Professional Documents
Culture Documents
جمموعة ق�ص�صية
الكتاب :الديوك الرومية ال تطري (جمموعة ق�ص�صية)
امل ؤ�لف :حممد �إبراهيم ق�شقو�ش
الوىل :القاهرة 2008 الطبعة أ
اليداع2008/8805 : رقم إ
الرتقيم الدوىل:
I.S.P.N: 987 – 977 – 6284 – 03-6
النا�رش
�شم�س للن�رش والتوزيع
� 8053ش 44اله�ضبة الو�سطى – املقطم – القاهرة
ت /فاك�س)02( 0188890065)02(27270004 :
Web: www.shams-group.net
م
�إهداء
�أر�ض �صحراوية ال مير من فوقها �سوى رياح خما�سينية ،فج أ�ة يف ليلة
�شتوية من ليايل � 2007ضلت ن�سمة ربيعية جميلة طريقها فعربت من
فوق ال�صحراء ،اختلطت باجلو ال�ساخن� ،صنعت �سحابة داكنة ،ت�ساقطت
�أمطاراً غزيرة� ،أنبتت نبتة جميلة لي�س لها مثيل على ظهر الب�سيطة،
�أخرجت �أزهاراً وثماراً لذيذة ال توجد �إال يف اجلنة ،وبذوراً تطايرت هنا
وهناك �أ�صابت ال�صحراء ببقعة خ�رضاء تف�شت حتى اختفت رمالها.
تلك أالر�ض اجلرداء مل تكن �إال �أنا ،وللنبتة اجلميلة التي �أ�ضاءت
حياتي �أهدي تلك املجموعة الق�ص�صية.
فائت ..خيوط ف�ضية ان�سكبت من بني ق�ضبانه احلديدية ..مل أ�فلح أ�بدً ا فى
الو�صول �إليه عندما كنت �صغ ًريا..
نف�س الوجود الدنيوي أل�شياء رحل أ��صحابها �إىل العامل ا آلخر تاركني
وراءهم خملفاتهم الرخي�صة ،أالر�ضية الرتابية ،اجلدران اجلريية الزرقاء
املت آ�كلة ،العروق اخل�شبية حتمل بعناء �سقف الدار ،حمتويات مل تتحلل أ�و
تتعفن كتعفن املوتى ،كما لو كانت خالدة إلن�سان غري خالد ..طبايل خ�شبية،
ماكينة حياكة منزوية فى �صمت ب�إحدى الزوايا ،كنب بلدي يتكئ فى �شجن
على اجلدران وزير املاء املثقوب ..عندما رفعتُ غطاءه ظننت أ�نني �س أ�جد
بداخله ما ًء ..منذ عمر م�ضى كنت أ�عتقد أ�نه يو ّلد املاء كال�صنبور ،جر أ�تي
مل ت�صل �إىل أ�ن متتد يدي داخله أل�شرب ..علي بن خالتي أ�م جنوانة جارة
جدتي -ذلك الولد القذر الذي مل يكن يخجل أ�ن يلعب الكرة وال ُغمي�ضة
وكهرب مبالب�سه الداخلية املن ّقرة بثقوب عينية كفتحات ا�ستطالعية بجدار
ح�صن منيع -ما زلت أ�تذكر كالمه (�إن فى جوف الزير كه ًفا مظل ًما ت�سكنه
أ�فاعي و�سحايل و�صرا�صري متوح�شة بذيئة) ،عندما كانت جدتي تناولني
املاء أل�شرب كنت أ�حدق فى املاء ..أ�حاول الت أ�كد من خلوه من تلك الكائنات
التي يتحدث عنها.
�ساقي قلي ًال ا�ستطعت أ�ن أ��ضع كر�سي احلمام اخل�شبي
بعد أ�ن طالت َّ
ال�صغري و أ�قف عليه أل�صل حلافة الزير املو�ضوع على احلامل احلديدي
و أ�كت�شف كذبه و أ�فهم لعبته؛ ال�ضحك على طفل قاهري مدلل جاء لق�ضاء
أ�جازته ال�صيفية فى قرية جدته الريفية ..عندما واجهتُه بكذبته اندفع فى
ال�ضحك والقهقهة حتى �سقط على أالر�ض� ..ضحكاته املد ّوية ما زالت عالقة
ب�إذين.
xxx
10
الديوك الرومية ال تطري
(ت أ�خر الرجل) ...هذا ما قلته لنف�سي عندما نظرت فى ال�ساعة على
بقايا �ضوء المع يربز نف�سه على ا�ستحياء كامر أ�ة خجلة تخفي فمها وراء
مالءة ..فر�صة كوين مب�صر لثالثة أ��سابيع كاملة أ�تاحت يل الوقت لت�صفية
كل �شيء قبل العودة �إىل اخلارج ل�سنوات قادمة ،وكان مما يدور فى عقلي
بيع دارنا القدمية التي �صارت مهجورة ..جدرانها أ��صبحت متتلئ ب أ�حداث
�سالفة �سقطت فى التاريخ ..دائ ًما ما كنت أ�كره التاريخ ..أ�عتربه م�ضيعة
للوقت ..أ�قول ال وقت للتذكر والبكاء ،اليوم وقت العمل..
�سيل من موجات كهربية تدفقت أ�مام عيني أ��صابتني ب�صدمة أ��سفل
مركز الذاكرة اق�شعر لها ج�سدي ،انتف�ضت منها �صور عالقة من �آخر يوم
كنت هنا ..الوقت ع�ص ًرا فى يوم من أ�يام رم�ضان ..أ�جري بباحة الدار مع
ثالثة أ�طفال فى حلقات معوجة ك أ�ننا بفناء مدر�سة أ�و ملعب ،ال أ�كاد أ�ذكر
منهم �إال ع ِل ّي وم�سحات من وجوههم النحيفة ،أ��صواتنا ترتدد بالغناء على
وترية واحدة.
يا فاطر رم�ضان يا خا�سر دينك.
هتقطع م�صارينك.كلبتنا ال�سودة ّ
موحد ربك. يا �صامي رم�ضان يا ّ
كلبتنا البي�ضة هتبو�سك من خدّك.
جتذبنا كلماتها املتوافقة إلعادة تكرارها كل قليل ..عندما رددنا تلك
أالغنية �صباح ذلك اليوم أ�مام قهوة ب أ�ول القرية اندفع رجل يجري وراءنا
بع�صاه ..مل ن�شعر �إال و أ�رجلنا تطري من فوق أالر�ض ك أ�ن أ�جنح ًة قد نبتت لها،
ومل ندر ملاذا جرى ذلك الرجل وراءنا؟..
11
ُحبيبات ذهبية انترثت فج أ�ة من عقلي و�سرعان ما اختفت ك أ�طياف
الذاكرة ،مل يتبقَّ منها �إال خيوط من �ضوء ف�ضية باهتة مميزة لوقت الغروب...
حجرة اخلبيز ما زالت كما هي ميني الردهة امل ؤ�دية حلجرتي ..الفرن البلدي
و أ�كوام الق�ش و أ�قرا�ص ال�سماد مك ّومة فى ركن احلجرة واملاجور والب�شكور
وطبلية كبرية وكل أ�دوات اخلبز ..ما زالت تلك حمتوياتها� ..صرا�صري الليل
تناغي ال�سكون والظلمة املحلقة ب أ�جوائها..
فى نف�س ذلك اليوم عندما كنت أ�لعب ب�ساحة الدار أ�طللت على تلك
احلجرة التي كان ينبعث منها الدخان؛ يتحرك ك أ��سراب نحل متتابعة..
الن�ساء العجائز امللتفات حول الفرن -وطبلية وماكينة �سحرية يدخلها
العجني من أ�حد جوانبها ويفارقها أ��صاب ًعا رفيعة من اجلانب ا آلخر -لف َ
نت
نظري بتلك الدوائر اللحمية حول أ�فواههن وحتت أ�عينهن ،و�صوت العجني
ي�ضرب فى املاجور أ�عطاين �شعو ًرا أ�نهن عاكفات على �صنع �شيء من نوع
خا�ص لي�س له مثيل مل ُيف�صحن عنه بعد ...أ�عينهن امل�صوبة نحو خالتي
أ�م �شبل -التي قر�صت على قطعة من العجني تتفح�صها بيدها -ك أ�نها قد
حتجرت� ...صوتها يعلن فى ثقة (يحتاج كب�شتني دقيق) وقتها �سقطت عيني
على كومة من الب�سكويت فقد مقدرته على أ�ن يظل فى ر�شاقة �إ�صبع اليد؛
ف�صار كوجه ال�سمكة املم�سوخ ،ذلك جعلني أ�درك أ�نّ ذلك الب�سكويت -الذي
نافخا فيه وي أ�بى أ�ن
علي منذ قليل يقلبه بني كفيه ويرميه ألعلى ً
كان فى يد ّ
حرجا أ�ن أ�م َّد يدي و أ�كب�ش
يخ�صنا ،لذلك مل أ�جد ً
يعطيني منه ِك�سرة -كان ّ
لل�سف مل أ�كن أ�ق ّلبه ...فقد أ�ربعة أ��صابع من ب�سكويتنا املفرطح ،ولكنني أ
�سرت فيه الربودة ويب�س حتى �صار كقوالب الطوب أال�سمنتي ال�صغري.
12
مل ي�ستطع حذائي اجلديد ذو اجللد الل ّميع أ�ن يعلو ب�صوته على �صوت
مف�صالت باب حجرتي املوجودة ب آ�خر الدار ،وعود الكربيت الذي أ��شعلته
ك�سا الغرفة بغاللة ذهبية متموجة تخايلت على أ�ركانها فبدت كما تركتها..
الدوالب املخلوع دلفه ..الكر�سي اخل�شبي مه�شم أالرجل املكوم كجثة جدتي
الهامدة فى ركن الغرفة الق�صي ،ال�سرير ذو الق�ضبان النحا�سية الذي فقد
بريقه منذ فقد احلياة عليه ..عندما انطف أ� الثقاب اعتلى الظالم عر�شه
مرة أ�خرى،مل يكن الظالم يخ�ص الدار وحدها كما ظننت ،أ�دركت هذا
عندما فتحت النافذة فتجلى �سواده احلالك.
داخل احلجرة عندما انتف�ضت فى الظلمة مالءة ال�سرير البالية مل
ي�ستطع ترابها الرمادي أ�ن يظهر فى أ�جوائها ،اللون أال�سود ي�سود ،فقط
رائحة عطنة كعبق املوت ...ن�سمات لطيفة ه ّبت مت�س ّللة من احلقول بني
أ�عواد الرب�سيم و�سنابل القمح ..وخدر لذيذ أ��صابني على مر أ�ى مقام �سيدي
لطيف من بني ق�ضبان النافذة احلديدية ..دفعني ذلك أل�ستلقي م�سرتخ ًيا
على ال�سرير متجاه ًال �شظى الغبار املتطاير.
�صوت جدتي ما زال يرتدد من حويل ك أ�نه يخرج من �صندوق معدين
أُ�حكم �إغالقه ..نف�س احلديث الذي دار بيننا.
-يجب أ�ن تنام ا آلن� ..صرنا فى الثانية ً
�صباحا.
-قب ًال ك ّلميني عن �سيدي لطيف والديك الرومي.
-أ�ي ديك رومي؟
كانت ت�س أ�ل فى ُخبث ،وقد اعتلت وجهها تلك االبت�سامة التي ت�صنع
دوائر حلمية كقطع الب�صل احللقية ..بدت مت�شابهة مع ه ؤ�الء الن�ساء
العجائز الالتي كن جمتمعات معها ذلك اليوم فى حجرة اخلبيز ،فظهر
13
ك أ�ن وجوههن متطابقة ..أ�جبتها متخاب ًثا أ�نا ا آلخر:
-ذلك الذي كننت تتحدثن عنه اليوم أ�مام الفرن و�سمعتكن تذكرونه
قبل ذلك.
حكي لك فى ال�صباح. -وترد :من الليلة و أ�عدك أ�ن أ� َ
كنت أ�علم أ�نها تقول ذلك لكي أ�نام وينتهي أالمر وتريح ر أ��سها ،لذلك
أ��صررت على طلبي ..قلت لها بتحدٍّ :
-بل حتكيها الليلة و�إال �س أ�بقى �ساه ًرا أ�لعب حتى ال�صباح.
نظراتها ال�صامتة د ّلت على ي أ��سها مني وعدم القدرة على مناكفتي،
ولكنها ما لبثت أ�ن زفرت بتنهيدة طويلة خرجت من فتحات أ�نفها ،وبد أ�ت
تق�ص حكاية عمتي التي كادت أ�ن متوت وهي �صغرية مل تكمل الثالثة ،حتى ّ
يئ�س من حالتها أالطباء ..كانت وهي حتكي مت أ�ثرة لدرجة بالغة ك أ�منا تعي�ش
ما حدث من جديد ،ثم �سكتت فج أ�ة ك أ�منا ن�سيت �شي ًئا ،و أ�كملت �صارخة
(كانت تنام على هذا ال�سرير) وعادت ل�سرد ق�صتها ،قالت �إنّ روح �سيدي
لطيف جت�سدت على هيئة ديك رومي �ضخم اجل�سم كثيف الري�ش المع ُه -
و أ��شارت للنافذة التي تعلو ال�سرير -قاطعتها ً
�صائحا (�إنها بق�ضبان حديدية
�ضيقة).
بدا أ�نّ مقاطعتي لها قد �ضايقتها ..قطعت �سيل أ�فكارها املتتابعة ..قالت
بفتور (فيما بعد ..لقد و�ضعناها فيما بعد) ..وا�صلت حكيها ك أ�نني مل أ�قل
�شي ًئا ..قالت لقد دخل من هذه النافذة ،ووقف على نف�س ال�سرير الذي جنل�س
عليه يت أ�ملها فرتة وهي نائمة ،ثم م�سح ب أ�حد جناحيه عليها وعاد وقفز من
النافذة) بعد أ�ن ذكرت ذلك �سكتت لفرتة ..خيل يل أ�نها طويلة ..عدتُ
أ��س أ�لها ألحثها على أ�ن تكمل (وماذا بعد؟) ..حينئذ اندفعت �صائحة ك أ�ن
14
�س ؤ�ايل مل يكن متوق ًعا ..قالت (وماذا بعد ماذا! ...عا�شت وت�شيطنت مثلك،
و أ��صبحت مثل احل�صان ،أ�مل تكن موجودة اليوم عندما كنا نعمل الب�سكويت..
من ا آلن وكفى.
كتف مبا قالت؛ فعدت أ��س أ�لها مرة أ�خرى:
لكني مل أ� ِ
-هل �سيدي لطيف هذا رجل �شرير ،ولهذا دفنوه مبفرده فى هذا
القرب؟
بدا أ�نها فقدت كل ما عندها من �صرب عندما نفخت ب�شدة من فمها،
وقامت من جانبي متوجهة نحو الباب ،وعندما كانت عند الباب ا�ستدارت
و أ�جابت على �س ؤ�ايل الذي طرحته منذ حلظة ..قالت( :هو رجل طيب مع
الطيبني ،ولكنه ال يتهاون مع ال�شياطني املتعبني أ�مثالك) ..تناق�ص ال�ضوء
تدريج ًيا بتناق�ص فرجة الباب التي كان ينعك�س من خاللها أ�طياف ملبة
اجلاز ..حلظات من نعا�س أ�عقبت ذلك ..تب َّددت عقب �سماع ا�صطفاق
أ�جنحة قوي غري م أ�لوف ..حملقت فى املقام من النافذة احلديدية ..ازداد
ات�ساع عيني عندما ر أ�يت على املقام دي ًكا روم ًيا �ضخم اجل�سم كثيف الري�ش
المعهُ� ،إثر انعكا�س �ضوء القمر عليه ..حلظات وطار خمتف ًيا فى ال�سماء..
عندما جريت على جدتي و أ�خربتها قالت�( :إنّ الديوك الرومية ال تطري فى
الف�ضاء ،أ�لي�س من أالف�ضل لو منت؟) ..كان ذلك �آخر ما �سمعته منها ،ك أ�ن
مكوما على
روحها قد �صعدت تلك الليلة مع الديك تاركة وراءها ج�سدً ا ً
الفرا�ش ،عندما حركته فى ال�صباح مل يكن �سوى قطعة من حلم وعظم
ال تنطق .كنت ما أ�زال م�ستلق ًيا على الفرا�ش ،أ�رمق املقام ال�ساكن مكانه
منذ ع�شرات ال�سنني عندما دوى فج أ�ة نف�س ال�صوت الذي �سمعته منذ ت�سعة
عاما ...عندما نظرت �إليه بدا يل أ�نه نف�س ما ر أ�يته فى �صغري ،عندما
ع�شر ً
أ�معنت النظر فيه مل أ�جد غري فرخ حمام انت�صب للحظات على املقام،
15
وتل ّفت حوله ثم ارتفع فى ال�سماء ،بدا ظاه ًرا لوهلة على �ضوء القمر ،ابتعد
حتى �صار نقطة �صغرية امتزجت بالظالم� ..صوتها ما زال فى أ�ذين وهي
تبت�سم حمدثة تلك الدوائر التي ت�صيب العجائز فى وجوههم (�إن الديوك
الرومية ال تطري فى الف�ضاء ،أ�لي�س من أالف�ضل لو منت؟)
طرقات قوية على الباب اخلارجي ،جعلتني أ�قفز ذع ًرا من فوق ال�سرير
م�ستيقظا من ذكرياتي� ..شبح أ��سود يقف عند الباب ..عندما ً النحا�سي
أ��شعلت عودًا من الكربيت تبني أ�نه رجل� ..صوته أالج�ش ك أ�نه ي أ�تي من عامل
�آخر أ�و لعله أ�ح�ضرين من العامل ا آلخر� ..سمعته يتكلم عن املوعد� :آ�سف على
الت أ�خري (قال ذلك) ..الظروف ،الطريق طويل ..الطريق غري م�سفلت..
أ�عمدة ا إل�ضاءة املطف أ�ة ..عجلة ال�سيارة أالمامية اليمنى .ا�ستمر م�سرت�س ًال،
هل ت�صدق هذا؟ ..ثقبني ملرتني فى نف�س ا إلطار�.س ؤ�ايل الفاتر ع ّما يريده
بالم�سدفعه لي ؤ�كد �شخ�صه ،قال :أ�نا احلاج فتح اهلل ،أ�تذكر؟! لقد كلمتك أ
فى التليفون بخ�صو�ص �شراء الدار....
كان الثقاب ما زال يرتاق�ص بني يدي ،أ�ح�س�ست بناره تكوي أُ��صبعي،
املعطنة ،توجهت تف�شى الظالم مرة أ�خرى فى أ�ركان الدار ّ نفخت فيهّ ،
خارجا منها داف ًعا احلاج فتح اهلل برفق ليحذو حذوي... نحو باب الدار ً
أ�غلقت الباب ،قلت له بهدوء( :لقد جئت مت أ�خ ًرا ،لقد غريت ر أ�يي ،لن أ�بيع
الدار).
16
جال�سا بال�شرفة أ�حدق فى ال�سماء ..لفحات من هواء هبت مع كنت ً
ن�سمات من ذكريات الزمن البعيد ..تذكرتها جيدً ا ..أ�غلبها يدور فى
ا إل�سكندرية -مدينتي املف�ضلة -نهار ا إل�سكندرية بحر و�شم�س ورمل
أ��صفر ...فى �ساعة نهارية مبكرة من كل يوم يبتلع البحر رواده ،وخلطة
�سحرية مكونة من هواء وبحر و�شم�س وملح حتيلهم �إىل أ��شخا�ص �آخرين،
وقت الغروب يلفظهم البحر بوجوه جديدة حمراء و�سمراء ،متعتي كانت
اال�ستلقاء حتت ال�شم�سية على ال�شاطئ والنظر �إىل أ�على ،بينما ر أ��سي تتكئ
فى ا�ستكانة على كفي .فى حلظات كثرية من حلظات ا�ستلقائي تقع عيني
على �صف العمارات ال�شاهقة البي�ضاء املطلة على البحر ،بع�ضها كان يزيد
عن الع�شرين طاب ًقا والبع�ض ا آلخر ال تتع َّدى اخلم�سة طوابق .أ�بي الذي كان
يجل�س بجانبي ينظر فى اجتاه البحر ..قلت له مرة( :من ميلك �شقة فى
الطابق الع�شرين تك�شف له �شواطئ ا إل�سكندرية ،لن يكون فى حاجة للنزول
�إىل أ��سفل� ،سيكتفي باجللو�س فى ال�شرفة والر ؤ�ية من أ�على) ..عندما قلت
له ذلك أ�جابني �ساخ ًرا(:احلم على قدر ما متلك) ..كان ك أ�نه ا�ستطاع أ�ن
يقر أ� ما يدور فى عقلي.
-فى ال�سماء ..التم�شية على الكورني�ش ممتعة .أ�جتاز مع أ�بي و أ�مي
و أ�خوتي وجدي ذو العكاز امل�سافة بني ا�سبورتنج �إىل ميامي م�ش ًيا
على أالقدام .هواء الكورني�ش اجلميل ال ينقطع ،يجعلنا ن�شعر بالربد
19
فى �صيف يوليه،نرتعد ونرتع�ش ون�ضم ياقات مالب�سنا.
عند اجللو�س للراحة قلي ًال على �سور الكورني�ش،وم�شاهدة املارة
وال�سيارات وت أ�مل العمارات العالية،يكون ألكل الذرة امل�شوية والتني ال�شوكي
وقزقزة الرتم�س و�شرب املثلجات لذة بالغة ،وال�ضحكات والب�سمات وتذ ُّكر
وال�شخا�ص �شيء ممتع هو ا آلخر.أال�شياء أ
نهاية الليل فر�صة القتنا�ص ع�شاء جماين عبارة عن كيزر باجلنب الرومي
أ�و الب�سطرمة مع حلويات وجاتوهات معلبة بداخل علب كرتونية فاخرة..
احل�صول على ذلك �سهل فى الكافيرتيات الليلية املطلة على البحر -ذلك
عندما تكون عامرة ب�إحدى أالفراح -املطلوب فقط اجللو�س على �إحدى
الكرا�سي مع املعازمي وم�شاهدة الراق�صات واملغنيات وانتظار موزع الع�شاء..
ليلي �آخر ،أ��سماء
فى بع�ض املرات نح�صل على العلب ونن�صرف لندخل مل ًهى ٍّ
بع�ضها ما زال عال ًقا فى ذاكرتي ،نفرتيتي وكليوباترا وال�شاطبي.
�ضحكت عندما تذكرت جدِّ ي ،وهو ي�ستند على عكازه مرتد ًيا اجللباب
أالبي�ض ك أ�بي ...كان ذلك عندما نظر إلحدى الفنادق العمالقة فئة اخلم�سة
جنوم ..وقتها �شهق من جمال الفندق وارتفاعه ..قال( :البد أ�نها باهظة
الثمن� ...إن ثمن الغرفة الواحدة ال ميكن أ�ن يقل عن اخلم�سة جنيهات)
والحذية اجلديدة ذات -فى أ�يام أ�خرى نذهب للت�سوق و�شراء املالب�س أ
أال�سعار املحدودة ..ذلك عندما نكون فى حمطة الرمل أ�و املن�شية أ�و
خالد بن الوليد مبيامي ..ال�شوارع دائ ًما ت�ضج باحلركة ...ال أ�حد
ي�سرتيح فى ا إل�سكندرية ...فى الوقت الذي يذهب فيه أ��شخا�ص يحل
حملهم �آخرون ...تبدو ال�صورة عن ُبعد ك أ�نهم نف�س أال�شخا�ص الذين
فى البحر ،ونف�سهم على الكورني�ش ،ونف�سهم عند الذهاب للت�سوق،
20
الر ؤ�ية من أ�على
21
• (مرحلة ما قبل الهجرة)
بداي ًة مل يكن هناك مكان لقدم زائدة ..القاهرة ك�ساندويت�ش حلم مفري
ميتلئ عن �آخره ،الكل يلهث بني �ضفتيه ،فى أالتوبي�س قد أ�حرك قدمي لكنني
ال أ��ضمن أ�ال أ�ده�س قدم أ�خرى ال تخ�صني ،قد ي�ضطرين ذلك امل أ�زق أ�ن
لل�سف قد أ�جده ُ�شغل ،أال�شخا�ص الت�سعة الذين احتدت أ�عود ملكاين ،لكنني أ
ر ؤ�و�سهم بر أ��سي �صرنا ن�شرتك م ًعا فى �شيء واحد؛ أ�ننا كائن أ��سطوري مل
يولد من قبل ميلك ع�شرين رِج ًال وع�شرين يدً ا وع�شرة ر ؤ�و�س أ�نثوية وذكورية
نف�سا واحدً ا كب ًريا ،رغم أ�ننا منلك ع�شرة
بع�شرين عني و أ�نف واحدة ت�سحب ً
ر ؤ�و�س �إال أ�ن تفكرينا واحد ،الكل ين�صب حول فكرة واحدة؛ عدم احلركة..
الكل يخ�شى أ�ن يفقد موقعه.
xxx
• (ال�سنة العا�شرة)
26
مو�سم الهجرة إ�ىل أ��سفل
فى خالل تلك ال�سنة مت حفر أ�نفاق خا�صة لبناء وحدات �سكنية حتت
أ�ر�ضية و أ�خرى للم�صانع والور�ش ،كان ذلك للح ّد من التعديات على أالنفاق
املرورية .الغزو ال�سفلي جعل قاع القاهرة كقطعة من اجلنب الذي تخلله
الدود .أ�كرب تعدٍّ حدث عندما اكت�شفت ال�شرطة حقل قمح �صغري ب�إحدى
أالنفاق غري امللحوظةُ ،ت�سرق مياهه من واحدة من الرتع النفقية .مع
ا�ستمرار النزوح �إىل أ��سفل مل يتبقَّ ب أ�على غري قوات ال�شرطة وقوة اجلي�ش،
وقتها فقط أ�دركت أ�نه ال داعي أ�و فائدة من بقائها ب أ�على .كان هذا عندما
بد أ� نزوح قوات ال�شرطة واجلي�ش �إىل أالنفاق أالر�ضية.
xxx
بعد مرور ع�شرات ال�سنوات كان هناك من ي�سخر وي�ضحك غري م�صدق،
عندما يتحدث أ�حد عن أ��شخا�ص �آدميني يعي�شون فوق أالر�ض....
كان الرد دائ ًما �ساخ ًرا..
( أ��شخا�ص يعي�شون ب أ�على ..يا له من �شيء خيايل!!!)
27
ياد مت�شققة وكعوب جافة وعظام بارزة ...هكذا �صارت، امر أ�ة ذات أ� ٍ
كح�صان هزيل �آن أالوان لي�صيبه طلق ناري مبنت�صف ر أ��سه ...يداها
املت�شققة بخطوط متعرجة �سوداء تزرف قطرات من فقاقيع �صابونية كثيفة..
متتد ل�سلك املذياع ال�سوين الياباين ،تثبته فى احلائط الرمادي اللون فاحته،
لونه الرمادي يتنا�سب مع الرتابة التي متر بها ،تبحث بني موجاته ال�سقيمة
عن أ�غنية عاطفية مرتاخية ،يتناهى �إىل أ�ذنيها �صوت رخيم تعرفه ،تدرك
أ�نه �صوت أ�م كلثوم ،ينت�شي ج�سدها الهزيل ،ارتعا�شة م�صاحبة تزيدها
برودة اجلو ال�شتائي الطوبي ،املياه الباردة تكاد جتمد أ�و�صالها ،ن�سمات
باردة تت�سلل من النافذة املفتوحة أ�مامها ،منذ �ساعة تقف أ�مام أ�كوام من
�آني ٍة و�صحون مت�سخة ك أ�كوام اجلرائد التي تراكمها كل يوم لتقر أ�ها ،الدهون
املمتزجة باللون ال�سماوي أالحمر جتلطت على أال�سطح ال�صاج ،تتعب فى
�إزالتها ،كلمات أ�م كلثوم ت�شجيها ،تزلزل دخائلها احلبي�سة (�إمنا لل�صرب
حدود) أ�غنية أ�م كلثوم ،يوم �سرمدي ال ينتهي ك أ�نه فقد القدرة على احت�ساب
الوحدات الزمنية� .شاردة تنظر من النافذة ،كل �شيء هو لوحة كئيبة ذابلة
أل�شياء �سكتت عن احلركة؛ املباين ..ال�سيارات ...ال�شوارع الدميمة الوجه
املت�شربة مباء مطر و�صرف �صحي..الطينية ..هي فقط ك آ�لة زمنية ال تتوقف
تنتقل من زمان لزمان ومن مكان آلخر ،ال وقت للثبات.
31
زوجها ال ي�ساعدها فى �شيء ،بينهما فتور أ�زيل ،ك�إلكرتونات ذرة يدوران
فى أ�فالك متخالفة ،ال يلتقيان .تتذكر �سيناريو يومها املتكرر ،طابور اخلبز
الذي عليها أ�ن جتتازه ،يقول لها زوجها�( :صف الن�ساء دائ ًما أ�قل من �صف
الرجال).
ازدحام �سوق اخل�ضار كيوم احل�شر على أ�ر�ض طينية وحلة ،ارتفاع أ��سعار
القوطة ،الكن�س وامل�سح والغ�سل ب أ�طراف حتجرت كقطع من ثلج غري ذائب،
طهي الطعام ،ن�شر الغ�سيل على املارة� ،إطعام ال�صغار وتنظيف أ�ماكنهم
املت�سخة ،مهام متعاقبة تنتظرها دائ ًما �صارمة حادة موتّرة كطابور اخلبز،
�صباحا يقطع �آهات أ�م كلثوم احلزينة ،كلمات ً �صوت مذيع ن�شرة الواحدة
م�شو�شة ب�ضجيج أالواين املعدنية على احلو�ض اال�ستانل�س� ،شيء عن �ضربات
عاما دخل �صاروخية موجهة �إىل العراق ،ابنها البالغ من العمر خم�سة ع�شر ً
عليها ذات ليلة ،ر أ��سه ال�صغرية كانت مغطاة بخرقة من قما�ش ملون تخفي
�شعره أالكرت ،عندما �س أ�لته أ�جابها�( :إنه علم أ�مريكا ...القوة) قالها ك أ�نه
يع�شقها ...يقب�ض بيده فى الهواء على ال �شيء ،كما لو أ�م�سك �شي ًئا غري
�صاروخا نوو ًيا من أ�ر�ضها عاب ًرا للقارات
ً مرئي (ت�ستطيع أ�مريكا أ�ن تطلق
ي�سقط فوق ر ؤ�و�سنا ا آلن) ..كمن يزهو أ�و يفتخر مبعلوماته كان يخاطبها،
ع�شرات من اجلرائد حتتفظ بها ،ي�شع منها رائحة الرتاب العطنة ،تتحني
الفر�صة لتقر أ�ها ،يح�ضرها زوجها وتختزنها ،ير�سم على �شفتيه ابت�سامة
�ساخرة ،ال ينطق ب�شيء ..فقط يرتكها وين�صرف ،دائ ًما ين�صرف.
تتهادى �إىل أ�ذنها عرب املذياع ال�سوين أ�حداث جديدة؛ قتلى فى
�سرياليون ...أ�ين �سرياليون؟!� .صواريخ ت�ضرب العراق كتلك التي �ضربت
ال�سودان و أ�فغان�ستان ،ك أ�نه مو�سم ل�صيد الطيور املحلقة ،من قبل كان العراق
يغزو الكويت وي�سقط قذائفه على ال�سعودية ،و�إ�سرائيل تفرقع كما لو كانت
32
نغمات رتيبة
بمُ ًبا أ�و هياكل فارغة ،كلمات ال تفهمها؛ عوملة ...جات ...واي بالنتي�شن...
لوكريبي ...كلغة جديدة مل تتعلمها ،أ�و أ�ن عقلها قد �سقط منها ،أ�زمات
اقت�صادية جتتاح العامل ينقلها املذياع �إليها ،تربر بها ارتفاع �سعر القوطة
فى ال�سوق� ،صواريخ أ�مريكا الطائ�شة ت�سقط ميي ًنا وي�سا ًرا ...تتذكر ابنها
�صاروخا نوو ًيا من أ�ر�ضها عاب ًرا للقارات ي�سقط
ً (ت�ستطيع أ�مريكا أ�ن تطلق
فوق ر ؤ�و�سنا ا آلن)
تنظر لل�سماء ال�سوداء القاحلة �إىل النجوم عرب النافذة ...تتوقع أ�ن ترى
�شي ًئا ،ال �شيء غري ال�صمت .ال�ساعة الواحدة والن�صف ،أ��صابع أ�قدامها
العارية تتقل�ص متباعدة عن البالط ،تتقي برودته الال�سعة ،ابت�سامة فاترة
انعك�ست على أ�كوام من أالواين النا�صعة ،قطرات نظيفة المعة ت�ساقطت
عنها؛ ورني ًنا رتي ًبا أ�حدثته كوحدات الثواين العالقة خالط �ضجيج �سيارة
عابرة .تنف�ض عن يدها �شذرات املاء ،جتذب �سلك املذياع من احلائط.
أ�جواء ال�شقة ترزح �ساكنة حتت غطاء من ال�صمت ...كل من حولها نيام،
أ�والدها يغطون فى نوم عميق منذ �ساعات ،الغطاء ال�صويف الثقيل جتذبه
فوقهم ليحذ أ�عناقهم.
ُ
غطيطه فى الغرفة الداخلية على نهاية الردهة املمتدة ينام زوجها..
غري مريح� ،إال أ�نها اعتادت عليه ك�صفري �صرا�صري الليل املزعجة� ،سلمت
بوجوده مثلها ككائن طفيلي يت�سلقها وتت�سلقه أ�حيا ًنا عندما ت�شعر بالرغبة أ�و
حتتاج للدفء ،تثني رجليها املجهدة ،متتد يدها أ��سفل ال�شوفنرية العمالقة،
ت�سحب كومة اجلرائد املرتاكمة ،ت�ضمها ب�إحدى يديها ،باليد أالخرى
بطانية وبرية ثقيلة ،وطبقة على �شكل انثناءات تربيعية ،تند�س حتتها على
كنبة ال�صالة البلدية ،ت�سند ر أ��سها املرهقة على التكاية القطنية ال�صلبة،
يدها املت�شققة بخطوط متعرجة �سوداء تتقلب حائرة بني �صفحات اجلرائد
33
املكد�سة ،وعيناها الف�ضولية حتاول أ�ن تلم مبا ت�ستطيع أ�ن تعرف ما يدور
حولها .عقلها �صار قط ًعا من تالفيف حلمية لي�س لها قيمة ،منذ زمن طويل
مل يعد يعمل� ،شحنات من النعا�س تقاومها ،تع�ش�ش داخلها ،من حولها ال
يع�ش�ش غري الربد وال�صمت ..ت�صر على القراءة .كانت قارئة جيدة قبل
الزواج ،تتذكر ..تتح�سر على ذلك�ُ .سحب بي�ضاء تتماوج أ�مامها ،ت�سود أ�و
يهي أ� لها ذلك ،ال تلبث اجلرائد أ�ن ت�سقط من يدها ،يخرج من فمها غطيط
ً
غطيطا غري مزعج ،ينطلق متتاب ًعا من بني �شفتيها ،عند ا إلن�صات له يبدو
مريح ك�صفري �صرا�صري الليل املزعجة.
34
(من فات قدميه تاه) ...قالها له أ�خوه عندما قذف بعنف الهوائي
القدمي من فوق ال�شخ�شيخة على ال�سطح أال�سمنتي ،و�صفق كفيه ببع�ضهما
ك أ�نه تخل�ص لت ِّوه من �شيء حقري..
ابت�سم له ..مل يعلق ..رفع الهوائي اجلديد املثبت فى ما�سورته الطويلة
املجاوزة ال�سبعة أ�متار .أ��سقط طرفها فى املكان املخ�ص�ص لها ..العرق
املت�ساقط منه بلل ثيابه ،جعله يبدو وك أ�نه �سقط فى املالح .حرك يده على
جبينه ،نف�ض عنه قطرات املاء املتجمعة بغزارة� ،شعر ب�سخونة داخل ج�سده،
نظر �إىل الهوائي بر�ضا ،مل يقتنع بغري أ�غلى الهوائيات ،اعتقاده املعتاد أ�ن
ال�شيء الغايل يربر ثمنه ،حمولته كانت ثقيلة ..أ�رهقته ..اجللو�س لرتكيب
حمتوياته الكثرية التي بدت مفككة كلعبة املكعبات التي يلعب بها أ�خوه
ال�صغري ،موائمة القطع مع بع�ضها ..تركيبه الذي ا�ستغرق ما يقرب من
ال�ساعتني ثم �صعوده فوق ال�شخ�شيخة ...كل ذلك أ�جهده ،مل ي�س ّري عنه غري
أ�نه �سيجني بعد قليل ثمرة جهده.
ن�سمات هواء عابرة عبثت بوجهه أ�تاحها انفتاح البوابات الليلية وقلقلة
الكتل الهوائية ال�ساكنة فى هذا االرتفاع ،قال له( :ا�ضبط االجتاه ..اجعله
ناحية القبلة) ابت�سم فى نف�سه ،كان مت أ�كدً ا أ�ن ذلك الهوائي الذي اختاره
لن يكلفه ذلك العناء الذي كان يبذله مع الهوائي القدمي ..بد أ� �صوته يبتعد
37
فى نزوله ال�سلم� ،صوته كان متقط ًعا غري وا�ضح ،مل حتتوه جدران� ،ضاع فى
الف�ضاء الرحب ،فهمه رغم ذلك ..قال له�( :س أ��ضبط القنوات و أ�بلغك من
�شباك ا إل�ضاءة).
-عندما كان مم�س ًكا مبا�سورة الهوائي �شعر بنف�سه كجندي فى املعركة،
يدير الرادار بكافة االجتاهات ،ير�صد طائرات العدو ،يتعقبها ويعطي
أالبعاد وا إل�شارة ل�ضربها .جتمدت نظراته على النجوم امل�ضيئة ،أ�ح�س
أ�نه قريب منها ،بينها ،يكاد مي�سك بها� ..إنها �صغرية جدً ا ولي�ست
كبرية كما ي ّدعون� .صوت يهتف من بعيد بدا له غري ًبا ،ك أ�نه قادم
من بني النجوم ،يخمن أ�نه أ�خوه� ..سمعه مرة أ�خرى ي�صرخ ..كان
يقول ( :أ�دره �إىل اليمني) أ�داره با�ستغراب ،اعتقد أ�ن أ�ول ما �سيقوله
له( :انزل من فوق ال�شخ�شيخة) لكنه مل ينطقها ،تكرر �صياحه،
نربة �صوته خمتلفة ع ّما اعتاد عليه ..أ�رجع ذلك ل�ضغط الهواء ،ك أ�نه
�آ ٍت من دولة أ�خرى بثه الهوائي العجيب ال�شكل ( :أ�دره �إىل الي�سار)
الكلمات البعيدة ما زالت تهاتفه� ،ضائعة غري أ�نها تعرف طريقها
�إىل أ�ذنه� .شكله الغريب جعله ي�شرد فيه ،يت أ�مله .الطبق الكبري
والطبق ال�صغري أ�مامه كطبق الفول املدم�س فى ال�صباح ،أال�شواك،
النتوءات املعدنية املت�شعبة فيه لكل االجتاهات ،بدا له كقنفذ.
-فى املحل عندما كان يبحث ت أ�ملت عيناه الهوائيات املعلقة بواجهة
املحالت ك أ�نها طوابري عر�ض ،أ��شكالها متباينة ،احتار بينها ..أ�حدها
كان ذو مظلة حديدية تغطيه .ابت�سم فى نف�سه ،علق( :حلمايته من
املطر) ( ...أ�دره �إىل أ�ق�صى اليمني) ال�صوت يناديه ،يتكرر .أ�ح�س
بتعب الوقوف ،رغبة فى التقي ؤ� فاج أ�ته عندما نظر أل�سفل وبدت له
وا�ضحا فى
ً أ�ر�ضية غرفة ا إل�ضاءة البعيدة ،مل يظهر مداها بعيدً ا
الظالم .ابتعد حذ ًرا ،جل�س فوق ال�شخ�شيخة بجانب املا�سورة ،ا�ستند
38
فوق ال�شخ�شيخة
39
ف�سيحا أ�كرث مما كان يت�صور� ،شعر بالرغبة فى التبول ،نظر حوله ،ت أ�كد ً
أ�نه فى مكان غري مرئي من أ�حد ،بال على أ�ر�ضية ال�شخ�شيخة املبلطة� ،شعر
أ�نه يبول على الدنيا� ،صوت خطوات �صاعدة تقرتب .اقرتب من احلافة،
ظهر له أ�خوه مبت�س ًما يحمل بني يديه �صينية معدنية حتمل فوقها كوبني من
ال�شاي ،بني �شفتيه �سيجارة اقرتبت من نهايتها ،تناهى ألذنه عندما كان
أ�خوه �صامتًا ذلك ال�صوت البعيد ( :أ�دره فى االجتاه ا آلخر) ،التفت بع�صبية
حوله يبحث عن م�صدر ال�صوت ،ا�ستطاعت عينه أ�ن تر�صد أ�نه لي�س وحده
اجلال�س على قمة العامل ،نظر لذلك ال�شخ�ص فوق ال�شخ�شيخة على العمارة
املجاورة ،يده كانت مم�سكة مبا�سورة طويلة �آخرها هوائي ،عندما ت أ�مله بدا
له عمال ًقا أ�كرب من الذي أ�ح�ضره -طبق كبري وطبقان من أالمام ومثلهما
من اخللف و أ��شواك ونتوءات مت�شعبة لكل االجتاهات ،انتبه ل�صوت أ�خيه
الذي و�ضع �صينية ال�شاي و أ�لقى ال�سيجارة ،قائ ًال( :قليل من ال�شاي ثم نبد أ�
فى �ضبط الهوائي)!!
40
طرقات �إيقاعية منتظمة خلفها وراءه على الباب اخل�شبي أالثري ال�شكل،
تركت ب�صمات غري م�سموعة ،حركتها كجر�س يدوي تقليدي قدمي ملدر�سة
ابتدائية ،ولكنه جر�س �صامت ،كان يفكر فى �شيء �آخر ،حاول تذكر كيف
يكون �شكله ،دقات متكررة دون جدوى على الباب ،تبعها ملل وان�صراف .كان
مت أ�كدً ا أ�نه لن يجده ،رغم ذلك فكر فى املرور عليه ،جاءته الفكرة عندما
قادما من �شبني الكوم بلدته؛ �سارينة القطار ،الفتات
كان فى قطار القاهرة ً
املحطات ،أ�رقام أالعمدة� ،شكل احل�صى املفرو�ش على جانبي الطريق ،كل ّ
ذلك كان ي�شري �إىل اقرتاب القطار من أ��شمون ،ال تبدو له مالحمه وا�ضحة
جل َّية� ،صورة باهتة لوجه مم�سوح مل يره منذ ثالث �سنوات� ،صوته يرتدد فى
أ�ذنه ،ك أ�نه جال�س فى ركن من عقله أ�و أ�نه مدون على جهاز لر ِّد املكاملات
الهاتفية ،يعرفه دائ ًما عندما يرفع �سماعة الهاتف؛ �صوته أالج�ش ذو البحة
ال�صوتية امللحوظة ك أ�ن ً
ركاما من تراب يعلوه.
�آخر مرة كلمه فى الهاتف قال له( :لقد و�صلت اللحظة من فرن�سا) كان
ذلك منذ �شهر ،و�صف له ما ر�آه هناك ،برج �إيفل ،قو�س الن�صر ،ال�شانزلزيه،
حديقة التيلريي ،اللوفر ،املوناليزا ،قال له كم هي جميلة ح ًقا ،امر أ�ة من
العدم خلقها دافن�شى .أ�خربه عن جوالته على �شط نهر ال�سني ،مغامراته فى
كباريهات البيجال ،قال له أ�نه رق�ص الفال�س والفالمنكو والرق�ص بلدي،
43
أ�خربه عن ال�سنيورة ذات اجليب الق�صري وال�سيقان الفرن�ساوية الطويلة،
قال( :بعد أ�ن ر أ�يتها أ�دركت أ�ن املوناليزا هي لوحة المر أ�ة دميمة الوجه
قبيحة� .ضحك وهو يحدثه ،أ�يقن أ�نه يغمز له عرب الهاتف ،أ�كمل كالمه،
قال( :لقد كانت أ�حلى م ْعلم ر أ�يته فى فرن�سا).
�شعر وهو يحدثه ب أ�نه يح ِّلق �ضمن الطيور اجلميلة احلائمة فى �سماء
باري�س تتن�سم رحيقها اجلميل ،ذرات جميلة من اجلمال واملتعة ت�سللت له
عرب الهاتف ك أ�نها �آتية من فرن�سا ،جعلته ي�شعر بالن�شوة .ا�شتاق أ�ن يراه ،أ�ن
يحكي له أ�كرث ف أ�كرث ،قال له وقتها� :س آ�تي لزيارتك اليوم .اعتذر له ،ر ّد عليه:
(ما هي �إال �سويعات قليلة أ�ق�ضيها على أ�ر�ض م�صر بعدها نبد أ� جولة لبع�ض
عوا�صم أ�فريقيا قد ت�ستمر ل�شهور).
ً
�شاخما قبل ذلك ك َّلمه عن زيارته ألمريكا ،عن متثال احلرية الذي ر�آه
عند مداخل ميناء نيويورك فوق جزيرة مانهاتن ،عن �صعوده جلبهة التمثال،
عن ر ؤ�ية العامل من ثقب فى ر أ��س امر أ�ة� ،شيء ذكره له عن التخطيط البارع
لل�شوارع أالمريكية ،قال �إنها تقاطعية تعامدية �شا�سعة بطريقة منتظمة د ّلت
على روعة امل�صممني أالمريكان .مل ين�س أ�ن يذكر زيارته ملتحف توت عنخ
�آمون على �شط بحرية مت�شيجان ب�شيكاغو� ،س أ�له مذهو ًال هل تتحمل الدولة
كل هذه امل�صروفات؟ بلغه �ضحكه عرب الهاتف� ،ضحكه هد أ� قلي ًال ،رد عليه:
(هي مبالغ زهيدة يخ�ص�صوها لنا ،غري ذلك هو من جيبي اخلا�ص).
مرة أ�خرى فى ات�صال هاتفي طويل أ�خربه عن رحلتهم لبع�ض املدن
والعوا�صم أالوروبية ،بروك�سل ،أ�م�سرتدام ،باري�س ،كاليه ،دوفر ،حدثه
عن جوالته بني �شوارع ومعامل لندن ،أ�ك�سفورد ،بيكاديلي،ريجيت ،ق�صر
بكنجهام� ،ساعة لندن ال�شهرية.
44
ات�صال هاتفي ا�ستمر ثالث �سنوات
فى �إيطاليا قال له :زرت بركان فيزوف ور أ�يت متاثيل روما العارية
متحم�سا فج أ�ة ،قال( :لقد �سلمت على
ً والفاتيكان .توقف عن الكالم ،اندفع
ي�ضا عن رحلته النهرية فى نهر بابا الفاتيكان هل ت�صدق ذلك؟) ح َّدثه أ� ً
الراين ب أ�ملانيا ،قال له :ك أ�نه نهر من أ�نهار اجلنة ،ما ؤ�ه زالل ال ت�شوبه �شائبة.
كما ك َّلمه عن مدينة فرانكفورت املبهرة ب�شوارعها ،أ�ما عن أ�ثينا فقد أ�ق�سم
له أ�نه عندما كان بها �شعر أ�نه يتنزه على كورني�ش ا إل�سكندرية ،أ�و أ�نه يجتاز
امل�سافة بني ا�سبورتنج وحمطة الرمل جر ًيا على أالقدام فى ال�ساعة التا�سعة
�صباحا كما اعتاد أ�ن يفعل عندما يذهب مل�صيف العائلة ،و أ�نَّ ن�سيمها اجلميل ً
داعب ب�شرته كما لو أ�نه عرب �إليه فوق البحر أالبي�ض.
�س أ�له ذات مرة ،ماذا تفعلون هناك بالتحديد؟ الف�ضول متلك منه،
تذكر أ�نه �س أ�له نف�س ال�س ؤ�ال منذ فرتة ،رغم ذلك أ�جابه دون تعليق ،كرر
نف�س الكالم الذي �سبق أ�ن قاله ،تعاقدات على بع�ض �صفقات أال�سلحة
اخلا�صة باجلي�ش والتدريب على �إدخال التكنولوجيا احلديثة فى �إدارة � ؤش�ون
اجلي�ش.
xxx
خطواته وهو يهبط ذلك ال�سلم الرطب اختلطت بطرقاته على الباب
وامتزجت ب أ�فكاره ،داخل عقله كان طائ ًرا بني عوا�صم أ�وروبا ومدن أ�فريقيا
ال�سوداء ،حاول تخمني فى أ�ي بلد أ�فريقية يتجول ا آلن ،و أ�ي ثياب يرتدي
وماذا يفعل ،التخمني الدائر فى عقله كان بني ثالث أ��شياء ،التجوال بني
معامل البالد أ�و التنزه فى اجلبال فى رحلة �صيد أ�و أ�نه يخت َّلى ا آلن فى حجرة
بفتاة �سمراء ،كان قد خرج من مدخل البيت ،احتاج للجلو�س على املقهى،
مقهى املحطة مقهى بلدي هادئ مثري للخيال ،على �إحدى كرا�سيه جل�س
45
لي�شرب ال�شاي الثقيل ويدخن الرنجيلة ،كلمة حمطة التي تربز على الالفتة
الكبرية ذكرته باملرة الوحيدة التي التقى معه فيها ،كان بزيه الع�سكري الذي
جال�سا أ�مامه ،حديث طويل دار بينهما ،كانا قادمني من القاهرة، مل مييزه ً
النغمة الرئي�سية الهتزازات القطار دفعتهما للكالم م ًعا والتعارف ،قال له
�إنه يهوى القراءة ب�شغف ،مل يت�سع الوقت لهما ،تركه فى أ��شمون ،ت أ�كد أ�نه لن
يراه ثانية ،ملحه بعد حلظات يجري على ر�صيف املحطة ي�سابق القطار الذي
بد أ� فى ا إل�سراع� .سمعه و�سط ال�ضجيج ي�صرخ ،طلب منه رقم هاتفه ،ذكره
له ،مل يعرف هل �سمعه أ�م ال ،وجهه اختفى فى زحام الوجوه املتالحمة،
حلظات فقط هي الفي�صل الوحيد بني �شخ�صني التقيا لت ِّوهما ،ت أ�كد له أ�نه
�سمعه عندما داوم على االت�صال به ،ا�ستمر ذلك ثالث �سنوات.
جال�سا على املقهى ،على مقربة منه تهادى �إليه �صوت غريب، كان ما زال ً
ركاما من تراب يعلوه .تبني له بدا له ك�صوت رجل أ�ج�ش ذو بحة �صوتية ك أ�ن ً
أ�نه ي�شبه �صوتًا �آخر يرقد فى ذاكرته .أ�لقى �إليه نظرات متفح�صة،ت�سمرت
عيناه عليه ،املالمح ات�ضحت واحدة تلو أالخرى ،كونت ما اعتقد أ�نه هو.
البنطلون القدمي واحلذاء املرتب الرخي�ص لفتا نظره ،غري أ�ن ما ح َّركه
أ�كرث هو الكتاب الذي يجاوره على الكر�سي .كان غالف الكتاب يحمل �صورة
المر أ�ة �سوداء ذات �شعر أ�كرت ق�صري ،عندما ت أ�ملها مذهو ًال ت أ�كد له أ�نها
�صورة المر أ�ة من اجلنوب أالفريقي ،كان الكتاب بعنوان (جولة بني عوا�صم
�إفريقيا).
xxx
46
فى اللحظة الفا�صلة عند انفتاح باب الفندق� ،سيت أ�كد له أ�نه قد ولج
عاملًا جديدً ا ،أال�شياء فى الداخل رغم كونها حتمل نف�س امل�سميات أل�شياء
ي�ستخدمها فى اخلارج �إال أ�نها �ستتلون بطابع ذو �صفة خا�صة مل ي�سمع عنه
�إال فى احلواديت وق�ص�ص أ�لف ليلة ،فى الداخل لن تكون الكرا�سي معدة
ملجرد اجللو�س فقط ولكنها �ستتنكر على هيئات متنوعة و�ستحمل أ�لقا ًبا
والرابي�سك واجللد والبامبو خمتلفة بني اال�ستانبويل والفوتيل املطرز أ
واخليزران والهزاز ،ذلك على ح�سب املن� أش� والتاريخ والكيفية واحليز الذي
تتيحه للجال�س لي�سرتيح فيه ،بينما أال�س ّرة املفرو�شة باملالءات احلرير
للحالم ال�سعيدة مع حذف الكوابي�س املزعجة ،أ�ما املاء فلن �ستكون مع ّدة أ
يكون ملجرد ال�شرب أ�و الغ�سل أ�و اال�ستحمام كما هو معتاد؛ ولكنه �سيتخذ
�شك ًال بي�ضاو ًيا جمي ًال تلتف حوله كرا�سي البامبو واخليزران والكنبات
املفرو�شة بالتكايات أال�سفنجية� ،إىل جانب املوائد املح ّملة ب أ�كواب الع�صائر
وامل�شروبات الكحولية وغري الكحولية.
-فى ال�صباح عندما أ�و�صلته زوجته لدى الباب ،وع ّدلت من و�ضع
ياقته ونف�ضت عن كتفه الرتاب كعادتها ،قالت له( :انتبه لنف�سك
املبلغ كبري ونحن بحاجة �إليك) عندما قالت ذلك كان يعلم أ�نها
تق�صد (ونحن فى حاجة �إليه).
49
مكاف أ�ة نهاية اخلدمة مبلغ كبري ،ولكنها فى ذلك الفندق الفخم قد
تكفي �شه ًرا بالكاد ،فى داخله ر أ�ى أ�ن من حقه بعد �سنوات من العمل والكفاح
الطويل أ�ن يح�صل لنف�سه على عطلة �صغرية حتى لو كلفته هذه العطلة كل
تلك املكاف أ�ة.
قبل أ�ن يح�صل على تلك املكاف أ�ة ب�شهرين حتولت على الورق �إىل �شرائح
رفيعة ك�شرائح الالن�شون أ�و الب�سطرمة؛ ذلك بني ترميم اجلدران و�إ�صالح
ال�سباكة وتثبيت البالط املخلخل وجهاز ابنته و أ�ق�ساط الثالجة اجلديدة.
-منذ يومني طلب منه ابنه �شراء حذاء جديد ،بينما رغبت زوجته
فى اقتناء عباءتني لرتتديهما أ�مامه أ�و عندما تكون عند جارتها،
مل تن�س أ�ن تذكره ب�شراء مالب�س داخلية جديدة له بعد أ�ن حتولت
مالب�سه لهالهيل بالية ،أ�ما ابنته ال�صغرية فقد طلبت منه كت ًبا
خارجية للعام الدرا�سي اجلديد ،أ�جابها بغ�ضب( :عندما يحل العام
الدرا�سي اجلديد ننظر فى أ�مر الكتب اخلارجية).
ما زال واق ًفا أ�مام باب الفندق يتحني وم�ضة �شجاعة و�إ�صرار تتب َّدى
بداخله فيهرع �إىل الداخل .على مقربة منه فتاة بدا أ�نها تتق ّدم نحوه،
ت ُّنورتها الق�صرية فوق ركبتيها بع�شرين �سنتيمرت ،وبلوزتها اجليل ال�ضيقة
أ�برزت مفاتنها .انتبه �إىل أ�نها حتدثه ،تنطق با�سمه كطبقات من الكرمية
اله�شة ،قالت له ( :أ�نا من خدمة الفندق) ،اقتادته من يده عرب ردهات
الفندق الوا�سعة �إىل جناح فخم ،داخل اجلناح ترا�صت التكايات على
أالر�ض مبحاذاة اجلدران ،تركت فى املنت�صف م�ساحة ملائدة أ�ر�ضية طويلة
تعج مبختلف أ��صناف امل أ�كوالت امل�شوية واملقلية وثمرات الفاكهة الطازجة
ّ
الرباقة و أ�كواب و أ�باريق ف�ضية وذهبية ،على جانبي املائدة �صفان من
الفتيات ال�ساحرات املث ًريات .أ�جل�سته فى مواجهة املائدة ،اجلل�سة مريحة
50
ا�سما آ�خر
أ��شياء معروفة حتمل ً
تبعث على اال�سرتخاء ،هواء رقيق داعب وجهه ،تبني أ�نه من ري�ش النعام
الذي يتحرك بني يدي خادمني يقفان وراءه .أ�نغام مو�سيقية هادئة انطلقت
فى ركن اجلناح من فرقة مو�سيقية مكونة من ع�شرة أ��شخا�ص ،رق�صت
عليها أ�ج�ساد الفتيات ،رق�صهم كان مث ًريا يك�شف النهود والبطون وال�سيقان
البي�ضاء� .شعر بالن�شوة وال�سعادة ،أ�خرج ُر َزم النقود التي فى جيبه ،أ�خذ
يقذفها على اخلدم والراق�صات والفرقة املو�سيقية ،انحنوا له ب�شدة .أ�غدق
عليهم أالموال أ�كرث فازدادوا انحنا ًء.
حت�س�ست يده جيوبه ،عندما وجد املكاف أ�ة ما زالت معه أ�درك أ�نه
بع�صبية َّ
كان يحلم بينما ال يزال واق ًفا أ�مام الفندق ،رغم خوفه ال�شديد على املكاف أ�ة
مدفوعا �إىل الدخول .التقطت عينه بع�ض الكلمات املكتوبة على ً �إال أ�نه كان
الفتة مث ّبتة خارج الفندق ،مطاعم وبارات ،كبائن ،تروبي كانا ،بلفيدير،
حمام �سباحة ،نادي ريا�ضي و�ساونا ،مل يفهم منها غري كلمات ب�سيطة.
عندما دفع بيده الباب الزجاجي للفندق حدث التقاء بني تيارين ،فى
الداخل لفحات باردة أ�فرزتها فتحات املكيف املركزي ،باخلارج �صهد �شهر
أ�غ�سط�س ال�شديد ورطوبته ،حلظة أ�ن امتزج التياران م ًعا تولدت ن�سمة دافئة
ا�ستلذ بها� .شخ�ص تقدم نحوه ،ح َّدثه باحرتام مبالغ ،قال له( :يف خدمتك)
�صوته املتزن اختلط ب أ��صوات و أ�فواه �آخرين ينتظرونه فى البيت (ترميم
اجلدران ،ال�سباكة ،الثالجة ،البالط ،اجلهاز ،احلذاء ،العباءتني والكتب
اخلارجية) تنبه ل�صوت محُ دِّ ثه الذي بدا أ�نه تغري قلي ًال بينما يعيد �صياغة
عبارته بنربة أ�قوى ،بدلته الفاخرة بدت له أ�نها توازي جمموع ما يقب�ضه فى
�شهرين .حت�س�س جيوبه ،تذكر أ�نه فعل ذلك ع�شرات املرات منذ قب�ضها فى
ال�صباح ،ا�ستدار فج أ�ة متج ًها �صوب الباب .فى طريقه للخروج التفت �إىل
اخلادم أالنيق� ،س أ�له بف�ضول:
51
(ما أ�قرب مكتبة تبيع الكتب اخلارجية؟)
باخلارج عندما ا�صطدم باللفحات احلارة تذكر أ�ن مو�سم الدرا�سة
مل يبد أ� بعد ،اخرتق ال�شوارع اجلانبية ال�ضيقة متجن ًبا ل�سعة �شم�س الثانية
ظه ًرا ،فى طريقه �إىل بيته أ�خرج قائمة م�شرتيات د�ستها له زوجته فى جيبه
�صباحا ،.بد أ� يقر أ�ها بفتور ،عندما حاول تذكر ما �سي أ�كله اليوم احتفا ًال
ً
بالم�س أ�ن الغداء اليوم باحل�صول على املكاف أ�ة ابت�سم ،فقد أ�خربته زوجته أ
�سوف يكون طبقني من الفول النابت بالزيت احلار والبطاط�س املقلية مع
خملل الباذجنان!!!
xxx
52
-ل�شجرة الزنزخلت أ��سرار أ�ربعة،
-وما هي؟
�( -ست�سمعك وتفرحك وتخيفك ثم ت�ضحكك)
هكذا يجيبني دائ ًما عندما أ��س أ�له عن أال�سرار أالربعة ل�شجرة الزنزخلت،
ولكنني ال أ�فهم منه �شي ًئا ،هذه املرة قلت له:
(�س أ�ذهب �إليها و أ�ثبت لك أ�نها �شجرة مثل بقية أال�شجار ولي�ست لها
أ��سرار)
فقط ،ابت�سم ومل يعلق.
-ال�سر أالول :ال�سمع
عندما ا�ستندت على جذع ال�شجرة وقت احلرور �سمعت حفيفها ،للوهلة
تالطم أ�وراقها ،لكنني تذكرت أ�ننا فى ف�صل اخلريف،أالوىل اعتقدته ُ
وال�صوت مل يكن غري زقزقة ع�صافري نبتت على أ�غ�صانها.
-ال�سر الثاين :الفرحة
ً
خطوطا كروكية بينما كنت م�ستلق ًيا أ�ت أ�ملها ،ر�سمت أ�غ�صانها العارية
�ساذجة ،عندما ت أ�ملتها أ�كرث الحظت أ�نها �شكلت لفظ اجلاللة (اهلل)
وبجوارها (حممد)
55
فتهلل وجهي وغطته م�سحة من ال�سرور والفرحة.
-ال�سر الثالث :اخلوف
كنت ما زلت م�ستلق ًيا حتتها عندما تلم�ست أ��صابعي جذعها ،فج أ�ة مل
تبد ك�شجرة ،لكنها جت َّلت يل كامر أ�ة عارية تفتح ذراعيها ،عندما دققت
النظر مل أ�جد غري عجوز �شمطاء من جهنم تريد أ�ن تن�شب بي خمالبها
فارتعدت وجريت مبتعدً ا.
-ال�سر الرابع :ال�ضحك
فى الوقت الذي كنت أ�جري مبتعدً ا عنها بدت ِمني التفاتة نحوها ،من
بعيد مل تبد �سوى �شجرة زنزخلت جافة فاندفعت فى ال�ضحك ،وقتها تذكرت
كلمات �صديقي�( :ست�سمعك وتفرحك وتخيفك ثم ت�ضحكك).
56
دموعا منذأ�نبوبة اجللوكوز امل�ست�سلمة فى �صمت فوق ر أ��سها تقطر ً
�شهرين ،املع ّلقة فوق �سريرها النحا�سي العتيق ،ج�سدها امل�ستلقي على الفرا�ش
غري �آ ٍبه مبا حوله ،عويل الن�سوة ولطم اخلدود والتعديد و�صفق أالوراك
وتغبري الوجوه ،دموع الواليا املت�ساقطة بغزارة على أ�ر�ضية دارنا الرتابية
حتيلها طي ًنا ،جري أالقدام ،ده�س أالغرا�ض ،أ�عينهم امل�ص ّوبة نحوها ك أ�نها
�ستخرتقها ،كل ذلك مل يقنعني أ�نها ماتت ،وابت�سامتها ال�ساخرة املتجمدة
على �شفتيها تنبئني أ�نها تهز أ� بهم و�ستفاجئهم ا آلن واقفة على قدميها
تتحرك بخفة ،تقول لهم �ضاحكة أ�نا ال أ�موت� ،سخرت فى نف�سي ،جدتي
الفرعونية خالدة ال متوت ،دائ ًما ما كنت أ�قول لها أ�ن مالمح وجهها احلادة
تطابق وجه تلك ال�سيدة الفرعونية املنحوتة على جدار املعبد القدمي ت�ضم
يدها حتت ذقنها ك أ�نها فى �صالة كهنوتية ،أ�قول لها:
�ق�سم لك يا �ستي أ�نك،
-أ
و أ��سكت و أ�جذبها من يدها و أ�رجوها
��ستحلفك باهلل يا �ستي أ�ن ت أ�تي معي وتريها.
-أ
تنظر يل با�ستخفاف ،تطعم طيورها ك�سرات اخلبز املق ّددة املبللة مباء،
تقول يل:
-من تعنني يا بت؟
59
أ�حكي و أ�قرتب منها و أ�ه�سه�س �صوتي كي ال ين�صت يل أ�حد:
-هل ت�صدقي؟ ال ت�سرت عورتها �إال بخرقة �صغرية بالية؛ ولكنها اخلالق
الناطق أ� ِ
نت يا �ستي.
60
دائما
اجلدات ال متنت ً
َّ
63
للحظات عندما أ�نظر لذلك املكان أ�جده أ�مامي -جدي -عجوز �ضخم
اجل�سم أ��صلع الر أ��سُ ،تغ�ضن ب�شرته التجاعيدُ ،تنبئ بدخول خريفه ،يرتدي
البن�ش وتغطي ر أ��سه الطاقية ،لكنني عندما أ�قرتب ال أ�جد �إال �شبكة بي�ضاء
نا�صعة ذات غمازات حمراء المعة ،قطرات فاترة ذات طعم مالح كمياه
البحرية ت�ساقطت من عيني عندما أ�م�سكتها ،لها رائحة ال�سمك رغم أ�نها
جديدة ،رائحتها زفرة ك أ�نها قد ت�شر ّبت احلرفة ،أ�و لعلها رائحة يده.
�ضحك� ،سخر مني -جدي -كان ين�صب خيوطها ،ابتعد ليث ّبت طرفها
ا آلخر فى وتد حديدي مغرو�س فى الرمال ،قال ب�صوت تداعبه ن�سمات
الهواء( :ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م ،جميعها �شهور اهلل) ،قال ذلك
وهو ي�ضحك حتى ظهرت أ��سنانه الب ّنية املت آ�كلة ،فى داخلي �صرت قان ًعا أ�ن
ذلك ال�شهر دون �شهور ال�سنة هو �شهر � ؤش�م ،لكنني مل أ�كن راغ ًبا فى التحدث
�سكت ،كنت أ�ريد أ�ن أ�قول
عن ذلك� ،شيء دفعني ألتنا�سى ،كذلك هو ،لذلك ُّ
له( :تهدم البيت فى زلزال أ�كتوبر العام قبل املا�ضي ثم ماتت جدتي فى
أ�كتوبر العام املا�ضي وال تريد أ�ن تدعوه � ؤش� ًما؟!) ،مل أ�رغب أ�ن أ�عكر �صفوه،
ومل أ�بغ أ�ن أ�خربه أ�نني على علم ب أ�ن أ�مه قد توفيت هي أالخرى فى أ�كتوبر فى
�سنة من ال�سنوات التي كنت ما زلت فيها �صغ ًريا� ،سمعته منذ أ��سابيع وهو
ّ
والتق�شف يتحدث عن ذلك ،كان الكالم موج ًها ألبي ،قال له�( :شهر القحط
قد أ�و�شك على القدوم) كان يق�صد �شهر أ�كتوبر ،عرفت عندما أ�كمل قائ ًال:
67
( أ�عتقد أ�ن ذلك ال�شهر � ؤش�م ،ماتت فيه جدتك منذ خم�سة ع�شر ً
عاما ثم
ماتت أ�مك فى نف�س ال�شهر من العام املا�ضي) بدت نربته فى الكالم حزينة
ذات ر ٍمت �سوداوي كئيب ككوب ال�شاي الذي يحمله بني أ��صابعه املرتع�شة،
مرات كثرية قلت له �ضاح ًكا( :ملعقتان من ال�شاي فى ن�صف كوب ماء مغلي
بدون �سكر ،كيف ت�ستطيع أ�ن ت�شرب مثل هذا ال�شيء؟!) ،كان ير ّد �ضاح ًكا
وا�ض ًعا �سبابته على جانب ر أ��سه�( :إن ال�شاي مزاج) ،قال ألبي ( :أ�عتقد أ�ن
ذلك ال�شهر � ؤش�م) ،ر ّد عليه وقد الحظ الك آ�بة البادية على تقا�سيم وجهه:
(ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م ،جميعها �شهور اهلل) ،ويبدو أ�نه مل يكن
مقتن ًعا مبا يقول ،فقد توقف قلي ًال عن الكالم .بدا يل أ�نه مرتدد فى حديثه
أ�و أ�نه يبحث ع ّما يقوله ،عاد وا�ستطرد قائ ًال( :وهل نعرت�ض على م�شيئة
اهلل؟!)
xxx
-ابت�سمت و أ�نا أ�نظر �إليه أ�راقبه ين�سج خيوط �شبكته ،ي�شبك أ�طرافها،
قلت لنف�سي( :ا آلن يردد نف�س كالم أ�بي ،كان ذلك عندما قال معل ًقا
على كالمي ،ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م كلها �شهور اهلل) ،أ�كمل
كالمه معي ،قال م�ش ًريا نحو الطيور املحلقة فى �سماء البحرية:
(تلك الطيور أ�تراها؟ �إنها قادمة من أ�بعد منطقة على ظهر الب�سيطة
�شر ًقا وغر ًبا و�شما ًال وجنو ًبا)� ،سكت قلي ًال ثم أ�كمل( :جيو�ش من
الطيور املهاجرة مل ن�سمع عنها قبل ا آلن ت أ�تي �إىل هنا مع مطلع �شهر
أ�كتوبر وتبقى حتى تريد هي) .حترك بخفة دلت على احتفاظه ببع�ض
مهارته وهو ي�سد فتحات ال�شبكة الكبرية ،ا�ستدار بر أ��سه فج أ�ة
جتاهي ،قال( :لن يقلقها بنادق الر�ش التي تلعب بها فى ال�صباح مع
ابن ح ّماد) تركيزي مل يكن من�ص ًبا على كالمه ،بل على تلك ال�شبكة
اجلديدة التي يجتهد فى �صنعها فى هذا الوقت من العام ،ف أ�نا أ�علم
68
العجائز ميوتون فى أ�كتوبر
أ�نه ال ميلك ما ًال و أ�نه قد ا�ستدان ثمنها ،لقد كنت ما ًرا بال�صدفة
بجوار دار أ�م ربيعة -جارتنا -و�سمعته يح ّدث زوجها ،يرجوه أ�ن
يقر�ضه مبل ًغا من املال ،الكل يعلم أ�ن ذلك الرجل هو الوحيد فى
القرية الذي يحتمل أ�ن ميلك ما ًال فى هذا الوقت من العام.
البد أ�ن ذلك مرجعه لعدم احرتافه ال�صيد؛ بل رمبا ال ي أ�كل ال�سمك
ي�ضا ،ال أ�حد ميلك ما ًال هنا يحب أ�ن ي أ�كل ال�سمك ،مل أ��سمعه يرجو أ�حدً ا
أ� ً
هكذا من قبل ،ولكنني �سمعته يرتجاه ك أ�نه ينتزع منه الفر�صة فى أ�ن يرف�ض،
ولكنه ر ّد عليه بو ّد ،دعاه لكوب �شاي ،قال له( :اطلب ما تريد) .فكرة أ�نه
طعاما للبيت �سيطرت على عقلي ،لكنني ا�ستبعدتها ،كنت ا�ستدان لي�شرتي ً
أ�علم أ�ن فى البيت بع�ض املال َّمت ادخاره للطعام عندما يح ّل �شهر أ�كتوبر،
أ�دركت ملا ا�ستدان املال عندما ر أ�يته عائد بخامات ال�شبكة اجلديدة التي
ي�صنعها ،بدت أ�مارات الفرح على وجهه كدليل على أ�نه أ�عطاه املال ،كان
يخ�شى أ�ن يرف�ض طلبه ،لذلك كان يرجوه ،يعلم أ�نه لو رف�ض طلبه �سيقاطعه
مثل ح ّماد ،و�سيكون ذلك �صع ًبا عليه فهو يعامله كابنه ،ما زال مل ين�س أ�نه
طلب نف�س الطلب من حماد منذ �سنوات ،مل يقر�ضه �شي ًئا ،كان يعلم أ�ن معه
ما ًال ،قبلها ب أ�يام كان قد باع (عرو�س البحرية) أ�كرب مركب فى البحرية،
وقد ح�صل منها على مقدار كبري من املال ،رغم ذلك رف�ض أ�ن يقر�ضه ،قال
له( :مل يبق من مال املركب �شيء ،يعلم أ�نه يكذب ،كان أ�عز أ��صدقائه رغم
فارق ال�سن بينهما .فى وقت �آخر كان من املمكن أ�ن ي�ساحمه ،أ�ن يحطم
ذلك احلاجز احلديدي الذي حط بينهما؛ ولكنه أ�راد املال ليعالج أ�مه ،مل
يكن معه ثمن دوائها ،كان يحبها ب�شدة ،ي�سميها ال�ست املربوكة ،من تبقى
من أالحبة ،ماتت بعد أ�يام .كان ذلك فى �شهر أ�كتوبر ،مل ين�س منه ذلك
أ�بدً ا� - .س أ�لتُه و أ�نا أ�نظر حلركة يده ال�سريعة( :ملن هذه ال�شبكة؟) ،نظر
69
يل بخبث ومل ينطق �شي ًئا .عندما �س أ�لته كنت أ�عرف ،ابت�سمت له ،رغبت � إ َّ
داع لال�ستدانة ،أ�والد ال�صيادين ال يحتفلون ب أ�عياد
أ�ن أ�قول له مل يكن هناك ٍ
ميالدهم ،مل أ�قلها ،تذكرت أ�ن عيد ميالدي فى احلادي والثالثني من
أ�كتوبر ،و أ�نني مل أ��شعر به فى العامني املا�ضيني .ا آلن بعد عامني يريد أ�ن
يقول يل كل عام و أ�نت بخري.
عندما عرجت من �شط البحرية ناحية بنايات ال�صيادين كنت ما زلت
غري بعيد ،فى حلظة وجدت نف�سي وج ًها لوجه مع ابن حماد ،مل أ�رد أ�ن يرانا
جدي م ًعا ،جذبته لنبتعد خلف البنايات ،كنت أ�علم أ�نه ر�آنا ،ملحت عينه
تر�صدنا ،مل يكن ليفعل بي �شي ًئا ،لكنني كنت أ�تفادى م�ضايقته ،كنت أ�علم
أ�ن جدي أ�كرب من ذلك ،أ�نه ما كان ليغ�ضب من �صبي فى عمري ملجرد أ�نه
ابن حماد؛ ولكنه رغم هذا يذكره مبا فعله ح ّماد.
عيني ،ال ميكن �إزالتها� ،ستظل حلظات من أ�يام �سالفة حتجرت أ�مام َّ
باقية فى الذاكرة ،طيور كثرية ح ّلقت على مقربة من ر أ��سي كونت �شبا ًكا
طائرة ذات مناقري حادة تغ�سل البحرية ،تذكرت مقولته( :جيو�ش من الطيور
املهاجرة مل ن�سمع عنها من قبل) ،عندما أ�ن�صت مل أ��سمع غري نعيق غربان
تعيد �صياغة ال�صمت اجلاثم حويل فى البحرية ،ت�ش ّممتُ �شبكته اجلديدة
التي انتهى منها منذ أ�يام،مل يتمكن أ�ن يهديها له فى احلادي والثالثني من
هذا ال�شهر كما كان يريد ،ما زالت رائحته تفوح منها ،عندما أ�لقيتها فى
املاء مل ت�صطد �إال �سميكات نحيفة ،رغبة متلكتني فى ال�صراخ ،أ�و أ�ن أُ�حدِّ ث
جدي ،أ�ن أ�قول له مل ُتبق الطيور لنا غري الب�ساريا ال�صغرية) ،ولكنني مل
أ�جده ،كلماته ما زالت ترتدد فى أ�ذين( :ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م)،
حقيقة واحدة أ�دركتها تراق�صت أ�مام عيني وا�ضحة ،أ�ن العجائز ميوتون فى
أ�كتوبر.
70
ا آلن فقط لن يحول دون مواجهته �شيء ،حتذيرات أ�مه ،حكاوي جده،
أ�قا�صي�ص القرية الكثرية؛ كل ذلك مل يعد ُيجد .كث ًريا ما ي�سمعهم يتحدثون
عن اجلانب ا آلخر ،غيالن اجلانب ا آلخر ،موت أ�بيه ،ا آلن قرر أ�ن يهب
أ�باه الراحة أالبدية ،ينتقم له ،التعتيم ال�ضبابي الكثيف الذي يحوطه لن
مينعه ع ّما انتواه ،ملم�س أال�شياء ألطرافه يبدو له وا�ضح،اجل�سر الرتابي
ال�ضيق ،حقول القمح أال�صفر ،براعمها اجلافة ما زالت خ�شنة فى يده،
خ�شخ�شة أ�وراقها تناغي �سمعه مع كل هَ َّبة هواء �صباحي ،اخلط الرمادي
أال�سود الذي اعرت�ض طريقه .ا آلن بد أ�ت أال�ضواء تقرتب منه ،زغللت عينه،
عرف أ�نها هي -الغيالن -أ�ل�سنة النار تندفع من عيونها ،مل يهابها ،وقف
مبحاذاة اخلط أال�سود ،أ�درك أ�نه مل يح�ضر معه �شي ًئا ليحارب به ،أ�غم�ض
عينيه و�صرخ (ل�ست جبا ًنا .،ل�ست جبا ًنا .،ل�ست جبا ًنا) .،خفت ال�صوت
اهتماما.
ً وا�ضمحلت أال�ضواء� ،شعر باملهانة عندما مل تعره
وا�ضحا له و�سط ال�ضباب ولكنه
ً مرة أ�خرى ر�آه يقرتب من بعيد ،مل يب ُد
يقرتب ،لوح بيده� ،صرخ مرة أ�خرى( :ل�ست جبا ًنا .،ل�ست جبا ًنا) .فوجئ
بوجه �آدمي لرجل مبت�سم يخرج له ر أ��سه من فتحة �ضيقة ،لوح له بيده مثلما
يفعل .امل أ�لوف كان الوجه ا آلدمي ،والغريب كانت تلك املركبة احلديدية
العمالقة التي يجل�س بداخلها.
73
ذهل عندما أ�درك أ�نه مل يكن هناك غيالن كما اعتقد .مبحاذاة اخلط
أال�سود جل�س يت أ�مل املركبات املارة ،بطريق العودة اجتاحته أ�حا�سي�س غريبة.
مل يكن ذلك ال�صبي الذي يلعب اال�ستغماية وتكهرب مع ال�صبية ال�صغار
أ�مثاله ،أ�م ذلك ال�صبي الذي يلعب احلجلة مع حميدة! .بداخله �شعر ب�شخ�ص
كبري يتنكر على هيئة �صبي �صغري .ا آلن هو وحده يعرف أ�نه ال توجد غيالن
على اجلانب ا آلخر تقتل الكبار وت أ�كل ال�صغار ،وا آلن �سيت�صرف ك�شخ�ص
نا�ضج و�سين�صرف عندما ي�شرع �صبية القرية فى أ�حاديث الغيالن ككل يوم،
و�سوف يبت�سم لهم �ساخ ًرا وهو يحادثهم قائ ًال( :يا لكم من �ساذجني؟)،
وا آلن هو وحده يعلم ملاذا مل تعد حميدة تلعب احلجلة معهم ،و أ�ن ال�شم�س
ت�شرق بي�ضاء نا�صعة من خلف قريتهم -كث ًريا ما كان يت�ساءل من أ�ين ت�شرق
ال�شم�س؟ ولكنه كان يفاج أ� بها تعرب من فوق أالبنية وتتمركز �صفراء و�سط
ال�سماء -و أ�خ ًريا هو وحده فقط يعلم أ�ن النا�س الذين يعي�شون على اجلانب
ا آلخر هم أ�نا�س طيبون.
فيما م�ضى كان يكتفي باجللو�س حتت �شجرة ال�صف�صاف املطلة على
املجرى املائي العري�ض خلف داره ،يت أ�مل اجلانب ا آلخر ،الغمو�ض الذي
يحوطه ،يحلم أ�ن يكرب وينتقم ألبيه .فى اجلزء الثاين من الليل وقت أ�ن
تكون القرية تغط فى نوم عميق يقفز من النافذة اخللفية على حقل البطاط�س
يت أ�مل ال�صف�صا�صة ،براعمها املتدلية التي تداعب �سطح املاء على �ضوء
القمر تر�سم له أ�فكاره ال�صغرية ،ت�شاركه �ضيقه.
بالم�س فقط مل يعد يحتمل االنتظار أ�و ال�صرب� .شعر بامللل وا إلحباط، أ
املليم الذي أ�عطاه له جده منذ أ��سبوع ما زال بجيبه ،تتح�س�سه أ��صابعه ،ق َّرر
أ�ن يركب املعدية .فى اجتيازه للمجرى املائي �إىل اجلهة أالخرى تذكر قول
أ�مه عندما �س أ�لها عن اجلانب ا آلخر من النهر ،قالت له�( :إياك والذهاب
74
اجلانب آ
الخر
�إىل هناك ،ال يوجد غري غيالن عمالقة تقتل الكبار وت أ�كل ال�صغار وال ترتك
منهم �إال بقايا حلم وعظم مهرو�س).
رغم ذلك كان ي�شعر باحلرية عندما تلتقط عيناه فى �ساعات النهار أ�نا�س
يتجولون فى حقولهم عرب املجرى ،يزرعون ويقلعون ،عندما ي�س أ�لها عن ذلك
جتيبه�( :إنهم أ�نا�س مثلنا فى النهار ولكنهم غيالن متوح�شة فى الليل) .ال
يلبث أ�ن ي�صدقها عندما ي�سمع �صبية القرية يتحدثون ع ّما يحدث لي ًال فى
اجلانب ا آلخر .أ�حاديث جده امل�ستفي�ضة أ�كدت ذلك� ،سمعه مرة يتحدث عن
أ�طفال ماتوا منذ �سنوات ،وعن غ�ضب أ�هل القرية وثورتهم ،قال أ� ً
ي�ضا( :مل
يكن أ�مامهم غري النبوت والطوب للدفاع عن أ�نف�سهم) ،قال( :لقد جعلوها
قط ًعا �صغرية مه�شمة) .،لكنه ال يلب�س أ�ن يت�ساءل� ،إذا كانوا قد قتلوا الغيالن
ح ًقا فلماذا أالطفال مازالوا ميوتون �إىل ا آلن؟!
عندما كان يرى أ�باه يعبرُ املعدية �إىل اجلهة أالخرى كان يتفاخر بذلك
بني ال�صبية ،يظل يت أ�مله وهو يبتعد حتى ي�صبح نقطة �صغرية مر�سومة فى
أالفق ،يدرك أ�نه �شجاع ،يتمنى أ�ن ي�صبح مثله .فى �إحدى تلك املرات مل يعد
�إىل القرية ،دفنوه بعدها ب أ�يام ،ر أ�ى الدم الذي يخ�ضب كفنه أالبي�ض ،أ�درك
ما حدث له ،قرر أ�ن ينتقم له ،أ�ن يواجهها وج ًها لوجه.
انزالق ال�سلك املعدين الغليظ على البكرة احلديدية للمعدية جعله
يحدث حفي ًفا حادًا ،وان�سياب املعدية على املاء أ�حدث ط�شط�شة هادئة �إثر
ارتطام جوانبها باملوجات ال�صغرية .عندما كان فى الو�سط متكن من ك�شف
اجلدران اخللفية لدور القرية� ،شيء �آخر ك�شفه غري أ�طالل القرية جعله
ينتف�ض فى مكانه ،حميدة ذات ال�ضفائر وال�شرائط احلمراء كانت تغت�سل
متاما ،املاء الذي مل ي�صل �إىل ركبتيها ،وقدمها
فى املاء ،لكنها كانت عارية ً
75
املرفوعة على حجر لتغ�سل ما بني �ساقيها و�صدرها البارز ذو االنثناءات
احلادة جعلها تبدو كتلك املر أ�ة العارية فى ال�صورة القما�ش القدمية املعلقة
فوق �سرير أ�مه النحا�سي .اعتقد أ�نها لي�ست حميدة ،أ�ن ال�ضباب هي أ� له ذلك؛
ولكنه عندما ت أ�مل وجهها امل�ستدير أالبي�ض كوجه القمر أ�درك أ�نها هي ،مل
تكن ت�شعر باملعدية التي متر ،كانت م�شغولة ب�شيء �آخر -ج�سدها أالبي�ض
الناري -عندما عاد يتفح�ص ج�سدها مل يجده نف�س اجل�سد الذي اعتاد أ�ن
يقفز معهم فى املاء،ا آلن فقط أ�درك ملاذا مل تعد حميدة تلعب معهم.
من اجلانب ا آلخر أال�شياء التي اعتاد أ�ن يراها كبرية حتولت �إىل أ�عواد
كربيت وعلب �صغرية؛ بيوت القرية ،النخيل� ،شجرة ال�صف�صاف العمالقة،
نافذة داره العري�ضة.
�ضجيجا عندما أ��سقطه فى ال�صندوق ال�صفيح املعلق،
ً مليم جده أ�حدث
أ�درك أ�ن �صندوق عم فتح اهلل املعداوي كان خال ًيا ،تذكر أ�نه ال يرى ذلك
الرجل �إال قلي ًال ،دائ ًما يجل�س فى كوخه اخل�شبي حول ركية ال�شاي وال�شي�شة
ذات الرائحة الغريبة .النا�س ب أ�نف�سهم يعربون ،ي�سقطون املالليم فى جوف
ال�صندوق ثم يفرغه هو فى امل�ساء.
76
فى الوقت الذي أ�غرق ال�ضوء بيوت القرية بخيوطه الذهبية أ�يقظته أ�مه،
كان يريد أ�ن يحكي لها ولكنه مل يجر ؤ� ،فقط قال لها:
(لقد حلمت أ�نني ذهبت �إىل اجلانب ا آلخر) .قاطعته حمذرة ،قالت
نف�س ما تقوله له دائ ًما منذ موت أ�بيه:
(�إياك والذهاب هناك ،ال يوجد غري غيالن عمالقة تقتل الكبار
وت أ�كل ال�صغار ،وال ترتك منهم �إال بقايا حلم وعظم مهرو�س).
من قبل كانت ت أ�خذه رهبة وخوف عندما تقول له ذلك ،ا آلن رد عليها
بثقة أ�ذهلتها ،قال لها( :ما هي �إال ماكينات حديدية عمالقة يركبها أ��شخا�ص
ودودون).
77
فى ال�سنة اخلام�سة بعد املوت كانت ما زالت تقف فى ال�شرفة بني
أ��صاي�ص اخل�ضرة مبت�سمة ك أ�مي ،خ�صالت �شعرها أالبي�ض امل�صبوغة بدت
بعد ال�صبغة ذو لون ب�صلي فاحت ،وغ�ضون وجهها وثغوره املنقطة بحبات
النم�ش البنية جعلتني أ�عتقد أ�نها أ�مي ،لكن؛ ألين أ�علم أ�ن أ�مي ذات ال�شعر
امل�صبوغ والوجه املعدو�س ترقد ا آلن بابت�سامتها حتت الرتاب؛ فقد أ�دركت
أ�نها لي�ست أ�مي ،ل�سنوات خم�س عندما أ�م ّر من حتت ال�شرفة أ�نظر �إليها؛
االبت�سامة املفاجئة التي تنطبع على �شفتيها ،النظرة الودودة احلانية التفاتة
الوجه؛ كل ذلك يجعلها تبدو وك أ�نها تعرفني ،جتعلني أ�لتفت خلفي بينما
أ�خطو �آخر خطواتي.
أ�ذكر أ�نني ر أ�يتها قبل ذلك ،مل يكن ذلك �شكلها ،قبل خم�سة �سنوات
َّ
وابي�ض �شع ُرها نبتت حبات بنية فى تربة وجهها وغ�ضون وثغور دميمة
أال�سود و أ�زهرت على ال�شفاه ابت�سامة -كان ذلك عقب موت أ�مي -أ��صدقائي
و أ�قاربي الودودون ذهلوا عندما ر أ�وا جتلُّدي و�صربي ،ال�سيما أ�نهم يعرفون
مدى عالقتي ب أ�مي .عندما يقرتبون مني وي�شدون على يدي وتتحرك
�شفاههم بكالم ال أ�فهمه أ�و يفهمونه ،ويبدو على وجوههم االرتباك وقتها
أ��ضحك و أ�قول لهم�( :إن أ�مي مل متت بعد) .عندما أ�قول ذلك يردون ب أ� ً�سى:
(نعلم هذا� ،إنها فى قلوبنا أ� ً
ي�ضا).
81
يقولون ذلك وهم ي�ضربون بكفوفهم على �صدورهم ك أ�ن فى قوة ال�ضربة
ما يعادل ال�صدمة ،أ�عود و أ�بت�سم و أ�قول لهم�( :إين أ�راها كل يوم) .ولكنهم
ال يفهمون ،يرددون مرة أ�خرى( :نعلم ذلك ،ما زالت �صورتها فى عقولنا،
و�ستظل دائ ًما أ�مام عيوننا) .حلظتها يغلبني ال�ضحك ،أ��سمعهم يهم�سون:
خف عقله بعد موتها) ولكنني ال أ�ع ّلق ،أ�بت�سم و أ��صمت و أ�مر حتت (لقد ّ
ال�شرفة و أ�نظر �إىل أ�على.
فى ال�سنة ال�ساد�سة بعد املوت مل تكن بال�شرفة للمرة أالوىل خالل
ال�سنوات اخلم�س ،الرجل ذو املعطف الكاكي قال يل( :املر أ�ة العجوز تلك
التي كانت تقف دائ ًما فى ال�شرفة)� ،س أ�لته( :مالها؟) ،أ�جابني( :لقد ماتت
ولي�س لديها من يدفنها) ،عندما كنت أ�نا الوحيد الذي عرفها على مدى
ال�سنوات اخلم�س ،فقد كنت أ�نا من يجب عليه أ�ن يدفنها .تفح�صي ال�شديد
لوجهها جعلني أ�درك أ�نها مل تكن ذات �شعر ب�صلي أ�بي�ض ،و أ�ن وجهها ال
تغطيه الثغور وال احلبات البنية الدميمة و أ�نها مل تكن تبت�سم .عندئذ بكيت
بغزارة وانزويت ببيتي حزي ًنا .عندما �س أ�لني أ��صدقائي الودودون عن �سبب
حزين؛ قلت لهم( :لقد ماتت أ�مي).
82
فوق الطوار املبلط على �إحدى الكرا�سي أال�سمنتية املثبتة مبحاذاة طريق
جال�سا .الوقت ع�صاري ،ال�شم�س أ�مامه تظهر من �شارع ال�سيارات كان ً
ر أ��سي االجتاه تقاطعي غربي؛ حمراء �شفقية؛ كبرية كما مل تبد من قبل؛
ت�سقط بهوادة فى جوف الكون غري املرئي واملختفي فيما وراء أالبنية ،عيناه
الظاهرتان من ثقبي وجهه -بني هاالت التجاعيد الكثيفة -تتحرك مينة
وي�سرة فى �صمت وجهه الكهل متجمد املالمح ،كر أ��س فرعوين ُحنط �إال من
مقلتيه ،ترقب عن كثب حركة ال�سيارات التي تده�س بعنف الطريق ا إل�سفلتي
ِلكال االجتاهني ،ت�سجل أ��صواتها فى الذاكرة ثم ال تلبث أ�ن تختفي ،ال�سيارة
أالربعينية القدمية ما زال يحفظ �صوتها ،دائ ًما ما كان ي�سمع أ�زيزها
الناعم ،يعتقد أ�نها تناجيه ،يقول� :إن كل �سيارة لها ب�صمة كب�صمة اليد
أ�حادية النوع تختلف عن أالخرى ،ذبذبات نفريها؛ أ�زيز موتورها فى �سرعته
وبطئه ،فى دورانه وتوقفه؛ فى �إ�ضرابه عن احلركة عندما ي�شعر بالتعب؛
ال�سيارة الكاديالك المعة القوام ال�سوداء كظلمة ليلة لي�س بها قمر ،دائ ًما
ما كان يفخر بني أ�فواههم املح�ش�شة و�سط أ�جواء املقهى ال�ضبابية كذاكرته،
يقولون له( :ال حتدثنا عن �سيارتك الكاديالك ال�سوداء التي كنت تقودها أ�و
عن مالكها البا�شا ،زمن البا�شاوات قد وىل يا با�شا).
85
املر�صع ب أ�زرار ذهبية تعك�س بريق ال�سيارة أالربعينية،
زيه الرمادي َّ
والكاب فوق ر أ��سه كث ًريا ما كان يزهو بهما ،يقول ( أ�نا �سائق البا�شا
اخل�صو�صي) ،وزوجته تنف�ض عن كتفه غبا ًرا غري موجود ككل يوم وتودعه
فى طريقه للخروج ،وتنظر من النافذة على الكاديالك التي ت�سد �شارعهم
ال�ضيق ،جارتها كم يح�سنها على البذلة ذات أالزرار؛ بينما هي ال تكف
عن التعايل ورفع حاجبيها ،والنظر من فوق �صخرة مرمرية مزرك�شة حني
تخاطبهم ،تقول لهم( :زوجي رجل مهم� ،إنه �سائق البا�شا اخل�صو�صي،
بدونه تتوقف م�صالح البا�شا ،ال ي�ستطيع احلركة بدونه).
حني ر أ�ته أ�ول مرة مرتد ًيا بدلته الرمادية يهبط من ال�سيارة الفخمة،
انطلقت منها الزغاريد كمدافع رم�ضان ،ور�شته ببلورات متحجرة بي�ضاء
�صغرية ،بدت له أ�نها حبات من ملح ،قال لها�( :إن البا�شا الكبري م�سرور مني
ب�شدة وال ي�ستخدم �إال �سيارته الكاديالك ال�سوداء دون ال�سيارات أالخرى
التي ميتلكها ،تعجبه قيادتي) .ذات ليلة كان مبت�س ًما تعلو وجهه الب�شا�شة،
حدثها قائ ًال�( :سيعمنا اخلري الكثري ،قال يل البا�شا اليوم عندما كان
م�سرتخ ًيا على الكر�سي اخللفي لل�سيارة :أ�نت �سائق ممتاز يا ولد يا فتحي،
لذلك �س أ�فكر فى زيادة راتبك) .قالها لها بطريقة غريبة بدت كعنجهية نطق
البا�شا لكلماته ،ثم انفتحا م ًعا فى ال�ضحك ،خلع كا َب ُه الرمادي و أ�لقاه على
كنبة أالنرتيه أال�سيوطي املتهالكة ذات الك�سوة املرقعة ب أ�قم�شة م�شابهة.
وجهه املتجمد منذ زمن بعيد حترك أ�خ ًريا ،حركته كانت ع�صبية ،كان
ذلك عندما ملعت عيناه بربيق �سيارة قدمية انطف أ� رونقها الفربيكي ،و�ضجت
ً
خطوطا قا�سية عليه ،ما زال يذكرها ب�شكلها أ�ذنه ب أ�زيز موتو ٍر ر�سم الزمن
أال�سطوري النادر ورقمها الب�سيط املنحوت على جدار عقله الداخلي ،عندما
متر أ�مامه كل يوم فى هذا الوقت امل�ستقطع من الع�صاري.
86
�سيارة أ�ربعينية �شديدة الظلمة
تذكر �آخر مرة قابل فيها البا�شا ،دموعه التي ت�ساقطت منه ومل ي�ستطع
أ�ن مينعها دفعت البا�شا ألن يخرج من حمفظته اجللدية املمتلئة ورقة من
فئة اجلنيه ويعطيها له ،قال له( :خذ يا فتحي تدبر أ�مورك بها) .حاول
أ�ن يرف�ضها ب�إباء؛ ولكنه د�سها فى جيبه وربت على كتفه ،عندما دخل على
زوجته أ�خرج لها الورقة فئة اجلنيه ،يده املرتع�شة ووجهه املتجهم ج َّمد
االبت�سامة على �شفتيها ،وم�سح غمازات وجهها الن�ضرة ،مل ينطق �سوى ب�ضع
كلمات ،انزوى بعدها فى ركن الكنبة أال�سيوطي ،قال لها( :باع البا�شا كل
�شيء و�سافر �إىل اخلارج).
xxx
87
على خ�شبة امل�سرح دار دورة كاملة متكررة �سريعة دلت على لياقته ،نزع
قناعا مطاط ًيا عن وجهه مي ّثل وجه مالك ،ظهر من أ��سفله وجه �شيطان ً
خميف ففزع املتفرجون منه ،لكنه ما لبث أ�ن قفز قفزة ثالثية مبهرة
ثبت بعدها على خ�شبة امل�سرح ونزع قناع ال�شيطان ،وقذفه بني اجلمهور،
فبدا الوجه املزرك�ش للبليات�شو بابت�سامته البلهاء� .ضج امل�سرح بال�ضحكات
ال�صاخبة ،أ�خرج بي�ضة من فمه و أُ�خرتني من أ�ذنه ،ارتفع �صياح أالطفال
فرحا و�سعادة .،قلب ر أ��س البليات�شو ك أ�نه انتزعه من رقبته ،وعك�س
وتهليلهم ً
و�ضعها ،فبدت عيناه �إىل أ��سفل وفمه �إىل أ�على ،أالطفال الذين هللوا ً
فرحا
منذ قليل �صرخوا رع ًبا عندما انتزع فج أ�ة قناع البليات�شو امل�ضحك ليظهر
من ورائه وح�ش مل ِير مثله من قبل .عندما حان موعد انتهاء العر�ض نزع
قناعه املفزع؛ ليبدو وج ُهه الب�شو�ش امل�شوب باالبت�سامة الهادئة ،حيا اجلمهور
وان�صرف.
ح�ست فى لعابها طعم املطاط بعد العر�ض عندما أ��سرعت حبيبته ُتقبله أ� ّ
ف أ�ن�شبت أ�ظافرها فى وجهه� ،سقط عنه قناع ،نظرت �إليه مذهولة ،اندفعت
متزق وجهه ب أ�ظفارها بح ًثا عن الوجه احلقيقي للرجل الذي حتبه ،ت�ساقطت
أالقنعة تلو أالخرى ،لكنها توقفت مكانها وت�سمرت عندما مل جتد �شي ًئا وراء
أالقنعة.
91
رجل بطول املرت يرتدي الباروكة واحللق ،وي�ضع امل�ساحيق احلمراء
والزرقاء وبودرة الوجه وف�ستان الفرح النايلون ،رغم ذلك احتفظ ب�شنب ِه
يت أ�رجح كثي ًفا على جانبي وجهه .فقط عندما ينظر لنف�سه فى املر�آة هكذا
يحتقرها ،ولكنه يندفع كل يوم لفعل ذلك ،غري أ�نه على يقني أ�ن ذلك لي�س
�شعوره وحده .ل�شهور كان يقف أ�مام املر�آة بهذه ال�صورة .فى امل�ساء يقنع
نف�سه أ�نه ال يجب أ�ن يفعل مهما كلفه ذلك ،ولكنهم فى كل مرة يعطونه
ا إل�شارة؛ فينطلق لينفذ دوره كما هو مطلوب منهَ .من حوله حتى الذين
يرونه كل يوم يندفعون فى ال�ضحك و�إلقاء النكات والعبارات ال�ساخرة،
�إال أ�نه مل ُيظهر غ�ضبه لهم أ�بدً ا ،يتمادى فى ال�ضحك معهم ،فى داخله
يتحينّ الفر�صة املنا�سبة لينتقم وي�سرتد نف�سه من حتت الف�ستان النايلون
والطرحة.
فى كل مرة يقول( :هذه املرة �س أ�نهي كل �شيء� ،س أ�خلع الطرحة واحللق
والف�ستان على خ�شبة امل�سرح و أ�ن�صرف)� .سيفقده ذلك عمله ،غري أ�ن أالمر
ي�ستحق ،ولكنه يعود ويرتاجع على خ�شبة امل�سرح ،يجل�س بجانب العري�س
ويهز باروكته ويربم �شنبه ويحرك نهديه ال�صناعيتني بكفه كما هو مطلوب
منه فى الن�ص ،وحلظات أ�خرى وينتهي دوره دون أ�ن ين ّفذ ما فى عقله.
95
ما زال واق ًفا أ�مام املر�آة يت أ�مل مظهره الكريه ،مل يعد ي�ستطيع أ�ن
يفعل ذلك ،أ�ن ُيح َّول مل�سخ م�ضحك ككل يوم ،قبل ذلك مل تواتيه ال�شجاعة
الكافية ،اليوم ي�شعر بالعزمية وا إل�صرار والرغبة فى �إنهاء أالمر بالطريقة
التي د ّبرها� ،سينتقم منهم جمي ًعا ولو ليوم واحد ،يجعلهم ي�صرخون من
الغيظ ،بعد قليل �سي�ستدعونه وهم ي�ضحكون كعادتهم ،و�سيبدءون فى �إلقاء
النكات ال�ساخرة وهم يرتنحون من ال�ضحك ،الليلة �سيوقف ال�ضحك ويغلق
ال�ستار.
xxx
حلظات وكان يتقدم متج ًها �صوب خ�شبة امل�سرح ،على امل�سرح مل ي�ستطع
غري أ�ن يجل�س بجانب العري�س ،ويهز باروكته ويربم �شنبه ويحرك نهديه
ال�صناعيتني ب�صورة م�ضحكة.
96
فى اللحظة التي تغلق فيها عينها وتفتحها تعتقد أ�نها �سرتى �شيئا
�آخر ،حتاول أ�ن ت�شعر بطعم أ�حمر ال�شفاه على �شفتيها .،رائحة م�ساحيق
التجميل ،جمفف ال�شعر ،تفكر كث ًريا فى �شكلها ،تتمنى أ�ن جتد نف�سها فتاة
نا�ضجة ت أ��سر قلوب ال�شباب ،وتغزل بجمالها عقولهم وتثري عداء الفتيات
أالخريات الالئي �سيتمنني أ�ن ي ُكنَّ مثلها ،تفتح عينيها وتت أ�مل نف�سها فى
املر�آة ،تتوقع أ�ن ترى ما تفكر فيه ،تنزوي االبت�سامة املرت�سمة على �شفتيها،
ال ترى �إال طفلة �ضئيلة نحيفة ترتدي ال�شورت والبلوزة الطفولية لر أ��س ميكي
ماو�س و�ضفائر طويلة قبيحة ،وكرة وعرو�سة بال�ستيكية بني يديها ،ت�ضيق
باملر�آة ،حتطمها وتدفن أ��شالءها .ل�سنوات طويلة اعتادت على ارتداء ثيابها
وهندمتها وتنميقها بدون مر�آة .تعلم أ�نها عندما �ستنظر �إليها لن جتد �إال
تلك الطفلة ذات الكرة وال�ضفائر والعرو�سة ،ف�ستان أ�مها أالحمر اجلديد
أ�عجبها� ،سيجعلها ك أ�مها ،كملكة متوجة أ�و أ�مرية مدللة ،تغافلها وتذهب
لغرفتها وترتديه ،حتدث نف�سها:
(ف�ستان يليق بامر أ�ة نا�ضجة ولي�س طفلة ترتدي ال�شورت).
تدور وتلف حول نف�سها ،تنظر ل�صورة كبرية معلقة على احلائط فى
الغرفة� ،صورة لفتاة نا�ضجة مبهرة ،تتمنى أ�ن يكون لها نف�س �شعرها
الذهبي ،أ�و عيناها الوا�سعتان أ�و وجهها امل�ستدير كوجه القمر البدر ،أ�و ذلك
99
القوام املم�شوق ال�ساحر .تنتبه �إىل أ�ن ال�صورة تتحرك ،متاثلها فى احلركة
كخيالها ،تدرك أ�نها تنظر ملر�آة كبرية مثبتة على احلائط.
100
مق�صا ،مل تكن تريد �إال أ�نعندما اقرتبت منه وهو نائم حتمل بيدها ً
مرتنحا
ً تق�ص َر �شعر حليته وتقلم أ�ظافره احلادة .دائ ًما يغيب أ��سابيع ثم يعود
ِّ
من ال�سكر؛ لكنه ال يلبث أ�ن ي�ستيقظ ويتحول لوح�ش �ضاري ميزق ثيابها حتى
ت�صري عارية ،وي�سكن بثقله فوق �صدرها ،ال ي أ�به لرائحة عرقه الكريهة
أ�و حليته املنفرة التي تعكر أ�نفا�سها ،أ�و تلك اجلروح الرفيعة التي ترتكها
أ�ظفاره على ج�سدها .عندما فكرت ذات مرة أ�ن متنعه من متزيق ثيابها
و�ضعت يدها بحركة عفوية على مكان الكدمة القدمية أ��سفل عينها� ،صارت
بعدها جتل�س وت أ�كل وتنام وتنتظره عارية ،حيث فقدت كل ثيابها ،اقرتبت
يدها املرتع�شة باملق�ص �إىل حليته ،أ�و�شكت أ�ن تق�صها ولكنها انزلقت فج أ�ة
�إىل �صدره توغره بطعنات متالحقة .فى اللحظة التي ر أ�ت فيها الدماء
احلمراء تتدفق بغزارة من �صدره اندفعت فى البكاء و�ضمته �إليها ،فقد
أ�دركت أ�ن أ�ظفاره امل�سنونة لن متزق حلمها مرة أ�خرى ،و أ�ن رائحته الكريهة
لن تت�سلل �إىل أ�نفها بعد ذلك.
103
املكان /احلافة العليا ملدينة القاهرة ،بالتحديد قلب حي القلعة ،البيوت
�صناديق و�صفائح وعلب كربيت أ��سمنتية ،فوق �إحدى أال�سطح املتزاحمة
كان يت أ�مل ال�سماء يبحث عن م�ساحة فراغ ،أال�سطح أ
والبنية املكد�سة التي
حتوطه ت�شعره باالختناق والرغبة فى ال�صراخ ،ال يوجد م�ساحة فراغ .فى
ت أ�مله للنجوم اكت�شف تلك امل�ساحة ،وجدها بذلك امل�ستطيل أال�سود املمتلئ
بالنجوم والذي يعلو وجهه .ابت�سم لنف�سه ،أ�خذ من جانبه م�سطرة خ�شبية
بطول املرت وقل ًما من الر�صا�ص ومنقلة ومثل ًثا ،بد أ� ير�سم حماو ًرا أ�فقية
و أ�خرى ر أ��سية ،ويحدد الزوايا بني النجوم ،جعل مركزها الدب القطبي،
كلما أ�خط أ� فى الت�صميم أ�عاده مرة أ�خرى حتى انتهى منه .بيت �صغري هادئ
يتزوج فيه وينجب أ�والدًا فى البعد املتناهي هناك عند جنم ال�شمال ،لكنه ما
�إن انتهى حتى �سمع �صوتًا ي�صيح من أ�حد أال�سطح املال�صقة� ،سمعه يقول:
(هذا املكان قد �سبق حجزه).
107
( -عندما يتوقف رنني أالجرا�س).
هكذا أ�جبت أ�مي عندما �س أ�لتني متى �ستفكر فى الزواج؟.
أالجرا�س التي علقتها فى �إفريز ال�شرفة يتّحد تاريخها مع التاريخ الذي
�شخ�صا �آخر .فى نف�سي قررت أ� َّال أ�تزوج امر أ�ة
ً تزوجت فيه من أ�حببتها؛
ْ
أ�خرى �إال �إذا توقفت أالجرا�س ،لكنني كنت على يقني أ�ن أالجرا�س لن
تتوقف� ،إذ يحركها الهواء.
غري أ�نها ذهبت م�سرعة �إىل ال�شرفة وانتزعت أالجرا�س ف أ�خر�ستها،
قالت( :لقد توقفت أالجرا�س)� ،س أ�لتها( :هل عندك عرو�س؟)
xxx
111
الفهرس
113
امل ؤ�لف يف �سطور