Professional Documents
Culture Documents
غسان كنفاني
الهإداء
غسان
مقدمـــــــة
جرت العادة أن يحصل النتاج الوأل ليأ كاتب على " جوأاز مروأر " للقارئ ...كلمة لقلم مشهوأر
تتصدر الكتاب..أوأ جمل موأجزة على ظهر الغلفا ،أوأ حملة دعائية وأاسعة يشترك فيها الكاتب
وأالناشر وأأصدقاء الطرفين ،يحكوأن فيها كيفا خلقت القصص ،وأكيفا نزفها القلم المجروأح ،وأكيفا..
وأكيفا..
أنا أؤمن أن الكتاب يجب أن يقدم نفسه ،إوأاذا عجز عن إحراز جزء من طموأح كاتبه ،فعلى الكاتب أن
يقبل ذلك ببساطة ،كما قبل ـ مرات وأم ار ت ـ أن يمزق قصص ا ليعيد كتابتها ..أوأ يكتب سوأاهإا..
وأهإكذا ) فموأت سرير رقم ،( 12أدفعها لتشق طريقها ،إن استطاعت أن تهتديأ إلى أوأل الطريق،
بنفسها ،دوأن " شفاعة " وأدوأن " وأساطة " وأدوأن " جوأاز مروأر "..
حتى هإذه الكلمة ،يجب أن ل تكتب لوأل أنني أردت منها شرح نقطة وأاحدة..
مجموأعة القصص قسمتها إلى ثالثاة أقسام ..وألم يكن الهدفا من ذلك ملحقة التطوأر الزمني،
فبعض القصص قي القسم الوأل كتبت في فترة زمنية أتت في أعقاب القصص التي كتبت في القسم
ل ..وألكن الهدفا من هإذا التقسيم هإوأ الفصل بين ثالثاة أنوأاع من القصص ،إذا عجزت هإي
الثاالث مثا ا
نفسها عن توأضيح الفرق بينها ،فلن تستطيع هإذه الكلمة الموأجزة أن تفعل..
وألبد أيضاا ،وألوأ بدا ذلك غريبا بعض الشيء ،أن أرسل عزائي إلى العائلة المجهوألة التي فجعت
بموأت ابنها " محمد علي اكبر " الذيأ مات بعيدا ،وأحيدا ،غريبا ،على السرير رقم ،12وأهإوأ ينزفا
عرقا نبيلا في سبيل لقمة شريفة..
غسان كنفاني
القسم الوأل
كل صوأر عدد كانوأن الوأل من المجلة الهندية "أ "..كانت رائعة ،وألكن أروأعها بل شك صوأرة ملوأنة
لبوأمة مبتلة بماء المطر ..وأتكمن كل روأعها في لحظة اللقطة الموأفقة ،وأفي براعة الزاوأية ..وأاهإم
من هإذا كله :في اصطياد النظرة الحقيقية للبوأمة المختبئة في ظل ليل بل قمر .
كنت في غرفتي :غرفة عازب بجدران عارية تشابه إحساسه بالوأحدة وأالعزلة ..أرضها متسخة
بأوأراق ل يدريأ أحد من أين جاءت ،وأالكتب تتكدس فوأق طاوألة ذات ثالث قوأائم رفيعة ،أما القائمة
الرابعة فلقد استعملت يدا لمكنسة ما لبثات أن ضاعت ..وأالملبس تتكوأم فوأق مسمار طوأيل حفر
عدة ثاقوأب بظهر الباب قبل ان يرتكز نهائيا في ثاقبه الحالي .
قلت لنفسي وأأنا أشد بصريأ إلى صوأرة البوأمة الرائعة :
-يجب أن تعلق هإذه الصوأرة على حائط ما ..فذلك يكسب الغرفة بل شك شيئ ا من الحياة
وأالمشاركة ...
-ألصقت الصوأرة بالفعل على الحائط المقابل للسرير ،وأأطرتها بوأرقة بنية كي تنسجم مع الحائط
بشكل من الشكال ،كان العمل الفني ،إذن ،قد أخذ سبيله إلى الغرفة وأكان لبد أن اغبط نفسي
على التقاط هإذه الصوأرة .
عندما آوأيت لفراشي في منتصفا الليل فاجأتني الصوأرة ،كان ضوأء الغرفة خفيف ا بعض الشيء ،
وأقد يكوأن هإذا هإوأ السبب الذيأ من اجله بدت لي الصوأرة في غاية البشاعة ،كان رأس البوأمة اكبر
من المعتاد وأكان يشبه شكلا رمزيا لقلب مفلطح بعض الشيء ،أما المنقار السوأد فلقد كان معقوأفا
بصوأرة حادة حتى ليشبه من منجلا عريض النصل ،وأالعينان كانتا مستديرتين كبيرتين يختفي
أعلهإما تحت انحناءة الحاجبين الغاضبين ،كان في العيني غضب وأحشي ،وأكانت النظرة – رغم
ذلك – تحتوأيأ خوأف ا يائس ا مشوأب ا بتحفز بطوألي وأتشبه إلى حد بعيد نظرة إنسان خضع فجأة للحظة
ما ،عليه أن يختار فيها بين أن يموأت ،أوأ أن يهرب كان الوأجه مخيف ا وأبدا أن العيوأن المستديرة
اللماعة باماضة حية ،كانت تحدق عبر صمت الغرفة ،وأتخترق برعشتها الحية جمجمتي ،وأتقوأل
بصرير حار :
-أتذكر ؟ ..لقد التقينا مرة قبل الن
أطفأت الضوأء الشاحب ،وأدفنت رأسي في الغطاء الموأسخ بعرق الصيفا اللزج ،وأرغم ذلك ،فلقد
كنت أرى العينين الغاضبتين الخائفتين تخترقان الظلمة وأتحدقان في ،كان وأجه البوأمة المتحديأ
لضغط لحظة ليس فيها سوأى الختيار بين الموأت وأالفرار مائلا في رأسي كأنني لم احوأل نظريأ عنه
بعيدا ،ملحاحا ،غضوأبا يتمسح باشمئزاز ساخر ،وأعبثاا ذهإبت كافة المحاوألت التي بذلتها لسلخ
الصوأرة عن رأسي ،كانت شيئ ا قد دخل إلى الغرفة العاريـة ،وأعلى إحساسي ،وأتمزق الصمت
الميت تحت الصرير الحاد الذيأ كان ما يزال ينحدر من المنقار السوأد المعقوأفا :
-لقد تقابلنا مره قبل الن ...اتذكر ؟ !
شعرت فجأة بأنني أعرفا هإذا الوأجه تماما ،وأأني أرتبط معه بذكرى يجب أن ل تمحى ،نعم ،أنا
أعرفا تينك العينين الحادتين الغاضبتين الصامدتين للحظة اختيار مخيفة ..لكن أين تقابلن ؟ متى ؟
كيفا ؟
لقد بدا كل شيء مغلفا بضباب متكاثافا ،وأرغم ذلك كانت ثامة ذكرى تلتمع من بعيد ،إل أنها كانت
غامضة مغرقة في البعد ،هإناك سد كثايفا يحوأل دوأن رأسي وأتلك الذكرى ،وأكان لبد من التذكر .
فعينا البوأمة الغاضبتين تبعثاان دفقة إحساس حاد في نفسي بأننا قد تعارفنا قبل الن ..وألكن متى
؟ وأكيفا ؟ وأأين ؟ .
نهضت من فراشي إذ تيقنت استحالة النوأم تحت تلك الوأطأة وأأضأت المصباح ثام وأقفت أما الصوأرة
الملوأنة :العيوأن هإي ،لم تزل ،تطل غاضبة وأاسعة مغروأسة في الوأجه المفلطح العجيب .
وأالمنقار المعقوأفا كنصل عريض لمنجل أسوأد ،لم يزل ،يطبق بعنفا على ضرب من الشمئزاز
الساخر ،وأالريش الرماديأ الملوأن بحمرة وأقحة يتجمع خصلا كصوأفا قذر بعد أن ابتل بماء المطر .
سقطت الذكرى ،بعد فترة ،فاصلة مدوأية صاخبة فأوأرثاتني دوأارا مفاجئ ا ،وأالتمعت خلل الضباب
المتكاثافا كل الشياء التي ذكرتني بها البوأمة المخيفة ،وأبدا لي أننا نعرفا بعضنا جيدا .
***
كان ذلك قبل عشر سنوأات على وأجه التقريب ،كنت في قريتي الصغيرة التي تتساند دوأرهإا كتف ا إلى
كتفا فوأق حاراتها الموأحلة ،أذكرهإا الن أشباح ا تتلمح منذ زمن بعيد ،كنت طفلا آنذاك ،وأكنا
نشهد ،دوأن أن نقدر على الختيار ،كيفا كانت تتساقط فلسطين شبرا شبرا وأكيفا كنا نتراجع شبرا
شب ار .كانت البنادق العتيقة في أيديأ الرجال الخشنة تمر أمام أعيننا كأساطير دموأية ،وأأصوأات
القذائفا البعيدة تدلنا أن معركة تقع الن ،وأأن – ثامة – أمهات يفقدن أزوأاجهن ،وأاطفال يفقدوأن
آباءهإم ،وأهإم ينظروأن عبر النوأافذ ،صامتين ،إلى ساحة الموأت .
ل اعرفا في أيأ يوأم وأقع الحدث ،حتى ابي أيضا نسي ذلك ،كان اليوأم المشؤوأم ،كان أكبر من
أن يتسعه اسم أوأ رقم ،لقد كان في حد ذاته علمة من علئم الزمن الكبيرة ،من تلك التي توأضع
في مجرى التاريخ كي يقوأل الناس " حدث ذلك بعد شهر من يوأم المذبحة " ..مثالا ..كان يوأما من
تلك اليام ل شك ،إوأال لكنا حشرناه تحت رقم اوأ تحت اسم أوأ تحت عنوأان .
لقد بدأ الهجوأم قبيل منتصفا الليل وأقال أبي الشيخ لمي فيما هإوأ يتنكب بندقيته الثاقيلة :
-انه هإجوأم كبير هإذه المرة ..
وألقد عرفنا ،نحن الصغار من أصوأات الطلقات أنه هإناك أسلحة جديدة وأأن هإناك هإجوأما من ناحية
أخرى لم تطرق قبل الن ..وأان قنابل حارقة قد سقطت في وأسط القرية فأحرقت بيت ا وأأطفال ،
وأحين نظرنا من خصاص النافذة الوأاطئه شاهإدنا كمن يحلم – أشباح نسوأة منحنيات يسحبن جثاثا ا
إلى داخل القرية ،وأكان يستطيع المستمع بإمعان أن يلتقط صوأت نشيج مخنوأق :إحداهإن – هإكذا
كانت تشير أمي – فقدت زوأجها وأصموأدهإا في آن مع ا .
بعد ساعة من الهجوأم المباغث ،تراجع رجالنا ،كانت جهنم قد صعدت إلى ظهر قريتنا ،وأبدا لنا
أن النجوأم أخذت تتساقط على بيوأتنا ،وأقالت امرأة مرت تحت شباكنا تسحب جثاة وأتلهث :
-انهم يقاتلوأن بالفؤوأس ..
وأقتال الفؤوأس لم يكن غريب ا على رجال قريتنا ،فلقد كان الفأس هإوأ سلح الوأاحد منهم بعد أن تتقيأ
بندقيته كل ما في جوأفها ،فكان يحملها على كتفه زاحفا فوأق الشوأاك الجافة ،ثام يشاهإد
المحاربوأن من خنادقهم الرطبة شبح انسان راكع ،يرفع كلتا يديه فوأق رأسه ما وأسعه ذلك ،وأبين
كفيه يتصلب فأسه الثاقيل ،ثام يهوأيأ الفأس ،وأيتصاعد صوأت ارتطام عريض مخنوأق ،وأيبتلع
الظلم أنة ممدوأدة يعقبها شخير عنيفا ،ثام يصمت كل شيء .
لقد بدأ قتال الفؤوأس إذن ،هإذا يعني أن الرجال قد تلحموأا ،وأأن جثاثانا كثايرة قد ضاعت في خطوأط
العداء مطبقة أكفها بتشنج عنيد على الفأس ،وأاضعة أنوأفها براحة مطلقة على التراب الطيب ،
وأمستلقية بهدوأء .
بدأت قريتنا تنكمش ،وألم يعد هإناك أيأ عمل للشيوأخ غير أن يعوأدوأا إلى بيوأتهم ،وألقد شاهإدنا أبي
يعوأد منهكا ،وألكنه لم يضع أية لحظة بل توأجه لتوأه على درج عتيق كان محظوأ ار علينا القتراب
منه وأتناوأل مسدسا صغي ار دفعه لمي بعد أن تأكد من حشوأه ،وأأشار لها بعينيه تجاهإنا ،أنا
وأأخوأتي ،وأقفل عائدا إلى الشارع .
كانت أختي الكبيرة قد فهمت كل شيء ،فأخذت تبكي دافنة رأسها في كفيها ،بينما ارتعشت أمي
وأهإي تحمل المسدس على راحتها وأتتوأجه إلى النافذة ،في تلك اللحظة قرع باب عتيق كان يفصل
بيننا وأبين جيراننا – وألم نكن نستعمل ذلك الباب على الطلق – وأصاح صوأت العجوأز ،جارنا ،
راجفا _ :افتحوأا ..افتحوأا ..
أز الباب أزيزا رفيع ا إذ سحبته أمي فاندفع العجوأز إلى الغرفة خائف ا ،وأأجال بصره فينا ،ثام توأجه
لمي وأهإمس في أذنها كلم ا أبدت استنكارهإا له ،ثام عاد فهمس بحماس اكثار .فترددت أمي ثام
هإزت رأسها موأافقة ،وأأشارت إلي أن أتبع العجوأز إلى بيته ..
دخلت خلفا العجوأز إلى غرفة دافئة مفروأشة ببسط ملوأنة .وأأخذت أراقبه فيما هإوأ يحرك ستارة ،
وأيتناوأل من وأرائها صندوأقا صغي ار يضعه برفق بين ذراعي ،شعرت أن الصندوأق أثاقل من ما يبدوأ
فتساءلت برأسي وأاتاني الجوأاب من فمه الدرد :
-هإذه قنابل كان المرحوأم ابني خبأهإا هإنا .
وأهإز رأسه بأسى ،وأانتبهت لكلمة ) المرحوأم ( التي لم تكن تستعمل قبل ذلك في هإذه الغرفة ،وأل
في بقية الغرفا ،فراوأدني شعوأر بالخوأفا بينما استمر الشيخ :
-يوأشك اليهوأد أن يدخلوأا القرية ..إوأاذا وأجدوأا هإذه عنديأ قامت قيامتهم !
وأتباطأت كلماته ،وأبدأ يحرك إصبعه في وأجهي حركة تحذير :
-أنت صغير ،وأتستطيع أن تخترق الحديقة ..أريدك أن تدفن هإذا الصندوأق في أخرهإا ..تحت
شجرة التين الكبيرة ..ربما احتجنا له فيما بعد ..
سرني أن أشارك بعمل بطوألي ،فاندفعت إلى خارج الباب ،وأعندما وأجدت نفسي في الطريق إلى
الحديقة تملكني خوأفا رهإيب ،وأحدثاتني نفسي ،وأهإي ترتجفا أن ألقي حملي الثاقيل وأأقفل عائد ا
أدراجي ،لكني تنبهت إلى أن أمي لشك تطل من نافذتها وأتشاهإدني ،كانت السماء شبه مضاءة
بقنابل اللهب ،وأكانت الش اررات تلتمع في الفق راسمة خطوأطا مقطعة ا منتهياة بضوأء ساطع ،وأفي
لحظات الصمت المخيفة التي كانت تتبع كل دفقة نار كانت تسمع أصوأات ما تبقى من رجالنا تغني
على طريقتها في المعارك غناء يبدوأ كأنه يتصاعد من عالم آخر ،عالم يموأت فيه النسان وأهإوأ
يعض على بقية الغنية الحلوأة ،ثام يتمها هإناك في السماء .
اخترقت الحديقة منحني ا ،وأكانت الطلقات تمس أعلى الشجر بصفير خافت ،وأكانت التينة العجوأز
تنتصب في آخر الحديقة عندما وأصلتها شعرت بحماسة غامضة ،وأأنشأت أحفر في الرض
مستعينا بعوأدة صلبة ،وأفي اللحظة التي أسقطت فيها الصندوأق بالحفرة ،سمعت صيحة حادة في
أعلى الشجرة ..وأتملكني خوأفا أسقط ركبتي إلى الرض وأأخذت أحدق مرتجف ا عبر الغصان ..ثام
شاهإدتها ،على ضوأء اللهب المتصاعد في سماء قريتنا ،تقفا هإناك وأتحدق إلي بعينين وأاسعتين
غاضبتين أخفى أعلهإما انحدار الحاجب عليهما ..كان منقارهإا معقوأف ا كمنجل اسوأد ذيأ نصل
عريض ،وأرأسها الكبير كصوأرة قلب رمزيأ مفلطح يتمايل بانتظام ،كان ريشها مبتلا بماء المطر
الذيأ انهمر في أوأل الليل ،وأكان يوأمض في عيوأنها ذلك الغضب المشوأب بخوأفا غريب ،وأكانت
تحدق إلي عبر الظلمة ،تحديقا متوأاصلا ل يرتعش .
هإدأ الرعب في صدريأ ،وأعدت إلى عملي حتى إذا أكملت أنشأت أنظر إلى البوأمة بإمعان ،كانت ما
تزال على وأضعها الوأل وأكان ضوأء القنابل المباغت يعطي لعيوأنها ظللا مرعباة ،وأبدت لي أنها
مصرة على وأقوأفها المتحديأ ،وأأنها سوأفا تبقى رغم كل الرصاص وأالموأت.
عدت أدراجي إلى البيت ببطء وأهإدوأء فلقد زايلني كل خوأفا كنت أحسه قبل أن أراهإا ..ثام لم املك إل
أن أتوأقفا هإنيهة وأأعوأد إلى النظر إليها ،كانت ما تزال تحرك رأسها المفلطح بتحذير إنساني عميق
،وأعلى إماضة قنبلة بعيدة ،شاهإدت في عينيها ذلك التحديأ الباسل ،الخائفا بعض الشيء ،
وألكن الصامد لضغط لحظة اختيار وأاحدة بين الفرار وأالموأت .
***
وأأوأشك الصبح أن يطلع وأأنا في وأقفتي أمام الصوأرة الملوأنة الملصوأقة على الحائط العاريأ ..لقد
أنهكتني الذكرى وألكني أحسست بارتياح غريب فجأة ،فهأنذا ألتقي بالبوأمة الغاضبة بعد غيبة
طوأيلة ! وأأين ؟ في غرفة منعزلة مترامية تتنفس بوأحدة مقيتة ،بعيدا عن قريتي التي كانت تعبق
برائحة البطوألت وأالموأت ،وأكانت البوأمة ل تزال ملصوأقة على الحائط تحدق في ،عبر زمن متباعد
وأينحدر منقارهإا المعقوأفا صرير حاد :
-آيه أيها المسكين ..هإل تذكرتني الن ؟؟ !
شيء ل يذهإب
القطار اللهإث يصعد الطريق الجميل إلى طهران ...قال لنا مفتش القطار قبل ان نغادر عبدان أن
علينا أن نحرس أنفسنا ،فالطريق طوأيل ،وأاللصوأص ينتهزوأن فرصة حلوأل الليل ..كي يمارسوأا
طريقتهم الخاصة في الحياة ..
قررت أن ل أنام ..فثامة كتاب ملوأن أستطيع أن أقرأه في الليل ...كتاب ألفه إنسان كان يحس أكثار
من اللزم ،وأيفهم أكثار من اللزم ...وأمقصوأرتي في القطار متوأاضعة ..ايرانية جميلة تجلس في
المقعد المقابل تفحصني كي تستكشفا في اللص ،لم تطمئن إلي بعد ...وأعجوأز ،قد يكوأن أباهإا ،
سقط في النوأم قبل أن يخفق القطار بالرحلة الطوأيلة ...وأصديق هإادئ يجلس إلى جانبي يستعرض
الطريق ..أحسن ما في هإذا الصديق أنه ل يثارثار ،إوأاذا تكلم ...فاللغة العربية ..
أحسن طريقة كي أحرس نفسي وأمن معي ،كما أوأصانا المفتش السمين الذيأ يعرفا سبع كلمات
عربية ،أن ل أنام ...لقد أبدى المفتش السمين قلقه علي ...فأنا نحيل ذوأ وأجه اصفر قد ل
أستطيع أن أسهر ..وألكنني قلت له إنني استطيع ..وألم افهم نكتته اليرانية التي ضحك لها طوأيلا
وأهإوأ يغمز مشيرا إلى الحسناء ..بينما احمر وأجه الخيرة ..وأصعدت القاطرة مع وأالدهإا العجوأز ..
قال لي صديقي ان وأجه اليرانية ل يعجبه بتات ا ..وأأنها تشبه الدكتوأر مصدق ..الذيأ لوأ كان امرأة
لما كان بديعا قط ...وأهإكذا اعتقد صديقي أنه إذا سنح له الحديث مع الحسناء فسيكوأن سيد
الفرصة بل غريم ...بعد ان اطمأن إلى أنه اقنعني بملحظته ...
كنت في الحقيقة لأرغب في الكلم ..كان الكتاب بديعا ..طباعته انيقة ،وأصوأره فذة ..وأكلماته
ليست سوأى غطاء بئر سحيق ،إذا ما تمكنت من رفعه ،فسوأفا لن ترى القاع البعيد مطلق ا ..
كان الكتاب يحمل اسم عمر الخيام ..
وأقيمته بالنسبة لي هإي أنه أشير مره إلى رباعية فيع بالقلم الرصاص ..وأضعتها الفتاة التي
أحببتها ..الرباعية تقوأل :
" آه أيها الحب ..لوأ أستطيع أنا وأأنت أن نتفق مع القدر ..كي ندمر هإذا الطابع الوأحيد للعالم ..
إلى قطع صغيرة صغيرة ..
ثام نعيد بناءه من جديد ..كما تشتهي قلوأبنا "..
فتحت على تلك الصفحة دوأن أن أشعر ..فرائحة الطريق الطوأيل بدت مثايرة ..كانت الدائرة
المرسوأمة حوأل الرباعية بالقلم الرصاص تكاد ان تختفي .لقد مرت سنوأات ثامان على اليوأم الذيأ
رسمت فيه هإذه الدائرة ..وأرغم ذلك فأنا لن انساهإا مطلقا ..
ل أريد أن أنام في القاطرة ..ل لحرس نفسي ..بل لستعيد اللحظات الضبابية لما حدث قبل ثامان
سنوأات ..لقد بدأت العتمة تهبط ..وأبدا لوأهإلة ان صوأت العجلت المنتظمة ..موأسيقى غريبة تدفع
بهذا الراس المرهإق ..إلى الماضي ..
***
اطمأنت اليرانية الحسناء أخي ار إلى أنني لست لصا ،أوأ لست لصا خطي ار على القل ..فاستسلمت
لففاءة قلقة ..وأبقي صديقي يحدق في الطريق المعتم دوأن أن يكفا عن التحديق في الحسن النائم
أيضا ..
كانت ليلى تطلب مني أل انظر إليها عندما تنام ..كانت تعتقد أن تقاطيع وأجهها تكوأن صادقة
عندما تفقد التحكم بها ..وأهإي ل تريد أن أعرفا شعوأرهإا الحقيقي تجاهإي ..تخافا أن أصبح
مغروأرا ..
لم يكن اسمها ليلى ..كنت ادعوأهإا ليلى لنها كانت تدعوأني ) قيسا ( ..
دارنا في حيفا لم تكن بعيدة عن دارهإا كثاي ار ..خلفا أوأل منعطفا يقع على يمين دارنا ،ليس عليك
سوأى أن تعد أربعة أبوأاب ثام تصعد بناية بيضاء إلى الطابق الثاالث ،فستجد بيت ليلى ل محالة ..
إذا لم تكن هإذه البناية قد تهدمت بعد قصفا حيفا ،فل شك أن ليلى ما زالت تسكن هإناك ..
لقد خرجت من حيفا قبل أن تسقط في يد اليهوأد ..وألم امسك بندقية في حياتي قط ..كان الشارع
الطوأيل الذيأ ينصب فيه شارعنا هإوأ ميداني الوأحيد ..كنت مشهوأ ار في ذلك الشارع بأنني احدى
علماته ،وأكان شباب حينا يقوألوأن " :إذا اردت ان ترى خيريأ ،ففتش على اجمل فتاة في الشارع
تجده خلفها ".
قالت لي ليلى لعد أن تعرفت عليها جيدا ا :أنت رجل مائع يا خيريأ ..وألكنك لست هإكذا في حقيقتك
..وألهذا أعتقد انني ساحبك .
كانت ليلى من نوأع آخر ..وألكنني لم اكن اعرفا ذلك في أيام تعارفنا ..كنت أعرفا أنها تخفي شيئا
ما ..وألكنني لم أكن اعلم ان تلك الفتاة الناعمة ..كانت تقوأم بعمليات نسفا ،يعجز عن تصوأرهإا
رجل متوأسط الشجاعة .وألم تقل لي ذلك مطلق ا إل بعد الحادث المؤؤوأم الذيأ وأقع .
في الحقيقة ،انني لم اكن أعرفا من هإوأ عمر الخيام ،وأهإي التي علمتني عنه اشياء كثايرة ..كنت
اعجب بصوأر كتابه أكثار من اعجابي برباعيته التي كنت اعتقد أنها هإذيان إنسان مريض بنزلة
صدرية حادة ..
الحب العنيفا ،الذيأ كانت تسميه دوأامة تغوأص في مستنقع ،لم يستطع ان ينسيها القضية ..بل
كانت تتعذب في سبيل أن تفهمني أن حياتنا ليست شيئا ..وأانها تبلغ ذروأة قيمتها لوأ قدمت من
اجل سعادة آلفا عيرنا ...
وأعندما فهمت أوأل رباعية من رباعيات الخيام ،قلت لليلى إن هإذا الرجل إنسان انهزامي ..كنت
سعيد ا بهذا الكتشافا ،وأقلت في ذات نفسي يوأمها أن ليلى ستكوأن فخوأرة بي ...وألكنها لم تقم
بما يدل على انها فخوأرة ..قالت لي وأهإي تشير إلى الكتاب " :النسان الذيأ يحس أكثار من اللزم
،خير من النسان الذيأ ل يحس بالمره " ...
هإذا " النسان الذيأ ل يحس بالمره " استطعت أن افهم مؤخ ار انه انا ..وألم أغضب يوأم أكتشفت
ذلك ..إذ كانت قصتي مع ليلى قد انتهت يوأمذاك .
ض:
لكن ليلى تغيرت فيما بعد ..إذ انه في الوأقت الذيأ كان يناضل فيه بعض الناس ،وأيتفرج " بع ض
آخر ،كان هإنالك " بعض " أخير يقوأم بدوأر الخائن ..
وأبوأاسطة هإذا النوأع الخير من الناس ،قبض اليهوأد على ليلى وأهإي تحاوأل القيام بعمل لم اتمكن
من معرفته قط .وأعادت بعد تسعة ايام كاملة ..وألم تستطع أن تحفظ حياتها إل بعد مجموأعة ل
أحد يدريأ كيفا حدثات ..
اللحظة التي قابلتها فيها بعد عوأدتها من " :الهادار " لم تزل راسخة في ذهإني ..كنت اتوأقع أن
اراهإا تبكي ،أوأ ترتجفا ..إذ كنت قد سمعت من أفوأاه كثايرة قصص الليالي الفظيعة التي امضتها
في السجن ..وألكنني عندما رايتها كانت هإادئة هإدوأءا مخيفا ..لم يعد في عينيها أيأ بريق ..فقط
وأجه حزين صامت .
قالت لي بصوأت منخفا هإادئ :
-لقد ضاجعوأني طوأال تسعة ايام ..
لم استطع أن اقوأل شيئ ا ..بل لقد خيل إلي أنها قالت " :لقد كنت اصلي طوأال تسعة ايام " ..
شعرت أن الكلمة التي يمكن أن أوأاسيها بها شيء حقير ..ل قرار لحقارتها أبدا ..وأانتشلت
الموأقفا بكلمة أخرى :
-يحسن بك أن تتركني ..انا امرأة مهترئة ..
***
كان القطار قد وأصل إلى محطة تقع في ثالث الطريق ..وأبدأ يئز أزيزا مزعج ا كي يقفا ..صحت
اليرانية الحسناء وأبدأت تتزين من جديد ،ما زال العجوأزنائم ا ،وأصديقي يحدق بالطريق لقد مرت
امامي أشجار صغيرة ...ثام بدأ رصيفا المحطة مضاء بانوأار باهإتة ينسحب امام النافذة ...
على الرصيفا لمحت طفلا في السابعة من عمره تقريبا ،كانت ملبسه ممزقة ،وألكنها نظيفة ..
كان يعد القاطرات باصبعه وأهإي تمر من امامه ببطء .كان يعد باللغة العربية ..
أشار صديقي إلى الطفل ...وأاصغينا سوأية إلى صوأته الدقيق .
-ستة ..سبعة ..ثامانية ..
هإز صديقي رأسه وأقال باقتضاب :
-عربستان ...
وأتاسفا قليلا ،ثام هإبط من القاطرة يبحث عن طعام .
الطفل السمر جميل الطلعة ..كان يبيع أشياء للتسلية ،وألكنه بدا أنه نسي وأظيفته وأهإوأ يراقب
القطار الطوأيل ..وأكان يبدوأ منهك ا ..استدعيته إلى نافذتي وأسالته بالعربية :
-ماذا تبيع ؟..
قال وأهإوأ يتسلق النافذة :
-وأأنا عربي أيضا ..
-ماذا يشتغل وأالدك ؟
-إنه يبيع الصحفا .هإناك ..
***
بدا القطار يخفق من جديد ...الطعام الذيأ أحضره صديقي لي ،اكلته اليرانية ،لم اكن أرغب في
الكل ...كان الكتاب مازال مفتوأحا على الراعية التي يلفها خط يكاد يختفي بالقلم الرصاص .
وأقرأت الراعية من جديد ،وأبصوأت عالي جعل اليرانية تتوأقفا على المضغ :
" آه أيها الحب ،لوأ استطيع انا وأأنت أن نتفق مع القدر على تدمير هإذا الطابع البائس الوأحيد
للعالم إلى قطع صغيرة صغيرة ..ثام نعيد بناوأءه من جديد كما تشتهي قلوأبنا " ..
لم أكن قد استحق ليلى ..كانت احسن مني بكثاير ،كنت جبانا ،اخافا من الموأت ...وأرفضت ان
احمل سلحا كي ادافع عن حيفا ..كنت في رأس الناقوأرة عندما قالوأا ان حيفا سقطت في يد اليهوأد
،وأل أدريأ لماذا تذكرت لحظتذاك جملة قالتها ليلى قبل ان أغادر حيفا :
-إنني ل استطيع أن أنس التسعة أيام القاسية ..وألكتي أريد أن استمر في ..الدفاع عن حيفا ..
انا أعرفا أنني قدمت شيئ ا أكثار من حياتي ..وألكنني اريد أن اقدم حياتي نفسها فهذا افضل .
باستطاعتك أن تغادر حيفا ،أن تهرب من حيفا ..وألكنك يوأم سياتي لبد من ان تصحوأ ..
وأتكتشفا ..وأتندم ..
ليلى الحزينة ..البائسة ...بقيت في حيفا وأرفضت ان تخرج منها ..وأقالت لجيرانها عندما اتوأا
ليجروأهإا معهم أنها فقدت كل شيء وأل تريد أن تفقد ماضيها الجميل في حيفا الجميلة ...تريد أن
يبقى لها شيء ل يذهإب ...
لقد مضى زمن طوأيل على اليوأم الذيأ خرجت فيه من حيفا ..وأاشعر اليوأم أنني لم أكن أستحق ليلى
مطلقا ..بل لم أكن أستحق حيفا نفسها ..لماذا اهإتمت هإذه النسانة النبيلة بإنسان جبان مثالي
؟ ..لماذا تلحقني هإذه النسانة الرائعة طوأال ثاماني سنوأات ؟ لماذا تلح على رأسي كما تلح صفارة
القطار قبل أن يدوأر حوأل المنعطفا ؟
***
صحا العجوأز من نوأمه الطوأيل ..وأحدق بعيوأن ضيقة كانها شقوأق ارض جافة بانحاء القاطرة ..
وأابتسم في وأجهي ثام هإتفا بعربية مكسرة وأهإوأ يشير إلى الكتاب الملقي على ركبتي :
-عمر الخيام ؟
هإززت برأسي وأتركته يلتقط الكتاب وأيتفرج على صوأره ..
كان رفاقي يتهموأنني دائم ا بانني من عشاق الخيالت .وأعندما قلت لهم وأأنا في الكوأيت أنني أريد
أن أذهإب ليران كي أضع باقة وأرد على قبر الخيام ..ضحكوأا جميعهم وأقالوأا :
" -إنه يريد أن يعيش تجربة عنيفة يوأهإم نفسه فيها أنه يحب ! "
شعرت بانني انسان ل يعيش على أرضه ،وأبدا لي في لحظة أن ماضي شيء مخجل في الحقيقة ..
ثاماني صنوأات اجتر ذكرى ليلى كانها إنسانة صنعتها فقط لذكرهإا ..تراهإا كانت موأجوأدة خقا إنسانة
اسمها ليلى ؟ أم أنني صنعتها ثام صدقتها ؟
فتح صديقي نافذة القاطرة ..فصفع وأجهي هإوأاء بارد ،وأشعرت باللحظة نفسها ان ليلى ل يهمها
مطلق ا أن أضع باقة وأرد سخيفة على قبر عمر الخيام ..كي اوأهإم نفسي بانني ضحية حب عنيفا
..
لماذا أصر على الحتفاظ بكتاب الخيام ؟ إن أحدا ل يعرفا الحقيقة ..تراني أريد من الكتاب أن يوأهإم
الخرين بأنني مازلت مرتبط ا بحيفا ؟
أعاد العجوأز كتاب عمر الخيام شاكرا ،وأحينما سقط الكتاب على ركبتي انفتحت صفحاته على
الرباعية المحاطة بالخط الباهإت لقلم رصاص قديم ..
" لم تستطع ليلى ان تغيرني " ..شعرت هإذا بوأضوأح الن ..انسان ل فائدة منه .هإذا كل شيء ...
باقة وأرد على ضريح انسان ميت ..شيء يذهإب ،لقد قالت لهم أنها تريد أن يبقى لها شيء ل
يذهإب ..
أزت العجلت وأهإي تدوأر حوأل منعطفا وأاسع ،وأصفر القطار ..ثامة مقبرة في الفق ،وأشوأاهإد
القبوأر البيضاء مغروأسة في التراب كالقدر ..باردة ،قاسية ،وأل تذبل ..ترى هإل يوأجد فوأق قبرهإا
رخامة ؟
دمشق 1958
منتصفا آيار
عزيزيأ ابراهإيم
لست أدريأ لمن سوأفا أرسل هإذه الرسالة .لقد كان عهديأ لك ان أحمل إلى قبرك في كل منتصفا
آيار بعض ازهإار الحنوأن ،فأنثارهإا فوأقه ..وأهإا قد وأصل منتصفا آيار دوأن أن أجد وألوأ زهإرة حنوأن
وأاحدة ..وألوأ وأجدتها ..فكيفا لي أن أصل إلى قبرك كي أعطيكها ؟ ..لقد مضت اثانتا عشرة سنة..
وأأعتقد أنك بعدت كثاي ار عن كل شيء ..فكما أنت تغوأر إلى أعماق الرض وأتتفتت ،فأنت أيضا تغوأر
في ذاكرتنا ،وأتتلشى ملمحك ،حتى ملمحك ،لم أعد أذكرهإا جيداا ..أما صوأتك فلست أعرفا كيفا
كان ..عيوأنك ،لم أعد أذكر كيفا كان بريقها ..وأيصعب علي كثايرا أن أتصوأر حركتك ..كل الذيأ
بقي منك في ذهإني .جسد جامد ..كفاه فوأق صدره ..وأخيط رفيع من الدم يصل بين شفتيه وأأذنه
،وأأذكر _ بوأضوأح هإنا _ كيفا حملوأك وأألقوأك في الحفرة بملبسك كلها ..ثام أهإالوأا التراب ،بينما
مزق صموأد رفاقك صوأت نحيب مجروأح أخذ يعلوأ خلفنا شيئا فشيئاا ،ثام يصمت...
وأالسؤال الن هإوأ :لماذا اكتب لك ؟ ..ألم يكن الجدر بي ،وأقد فشلت في حمل أزهإار الحنوأن الى
قبرك ..أن استمر في الصمت الذيأ بدأ منذ اثانى عشرة سنة ؟ يبدوأ أنه من المستحيل ان استمر
في صمتي ...ان منتصفا آيار يضغط على صدريأ وأكأنه قدر مجنوأن ،اخطأ ذات مرة ..فقتلك
بدل أن يقتلني..
إن خيوأط القصة بدأت تنحل في رأسي ..وأاخشى أن أنساهإا ..هإل تصدق ؟ .إني _ حقا _ اخشى
ان أنساهإا ! وأربما نسيتها أنت ..فما الذيأ يعني منها الن ؟ ...وألكني أريد أن اساعدك ،وأأساعد
نفسي في نسج خيوأطها من جديد .
معظم القصص ليس لها بداية ..وألكن الغريب ان قصتنا مع ا لها بداية وأاضحة ..بل أكاد أقسم أن
بدايتها من الوأضوأح بحيث تستطيع أن تعتبرهإا فصلا مستقلا عن جريان بقية أحداث حياتنا ..
كان الوأقت بعيد العصر بقليل ،وأقد وأقفنا _ انت وأأنا _ إلى جانب الحجر الكبير الذيأ كان يشكل
مقعدا أمام بيت جدك ...كنا بدأنا التعلم على استعمال السلحة ..وأحتى تلك اللحظة ،كانت أهإدافنا
علب الطعمة المحفوأظة الفارغة ..وأصفائح الزيت العتيقة .إوأاذا لم تني ذاكرتي استطيع أن أقوأل
أننا استعملنا " ضوأء الكاز " كهدفا لرصاصنا مرتين أوأ ثالثاة .
كان الوأقت عصرا ..نعم ،سوأفا اؤكد على هإذا مرة اخرى لن الصوأرة ل يمكن أن تكتمل عناصرهإا
إل إذا دخل إليها ضوأء العصر ..لقد وأقفنا إلى جانب الحجر الكبير ،ثام سمعت صوأتك :
-ألست تريد النتقام ؟
وأتبعت سؤالك سلسلة من الضحكات القصيرة قبل أن أسأل بدوأريأ :
" -مم " ؟
وأرفعت اصبعك تجاه الحائط المقابل ..وأأشرت إلى شيء ما ثام قلت وأالضحكة ما زالت تمسح كلماتك
:
-من القط الذيأ سرق زوأج حمام من البرج ..
وأضحكت انا الخر ..وأتذكرت كيفا استطاع هإذا القط الملعوأن أن يصل إلى برج الحمام في الحديقة
في ليلتين متتاليتين وأيسرق منه زوأج ا من أجوأد الحمام الذيأ يحرص جديأ ،وأنحن ،على
تربيته..وأقبل أن اصل إلى قرار سمعتك مرة اخرى..
-سوأفا أقتله أنا إذا خانتك شجاعتك ..
وأرفعت بندقيتك إلى كتفك ..وأاطلقتها ،وأمن خلل الدخان ذيأ الرائحة الغريبة ،شاهإدنا القط
المسكين يقفز مذعوأ ار إلى الوأراء ..ثام يطلق ساقيه للريح إلى سوأر الحديقة المجاوأرة ،وأيقفا فوأقه
متحفزا يحدق بعين مدهإوأشة إلى حيث خدشت الرصاصة جزء ا من الحائط العتيق ..لست ادريأ أيأ
شيطان جعلني أهإتفا:
-أخطأته ..سوأفا أجرب حظي ..
إنني أذكر كيفا صوأبت إلى رأسه ..وأحينما رأيته مقعي ا على الصوأر من خلل انفراج علمة
التصوأيب في مقدمة بندقيتي ،شعرت برجفة ..وأاضطرب التصوأيب لفترة ..كانت عيوأنه تحدق _
ماتزال _ حوأاليه بجزع وأدهإشة ..بينما أخذ ذيله يضرب الرض بانتظام ،وأأذناه تنتصبان وأتميلن
بحثا ا عن الخطر ..وأفي لحظة ثاانية رايته في منتصفا علمة التصوأيب ..فضغطت الزناد ..لقد
لطمته الرصاصة في وأجهه ..فانقلب وأتشنجت أرجله في الهوأاء تتحرك راجفة ..ثام هإوأى إلى جنبه
وأاخذ الدم يتدفق ..
وأقدتني إليه ،وأقلبته بمقدمة سلحك ..وأهإتفت ..
-إصابة رائعة ..في منتصفا رأسه ..لقد قطعت سلسلة أفكاره ..
وألكني كنت قد بدأت اتقيأ ..ثام لزمت الفراش أكثار من أسبوأعين ..
حينما زرتني انت بعد فترة ..سألتني ضاحك ا
-ماذا ؟ القط المنقط اللص ..يجعلك تذوأيأ هإكذا ؟ .شيء مضحك ! .ألم تعد نفسك لخوأض
معارك تقتل فيها رجالا ل قطط ا ؟
شعرت بالعار ..لست أدريأ كيفا تكوأنت الكذبة تلك الساعة .
-القطط ؟ انت مجنوأن ..لقد كنت أقتل قططا بالحجارة وأانا طفل ؟ ..كل ما هإنالك أن كتفا البندقية
انزلق بعد الطلق ،فلمس حلقي ..وأهإذا هإوأ السبب الذيأ جعلني أتقيأ .ثام إني كنت مريض ا من
قبل..
هإل انطلت عليك الكدبة ؟ لست ادريأ إلى الن ..وألكن الذيأ طمانني يوأمها ،أنك عدت إلي في
المساء ..وأهإمست في أذني أن أعد نفسي لهجوأم ما ..خلل يوأمين..
وأفي السيارة التي حملتنا إلى المستعمرة المجاوأرة ..كنت تغني كالعادة ..بينما ما أزال أعاني من
وأطأة الحادث ..وألكزتني فجأة ملفت ا نظريأ إلى الحقل وأقد بدأ آيار يعطيها لوأن حياة جديدة:
-هإذا الحنوأن ..لقد كنا نفتش داخله عن حشرات ملوأنة لطيفة ..وأكنا نقطع ألفا زهإرة حنوأن
حمراء كي نجد حشرة وأاحدة ..يا سلم ..سوأفا ..أكوأن سعيد ا لوأ عاهإدتني على أن تحمل إلى
قبريأ في كل آيار باقة حنوأن ..اتعاهإدني ؟..
-أنت سخيفا .وألكن إذا كان عهديأ سوأفا يسكتك فأنني أعاهإدك ..
ماتت الضحكة على شفتي ،وأضممت بندقيتك إلى صدرك ،وأقلت بصوأت وأاه ،لكنه عميق:
-شكرا ...
لقد نزلنا ،عند الظهر ،في حقوأل المستعمرة ..كانت الخطة جريئة وألكنها ممكنة ..إحتلل البيوأت
المتطرفة من المستعمرة ثام نسفها ..وأالعوأدة إلى بلدتنا من جديد ...
وألكن الذيأ حدث كان غير ذلك ..لقد فاجأنا اليهوأد في حقوألهم ،وأنشبت معركة ضارية ..كنت إلى
جانبك ..وأكنت اطلق نيران سلحي كيفما اتفق ،فلسنا نرى احدا نصوأب عليه ..وأكنا – خلل ذلك
– نستمر في الزحفا بين الشوأاك وأالزرع ..هإل كنت خائف ا يوأمها ؟ لست أذكر الن ..وألكن ذلك
اليهوأديأ الذيأ انتصب امامنا وأاقف ا حين فجأة ،شل تفكيريأ ..كان يحمل قنبلة يدوأية ألقاهإا فوأقنا ..
وأسمعت صوأتك وأالدخان يكاد يعمينا :
-أقتله ..لقد علق رصاص مشطي ...
-وأانجلى الدخان ..كان ما يزال وأاقفا يحمل قنبلة ثاانية وأيفتش بين الزرع عنا ..وأرايته من خلل
علمة التوأصيب يقفا هإناك ..بعيوأن مذعوأرة ..مرت لحظات دوأن أن يستطيع أصبعي شد الزناد
..كنت أرتجفا ..وأبقي الهدفا وأاقف ا في منطقة تصوأيبي ..كنت اشاهإده من خلل اداة التصوأيب
..وأمن خلل هإذه الداة ،شاهإدته يكتشفك ..وأيلقي فوأقك بقنبلته الثاانية وأيوألي الدبار ..
وأهإكذا أرجعناك إلى بلدتنا حيث دفنوأك بكامل ملبسك كما يجب ان يدفن الشهداء ..وأكانت امك
تبكي خلفا رفاقك ...بينما أخذت أنا – في غمرة عاريأ – ازرع التراب النديأ باقة حنوأن جمعناهإا
في طريق عوأدتنا .
لقد مر اثانا عشر عام ا على ذلك اليوأم ...وأانا ملحق من عاريأ ..كل آيار يثاقل صدريأ ككابوأس ل
يرحم ..
وأالسؤال الذيأ يجأر في راسي ..هإوأ :لماذا أذكرك الن ..وأأكتب لك ..أما كان الجدر بي أن استمر
في صمتي ؟؟
كل ..أني ل أستطيع ..اليام تمر ..وأانت تغوأر في الرمل ..وأأخشى أن أنساك ..إني ل أريد أن
انسى ،رغم كل العذاب الذيأ يحمله التذكر ..فقد يستطيع هإذا العذاب أن يجعلني أحس يوأم ا بمدى
ما هإوأ ضروأريأ أن اعوأد إلى قبرك ..فأنثار فوأقه بعض أزهإار الحنوأن ..
لست أعرفا مبلغ تطوأريأ الن ..هإل أستطيع أن أقتل يهوأدي ا دوأن أن أرتجفا ؟ لقد كبرت ..
وأجعلتني الخيمة أشد خشوأنة ..وألكن كل هإذا ل يعطيني يقينا ..
يقيني الوأحيد ..هإوأ اني أشعر بالعار ملتصقا بي حتى عظمي ..هإل يكفي هإذا ؟؟ اعتقد أنه يكفي
..فالقط الذيأ قتلته لم يفعل سوأى أنه سرق زوأج حمام يأكله ..وأكان السبب هإوأ جوأعه حتماا ...اما
الن فأنا بازاء جوأع آلفا من الرجال وأالنساء ..أقفا معهم أوأاجه لص ا سرق منا كل شيء ..
أيكوأن هإذا هإوأ السبب الذيأ جعلني انفك عن صمتي ..كي أزيد التصاقي بك ؟ ..سوأفا تغفر لي
اعترافي ..لقد اكتشفت انا – كما يجب أن تكوأن اكتشفت انت منذ بعيد – كم هإوأ ضروأريأ أن يموأت
بعض الناس ..من اجل أن يعيش البعض الخر ..انها حكمة قديمة ..اهإم ما فيها الن ..أنني
اعيشها .
الكوأيت 1960
في جنازتي
أيتها الغالية...
لوأ أردت الحقيقة فأنا ل اعرفا ماذا يتعين عليي أن اكتب لك..كل الكلمات التي يمكن أن يخفقها قلم
مشتاق كتبتها لك عندما كنت هإناك ,أما الن..فل شيء أستطيع أن ل أكرره على مسمعك ..ماذا
أقوأل لك؟ أأقوأل كما يقوأل أيأ إنسان سوأيأ بان حبك يجريأ هإاد ار في دمي كطوأفان ل يلجم؟ كنت
أستطيع أن أقوأل لك ذلك لوأ كان هإذا الذيأ يجريأ في شراييني شيئا ذا قيمة ..وألكنني في الحقيقة
إنسان مريض ..فالدم الذيأ يحترق فيي ل قيمة له على الطلق :فهوأ دم يليق بإنسان عجوأز,
نصفا ميت ,نصفا ساكن ,ليس في صدره سوأى صناديق الماضي المقفلة ,أما مستقبله فمجرد
شمعة تضيء آخر لهبها كي تنطفئ ,كي ينتهي كل شيء..
كنت اعتقد ,أيتها الغالية ,أن اليام حين تمر سوأفا تبلسم قليل من الجرح ..وألكن يبدوأ لي الن
أنني اشتد تهاوأيا كشيء افرغ من تماسكه على حين فجأة فهوأ ل يعرفا ماذا يقيمه .أن كل يوأم
يحفر في صموأديأ صدعا ل يعوأض.وأكل لحظة تصفع وأجهي بحقيقة أمر من حقيقة ..اليوأم صباحا
صعدت الدرج راكضا وأحين أشرفت نهايته أحسست بقلبي ينشد على ضلوأعي وأيتوأتر حتى ليكاد
ينقطع..أيأ شباب هإذا؟ أيأ قيمة تبقى يا عزيزة؟ آية قيمة؟ لماذا أسير اكثار إلى المام؟ أيأ شيء
يلوأح كالشبح في ظلمة سوأادهإا أقتم من ضمير طاغية؟ أيأ شيء أفدته من حياتي كلها..نعم ؟ أيأ
شيء؟
وألكنني كنت أعيش من اجل غد ل خوأفا فيه..وأكنت أجوأع من اجل أن اشبع ذات يوأم ..وأكنت أريد
أن اصل إلى هإذا الغد..لم يكن لحياتي يوأم ذاك أية قيمة سوأى ما يعطيها المل العميق الخضر بان
السماء ل يمكن أن تكوأن قاسية إلى ل حدوأد ..وأبان هإذا الطفل ,الذيأ تكسرت على شفتيه ابتسامة
الطمأنينة ,سوأفا يمضي حياته هإكذا ,ممزق ا كغيوأم تشرين ,رماديا كأوأدية مترعة بالضباب ,ضائعا
كشمس جاءت تشرق فلم تجد افقها..
وألكن السماء ,وأالرض ,وأكل شيء ,كانوأا على شكل مغاير لمال صغيرة ...لقد مضت قاسية
بطيئة ..وأحين كبر تسلمته عائلته كي يعطيها اللقمة التي أعطته يوأم لم يكن يستطيع أن ينتزعها
بنفسه ..المسؤوألية شيء جميل ...وألكن الرجل الذيأ يوأاجه مسؤوألية ل يقدر على احتمالها تسلب
رجوألته شيئا فشيئا تحت ضغط الطلب...كل شيء في العالم كان يقفا في وأجهه...كل إنسان كان
يصفعه ,وأكل يوأم يمر كان يبصق في وأجهه شعوأ ار م ار حاد المرارة بالتقصير.
وأرغم ذلك ...كنت أقوأل لذات نفسي "اصبر ،يا وألد ،أنت ما زالت على أعتاب عمرك ،وأغداا ،وأبعد
غد ،سوأفا تشرق شمس جديدة ,الست تناضل الن من اجل ذلك المستقبل؟ سوأفا تفخر بأنك أنت
الذيأ صنعته بأظافرك ,منذ اسه الوأل...إلى الخر" وأكان هإذا المل يبرر لي ألم يوأمي؛ وأكنت أحدق
إلى المام أدوأس على أشوأاك درب جافا كأنه طريق ضيق في مقبرة...
ثام حدث شيء جميل ,لقد انشقت الغيوأم المتكوأمة عن ضوأء بعيد ,تحررت قليل من ضغط الحاجة..
ثام ..ثام تعرفت إليك..أتذكرين؟ لقد جمعتنا حفلة صغيرة ,وأحين التقت عيوأني بعيوأنك أحسست
بمعوأل ينقض في صدريأ فيهدم كل المرارة التي اجترعتها طوأال طفوألتي ...كان شعرك في أروأع
فوأضى ,وأكانت عيوأنك مؤطرة بسوأاد آسر ...لقد وأجدت نفسي أحدق إليك دوأن وأعي وأكتبت أنت عن
هإذه اللحظة في مذكراتك ـ التي قرأتها فيما بعد ـانك استلطفت هإذا البحار الذيأ يحدق كأنما يوأشك أن
يرمي مرساته في ميناء...
وأمرة بعد مرة كنت أراك فأرى نفسي اشد التصاقا بنفسي ...كنت اقفا أمامك كطفل يفصله عن لعبته
زجاج وأاجهة ملوأنة فحسب ..وأترتجفا الكلمات الموأهإنة في حلقي ثام تتساقط وأاحدة تلوأ الخرى إلى
صدريأ فاسمع لها خفقا عنيفا يهز أضلعي ...وأعرفتك اكثار فاكثار ...وأكتبت في مذكراتك عن تلك
اليام..
” إنني انتظر أن اعرفه اكثار فاكثار "...وأكنت أنا ل أقوأى ,بعد ,على كتابة أيما شيء عنك...
ثام ...آه أيتها العزيزة ,لقد أحببتك بكل القوأى التي تحتوأيها ضلوأع إنسان يبحث عن استقرار ..بكل
خفقان القلب الذيأ تعذب طوأال عمره ...بكل صلبة الضلع التي جاعت ,وأتشردت وأتألمت ...من
اجل هإذه اللحظة ...كنت المنارة التي أشرقت على حين غرة أمام الزوأرق التائه ...وأنشبت بهذا
اليجاد بكل ما في زنوأديأ من توأق إلى الطمأنينة...
وأكتبت لي ,يوأم ذاك ,تقوألين" :لماذا أنا اشتاق إليك كل هإذا الشوأق ,إذا كانت أنا تعنينا نحن
الثانين..كما اتفقنا؟"وأكنت أنا أضم أملى بعنفا يليق به .وأكنت أريدك ..أريدك..بكل ما في الكلمة
من طلب ..وأدا لي أن الحياة قد ابتسمت أخي ار وأان القلعة الجهمة من اللم ,القلعة التي ارتفعت
حج ار م ار فوأق حجر مر في وأجوأديأ ..هإذه القلعة اطل من فوأقها الن على كل هإذه السعادة..
وأأعطاني هإذا التصوأير رضى كافا..
وأغبت عنك بعيدا حيث اقتلع لقم عيشي اقتلعا ..وأهإناك ,في ذلك البلد البعيد الذيأ يحتوأيأ على كل
شيء وأليس فيه أيأ شيء ..البلد الذيأ يعطيك كل شيء وأيضن عليك بكل شيء وأفي ذلك البلد
البعيد الذيأ يتلوأن افقه في كل غروأب بحرمان ممض ,وأالذيأ يشرق صباحه بقلق ل يرحم..هإناك,
كنت أعيش على أمل أن أستطيع ,في يوأم يأتيان أضع حدا لكل شيء ..وأان أبدا معك من جديد منذ
البدء ..وألكن القدر كان ل يريد للشراع أن يندفع في ريح طموأح وأحينما جأرت عيوأن الطبيب تدب
إلى خبر الرعب الذيأ يجريأ في عروأقي ,أحسست بالقلوأع كلها تتهاوأى في أعماقي ,وأسمعت قرقعة
التهاوأيأ تدوأيأ في أذني ,وأيدوأر عالمي بي حتى يغشى عيوأني بضباب ساخن ..وأعيوأن الطبيب
إتمامي تكفن مستقبلي ,وأعروأق جبهته العريضة تقدم تفاصيل عذاب متصل ناشفا.
وأحين عادت بي أعصابي ,سمعت كلمات جوأفاء يقيؤهإا الطبيب بل أعماق ,كلمات عن المل ,عن
الشجاعة ,عن العلم ,عن الشباب...كلمات فقدت بكل معانيها ,أصبحت حروأفها مجرد ديدان صغيرة
تلتفا حوأل نفسها بل مبرر ...ما هإي الشجاعة التي يطالبني بها الطبيب؟ أن أوأاجه مستقبلت أنا
اعرفا انه مشوأب بالحرمان وأالتعاسة؟ أم أن استسلم لهذا المستقبل بالقدرية التي تليق بعجوأز باع
حياته كي يشتريأ أخرته كتاجر بل رأسمال؟ ما هإوأ المل وأأنا على يقين بان ل شيء يلوأح في
الفق ...أيأ شباب؟ نعم أيأ شباب هإذا الذيأ لم يوأمض قط ...الذيأ لم يعش قط..أيأ شباب؟ كم
تافهة قيمة الكلمات التي يرددهإا الطبيب لمجرد أن كتب الطب قالت ذلك.
وألكن الصفعة القوأى أتت حينما هإبطت الدرج عائدا من عيادة الطبيب ,لقد تذكرتك ...وأفي اللحظة
التي وأمض فيها وأجهك الحي في عيني ,وأمضت في صدريأ صاعقة يأس سوأداء...
هإل تقبل هإذه النسانة رجل مريضا؟ كي تنجب منه أبناء مرضى؟ هإل تقبل أن تكوأن ممرضة؟ أن
تعيش مع شاب نصفا ميت؟
وأكانت اليام التي أتت ذات قساوأة أعمق ..لقد فشلت أن أكوأن بطل ,أوأ شجاعا ,كما أرادني
الطبيب ,وأأحسست بان الشياء الصغيرة التي كانت تمل حياتي بالتفاصيل قد فقدت أهإميتها بالنسبة
لي ,وأان اليام التي سوأفا تأتي ل تحمل في جوأانحها أيأ خفقة جديدة لهذا القلب المسكين ...لقد
فشلت في أن امثال دوأر البطل ...وأكان كل شيء في الحياة يتحداني وأيمتص صموأديأ وأيشمخ أمام
ضعفي كسد هإائل من اليأس...
أنني امشي في جنازتي رغم انفي ...كل العظات الجوأفاء التي علمتها في السنوأات الماضية تبدوأ لي
الن فقاعات صابوأن سخيفة شديدة السخافة ,أن المرء يكوأن شجاعا طالما هإوأ ليس في حاجة أيأ
الشجاعة ...وألكنه يتهاوأى حينما تصبح القضية قضية حقيقية...حينما يصبح عليه أن يفهم
الشجاعة بمعنى الستسلم..بمعنى أن يلقي جانبا كل ما هإوأ إنساني وأيكتفي بالتفرج ,ل
بالممارسة...
وأكنت أنت ,في كل طريقي إلى غرفتي ,عذابي وأدوأاريأ ...وأكنت أحس بك تتسربين من بين
ضلوأعي ,من بين أصابعي ,إوأانني أعض عبثاا على أمل ل يريد أن يبقى معي ...وأكانت جملتك
تدوأيأ في رأسي ,جملتك التي كتبتها لي ذات يوأم":لوأ تبدلت أفكارك سأتركك ...المهم سوأفا يكوأن
فراق ...أتفهم أنت معنى هإذا الرعب ؟؟ " لم يتبدل رأسي ,أيتها العزيزة ,لقد تبدل دمي ,تبدل كل
شيء ...وأأخافا أن اقفا أمام عيوأنك ,استجديأ حبك استجداء إنسان فقد أشياءه العزيزة ..أخافا ـ
بكل ما في هإذه الكلمة من جبن ـ أن أتطلع إلى عيوأنك فأرى معنى من معاني الرفض مغلفا
بالشفقة ..سوأفا أحس بأن قدمي انزلقتا فوأق الصخر الذيأ أمضيت عمريأ أتسلقه بكل قوأايأ..
وأسوأفا لن يقدر الوأاديأ ،قط ،أن يعيد لي وألوأ شيئا من الرغبة في الستمرار .أتعرفين معنى أن يفقد
النسان كل شيء في مدى لحظات عوأدته إلى داره ؟ أتعرفين معنى أن يكتشفا شاب بأن حياته
القاسية الجافة لم تكن إل عبثا ا محض ا في لحظات قصار ؟ ثام ،أتفهمين معنى أن يقوأم حب ما على
أعمدة من الشفقة فحسب ؟
وأنمت تلك الليلة في زوأرق جموأح يناضل دوأامة بل قرار ..وأكان رأسي مسرح ا لهزليات كثايرة تتعاقب
دوأن رباط ..آرائي التي كوأنتها أصبحت في حاجة لتنظيفا ..القيم التي عبدتها يجب أن تحطم ..
الحلم التي كوأنتها في صدريأ لم يعد لي حق امتلكها ،وأكل شيء في ماضي وأحاضريأ وأمستقبلي
تغلفا بميوأعة ذات رائحة عفنة ..وأبدت لي كل القيم التي وأضعها النسان المغروأر لحياته ليست
سوأى هإذيان سكران يريد أن ينسى..
وأأفكار المريض ،حينما تجمح به تصوأراته ،أفكار مضحكة مبكية ..لقد حبست لمدى لحيظات أن
اختياريأ من بين آلفا اللفا من البشر لكوأن مريض ا الداء الملعوأن المزمن عملية تقييم فذة ،وأان
هإذا المرض وأسام من طراز نادر يزين صدريأ من الداخل وأأنني أكاد اسمع رنينه مع خفقان قلبي..
وألكن الحقيقة كانت شيئا آخر ..وأحينما صحوأت كانت المأساة تمتد أمام بصريأ جهمة ،حادة،
سوأداء ،ممتدة في مستقبلي إلى ما ل نهاية ،تعبق بالعجز وأالحرمان...
لماذا كنت أفكر فيك أنت بالذات اكثار من أيأ شيء آخر ؟ .لقد بدا لي كل شيء ممكن الحتمال،
وألكنك أنت كنت عذابي الخاص الملح ..وأكنت أريد ،بكل قوأايأ ،أن احل هإذا اللحاح بصوأرة من
الصوأر ،أن أتركك اهإرب ...أوأ أن التصق بك أكثار فأكثار ..وألكن الموأقفا الخائفا ،الموأقفا المتردد
كان يقض رأسي بل رحمة..
وأبعد يوأم آخر ،وأصلت إلى قرار ..أنني ،الن ،ل أعرفا ما الذيأ دفعني إلى ذلك القرار ،لقد نسيت،
أوأ فلنقل أن الحداث التي جرت فيما بعد جعلتني أنسى ..وألكن الشيء الذيأ اذكر أنه كان في رأسي
حينما قررت ق ارريأ هإوأ أنني يجب أن أكوأن بطلا وألوأ مرة وأاحدة حقيقية ..أن أكوأن وأاحد ا من أوألئك
الذين ترد أسماؤهإم في القصص بصفتهم وأاجهوأا موأاقفهم الحادة بشجاعة فائقة ،وأصفعوأا أقدارهإم
الخاصة بكل ما في وأسعهم من قسوأة ..وأقلت لنفسي ،فيا أنا سعيد بعض الشيء بأنني توأصلت إلى
قرار " :سوأفا أسكب لها الحقيقة ،كل الحقيقة ..وألسوأفا تعرفه هإي أيأ عذاب حملته لنفسي حينما
قررت أن أتركها تبحث عن طريق آخر لحياة سعيدة ،هإي تعرفا كم احبها ..وألوأ لم تستطع أن تفهم
عظم تضحيتي الن .فلسوأفا تعرفها في المستقبل ..على أيأ حال ..أنا ل يهمني أن تعرفا أوأ أن ل
تعرفا ..كل ما هإنالك ،أن ضميريأ سوأفا يرتاح بعض الشيء ،وأان حياتي ،سوأفا تكسب شيئا من
الطمأنينة ،وأالقناعة"..
أنت ل تعرفين ،يا عزيزتي ،كم كلفني هإذا القرار ..فلنقل إنني كنت مريضا منها ار فلم أستطع أن
أفهم أيأ عمل أنا مقدم عليه ..فلنقل أنني أردت أن أغوأص حتى عنقي في أوأحال التحديأ المغروأر
وأأنني أردت لنفسي أن تفقد كل شيء على الطلق طالما هإي فقدت أهإم الشياء ..فلنقل أنني أردت
أن أمزق كل ما في صدريأ من بقايا المال المحتضرة وأأن هإذا التحديأ السخيفا كان الطريقة
الوأحيدة التي أستطيع أن أبرهإن فيها لنفسي – وألوأ لقصر مدى ممكن – أنه مازال في توأقي أن
أتصرفا كإنسان ..كأيأ إنسان ..فلنقل أيما شيء ،وألكن الشيء الماثال بإصرار هإوأ أن ق ارريأ كان
نهائياا ..وأأنني ،طوأال الطريق إليك ،كنت قابض ا عليه في صدريأ بكل ما في قدرتي ..وأان ضلوأعي
كانت تنبض بقسوأة ،وألكن بل جدوأى..
ما جرى ،بعد ،أنت تعرفينه جيد ا كيفما يعرفا إنسان ما وأجه عملة ما ..وألكنه ل يعرفا وأجهها الخر
على الطلق ..وأكنت أنا ذلك الوأجه الخر ،لقد صارعت في داخلي بكل قوأايأ كي أستطيع أن أقوأل
لك ،أوأ ألهث أمامك ،ق ارريأ ..وألكن كل شيء كان يرفض أن يصل على حلقي ..كنت ل اقدر أن أقفا
كما يقفا أيأ بطل شكسبيريأ ليزفا مأساته بجرأة القروأن الماضية ..وأكنت ابحث جاهإدا عن نافذة
ادخل منها ..عن كلمة أتعلق بها ..عن أيأ شيء اتكئ عليه ..وألكنني أعطيتك في تردديأ فرصة
نادرة لتهدمي مكل شيء..
لقد كنت أج أر مني في أن تعترفي بان هإنالك رجلا أخر ..وأبأنك مضطرة لن ترضخي للفرص التي
منحها لك ..وأالتي لم امنحها أنا ..وألكن هإل قلت لي أنت بأن هإنالك رجل آخر حقيقة ؟ كل ..انك لم
تلفظي الكلمات ..قلتها بصراحة أقسى من أيأ كلمة وأاضحة ..وأصفعتني بها قبل أن أجد الكلمة التي
أحملها مأساتي ،وأاشحنها بنبأ مرضي الحزين ..لقد قلت كل شيء بجرأة تليق بامرأة تريد أن
تستقر ..وأحينما غيبك الباب ،غيبتك اليام .وأذهإبت إلى حيث ل ادريأ ،وألكنني أحس ..وألقد عذبتك
اللحظة ،هإذا شيء وأاضح وألكنك تركت كل شيء معي ،بين الجدران العارية ،وأذهإبت ..بدأت..
نسيت ..وألم تسمعي مني ابدأ الكلمات التي زرعتها بكل ما تبقى من كرامتي .الكلمات التي جمعتها
ليلة بعد ليلة من لهاثاي ..وأشجاعتي ..وأخوأفي ..وأالتي لم يتيسر لي أن أقوألها لك..
وأكنت أحدق إلى الباب العتيق بعدما أغلقته ..كان يخيل إلي أنني مازلت أراك تدقين أرصفة دمشق،
وأكنت اسمع خفقات خطوأاتك بكل وأضوأح ،وألكنني كنت في القاع ..في آخر الدوأامة ..لقد شعرت فوأرا
أيأ شيء فقدت ..وأفقدته رغم أنفي ..أنت ل تعرفين أنك أضعت علي فرصتي الخيرة في أن استعيد
إنسانيتي التي امتصها المرض حتى آخرهإا ..أنت ل تعرفين كم حرمتني من وأسيلتي الوأحيدة التي
كنت أريد أن أقنع نفسي بأنني ما زالت أستطيع أن أكوأن شجاعا ..وأبدت لي كل حياتي صدفة فارغة
لم يكن لها أيأ معنى ..وأأن أخطاء العالم كلها تلتقي عنديأ..
لماذا تسرعت في العترافا ؟ لماذا ؟ لماذا لم تتركي لي فرصتي الخاصة في أن أمثال آخر أدوأاريأ ؟
..وألكنك ل تعرفين ..لقد حدث كل شيء بسرعة ،وأأنت الن هإناك ،في حديقة ما ،أن لك كل الحق
في أن تفعلي ،وأفي أن يفعل ،وألكن من يستطيع أن يمنعني ،أنا الخر ،من أن أحقد عليكما ..على
الجميع ..وأعلى نفسي ؟ من يستطيع أن يحرمني من أن أكرهإكم جميعاا ..وأأتمنى الموأت لكم ..وألي..
وألكل شيء؟القيم وأالمثال ؟ كل ،أنها قيمكم وأمثالكم انتم ..الناس الصحاء السعداء ..أما قيمي
وأمثالي فهي شيء آخر ..شيء خاص مختلفا يتناسب وأأكوأام المرارة التي أعيش فوأقها.
أرأيت ؟ لقد كان الفرق لحظة وأاحدة فحسب ..لوأ تأخرت في اعترافك ،لكان تغير كل شيء .وألكن
الفرصة قد ضاعت الن ..وأابتدأت أنت تمام ا من حيث انتهيت أنا..
دمشق1959 -
أتكوأن محض مصادفة غربية إنني التقيت به ,الن ,في نفس المكان الذيأ شاهإدته فيه أوأل مرة؟
لقد كان مقرفصا هإناك؟ كأنه لم يزل كذلك حتى اليوأم :بشعره السوأد الخشن ,وأعينيه اللمعتين
ببريق رغبة يائسة ,منكب ا على صندوأقه الخشبي يحدق إلى لمعان حذاء باذخ..لقد استطاعت
صوأرته أن تحفر في عظم رأسي قبل عام وأاحد ,حينما رأيته في تلك الزاوأية بالذات ,ل لشيء غير
عاديأ ,سوأى أنني ـ أنا نفسي ـ كنت احتل هإذه الزاوأية قبل عشر سنوأات ,حينما كانت المحنة على
اشدهإا ,وأكانت طريقتي في مسح الحذية تشابه طريقته إلى حد بعيد ,كان الحذاء بالنسبة لي هإوأ
كل الكوأن:رأسه وأكعبه قطبان باردان ,وأبين هإذه القطبين كانت تتلخص دنيايأ.
وأقبل عام ,حين مررت به ,قاءت شفتاه عرضا آليا دوأن أن تنظر عيناه إلى الحذاء:
ـ أستطيع أن أحوأله إلى مرآة ،يا سيديأ..
وأبدافع من رغبة خاصة ,تعوأضني عن شهوأر طوأيلة من السى ,ركزت قدما على حدبة الصندوأق
حيث تيسير لي أن أشاهإد خط ا عريض ا من العرق يبلل ظهر قميصه الزرق المتسخ ,وأكانت
عضلت كتفه الضامرة الصغيرة تنقبض وأتنبسط ,وأكان رأسه يهتز بانتظام..
ـ هإذا حذاء رخيص..
لم أحس الهإانة على الطلق ,فلقد كان شعوأريأ حينما كنت أشاهإد حذاء رخيصا يشابه شعوأره,
لكني لم اكن اعبر عنه بهذه السذاجة ,كان الحذاء الرخيص يشعرني باقتراب غامض بيني وأبين
العالم ..وأرغم ذلك ,فلقد رغبت في تغير الحديث..
ـ كم عمرك؟
ـ إحدى عشر سنة..
ـ فلسطيني؟
هإز رأسه فوأق الحذاء ,دوأن أن يجيب ,أحسست بأنه يخفي شعوأ ار بخجل صغير..
ـ أين تسكن
ـ في المخيم
ـ مع أبيك؟
ـ ل ,مع أمي..
ـ أنت طالب أليس كذلك؟
ـ نعم.
وأنقر بإبهامه على النعل ,ثام طالعني بعينين صافيتين ,باسطا كفه الصغيرة تجاهإي ,وأأحسست بخيط
رفيع من السى في حنجرتي ,وأتنازعي شعوأران حادان :هإل أعطيه أجرته فحسب؟ أم أزيد عليها؟
كنت حينما أعطى اجريأ حسب استحقاقي أحس شرفا عملي ,وألكنني حين كنت أوأهإب هإبة ما كنت
اقبلها وأشعوأر بالهإانة يتراكم فوأق سعادتي في أنني كسبت اكثار...
لقد طوأاني المنعطفا مبتعدا عن نظراته وأهإي تلسع ظهريأ ذلك أنني أعطيته استحقاقه
فحسب...وأحينما نظرت خلفي كان قد صرفا نظره عني وأتابع تحديقه إلى ارض الشارع راغبا في
اصطياد حذاء آخر..
وألكن صلتي "بحميد" لم تنته بانتهاء هإذا المنظر ..فبعد اقل من شهر وأاحد عينت مدرس ا في مدارس
اللجئين ,وأحين دخلت إلى الصفا لوأل مرة شاهإدته جالسا في المقعد الوأل ..كان شعره السوأد
الخشن اقصر من ذيأ قبل ,وأكان قميصه المهترىء مجرد محاوألة فاشلة لستر عريه ..وأكانت عيوأنه
مازالت تلتمع ببريق رغبة يائسة..
لقد سرني انه لم يعرفني ,وأرغم انه من الطبيعي أن ينسى ماسح الحذية زبائنه العابرين فلقد كنت
أخشى من كل قلبي أن يتذكرني ,وألوأ فعل لكان وأجوأديأ في الصفا حرجا ل مهرب منه ..وأطوأال
درسي الوأل كنت أحاوأل عبثا ا أن انتزع بصريأ عن وأجهه المكتسي بتحفز مشوأب بقلق صغير..لقد
كان الصفا كله مزيجا من عدد كبير من أشباه حميد ,صغار ينتظروأن بفارغ الصبر صوأت الجرس
الخير كي يشدوأا أنفسهم إلى أزقة مترامية في مجاهإل دمشق الكبيرة يصارعوأن الغروأب من اجل أن
يكسبوأا العشاء ..كانوأا ينتظروأن الجرس بتوأق جائع كي يتوأزعوأا تحت السماء الرمادية الباردة ,كل
منهم يمارس طريقته الخاصة في الحياة ...وأكانوأا يعوأدوأن ,إذ يهبط الليل إلى خيامهم أوأ إلى بيوأت
الطين حيث تتكدس العائلة صامتة طوأال الليل إل من أصوأات السعال المخنوأقة ..كنت أحس بأنني
ادرس أطفال اكبر من أعمارهإم ..اكبر بكثاير ,كل وأاحد منهم كان شر ار انبعث من احتكاكه القاسي
بالحياة القاسية ..وأكانت عيوأنهم جميعهم تنوأس في الصفا كنوأافذ صغيرة لعوأالم مجهوألة ,ملوأنة
بألوأان قاتمة ,وأكانت شفاهإهم الرقيقة تنطبق بإحكام كأنها ترفض أن تنفرج خوأفا أن تنطلق شتائم ل
حصر لها دوأن أن يستطيعوأا ردهإا..كان الصفا إذن عالما صغيرا ..عالما من بؤس مكوأم لكنه بؤس
بطل..
وأكنت أحس بينهم بشيء من الغربة ..وأأوأرثاني هإذا الحساس رغبة جامحة في أن أحاوأل الوأصوأل
إلى قلوأبهم قدر استطاعتي..
كان حميد طفلا متوأسط الذكاء ,وألكنه لم يكن يدرس بالمرة ..وأكنت أحاوأل باتصال أن ادفعه ليدرس
وألكن هإذا الدفع لم يكن يجديأ..
-حميد ,ل تقل لي انك تفتح كتابا في بيتك ...انك ل تدرس على الطلق..
-نعم يا أستاذ
-لماذا ل تدرس ؟
-لنني أشتغل..
-تشتغل حتى متى ؟
وأتطل العيوأن الوأاسعة الحزينة فيما تأخذ الصابع الصغيرة تدوأر باضطراب طاقية متسخة ..ثام
يهمس صوأت بائس:
-حتى منتصفا الليل ..أستاذ ..إن الخارجين من دوأر السينما يشتروأن كعكي دائما إذا انتظرتهم..
-كعك؟ أنت تبيع كعكا ؟
وأيرد صوأته بخجل هإامس:
_ نعم يا أستاذ ..كعك..
-لقد كنت أظن ..ل اذهإب إلى مكانك ..اذهإب!
وأطوأال تلك الليلة ,كنت أتصوأر المسكين الصغير يدوأر حافيا في شوأارع دمشق النظيفة ينتظر خروأج
روأاد السينما ..كنا في تشرين ,وأكانت السماء تمطر في تلك الليلة ..وأتصوأرته وأاقفا في زاوأية ما
راعشا كريشة في زوأبعة ..ضاما كتفيه قدر جهده إلى بعضهما ,وأداسا كفيه في مزق ثاوأبه محدقا
إلى صحن الكعك أمامه ..منتظ ار شخصا ما يخرج من القاعة جائعا كي يشترى كعكة ..شخصين..
ثالثاة ..وأيتسع فمه بابتسامة ,يائسة وأيحدق إلى ميازيب تشرين من جديد.
وأفى اليوأم التالي ..شاهإدته في الصفا ,كان النعاس يأكل عيوأنه ,وأكانت رأسه تنحدر على حين
فجأة إلى صدره ,ثام ينهضها بعجز.
-أتريد أن تنام يا حميد ؟
-كل يا أستاذ..
-إذا أردت أن تنام فلسوأفا آخذك إلى غرفة المدرسين..
-كل يا أستاذ..
وألكنه كان يبدوأا منهكا بصوأرة حادة ,وأهإكذا ,اقتدته إلى غرفة المدرسين ,كانت غرفة عارية إل من
صوأرة رسمها مدرس الرسم الفاشل ببقايا ألوأان الطلبة ،وأكانت المقاعد الثاقيلة منثاوأرة تحت الجدران
الرطبة وأحوأل مائدة صغيرة تكدست عليها أكوأام الدفاتر وأالكتب ,لقد وأقفا حميد في باب الغرفة,
مستشع ار كما يبدوأا إحساسا غريبا ,كان قلقا بعض الشيء ,وأكانت طاقيته تدوأر بين أصابعه
الصغيرة ,وأعيوأنه تتناوأب التحديق إلي ,وأالى الغرفة..
وألكنني لم أعرفا كيفا أتممت درسي ,كنت أحس بقلق غريب ,وأكنت أخشى أن أنفجر بالبكاء أمام
الطلبة.
وأفى الفرصة كان حميد يغط في نوأم عميق ,وأكان انفه الصغير مازال مزرقا من فعل البرد إل أن الدم
كان قد بدأ يرد إلى وأجنتيه .لم يسأل أحد من الساتذة أيأ سؤال ,إذ أن حوأادث كثايرة من هإذا الطراز
كانت تحدث كل يوأم ,وأاكتفى الجميع برشفا الشايأ صامتين.
وأطوأال اليام التالية كنت ابحث عن طريقة ادخل فيها إلى حياة حميد دوأن أن يمسه فضوألي ,وأكانت
هإذه العملية صعبة للغاية ,إذ أن كل طالب في مدرسة النازحين كان يصر على الحتفاظ بمأساته
الخاصة ,وأضمها بعنفا في صدره..كأنما كان هإنالك شبه اتفاق مشترك على أن هإذا وأاجب
وأضروأريأ..
إن الشياء الصغيرة ,حينما تحدث في وأقتها ,يكوأن لها معنى اكبر منها ,اقصد أن هإنالك بداية
صغيرة لكل حادث كبير..
ففي أحد اليام آتى أخي الصغر إلى المدرسة يحمل طعام الغداء لي ,وأحينما أعلمني خادم المدرسة
بذلك ,أرسلت حميدا إليه كي يأخذ منه أوأعية الكل .وأعندما عاد حميد أحسست بأنه أهإين بكيفية
أوأ بأخرى ,وألذلك طلبت منه أن يراجعني في غرفة المدرسين ,أثاناء فرصة الغداء.
دخل حميد غرفة المدرسين قلقا كالعادة ,كنت وأحيدا ,وأرغم ذلك فان قلقه لم يبارحه ,كانت أصابعه
تدوأر طاقيته باضطراب ,وأكانت عيوأنه تلتمع كعادتها..
ـ حميد ,هإل أعجبك أخي؟
ـ انه يشبه أخي..
لم اكن أتصوأر أن الموأضوأع سوأفا يطرق بهذه السرعة...وألذلك فلقد سألت متعجبا:
ـ أخوأك؟ أنني اعرفا أن لك أختين فحسب..
ـ نعم .وألكن أخي مات..
ـ مات؟..
أحسست باضطراب أنا الخر ,فهذا الصغير يضم صدره الضامر أسرار كبيرة..
ـ كان اصغر منك..هإا؟
ـ كل..اكبر مني..
ـ كيفا مات؟
وألكن حميد لم يجب ,وأشاهإدته يغالب دمعا غلبه في نهاية المر ,وأامتل وأجهه الصغير بدمع غزير
اخذ يمسحه خجل بعض الشيء...
ـ حسنا..ل تتكلم ..أتعرفا إن أخي أنا الخر مات؟
ـ صحيح؟
ـ نعم ..لقد دهإسته سيارة كبيرة..
كنت اكذب..وألكنني رغبت في أن أشارك أحزان الصغير بكيفية ما..وأشعرت بان كذبتي أخذت طريقها
السوأيأ إلى رأسه إذ التمعت عيناه بأسى مفاجئ وأمضى يحكي ببطء:
ـ أخي لم تدهإسه سيارة...لقد كان يعمل خادما في الطابق الرابع..وأكان سعيدا..
كان حميد يستخدم بذراعيه كي يوأضح كلمه وأكانت دموأعه تنساب دوأن أن يشعر..
ـ لقد اطل في قفص المصعد فقطع المصعد رأسه وأهإوأ يهبط..
ـ مات؟
كان السؤال سخيفا ,وأرغم ذلك فلقد أحسست بضروأرته من اجل أن أهإدهإد قشعريرة مفاجئة تكلبت
في جسديأ..وأهإز حميد راس ثام سال فجأة:
ـ هإل قطعت السيارة راس أخيك؟
أخي؟آه..نعم..نعم لقد قطعت رأسه..
ـ هإل حزنت عليه كثايرا؟
ـ نعم..
ـ هإل تبكي عندما تتذكره؟
ـ ليس كثاي ار...
ـ قل لي يا أستاذ ...هإل لك أب؟
ـ طبعا ,اعني نعم ,لماذا؟
تكهفت عيناه بأسى فاجع وأشعرت بان للمأساة ذيوأل تعصر رئتيه...وألكنني كنت على يقين بان
حميد سوأفا لن يجيب على أيأ سؤال...لقد انطبقت شفتاه بإحكام مصر..وأيمم عيناه شطر الحائط
العاريأ...كان بنطاله قصي ار ممزقا وأكان قميصه الزرق متسخا مهترئا...وأحين شاهإدني أطالعه
باستغراب لململم نفسه وأاحمر وأجهه قليل وأازدادت سرعة الطاقية الصوأفية الدوأارة بين أصابعه.
لقد بدأت مشكلة حميد تدخل شيئا فشيئا فيما بعد ,إلى حياتي.
كنت ل أستطيع على الطلق أن أكوأن عاب ار في حياته ,متفرجا إلى مأساته ,وأمن بين عشرات
المآسي التي حفل بها صفي لم تجذبني إل عيوأن حميد البائسة اليائسة..صرت أفكر فيه على
الدوأام.وأكثاي ار ما كنت اقرر أن أبدأ بنفسي ,خارج المدرسة ,بحثاا متصل حوأل حياة حميد..بل لقد
فكرت يوأما في أن ابحث عن طريقة تجعل أمر مساعدته ماليا شيئا طبيعيا ل يحمل رائحة
الهإانة..وألكن كل شيء كان يدوأر مجهدا حوأالي ,وأكان ينتهي إلى الفشل أمام العيوأن التي تحتوأيأ,
إلى جنب السى ,شيئا كثاي ار من الكبرياء وأالتعالي..
إل أن علقتي بقضية حميد أخذت تخفت شيئا فشيئا بعد سلسلة من الحداث الصغيرة جعلتني احمل
نقمة غريبة على هإذا المخلوأق الصغير ,المقعد ,المكوأم فوأق أسرار ,ل تنتهي إلي لتبدأ ,وأل تبدأ إل
لتستمر..فلقد حدث ذات يوأم أن شكا إلي حميد أستاذا زميل أهإانه إهإانة بالغة.وألقد قال حميد,
يوأمها ,وأهإوأ يحدق إلي مكش ار بعض الشيء:
يتيم...وأال لكنت استدعيت أبى..
إ ـ إنني
ـ هإل..أبوأك ميت؟..
قال بخجل وأهإوأ يطأطئ رأسه:
ـ نعم..
ـ لماذا لم تقل لي ذلك من قبل؟
لم يجيب حميد على سؤالي وأاكتفى بان هإز رأسه باتصال ,.وأصمت:
ـ أنت الذيأ تصرفا على عائلتك إذن؟
ـ نعم..أنا الذيأ اصرفا..أن أمي تكسب قليل من تنظيفا مخازن وأكالة الغوأث..وألكنني أنا اكسب
اكثار..
وأصمت حميد قليل ثام اندفع قائل وأهإوأ يبسط كفيه الصغيرتين مستعينا بحركاتهما:
ـ إنني اشتريأ كل ثالث كعكات بعشرة قروأش..أبيع الكعكة الوأاحدة بخمسة قروأش..
ـ أما زلت تنام وأأنت تنتظر خروأج روأاد السينما؟..
ـ كل..لقد تعوأدت السهر..
هإل من الضروأريأ أن يعترفا المدرس ,بين الفنية وأالخرى ,بأنه يلجا إلى الغش كي يعين طالبا
مسكينا على النجاح؟.لقد كنت أنا افعل ذلك..كانت علمات حميد جيدة على الدوأام رغم انه كان
متوأسط المستوأى ,لكني لم اشعر قط بعدالة علماتي بقدر ما كنت اشعر هإذه العدالة حينما كنت
أسجل علمات حميد..
وألكن القضية ل تتحرج هإنا على الطلق ,لقد بدأت تتحرج فقط حينما أخذت اشك في سلوأك هإذا
"الحميد" وأفي كلمه لي ,بل وأفي دمعه أيضا..
وأفي عصر يوأم قائظ من أيام نهاية العام نقل ألي تلميذ الصفا أن خادم المدرسة ضرب حميدا
ضربا قاسيا حينما كان يحاوأل عبوأر حاجز المدرسة هإاربا ,وأحينما استدعيت الخادم إلى غرفة
المدرسين كي أعاتبه وأجدتني أوأاجه رجل يتمتع بقناعة غريبة بأنه إنما فعل عين الصوأاب ,ضاربا
عرض الحائط بكل مفاهإيم التربية النموأذجية التي حاوألت أن أوأضحها له..حينذاك لم أجد بدا من أن
أوأاجهه بمنطقه الخاص:
أحسست بإهإانة تصفع صدريأ..وأساءني أن يكوأن الصغير قد بنى عطفي عليه فوأق أكاذيب
منحطة ..شعرت بأنني لم اكن سوأى مغفل طيب القلب وأان كل العلمات التي جعلتها تخطوأ من فوأق
ضميريأ بارتياح تضحك في وأجهي الن بشراسة..
وأطوأال الطريق إلى بيتي كانت كلمات أبى سليم تعرك رأسي وأيدوأيأ صداهإا في حنجرتي..وأكنت احدث
نفسي زاعما لها أن اؤلئك الملعين الصغار هإم في الحقيقة اكبر بكثاير من أعمارهإم وأان الخطأ كان
في أنني عاملتهم على انهم أطفال فحسب ,لقد تغاضيت عن كوأنهم رجال صغار يستطيعوأن
الوأصوأل إلى ما يريدوأن بأية طريقة تخطر على بالهم..وأان لعبة حميد على أستاذه ليست في نظره
سوأى لعبة بائع كعك على زبوأن نصفا سكران تنتهي بشراء كعكتين ,أوأ كعكة بسعر كعكتين ..
وأرغم هإذا الكلم ,فأنني لم استطع أن أتخلص من شعوأريأ الحاد بأنني أهإنت على يد حميد إهإانة
بالغة ,وأأخذ تفكيريأ يسير في الطريق الذيأ يؤديأ إلى إيجاد انتقام ما..أنني اعتقد الن بان القضية
تافهة ,وأان تفكيريأ كان اتفه ,وألكنني لم اكن أرضى لحظتذاك بأن أتنازل قيد أنملة وأاحدة عن حقي
في أن امسح الهإانة..
وألكن الذيأ حدث فيما بعد لم يستطع أن يهدهإد غضبي ,بل على العكس ,لقد زاده أوأارا على
ص علي طالب ثارثاار كيفا ماتت
أوأار..وأاستشعرت بعدهإا ألما ممض ا يعتصر صدريأ بل هإوأادة..فلقد ق ي
أم حميد قبل شهوأر طوأيلة بعد أن وأضعت طفلة ميتة..
وأوأجدتني أغوأص في دوأامة من الكاذيب كوأمها حوألي هإذا الحميد الصغير ببراعة ل تكاد تصدق...
أتت نهاية احتمالي في غداة يوأم قائظ ,كنت عائدا فيه من المدرسة فرأيته فجأة بعد غياب طوأيل..
أتكوأن محض مصادفة غريبة أنني التقيت به في نفس المكان الذيأ شاهإدته فيه لوأل مرة؟
كان مقرفصا هإناك خلفا صندوأقه الخشبي الملوأث بالدهإان ,يحدق إلى الشارع راغبا في اصطياد
حذاء ما...فيما وأقفت أنا نصفا مصعوأق أكاد ل اصدق أنني أرى بائع الكعك المزعوأم ,وأأحسست
بالهإانة تجترح حلقي ,وأحينما استطعت أن أميز ماذا كنت افعل وأجدتني ممسكا بياقة الصغير أهإزه
بل هإوأادة..وأأفح باتصال:
ـ أيها الكذاب..
رفع الصغير عيوأنه أمامي مفتوأحة حتى أقصاهإا ,ممزوأجا لمعانها بمعنى من معاني الخوأفا
المفاجئ ,وأرأيت شفتيه تتحركان دوأن أن تستطيعا النطق بينما فشلت محاوألته الصغيرة للخلص من
بين قبضتي..
وأعدت اكرر وأقد أحسست بشيء يهوأيأ في صدريأ أمام الصمت اليائس:
-أيها الكذاب...
-أستاذ..
قالها باسترخاء رافعا إصبعه بصوأرة آلية وأنظر حوأاليه باضطراب ثام اعترفا راجفا :
-نعم يا أستاذ أنا كذاب ,وألكن اسمع..
-ل أريد أن اسمع شيئ ا..
ضاقت عيوأنه وأخيل إلى أن دمعة توأشك أن تسقط وأعاد صوأته يرجفا من جديد:
-اسمع يا أستاذ..
-آيها الكذاب...آنت تعيش مع أمك ...فليس كذلك أيها الكذاب ؟
-كل يا أستاذ..كل..إن أمي ميتة وألكنني ل أستطيع أن أقوأل..فحينما ماتت أمي طلب وأالديأ منا أن
ل نقوأل شيئ ا عن موأتها..أن نصمت..
لم أدر كيفا أتصرفا ,هإممت أن أطلق ساقي للريح ,وألكني وأجدتني أضعفا من أن أفعل ..وأبقي
الرأس الصغير بشعره السوأد الخشن منحنياا ,وأدوأن أن أحس رفعت قدمي وأأركزتها على حدبة
الصندوأق..
بدأت الكفان الصغيرتان تعملن بحذق فيما أخذ الرأس الخشن يهتز فوأق الحذاء ,ثام وأصلني
الصوأت إياه قائلا ببساطة:
الكوأيت 1959