت بزمن‬
‫ت إلى قواك‬‫بسيط ل يساوي في عمر الزمان طرفة عين ‪ .‬فإذا نظر َ‬
‫والمكانات والمواهب والحوافز والدوافع التي أودعها الله فيك والتي جبلك‬
‫عليها فسوف تخرج بنهاية القياس أنك مستطيع بغيرك غير مستطيع بنفسك ‪،‬‬
‫ت قادرا ً على أن تحصل الضرورات اللزمة لقوام عيشك ‪،‬‬ ‫أي أنك كفرد ليس َ‬
‫فل بد في صفاتك المعيشية من أن تستعين بإخوانك من بني البشر ‪.‬‬
‫والناس كمجموعة ‪ ،‬مجموعة لهذه الطاقات ‪ ،‬صحيح أن مجموعة الطاقات‬
‫أقوى وأعظم وأكبر من طاقات الفراد ‪ ،‬ولنضربه بواحد واثنين وبعشرة‬
‫وبألوف وبمليين ومع ذلك فسيظل معنا في نهاية المطاف أن النسانية‬
‫عاجزة من حيث هي موكولة إلى قدراتها عن تحصيل أسباب السلمة‬
‫والهدوء والطمأنينة في هذه الحياة ‪ .‬من الذي يستطيع أن يرشد النسان إلى‬
‫سلوك السبيل القوى والقوم لنتهاج الطريق المستقيم ؟ أنت في لقمة‬
‫العيش ل تجد غضاضة ول عيبا ً في أن تستعين بإخوانك من بني البشر ‪ ،‬فإذا‬
‫ت في لقمة العيش محتاجا ً إلى الخرين فأنت محتاج أكثر فيما هو أهم من‬ ‫كن َ‬
‫س‬
‫لقمة العيش مما يتناول استقرار الكائن البشري ‪ ..‬فيجب أن ل تح ّ‬
‫بالغضاضة ول تشعر بالعيب حينما ُيقال إنك أيها النسان ل تستطيع من غير‬
‫هداية الوحي ‪ ،‬ول تستطيع من غير دعم من الله أن تهتدي إلى الطريق الذي‬
‫يدلك إلى السعادة في الدنيا والفوز والفلح في الخرة ‪.‬‬
‫من هذا التحليل الموجز لصول قضية اليمان نصل إلى أنه ل يكفي في‬
‫ميدان في عقيدة التوحيد أن يقول النسان أنا مؤمن بالله ‪ ،‬تلك دعوى يقدر‬
‫عليها ويطيقها كل إنسان ولكنها ليست كل شيء بل ربما كانت في كثير من‬
‫الحيان ل تدل على شيء على الطلق ‪ .‬إن فيصل التفرقة بين من يؤمن‬
‫بالله العزيز الحميد والذي ل يؤمن بالله العزيز الحميد أن المؤمن ملتزم‬
‫بمنهاج الله تعالى الذي أنزله على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم جميعا ً‬
‫والذي ل يؤمن بالله هو ذلك النسان الذي يكتفي من عالم اليمان بالدعوى‬
‫وبالتبجح ثم يضرب بكل مقررات الدين وبكل أوامر الله وبكل تعليمات رسل‬
‫الله عرض الحائط ليتخذ لنفسه منهاجا ً ونظاما ً من اختراع نفسه ومن‬
‫تصورات عقله ل ينتج عنه إل الخلل والدمار والهلك ‪.‬‬
‫اليهودية لماذا حاربت النصرانية ؟ حينما نقول إن اليهود مؤمنون ‪ ،‬والنصارى‬

‫‪121‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مؤمنون بالله العزيز الحميد ‪ ،‬لنفترض أن النقيضة الساسية غير موجودة‬


‫وهي ضرورة إرسال رسول جديد ‪ ،‬لنفترض أن هذا غير موجود ‪ .‬فلماذا‬
‫يتصارعون ؟ لنهم يتصارعون على القواعد والسس ‪ ،‬لخلف على صورة‬
‫الكون والحياة ومنزلة النسان في هذه الحياة ‪ ،‬إن اليهودية من بعد موسى‬
‫ومن بعد هارون عليهما السلم انتكست في حياة عنصرية ومادية وقبلية‬
‫ضيقة جعلت تعتمد مبدأ العدوان أساسا ً لكل تصرفاتها ‪.‬‬
‫فمن أجل ذلك سقطت اليهودية في هذا التسلط وهذه الشراسة التي رافقت‬
‫بني إسرائيل منذ عصر بعيد جدا ً ‪ .‬إن اليهودية فقدت كل السباب وكل‬
‫المبررات التي تدعوها إلى أن تكون وسيلة هداية ‪ ،‬وأن تكون رسالة سماوية‬
‫يفيء الناس إلى ظلها أو أن يجدون فيها الحلول لمشكلتهم اليومية أو‬
‫المستقبلية ‪ .‬فمن أجل ذلك جاء عيسى صلوات الله عليه رسول ً من الله‬
‫تعالى لكي يبعث الرطوبة في هذا الجفاف الذي تسّرب إلى اليهودية ‪ .‬من‬
‫الخطأ البين أن نتصور النصرانية ديانة قائمة بذاتها ‪ ،‬إن النصرانية هي تجديد‬
‫للدين اليهودي ‪ .‬ولهذا نرى النجيل يخلو تماما ً من التشريع ‪ ،‬لن الله تعالى‬
‫في ميدان التشريع رد ّ الحقائق التي أنزلها في التوراة على موسى عليه‬
‫السلم ‪ .‬ولكنه جاء بهذه الدعوة الروحية وجاء بشيء من التجديد ومن‬
‫حّرم عليكم وجئتكم‬ ‫ل لكم بعض الذي ُ‬ ‫التسهيل لمرافق الحياة قال ) ولح ّ‬
‫بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ‪ ،‬إن الله ربي وربكم فاعبدوه ( هكذا قال‬
‫المسيح عليه السلم لليهود ‪.‬‬
‫وحينما تحولت النصرانية على يد قسطنطين ومن بعد قسطنطين إلى ديانة‬
‫محّرفة فيها كثير من عوامل الوثنية لم يقف المر عند هذا الحد ‪ .‬إن‬
‫النصرانية بهذا العتبار الذي شرحناه ديانة مدعوة إلى تحكيم شرع الله الوارد‬
‫في التوراة ‪ ،‬فإذا طرحنا على أنفسنا هذا السؤال ‪ :‬بماذا كانت تحكم الدولة‬
‫الرومانية التي كانت تدين بالمسيحية ؟ بماذا كانت تحكم الولية المصرية‬
‫التي دخل أهلها القباط في الديانة النصرانية ؟ بماذا كان يحكم الحباش ؟‬
‫فسنجد أن شرائع الله معزولة وأن الناس يتحاكمون إلى قوانين وإلى أعراف‬
‫هي من صنع أيديهم ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫حينما ُوجدت هذه الجماعة المؤمنة الذين هم أصحاب الخدود والذين تلقوا‬
‫هذه الصدمة ‪ ..‬ماذا كانت النتائج ؟ كانت النتائج هذا البلء المستطير ‪ .‬لي‬
‫سبب ؟ لن هذه الصفوة والبقية كانت تحمل شعلة اليمان الحقيقي في‬
‫نفوسها ‪ ،‬كانت تدعو إلى الحتكام إلى شرع الله في وجه من يتحاكم إلى‬
‫شرائعهم الخاصة التي صنعتها من ذات أنفسها وفاقا ً لتصوراتها وأفكارها ‪.‬‬
‫فنحن في هذه الصورة أمام نوعين من التدّين ‪ ،‬لون صحيح ‪ ،‬ولون محّرف ‪،‬‬
‫أو لنصطلح على أن نقول أنه مزيف ‪ .‬حينما يتقابل في ميدان العقيدة الزيف‬
‫ل عنفا ً وشراسة وخصومة وفي الحرب‬ ‫مع الدين الصحيح فإن الزيف ل يق ّ‬
‫والعنف عن العداء الصليين ‪ .‬نحن من هنا نستطيع أن نفسر وأن نحل كثيرا ً‬
‫من المشكلت التي تحّير كثيرا ً من قصار النظر ‪ .‬إن التاريخ عرف حركات‬
‫حوربت من أبنائها ‪ ،‬لماذا ؟ لن هناك‬ ‫دينية تحمل الصيغة الدينية الصحيحة ‪ ،‬ف ُ‬
‫أناسا ً تزحزحوا عن قواعد الوحي ووقفوا مع الذي ل يؤمنون ‪ ،‬أي انسحبت‬
‫الصالح ‪ ،‬أي الخطر على مصالحهم ‪ ،‬فمن أجل ذلك وقعت الواقعة ‪.‬‬
‫إننا نقول هذا وفي الذهن أمور ‪ ،‬ما أريد أن أنظر إليها لنها في الواقع أمور‬

‫‪122‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مؤلمة ‪ ،‬في الذهن أمور وصور ‪ ،‬جعلتنا عبر تاريخنا الطويل نقف في‬
‫مواجهتنا بعضنا بعضا ً ‪ ،‬ويحمل بعضنا السلح في وجه الخر ‪ ،‬برغم من أننا‬
‫ننتمي إلى دين واحد ‪ .‬وبرغم أننا نسجد لرب واحد ونبي واحد ونستقبل قبلة‬
‫واحدة ‪ .‬إن المسألة بسيطة وواضحة ‪ ،‬إن الزيف والصالة يتقابلن ‪ ،‬وكلما‬
‫تقابل الزيف والصالة حصل هذا الصراع ‪ ،‬وإن هذا الصراع مؤسس على هذه‬
‫الحقيقة التي عرضتها هذه الية ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز‬
‫الحميد ( لو أنك ُأتيح لك أن تضع التاريخ في صفحة واحدة تستعرضها بلمحة‬
‫ت أن رجال ً أتقياء قاموا يدعون إلى صراط الله العزيز الحميد‬ ‫عين لعرف َ‬
‫حّرض عليهم من قبل السلطات ‪ ..‬وقيل فيهم أشياء كثيرة ‪ ..‬قيل أنهم‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫طامعون في الجاه أو في المنصب أو في المال ‪ ..‬وهم ليس في هذه أبدا ‪.‬‬
‫إن المؤمن من حيث هو مؤمن ل يكون في نفسه كذلك وهو في نفسه شره‬
‫إلى السلطة أو شره إلى المال أو الجاه ‪ ،‬ول يكون مؤمنا ً وهو يحاول أن‬
‫يكّثر من حوله النصار ليصل إلى السلطة ‪ .‬إن هذه النوازع والتطلعات‬
‫ف المؤمن أن يكون مؤمنا ً ‪ .‬إن‬‫الرديئة متى ُوجدت في نفس النسان ك ّ‬
‫المؤمنين قوم نصحوا لنفسهم ولعباد الله تعالى ‪ ،‬ل يمكن أن يغشوا بحال‬
‫من الحوال ‪ ،‬ل يريدون إل استقامة الحوال وإل أن تنصلح شؤون الناس ‪،‬‬
‫ولكن أنت إذا رأيت إنسانا ً مفسدا ً يرى إنسانا ً آخر صالحا ً ‪ ،‬إن هذا المفسد‬
‫يرى في هذا الصالح شهادة بينة وواقعية على هوانه وعلى خساسة قدره ‪،‬‬
‫فمن أجل ذلك هو ينتقم لخسته ولهوانه بالتنكيل بالناس الصالحين وبالناس‬
‫الطيبين ‪ .‬هذا على صعيد الفراد ‪.‬‬
‫فإذا نقلت إلى الصعيد العام وأخذت شريحة من التاريخ البشري تحاكم إليها‬
‫هذه القاعدة ‪ ،‬فاسأل نفسك ‪ :‬من الذي دعاه محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫في هذا الدين ؟ ما هو جوهر الخلف بينه وبين الناس ؟ قال للناس ‪ :‬إن ما‬
‫تعبدون من أصنام وأوثان باطلة ‪ ،‬فاعبدوا الله الذي خلقكم والذي إليه‬
‫ترجعون ‪ ،‬وإن ما تتحاكمون إليه من أعراف وتقاليد هي بالية وعتيقة ضارة‬
‫وتقولون وجدنا عليها الباء والجداد ‪ ،‬لن تنفعكم شيئا ً ولن تسهم أي إسهام‬
‫في حل مشكلت الحياة ول في تذليل الصعوبات الموجودة في وجه هذه‬
‫النسانية المعذبة ‪ ،‬فتعالوا إلى كلمة الله الجامعة غير المفرقة ‪ ،‬وتعالوا إلى‬
‫الله الذي يردوا الحقوق إلى أربابها ‪ ،‬ل كعدل البشر الذي يسلب الحقوق‬
‫ويمكن للظالمين من الظلم ) يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا‬
‫وبينكم أل نعبد إل الله ول نشرك به شيئا ً ول يتخذ بعضنا بعضا ً أربابا ً من دون‬
‫الله (‬
‫إذا ً هي صيحة السلم ‪ .‬فثارت عناصر الشر والفساد في وجه رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لكن كان قد ربى أصحابه ‪ ،‬وكان قد قطع الشوط‬
‫الذي كان الخطر فيه ماثل ً على القلة المؤمنة ‪ ،‬وخرج بالمؤمنين إلى رحابة‬
‫اليمان ‪ ،‬وبقيت المسألة في قانون النبوة والرسالة مسألة وقت ل أقل ول‬
‫أكثر ‪ ،‬إن أسس الحياة الجاهلية قد تهاوت ولم تبقَ إل سنوات وسينقض هذا‬
‫البناء برمته لتقوم على أنقاضه أمة السلم ولتقوم دولة السلم ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ومضت المة المسلمة ثم أدركها ما يدرك المم من الفتور في الهمم‬


‫والعزائم والنغماس في الشهوات جريا ً وراء الدنيا وأخذا ً بأسباب اللذة ‪،‬‬
‫فأصابها ما أصابها ‪ ،‬وتذكر يا رسول الله ـ بأبي أنت وأمي ـ ألم تقل ‪:‬‬

‫‪123‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ب‬‫) لتتبعن سنن من قبلكم شبرا ً بشبر وذراعا ً بذراع حتى لو دخلوا جحر ض ٍ‬
‫لدخلتموه ( كذلك فعلت هذه المة نفس الدواء نفس المشكلت نفس‬
‫الصعوبات نفس المتاعب قابلت هذه المة المسلمة ‪ ،‬ومع ذلك فإن أمتنا كما‬
‫ذكرت لكم من قبل تمتاز عن النبوات السابقة بميزتين لم تتوفرا في جيل‬
‫من الجيال ول في أمة من المم ‪ ،‬أولى هاتين الميزتين أن الله جل وعل‬
‫حفظ حقائق وحيه المنزل على نبيه المكرم صلوات الله وسلمه عليه وآخر‬
‫السورة التي نحن بصددها يشير إلى هذا الحفظ ) بل هو قرآن مجيد ‪،‬في‬
‫لوح محفوظ ( وكم ُبذلت من محاولت عبر التاريخ وعلى اختلف العناصر‬
‫والجناس واللوان لكي تغّير حقيقة بسيطة من حقائق الوحي فما أمكن ذلك‬
‫‪ ،‬لن كفالة الله ل تثقبها محاولت الدميين ‪ ،‬والله قد تكفل بهذا الدين‬
‫بالحفظ ‪ ،‬كم من أبالسة ‪ ،‬كم من شياطين ‪ ،‬كم من أفاكين ‪ ،‬كم من كذابين‬
‫حاولوا أن يزيدوا في كلم الله أو ينقصوا منه فباءت محاولتهم بالخسران ‪.‬‬
‫وهذه إسرائيل طبعت قبل سنوات من المصحف نسخا ً بمئات اللوف تزيد‬
‫منها وتنقص وتوزعها في بقاع الرض فيتلقى المسلمون النبأ ببرود ‪ ،‬لن‬
‫النسخ جميعا ً تأخذ طريقها إلى الحرق ‪ ،‬لن الله تعالى لم يسمح ولم يأذن‬
‫لحقيقة واحدة من حقائق الوحي أن يتطرق إليها الخلل ‪ ..‬فهذه الكفالة لم‬
‫تتوفر لدين من الديان في الماضي ولكنها توفرت لهذا الدين الذي هو‬
‫السلم ‪.‬‬
‫حرمت منها المم الخرى‬ ‫الميزة الثانية التي توفرت لهذه المة ولهذا الدين و ُ‬
‫جميعا ً أن سبيل السلم في العمل سبيل بشري وجماعي ‪ ،‬أي أن حقائق‬
‫الوحي كانت تنزل منجمة ومفرقة على رسول الله بالية وبالعدد من اليات‬
‫فيأخذ الرسول عليه الصلة والسلم بتنظيم الجماعة المؤمنة وفاقا ً لحقائق‬
‫هذه التوجيهات الربانية ‪ .‬فالوحي كان يوافقه عمل بنائي جماعي تنظيمي‬
‫جعل المة المسلمة أن قوام حياتها وحياة مستقبلها تتمثل في هذا العمل‬
‫الجماعي الذي ل يجوز التفريط فيه ‪.‬‬
‫ومع أن المة تعرضت لسباب شتى من ألوان التدمير المقصود والمتعمد ‪،‬‬
‫وتعرضت إلى ألوان من الدعاوى والدس فإن أمة السلم ما تزال حتى‬
‫الساعة بالرغم من تفرق الحدود وبالرغم من تعدد اللسنة واللوان‬
‫والجناس تشعر أنها أمة واحدة تجمعها رابطة العقيدة في الله ‪ ،‬ويشدها إلى‬
‫الرض من جهة وإلى الجنة من جهة أخرى نداء الله تعالى المتمثل في آيات‬
‫الله تعالى ‪.‬‬
‫إن شئت مصداقا ً لذلك فاذهب إلى الحج ‪ ،‬وانظر إلى هناك كيف يتجمع‬
‫الناس في المشاعر في تلك البقاع الطاهرة ‪ ..‬الزنجي والهندي والعربي ومن‬
‫كل لون ومن كل ملة ‪ ..‬ل تفرق بينهم اللوان والجناس واللسنة ‪ ،‬لن‬
‫الجامعة الدينية ربطت بينهم جميعا ً ‪.‬‬
‫ولهذا فنحن نجد على ألسنة الدهاقنة من الستعمار وتجار السياسة وزبانية‬
‫التلفيق والملحدة في كل جيل كلمة واحدة تتردد على ألسنتهم جميعا ً ‪ :‬ما‬
‫دام هذا القرآن موجودا ً وما دامت مكة موجودة فل سبيل إلى السيطرة على‬
‫العالم السلمي بحال من الحوال ‪ .‬اسألوا أنفسكم ‪ ،‬لماذا هذه الخصومة ؟‬
‫ألسنا نحن أمة نعيش على أرضنا وفي بيوتنا وبين أبنائنا ومن حقنا أن نتمتع‬
‫بخيراتنا ومن حقنا أن نكون آمنين وادعين ‪ .‬لماذا إذا ً ؟ ترمينا المم جميعا ً‬
‫عن قوس واحد ‪ .‬لماذا إن تحركنا لكي نزيل عن أمتنا لعنة التفرق والتمزق‬
‫التي صنعت في ديار الغرب فجعلت المة الواحدة أمما ً والدولة الواحدة‬
‫دول ؟ لماذا حينما نتحرك نحو الدولة الجامعة تنطلق الدعوات من أقطار‬

‫‪124‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الرض جميعا ً لتحطم هذه الوحدة ؟ لماذا حينما ننادي بوضع شرائع الله‬
‫موضع التطبيق أذلك شأن يخصنا أم يخصهم ؟ يخصنا ول يخصهم ‪ .‬لماذا‬
‫جميعا ً ينادون بالويل والثبور وعظائم المور ؟ لماذا ينادونا بالرجعية والتخلف‬
‫وعدم المساير ركب التقدم ‪ .‬لماذا ؟‬
‫إن مسألة عناد كما قلنا لكم ‪ ،‬ثم جوهر الصراع بين هذه المة وبين أعدائها‬
‫في القديم وأعدائها في الحديث وأعدائها في المستقبل يتمثل في هذه‬
‫الحقيقة البسيطة أننا أمة تؤمن الله العزيز الحميد وأن هؤلء ل يؤمنون بالله‬
‫العزيز الحميد ‪ .‬إن الشرق سابقا ً حاربنا ‪ ،‬وإن الغرب حاربنا بالرغم من‬
‫الغزل الرخيص الذي يقوم الن بيننا وبينه ‪ ،‬ولم يدخر وسعا ً في تحطيمنا‬
‫وابتغاء الدمار لمتنا ‪ ،‬ول أعرف أمة من المم ل في القديم ول في الحديث‬
‫وقفت موقفا ً قاسيا ً مع أمة السلم ‪ .‬إن الكل متفقون اتفاقا ً ل ريب فيه ول‬
‫شبهة على ضرورة تحطيم السلم ‪ ،‬ولكن الله من ورائهم محيط ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫أيها الخوة ليس القضية هنا ‪ ،‬في الواقع خصمك إن لم يكن بهذا الشكل فلن‬
‫يكون خصمك ‪ .‬الستعمار إن لم يكن بالصورة التي عرفناها فلن يكون‬
‫استعمارًا‪ .‬والصليبية العالمية إن لم تفعل هذا بنا فما هي بصليبية ‪ ،‬ستكون‬
‫إيمانا ً وستكون إسلما ً ‪ .‬العدو هو العدو ‪ .‬ما نحن هنا ؟ نحن فقط عند أصوات‬
‫النشاز ‪،‬عند أصوات المنكر ‪ ،‬تصدر من أناس لهم دائما ً مكان الصدارة في‬
‫ميدان التدّين الرسمي ‪ ،‬وأقول ميدان التدين الرسمي إن هؤلء حملة‬
‫الشباك وصيادون في الماء العكر وأجراء خسيسون ‪ ،‬رخيصون ‪ ،‬يعملون‬
‫على ذبح أمتنا ويعملون على التضحية بدينهم ويعملون على إغضاب ربهم جل‬
‫وعل ‪ .‬إن هؤلء موجودون ‪ ،‬وموجودون في كل مكان كما وجدوا في كل‬
‫مكان ‪ ،‬وسيوجدون في كل زمان كما وجدوا من قبل في كل زمان ‪ ،‬وإن‬
‫سبيل الخلص من شعور الثمين والظالمين سواء في الداخل أو في الخارج‬
‫التمسك بهذه الحقيقة التي هي عقدة العقد بيننا وبين أعداء هذه المة جميعا ً‬
‫اليمان بالله العزيز الحميد ‪.‬‬
‫إن الناس يناصبوننا العداء لننا مؤمنون ‪ ،‬فلكي نتخلص منهم ولكي نتغلب‬
‫عليهم لنحقق هذا اليمان في نفوسنا ‪ .‬كيف ؟ كيف يتحقق كذلك ؟‬
‫بالقاعدتين اللتين أشرت إليهما سابقا ً ‪ ،‬بما حفظ الله به محمد عليه السلم‬
‫وما حفظ به القلة المؤمنة ‪ ،‬باعتماد القرآن منهجا ً في السلوك والعتقاد‬
‫والتشريع وفي كل شيء والتحاكم إلى الله في كل ما يحدث بين الناس من‬
‫شؤون وشجون ‪ .‬ثم في ترابط الجماعة المؤمنة تضامنها تناسقها شعورها‬
‫بأنها في وجه خطر مستشرى إن لم تدرأه عن أنفسها في هذا التضامن الذي‬
‫ل حدود له ‪ ،‬لهذه الخوة التي يفرقها شيء ‪ ،‬بهذه الصفاء الذي ل يعكره أي‬
‫معكر فنحن ثائرون إلى هناء ‪ ،‬ولكن كما قلت هذا قبل مدة طويلة إن الله‬
‫باق ليس لحد سبيل عليه ‪ ،‬لكن الذي يحدث أن الله يغضب على جيل من‬
‫الجيال فقط فيسلبه شرف خدمته تعالى ويسلبه شرف النتماء الصحيح إليه‬
‫جل وعل ‪ ،‬ثم يستبدل من بعده قوما ً آخرين ‪.‬‬
‫فاتقوا الله أيها الخوة واعملوا على ترسيخ اليمان في قلوبكم وسارعوا إلى‬
‫تلوة قرآنكم والتعرف على أحكام ربكم من خلل هذا القرآن ‪ ،‬ومن خلل‬
‫سنن النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬واتقوا الله في هذه الوحدة الجامعة في‬
‫هذه الخوة العظيمة التي عقد الله عقدتها بيمينه بين قلوبكم ل تفرطوا‬

‫‪125‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫جنتكم‬ ‫فيها ‪ .‬إنها عصمتكم يوم تزيغ الراء ويوم تتفرق السبل وإنها عدتكم و ُ‬
‫إذ يدلهم الخطر‪ ،‬إن الشيطان ل يمكن أن يتسلل إلى الصف المتناسق ولكنه‬
‫يجد طريقه واسعا ً حينما يكون الصف مخلخل ً ‪.‬‬
‫فأسأل الله العلي القدير أن يرسخ معاني اليمان في قلوبنا وأن يحبب إلينا‬
‫هذا اليمان وأن يكّره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأسأله جل وعل أن‬
‫زم قلوبنا تعرف معنى هذه الخوة ‪ ،‬إنه هو المسؤول وهو الملجأ حين‬ ‫ُيل ِ‬
‫تدلهم الخطوب وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه‬
‫أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تفسير سورة البروج )‪(3‬‬


‫الجمعة ‪ 4‬جمادى الولى ‪ 22 / 1397‬نيسان ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد يا أيها الخوة المؤمنون‬
‫‪:‬‬
‫سنتابع اليوم إن شاء الله تعالى حديثنا مع سورة البروج ‪ ،‬وكان من فضل‬
‫الله تعالى أننا وقفنا في الجمعة الماضية عند جوهر الصراع بين المؤمنين‬
‫والكافرين ‪ ،‬حسبما أدرجه الله تعالى في آية واحدة من هذه السورة الكريمة‬
‫‪ ،‬وما مضى فقد مضى وليس في نيتي أبدا ً أن أعود إلى التفصيل مما نفضت‬
‫يدي منه في الجمعة الماضية ولكن ذكرى ‪.‬‬
‫ن الله علينا بالحديث عنها‬ ‫إن المسألة التي أدرجتها السورة الكريمة والتي م ّ‬
‫في الجمعة الماضية بإسهاب وإطالة مسألة ذات أهمية خاصة ‪ ،‬وهي في‬
‫الوقت نفسه ذات أهمية بالغة وما ينفع شيئا ً أن تغطى الشمس بطرف‬
‫الرداء ‪ ،‬إنه قد آن أن يتعلم الناس كل الناس أنصارا ً وخصوما ً ‪ ،‬بل قد آن‬
‫للكثير أن يعلموا أن ما حكاه الله عنهم فهو الصل ل ريب فيه ‪ ،‬وأن ما‬
‫كشفه من خبيئتهم فهو الحق ل مراء فيه ‪ ،‬وأنه مهما يحاول أعداء الله جل‬
‫وعل أن ُيلبسوا أنفسهم من اللباس مما يجتذب اللباب ‪ ،‬ويتبعوا العقول‬
‫ويستهوي الفئدة ‪ ،‬فإن ربنا جل وعل قد أوقفنا على الحقيقة عارية مجردة‬
‫من كل بهرجة ل يعلق بها زيف ول ينال منها التضليل ‪.‬‬
‫إن المعركة الخالدة كان يجب أن ل تغيب عن بال أحد هي بين اليمان من‬
‫حيث هو إيمان ‪ ،‬والكفر من حيث هو كفر ‪ .‬وأي لباس بعد ذلك يلبسه الكفر‬
‫فلن يخفى على المؤمنين إن شاء الله تعالى ‪ ،‬وذلك يتطلب على صعيد‬
‫النظر والعتقاد كما يتطلب على صعيد السلوك والعمل والحركة جميعا ً رفض‬
‫محاولت التزييف وتمييع المواقف من قبل النصار والخصوم على حد ٍ سواء ‪،‬‬
‫إن الله تعالى قد حكى في هذه السورة جوهر المسألة فقال تعالى ) وما‬
‫نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ( ولقد رأينا من خلل تاريخنا‬
‫رايات ُترفع وشعارات ُتقدم ‪ ،‬وأشنع ما في المر أن هذه الرايات والشعارات‬
‫أنهم يريدون أن يدخلوا على المؤمنين من أبواب اليمان والسلم ‪ ،‬وفي‬
‫السر غير المعلن ‪ ،‬ولكن نأمل إن شاء الله تعالى أن يكون قد استقر في‬
‫أذهان المسلمين بصورة جلية أن النقيضين ل يجتمعان ‪ ،‬وأن الليل والنهار ل‬
‫يجتمعان ‪ ،‬وأن السواد والبياض ل يجتمعان ‪ ،‬فإما إيمان خالص لله تعالى‬
‫على النحو الذي شرحناه من قبل ‪ ،‬وإما شيء آخر وراء اليمان ولكنه في‬

‫‪126‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ت إلى اليمان بصلة ‪.‬‬


‫كل الحوال ل يم ّ‬
‫وهذا شيء أحسب أنني قد فرغت منه في الجمعة الماضية وكشفت المر‬
‫على نحو يكفي إن شاء الله ‪ ،‬إل أنني ل أحب أن أجاوز هذا الموطن من‬
‫السورة قبل أن أجبر نفسي وأجبركم على الوقوف مرة أخرى عند هذه الية‬
‫بالذات ‪.‬‬
‫فيما مضى قلت لكم هنا إنه ينبغي أن ل يغيب عنا الهدف الذي نسعى إليه‬
‫من خلل هذه الحاديث فما نحن بمفسرين ‪ ،‬ولو كنا كذلك لعتمدنا في‬
‫أحاديثنا منهجا ً آخر ‪.‬‬
‫وينبغي أن ل ننسى أن القرآن الكريم هو الذي يقود المعركة في الدعوة‬
‫السلمية ‪ ،‬وهل يستطيع أحد أن ينسى أن هذه اليات البينات كانت هي‬
‫السلح الول والخير في المعركة ‪ .‬وحين يكون المر كذلك فسيكون حقا ً‬
‫ووفاًء للقرآن ولدعوة القرآن أن ل تهمل اللمحات حتى البعيدة منها ‪ ،‬وأن‬
‫يحاول النسان وهو يقرأ القرآن أن يتصور لوحة الحداث أمام عينيه كي ل‬
‫يزيغ منها شيء ‪ ،‬وإن لم يفعل فسوف ُيصاب بعمى اللوان ‪ ،‬وسوف يصاب‬
‫بقصر النظر ‪.‬‬
‫إن القرآن بالفعل كان ينزل ليكشف للمسلمين مواطئ المهمة في مزدحم‬
‫الحوادث ومعترك النضال ‪ ،‬ولكن ينبغي أن ل نغفل عن مهمة مزدوجة لليات‬
‫الكريمة ‪ ،‬إنه كان يهدم ويبني في آن معا ً ‪ ،‬كان يتجه إلى الكافرين ‪ ،‬وكان‬
‫يتجه إلى المؤمنين في آن واحد ‪ .‬فهو يقود المعركة المزدوجة التي ل يجوز‬
‫معها أن ُيغفل فيها جانبا الصراع ‪ ،‬وإذا نظرنا من هذا المبدأ في الية الكريمة‬
‫فسنجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننتبه حتى إلى اللفاظ المفردة لغرض أن‬
‫نتعرف على النطباعات التي تتركها هذه اللفاظ في مشاعر الطرفين جميعا ً‬
‫‪.‬‬
‫إن المسلمين في المرحلة التي نتحدث عنها قلة قليلة ‪ ،‬ولكنها قد تجاوزت‬
‫الخطر ‪ ،‬أصبح لديها حجم مقبول من القضايا والقواعد والسس التي تجعل‬
‫السيطرة عليها أمرا ً مستحيل ً ‪ ،‬ولكن هذا شيء ‪ ،‬وضمان الطريق حتى‬
‫النهاية شيء آخر ‪ ،‬ويجب أن نذكر ول ننسى أن القرآن واليمان والسلم‬
‫حقائق تتمثل في بشر ‪ ،‬وليست أشياء تنزل من السماء جاهزة لتحل محل‬
‫أشياء أخرى موجودة على الرض ‪ ،‬ولكنها قضايا وحقائق تنزل من السماء‬
‫على أهل الرض ليباشر أهل الرض تغييرا ً أساسيا ً وحاسما ً في داخل‬
‫النفوس لكي يكونوا على استعداد لمواجهة المشقات والصعوبات ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫إن هذه القلة التي آمنت برسول الله صلى الله عليه ترى ما حولها وتراه‬
‫على الطبيعة ‪ ،‬إنها بشر من البشر ‪ ،‬ولو أنها ُتركت للمشاعر النسانية البحتة‬
‫ولنتائج الفعل التي تتوّلد عنها لستيأسوا وألقوا بأيديهم ‪ ،‬ولكن القرآن بأنا ٍ‬
‫ة‬
‫عجيبة كان يأخذ بالهمم حتى ل تسقط ‪ ،‬كان يتناول هذه العزائم في ذروة‬
‫الخطر ليحقنها بالمادة الصالحة والمؤهلة لتجديد الحيوية والنشاط ‪.‬‬
‫إن المسلم يعرف من حقائق إيمانه الولية أنه ل يعطي للناس رسالة نفسه ‪،‬‬
‫ولكنه يقدم لهم رسالة الله ‪ ،‬وحين تدلهم الخطوب من حولنا ونكون في‬
‫وسط الصراع وجها ً لوجه أمام أعداء الله تعالى ‪ ،‬من هنا يتطّرق اليأس إلى‬
‫قلوب الناس حينما يعالجون أمر الرسالة وحينما يجابهون أعداء الله تعالى ‪،‬‬
‫لكن المؤمن حينما يستحضر في ذهنه أنه مجرد أداة ووسيلة بيد القادر‬

‫‪127‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القاهر الجبار المنتقم ‪ ،‬وبأن أمر الرسالة نصرا ً أو هزيمة ليس إليه ‪ ،‬والذي‬
‫هو فعل ً مسؤول عنه ومطالب عنه هو تحرير النية وإخلص القلب لله تعالى‬
‫والتدّرع بالثبات والصبر ‪ ،‬لو أن المسلم في معترك الصراع ذكر هذا لنزاحت‬
‫عنه غاشية الهزيمة ‪ ،‬وَلشعر أنه يفيء إلى جانب عزيز كريم قوي قادر قاهر‬
‫ل ُيغالبه أحد إل غلبه ول يتصدى له أحد إل دندن عليه ‪.‬‬
‫هذه الحقيقة كما قلنا من أوليات اليمان موجودة في الية التي نتلوها ‪ ،‬إن‬
‫الله يقول ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ‪ ،‬الذي له ملك‬
‫السماوات والرض والله على كل شيء شهيد ( فيناسب بعد تحديد جوهر‬
‫الصراع بأنه ل خلف بين المؤمنين ومن عداهم إل على حقيقة اليمان وبأنه‬
‫ل صح ما يقال بأن الذين يقفون مع حقائق الكتاب المنزل ويحاولون إيصال‬
‫حرموا منه لعوامل وذرائع شتى ل أرب لهم في‬ ‫هذا النور إلى الناس الذين ُ‬
‫عرفوا أم لم ُيعَرفوا ‪ ،‬بل إن‬ ‫أموال الناس ول شيء آخر ‪ ..‬وسواء عليهم ُ‬
‫المؤمنين حينما ُيعَرفون من قبل الناس يتمنون لو أن الله أخفى لهم أعمالهم‬
‫‪ .‬إن المؤمنين ليسوا في سبيل من هذه السبل التي يتحدث عنها الناس في‬
‫مختلف القطار وفي مختلف الجناس ‪ ،‬ولكنهم إن كان لهم جرم ‪ ،‬إن كان‬
‫لهم ذنب ‪ ،‬فذنبهم وجرمهم هو هذا اليمان ‪ ،‬والذي حّرض عليه دعاة السوء‬
‫والفساد هو أنهم آمنوا بالله ربهم ‪.‬‬
‫بعد أن حرر الله تعالى جوهر الصراع لكي يقطع على المؤمنين طريق التأثر‬
‫بما يثيره أعداء الله في وجوههم وبين أقوامهم من المغفلين من أن‬
‫المؤمنين يريدون كذا وكذا ‪ ،‬بعد أن وقعت المثولة البارزة أمام أعين‬
‫المؤمنين والكافرين جميعا ً هو أنها جاءت وفود المكيين إلى رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم تعرض عليه المغريات وتنثر بين يديه المفاتن ‪ ..‬إن كنت تريد‬
‫مال ً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مال ً ‪ ..‬وإن كنت تريد ملكا ً‬
‫ودناك علينا فل نقطع أمرا ً دونك ‪ ..‬وإن كنت تريد النساء زوجناك من‬ ‫س ّ‬
‫تشتهي وتختار من أجمل نسائنا وأكرم بيوتاتنا ‪ ..‬بعد هذا كله يقول لهم‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ :‬إن النسان المؤمن ل يسعى إلى شيء من‬
‫هذا القبيل ول يطلب أغراضا ً من هذا المستوى ‪ ،‬إنه يقول لهم ‪ :‬ما لي هذا‬
‫الذي قلتم ولكن الله بعثني بشيرا ً ونذيرا ً فإن تقبلوا مني فذلك حظكم في‬
‫الدنيا والخرة ‪ ،‬وإن تردوه علي أصبر لمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم‬
‫وهو خير الحاكمين ‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن المؤمن ككل جهاز من أجهزة الدنيا محتاج إلى أن ُيشحن‬
‫بالطاقة كلما كادت هذه الطاقة أن تفرغ ‪ .‬وفي الصراع ُينفق النسان كمية‬
‫هائلة من الطاقة فهو بحاجة إلى أن ُيشحن باستمرار ‪ .‬فإذا جئتم إلى اليات‬
‫وذلك هو الغرض الذي أريد أن أقف اليوم عنده وأقف وقوف النسان المتدّبر‬
‫المتأمل الذي يعلم أن هذا القرآن سلح المسلمين في معركتهم مع أعداء‬
‫الله تعالى ‪ ،‬فمن أجل ذلك عليهم أن يتدّبروه ) أفل يتدّبرون القرآن ( ومن‬
‫ذر النبي عليه الصلة والسلم من عدم التدّبر ليات الله وأشار‬ ‫أجل ذلك ح ّ‬
‫إلى أن قوما ً ينزلون بين المسلمين يقرأون القرآن ولكن ل يجاور حناجرهم ‪،‬‬
‫ولذلك أريد أن ألفت نظركم إلى أن الية حملت صفات من صفات الله‬
‫تعالى ‪ ،‬والذي يلفت الذهن وينير الطريق أمام المؤمن هو الدقة في اختيار‬
‫في اللفاظ ‪ ،‬إن الله تعالى يقول ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله ( كان‬
‫يمكن أن ُيكتفى بالكلم عند هذا الحد وتكون القضية على سوائها ‪ ،‬إن جوهر‬
‫الصراع مع هؤلء الناس أنهم آمنوا بالله ‪ ،‬ويمكن أن ينتهي كل شيء عند‬
‫هذه الكلمة ولكن الله تعالى أردف اسمه الكريم الذي هو ) الله ( بأوصاف ‪،‬‬

‫‪128‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ما هذه الوصاف؟ الوصف الول أنه العزيز ‪ ،‬والوصف الثاني أنه الحميد ‪،‬‬
‫والصف الثالث أنه مالك كل شيء ‪ ،‬والوصف الرابع أنه شهيد على كل‬
‫شيء ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫هذه الوصاف الربعة ‪ :‬العز والحمد والملك والشهادة جاءت في مكانها‬


‫اللئق والمناسب بل وفي مكانها الضروري من سياق القضية التي عرضتها‬
‫سورة البروج ومن سياق الواقع التاريخي المادي الذي كان المسلمون‬
‫صُعدا ً إلى الله تعالى ‪.‬‬‫يتحركون من خلله وهم يأخذون طريقهم ُ‬
‫إن المؤمن كما قلنا وهو في غمرة الصراع بحاجة إلى أن يشعر بمتانة الركن‬
‫هد يدخل المعركة يقاتل حينما‬ ‫الذي يستند إليه ‪ ،‬وإن النسان كما هو مشا َ‬
‫يكون من حوله عدد محصور من الناس على نحو ‪ ،‬ولكنه حين يعلم وأن من‬
‫ورائه جيوش جرارة يقاتل على نحو آخر لعله يكون مضروبا ً بعشرة أو بمائة‬
‫أو أكثر ‪ ،‬إن الهمة التي ُتشعر النسان بأنه مستند إلى ركن شديد ويأوي إلى‬
‫كهف مكين همة ل تتقاعس ول تتردد ول تنكس ول تنهزم ‪ ،‬وما أحوج‬
‫وح‬
‫المؤمنين وهم في تلك الظروف الحالكة إلى أن ُيشار إليهم وإلى أن ُيل ّ‬
‫أمام أعينهم إن الله الذي يلجئون إليه عزيز حميد ‪ .‬ما معنى أن يكون الله‬
‫عزيزا ً ؟ ما معنى وصف الله بالعزة ؟ إن العزة مأخوذة من العزاز ‪ُ ،‬يقال في‬
‫لغة العرب التي نزل بها القرآن أن هذه أرض عزاز أي أنها أرض صلبة ل يؤثر‬
‫فيها شيء ‪ ،‬بمعنى أنها مهما ضربت فيها المعاول فسوف تنثني عليك لنها‬
‫أرض عزاز ومتينة وصلبة ‪ ،‬ومن لوازم هذا المفهوم في أصل الوضع اللغوي‬
‫الغلبة والقهر ‪ ،‬ولذلك ما حكاه الله في القرآن الكريم قال ) وعّزني في‬
‫الخطاب ( أي غلبني وقهرني في الخطاب ‪ ،‬فوصف الله بأنه عزيز أي أنه‬
‫يغلب كل شيء ول يغلبه شيء ‪.‬‬
‫فإذا عرفنا أن هذا اليمان وهذا السلم وهذه الرسالة التي يتحرك لها‬
‫ويتحرك بها المؤمنون بالله هي من عند الله وأن الله عزيز ل ُيغاَلب وأن الله‬
‫غالب على أمره فخليق بالمؤمن أن يشعر بالراحة وأن يشعر بالرضى وأن‬
‫جر بين يديه ‪ .‬هذا على صعيد الجبهة المؤمنة ‪ ،‬فإذا‬ ‫يشعر بعوامل القوة تتف ّ‬
‫ت إلى الجبهة التي تقاتل المؤمنين ‪ ..‬إلى معسكر الكافرين والمشركين‬ ‫نظر َ‬
‫من يقاتلون ؟ إنهم ل يقاتلون هؤلء الناس ‪ ،‬هم ل‬ ‫فهم خلفاء أن يعلموا َ‬
‫يدخلون معركة مع البشر ‪ ،‬إن معركتهم مع الله العزيز القاهر ‪ ،‬ومن كان‬
‫منهم ذا قلب ولب فسوف يدرك أن هذه المعركة ما دامت طبيعتها بهذا‬
‫الشكل فخاتمتها محددة ومحسومة ‪.‬‬
‫إن الصف الكافر محكوم عليه بأن ينهزم وبأن يفشل وأن يتراجع إلى غير‬
‫رجعة ‪ ،‬لو كان المر أمر بشر لبشر لنتهى كل شيء ولحسمت المعركة من‬
‫بدايات الطريق ‪ ،‬ولكن المسألة مسألة صراع بين طرفين ل يتكافآن ‪ ،‬بين‬
‫الله وبين هؤلء الناس ‪ ،‬فمن أجل هذا فإننا حين نمشي مع وقائع تاريخنا فإننا‬
‫نجد وقائع وأخبارا ً تكشف لنا عن حقيقة هذا الشعور الذي عُّبئ به المسلمون‬
‫‪ .‬في فتوح العراق كان رجل من المسلمين العراب ممن انُتدب لمقابلة‬
‫رستم قائد الجحافل الفارسية التي هالها أن يحدث هؤلء العراب أنفسهم‬
‫بغزو فارس ‪ ،‬وقصاراهم كما قال لهم رستم أن يأتي الوافد منهم ويأخذ شيئا ً‬
‫من التمر ثم يرجع ‪ .‬ولكن العرب الذين عّزوا بالسلم والتفتوا إلى شريعة‬
‫خلقوا خلقا ً آخر فأصبحوا أمة أخرى‬ ‫محمد عليه الصلة والسلم شعروا أنهم ُ‬

‫‪129‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ل شأن لها ول صلة بينها وبين الحياة التي كانت عليها فيما مضى ‪ ،‬إن رستم‬
‫ما تعلمون أننا أقوى منكم عدة وأكثر‬‫يسأل هذا العرابي ‪ :‬ما أخرجكم ؟ أ َ‬
‫منكم عددا ً وأوسع منكم رقعة أرض ؟ ما يكون الجواب ؟ وماذا سيجيب هذا‬
‫العرابي ؟‬
‫لو كان جاهليا ً لجاء إلى رستم سائل ً متسوّل ً يطلب شيئا ً من الميرة ويرجع‬
‫بشيء من التمر ‪ .‬ولكنه النسان المؤمن المسلم الذي شرب حقيقة اليمان‬
‫وعرف أنه يستند إلى ركن شديد ‪ ،‬قال له ‪ :‬يا هذا دعك من هذا الكلم ‪ ،‬إنك‬
‫ل تجادل البشر ‪ ،‬ولكن تجادل القدر ‪ .‬إن كل مسلم كان يشعر أنه قذيفة‬
‫درية من الله تعالى ل يقف في وجهها شيء ‪ ،‬وبذلك انتصروا ‪ ،‬وبذلك‬ ‫ق َ‬
‫عّزوا ‪ .‬والمسلمون حين ُوضعت أمامهم صفة الله العزيز إنما ُوضعت تذكيرا ً‬
‫ملهم هذه المانة‬‫لهم بالملجأ الذي يلجئون إليه تذكيرا ً لهم بأن الله الذي ح ّ‬
‫مر أعداءهم بشرط أن ُيخلصوا معهم نواياهم وأن‬ ‫سيتولى كفايتهم وسيد ّ‬
‫يحرروا قلوبهم خالصة لوجهه الكريم ‪ ،‬وكذلك هي إشعار للصف الكافر لكي‬
‫يعلم بأن معركته ليست مع هؤلء ولكن مع الله تعالى ‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫المعركة محسومة منذ بداية الطريق ‪ .‬وعلى كل عاقل أن يجنب نفسه أن‬
‫يخوض معركة من هذا القبيل في كل زمان وفي كل مكان ‪ .‬في الوقت الذي‬
‫تتحرك فيه المعركة بهذا الشكل فإن قانون العبث ُيلغى ‪ ،‬وإن قانون العدة‬
‫ُيلغى ‪ ،‬ول يبقى إل قانون واحد هو قانون الله العزيز الذي يغلب كل شيء ول‬
‫يغلبه أي شيء ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫دث بعض المكيين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا‬ ‫حينما تح ّ‬
‫قريشا ً إلى العودة إلى عبادة هبل والعزى والصنام قال سهيل بن عمرو‬
‫رضي الله عنه يذكرهم بالله ويقول لهم ‪ :‬يا قوم ‪ ..‬الله الله في أنفسكم ل‬
‫من الله هذا‬ ‫تكونوا آخر الناس إسلما ً وأولهم ارتدادا ً عن هذا الدين ‪ ،‬والله ليت ّ‬
‫ت ورأيتم محمدا ً‬ ‫الدين ‪ .‬قال قائل منهم ‪ :‬ما يدريك ؟ قال سهيل ‪ :‬لقد رأي ُ‬
‫صلى الله عليه وسلم يقف إلى جوار هذا البيت وحيدا ً ل يوجد معه أحد يقول‬
‫ن في هذا الدين‬ ‫لكم ‪ :‬إن الله غالب على أمره ‪ ،‬ويقول لكم ‪ :‬والله لتدخل ّ‬
‫طائعين أو كارهين ‪ .‬ولقد كان محمد في ذلك الزمن أهون على أحدنا من‬
‫كسرة الخبز في يد الصبي ‪ ،‬ولقد رأيتم ما حقق الله موعوده على لسان نبيه‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫إن تحرير المعركة كما قلنا على الشكل الذي توحيه هذه اللفظة المفردة‬
‫) الله العزيز ( شيء ضروري ‪ ،‬كي تنقطع في نفوس المسلمين اللتفات إلى‬
‫غير الله تعالى ‪.‬‬
‫ثم هو أيضا ً ) الحميد ( وقد يكون من الغريب أن يأتي وصف الحميد بعد‬
‫وصف العزيز ‪ ،‬ولكن ل غرابة إذا مددنا البصر إلى ما بعد هذه الية فقط ) إن‬
‫الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب‬
‫الحريق ( إن بين المعترضتين تتركز العلقة بين الحميد وبين مناسبة هذا‬
‫الكلم ‪ ،‬نرجع إلى وصف الله جل وعل بأنه الحميد إن المعركة كما قلنا‬
‫ليست مع الناس ولكن مع الله وإن المؤمنين كما قلنا ليس لهم مطمع ول‬
‫مناصب ‪ ،‬وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله‬
‫سد العلقة‬ ‫ُ‬
‫عليه وسلم وليكن منهم ما يكون ‪ ،‬سنشرح هذا ولكن أريد أن أج ّ‬
‫بين الصفة الكريمة لله ) الحميد ( وبين مناسبتها لهذا الكلم ‪ ،‬إن المؤمنين‬

‫‪130‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تعرضوا عبر أزمانهم لما ل يحصيه إل الله من الكوارث والهوال على يد‬
‫الصديق أو العدو أو القريب أو البعيد ‪ ،‬ومن حكمة الله تعالى بهذه النسانية‬
‫أن جعل المؤمنين برآء من الحقد ومن الضغينة ‪ .‬إن الفاسد في الرض‬
‫وقاتل الخ وقاتل العم ل شيء بيننا وبينه حينما يؤمن بالله العزيز الحميد ‪.‬‬
‫إن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبل أبطال المعارك الذين مّثلوا‬
‫بأصحابه بالحضان ‪ ،‬استقبلهم باسما ً ‪ .‬إن الحقاد ل سبيل لها إلى قلبه ‪ ،‬فهو‬
‫ب ما قبله‬ ‫سد ‪ .‬ومن هنا كان السلم يج ّ‬ ‫ل يتحرك بالحقاد ‪ ،‬إنه حب غامر مج ّ‬
‫‪ ،‬جاء عمرو بن العاص رضي الله عنه في السنة الثامنة من الهجرة ليسلم‬
‫فلما أراد أن يبسط يده لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ :‬يا رسول الله‬
‫إني أريد أن أشترط لنفسي ‪ .‬قال ‪ :‬تشترط ماذا ؟ قال ‪ :‬أن ُيغفر لي ما‬
‫تقدم من ذنبي ‪ .‬إن ابن العاص يعلم أن آذى المسلمين كثيرا ً ‪ ،‬فهو سافر إلى‬
‫الحبشة لكي يرد ّ المسلمين من هناك كما تعلمون من القصة ‪ .‬فيقول له‬
‫ب ما قبله ‪،‬‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ :‬يا عمرو ألم تعلم أن السلم يج ّ‬
‫أي ُفتحت صفحة جديدة ‪.‬‬
‫إن الله تعالى حين يقول ) وما نقموا منهم إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (‬
‫تجيء كلمة الحميد لتفتح بابا ً واسعا ً من اللم والرحمة أمام هؤلء الذين‬
‫يبذلون قصارى جهودهم من أجل إطفاء شعلة اليمان ‪ ..‬من أجل إطفاء نور‬
‫الله تعالى ‪ ،‬ل يا معاشر بني آدم ‪ ،‬إن رحمة الله مفتحة أبوابها ‪ ،‬وإن عليكم‬
‫أن تعلموا أن الله حميد ‪ ،‬ووصف الحميد يتضمن معنيين متلزمين ‪ ،‬الول ‪:‬‬
‫أن الله هو المستحق للحمد ‪ ،‬بمعنى أنه هو واهب النعم وليس معه أحد من‬
‫الناس ‪ ،‬ل من شريك ول وزير ‪ ،‬فمن حقه على الناس أن يحمدوه ‪ ،‬إنك ترى‬
‫أن من صميم الطبع البشري أن يحمد النسان من يقدم له معروفا ً ‪ .‬ولو أن‬
‫أحدا ً أسدى إليك معروفا ً بسيطا ً فمن الطبيعي أن تشكره على ذلك ‪ .‬ذلك‬
‫شيء موجود في طبع النسان ولكن النسان كما قلنا أكثر من مرة محكوم‬
‫بقوانين الزمان والمكان فهو من أجل ذلك قّلما يتسامى بنظره وببصيرته إلى‬
‫ما وراء قوانين الزمان وقوانين المكان ‪ ،‬انظر إلى ما وراء هذه الحجب التي‬
‫أمامك لترى أن الله تعالى هو واهب النعم ل أحد معه في ذلك ) وما بكم من‬
‫نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضّر فإليه تجأرون ( إن كل خير وكل نعمة‬
‫يتقلب فيها ابن آدم فمرجعها إلى الله تعالى ‪ .‬فمن هنا كان الله مستحقا ً‬
‫للحمد سبحانه وتعالى ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫وأيضا ً ثمة معنى آخر ‪ ،‬وهو أن الله يحمد عباده المؤمنين ‪ ،‬الله ليس بحاجة‬
‫إليكم أبدا ً ‪ ،‬ليس بحاجة إلى عبادتكم ‪ ،‬ولكن من واسع فضل الله ومن عميم‬
‫نعمة الله أنه يحمدكم أيضا ً حينما تحمدونه على نعمة أنعمها عليكم ‪ .‬يقول‬
‫النبي عليه الصلة والسلم ‪ :‬إن الله يرضى من المسلم إذا أكل الكلة أو‬
‫دم كل شيء ‪،‬‬ ‫شرب الشربة أن يحمده عليها ‪ .‬ويقول أيضا ً ‪ :‬لو أن النسان ق ّ‬
‫أي أخذ كل شيء من الله تعالى ‪ ،‬كل النعم الموجودة على الرض ‪ ،‬لو أن‬
‫النسان أخذها فقال ‪ :‬الحمد لله لكانت كلمة الحمد لله خيرا ً وأثقل في‬
‫الميزان من كل هذه النعم التي أعطاها الله للنسان ‪ .‬إن النعم يتمتع بها‬
‫النسان والحيوان ‪ ،‬وتكون كلمة الحمد لله في مجال العتراف لصاحب‬
‫النعمة بأنه هو الذي أوصلها إليك وهو الذي يسرها لك ‪.‬‬
‫إن معنى الحميد تتجلى أن الله أيضا ً يحمد عباده ‪ ،‬وفي ذلك يأتي الحديث‬

‫‪131‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القدسي الذي يرويه النبي عليه الصلة والسلم عن ربنا تبارك وتعالى يقول ‪:‬‬
‫وإذا ذكرني في مل ذكرته في مل خير من ملئه ‪ ،‬وإذا تقّرب إلي شبرا ً تقربت‬
‫إليه ذراعا ً ‪ ،‬وإذا تقّرب إلي ذراعا ً تقّربت إليه باعا ً ‪ ،‬وإن جاءني يسعى أتيته‬
‫هرولة ‪ .‬إن الله جل وعل يحمد عباده ول يوجد شيء يعيبه في ذلك ‪.‬‬
‫إن وصف الحميد في هذه الية يفتح أمام هؤلء المعاندين البواب مشرعة‬
‫كي ل يتمادوا في هذا الطريق البغيض ‪ ،‬طريق الضلل وطريق البعد عن الله‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫والوصف الثالث الذي جاء هنا هو أنه تعالى مالك كل شيء ‪ ،‬وينفع في هذا‬
‫المقام أن نقول أننا نحن وخصومنا وكل ما في السماوات وما في الرض ‪،‬‬
‫ومن في السماوات ومن في الرض بيد الله ل إله إل هو ‪ ،‬يتصرف بنا كيفما‬
‫يشاء ‪ ،‬ل نخرج عن إرادته ‪ ،‬ول نغيب عن علمه ‪ ،‬هو المالك لكل شيء الذي‬
‫له ملك السماوات والرض ‪ .‬فإذا كان المر كذلك فيجب علينا نحن المؤمنين‬
‫أن ل نبتئس وأن ل نيأس ‪ ،‬ويجب أن ل نشمئز ول نتضعضع حينما تكثر‬
‫النكبات والكوارث والمحن ‪ .‬وعلى هؤلء الذين يقاتلون المؤمنين أن يتذكروا‬
‫أنهم خلق من خلق الله دائما ً تحت مفهوم الملك لله تعالى ‪.‬‬
‫لو أنني أردت أن آخذ بأيديكم إلى الخوارق لذكرت لكم شأن ذلك الرجل‬
‫التقي العابد الذي غضب عليه سلطان من الجائرين فأمر بأن ُيلقى في الجب‬
‫وأن تطلق عليه السباع لكي تفترسه ‪ ،‬وبالفعل ألقي هذا النسان التقي في‬
‫الجب وأطلق عليه السبع وقال الناس ‪ :‬مات الرجل ‪ .‬ومن عجب أن يط ّ‬
‫ل‬
‫المطّلون على الجب فيروا أن الرجل مستغرقا ً في الذكر والتأمل ‪ ،‬ويرون‬
‫السبع السد يدور حول هذا النسان التقي ‪ .‬وحين ُأخرج من الجب سألوه‬
‫فقال ‪ :‬ما كان علي من بأس وكنت أفكر في لعاب السد ‪ ،‬هل هو طاهر أم‬
‫نجس ‪ .‬هذا هو الشيء الذي خطر على بالي ‪.‬‬
‫إذا ً فل ينبغي للمؤمنين أن يلقوا بال ً للمتاعب والمصاعب التي يرونها وهم في‬
‫طريق الدعوة ‪ ،‬ذلك شيء من طبيعة الطريق ‪ ،‬وإنه ل علج لهذه الحالة إل‬
‫الشعور بأننا جميعا ً ملك لله تعالى ‪.‬‬
‫ويأتي الوصف الرابع ‪ ،‬إنك حين تفعل السيئة وتستخفي بها عن أعين الناس‬
‫ل تشعر بوخذ الضمير بنفس النسبة وبنفس المقدار الذي يكون عليه شعورك‬
‫وأنت فعلت نفس السيئة أمام أعين الناس ‪ ،‬حين يكون ذنبك أمام الجمهور‬
‫فإنك تتضاءل وتستحي وتخجل ‪ ،‬لنك تشعر أنها الفضيحة التي ل يمكن أن‬
‫ُيغطى عليها ‪ .‬والله تعالى بإيراد هذا الوصف ) والله على كل شيء شهيد (‬
‫يريد أن ُيعِلم هؤلء الذين يناوئون المؤمنين أن جريمتهم كبيرة ‪ ،‬أل يعلمون‬
‫أن الله ل يعلم سرهم ونجواهم ؟ بلى ورسل الله لديه يكتبون ‪ ،‬إن الله على‬
‫كل شيء شهيد ‪ ،‬إن الله يستجيش عاطفة الحياء في نفوس هؤلء الناس‬
‫لكي يفيئوا إلى شيء من المعاني الكريمة التي تتحرك عادة في نفس‬
‫النسان ‪.‬‬
‫ً‬
‫هذه أوصاف أربعة ‪ ،‬كنت خليقا أن أمّر عليها حتى نبرزها كي يكون فهمنا‬
‫للقرآن الكريم صحيحا ً وسليما ً ‪ ،‬على نحو مقارب مما كان يفهمه الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ‪ ،‬ومما كان يفهمه أيضا ً أعداء الله من‬
‫المشركين والجبارين في ذلك الزمان ‪.‬‬
‫وما أعظمها من عبر ودروس للمؤمنين لو أنها استقرت في النفوس لجعلت‬
‫من الناس أناسا ً آخرين ‪ ،‬ولحالت هذا النسان مخلوقا ً آخر يستصغر كل‬
‫شيء في جنب الله تعالى ‪ ،‬ويستهين بكل شيء طالما هو مؤمن بأنه يأوي‬
‫إلى ركن شديد ‪ ،‬يأوي إلى الله العزيز الحميد ‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولو أننا عرفنا معاني أوصاف الله تعالى وانتفعنا بهذه المعرفة في حياتنا‬
‫العملية لتغيرت الحوال ولذللت مصاعبنا ‪ ،‬ولكن الله وحده هو الذي بيده كل‬
‫شيء ‪ ،‬فنسأله وهو المعين أن يهدينا سبل السلم وأن يحبب إلينا اليمان‬
‫وأن يزينه في قلوبنا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‬
‫والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫تفسير سورة البروج )‪(4‬‬


‫الجمعة ‪ 11‬جمادى الول ‪ 29 / 1397‬نيسان ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذي اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫يحسن أن نستذكر الواقعة التاريخية التي أشارت إليها بعض آيات هذه‬
‫السورة ‪ ،‬وُأديرت السورة جميعا ً على الدروس المستفادة منها ‪ ،‬فنحن الن‬
‫مع الية الكريمة ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم‬
‫عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( وكذلك مع بعض مما ييسر الله تعالى من‬
‫اليات التي تلي هذه الية ‪.‬‬
‫وأقول إنه يحسن أن نتذكر الواقعة التاريخية لما بين هذه الواقعة وإشعاعات‬
‫الية من تناسق وانسجام ‪ ،‬وعلى وجه الختصار فإن الواقعة التاريخية تقول‬
‫إن نفرا ً من المؤمنين عرفوا الطريق الصحيح واهتدوا إلى العقيدة الحقة‬
‫فآمنوا بها ودعوا إليها وثار عليهم خصوم الحقيقة وأعداء الصواب ففتنوهم ‪،‬‬
‫وكانت الفتنة تعريض هؤلء المؤمنين للون من العذاب الرهيب ‪ ،‬وهو حفر‬
‫الخاديد في الرض وإشعال النار فيها وإلقاء المؤمنين في هذه النار ليحترقوا‬
‫بها وهم أحياء ‪.‬‬
‫وفي الحاديث الشريفة التي عرضناها لكم قبل اليوم إيضاح ل بد من الشارة‬
‫إليه ‪ ،‬فإن الغلم الذي كان مفتاح القضية أعجز الملك المتجبر ولم يستطع‬
‫هذا الجبار العنيد أن يقضي عليه ‪ ،‬فكان مما أراد الله تعالى أن أنطق الغلم‬
‫ت أن تقتلني فخذ من كنانتي سهما ً‬ ‫بالمشورة والرأي فقال للملك ‪ :‬إن أرد َ‬
‫وب السهم إلي وقل ‪ :‬باسم الله رب الغلم فإنك ستقتلني ‪ .‬ولمر أراده‬ ‫وص ّ‬
‫الله تعالى فإن هذا الملك الجبار فعل ما أشار به الغلم فقال ‪ :‬باسم الله‬
‫رب الغلم وأطلق السهم فأصاب الغلم في صدره فقضى عليه ‪ .‬ورأت‬
‫جماهير الناس ما الذي حصل ‪ ،‬بعدما تسامعت ما قام به الملك لكي يقضي‬
‫على الغلم فباءت بالفشل كلها ‪ ،‬فقالوا حين رأوا هذا ‪ :‬آمنا برب الغلم ‪.‬‬
‫ثم نحن أمام لوحة واقعية ‪ ،‬جيل من الناس آمن بالرسالة فأخذ بها لنفسه‬
‫ودعا الناس إليها وصبر على البلء والمتحان ‪ .‬وكان البلء رهيبا ً ومنكرا ً ‪ ،‬ومع‬
‫هذا قابله المؤمنون بالرضا والتسليم ‪ ،‬فمن قدر عليه الملك راح ضحية هذه‬
‫النار المتوقدة في الخاديد ‪ .‬وقد يخطر لبعض الذهان على مّر العصور‬
‫والزمان أن عمليات البادة والستئصال وتتبع المؤمنين في الطرق والسكك‬
‫يمكن أن يكون وسيلة فعالة في مكافحة اليمان ووقف زحف السلم ‪.‬‬
‫ولكن حين نرجع إلى الواقعة فنحن ل نعلم إن كان قد بقي أحد من المؤمنين‬
‫لم ينله العذاب ولم تزهق روحه في الخاديد ‪ ،‬ل نعلم ‪ ،‬لكن الذي هو أشبه‬
‫أن يكون المؤمنون جميعا ً لقوا هذه الميتة الشنيعة البشعة ‪ ،‬فقد تذكرون أن‬
‫مما جاء في نص الحديث أن امرأة ممن آمن بالله جاءت وهي تحمل رضيعها‬

‫‪133‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫على صدرها ‪ ،‬فلما أرادت أن تقتحم النار فكأنما أدركها ما يدرك الم من‬
‫شفقة على الوليد فأحجمت وترددت ‪ ،‬فقال لها هذا الغلم الرضيع ‪ :‬يا أماه‬
‫ضع فيشبه‬ ‫اثبتي واصبري فإنك على الحق ‪ .‬فإذا كان العذاب ينال الطفال الر ّ‬
‫أن يكون هذا العذاب قد أتى على جميع المؤمنين في تلك اللحظة ‪ .‬إل أن‬
‫الذي يدهش هو مكر الله تعالى ) ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (‬
‫فقد وقع في ذهن الملك الجبار أنه بقتله لكل المؤمنين أنه سيخل له وجه‬
‫الناس ولن تشكل هذه الدعوة عليه بعد الن أي خطر ‪ ،‬فقلب الله عليه‬
‫مقصوده ‪ ،‬فحين ضرب الغلم وقال بسم الله رب الغلم تنبه الناس إلى أن‬
‫الملك قد استفرغ جهوده كلها ولم يترك وسيلة ول حيلة من أجل أن يقتل‬
‫هذا الغلم فأنجاه الله تعالى ‪ ،‬ولم يبقى في يد الملك شيء يستطيع أن‬
‫يفعله تجاه هذا الغلم المؤمن ‪ ،‬فلما ضربه مسميا ً بسم رب الغلم أدرك‬
‫الناس أن الملك ليس تلك الذات المتعالية عن البشر وعن سواد الناس‬
‫وجماهير الشعب ‪ ،‬أن الملك ليس تلك التي تملك العطاء والرزق والحرمان‬
‫والحياء والماتة ‪ ،‬وأن فوق هذا الملك قوة هي أعلى وأقوى وأقدر ‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن المر بهذه المثابة لما مات الغلم إذ سمى عليه بسم الله رب الغلم ‪،‬‬
‫وحين رأى الناس هذه الواقعة تحدث أمام أعينهم قالوا جميعا ً آمنا برب الغلم‬
‫‪ .‬أي أنه جيل مضى حرقا ً في الخاديد ولكن الرض في اللحظة ذاتها أنبتت‬
‫جيل ً آخر أخذ بالقضية ومشى بها وكان من سللتها والله أعلم ذلك الوفد‬
‫النصراني الذي جاء زائرا ً النبي عليه الصلة والسلم في السنة التاسعة أو‬
‫العاشرة من الهجرة ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫إن الية تتناسق مع الواقعة ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم‬


‫يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ‪ ،‬إن الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات لهم جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ( هنا نطلب‬
‫إليكم جميعا ً لهذا الذي سنقول ‪ .‬قبل كل شيء أحب أن تعلموا علما ً ل يدخله‬
‫الريب ول يعتوره الشك أن السلم بمفاهيمه العظيمة وبقضاياه العالية غريب‬
‫بين المسلمين ‪ ،‬وُأشدد غريب بين المسلمين ‪ ،‬وأن المسلمين بأمس الحاجة‬
‫إلى أن يعرفوا أهداف إسلمهم الرفيعة وقضاياه الكبرى ‪ ،‬وإنه ليشدني إلى‬
‫المقارنة إلى أنني كلما توغلت في دراسة السلم والقرآن على وجه‬
‫الخصوص تكشفت لي جوانب من هذه العلقات المتشابكة بين شؤون‬
‫السلم كلها والتي يمكن أن يكون مستحيل ً أداؤها بالكلم الذي يفهمه سواد‬
‫الناس ‪.‬‬
‫إن المر الذي يستثير التفكير هو أن هناك مشابهة واضحة وقوية بين هذا‬
‫السلم وبين نبي السلم صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وليست المشابهة التي‬
‫أشير إليها هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متخلقا ً بأخلق‬
‫القرآن أو ما أشبه فالقضية أبعد ‪ .‬خذ القرآن واقرأه من فاتحته إلى خاتمته‬
‫فأنت تشعر باستمرار مع كل آية ومع كل كلمة ومع كل حرف أنك أمام ذات‬
‫متعالية قاهرة متسلطة هي التي تتحدث ‪ ،‬وهي التي تخاطب وهي التي تأمر‬
‫ور أن هذا القرآن‬ ‫وهي التي تنهى وهي التي تشير إلى مسالك الطريق ‪ .‬تص ّ‬
‫نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وظل ينزل عليه ثلثا ً وعشرين سنة‬
‫اختلفت عليه خللها الحوال وتقلبت به الطوار ورأى ما رأى وسمع ما سمع ‪،‬‬
‫أرأيت في القرآن شيئا ً ولو بعض آية يشير إلى هذه النفعالت البشرية التي‬

‫‪134‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كانت تعتري نفس محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ل ‪ ،‬أبدا ً ‪ ،‬بل إننا لنجد أن‬
‫القرآن يحرص أبلغ الحرص على الفصل الكامل بين حقيقة الوحي وبين‬
‫شخص النبي صلى الله عليه وسلم ‪ .‬إن الرسول عليه السلم حينما جاءته‬
‫هذه النعمة من الله كان حريصا ً عليها غاية الحرص يحبها ويريدها ويشتهي أن‬
‫تدوم له آناء الليل وأطراف النهار ‪ ،‬وليس بعيدا ً عنكم تلك الواقعة من‬
‫حوادث السيرة التي تقص عليكم خلل البحث في فترة الوحي ‪ ،‬فإن الوحي‬
‫فتر عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة يختلف في تقديرها وتحديثها رواة‬
‫السيرة إل أن الشيء الذي نقف عنده متأملين هو أن النبي عليه السلم‬
‫حينما تلّبث عليه الوحي وفتر حاول أن يتردى من شواهق الجبال ‪ ،‬حاول أن‬
‫يلقي بنفسه من رأس جبل من هذه الجبال التي تحيط بمكة لكي يريح نفسه‬
‫من هذا العذاب المر الذي نتج عن فترة الوحي إليه وغياب جبريل أمين‬
‫الوحي ‪ .‬فهو إذا ً عليه السلم كان ل أحرص منه على أن يبقى معايشا ً لهذا‬
‫الوحي ‪ ،‬ولهذا نجده عليه الصلة والسلم حينما كان جبريل عليه السلم يأتيه‬
‫بالوحي من وحي الله جل وعل فيقرأه عليه يقرأ رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم مع جبريل حرصا ً منه على أن يثّبت في قلبه وفي لبه هذا الوحي كي ل‬
‫يذهب عليه شيء وكي ل يتفّلت منه شيء ‪،‬فالله جل وعل عزل ً للرادة‬
‫البشرية وفصل ً بين الوحي وبين النازع البشري قال له في محكم التنزيل ) ل‬
‫تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم‬
‫إن علينا بيانه ( أي ل تسمح لعواطف الرغبة هذه التي تعتمل في داخل‬
‫نفسك أن تصرفك عما ينبغي لك من الهدوء والسكينة والتوقر في ملقاة‬
‫وحي الله جل وعل ول تخف أن يذهب عليك منه شيء أو أن تنسى منه أي‬
‫فل له بأن يجمعه بصدره‬ ‫فل بجمعه وقرآنه ‪ ،‬تك ّ‬ ‫شيء ‪ ،‬فإن الله جل وعل تك ّ‬
‫فل ينساه وأن يعينه على أن يقرأه على الناس ‪.‬‬
‫وفي آية أخرى في نفس المعنى يقول الله جل وعل لنبيه الكريم ) ول تعجل‬
‫بالقرآن من قبل أن ُيقضى إليك وحيه ( فل سبيل إلى أن يجري أي اختلط‬
‫بين حقيقة الوحي وبين جملة ما يجيش في صدر النبي عليه الصلة والسلم‬
‫من عواطف ومن رغبات ومن اندفاعات ‪ .‬ألم يسأل المشركون صلى الله‬
‫عليه وسلم جملة من السئلة فوعدهم بأن يخبرهم عنها في أمد حدده لهم ؟‬
‫هذا معروف ‪ ،‬فماذا كان موقف الوحي ؟ إن الوحي ظل هناك على حياله ل‬
‫يتأثر برغبة النبي صلى الله عليه وسلم ول يميل مع أهواء النبي عليه الصلة‬
‫والسلم وإنما ظل هو الحقيقة الثابتة التي تشد إليها كل ما في نفس النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم من عواطف ورغبات واندفاعات ‪ .‬إن الله يعلم أن‬
‫وعدا ً ُقطع من محمد صلى الله عليه وسلم لهؤلء المشركين بأن يجيبهم‬
‫على أسئلتهم ‪ ،‬وإذا تأخر الوعد فإن الله يعلم أي غبار كثيف سوف يثيره‬
‫المشركون تشكيكا ً وطعنا ً برسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ولكن الوحي‬
‫ظل على سكوته لم يكترث أبدا ً ‪ ،‬ثم جاء بعد انقضاء المدة ‪ ،‬جاء ل ليبدأ‬
‫بالجواب على أسئلة المشركين ‪ ،‬بل ليبدأ بالعتاب لرسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم فقال له ) ول تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ً إل أن يشاء الله‬
‫واذكر ربك إذا نسيت ( هذه الحالة تلفت النظر إلى حقيقة من حقائق التربية‬
‫اليمانية تشير إليها الية التي تلوناها ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪135‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن الية التي تقول في معرض التهديد المرعب والوعيد الشديد للمعتدين‬
‫على المؤمنين ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم‬
‫عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( مرة أخرى أقول لكم ـ للسف ـ إن قوانين‬
‫السلم وقضاياه الكبرى بعيدة عن المسلمين وغريبة على المسلمين في‬
‫هذه اليام بل منذ قرون ‪ ،‬إن علينا أن نستحضر في أذهاننا ساحة المعركة‬
‫التي كانت تدور حينما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬يشبه‬
‫والله أعلم أننا نتحدث في حدود السنة الثالثة من البعثة والنبي صلى الله‬
‫عرف أمره وشاع خبره ومشت الركبان بذكره ‪ ،‬والناس قد‬ ‫عليه وسلم قد ُ‬
‫ُ‬
‫آمن بعضهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬والمجتمع المشرك قد أخذ أهبته‬
‫للدفاع عن نفسه فأصبح ينتقد ويعيب ويعتدي ‪ ،‬إن المسلمين في هذا الطار‬
‫يعيشون في عقلية ونفسية خاصة ‪ ،‬تصوروا أنفسكم في ذلك الزمن ‪ ،‬إنك‬
‫ترى أنك من غير ذنب جنيت هدفا ً للعدوان وغرضا ً للتشكيك والمقاطعة‬
‫والبتلء بكل صنوف الذى ‪ ،‬وأنت بشر مخلوق من لحم ودم ‪ ،‬حزمة من‬
‫العصاب التي أثارتها المرحلة الصعبة التي كان المسلمون يمرون بها ‪ .‬ينظر‬
‫أحدهم فيرى أباه قد هجره ويرى أمه قد تخلت عنه ‪ ،‬ويرى أخاه معرضا ً ‪،‬‬
‫وينظر الخر فيرى نفسه مقيد اليدين والرجلين ‪ ،‬وينظر الخر فيرى أنه هدف‬
‫للجلد بالسياط والجّر على الرمال الحارقة بيد أقرب الناس إليه ‪ ،‬أية‬
‫عواطف هذه التي كانت تسكن نفوس هؤلء القوام الذين ل ذنب لهم إل أن‬
‫يقولوا ربنا الله ‪.‬‬
‫إن الحالة الشعورية ل بد أنها كانت على أشد ما تكون المشاعر توّثبا ً وقربا ً‬
‫من النفجار ‪ .‬تصوروا أنفسكم في ذلك الموقف كم تسكن قلوبكم من‬
‫عواطف الحقد والبغضاء لهؤلء الذين يعذبونكم بل سبب ‪ ،‬إنكم سوف‬
‫ن‬
‫تقولون على القل فيما بينكم وبين أنفسكم ‪ :‬لئن أمكننا الله منهم لنفعل ّ‬
‫ن ‪ ..‬تصوروا أنفسكم في هذا الموقف في ذروة الشعور بالحنين‬ ‫بهم ولنفعل ّ‬
‫دئ‬ ‫والرغبة الجارفة بالنتقام يأتيكم الوحي كإناء الماء البارد يصب عليك ليه ّ‬
‫أعصابك وليشعرك أنك تفكر في طريق غلط ‪ .‬إن الية تقول للمؤمنين في‬
‫معرض الكشف عما أعد ّ الله للمتجبرين ) إن الذين فتنوا المؤمنين‬
‫ت‬ ‫والمؤمنات ثم لم يتوبوا ( فالية تقيد ول تطلق ‪ ،‬إن الوعيد والتهديد لم يأ ِ‬
‫مطلقا ً لم يقل الله ‪ :‬إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات لهم عذاب‬
‫الحريق ‪ .‬ولو كان هذا الكلم بهذا الشكل لكان حقا ً أن ينزل الله العذاب بكل‬
‫إنسان آذى مؤمنا ً أيا ً كانت العاقبة التي انتهى إليها ‪ ،‬وأي ّا ً كانت الخاتمة التي‬
‫مات عليها ‪ .‬ولكن الية تقيد لتقول للمؤمنين بكلم بليغ غاية في البلغة ‪،‬‬
‫نهاية في اليحاء المؤثر إن العذاب سينال هؤلء المشركين تحت شرط أن‬
‫يموتوا على شركهم وأن يموتوا وهم متمادون في سوم المؤمنين سوء‬
‫العذاب ‪ ،‬ولكن هؤلء المشركين الذين سفكوا دماءكم ومزقوا جلودكم‬
‫وقطعوا أرحامكم وأجاعوكم وأعطشوكم وشردوا بكم هؤلء إذا تابوا وأقلعوا‬
‫عما هم فيه ورجعوا إلى الله جل وعل فل عذاب ول شيء مما تفكرون به ول‬
‫شيء مما تنذر به عواطفكم المتأججة ول شيء مما تحدثونه أنفسكم ‪.‬‬
‫قد تتعرضون للعذاب على يد الجبارين والمتكبرين ‪ ،‬ولكن هذا ل يعني أنك‬
‫من حيث أنك مسلم مؤمن بالله وكلماته يجوز لك أن تحافظ على الحقاد‬
‫وطن النفس توطين ل استثناء له على قبول أي‬ ‫في قلبك ‪ ،‬إن عليك أن ت ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إنسان في حظيرة اليمان وفي ساحة السلم أخا محبوبا مرغوبا فيه لمجرد‬
‫أن يؤمن بمثل هذا اليمان الذي آمنت به ‪ .‬إن الية لو تأخرت عن هذا الموعد‬
‫لفقدت قيمتها ‪ ،‬لو تأخرت عن هذا الموقف لم يبقَ لها أي مفعول ‪ ،‬ولكن‬

‫‪136‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إعجاز السلم أن ينزل التهذيب والتأديب والتقويم في الوقت المناسب وفي‬


‫الحالة المناسبة ‪ ،‬ول أنسى من أن يأتي هذا التوجيه في ظل العذاب‬
‫المتواصل الذي يتعرض له المؤمنون ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫إن قضية السلم وإن قضاياه غريبة عن الناس اليوم ‪ ،‬إن قضيته ل تشبه ما‬
‫يفكر به الناس اليوم ‪ ،‬ول تشبه ما تعارفوا عليه وأخذوا أنفسهم به من مناهج‬
‫جاهلية ‪ .‬وكيف كان الفصل جازما ً وحازما ً بين شخص النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ورغباته وبين حقيقة الوحي ‪ ،‬فكذلك أيضا ً ‪ ،‬هذا الفصل على ذات‬
‫الهيئة وعلى ذات الصورة قائم بين القرآن وحقائق السلم وبين عواطف‬
‫المسلمين ورغباتهم ‪ .‬إن المسلمين ُأخذوا على يد النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم بألوان من التربية ل شيئا ً أكاديميا ً يتلقونه في المدارس ولكن على‬
‫محرقة الواقع ‪ ،‬في نار التجربة ‪ ،‬وهم يخوضون معركة السلم ضد أعداء‬
‫الله من كل صنف ولون ‪ ،‬حتى خلصت لله ضمائرهم ‪ ،‬وصغت لله قلوبهم ‪،‬‬
‫وتطهرت نفوسهم من جميع الرادات البشرية ‪ ،‬واستطاعوا بنتيجة ذلك‬
‫السيطرة التامة على عواطفهم وعلى رغباتهم ‪ ،‬وإل فكيف يستطيع المسلم‬
‫سر قول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفه للمؤمن ‪ :‬والذي‬ ‫أن يف ّ‬
‫نفسي بيده ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به ‪ .‬ل يمكن أن‬
‫يفسر المؤمن بهذا الشكل إل بعد أن يخالط حب السلم وحب قضاياه وحب‬
‫خدمته الحد الذي يمتزج باللحم والعظم والدم ‪ ،‬حتى يتغلغل في أعماق‬
‫النفس ‪ ،‬الحد الذي يستولي على نهاية شعور النسان ‪ .‬حينئذ يكون النسان‬
‫وّقافا ً عند حدود الله فوق رغباته جميعا ً بل ضد رغباته جميعا ً ‪.‬‬
‫هل نستطيع أن نقول ‪ :‬إن المسلمين الذين قادهم الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم حينما ذهب ليفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة ‪ ،‬ففتحوا مكة ‪،‬‬
‫وكان عددهم عشرة آلف ‪ ،‬جيش في مقاييس ذلك الزمان ترتعد له الفرائص‬
‫‪ ،‬هل نستطيع أن هؤلء المسلمين حينما شاهدوا أعداء الله وأعداءهم أمام‬
‫دخرون وسعا ً من‬ ‫أعينهم ‪ ،‬هؤلء الذين كانوا حتى صبيحة اليوم يحابونهم ول ي ّ‬
‫أجل إفنائهم والقضاء عليهم ؟ هل نستطيع أن نقول ‪ :‬إن المسلمين كانوا بل‬
‫قلوب ‪ ،‬كانوا بل مشاعر ‪ ،‬كانوا بل أحاسيس ؟ إن أي إنسان يحس ويشعر‬
‫ويتأثر ‪ ،‬ولكن النسان من بين مخلوقات الله هو المخلوق الوحيد الذي ُأتي‬
‫كم في إرادته بطواعية واختيار ‪ ،‬إن الحيوان تسوقه‬ ‫القدرة على أن يتح ّ‬
‫الغريزة يأكل حين يجوع ‪ ،‬وينكح حين تشتد عليه شهوته ‪ ،‬ويشرب حين يحس‬
‫بالعطش ‪ .‬ولكن النسان يمسك نفسه ‪ ،‬يجوع فل يأكل ‪ ،‬ويعطش فل يشرب‬
‫‪ ،‬ويشعر بالدافع الجنسي فل يقترب منه ‪ ،‬ويريد الشيء ويمنع نفسه من ذلك‬
‫‪ ،‬إن هذه الرادة الحرة الطليقة هي التي حرص السلم على أن يربيها في‬
‫نفوس المسلمين ‪ .‬اسألوا أنفسكم ‪ :‬لماذا كل هذا التعب ؟ أذلك من أجل‬
‫معركة تكتيكية ؟ نحن نعلم خاصة في هذه اليام أشياء كثيرة وغريبة ‪ ،‬نعلم‬
‫أن دول ً قامت ولها ثقلها في الميزان الدولي ولها تأثيرها علينا ‪ ..‬قامت على‬
‫أساس معتقد يقول ‪ :‬إن الذين يملكون المال أو الرض أو العقار ل يمكن أم‬
‫يكونوا أصدقاء أوفياء للشعب ‪ ،‬إنهم أعداء الشعب ‪ ،‬ليكن مثقفا ً ‪ ،‬ليكن جاهل ً‬
‫‪ ،‬ليكن مهذبا ً ‪ ،‬ليكن شريرا ً ‪ ،‬إن هذا ل يغير من الواقع شيئا ً ‪ ،‬إن طبقة‬
‫الرأسماليين من حيث هي طبقة رذيلة وشريرة ومستغلة ويجب أن ُتفنى‬
‫إفناًء كامل ً ‪ .‬وما يقوله هؤلء يقوله المعسكر المضاد ‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من أجل ذلك رأينا في تاريخنا المعاصر حركات تأخذ الناس بمجرد أنهم كتل‬
‫تنضوي تحت مفهوم ‪ ،‬تأخذهم بالفناء والتقتيل ‪ ،‬ل تسأل نفسها ‪ ..‬هل يمكن‬
‫لهذا النسان أن يكون طيبا ً أو ل يمكن ؟ أبدا ً ‪ ،‬ثمة حكم مسبق ‪ ،‬كل إنسان‬
‫ينتمي إلى طبقة معينة فوصفه كذا وكذا ‪ ..‬إننا في السلم نقول هذا خطأ ‪،‬‬
‫إننا نقول عن النسان من حيث هو إنسان هو المنظور إليه ‪ ،‬ليكن من أية‬
‫طبقة كانت ‪ .‬وتاريخنا السلمي يعطينا الصياغة التي صاغها الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم والتي هي بشهادة القدمين وشهادة المحدثين وشهادة‬
‫العداء والصدقاء أفضل صياغة اجتماعية ممكنة ‪ ،‬فإذا فتشت عن عناصرها‬
‫ت الشريف والوضيع ‪..‬‬ ‫ت الغني والفقير ‪ ..‬وجد َ‬
‫ت الحر والعبد ‪ ..‬وجد َ‬‫وجد َ‬
‫جمعوا في بوتقة السلم وعمل السلم‬ ‫ت الذكر والنثى ‪ ..‬كل هؤلء ُ‬ ‫ووجد َ‬
‫على تكوينهم ‪ ..‬هذا التكوين الرائع الذي شهد له العداء والصدقاء ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫هل ننظر إلى الطبقة ؟ هل ننظر إلى الطبقة الجتماعية ؟ ل ‪ ،‬هذا خطل في‬
‫الرأي وهذا انسياق مع العواطف التي لم يصل النسان إلى المرحلة التي‬
‫كم فيها ويضبطها ويكبتها ويمنعها عن النطلق إلى مراحل التخريب‬ ‫يتح ّ‬
‫والهدم ‪ .‬إننا في السلم ننظر إلى الجوهر الكريم في النسان ‪ ،‬إلى المعنى‬
‫النساني ‪ ،‬ونحن نعتقد كما علمنا القرآن أن الله برأ الناس على فطرة‬
‫السلم ‪ ،‬قابلين أن يميزوا بين الخير والشر ‪ ،‬نفرق بين الهدى والضلل ‪ ،‬وأن‬
‫يلتزموا جانب الحق والصواب ‪ ،‬ولكنهم بتعاملهم مع البيئات التي نشأوا بفعل‬
‫قوانين الزمان والمكان ‪ ،‬بفعل مؤثرات ل ُتعد ّ ول ُتحصى ‪ُ ،‬أصيب بهذه‬
‫النكسة ‪ ،‬فالنكسة عارضة ‪ .‬المرض شيء طارئ ‪ ،‬ول يمكن أن نرتب عليها‬
‫حكما ً ‪ ،‬ومن هنا كان موقف النسان المسلم هو موقف النسان الذي يصبر‬
‫على هذه الطبيعة البشرية ‪ ،‬ويروضها شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬ويأخذها بين الن والن ‪،‬‬
‫ويطيل الصبر عليها حتى يزيل عنها هذه الغشاوة التي لحقت بها عبر الزمان‬
‫والدهور لتفيء إلى أمر الله وليعلم الكل أن السلم فطرة الله التي فطر‬
‫الناس عليها ‪.‬‬
‫ولننظر إلى ما بعد هذه الية ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لو‬
‫يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( إن بين المعترضتين تتركز‬
‫العلقة بين ) الحميد ( وبين مناسبتها لهذا الكلم ‪ .‬إن المعركة كما قلنا‬
‫ليست مع الناس وإنما مع الله ‪ ،‬وإن المؤمنين ل غاية لهم ول أَرب ‪ ،‬ول‬
‫مطمع لهم في أموال الناس ول في مناصب الناس ول في الجاه ول في غير‬
‫ذلك ‪ ،‬وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله عليه‬
‫ون فكرة‬ ‫وسلم ‪ .‬ننظر إلى هذا المعنى ل نستطيع بسبب من المواقف أن نك ّ‬
‫ون موقفا ً مسبقا ً عن هيئة أو حزب أو أي شيء‬ ‫مسبقة عن إنسان أو نك ّ‬
‫آخر ‪ ..‬نحن نطمع في الجميع ‪ ،‬ونحن نصبر على الجميع ‪ ،‬ونحن نطالب‬
‫ت من القرآن بعض من‬ ‫الجميع ) ومن أصدق من الله قيل ً ( إنك لو أخذ َ‬
‫آياته ‪ ..‬اذهب مع الزمن ‪ ..‬مع وقت الهجرة وانظر في سورة الممتحنة التي‬
‫أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في المدينة ‪ ،‬وانظر كيف‬
‫حددت علقة المسلمين مع غير المسلمين ‪ ..‬مع العداء ‪ ،‬وانظر بأي ميزان‬
‫وزنتهم ‪ ،‬وانظر إلى هذا الميزان العميق الذي شدت المسلمين إليه ‪ ،‬ثم إن‬
‫السورة ُتفتتح هكذا ) يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون‬
‫إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ُيخرجون الرسول وإياكم أن‬

‫‪138‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا ً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ُتسّرون‬
‫إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل‬
‫سواء السبيل ‪ ،‬إن يثقفوكم ( أي يستطيعوا السيطرة عليكم ) يكونوا لكم‬
‫أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ووّدوا لو تكفرون ‪ ،‬لن تنفعكم‬
‫أرحامكم ول أولدكم ‪ ،‬يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ( ثم‬
‫تأخذ السورة بعرض المثال النّير ) لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم‬
‫والذين معه ( انظر أيضا ً تجد الله تعالى قبل أن ينفض الميزان الذي يحدد‬
‫العلقة بين المسلمين وغير المسلمين بقوله ) ل ينهاكم عن الذين لم‬
‫يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبّروهم وتقسطوا إليهم ( ثم‬
‫) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم‬
‫وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( قبل‬
‫نصب الميزان ماذا يقول الله تعالى ؟ إنه يقول للمؤمنين ) عسى الله أن‬
‫يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ( وإذا ً‬
‫فالموقف العصبي المهتاج غير المبصر والعمى الذي يقفه النسان أسيرا ً‬
‫لهذه العواطف الهائجة المتمردة موقف ليس فقط غير عقلني وإنما هو‬
‫موقف غير إسلمي ‪ ،‬إنما السلم يفتح أبواب المن أمام الناس وأمام‬
‫المؤمنين بالذات ‪ ،‬ومن الخطر أن يفقد النسان المسلم ثقته بالطبيعة‬
‫البشرية ‪ ،‬ومن الخطر أن تكون نظرة النسان المسلم إلى الناس نظرة‬
‫سوداوية ‪.‬‬
‫إن رسالة الله موجهة إلى الناس كافة سواء أكانوا يهودا ً أم نصارى أم‬
‫مجوسا ً أم عبدة أوثان ‪ ،‬هم ناس قبل أي شيء وبعد أي شيء ‪ ،‬فالرجاء‬
‫أمامهم وارد ‪ ،‬وبذلك يكون موقف العدوان المبدئي موقفا ً ل ينسجم مع‬
‫الطبيعة النسانية كما ل ينسجم مع حقيقة السلم ‪ .‬ثم هو ل ينسجم مع‬
‫التكتيك الذي تنتهجه النظمة والمناهج في بناء المم والشعوب ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫نحن الن نعيش في زمن ‪ ،‬نجد فيه هذا المبدأ غريبا ً ‪ ،‬لماذا ؟ لننا تعودنا أن‬
‫الطبقة الفلنية كلها عدو وخصم ل يمكن أن يأتي منها خير ‪ ،‬وبذلك هي ل‬
‫تستحق الشفقة ‪ ،‬وليس من أخلق المناضلين ول من أخلق الكادحين ول من‬
‫سوا أي إحساس بالشفقة على أي إنسان من هذه‬ ‫أخلق الثوريين أن يح ّ‬
‫الطبقة العدوة ‪ .‬أما أن يسأل نفسه ‪ :‬أليس من الممكن أن يوجد بين هؤلء‬
‫الناس ُأناس طيبون ؟ فهذا غير وارد ‪ .‬ونعيش في زمن أيضا ً نعرف أن حركة‬
‫ما قامت ونجحت ‪ ،‬لكنها تعرضت للبلء قبل أن تنتصر ‪ ،‬ما هي سياستها‬
‫الرشيد بعد أن تستلم الحكم ؟ تصفية الخصوم ‪ .‬تعرفون هذا طبعا ً ‪ ،‬تصفية‬
‫الخصوم ولكن بطريقة مهذبة ‪ ،‬هذا في السجن ‪ ،‬هذا في البعاد ‪ ،‬هذا تحت‬
‫ستار من الصمت ‪ ،‬وهذا ُيشنق اليوم ويلحقه آخر ‪ .‬بعد شهر وخلل فترة‬
‫زمنية محددة ُيصفى الخصوم بطريقة مهذبة ل تثير لها لغطا ً أبدا ً ‪ .‬إن هذا‬
‫الشيء هو الوارد في حياة الناس في هذه اليام ‪ ،‬فهل ينسجم هذا مع‬
‫قوانين السلم ؟ ل ‪ ،‬هذا جانب من القضية فقط ‪.‬‬
‫إن هذا في الواقع الجانب السلبي ‪ ،‬ويكون الجانب اليجابي الذي يكمل‬
‫الصورة هو كما جاء في الية بعد هذه الية مباشرة ) إن الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات لهم جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ( ما كان أحوج‬
‫المسلمين إلى أن يقرأوا هذا الدرس وهم يتقلبون في المحن والبتلءات‬

‫‪139‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بقيادة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬


‫لماذا ُوجد النسان ؟ الحيوان العجم يولد ويأكل ويشرب وينسل ويموت ‪،‬‬
‫ت جثة حمار أو جيفة كلب ‪ ،‬هذا‬ ‫ت مارا ً في الطريق فوجد َ‬ ‫كم من المرات كن َ‬
‫مخلوق وأنت مخلوق ‪ ،‬لكن النسان كائن متفّرد ومتمّيز ‪ ،‬هل غايتك أن تأكل‬
‫وتشرب كما يأكل الحيوان ويشرب ؟ أم لك وظيفة ؟ إن الله تعالى قال ) إنا‬
‫عرضنا المانة على السماوات والرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن‬
‫منها وحملها النسان إنه كان ظلوما ً جهول ً ( إن المانة التي حملها النسان‬
‫الجهول الذي يجهل ضخامة هذه المانة ‪ ،‬والظلوم الذي ل يرعى غالبا ً‬
‫مقتضيات هذه المانة ‪ ،‬هي رسالة الله تعالى ‪ .‬أنت كائن ومخلوق من أجل‬
‫هذه الغاية ‪ ،‬حينما تفقد هذه الغاية تفقد شرف وجودك كله ‪ ،‬ل يبقى معنى‬
‫ب على الرض أو تطير في‬ ‫لن توجد ‪ ،‬إن وجودك ووجود أية حشرة تد ّ‬
‫السماء سواء ‪ ،‬فالنسان ُوجد لينصر كلمة الله ‪ُ , ،‬وجد ليأخذ بأمر الله ‪ُ ،‬وجد‬
‫ليدعو إلى دين الله ‪ .‬هل وراء ذلك شيء ؟ إن الله تعالى لم يجعل وراء ذلك‬
‫شيئا ً ‪ ،‬فالمسلمون يعلمون علما ً ل ريب فيه أن حياة النسان ل تتحدد ما بين‬
‫الولدة والموت ‪ ،‬هم يعلمون أنهم سللة أجيال مضت ) ربنا اغفر لنا‬
‫ولخواننا الذين سبقونا باليمان ( وهم يعلمون أنه لهم ذرية ستأتي من بعدهم‬
‫‪ ،‬فمن أجل ذلك فاستمرارية البشرية لن تتأثر بفقد هذه العناصر التي تموت‬
‫في سبيل شرف الغاية ‪ ،‬بل إن الذين يموتون يهيئون التربة لنمو القضية بأن‬
‫تزكو هذه الثمرات التي وضعوا في الرض بذورها وسقوها هم بدمائهم ‪ .‬إن‬
‫المسلمين يعلمون هذا ويعلمون أن حياتهم لم تنقطع بهذا اللحظة التي‬
‫توقفت فيها أنفاسهم عن التردد في أجوافهم ) من المؤمنين رجال صدقوا‬
‫الله ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا‬
‫تبديل ً ( ولو أتيح لكم لغة القرآن ‪ ،‬لغة العرب التي نزل بها القرآن ‪ ،‬لعرفتم‬
‫أن هذا التعبير المعجز ) قضى نحبه ( يشير إلى شيء ربما ل يفكر به أي‬
‫واحد منكم ‪ ،‬إن النحب هو الطلب هو الهرب هو الغاية ‪ ،‬إن النحب هو‬
‫الواجب ‪ ،‬فهذا الذي مات قضى واجبه وفاز بغرضه ‪ ،‬واستولى على ما يريد ‪،‬‬
‫إن الذي مات أخذ كل شيء يمكن أن يأخذه هذا النسان ‪ ،‬ومنهم آخرون‬
‫ينتظرون ‪ ،‬ينتظرون هذا الموقف الذي وقفه إخوانهم ‪ ،‬ولم تنقطع الحياة‬
‫بوفاتهم ‪ .‬استمرارية الحياة موجودة ‪ ،‬ولكن هذه الستمرارية ل تعني أكثر‬
‫من استمرارية الحمير أو الكلب إذا فقد النسان شرف الغاية التي حددها‬
‫السلم ‪ .‬فمن أجل شرف الغاية كان الستشهاد وكان التعّرض للبلء وكان‬
‫تقحم المحن واجبا ً يسعى إليه المؤمن وهو قانع أن الربح معه وبأن الفوز‬
‫معه ‪ ،‬وبأن الفلح معه ‪ ،‬هو الرابح الوحيد في هذا الميدان ‪.‬‬
‫من أجل هذا قال الله هنا ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات‬
‫تجري من تحتها النهار ( كان يكفي أن يقف الله عند هذا الكلم لكي يعلم‬
‫كل مخاطب أن الله وعد الذين عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها‬
‫النهار ‪ ،‬ولكن الله وهو يعرض المصير الرهيب الذي يتعرض له الذين فتنوا‬
‫المؤمنين والمؤمنات ولم يتوبوا يصف هذه الجنات بأنها الفوز الكبير ‪ ،‬ل أكبر‬
‫من أن يقضي النسان حياته تابعا ً ناصبا ً عامل ً في هذه الدنيا وفاقا ً لمر الله‬
‫تعالى ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫‪140‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ت‬
‫في أي شيء تستطيع أن تفسر يا أيها المسلم هذا الكلم الفصيح الذي كن َ‬
‫تسمعه من النسان المؤمن حينما كان ُيقتل في سبيل الله ‪ ،‬إن النسان‬
‫المسلم حينما كان يقود المعركة فيتلقى ضربة السيف أو طعنة الرمح‬
‫المميتة كان يقول ‪ :‬فزت ورب الكعبة ‪ ،‬فاز ‪ ،‬إن هذا ل يمكن تعليله ‪ ،‬ول‬
‫يمكن تفسيره ‪ ،‬إل على ضوء واحد هو العرفان الكامل من قبل المسلمين‬
‫بحقيقة المهمة وطبيعة القضية التي يحملونها وبالموقف الدقيق إزاء البشرية‬
‫التي يواجهونها بهذا الدين ‪.‬‬
‫ً‬
‫أقول هذا الكلم وأنا أطمع إن شاء الله تعالى أن يلمس آذانا سميعة وأن‬
‫يصل إلى قلوب مفتحة ‪ ،‬أقول هذا وأنا أطمع أن يتخّلق كل مسلم بأخلق‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم وبأخلق القرآن ‪ ،‬وأن ُيشعر نفسه محبة الناس‬
‫وأن يشعر قبل وبعد ذلك بحقيقة وظيفته مع هؤلء الناس ‪ .‬أقول هذا وأنا‬
‫أطمع أن يبلغ هذا الكلم عقول ً وقلوبا ً تستفيد منه حقيقة بسيطة هو أن الله‬
‫وع لها العواطف والرغبات‬ ‫أنزل هذه الشريعة وأنزل هذا القرآن لكي ُتط ّ‬
‫وع قضايا السلم‬ ‫والهواء والفكار والتجاهات ‪ .‬ولكن من غير الجائز أن ُتط ّ‬
‫لرغبات النفوس ‪ ،‬وأن توضع أمور السلم في خدمة العواطف التي ل ُتبصر‬
‫ول تعقل ول تفهم ‪.‬‬
‫كيف كان الفاصل والحاجز قائما ً بين محمد عليه الصلة والسلم وبين الوحي‬
‫‪ ،‬اعلم أيها المسلم أن الحاجز بذاته موجود بينك وبين حقائق الشريعة ‪ ،‬إن‬
‫وع نفسك لشريعة الله ‪ ،‬وحذارِ حذار أن يقع في وهمك أنك‬ ‫عليك أن ُتط ّ‬
‫يمكن لك يوما ً ما أن تلوي عنق الشريعة ليساير رغباتك وأهواءك ‪ .‬فهل من‬
‫سميع ؟ وهل من عالم بأن الوقت الذي تعيشه المة الن أحوج الوقات كلها‬
‫إلى يعلم المسلمون العاملون هذا الدرس الكبير ‪ ،‬هذا الدرس الذي جاء إلى‬
‫المسلمين في كلمات ثلثة ‪ ) :‬ثم لم يتوبوا ( ضعها دائما ً في ذهنك ‪ ،‬واعلم‬
‫أن خصومتك مع النسان غير التائب إلى أن يتوب إلى الله تعالى ‪ ،‬فإذا تاب‬
‫فهو الصديق وهو الخ وهو الحبيب وهو الولي الحميم ‪.‬‬
‫والله أسأل أن يزيدنا فهما ً بحقائق كتابه ومواقف نبيه ‪ ،‬وصلى الله على‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة البروج‬


‫)‪(5/6‬‬
‫الجمعة ‪ 18‬جمادى الول ‪ 6 / 1397‬أيار ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫فأظن أننا الن مع المرحلة الخيرة من مراحل مسيرتنا مع سورة البروج ‪،‬‬
‫ة تطيق الصبر على تتبع‬ ‫سر الله تعالى من ً‬
‫وما كان أشهاه إلي وأحب لو ي ّ‬
‫ً‬
‫الدروس الكبيرة التي تضمنتها هذه السورة العظيمة ‪ ،‬وأيا ما كان فلنقنع بما‬
‫سر ‪ ،‬ولنسأل الله تعالى المزيد من فضله ‪.‬‬‫ي ّ‬
‫أدرنا الحديث في الجمعة الماضية عن اليتين الكريمتين من سورة البروج‬
‫وهما قول الله تعالى ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم‬
‫عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ‪ ،‬إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم‬

‫‪141‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ( وأحسب أن منكم من لحظ‬
‫عنيت بشرح الوعيد الشديد المذكور في الية الكريمة الولى ‪ ،‬وإنما‬ ‫أنني ما ُ‬
‫ّ‬
‫كزت الكلم وسلطت الضواء كلها على ما حوته الية من قول الله تعالى‬ ‫ر ّ‬
‫ُ‬
‫عن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ‪ ،‬وإنما أردت لذلك أن أبرز‬
‫هذه القضية لما لها من أهمية حاسمة في أخلقيات الدعوة ‪ ،‬بل وفي طرائق‬
‫الدعوة ذاتها ‪.‬‬
‫فينبغي أن ل يغيب عن بالنا أننا نعيش عصر فتنة في الشياء الفكرية‬
‫والنماط المذهبية ‪ ،‬وينبغي أيضا ً أن ل يغيب عن بالنا أن رجال المة وأخص‬
‫الشباب منهم يتغايرون بهذه المذاهب والمناهج الفكرية كما تتغاير النساء في‬
‫أزياء اللباس وتصفيف الشعر أو أشد ‪ .‬وإنما يأتي ذلك دائما ً من فقر‬
‫الشخصية ‪ ،‬فقد ترى الرجل يعجبك جسمه ويروقك منظره ولكنك إذا بلوته‬
‫شف لك عن إنسان يرزح تحت فقر مدقع ل يعرف لشخصيته مرجعا ً يرجع‬ ‫تك ّ‬
‫إليه ‪ ،‬ول قاعدة يستقر عليها ‪ ،‬ول غاية ينتهي إليها ‪ .‬وما أقول هذا لقّرع أحدا ً‬
‫‪ ،‬ول لوّبخ أحدا ً ‪ ،‬فأنا واحد منكم ‪ ،‬مررت بالشيء الذي مررتموه ‪ ،‬وعشت‬
‫الداء الذي تعانون منه ‪ ،‬وكدت أن أكون واحدا ً من صرعى هذه المذاهب‬
‫الضالة الباطلة ‪ .‬ولكن أقول بأناة أن يستيقظ شباب هذه المة ويبذلوا من‬
‫ذوات أنفسهم مجهودات صادقة ومخلصة وأمينة بغية اكتشاف حقيقتهم‬
‫ومعرفة معنى وجودهم وغاية الستخلف التي أكرمهم ربهم جل وعل به ‪.‬‬
‫كر الخوة جميعا ً بأننا إذا كنا في الربعينات والخمسينات نفتقر‬ ‫ول بد أن أذ ّ‬
‫إلى مردود جيد من التجارب ونحتاج إلى وقود ل بأس به من المحن والبليا‬
‫والمصائب والكوارث ففي ظني أن إخوتنا اليوم يملكون بين أيديهم من‬
‫حاضرهم المشهود وماضيهم القريب جدا ً ما يكفي لقناع من أراد الله به‬
‫الخير أن ما مضى كله بلء ‪ ،‬وأن ما يتعاجب به الناس اليوم فشؤم وشر ‪،‬‬
‫وأنه مضى الزمان الذي كانت فيه المة ُتختدع بصداقات ذات ظاهر بّراق‬
‫ووعود خلبة بعد تكشف الناس جميعا ً في كل أركان الرض عن عداوة مّرة ل‬
‫يغسلها الماء ‪ ،‬ل من حيث أنها بشر ينطقون العربية فذلك شيء ل أهمية له ‪،‬‬
‫وبين أمم الرض من يعد ّ أضعافنا وأضعاف أضعافنا ل يؤبه لهم ول يقيم لهم‬
‫أحد وزنا ً ‪ ،‬ول لننا نملك الخيرات ونجلس فوق بحر عائم من البترول‬
‫والخامات ‪ ،‬فقد ينبغي أن يعلم الخوة وعلى الخص من أخذ شيئا ً من العلوم‬
‫والتقدم العلمي أن هذه الثروات الطبيعية التي قضينا من عمرنا زمانا ً ونحن‬
‫نلوح بها ونهدد ونرعد دون أن نستخدمها ‪ ،‬هذه الثروات الطبيعية لم يعد لها‬
‫وزن في تقرير مصائر الشعوب ول في رسم مخططات السياسة التي‬
‫تخطط لعشرات السنين ‪.‬‬
‫إن العداء الصيل مع عقيدة هذه المة ‪ ،‬الخصومة مع السلم وليست مع‬
‫العرب من حيث هم عرب ‪ ،‬ول مع سكان الشرق الوسط من حيث هم‬
‫سكان الشرق الوسط ‪ ،‬وليس معركة قواعد تستخدم في الحروب ‪ ،‬فيجب‬
‫أن يعلم ابن الشعب العامي أن هذا الكلم الذي يسمعه ل قيمة له ‪ ،‬إن‬
‫القواعد أيضا ً فقدت قيمتها بعد غزو الفضاء ‪ ،‬كل ما في المر أن الصراع الن‬
‫وما ً ل يكادون‬
‫يتمثل بين حضارتين ‪ :‬حضارة تحمل السلم وإن كان أهلها ن ُ ّ‬
‫يهتمون بها ‪ ،‬وحضارة تجمع كل ما خلق الله من أوشاج عبدة الشر وعبدة‬
‫الفروج والعقول ‪ ،‬الصراع هذا وكل كلم سواه فهو باطل وأكذوبة ليس في‬
‫حق أمة ولكن في حق العلم وفي حق المستقبل ‪ .‬من أجل هذا كنت شديد‬
‫الحرص بكل أحاديثي الماضية على إبراز المعالم الساسية التي غابت عن‬
‫عمّيت العين ‪ ،‬بعد الضجيج الذي ل يريد‬ ‫دت آذانها و ُ‬‫س ّ‬
‫أعين أبناء المة بعد ُ‬

‫‪142‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أن ينتهي يرّوج للمذهب الفلني ويدعو إلى المنهج الفلني ويرفع عينا ً إلى‬
‫أعلى عليين لينزل به غدا ً إلى أسفل سافلين ‪ ،‬هذه المهزلة التي تكون عذرا ً‬
‫غرر بهم كثيرا ً ‪ ،‬ثم‬ ‫ضّللوا طويل ً و ُ‬
‫كافيا ً ولكن إلى حد ما أمام الشباب الذين ُ‬
‫مة مصائر‬ ‫آن أن يواجهوا مسؤولياتهم ‪ ،‬ويعملون على أن يأخذوا بين أيديهم أز ّ‬
‫أمتهم دون أن يتركوها للبالسة الذين يخططون من الخارج ‪ ،‬وصغار البالسة‬
‫الذين يعبثون في الداخل ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ولذلك أنا أشدد على المعالم البارزة في حركة السلم ‪ ،‬هذه الحركة التي‬
‫أنزلها الله تعالى في مكة وحول مكة قبل ألف وأربع مائة سنة ‪ .‬ثم شاء أن‬
‫تتحرك في جيلنا وتكون أيضا ً قاتلة ومحرقة لكل الذين ل يؤمنون بالله ولكل‬
‫الذين يدبرون المكائد لعباد الله ‪ .‬زبدة الفكرة التي قلتها لكم في الجمعة‬
‫الماضية والتي اسُتخلصت من قول الله ) ولم يتوبوا ( أن هذا السلم له‬
‫طريقه المتفرد وله نهجه الخاص في صياغة النفوس ‪ .‬إن السلم في الواقع‬
‫ليس كما يحاول بعض دعاته والمحسوبين عليه والناطقين باسمه دون‬
‫البقية ‪ ..‬هل هو دين يريد أن يرقع الحياة من هنا وهناك ‪ ،‬وأنا أريد أن أتحدث‬
‫وبكل إخلص إن شاء الله فأحذر من النزلق وراء المفاهيم السائدة في‬
‫العصر ‪ ،‬لنها لن تعدم ونحن نحاول أن نفهم السلم إل أن تصل إلى حقيقة‬
‫السلم إذا أخذت طريق البحث عن الحق ‪ .‬إن الفردية تعني أننا يجب أن‬
‫نضع في كل مخططاتنا وجميع مناهجنا كل ً وتحصيل ً مصلحة الفراد ‪ ،‬وإن‬
‫طغيان الفرد من طغيان المجتمع ‪ ،‬فالمذهب الجماعي ينادي بأن الولوية‬
‫يجب أن ُتمنح له ‪ ،‬وفي حال التعارض مع مصلحة الفرد ومصلحة المجموع‬
‫فينبغي أن تهدر مصلحة الفرد وأن تقرر مصلحة المجموع ‪.‬‬
‫وإذا ذهبتم تتلمسون نتائج وآثار هذا المفهوم فأنا أطمئنكم منذ البداية أن كل‬
‫هذه الموضوعات سفسطة وأنها ليس أكثر من شراك وأحابيل ُوضعت‬
‫لوصول أناس إلى السلطة لكي يتحكموا في مصائر الناس إلى أمد يطول أو‬
‫يقصر ‪ ،‬أما البحث عن نظافة اليدي وعن سلمة المقاصد والهداف وعن‬
‫سمو المناهج فذلك شيء ل يقتنع به المذهب الجماعي ‪ ،‬كما ل يبحث فيه‬
‫المذهب الفردي ‪.‬‬
‫‪ ......................‬حدث هنا خلل في الشريط ‪........................‬‬
‫إن السلم بناء غير معهود وغير معروف عند البشرية من قبل ‪ ،‬لم يكن‬
‫الناس يعرفون من قبل أن صحة النسان العقلية والروحية والبدنية‬
‫والشخصية تتوقف على مخالفة الطباع ‪ ،‬وتتوقف على مكافحة الشهوات ‪،‬‬
‫لم يكن الناس يعرفون هذا ‪ ،‬الناس يعرفون أن من أكبر الخطأ أن تصد‬
‫إنسانا ً ما عما يريد ‪ ،‬يقول لك ‪ :‬إذا أراد النسان أن يأكل فل تمنعه ‪ ،‬وإذا أراد‬
‫أن يعتدي فل تمنعه ‪ ،‬وإذا أراد أن يزني فل تمنعه ‪ ،‬وإذا أراد أن يعاقر الخمر‬
‫فل تمنعه ‪ ،‬لن هذه طاقات فإما أن تفرغ وإما أن يكون الكبت ‪ .‬وما أدراك‬
‫ما يجره الكبت من عقد والتواءات ‪ ،‬ولعل الخوة المعلمين يعرفون مما‬
‫قرأوا من مناهج التربية كم يشدد علماء التربية الذين ُيسمون علماء زورا ً‬
‫وبهتانا ً وهم ل يستحقون أقل من وصف الشياطين ‪ ،‬يعرف هؤلء الخوة كم‬
‫يشدد هؤلء على ضرورية إطلق الحوافز وإطلق الرغبات ورعايتهما ‪ ،‬إن‬
‫السلم يقول خلف هذا ‪ ،‬يقوله في الول ويقوله في الخر ‪ ،‬ويقوله في كل‬
‫مناسبة ‪ ،‬إن النسان كما قال الله عنه ‪ :‬ظلوم وجهول وشحيح وحريص‬

‫‪143‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وطماع ومعتدي وظالم ‪ .‬تلك كلها أوصاف دمغ الله به النسان في القرآن‬
‫الكريم تسمعونها فيه ‪.‬‬
‫ووظيفة الرسالة ووظيفة النبوة أن تأتي إلى هذه الشجرة التي نبتت في‬
‫الغابة كيفما اتفق ‪ ،‬تذهب أغصانها يمينا ً وشمال ً ‪ ،‬وتمتد إلى الوراء وإلى‬
‫المام وتروح في السماء وتتدلى إلى الرض ‪ ،‬فيها كل معاني الروعة التي‬
‫س‬
‫تدل على الجمال وعلى الجلل ولكنها تخلو من التناسق الذي يوفر ح ّ‬
‫الجمال المريح للعصاب والنظر ‪ .‬إن النسان كذلك ‪ ،‬النسان على طبيعته‬
‫إنسان الغابة ‪ ،‬إنسان فيه كل هذه القوى ‪ ،‬وكل هذه المواهب التي فتنت‬
‫عقول ً كبيرة ولعل الكثيرين من الخوة يعرفون دعوة روسو وأمثاله من الذين‬
‫كانوا ينادون بالعودة إلى الطبيعة ‪ ،‬وكان المثل العلى للنسان عندهم إنسان‬
‫الغابة الذي كان يعيش كيفما اتفق ‪.‬‬
‫إن السلم يرفض هذا التفكير ‪ ،‬طريق النسان إلى الرقي والسمو يسير‬
‫على أشلء الشخصية النسانية العابثة ليقيم على هذا التفكيك بناًء مركبا ً‬
‫كأدق ما يكون التفكيك ‪ .‬لهذا كانت آيات الله وكان أحاديث الرسول عليه‬
‫الصلة والسلم قاضية على النسان أن يكون قيما ً على نفسه ‪ ،‬إن طغت‬
‫يرّدها عن ذلك ‪ ،‬وإن نازعته نفسه إلى ما ل ينبغي خطمها بزمام العلم‬
‫والحكمة والمعرفة وردها إلى تقوى الله ومخافة الله ‪ .‬وهذا النسان الذي‬
‫يدفعه تيار الحياة بكل ما يزخر به ويموج به من قوى ‪ ،‬هذا النسان محتاج‬
‫إلى أن يبذل طاقات هائلة لكي يكون ذلك النسان الخّير المرشح لن يسكن‬
‫جنة الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ً ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫إن السلم جاء ليعلم المسلمين هذه القضية البسيطة ‪ ،‬جاء ليعلمهم أن‬
‫النسان إذا ُترك وما يعتمل في نفسه من قوى فهو أداة مخربة ومدمرة ‪،‬‬
‫م بخطام القرآن فسيكون ذلك النسان‬ ‫ولكنه حين يؤخذ بحبال الشريعة وُيز ّ‬
‫الباني والخّير ‪ ،‬ذلك النسان الذي يكتب في سفر الوجود كلمات الحضارة‬
‫التي يعاديها الناس جميعا ً بما فيها طوائف من السلمين ل تقع تحت حصر ‪.‬‬
‫وقفنا عند جزئية وعرفنا منها هذا الشيء ‪ ،‬عرفنا من هذا الصراع أن عواطف‬
‫تسكن القلوب وتتحكم بتحركات النسان ‪ ،‬وكم يكون في ذهنك من تصورات‬
‫عن خصمك وأنت وإياه في معركة تتقابلن وجها ً لوجه ‪ ،‬كل واحد منكما يريد‬
‫أن يقتل الخر ‪ ،‬لكن السلم حتى وهو في أوج المعركة ‪ ،‬حتى والنفوس عند‬
‫الذروة من النفعال ‪ ،‬ل يسمح لهذه العواطف التي قد ُيخّيل للبعض أنها‬
‫مشروعة وأن فيها شفاء للغيظ الذي في الصدور وشفاًء وُبرءا ً من حزازات‬
‫الصدور ‪ ،‬ومع ذلك ل يسمح بهذا ‪ ،‬إن الله أنزل على عبده محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم كتابه وأوحى إليه شريعة ليست موقوتة بزمن كما هي غير‬
‫محصورة بمكان معين ‪ ،‬ولكنها للناس جميعا ً وعلى ظهر الرض كلها ‪.‬‬
‫ومن هنا ل بد أن يؤخذ بالعتبار حين التحرك أن نضع في أذهاننا ضمانات‬
‫المستقبل ‪ ،‬وضمانات المستقبل أن يعرف الناس كلهم بل استثناء ‪ ،‬أعداؤك‬
‫قبل أصدقائك ‪ ،‬أنك ل تحرث لنفسك ‪ ،‬وإنما تحرث لله وتسعى نحو مكسب‬
‫يعود على هذه الرسالة التي أنت من جنودها ‪ ،‬واحد من هذا الرعيل الذي بدأ‬
‫بآدم وانتهى بمحمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ثم هو ممتد من بعد إلى أن تقوم‬
‫الساعة ‪ ،‬أنت كائن تاريخي تشعر بانتماء إلى النسانية ‪ ،‬وأية شريحة من‬
‫النسانية في أي زمان وفي أي مكان تشكل معنى الساءة لهذه القيم العالية‬

‫‪144‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الرفيعة التي نادى بها القرآن وجاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فإنما هي‬
‫معول تخريب ‪ ،‬ليس في عصرك فقط وإنما في كل العصور التي تأتي فيما‬
‫بعد لنها ستكون الحجة التي يلوح بها الفاسدون والمفسدون والضالون‬
‫والمضلون والذين يتبعون الشهوات في وجه الداعين إلى الله للدللة على‬
‫فساد السلم ‪.‬‬
‫أغريب عن السماع ما يروجه أعداء الله تعالى من فساد بعض الملوك‬
‫وبعض السلطين ؟ أغريب على السماع ما أصبح علكا ً يلوكه الناس من‬
‫حديث القصور والجواري ومباذل الكبراء والزعماء ‪ ..‬؟ كل ذلك يا إخوة‬
‫مضاف على السلم ‪ ،‬محسوب على السلم ‪ ،‬ولهذا كان محمد عليه الصلة‬
‫والسلم حريصا ً جدا ً على أن ل تظهر في الساحة مثل هذه الموبقات ‪ ،‬لنها‬
‫ستكون في المستقبل معوقات ‪ ،‬أوليس عليه الصلة والسلم قد عزم علينا‬
‫ن على يد الظالم ولتأمرّنه على الحق أطرا ً ؟ أليس معنى هذا‬ ‫عزما ً ‪ :‬لتأخذ ّ‬
‫أن المة المسلمة مأمورة ومطالبة بأن تقود الضالين والمضلين من آذانهم‬
‫كما ُيقاد الكلب لكي يقف على الطريق الصحيح ‪ ،‬لماذا ؟ أغيرة على شريحة‬
‫بسيطة في زمن ما وفي زاوية مهملة من زوايا الرض ؟ ل ‪ ،‬ولكن السلم‬
‫يفتش عن ضمانات المستقبل لكي يكون كل تصرف من كل مسلم على‬
‫صعيد الفردي أو على صعيد الجماعي دليل ً ل ُيدفع على صلحية هذا السلم‬
‫ومنازلة الفساد ‪.‬‬
‫إن القضية هنا ‪ ،‬من أجل هذا رأينا القرآن في اليتين اللتين مّرتا يبرز قضية‬
‫بأنه ل بد ّ أن يعرف المسلم من بداية الطريق ‪ ،‬أن السلم شيء وشخص‬
‫المسلم شخص آخر ‪ ،‬إن السلم حقيقة ثابتة ‪ ،‬محور ثابت ‪ ،‬وإن الشخصية‬
‫كائن أو تركيب أو جهاز تتحرك في داخله نوازع ودوافع ورغبات وأهواء ل تعد ّ‬
‫ول تحصى ‪ ،‬وقيمة النسان هي أن يبقى يلحظ ثبات المنهج وأن يشد دائما ً‬
‫هذه الدوافع والنوازع إلى ذلك المحور الثابت وأن ل يعكس القضية ‪.‬‬
‫إننا نعرف على مستوى الفراد أناسا ً يتظاهرون بالتقى وباللحى والعمائم‬
‫ومسابح وارتياد للمساجد آناء الليل وأطراف النهار ‪ ،‬منظر يخدع ويغش ‪،‬‬
‫يخّيل إليك أنك أمام قديس ‪ ،‬ولكنك حين تبلوه وتختبره تجد أنه واحد من‬
‫غمار الناس ‪ ،‬ل ‪ ،‬بل هو أعرقهم بالسوء وبالفساد ‪ ،‬إنهم يتخذون من الدين‬
‫ستارا ً يريدون أن يغشوا به الناس ‪ .‬أنت وئيد الخطو على الرض ووقور ‪ ،‬ل‬
‫لن الوقار شيء أمر به الدين ولكن لن الساحة خَلت لك من المطمع فإذا‬
‫ت ثوب الوقار وعبثت مع العابثين ونسيت أمر الله‬ ‫برز المطمع أمامك خلع َ‬
‫بل نسيت الله نفسه ‪ .‬إن هؤلء موجودون في كل زمان ومكان من ديار‬
‫المسلمين ‪ ،‬وهم الن عملة رائجة رواجا ً شديدا ً لظروف ل يجهلها أحد ‪ ،‬إن‬
‫الزمان منقلب ‪ ،‬وإن المفاهيم منتكسة ‪ ،‬ولو أن الميزان اعتدلت كفتاه لكان‬
‫هؤلء إما مجلودين أو مرجومين أو مقطوعي اليدي أو مصلبين بعد أن ُتقطع‬
‫أيديهم وأرجلهم من خلف ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫إن هؤلء موجودون ورائجون ويا ليت المر انتهى عند هذا الحد ‪ ،‬فكما‬
‫تعلمون أن العملة الزائفة تطرد العملة الصحيحة ‪ ،‬إن هؤلء يشكل وجودهم‬
‫خطرا ً مزدوجا ً ‪ ،‬هم في ذاتهم بلء وهم على الناس أيضا ً بلء ‪ ،‬إنهم يثيرون‬
‫الغبار المخيف في وجوه المخلصين الذين يدعون إلى الله تعالى ويريدون‬
‫للناس أن يستقيموا على أمر الله ل يطلبون من منهم جزاًء ول شكورا ً ‪ ،‬إنما‬

‫‪145‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يطلبون من الله فقط ‪.‬‬


‫ترى هؤلء المزيفين ينظرون إلى أنفسهم بضرورة مسايرة الظالمين‬
‫ويسوغون لنفسهم تدعيم المكانة على حساب المساومة على قضايا السلم‬
‫وعد به رسول الله‬ ‫الرئيسية ومصالح السلم الكبرى ‪ .‬ألم يبلغ هؤلء ما ت ّ‬
‫صلى الله عليه وسلم هذه الصناف ؟ لقد بلغهم ذلك ولكنه صافح الذان ولم‬
‫يلمس القلوب ‪.‬‬
‫ت المسألة إلى الصعيد الجماعي فيا حسرتاه على العباد ‪ ..‬يا حسرة‬ ‫فإذا نقل َ‬
‫ُ‬
‫على هذه المة ‪ ..‬كنتم فعل ً خير أمة أخرجت للناس ترفلون في ثياب العز‬
‫وتمسكون بزمام التاريخ فأصبحتم عن جدارة واستحقاق ل تشرفون أحدا ً ‪..‬‬
‫أسوء أمة وأهون أمة مجرورين بذنب كلب ‪ ،‬لماذا ؟ لنكم أهملتم تربية‬
‫أنفسكم وفاقا ً لمبادئ القرآن الكريم ‪ ،‬من أجل هذه الخطار التي قد ل‬
‫يتسامى إليها نظر كثير من الخوة وقفت طويل ً في الجمعة الماضية عند هذه‬
‫الجزئية وسمحت لنفسي أن أقف اليوم عندها لعطي مزيدا ً من التفاصيل‬
‫بعض هذه الذي قلت وبعضها سوف أطويه ولن أتحدث به ‪ ،‬يكفيني أن ألخص‬
‫لكم ما مضى وأن أقول قبل التلخيص ‪ :‬ارفعوا رؤوسكم عاليا ً يا مسلمون ‪،‬‬
‫إن السلم في الواقع هو الدين والمنهج الوحيد الذي وضع للناس أخلقيات‬
‫كاملة ومنهجا ً في السلوك والعمل والفكر وفي العتقاد ‪ ،‬وإنكم يوم تتعرفون‬
‫عليه وتروضون أنفسكم على الخذ به فسوف تكونون غير ما أنتم عليه ‪،‬‬
‫وتكون الدنيا أيضا ً تبعا ً لكم على غير هذا النحو الذي هي عليه الن ‪.‬‬
‫إن الجزئية التي درسناها في الجمعة الماضية هي أن السلم ما ترّفق‬
‫بالمسلمين ل جاملهم ول أخذ في الحساب عواطفهم ول جملة الظروف‬
‫والمثيرات التي ُينظر إليها أثناء التشريعات وأثناء إصدار الحكام ‪ ،‬ما أخذ‬
‫شيئا ً من ذلك أبدا ً ‪ ،‬كان المسلم ُينتزع من بيته لُيجّر على الرمل في هجير‬
‫الصيف حتى يشوى ‪ ،‬وكان المسلم يؤخذ ـ وتسمعون اليوم كيف ُتكوى‬
‫الجلود بواسطة الكهرباء في القبية والسجون ـ لكن اسمعوا ‪ ،‬إن هذه‬
‫خُلق الولين ‪ ،‬إن كثيرين من أصحاب رسول الله‬ ‫البدعة ليست جديدة ‪ ،‬إنها ُ‬
‫صلى الله عليه وسلم كان يوضع الجمر على ظهورهم وعلى بطونهم يبقى‬
‫هذا الجمر ‪ ،‬جمر الغضا ول أدري هل تعرفون الغضا أو هل شاهدتموه ؟ إن‬
‫جمر الغضا ل ينطفئ إل بودك الجلود بالدهن الذي يخرج من جلود المؤمنين ‪،‬‬
‫دهن المؤمنين هو الذي يطفئ الجمر ‪ ،‬إن المؤمنين كانوا ُيذبحون أشنع ذبح ‪،‬‬
‫وُيقتلون أسوء قتلة ‪ ،‬ومع ذلك حينما كانت المعركة بين المسلمين وبين‬
‫ة في‬ ‫المشركين في أوجها وفي عز احتدامها لحظنا أن القرآن كان غاي ً‬
‫العنف وغاية في التصميم ‪ ،‬إنك في خصامك مع عدوك ل تخاصم إنسانا ً من‬
‫لحم ودم ولكن تخاصم المعنى الذي يحمله هذا النسان ‪ ،‬فإذا زال المعنى فل‬
‫خصومة بينك وبين هذا النسان ‪.‬‬
‫فالمسلمون إذا ً يصارعون على الدين ‪ ،‬ومهما يكن من شأن خصمك ‪ ..‬ليكن‬
‫قد قتل أباك ‪ ..‬ليكن قتل عمك أو ولدك ‪ ..‬فإن هذا ل يعني أن تحمل له‬
‫العداوة والبغضاء أبدا ً ‪ ،‬إن المر ينتهي عند حدود زوال معنى الكفر من هذه‬
‫النفس ‪ ،‬إذا أسلم فليس بينك وبينه عتاب وليس بينه حساب ‪ .‬حينما أرادت‬
‫زينب رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلحق أباها‬
‫الكريم صلى الله عليه وسلم قام ناس من المشركين يريدون أن يحولوا‬
‫دونها ‪ ،‬وكانت حبلى رضي الله عنها ‪ ،‬وقام هّبار بن السود فرّوعها وألقاها‬
‫عن الجمل التي كانت فوقه ‪ ،‬فأسقطت ما في بطنها ‪ ،‬ولما وصلت أباها‬
‫الكريم في المدينة ماتت ‪ ،‬جريمة قتل ‪ ،‬وجريمة فيها كل معاني الوحشية ‪،‬‬

‫‪146‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫صاحبها ل يجد في نفسه ذرة من الحساس بالرحمة والشفقة والنسانية ‪.‬‬


‫ومضت السنون وسار المسلمون إلى مكة فاتحين ‪ ،‬وقال النبي عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ :‬من لقي منكم هّبار بن السود فليقتله وإن وجدتموه متعلقا ً بأستار‬
‫الكعبة ‪ .‬ل ينسى محمد عليه الصلة والسلم تلك النفس البريئة التي ُأزهقت‬
‫وهي ل تملك أن ترد ّ عن نفسها أذى المشركين ‪ .‬ولكن هّبارا ً سمع وهو على‬
‫شركه وقبل فتح مكة ما عليه محمد عليه الصلة والسلم من كرم العنصر‬
‫وطيب الخلق وأنه ل يرد ّ من جاءه مسلما ً ‪ .‬فتسلل إليه في مجلسه وقال ‪ :‬يا‬
‫ي ولكني أعلم أنك ل ترد ّ من‬‫تف ّ‬‫محمد أنا هّبار بن السود وقد بلغني ما قل َ‬
‫جاءك مسلما ً ‪ ،‬أقابل أنت إسلمي ؟ قال ‪ :‬نعم يا هّبار عفا الله عما مضى ‪.‬‬
‫فتصوروا سمو النفس وكبرها وعظمتها ‪ .‬هذا هو الذي يريده السلم ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن تحرير المعركة بين المعاني التي يحملها الناس هو الذي يضمن بالفعل‬
‫سلمة النسانية ورخاء النسانية ومستقبل النسانية ‪ ،‬وحين تتحول المعركة‬
‫لتكون شيئا ً بين الشخاص بالذات فإن المعنى النساني يهون إلى الدرجة‬
‫التي شهدنا معها في أيامنا في جيلنا في عمرنا كيف كان الناس ومازالوا‬
‫يتسلى بعضهم بذبح بعض ‪ ،‬رأينا هذه النسانية التائهة الضالة لهوان معنى‬
‫النسانية عليها ولغيبة مبدأ الصراع بين الراء وبين الفكار تحول المعركة إلى‬
‫الذوات فتكون تدميرا ً شامل ً ‪ ،‬في الحرب العالمية الثانية دمرت ألمانية‬
‫تدميرا ً لم تعرف له النسانية مثيل ً من قبل ‪ ،‬ومات ناس ما رفعوا يدا ً ول‬
‫حملوا سلحا ً ول خاضوا معركة ‪ ،‬ماتوا لن الحمم تساقطت عليهم من‬
‫مية المجنحة ‪ ،‬ولن الحرائق شبت في‬ ‫السماء قنابل تحملها هذه اللت الجهن ّ‬
‫البيوت فمات الناس ‪ ،‬وفي اليابان وفي غير اليابان ‪ ،‬وقل إنها الحرب قل إنها‬
‫الحرب تشفع لصحابها ‪ ،‬والقائد في الحرب ُيعذر ما ل ُيعذر المواطن العادي‬
‫لكن ما رأيكم يا إخوة ؟ ما رأي النسانية اليوم إذا عرفت أن أبالسة الحرب‬
‫وشياطين الشر يجّربون السلحة المتطورة في أجزاء يختارونها من العالم ‪،‬‬
‫تجّرب كل كتلة مدى صلحية وفعالية السلح الذي ابتكرته ووصلت إلى‬
‫اختراعه ‪ .‬هل الحرب في فيتنام وفي كوريا وفي الشرق الوسط وبين الهند‬
‫وباكستان وفي أية بقعة أخرى قامت وتقوم الن من أجل مصالح حقيقية ؟ ل‬
‫‪ ،‬المسألة بسيطة ملخصها أن السلحة في تطورٍ مستمر ‪ ،‬ولكن السلحة‬
‫بحاجة إلى التأكد من سلمتها والتأكد من صلحيتها ول يمكن التأكد من ذلك‬
‫إل على أجسام الناس ‪ ،‬إل على أرواح الناس ‪ ،‬ول بأس بعد ذلك أن يموت‬
‫عدد يكثر أو يقل من مليين الناس ‪.‬‬
‫ألم يقل هذا المأفون المجنون الذي ذهب إلى لعنة الله غير مأسوف عليه‬
‫والذي أسأل الله أن ُيلحق به كل من على شاكلته ماوسيتونغ حيث قال ‪ :‬إنه‬
‫ل بأس أن يموت ثلثا البشرية من أجل أن يعيش الثلث الخر بسلم وراحة‬
‫ن النتائج كما ترون وخيمة ‪ ،‬حينما تتحول معارك الصراع إلى‬ ‫وكفاية ‪ .‬إ ّ‬
‫ً‬
‫معارك بين الناس بالذات تكون المجازر ‪ ،‬وحينما تكون صراعا على المبادئ ‪،‬‬
‫صراعا ً على الفكار ‪ ،‬ينتهي بانتهاء الوصف الذي كان يحمله النسان ‪ ،‬يكون‬
‫المر على النحو الذي عرضه تاريخ المسلمين ‪.‬‬
‫ً‬
‫عمر الدعوة ثلثا وعشرين‬ ‫تصوّْر ‪ ،‬الرسول عليه الصلة والسلم عاش من ُ‬
‫سنة بعد أن هاجر إلى المدينة عاش عشر سنوات فقط ‪ ،‬خلل هذه المدة‬
‫خاض معارك وحروب قادها بنفسه وأرسل سرايا قادها بعض من أصحابه‬

‫‪147‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ووقعت قتلى من الطرفين ‪ ،‬كم تتصورون عدد القتلى من المسلمين‬


‫والمشركين في كل معارك السلم التي انتهت بتدعيم السيادة للسلم ؟‬
‫أقل من ألف ‪ ،‬من الطرفين ‪ ،‬أقل من ألف بكثير ل يتجاوزون سبعمائة من‬
‫المسلمين والمشركين ‪ .‬لماذا ؟ لن وصايا النبي عليه الصلة والسلم كانت‬
‫حاسمة ومشددة ‪ :‬ل ُيقاَتل إل المقاتل ‪ ،‬الشيخ الكبير ‪ ،‬الراهب في‬
‫الصومعة ‪ ،‬الفلح في الرض ‪ ،‬العامل في مكان عمله ‪ ،‬الطفل والمرأة ‪ ،‬ل‬
‫يجوز أن يقاَتلوا أو أن ُيقَتلوا أبدا ً ‪ .‬في إحدى الغزوات مر النبي عليه الصلة‬
‫عرف اللم‬ ‫والسلم فوجد امرأة مقتولة ‪ ،‬فتغيظ عليه الصلة والسلم حتى ُ‬
‫في وجهه الشريف وقال من فعل هذا ؟ ما كان لهذه أن تقاتل ‪ ،‬هذه امرأة‬
‫هل يعقل أنها خرجت بقتال ‪ ،‬وهب أنها خرجت بقتال أما كنت قادرا ً ويحك‬
‫على أن تكفها عن نفسك ؟‬

‫)‪(5 /‬‬

‫إن المسألة تعود إلى تحديد وصف المعركة التي حددها القرآن الكريم جاءت‬
‫الية لتقول ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب‬
‫جهنم ولهم عذاب الحريق ( استعرضوا القرآن من أول كلمة في البقرة ) ألم‬
‫( إلى آخر الفاتحة إلى ) الضالين ( لن تجد تهديدا ً مثل هذا التهديد وجهه الله‬
‫تعالى إلى أي مخلوق من مخلوقاته ‪ ،‬حتى شّرهم وأردئهم إبليس لم يتعّرض‬
‫مع له هذان الوصفان ) فلهم عذاب جهنم‬ ‫إلى تهديد من هذا القبيل ‪ ،‬أن ُيج َ‬
‫ولهم عذاب الحريق ( فعل ً العملية صعبة ‪ ،‬أناس آمنوا بالله ‪ ،‬ما لك ولهم ؟‬
‫أناس اختاروا لنفسهم طريقا ُ ‪ ،‬ما الذي يضرك من أن يختار هؤلء الناس لهم‬
‫طريقا ً ؟ لماذا تقتلهم ؟ أهم انتزعوا خبزتك من فمك ؟ أهم جاؤوك‬
‫فزحزحوك عن كرسيك ؟ ل ‪ ،‬ولكنهم قالوا ‪ :‬ل إله إل الله ‪ .‬ولهذا كان أبو بكر‬
‫رضي الله عنه يستنكر حين وجدوا المشركين في مكة وقد تجمعوا على‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاولون الفتك به ‪ ،‬قال لهم ‪ :‬أتقتلون رجل ً‬
‫أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك صادقا ً يصبكم بعض‬
‫الذي يعدكم وإن يك كاذبا ً فعليه كذبه ‪ .‬ل معنى أبدا ً لكل هذه العصبية التي‬
‫ظهرت من قبل وتظهر في كل وقت حينما يقوم قائم يدعو إلى الله تعالى ‪،‬‬
‫ولكن الحقيقة التي قلناها أكثر من مرة والتي يجب أن نقولها باستمرار‬
‫ليعرفها عدو الله قبل ولي الله ‪ ،‬الحقيقة أن عبادة الله وعبادة البشر ل‬
‫يجتمعان في قلب الناس أبدا ً ‪ ،‬من آمن بالله ربا ً بارئا ً خالقا ً مصورا ً رازقا ً‬
‫فق للسادة والزعماء ‪.‬‬ ‫محييا ً مميتا ً فمن المستحيل أن يص ّ‬
‫المشكلة أن حقيقة اليمان تنفي ألوهية الناس ‪ ،‬والمشكلة أن حقيقة اليمان‬
‫تضع الناس جميعا ً على صعيد العبودية لله جل وعل ‪ ،‬كن رئيسا ً ‪ ،‬املك أموال‬
‫قارون ‪ ،‬مهما فعلت فأنت عبد ‪ ،‬أنت مثلي وأنا مثلك ‪ .‬إن عمر رضي الله‬
‫عنه قال لصحابه مباسطا ً وقلما كان يباسطهم رضي الله عنه ‪ :‬أرأيتم لو‬
‫قلت للدنيا بعنقي هكذا ‪ ،‬يعني ملت إلى الدنيا ‪ ،‬ما أنتم قائلون ؟ قام رجل‬
‫دل رقبتك بالسيف ‪.‬‬ ‫ل سيفه وقال ‪ :‬نقول لك هكذا ‪ ،‬أي نع ّ‬ ‫من الصحاب وس ّ‬
‫قال ‪ :‬الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقيم عمر بسيفه ‪ .‬جّرب اليوم‬
‫ل خيوط نعلك ‪،‬‬ ‫أن تشتم إنسانا ً تافها ً ‪ ،‬في الحالة العادية ل تسمح له أن يح ّ‬
‫فن‬‫جّرب أن تشتمه ‪ ،‬اشتم الله فلن يحاسبك أحد ‪ ،‬اشتم الزعيم فسوف تع ّ‬
‫في القبية والسجون ‪ .‬إن العبودية لله ُتنزل الناس جميعا منزلة واحدة ‪ ،‬ومن‬
‫هنا هذه الشراسة التي يبديها أعداء الله جميعا ً في وجه الداعين المخلصين‬

‫‪148‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إلى الله تعالى ‪ ،‬ولهذا استحق هذا الصنف الكريه المقيت عدو الله وعدو‬
‫جه إليه هذا التهديد الرعيب المخيف ) إن الذين فتنوا المؤمنين‬ ‫النسان أن ُيو ّ‬
‫والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( ومع هذا‬
‫ففي وسط هذا التهديد الذي ل مثيل في القرآن كما قلت لكم يستل الله‬
‫تعالى هذا المعنى ليحدد معنى المعركة ووصف المعركة وواجب المسلم‬
‫حيال نفسه وحيال عدوه ‪ ،‬إن خصمك مهما يفعل ‪ ،‬فبمجرد أن يتوب من ذنبه‬
‫ويؤمن بالله العزيز الحميد لم يبقَ بينك وبينه أي حساب ‪.‬‬
‫ومن هنا كانت دعوة السلم رحبة وسماحة وخير وبر ومرحمة ‪ ،‬ومن أجل‬
‫ذلك كانت هي الوحيدة في موج هذه البحار المتلطمة من المذاهب ومن‬
‫الراء ومن التصورات ومن المناهج ‪ ..‬الدعوة الوحيدة المؤهلة ليس فقط‬
‫لنقاذ العالم العربي وليس فقط لنقاذ العالم السلمي وإنما لنقاذ البشرية‬
‫جميعا ً من محنتها التي تتردى فيها والتي تسعى حثيثا ً للسقوط فيها ‪.‬‬
‫أقول هذا الكلم وفي النفس ما فيها من الحسرات ومن اللم ‪ ..‬ألم يكن‬
‫خيرا ً وأكرم لهذه المة لو أن ساستها وزعماءها ـ وأقول هذا من باب رفع‬
‫العتب في الواقع ـ قلت لكم قبل اليوم ‪ :‬في كل تجمع بشري وفي كل‬
‫تركيبة اجتماعية أسوء ما في الناس رؤوس الناس ‪ ،‬هم الطبقة والفئة التي‬
‫اسُتهلكت وفسدت ولم يبقَ فيها خير ‪ ،‬ولكن من باب رفع العتب ‪ ،‬أقول ‪ :‬ألم‬
‫يكن خيرا ً وأكرم لو أن كبراء المة ومفكريها وساستها وزعماءها التفتوا إلى‬
‫عموا بناء السلم داخل هذه المة‬ ‫هذه الغايات العظيمة والهداف العالية فد ّ‬
‫وحلوا مشكلتهم في نور القرآن وفي ضوء السلم وعلى هدي من تعاليم‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم ثم التفتوا إلى النسانية المعذبة يحملون إليها‬
‫العلج التي تحتاجه أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب ؟ أهذا خير أم أن‬
‫يطير الزعيم الفلني إلى العاصمة الفلنية ‪ ،‬وأن يطير الملك هذا إلى‬
‫العاصمة الفلنية ‪ ،‬أو أن يذهب المير هنا أو هناك ‪ ،‬وبين ركام من السفاسف‬
‫والموبقات ُتقال كلمة استجداء لهذه الدولة الكبيرة ‪ ،‬وكلمة تملق لهذه‬
‫الدولة الكبيرة ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫وكل ذلك منتهٍ إلى أن نعود إلى النقطة التي انطلقنا منها ‪ ،‬لن كل هذه‬
‫المحاولت فاشلة ل تؤدي إلى نتيجة ‪ ،‬وأضل الناس عقل ً وأقلهم سعيا ً هو‬
‫ذلك الذي يطلب الدواء عند عدوه ‪ ،‬هو ذلك الذي يطلب النصر عند خصمه ‪،‬‬
‫أليس خيرا ً لو أن المة بمفكريها وكبرائها التفتت إلى ذاتها فوعت حقيقة‬
‫الرسالة السلمية وحلت مشكلتها لتكون عامل ً أساسيا ً بل ووحيدا ً لحل‬
‫معضلت النسانية المستعصية ؟ كان ذلك أكرم ولكننا سفهاء ‪ ،‬وتعرفون‬
‫معنى السفيه ‪ ،‬السفيه ليس هذا الذي يضرب هذا على وجهه أو يركل هذا‬
‫وله الله نعمة جمعها أو ورثها فهو ينفقها بغير‬ ‫برجله ‪ ،‬ل ‪ ،‬السفيه هو الذي خ ّ‬
‫عقل وبغير تدّبر ‪ ،‬أي بسفاهة ‪ ،‬فهذا ُيحجر عليه ‪ ،‬تأتي السلطة لتضع إشارة‬
‫الحجر على أمواله وتتولى هي النفاق عليه ‪ .‬نحن المسلمين ورثنا كنزا ً بل‬
‫كنوزا ً ‪ ،‬ورثنا هذه الرسالة العظيمة ‪ ،‬فماذا نفعل بها الن ؟ ما موقفنا منها ؟‬
‫موقفنا منها أسوء من موقف السفيه الذي ورث المليين من أبيه أو من جده‬
‫فهو ينفقها على الليالي الحمراء وعلى موائد القمار وعلى كل ما ل يرضي‬
‫الله تعالى ول يعود عليه بذرة من نفع ‪ ،‬قلت لكم ‪ :‬ل ألوم ول أعتب ول أؤنب‬
‫ول أوّبخ ‪ ،‬كل ما هنالك أني أبسط إليكم الساحة لضع الجميع أمام‬

‫‪149‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مسؤولياتهم ‪.‬‬
‫ً‬
‫إننا نعيش فترة حرجة جدا من تاريخنا ‪ ،‬ومن الواجب على كل أحد أن يواجه‬
‫مسؤوليته ‪ ،‬ول يستقّلن أحد نفسه ‪ ،‬فمحمد صلى الله عليه وسلم فرد‬
‫فاستطاع في ثلث عشرة سنة أن يرسي دعائم هذه المة واستطاع في‬
‫عشرة أعوام بعد ذلك أن يمّهد الجزيرة العربية لهذا الدين وأن يناوش الروم‬
‫الذين كانوا يتربصون للنقضاض على المسلمين في الشام ‪ .‬ل يستهن أحد ما‬
‫أودع الله فيه من خير ‪ ،‬وما أعطاه من قوى ‪ ،‬فإن المة في غمرة الصراع‬
‫وفي فترات النهوض محتاجة إلى كل قطرة من دم أبنائها ‪ ،‬وإلى كل لحظة‬
‫من وقت أبنائها ‪ ،‬وإلى كل ذرة من جهود أبنائها ‪ ..‬فاستعينوا بالله والجأوا إليه‬
‫وقولوا يا معلم إبراهيم عّلمنا وقولوا اللهم إنا نبرأ من حولنا وقوتنا ‪ ..‬نبرأ‬
‫بذلك إلى حولك وقوتك ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫وسلم والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة البروج‬


‫الجمعة ‪ 25‬جمادى الول ‪ 13 / 1397‬أيار ‪1977‬‬
‫)‪6‬ـ‪(6‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫أحب أن أختتم لكم اليوم إن شاء الله سورة البروج ‪ ،‬وأن أختتم معها فصل ً‬
‫من حياتي طال طول ً فاحشا ً ‪..‬أفترض أن في أذهانكم سورة كاملة أو شبه‬
‫كاملة عن الفكار التي بحثناها من هذه السورة الكريمة ‪ ،‬وتأسيسا ً على هذا‬
‫الفتراض أعفي نفسي من أية مراجعة لية فكرة سبقت ‪ ،‬لكي أواجه معكم‬
‫هذه البقية الباقية من السورة الكريمة ‪.‬‬
‫بعد أن ذكر الله تعالى قوله الكريم ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم‬
‫لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ‪ ،‬إن الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات لهم جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ( بعد هذا قال‬
‫جل وعل ) إن بطش ربك لشديد ‪ ،‬إنه هو يبدئ ويعيد ‪ ،‬وهو الغفور الودود ‪،‬‬
‫ذو العرش المجيد ‪ ،‬فّعال لما يريد ( تعطي هذه اليات القارئ انطباعا ً بأن‬
‫الله تعالى أراد وهو العليم بمعنى ما أراد من عرض هذه اليات أن يقّر في‬
‫أحاسيس المسلمين وهم في بحار الصراع مع المشركين المكيين وهم في‬
‫أوائل هذه الدعوة ‪ ..‬أراد أن يقّر عددا ً من الفكار ولعل في رأسها وأم ّ‬
‫سها‬
‫لحتياجات الحركة في تلك اللحظات الحاسمة إقناع المسلمين بأن إرادة الله‬
‫حرة وطليقة وأن قدر الله الماضي في الولين والخرين ل يتوقف على‬
‫الرغبات العارضة ول يكترث لللم التي ل بد ّ أن تتوضع في بعض مراحل‬
‫الدعوة ‪.‬‬
‫س المسلمين أن ما هم فيه من أليم العذاب‬ ‫ً‬
‫كما أراد أن يقّر أيضا في ح ّ‬
‫وشديد البلء جزء من الطريق الذي هم ماضون فيه ‪ ،‬كما أراد أن يقّر أيضا ً‬
‫ج صراعه مع أعداء الله جل وعل أن النظرة‬ ‫س المسلم وهو في أو ّ‬ ‫في ح ّ‬
‫اللهية غير النظرة البشرية ‪ ،‬فإذا ضاقت صدور المؤمنين من الذي يعانون‬
‫فل يعني هذا أن الوحي ينبغي أن يغير من خط القدر لكي يجلب الراحة‬

‫‪150‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والطمأنينة إلى نفوس المسلمين ‪.‬‬


‫إن المسلم مخلوق من جملة مخلوقات الله ‪ ،‬ل يمتاز على بقية المخلوقات‬
‫إل من حيث أنه قد استجاب لنداء ربه واّتبع شرعة ومنهاج نبيه صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬لكن المسلم إذا فهم من هذا أن العناية الربانية يجب أن تكون‬
‫مقصورة عليه وحده وأن رحمة الله يجب أن ُتفتح له وحده ‪ ،‬المسلم إذا فهم‬
‫هذا فهو مخطئ ‪ ،‬إن الله لو لم يبذل أسباب الرحمة والعناية للناس جميعا‬
‫قاصيهم ودانيهم ومسلمهم وكافرهم وذكرهم وأنثاهم فل يستحق أن يكون هو‬
‫الرحمن الرحيم ‪ ،‬ولهذا تجدون ربنا تبارك اسمه يقول في هذه اليات ) وهو‬
‫الغفور الودود ‪ ،‬ذو العرش المجيد ‪ ،‬فّعال لما يريد ( وإننا لو فهمنا اتصاف‬
‫س بآثارها قطاع‬
‫الله بالرحمة والمغفرة إلى خلقه على أنها أوصاف تم ّ‬
‫المسلمين فسوف نظلم الذات اللهية ‪ ،‬إن الله تعالى تحبب إلى خلقه بما‬
‫ولهم من النعم هو المبتدئ بها عليهم ‪،‬‬ ‫بذل لهم من أسباب الهداية وبما خ ّ‬
‫وهم الذين يتمتعون بها من غير استحقاق لهم على الله ‪ .‬فالية الكريمة‬
‫ُتشعر بأن الله جّلت قدرته يفتح الباب أمام المسرفين على أنفسهم من‬
‫المشركين وأمام المتألهين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمام‬
‫المؤمنين لكي يقول لهم ‪ :‬ل تيأسوا من روح الله ول تقنطوا من رحمة الله‬
‫فإن الله هو ربكم ومن حيث هو ربكم فهو عليكم حريص وبكم رؤوف رحيم ‪،‬‬
‫ن ما فعلتم برسول الله‬ ‫ن عما مضى ولستر ّ‬ ‫ولئن شكرتم وآمنتم لعفو ّ‬
‫وبالفئة التي آمنت معه ‪.‬‬
‫إن هذا الكلم يأتي ضمن هذا الطار الذي سمعتموه ) إن بطش ربك‬
‫لشديد ( كلم مختصر قرأه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع من‬
‫وروا ما الذي‬‫أمين الوحي عليه السلم وذّلت بقراءته ألسنة المؤمنين ‪ ،‬فتص ّ‬
‫يفهمه المؤمنون وهم في غمرة الصراع حينما كانوا يقرأون هذه الية ؟ إن‬
‫المسألة لكي ُتفهم تتوقف على ضرورة الحصول على قدر أدنى من المعرفة‬
‫بمقدار غموضيته ‪ ،‬إن أول شيء وإن أبسط شيء يفهمه النسان حين يقول‬
‫أشهد أن ل إله إل الله هو أن الله خالق بارئ مصور مانع معطي معز مذل‬
‫قب لحكمه وهو الحكيم الخبير ‪ ،‬ومؤدى‬ ‫يخفض ويرفع يفعل ما يشاء ل مع ّ‬
‫هذه العقيدة البسيطة التي تعرفها العجائز أن يستحضر المسلم وهو في‬
‫غمرة الصراع حقيقة أن الله ليس غائبا ً عن المعركة ‪ ،‬ليس بعيدا ً عن الساحة‬
‫‪ ،‬وما يحدث فبعلمه يحدث بل وبإرادته يحدث ‪ ،‬وإذا ً فالمفروض أن يجد‬
‫المؤمن الروح والراحة واليقين والطمئنان وعزيمة الصبر حينما تتكالب عليه‬
‫العداء وتبرق الدنيا وترعد من حوله ‪ ،‬إنه بين يدي الله ‪ ،‬والله يراه ويسمع ‪،‬‬
‫وروا لنفسكم أية عزيمة هذه التي يجدها النسان‬ ‫بل هو الذي يفعل ‪ ،‬وص ّ‬
‫المؤمن وهو يضم جنبيه على ثقة بالله من هذا القبيل ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫يقينا ً إن محمد صلى الله عليه وآله وإن المؤمنين معه ‪ ..‬المطرودين في‬
‫شعاب مكة واللئذين في بعض دورها والممددين على رمضائها والذين‬
‫تمسهم أيدي المشركين بأقصى ما يستطيعه النسان في ذلك الوقت من‬
‫تنكيل وبلء ‪ ،‬إن رسول الله والمؤمنين كانوا يدركون أنهم على بصيرة من‬
‫م الرض أو لنزل عليهم قارعة من‬ ‫أمرهم ‪ ،‬وأن الله لو شاء لخسف به ُ‬
‫السماء ‪ ،‬كما أنه من جانب آخر لو شاء لعطف هذه القلوب المتحجرة الصلبة‬
‫الغليظة فجاء بها إلى رحاب الله طائعة راضية ‪ ،‬وما دام المر على غير هذا‬

‫‪151‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الشكل فإنها إرادة الله جل وعل ‪ ،‬وإرادة منظور منها أن تعالج وضعا ً يعيشه‬
‫المسلمون ‪ ،‬فثمة رجال ما عرفوا بعد من السلم إل العدد القليل من‬
‫قضاياه الساسية ‪ ،‬أما أهدافه الكبرى ‪ ،‬غاياته البعيدة ‪ ،‬مراده بالنفس‬
‫النسانية ‪ ،‬أسلوبه ‪ ،‬نظرته في إعادة وصياغة تكوين النسان ‪ ،‬فتلك أمور ما‬
‫توضحت بعد بالنسبة للمسلمين ‪.‬‬
‫ة جوهرية هي‬ ‫لكن المسلمين على أي حال كان مطلوبا ً لهم أن يعرفوا حقيق ً‬
‫فيصل التفرقة بين السلم النازل من عند الله وبين ما يتبعه الناس اليوم‬
‫لنفسهم ولغيرهم من مناهج وسبل ‪ ،‬تلك هي أن السلم قاعدة ثابت ومحور‬
‫أساسي ‪ ،‬وأن هذه القاعدة ل تكترث بعواطف الناس ول تتأثر بانفعالت‬
‫الناس ‪ ،‬ألم يوجه الله جل وعل هذا الكلم القاسي إلى الرسول صلى الله‬
‫عليه وآله في موقف من أحرج المواقف وأشدها إيلما ً للنفس في غزوة أحد‬
‫في ساعة الكسرة في اللحظة التي تجول فيها عينا محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم على الرض التي شهدت وقائع القتال فيرى خيار أصحابه مجندلين‬
‫على الثرى ل تسترهم إل السماء ‪ ،‬ممثل ً بهم ‪ ،‬كأن الذي فعلوا هذا ل ينتمون‬
‫إلى بني آدم ‪ .‬ومع ذلك فلكي يفهم محمد عليه السلم ويفهم المسلمون‬
‫كلهم أن السلم ل يكترث لهذه العواطف العارضة والنفعالت الزائلة قال له‬
‫هذا الكلم القاسي ) ليس لك من المر ( حقيقة الوحي في مكانها وهذا‬
‫شيء يعتبر عندنا نحن المسلمين كالساس بل هو الساس ‪ ،‬وحينما نحاول‬
‫أن ننساه ولو لحظة واحدة فسوف نسيء إلى أنفسنا ولن نضر الله شيئا ً‬
‫ولن نسيء إلى هذا السلم ‪ ،‬لن السلم أمنع بذلك بكثير ‪ ،‬لنه حقيقة‬
‫الحقائق ‪ ،‬كلمة الله النهائية إلى الناس والباقية إلى يوم الدين ‪ .‬فوظيفة هذا‬
‫الكلم أن ينمي في صدور المسلمين وهم يعانون المشقة عزيمة الصبر على‬
‫المكروب الذي يرونه صباح مساء ) إن بطش ربك لشديد ( كلمة تبعث‬
‫الطمأنينة في نفسية النسان السلم ‪ ،‬وتجعله يشعر بأن الله الذي اصطفاه‬
‫ليكون جنديا ً تحت هذه الراية الربانية ليس غائبا ً عن المعركة بل هو الذي‬
‫يقود المعركة ‪ ،‬وأنه يصّرفها كيفما يشاء ‪ ،‬وأن له من وراء تعريض هذه‬
‫العناصر المؤمنة للمحنة والختبار غاية هي أن يكونوا نموذجا ً آخر ‪ ،‬طرازا ً‬
‫آخر ‪ ،‬خلقا ً آخر ‪.‬‬
‫إن أقتل شيء يكون بالنسبة إلى السلم أن يتساوى المسلمون وغير‬
‫المسلمين في المسالك ومناهج الفكر ‪ ،‬وإن أعظم سلح وأقطع سلح يمكن‬
‫أن يحمله المسلمون هي هذه الخلقية العالية التي يجب أن يتمّثل بها‬
‫جهت لهذه المة ‪ ،‬لعقيدتها وتاريخها ‪ ،‬هي أنها‬ ‫المسلم ‪ ،‬وإن أعظم إساءة وُ ّ‬
‫انتصرت على أعدائها بالقوة السلح ‪ ،‬ل ‪ ،‬إن النصر الحقيقي الذي استطاعت‬
‫هذه المة أن تحققها على أعدائها هو نصرها على أنفسها ‪ ،‬وهو ظهورها‬
‫بمظهر بشري إنساني يغاير كل النموذجات التي كانت معروفة في‬
‫الماضي ‪.‬‬
‫) إن بطش ربك لشديد ‪ ،‬إنه يبدئ ويعيد ( كما قلنا حرية مطلقة ) وهو الغفور‬
‫الودود ( وهذا خليق بأن يجعل المسلم يعرف أن الله هو ربك ورب الكل وأن‬
‫هؤلء الناس مهما تكن إساءاتهم ومهما تبلغ جرائمهم من الشناعة ومن‬
‫القسوة فل شيء بيننا وبينهم حين يشهدوا أن ل إله إل الله وأن محمدا ً‬
‫رسول الله ‪ ،‬وأن يسلموا مقادتهم إلى الله جل وعل ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪152‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بعد أن يعرض الله تعالى هذا يأتي دور التطمين إلى العواقب ‪ ،‬وجميل جدا ً‬
‫وحسن في باب المنهج أن يأتي التطمين من وقائع الصراع ‪ ،‬والتطمين هنا‬
‫يأخذ شكلين ‪ ،‬معروف لدى كل أحد أن هذه المة أمة من المم مضت قبلها‬
‫أمم ‪ ،‬وستأتي بعدها أمم ‪ ،‬وستواكبها أمم ‪ ،‬وأن الله من حيث الله الذي‬
‫صدر الخلق كلهم عنه ‪ ،‬ويألهون جميعا ً له فإن قوانينه ونواميسه وسننه في‬
‫خلقه واحدة ل تتغير ‪ .‬لقد مضت قبل هذه المة المخاطبة في زمن الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم أمم ‪ ،‬وفي حديث للنبي صلى الله عليه وآله يقول ‪:‬‬
‫أنتم توّفون سبعين أمة ‪ ،‬أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعل ‪ .‬قبل هذه‬
‫المة مضت أمم ‪ ،‬والتاريخ وعى سواء في الحافير وفي شواهد الحجارة‬
‫التي لفت الله النظار إليها ) وإنكم لتمّرون عليها مصبحين ( ولفت إليها بأن‬
‫قال لهم إنه ) أسكنهم ديارهم ( وسواء في الوثائق التي تركها النسان حين‬
‫عرف القراءة والكتابة ‪ ،‬أو في المرويات التي يتناقلها السلف عن الخلف ‪،‬‬
‫ترك النسان وقائع تخبر عما مضى وتكشف زوايا من خبايا التاريخ ‪ ،‬والقرآن‬
‫زيادة على هذا ألقى الضواء على جوانب من حياة أمم مذكورة في القرآن‬
‫لم يعرفها أهل الكتاب الول ‪ ،‬لم تذكرها التوراة ول الناجيل ‪ ،‬وحتى الن‬
‫وبعد استبحار عمليات الكشوف ما تزال هذه المم والقوام التي تعرض‬
‫ص علينا منها مجهولة الخبر ‪ .‬والحكمة والعبرة من كل‬ ‫القرآن لذكرها وق ّ‬
‫تجربة النسان سواء كانت باقية فوق سطح الرض أو قطعة مطمورة في‬
‫التراب أو كلمة منقوشة على لوح حجارة أو جلد غزال أو ورقة ُيكتب عليها أو‬
‫خبر يدور على اللسنة ينقله قوم إلى قوم ‪ ..‬حكمة هذا كله أن يعتبر التي‬
‫بالماضي وأن يخرج الناظر في تاريخ النسانية بحقائق تنفعه وهو يعالج‬
‫صعوبات الحاضر الذي يعيشه ‪ ،‬إن الله تعالى يذكر نبأ أقوام في هذه السورة‬
‫أي سورة البروج تعقيبا ً على واقعة كانت قريبة جدا ً من عصر الرسالة ‪..‬‬
‫ب لهاربين من النصارى والذين استقروا في نجران وما حولها ‪..‬‬ ‫واقعة تعذي ٍ‬
‫يذكر المحور الول من محاور التطمين باستعراض وقائع الماضي ولكن‬
‫يذكره بصيغة قرآنية كثيرا ً ما تتكرر في القرآن وهي صيغة تلفت النظر ) هل‬
‫أتاك حديث الجنود ‪ ،‬فرعون وثمود ( أحب لو أنكم حاولتم أن تذوقوا معنى‬
‫اللغة التي صيغت بها هذه العبارة على النحو الذي أذوق ‪ ،‬ومع ذلك ففي‬
‫التدقيق في العبارة يتكشف لكم أن الله جل وعل عدل عن ذكر القوام إلى‬
‫ذكر وصف ‪ ،‬فرعون كان يحكم مصر ‪ ،‬ومصر أمة من القبط ذات عراقة في‬
‫التاريخ وذات حضارة مشهورة غير منكورة ‪ ،‬وهي كثيرة العدد ‪ ،‬وكان لها في‬
‫زمن الفراعنة شأن ‪ ،‬كانت تشكل ثقل ً بالنسبة إلى العالم القديم ‪ .‬قل ذلك‬
‫أيضا ً بالنسبة إلى ثمود ‪ ،‬قبائل كانت تتمتع بجبروت وبالقوة الخارقة ‪ ،‬لكن‬
‫لكي تتكشف لكم جوانب من إعجاز القرآن اسألوا أنفسكم ‪ :‬هل كانت أمة‬
‫القبط في مصر التي كان يحكمها فرعون كلها عساكر ‪ ،‬هذا مستحيل ‪،‬‬
‫ومعروف من واقع المم ‪ ،‬المم شعوب ويكون في هذه الشعوب عساكر‬
‫وجنود ‪ ،‬هل كانت قبيلة ثمود كلها جنودا ً ؟ ل ‪ ،‬وإنما المقاتلون منها قد ل‬
‫يشكلون منها واحدا ً من اللف من جملة هذه القبائل ‪ ،‬ومع هذا فأنتم‬
‫تسمعون التعبير القرآني يعدل عن ذكر المة إلى التنصيص على الوصف‬
‫على سبيل التهويل ) هل أتاك حديث الجنود ‪ ،‬فرعون وثمود ( أي تصوّْر يا‬
‫محمد أن تلك المم التي أبدتها بقوتي وبقهري واقتداري ‪ ،‬لو أنها كانت‬
‫بشيبها وشبانها وبرجالها وبنسائها جنودا ً كلها ما أعجزتني ‪ ،‬ومع ذلك أبدتها‬
‫ومتى ؟ حينما حاولت أن تخرج على نواميس الله جل وعل وأن تتكبر على‬
‫أمر الله تبارك وتعالى وأن تسوم المؤمنين سوء العذاب ومّر العذاب ‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فأنتم حينما ترون أنفسكم يا معاشر المؤمنين في هذا الوضع الذي أنتم فيه‬
‫كر عليكم أن تنسوا أنكم بعين الله وأن‬ ‫كر عليكم أن تتأثروا ولكن ُين َ‬‫ل ُين َ‬
‫ب الذي اختاركم وندبكم لهذه المهمة أهلك من كان قبل هؤلء‬ ‫تنسوا أن الر ّ‬
‫الكفار ممن كانوا أكثر جمعا ً وأعظم قوة وأعرق حضارة وأكثر علما ً ولم‬
‫ل اسمه ‪ ) ،‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (‬ ‫يعجزه ذلك ج ّ‬
‫وهذا هو المحور الول من محاور التطمين التي ساقها الله جل وعل‬
‫للمؤمنين وهم في أوجه الصراع مع المشركين في الوقات التي يستيئس‬
‫فيها حتى أشد الناس قوة وأكثرهم صبرا ً ‪ ،‬ولكن يجب أل نسقط من حسابنا‬
‫أن السلم كان يعالج في تلك الساعة أمرا ً عظيما ً كان يريد أن يبدع‬
‫للنسانية إنسانية جديدة لها مقاييس لم تكن البشرية تعرفها من قبل ‪،‬‬
‫وكضميمة لهذا المحور من محاوره فمن الضروري أن يكشف الله جل وعل‬
‫لهذا النبي الكريم النبي النسان النبي البشر من الضروري أن يكشف له‬
‫حقيقة هذه الخصم وهذا العدو الذي يقارع ) بل الذين كفروا في تكذيب ( ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫إن الرسالة التي تحملها ل غبار عليها ‪ ،‬إنها الحق المطلق ‪ ،‬إنها العدل الكامل‬
‫‪ ،‬بل هي النسانية التامة التي ل مطمع ورائها لطامع ‪ ،‬ولكن هل الناس كل‬
‫الناس قادرون على استيعاب الحقيقة ؟ وهل الناس كل الناس إذا قدروا‬
‫على استيعاب الحقيقة هم في الوقت ذاته قادرون على أن يعيشوا هذه‬
‫الحقيقة ؟ ل ‪ ،‬من أجل هذا نسمع الله جل وعل يقول في الكتاب مخاطبا ً‬
‫رسوله عليه الصلة والسلم ) وإن تطع أكثر من في الرض يضلوك عن‬
‫سبيل الله ( إن الحقيقة الدينية تشكل دائما ً وأبدا ً صدمة عنيفة للرغبات‬
‫البشرية ‪ ،‬ومن هنا هذه النفرة التي يعاني منها النبياء ويعاني منها الدعاة‬
‫ويعاني منها المصلحون ‪ ،‬ولكن ربما والنسان إنسان ومسارب الشيطان في‬
‫النفس ل تقع تحت حق ربما في ساعة من الساعات تجد أكثر الناس ثباتا ً‬
‫ورسوخا ً في باب اليمان يجد أنه يقف على أرض تتحرك من تحته ‪ ،‬في صلح‬
‫الحديبية جاء سهيل بن عمر رضي الله عنه في خاتمة المطاف بعد تردد‬
‫الرسل والوفود بين المشركين والرسول صلى الله عليه وآله ‪ ،‬وبدأت كتابة‬
‫نصوص العقد وكانت نصوصا ً مجحفة في ظاهر المر ‪ ،‬ما تقولون في عمر‬
‫بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أذلك إنسان يتطاول أحد إلى أن يسامته في‬
‫الذروة السامقة التي بلغها في باب اليمان ؟‬
‫فإن عمر جاء كالجمل الهائج إلى رسول الله صلوات الله عليه يقول ‪ :‬يا‬
‫رسول الله ألسنا بالمسلمين ؟ قال ‪ :‬بلى يا عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬ألسنا على الحق‬
‫وهم على الباطل ؟ قال ‪ :‬بلى يا عمر ‪ :‬أليس قتلنا في الجنة وقتلهم في‬
‫النار ؟ قال ‪ :‬بلى يا عمر ‪ ،‬قال يا رسول الله ‪ :‬فعلم نعطي الدنية في ديننا ؟‬
‫أين عمر ؟ وأين حقائق اليمان العليا ؟ قال له ‪ :‬يا عمر إني عبد الله ورسوله‬
‫ولن يضيعني الله ‪ .‬في بعض الساعات ‪ ،‬الشيطان قد يدخل إلى النسان من‬
‫مدخل خبيث حتى يصيب قاعدة اليمان في نفسه ‪ ،‬استمرار المحنة‬
‫واستمرار العذاب واستمرار البلء ربما يزلزل قاعدة اليمان ‪ ،‬ولعل من‬
‫المفيد أن أذكر لكم في الدراسات الحديثة أن العلماء أو من يسمون هكذا‬
‫من الجانب وممن قلدهم من أبنائنا نحن المسلمين خرجوا من دراسة وقائع‬
‫الضطهاد البشري عبر التاريخ الديني والسياسي بنتيجة هي أن الضطهاد إذا‬
‫طال أكثر مما يجب فإنه سوف يحطم العقائد السائدة وإن كانت عقائد حق ‪،‬‬

‫‪154‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لست محتاجا ً إلى أن أقول لكم أن هذا كلم أناس يسمون أنفسهم علماء‬
‫وما هم علماء أبدا ً ولكن أقول إن المسألة في ذاتها مشكلة ‪ ،‬ومن الممكن‬
‫أن يتساءل النسان في لحظة من لحظات البلء عن مدى أحقية الموقف‬
‫الذي يقفه ‪ .‬والله جل وعل ذكر بعضا ً من هذا في القرآن الكريم قال ) حتى‬
‫إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا ول مبدل لكلمات الله (‬
‫وإذا ً ففي مراحل البلء هنالك مراحل يشعر الرسل بالذات بأنه ربما يكون‬
‫في الموقف خطأ في زاوية ما ‪ ،‬ولكن الله جل وعل يتدارك المور بنفخ‬
‫العزيمة في صدور المؤمنين حتى تفّرغ الخصم من جميع عوامل القوة‬
‫وتتركه فريسة هينة بين أيدي المسلمين ‪.‬‬
‫من أجل ذلك كانت الضرورة ماسة إلى كشف حقيقة العداء ‪ ،‬هل هؤلء‬
‫المكيون المشركون الذين يتصلبون في مواقفهم تصلبا ً غير معقول على حق‬
‫؟ وإذا ً لماذا يتمسكون بالمر على هذا الشكل ؟هل من المعقول أن يتمسك‬
‫النسان بالباطل ويكابر ذاته ويعالج نداء الفطرة الذي يتفجر في داخل‬
‫كيانه ؟ نقول نعم ممكن ‪ ،‬ألم يقل الله جل وعل ) وكذلك زيّنا لكل أمة‬
‫عملهم ( بلى ‪ ،‬هذا كلم تقرأونه في القرآن ‪.‬‬
‫وإذا جئت الن برجل أخرجته من مستشفى المجانين ل يعرف الطين من‬
‫العجين ووضعت أمامه أرسطو أو أفلطون ‪ ،‬لقال لك هذا المجنون المأفون ‪:‬‬
‫عقلي خير من عقل هذا ‪ .‬وإذا ً فمن الممكن للنسان أن يقف ضد الحق على‬
‫رغم قناعاته بهذا التزييف الذي يدفع النسان للوقوف مع الباطل وقوفا ً ل‬
‫يقر به النسان في الحالة العادية ‪ .‬ما معنى هذا ؟ معناه أن المسلم عليه أن‬
‫يعرف حقيقة بسيطة ‪ ،‬إن تكاثر الخصوم وتكالب الخصوم وثبات الخصوم‬
‫على مواقف الضلل والكفر ل يعني أن موقفك تلحقه شائبة من شوائب‬
‫الباطل ‪ ،‬يجب أن تبقى متمسكا ً بقناعتك أنك على الحق ‪ ،‬وهؤلء لم يقل الله‬
‫جل عل أنهم مكذبون فلو قال ‪ :‬بل الذين كفروا يكذبون أو مكذبون لكان‬
‫ذلك وصفا ً عارضا ً يلحق الجماعة المناوئة للسلم ‪ ،‬ولكن الله قال ) بل الذين‬
‫كفروا في تكذيب ( إشارة إلى الغراق في هذه الرذيلة التي يتمسك بها‬
‫المشركون كأنما صور الله جل وعل التكذيب بحرا ً أو إناًء أو ظرفا ً أوقعه‬
‫هؤلء أنفسهم فيه حتى استولى عليهم من جميع أقطار الدنيا ‪ ،‬فإذا ً كضميمة‬
‫للضمانة الولى التي أشارت إليها السورة الكريمة كشف الله جل وعل‬
‫حقيقة الموقف الذي عليه المشركون حتى ل يتطرق اليأس ول تتطرق‬
‫الشبهة ول يتطرق الشك إلى نفوس المؤمنين الذين يخوضون معركة‬
‫النسانية كلها ‪ ،‬والتي لو خسروها في ذلك الوقت لخسروا أنفسهم ‪ ،‬بل‬
‫ولخسرت النسانية كلها هذا الخير العظيم ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ثم يقول ) والله من ورائهم محيط ( وهذا أيضا ً تطمين عظيم ‪ ،‬إذا كان الله‬
‫من وراء هؤلء محيط فل بأس على المؤمنين ول خوف من العواقب ‪،‬‬
‫والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين ‪ ،‬والنصر للمؤمنين ) إنا لننصر رسلنا‬
‫والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد ( ‪.‬‬
‫ثم يأتي المحور الثاني الذي يشكل الضمانة الباقية ‪ ،‬والذي يشكل عامل‬
‫تطمين ل يغفل عنه إل غافل ) بل هو قرآن مجيد ‪ ،‬في لوح محفوظ ( مهما‬
‫حفظ فيه القرآن فعلينا أن نذكر‬ ‫يكن من آراء المفسرين في هذا اللوح الذي ُ‬
‫أن الله تعالى قال لنبيه عليه الصلة والسلم فيما يرويه عن ربه تبارك‬

‫‪155‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وتعالى ‪ :‬وآتيتك قرانا ً ل يغسله الماء لتقرأه نائما ً ويقظان ‪.‬‬


‫عرف النسان إلى اليوم فأنتم‬ ‫ألقوا النظر على صفحات الماضي ‪ ..‬منذ ُ‬
‫تجدون النقص والتشويه والتحريف تتناول الرسالت والمناهج والمذاهب‬
‫والراء ‪ ،‬بل لماذا نذهب بعيدا ً ولماذا ً نفتش في صفحات من التاريخ قد‬
‫يجازف فيها المجازف ويكابر فيها المكابر ؟ إن تقريرا ً يطلقه زعيم من‬
‫زعماء اليوم ل يلقى عند الناس قبول ً يخرج هذا الزعيم نفسه في نفس اليوم‬
‫أو في اليوم الثاني ليقول كلما ً غيره ينسخ الكلم الماضي ‪ .‬ليس الدنيا على‬
‫ظهر الرض وثيقة محصورة على النحو الذي نزلت به بل زيادة حرف وبل‬
‫نقص حرف إل هذا القرآن ‪ ..‬التوراة والنجيل والزبور وكل ما أنزل الله من‬
‫كتاب عدا القرآن جرى فيه زيادة ونقصان ‪ ،‬وُأخفيت منه أشياء وزيدت فيه‬
‫أشياء ‪ ،‬وكل ما كتب الناس عمل فيه النسان فيه التشويه والبتر والنقص‬
‫والزيادة ‪ .‬ولكنك أيها المسلم أنت الوحيد في القديم والحديث وإلى قيام‬
‫الساعة الذي يسكن على هذه الرض يقرأ القرآن على نحو مما قرأه محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫ولئن أمكن أن يتطّرق النسخ أو التشويه إلى بعض وقائع تاريخك إن وثيقة‬
‫دينك منيعة على أي تشويه ‪ ،‬ومنيعة على أية نسخ ‪ ،‬ول يمكن أن يزاد فيها‬
‫ط لكتاب من‬ ‫حرف ول يمكن أن ُينقص منها حرف ‪ .‬إن هذه الضمانة لم ُتع َ‬
‫كتب النبياء السابقين ‪ ،‬وإنما ُأعطيت لهذا القرآن ‪ ،‬وإن هذه الضمانة لم‬
‫يتكفل بها الله لدين من الديان السابقة ‪ ،‬وجعلها كفالة لدين السلم الذي‬
‫اصطفى لتبليغه محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫هذه هي السورة ‪ ..‬انتهينا منها ‪ ..‬هل أعطيتها حقها ؟ ل أتصور ‪ ،‬ولكن أظن‬
‫أن الشيء الذي قلناه يكفي لعطاء صورة عن الحقائق التي أثارتها السورة‬
‫الكريمة ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫بقي أن أتحدث إليكم حديثا ً خاصا ً ‪ ،‬أرجو قبل كل شيء أن تسمعوني وأرجو‬
‫أن تفهموني ‪ ..‬أحب أن ل ينسى أحد ‪ ،‬أحب أن ل يتأثر أحد ‪ ،‬أنا الن أبلغ من‬
‫العمر الخمسين من العمر ‪ ،‬عشت بينكم ولكم ‪ ،‬فرضت على نفسي سلوكا ً‬
‫ة ل ُيقدر عليها ‪ ،‬وأقول هذا تحدثا ً بنعمة الله ‪ ،‬وإذا حذفت كل‬
‫صارما ً ‪ ،‬طريق ً‬
‫شيء فل أستطيع أن أحذف من حياتي السنوات العشرة الخيرة ‪ ،‬كانت لي‬
‫آمال حدثتكم ببعضها ‪ ،‬وطويت القسم الكبر منها ‪ ،‬مضينا في مسيرة ‪ ،‬كثيرا ً‬
‫ما قلت لنفسي لعلك يا فلن لم تكن موّفقا ً في اختيار الموضوعات ولم تكن‬
‫موّفقا ً في الداء ‪ ،‬وكنت أجّرب تجربة ‪ ،‬ومن جّرب مثل تجربتي عرف الذي‬
‫أعرف ‪ ،‬ثم أقول لكم إن طريق الدعوة إلى الله زرع الداء في جسمي‬
‫فيجب أن تعرفوا أن هذه حقيقة ‪ ،‬منذ سنوات وبين إخواني في دير الزور‬
‫دمت فيه أخي وصديقي ورفيق طريقي المرحوم الدكتور عبد‬ ‫قلت كلما ً ق ّ‬
‫الكريم عثمان ‪ ،‬وفي مسجد من مساجد دير الزور قلت ‪ :‬إن هذه الدعوة‬
‫فيما يبدو لي كالقطة تأكل أبناءها ‪ .‬وحين أستعرض رجال الدعوة أراهم‬
‫مصّرعين على الرض أو رازحين تحت أعباء الداء ‪ ،‬ذلك قدر ‪ ،‬ول أبحث في‬
‫هذه الناحية ‪ ،‬لكني أريد أن أقول لكم ومن غير مجاملة ‪ :‬إنني أشعر منذ‬
‫زمن أنني غير مقبول وغير مفهوم لسبب إن مجتمعنا هذا يمكن أن نستعير‬
‫له الوصف الذي ُوصف به تفسير الرازي رحمه الله فقد كانوا يقولون ‪ :‬إن‬
‫تفسير الرازي فيه كل شيء إل التفسير ‪ .‬ومجتمعنا هذا فيه كل شيء إل‬

‫‪156‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫السلم ‪ ،‬الواقع أن رواسب جاهلية وعقد والتواءات ُتحسد عليها المة هي‬
‫التي ل تلبس بالسلم وما هي من السلم ‪ ،‬وحين يجد النسان نفسه ضمن‬
‫مجموعة من هذا القبيل بهذا الشكل تكون المسألة مهمة ‪ ،‬كنت سابقا ً ول‬
‫أدري إن كنت قلت لكم إني عشت مع شيخ المعرة أبي العلء رحمه الله‬
‫سبع سنوات أقرأ شعره ونثره ‪ ،‬المهم أن تعرفوا أن مؤرخي الحضارة‬
‫السلمية يقولون إن القرن الرابع الذي عاش فيه المعري عصر الزدهار‬
‫والرقي والعطاء ‪ ،‬هو أن الواقع أن هذه أكذوبة تاريخية ضخمة ‪ ،‬فالحقيقة أن‬
‫الجنوح نحو النحدار كانت أشد ما يتمّثل في عصر شيخ المعرة رحمه الله‬
‫تعالى ‪ ،‬كنت أعجب وأقرأ وأفكر ‪ ،‬هذا النسان الذي أثار نقاشا ً طويل ً عاش‬
‫وهو حي وما زال مستمرا ً بعد ألف وخمس أو سبع وعشرين سنة ما زال‬
‫حّلت مشكلته عندي ‪ ،‬إن‬ ‫النقاش محتدما ً للتعرف على صفة هذا المخلوق ‪ُ ،‬‬
‫الرجل عاش في عصر فرض عليه أن يكون غير مكفوف ‪ ،‬إنه عاش عصرا ً‬
‫فيه ظواهر ُتخّيل إليك أن المجتمع مسلم ‪ ،‬ولكن حقائق المور وبواطن‬
‫الشياء بعيدة جدا ُ عن هذا الواقع ‪ ،‬تواطؤ مع البيزنطيين ‪ ،‬قتال وحروب بين‬
‫أمراء المسلمين ‪ ،‬تقاطع وتدابر بين البلد السلمية ‪ ،‬سلب ونهب وهتك‬
‫أعراض وفتك ‪ ،‬بكل ما تحمله هذه المعاني على الصعيد الشخصي ‪ ،‬تجد غشا ً‬
‫في التعامل ‪ ،‬وتجد حقدا ً وبغضاء ‪ .‬ومع ذلك تدخل المسجد فتغّرك المظاهر ‪،‬‬
‫كان شيخ المعرة رحمه الله تعالى بما ُوهب من رهافة الحس وسلمة‬
‫الدراك يعلم ُبعد الفارق بين الصورة الوضيئة التي نزلت على محمد عليه‬
‫الصلة والسلم وطّبقها في عصره ‪ ،‬وبين الصورة الكريهة التي يعيشها ‪،‬‬
‫فمن أجل ذلك كان ولوعا ً غاية الولوع بأن يرفض الواقع ‪ ،‬إنك ُتجّرب أن‬
‫تسير ضد التيار ‪ ،‬وحين تملك الطبع الحّر والخليقة المستقيمة والجبهة التي‬
‫تناطح السماء والعزيمة التي ل تعرف النحناء بين يدي المخلوقات بعد أن‬
‫عرفت النحناء لله ‪ ،‬فمن الصعب أن تعيش في مجتمع زائف وكريه ومخّرب‬
‫كذلك المجتمع الذي كان يعيش في شيخ المعرة ‪ ،‬كان يقول رحمه الله ‪:‬‬
‫إذا قلتم محال رفعت صوتي وإن قلتم صحيح عطيت همسي‬
‫جل وافعل كل شيء فسوف تجد الذان الصاغية ‪،‬‬ ‫كهذا المجتمع ‪ ،‬اكذب ود ّ‬
‫بل أكثر ‪ ،‬ستجد من يمسح لك أطراف ذيلك ‪ ،‬ولكنما حين تريد أن تقول‬
‫ً‬
‫الحقيقة فأنت مضطر لن تقولها بين أربعة جدران ‪ ،‬إلى أن تقول همسا ‪،‬‬
‫وإياك أن ترفع صوتك ‪ ،‬ومن أجل هذا كان رحمه الله حريصا على أن يذبل‬
‫هذه الدنيا وأن ل يكترث لها وأن يبقى وفيا ً لمبادئه ‪ ،‬منسجما ً مع آرائه‬
‫ونظراته ‪ ،‬كان يقول في أوائل اللزوميات ‪:‬‬
‫وما لي ل أكون وصي نفسي ول تعصي أموري الوصياء‬
‫وقد فتشت عن أصحاب دين لهم نسك وليس بهم رياء‬
‫فألفيت البهائم ل عقول تنير لها الطريق ول ضياء‬
‫وأرباب الفطانة في اختيال كأنهم لقوم أنبياء‬

‫)‪(6 /‬‬

‫إن الرجل عاش مجهول ً في عصره ‪ ،‬فمن أجل ذلك عاش ومات مهضوم‬
‫الحق ‪ ،‬وهذا شيء أقوله لكم ‪ ،‬بعد الن لن تسمعوا مني شيئا ً إن شاء الله ‪،‬‬
‫كنت أدّرس في الجامع الوطني درسين في السبوع ‪ ،‬فلن تكون ثمة دروس‬
‫بعد اليوم ‪ ،‬والشوط الذي قطعته في هذه الخطب سيكون يتيما ً بإذن الله ‪،‬‬
‫وغاية ما أرجوه أن ألقى الله تعالى على هذه الحال ‪ ،‬ليس عارا ً أن أقول لكم‬

‫‪157‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أنني لم أعد ّ أتحمل ‪ ،‬جسم مسقام كثير المراض ‪ ،‬وأناس ل يتقون الله ‪،‬‬
‫حسبنا الله ونعم الوكيل ‪ ،‬أقول هذا وأعيد أليس من الحق أنني أخطأت‬
‫اختيار الساحة وأخطأت استعمال الداء ‪ ،‬نعم ‪ ،‬أنا الن قريب من الخمسين ‪،‬‬
‫جل ‪ ،‬وبين ُأنملين قلم لو‬ ‫لم أترك للناس من بعدي إل هذه الشرائط التي ُتس ّ‬
‫جرى لجرى الذهب معه ‪ ،‬ولو جرى لخط في التاريخ خطا ً ‪ ،‬أحب أن تعلموا‬
‫إن الناس ثلثة ‪ ،‬واحد يسمح للتيار أن يسحقه ‪ ،‬أي مسلوب الرادة ‪ ،‬وواحد‬
‫يترك على التيار بصماته ‪ ،‬وهو خير من الول ‪ ،‬وواحد يصنع التيار ‪ ،‬ليس من‬
‫دح ولكن لعّرفكم بطبيعتي ‪ ،‬أنا ليست من الذين يحنون رؤوسهم‬ ‫باب التم ّ‬
‫للرعاع وليست من الذين يتملقون عواطف الناس ‪ ،‬ومن هذا المكان منذ‬
‫سنوات قلت لكم ‪ :‬يا إخوتي والله كدت أقول ما قال ذلك العالم في بغداد‬
‫حين قرر الرحيل من بغداد ‪ :‬لو وجدت عندكم رغيفا ً آكله في الصباح ورغيفا ً‬
‫آكله في المساء ما فارقتكم ‪ .‬والله ثم والله ثم والله فقد عشت لكم ومن‬
‫ملها بشر ‪ ،‬ومع ذلك انتهيت ‪ ،‬ذهبت‬ ‫أجلكم ابتغاء مرضاة الله ظروفا ً ل يتح ّ‬
‫ُ‬
‫القوة وانقطعت المّنة وأنا الن بحاجة إلى أن أعيد حساباتي من أولها إلى‬
‫آخرها ‪ ،‬أنا واثق ابتداًء أنني كان أحب أن أعمل في هذا الميدان وأن ل أسمح‬
‫لملكة الخطابة أن تعدو على ملكة الكتابة ‪ ،‬وما يجد بعضكم من متاع ولذة‬
‫بالستماع إلي مرة أو مرتين في السبوع كان يمكن أن يكون ما هو خير منه‬
‫وأبقى حين أترك للناس نتاج عقلي وثمرة تفكيري بل ثمرة فؤادي ووجداني‬
‫شيئا ً ُيقرأ بعد مئات السنين وبعد آلف السنين ‪ ،‬ول ضير فيما أقول ‪ ،‬فليس‬
‫أول من وقع ضحية الخداع ‪ ،‬إن الستمرار في الطريق في تقديري الن خطأ‬
‫‪ ،‬وإن علي أن أختار ميدانا ً آخر ‪ ،‬إن العمل بين الناس ميدان يحتاج إلى‬
‫مراعاة الناس ‪ ،‬وميدان يحتاج إلى مسايرة التيار ‪ ،‬وأنا ليست واحدا ً ممن‬
‫يحنون رؤوسهم للتيار ‪ ،‬وليست واحدا ً ممن يرضون بأن يتركوا بعض‬
‫ل من‬ ‫بصماتهم على التيار ‪ ،‬أنا ـ بفضل الله ـ من صنعة التيارات وليست أق ّ‬
‫ذلك في كل حال ‪.‬‬
‫بعد الن ل خطابة ول دروس ‪ ،‬علي واجب إذا أشكل على إنسان من أمر‬
‫دينه أمر فليسألني وسأجيبه بإذن الله تعالى ‪ ،‬وكلمة أخيرة أقولها ‪ :‬ل سيما‬
‫جلت الخطب كلها على الشرطة ‪ ،‬وانتشرت الشرطة هنا‬ ‫س ّ‬
‫المرحلة الخيرة ُ‬
‫ً‬
‫وهناك في كل مكان في العالم العربي والعالم السلمي ‪ ،‬ليكن واضحا أنني‬
‫ل لحد أن يستخدم هذه الفكار‬ ‫ل أسمح ثم ل أسمح ثم ل أسمح ول أح ّ‬
‫مضافة إليه ‪ ،‬إنني كنت أعمل على إثارة الساحة وإثارة الفكار ‪ ،‬وتأتي هنا‬
‫فكرة وهناك فكرة ووعدت بأن نجرد هذه الحصيلة في المستقبل لنستخرج‬
‫قواعد الحركة ‪ ،‬وأنا أعرف أن في هذه الدنيا أناسا ً يأتون إلى الشيء الكامل‬
‫فينتقصوه فما بالك بالشيء الذي لم يكتمل بعد ‪ ،‬إن الفكار التي طرحتها‬
‫جزء من عمل ل أريد ول أقبل أن يضيفها إليه أحد لنها ل تمّثل فكرة نهائية ‪،‬‬
‫الفكرة النهائية لم ُتطرح بعد ‪ ،‬وأنا آمل وأستعين الله جل وعل على أن‬
‫يعينني على تسجيلها وكتابتها وإذاعتها بين الناس ‪ ،‬هذا شيء ضروري ‪،‬‬
‫جلت عليها أحاديثي ليستخدمها من شاء كيفما شاء إل أن‬ ‫س ّ‬‫أشرطتي التي ُ‬
‫يقول أن هذه آراء فلن وهي ليست آرائي ‪ ،‬آرائي لم يكمل بناؤها حتى‬
‫الساعة ‪ ،‬ومع ذلك فللشباب أن يستخدموها كيفما شاءوا ‪ ،‬مع زيادة هو أن‬
‫ور أنه وضع في طريق المنهج لبنات ‪ ،‬ننصح‬ ‫الشوط الذي قطعناه أعتقد وأتص ّ‬
‫الخوة الذين يريدون أن يبحثوا في التاريخ النبوي والتاريخ السلمي بعامة‬
‫وحقائق السلم يمكن أن يستخدموها ويستفيدوا منها وأن يضيفوا إليها إن‬
‫شاء الله تعالى إضافات موّفقة ومباركة ‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫رجائي إلى الله جل وعل أن يعينكم وأن يهدي قلوبكم وأن يوفقكم وأن يسدد‬
‫خطاكم ‪ ،‬وقلت لكم أن ل يغضب أحد ‪ ،‬إن المة ليست متوقفة علي ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت متوقفة علي فمن الخير أن تموت ‪ ،‬إن المة فيها خير له أول وليس له‬
‫آخر ‪ ،‬وغاية المر أن نبدل ميدانا ً بميدان ‪ ،‬وأن الساس فنحن وأنتم على‬
‫العهد ‪ ،‬حياتنا ومماتنا وصحتنا وسقمنا وشبابنا وهرمنا ودماؤنا وأموالنا نرجو‬
‫أن تكون لله جل وعل ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫وسلم ‪ .‬والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة البروج )‪(1‬‬


‫مع تعليق على سورتي ) القدر ‪ ،‬الشمس (‬
‫الجمعة ‪ 12‬ربيع الخر ‪ 1 / 1397‬نيسان ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫نحن اليوم في مواجهة سورة كريمة هامة ‪ ،‬لنها ترشح لدخول مرحلة‬
‫حاسمة من مراحل الدعوة النبوية الكريمة ‪ ،‬وإنه لمن دواعي أسفي أنني ل‬
‫أستطيع في الوقت الحاضر أن أبحث السورة على النحو الذي يجب أن ُتبحث‬
‫عليه ‪ ،‬فينبغي أن تتوفر قدرة ل أملكها الن ‪ ،‬ولكن إن شاء الله تعالى نقدم‬
‫جهد المقل ‪ ،‬ونرجو أن يكون فيما نقول خير وبركة إن شاء الله تعالى ‪.‬‬
‫رأينا في السورتين السابقتين ) القدر والشمس ( واللتين سبق أن عرضنا‬
‫لهما وشرحنا ما يسر الله جل وعل من قضاياهما ‪ ،‬رأينا أمرا ً هاما ً كنت أريد‬
‫أن أبادر بالكشف عنه في ذلك الحين ‪ ،‬ولكن وجدت أن الحديث عنه‬
‫والشارة إليه لون من استباق المور قد يقع في غير مكانه ‪ ،‬فأرجأت الشارة‬
‫إليه إلى اليوم حين نتعرض بالنظر للسورة الكريمة التي نحن بصددها ‪ .‬إن‬
‫الله تعالى كشف للمسلمين في السورتين اللتين مضتا ) القدر والشمس (‬
‫عن أمر ذي خطورة بالغة وأهمية كبيرة ‪ ،‬عرض للناس في سورة القدر‬
‫قضية ينبغي أن يطول وقوف الناس عندها ‪ ،‬وينبغي أن يبذل الجهد الكبير من‬
‫أجل التعرف على دقائقها ‪.‬‬
‫إن ليلة القدر هذه الليلة التي ل أعظم ول أكرم ‪ ،‬إنها كانت عند الله وعند‬
‫الناس وفي التاريخ من حيث هي ُتؤرخ لنزول القرآن ‪ ،‬فقيمتها مستمدة من‬
‫القرآن من الرسالة من السلم ‪ ،‬وحين تعرض القضية بهذا الشكل فالواجب‬
‫على المسلم أن يحاول ما وسعته الطاقة أن يتعرف على وجوه التقدير‬
‫الموجودة في هذا الدين ‪ .‬إن هذا الدين ل يشرف الناس ويمنحهم القدر‬
‫والقيمة وحسب ‪ ،‬وإنما يشرف اليام ويشرف الليالي والساعات ويمنحها‬
‫القيمة والقدر ‪ .‬وإذا كان للدنيا من تاريخ فإن تاريخها يجب أن يحسب على‬
‫حساب القيم والمثل والفضائل اعتبارا ً من تلك اللحظات الكبيرة العظيمة‬
‫المقدرة التي كان فيها اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم وآله ثاويا ً في بطن‬
‫الغار يرثي لهذه الدنيا ويألم لسخافات الناس ويتأذى بهوان النسانية ‪ .‬وإذ هو‬
‫كذلك صلوات الله عليه يأتيه المر من الله جل وعل بأن يقرأ على الناس هذا‬
‫القرآن ‪ ،‬ويكون ذلك ‪ ،‬وتقلب صفحات كثيرة سوداء قذرة مضت من عمر‬
‫النسانية الطويل ‪ ،‬كلها أذى وكلها قذى وكلها هوان ‪ ،‬ليفتح الزمان صفحات‬

‫‪159‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بيضاء نقية طاهرة يخط فيها السلم قدرا ً بالدنيا جديدا ً ومصيرا ً لهذه‬
‫النسانية سعيدا ً ويمضي الركب على اسم الله وبركاته ‪ ،‬يقوده اليتيم الثاوي‬
‫في بطن الغار عليه أفضل الصلة والسلم ‪ ،‬لتظل من بعد كلمة الله تدوي‬
‫في الخافقين من بين الدماء والدموع ‪ ،‬ومن وسط الكوارث والهوال ‪ ،‬ومن‬
‫خلل النكبات والزوابع يشع نور الله جل وعل يلوح للحائرين والضالين أن من‬
‫ههنا الطريق ‪.‬‬
‫قف محمد صلى الله عليه وآله هؤلء الكلمات البيضاء عرف لها‬ ‫ومنذ أن تل ّ‬
‫ً‬
‫قيمتها وعرف لها قدرها ‪ ،‬وأدرك جيدا ـ بأبي هو وأمي ـ أن الدنيا بدأت‬
‫تستقيم وأن النسان قد آن أن يستعيد كرامته المهدورة وحقه المسلوب في‬
‫أن يكون إنسانا ً كامل النسانية ‪ ،‬موفور الكرامة عزيز الجانب سيد مخلوقات‬
‫الله جل وعل ‪ ،‬ول يعيب القرآن ول يعيب هذا الدين أن يتناسى هؤلء الخلئف‬
‫من المسلمين قيمة هذه الكلمات المنيرات ‪ ،‬وأن يهمل هؤلء الخلئف من‬
‫المسلمين التعرف على قدرهم وقيمتهم المشتقة من السلم والمستمدة‬
‫من القرآن ‪ ،‬وإنما كلمنا كله ما مضى وما هو حاضر وما هو آت ‪ ،‬من أجل‬
‫هذا فقط ‪ ،‬من أجل أن يدرك المسلمون أنهم ناس لهم في الدنيا قدر وقيمة‬
‫مؤسسان على كلمات الله ومشتقان من دين الله عز وجل ‪.‬‬
‫فإذا وقفنا عند سورة الشمس وجدنا أمرا ً عجبا ً وجدنا الله جل وعل يعرض‬
‫قضية السلم خلل مشاهد الكون التي تمضي رتيبة منتظمة ‪ ،‬ل يطرأ عليها‬
‫خلف ول يلحقها انحراف ول انخراق تحت طائلة التخريب والفناء ‪ ،‬فيستشف‬
‫المسلم من خلل ذلك أن هذا الدين الذي جاء به محمد عليه وعلى آله الصلة‬
‫والسلم إنما شأنه شأن الظواهر الكونية سواء بسواء ‪ ،‬وأن العدوان عليه‬
‫يشبه من كل الوجوه العدوان على النظام الكوني ‪ ،‬وكما أن النظام الكوني‬
‫حينما يتطرق إليه الخلل تكون العاقبة فسادا ً وتخريبا ً ودمارا ً وفناًء وكذلك‬
‫بالضبط العدوان على هذا الدين واختراق حدود القرآن وتجاوز أوامر الله‬
‫تعالى ل ينتج عنها إل الفساد والخلل والخراب ‪ .‬والله تعالى ذكر في مواطن‬
‫عدة من كتابه أمر الذين يفسدون في الرض ول يصلحون ‪ ،‬ونهى في مواطن‬
‫عدة عن الفساد في الرض ‪.‬‬
‫واتفقت كلمة المفسرين وتراجمة القرآن الكريم على أن الفساد في الرض‬
‫هو ارتكاب المعاصي ‪ ،‬لن إهمال التطبيق الكامل لشرائع الله ل ينتج عنه إل‬
‫فساد الدنيا وضياع الخرة على النحو الذي يشهده الناس في هذه اليام ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ل على أمر آخر ‪ ،‬فحينما ذكر الله تعالى أمر ثمود فقال ) كذبت ثمود‬ ‫ود ّ‬
‫بطغواها ‪ ،‬إذ انبعث أشقاها ‪ ،‬فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ‪،‬‬
‫فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ‪ ،‬ول يخاف عقباها ( حين‬
‫قال الله تعالى هذا كان في هذه الصياغة معتبر لولي اللباب ‪ ،‬وكان فيها‬
‫أيضا ً ضياء يشير إلى واقع تحقق في الجماعة المسلمة ستلحقه وقائع ‪،‬‬
‫وسيزداد اتضاحا ً وجلء ‪ .‬إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس فرادا ً‬
‫كما دعا الناس جماعات ‪ ،‬ودعاهم وهو يتردد حول البيت ‪ ،‬كما دعاهم وهو‬
‫يغشاهم في نواديهم ‪ ،‬وتحّرى أن يلقاهم في المواسم فوقف عليهم وقرأ‬
‫عليهم القرآن ‪ ،‬وذكرهم بأيام الله تعالى ‪ ،‬فاستجاب من كتب له الله التوفيق‬
‫والحسان ‪ ،‬وأعرض عنه من حق عليه كلمة الضللة ‪ ،‬وعلى أي الحوال ففي‬
‫سياق الزمن فإن هذه الجماعة الملتفة حول محمد صلى الله عليه وسلم‬

‫‪160‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كانت تكتسب مع اليام مواصفات كلها في صالح القضية ‪ ،‬وكلها يمّهد ماضيها‬
‫للحقها ‪ ،‬تمهيد السبب للمسبب ‪ ،‬إننا نعثر الن على أوائل الشارات التي‬
‫تشير إلى مسؤولية الجماعة المؤمنة ‪ .‬من أكبر الخطاء ومن أشدها فتكا ً‬
‫وتدميرا ً بالنسبة للدعوة أن يفصل النسان المسلم بين ذاته واهتماماته وبين‬
‫مصالح واهتمامات الجماعة ومآلت السلم ‪.‬‬
‫ون يعني أنها قررت قرارا ً ل رجعة فيه أن تحمل‬ ‫إن الجماعة المؤمنة حين تتك ّ‬
‫على عاتقها أن تصل الليل بالنهار وتصل النهار بالليل من أجل أن يترقى حال‬
‫الناس وشأنهم ‪.‬‬
‫حينما تضع أمامك صياغة اليات من آخر سورة الشمس فستدرك إن شاء‬
‫الله أن القرآن يعرض عليك قضية غير مصرحة من خلل صياغة اليات‬
‫وتركيب الجمل والكلمات ‪ ،‬عرض عليك قصة ثمود ‪ ،‬وثمود مجموعة من‬
‫القبائل التي مضت قبل أمتنا ‪ ،‬جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في‬
‫أفواههم وقالوا ‪ :‬إنا كفرنا بما ُأرسلتم به ‪ .‬أمة بالكامل ‪ ،‬ولكن إعجاز القرآن‬
‫في إيحائه بالمعاني من خلل الصياغة وحروف الكلمة الواحدة يتجلى في‬
‫هذه الهندسة البديعة في نمط الكلم ‪ .‬أمة أعرضت ولكن حين نهى نبيها عن‬
‫العتداء على الية التي طلبها القوم من رسولهم فكانت ناقة الله لم تتآمر‬
‫المة بمجموعها على هذه الية ‪ ،‬هنا جاء النص على أنه بعث أشقاها ‪ ،‬أي أن‬
‫المباشرة في قتل الناقة كان رجل ً واحدا ً ‪ ،‬وإذا ذهبنا نتعرف على حقائق‬
‫القصة من خلل سور القرآن الكريم فسنجد أن المؤامرة حيكت من خلل‬
‫نفر ‪ ،‬قال الله تعالى في موضع آخر ) وكان في المدينة تسعة رهط‬
‫مفسدون في الرض ول يصلحون ( تسعة هو الذين تآمروا على قتل الناقة ‪،‬‬
‫وواحد فقط هو الذي باشر في تنفيذ الجريمة التي تشكل اعتداًء على أوامر‬
‫الله ‪ .‬فما الذي كان ؟ إن موازين العدل الظاهر تقتضي أن يؤخذ المجرم‬
‫بذنبه ‪ ،‬وأن ل ُيتعدى بالعقوبة إلى من لم يباشر الفعل ‪ ،‬ذلك صحيح بالنسبة‬
‫إلى قوانين الدنيا وإلى أنظمة الناس ‪ ،‬هذه التي تشّرع لناس محصورين في‬
‫بقعة من الرض معلومة وفي فترة من الزمان محدودة ‪ ،‬وأما رسالت الله‬
‫التي تتغلغل في البواطن وتتشعب مع ضمير الغيب فشأنها في إنزال العقوبة‬
‫شأن آخر ‪.‬‬
‫إننا على الصعيد الجتماعي نتعامل مع كتلة ل مع فرد ‪ ،‬وهذه الكتلة منظومة‬
‫من أفراد ‪ ،‬وإذا ً فالفراد يشكلون الكتلة والكتلة تتضمن الفراد ‪ ،‬وما يجوز‬
‫في هذا العتبار أن ُتفصل العقوبة عن الجريمة من جسم هذه الكتلة لُينزل‬
‫العقاب بفرد آخر ‪ .‬إن قوانين الجتماع كما انتهى إليها علم الجتماع في‬
‫زماننا هذا وقبله تشير إلى بدايات الرسالت قبل آلف السنين ‪ ..‬إن قوانين‬
‫الجتماع تقول ‪ :‬إن النسان الفرد غير مأذون له أن يعتدي على القوانين‬
‫س مصالح الجماعة‬ ‫العامة في الجماعة ‪ ،‬لن القوانين العامة في الجماعة تم ّ‬
‫ككل ‪ ،‬وتنعكس آثارها على الكل ‪ ،‬فمن أجل ذلك كانت مسؤولية الحفاظ‬
‫عليها ومسؤولية حراستها مترتبة على الكل ‪ .‬فمن هنا حين نرى كتلة‬
‫اجتماعية تؤمن بالنظر الواسع العريض ونجد بينها أفرادا ً أو عشرات أو مئات‬
‫أو ألوفا ً يعملون بالطاعة ويبتعدون عن المعصية ولكن ضمن إطارهم‬
‫الخاص ‪ ،‬وفي حدود ذواتهم فقط فإننا يجب أن ل نستغرب حين تسوء المور‬
‫شر ويرى المنكر ُيجَهر به‬‫ويمر النسان المؤمن التقي فيرى المعصية وهي ُتبا َ‬
‫وط ‪ ،‬ثم يقول ‪ :‬ما لي ؟ يجب أن ل نستغرب حين ينزل‬ ‫بغير استحياء ول تح ّ‬
‫البلء عاما ً وصدق الله العظيم ) واتقوا فتنة ل تصيبن الذين ظلموا منكم‬
‫خاصة ( وما أصدق الكلمة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما‬

‫‪161‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سألته عائشة رضي الله عنها قالت ‪ :‬يا نبي الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال‬
‫‪ :‬نعم إذا كثر الخبث ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫إذا استعَلمت المعصية وإذا عربد المنكر وإذا تجاهر الشذوذ ‪ ،‬مهما يكن في‬
‫المة من صالحين فالهلك واقع ‪ ،‬لن الصلح بمجرده ليس الصلح المحدود‬
‫بحدود الظرف ‪ ،‬ولكن الصلح الذي يبغيه القرآن ورسمته الشريعة هو ذلك‬
‫الصلح الذي تتراحب آفاقه لتشمل مصالح المة في حاضرها ومستقبلها ومن‬
‫أقصاها إلى أقصاها ‪ ،‬والنبي عليه الصلة والسلم يقول ‪ :‬ما من قوم ُيعمل‬
‫فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا ثم ل يغيرون إل عمهم الله جل وعل‬
‫بالعذاب‪.‬‬
‫فهذه الظاهرة التي نتعرف على بدايات الحديث عنها والتي سترد معنا فيما‬
‫سنستقدم من كلمات الله شيء عظيم الهمية ‪.‬‬
‫إن الذي قام بالجرم واحد ‪ ،‬وإن الذين تآمروا تسعة ‪ ،‬ومع ذلك فإن الله‬
‫ل بها دمارا ً وألحقها‬‫تعالى جّلل تلك المة بالعقوبة فجعل عاليها سافلها وأح ّ‬
‫بالمم السابقة التي عصت أوامر الله ‪ .‬وأنت الن تفتش عن ثمود فتقرأ‬
‫بجانب اسمها أنها من القبائل العربية البائدة ‪ ،‬أي التي بادت ولم يبقَ لها ذكر‬
‫‪.‬‬
‫ماذا يترك من انطباع طرق المسألة بهذا الشكل على تلك الجماعة المؤمنة‬
‫الناشئة حول محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إنه يضع النذير أمام أعينها ‪،‬‬
‫ويخط لها في مزدحم المسالك طريقا ٌ واضحا ً ‪ ،‬إنه على المة المسلمة وهي‬
‫تأخذ أمر الله بقوة وتباشر شريعة الله بجدية كاملة أن ل تغفل عن سلمة‬
‫البناء لحظة واحدة ‪ ،‬وعليها أن تعلم أن أي شذوذ من أي مصدر كان ‪ ،‬من‬
‫أسفل البناء أو من أعله أو من وسطه فإنما يعني الجميع ‪ .‬وأن الخرافة‬
‫المقيتة التي تقول أن هذا من شأن الدين وأن ذاك من شأن السياسة ‪ ،‬هذا‬
‫من شأن الرعية وهذا من شأن الحاكم ‪ ،‬فهي خرافة ل تقوم على رجل‬
‫سليمة ‪ ،‬كما ل تقوم على رجل عرجاء ‪ .‬وأنها وسيلة الّفاقين والضالين‬
‫والمضلين إلى حرف المة عن طريقها وإبعادها عن هدي ربها ‪.‬‬
‫إن أي شيء ما ل يمكن أن يسقط من اهتمام أي فرد في المجتمع ‪ ،‬وليس‬
‫شيئا ً يختص بالقاعدة أو بالقمة ‪ ،‬وإنما المر كله لله ‪.‬‬
‫إن تتبع أخبار تلك الجماعة التي نشأت حول محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫يكشف أمامنا ما اكتسبه المسلمون من هذا الدرس البليغ ‪ ،‬لقد كان كل‬
‫واحد من هؤلء النجباء البرار وجنود محمد صلى الله عليه وسلم يشعر بأنه‬
‫قّيم على رسالة السماء ‪ ،‬هو نفسه يشعر بأنه يحمل مسؤولية الدنيا من‬
‫أولها إلى آخرها ‪ ،‬ومن هنا كانت هناك يقظة دائمة وحراسة دائمة ‪.‬‬
‫وكان المسلمون بفضل الله تعالى عونا ً لبعضهم على إقامة أمر الله حيثما‬
‫ُوجد تعب ‪ ،‬إن أي انهيار في أية جهة كان المسلمون يسارعون كلهم لدعم‬
‫دت البواب‬ ‫س ّ‬
‫هذا النهيار ولبعث النشاط في هذا التعب ‪ ،‬حيثما ُوجد خلل ُ‬
‫في وجه الشيطان حفاظا ً على أمر الله تعالى ‪ ،‬ولكي ل ُيترك المجال مفتوحا ً‬
‫أمام الشيطان ليعبث في هذا البناء الرباني الذي أقام الله المسلمين عليه ‪.‬‬
‫هذا المعنى لم أشرحه من قبل ‪ ،‬ولم أشرحه الن ‪ ،‬وإنما المسألة عميقة‬
‫وكثيرة الفروع والتشعبات ‪ ،‬إن القرآن كان يقود المسلمين في معركتهم‬
‫المشرفة ‪ ..‬ضد اللحاد والتخريب ‪ ،‬وهو في نفس الوقت يؤرخ للجماعة‬

‫‪162‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المسلمة ‪ ،‬ويؤرخ لدرجات النمو في هذه الجماعة ‪.‬‬


‫إننا حينما نوجه الن سورة البروج نواجه أمرا ً يكاد يكون نتيجة طبيعية لتلك‬
‫المقدمة التي مضت في سورتي القدر والشمس ‪ ..‬إعداد السلم والشعور‬
‫بأن هذا السلم هو جزء من النظام الكوني ‪ ،‬وإن أية إساءة إليه هو إساءة‬
‫لمصير النسانية برمتها ‪ ،‬ليس كلما ً يقال في الهواء ‪ ،‬وليس تسلية يتسلى‬
‫بها الفارغون ‪ ،‬ول شعارا ً يلقيه تجار السياسة ولصوص الشعوب ‪ ،‬ولكنه‬
‫الحقيقة الكونية الهائلة العظيمة التي ل يغفل عنها إل شقي ‪.‬‬
‫إنها مسؤولية ضخمة وكبيرة ‪ ،‬ولكنها المسؤولية التي من ورائها جنات تجري‬
‫من تحتها النهار ورضوان من الله أكبر ‪ .‬إن سورة البروج تعرض للمسلمين‬
‫درسا ً في الثبات والتثبيت ل مثيل له ‪ ،‬اسمعوا السورة ) والسماء ذات البروج‬
‫‪ ،‬واليوم الموعود ‪ ،‬وشاهد ومشهود ‪ُ ،‬قتل أصحاب الخدود ‪ ،‬النار ذات الوقود‬
‫‪ ،‬إذ هم عليها قعود ‪ ،‬وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ‪ ،‬وما نقموا منهم‬
‫إل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ‪ ،‬الذي له ملك السماوات والرض والله‬
‫على كل شيء شهيد ‪ ،‬إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم‬
‫عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ‪ ،‬إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم‬
‫جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير ‪ ،‬إن بطش ربك لشديد ‪ ،‬إنه‬
‫يبدئ ويعيد ‪ ،‬وهو الغفور الودود ‪ ،‬ذو العرش المجيد ‪ ،‬فّعال لما يريد ‪ ،‬هل‬
‫أتاك حديث الجنود ‪ ،‬فرعون وثمود ‪ ،‬بل الذين كفروا في تكذيب ‪ ،‬والله من‬
‫ورائهم محيط ‪ ،‬بل هو قرآن مجيد ‪ ،‬في لوح محفوظ ( ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫سمعتم هذا الكلم الذي ينساب منسابا ً تارة ويعنف مزمجرا ً مدمرا ً تارة‬
‫أخرى ) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم‬
‫وج هبوطا ً وارتفاعا ً في‬ ‫ولهم عذاب الحريق ( سمعتم هذا الكلم الذي يتم ّ‬
‫النبرة والسياق ‪ ،‬ماذا كان يريد أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟‬
‫وماذا كان يريد أن يقول للعصبة المؤمنة ؟ أرأيتم سورة الشمس كيف أبانت‬
‫لنا أن نظام السلم وأن شريعة السلم جزء من النظام الكوني برمته وأن‬
‫العدوان على هذه الشريعة فمرده إلى الناس بالذات ‪ ،‬لنهم هم الذين‬
‫سيألمون منه ‪ ،‬أرأيتم كيف أن خواتيم سورة الشمس أبانت لنا أن نظام‬
‫السلم جزء من النظام الكوني ول يمكن أن ينهزم ؟ أرأيتم هذا المعنى ؟ إن‬
‫التطمين في سورة البروج يأتي على نحو أوضح ولكن من إعجاز القرآن أن‬
‫يساق القرآن مساقا ً يختلف شدة ولينا ً وارتفاعا ً وهبوطا ً ثم ل يأتي الوعد‬
‫بالحفظ إل في آخر السورة ) بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ( ‪.‬‬
‫هذا الدين له الغلبة ‪ ،‬وإن الذين تحدثهم أنفسهم وتسول لهم شياطينهم أن‬
‫يعبثوا بحقائق هذا الدين ‪ ..‬أن يريحوا أنفسهم من هذا ‪ ،‬لن جهدهم في‬
‫فل بالحفظ لهذا الدين ) بل هو‬ ‫هباء ‪ .‬إن الله الذي ل يعجزه شيء ‪ ،‬لقد تك ّ‬
‫قرآن مجيد ‪ ،‬في لوح محفوظ ( ‪.‬‬
‫ً‬
‫فل للذين اكتسبوا شرف النتماء إليه بأن يكونوا دائما هم‬ ‫وإن الله تعالى تك ّ‬
‫الغالبين ) كتب الله لغلبن أنا ورسلي وإن جندنا لهم الغالبون ( هذه بشارة‬
‫كبيرة بالحفظ والتمكين وعدم فتح المجال أمام الضالين لكي يعبثوا بحقائق‬
‫السلم ‪ .‬هذا الوعد ل يأتي إل أخيرا ً ‪ ،‬ولكنه وعد صدق وحق ‪ ،‬إن أمامنا‬
‫تاريخا ً طويل ً وحافل ً ‪ ،‬وإن وقائع في التاريخ محفوظة ‪ ،‬وإنه في أية نزاع كان‬
‫بين السلم وبين أعداء الله تعالى فإن الغلبة في الجولة الخيرة كانت لله‬

‫‪163‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولكلمات الله ولجند الله ‪ ،‬ورجع الضالون بالخيبة والخسران وشيعتهم الجيال‬
‫باللعنات المتلحقة ‪ .‬إن هذا وعد مقطوع للناس لكي ل يستيئس الناس ولكي‬
‫تدرك النسانية أن الله الذي رحمها بمحمد صلى الله عليه وسلم لن يتركها‬
‫فريسة للشياطين وللبالسة ‪ ،‬لن يتركها فريسة للضالين والمضلين ولكن‬
‫متى ؟ في آخر السورة ‪ ،‬ولماذا ؟‬
‫قلت لكم مرارا ً ‪ :‬هذا الكتاب معجز ‪ ،‬وإعجازه ليس فقط في المعاني ‪ ،‬كل‬
‫وليس فقط في اللفاظ ول في التراكيب ‪ ،‬وإنما كذلك في هندسة الكلم ‪،‬‬
‫في توزيع السور ‪ ،‬توزيع الخيلة ‪ ،‬توزيع القضايا من خلل الطار العام ‪ .‬إن‬
‫الوعد جاء بعد عرض صورة وبعد مشهد كوني )والسماء ذات البروج ( ما هي‬
‫البروج ؟ إن المتبادر أن البروج هي الطرائق التي تسلكها النجوم في السماء‬
‫‪ ،‬وآن أن نكشف لبسا ً يتعلق في هذا الموضوع ‪.‬‬
‫إن تراجمة القرآن اختلفت حول هذا الموضوع ‪ ،‬واختلفها جاء من جراء علوم‬
‫كونية نجمت في تلك العصور ‪ ..‬وماذا الن ‪ ..‬إننا نعتمد في صورة أساسية‬
‫على دلئل اللغة وعلى سلئق العرب في فهم كلمها الذي نطقت به ‪ .‬وأننا‬
‫حين تتعارض الراء فإننا نرجع إلى ما صح نقل ً عن الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ .‬فإن لم نجد فنأخذ من كلم الصحاب والتابعين ما كان أقرب إلى‬
‫مل ‪.‬‬
‫مل ما ل يتح ّ‬‫دللت اللغة كي ل نح ّ‬
‫ما معنى البروج ؟ البروج مادة مشتقة من جذر من ثلثة حروف وهي الباء‬
‫والراء والجيم ‪ ،‬مادة برج ‪ ،‬برج في اللغة تعني ظهر ‪ ،‬ومن هنا نقول ‪ :‬هذه‬
‫امرأة متبرجة يعني ظاهرة الزينة ‪ ،‬لكن في المادة إيحاء بمعنى آخر هو‬
‫معنى السمو والرتفاع ‪ ،‬فالشيء الذي يظهر ل يمكن أن يظهر بين ما هو‬
‫أعلى منه ‪ ،‬إنك إذا وضعت مصباحا ً صغيرا ً بين أضواء قوية فإن أضواء القوية‬
‫تخفي ضوء المصباح وتلشيه ‪ ،‬ول يكون هذا ظاهرا ً ‪ .‬ل يقتضي أن يكون أكثر‬
‫ضوءا ً وأعلى مكانا ً من سائر الضواء الخرى لكي ينطبق عليه وصف أنه من‬
‫البروج ‪.‬‬
‫ومن هنا قلنا عن المرأة أنها متبرجة أي أنها تضع الزينة على وجهها ‪ ،‬وهو‬
‫أعلى شيء فيها وهو أظهر شيء فيها ثم هي تظهره وتسفر فيه ‪ .‬من هنا‬
‫جاء لفظ البروج إلى كل ما هو ظاهر ومرتفع ‪ ،‬نقول ‪ :‬بنينا برجا ً أي أقمنا بناًء‬
‫هو أعلى من جميع البنية ‪ ،‬فالبراج في القلع التي كان الناس يبنونها قديما ً‬
‫كان أعلى شيء في بناء القلعة وكان مخصصة لتكون مرقبا ً يرقب منه أهل‬
‫القلعة مجيء العداء إليهم ‪.‬‬
‫حينما نطقت العرب بهذا اللفظة وقالت بها في هذا المعنى المتساوق مع‬
‫مت كل بناء مرتفع برجا ً ‪ ،‬فالقصر الشامخ المزّين يسمى‬ ‫الجذر اللغوي س ّ‬
‫أيضا ً برجا ً ‪ ،‬فالقصور بروج ‪ .‬فمن حيث أن النجوم في السماء وأنها عظيمة‬
‫الجرام وظاهرة البريق واللمعان سمتها العرب بروجا ً ‪ .‬ولذلك قال الله‬
‫) تبارك الله الذي جعل في السماء بروجا ً وجعل فيها سراجا ً وقمرا ً منيرا ً (‬
‫فالسراج هو الشمس ‪ ،‬والقمر هو هذا المعروف عند الناس ‪ ،‬والبروج هي‬
‫النجوم ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬
‫فالبروج هنا ليست الطرائق التي تمشي فيها النجوم ‪ ،‬كما أنها ليست قصورا ً‬
‫مبنية في السماء كما ذهب إلى ذلك بعض قدامى المفسرين ‪ ،‬وإنما هي‬
‫النجوم في السماء ‪ ) .‬والسماء ذات البروج (هي تلك الجرام الهائلة البالغة‬

‫‪164‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في العلو والرتفاع والسمو والضخامة ‪ ) .‬واليوم الموعود ( وهو يوم القيامة ‪.‬‬
‫) وشاهد ومشهود ( وهنا اضطربت آراء المفسرين اضطرابا ً واسعا ً ‪ ،‬قالوا إن‬
‫الشاهد هو الله والمشهود هم الخلق ‪ ،‬وقال قائلون إن الشاهد هو محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم والمشهود هم المة ‪ ،‬وقال آخرون إن الشاهد هو يوم‬
‫الجمعة والشهود هو يوم عرفة ‪.‬‬
‫ونحن ‪ ..‬ما لم تكن بين أيدينا دللة تدل على صدق التأويل فلسنا ملزمين أن‬
‫نأخذ بها ‪ .‬وعلى أية حال فينبغي أن نعلم أن كل من قال قول ً فإنما استند‬
‫بقوله هذا إلى دليل لقى رأيه ‪ ،‬فالله تعالى سمى محمدا ً صلى الله عليه‬
‫وسلم شاهدا ً فقال ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ً ومبشرا ً ( كما سمى‬
‫هذه المة المحمدية شاهدة قال ) وجعلناكم أمة وسطا ً لتكون شهداء للناس‬
‫ويكون الرسول عليكم شهيدا ً ( كما سمى يوم القيامة مشهودا ً فقال ) ذلك‬
‫يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إل لجل معدود ‪ ،‬يوم‬
‫يأتي ل تكلم نفس إل بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( فإذا ً ففي كلمات الله تعالى‬
‫ما يسند هذه التأويلت الذي ذهب إليها هؤلء ‪.‬‬
‫ولكنا نريد أن ننبه إلى أمر ‪ ..‬الله تعالى يقسم بالسماء ذات البروج ويقسم‬
‫باليوم الموعود وهو اتفاقا ً اليوم الخر ‪ .‬من الذي يناسب قسما ً كونيا ً هائل ً‬
‫مصيريا ً كهذا ؟ يناسبه أن يكون الشاهد هو ابن آدم وسائر الخلئق الموقوفة‬
‫للحساب يوم القيامة ‪ ،‬وأن يكون المشهود هو ما يعانيه الناس من أهوال يوم‬
‫القيامة ‪ .‬ذلك هو المناسب لكي يوضع النسان في الصورة ولكي يدرك قيمة‬
‫هذا القسم الذي جاء مرشحا ً لسياق أمر عظيم ) وشاهد ومشهود ( أين‬
‫جواب القسم ؟ ) ُقتل أصحاب الخدود ( فكأن الله تعالى قال ‪ :‬لقد ُقتل‬
‫أصحاب الخدود ‪ .‬وقتلهم ل يعني هنا القتل المادي ‪ ،‬ولكن يعني اللعن‬
‫والطرد من رحمة الله ‪ ،‬فما شأن أصحاب الخدود ؟‬

‫)‪(5 /‬‬

‫إن أصحاب الخدود قوم من المم السابقة ‪ ،‬لهم نبأ عظيم ‪ ،‬ونبأهم له اتصال‬
‫بمجرى الدعوة وسياق القضية السلمية ‪ .‬والذي يضفي على نبئهم أهمية‬
‫خاصة أن هذه التجربة المقيتة تتكرر عبر القرون ‪ ..‬إن المفسرين اختلفوا‬
‫في ماهية أصحاب الخدود ‪ ،‬من هم ؟ ذهب منهم إلى أنهم كانوا في الزمن‬
‫الول ‪ ،‬قال قائلون إنهم كانوا قبل إبراهيم ‪ ،‬وقال غيرهم إنهم كانوا بعد‬
‫إسماعيل بخمسمائة سنة ‪ ،‬لكن نحن في حل من الخذ بكل هذه الراء ‪،‬‬
‫قلت لكم إننا حين نعثر على نص مسند بطريق صحيح إلى الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم فل علينا أن نكب كل شيء ‪ ،‬وأن نقف مع النص النبوي ول نتعداه‬
‫‪ .‬قال المام أحمد رحمه الله ‪ :‬إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫كان فيمن كان قبلكم ملك ‪ ،‬وكان للملك ساحر ‪ ،‬فقال الساحر للملك ذات‬
‫يوم ‪ :‬إنه قد كبر سني واقترب أجلي فادفع إلي غلما ً أعلمه السحر قبل أن‬
‫أموت ‪ ،‬قال فدفع إليه الملك غلما ً لبيبا ً ‪ ،‬فصار الغلم يختلف إلى الساحر ‪،‬‬
‫وكان بين بيت الغلم وبين بين الساحر راهب ‪ ،‬فكان الغلم يمّر بطريقه إلى‬
‫الساحر بالراهب ‪ ،‬فجلس إليه ذات يوم ‪ ،‬فأعجبه كلمه ‪ ،‬فآمن بما عند‬
‫الراهب ‪ ،‬وأصبح الغلم يقضي أوقاتا ً عند الراهب فيتأخر ‪ ،‬فإذا جاء إلى‬
‫خرك ؟ ويضربه ‪ ،‬وإذا رجع إلى أهله يضربونه على‬ ‫الساحر قال له ‪ :‬ما أ ّ‬
‫التأخير ‪ ،‬فشكى إلى الراهب أمره ‪ ،‬قال له ‪ :‬إذا جئت إلى أهلك فقل لهم ‪:‬‬
‫خرني أهلي ‪ .‬ومضى المر‬ ‫كنت عند الساحر ‪ ،‬وإذا جئت إلى الساحر فقل ‪ :‬أ ّ‬

‫‪165‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هكذا ‪ .‬وكان للملك جليس ‪ ،‬فعمي ذلك الجليس وانقطع عن الملك ‪ ،‬وبينما‬
‫كان الغلم ذات يوم في طريقه إلى مقصده فجاء إلى مكان فيه الناس‬
‫محتجزون والطريق مقطوع ‪ ،‬وإذا حية عظيمة قطعت على الناس الطريق ‪،‬‬
‫ول يستطيع الناس أن يمروا ‪ ،‬قال الغلم في نفسه ‪ :‬اليوم أعلم ‪ :‬أمر‬
‫الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟ فتناول حجرا ً وقال ‪ :‬اللهم إن كان‬
‫أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة وأرح الناس منها ‪،‬‬
‫قتلت الدابة ‪ .‬فاجتاز الناس ‪ .‬وأصبح الغلم يبرئ العمى‬ ‫ورمى الحجر ف ُ‬
‫والبرص ويشفي المراض والدواء ‪ ،‬فلما جاء إلى الراهب قال له يا بني أنت‬
‫الن أفضل مني ولكن إذا سألك الملك عني فل تدله علي ‪ .‬فلما سمع الناس‬
‫بأمر الغلم وقدرته على معالجة المراض والسقام ‪ ،‬سمع من جملة ذلك‬
‫جليس الملك ذلك الذي عمي ‪ ،‬فجاءه وطلب منه أن يشفيه ‪ ،‬قال له ‪ :‬أنا ل‬
‫أشفي ‪ ،‬إن الذي يشفي هو الله ‪ ،‬فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك‬
‫فسيشفيك إن شاء الله ‪ .‬قال فآمن جليس الملك ودعا الغلم ربه فرد ّ الله‬
‫البصر إلى جليس الملك ‪ .‬ويفاجأ الملك بجليسه مبصرا ً يدخل مجلسه ‪ ،‬قال‬
‫له ‪ :‬ما شأنك ؟ قال ‪ :‬شافاني ربي ‪ .‬قال الملك ‪ :‬أنا ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ربي وربك‬
‫الله ‪ .‬قال ‪ :‬هل لك من إله غيري ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬الله ‪ .‬فما زال الملك يعذبه‬
‫ل على الراهب ‪ .‬وجيء‬ ‫ل على الغلم ‪ .‬وجيء بالغلم فُعذب فد ّ‬ ‫حتى د ّ‬
‫بالراهب واجتمع الثلث ‪ .‬اجتمع هؤلء الثلثة أمام الملك ‪ .‬قال لجليسه ‪ :‬ارجع‬
‫قتل ‪ .‬قال للراهب ‪ :‬ارجع عن دينك ‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫عن دينك ‪ .‬قال ‪ :‬ل ‪ .‬فأمر به ف ُ‬
‫ل ‪ .‬فأمر به فربط على جذع شجرة ‪ ،‬ثم جيء بالمنشار فقطع نصفين ‪ .‬قال‬
‫للغلم ‪ :‬ارجع عن دينك ‪ .‬قال الغلم ‪ :‬ل ‪ ،‬الله ربي ‪ .‬فأمر الملك رجاله أن‬
‫يأخذوه ويصعدوا به إلى أعلى الجبل ‪ ،‬وقال لهم ‪ :‬إن أنتم وصلتم إلى أعلى‬
‫الجبل فخّيروه بين أن يرجع عن دينه أو يرموه من الجبل ‪ .‬فلما صعدوا به‬
‫خّيروه ‪ ،‬فقال الغلم ‪ :‬اللهم اكفنيهم بما شئت ‪ ،‬فرجف بهم الجبل فسقط‬
‫أتباع الملك جميعا ً ‪ ،‬وفوجئ الملك بالغلم وهو يدخل عليه ‪ .‬قال ‪ :‬ما شأنك ؟‬
‫قال ‪ :‬أنجاني الله تعالى ‪ .‬فأمر به أن يحمل في قارب صغير فإذا وصلوا به‬
‫إلى المكان العميق في البحر خّيروه فإما أن يعود عن دينه أو يرموه في‬
‫البحر ‪ .‬فأخذوه فلما كانوا في وسط البحر خّيروه ‪ ،‬فدعا الغلم وقال ‪ :‬اللهم‬
‫اكفنيهم بما شئت ‪ .‬فتحركت المواج فغرق أتباع الملك ‪ ،‬ونجا الغلم ودخل‬
‫على الملك ‪ .‬عجب الملك وقال ‪ :‬ما شأنك ؟ قال ‪ :‬دعوت الله فنجاني منهم‬
‫وأغرقهم ‪ .‬فتحّير الملك ‪ ،‬فقال الغلم له ‪ :‬أنا أدلك على ماذا تفعل بي ‪ ،‬إن‬
‫أنت أردت أن تقتلني فاجمع الناس واربطني على شجرة وخذ سهما ً من‬
‫كنانتي وإذا وضعته في القوس فقل ‪ :‬باسم الله رب الغلم واضربني فإنك‬
‫سوف تقتلني ‪ .‬وحشر الملك فنادى واجتمع الناس وجيء بالغلم وُربط على‬
‫الجذع وتناول الملك الغشيم سهما ً من كنانة الغلم فوضعه في القوس وقال‬
‫أمام المل ‪ :‬باسم الله رب الغلم وأطلق السهم فوقع في صدر الغلم ‪،‬‬
‫ومات الغلم ‪ .‬حينها قال الناس ‪ :‬آمنا برب الغلم ‪ .‬قال التباع والمنافقون‬
‫والدجالون والمرتزقة ‪ ..‬قالوا للملك ‪ :‬قد وقع ما كنت تخشاه ‪ .‬كنت تريد من‬
‫الناس أن ل يؤمنوا فها هم قد آمنوا ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫هذا الحديث ذكره المام أحمد ‪ ،‬كما رواه المام مسلم في آخر صحيحه ‪ ،‬كما‬
‫رواه أيضا ً المام النسائي والمام الترمذي ‪ ،‬رووه جميعا ً بنحو من صياغة‬

‫‪166‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أحمد تقريبا ً ‪ .‬والواقعة وقعت في جزيرة العرب ‪ ،‬وأن السورة نزلت من‬
‫أجلها ‪ ،‬وأن العرب كان عندهم علم بهذه الحادثة ‪ ،‬مما يرجح أن الحادثة‬
‫وقعت في الفترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلة والسلم ‪ .‬ومما يؤكد‬
‫على أن الحادثة معلومة عند العرب قوله تعالى )هل أتاك حديث الجنود ( و )‬
‫صل القرآن قصة أصحاب الخدود ل في هذه‬ ‫ُقتل أصحاب الخدود ( ثم ل ُيف ّ‬
‫السورة ول في غيرها كما هو العادة في بقية قصص القرآن التي ل يعرف‬
‫عنها العرب شيئا ً ‪.‬‬
‫ل عليه السياق أن العرب تعرف قصة أصحاب الخدود ‪ ،‬ولحظوا ‪،‬‬ ‫الذي يد ّ‬
‫ن وهو ثمين ومفيد ‪ ،‬كما قلت لكم أن المفسرين‬ ‫أمامنا نص يحتاج إلى تأ ٍ‬
‫اختلفوا في أصحاب الخدود ‪ ،‬المكان ومن هم وفي أي وقت ‪ .‬الراجح عندنا‬
‫كما سنشرحه في الجمعة القادمة أنهم كانوا في جنوب الجزيرة العربية ‪،‬‬
‫وعلى تحديد أدق في نجران التي بين الحدود السعودية واليمن الن ‪،‬‬
‫والراجح عندنا أنهم في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلة والسلم ‪،‬‬
‫والراجح عندنا أن العرب كان عندهم خبر بهذه القصة ‪ .‬وهناك روايات تقول‬
‫أن الخدود كان في الشام على زمن قسطنطين حين أراد أن يحرق النصارى‬
‫‪ ،‬يقولون أن الخدود كان في اليمن في زمن تّبع ‪ ،‬وكان في العراق في أرض‬
‫بابل حينما دعا بختنصر الناس للسجود له فأبى عليه دانيال ومن كان معه ‪.‬‬
‫هذا النص يشعرنا أن حوادث تعذيب المؤمنين ل لسبب إل أن يؤمنوا بالله‬
‫العزيز الحميد ‪ ،‬إل أن يقولوا ربنا الله ‪.‬‬
‫عادة مكرورة من جميع أعداء الله تعالى في وجه المؤمنين الذين ل يريدون‬
‫علوا ً في الرض ول فسادا ً ‪ ،‬والذين يقولون ل إله إل الله ‪ ،‬والذين ل يجرون‬
‫وراء الحطام ‪ ،‬والذين يصلحون في الرض ول يفسدون ‪ ،‬والذين يحرثون‬
‫للخرة ويشرونها بدنياهم ‪ ،‬هم الذين ثبتوا على كلمات الله ووقفوا مع كلمات‬
‫الله ومع أوامر الله فتعرضوا إلى العذاب والمحن ‪.‬‬
‫إن الملك حين رأى الناس قد أسلموا هددهم بالقوة وأمر بأن ُتحفر الخنادق‬
‫في الشوارع والدروب وأن ُتمل بالحطب والنيران ‪ ،‬قالت القوة الباغية ‪:‬‬
‫اعرضوا الناس على النيران فمن أبى أن يرجع عن دينه فاطرحوه في النار‬
‫حم المؤمنون يدخلون النار أفواجا ً‬ ‫حيا ً ‪ .‬ومن تراجع عن دينه فخلوا عنه ‪ .‬وتق ّ‬
‫يستعذبون العذاب في ذات الله ‪ ،‬ويرون أن الموت في سبيل الله غاية ‪،‬‬
‫وليس بينهم وبين الجنة إل أن ُتنتزع هذه الروح من البدن ‪.‬‬
‫ويروى في الحديث نفسه أن امرأة من المؤمنات جاءت تحمل طفل ً صغيرا ً‬
‫على صدرها فلما مسها لفح النار فكأنها تقاعست وكادت أن ترجع ‪ ،‬فأنطق‬
‫الله الصبي وقال لها ‪ :‬يا أماه اثبتي فإنك على الحق ‪ .‬فاقتحمت المرأة النار‬
‫ودخلت النار ‪.‬‬
‫هذه الصورة التي عرضتها سورة البروج من جملة ما عرضت ‪ ،‬كانت درسا ً‬
‫في مكانه وفي زمانه ومتساوقا ُ مع درجة النمو التي بلغتها الجماعة حول‬
‫محمد ‪ ،‬كما هو متساوق مع مبلغ الشراسة والعنف والعنفوان الذي بدأ يتفجر‬
‫في صدور القرشيين وسائر أعداء الله تعالى ‪.‬‬
‫وفي السبوع المقبل إن شاء الله ‪ ..‬نفصل في الحديث عن الدروس‬
‫والشارات البالغة التي تضمنتها هذه السورة الكريمة ‪ ..‬سائل ً الله تعالى أن‬
‫يفتح قلوبنا لفهم كتابه الكريم وأن يثبت عزائمنا لكي نقف مع الله أمام كل‬
‫متكبر جبار ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ..‬والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة البلد‬


‫الجمعة ‪ 10‬شوال ‪ 23 / 1397‬أيلول ‪1977‬‬
‫العلمة محمود م ّ‬
‫شوح‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫نسأل الله القدير أن يعيننا على ما تبقى من مراحل الطريق الذي مشينا فيه‬
‫منذ أكثر من سنتين ‪ ،‬ونستأنف بإذن الله الكلم عما كنا فيه ‪ ،‬بعد أن شغلتنا‬
‫عنه لفترة قصيرة شواغل هي إلى السخف والهوان أقرب ‪ ،‬ونرجو أن يتابع‬
‫الكل معنا هذه الفاق العالية التي رسمها القرآن للناس وأراد لهم أن يأخذوا‬
‫بها أنفسهم من أجلهم ومن أجل صلحهم ‪ ،‬وأجدني الن مضطرا ً لن أقول ‪:‬‬
‫إن السلوب المتمهل البطيء الذي كنا نصطنعه فيما مضى يشبه أن يكون‬
‫أسلوبا ً يمد مراحل الطريق إلى غير انتهاء ‪ ،‬لهذا وبرغم مما أعرف من أن‬
‫هذا السلوب الجديد سوف يترك خيبة أمل لدى البعض بالرغم من هذا فأرى‬
‫أنه من الممكن أن نقتصر على بيان أهم ما تدعو الحاجة إلى بيانه ‪ ،‬ونترك‬
‫التفصيلت للذين يعنون بالتفصيلت ‪.‬‬
‫بين يدي سورة البلد وسورة الطارق وهما اللتان نزلتا بعد سورة ) ق ( التي‬
‫فرغنا من الحديث عنها مع آخر جمعة من رمضان المبارك ‪ ،‬وأذكر أن‬
‫الشوط الطويل الماضي كان ينصب معظمه على هذه القضية الكبيرة قضية‬
‫وجود الله وقضية الدار الخرة ‪ ،‬على اعتبار أن الذي ل يؤمن بوجود الله ل‬
‫خير فيه ‪ ،‬وأن الذي ل يؤمن بالعودة إلى ربه وتقديم الحساب بين يديه ل‬
‫يؤتمن ل على دنيا ول على دين ‪ ،‬فلهذا اشتدت عناية السلم في تأكيد هذه‬
‫المعاني ‪ ،‬وطال حجاج القرآن مع المشركين الذين ل يؤمنون أو الذين‬
‫يشركون مع الله آلهة أخرى ومع الذين يستبعدون اليوم الخر ويرونه ضربا ً‬
‫من المحال ‪.‬‬
‫فإذا أخذنا بين أيدينا الن أولى السورتين وهي سورة البلد ‪ ،‬فنحن نجدها‬
‫تنساب هكذا ‪ ) :‬ل أقسم بهذا البلد ‪ ،‬وأنت ح ّ‬
‫ل بهذا البلد ‪ ،‬ووالد وما ولد ‪،‬‬
‫لقد خلقنا النسان في كبد ‪ ،‬أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ‪ ،‬يقول أهلكت مال ً‬
‫لبدا ً ‪ ،‬أيحسب أن لم يره أحد ‪ ،‬ألم نجعل له عينين ‪ ،‬ولسانا ً وشفتين ‪،‬‬
‫وهديناه النجدين ‪ ،‬فل اقتحم العقبة ‪ ،‬وما أدراك ما العقبة ‪ ،‬فك رقبة ‪ ،‬أو‬
‫إطعام في يوم ذي مسغبة ‪ ،‬يتيما ً ذا مقربة ‪ ،‬أو مسكينا ً ذا متربة ‪ ،‬ثم كان‬
‫من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ‪ ،‬أولئك أصحاب الميمنة ‪،‬‬
‫والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة ‪ ،‬عليهم نار مؤصدة ( بهذا الشكل‬
‫تنساب سورة البلد ‪ ،‬وهي كما ترون تتصل من بعض الجوانب أو من معظم‬
‫الجوانب بجملة السياق الذي سبق أن عرضناه عليكم من خلل اليات التي‬
‫استعرضناها فيها ‪.‬‬
‫والشيء الجديد في المر في هذه السورة أن السورة تعنى ببيان شيء من‬
‫شأن النسان وهذا جديد وخليق بالنظر الطويل ‪ .‬ونبدأ ونقول ‪:‬‬
‫في قوله تعالى ) ل أقسم بهذا البلد ( قسم منفي على غرار القسام‬
‫السابقة ‪ ،‬والقسم المنفي يفيد وفاقا ً لصطلحات الناطقين بلغة القرآن تأكيد‬
‫المقسم عليه ورفعه إلى مقام البداهة ‪ ،‬فإن القائل بأسلوب القسم المنفي‬
‫يريد أن يقول لك إن المر لشدة وضوحه وبيانه وبداهته ل يحتاج إلى القسم ‪،‬‬

‫‪168‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لنه فوق القسم ‪ ،‬فقوله تعالى ) ل أقسم بهذا البلد ( هو من هذا الباب ‪،‬‬
‫تأكيد للمقسم عليه ورفعه إلى مكان البداهة لنه واقع مشهود ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫) والبلد ( هنا ظاهر أنه هو مكة الموطن الذي يقع فيه بيت الله الحرام ‪،‬‬
‫ومعلوم أن مكة بلد حرمه الله تعالى ل لنه تربة وحجارة يسكنه آدميون ‪،‬‬
‫ولكن لنه مقر البيت الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم‬
‫قواعده ليكون للناس سواء في العاكف والباد ‪ ،‬وليكون مطهرا ً من الرجاس‬
‫والصنام والوثان ‪ ،‬ولينتفي فيه القتل والقتال ‪ ،‬وليكون مثابة للناس وأمنا ً ‪،‬‬
‫وليكون محل ً للخطرات النبيلة والفكار النظيفة ) ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‬
‫نذقه من عذاب أليم ( وإل فبلد الله واحدة تستوي من حيث القدر والمنزلة‬
‫إل ما كان في بعضها من معالم العبادة ومظاهر التقى ومعالم الشرع الذي‬
‫ارتضاه الله جل وعل طريقا ً للعباد ‪ .‬وكذلك شأن كل شيء في هذه الدنيا ‪،‬‬
‫فالناس والشياء ل تأخذ قيمتها إل من هذا المعنى الذي هو تقوى الله تعالى ‪.‬‬
‫هذا المسجد مثل ً ‪ :‬ما الذي يميز بينه وبين أي شبر خارج حدود المسجد ‪ ،‬إل‬
‫حدد وحجز عن أن يكون محل ً لشياء الناس وُوقف ليكون‬ ‫أن المسجد مكان ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫محل ً للصلة ‪ .‬وكذلك هذا البيت يقسم به الله جل وعل قسما منفيا ليبرز‬
‫قيمته وليؤكد المقسم عليه ‪ ،‬ومعلوم أن النبي عليه الصلة والسلم حينما‬
‫اضطره قومه إلى الخروج من مكة استقبل البيت وقال ‪ :‬والله إني لعلم‬
‫أنك أحب البلد إلى الله ولول أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ‪ .‬فمكة‬
‫المعظمة محرمة ومقدسة في تقديس الله إياها وتحريم الله لها بسبب هذا‬
‫البيت الذي جاء ذكره في القرآن مرارا ً من قبل في سورة قريش وفي‬
‫سورة الفيل وفي المناسبات الخرى ‪ ،‬والشيء الجديد هنا أن الله أردف‬
‫القسم هنا بالبلد الذي هو مكة المكرمة بذات الرسول عليه الصلة والسلم‬
‫فقال ) وأنت حل بهذا البلد ( وبسبب أن تفسير المام ابن كثير رحمه الله‬
‫تعالى تفسير مقروء ومتداول بين الناس ‪ ،‬فأنا أحب أن أزيل وهما ً ربما يقع‬
‫فيه من يحسن الظن بكل ما يقرأ بالكتب دون بحث ول تمحيص ‪ ،‬فابن كثير‬
‫يروي عن بعض السلف ‪ ،‬والقرآن كما قال علي كرم الله وجهه لبن عباس‬
‫مال أوجه ‪ ،‬يروي أن المراد ) وأنت حل بهذا البلد ( يعني حال إحلل الله‬ ‫ح ّ‬
‫لك مكة لتمارس فيها القتال حين الفتح ‪ ،‬بمعنى أن الله جل وعل يقسم بتلك‬
‫الساعة التي أباح الله فيها لنبيه عليه الصلة والسلم أن يرفع السلح في‬
‫مكة مع أنها بلد حرام حين الفتح ‪ ،‬ولعمري إن هذا التفسير ل يسعف عليه‬
‫سياق القرآن ول يتساوق مع الفاق الرفيعة التي تنساب فيها آيات هذه‬
‫السورة ‪ ،‬وبين نزول هذه السورة وبين الواقعة التي يشير إليه إليها ابن كثير‬
‫ويريدها مقتصر عليها كأنه ل يرى تأويل ً غيرها فرق في الزمان بعيد ل يقل‬
‫عن خمس عشرة أو ثمان عشرة سنة ‪ ،‬فالحادثة التي يذكرها ابن كثير كانت‬
‫في عام الفتح من السنة الثامنة للهجرة أي بعد البعثة النبوية بواحد وعشرين‬
‫سنة ‪ ،‬وصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف إما في تلك‬
‫المناسبة وإما في حجة الوداع وهو الرجح يخاطب الناس فيقول ‪ :‬يا آيها‬
‫الناس إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والرض وإنها حرام‬
‫بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ‪ ،‬وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار ثم‬
‫خص لقتال رسول الله صلى الله عليه‬ ‫عادت حرمتها كما كانت فإن أحد تر ّ‬
‫وسلم فقولوا إن الله أحلها لرسوله ولم يحلها لكم ‪ ،‬أل فليبلغ الشاهد منكم‬

‫‪169‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الغائب ‪.‬‬
‫هذا ما كان من نص الرسول عليه السلم في تلك المناسبة ‪ ،‬وهي مناسبة‬
‫واقعية في سياق الدعوة لكننا حينما نأتي إلى النص فنجد أن معنى الحل هو‬
‫الحلل المطلق وهذا ما يتفق مع رأي ابن كثير ‪ ،‬وأن معنى الحل هو الحال‬
‫المقيم وهذا أشهر وأظهر استعمال المفرد أي هذه اللغة في هذا الموقف ‪،‬‬
‫نتساءل ‪ :‬ما قيمة القسم بتلك اللحظة ؟ إنه ل يكاد النسان يتبين للقسم‬
‫بهذا من معنى مفهوم ‪ ،‬ولكن إذا رجعنا إلى مقررات القرآن الكريم فنحن‬
‫نجد أن الله جل وعل رفع ابن آدم فوق قدر الكعبة المشرفة ‪ ،‬فإنه ورد‬
‫صحيحا ً عن رسول الله عليه السلم أنه نظر إلى بيت الله إلى الكعبة وقال ‪:‬‬
‫ما أعظم حرمتك عند الله ‪ ،‬وإن عرض الرجل المسلم أعظم حرمة منك ‪.‬‬
‫فالله جل وعل صحيح أنه حرم بيته الحرام ومنحه من القداسة ما ل يبلغه‬
‫الوصف ‪ ،‬ولكن حرمة النسان المسلم أكبر من حرمة الكعبة ‪ .‬وهذا من‬
‫حيث المبدأ ‪ ،‬والناس كما قلنا يتساوون من حيث الجوهر النساني وإنما‬
‫يتفاضل الناس بعضهم على بعض بالتقوى والعافية ‪ ،‬وأفضل الناس هم‬
‫النبياء والمرسلون ‪ ،‬وأفضل النبياء أولوا العزم ‪ ،‬وأفضل أولوا العزم محمد‬
‫صلى الله تعالى عليه وسلم ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ب شديد مع‬ ‫ت القرآن فأنت تجد الله جل وعل يأخذ المسلمين بأد ٍ‬ ‫وحيثما قلب َ‬
‫نبيهم صلى الله عليه وسلم ) ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم‬
‫لبعض ( ) يا آيها الذين آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ول تجهروا‬
‫له بالقول كجهر بعضكم لبعض ( ) لتعزروه وتوقروه ( وهكذا فحيثما سرحت‬
‫طرفك في آيات الله وجدت الله يدعوك إلى توقير رسوله وإلى احترام‬
‫رسوله وإلى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ .‬وفي الصحيحين أن رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم قال ‪ :‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من‬
‫ماله وولده والناس أجمعين ‪ .‬وفي القرآن الكريم ) قل إن كان أباؤكم‬
‫وأبناؤكم وأزواجكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون‬
‫كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله‬
‫فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ( وإذا ً فنحن من هنا نستطيع أن نقول إن الله‬
‫ظم شأن القسم بإضافة نبيه عليه الصلة والسلم إلى البيت الذي‬ ‫جل وعل ع ّ‬
‫أقسم به ‪ ،‬أي أنه لم يقسم بالبيت مجردا ً وإنما أقسم بالبيت في حال وجود‬
‫رسول صلى الله عليه وسلم فيه ‪ ،‬وهذا معنى قوله ) وأنت حل بهذا البلد ( ‪.‬‬
‫ثم ) ووالد وما ولد ( وأوجه ما يأخذ في هذا المعنى أن تكون الشارة هنا إلى‬
‫الذرية النسانية المسلسلة من لدن آدم أبي البشر صلوات الله عليه إلى أن‬
‫يشاء الله أن يأخذ هذه الدنيا ‪ ،‬لن فيها مظهرا ً بارزا ً من مظاهر قدرة الله‬
‫جل وعل أن جعل الناس يتوالد بعضهم من بعض ولم يجعل الخلقة مفتقرة‬
‫إلى التدخل اللهي المباشر بواسطة المر ) كن فيكون ( أو بواسطة النفخ‬
‫كما حدث في بعض الحايين ‪.‬‬
‫) لقد خلقنا النسان في كبد ( هذا هو المقسم عليه ‪ ،‬والكبد هو المشقة‬
‫والتعب والنصب ‪ ،‬ماذا يريد الله أن يلقن الناس بهذا القسم ؟ كان يمكن أن‬
‫يقال ‪ :‬قد خلقنا النسان ليكابد المشقة والتعب ‪ .‬وفي صياغة من هذا النوع‬
‫يكون المعنى أن أمامنا أمرين ‪ ،‬المر الول ‪ :‬النسان ‪ .‬والمر الثاني ‪:‬‬
‫المشقة والتعب ‪ .‬لكن بين المرين انفصال ول يوجد اتصال ‪ ،‬النسان شيء‬

‫‪170‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والمشقة التي يكابدها شيء ‪ ،‬ويستطيع النسان أن ينفصل عن المشقة ول‬


‫يقربها ‪ .‬لكن حين يأتي الكلم بهذه الصياغة ) لقد خلقنا النسان في كبد (‬
‫وحرف الجر ) في ( يتضمن معنى الظرفية والستيعاب والحتواء ‪ ،‬فالصيغة‬
‫تدل على أن المشقة والنصب والتعب تلبس النسان تماما ً ول ينفك عنها‬
‫النسان بحال من الحوال ‪.‬‬
‫فالدنيا من حيث هي دنيا مجردة من حيث هي أوامر ونواهٍ دار نصب وشقاء‬
‫وعذاب وبلء ‪ ،‬منذ أن يستهل الطفل صارخا ً حين تنزل من بطن أمه وهو‬
‫يتقلب بين الهوال والمتاعب والمصاعب ول يريحه من ذلك إل الموت ‪ .‬وما‬
‫أصدق ما تخّيل الشاعر العمى ابن الرومي حين قال ‪:‬‬
‫لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد‬
‫و إل فما يبكيه منها وإنها لفسح مما كان فيه وأرغد‬
‫فالدنيا من حيث المبدأ دار تعب ومشقة وبلء ‪ ،‬ولكن ذلك شيء بسيط هين ‪،‬‬
‫أنت حينما تشعر بأنه ل أمر عليك ول نهي يتوجه إليك فأنت حري بأن ترسل‬
‫نفسك على هواها ‪ ،‬تتمتع وتأكل وتأخذ وتدع ‪ ،‬وحين تصادفك العقبة تشعر‬
‫باللم ‪ ،‬وإذا ً فتعبك ساعة فساعة ‪ ،‬ويوم فيوم ‪ ،‬وشهر فشهر ‪ ،‬أي متقطع ‪.‬‬
‫ولكن ضمن إطار الدين ومقررات السلم فالمر يختلف ‪ ،‬إن السلم منذ أن‬
‫بدأ نزوله على الناس كان ضربة في هذا الركود الذي يسيطر على حياة‬
‫الناس أثارت العماق ووضعت النسان السارح الشارد أمام مسؤوليات‬
‫مباشرة ويومية ‪ ،‬فالسلم ل يعترف على النسان كامل النسانية ما لم تكن‬
‫عيناه مفتوحتان على سعتهما ليكون لهاتين العينين رقيبا ً على أخفى خفيات‬
‫نفسه ‪ ،‬يراقب ويفكر بعواقب المور ويتدبر ويحسب حساب النتائج ‪ ،‬وكل‬
‫شريعة من شرائع الله وكل فريضة من فرائض السلم فإنما هي إخراج‬
‫للنسان المسلم من حياة الرتابة والجمود إلى حياة الحركة والفاعلية‬
‫ل وإنما هو‬ ‫واليجابية ليكون النسان المسلم فاعل ً بانيا ً غير مستهتر ول مبا ٍ‬
‫النسان الواعي الذي يعرف أن الله خلقه لغاية وأن وجوده في الدنيا بين‬
‫إخوانه يرتب عليه واجبات ويحدد له مسؤوليات ويتطلب منه مسالك وأخلق‬
‫كلها متعبة وشاقة ليست كأس ماء ُتشرب ول لقمة طعام تساغ ‪ ،‬وإنما هي‬
‫مكابدة التعب ‪.‬‬
‫فالكبد الذي ورد هنا هو التعب والشقة الذي يلزم الخذ بأمر الله تعالى ‪ ،‬لن‬
‫الخذ بأمر الله شديد ول يطيقه إل الناس الواعون الفاهمون لمر الله ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫) لقد خلقنا النسان في كبد ‪ ،‬أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ‪ ،‬يقول أهلكت‬
‫مال ً لبدا ً ‪ ،‬أيحسب أن لم يره أحد ( هنا المراد والله أعلم بقطع النظر عن‬
‫تشقيق المعاني الرد إلى ما سبق أن أثاره القرآن من حجاج حول وجود الله‬
‫واليوم الخر وحول بعض الوصاف التي ينبغي أن يتصف بها الله ‪ .‬فالنسان‬
‫يشعر ‪ ،‬وهذا شعور مباشر بل ريب ‪ ،‬أنه يتحرك في الدنيا يخذ ويترك‬
‫ويشتري ويبيع ويجمع ‪ ..‬ثم هو ينفق هذه الموال ويشعر أن حركته‬
‫واضطرابه هما اللذان جمعا له المال ‪ ،‬وحين ينفق المال الكثير ‪ ،‬واللبد هو‬
‫الكثير ‪ ،‬كأنما يتلبد فوقه فوق بعض حتى يكون كالتلل والجبال ‪ ،‬يشعر بأنه‬
‫ينفق من داخل نفسه ‪ ،‬ل أمر عليه وهو حّر في هذا النفاق ‪ .‬هذا الشعور بل‬
‫رقابة يوّلد لدى النسان نوعا ً من التسيب والتفلت ‪ ،‬ارجع إلى الية ) أيحسب‬
‫أن لن يقدر عليه أحد ( النسان قدر على جمع المال وقدر على إنفاق المال‬

‫‪171‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الكثير والقليل ‪ ،‬وكأنما استقر في نفسه أنه سيد الكون وأنه ل سلطان‬
‫عليه ‪ ،‬فجاءه هذا التساؤل النكاري ) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ‪ ،‬يقول‬
‫أهلكت مال ً لبدا ً ‪ ،‬أيحسب أن لم يره أحد ( والحد هنا هو الله جل وعل ‪،‬‬
‫ومعلوم عندكم أن علم الله جل وعل كان مدار حجاج وتساؤل ‪ ،‬وجاءت آيات‬
‫القرآن ول سيما في سورة ) ق ( لتبّين للنسان أنه في وهم وأنه في ضلل‬
‫حينما يتصور أنه بعيد عن رقابة الله جل وعل ‪ ،‬الله جل وعل قال في سورة )‬
‫ق ( ‪ ) :‬ولقد خلقنا النسان ونعلم ما توسوس به نفسه ( حتى هذا الصوت‬
‫الخفي الهاجس البعيد يعلمه الله تعالى ‪ ) ،‬ولقد خلقنا النسان ونعلم ما‬
‫توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ‪ ،‬إذ يتلقى المتلقيان عن‬
‫اليمين وعن الشمال قعيد ‪ ،‬ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد ( فهؤلء‬
‫اليات أبانت علم الله تعالى بحال النسان وإحاطة هذا العلم بأخفى خفيات‬
‫النسان ‪ ،‬فحين تأتي الية ) أيحسب أن لم يره أحد ( فإنما يريد الله أن يقول‬
‫للنسان والله أعلم ‪ :‬إذا كنت أيها المخلوق ترى أنك تسمع وترى وتبصر‬
‫فكيف تستكثر على الله الذي خلقك أنه ل يراك ‪ ،‬فالله جل وعل يراك ‪ ،‬إن‬
‫كنت في ليل يراك ‪ ،‬وإن كنت في نهار يراك ‪ ،‬إن كنت في جمع يراك ‪ ،‬ل‬
‫تستطيع أن تفلت من رقابة الله تعالى ‪.‬‬
‫ثم يأتي هذا التساؤل الذي يشد هذا المعنى ) ألم نجعل له عينين ( يرى بهما‬
‫ويبصر ) ولسانا ً وشفتين ( يتكلم ويصمت فكيف تستكثر على الله أن ُينزل‬
‫كلمه وأن يأمر وينهى ) وهديناه النجدين ( والنجد في الصل هو ما ارتفع من‬
‫الرض قليل ً ‪ ،‬فكأنما المراد بإيحاء اللغة وإشعاع اللفظ أن طريق الخير ل‬
‫يخفى وأن طريق الشر ل يخفى ‪ ،‬يمكن في الرض المنبسطة المستوية أن‬
‫يخفى عليك الشيء ‪ ،‬لكن إذا رأيت الهضبة والجبل فل يعي عن النظر إليها‬
‫إل أعمى ‪ ،‬وأما الذي يتمتع بالبصر فيرى ‪ ،‬فحين يقول الله ) وهديناه النجدين‬
‫( أي هديناه طريقي الخير والشر ‪ ،‬بمعنى أننا بّينا له طريق الخير كما بّينا له‬
‫طريق الشر ‪ .‬وفي التعبير بالنجدين عن الطريقين والسبيلين والنهجين دللة‬
‫بّينة من أصل الوضع اللغوي على أن كل شيء واضح ‪ .‬والمور حين تشتبه‬
‫على الناس فل تشتبه لنها غامضة في ذاتها ولكن تشتبه لن الشهوات تغطي‬
‫على البصار والبصائر ‪ ،‬وحبك الشيء يعمي ويصم ‪ ،‬يجعلك ل يرى ول‬
‫تسمع ‪ ،‬وإل فمن يجادل بأن حياة العفة والطهارة خير وأكرم من حياة‬
‫الرذيلة والفسوق ؟ وأن حب الناس خير وأكرم من الحقد والبغض‬
‫والكراهية ؟ وأن الحرث للخرة خير وأكرم من صغائر الدنيا ؟ هذه أشياء ل‬
‫يعمى عن رؤيتها إل أعمى مطموس البصر والبصيرة ‪ ،‬ولهذا جاء التعبير هنا )‬
‫وهديناه النجدين ( ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫) فل اقتحم العقبة ( ارجع إلى قوله جل وعل ) لقد خلقنا النسان في كبد (‬
‫كر أن أمر السلم جد‬ ‫كر أن الكبد هنا هو المشقة والتعب والنصب وتذ ّ‬ ‫وتذ ّ‬
‫ومقاساة ومعاناة وتعب ‪ ،‬والعقبة ما هي ؟ العقبة هي في الصل كل شيء‬
‫ت سائرا ً في طريق فاعترضك‬ ‫يحول بينك وبين الوصول إلى غرضك ‪ ،‬إذا كن َ‬
‫ت تسير في‬ ‫ل ل تستطيع تسلقه ول تخطيه فهذه عقبة ‪ ،‬وإذا كن َ‬ ‫جبل عا ٍ‬
‫طريق تقصد غاية معينة فاعترضك أخدود ل تستطيع النزول فيه ول القفز من‬
‫فوقه فهو عقبة ‪ ،‬إذا كنت تسير في طريق فاعترضك نهر ل تستطيع قطعه‬
‫ت تهدف إلى محل فاعترضك عدو قطع عليك الطريق‬ ‫فهذا عقبة ‪ ،‬إذا كن َ‬

‫‪172‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فهذا عقبة ‪ ،‬فالعقبة كل أمر مادي أو معنوي يحول بينك وبين الوصول إلى‬
‫غرضك ‪ .‬هذا هو الصل في العقبة ‪ ..‬تعالوا ننظر ماذا أراد الله تعالى بهذه‬
‫العقبة ؟ هل هي عقبة من العقبات المادية أم هناك معنى آخر ؟ ل نحتاج إلى‬
‫كثير تأمل وفلسفة ل معنى لها ‪ ،‬لن الله بّين كل شيء ‪ ،‬جاء في التفسير‬
‫المبّين ) فل اقتحم العقبة ‪ ،‬وما أدراك ما العقبة ( وهذا التساؤل ليجعلك تنتبه‬
‫إلى المراد بالعقبة فقال ) فك رقبة ‪ ،‬أو إطعام في يوم ذي مسغبة ‪ ،‬يتيما ً ذا‬
‫مقربة ‪ ،‬أو مسكينا ً ذا متربة ( والمتربة هي الفقر ‪ ،‬لن الفقير لصق بالتراب‬
‫فجاءت المتربة من هذا الباب ‪ ،‬وانظر تجد الله تعالى أبان عن العقبة بما يلي‬
‫‪ :‬فك الرقاب أي تحرير الرقاء ‪ ،‬ويدخل فيه طبعا ً إنقاذ الضعفاء والمظلومين‬
‫والمقهورين ) أو إطعام في يوم ذي مسغبة ‪ ،‬يتيما ً ذا مقربة ( يتيما ً في‬
‫حجرك وتحت كنفك ) أو مسكينا ً ذا متربة ( فالعقبة جاء ممثل ً لها بشيئين‬
‫يحملن كلهما معنى الحياة ويدلن على ما وراءهما من معاني السلم ‪.‬‬
‫السلم حين اعتبر فك الرقبة وتحرير الرقاء وإعتاق الناس وإخراجهم من‬
‫ربقة الظلم والبغي والعدوان إلى حياة الحرية والنسانية الكاملة ‪ ،‬فإنما أكدّ‬
‫ور أن جائحة‬ ‫على معنى الحياة ‪ ،‬وكذلك الشأن في موضوع الطعام ‪ ،‬تص ّ‬
‫مرت من الجوع سنة أصابت الناس فإن الناس رأوا على ممر التاريخ سنين‬
‫من القحط والجوع إلى حد الذي أكل بعضهم بعضا ً ‪ ،‬وفي مصر كما يحدثنا‬
‫جلت عدة‬ ‫الجبرتي في تاريخه في القرن الثامن عشر أو في التاسع عشر س ّ‬
‫حوادث في المجاعات العامة أكل الناس فيها أولدهم من الجوع ‪ ،‬فحين‬
‫يشدد القرآن على هذا المعنى فإنما يريد من النسان أن يعلم أن اللقمة في‬
‫فم الجائع توازي وتكافئ عتق الرقيق وإعادته إلى الحرية ‪ ،‬لن الرقيق في‬
‫حكم الميت ‪ ،‬وحين تعيد إليه حريته وتعطيه كمال الهلية للتصرف والخذ‬
‫والعطاء فإنما تجعله إنسانا ً يساوي بني آدم ‪ ،‬وكذلك الجائع فحينما يعضه‬
‫الجوع عضا ً بليغا ً فإنما تعيده إلى هذه الحياة بهذه اللقمة التي تمنحه إياها ‪.‬‬
‫كم من الناس من يفعل هذا ؟ بل ماذا ينفق الناس من الجهد ومن التعب‬
‫ومن المعالجة مع نفوسهم لكي يصلوا إلى المرحلة التي يحررون فيها‬
‫الرقيق بل أدنى شعور يخالجهم بالجشع والشح ‪ .‬كان المام جعفر الصادق‬
‫رضي الله عنه أمر غلما ً له بأن يحضر له إناًء من ماء يتوضأ منه وقال له ‪:‬‬
‫ب علي الماء يا بني ‪ ،‬وأخذ المام يصب الماء ‪ ،‬والغلم سهى ‪ ،‬وأراد الله‬ ‫ص ّ‬
‫الحسنى فسقط الماء والناء كله على المام ‪ ،‬ونظر إليه ‪ ،‬وكأن الغلم لمح‬
‫في عيني المام بعض الغضب ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا إمام إن الله تعالى يقول‬
‫) والكاظمين الغيظ ( فقال المام ‪ :‬يا بني قد كظمت غيظي ‪ ،‬قال وقال‬
‫) والعافين عن الناس ( قال يا بني عفوت عنك ‪ ،‬قال وقال ) والله يحب‬
‫المحسنين ( فقال المام ‪ :‬اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫فالمسلمون حقا ً حينما يخرجون عن أموالهم يخرجون بهذه الروح السمحة ‪،‬‬
‫ويشعرون بأن اللقمة أو الخير أو المنفعة حينما تساق إلى إخوانهم في الله‬
‫وفي النسانية فهي زكاة للنفوس ) ومن يوق شح نفسه فأولئك هم‬
‫المفلحون ( وهي أيضا ً إحياء للناس وهي الحياة التي أراد الله جل وعل أن‬
‫يحياها الناس مليئة عامرة ‪ ،‬وهي أيضا ً انتصار على النفس وعلى الشهوات‬
‫ت بحاجة إلى الوقائع وإلى استقراء‬
‫واقتحام لهذه العقبة ‪ .‬اسأل نفسك ‪ ،‬لس َ‬
‫التاريخ ‪ ..‬انظر حواليك ‪ ..‬كم في جوارك وفي حيك وفي أسرتك من أناس‬

‫‪173‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يملكون من المال والمتاع ينفقونها هنا وهناك على الشهوات على وعلى ‪ ..‬؟‬
‫وإلى جوارهم أناس يتضورون من الجوع ‪ ،‬وإلى جوارهم يعرون ‪ ،‬ويرونهم بأم‬
‫أعينهم ‪ .‬والنبي عليه الصلة والسلم يقول ‪ :‬ليس بمؤمن من بات شبعان‬
‫وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم ‪ .‬ومع هذا فأنت تجد أن الغنياء يشحون‬
‫بأموالهم ‪ ،‬لماذا ؟ لن ثقتهم بالله ضعيفة ‪ ،‬ثقتهم بأن الله يخلف ما عندهم‬
‫معدومة بالمرة ‪ ،‬إن الله تعال يقول ) وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو‬
‫خير الرازقين ( والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ‪ :‬ل يكون المؤمن مؤمنا ً‬
‫حتى يكون بما في يد الله أوثق منه مما في يده ‪ .‬كيف أمسك بهذا الشيء‬
‫وأقول أنه حق ‪ ،‬فيجب أن أثق بوعد الله أكثر من ثقتي بأنني أحمل هذا‬
‫الشيء ‪ .‬هذا شرط اليمان ‪ ،‬ولهذا سن الله تعالى النتصار على النفس‬
‫بتحرير النفوس وبإطعام الجائع وإكساء العاري ‪ ،‬لنه ليس أمرا ً سهل ً ولكنه‬
‫شديد ) فل اقتحم العقبة ‪ ،‬وما أدراك ما العقبة ‪ ،‬فك رقبة ‪ ،‬أو إطعام في يوم‬
‫ذي مسغبة ( والمسغبة هي شدة الجوع ) يتيما ً ذا مقربة أو مسكينا ً ذا‬
‫متربة ‪ ،‬ثم كانوا من الذين آمنوا ( وقلنا عشرات المرات إن سنة الله مضت‬
‫وإن قضاء الله حكم أن ل يقبل من العمل إل ما خلص لوجهه ‪ ،‬وإن اليمان‬
‫بالله واليمان برسله شرط لقبول العمال ‪ ،‬وإن الكافر يعمل الخير ويعمل‬
‫المعروف ‪ ،‬ولكن الله يطعمه في الدنيا حتى يلقى الله تعالى وليست له‬
‫حسنة على الطلق ‪ ،‬ولكن النسان المؤمن يثاب على مجرد خاطرة الخير ‪،‬‬
‫م بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة ‪ ،‬فإن عملها فاكتبوها له‬ ‫من ه ّ‬
‫عشرة ‪.‬‬
‫فل بد من تقدم شرط اليمان لكي يكون العمل مقبول ً ) ثم كان من الذين‬
‫آمنوا ( ولكن اليمان لفظ مبهم ‪ ،‬شرط يكاد أن يكون إلى التجريد أقرب ‪،‬‬
‫والله تعالى يبين بعض خصائص اليمان ) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا‬
‫بالحق وتواصوا بالمرحمة ( أمران يغفل عنهما أكثر الناس ‪ ،‬إن الحق ليس‬
‫شيئا ً بسيطا ً ول قضية هينة ‪ ،‬الحق صعب على النفوس ‪ ،‬أصعب مما‬
‫تتصورون ‪ ،‬ولكن المؤمن إذا ُووجه بالحق أذعن بل مجادلة وبل محاولة‬
‫التملص ‪ ،‬والمنافق يحاول أن يدور ويلف من حول الحق ‪ .‬الحق مّر المذاق ‪،‬‬
‫ولهذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ :‬وأسألك كلمة العدل ‪،‬‬
‫وفي بعض الروايات كلمة الحق في الرضا والغضب ‪ .‬فالحق ل يطيقه كل‬
‫الناس ‪ ،‬ولكن يطيقه الناس الذي مّرنوا أنفسهم على ممارسة مناهج‬
‫اليمان ‪ ،‬جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلفة عمر ‪،‬‬
‫وعمر الحاكم الذي ترتعد الفرائص حين ُيذكر ‪ ،‬ليس العداء فقط حتى‬
‫المسلمون ‪ ،‬أذكر لكم واقعة طريفة ‪ ،‬كان عمر يمشي في طرقات المدينة‬
‫وخلفه جمهور من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كل واحد منهم آمن‬
‫بالذي آمن به عمر ‪ ،‬وصحب النبي كما صحبه عمر ‪ ،‬وشهد من النبي كما‬
‫شهد عمر ‪ ،‬ولكن عمر صياغة معينة ‪ ،‬ول أدري ما الذي كان من المناسبة ‪،‬‬
‫الناس يمشون خلفه فالتفت فجأة إلى الوراء ‪ ،‬حينما وقعت عينه على‬
‫جمهور الصحاب ووقعت عيونهم على عينه جثوا جميعا ً على ركبهم خوفا ً‬
‫ورعبا ً من عمر رضي الله عنه ‪ .‬هذا الرجل الشديد القوي ‪ ،‬جاءه رجل ودخل‬
‫ت قاتل زيد بن الخطاب ‪ ،‬أي أخوه الذي ُقتل في‬ ‫مجلسه وقال له ‪ :‬ألس َ‬
‫حرب اليمامة ‪ ،‬قال ‪ :‬بلى يا أمير المؤمنين ‪ .‬قال له ‪ :‬والله ل أحبك ‪ .‬فتبسم‬
‫الرجل وقال ‪ :‬يا أمير المؤمنين أذلك يمنعني حقا ً هو لي عندك ؟ عدم حبك‬
‫إياي يحملك على ظلمي ؟ فال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬إنما يأسى على الحب النساء ‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النساء هي التي تسأل عن الحب ن أما الرجال فل يسألون عن الحب ‪،‬‬


‫الرجال يسألون عن إقامة الحق وعن تحقيق العدل ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫فالحق في الحقيقة ل يطيقه كل الناس لنه شديد وصعب ومّر المذاق على‬
‫النفوس ‪ ،‬ولهذا كان من شرط اليمان أن ل يعتقدوا الحق فقط وإنما‬
‫يتواصون به ‪ ،‬لن النسان ربما يضله الهوى وتجره القرابة أو تلفته بعض‬
‫العلئق فيتجاوز الحق ‪ ،‬وفي تجاوز الحق هلكة التي ل حياة بعدها ‪ .‬وإنما‬
‫يجب دائما ً أن يتواصوا بالحق ‪ ،‬ولهذا فنحن نعلم من أخلق ومسالك أصحاب‬
‫نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم إذا التقى منهما اثنان سلم الواحد منهم على‬
‫الخر وأخذ يده مصافحا ً إياه وقرأ كل واحد منهما على الخر ) والعصر ‪ ،‬إن‬
‫النسان لفي خسر ‪ ،‬إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق‬
‫وتواصوا بالصبر ( يقرأ بعضهم على بعض هذه السورة مع كل لقاء لكي يتذكر‬
‫المسلمون دائما ً أنهم ممثلو الحق والقائمون على الحق في هذه الدنيا ‪.‬‬
‫والشيء الثاني هو التواصي بالمرحمة ‪ ،‬دخل رجل على النبي عليه الصلة‬
‫والسلم وعنده الحسن أو الحسين ‪ ،‬والنبي عليه الصلة والسلم يقبله ‪ ،‬وهذا‬
‫أعرابي ‪ ،‬والعراب نعرة نستعيذ بالله منها ‪ ،‬فكأن هذا العرابي استنكر أن‬
‫يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصبي ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول الله أتقبله ؟‬
‫م ؟ قال ‪ :‬يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحد منهم‬ ‫قال ‪ :‬ول َ‬
‫قط ‪ .‬ونظر إليه النبي الحنون والعطوف وقال له ‪ :‬وماذا أملك لك إذا كان‬
‫الله قد نزع الرحمة من قلبك ‪.‬‬
‫والنبي عليه الصلة والسلم يقول ‪ :‬من ل يرحم ل ُيرحم ‪ ،‬ارحموا من في‬
‫الرض يرحمكم من في السماء ‪ .‬التواصي بالمرحمة هو نظر رقيق إلى‬
‫عواقب ما فيه ابن آدم ‪ ،‬مثل ً ‪ :‬ترى إنسانا ً فقيرا ً فتشعر بهذا النعطاف النبيل‬
‫والطيب والطاهر ‪ ،‬ماذا يكون من شأن هذا لو أنه استمر في هذا الفقر‬
‫المدقع ‪ ،‬أل يشرف على الجوع والهلكة ؟ فتأخذك الشفقة والمرحمة فتعينه ‪.‬‬
‫تمّر على النسان الخر تراه واقعا ً تحت الظلم يعذب ويهان فتتساءل ‪ :‬وإلى‬
‫متى ؟ وإذا كانت السماوات والرض قامتا على الحق والعدل فكيف يكون‬
‫صلح الناس إذا ُأخل بالعدل وبالحق ؟ فتأخذك الرحمة فتنتصر للمظلوم ‪.‬‬
‫وإذا ً فالتواصي بالمرحمة هو استحياء مستمر لهذا الشعور العظيم النبيل‬
‫الذي يجعلك وقافا ً مع أعلى ما في الحياة النسانية من مستويات النبل‬
‫والكرامة والشرف ‪.‬‬
‫) أولئك أصحاب الميمنة ( ودائما ً حيثما مّر معكم لفظ الميمنة فالمراد به‬
‫التعبير عن رضوان الله تعالى ‪ ،‬وحيثما مّر معكم التعبير بالمشئمة فذلك‬
‫كناية عن سخط الله جل وعل ‪.‬‬
‫) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا هو أصحاب المشئمة ‪ ،‬عليهم نار مؤصدة ( أي‬
‫أن الله تعالى أعد ّ للمؤمنين الذين يتواصون بالصبر وبالحق وبالرحمة‬
‫والشفقة على عيال الله ‪ ،‬والخلق كلهم عيال الله كما قال عليه الصلة‬
‫والسلم وأحبهم إلى الله أبرهم وأشفقهم إلى عياله ‪ ،‬هؤلء هو أصحاب‬
‫اليمين الذين ينالهم الله برحمة منه ‪ .‬وأما العتاة والكفرة والفساق وقساة‬
‫عدهم الله تعالى بأن يدخلهم جهنم ليذيقهم العذاب‬ ‫القلوب فهو الذين تو ّ‬
‫الليم ‪.‬‬
‫حبذا لو كان لدي بعض الوقت لنتهي من سورة الطارق ‪ ،‬وأفرغ لما بعدها ‪،‬‬

‫‪175‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولكن ل بأس أن نكتفي بهذا القدر الذي قلناه ‪ ،‬وأنا أرجو أن يعود كل واحد‬
‫منكم دائما ً إلى القرآن يستفتيه ويسأله ويتدبر في آياته ‪ ،‬فتحت كلمة من‬
‫كلمات الله عالم مضيء من الطهر والعفاف والكرامة والشهامة‬
‫والستقامة ‪ .‬اتركوا هذا الواقع المّر الوبيئ البغيض الذي يعيش فيه الناس‬
‫م لهم إل الشهوات والعواطف الرخيصة والدوافع‬ ‫تافهين كما يعيش الدود ل ه ّ‬
‫الخبيثة ‪ ..‬اتركوا هذا كله ‪ ،‬هذا ل يعمر الحياة ول يفيء الطمئنان على الناس‬
‫ودوا على أن تكونوا أكبر من‬‫‪ ،‬وعيشوا مع القرآن وعانقوا المثل العليا وتع ّ‬
‫ودوا على أن تكونوا مؤمنين تجدون أنفسكم أكبر من الدنيا وما‬ ‫ذواتكم ‪ ..‬تع ّ‬
‫فيها ‪ ،‬في حديث يروى عن الله جل وعل من الحاديث القدسية ‪ :‬ما وسعتني‬
‫أرضي ول سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ‪.‬‬
‫إن النسان المؤمن إذا سكنت قلبه معاني اليمان كان أكبر من الكون كله ‪،‬‬
‫فارفعوا أنفسكم عن الصغائر وعيشوا مع الله ومع حقائق كتابه ومع حقائق‬
‫نبيه صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬والله المستعان ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد‬
‫وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة الطارق‬


‫الجمعة ‪ 17‬شوال ‪ 30 / 1397‬أيلول ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫ففي مسيرتنا مع ما نزل من أوائل كتاب الله تعالى نقف اليوم مع سورة‬
‫الخامسة والثلثين في سياق التنزيل ‪ ،‬ولئن أتيح لنا أن نبلغ بكم سورة‬
‫العراف وهي الثامنة والثلثون فنفرغ منها إننا إذا ً لسعداء ‪ ،‬وسيكون بين‬
‫يدي الخوة من خلل هذا الستعراض لبعض ما نزل من كتاب الله ذخيرة‬
‫طيبة من الفكار النافعة وصورة قريبة من الكمال لدعوة السلم في‬
‫مراحلها الولى ‪ ،‬وضوابط في ميدان العمل ومجالت التحرك تحول دون كثير‬
‫من الخلط واللتباس ‪ ،‬والله تعالى هو المسؤول أن يسدد ويعين ‪.‬‬
‫السورة الخامسة والثلثون هي سورة الطارق ‪ ،‬وسبقها في الجمعة الماضية‬
‫الحديث عن السورة الرابعة والثلثين وهي سورة البلد ‪ ،‬وبعض الناس يوحد‬
‫بين السورتين ول حرج فموضوعاتهما متشابهة أو متساوقة في أكثر‬
‫مواطنها ‪ ..‬والذي يستحضر أكثر سورة ) ق ( ثم البلد ثم الطارق فسيجد‬
‫نفسه أمام طور له مواصفات خاصة من أطوار الدعوة السلمية ‪ ،‬وبطبيعة‬
‫الحال فالوقت والطاقة ل يتسعان لشرح هذا ولست أجدني أنشط لهذا في‬
‫الوقت الحاضر فنرضى بما قسم الله ‪.‬‬
‫السورة تقول ) والسماء والطارق ‪ ،‬وما أدراك ما الطارق ‪ ،‬النجم الثاقب (‬
‫ما عليها‬
‫وينتهي القسم هنا ليساق الكلم على المقسم عليه ) إن كل نفس ل ّ‬
‫حافظ ( ثم تمضي السورة نحو بيان شأن النسان هذا الطاغي الباغي‬
‫ط وعريض‬ ‫المتكبر والمتجبر الجاهل بنفسه وبالذي حوله والمتشبع بما لم يع َ‬
‫م خلق ‪ ،‬خلق ممن ماء دافق ‪ ،‬يخرج من‬ ‫الدعاء والدعوة ) فلينظر النسان م ّ‬
‫بين الصلب والترائب ‪ ،‬إنه على رجعه لقادر ‪ ،‬يوم تبلى السرائر ‪ ،‬فما له من‬
‫قوة ول ناصر ( ثم يأتي قسم آخر على موضوع آخر ) والسماء ذات الرجع ‪،‬‬
‫والرض ذات الصدع ‪ ،‬إنه لقول فصل ‪ ،‬وما هو بالهزل ( وبهذه اليات‬

‫‪176‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القصيرة جدا ً والكلم البالغ غاية حدود الوجازة والكثافة والختصار يؤكد الله‬
‫تعالى فرق ما بين القرآن الذي يتولوه على الناس محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم وبين ما يهرف به الناس من كلم يظنونه حقا ً وهو باطل ‪ ،‬فإذا انتهى‬
‫بهذا الشكل من الوجازة والختصار سيق الكلم نحو قضية هامة ولها امتدادها‬
‫في الزمان والمكان ) إنهم يكيدون كيدا ً ‪ ،‬وأكيد كيدا ً ‪ ،‬فمّهل الكافرين أمهلهم‬
‫رويدا ً ( وبهؤلء اليات الوجيزات كذلك تساق قضية من قضايا الحركة والعمل‬
‫لعلها تكون أضخم القضايا وفي نفس الوقت أول ما ُينسى من قضايا الحركة‬
‫والعمل من أجل السلم ‪.‬‬
‫وكشأن عديد من اليات التي مرت من قبل فالسورة مبدوءة بالقسم ‪ ،‬ولقد‬
‫يجب أن ننبه باستمرار إلى حكمة القسم ‪ ،‬ففي الحالة العادية وفيما يتعاطاه‬
‫الناي في الكلم فوظيفة القسم في اللغة معروفة ‪ ،‬إن القسم يشد الكلم‬
‫ويؤكد المقسم عليه وإذا كان القسم صادرا ً ممن يؤنس فيه الصدق وُيظن‬
‫فيه الخير فإن القسم يأتي بمثابة جيش من الشهود ويغني غناء جيش من‬
‫الشهود ‪ .‬وحين يأتي القسم من الله تعالى فمن بدائه المور أن الله تعالى‬
‫أصدق القائلين ‪ ،‬ل تبديل لكلماته ول خلف لوعده ‪ ،‬وهذا يعطي الكلم‬
‫المقسم عليه قوة تأكيدية بالغة ‪ ،‬ولكن حس المسلم ل يحتاج مطلقا ً إلى ما‬
‫يؤكد له صدق الله تعالى ‪ ،‬فهذا الموضوع فوق الظنون والشبهات ‪ ،‬فإذا ً‬
‫للقسم فائدة أخرى يجب أن تغيب عن بال قارئ القرآن وهي إبراز شرف‬
‫المقسم عليه وقيمته ‪.‬‬
‫فالله تعالى أقسم بشخص رسوله عليه الصلة والسلم فقال ) لعمرك إنهم‬
‫لفي سكرتهم يعمهون ( وعلى لسان بعض خلقه أقسم بذاته الكريمة فقال‬
‫ن أصنامكم بعد أن تولوا‬
‫على لسان إبراهيم عليه السلم ) وتالله لكيد ّ‬
‫مدبرين ( وأقسم بمظاهر من مظاهر الكون وهذا وجه من وجوه الحكم في‬
‫القسم غير داخل في إبراز شرف المقسم عليه ولكنه يتعلق بالمقسم به‬
‫ويجب أن ل يتخطاه القارئ لكتاب الله تعالى ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫فلننظر هنا في صيغة القسم ) والسماء والطارق ( فالسماء معروفة ‪،‬‬


‫والطارق لفظ مبهم ‪ ،‬ولن الطارق في الصل مشتق من الفعل ) طرق (‬
‫وطرق مأخوذ من الطريق ‪ ،‬فكل سالك طريقا ً يسمى طارق ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫سر بهذه اليات ‪ ،‬فحين قال ) والسماء والطارق ( فجاء بالبدل‬ ‫البهام مف ّ‬
‫فقال ) النجم الثاقب ( فالمراد بالطارق إذا ً هذا النجم الذي يلتمع في السماء‬
‫ضوءه مشعا ً منيرا ً ‪ ،‬والثاقب هو شديد اللمعان واضح الضوء ول ُيطلق إل‬
‫على النور الذي إذا وقع على الشيء يثقبه ‪ ،‬فكأن المراد هنا والله أعلم‬
‫القسم بالنجوم التي تخترق أشعتها وتثقب حجب الظلمات ‪ ،‬فلماذا أقسم‬
‫الله تعالى بهذا النجم الثاقب ؟ بل قبل هذا فلماذا سماه طارقا ً ؟ قلنا إن‬
‫الطارق في كلم العرب هو كل سالك طريقا ً ‪ ،‬لكن عرف الستعمال خصصه‬
‫بالذي يأتي ليل ً ول يقال لمن جاءك نهارا ً هو طارق ‪ ،‬وإنما يقال ذلك لمن‬
‫جاءك ليل ً ‪ ،‬ومنه الحديث الشريف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫الرجل أن يطرق أهله ليل ً ‪ ،‬أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى‬
‫غب أن تكون عودة المسافر إلى أهله‬ ‫المسافر أن يعود إلى أهله في الليل ور ّ‬
‫نهارا ً ‪ .‬وفي هذا النهي احتمالن ‪ :‬فقد يكون المراد بالنهي عن طروق الرجل‬
‫أهله ليل ً أن ل يرى الرجل زوجته على حالة ل يستحبها من الكمال وحسن‬

‫‪177‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المنظر ‪ ،‬وإنما يراها وهي متهيئة بزينتها لستقبال الزوج ‪ ،‬فالمرأة المهيبة‬
‫ذل وتترك الزينة ول ُتعنى بكمال الشكل وجمال المظهر ‪ ،‬فإذا جاء‬ ‫غالبا ً ما تتب ّ‬
‫الرجل أهله ليل ً على غير انتظار فقد يجد أهله على حالة ل تدعو إلى الرتياح‬
‫من حيث المنظر العام والمظهر الواضح ‪.‬‬
‫غب في الستر‬ ‫وقد يحتمل هذا معنى آخر فالسلم الذي يدعو إلى الصوم وير ّ‬
‫ينهى الرجل عن أن يطرق أهله ليل ً لحتمال ولو كان ضعيفا ً ولو كان بعيدا ً ‪،‬‬
‫فقد يجد الرجل في بيته من الغرباء أو القرباء من ل يرتاح إلى وجوده في‬
‫حال غيابه مع أهله ‪ ،‬فيكون من ذلك ما يدعو إلى النفرة وإلى سوء العشرة‬
‫وإلى تهديد الحياة الزوجية ‪ .‬فمن هنا كان نهي النبي عليه السلم المؤمن عن‬
‫أن يطرق أهله ليل ً وكان ترغيبه في القدوم إذا قدم المسافر نهارا ً ‪.‬‬
‫وموضع الشاهد أن النجم سمي طارقا ً لنه يعرض في أفق السماء ليل ً‬
‫فسمي طارقا ً لهذا ‪ ،‬ووصف بأنه الثاقب لن ضوء النجوم هو الذي يجعل أديم‬
‫السماء السود المكفهر يزدهر بالنور ‪.‬‬
‫هذه النجوم التي تكرر القسم بها تنفع الناس على الرض كما تنفع مخلوقات‬
‫الله جميعا ً ‪ ،‬وهي عرى في شد النظام الكوني والناس يعرفون منها قديما ً‬
‫الشيء الكثير ‪ ،‬والعلم كشف اليوم منها أكثر مما كان الناس يعرفون ‪ ،‬ول‬
‫حاجة بنا إلى الخوض عن ما لهذه النجوم من تأثيرات ‪ ،‬ويكفي أن نعلم أن‬
‫توزيع النجوم في السماء بالنسب التي هي عليها وبالحجوم التي هي عليها‬
‫عامل أساسي في حفظ النظام الكوني ‪ ،‬ولو أن نجما ً من نجوم السماء‬
‫انزاح عن مكانه ومداره ومساره المرسوم شيئا ً ولو طفيفا ً لدى ذلك إلى‬
‫اختلل في نسب الجاذبية وتغيرات واضحة في الجواء التي يتنفس فيها‬
‫النسان ‪ ،‬وإذا ً فالله يقسم بشيء ذي أهمية بالغة بالنسبة لحياة الناس في‬
‫موضوع هو برمته يتعلق بحياة الناس ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫) والسماء والطارق ‪ ،‬وما أدراك ما الطارق ‪ ،‬النجم الثاقب ( على ماذا أقسم‬
‫) إن كل نفس لما عليها حافظ ( بعض الكاتبين في القرآن من المفسرين‬
‫يذهبون في تأويل هذا الحرف مذهبا ً يساعد عليه ظاهر اللفظ ول غرابة فيه ‪،‬‬
‫فظة يسجلون عليه كلما يقول‬ ‫ح َ‬
‫كل بكل إنسان َ‬‫أي أن الله سبحانه وتعالى و ّ‬
‫وكلما يفعل ليكون هذا التسجيل معدا ً لمناقشته في يوم الحساب ‪ .‬ولكنا نرى‬
‫والله أعلم أن المسألة أبعد من هذا وأن المر في جوهره أمر بيان للمنة‬
‫العظيمة التي امتن الله بها على الناس ‪ ،‬فالنسان لول عناية الله وكلءة‬
‫الرحمن وحفظه لما استطاع التماسك في هذه الدنيا بحال من الحوال ‪،‬‬
‫والله جل وعل بنواميسه التي زرعها في الكون وقوانينه وسننه الثابتة التي ل‬
‫تتبدل ول تتغير حفظ النسان من شرور كثير ة ‪ ،‬والله جل وعل تولى رعاية‬
‫النسان بأمور ل يدركها ول يبلغها علمه ول ينالها وهمه إل من طريق الخبر‬
‫الصادق عن الصادق المعصوم عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ولقد جاء في بعض‬
‫الثار أن الشياطين يتكأكؤن من حول ابن آدم ولو أن ملئكة الرحمن تخلت‬
‫عن النسان طرفة عين لتخطفته الشياطين من كل جانب ‪ ،‬فهذا جانب من‬
‫حفظ الله جل وعل لهذا النسان ‪ ،‬والله جل وعل ذكر ذلك واضحا ً بّينا ً في‬
‫ل اسمه ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه‬ ‫القرآن الكريم فقال ج ّ‬
‫يحفظونه من أمر الله ( والمعقبات هم الملئكة الذين يتعاقبون على كلءة‬
‫ابن آدم وحفظه ‪ ،‬ومن ذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪178‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل والنهار ‪ .‬فهذا جانب من الحفظ الذي رعى الله‬
‫به هذا النسان وهذه هي المعقبات التي ذكر الله جل وعل أنها تحفظ‬
‫النسان من أمر الله ليس أن تحفظ النسان من أن تصيبه شيء من أمر‬
‫الله وقضائه وقدره ‪ ،‬ولكن معنى ذلك أنها تحفظ النسان بأمر الله جل‬
‫وعل ‪ ،‬فمن هنا ليست على بابها بعضية ولكن هي سببية أي بسبب أمر الله‬
‫جل وعل ‪.‬‬
‫ما عليها حافظ ( يعني ما من نفس‬ ‫فهذا معنى قوله تعالى ) إن كل نفس ل ّ‬
‫منفوسة إل عليها حافظ يحفظها بأمر الله تعالى ‪ ،‬ولو ارتفع عنها حفظ الله‬
‫ن‬
‫وكلءة الله تعالى لتخطفتها الشياطين ‪ .‬ومن ظواهر الحفظ هذه ما امت ّ‬
‫الله تعالى به على عباده من إنزال الكتب ومن إرسال الرسل ‪ ،‬فهذه وجوه‬
‫من وجوه الحفظ ‪ ،‬ل يذكرها الله تعالى في مجال المنة وحسب ‪ ،‬وإنما‬
‫يذكرها في مجال التكريم ‪ ،‬فالنسان الذي اختصه الله تعالى بالسمع والبصر‬
‫والفؤاد والنطق والقدرة على التصرف والخذ والعطاء وبمواجهة المسؤولية‬
‫والتبعة إنسان متميز من بين خلق الله تعالى ‪ ،‬وبسبب من هذا التميز استحق‬
‫كرامة الله تعالى إذا قال ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر‬
‫وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل ً ( فهذا جانب مما يوحيه قول الله‬
‫ما عليها حافظ ( ‪.‬‬
‫تعالى ) إن كل نفس ل ّ‬
‫هذا النسان المحفوظ ل من ذاته ولكن من القوة الخارجة عنه هي قوة‬
‫خر الله له كل‬ ‫الله ‪ ،‬هذا النسان المعتنى به ‪ ،‬هذا النسان المكرم والذي س ّ‬
‫شيء ‪ ،‬والذي أسجد الله له ملئكته الذين اختصهم لتسبيحه وتقديسه ‪ ،‬هذا‬
‫النسان المتمرد الطاغي يزعم كما رأينا في السور الماضيات أن الله لن‬
‫يقدر عليه ‪ ،‬وأنه لن يعيده كما بدأه ‪ ،‬وهذه غفلة ونفسة كبرياء ل تصيب إل‬
‫الغافلين عن أنفسهم ) نسوا الله فنسيهم ( ) ونسوا الله فأنساهم‬
‫أنفسهم ( ‪ .‬النسان من أجل القرار واليمان بحتمية المصير إلى ربه ل‬
‫يحتاج إلى مجهود كبير أقام الله الشواهد ونصب الدلئل على ذلك في‬
‫تصاريف الكون وفي خلقة وجسم النسان وصدق الله ) سنريهم آياتنا في‬
‫ف بربك أنه على كل‬ ‫الفاق وفي أنفسهم حتى يتبّين لهم أنه الحق أو لم يك ِ‬
‫شيء شهيد ( ‪.‬‬
‫م خلق ‪ ،‬خلق‬ ‫انظر إلى نفسك ‪ ،‬المسألة في متناول يدك ) فلينظر النسان م َ‬
‫من ماء دافق ‪ ،‬يخرج من بين الصلب والترائب ( والصلب هو فقار ظهر‬
‫الرجل ‪ ،‬والترائب هي عظام صدر المرأة ‪ ،‬وما يتخّلق منه النسان إنما هو‬
‫نطف قليلة من هذا الماء الذي يخرج من فقار الرجل وترائب المرأة على‬
‫نسب مضبوطة ومقادير موزونة ‪ .‬إذا ً فنحن ما زلنا في جو التناسق وفي جو‬
‫التناسب وفي جو السماء والطارق وفي جو هذه النسب التي تشكل مظهرا ً‬
‫من مظاهر سنن الله تعال لكي يرتفع الله بالنسان من مقام الهوان ‪ ،‬دودة‬
‫تدب على ظهر الرض إلى ظاهرة كونية شأنها من حيث الضبط والنفع‬
‫للكون كله كشأن أية ظاهرة كونية أخرى ‪ ،‬فل ينبغي للنسان أن يبخس‬
‫نفسه ول ينبغي أن يغفل عن قيمته ‪ ،‬بل الله الذي كّرم هذا النسان أراد له‬
‫أن يعي قيمة نفسه لكي ُيذلها ول يهينها فل تقدر بعدها أن تترشح إلى عظائم‬
‫المور ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪179‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫) يخرج من بين الصلب والترائب ‪ ،‬إنه على رجعه لقادر ( والهاء في ) إنه (‬
‫أي الضمير يعود إلى الله تعالى ‪ ،‬أي إن الله تعالى قادر على رجعه ‪،‬‬
‫وللمفسرين تأويلت ‪ ،‬أحدهما أقرب إلى الخر وإلى المعنى وأدعى إلى‬
‫الطمئنان ‪ ،‬قال قائلون ‪ :‬إن الله على رجع هذا الماء المتولد من فقار الرجل‬
‫أي صلبه ‪ ،‬ومن ترائب المرأة قادر على إعادته من حيث خرج ‪ ،‬ول جدال في‬
‫قدرة الله تعالى على ذلك ‪ ،‬ولعل الذي هّيأ لهم أن يذهبوا هذا المذهب قرب‬
‫الحديث عن الماء ) فلينظر النسان مما خلق ‪ ،‬خلق من ماء دافق ‪ ،‬يخرج‬
‫من بين الصلب والترائب ( ولكن لو أننا ذهبنا مع اليات قليل ً لوجدنا أن‬
‫المعنى يتعين في ناحية أخرى ) إنه على رجعه لقادر ‪ ،‬يوم تبلى السرائر (‬
‫فالرجع مرتبط بيوم وصفه الله تعالى بأنه يوم تبلى فيه السرائر ‪ ،‬والسرائر‬
‫هي خفيات النفوس وما يسره النسان ويخفيه عن كل أحد ‪ ،‬وبلء السرائر‬
‫هو إظهار ما فيها وكشفها واضحة معلنة ‪ ،‬وهذا ل يكون طبعا ً إل يوم القيامة‬
‫حين تنصب الموازين القسط لذلك اليوم ويقف الناس ليوم الحساب ‪ ،‬وإذا ً‬
‫فأقرب التأويلت إلى هذا أن يصار إلى القول ‪ :‬إن الله قادر على أن يرجع‬
‫هذا النسان إلى الحياة مرة أخرى في الدار الخرة برغم البلى والتحلل‬
‫والتفرق في جميع النحاء ‪ .‬والكلم بعد كما مّر معنا في سور أخرى كلم‬
‫يدور حول هذا المحور حول إثبات اليوم الخر وضرورة إقام الناس ليوم‬
‫الخر ‪ ،‬لن الموضوع جد خطير ‪ ،‬فمن ل يؤمن باليوم الخر وبحتمية المصير‬
‫إلى ربه والوقف بين يديه وتقديم كشف الحساب إليه يفعل ما يشاء دون‬
‫رادع يردعه ‪ ،‬وإنما الخير كل الخير في الذين يخافون الله ويرجون رضاه في‬
‫اليوم الخر ‪.‬‬
‫هنالك في اليوم الخر وصف آخر جاء وهو وصف بالغ الدللة ‪ ،‬هذا النسان‬
‫وصفه الله تعالى بأنه في دار الدنيا بأنه في صفات متعددة ‪ :‬جبار وطاٍغ‬
‫ومتمرد وعنيد وخصم وجدل ‪ ..‬وبسائر هذه الوصاف والنعوت التي تشير إلى‬
‫العظمة والجبروت ‪ ،‬ووصفه هنا حينما يكون في اليوم الخر بهذا الوصف‬
‫المعبر ) فما له من قوة ول ناصر ( كلمتان ‪ :‬قوة وناصر ‪ .‬والقوة عادة من‬
‫حيث أصل الوضع ذاتية ‪ ،‬يعني أن النسان يوصف بأنه قوي ‪ ،‬إذا كانت القوة‬
‫وصفا ً ذاتيا ً له ‪ ،‬ولكن العرف العامي يقول إن فلنا ً قوي ‪ ،‬بمعنى أن من‬
‫ورائه أشياع وأتباع ونصراء ‪ ،‬هذه ليست قوة في مدلول اللغة وفي أصل‬
‫الوضع ‪ .‬فإذا رأينا الية تقول هنا ) فما له من قوة ول ناصر ( فمعنى هذا أن‬
‫الله يوقف النسان في اليوم الخر بحيث أنه يلتمس من نفسه القوة فل‬
‫يجدها ‪ ،‬ويلتمس النصراء فل يجدهم ‪ ..‬وإذا ً فقد تقطعت به السباب ‪ ،‬هذه‬
‫النسان وصفه الملزم له هو هذا ‪ ،‬في الدنيا كذلك هو ‪ ،‬لو أن النسان كان‬
‫كما يظن بنفسه لستحق أن يكون غير ما هو عليه ‪ .‬ولكن النسان المنصف‬
‫لنفسه يعرف أنه ضعيف ‪ ،‬وأن كثيرا ً مما زرأ الله على الرض من حشرات‬
‫أقوى منه ‪ ،‬والنمرود مات بذبابة ‪ ،‬وأصغر الجراثيم تبث بين الناس وباًء يحصد‬
‫المئات واللوف من الناس ‪ ..‬ومع أصدق المتنبي حين كان يشير إلى هذا‬
‫المعنى فيقول في قصيدة طويلة ما معناه ‪ :‬لو أن المر أمر قوة وأن شرف‬
‫النسان ومنزلته تقاس بالقوة وبضخامة البدن لكان أدنى حيوان أدنى إلى‬
‫الشرف من هذا النسان ‪ .‬ولكن النسان ضعيف ذاتيا ً بكل ما في الكلمة ‪،‬‬
‫م بك شيء من المرض فإذا أنت مطروح على الفراش ‪ ،‬ل‬ ‫حسبك أن يل ّ‬
‫ً‬
‫تستطيع لنفسك حول ول قوة ‪.‬‬
‫والمظهر الخر من مظاهر القوة وهي قوة النصراء والتباع ‪ ،‬فنحن نرى أن‬
‫كثيرا ً من الناس تأتي عليهم أويقات يرون من ورائهم اللوف والمليين‬

‫‪180‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مساندين له ‪ ،‬ولكنهم ينفضون بعد ذلك ‪ .‬فإذا ً ليس شيء من أسباب القوة‬
‫لزم للنسان بأي حال من الحوال ‪ ،‬ومع هذا فانظروا إلى ما ذكر الله تعالى‬
‫في هذه الية من حفظ الله تعالى للنسان لتروا أن الله تعالى أكرم النسان‬
‫على غير استحقاق ذاتي لغاية أرادها الله تعالى هو ترشيحه للقيام بتبعات‬
‫الدعوة إلى الله تعالى ‪.‬‬
‫وأظن أنني أشرت إلى هذا المعنى قبل زمن وجيز حينما تطرقت إلى ذكر‬
‫هذه الفكرة فقلت إن الرض من حيث هي أرض تتساوى بقاعها وأماكنها من‬
‫حيث الشرف ‪ ،‬ولكن الله تعالى يخص ما يشاء من بقاع الرض لشرف ما‬
‫يكون فيها من عمل ‪ ،‬فمكة ليست كسائر بلد الله ‪ ،‬والحرم ليس كسائر مكة‬
‫‪ ،‬والمدينة ليست كسائر بلد الله ‪ ،‬وقبر الرسول عليه الصلة والسلم ليس‬
‫كسائر أجزاء المدينة ‪ ،‬وليلة القدر ليست كسائر الليالي ‪ ،‬والحجر السود‬
‫ليس كبقية الحجار التي بنيت منها الكعبة ‪ ..‬وإذا ً فالتشريف والتكريم‬
‫اختصاص مطلق من الله جل وعل ‪ ،‬ومن هذا الختصاص اختصاص النسان‬
‫بهذه الكرامة ل على استحقاق منه وإل فالنسان ل قوة له ول ناصر له ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ثم تساق اليات مساقا ً آخر فيه شيء من هذا التناسق الذي ذكرناه‬
‫) والسماء ذات الرجع ‪ ،‬والرض ذات الصدع ( وقلنا إن هذا قسم جديد ‪،‬‬
‫ومعنى أن السماء ذات الرجع ‪ ،‬والرجع هو الرجاع ‪ ،‬المراد بذلك السماء ذات‬
‫المطر الذي يصعد إليها من الرض ثم يرجع إلى الرض من السماء ‪ ،‬فهذا هو‬
‫معنى كون السماء ذات رجع ‪ .‬والرض ذات الصدع معناها أن الرض حين‬
‫ينزل عليها الماء تهتز وتربو وتتشقق وتتصدع وتقبل الماء وينبت العشب‬
‫والكل والخير الكثير ‪ .‬أين وجه التناسق والرتباط ؟ التناسق والرتباط بين‬
‫هذه الصورة ‪ ..‬صورة السماء التي تتصاعد إليها أبخرة الماء فتنعقد في الجو‬
‫سحبا ً مركومة ‪ ،‬ثم ترجع إلى الرض ‪ ،‬ثم إذا رجعت إلى الرض أنبتت‬
‫ق هذا الماء الراجع إليها‬
‫العشب والخير الكثير بعد أن تتصدع لتتلقى أكرم تل ٍ‬
‫من السماء ‪ ،‬صورة شديدة الرتباط ووثيقة المشابهة مع الماء الدافق‬
‫المتولد من صلب الذكر وترائب النثى ‪ ،‬والملقى في رحم المرأة لتقبله‬
‫فيتصدع ويخرج هذا الكائن الحي ‪ .‬وإذا ً فنحن ما زلنا في الجو الذي أبرزته‬
‫اليات في أول السورة ‪..‬‬
‫) والسماء ذات الرجع ‪ ،‬والرض ذات الصدع ( هذه العملية بشقيها ‪ ..‬عملية‬
‫التقاء العنصرين الذكر والنثى في رحم المرأة ‪ ،‬وعملية انصداع الرض‬
‫لتتلقى وهي تتلقى الماء النازل من السماء لتنشق عن الخير والنبات‬
‫والعشب ‪ ..‬هذا شيء ليس هينا ً ‪ ،‬وإنما هو مظهر من مظاهر العجاز والقدرة‬
‫الباهرة والعظمة الخارقة الدالة على وجود الخالق القادر على كل شيء‬
‫الذي ل يعجزه شيء ‪ ،‬وإذا ً فالله تعالى يقسم بأبرز مظهر من مظاهر قدرته‬
‫على أمر أريد أن نتمعن فيه قليل ً ‪.‬‬
‫) إنه لقول فصل ‪ ،‬وما هو بالهزل ( والهاء في ) إنه ( قد يكون المراد بها إن‬
‫الحديث عن المور التي مرت بالسورة شيء حقيقي ‪ ،‬ولكن الوجه أن يساق‬
‫ويوجه الضمير إلى القرآن الذي حوى كل هذه الشياء ) إنه لقول فصل (‬
‫والقول الفصل هو الذي يصيب وسط الحقيقة ) وما هو بالهزل ( ومعنى‬
‫الهزل هو المزاح ‪ ،‬ولكن الهزل في دللة اللغة معنى أبعد من معنى المزاح ‪،‬‬
‫أو هو معنى يعطي للمزاح محتواه الصحيح ‪ ،‬الهزل مشتق من الفعل‬

‫‪181‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫) هزل ( ومعنى هزل أي ضعف ‪ ،‬والضعيف هو الذي ل قوة فيه ول قدرة له ‪،‬‬
‫وإنما يقال هذا كلم هزل بمعنى أنه كلم ل يعد أن يكون هواًء منطلقا ً من‬
‫الفم ‪ ،‬وحروفا ً مرصوفة ولكنها ل ترجع إلى معنى حقيقي ‪ ،‬وليس لها أي‬
‫وصف ول خصيصة من أوصاف وخصائص القوة ‪ ،‬وجوهر الحقيقة أنه قوة ‪،‬‬
‫وجوهر الهزل أنه ل شيء ‪ ،‬وإنما يسمى هزل الهازل هزل ً لن صاحبه ل يعود‬
‫صل ‪ ،‬فكأنه هراء ل شيء وراءه على الطلق ‪ .‬وذلك شأن الناس وليس‬ ‫بمح ّ‬
‫شأن الله ‪ ،‬الناس يهزلون ول يبالون أن يقولوا ويتحدثوا بما ل يعود بخير ‪ ،‬ول‬
‫يرجع إلى قاعدة معروفة من قواعد الحقيقة ‪ ،‬ولكن الله يقول الحق ويهدي‬
‫السبيل ‪ ،‬فالله تعالى إذا ً يفّرق بين هذا الكلم الذي يأتي به محمد من عند‬
‫ربه وبين كلم المخلوقين ‪ ،‬ليهيب بالناس من بعد أن يكونوا إلى الحقيقة‬
‫أقرب ومن الهزل أبعد ‪ ،‬ليكونوا إلى الحق أرقب ومن الباطل أبعد ‪ ،‬فكلم‬
‫الله تعالى هو الحق المّر ‪ ،‬وكلم الخلق هو الهزل الذي ل يرجع منه صاحبه‬
‫بقليل ول كثير ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثم تأتي القضية الثانية ) إنهم يكيدون كيدا ‪ ،‬وأكيد كيدا ‪ ،‬فمّهل الكافرين‬
‫أمهلهم رويدا ً ( أما الكيد فهو التدبير الخفي ‪ ،‬ول يسمى كل تدبير كيدا ً إل إذا‬
‫كان تآمرا ً في الظلم ومن وراء الجدر ‪ ،‬أما التدبير الواضح فل يسمى كيدا ً ‪.‬‬
‫وحينما ننظر إلى هذه الية وهذه السورة وهذا الطور من أطوار الدعوة في‬
‫ضوء هذه اللفظة المفردة ) الكيد ( فسنجد أن الدعوة بلغت مرحلة طيبة في‬
‫طريق التقدم والتقاء والرسوخ والنماء ‪ ،‬إنك حينما يكون أمامك خصم ل‬
‫تكترث به ول تأبه له ول تقيم له وزنا ً ول تلقي له بال ً ‪ ،‬فأنت ل تهتم بأن يكون‬
‫تدبيرك ضده تدبيرا ً خفيا ً ‪ ،‬وإنما تجاهر وتقول ‪ :‬ماذا يستطيع هذا أن يفعل‬
‫تجاهي ؟ ل شيء إنه في حالة من الضعف جردته من كل قوة ‪ ،‬وإذا ً فأنا في‬
‫ل من أن أكتم أي تصرف من تصرفاتي ‪ ،‬ولكنك حينما تواجه إنسانا ً له حظ‬ ‫ح ٍ‬
‫ً‬
‫من القوة أو مجموعة من الناس بلغت شأنا من الرسوخ والقوة فأنت محتاج‬
‫إلى أن تحكم تدبيرك وإلى أن تخفي كثيرا ً من وجوه أمرك ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫إذا ً هذه الكلمة توحي لنا بأن المرحلة التي نتحدث عنها بلغت مرحلة يحسب‬
‫لها الخصوم حسابا ً ‪ ،‬فهم يكيدون ‪ ،‬والله جل وعل يكيد ‪ ،‬وإنما يكيد الله جل‬
‫وعل على سبيل المجازاة ‪ ،‬فالعرب تأتي باللفظ مشتقا ً من جنسه لتجازي أي‬
‫لتقابل بين الفعلين مقابلة لفظية ل مريدة بذلك أن الله فعل ً يريد اللفظ‬
‫بحقيقة معناه ‪ .‬فحينما نسمع الله يقول ) نسوا الله فنسيهم ( نعلم أن هذا‬
‫اللفظ من باب المجازاة اللفظية ‪ ،‬وإل فالله يستحيل عليه النسيان ‪ ،‬ويقول‬
‫أيضا ً ) يخادعون الله وهو خادعهم ( فهذا ل يعني أن الله يلجأ إلى طريقة‬
‫الخداع ولكن هو من باب المجازاة اللفظية وهو أسلوب يعرفه الذين‬
‫يدرسون خصائص السلوب العربي الذي نزل به القرآن ‪ .‬وقوله تعالى ) إنهم‬
‫يكيدون كيدا ً ‪ ،‬وأكيد كيدا ً ( من هذه الباب ‪.‬‬
‫يا إخوة أريد أن أقف معكم في هذه النقطة قليل ً ‪ ..‬ل لني لم أقف عندها من‬
‫قبل ‪ ،‬ولكن للتذكير ‪ ..‬المسألة في نظري بالغة الخطورة ‪ ،‬شديدة الحساسية‬
‫‪ ،‬وفي ميدان الماديات فأنت تلقي الحصاة في النهر فتتولد في النهر دوائر‬
‫تنداح وقد ل تراها ولكن اهتزازات الماء ل تنقطع ‪ ..‬فتصل شاطئ النهر فترتد‬
‫في حركة حتى تختفي رويدا ً رويدا ً ‪ .‬والكلمة تقولها في مجال المعنويات‬
‫تترك في العواطف والمشاعر والنفوس والعقول أصداء لها مثل هذه الدوائر‬

‫‪182‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التي في الماء فتذهب وترجع متذبذبة من غير انتهاء ‪ .‬والسلم حركة ‪ ،‬جاء‬
‫قول ً وجاء عمل ً ‪ ،‬وجاء حركة لمست الواقع ولم تكن تصورات في عقل‬
‫فيلسوف ول حكمة في رأس حكيم ‪ ،‬وإنما هي رسالة خوطب بها الناس‬
‫بصورة مباشرة ووضعت موضع التطبيق من أول مرحلة من مراحله ‪ ،‬ومن‬
‫الطبيعي أن تكون لها هذه الرجاء وهذه الصداء في حياة الناس ‪ ،‬بين راضين‬
‫وبين ساخطين ومنكرين ‪ ،‬وبطبيعة فالمنكرون ينكرون والساخطون‬
‫يسخطون حينما ُتهدد لهم مصالح ذاتية معنوية أو مادية ‪ ،‬يرون في الدعوة‬
‫الجديدة خطرا ً عليهم ‪.‬‬
‫وهذا الذي كان من زعماء مكة وأغنياء مكة وكبراء ساسة مكة ‪ ،‬فقد أنكروا‬
‫على رسول الله ما جاء به من عند ربه ‪ ،‬وردوه عليه ‪ ،‬وصبر رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم على ذلك ‪ ،‬واستمر المكيون في النكار ‪ ،‬ثم ل يكتفون‬
‫بالنكار ‪ ،‬وإنما يدّبرون بالكيد المحكم الخفي ‪ ،‬لينالوا من الدعوة بالتشكيك‬
‫والتشويش ‪ ،‬ولينالوا من المسلمين بالمطاردة والتعذيب ‪ ،‬ولينالوا من قائد‬
‫الدعوة بالطعن والتجريح ‪ ..‬وكل هذه الشياء مرت معنا صورها ‪ ،‬والمسألة‬
‫كما يلي ‪ :‬المسألة هو أن الناس على المستوى الدنيوي وعلى مستوى‬
‫الدعوات ذات الطبيعة الرضية لهم أن يكّيفوا أنفسهم وفاقا ً لما يشاؤون ‪،‬‬
‫ولهم أن يعملوا بعد كل حركة حسابا ً للخسائر والرباح ‪ ،‬ولهم أم يعملوا‬
‫حسابا ً للحتمالت ‪ ،‬ولهم أن يقدروا مواقفهم وفاقا ً لكل هذه الحسابات‬
‫والمعطيات ‪ .‬أما نحن في ميدان السلم فالحركة وقوانينها وقواعدها ليست‬
‫إلينا ‪ ،‬وهذا الكلم قلته أكثر من مرة ‪ ،‬قلته حتى مللت من قوله ‪ ،‬وحتى ظن‬
‫المشككون والطاعنون والصائدون في الماء العكر أنني أسكت على مظاهر‬
‫النحراف والنحلل والجرام بحق المة وأدعو الناس إلى ذلك ‪ ،‬وحبذا لو كان‬
‫الذين يطعنون ويشككون أناسا ً يتمتعون بذرة من الشجاعة ‪ ،‬ولكنهم جبناء‬
‫وأذلة وسكان جحور ‪ ،‬ومع هذا فأنا أصر على هذا القول ‪ ،‬وأرى فيه مقطع‬
‫الصواب فيما يتعلق بجوهر الحركة وقانون الحركة الول ‪.‬‬
‫نحن ل نملك أن نسخر مقتضيات الحركة للصداء والرجاع التي تقع في‬
‫نفوسنا ومشاعرنا من جّراء مواجهات الناس ‪ ،‬نحن بشر لنا عواطف تهتاج‬
‫وتثور ‪ ،‬ولكن لو كنا نعمل لحسابنا لكان ذلك مقبول ً ‪ ،‬واذهب أنت وما تشاء‬
‫لنفسك ‪ ،‬ولكن تعمل لحساب دعوة لها امتدادها في الزمان والمكان ‪،‬‬
‫امتدادها في الرض ظهر الكرة الرضية وأنت مخاطب بذلك ونبيك عليه‬
‫الصلة والسلم يقول فيما صح عنه صلوات الله عليه ‪ :‬إن الله زوى لي‬
‫مشارق الرض ومغاربها ‪ ،‬أي جمع لي مشارق الرض ومغاربها حتى نظر‬
‫عليه الصلة والسلم إلى مشارق الرض ومغاربها ‪ ،‬وإن ملك أمتي سيبلغ‬
‫مبلغ ما ُزوي لي من الرض ‪ ،‬أي أن هذا السلم ل بد أن يلف الكرة الرضية‬
‫برمتها ‪ ،‬ذلك وعد غير مكذوب ‪ ،‬ومن شاء أن يغّر نفسه بمظاهر الطغيان‬
‫والباطل والفساد فله ذلك ‪ ،‬فأما نحن المسلمين فنحن نثق بموعود الله‬
‫وبموعود رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ .‬وإذا ً فساحة الدعوة من حيث‬
‫المكان ظهر الرض جميعا ً ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫ومن حيث الزمان فهي موغلة في الزال ‪ ،‬ضاربة في الباد ‪ ،‬أي أنه ما دام‬
‫لهذا الكون عمر فالدعوة قائمة ‪ ،‬وما دام المر كذلك فنحن نعالج أمرا ً‬
‫عظيما ً وكبيرا ً أكبر من ذواتنا وأخطر من عواطفنا ‪ ,‬أبعد مدىً من تحركاتنا‬

‫‪183‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من هذه الدوافع النانية الصغيرة ‪ .‬وإذا ً فقاعدة الحركة ل تسخر لصالح‬
‫العاطفة التي تثور في قلبك وفي شعورك حينما تطارد أو حينما توجه إليك‬
‫إهانة ‪ ،‬لنك مطالب بموقف محدد سلفا ً من قبل الله ‪ ،‬لن الصبر الجميل‬
‫أمر وارد في القرآن مع أوائل ما نزل من القرآن ‪ ،‬من هذا الباب لول سورة‬
‫حينما ذكر الله تعالى رد ّ الفعل على المشركين على أول حديث ألقاه‬
‫الرسول عليه الصلة والسلم إلى المشركين داعيا ً إلى الله قال الله تعالى‬
‫بهذا السلوب التعجيبي ) أرأيت الذي ينهى ‪ ،‬عبدا ً إذا صلى ‪ ،‬أرأيت إن كان‬
‫ه‬
‫على الهدى ‪ ،‬أو أمر بالتقوى ‪ ،‬ألم يعلم بأن الله يرى ‪ ،‬كل لئن لم ينت ِ‬
‫لنسنفعن بالناصية ‪ ،‬ناصية كاذبة خاطئة ‪ ،‬فليدعُ ناديه ‪ ،‬سندعو الزبانيه ( عند‬
‫هذا الحد يكون الله تعالى عرض مشهدا ً لموقف الكافرين الرعن حينما رأوا‬
‫أن ما يدعو إليه محمد عليه الصلة والسلم شيء يخرج على عرف الباء‬
‫والجداد ‪ ،‬وإذا ً فهو شيء مستحق للنكار والرد والصد ‪.‬‬
‫ثم تطور المر بعد إلى محاولت إلى الرد عن هذا الطريق فماذا كان الجواب‬
‫؟ كان الجواب أن الله تعالى تهدد وتوعد ) كل لئن لم ينتهِ ( هذا المخلوق عن‬
‫نهي عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن موالة الدعوة ) لنسفعن بالناصية‬
‫( أي ليسمن النار ناصيته وهي مقدمة رأسه وهي أشرف ما في النسان‬
‫) ناصية كاذبة خاطئة ( وهذا النسان المغرور الذي يتكثر على عبدنا ونبينا‬
‫محمد عليه السلم بالنصار والتباع ليدعً ناديه ) سندعو الزبانية ( فإن ملئكة‬
‫الله جل وعل حاضرين ‪.‬‬
‫لكن المر لم يقف عند هذا الحد ‪ ،‬وهذه هي النقطة التي أريد أن أثيرها‬
‫الن ‪ ..‬موضوع الموقف ذو شقين ‪ ،‬هذا الشق الذي يتوله الله ‪ ،‬والشق‬
‫الخر الذي يجب على النسان أن يحمل أعباءه ‪ ،‬يقول الله تعالى ) كل ل‬
‫تطعه واسجد واقترب ( هذا في أول سورة نزلت من القرآن الكريم ‪ ،‬بعد أن‬
‫بّين الله تعالى أن الموقف بهذا الشكل وأن تولي الله نصرة دينه ونصرة‬
‫عباده المؤمنين أمر غير مشكوك فيه ‪ ،‬لكن يجب أن ل يغيب عن البال أن‬
‫هذه القاعدة لها جانبها البشري الذي إن ُأهمل أدى إلى كوارث رهيبة ) كل ل‬
‫تطعه واسجد واقترب ( فأراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون رد‬
‫الفعل عنده على رعونة المشركين والمارقين سجوده واقترابه من ربه ‪ ،‬أي‬
‫مداومته ومثابرته ومواصلته للطريق الذي أراده الله جل وعل مع التذرع‬
‫بالصبر الجميل والهجر الجميل ‪.‬‬
‫بعد هذا لم يعد ضروريا ً أن تفصل المور بهذا الشكل في كل مكان ‪ ،‬في‬
‫سادس سورة وهي سورة المزمل يقول الله تعالى ) فذرني والمكذبين أولي‬
‫النعمة ومّهلهم قليل ً ( أي دعني ل تشغل نفسك بهم ‪ ..‬دعني مع هؤلء‬
‫المكذبين المتنعمين والمترفين الذين أنستهم أموالهم وشهواتهم أهوال الله‬
‫ل بالسابقين من المم ممن يرونهم رأي العين ‪ ،‬أو يرون‬ ‫جل وعل ‪ ،‬وما ح ّ‬
‫ً‬
‫بقاياهم وآثارهم ) ومّهلهم قليل ً ( أي اصبر وواصل أيضا ‪.‬‬
‫وحينما تأتي السورة لتؤكد هذا المعنى ‪ ،‬ويقول الله تعالى ) والسماء‬
‫والطارق ‪ ،‬وما أدراك ما الطارق ‪ ،‬النجم الثاقب ( نأتي لنستشف المعنى‬
‫الذي نشد به آخر الية إلى أولها ‪ ،‬هذا التناسق العجيب والحكام الغريب من‬
‫ورائه قوة ومن ورائه قدرة ‪ ،‬قوة قادرة وقوة غلبة ) إن كل نفس لما عليها‬
‫حافظ ( هي القدرة التي تفعل كل شيء ) فلينظر النسان مما خلق ‪ ،‬خلق‬
‫من ماء دافق ‪ ،‬يخرج من بين الصلب والترائب ( إن القوة التي عرضت‬
‫نفسها في أوائل السورة هي التي أكرمتك وأعطتك هذه القيمة العالية من‬
‫بين كائنات الله تعالى ‪ ،‬بالرغم من هوان شأنك وتفاهة منشئك ) إنه على‬

‫‪184‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫رجعه لقادر ( هي القوة التي تعيدك بعد أن هرمت وبعد أن بليت ) يوم تبلى‬
‫السرائر ‪ ،‬فما له من قوة ول ناصر ( هناك تعاين القوة معاينة ول يبقى المر‬
‫خبرا ً ) والسماء ذات الرجع ‪ ،‬والرض ذات الصدع ( هذا المظهر الكوني‬
‫المنسق بهذا الشكل المقصود الهادف من ورائه القوة التي عرضت نفسها‬
‫في أول السورة ) إنه لقول فصل ‪ ،‬وما هو بالهزل ( إن القوة التي قالت هذا‬
‫الكلم هي التي ترفعه أيضا ً عن هزل ً كهزل الناس ) إنهم يكيدون كيدا ً ‪ ،‬وأكيد‬
‫كيدا ً ( هؤلء يكيدون وأنا أفعل ما أريد ) فمّهل الكافرين أمهلهم رويدا ً ( بعض‬
‫الناس فهم هذا الكلم فهما ً أعرج ‪ ،‬قلت لكم ل ضرورة لتكرير جميع جوانب‬
‫القضية في كل سورة وفي كل موضع ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫الموقف البشري منظور إليه وملحوظ في الدعوة ‪ ،‬كوننا نمّهل الكافرين ‪،‬‬
‫وكون الله تعالى يمهلهم ول يهملهم ‪ ،‬ل يعني بتاتا ً أن نعفي أنفسنا من‬
‫مشقات العمل ‪ ،‬ل ‪ ،‬موقف السلم يتلخص بالختصار ‪ :‬أنت مخاطب بأوامر‬
‫ومخاطب بنواهي ‪ ،‬أي أنك مكلف بواجبات ‪ ،‬وظيفتك هي قيامك على هذه‬
‫الواجبات ‪ ،‬وقوف عند المر والنهي ‪ ،‬عمل لما هو مأمور ‪ ،‬كف عما هو منهي‬
‫عنه ‪ ،‬وبعد ذلك ل شيء عليك بحال من الحوال ‪ .‬فما تبقى فإن الله تعالى‬
‫هو الذي يتولى ‪ ،‬ويتوله بجهدك الموصول ‪ ،‬لكن حينما نرى بعض الناس‬
‫يكسر إحدى رجلي القضية ليرى أن الله سينصر دينه دون تدخل بشري على‬
‫طلوا الوامر والنواهي فإلى هؤلء نسوق‬ ‫الطلق ‪ ،‬وحتى لو أن الناس ع ّ‬
‫الخطاب ‪ ،‬إلى هؤلء نقول نحن نفهم أن يتحمس النسان ويتهم المتعقلين ‪،‬‬
‫نفهم هذا كل الفهم ‪ ،‬ونرى أن الحماس الزائد أخرج هذا النسان عن سواء‬
‫النظر ول شيء ‪ ،‬ولكن حينما يكون المر أمر اتكالية مقيتة وعجز عن‬
‫المواجهة إلى الحد الذي يصل إلى تعطيل المر والنهي فالمشكلة كبيرة‬
‫جدا ً ‪ ،‬بل مصيبة ول ُيسكت عنها أبدا ً ‪ ،‬المسألة خطيرة جدا ً وخطورتها تتأتى‬
‫من هذا التفلت المستمر والمتصاعد بين الناس ‪ ،‬قام رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم بالدعوة فجهر بها ‪ ،‬وكان قائدها ولم يتخفى ‪ ،‬ولم يخرج خارج‬
‫البلد ‪ ،‬ولم يقل إنني لم أقل كذا ‪ ،‬ولم يقل إنني لم أفعل كذا ‪ ،‬ولم يسكن‬
‫وراء الجدران ‪ ،‬ولم يتنصل من تبعات أفعاله ‪ ،‬طاف النبي عليه الصلة‬
‫والسلم يوما ً في الكعبة فتثاور إليه الناس من المشركين وأخذوا بمجمع‬
‫ردائه وقالوا له ‪ :‬أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ فقال ‪ :‬نعم أنا الذي أقول كذا‬
‫وكذا ‪ .‬وما زالوا به حتى كادوا يقتلونه ‪ ،‬وأمسك به أبو بكر يبكي ويقول ‪:‬‬
‫أتقتلون رجل ً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات ؟ محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم فعل هذا ‪ ،‬والمسلمون معه لم تمضي عليهم في الدعوة سنة إل كانوا‬
‫يزحمون طرقات مكة ويجاهرون بالدعوة إلى الله بين أبالسة الطغيان‬
‫والشرك ‪ ،‬متحملين في ذات الله كل العباء التي ألقاها عليهم ‪ ،‬مواجهين كل‬
‫التبعات التي تترتب على التحرك في اتجاه السلم ‪.‬‬
‫ومضت الدعوة في طريقها متصاعدة ل يأتي ول تطلع شمس إل وهي تسجل‬
‫للمسلمين تقدما ً وانتصارا ً ‪ .‬وتسأل عن السبب فتجده بالخذ الحازم بأوامر‬
‫الله تعالى ونواهيه ‪ ،‬أي بالوقوف مع الواجبات التي ألقاها الله تعالى على‬
‫عاتق النسان المسلم ‪.‬‬
‫ومضت ثلث وعشرون سنة تحقق فيها النتصار الكامل لدعوة الله تعالى ‪،‬‬
‫وحين كان عليه الصلة والسلم يحج بالمسلمين حجة الوداع نزل عليه من‬

‫‪185‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فوق سبع سماوات قول الله تعالى ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم‬
‫نعمتي ورضيت لكم السلم دينا ً ( ‪ .‬هذه قضية من بدهيات السيرة النبوية‬
‫كما هو معلوم ‪ ،‬ونسأل ‪ :‬دعوة السلم في هذا الزمان العجب تعمل وُترفع‬
‫في مشارق الرض ومغاربها ول أجهل قدرة وقوة الخصوم وأنا الذي اكتويت‬
‫بنار ذلك مرارا ً ‪ ،‬أعرف ذلك ولكن يجب أن يعلم كل مسلم أن السلم أقوى‬
‫من كل قوة ‪ ،‬وأن جيوش الرض جميعا ً لو اجتمعت على أن تكسر إرادته‬
‫ت من أشباه الرجال أو ربات الخدور فخير لك أن‬ ‫فلن تكسرها ‪ ،‬ولكن إن كن َ‬
‫ل تتقدم إلى هذا الميدان بإطلق بالمرة ‪ ،‬ذلك ليس مكانك ‪ ،‬وينبغي أن ل‬
‫تضع نفسك في غير مكانك ‪.‬‬
‫إن دعوة السلم تطلق وترفع في كل مكان ومع ذلك فهي تسجل هزائم‬
‫وتراجع ‪ ،‬لماذا ؟ يجب أن يبحث عن العلة بصدق ورجولة وبشرف ‪ ،‬علة‬
‫العلل هي أننا غير صادقين في أخذنا بهذا السلم ‪ .‬نحن حينما نضع قضايا‬
‫السلم أمام أنظارنا وندعي أننا نعمل من أجله نتحرك ومع كل حركة‬
‫حسابان ‪ :‬حساب لله وحساب للدنيا ‪ ،‬حساب للسلم وحساب للذات ‪،‬‬
‫ودائما ً وأبدا ً حساب الذات أرجح وحساب الدنيا أوسع ‪ ،‬وهنا الخطأ ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫إننا حين نسمع الله يقول ) كل ل تطعه واسجد واقترب ( ) وذرني والمكذبين‬
‫أولي النعمة ومّهلهم قليل ً ( وما قاله الله هنا يجب أن نعلم أن الله أراد منا‬
‫أن نأتي بالمطلوب منا وبالواجب علينا ‪ ،‬ودائما ً الواجب علينا محدود‬
‫ور حينما قامت دعوة السلم‬ ‫الطريق ‪ ،‬ومحسوب في علم الله تعالى ‪ ،‬تص ّ‬
‫وبثها عليه الصلة والسلم في جنبات مكة ‪ ،‬ألم يكن في إمكانه صلوات الله‬
‫عليه أن يستخدم العشائرية والقبلية وأعراف الجاهلية ؟ وإذا كنتم اليوم‬
‫ترون القبلية والعشائرية تمد عنقها وتؤثر تأثيرا ً بارزا ً في مجرى حياة الناس ‪،‬‬
‫فثقوا أن القبلية والعشائرية كانت تفعل هذا مضروبا ً وعشرات اللوف ‪،‬‬
‫كانت القبلية تستطيع أن تحسم المور ‪ ،‬لكن على كل حال ليس لصالح‬
‫السلم ‪ ،‬بل لتدعيم القبلية والعشائرية ‪ .‬وكان المسلمون يقفون متعجبين‬
‫مذهولين من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه العداء ‪ ،‬البلء‬
‫ينصب عليهم انصباب المطر ‪ ،‬والرسول عليه الصلة والسلم آخذ ٌ بحجزهم‬
‫وممسك بهم كي ل يفلتوا ويوصي بالصبر والثبات ول يسمح برفع اليد ول‬
‫يسمح برد الساءة ‪ ،‬والله تعالى وصف هذه الحالة العصيبة بأنها حالة‬
‫تستيئس معها حتى الرسل ‪ ،‬حينئذ يأتي أمر الله ويأتي بالنصر ‪.‬‬
‫لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح بالعراك والقتال والمهاترة إذا ً‬
‫لضربت هذه النباتات من أول الطريق ‪ ،‬ولكن المسلمين كانوا يأخذون‬
‫بالعزائم عبادة وأخلقا ً وسلوكا ً وتطهيرا ً لمسالك الدراك والفهم ‪ ،‬ومع التقدم‬
‫تتنامى قواهم وتتصاعد قوى المشركين وهي دائما ً تمشي في خطين‬
‫متوازيين ‪ ،‬ولكن عموما ً تجد أن الشرك في مواجهة السلم يقف عاجزا ً‬
‫باستمرار ‪ ،‬لماذا ؟ لن المسلم ل يواجه الموقف الجديد إل بعد أن يكون قد‬
‫تسلح له بالسلح الملئم له القادر على أن يتغلب على مشقاته وعقباته ‪.‬‬
‫طرحت في ميدان التعامل الواقعي نماذج المسلمين التي ُرّبيت‬ ‫وبهذا فحينما ُ‬
‫طرحت هذه النماذج في بدر وفي‬ ‫وصهرت على نار التجربة في مكة ‪ ..‬حينما ُ‬
‫أحد وفي سائر معارك السلم أثبتت جدارتها وثبت لنا وللناس قاطبة أن‬
‫الجيش المسلم كان ل يعد بضع ألوف ‪ ،‬وكان يقابل مئات اللوف فيتغلب‬

‫‪186‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عليه ويحطمها وينتصر عليها ‪ ..‬لي سبب ؟ هذا رجل وهذا رجل ‪ ..‬ولكن‬
‫المسألة في هذا الشوط الطويل الذي قطعه السلم وهو يبني هذه اللبنات‬
‫تربية وبناًء مؤسسين على أمر الله جل وعل معزولين عن كل العواطف التي‬
‫تثور في النسان حينما يتصدى له الخصوم ‪.‬‬
‫وإذا ً ‪ ..‬فالله تعالى حينما يريد منا هذا يريد شيئا ً هينا ً وداخل ً في طوقنا‬
‫وإمكاننا ‪ ،‬قم بواجباتك وأدِ التكاليف عليك ‪ ،‬ل شك أنك ستغيظ ناسا ً ولكن ل‬
‫ض ‪ ،‬حينما تتصاعد هذه الموجة من الغضب في قلوب العداء‬ ‫تبالي ‪ ،‬ام ِ‬
‫ً‬
‫ت طورا أعلى وهكذا بغير انتهاء ‪.‬‬ ‫المارقين عن أمر الله تكون أنت قد بلغ َ‬
‫والله تعالى قال ) لن يضروكم إل أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الدبار ثم ل‬
‫ُينصرون ( العداء حينما ُتربى المة بهذا الشكل الهادئ المنظم القائم على‬
‫أمر الله المؤسس على قواعد الحركة بل على قاعدة الحركة الولى لن يبلغ‬
‫العداء من المسلمين حد الضرار ‪ ،‬والضرار ماذا ؟ الضرار هو أن تضر حتى‬
‫تلتصق بالرض فل تستطيع أن تتحرك ‪ ،‬وأما الذى فل بد أن تسمعه ول بد أن‬
‫تلقيه ‪ ،‬فهذا شيء مفروغ ) لن يضروكم إل أذى ( ولكن حين يجد ) وإن‬
‫يقاتلوكم يولوكم الدبار ثم ل ينصرون ( ما أريد قوله باختصار ‪ ..‬نصيحة‬
‫صادقة من القلب للخوة جميعا ً ‪ ،‬عار علينا أن نخدع أنفسنا ‪ ،‬أما أن نخدع‬
‫الله فذلك شيء ل سبيل إليه ‪ ،‬عار علينا أن نخدع أنفسنا ‪ ،‬نحن محتاجون‬
‫إلى مزيد من الصدق مع الله ‪ ،‬محتاجون إلى مزيد من الوفاء لوامر الله‬
‫ونواهي الله جل وعل ‪ ،‬وبغير هذا فلو أن البواق زرعت على ظهر كل منزل ‪،‬‬
‫شقت حناجرهم من النداء فل نصر ول تقدم ‪ .‬إن للنصر‬ ‫ولو أن أهل الرض ُ‬
‫وللتقدم شروطا ً إذا أغفلت كانت الكارثة ‪ ،‬وإذا أعملت كان النصر بإذن الله ‪،‬‬
‫ونحن نرجو الله جل وعل أل يخزينا وإياكم وأن يشرح صدورنا بهذا النور‬
‫العظيم المبين ‪،‬نور السلم ‪ ،‬وأن يرشحنا وان يؤهلنا لحمل هذه الدعوة‬
‫ووراثة النبي صلوات الله عليه وخدمة هذه المة وصلى الله تعالى على‬
‫سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(9 /‬‬

‫تفسير سورة العصر‬


‫)‪(1‬‬
‫الجمعة ‪ 26‬ذي الحجة ‪ 17 / 1396‬كانون الول ‪1976‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ،‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فنحن اليوم مع سورة جديدة من القرآن المكي المبكر ‪ ،‬ولقد كنت في‬
‫الماضي أحسب أن الحديث عن هذه البواكير أمرا ً هينا ً ل يستدعي كد الذهن‬
‫إلى درجة عالية ‪ ،‬حتى اكتشفت في هذه المسيرة أن المسألة ل يقوم بها إل‬
‫الفذاذ من الناس ‪ ،‬وكنت أقدر أن هذا الكتشاف يكون آخر شيء ‪ ،‬لكن‬
‫الطريق مليئ بالمفاجآت ‪ ،‬ولقد كشفت أيضا ً علوة على أن هذا الطريق‬
‫مسِعد هو أيضا ً مؤلم ‪ ،‬والله يعلم وحده أنني أواجه هذه المواقف الخيرة مما‬
‫تحدثنا عنه قبل أسابيع وما نستأنف الحديث عنه اليوم وبعد اليوم وكأن‬
‫السكاكين تمزق أحشائي تمزيقا ً ‪ ،‬ليس شيئا ً مهما ً أنك تسير وتخطئ ‪،‬‬
‫ل الذي ل يخطئ ‪ ،‬ولكن المؤلم حقا ً أن‬ ‫فالخطأ من طبيعة النسان ‪ ،‬وج ّ‬
‫تعرف أنك تخطئ ‪ ،‬ذلك شيء مؤلم ‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن هذه المة التي تعيش على هذا الكوكب والتي أكرمها الله بالسلم وزانها‬
‫وأعلى قدرها ونوه بذكرها بمحمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ترث أمرا ً عظيما ً ‪،‬‬
‫ترث مسؤولية الجنس البشري برمته ‪ ،‬وإنه يكون قدرا ً لزما ً أن تظل‬
‫النسانية كلها تخبط في بيداء التيه والضلل والحيرة والضياع إلى أن يأذن‬
‫الله لهذه المة أن تلتقط طرف الخيط لتسير مع هداية الله مبتغية خير‬
‫البشرية ‪ ،‬ومتى ؟ هنا موضع اللم ‪ ،‬إنه ل شيء مجهول ‪ ،‬فالسلم بحمد الله‬
‫واضح ‪ ،‬خاطب الناس يوم كان الناس يقرون على أنفسهم بالجهل والعجز‬
‫دل من‬ ‫فأفاد منه الناس وفهموه ‪ ،‬كان للعقول نور وكان للخلق زكاة ‪ ،‬وع ّ‬
‫جبك من هذا الزمان أن الناس بعد أن‬ ‫مسار البشرية تعديل ً جوهريا ً ‪ .‬والذي ي ُعَ ّ‬
‫اتسعت معارفهم وارتقت مداركهم واستبحرت تجاربهم ما يزالون بعداء جدا ً‬
‫عن الطريق ‪ ،‬لماذا ؟ أهذا الكلم الذي فهمته العرب يوم كانت على جاهليتها‬
‫جز الناس أن يفهموه اليوم بعد أن انتشرت هذه العلوم ؟ ل ‪ ،‬وآية ذلك أنك‬ ‫ُيع ِ‬
‫تقرأ الجملة من آيات القرآن على النسان المي الذي ل يقرأ ول يكتب‬
‫فينفعل معها ويتحرك لها ويفهم عنك ‪ ،‬ثم إذا قلت له يا أخا السلم انهض‬
‫وتحرك ‪ ،‬ربطته أثقال الشهوات إلى الرض فأحس أنه ل يستطيع أن يستقل‬
‫على قدميه ‪ ،‬إنها الشهوات إذا ً ‪ ،‬إنه العمى أو إنه أخطر من العمى ‪ ،‬إنه‬
‫الضيعة وراء ضللة قريبة يمكن للنسان بعزمة صغيرة أن يقضي عليها وأن‬
‫يتجاوزها ‪.‬‬
‫َ‬
‫كلما وقفت أحدثكم شعرت بألم ‪ ،‬أَلم الذي يدري كل شيء ‪ ،‬ألم الذي يتمثل‬
‫بقول القائل في الخرافة المشهورة ) في فمي ماء وهل ينطق من في فيه‬
‫ماء ( أعرف كل شيء ‪ ،‬وليس المصيبة أننا نحاول فنخطئ فتلك سنة‬
‫الحياة ‪ ،‬لكن المصيبة أننا نحاول ونعرف أننا سنخطئ ‪ ،‬تلك مصيبة ضخمة ‪،‬‬
‫تحتاج منا إلى أشياء كثيرة ‪.‬‬
‫وح أمام أنظار المة بصورة‬ ‫َ‬
‫هدفنا كله من استعراض بواكير الدعوة أن ن ُل ّ‬
‫ت ‪ ،‬ل نقول نريد‬ ‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫الحركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم فنجح وأفل َ‬
‫أن ننقل تلك التجربة بحذافيرها وبحروفها بالحجم التي كانت به إلى هذا‬
‫الزمان عبر القرون المتطاولة ‪ ،‬ل ‪ ،‬لكن من فضل الله على المة وعلى‬
‫النسانية التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم هي جملة قواعد يمكن أن‬
‫توضع موضع التنفيذ والتطبيق في أية بيئة ‪ ،‬وفي أي زمان ‪ ،‬ومهما يكن‬
‫المستوى العلمي والثقافي ومهما تكن درجة الحضارة التي توضع في قواعد‬
‫السلم موضع التطبيق فتنجح وتثمر وتؤتي أكلها ‪.‬‬
‫إننا نواجه اليوم سورة صغيرة ‪ ،‬وجيزة اللفاظ ‪ ،‬قصيرة الفواصل ‪ ،‬يقرأها‬
‫القارئ فتخف على لسانه ‪ ،‬فيسمعها فل تؤود سمعه ‪ ،‬ولكنها في الميزان‬
‫عظيمة ‪ ،‬إنها سورة العصر ‪ ،‬يقول الله تعالى ) والعصر ‪ ،‬إن النسان لفي‬
‫خسر ‪ ،‬إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (‬
‫إنها قصيرة ‪ ،‬لكن أمتنا يوم كانت أمة ‪ ،‬ولكن رجال السلم يوم كانوا رجال ً ‪،‬‬
‫يوم كانوا يقدرون لهذه السورة قدرها ويعطون مكانتها حقها ‪ ،‬كان المام‬
‫ح عنه ‪ :‬لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم ‪ .‬أي‬ ‫الشافعي يقول فيما ص ّ‬
‫لكفتهم ولغنتهم عن سائر القرآن ‪ .‬وكان الرجلن من أصحاب محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم يلتقيان إذا التقيا فيسلم أحدهم على صاحبه ول يفارقه حتى‬
‫يقرأ أحدهما على الخر هذه السورة ‪ ،‬كالتذكرة والتنبيه على الواجب‬
‫المترتب على النسان المسلم وعلى المة المسلمة ‪ .‬وهذا كله يكشف لنا‬
‫عن درجة التقدير التي حظيت بها هذه السورة ذات اليات القلئل والفواصل‬
‫القصيرة ‪ ،‬لكن المثقلة بالمعاني ‪ ،‬الحبلى بالقضايا الخطيرة ‪ .‬هذه السورة‬

‫‪188‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لها جوها الخاص ‪ ،‬ومن الظلم لها أن نتحدث عنها معزولة عن جوها الخاص ‪،‬‬
‫ل بد أن نعود إلى الوراء ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫سبق أن قلنا ونحن نستعرض سورة الفجر وما قبلها بقليل إن ملمح الطريق‬
‫التي تتجه نحوها حركة السلم بدأت تتضح ‪ ،‬إنه يطرح على بساط البحث‬
‫عدد من الخيارات حينما تقوم حركة ما تجد نفسها أمام عدد من الطرق‬
‫يمكن أن تسلك هذا أو هذا أو ذاك ‪ ،‬والنسانية تعرف وعرفت من قبل‬
‫وتجرب في كل يوم جديدا ً من هذه التجارب ‪ ،‬عرفت ما سبق من قبل أن‬
‫ل كبيرة مرت في هذه الدنيا ومضت كانت تتلمس الحق وتجهد‬ ‫ُألهمت عقو ٌ‬
‫من أجل الوصول إليه ‪ ،‬وقد توفق إلى بعض منه وقد ل توفق ‪ ،‬ليس هذا‬
‫مهما ً ‪ ،‬لكنها عقليات وتيارات فكرية ومذاهب فلسفية ونماذج وأنماط‬
‫سياسية أو اجتماعية يتخيلها المتخيلون ممن أعفوا أنفسهم من مشقات‬
‫الكفاح والكدح والمعاناة والصبر والمصابرة ‪ ،‬فكانت كلمات ضائعة في الهواء‬
‫‪ ،‬ليس لها رجع على أرض الواقع ول أثر ‪ ،‬ذلك ما يعرف في التاريخ النساني‬
‫بالمدارس والمذاهب الفلسفية ‪ ،‬وكانت أيضا ً مع هذا وبعد تجارب النبوات‬
‫السابقة دروسا ً غنية بالمواعظ تشير إلى مواطن الداء وتصف الدواء وتشير‬
‫إلى أسباب النهوض بالمم وتصف السباب التي أدت إلى النتكاس وعجز‬
‫المم عن مجاراة الفاق العالية التي كانت تتخاطب معها النبوات السابقة ‪.‬‬
‫وجاء السلم فتحا ً جديدا ً وكلما ً معجزا ً ولكن معه أيضا ً نبوة معجزة ‪ ،‬وكان‬
‫من أول شيء هدي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حياة النسانية‬
‫ليس كلما ً يقال ولكنه معاناة تعاش ‪ ،‬وليس تصورات يتخيلها الذهن ولكنه‬
‫ي موصول ‪ ،‬وأما ما وقع في أذهان الذين مضوا من قبل وما يقع‬ ‫م ٌ‬
‫مجهود ٌ ي َوْ ِ‬
‫في أذهان الناس تحت ضغوط متباينة ومتعددة من أن الفصل بين المعرفة‬
‫وبين العمل ‪ ،‬بين العلم والممارسة اليومية شيء ل ينبغي أن ينزل في‬
‫قاموس السلم ‪ ،‬إن العلم والعمل قرينان ‪ ،‬بل إن العمل هو المقصود‬
‫لذاته ‪ ،‬والعلم مصباح ودليل وإشارة يكشف لك جنبات الطريق كي ل تضل‬
‫ول تضيع ‪ ،‬وهذا التفاعل المستمر والخذ والعطاء بين والعلم والعمل هو‬
‫قوام هذه العملية التي تستهدف اجتماعيا ً إغناء التجربة النسانية ورفع الواقع‬
‫النساني من مستوى الحيوانية التي تدنت إليه هذه البشرية في سلسلة‬
‫النحدار المتسارعة يوما ً بعد يوم ‪.‬‬
‫ولكن هل هذه البداية تكفي ؟ قلنا إن الحركة السلمية كان أمامها عدة‬
‫خيارات ‪ ،‬كان يمكن أن تسلك هذا الطريق أو ذاك ‪ ،‬ولكنها حركة قيدت من‬
‫أول يوم بيد الله سبحانه وتعالى ‪ ،‬وكان الوحي حارسها الذي ل ينام ورقيبها‬
‫الذي ل يغفل ‪ ،‬كل خطوة مسددة بأمر الله تعالى ‪ .‬كان يمكن أن يصرخ‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم في العراء لكي يخرجوا من تلك الحالة الزرية‬
‫التي كانوا فيها قبل السلم ‪ ،‬ما معنى أن يكون آلف الناس ضائعين في هذه‬
‫الصحراء المؤلمة ؟ ما معنى أن تكون أمة برمتها ذات تجارب وأبناؤها‬
‫أصحاب عقول وأرباب حساسيات ومشاعر عالية ؟ ما معنى أن تسخر هذه‬
‫القوى وأن تجمد هذه المواهب والطاقات لتوضع في خدمة فارس أو توضع‬
‫في خدمة الروم ؟ وإلى متى يظل العرب في بيدائهم وفي صحرائهم أجراء‬
‫لدى فارس والروم ولدى القوياء من أمم الرض ؟ كان يمكن أن يصرخ‬
‫محمد عليه الصلة والسلم بهذا النداء أن يا أمة العرب توحدي ‪ ،‬وأن يا أمة‬

‫‪189‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫العرب عزي بعد ذل ‪ ،‬وارتفعي بعد هبوط ‪ ،‬وسودي بعد هوان ‪ .‬وممكن والله‬
‫أعلم أن تستجيب له بعض القلوب والعقول ‪ ،‬ولكن لم يكن يخطط لشيء‬
‫من هذا القبيل ‪.‬‬
‫قلنا من قبل إن النسانية بلغت في نضجها الحد الذي أصبح جديرا ً بها أن‬
‫تأخذ زمام مصيرها بين يديه ‪ ،‬وأن هذا الوحي الذي جاء به محمد صلوات الله‬
‫عليه آخر شيء تسمعه الرض من السماء وبعد الن فعلى النسان أن يعتمد‬
‫على نفسه ‪ ،‬وعلى البشرية أن تحسن الفادة من هذا الوحي الكريم ‪،‬‬
‫والسلم جاء بهذه المفادة ‪ ..‬رسالة ليس فقط لهذه المة التائهة الضائعة‬
‫وإنما للناس كافة ) قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ً الذي له‬
‫ملك السماوات والرض ( وصدق رسول الله عليه الصلة والسلم إذ يقول له‬
‫ويشير إلى ما فرق الله به بينه وبين النبياء السابقين إذ كان النبي يبعث إلى‬
‫قومه وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫لكن ‪ ،‬هنا يبرز سؤال ‪ :‬أليس من الجائز كأحد من الخيارات المطروحة أمام‬
‫الدعوة أن نعتبر أن هذه الرسالة للناس عامة ‪ ،‬ل بأس ‪ ،‬ولكن ما الذي يمنع‬
‫أن تكون هذه المة التي جاء السلم ونزل القرآن على رجل منها وكان‬
‫الوحي بلسانها ولغتها وخوطبت قبل الناس كافة بهذا الخطاب ‪ ،‬ما الذي يمنع‬
‫أن تتولى هذه المة قيادة البشرية جميعا ً وأن تكون لها الريادة بالنسبة إلى‬
‫الحضارة النسانية عامة ؟ وإذا رجعنا إلى مقررات السلم ولكي ُيعَرف أن‬
‫هذا السلم يقاد بالوحي يتبين للدارسين أن هذه الخطوات الولى تتنافى مع‬
‫النهايات التي انتهى إليها ‪ ،‬لكي يتبين هذا ‪ ،‬علينا أن نعرف أن السلم حين‬
‫نظر إلى الواقع البشري وضع أصبعه على مرض خطير وداء فتاك يعذب‬
‫البشرية ويقلقها بالفناء والدمار ‪ ،‬هو هذا التمايز ‪ ،‬التمايز بين أبناء المة‬
‫الواحدة مرفوض في نظر السلم ومدان ‪ ،‬وهو أيضا ً بين المم مرفوض ‪،‬‬
‫كيف ل تقبل أنت أن يكون أخوك ابن أمك وأبيك متميزا ً عليك ‪ ،‬كذلك أنت ل‬
‫تقبل أن يكون ابن بلدك متميزا ً عليك ‪ ،‬إل بما مّيز الله وبما فضل ‪ ،‬وكذلك‬
‫أنت ل تقبل أن يكون ابن وطنك متميزا ً ‪ ،‬وكذلك غير مقبول في الساحة‬
‫السلمية أن يتمايز الناس بعضهم على بعض وأن تعلو المم بعضها على‬
‫بعض‪.‬‬
‫إن السلم يغلق الباب نهائيا ً ومن أول الطريق في وجه هذا النازع الخبيث أن‬
‫ة‬
‫تكون أمة هي أربى من أمة ‪ ،‬أن يستعلي فريق على فريق ‪ ،‬أن تستذل أم ٌ‬
‫ة أخرى ‪ ،‬فالنبي عليه الصلة والسلم ل يمكن في أية صورة أن يأخذ هذا‬ ‫أم ً‬
‫الطريق ‪ .‬هذا شيء يجب أن ُيعرف ‪.‬‬
‫عرفنا السلم بغاياته العليا بأهدافه البعيدة ‪ ،‬ما هي الخطوات التي يجب أن‬
‫نتبعها ؟ كذلك هنا خيارات متعددة ‪ ،‬ولكي يعرف إخواننا وأخص منهم‬
‫المثقفين ثقافة عصرية أن الخيارات كثيرة ‪ ،‬ألفت نظرهم إلى الساحة‬
‫المعاصرة ‪ ،‬كم من الساليب والطرق موجودة بين يدي الناس ‪ ،‬إن الفقه‬
‫السياسي اليوم وإن علم الجتماع المعاصر ليزخران بالطرائق والساليب‬
‫التي يخطط بها الناس للوصول إلى الهداف والغايات التي يريدونها ‪ ،‬لكن‬
‫أمامنا طريقين واضحين ‪ ،‬سوف أشير إليهما مجرد إشارة فقط لكشف‬
‫للناظرين عمق التباين بين وجهة نظر السلم ووجهة نظر الناس ‪.‬‬
‫عندنا طريق معروف ‪ ،‬في التراث الشرقي في الهند وما واله ‪ ،‬وهذا‬

‫‪190‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الطريق تمّثل على أكمل ما يكون في سلوك غاندي ‪ ،‬هذا الرجل رأى أنه ل‬
‫ضرورة للعنف ول داعي لستعمال السلح ‪ ،‬ورأى كذلك أن المسألة هذه‬
‫ليست مسألة مرحلية وإنما هي مسألة مبدئية ونهائية ‪ ،‬وكان سلوك الرجل‬
‫إقرارا ً بالحقيقة واعترافا ً بالواقع ‪ ،‬كان سلوك الرجل متطابقا ً على أعلى ما‬
‫يكون مع ما يؤمن به ‪ ،‬لقد قارع الستعمار النكليزي في بلده كما قارع‬
‫الستعمار في جنوب أفريقيا يوم كان محاميا ً هناك بهذه الروح وبهذه‬
‫العقلية ‪ ،‬لقد أفلح في أن يهز دعائم المبراطورية البريطانية يوم كانت أقوى‬
‫طرد النكليز من الهند ‪ ،‬وبالفعل‬‫إمبراطورية عدوانية على وجه الرض ‪ ،‬و ُ‬
‫يعود ذلك إلى هذا السلوك الفذ الذي سلكه غاندي وسار عليه ‪ ،‬ولكن ذهب‬
‫هو ضحيته على يد شاب مجهول أرعن أطلق عليه النار وهو يصرخ بدعوة‬
‫السلم ‪.‬‬
‫هذا خيار من الخيارات المعاصرة كانت المدارس الماركسية الرد المقابل‬
‫له ‪ ،‬وطرحت شعارا ً هو في ظاهره صحيح ولكن قيادته حتى النهاية مشكلة‬
‫ومستحيلة ‪ ،‬إن الثورة لكي تكون ناجحة يجب أن تكون ثورة مسلحة لسقاط‬
‫السلطة المسلحة ‪ ،‬تلك موضوعة ل شك أنها صادقة حينما ننظر إليها نظرة‬
‫أولية ‪ ،‬وكل المرين كان يمكن أن ُيسلك في ذلك الزمان حينما اتجه محمد‬
‫عليه الصلة والسلم بالدعوة إلى الناس ‪ ،‬كان يمكن أن يسلك طريق السلم‬
‫باعتباره مبدأ ً ل يجوز الخلل به ‪ ،‬وكان ممكنا ً أن يسلك سبيل العنف وكان‬
‫قادرا ً على ذلك ‪ ،‬كان سبيل العنف أقرب السبل وأدعاها إلى أن يفلح وأن‬
‫يؤتي ُأكله حينما ننظر إلى المسألة بمناهج قريبة ومبسطة إلى حد البتذال‬
‫والسفاف ‪ ،‬يمكن ذلك ‪ ،‬ما زلنا حتى اليوم وفي القبائل العربية في الرياف‬
‫وفي البادية أنه حينما يحصل اعتداء على فرد من أفراد القبيلة فإن كل‬
‫أقاربه يثورون من أجله ويدافعون عنه دون أن يسألوا أنفسهم لماذا هم‬
‫يحملون السلح ولماذا يريقون الدماء ؟ وكما كان الشاعر العربي في القديم‬
‫يقول مادحا ً قومه ‪:‬‬
‫ل يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهان‬

‫)‪(3 /‬‬

‫كان يمكن أن يتحّرش محمد صلى الله عليه وسلم بقبائل قريش ول سيما‬
‫بعد أن دخل في دين الله أناس من قبائل متعددة كان يمكن أن يوعز إلى‬
‫أتباعه بأن يسلكوا طريق العنف ‪ ،‬ويكفي أن يقع قتيل أو قتيلن في مكة لكي‬
‫تتقاتل الحياء مع بعضها ‪ ،‬ولكي تقع الدماء أنهارا ً ‪ ،‬ولكن تكون في النهاية‬
‫فتنة عمياء ‪ .‬أذلك كان يمكن أن يأخذ به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ل ‪،‬‬
‫لماذا ؟ السلم غريبة مفاهيمه في هذه اليام لن قعقعة الدعاوي الحديثة‬
‫بالمناهج والنظم المستحدثة أوقرت السماع فلم تعد تسمع إل قعقعة السلح‬
‫‪ ،‬والعصر الحاضر طرح على البشرية مشكلة من أخطر المشاكل وهي‬
‫مشكلة هوان النسان ‪.‬‬
‫إن النسان الثوري يتحدث عن الدماء والقتل وعن السفك وعن العنف بلذاذة‬
‫وبنشوة دونها نشوة الخمر حين تلعب برؤوس الشاربين ‪ ،‬فمن أجل ذلك‬
‫حينما نتحدث عن مناهج السلم وقواعده في العمل وفي التطبيق نجد هذه‬
‫الغربة ونحس في نفوسنا هذا اللم العميق ‪.‬‬
‫إن السلم يوم أن نظر أيها الحباب إلى موضوع المستقبل النساني نظر‬
‫إليه متسلحا ً بشعور ل ينطفئ بضخامة المانة التي بين يديه ‪ ،‬إن مستقبل ً‬

‫‪191‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ممتدا ً في الزمان والمكان ينتظر الناس ‪ ،‬وإن أي خلل في البناء يوشك أن‬
‫يقع البناء على رأس البناة وساكني البناء ‪ ،‬فمن أجل ذلك كان السلم دقيقا ً‬
‫منذ البداية في وضع لبناته الولى ‪ ،‬وأخذ النفس النسانية من مقادها الصحيح‬
‫‪ .‬إننا نجد في العنف والقهر والسلطان ول سيما في الزمان الذي وضع أيدي‬
‫الدولة حوله حول ً وطول ً ما عرفناها من قبل وسخر لها إمكانات العلم وهي‬
‫إمكانات مخيفة ‪ ،‬وأمكنها من أن تتغفل الشعوب وتقودهم في طرق ل تريدها‬
‫ول تحبها ‪ ،‬في هذه اليام نعرف إلى أية درجة كان السلم حكيما ً ‪ ،‬يمكن‬
‫تحت قهر السلطة وقوة السلح أن نبني المم وأن نشيد البناء ونعليه ولكن‬
‫ذر الفناء ومقدمات الموت‬ ‫عوامل السوس والدمار موجودة ‪ ،‬وهي ن ُ ُ‬
‫موجودة ‪ ،‬إن إمكانية النقضاض على السلطة والثورة في وجه السلطة‬
‫قائمة ‪ ،‬والفكر السياسي المعاصر الذي يعرفه الشباب المثقفون اليوم أن‬
‫السلطة مهما تتمتع به من طرق ورفعة وتجرد في الغاية فإنه مع الزمن‬
‫يصيبها بما ُيعرف في الفقه السياسي بتسلم السلطة كيف يدخل تسلم‬
‫السلطة إلى الجسم فيقتله ويميته ‪ ،‬كذلك السلطة حينما تجد أنها تملك‬
‫القدرة على كل شيء تصاب بالستئثار الذي يجعلها تحتقر الشعب ول تلقي‬
‫له بال ً ‪ ،‬ترى أنه مجموعة من الوباش والمغفلين والتافهين والمجانين وأنه‬
‫سلعة رخيصة يمكن أن تشتريها بدريهمات معدودة ثم تسوقها سوق النعام‬
‫كما يسوق الراعي بعصاه ‪ ،‬بل كيف يوضع فحل الغنم مربوطا ً إلى ذيل حمار‬
‫فيقود الغنم كلها ‪ ،‬كذلك يمكن للسلطة أن تفعل ‪ ،‬يتصورون هذا ‪ ،‬إل أنه نجد‬
‫عَبر التاريخ الصارخة جميعا ً تكشف عن ثمة نقطة هي‬ ‫أن حوادث التاريخ ‪ِ ،‬‬
‫نقطة النفجار ‪ ،‬ل يمكن أن تساس النسانية بالقهر ‪ ،‬ل يمكن أن تصبر‬
‫النسانية على الغلبة بحال من الحوال ‪ ،‬وتتحطم السلطة ولكن متى ؟ بعد‬
‫أن تكون قد دمرت كل شيء وأفسدت كل شيء ‪ .‬ما هي الضمانة التي بحث‬
‫ة أولى في‬ ‫عنها السلم والتي وجدها السلم والتي وضعها السلم كان كلم ً‬
‫نهجه البنائي ؟ هي النفس النسانية ‪ ،‬ضمانتنا من أجل سلمة البناء في‬
‫المستقبل البعيد والقريب على حد ٍ سواء أن يستقيم النسان على طريق الله‬
‫تبارك وتعالى وأن يرّبى النسان هذه التربية التي تجعله قادرا ً على أن يرى‬
‫وأن يعتنق الحق وأن يقف مع الحق وأن يضحي من أجل الحق وهذه تكاليف‬
‫ل يستهين بها أحد من الناس ‪.‬‬
‫فمن أجل ذلك رأينا في السيرة التي قطعناها من قبل ‪ ،‬أن السلم أضرب‬
‫عن هذا الطريق ‪ ،‬ولكنه حين أضرب عن طريق العنف وإثارة الفتن والبؤر‬
‫الثورية فإنما أضرب عنها نزول ً عند قاعدة أصيلة من قواعده في البناء ‪،‬‬
‫وإنما أضرب عنها من أجل قاعدةٍ أخرى تربوية ‪ ،‬إنما ونحن نبني ونحن نسير‬
‫ماذا ندري ؟ ندري في المراحل الولى أن نعد ذلك الصنف من الرجال الذي‬
‫يستحق أن يوصف بأنه أمين على مستقبل النسان ‪ ،‬نحن نعد ذلك الصنف‬
‫من الناس الذي نثق أنه أمين على حقائق الوحي ‪ ،‬لقد رأينا من قبل في‬
‫تجارب النبوات السابقة أن الكهنة والحبار والرهبان خانوا مبادئ السماء‬
‫حّرفوا كلم الله واشتروا به ثمنا ً قليل ً فبئس ما يشترون ‪ ،‬ونحن نرى أن‬ ‫فَ َ‬
‫خدع الناس‬ ‫خدع الناس بظواهرهم و ُ‬ ‫مقاليد السلطة وضعت في أيدي رجال ُ‬
‫بما يبدو من لين قولهم ومعسول كلمهم حتى إذا ملكوا كل شيء طرحوا‬
‫عن ظهورهم جلد الضأن ليلبسوا جلود الذئاب ‪ ،‬كل ذلك كان ‪ ،‬ما الذي يفتقر‬
‫إليه هذا الصنف من الناس؟ هذه التربية الرائعة البليغة التي سلكها محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كان عمله عليه الصلة والسلم يتواكب ‪ ،‬حين كان‬
‫ذب النفس البشرية ‪ ،‬كان يبني المجتمع السلمي ‪.‬‬ ‫يه ّ‬

‫‪192‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫قلت قبل اليوم كان من جملة ما يمكن أن يفكر به رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ما ل يزيد عن ذهن أحد أن يشكل حزبا ً ‪ ،‬اسخروا ما شئتم أن‬
‫تسخروا ‪ ،‬ما الذي يأتي بخاطر الحزب في ذلك الزمان ؟ لكنه كان واردا ً ‪،‬‬
‫ولكن المسألة ل تحلها الحزاب ‪ ،‬إنها حينما نتصور تصورا ً من هذا النوع‬
‫فسوف ننتهي إلى نتائج راهنة نحن في غنى عن الفاضة في شرحها ولكن‬
‫نشير إلى أن الحزب قانونه الساسي الذي يتحكم به هم القلة ‪ ،‬فالحزب في‬
‫كل أمة قلة في وسط كثرة ‪ ،‬الحزب الشيوعي في روسيا في عام ‪1917‬‬
‫حينما نجحت الثورة الروسية كان يعد مائتي ألف إنسان منظم ملتزم بالحزب‬
‫وسط مائة وخمسين مليون من الناس ‪ ،‬فهو قلة قليلة ‪ ،‬وهذا شأن كل حزب‬
‫‪ .‬حينما تتوفر ظروف الحكم ‪ ،‬ودعونا من التفسير المادي والحتميات التي ل‬
‫معنى لها والكلم الفارغ الذي تفلسف به هذه المور ‪ ،‬دعونا مع الواقع ‪ ،‬إن‬
‫فرصا ً تعرض أثناء مسيرة المجتمع ينتهزها بعض الذكياء فيقفزون على‬
‫السلطة في غفلة عن الخرين ‪ ،‬وحينما يضعون مفاتيح السلطة في أيديهم‬
‫يفعلون ما يحلو لهم عند هذه النقطة تبدأ المشاكل إلى أن يكون الستيلء‬
‫على السلطة فالمر طبيعي ‪ ،‬ولكن المور تكون غير طبيعية والمشاكل تبدأ‬
‫عند هذه النقطة ‪ .‬إن الحزب يعاني دائما ً هذا الشعور الناتج عن إحساسه بأنه‬
‫قلة في وسط كثرةٍ تعاديه ‪ ،‬ماذا يفعل ؟ إنه مضطر للمحافظة على ذاته‬
‫والمحافظة على بقائه ‪ ،‬تلك غريزة المحافظة على الحياة والبقاء ‪ ،‬غريزةٌ‬
‫مشروعة وحيوية يحس بها حتى حيوان الميبيا ذي الخلية الواحدة حينما‬
‫تحرضه يستجيب للتحريض دفاعا ً عن نفسه ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫فغريزة حفظ الذات تجعل الحزب حريصا ً بل حساسا ً غاية الحساسية في‬
‫هذه القضية إنه محتاج إلى أن يحافظ على بقائه ‪ ،‬إنه حين يفّرط في بقائه‬
‫ينتحر ويموت ‪ ،‬فهو إذا ً بحاجةٍ إلى البقاء ‪ .‬ماذا يفعل القليل بين الكثير ‪،‬‬
‫ل‬‫يفرق ويمزق ويضرب صفوف الناس بعضها ببعض كي يوقع الناس في خبا ٍ‬
‫حتى يتبين خطوات أخرى ‪ ،‬يركز بها نفسه أكثر ‪ .‬وهكذا دوامة ل أفظع منها‬
‫ول أبشع منها ول أخطر منها ‪ .‬كل الكرة الرضية الن تعاني من هذه الزمة‬
‫وهي موجودة بحمد الله يعرفها القاصي كما يعرفها الداني ويعرفها المثقف‬
‫كما يعرفها قليل الثقافة ‪ .‬فالسلم لم يكن أمامه سبيل كي يختار هذا‬
‫الخيار ‪ ،‬إطلقا ً ‪ ،‬لن المسألة حينئذ تتصادم مع جلة المعطيات التي جاء بها‬
‫السلم ‪ ،‬كل معاني الخوة والمساواة والعدالة تذهب هباء حينما تكون‬
‫القضية قضية دفاع عن الذات ‪ ،‬قضية محافظة على البقاء ‪ ،‬قضية حياة أو‬
‫موت ‪ ،‬فأنا مضطر إلى أن أعطيك وأشتري ولءك ‪ ،‬وأنا مضطر إلى أن‬
‫أجاملك وأغضي عن سيئاتك ‪ ،‬وأنا مضطر إلى أن أتحمل منك ما يحتمل وما‬
‫ل يحتمل ‪ .‬وتاريخنا السلمي بالذات في مراحله البعيدة مليئ بالشواهد على‬
‫هذا ‪ ،‬لقد وجدنا في تاريخنا عددا ً من الخلفاء يكسرون قواعد السلم‬
‫ليشتروا النصار والعوان ليسكتوا أفواه الخصوم ‪ .‬هذا شيء طبيعي فهل‬
‫كان السلم يستطيع فعل شيء كهذا ؟ ل‪ ،‬إذا ً ماذا ؟ هنا السؤال ‪ ،‬السؤال‬
‫الذي حارت النسانية فيه فعل ً منذ كانت النسانية ‪ ،‬وجاءت النبوات جميعا ً‬
‫لتتمخض عن هذه التجربة العالية التي جاء السلم ليدعم بناءها ويشيد‬

‫‪193‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أركانها ‪ .‬ماذا يفعلون ؟ إن القوة الصغيرة ضمن المجتمع الكبير ل تستطيع‬


‫أن تهيمن وتسيطر إل على جبال من الشلء والجماجم وإل على أنهار‬
‫وسيول من الدماء ‪ .‬هذه موضوعة صادقة مائة بالمائة في تاريخنا المعاصر‬
‫وفي التاريخ القديم ‪ ،‬ولكن كل الحركات التي بدأت بدايات من هذا النوع‬
‫انتهت إلى فشل ذريع وإلى عاقبةٍ محزنة ‪ ،‬لنها أغفلت أن تبدأ منذ الساس ‪.‬‬
‫إننا حينما نبني البناء بناًء صحيحا ً سوف نصل إلى ما نريد ‪ ،‬أول شيء رأيناه‬
‫دها عبر اللم والمتاعب والصبر‬ ‫ُيطرح علينا أن نمسك بزمام أنفسنا فنع ّ‬
‫والمصابرة لكي تكون قادرةً على الوقوف في وجه الصعوبات مهما تكون‬
‫هذه الصعوبات ‪ ،‬من أجل ذلك كانت مرحلة الدعوة الولى ابتداًء من أول‬
‫الوحي ‪ ،‬وانتبهوا يا إخواني من الشباب كي ل تزل بكم القدم في متاهات لها‬
‫بداية وليست لها نهاية ‪ ،‬كان السلم يأخذ نفسه وأتباعه بأن يبني هذا خلل‬
‫مرحلة الدعوة من أول النزول وإلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫لقد كانت المسيرة تمشي وكان عدد المسلمين يزداد وكان السلم ينتشر‬
‫وكان صوته ُيعرف بين القبائل ‪ ،‬وكان المسلمون خلل ذلك يتحملون‬
‫المتاعب ويتعرضون لللم ‪ .‬وكثير ما جاء أصحاب الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم يقولون له ‪ :‬يا رسول الله أنت ترى كذا وترى كذا وأنت أنت الكريم‬
‫على الله يصيبك من أذى أعداء الله ما يصيبك إئذن لنا لنقاتل ولندفع عن‬
‫أنفسنا ‪ ،‬فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم حاسما ً قاطعا ً كالسيف ‪ :‬إن‬
‫من كان قبلكم كان يؤتى به فيمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد‬
‫وكان يربط إلى الشجرة ويؤتى بالمنشار فيشق نصفين ما يصده ذلك عن‬
‫ن الله هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى مكة ل‬ ‫دين الله والله ليتم ّ‬
‫يخاف إل الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ‪ .‬كانوا يطلبون منه أن‬
‫يسمح لهم أن يردوا العتداء عن أنفسهم ‪ ،‬غريزة الدفاع عن النفس ‪ ،‬كان‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم يمسك عليها بيد من حديد ويلجمها إلجاما ً ل‬
‫يسمح لها أن تتحرك ويقول لهم ‪ :‬لم يأذن الله لنا بالقتال ‪ .‬أكانت عين الله‬
‫نائمة عن هذا البلء الذي يسلط على أحبابه ‪ ،‬الذين عبدوه ‪ ،‬هذه الفئة‬
‫القليلة التي آمنت به ‪ ،‬على هذه الرقعة من الرض التي ل يوجد غيرها تعبد‬
‫ل وعل يراها ويسمع ويعلم وهم بعينه ‪ ،‬ولكن الله‬ ‫الله وتوحد الله ؟ الله ج ّ‬
‫يعلم وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه النفوس التي ُتعد ّ الن في‬
‫بحار من الدماء خلل الكوارث والهوال ‪ ،‬خلل الصعوبات والمشقات ‪ ،‬خلل‬
‫الذى الذي ينصب عليهم في الصباح والمساء وما بين ذلك ‪ ،‬هذه النفوس‬
‫ُتعد ّ لستلم زمام الحياة ‪ ،‬وُتعد ّ للقوامة على الجنس البشري برمته ‪ ،‬وأنها‬
‫محتاجة لن تطهر من الدران وأن تطهر من الشوائب ‪ ،‬وأن القتال ل يؤذن‬
‫به إل للضرورة التي يحسها الطبيب حين يشعر أن العلة ل يجدي معها العلج‬
‫ول بد ّ أن يتدخل سكين الجراح ‪ .‬ولهذا نحن نجد أن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم منع منعا ً باتا ً من استعمال العنف ‪ ،‬وبعد الهجرة حين تكونت للمسلمين‬
‫دولة وقامت لهم أمة أنزل الله عليهم ) أذن للذين يقاَتلون ( وليس ـ يقاِتلون‬
‫ـ ) بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم‬
‫ل وعل بعد خمس‬ ‫وأموالهم بغير حق إل أن يقولوا ربنا الله ( أذن الله ج ّ‬
‫عشرة سنة من هذا البلء الواصب ومن هذا العذاب الشديد أذن‬

‫)‪(6 /‬‬

‫‪194‬‬

You might also like