You are on page 1of 114

‫الديوك الرومية ال تطري‬

‫جمموعة ق�ص�صية‬ ‫ ‬
‫الكتاب‪ :‬الديوك الرومية ال تطري (جمموعة ق�ص�صية)‬
‫امل ؤ�لف‪ :‬حممد �إبراهيم ق�شقو�ش‬
‫الوىل‪ :‬القاهرة ‪2008‬‬ ‫الطبعة أ‬
‫اليداع‪2008/8805 :‬‬ ‫رقم إ‬
‫الرتقيم الدوىل‪:‬‬
‫‪I.S.P.N: 987 – 977 – 6284 – 03-6‬‬

‫النا�رش‬
‫�شم�س للن�رش والتوزيع‬
‫‪� 8053‬ش ‪ 44‬اله�ضبة الو�سطى – املقطم – القاهرة‬
‫ت‪ /‬فاك�س‪)02( 0188890065)02(27270004 :‬‬
‫‪Web: www.shams-group.net‬‬

‫الغالف ‪ :‬الفنان �أمني ال�صريفى‬

‫جميع حقوق الطبع والن�رش حمفوظة‬


‫ال ي�سمح بطبع �أو ن�سخ �أو ت�صوير �أو ت�سجيل‬
‫�أى جزء من هذا الكتاب ب أ�ى و�سيلة كانت‬
‫�إال بعد احل�صول على موافقة كتابية من النا�رش‬
‫الديوك الرومية ال تطري‬
‫جمموعة ق�ص�صية‬

‫حممد إ�براهيم ق�شقو�ش‬

‫م‬
‫�إهداء‬

‫�أر�ض �صحراوية ال مير من فوقها �سوى رياح خما�سينية‪ ،‬فج أ�ة يف ليلة‬
‫�شتوية من ليايل ‪� 2007‬ضلت ن�سمة ربيعية جميلة طريقها فعربت من‬
‫فوق ال�صحراء‪ ،‬اختلطت باجلو ال�ساخن‪� ،‬صنعت �سحابة داكنة‪ ،‬ت�ساقطت‬
‫�أمطاراً غزيرة‪� ،‬أنبتت نبتة جميلة لي�س لها مثيل على ظهر الب�سيطة‪،‬‬
‫�أخرجت �أزهاراً وثماراً لذيذة ال توجد �إال يف اجلنة‪ ،‬وبذوراً تطايرت هنا‬
‫وهناك �أ�صابت ال�صحراء ببقعة خ�رضاء تف�شت حتى اختفت رمالها‪.‬‬

‫تلك أالر�ض اجلرداء مل تكن �إال �أنا‪ ،‬وللنبتة اجلميلة التي �أ�ضاءت‬
‫حياتي �أهدي تلك املجموعة الق�ص�صية‪.‬‬

‫حممد �إبراهيم ق�شقو�ش‬ ‫ ‬


‫هاالت �ضوئية ك�سال�سل حلزونية ح ّلقت أ�مام ال�سيارة‪� ،‬سالكة نف�س‬
‫الطريق الذي اجتازته‪ ،‬تزداد �إ�ضاءة‪ ،‬كلما تقدمت ال�سيارة على تلك أالر�ض‪،‬‬
‫ما لبثت أ�ن اختفت خم ّلفة وراءها بري ًقا قد ًميا �سقط فى عقلي حمد ًثا رني ًنا‬
‫فى الذاكرة‪ ...‬الدار الف َّالحي القدمي‪ ،‬لبناته الطينية التي ن� أش�ت من مزيج‬
‫ال�سماد البلدي تعلوها على هيئة دوائر‬‫مبقادير من طني وتنب‪ ..‬أ�قرا�ص من ِّ‬
‫مرتا�صة فى انتظار أ�ن ت�صبح وقودًا‪ ،‬الرتعة املرمتية أ�مام الدار وعلى امتداد‬
‫َّ‬
‫عاما‪ ،‬بدت ذات لون‬ ‫القرية‪ ،‬أ��شياء مل أ�رها منذ ما يقرب من ت�سعة ع�شر ً‬
‫أ�خ�ضر ذابل من وراء نظارتي اخل�ضراء باهظة الثمن التي تخفي وجهي‪...‬‬
‫عندما نزلت من ال�سيارة متج ًها نحوها كانت خطواتي متطابقة مع‬
‫بع�ضها ك أ�نها �ص ّبت فى قوالب أ��سمنتية جفت منذ زمن بعيد‪ ...‬احليز‬
‫ال�ضيق داخل البدلة املحبوكة ب�إحكام على ج�سدي مل ي�سمح بغري ذلك‪...‬‬
‫واجهة الدار بدت أ��صغر حج ًما من ذي قبل‪ ،‬وحبل دوبارة تد َّلت عقدته من‬
‫ثقب فى الباب جذبته فانفتح‪ ..‬كغابة خلت من حيواناتها أال�سطورية �شديدة‬
‫العتمة ترجع لع�صر ما قبل التاريخ كان جوف الدار‪ ..‬فرقعة الباب ال�شديدة‬
‫أ�نب أ�ت ب�صد أ� مف�صالته‪ ..‬عندما كان الباب يفتح ويقفل كل �آونة م�ستقب ًال‬
‫�ضيو ًفا وجريا ًنا و أ�طفا ًال مل يكن يتف َّوه مبثل ذلك أالنني‪ ..‬ال�ضوء املغربي‬
‫اخلجل املنكفئ من اخلارج عك�س أ�طال ًال متناثرة فى باحة الدار الرطبة‪..‬‬
‫ويدي املمتدة لتفتح �شبا ًكا خ�شب ًيا �صغ ًريا كما لو كانت متتد لهوة فى زمن‬

‫‬
‫فائت‪ ..‬خيوط ف�ضية ان�سكبت من بني ق�ضبانه احلديدية‪ ..‬مل أ�فلح أ�بدً ا فى‬
‫الو�صول �إليه عندما كنت �صغ ًريا‪..‬‬
‫نف�س الوجود الدنيوي أل�شياء رحل أ��صحابها �إىل العامل ا آلخر تاركني‬
‫وراءهم خملفاتهم الرخي�صة‪ ،‬أالر�ضية الرتابية‪ ،‬اجلدران اجلريية الزرقاء‬
‫املت آ�كلة‪ ،‬العروق اخل�شبية حتمل بعناء �سقف الدار‪ ،‬حمتويات مل تتحلل أ�و‬
‫تتعفن كتعفن املوتى‪ ،‬كما لو كانت خالدة إلن�سان غري خالد‪ ..‬طبايل خ�شبية‪،‬‬
‫ماكينة حياكة منزوية فى �صمت ب�إحدى الزوايا‪ ،‬كنب بلدي يتكئ فى �شجن‬
‫على اجلدران وزير املاء املثقوب‪ ..‬عندما رفعتُ غطاءه ظننت أ�نني �س أ�جد‬
‫بداخله ما ًء‪ ..‬منذ عمر م�ضى كنت أ�عتقد أ�نه يو ّلد املاء كال�صنبور‪ ،‬جر أ�تي‬
‫مل ت�صل �إىل أ�ن متتد يدي داخله أل�شرب‪ ..‬علي بن خالتي أ�م جنوانة جارة‬
‫جدتي ‪ -‬ذلك الولد القذر الذي مل يكن يخجل أ�ن يلعب الكرة وال ُغمي�ضة‬
‫وكهرب مبالب�سه الداخلية املن ّقرة بثقوب عينية كفتحات ا�ستطالعية بجدار‬
‫ح�صن منيع ‪ -‬ما زلت أ�تذكر كالمه (�إن فى جوف الزير كه ًفا مظل ًما ت�سكنه‬
‫أ�فاعي و�سحايل و�صرا�صري متوح�شة بذيئة)‪ ،‬عندما كانت جدتي تناولني‬
‫املاء أل�شرب كنت أ�حدق فى املاء‪ ..‬أ�حاول الت أ�كد من خلوه من تلك الكائنات‬
‫التي يتحدث عنها‪.‬‬
‫�ساقي قلي ًال ا�ستطعت أ�ن أ��ضع كر�سي احلمام اخل�شبي‬
‫بعد أ�ن طالت َّ‬
‫ال�صغري و أ�قف عليه أل�صل حلافة الزير املو�ضوع على احلامل احلديدي‬
‫و أ�كت�شف كذبه و أ�فهم لعبته؛ ال�ضحك على طفل قاهري مدلل جاء لق�ضاء‬
‫أ�جازته ال�صيفية فى قرية جدته الريفية‪ ..‬عندما واجهتُه بكذبته اندفع فى‬
‫ال�ضحك والقهقهة حتى �سقط على أالر�ض‪� ..‬ضحكاته املد ّوية ما زالت عالقة‬
‫ب�إذين‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫‪10‬‬
‫الديوك الرومية ال تطري‬

‫(ت أ�خر الرجل)‪ ...‬هذا ما قلته لنف�سي عندما نظرت فى ال�ساعة على‬
‫بقايا �ضوء المع يربز نف�سه على ا�ستحياء كامر أ�ة خجلة تخفي فمها وراء‬
‫مالءة‪ ..‬فر�صة كوين مب�صر لثالثة أ��سابيع كاملة أ�تاحت يل الوقت لت�صفية‬
‫كل �شيء قبل العودة �إىل اخلارج ل�سنوات قادمة‪ ،‬وكان مما يدور فى عقلي‬
‫بيع دارنا القدمية التي �صارت مهجورة‪ ..‬جدرانها أ��صبحت متتلئ ب أ�حداث‬
‫�سالفة �سقطت فى التاريخ‪ ..‬دائ ًما ما كنت أ�كره التاريخ‪ ..‬أ�عتربه م�ضيعة‬
‫للوقت‪ ..‬أ�قول ال وقت للتذكر والبكاء‪ ،‬اليوم وقت العمل‪..‬‬
‫�سيل من موجات كهربية تدفقت أ�مام عيني أ��صابتني ب�صدمة أ��سفل‬
‫مركز الذاكرة اق�شعر لها ج�سدي‪ ،‬انتف�ضت منها �صور عالقة من �آخر يوم‬
‫كنت هنا‪ ..‬الوقت ع�ص ًرا فى يوم من أ�يام رم�ضان‪ ..‬أ�جري بباحة الدار مع‬
‫ثالثة أ�طفال فى حلقات معوجة ك أ�ننا بفناء مدر�سة أ�و ملعب‪ ،‬ال أ�كاد أ�ذكر‬
‫منهم �إال ع ِل ّي وم�سحات من وجوههم النحيفة‪ ،‬أ��صواتنا ترتدد بالغناء على‬
‫وترية واحدة‪.‬‬
‫يا فاطر رم�ضان يا خا�سر دينك‪.‬‬
‫هتقطع م�صارينك‪.‬‬‫كلبتنا ال�سودة ّ‬
‫موحد ربك‪.‬‬ ‫يا �صامي رم�ضان يا ّ‬
‫كلبتنا البي�ضة هتبو�سك من خدّك‪.‬‬
‫جتذبنا كلماتها املتوافقة إلعادة تكرارها كل قليل‪ ..‬عندما رددنا تلك‬
‫أالغنية �صباح ذلك اليوم أ�مام قهوة ب أ�ول القرية اندفع رجل يجري وراءنا‬
‫بع�صاه‪ ..‬مل ن�شعر �إال و أ�رجلنا تطري من فوق أالر�ض ك أ�ن أ�جنح ًة قد نبتت لها‪،‬‬
‫ومل ندر ملاذا جرى ذلك الرجل وراءنا؟‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫ُحبيبات ذهبية انترثت فج أ�ة من عقلي و�سرعان ما اختفت ك أ�طياف‬
‫الذاكرة‪ ،‬مل يتبقَّ منها �إال خيوط من �ضوء ف�ضية باهتة مميزة لوقت الغروب‪...‬‬
‫حجرة اخلبيز ما زالت كما هي ميني الردهة امل ؤ�دية حلجرتي‪ ..‬الفرن البلدي‬
‫و أ�كوام الق�ش و أ�قرا�ص ال�سماد مك ّومة فى ركن احلجرة واملاجور والب�شكور‬
‫وطبلية كبرية وكل أ�دوات اخلبز‪ ..‬ما زالت تلك حمتوياتها‪� ..‬صرا�صري الليل‬
‫تناغي ال�سكون والظلمة املحلقة ب أ�جوائها‪..‬‬
‫فى نف�س ذلك اليوم عندما كنت أ�لعب ب�ساحة الدار أ�طللت على تلك‬
‫احلجرة التي كان ينبعث منها الدخان؛ يتحرك ك أ��سراب نحل متتابعة‪..‬‬
‫الن�ساء العجائز امللتفات حول الفرن ‪ -‬وطبلية وماكينة �سحرية يدخلها‬
‫العجني من أ�حد جوانبها ويفارقها أ��صاب ًعا رفيعة من اجلانب ا آلخر ‪ -‬لف َ‬
‫نت‬
‫نظري بتلك الدوائر اللحمية حول أ�فواههن وحتت أ�عينهن‪ ،‬و�صوت العجني‬
‫ي�ضرب فى املاجور أ�عطاين �شعو ًرا أ�نهن عاكفات على �صنع �شيء من نوع‬
‫خا�ص لي�س له مثيل مل ُيف�صحن عنه بعد‪ ...‬أ�عينهن امل�صوبة نحو خالتي‬
‫أ�م �شبل ‪ -‬التي قر�صت على قطعة من العجني تتفح�صها بيدها ‪ -‬ك أ�نها قد‬
‫حتجرت‪� ...‬صوتها يعلن فى ثقة (يحتاج كب�شتني دقيق) وقتها �سقطت عيني‬
‫على كومة من الب�سكويت فقد مقدرته على أ�ن يظل فى ر�شاقة �إ�صبع اليد؛‬
‫ف�صار كوجه ال�سمكة املم�سوخ‪ ،‬ذلك جعلني أ�درك أ�نّ ذلك الب�سكويت ‪ -‬الذي‬
‫نافخا فيه وي أ�بى أ�ن‬
‫علي منذ قليل يقلبه بني كفيه ويرميه ألعلى ً‬
‫كان فى يد ّ‬
‫حرجا أ�ن أ�م َّد يدي و أ�كب�ش‬
‫يخ�صنا‪ ،‬لذلك مل أ�جد ً‬
‫يعطيني منه ِك�سرة ‪ -‬كان ّ‬
‫لل�سف مل أ�كن أ�ق ّلبه‪ ...‬فقد‬ ‫أ�ربعة أ��صابع من ب�سكويتنا املفرطح‪ ،‬ولكنني أ‬
‫�سرت فيه الربودة ويب�س حتى �صار كقوالب الطوب أال�سمنتي ال�صغري‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫مل ي�ستطع حذائي اجلديد ذو اجللد الل ّميع أ�ن يعلو ب�صوته على �صوت‬
‫مف�صالت باب حجرتي املوجودة ب آ�خر الدار‪ ،‬وعود الكربيت الذي أ��شعلته‬
‫ك�سا الغرفة بغاللة ذهبية متموجة تخايلت على أ�ركانها فبدت كما تركتها‪..‬‬
‫الدوالب املخلوع دلفه‪ ..‬الكر�سي اخل�شبي مه�شم أالرجل املكوم كجثة جدتي‬
‫الهامدة فى ركن الغرفة الق�صي‪ ،‬ال�سرير ذو الق�ضبان النحا�سية الذي فقد‬
‫بريقه منذ فقد احلياة عليه‪ ..‬عندما انطف أ� الثقاب اعتلى الظالم عر�شه‬
‫مرة أ�خرى‪،‬مل يكن الظالم يخ�ص الدار وحدها كما ظننت‪ ،‬أ�دركت هذا‬
‫عندما فتحت النافذة فتجلى �سواده احلالك‪.‬‬
‫داخل احلجرة عندما انتف�ضت فى الظلمة مالءة ال�سرير البالية مل‬
‫ي�ستطع ترابها الرمادي أ�ن يظهر فى أ�جوائها‪ ،‬اللون أال�سود ي�سود‪ ،‬فقط‬
‫رائحة عطنة كعبق املوت‪ ...‬ن�سمات لطيفة ه ّبت مت�س ّللة من احلقول بني‬
‫أ�عواد الرب�سيم و�سنابل القمح‪ ..‬وخدر لذيذ أ��صابني على مر أ�ى مقام �سيدي‬
‫لطيف من بني ق�ضبان النافذة احلديدية‪ ..‬دفعني ذلك أل�ستلقي م�سرتخ ًيا‬
‫على ال�سرير متجاه ًال �شظى الغبار املتطاير‪.‬‬
‫�صوت جدتي ما زال يرتدد من حويل ك أ�نه يخرج من �صندوق معدين‬
‫أُ�حكم �إغالقه‪ ..‬نف�س احلديث الذي دار بيننا‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أ�ن تنام ا آلن‪� ..‬صرنا فى الثانية ً‬
‫�صباحا‪.‬‬
‫‪ -‬قب ًال ك ّلميني عن �سيدي لطيف والديك الرومي‪.‬‬
‫‪ -‬أ�ي ديك رومي؟‬
‫كانت ت�س أ�ل فى ُخبث‪ ،‬وقد اعتلت وجهها تلك االبت�سامة التي ت�صنع‬
‫دوائر حلمية كقطع الب�صل احللقية‪ ..‬بدت مت�شابهة مع ه ؤ�الء الن�ساء‬
‫العجائز الالتي كن جمتمعات معها ذلك اليوم فى حجرة اخلبيز‪ ،‬فظهر‬

‫‪13‬‬
‫ك أ�ن وجوههن متطابقة‪ ..‬أ�جبتها متخاب ًثا أ�نا ا آلخر‪:‬‬
‫‪ -‬ذلك الذي كننت تتحدثن عنه اليوم أ�مام الفرن و�سمعتكن تذكرونه‬
‫قبل ذلك‪.‬‬
‫حكي لك فى ال�صباح‪.‬‬ ‫‪ -‬وترد‪ :‬من الليلة و أ�عدك أ�ن أ� َ‬
‫كنت أ�علم أ�نها تقول ذلك لكي أ�نام وينتهي أالمر وتريح ر أ��سها‪ ،‬لذلك‬
‫أ��صررت على طلبي‪ ..‬قلت لها بتحدٍّ ‪:‬‬
‫‪ -‬بل حتكيها الليلة و�إال �س أ�بقى �ساه ًرا أ�لعب حتى ال�صباح‪.‬‬
‫نظراتها ال�صامتة د ّلت على ي أ��سها مني وعدم القدرة على مناكفتي‪،‬‬
‫ولكنها ما لبثت أ�ن زفرت بتنهيدة طويلة خرجت من فتحات أ�نفها‪ ،‬وبد أ�ت‬
‫تق�ص حكاية عمتي التي كادت أ�ن متوت وهي �صغرية مل تكمل الثالثة‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬
‫يئ�س من حالتها أالطباء‪ ..‬كانت وهي حتكي مت أ�ثرة لدرجة بالغة ك أ�منا تعي�ش‬
‫ما حدث من جديد‪ ،‬ثم �سكتت فج أ�ة ك أ�منا ن�سيت �شي ًئا‪ ،‬و أ�كملت �صارخة‬
‫(كانت تنام على هذا ال�سرير) وعادت ل�سرد ق�صتها‪ ،‬قالت �إنّ روح �سيدي‬
‫لطيف جت�سدت على هيئة ديك رومي �ضخم اجل�سم كثيف الري�ش المع ُه ‪-‬‬
‫و أ��شارت للنافذة التي تعلو ال�سرير ‪ -‬قاطعتها ً‬
‫�صائحا (�إنها بق�ضبان حديدية‬
‫�ضيقة)‪.‬‬
‫بدا أ�نّ مقاطعتي لها قد �ضايقتها‪ ..‬قطعت �سيل أ�فكارها املتتابعة‪ ..‬قالت‬
‫بفتور (فيما بعد‪ ..‬لقد و�ضعناها فيما بعد)‪ ..‬وا�صلت حكيها ك أ�نني مل أ�قل‬
‫�شي ًئا‪ ..‬قالت لقد دخل من هذه النافذة‪ ،‬ووقف على نف�س ال�سرير الذي جنل�س‬
‫عليه يت أ�ملها فرتة وهي نائمة‪ ،‬ثم م�سح ب أ�حد جناحيه عليها وعاد وقفز من‬
‫النافذة) بعد أ�ن ذكرت ذلك �سكتت لفرتة‪ ..‬خيل يل أ�نها طويلة‪ ..‬عدتُ‬
‫أ��س أ�لها ألحثها على أ�ن تكمل (وماذا بعد؟)‪ ..‬حينئذ اندفعت �صائحة ك أ�ن‬

‫‪14‬‬
‫�س ؤ�ايل مل يكن متوق ًعا‪ ..‬قالت (وماذا بعد ماذا!‪ ...‬عا�شت وت�شيطنت مثلك‪،‬‬
‫و أ��صبحت مثل احل�صان‪ ،‬أ�مل تكن موجودة اليوم عندما كنا نعمل الب�سكويت‪..‬‬
‫من ا آلن وكفى‪.‬‬
‫كتف مبا قالت؛ فعدت أ��س أ�لها مرة أ�خرى‪:‬‬
‫لكني مل أ� ِ‬
‫‪ -‬هل �سيدي لطيف هذا رجل �شرير‪ ،‬ولهذا دفنوه مبفرده فى هذا‬
‫القرب؟‬
‫بدا أ�نها فقدت كل ما عندها من �صرب عندما نفخت ب�شدة من فمها‪،‬‬
‫وقامت من جانبي متوجهة نحو الباب‪ ،‬وعندما كانت عند الباب ا�ستدارت‬
‫و أ�جابت على �س ؤ�ايل الذي طرحته منذ حلظة‪ ..‬قالت‪( :‬هو رجل طيب مع‬
‫الطيبني‪ ،‬ولكنه ال يتهاون مع ال�شياطني املتعبني أ�مثالك)‪ ..‬تناق�ص ال�ضوء‬
‫تدريج ًيا بتناق�ص فرجة الباب التي كان ينعك�س من خاللها أ�طياف ملبة‬
‫اجلاز‪ ..‬حلظات من نعا�س أ�عقبت ذلك‪ ..‬تب َّددت عقب �سماع ا�صطفاق‬
‫أ�جنحة قوي غري م أ�لوف‪ ..‬حملقت فى املقام من النافذة احلديدية‪ ..‬ازداد‬
‫ات�ساع عيني عندما ر أ�يت على املقام دي ًكا روم ًيا �ضخم اجل�سم كثيف الري�ش‬
‫المعهُ‪� ،‬إثر انعكا�س �ضوء القمر عليه‪ ..‬حلظات وطار خمتف ًيا فى ال�سماء‪..‬‬
‫عندما جريت على جدتي و أ�خربتها قالت‪�( :‬إنّ الديوك الرومية ال تطري فى‬
‫الف�ضاء‪ ،‬أ�لي�س من أالف�ضل لو منت؟)‪ ..‬كان ذلك �آخر ما �سمعته منها‪ ،‬ك أ�ن‬
‫مكوما على‬
‫روحها قد �صعدت تلك الليلة مع الديك تاركة وراءها ج�سدً ا ً‬
‫الفرا�ش‪ ،‬عندما حركته فى ال�صباح مل يكن �سوى قطعة من حلم وعظم‬
‫ال تنطق‪ .‬كنت ما أ�زال م�ستلق ًيا على الفرا�ش‪ ،‬أ�رمق املقام ال�ساكن مكانه‬
‫منذ ع�شرات ال�سنني عندما دوى فج أ�ة نف�س ال�صوت الذي �سمعته منذ ت�سعة‬
‫عاما‪ ...‬عندما نظرت �إليه بدا يل أ�نه نف�س ما ر أ�يته فى �صغري‪ ،‬عندما‬
‫ع�شر ً‬
‫أ�معنت النظر فيه مل أ�جد غري فرخ حمام انت�صب للحظات على املقام‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫وتل ّفت حوله ثم ارتفع فى ال�سماء‪ ،‬بدا ظاه ًرا لوهلة على �ضوء القمر‪ ،‬ابتعد‬
‫حتى �صار نقطة �صغرية امتزجت بالظالم‪� ..‬صوتها ما زال فى أ�ذين وهي‬
‫تبت�سم حمدثة تلك الدوائر التي ت�صيب العجائز فى وجوههم (�إن الديوك‬
‫الرومية ال تطري فى الف�ضاء‪ ،‬أ�لي�س من أالف�ضل لو منت؟)‬
‫طرقات قوية على الباب اخلارجي‪ ،‬جعلتني أ�قفز ذع ًرا من فوق ال�سرير‬
‫م�ستيقظا من ذكرياتي‪� ..‬شبح أ��سود يقف عند الباب‪ ..‬عندما‬ ‫ً‬ ‫النحا�سي‬
‫أ��شعلت عودًا من الكربيت تبني أ�نه رجل‪� ..‬صوته أالج�ش ك أ�نه ي أ�تي من عامل‬
‫�آخر أ�و لعله أ�ح�ضرين من العامل ا آلخر‪� ..‬سمعته يتكلم عن املوعد‪� :‬آ�سف على‬
‫الت أ�خري (قال ذلك)‪ ..‬الظروف‪ ،‬الطريق طويل‪ ..‬الطريق غري م�سفلت‪..‬‬
‫أ�عمدة ا إل�ضاءة املطف أ�ة‪ ..‬عجلة ال�سيارة أالمامية اليمنى‪ .‬ا�ستمر م�سرت�س ًال‪،‬‬
‫هل ت�صدق هذا؟‪ ..‬ثقبني ملرتني فى نف�س ا إلطار‪�.‬س ؤ�ايل الفاتر ع ّما يريده‬
‫بالم�س‬‫دفعه لي ؤ�كد �شخ�صه‪ ،‬قال‪ :‬أ�نا احلاج فتح اهلل‪ ،‬أ�تذكر؟! لقد كلمتك أ‬
‫فى التليفون بخ�صو�ص �شراء الدار‪....‬‬
‫كان الثقاب ما زال يرتاق�ص بني يدي‪ ،‬أ�ح�س�ست بناره تكوي أُ��صبعي‪،‬‬
‫املعطنة‪ ،‬توجهت‬ ‫تف�شى الظالم مرة أ�خرى فى أ�ركان الدار ّ‬ ‫نفخت فيه‪ّ ،‬‬
‫خارجا منها داف ًعا احلاج فتح اهلل برفق ليحذو حذوي‪...‬‬ ‫نحو باب الدار ً‬
‫أ�غلقت الباب‪ ،‬قلت له بهدوء‪( :‬لقد جئت مت أ�خ ًرا‪ ،‬لقد غريت ر أ�يي‪ ،‬لن أ�بيع‬
‫الدار)‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫جال�سا بال�شرفة أ�حدق فى ال�سماء‪ ..‬لفحات من هواء هبت مع‬ ‫كنت ً‬
‫ن�سمات من ذكريات الزمن البعيد‪ ..‬تذكرتها جيدً ا‪ ..‬أ�غلبها يدور فى‬
‫ا إل�سكندرية ‪ -‬مدينتي املف�ضلة ‪ -‬نهار ا إل�سكندرية بحر و�شم�س ورمل‬
‫أ��صفر‪ ...‬فى �ساعة نهارية مبكرة من كل يوم يبتلع البحر رواده‪ ،‬وخلطة‬
‫�سحرية مكونة من هواء وبحر و�شم�س وملح حتيلهم �إىل أ��شخا�ص �آخرين‪،‬‬
‫وقت الغروب يلفظهم البحر بوجوه جديدة حمراء و�سمراء‪ ،‬متعتي كانت‬
‫اال�ستلقاء حتت ال�شم�سية على ال�شاطئ والنظر �إىل أ�على‪ ،‬بينما ر أ��سي تتكئ‬
‫فى ا�ستكانة على كفي‪ .‬فى حلظات كثرية من حلظات ا�ستلقائي تقع عيني‬
‫على �صف العمارات ال�شاهقة البي�ضاء املطلة على البحر‪ ،‬بع�ضها كان يزيد‬
‫عن الع�شرين طاب ًقا والبع�ض ا آلخر ال تتع َّدى اخلم�سة طوابق‪ .‬أ�بي الذي كان‬
‫يجل�س بجانبي ينظر فى اجتاه البحر‪ ..‬قلت له مرة‪( :‬من ميلك �شقة فى‬
‫الطابق الع�شرين تك�شف له �شواطئ ا إل�سكندرية‪ ،‬لن يكون فى حاجة للنزول‬
‫�إىل أ��سفل‪� ،‬سيكتفي باجللو�س فى ال�شرفة والر ؤ�ية من أ�على)‪ ..‬عندما قلت‬
‫له ذلك أ�جابني �ساخ ًرا‪(:‬احلم على قدر ما متلك)‪ ..‬كان ك أ�نه ا�ستطاع أ�ن‬
‫يقر أ� ما يدور فى عقلي‪.‬‬
‫‪ -‬فى ال�سماء‪ ..‬التم�شية على الكورني�ش ممتعة‪ .‬أ�جتاز مع أ�بي و أ�مي‬
‫و أ�خوتي وجدي ذو العكاز امل�سافة بني ا�سبورتنج �إىل ميامي م�ش ًيا‬
‫على أالقدام‪ .‬هواء الكورني�ش اجلميل ال ينقطع‪ ،‬يجعلنا ن�شعر بالربد‬
‫‪19‬‬
‫فى �صيف يوليه‪،‬نرتعد ونرتع�ش ون�ضم ياقات مالب�سنا‪.‬‬
‫عند اجللو�س للراحة قلي ًال على �سور الكورني�ش‪،‬وم�شاهدة املارة‬
‫وال�سيارات وت أ�مل العمارات العالية‪،‬يكون ألكل الذرة امل�شوية والتني ال�شوكي‬
‫وقزقزة الرتم�س و�شرب املثلجات لذة بالغة‪ ،‬وال�ضحكات والب�سمات وتذ ُّكر‬
‫وال�شخا�ص �شيء ممتع هو ا آلخر‪.‬‬‫أال�شياء أ‬
‫نهاية الليل فر�صة القتنا�ص ع�شاء جماين عبارة عن كيزر باجلنب الرومي‬
‫أ�و الب�سطرمة مع حلويات وجاتوهات معلبة بداخل علب كرتونية فاخرة‪..‬‬
‫احل�صول على ذلك �سهل فى الكافيرتيات الليلية املطلة على البحر ‪ -‬ذلك‬
‫عندما تكون عامرة ب�إحدى أالفراح ‪ -‬املطلوب فقط اجللو�س على �إحدى‬
‫الكرا�سي مع املعازمي وم�شاهدة الراق�صات واملغنيات وانتظار موزع الع�شاء‪..‬‬
‫ليلي �آخر‪ ،‬أ��سماء‬
‫فى بع�ض املرات نح�صل على العلب ونن�صرف لندخل مل ًهى ٍّ‬
‫بع�ضها ما زال عال ًقا فى ذاكرتي‪ ،‬نفرتيتي وكليوباترا وال�شاطبي‪.‬‬
‫�ضحكت عندما تذكرت جدِّ ي‪ ،‬وهو ي�ستند على عكازه مرتد ًيا اجللباب‬
‫أالبي�ض ك أ�بي‪ ...‬كان ذلك عندما نظر إلحدى الفنادق العمالقة فئة اخلم�سة‬
‫جنوم‪ ..‬وقتها �شهق من جمال الفندق وارتفاعه‪ ..‬قال‪( :‬البد أ�نها باهظة‬
‫الثمن‪� ...‬إن ثمن الغرفة الواحدة ال ميكن أ�ن يقل عن اخلم�سة جنيهات)‬
‫والحذية اجلديدة ذات‬ ‫‪ -‬فى أ�يام أ�خرى نذهب للت�سوق و�شراء املالب�س أ‬
‫أال�سعار املحدودة‪ ..‬ذلك عندما نكون فى حمطة الرمل أ�و املن�شية أ�و‬
‫خالد بن الوليد مبيامي‪ ..‬ال�شوارع دائ ًما ت�ضج باحلركة‪ ...‬ال أ�حد‬
‫ي�سرتيح فى ا إل�سكندرية‪ ...‬فى الوقت الذي يذهب فيه أ��شخا�ص يحل‬
‫حملهم �آخرون‪ ...‬تبدو ال�صورة عن ُبعد ك أ�نهم نف�س أال�شخا�ص الذين‬
‫فى البحر‪ ،‬ونف�سهم على الكورني�ش‪ ،‬ونف�سهم عند الذهاب للت�سوق‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫الر ؤ�ية من أ�على‬

‫وفى النهاية تبدو ا إل�سكندرية دائ ًما �صاخبة ت�ضج مبرتاديها‪.‬‬

‫جال�سا بال�شرفة عندما وقفت ونظرت أل�سفل‪ ...‬أال�شياء‬‫كنت ما زلت ً‬


‫�صغرية غري وا�ضحة‪ ،‬مل تكن �ستبدو غري ذلك من الطابق الع�شرين‪ .‬عندما‬
‫ت أ�ملت ا إل�سكندرية كانت خمتلفة ع ّما عهدتها‪� ،‬شيء تغري أ�و �شيء أ�فتقده‪.‬‬
‫أ�مواج البحر ت�ضرب فى �شواطئها �صامتة ك أ�نه فيلم غري ناطق‪ ،‬أال�شخا�ص‬
‫نقاط �صغرية بال مالمح‪ ،‬وال�شوارع خطوط بال روح‪ ،‬والهواء الذي ي�صل‬
‫يل ال يحمل �صهد الذرة امل�شوية على اخل�شب املحروق أ�و رائحة البطاطا أ�و‬ ‫� إ َّ‬
‫الفول ال�سوداين املحم�ص بذلك الفرن ال�صغري على العربة‪ .‬أال�شياء بدت‬
‫بعيدة مملة‪ ،‬ال�شيء القريب مني كرا�سي البامبو وال�سجاد الفاخر واحلرير‬
‫الناعم‪� ،‬س ؤ�ال واحد �شغل فكري لفرتة من الوقت‪ ( :‬أ�يهما أ�ف�ضل الر ؤ�ية من‬
‫أ�على أ�م الر ؤ�ية من أ��سفل؟؟)‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫• (مرحلة ما قبل الهجرة)‬

‫بداي ًة مل يكن هناك مكان لقدم زائدة‪ ..‬القاهرة ك�ساندويت�ش حلم مفري‬
‫ميتلئ عن �آخره‪ ،‬الكل يلهث بني �ضفتيه‪ ،‬فى أالتوبي�س قد أ�حرك قدمي لكنني‬
‫ال أ��ضمن أ�ال أ�ده�س قدم أ�خرى ال تخ�صني‪ ،‬قد ي�ضطرين ذلك امل أ�زق أ�ن‬
‫لل�سف قد أ�جده ُ�شغل‪ ،‬أال�شخا�ص الت�سعة الذين احتدت‬ ‫أ�عود ملكاين‪ ،‬لكنني أ‬
‫ر ؤ�و�سهم بر أ��سي �صرنا ن�شرتك م ًعا فى �شيء واحد؛ أ�ننا كائن أ��سطوري مل‬
‫يولد من قبل ميلك ع�شرين رِج ًال وع�شرين يدً ا وع�شرة ر ؤ�و�س أ�نثوية وذكورية‬
‫نف�سا واحدً ا كب ًريا‪ ،‬رغم أ�ننا منلك ع�شرة‬
‫بع�شرين عني و أ�نف واحدة ت�سحب ً‬
‫ر ؤ�و�س �إال أ�ن تفكرينا واحد‪ ،‬الكل ين�صب حول فكرة واحدة؛ عدم احلركة‪..‬‬
‫الكل يخ�شى أ�ن يفقد موقعه‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫من نافذة أالتوبي�س‪ ..‬ا آلخرون أالثرياء يقفون ب�سياراتهم الالمعة‪،‬‬


‫أ�حدهم ي�ستطيع أ�ن يتحرك؛ فهناك م�ساحة براح بني �سيارته أ‬
‫والخرى‬
‫أ�مامه‪ ،‬غري أ�نه قد ي�صطدم بها‪ ،‬حني يفكر فى الرجوع لن يجد ذلك الرباح‬
‫الذي كان قد تركه خلفه‪ ..‬عندئذ �سيدرك أ�ن تلك ال�سيارات التي حتوطه من‬
‫‪25‬‬
‫اجلهات أالربع قد حتولت ملتاري�س تعوقه عن احلركة‪ ..‬ووقتها فقط �سي�صبح‬
‫واحد منا و�سي�شاركنا تفكرينا‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫• (مرحلة الهجرة �إىل أ��سفل)‬

‫والفكار نحو التو�سع الر أ��سي‬


‫فى ال�سنة أالوىل من الهجرة اجتهت ا آلراء أ‬
‫لك�سر العقدة املرورية‪ ..‬بداية مت حفر أ�نفاق مرتو و أ�خرى لل�سيارات وعبور‬
‫امل�شاة وترع مت ّر من حتت قاع الرتع‪ .‬على جوانب أالنفاق ال�سفلية قامت‬
‫أ�ك�شاك �صغرية متنوعة لبيع الكتب واجلرائد‪ ،‬و أ�خرى للت�صوير الفوتوغرايف‬
‫و�سنرتاالت �صغرية‪ ..‬تطور احلال عندما ّمت حتويل تلك أالك�شاك ملقاهي‬
‫ومطاعم حتت أ�ر�ضية خلدمة عابري أالنفاق املرورية‪.‬‬

‫• (ال�سنة العا�شرة)‬

‫ال�شلل العلوي والتلوث وال�صهد النهاري املزعج‪ ،‬يعادله اجلو املكيف‬


‫ال�سفلي دفع كثريين للنزوح �إىل أ��سفل‪ .‬أ�عقب ذلك حترك حكومي للق�ضاء‬
‫ولن التعديات كانت كثرية فقد كان التباط ؤ� أ�كرث‪ .‬فى مرة‬ ‫على التعديات‪ .‬أ‬
‫الحقة مت اكت�شاف بيوت وور�ش وم�صانع �صغرية مقامة على جانبي بع�ض‬
‫أالنفاق‪ ،‬وكان ذلك أ�كرب تعدٍّ ‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫‪26‬‬
‫مو�سم الهجرة إ�ىل أ��سفل‬

‫• (ال�سنة اخلام�سة ع�شر)‬

‫فى خالل تلك ال�سنة مت حفر أ�نفاق خا�صة لبناء وحدات �سكنية حتت‬
‫أ�ر�ضية و أ�خرى للم�صانع والور�ش‪ ،‬كان ذلك للح ّد من التعديات على أالنفاق‬
‫املرورية‪ .‬الغزو ال�سفلي جعل قاع القاهرة كقطعة من اجلنب الذي تخلله‬
‫الدود‪ .‬أ�كرب تعدٍّ حدث عندما اكت�شفت ال�شرطة حقل قمح �صغري ب�إحدى‬
‫أالنفاق غري امللحوظة‪ُ ،‬ت�سرق مياهه من واحدة من الرتع النفقية‪ .‬مع‬
‫ا�ستمرار النزوح �إىل أ��سفل مل يتبقَّ ب أ�على غري قوات ال�شرطة وقوة اجلي�ش‪،‬‬
‫وقتها فقط أ�دركت أ�نه ال داعي أ�و فائدة من بقائها ب أ�على‪ .‬كان هذا عندما‬
‫بد أ� نزوح قوات ال�شرطة واجلي�ش �إىل أالنفاق أالر�ضية‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫بعد مرور ع�شرات ال�سنوات كان هناك من ي�سخر وي�ضحك غري م�صدق‪،‬‬
‫عندما يتحدث أ�حد عن أ��شخا�ص �آدميني يعي�شون فوق أالر�ض‪....‬‬
‫كان الرد دائ ًما �ساخ ًرا‪..‬‬
‫( أ��شخا�ص يعي�شون ب أ�على‪ ..‬يا له من �شيء خيايل!!!)‬

‫‪27‬‬
‫ياد مت�شققة وكعوب جافة وعظام بارزة‪ ...‬هكذا �صارت‪،‬‬ ‫امر أ�ة ذات أ� ٍ‬
‫كح�صان هزيل �آن أالوان لي�صيبه طلق ناري مبنت�صف ر أ��سه‪ ...‬يداها‬
‫املت�شققة بخطوط متعرجة �سوداء تزرف قطرات من فقاقيع �صابونية كثيفة‪..‬‬
‫متتد ل�سلك املذياع ال�سوين الياباين‪ ،‬تثبته فى احلائط الرمادي اللون فاحته‪،‬‬
‫لونه الرمادي يتنا�سب مع الرتابة التي متر بها‪ ،‬تبحث بني موجاته ال�سقيمة‬
‫عن أ�غنية عاطفية مرتاخية‪ ،‬يتناهى �إىل أ�ذنيها �صوت رخيم تعرفه‪ ،‬تدرك‬
‫أ�نه �صوت أ�م كلثوم‪ ،‬ينت�شي ج�سدها الهزيل‪ ،‬ارتعا�شة م�صاحبة تزيدها‬
‫برودة اجلو ال�شتائي الطوبي‪ ،‬املياه الباردة تكاد جتمد أ�و�صالها‪ ،‬ن�سمات‬
‫باردة تت�سلل من النافذة املفتوحة أ�مامها‪ ،‬منذ �ساعة تقف أ�مام أ�كوام من‬
‫�آني ٍة و�صحون مت�سخة ك أ�كوام اجلرائد التي تراكمها كل يوم لتقر أ�ها‪ ،‬الدهون‬
‫املمتزجة باللون ال�سماوي أالحمر جتلطت على أال�سطح ال�صاج‪ ،‬تتعب فى‬
‫�إزالتها‪ ،‬كلمات أ�م كلثوم ت�شجيها‪ ،‬تزلزل دخائلها احلبي�سة (�إمنا لل�صرب‬
‫حدود) أ�غنية أ�م كلثوم‪ ،‬يوم �سرمدي ال ينتهي ك أ�نه فقد القدرة على احت�ساب‬
‫الوحدات الزمنية‪� .‬شاردة تنظر من النافذة‪ ،‬كل �شيء هو لوحة كئيبة ذابلة‬
‫أل�شياء �سكتت عن احلركة؛ املباين‪ ..‬ال�سيارات‪ ...‬ال�شوارع الدميمة الوجه‬
‫املت�شربة مباء مطر و�صرف �صحي‪..‬الطينية‪ ..‬هي فقط ك آ�لة زمنية ال تتوقف‬
‫تنتقل من زمان لزمان ومن مكان آلخر‪ ،‬ال وقت للثبات‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫زوجها ال ي�ساعدها فى �شيء‪ ،‬بينهما فتور أ�زيل‪ ،‬ك�إلكرتونات ذرة يدوران‬
‫فى أ�فالك متخالفة‪ ،‬ال يلتقيان‪ .‬تتذكر �سيناريو يومها املتكرر‪ ،‬طابور اخلبز‬
‫الذي عليها أ�ن جتتازه‪ ،‬يقول لها زوجها‪�( :‬صف الن�ساء دائ ًما أ�قل من �صف‬
‫الرجال)‪.‬‬
‫ازدحام �سوق اخل�ضار كيوم احل�شر على أ�ر�ض طينية وحلة‪ ،‬ارتفاع أ��سعار‬
‫القوطة‪ ،‬الكن�س وامل�سح والغ�سل ب أ�طراف حتجرت كقطع من ثلج غري ذائب‪،‬‬
‫طهي الطعام‪ ،‬ن�شر الغ�سيل على املارة‪� ،‬إطعام ال�صغار وتنظيف أ�ماكنهم‬
‫املت�سخة‪ ،‬مهام متعاقبة تنتظرها دائ ًما �صارمة حادة موتّرة كطابور اخلبز‪،‬‬
‫�صباحا يقطع �آهات أ�م كلثوم احلزينة‪ ،‬كلمات‬ ‫ً‬ ‫�صوت مذيع ن�شرة الواحدة‬
‫م�شو�شة ب�ضجيج أالواين املعدنية على احلو�ض اال�ستانل�س‪� ،‬شيء عن �ضربات‬
‫عاما دخل‬ ‫�صاروخية موجهة �إىل العراق‪ ،‬ابنها البالغ من العمر خم�سة ع�شر ً‬
‫عليها ذات ليلة‪ ،‬ر أ��سه ال�صغرية كانت مغطاة بخرقة من قما�ش ملون تخفي‬
‫�شعره أالكرت‪ ،‬عندما �س أ�لته أ�جابها‪�( :‬إنه علم أ�مريكا‪ ...‬القوة) قالها ك أ�نه‬
‫يع�شقها‪ ...‬يقب�ض بيده فى الهواء على ال �شيء‪ ،‬كما لو أ�م�سك �شي ًئا غري‬
‫�صاروخا نوو ًيا من أ�ر�ضها عاب ًرا للقارات‬
‫ً‬ ‫مرئي (ت�ستطيع أ�مريكا أ�ن تطلق‬
‫ي�سقط فوق ر ؤ�و�سنا ا آلن)‪ ..‬كمن يزهو أ�و يفتخر مبعلوماته كان يخاطبها‪،‬‬
‫ع�شرات من اجلرائد حتتفظ بها‪ ،‬ي�شع منها رائحة الرتاب العطنة‪ ،‬تتحني‬
‫الفر�صة لتقر أ�ها‪ ،‬يح�ضرها زوجها وتختزنها‪ ،‬ير�سم على �شفتيه ابت�سامة‬
‫�ساخرة‪ ،‬ال ينطق ب�شيء‪ ..‬فقط يرتكها وين�صرف‪ ،‬دائ ًما ين�صرف‪.‬‬
‫تتهادى �إىل أ�ذنها عرب املذياع ال�سوين أ�حداث جديدة؛ قتلى فى‬
‫�سرياليون‪ ...‬أ�ين �سرياليون؟!‪� .‬صواريخ ت�ضرب العراق كتلك التي �ضربت‬
‫ال�سودان و أ�فغان�ستان‪ ،‬ك أ�نه مو�سم ل�صيد الطيور املحلقة‪ ،‬من قبل كان العراق‬
‫يغزو الكويت وي�سقط قذائفه على ال�سعودية‪ ،‬و�إ�سرائيل تفرقع كما لو كانت‬
‫‪32‬‬
‫نغمات رتيبة‬

‫بمُ ًبا أ�و هياكل فارغة‪ ،‬كلمات ال تفهمها؛ عوملة‪ ...‬جات‪ ...‬واي بالنتي�شن‪...‬‬
‫لوكريبي‪ ...‬كلغة جديدة مل تتعلمها‪ ،‬أ�و أ�ن عقلها قد �سقط منها‪ ،‬أ�زمات‬
‫اقت�صادية جتتاح العامل ينقلها املذياع �إليها‪ ،‬تربر بها ارتفاع �سعر القوطة‬
‫فى ال�سوق‪� ،‬صواريخ أ�مريكا الطائ�شة ت�سقط ميي ًنا وي�سا ًرا‪ ...‬تتذكر ابنها‬
‫�صاروخا نوو ًيا من أ�ر�ضها عاب ًرا للقارات ي�سقط‬
‫ً‬ ‫(ت�ستطيع أ�مريكا أ�ن تطلق‬
‫فوق ر ؤ�و�سنا ا آلن)‬
‫تنظر لل�سماء ال�سوداء القاحلة �إىل النجوم عرب النافذة‪ ...‬تتوقع أ�ن ترى‬
‫�شي ًئا‪ ،‬ال �شيء غري ال�صمت‪ .‬ال�ساعة الواحدة والن�صف‪ ،‬أ��صابع أ�قدامها‬
‫العارية تتقل�ص متباعدة عن البالط‪ ،‬تتقي برودته الال�سعة‪ ،‬ابت�سامة فاترة‬
‫انعك�ست على أ�كوام من أالواين النا�صعة‪ ،‬قطرات نظيفة المعة ت�ساقطت‬
‫عنها؛ ورني ًنا رتي ًبا أ�حدثته كوحدات الثواين العالقة خالط �ضجيج �سيارة‬
‫عابرة‪ .‬تنف�ض عن يدها �شذرات املاء‪ ،‬جتذب �سلك املذياع من احلائط‪.‬‬
‫أ�جواء ال�شقة ترزح �ساكنة حتت غطاء من ال�صمت‪ ...‬كل من حولها نيام‪،‬‬
‫أ�والدها يغطون فى نوم عميق منذ �ساعات‪ ،‬الغطاء ال�صويف الثقيل جتذبه‬
‫فوقهم ليحذ أ�عناقهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫غطيطه‬ ‫فى الغرفة الداخلية على نهاية الردهة املمتدة ينام زوجها‪..‬‬
‫غري مريح‪� ،‬إال أ�نها اعتادت عليه ك�صفري �صرا�صري الليل املزعجة‪� ،‬سلمت‬
‫بوجوده مثلها ككائن طفيلي يت�سلقها وتت�سلقه أ�حيا ًنا عندما ت�شعر بالرغبة أ�و‬
‫حتتاج للدفء‪ ،‬تثني رجليها املجهدة‪ ،‬متتد يدها أ��سفل ال�شوفنرية العمالقة‪،‬‬
‫ت�سحب كومة اجلرائد املرتاكمة‪ ،‬ت�ضمها ب�إحدى يديها‪ ،‬باليد أالخرى‬
‫بطانية وبرية ثقيلة‪ ،‬وطبقة على �شكل انثناءات تربيعية‪ ،‬تند�س حتتها على‬
‫كنبة ال�صالة البلدية‪ ،‬ت�سند ر أ��سها املرهقة على التكاية القطنية ال�صلبة‪،‬‬
‫يدها املت�شققة بخطوط متعرجة �سوداء تتقلب حائرة بني �صفحات اجلرائد‬
‫‪33‬‬
‫املكد�سة‪ ،‬وعيناها الف�ضولية حتاول أ�ن تلم مبا ت�ستطيع أ�ن تعرف ما يدور‬
‫حولها‪ .‬عقلها �صار قط ًعا من تالفيف حلمية لي�س لها قيمة‪ ،‬منذ زمن طويل‬
‫مل يعد يعمل‪� ،‬شحنات من النعا�س تقاومها‪ ،‬تع�ش�ش داخلها‪ ،‬من حولها ال‬
‫يع�ش�ش غري الربد وال�صمت‪ ..‬ت�صر على القراءة‪ .‬كانت قارئة جيدة قبل‬
‫الزواج‪ ،‬تتذكر‪ ..‬تتح�سر على ذلك‪�ُ .‬سحب بي�ضاء تتماوج أ�مامها‪ ،‬ت�سود أ�و‬
‫يهي أ� لها ذلك‪ ،‬ال تلبث اجلرائد أ�ن ت�سقط من يدها‪ ،‬يخرج من فمها غطيط‬
‫ً‬
‫غطيطا غري‬ ‫مزعج‪ ،‬ينطلق متتاب ًعا من بني �شفتيها‪ ،‬عند ا إلن�صات له يبدو‬
‫مريح ك�صفري �صرا�صري الليل املزعجة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫(من فات قدميه تاه)‪ ...‬قالها له أ�خوه عندما قذف بعنف الهوائي‬
‫القدمي من فوق ال�شخ�شيخة على ال�سطح أال�سمنتي‪ ،‬و�صفق كفيه ببع�ضهما‬
‫ك أ�نه تخل�ص لت ِّوه من �شيء حقري‪..‬‬
‫ابت�سم له‪ ..‬مل يعلق‪ ..‬رفع الهوائي اجلديد املثبت فى ما�سورته الطويلة‬
‫املجاوزة ال�سبعة أ�متار‪ .‬أ��سقط طرفها فى املكان املخ�ص�ص لها‪ ..‬العرق‬
‫املت�ساقط منه بلل ثيابه‪ ،‬جعله يبدو وك أ�نه �سقط فى املالح‪ .‬حرك يده على‬
‫جبينه‪ ،‬نف�ض عنه قطرات املاء املتجمعة بغزارة‪� ،‬شعر ب�سخونة داخل ج�سده‪،‬‬
‫نظر �إىل الهوائي بر�ضا‪ ،‬مل يقتنع بغري أ�غلى الهوائيات‪ ،‬اعتقاده املعتاد أ�ن‬
‫ال�شيء الغايل يربر ثمنه‪ ،‬حمولته كانت ثقيلة‪ ..‬أ�رهقته‪ ..‬اجللو�س لرتكيب‬
‫حمتوياته الكثرية التي بدت مفككة كلعبة املكعبات التي يلعب بها أ�خوه‬
‫ال�صغري‪ ،‬موائمة القطع مع بع�ضها‪ ..‬تركيبه الذي ا�ستغرق ما يقرب من‬
‫ال�ساعتني ثم �صعوده فوق ال�شخ�شيخة‪ ...‬كل ذلك أ�جهده‪ ،‬مل ي�س ّري عنه غري‬
‫أ�نه �سيجني بعد قليل ثمرة جهده‪.‬‬
‫ن�سمات هواء عابرة عبثت بوجهه أ�تاحها انفتاح البوابات الليلية وقلقلة‬
‫الكتل الهوائية ال�ساكنة فى هذا االرتفاع‪ ،‬قال له‪( :‬ا�ضبط االجتاه‪ ..‬اجعله‬
‫ناحية القبلة) ابت�سم فى نف�سه‪ ،‬كان مت أ�كدً ا أ�ن ذلك الهوائي الذي اختاره‬
‫لن يكلفه ذلك العناء الذي كان يبذله مع الهوائي القدمي‪ ..‬بد أ� �صوته يبتعد‬
‫‪37‬‬
‫فى نزوله ال�سلم‪� ،‬صوته كان متقط ًعا غري وا�ضح‪ ،‬مل حتتوه جدران‪� ،‬ضاع فى‬
‫الف�ضاء الرحب‪ ،‬فهمه رغم ذلك‪ ..‬قال له‪�( :‬س أ��ضبط القنوات و أ�بلغك من‬
‫�شباك ا إل�ضاءة)‪.‬‬
‫‪ -‬عندما كان مم�س ًكا مبا�سورة الهوائي �شعر بنف�سه كجندي فى املعركة‪،‬‬
‫يدير الرادار بكافة االجتاهات‪ ،‬ير�صد طائرات العدو‪ ،‬يتعقبها ويعطي‬
‫أالبعاد وا إل�شارة ل�ضربها‪ .‬جتمدت نظراته على النجوم امل�ضيئة‪ ،‬أ�ح�س‬
‫أ�نه قريب منها‪ ،‬بينها‪ ،‬يكاد مي�سك بها‪� ..‬إنها �صغرية جدً ا ولي�ست‬
‫كبرية كما ي ّدعون‪� .‬صوت يهتف من بعيد بدا له غري ًبا‪ ،‬ك أ�نه قادم‬
‫من بني النجوم‪ ،‬يخمن أ�نه أ�خوه‪� ..‬سمعه مرة أ�خرى ي�صرخ‪ ..‬كان‬
‫يقول‪ ( :‬أ�دره �إىل اليمني) أ�داره با�ستغراب‪ ،‬اعتقد أ�ن أ�ول ما �سيقوله‬
‫له‪( :‬انزل من فوق ال�شخ�شيخة) لكنه مل ينطقها‪ ،‬تكرر �صياحه‪،‬‬
‫نربة �صوته خمتلفة ع ّما اعتاد عليه‪ ..‬أ�رجع ذلك ل�ضغط الهواء‪ ،‬ك أ�نه‬
‫�آ ٍت من دولة أ�خرى بثه الهوائي العجيب ال�شكل‪ ( :‬أ�دره �إىل الي�سار)‬
‫الكلمات البعيدة ما زالت تهاتفه‪� ،‬ضائعة غري أ�نها تعرف طريقها‬
‫�إىل أ�ذنه‪� .‬شكله الغريب جعله ي�شرد فيه‪ ،‬يت أ�مله‪ .‬الطبق الكبري‬
‫والطبق ال�صغري أ�مامه كطبق الفول املدم�س فى ال�صباح‪ ،‬أال�شواك‪،‬‬
‫النتوءات املعدنية املت�شعبة فيه لكل االجتاهات‪ ،‬بدا له كقنفذ‪.‬‬
‫‪ -‬فى املحل عندما كان يبحث ت أ�ملت عيناه الهوائيات املعلقة بواجهة‬
‫املحالت ك أ�نها طوابري عر�ض‪ ،‬أ��شكالها متباينة‪ ،‬احتار بينها‪ ..‬أ�حدها‬
‫كان ذو مظلة حديدية تغطيه‪ .‬ابت�سم فى نف�سه‪ ،‬علق‪( :‬حلمايته من‬
‫املطر)‪ ( ...‬أ�دره �إىل أ�ق�صى اليمني) ال�صوت يناديه‪ ،‬يتكرر‪ .‬أ�ح�س‬
‫بتعب الوقوف‪ ،‬رغبة فى التقي ؤ� فاج أ�ته عندما نظر أل�سفل وبدت له‬
‫وا�ضحا فى‬
‫ً‬ ‫أ�ر�ضية غرفة ا إل�ضاءة البعيدة‪ ،‬مل يظهر مداها بعيدً ا‬
‫الظالم‪ .‬ابتعد حذ ًرا‪ ،‬جل�س فوق ال�شخ�شيخة بجانب املا�سورة‪ ،‬ا�ستند‬
‫‪38‬‬
‫فوق ال�شخ�شيخة‬

‫على �سورها املنخف�ض الذي ال يتعدى أالربعني �سنتيمرتًا‪ ،‬عاد يت أ�مل‬


‫الهوائي‪.‬‬
‫‪ -‬قال للمهند�س الكهربائي وعينه جتول مبحتويات املحل الوا�سع‬
‫عموما؟)‪ ..‬أ�جابه باقت�ضاب‪( :‬نوعيات)‪� .‬شعر أ�ن‬ ‫(ما الفرق بينها ً‬
‫�س ؤ�اله كان غب ًيا‪ ،‬أ�عاد �صياغته‪ ( :‬أ�يهم أ�ف�ضل؟) أ��شار له على هذا‬
‫الهوائي‪ ،‬بدا أ�نه واث ًقا من نف�سه وهو ي�شرح �إمكانياته‪ .‬حت ّدث عن‬
‫املقاومة وعاك�س املوجات وم�ستقبل املوجات‪ .‬أ�ف�صح وجهه عن عدم‬
‫فهم �شيء‪ ،‬أ�وجز املهند�س كالمه‪ ،‬قال ب�ضيق‪( :‬كلما زادت م�ساحة‬
‫الهوائي وقطعه املعدنية كلما زادت قوة ا�ستقباله للقنوات‪.‬‬
‫‪ -‬فى البيت عندما نظر أ�خوه للهوائي بعد تركيبه ابتعد قلي ًال‪ ...‬نفخ‬
‫بفارغ �صرب‪ ،‬كان يت�صبب عر ًقا‪� ،‬س أ�له‪( :‬هل أ�نت مت أ�كد أ�ن هذا هو‬
‫�شكله النهائي؟!)‬
‫ذلك ال�صوت القادم من بعيد عاد بنربة أ�قوى‪ ( :‬أ�دره ألق�صى الي�سار)‪.‬‬
‫مرت عيناه عابرة على الكون املحيط‪� ،‬شعر أ�نه يجل�س فوق �سحابة بي�ضاء‬
‫تعتلي العامل؛ أال�شجار عيدان كربيت‪ ،‬فرع نيل بدا ك�سر�سوب ماء م�سكوب‪،‬‬
‫أال�شخا�ص نقاط متحركة‪ ،‬ال�شوارع خطوط ودوائر ومثلثات‪� .‬شرد بني‬
‫النجوم‪ ،‬نظر للهوائي‪ ،‬حاول تخيل قوته‪ ،‬القنوات املمنوعة وغري املمنوعة‪،‬‬
‫أ�فالم اجلن�س الفا�ضحة‪ ،‬امل�شاهد العارية املثرية‪ ..‬ا�ستدعى عقله بع�ضها؛‬
‫ي�شاهدها عند أال�صدقاء‪ ،‬أ�ح�س با إلثارة‪ ،‬ك أ�نها �صور فوتوغرافية مثبتة فى‬
‫أ�لبوم داخل ذاكرته‪ ،‬تعيد عر�ض نف�سها كل فرتة‪ ( :‬أ�دره دورة كاملة)‪ ..‬ذلك‬
‫ال�صوت الذي ال يكف‪ .‬نفخ ب أ�ق�صى ما عنده‪� ،‬صرخ ب أ�على �صوته‪( :‬ما الذي‬
‫يحدث عندك؟ أ�مل ين�ضبط ا إلر�سال بعد؟!) مل ي�صله رد‪ ،‬فقط ذلك ال�صمت‬
‫الراب�ض من حوله‪ ،‬قام من جل�سته‪ ،‬مت�شى فوق ال�شخ�شيخة‪ ،‬بدا له الكون‬

‫‪39‬‬
‫ف�سيحا أ�كرث مما كان يت�صور‪� ،‬شعر بالرغبة فى التبول‪ ،‬نظر حوله‪ ،‬ت أ�كد‬ ‫ً‬
‫أ�نه فى مكان غري مرئي من أ�حد‪ ،‬بال على أ�ر�ضية ال�شخ�شيخة املبلطة‪� ،‬شعر‬
‫أ�نه يبول على الدنيا‪� ،‬صوت خطوات �صاعدة تقرتب‪ .‬اقرتب من احلافة‪،‬‬
‫ظهر له أ�خوه مبت�س ًما يحمل بني يديه �صينية معدنية حتمل فوقها كوبني من‬
‫ال�شاي‪ ،‬بني �شفتيه �سيجارة اقرتبت من نهايتها‪ ،‬تناهى ألذنه عندما كان‬
‫أ�خوه �صامتًا ذلك ال�صوت البعيد‪ ( :‬أ�دره فى االجتاه ا آلخر)‪ ،‬التفت بع�صبية‬
‫حوله يبحث عن م�صدر ال�صوت‪ ،‬ا�ستطاعت عينه أ�ن تر�صد أ�نه لي�س وحده‬
‫اجلال�س على قمة العامل‪ ،‬نظر لذلك ال�شخ�ص فوق ال�شخ�شيخة على العمارة‬
‫املجاورة‪ ،‬يده كانت مم�سكة مبا�سورة طويلة �آخرها هوائي‪ ،‬عندما ت أ�مله بدا‬
‫له عمال ًقا أ�كرب من الذي أ�ح�ضره ‪ -‬طبق كبري وطبقان من أالمام ومثلهما‬
‫من اخللف و أ��شواك ونتوءات مت�شعبة لكل االجتاهات‪ ،‬انتبه ل�صوت أ�خيه‬
‫الذي و�ضع �صينية ال�شاي و أ�لقى ال�سيجارة‪ ،‬قائ ًال‪( :‬قليل من ال�شاي ثم نبد أ�‬
‫فى �ضبط الهوائي)!!‬

‫‪40‬‬
‫طرقات �إيقاعية منتظمة خلفها وراءه على الباب اخل�شبي أالثري ال�شكل‪،‬‬
‫تركت ب�صمات غري م�سموعة‪ ،‬حركتها كجر�س يدوي تقليدي قدمي ملدر�سة‬
‫ابتدائية‪ ،‬ولكنه جر�س �صامت‪ ،‬كان يفكر فى �شيء �آخر‪ ،‬حاول تذكر كيف‬
‫يكون �شكله‪ ،‬دقات متكررة دون جدوى على الباب‪ ،‬تبعها ملل وان�صراف‪ .‬كان‬
‫مت أ�كدً ا أ�نه لن يجده‪ ،‬رغم ذلك فكر فى املرور عليه‪ ،‬جاءته الفكرة عندما‬
‫قادما من �شبني الكوم بلدته؛ �سارينة القطار‪ ،‬الفتات‬
‫كان فى قطار القاهرة ً‬
‫املحطات‪ ،‬أ�رقام أالعمدة‪� ،‬شكل احل�صى املفرو�ش على جانبي الطريق‪ ،‬كل‬ ‫ّ‬
‫ذلك كان ي�شري �إىل اقرتاب القطار من أ��شمون‪ ،‬ال تبدو له مالحمه وا�ضحة‬
‫جل َّية‪� ،‬صورة باهتة لوجه مم�سوح مل يره منذ ثالث �سنوات‪� ،‬صوته يرتدد فى‬
‫أ�ذنه‪ ،‬ك أ�نه جال�س فى ركن من عقله أ�و أ�نه مدون على جهاز لر ِّد املكاملات‬
‫الهاتفية‪ ،‬يعرفه دائ ًما عندما يرفع �سماعة الهاتف؛ �صوته أالج�ش ذو البحة‬
‫ال�صوتية امللحوظة ك أ�ن ً‬
‫ركاما من تراب يعلوه‪.‬‬
‫�آخر مرة كلمه فى الهاتف قال له‪( :‬لقد و�صلت اللحظة من فرن�سا) كان‬
‫ذلك منذ �شهر‪ ،‬و�صف له ما ر�آه هناك‪ ،‬برج �إيفل‪ ،‬قو�س الن�صر‪ ،‬ال�شانزلزيه‪،‬‬
‫حديقة التيلريي‪ ،‬اللوفر‪ ،‬املوناليزا‪ ،‬قال له كم هي جميلة ح ًقا‪ ،‬امر أ�ة من‬
‫العدم خلقها دافن�شى‪ .‬أ�خربه عن جوالته على �شط نهر ال�سني‪ ،‬مغامراته فى‬
‫كباريهات البيجال‪ ،‬قال له أ�نه رق�ص الفال�س والفالمنكو والرق�ص بلدي‪،‬‬

‫‪43‬‬
‫أ�خربه عن ال�سنيورة ذات اجليب الق�صري وال�سيقان الفرن�ساوية الطويلة‪،‬‬
‫قال‪( :‬بعد أ�ن ر أ�يتها أ�دركت أ�ن املوناليزا هي لوحة المر أ�ة دميمة الوجه‬
‫قبيحة‪� .‬ضحك وهو يحدثه‪ ،‬أ�يقن أ�نه يغمز له عرب الهاتف‪ ،‬أ�كمل كالمه‪،‬‬
‫قال‪( :‬لقد كانت أ�حلى م ْعلم ر أ�يته فى فرن�سا)‪.‬‬
‫�شعر وهو يحدثه ب أ�نه يح ِّلق �ضمن الطيور اجلميلة احلائمة فى �سماء‬
‫باري�س تتن�سم رحيقها اجلميل‪ ،‬ذرات جميلة من اجلمال واملتعة ت�سللت له‬
‫عرب الهاتف ك أ�نها �آتية من فرن�سا‪ ،‬جعلته ي�شعر بالن�شوة‪ .‬ا�شتاق أ�ن يراه‪ ،‬أ�ن‬
‫يحكي له أ�كرث ف أ�كرث‪ ،‬قال له وقتها‪� :‬س آ�تي لزيارتك اليوم‪ .‬اعتذر له‪ ،‬ر ّد عليه‪:‬‬
‫(ما هي �إال �سويعات قليلة أ�ق�ضيها على أ�ر�ض م�صر بعدها نبد أ� جولة لبع�ض‬
‫عوا�صم أ�فريقيا قد ت�ستمر ل�شهور)‪.‬‬
‫ً‬
‫�شاخما‬ ‫قبل ذلك ك َّلمه عن زيارته ألمريكا‪ ،‬عن متثال احلرية الذي ر�آه‬
‫عند مداخل ميناء نيويورك فوق جزيرة مانهاتن‪ ،‬عن �صعوده جلبهة التمثال‪،‬‬
‫عن ر ؤ�ية العامل من ثقب فى ر أ��س امر أ�ة‪� ،‬شيء ذكره له عن التخطيط البارع‬
‫لل�شوارع أالمريكية‪ ،‬قال �إنها تقاطعية تعامدية �شا�سعة بطريقة منتظمة د ّلت‬
‫على روعة امل�صممني أالمريكان‪ .‬مل ين�س أ�ن يذكر زيارته ملتحف توت عنخ‬
‫�آمون على �شط بحرية مت�شيجان ب�شيكاغو‪� ،‬س أ�له مذهو ًال هل تتحمل الدولة‬
‫كل هذه امل�صروفات؟ بلغه �ضحكه عرب الهاتف‪� ،‬ضحكه هد أ� قلي ًال‪ ،‬رد عليه‪:‬‬
‫(هي مبالغ زهيدة يخ�ص�صوها لنا‪ ،‬غري ذلك هو من جيبي اخلا�ص)‪.‬‬
‫مرة أ�خرى فى ات�صال هاتفي طويل أ�خربه عن رحلتهم لبع�ض املدن‬
‫والعوا�صم أالوروبية‪ ،‬بروك�سل‪ ،‬أ�م�سرتدام‪ ،‬باري�س‪ ،‬كاليه‪ ،‬دوفر‪ ،‬حدثه‬
‫عن جوالته بني �شوارع ومعامل لندن‪ ،‬أ�ك�سفورد‪ ،‬بيكاديلي‪،‬ريجيت‪ ،‬ق�صر‬
‫بكنجهام‪� ،‬ساعة لندن ال�شهرية‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ات�صال هاتفي ا�ستمر ثالث �سنوات‬

‫فى �إيطاليا قال له‪ :‬زرت بركان فيزوف ور أ�يت متاثيل روما العارية‬
‫متحم�سا فج أ�ة‪ ،‬قال‪( :‬لقد �سلمت على‬
‫ً‬ ‫والفاتيكان‪ .‬توقف عن الكالم‪ ،‬اندفع‬
‫ي�ضا عن رحلته النهرية فى نهر‬ ‫بابا الفاتيكان هل ت�صدق ذلك؟) ح َّدثه أ� ً‬
‫الراين ب أ�ملانيا‪ ،‬قال له‪ :‬ك أ�نه نهر من أ�نهار اجلنة‪ ،‬ما ؤ�ه زالل ال ت�شوبه �شائبة‪.‬‬
‫كما ك َّلمه عن مدينة فرانكفورت املبهرة ب�شوارعها‪ ،‬أ�ما عن أ�ثينا فقد أ�ق�سم‬
‫له أ�نه عندما كان بها �شعر أ�نه يتنزه على كورني�ش ا إل�سكندرية‪ ،‬أ�و أ�نه يجتاز‬
‫امل�سافة بني ا�سبورتنج وحمطة الرمل جر ًيا على أالقدام فى ال�ساعة التا�سعة‬
‫�صباحا كما اعتاد أ�ن يفعل عندما يذهب مل�صيف العائلة‪ ،‬و أ�نَّ ن�سيمها اجلميل‬ ‫ً‬
‫داعب ب�شرته كما لو أ�نه عرب �إليه فوق البحر أالبي�ض‪.‬‬
‫�س أ�له ذات مرة‪ ،‬ماذا تفعلون هناك بالتحديد؟ الف�ضول متلك منه‪،‬‬
‫تذكر أ�نه �س أ�له نف�س ال�س ؤ�ال منذ فرتة‪ ،‬رغم ذلك أ�جابه دون تعليق‪ ،‬كرر‬
‫نف�س الكالم الذي �سبق أ�ن قاله‪ ،‬تعاقدات على بع�ض �صفقات أال�سلحة‬
‫اخلا�صة باجلي�ش والتدريب على �إدخال التكنولوجيا احلديثة فى �إدارة � ؤش�ون‬
‫اجلي�ش‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫خطواته وهو يهبط ذلك ال�سلم الرطب اختلطت بطرقاته على الباب‬
‫وامتزجت ب أ�فكاره‪ ،‬داخل عقله كان طائ ًرا بني عوا�صم أ�وروبا ومدن أ�فريقيا‬
‫ال�سوداء‪ ،‬حاول تخمني فى أ�ي بلد أ�فريقية يتجول ا آلن‪ ،‬و أ�ي ثياب يرتدي‬
‫وماذا يفعل‪ ،‬التخمني الدائر فى عقله كان بني ثالث أ��شياء‪ ،‬التجوال بني‬
‫معامل البالد أ�و التنزه فى اجلبال فى رحلة �صيد أ�و أ�نه يخت َّلى ا آلن فى حجرة‬
‫بفتاة �سمراء‪ ،‬كان قد خرج من مدخل البيت‪ ،‬احتاج للجلو�س على املقهى‪،‬‬
‫مقهى املحطة مقهى بلدي هادئ مثري للخيال‪ ،‬على �إحدى كرا�سيه جل�س‬
‫‪45‬‬
‫لي�شرب ال�شاي الثقيل ويدخن الرنجيلة‪ ،‬كلمة حمطة التي تربز على الالفتة‬
‫الكبرية ذكرته باملرة الوحيدة التي التقى معه فيها‪ ،‬كان بزيه الع�سكري الذي‬
‫جال�سا أ�مامه‪ ،‬حديث طويل دار بينهما‪ ،‬كانا قادمني من القاهرة‪،‬‬ ‫مل مييزه ً‬
‫النغمة الرئي�سية الهتزازات القطار دفعتهما للكالم م ًعا والتعارف‪ ،‬قال له‬
‫�إنه يهوى القراءة ب�شغف‪ ،‬مل يت�سع الوقت لهما‪ ،‬تركه فى أ��شمون‪ ،‬ت أ�كد أ�نه لن‬
‫يراه ثانية‪ ،‬ملحه بعد حلظات يجري على ر�صيف املحطة ي�سابق القطار الذي‬
‫بد أ� فى ا إل�سراع‪� .‬سمعه و�سط ال�ضجيج ي�صرخ‪ ،‬طلب منه رقم هاتفه‪ ،‬ذكره‬
‫له‪ ،‬مل يعرف هل �سمعه أ�م ال‪ ،‬وجهه اختفى فى زحام الوجوه املتالحمة‪،‬‬
‫حلظات فقط هي الفي�صل الوحيد بني �شخ�صني التقيا لت ِّوهما‪ ،‬ت أ�كد له أ�نه‬
‫�سمعه عندما داوم على االت�صال به‪ ،‬ا�ستمر ذلك ثالث �سنوات‪.‬‬
‫جال�سا على املقهى‪ ،‬على مقربة منه تهادى �إليه �صوت غريب‪،‬‬ ‫كان ما زال ً‬
‫ركاما من تراب يعلوه‪ .‬تبني له‬ ‫بدا له ك�صوت رجل أ�ج�ش ذو بحة �صوتية ك أ�ن ً‬
‫أ�نه ي�شبه �صوتًا �آخر يرقد فى ذاكرته‪ .‬أ�لقى �إليه نظرات متفح�صة‪،‬ت�سمرت‬
‫عيناه عليه‪ ،‬املالمح ات�ضحت واحدة تلو أالخرى‪ ،‬كونت ما اعتقد أ�نه هو‪.‬‬
‫البنطلون القدمي واحلذاء املرتب الرخي�ص لفتا نظره‪ ،‬غري أ�ن ما ح َّركه‬
‫أ�كرث هو الكتاب الذي يجاوره على الكر�سي‪ .‬كان غالف الكتاب يحمل �صورة‬
‫المر أ�ة �سوداء ذات �شعر أ�كرت ق�صري‪ ،‬عندما ت أ�ملها مذهو ًال ت أ�كد له أ�نها‬
‫�صورة المر أ�ة من اجلنوب أالفريقي‪ ،‬كان الكتاب بعنوان (جولة بني عوا�صم‬
‫�إفريقيا)‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫‪46‬‬
‫فى اللحظة الفا�صلة عند انفتاح باب الفندق‪� ،‬سيت أ�كد له أ�نه قد ولج‬
‫عاملًا جديدً ا‪ ،‬أال�شياء فى الداخل رغم كونها حتمل نف�س امل�سميات أل�شياء‬
‫ي�ستخدمها فى اخلارج �إال أ�نها �ستتلون بطابع ذو �صفة خا�صة مل ي�سمع عنه‬
‫�إال فى احلواديت وق�ص�ص أ�لف ليلة‪ ،‬فى الداخل لن تكون الكرا�سي معدة‬
‫ملجرد اجللو�س فقط ولكنها �ستتنكر على هيئات متنوعة و�ستحمل أ�لقا ًبا‬
‫والرابي�سك واجللد والبامبو‬ ‫خمتلفة بني اال�ستانبويل والفوتيل املطرز أ‬
‫واخليزران والهزاز‪ ،‬ذلك على ح�سب املن� أش� والتاريخ والكيفية واحليز الذي‬
‫تتيحه للجال�س لي�سرتيح فيه‪ ،‬بينما أال�س ّرة املفرو�شة باملالءات احلرير‬
‫للحالم ال�سعيدة مع حذف الكوابي�س املزعجة‪ ،‬أ�ما املاء فلن‬ ‫�ستكون مع ّدة أ‬
‫يكون ملجرد ال�شرب أ�و الغ�سل أ�و اال�ستحمام كما هو معتاد؛ ولكنه �سيتخذ‬
‫�شك ًال بي�ضاو ًيا جمي ًال تلتف حوله كرا�سي البامبو واخليزران والكنبات‬
‫املفرو�شة بالتكايات أال�سفنجية‪� ،‬إىل جانب املوائد املح ّملة ب أ�كواب الع�صائر‬
‫وامل�شروبات الكحولية وغري الكحولية‪.‬‬
‫‪ -‬فى ال�صباح عندما أ�و�صلته زوجته لدى الباب‪ ،‬وع ّدلت من و�ضع‬
‫ياقته ونف�ضت عن كتفه الرتاب كعادتها‪ ،‬قالت له‪( :‬انتبه لنف�سك‬
‫املبلغ كبري ونحن بحاجة �إليك) عندما قالت ذلك كان يعلم أ�نها‬
‫تق�صد (ونحن فى حاجة �إليه)‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مكاف أ�ة نهاية اخلدمة مبلغ كبري‪ ،‬ولكنها فى ذلك الفندق الفخم قد‬
‫تكفي �شه ًرا بالكاد‪ ،‬فى داخله ر أ�ى أ�ن من حقه بعد �سنوات من العمل والكفاح‬
‫الطويل أ�ن يح�صل لنف�سه على عطلة �صغرية حتى لو كلفته هذه العطلة كل‬
‫تلك املكاف أ�ة‪.‬‬
‫قبل أ�ن يح�صل على تلك املكاف أ�ة ب�شهرين حتولت على الورق �إىل �شرائح‬
‫رفيعة ك�شرائح الالن�شون أ�و الب�سطرمة؛ ذلك بني ترميم اجلدران و�إ�صالح‬
‫ال�سباكة وتثبيت البالط املخلخل وجهاز ابنته و أ�ق�ساط الثالجة اجلديدة‪.‬‬
‫‪ -‬منذ يومني طلب منه ابنه �شراء حذاء جديد‪ ،‬بينما رغبت زوجته‬
‫فى اقتناء عباءتني لرتتديهما أ�مامه أ�و عندما تكون عند جارتها‪،‬‬
‫مل تن�س أ�ن تذكره ب�شراء مالب�س داخلية جديدة له بعد أ�ن حتولت‬
‫مالب�سه لهالهيل بالية‪ ،‬أ�ما ابنته ال�صغرية فقد طلبت منه كت ًبا‬
‫خارجية للعام الدرا�سي اجلديد‪ ،‬أ�جابها بغ�ضب‪( :‬عندما يحل العام‬
‫الدرا�سي اجلديد ننظر فى أ�مر الكتب اخلارجية)‪.‬‬
‫ما زال واق ًفا أ�مام باب الفندق يتحني وم�ضة �شجاعة و�إ�صرار تتب َّدى‬
‫بداخله فيهرع �إىل الداخل‪ .‬على مقربة منه فتاة بدا أ�نها تتق ّدم نحوه‪،‬‬
‫ت ُّنورتها الق�صرية فوق ركبتيها بع�شرين �سنتيمرت‪ ،‬وبلوزتها اجليل ال�ضيقة‬
‫أ�برزت مفاتنها‪ .‬انتبه �إىل أ�نها حتدثه‪ ،‬تنطق با�سمه كطبقات من الكرمية‬
‫اله�شة‪ ،‬قالت له‪ ( :‬أ�نا من خدمة الفندق)‪ ،‬اقتادته من يده عرب ردهات‬
‫الفندق الوا�سعة �إىل جناح فخم‪ ،‬داخل اجلناح ترا�صت التكايات على‬
‫أالر�ض مبحاذاة اجلدران‪ ،‬تركت فى املنت�صف م�ساحة ملائدة أ�ر�ضية طويلة‬
‫تعج مبختلف أ��صناف امل أ�كوالت امل�شوية واملقلية وثمرات الفاكهة الطازجة‬
‫ّ‬
‫الرباقة و أ�كواب و أ�باريق ف�ضية وذهبية‪ ،‬على جانبي املائدة �صفان من‬
‫الفتيات ال�ساحرات املث ًريات‪ .‬أ�جل�سته فى مواجهة املائدة‪ ،‬اجلل�سة مريحة‬
‫‪50‬‬
‫ا�سما آ�خر‬
‫أ��شياء معروفة حتمل ً‬

‫تبعث على اال�سرتخاء‪ ،‬هواء رقيق داعب وجهه‪ ،‬تبني أ�نه من ري�ش النعام‬
‫الذي يتحرك بني يدي خادمني يقفان وراءه‪ .‬أ�نغام مو�سيقية هادئة انطلقت‬
‫فى ركن اجلناح من فرقة مو�سيقية مكونة من ع�شرة أ��شخا�ص‪ ،‬رق�صت‬
‫عليها أ�ج�ساد الفتيات‪ ،‬رق�صهم كان مث ًريا يك�شف النهود والبطون وال�سيقان‬
‫البي�ضاء‪� .‬شعر بالن�شوة وال�سعادة‪ ،‬أ�خرج ُر َزم النقود التي فى جيبه‪ ،‬أ�خذ‬
‫يقذفها على اخلدم والراق�صات والفرقة املو�سيقية‪ ،‬انحنوا له ب�شدة‪ .‬أ�غدق‬
‫عليهم أالموال أ�كرث فازدادوا انحنا ًء‪.‬‬
‫حت�س�ست يده جيوبه‪ ،‬عندما وجد املكاف أ�ة ما زالت معه أ�درك أ�نه‬
‫بع�صبية َّ‬
‫كان يحلم بينما ال يزال واق ًفا أ�مام الفندق‪ ،‬رغم خوفه ال�شديد على املكاف أ�ة‬
‫مدفوعا �إىل الدخول‪ .‬التقطت عينه بع�ض الكلمات املكتوبة على‬ ‫ً‬ ‫�إال أ�نه كان‬
‫الفتة مث ّبتة خارج الفندق‪ ،‬مطاعم وبارات‪ ،‬كبائن‪ ،‬تروبي كانا‪ ،‬بلفيدير‪،‬‬
‫حمام �سباحة‪ ،‬نادي ريا�ضي و�ساونا‪ ،‬مل يفهم منها غري كلمات ب�سيطة‪.‬‬
‫عندما دفع بيده الباب الزجاجي للفندق حدث التقاء بني تيارين‪ ،‬فى‬
‫الداخل لفحات باردة أ�فرزتها فتحات املكيف املركزي‪ ،‬باخلارج �صهد �شهر‬
‫أ�غ�سط�س ال�شديد ورطوبته‪ ،‬حلظة أ�ن امتزج التياران م ًعا تولدت ن�سمة دافئة‬
‫ا�ستلذ بها‪� .‬شخ�ص تقدم نحوه‪ ،‬ح َّدثه باحرتام مبالغ‪ ،‬قال له‪( :‬يف خدمتك)‬
‫�صوته املتزن اختلط ب أ��صوات و أ�فواه �آخرين ينتظرونه فى البيت (ترميم‬
‫اجلدران‪ ،‬ال�سباكة‪ ،‬الثالجة‪ ،‬البالط‪ ،‬اجلهاز‪ ،‬احلذاء‪ ،‬العباءتني والكتب‬
‫اخلارجية) تنبه ل�صوت محُ دِّ ثه الذي بدا أ�نه تغري قلي ًال بينما يعيد �صياغة‬
‫عبارته بنربة أ�قوى‪ ،‬بدلته الفاخرة بدت له أ�نها توازي جمموع ما يقب�ضه فى‬
‫�شهرين‪ .‬حت�س�س جيوبه‪ ،‬تذكر أ�نه فعل ذلك ع�شرات املرات منذ قب�ضها فى‬
‫ال�صباح‪ ،‬ا�ستدار فج أ�ة متج ًها �صوب الباب‪ .‬فى طريقه للخروج التفت �إىل‬
‫اخلادم أالنيق‪� ،‬س أ�له بف�ضول‪:‬‬
‫‪51‬‬
‫(ما أ�قرب مكتبة تبيع الكتب اخلارجية؟)‬
‫باخلارج عندما ا�صطدم باللفحات احلارة تذكر أ�ن مو�سم الدرا�سة‬
‫مل يبد أ� بعد‪ ،‬اخرتق ال�شوارع اجلانبية ال�ضيقة متجن ًبا ل�سعة �شم�س الثانية‬
‫ظه ًرا‪ ،‬فى طريقه �إىل بيته أ�خرج قائمة م�شرتيات د�ستها له زوجته فى جيبه‬
‫�صباحا‪ ،.‬بد أ� يقر أ�ها بفتور‪ ،‬عندما حاول تذكر ما �سي أ�كله اليوم احتفا ًال‬
‫ً‬
‫بالم�س أ�ن الغداء اليوم‬ ‫باحل�صول على املكاف أ�ة ابت�سم‪ ،‬فقد أ�خربته زوجته أ‬
‫�سوف يكون طبقني من الفول النابت بالزيت احلار والبطاط�س املقلية مع‬
‫خملل الباذجنان!!!‬

‫‪xxx‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ -‬ل�شجرة الزنزخلت أ��سرار أ�ربعة‪،‬‬
‫‪ -‬وما هي؟‬
‫‪�( -‬ست�سمعك وتفرحك وتخيفك ثم ت�ضحكك)‬
‫هكذا يجيبني دائ ًما عندما أ��س أ�له عن أال�سرار أالربعة ل�شجرة الزنزخلت‪،‬‬
‫ولكنني ال أ�فهم منه �شي ًئا‪ ،‬هذه املرة قلت له‪:‬‬
‫(�س أ�ذهب �إليها و أ�ثبت لك أ�نها �شجرة مثل بقية أال�شجار ولي�ست لها‬
‫أ��سرار)‬
‫فقط‪ ،‬ابت�سم ومل يعلق‪.‬‬
‫‪ -‬ال�سر أالول ‪ :‬ال�سمع‬
‫عندما ا�ستندت على جذع ال�شجرة وقت احلرور �سمعت حفيفها‪ ،‬للوهلة‬
‫تالطم أ�وراقها‪ ،‬لكنني تذكرت أ�ننا فى ف�صل اخلريف‪،‬‬‫أالوىل اعتقدته ُ‬
‫وال�صوت مل يكن غري زقزقة ع�صافري نبتت على أ�غ�صانها‪.‬‬
‫‪ -‬ال�سر الثاين ‪ :‬الفرحة‬
‫ً‬
‫خطوطا كروكية‬ ‫بينما كنت م�ستلق ًيا أ�ت أ�ملها‪ ،‬ر�سمت أ�غ�صانها العارية‬
‫�ساذجة‪ ،‬عندما ت أ�ملتها أ�كرث الحظت أ�نها �شكلت لفظ اجلاللة (اهلل)‬
‫وبجوارها (حممد)‬

‫‪55‬‬
‫فتهلل وجهي وغطته م�سحة من ال�سرور والفرحة‪.‬‬
‫‪ -‬ال�سر الثالث ‪ :‬اخلوف‬
‫كنت ما زلت م�ستلق ًيا حتتها عندما تلم�ست أ��صابعي جذعها‪ ،‬فج أ�ة مل‬
‫تبد ك�شجرة‪ ،‬لكنها جت َّلت يل كامر أ�ة عارية تفتح ذراعيها‪ ،‬عندما دققت‬
‫النظر مل أ�جد غري عجوز �شمطاء من جهنم تريد أ�ن تن�شب بي خمالبها‬
‫فارتعدت وجريت مبتعدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬ال�سر الرابع ‪ :‬ال�ضحك‬
‫فى الوقت الذي كنت أ�جري مبتعدً ا عنها بدت ِمني التفاتة نحوها‪ ،‬من‬
‫بعيد مل تبد �سوى �شجرة زنزخلت جافة فاندفعت فى ال�ضحك‪ ،‬وقتها تذكرت‬
‫كلمات �صديقي‪�( :‬ست�سمعك وتفرحك وتخيفك ثم ت�ضحكك)‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫دموعا منذ‬‫أ�نبوبة اجللوكوز امل�ست�سلمة فى �صمت فوق ر أ��سها تقطر ً‬
‫�شهرين‪ ،‬املع ّلقة فوق �سريرها النحا�سي العتيق‪ ،‬ج�سدها امل�ستلقي على الفرا�ش‬
‫غري �آ ٍبه مبا حوله‪ ،‬عويل الن�سوة ولطم اخلدود والتعديد و�صفق أالوراك‬
‫وتغبري الوجوه‪ ،‬دموع الواليا املت�ساقطة بغزارة على أ�ر�ضية دارنا الرتابية‬
‫حتيلها طي ًنا‪ ،‬جري أالقدام‪ ،‬ده�س أالغرا�ض‪ ،‬أ�عينهم امل�ص ّوبة نحوها ك أ�نها‬
‫�ستخرتقها‪ ،‬كل ذلك مل يقنعني أ�نها ماتت‪ ،‬وابت�سامتها ال�ساخرة املتجمدة‬
‫على �شفتيها تنبئني أ�نها تهز أ� بهم و�ستفاجئهم ا آلن واقفة على قدميها‬
‫تتحرك بخفة‪ ،‬تقول لهم �ضاحكة أ�نا ال أ�موت‪� ،‬سخرت فى نف�سي‪ ،‬جدتي‬
‫الفرعونية خالدة ال متوت‪ ،‬دائ ًما ما كنت أ�قول لها أ�ن مالمح وجهها احلادة‬
‫تطابق وجه تلك ال�سيدة الفرعونية املنحوتة على جدار املعبد القدمي ت�ضم‬
‫يدها حتت ذقنها ك أ�نها فى �صالة كهنوتية‪ ،‬أ�قول لها‪:‬‬
‫ �ق�سم لك يا �ستي أ�نك‪،‬‬
‫‪ -‬أ‬
‫و أ��سكت و أ�جذبها من يدها و أ�رجوها‬
‫ ��ستحلفك باهلل يا �ستي أ�ن ت أ�تي معي وتريها‪.‬‬
‫‪ -‬أ‬
‫تنظر يل با�ستخفاف‪ ،‬تطعم طيورها ك�سرات اخلبز املق ّددة املبللة مباء‪،‬‬
‫تقول يل‪:‬‬
‫‪ -‬من تعنني يا بت؟‬
‫‪59‬‬
‫أ�حكي و أ�قرتب منها و أ�ه�سه�س �صوتي كي ال ين�صت يل أ�حد‪:‬‬
‫‪ -‬هل ت�صدقي؟ ال ت�سرت عورتها �إال بخرقة �صغرية بالية؛ ولكنها اخلالق‬
‫الناطق أ� ِ‬
‫نت يا �ستي‪.‬‬

‫ترتك ما فى يدها‪ ،‬ت�صرخ فى وجهي‪ ،‬ت�ضربني على كتفي‪ ،‬تقول‪:‬‬


‫باك يربيك ويعلمك تبطلي م�سخرة و�سرحمة عند‬ ‫‪ -‬واهلل ألخاطب أ� ِ‬
‫أالحجار من ه ّلة النهار‪ ،‬ومن الغد ما فى خروج من الدار‪.‬‬
‫جدتي الدءوبة املاهرة أ�ذهلني ن�شاطها بني العجن وخبز امل�شطوح‬
‫والطري و�إطعامنا وتربية الطيور‪ ،‬والتنظيف وغ�سل الثياب كماكينة الطحن‬
‫العمالقة ال�صلبة املال�صقة للدار‪ ،‬منذ ولدت مل أ�رها تتوقف ً‬
‫يوما‪ ،‬ذات‬
‫مرة عندما كنت عند املعبد القدمي �سمعت رج ًال يخاطب أ�قرانه‪ ،‬قال‪ :‬هذا‬
‫املعبد عمره أ�كرث من خم�سة �آالف �سنة‪ ،‬حملقت فيه‪( :‬هذا املعتوه! خمبول‬
‫الرجل!) قلت لنف�سي‪� ،‬إنّ ت�صويرة جدتي منحوتة فى ال�صخر على اجلدار‬
‫من الداخل‪ ،‬ولكنني عندما �سمعت ذلك الكالم مرة أ�خرى عدت جلدتي‪،‬‬
‫�س أ�لتها‪:‬‬
‫‪ -‬كم يبلغ عمرك يا �ستي؟‬
‫التفتت يل وهي أ�مام الفرن‪ ،‬وجهها كان ي�شجب عر ًقا‪ ،‬قطع من العجني‬ ‫ْ‬
‫ت�ساقطت عن ذراعها‪ ،‬غطت جلبابها أال�سود‪ ،‬نفخت من ح ّر الفرن و�صهد‬
‫يوليه الذي لفح وجوهنا ال�سمراء‪ ،‬قالت زافرة‪:‬‬
‫‪َ -‬مل ت�س أ�لني يا فلحو�سة يا فرحة أ�مك و أ�بيك؟‬

‫‪60‬‬
‫دائما‬
‫اجلدات ال متنت ً‬
‫َّ‬

‫أ�رجوها و أُ�لح فى طلبي‪ ،‬يدها املم�سكة بالب�شكور امتدت فى جوف الفرن‪،‬‬


‫التقطت رغي ًفا‪ ،‬نفث دخا ًنا ك�ضباب يوم حار‪ ،‬أ�جابت بعد تفكري وتر ُّدد‬
‫وجدية ملحوظة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أ�عرف كثري‪ ..‬كثري عمري‪.‬‬
‫قالت ذلك ثم �صمتت بينما كانت تتفر�س مالحمي ال�صعيدية ال�سمراء‬
‫ال�صغرية‪ ،‬و�ضعت الب�شكور‪ ،‬قر�صت العجني‪ ،‬عادت و أ�كملت هازئة كعادتها‪.‬‬
‫‪ -‬لكن أ�نت يا بنت أ�مك ناوية تق�صريه‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬كما قال‬ ‫وقتها فقط اعتربت �إجابتها كما لو قالت خم�سة �آالف ً‬
‫ذلك الرجل فى املعبد‪ ،‬اندفعت من أ�مامها خارجة من الدار جهة احلجارة‬
‫املنحوتة‪ ،‬مت�سائلة فيما بينها كيف ا�ستطاعت أ�ن تبقى حية كل ذلك العمر‪،‬‬
‫البنت فتحية ‪ -‬بنت أ�م ال�شيخ الطاهر ا إلمام الذي تفوح منه رائحة العطر‬
‫أ�ينما ذهب‪� ،‬صاحب الر أ�ي‪ ،‬كبري القرية ‪ -‬كانت تتفاخر بجدتها الكبرية‬
‫عاما‪ ،‬قلت لنف�سي ال ُبد أ�نها‬
‫أ�م جدتها عن أ�بيها التي عا�شت مئة وع�شرين ً‬
‫�ستفقد عقلها عندما أُ�خربها أ�ن جدتي تخطت اخلم�سة �آالف �سنة‪ ،‬وما‬
‫زالت ترمح كما اخليل فى الدار‪ ،‬عندما كنت أ�قف أ��سفل الت�صويرة باملعبد‬
‫قلت لذلك الرجل ‪ -‬كثري الزيارة ‪ -‬م�شرية �إليها (ت�صويرة جدتي) فابت�سم‬
‫باقت�ضاب‪ ،‬ثم م�سح ابت�سامته ك أ�نه أ�خط أ�‪ ،‬و أ�زاحني بيده ووا�صل �شرح ما‬
‫على اجلدار ألولئك أال�شخا�ص ذوي الوجوه املبي�ضة بيا�ض ال�شحوب كما‬
‫الدقيق‪ ،‬عندما عدت ظللت أ�ت أ�ملها‪ ،‬تتحرك بخفة ال�صبايا بحنايا الدار‪،‬‬
‫التك ّل وال مت ّل‪ ،‬يدها التي ت�شخلل ب�إ�سورة ف�ضية ذات ر ؤ�و�س فرعونية متدلية‬
‫وحجرة زرقاء كبرية‪ ،‬جعلتني أ�ت أ�كد أ�نها فرعونية و أ�نها نف�سها املر�سومة على‬
‫اجلدار‪ ،‬وخالتي تتحنجل وت�ستدر عطفها‪ ،‬وال تريد منها �سوى تلك ا إل�سورة‬
‫ذات الر ؤ�و�س املتدلية‪ ،‬تقول لها‪:‬‬
‫‪61‬‬
‫عنك يا أ�مي‪ ،‬ا�سرتيحي يا أ�مي‪ ،‬غوي�شتك مليحة جدً ا يا أ�مي‪.‬‬
‫ولكن جدتي ذات اخلم�سة �آالف عام مل تكن لتفرط فيها أ�بدا مهما‬
‫قالت لها‪ ،‬متيمة بها؛ تعجبها تلك الر ؤ�و�س الفرعونية املجلجلة املتمرجحة‬
‫فيها‪ ،‬ترفع يدها كث ًريا‪ ،‬تنظر �إليها وتهزّها‪� ،‬سمعتها ذات مرة تقول �إن‬
‫تلك ا إل�سورة عزيزة عليها هديته الغالية ‪ -‬تق�صد املرحوم جدي ‪ -‬تر�سم‬
‫اهتماما‪ ،‬تخاطبها با�ستخفاف‪،‬‬
‫ً‬ ‫ابت�سامتها الهازئة على �شفتيها‪ ،‬ال توليها‬
‫تقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬لـ ّما أ�موت وتدفنيني ابقي الهفيها يا أ�م فرحتهم‪.‬‬
‫دائ ًما تناديها أ�م فرحتهم‪ ،‬غري أ�نني مل أ�عرف أ�ن خالتي ُتدعى أ�م‬
‫فرحتهم‪ ،‬ولكنني أ�بت�سم‪ ،‬أ�فطن أ�نها دعابة من دعابات جدتي الكثرية التي‬
‫ال تنتهي‪ ،‬تغ�ضب خالتي‪ ،‬ي�صف ُّر وجهها‪ ،‬ته ُّم باالن�صراف‪ ،‬تقول‪:‬‬
‫‪ -‬ما عدت أ�ت�ساير معك بعد ا آلن فى �شيء‪.‬‬
‫ولكنها مل تزل فى كل مرة جتيء ترمق غوي�شتها الف�ضية ب أ�عينها‬
‫امل�ستديرة ال�سوداء‪ ،‬تبدو كما لو كانت �ستنزعها من يدها‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫‪( -‬جدتي مل متت بعد)‬


‫�صرخت فيهم عندما نظرت من ثقب باب حجرتها‪ ،‬وتناهى �إىل عيني‬
‫ج�سدها العاري‪ ،‬وتلك االبت�سامة التي ال تفارق �شفتيها‪� ،‬سر�سوب من املاء‬
‫كان يت�ساقط عليها من يد خفية‪ ،‬يطرقع على اجللد كما الكرباج‪� ،‬صوته‬
‫ي�سقط فى هوة عميقة من �صراخي وعويل ولطم الواليا‪ ،‬ال أ��سمع �سقوطه‬
‫‪62‬‬
‫على اجل�سد الهزيل‪ ،‬أ�كرر �صراخي‪ ،‬ك أ�نه حبل جناة تت�شبث به جدتي‪ ،‬ال‬
‫بد أ�نها ت�سمعني‪ ،‬ترجوين أ�ن أ�وقفهم‪ ،‬أ�ن أ��صرخ ب أ�على ما عندي بحق حبها‬
‫يل‪(:‬هي مل متت بعد‪ ،‬هي مل متت بعد)‬
‫أاليادي املت�شابكة تبعدين عن الباب‪ ،‬متنعني أ�ن أ�غيثها‪ ،‬عيني املم�سكة‬
‫عن البكاء �سقطت على خالتي التي تغرب وجهها أال�سود بالرتاب‪ ،‬ته ُّز يدها‬
‫مينة وي�سرة بالعويل بني املعدِّ دات امل أ�جورات‪ ،‬عيناها كانت تزرف ً‬
‫دموعا‬
‫�ساخنة‪ ،‬بدت المعة �سوداء عند اختالطها بالكحل‪ ،‬أ��شفقت عليها‪ ،‬أ�ردت‬
‫أ�ن أ�ق�سم أ�ن جدتي مل متت‪ ،‬أ�ن أ�خربها أ�نها �ستفتح الباب ا آلن وتفاجئهم‪،‬‬
‫تقنعهم أ�نها فرعونية خالدة ال متوت‪ ،‬غري أ�نني عندما أ�طلت النظر �إىل‬
‫خالتي ملحت فى يدها �إ�سورة ف�ضية ذات ر ؤ�و�س فرعونية متدلية َ‬
‫وح َج َرة‬
‫زرقاء كبرية‪ ،‬عندها فقط توقفتُ عن ال�صراخ وم�سحت خدي قطرات‬
‫هادئة غزيرة ذات ملوحة �شديدة‪ ،‬ووقتها فقط نظرتُ بذهول �صامتة لباب‬
‫احلجرة املغلق‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫للحظات عندما أ�نظر لذلك املكان أ�جده أ�مامي ‪ -‬جدي‪ -‬عجوز �ضخم‬
‫اجل�سم أ��صلع الر أ��س‪ُ ،‬تغ�ضن ب�شرته التجاعيد‪ُ ،‬تنبئ بدخول خريفه‪ ،‬يرتدي‬
‫البن�ش وتغطي ر أ��سه الطاقية‪ ،‬لكنني عندما أ�قرتب ال أ�جد �إال �شبكة بي�ضاء‬
‫نا�صعة ذات غمازات حمراء المعة‪ ،‬قطرات فاترة ذات طعم مالح كمياه‬
‫البحرية ت�ساقطت من عيني عندما أ�م�سكتها‪ ،‬لها رائحة ال�سمك رغم أ�نها‬
‫جديدة‪ ،‬رائحتها زفرة ك أ�نها قد ت�شر ّبت احلرفة‪ ،‬أ�و لعلها رائحة يده‪.‬‬
‫�ضحك‪� ،‬سخر مني ‪ -‬جدي ‪ -‬كان ين�صب خيوطها‪ ،‬ابتعد ليث ّبت طرفها‬
‫ا آلخر فى وتد حديدي مغرو�س فى الرمال‪ ،‬قال ب�صوت تداعبه ن�سمات‬
‫الهواء‪( :‬ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م‪ ،‬جميعها �شهور اهلل)‪ ،‬قال ذلك‬
‫وهو ي�ضحك حتى ظهرت أ��سنانه الب ّنية املت آ�كلة‪ ،‬فى داخلي �صرت قان ًعا أ�ن‬
‫ذلك ال�شهر دون �شهور ال�سنة هو �شهر � ؤش�م‪ ،‬لكنني مل أ�كن راغ ًبا فى التحدث‬
‫�سكت‪ ،‬كنت أ�ريد أ�ن أ�قول‬
‫عن ذلك‪� ،‬شيء دفعني ألتنا�سى‪ ،‬كذلك هو‪ ،‬لذلك ُّ‬
‫له‪( :‬تهدم البيت فى زلزال أ�كتوبر العام قبل املا�ضي ثم ماتت جدتي فى‬
‫أ�كتوبر العام املا�ضي وال تريد أ�ن تدعوه � ؤش� ًما؟!)‪ ،‬مل أ�رغب أ�ن أ�عكر �صفوه‪،‬‬
‫ومل أ�بغ أ�ن أ�خربه أ�نني على علم ب أ�ن أ�مه قد توفيت هي أالخرى فى أ�كتوبر فى‬
‫�سنة من ال�سنوات التي كنت ما زلت فيها �صغ ًريا‪� ،‬سمعته منذ أ��سابيع وهو‬
‫ّ‬
‫والتق�شف‬ ‫يتحدث عن ذلك‪ ،‬كان الكالم موج ًها ألبي‪ ،‬قال له‪�( :‬شهر القحط‬
‫قد أ�و�شك على القدوم) كان يق�صد �شهر أ�كتوبر‪ ،‬عرفت عندما أ�كمل قائ ًال‪:‬‬

‫‪67‬‬
‫( أ�عتقد أ�ن ذلك ال�شهر � ؤش�م‪ ،‬ماتت فيه جدتك منذ خم�سة ع�شر ً‬
‫عاما ثم‬
‫ماتت أ�مك فى نف�س ال�شهر من العام املا�ضي) بدت نربته فى الكالم حزينة‬
‫ذات ر ٍمت �سوداوي كئيب ككوب ال�شاي الذي يحمله بني أ��صابعه املرتع�شة‪،‬‬
‫مرات كثرية قلت له �ضاح ًكا‪( :‬ملعقتان من ال�شاي فى ن�صف كوب ماء مغلي‬
‫بدون �سكر‪ ،‬كيف ت�ستطيع أ�ن ت�شرب مثل هذا ال�شيء؟!)‪ ،‬كان ير ّد �ضاح ًكا‬
‫وا�ض ًعا �سبابته على جانب ر أ��سه‪�( :‬إن ال�شاي مزاج)‪ ،‬قال ألبي‪ ( :‬أ�عتقد أ�ن‬
‫ذلك ال�شهر � ؤش�م)‪ ،‬ر ّد عليه وقد الحظ الك آ�بة البادية على تقا�سيم وجهه‪:‬‬
‫(ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م‪ ،‬جميعها �شهور اهلل)‪ ،‬ويبدو أ�نه مل يكن‬
‫مقتن ًعا مبا يقول‪ ،‬فقد توقف قلي ًال عن الكالم‪ .‬بدا يل أ�نه مرتدد فى حديثه‬
‫أ�و أ�نه يبحث ع ّما يقوله‪ ،‬عاد وا�ستطرد قائ ًال‪( :‬وهل نعرت�ض على م�شيئة‬
‫اهلل؟!)‬
‫‪xxx‬‬
‫‪ -‬ابت�سمت و أ�نا أ�نظر �إليه أ�راقبه ين�سج خيوط �شبكته‪ ،‬ي�شبك أ�طرافها‪،‬‬
‫قلت لنف�سي‪( :‬ا آلن يردد نف�س كالم أ�بي‪ ،‬كان ذلك عندما قال معل ًقا‬
‫على كالمي‪ ،‬ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م كلها �شهور اهلل)‪ ،‬أ�كمل‬
‫كالمه معي‪ ،‬قال م�ش ًريا نحو الطيور املحلقة فى �سماء البحرية‪:‬‬
‫(تلك الطيور أ�تراها؟ �إنها قادمة من أ�بعد منطقة على ظهر الب�سيطة‬
‫�شر ًقا وغر ًبا و�شما ًال وجنو ًبا)‪� ،‬سكت قلي ًال ثم أ�كمل‪( :‬جيو�ش من‬
‫الطيور املهاجرة مل ن�سمع عنها قبل ا آلن ت أ�تي �إىل هنا مع مطلع �شهر‬
‫أ�كتوبر وتبقى حتى تريد هي)‪ .‬حترك بخفة دلت على احتفاظه ببع�ض‬
‫مهارته وهو ي�سد فتحات ال�شبكة الكبرية‪ ،‬ا�ستدار بر أ��سه فج أ�ة‬
‫جتاهي‪ ،‬قال‪( :‬لن يقلقها بنادق الر�ش التي تلعب بها فى ال�صباح مع‬
‫ابن ح ّماد) تركيزي مل يكن من�ص ًبا على كالمه‪ ،‬بل على تلك ال�شبكة‬
‫اجلديدة التي يجتهد فى �صنعها فى هذا الوقت من العام‪ ،‬ف أ�نا أ�علم‬

‫‪68‬‬
‫العجائز ميوتون فى أ�كتوبر‬

‫أ�نه ال ميلك ما ًال و أ�نه قد ا�ستدان ثمنها‪ ،‬لقد كنت ما ًرا بال�صدفة‬
‫بجوار دار أ�م ربيعة ‪ -‬جارتنا ‪ -‬و�سمعته يح ّدث زوجها‪ ،‬يرجوه أ�ن‬
‫يقر�ضه مبل ًغا من املال‪ ،‬الكل يعلم أ�ن ذلك الرجل هو الوحيد فى‬
‫القرية الذي يحتمل أ�ن ميلك ما ًال فى هذا الوقت من العام‪.‬‬
‫البد أ�ن ذلك مرجعه لعدم احرتافه ال�صيد؛ بل رمبا ال ي أ�كل ال�سمك‬
‫ي�ضا‪ ،‬ال أ�حد ميلك ما ًال هنا يحب أ�ن ي أ�كل ال�سمك‪ ،‬مل أ��سمعه يرجو أ�حدً ا‬
‫أ� ً‬
‫هكذا من قبل‪ ،‬ولكنني �سمعته يرتجاه ك أ�نه ينتزع منه الفر�صة فى أ�ن يرف�ض‪،‬‬
‫ولكنه ر ّد عليه بو ّد‪ ،‬دعاه لكوب �شاي‪ ،‬قال له‪( :‬اطلب ما تريد)‪ .‬فكرة أ�نه‬
‫طعاما للبيت �سيطرت على عقلي‪ ،‬لكنني ا�ستبعدتها‪ ،‬كنت‬ ‫ا�ستدان لي�شرتي ً‬
‫أ�علم أ�ن فى البيت بع�ض املال َّمت ادخاره للطعام عندما يح ّل �شهر أ�كتوبر‪،‬‬
‫أ�دركت ملا ا�ستدان املال عندما ر أ�يته عائد بخامات ال�شبكة اجلديدة التي‬
‫ي�صنعها‪ ،‬بدت أ�مارات الفرح على وجهه كدليل على أ�نه أ�عطاه املال‪ ،‬كان‬
‫يخ�شى أ�ن يرف�ض طلبه‪ ،‬لذلك كان يرجوه‪ ،‬يعلم أ�نه لو رف�ض طلبه �سيقاطعه‬
‫مثل ح ّماد‪ ،‬و�سيكون ذلك �صع ًبا عليه فهو يعامله كابنه‪ ،‬ما زال مل ين�س أ�نه‬
‫طلب نف�س الطلب من حماد منذ �سنوات‪ ،‬مل يقر�ضه �شي ًئا‪ ،‬كان يعلم أ�ن معه‬
‫ما ًال‪ ،‬قبلها ب أ�يام كان قد باع (عرو�س البحرية) أ�كرب مركب فى البحرية‪،‬‬
‫وقد ح�صل منها على مقدار كبري من املال‪ ،‬رغم ذلك رف�ض أ�ن يقر�ضه‪ ،‬قال‬
‫له‪( :‬مل يبق من مال املركب �شيء‪ ،‬يعلم أ�نه يكذب‪ ،‬كان أ�عز أ��صدقائه رغم‬
‫فارق ال�سن بينهما‪ .‬فى وقت �آخر كان من املمكن أ�ن ي�ساحمه‪ ،‬أ�ن يحطم‬
‫ذلك احلاجز احلديدي الذي حط بينهما؛ ولكنه أ�راد املال ليعالج أ�مه‪ ،‬مل‬
‫يكن معه ثمن دوائها‪ ،‬كان يحبها ب�شدة‪ ،‬ي�سميها ال�ست املربوكة‪ ،‬من تبقى‬
‫من أالحبة‪ ،‬ماتت بعد أ�يام‪ .‬كان ذلك فى �شهر أ�كتوبر‪ ،‬مل ين�س منه ذلك‬
‫أ�بدً ا‪� - .‬س أ�لتُه و أ�نا أ�نظر حلركة يده ال�سريعة‪( :‬ملن هذه ال�شبكة؟)‪ ،‬نظر‬

‫‪69‬‬
‫يل بخبث ومل ينطق �شي ًئا‪ .‬عندما �س أ�لته كنت أ�عرف‪ ،‬ابت�سمت له‪ ،‬رغبت‬ ‫� إ َّ‬
‫داع لال�ستدانة‪ ،‬أ�والد ال�صيادين ال يحتفلون ب أ�عياد‬
‫أ�ن أ�قول له مل يكن هناك ٍ‬
‫ميالدهم‪ ،‬مل أ�قلها‪ ،‬تذكرت أ�ن عيد ميالدي فى احلادي والثالثني من‬
‫أ�كتوبر‪ ،‬و أ�نني مل أ��شعر به فى العامني املا�ضيني‪ .‬ا آلن بعد عامني يريد أ�ن‬
‫يقول يل كل عام و أ�نت بخري‪.‬‬
‫عندما عرجت من �شط البحرية ناحية بنايات ال�صيادين كنت ما زلت‬
‫غري بعيد‪ ،‬فى حلظة وجدت نف�سي وج ًها لوجه مع ابن حماد‪ ،‬مل أ�رد أ�ن يرانا‬
‫جدي م ًعا‪ ،‬جذبته لنبتعد خلف البنايات‪ ،‬كنت أ�علم أ�نه ر�آنا‪ ،‬ملحت عينه‬
‫تر�صدنا‪ ،‬مل يكن ليفعل بي �شي ًئا‪ ،‬لكنني كنت أ�تفادى م�ضايقته‪ ،‬كنت أ�علم‬
‫أ�ن جدي أ�كرب من ذلك‪ ،‬أ�نه ما كان ليغ�ضب من �صبي فى عمري ملجرد أ�نه‬
‫ابن حماد؛ ولكنه رغم هذا يذكره مبا فعله ح ّماد‪.‬‬
‫عيني‪ ،‬ال ميكن �إزالتها‪� ،‬ستظل‬ ‫حلظات من أ�يام �سالفة حتجرت أ�مام َّ‬
‫باقية فى الذاكرة‪ ،‬طيور كثرية ح ّلقت على مقربة من ر أ��سي كونت �شبا ًكا‬
‫طائرة ذات مناقري حادة تغ�سل البحرية‪ ،‬تذكرت مقولته‪( :‬جيو�ش من الطيور‬
‫املهاجرة مل ن�سمع عنها من قبل)‪ ،‬عندما أ�ن�صت مل أ��سمع غري نعيق غربان‬
‫تعيد �صياغة ال�صمت اجلاثم حويل فى البحرية‪ ،‬ت�ش ّممتُ �شبكته اجلديدة‬
‫التي انتهى منها منذ أ�يام‪،‬مل يتمكن أ�ن يهديها له فى احلادي والثالثني من‬
‫هذا ال�شهر كما كان يريد‪ ،‬ما زالت رائحته تفوح منها‪ ،‬عندما أ�لقيتها فى‬
‫املاء مل ت�صطد �إال �سميكات نحيفة‪ ،‬رغبة متلكتني فى ال�صراخ‪ ،‬أ�و أ�ن أُ�حدِّ ث‬
‫جدي‪ ،‬أ�ن أ�قول له مل ُتبق الطيور لنا غري الب�ساريا ال�صغرية)‪ ،‬ولكنني مل‬
‫أ�جده‪ ،‬كلماته ما زالت ترتدد فى أ�ذين‪( :‬ال يوجد �شهور تدعى �شهور � ؤش�م)‪،‬‬
‫حقيقة واحدة أ�دركتها تراق�صت أ�مام عيني وا�ضحة‪ ،‬أ�ن العجائز ميوتون فى‬
‫أ�كتوبر‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫ا آلن فقط لن يحول دون مواجهته �شيء‪ ،‬حتذيرات أ�مه‪ ،‬حكاوي جده‪،‬‬
‫أ�قا�صي�ص القرية الكثرية؛ كل ذلك مل يعد ُيجد‪ .‬كث ًريا ما ي�سمعهم يتحدثون‬
‫عن اجلانب ا آلخر‪ ،‬غيالن اجلانب ا آلخر‪ ،‬موت أ�بيه‪ ،‬ا آلن قرر أ�ن يهب‬
‫أ�باه الراحة أالبدية‪ ،‬ينتقم له‪ ،‬التعتيم ال�ضبابي الكثيف الذي يحوطه لن‬
‫مينعه ع ّما انتواه‪ ،‬ملم�س أال�شياء ألطرافه يبدو له وا�ضح‪،‬اجل�سر الرتابي‬
‫ال�ضيق‪ ،‬حقول القمح أال�صفر‪ ،‬براعمها اجلافة ما زالت خ�شنة فى يده‪،‬‬
‫خ�شخ�شة أ�وراقها تناغي �سمعه مع كل هَ َّبة هواء �صباحي‪ ،‬اخلط الرمادي‬
‫أال�سود الذي اعرت�ض طريقه‪ .‬ا آلن بد أ�ت أال�ضواء تقرتب منه‪ ،‬زغللت عينه‪،‬‬
‫عرف أ�نها هي ‪ -‬الغيالن ‪ -‬أ�ل�سنة النار تندفع من عيونها‪ ،‬مل يهابها‪ ،‬وقف‬
‫مبحاذاة اخلط أال�سود‪ ،‬أ�درك أ�نه مل يح�ضر معه �شي ًئا ليحارب به‪ ،‬أ�غم�ض‬
‫عينيه و�صرخ (ل�ست جبا ًنا‪ .،‬ل�ست جبا ًنا‪ .،‬ل�ست جبا ًنا)‪ .،‬خفت ال�صوت‬
‫اهتماما‪.‬‬
‫ً‬ ‫وا�ضمحلت أال�ضواء‪� ،‬شعر باملهانة عندما مل تعره‬
‫وا�ضحا له و�سط ال�ضباب ولكنه‬
‫ً‬ ‫مرة أ�خرى ر�آه يقرتب من بعيد‪ ،‬مل يب ُد‬
‫يقرتب‪ ،‬لوح بيده‪� ،‬صرخ مرة أ�خرى‪( :‬ل�ست جبا ًنا‪ .،‬ل�ست جبا ًنا)‪ .‬فوجئ‬
‫بوجه �آدمي لرجل مبت�سم يخرج له ر أ��سه من فتحة �ضيقة‪ ،‬لوح له بيده مثلما‬
‫يفعل‪ .‬امل أ�لوف كان الوجه ا آلدمي‪ ،‬والغريب كانت تلك املركبة احلديدية‬
‫العمالقة التي يجل�س بداخلها‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ذهل عندما أ�درك أ�نه مل يكن هناك غيالن كما اعتقد‪ .‬مبحاذاة اخلط‬
‫أال�سود جل�س يت أ�مل املركبات املارة‪ ،‬بطريق العودة اجتاحته أ�حا�سي�س غريبة‪.‬‬
‫مل يكن ذلك ال�صبي الذي يلعب اال�ستغماية وتكهرب مع ال�صبية ال�صغار‬
‫أ�مثاله‪ ،‬أ�م ذلك ال�صبي الذي يلعب احلجلة مع حميدة!‪ .‬بداخله �شعر ب�شخ�ص‬
‫كبري يتنكر على هيئة �صبي �صغري‪ .‬ا آلن هو وحده يعرف أ�نه ال توجد غيالن‬
‫على اجلانب ا آلخر تقتل الكبار وت أ�كل ال�صغار‪ ،‬وا آلن �سيت�صرف ك�شخ�ص‬
‫نا�ضج و�سين�صرف عندما ي�شرع �صبية القرية فى أ�حاديث الغيالن ككل يوم‪،‬‬
‫و�سوف يبت�سم لهم �ساخ ًرا وهو يحادثهم قائ ًال‪( :‬يا لكم من �ساذجني؟)‪،‬‬
‫وا آلن هو وحده يعلم ملاذا مل تعد حميدة تلعب احلجلة معهم‪ ،‬و أ�ن ال�شم�س‬
‫ت�شرق بي�ضاء نا�صعة من خلف قريتهم ‪ -‬كث ًريا ما كان يت�ساءل من أ�ين ت�شرق‬
‫ال�شم�س؟ ولكنه كان يفاج أ� بها تعرب من فوق أالبنية وتتمركز �صفراء و�سط‬
‫ال�سماء ‪ -‬و أ�خ ًريا هو وحده فقط يعلم أ�ن النا�س الذين يعي�شون على اجلانب‬
‫ا آلخر هم أ�نا�س طيبون‪.‬‬
‫فيما م�ضى كان يكتفي باجللو�س حتت �شجرة ال�صف�صاف املطلة على‬
‫املجرى املائي العري�ض خلف داره‪ ،‬يت أ�مل اجلانب ا آلخر‪ ،‬الغمو�ض الذي‬
‫يحوطه‪ ،‬يحلم أ�ن يكرب وينتقم ألبيه‪ .‬فى اجلزء الثاين من الليل وقت أ�ن‬
‫تكون القرية تغط فى نوم عميق يقفز من النافذة اخللفية على حقل البطاط�س‬
‫يت أ�مل ال�صف�صا�صة‪ ،‬براعمها املتدلية التي تداعب �سطح املاء على �ضوء‬
‫القمر تر�سم له أ�فكاره ال�صغرية‪ ،‬ت�شاركه �ضيقه‪.‬‬
‫بالم�س فقط مل يعد يحتمل االنتظار أ�و ال�صرب‪� .‬شعر بامللل وا إلحباط‪،‬‬ ‫أ‬
‫املليم الذي أ�عطاه له جده منذ أ��سبوع ما زال بجيبه‪ ،‬تتح�س�سه أ��صابعه‪ ،‬ق َّرر‬
‫أ�ن يركب املعدية‪ .‬فى اجتيازه للمجرى املائي �إىل اجلهة أالخرى تذكر قول‬
‫أ�مه عندما �س أ�لها عن اجلانب ا آلخر من النهر‪ ،‬قالت له‪�( :‬إياك والذهاب‬
‫‪74‬‬
‫اجلانب آ‬
‫الخر‬

‫�إىل هناك‪ ،‬ال يوجد غري غيالن عمالقة تقتل الكبار وت أ�كل ال�صغار وال ترتك‬
‫منهم �إال بقايا حلم وعظم مهرو�س)‪.‬‬

‫رغم ذلك كان ي�شعر باحلرية عندما تلتقط عيناه فى �ساعات النهار أ�نا�س‬
‫يتجولون فى حقولهم عرب املجرى‪ ،‬يزرعون ويقلعون‪ ،‬عندما ي�س أ�لها عن ذلك‬
‫جتيبه‪�( :‬إنهم أ�نا�س مثلنا فى النهار ولكنهم غيالن متوح�شة فى الليل)‪ .‬ال‬
‫يلبث أ�ن ي�صدقها عندما ي�سمع �صبية القرية يتحدثون ع ّما يحدث لي ًال فى‬
‫اجلانب ا آلخر‪ .‬أ�حاديث جده امل�ستفي�ضة أ�كدت ذلك‪� ،‬سمعه مرة يتحدث عن‬
‫أ�طفال ماتوا منذ �سنوات‪ ،‬وعن غ�ضب أ�هل القرية وثورتهم‪ ،‬قال أ� ً‬
‫ي�ضا‪( :‬مل‬
‫يكن أ�مامهم غري النبوت والطوب للدفاع عن أ�نف�سهم)‪ ،‬قال‪( :‬لقد جعلوها‬
‫قط ًعا �صغرية مه�شمة)‪ .،‬لكنه ال يلب�س أ�ن يت�ساءل‪� ،‬إذا كانوا قد قتلوا الغيالن‬
‫ح ًقا فلماذا أالطفال مازالوا ميوتون �إىل ا آلن؟!‬
‫عندما كان يرى أ�باه يعبرُ املعدية �إىل اجلهة أالخرى كان يتفاخر بذلك‬
‫بني ال�صبية‪ ،‬يظل يت أ�مله وهو يبتعد حتى ي�صبح نقطة �صغرية مر�سومة فى‬
‫أالفق‪ ،‬يدرك أ�نه �شجاع‪ ،‬يتمنى أ�ن ي�صبح مثله‪ .‬فى �إحدى تلك املرات مل يعد‬
‫�إىل القرية‪ ،‬دفنوه بعدها ب أ�يام‪ ،‬ر أ�ى الدم الذي يخ�ضب كفنه أالبي�ض‪ ،‬أ�درك‬
‫ما حدث له‪ ،‬قرر أ�ن ينتقم له‪ ،‬أ�ن يواجهها وج ًها لوجه‪.‬‬
‫انزالق ال�سلك املعدين الغليظ على البكرة احلديدية للمعدية جعله‬
‫يحدث حفي ًفا حادًا‪ ،‬وان�سياب املعدية على املاء أ�حدث ط�شط�شة هادئة �إثر‬
‫ارتطام جوانبها باملوجات ال�صغرية‪ .‬عندما كان فى الو�سط متكن من ك�شف‬
‫اجلدران اخللفية لدور القرية‪� ،‬شيء �آخر ك�شفه غري أ�طالل القرية جعله‬
‫ينتف�ض فى مكانه‪ ،‬حميدة ذات ال�ضفائر وال�شرائط احلمراء كانت تغت�سل‬
‫متاما‪ ،‬املاء الذي مل ي�صل �إىل ركبتيها‪ ،‬وقدمها‬
‫فى املاء‪ ،‬لكنها كانت عارية ً‬
‫‪75‬‬
‫املرفوعة على حجر لتغ�سل ما بني �ساقيها و�صدرها البارز ذو االنثناءات‬
‫احلادة جعلها تبدو كتلك املر أ�ة العارية فى ال�صورة القما�ش القدمية املعلقة‬
‫فوق �سرير أ�مه النحا�سي‪ .‬اعتقد أ�نها لي�ست حميدة‪ ،‬أ�ن ال�ضباب هي أ� له ذلك؛‬
‫ولكنه عندما ت أ�مل وجهها امل�ستدير أالبي�ض كوجه القمر أ�درك أ�نها هي‪ ،‬مل‬
‫تكن ت�شعر باملعدية التي متر‪ ،‬كانت م�شغولة ب�شيء �آخر ‪ -‬ج�سدها أالبي�ض‬
‫الناري ‪ -‬عندما عاد يتفح�ص ج�سدها مل يجده نف�س اجل�سد الذي اعتاد أ�ن‬
‫يقفز معهم فى املاء‪،‬ا آلن فقط أ�درك ملاذا مل تعد حميدة تلعب معهم‪.‬‬
‫من اجلانب ا آلخر أال�شياء التي اعتاد أ�ن يراها كبرية حتولت �إىل أ�عواد‬
‫كربيت وعلب �صغرية؛ بيوت القرية‪ ،‬النخيل‪� ،‬شجرة ال�صف�صاف العمالقة‪،‬‬
‫نافذة داره العري�ضة‪.‬‬
‫�ضجيجا عندما أ��سقطه فى ال�صندوق ال�صفيح املعلق‪،‬‬
‫ً‬ ‫مليم جده أ�حدث‬
‫أ�درك أ�ن �صندوق عم فتح اهلل املعداوي كان خال ًيا‪ ،‬تذكر أ�نه ال يرى ذلك‬
‫الرجل �إال قلي ًال‪ ،‬دائ ًما يجل�س فى كوخه اخل�شبي حول ركية ال�شاي وال�شي�شة‬
‫ذات الرائحة الغريبة‪ .‬النا�س ب أ�نف�سهم يعربون‪ ،‬ي�سقطون املالليم فى جوف‬
‫ال�صندوق ثم يفرغه هو فى امل�ساء‪.‬‬

‫عندما بد أ� ال�ضوء ال�صباحي أالبي�ض ي�ضرب أ�عايل أال�شياء بخيوطه‬


‫الرفيعة‪ ،‬وبد أ�ت ن�سمات ال�صباح الهادئة تناغي ب�شرته كان قد و�صل عند‬
‫النافذة اخللفية للدار ‪ -‬تلك التي يقفز منها دائ ًما ‪ -‬فكر أ�نه كان يحلم‬
‫حل ًما كب ًريا عندما نظر �إىل فرا�شه؛ ولكنه أ�يقن أ�نه مل يكن حل ًما عندما وجد‬
‫فرا�شه خال ًيا‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫فى الوقت الذي أ�غرق ال�ضوء بيوت القرية بخيوطه الذهبية أ�يقظته أ�مه‪،‬‬
‫كان يريد أ�ن يحكي لها ولكنه مل يجر ؤ�‪ ،‬فقط قال لها‪:‬‬
‫(لقد حلمت أ�نني ذهبت �إىل اجلانب ا آلخر)‪ .‬قاطعته حمذرة‪ ،‬قالت‬
‫نف�س ما تقوله له دائ ًما منذ موت أ�بيه‪:‬‬
‫(�إياك والذهاب هناك‪ ،‬ال يوجد غري غيالن عمالقة تقتل الكبار‬
‫وت أ�كل ال�صغار‪ ،‬وال ترتك منهم �إال بقايا حلم وعظم مهرو�س)‪.‬‬
‫من قبل كانت ت أ�خذه رهبة وخوف عندما تقول له ذلك‪ ،‬ا آلن رد عليها‬
‫بثقة أ�ذهلتها‪ ،‬قال لها‪( :‬ما هي �إال ماكينات حديدية عمالقة يركبها أ��شخا�ص‬
‫ودودون)‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫فى ال�سنة اخلام�سة بعد املوت كانت ما زالت تقف فى ال�شرفة بني‬
‫أ��صاي�ص اخل�ضرة مبت�سمة ك أ�مي‪ ،‬خ�صالت �شعرها أالبي�ض امل�صبوغة بدت‬
‫بعد ال�صبغة ذو لون ب�صلي فاحت‪ ،‬وغ�ضون وجهها وثغوره املنقطة بحبات‬
‫النم�ش البنية جعلتني أ�عتقد أ�نها أ�مي‪ ،‬لكن؛ ألين أ�علم أ�ن أ�مي ذات ال�شعر‬
‫امل�صبوغ والوجه املعدو�س ترقد ا آلن بابت�سامتها حتت الرتاب؛ فقد أ�دركت‬
‫أ�نها لي�ست أ�مي‪ ،‬ل�سنوات خم�س عندما أ�م ّر من حتت ال�شرفة أ�نظر �إليها؛‬
‫االبت�سامة املفاجئة التي تنطبع على �شفتيها‪ ،‬النظرة الودودة احلانية التفاتة‬
‫الوجه؛ كل ذلك يجعلها تبدو وك أ�نها تعرفني‪ ،‬جتعلني أ�لتفت خلفي بينما‬
‫أ�خطو �آخر خطواتي‪.‬‬
‫أ�ذكر أ�نني ر أ�يتها قبل ذلك‪ ،‬مل يكن ذلك �شكلها‪ ،‬قبل خم�سة �سنوات‬
‫َّ‬
‫وابي�ض �شع ُرها‬ ‫نبتت حبات بنية فى تربة وجهها وغ�ضون وثغور دميمة‬
‫أال�سود و أ�زهرت على ال�شفاه ابت�سامة ‪ -‬كان ذلك عقب موت أ�مي ‪ -‬أ��صدقائي‬
‫و أ�قاربي الودودون ذهلوا عندما ر أ�وا جتلُّدي و�صربي‪ ،‬ال�سيما أ�نهم يعرفون‬
‫مدى عالقتي ب أ�مي‪ .‬عندما يقرتبون مني وي�شدون على يدي وتتحرك‬
‫�شفاههم بكالم ال أ�فهمه أ�و يفهمونه‪ ،‬ويبدو على وجوههم االرتباك وقتها‬
‫أ��ضحك و أ�قول لهم‪�( :‬إن أ�مي مل متت بعد)‪ .‬عندما أ�قول ذلك يردون ب أ� ً�سى‪:‬‬
‫(نعلم هذا‪� ،‬إنها فى قلوبنا أ� ً‬
‫ي�ضا)‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫يقولون ذلك وهم ي�ضربون بكفوفهم على �صدورهم ك أ�ن فى قوة ال�ضربة‬
‫ما يعادل ال�صدمة‪ ،‬أ�عود و أ�بت�سم و أ�قول لهم‪�( :‬إين أ�راها كل يوم)‪ .‬ولكنهم‬
‫ال يفهمون‪ ،‬يرددون مرة أ�خرى‪( :‬نعلم ذلك‪ ،‬ما زالت �صورتها فى عقولنا‪،‬‬
‫و�ستظل دائ ًما أ�مام عيوننا)‪ .‬حلظتها يغلبني ال�ضحك‪ ،‬أ��سمعهم يهم�سون‪:‬‬
‫خف عقله بعد موتها) ولكنني ال أ�ع ّلق‪ ،‬أ�بت�سم و أ��صمت و أ�مر حتت‬ ‫(لقد ّ‬
‫ال�شرفة و أ�نظر �إىل أ�على‪.‬‬
‫فى ال�سنة ال�ساد�سة بعد املوت مل تكن بال�شرفة للمرة أالوىل خالل‬
‫ال�سنوات اخلم�س‪ ،‬الرجل ذو املعطف الكاكي قال يل‪( :‬املر أ�ة العجوز تلك‬
‫التي كانت تقف دائ ًما فى ال�شرفة)‪� ،‬س أ�لته‪( :‬مالها؟)‪ ،‬أ�جابني‪( :‬لقد ماتت‬
‫ولي�س لديها من يدفنها)‪ ،‬عندما كنت أ�نا الوحيد الذي عرفها على مدى‬
‫ال�سنوات اخلم�س‪ ،‬فقد كنت أ�نا من يجب عليه أ�ن يدفنها‪ .‬تفح�صي ال�شديد‬
‫لوجهها جعلني أ�درك أ�نها مل تكن ذات �شعر ب�صلي أ�بي�ض‪ ،‬و أ�ن وجهها ال‬
‫تغطيه الثغور وال احلبات البنية الدميمة و أ�نها مل تكن تبت�سم‪ .‬عندئذ بكيت‬
‫بغزارة وانزويت ببيتي حزي ًنا‪ .‬عندما �س أ�لني أ��صدقائي الودودون عن �سبب‬
‫حزين؛ قلت لهم‪( :‬لقد ماتت أ�مي)‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫فوق الطوار املبلط على �إحدى الكرا�سي أال�سمنتية املثبتة مبحاذاة طريق‬
‫جال�سا‪ .‬الوقت ع�صاري‪ ،‬ال�شم�س أ�مامه تظهر من �شارع‬ ‫ال�سيارات كان ً‬
‫ر أ��سي االجتاه تقاطعي غربي؛ حمراء �شفقية؛ كبرية كما مل تبد من قبل؛‬
‫ت�سقط بهوادة فى جوف الكون غري املرئي واملختفي فيما وراء أالبنية‪ ،‬عيناه‬
‫الظاهرتان من ثقبي وجهه ‪ -‬بني هاالت التجاعيد الكثيفة ‪ -‬تتحرك مينة‬
‫وي�سرة فى �صمت وجهه الكهل متجمد املالمح‪ ،‬كر أ��س فرعوين ُحنط �إال من‬
‫مقلتيه‪ ،‬ترقب عن كثب حركة ال�سيارات التي تده�س بعنف الطريق ا إل�سفلتي‬
‫ِلكال االجتاهني‪ ،‬ت�سجل أ��صواتها فى الذاكرة ثم ال تلبث أ�ن تختفي‪ ،‬ال�سيارة‬
‫أالربعينية القدمية ما زال يحفظ �صوتها‪ ،‬دائ ًما ما كان ي�سمع أ�زيزها‬
‫الناعم‪ ،‬يعتقد أ�نها تناجيه‪ ،‬يقول‪� :‬إن كل �سيارة لها ب�صمة كب�صمة اليد‬
‫أ�حادية النوع تختلف عن أالخرى‪ ،‬ذبذبات نفريها؛ أ�زيز موتورها فى �سرعته‬
‫وبطئه‪ ،‬فى دورانه وتوقفه؛ فى �إ�ضرابه عن احلركة عندما ي�شعر بالتعب؛‬
‫ال�سيارة الكاديالك المعة القوام ال�سوداء كظلمة ليلة لي�س بها قمر‪ ،‬دائ ًما‬
‫ما كان يفخر بني أ�فواههم املح�ش�شة و�سط أ�جواء املقهى ال�ضبابية كذاكرته‪،‬‬
‫يقولون له‪( :‬ال حتدثنا عن �سيارتك الكاديالك ال�سوداء التي كنت تقودها أ�و‬
‫عن مالكها البا�شا‪ ،‬زمن البا�شاوات قد وىل يا با�شا)‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫املر�صع ب أ�زرار ذهبية تعك�س بريق ال�سيارة أالربعينية‪،‬‬
‫زيه الرمادي َّ‬
‫والكاب فوق ر أ��سه كث ًريا ما كان يزهو بهما‪ ،‬يقول ( أ�نا �سائق البا�شا‬
‫اخل�صو�صي)‪ ،‬وزوجته تنف�ض عن كتفه غبا ًرا غري موجود ككل يوم وتودعه‬
‫فى طريقه للخروج‪ ،‬وتنظر من النافذة على الكاديالك التي ت�سد �شارعهم‬
‫ال�ضيق‪ ،‬جارتها كم يح�سنها على البذلة ذات أالزرار؛ بينما هي ال تكف‬
‫عن التعايل ورفع حاجبيها‪ ،‬والنظر من فوق �صخرة مرمرية مزرك�شة حني‬
‫تخاطبهم‪ ،‬تقول لهم‪( :‬زوجي رجل مهم‪� ،‬إنه �سائق البا�شا اخل�صو�صي‪،‬‬
‫بدونه تتوقف م�صالح البا�شا‪ ،‬ال ي�ستطيع احلركة بدونه)‪.‬‬
‫حني ر أ�ته أ�ول مرة مرتد ًيا بدلته الرمادية يهبط من ال�سيارة الفخمة‪،‬‬
‫انطلقت منها الزغاريد كمدافع رم�ضان‪ ،‬ور�شته ببلورات متحجرة بي�ضاء‬
‫�صغرية‪ ،‬بدت له أ�نها حبات من ملح‪ ،‬قال لها‪�( :‬إن البا�شا الكبري م�سرور مني‬
‫ب�شدة وال ي�ستخدم �إال �سيارته الكاديالك ال�سوداء دون ال�سيارات أالخرى‬
‫التي ميتلكها‪ ،‬تعجبه قيادتي)‪ .‬ذات ليلة كان مبت�س ًما تعلو وجهه الب�شا�شة‪،‬‬
‫حدثها قائ ًال‪�( :‬سيعمنا اخلري الكثري‪ ،‬قال يل البا�شا اليوم عندما كان‬
‫م�سرتخ ًيا على الكر�سي اخللفي لل�سيارة‪ :‬أ�نت �سائق ممتاز يا ولد يا فتحي‪،‬‬
‫لذلك �س أ�فكر فى زيادة راتبك)‪ .‬قالها لها بطريقة غريبة بدت كعنجهية نطق‬
‫البا�شا لكلماته‪ ،‬ثم انفتحا م ًعا فى ال�ضحك‪ ،‬خلع كا َب ُه الرمادي و أ�لقاه على‬
‫كنبة أالنرتيه أال�سيوطي املتهالكة ذات الك�سوة املرقعة ب أ�قم�شة م�شابهة‪.‬‬
‫وجهه املتجمد منذ زمن بعيد حترك أ�خ ًريا‪ ،‬حركته كانت ع�صبية‪ ،‬كان‬
‫ذلك عندما ملعت عيناه بربيق �سيارة قدمية انطف أ� رونقها الفربيكي‪ ،‬و�ضجت‬
‫ً‬
‫خطوطا قا�سية عليه‪ ،‬ما زال يذكرها ب�شكلها‬ ‫أ�ذنه ب أ�زيز موتو ٍر ر�سم الزمن‬
‫أال�سطوري النادر ورقمها الب�سيط املنحوت على جدار عقله الداخلي‪ ،‬عندما‬
‫متر أ�مامه كل يوم فى هذا الوقت امل�ستقطع من الع�صاري‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫�سيارة أ�ربعينية �شديدة الظلمة‬

‫تذكر �آخر مرة قابل فيها البا�شا‪ ،‬دموعه التي ت�ساقطت منه ومل ي�ستطع‬
‫أ�ن مينعها دفعت البا�شا ألن يخرج من حمفظته اجللدية املمتلئة ورقة من‬
‫فئة اجلنيه ويعطيها له‪ ،‬قال له‪( :‬خذ يا فتحي تدبر أ�مورك بها)‪ .‬حاول‬
‫أ�ن يرف�ضها ب�إباء؛ ولكنه د�سها فى جيبه وربت على كتفه‪ ،‬عندما دخل على‬
‫زوجته أ�خرج لها الورقة فئة اجلنيه‪ ،‬يده املرتع�شة ووجهه املتجهم ج َّمد‬
‫االبت�سامة على �شفتيها‪ ،‬وم�سح غمازات وجهها الن�ضرة‪ ،‬مل ينطق �سوى ب�ضع‬
‫كلمات‪ ،‬انزوى بعدها فى ركن الكنبة أال�سيوطي‪ ،‬قال لها‪( :‬باع البا�شا كل‬
‫�شيء و�سافر �إىل اخلارج)‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫عيناه بادية ال�صغر مل تن�صرف عن الكاديالك وهي تبتعد تاركة وراءها‬


‫ذلك ال�ضجيج املزعج‪ ،‬تابعها حتى �صارت نقطة �سوداء متحركة ت�سري على‬
‫احلد أالق�صى للم�ستوى أالفقي لب�صره‪ ،‬تاهت بعدها فى غيمة متقاطعة‪،‬‬
‫متاما مع انزواء ال�ضوء أالرجواين لوقت الغروب وحلول الظالم‪،‬‬ ‫اختفت ً‬
‫ن�سمات خريفية باردة قلي ًال ه َّبت عليه‪ ،‬ا�ضطرته لالنكما�ش فى مكانه على‬
‫الكر�سي أال�سمنتي العمومي‪ ،‬بدا فى جل�سته أ�نه تخطى الثمانني خري ًفا‪ ،‬قام‬
‫بت ؤ�دة تنا�سبت مع ِ�س ِّنه‪ ،‬يداه املتغ�ضنتان اختب أ�تا فى جوف جاكتة رمادية‬
‫متهدلة قدمية ذات أ�زرار �صفراء مط َّو�سة‪ ،‬عندما حترك بدا أ�نه ارتداها‬
‫على عجل فوق جلبابه البيتي املقلم بخطوط طولية مت�سخة‪� ،‬سرت منه‬
‫التفاتة حزينة نحو أالفق حيث اختفت النقطة ال�سوداء‪ ،‬ما لبث أ�ن اتخذ‬
‫طريقه املعاك�س متج ًها �إىل بيته‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫‪87‬‬
‫على خ�شبة امل�سرح دار دورة كاملة متكررة �سريعة دلت على لياقته‪ ،‬نزع‬
‫قناعا مطاط ًيا عن وجهه مي ّثل وجه مالك‪ ،‬ظهر من أ��سفله وجه �شيطان‬ ‫ً‬
‫خميف ففزع املتفرجون منه‪ ،‬لكنه ما لبث أ�ن قفز قفزة ثالثية مبهرة‬
‫ثبت بعدها على خ�شبة امل�سرح ونزع قناع ال�شيطان‪ ،‬وقذفه بني اجلمهور‪،‬‬
‫فبدا الوجه املزرك�ش للبليات�شو بابت�سامته البلهاء‪� .‬ضج امل�سرح بال�ضحكات‬
‫ال�صاخبة‪ ،‬أ�خرج بي�ضة من فمه و أُ�خرتني من أ�ذنه‪ ،‬ارتفع �صياح أالطفال‬
‫فرحا و�سعادة‪ .،‬قلب ر أ��س البليات�شو ك أ�نه انتزعه من رقبته‪ ،‬وعك�س‬
‫وتهليلهم ً‬
‫و�ضعها‪ ،‬فبدت عيناه �إىل أ��سفل وفمه �إىل أ�على‪ ،‬أالطفال الذين هللوا ً‬
‫فرحا‬
‫منذ قليل �صرخوا رع ًبا عندما انتزع فج أ�ة قناع البليات�شو امل�ضحك ليظهر‬
‫من ورائه وح�ش مل ِير مثله من قبل‪ .‬عندما حان موعد انتهاء العر�ض نزع‬
‫قناعه املفزع؛ ليبدو وج ُهه الب�شو�ش امل�شوب باالبت�سامة الهادئة‪ ،‬حيا اجلمهور‬
‫وان�صرف‪.‬‬
‫ح�ست فى لعابها طعم املطاط‬ ‫بعد العر�ض عندما أ��سرعت حبيبته ُتقبله أ� ّ‬
‫ف أ�ن�شبت أ�ظافرها فى وجهه‪� ،‬سقط عنه قناع‪ ،‬نظرت �إليه مذهولة‪ ،‬اندفعت‬
‫متزق وجهه ب أ�ظفارها بح ًثا عن الوجه احلقيقي للرجل الذي حتبه‪ ،‬ت�ساقطت‬
‫أالقنعة تلو أالخرى‪ ،‬لكنها توقفت مكانها وت�سمرت عندما مل جتد �شي ًئا وراء‬
‫أالقنعة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫رجل بطول املرت يرتدي الباروكة واحللق‪ ،‬وي�ضع امل�ساحيق احلمراء‬
‫والزرقاء وبودرة الوجه وف�ستان الفرح النايلون‪ ،‬رغم ذلك احتفظ ب�شنب ِه‬
‫يت أ�رجح كثي ًفا على جانبي وجهه‪ .‬فقط عندما ينظر لنف�سه فى املر�آة هكذا‬
‫يحتقرها‪ ،‬ولكنه يندفع كل يوم لفعل ذلك‪ ،‬غري أ�نه على يقني أ�ن ذلك لي�س‬
‫�شعوره وحده‪ .‬ل�شهور كان يقف أ�مام املر�آة بهذه ال�صورة‪ .‬فى امل�ساء يقنع‬
‫نف�سه أ�نه ال يجب أ�ن يفعل مهما كلفه ذلك‪ ،‬ولكنهم فى كل مرة يعطونه‬
‫ا إل�شارة؛ فينطلق لينفذ دوره كما هو مطلوب منه‪َ .‬من حوله حتى الذين‬
‫يرونه كل يوم يندفعون فى ال�ضحك و�إلقاء النكات والعبارات ال�ساخرة‪،‬‬
‫�إال أ�نه مل ُيظهر غ�ضبه لهم أ�بدً ا‪ ،‬يتمادى فى ال�ضحك معهم‪ ،‬فى داخله‬
‫يتحينّ الفر�صة املنا�سبة لينتقم وي�سرتد نف�سه من حتت الف�ستان النايلون‬
‫والطرحة‪.‬‬
‫فى كل مرة يقول‪( :‬هذه املرة �س أ�نهي كل �شيء‪� ،‬س أ�خلع الطرحة واحللق‬
‫والف�ستان على خ�شبة امل�سرح و أ�ن�صرف)‪� .‬سيفقده ذلك عمله‪ ،‬غري أ�ن أالمر‬
‫ي�ستحق‪ ،‬ولكنه يعود ويرتاجع على خ�شبة امل�سرح‪ ،‬يجل�س بجانب العري�س‬
‫ويهز باروكته ويربم �شنبه ويحرك نهديه ال�صناعيتني بكفه كما هو مطلوب‬
‫منه فى الن�ص‪ ،‬وحلظات أ�خرى وينتهي دوره دون أ�ن ين ّفذ ما فى عقله‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ما زال واق ًفا أ�مام املر�آة يت أ�مل مظهره الكريه‪ ،‬مل يعد ي�ستطيع أ�ن‬
‫يفعل ذلك‪ ،‬أ�ن ُيح َّول مل�سخ م�ضحك ككل يوم‪ ،‬قبل ذلك مل تواتيه ال�شجاعة‬
‫الكافية‪ ،‬اليوم ي�شعر بالعزمية وا إل�صرار والرغبة فى �إنهاء أالمر بالطريقة‬
‫التي د ّبرها‪� ،‬سينتقم منهم جمي ًعا ولو ليوم واحد‪ ،‬يجعلهم ي�صرخون من‬
‫الغيظ‪ ،‬بعد قليل �سي�ستدعونه وهم ي�ضحكون كعادتهم‪ ،‬و�سيبدءون فى �إلقاء‬
‫النكات ال�ساخرة وهم يرتنحون من ال�ضحك‪ ،‬الليلة �سيوقف ال�ضحك ويغلق‬
‫ال�ستار‪.‬‬
‫‪xxx‬‬

‫حلظات وكان يتقدم متج ًها �صوب خ�شبة امل�سرح‪ ،‬على امل�سرح مل ي�ستطع‬
‫غري أ�ن يجل�س بجانب العري�س‪ ،‬ويهز باروكته ويربم �شنبه ويحرك نهديه‬
‫ال�صناعيتني ب�صورة م�ضحكة‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫فى اللحظة التي تغلق فيها عينها وتفتحها تعتقد أ�نها �سرتى �شيئا‬
‫�آخر‪ ،‬حتاول أ�ن ت�شعر بطعم أ�حمر ال�شفاه على �شفتيها‪ .،‬رائحة م�ساحيق‬
‫التجميل‪ ،‬جمفف ال�شعر‪ ،‬تفكر كث ًريا فى �شكلها‪ ،‬تتمنى أ�ن جتد نف�سها فتاة‬
‫نا�ضجة ت أ��سر قلوب ال�شباب‪ ،‬وتغزل بجمالها عقولهم وتثري عداء الفتيات‬
‫أالخريات الالئي �سيتمنني أ�ن ي ُكنَّ مثلها‪ ،‬تفتح عينيها وتت أ�مل نف�سها فى‬
‫املر�آة‪ ،‬تتوقع أ�ن ترى ما تفكر فيه‪ ،‬تنزوي االبت�سامة املرت�سمة على �شفتيها‪،‬‬
‫ال ترى �إال طفلة �ضئيلة نحيفة ترتدي ال�شورت والبلوزة الطفولية لر أ��س ميكي‬
‫ماو�س و�ضفائر طويلة قبيحة‪ ،‬وكرة وعرو�سة بال�ستيكية بني يديها‪ ،‬ت�ضيق‬
‫باملر�آة‪ ،‬حتطمها وتدفن أ��شالءها‪ .‬ل�سنوات طويلة اعتادت على ارتداء ثيابها‬
‫وهندمتها وتنميقها بدون مر�آة‪ .‬تعلم أ�نها عندما �ستنظر �إليها لن جتد �إال‬
‫تلك الطفلة ذات الكرة وال�ضفائر والعرو�سة‪ ،‬ف�ستان أ�مها أالحمر اجلديد‬
‫أ�عجبها‪� ،‬سيجعلها ك أ�مها‪ ،‬كملكة متوجة أ�و أ�مرية مدللة‪ ،‬تغافلها وتذهب‬
‫لغرفتها وترتديه‪ ،‬حتدث نف�سها‪:‬‬
‫(ف�ستان يليق بامر أ�ة نا�ضجة ولي�س طفلة ترتدي ال�شورت)‪.‬‬
‫تدور وتلف حول نف�سها‪ ،‬تنظر ل�صورة كبرية معلقة على احلائط فى‬
‫الغرفة‪� ،‬صورة لفتاة نا�ضجة مبهرة‪ ،‬تتمنى أ�ن يكون لها نف�س �شعرها‬
‫الذهبي‪ ،‬أ�و عيناها الوا�سعتان أ�و وجهها امل�ستدير كوجه القمر البدر‪ ،‬أ�و ذلك‬
‫‪99‬‬
‫القوام املم�شوق ال�ساحر‪ .‬تنتبه �إىل أ�ن ال�صورة تتحرك‪ ،‬متاثلها فى احلركة‬
‫كخيالها‪ ،‬تدرك أ�نها تنظر ملر�آة كبرية مثبتة على احلائط‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫مق�صا‪ ،‬مل تكن تريد �إال أ�ن‬‫عندما اقرتبت منه وهو نائم حتمل بيدها ً‬
‫مرتنحا‬
‫ً‬ ‫تق�ص َر �شعر حليته وتقلم أ�ظافره احلادة‪ .‬دائ ًما يغيب أ��سابيع ثم يعود‬
‫ِّ‬
‫من ال�سكر؛ لكنه ال يلبث أ�ن ي�ستيقظ ويتحول لوح�ش �ضاري ميزق ثيابها حتى‬
‫ت�صري عارية‪ ،‬وي�سكن بثقله فوق �صدرها‪ ،‬ال ي أ�به لرائحة عرقه الكريهة‬

‫أ�و حليته املنفرة التي تعكر أ�نفا�سها‪ ،‬أ�و تلك اجلروح الرفيعة التي ترتكها‬
‫أ�ظفاره على ج�سدها‪ .‬عندما فكرت ذات مرة أ�ن متنعه من متزيق ثيابها‬
‫و�ضعت يدها بحركة عفوية على مكان الكدمة القدمية أ��سفل عينها‪� ،‬صارت‬
‫بعدها جتل�س وت أ�كل وتنام وتنتظره عارية‪ ،‬حيث فقدت كل ثيابها‪ ،‬اقرتبت‬
‫يدها املرتع�شة باملق�ص �إىل حليته‪ ،‬أ�و�شكت أ�ن تق�صها ولكنها انزلقت فج أ�ة‬
‫�إىل �صدره توغره بطعنات متالحقة‪ .‬فى اللحظة التي ر أ�ت فيها الدماء‬
‫احلمراء تتدفق بغزارة من �صدره اندفعت فى البكاء و�ضمته �إليها‪ ،‬فقد‬
‫أ�دركت أ�ن أ�ظفاره امل�سنونة لن متزق حلمها مرة أ�خرى‪ ،‬و أ�ن رائحته الكريهة‬
‫لن تت�سلل �إىل أ�نفها بعد ذلك‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫املكان ‪ /‬احلافة العليا ملدينة القاهرة‪ ،‬بالتحديد قلب حي القلعة‪ ،‬البيوت‬
‫�صناديق و�صفائح وعلب كربيت أ��سمنتية‪ ،‬فوق �إحدى أال�سطح املتزاحمة‬
‫كان يت أ�مل ال�سماء يبحث عن م�ساحة فراغ‪ ،‬أال�سطح أ‬
‫والبنية املكد�سة التي‬
‫حتوطه ت�شعره باالختناق والرغبة فى ال�صراخ‪ ،‬ال يوجد م�ساحة فراغ‪ .‬فى‬
‫ت أ�مله للنجوم اكت�شف تلك امل�ساحة‪ ،‬وجدها بذلك امل�ستطيل أال�سود املمتلئ‬
‫بالنجوم والذي يعلو وجهه‪ .‬ابت�سم لنف�سه‪ ،‬أ�خذ من جانبه م�سطرة خ�شبية‬
‫بطول املرت وقل ًما من الر�صا�ص ومنقلة ومثل ًثا‪ ،‬بد أ� ير�سم حماو ًرا أ�فقية‬
‫و أ�خرى ر أ��سية‪ ،‬ويحدد الزوايا بني النجوم‪ ،‬جعل مركزها الدب القطبي‪،‬‬
‫كلما أ�خط أ� فى الت�صميم أ�عاده مرة أ�خرى حتى انتهى منه‪ .‬بيت �صغري هادئ‬
‫يتزوج فيه وينجب أ�والدًا فى البعد املتناهي هناك عند جنم ال�شمال‪ ،‬لكنه ما‬
‫�إن انتهى حتى �سمع �صوتًا ي�صيح من أ�حد أال�سطح املال�صقة‪� ،‬سمعه يقول‪:‬‬
‫(هذا املكان قد �سبق حجزه)‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫‪( -‬عندما يتوقف رنني أالجرا�س)‪.‬‬
‫هكذا أ�جبت أ�مي عندما �س أ�لتني متى �ستفكر فى الزواج؟‪.‬‬
‫أالجرا�س التي علقتها فى �إفريز ال�شرفة يتّحد تاريخها مع التاريخ الذي‬
‫�شخ�صا �آخر‪ .‬فى نف�سي قررت أ� َّال أ�تزوج امر أ�ة‬
‫ً‬ ‫تزوجت فيه من أ�حببتها؛‬
‫ْ‬
‫أ�خرى �إال �إذا توقفت أالجرا�س‪ ،‬لكنني كنت على يقني أ�ن أالجرا�س لن‬
‫تتوقف‪� ،‬إذ يحركها الهواء‪.‬‬
‫غري أ�نها ذهبت م�سرعة �إىل ال�شرفة وانتزعت أالجرا�س ف أ�خر�ستها‪،‬‬
‫قالت‪( :‬لقد توقفت أالجرا�س)‪� ،‬س أ�لتها‪( :‬هل عندك عرو�س؟)‬

‫‪xxx‬‬

‫‪111‬‬
‫الفهرس‬

‫‪7‬‬ ‫‪ - 1‬الديوك الرومية ال تطري ‪.....................................‬‬


‫‪17‬‬ ‫‪-2‬الر ؤ�يةمن أ�على ‪................................................‬‬
‫‪23‬‬ ‫‪ -3‬مو�سم الهجرة �إىل أ��سفل ‪....................................‬‬
‫‪29‬‬ ‫‪ -4‬نغمات رتيبة ‪.................................................‬‬
‫‪35‬‬ ‫‪ - 5‬فوق ال�شخ�شيخة ‪...........................................‬‬
‫‪41‬‬ ‫‪ -6‬ات�صال هاتفى ا�ستمر ثالث �سنوات ‪..........................‬‬
‫‪47‬‬ ‫‪ -7‬أ��شياء معروفة حتمل �إ�س ًما �آخر ‪.............................‬‬
‫‪53‬‬ ‫‪ -8‬أال�سرار أالربعة ل�شجرة الزنزخلت ‪.........................‬‬
‫‪57‬‬ ‫‪ -9‬اجل َّدات ال متنت دائ ًما ‪.......................................‬‬
‫‪65‬‬ ‫‪ -10‬العجائز ميوتون فى أ�كتوبر ‪....................................‬‬
‫‪71‬‬ ‫‪ -11‬اجلانب ا آلخر ‪..............................................‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪� -12‬إمر أ�ة ت�شبه أ�مى ‪............................................‬‬
‫‪83‬‬ ‫‪� -13‬سيارة أ�ربعينية �شديدة الظلمة ‪..............................‬‬
‫‪89‬‬ ‫‪ -14‬أ�قنعة ‪........................................................‬‬
‫‪93‬‬ ‫‪ -15‬القزم ‪.......................................................‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪ -16‬املر�آة ‪........................................................‬‬
‫‪101‬‬ ‫‪� -17‬إمر أ�ة ت أ�كل وتنام وتعي�ش عارية ‪.............................‬‬
‫‪105‬‬ ‫‪ -18‬البحث عن م�ساحة فارغة ‪...................................‬‬
‫‪109‬‬ ‫‪ – 19‬رنني أالجرا�س ‪.............................................‬‬

‫‪113‬‬
‫امل ؤ�لف يف �سطور‬

‫• قا�ص م�صري من مدينة �شبني الكوم‪.‬‬


‫• حا�صل على جائزة الدكتورة �سعاد ال�صباح فى الق�صة الق�صرية‬
‫لعام ‪1999‬م‪ ،‬عن املجموعة الق�ص�صية (الديوك الرومية ال‬
‫تطري)‬
‫• له قيد الن�شر جمموعتان ق�ص�صيتان‪( :‬معركة مع فرغل)‪،‬‬
‫( أ��شياء عادية )‬
‫• ن�شرت أ�عماله الق�ص�صية ومقاالته فى العديد من ال�صحف‬
‫واملجالت العربية‪.‬‬
‫• الربيد ا إللكرتوين‪:‬‬
‫‪Kashkoush0123@hotmail.com‬‬

You might also like