You are on page 1of 193

‫جل الدِّ يب ‪ -‬لبنان ‪" -‬اجلودة "‬

‫خليوي‪03/734978 - 03/768203 :‬‬


‫‪02‬‬

‫َّ‬
‫ملخ�ص الأديان ال�سماويَّة‬

‫واحل�ضارات‬

‫الدكتور بديع �أبو جودة‬


‫‪2018‬‬
‫‪03‬‬
‫مــقـدمـة‬
‫ّ‬

‫حتت ّل الأديان املركز الأ�سا�س واملحوري يف التاريخ‪ ،‬كما ويف �سياق احل�ضارات‬
‫حا�سم ومتعدّد النواحي على امل�سار‬
‫ٍ‬ ‫الإن�سانية كا ّف ًة‪ ،‬هذا ملا لها من ت�أث ٍ‬
‫ري‬
‫الطويل للب�شرية‪.‬‬
‫فمن غري املت�ص ّور ان يكتب تاريخ �أو تد َّون ح�ضارة من دون ذكر العامل الديني‬
‫والطابع الإمياين والإيقاين‪.‬‬
‫وتقع الأديان ال�سماوية (�أو الأديان الثالثة �أو الأديان الإبراهيمية) يف قلب‬
‫العامل واحل�ضارة الب�شرية يف خمتلف عهودها القدمية والو�سيطة واحلديثة‬
‫ويف ما بعد احلداثة‪.‬‬
‫هذه الأديان التي تتم ّيز مبيزاتٍ مت�شابه ٍة ومتطابق ٍة مع بع�ضها البع�ض‪،‬‬
‫تفرتق يف مبادئ جوهري ٍة عن الأديان الباقية‪.‬‬
‫وقد لعبت الدور الأقوى ‪ -‬وال تزال تلعبه ‪ -‬يف امليدان الدّويل‪ ،‬الك ّمي والنوعي‪.‬‬
‫ويف عر�ضنا التايل‪:‬‬
‫تف�صيل ملا حتتويه الأديان ال�سماوية (اليهودية وامل�سيحية والإ�سالم) من‬
‫تعاليم وكتبٍ وعقائد و�شرائع‪ ،‬كما وثبت للفرق والطوائف وامللل املوجودة‬
‫عر�ض دّقيقٍ لأبرز املراحل التاريخية ‪ -‬احل�ضارية لهذه الأديان‪.‬‬
‫فيها‪� ،‬إىل ٍ‬

‫جلودة" ‪2018‬‬
‫لبنان ‪ -‬جل الديب ‪ "-‬ا ُ‬
‫الدكتور بديع �أبو جودة‬ ‫ ‬
04
‫‪05‬‬

‫اجلزء الأول‬

‫الأديان ال�سماويَّة‬
‫الأديان ال�سماوية‬ ‫الف�صل الأول‬ ‫‪06‬‬
‫"الـيـهوديّـة"‬

‫النبي ابراهيم �أبو االديان ال�سماوية‬

‫"الـيـهود ّيـة" اقدم الديانات الإبراهيمة‬

‫اليهودية هي �أقدم الديانات الإبراهيمية‪ ،‬حيث تعود بح�سب التقليد اليهودي �إىل النبي مو�سى‬
‫يف م�رص �أثناء وجود بني �إ�رسائيل العربانيني فيها ويق ّدر عدد معتنقيها بني ‪� 13.2‬إىل ‪15.4‬‬
‫مليون يهودي؛ رغم � ّأن تعداد اليهود يف ح ّد ذاته يعترب ق�ضي ًة خالفي ًة حول ق�ضية "من هو‬
‫اليهودي؟"‪.‬‬
‫الكتاب املقد�س الذي �أنزل على مو�سى يف عقيدة اليهود هو التوراة‪ ،‬لك ّن �أحكام و�رشائع التوراة‬
‫�سجل الحقا‬
‫ت�رشحها ال�رشيعة ال�شفوية‪ ،‬وهي ال�رشح احلاخامي لن�صو�ص التوراة والذي قد ّ‬
‫يف التلمود‪.‬‬

‫الأ�صل اللغوي‪:‬‬
‫اليهودية من امل�صطلحات التي ت�سبب اختالفًا يف داللتها‪.‬‬
‫ظهر امل�صطلح للمرة الأوىل يف الع�رص الهيلّيني‪ ،‬متييزًا بني عقائد وممار�سات اليهود‪،‬‬
‫والعبادات املوجودة يف ال�رشق الأدنى‪.‬‬
‫و�أ ّول من �أ�شار �إىل عقيدة اليهود باليهودية هو امل�ؤرخ اليهودي املت�أغرق يو�سيفو�س‬
‫فالفيو�س‪ ،‬وذلك باملقارنة مع "الهيلينية"‪" :‬عقيدة �أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة �سكان‬
‫مقاطعة هيال�س"‪.‬‬
‫فامل�صطلحان بدء�آ با�سمني جغرافيني قبل �أن ي�شريا �إىل الن�سقني العقائديني‪.‬‬
‫‪07‬‬ ‫وقيل التهود يف اللغة التي كان يتحدثها مو�سى مبعنى العودة �أو التوبة كما جاء يف القر�آن‬
‫الكرمي ( ِ�إ َنّا ُه ْدنَا ِ�إلَيْ َك) "�سورة الأعراف‪� "156:‬أي تبنا �إليك وعدنا‪.‬‬
‫يرى الدار�سون � ّأن "اليهودية" كم�صطلح ال ي�شري �إىل الن�سق الديني للعربانيني قبل تدوين‬
‫العهد القدمي �أثناء الهجرة الأوىل �إىل بابل ‪ 578‬ق‪.‬م‪� ،.‬أي بعد مو�سى مبئات ال�سنني‪ ،‬وا�ستم ّر‬
‫وقت �أ�صبحت فيه العربية لغ ًة ميت ًة ال ت�ستخدم �إال‬‫ٍ‬ ‫التدوين حتى القرن الثاين قبل امليالد‪ ،‬يف‬
‫يف الطقو�س الدينية‪ ،‬بينما �أ�صبحت الآرامية لغة اليهود‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬قد يكون من الأف�ضل احلديث عن "عبادة �إ�رسائيل" يف املرحلة ال�سدميية التي ت�سبق بناء‬
‫الهيكل وت�أ�سي�س اململكة العربانية املتحدة عام ‪ 1020‬ق‪.‬م‪ ،.‬وعن "العبادة القربانية املركزية"‬
‫بعد ت�أ�سي�س الهيكل وحتى هدمه عام ‪ 70‬م‪ ،‬واليهودية ب�شكل عام ملا بعد ذلك‪.‬‬

‫املفاهيم والعقائد اليهودية‬

‫الإله‪:‬‬
‫اليهودية هي �أقدم ديانة توحيدية بني الديانات الإبراهيمية الثالث الكربى‪.‬‬
‫واهلل يف اليهودية واحد �أحد‪ ،‬ومفهوم الإله يف اليهودية هو ذلك امل�ستمد من الأ�سفار الأوىل يف‬
‫بع�ضا‪،‬‬
‫ً‬ ‫التوراة‪ ،‬فاهلل هو �شخ�ص �صمد قادر رحيم عادل‪ ،‬خلق النا�س لتعدل وترحم بع�ضها‬
‫وجميع النا�س ت�ستحق �أن تُعامل باحرتام وكرامة‪.‬‬

‫�شعب الر�سالة‪:‬‬
‫الديانة اليهودية هي ديانة غري تب�شريية‪� ،‬أي � ّأن تعاليم اليهود اليوم ال ت�سمح للآخرين‬
‫باالنتماء �إليها‪ ،‬ويعتقد ال�شعب اليهودي �أنّه يخدم ر ّبه بال�صالة ومراعاة الو�صايا التوراتية‬
‫كما يعتقد �أنه هو ال�شعب احلامل للر�سالة‪ ،‬ولي�س لغريهم احلق يف ذلك‪.‬‬
‫ت�ؤمن اليهودية باالفتداء واخلال�ص والنجاة‪ ،‬لكنّها تختلف عن العديد من الديانات الأخرى‬
‫يف � ّأن ال�سبيل �إىل اخلال�ص والنجاة يف احلياة الأخرى ال يكون بالعقيدة و�إمنا بالأفعال‪� ،‬أي � ّأن‬
‫الأفعال ال�صاحلة هي التي مت ّكن الب�رش من النجاة ولي�س العقيدة التي يتّبعونها‪.‬‬
‫ويدخل يف مو�ضوع �شعب الر�سالة �أو ال�شعب املختار بع�ض االعتقادات احللولية‪.‬‬

‫الكتب املقد�سة والدينية‬


‫تتعادل يف اليهودية �أهمية ال�رشيعة املكتوبة (التوراة و�أ�سفار الأنبياء والكتب الأخرى) مع‬
‫�أهمية ال�رشيعة ال�شفوية (�رشوحات احلاخامات املجموعة يف التلمود)‪.‬‬

‫التوراة‬
‫تعني كلمة التوراة حرفيًا‪ :‬تعليم �أو تدري�س �أو قانون‪ .‬وقد ا�ستعملت اللفظة يف الكتاب املقد�س‬
‫بع�ض الأحيان باملعنى العام كتعلي ٍم‪ ،‬لكنها ت�شري يف التوراة �إىل الوحي الذي نزل على بني‬
‫�إ�رسائيل بو�ساطة مو�سى يف جبل �سيناء (التثنية ‪" :)44 – 4‬وهذه هي ال�رشيعة التي و�ضعها‬ ‫‪08‬‬
‫�أمام بني �إ�رسائيل‪ .‬وهذه هي الفرائ�ض والأحكام التي خاطب بها مو�سى بني �إ�رسائيل‬
‫عند خروجهم من م�رص״‪ّ � .‬إن التوراة بهذا املعنى‪ ،‬وت�سمى �أحيانا توراة مو�سى (عربي‪:‬‬
‫حومي�ش مو�شيه)‪ ،‬ت�شتمل فقط على الأ�سفار اخلم�سة الأوىل‪� :‬سفر التكوين‪� ،‬سفر اخلروج‪،‬‬
‫�سفر الالويني‪� ،‬سفر العدد‪ ،‬و�سفر التثنية‪.‬‬
‫و� ّإن طول هذه الأ�سفار هو تقريبًا كطول الإجنيل‪ ،‬وطول القر�آن‪.‬‬
‫وت�س ّمى التوراة اليهودية الكاملة باال�سم العربي املخت�رص "تناخ"؛ وهذه اللفظة مركبة من‬
‫احلروف الأوىل للأجزاء الثالثة املهمة‪ :‬التوراة (الأ�سفار اخلم�سة الأوىل)‪ ،‬الأنبياء (نفيئيم) ‪،‬‬
‫والكتابات (كتوبيم‪ :‬املزامري‪ ،‬و�سفر الأمثال‪ ،‬ون�شيد الإن�شاد‪ ،‬وبقية �أ�سفار احلكمة وغريها)‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬ت�شري لفظة التوراة �أو ״�سفر التوراة״ كذلك �إىل املخطوطة اليدوية التي ت�ضم �أ�سفار‬
‫التوراة اخلم�سة الأوىل التي تو�ضع يف مكانٍ خا�ص يف ك ّل معب ٍد يهودي‪.‬‬
‫ترتّل هذه املخطوطة ك ّل يوم �سبت يف ال�صباح يف �أثناء طقو�س العبادة على مدار ال�سنة‪ ،‬كجز ٍء‬
‫من �أداء �شعائر ال�صالة يف املعبد‪.‬‬
‫ويرتّل جزء خمتلف ك ّل �أ�سبوع ابتدا ًء من �أ ّول �آية من �سفر التكوين وانتها ًء ب�آخر �آية من �سفر‬
‫التثنية‪ ،‬بحيث تت ّم قراءة التوراة بالكامل (الأ�سفار اخلم�سة الأوىل) ك ّل �سنة‪ .‬تعترب التوراة‬
‫اليهودية مق ّد�س ًة بكاملها‪ ،‬لك ّن الأ�سفار اخلم�سة الأوىل (�أ�سفار مو�سى) �أكرث قدا�س ًة‪ ،‬لأنها‬
‫متثّل "الوحي الإلهي املبا�رش" املنزّل على بني �إ�رسائيل يف جبل �سيناء‪.‬‬

‫التوراة كتاب اليهود امل ّقد�س‬


‫بالرغم من � ّأن لفيقة التوراة نف�سها ال حتتوي � اّإل على الأ�سفار اخلم�سة الأوىل (البنتاتوخ‪ :‬كما‬
‫�سا‪.‬‬
‫يدعى يف اليونانية‪ ،‬ويف بع�ض لغات الغرب)‪ ،‬ف� ّإن الكتاب املقد�س العربي بكامله يع ّد مق ّد ً‬
‫الأقدم والأقد�س هو البنتاتوخ (�أ�سفار مو�سي) الذي ي�شتمل على ‪� 613‬أم ًرا �إلهيًا تقليد ًيا‬
‫ال�سلوك‪ ،‬عالو ًة على �رسد ت�أريخ العامل وتكوينه وت�أريخ الب�رشية وبني �إ�رسائيل‪ .‬تبد�أ‬ ‫حول ّ‬
‫التوراة بالتكوين‪ ،‬وتنتهي ببني �إ�رسائيل وهم على �أهبة العودة �إىل بالد �إ�رسائيل بعد �أن‬
‫نزلت عليهم التوراة يف جبل �سيناء‪ ،‬وبعد �أن تاهوا �أربعني �سنة‪.‬‬

‫الأنبياء‬
‫تعترب الكتب التي ي�ض ّمها �سفر الأنبياء "نفيئيم") الق�سم الثاين من العهد القدمي) ت�أريخي ًة‬
‫يف طبيعتها‪ ،‬وت�صف مراحل ت�أريخ �إ�رسائيل منذ غزو �أر�ض املوعد حتت قيادة النبي ي�شوع‬
‫وحتى فرتة تدمري الهيكل الأول‪.‬‬
‫وي�صف �سفر ي�شوع الإ�رسائيليني عند دخولهم �إىل �أر�ض املوعد‪ ،‬ويحتوي �سفر الق�ضاة‬
‫(بالعربي‪� :‬شوفطيم) على موا ّد تتعلق بقبائل �إ�رسائيل الإثنتي ع�رشة التي تعي�ش يف مناطقها‬
‫امل�ستقلة‪.‬‬
‫ال�سفران املعروفان ب�سفر �صموئيل الأول و�سفر �صموئيل الثاين‪ ،‬فيحتويان على ت�أريخ‬ ‫�أ ّما ّ‬
‫‪09‬‬ ‫وال�سفران‬
‫ّ‬ ‫قيام وتعزيز اململكة الإ�رسائيلية‪� ،‬أ ّو اًل حتت حكم �شاول وثانيًا حتت حكم داود‪.‬‬
‫الأول والثاين من �سفر امللوك يوردان خالفة �سليمان‪ ،‬ومتزيق اململكة بعد موته‪ ،‬واالنق�سام‬
‫�إىل مملكة يهودا ومملكة �إ�رسائيل‪ ،‬وتاريخهما خالل تدمري �إ�رسائيل من قبل الأ�شوريني �سنة‬
‫‪ 722‬قبل امليالد وتدمري يهودا من قبل بابل �سنة ‪ 586‬قبل امليالد‪.‬‬
‫وت�شتمل بقية الأ�سفار من هذا اجلزء املعروف بالأنبياء على �أ�سفار الأنبياء اخلا�صة لك ٍّل من‬
‫ريا للأنبياء الآخرين‪.‬‬
‫�أ�شعياء و�إرميا وحزقيال‪ ،‬واثني ع�رش �سف ًرا ق�ص ً‬

‫الكتابات املتنوعة‬
‫�أما اجلزء الثالث من العهد القدمي املعروف بالكتابات (كتوبيم) فهو جمموعة متنوعة‪ :‬املزامري‬
‫(الزبور)‪ ،‬وكتاب املراثي وهي �أ�شعار �شخ�صية وتعبدية‪ ،‬ون�شيد الأن�شاد (ت�سمى �أحيانا‬
‫�أغنية �سليمان) وهي جمموعة من ق�صائد احلب‪ .‬وتتطرق �سل�سلة الأ�سفار التي يطلق عليها‬
‫بع�ض الأحيان جمتمع ًة ״�أدب احلكمة״‪� ،‬إىل الأفكار القدمية حول الأخالق والآداب االجتماعية‬
‫ومكانة بني الإن�سان على الأر�ض‪ ،‬واملو�ضوعات املت�شابهة؛ وت�شتمل هذه على �سفر الأمثال‪،‬‬
‫أي�ضا على �أعمالٍ ت�أريخي ٍة مثل �سفر راعوث‬
‫و�سفر �أيوب‪ ،‬و�سفر اجلامعة‪ .‬وت�شتمل الكتابات � ً‬
‫و�سفر عزرا و �سفر نحميا و �سفر �أ�ستري‪ ،‬و�سفري �أخبار الأيام الأول والثاين وهي الأخبار‬
‫الر�سمية ململكة �إ�رسائيل‪ ،‬و�سفر دانيال وهو ربمّ ا يكون �آخر الأ�سفار التي �أ�ضيفت �إىل العهد‬
‫القدمي العربي وهو مزيج مـن التاريخ والر�ؤى‪.‬‬

‫طبيعة كتاب اليهود املق ّد�س‬


‫ي�س ّمى العهد القدمي باللغـة الإجنلـيزية (‪ )Bible‬وي�سـ ّميه اليهـود التـوراة العربية (‪Hebrew‬‬
‫‪ ، )Bible‬لك ّن امل�سيحيني يطلقون عام ًة عليه ا�سم ״العهد القدمي״ (‪.) Old Testament‬‬
‫رصا �أ�سا�سيًا يف الديانة امل�سيحية‪ ،‬لأنّها ت�صف العهد القدمي كممثّل‬ ‫هذه اللفظة الأخرية تعك�س عن� ً‬
‫لعه ٍد قدمي ال يكون له معنى منذ ظهور امل�سيح � اّإل يف العالقة بالعهد اجلديد (‪. )New Testament‬‬
‫وبح�سب هذا املعتقد‪ ،‬ف� ّإن العهد القدمي مع اليهود مل يعد وظيفيًا‪ ،‬بينما العهد اجلديد ينطبق‬
‫فقط على امل�سيحيني‪� ،‬أولئك الذين ي�ؤمنون بقوة اخلال�ص من امل�سيح‪.‬‬
‫فتذهب امل�سيحية �إىل االعتقاد �أنه‪ ،‬منذ ظهور امل�سيح‪ ،‬ال ميكن �أن تكون هناك عالقة �إلهية‬
‫�أخرى حقيقية � اّإل عن طريق امل�سيح‪.‬‬
‫وت�ؤ ّكد � ّأن العهد القدمي حت ٌّقق من خالل االلتزام بالأوامر الإلهية‪ ،‬لك ّن هذه الأوامر القدمية‬
‫�ألغيت منذ ظهور امل�سيح‪.‬‬
‫مبني‬
‫ٍّ‬ ‫ومبا � ّأن العهد القدمي ال ي�شري ب�شكلٍ حا�س ٍم �إىل امل�سيح‪ ،‬لكن بالأحرى ي�شري �إىل ميثاق‬
‫على �أوامر �إلهية‪ ،‬ف�إنّه مل يعد مل ِز ًما يف ح ّد ذاته‪.‬‬
‫فالعهد القدمي‪ ،‬بالن�سبة للم�سيحية ال معنى له � اّإل يف حدود ارتباطه بوالدة امل�سيح‪ ،‬ور�سالته‪،‬‬
‫والإميان به‪.‬‬
‫�أ ّما اليهود‪ ،‬ف�إنّهم ال ي�ؤمنون بالوالدة العذرية للم�سيح‪ ،‬وال ي�ؤمنون ب� ّأن امل�سيح ابن اهلل‪� ،‬أو‬
‫�أنه املخل�ص املنتظر‪.‬‬ ‫‪10‬‬
‫فبالن�سبة اليهم‪ ،‬ف� ّإن قدوم امل�شيح (امل�سيح) �سي�أتي بخال�ص العامل ب�أ�رسه‪.‬‬
‫أت ب"خال�ص العامل"‪ ،‬ف�إنّه ال ميكن �أن يكون هو امل�شيح بح�سب‬ ‫ومبا � ّأن ي�سوع امل�سيح مل ي� ِ‬
‫الديانة اليهودية‪.‬‬
‫�إن كان بع�ض اليهود يلتزمون �أكرث من الآخرين بالأوامر املوجودة يف التوراة‪ ،‬ف�إنه ال يوجد‬
‫يهودي يعتقد � ّأن قوة اخلال�ص للم�سيح ميكن �أن تقود �إىل النجاة اخلا�صة‪ .‬وب�سبب كون‬
‫العهد اجلديد يتحدث بكامله عن ق�صة امل�سيح كمنقذ‪ ،‬وهذا �شيء بعيد عن االعتقاد اليهودي‬
‫كما �أ�شري �إليه �سابقًا‪ ،‬ف� ّإن اليهود ال يقبلون العهد اجلديد كجز ٍء من كتابهم املق ّد�س‪.‬‬

‫التوراة وحي و�أدب‬


‫التوراة الكاملة هي عبارة عن جمموعه كبرية ج ًدا من الكتب (الأ�سفار) التي متت ّد على طول‬
‫عام تقريبًا من التدوين‪.‬‬‫�ألف ٍ‬
‫تعترب كلّها مقد�س ًة‪ ،‬لكن بح�سب التقليد‪ ،‬ف� ّإن التوراة فقط هي التي تعترب من الوحي الإلهي‬
‫املبا�رش على جبل �سيناء‪.‬‬
‫وحي‬
‫ٍ‬ ‫وتعترب بقية �أق�سام العهد القدمي موجه ًة من اهلل �إىل �أنبياء العهد القدمي‪� ،‬أو �أنّها من‬
‫إلهي ب�شتى الطرق؛ لك ّن معظم �أق�سام العهد القدمي‪ ،‬با�ستثناء التوراة‪ ،‬ال تعترب من كالم اهلل‬ ‫� ٍّ‬
‫املبا�رش‪.‬‬
‫ت�ش ّكل الكتب املوجودة يف �سفر الأنبياء و�سفر الن�صو�ص جز ًءا من الأدب الوطني الطويل‬
‫والقدمي لل�شعب اليهودي‪ ،‬وقد ُكتب كثري من املوا ّد من قبل بني �إ�رسائيل الذين قاموا بهذا‬
‫العمل تلبي ًة ملا فهموا �أنه ا�ستجابة لإرادة اهلل و�أوامره‪.‬‬
‫� ّإن الق�ص�ص‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬وال�شعر والأنا�شيد املوجودة يف التوراة تعبرّ عن �ضعف الإن�سان‪،‬‬
‫ودم؛ و ُيعبرّ عنها كلها باللغة الإن�سـانية ذاتها؛‬‫وتطلعاته‪ ،‬وف�شله وانت�صاره ككائنٍ من حل ٍم ٍ‬
‫ريا ما‬
‫فلقد و�صف حتى �أكرب �أبطال التوراة بالدوافع الإن�سانية ونقاط ال�ضعف التي كث ُ‬
‫ت�ش ّكل جز ًءا من احلياة الب�رشية‪.‬‬
‫أ�س�س عا�صمته يف‬ ‫وحد �إ�رسائيل بعد �أن هزم الفل�سطينيني‪ ،‬والذي � ّ‬ ‫فامللك داود الكبري‪ ،‬الذي ّ‬
‫�أور�شليم (القد�س) و�أن�شد �أجمل الأنا�شيد هلل‪ ،‬اهلل منعه من بناء بيت اهلل املق ّد�س نظ ًرا ملركزه‬
‫لطخ يديه (�أخبار الأيام الأ ّول ‪.)3 :28 ،8 :22‬‬ ‫كمقاتلٍ ولل ّدم الذي ّ‬
‫ولقد �أدين وعوقب لأنه ت�سبب يف وفاة رجلٍ ‪ ،‬ب�سبب �شغفه بزوجة �أحد رجاله‪.‬‬
‫وانتقد امللك �سليمان احلكيم يف التوراة عن تهاونه لل�سماح بت�رسب الكفر حتى �إىل داخل‬
‫البالط امللكي يف �أور�شليم (امللوك ‪.)11 :1‬‬
‫ونبي التوراة الوحيد الذي لقي اهلل وج ًها لوجه‪ُ ،‬حكم عليه �أن ال‬ ‫ّ‬ ‫رشع‬‫وحتى مو�سى‪ ،‬امل� ّ‬
‫يدخل �أب ًدا �إىل �أر�ض املوعد‪ ،‬ب�سبب تر ّدده يف تنفيذ الأوامر الإلهية‬
‫(العدد ‪.)20‬‬
‫� ّإن الدرو�س التي ت�ستنبطها الديانة اليهودية من ف�شل هذه احلاالت لي�ست ب� ّأن اهلل غري قادرٍ‬
‫‪11‬‬ ‫على حماية �أنبيائه‬
‫اخلطيئة‪،‬‬ ‫من‬
‫ولكن بالأحرى‬
‫الدرو�س‬ ‫ف� ّإن‬
‫امل�ستوحاة منها‬
‫هي �أنّه حتى �أكرب‬
‫ا ل�شخ�صيا ت‬
‫تظ ّل‬ ‫الب�رشية‬
‫معبد يهودي‬ ‫ب�رشي ًة‪ ،‬وبالتايل‬
‫مع ّر�ضة‬ ‫هي‬
‫ودم ومكتوب‬ ‫لل�ضعف الب�رشي؛ و�أنّه ال ميكن �أن يكون الب�رش �آله ًة‪ ،‬فنحن بالعك�س من حل ٍم ٍ‬
‫علينا �أن نكافح �صعوبات احلياة احلقيقية‪ ،‬و�أن نظ ّل دائ ًما يف حالة حرية �إرتكاب اخلط�أ‪ ،‬ونظ ّل‬
‫�أحرا ًرا يف التغلّب على �أخطائنا � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫� ّإن كفاحات الأبطال القدماء والأنبياء متنح الإلهام والأمل للوقت احلا�رض‪.‬‬
‫�إنّهم كذلك كانوا مطالبني بالكفاح‪.‬‬
‫�إذاً‪ ،‬ف�إننا ن�ستطيع ذلك � ّ‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ودر�س �آخر ت�ستم ّده الديانة اليهودية من ال�شخ�صيات التوراتية غري الكاملة هو �أنه حتى‬
‫القوة العظمى ملن�صب املَلكية �أو النب ّوة‪ ،‬ال تعفي املرء من م�س�ؤولية املحاولة يف كل الأوقات �أن‬
‫يخ�ضع لإرادة اهلل‪.‬‬

‫التقنني والكتابات املق ّد�سة الأخرى‬


‫� ّإن تقنني الكتاب املقد�س هو الفعل الر�سمي لتحديد ما هو الأ�صل يف الكتاب املق ّد�س وما لي�س‬
‫ب�أ�صيلٍ فيه‪.‬‬
‫ن�ص مق ّد�س ميثّل ت�رشي ًعا (تقنني ‪.)Canon‬‬ ‫فك ّل ٍّ‬
‫وك ّل ما حت ّدد ر�سميًا ب�أنّه مقد�س ف�إنه يعترب مقنّنًا‪.‬‬
‫فتلك الكتب‪ ،‬والآيات‪� ،‬أو حتى الكلمات التي ال تعترب مق ّد�س ًة‪ ،‬فهي خارجة عن التقنني‪ .‬ولقد‬
‫ٍ‬
‫وقت‬ ‫�أ�صبح متّفقًا عليه بني علماء الدين ب� ّأن قيادة ك ّل الأديان ذات الكتب املق ّد�سة‪ ،‬واجهت يف‬
‫من الأوقات عملية التقنني الر�سمي للن�صو�ص املق ّد�سة‪.‬‬
‫فعندما ينتهي التنزيل على الأ ّمة‪ ،‬ف� ّإن الزعماء يجمعون ن�صو�ص ذلك التنزيل‪� ،‬سواء كانت‬
‫على �شكل كتاب ٍة كاملة‪� ،‬أو على �شكل مذ ّكرات‪� ،‬أو حمفوظ ًة يف ذاكرة ال�شواهد‪ .‬ف�إنهم يجمعون‬
‫ن�صو�صا ر�سمي ًة لكالم اهلل‪.‬‬
‫ً‬ ‫تلك الن�صو�ص ويعتربونها‬
‫ويف �أثناء هذه العملية‪ ،‬ف� ّإن الزعماء مطالَبون بتحديد ما هو التنزيل ال�صحيح امللزم وما لي�س‬
‫بذلك‪ .‬وعندما يت ّم العمل بالتقنني‪ ،‬ف�إنّه ال ميكن �أن يكون هناك تنزيل �صحيح بعده‪ .‬وك ّل‬
‫دين‪� ،‬إذاً‪ ،‬يرف�ض ادعاءات التنزيل الإلهي الالحق �سواء ن�ش�أت تلك الإدعاءات من داخل التقليد‬
‫الديني �أو ن�ش�أت من الأديان الأخرى‪.‬‬ ‫‪12‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ف� ّإن اليهودية ترف�ض ر�سميًا �أن تقبل �سلطة التنزيل لك ٍّل من العهد اجلديد والقر�آن‪،‬‬
‫وحي بعد القر�آن‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬‫وترف�ض امل�سيحية هذا بالن�سبة للقر�آن‪ ،‬ويرف�ض الإ�سالم �أن يقبل ب� ّ‬
‫بعك�س ما ت ّدعي بع�ض اجلماعات الدينية مثل البهائية والأحمدية‪..‬‬
‫عك�سي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫� ّإن هذه املالحظة حول نظرة الأديان لتنزيل الآخرين ال تعمل ب�شكل‬
‫فبالرغم من � ّأن الأديان الأوىل ترف�ض ر�سميًا ك ّل التنزيالت التي ت�أتي بعدها‪ ،‬ف� ّإن الأديان‬
‫اجلديدة متيل �أن تعطي قيم ًة للتنزيل ال�سابق‪ ،‬بالرغم من �أنّها ال تقبل بها �أب ًدا‪ ،‬على �أنّها‬
‫�صحيحة وملزمة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ف� ّإن امل�سيحية تقبل التناخ (العهد القدمي) كتنزيلٍ �صحيح‪ ،‬لكن مل تعد لديها ملزم ًة � اّإل‬
‫بالقدر الذي ت�ستعمل فيه للتب�شري بقدوم ي�سوع‪.‬‬
‫وبذات الطريقة‪ ،‬فالإ�سالم يقبل الإجنيل والتوراة ويعتربهما منزلني من عند اهلل‪ ،‬ل ّكنه ال‬
‫يعتربهما �صحيحني‪ .‬وهكذا‪ ،‬ف� ّإن تلك الأجزاء فقط من العهد اجلديد ومن التوراة التي‬
‫�صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تطابق بد ّق ٍة معنى ور�سالة القر�آن‪ ،‬هي التي تعترب حقيق ًة تنزيلاً‬
‫لكن‪ ،‬وبالرغم من وجود هذا االجتاه على �صعيد امل�ؤ�س�سات‪ ،‬ف� ّإن بع�ض الأفراد من اليهود‬
‫وامل�سيحيني وامل�سلمني‪ ،‬قد قبلوا القيمة الأ�سا�سية وحقيقة الكتابات املق ّد�سة للآخرين‬
‫وجذبوا يف بع�ض الأحيان �أتبا ًعا‪.‬‬
‫ر�سول‪ ،‬وكل ر�سالة كانت‬ ‫اً‬ ‫وكما يعلّم القر�آن‪ ،‬نف�سه‪ ،‬ف� ّإن اهلل �أوحى �إىل ك ّل �أ ّم ٍة وبعث �إليها‬
‫خا�ص ًة باملحيط الثقايف واللغوي املنا�سب لتلك احل�ضارة‪.‬‬
‫�سجالت خمتلفة للتنزيل اخلا�ص بها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فال غر ّو �إذاً‪� ،‬أن متلك احل�ضارات الدينية املختلفة‬
‫ولي�س بال�رضورة �أن تعترب الفروقات متناق�ض ًة‪.‬‬

‫التوراة والتقليد‬
‫لقد تط ّور تقليد موازٍ من احلكمة اليهودية منذ نزول التوراة يف جبل �سيناء‪ ،‬وي�شار �إليه عاد ًة‬
‫״بالقانون ال�شفوي״ �أو ״التوراة ال�شفوية״‪.‬‬
‫� ّإن هذا التقليد بحر من املعرفة ال�شفوية التي نقلها جيل �إىل جيلٍ عرب قرون عديدة‪.‬‬
‫مئات من ال�سنني‪ ،‬لكنه انتقل بطريقة اخلطابة من حكي ٍم �إىل‬‫ٍ‬ ‫مل يد َّون هذا التقليد كتاب ًة عدة‬
‫تلميذ‪ ،‬ومن وال ٍد �إىل ابنٍ ‪.‬‬
‫ق�ص�ص و�أ�ساطري وعلى مناق�شات احلكماء‬ ‫ٍ‬ ‫ت�شتمل هذه املد ّونة الكبرية من احلكمة على‬
‫حول الأدب والأخالق‪ ،‬وعلى الأحاديث بني احلاخامات حول الق�ضايا القانونية‪ ،‬وت�شتمل‬
‫على الأمثال والدرو�س والق�ص�ص الأخالقية‪ ،‬وعلى الرباهني القانونية التي حتلّل م�سائل‬
‫دقيق ًة يف القانون الإلهي‪.‬‬
‫مت يف النهاية جمع هذا التقليـد ال�شـفوي‪ ،‬ومتّت كتابته وتدوينه عرب عد ٍد من القرون‪،‬‬ ‫ولقد ّ‬
‫يف �أر�ض "�إ�رسائيل"‪ ،‬وكذلك يف بالد ما بني النهرين (معروف لدى اليهود ببابل) الذي‬
‫‪13‬‬ ‫كانت تعي�ش فيه جالية‬
‫يهودية كبرية بعد‬
‫ال�سبي‪.‬‬

‫التلمود توراة �شفوية‬


‫مت جمع التقليد‬ ‫لقد ّ‬
‫ال�شفوي الذي يعترب‬
‫�أكرث �سلط ًة و�إلزامي ًة‪،‬‬
‫يف جمموعتني ت�سميان‬
‫كتاب التوراة‬ ‫والغماراه‪،‬‬ ‫امل�شناة‬
‫وهما �أق�سام التلمود‬
‫جمتمع ًة‪.‬‬
‫أول‪ ،‬ل ّأن حمتواه قدمي ي�صل �إىل العهود الأوىل للذاكرة‬‫ي�سمى التلمود التوراة ال�شفوية ل�سببَني‪ � :‬اً‬
‫اليهودية؛ وثانيًا‪ ،‬ل ّأن لديه �سلط ًة ال تعلو عليها � اّإل �سلطة التوراة نف�سها (الأ�سفار اخلم�سة‬
‫الأوىل)‪.‬‬
‫لقد تعلّم مو�سى‪ ،‬بح�سب التقليد اليهودي‪ ،‬كمي ًة هائل َة من احلكمة من اهلل مبا�رشةً‪ ،‬وذلك عندما‬
‫ق�ضى �أربعني يو ًما وليل ًة على جبل �سيناء (اخلروج ‪ ،)18 : 24‬لك ّن هذه احلكمة مل تكتب يف‬
‫التوراة املكتوبة التي �أنزلت مبا�رش ًة لك ّل �إ�رسائيل على اجلبل‪.‬‬
‫لقد نقل مو�سى هذه احلكمة �شفاهي ًة �إىل خلفه ي�شوع‪ ،‬الذي نقلها بعد ذلك �إىل �شيوخ القبائل‬
‫الذين نقلوها بدورهم �إىل الأنبياء‪.‬‬
‫نقل الأنبياء هذه احلكمة �إىل احلكماء الكبار الذين د ّونوها يف النهاية يف التلمود (امل�شناة‪� ،‬أفوت‬
‫‪.)1 : 1‬‬
‫لكن‪ ،‬هناك بع�ض التفاوت حول ما �إذا كان التلمود كلّه �أو جزء منه فقط من الوحي الإلهي‬
‫املنزل على جبل �سيناء‪.‬‬
‫ُ‬
‫� ّإن حمتوى التلمود ب�أ�رسه قد �أنزل على مو�سى ب�شكلٍ �شفوي فوق جبل �سيناء‪ ،‬بح�سب ما‬
‫يراه بع�ضهم؛ وبالن�سبة للآخرين‪ ،‬ف� ّإن بع�ض القواعد التف�سريية للن�صو�ص املق ّد�سة والقانون‬
‫فقط‪ ،‬هي التي نقلت وتعلّمها احلكماء القدامى‪ ،‬فم ّكنهم من تطوير �آرائهم و�أفكارهم اخلا�صة‬
‫أ�س�س �إلهيًا‪.‬‬
‫داخل �إطار ما ت� ّ‬
‫أي جز ٍء من التلمود �إلهيًّا ب�شكلٍ مبا�رش‪ ،‬ويرون‬ ‫وفوق هذا‪ ،‬ف� ّإن يهو ًدا �آخرين ال يعتربون � ّ‬
‫عو�ضا عن هذا وب�أنّه يعك�س حماوالت املتوا�ضعني‪ ،‬لكنّهم حكماء‪ ،‬لفهم العي�ش بح�سب‬ ‫ّ‬
‫مفهومهم للإرادة الإلهية‪.‬‬
‫� ّإن التلمود يعترب عملاً يف غاية الكثافة وال�صعوبة‪ ،‬وهو مكتوب بلغتني منف�صلتني‪ ،‬العربية‬
‫ٍ‬
‫طبقات عديدة من‬ ‫ال�سطر)‪ ،‬وهو م�شتمل على‬ ‫والآرامية (غالبًا ما ت�ستخدم اللغتان م ًعا يف نف�س ّ‬
‫ٍ‬
‫وم�ستويات كثرية من املعاين‪.‬‬ ‫احلجج‬
‫ري من احلكماء‬ ‫ي�سجل املناق�شات والآراء املختلفة لكث ٍ‬
‫ّ‬ ‫ومن املظاهر املمتعة ج ًدا للتلمود �أنّه‬ ‫‪14‬‬
‫يتو�صل‪ ،‬عادةً‪� ،‬إىل نتيج ٍة نهائية حم ّددة حول اجلواب ال�صحيح للت�سا�ؤل الوارد‪.‬‬‫ّ‬ ‫دون �أن‬
‫رصح التلمود كذلك بحيثيات املبادئ �أو النظرية ملختلف الرباهني املق ّدمة عادةً‪ .‬فلهذا‪،‬‬ ‫ومل ي� ّ‬
‫يجب على من يدر�س التلمود �أن يعمل من خالل براهني معقّدة لكي يفهم الق�ضايا وعواقبها‪،‬‬
‫ل ّأن العملية هي يف غاية التعقيد وال�صعوبة‪.‬‬
‫و ُيعترب االنخراط يف مثل هذه العملية ال�صعبة مثل درا�سة التلمود �رشفًا‪ ،‬لي�س فقط ل ّأن هذا‬
‫النوع من الدرا�سة يعترب حمتو ًما كو�سيل ٍة لفه ٍم �أف�ضل للإرادة الإلهية‪ ،‬لكن كذلك كو�سيل ٍة‬
‫حتفّز على تطوير القدرة الفكرية للفرد‪.‬‬

‫املدرا�ش‬
‫بالرغم من � ّأن التلمود مل ينحرف عن املبادئ العامة التي و�ضعتها التوراة املكتوبة‪ � ،‬اّإل �أنّه‬
‫رشا على العهد القدمي نف�سه‪ .‬ولك ّن‬ ‫منظم ب�شكلٍ م�ستقل؛ فلهذا‪ ،‬ال ميكن اعتباره تعليقًا مبا� ً‬ ‫ّ‬
‫الديانة اليهودية تعترب مرتبط ًة ج ًدا بالتوراة املكتوبة �إىل درجة �أنه منذ القدم قد تطورت‬
‫تعليقات مبا�رشة على �أجزاء الكتاب املق ّد�س‪ ،‬وانتقل كثري منها �شفو ًيا من جيلٍ �إىل جيل‪.‬‬
‫مت جمع �أقدم التعليقات يف �أعمالٍ ت�س ّمى جمتمع ًة‪ ،‬املدرا�ش‪.‬‬ ‫ولقد ّ‬
‫� ّإن لفظة "املدرا�ش" م�شتقة من ذات امل�صدر الذي ا�شتقّ منه فعل "در�س" يف اللغة العربية‪.‬‬
‫واملدرا�ش‪ ،‬حقيق ًة‪ ،‬هو �سل�سلة جمموعة من التعليقات القدمية على ك ّل �أجزاء التوراة‪ ،‬بتنظي ٍم‬
‫وتق�سي ٍم خمتلفني من جمموعة �إىل �أخرى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كلمات‬ ‫ريا ج ًدا‪ ،‬وبع�ضه ي�صل يف الق�رص �إىل‬ ‫فك ّل جز ٍء من كتاب املدرا�ش ميكن �أن يكون ق�ص ً‬
‫قليلة �أو جمل ٍة واحدة‪.‬‬
‫وتنظم هذه الفقرات‪ ،‬يف ما بعد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫فقرات طويلة؛‬ ‫ويجمع عدد من هذه الأجزاء‪ ،‬غالبًا‪ ،‬لت�شكل‬
‫على �شكل ف�صولٍ وكتبٍ كاملة‪.‬‬
‫� ّإن الكثري من هذه الأجزاء الق�صرية من املدرا�ش‪ ،‬مد ّون حتت �إ�رشاف حاخام �أو حكيم‪ ،‬بينما‬
‫اً‬
‫جمهول‪.‬‬ ‫ظ ّل مد ِّون بع�ضها الآخر‬
‫ه�ؤالء احلكماء يعلّقون على التوراة من وجهات نظ ٍر وا�سع ٍة ومتباينة‪ ،‬ويخو�ضون يف ك ّل‬
‫�شي ٍء من الأ�ساطري القدمية �إىل القوانني‪ ،‬والأ�شعار والدرو�س الأخالقية‪.‬‬
‫وبال ّرغم من � ّأن املدرا�ش ن�ش�أ يف ذات الفرتة التي ن�ش�أ فيها التلمود‪ � ،‬اّإل �أّ ّن عملية كتابة املدرا�ش‬
‫مل تتوقف نهائيًا‪� ،‬إىل درجة � ّأن عملية جتميع املدرا�ش وكتابته ما تزال م�ستمر ًة من كتابات‬
‫الع�صور الو�سطى وحتى كتابات الع�رص احلديث‪.‬‬
‫بالغ وله قيمة �أخالقية ودينية عميقة‪ � ،‬اّإل �أنه مل‬ ‫باهتمام ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وبالرغم من كون املدرا�ش يحظى‬
‫يحقق امل�ستوى العايل نف�سه الذي حقّقه التلمود يف نظر اليهود؛ على الرغم من � ّأن جز ًءا من‬
‫التلمود ذاته هو على �شكل املدار�ش‪ ،‬وبالرغم من وجود بع�ض �أجزاء املدرا�ش كذلك يف التلمود‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫هاالخاه و�أغاداه‬
‫يحوي ك ّل من العهد‬
‫والتلمود‬ ‫القدمي‬
‫واملدرا�ش على ما ّد ٍة‬
‫وا�سعة وخمتلفة‪.‬‬
‫وتنق�سم هذه املادة‪،‬‬
‫تقريبًا‪� ،‬إىل ما ي�سمى‬
‫قبائل بني �إ�سرائيل‬ ‫هاالخاة‬ ‫بالعربي‬
‫(‪� )Halakhah‬أي‬
‫ال�رشيعة‪ ،‬و�أغاداة (‪� )Aggadah‬أي الق�صة‪.‬‬
‫ت�شري ال�رشيعة �إىل املادة القانونية يف ك ّل هذه الأعمال‪ ،‬وت�شبه يف املعنى ال�رشيعة الإ�سالمية‪.‬‬
‫و� ّإن اللفظتني لهما ذات املعنى الأ�سا�سي‪ :‬ال�رشيعة تعني ״الطريق �إىل مكان املاء״ �أو ״الطريق‬
‫�إىل املنبع״؛ وتعني هاالخاة ״طريق لل�سلوك״‪� ،‬أو ״�شيء للمرور عليه״‪.‬‬
‫وباملقابل‪ ،‬تُطلق كلمة �أغاداة (‪ )Aggadah‬على املواد غري القانونية التي ت�شتمل على‬
‫الأ�ساطري‪ ،‬واحلكم والق�ص�ص الأخالقية‪ ،‬وت�شتمل على احلوارات واملناق�شات الدينية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫معلومات �أخرى‪.‬‬ ‫وال�شعر والفولكلور‪ ،‬وت�شتمل حتى على الإر�شادات الطبية وعلى‬

‫�آراء اليهود حول التوراة‬


‫لقد تحَ ّدد ب�أن احلياة الإن�سانية امل�ستقيمة ال تت ّم �إال بتوجي ٍه �إلهي؛ والتوجيه الإلهي‪ ،‬بالن�سبة‬
‫لليهود هو التوراة‪ ،‬التي تعني �أو�سع مدى للمعرفة اليهودية‪.‬‬
‫ويف احلقيقة‪ ،‬ف� ّإن خلق الب�رشية‪ ،‬مل يحدث ‪ -‬بح�سب مفهوم التقليد اليهودي ‪ � -‬اّإل من �أجل‬
‫مبني على التوراة الإلهية‪.‬‬‫ّ‬ ‫هدف حم ّدد‪ ،‬وذلك يف اتّباع نظام حياة‬‫ٍ‬
‫ويظهر � ّأن التوراة‪ ،‬بح�سب هذه الفر�ضية‪ ،‬لها وجود حتى قبل خلق الب�رشية �أو بقية العامل‪،‬‬
‫ل ّأن التوراة تعترب نو ًعا من النموذج للحياة يف هذا العامل‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬اختلف اليهود حول وجود التوراة قبل اخللق‪.‬‬
‫كما ا�ستم ّر اجلدال داخل الطائفة اليهودية حول طبيعة التوراة منذ بداية الع�رص احلديث‪.‬‬

‫�أر�ض �إ�رسائيل‪:‬‬
‫�أر�ض �إ�رسائيل "�إرت�س ي�رسائيل"‪ ،‬هي الطرف الثالث يف الطبقة احللولية اليهودية بعد التوراة‬
‫والتلمود‪ .‬فهي "�أر�ض الرب"‪ ،‬التي تفوق يف قد�سيتها �أي �أر�ض �أخرى‪ .‬وهي الأر�ض املوعودة‬
‫لليهود يف التوراة والتي يجد فيها اليهود هويتهم‪.‬‬
‫ال�رشيعة اليهودية‪:‬‬ ‫‪16‬‬
‫ي�شري اليهود �إىل ال�رشيعة اليهودية بكلمة "التوراة"‪ ،‬بينما تعني "الهاالخاه" القوانني �أو‬
‫الت�رشيعات اخلارجية حتديدا‪ ،‬و�إن كانت داللتها متتد �أحيانا لت�شمل ال�رشيعة ككل‪ .‬ويفرق‬
‫اليهود بني "ال�رشيعة املكتوبة"‪ ،‬وهي الواردة في�أ�سفار مو�سى اخلم�سة وباقي العهد القدمي‪،‬‬
‫وال�رشيعة ال�شفوية‪� ،‬أي �رشوح احلاخامات التي �سجلت يف التلمود وغريه من الكتب‪ ،‬مثل‬
‫كتب الكاباال‪.‬‬

‫ال�صلوات والأدعية‪:‬‬
‫يف اليهودية تتلى ال�صالة يف املنزل ثالث مرات يوميا �صباحا وبعد الظهر وبعد غروب‬
‫ال�شم�س وتقام �صالة اجلماعة يف الكني�س �أيام ال�سبت والإثنني واخلمي�س و�أيام الأعياد‬
‫اليهودية‪ ,‬ميكن للفرد اليهودي �أن ي�ؤدي ال�صالة مفردا �أو مع اجلماعة مع تف�ضيل �صالة‬
‫اجلماعة‪ ،‬وتختلف الطوائف اليهودية يف ما بينها بخ�صو�ص عدد ال�صلوات يوميا وا�ستخدام‬
‫الأحلان يف ال�صالة وكذلك ا�ستخدام اللغة الدينية �أو العامة �أثناء ت�أدية ال�صالة‪ .‬وي�سمى املعبد‬
‫الذي ت�ؤدى فيه ال�صالة بالكني�س وجمعه كن�س ومتنع اليهودية ا�ستخدام ال�صور والتماثيل‬
‫يف التزيني وهو الأمر املطبق يف جميع الكن�س اليهودية‪ .‬كما ميتاز يوم ال�سبت بقد�سية خا�صة‬
‫حيث طلة خالله ترانيم الزمريوت‪.‬‬

‫التقومي اليهودي (العربي)‪:‬‬


‫هو التقومي الذي ي�ستخدمه اليهود لتحديد مواعيد ذات �أهمية دينية مثل الأعياد اليهودية‪،‬‬
‫موعد االحتفال بـبار مت�سفا‪ ،‬املوعد ال�سنوي لإحياء ذكر الرحيلني اليهود �إلخ‪ .‬كذلك يـُ�ستخدم‬
‫التقومي اليهودي يف دولة �إ�رسائيل لتحديد االحتفاالت الر�سمية مثل عيد اال�ستقالل �أو �أيام‬
‫احلداد املتكررة �سنويا‪ .‬يف �إ�رسائيل يـُعترب التقومي اليهودي ر�سميا �إىل جانب التقومي امليالدي‪،‬‬
‫حيث ي�سمح القانون ا�ستخدامه لأية غاية‪ ،‬ولكن بالفعل يف�ضل املواطنون وم�ؤ�س�سات الدولة‬
‫ا�ستخدام التقومي امليالدي لتحديد املواعيد العادية غري االحتفالية‪.‬‬

‫الأعياد اليهودية‪:‬‬
‫يف الديانة اليهودية العديد من الأعياد الدينية يف ما يعرف بيوم طوب �أي اليوم اجليد �أو‬
‫ال�صالح‪� ،‬أو تاعنيت �أي االحتفال‪ .‬الأعياد الرئي�سية الثالث وفق التقومي اليهودي ووفق‬
‫التوراة هي‪:‬‬
‫• عيد الف�صح اليهودي �أو ما يعرف بـ (بي�ساح)‬
‫• عيد املظلة املعروف بـ (�سوكوت)‬
‫•عيد الأ�سابيع املعروف بـ (�شفوعوت)‬
‫�إ�ضافة �إىل �أعياد ومنا�سبات �أخرى منها عيد ر�أ�س ال�سنة اليهودية ويوم الغفران‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫احلياة الدينية‬
‫واالجتماعية اليهودية‬
‫• الطعام يف اليهودية‪:‬‬
‫تق�سم الأطعمة وفق ال�رشيعة‬
‫اليهودية �إىل ق�سمني �أطعمة‬
‫حالل و�أخرى حرام‪ ،‬احلالل‬
‫منها يعرف با�سم (ك�رشوت‬
‫اليهود يف م�صر‬ ‫�أو كو�شري) واحلرام با�سم‬
‫(طريفه)‪ ,‬يف الذبائح يجب �أن‬
‫يكون احليوان من احليوانات‬
‫اً‬
‫التي مت�ضغ الطعام وجترته حتى ي�صبح �أكله حالل‪ ،‬وعند ذبح الثدييات والطيور ف�إنه‬
‫يجب �أن تكون هذه احليوانات �سليمة �صحيا ً و�أن تكون عملية الذبح �رسيعة وغري م�ؤملة‬
‫قدر الإمكان لهذا احليوان‪ .‬ووفق الديانة اليهودية يحرم �أكل الدم وحلم اخلنزير وال�سمك‬
‫يخ�ص الكائنات البحرية ف�إن الأ�سماك ذات الزعانف والذيول هي التي‬ ‫ّ‬ ‫الالحر�شفي‪ .‬يف ما‬
‫لاً‬ ‫اً‬
‫ي�صح �أكلها باعتبارها حالل‪ ،‬فاملحار مث يع ّد حم ّر ًما‪� ،‬أما للطيور فهناك قائمه بالطيور‬
‫املحرم تناولها‪ ،‬كذلك يحرم تناول احل�رشات والربمائيات‪ .‬وحترم اليهودية �أي�ضا تناول �أي‬
‫وجبة حتتوي على حلوم و�ألبان معا‪.‬‬

‫• الأُ�رسة اليهودية‪:‬‬
‫يف الديانة اليهودية العديد من ال�رشائع التي تنظم حياة الب�رش فمنها ما يحدد �أ�سا�سيات امللب�س‬
‫الذي يجب فيه االحت�شام ومنها ما ينظم حياة الأ�رسة فاليهودية ت�شجع ب�شده على الزواج‬
‫حتى ان التلمود ي�صف الرجل الغري متزوج بانه لي�س بالرجل احلقيقي والديانة اليهودية‬
‫ت�سمح بتعدد الزوجات وتوكل اليهودية على الزوج م�س�ؤولية تلبية احلاجات الأ�سا�سية‬
‫وال�رضورية لزوجته و�أبنائه و�أن يحرم نف�سه ان تطلب الأمر يف �سبيل عائلته والطالق يف‬
‫اليهودية مباح ويكون بيد الرجل وميكن للمر�أة طلب الطالق من زوجها �أو عن طريق املحاكم‬
‫ال�رشعية‪ .‬عمر التكليف الديني للأبناء يكون ‪ 13‬عا ًما لل�صبيان و ‪ 12‬عا ًما للفتيات ومبجرد‬
‫بلوغ الأبناء هذا العمر ي�صبحون مكلفني دينيا بالأعمال والعبادات‪ ،‬كذلك حتبذ اليهودية‬
‫ختان الذكور من املواليد عند بلوغهم اليوم الثامن من العمر طاملا كانت �صحة املولود ت�سمح‬
‫بذلك ويكون ختان الذكور عالمة العهد ال ّرباين‪.‬‬

‫• الأغيار‪:‬‬
‫الأغيار هو م�صطلح ديني يهودي يطلقه اليهود على غري اليهود‪.‬‬

‫• الفكر الأخروي‪:‬‬
‫ال تختلف اليهودية عن امل�سيحية والإ�سالم من ناحية االعتقاد بوجود وا�ستمرار حياة �أخرى بعد‬
‫‪18‬‬

‫�أ�ضحية يهودية‬
‫املمات وكذلك البعث ويوم احل�ساب �إال ان اليهودية مل تركز كثريا يف تف�صيل هذا الأمر ورغم ذلك‬
‫توجد العديد من الدرا�سات املخت�صة �سواء املخت�صة مبا بعد واملوت �أو املخت�صة بالبعث واحل�ساب‪.‬‬
‫طوائف اليهود الرئي�سية‪:‬‬
‫• اليهودية الأرثوذك�سية‪:‬‬
‫اليهودية الأرثوذك�سية‪ .‬تعرتف بكل التوراة والتلمود‪ ،‬وتقبل كل النوامي�س‪ ،‬وتعتقد �أن اهلل‬
‫�أوحى بذلك كله �إىل مو�سى مبا�رشة يف جبل �سيناء‪.‬‬
‫• اليهودية الإ�صالحية‪:‬‬
‫اليهودية الإ�صالحية‪ .‬بد�أت مــع بدايات القرن التا�سع ع�رش امليالدي‪� ،‬إذ �شكك بع�ض اليهود يف‬
‫كيفية ظهور الكتب املقد�سة‪ ،‬وانتهوا �إىل �أن التلمود عمل ب�رشي غري موحى به‪ ،‬ومن ثم �ضعفت‬
‫م�صداقيته لديهم‪ .‬وال ي�ؤمن ه�ؤالء �إال بالتوراة‪ .‬ويعتقد الإ�صالحيون �أن التعــاليم الأخالقية‬
‫ريا من التقاليد‪.‬‬
‫وال�سلوكية �أهم �أجزاء اليهودية‪ ،‬وال يولون �أهمية للطقو�س بل �إنهم نبذوا كث ً‬
‫• اليهودية املحافظة‪:‬‬
‫اليهودية املحافظة (الرتاثية)‪ .‬ن�ش�أت يف منت�صف القرن التا�سع ع�رش امليالدي‪ .‬ورغم �إميانهم‬
‫بالتوراة والتلمود‪� ،‬إال �أنهم ذهبوا �إىل وجوب تف�سري الن�صو�ص املقد�سة يف �ضوء املعارف العلمية‬
‫ريا بالطقو�س‪ ،‬ولكنهم‬‫احلديثة والثقافة املعا�رصة‪ .‬وهم كاليهود الإ�صالحيني مل يهتموا كث ً‬
‫ميار�سون العادات‪.‬‬

‫حركات يف اليهودية‪:‬‬
‫ظهرت يف اليهودية حركات �سيا�سية وفكرية ودينية وخ�صو�صا ً يف ع�رص الأنوار يف �أوروبا‪،‬‬
‫وتبلورت يف القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬من مثل حركة التنوير اليهودي (اله�سكااله)‪ ،‬واحلركة‬
‫ال�صعيونية‪ .‬ونعر�ض هنا لل�صهيونية التي تعترب �أقوى احلركات ال�سيا�سية – الدينية اليهودية‬
‫املعا�رصة على الإطالق‪:‬‬
‫‪19‬‬ ‫احلركة ال�صهيونية‪:‬‬
‫ال�صهيونية هي حركة قومية يهودية حديثة ن�ش�أت يف �أوروبا �ساهم يف ت�شكيلها عدة مفكرين‬
‫يهود‪� .‬أما فكرة ال�صهيونية يف حد ذاتها فقد تطورت يف اجليتوهات اليهودية طيلة قرون عديدة‪.‬‬
‫وال�صهيونية الدينية مرتبطة بفكرة احلنني �إىل العودة �إىل �صهيون ‪ -‬كناية عن �أور�شليم‪ -‬ذلك‬
‫احلنني امل�شحون باملعتقد الإ�سخاتولوجي الأخروي واخلال�ص بعد ظهور املا�شيَّح �أي امللك �أو‬
‫امل�سيح املخل�ص‪ .‬لكن ال�صهيونية ال�سيا�سية التي اعتمدت على وجه اخل�صو�ص على م�ؤلَّف‬
‫تيودورهرتزل "‪ - "Der Judenstaat‬الدولة اليهودية – هي التي لقيت انت�شا ًرا وا�سعا‬
‫�أدى �إىل �إعالن قيام دولة يهودية على �أر�ض فل�سطني يف ‪ 14‬مايو ‪.1948‬‬

‫نظرة الأديان الأخرى لليهودية‬


‫• النظرة امل�سيحية لليهودية‪:‬‬
‫يرى امل�سيحيون �أن اليهودية ديانة توحيدية �سماوية �أنبيا�ؤها كرث و�أهمهم مو�سى النبي‪.‬‬
‫وتعرتف امل�سيحية بالتوراة وتطلق عليها ت�سمية العهد القدمي؛ وينبع ذلك من االعتقاد ب�أن‬
‫التوراة بداية تعامالت اهلل مع الب�رش قبل ظهور امل�سيح ثم الإجنيل العهد اجلديد بقدوم ي�سوع‬
‫امل�سيح يعد مكمال للتوراة‪� ،‬أي �أن التطبيق العملي للعهد القدمي يتم يف امل�سيح الذي ت�صفه‬
‫امل�سيحية ب�أنه هو املخل�ص و�أنه الطريق �إىل اهلل ومبا �أن العهد القدمي ي�شري �إىل امل�سيح ب�شكلٍ‬
‫وا�ضح ف�إن العهد القدمي هو جزء رئي�سي من العقيدة امل�سيحية‪.‬‬
‫• النظرة الإ�سالمية لليهودية‪:‬‬
‫يرى الإ�سالم الديانة اليهودية ب�أنها ديانة �سماوية وي�ؤمن امل�سلم ب�أ�صلها وب�أنبيائها ويتفق مع‬
‫الكثري من معتقادتها منها حترمي الدم وحلم اخلنزير وختان الذكور وتعدد الزوجات وتوكيل‬
‫الزوج م�س�ؤولية تلبية احلاجات الأ�سا�سية وال�رضورية للزوجه والأبناء‪ ,‬وي�شري الن�ص القر�آين‬
‫لليهود يف عدة موا�ضع‪ ،‬ويف �سياقات متنوعة‪ ،‬ترتاوح بني رواية ق�ص�ص بني �إ�رسائيل وبني‬
‫احلديث عن اليهود‪ ،‬وبني مدحه لهم ولأهل الكتاب وبني ذ ّمه لهم وو�صفهم باملف�سدين وي�أتي‬
‫ّا�س َع َد�أ َو ًة‬
‫�ش َّد النَ ِ‬ ‫هذا الو�صف من منطلق �أن الأ�سالم يعترب اليهودية دين مت حتريفة‪:‬لَتَجِ َد َّن �أَ َ‬
‫َ�صا َرى‬ ‫لِل َّ ِذي َن �آ َمنُوا الْيَ ُهو َد َوالَّ ِذي َن �أَ�شرْ َ ُكوا ۖ َولَتَجِ َد َّن َ�أ ْق َر َب ُه ْم َم َو َّد ًة لِل َّ ِذي َن �آ َمنُوا الَّ ِذي َن َقالُوا �إِ َنّا ن َ‬
‫�ستَ ْكبرِ ُونَ ويف موا�ضع �أخرى ي�صفهم ب�أنهم من �أهل‬ ‫ني َو ُر ْهبَانًا َو�أَ َّن ُه ْم اَل َي ْ‬ ‫�س ِ‬
‫ي�س َ‬ ‫ذلِ َك ِب�أَ َّن ِمنْ ُه ْم ِق ِّ‬
‫�س ُن" ويف‬ ‫َاب ِ�إالَّ بِالَّتِي ِه َي �أَ ْح َ‬
‫الكتاب‪ ،‬ويدعو ملجادلتهم بالتي هي اح�سن " َوالَ تجُ َا ِدلُوا �أَ ْه َل الْ ِكت ِ‬
‫ّت‬‫ني" ‪ .‬ويثني على �صربهم‪َ " :‬وتمَ َ ْ‬ ‫َاه ْم َعلَى ِعل ْ ٍم َعلَى الْ َعالمَ ِ َ‬ ‫مو�ضع �آخر مييزهم ‪َ " :‬ولَ َق ِد اخْ ترَ ْن ُ‬
‫�صنَ ُع ِف ْر َع ْو ُن َو َق ْو ُم ُه َو َما‬ ‫�صبرَ ُوا َو َد َّم ْرنَا َما َكانَ َي ْ‬ ‫�سنَى َعلَى َبنِي ِ�إ�سرْ َ ائِي َل بمِ َ ا َ‬ ‫َكل ِ َم ُة َر ِّب َك الحْ ُ ْ‬
‫ِ�شونَ " ‪ .‬ولكن بالإجمال ينتقد الن�ص القر�آين اليهود �أكرث من امل�سيحيني‪.‬‬ ‫َكانُوا َي ْعر ُ‬
‫الأديان ال�سماوية‬ ‫الف�صل الثاين‬
‫"امل�سيح ّية"‬
‫‪20‬‬

‫ال�صليب �شعار امل�سيحية‬

‫وال�سالم‬
‫َّ‬ ‫"امل�سيح ّية" دين املح َّبة والت�سامح‬
‫امل�سيحيّة �أو الن�رصانيّة‪ ،‬هي ديانة �إبراهيمية‪ ،‬وتوحيدية‪ ،‬متمحورة يف تعاليمها‬
‫حول الكتاب املقد�س‪ ،‬وب�شكل خا�ص حول ي�سوع امل�سيح‪ ،‬الذي هو يف العقيدة مت ِّمم‬
‫النب�ؤات املنتظر‪ ،‬وابن اهلل املتج�سد؛ الذي ق ّدم يف العهد اجلديد ذروة التعاليم االجتماعية‬
‫والأخالقية‪ ،‬و�أ ّيد �أقواله مبعجزاته؛ وكان خملّ�ص العامل مبوته وقيامته‪ ،‬والو�سيط الوحيد‬
‫بني اهلل والب�رش؛ وينتظر معظم امل�سيحيني جميئه الثاين‪ ،‬الذي يختم بقيامة املوتى‪ ،‬حيث‬
‫يثيب اهلل الأبرار وال�صاحلني مبلكوت �أبدي �سعيد‪.‬‬
‫امل�سيحيّة تعترب �أكرب دين معتنق يف الب�رشية‪ ،‬ويبلغ عدد �أتباعها ‪ 2.4‬مليار �أي حواىل ثلث‬
‫الب�رش‪ ،‬كذلك فامل�سيحية دين الأغلبية ال�سكانية يف ‪ 126‬بل ًدا من �أ�صل ‪ 197‬بل ًدا يف العامل؛‬
‫ويعرف �أتباعها با�سم امل�سيحيني؛ جذر كلمة م�سيحية ت�أتي من كلمة امل�سيح التي تعني‬
‫أي�ضا لناطقي العربية با�سم‬ ‫" من وقع دهنه" �أو "املم�سوح بالدهن املقد�س" ؛ وتعرف � ً‬
‫النَّ�رصانية‪ ،‬من كلمة النا�رصة بلدة امل�سيح‪.‬‬
‫ن�ش�أت امل�سيحية من جذور وبيئة يهودية‪ ،‬وخالل �أقل من قرن بعد امل�سيح وجدت جماعات‬
‫م�سيحية يف مناطق خمتلفة من العامل القدمي حتى الهند �رش ًقا بف�ضل التب�شري‪ ،‬وخالل‬
‫القرنني التاليني ورغم اال�ضطهادات الرومانية‪ ،‬غدت امل�سيحية دين الإمرباطورية؛‬
‫‪21‬‬ ‫و�ساهم انت�شارها ومن ثم اكت�سابها الثقافة اليونانية ال بانف�صالها عن اليهودية فح�سب‪،‬‬
‫بل بتطوير �سمتها احل�ضارية اخلا�صة‪ .‬امل�سيحية ت�صنّف يف �أربع عائالت كبرية‪:‬‬
‫الكاثوليكية‪ ،‬والأرثوذك�سية امل�رشقية وال�رشقية‪ ،‬والربوت�ستانتية؛ و�إىل جانب الطوائف‪،‬‬
‫طق�سا‪ ،‬و�أ�شهر الت�صنيفات‪ ،‬و�أعرقها يف هذا‬
‫ً‬ ‫ف�إنّ للم�سيحية �إر ًثا ثقافيًا دينيًا وا�س ًعا يدعى‬
‫اخل�صو�ص امل�سيحية ال�رشقية‪ ،‬وامل�سيحية الغربية‪.‬‬
‫ريا يف احل�ضارة احلديثة وتاريخ الب�رشية على خمتلف‬ ‫ريا كب ً‬‫الثقافة امل�سيحية‪ ،‬تركت ت�أث ً‬
‫الأ�صعدة‪.‬‬

‫الن�شوء والإنت�شار‪:‬‬
‫طب ًقا لرواية الكتاب املقد�س ف�إنه وبعد ن�شاط علني دام قرابة ثالث �سنوات يف فل�سطني‬
‫و�ضمن بيئة يهودية‪� ،‬صعد ي�سوع امل�سيح �إىل ال�سماء بعد �أن ق ّدم تعاليمه ومواعظه‬
‫مت َم النب�ؤات‪ ،‬وافتتح العهد اجلديد طالبًا الب�شارة �إىل كافة �أ�صقاع‬‫و�أجرى املعجزات و َّ‬
‫الأر�ض‪ ،‬موكالً الأمر �إىل تالمذته‪ ،‬وواع ًدا بالرجوع‪.‬‬
‫يق ّدم �سفر �أعمال الر�سل‪ ،‬بع�ض املحطات التاريخية يف حياة اجلماعة امل�سيحية الأوىل‪،‬‬
‫والتي كانت تعي�ش مواظبة على ال�صالة يف حياة م�شرتكة يف كل �شيء‪� ،‬آخذة �أعدادها بالنمو‬
‫واالزدياد‪ ،‬حتى امتدت �رسي ًعا �إىل خارج بيئتها اليهودية ‪ -‬الفل�سطينيّة‪ ،‬فوجدت خالل‬
‫ع�رشين عا ًما جماعات م�سيحية يف �سوريا و�آ�سيا ال�صغرى وم�رص واليونان و�إيطاليا‪.‬‬
‫و�صدر حواىل عام ‪ 49‬مر�سوم طرد امل�سيحيني واليهود من روما‪ ،‬يف حني انعقد جممع‬
‫�أور�شليم عام ‪ 50‬للتباحث يف عالقة امل�سيحيني من �أ�صل يهودي‪ ،‬مع امل�سيحيني من �أ�صل‬
‫�أممي‪ .‬وكان �أن اتّهم نريون امل�سيحيني زو ًرا ح�سب ر�أي �أغلب امل�ؤرخني‪ ،‬ب�إ�شعال حريق‬
‫روما عام ‪ 64‬فج ّرد حملة ا�ضطهادات عنيفة؛ ومع مقتل �أو وفاة �أغلب احللقة املقربة من‬
‫امل�سيح‪ ،‬ظهرت �شخ�صيات جديدة �شكلت احللقة الأوىل من �آباء الكني�سة‪.‬‬
‫لقد دعت اجلماعات امل�سيحية الأوىل نف�سها با�سم "الغرباء"‪� ،‬إذ وجدوا �أنف�سهم يف «منفى‬
‫�أر�ضي» مقابل «الوطن ال�سماوي»‪ ،‬وعزفوا عن ال�سيا�سة �أو التجارة �أو الفل�سفات‪ ،‬ويف‬
‫املقابل اهتموا بالفقراء والعجزة واملر�ضى والعبيد‪ ،‬والإخال�ص يف الزواج مقارنة بتحلله‬
‫يف املجتمع اليوناين ‪ -‬الروماين‪ .‬وكان القرن الثاين‪ ،‬موع ًدا ال�ضطهادات كثرية عرفت‬
‫با�سم اال�ضطهادات الع�رشة يف الإمرباطورية الرومانية‪ ،‬ق�ضى خاللها وعلى مدى القرن‬
‫الأ ّول والقرن التايل مئات الآالف من امل�سيحيني؛ و�أما املربرات املقدمة لال�ضطهاد فكانت‬
‫رف�ض عبادة الإمرباطور من جهة‪ ،‬وامل�ؤ�س�سة امل�سيحية النابذة للعامل الوثني وقيمه‬
‫واملنغلقة على ذاتها نو ًعا ما من جهة ثانية‪.‬‬
‫ومنذ الن�صف الثاين للقرن الثاين‪ ،‬كانت �أ�سفار العهد اجلديد قد جمعت كما ي�شهد قانون‬
‫ؤ�س�سات الكن�سية‪،‬‬‫"موراتوري"‪ ،‬وانت�رشت الكنائ�س يف الريف كما يف املدن‪ ،‬و�أخذت امل� ّ‬
‫كالأبر�شيات ت�أخذ �شكلها املعروف‪ ،‬وظهر الالهوت الدفاعي �أي جمموع الكتابات التي‬
‫تدافع عن العقيدة بوجه خ�صومها‪ ،‬ال�سيّما الغنو�صية واملانوية‪"41".‬وقد ا�ستمرت‬
‫م�سيحية القرن الثالث بالنمو‪ ،‬وجذبت مزي ًدا من املن�ضوين حتت لوائها‪ ،‬و�أقدم البالد‬ ‫‪22‬‬
‫رصت بالكامل هي مملكة �أرمينيا ومملكة الرها‪ ،‬كما وجدت جماعات م�سيحية‬ ‫التي تن� ّ‬
‫مزدهرة يف الهند واحلب�شة؛ وعلى ال�صعيد الفكري ف�إن املدار�س الالهوتية قد تكاثرت‬
‫ونبغت منها مدر�ستا الإ�سكندرية و�أنطاكية‪ ،‬وبرزت خطوط تف�سري الكتاب املقد�س‬
‫ؤ�س�سة الرهبنة بعد �أن كانت �أفرا ًدا �أو جمموعات‬ ‫وت�صلّبت �أ�شكالها‪ ،‬كما تنظمت م� ّ‬
‫�صغرية ال منظم لها‪ ،‬بو�صفها �أفرا ًدا تخلّوا عن العامل املادي وك ّل ما فيه يف �سبيل التك ّر�س‬
‫للدين والإميان‪ .‬و�إن للقرن الثالث عمو ًما يرجع �أغلب امل�ؤرخني الكن�سيني و�إن كان قد‬
‫وجد بع�ض امل�ؤرخني �أقدم طو ًرا من ذلك؛ �أما على ال�صعيد االجتماعي ف�إن الفكرة القائلة‬
‫مبجيء �رسيع للم�سيح قد تال�شت و�أخذت املجتمعات امل�سيحية تنفتح نحو امل�شاركة يف‬
‫احلياة االقت�صادية والثقافية‪ ،‬و�إن كان بع�ض الأباطرة �أمثال فيليب العربي‪ ،‬قد مالوا نحو‬
‫امل�سيحية‪ ،‬ف�إن البع�ض الآخر قد حاول الق�ضاء عليها‪ ،‬باال�ضطهاد والتنكيل‪ ،‬رغم عدم‬
‫جناعة احلل املقرتح يف �ضبط انت�شار الدين‪،‬وعمو ًما ف�إن ال�شهداء يف امل�سيحية يذكرون‬
‫ثالثًا بعد الأنبياء والر�سل بو�صفهم �شهود الإميان ونا�رشيه حتى اليوم‪.‬‬

‫القرون الو�سطى‪ :‬ع�رص ازدهار امل�سيح َّية‪:‬‬


‫كانت بداية القرن الرابع‪ ،‬موع ًدا لنهاية زمن اال�ضطهاد‪ ،‬ف�إن مر�سوم "غالرييو�س"‬
‫الت�ساحمي ثم مر�سوم "ميالنو" عام ‪ 312‬م‪ ،‬اعرتف بامل�سيحية دينًا من �أديان‬
‫الإمرباطورية‪ ،‬وح�سب التقليد ف�إن القدي�س ق�سطنطني قد وعد اهلل باعتناق امل�سيحية �إن‬
‫انت�رص �إحدى معاركه على الفر�س‪ ،‬فكان له ما �أراد‪ .‬ويف عام ‪ 330‬م‪ .‬قام بنقل العا�صمة‬
‫من روما �إىل الق�سطنطينية‪ ،‬والتي �أ�صبحت مركز امل�سيحية ال�رشقية‪ ،‬ومركزًا ح�ضار ًيا‬
‫عامليًا‪ ،‬ف�أ�ضحت �أعظم مدن العامل يف ذلك الع�رص‪ .‬وما تال ذلك من تراجع �رسيع لبقايا‬
‫الوثنية‪ .‬ويف عام ‪ 325‬انعقد املجمع امل�سكوين يف نيقية للتباحث يف ق�ضايا تنظيمية‬
‫وطق�سية يف الكني�سة‪� ،‬أما مو�ضوعه الأ�سا�سي فكان املذهب الذي علّمه "�آريو�س"‪،‬‬
‫والقائل بخلق "الكلمة"‪ ،‬وكونها من غري ذات اجلوهر الإلهي‪ ،‬فعزل وحرم و�صيغ يف‬
‫املجمع قانون الإميان الذي ال يزال م�ستخد ًما �إىل اليوم‪ .‬غري �أن حرم الآريو�سية‪ ،‬مل‬
‫يكن يعني اندثارها‪� ،‬إذ ا�ستمرت يف خمتلف �أنحاء العامل امل�سيحي‪ ،‬حتى القرن الثامن‪،‬‬
‫و�شغل �أ�ساقفة �آريو�سيون منا�صب هامة يف فرتات معينة‪ .‬وكان جممع الق�سطنطينية عام‬
‫‪ 380‬م‪ .‬قد جاء مك ّملاً حلرم الآريو�سية بتثبيت طبيعة الروح؛ �أما املجمعان الالحقان �أي‬
‫جممع "�أف�س�س" عام ‪ 431‬م‪ .‬وجممع �أف�س�س الثاين �أو جممع "خلقيدونية" عام ‪451‬‬
‫م‪ .‬فقد انعقدا للتباحث يف �ش�ؤون خري�ستولوجية‪� ،‬أي طريقة احتاد الكلمة بالطبيعة‬
‫الإن�سانية‪ ،‬فحرم �أوالً ن�سطور الذي قال بعدم وجود ارتباط بني الطبعني‪ ،‬يف حني �أقر‬
‫جممع خلقيدونية ر�سائل ليون الأول بابا روما املتعلقة بطبعي امل�سيح‪ ،‬غري �أن املجمع‬
‫�رشخ الكني�سة‪ ،‬ف�إن الكنائ�س الأرثوذك�سية امل�رشقية رف�ضت القول بالطبعني بعد االحتاد‬
‫وقالت بالطبع الواحد من طبعني‪ ،‬كما يف جممع �أف�س�س الثاين‪ ،‬و�شكل �أتباع هذا القول‬
‫‪23‬‬

‫الإجنيل املقدَّ �س‬


‫�أكرثية م�سيحيي �أرمينيا وم�رص واحلب�شة والريف ال�سوري‪ ،‬وال يخفى الواقع ال�سيا�سي‬
‫واالجتماعي يف ت�أجج هذا اخلالف الذي �شطر الكني�سة واالمرباطورية واملجتمع‪ ،‬وحاول‬
‫العديد من الأباطرة جلمه ب�صيغ و�سطى �أو توحيدية �إال �أنهم ف�شلوا‪.‬‬
‫غري �أن الفرتة ذاتها كانت حملت انت�شار وتطور الفنون امل�سيحية ال�سيّما العمارة يف النمط‬
‫املعروف با�سم "بازيليك" �أو "كني�سة كربى"‪ ،‬وتكاثرت الكنائ�س والرهبانيات‪ ،‬وكانت‬
‫كني�سة احلكمة املقد�سة يف العا�صمة يخدمها ‪ 525‬رجل دين بينهم ‪ 60‬كاهنًا لوحدها‪،‬‬
‫و�أ�صدر الإمرباطور يو�ستيانو�س قانون ال�شهري عام ‪ 538‬يف تنظيم احلياة الكن�سيّة‬
‫وق�ضايا عديدة والتي جمعها وب ّوبها من قوانني وتقاليد وافرة �سابقة‪ ،‬وكذلك فقد قدمت‬
‫الكني�سة عد ًدا من املدار�س الفل�سفية والأدبية‪ ،‬كما يبدو يف جممل الأدب ال�رسياين واليوناين؛‬
‫�شاع يف ذلك الع�رص بنوع خا�ص �إكرام الأيقونات وذخائر ال�شهداء والقدي�سني‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وقد‬
‫وو�صلت امل�سيحية بف�ضل جهود املب�رشين �إىل �آ�سيا الو�سطى وال�صني وكوريا و�أقامت‬
‫فيها �أبر�شيات‪ .‬وعلى الرغم �أن الدين‪ ،‬ال�سيّما يف كتابات القدي�س �أوغو�سطني وهو �أحد‬
‫ين�ص على كفالة حرية غري امل�سيحيني وحقوقهم �سوا ًء كانت دينية �أم مدنية‪� ،‬إال‬ ‫املالفنة‪ّ ،‬‬
‫�أن ذلك الع�رص قد �شمل ا�ضطهادات يف بع�ض املناطق �ضد اليهود �أو الوثنيني و�شمل يف‬
‫بع�ض الأحيان الفرق امل�سيحية ذاتها �سوا ًء �أكانوا من �أن�صار الطبع �أم الطبعني‪.‬‬
‫ومع بداية القرن ال�سابع‪� ،‬سيطر الفر�س على الهالل اخل�صيب‪ ،‬و�أجزاء من �آ�سيا ال�صغرى‪،‬‬
‫و�أعلنوا الطبيعة الواحدة مذهبًا ر�سميًا‪ ،‬غري �أن هرقل ا�ستطاع ا�ستعادة البالد يف العقد‬
‫التايل‪ ،‬و�إذ �أدرك �أهمية توحيد الفريقني اجرتح ال�صيغة اجلديدة القائلة بالطبعني يف م�شيئة‪،‬‬
‫غري �أن حماولته ف�شلت ثم �أدينت بو�صفها هرطقة يف جممع الق�سطنطينية الثالث عام ‪.681‬‬
‫وخرج ال�رشق الأو�سط و�شمال �أفريقيا عن طاعة الإمرباطورية بو�صول الإ�سالم‪ ،‬وكانت‬
‫�أو�ضاع امل�سيحيني يف ظل الدولة الأموية والع�رص العبا�سي الأول مزدهرة‪.‬‬
‫وقد برز ال�رسيان والن�ساطرة يف الرتجمة‪ ،‬العلوم‪ ،‬الفلك والطب ف�إعتمد عليهم اخللفاء‪.‬‬
‫غري �أنها انتك�ست نتيجة اال�ضطهادات ال�سيّما �أيام املتوكل على اهلل العبا�سي واحلاكم‬
‫ب�أمر اهلل الفاطمي‪ ،‬وعدد من خلفائهما‪ ،‬كما �أن عملية التحول عن امل�سيحية ازدهرت يف‬
‫القرنني التا�سع والعا�رش؛ وقد ا�ستقرت �أو�ضاع امل�سيحية ال�رشقية على هذا احلال بني‬ ‫‪24‬‬
‫�أزمنة ا�ستقرار و�أزمنة م�ضايقات �أو ا�ضطهاد‪ ،‬وانح�رس ت�أثريها يف حميطها كما يف العامل‬
‫امل�سيحي‪.‬‬
‫�أما يف الغرب‪ ،‬ف�إن �شعوب �أوروبا الو�سطى وال�رشقية‪ ،‬حتولت �إىل امل�سيحية‪ ،‬واعتنقت‬
‫بريطانيا امل�سيحية على يد القدي�س باتريك يف حني اعتمدت رو�سيا يف ختام القرن العا�رش‪.‬‬
‫وبات لبابا روما دور كبري ال على ال�صعيد الديني فح�سب بل على ال�صعيد املدين � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫وغدا الباباوات يتوجون الأباطرة؛ و�إن كان الإقطاع والتخلف احل�ضاري �سمات �أوروبا‬
‫�آنذاك‪ ،‬ف�إن الأديرة والكنائ�س كانت املراكز احل�رضية الوحيدة فيها‪ ،‬وقد لعبت الرهبنات‬
‫الأوغو�سطينية والبندكتية وكذلك دير كلوين دو ًرا رائ ًدا يف الغرب وقد �شكل اخلالف حول‬
‫"م�سكونية" كر�سي روما‪ ،‬واتهامها باالحتكار‪،‬االن�شقاق العظيم عام ‪ 1054‬م‪.‬‬

‫القرون الو�سطى املت�أخرة‪(:‬ع�رص الإ�صالح والتنوير)‪:‬‬


‫كانت املرحلة الثانية من القرون الو�سطى حمو ًرا لزعامة العامل امل�سيحي يف الغرب‪ ،‬الذي‬
‫بد�أ يخرج من ركوده ال�سابق‪ .‬وكان للكني�سة ن�شاط يف خمتلف امليادين‪ ،‬وبح�سب ر�أي‬
‫امل�ؤ ّرخ الفرن�سي جورج مينوا‪" :‬ي�سعنا احلديث دون مبالغ ٍة عن ثور ٍة عملية قا َدتها‬
‫الذهنية الكاثوليكية يف القرن احلادي ع�رش"‪ .‬هذه الثورة التي كانت جتلياتها اخلارجية‬
‫بتح�سن‬
‫ّ‬ ‫باحلمالت ال�صليبية ث ّم بحروب ا�ستعادة الأندل�س‪ ،‬كانت جتلياتها الداخلية‬
‫الو�ضع املعي�شي يف �أوروبا‪ ،‬ومن ث ّم حت�سني مركزية الدولة‪ ،‬ورعاية العلوم والفل�سفات‪،‬‬
‫و ُيذكر يف هذا ال�صدد على وجه اخل�صو�ص القدي�س توما الأكويني‪ .‬وتزامنًا‪ ،‬انتهى‬
‫االن�شقاق البابوي‪،‬وانخف�ض م�ستوى التوتر بني الأباطرة والباباوات؛ و�أما احلدث‬
‫�شك‪ ،‬كان اكت�شاف العامل اجلديد بد ًءا من عام ‪،1492‬‬ ‫الأبرز يف القرون الو�سطى وال ّ‬
‫وغالبًا ما كانت احلمالت اال�ستك�شافية تت ّم مبباركة الكني�سة‪ ،‬التي متكنت من ت�أ�سي�س‬
‫مراكز لها يف الأ�صقاع املكت�شفة حديثًا كما يف ال�رشق الأق�صى و�أفريقيا اجلنوبية‪ .‬هذه‬
‫االكت�شافات �أ ّدت �إىل تد ّفق الذهب نحو �إيطاليا‪ ،‬وغدت روما وفلورن�سا وجنوا عوا�صم‬
‫النه�ضة التي �رسعان ما ع ّمت �أوروبا‪ ،‬فا�سحة املجال لرتف ووفرة ال اقت�صادية فقط‪،‬‬
‫ً‬
‫بع�ضا من الرهبانيات الكبرية الأثر يف التاريخ كالرهبنة‬ ‫بل ثقافية وعلمية � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬و�إن‬
‫الفرن�سي�سكانية والدومينيكانية‪ ،‬قد ت�أ�س�ست خالل تلك املرحلة‪ ،‬وكذلك تطور االهتمام‬
‫بت�شييد الكاتدرائيات الكربى‪ ،‬واجلامعات‪ ،‬وامل�شايف‪ ،‬وت�شجيع الفنون‪ ،‬وبخا�صة‬
‫املو�سيقى‪ ،‬والنحت‪ ،‬والر�سم‪ ،‬وانت�رشت اجلامعات‪ ،‬والنوادي االجتماعية التي �شكلت‬
‫�سمات ع�رص النه�ضة‪.‬‬
‫على ال�صعيد العقائدي‪ ،‬فقد متت عملية �إعادة قراءة للعقائد‪ ،‬وعلى �سبيل املثال ف�إن‬
‫تعاليم �أر�سطو عن "اجلوهر وال�شكل" باتت �أ�سا�س �رشح �رس القربان‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫هذا االزدهار فلم يكن الع�رص خاليًا مما ي�ؤرق �أوروبا‪� ،‬إذ متكنت الدولة العثمانية من‬
‫فتح الق�سطنطينية عام ‪ 1453‬م‪ .‬وحت ّول ثقل الأرثوذك�سية نحو رو�سيا‪ ،‬كما �أن الرثوات‬
‫‪25‬‬

‫الفاتيكان‬

‫املتدفقة �إىل الغرب �أ ّدت �إىل انت�شار الف�ساد املايل والأخالقي حتى داخل بع�ض �أروقة الكني�سة‬
‫ذاتها‪ ،‬و�إىل �سيطرة بع�ض العائالت �أمثال �آل ميديت�شي على الكر�سي الر�سويل‪،‬وي�شار �إىل‬
‫عهد البابا �ألك�سندر ال�ساد�س بو�صفه ذروة الف�ساد‪ .‬هذا الو�ضع‪ ،‬قد دفع لقيام حركة‬
‫�إ�صالح بالغة الأثر يف الكني�سة والعامل‪ ،‬كانت ذات �شقني‪ ،‬الأول مع مارتن لوثرعام ‪1518‬‬
‫م‪ .‬وما ا�صطلح عليه ا�سم الإ�صالح الربوت�ستانتي‪ ،‬والذي ات�سع لي�شمل �أوروبا ال�شمالية‬
‫برمتها‪ ،‬كما �أتبع بظهور عدد �آخر من امل�صلحني الإجنيليني �أمثال كالفن ويان هو�س؛‬
‫وظهور الكنائ�س الوطنية امل�ستقلة مع الإ�صالح الإجنليزي عام ‪ 1534‬م؛ وال�شق الثاين‬
‫ما يعرف بالإ�صالح امل�ضاد �أو الإ�صالح الكاثوليكي الذي �شكل جممع "ترنت"‪ ،‬والرهبنة‬
‫الي�سوعية‪ ،‬ثم �سيطرة املحافطني على الكر�سي الر�سويل بد ًءا من وفاة البابا جول الثالث‬
‫عام ‪ 1555‬م‪ .‬عماده الرئي�سي‪.‬‬
‫من نتائج ال�سيا�سة املحافظة كانت حماكم التفتي�ش التي ن�ش�أت للرقابة على الفل�سفات‬
‫أ�سا�سا‪ ،‬و�شملت � ً‬
‫أي�ضا يف �أهدافها املوري�سكيني‬ ‫والأفكار الآخذة بالت�صاعد والربوت�ستانت � ً‬
‫ريوا بني اعتناق‬ ‫رسا و�أظهروا امل�سيحية‪ ،‬وكانوا قد خ ّ‬ ‫واليهود‪ ،‬الذين �أ�ضمروا دينهم � ً‬
‫امل�سيحية �أو الهجرة يف �إ�سبانيا وحدها‪ .‬يف املقابل‪ ،‬ف�إن �أ�صقا ًعا �أخرى من العامل امل�سيحي‪،‬‬
‫كهولندا وامل�ستعمرات الإمريكية كانت موئالً للأقليات امل�ضطهدة ال�سيّما اليهود وحا�ضنًا‬
‫للأفكار والفل�سفات اجلديدة‪� .‬أما االحتقان يف �أوروبا بني الكني�سة الكاثوليكية والكنائ�س‬
‫الربوت�ستانتية قد دفع �إىل تفجر �سل�سلة حروب �أهلية كان �أكربها حرب الثالثني عا ًما التي‬
‫مت الدخول يف مرحلة من ال�سالم واالعرتاف‬ ‫اندلعت عام ‪ 1618‬م‪ ،‬ومع منت�صف القرن ّ‬
‫املتبادل‪.‬‬
‫القرون احلديثة‪ :‬امل�سيحية الليربالية‪:‬‬ ‫‪26‬‬
‫توقف العثمانيون عن التمدد يف �أوروبا �إثر عجزهم عن دخول فيينا عام ‪ 1683‬م‪ ،‬غري‬
‫�أنهم �سيطروا على �أغلب �أقطار �أوروبا ال�رشقية‪ ،‬وعمو ًما مل تكن العالقة بني الغرب‬
‫امل�سيحي والعثمانيني عالقات حرب فح�سب بل وجدت عالقات دبلوما�سية وجتارية‬
‫ن�شطة‪ ،‬وكان مل�سيحيي الداخل العثماين �أزمنة م�ستقرة ومزدهرة ال�سيّما يف العا�صمة‬
‫والأقطار ذات الغالبية امل�سيحية كما كان بع�ض الأزمنة من الت�ضييق واال�ضطهاد‪،‬‬
‫وو�ضعت املجموعات امل�سيحية يف الدولة العثمانية حتت حماية الدول الأوروبية وفق‬
‫نظام االمتيازات الأجنبية بد ًءا من عام ‪ 1649‬م‪ ،‬و�إن ن�شوء الكنائ�س الكاثوليكية ال�رشقية‬
‫نتيجة جهود مبعوثي روما يعود لتلك احلقبة‪.‬‬
‫لقد �شكلت الثورة ال�صناعية نقطة انعطاف يف تاريخ الب�رشية مع ن�شوء �أمناط جديدة‬
‫من املجتمع الب�رشي خال ًفا ملا كان �سائ ًدا يف احل�ضارات الزراعية‪ ،‬وترك التح ّول عميق‬
‫الآثار يف الفكر الإن�ساين مبا فيه الدين‪ ،‬وكان �أحد متظهرات الأمر ن�شوء املدار�س والأفكار‬
‫الإحلادية واكت�سابها �شعبية وت�أيي ًدا بني اجلمهور‪ ،‬وت�صاعدت حاالت التهجم على الدين‬
‫والكني�سة‪ ،‬ومعاداة الإكلريو�س‪ ،‬وقد �أعلن "نيت�شه" على �سبيل املثال "موت اهلل"‪ ،‬غري‬
‫�أن القرن الع�رشين قد �شهد تراج ًعا لهذه الفل�سفات‪ ،‬ح�سبما يراه البع�ض‪ .‬كما �أن حركة‬
‫التحديث امل�سيحية قد طفقت تنمو‪ ،‬وبرزت امل�سيحية الليربالية يف مقابل امل�سيحية‬
‫الأ�صولية‪ ،‬والدرا�سات الكتابية احلديثة‪ ،‬وتطور العقيدة االجتماعية ودور املجتمع يف‬
‫املنظمات العلمانية الكن�سيّة وتقل�ص دور الإكلريو�س وحجمه‪،‬‬ ‫احلاالت اخلا�صة‪ ،‬وتكاثر ّ‬
‫أي�ضا عرب املجمع الفاتيكاين الأول ثم وب�شكل‬ ‫�إىل جانب حركة حتديث طق�سي وجممعي � ً‬
‫ُ‬
‫خا�ص املجمع الفاتيكاين الثاين بني ‪ 1965 - 1963‬م‪ .‬والذي �أجرى �إ�صالحات ليتورجية‬
‫و�إدارية على �صعيد الكني�سة الكاثوليكية يف املرحلة التي �شهدت حتديدات جديدة للعقيدة‬
‫مثل احلبل بال دن�س وانتقال العذراء‪ .‬يعود لهذه املرحلة‪ ،‬على ال�صعيد ال�سيا�سي حدثان‬
‫كان لهما عميق الت�أثري يف امل�سيحية الغربية‪ ،‬الأول قيام الواليات املتحدة الإمريكية التي‬
‫وجدها الإجنيليون من الوا�سب "�إجناز من اهلل على الأر�ض متا ًما كما ح�صل مع داود‬
‫ومو�سى"‪ ،‬والثانية كانت الثورة الفرن�سية التي على العك�س من الأوىل برزت �شديدة‬
‫الهجومية على الدين والكني�سة ال�سيّما خالل عهد اجلمهورية الفرن�سية الثالثة‪ ،‬وكان‬
‫من جتليات الأمر م�صادرة �أمالك الكني�سة والتدخل بتعيني الأ�ساقفة حتى قطعت العالقة‬
‫بني فرن�سا والكر�سي الر�سويل عام ‪ 1904‬م‪ ،‬ومل ت�صلح �إال بعد احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫�أما يف امل�سيحية ال�رشقية فقد نالت دول �أوروبا ال�رشقية ا�ستقاللها عن العثمانيني‪ ،‬ولعب‬
‫امل�سيحيون العرب ال�سيّما يف لبنان دو ًرا بارزًا يف النه�ضة العربية‪ ،‬كما �أزيلت قانونًا‬
‫�أ�شكال التمييز مع بداية القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬غري �أن بدايات الهجرة امل�سيحية تعود‬
‫لتلك الفرتة � ً‬
‫أي�ضا‪� .‬أما الكني�سة الرو�سية فقد �شهدت ا�ستقرا ًرا وتعاونًا مع القيا�رصة‪،‬‬
‫وا�ضطلعت بدور هام يف املجتمع الرو�سي‪ .‬وانت�رشت �أواخر القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬حركة‬
‫ريا‬
‫�صحوة دينية يف املناطق الربوت�ستانتية‪ ،‬ركزت على الورع والأخالق بو�صفهما تعب ً‬
‫‪27‬‬ ‫�أ�سمى عن العقيدة؛ �أما‬
‫الهزيع الأول من‬
‫القرن الع�رشين فقد‬
‫�شهد قيام الأنظمة‬
‫ال�شيوعية ثم الفا�شية‬
‫التي‬ ‫والنازية‬
‫ا�ضطهدت الكني�سة‬
‫و�سعت ال�ستئ�صال‬
‫الدين من املجتمع‪،‬‬
‫كاتدرائية يف بلغاريا‬ ‫وقد قارعتها الكني�سة‬
‫ب�شتى الو�سائل‪ ،‬يف‬
‫حني �أوجدت اتفاقية "التران الفاتيكان" بال�شكل املتعارف عليه اليوم‪ .‬و�شهدت املرحلة‬
‫أي�ضا مذابح الأرمن واليونان البوتيك وال�رسيان الآ�شوريني‪.‬‬ ‫ذاتها � ً‬
‫يف مطلع القرن الع�رشين بد�أت حركة تقارب بني الكنائ�س والطوائف امل�سيحية‪ ،‬حيث‬
‫دعيت هذه احلركة با�سم احلركة امل�سكونية‪ ،‬يف العام ‪ 1948‬م‪ .‬ت�أ�س�س جمل�س الكنائ�س‬
‫العاملي‪ ،‬وهي منظمة تعمل من �أجل تطوير الوحدة امل�سيحية‪ ،‬وي�ضم الآن خمتلف‬ ‫ّ‬
‫الكنائ�س‪.‬‬
‫تقف امل�سيحية ب�شكل عام اليوم‪ ،‬بوجه الإجها�ض‪ ،‬املوت الرحيم وزواج املثليني‬
‫ؤ�س�سات املدافعة عن الثقافة التقليدية والأخالق التقليدية‬‫جن�سيًا‪ ،‬ما يجعلها من �أكرب امل� ّ‬
‫يف املجتمع‪� ،‬أما عن �أبرز م�شاكلها ف�إن تراجع عدد املنخرطني يف �سلك الكهنوت ون�سبة‬
‫املداومني على ح�ضور الطقو�س يعتربان من �أكرب امل�شاكل؛ رغم ذلك ف�إن هذه امل�شاكل‬
‫تنح�رص يف مناطق معينة‪ ،‬كفرن�سا‪� ،‬أملانيا و�أ�ستونيا �أما يف مناطق �أخرى ك�إيرلندا‪،‬‬
‫�إ�سبانيا‪� ،‬إيطاليا‪ ،‬اليونان والربتغال ف�ضالً عن �أمريكا الالتينية والواليات املتحدة‬
‫الأمريكية ال تزال هذه الن�سب مرتفعة‪ .‬يذكر �أّن عد ًدا من دول �أوروبا ال�رشقية �شهدت‬
‫مع �سقوط الإحتاد ال�سوفياتي والأنظمة ال�شيوعية �صحوة دينية كربى منها رو�سيا‬
‫ممثلة بالعالقة الوثيقة بني الكني�سة الرو�سية الأرثوذك�سية وفالدميري بوتني‪� ،‬أوكرانيا‪،‬‬
‫بولندا‪� ،‬رصبيا‪ ،‬كرواتيا‪ ،‬رومانيا وبلغاريا‪ .‬كما وت�شهد مناطق جنوب الكرة الأر�ضية‬
‫خ�صو�صا يف �أفريقيا و�آ�سيا و�أمريكا الالتينية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ازدياد كبري يف معدل منو امل�سيحية‬
‫العقيدة امل�سيحية‪:‬‬
‫للم�سيحية عقيدة وا�سعة وعميقة وفيها العديد من النواحي كالتايل‪:‬‬
‫‪ -‬عقيدة الوحي الإلهي‪:‬‬
‫الوحي الإلهي يف امل�سيحية جمموع يف ما يدعى الكتاب املقد�س‪ ،‬ويعرف � ً‬
‫أي�ضا بعدة‬
‫�أ�سماء �أخرى �أقل �شهرة منها كتاب العهود؛ يتكون هذا الكتاب من جمموعة كتب‬
‫ت�سمى يف العربية �أ�سفا ًرا‪ ،‬ويعتقد اليهود وامل�سيحيون �أنها كتبت بوحي و�إلهام‪ .‬الكتب‬ ‫‪28‬‬
‫ال�ستة والأربعني الأوىل م�شرتكة بني اليهود وامل�سيحيني‪ ،‬يطلق عليها اليهود ا�سم‬
‫التناخ �أما امل�سيحيون في�سمونها العهد القدمي‪ ،‬لي�ضيفوا �إليها �سبعة وع�رشين كتا ًبا‬
‫ي�شكلون العهد اجلديد‪� .‬إىل جانب هذا التق�سيم العام‪ ،‬هناك التق�سيم التخ�ص�صي‪،‬‬
‫فالتناخ �أو العهد القدمي‪ ،‬يتك َّون من جمموعة �أق�سام وفروع �أولها التوراة التي ت�ؤلف‬
‫�أ�سفار مو�سى اخلم�سة‪ ،‬ثم الأ�سفار التاريخية وكتب الأنبياء واحلكمة‪ ،‬يف حني �أن‬
‫العهد اجلديد يق�سم بدوره �إىل الأناجيل القانونية الأربعة والر�سائل و�سفر الأعمال‬
‫ووالر�ؤيا‪ .‬وموا�ضيع الأ�سفار خمتلفة‪ ،‬ف�إن اعترب �سفر التكوين ق�ص�صيًا بالأوىل‪ ،‬ف�إن‬
‫�سفر الالويني ت�رشيعيًا بالأحرى‪� ،‬أما املزامري ف�سف ٌر ت�سبيحي‪.‬‬
‫هناك بع�ض االختالفات بني الطوائف يف ترتيب �أو االعرتاف بقانونية بع�ض الأجزاء‪،‬‬
‫على �سبيل املثال ف�إن طائفة ال�صدوقيني اليهودية املنقر�ضة كانت ترف�ض االعرتاف‬
‫بغري �أ�سفار مو�سى اخلم�سة‪ ،‬وكذلك حال ال�سامريني؛ �أما يهود الإ�سكندرية فقد �أ�ضافوا‬
‫ما يعرف با�سم الأ�سفار القانونية الثانية والتي قبلها الح ًقا الكاثوليك والأرثوذك�س يف‬
‫حني رف�ض يهود فل�سطني والربوت�ستانت االعرتاف ب�أنها كتبت بوحي‪ .‬وكذلك احلال‬
‫بالن�سبة للعهد اجلديد‪� ،‬إذ دارت نقا�شات طويلة حول قانونية بع�ض الأ�سفار كر�سالة‬
‫بطر�س الثانية والر�سالة �إىل العربانيني‪ ،‬قبل �أن ي�ستقر الر�أي على التنميط احلايل يف‬
‫جممع نيقية‪ ،‬و�إن وجدت بع�ض القوانني ال�سابقة مثل قانون "موراتوري"‪ ،‬عل ًما �أن‬
‫�أقدم �إ�شارة �إىل القانون تعود �إىل عام ‪ 170‬م‪ .‬على يد ال�شهيد امل�سيحي "ي�ستين�س"‪.‬‬
‫�أما الكتب التي مل تقبل فتعرف بالأ�سفار املنحولة‪ ،‬و�أغلبها كتب بعد فرتة طويلة من‬
‫الأ�سفار املعتربة قانونية‪ .‬هذا بخ�صو�ص تك ّون العهد اجلديد‪� ،‬أما تك ّون العهد القدمي‬
‫فتك ّونه �أ�صعب و�أطول‪ ،‬وبح�سب الأدلة اخلارجية املتوافرة‪ ،‬ف�إن زمن امللكية يف يهوذا‬
‫ثم ال�سبي البابلي قد �ش ّكل منعط ًفا حا�س ًما يف الت�شكيل كما نعرفه اليوم‪ ،‬على يد �أنبياء‬
‫يهود كداود وميخا وعزرا‪.‬‬
‫كتبت �أ�سفار العهد القدمي بالعربية التوراتية‪ ،‬و�أ�سفار العهد اجلديد باليونانية القدمية؛‬
‫وانقرا�ض كال اللغتني‪ ،‬يدفع مبراجعات ترجمة املعاين دور ًيا؛ وبكل الأحوال ف�إنّ‬
‫الن�ص احلايل مثبت‬‫ّ‬ ‫علماء الكتاب املقد�س من م�سيحيني �أو يهود �أو مالحدة‪ ،‬اتفقوا �أن‬
‫�إثباتًا ح�سنًا ب�ضوء الأدلة الداخلية واخلارجيّة‪ ،‬بغ�ض النظر عن بع�ض الرتاجم التي ال‬
‫تتبع �أحدث الدرا�سات الكتابيّة‪.‬‬
‫ي�ؤمن امل�سيحيون واليهود‪� ،‬أن الكتاب مع�صوم‪ ،‬وثابت �إىل الأبد‪ ،‬وغري قابل للنق�ض‪ ،‬كما‬
‫م�صباح خلطاي ونور ل�سبيلي"؛ على‬ ‫ٌ‬ ‫�أن الكتاب ذاته امتدح كالم اهلل كما كتب‪" :‬كلمتك‬
‫�أنّ الكتابة بوحي ال تعني �أن الن�ص م�سجل بطريقة حرفية �آلية تلقائيًا يف ال�سماء‪ ،‬فهو‬
‫يحوي �أ�سلوب م�ؤلفيه‪ ،‬وال�صيغ الأدبية والثقافية ال�سائدة يف زمانه‪" ،‬ولذلك ي�ستطيع‬
‫الباحث يف الكتاب املقد�س‪ ،‬ا�ستنتاج الكثري من �صفات كاتب ال�سفر �أو الظروف التي‬
‫كانت قائمة يف و�سطه‪� ،‬إذ حلل �أ�سلوبه يف الكتابة‪ ،‬ولكن داخل هذه التعابري التي لها �صيغ‬
‫‪29‬‬ ‫م�ضمون‬ ‫ب�رشية‬
‫وفكرة �إلهية"‪ ،‬على‬
‫�سبيل املثال ف�إنّ‬
‫املجمع الفاتيكاين‬
‫الثاين علّم ب�أنّ‬
‫الكتاب "هو ما راق‬
‫اهلل �أن يظهره بكالم‬
‫م�ؤلفيه"‪.‬‬
‫�إىل جانب ذلك‪ ،‬ف�إن‬
‫الكتاب املقد�س هو‬
‫امل�سيح حمور الديانة امل�سيح ّية‬ ‫�أقدم كتاب مل ينقطع‬
‫تداوله يف العامل‪ ،‬و�أول‬
‫كتاب متت طباعته‪،‬و�أكرث كتاب ميتلك خمطوطات قدمية‪ ،‬والكتاب الأكرث قراءة وتوزي ًعا‬
‫يف تاريخ الب�رشية‪ ،‬والوحيد الذي ترجم لأغلب اللغات الب�رشية �إذ ترجم ل�سحابة �ألفي‬
‫لغة‪ ،‬وطبع منه �آخر قرنني �ستة مليارات ن�سخة‪ "162"،‬و�أكرث كتاب �صدر عنه درا�سات‬
‫وكتب و�أبحاث جانبية‪ ،‬و�أكرث كتاب �أوحى بر�سم لوحات �أو مقطوعات مو�سيقية �أو‬
‫�شعر �أو �أدب �أو م�رسحيات �أو �أفالم �أو �سواها من الآثار الب�رشية‪.‬‬

‫‪ -‬العقائد الإلهية يف امل�سيحية‪:‬‬


‫رصح الكتاب املق ّد�س يف موا�ضع ع ّدة منها‪" :‬ا�سمع يا‬ ‫ت�ؤمن امل�سيحية ب�إله واحد كما � ّ‬
‫أحب الرب �إلهك‪ ،‬بكل قلبك‪ ،‬وبكل نف�سك‪ ،‬وبكل فكرك‪،‬‬ ‫رب واحد‪ ،‬ف� ّ‬‫�إ�رسائيل‪ ،‬ال ّرب �إلهنا ّ‬
‫وبكل قوتك‪ ،‬هذه هي الو�صية الأوىل"؛ وهو يف �آن‪ :‬واحد وثالوث‪ ،‬واحد من حيث اجلوهر‬
‫والطبيعة‪ ،‬الإرادة وامل�شيئة‪ ،‬القدرة والفعل‪ ،‬وثالوث من حيث �إعالنه عن نف�سه ومن‬
‫حيث �أعماله‪ :‬فقد خلق العامل بكلمته‪ ،‬وكلمته هي يف ذاته نف�سها؛ وهو حي‪ ،‬وروحه يف‬
‫ذاته نف�سها؛ وتدعى �أطراف الثالوث الإلهي "�أقانيم"؛ ويعترب �رس الثالوث من �أ�رسار اهلل‬
‫الفائقة‪ ،‬وي�ستد ّل عليها من موا�ضع �شتّى يف الكتاب؛ وقد رف�ض هذا ال�رس عرب التاريخ‬
‫جماعات قليلة تدعى الثالوثية‪.‬‬
‫�صفات الإلوهة يف امل�سيحية متنوعة �أهمها‪ ،‬الأزلية واخللود‪ ،‬والثبات عن التغيري يف‬
‫اجلوهر‪ ،‬وكلية القدرة وال�سلطان‪ ،‬والنزاهة عن الزمان واملكان‪ ،‬وكمال املحبّة والرحمة‪،‬‬
‫و�أ�صل اخلري والعدل‪ ،‬فهو "�ضابط الكل"‪ ،‬وخالق الأمور املنظورة وغري املنظورة؛ التي‬
‫هي يف حدود معرفتنا املالئكة‪� ،‬أي الكائنات التي خلقها اهلل خلدمته‪ ،‬و�إي�صال ر�سائله‬
‫للب�رشية يف بع�ض احلاالت‪ ،‬ولها �شفاعة يف م�ؤمني الأر�ض‪ ،‬ورئي�سها هو املالك ميخائيل‪،‬‬
‫أرواحا �رشيرة يرت�أ�سها ال�شيطان الذي‬
‫ً‬ ‫وكذلك جربائيل؛ وقد ع�صت بع�ضها اهلل فغدت �‬
‫يعمل على �إغواء الب�رشية‪ ،‬وقد يتلب�س كائنًا ب�رش ًيا فيطرد عرب التعزمي‪.‬‬
‫‪30‬‬

‫�أيقونة م�سيح َّية‬

‫‪� -‬أ�صل الكون وم�صري الإن�سان‪:‬‬


‫ت�ؤمن امل�سيحية ب�أن اهلل قد خلق الكون بدافع من حمبته‪ ،‬وملجده؛ وهو م�ستقل عن الكون‬
‫ومنزّه عنه‪ ،‬لكنه يعمل فيه وعربه‪� ،‬إذ مع �أن الكون م�ستقل بقوانينه العلمية اخلا�صة‬
‫التي �أوجدها اهلل‪ ،‬فاهلل يقوده ويرعاه �إىل كماله النهائي‪" :‬فكل ما هو موجود يتعلق باهلل‪،‬‬
‫ولي�س له قيام �إال لأنّ اهلل يريده �أن يقوم"‪ .‬ق�سم هام من اجلماعات امل�سيحية ال يرى‬
‫تعار�ضا بني اخللق الوارد يف �سفر التكوين ك�سبب �أويل‪ ،‬والتطور ك�سبب ثانوي‪� ،‬أو‬ ‫ً‬
‫"�آلية تنفيذية لإرادة عاقلة"‪.‬‬
‫وخ�صه برئا�سة خليقته‪ ،‬ولذلك تدعوه "�أبانا"‪" ،‬فنحن على‬ ‫ّ‬ ‫وت�ؤمن ب�أنه �أحب الإن�سان‬
‫الأر�ض لنعرف اهلل‪ ،‬ونحبه ون�صنع اخلري ح�سب �إرادته‪ ،‬ونبلغ ال�سماء يو ًما ما‪ ،...،‬لقد‬
‫خلقنا لنت�شارك يف فرحه الالحمدود"؛ وقد خلقه ذك ًرا و�أنثى لكي ي�ضع فيه تو ًقا نحو‬
‫الكمال‪ ،‬مع الإن�سان الآخر؛ وهو يوجه حياة كل �إن�سان بطريقة �رسية تدعى العناية‬
‫الإلهية‪ ،‬ومنحه حرية الإرادة‪ ،‬و�إمكانية معرفة اهلل‪� ،‬إال �أن الإن�سان قد �سقط بعدما �أغواه‬
‫ال�شيطان باخلطيئة الأ�صلية‪ ،‬وهو ما حول طبيعة العامل الإن�ساين نف�سه �إذ فقد كماله‬
‫البدائي الأ�صلي فدخله النق�ص‪ :‬املوت‪ ،‬والأمل‪ ،‬وال�رش‪" ،‬فاخلطيئة الأ�صلية لي�ست‬
‫خطيئة فردية‪ ،‬بل هي حال الإن�سانية امل�ش�ؤوم التي يولد فيها الفرد قبل �أن يخط�أ بذاته‬
‫وبقراره احلر"؛ وبينما البقاء يف هذه احلالة الناق�ضة �رضوري لعدل اهلل ف�إنّ اهلل "ي�سمح‬
‫بال�رش لكي يخرج منه �شيء �أف�ضل" كما قال توما الإكويني‪ ،‬الذي تابع "ال يوجد �أي �أمل‬
‫بدون معنى‪ ،‬فالأمل دو ًما مبني على حكمة اهلل"؛ وبالأحرى تعترب املحن املختلفة التي‬
‫ريا عن خطاياه بالدرجة الأوىل‪.‬‬ ‫ت�صيب الإن�سان تكف ً‬
‫‪31‬‬ ‫يف ك ّل الأحوال‪ ،‬ف�إنّ حمبة اهلل للإن�سان واحرتامه �إرادته احلرة التي و�ضعها فيه‪ ،‬دفعته‬
‫ملتابعة التوا�صل معه ما بعد اخلطيئة الأ�صلية‪ ،‬وكانت �أ�شكال هذا التوا�صل متنوعة‪:‬‬
‫"�إن اهلل يف الأزمنة املا�ضية كلّم �آباءنا بل�سان الأنبياء‪ ،‬الذين نقلوا �إعالنات جزئية وبطرق‬
‫عديدة ومتنوعة"؛ ثم "ملّا ّ‬
‫مت ملء الزمان‪� ،‬أر�سل اهلل ابنه مولو ًدا من �إمر�أة"‪ ،‬وابنه �أي‬
‫رشا يف ي�سوع‪ ،‬والذي هو امل�سيح املنتظر‪ ،‬القادم‬ ‫كلمته املتج�سدة‪ ،‬الكلمة التي ا�ستحالت ب� ً‬
‫من ن�سل داود؛ وهو ما يعرف ب�رس التج�سد‪� ،‬أ ّما دافع التج�سد فهو اخلال�ص من املفاعيل‬
‫الروحية للخطيئة الأ�صلية وم�صاحلة الب�رشية مع اهلل يف �رس الفداء �أي موته وقيامته‪.‬‬
‫�أ�س�س امل�سيح الكني�سة‪" ،‬الواحدة‪ ،‬اجلامعة‪ ،‬املقد�سة‪ ،‬الر�سولية"‪�،‬شعب اهلل‪ ،‬وج�سد‬
‫امل�سيح ال�رسي‪" ،‬لتقود م�سرية الإميان‪ ،‬يف كل مكان وزمان ومع الك ّل"‪،‬عرب �سلطتها‬
‫التعليمية‪ ،‬وواجبها يف �إقامة الطقو�س‪ ،‬وبذلك افتتح العهد اجلديد‪ ،‬الذي �سي�ستمر حتى‬
‫أر�ضا جديدة و�سما ًء‬‫ظهور �ضد امل�سيح‪ ،‬وعودته يف نهاية الأزمنة‪ ،‬وفيها يخلق اهلل "� ً‬
‫جديدة"‪ ،‬حيث "يزول املوت‪ ،‬واحلزن‪ ،‬وال�رصاخ‪ ،‬والأمل‪ ،‬لأن الأمور القدمية كلها قد‬
‫أي�ضا "ما مل ت�سمعه �أذن‪ ،‬ما مل تب�رصه عني‪ ،‬ما مل يخطر على قلب ب�رش‪ ،‬ما‬ ‫زالت"؛ و� ً‬
‫�أع ّده اهلل ملحبيه"؛ وذلك بعد قيامة املوتى‪ ،‬والدينونة العامة‪" :‬فالذين عملوا ال�صاحلات‬
‫يخرجون يف القيامة امل�ؤدية للحياة‪ ،‬و�أما الذين عملوا ال�سيئات ففي القيامة امل�ؤدية �إىل‬
‫الدينونة"‪.‬‬
‫روحا مميزة‪ ،‬وهي التي جتعل كل فرد �إن�سانًا؛وكل‬ ‫ً‬ ‫ت�ؤمن امل�سيحية ب�أن لكل �إن�سان‬
‫روح هي من اهلل ولي�ست من الوالدين‪ ،‬فهي متجاوزة للمادة‪ ،‬وهي التي تعطي احلياة‬
‫للإن�سان‪ ،‬وال متوت بل تبقى عاقلة بعد املوت‪ ،‬يف حالة �سعادة غري كاملة‪� ،‬أو حالة تكفري‬
‫يف املطهر ‪ -‬يف الكني�سة الكاثوليكية ‪� -‬أو بال�شكل الأفظع بحالة �شقاء‪ .‬ومن عا�ش حياته‬
‫قدي�سا‪ ،‬وت�شكل مرمي العذراء‪ ،‬والأنبياء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫"ببطولة يف الإميان والرجاء واملحبة" يدعى‬
‫والآباء‪ ،‬وال�شهداء‪ ،‬والقدي�سني‪� ،‬صفوة الب�رشية‪ ،‬ولهم ال�شفاعة يف الأحياء ‪� -‬إىل جانب‬
‫املالئكة ‪ -‬ويف املقابل ف�إنّ للأحياء‪ ،‬عن طريق �أعمال اخلري التكفري عن خطايا موتاهم‪.‬‬

‫‪ -‬العقيدة االجتماعية يف امل�سيحية‪:‬‬


‫العقيدة االجتماعية يف امل�سيحية �أو التعليم االجتماعي‪ ،‬م�ستوحى من الكتاب املقد�س‪،‬‬
‫ال�سيّما مقاطع بعينها مثل الو�صايا الع�رش التي تلقفها النبي مو�سى على طور �سيناء‪،‬‬
‫والتطويبات التي �أعلنها امل�سيح‪ .‬احلق يف احلياة‪ ،‬هو �أول تعاليم العقيدة االجتماعية‪ ،‬فمن‬
‫الواجب "�أن حترتم حياة الإن�سان من حلظة احلمل وحتى حلظة الوفاة الطبيعية"‪ ،‬وبالتايل‬
‫ف�إن القتل‪ ،‬وامل�ساعدة على القتل‪ ،‬والقتل يف احلرب خارج وقت املعركة‪ ،‬والتخلّ�ص من‬
‫املعوقني واملر�ضى والنازعني �أو القتل الرحيم‪ ،‬وقطع الأع�ضاء‪ ،‬والإجها�ض‪ ،‬واالنتحار‪،‬‬
‫والإدمان‪ ،‬والعنف �ضد اجل�سد الب�رشي‪ ،‬وعدم احرتام ج�سد امليت‪ ،‬يعترب خر ًقا‬
‫للو�صية اخلام�سة و�أعماالً �ضد العقيدة‪ ،‬و�ضد اهلل نف�سه؛ وكذلك حال الإعدام بالن�سبة‬
‫لغالب اجلماعات امل�سيحية‪� ،‬إال "يف حالة ا�ستحالة حماية املجتمع الب�رشي من املجرم �إال‬
‫ب�إعدامه‪ ،‬وهي حالة نادرة �إن مل نقل معدومة"؛ احلرب ي�سمح بها �ضمن �ستة �رشوط‬ ‫‪32‬‬
‫�أبرزها عدالة الق�صد وال�سبب‪.‬‬
‫أي�ضا حق �أ�صيل للإن�سان‪ ،‬وترتبط حرية الإن�سان بحرية �إرادته‪،‬‬ ‫احلق يف احلرية‪ ،‬هو � ً‬
‫مي�س كرامة‬
‫ّ‬ ‫وبالتايل "حرية الفرد‪ ،‬ال يجوز احلد منها حتى عند اختياره ال�رش‪ ،‬ما مل‬
‫الآخرين الب�رشية وحرياتهم"‪ ،‬وت�شمل حرية الإن�سان‪ ،‬حرية التجمع‪ ،‬والتعبري عن‬
‫الر�أي‪ ،‬والإعالم‪ ،‬واختيار املهنة‪ ،‬وت�أ�سي�س �شخ�صيات اعتبارية؛ وعلى ر�أ�س حريته‪،‬‬
‫ت�أتي حرية التدين "�إذ يجب على كل �إن�سان �أن يعتنق الدين الذي يراه �أمام �ضمريه‬
‫�صحيحا‪ ،‬دون �إجبار ودون �أن ي�ؤدي ذلك لأي م�ضايقات �أو متييز �أو �إجحاف‬ ‫ً‬
‫بحقوقه"؛ ويرتبط احلق باحلرية‪ ،‬باحلق بالكرامة وامل�ساواة بني جميع الب�رش‪ ،‬وهي‬
‫كرامة م�صدرها اهلل‪" :‬ال ذكر وال �أثنى‪ ،‬ال يهودي وال يوناين‪ ،‬ال عبد وال حر‪ ،‬لأنكم‬
‫جمي ًعا واحد يف امل�سيح ي�سوع"؛ يف �ضوء هذه الكرامة‪ ،‬يغدو البغاء‪ ،‬واالجتار بالب�رش‪،‬‬
‫واالجتار بالأع�ضاء‪ ،‬والعن�رصية‪ ،‬خطايا‪ ،‬و�ضد م�شيئة اخلالق؛ ويف �ضوئها � ً‬
‫أي�ضا‬
‫يغدو واجبًا احرتام الثقافات وال�شعوب املختلفة بو�صف تن ّوع الب�رشية "انعكا�س لغنى‬
‫اهلل الال حمدود"‪ .‬تعلّم امل�سيحية �أن الإن�سان كائن اجتماعي‪ ،‬فال يجوز للمجتمع �أن‬
‫يطغى على احلرية الفرد‪ ،‬وال ميكن للفرد �أن يعي�ش من دون جمتمع"‪.‬‬
‫احلق يف العمل يعترب جز ًءا �أ�صيالً من دعوة الإن�سان بو�صفها "مهمة من اهلل �أودعها‬
‫الب�رش"‪ ،‬ومن ثم فالأجر العادل لقاء عمله هو حق يدخل �ضمن الو�صية ال�ساد�سة‪،‬‬
‫وكذلك حرية الت�رصف بالأجر‪ ،‬وامللكية اخلا�صة‪ ،‬والإرث بو�صف الأوالد "بالت�ساوي"‬
‫ا�ستمرار �آبائهم؛ وحق امللكية موقوف بحجم �أو طبيعة امللك ومدى اتفاقه مع اخلري‬
‫العام‪ .‬امل�سيحية ت�ؤمن ب�أن اهلل منح الإن�سان الأر�ض لي�ستثمرها بال�شكل الأمثل وفق‬
‫قاعدتي اخلري والعدالة‪ ،‬وبالتايل �أعطاه وكالة ليت�سلط على الأر�ض‪ ،‬وهذه الوكالة هي‬
‫�أ�صل ال�سلطة يف املجتمع؛ فال�سلطة تعترب �رشعية طاملا هي مقيدة بغايتها �أي اخلري‬
‫والعدل‪ ،‬وتفقد ماهيتها �إن تعدت على واجبها؛ فريديك �آرنولد م�ؤ�س�س "م�سيحيون‬
‫دميقراطيون" قال ب�أنّ "امل�سيحية والدميوقراطية هما �شيء واحد"‪.‬امل�سيحية تعلّم‬
‫باحرتام العلوم والفنون "بو�صف اهلل نبع احلقيقة ونبع اجلمال"‪.‬‬
‫أي�ضا فللإن�سان احلق � ً‬
‫أي�ضا بالزواج من دون �إكراه‪ ،‬لإقامة عائلة "قد�س �أقدا�س احلياة"؛‬ ‫� ً‬
‫و�إكرام الوالدين يعترب الو�صية الرابعة والأوىل من و�صايا القريب؛ وملا كان الكتاب يرى‬
‫الب�رشية "�أ�رسة واحدة" فالو�صية ت�شمل يف �سلطانها نو ًعا ما جميع الب�رش‪ .‬ويعود‬
‫للوالدين حتديد عدد الأوالد‪ ،‬وطرق تربيتهم‪ ،‬وال يحق للمجتمع التدخل �إال يف احلاالت‬
‫اخلا�صة؛ وترف�ض معظم اجلماعات امل�سيحية زواج مثليي اجلن�س‪ ،‬وتعدد الزوجات‪،‬‬
‫وامل�ساكنة‪ ،‬و�إعارة الرحم‪ ،‬وبوجه العموم زواج امل�سيحيني من غري امل�سيحيني‪،‬‬
‫بو�صفها خمالفة لق�صد الزواج؛ كما ترف�ض الطالق لأن العهد امل�شهر بالزواج من �سماته‬
‫الدميومة‪ ،‬و�إمنا يف حالة ا�ستحالة احلياة الزوجية‪ ،‬يجوز الهجر‪� ،‬أو ف�سخ الزواج‪� ،‬أو‬
‫�إعالن بطالنه‪ ،‬بعد عر�ض الق�ضية �أمام حمكمة كن�سية ويحق لكل �إن�سان العلم واملعرفة‪،‬‬
‫‪33‬‬ ‫والتحرر من اخلرافة‬
‫واجلهل‪ ،‬واالبتعاد‬
‫عن التنجيم وال�سحر‬
‫والأبراج وما �شابه‪،‬‬
‫وكذلك احرتام البيئة‪،‬‬
‫واجلماعات الب�رشية‬
‫وب�شكل‬ ‫الأخرى‪،‬‬
‫"الفقراء‪،‬‬ ‫خا�ص‬
‫واملحتاجني‪ ،‬الأوىل‬
‫بالعناية من �سواهم"‪.‬‬
‫رهبان م�سيح ُّيون‬
‫ال تفر�ض امل�سيحية‬
‫أمناطا حمددة من‬ ‫� ً‬
‫املظهر اخلارجي‪� ،‬إال �أنها تلزم احل�شمة؛ وال حتوي قواعد للطعام‪� ،‬إمنا الأمر خا�ضع‬
‫لقاعدة العهد اجلديد "كل �شيء حالل‪ ،‬ولكن لي�س كل �شيء ينفع"؛ وبينما يعترب �إذهاب‬
‫العقل بال�سكر خطيئة‪ ،‬ف�إن �رشب كميات معتدلة من الكحول ال �إثم عليه؛ وال تلزم‬
‫امل�سيحية باخلتان‪� ،‬إمنا هو �أ�شبه بعادة اجتماعية يف ال�شعوب التي متار�سه؛ وبكل‬
‫الأحوال ف�إنّ بع�ض اجلماعات امل�سيحية الأقلية ‪ -‬كبع�ض اجلماعات الربوت�ستانتية ‪-‬‬
‫لها فهمها اخلا�ص لق�ضايا مثل الزواج‪ ،‬واخلتان‪ ،‬وحتى حفظ ال�سبت‪ .‬يعترب الكذب‪،‬‬
‫و�شهادة الزور‪ ،‬وحلف ميني كاذب‪� ،‬أو يف غري مو�ضعه‪ ،‬من الأعمال �ضد الو�صيتني‬
‫الثانية والثامنة‪ .‬ب�شكل العام‪ ،‬ال�رشيعة الأخالقية كما تراها امل�سيحية "طبيعية‪ ،‬ويعرفها‬
‫الإن�سان مبدئيًا بوا�سطة عقله"‪" ،‬مكتوبة على �ألواح القلب الب�رشية"‪ .‬يف امل�سيحية هناك‬
‫عدة �أوجه للنظافة‪ :‬نظافة ج�سد ّية‪ ،‬روحيّة‪ ،‬عقليّة‪ ،‬و�أدبيّة‪ .‬فج�سد ًيا مطلوب من امل�ؤمن‬
‫امل�سيحي الإهتمام بنظافة بدنه كما ف�إن الغ�سل واجب �إجتماعي له �أهميته‪ ،‬والإهتمام‬
‫يف مظهره اخلارجي ويف نظافة ثيابه‪ ،‬والإهتمام بالطيب والتعطر بالروائح العطرة‪� ،‬أما‬
‫روحيًا فتعني االبتعاد عن النجا�سة الروحية وهي اخلطيئة ح�سب املفهموم امل�سيحي‬
‫والتي تنبع من القلب وم�صدرها القلب وحده ح�سب املفهوم امل�سيحي‪� ،‬أ ّما من الناحية‬
‫العقلية فهي اجتناب الأفكار النج�سة مثل الإ�شتهاء فمثلاً قال ي�سوع‪« :‬كل من يداوم على‬
‫النظر �إىل امر�أة لي�شتهيها‪ ،‬فقد زنى بها يف قلبه»‪.‬‬
‫العبادات امل�سيحية‪:‬‬
‫•العبادات الفردية‪:‬‬
‫أ�سا�سا نتيجة �إمكانية توا�صل كل فرد يف الب�رشية مع اهلل‬
‫العبادات الفردية هي قائمة � ً‬
‫وتدعى "عالقة �صداقة مع اهلل"؛ �أ�شهر �أنواع العبادات الفردية هي �صالة الأبانا امل�أثورة‬
‫خ�صو�صا مزامري �آل داود‪ ،‬تعترب من العبادات‬
‫ً‬ ‫عن امل�سيح؛ كذلك ف�إن قراءة الكتاب‪،‬‬
‫أي�ضا "�صلوات ال�ساعات"‪ ،‬وهي �سبع �صلوات يف اليوم مقتب�سة من‬ ‫الفردية؛ هناك � ً‬ ‫‪34‬‬
‫فر�ضا على الرهبان‪ ،‬وخيا ًرا بالن�سبة للباقي؛ ومن‬ ‫ً‬ ‫الرتاث اليهودي امل�سيحي‪ ،‬تعترب‬
‫أي�ضا جزء‬‫الأنواع ال�شائعة الأخرى امل�سبحة الوردية بالن�سبة للكاثوليك‪ .‬يعترب ال�صوم � ً‬
‫من العبادات الفردية ح�سب و�صية امل�سيح‪ ،‬ب�أن تقرن الطلبات من اهلل بال�صوم؛ وتوجد‬
‫�أنواع خم�صو�صة من ال�صوم يف بع�ض الكنائ�س مثل ال�صوم الكبري وال�صوم ال�صغري؛‬
‫وتعترب م�ساعدة الفقراء من العبادات الفردية ح�سب و�صية امل�سيح "كل ما فعلتموه‬
‫إجمال �أعمال الرحمة‪ ،‬والتب�شري‪،‬‬ ‫اً‬ ‫لإخوتي ال�صغار ه�ؤالء‪ ،‬فلي قد فعلتموه"‪ ،‬وتدعى �‬
‫وال�صدقات‪ ،‬والنذور‪ ،‬والت�أمل‪ ،‬و�ساعات ال�سجود‪ ،‬والأدعية قبل الطعام وبعده‪ ،‬وكذلك‬
‫الع�شور الوا�سعة االنت�شار‪ ،‬والتي تديرها الكني�سة مبا�رشة‪� ،‬أو تنفق مبا�رشة لذوي‬
‫احلاجة دون و�ساطة الكني�سة‪.‬‬
‫• العبادات اجلماعية‪:‬‬
‫العبادات اجلماعية هي التي يقيمها امل�سيحيون ب�شكل جماعي يف الكني�سة وبرئا�سة �أحد‬
‫�أع�ضاء �سلك الكهنوت ‪ -‬ما عدا غالبية الربوت�ستانت ‪ ،-‬وت�شمل الأ�رسار ال�سبعة املقد�سة‬
‫و�أ�شباه الأ�رسار‪ .‬الأ�رسار ال�سبعة م�شتقة من الكتاب املقد�س‪ ،‬ومينح بع�ضها ملرة واحدة‬
‫فح�سب مثل العماد‪ ،‬وبع�ضها ب�صورة دورية �أو عند االقت�ضاء مثل م�سحة املر�ضى �أو‬
‫االفخار�ستيا؛ ممار�سة الأ�رسار تفرت�ض الإميان بها "لكي يفعل ال�رس فعله ويكون مثم ًرا‪،‬‬
‫يجب �أن يفهم ويقبل"؛ وقد �أف�ضت العبادات اجلماعية لتطوير ما يعرف يف الكني�سة با�سم‬
‫الليتورجيا‪� ،‬أي ا�ستعمال عالمات ورموز‪ ،‬وكذلك �ألوان ومو�سيقى‪ ،‬و�شموع وبخور‪،‬‬
‫وحركات بعينها كالوقوف واجللو�س؛ وهذه الليتورجيات قابلة للتغيري والتطور والتكيّف مع‬
‫الظروف الثقافية املختلفة لالزمنة وال�شعوب‪ ،‬بحيث حتقق غايتها وهي "ا�ستعمال العالمات‬
‫الأر�ضية‪ ،‬وتقدمي كل احلوا�س املمكنة يف خدمة اهلل"‪.‬‬
‫ال�رس الأول هو �رس العماد‪" ،‬الأ�سا�س واملقدمة ل�سائر الأ�رسار"‪ ،‬وهو عالمة الدخول يف الدين‪،‬‬
‫وم�شاركة امل�سيح‪ ،‬وقبول عمله يف �رس الفداء‪ ،‬ويتم غالبًا ب�سكب املاء ثال ًثا على ر�أ�س املعمد‪.‬‬
‫وال�رس الثاين هو �رس املريون �أو التثبيت‪ ،‬وفيه يو�سم اجلبني مبزيج من الطيوب والزيوت‬
‫املتنوعة �أهمها زيت الزيتون‪ ،‬و�أ�صل العملية قادم من حفالت تتويج امللوك يف الأزمنة القدمية‪،‬‬
‫وكذلك بداية كرازة الأنبياء‪ ،‬ومن ثم ف�إنّ منحه يعني �أن املمنوح له قد �شابه امل�سيح امللك‪ ،‬وبات‬
‫جز ًءا من ملكوته‪ ،‬ومينح غالبًا يف �أعقاب العماد‪ .‬ال�رس الثالث‪ ،‬فهو االفخار�ستيا �أو �رس القربان‬
‫"قمة الأعمال امل�سيحية"‪ ،‬التي تقام دور ًيا عرب القدا�س الإلهي ا�ستذكا ًرا لو�صية امل�سيح‬
‫"ا�صنعوا هذا لذكري"؛ ويق�سم القدا�س �إىل ثالثة �أجزاء‪ :‬قراءة مقاطع من الكتاب وتف�سريه‪،‬‬
‫وثانيًا الت�سبيح والإن�شاد والدعاء‪ ،‬وثالثًا تقدي�س القرابني وتناولها‪،‬وقد دارت جداالت طويلة‬
‫بني اجلماعات امل�سيحية حول معنى قول امل�سيح‪" :‬هذا هو ج�سدي"‪� ،‬إال �أنّ �أغلبية اجلماعات‬
‫متفقة على وجود "حقيقي و�رسي للم�سيح يف الإفخار�ستيا"‪.‬‬
‫ال�رس الرابع هو �رس التوبة‪� ،‬أو �رس امل�صاحلة مع اهلل‪ ،‬و�أركانه فح�ص ال�ضمري‪ ،‬والندم‪ ،‬ثم الإقرار‬
‫باخلطايا للكاهن ‪ -‬املر�شد الروحي‪ ،‬ثم تلقي الإر�شاد‪ ،‬والتكفري �أو التعوي�ض عن الإثم ب�أعمال‬
‫‪35‬‬ ‫أي�ضا قد درات نقا�شات طويلة بعد الإ�صالح الربوت�ستانتي‬ ‫حمبة ك�صالة وال�صوم وال�صدقة‪ً � ،‬‬
‫حول �إلزامية االعرتاف ملر�شد روحي �أو فائدة التعوي�ض عن الإثم‪ ،‬دون �أن ت�ؤدي �إىل نتيجة‬
‫فبينما يثبتها الكاثوليك والأرثوذك�س �أ�سقطها الربوت�ستانت؛ وتق�سم اخلطايا �إىل ثالث فئات‪:‬‬
‫عر�ضية‪ ،‬و�سبع مميتة‪ ،‬واخلطايا التي ت�ؤدي �إىل احلرم الكن�سي‪� ،‬أي قطع ال�رشكة مع �سائر‬
‫الكني�سة حتى التوبة العلنية‪ ،‬وال ت�ستخدم �إال يف حاالت بعينها؛ وال تعترب اخلطيئة خطيئة بغري‬
‫وعي و�إرادة‪� .‬أما خام�س الأ�رسار‪� ،‬أي �رس م�سحة املر�ضى‪ ،‬فيمنح للتقوية يف حاالت املر�ض‬
‫اخلطري �أو مر�ض املوت وهو "ا�ستذكار الهتمام امل�سيح اال�ستثنائي باملر�ضى"؛ ويعترب �رس‬
‫الكهنوت ال�رس ال�ساد�س‪ ،‬وفيه ينال املتقد ّم بعد �إعداد قد يطول لعدة �سنوات من الدرا�سة "عطية‬
‫التعليم والتدبري واالحتفال بالأ�رسار"‪ ،‬وتفر�ض الكني�سة الرومانية الكاثوليكية العزوبية على‬
‫الكهنة بينما ت�سمح باقي الكنائ�س يف زواج رجال الدين‪ ،‬وله ثالث درجات ال متنح لدى غالبية‬
‫الكنائ�س �إال الذكور‪ :‬الأ�سقف‪ ،‬والق�س‪ ،‬وال�شما�س‪ ،‬وير�أ�س ال�سلك يف الكاثوليكية البابا خليفة‬
‫بطر�س؛ ويعرف هذا الكهنوت‪ ،‬بالكهنوت اخلا�ص‪ ،‬وقد �أنكره معظم الربوت�ستانت‪ ،‬ف�إكتفوا مع‬
‫�سائر امل�سيحيني بالكهنوت العام‪� .‬أما �آخر الأ�رسار �أي �رس الزواج‪ ،‬حيث يعلن املتقدمان نيتهما‬
‫ت�أ�سي�س عائلة‪ ،‬ثم يعلن كل منهما قبوله العلني‪ ،‬ويطلبا بركة الرب "كما بارك �إبراهيم و�سارة؛‬
‫ا�سحق ورفقة؛ يعقوب‪ ،‬وراحيل" ثم يتم تثبيت الزواج‪� .‬إىل جانب الزواج‪ ،‬هناك �أ�شباه الأ�رسار‪،‬‬
‫أ�سا�سا درب ال�صليب‪ ،‬ورتبة جمعة الآالم‪ ،‬والزياحات والتطوافات‪ ،‬ومباركة الأ�شياء‪،‬‬ ‫وهي � ً‬
‫و�صالة اجلنازة‪.‬‬

‫الأعياد امل�سيحية‪:‬‬
‫خالل القرون امل�سيحية الأوىل دار نقا�ش حول �رشعية �إكرام الرموز الدينية‪ ،‬قبل �أن يح�سم‬
‫اجلدال يف جممع نيقية الثاين‪ ،‬على �سبيل املثال ف�إنّ القدي�س يوحنا الدم�شقي‪� ،‬أحد املالفنة‬
‫و�أبرز املدافعني عن الرموز‪ ،‬قال ب�إنّ �إكرام الرموز لي�س �إكرا ًما ملادة �أو �صورة الرمز بل ملا‬
‫ميثله‪ ،‬ف�إن كنّا نك ّرم كلمة اهلل املكتوبة ب�أحرف‪ ،‬فلنا تكرمي كلمة اهلل املر�سومة ب�ألوان؛وهو‬
‫وما يعرف با�سم الأيقونات‪� ،‬أي ال�صورة التي متثل مقاطع كتابية‪ ،‬ولها مدار�س ومناهج‬
‫يف ر�سمها‪ ،‬وكذلك املنحوتات يف امل�سيحية الغربية‪� .‬أما �أبرز الرموز امل�سيحية فهو ال�صليب‬
‫امل�سيحي‪ ،‬الذي ي�شري لعمل امل�سيح الفدائي؛ وهناك جمموعة رموز �أخرى مثل �سمكة‬
‫امل�سيح‪ ،‬و�إ�شارة الألف والياء‪.‬‬
‫تكرمي الأزمنة‪ ،‬ناجم عن نرث الأحداث الكتابية املرتبطة بامل�سيح على العام‪ ،‬وهو ما‬
‫يعرف لدى غالب اجلماعات امل�سيحية با�سم "ال�سنة الطق�سية"‪،‬والتي ت�ستخدم يف حتديد‬
‫مواعيدها قواعد �شم�سية وقمرية متنوعة تطورت عرب التاريخ؛ املنا�سبات ذات الأهمية‬
‫الكبرية ت�ؤدي �إىل الأعياد وب�شكل خا�ص عيد امليالد وعيد الف�صح؛ � ً‬
‫أي�ضا ف�إن الكنائ�س‬
‫املحلية قد ت�شتهر بعيد خا�ص بها غالبًا ما يرتبط بتذكار قدي�س ا�شتهر يف املنطقة؛ وغالبًا‬
‫ما تكون الأعياد امل�سيحية مرتافقة مع مهرجات واحتفاالت اجتماعية‪� .‬إىل جانب املنا�سبات‬
‫ال�سنوية‪ ،‬هناك املنا�سبات املتكررة عرب قرن �أو ن�صف قرن‪ ،‬والتي تعرف با�سم اليوبيل‪،‬‬
‫والتي جتد ت�رشيعها يف �سفر الالويني؛ على �سبيل املثال‪" :‬يوبيل ذكرى مرور �ألفي‬ ‫‪36‬‬
‫جت�سد املخلّ�ص" املحتفل به عام ‪2000‬م‪ ،‬و"اليوبيل املئوي اخلام�س لو�صول‬ ‫ّ‬ ‫عام على‬
‫الإجنيل �إىل �أمريكا" املحتفل به عام ‪ 1992‬م‪� .‬أ�سبوعيًا‪ ،‬يعترب يوم الأحد‪ ،‬ثم وبدرجة �أقل‬
‫يوم ال�سبت‪ ،‬زمنًا للراحة‪ ،‬واالجتماعات الدينية‪ ،‬ا�ستنا ًدا �إىل الو�صية الثالثة من الو�صايا‬
‫ن�ص على �إكرام هيكل �سليمان‪ ،‬والتوجه‬ ‫الع�رش‪� .‬أما تكرمي الأمكنة‪ ،‬ف�إنّ العهد القدمي‪ّ ،‬‬
‫بالقبلة نحو القد�س؛ �إال �أنّه بعد امل�سيح �ألغي هذا التحديد‪�" :‬ست�أتي ال�ساعة التي تعبدون‬
‫فيها الآب‪ ،‬ال يف هذا اجلبل وال يف �أور�شليم‪� ،‬ست�أتي ال�ساعة بل هي الآن‪ ،‬حني يعبد‬
‫العابدون ال�صادقون الآب بالروح واحلق"؛ وهكذا ف�إنّ كل كني�سة تعترب وريثة الهيكل‬
‫يف الفكر اليهودي‪ ،‬ال البناء يف ذاته بل جماعة امل�ؤمنني‪ ،‬على �أن بع�ض الكنائ�س املرتبطة‬
‫ب�أحداث معينة ككني�سة القيامة‪ ،‬وكاتدرائية القدي�س بطر�س‪ ،‬تغدو مكرمة ومق�صودة من‬
‫اجلماهري ب�شكل �أو�سع‪.‬‬

‫الدميوغرافيا واالنت�شار‪:‬‬
‫�إنّ كتاب حقائق وكالة اال�ستخبارات الأمريكية عن العامل بن�سخته ال�صادرة عام ‪2012‬‬
‫م‪ .‬ي�شري �إىل �أنّ امل�سيحية هي �أكرث ديانات العامل انت�شا ًرا‪� ،‬إذ يعتنقها ‪ 2.2‬مليار ن�سمة �أي‬
‫‪ 33.39%‬من الب�رشية‪.‬‬
‫ت�أتي الكني�سة الكاثوليكية يف مقدمة الطوائف امل�سيحية انت�شا ًرا‪ ،‬حواىل ‪ 1.13‬مليار‬
‫ن�سمة (‪ 17.33%‬من الب�رشية‪ 51.4% ،‬من امل�سيحية)؛ تليها الربوت�ستانتية حوايل ‪458‬‬
‫مليونًا (‪ 7.0%‬من الب�رشية‪ 20.8% ،‬من امل�سيحية) والأرثوذك�سية ال�رشقية حواىل ‪223‬‬
‫مليونًا (‪ 3.42%‬من الب�رشية‪ 10.1% ،‬من امل�سيحية)؛ �سائر الكنائ�س من �أرثوذك�سية‬
‫م�رشقية‪� ،‬شهود يهوه وغريها ت�شكل حواىل ‪ 389‬مليونًا (‪ 5.73%‬من الب�رشية‪17.6% ،‬‬
‫من امل�سيحية)‪ .‬باملقابل ح�سب درا�سة �أع ّدها مركز بيو حول الدين واحلياة العامة يف‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬وجدت �أنّ ن�صف امل�سيحيني يف العامل هم من الكاثوليك‪ ،‬يف حني ي�شكل‬
‫الربوت�ستانت ن�سبة ‪ ،37%‬والأرثوذك�س ن�سبتهم ‪ .12%‬وميثّل "امل�سيحيون الآخرون"‪،‬‬
‫مثل "املورمون" و"�شهود يهوه" ما ن�سبته ‪ 1%‬من جممل امل�سيحيني‪.‬‬
‫تعترب امل�سيحية ديانة كونية‪� ،‬إذ ينت�رش امل�سيحيون يف جميع القارات والدول وال توجد دولة يف العامل ال‬
‫حتوي على امل�سيحيني؛ امل�سيحية هي الديانة ال�سائدة يف �أمريكا ال�شمالية (‪ )77.4%‬وكذلك يف الكاريبي‬
‫(‪� ،)87.32%‬أمريكا الو�سطى واجلنوبية (‪� )93%‬إ�ضافة �إىلو�سط �أفريقيا وجنوب �أفريقيا (‪،)62.7%‬‬
‫�إىل جانب �أوروبا (‪ )76.2%‬و�أوقيانو�سيا (‪)73.3%‬؛يف حني تعترب الفيليبني الثقل الأ�سا�سي للم�سيحية‬
‫يف �آ�سيا‪ ،‬القارة الوحيدة التي ال ي�شكل امل�سيحيون �أغلب �سكانها مع وجود مناطق �شا�سعة كالفيلبني‬
‫ورو�سيا والقوقاز ذات غالبية م�سيحية‪ ،‬كما يوجد يف �آ�سيا الو�سطى وال�رشق الأو�سط وال�رشق الأق�صى‬
‫جتمعات كبرية للم�سيحيني‪.‬‬
‫على الرغم من �أن امل�سيحيني ميثلون ثلث �سكان العامل‪� ،‬إال �أنهم ي�شكلون �أغلبية �سكان ‪ 120‬دولة و‪38‬‬
‫‪37‬‬ ‫كيان ذي حكم ذاتي‪،‬‬
‫�أي ما ن�سبته ثلثي دول‬
‫العامل وكياناته‪ .‬وال تزال‬
‫امل�سيحية الديانة املهيمنة‬
‫ي�شكل‬ ‫يف العامل الغربي؛ �إذ ّ‬
‫امل�سيحيني وف ًقا ملركز‬
‫الأبحاث االمريكي بيو‬
‫حواىل ‪ 70%‬من �سكان‬
‫العامل الغربي‪ .‬ويعي�ش‬
‫‪ 87%‬من م�سيحيي‬
‫راهبات مِّ‬
‫يرننَ‬
‫العامل يف دول ذات �أغلبي ٍة‬
‫م�سيحية مقابل ‪13%‬‬
‫من م�سيحيني العامل يعي�شون ك�أقليات دينية‪ .‬يعي�ش اليوم ‪ 39%‬من م�سيحيي العامل يف �أوروبا و�أمريكا‬
‫ال�شمالية و�أوقيانو�سيا‪ ،‬بينما يعي�ش ‪ 61%‬من امل�سيحيني يف �أمريكا اجلنوبية و�أفريقيا و�آ�سيا‪ ،‬يذكر �أن‬
‫مناطق جنوب الكرة الأر�ضية ت�شهد ازدياد يف معدل منو امل�سيحية‪.‬‬
‫تع ّد امل�سيحية من الأديان النامية بن�سبة ‪� 1.43%‬أي تتجاوز املعدل العاملي للنمو املحدد بحواىل ‪1.39%‬؛‬
‫وتعترب احلركات التب�شريية يف �آ�سيا و�أفريقيا اجلناح الرئي�سي لهذا النمو �إذ يعتنق امل�سيحية �سنو ًيا حواىل‬
‫‪ 30‬مليون �شخ�ص من خلفيات دينية خمتلفة �أي حواىل ‪� 23,000‬شخ�ص يوميًا‪ .‬وقد تزايد عدد امل�سيحيني‬
‫حول العامل بن�سبة ‪� 4‬أ�ضعاف خالل املئة عام املن�رصمة‪ ،‬وت�شري بع�ض الدرا�سات �أن امل�سيحية هي �أ�رسع‬
‫خ�صو�صا املذهبني الكاثوليكي والربوت�ستانتي‪� ،‬إذ �أن من حيث النمو العددي بغ�ض‬ ‫ً‬ ‫�أديان العامل انت�شا ًرا‪،‬‬
‫النظر عن الن�سب املئوية ف�إن امل�سيحية حت ّل يف املرتبة الأوىل‪،‬يف حني تتم�سك بع�ض الدرا�سات الأخرى‬
‫بكون الإ�سالم هو �أ�رسع الأديان انت�شا ًرا‪� .‬إن غالبية الدول التي ي�شكل فيها امل�سيحيون �أغلبية‪ ،‬تتبنى‬
‫النظام العلماين بيد �أن امل�سيحية تعترب دين الدولة يف عدد من هذه الدول كالرنويج‪ ،‬و�إجنلرتا‪ ،‬وبوليفيا‪،‬‬
‫والأرجنتني‪،‬و�أرمينيا‪ ،‬واليونان‪ ،‬و�سوي�رسا‪ ،‬وموناكو‪ ،‬ومالطا‪ ،‬وليختن�شتاين وغريها‪.‬‬
‫وي�شكل امل�سيحيون بني ‪ % 10-7‬من جممل العرب‪.‬‬

‫الكتاب املقد�س‪:‬‬
‫بوحي من اهلل‪ ،‬وهو‬
‫ٍ‬ ‫ت�ؤمن امل�سيحية بكل طوائفها ب� ّأن الكتاب املقد�س كتبه �أنا�س‬
‫�سج ّل �إعالن اهلل عن ذاته للب�رش‪� .‬إنه كنز كامل من التعليم الإلهي‪ ،‬م�ؤلّفه اهلل‪ ،‬وغايته‬
‫اخلال�ص‪ ،‬وما ّدته احلق ال ي�شوبه �أثر للخط�أ‪.‬‬
‫يبينّ الكتاب املبادئ التي مبوجبها يديننا اهلل‪ ،‬ولذلك كان‪ ،‬و�سيبقى اىل انق�ضاء‬
‫الدهر‪ ،‬هو املركز احلقيقي لالحتاد امل�سيحي واملقيا�س الأ�سمى الذي على �أ�سا�سه‬
‫يجب ان ميتحن كل �سلوك ب�رشي‪ ،‬وكل �إقرارات الإميان‪ ،‬والآراء الدينية‪� .‬أما‬
‫ملقيا�س الذي مبوجبه ينبغي تف�سري الكتاب املقد�س‪ ،‬فهو ي�سوع امل�سيح‪.‬‬
‫ي�ض ّم الكتاب املقد�س �ستة و�ستني �سف ًرا �أو كتا ًبا‪ ،‬ت�سعة وثالثون منها تك ّون العهد‬ ‫‪38‬‬
‫القدمي‪ ،‬و�سبعة وع�رشون العهد اجلديد‪.‬‬
‫وقد كتب العهد القدمي كلّه تقريبا باللغة العربية‪ ،‬ما عدا �أجزاء �صغرية كتبت‬
‫بالآرامية‪� .‬أما العهد اجلديد‪ ،‬فقد كتب باللغة اليونانية‪ ،‬وال �سيما اليونانية‬
‫الكال�سيّكية باتت تعرف على م ّر ال�سنني " بيونانية العهد اجلديد" كما لو كانت‬
‫الربدي‬
‫ّ‬ ‫خ�صي�صا لتدوين العهد اجلديد‪� .‬إال �أن اكت�شاف �أوراق‬ ‫ّ‬ ‫لغة �أع ّدها اهلل‬
‫اليونانية غيرّ هذا املفهوم‪ .‬ويطلق اال�سم " الربد ّيات" على تلك املجموعة ال�ضخمة‬
‫من املواد املعا�رصة تقريبا لزمن تدوين العهد اجلديد‪ ،‬والتي د ّونت فيها وقائع‬
‫احلياة اليومية‪ ،‬مثال ك�سجلاّ ت ال�رضائب والإح�صاء‪ ،‬ووثائق الزواج والطالق‬
‫والوالدات والوفيات‪ ،‬والو�صوالت‪ ،‬ولوائح ال�سمانة‪ ،‬والر�سائل اخلا�صة‪ .‬هذه‬
‫الربد ّيات كتبت بلغة ال�شعب العاميّة‪ ،‬والتي لذلك دعيت " كيني" �أي عاميّة‪ .‬وقد‬
‫اكت�شف �أدولف داي�سمان ان لغة العهد اجلديد هي نف�سها لغة الربد ّيات‪ .‬ذلك‬
‫�أن جميع كلمات العهد اجلديد‪ ،‬ما عدا خم�سني كلمة فقط‪ ،‬وجدت م�ستعملة يف‬
‫الربد ّيات و�سواها من الكتابات املعا�رصة‪ ،‬مما �ألقى �أ�ضواء �ساطعة على معاين‬
‫العهد اجلديد‪.‬‬
‫فالعهد اجلديد �إ ًذا‪ ،‬كتب بلغة التخاطب العاميّة امل�ستعملة يف احلياة اليومية‬
‫�آنذاك‪ .‬وهذا الكتاب يخاطب اليوم القلب والعقل عند كل من يقر�أه بانتباه وبروح‬
‫ال�صالة‪ .‬وميكن ان يقال القول عينه بالن�سبة �إىل العهد القدمي‪ .‬ذلك � ّأن العهدين‬
‫القدمي واجلديد هما معا كلمة اهلل‪ .‬ولذا‪� ،‬سنتطيع �أن نقول عن الكتاب املقد�س جملة‬
‫�أمور نعاجلها يف ما يلي‪.‬‬

‫�إ ّنه كتاب موحى به‬


‫تقول امل�سيحية ب�أن الكتاب املقد�س هو ال�سج ّل املوحى به‪ ،‬وهو �إعالن اهلل للب�رش‪.‬‬
‫ويعني هنا الوحي كلاّ ً من الإعالن والإ�ستنارة والوحي‪:‬‬
‫‪ -‬الإعالن هو العملية التي بها يك�شف اهلل عن ذاته وم�شيئته لأنا�س يبلّغون الب�رش‬
‫ر�سالته‪.‬‬
‫‪� -‬أ ّما الإ�ستنارة فهي عمل يقوم به الروح القد�س �إذ يعطي الذهن الب�رشي فهما ً روحيا ً‬
‫ليتم ّكن الإن�سان من �إدراك احلق املعلن‪.‬‬
‫‪� -‬أما الوحي‪ ،‬في�شري اىل �إلهام اهلل بوا�سطة الروح القد�س لإن�سان‪ ،‬هو يختاره كي ميكنه‬
‫بالإر�شاد الإلهي من تبليغ ر�سالة اهلل املعلنة‪� ،‬أو تدوينها‪.‬‬
‫اال�صلي‪ ،‬يعني الوحي �أن ينفخ اهلل يف ذهن الإن�سان الذي ير�سله مبا‬
‫ّ‬ ‫وبالتعبري الكتابي‬
‫يريد تبليغه‪.‬‬
‫�إنّ اهلل يعلن عن ذاته حمبة خال�صة‪ .‬وهو يفعل ذلك من خالل الطبيعة (املزمور ‪،1:19‬‬
‫رومية ‪ ،19:1‬و ‪ )20‬ومن خالل ال�ضمري الإن�ساين (رومية ‪ 14:2‬و‪� .)15‬إال ان الإعالن‬
‫‪39‬‬ ‫باملعنى امل�ستخدم‬
‫هنا ي�شري اىل ذلك‬
‫الإعالن الكامل الذي‬
‫مت يف امل�سيح والذي‬ ‫ّ‬
‫هو مد ّون يف الكتاب‬
‫املقد�س‪ ،‬وهو �إعالن‬
‫كامل ونافذ لن يعقبه‬
‫� ّأي �إعالن �آخر من‬
‫نوعه‪.‬‬
‫والذين تل ّقوا هذا‬
‫قدا�س م�سيحي‬ ‫الإعالن مل يفهموه‬
‫دائما فهما ً تاماً‪ ،‬مثالً‬
‫على ذلك �أن داود يف‬
‫املزمور ‪ 22‬و�إ�شعيا يف الف�صل ‪ 53‬من �سفره كتبا عن اجللجثة �أكرث مما كانا ي�ستوعبان‪.‬‬
‫فاحلقائق العظيمة التي حت ّدثا عنها متّت كليّا يف يب�سوع امل�سيح‪ .‬وقد ن ّور الروح القد�س‬
‫�أذهان كتبة الإجنيل وبول�س وباقي كتبة العهد اجلديد بحيث يفهمون ذلك احلدث (�أي‬
‫موت امل�سيح) وي�رشحونه للأجيال الطالعة‪.‬‬
‫والر�سل �أي�ضا‪ ،‬مل ي�ستوعبوا ا�ستيعا ًبا كليًا كالم امل�سيح �إليهم‪ � ،‬اّإل �أن الرب ي�سوع وعدهم‬
‫ب�أن الروح القد�س �سيعينهم على فهم كل ما قاله لهم‪ .‬وما زال الروح ين ّور عند كل دار�س‬
‫جاد للكتاب املق ّد�س عقله وقلبه كي يكت�شف يف كلمة اهلل حقائق مل يكن يعرفها من قبل‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬حتى الفهم غري الكامل عند كتبة العهد القدمي‪ ،‬هو بيّنة على �أنّ الكتاب املقد�س �صادر‬
‫عن الوحي الإلهي‪ .‬ذلك �أن اهلل فتح ب�صرية ه�ؤالء الكتبة فر�أوا عرب الع�صور ما ال ي�ستطيع‬
‫�أن يراه �أي �إن�سان طبيعي‪ .‬وهذا االيحاء ينطبق على كال العهدين‪.‬‬

‫ث ّمة عدة نظريات تبحث يف كيفية �إيحاء اهلل �إىل الكتبة‪:‬‬


‫‪ - 1‬نظرية احلد�س‪ :‬وهي تعترب �أن الوحي لي�س �إال تطو ًرا �أعلى للب�صرية الطبيعية التي‬
‫ميلكها الإن�سان‪ ،‬لفهم احلق فهما �أعمق‪.‬‬
‫‪ - 2‬نظرية التنوير‪ :‬وهي تعترب ان الوحي هو جم ّرد تعميق الإدراك الديني عند الإن�سان‬
‫وتن�شيطه‪.‬‬
‫‪ - 3‬نظرية الإمالء‪ :‬وهي ت�ؤكد �أن الكتبة كانوا خم�ضعني للروح القد�س على نحو‬
‫جعلهم �آالت بيد اهلل م�سلوبة الإرادة‪.‬‬
‫قوي وف ّعال)‪ :‬وهي تعتقد �أن الوحي لي�س طبيعيًا وال‬ ‫ّ‬ ‫الدينامي (‬
‫ّ‬ ‫‪ - 4‬نظرية الوحي‬
‫ودينامي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جزئيا وال �آليا‪ ،‬بل هو فائق للطبيعة وكامل‬
‫ترى النظريتان الأوليان ان �أجزاء من الكتاب فقط موحى بها‪ ،‬و�أن الكتاب املقد�س بالتايل‬
‫عر�ضة للأخطاء الب�رشية يف الأجزاء‬ ‫‪40‬‬
‫غري املوحى بها‪ .‬واملعمدانيون‬
‫اجلنوبيون يجمعون على رف�ضهما‪،‬‬
‫ما عدا قلة �ضئيلة‪� .‬أما النظريتان‬
‫الأخريان فيعتنق �إحداهما �أو االخرى‬
‫غالبيّة لبمعمدانيني اجلنوبيني‪،‬‬
‫يتم�سكون بهذه‪ ،‬وبع�ضهم‬ ‫ّ‬ ‫فبع�ضهم‬
‫والدة ي�سوع امل�سيح‬ ‫بتلك‪.‬‬
‫والنظرية التي يدعوها �سرتونغ‬
‫نظرية الإمالء‪ ،‬يدعوها مولنز نظرية الوحي احلريف‪ .‬وهي ترى �أن الروح القد�س اختار‬
‫حتى كلمات اال�سفار املقد�سة و�أمالها على الكاتب‪ ،‬فيما ترى النظرية الدينامية �أن الفكرة‬
‫هي من �إيحاء الروح القد�س ال االلفاظ بعينها‪ ،‬و�أن الكتاب تركت لهم حر ّية التعبري عن‬
‫احلق بال�صيغ والكلمات التي يختارون‪ ،‬غري ان الكتّاب يف اثناء ذلك‪ ،‬كانوا حمرو�سني‬
‫من اخلط�أ‪ ،‬وذلك يف�ضل الروح القد�س‪ .‬وجتد هذه النظرية دعما لها يف اختيار الكاتب‬
‫ألفاظا خمتلفة لرواية احلادثة الواحدة‪ ،‬ف�ضال عن ظهور �شخ�صية الكاتب اخلا�صة يف ما‬ ‫� ً‬
‫كتبه‪.‬‬
‫على �أن النظريتني احلرفيّة والديناميّة فقط يف النظرة اىل �أ�سلوب الوحي‪ ،‬لكنّهما تتفقان‬
‫بالن�سبة اىل النتيجة‪� .‬أما �إذا تبنّى املرء واحدة من هاتني النظريتني دون الأخرى فال جدال‬
‫حول �سالمة عقيدته بني املعمدانيني اجلنوبيني‪� ،‬إذ يعتربون �أن العقيدتني �سليمتان‪ ،‬ال‬
‫�سيما و�أن الكتاب املقد�س بالن�سبة اىل �أتباع كلتا النظريتني هو كتاب موحى به من اهلل‪.‬‬
‫و�أيا كانت الطريقة التي بها �أعلن اهلل ذاته‪ ،‬و�أوحى اىل انا�س ب�أن يد ّونوا ذلك الإعالن‪،‬‬
‫فالنتيجة على �أية حال هي ال�سج ّل املوحى به من اهلل عن �إعالنه ذاته للب�رش‪ .‬ويجدر بنا‬
‫�أن نذكر �أن �إعالن اهلل تدريجي‪ .‬وال يعني هذا �ضمنًا �أنه غري قادر على الإعالن عند نقطة‬
‫معيّنة من الزمن‪ ،‬بل �إمنا يعود اىل قدرة الإن�سان على تلقي الإعالن‪ .‬فلو اراد "�آين�شتاين"‬
‫مثال ان ي�رشح نظريته الن�سبية اىل ولد‪ ،‬فمن الطبيعي �أن يبد�أ بالأمور ال�سهلة‪ ،‬ومن ثم‬
‫ينتقل اىل املعرفة االكرث تعقيدا كلّما �صار الولد �أقدر على الفهم‪ .‬هكذا بد�أ اهلل من حيث‬
‫كان الإن�سان واخذ يتد ّرج يف الإعالن بازدياد قدرته على اال�ستيعاب‪ .‬ولذا‪ ،‬جند بع�ض‬
‫�أق�سام الكتاب املقد�س �إعالنا عن اهلل �أعظم مما جنده يف اق�سام اخرى‪ .‬ولكن الكتاب كلّه‪،‬‬
‫هو �إعالن اهلل‪ ،‬وكلمة اهلل املوحى بها‪.‬‬
‫�إن الكتاب املقد�س نف�سه ي�شهد عن نف�سه �أنه كتاب موحى به من اهلل‪ .‬فقد تكلّم اهلل مثال‬
‫اىل مو�سى وي�شوع وداود واالنبياء‪ .‬والعبارة " هكذا يقول الرب" ترتدد �أ�صدا�ؤها يف‬
‫�أ�سفار الأنبياء‪ .‬ويبد�أ �إ�شعياء نبوءته بالكلمات‪� " :‬إ�سمعي �أيتها ال�سماوات‪ ،‬و�أ�صغي‬
‫�أيتها االر�ض‪ ،‬لأن الرب يتكلّم" ( ا�شعيا ‪ .)2:1‬كذلك يقول �إرميا ‪ ":‬فكانت كلمة الرب �إيلّ‬
‫قائال‪�( "...‬إرميا ‪ .)4:1‬و�أي�ضا‪ ":‬هكذا تكلّم الرب �إله �إ�رسائيل قائلاً ‪ :‬اكتب كل الكالم الذي‬
‫‪41‬‬ ‫تكلّمت به �إليك يف �سفر" ( �إرميا ‪ .)2:30‬ولقد تكلّم الرب ي�سوع � ً‬
‫أي�ضا ب�سلطان �إلهي‪.‬‬
‫ويف ر�سالة كورنثو�س الثانية‪ 13-10 :‬يفيد الر�سول بول�س �أن ر�سالته جاءته من طريق‬
‫رصح يف (‪ 2‬تيموثاو�س ‪� ) 16:3‬أن " كل الكتاب هو موحى به‬ ‫وحي الروح القد�س‪ .‬وهو ي� ّ‬
‫من اهلل" وحرفيّا " تن ّف�س به اهلل"‪ .‬ويعلّق ه�سرت قائال‪� ":‬إن �أنا�سا قدي�سني‪ ،‬نفخ فيهم اهلل‬
‫�أو �أوحى �إليهم‪ ،‬كتبوا الأ�سفار التي يتك ّون منها الكتاب املقد�س‪ .‬ولذلك ف�إن لها �سلطانا ّ‬
‫لي�س ل�سواها من الكتابات �أيا كانت"‪.‬‬
‫ويقول الر�سول بطر�س يف ر�سالته الثانية ‪ 20:1‬و ‪� " 21‬أن كل نب ّوة الكتاب لي�ست‬
‫قط مب�شيئة �إن�سان‪ ،‬بل تكلّم �أنا�س اهلل الق ّدي�سون‬
‫من تف�سري خا�ص‪ ،‬لأنه مل ت�أت نب ّوة ّ‬
‫م�سوقني من الروح القد�س"‪.‬‬
‫ويرى وحي الكتاب املقد�س �أي�ضا يف �إمتام النبوات‪ .‬فمن العبارات التي تتك ّرر كثريا يف‬
‫الأناجيل‪ ":‬لكي يت ّم ما قيل بالأنبياء"‪ .‬فقبل ح�صول بع�ض احلوادث مبئات ال�سنني‪،‬‬
‫كان �أنبياء قد تنب�أوا بح�صولها‪ .‬ن�شري مثال اىل كيفية والدة امل�سيح ( �إ�شعياء ‪،14:7‬‬
‫ميخا ‪ ،2:5‬متى ‪ 22:1‬و ‪ 5:2 ،23‬و ‪ .)6‬ويف النا�رصة قر�أ الرب ي�سوع �إ�شعياء ‪ 1:61‬و‬
‫مت ما جاء عنه يف‬‫مت هذا املكتوب يف م�سامعكم"( لوقا ‪� )21:4‬أ ّ‬ ‫‪ 2‬ثم قال عن نف�سه‪ ":‬اليوم ّ‬
‫�أ�سفار العهد القدمي ( لوقا ‪.)46-44 :24‬‬
‫فههنا رجال عا�شوا قبل امل�سيح بقرون يكتبون مبنتهى الد ّقة عن �أمور متعلّقة بحياته‬
‫وعمله الك ّفاري‪ .‬فال ميكن لأي ب�صرية ب�رشية �أو عقل ب�رشي مهما ارتقيا �أن يف�سرّ ا‬
‫هذه احلقيقة‪� ،‬إذ �إن ما يف�سرّ ها هو وحي اهلل بروحه الق ّدو�س‪ ،‬ولي�س غري‪.‬‬
‫ثم �إن وحدة الكتاب املقد�س ت�ؤيد كونه موحى به‪ .‬فللكتاب املقد�س مو�ضوع �أ�سا�سي‬
‫واحد‪ ،‬هو ق�صد اهلل الفدائي‪ .‬وفيه �شخ�ص �أ�سا�سي واحد‪ ،‬هو امل�سيح‪ .‬وله هدف �أ�سا�سي‬
‫مفدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واحد‪ ،‬هو اهلل مهيمنا ً على كون‬
‫وقد كتب الكتاب املقد�س على مدى فرتة طولها تقريبا �ألف وخم�س مئة �سنة‪ ،‬ويف �أماكن‬
‫�شتى على طول الطريق من بابل اىل فل�سطني اىل روما‪ .‬وكان يف عداد الكتبة جمموعة‬
‫من الرجال متعددة املهن وال�صفات‪ ،‬بني ملوك وفلاّ حني‪ ،‬و�شعراء ورعاة‪ ،‬و�صيّادين‬
‫وعلماء‪ ،‬ومزارعني وكهنة‪ ،‬و�شيوخ و�صانعي خيام‪ ،‬وحكام‪ .‬و�ضمن مو�ضوعات‬
‫الكتاب مواد تراوح بني الفل�سفة وال�شعر والنبوءة والالهوت والتاريخ والعلم وعلم‬
‫الإجتماع‪ .‬ولي�س �أحد من كتبة الوحي علم �أنه كان يقوم بكتابة جزء من الكتاب املقد�س‪.‬‬
‫ويحتمل ان كثريين من ه�ؤالء مل يكونوا على علم مبا كتبه الآخرون‪.‬‬
‫مت جمع الأ�سفار معا ب�إر�شاد من الروح القد�س‪ ،‬روت ق�صة واحدة‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فعندما ّ‬
‫كاملة‪ .‬وال يكتمل اي واحد من العهدين بغري الآخر‪.‬‬
‫مثل هذه الظاهرة ال ميكن تف�سريها على �أ�س�س املنطق الب�رشي واملقا�صد الب�رشية‪.‬‬
‫وهي ظاهرة تبقى عدمية املعنى‪� ،‬إال �إذا نظرنا اىل الكتاب املقد�س بو�صفه الإعالن الإلهي‬
‫مت ت�أليفه واختياره وحفظه جمي ًعا بيد الروح‬ ‫املكتوب وح�صيلة الوحي الإلهي‪ ،‬وقم ّ‬
‫القد�س املر�شدة‪.‬‬
‫ولي�س من دليل على وحي الكتاب املقد�س �أعظم من الر�سالة التي يحتوي عليها‪.‬‬ ‫‪42‬‬
‫ور�سالة الكتاب لي�س كر�سالة �أي كتاب �آخر‪ .‬فالكتاب املقد�س �أعظم من ان يقارن ب�أي‬
‫�أثر �أدبي من �آثار الب�رش‪ .‬وحمتويات االبوكريفا كالرمل بالن�سبة اىل جواهر الكتاب‬
‫املقد�س ولآلئه‪ .‬ولدى مقارنة الأناجيل املز ّيفة ( وهي كتابات غري مقبولة بني اال�سفار‬
‫القانونية)‪ ،‬وقد ن�سب بع�ضها اىل القرنني االولني بعد امل�سيح‪ ،‬يتبينّ �أن الأناجيل االربعة‬
‫القانونية ت�سمو عليها ك�سم ّو ال�سماء على الأر�ض‪.‬‬

‫ديني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وهو كتاب‬
‫بح�سب امل�سيحيني ف� ّإن الكتاب املقد�س " كنز نفي�س من التعليم ال ّ‬
‫إلهي‪ :‬اهلل �أوحاه‬
‫واخلال�ص غايته‪ ،‬واحلق مادته"‪.‬‬
‫ال ي ّدعي الكتاب املقد�س انه كتاب تاريخ �أو �أدب �أو فل�سفة �أو علم نف�س �أو علوم‪ ،‬ومع‬
‫ذلك يحتوي عنا�رص �أ�صيلة من هذه كلّها‪ ،‬و�أزيد منها‪ .‬ولي�س مق�صو ًدا به ان يكون‬
‫دائرة معارف حتوي �أجوبة عن �أ�سئلة الإن�سان كلّها‪� ،‬إال انه يجيب عن ت�سا�ؤالت القلب‬
‫والعقل والروح‪ ،‬تلك الت�سا�ؤالت احليوية وال�شاملة وامله ّمة‪.‬‬
‫ورمبا ال يقول الكتاب للإن�سان ك ّل ما ينبغي معرفته‪ ،‬غري �أنه يقول له بالفعل ما يحتاج‬
‫لأن يعرفه يف ما يتعلق بواجبه وم�صريه الروحيني والأدبيني‪.‬‬
‫والكتاب املقد�س يف جوهره كتاب ديني‪� .‬إذ يقول الر�سول بول�س " كل الكتاب‪ ...‬نافع‬
‫رب‪ ،‬لكي يكون‬ ‫للتعليم والتوبيخ والتقومي ( الإ�صالح) والت�أديب ( التهذيب) الذي يف ال ّ‬
‫�إن�سان اهلل كامالً مت�أهبًا لكل عمل �صالح" (‪ 2‬تيموثاو�س ‪ 16:3‬و‪.)17‬‬
‫و�إذ يتكلم الكتاب املقد�س عن ق�صد اهلل الفداء‪ ،‬فهو يعلن كيف ينوي اهلل �أن ي�ستعيد‬
‫الإن�سان اخلاطي اىل ال�رشكة معه و�أن ي�ستخدمه يف خدمته تعاىل‪ .‬هذه املرا�سلة تتخلّل‬
‫الكتاب كلّه من التكوين اىل الر�ؤيا كخيط قرمزي‪ .‬وتبد�أ خطة اهلل املعلنة يف الكتاب‬
‫املقد�س منذ االزل حيث يرى حمل اهلل املذبوح قبل ت�أ�سي�س العامل‪ ،‬كما تنتهي يف الأبد‬
‫حيث يرى حمل اهلل الظافر على عر�شه �سائدا على الكون املفدي‪ .‬فالكتاب املقد�س ي�شري‬
‫اىل امل�سيح من قبل ومن بعد‪ ،‬كما ي�شري اىل رجوعه املجيد وملكه ال�سعيد يف امل�ستقبل‬
‫�أي�ضا‪ .‬ويعلن الكتاب اهلل يف �شخ�ص الروح القد�س وهو يق ّوي �شعب امل�سيح وير�شدهم‬
‫للقيام مب�أمورية اهلل القا�ضية بالتب�شري واخلدمة الإر�سالية‪.‬‬
‫يربط الكتاب املقد�س ق�صد اهلل للفداء بالتاريخ الب�رشي‪ .‬فالكتاب يبينّ كيف ي�ستخدم اهلل‬
‫الب�رش والأمم يف �إمتامه لهذا الق�صد الفدائي‪ .‬ويوجه الكتاب االنظار اىل الزمن الذي فيه‬
‫ورب االرباب فعال يف �آخرة الدهر ( ر�ؤيا ‪ ،)16:19‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫�سيكون امل�سيح هو ملك امللوك‬
‫يكون اهلل – الآب واالبن والروح القد�س – هو الك ّل يف الك ّل (‪ 1‬كورنثو�س ‪-24:15‬‬
‫‪.)28‬‬
‫ويتحدث الكتاب املقد�س عن دينونة اهلل للخطيئة‪ .‬ف�إنه يعلن املبادئ التي مبوجبها‬
‫�سوف يحاكمنا اهلل‪ ،‬ولذلك فهو الآن‪ -‬و�سيبقى اىل نهاية الدهر‪ -‬املقيا�س الأ�سمى الذي‬
‫‪43‬‬

‫نا�سك م�سيحي‬

‫يف �ضوئه ينبغي �أن ميتحن كل �سلوك ب�رشي و�أحكام و�آراء دينيّة‪.‬‬
‫�إن مبد�أ الدينونة هذا يتخلل الكتاب املقد�س كله‪ .‬فهو ي�صف دينونة اهلل للإ�سنان ال�ساقط‬
‫( تكوين ‪ )12-10:4 ،19-16:3‬وجلن�س �رشير ( تكوين ‪ )6‬و�أمم‬
‫( خروج ‪ ،12-7‬عامو�س) و�أفراد ( عدد ‪ 11:20‬و ‪� 2 ،12‬صموئيل ‪)12 10:12-‬‬
‫ولل�شعب الذي اختاره ( �إ�شعياء ‪ ،5‬متى ‪.)45 33:21-‬‬
‫ويروي الكتاب املقد�س ق�صة امتزاج حمبة اهلل بغ�ضبه ( رومية ‪ .)18-16:1‬فاهلل يكره‬
‫اخلطيئة‪ ،‬لكنه بحب اخلطاة‪ .‬ويبينّ ُ الكتاب ما فعله اهلل لينقذ الإن�سان من الدينونة (‬
‫يوحنا ‪� .)18-16:3‬إال انه ي�شري � ً‬
‫أي�ضا اىل دينونة اهلل النهائية للخطاة غري التائبني (ر�ؤيا‬
‫‪ .)15-11:20‬ويتحدث الكتاب �أي�ضا عن حماكمة جميع الب�رش (رومية ‪،)10:14‬‬
‫املخل�صني لإظهار مقدار مكاف�أتهم يف ال�سماء‪ .‬والهالكني لإظهار مقدار معاقبتهم يف‬
‫اجلحيم ( لوقا ‪ 47:12‬و ‪ ،48‬ر�ؤيا ‪.)15-12:20‬‬
‫الأديان ال�سماوية‬ ‫الف�صل الثالث‬
‫"الإ�سالم"‬
‫‪44‬‬

‫"الإ�سالم" دين الي�رس وال�سماحة‬

‫الإ�سالم ديانة �إبراهيمية‪ ،‬وهي ثاين الديانات يف العامل من حيث عدد املعتنقني بعد‬
‫امل�سيحية‪ .‬واملعنى العام لكلمة الإ�سالم هو اال�ست�سالم هلل‪� ،‬أي ت�سليم كامل من الإن�سان‬
‫هلل يف كل �ش�ؤون احلياة‪.‬‬
‫ي�ؤمن امل�سلمون �أن الإ�سالم �آخر الر�ساالت ال�سماوية و�أنه نا�سخ ملا قبله من الديانات؛‬
‫كما ي�ؤمن امل�سلمون ب�أن حمم ًدا ر�سول مر�سل من عند اهلل‪ ،‬وخامت الأنبياءواملر�سلني؛‬
‫أ�س�س العقيدة الإ�سالمية الإميان بوجود‬ ‫و�أن اهلل �أر�سله �إىل الثقلني (اجلن والإن�س)‪ .‬ومن � ّ‬
‫�إله واحد ال �رشيك له هو اهلل‪،‬وكذلك الإميان بجميع الأنبياء والر�سل الذين �أر�سلوا‬
‫�إىل الب�رشية قبل حممد‪ ،‬كالنبي �إبراهيم ويو�سف ومو�سى وامل�سيح عي�سى بن مرمي‬
‫وغريهم كثري ممن ذكروا يف القر�آن �أو مل ُيذكروا‪ ،‬و�أنهم جمي ًعا كما امل�سلمني‪ ،‬اتبعوا‬
‫احلنيفية‪ ،‬ملة النبي �إبراهيم‪ ،‬والإميان بكتبهم ور�سائلهم التي بعثهم اهلل كي ين�رشوها‬
‫للنا�س‪ ،‬كالزبور والتوراة والإجنيل‪.‬‬

‫�أ�صل الكلمة‪:‬‬
‫‪ -‬كلمة الإ�سالم ُيبحث عنها يف املعجم يف «�سلم»‪ ،‬وهي م�صدر لفعل رباعي هو «�أ�سلم»‪.‬‬
‫و ُيع َّرف الإ�سالم لُغو ًيا ب�أنه اال�ست�سالم‪ ،‬واملق�صود اال�ست�سالم لأمر اهلل ونهيه بال‬
‫اعرتا�ض‪ ،‬وقيل هو الإذعان واالنقياد وترك التم ّرد والإباء والعناد‪.‬‬
‫�أما معناه اال�صطالحي‪ ،‬فهو الدين الذي جاء به «حممد بن عبد اهلل»‪ ،‬والذي ي�ؤمن‬
‫امل�سلمون ب�أنه ال�رشيعة التي ختم اهلل بها الر�ساالت ال�سماوية‪ .‬ويف حديث عن «�أبي‬
‫‪45‬‬ ‫هريرة» �أن النبي حممد ع ّرف الإ�سالم‪« :‬ب�أن تعبد اهلل وال ت�رشك به �شيئا وتقيم ال�صالة‬
‫املكتوبة وت�ؤتي الزكاة املفرو�ضة وت�صوم رم�ضان وحتج بيت اهلل»‪.‬‬

‫الأفكار والعقائد الإ�سالمية‪:‬‬


‫بح�سب القر�آن‪ ،‬ي�ؤمن امل�سلمون باهلل ومالئكته وكتبه ور�سله واليوم الآخر‪ .‬وي�ضيف‬
‫�ش ْي ٍء َخل َ ْقنَا ُه ِب َق َدرٍ"‪،‬‬ ‫�إىل ذلك امل�سلمون ال�سنّة الق�ضاء والقدر‪� ،‬إعماالً ب�آية قر�آنية " ِ�إ َنّا ُك َّل َ‬
‫وحديث مروي يف كتب احلديث عن الر�سول حممدعندما قال �أن الإميان هو‪�« :‬أن ت�ؤمن‬
‫باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ور�سله‪ ،‬واليوم الآخر‪ ،‬وت�ؤمن بالقدر خريه و�رشه»‪ ،‬وتطلق‬
‫ال�شيعة الإمامية على الركن الأخري ت�سمية العدل‪ ،‬وت�ضيف كذلك الإمامة ك�أ�صل من‬
‫�أ�صول الدين‪.‬‬
‫ي�ؤمن امل�سلمون ب�أن اهلل هو الإله الواحد الذي خلق الكون بكل ما فيه‪ ،‬و�أوحى القر�آن‬
‫للنبي حممد عن طريق جربيل‪ ،‬وي�ؤمنون ب�أنه الر�سالة اخلامتة للر�ساالت التي بعث بها‬
‫الأنبياء الذين �سبقوه‪ .‬والأنبياء هم ب�رش من بني �آدم اختارهم اهلل ليكونوا ر�سله‪ .‬ويعتقد‬
‫امل�سلمون �أن الأنبياء هم ب�رش ولي�سوا �آلهة‪ ،‬و�إن كان بع�ضهم منحه اهلل القدرة على‬
‫�صنع املعجزات لإثبات نبوتهم‪ .‬الأنبياء يف املعتقد الإ�سالمي يعتربوا الأقرب �إىل الكمال‬
‫من الب�رش‪ ،‬وهم من يتلقى الوحي الإلهي‪� ،‬إما مبا�رشة من اهلل‪� ،‬أو عن طريق املالئكة‪.‬‬
‫يذكر القر�آن �أ�سماء العديد من الأنبياء‪ ،‬مبا يف ذلك �آدم ونوح و�إبراهيم ومو�سى وعي�سى‬
‫وغريهم‪ .‬وبح�سب القر�آن ف�إن كافة الأنبياء كانوا م�سلمني يدعون �إىل الإ�سالم ولكن‬
‫ب�رشائع خمتلفة‪.‬‬
‫ُيع ّرف الإ�سالم يف القر�آن ب�أنه «فطرة اهلل التي فطر النا�س عليها»‪َ :‬ف�أَ ِق ْم َو ْج َه َك لِل ِّدي ِن‬
‫الل ِ َذلِ َك ال ِّدي ُن الْ َقيِّ ُم َولَ ِك َّن �أَ ْك رَ َ‬
‫ث‬ ‫ّا�س َعلَيْ َها اَل َتبْ ِدي َل لخِ َ ل ْ ِق َهّ‬ ‫َحنِي ًفا ِف ْط َر َة َهّ‬
‫الل ِ الَّتِي َف َط َر النَ َ‬
‫ّا�س اَل َي ْعل َ ُمونَ ‪ ،‬كما ي�ؤمن امل�سلمون ب�أن احلنيفية هي �أ�سا�س دين �إبراهيم‪ .‬ويرون �أن‬ ‫النَ ِ‬
‫االختالف بني الأديان الإبراهيمية يف ال�رشيعة فقط ولي�س يف العقيدة و�أن �رشيعة الإ�سالم‬
‫نا�سخة ملا قبلها من ال�رشائع‪� .‬أي �أن الدين الإ�سالمي يتكون من العقيدة وال�رشيعة‪.‬‬
‫ف�أما العقيدة فهي جمموعة املبادئ التي على امل�سلم �أن ي�ؤمن بها وهي ثابتة ال تختلف‬
‫باختالف الأنبياء‪� .‬أما ال�رشيعة فهي ا�سم للأحكام العملية التي تختلف باختالف الر�سل‪.‬‬

‫النبي حممد (�صلّى اهلل عليه و�سلّم)‬


‫�أبو القا�سم حممد بن عبد اهلل بن عبد املطلب ( ‪� 22‬أبريل �سنة ‪ 571‬م ‪ 8 -‬يونيو �سنة ‪632‬‬
‫م ) ي�ؤمن امل�سلمون ب�أنه ر�سول اهلل للب�رشية ليعيدهم �إىل توحيد اهلل وعبادته وذلك �ش�أن‬
‫كل االنبياء واملر�سلني و هو خامتهم و�أر�سل للنا�س كافة‪ .‬و�أنه �أ�رشف املخلوقات و�سيّد‬
‫لحق امل�سلمون عبارة «�صلّى اهلل عليه‬ ‫الب�رش‪ ،‬كما يعتقدون فيه الع�صمة‪ .‬عند ذكر ا�سمه‪ُ ،‬ي ِ‬
‫و�سلم» مع �إ�ضافة «و�آله» و»و�صحبه» يف بع�ض الأحيان‪ ،‬لمِ َا جاء يف القر�آن وال�سنة النبوية‬
‫ريا يف نفو�س امل�سلمني‪ ،‬و كرثت مظاهر‬ ‫مما يحثهم على ال�صالة عليه ‪ .‬ترك حممد �أث ًرا كب ً‬ ‫‪46‬‬
‫حمبّتهم وتعظيمهم له باتباعهم لأمره و�أ�سلوب حياته وتعبده هلل ‪ ،‬وقيامهم بحفظ �أقواله‬
‫ال�سرية واحلديث النبوي‪.‬اعتربه‬ ‫و�أفعاله و�صفاته وجمع ذلك يف كتب ُعرفت بكتب ّ‬
‫الكاتب اليهودي مايكل هارت �أعظم ال�شخ�صيّات �أث ًرا يف تاريخ الإن�سانية كلّها باعتباره‬
‫جناحا مطل ًقا على امل�ستوى الديني والدنيوي»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫«الإن�سان الوحيد يف التاريخ الذي جنح‬
‫ولد يف مكة يف �شهر ربيع الأول من عام الفيل قبل ثالث وخم�سني �سنة من الهجرة‬
‫(هجرته من مكة �إىل املدينة)‪ ،‬ما يوافق �سنة ‪� 570‬أو ‪ 571‬ميالد ًيا و‪ 52‬ق هـ‪ .‬ولد يتيم‬
‫الأب‪ ،‬وفقد �أمه يف �س ّن مبكرة فرتبى يف كنف جده عبد املطلب‪ ،‬ثم من بعده عمه �أبي طالب‬
‫حيث ترعرع‪ ،‬وكان يف تلك الفرتة يعمل بالرعي ثم بالتجارة‪ .‬تزوج يف �س ِّن اخلام�سة‬
‫والع�رشين من خديجة بنت خويلد و�أجنب منها كل �أوالده با�ستثناء �إبراهيم‪ .‬كان قبل‬
‫الإ�سالم يرف�ض عبادة الأوثان واملمار�سات الوثنية التي كانت منت�رشة يف مكة‪ .‬وي�ؤمن‬
‫امل�سلمون �أن الوحي نزل عليه و ُكلّف بالر�سالة وهو ذو �أربعني �سنة‪� ،‬أمر بالدعوة � ً‬
‫رسا‬
‫لثالث �سنوات‪ ،‬ق�ضى بعده ّن ع�رش �سنوات �أُ َخر يف مكة جماه ًرا بدعوة �أهلها‪ ،‬وكل من‬
‫يرد �إليها من التجار واحلجيج وغريهم‪ .‬هاجر �إىل املدينة املنورة وامل�سماة يرثب �آنذاك‬
‫عام ‪622‬م وهو يف الثالثة واخلم�سني من عمره بعد �أن ت�آمر عليه �سادات قري�ش ممن‬
‫عار�ضوا دعوته و�سعوا �إىل قتله‪ ،‬فعا�ش فيها ع�رش �سنني �أُخر داعيًا �إىل الإ�سالم‪ ،‬و�أ�س�س‬
‫بها نواة احل�ضارة الإ�سالمية‪ ،‬التي تو�سعت الح ًقا و�شملت مكة وكل املدن والقبائل‬
‫وحدالعرب لأول مرة على ديانة توحيدية ودولة موحدة‪ ،‬ودعا لنبذ‬ ‫العربية‪ ،‬حيث َّ‬
‫العن�رصية والع�صبية القبلية‪.‬‬

‫اهلل تعاىل‬
‫يعد �أ�سا�س الإ�سالم هو الإميان ب�إله واحد هو اهلل‪ .‬و �أنه هو خالد‪ ،‬حي ال ميوت‪ ،‬وال‬
‫يغفل‪ ،‬عدل ال يظلم‪ ،‬ال �رشيك له وال ند‪ ،‬وال والد وال ولد‪ ،‬رحمن رحيم‪ ،‬يغفر الذنوب‬
‫ويقبل التوبة وال يفرق بني الب�رش �إال ب�أعمالهم ال�صاحلة‪ .‬وهو خالق الكون ومطلع على‬
‫كل �شيء فيه ومتحكم به‪ .‬ويف املعتقد الإ�سالمي؛ اهلل لي�س كمثله �شيء‪� ،‬أي �أنه مغاير‬
‫متا ًما لكل خملوقاته وبعيد عن تخيالت الب�رش‪ ،‬لهذا فال يوجد له �صورة �أو جم�سم‪� ،‬إمنا‬
‫ي�ؤمن امل�سلمون بوجوده ويعبدونه دون �أن يروه‪ .‬كما �أن اهلل يف الإ�سالم واحد �أحد‪ ،‬لهذا‬
‫يرف�ض امل�سلمون عقيدة الثالوث امل�سيحي بوجود اهلل يف ثالثة �أقانيم‪ ،‬ف�ضالً عن رف�ض‬
‫�ألوهيةامل�سيح الذي هو ب�رش ر�سول يف العقيدة الإ�سالمية‪ ،‬ومن �أهم ال�سور التي ي�ستدل‬
‫الل ُ �أَ َح ٌد َهّ‬
‫الل ُ َّ‬
‫ال�ص َم ُد لمَ ْ َيل ِ ْد َولمَ ْ ُيولَ ْد‬ ‫امل�سلمني بها على ذلك‪� ،‬سورة الإخال�ص‪ُ :‬ق ْل ُه َو َهّ‬
‫َولمَ ْ َي ُك ْن لَ ُه ُك ُف ًوا �أَ َح ٌد ‪.‬‬
‫وهلل يف الإ�سالم عدة �أ�سماء وردت يف القر�آن‪ ،‬وهناك ت�سعة وت�سعني ا�س ًما ا�شتهرت عند‬
‫امل�سلمني ال�سنة با�سم «�أ�سماء اهلل احل�سنى»‪ ،‬وهي �أ�سماء مدح وحمد وثناء ومتجيد هلل‬
‫وردت يف القر�آن �أو على ل�سان �أحد من الر�سل وفق املعتقد ال�سني‪ ،‬ومنها‪ :‬امللك‪ ،‬الق ّدو�س‪،‬‬
‫‪47‬‬ ‫ال�سالم‪ ،‬امل�ؤمن‪ ،‬املهيمن‪ ،‬العزيز‪ ،‬اجلبّار‪ ،‬القاب�ض‪ ،‬البا�سط‪ ،‬الوكيل‪ ،‬الأول‪ ،‬الر�ؤوف‪ ،‬ذو‬
‫اجلالل والإكرام‪ ،‬وغريها‪ .‬واحلقيقة �أن هناك خالف حول عدد الأ�سماء احل�سنى بني‬
‫علماء ال�سنة‪ ،‬وخالف حول الأ�سماء احل�سنى ذاتها‪� .‬إال �أنّ البع�ض رجح �أن عددها ت�سعة‬
‫وت�سعني وف ًقا حلديث �أورده البخاري عن الر�سول حممد �أنه قال‪�« :‬إن هلل ت�سعة وت�سعني‬
‫ا�س ًما‪ ،‬مائ ًة �إال واح ًدا‪ ،‬من �أح�صاها دخل اجلنة»‪.‬‬

‫ال ّتوحيد‬
‫يف اللغة هو جعل ال�شيء واح ًدا َ غري متع ّدد ‪ -‬ويف الدين هو اعتقاد �أنّ اهلل ‪ -‬ع ّز وج ّل ‪ -‬واحد‬
‫يف ُملكه وخلقه وتدبريه ال �رشيك له َو�أنه ه َو وحد املُ�ستحق للعبادة فال ُت�رصف لغريه و�أنه‬
‫ال مثيل له وال �شبيه يف �صفاته وا�سمائه‪� .‬أي�ضا ترجم التوحيد كما كمفهوم التوحيد يف‬
‫الإ�سالم‪ .‬فمن املفهوم الأكرث �أ�سا�سية يف الدين يرى �أن اهلل هو واحد متفرد �أحد‪.‬‬
‫القر�آن ي�ؤكد وجود حقيقة واحدة ومطلقة ت�سمو على العامل؛ فريدة وم�ستقلة وغري‬
‫قابلة للتجزئة ‪ ،‬وهو م�ستقل عن اخللق ب�أكمله‪ .‬اهلل‪ ،‬وفقا للإ�سالم‪ ،‬هو اهلل الأول والآخر‬
‫والظاهر والباطن هو اهلل رب كل �شيء ‪ ،‬ولي�س حمدودا بزمان �أو مبكان وهو اهلل الوا�سع‬
‫الكبري املتعال �إله واحد هو لي�س كمثله �شىء‪ ،‬وهو حميط بجميع خلقه‪،‬واخلري منه و�إليه‪،‬‬
‫وهو اللطيف اخلبري بيده اخلري وهو على كل �شىء قدير‪ ،‬وال�رش لي�س �إليه‪.‬‬
‫ي�شكل التوحيد درة العقد يف عقيدة امل�سلم‪ .‬اجلزء الأول من ال�شهادة هو �إعالن الإميان‬
‫بوحدانية اهلل‪� .‬أن �إ�سناد الألوهية لكيان خملوق واملعروف با�سم ال�رشك‪ ،‬هو الذنب الوحيد‬
‫الذى اليغتفر املذكور يف القر�آن‪ .‬ويعتقد امل�سلمون �أن جممل التعاليم الإ�سالمية تقوم على‬
‫مبد�أ التوحيد‪ .‬هناك عن�رص ال هوادة فيه هو التوحيد ي�ستقر يف قلب املعتقدات الإ�سالمية‬
‫الذي يعترب �أنّ الإ�سالم متميز عن غريه من الديانات الرئي�سية‪.‬‬
‫التاريخ الفكري الإ�سالمي ميكن �أن تفهمه على �أنه تك�شف تدريجي عن الطريقة التي‬
‫�سلكتها �أجيال متعاقبة من امل�ؤمنني لفهم معنى وم�ضامني الوحدانية التى يقرون بها‬
‫ويعتنقونها هلل‪ .‬علماء الدين الإ�سالمي �سلكوا نهجا خمتلفا نحو فهم ذلك الالهوت‬
‫الإ�سالمي‪ ،‬و الفقه‪ ،‬و الفل�سفة‪ ،‬و ال�صوفية ‪ ،‬علماء العلوم الطبيعية الإ�سالمية �إىل حد ما‪،‬‬
‫فقد �سعوا جميعا ل�رشح مبد�أ التوحيد على م�ستوى ما‪.‬‬
‫املالئكة‬
‫يعد الإميان باملالئكة �أحد �أ�سا�سيات الإ�سالم‪ .‬وف ًقا للقر�آن‪ ،‬ف�إن املالئكة ال متلك الإرادة‬
‫احلرة‪� ،‬إمنا خلقوا لطاعة اهلل وت�سبيحه وتنفيذ �أوامره‪ ،‬فهم ال ي�أكلون وال ي�رشبون وال‬
‫يتنا�سلون‪ ،‬بل عباد مكرمون ال يع�صون اهلل ما �أمرهم ويفعلون ما ي�ؤمرون‪ .‬ت�شمل مهام‬
‫املالئكة تو�صيل الوحي‪ ،‬حمل عر�ش اهلل‪ ،‬متجيد اهلل‪ ،‬تدوين �أعمال ال�شخ�ص من �سيئات‬
‫وح�سنات وقب�ض روحه حني وفاته وغريها‪ .‬وي�ؤمن امل�سلمون �أن اهلل خلق املالئكة من‬
‫نور كما خلق اجلان من نار‪ ،‬وخلق �آدم من طني‪ ،‬و�أنها ذات �أجنحة يطريون بها ليبلغوا‬
‫اع» ومنهم من له �أكرث من ذلك‪،‬‬ ‫ما �أمروا به �رسي ًعا‪ ،‬و�أجنحة املالئكة « َمثْنَى َو ُثالثَ َو ُر َب َ‬
‫ففي احلديث �أن النبي حممد ر�أى جربيل ليلة الإ�رساء وله �ستمائة جناح‪ .‬كذلك ي�ؤمن‬ ‫‪48‬‬
‫�س ِم ْعتُ ْم‬‫امل�سلمون �أن الكائنات جمي ًعا ترى املالئكة �إال الإن�سان‪ ،‬لقول النبي حممد‪�« :‬إِ َذا َ‬
‫�س ِم ْعتُ ْم َنهِيقَ الحْ ِ َما ِر َفتَ َع َّو ُذوا‬ ‫�ضل ِ ِه َف�إِ َّن َها َر�أَ ْت َمل َ ًكا َو�إِ َذا َ‬ ‫ا�س�أَلُوا َهّ‬
‫الل َ ِم ْن َف ْ‬ ‫اح ال ِّد َي َك ِة َف ْ‬
‫�صيَ َ‬ ‫ِ‬
‫�شيْ َطانًا»‪ .‬ومن املالئكة املذكورة يف القر�آن ب�أ�سمائها‪ :‬جربيل‬ ‫ال�شيْ َطانِ َف�إِ َّن َها َر�أَ ْت َ‬
‫الل ِ ِم َن َّ‬ ‫ِب َهّ‬
‫�سل ِ ِه َوجِ برْ ِي َل َو ِمي َكا َل‬ ‫وميكائيل‪،‬وذلك يف �سورة البقرة‪َ :‬من َكانَ َع ُد ًّوا ِلّهّل ِ َو َملآئِ َكتِ ِه َو ُر ُ‬
‫ني‬‫اط ُ‬ ‫َف�إِ َّن اللهّ َ َع ُد ٌّو لِّل ْ َكا ِفرِي َن ‪ ،‬وهاروت وماروت يف نف�س ال�سورة‪َ :‬وا َّتبَ ُعوا َما َتتْلُوا َّ‬
‫ال�شيَ ِ‬
‫ال�س ْح َر َو َما‬ ‫ّا�س ِّ‬ ‫ني َك َف ُروا ُي َعل ِّ ُمونَ النَ َ‬ ‫اط َ‬ ‫ال�شيَ ِ‬ ‫�سلَيْ َمانُ َولَ ِك َّن َّ‬ ‫�سلَيْ َمانَ َو َما َك َف َر ُ‬ ‫َعلَى ُمل ْ ِك ُ‬
‫نا ن َْح ُن ِفتْنَ ٌة‬ ‫وت َو َما ُي َعل ِّ َمانِ ِم ْن �أَ َح ٍد َحتَّى َي ُقوال �إِ مَّ َ‬ ‫وت َو َما ُر َ‬ ‫�أُ ْن ِز َل َعلَى المْ َل َ َكينْ ِ ِببَا ِب َل َها ُر َ‬
‫�ضا ِّري َن ِب ِه ِم ْن �أَ َح ٍد‬ ‫َفال َت ْك ُف ْر َفيَتَ َعل َّ ُمونَ ِمنْ ُه َما َما ُي َف ِّر ُقونَ ِب ِه َبينْ َ المْ َ ْر ِء َو َز ْوجِ ِه َو َما ُه ْم ِب َ‬
‫ا�شترَ َا ُه َما لَ ُه فيِ ْال ِآخ َر ِة‬ ‫الل ِ َو َيتَ َعل َّ ُمونَ َما َي�ضرُ ُّ ُه ْم َوال َينْ َف ُع ُه ْم َولَ َق ْد َعل ِ ُموا لمَ َ ِن ْ‬ ‫�إِ َاّل ِب�إِ ْذنِ َهّ‬
‫ْ�س َما �شرَ َ ْوا ِب ِه �أَ ْن ُف َ�س ُه ْم لَ ْو َكانُوا َي ْعل َ ُمونَ ‪ ،‬وملك املوت‪ ،‬الذي مل يذكر له‬ ‫الق َولَبِئ َ‬ ‫ِم ْن َخ ٍ‬
‫ا�سم �آخر يف القر�آن‪ ،‬يف �سورة ال�سجدة‪ُ :‬ق ْل َيتَ َو َّفا ُك ْم َمل َ ُك المْ َ ْو ِت الَّ ِذي ُو ِّك َل ِب ُك ْم ُث َّم ِ�إلىَ َر ِّب ُك ْم‬
‫ُت ْر َج ُعونَ ‪.‬‬
‫ومن املالئكة الأخرى املذكورة بدون ا�سم يف القر�آن‪� :‬إ�رسافيل‪ ،‬ر�ضوان‪،‬الزبانية‪ ،‬حملة‬
‫العر�ش‪ ،‬احلفظة‪ ،‬والكرام الكاتبون‪ .‬وال يرمز امل�سلمون �إىل املالئكة ب�أ�سمائها فقط‬
‫احرتا ًما لها‪ ،‬بل يعظمونها وي�سلمون عليها‪ ،‬فيقولون على �سبيل املثال‪« :‬جربيل» �أو‬
‫«جربيل عليه ال�سالم «‪.‬‬

‫القر�آن كتاب الإ�سالم‬


‫عربي مبني‪ ،‬على‬
‫ّ‬ ‫يعترب امل�سلمون �أن القر�آن كالم اهلل احلريف‪ .‬و�أن �آياته �أنزلت‪ ،‬بل�سان‬
‫حممد من اهلل عن طريق املَلَك جربيل يف منا�سبات عديدة منذ بعثته حواىل عام ‪ 610‬م‬
‫مت تدوين القر�آن بوا�سطة بع�ض �صحابة حممد‬ ‫حتى وفاته يف ‪ 8‬يونيو �سنة ‪ 632‬م‪ .‬وقد ّ‬
‫يف حياته‪� ،‬إال �أنه مل يتم جمعه يف كتاب واحد يف ذلك احلني‪ .‬وقد ُجمع القر�آن يف كتاب واحد‬
‫مت ن�سخه يف عدة ن�سخ وتوزيعها‬ ‫لأول مرة يف زمن �أبي بكر ال�صديق‪ ،‬اخلليفة الأول‪ ،‬ثم َّ‬
‫علي خمتلف الأم�صار امل�سلمة يف عهد عثمان بن عفان‪ ،‬اخلليفة الثالث‪ .‬وي�ؤمن امل�سلمون‬
‫ب�أن القر�آن مل يتغري وب�أن اهلل قد تكفل بحفظه‪ .‬ويجمع امل�سلمون مبختلف طوائفهم على‬
‫ن�سخة واحدة منه حتى الآن‪.‬‬
‫ينق�سم القر�آن �إىل ‪� 114‬سورة‪ ،‬ويحتوي على ‪� 6236‬آية‪ .‬ويوجد بالقر�آن �آيات مكية‬
‫أ�سا�سا على بناء‬
‫و�أخرى مدنية‪ .‬ف�أما املكية فهي التي نزلت قبل الهجرة‪ ،‬وكانت تركز � ً‬
‫العقيدة والإميان وكذلك املوا�ضيع الأخالقية والروحية‪� .‬أما الآيات املدنية الالحقة فنزلت‬
‫بعد الهجرة وتهتم بالت�رشيع والأحكام ومبناق�شة الق�ضايا االجتماعية والأخالقية‬
‫خ�صو�صا والب�رشي عمو ًما‪ .‬والقر�آن �أكرث ان�شغاالً‬
‫ً‬ ‫الالزمة لبناء املجتمع امل�سلم‬
‫بالتوجيه املعنوي من التعليمات القانونية‪ ،‬ويعترب الكتاب املرجعي «للمبادئ والقيم‬
‫‪49‬‬ ‫ال�سنة النبوية هما امل�صدران‬ ‫الإ�سالمية»‪ .‬ويعترب معظم امل�سلمني �أن القر�آن �إىل جانب ُّ‬
‫الأ�سا�سيان للت�رشيع الإ�سالمي‪ .‬كلمة القر�آن م�شتقة من «القراءة»‪ ،‬وتعترب قراءة القر�آن‬
‫�أحد �أهم العبادات يف الإ�سالم‪ ،‬و ُيقر�أ القر�آن باللغة العربية وال يجوز تالوته للتعبد بلغة‬
‫�أخرى‪ .‬وعلى الرغم من وجود ن�سخ مرتجمة من القر�آن مبختلف لغات العامل‪� ،‬إال �أنها ال‬
‫ت�سمى «قر�آنا» وال تعدو جمرد كونها تفا�سري ملعاين القر�آن باللغات الأخرى‪ ،‬حيث ت�ستمد‬
‫قد�سية القر�آن من حرفيته‪ ،‬وهو ما ال يتاح يف الرتجمة ب�سبب االختالفات اللغوية و�أخطاء‬
‫املرتجمني‪..‬‬
‫وكما ي�ؤمن امل�سلمون بالقر�آن ف�إنهم كذلك ي�ؤمنون ب�أن الكتب ال�سابقة على نزول القر�آن‬
‫نزلت من عند اهلل على بع�ض الأنبياء‪ ،‬كالتوراة التي نزلت على مو�سى‪ ،‬والزبوراملنزل‬
‫على داود‪ ،‬و�صحف �إبراهيم‪ ،‬والإجنيل املنزل على امل�سيح عي�سى بن مرمي‪ ،‬ويعتقدون �أن‬
‫القر�آن نا�سخ وملغي ملا فيها من �رشائع‪ ،‬كما يعتقدون �أن الن�سخ احلالية لهذه الكتب طر�أ‬
‫عليها التحريف‪ ،‬والإميان بهذه الكتب �رشط يف الإميان عند امل�سلمني ومن جحد نزولها‬
‫يعد كاف ًرا‪ .‬ومن الآيات التي ي�ستدل بها امل�سلمون على ذلك‪ ،‬الأيات التي وردت يف �سورة‬
‫ين َها ُدوا ْ‬ ‫�سل َ ُموا ْ لِل َّ ِذ َ‬ ‫ون الَّ ِذ َ َ‬ ‫املائدة‪� :‬إ َنّا �أَن َزلْنَا التَ ّْو َرا َة ِفي َها ُه ًدى َونُو ٌر َي ْح ُك ُم ِب َها النَّبِيُّ َ‬
‫ين �أ ْ‬
‫ّا�س‬ ‫�ش َه َداء َفالَ ت َ‬ ‫ا�ست ُْح ِف ُظوا ْ ِمن ِكتَابِ اللهّ ِ َو َكانُوا ْ َعلَيْ ِه ُ‬ ‫َ‬ ‫َوال َّر َّبا ِنيُّ َ‬
‫َخ�ش ْوا النَ َ‬ ‫ار بمِ َ ا ْ‬‫حبَ ُ‬ ‫ون َوالأ ْ‬
‫ون‬ ‫ل َي ْح ُكم بمِ َ ا �أَنز ََل اللهّ ُ َف�أُ ْولَـئِ َك ُه ُم الْ َكا ِف ُر َ‬ ‫َ�شترَ ُوا ْ ِب�آ َيا ِتي َث َمنًا َقلِيالً َو َمن َمّ ْ‬ ‫�ش ْونِ َوالَ ت ْ‬ ‫اخ َ‬ ‫َو ْ‬
‫ُن بِالأُذُنِ َو ِّ‬
‫ال�س َّن‬ ‫نف َوالأُذ َ‬ ‫نف بِالأَ ِ‬ ‫ْ�س َوالْ َعينْ َ بِالْ َعينْ ِ َوالأَ َ‬ ‫ْ�س بِالنَّف ِ‬ ‫َ‬
‫َو َكتَبْنَا َعلَيْه ِْم ِفي َها �أ َّن النَّف َ‬
‫ل َي ْح ُكم بمِ َ ا �أنز ََل اللهّ ُ َف�أُ ْولَـئِ َك‬ ‫َ�ص َّد َق ِب ِه َف ُه َو َك َفّا َر ٌة لَّ ُه َو َمن َمّ ْ‬
‫ا�ص َف َمن ت َ‬ ‫�ص ٌ‬ ‫وح ِق َ‬ ‫ِال�س ِّن َوالجْ ُ ُر َ‬ ‫ب ِّ‬
‫�ص ِّدقًا ِمّلَا َبينْ َ َي َد ْي ِه ِم َن التَ ّْو َرا ِة َو�آتَيْنَا ُه‬ ‫ابنِ َم ْريمَ َ ُم َ‬ ‫ي�سى ْ‬ ‫ِهم ِب َع َ‬ ‫ون َو َق َفّيْنَا َعلَى �آ َثار ِ‬ ‫الظالمِ ُ َ‬ ‫ُه ُم َّ‬
‫ني َولْيَ ْح ُك ْم‬ ‫لإجنِي َل ِفي ِه ُه ًدى َونُو ٌر َو ُم َ‬
‫�ص ِّدقًا ِمّلَا َبينْ َ َي َد ْي ِه ِم َن التَ ّْو َرا ِة َو ُه ًدى َو َم ْو ِع َظ ًة لِّل ْ ُمتَّ ِق َ‬ ‫ا ِ‬
‫ُون َو�أَن َزلْنَا‬ ‫َا�سق َ‬ ‫ل َي ْح ُكم بمِ َ ا �أَنز ََل اللهّ ُ َف�أُ ْولَـئِ َك ُه ُم الْف ِ‬ ‫لإجنِي ِل بمِ َ ا �أَنز ََل اللهّ ُ ِفي ِه َو َمن َمّ ْ‬ ‫�أَ ْه ُل ا ِ‬
‫َاح ُكم َبيْنَ ُهم بمِ َ ا �أَنز ََل‬ ‫�ص ِّدقًا ِمّلَا َبينْ َ َي َد ْي ِه ِم َن الْ ِكتَابِ َو ُم َهيْ ِمنًا َعلَيْ ِه ف ْ‬ ‫َاب بِالحْ َ ِّق ُم َ‬ ‫ِ�إلَيْ َك الْ ِكت َ‬
‫�شاء اللهّ ُ‬ ‫اجا َولَ ْو َ‬ ‫ج َعلْنَا ِمن ُك ْم �شرِ ْ َع ًة َو ِمنْ َه ً‬ ‫اءك ِم َن الحْ َ ِّق لِ ُك ٍ ّل َ‬ ‫ج َ‬ ‫اللهّ ُ َوالَ َتتَّب ِْع �أَ ْه َو ُ‬
‫اءه ْم َع َّما َ‬
‫ج ِمي ًعا‬ ‫ات ِ�إلىَ اهلل َم ْرجِ ُع ُك ْم َ‬ ‫خليرْ َ ِ‬‫َا�ستَبِقُوا ا َ‬ ‫اح َد ًة َولَـ ِكن لِّيَبْل ُ َو ُك ْم فيِ َم�آ �آتَا ُكم ف ْ‬ ‫لجَ َ َعل َ ُك ْم �أُ َّم ًة َو ِ‬
‫ُون ‪.‬‬ ‫َختَلِف َ‬ ‫َفيُنَبِّئُ ُكم بمِ َ ا ُكنت ُْم ِفي ِه ت ْ‬

‫النب ّوة‬
‫ُيع َّرف الأنبياء يف الإ�سالم ب�أنهم �أ�شخا�ص ا�صطفاهم اهلل ليكونوا ر�سله للنا�س‪ ،‬وهم جمرد‬
‫ب�رش لكن اهلل يعطيهم القدرة على عمل املعجزات لإثبات نبوتهم‪ ،‬فمعجزة النبي �سليمان‬
‫على �سبيل املثال كانت التحدث بلغة الطيور ور�ؤية اجلان‪ ،‬ومعجزة امل�سيح كانت الوالدة‬
‫بدون �أب و �إبراء املر�ضى و�إقامة املوتى وكالمه وهو ما زال ر�ضي ًعا‪� ،‬أما معجزة حممد‬
‫فهو القر�آن بحد ذاته‪ .‬ويعتقد امل�سلمون ب�أن كل الأنبياء كانوا يدعون �إىل دين الإ�سالم‬
‫‪50‬‬

‫القر�آن الكرمي‬

‫ولكن بر�ساالت خمتلفة‪� ،‬أي �أنهم دعوا �إىل ذات املبادئ التي يدعو �إليها الإ�سالم ولكن‬
‫وفق ما دعت �إليه ظروف ع�رصهم و�أحوال �شعبهم‪ ،‬وكانت �آخر هذه الر�ساالت ر�سالة‬
‫حممد بن عبد اهلل الذي يعتربها امل�سلمون الر�سالة اخلامتة و�أنه ال �أنبياء بعده‪ .‬وحممد‬
‫مرم‬ ‫ؤ�س�سا لدين جديد‪ ،‬ولكن مّ‬ ‫هو نبي الإ�سالم‪ ،‬وال ينظر �إليه امل�سلمون باعتباره م� ً‬
‫وجمدد للإ�سالم الأ�صلي‪ ،‬وعقيدة التوحيد التي �أنزلها اهلل على الأنبياء من قبل ك�آدم‬
‫و�إبراهيم ومو�سى وعي�سى وغريهم‪ُ .‬ينظر �إىل حممد يف التقاليد الإ�سالمية‪ ،‬على �أنه �آخر‬
‫و�أعظم الأنبياء‪.‬‬
‫على مدى ال�سنوات الثالث والع�رشين الأخرية من حياته‪� ،‬أي ابتداء من �سن الأربعني‪،‬‬
‫مت حفظه وت�سجيله من‬ ‫تلقي حممد الوحي من اهلل عن طريق امللك جربيل‪ ،‬وهو القر�آن‪ ،‬و َّ‬
‫قبل �أتباعه‪ .‬وكما ي�ؤمن امل�سلمون مبحمد ف�إنهم ي�ؤمنون ب�آدم ونوح و�إبراهيم ومو�سى‬
‫وداود و�سليمان وعي�سى امل�سيح وغريهم ك�أنبياء من عند اهلل‪ .‬والر�سل يف الإ�سالم‬
‫ميثلون الكمال الإن�ساين يف �أرقى �صوره وهم �أطهر الب�رش قلو ًبا و�أزكاهم �أخال ًقا‬
‫و�أقواهم قريحة وعقالً‪ ،‬ويعتقد امل�سلمون �أن اهلل ا�صطفى �آل �إبراهيم وبعث من ذريته‬
‫جميع الر�سل و�صوالً �إىل حممد ليدعوا النا�س �إىل عبادته وال ي�رشكوا به �شيئا‪.‬‬
‫ورد يف القر�آن ذكر خلم�سة وع�رشين نبيًا‪ ،‬بع�ضهم ُذكر يف الإجنيل والتوراة بنف�س‬
‫اال�سم‪ ،‬كالنبي �إبراهيم و�إ�سحق ويعقوب ويو�سف و�آدم‪ ،‬والبع�ض ُذكر حتت �أ�سماء‬
‫�أخرى مثل النبي يحيى‪ ،‬الذي ُيدعى «يوحنا املعمدان» يف الكتاب املقد�س‪ ،‬وبع�ضهم ُذكر‬
‫يف تلك الكتب ومل ُيذكر يف القر�آن و�إمنا ُذكر يف احلديث النبوي‪ ،‬مثل النبي دانيال‪ .‬و ُيعظم‬
‫‪51‬‬ ‫امل�سلمون الأنبياء وي�سلمون عليهم وال يدعوهم ب�أ�سمائهم املجردة احرتا ًما وتقدي ًرا لهم‪،‬‬
‫فيقولون على �سبيل املثال‪ « :‬حممد «�صلى اهلل عليه و�سلم‪« ،‬عي�سى امل�سيح «عليه ال�سالم‪،‬‬
‫«�أبانا �آدم «عليه ال�سالم‪ ،‬اعتقا ًدا �أن �آدم هو �أبو الب�رش كما ورد � ً‬
‫أي�ضا يف الكتاب املقد�س‪.‬‬
‫يرف�ض امل�سلمون ال�سنة ت�صوير الأنبياء والر�سل يف �أي �شكل‪� ،‬سواء يف ر�سم �أو متثال‬
‫�أو تقم�ص �أحد النا�س ل�شخ�صيتهم يف عمل متثيلي‪ ،‬يف حني يبيح ال�شيعة ر�سم الأنبياء‪،‬‬
‫وتوجد عدة ر�سوم فار�سية ملحمد والأئمة واملالئكة‪ .‬وقد وردت بع�ض الأحاديث التي‬
‫تفيد بهيئة بع�ض الأنبياء‪.‬‬

‫الدين‬
‫�أو يوم الدين‪� ،‬أو اليوم الآخر‪� ،‬أو غريها من الأ�سماء التي وردت يف القر�آن‪ ،‬هو يوم‬
‫احل�ساب يف العقيدة الإ�سالمية‪ .‬وفيه نهاية العامل واحلياة الدنيا ويجمع اهلل جميع النا�س‬
‫ملحا�سبتهم على �أعمالهم ومن ثم يكون مثواهم اجلنة �أو النار‪ .‬حيث يدخل اجلنة ‪ -‬وهي‬
‫النعيم يف العقيدة الإ�سالمية‪ -‬من كانت �أعماله �صاحلة‪ ،‬ويعذب يف جهنم ‪ -‬وهي اجلحيم‬
‫يف الإ�سالم‪ -‬من كانت �أعماله �سيئة يف احلياة الدنيا‪ .‬ويتناول القر�آن والأحاديث و�صف‬
‫�أحداث يوم القيامة و�أهوالها‪ ،‬وعالمات اقرتابها‪ .‬كما ي�صف النعيم يف اجلنة واملتع التي‬
‫يتمتع بها املرء هناك‪ ،‬كذلك ي�صف عذاب جهنم ومعاناة املذنبني فيها‪ .‬يذكر يف القر�آن �أن‬
‫اهلل وحده يعلم موعد قيام ال�ساعة‪ ،‬وال يعلمها �أحد من خلقه‪ ،‬و�أن ال�ساعة ت�أتي بغتة دون‬
‫توقع من �أحد‪ .‬وي�ؤمن امل�سلمون ال�سنة �أن هناك عالمات ليوم القيامة تنق�سم �إىل جزئني‪:‬‬
‫العالمات ال�صغرى والعالمات الكربى‪.‬‬
‫�س ُك ِّو َر ْت َو ِ�إ َذا‬ ‫ويذكر القر�آن �أهوال يوم القيامة‪ ،‬منها ما جاء يف �سورة التكوير‪�ِ :‬إ َذا َّ‬
‫ال�ش ْم ُ‬
‫و�ش ُح�شرِ َ ْت َو�إِ َذا‬ ‫ي ْت َو�إِ َذا الْ ِع َ�شا ُر ُع ِّطل َ ْت َو�إِ َذا الْ ُو ُح ُ‬ ‫�س ِرّ َ‬ ‫النُ ُّجو ُم ا ْن َك َد َر ْت َو�إِ َذا الجْ ِ بَ ُ‬
‫ال ُ‬
‫�سئِل َ ْت ِب�أَ ِّي َذن ٍْب ُقتِل َ ْت ‪.‬‬
‫و�س ُز ِّو َج ْت َو ِ�إ َذا المْ َ ْو ُءو َد ُة ُ‬
‫�س ِّج َر ْت َو ِ�إ َذا النُّ ُف ُ‬ ‫الْبِ َحا ُر ُ‬

‫الق�ضاء والقدر‬
‫ي�ؤمن امل�سلمون ال�سنة �أن كل �شيء مقدر �سل ًفا من قبل خالق الب�رش وذلك لأن اهلل وحده‬
‫وال�سنَّة وما ا�ستدل به علماء الدين الإ�سالمي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يعلم ما �سيكون‪ ،‬وف ًقا ملا جاء يف الكتاب‬
‫وعلى الرغم من �أن الأحداث مقدرة �سل ًفا‪� ،‬إال �أن الإن�سان ميلك �إرادة حرة يف �أن لديه‬
‫االختيار بني ال�صواب واخلط�أ‪ ،‬وبالتايل فهو م�س�ؤول عن ت�رصفاته لأنه مل يطلع على ما‬
‫قد ُق ِّدر‪ ،‬وكل تلك الأقدار قد مت كتابتها عند اهلل يف اللوح املحفوظ قبل خلق اخللق �أو خلق‬
‫ال�سنة يح�رصون دور الإرادة احلرة الفردية يف �سياق علم اهلل‪ ،‬واملعرفة‬ ‫�آدم‪ .‬ولهذا ف�إن ُ‬
‫امل�سبقة جلميع الأ�شياء‪ .‬يف املقابل‪ ،‬ف�إن فهم ال�شيعة للق�ضاء والقدر �أو كما ي�سمى العدل‬
‫يتمحور حول م�س�ؤولية الإن�سان عن �أفعاله‪ ،‬لكنه يف نف�س الوقت م�سري يف بع�ض الأمور‬
‫التي تفر�ض عليه مثل النوع ومكان امليالد وغري ذلك‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫�أركان الإ�سالم‬
‫تُعد �أركان الإ�سالم اخلم�سة �أهم العبادات يف الإ�سالم عند الطائفة ال�سنيّة والتي ي�شرتك‬
‫معهم فيها امل�سلمون ال�شيعة‪ ،‬و�إن كانت عند ال�سنّة تعد �أ�سا�سيات دخول الإ�سالم؛ فقد‬
‫ا�ستمد علماء الدين ال�سنّة �أركان الإ�سالم من روايات عن النبي منها‪:‬‬
‫روي عن �أبي الرحمن عبداهلل بن اخلطاب يف �صحيح البخاري و�صحيح م�سلم‪:‬‬
‫« ُبني الإ�سالم على خم�س‪� :‬شهادة �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬و�أن حمم ًدا ر�سول اهلل‪ ،‬و�إقام ال�صالة‪،‬‬
‫و�إيتاء الزكاة‪ ،‬و�صوم رم�ضان‪ ،‬وحج البيت»‪.‬‬

‫ف�أركان الإ�سالم كما بينها احلديث هي‪:‬‬


‫‪�.1‬شهادة �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممدا ً ر�سول اهلل‪ :‬وتعد هذه ال�شهادة هي �أ�سا�س دخول‬
‫الإ�سالم عند امل�سلمني ال�سنّة‪ .‬وي�ضيف �إليها امل�سلمون ال�شيعة «ال�شهادة الثالثة»‪،‬‬
‫وهي �شهادة �أن علي بن �أبي طالب ويل اهلل‪.‬‬
‫‪ .2‬ال�صالة‪ :‬وهي �أحد �أهم العبادات اليومية التي يقوم بها امل�سلمون‪ .‬جتب ال�صالة‬
‫على امل�سلمني خم�س مرات يوميًا‪ ،‬ويتجه امل�سلمون يف �صالتهم نحو الكعبة مبكة‪.‬‬
‫وغريال�صالة الواجبة هناك �صلوات �أخرى مثل �صالة العيد و�صالة اجلنازة وغريها‪.‬‬
‫يف العديد من البلدان الإ�سالمية‪ُ ،‬ينادى بالأذان من امل�ساجد عند وقت ال�صالة لتذكري‬
‫امل�سلمني بها‪ .‬تتلى ال�صلوات باللغة العربية‪ ،‬ويقوم امل�سلم ب�آداء حركات مثل الركوع‬
‫وال�سجود وغريها من احلركات وتالوة الآيات القر�آنية والأدعية‪ .‬وبحال فات على‬
‫امل�سلم �أداء �إحدى ال�صلوات يف وقتها فعليه �أدائها متى ذكرها‪.‬‬
‫‪ .3‬الزكاة‪ :‬وهي جزء من املال يدفعه الأغنياء من امل�سلمني من �أموالهم للفقراء والأيتام‬
‫واملحتاجني و�أوجه �أخرى‪ .‬وهي واجبة على كافة امل�سلمني القادرين‪ ،‬وتختلف عن‬
‫ال�صدقات التي يدفعها امل�سلمون تطو ًعا‪.‬‬
‫‪� .4‬صوم رم�ضان‪ :‬ميتنع امل�سلمون يف �شهر رم�ضان عن الطعام وال�رشاب واجلماع‬
‫من الفجر �إىل غروب ال�شم�س‪ ،‬كما �أن عليهم جتنب اخلطايا الأخرى‪ ،‬وزيادة الطاعات‬
‫يف هذا ال�شهر‪ .‬ال�صوم غري واجب على امل�سافر �أو املري�ض الذين ي�شق عليهم ال�صوم‬
‫لكن عليهم ق�ضاء ما عليهم ب�صيام �أيام �أخرى حني تتاح لهم الفر�صة قبل قدوم رم�ضان‬
‫العام القابل‪� ،‬أو ب�إطعام امل�ساكني ملن ال يقدر على ال�صوم �أ�صال مثل كبار ال�سن الذين‬
‫ي�شق عليهم ال�صوم لكرب �سنهم �أو ذوي مر�ض مزمن؛ وال يعد ال�صوم عند امل�سلمني‬
‫�أم ًرا تكليفيا من �أجل �إرهاقهم ولكن هدفه روحي و�صحي وفق املعتقد الإ�سالمي‪ ،‬فهو‬
‫يحافظ على ال�صحة و ُي�ساهم يف ال�شعور بجوع الفقراء وحاجتهم‪ ،‬ويزيد من تقوى اهلل‬
‫ورفع املعاين الإميانية والروحية‪.‬‬
‫‪ .5‬احلج‪ :‬وهو احلج �إىل الكعبة بيت اهلل احلرام يف مدينة مكة �شه َر ذي احلجة‪ .‬وهي‬
‫واجبة على كل م�سلم قادر على �أداء منا�سك احلج على الأقل مرة واحدة يف حياته‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫يجب على امل�سلم �أال يرتدي مالب�س خميطة �أثناء �أداء احلج‪ ،‬وي�ستثنى من ذلك الن�ساء‪ .‬ثم‬
‫يقوم احلاج بالإحرام‪ ،‬وهو �إعالن نيته عن �أداء منا�سك احلج‪ ،‬ثم يقوم بالطواف حول‬
‫الكعبة �سبع مرات‪ ،‬ويقوم بال�سعي بني ال�صفا واملروة �سبعة �أ�شواط‪ ،‬ثم الوقوف بعرفة‬
‫الذي ُيع ُّد �أهم �رشوط احلج التي متيز �شعائر احلج عن منا�سك العمرة‪.‬‬
‫اجلهاد‬
‫يعترب اجلهاد يف �سبيل اهلل �أحد الفرو�ض الإ�سالمية و ُي�سميه البع�ض الركن ال�ساد�س للإ�سالم‪،‬‬
‫و ُيق�سم اجلهاد �إىل نوعني‪ :‬اجلهاد الأكرب وهو جهاد النف�س‪ ،‬واجلهاد الأ�صغر وهو القتال يف‬
‫�سبيل اهلل‪.‬‬
‫بالن�سبة للجهاد الع�سكري‪ُ ،‬يعرفه البع�ض ب�أنه يهدف فقط حلماية الأمة الإ�سالمية والت�صدي‬
‫للعدوان اخلارجي عليها‪� ،‬أو ملحاربة املرتدين �أو املتمردين �أو الدول التي ت�ضطهد امل�سلمني‪،‬‬
‫�أو التي تعرقل الدعوة الإ�سالمية بينما يرى البع�ض �أن الهدف من اجلهاد هو الغزو وتو�سعة‬
‫الأرا�ضي اخلا�ضعة حلكم الدولة الإ�سالمية‪ .‬معظم امل�سلمني اليوم يف�رسون اجلهاد على �أنه‬
‫و�سيلة للدفاع عن امل�سلمني واملقد�سات الإ�سالمية‪� ،‬إ�ضافة لن�رش ال�رشيعة الإ�سالمية وتطبيقها‪.‬‬
‫والقتال يف �سبيل اهلل فر�ض كفاية على امل�سلمني‪� ،‬أي �أنه يكفي قيام البع�ض به لي�سقط عن البقية؛‬
‫ولكنه فر�ض ُع نِّي على احلاكم و�أ�صحاب ال�سلطة‪ .‬بالن�سبة لل�شيعة ال يكون اجلهاد �إال ب�أمر من‬
‫اهلل للإمام املنحدر من �ساللة النبي حممد بن عبد اهلل‪ ،‬وبالن�سبة لل�شيعة الإثني ع�رشية ‪� -‬أكرب‬
‫طوائف ال�شيعة ‪ -‬فهو الإمام حممد املهدي الغائب بح�سب اعتقادهم منذ عام ‪ 868‬م‪.‬‬

‫م�صادر الت�رشيع الإ�سالمي‬


‫�إحدى �أبرز الأمثلة على الداللة القطعية للأحكام يف القر�آن عند امل�سلمني هي ما ورد يف‬
‫اجل ِ ُدوا ُك َّل َو ِ‬
‫اح ٍد‬ ‫�سورة النور عن عقوبة الزانية والزاين‪ ،‬حيث جاء‪ :‬ال َزّا ِنيَ ُة َوال َزّانيِ َف ْ‬
‫الَ ِخ ِر‬ ‫ِمنْ ُه َما ِمائَ َة َجل ْ َد ٍة َو اَل َت�أْ ُخ ْذ ُك ْم ِب ِه َما َر�أْ َف ٌة فيِ ِدي ِن َهّ‬
‫الل ِ �إِ ْن ُكنْتُ ْم ُت�ؤْ ِمنُونَ ِب َهّ‬
‫الل ِ َوالْيَ ْو ِم ْ آ‬
‫ني ‪ ،‬فهذه الآية قطعية الداللة يف ما ا�شتملت عليه من �أعداد‬ ‫َولْيَ�شْ َه ْد َع َذا َب ُه َما َطائِ َف ٌة ِم َن المْ ُ�ؤْ ِمنِ َ‬
‫�أو مقدار معني لأن الألفاظ الواردة بها ال حتتمل �إال معنى واحد دون زيادة �أو نق�صان‪.‬‬
‫‪ .1‬القر�آن‪ :‬هو وحي اهلل لنبيه حممد‪ ،‬وهو امل�صدر الأول للت�رشيع‪ ،‬وهو ما نزل لفظه‬
‫ومعناه من عند اهلل على النبي حممد باللفظ العربي‪ ،‬وقد تعهده اهلل بحفظه من التبديل‬
‫والتحريف‪ .‬وقد ظهر يف الع�رص احلديث �أقلية تقول ب�أن القر�آن هو امل�صدر الوحيد‬
‫لل�رشيعة الإ�سالمية عرفوا الح ًقا بالقر�آنيني‪ .‬وعند امل�سلمني فالقر�آن هو �أ�صل و�أ�سا�س‬
‫الت�رشيع الأول‪ ،‬وقد ُيبني فيه �أ�س�س ال�رشيعة ومعاملها يف العقائد ويف العبادات واملعامالت‬
‫ما بني تف�صيل و�إجمال‪ .‬والقر�آن عند علماء ال�رشيعة قطعي الثبوت‪� ،‬أما داللته على‬
‫الأحكام فقد تكون قطعية وقد تكون ظنية‪ ،‬وهي تكون قطعية بحال كان اللفظ الوارد فيه‬
‫احلكم ال يحتمل �إال معنى واح ًدا‪ ،‬وتكون داللة القر�آن على الأحكام ظنية �إذا كان اللفظ فيه‬
‫يحتمل �أكرث من معنى‪.‬‬
‫وين�ص القر�آن الكرمي على وجوب اتباع �أوامر الر�سول حممد بن‬ ‫ّ‬ ‫‪ .2‬ال�س ّنة النبوية‪:‬‬ ‫‪54‬‬
‫عبد اهلل‪ ،‬ويقول علماء الدين الإ�سالمي �أن اتباع الر�سول يتمثل يف التم�سك بال�سنّة النبوية‬
‫وهي كل قول �أو فعل �أو تقرير ي�صدر عن الر�سول‪ ،‬وي�ؤمنون �أن كالم الر�سول كله‬
‫وحي من اهلل‪ ،‬ولذلك تعترب ال�سنّة النبوية امل�صدر الثاين يف الت�رشيع الإ�سالمي‪ ،‬وقد قام‬
‫العلماء بجمع ال�سنة النبوية يف جمموعة من الكتب مثل �صحيح البخاري و�صحيح م�سلم‬
‫وغريهما من كتب احلديث‪ .‬وتنق�سم ال�سنّة باعتبار �سندها‪� ،‬أي روايتها‪� ،‬إىل ثالثة �أق�سام‬
‫عند الأحناف‪� :‬سنّة متواترة‪� ،‬سنّة م�شهورة‪ ،‬و�سنّة �آحاد‪� ،‬أما جمهور الفقهاء فيق�سمون‬
‫ال�سنّة �إىل متواترة و�أحادية‪� .‬أما ال�سنّة املتواترة فهي ما رواها عن النبي حممد جمع من‬
‫ال�صحابة ي�ستحيل تواط�ؤهم على الكذب عاد ًة ثم رواها عنهم جمع من التابعني ميتنع‬
‫اتفاقهم على الكذب عاد ًة‪ ،‬ثم رواها عنهم جمع من تابعي التابعني ي�ستحيل اتفاقهم على‬
‫الكذب عاد ًة‪ ،‬وحكم ال�سنّة املتواترة �أنها قطعية الثبوت وتفيد العلم واليقني ويجب العمل‬
‫بها‪ .‬وال�سنّة امل�شهورة هي ما رواها عن النبي حممد واحد �أو اثنان �أو جمع من ال�صحابة‬
‫مل يبلغ حد التواتر وال مينع تواط�ؤهم على الكذب عاد ًة‪ ،‬ثم رواها عنهم جمع من التابعني‬
‫ي�ستحيل تواط�ؤهم على الكذب ثم رواها عنهم جمع من تابعي التابعني ي�ستحيل اتفاقهم‬
‫على الكذب عاد ًة‪ .‬وحكم ال�سنّة امل�شهورة �أنها تفيد الطم�أنينة والظن القريب من اليقني‬
‫ومنكرها لي�س بكافر بل ُيحكم بخطئه‪ .‬وال�سنّة الأحادية هي ما رواه عن الر�سول واحد‬
‫�أو اثنان �أو جمع من ال�صحابة مل يبلغوا حد التواتر وال مينع تواط�ؤهم على الكذب عاد ًة‪،‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬وحكم هذه‬ ‫ثم رواها عنهم جمع من التابعني وتابعي التابعني مل يبلغ حد التواتر � ً‬
‫ال�سنّة �أنها ال تفيد اليقني وال العلم و�إمنا تفيد الظن‪.‬‬
‫‪� .3‬أحاديث �أهل البيت‪ُ :‬يعد هذا امل�صدر م�صدر خالف بني املذهبني ال�سني وال�شيعي‪:‬‬
‫فعند ال�شيعة �أن �أحاديث �أهل البيت هي امل�صدر الثالث للت�رشيع‪ ،‬ويجمع كتب احلديث‬
‫لديهم �أقوال النبي �إ�ضافة �إىل �أقوال �أهل البيت كما هو كتاب الكايف للكليني‪ .‬وقد ا�ستدل‬
‫ال�شيعة على حجية �سنة �أهل البيت ب�أدلة كثرية‪ ،‬و�أهم ما ذكروه من �أدلتهم ¬على‬
‫اختالفها ¬ثالثة‪ :‬القر�آن‪ ،‬ال�سنّة النبوية‪ ،‬والعقل‪� .‬أما بالن�سبة للقر�آن فقد ا�ستدلوا ب�آيات‬
‫عدة �أهمها �آيتان‪ ،‬الأوىل �آية التطهري وهي‪َ :‬و َق ْرنَ فيِ ُبيُو ِت ُك َّن َو اَل َتبرَ َّ ْج َن َتبرَ ُّ َج الجْ َ ا ِهلِيَّ ِة‬
‫�س‬ ‫الل ُ لِيُ ْذ ِه َب َعنْ ُك ُم ال ِّر ْج َ‬ ‫نا ُيرِي ُد َهّ‬ ‫ني ال َّز َكا َة َو�أَ ِط ْع َن َهّ‬
‫الل َ َو َر ُ‬
‫�سولَ ُه ِ�إ َمّ َ‬ ‫الُولىَ َو�أَ ِق ْم َن َّ‬
‫ال�صلاَ َة َو�آَ ِت َ‬ ‫ْأ‬
‫ريا ‪ ،‬والثانية‪َ :‬و�إِ َذا َجاء ُه ْم �أَ ْم ٌر ِّم َن الأَ ْم ِن َ�أ ِو الخْ َ ْو ِ‬
‫ف َ �أ َذا ُعوا ْ ِب ِه‬ ‫�أَ ْه َل الْبَيْ ِت َو ُي َط ِّه َر ُك ْم ت َْط ِه ً‬
‫�ض ُل‬ ‫�سو ِل َو ِ�إلىَ �أُوْليِ الأَ ْم ِر ِمنْ ُه ْم لَ َعل ِ َم ُه الَّ ِذي َن َي ْ�ستَنبِ ُطو َن ُه ِمنْ ُه ْم َولَ ْوالَ َف ْ‬ ‫َولَ ْو َر ُّدو ُه ِ�إلىَ ال َّر ُ‬
‫اللهّ ِ َعلَيْ ُك ْم َو َر ْح َمتُ ُه الَ َّتبَ ْعتُ ُم َّ‬
‫ال�شيْ َطانَ �إِالَّ َقلِيلاً ‪ ،‬و�أول �أدلتهم من ال�سنة و�أهمها هو حديث‬
‫الثقلني‪�« :‬إين تركت فيكم ما �أن مت�سكتم به لن ت�ضلوا بعدي‪ :‬كتاب اهلل حبل ممدود من‬
‫ال�سماء �إىل الأر�ض‪ ،‬وعرتتي �أهل بيتي‪ ،‬ولن يفرتقا حتى يردا علي احلو�ض‪ ،‬فانظروا‬
‫كيف تخلفونني فيهما»‪ .‬ويرى ال�شيعة �أن يف هذا احلديث داللة على ع�صمة �أهل البيت‬
‫وبالتايل ف�إن �أحاديثهم تعترب م�صد ًرا من م�صادر الت�رشيع‪ ،‬القرتانهم بالكتاب الذي ال‬
‫‪55‬‬ ‫ي�أتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه وفق هذا احلديث النبوي‪.‬‬
‫اً‬
‫ا�ستدالل‬ ‫‪.4‬الإجماع‪ :‬وهو اتفاق جمع كبري من علماء الأمة على حكم م�س�ألة بعينها‬
‫بالن�صو�ص الواردة فيها‪ ،‬وقد ا�ستنبط علماء الدين الإ�سالمي فكرة الإجماع وف ًقا‬
‫لتف�سريات بع�ض �آيات القر�آن والأحاديث التي يرونها دالة على ذلك‪ .‬وال ينعقد االجماع‬
‫�إال بتحقيق الأمور التالية‪� :‬أن يكون االتفاق على احلكم من املجتهدين الذين بلغوا درجة‬
‫االجتهاد عند �أهل ال�سنّة‪ ،‬وعن الأئمة عند ال�شيعة‪ ،‬وبالتايل فال عربة باتفاق غريهم من‬
‫العا ّمة‪ .‬كذلك يجب �أن يتفق جميع املجتهدين فال ي�شذ واحد منهم‪ ،‬فلو خالف واحد‬
‫أي�ضا يجب �أن يكون املجتهدون من �أ ًّمة‬ ‫منهم فال ينعقد الإجماع وف ًقا للر�أي الراجح‪ً � .‬‬
‫النبي حممد وبالتايل فال عربة باتفاق املجتهدين من غري هذه الأمة‪،‬ويجب �أن يكون‬
‫اتفاق املجتهدين بعد وفاة حممد �إذ ال وجود للإجماع يف حياته مبا �أن م�صادر الت�رشيع‬
‫ريا يجب �أن يكون االتفاق على حكم‬ ‫يف ع�رصه كانت حم�صورة يف القر�آن وال�سنّة‪ .‬و�أخ ً‬
‫�رشعي قابالً لالجتهاد كالإجماع على �أن �أم ًرا ما واجب �أو حرام �أو مندوب �أو ما �إىل‬
‫ذلك‪ .‬والإجماع نوعان‪ :‬الإجماع ال�رصيح وهو �أن يتفق املجتهدون يف ع�رص من الع�صور‬
‫على حكم �رشعي يف واقعة ما ب�إبداء كل منهم ر�أيه �رصاحة‪ ،‬والإجماع ال�سكوتي وهو‬
‫�أن يتحدث بع�ض املجتهدين يف ع�رص من الع�صور بحكم �رشعي يف واقعة ما ويعلم بذلك‬
‫باقي املجتهدين يف نف�س الع�رص في�سكتون دون �إبداء موافقة �أو خمالفة �رصيحة‪.‬‬
‫‪ .5‬القيا�س‪ :‬وهو �إحلاق �أمر غري من�صو�ص على حكمه يف القر�آن �أو ال�سنّة �أو الإجماع‬
‫ب�أمر �آخر من�صو�ص على حكمه يف القر�آن �أو ال�سنّة �أو الإجماع ال�شرتاكهما يف علّة احلكم‪.‬‬
‫قيا�سا على حترمي اخلمر‪ ،‬فقد ورد يف �سورة املائدة �أن‬ ‫ً‬ ‫ومن �أمثلة القيا�س حترمي النبيذ‬
‫حكم اخلمر هو التحرمي و�أن علّة التحرمي هي الإ�سكار‪ ،‬ونف�س العلّة موجودة يف النبيذ‪ ،‬لذا‬
‫اتفق العلماء على �أنه ي�أخذ حكم اخلمر املن�صو�ص عليه‪.‬‬
‫‪ - 6‬االجتهاد‪ :‬وهو تطوع �أحد العلماء �أو جمموعة من العلماء ال�ستنتاج حكم م�س�ألة‬
‫معينة مل يرد ن�ص معني فيها؛ كالأمور احلديثة من التقنيات وغريها‪ .‬وقد ا�شرتط العلماء‬
‫ً‬
‫�رشوطا فيمن يحق له االجتهاد‪.‬‬

‫املذاهب الفقهية الكربى‬


‫املذاهب الفقهية منها ماهو فردي ومنها ماهو جماعي‪ ،‬واملذاهب الفردية ُيق�صد بها املذاهب‬
‫التي تكونت من �آراء و�أقوال جمتهد �أو فقيه واحد‪ ،‬ومل يكن لتلك املذاهب �أتباع وتالميذ‬
‫يقومون بتدوينها ون�رشها‪ ،‬فلم تُنقل �إىل الع�صور الالحقة ب�شكل كامل‪� .‬أما املذاهب‬
‫الفقهية اجلماعية فيُق�صد بها تلك املذاهب التي تكونت من �آراء و�أقوال الأئمة املجتهدين‬
‫م�ضا ًفا �إليها �آراء تالميذهم و�أتباعهم‪ ،‬ثم �أُطلق على هذه املذاهب �أ�سماء ه�ؤالء الأئمة‬
‫ونُ�سبت �إليهم باعتبارهم امل�ؤ�س�سني لها‪ ،‬ولقد قام تالميذ و�أتباع هذه املذاهب اجلماعية‬
‫بن�رشها وتدوينها مما �ساعد على بقائها حتى الآن‪ .‬ومن �أ�شهر املذاهب الفقهية الباقية‬
‫املذاهب الأربعة املعروفة وهي بح�سب الرتتيب التاريخي‪ :‬املذهب احلنفي واملذهب املالكي‬
‫واملذهب ال�شافعي واملذهب احلنبلي واملذهب الظاهري‪ ،‬وتُ�سمى هذه املذاهب مبذاهب‬ ‫‪56‬‬
‫�أهل ال�سنّة‪ ،‬بالإ�ضافة ملذاهب ال�شيعة كاملذهب اجلعفري واملذهب الزيدي‪ ،‬وكذلك املذهب‬
‫الأبا�ضي‪.‬‬

‫املذهب احلنفي‪:‬‬
‫�صاحب هذا املذهب هو الإمام �أبو حنيفة النعمان بن ثابت امللقب «بالإمام الأعظم»‪،‬‬
‫فار�سي الأ�صل؛ ُولد يف الكوفة �سنة ‪699‬م‪ ،‬املوافقة �سنة ‪80‬هـ‪ ،‬ون�ش�أ بها وتويف ببغداد‬
‫�سنة ‪767‬م‪ ،‬املوافقة �سنة ‪150‬هـ‪ .‬يتجه بع�ض امل�ؤرخني والعلماء �إىل القول �أن �أبو حنيفة‬
‫ُيعد من «التابعني» �أي من اجليل الذي عا�رص بع�ض �صحابة النبي حممد‪ ،‬ذلك �أنه نقل‬
‫بع�ض الأحاديث من ال�صحابي �أن�س بن مالك �شخ�صيًا‪ ،‬بالإ�ضافة لعدد من ال�صحابة‬
‫الآخرين‪ .،‬بينما يقول م�ؤرخون �آخرون �أنه يعترب من «تابعي التابعني»‪.‬‬
‫ُيعد �أ�سا�س املنهج االجتهادي لأبي حنيفة هو الأخذ بالقر�آن‪ ،‬ث ّم بال�سنّة النبوية‬
‫ال�صحيحة‪ ،‬وب�أق�ضية اخللفاء الرا�شدين وعا ّمة ال�صحابة‪ ،‬ثم اللجوء �إىل القيا�س‪ .‬لكنه مل‬
‫يكن يلتزم ب�آراء التابعني «فهم رجال ونحن رجال» كما يقول‪ .‬كان �أبو حنيفة مت�شد ًدا �إىل‬
‫�أبعد احلدود يف م�س�ألة احلديث‪ ،‬فكان ال يقبل احلديث عن النبي حممد �إال �إذا روته جماعة‬
‫عن جماعة؛ �أو كان حديثًا اتفق فقهاء الأم�صار على العمل به؛ �أو رواه واحد من ال�صحابة‬
‫يف جمع منهم فلم يخالفه �أحد‪ .‬كما �أنه كان يرف�ض الأحاديث املقطوعة و�أحاديث الآحاد‪،‬‬
‫وي�شرتط يف احلديث املتواتر �أن يكون الراوي عرف املروي عنه‪ ،‬وعا�رشه وتيقن من‬
‫�أمانته‪ .‬وعلى اجلملة كان �أبو حنيفة ُيف�ضل القيا�س على احلديث غري املوثوق‪ ،‬وتو�سع يف‬
‫ا�ستعمال الر�أي ال�ستنباط العلّة اجلامعة بني امل�سائل املقا�سة على بع�ضها البع�ض‪ ،‬فقال‬
‫«باال�ستح�سان»‪ ،‬وهو �أمر �أو�سع من القيا�س عمالً باحلديث النبوي‪« :‬ما ر�آه امل�سلمون‬
‫ح�سنًا فهو عند اهلل ح�سن»‪ ،‬واملراد بذلك حتقيق امل�صالح املتنوعة يف حدود الدين‪ .‬وكان‬
‫ن�صا من الن�صو�ص ال�رشعيّة ويوجب العمل‬ ‫�أبو حنيفة ي�أخذ بالأعراف التي ال تخالف ً‬
‫خ�صو�صا يف جمال التجارة الذي كان له فيه خربة وا�سعة‪ .‬وبهذا قيل عن فقه �أبي‬ ‫ً‬ ‫بها‪،‬‬
‫حنيفة �أنه كان «ي�سري مع احلياة ويراعي م�شاكلها املتنوعة»‪.‬‬

‫املذهب املالكي‪:‬‬
‫م�ؤ�س�س هذا املذهب هو الإمام مالك بن �أن�س املُلقب «ب�شيخ الإ�سالم» و»حجة اجلماعة»‪،‬‬
‫ُولد يف املدينة املنورة �سنة ‪ 711‬م‪ ،‬املوافقة �سنة ‪ 96‬هـ‪ ،‬وتويف �سنة‪795‬م املوافقة �سنة‬
‫‪179‬هـ‪ .‬يتمثل �أ�سا�س الت�رشيع عند مالك يف القر�آن وال�سنّة النبوية‪ .‬وكان املحدثون‬
‫بع�ضا‪ .‬لكن مال ًكا مل يكن يرف�ض القيا�س‪� ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫يف املدينة كثريين ويعرف بع�ضهم‬
‫بناء الأحكام على نظائرها من التي �أجمع عليها �أهل املدينة‪ ،‬وما �أثر من فتاوى اخللفاء‬
‫الرا�شدين و�سائر ال�صحابة �رشط �أال ُيخالف ذلك م�صلحة متوافقة مع مقا�صد ال�رشيعة‪.‬‬
‫وذهب مالك �إىل القول بامل�صالح املر�سلة �أو مبد�أ «اال�ست�صالح» وهو قريب من مبد�أ‬
‫‪57‬‬ ‫أي�ضا �أن تكون هذه امل�صالح متالئمة مع مقا�صد ال�رشيعة‬ ‫«اال�ستح�سان»؛ و�رشطه � ً‬
‫و�أ�صولها‪ .‬فاملراد باال�ست�صالح ت�رشيع احلكم يف واقعة ال ن�ص فيها وال �إجماع‪ ،‬مراعاة‬
‫مل�صلحة مر�سلة غري مقيدة بن�ص يدل على �إثباتها �أو نفيها‪ ،‬فهو بهذا بديل عن القيا�س‬
‫بحال كان الأخري م�ستحيالً ب�سبب فقدان حكم الأ�صل املقا�س عليه‪ .‬وكان مالك يعترب‬
‫عمل �أهل املدينة حجة ت�رشيعية مقدمة على اخلرب والقيا�س؛ وعندما ي�ستغلق عليه �أمر‪،‬‬
‫كان يقول بالال�أدر ّية حتى ال يقع يف حرام‪ .‬و�أ ّدت به جر�أته �أحيانًا �إىل �صدام مع ال�سلطة‪.‬‬
‫فقد قال‪« :‬لي�س على م�ستكره بيعة»؛ فاعترب اخلليفة �أبو جعفر املن�صور هذا الكالم طعنًا‬
‫أي�ضا بعدم �رشعية زواج املتعة‪ ،‬فا�ستعدى عليه بع�ض العبّا�سيني‪)98(.‬‬ ‫بخالفته‪ .‬وقال � ً‬
‫يختلف �أتباع املذهب املالكي يف �صالتهم عن �أتباع باقي املذاهب الإ�سالمية من حيث طريقة‬
‫الوقوف وو�ضعية الأيدي‪.‬‬

‫املذهب ال�شافعي‪:‬‬
‫م�ؤ�س�س هذا املذهب هو الإمام حممد بن �إدري�س ال�شافعي‪ُ ،‬ولد يف غزة عام ‪ 767‬م‪ ،‬املوافقة‬
‫�سنة ‪150‬هـ وتويف �سنة ‪ 820‬م املوافقة للعام ‪ 204‬هـ‪ .‬الزم مال ًكا يف املدينة املنورة وحفظ‬
‫كتاب املوط�أ ف ُعرف يف بغداد»بنا�رص احلديث»‪ .‬والزم � ً‬
‫أي�ضا �أئمة العراق كالإمام «ال�شيباين»‪،‬‬
‫و�أخذ عنه فقه الر�أي‪ ،‬ثم �سافر �إىل م�رص‪ ،‬فانت�رش مذهبه هناك و ُعرف «ب�صاحب املذهبني»‪.‬‬
‫و�أ�سا�س الت�رشيع عند ال�شافعي هو القر�آن وال�سنّة النبوية‪ )95(.‬وال ي�شرتط يف احلديث‬
‫�أن يكون متوات ًرا؛ بل �إنه يقبل �أحاديث الآحاد‪� ،‬رشط �أن يكون الرواة �صادقني موثوقني‪،‬‬
‫كما يقبل ال�شافعي ب�إجماع ال�صحابة و�أهل املدينة‪ ،‬لكنه ُيف�ضل �إجماع علماء الأمة يف كل‬
‫الأم�صار‪ ،‬لأنه �أكرث �ضمانة لوحدة الأمة وم�صلحتها‪ ،‬وهذا ما ميكن ت�سمته بالإجماع‬
‫املو�سع‪ .‬وي�أتي بعد ذلك القيا�س ثم االجتهاد �إذا كان مبنيًا على قيا�س؛ لذلك �أنكر ال�شافعي‬
‫اال�ستح�سان الذي يتجاوز القيا�س ويت�أثر بالتايل بالعامل الذاتي‪ .‬بل �إنه ُيف�ضل القيا�س‬
‫على اال�ستح�سان باعتباره �أكرث �ضمانة ل�رشعيّة الأحكام العتماده �أحكام �سابقة مبنية على‬
‫�أ�صل �أو �إجماع‪ .‬فالعودة �إىل الأ�صول �أكرث حتقي ًقا للعدالة ال�رشعية‪ .‬يختلف ال�شافعيّة يف‬
‫هيئة �صالتهم عن باقي املذاهب الأخرى من بع�ض النواحي‪ ،‬مثل و�ضعيّة الأيدي عند القيام‬
‫والركوع‪ ،‬و�إبقاء ال�سبّابة مرتفعة حتى الت�سليم‪.‬‬

‫املذهب احلنبلي‪:‬‬
‫�صاحب هذا املذهب هو الإمام �أحمد بن حنبل‪ُ ،‬ولد عام ‪ 780‬م املوافقة �سنة ‪164‬هـ يف بغداد‪ ،‬وتويف‬
‫بها ‪ 12‬ربيع الأول عام ‪ 855‬م املوافقة عام ‪ 241‬هـ‪ .‬هو تلميذ لل�شافعي؛ �أخذ عنه ميله �إىل احلديث‪.‬‬
‫ُولد وعا�ش يف الع�رص العبّا�سي الذي كرث فيه اجلدل الكالمي والفقهي‪ ،‬فر�أى يف ذلك اجلدل انحرا ًفا‬
‫عن احلقيقة ال�رشعيّة‪ .‬وكانت م�صنفات احلديث قد و�ضعت حدًا لظاهرة الو�ضع‪ ،‬ف�صار االعتماد على‬
‫احلديث �أم ًرا م�ضمو ًنا؛ فاعتمد �أحمد بن حنبل عليه‪ ،‬و ُعرف مذهبه ب�أنه حمافظ‪.‬‬
‫اعتمد �أحمد بن حنبل على احلديث‪ ،‬واعتربه كافيًا ب�صورة عا ّمة للت�رشيع بعد القر�آن‪ .‬كما �أنه يرجع‬
‫وخ�صو�صا اخللفاء الرا�شدين �رشط �أال تكون خمالفة لأي حديث‪ .‬وكان ُيقدم‬
‫ً‬ ‫�إىل فتاوى ال�صحابة‪،‬‬ ‫‪58‬‬
‫احلديث املر�سل ال�ضعيف الإ�سناد‪ ،‬وحديث الأحاد واحلديث املقطوع على القيا�س‪ .‬فهو ال يلج�أ �إىل‬
‫القيا�س �إال ناد ًرا‪ ،‬لذلك اعتربه بع�ضهم رجل حديث ال رجل فقه‪.‬‬

‫املذهب اجلعفري‪:‬‬
‫ر�أ�س هذا املذهب هو الإمام جعفر بن حممد ال�صادق‪ُ .‬ولد يف املدينة املنورة �سنة ‪702‬م‬
‫املوافقة �سنة ‪80‬هـ وتويف فيها عام ‪ 765‬م املوافقة عام ‪148‬هـ و ُدفن بالبقيع‪ .‬اهتم‬
‫بالفل�سفة �إىل جانب اهتمامه بالعلوم الدينية‪ ،‬فكان مرج ًعا فقهيًا مميزًا‪ .‬ح�رض جمال�سه‬
‫كبار العلماء ك�أبي حنيفة ومالك‪ ،‬وهو الإمام ال�ساد�س يف �سل�سلة الأئمة االثني ع�رش‪.‬‬
‫ي�شبه املنهج االجتهادي للإمام جعفر ال�صادق منهج علماء �أهل ال�سنّة يف �أمور �أ�سا�سية‪،‬‬
‫فهو يعتمد بالتدريج على القر�آن وال�سنّة النبوية واالجماع ثم االجتهاد‪ .‬لكنه ي�ضيف �إىل‬
‫ذلك �أم ًرا �أ�سا�سيًا عند ال�شيعة‪ ،‬هو االعتقاد بالإمامة وما يرتتب عليه من تقييم لل�صحابة‬
‫وفتاواهم و�أحاديثهم واجتهاداتهم بح�سب مواقفهم من �آل البيت‪ .‬ويرتتب على املفهوم‬
‫ال�شيعي لالمامة القول بع�صمة الإمام‪ .‬فكانت اجتهادات الإمام غري قابلة للطعن‪ ،‬لأنه‬
‫مع�صوم عن اخلط�أ والن�سيان واملع�صية؛ بل �إن �أقواله واجتهاداته تدخل حك ًما يف �إطار‬
‫ال�سنّة‪ .‬وال ميكن لكل فرد �أن يدرك معاين القر�آن الباطنة؛ بل هذا �أمر خا�ص بالأئمة‬
‫ريا‬
‫فقط‪ ،‬لأن اجتهاداتهم �أكرث مطابقة من غريها ملقا�صد ال�رشيعة‪ .‬وتت�شدد ال�شيعة كث ً‬
‫يف م�س�ألة القيا�س‪ ،‬فال ُيقبل القيا�س ما مل يكن احلكم املقا�س عليه معلالً بعلة من�صو�ص‬
‫عليها‪� .‬أما القيا�س املفتقر لعلّة من�صو�ص عليها في�صبح ر�أ ًيا‪ ،‬والفقه بالر�أي مرفو�ض‪،‬‬
‫لأنه فعل �إن�ساين لي�س فيه �ضمانة �رشعيّة‪ .‬وي�أخذ الفقه اجلعفري بالإجماع �رشط �أن‬
‫يكون �صاد ًرا عن �أئمة ال�شيعة‪.‬‬
‫�أ ّما �إجماع عا ّمة ال�صحابة فال يكون حجة �إال �إذا كان الإمام الأول لل�شيعة علي بن �أبي‬
‫طالب طر ًفا فيه‪ .‬فالإجماع من حق الأئمة املع�صومني‪� ،‬أما الإجماع العام فهو مرفو�ض‪،‬‬
‫أي�ضا ال يوفر �ضمانة �رشعيّة‪ .‬و�إىل ذلك ال بد من االجتهاد واللجوء �إىل العقل‬ ‫لأنه � ً‬
‫ال�رصف عند عدم وجود ن�ص من قر�آن �أو �سنّة �أو �إجماع الأئمة وذلك لت�أمني م�صلحة‬
‫امل�سلمني‪ ،‬وهذا نوع من اال�ست�صالح‪ .‬لكن االجتهاد لي�س لكل النا�س‪ ،‬فهو �أوالً و� ً‬
‫أ�سا�سا‬
‫للأئمة املع�صومني ومن ثم لف�ضالء العلماء املجتهدين‪� ،‬رشط �أال يخالفوا باجتهاداتهم‬
‫ما جاء به الإمام املع�صوم‪ .‬والإمام حا�رض للظهور �إذا �أخط�أ املجتهدون لكي ي�سدد‬
‫خطاهم ولتبقى الأمة على الطريق امل�ستقيم‪.‬‬

‫مذاهب �أخرى‪:‬‬
‫تُعترب املذاهب اخلم�سة �سالفة الذكر �أكرث املذاهب الإ�سالمية انت�شا ًرا‪ ،‬ويوجد �إىل جانبها‬
‫ب�ضعة مذاهب �أخرى �أقل انت�شا ًرا و�أخرى مندثرة‪ .‬ومن هذه املذاهب‪ :‬املذهب الزيدي‬
‫وم�ؤ�س�سة الإمام زيد بن علي زين العابدين بن احل�سني بن علي بن �أبي طالب املولود‬
‫‪59‬‬ ‫�سنة ‪80‬هـ واملقتول �سنة ‪122‬هـ‪ .‬واملذهب الزيدي قريب يف �أحكامه الفقهية من مذاهب‬
‫�أهل ال�سنّة وخا�صة املذهب احلنفي‪ ،‬وال�سبب يف هذا التقارب هو احتكاك زيد بفقهاءالعراق‬
‫و�أخذه عنهم و�أخذهم عنه وبخا�صة �إمام مدر�سة الر�أي �أبو حنيفة النعمان‪ .‬و ُيعترب‬
‫القر�آن �أول م�صادر ا�ستنباط الأحكام عند الزيد ّية ويليه ال�سنّة النبوية‪ ،‬ومل يقت�رص الفقه‬
‫الزيدي على روايات �أهل البيت يف احلديث بل تلقى بالقبول روايات غريهم من ال�صحابة‪،‬‬
‫مع مالحظة اقت�صار علمائهم على مرويات رجالهم و�أئمتهم يف بع�ض امل�سائل التي‬
‫تت�صل و�أ�صل مذهبهم كما هو احلال بالن�سبة مل�س�ألة الإمامة‪ .‬كما اعتمدوا على االجتهاد‬
‫بالر�أي‪ ،‬فمن �أ�صولهم ا�شرتاط االجتهاد يف الأئمة وهم يوجبون االجتهاد على امل�سلمني‪،‬‬
‫ف�إن عجز امل�سلم عن االجتهاد جاز له التقليد‪ ،‬وتقليد �أهل البيت �أوىل من تقليد غريهم‪،‬‬
‫أي�ضا باال�ست�صحاب وامل�صالح املر�سلة‪ .‬ومن �أ�شهر كتب زيد‪ :‬كتاب املجموع‬ ‫كما �أخذوا � ً‬
‫الفقهي الكبري وكتاب اجلماعة والقلة‪.‬‬
‫أي�ضا هناك املذهب الأبا�ضي وم�ؤ�س�سه الإمام جابر بن زيد الأزدي‪ ،‬وهذا املذهب قريب‬ ‫� ً‬
‫من مذاهب �أهل ال�سنّة وال تكاد تختلف م�صادر �أئمته يف ا�ستنباط الأحكام عن م�صادر‬
‫مذاهب �أهل ال�سنّة يف اجلملة‪ ،‬ولهذا ال يوجد بينهم وبني �أهل ال�سنّة خالف �إال يف بع�ض‬
‫الأحكام منها �إجازة الو�صية للوارث والقول بالو�صية الواجبة‪ ،‬وغريها‪ .‬بالإ�ضافة �إىل‬
‫ذلك هناك ثالثة من الق�ضايا لهم فيها قول‪ .‬ق�ضية �إنكار ر�ؤية اهلل بالآخرة والقول بخلق‬
‫القر�آن واالعتقاد باخللود بالنار للف�ساق ان مل يتب‪ .‬وقد مت اي�ضاح ذلك كله يف كتاب احلق‬
‫الدامغ مل�ؤلفه لأحمد بن حمد اخلليلي‪ .‬كذلك هناك املذهب الظاهري الذي �أ�س�سه الإمام‬
‫داود بن علي بن خلف الأ�صفهاين‪ ،‬وامل�شهور بداود الظاهري لتم�سكه بظواهر ن�صو�ص‬
‫الكتاب وال�سنّة يف ا�ستنباط الأحكام‪ .‬وقد كان الظاهري يف البداية �شافعي املذهب لكنه‬
‫خا�صا نهج فيه الأخذ بظواهر الن�صو�ص ونفى القيا�س �إال �إذا‬ ‫ً‬ ‫اتخذ لنف�سه بعد ذلك مذهبًا‬
‫كان من�صو�ص العلّة ووجدت هذه العلّة يف الفرع‪ ،‬ويرى الظاهري �أن يف عموميات الكتاب‬
‫وال�سنّة النبوية ما يفي ب�أحكام ال�رشيعة‪ .‬وقد برز يف وقت الحق عامل �آخر قام بتدوين‬
‫املذهب ون�رشه وبيانه ف�أطلق عليه لقب امل�ؤ�س�س الثاين للمذهب الظاهري‪ ،‬وهذا الإمام هو‬
‫ابن حزم الأندل�سي‪ .‬و�أ�صول املذهب الظاهري يف ا�ستنباط الأحكام هي القر�آن ثم ال�سنّة‬
‫النبوية‪ ،‬و ُيعترب هذا املذهب من �أكرث املذاهب تو�س ًعا يف العمل بال�سنّة‪ ،‬ثم الإجماع‪ ،‬ولكن‬
‫كان مفهوم الإجماع عند الظاهري مق�صور فقط على �إجماع ال�صحابة دون غريهم‪ ،‬وكان‬
‫املذهب الظاهري ال ي�أخذ بالقيا�س و�أنكر العمل به وبالر�أي �إال يف حالة ال�رضورة عندما ال‬
‫ت�سعفه الن�صو�ص‪ ،‬وكان ُي�سمي ذلك ا�ستدالالً �أو دليالً‪ .‬كما مل ي�أخذ باال�ستح�سان وال‬
‫ب�سد الذرائع وال امل�صالح املر�سلة‪ .‬وللإمام الظاهري م�صنفات كثرية منها‪ :‬كتاب �إبطال‬
‫القيا�س وكتاب �إبطال التقليد‪.‬‬
‫يدي الإمام �أبو‬
‫ومن املذاهب التي مل ُيكتب لها البقاء‪ ،‬املذهب الأوزاعي الذي ت�أ�س�س على ّ‬
‫عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن ُي ْح َمد الأَ ْوزَا ِع ُّي املولود يف مدينة بعلبك بلبنان عام ‪707‬‬
‫م املوافقة لعام ‪ 88‬هـ واملتو ّفى يف بريوت عام ‪ 774‬م‪ .‬املوافقة لعام ‪ 157‬هـ‪.‬‬
‫كان الأوزاعي �أحد �أه ّم الفقهاء الذين �أثروا يف م�سرية الفقه الإ�سالمي يف بالد ال�شام‬ ‫‪60‬‬
‫خ�صو�صا‪ ،‬حيث بقي �أهل دم�شق وما حولها من البالد على مذهبه نح ًوا من‬ ‫ً‬ ‫والأندل�س‬
‫مائتني وع�رشين �سن ًة؛ ث ّم انتقل مذهبه �إىل الأندل�س وانت�رش هناك فرتة‪ ،‬ثم �ضعف �أمره‬
‫أي�ضا �أمام مذهب مالك الذي وجد‬ ‫يف ال�شام �أمام مذهب ال�شافعي‪ ،‬و�ضعف يف الأندل�س � ً‬
‫�أن�صا ًرا وتالميذ يف الأندل�س‪ ،‬بينما مل يجد مذهب الأَ ْوزَا ِع ِّي الأن�صار والتالميذ‪ .‬وكذلك‬
‫كان احلال بالن�سبة ملذهب الإمام الليث بن �سعد امل�رصي‪.‬‬

‫التاريخ الإ�سالمي‬
‫جرت العادة على تق�سيم تاريخ الإ�سالم �إىل عهود اخلالفة املتنوعة التي م ّرت على الدول‬
‫الإ�سالمية والأ�رس احلاكمة التي حكمتها‪ .‬وبطبيعة احلال يبد�أ تاريخ الإ�سالم منذ عهد‬
‫النبي حممد‪ ،‬و ُيطلق على تلك املرحلة ت�سمية «الع�رص النبوي» �أو «�صدر الإ�سالم»‪ ،‬وفيها‬
‫بد�أت الدعوة الإ�سالمية بني العرب وانت�رش الدين اجلديد �شيئًا ف�شيئًا حتى اعتنقه �أغلب‬
‫�سكان �شبه اجلزيرة العربية‪ .‬وبعد وفاة حممد تولىّ �ش�ؤون امل�سلمني ‪ 4‬من كبار ال�صحابة‬
‫وعلي بن �أبي طالب‪ ،‬و ُعرفوا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اخلطاب وعثمان بن ع ّفان‬ ‫هم �أبو بكر ال�صديق وعمر بن‬
‫باخللفاء الرا�شدين‪،‬ويف عهدهم بد�أ التو�سع الإ�سالمي خارج �شبه اجلزيرة العربية‪ .‬وبعد‬
‫عهد اخللفاء الرا�شدين جاء العهد الأموي �أو الع�رص الأموي الذي ا�ستفرد فيه بنو �أميّة‬
‫باخلالفة وفيه ا�ستمر التو�سع الإ�سالمي حتى بلغ �شبه اجلزيرة الأيبريية‪ ،‬ويف �أواخر‬
‫هذا الع�رص ثار بنو العبّا�س بن عبد املطلب ع ّم النبي حممد على احلكم وخلعوا الأمويني‬
‫وا�ستفردوا باحلكم ف ُعرفت هذه الفرتة با�سم «الع�رص العبّا�سي»‪ ،‬وفيها بلغت احل�ضارة‬
‫الإ�سالمية �أوج تقدمها وازدهارها وتقدمت فيها العلوم والآداب تقد ًما مل تعرفه العرب‬
‫دب ال�ضعف‬ ‫أي�ضا «بالع�رص الذهبي للإ�سالم»‪ ،‬ويف �أواخره ّ‬ ‫من قبل ف ُعرف هذا الع�رص � ً‬
‫�إىل ج�سم الدولة وتراجعت هيبة اخلالفة لأ�سباب خمتلفة‪ ،‬فما كان �إال �أن ا�ستفرد عدد‬
‫من احلكام ب�أقاليم خمتلفة ودعوا لأنف�سهم مثل الطولونيني والإخ�شيديني واحلمدانيني‬
‫والفاطميني وال�سلجوقيني؛ ث ّم كانت احلروب ال�صليبية‪ ،‬فقد �شنّت املمالك الأوروبية‬
‫الغربيّة حمل ًة على بالد ال�شام ال�سرتجاع على مدينة القد�س من �أيدي امل�سلمني‪ ،‬فتم ّكنت‬
‫أربع وت�سعني �سنة‪.‬‬ ‫من ذلك وبقي ال�صليبيون يف الأرا�ضي املق ّد�سة نح ًوا من مئ ٍة و� ٍ‬
‫وخالل هذه الفرتة قامت ب�ضع دول �إ�سالمية ا�ستم ّرت بقتال ال�صليبيني وا�سرتجعت‬
‫أوقات �أخرى مثل دولة الأتابكة‬ ‫ٍ‬ ‫منهم بع�ض املدن والقالع �أحيانًا‪ ،‬وفق َدتها ل�صاحلهم يف �‬
‫والأيوبيني‪ ،‬قبل �أن تقوم دولة املماليك يف م�رص وتهزم ال�صليبيني وت�سرتجع كامل بالد‬
‫ال�شام‪.‬‬
‫وخالل هذه الفرتة‪ ،‬كان املغول بقيادة هوالكو خان قد غزوا عا�صمة اخلالفة بغداد‬
‫ريا وخرا ًبا‪ ،‬فنقل اخللفاء العبا�سيون مق ّرهم �إىل مدينة القاهرة � اّإل �أّن‬ ‫و�أمعنوا فيها تدم ً‬
‫خالفتهم كانت قد �أ�صبحت خالف ًة �صوري ًة ذلك �أنّ �سالطني املماليك كانوا قد �أ�صبحوا‬
‫�سادة املوقف بحق‪ .‬وبعد ذلك مل يعد للم�سلمني دولة قو ّية توحدهم كما كان احلال يف بداية‬
‫‪61‬‬ ‫العهد العبّا�سي‪� ،‬إىل‬
‫�أن ظهرت الدولة‬
‫العثمانية على يد‬
‫عثمان‬ ‫ال�سلطان‬
‫الأول‪ ،‬فقد قام‬
‫خلفا�ؤه باال�ستيالء‬
‫على عدد من الدول‬
‫التي مل ي�سبق‬
‫للم�سلمني فتحها‪،‬‬
‫البلقان‪،‬‬ ‫كدول‬
‫�صالح الدين الأيوبي‬
‫الإ�سالم‬ ‫ون�رش‬
‫فيها‪ ،‬ويف عهد �سابع �سالطني هذه الدولة‪ ،‬حممد الثاين‪ ،‬افتتحت الق�سطنطينية بعد‬
‫حماوالت عديدة فا�شلة خالل الأزمنة ال�سابقة‪ ،‬ويف عام ‪ 1516‬م‪ .‬فتح حفيد ال�سلطان‬
‫�سالف الذكر‪� ،‬سليم الأول‪ ،‬بالد ال�شام وم�رص وق�ضى على ال�سلطنة اململوكية وجعل �آخر‬
‫خلفاء بني العبّا�س يتنازل له عن اخلالفة‪ ،‬ف�أ�صبح بنو عثمان بذلك خلفاء امل�سلمني طيلة‬
‫‪� 408‬سنوات‪ ،‬و ُعرف هذا الع�رص «بالع�رص العثماين»‪ ،‬وفيه برزت ب�ضع دولٍ �إ�سالمية‬
‫يف �إيران وما ورائها مثل الدولة التيمورية والدولة ال�صفوية والدولة الهوتكيانية‪ .‬وبعد‬
‫انهيار الدولة العثمانية تف ّرق �شمل امل�سلمني وقامت ع ّدة دول م�ستقلة يجمعها رابط اللغة‬
‫�أو الثقافة �أو الأخ ّوة من دون �أن تكون موحدة فعلاً ‪.‬‬

‫الع�رص النبوي‬
‫ن�ش�أ الدين الإ�سالمي على يد حم ّمد بن عبد اهلل بن عبد املطلب من بني ها�شم‪� ،‬أحد فروع‬
‫قبيلة قري�ش العربية العريقة‪ .‬كان حممد‪ ،‬وف ًقا للم�صادر الإ�سالمية‪ ،‬حنيفيًا قبل الإ�سالم‬
‫يعبد اهلل على ملة �إبراهيم ويرف�ض عبادة الأوثان واملمار�سات الوثنية‪ .‬وكان يذهب �إىل غار‬
‫حراء يف جبل النور على بعد نحو ميلني من مكة في�أخذ معه ال�سويق واملاء فيقيم فيه �شهر‬
‫رم�ضان‪ ،‬وكان يختلي فيه ويق�ضي وقته يف التفكر والت�أمل‪ .‬ي�ؤمن امل�سلمون �أن الوحي نزل‬
‫ل‪:‬‏‏»ما �أنا‬ ‫لأول م ّرة على حممد وهو يف غار حراء‪ ،‬حيث جاءه املالك جربيل‪ ،‬فقال‪:‬‏ «اقر�أ»‪،‬‏ قا ‏‬
‫فغطني حتى بلغ مني اجلهد‪ ،‬ثم �أر�سلني»‬ ‫بقارئ» ‪� -‬أي ال �أعرف القراءة‪ ،‬قال‪:‬‏ «‏ف�أخذين َّ‬
‫فغطني الثانية حتى بلغ مني اجلهد‪ ،‬ثم‬ ‫فقال‪:‬‏ «اقر�أ»‪ ،‬قلت‪:‬‏ «ما �أنا بقارئ»‪ ،‬قال ‪:‬‏ «ف�أخذين َّ‬
‫فغطني الثالثة‪ ،‬ثـم �أر�سلني»‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫�أر�سلني» فقال‪:‬‏ «اقر�أ»‪ ،‬فقلت‪:‬‏ «ما �أنا بقارئ‪ ،‬ف�أخذين َّ‬
‫الَ ْك َر ُم الَّ ِذي َعل َّ َم ِبالْ َقل َ ِم َعل َّ َم‬
‫ْ�سانَ ِم ْن َعل َ ٍق ا ْق َر ْ�أ َو َر ُّب َك ْ أ‬ ‫ا ْق َر�أْ ِب ْ‬
‫ا�س ِم َر ِّب َك الَّ ِذي َخلَقَ َخلَقَ ْ إِ‬
‫الن َ‬
‫ْ�سانَ َما لمَ ْ َي ْعل َ ْم ‪ ،‬ف�أدرك حممد �أن عليه �أن يعيد وراء جربيل هذه الكلمات‪ ،‬ورجع بها‬ ‫الن َ‬ ‫ْ ِإ‬
‫ل‪:‬‏‏‏» َز ِّملُونى زملوين»‪ ،‬فزملوه‬ ‫يرجف ف�ؤاده‪ ،‬فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد‪ ،‬فقا ‏‬
‫حتى ذهب عنه الروع‪ ،‬ثم �أخرب زوجته مبا ح�صل معه‪ ،‬فانطلقت به �إىل ابن عمها ورقة بن‬
‫ربا م�سيحيًا يكتب الكتاب العرباين‪ ،‬فيكتب من الإجنيل بالعربانية‪ ،‬وكان‬ ‫نوفل وكان ح ً‬ ‫‪62‬‬
‫ريا ف�أخربه خرب ما ر�أى‪ ،‬فقال له ورقة‪:‬‏ «هذا النامو�س الذي �أنزله اهلل على‬ ‫�شيخا كب ً‬ ‫ً‬
‫جال�سا على كر�سي بني‬ ‫ً‬ ‫مو�سى»‪ .‬وي�ؤمن امل�سلمون �أن جربيل �آتى حمم ًدا مرة �أخرى‬
‫ال�سماء الأر�ض‪ ،‬ففر منه رعبًا حتى هوى �إىل الأر�ض‪ ،‬‏فذهب �إىل زوجه خديجة فقال‪:‬‏‬
‫‏»دثروين‪ ،‬دثروين‪ ،‬و�صبوا علي ما ًء بار ًدا»‪ ،‬فنزلت �سورة املدثر‪َ :‬يا�أَ ُّي َها المْ ُ َّد ِّث ُر ُق ْم‬
‫اه ُج ْر‪ ،‬وهذه الآيات هي بداية ر�سالته ثم‬ ‫َف�أَ ْن ِذ ْر َو َر َّب َك َف َك رِّ ْ‬
‫ب َو ِثيَا َب َك َف َط ِّه ْر َوال ُّر ْج َز َف ْ‬
‫بد�أ الوحي ينزل ويتتابع ملدة ثالثة وع�رشين عاما ً حتى وفاته‪� .‬أعلن حممد ر�سالته �إىل‬
‫رسا‪ ،‬فكان ممن �سبق �إىل الإ�سالم زوجته خديجة بنت خويلد‪ ،‬وابن عمه علي بن‬ ‫�أ�رسته � ً‬
‫�أبي طالب‪ ،‬و�صديقه املق ّرب �أبو بكر‪ ،‬و�أخذ حممد يدعو �إىل ترك عبادة الأ�صنام وعبادة‬
‫�إله واحد ال �رشيك له والإميان بالآخرة‪ ،‬ولكنه ما كاد يجهر بالدعوة حتى �سخرت منه‬
‫قبيلته قري�ش‪ ،‬و�آذته �أ�شد الإيذاء‪ ،‬وع ّذبت �أتباعه من امل�ست�ضعفني‪ ،‬ف�أخربهم حممد �أن‬
‫اهلل �أذن لهم بالهجرة �إىل احلب�شة‪ ،‬فخرج قرابة ‪ 80‬منهم و�ضموا عثمان بن عفان ومعه‬
‫زوجته رقية بنت حممد‪ ،‬وحاطب بن �أبي بلتعة اللخمي وجعفر بن �أبي طالب‪ .‬ف�أ ّمن‬
‫جنا�شي احلب�شة «�أ�صحمة بن �أبحر النجا�شي» امل�سلمني على �أرواحهم و�أعطاهم حرية‬
‫البقاء يف بالده‪ ،‬فبقي منهم من بقي يف �شتى �أنحاء القرن الإفريقي عامالً على ن�رش‬
‫الدين الإ�سالمي هناك‪.‬‬
‫وزاد يف حرج موقف النبي حممد و�أتباعه يف مكة وفاة ع ّمه �أبي طالب ووفاة زوجته‬
‫خديجة‪ ،‬فخ�رس بفقدهما م�ساعدين قويني‪ ،‬وهكذا ا�شتد ا�ضطهاد قري�ش للم�سلمني من‬
‫�أتباع حممد‪ ،‬الذين كانوا يتحملون اال�ضطهاد �صابرين‪ ،‬عندئذ مل يجد النبي ب ًدا من‬
‫رسا من مكة �إىل مدينة يرثب‪ ،‬وكان نح ٌو من �سبعني رجالً‬ ‫�أن ي�أمر امل�سلمني بالهجرة � ً‬
‫من �أهلها قد �آمنوا بر�سالته يف �إحدى زياراتهم ملكة‪ .‬وما لبث حممد �أن حلق ب�أتباعه‬
‫و�سميت «املدينة‬ ‫�إىل يرثب يرافقه �أبو بكر‪ ،‬وعندما و�صلها قابله �أهلها بتحية النب ّوة ُ‬
‫املنورة»‪ .‬و�أخذ عدد امل�سلمني يتكاثر �شيئًا ف�شيئًا‪� ،‬إىل �أن ا�ستطاعوا �أن يواجهوا �أهل‬
‫مكة يف �ساحات املعارك‪ ،‬فكانت غزوة بدر بتاريخ ‪ 17‬مار�س �سنة ‪624‬م‪ ،‬املوافق يف‬
‫‪ 17‬رم�ضان �سنة اثنتني للهجرة‪ .‬وانت�رص جي�ش امل�سلمني و ُقتِل من املكيني حواىل ‪70‬‬
‫قتيال منهم �أبو جهل عمرو بن ه�شام املخزومي القر�شي �سيد قبيلة قري�ش‪ ،‬يف حني قتل‬
‫�شخ�صا‪ .‬ذلك بالرغم من التفوق العددي جلي�ش‬ ‫ً‬ ‫من امل�سلمني ما ال يتجاوز �أربعة ع�رش‬
‫مكة‪ .‬كما مت �أ�رس ‪ 70‬فر ًدا من قوات جي�ش مكة‪ ،‬و�أُطلق �رساح الكثري منهم الح ًقا مقابل‬
‫فدية‪ .‬وقد �أثارت الهزمية �أهل مكة فجمعوا جموعهم يف العام التايل‪ ،‬والتقوا بامل�سلمني‬
‫عند جبل �أحد وك ّروا عليهم وهزموهم‪ُ .‬قتل عدد كبري من امل�سلمني يف هذه املعركة من‬
‫�ضمنهم حمزة بن عبد املطلب عم حممد الذي يلقبه امل�سلمون ال�سنّة «�سيد ال�شهداء»‪.‬‬
‫وبعد معركة �أحد �أقدم �أبو �سفيان على ح�شد جي�ش كبري‪ ،‬وتوجه به نحو املدينة املنورة‬
‫ريا ملواجهة الغزو‪ ،‬وا�ستخدم �أ�سلو ًبا جدي ًدا‬ ‫ً‬
‫جي�شا كب ً‬ ‫قا�ص ًدا احتاللها‪� .‬أعد حممد كذلك‬
‫‪63‬‬ ‫مل يكن معرو ًفا يف �شبه جزيرة العرب يف ذلك احلني‪ ،‬حيث �أخذ مب�شورة �سلمان الفار�سي‬
‫وقام بحفر خندق حول املدينة و�أ�رضم فيه النريان‪ .‬حينما و�صل حتالف العرب �إىل‬
‫املدينة يوم ‪ 31‬مار�س �سنة ‪ 627‬م فوجئوا باخلندق فقرروا حما�رصة املدينة‪ .‬ا�ستمر‬
‫احل�صار ملدة �أ�سبوعني‪ ،‬بعدها قرر املحا�رصون العودة �إىل ديارهم‪ .‬ويف العام التايل �أبرم‬
‫حممد معاهدة �سالم مع املكيني ُعرفت ب�صلح احلديبية‪ ،‬واتفقوا �أن ت�رسي مفاعيلها طيلة‬
‫ع�رش �سنوات‪.‬‬
‫ت ّوجه امل�سلمون �إىل خيرب بعد �أن �أراحوا بالهم من جهة املكيني‪ ،‬وكانوا �ألف و�ست مئة‬
‫مقاتل‪ ،‬يف مطلع ربيع الأول من العام ال�سابع الهجري‪ ،‬و�أحاط حممد حتركه ب�رسية‬
‫كاملة ملفاج�أة اليهود‪ .‬فو�صل منطقة تدعى الرجيع تف�صل بني خيرب وغطفان ويف الظالم‬
‫حا�رص امل�سلمون ح�صون خيرب واتخذوا مواقعهم بني �أ�شجار النخيل‪ .‬ويف ال�صباح بد�أت‬
‫املعارك‪ ،‬حتى �سقطت �آخر ح�صونهم على يد �رسية بقيادة علي ابن �أبي طالب‪ .‬فاتفق‬
‫معهم حممد على �أن يعطوه ن�صف حم�صولهم كل عام على �أن يبقيهم يف �أرا�ضيهم‪ .‬كما‬
‫بعث حممد يف تلك ال�سنة ر�سائل �إىل العديد من حكام الدول املجاورة‪ ،‬داعيًا �إياهم �إىل‬
‫اعتناق الإ�سالم‪ .‬ف�أر�سل ر�سله �إىل هرقل �إمرباطورالإمرباطورية البيزنطية‪ ،‬وك�رسى‬
‫�شاه فار�س‪ ،‬واملقوق�س عامل الروم يف م�رص‪ ،‬وبع�ض البلدان الأخرى ويف ال�سنوات التي‬
‫�أعقبت �صلح احلديبية‪� ،‬أر�سل حممد قواته �إىل ال�شمال فالتقوا مع القوات البيزنطية يف‬
‫م�ضي ثماين �سنوات‬ ‫ّ‬ ‫غزوة م�ؤتة‪ ،‬لكنهم انهزموا ب�سبب الفارق العددي الكبري‪ .‬وبعد‬
‫على هجرة النبي حممد من مكة‪ ،‬ا�ستطاع �أن يعود �إليها فاحتًا من دون قتال‪ ،‬و�أعلن عف ًوا‬
‫عا ًما عن كل �أهل مكة‪ ،‬با�ستثناء ع�رشة منهم ممن قاموا بنظم ال�شعر لهجائه‪،‬ف�سارع‬
‫�أهلها �إىل االن�ضواء حتت لوائه واعتناق الإ�سالم دينًا‪ ،‬ثم �أقدم على تدمري جميع متاثيل‬
‫الآلهة العربية بداخل الكعبة وحولها‪ .‬و�أمر بالل بن رباح احلب�شي‪� ،‬أحد ال�صحابة و�أول‬
‫م�ؤذن يف الإ�سالم‪� ،‬أن ي�صعد الكعبة وي�ؤذن بال�صالة‪.‬‬
‫وعا�ش النبي حممد �سنتني بعد فتح مكة‪ ،‬ويف ال�سنة العا�رشة للهجرة خرج للحج يف �أكرث‬
‫من مائة �ألف من امل�سلمني‪ .‬وعند جبل عرفات �ألقى عليهم خطبته التي تعترب د�ستور‬
‫الإ�سالم‪ ،‬فقد بينّ فيها �أ�س�س الإ�سالم ومبادئه‪ ،‬ونادى بامل�ساواة بني النا�س‪ ،‬ال فرق يف‬
‫ذلك بني العبد احلب�شي واحلر العربي‪ ،‬وقر�أ عليهم �آخر ما نزل من القر�آن‪":‬الْيَ ْو َم �أَ ْك َمل ْ ُت‬
‫�سالَ َم ِدينًا" ومل مي�ض على حجة‬ ‫يت لَ ُك ُم الإِ ْ‬ ‫لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َو�أَتمْ َ ْم ُت َعلَيْ ُك ْم ِن ْع َمتِي َو َر ِ‬
‫�ض ُ‬
‫الوداع ثالثة �أ�شهر حتى مر�ض النبي حممد باحل ّمى‪ ،‬فل ّما ر�أى الأن�صار ا�شتداد املر�ض‬
‫عليه �أحاطوا بامل�سجد‪ ،‬فخرج متوكئًا على علي والعبّا�س والف�ضل �أمامهما‪ ،‬فجل�س يف‬
‫�أ�سفل مرقاه من املنرب وقال للنا�س �أنه مالق ربه ال حمال‪ ،‬فلم ي�سبق لنبي قبله �أن خلد يف‬
‫ريا‪ ،‬تويف النبي‬ ‫قومه حتى يخلد فيهم‪ ،‬وبعد �أن �أو�صى امل�سلمني باملهاجرين والأن�صار خ ً‬
‫حممد يوم ‪ 8‬يونيو �سنة ‪ 632‬م‪ ،‬املوافق يف ‪ 12‬ربيع الأول �سنة ‪ 11‬هـ‪ ،‬وهو يف الثالثة‬
‫وال�ستني من عمره‪،‬‏ و ُدفن ببيت زوجته عائ�شة بجانب امل�سجد النبوي‪ ،‬ويف هذا الوقت‬
‫كان الإ�سالم قد انت�رش يف �شبه اجلزيرة العربية بالكامل‪.‬‬
‫‪64‬‬

‫�إجتماع عند اخلليفة‬

‫ع�رص اخللفاء الرا�شدين (‪ 661–632‬م‪:).‬‬


‫بعد وفاة حممد اختلف �أتباعه على هوية ال�شخ�ص الذي �سيخلفه يف احلكم‪ ،‬حيث اجتمع‬
‫فر�شح �سعد بن عبادة نف�سه و�أيده يف ذلك‬‫ّ‬ ‫جماعة من امل�سلمني يف �سقيفة بني �ساعدة‪،‬‬
‫الأن�صار‪ ،‬يف حني ر�شح عمر بن اخلطاب �أبا بكر ال�صديق م�ؤك ًدا على �أحقية املهاجرين يف‬
‫اخلالفة‪ .‬ولقي هذا الرت�شيح ت�أييد امل�سلمني ممن كانوا يف ال�سقيفة‪ ،‬يف حني اعرت�ض عليه‬
‫الح ًقا جمموعة من امل�سلمني كانوا من�شغلني بتجهيز جثمان حممد ودفنه؛ متم�سكني‬
‫بعلي بن �أبي طالب كخليفة نظ ًرا لقرابته ومكانته من حممد‪ ،‬وي�ضيف بع�ض امل�ؤرخني‬
‫لهذة الأ�سباب مبايعة امل�سلمني له يف غدير خم‪ .‬بعد ا�ستقرار الأمر لأبي بكر يف املدينة‪،‬‬
‫عمل على حمايتها وحماربة بع�ض القبائل التي ارتدت عن الإ�سالم بعد وفاة النبي‪ ،‬ويف‬
‫�أيامه كان ظهور م�سيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة‪ ،‬ف�أر�سل �إليه من حاربه وقتله‪ ،‬و ُعرفت‬
‫هذه احلروب «بحروب الردة»‪ ،‬وكذلك ادعت �سجاح بنت احلارث النبوة وبقيت على ذلك‬
‫�إىل خالفة معاوية بن �أبي �سفيان ف�أ�سلمت وح�سن �إ�سالمها‪ .‬ومل يكد �أبو بكر يفرغ من‬
‫فوجه‬
‫وجه جيو�شه لفتح البالد الواقعة خارج �شبه اجلزيرة العربية‪ّ ،‬‬ ‫قتال املرتدين حتى ّ‬
‫ع ّدة جيو�ش �إىل بالد ال�شام‪ ،‬وولىّ عليها كلها �أبا عبيدة بن اجلراح‪ ،‬وكان منها �رسية كان‬
‫قد �أعدها حممد قبل مماته بقيادة �أ�سامة بن زيد ملحاربة الروم رغم اعرتا�ض البع�ض‬
‫ل�صغر �سن قائدها‪ .‬وكان �أول ا�صطدام هو الذي وقع يف وادي عربة جنوبي البحر امليت‪،‬‬
‫فانت�رصت فيه احلملة العربية بقيادة يزيد على ق ّوات البيزنطيني التي تراجعت نحو غزة‪.‬‬
‫وملّا بلغت هرقل‪� ،‬إمرباطور الروم‪� ،‬أنباء املعارك الأوىل التي خا�ضتها القوات العربية يف‬
‫نظم خطة الدفاع‪ ،‬وولىّ �أخاه ثيودور�س قائ ًدا على جي�ش‬ ‫ال�شام‪� ،‬أ�رسع �إىل اجلنوب حيث ّ‬
‫الروم‪ ،‬ف�أر�سل �أبو بكر �إىل خالد بن الوليد الذي كان ُيقاتل الفر�س يف العراق يطلب �إليه‬
‫�أن ي�رسع �إىل جندة القوات العربية يف ال�شام‪ ،‬فلبّى خالد طلبه بعد �أن كانت مدينة احلرية‬
‫قد ا�ست�سلمت له‪ ،‬فكانت بذلك �أول غنيمة نالها امل�سلمون خارج �شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫ما كاد خالد يبلغ ب�رصى حتى اجتمع ق ّواد القوات العربية و�أمروه عليهم‪ ،‬فرتب اجلي�ش‬
‫ترتيبًا جدي ًدا‪ ،‬وبد�أت الغارات املنظمة على مدن ال�شام‪ .‬وبتاريخ ‪� 8‬أغ�سط�س �سنة ‪634‬م‪،‬‬
‫ً‬
‫مر�ضا �شدي ًدا‪ ،‬ف�أدرك دن ّو �أجله و�أقدم على �إعالن خالفة عمر بن اخلطاب‬ ‫مر�ض �أبو بكر‬
‫‪65‬‬ ‫كي ال ي�صبح هناك �شقاق بني امل�سلمني بعد وفاته‪ ،‬على الرغم من �أن اجلدال كان قائ ًما عما‬
‫�إذا كان ينبغي �أن يتوىل علي بن �أبي طالب اخلالفة �أم ال‪ .‬تويف �أبو بكر يوم الإثنني يف ‪23‬‬
‫�أغ�سط�س من نف�س ال�سنة و ُدفن �إىل جانب النبي حممد‪.‬‬
‫تولىّ عمر بن اخلطاب اخلالفة بعد وفاة �أبو بكر‪ ،‬فتابع الفتوحات التي بد�أها امل�سلمون يف‬
‫ع�رص �سلفه‪ ،‬ف�سقطت مدينة ب�رصى ثم تبعتها فحل على �ضفة الأردن ال�رشقية‪ .‬وبعد‬
‫ح�صار �ستة �أ�شهر ا�ست�سلمت دم�شق بعد �أن غادرتها حاميتها البيزنطية‪ .‬وقد �أعطى خالد‬
‫بن الوليد �أهل دم�شق �أمانًا على �أنف�سهم و�أوالدهم و�أموالهم وكنائ�سهم وبيوتهم ما داموا‬
‫ي�ؤدون اجلزية‪ .‬ودخلت القوى العربية حم�ص وحماة‪ ،‬ولكن �أنباء احل�شد الكبري الذي �أعده‬
‫هرقل‪ ،‬بقيادة �أخيه ثيودور�س يف فل�سطني‪ ،‬والذي قيل �أنه و�صل يف تعداده �إىل ‪100,000‬‬
‫رجل‪ ،‬جعلت خال ًدا يتخلّى عن بع�ض املدن ال�شاميّة ليواجه جي�ش الروم يف وقعة حا�سمة‪،‬‬
‫فانحدر �إىل وادي الريموك الذي ي�صب نهره يف الأردن‪ ،‬وجمع جيو�شه كلها وع�سكر بها‬
‫جنوبي النهر‪ ،‬فكان النهر فا�صالً بني جيو�شه وبني الروم‪ ،‬ف�إذا هاجمها العد ّو‬ ‫ّ‬ ‫على مرتفع‬
‫ا�ستطاعت �أن تنجو بنف�سها �إىل ال�صحراء التي متتد ورائها‪ ،‬فيتعذر على الروم اللحاق‬
‫بها‪ .‬ولكن ما �أن اجنلى غبار املعركة الكربى التي ن�شبت بني الفريقني حتى ظهرت هزمية‬
‫البيزنطيني يف فرار عدد من كتائب اجلي�ش ويف كرثة اجلرحى والقتلى‪ .‬وكان من بني القتلى‬
‫ثيودور�س نف�سه‪ .‬ويف الوقت نف�سه توجهت قوة عربية بقيادة �أبي عبيدة بن اجل ّراح �إىل‬
‫�سهل البقاع‪ ،‬ورابطت خارج �أ�سوار بعلبك‪ ،‬وبعد ح�صار طويل وقتال �شديد ا�ست�سلمت‬
‫احلامية البيزنطية يف املدينة‪ .‬وتوجهت قوة عربية �أخرى بقيادة يزيد بن �أبي �سفيان �إىل‬
‫�صلحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫�سواحل لبنان‪ ،‬فتم اال�ستيالء على �صور و�صيدا وبريوت وجبيل وعرقة‬
‫كانت احلملة العربية يف العراق بقيادة �سعد بن �أبي و ّقا�ص تُنازل جي�ش الفر�س بقيادة القائد‬
‫ر�ستم فرخزاد‪ ،‬يف معركة القاد�سية قرب احلرية‪ .‬وكانت النتيجة �أن ُقتل ر�ستم وت�شتت اجلي�ش‬
‫الفار�سي وم�ضى �سعد بجي�شه �إىل املدائن عا�صمة الفر�س‪ ،‬فدخلها بعد �أن ف ّر منها يزدجرد الثالث‬
‫�آخر الأكا�رسة ال�سا�سانيني‪ ،‬مع فلول من اجلي�ش‪ ،‬ولك ّن �سعدًا طاردهم من مدينة �إىل مدينة حتى‬
‫ا�شتبك معهم يف �آخر واقعة كبرية وهي معركة نهاوند‪ .‬وكانت مقاومة الفر�س �أ�شد من مقاومة الروم‬
‫يف ال�شام‪ ،‬فكرثت املعارك‪ ،‬وكرثت ال�ضحايا‪ ،‬ومل يتم فتح فار�س � اّإل عام ‪ 640‬م‪ .‬وكان العرب قد‬
‫اتخذوا الكوفة مع�سك ًرا يوجهون منه الق ّوات لإخ�ضاع الفر�س الذين كانت تتجدد مقاومتهم‪ ،‬حتى‬
‫مت �إخ�ضاع الأقاليم ال�رشقية كخرا�سان ومنها تقدموا �إىل ما وراء النهر وفتحوا بعد ذلك �أذربيجان‬
‫و�أرمينيا وكامل القوقاز‪ .‬وانطلق عمرو بن العا�ص من القد�س �إىل م�رص‪ ،‬بعد �أن �شاور اخلليفة‪،‬‬
‫�سال ًكا الطريق التي �سلكها قبله قمبيز والإ�سكندر الأكرب‪ .‬وا�صطدمت القوة العربية بالروم يف‬
‫مدينة الفرماء‪ ،‬مدخل م�رص ال�رشقية‪ ،‬ف�سقطت املدينة بيد عمرو‪ ،‬ثم تبعتها بلبي�س‪ .‬وكان املقوق�س‪،‬‬
‫عامل الروم على م�رص‪ ،‬قد حت�صن بح�صن �إزاء جزيرة الرو�ضة على النيل‪ ،‬ورابط عمرو يف عني‬
‫�شم�س‪ .‬وملا و�صلت الإمدادات من اخلليفة عمر‪ ،‬تقاتل الفريقان يف منت�صف الطريق بني املع�سكرين‪،‬‬
‫فانهزم املقوق�س واحتمى باحل�صن‪ ،‬وملّا �ضيّق عمرو عليه احل�صار ا�ضطر �إىل القبول بدفع اجلزية‪.‬‬
‫وتابع عمرو ا�ستيالءه على املدن امل�رصية‪ ،‬ومل يبق �إال الإ�سكندرية ق�صبة الديار امل�رصية وثانية‬
‫حواجز الإمرباطورية البيزنطية‪ .‬وكان اال�سطول البيزنطي يحميها من البحر‪ ،‬ولكن �شدّة‬ ‫‪66‬‬
‫الغارات الرب ّية العربية‪ ،‬وموت هرقل وارتقاء ابنه ق�سطنطني الثاين عر�ش الإمرباطورية وكان‬
‫حديث ال�سن‪ ،‬جعلت الروم يوافقون على �رشوط ال�صلح‪ ،‬فجلت قواتهم و�أ�سطولهم عن املدينة‬
‫ودخلها امل�سلمون فاحتني‪ ،‬و�أطلقوا احلرية الدينية للأقباط و�أ ّمنوهم على ممتلكاتهم و�أرواحهم‪.‬‬
‫وبتاريخ ‪ 1‬نوفمرب �سنة ‪644‬م‪ ،‬املوافق يف ‪ 24‬ذي احلجة �سنة ‪23‬هـ‪ُ ،‬طعن عمر بن اخلطاب على‬
‫يد �أبو ل�ؤل�ؤة الفار�سي وهو ُي�صلي‪ ،‬ومل يلبث طويالً حتى فارق احلياة يف ‪ 7‬نوفمرب من نف�س‬
‫ال�سنة‪ ،‬ودُفن �إىل جانب النبي حممد و�أبي بكر‪ .‬وكان عمر �أ ّول من حمل لقب «�أمري امل�ؤمنني»‪ ،‬وبلغ‬
‫عدد املدن التي افتتحت يف خالفته حواىل ‪ 4050‬مدينة‪ ،‬ويف عهده د ّونت الدواوين و�أُن�شئ الربيد‬
‫و ُو�ضع التاريخ الهجري‪.‬‬
‫وبعد عمر بن اخلطاب بويع عثمان بن ع ّفان خليفة للم�سلمني‪ ،‬و�أ�شهر ما حدث يف خالفته فتح‬
‫�شمال �أفريقيا وغزو �سواحل �شبه اجلزيرة الأيبريية وجزيرة قرب�ص ون�سخ القر�آن الذي ُجمع‬
‫يف خالفة �أبي بكر و�إر�سال ن�سخ منه �إىل جميع البلدان املفتوحة حديثًا وحرق ما �سواه من الن�سخ‪.‬‬
‫ويف عهد عثمان بدت بوادر االن�شقاق بني الها�شميني والأمويني‪ ،‬ذلك �أن عثما ًنا �أوكل بع�ض الأمور‬
‫�إىل نفر من �أهله و�أقاربه‪ ،‬فعزل �أغلب الوالة وولىّ الكوفة الوليد بن عقبة‪ ،‬وكان �أخاه من �أمه؛‬
‫وعزل عمرو بن العا�ص عن م�رص ووالها عبد اهلل بن �أبي ال�رسح العامري‪ ،‬وكان �أخا عثمان من‬
‫الر�ضاعة؛ وعزل �أبا مو�سى الأ�شعري عن الب�رصة ووالها ابن خاله عبد اهلل بن عامر‪ ،‬فنقم عليه‬
‫كثري من النا�س و�أتت املدينة املنورة وفود من م�رص والكوفة والعراق وحا�رصوا مقر اخلليفة‪،‬‬
‫ابني علي بن �أبي طالب‬ ‫فدافع عنه بع�ض ال�صحابة مثل حممد بن �أبي بكر واحل�سن واحل�سني ّ‬
‫وعبد اهلل بن الزبري‪،‬ولكنهم مل يتمكنوا من حمايته ف ُقتل على يد الث ّوار يف داره بتاريخ ‪ 17‬يوليو‬
‫�سنة ‪ 656‬م‪ ،‬املوافق يف ‪ 18‬ذي احلجة �سنة ‪ 35‬هـ‪ ،‬ودُفن يف مقربة البقيع‪.‬‬
‫لعلي بن �أبي طالب‪،‬فبايعه جميع من كان يف املدينة من ال�صحابة‬ ‫بعد مقتل عثمان ح�صلت البيعة ّ‬
‫والتابعني والث ّوار‪ .‬يروى �إنه كان كارهًا للخالفة يف البداية واقرتح �أن يكون وزي ًرا �أو م�ست�شا ًرا �إال‬
‫�أن بع�ض ال�صحابة حاولوا �إقناعه ف�ضلاً عن ت�أييد الثوار له‪ ،‬ويروي ابن خلدون والطربي �أنه قبل‬
‫خ�شية حدوث �شقاق بني امل�سلمني‪ .‬ومنذ اللحظة الأوىل يف خالفته �أعلن علي �أنه �سيطبق مبادئ‬
‫الإ�سالم وتر�سيخ العدل وامل�ساواة بني اجلميع بال تف�ضيل �أو متييز‪ ،‬كما �رصح ب�أنه �سي�سرتجع‬
‫كل الأموال التي اقتطعها عثمان لأقاربه واملقربني له من بيت املال‪ ،‬ف�أقدم يف �سنة ‪ 36‬هـ على عزل‬
‫الوالة الذين عينهم عثمان وتعيني والة �آخرين يثق بهم‪ ،‬خمال ًفا بذلك ن�صيحة بع�ض ال�صحابة‬
‫مثل ابن عبا�س واملغرية بن �شعبة الذين ن�صحوه بالرتوي يف اتخاذ القرار‪ .‬وبعد ب�ضعة �أ�شهر‬
‫من ا�ستالمه احلكم‪ ،‬طالبت عائ�شة بنت �أبي بكر وزوجة النبي حممد‪ ،‬طالبت الأخذ بث�أر عثمان‪،‬‬
‫وان�ضم �إليها طلحة والزبري بن العوام و�ساروا ومن تبعهم �إىل الب�رصة لال�ستيالء عليها‪،‬فلحقهم‬
‫علي وح�صلت بني الفريقني معركة اجلمل امل�شهورة‪ ،‬فانت�رص علي ومن معه و ُقتل طلحة ووىل‬
‫الزبري ومن بقي معه �إىل املدينة‪ ،‬و�أر�سل علي عائ�شة �إىل املدينة مع �أخيها حممد بن �أبي بكر‪ ،‬وبذلك‬
‫انتهت الفتنة يف هذه اجلهة‪ .‬ثم جمع علي جيو�شه لقتال معاوية بن �أبي �سفيان وايل بالد ال�شام‬
‫المتناعه عن مبايعته ومطالبته ب�أخذ ث�أر عثمان‪ ،‬فوقعت بني الفريقني معركة �صفني ال�شهرية‪،‬‬
‫‪67‬‬ ‫وبعدها اتفق علي مع معاوية �أن يعني كل منهما حك ًما من طرفه ليف�صال اخلالف‪ ،‬وتهادنا على ذلك‬
‫وحررا به عهدًا بني �أبي مو�سى الأ�شعري بالنيابة عن علي وعمرو بن العا�ص بالنيابة عن معاوية‪،‬‬
‫واجتمع احلكمان لإيجاد حل للنزاع‪ ،‬فدار بينهما جدال طويل‪ ،‬واتفقا يف النهاية على خلع معاوية‬
‫وعلي وترك الأمر للم�سلمني الختيار اخلليفة‪ .‬خرج احلكمان للنا�س لإعالن النتيجة التي تو�صال‬
‫�إليها‪ ،‬ف�أعلن �أبي مو�سى الأ�شعري خلع علي ومعاوية‪ ،‬لكن عمرو بن العا�ص �أعلن خلع علي وتثبيت‬
‫معاوية‪ .‬بعد حادثة التحكيم عاد القتال من جديد وا�ستطاع معاوية �أن يحقق بع�ض االنت�صارات‬
‫و�ضم عمرو بن العا�ص م�رص بالإ�ضافة �إىل ال�شام وقتل واليها حممد بن �أبي بكر‪ .‬ورغم �أن علي‬
‫مل يقم ب�أي فتوحات طوال فرتة حكمه �إال �أنها ات�صفت بالكثري من املنجزات املدنية واحل�ضارية منها‬
‫تنظيم ال�رشطة و�إن�شاء مراكز متخ�ص�صة خلدمة العامة كدار املظامل ومربد ال�ضوال وبناء ال�سجون‪،‬‬
‫و�أمر �أبا الأ�سود الد�ؤيل الكناين بت�شكيل حروف القر�آن لأول مرة‪.‬‬
‫وبتاريخ ‪ 24‬يناير عام ‪ 661‬م‪ ،‬املوافق يف ‪ 17‬رم�ضان عام ‪ 40‬هـ‪ ،‬كان علي ي�ؤم امل�سلمني ب�صالة الفجر‬
‫يف م�سجد الكوفة‪ ،‬و�أثناء ال�صالة �رضبه عبد الرحمن بن ملجم ب�سيف م�سموم على ر�أ�سه‪ ،‬وتقول‬
‫فحمل �إىل بيته‬
‫بع�ض الروايات �أن علي بن �أبي طالب كان يف الطريق �إىل امل�سجد حني قتله بن ملجم‪ُ ،‬‬
‫وجيء له بالأطباء الذين عجزوا عن معاجلته فتويف بعدها بثالثة �أيام‪ ،‬حتديدًا ليلة ‪ 21‬رم�ضان من عام‬
‫‪ 40‬هـ عن عمر يناهز ‪ 64‬عا ًما ح�سب بع�ض الأقوال‪ ،‬واختُلف يف املح ّل الذي دُفن فيه‪.‬‬

‫الع�رص الأموي (‪ 750–661‬م‪:).‬‬


‫وبعد قتل الإمام علي رابع اخللفاء الرا�شدين‪ ،‬بويع البنه احل�سن يف العراق واحلجاز‬
‫وتهامة واليمن وباقي البالد الإ�سالمية ما عدا ال�شام وم�رص‪ .‬الفتنة بني جنوده وان�سحب‬
‫كثري ممن كان حوله‪ .‬فلما ر�أى ذلك كتب �إىل معاوية �أنه م�ستعد للتنازل �إليه عن حقه يف‬
‫اخلالفة ب�رشط �أن يعطيه ما يف بيت مال الكوفة وخراج والية دارابجرد الفار�سية و�أن ال‬
‫ي�سب عليًا وال يجعل اخلالفة وراثية يف عائلته‪،‬و�أن تعود اخلالفة �إليه �أو �إىل �أخيه احل�سني‬
‫بحال وفاة معاوية‪ ،‬وذلك وفق امل�صادر ال�شيعية‪ .‬وبعد ذلك تنازل احل�سن ملعاوية وكتب‬
‫�إىل قي�س بن �سعد قائد جيو�شه ب�أن ُيبايع معاوية‪ ،‬فدخل الأخري الكوفة و�صارت له‬
‫اخلالفة على جميع الأقاليم من دون م�شارك �أو منازع‪ ،‬فكان م�ؤ�س�س ال�ساللة الأموية‪.‬‬
‫اتخذ معاوية بعد ذلك من مدينة دم�شق عا�صمة له ف�أ�صبحت يف عهده حمور الن�شاط‬
‫ال�سيا�سي واالجتماعي للدولة الإ�سالمية‪� .‬أما احل�سن بن علي فقد عاد �إىل املدينة املنورة‬
‫و�أقام بها �إىل �أن تويف حواىل ال�ساد�س من مار�س �سنة ‪ 670‬م‪ ،‬املوافق يف ‪� 7‬أو ‪� 28‬صفر‬
‫�سنة ‪50‬هـ و ُدفن يف البقيع‪ ،‬وقال البع�ض �أنه مات م�سمو ًما بينما قال �آخرون �أنه تويف‬
‫بالقرحة‪ .‬و�أهم ما ح�صل يف �أيام معاوية ح�صار مدينة الق�سطنطينية لأول مرة من‬
‫قبل امل�سلمني‪ ،‬وت�أ�سي�س عقبة بن نافع مدينة القريوان بتون�س‪ ،‬ودخول �سعد بن عثمان بن ع ّفان‬
‫مدينة �سمرقند‪ .‬ويف �سنة ‪56‬هـ بايع معاوية النا�س البنه يزيد بوالية العهد‪ ،‬فامتنع احل�سني بن علي‬
‫رص احل�سني على امتناعه و�سار من‬ ‫بن �أبي طالب وتبعه بع�ضهم‪ .‬وملّا بويع ليزيد بعد موت �أبيه �أ� ّ‬
‫املدينة املنورة �إىل الكوفة ملحاربة يزيد‪ ،‬فالتقى بجنوده يف املو�ضع املعروف بكربالء‪ ،‬وعند و�صول‬
‫‪68‬‬

‫من الع�صر الأموي‬

‫جي�ش الأمويني تخلّى �أهل الكوفة عن جندة احل�سني ومل يبق معه �إال �أهله و�أ�صحابه‪ .‬خري عمر بن‬
‫�سعد قائد اجلي�ش الأموي احل�سني بني مبايعة يزيد او القتال فلما راى احل�سني ا�رصارهم على‬
‫اجباره على اال�ست�سالم والبيعة ليزيد رف�ض هو وا�صحابه البيعة ليزيد‪ .‬وجرت املعركة بتاريخ‬
‫‪ 10‬حم ّرم �سنة ‪61‬هـ‪ ،‬املوافق يف ‪� 12‬أكتوبر �سنة ‪ 680‬م‪ ،‬وانتهت مبقتل احل�سني و�أهل بيته‪ ،‬فكان‬
‫�صدى م�ؤمل يف جميع �أنحاء العامل الإ�سالمي‪.‬‬
‫ً‬ ‫لهذا‬
‫تواىل على من�صب اخلالفة بعد مقتل الإمام احل�سني �إثنا ع�رش خليفة وا�ستمرت اخلالفة الأموية‬
‫نح ًوا من ت�سعني �سنة وانت�رش الإ�سالم يف ظلها انت�شا ًرا عظي ًما‪ ،‬ففي �سنة ‪ 705‬م‪ .‬افتتحت بالد‬
‫املغرب على يد مو�سى بن ن�صري من قبل اخلليفة الوليد بن عبد امللك‪ ،‬ثم �أر�سل مو�سى قائد جي�شه‬
‫طارق بن زياد يف حملة ع�سكرية �إىل فتح الأندل�س‪ ،‬فا�ستطاع الأخري الو�صول �إىل �شبه اجلزيرة‬
‫الأيبريية �سنة ‪ 711‬م‪ .‬وقاتل القوطيني وراح يفتح القالع واملدن الواحدة تلو الأخرى حتى �سقطت‬
‫كامل �شبه اجلزيرة ب�أيدي امل�سلمني عدا اجلبال ال�شمالية الغربية منها‪ .‬ثم توغل امل�سلمون يف �أوروبا‬
‫حتى �أوقفهم �شارل مارتل يف تور بفرن�سا عام ‪732‬م وذلك يف معركة دامية �أنقذت �أوروبا �أمام‬
‫اندفاع الفاحتني امل�سلمني‪ .‬هذا يف الغرب‪� ،‬أما يف ال�رشق فكانت �ألوية الدولة الأموية ترفرف يف ال�سند‬
‫وكا�شغر وط�شقند‪ ،‬ويف ال�شمال ثبّت امل�سلمون �أقدامهم يف �أرمينيا و�سفوح جبال القوقاز اجلنوبية‪،‬‬
‫�أما يف اجلنوب فكان املحيط الهندي حائالً طبيعيًا منع امل�سلمني من جتاوزه‪.‬‬
‫انهمك بع�ض اخللفاء الأمويني يف ملذاتهم‪ ،‬وان�رصفوا عن �ش�ؤون الدولة �إىل نزاعهم مع بع�ض‬
‫�أفراد البيت الأموي‪ .‬و�صادف ذلك �إعالن الثورة العبّا�سية التي تدعو لبني العبّا�س‪ ،‬فكان �ضعف‬
‫اخللفاء وان�شغالهم يف �أمورهم اخلا�صة ونقمة النا�س عليهم �أ�سبا ًبا �أدت �إىل جناح الثورة العبّا�سية‬
‫وانت�شارها بني الرعيّة وب�شكل خا�ص الفر�س الذين �أبعدهم الأمويون عن منا�صب الدولة‪.‬‬

‫الع�رص الع ّبا�سي (‪ 1258–750‬م‪ 1517–1261 .‬م‪:).‬‬


‫اندلعت الثورة العبّا�سية يف مقاطعة خرا�سان بقيادة �أبي م�سلم اخلرا�ساين عام ‪ 747‬م‪.‬‬
‫�سقط ذلك الإقليم بيد الث ّوار ثم �سقطت مدينة الكوفة يف العراق �سنة ‪749‬م‪ ،‬ويف �أواخر‬
‫‪69‬‬

‫من الع�صر العبا�سي‬

‫ال�سنة نف�سها بويع �أبو العبا�س ال�سفاح باخلالفة يف م�سجد الكوفة‪ .‬قام مروان بن حممد‬
‫�آخر اخللفاء الأمويني مبحاولة للت�صدي للثورة العبّا�سية‪ ،‬فالتقى بقواتهم على �ضفة‬
‫نهر الزاب‪،‬وهو فرع من نهر دجلة‪ ،‬فانهزم �أمام القوات الثائرة ومتكن العبّا�سيون من‬
‫احتالل دم�شق و�أقاموا دولتهم على �أنقا�ض الدولة الأموية‪ .‬ق�ضى �أبو العبّا�س معظم عهده‬
‫يف حمارب ِة ق ّواد العرب الذين نا�رصوا بني �أمية حتى �أبادهم عن بكرة �أبيهم ومل يفلت منهم‬
‫أ�س�س فيها الدولة الأموية‪ ،‬فكانت بذلك‬ ‫�إال عبد الرحمن الداخل الذي ا�ستوىل على الأندل�س و� ّ‬
‫�أقدم الأقاليم عه ًدا باالنف�صال عن اخلالفة العبّا�سية‪ .‬وبعد �أبو العبا�س ال�سفاح‪ ،‬توىل �أخوه‬
‫ؤ�س�س احلقيقي للدولة العبّا�سية‪ ،‬حيث‬ ‫�أبو جعفر املن�صور خالفة امل�سلمني‪ ،‬و ُيعد الأخري امل� ّ‬
‫ا�ستطاع بحزمه وكيده �أن يتغلب على الأحداث اخلطرية التي حدثت يف عهده ومنها خلع‬
‫عي�سى بن مو�سى بن حممد العبا�سي من والية العهد و�أخذ البيعة للمهدي بن املن�صور‪.‬‬
‫أ�سا وحز ًما‬
‫وقد ذهب بع�ض امل�ؤرخني �إىل �أن املن�صور كان �أعظم اخللفاء العبا�سيني �شدة وب� ً‬
‫إ�صالحا‪،‬وقد انحدر منه جميع اخللفاء الذين ارتقوا اخلالفة العبا�سية بعده‪ ،‬وعددهم خم�سة‬ ‫ً‬ ‫و�‬
‫وثالثون‪.‬‬
‫و�شهدت اخلالفة العبا�سية ع�رصها الذهبي يف املدة التي بد�أت بوالية اخلليفة الثالث‪� ،‬أبو عبد‬
‫اهلل حممد املهدي‪ ،‬وانتهت يف زمن اخلليفة التا�سع‪� ،‬أبو جعفر هارون الواثق باهلل‪ .‬وبلغ الع�رص‬
‫الذهبي �أوج ع ّزه وجمده �أيام هارون الر�شيد و�أبو العبا�س عبد اهلل امل�أمون‪ ،‬ويعد امل�ؤرخون‬
‫عهدهما �أزهى ع�صور التاريخ العربي الإ�سالمي على الإطالق‪ .‬ففي هذا العهد ازدهرت‬
‫عا�صمة اخلالفة بغداد و�أ�صبحت حا�رضة العلوم والفنون‪ ،‬واكتمل تدوين كتب ال�صحاح‬
‫ال�ستة وت� ّأ�س�ست املذاهب الفقهية الكربى‪ .‬وظهر عدد من الفال�سفة والأطباء وعلماء الريا�ضيات‬
‫والكيمياء الذين كان لأبحاثهم ت�أثري كبري على تقدم الب�رشية يف الع�صور الالحقة‪ ،‬ومن ه�ؤالء‬
‫ابن �سينا الذي برع يف جمال الطب والفل�سفة والفيزياء وغريها من العلوم‪ ،‬و�أقدم على ترجمة‬
‫الكثري من كتب اليونان �إىل جانب �أبو ن�رص حممد الفارابي‪ ،‬وت�شذيب مبادئها الفل�سفية بحيث‬
‫ال تتعار�ض وال�رشيعة الإ�سالمية‪ .‬كذلك ظهرت الطريقة ال�صوفيّة يف هذه الفرتة واتبعها عدد‬
‫من النا�س‪ ،‬وان�شقت ال�شيعة �إىل طائفتني ب�سبب االختالف على ت�سمية الإمام بعد وفاة جعفر‬ ‫‪70‬‬
‫ال�صادق‪ .‬ونظ ًرا لالنت�شار الوا�سع وال�رسيع للإ�سالم يف ذلك العهد واعتناق دول م�سيحية‬
‫�سابقة ب�أغلبها لهذا الدين‪� ،‬أن الكني�سة الكاثوليكية مل ت�صدر �أي بيان ب�ش�أن هذا املو�ضوع‬
‫حتى تاريخ انعقاد املجمع الڤاتيكاين الثاين‪ ،‬وقد جاء بيانها عندئذ �إيجابيًا وي�صور امل�سلمني‬
‫على �أنهم‪ ،‬كما امل�سيحيني‪ ،‬يدعون للخري وعبادة ذات الإله الذي يعبده امل�سيحيون‪.‬‬
‫أي�ضا بيت احلكمة الذي �ضم خزانة كتب ودار علم وترجمة‪ ،‬و�أن�ش�أت‬ ‫وخالل هذا العهد ُبني � ً‬
‫البيمار�ستانان‪ ،‬فكانت طليعة امل�ست�شفيات احلديثة يف العامل‪ ،‬حيث كانت متنح �شهادات يف‬
‫الطب للطلبة وال ت�سمح ل�سواهم مبداواة النا�س‪ ،‬وت� ّأ�س�ست اجلامعات يف طول البالد وعر�ضها‪،‬‬
‫وما زالت �إحداها‪ ،‬وهي جامعة القريوان‪ ،‬م�ستمرة يف منح ال�شهادات للطالّب‪ ،‬و�أُدخل املنهج‬
‫االختباري التجريبي لتفرقة ال�صحيح من الباطل من النظريات العلمية‪ ،‬و�أبرز من طبّق هذا‬
‫املنهج �أبو علي احل�سن بن احل�سن بن الهيثم‪ ،‬املعروف بكونه «�أول عامل حقيقي يف التاريخ»‪.‬‬
‫كذلك ُيعتقد �أن مبد�أ اال�ست�شهاد باملراجع �أ ّول ما طبق يف هذا الع�رص‪.‬‬

‫تفكك الدولة‪:‬‬
‫�أخذت الدولة العبّا�سية تتفكك �إىل عدد من الدويالت والإمارات منذ نهاية القرن التا�سع‪،‬‬
‫وميكن �إيعاز تفكك الدولة �إىل ع ّدة �أ�سباب منها‪ :‬بروز حركات �شعوبية ودينية خمتلفة‬
‫يف هذا الع�رص‪ ،‬وقد �أ ّدت النزعة ال�شعوبية �إىل تف�ضيل ال�شعوب غري العربية على العرب‪،‬‬
‫حيث قيل �أن هذه ال�شعوب تتفوق على العرب يف احل�ضارة ويف الأدب وال�شعر‪ .‬وقام‬
‫جدل طويل بني طريف النزاع‪ ،‬وانت�رص لكل فريق �أبنا�ؤه من ال�شعراء وامل�ؤلفني ورجال‬
‫ال�سيا�سة‪ .‬وهذا االن�شقاق بني رعايا الدولة �أدى �إىل جناح �أول حركة فار�سيّة انف�صالية‬
‫عن الدولة العبّا�سية‪ ،‬على يد قائد امل�أمون‪ :‬طاهر بن احل�سني الذي �أن�ش�أ الدولة الطاهرية‬
‫يف خرا�سان �سنة ‪ 819‬م‪ ،‬وتوارث حكمها بنوه من بعده‪ .‬وقبل ذلك التاريخ كان الأمري‬
‫العلوي �إدري�س بن عبد اهلل‪ ،‬وهو من �أحفاد الإمام احل�سن بن علي بن �أبي طالب‪ ،‬قد‬
‫أ�س�س دولة الأدار�سة يف املغرب وعا�صمتها مدينة فا�س‪ ،‬فكانت �أول دولة �شيعية قوية‬ ‫� ّ‬
‫يف التاريخ‪ .‬كذلك كان الأمري �إبراهيم بن الأغلب الذي والّه هارون الر�شيد على تون�س‬
‫قد ا�ستقل بها �ساب ًقا و�أ�س�س دولة الأغالبة وعا�صمتها القريوان؛ و�ش ّن ع ّدة حمالت على‬
‫�إيطاليا وفرن�سا وكور�سيكا ومالطة‪.‬‬
‫و�إىل جانب ال�شعوبية ال�سيا�سية‪ ،‬تك ّونت فرق دينية متعددة عار�ضت احلكم العبّا�سي‪.‬‬
‫وكان حمور اخلالف بني هذه الفرق وبني احلكام العبّا�سيني هو «اخلالفة» �أو �إمامة‬
‫امل�سلمني‪ .‬ومن هذه الفرق‪ :‬اخلوارج وال�شيعة والقرامطة واحل�شا�شون‪ ،‬وكان لكل‬
‫جماعة منهم مبادئها اخلا�صة ونظامها اخلا�ص و�شعاراتها وطريقتها يف الدعوة �إىل هذه‬
‫املبادئ الهادفة لتحقيق �أهدافها يف �إقامة احلكم الذي تريد‪ .‬وجعلت هذه الفرق النا�س‬
‫طوائف و�أحزا ًبا‪ ،‬و�أ�صبحت املجتمعات العبا�سيّة ميادين تت�صارع فيها الآراء وتتناق�ض‪،‬‬
‫فو�سع ذلك من اخلالف ال�سيا�سي بني مواطني الدولة العبّا�سية و�ساعد على ت�ص ّدع‬ ‫ّ‬
‫‪71‬‬ ‫الوحدة العقائدية التي هي �أ�سا�س الوحدة ال�سيا�سية‪ .‬ومن العوامل الداخلية التي �شجعت‬
‫على انت�شار احلركات االنف�صالية‪� ،‬إت�ساع رقعة الدولة العبّا�سية‪ ،‬ذلك �أن بعد العا�صمة‬
‫وامل�سافة بني �أجزاء الدولة و�صعوبة املوا�صالت يف ذلك الزمن‪ ،‬جعال الوالة يف البالد النائية‬
‫يتجاوزون �سلطاتهم وي�ستقلون ب�ش�ؤون والياتهم من دون �أن يخ�شوا اجليو�ش القادمة‬
‫من عا�صمة اخلالفة لإخماد حركتهم االنف�صالية والتي مل تكن ت�صل �إال بعد فوات الأوان‪،‬‬
‫وكانت معظم هذه احلركات االنف�صالية فار�سية يف بداية الأمر‪ ،‬ومن الدويالت الفار�سية التي‬
‫ظهرت‪ :‬الدولة الزيادية يف اليمن‪ ،‬الدولة ال�صفارية يف خرا�سان‪ ،‬الدولة الزيدية يف الكوفة ثم‬
‫طرب�ستان‪ ،‬الدولة ال�سامانية يف بالد ما وراء النهر‪ ،‬والدولة ال�ساجية يف �أرمينيا و�أذربيجان‪.‬‬
‫�شهد التاريخ العبّا�سي‪ ،‬منذ عهد املتوكل‪ ،‬ع�رص اال�ستبداد الع�سكري الرتكي الذي دام مائة �سنة‪،‬‬
‫وفيه ا�شتدت حركة االنف�صال عن الدولة العبّا�سية‪ ،‬فانفرد الطولونيون مب�رص‪ ،‬الذين ين�سبون‬
‫�إىل الأمري �أحمد بن طولون ابن �أحد الأتراك الذي واله امل�أمون على م�رص‪،‬انفردوا بحكمها من‬
‫�سنة ‪ 868‬م‪ .‬حتى �سنة ‪ 905‬م‪ .‬ويف �سنة ‪ 909‬م‪� .‬أ�س�س �سعيد بن ح�سني‪ ،‬الذي ادعى �أنه‬
‫حفيد الإمام جعفر ال�صادق‪� ،‬أ�س�س اخلالفة الفاطمية يف تون�س بعد �أن ن�رش �أحد الدعاة‬
‫وا�سمه �أبو عبد اهلل احل�سني‪ ،‬املذهب الإ�سماعيلي بني ال�سكان من الأمازيغ والعرب‪ .‬ويف �سنة‬
‫‪ 932‬م‪ُ .‬قتل اخلليفة �أبو الف�ضل جعفر املقتدر باهلل‪ ،‬فع ّمت الفو�ضى بالدولة العبّا�سية وطغت‬
‫عليها موجة فنت وجراح مل تلتئم ملدة طويلة‪ ،‬وظهرت دويالت جديدة مثل‪ :‬دولة بني بويه‬
‫الفار�سية التي �سيطرت على بالد فار�س والعراق واعترب قيامها انت�صا ًرا للعن�رص الفار�سي‬
‫على الرتكي‪ ،‬والدولة الغزنوية التي ُتن�سب �إىل �ألب تكني الرتكي؛ والتي تو�سعت و�سيطرت على‬
‫الهند وعاد العن�رص الرتكي فيها لينت�رص على العن�رص الفار�سي يف زعامة العامل الإ�سالمي‪.‬‬
‫وبعد ثالثني �سنة من زوال احلكم الطولوين يف م�رص‪ ،‬ا�ستفرد بها الإخ�شيديون الذين ُين�سبون‬
‫لأبي بكر حممد بن طغج بن جف من �أوالد ملوك فرغانة‪ ،‬امللقب بالأخ�شيد‪ ،‬ويف عهدهم انتزع‬
‫�سيف الدولة احلمداين مدينة حلب و�أن�ش�أ فيها دولة �سنة ‪945‬م‪ ،‬و�ضم �إليها �سوريا ال�شمالية‪.‬‬
‫ظل احلكم الإخ�شيدي قائ ًما يف م�رص �إىل �أن ا�ستوىل عليها الفاطميّون �سنة ‪ 969‬م‪ ،‬ومن �أبرز‬
‫�أعمال ه�ؤالء بناء مدينة القاهرة واجلامع الأزهر بهدف ن�رش الدعوة الإ�سماعيلية‪.‬‬
‫ومل يلبث �أن ظهر عن�رص جديد من الأتراك هم الأتراك ال�سالجقة الذين ُين�سبون �إىل �سلجوق‬
‫بن دقاق‪ ،‬وقد ا�ستطاع ه�ؤالء �أن يتفوقوا ع�سكر ًيا على اجليو�ش العبّا�سية‪ ،‬لكنهم ا�ستمروا‬
‫باحرتام من�صب اخلليفة و�سلطته الزمنية‪ .‬حارب ال�سالجقة قبائل الرتك الوثنية ون�رشوا فيها‬
‫الدين الإ�سالمي‪ ،‬وقد ا�ستعان اخلليفة بهم يف بغداد عام ‪ 1055‬م‪ .‬للق�ضاء على ثورة الفاطميني‬
‫الذين ا�ستولوا على العا�صمة وعدّة مدن عراقية‪ ،‬وبذلك �أ�صبحوا يديرون ال�سلطة يف الدولة‬
‫العبّا�سية‪ .‬بعد هذا الن�رص على الفاطميني تطلع طغرل بك‪ ،‬حفيد �سلجوق‪� ،‬إىل الإمرباطورية‬
‫البيزنطية ورغب يف ممتلكاتها‪ ،‬لكنه مل يتمكن من فتح �شيء من الأقاليم التابعة لها‪ ،‬لكن‬
‫خليفته �ألب �أر�سالن ا�ستطاع مب�ساعدة وزيره نظام امللك من تنظيم �أمور الدولة واالنت�صار‬
‫على الإمرباطور البيزنطي رومانو�س ديوجينو�س الرابع يف معركة مالذكرد عام ‪ 1071‬م‪.‬‬
‫وبهذه املعركة انفتحت الطريق �أمام ال�سالجقة للدخول �إىل �آ�سيا ال�صغرى حيث � ّأ�س�سوا دولتهم‬
‫وعرفوا ب�سالجقة الروم‪.‬‬ ‫‪72‬‬
‫ويف الفرتة املمت ّدة بني القرنني احلادي ع�رش والرابع ع�رش‪� ،‬شنّت املمالك الأوروبية‬
‫حروب على ال�رشق ال�ستعادة الأرا�ضي املق ّد�سة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫امل�سيحية الكاثوليكية �سل�سلة‬
‫وخا�ص ًة مدينة القد�س‪ ،‬من �أيدي امل�سلمني‪.‬‬
‫وجهها البيزنطيون �إىل �أوروبا‬ ‫ومن �أ�سباب احلروب ال�صليبية � ً‬
‫أي�ضا‪ :‬النداءات التي ّ‬
‫بعد هزميتهم على يد ال�سالجقة‪ ،‬وفقدانهم �آ�سيا ال�صغرى ل�صاحلهم‪ ،‬للم�ساعدة على‬
‫احلجاج امل�سيحيون من ا�ضطها ٍد‬ ‫ّ‬ ‫التو�سع الإ�سالمي‪ ،‬وكذلك ما القاه‬‫ّ‬ ‫الوقوف يف وجه‬
‫بعد تفكك الدولة العبّا�سية‪ ،‬وهدم كني�سة القيامة �أ ّيام الفاطميني ب�أم ٍر من اخلليفة‬
‫احلاكم ب�أمر اهلل‪.‬‬
‫كذلك كان هناك دوافع �أخرى مثل ت�أ�سي�س املمالك والإمارات وتو�سيع نطاق التجارة يف‬
‫وحب املغامرة والأ�سفار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�رشق‬
‫�أ ّما الدافع املبا�رش للحروب ال�صليبية فكان املوعظة التي �ألقاها البابا �أوربانو�س الثاين‬
‫يف جممع كلرمونت �سنة ‪ 1095‬م‪ ،‬وحثّ فيها العامل امل�سيحي على احلرب لتخلي�ص‬
‫القرب املق ّد�س من �أيدي امل�سلمني‪.‬‬
‫وبنا ًء على ذلك انطلقت احلملة ال�صليبية الأوىل وا�ستولت على املناطق ال�ساحلية‬
‫ال�شاميّة وو�صلت القد�س يف ‪ 15‬يوليو �سنة ‪ 1099‬م‪.‬‬
‫أ�س�س ال�صليبيون بعد فتح القد�س «اململكة الالتينية» التي بلغت �أوج قوتها يف الثلث‬ ‫� ّ‬
‫الأول من القرن الثاين ع�رش‪ ،‬ولكنّها مل تلبث �أن �أخذت تت�ضع�ضع وتنهار‪ ،‬فتم ّكن منها‬
‫امل�سلمون حيث ا�ستطاع نور الدين زنكي‪ ،‬رئي�س دولة الأتابكة‪ ،‬من ا�سرتجاع �إمارة‬
‫ال ّرها �سنة ‪ 1144‬م‪ .‬و�أق�سا ًما من �إمارتَي �أنطاكية وطرابل�س‪.‬‬
‫وحدت م�رصوبالد‬ ‫أ�س�س �صالح الدين الأيوبي الدولة الأيوبية التي ّ‬ ‫ويف �سنة ‪ 1175‬م‪ّ � .‬‬
‫ال�شام واحلجاز وتهامة‪ ،‬بعد �أن خلع العا�ضد لدين اهلل �آخر اخللفاء الفاطميني‪ ،‬و�شن‬
‫حطني �سنة ‪ 1187‬م‪ .‬التي‬ ‫�سل�سلة من املعارك على ال�صليبني كان �أبرزها معركة ّ‬
‫ريا‪ ،‬وا�ستعادوا القد�س و�أغلب املدن ال�شاميّة‪ .‬وبعد‬ ‫رصا كب ً‬
‫انت�رص فيها امل�سلمون ن� ً‬
‫وفاة �صالح الدين دب ال�ضعف واالرتباك يف ج�سم الدولة الأيوبية وزالت نهائيًا يف‬
‫�سنة ‪ 1250‬م‪.‬‬
‫وبعد �سقوط الدولة الأيوبية‪ ،‬قامت على �أنقا�ضها ال�سلطنة اململوكية يف م�رص بعد‬
‫ثورة قام بها املماليك �سنة ‪ 1250‬م‪ ،‬وكانت جحافل املغول الزاحفة من �أوا�سط �آ�سيا‬
‫قد و�صلت �أبواب بغداد‪ ،‬فخرج اخلليفة العبا�سي‪ ،‬امل�ستع�صم باهلل �أبو �أحمد عبد اهلل‬
‫بن امل�ستن�رص باهلل‪ ،‬ملالقاة زعيمها هوالكو خان‪ ،‬فطلب منه الأخري �أن ي�أمر �أهل بغداد‬
‫بو�ضع �سالحهم واخلروج من املدينة‪ .‬بعدها �أعمل املغول ال�سيف يف رقاب �أهل بغداد‬
‫�أربعني يو ًما و�سلبوا الأموال و�أهلكوا الكثريين وقتلوا اخلليفة وابنيه و�أخواته‪ .‬ث ّم توجه‬
‫املغول غر ًبا وا�ستولوا على �أهم املدن ال�سورية مثل دم�شق وحلب‪ ،‬قبل �أن يتحولوا‬
‫جنو ًبا قا�صدين م�رص‪ ،‬فت�صدى لهم جي�ش املماليك بقياة الظاهر بيرب�س و�سيف‬
‫‪73‬‬ ‫الدين قطز‪ ،‬وانت�رص عليهم يف معركة عني جالوت قرب مدينة النا�رصة يف �سنة ‪1260‬‬
‫م‪ .‬و�أراح ال�شام من �رشهم �إىل حني‪ .‬بعد انت�صاره على املغول هاجم بيرب�س ال�صليبني‬
‫ف�صارت قالعهم ومدنهم ت�سقط واحدة تلو الأخرى‪ ،‬وا�ستمر املماليك يلحقون الهزائم‬
‫بال�صليبيني حتى ا�ستوىل ال�سلطان الأ�رشف �صالح الدين خليل على مرف�أهم الرئي�سي‪،‬‬
‫�أي مدينة عكا‪ ،‬فجلوا عن املدن الأخرى وركبوا البحر عائدين لبالدهم‪ .‬ويف عهد املماليك‬
‫ري من خاقانات املغول الإ�سالم دينًا ون�رشوه يف الأقاليم اخلا�ضعة لهم يف �آ�سيا‬
‫�أعتنق كث ٌ‬
‫الو�سطى و�شبه القارة الهندية و�أوروبا ال�رشقيةو�شبه جزيرة القرم‪ .‬ونقل العبّا�سيون‬
‫مقر اخلالفة �إىل مدينة القاهرة‪ .‬تواىل على حكم املماليك يف م�رص‪ ،‬منذ منت�صف القرن‬
‫اخلام�س ع�رش �سالطني �ضعاف‪ ،‬با�ستثناء بع�ض ال�شخ�صيات القوية مثل ال�سلطان‬
‫قايتباي وال�سلطان قن�صوه الغوري الذي �أراد النهو�ض بدولته لكنه مل ي�ستطع‪ ،‬بعد �أن‬
‫كانت جموع العثمانيني قد زحفت على �سوريا وهددت م�رص نف�سها بال�سقوط‪.‬‬

‫الع�رص العثماين (‪ 1923-1517‬م‪:).‬‬


‫ينت�سب العثمانيون �إىل �أرطغرل‪ ،‬زعيم ع�شرية قايي الرتكية املغولية‪ ،‬الذي عمل يف‬
‫خدمة عالء الدين ال�سلجوقي �سلطان قونية‪ .‬وبعد وفاته تولىّ زعامة قومه ابنه عثمان‪،‬‬
‫ف�أخل�ص الوالء للدولة ال�سلجوقية على الرغم مما كانت تتخبط فيه من م�شاكل‪،‬‬
‫وحني تغلب املغول على دولة قونية ال�سلجوقية‪� ،‬سارع عثمان لإعالن ا�ستقالله عن‬
‫ؤ�س�س احلقيقي لهذه الدولة الرتكية الكربى التي نُ�سبت �إليه يف ما‬ ‫ال�سالجقة‪ ،‬فكان امل� ّ‬
‫بعد‪ .‬قام عثمان وخلفا�ؤه بفتح عدد من الإمارات والبلدان املجاورة التي مل ي�سبق لها �أن‬
‫دخلت يف الإ�سالم‪ ،‬مثل اليونان ومقدونيا و�ألبانيا وبلغاريا‪ ،‬ويف �سنة ‪ 1453‬م‪ .‬ا�ستطاع‬
‫�سابع �سالطني �آل عثمان‪ ،‬حممد الثاين‪� ،‬أن يفتح مدينة الق�سطنطينية ويق�ضي على‬
‫ابتهاجا عظي ًما‪ ،‬اعتقا ًدا منهم �أن‬
‫ً‬ ‫الإمرباطورية البيزنطية‪ ،‬فابتهج امل�سلمون حول العامل‬
‫النب�ؤة التي كان النبي حممد قال بها قد حتققت‪« :‬لتفتحن الق�سطنطينية‪ ،‬فلنعم الأمري‬
‫�أمريها ولنعم اجلي�ش ذلك اجلي�ش»‪�.‬سالمية �رشق الأنا�ضول وال�شام‪ ،‬كالدولة التيمورية‬
‫والدولة ال�صفوية‪ ،‬والأخرية ت�أ�س�ست على يد ال�شاه �إ�سماعيل الأول بن حيدر ال�صفوي‪،‬‬
‫يف �إيران و�أذربيجان و�رشق العراق‪ ،‬وكان �إ�سماعيل قد فر�ض الت�شيّع على �أهل البالد‬
‫اخلا�ضعة له وجعل ال�شيعة املقيمني يف �آ�سيا ال�صغرى يثورون على الدولة العثمانية‪،‬‬
‫ف�أخ�ضع ال�سلطان �سليم الأول‪ ،‬حفيد حممد الثاين‪ ،‬هذه الثورة‪ ،‬وذلك ب�أن جمع ال�شيعة‬
‫املقيمني على حدود �إيران والعراق‪ ،‬وفتك بهم جمي ًعا‪ ،‬و ُيقال �أن عددهم و�صل �إىل �أربعني‬
‫�أل ًفا‪ .‬وبعد �إخ�ضاعه للثورة ال�شيعية‪ ،‬قاتل �سليم ال�صفويني وانت�رص عليهم يف معركة‬
‫چالديران‪ .‬وبعد هذه املعركة ح ّول �سليم �أنظاره نحو ال�سلطنة اململوكية‪ ،‬بعد �أن كان‬
‫املماليك قد عقدوا معاهدة �رسية مع ال�صفويني خو ًفا من �سيا�سة �سليم التو�سعية والتي‬
‫كان يهدف من ورائها على ما يظهر يف توحيد جميع البلدان ال�سنيّة حتت تاجه‪.‬‬
‫توجه ال�سلطان �سليم على ر�أ�س جيو�شه �إىل �سوريا وهزم املماليك يف‬ ‫ويف �سنة ‪ 1516‬م‪ّ .‬‬
‫‪74‬‬

‫من الع�صر العثماين‬

‫معركة مرج دابق‪ ،‬ف�سقطت بالد ال�شام بيده‪ ،‬ثم تابع �سريه حتى و�صل م�رص وقاتل‬
‫املماليك قتاالً �شدي ًدا يف معركة الريدانية وتغلّب عليهم ف�سقطت م�رص بيده يف ‪� 13‬أبريل‬
‫�سنة ‪ 1517‬م‪ ،‬وا�ست�صحب معه �أثناء عودته �إىل الق�سطنطينية �آخر اخللفاء العبا�سيني‪،‬‬
‫حممد املتوكل على اهلل‪ ،‬حيث تنازل له عن اخلالفة‪ ،‬ف�أ�صبح بنو عثمان بذلك خلفاء‬
‫امل�سلمني منذ ذلك التاريخ‪.‬‬
‫بعد وفاة ال�سلطان �سليم الأول ارتقى عر�ش الدولة ابنه �سليمان‪ ،‬ويف عهده تقدمت‬
‫الفتوحات تقد ًما عظي ًما‪ ،‬فا�ستوىل العثمانيون على �أقاليم و�إمارات كثرية من �أوروبا‬
‫ال�رشقية وفتحوا مدينة بلغراد‪ ،‬وحا�رصوا مدينة ڤيينا مرتني لكنهم مل ي�ستطيعوا‬
‫اقتحامها‪ .‬وبعد انق�ضاء عهد ال�سلطان �سليمان‪� ،‬أ�صيبت الدولة بال�ضعف والتف�سخ‪،‬‬
‫ومل تنه�ض جمد ًدا �إال يف عهد ال�سلطان حممد الرابع وامل�صلح الكبري حممد كوبرويل‪،‬‬
‫ففي تلك الفرتة هاجم العثمانيون �أوكرانيا وا�ستولوا عليها‪ ،‬ثم حا�رصوا ڤيينا للمرة‬
‫�ص ّدوا عنها‪ .‬ومنذ ذلك احلني توالت‬ ‫الأخرية بتاريخ ‪ 17‬يوليو �سنة ‪ 1683‬م‪ .‬ولكنهم ُ‬
‫الهزائم على العثمانيني ففقدوا معظم ممتلكاتهم يف �أوروبا‪.‬‬
‫يف القرن الثامن ع�رش‪ ،‬ظهرت احلركة الوهابية يف �شبه اجلزيرة العربية على يد حممد‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬ودعت �إىل تطهري الدين الإ�سالمي من ال�شوائب التي علقت فيه طيلة‬
‫القرون املا�ضية والعودة �إىل الإ�سالم الأ�سا�سي دون غريه‪ ،‬فحارب العثمانيون هذه‬
‫احلركة ومتكنوا من الق�ضاء على ثورة �أتباعها‪ ،‬لكنهم مل يطف�ؤوها متا ًما‪� ،‬إذ انبثقت منها‬
‫يف القرن التا�سع ع�رش الدعوة ال�سلفية‪ ،‬والدیوبندية‪ ،‬والربيلوية‪ .‬يف ذات القرن زالت‬
‫�إمرباطورية مغول الهند الإ�سالمية متا ًما بعد �أن ق�ضى عليهاالربيطانيون‪ ،‬وا�شتدت‬
‫النزعة القومية يف دول البلقان مما �أ ّدى ال�ستقالل العديد منها عن الدولة العثمانية‪،‬‬
‫‪75‬‬ ‫كذلك ازدادت ن�سبة املهاجرين من امل�سلمني الهنود والإندوني�سيني �إىل دول الكاريبي مما‬
‫ولّد �أكرب جمتمع �إ�سالمي يف الأمريكيتني‪� .‬أ�ضف �إىل ذلك �أن �إن�شاء طرق جتارية جديدة‬
‫يف �أفريقيا امل�ستعمرة حديثًا‪ ،‬جعل العديد من الدعاة امل�سلمني ينتقلون �إىل تلك الناحية من‬
‫العامل بهدف ن�رش الدعوة الإ�سالمية‪ ،‬و ُيق ّدر �أن عدد امل�سلمني يف �أفريقيا جنوب ال�صحراء‬
‫الكربى ت�ضاعف بني �سنتي ‪ 1869‬م‪ .‬و ‪ 1914‬م‪ .‬انق�ضى الع�رص العثماين عند نهاية‬
‫احلرب العاملية الأوىل وانهزام الدولة العثمانية �أمام ق ّوات احللفاء‪ ،‬واحتالل قواتها ملعظم‬
‫�أنحاء الدولة‪ .‬ويف �سنة ‪ 1924‬م‪� .‬ألغى رئي�س اجلمهورية الرتكية م�صطفى كمال �أتاتورك‬
‫من�صب اخلليفة و�أزال �سلطته الزمنية والدينية من الوجود‪.‬‬

‫ما بعد الع�رص العثماين (‪ 1918‬م – الزمن احلا�رض)‬


‫كانت معظم الدول الإ�سالمية غري اخلا�ضعة لل�سلطان العثماين قد مت احتاللها من قبل‬
‫دول �أوروبية خمتلفة يف �أوائل القرن الع�رشين‪ .‬وبعد �أن انهزمت الدولة العثمانية يف احلرب‬
‫العاملية الأوىل‪ ،‬اقت�سمت الدول الظافرة‪ ،‬وب�شكل خا�ص بريطانيا وفرن�سا‪ ،‬اقت�سمت معظم‬
‫الأرا�ضي التابعة للدولة مبوجب اتفاقية �سايك�س بيكو‪ ،‬و�أخ�ضعتها حلكمها‪ .‬وخالل‬
‫القرن الع�رشين ا�ستقلت جميع هذه الدول و�أ�صبح لكل منها كيانه اخلا�ص وم�صاحله‬
‫الذاتية‪ ،‬ومل يعد يربطها ببع�ضها �سوى رابط اللغة �أو الثقافة �أو الأخ ّوة‪ ،‬وقد جرت ب�ضعة‬
‫حماوالت لتوحيد البع�ض من هذه الدول‪ ،‬كمحاولة الرئي�س امل�رصي ال�سابق جمال عبد‬
‫اً‬
‫إجمال‪.‬‬ ‫النا�رص يف توحيد �سوريا وم�رص‪ ،‬ولكنها باءت بالف�شل �‬
‫ت�أ�س�ست منظمة امل�ؤمتر الإ�سالمي (التي �أ�صبح ا�سمها يف ما بعد منظمة التعاون‬
‫الإ�سالمي) يف �شهر �سبتمرب من �سنة ‪ 1969‬م‪ .‬وان�ضمت �إليها جميع الدول الإ�سالمية‬
‫يف العامل‪ ،‬وذلك بعد حادثة �إحراق امل�سجد الأق�صى على يد متطرفني �إ�رسائيليني قالوا‬
‫بوجود هيكل �سليمان حتت امل�سجد‪ .‬ويف �أواخر القرن الع�رشين اندلعت الثورة الإ�سالمية‬
‫يف �إيران وحتولت الدولة �إىل دولة �إ�سالمية ت�ستمد مبادئها من ال�رشيعة‪ ،‬كذلك ن�ش�أت‬
‫ع ّدة تنظيمات و�أحزاب يف عدد من الدول ملقاومة االحتالل الأجنبي لبالدها‪ .‬ويف م�ستهل‬
‫برجي مركز التجارة العاملي‬ ‫َ‬ ‫القرن احلادي والع�رشين وقعت هجمات �إرهابية على‬
‫مبدينة نيويورك بالواليات املتحدة الأمريكية‪� ،‬أ ّدت النهيارهما وم�رصع الكثريين ممن‬
‫ووجهت �أ�صابع االتهام �إىل تنظيم القاعدة‪ ،‬فكان لهذا انعكا�س �سلبي على‬
‫ّ‬ ‫كانوا بداخلهما‪،‬‬
‫�صورة الإ�سالم يف العامل الغربي‪.‬‬

‫الدميغرافيا واالنت�شار‬
‫�أظهرت درا�سة �شاملة من �سنة ‪ 2009‬م‪ .‬ملئتني واثنتني وثالثني دولة ومنطقة‪� ،‬أنّ ‪23%‬‬
‫من �إجمايل �سكان العامل‪� ،‬أي حواىل ‪ 1.6‬مليار ن�سمة‪ ،‬يعتنقون الدين الإ�سالمي‪ .‬وترتاوح‬
‫ن�سبة معتنقي املذهب ال�سنّي من ه�ؤالء بني ‪ 87%‬و ‪ ،90%‬ومعتنقي املذهب ال�شيعي‬
‫بني ‪ 10%‬و ‪�،13%‬أما املذاهب الأخرى الباقية فيعتنقها �أقليّة من النا�س‪ .‬كذلك تبني �أن‬
‫‪76‬‬

‫خارطة العامل الإ�سالمي‬

‫حواىل ‪ 50‬دولة يف العامل ُي�ش ِّكل امل�سلمون �أغلبية �سكانها‪ ،‬و�أن العرب ي�شكلون ‪20%‬‬
‫من م�سلمي العامل‪.‬‬
‫قارتي �أفريقيا و�آ�سيا‪ ،‬وحواىل ‪ 62%‬منهم ي�سكن القارة‬ ‫ّ‬ ‫يعي�ش �أغلب امل�سلمني يف‬
‫الأخرية‪ ،‬حيث ت�أوي �إندوني�سيا وباك�ستان والهند وبنغالدي�ش ما يزيد عن ‪ 683‬مليون‬
‫م�سلم‪ .‬ويف ال�رشق الأو�سط‪ ،‬تُعترب تركيا و�إيران �أكرب دولتني غري عربيتني ُي�شكل‬
‫امل�سلمون �أغلب �سكانها؛ �أما يف �أفريقيا ف�إن م�رص ونيجرييا هي �أكرب الدول الإ�سالمية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أقليات دينية‪.‬‬ ‫ويعي�ش ‪ 73%‬من امل�سلمني يف دول ذات �أغلبية م�سلمة مقابل ‪ 27%‬ك�‬
‫الأقلية امل�سلمة يف الهند هي �أكرب �أقلية م�سلمة يف العامل حيث تبلغ ن�سبتهم ‪�( 14%‬أي؛‬
‫‪ 176‬مليون ن�سمة) من جممل ال�سكان‪ .‬يقول معظم اخلرباء �أن عدد امل�سلمني يف جمهورية‬
‫ال�صني ال�شعبية يرتاوح بني ‪ 20‬و ‪ 30‬مليون (بني ‪ 1.5%‬و ‪ 2%‬من �إجمايل عدد ال�سكان)‪.‬‬
‫�إال �أن البيانات التي قدمها مركز الإح�صاء ال�سكاين التابع جلامعة والية �سان ديي"و �إىل‬
‫جملة «الأخبار الأمريكية والتقارير العاملية» (بالإن"ليزية‪U.S. News&World :‬‬
‫‪ ،)Report‬تفيد �أن عدد امل�سلمني يف ال�صني ي�صل �إىل ‪ 65.3‬ماليني م�سلم‪ .‬وي�صل عدد‬
‫امل�سلمني يف كل �أوروبا‪ ،‬عدا تركيا‪� ،‬إىل ‪ 44‬مليون ن�سمة‪� ،‬أي ما ُي�شكل حواىل ‪ 6%‬من‬
‫�إجمايل �سكان �أوروبا‪ .‬و ُيعترب الإ�سالم ثاين �أكرث الديانات انت�شا ًرا بعد امل�سيحية يف‬
‫معظم الدول الأوروبية‪ ،‬وهو يف طريقه ليحت ّل ذات املركز يف الأمريكيتني (‪ 4.2‬مليون �أو‬
‫‪ % 1.1‬من جممل ال�سكان)‪ ،‬حيث يرتاوح عدد امل�سلمني يف الواليات املتحدة فقط‪ ،‬وفق‬
‫بع�ض امل�صادر‪ ،‬بني ‪ 2,454,000‬و ‪ 7‬ماليني ن�سمة‪.‬‬
‫�أ ّما �أكرب خم�س ع�رشة دول ًة �إ�سالمي ًة من حيث عدد ال�سكان فهي‪� :‬إندوني�سيا‪ ،‬باك�ستان‪،‬‬
‫بنغالد�ش‪ ،‬نيجرييا‪ ،‬م�رص‪ ،‬تركيا‪� ،‬إيران‪ ،‬ال�سودان‪ ،‬اجلزائر‪� ،‬أفغان�ستان‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫العراق‪ ،‬ماليزيا‪ ،‬ال�سعودية‪� ،‬أوزباك�ستان‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫الإ�سالم والديانات الأخرى‬
‫ِجو ُك ْم ِم ْن ِد َيا ِر ُك ْم‬ ‫الل ُ َع ِن الَّ ِذي َن لمَ ْ ُي َقا ِتلُو ُك ْم فيِ ال ِّدي ِن َولمَ ْ ُيخْ ر ُ‬ ‫(ل َينْ َها ُك ُم َهّ‬ ‫يعترب امل�سلمون اَ‬
‫نا َينْ َها ُك ُم َهّ‬
‫الل ُ َع ِن الَّ ِذي َن َقا َتلُو ُك ْم فيِ‬ ‫الل َ ُي ِح ُّب المْ ُق ِ‬
‫ْ�س ِط َ‬
‫ني ِ�إ َمّ َ‬ ‫�أَ ْن َتبرَ ُّو ُه ْم َو ُتق ِ‬
‫ْ�س ُطوا ِ�إلَيْ ِه ْم ِ�إ َّن َهّ‬
‫ال ِّدي ِن َو�أَخْ َر ُجو ُك ْم ِم ْن ِد َيا ِر ُك ْم َو َظا َه ُروا َعلَى �إِخْ َراجِ ُك ْم َ�أ ْن َت َولَّ ْو ُه ْم َو َم ْن َيتَ َولَّ ُه ْم َف�أُولَئِ َك‬
‫أ�سا�سا يف التعامل مع غري امل�سلمني‪ .‬وين�ص‬ ‫يني) � ً‬ ‫الظالمِ ُونَ ) والآية‪( :‬لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم وَليِ َ ِد ِ‬ ‫ُه ُم َّ‬
‫القر�آن على احرتام الأديان الإبراهيمية الأخرى‪ ،‬كاليهودية وامل�سيحية‪ ،‬باعتبارها ديانات‬
‫منزلة �ساب ًقا على ر�سل و�أنبياء بعثهم اهلل لهداية الب�رش‪ .‬وي�ؤكد القر�آن �أنه «يقوم ب�إعادة‬
‫الديانة الإبراهيمية النقية التي �أُنزلت على �إبراهيم والتي مت حتريفها من قبل بع�ض‬
‫اليهود وامل�سيحيني»‪ .‬وي�ؤمن امل�سلمون �أن الزبور والتوراة والإجنيل كتب �سماوية �أنزلها‬
‫اهلل على �أنبيائه داود ومو�سى وعي�سى امل�سيح‪ ،‬لكنهم ال ي�ؤمنون بقد�سية الن�سخ احلالية‬
‫منها ويعتقدون �أنها ن�سخ حم ّرفة و�ضعيّة‪ ،‬و�أن الكتب الأ�صلية �ضاعت مع مرور الزمن‬
‫لأ�سباب خمتلفة‪ ،‬كالت�أخر يف تدوينها ووفاة حفظتها‪ ،‬الأمر الذي جعل الالحقني من �أتباعها‬
‫ال مييزون بني ال�صحيح وغري ال�صحيح منها‪.‬‬

‫الإ�سالم والديانات ال�رشقية‬


‫نواح‪ :‬فالهندو�سيّة احلديثة تن�ص على �أن جميع‬ ‫تت�شابه الهندو�سية مع الإ�سالم من ع ّدة ٍ‬
‫الآلهة القدمية التي عبدها الهندو�س �إمنا هي �أ�سماء و�صفات للإله الواحد‪ ،‬كذلك ين�ص‬
‫القر�آن على تعدد الأ�سماء وال�صفات هلل يف �آخر �سورة احل�رش‪ .‬وي�ؤمن الهندو�س بوجود‬
‫ح�ساب وعقاب بعد املوت و�أن اهلل هو الذي �سيحا�سب النا�س �أجمعني كما ي�ؤمن امل�سلمون‪.‬‬
‫وتختلف الهندو�سيّة عن الإ�سالم من ناحية �أن الهندو�س ال ي�ؤمنون بجنة وال بنار ولكنهم‬
‫ي�ؤمنون بجزاء �آخر للمح�سن وامل�سيء فيقولون �إن املح�سن عندما ميوت‪ ،‬ميوت ج�سده‬
‫وتبقى روحه باقية ال متوت‪ ،‬لأنها جزء من الإله فتجازى ب�أن تو�ضع يف ج�سد �صالح‬
‫وهو ما يعرف بتنا�سخ الأرواح‪ .‬كذلك يقوم الهندو�س بحرق اجلثه بعد مماتها‪ ،‬يف حني �أن‬
‫امل�سلمني يدفنون امليّت يف الرتاب �إميانًا منهم �أن هذا «�إكرام للميّت»‪.‬‬
‫وكانت �إحدى نتائج االحتكاك بني الهندو�س وامل�سلمني �أن ظهرت ديانة جديدة جتمع بني‬
‫املعتقدات الهندو�سية والإ�سالمية‪ ،‬هي الديانة ال�سيخيّة‪ .‬ويت�شابه امل�سلمون مع ال�سيخ‬
‫يف �أنهم ي�ؤمنون بخالق واحد ويحرمون عبادة اال�صنام ويقولون بامل�ساواة بني النا�س‬
‫ووحدانيه اخلالق الذي ال ميوت والذي لي�س له �شكل معني‪ ،‬وال يعبدون ال�شم�س وال القوى‬
‫الطبيعية وال احليوانات‪ ،‬ويحرمون الرهبنة ويقولون بال�سعي لطلب الرزق ويعتقدون بالنبوة‬
‫والر�ساله و�أن هناك مر�سل من عند اهلل لهدايه النا�س‪ .‬وكما �أن للإ�سالم �أركان خم�سة‪ ،‬فلل�سيخيّة‬
‫مبادئ خم�سة‪� :‬إطالق �شعر الر�أ�س واللحية وعدم حلقهما‪ ،‬وت�ضفري ال�شعر‪ ،‬ولب�س «الكات�شا» �أي‬
‫�رسوال مت�سع ي�ضيق عند الركبتني‪ ،‬وحمل «الكربال» وهو �سيف �أو خنجر لل�سيخي ليحتمي به‪،‬‬
‫وو�ضع �سوار من حديد حول املع�صم هو �سوار «الكارا»‪ .‬ويختلف الإ�سالم عن ال�سيخيّة ب�أن‬
‫الأخرية تبيح �رشب اخلمر و�أكل حلم اخلنزير وحت ّرم حلم البقر لأنها مقد�سة وف ًقا لهم‪.‬‬ ‫‪78‬‬
‫ويت�شابه الإ�سالم مع الديانة الكنفو�شيو�سية من ناحية الإميان بالق�ضاء والقدر‪،‬‬
‫والدعوة �إىل طاعة الوالدين واحرتام احلاكم والأخ والإخال�ص والوفاء لل�صديق وعدم‬
‫ظلم النا�س ال قوالً وال فعالً والتمتع بالأمانة وعدم اخليانة‪ .‬ويختلف عنها من ناحية‬
‫�إميان الكنفو�شيو�سيني بوجود �آلهة متعددة للجبال والأر�ض والقمر وال�سماء وغري ذلك‪،‬‬
‫وتقدي�سهم لأرواح �أجدادهم وعدم اعتقادهم باجلنة والنار والبعث‪.‬‬
‫تعترب الديانة البوذ ّية قريبة من الفكر الإ�سالمي �أكرث من الهندو�سية‪ ،‬فهي تدعو لعدم‬
‫التعلق بالدنيا لأنها زائلة‪ ،‬و�إىل جهاد النف�س وجهاد البدن وجهاد العقل للو�صول للنور‬
‫الداخلي‪ ،‬و�أن هناك مراقب داخلي للإن�سان‪ ،‬ويف هذا �شبه مبا ورد يف القر�آن‪َ " :‬و َن ْح ُن‬
‫�أَ ْق َر ُب ِ�إلَيْ ِه ِم ْن َحبْ ِل الْ َورِي ِد"‪ ،‬وتدعو البوذية �إىل مبادئ كثرية يدعو �إليها الإ�سالم و ُيعاقب‬
‫من يخالفها‪ ،‬كعدم ال�رسقة واالبتعاد عن الزنا وقول الأقوال الكرمية وغري ذلك‪ .‬ويختلف‬
‫الإ�سالم عن البوذية من ناحية �أن البوذية ترى �أن احلياة �شقاء مت�صل وتعا�سة دائمة‪ ،‬وال‬
‫يرون فيها �إال وج ًها مظل ًما ي�سعون للتخل�ص منه‪ ،‬ولي�س احلال كذلك يف الإ�سالم‪ ،‬فالدين‬
‫الإ�سالمي يرى احلياة بوجهيها وير�سمها ب�شقيها‪ ،‬بخريها و�رشها‪ ،‬بحلوها وم ِّرها‪،‬‬
‫أي�ضا اللذائذ والنعم‪ ،‬والإن�سان مطالب يف هذه احلياة �أن‬ ‫ففيها امل�صائب والآالم‪ ،‬وفيها � ً‬
‫يعمل بال�صاحلات‪ ،‬ال ليتخل�ص من احلياة بل ليع ّمرها‪ ،‬وليع ّمر �أي�ضا �آخرته‪.‬‬

‫الفرق الدينية الإ�سالمية‬


‫تك ّونت خالل مراحل التاريخ الإ�سالمي فرق متعددة‪ ،‬كان مدار اخلالف بينها وبني امل�سلمني‬
‫احلاكمني هو اخلالفة و�إمامة امل�سلمني وزعامتهم‪� ،‬أي �أن اخلالف كان �شبه �سيا�سي‪.‬‬
‫والبع�ض من هذه الفرق ما زال موجو ًدا حتى الوقت احلايل وبع�ضها الآخر اندثر‪� .‬أما �أهم‬
‫الطوائف الإ�سالمية احلالية فهي‪:‬‬
‫• �أهل ال�س ّنة واجلماعة‪ُ :‬يعترب امل�سلمون ال�سنّة �أكرب الطوائف الإ�سالمية حاليًا‪ ،‬حيث �أن‬
‫وال�سنّة يف اللغة من «ال�سن»‪ ،‬وهو انتهاج الطريق‬‫ُ‬ ‫�أغلبية البلدان الإ�سالمية هي بلدان �سنيّة‪.‬‬
‫وال�سري فيه‪ ،‬و ُيق�صد بها �رش ًعا الطريق الذي ر�سمها القر�آن وبيان النبي حممد للم�سلمني‪ ،‬لذا‬
‫فامل�سلمون ال�سنّة ُيع ّرفون ب�أنهم طائفة امل�سلمني الذين ا�ستمروا بال�سري على الطريقة الدينية‬
‫التي جرى العمل بها نف�سها منذ عهد النبي حممد‪ .‬يقول �أهل ال�سنّة �أن اخللفاء الرا�شدين كانوا‬
‫خلفاء النبي حممد ال�رشعيني مبا �أن النبي حممد مل يو�ص باخلالفة لأحد بعده‪ ،‬وبالتايل كان‬
‫ال بد للم�سلمني من انتخاب خليفة له‪ ،‬وال يقولون ب�أحقية �أحدهم باخلالفة من دون الآخر‪،‬‬
‫بل يقرون بها كما جاءت‪ .‬ويعترب ال�سنّة �أن اخلالفة تكون بال�شورى لأنها مهمة �سيا�سية‪.‬‬
‫يتبع ال�سنّة �أربعة مذاهب فقهية �أ�سا�سية‪ :‬املذهب احلنفي‪ ،‬ال�شافعي‪ ،‬املالكي‪،‬واحلنبلي‪،‬‬
‫ويقولون ب�صحتها جميعها ً و�أن للم�سلم �أن يختار �أي منها �أن�سب له ويتبعه من دون حرج‪.‬‬
‫• ال�شيعة‪ُ :‬ي�شكل ال�شيعة ما ن�سبته ‪� 10%‬أو ‪ 13%‬من �إجمايل امل�سلمني حول العامل‪ ،‬فهم‬
‫بهذا ثاين �أكرب الطوائف الإ�سالمية‪ .‬يرى ال�شيعة �أنّ اخلالفة من حق الإمام علي بن �أبي‬
‫‪79‬‬

‫م�سجد يف الهند‬

‫طالب ون�سله لأن النبي حممد �أو�صى له بها‪ ،‬فهي بالتايل �أ�صل من �أ�صول الدين‪ ،‬ال يجوز‬
‫تركها للنا�س ينتخبون لها من ي�شا�ؤون‪ .‬والإمام عند ال�شيعة مع�صوم عن الذنوب‪� ،‬أي �أنه‬
‫ال يرتك واجبًا مع قدرته على تركه‪ ،‬وال يفعل حمر ًما مع قدرته على فعله‪ .‬وقد ظهرت داخل‬
‫ال�شيعة فرق ونزاعات عديدة �أ�شهرها‪« :‬الإمامية» �أو «اجلعفرية»‪ ،‬الذين حافظوا على عقيدتهم‬
‫يف الإمامة وع�صمة الأئمة؛و»الزيدية»‪ ،‬الذين يجيزون �إمامة املف�ضول مع وجود الأف�ضل‪� ،‬أي‬
‫�أن الإمام عليًا �أحق باخلالفة‪ ،‬لكنهم يقبلون ب�صحة خالفة �أبي بكر وعمر وعثمان‪ .‬والإمام‬
‫الأول عند ال�شيعة هو علي بن �أبي طالب‪ ،‬يخلفه �إبناه احل�سن ثم احل�سني‪ ،‬ومن احل�سني جاء‬
‫الت�سعة الباقون من الأئمة االثني ع�رش الذين تتبعهم ال�شيعة االثنا ع�رشية‪.‬‬
‫• الإ�سماعيلية‪ :‬الإ�سماعيليون فرقة من ال�شيعة يوافقون على الأئمة ال�ستة الأ ّولني‪،‬‬
‫ً‬
‫عو�ضا‬ ‫ويختلفون على �سائر الأئمة بعد جعفر ال�صادق‪� ،‬إذ يجعلون الإمامة يف ابنه �إ�سماعيل‬
‫عن مو�سى الكاظم‪ ،‬وهو عندهم «الإمام امل�ستور»‪ .‬ويرى الإ�سماعيليون �أن لكل ظاهر باطنًا‪،‬‬
‫ولكل �آية قر�آنية ت�أويالً‪ ،‬ويختلفون عن �سائر امل�سلمني يف �أنهم يعتقدون �أن العربة يف الإميان‬
‫ولي�س بالأعمال‪.‬‬
80
‫‪81‬‬

‫اجلزء الثاين‬

‫احل�ضارات‬
‫‪82‬‬
‫مــقـدمـة‬
‫ّ‬

‫ي�صف الفيل�سوف الأملاين فريدريك هيغل احل�ضارة ب�أنها «انتقال من مرحلة‬


‫�إىل مرحلة �أكرث عقالني ًة»‪ ،‬وهذا بال�ضبط ما الحظته من خالل ت ّت ُّبعي‬
‫ّ‬
‫واطالعي املتوا�صل على م�سارات احل�ضارات الب�شر ّية على اختالفها‪ ،‬منذ �أن‬
‫بد�أت مطالعاتي ب�صددها لفرتة تزيد على �س ّتة عقود‪.‬‬
‫فعملت يف كتابي هذا على تدوين ما قر�أته وا�ستنتجته و‪ ،‬يف ت�أريخ متتابع‬
‫للح�ضارات الب�شرية‪ ،‬التي حتفل بالإجنازات العقل ّية والعملية على اختالفها‪.‬‬
‫ف�أردته م�ؤل ًفا �شام ً‬
‫ال‪ ،‬ي�صيب ج ّل ما م ّر يف الأزمان الغابرة والو�سيطة واحلديثة‬
‫على ح ّد �سواء‪.‬‬
‫وح�سبي �أنيّ قد حاولت‪� ،‬أن �أزيد يف ركب احل�ضارة الإن�سانية ولو �شعل ًة من‬
‫ال�ضوء‪.‬‬
‫�شعلة تنري للأجيال القادمة‪ ،‬طري ًقا بد�أها الأجداد والأ�سالف‪.‬‬

‫واهلل من وراء الق�صد‪.‬‬

‫ ‬
‫جلودة" ‪2018‬‬
‫لبنان ‪ -‬جل الديب ‪" -‬ا ُ‬

‫الدكتور بديع �أبو جودة ‬


‫ ‬ ‫ ‬
‫‪83‬‬
‫متهيد‬
‫يف كتاب "احل�ضارات" عر�ض متتابع لأحداث رئي�سة يف التاريخ الب�رشي‪ ،‬ال بل منذ‬
‫ع�صور ما قبل التاريخ‪ ،‬حينما كانت ال�سالالت ما قبل الب�رشية تهيم فى قا ّرات الكوكب‬
‫يف هجرات متتالية‪.‬‬
‫ومن ث ّم‪ ،‬ففي الكتاب تفا�صيل مثرية عن احل�ضارات الأوىل التي تركزت يف م�رص ويف‬
‫ال�صني وكذلك يف بالد ما بني النهرين والهند‪...‬‬
‫ومرو ًرا باحل�ضارات والإمرباطوريات اليونانية والفار�سية والفينيقية والرومانية‪.‬‬
‫و�صوالً �إىل ح�ضارات الأنديز وفتوحات املغول وانبثاق التقاليد اليابانية والكورية‪.‬‬
‫وال يتغا�ضى هذا الكتاب عن ا�ستعرا�ض املحطات الأ�سا�سية للح�ضارتني امل�سيحية‬
‫أ�س�ست على �إثرهما احل�ضارة‬ ‫والإ�سالمية‪ ،‬اللتني طبعتا التاريخ ملئات ال�سنني‪ ،‬وت� ّ‬
‫الأوروبية من جهة امل�سيحية واحل�ضارة العبا�سية (ومن ث ّم العثمانية) من جهة الإ�سالم‪.‬‬
‫ففي القرون الو�سطى العديد من املحطات البارزة غر ًبا و�رش ًقا‪.‬‬
‫و�إنّ الثورة الفرن�سية‪ ،‬التي �أطاحت بالعهد الإقطاعي و�أدواره‪ ،‬وافتتحت الع�رص الر�أ�سمايل‬
‫احلا�رض‪� ،‬إ�ستنادا ً �إىل تطورات العلم والعقل والت�صنيع التي تبعت الثورة ال�صناعية‪ ،‬لها‬
‫ح�صة يف بحث هذا الكتاب‪.‬‬
‫�أما الثورات واحلركات التح ُّررية يف ك ّل من �أفريقيا و�أمريكا الو�سطى واجلنوبية‪،‬‬
‫وخ�صو�صا ً يف خالل القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬فهي ذات �أهمية‪ ،‬وبالتايل فقد �أفرد لها ال�شيء‬
‫غري الي�سري‪.‬‬
‫وو�صوالً �إىل الع�رص احلا�رض والزمن احلايل‪ ،‬الذي ا�ستج ّدت فيه �أحداث مكثّفة �إن يف‬
‫نواحي احلرب �أو �أنظمة اال�ستبداد �أم يف نواحي ال�سلم واحلقوق الإن�سانية والدميقراطية‪.‬‬
‫ويف جممل هذه العناوين والتفا�صيل التي ي�ستعر�ضها الكتاب‪ ،‬ثبت ل�سري �شخ�صيات‬
‫عاملية ووثائق تاريخية �أ ّثرت يف الت�أريخ الب�رشي ويف م�سرية الأزمان‪ ،‬من فكر وفل�سفة‬
‫وتاريخ وعلوم و�سيا�سة و�أدب وع�سكر وقانون‪.‬‬
‫الف�صل الأول‬ ‫‪84‬‬
‫احل�ضارات‬

‫الب�شر البدائيون‬
‫ما قبل احل�ضارات‬
‫لقد ت�ضافرت جهود الأركيولوجيني والأنرتوبولوجيني وامل�ؤرخني واجليولوجيني وعلماء املناخ‬
‫واحليوان والنبات والبيولوجيني م ًعا‪ ،‬لر�سم معامل احل�ضارات الأوىل التي بناها الب�رش الأولون‪.‬‬
‫مت اكت�شاف فريد عن الأ�صول الب�رشية (�آثار الأقدام املحفوظة يف‬ ‫ففي العام ‪ 1987‬م‪ ،‬ويف تنزانيا‪َّ ،‬‬
‫الرتاكمات الربكانية)‪.‬‬
‫مت تخيّل كيف وجد الب�رش الأ ّولون‪ ،‬على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫وبدرا�سة هذه الآثار‪ّ ،‬‬
‫"يف وقت ما‪ ،‬توقف املهاجرون وا�ستداروا �شماالً ب�سببب تهديد ما‪ ،‬وتابعوا ال�سفر نحو‬
‫ال�شمال‪.‬‬
‫هذه احلركة الب�رشية بامتياز جتاوزت الزمن‪.‬‬
‫منذ ثالثة ماليني و�سبعمئة �ألف �سنة م�ضت‪� ،‬أجدادنا الذين كانوا ي�شبهوننا‪� ،‬إختربوا حلظات‬
‫ال�شك‪".‬‬
‫ومنذ حواىل خم�سة �آالف �سنة‪ ,‬م�ضت جمموعات من الب�رش يف خمتلف �أنحاء العامل‪ ،‬بد�أوا بتدوين‬
‫مد ّونات‪.‬‬
‫وقد عا�ش الب�رش و�أجدادهم على الأر�ض لآالف ال�سنني‪ ،‬قبل �أن يبد�أ التدوين‪.‬‬
‫وت�سمى هذه املرحلة ملا قبل التدوين مبرحلة "ما قبل التاريخ"‪.‬‬
‫من جهتهم‪ ،‬فامل�ؤرخون هم دار�سو املا�ضي ال�سحيق بامتياز‪.‬‬
‫فهم ي�أخذون تفا�صيل املا�ضي من الأدلة الأثرية �أو الأدوات امل�صنوعة ب�رش ًّيا‪.‬‬
‫والأدلة الأثرية تت�ضمن التايل‪:‬‬
‫املالب�س‪ ،‬النقود‪ ،‬الأدوات الفنية و�أحجار املدافن‪...‬‬
‫ويعتمد امل�ؤرخون على الأدلة املكتوبة كالر�سائل �أو الن�صو�ص امل�سجلة يف خمتلف الأزمنة‪ ،‬وذلك‬
‫‪85‬‬ ‫"احل�ضارة لغة �إن�سانية تطو ُل املجتمعات ومرافق احلياة الب�رشية"‬
‫بالرغم من �صعوبة �إيجاد الن�صو�ص امل�سجلة‪ ،‬يف خمتلف الأزمنة‪.‬‬
‫�أما الأدلة املتوفرة‪ ،‬فتقدّم لنا �أحدا ًثا مو�صوف ًة من بينها �أ�سماء وتواريخ‪.‬‬
‫كما يدر�س م�ؤرخو الأزمنة احلا�رضة �أدل ًة مثل‪ :‬ال�صور والأفالم‪.‬‬
‫فمثل املحققني‪ ،‬يجمع امل�ؤرخون خمتلف الأدلة للت�أكد من م�صداقيتها‪.‬‬
‫وامل�ؤرخون عام ًة‪ ،‬يحاولون �إيجاد �إجابات على الأ�سئلة التالية‪:‬‬
‫‪ -‬هل �إنّ الت�سجيل بني اثنني من الر�سميني يد ّل متاما ً على ما قاال؟‬
‫‪ -‬من �أخذ املالحظات؟‬
‫‪ -‬هل كاتب الر�سالة هو �شاهد عيان‪� ،‬أو �أنه مت�أثر بال�شائعات؟‬
‫‪ -‬هل ي�ستبعد �أن تكون الر�سالة مز ّور ًة؟‬
‫وبالنتيجة‪ ،‬يتعامل امل�ؤرخون مع الأدلة‪� ،‬أو ي�رشحون ما تعني‪.‬‬
‫و�إنّ هدف امل�ؤرخني هو حتديد �أ�سباب بع�ض التطورات �أو الأحداث‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫احلروب‪ ،‬الأزمات االقت�صادية‪...‬‬
‫وبتف�سري ما حدث يف املا�ضي‪ ،‬ي�ستطيع املن�ؤرخون م�ساعدتنا على فهم �أحداث احلا�رض‪ ،‬وما قد‬
‫يحدث م�ستقبالً‪.‬‬
‫وبالعموم‪ ،‬يحاول امل�ؤرخون �إعطاءنا �سل�سل ًة �صادق ًة من الأحداث‪ ،‬ولكن ‪ -‬يف بع�ض الأحيان ‪-‬‬
‫�إختبارات البع�ض تكون م�شوب ًة بالآراء ال�سيا�سية �أو اخللفيات الثقافية‪ ،‬ويف �أحيان �أخرى يعار�ض‬
‫امل�ؤرخون بع�ضهم بع�ضا ً يف ما يتعلق بالأدلة املثبتة‪.‬‬
‫مثل هذه االختالفات يتولّد عنها جمادالت متوا�صلة‪.‬‬

‫ويف ما خ�ص ا�ستك�شاف مرحلة ما قبل التاريخ‪ ،‬فقبل مئة وخم�سني �سن ًة تقريبًا‪ ،‬بد�أ الدار�سون‬
‫با�ستك�شاف مرحلة ما قبل التاريخ على �أمل �أن يتحققوا من الأ�صول والتطورات الب�رشية‬
‫واملجتمعات الإن�سانية‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬ن�س ّمي هذا احلقل من الدرا�سات بعلم الأنرتوبولوجيا‪.‬‬
‫الأنرتوبولوجيا تدر�س حقوالً معيّن ًة مثل‪:‬‬
‫درا�سة عظام �أجدادنا لفهم كيفية �أداء اجل�سم الب�رشي عرب القرون‪.‬‬
‫�أنرتوبولوجيون �آخرون ير ّكزون على موا�صفات الثقافة الب�رشية يف املا�ضي واحلا�رض‪.‬‬
‫ويف الأنرتوبولوجيا‪ ،‬تعك�س الثقافة طريقة حياة املجتمع‪ ،‬وحتتوي املعتقدات والقيم واملمار�سات‪.‬‬
‫وتنتقل الثقافة من جيل �إىل جيل بالتعليم والتجارب‪.‬‬
‫وبذلك ن�ستطيع القول �إنّ الأركيوليوجيا هي فرع من الأنرتوبولوجيا‪ ،‬وهي درا�سة للب�رش‬
‫الأقدمني وال�سابقني‪ ،‬وللثقافات املا�ضية عرب الأدلة احل�سية‪.‬‬
‫هذه الأدلة تت�ضمن‪:‬‬
‫املا�ضي‪ ،‬والأدلة الأثرية كالأدوات والأ�سلحة واخلزفيات والألب�سة واملجوهرات‪...‬‬
‫الأركيولوجيون يعرثون على الأدلة ويدر�سونها ليتعرفوا على احلياة خالل فرتة ما قبل التاريخ‬ ‫‪86‬‬
‫ويف الأزمنة التاريخية‪ ،‬وهذا ما ي�ساعدهم على و�ضع ا�ستنتاجات حول املعتقدات والقيم �أو حركة‬
‫�أجدادنا‪.‬‬
‫ويتفق �أغلب الأركيولوجيني على �أنّ املا�ضي ال ميكن معرفته بالتمام والكمال‪.‬‬
‫وما �إن يكت�شف الأركيولوجيون �أدل ًة جديدة‪ ،‬حتى ي�ضطروا لأن يراجعوا نظرياتهم على �ضوء‬
‫الأدلة اجلديدة‪.‬‬
‫وعمليًّا‪ ،‬ففي القرن التا�سع ع�رش والع�رشين للميالديني‪ ،‬ق�صد الأركيولوجيون مناطق ج ّم ًة‬
‫وبد�أوا بالتنقيب‪ ،‬وكانوا كلّما حفروا وجدوا املزيد من الآثار‪.‬‬
‫بع�ض تلك الآثار كانت مدفون ًة لفرتة طويلة جدًا‪ ،‬وقد �أتلفت مبجرد �إخراجها من الأر�ض‪.‬‬
‫اليوم الأركيولوجيون ومن ي�ساعدهم‪ ،‬يبذلون عناي ًة كبري ًة حلفظ مثل هذه الآثار ال�رسيعة‬
‫العطب‪.‬‬
‫ومبجرد �إيجاد الآثار‪ ،‬يبد�أ الأركيولوجيون بتحليلها‪.‬‬
‫و�إنّ �إحدى التقنيات التي ي�ستعان بها‪ ،‬مهمتها حتديد كل نوع من الآثار التي توجد يف خارطة‬
‫املوقع‪.‬‬
‫وبعد درا�سة اخلارطة‪ ،‬قد ي�ستطيع الأركيولوجيون �أن يقولوا ما كان الب�رش يفعلونه من ن�شاطات‬
‫يف هذا املوقع‪.‬‬
‫ففي موقع مليء بعظام الأرانب على �سبيل املثال‪ ،‬ي�ستطيعون اقرتاح وجود طبّاخ‪...‬‬
‫أي�ضا عن مدى قدم الأدلة الأثرية‪.‬‬‫وقد بحث الأركيولوجيون � ً‬
‫�أما اجليولوجيون �أو املتخ�ص�صون بعلوم طبقات الأر�ض‪ ،‬في�ستطيعون امل�ساهمة يف هذه املهمة‬
‫عرب حتديد �أعمار ال�صخور املحاذية ملواقع ا�ستك�شاف الأركيولوجيني‪.‬‬
‫وبالإ�ضافة �إىل ك ّل ه�ؤالء‪ ،‬فعلماء النبات واحليوان‪ ،‬يجرون االختبارات على احلبوب وعلى عظام‬
‫احليوانات‪ ،‬ملعرفة النظام الغذائي لأجدادنا‪.‬‬
‫و�إنّ علماء املناخ يحددون – من جهتهم – الظروف التي عا�ش فيها �أجدادنا‪ ،‬وواجهوها يف �سهول‬
‫�أفريقيا �أو املنطقة اجلليدية من �أوروبا‪.‬‬
‫�أما البيولوجيون فيدر�سون العظام الب�رشية وبقع الدم التي يجدونها على الأدوات احلادة‬
‫القدمية ويف الأ�سلحة‪.‬‬
‫ويف خال�صة عمل ه�ؤالء املكت�شفني جمي ًعا‪ ،‬ويف خمتلف املواقع‪ ،‬ي�ستخدم �أركيولوجيّو اليوم عدة‬
‫ابتكارات وتقنيات ع�رصية لدرا�سة اكت�شافاتهم‪.‬‬
‫الكومبيوتر بدوره‪ ،‬يعينهم على تخزين املعلومات وا�ستخراجها‪ ،‬واحل�صول على خرائط دقيقة‬
‫عن مواقع االكت�شافات‪.‬‬
‫كما �أنّ ال�صور املحلية ت�ساعد الأركيولوجيني على ر�ؤية �أف�ضل للأر�ض‪ ،‬وللبنية التي عا�ش فيها‬
‫الب�رش ال�سابقون‪.‬‬
‫التقنيات من جهتها تنفع لقيا�س الأ�شعة‪ ،‬والتي ت�ساعد العلماء على حتديد �أعمار املكت�شفات‪.‬‬
‫قبل العام ‪ 1950‬م‪ .‬كان الأنرتوبولوجيون يعلمون القليل عن الب�رش الأ ّولني‪ ،‬ومل يكن لفرق‬
‫‪87‬‬ ‫و�أطقم درا�سة ما قبل التاريخ مراكز درا�سة حكومية‪ ،‬وكان من ال�صعب عليهم البدء بدرا�ساتهم‪.‬‬
‫من جهتهم فقد كان الأركيولوجيون يف �رشق �أفريقيا قد بد�أوا با�ستك�شاف �آثار �أقدام للب�رش القدماء‬
‫وعظا ًما و�أدوات‪.‬‬
‫ومع هذه املكت�شفات الأولية‪ ،‬بد�أ الدار�سون بر�سم �صورة عن حياة ما قبل التاريخ‪.‬‬
‫بد�أ الأركيولوجيان ماري ولوي�س ليكي بالبحث عن �أدلة لب�رش �أقدمني يف واد �سحيق يف تنزانيا‬
‫�إ�سمه وادي "�أولدوفاي غورج"‪.‬‬
‫وقد حدّد اجليولوجيون عمر �رشيحة من اجلبل امل�ستك�شف ب‪� 1.7‬إىل ‪ 2.1‬مليون �سنة‪.‬‬
‫وبح�سب اكت�شافات ال�سيد وال�سيدة ليكي‪ ،‬ف�إنهما وجدا �أدوات حجرية قدمية جدًا‪ .‬ومع �أن هذه‬
‫الأدوات تبدو ب�سيط ًة‪ ،‬بح�سب العمر وال�سطح‪� ،‬إال �أ ّنها ت�شري �إىل �أنّ من �صنعها قد تعلّم تطوير‬
‫تكنولوجيات للبقاء‪.‬‬
‫التكنولوجيا متنح لهذه الأدوات والنا�س �إمكانية ت�أمني حاجاتهم ومتطلباتهم‪.‬‬
‫واملزيد من املكت�شفات احلديثة من الأحجار يد ّل على املزيد من التقنيات الناعمة والدقيقة‪ ،‬ولك ّن‬
‫القدمية منها �أكرث �إثار ًة للعاملني ليكي‪.‬‬
‫وقد دلّت هذه املكت�شفات على �صانعيها‪ ،‬يف منطقة �أولديفاي غورج‪.‬‬
‫يف هذه املنطقة‪ ،‬وجدت ماري ليكي دليالً يف �صخر قدمي‪ ،‬وبعد فح�صه بدقة تبني �أنه جزء من‬
‫�إن�سان بدائي‪.‬‬
‫هذا ال�صنف من البدائيني كانوا مي�شون على قدمني‪ ،‬والذين هم �أجدادنا بالطبع‪.‬‬
‫�أما الأدلة الرتاكمية على الإن�سان البدائي فقد وجدت يف العام ‪ 1974‬م‪ .‬من قبل الأنرتوبولوجي‬
‫دونالد جوهان�سون‪ ،‬الذي عرث يف �أثيوبيا على عدة قطع من هيكل عظمي لإن�سان بدائي‪ ،‬عمرها‬
‫ثالثة ماليني �سنة‪.‬‬
‫وكانت املرة الأوىل التي جمع فيها الأركيولوجيون �أجزاء لهيكل عظمي متكامل‪ ،‬لإن�سان يبدو �أنه‬
‫بدائي بالفعل‪.‬‬
‫�سمى جوهان�سون �إكت�شافه التاريخي "لو�سي"‪ ،‬تبعا ً لأغنية لفريق "بيتلز"‪.‬‬
‫كما الحظ �أنّ "لو�سي" طولها ‪ 1.2‬مرتاً‪.‬‬
‫و�إىل اليوم‪ ،‬اكت�شف العلماء عدة �أدلة على وجود �إن�سان بدائي يعي�ش كجماعة‪.‬‬
‫من هنا ا�ستنتجوا �أنّ جمموعات كهذه عا�شت عرب ماليني ال�سنني‪.‬‬
‫و�س ّموا �أقدم جمموعة منها‪:‬‬

‫�أو�سرتالوبيتيك‪:‬‬
‫ه�ؤالء عا�شوا يف �أفريقيا ابتدا ًء من �سبعة ماليني �سنة م�ضت‪.‬‬
‫ومنذ مليوين �سنة‪ ،‬ظهرت جمموعة �أ�سماها العلماء‪:‬‬

‫هومو �سابيين�س‪:‬‬
‫هذا اال�سم الذي يعني "رجل اليد"‪ ،‬لأنهم الحظوا �أن هذه املجموعة كانت ت�صنع �أدوات حجرية منذ‬
‫�أكرث من مليوين �سنة‪.‬‬ ‫‪88‬‬
‫وقد ا�ستنتج العلماء �أنهم ا�ستخدموا‬
‫هذه الأدوات احلجرية يف عمليات‬
‫قطع وجتزيء وتفريق نباتات‬
‫وحيوانات و�أخ�شاب‪.‬‬
‫جمموعة �أخرى من البدائيني‬
‫�س ّميت‪:‬‬

‫هومو �إريكتو�س‪:‬‬
‫�إن�سان قدمي‬
‫وهي جمموعة ظهرت منذ حواىل‬
‫مليوين �سنة‪ ،‬وكانوا من ال�سائرين‪،‬‬
‫وكانوا معروفني بالدماغ الكبري والعظام العري�ضة والأ�سنان الأ�صغر حج ًما من املجموعات الأخرى‪.‬‬
‫كما كانوا ميتلكون قدرات عالية (هم ‪ -‬على �سبيل املثال ‪� -‬أول من ا�ستخدم النار‪ ،‬وابتكر �أنواعًا جديد ًة من‬
‫الأدوات احلجرية للحفر وال�شق والقطع وغري ذلك)‪.‬‬
‫كل من �آ�سيا و�أوروبا‪ ،‬وهي املجموعة الأوىل التي خرجت من‬ ‫وجدت هذه املجموعة "هومو �إركتو�س" يف ّ‬
‫�أفريقيا‪.‬‬

‫هجرة الهومو�سابين�س‪:‬‬
‫عندما نه�ضت جمموعة الهومو�سابيين�س‪ ،‬هاجرت على طول طرق خمتلفة تظهر على اخلريطة‪� ،‬سالكني‬
‫طر ًقا ت�سلكها حيوانات القطعان الكبرية‪ ،‬مثل "البي�سون"‪.‬‬
‫ويعتقد العلماء �أّنه بني ‪� 250‬ألف و‪� 100‬ألف عام م�ضت‪ ،‬الهومو�إريكتو�س اختفوا‪ ،‬وظهرت جمموعة‬
‫جديدة من الب�رش البدائيني‪.‬‬
‫هذه املجموعة اجلديدة امل�سماة "هومو �سابيين�س" هي املجموعة احلا�رضة من الب�رش‪ ،‬ولكن هناك نقا�ش‬
‫حول مكان عي�ش الهومو�سابيين�س الأول‪.‬‬
‫العديد من الدار�سني يعتقدون �أن الأدلة الأركيولوجية والعلمية ت�ؤ ّيد النظرية التي تقول �إ ّن الهومو�سابيين�س‬
‫عا�شوا �أوالً يف �أفريقيا‪ ،‬ومنهم من هاجر �إىل مناطق �أخرى حول العامل‪.‬‬
‫علماء �آخرون يعتقدون �أ ّن الهومو�إريكتو�س تطوروا �إىل هومو�سابيين�س يف نف�س الفرتة تقريبًا يف عدة‬
‫�أجزاء من العامل‪.‬‬
‫من ناحية �أخرى‪ ،‬يعتقد الدار�سون �أن جمموعتني من الهومو�سابيين�س ظهرتا باكرا ً (النيوندرتال‪،‬‬
‫واملجموعة الب�رشية الع�رصية الأبكر)‪.‬‬
‫وهذه الأخرية (املجموعة الب�رشية الع�رصية الأبكر) �إنت�رشت حول العامل‪ ،‬بينما عا�ش النيوندرتال غالبا ً يف‬
‫�أوروبا الغربية وال�رشق الأو�سط‪.‬‬
‫ويف وقت ما‪ ،‬بني اخلم�سني �ألف عام والثالثني �ألف عام م�ضت‪� ،‬إختفى النيوندرتال‪ ،‬تاركني املجموعة‬
‫الب�رشية الع�رصية الأبكر وحيد ًة لتبقى على وجه الأر�ض‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫الف�صل الثاين‬
‫احل�ضارات‬

‫جمتمع ما قبل التاريخ‬


‫ع�صور ما قبل التاريخ‬
‫مت جمعها من قبل علماء الأنرتوبولوجيا على مدى �سنوات عديدة‪،‬‬ ‫�إ�ستنا ًدا �إىل الأدلة التي ّ‬
‫ق�سم ه�ؤالء ع�صور ما قبل التاريخ �إىل ع�صور خمتلفة‪ ،‬خالل الع�رص احلجري القدمي‬ ‫ّ‬
‫والع�رص احلجري اجلديد‪.‬‬
‫فقد ا�ستخدم الإن�سان منذ وجوده على الأر�ض �أنوا ًعا خمتلف ًة من الأدوات احلجرية‪.‬‬
‫وبعد ذلك‪ ،‬خالل الع�رص احلجري اجلديد‪ ،‬بد�أ النا�س بتطوير مهارات وتقنيات جديدة‪،‬‬
‫�أدت �إىل تغريات جدية يف حياتهم اليومية‪.‬‬
‫رحالً‪� ،‬أو �أ�شخا�صا ً يتنقلون‬
‫ولقد كان النا�س يف وقت مبكر من الع�رص احلجري القدمي بد ًوا ّ‬
‫من مكان لآخر للعثور على الطعام‪.‬‬
‫عاد ًة‪ ،‬كانت تعي�ش جمموعات م�ؤلفة من ع�رشين �إىل ثالثني �شخ�صا ً مع بع�ضها‪ ،‬وبقوا‬
‫على قيد احلياة بف�ضل ال�صيد وجمع الغذاء‪.‬‬
‫وب�شكل عام‪ ،‬كان الرجال يعملون يف ال�صيد‪� ،‬أما الن�ساء والأطفال فكانوا يجمعون التوت‬
‫والفواكه واحلبوب واملك�سرّ ات‪.‬‬
‫ال�سفر عرب املياه‪ ،‬ما �سمح لهم باالنتقال �إىل �أماكن جديدة‪،‬‬‫كما تعلّم بع�ض ه�ؤالء النا�س ّ‬
‫فمثالً‪:‬‬
‫�أبحر بع�ضهم من جنوب �رشق �آ�سيا �إىل �أو�سرتاليا‪ ،‬با�ستخدام القوارب �أو الزوارق‪.‬‬
‫وعلى �صعيد املعتقدات الدينية‪ ،‬ففي نهاية الع�رص احلجري القدمي‪ ،‬بد�أ النا�س يرتكون‬
‫الأدلة على �إميانهم بعامل روحاين‪.‬‬
‫فمنذ حواىل مئة �ألف �سنة‪ ،‬بد�أ النا�س يدفنون موتاهم بعناية‪ ،‬ويعترب بع�ض علماء‬
‫الأنرتوبولوجيا �أن هذه املمار�سة تد ّل على �إميان باحلياة ما بعد املوت‪.‬‬
‫"ح�ضارة ال�شعوب تتمتع بتاريخ عريق و�أرث غني مبعامل مهمة ت�ستحق �أن نقف عندها"‬ ‫‪90‬‬

‫اعتقد النا�س القدماء �أن احلياة ما بعد املوت م�شابهة للحياة يف هذا العامل‪ ،‬وبالتايل و ّفروا‬
‫للموتى �أدوات و�أ�سلح ًة‪ ،‬وغريها من الأ�شياء الالزمة لي�أخذوها معهم‪.‬‬
‫ومن ناحية العمل اجلديد‪ ،‬فقد بد�أ الع�رص احلجري اجلديد منذ حواىل اثنتي ع�رشة �ألف‬
‫�سنة‪ ،‬عندما �أحدث الإن�سان اخرتا ًقا كب ً‬
‫ريا كان له �آثار بعيدة املدى‪.‬‬
‫تعلّم النا�س حينها الزراعة من خالل ال�سعي للطعام‪ ،‬وبذلك فلم يعد الإن�سان بحاجة‬
‫للتج ّول بحثا ً عن احليوانات والأ�سماك والنباتات‪...‬‬
‫وقد و�ضع املزارعون مهارات وتقنيات جديدة يف طريقة احلياة‪ ،‬التي �س ّميت ب»ثورة‬
‫الع�رص احلجري احلديث»‪.‬‬
‫مل حتدث ثورة الع�رص احلجري اجلديد تغيرّ ًا كالذي ح�صل يف العام ‪ 1700‬م (الثورة‬
‫ال�صناعية)‪.‬‬
‫ولك ّن الزراعة �أدت �إىل ا�ستقرار و�إىل �إن�شاء القرى‪ ،‬و�إىل تق ّدم كبري يف جمال التكنولوجيا‬
‫والثقافة‪.‬‬
‫�أدت هذه التغريات يف نهاية املطاف �إىل مرحلة جديدة من التنمية وظهور املدن واحل�ضارات‪.‬‬
‫�أن�شئت يف ذلك الع�رص قرى مثل �أريحا‪ ،‬وكانت رمزًا خلطوة كبرية يف جمال التنمية‬
‫الب�رشية‪ ،‬و�أ�صبحت املجتمعات �أكرث تنظي ًما‪ ،‬كما �أ�صبحت االبتكارات التقنية مع ّقد ًة على‬
‫نحو متزايد‪.‬‬
‫�إذاً‪ ،‬حدثت حتوالت يف الوجود الب�رشي ويف تقدم احل�ضارات‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬فقد ن�ش�أت �أقدم احل�ضارات من دون ا�ستثناء قرب الأنهار‪� ،‬إذ و ّفرت الأخرية‬
‫�إمدادات املياه و�ساعدت يف و�سائل النقل‪.‬‬
‫�أما احليوانات التي توافدت لل�رشب من الأنهار‪ ،‬فكانت م�صدر غذاء النا�س‪.‬‬
‫وبف�ضل الفيا�ضانات التي كانت حتدث‪ ،‬كان الطمي ينت�رش يف بقع �صغرية من ال�صخور‬
‫والرتبة �إنطال ًقا من قاع النهر وعرب الوديان‪ ،‬فتتجدد الرتبة وتبقى خ�صب ًة‪.‬‬
‫وبعيدا ً عن املدن‪ ،‬وا�صل الكثري من النا�س البحث عن الغذاء‪ ،‬وجمع املواد الغذائية‪،‬‬
‫والعي�ش يف القرى الزراعية‪.‬‬
‫الرحل مع الأبقار والأغنام واملاعز وغريها‬ ‫وعلى الأرا�ضي الأق ّل خ�صوب ًة‪ ،‬تن ّقل الرعاة ّ‬
‫من احليوانات‪ ،‬ب�سبب عدم وفرة املياه والأع�شاب‪ ،‬ووا�صل ه�ؤالء التح ّرك لإيجاد مرعى‬
‫جديد‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫الف�صل الثالث‬
‫احل�ضارات‬

‫تطوير و�سائل النقل‬

‫تغيات يف احل�ضارات القدمية‬


‫رُّ‬
‫تغريت احل�ضارات القدمية بطرق عديدة على مدى القرون‪ ،‬وكانت التحوالت املادية والتعامالت‬
‫بني النا�س هي الأ�سباب الرئي�سية لهذا التّغيري‪.‬‬
‫ومن �أهم �أ�سباب التغيري‪:‬‬
‫حت ّول املدن �إىل كيانات �سيا�سية كبرية‪.‬‬
‫ومثل �أ�سالف الع�رص احلجري‪ ،‬اعتمد النا�س يف احل�ضارات القدمية على البيئة املادية‪.‬‬
‫فكانوا بحاجة لأمطار غزيرة وتربة خ�صبة‪ ،‬ليكونوا قادرين على �إنتاج املحا�صيل‪ ،‬وكانت‬
‫ريا ب�شكل مبا�رش على حياة النا�س‪.‬‬ ‫التغريات البيئية هي الأكرث ت�أث ً‬
‫ومن خالل �آالف �سنني احلرب وال�سلم‪ ،‬بنت �شعوب ال�رشق الأو�سط �إمرباطوريات كثرية‪ ،‬وحققت‬
‫ابتكارات طويلة املدى‪.‬‬
‫�أ�صبحت املنطقة ملتقى املحاربني والتجار‪.‬‬
‫كما ن�ش�أ العديد من املعتقدات والأفكار من ال�رشق الأو�سط القدمي‪ ،‬ف�ساعدت هذه املعتقدات يف‬
‫ت�شكيل العامل املعا�رص‪ .‬ومرا ًرا وتكرا ًرا عرب الزمن‪ ،‬توجهت ال�شعوب البدوية واملحاربون �إىل‬
‫املدن الغنية يف "الهالل اخل�صيب" وتوجه اليها املحاربون‪.‬‬
‫ويف حني نهب الغزاة و�أحرقوا وعاثوا تخريباً‪ ،‬بقي بع�ض النا�س يف احلكم‪ ،‬ف�أوجد القادة‬
‫الإمرباطوريات املن ّظمة تنظي ًما جيّدًا‪ ،‬وحققوا �سال ًما وازدها ًرا‪.‬‬
‫وقد اتخذ حامورابي خطوات لتوحيد �إمرباطوريته واجناحها‪:‬‬
‫فقام بتنظيم احلرب‪ ،‬ون ّظم ً‬
‫جي�شا مد ّر ًبا و�أمر ب�إ�صالح العديد من املعابد‪.‬‬
‫ولت�شجيع الوحدة الدينية‪ ،‬ر ّوج ملردوخ �إله بابل‪ ،‬و�صدّره على الآلهة ال�سورية القدمية‪.‬‬
‫"املظاهر الفكرية واملذاهب الفل�سفية حتكمها احل�ضارة والعلوم ال�سائدة"‬ ‫‪92‬‬

‫ومع الوقت‪� ،‬أ�صبح مردوخ الإله الرئي�سي للعبادة البابلية‪.‬‬


‫وت�ش ّكلت الإمرباطوريات بطرق خمتلفة يف ال�رشق الأو�سط يف زمن الحق‪.‬‬
‫بع�ض الفاحتني‪ ،‬مثل احلثيني‪ ،‬جلبوا مناف�س ًة جديدة ل�شعوب املنطقة‪.‬‬
‫�إقتلع الفاحتون ال�شعوب التي هزمت‪ ،‬الأمر الذي كان له ت�أثري على االنت�شار �إىل مناطق جديدة‪،‬‬
‫ونقل �أفكار �أولئك الذين �أجربوا على االنتقال‪.‬‬
‫�إندفع احلثيون من �آ�سيا ال�صغرى �إىل بالد ما بني النهرين حواىل العام ‪ 1400‬ق‪.‬م‪ .‬و�أح�رضوا‬
‫معهم معرف ًة كبرية يف كيفية ا�ستخراج احلديد من م�صدره اخلام‪.‬‬
‫ولأنّ احلديد كان متواف ًرا‪ ،‬ا�ستطاع احلثيون ت�سليح املزيد من الأفراد بكلفة �أقل‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬ف�شل اجلدار الذي �أن�ش�أه نبوخذ ن�رص يف ردع املحتلني اجلدد‪.‬‬
‫ويف العام ‪ 539‬ق‪.‬م‪ .‬خ�رست بابل �أمام جي�ش الفر�س‪� ،‬أي جي�ش �سايرو�س العظيم‪.‬‬
‫فبنى �سايرو�س و�أن�صاره �أكرب �أمرباطورية يف ذلك الزمان‪.‬‬
‫ويف نهاية املطاف‪� ،‬سيطر الفر�س على الأرا�ضي املمتدة من �آ�سيا ال�صغرى حتى الهند‪ ،‬مبا فيها –‬
‫يف الوقت احلايل – تركيا و�إيران وم�رص و�أفغان�ستان وباك�ستان‪.‬‬
‫وب�شكل عام‪� ،‬إ�ستعمل امللوك الفر�س �سيا�سة الت�سامح والقبول جتاه ال�شعوب التي �سادوا عليها‪،‬‬
‫كما احرتموا عادات املجموعات املتنوعة وتقاليدها يف �إمرباطوريتهم‪.‬‬
‫وبينما حكم ح ّكام �أقوياء الإمرباطوريات الكبرية‪ ،‬حت ّولت العديد من الدول ال�صغرية يف ال�رشق‬
‫الأو�سط �إىل دول ذات ح�ضارة‪.‬‬
‫�إكت�سب الفينيقيون ‪ -‬على �سبيل املثال ‪� -‬شهر ًة يف الإبحار والتجارة‪ ،‬كما احتلوا �سل�سل ًة من املدن‬
‫على طول ال�ساحل ال�رشقي للبحر الأبي�ض املتو�سط‪� ،‬أي يف يومنا هذا �سوريا ولبنان‪.‬‬
‫و�ضع التجار الفينيقيون نظام �أبجدية من اثنني وع�رشين رمزا ً م�ؤلف ًة من �أ�صوات �ساكنة‪ ،‬ويف وقت‬
‫الحق تكيّف الإغريق مع الأبجدية الفينيقية و�أ�ضافوا لها رموز الأ�صوات‪.‬‬
‫ومن هذه الأبجدية اليونانية (الإغريقية)‪ ،‬جاءت احلروف التي ن�ستخدمها اليوم‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫الف�صل الرابع‬
‫احل�ضارات‬

‫تطوير الإنتاج الزراعي‬


‫ح�ضارة م�رص القدمية‬
‫جذبت الأرا�ضي اخل�صبة يف وادي النيل مزارعي الع�رص احلجري‪ ،‬وهاجر �إليها النا�س من منطقة‬
‫البحر الأبي�ض املتو�سط‪ ،‬من التالل وال�صحارى التي قرب نهر النيل‪ ،‬ومن �أجزاء �أخرى من �أفريقيا‪.‬‬
‫مع الوقت‪ ،‬ظهرت ح�ضارة عظيمة تعتمد على ال�سيطرة على مياه النهر‪.‬‬
‫وكما قال امل�ؤرخ الإغريقي هريودوت�س‪ ،‬فـ "م�رص هي هبة النيل»‪.‬‬
‫فمن دون النيل‪ ،‬لكانت م�رص �صحراء‪.‬‬
‫ففي الع�صور القدمية‪ ،‬كما هو احلال الآن‪ ،‬كانت القرى الزراعية على نطاق �ضيّق من الأرا�ضي التي‬
‫يرويها النيل‪.‬‬
‫فهذه «الأر�ض ال�سوداء» كانت ال تزيد على الع�رشة �أميال‪� ،‬أما «الأر�ض احلمراء» فهي ال�صحراء التي‬
‫حتت وهج ال�شم�س احلارة‪ ،‬التي متتد على كامل م�ساحة �شمال �أفريقيا‪.‬‬
‫ا�ستغ ّل املزارعون الرتبة اخل�صبة يف وادي النيل لال�ستفادة منها يف زراعة القمح والقطن‪ ،‬ل�صناعة‬
‫املالب�س‪.‬‬
‫ق�سم العلماء تاريخ م�رص القدمية �إىل ثالث فرتات رئي�سية‪:‬‬ ‫�إىل ذلك‪ ،‬فقد ّ‬
‫‪ -‬اململكة القدمية‪ :‬حواىل ‪ 2575‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬اململكة الو�سطى‪ :‬حواىل ‪ 1938‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬والدول احلديثة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من انتقال ال�سلطة من �ساللة واحدة‪� ،‬أو من �أ�رسة حاكمة �إىل �أخرى‪ ،‬ظلّت الأر�ض ّ‬
‫موحد ًة‪.‬‬
‫مركزية ً‬
‫قوية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نظم امللوك امل�رصيون (الفراعنة)‪ ،‬يف وقت الحق‪ً ،‬‬
‫دولة‬ ‫وخالل ع�رص الدول القدمية‪ّ ،‬‬
‫لعب الفراعنة دو ًرا رئي�سيًا يف احلكومة والدين‪.‬‬
‫كان بيد الفرعون ال�سلطة املطلقة‪ ،‬وميتلك ك ّل �أرا�ضي اململكة‪.‬‬
‫"احل�ضارة نظام اجتماعي ي�ساعد االوطان على زيادة الفكر واالنتاج الثقايف والتقاليد االخالقية"‬ ‫‪94‬‬
‫كما كان ينظر للفراعنة كب�رش م�ؤلّهني‪.‬‬
‫ولقد �ساهم ال�رصاع على ال�سلطة يف تلف املحا�صيل‪ ،‬و�أدت تكلفة بناء الأهرامات �إىل انهيار اململكة‬
‫القدمية‪.‬‬
‫ث ّم‪ ،‬وبعد قرن من االنق�سام بني الدولة العليا والدولة ال�سفلى‪ ،‬بد�أ الفراعنة اجلدد عهدًا جديدًا‪ ،‬عهد‬
‫الدولة الو�سطى‪.‬‬
‫وكانت فرتة اململكة الو�سطى فرتة ا�ضطراب‪ ،‬ومل يرتفع نهر النيل كما العادة‪ ،‬وكان الف�ساد والتمرد‬
‫منت�رشين‪.‬‬
‫ً‬
‫مع ذلك‪ ،‬نظم احلكام الأقوياء م�رشوع ال�رصف الكبري‪ ،‬و�أوجدوا م�ساحات جديدة ووا�سعة �صاحلة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للزراعة‪.‬‬
‫أي�ضا با�سم «كو�ش») الأر�ض‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬احتلت اجليو�ش امل�رصية جز ًءا من النوبة (املعروفة � ً‬
‫الغنية بالذهب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خ�ص املعتقدات الدينية حول الآلهة والقيم واحلياة ما بعد املوت‪ ،‬فقد �أثرت كلها على احلياة‬ ‫�أما فيما ّ‬
‫اليومية لدى امل�رصيني القدماء‪.‬‬
‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪� ،‬إ�ستخدم الكتبة �أقدم �أ�شكال الكتابة يف العامل‪ ،‬لت�سجيل املعلومات‪ ،‬كما �أحدث‬
‫الفنانون والعلماء تق ّد ًما يف الفن والعلم والأدب‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬فمعظم ما نعرفه عن الدين امل�رصي ي�أتي من النقو�ش على الآثار واللوحات اجلدارية يف املقابر‪.‬‬
‫وت�صف هذه النقو�ش منا�شدة امل�رصيني للقوى الإلهية‪ ،‬التي اعتقدوا �أنها حتكم الدنيا والآخرة‪.‬‬
‫التح ّول الأ�سا�سي ح�صل يف العام ‪ 1380‬ق‪.‬م‪ .‬حتدّى �شاب يدعى �أمنحوتب الرابع‪ ،‬الكهنة الأقوياء يف‬
‫�أمون رع‪ ،‬وقال �إنه ك ّر�س حياته لعبادة �أتون‪.‬‬
‫ف�أخذ هذا الفرعون ال�شاب لنف�سه ا�سم �أخناتون‪ ،‬الذي يعني «خادم �أتون»‪.‬‬
‫كما �أمر الكهنة بعبادة �أتون فقط‪ ،‬و�إزالة �أ�سماء الآلهة الأخرى من معابدهم‪.‬‬
‫وبالإجمال‪ّ � ،‬أثرت فكرة احلياة ما بعد املوت على امل�رصيني جمي ًعا‪ ،‬من �أعلى احلكام حتى �أدنى‬
‫ّ‬
‫الفالحني‪.‬‬
‫فقد اعتقدوا � ّأن على كل نف�س �أن تزور �أوزيري�س‪ ،‬الجتياز اختبار فوز احلياة الأبدية‪:‬‬
‫ف�أوالً‪ :‬يجب نقل روح امليت عرب بحرية من النار يف قاعة �أوزيري�س‪.‬‬
‫ث ّم‪ ،‬يجب وزن قلب ال�شخ�ص مقابل ري�شة احلقيقة‪.‬‬
‫وحتكم �أوزيري�س على اخلطاة ب�إطعامهم لآكل على �شكل مت�ساح ي�أكل املوتى‪.‬‬
‫�أما النفو�س امل�ستحقة‪ ،‬فتعي�ش �إىل الأبد يف النعيم‪ ،‬لأنها ا�ستطاعت البقاء على قيد احلياة خالل رحلة‬
‫حمفوفة باملخاطر‪.‬‬
‫اعتمد امل�رصيون على كتاب «املوتى»‪ ،‬الذي يحتوي على ال�سحر وعلى �صيغ للموتى ال�ستخدامها يف‬
‫الآخرة‪.‬‬
‫‪95‬‬ ‫الف�صل اخلام�س‬
‫احل�ضارات‬

‫�آلهةهندو�سية‬

‫الديانتان اللتان � َّأ�س�ستا احل�ضارة الهند ّية‬


‫�ش ّكلت التعاليم الأخالقية والروحية للديانتني الهندو�سية والبوذية احل�ضارة الهندية‪.‬‬
‫ففيما يتعلّق بالهندو�سية‪ ،‬وخال ًفا ملعظم الأديان الرئي�سية‪ ،‬لي�س هناك م� ّؤ�س�س واحد لها‪ ،‬وال‬
‫ن�ص مق ّد�س واحد‪.‬‬‫ّ‬
‫وبدالً من ذلك‪ ،‬انبثقت الهندو�سية من املجموعات املختلفة الذين ا�ستقروا يف الهند‪.‬‬
‫رمبا بد�أت العملية عندما �أ�ضافت الأديان �آلهة احل�ضارة ال�سندية‪.‬و�أح�رض النا�س يف �أوقات‬
‫الحقة �آله ًة �أخرى‪ ،‬وكذلك العديد من املعتقدات واملمار�سات‪.‬‬
‫نتيجة ذلك‪� ،‬أ�صبحت الهندو�سية واحد ًة من الديانات الأكرث تعقي ًدا يف العامل‪ ،‬مع �آلهة و�إلهات‬
‫ال حت�صى‪ ،‬والعديد من �أ�شكال العبادات‪.‬‬
‫وعلى الرغم من هذا التنوع‪ ،‬ت�شارك الهندو�س يف معتقدات �أ�سا�سية‪.‬‬
‫إ�صالحي �إ�سمه �سيدهارثا‬
‫ّ‬ ‫�أما البوذية فقد بد�أت يف �سفوح جبال الهيمااليا‪ ،‬حيث كان هناك �‬
‫غوتاما‪ ،‬وانت�رشت تعاليمه يف نهاية املطاف يف �آ�سيا‪ ،‬لت�صبح واحد ًة من الديانات الأكرث ت�أث ً‬
‫ريا‬
‫يف العامل‪.‬‬
‫عرفت حياة غوتاما بوذا من خالل الكتابات الدينية والأدب‪.‬‬
‫ريا يف العام ‪ 563‬ق‪.‬م‪ ،.‬ووف ًقا للتقاليد‪ ،‬حلمت والدته �أنّ فيالً �أبي�ض م�ش ّعا ً نزل‬
‫وقد ولد بوذا �أم ً‬
‫�إليها من ال�سماء‪.‬‬
‫عالمات كهذه �أ ّدت للتنب�ؤ لل�صبي ب�أنه �سي�صبح يف يوم من الأيام رجل دين متج ّول‪.‬‬
‫"من ا�سباب احل�ضارة الكاملة‪ ,‬الفن والعلم واالداب املتكاملة‪ ,‬والإ�صالح"‬ ‫‪96‬‬

‫حماطا بالراحة والرفاهية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكي ي�صبح ابنه حاك ًما‪� ،‬أبقاه �أبوه يف ق�صور العائلة‪،‬‬
‫ويف �س ّن ال�ساد�سة ع�رشة‪ ،‬تز ّوج غوتاما امر�أ ًة جميلة ومتتّع بحياة �سعيدة‪.‬‬
‫�إجتذب بوذا العديد من التالميذ والأتباع‪ ،‬رافقوه يف التب�شري يف �شمال الهند‪.‬‬
‫العديد من الرجال والن�ساء الذين قبلوا تعاليم بوذا‪� ،‬أن�ش�أوا �أدير ًة للت�أمل والدرا�سة‪.‬‬
‫حت ّولت الأديرة البوذية �إىل مراكز رئي�سية للتعلّم‪.‬‬
‫تقول الأ�سطورة �إنه يف �س ّن الثمانني‪�" ،‬أكل بوذا الأنظمة الفا�سدة"‪.‬‬
‫ويف الوقت الذي احت�رض فيه‪ ،‬قال لتالميذه‪:‬‬
‫"اال�ضمحالل مت�أ�صل يف كل �شيء‪� .‬إعملوا على خال�صكم من االجتهاد"‪.‬‬
‫بعد وفاته‪ ،‬جمع �أتباعه تعاليمه يف "تربيتاكا" �أي "ثالث �سلاّ ت للحكمة"‪.‬‬
‫ال�سلاّ ت تت�ضمن �أقواالً‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫واحدة من ّ‬
‫"�إ�سمحوا للإن�سان بعد حتقيق واجبه‪ ،‬باالنتباه �إىل واجبه"‪ ،‬ما يعك�س الرتكيز الهندو�سي‬
‫على الواجب‪ ،‬والذي بقي مطبو ًعا يف البوذية‪.‬‬
‫وباالنتقال �إىل مراحل تك ّون احل�ضارة الهندية‪ ،‬نذكر‪:‬‬
‫كان �شمال الهند يف كثري من الأحيان �ساحة معركة خا�ضتها الراجا من �أجل ال�سيطرة على‬
‫وادي نهر الغاجن الغني‪.‬‬
‫ولكن يف العام ‪ 321‬ق‪.‬م‪ .‬ظهر �شاب مغامر �إ�سمه �شاندراغويتا موريا‪ ،‬وبنى �أول �إمرباطورية‬
‫هندية‪.‬‬
‫نعرف �شاندراغويتا‪ ،‬من خالل التقارير املكتوبة بوا�سطة ال�سفري اليوناين �إىل مدينة موريا‪.‬‬
‫و�صف العا�صمة موريا الكبرية يف "باتا ليبوترا"‪.‬‬
‫كان فيها تنظيم لالت�صاالت‪ ،‬ولديها مدار�س ومكاتب‪ ،‬وكذلك ق�صور رائعة ومعابد‪.‬‬
‫مت تق�سيم ديكان �إىل العديد من املمالك‪ ،‬بعدما تراجعت قوة موريا‪.‬‬ ‫ومثل �سهل الغاجن‪ّ ،‬‬
‫كان لكل مملكة عا�صمتها‪ ،‬مع معابد رائعة وور�ش العمل ال�صاخبة‪.‬‬
‫وكان ل�شعوب هذه اململكة لغات خمتلفة‪ ،‬وتقاليد من تقاليد �شعوب ال�شمال الآري‪.‬‬
‫على م ّر القرون‪ ،‬اختلطت الهندو�سية والبوذية والكتابات ال�سن�سكريتية يف اجلنوب ومع‬
‫الثقافات املحلية‪.‬‬
‫ت�سامح ح ّكام ديكان عمو ًما مع جميع الأديان‪ ،‬ف�ضالً عن العديد من الأجانب الذين ا�ستقروا‬
‫يف موانئها املكتظة‪.‬‬
‫�أما يف ممالك التاميل التي احتلت معظم اجلزء اجلنوبي من الهند‪ ،‬فكانت التجارة مهم ّة‪.‬‬
‫ح�سن ح ّكام التاميل املوانئ لدعم التجارة اخلارجية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫و�أر�سل جتار التاميل التوابل واملن�سوجات اجلميلة وغريها غر ًبا‪� ،‬إىل م�شرتين يف‬
‫الإمرباطورية الرومانية‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫طبقياً‪ ،‬الكثري من الهنود كانوا من الفالحني‪ ،‬عا�شوا يف قرى منت�رشة يف الهند‪.‬‬
‫يف املجتمع الهندي‪ ،‬اعتمدت احلياة اليومية على قواعد وواجبات متعلقة بالطوائف‪ ،‬بالعائلة‬
‫وبالقرية‪.‬‬
‫كانت العائلة املثالية هي العائلة امل�شرتكة‪ ،‬فيها الآباء والأطفال يعي�شون يف م�سكن م�شرتك‪.‬‬
‫يف العائلة الهندية‪ ،‬كان �أقدم الذكور هو الأب‪ ،‬وهو الذي يوجه الأ�رسة‪.‬‬
‫وا�صل الآباء الكبار العي�ش مع والديهم‪ ،‬بعد الزواج و�إجناب الأطفال‪.‬‬
‫وحول و�ضعية املر�أة الهندية‪ ،‬ففي املجتمع الآري ويف وقت مبكر‪ ،‬بدا �أن الن�ساء ك ّن يتمتعن‬
‫مبكانة �أعلى مما ك ّن عليه الح ًقا‪.‬‬
‫�إال �أنّ العادات التي ت�ؤثر على الن�ساء‪ ،‬تن ّوعت يف خمتلف �أنحاء الهند‪ ،‬وتغيرّ ت مع مرور‬
‫تغطي ج�سمها من الر�أ�س �إىل القدمني‬ ‫الوقت‪ ،‬حتى عند خروج املر�أة من املنزل كان عليها �أن ّ‬
‫�إذا كانت من الطبقة العليا‪.‬‬
‫�أما �إذا كانت املر�أة من الطبقة الدنيا‪ ،‬جاهدت يف احلقول �أو عملت يف الغزل والن�سيج‪.‬‬
‫وعمو ًما‪ ،‬كان للمر�أة القليل من احلقوق داخل الأ�رسة‪ ،‬وكانت واجباتها ن�سائي ًة متعلق ًة‬
‫بالزوج وتربية الأطفال‪.‬‬
‫وكان من واجب الرجل توجيه طاقته وطاقة زوجته يف االجتاه ال�صحيح‪.‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬ ‫‪98‬‬
‫احل�ضارات‬

‫التنني رمز ال�صني‬

‫احل�ضارة يف ال�صني‬
‫قدّمت �أ�سطورة "يو" نظر ًة ثاقبة حول الوقت املبكر يف ال�صني‪.‬‬
‫اعتمد ال�صينيون على الأنهار للريّ والنقل‪ ،‬التي اعتربوها ذات قيمة عالية‪.‬‬
‫وكان ب�إمكانهم التحكم يف مياه الفي�ضانات‪ ،‬وو�ضع نظام الريّ ‪.‬‬
‫تظهر الأ�سطورة مدى �أهمية ت�أدية الواجب عند ال�صينيني‪.‬‬
‫لعب كال املو�ضوعني دو ًرا �أ�سا�سيًا يف تطور احل�ضارة ال�صينية‪.‬‬
‫�أبعدت امل�سافات الطويلة والعراقيل بني ال�صني وم�رص وال�رشق الأو�سط وكذلك الهند‪.‬‬
‫هذا االنعزال �أدىَّ بال�صني �إىل �أن ت�صبح يف و�سط الأر�ض وم�صد ًرا للح�ضارة‪.‬‬
‫هذه املعتقدات �أدت بال�صينيني القدماء لت�سمية �أر�ضهم ب"اململكة املتو�سطة"‪.‬‬
‫يف غرب وجنوب غرب ال�صني‪ ،‬منعت ال�صحارى واجلبال العالية يف الهيمااليا التحركات ال�سهلة للنا�س‪.‬‬
‫يف اجلنوب ال�رشقي‪ ،‬ف�صلت الغابات املمطرة الكثيفة ال�صني عن جنوب �رشق �آ�سيا‪.‬‬
‫ويف ال�شمال‪ ،‬كان هناك �صحراء "غوبي"‪.‬‬
‫ويف ال�رشق هناك املحيط الهادئ‪.‬‬
‫بد�أت ال�صني بالتبلور يف ظل عهد �أ�رسة "�شانغ"‪.‬‬
‫فحواىل العام ‪ 1766‬ق‪.‬م‪ .‬ن�ش�أت �ساللة �صينية من منطقة يف �شمال ال�صني‪ ،‬هذه ال�ساللة "�شانغ" �سيطرت‬
‫على املنطقة حتى حواىل العام ‪ 1122‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫مركبة‪ ،‬وظلّت متار�س‬
‫وعلى �صعيد املعتقدات الدينية‪ ،‬ففي عهد "�شانغ"‪ ،‬ط ّور ال�صينيون معتقدات دينية ّ‬
‫لآالف ال�سنني‪.‬‬
‫�صلّى ال�صينيون القدماء للعديد من الآلهة والأرواح الطبيعية‪.‬‬
‫�إ ّن الآلهة العظيمة‪ ،‬مثل "�شانغ دي"‪ ،‬كما اعتقد ال�صينيون‪ ،‬ي�ستجيبون لنداءات الب�رش الفانني‪.‬‬
‫‪99‬‬ ‫"احل�ضارة ت�ستمر‪ ,‬وهي او�سع من البقع اجلغرافية"‬
‫وبالن�سبة لهم‪ ،‬فقط �أرواح النا�س العظماء مثل �أ�سالف امللك‪ ،‬من �ش�أنها احل�صول على الذات الإلهية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬كانوا يعتقدون �أ ّن احلكام والنبالء كان لهم فوائد للمجتمع‪ ،‬مثل‪ :‬احل�صاد اجليد واالنت�صار يف احلرب‪.‬‬
‫تعطل الطرق‬ ‫ومن ث ّم‪ ،‬وخالل فرتة مت�أخرة من عهد "ت�شو"‪ ،‬عندما كانت احلروب والتغريات االجتماعية ّ‬
‫أ�سي�سا للثقافة وللحكم ال�صيني لقرون قادمة‪.‬‬ ‫�شكلت ت� ً‬ ‫القدمية للعي�ش‪ ،‬و�ضعت ُنظ ًما عقائدية جديدة ‪ ،‬والتي ّ‬
‫فقد و�ضع املفكرون مثل كونفو�شيو�س والوتزه‪� ،‬أفكا ًرا حول كيفية ا�ستعادة النظام االجتماعي واحلفاظ على‬
‫التناغم مع الطبيعة‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬عرف ال�صينيون القدماء ب�إجنازاتهم الثقافية العديدة‪.‬‬
‫و�سجلوا ك�سوف ال�شم�س‪.‬‬ ‫على �سبيل املثال‪ :‬در�س علماء فلك "�شانغ" حركة الكواكب‪ّ ،‬‬
‫�ساهمت هذه االكت�شافات يف و�ضع تقومي دقيق يف الزراعة ب‪ 365‬يوم ون�صف‪.‬‬
‫حت�سن الفن ال�صيني والتقنية‪ ،‬من �صنع الربونز �إىل �إنتاج �أ�سلحة برونزية قدمية و�إىل الفن‬ ‫بالإ�ضافة لذلك‪ّ ،‬‬
‫املغطى بزخارف مع ّقدة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫�أما ق�صة توحيد ال�صني فكانت على ال�شكل التايل‪:‬‬
‫وحد حاكم قوي ال�صني‪.‬‬ ‫من قاعدته يف غرب ال�صني‪ّ ،‬‬
‫وقد و�صف �أحد �شعراء وم�ؤرخي ال�صني القدماء‪ ،‬كيف �سحق "ت�شينغ جاجن" حميع مناف�سيه‪ ،‬قائال‪ً:‬‬
‫" ب�سوطه الطويل‪ ،‬وبقيادته للكون قبله‪� ،‬أطاح بالإقطاعيني"‪.‬‬
‫يف ‪ 221‬ق‪.‬م‪� ،.‬أعلن ت�شنغ نف�سه "�شي هوانغدي" �أو "االمرباطور الأول"‪.‬‬
‫وعلى الرغم من �أ�ساليبه الوح�شية‪ ،‬ب�شرّ بالع�رص الكال�سيكي ال�صيني‪� ،‬أي امل�صطلح الذي ي�ستخدم من قبل‬
‫امل�ؤرخني ليحدّد �أمناط احلكومة والفل�سفة والدين والعلم والفنون‪ ،‬التي تكون مبثابة �إطار للثقافات يف وقت‬
‫الحق‪.‬‬
‫كان "�شي هوانغدي" م�ص ّم ًما على �إنهاء االنق�سامات التي �ش ّقها "ت�شو" يف ال�صني‪ .‬فق�ضي حواىل ع�رشين عا ًما‬
‫حتى ّ‬
‫احتل �أكرثية الدول املتحاربة‪.‬‬
‫ً‬
‫حكومة "ت�شني" القوية واال�ستبدادية‪.‬‬ ‫ث ّم لفر�ض العقوبات على الف�شل‪ ،‬بنى‬
‫وطد "�شو هوانغدي" ال�سلطة مب�ساعدة من امل�ست�شارين القانونيني‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وا�ستند يف القانون على تعاليم هانغيزي‪ ،‬الذي تويف يف العام ‪ 283‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫ً‬
‫ووفقا لهوانغدي‪:‬‬
‫"�إن طبيعة الإن�سان هي ال�رش‪ .‬هو يكت�سب اخلري"‪.‬‬
‫رص هوانغدي على �أن ال�سبيل‬ ‫كما �أعلن �أ ّن اجل�شع كان وراء معظم الإجراءات و�سبب معظم ال�رصاعات‪� .‬أ� ّ‬
‫الوحيد لتحقيق النظام هو مترير قوانني �صارمة‪ ،‬وفر�ض عقوبات قا�سية على اجلرائم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أر�ضا وا�سعة ومتنوعة �إىل ال�صني‬ ‫حكام "هان"‪� ،‬ض ّموا � ً‬ ‫أي�ضا ّ‬‫وعموماً‪� ،‬شي هوانغدي‪ ،‬قاويو‪ ،‬ر�سوال‪ ،‬و� ً‬
‫املوحدة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫و�أوجد حكام "هان" �إمرباطورية بحجم الواليات املتحدة‪.‬‬
‫خالل هذه الفرتة‪� ،‬أن�ش�أ امل�س�ؤولون ال�صينيون نظام الإدارة‪ ،‬التي من �ش�أنها البقاء على قيد احلياة حتى عام‬
‫ريا‪.‬‬
‫‪1912‬م‪ .‬ويف القرون الالحقة‪ ،‬تغيرّ ت ال�صني كث ً‬
‫مت جمعها مرا ًرا وتكرا ًرا‪.‬‬‫فقد تفتّتت ثم ّ‬
‫الف�صل ال�سابع‬ ‫‪100‬‬
‫احل�ضارات‬

‫الأكادمييات ميزة اليونان‬


‫ظهور احل�ضارة اليونانية‬
‫كانت جزيرة كريت مهد احل�ضارة الأوىل التي � ّأثرت يف وقت الحق على اليونانيني الذين يعي�شون‬
‫على البحر الأوروبي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ا�ستوعب �أهل كريت العديد من الأفكار من ح�ضارات م�رص القدمية‬
‫وبالد ما بني النهرين‪ .‬رحلة "يوروبا" الأ�سطورية من فينيقيا �إىل جزيرة كريت‪ ،‬ت�شري �إىل حركة‬
‫الأفكار‪ ،‬وتناقلها من ال�رشق �إىل الغرب‪.‬‬
‫تغ�سلها املياه الدافئة لبحر �إيجه‪ ،‬كانت كريت موطنًا حل�ضارة رائعة‪.‬‬
‫ال نعرف فعالً من الذين بنوا هذه احل�ضارة‪� ،‬أو � ّأي ا�سم يطلقونه عليهم‪ .‬لك ّن عامل الآثار الربيطاين‪،‬‬
‫الذي اكت�شف االنقا�ض والبقايا‪ ،‬يطلق عليهم ا�سم املينوويني‪ ،‬تب ًعا ملينو�س‪ ،‬امللك الأ�سطوري جلزيرة‬
‫كريت‪ .‬بلغت احل�ضارة املينوية �أوج جناحها بني الأعوام ‪ 1600‬و ‪ 1500‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫حواىل عام ‪ 1400‬ق‪.‬م‪ ،.‬اختفت احل�ضارة املينوية‪.‬‬
‫ويرجح � ّأن الأمر عائد �إىل ثوران بركان مفاجئ‬
‫ّ‬ ‫مل يكن علماء الآثار مت�أكدين من �سبب اختفائها‪،‬‬
‫ق�ضى على اجلزيرة‪ .‬وبعد غزو دوريان‪ ،‬م�ضت �أر�ض اليونان عدة قرون يف غمو�ض‪.‬‬
‫كان ال�شعب يعي�ش يف عزلة‪ ،‬وتوا�صلهم مع العامل اخلارجي كان �شبه منقطع‪.‬‬
‫مع مرور الوقت‪� ،‬أ�صبحت الق�ص�ص حول كريت ومي�سينا جز ًءا من تراثهم‪ ،‬ا�ستعملوه لبناء ح�ضارة‬
‫جديدة‪ " ،‬احل�ضارة اليونانية"‪.‬‬
‫عند ظهورها‪ ،‬مل ت�سيطر هذه احل�ضارة فقط على منطقة واحدة‪ ،‬بل � ّأثرت � ً‬
‫أي�ضا على معظم �أنحاء‬
‫العامل الغربي‪.‬‬
‫لقد كان البحر الأبي�ض املتو�سط وبحر �إيجه‪ ،‬عن�رصين �أ�سا�سيني يف تط ّور احل�ضارة اليونانية‪ ،‬كما‬
‫كان النيل للم�رصيني‪.‬‬
‫ا�ستوعب الإغريق العديد من الأفكار واملعتقدات من احل�ضارات القدمية من بالد ما بني النهرين‬
‫‪101‬‬ ‫"احل�ضارة جت�سد عاملا ً ميتاز بالرقي واال�ستقرار والثقافة واالنظمة اخللقية"‬
‫وم�رص‪.‬‬
‫خا�صة لهم‪ ،‬كو�ضعهم لأفكار جديدة تط ّورت لتك ّون ً‬
‫دولة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ويف الوقت عينه‪ ،‬و�ضعوا طر ًقا‬
‫نظم احلكام الأقوياء �أعمال‬ ‫ت�شكلت معظم احل�ضارات "اليونانية" يف وديان الأنهار اخل�صبة‪ .‬هناك‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الري التي �ساعدت املزارعني يف �إنتاج الغذاء الالزم لدعم املدن الكبرية‪.‬‬
‫جغرافية �أخرى � ّأثرت يف ظهور احل�ضارة اليونانية‪.‬‬‫ً‬ ‫كما � ّأن ظرو ًفا‬
‫عام ‪ 750‬ق‪.‬م‪� .‬أجرب النم ّو ال�رسيع لل�سكان‪ ،‬العديد من اليونانيني �إىل ترك الوديان‪,‬‬
‫وتو�سعوا �إىل اخلارج‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مع الأرا�ضي اخل�صبة‬
‫وتدريجياً‪ ،‬امتدّوا يف جميع �أنحاء البحر الأبي�ض املتو�سط‪ ،‬من �إ�سبانيا �إىل م�رص‪.‬‬
‫و�أينما ذهبوا‪ ،‬ن�رشوا �أفكارهم وثقافتهم‪.‬‬
‫ن�سخة فريدة من الدول‪ ،‬ون ّفذوها مبدينة كربى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تو�سع عاملهم بعد العام ‪ 750‬ق‪.‬م‪ .‬ط ّور الإغريق‬ ‫مع ّ‬
‫عاد ًة‪ ،‬كان يت ّم بناء املدن على م�ستويني‪:‬‬
‫على ر�أ�س التلة‪ ،‬كان هناك الأكروبول مع معابد الرخام العظيمة املخ�ص�صة لآلهة و�آلهات عديدة‪.‬‬
‫ويف الأ�سفل‪ ،‬هناك‪ :‬الأ�سواق‪ ،‬امل�رسح‪ ،‬املباين العامة واملنازل‪.‬‬
‫وكان عدد �سكان املدن قليالً‪ ،‬الأمر الذي �ساعد املواطنني على تبادل ال�شعور بامل�س�ؤولية يف االنت�صارات‬
‫والهزائم‪ .‬ق�ضى الرجال الأحرار من اليونان الكثري من الوقت يف الهواء الطلق‪ ،‬ويف ال�سوق‪ ،‬وناق�شوا‬
‫الق�ضايا التي ت� ّؤثر على حياتهم‪.‬‬
‫ومن جهتها‪ ،‬تقع �أثينا �شمال اجلزر البولونيازية‪ ،‬كما هو حال العديد من مدن اليونان‪ .‬وتط ّورت‬
‫حكومة �أثينا من النظام امللكي �إىل الأر�ستقراطية‪.‬‬
‫يف عام ‪ 700‬ق‪.‬م‪� .‬أ�صبحت ال�سلطة بيد مالكي الأرا�ضي‪.‬‬
‫وقد اختاروا الكبار للم�س�ؤولية‪ ،‬ومن �أجل احلكم على الق�ضايا املطروحة يف املحاكم الكربى‪.‬‬
‫مع انت�شار ال�سخط‪ ،‬انتقلت �أثينا ببطء نحو الدميقراطية �أو احلكم من قبل ال�شعب‪.‬‬
‫ولكن م�صطلح "دميقراطيا" يختلف معناه لدى الإغريق ع ّما هو اليوم‪.‬‬
‫�أدى حتديد الروح امل�ستقلّة والتناف�س االقت�صادي �إىل التقاتل بني الدول اليونانية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من االنق�سامات اليونانية‪ ،‬ت�شاركوا الثقافة مع بع�ضهم‪ .‬كانوا يتحدّثون نف�س اللغة‪،‬‬
‫ويت�شاركون نف�س املهرجانات‪ ،‬و�صوالً �إىل عبادة الآلهة نف�سها‪.‬‬
‫وكمعظم القدماء‪ ،‬تعدّدت الآلهة لدى اليونان‪:‬‬
‫اعتقدوا �أن الآلهة تعي�ش على جيل �أوملبو�س يف �شمال اليونان‪.‬‬
‫وكان الأقوى بينها هو الأوملبي "هونيو�س" الذي "يرت�أ�س �ش�ؤون الآلهة والب�رش"‪.‬‬
‫القادة الع�سكريون الأثينيون اختلفوا يف ما �إذا كانوا �سيذهبون �إىل املعركة �أو ال‪ ،‬كما كانت املدن اليونانية‬
‫يف كثري من الأحيان على خالف مع بع�ضها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬عندما هدّدهم الفر�س‪ ،‬و�ضع اليونانيون خالفاتهم‪ ،‬جانبًا للدفاع عن حر ّيتهم‪.‬‬
‫حمطة ً‬
‫مهمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫�أما احلروب الفار�سية اليونانية فكانت‬
‫‪102‬‬

‫فال�سفة اليونان الأكرث �شهرة‪� :‬سقراط‪� ،‬أفالطون‪� ،‬أر�سطو‬


‫�ضخمة امتدت من �آ�سيا ال�صغرى �إىل حدود الهند‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إمرباطورية‬ ‫فقد غزا الفر�س �‬
‫وعلى الرغم من القاعدة املتّبعة يف مثل هذه احلاالت‪ ،‬كانت هذه الدول تعتمد على احلكم الذاتي‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬بعد ا�ستياء من و�ضعهم عام ‪ 499‬ق‪.‬م‪ ،.‬مت ّرد اليونانيون �ضد احلكم الفار�سي‪ ،‬ف�أر�سلت‬
‫�أثينا ال�سفن مل�ساعدتهم‪.‬‬
‫وقد كتب امل�ؤ ّرخ هريودوت بعد ب�ضع �سنوات ما يلي‪:‬‬
‫مر�سلة لهدف �إغراق الإغريق والربابرة"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫"كانت هذه ال�سفن‬
‫�رسعان ما �سحق الفر�س املدن املتم ّردة‪.‬‬
‫غ�ضب داريو�س على الدور الذي لعبته �أثينا يف االنتفا�ضة‪ ،‬ف�أر�سل قو ًة هائلة عرب بحر �إيجه ملعاقبتها‪.‬‬
‫طلب الأثينيون امل�ساعدة من املدن اليونانية املجاروة‪ ،‬لك ّن الدعم جاء قليالً‪.‬‬
‫ً‬
‫ذهبية لأثينا حتت‬ ‫وكانت الأعوام بعد احلرب الفار�سية من ‪ 460‬ق‪.‬م‪ .‬حتى ‪ 429‬ق‪.‬م‪ .‬ع�صو ًرا‬
‫قيادة رجل الدولة بريكلي�س‪.‬‬
‫ً‬
‫دميقراطية‪.‬‬ ‫وب�سبب حكمه البارع‪ ،‬ازدهر االقت�صاد و�أ�صبحت احلكومة �أكرث‬
‫ً‬
‫دميقراطية مبا�رش ًة‪.‬‬ ‫كانت "البريكلية" الأثينية‬
‫حتت هذا النظام‪� ،‬أخذ املواطنون دورا ً مبا�رشا ً يف �ش�ؤون الدولة اليومية‪.‬‬
‫وعلى نقي�ض ذلك‪ ،‬ففي العديد من الدول الدميقراطية اليوم‪ ،‬ي�شارك املواطنون يف الدولة بطريقة غري‬
‫مبا�رشة من خالل ممثلني منتخبني‪.‬‬
‫�س ّمى الأثينيون نظامهم ال�سيا�سي "دميقراطيا" �أي "حكم ال�شعب"‪.‬‬
‫ويف القرن ال�ساد�س قبل امليالد‪� ،‬أ�صبح ب�إمكان املواطنني العاديني امل�شاركة الكاملة يف الدولة‪.‬‬
‫ويف تلك املراحل‪ ،‬انق�سم العامل اليوناين �إىل عدة دول كالتايل‪:‬‬
‫‪ -‬الدولة الديليانية‪.‬‬
‫‪ -‬دولة �إ�سبارطة‪.‬‬
‫‪ -‬و�أعداء لأثينا � ّأ�س�سوا الدولة البولونيازية‪.‬‬
‫ومب�ساعدة من الفر�س‪ ،‬هزمت �إ�سبارطة الأثينيني‪ ،‬ف�أنهت احلرب البولونيازية هيمنة الأثينيني على‬
‫العامل اليوناين‪.‬‬
‫وعلى ال�صعيد الفكري‪ ،‬اكت�شف الفال�سفة واملفكرون والفنانون والكتّاب اليونانيون طبيعة الكون‪،‬‬
‫بعد �أن ت�أملوا يف مظاهر الوجود ومعانيه‪.‬‬
‫فكان لهم يف ك ّل جمال مقال‪ ،‬ويف ك ّل علم وفل�سفة و�أدب وف ّن منحى فريد من العمق والبحث‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫لقد �إكت�شف الفال�سفة اليونانيون العلوم كلها‪ ،‬من مثل‪:‬‬
‫الريا�ضيات واملو�سيقى واملنطق والعلوم العقلية‪.‬‬

‫من هو �سقراط؟‬
‫�سقراط هو فيل�سوف يوناين كال�سيكي‪ .‬يعترب �أحد م�ؤ�س�سي الفل�سفة الغربية‪ .‬مل يرتك �سقراط‬
‫كتابات‪ ،‬وج ّل ما نعرفه عنه م�ستقى من خالل روايات تالمذته عنه‪ .‬ومن بني ما تبقى لنا من الع�صور‬
‫�شمولية و�إملاما ً ب�شخ�صية "�سقراط"‪ .‬بح�سب‬
‫ً‬ ‫القدمية‪ ،‬تعترب حوارات "�أفالطون" من �أكرث الروايات‬
‫و�صف �شخ�صية "�سقراط" كما ورد يف حوارات "�أفالطون"‪ ،‬فقد �أ�صبح "�سقراط" م�شهو ًرا ب�إ�سهاماته‬
‫يف جمال علم الأخالق‪.‬‬
‫و�إليه تن�سب‪ :‬مفاهيم ال�سخرية ال�سقراطية واملنهج ال�سقراطي‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬ف� ّإن بع�ض الفال�سفة اليونانيني كانوا مهتمني بالعرب والأخالق والآداب‪.‬‬
‫�أ ّما يف �آثينا‪ ،‬فاعترب ال�سف�سطائيون � ّأن النجاح �أه ّم من البحث عن احلقيقة‪.‬‬
‫فقد ت�ساءل ال�سف�سطائيون عن الأفكار املقبولة من ال�شعب‪.‬‬
‫بالن�سبة لهم‪ ،‬كان النجاح �أكرث � َ‬
‫أهمية من احلقيقة الأخالقية‪.‬‬
‫وقد و�ضعوا املهارات يف اخلطابات‪ ،‬وكانوا يجيدون فن التحدث مبهارة‪.‬‬
‫وكان بامكان الرجال الطموحني ا�ستخدام اخلطابات الذكية واملقنعة للتقدم يف حياتهم املهنية‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬كان للفيل�سوف �سقراط طريقته يف مقارعة ال�سف�سطائيني‪ ،‬ويف تعليم �أتباعه على ح ّد �سواء‪.‬‬
‫هذه الطريقة هي التالية‪:‬‬
‫ي�س�أل تالمذته بع�ض الأ�سئلة التي عليهم معاجلتها‪ ،‬وبالتايل فعليهم ا�ستخال�ص العرب الأخالقية‬
‫والوجودية منها‪.‬‬
‫لك ّن الأثينيني اعتربوا طريقته مهدّد ًة للمجتمع‪ ،‬فحكموا عليه باملوت‪.‬‬

‫من هو �أفالطون؟‬
‫هو تلميذ �سقراط الأمني‪.‬‬
‫و�صف �أفالطون يف كتابه "اجلمهورية" ر�ؤيته للمجتمع املثايل‪.‬‬
‫فق�سم هذا املجتمع �إىل ثالث فئات‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬عاملون ينتجون موجبات احلياة‪،‬‬
‫‪ -‬جي�ش حلماية الأر�ض‪،‬‬
‫‪ -‬فال�سفة للحكم‪.‬‬

‫من هو �أر�سطو؟‬
‫ّ‬
‫هو فيل�سوف يوناين من الرواد‪ ،‬تلميذ �أفالطون ومعلم الإ�سكندر الأكرب‪ ،‬وواحد من عظماء املفكرين‪.‬‬
‫ّ‬
‫تغطي كتاباته جماالت عدة‪ ،‬منها الفيزياء وامليتافيزيقيا وال�شعر وامل�رسح واملو�سيقى واملنطق والبالغة‬
‫واللغويات وال�سيا�سة واحلكومة والأخالقيات وعلم الأحياء وعلم احليوان‪.‬‬
‫وهو واحد من �أهم م�ؤ�س�سي الفل�سفة الغربية‪.‬‬ ‫‪104‬‬
‫رتا �رشقي مدينة �سالونيك‪.‬‬ ‫ولد يف مدينة ا�سطاغريا مبقدونيا �سنة ‪ 384‬ق‪.‬م‪ 55 ،‬كيلوم ً‬
‫كان والده نيكوماخو�س طبيبًا لدى امللك �أمينتا�س الثالث املقدوين ج ّد الإ�سكندر الأكرب‪ ،‬وقد ترك‬
‫�أر�سطو مقدونيا متوجهًا �إىل �أثينا يف ال�سابعة ع�رشة من عمره‪ ،‬لينال تعليمه وليلتحق فيها ب�أكادميية‬
‫�أفالطون‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد ا�ستمر يف الأكادميية نح ًوا من ع�رشين �سنة‪ ،‬قبل �أن يغادر �أثينا يف العام ‪ 348‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫بعد وفاة �أفالطون �سنة ‪ 347‬ق‪.‬م‪ .‬ارحتل �أر�سطو �إىل �آترنيو�س �إحدى املدن اليونانية يف �آ�سيا ال�صغرى‪،‬‬
‫حيث تزوج �شقيقة حاكمها هرميا�س‪ ،‬وما هى �إال ثالث �سنوات وبعد �إقامة ق�صرية يف جزيرة ل�سبو�س‪،‬‬
‫حتى تلقى دعو ًة من امللك فيليبو�س املقدوين ليكون معلّم ابنه الذي �أ�صبح يف ما بعد الإ�سكندر الكبري‪.‬‬
‫وقد الزم �أر�سطو الإ�سكندر �صدي ًقا ومعل ّ ًما وم�ست�شا ًرا‪ ،‬حتى قام �سنة ‪ 334‬ق‪.‬م‪ .‬بحملته احلربية‬
‫الآ�سيوية‪.‬‬
‫ومما يروى �أن الإ�سكندر كان ير�سل من البلدان التي مير فيها مناذج من نباتاتها وحيواناتها �إىل‬
‫اطالعه‪ ،‬وت�سهيل �أبحاثه ودرا�ساته‪ ،‬ومن هنا ا�ستطاع �أر�سطو‬ ‫ً‬
‫م�ساهمة منه يف زيادة ّ‬ ‫�أ�ستاذه �أر�سطو‪،‬‬
‫�أن ي�ؤ�س�س ما يعترب �أول حديقة حيوان يف العامل ‪.‬‬
‫يف �أثينا �سنة ‪ 332‬ق‪.‬م‪ ،‬افتتح �أر�سطو مدر�سة لوقيون‪.‬‬
‫بامل�شائني‪ ،‬ل ّأن �أر�سطو كان من عادته �أن مي�شي بني تالمذته وهو يلقي عليهم‬ ‫وقد عرف �أتباعه ّ‬
‫الدرو�س‪ ،‬وظ ّل يدير مدر�سته ‪ 13‬عاما ً ‪.‬‬
‫على الرغم من عداوة الأثينيني ملقدونيا التي ا�ستعبدتهم‪ ،‬فقد اجتذبت مدر�سة �أر�سطو الكثري من‬
‫التالمذة‪ ،‬و�أم�ست مرك ًزا للأبحاث البيولوجية والتاريخية‪ ،‬ولل�ش�ؤون احلكومية والإدارية‪ ،‬ومل يكن‬
‫ثمة مو�ضوع يناق�ش يف �أيام �أر�سطو مل يتطرق �إليه يف مدر�سته‪� ،‬أو يف كتبه‪ ،‬فيجلوه ويو�ضحه‪.‬‬
‫ومن �أ�شهر م�ؤلفاته‪:‬‬
‫‪� -‬أورغانون‪.‬‬
‫‪ -‬ال�سيا�سة‪.‬‬
‫‪ -‬فن ال�شعر‪.‬‬
‫‪ -‬املنطق‪.‬‬
‫‪ -‬تاريخ احليوانات‪.‬‬
‫‪ -‬علم الفلك ‪.‬‬
‫تويف الإ�سكندر �سنة ‪ 323‬ق‪.‬م‪ ،‬ووقعت حكومة �أثينا بني �أيدي �أعداء املقدونيني (و�أر�سطو من �أن�صار‬
‫املقدونيني)‪ ،‬فد ّبر له �أعدا�ؤه تهمة الإحلاد‪ ،‬فخ�شي اال�ضطهاد وامل�صري الذي �آل �إىل �سقراط من قبله‪،‬‬
‫فهرب �إىل مدينة خل�سي�س حيث �أ�صيب مبر�ض‪.‬‬
‫بعد ذلك ب�سنة واحدة مات يف �سن الثالثة وال�ستني‪� ،‬سنة ‪ 322‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫من جهة �أخرى‪ ،‬كان ف ّن اليونان م�شابها ً لف ّن م�رص القدمية‪.‬‬
‫ً‬
‫وحركة‪.‬‬ ‫ً‬
‫واقعية‬ ‫ولكن‪ ،‬يف القرن اخلام�س قبل امليالد‪ ،‬ا�ستطاع اليونانيون �أن يقدّموا فنًّا �أكرث‬
‫حب الفنانني اليونانيني للجمال والتوازن واالن�سجام‪.‬‬ ‫يف التمثيليات الإن�سانية‪ ،‬تبينّ ّ‬
‫‪105‬‬ ‫ومع الوقت‪ ،‬انعك�ست هذه املثل يف جميع الأ�شكال الفنية‬
‫مبا فيها الهند�سة املعمارية‪ ،‬ال�سرياميك‪ ،‬واملجوهرات‪.‬‬
‫وعلى �صعيد الأدب‪ّ � ،‬أ�س�س اليونانيون موا�ضيعهم‬
‫اخلا�صة يف ما يتعلّق بالفن والأدب‪ ،‬بطريقة مغايرة ع ّمن‬
‫�سبقوهم‪ ،‬وا�ستفا�ضوا يف الدراما وامل�رسح والأ�سطورة‬
‫والتعبري الأدبي عن املو�ضوعات احلياتية واملاورائية‪.‬‬
‫كانت �أه ّم �إنتاجاتهم الأدبية يف الدراما‪.‬‬
‫تطورت امل�رسحيات اليونانية �أوالً من االحتفاالت‬
‫الدينية‪ ،‬وخا�ص ًة تلك التي عقدت يف �أثينا لتكرمي �إله‬
‫اخل�صوبة واخلمر "ديوني�سو�س"‪� .‬أجريت امل�رسحيات‬
‫يف م�سارح كبرية يف الهواء الطلق‪ ،‬مع م�شاهد �إ ّما �ضئيل ًة‬
‫الإ�سكندر الكبري‬
‫و�إ ّما معدوم ًة‪.‬‬
‫وغالبا ً ما كانت الدراما اليونانية تقوم على اخلرافات‬
‫والأ�ساطري ال�شعبية‪.‬‬
‫من جهتها‪ ،‬كانت كتاباتهم الكوميدية تنتقد املجتمع ب�شكل حادّ‪ ،‬كما تفعل الكاريكاتوريات ال�سيا�سية‬
‫اليوم‪.‬‬
‫كما �أ�ضاف اليونانيون �إىل ك ّل هذا الإرث الثقايف‪ ،‬مراقبة الواقع‪ ،‬ودر�س تاريخهم‪.‬‬

‫�أما املرحلة الهلينية‪ ،‬التي � ّأثرت على العامل القدمي �أبعد ت�أثري‪ ،‬فهذه ق�صتها‪:‬‬
‫عند �سقوط �أثينا �أمام اجلي�ش املقدوين‪ ،‬انت�رشت ثقافة اليونان من البحر املتو�سط �إىل حدود الهند‪ ،‬يف‬
‫ما عرف بالع�رص الهلن�ستي‪.‬‬
‫و"الإ�سكندر الكبري" هو مهند�س هذا الع�رص اجلديد‪ ،‬والذي عرف جدًا يف التاريخ‪.‬‬
‫الهلن�ستية �أو الهلينية كناية عن ح�ضارة اليونان ممتزج ًة وم�ؤثر ًة باحل�ضارات القدمية التي امتدت‬
‫�إليها‪ .‬بالن�سبة للإغريق‪ ،‬كانت اململكة اجلبلية الوعرة يف مقدونيا ن�صف متح�رضة ومتخلّفة‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬كان ح ّكام هذه الأر�ض احلدودية من �أ�صل يوناين‪.‬‬
‫عا�ش فيليب الثاين (والد الإ�سكندر) يف �شبابه يف مدينة طيبة مب�رص‪ ،‬و�أ�صبح معجبًا بالثقافة اليونانيّة‪،‬‬
‫ث ّم عينّ �أر�سطو معلّما ً البنه "�إ�سكندر"‪.‬‬
‫عندما اعتلى فيليب الثاين العر�ش املقدوين يف العام ‪ 359‬ق‪.‬م‪ .‬حلم باحتالل الواليات املزدهرة‬
‫للجنوب اليوناين‪.‬‬
‫وبالتهديدات والر�شاوى والديبلوما�سية م ًعا‪� ،‬إ�ستطاع احتالل الكثري من هذه الواليات‪.‬‬
‫ولكن قبل حتقيق ك ّل �أهدافه‪ ،‬اغتيل يف خالل زفاف ابنته‪.‬‬
‫من جهته‪ ،‬فقد كان الإ�سكندر فقط يف الع�رشين من عمره‪ ،‬حني كانت لديه جتارب يف احلرب‪ ،‬وورث‬
‫عن �أبيه طموحاته الع�سكرية‪.‬‬
‫حقق �أول انت�صار له �ضد الفر�س‪.‬‬
‫ثم بد�أ يتنقل من انت�صار �إىل �آخر‪:‬‬ ‫‪106‬‬
‫من �آ�سيا �إىل فل�سطني وجنوب م�رص‪ ،‬قبل �أن ي�صل �إىل بابل يف العام ‪ 331‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫اجته اال�سكندر بعيدًا نحو ال�رشق‪ ،‬وو�صل �إىل �شمال الهند‪.‬‬
‫ومل يكن قد �سبق �أن خ�رس الإ�سكندر معرك ًة من قبل‪ ،‬لك ّن جنوده تعبوا‪ ،‬ورف�ضوا التقدم �أكرث‪.‬‬
‫فعادوا �إىل بابل‪ ،‬وبد�أ الإ�سكندر بالتخطيط حلملة جديدة‪.‬‬
‫تويف الإ�سكندر الكبري عن عمر الإثنني والثالثني عا ًما‪ ،‬ب�سبب ح ّمى مفاجئة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من موته املبكر‪ ،‬ف�إنه ا�ستطاع �إحداث تغيري يف عامل البحر الأبي�ض املتو�سط لقرون‬
‫عديدة‪ .‬كما �أن �إرثه ال�سيا�سي والثقايف واحل�ضاري ا�ستم ّر لأجيال من بعده‪.‬‬
‫لقد عرث الإ�سكندر على الكثري من املناطق اجلديدة‪ ،‬معظمها �س ّمي بعده‪ ،‬وبف�ضله‪.‬‬
‫وا�ستوعب ال�سكان املحليون الأفكار اليونانية‪.‬‬
‫وباملقابل‪ ،‬اعتمد امل�ستوطنون اليونانيون ال�رضائب املحلية‪.‬‬
‫ي�شمل �إرث الإ�سكندر التمازج الثقايف الذي �أوجدته فتوحاته‪ ،‬فقد متكن من خلط الثقافة الإغريقية‬
‫الهلينية بالثقافات ال�رشقية املختلفة لل�شعوب اخلا�ضعة له‪ ،‬كما � ّأ�س�س �أكرث من ع�رشين مدين ًة حتمل‬
‫ا�سمه يف �أنحاء خمتلفة من �إمرباطوريته‪� ،‬أبرزها و�أ�شهرها هي مدينة الإ�سكندرية يف م�رص‪.‬‬
‫كما �أدّى �إن�شاء الإ�سكندر للم�ستعمرات الإغريقية الكثرية يف طول البالد وعر�ضها‪� ،‬إىل �إيجاد ح�ضارة‬
‫هلينية جديدة‪ ،‬ا�ستمرت مظاهرها بارز ًة يف تقاليد الإمرباطورية البيزنطية حتى منت�صف القرن‬
‫اخلام�س ع�رش امليالدي‪.‬‬
‫وقد ا�ستحال الإ�سكندر �شخ�صي ًة بارز ًة يف الأ�ساطري والق�ص�ص والتاريخ اليوناين والعاملي تقريبًا‪،‬‬
‫حتى قام مقام �آخيل‪ ،‬و�أ�صبح املقيا�س الذي ُيحدد القادة الع�سكريون بنا ًء عليه جناح �أو ف�شل‬
‫م�سريتهم‪ ،‬وما زالت الأكادمييات الع�سكرية حول العامل ُتد ّر�س �أ�ساليبه وتكتيكاته احلربيّة حتى‬
‫الوقت احلايل‪.‬‬
‫كيف ن�ش�أت الإ�سكندرية؟‬
‫الإ�سكندرية هي املدينة امل�رصية الواقعة على احلدود البحرية بني �أوروبا و�آ�سيا‪.‬‬
‫فيها بيعت ال�سلع ب�شكل وا�سع‪ ،‬من الرخام اليوناين �إىل التوابل العربية �إىل عاج �رشق �أفريقيا‪...‬‬
‫� ّأ�س�س الإ�سكندر مدينة الإ�سكندرية مب�رص عام ‪ 332‬ق‪.‬م كمدينة يونانية‪.‬‬
‫وكانت قد �أ�صبحت يف عام ‪ 250‬ق‪.‬م‪� .‬أكرب مدينة يف حو�ض البحر الأبي�ض املتو�سط‪.‬‬
‫وتقع مدينة الإ�سكندرية على البحر فوق �رشيط �ساحلي �شمال غربي دلتا النيل‪ ،‬و�ضع تخطيطها‬
‫املهند�س الإغريقي (دميوقراطي�س) بنكليف من الإ�سكندر تقع بجوار قرية قدمية لل�صيادين كان‬
‫يطلق عليها �إ�سم راكوتا (راقودة)‪.‬‬
‫ً‬
‫واملدينة قد حملت �إ�سمه‪ ،‬و�رسعان ما اكت�سبت �شهرتها بعدما �أ�صبحت �رسيعا مرك ًزا ثقافيًا‬
‫و�سيا�سيًا و�إقت�صاد ًيا‪ ،‬وال �سيما عندما كانت عا�صم ًة حلكم البطاملة يف م�رص‪.‬‬
‫وكان بناء املدينة �أيام الإ�سكندر �إمتدادًا عمرانيًا ملدن فرعونية كانت قائم ًة وقتها‪ ،‬ولها �شهرتها‬
‫الدينية واحل�ضارية والتجارية‪ .‬وكانت بداية بنائها ك�ضاحية ملدن هريكليون وكانوب�س ومنتو�س‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫الف�صل الثامن‬
‫احل�ضارات‬

‫من امل�سارح الرومانية‬


‫نه�ضة روما‬
‫بد�أت روما كمدينة �صغرية يف �إيطاليا‪ ،‬و�أ�صبحت حاكمة البحر الأبي�ض املتو�سط وما‬
‫وراءه‪.‬‬
‫تو�سعهم حتى حدود البحر الأبي�ض املتو�سط‪.‬‬ ‫وبالتايل‪� ،‬ساعد موقع �إيطاليا الرومان يف ّ‬
‫مق�سم ًة �أق�سا ًما �صغري ًة ومعزول ًة‪ ،‬بل كانت �أرا�ضيها‬
‫وبعك�س اليونان‪ ،‬مل تكن �إيطاليا ّ‬
‫كبري ًة وكان �أهاليها ّ‬
‫موحدين‪.‬‬
‫ويف �سنة ‪ 800‬ق‪.‬م‪ ،‬هاجر قدماء الرومان (الالتني) نحو �إيطاليا‪ ،‬وا�ستقروا على طول‬
‫نهر "توير" يف قرى �صغرية‪.‬‬
‫ت�شارك الرومان �شبه جزيرة �إيطاليا مع �أقوام �آخرين‪ ،‬بينهم امل�ستوطنني اليونانيني‪.‬‬
‫ظ ّن الرومان �أنّ اجلمهورية متنع الأفراد من ك�سب الكثري من القوى‪.‬‬
‫ويف �أوائل اجلمهورية‪ ،‬كان جمل�س ال�شيوخ هو �أقوى هيئة يف الدولة‪ ،‬م�ؤلّفا ً من ثالثمئة‬
‫فرد‪ ،‬كلّهم من الأر�ستقراطيني‪� ،‬أ ّثروا بق ّوة على قوانني اجلمهورية‪.‬‬
‫وبينما كانت ال�سيا�سة ونظام املجتمع متط ّورين‪ ،‬انت�رشت ق ّوة الع�ساكر الرومانية يف‬
‫�إيطاليا‪.‬‬
‫ع�سكر ًيا‪� ،‬ش ّكل املواطنون الرومان جنودًا جيّدين‪ ،‬لأ ّنهم كانوا �أوفياء‪� ،‬شجعا ًنا‪،‬‬ ‫‪108‬‬
‫ويحرتمون �سلطة بلدهم‪.‬‬
‫وحلماية فتوحات الدولة‪ ،‬انت�رش اجلنود على طول الأرا�ضي‪.‬‬
‫وكان على ال�شعب املغزو‪:‬‬
‫‪ -‬االعرتاف بالقيادة الرومانية‪.‬‬
‫‪ -‬ودفع ال�رضائب‪.‬‬
‫‪ -‬واال�ستعداد للتجنيد لدى اجلي�ش الروماين‪.‬‬
‫و�سيا�سيًا‪ ،‬على الرغم من �أنّ جمل�س ال�شيوخ كان ال يزال يهيمن على احلكومة‪ ،‬فقد‬
‫مت ّكن عامة ال�شعب من الو�صول �إىل ال�سلطة وفازوا ب�ضمانات من دون احلاجة للّجوء‬
‫�إىل احلرب �أو الثورة‪.‬‬
‫بعد ‪� 2000‬سنة‪ ،‬تكيّف وا�ضعو د�ستور الواليات املتحدة مع �أفكار الرومان‪:‬‬
‫ك�إن�شاء جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬و�إقرار حق النق�ض‪ ،‬وتوزيع القوى ال�سيا�سية‪.‬‬
‫وكان للمجتمع الروماين خ�صائ�ص حمددة‪ ،‬كالتايل‪:‬‬
‫كانت العائلة هي الوحدة الأ�سا�سية يف املجتمع الروماين‪.‬‬
‫ففي ظ ّل القانون الروماين‪ ،‬كان الذكر الرئي�سي يف املنزل هو الأب‪ ،‬الذي لديه مطلق‬
‫القوة وال�سلطة‪ ،‬وزوجته حتت هذه ال�سلطة‪.‬‬
‫وقد لعبت الن�ساء الرومانيات دو ًرا �أه ّم من دور الن�ساء اليونانيات يف املجتمع‪،‬‬
‫فاكت�سنب ‪ -‬مع الوقت ‪ -‬حر ّي ًة وت�أث ً‬
‫ريا �أكرب‪.‬‬
‫خارجا‪ ،‬وح�رضن‬‫ً‬ ‫ذهبت الن�ساء الأر�ستقراطيات �إىل احلمامات العامة‪ ،‬وتناولن الغداء‬
‫امل�سارح وغريها من و�سائل الرتفيه العام مع �أزواجهن‪.‬‬
‫كما علّم الرومان الأوالد‪ ،‬من فتيان وفتيات‪ ،‬ومن ك ّل الطبقات‪ ،‬حتّى الطبقات الأدنى‪،‬‬
‫القراءة والكتابة‪.‬‬
‫وظف العديد من الرومان الأثرياء مد ّر�سني‬ ‫يف ال�سنوات الالحقة من اجلمهورية‪ّ ،‬‬
‫خ�صو�صيني‪ ،‬غالبًا يونانيني‪ ،‬للإ�رشاف على تعليم �أوالدهم‪.‬‬

‫وعلى ال�صعيد الديني‪� ،‬آمن الرومان بالعديد من الآلهة والإلهات‪ ،‬والعديد منها مقتب�س‬
‫من الدين اليوناين‪:‬‬
‫مثل االله اليوناين زيو�س‪ ،‬وحكم الإله الروماين جوبيرت �أنحاء ال�سماء و�آلهة �أخرى‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫"تُعترب احل�ضارة‪ ،‬من رموز العقول الواعية يف الوجود‪ ،‬ومتثل االنعتاق من الفو�ضى"‬
‫وقد بنوا العديد من املعابد يف روما‪ ،‬ومار�سوا طقو�سهم الدينية فيها‪.‬‬
‫ومع الزمن‪ ،‬حتولت روما من جمهورية �إىل �إمرباطورية‪ ،‬فقد ب�سطت روما �إمرباطوريتها‬
‫حول البحر الأبي�ض املتو�سط‪.‬‬
‫هذا الإمتداد �أحدث خالفات يف املجتمع الروماين على عدة م�ستويات‪ ،‬ونتيج ًة لتداعيات‬
‫تلك اخلالفات‪� ،‬سحقت اجلمهورية‪.‬‬
‫وقد جلب الغزو الروماين ل�شبه اجلزيرة الإيطالية االت�صال مع قرطاجة ‪ -‬الدولة‬
‫القائمة على ال�ساحل ال�شمايل الإفريقي‪.‬‬
‫امتدّت روما غرباً‪ ،‬ون�شبت نزاعات يف �شمال �أفريقيا وغرب البحر املتو�سط‪ ،‬ا�ستطاعت‬
‫روما التغلب عليها‪ ،‬واال�ستمرار يف ال�سيطرة والغزو‪.‬‬
‫وبني عامي ‪ 284‬و‪ 136‬ق‪.‬م‪ ،.‬حاربت روما قرطاجة يف ثالث حروب‪ ،‬يطلق عليها ا�سم‬
‫"احلروب البونيقية"‪ ،‬من بونيق‪ ،‬الكلمة الالتينية التي تعني "الفينيقية"‪.‬‬
‫يف احلرب الثالثة فقط‪ ،‬ا�ستطاعت روما هزم قرطاجة بالكامل‪.‬‬
‫وبينما كانت حتارب قرطاجة‪ ،‬امتدت روما حتى غرب �ساحل املتو�سط‪ .‬هناك واجه‬
‫الرومان ح ّكام الهلن�ستيّة‪ ،‬الذين كانوا قد ّ‬
‫ق�سموا �إمرباطورية الإ�سكندر الكبري‪.‬‬
‫فهزمت روما البالد واحد ًة تلو الأخرى‪ ،‬و�أخ�ضعتها ل�سلطتها‪.‬‬
‫من جهتهما‪ ،‬ف�إنّ الفتوحات والتحكم بالطرق التجارية �أدخال عائدات كبرية �إىل روما‪،‬‬
‫غنى وم ّكنتها من اال�ستمرار والتو�سع‪.‬‬‫زادتها ً‬
‫على �سبيل املثال‪ ،‬ا�شرتت العائالت الغنية العقارات ال�ضخمة‪.‬‬
‫كما �أنّ الرومان �سيطروا على املزيد من الأرا�ضي‪ ،‬و�أجربوا الأ�شخا�ص الذين قب�ض‬
‫عليهم يف احلرب على العمل كعبيد يف الأرا�ضي‪.‬‬
‫وقد بد�أ عهد الرتاجع‪ ،‬عندما عجزت روما عن �إحالل ال�سالم‪ ،‬ودخلت يف حروب �أهلية‬
‫متتالية‪.‬‬
‫وحاملا �أ�صبح لأعدائها جي�ش‪ ،‬تقدّم �إىل روما لتحقيق �أهدافه‪.‬‬
‫ويف ظ ّل الفو�ضى التي حلّت يف �أنحاء الإمرباطورية‪ ،‬كان على ر�أ�س الأخرية القائد‬
‫الع�سكري الطموح الإمرباطور يوليو�س قي�رص‪ ،‬الذي واجه ك ّل الأخطار واجتاح �ساحل‬
‫املتو�سط وقمع حركات التم ّرد‪.‬‬
‫ومن ناحية �أخرى‪ ،‬كان ليوليو�س قي�رص خطوات �إيجابية كثرية‪ ،‬فقد حقق عدة‬ ‫‪110‬‬
‫�إ�صالحات‪ ،‬كالتايل‪:‬‬
‫جما للأ�شغال العامة من �أجل توظيف العاطلني عن العمل‪.‬‬ ‫‪� -‬أطلق برنا ً‬
‫‪ -‬منح �أرا�ض عامة للفقراء‪.‬‬
‫‪� -‬أعاد تنظيم الدولة‪.‬‬
‫‪ -‬اعتمد روزنام ًة مبنية على روزنامة امل�رصيني‪.‬‬
‫�إىل �أن ت�آمر �أعداء القي�رص عليه فطعنوه حتى املوت حني و�صل �إىل جمل�س‬
‫ال�شيوخ‪ ،‬فتبع موته اندالع حرب �أهليّة‪.‬‬
‫ومن ث ّم‪ ،‬عادت روما �إىل نه�ضتها مع �أوغ�سط�س قي�رص‪ ،‬فقد عملت احلكومة التي‬
‫� ّأ�س�سها �أوغ�سط�س قي�رص جيّدًا يف الإدارة واحلكم والتطوير طوال مئتي عام‪.‬‬
‫ولهذه العوامل جمي ًعا‪� ،‬أن�شئت يف روما ثقافات جديدة جتمع بني الثقافات اليونانية‪،‬‬
‫والهلن�ستية‪ ،‬والإجنازات الرومانية‪.‬‬
‫هذا املزيج �أنتج ح�ضارة الرومان املعروفة مبعاملها وخ�صائ�صها يف خمتلف ال�ش�ؤون‪.‬‬
‫ونظر الرومان‪� ،‬إىل الفن والتاريخ والفل�سفة‪ ،‬على �أنها �أ�سا�س الثقافة‪.‬‬
‫كما تكلّم العديد من الرومان اللغة اليونانية‪ ،‬وقلّدوا اليونانيني يف كتابة ال�شعر‪ ،‬كما‬
‫�أ ّنهم ا�ستخدموا فل�سفتهم‪.‬‬
‫وا�ستعمل امل�ؤرخون الرومان مو�ضوع "نه�ضة وهبوط الرومان"‪ ،‬ليد ّونوا التاريخ‪.‬‬
‫ليح�سنوا‬
‫ّ‬ ‫وا�شتغل الرومان‪ ،‬كاليونانيني قبلهم‪ ،‬بالفن الواقعي‪ .‬وا�ستعملوا هذا الفن‬
‫�أ�شكال بيوتهم‪.‬‬
‫�أ ّما يف الهند�سة‪ ،‬فبعك�س اليونان‪ ،‬تطلّع الرومان �إىل كرب الأحجام‪ ،‬فبنوا و�إن�ش�أوا‬
‫الطرقات واجل�سور على امتداد الإمرباطورية‪.‬‬
‫وعلى �صعيد القوانني‪:‬‬
‫"لتن ّفذ العدالة"‪ ،‬تعلن مقولة رومانية‪" ،‬حتى عند �سقوط ال�سماوات!"‪.‬‬
‫رمبا �أنّ التزام روما ب�سيادة القانون والعدالة هو من �أعظم تراثها‪.‬‬
‫ففي عهد الإمرباطورية الرومانية‪ ،‬ع ّززت �سيادة القانون الوحدة واال�ستقرار‪.‬‬
‫أ�سا�سا للنظم القانونية يف‬
‫بعد ذلك بعدة قرون‪� ،‬أ�صبحت مبادئ القانون الروماين � ً‬
‫جميع �أنحاء العامل‪ ،‬مبا يف ذلك الواليات املتحدة‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫الف�صل التا�سع‬
‫احل�ضارات‬ ‫"ت�ستم ّد احل�ضارة جناحها من احلفاظ عليها‪ ,‬وتطويرها"‬

‫�إبتداء احل�ضارة امل�سيح َّية‬


‫�سني ‪ 380‬و‪ 390‬بعد امليالد‪� ،‬أ�صبحت امل�سيحية ديانة الرومان ال�سائدة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف‬
‫وعندما انح�رست الإمرباطورية الرومانية‪� ،‬أخذت الكني�سة امل�سيحية دورا �أكرث من نطاقها‬
‫الديني‪ ،‬فباتت تلعب دو ًرا حا�س ًما يف كل نواحي احلياة االجتماعية والثقافية وال�سيا�سية‬
‫واالقت�صادية‪.‬‬
‫كانت روما تتعامل‪ ،‬يف ما بعد حكم الإمرباطور ق�سطنطني �أي منذ بدايات القرن الثالث‬
‫امليالدي‪ ،‬على �أنه طاملا قبل ال�شعب بحكم الإمرباطور‪ ،‬فكان ب�إمكانهم الإميان بالإله الذي‬
‫يريدونه‪.‬‬
‫بد�أ امل�سيح بالوعظ يف الثالثني من عمره‪ ،‬وعلّم الإميان بالتعاليم امل�سيحيّة التي كانت ترتكز‬
‫على قيم املحبة والت�سامح والتوبة والغفران‪.‬‬
‫ث ّم حكم عليه باملوت العتباره جم ّد ًفا من قبل اليهود‪.‬‬
‫انت�رشت ر�سالة امل�سيح حتى بعد موته‪ ،‬ون�رش ر�سوله بول�س ر�سالة امل�سيحية حول‬
‫العامل القدمي‪ .‬ولك ّن الرومان اعتربوا امل�سيحيني �ض ّد القانون‪ ،‬فبد�أوا با�ضطهادهم‪ ،‬وكان‬
‫ا�ضطهادهم طويالً ودمو ًيا ج ًدا‪.‬‬
‫انتهى هذا اال�ضطهاد �سنة ‪ 313‬م‪ .‬ب�أمر من الإمرباطور ق�سطنطني‪ ،‬الذي يقال �إنه اعتنق‬
‫امل�سيحية‪.‬‬
‫الف�صل العا�رش‬ ‫‪112‬‬
‫احل�ضارات‬

‫ح�ضارات القا ّرة الأمريكية‬


‫تت�ألّف �أمريكا من قارتني‪:‬‬
‫القارة ال�شمالية والقارة اجلنوبية‪.‬‬
‫ويف هاتني القارتني‪ ،‬توجد منطقة ح�ضارية ا�سمها "ميزو �أمريكا"‪ ،‬التي تت�ألّف من‬
‫املك�سيك و�أمريكا الو�سطى‪.‬‬
‫ا�ستوطن امليزو يف �أمريكا‪ ،‬واعتادوا على طبيعتها ومناخها اجلديد‪ ،‬ث ّم ابتد�أوا بالزرع‬
‫لكي يقتاتوا‪.‬‬
‫بنت املايا ح�ضار ًة جديد ًة‪ ،‬فانت�رشت الزراعة وزاد احل�صاد‪ ،‬فتط ّورت مدنهم‪ ،‬وكان‬
‫مركز ح�ضارتهم يف غواتيماال (حاليًا)‪.‬‬
‫كما �أنّ املايا ط ّوروا الفن واملعارف‪ ،‬ف�أ�صبحت هذه على درجة عالية من الإتقان‪.‬‬
‫وقد ت�ش ّكلت الثقافات الأوىل لأمريكا اجلنوبية من منطقة الأنديز على طول احلافة‬
‫الغربية من القارة‪.‬‬
‫ت�ضم هذه املنطقة جمموع ًة متنوع ًة من املناخات والت�ضاري�س‪:‬‬
‫�سهلها ال�ساحلي ال�ضيق هو جاف‪� ،‬صحراء هامدة‪ ،‬عربتها الأنهار يف بع�ض الأحيان‪.‬‬
‫ويف �رشق جبال الأنديز‪ ،‬امت ّدت اجلبال الكثيفة من بريو حتى الربازيل‪.‬‬
‫ومنذ �آالف ال�سنني‪ ،‬ا�ستق ّر النا�س يف قرى ال�صيد على طول ال�ساحل ال�صحراوي من‬
‫بريو وت�شيلي‪.‬‬
‫وبا�ستخدام املياه للري‪ ،‬منت زراعات الذرة‪ ،‬القطن‪ ،‬الكو�سى‪ ،‬والفا�صوليا‪.‬‬
‫وعلى �سفوح اجلبال‪ ،‬زرعت البطاطا‪ ،‬و�أنتج �سبعمئة نوع‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫"ترتكز احل�ضارة على االبحاث العلمية واالبتكارات التي ت�ساهم يف رفع امل�ستويات الب�رشية"‬

‫وعلى اله�ضاب‪ ،‬اقتنوا حيوانات الالما والألباكا‪.‬‬


‫ويف نهاية املطاف‪ ،‬بنوا املعابد الكبرية و�صنعوا الفخار والن�سيج‪.‬‬
‫من �أه ّم احل�ضارات يف جبال الأنديز‪ ،‬ح�ضارة الإنكا‪ ،‬التي ظهرت يف حواىل العام ‪1100‬‬
‫للميالد‪ ،‬مع ت�أ�سي�س �أ ّول �ساللة لها‪.‬‬
‫يف القرون الثالثة القادمة‪ ،‬مل تكن ح�ضارة الإنكا �أه ّم من �أي ح�ضارة �أخرى‪.‬‬
‫ولكن يف عام ‪ 1438‬للميالد‪ ،‬حدث تغري تاريخي‪ :‬فقد كان بات�شاكوتي �إنكا يوبانكي‪،‬‬
‫حمار ًبا ماه ًرا وزعي ًما‪ ،‬ف�أعلن نف�سه "�سابا �إنكا"‪� ،‬أو الإمرباطور‪.‬‬

‫من هو با�شاكوتي؟‬
‫هو بات�شاكوتي �إنكا يوبانكي (�أو با�شاكوتيك)‪ ،‬تا�سع "الإنكا �سابا" من مملكة كوزكو‪،‬‬
‫التي حتولت �إىل �إمرباطورية تاوانتي�سويو‪� ،‬أو �إمرباطورية الإنكا‪ ،‬ليعترب �أ ّول حاكم من‬
‫ُح ّكام الإنكا‪.‬‬
‫إداري يف �آن واحد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الع�سكري واحلاكم ال‬
‫ّ‬ ‫كان يجمع يف �شخ�صه �صفة القائد‬
‫وقد فتح مناطق متع ّدد ًة يف جنوبي ك�سكو‪ ،‬و�أعاد بناء املدينة مركزًا للإمرباطورية ورمزًا‬
‫ل�سلطة الإنكا‪.‬‬
‫الف�صل احلادي ع�رش‬ ‫‪114‬‬
‫احل�ضارات‬

‫احلروب ال�صليبية‬

‫الع�صور الو�سطى‬
‫و�سعت ق ّوتها‪ ،‬ولكن‬‫بعد �ضعف �أوروبا الغربية‪ ،‬نه�ضت ممالك �أملانية‪ ،‬منها الفرانك�س التي ّ‬
‫�رسعان ما ه ّددت الإمرباطورية الإ�سالميّة �أوروبا‪.‬‬
‫ث ّم �أتى �إمرباطور جديد للرومان ا�سمه "�شارملان"‪ ،‬و�أوجد �إمرباطوري ًة م�سيحية ّ‬
‫موحدة‪.‬‬
‫كان النظام ال�سائد كما يلي‪:‬‬
‫اللوردات والفالحون مقيّدون بحقوق والتزامات م�شرتكة‪.‬‬
‫�أ ّما املجتمع الإقطاعي فكان �إجماالً مكتفيًا ذاتيًا‪ ،‬وكان الفالحون ينتجون ما يريدونه‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كانت حياة الفالحني �صعب ًة‪ ،‬فحتى �أوالدهم عملوا �ساعات طويل ًة ويف �أعمال �شاقة‪.‬‬
‫وقد هيمنت الكني�سة يف القرون الو�سطى على النحو التايل‪:‬‬
‫وجه كاهن الرعية ال�شعب على الق�ضايا الأخالقية والتعليمية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫و كانت الكني�سة مرك ًزا اجتماعيًا ومكانا ً للعبادة معا‪ً.‬‬
‫كما علّمت الكني�سة �أنّ الرجل واملر�أة مت�ساويان‪.‬‬
‫فخالل الع�صور الو�سطى املبكرة‪ ،‬ن�رشت الكني�سة نفوذها وازدادت قوتها يف جميع �أنحاء‬
‫�أوروبا‪.‬‬
‫أي�ضا �أكرث قو ًة‪.‬‬
‫يف الوقت نف�سه‪� ،‬أ�صبح امللوك � ً‬
‫قبل عام ‪ 1077‬م‪ ،‬كانت ال�رصاعات تن�ش�أ بني احلكام العلمانيني وم�س�ؤويل الكني�سة‪.‬‬
‫ح ّر�ض الباباوات ال�رصاع �ض ّد ح ّكام الإمرباطورية الرومانية املقد�سة‪ ،‬الذين حكموا‬
‫الأرا�ضي ال�شا�سعة من �أملانيا حتى �إيطاليا‪.‬‬
‫دب بني امللكية والبابوية‪ ،‬وذلك يف العام ‪ 1054‬م‪ ،‬حني ت ّوج هرني‬ ‫ولك ّن اخلالف ما لبث �أن ّ‬
‫الرابع مل ًكا لأملانيا‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫"من مفاهيم احل�ضارة الإيجابية عي�ش املرء بكرامة يف وطنه"‬
‫يف وقت الحق‪� ،‬أ�صبح هو � ً‬
‫أي�ضا الإمرباطور الروماين‪.‬‬
‫يف ذلك الوقت‪ ،‬كان غريغوري ال�سابع هو البابا‪.‬‬
‫خالل عهديهما‪ ،‬اندلعت �رصاعات بني امللوك والكني�سة‪:‬‬
‫ففي عام ‪ 1076‬م‪ .‬ح ّرر هرني الرابع رعاياه من والئهم للبابا‪.‬‬
‫توجه البابا �شماالً لتتويج �إمرباطور جديد‪.‬‬
‫ث ّم ّ‬
‫ويف مواجهة الثورات‪ ،‬ا�ضطر هرني الرابع ل�صنع ال�سالم‪.‬‬

‫من هو فرن�سي�س الأ�سيزي؟‬


‫�سافر الراهب الأ�سيزي (�إيطايل) فران�سي�سكو �إىل �إ�سبانيا وال�رشق الأو�سط و�أفريقيا‪.‬‬
‫وكانت يف ذلك الزمن مت ّر بالد ال�شام باحلمالت ال�صليبية‪.‬‬
‫و� ّأ�س�س فرن�سي�س ما ي�سمى بنظام القدي�س فران�سي�سكو يف العام ‪ 1209‬م‪ .‬ويف ‪ 1212‬م‪.‬‬
‫ان�ضمت �إليه كالرا دئوفريدو�شي و�أخريات بنف�س الهدف الذي كان يدعو �إليه فران�سي�سكو‪،‬‬
‫�أال وهو ت�أ�سي�س نظام "كالري�سا�س"‪� ،‬ضمن �إطار عام هو �إ�صالح الكني�سة الكاثوليكية من‬
‫الداخل‪.‬‬
‫ووجه الحرتامهم‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫كان فرن�سي�س �شخ�صي ًة الفتة‪� ،‬إذ علّم املحبة للنا�س �أجمعني‪،‬‬
‫يحرتم احليوانات والنباتات وكان يحث على الرفق بها‪ .‬وكان ي�س ّمي الكائنات غري الب�رشية‬
‫بالإخوة‪ ،‬وكذلك ال�شتاء والريح والنار‪.‬‬
‫وكان يدعو لعدم التبذير‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬فقد كان يحرتم جميع الديانات‪ ،‬واحرتم فيها بالتحديد دعوتها لل�سالم واملحبة‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬فقد كانت احلمالت ال�صليبية عالم ًة بارز ًة يف تاريخ الكني�سة وامل�سيحية والقرون‬
‫الو�سطى‪.‬‬
‫فقد كان فو�شيه �شارتري جم ّرد واحد من �آالف الأوروبيني الذين �شاركوا يف �سل�سلة من‬
‫احلروب املعروفة با�سم احلروب ال�صليبية‪.‬‬
‫يف هذه احلروب التي بد�أت يف العام ‪ 1096‬م‪ ،‬حارب امل�سيحيون الأوروبيون العرب‬
‫ومعظمهم من امل�سلمني ال�رشقيني لل�سيطرة على الأرا�ضي يف منطفة ال�رشق الأو�سط‪،‬‬
‫وخا�ص ًة الأرا�ضي املقد�سة (يف القد�س وبيت حلم)‪.‬‬
‫ويف خالل تد ّفق الأوروبيني �رشقا ً على مدى مئتي �سنة‪ ،‬علموا ب�أنّ العامل �أكرب بكثري مما‬
‫ظنّوا‪.‬‬
‫وقد عملت اال�ستك�شافات والتطورات واالطالعات خارج �أوروبا على ت�رسيع وترية التغيري‬
‫يف الداخل الأوروبي‪.‬‬
‫طلب الإمرباطور البيزنطي �ألك�سيو�س الأول ب�شكل عاجل من البابا �أوربان الثاين ب�أن‬
‫ي�ساعده الفر�سان امل�سيحيّون على حماربة الأتراك‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ال�رصاعات بني الباباوات الرومانيني والأباطرة البيزنطيني التي كانت قائم ًة‬
‫منذ فرتة طويلة‪ ،‬فقد وافق البابا �أوربان الثاين‪.‬‬
‫وبالنتيجة‪ ،‬تركت احلروب ال�صليبية �أث ًرا مري ًرا‪:‬‬ ‫‪116‬‬
‫ً‬
‫ففي ال�رشق الأو�سط‪ ،‬ارتكب امل�سحيون وامل�سلمون كالهما فظائع مر ّوعة با�سم الدين‪.‬‬
‫ويف �أوروبا‪ ،‬ح ّول ال�صليبيون غ�ضبهم �أحيا ًنا على اليهود‪ ،‬فذبحوا جمتمعات مبعظمها‪.‬‬
‫وخ�صو�صا يف �شبه اجلزيرة‬
‫ً‬ ‫وقد �إ�ستمرت الروح ال�صليبية بعد الهزمية الأوروبية يف ع ّكا‪،‬‬
‫العربية‪.‬‬
‫ومن ث ّم قام امل�سلمون يف �شمال �أفريقيا‪ ،‬املدع ّوون باملغاربة‪ ،‬بغزو معظم �إ�سبانيا‪.‬‬
‫تو�سعت العديد من املمالك امل�سيحية يف ال�شمال‪ ،‬و�سعت لال�ستيالء على ما ا�ستوىل عليه امل�سلمون‪.‬‬
‫وقد ّ‬
‫ف�أخذت حملة طرد امل�سلمني �إ�سم "اال�سرتداد"‪� ،‬أو "اال�ستعادة"‪.‬‬
‫وعلى �صعيد التعليم والثقافة‪ ،‬فعلى الرغم من امل�شكالت التي �أحدثها الطالب الأوروبيون‪،‬‬
‫فقد جلبت اجلامعات يف القرون الو�سطى الربح �إىل املدن التي كانت توجد فيها‪.‬‬
‫من جهتهم‪ ،‬ق ّدم التجار املحليون للطالب امل�سكن والغذاء وامللب�س والرفاهية‪.‬‬
‫وباملقابل‪ ،‬فالطالب افتعلوا م�شاكل يف اجلامعات‪.‬‬
‫ا�شتكى الكاهن جاك دي فيرتي عليهم‪ ،‬وو�صفهم �أ ّنهم كانوا يتقاتلون دائ ًما وينخرطون يف‬
‫م�شاجرات‪.‬‬
‫وكانت قد �شهدت �أوروبا تغريات ديناميكية منذ ما قبل العام ‪ 1100‬م‪ .‬فكانت �إمدادات‬
‫الغذاء وفري ًة‪ ،‬وحدث من ّو للتجارة و�إعمار للبلدات‪ ،‬وظهرت م�ؤ�رشات على تزايد الرخاء‪.‬‬
‫ومع حت�سن الأو�ضاع االقت�صادية وال�سيا�سية يف الع�صور الو�سطى‪� ،‬أرادت الكني�سة �أف�ضل‬
‫التعليم لرجال الدين‪ ،‬و�أراد احلاكم امللكي �أن يتمتع الرجال مبعرفة القراءة والكتابة‪.‬‬
‫ومن خالل احل�صول على التعليم‪ ،‬ت�أ ّمل �سكان املدينة بالت�أهل ملنا�صب رفيعة يف الكني�سة �أو‬
‫مع احلكومات املالكة‪.‬‬
‫وعلى �صعيد الأدب‪ ،‬ففي حني بقيت الالتينية لغ ًة مكتوب ًة من العلماء ورجال الدين‪ ،‬ظهرت‬
‫كتابات جديدة يف العاميّة‪ ،‬مثل الفرن�سية والأملانية والإيطالية‪.‬‬
‫و�أ�صبحت مثل هذه الكتابات روح الع�صور الو�سطى‪.‬‬
‫�شمل �أدب هذه الع�صور ما يلي‪:‬‬
‫املالحم‪� ،‬أو ق�صائد �رسدية طويلة حول الفر�سان والفرو�سية‪ ،‬وكذلك حكايات عن النا�س‬
‫العاديني‪.‬‬
‫وعلى م�ستويي الهند�سة والف ّن يف القرون الو�سطى‪ ،‬عن الع�صور الو�سطى‪ ،‬كتب الأديب‬
‫الفرن�سي فيكتور هوغو‪:‬‬
‫"مل يكن للإن�سان �أفكار جديدة �إلاّ وكتبت على حجر"‪.‬‬
‫كانت هذه الكتابات هي البنايات العظيمة يف الع�صور الو�سطى‪.‬‬
‫فمع الغنى يف التجارة‪ ،‬انغم�س �سكان املدينة‪ ،‬والنبالء‪ ،‬وامللوك‪ ،‬يف موجة البناء‪.‬‬
‫ومن �أعظم �إجنازاتهم كانت الكاتدرائيات ذات احلجارة ال�شاهقة‪.‬‬
‫ول ّأن لك ّل حقبة نهاية‪ ،‬فبالن�سبة للقرون الو�سطى نهاية � ً‬
‫أي�ضا‪:‬‬
‫ففي منت�صف العام ‪ 1300‬م‪ .‬بدا �أنّ نهاية العامل قد و�صلت‪:‬‬
‫�أ ّوالً‪ ،‬تراجعت املحا�صيل‪ ،‬وحدثت جماعة على نطاق وا�سع‪ ،‬وتف�شى املوت جو ًعا‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫ث ّم جاء مر�ض الطاعون‬
‫على ال�سكان‪.‬‬
‫جنت �أوروبا يف نهاية‬
‫املطاف من هذه‬
‫الكوارث‪ ،‬ومع ذلك‪،‬‬
‫ف�إنّ اال�ضطرابات بني‬
‫عامي ‪ 1300‬و‪1400‬‬
‫م‪ .‬ميّزت نهاية‬
‫الع�صور الو�سطى‬
‫�ضحايا الطاعون‬ ‫وبداية الع�رص احلديث‬
‫يف وقت مبكر‪.‬‬

‫فما هو الطاعون �أو املوت الأ�سود؟‬


‫يف خريف عام ‪ 1347‬م‪ ،‬غادر �أ�سطول من ال�سفن التجارية حم ّمالً احلبوب‪ ،‬و�أبحر ّ‬
‫ملا�سينا يف‬
‫�صقلية‪.‬‬
‫البحارون باملر�ض وماتوا‪.‬‬‫ب�سبب الإبحار الطويل‪� ،‬أ�صيب ّ‬
‫ما�سينا‪ ،‬بد�أ �سكان املدينة � ً‬
‫أي�ضا باملوت‪.‬‬ ‫بعد وقت ق�صري من و�صول ال�سفن �إىل ّ‬
‫ويف غ�ضون �أ�شهر‪� ،‬س ّمى الأوروبيون هذا املر�ض باملوت الأ�سود‪ ،‬وهو ما عرف يف ما بعد‬
‫بالطاعون‪.‬‬
‫وزياد ًة يف الأزمات‪ ،‬جلبت �أواخر الع�صور الو�سطى �أزم ًة روحي ًة‪ ،‬وف�ضائح‪ ،‬وتق�سي ًما‬
‫للكني�سة الكاتوليكية الرومانية‪.‬‬
‫وتوفيّ العديد من الكهنة والرهبان من الطاعون‪ ،‬كما �س�أل الناجون‪" :‬ملاذا �أمات اهلل البع�ض‬
‫وترك الآخرين؟"‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬كانت الكني�سة قادر ًة على توفري القيادة القوية الالزمة يف هذه الأوقات اليائ�سة‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1309‬م‪ ،‬نقل البابا كليمانت اخلام�س املحكمة الباباوية �إىل �أفينيون خارج احلدود‪ ،‬يف‬
‫جنوب فرن�سا‪.‬‬
‫بقيت املحكمة هناك ملدة �سبعني عا ًما حتت الهيمنة الفرن�سية‪.‬‬
‫وبعد كوارث املجاعة والطاعون والتدهور االقت�صادي‪ ،‬جاءت حرب طويلة ومد ّمرة هي‬
‫حرب املئة عام‪:‬‬
‫فبني عامي ‪ 1337‬م‪ .‬و‪ 1453‬م‪� ،‬شاركت �إجنلرتا وفرن�سا يف �سل�سلة من ال�رصاعات‪ ،‬املعروفة‬
‫با�سم حرب املئة عام‪.‬‬
‫ا�شتبك احلكام الإجنليز لعدة قرون من �أجل التم�سك بالأرا�ضي الفرن�سية‪.‬‬
‫ومن جهتهم‪ ،‬كان ملوك فرن�سا‪ ،‬عازمني على تو�سيع نطاق �سلطتهم يف فرن�سا‪.‬‬
‫فاندلعت احلرب جمد ًدا يف العام ‪ 1337‬م‪ .‬بني هذه القوى املتناف�سة‪.‬‬
‫‪ 118‬الف�صل الثاين ع�رش‬
‫احل�ضارات‬

‫�سقوط الق�سطنطينية‬
‫الإمرباطور َّية البيزنطية وح�ضارتها‬
‫ن�ش�أت الق�سطنطينية على مفرتق الطرق الربية والبحرية‪ ،‬وجاءت ثروتها من التجارة‪.‬‬
‫انهارت مدن الإمرباطورية الغربية‪ ،‬لكن ظلّت الق�سطنطينية �آمن ًة وازدهرت‪.‬‬
‫ومع جدرانها العالية وقبابها الذهبية‪ ،‬وقفت الق�سطنطينية عا�صم ًة فخور ًة للإمرباطورية‬
‫البيزنطية‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي هاجم فيه الغزاة اجلرمان الإمرباطورية الرومانية يف الغرب‪ ،‬نقل الإمرباطور‬
‫الروماين ق�سطنطني وخلفا�ؤه قاعدتهم �إىل �رشق البحر املتو�سط‪ ،‬و�أعاد ق�سطنطني بناء املدينة‬
‫اليونانية يف بيزنطية‪ ،‬ث ّم �س ّميت بعده بال"ق�سطنطينية"‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 330‬م‪ .‬جعلها ق�سطنطني عا�صم ًة جديد ًة للإمرباطورية‪.‬‬
‫يف "روما اجلديدة" هذه‪ ،‬انت�رشت الطرقات �إىل اليلقان‪ ،‬و�إىل ال�رشق الأو�سط‪ ،‬و�شمال �أفريقيا‪.‬‬
‫�أ ّثرت امل�سيحية يف الإمرباطوريات البيزنطية كما يف �أوروبا الغربية‪ ،‬ولكن اختلفت طريقة املمار�سة‬
‫بني املنطقتني‪ .‬مع مرور الوقت‪� ،‬أ�صبحت الفروق وا�ضح ًة بني املنطقتني‪ ،‬وت�سببت بزيادة‬
‫االحتكاك‪.‬‬
‫خالل الع�صور الو�سطى‪� ،‬إبتعد الفرعان امل�سيحيان عن بع�ضهما البع�ض‪ ،‬وكان �سبب االنق�سام هو‬
‫ا�ستخدام الرموز �أو ال�صور املقد�سة‪.‬‬
‫وبحلول وقت االنق�سام‪ ،‬كانت الإمرباطورية البيزنطية تعاين من �أزمة‪.‬‬
‫وكان هناك �رصاعات وخالفات وم�ؤامرات‪ ،‬وا�ستمرت احلروب‪.‬‬
‫وكما هو احلال يف �أوروبا الغربية‪ ،‬اكت�سب �أمراء حمليون ال�سيطرة على مناطق وا�سعة‪.‬‬
‫ويف النهاية‪ ،‬عندما تعرثت الإمرباطورية‪ ،‬تقدّم �أعدا�ؤها‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫الف�صل الثالث ع�رش‬
‫احل�ضارات‬

‫عبادة �إ�سالمية‬

‫نه�ضة الإ�سالم‬
‫ظهر دين الإ�سالم‪ ،‬الذي يطلق على �أتباعه �إ�سم امل�سلمني‪ ،‬يف �شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫هذه املنطقة يف جنوب غرب �آ�سيا هي معظمها �صحراء‪ ،‬لكن مع ذلك‪ ،‬فقد كانت‬
‫موطنًا لكثري من العرب‪.‬‬
‫يف عام ‪ 500‬ميالدي انتقل البدو عرب ال�صحراء للو�صول �إىل املراعي املو�سمية‪ ،‬من‬
‫�أجل �سقاية املاعز والغنم‪.‬‬
‫و�أ ّدت املناف�سة على الأرا�ضي من �أجل املياه والرعي يف كثري من الأحيان �إىل احلرب‪.‬‬
‫ولد حممد (�صلعم) يف واحة مكة يف العام ‪ 570‬ميالدي‪ ،‬وكانت مكة املك ّرمة‬
‫حج مزدهر‪.‬‬ ‫مدين ًة �صاخب ًة م�ؤلف ًة من عدة طرق و�أ�سواق‪ ،‬كما �أنّها كانت مركز ّ‬
‫جاء الرجال العرب لل�صالة يف الكعبة‪ ،‬املعبد القدمي الذي كان ي�ضم متاثيل الآلهة‬
‫احلجاج التجار لي�صبحوا �أثرياء‪ .‬وكان ال ب ّد من و�ضع الأ�سلحة‬ ‫ّ‬ ‫والإلهات‪� .‬ساعد‬
‫�أ�سفل املعبد‪ ،‬ما جعل م ّكة مكانًا �آمنًا و�سلميًا‪.‬‬
‫موحد‪ ،‬ي�ستند �إىل االعتقاد ب�إله‬
‫ّ‬ ‫مثل الديانتني اليهودية وامل�سيحية‪ ،‬فالإ�سالم دين‬
‫واحد‪.‬‬
‫الن�ص املقد�س للإ�سالم هو القر�آن الكرمي‪ ،‬الذي يعلّم � ّأن اهلل كلّه قدرة ور�أفة‪.‬‬
‫ويذكر القر�آن الكرمي �أي�ضا ً � ّأن ك ّل �إن�سان م�س�ؤول عن �أعماله اخلا�صة‪.‬‬
‫ال يتطلّب الإ�سالم كهن ًة للتو�سط بني النا�س واهلل‪ .‬ويعتقد امل�سلمون � ّأن اهلل �أر�سل‬
‫"الإ�سالم ال يعار�ض العلم ال�صحيح‪ ،‬وال الفن النافع وال احل�ضارة اخلرية‪ ،‬و�إنه دين �سهل رحب مرن "‬ ‫‪120‬‬

‫�أنبياء كابراهيم ومو�سى وعي�سى‪ ،‬لك ّن حممد كان‬


‫�آخر و�أعظمهم‪.‬‬
‫واجه امل�سلمون م�شكل ًة عند موت حممد (�صلعم)‪،‬‬
‫لأنه مل يعينّ خليف ًة له لقيادة املجتمع‪ .‬يف نهاية‬
‫املطاف‪ ،‬اتّفقوا � ّأن «�أبو بكر» ‪ -‬والد حممد بالتبني ‪-‬‬
‫والذي اعتنق الإ�سالم يف وقت مبكر‪ ،‬يجب �أن يكون‬
‫اخلليفة الأول‪� ،‬أو خل ًفا ملحمد (�صلعم)‪.‬‬
‫وقال �أبو بكر للم�ؤمنني‪:‬‬
‫«�إذا كنتم تعبدون حممد‪ ،‬فقد مات حممد‪ .‬و�إذا كنتم‬
‫احلي»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعبدون اهلل‪ ،‬فاهلل هو‬ ‫اخلليفة هارون الر�شيد‬
‫ولكن‪ ،‬بعد �أن توفيّ حممد (�صلعم)‪ ،‬اختلف‬
‫امل�سلمون على من يجب �أن يكون زعيم الديانة‪ .‬وكان للإنق�سام بني امل�سلمني �إىل‬
‫�سنّة و�شيعة‪ ،‬ت�أثري عميق على التاريخ الإ�سالمي يف وقت الحق‪.‬‬
‫مثل الإنق�سام بني الروم الكاتوليك (الغربيني امل�سيحيني) والأرثوذك�س (ال�رشقيني‬
‫امل�سيحيني)‪ ،‬منا الإنق�سام بني ال�سنة وال�شيعة امل�سلمني حتى يومنا هذا‪.‬‬
‫ويف عهد العبا�سيني‪ ،‬ا�ستوعبت احل�ضارة الإ�سالمية الثقافات من العديد من‬
‫احل�ضارات‪ .‬ومن هذه العملية‪ ،‬ن�ش�أت ح�ضارة جديدة مزدهرة يف املدن‪ ،‬من بغداد‬
‫حتى قرطبة‪.‬‬
‫وقد �ض ّمت احل�ضارة العبا�سية جميع النا�س الذين كانوا يعي�شون حتت احلكم‬
‫الإ�سالمي‪ ،‬مبن فيهم اليهود وامل�سيحيون‪.‬‬
‫�ش ّكلت الأعمال العظيمة التي �أنتجها علماء الع�رص العبا�سي الثقافة واحل�ضارة‬
‫الإ�سالمية‪.‬‬
‫من هو هارون الر�شيد؟‬
‫يعترب هارون الر�شيد من �أ�شهر اخللفاء العبا�سيني‪ ،‬و�أكرثهم ذك ًرا حتى يف امل�صادر‬
‫الأجنبية‪ ،‬كاحلوليات الأملانية على عهد الإمرباطور �شارملان التي ذكرته با�سم‬
‫«�أرون»‪ ،‬واحلوليات الهندية وال�صينية التي ذكرته با�سم «�ألون»‪� ،‬أما امل�صادر‬
‫العربية فقد �أفا�ضت يف الكالم عنه لدرجة �أن �أخباره قد امتزجت فيها حقائق التاريخ‬
‫بخيال الق�ص�ص‪ ،‬وال �سيما يف كتاب «�ألف ليلة وليلة»‪ ،‬والتي �صورته ب�أنه اخلليفة‬
‫امل�رسف يف الرتف وامللذات‪ ،‬و�أنه ال يعرف �إال اللهو و�رشب اخلمور ومراق�صة‬
‫�شجع حركة التعريب والنقل‪،‬‬ ‫يحب العلم والعلماء‪ ،‬وقد ّ‬
‫ّ‬ ‫الغانيات‪ .‬ولكنه � ً‬
‫أي�ضا كان‬
‫‪121‬‬ ‫كما منح العلماء والأدباء حوافز كبرية‪.‬‬
‫وحد احل ّكام امل�سلمون الثقافات املتنوعة‪ ،‬مبا فيها العربية والفار�سية‬ ‫وعموماً‪ّ ،‬‬
‫وامل�رصية والأفريقية والأوروبية‪.‬‬
‫يف وقت الحق‪ ،‬ان�ضم املغول و�شعوب جنوب �رشق �آ�سيا �إىل املجتمع الإ�سالمي‪.‬‬
‫وا�ستعملت احل�ضارة الإ�سالمية الكثري من تقاليدهم‪.‬‬
‫منفتحا �أكرث من‬
‫ً‬ ‫كان املجتمع الإ�سالمي يف القرنني الثامن والتا�سع امليالديني‪،‬‬
‫�أوروبا امل�سيحية يف القرون الو�سطى‪.‬‬
‫فقد كانت مراكز التعليم موجود ًة ومزدهر ًة يف عهد امل�أمون يف كل من‪:‬‬
‫بغداد ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬وقرطبة‪.‬‬
‫وقد ترجم املثقفون امل�سلمون �أعمال الفال�سفة اليونانيني ون�صو�ص الهندو�س‬
‫والبوذيني‪.‬‬
‫�أما �أه ّم عامل ريا�ضيات �إ�سالمي فهو اخلوارزمي‪ ،‬الذي كان رائدا ً يف درا�سة علم‬
‫اجلرب‪.‬‬
‫ً‬
‫ملحوظا بالطب وال�صحة العامة‪.‬‬ ‫كما �أحدث الإ�سالم تقد ًما‬
‫الف�صل الرابع ع�رش‬ ‫‪122‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫"من مهمات احل�ضارة �أن تق�ضي على الفا�سد‪ ,‬وت�شيد بالتقدم الب�رشي "‬

‫م�سجد يف تركيا‬

‫احلقبة العثمانية‬
‫كان �سليمان �شاه قائ ًدا حكي ًما وقاد ًرا‪.‬‬
‫وح�سن نظامها العديل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�شيّد و�ش ّدد احلكومة الإمرباطورية العثمانية ب�رسعة‪،‬‬
‫وك�سلطان‪ ،‬كان ل�سليمان ال�سلطة املطلقة‪ ،‬لكنّه حكم مب�ساعدة من جمل�س الوزراء‪.‬‬
‫وقد �أ�رشفت احلكومة على الأعمال البريوقراطية‪ ،‬وحافظ اجلي�ش القوي على ال�سالم‪ .‬كان‬
‫تق�سيم املجتمع العثماين على �أ�سا�س الطبقات‪ ،‬ولك ّل منها دور نّ‬
‫معي‪.‬‬
‫يف �أعلى الهرم طبقة "رجال ال�سيف"‪ ،‬واجلنود الذين حر�سوا ال�سلطان‪.‬‬
‫و�أدنى منهم‪ ،‬كان هناك "رجال التفاو�ض"‪ ،‬مثل التجار وجباة ال�رضائب‪.‬‬
‫و�أخرياً‪ ،‬كان هناك "رجال الرتبية"‪� ،‬أو املزارعون والرعاة الذين �أنتجوا الغذاء للمجتمع‪ .‬بعد‬
‫وفاة �سليمان عام ‪ 1566‬م‪ .‬بد�أت الإمرباطورية العثمانية بالرتاجع ببطء‪ .‬قتل �سليمان‬
‫اثنني من �أبنائه ب�سبب ا�شتباهه بخيانتهما‪.‬‬
‫ترك ابنه وخليفته �سليم الثاين الأعمال لوزرائه‪ ،‬و�أ�صبحت البريوقراطية احلكومية فا�سد ًة‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫الف�صل اخلام�س ع�رش‬
‫احل�ضارات‬

‫�إمرباطور �صفوي‬

‫الإمرباطور ّية ال�صفو ّية‬


‫وحدت ال�ساللة ال�صفوية �إمرباطورية بالد فار�س (�إيران حاليًا)‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1500‬م‪ .‬ويف وقت مبكر‪ّ ،‬‬
‫واقعة بني اثنتني من القوى التو�سعية‪:‬‬‫ً‬ ‫وكانت‬
‫الهند املغولية‪ ،‬والإمرباطورية العثمانية‪.‬‬
‫وغالبا ً ما �شارك ال�صفويون يف احلرب‪ ،‬وقد لعب الدين دو ًرا يف ال�رصاع‪.‬‬
‫كان هناك العديد من الأ�سباب التي �أ َدّت �إىل حتول الفر�س (الإيرانيني) �إىل الت�شيع‪.‬‬
‫يرى امل�سلمون �أن ال ُفر�س �أ�صحاب عقل وذكاء‪ ،‬قال الر�سول حممد (�صلعم)‪" :‬لو كان العلم بالرثيا لتناوله‬
‫نا�س من �أبناء فار�س‪.‬‏" ما مينعهم من التع�صب الباطل والتقليد الأعمى‪،‬‏�أ ّنهم �أهل حتقيق وتدقيق يف �أمر الدين‬
‫والعبادة‪ ،‬لذلك كانت املجو�سية عندهم ليّ ًنة‪ .‬ولهذا ال�سبب �أ�سلمت �أكرث بالدهم من غري حرب‪ ،‬و ُفتحت‏من دون‬
‫مقاومة‪ ،‬وبعد فتح بالدهم تركوا‏املجو�سية من غري كره و�إجبار واعتنقوا الإ�سالم باحلرية واالختيار‪ ،‬لأنهم‬
‫‏عا�رشوا امل�سلمني وح ّققوا حول الإ�سالم‪ ،‬وعرفوا ح ّقانيّته‪ ،‬فتم�سكوا به ‏و�أ�صبح الإ�سالم دينهم الذي كانوا‬
‫ي�ضحون ب�أنف�سهم دونه‪ ،‬ويقدّمون الغايل‏والنفي�س من �أجله‪ ،‬ويجاهدون يف �سبيل اهلل حتت راية الإ�سالم مع‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫العرب‏وغريهم من امل�سلمني جنبا جلنب يف ّ‬
‫�صف واحد‪.‬‏‬
‫كان ارتباط وثيق بني الإيرانيني و�سلمان الفار�سي (وهو منهم)‪ ،‬ثم ملرتبته املتقدمة يف الإ�سالم‪ ،‬ومكانته‬
‫املرموقة عند النبي (�صلعم)‪،‬‏حتى عدّه من �أهل بيته‪ ،‬يف احلديث النبوي ال�رشيف‪ ،‬حيث قال‪�" :‬سلمان من �أهل‬
‫‏البيت"‪ .‬وملا كان �سلمان من �شيعة �أهل البيت واملوالني لآل حممد ومن املخالفني الجتماع ال�سقيفة واخلليفة‬
‫املنتخب فيها‪� ،‬أر�شد قومه‏وهداهم �إىل مذهب ال�شيعة‪ ،‬ودعاهم �إىل التم�سك بحبل اهلل املتني و�رصاطه‏امل�ستقيم‪،‬‬
‫وهو والية و�إمامة �أبى احل�سن �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬لأنه �شهد يوم ‏الغدير‪ ،‬وبايع عليّا ً باخلالفة‪ ،‬و�سمع �أحاديث‬
‫علي‪ ،‬كما �سمع مرا ًرا حديث النبي (�صلعم)‪" :‬من �أطاع عليّا ً فقد �أطاعني‪،‬‬ ‫عديد ًة من فم النبي ‏الكرمي يف �ش�أن ّ‬
‫ومن �أطاعني فقد �أطاع‏اهلل‪ ،‬ومن خالف عليّا ً فقد خالفني‪ ،‬ومن خالفني فقد خالف اهلل" (حديث الغدير)‪.‬‬
‫"احل�ضارة نتيجة توا�صل وتقدم"‬ ‫‪124‬‬

‫من هو �إ�سماعيل الأول؟‬


‫ال�شاه �إ�سماعيل الأول هو م�ؤ�س�س الدولة ال�صفوية يف �إيران‬
‫من �سنة ‪ 1500‬م‪� .‬إىل �سنة ‪ 1502‬م‪.‬‬
‫غزا �إ�سماعيل الأول تربيز‪� ،‬أذربيجان‪ ،‬و�أرمينيا‪.‬‬
‫وق�ضى عقدًا كامالً من الزمن من �أجل تعزيز �سيطرته على �إيران حيث كان الفر�س ما زالوا يدينون‬
‫باملذهب ال�سني‪.‬‬
‫انت�رش جي�ش �إ�سماعيل الأول يف املناطق الو�سطى �سنة ‪ 1504‬م‪ .‬ثم �سيطر على جنوب غرب �إيران بني‬
‫�سنة ‪ 1505‬و‪ 1508‬م‪ .‬ثم �سيطر على خرا�سان الكربى ومدينة هرات يف �سنة ‪ 1510‬م‪.‬‬
‫وما دفع ال�صفويني �إىل تغيري املذهب امل ّتبع للنا�س مر ّده الأ�سباب التالية‪:‬‬
‫ً‬
‫خمتلفة عن الدولة العثمانية ال�سنية ذات القوة الع�سكرية القوية‪ ،‬والتي حتدها يف‬ ‫�أن تكون �إيران ال�صفوية‬
‫الغرب و�آ�سيا الو�سطى الأوزبكية يف ال�شمال ال�رشقي ‪.‬‬
‫ال�صرّ اع الطويل بينهم وبني الإمرباطورية العثمانية واحلروب العديدة التي دارت بينهما‪ ،‬جعل �إ�سماعيل‬
‫الأول �أكرث �إ�رصا ًرا على خلق هوية خمتلفة‪.‬‬
‫وكذلك خ�شيتهم (ال�صفويني) من تكوين طابور خام�س من ال�سنة الذين �سيتعاونون مع العثمانيني ‪.‬‬
‫أرا�ض من �ش�أن �سكانها الإخال�ص والوالء للدولة‬ ‫فالتح ّول نحو الت�شيع كان جز ًءا من عملية بناء � ٍ‬
‫وم�ؤ�س�ساتها‪ ،‬وبالتايل متكني الدولة وم�ؤ�س�ساتها من ن�رش حكمهم يف جميع �أنحاء الأرا�ضي ‪.‬‬

‫ً‬
‫و�شيعة؟‬ ‫�سن ًة‬
‫فماذا كان م�صري علماء الدين‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬العلماء ال�سنة‪:‬‬
‫ّ‬
‫اتخذ ال�صفويون عدة خطوات يف بداية حكمهم �ضد العلماء ال�سنة منها منحهم حق اخليار بني اتباع املذهب‬
‫ال�شيعي الإثني ع�رشي �أو املوت �أو النفي ‪.‬‬
‫ً‬
‫ذبح رجال الدين ال�سنّة الذين قاوموا الت�شيّع يف �إيران‪ ،‬وخ�صو�صا يف مدينة هرات‪ ،‬بينما رحل العديد‬
‫منهم �إىل خارج �إيران يف الدول ال�سنية القريبة‪.‬‬
‫‪ -‬العلماء ال�شيعة العرب‪:‬‬
‫بعد الفتح‪ ،‬بد�أ �إ�سماعيل الأول يف حتويل امل�شهد الديني يف �إيران عن طريق فر�ض الت�شيع الإثني ع�رشي‬
‫على ال�سكان‪ ،‬لأن معظم ال�سكان كان معتنقا للمذهب ال�سني‪ .‬ولعدم وجود الكثري من العلماء ال�شيعة‪،‬‬
‫ا�ضط ّر �إ�سماعيل الأول �إىل ا�سترياد علماء �شيعة من البلدان العربية مثل جبل عامل يف جنوب لبنان‪،‬‬
‫والبحرين‪ ،‬وجنوب العراق‪ ،‬من �أجل �إن�شاء دولة رجال الدين‪.‬‬
‫فيما بعد‪ ،‬تال�شى جمد ال�صفوية ببطء بعد وفاة ال�شاه عبا�س‪ ،‬وحتت ال�ضغط امل�ستمر من اجليو�ش‬
‫العثمانية‪.‬‬
‫كما حتدّى علماء ال�شيعة �سلطة ال�شاه‪ ،‬من خالل الت�أكيد على �سلطتهم يف تف�سري القانون وحتديد �سيا�سة‬
‫احلكومة‪...‬‬
‫‪125‬‬ ‫الف�صل ال�ساد�س ع�رش‬
‫احل�ضارات‬

‫حاكم افريقي‬

‫مراحل ح�ضارات �أفريقيا‬


‫لآالف ال�سنني‪ ،‬لعبت ال�سمات اجلغرافية لهذه القارة ال�ضخمة دو ًرا �أ�سا�سيًا يف تطورها‪.‬‬
‫�أفريقيا هي ثاين �أكرب قارة يف العامل‪ ،‬و�ساعد حجمها وموقعها يف تكوين تن ّوع وا�سع من‬
‫املناخ‪ ،‬والنبات‪ ،‬والت�ضاري�س‪.‬‬
‫هذا االختالف الطبيعي �أ ّثر كث ً‬
‫ريا يف تنوع الثقافات‪.‬‬
‫وعلى ال�صعيد الدميغرايف‪ ،‬ك�شف علماء الآثار �أدلّ ًة على �أنّ �أفريقيا هي �أقدم موطن‬
‫لأ�سالف الإن�سان احلديث‪.‬‬
‫وعلى الرغم من احلواجز اجلغرافية‪ ،‬هاجر عدد من �أع�ضاء هذه اجلماعات الب�رشية‬
‫القدمية �إىل جميع �أنحاء �أفريقيا وخارجها‪.‬‬
‫هذه الهجرات �ش ّكلت نواة احل�ضارات الأقدم على الإطالق يف عدة مناطق من �آ�سيا‬
‫و�أفريقيا‪.‬‬
‫تطورت املراكز التجارية عرب الزمن يف جميع �أنحاء �أفريقيا‪ ،‬كما و�صلت التجارة �إىل‬
‫خارج حدود مدن غاو يف غرب �أفريقيا‪.‬‬
‫�أ�صبحت بع�ض هذه املدن يف القرون الو�سطى املراكز التجارية الدولية الغنية‪.‬‬
‫وبني عامي ‪ 800‬و ‪1600‬م‪ .‬فازت عدة ممالك قوية بال�سيطرة على هذه املدن املزدهرة‬
‫وجتارتها‪.‬‬
‫كان امللح ناد ًرا يف مناطق كثرية يف �أفريقيا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬كان مه ًّما ل�صحة الإن�سان‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬كانت بداية التنمية التجارية يف املنطقة الأفريقية‪ ،‬مرتبط ًة بتنمية ها ّمة �أخرى‬ ‫‪126‬‬
‫وهي الزراعة‪.‬‬
‫وهذه �أبرز التطورات يف تاريخ �أفريقيا الغربية‪:‬‬
‫فو�سط ا�ضطرابات انهيار غانا‪ ،‬عانى �شعب املاندينكا يف �أعلى النيجر من هزمية قا�سية‬
‫من قبل زعيم مناف�س‪:‬‬
‫�أعدم ملكهم وك ّل �أوالده � اّإل واحد‪.‬‬
‫ووفقا ً للتقاليد‪ ،‬كان الناجي �سندياتا‪ ،‬وهو �صبي مري�ض �أ�ضعف من �أن ي�ش ّكل تهدي ًدا‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬وخال ًفا ملا هو متوقع‪ ،‬يف عام ‪ 1235‬م‪� ،.‬سحق �سندياتا �أعداءه‪ ،‬وفاز بال�سيطرة‬
‫أ�س�س �إمرباطورية مايل‪.‬‬
‫على طرق جتارة الذهب املتعددة‪ ،‬و� ّ‬
‫من هو �سوندياتا؟‬
‫حكم �سوندياتا كيتا �إمرباطورية مايل يف غربي �إفريقيا يف الفرتة ما بني (‪- 1240‬‬
‫‪1255‬م‪ ،).‬وجعل منها �أكرب و�أغنى الإمرباطوريات يف الإقليم‪.‬‬
‫�أ�صبح �سندياتا بطل الإمرباطورية‪ ،‬وال زال كذلك عند جماعات املالنكا يف غرب �إفريقيا‪،‬‬
‫لأنه َح َّرر دولة كاجنابا ال�صغرية من غانا‪ ،‬كما �أعاد تنظيم جي�شها‪.‬‬
‫وابتدا ًء من عام ‪ 1400‬م‪ ،.‬فقد �أ�ضعفت النزاعات حول اخلالفة‪ ،‬مايل‪.‬‬
‫هاجرت ال�شعوب بعي ًدا‪ ،‬وتقلّ�صت الإمرباطورية‪.‬‬
‫وعند حلول العام ‪ 1460‬م‪ ،.‬كانت املدينة التجارية يف غاو قد �أ�صبحت عا�صمة اململكة‬
‫النا�شئة غرب �أفريقيا "�سونغاي"‪.‬‬
‫ومن جهتها‪� ،‬شهدت منطقة �رشقي �أفريقيا‪ ،‬العديد من التحوالت والتطورات‪ ،‬كالتايل‪:‬‬
‫حواىل عام ‪ 350‬م‪ ،.‬غزا امللك عيزانا مملكة النيل القدمية (النوبة)‪.‬‬
‫ومن خالل تو�سيع مملكته يف هذه املنطقة‪ ،‬زاد امللك عيزانا �سيطرته على جتارة البحر‬
‫الأحمر‪ ،‬مما �أدى �إىل ازدهار لفرتة طويلة يف مملكة �أك�سوم‪.‬‬
‫تقع �أك�سوم يف اجلنوب ال�رشقي من النوبة‪.‬‬
‫امت ّدت مملكة �أك�سوم من جبال �أثيوبيا حتى �شواطئ البحر الأحمر (�أو يف وقتنا احلا�رض‬
‫�إريرتيا)‪.‬‬
‫حت ّدر �شعوب �أك�سوم من املزارعني وال�شعوب يف ال�رشق الأو�سط‪ ،‬الذين جلبوا التقاليد‬
‫اليهودية من خالل اململكة الأفريقية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من تال�شي القوة ال�سيا�سية واالقت�صادية يف �أك�سوم‪ ،‬فلم تختف الت�أثريات‬
‫الثقافية والدينية‪.‬‬
‫جنا هذا الإرث الحت�ضانه بني ال�شعوب ال�ساكنني يف املرتفعات‪ ،‬التي تعرف اليوم با�سم‬
‫�أثيوبيا‪.‬‬
‫�أما الأمناط الثقافية واحل�ضارية يف �أفريقيا‪ ،‬فكانت – خالل القرون الو�سطى – كما يلي‪:‬‬
‫عوامل مثل جغرافيا ومناخ �أفريقيا املتن ّوعني‪ ،‬والهجرة والتجارة‪ ،‬لعبت كلّها دورا ً‬
‫‪127‬‬ ‫رب االمم"‬
‫"احل�ضارة من م�صابيح الأمم َع َ‬
‫�أ�سا�سيا ً يف كيفية �إن�شاء املجتمعات يف وقت مبكر يف جميع �أنحاء القارة‪.‬‬
‫فقد كانت العائلة هي الوحدة الأ�سا�سية يف املجتمع‪.‬‬
‫وقد اختلفت �أمناط احلياة الأ�رسية اعتما ًدا على ثقافة املجموعات والأ�شخا�ص‪.‬‬
‫�أما �سيا�سيًا‪ ،‬فعند منو املجتمعات‪� ،‬أ�صبح هناك حاجة لت�شكيل حكومة‪.‬‬
‫وعلى مدار مناطق �أفريقيا‪ ،‬تن ّوعت الأمناط ال�سيا�سية‪ ،‬اعتما ًدا على حجم وح�ضارة‬
‫املجتمع‪.‬‬
‫ومن جهتها‪ ،‬فقد �إنت�رشت الأديان (من �إ�سالم وم�سيحية) يف مناطق عديدة يف قارة‬
‫�أفريقيا‪.‬‬
‫و�إنّ الذين ان�ضموا و�آمنوا بهذه الأديان‪ ،‬ارتبطوا بعبادة اهلل كالكائن الأعلى التقليدي‪.‬‬
‫وعلى �صعيدي الأدب والفن‪ ،‬عمل الفنانون الأفريقيون مبواد كثرية مثل‪:‬‬
‫الذهب‪ ،‬العاج‪ ،‬اخل�شب‪ ،‬الربونز‪ ،‬والقما�ش‪.‬‬
‫�أ ّما يف الأدب‪ ،‬فقد حفظ الأفريقيون تاريخهم وقيمهم‪ ،‬من خالل ك ّل من‪:‬‬
‫الأدب املكتوب والأدب ال�شفهي‪.‬‬
‫الف�صل ال�سابع ع�رش‬ ‫‪128‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫"احل�ضارة ميزة �إن�سانية ا�صيلة ودائمة"‬

‫ق�ساوة املغول يف احلروب‬

‫ظهور املغول وغزواتهم‬


‫حواىل �سنة ‪ 1200‬م‪ ،.‬بد�أ الغزو املغويل‪ ،‬ما �أ ّدى �إىل ت�أ�سي�س �إمرباطوري ًة �ستمتد عرب �آ�سيا‬
‫و�أوروبا‪ .‬ففي البداية‪ ،‬غزا املغول ال�صني غز ًوا �شامالً‪ ،‬وعند انتهاء هذا الغزو‪ ،‬مل يكن حكام‬
‫املغول ظاملني‪ ،‬ف�أن�شاوا نظاما ً قائ ًما و�سلي ًما‪.‬‬
‫وبنهاية غزواتهم‪� ،‬سيطروا على �أكرب �إمرباطورية يف التاريخ‪ ،‬والتي كانت تغطي �أكرث من ‪ 33‬مليون‬
‫كيلومرت مربع يف ذروتها‪ ،‬وكان يقدر عدد �سكانها بنحو �أكرث من ‪ 100‬مليون ن�سمة‪.‬‬
‫وكانت قد ظهرت الإمرباطورية املغولية منذ توحيد القبائل البدوية يف منغوليا حتت قيادة جنكيز خان‪،‬‬
‫الذي �أعلن �أنه حاكم لكل املغول يف عام ‪ 1206‬م‪ ،.‬ومنت الإمرباطورية ب�رسعة يف ظل حكمه ومن ثم‬
‫حتت حكم ذر ّيته‪ ،‬حيث �أر�سل الغزوات يف كل اجتاه‪ ،‬لتكوين الإمرباطورية الوا�سعة العابرة للقارات‬
‫مع �إت�صال ال�رشق بالغرب‪ ،‬ومن خالل ال�سماح بالتجارة والتكنولوجيا‪ ،‬وتبادل ال�سلع الأ�سا�سية‪،‬‬
‫ون�رش الأيديولوجيات وتبادلها عرب �أورا�سيا ‪.‬‬
‫و�إىل يومنا هذا‪ ،‬تعترب الإمرباطورية املغولية �أكرب �أر�ض متجاورة يف التاريخ‪ ،‬والتي ن�ش�أت يف �آ�سيا‬
‫الو�سطى‪ ،‬وامتدت الإمرباطورية املغولية يف نهاية املطاف من �أوروبا ال�رشقية �إىل بحر اليابان‪،‬‬
‫كما امتدت �شماالً �إىل �سيبرييا‪ ،‬و�رش ًقا وجنو ًبا �إىل �شبه القارة الهندية‪ ،‬والهند ال�صينية‪ ،‬واله�ضبة‬
‫الإيرانية‪ ،‬وغربا ً و�صلت لبالد ال�شام و�إىل جزيرة العرب ‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫الف�صل الثامن ع�رش‬
‫احل�ضارات‬

‫مبنى ياباين تقليدي‬

‫احل�ضارتان املتجاورتان يف كوريا واليابان‬


‫يف وقت مبكر من زمان "هان"‪ ،‬كانت اجلارة الكبرية لكوريا ‪ -‬ال�صني ‪ -‬لها ت�أثري كبري عليها‪.‬‬
‫وعلى الرغم من �أنّ الكوريني ا�ستخدموا الكثري من التقاليد ال�صينية‪ � ،‬اّإل �أ ّنهم متلّكوا ثقاف ًة‬
‫منف�صل ًة ومتميز ًة‪.‬‬
‫رب الرئي�سي اجلنوبي لآ�سيا ‪ ،‬وتظهر جتاه اليابان‪.‬‬ ‫تقع كوريا يف �شبه جزيرة ناتئة من ال ّ‬
‫يف الطرف ال�شمايل من �شبه اجلزيرة‪ ،‬تف�صل اجلبال ونهر يالو كوريا عن ال�صني‪.‬‬
‫بني حواىل الأعوام ‪ 300‬و‪ 600‬م‪ ،.‬تقا�سم احلكام املحليون ثالث ممالك منف�صل ًة‪:‬‬
‫كوريو يف ال�شمال‪ ،‬بايك�شه يف اجلنوب الغربي‪ ،‬و�سيال يف جنوب �رشق البالد‪.‬‬
‫وعلى الرغم من �أ ّنهم كانوا يت�شاركون نف�س اللغة ونف�س اخللفية الثقافية‪ ،‬فغالبا ً ما حتاربوا‬
‫�ض ّد بع�ضهم �أو �ض ّد ال�صني‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ظلّت ال�صني ت�ؤ ّثر عليهم‪.‬‬
‫غزا املغول �أوالً كوريا يف عام ‪ 1231‬م‪ ،.‬واحتلّوا البالد من عام ‪ 1259‬م‪ .‬حتى ‪ 1350‬م‪.‬‬
‫وعندما انهار حكمهم‪ ،‬عادت كوريو �إىل ال�سلطة‪.‬‬
‫ولكن يف عام ‪ 1392‬م‪� ،.‬أتى اجلرنال الذكي يي �سنغ غيه‪ ،‬و�أع ّد �ساللة ت�شو�سون‪.‬‬
‫كانت هذه ال�ساللة �أخر و�أطول �ساللة من الثالث �سالالت‪.‬‬
‫خ ّف�ض اجلرنال يي ت�أثري البوذية‪ ،‬و�ش ّكل حكوم ًة على �أ�سا�س مبادئ الكونفو�شيو�سية‪.‬‬
‫ومثل كوريا‪� ،‬أخذت اليابان الت�أثري من احل�ضارة ال�صينية يف بداية تاريخها‪.‬‬
‫يف الوقت نف�سه‪ ،‬ثابر اليابانيون على املحافظة على ح�ضارتهم‪ ،‬وثقافتهم اخلا�صة‪.‬‬
‫"احل�ضارة هي انتقال من مرحلة اىل مرحلة اكرث عقالنية"‬ ‫‪130‬‬
‫رب الرئي�سي الآ�سيوي‬ ‫تقع اليابان يف �أرخبيل �أو �سل�سلة من اجلزر‪ ،‬تبعد حواىل مئة ميل قبالة ال ّ‬
‫و�رشق �شبه اجلزيرة الكورية‪ .‬جزرها الرئي�سية الأربعة هي‪:‬‬
‫هوكايدو‪ ،‬هون�شو‪ ،‬كيو�شو‪� ،‬شيكوكو‪.‬‬
‫يخاف اليابانيون من الزالزل املائية‪� ،‬أو الت�سونامي‪ ،‬من �أن يحدث‪ ،‬لأنّ ب�إمكانه تدمري ك ّل‬
‫هاج�سا يف تاريخهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫�أرا�ضيهم من دون حتذير م�سبق‪ .‬وكان هذا‬
‫وال�شعب الياباين الذي نعرفه اليوم هاجر �إىل اليابان من القارة الآ�سيوية منذ �أكرث من �ألفي‬
‫�سنة‪.‬‬
‫انعكا�سا لهذا املعتقد‪ ،‬ث ّم �أدخل‬
‫ً‬ ‫كان اليابانيون القدماء ي�ؤمنون بقوة الطبيعة‪ ،‬وكانت ديانتهم‬
‫املب�رشون الكوريون البوذية �إىل اليابان يف �سنة ‪ 500‬م‪ .‬تقريبًا‪.‬‬
‫�أما عالقة اليابان بال�صني فهي قدمية‪:‬‬
‫ففي وقت مبكر من عام ‪ 600‬م‪ ،.‬ق ّرر الأمري �شوتوكو من ع�شرية ياماتو‪ ،‬معرفة املزيد عن‬
‫ال�صني مبا�رش ًة بدالً من معرفتها من خالل امل�صادر الكورية‪.‬‬
‫فكان �أن بعث النبالء ال�شباب للدرا�سة يف ال�صني‪.‬‬
‫يف املئتي �سنة املقبلة‪ ،‬زار العديد من اليابانيني (الطالب‪ ،‬الرهبان‪ ،‬التجار‪ ،‬وامل�س�ؤولني)‬
‫حمكمة تانغ‪.‬‬
‫وا�ستغرق املزج بني الثقافات من عام ‪ 794‬م‪ .‬حتى عام ‪ 1185‬م‪ .‬خالل هذا الوقت‪ ،‬كانت‬
‫عا�صمة الإمرباطورية تقع يف هيان‪� ،‬أي كيوتو يف يومنا احلا�رض‪.‬‬
‫هناك‪� ،‬أ ّدى الأباطرة الطقو�س الدينية التقليدية‪ ،‬يف حني �أنّ عائالت املحكمة الغنية كانت‬
‫متار�س ال�سلطة احلقيقية‪.‬‬
‫ز ّوج الفوجيوارا بناتهم لورثة العر�ش‪ ،‬ف�ضمنوا �سلطتهم‪.‬‬
‫و�إذا ما نظرنا �إىل النظام القائم يف اليابان جند �أنه‪:‬‬
‫نظر ًيا‪ ،‬كان الإمرباطور هو ر�أ�س املجتمع الإقطاعي الياباين‪ .‬واقعيًا‪ ،‬كان الإمرباطور عاج ًزا‪،‬‬
‫على الرغم من التبجيل‪� ،‬صور ًيا‪.‬‬
‫تكمن القوة احلقيقية يف يد �شوغان‪� ،‬أو القائد الع�سكري الأعلى‪ّ � .‬أ�س�س الأخري‪ ،‬وهو "�شوغان‬
‫كاماكورا"‪ ،‬الأوىل من ثالث �سالالت ع�سكرية حكمت اليابان ما يقارب ال�سبعمئة عام‪.‬‬
‫انهار �شوغان كاماكورا بعد غزوات املغول‪.‬‬
‫تولّت �ساللة جديدة ال�سلطة عام ‪ 1338‬م‪ ،.‬ولكن زاد م�ستوى احلرب بعد عام ‪ 1450‬م‪.‬‬
‫للدفاع عن قالعهم‪ ،‬وق ّدم الدميو الأ�سلحة �إىل الفلاّ حني و�إىل ال�ساموراي‪ ،‬الذين قاتلوا بق�سوة‬
‫وحد العديد من املحاربني �أجزاء كبرية من اليابان‪.‬‬ ‫�أكرث‪ .‬وتدريجيًا‪ّ ،‬‬
‫و�إجماالً‪ ،‬فقد �أ ّكدت الثقافة احل�ضارية اليابانية على الكماليات من الأ�شياء وعلى املتع‬
‫ريا عن الثقافة الإقطاعية التي هيمنت على اليابان لقرون عديدة �سابقة‪.‬‬ ‫احلياتية‪ ،‬واختلفت كث ً‬
‫‪131‬‬ ‫الف�صل التا�سع ع�رش‬
‫احل�ضارات‬ ‫"احل�ضارة هي االنتقال من البداوة اىل التمدن والتنوير"‬

‫معامل من جنوب �شرق �آ�سيا‬

‫ح�ضارات جنوب �رشق �آ�سيا‬


‫حافظت مناطق جنوب �رشق �آ�سيا على هو ّيتها الفريدة من نوعها حتى بعد ت�أ ّثرها ب�شدة‬
‫بجريانها (ال�صني والهند)‪.‬‬
‫يت�ألّف جنوب �رشق �آ�سيا من منطقتني رئي�سيتني‪:‬‬
‫رب الرئي�سي‪ ،‬ت�شمل عدة �شبه جزر (التي تربز جنو ًبا بني الهند وال�صني)‪.‬‬ ‫الأوىل‪ :‬من ال ّ‬
‫والثانية‪ :‬هي جزر جنوب �رشق �آ�سيا‪ ،‬التي تت�ألّف من �أكرث من ع�رشين �ألف جزيرة‪ ،‬منت�رش ًة‬
‫بني املحيط الهندي وبحر ال�صني اجلنوبي‪.‬‬
‫ن�رش التجار الهنود والكهنة الهندو�س ح�ضارتهم ببطء‪ ،‬مبالحقة م�سار التجارة والدين‪.‬‬
‫ف�أتت ت�أثرياتهم يف ك ّل من‪:‬‬
‫الكتابة‪ ،‬احلقوق‪ ،‬الدولة‪ ،‬الفن‪ ،‬الهند�سة‪ ،‬والزراعة على كامل جنوب �رشق �آ�سيا‪.‬‬
‫يف �أوائل القرون امليالدية‪ ،‬ا�ستق ّر التجار الهنود يف املدن ال�ساحلية يف جنوب �رشق �آ�سيا يف‬
‫الأعداد املتمايزة‪.‬‬
‫وق ّدموا الهدايا �إىل احل ّكام املحليني‪ ،‬وتزاوجوا مع الأ�رس ذات النفوذ‪.‬‬
‫الف�صل الع�رشون‬ ‫‪132‬‬
‫احل�ضارات‬

‫ثوار وحماربون �أوروبيون‬

‫احل�ضارة الأوروب ّية احلديثة‬

‫قبل اخرتاع الطباعة‪ ،‬مل يكن هناك �سوى �ألف كتاب يف ك ّل �أوروبا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبخط اليد‪.‬‬ ‫وكانت هذه الكتب بطيئة الن�سخ‪،‬‬
‫وبعد اخرتاع الطباعة (يف العام ‪ 1455‬م‪ ،).‬ووفقا ً لبع�ض التقديرات‪� ،‬أنتج �أكرث من خم�س‬
‫ع�رشة �إىل ع�رشين مليون وحدة تخزين يف املطابع‪.‬‬
‫�أحدثت ثورة الطباعة تغيرّ ات هائل ًة‪ ،‬ف�أ�صبحت الكتب املطبوعة �أق ّل كلف ًة‪ ،‬وتعلّم النا�س‬
‫القراءة �أكرث‪ ،‬ث ّم �أ ّدت هذه الكتب املطبوعة �إىل �أفكار جديدة واكت�شاف مناطق جديدة‪.‬‬
‫فقد �أ ّكد العلماء الإن�سانيون على التعليم والتعلّم الكال�سيكي‪� ،‬آملني بالإ�صالح الديني‬
‫والأخالقي‪.‬‬
‫�أ ّما يف الأدب‪ ،‬فكان ويليام �شك�سبري هو �أه ّم ال�شخ�صيات املتميزة يف النه�ضة‪ ،‬كما �أنّ حبّه‬
‫خ�صب اللغة الإجنليزية‪.‬‬
‫للكلمات ّ‬
‫وظهر يف �أعماله �أكرث من �ألف و�سبعمئة كلمة جديدة‪.‬‬
‫وكما هي العادة املتّبعة يف �أوروبا‪ ،‬حارب امللوك �إىل جانب الكني�سة الكاتوليكية �ض َّد التحدي‬
‫الربوت�ستاين‪ ،‬من خالل �أخذ قرارات ال�ستعادة قيادة الكني�سة الروحية يف عامل امل�سيحية‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ظلّت الأفكار الربوت�ستانتية (الإ�صالحية) تنت�رش‪.‬‬
‫ومع ا�ستمرار �إعادة الت�شكيل‪ ،‬منت مئات الطوائف الربوت�ستانتية واملجموعات الدينية التي‬
‫انف�صلت عن بع�ضها البع�ض عند �إن�شاء الكني�سة‪ ،‬واجتمعت من جديد‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫"احل�ضارة هي جمموع املرياث املادي واملعنوي والروحي لل�شعوب واجلماعات"‬

‫�ضع (جادلوا يف‬‫بع�ض الطوائف‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬كان لديها �أفكار �أكرث تطر ًفا‪ ،‬مثل‪ :‬رف�ض تعميد ال ّر ّ‬
‫مو�ضوع �أ ّنهم �أ�صغر من �أن يفهموا ما يعنيه التعميد‪ ،‬و�أن يقبلوا الإميان امل�سيحي)‪...‬‬
‫ويف �إجنلرتا‪ ،‬نادى الزعماء الدينيون بالإ�صالح حواىل �سنة ‪ 1300‬م‪.‬‬
‫ويف �سنة ‪ 1580‬م‪ .‬اكت�شف بع�ض رجال الدين الإجنليز الأفكار الربوت�ستانتية‪.‬‬
‫ولك ّن ف�صل الكني�سة الكاثوليكية مل يكن نتيجة عمل رجال الدين‪ ،‬بل نتيجة عمل امللك هرني‬
‫الثامن‪.‬‬
‫وخالل فرتة ا�شتداد العاطفة الدينية‪ ،‬انت�رشت اال�ضطهادات‪:‬‬
‫ا�ضطهد ك ّل من الكاثوليك والربوت�ستانت الطوائف املتطرفة وللذين ظنّهم النا�س �سحر ًة‬
‫ويهوداً‪.‬‬
‫وكانت االتهامات بكونهم �سحر ًة عاد ًة للن�ساء‪.‬‬
‫حتى الدايات و�أطباء الأع�شاب كانوا ي�ضطهدون‪.‬‬
‫وبالن�سبة للعديد من اليهود يف �إيطاليا‪ ،‬كان �أ ّول ع�رص النه�ضة هو وقت الرخاء الن�سبي‪.‬‬
‫ويف حني طردت �إ�سبانيا اليهود يف عام ‪ 1492‬م‪� ،.‬سمحت �إيطاليا لهم بالبقاء‪.‬‬
‫• من هي �إليزابيث الأوىل؟‬
‫تولت �إليزابيث احلكم‪ ،‬و�أدارت البالد بال�شورى‪ ،‬واعتمدت يف كثري من الأمور على فريق من‬
‫امل�ست�شارين املوثوقني برئا�سة �سري وليام �سي�سيل‪ ،‬واللورد بريغلي يف ما بعد‪.‬‬
‫وكان �أول ما قامت به امللكة �إليزابيث بعد اعتالئها العر�ش‪� ،‬إقامة الكني�سة الربوت�ستانتية‬
‫الإجنليزية‪ ،‬و�أ�صبحت احلاكم الأعلى لها‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد �أ�سهمت ت�سوية �إليزابيث الدينية يف تطوير ال�شكل الذي عليه تبدو الكني�سة الإجنليزية‬
‫حاليًا‪.‬‬
‫• من هو جون لوك؟‬
‫هو فيل�سوف جتريبي ومف ّكر �سيا�سي �إجنليزي‪.‬‬
‫ولد يف عام ‪ 1632‬م‪ .‬يف رجنتون ‪ Wringiton‬يف �إقليم �سومر�ست‪ ،‬وتعلّم يف مدر�سة‬
‫و�ستمن�سرت‪ ،‬ث ّم يف كلية كني�سة امل�سيح يف جامعة �أوك�سفورد‪ ،‬حيث انتخب طالبًا مدى احلياة‪،‬‬
‫لك ّن هذا اللقب �سحب منه يف عام ‪ 1684‬م‪ .‬ب�أمر من امللك‪ .‬وب�سبب كراهيته لعدم الت�سامح‬
‫البيورتياين عند الالهوتيني يف هذه الكلية‪ ،‬مل ينخرط يف �سلك رجال الدين‪ .‬وبدالً من ذلك‪،‬‬
‫�أخذ بدرا�سة الطب ومار�س التجريب العلمي‪ ،‬حتى عرف با�سم (دكتور لوك)‪.‬‬
‫در�س جون لوك يف كراي�ست ت�شري�ش يف �أك�سفورد‪ ،‬و�أ�صبح طبيبًا وم�ست�شا ًرا للإيرل �أوف‬
‫�شافت�سربي‪.‬‬
‫ّ‬
‫حتول �إىل الفل�سفة‪ ،‬ف�أنتج ‪ -‬طوال فرتة غري ق�صرية ‪ -‬م�ؤل ًفا قيِّ ًما يف مو�ضوع امل�شكالت‬ ‫ثم ّ‬
‫التي ي�ستطيع الفهم الب�رشي التعاطي بها ‪.‬‬
‫وقد تولىّ لوك عد ًدا من املنا�صب احلكومية‪ ،‬ولكنه فقد حظوته ملّا ُنفي �إىل �شافت�سربي عام‬ ‫‪134‬‬
‫رحب بعودته وعيّنه م�ست�شارا ً للحكومة يف‬ ‫‪ 1683‬م‪ .‬ولك ّن امللك وليام الثالث من �إنكلرتا ّ‬
‫ميدان �س ّك النقد‪.‬‬
‫خا�صا لأ�رسة �أنتوين �آ�شلي كوبر‪.‬‬
‫ً‬ ‫يف عام ‪ 1667‬م‪� .‬أ�صبح طبيبًا‬
‫ريا يف نظرياته ال�سيا�سية الليربالية‪ .‬وكان اللورد‬ ‫لعبت عالقة لوك باللورد �آ�شلي دو ًرا كب ً‬
‫�آ�شلي يتمتع بنفوذ كبري يف �إجنلرتا‪� ،‬إذ كان ميثل امل�صالح ال�سيا�سية لر�ؤو�س الأموال‬
‫التجارية يف لندن‪.‬‬
‫خا�صا بالت�سامح‪ ،‬راجع فيه‬ ‫ً‬ ‫وبت�أثري من اللورد �آ�شلي كتب لوك يف عام ‪ 1667‬م‪ .‬مقاالً‬
‫�أفكاره القدمية اخلا�صة ب�إمكانية تنظيم الدولة لكل �ش�ؤون الكني�سة‪.‬‬
‫• كتاب دون كيخوته‪:‬‬
‫هو رواية للأديب الإ�سباين ميغيل دي �سريبانت�س �سابيدرا‪ ،‬ن�رشها على جزئني بني �أعوام‬
‫‪ 1605‬و‪ 1615‬م‪.‬‬
‫وهي تع ّد واحد ًة من بني �أف�ضل الأعمال الروائية املكتوبة قبل �أي وقت م�ضى‪ ،‬واعتربها‬
‫الكثري من النقاد مبثابة �أول رواية �أوروبية حديثة‪ ،‬وواحد ًة من �أعظم الأعمال يف الأدب‬
‫العاملي‪ ،‬والتي متت ترجمتها �إىل العديد من اللغات الأجنبية‪.‬‬
‫يحمل اجلزء الأول ا�سم العبقري النبيل دون كيخوتي دي ال مانت�شا‪ ،‬وظهر عام ‪ 1605‬م‪،.‬‬
‫بينما ظهر اجلزء الثاين عام ‪ 1615‬م‪ .‬حتت عنوان "العبقري الفار�س دون كيخوتي دي ال‬
‫مانت�شا"‪.‬‬
‫وقد ُحب�س �سريبانت�س يف ال�سجن امللكي يف �إ�شبيلية بني �شهري �سبتمرب ودي�سمرب من عام‬
‫‪ 1597‬م‪ ،.‬بعد �إفال�س البنك الذي كان ي�ضع فيه الودائع املالية‪.‬‬
‫خمتل�سا للمال العام بعد ثبوت وجود خمالفات يف ح�ساباته‪ ،‬ففي‬ ‫ً‬ ‫رغم �أن �سريبانت�س كان‬
‫ال�سجن‪ُ ،‬ولدت رواية دون كيخوتي دي ال مانت�شا‪ ،‬كما �أ�شار يف مقدمة العمل‪.‬‬
‫متت كتابتها وهو �سجني‪ ،‬وهل ا�ستلهمته‬ ‫ولكن يف الوقت ذاته‪ ،‬مل يتّ�ضح مق�صده من كونها ّ‬
‫الفكرة هناك فح�سب؟‬
‫تع ّد رواية دون كيخوتي �أول عمل يزيل الغمو�ض حول تقاليد الفرو�سية‪ ،‬ملعاجلتها ال�صورية‬
‫للأمر‪.‬‬
‫برهنت الرواية على بداية الواقعية الأدبية كجزء من اجلماليات الن�صية وبداية انطالق النوع‬
‫ريا يف‬
‫ريا كب ً‬
‫الأدبي للرواية احلديثة امل�سمى بالرواية املتعددة الأحلان‪ ،‬والتي �ستحدث ت�أث ً‬
‫وقت الحق على الأعمال الروائية الأوروبية‪ ،‬من خالل تناول ما مت ت�سميته بالكتابة غري‬
‫امل�رشوطة‪ ،‬والتي مت ّكن الفنان من �إظهار كل ما هو ملحمي وغنائي وتراجيدي وكوميدي‬
‫يف حماكاة �ساخرة حقيقية جلميع الأنواع الأدبية‪ .‬وو�ضعت الرواية بجزئيها‪ ،‬الكاتب ميغيل‬
‫دي �سريبانت�س‪ ،‬على خارطة تاريخ الأدب العاملي جنبا ً �إىل جنب مع كل من دانتي �أليغيريي‬
‫مت اعتبارها من منظار الأدب الغربي كرائعة‬ ‫وويليام �شك�سبري ومي�شيل دي مونتني‪ ،‬و ّ‬
‫هارولد بلوم يف املجتمع الغربي‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫مت �إجناز قائمة ب�أف�ضل‬ ‫ويف عام ‪ 2002‬م‪ ،.‬وبنا ًء على طلب هيئة الكتب الرنويجية‪ ،‬فقد ّ‬
‫الأعمال الأدبية على مر الع�صور بت�صويت مئة كاتب من الكتّاب العمالقة من �أربع وخم�سني‬
‫دول ًة خمتلفة‪.‬‬
‫وظهرت الأعمال مرتب ًة ترتيبًا �أبجد ًيا دون غلبة لعمل على �آخر‪ ،‬ولكن با�ستثناء وحيد كان‬
‫متت كتابته‬ ‫ل�صالح رواية دون كيخوتي‪ ،‬التي ت�صدرت القائمة باعتبارها �أف�ضل عمل �أدبي ّ‬
‫يف التاريخ يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫وتع ّد الرواية واحد ًة من �أكرث الكتب التي مت ن�رشها وترجمتها على مر التاريخ‪.‬‬
‫تدور �أحداث الرواية حول �شخ�صية �ألون�سو كيخانو‪ ،‬رجل نبيل قارب اخلم�سني من العمر‬
‫يقيم يف قرية يف �إقليم المانت�شا‪ ،‬وكان مول ًعا بقراءة كتب الفرو�سية وال�شهامة ب�شكل كبري‪.‬‬
‫وكان بدوره ي�ص ّدق كل كلمة من هذه الكتب‪ ،‬على الرغم من �أحداثها غري الواقعية على‬
‫الإطالق‪.‬‬
‫فقد �ألون�سو عقله من قلة النوم والطعام وكرثة القراءة‪ ،‬فق ّرر �أن يرتك منزله وعاداته وتقاليده‬
‫وي�ش ّد الرحال كفار�س �شهم يبحث عن مغامرة تنتظره‪ ،‬ب�سبب ت�أثره بقراءة كتب الفر�سان‬
‫اجل ّوالني‪ ،‬و�أخذ يتجول عرب البالد حاملاً در ًعا قدمي ًة ومرتد ًيا خوذ ًة بالي ًة‪ ،‬مع ح�صانه‬
‫ال�ضعيف "رو�سينانتي" حتى �أ�صبح يحمل لقب دون كيخوتي دي ال مانت�شا‪ ،‬و ُو�صف ب‬
‫"فار�س الظل احلزين"‪.‬‬
‫ومب�ساعدة خياله الفيّا�ض‪ ،‬كان يح ّول كل العامل احلقيقي املحيط به‪ ،‬فهو يغيرّ طريقته يف‬
‫احلديث ويتبنى عبارات قدمية مبا كان يتنا�سب مع ع�رص الفر�سان‪ .‬فيما لعبت الأ�شخا�ص‬
‫والأماكن املعروفة دو ًرا هي الأخرى بظهورها �أمام عينيه ميدا ًنا خياليًا يحتاج �إليه للقيام‬
‫مبغامراته‪ .‬و�أقنع جاره الب�سيط �سان�شو بانثا‪ ،‬مبرافقته ليكون حاملاً للدرع وم�ساع ًدا‬
‫له‪ ،‬مقابل تعيينه حاك ًما على جزيرة‪ ،‬وبدوره ي�ص ّدقه �سان�شو ل�سذاجته‪ .‬كما يح ّول دون‬
‫كيخوتي مبغامراته الفتاة القروية جارته �إىل دولثينيا‪ ،‬ال�سيدة النبيلة‪ ،‬لتكون مو�ضع �إعجابه‬
‫وحبّه عن بعد‪ ،‬دون علمها‪.‬‬
‫وباخلال�صة‪� ،‬س ّهل ع�رصا النه�ضة و�إعادة الت�شكيل‪ ،‬نظرة العامل للقرون الو�سطى‪ .‬فهذه‬
‫الثورة العلمية ر ّكزت على امل�ستقبل‪ ،‬من خالل التفكري يف الكون الفيزيائي‪.‬‬
‫ففي العامل الفيزيائي مثالً‪ ،‬بات من املمكن �أن يعرفه‪ ،‬و�أن يت� ّ‬
‫رصف به‪� ،‬أو ي�ش ّكله النا�س‪.‬‬
‫ومن ناحية تغيري النظرة �إىل الكون‪ ،‬منذ �أكرث من �ألف �سنة قبل ع�رص النه�ضة‪ ،‬اعتقد النا�س‬
‫ب�أنّ الأر�ض هي مركز الكون‪ .‬مل يكن هذا االعتقاد فقط فكر ًيا‪ ،‬بل الكني�سة قبلت به � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫�إىل عامي ‪ 1500‬و ‪ 1600‬م‪� ،.‬أ�صبح النا�س ي�ش ّكون بهذا االعتقاد‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1543‬م‪ ،.‬ن�رش الباحث البولندي نيكوال�س كوبرنيكو�س كتاب "ثورات الأفالك‬
‫منوذجا من الكون مرتك ًزا على ال�شم�س‪.‬‬
‫ً‬ ‫ال�سماوية"‪ .‬وفيه‪ ،‬اقرتح‬
‫ال�شم�س‪ ،‬قال‪" ،‬تقع يف مركز الكون"‪.‬‬
‫أي�ضا �إنّ الأر�ض هي واحدة من العديد من الكواكب التي تدور حول ال�شم�س‪.‬‬ ‫وقال � ً‬
‫على الرغم من ح�صول اخلالفات يف الكني�سة‪ ،‬فمقاربة جديدة عن العلم ظهرت يف �أوائل عام‬
‫‪ 1600‬م‪ ،.‬مرتكز ًة على املالحظة والتجريب‪.‬‬ ‫‪136‬‬
‫خالل ع�رص النه�ضة‪� ،‬أعيد اكت�شاف �أعمال الفيل�سوف اليوناين القدمي "�أفالطون"‪.‬‬
‫علّم �أفالطون �أنّ االن�سان ينبغي �أن ينظر اىل ما بعد املظاهر الب�سيطة لكي يعرف حقائق‬
‫الطبيعة‪ ،‬وظ ّن ب�أن الريا�ضيات هي واحدة من �أعظم الإجنازات الب�رشية‪ ،‬واملفتاح لتعلّم هذه‬
‫احلقائق‪.‬‬
‫�أعيد اكت�شاف تعاليمه من قبل علماء ع�رص النه�ضة‪ ،‬ف�ساعدت تعاليمه يف �إعادة ت�شكيل نظرة‬
‫النا�س �إىل العامل املادي‪.‬‬
‫من جهة �أخرى‪ ،‬فبني عامي ‪ 1500‬و‪ 1600‬م‪ ،.‬حدثت تغيريات دراماتيكية يف العديد من‬
‫الفروع العلمية‪ ،‬خا�ص ًة يف الطب والكيمياء‪.‬‬
‫ظلّت هذه التغيريات م�ستمر ًة حتى وقتنا احلا�رض‪.‬‬
‫وعلى �صعيد ا�ستك�شاف اجل�سم الب�رشي‪ ،‬اعتمد فيزيائيو القرون الو�سطى على �أعمال‬
‫"جالينو�س"‪.‬‬
‫لك ّن هذا الأخري �أخط�أ ب�أن جعل املعرفة حمدود ًة يف علم الت�رشيح الب�رشي‪.‬‬
‫وخالل ع�رص النه�ضة‪ ،‬بذل الفيزيائيون جهو ًدا لدرا�سة علم الت�رشيح الب�رشي‪.‬‬
‫ث ّم فتح ه�ؤالء الفيزيائيون الر ّواد طر ًقا ملزيد من االكت�شافات‪.‬‬
‫كما ظ ّن الكيميائيون �أنّ � ّأي مادة ميكنها �أن تتح ّول �إىل مادة �أخرى‪ ،‬والعديد منهم حاول‬
‫حتويل املعادن �إىل ذهب‪ ،‬ولكنّهم ف�شلوا‪.‬‬
‫يف �سنة ‪ 1600‬م‪ ،.‬ط ّور الكيميائي روبرت بويل وجهة نظر الكيميائيني باملواد الكيميائية‪،‬‬
‫فف�سرّ ك ّل مادة م�ؤلّفة من جزئيات �صغرية‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫الف�صل احلادي والع�رشون‬
‫احل�ضارات‬

‫اكت�شاف القارة اجلديدة‬


‫البحار وطريق الإ�ستعمار‬
‫على م ّر التاريخ‪ ،‬اكت�شفت جمموعات من النا�س‪ ،‬من اليونانيني القدماء وحتى العرب‬
‫وامل�سلمني طرق الإبحار‪ ،‬والتجارة‪ ،‬والهجرة مل�سافات طويلة‪.‬‬
‫بد�أ البحارة الأوروبيون يف عام ‪ 1400‬م‪ .‬مرحل ًة جديد ًة ومثري ًة لأجل اال�ستك�شاف‪.‬‬
‫تاجر الأوروبيون مع الآ�سيويني قبل فرتة طويلة من ع�رص النه�ضة‪.‬‬
‫معظم املواد القيّمة يف التجارة كانت التوابل‪ ،‬والتي ت�ستعمل حلفظ الطعام‪ ،‬كما �أ ّنها ت�ضيف‬
‫نكه ّة للّحوم‪ ،‬وميكن ا�ستخدامها ك�أدوية وعطور‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1400‬م‪� ،.‬سيطر التجار العرب والإيطاليون على معظم التجارة بني �آ�سيا و�أوروبا‪.‬‬
‫جلب التجار امل�سلمون الب�ضائع الثمينة �إىل موانئ �رشق البحر الأبي�ض املتو�سط‪ ،‬ونقلها‬
‫التجار الإيطاليون �إىل الأ�سواق الأوروبية‪.‬‬
‫قاد الأمري هرني الطريق �إىل ا�ستك�شاف الربتغال‪ ،‬وهي دولة �صغرية بجانب �إ�سبانيا‪.‬‬
‫�أ ّوالً‪ ،‬اكت�شف امللاّ حون جزر جنوب غرب الربتغال‪.‬‬
‫و�سنة ‪ 1415‬م‪� ،.‬إمت ّدت الربتغال حتى �شمال �أفريقيا امل�سلمة‪ ،‬وا�ستولت على ميناء �سوتا‬
‫على �شاطئ �شمال �أفريقيا‪.‬‬
‫وقد �أ ّدت النجاحات الربتغالية �إىل النظر �إىل طريق بحرية للو�صول �إىل �آ�سيا‪� .‬أراد ملاّ ح‬
‫�إيطايل �إ�سمه كري�ستوف كولومب�س الو�صول �إىل جزر الهند ال�رشقية‪ ،‬من خالل الإبحار عرب‬
‫الأطل�سي‪.‬‬
‫وكمعظم املث ّقفني الأوروبيني‪ ،‬عرف كولومب�س �أنّ الأر�ض كرو ّية ال�شكل‪ .‬بعد ب�ضعة �أ�سابيع‬
‫من الإبحار غر ًبا‪ ،‬ف ّكر ب�أنّ من �ش�أن ذلك جلب �سفينته �إىل �رشق �آ�سيا‪.‬‬
‫"احل�ضارة تعني ُح�سن التعامل مع الطبيعة واالن�سان"‬ ‫‪138‬‬

‫كانت فكرته منطقي ًة‪ ،‬لكنّه قلّل �إىل ح ّد كبري من حجم الأر�ض‪ ،‬ومل يكن يعرف �أنّ هناك‬
‫قارتني موجودتني يف طريقه‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ا ّدعاء الأوروبيني وجود مناطق جديدة �ضخمة‪ ،‬مل يجدوا حتى ذلك احلني‬
‫رشا لآ�سيا‪ .‬ا�ستك�شف الإجنليز‪ ،‬الهولنديون‪ ،‬والفرن�سيون �سواحل �أمريكا‬ ‫طري ًقا مبا� ً‬
‫ال�شمالية‪ ،‬ولكن من دون جدوى‪ ،‬لكي يجدوا "املمر ال�شمايل الغربي"‪� ،‬أو طريقا ً من املحيط‬
‫الأطل�سي �إىل املحيط الهادئ من خالل جزر القطب ال�شمايل‪.‬‬
‫ونتيج ًة لال�ستعمار‪ ،‬وقعت مواجهات بني �أوروبا و�أفريقيا منذ مئات ال�سنني‪.‬‬
‫�إذ و�صل امل�ستك�شفون الأوروبيون لأفريقيا يف �سنة ‪ 1400‬م‪ ،.‬و�أحدثوا تغيريات كبري ًة‬
‫وغري متوقعة لل�شعوب والثقافات الأفريقية‪.‬‬
‫ومن غرب �أفريقيا‪� ،‬أبحر الربتغاليون يف جميع �أنحاء القارة‪.‬‬
‫ا�ستمروا يف �إقامة احل�صون واملراكز التجارية‪ ،‬ولكنّهم هاجموا � ً‬
‫أي�ضا املدن يف �رشق �أفريقيا‬
‫من مثل‪ :‬مومبا�سا وماليندي‪ ،‬اللتني كانتا معقلني للتجارة الدولية‪.‬‬
‫أي�ضا كان العبودية والإ�سرتقاق بني الأعوام ‪1500‬‬ ‫ومن النتائج اللإن�سانية لال�ستعمار � ً‬
‫و‪ 1600‬م‪ ،.‬عندما بد�أ الأوروبيون بر�ؤية العبيد ك�أغلى عن�رص موجود يف التجارة الأفريقية‪.‬‬
‫وحدثت العبودية يف �أفريقيا‪ ،‬كما يف � ّأي مكان �آخر يف العامل‪ ،‬منذ الع�صور القدمية‪.‬‬
‫وقبالً‪ ،‬ا�ستعبد امل�رصيون‪ ،‬الرومان‪ ،‬اليونانيون‪ ،‬الفر�س‪ ،‬والهنود �أعداءهم الذين هزموا يف‬
‫الكثري من الأحيان‪.‬‬
‫وبدورها‪� ،‬أ ّدت �أ ّدت جتارة الرقيق‪ ،‬على �سبيل املثال‪� ،‬إىل �آثار كبرية يف الدول الأفريقية‪،‬‬
‫أي�ضا �أوجدت �أعداء ال حت�صى من الرجال �إىل الأبد‪.‬‬ ‫ف�أ�ضاعت �أعدا ًدا من الن�ساء ال�شابات و� ً‬
‫ويف الوقت نف�سه‪ ،‬ن�ش�أت دول جديدة اعتمدت على جتارة الرقيق‪� .‬أحدث ح ّكام هذه الدول‬
‫اجلديدة حرو ًبا �ضد الأفارقة لل�سيطرة على جتارة الرقيق‪.‬‬
‫وكان امل�ستعمرون عديدين‪:‬‬
‫فقد كانت الربتغال �أول دولة �أوروبية تك�سب موطئ قدم يف �آ�سيا‪ .‬كانت ال�سفن الربتغالية‬
‫�صغرية احلجم والعدد‪ ،‬ولكن قوة النريان يف مدافعها كانت ال ت�ضاهى‪.‬‬
‫ومع الوقت‪� ،‬ساعدت هذه القوة الع�سكرية على الفوز بال�سيطرة على جتارة التوابل يف‬
‫املحيط الهندي‪ ،‬ويف بناء �إمرباطورية جتارية يف �آ�سيا‪.‬‬
‫فبعد رحلة فا�سكو دي غاما الربتغايل‪ ،‬اقتحم املحيط الهندي‪.‬‬
‫وبحلول ذلك الوقت‪� ،‬أن�ش�أ امل�سلمون �إمرياطوريتهم يف �أجزاء وا�سعة من الأر�ض‪.‬‬
‫لكن مع ذلك‪ ،‬ظلت املناطق اجلنوبية من الهند ي�سيطر عليها خليط من الأمراء املحليني‪.‬‬
‫يف حني متركزت قواعد هولندية وبرتغالية على هام�ش �آ�سيا‪ ،‬حكمت �إ�سبانيا الفيليبني‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1521‬م‪ ،.‬ادعى ماجالن �أنّ �أرخبيل الفيليبني هو لإ�سبانيا‪ .‬ويف غ�ضون اخلم�سني‬
‫‪139‬‬ ‫عا ًما القادمة‪ ،‬كانت �إ�سبانيا قد غزت وا�ستعمرت اجلزر‪ ،‬و�أعادت ت�سميتها للملك الإ�سباين‬
‫فيليب الثاين‪.‬‬
‫تتابع تدفق امل�ستوطنني الإ�سبان واملب�رشين والغزاة من �إمرباطورية �إ�سبانيا اجلديدة‪.‬‬
‫� ّأ�س�سوا امل�ستعمرات �أينما ذهبوا‪ ،‬وا ّدعوا ملكية الأر�ض و�شعبها مللكهم ومللك الكني�سة‪.‬‬
‫وحيثما كان هناك مقاومة‪ ،‬فر�ض القادمون اجلدد �إرادتهم بالقوة‪.‬‬
‫ومع مرور الوقت‪ ،‬ظهرت ثقافة جديدة تعاك�س الثقافة الأوروبية‪ ،‬وت�ؤيد الأمريكية الأ�صلية‪،‬‬
‫والتقاليد الأفريقية‪.‬‬
‫بحلول منت�صف عام ‪ 1500‬م‪� ،.‬صارت �إ�سبانيا امرباطوري ًة �شا�سع ًة متتد من كاليفورنيا يف‬
‫�أمريكا ال�شمالية حتى �أمريكا اجلنوبية‪.‬‬
‫ق�سمت هذه الأرا�ضي �إىل �أربع حمافظات‪ ،‬مبا فيها �إ�سبانيا اجلديدة‬ ‫ويف الوقت املنا�سب‪ّ ،‬‬
‫(املك�سيك)‪ ،‬والبريو‪.‬‬
‫يف �أمريكا الإ�سبانية‪ ،‬بات هناك خليط من خمتلف ال�شعوب‪� ،‬أدى �إىل هيكل اجتماعي جديد‪.‬‬
‫وقد �أدى املزج بني الأمريكيتني والأفريقيتني وال�شعوب والتقاليد الأوروبية‪� ،‬إىل ثقافة متميزة‬
‫يف الأمريكيتني‪.‬‬
‫وظلت الغالبية العظمى من م�ساحة �أمريكا اجلنوبية خارج الإمرباطورية الإ�سبانية‪.‬‬
‫ومبوجب معاهدة تورد�سيال�س يف عام ‪ 1494‬م‪ ،.‬ا ّدعت الربتغال امتداد �إمرباطوريتها يف‬
‫الربازيل ال�رشقية‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1600‬م‪ ،.‬ان�ض ّمت هولندا‪ ،‬فرن�سا‪� ،‬إجنلرتا‪ ،‬وال�سويد لإ�سبانيا‪ ،‬يف ت�سوية ال�سيطرة‬
‫على �أمريكا ال�شمالية‪.‬‬
‫مل ي�سفر اال�ستحواز على �أمريكا ال�شمالية عن الكنز الهائل املتوقع‪ ،‬ومل ي�ؤ ّمن املم ّر املائي �إىل‬
‫�آ�سيا‪ ،‬كما كانوا ي�أملون‪.‬‬
‫وبحلول �سنة ‪ 1700‬م‪� ،.‬سيطرت فرن�سا و�إجنلرتا على �أجزاء كبرية من �أمريكا ال�شمالية‪.‬‬
‫يف وقت مبكر من عام ‪ 1500‬م‪ ،.‬عربت �سفن �صيد فرن�سية املحيط الأطل�سي لل�صيد الوفري‬
‫من ال�سمك قبالة نيوفاوندالند يف كندا‪.‬‬
‫ويف غ�ضون �سنة‪ ،‬كان الفرن�سيون قد احتلّوا ن�صف �أمريكا ال�شمالية‪.‬‬
‫�أما يف عام ‪ 1497‬م‪ ،.‬فوجد امللاّ ح املعروف با�سم جون كابوت‪ ،‬مناطق لل�صيد غني ًة قبالة‬
‫نيوفاوندالند‪.‬‬
‫ويف وقت الحق‪ ،‬وا�صل املالحون الإجنليز البحث عن ممر ال�شمال الغربي �إىل �آ�سيا‪ ،‬لكن من‬
‫دون جدوى‪.‬‬
‫الف�صل الثاين والع�رشون‬ ‫‪140‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫"�إن ح�ضارة الإن�سان و تاريخه و م�ستقبله ‪..‬ره ُن كلمة �صدق "‬

‫من مظاهر الثورة ال�صناعية‬

‫بريطانيا �أ ّم الدولة احلديثة‬

‫يف عام ‪ 1600‬م‪ ،.‬يف حني كان احلكم املطلق ب�سلطة لوي�س الرابع ع�رش‪ ،‬اتخذت ال�سلطة ال�سيا�سية‬
‫يف �إجنلرتا م�سا ًرا خمتل ًفا‪ .‬فعلى الرغم من املحاوالت الإجنليزية لتقوية ال�سلطة احلاكمة‪ ،‬فقد‬
‫و�سع الربملان نفوذه لوحده‪.‬‬
‫ّ‬
‫توفيت �إليزابيت بال �أوالد يف عام ‪ 1603‬م‪.‬‬
‫كان لها وريث (من ن�سبها) وهو جيم�س �ستيوارت‪ ،‬امللك احلاكم من ا�سكتلندا‪.‬‬
‫كانت عائلة �ستيوارت ال �شعبية لها مثل عائلة تادر�س‪ ،‬وال مهارة لها بالتعامل مع الربملان‪.‬‬
‫أي�ضا امل�شاكل التي قمعها هرني و�إليزابيت طويالً‪.‬‬
‫ورثوا � ً‬
‫كانت نتيجة ك ّل ذلك "قرن الثورة"‪ ،‬التي ح ّر�ض عليها ملوك �ستيوارت �ضد الربملان‪.‬‬
‫ا�ستمرت احلرب الأهلية منذ عام ‪ 1642‬م‪ .‬حتى عام ‪ 1651‬م‪ .‬ومثل �سعفة النخل التي وقعت‬
‫ريا يف وجه احلكم‬ ‫يف فرن�سا يف نف�س الوقت تقريباً‪ ،‬واجهت احلرب الأهلية الإجنليزية حتد ًيا كب ً‬
‫املطلق‪ .‬ولكن‪ ،‬يف حني فوز قوى ال�سلطة احلاكمة يف فرن�سا‪ ،‬انت�رصت قوى الثورة يف �إنكلرتا‪.‬ويف‬
‫القرن الذي تال الثورة املجيدة‪ ،‬ظهرت ثالث م�ؤ�س�سات �سيا�سية جديدة يف بريطانيا‪ :‬الأحزاب‬
‫ال�سيا�سية‪ ،‬جمل�س الوزراء‪ ،‬ومكتب رئي�س الوزراء‪ .‬وكان ظهور هذه امل�ؤ�س�سات جز ًءا من تطور‬
‫احلكومة الد�ستورية يف بريطانيا‪ ،‬التي ّ‬
‫مت تعريفها واحل ّد من �سلطتها‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫الف�صل الثالث والع�رشون‬
‫احل�ضارات‬ ‫"مفهوم احل�ضارة ينه�ض باجلهد الذي يقدم خلدمة االن�سان "‬

‫ع�رص العقل‬

‫يف وقت مبكر من عام ‪ 1700‬م‪ ،.‬ر�أى املفكرون الأوروبيون �أنّ كل �شيء كان يف متناول العقل‬
‫رص ه�ؤالء املفكرون والنا�س واحلكومات �أنّ ب�إمكانهم‬ ‫الب�رشي‪ .‬فمن خالل ا�ستخدام العقل‪� ،‬أ� ّ‬
‫ح ّل ك ّل م�شكلة �إجتماعية و�سيا�سية واقت�صادية‪.‬‬
‫فالثورة العلمية يف الأعوام ‪ 1500‬و‪ 1600‬م‪ ،.‬غيرّ ت نظرة الأوروبيني �إىل العامل‪.‬‬
‫و�سع علماء �آخرون املعرفة الأوروبية‪:‬‬ ‫ويف عام ‪ 1700‬م‪ّ ،‬‬
‫لقاحا �ضد اجلدري‪ ،‬وهو مر�ض مميت امت ّد لعدة قرون‪.‬‬ ‫على �سبيل املثال‪ ،‬و�ضع �إدوارد جيرن ً‬
‫من هو فولتري؟‬
‫كان فولتري مدافعا ً�رصيحا ًعن الإ�صالح االجتماعي‪ ،‬على الرغم من وجود قوانني الرقابة ال�صارمة‬
‫ممن‬
‫والعقوبات القا�سية التي كان يتم تطبيقها على كل من يقوم بخرق هذه القوانني‪ .‬وباعتباره ّ‬
‫برعوا يف فن املجادلة واملناظرة الهجائية‪ ،‬فقد كان دائ ًما ما يح�سن ا�ستغالل �أعماله النتقاد دوغما‬
‫(عقيدة) الكني�سة الكاثوليكية وامل�ؤ�س�سات االجتماعية الفرن�سية املوجودة يف ع�رصه‪ .‬من جهتهم‪،‬‬
‫ر ّكز املف ّكرون الفرن�سيون على الإ�صالحات االقت�صادية‪ .‬ومثل الفال�سفة‪ ،‬ا�ستند تفكريهم على‬
‫القوانني الطبيعية‪.‬‬
‫و� ً‬
‫أي�ضا ادّعوا �أنّ النظام االقت�صادي العقالين كان يقوم على القوانني الطبيعية لالقت�صاد‪.‬‬
‫الف�صل الرابع والع�رشون‬ ‫‪142‬‬
‫احل�ضارات‬

‫قادة الواليات املتحدة االوائل‬

‫ن�ش�أة اجلمهور ّية الأمريكية‬


‫ع�شيّة الثورة الأمريكية‪ ،‬كانت بريطانيا العد ّو اللدود الذي امت ّد يف جميع �أنحاء العامل‪.‬‬
‫بالإ�ضافة اىل ذلك‪� ،‬سعى حاكم جديد طموح لتو�سيع �صالحيات احلكم امللكي‪.‬‬
‫ففي البداية‪ ،‬بدا ال�سبب واحلافز الأمريكي �ض ّد امل�ستعمرين الإنكليز قائ ًما‪.‬‬
‫كان لدى الربيطانيني عدد كبري من اجلنود املد ّربني‪ ،‬و�أ�سطول �ضخم‪ ،‬والعديد من املوارد‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬كان حواىل ثلث امل�ستوطنني الأمريكيني موالني‪� ،‬أو هم دعموا بريطانيا‪ ،‬كما رف�ض‬
‫ق�سم �آخر القتال مع �أي من اجلانبني‪.‬‬
‫وكانت املواد الكونفدرالية من �أ ّول موا ّد د�ستور للبالد‪.‬‬
‫ثبتت �أنها �ضعيفة ج ًدا حلكم الواليات املتحدة اجلديدة على نحو ف ّعال‪.‬‬
‫ملعاجلة امل�شكلة‪ ،‬اجتمع قادة الأ ّمة الأمريكية مر ًة �أخرى يف فيالدلفيا‪ ،‬وكان من بينهم‪:‬‬
‫جورج وا�شنطن‪ ،‬جيم�س مادي�سون‪ ،‬وبنجامني فرانكلني‪.‬‬

‫• من هو جورج وا�شنطن؟‬
‫جورج وا�شنطن (‪ 22‬فرباير ‪ 1732‬م‪ 14 - .‬دي�سمرب ‪1799‬‬
‫م‪ ،).‬هو �أول رئي�س للواليات املتحدة (‪ 1797-1789‬م‪،).‬‬
‫والقائد العام للقوات امل�سلحة للجي�ش القا ّري �أثناء احلرب‬
‫الأمريكية الثورية‪ ،‬و�أحد الآباء امل�ؤ�س�سني للواليات املتحدة‪.‬‬
‫كان خ�ص ًما لالنف�صاليني‪ ،‬وقاد التمرد الذي انتهى ب�إعالن‬
‫ا�ستقالل الواليات املتحدة عن بريطانيا يف ‪ 4‬يوليو ‪ 1776‬م‪،.‬‬
‫‪143‬‬ ‫"احل�ضارة لي�ست كومة ‪ ،‬ولكن بناء و هند�سة معمارية"‬

‫كما �أنه تر�أ�س االتفاقية التي �صاغت الد�ستور‪ ،‬الذي حل حمل مواد االحتاد الكونفدرايل‪ ،‬و�أن�ش�أ‬
‫من�صب الرئي�س‪.‬‬
‫رئي�سا بالإجماع يف عام ‪ 1788‬م‪ ،.‬وقد خدم‬ ‫ً‬ ‫انتخب املجمع االنتخابي جورج وا�شنطن‬
‫واليتني رئا�سيّتني‪ ،‬كما �أنه �أ�رشف على �إن�شاء حكومة وطنية قوية مم ّولة جي ًدا‪ ،‬و قد حافظت‬
‫حكومته على احلياد يف احلروب امل�ستعرة يف �أوروبا‪ ،‬وقمعت التمرد‪.‬‬
‫كما �أنه فاز بقبول جميع فئات الأمريكيني‪.‬‬
‫�أن�ش�أ جورج وا�شطن �أثناء قيادته العديد من �سوابق الأعراف والتقاليد احلكومية التي ال تزال‬
‫ت�ستخدم منذ ذلك احلني وحتى الآن‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫نظام جمل�س الوزراء‪ ،‬ويوم الق�سم الرئا�سي‪ ،‬ولقب ال�سيد الرئي�س‪.‬‬
‫وعالو ًة على ذلك‪� ،‬أن�ش�أ االنتقال ال�سلمي من رئا�سته لرئا�سة جون �آدامز وتقاعده بعد فرتتني‬
‫رئا�سيتني‪ ،‬وهو العرف الذي ا�ستمر حتى عام ‪ 1940‬م‪ ،.‬عندما انتخب فرانكلني روزفلت‬
‫لثالث فرتات رئا�سية‪ ،‬حتى عاد هذا التقليد عام ‪ 1951‬م‪ .‬د�ستو ّريا ً يف التعديل (‪ )22‬للد�ستور‬
‫الذي يحدد فرتات الرئا�سة مبدتني‪.‬‬
‫ارتبطت �أمريكا بجورج وا�شنطن‪ ،‬باعتباره "�أب بالده" حتى خالل حياته‪.‬‬
‫ولد يف والية فريجينيا لأ�رسة متتهن الزراعة كغالبية ال�شعب الأمريكي يف تلك احلقبة‪ .‬وبعد‬
‫انتهائه من تعليمه‪ ،‬التحق عام ‪ 1760‬م‪ .‬باجلي�ش الإجنليزي ‪ -‬الذي كان الأقوى �آنذاك يف‬
‫�أمريكا ‪ -‬وكان ي�أمل �أن يتم ن�سيان �أنه من �أبناء �أمريكا‪ ،‬كي ال يتعر�ض يف حياته الع�سكرية‬
‫لأي م�ضايقات لأنه �أمريكي‪ .‬وعندما بلغ الع�رشين من عمره اندلعت احلرب بني الإجنليز‬
‫والفرن�سيني‪ ،‬يوم مل تكن �إجنلرتا يف �أح�سن حاالتها‪ ،‬على عك�س الفرن�سيني الذين �أنهوا‬
‫م�شاكلهم يف كندا‪ ،‬وحتالفوا مع الهنود احلمر‪ .‬وقعت املعركة يف غرب �أمريكا‪ ،‬فهزم الإجنليز‪،‬‬
‫وقتل قائدهم وبالتايل توىل جورج وا�شنطن قيادة تلك املنطقة‪ ،‬وقد ان�رصف الفرن�سيون‬
‫منت�رصين تاركينه مع جي�ش �ضعيف‪ ،‬وتوجهوا �إىل ال�رشق ملواجهة الإجنليز يف �أماكن �أخرى‪،‬‬
‫وكانت الهزمية للإجنليز يف معظم املعارك حتى انح�رسوا حول نهر امل�سي�سيبي‪.‬‬
‫وم ّر ما يقرب من ثالث �سنوات‪ ،‬قام خاللها ملك �إجنلرتا بتجهيز جي�ش قوامه (‪� 20‬ألف‬
‫جندي نظامي و‪ 18‬مدفع ح�صار)‪ ،‬ونزل ذلك اجلي�ش وقام قائده باالت�صال بالهنود احلمر‪،‬‬
‫فمنهم من لزم احلياد ومنهم من ان�ضم للإجنليز‪ ،‬وقام الإجنليز مبهاجمة الفرن�سيني‪ ،‬الذين‬
‫مي�ض كثري من الوقت حتى انت�رص‬ ‫ِ‬ ‫جي�شا قوامه ثمانية �آالف جندي‪ ،‬فلم‬ ‫ً‬ ‫كانوا ميلكون‬
‫الإجنليز و�صارت �أمريكا ال�شمالية كلها تابع ًة للتاج الربيطاين‪ ،‬فكرث الظلم على �أبناء �أمريكا‬
‫وخ�صو�صا على ال�سود‪ ،‬وفر�ضت ال�رضائب الباهظة‪.‬‬‫ً‬
‫يف ذلك الوقت كان جورج وا�شنطن القائد الفعلى للأمريكيني‪ ،‬فقاد ثورة التحرير‪ ،‬ثم اختري‬
‫عام ‪ 1775‬م‪ .‬قائ ًدا لهذا اجلي�ش ليخو�ض به حرو ًبا عنيفة انتهت بعد �ست �سنوات‪.‬‬
‫ناجحا ج ًدا يف عمله الذي هو القائد‬
‫ً‬ ‫كما �شارك فيما يعرف باحلرب الفرن�سية الهندية‪ ،‬وكان‬
‫اجلي�ش القا ّر ِي يف احلرب االنف�صالية الأمريكية من ‪ 1775‬م‪� .‬إىل ‪ 1783‬م‪ .‬ومنها‬ ‫ِ‬ ‫الأعلى يف‬ ‫‪144‬‬
‫قيادته حملة نيويورك ونيو جري�سي‪ ،‬والح ًقا �أ�صبح رئي�س الواليات املتحدة الأمريكية‪.‬‬
‫انتخب مرتني يف ‪ 1789‬م‪ .‬ويف ‪ 1797‬م‪.‬‬
‫أول ك�ضابط �أثناء احلرب الفرن�سية الهندية‪ ،‬وثانيًا كزعيم‬ ‫يقول امل�ؤرخون ب�أنه عمل � اً‬
‫املقاومة ال�شعبية اال�ستعمارية التي تدعم الإمرباطورية الربيطانية‪.‬‬
‫بعد قيادة الن�رص الأمريكي يف احلرب الثورية‪ ،‬رف�ض قيادة النظام الع�سكري‪ ،‬وعاد �إىل‬
‫احلياة املدنية يف جبل فرينون‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1787‬م‪ .‬تر�أ�س االتفاقية الد�ستورية التي �صاغت الد�ستور الأمريكي احلايل‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1789‬م‪ ،‬انتخبه الأمريكيون �أول رئي�س للواليات املتحدة الأمريكية‪.‬‬
‫لقد و�ضع وا�شنطن الكثري من ال�سيا�سات والتقاليد التي ال تزال حتى الآن موجود ًة ‪ ،‬ب�سبب‬
‫دورِه املحوري يف ت�أ�سي�س الواليات املتحدة‪.‬‬
‫ي�صنّفه العلماء مع �أبراهام لينكون بني �أعظم الر�ؤ�ساء الأمريكيني‪ .‬اعتمد �سيا�سة التحر�ش‬
‫بربيطانيا وعدم خو�ض مواجهات كبرية ومبا�رشة معها‪ ،‬كما ا�ستعان بفرن�سا لطرد الإجنليز‬
‫من كورنوليز يف مدينة يورك‪.‬‬
‫ا�ستمر يف جهوده الرامية �إىل �إقرار النظام الفدرايل بني الواليات الأمريكية‪ ،‬حتى تكللت يف‬
‫النهاية بعقد م�ؤمتر د�ستوري يف فيالدلفيا عام ‪ 1787‬م‪.‬‬
‫رئي�سا للواليات‬
‫ً‬ ‫وبعد �إقرار الد�ستور يف م�ؤمتر فيالدلفيا‪� ،‬إنتخبته الهيئة االنتخابية بالإجماع‬
‫املتحدة‪ ،‬ليبد�أ حكم دولة مقدّر لها �أن تكون �أكرب قوة يف العامل‪.‬‬
‫�أدى �أول ق�سم د�ستوري يف تاريخ الواليات املتحدة يف �رشفة مبنى جمل�س ال�شيوخ يوم ‪30‬‬
‫�أبريل ‪ 1789‬م‪ .‬ليحكم �أمريكا لفرتتني متتاليتني من ‪ 1789‬م‪� .‬إىل ‪ .1797‬م‪.‬‬

‫• من هو بنجامني فرانكلني؟‬
‫ولد يف ‪ 17‬يناير ‪ 1706‬م‪ .‬يف بو�سطن‪ ،‬و ُتويفِّ يف ‪� 17‬أبريل‬
‫‪ 1790‬م‪.‬‬
‫واحد من �أهم م�ؤ�س�سي ور�ؤ�ساء الواليات املتحدة الأمريكية‬
‫و�أبرزهم‪.‬‬
‫كان م�ؤل ًفا �سيا�سيًا؛ وهو عامل وخمرتع ورجل دولة‬
‫ودبلوما�سي‪.‬‬
‫كان �شخ�صي ًة رئي�سي ًة يف التنوير وتاريخ الفيزياء‪ ،‬حيث كان �صاحب جتارب ونظريات‬
‫واكت�شافات متعلقة بالفيزياء‪.‬‬
‫اخرتع‪ :‬مانع ال�صواعق والنظارة الثنائية والب�ؤرة وع ّداد امل�سافة وموقد فرانكلني‪ ،‬كما �أنه‬
‫هو �أول من ابتكر كلمة ‪( electricity‬كهرباء)‪.‬‬
‫وهو �أول من در�س الكهرباء علميا ً يف حقبة الثورة ال�صناعية‪ ،‬كما �أنه هو من �أثبت �أن الربق‬
‫عبارة عن كهرباء‪.‬‬
‫‪145‬‬ ‫كما �أنه عندما قام بتجربة خطرة‪ ،‬كادت �أن تودي بحياته‪.‬‬
‫و�أي�ضا ً �ساهم العامل ال�شهري بنجامني فرانكلني فى ابتكار فكرة تقدمي ال�ساعة وهى املعروفة‬
‫بالتوقيت ال�صيفى‪ ،‬واتخذت الفكرة حيز اجلدية بعد احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬فكانت الواليات‬
‫املتحدة من �أوائل الدول فى تنفيذها قبل �أملانيا وبريطانيا‪.‬‬

‫• من هو جيم�س مادي�سون؟‬
‫رابع رئي�س للواليات املتحدة بالفرتة من ‪� 1809‬إىل ‪ 1817‬م‪،.‬‬
‫وعرف ب"�أبي الد�ستور"‪.‬‬
‫لعب دورا ً هاما ً يف و�ضع د�ستور الواليات املتحدة عام ‪1787‬‬
‫م‪ .‬بالتعاون مع �ألك�سندر هاميلتون وجون جاي‪ ،‬وكان من‬
‫بني الزعماء الرئي�سيني امل�ؤيدين ملغزى الد�ستور يف ال�صحف‬
‫الفيدرالية يف عام ‪ 1788‬م‪.‬‬
‫قام ب�إن�شاء احلزب اجلمهوري الدميوقراطي يف منت�صف الت�سعينيات من القرن الثامن ع�رش‬
‫امليالدي‪ ،‬بالتعاون الوطيد مع توما�س جفر�سون‪ ،‬و� ّأ�س�س حركة "غرا�س روت�س" (جذور‬
‫الع�شب ‪ )Grass Roots‬ذات الن�شاط ال�سيا�سي‪ ،‬والتي انت�رصت يف انتخابات عام ‪ 1800‬م‪.‬‬
‫والتي ي�شار �إليها بثورة ‪ 1800‬م‪.‬‬
‫وقام مب�ضاعفة م�ساحة الدولة‪ ،‬عندما قام ب�صفقة �رشاء لويزيانا من فرن�سا‪� ،‬أثناء تولّيه‬
‫من�صب �سكرتري دولة‪.‬‬
‫رئي�سا‪� ،‬أعلن احلرب على بريطانيا التي عرفت يف بريطانيا بحرب ‪ 1812‬م‪� .‬أو‬
‫ً‬ ‫وعندما �أ�صبح‬
‫احلرب الأمريكية‪ ،‬والتي انتهت عام ‪ 1815‬م‪ .‬و�سادت بعدها البالد روح قومية‪.‬‬
‫الف�صل اخلام�س والع�رشون‬ ‫‪146‬‬
‫احل�ضارات‬

‫�سقوط �سجن البا�ستيل‬

‫الثورة الفرن�س ّية و�أثارها العامل ّية‬


‫يف ‪� 28‬أبريل ‪ 1789‬م‪ ،.‬حدثت ا�ضطرابات يف م�صنع لورق اجلدران يف باري�س‪.‬‬
‫وقد انت�رشت �شائعة �أنّ �صاحب امل�صنع كان يخطط خلف�ض الأجور‪ ،‬رغم ارتفاع‬
‫�أ�سعار اخلبز‪.‬‬
‫فخ ّرب العمال الغا�ضبون منزله‪ ،‬وبد�أت الأحداث‪.‬‬
‫ففي عام ‪ 1789‬م‪ ،.‬كانت فرن�سا‪ ،‬مثل بقية �أوروبا‪ ،‬ال تزال تعي�ش على نظام اجتماعي‬
‫عفا عليه الزمن منذ ظهوره يف الع�صور الو�سطى‪.‬‬
‫مت ت�صنيف كل �شخ�ص يف فرن�سا يف ثالث طبقات‬ ‫ومبوجب هذا النظام القدمي‪ّ ،‬‬
‫اجتماعية‪.‬‬
‫وقد �أ�ضيفت امل�شاكل االقت�صادية يف فرن�سا �إىل اال�ضطرابات االجتماعية والتوترات‬
‫املتزايدة‪.‬‬
‫ً‬
‫كان العجز يف الإنفاق واحدا من الأ�سباب التي �أدت �إىل امل�شاكل االقت�صادية والأزمة‬
‫املالية‪.‬‬
‫ومل يعد الو�ضع العام يف فرن�سا يطاق‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1793‬م‪ ،‬دخلت الثورة يف مرحلة جذرية‪.‬‬
‫ً‬
‫�شهدت فرن�سا ملدة عام‪ ،‬واحد ًة من �أكرث الأنظمة دموية يف تاريخها الطويل‪ ،‬حيث‬
‫�سعى القادة للتو�سع يف ال�سلطة واحلفاظ على الثورة‪.‬‬
‫زادت التوترات مع ا�ستمرار الثورة والأخبار الكئيبة عن احلرب يف اخلارج‪:‬‬
‫‪147‬‬ ‫"احل�ضارة لي�ست �أدوات ن�ستعملها و ن�ستهلكها ‪ ،‬و امنا هي اخالق �سامية نوظفها"‬

‫كانت القوات الربو�سية حت ّد من قوى اجلنود الفرن�سيني‪ ،‬وبالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف ّر �ضباط‬
‫فرن�سيون من اجلي�ش الفرن�سي‪ ،‬وان�ضموا �إىل املهاجرين وغريهم‪ ،‬على �أمل ا�ستعادة‬
‫قوة امللك‪.‬‬
‫و�رسعان ما حامت املخاوف على فرن�سا‪ ،‬ففي �أوائل عام ‪ 1793‬م‪ ،‬ه ّدد اخلطر املحدق‬
‫فرن�سا من جميع النواحي‪:‬‬
‫‪ -‬فقد كانت البالد يف حالة حرب مع جزء كبري من �أوروبا‪ ،‬مبا يف ذلك بريطانيا وهولندا‬
‫و�إ�سبانيا وبرو�سيا‪.‬‬
‫‪ -‬ويف فيندي يف فرن�سا‪ ،‬مت ّرد امللكيون والكهنة والفالحون �ضد احلكومة‪.‬‬
‫‪ -‬ويف باري�س‪ ،‬طالبت "كولوتي�س" بالتخفيف من النق�ص يف املواد ال�رضرورية واملواد‬
‫الغذائية‪.‬‬
‫‪ -‬ونكثت االتفاقية بني اليعاقبة وجمموعة مناف�سة‪ ،‬على بوردو‪.‬‬
‫وللتعامل مع التهديدات التي ت�رضب فرن�سا‪� ،‬أن�شئت اتفاقية جلن ًة جديد ًة لل�سالمة‬
‫العامة‪.‬‬
‫وكانت اللجنة م�ؤلفة من اثني ع�رش ع�ض ًوا‪ ،‬ولديها �سلطة �شبه مطلقة‪ ،‬لأنها حاربت‬
‫لإنقاذ الثورة‪.‬‬
‫�أع ّدت اللجنة فرن�سا حلرب �شاملة‪ ،‬و�أ�صدرت �رضيب ًة �شامل ًة على جميع املواطنني‬
‫للم�ساهمة يف املجهود احلربي‪.‬‬
‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬كان �أع�ضاء اللجنة مكلّفني ب�إجراء املحاكمات وتنفيذ الإعدامات‪.‬‬

‫• من هو روب�سبيار؟‬
‫يف غياب �أي مقاومة له‪� ،‬أ�صبح روب�سبيار امل�سيطر على احلكومة الفرن�سية‪ ،‬حيث كانت‬
‫فرن�سا وقتذاك تعاين من الإ�رضابات ال�سيا�سية واالجتماعية املتعددة‪.‬‬
‫وبهدف ا�ستعادة النظام يف البالد‪ ،‬والتقليل من خطر الغزو اخلارجي‪ ،‬بد�أ روب�سبيار يف‬
‫الق�ضاء على كل من اعتربهم "�أعداء الثورة"‪:‬‬
‫ف�أعدم معظم زعماء الثورة الفرن�سية‪ ،‬وهو ما عرف بعهد الإرهاب‪.‬‬
‫وكان ال يزال يتمتع بت�أييد املجتمع الباري�سي‪ ،‬ولذلك انتخب رئي�سا ً للم�ؤمتر الوطني‪.‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س والع�رشون‬ ‫‪148‬‬
‫احل�ضارات‬

‫ع ّمال امل�صانع‬

‫فجر الع�رص ال�صناعي‬


‫لآالف ال�سنني‪ ،‬وبعد �صعود احل�ضارة‪ ،‬عا�ش معظم النا�س وعملوا يف القرى الزراعية‬
‫ال�صغرى‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬غيرّ ت �سل�سلة من الأحداث التي بد�أت يف العام ‪ 1700‬م‪ ،.‬طريقة‬
‫عي�شهم‪ .‬واليوم تدعى تلك الفرتة ب‪" :‬الع�رص ال�صناعي"‪.‬‬
‫فقد بد�أت الثورة ال�صناعية يف بريطانيا‪ ،‬التي �شهدت تغيرّ ات اقت�صلدية �أ ّثرت على حياة‬
‫النا�س بقدر التغيرّ ات ال�سيا�سية �ساب ًقا‪.‬‬
‫وعلى خالف معظم الثورات ال�سيا�سية‪ ،‬مل تكن هذه التغريات مفاجئ ًة �أو �رسيع ًة‪ ،‬بل كانت‬
‫فرت ًة طويلة وبطيئة‪ ،‬غري متوازنة‪ ،‬وحت ّولت �إىل �إنتاج من �أدوات يومية ب�سيطة �إىل �آالت‬
‫مع ّقدة‪ .‬فانت�رشت الثورة ال�صناعية من بريطانيا �إىل بقية دول �أوروبا‪ ،‬و�أمريكا ال�شمالية‪،‬‬
‫وحول العامل‪.‬‬
‫حتى عام ‪ 1750‬م‪ ،.‬عمل معظم النا�س يف الأر�ض‪ ،‬حيث قاموا با�ستخدام الأدوات اليومية‪.‬‬
‫كانوا يعي�شون يف الأكواخ ال�صغرية التي كانت م�ضاد ًة للنار وال�شموع‪� .‬صنعوا مالب�سهم‬
‫اخلا�صة‪ ،‬وباعوا الطعام يف البلدات املجاورة‪ ،‬وتبادلوا ال�سلع يف الأ�سواق الأ�سبوعية‪.‬‬
‫وك�أ�سالفهم‪ ،‬عرف ه�ؤالء النا�س القليل عن العامل اخلارجي اخلارج عن قريتهم‪� ،‬إذ غادر‬
‫القلة منهم لل�سفر فقط على �أقدامهم وبوا�سطة عربات اخليل‪ ،‬واجلريئون منهم عربوا‬
‫البحار حتت رحمة الرياح وامل ّد واجلزر‪.‬‬
‫ومع بداية الثورة ال�صناعية‪ ،‬بد�أت احلياة الريفية ت�ضمح ّل‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1850‬م‪ ،.‬منا العديد من القرى لت�صبح بلدات ومد ًنا �صناعي ًة‪.‬‬
‫وكان �أولئك الذين عا�شوا هناك‪ ،‬قادرين على �رشاء املالب�س واملواد الغذائية املنتجة من قبل‬
‫�أ�شخا�ص �آخرين‪.‬‬
‫وقد �أ ّدت الثورة ال�صناعية �إىل ن�شوء ثروات كبرية ملعظم رجال الأعمال الذين �ساعدوا يف‬
‫‪149‬‬ ‫" احل�ضارة التي �أت�صورها ‪ ،‬يغيب فيها ال�سيد ‪ ،‬بينما تبقى ال�سيادة ويبقى املَ�سود"‬

‫حركتها‪.‬‬
‫�أما بالن�سبة ملاليني الع ّمال الذين احت�شدوا يف امل�صانع اجلديدة‪ ،‬فقد واجهوا ظرو ًفا معي�شي ًة‬
‫قا�سي ًة‪.‬‬
‫مت البحث يف الإ�صالحات على االنتهاكات التي كانت موجود ًة يف ذاك الع�رص‬ ‫ومع الوقت‪ّ ،‬‬
‫يف �أوروبا والأمريكيتني‪ ،‬بحيث �أن الأ�شخا�ص العاملني كانوا يعانون من ظروف �صعبة‬
‫وخطرية‪.‬‬
‫تو�س ًعا �رسي ًعا يف حركة النا�س �إىل املدن‪.‬‬
‫وجلبت الثورة ال�صناعية ّ‬
‫وقد �أدت التغيرّ ات يف قطاع الزراعة �إىل ارتفاع يف الطلب املتزايد على النزوح من املزارع �إىل‬
‫املدن‪.‬‬
‫وبني ليلة و�ضحاها‪ ،‬انت�رشت يف املدن مناجم الفحم واحلديد‪ ،‬ومنت ك ّل املدن مع �إن�شاء‬
‫املعامل فيها‪ ،‬والتي بناها رجال الأعمال‪.‬‬
‫ومنذ عام ‪ 1800‬م‪ ،.‬بد�أ النا�س مبناق�شة مو�ضوع الثورة ال�صناعية‪:‬‬
‫�أهي نعمة �أم نقمة؟‬
‫فقد جلبت بداية الثورة م�صاعب ج ّم ًة‪.‬‬
‫ولكن يف الوقت املنا�سب‪� ،‬ضغط الإ�صالحيون من �أجل ت�رشيع قوانني لتح�سني ظروف العمل‬
‫وفازت النقابات العمالية يف امل�ساومة مع �أرباب العمل لتح�سني الأجور وتخفي�ض �ساعات‬
‫العمل وحت�سني ظروف العمل‪.‬‬
‫يف نهاية املطاف‪ ،‬اكت�سب رجال الطبقة العاملة احلق يف الت�صويت‪ ،‬الأمر الذي و�ضع ال�سلطة‬
‫ال�سيا�سية يف �أيديهم‪.‬‬
‫وبرزت بنتيجة الع�رص ال�صناعي طرق جديدة يف التفكري‪:‬‬
‫فقد �شهد االقت�صادي الربيطاين توما�س مالتو�س على �آثار الأحياء الفقرية لل�سكان‪ ،‬املمتلئة‬
‫باجلوع والبطالة والب�ؤ�س يف جميع �أنحاء بريطانيا‪.‬‬
‫وبعد درا�سة مت�أنية‪ ،‬عام ‪ 1798‬م‪ .‬ن�رش مقاالً عن مبد�أ ال�سكان‪ ،‬وخل�ص �إىل �أن الفقر ال مف ّر‬
‫منه لأنّ ال�سكان يف تزايد �أ�رسع من الإمدادات الغذائية‪.‬‬
‫كتب مالتو�س يف ذلك‪:‬‬
‫" �إن ق ّوة ال�سكان �أكرب بكثري من قوة الأر�ض لإنتاج الكفاف للإن�سان"‪.‬‬
‫كان مالتو�س واحدا ً من العديد من املفكرين الذين حاولوا فهم التغيرّ ات املذهلة التي جتري يف‬
‫�أوائل الع�رص ال�صناعي‪.‬‬
‫بد�أ ه�ؤالء املفكرون‪ ،‬ورثة ع�رص التنوير‪ ،‬بالبحث يف القوانني التي حتكم عامل الأعمال‬
‫واالقت�صاد‪ .‬ويف عام ‪1840‬م‪� ،.‬أدانَ الفيل�سوف الأملاين كارل مارك�س �أفكار املثاليني‪،‬‬
‫والواقعيني على ال�سواء‪ .‬و�صاغ نظري ًة جديد ًة هي نظرية "اال�شرتاكية العلميّة"‪ ،‬التي ا ّدعى‬
‫ب�أنها بنيت على �أ�سا�س درا�سة علميّة تاريخية‪.‬‬ ‫‪150‬‬
‫وقد تعاون معه يف هذه الدرا�سة االقت�صادي الإنكليزي فريديريك �إجنلز‪� ،‬إبن �صاحب‬
‫م�صنع للن�سيج يف �إنكلرتا‪.‬‬
‫كتب ك ّل من مارك�س و�إجنلز "البيان ال�شيوعي" الذي ن�رش عام ‪ 1848‬م‪.‬‬
‫برز هنا "�شبح يطارد �أوروبا"‪ ،‬وهو �شبح ال�شيوعية‪ ،‬التي هي �شكل من �أ�شكال اال�شرتاكية‬
‫التي نادى بها كارل مارك�س‪ ،‬يكون فيها ال�رصاع حتميا ً بني الطبقات االجتماعية وي�ؤدي �إىل‬
‫خلق جمتمع ال طبقي‪ ،‬تكون فيه املمتلكات و�سائل للإنتاج يف املجتمع كك ّل‪.‬‬

‫• من هو جيم�س واط؟‬
‫جيم�س واط‪ ،‬من مواليد ‪ 1736‬م‪ .‬ووفيّات ‪ 1819‬م‪.‬‬
‫هو مهند�س ا�سكتلندي‪ ،‬ولد يف غرينوك من �أب كان يعمل يف‬
‫جناحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫التجارة دون �أن يحقق‬
‫تلقى واط تدريبه من �صانع للأدوات يف لندن‪ ،‬ثم عاد �إىل‬
‫غال�سكو ليعمل يف مهنته‪.‬‬
‫وقد كان واط على عالقة �صداقة قوية مع الفيزيائي جوزيف‬
‫بالك‪ ،‬مكت�شف احلرارة الكامنة‪ ،‬وكان لهذه ال�صداقة‬
‫الأثر الهام يف توجيه واط �إىل االهتمام بالطاقة‪ ،‬التي ميكن‬
‫اال�ستفادة منها ومن البخار كقوة حمركة‪.‬‬
‫وقد �أجرى عدة جتارب لال�ستفادة من �ضغط البخار‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫الف�صل ال�سابع والع�رشون‬
‫احل�ضارات‬

‫بونابرت يف اجتماع‬

‫ع�رص الإيديولوج ّيات والثورات‬


‫حاولت القوى الأوروبية يف م�ؤمتر فيينا ( ‪ 1814 - 1815‬م‪ ).‬ا�ستئ�صال بزرة الثورة‬
‫وقمع احلما�س الوطني‪.‬‬
‫ويف املقابل‪ ،‬حاول �آخرون حت ّدي النظام الذي فر�ض عام ‪ 1815‬م‪ ،.‬ف�أغرقت �أوروبا يف‬
‫�رصاع وا�ضطرابات مع معار�ضة الإيديولوجيات ونظم الفكر واملعتقد‪ ،‬ا�ستمرت �أكرث من‬
‫ثالثني عا ًما‪.‬‬
‫كان م�ؤمتر فيينا انت�صا ًرا للقوى املحافظة التي �شملت امللوك و�أتباعهم‪ ،‬ملاّ كي الأرا�ضي‬
‫وقادة الكني�سة‪.‬‬
‫ا ّتفق املحافظون على العمل م ًعا يف اتفاق �س ّمي ب"حفل �أوروبا لدعم النظام ال�سيا�سي‬
‫واالجتماعي"‪ ،‬الذي كان قائما ً قبل نابوليون بونابرت والثورة الفرن�سية‪.‬‬
‫ونا�شد املحافظون الفلاّ حني الذين كانوا يريدون احلفاظ على الطرق التقليدية يف �أعمالهم‪.‬‬
‫وا�ستيحا ًء من ع�رص التنوير والثورة الفرن�سية والليربالية والقومية‪ ،‬حت ّدى املحافظون‬
‫الآخرين‪ ،‬لتحقيق �أفكارهم يف كل مكان‪.‬‬
‫وبذلك‪� ،‬أ�شعلت الليربالية والقومية عد ًدا من الثورات �ضد احلكم‪.‬‬
‫ومبا �أن الليرباليني حتدثوا غالبًا عن البورجوازيني �أو الطبقة الو�سطى‪� ،‬سميّت حركتهم‬
‫ب"الليربالية البورجوازية"‪.‬‬
‫و�شمل الليرباليون‪:‬‬
‫�أ�صحاب الأعمال‪ ،‬وامل�رصفيني‪ ،‬واملحامني‪ ،‬وال�سيا�سيني‪ ،‬ور�ؤ�ساء حترير ال�صحف‬
‫" �إذا كان اجل�سد العاري دليل احل�ضارة فهنيئا ً للحيوانات ‪ ..‬فلها ك ّل احل�ضارة"‬ ‫‪152‬‬

‫والكتّاب‪ ،‬وغريهم ممن �ساهم يف ت�شكيل الر�أي العام‪.‬‬


‫�إىل ذلك‪ ،‬مل ُينْ ِه قمع الثورات التحررية عام ‪ 1820‬م‪ .‬الثورات يف �أوروبا‪:‬‬
‫فبني الأعوام ‪ 1830‬م‪ .‬و ‪ 1848‬م‪ ،‬ر�أى الأوروبيون ب�أن االحتجاجات تزيد لكي ت�صبح‬
‫ثورات وا�سعة النطاق‪.‬‬
‫وكما يف العام ‪ 1789‬م‪ ،.‬بد�أت اال�ضطرابات يف باري�س‪ ،‬وامتدت �إىل خمتلف �أنحاء القارة‪.‬‬
‫وعمليًا‪� ،‬ش ّكلت الثورات يف باري�س وحيًا الندالع االنتفا�ضات يف �أماكن �أخرى من �أوروبا‪.‬‬
‫وكما قال ميرتنيخ ‪:‬‬
‫"عندما تعط�س فرن�سا‪ ،‬ت�صاب �أوروبا بالزكام"‪.‬‬
‫وقد قمعت معظم االنتفا�ضات والثورات بالقوة الع�سكرية‪ ،‬ولكن جنح بع�ض املتمردين يف‬
‫حتقيق تغيريات‪.‬‬
‫حتى عندما ف�شل املتمردون يف مكان ما‪ ،‬خاف احل ّكام من ا�شتعال ثورات و�شجعوا على‬
‫قيام الإ�صالح‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1848‬م‪� ،.‬سبّبت ثورات قامت يف باري�س مبوجة عارمة من الثورات يف جميع �أنحاء‬
‫�أوروبا‪.‬‬
‫وبالن�سبة ملعار�ضي النظام القدمي‪ ،‬كان هذا التوقيت مبثابة �أمل‪ ،‬ف�أطلقت عليه ت�سمية "ربيع‬
‫ال�شعوب"‪.‬‬
‫على الرغم من �أن الأحداث يف فرن�سا �أطف�أت الثورات‪ ،‬لك ّن ال�شكاوى بقيت مرتاكم ًة‪� .‬أراد‬
‫الليرباليون من الطبقة الو�سطى ح�ص ًة �أكرب يف ال�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬وكذلك �أرادوا حماية‬
‫احلقوق الأ�سا�سية لكل املواطنني الذكور‪.‬‬
‫وطالب ع ّمال الإغاثة احلماية من م�آ�سي الثورة ال�صناعية‪ ،‬كما قام القوميون باملطالبة‬
‫بالتخلّ�ص من احلكم الأجنبي‪.‬‬
‫كما �أ ّثرت الإيديولوجيات وانت�رشت الأفكار الليربالية وو�صلت �إىل �أمريكا الالتينية‪ ،‬وكانت‬
‫النتائج الناحمة عنها هام ًة‪:‬‬
‫فقد ن�ش�أت حركات ثورية يف املك�سيك ويف ك ّل �أرجاء �أمريكا الالتينية لإ�سقاط القوى‬
‫الأوروبية احلاكمة وامل�ستعمرة هناك‪.‬‬
‫وقبل العام ‪ 1825‬م‪ ،.‬كانت قد �أعتقت معظم دول �أمريكا الالتينية من احلكم اال�ستعماري‪.‬‬
‫وبحلول �أواخر العام ‪ 1700‬م‪ ،.‬كانت احل ّمى الثورية التي �سادت �أوروبا الغربية قد امتدت‬
‫ريا على النظام االجتماعي القائم والنظام العرقي‬ ‫�إىل �أمريكا الالتينية‪ ،‬حيث كان ال�سخط كب ً‬
‫وال�سيا�سي‪ ،‬والذي برز خالل ‪ 300‬عام من احلكم الإ�سباين‪.‬‬
‫وقد �سيطر الإ�سبان‪� ،‬أي �أع�ضاء الطبقة الأعلى يف املجتمع‪ ،‬على احلياة ال�سيا�سية واالجتماعية‬
‫يف �أمريكا الالتينية‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫كانوا ي�ستطيعون فقط �أن يهيمنوا على الأ�شغال املهمة وعلى الكني�سة‪ .‬العديد من الأوروبيني‬
‫كانوا يف الطبقة االجتماعية الثانية‪.‬‬
‫يف الوقت نف�سه‪ ،‬كان العديد من ال�سكان الآخرين قد غ�ضبوا من نفيهم يف املجتمع‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬عانى ال�سكان املحليون من ا�ضطرابات اقت�صادية حدثت ب�سبب الإ�سبان‪ ،‬الذين‬
‫�سيطروا على �أرا�ضي �أجدادهم‪.‬‬
‫يف العام ‪1700‬م‪ ،.‬قر�أ املثقفون الالتينيون �إجنازات املفكرين يف ع�رص التنوير‪.‬‬
‫كما راقبوا امل�ستعمرين يف �أمريكا ال�شمالية وكيف خلّ�صوا نف�سهم من احلكم الربيطاين‪.‬‬
‫خالل الثورة الفرن�سية‪� ،‬سافر �سكان التينيون‪ ،‬مثل �سيمون بوليفار‪� ،‬إىل �أوروبا‪ ،‬وكانوا‬
‫ملهمني من ال�شعارات واملثاليات‪:‬‬
‫"احلرية‪ ،‬امل�ساواة‪ ،‬الأخ ّوة‪".‬‬
‫كانت �رشارة التم ّرد تنت�رش على نطاق وا�سع يف �أمريكا الالتينية ب�سبب �سيطرة نابوليون‬
‫على �إ�سبانيا عام ‪1808‬م‪.‬‬
‫فقد طرد نابوليون امللك الإ�سباين‪ ،‬وو�ضع �أخاه جوزف على العر�ش الإ�سباين‪.‬‬
‫يف �أمريكا الالتينية‪ ،‬ر�أى احلكام �ضعف �إ�سبانيا كفر�صة لرف�ض ال�سيطرة الأجنبية ولطلب‬
‫اال�ستقالل عن احلكم الإ�ستعماري‪.‬‬
‫من جهة �أخرى‪ ،‬اندلعت ثورة يف جزيرة يحكمها الفرن�سيون هي جزيرة هي�سبانيوال‪ ،‬قبل‬
‫رفع امل�ستعمرين الإ�سبان راية احلرية‪.‬‬
‫يف هايتي‪ ،‬كان املزارعون الفرن�سيون ميتلكون حقول ق�صب ال�سكر التي كانت مربح ًة ج ًدا‬
‫ملالكيها ويعمل فيها حواىل ن�صف مليون �أفريقي م�ستعبد‪ ،‬وكانوا يق ّدمون �أكرث من طاقاتهم‬
‫ويعانون �سوء تغذية‪.‬‬
‫فما لبثوا �أن قاموا بالثورة على املزارعني‪ ،‬وح�صلوا يف نهاية املطاف على حريتهم‪.‬‬
‫وب�سبب الغ�ضب من املعاناة و�أي�ضا ً الإلهام من ال�شعارات التي تتح ّدث عن احلرية وامل�سواة‪،‬‬
‫ا�ستيقظ عبيد اجلزيرة وقاموا بثورة عام ‪ 1791‬م‪.‬‬
‫"تو�سان لوفرتور"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كانوا حمظوظني بحظيهم بحاكم ذكي‪ ،‬لديه مهارات‪ ،‬ومث ّقف‪ ،‬وهو‬
‫تو�سان جرناالً ذكيًّا ج ًدا وقائ ًدا مله ًما‪.‬‬
‫وبالرغم من �أ ّنه غري متد ّرب‪ ،‬كان ّ‬
‫ويف هاييتي‪ ،‬يف عام ‪ 1802‬م‪ ،.‬بعث نابوليون بونابرت جي�شا ً كبريا ً ليحكم من جديد على‬
‫امل�ستعمرة ال�سابقة‪.‬‬
‫تو�سان رجال قريته ليت�ضامنوا م ّر ًة �أخرى ملقاومة الغزاة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حثّ‬
‫تو�سان ونقلوه‬ ‫ويف ني�سان عام ‪ 1802‬م‪ ،.‬قبل الفرن�سيون بهدنة‪ ،‬ولكن بعد ذلك قب�ضوا على ّ‬
‫مكبّالً �إىل فرن�سا‪.‬‬
‫توفيّ هناك يف �سجن يف جبل قار�ص بعد عام‪.‬‬
‫لقد �أخافت ثورة العبيد يف هايتي الكريول يف �أمريكا الإ�سبانية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من �إرادتهم ب�إبقاء ال�سلطة يف �أيديهم‪ ،‬مل يكونوا على ا�ستعداد لتقدمي �إ�صالحات‬
‫اقت�صادية واجتماعية‪ ،‬كانت تهدد طريقهم‪.‬‬
‫عام ‪ 1810‬م‪ .‬رفع الأب ميغيل هيدالغو �صوته من �أجل احلرية‪.‬‬ ‫‪154‬‬
‫فلقد تر�أ�س الأب هيدالغو الأبر�شيات يف الأرياف الفقرية يف دولور�س‪.‬‬
‫ويف ‪� 15‬أيلول عام ‪ 1810‬م‪ ،.‬ر ّنت �أجرا�س الكني�سة لتدعو ال�شعب �إىل ال�صالة‪ .‬عندما‬
‫جت ّمعوا‪ ،‬نا�شدهم بالتايل‪" :‬يا �أوالدي‪ ،‬هل �ست�صبحون �أحراراً؟"‪.‬‬
‫�أ�صبح خطاب الأب هيدالغو معروفا ً ب"�رصخة دولور�س"‪.‬‬
‫�ساعدت �رصخته منا�شدة املك�سيكيني للقتال من �أجل حتقيق اال�ستقالل‪.‬‬
‫ويف �إ�سبانيا يف عام ‪1820‬م‪� ،.‬أجرب الليرباليون امللك على �إ�صدار الد�ستور‪.‬‬
‫هذه احلركة �أحدثت قل ًقا لل�شعب املك�سيكي‪� ،‬إذ خافوا ب�أنّ احلكومة الإ�سبانية ميكن �أن‬
‫تفر�ض �إ�صالحات ليربالية على امل�ستعمرات � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫�أم�ضى �إيتوربيد �سنوات عديدة يف القتال مع الثور ّيني املك�سيكيني‪ .‬فج�أ ًة‪ ،‬ويف عام ‪1821‬‬
‫م‪ ،.‬و�صل �إليهم‪ ،‬وبدعم من الكريول‪ ،‬امليتيزو�س‪ ،‬والأمريكيني الأ�صليني‪ ،‬رمى نائب امللك‬
‫خارجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الإ�سباين‬
‫كما �أعلنت املناطق التي كانت ت�سيطر عليها �إ�سبانيا يف �أمريكا الو�سطى اال�ستقالل يف �أوائل‬
‫عام ‪ 1820‬م‪.‬‬
‫حاول �إيتوربيد �إ�ضافة هذه املناطق �إىل �إمرباطوريته املك�سيكية‪ .‬وبعد الإطاحة به‪� ،‬أقام‬
‫القادة املحليون جمهوري ًة ت�سمى "املقاطعات املتحدة يف �أمريكا الو�سطى"‪.‬‬
‫و�رسعان ما انق�سمت النقابة �إىل جمهوريات منف�صلة من‪ :‬غواتيماال ونيكاراغوا وهندورا�س‬
‫وال�سلفادور وكو�ستاريكا‪.‬‬
‫ويف �أمريكا اجلنوبية‪ ،‬مت ّرد الهنود �ضد احلكم الإ�سباين يف وقت مبكر من العام ‪ 1700‬م‪،.‬‬
‫ولك ّن النتائج كانت حمدود ًة‪.‬‬
‫عام ‪ 1800‬م‪� ،.‬أن�شئت حملة وا�سعة النطاق من �أجل اال�ستقالل عن حكم الكريول‪.‬‬
‫ويف وقت مبكر من العام ‪ 1800‬م‪ ،.‬انت�رش ال�سخط يف جميع �أنحاء �أمريكا اجلنوبية‪.‬‬
‫فقد �أعجب ال"كريول" املتعلمون‪ ،‬مثل �سيمون بوليفار‪ ،‬بالثورات الفرن�سية والأمريكية‪،‬‬
‫كما حلموا بالفوز با�ستقالليّتهم اخلا�صة عن �إ�سبانيا‪.‬‬
‫عام ‪ 1808‬م‪ .‬عندما احتل نابوليون بونابرت �إ�سبانيا‪ ،‬ر�أى الرفاق االحتالل ك�إ�شارة لبدء‬
‫العمل‪.‬‬
‫عام ‪ 1810‬م‪ .‬قاد بوليفار االنتفا�ضة التي �أن�ش�أت جمهوري ًة يف وطنه فنزويال‪.‬‬
‫وانهارت قوات بوليفار اجلديدة ب�رسعة �أمام القوات املحافظة‪.‬‬
‫ومثل بوليفار‪ ،‬كان �أي�ضاا ً �سان مارتن من الكوريول‪.‬‬
‫ولد يف الأرجنتني‪ ،‬لكنّه ذهب �إىل �أوروبا للتدريب الع�سكري‪.‬‬
‫عام ‪ 1816‬م‪� ،.‬ساعد هذا اجلرنال املوهوب الأرجنتني بالفوز بحرية �إ�سبانيا‪ ،‬ث ّم ان�ض ّم �إىل‬
‫ن�ضال اال�ستقالل يف مناطق �أخرى‪.‬‬
‫جي�شا عرب الأنديز‪ ،‬من الأرجنتني حتى ت�شيلي‪ .‬هزم الإ�سبان يف ت�شيلي قبل �أن‬ ‫ً‬ ‫قاد � ً‬
‫أي�ضا‬
‫ينتقل �إىل البريو لتوجيه املزيد من ال�رضبات �ضد احلكم اال�ستعماري‪.‬‬
‫‪155‬‬ ‫ح ّول �سان مارتن قيادته �إىل بوليفار يف عام ‪1822‬م‪ ،.‬مما �سمح لق ّوات بوليفار بالفوز يف‬
‫االنت�صارات النهائية �ضد �إ�سبانيا‪.‬‬
‫انتهت حروب اال�ستقالل بحلول عام ‪ 1824‬م‪.‬‬
‫عمل بوليفار بعدها بال كلل من �أجل توحيد الأرا�ضي التي كانت قد ح ّررت و�أ�صبحت �أم ًة‬
‫واحدة‪ ،‬دعيت بكولومبيا الكبرية‪.‬‬
‫ولكن هذا التناف�س املرير‪ ،‬جعل هذا احللم م�ستحيالً‪.‬‬
‫قبل فرتة طويلة‪ ،‬كانت قد انق�سمت كولومبيا الكربى �إىل �أربعة بلدان م�ستقلّة هي‪:‬‬
‫كولومبيا‪ ،‬بنما‪ ،‬فنزويال والإكوادور‪.‬‬
‫بالن�سبة للربازيل‪ ،‬فعندما غزت جيو�ش نابوليون الربتغال‪ ،‬ف ّرت العائلة املالكة الربتغالية �إىل‬
‫الربازيل‪.‬‬
‫وعندما عاد امللك �إىل الربتغال‪ ،‬ترك ابنه دون بيدرو ليحكم الربازيل‪�" .‬إذا ا�ستدعى الأمر‬
‫ا�ستقالل الربازيل"‪ ،‬ن�صح امللك بيدرو‪:‬‬
‫"�أعلن ذلك بنف�سك‪ ،‬و�ضع التاج على ر�أ�سك �أنت"‪.‬‬
‫عام ‪ 1822‬م‪ ،.‬ا ّتبع دون بيدرو ن�صيحة والده‪.‬‬
‫جلبت الثورة قاد ًة جد ًدا �إىل الربتغال‪ ،‬الذين خططوا لإلغاء الإ�صالحات وطالبوا ب�أن يعود‬
‫دون بيدرو‪.‬‬
‫رف�ض دون بيدرو مغادرة الربازيل‪ ،‬وبدالً من ذلك‪� ،‬أ�صبح �إمرباطو ًرا للربازيل امل�ستقلة‪.‬‬
‫ظلّت الربازيل ملكي ًة حتى عام ‪ 1889‬م‪ ،.‬عندما �أدى اال�ضطراب ال�سيا�سي واالجتماعي �إىل‬
‫�أن ت�صبح جمهوري ًة‪.‬‬
‫الف�صل الثامن والع�رشون‬ ‫‪156‬‬
‫احل�ضارات‬

‫الهبوط على �سطح القمر‬

‫�إطاللة على الزمن احلا�رض‬

‫م ّهدت نهاية القرن التا�سع ع�رش امليالدي للكثري من الأنظمة والأحداث اجل�سيمة يف القرن‬
‫الذي تبعه (القرن الع�رشين للميالد)‪ ،‬فقد م ّهدت �أفكار كارل مارك�س للثورة البل�شفية‬
‫وغريها من الثورات ال�شيوعية حول العامل‪ ،‬وكذلك �أر�ست نظريات هيغل ونيت�شه �أ�سا�سات‬
‫القومية وال�شوفينية والأنظمة النازية والفا�شية‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬فقد �ساهمت النظريات العلمية الثورية (كالداروينية) يف �إيجاد عقلية وبيئة جديدتني‪.‬‬
‫كذلك‪ّ � ،‬أ�س�ست ال�رصاعات والنزاعات التي اجتاحت عدة مناطق من �رشق �أوروبا لوقوع‬
‫احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬والتي بدورها � ّأ�س�ست ‪ -‬من خالل نتائجها ‪ -‬للحرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫ومن نتائج احلرب العاملية الثانية‪ ،‬كان �إر�ساء قيم عاملية جديدة مرتكزة على �رشعة حقوق‬
‫الإن�سان وقيام منظمة الأمم املتحدة‪ ،‬وكذلك بداية احلرب الباردة‪.‬‬
‫هذه احلرب التي ا�ستمرت حتى انهيار جدار برلني وتفكك االحتاد ال�سوفياتي‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬قام ما �س ّمي بالنظام العاملي اجلديد‪ ،‬الذي �أعقبه وترافق معه نظام متعدد اجلوانب‬
‫وال�شمولية هو نظام العوملة‪.‬‬
‫�أما �أحداث احلادي ع�رش من �سبتمرب ‪ 2011‬م‪ .‬فقد �أر�ست تغ ً‬
‫ريا يف ال�سيا�سة والأمن الدوليني‪،‬‬
‫و�أفرزت �أحداثا كربى من مثل ما �س ّمي "الريبع العربي"‪.‬‬
‫‪157‬‬ ‫" احل�ضارة العظيمة ال تُزيل ال�رش والمتحو اجلرمية‪ ،‬ولكنها تُوجِ د ال�رش العظيم واجلرمية العظيمة"‬
‫من هو فريدريك نيت�شه؟‬
‫فريدريك فيلهيلم نيت�شه من مواليد ‪� 15‬أكتوبر ‪ 1844‬ووفيات‬
‫�أغ�سط�س ‪ .1900‬فيل�سوف �أملاين‪ ،‬ناقد ثقايف‪� ،‬شاعر ولغوي‬
‫وباحث يف الالتينية واليونانية‪ ،‬كان لعمله ت�أثري عميق على‬
‫الفل�سفة الغربية وتاريخ الفكر احلديث‪.‬‬
‫كما �أنه كان من �أبرز املم ّهدين لعلم النف�س وكان عامل لغويات‬
‫متمي ًزا‪.‬‬
‫ن�صو�صا وكتبًا نقدي ًة حول الدين والعلوم الأخالقية‬ ‫ً‬ ‫كتب‬
‫والنفعية والفل�سفة املعا�رصة املادية واملثالية‪.‬‬
‫وكتب عن الرومان�سية الأملانية واحلداثة � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫وكتب عمو ًما بلغة �أملانية بارعة‪.‬‬
‫ُيع ّد من بني الفال�سفة الأكرث �شيو ًعا وتداوالً بني القراء‪.‬‬
‫ريا ما ُتفهم �أعماله خط�أً‪ ،‬على �أنها حامل �أ�سا�سي لأفكار الرومان�سية الفل�سفية والعدمية‬ ‫كث ً‬
‫ومعاداة ال�سامية وحتى النازية‪ ،‬لكنه يرف�ض هذه املقوالت ب�شدة ويقول ب�أنه �ضد هذه‬
‫االجتاهات كلها‪.‬‬
‫وباملقابل‪ُ ،‬يع ّد نيت�شه امللهم الأول للمدار�س الوجودية وما بعد احلداثة يف جمال الفل�سفة‬
‫والأدب‪.‬‬
‫ر ّوج لأفكار تو ّهم كثريون �أنها مع التيار الالعقالين والعدمية‪ ،‬وا�ستخدمت بع�ض �آرائه‬
‫فيما بعد من قبل �أيديولوجيّي الفا�شية‪ ،‬وتبنَّت النازية �أفكاره‪ .‬رف�ض نيت�شه الأفالطونية‬
‫وامل�سيحية وامليتافيزيقيا ب�شكل عام‪ ،‬ودعا �إىل تبني قيم جديدة بعيدا ً عن الكانطية والهيغيلية‬
‫والفكر الديني والنهيلية (العدمية)‪.‬‬
‫�سعى نيت�شه �إىل تبيان �أخطار القيم ال�سائدة عرب الك�شف عن �آليات عملها عرب التاريخ‪،‬‬
‫كالأخالق ال�سائدة‪ ،‬وال�ضمري‪.‬‬
‫يعد نيت�شه �أول من در�س الأخالق درا�س ًة تاريخية مف�صلة‪.‬‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬ق ّدم نيت�شه ت�صو ًرا مه ًما عن ت�شكل الوعي وال�ضمري‪ ،‬ف�ضالً عن �إ�شكالية املوت‪ .‬كان‬
‫راف�ضا للتمييز العن�رصي وملعاداة ال�سامية والأديان وال �سيما امل�سيحية‪ ،‬لكنه رف�ض‬ ‫ً‬ ‫نيت�شه‬
‫�أي�ضا ً امل�ساواة ب�شكلها اال�شرتاكي �أو الليربايل ب�صورة عامة‪ُ .‬يع ّد فريدريك نيت�شه من �أهم‬
‫فال�سفة �أوروبا على الإطالق‪ ،‬حيث ُتغذي �أفكاره العديد من التيارات الفكرية‪.‬‬

‫فل�سفته‬
‫دخل نيت�شه عامل الفل�سفة عرب الفيلولوجيا كعامل لغوي و�شاعر (وهي درا�سة الكتب التاريخية‬
‫يف �إطارها التاريخي ال�صحيح من دون ترجمة)‪ ،‬وم ّكنته درا�سته اجلامعية من حت�صيل ثقافة‬
‫كونية �شاملة‪ .‬كان اهتمامه الأويل ومهنته هي الكتب الفل�سفية اليونانية القدمية‪ .‬وكان الرافد‬ ‫‪158‬‬
‫الأ�سا�سي لكل ما �سيقدمه يف التفكري الفل�سفي هو الفكر الإغريقي القدمي الذي كان بالن�سبة‬
‫�إليه مقيا�س الأ�شياء والذي ر�أى من خالله انحطاط ع�رصه‪ .‬لقد كان نيت�شه �أقرب �إىل �أن‬
‫يكون �أخالقيًا من �أن يكون فيل�سو ًفا باملعنى املعروف يف ع�رصه؛ �إذ نظر للأخالق وبحث‬
‫فيها ومل ينظر للماهيات‪ُ .‬يع ّد "هكذا تكلم زراد�شت" �أهم كتب نيت�شه‪ .‬يبد�أ الكتاب بق�صة‬
‫زراد�شت " ن�سب ًة �إىل احلكيم الإيراين القدمي " الذي نزل من حمرابه يف اجلبل بعد �سنوات‬
‫من الت�أمل ليدعو النا�س �إىل الإن�سان الأعلى‪ ،‬وهي الر�ؤية امل�ستقبلية للإن�سان املنحدر من‬
‫الإن�سان احلايل‪ .‬وهي ر�ؤية �أخالقية ولي�ست ج�سماني ًة‪ ،‬حيث الإن�سان الأعلى هو �إن�سان‬
‫قوي التفكري واملبد�أ واجل�سم‪:‬‬
‫�إن�سان حمارب‪ ،‬ذكي‪ ،‬والأهم �أنه �شجاع وخماطر‪.‬‬
‫يلتقي زراد�شت بعدها بعجوز ي�صلّي ويدعو اهلل‪ ،‬في�ستغرب ويقول‪�" :‬أيعقل �أن هذا الرجل‬
‫العجوز مل يعلم �أن اهلل مات و�أن جميع الآلهة ماتت؟"‪ .‬يواجه زراد�شت يف البداية �صعوب ًة‬
‫يف جذب النا�س �إىل دعوته حيث يتلهون عنه مبراقبة رجل يلعب على حبل عالٍ ‪ ،‬لكن الرجل‬
‫يف�ضله عن اجلميع ويحبه لأنه عا�ش حياته‬ ‫يقع في�أخذه زراد�شت بني يديه ويخاطبه �أنه ّ‬
‫بخطر ورجولة‪.‬‬
‫وهكذا يتابع زراد�شت رحلته ودعوته ليعبرّ عن �أفكار نيت�شه التي رمبا ر�أى البع�ض �أنها‬
‫عن�رصية‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬يع ّد نيت�شه من �أعمدة النزعة الفردية الأوروبية حيث �أعطى �أهمي ًة كبري ًة للفرد؛‬
‫واعترب �أن املجتمع موجود ليخدم وينتج �أفرا ًدا مميزين و�أبطاالً وعباقر ًة‪ ،‬ولكنه ميّز بني‬
‫ف�ضل ال�شعب الأملاين على كل �شعوب‬ ‫ال�شعوب ومل يعطها الأحقية �أو املقدرة نف�سها‪ ،‬حيث ّ‬
‫�أوروبا واعترب �أن الثقافة الفرن�سية هي �أرقى و�أف�ضل الثقافات بينما يتمتع الإيطاليون‬
‫باجلمال ‪ ،‬والرو�س باملقدرة واجلربوت‪.‬‬
‫واعترب �أنّ �أحط ال�شعوب الأوروبية هي الإنكليز‪ ،‬حيث �أثارت الدميقراطية الإنكليزية وات�ساع‬
‫احلريات ال�شخ�صية واالنفتاح الأخالقي ا�شمئزازه‪ ،‬واعتربها دالئل افتقار للبطولة‪.‬‬
‫من هو ت�شارلز داروين؟‬
‫ُولد ت�شارلز روبرت داروين يف مدينة �رشو�سربي يف مقاطعة‬
‫�رشوب�شاير ب�إجنلرتا يف الثاين ع�رش من فرباير عام ‪ 1809‬م‪.‬‬
‫يف منزل عائلة "ذا ماونت"‪ .‬كان اخلام�س من بني �ستة �أطفال؛‬
‫والدهم روبرت داروين‪ ،‬طبيب وخبري مايل ينتمي ملجتمع غني‪،‬‬
‫ووالدتهم �سو�سانا داروين ‪.‬‬
‫كان لدى ت�شارلز ‪ -‬ابن الثماين �سنوات ‪ -‬ميل نحو التاريخ‬
‫الطبيعي والتح�صيل عندما ان�ضم عام ‪ 1817‬م‪� .‬إىل املدر�سة‬
‫النهارية التي يديرها الواعظ‪ .‬توفيت �أمه يف يوليو من ذلك العام‪.‬‬
‫ويف �سبتمرب عام ‪ 1818‬م‪ .‬ان�ضم هو و�أخوه الأكرب �إيرا�سمو�س �إىل مدر�سة �رشيوزبري‬
‫‪159‬‬ ‫كتلميذ داخلي‪ .‬ق�ضى داروين �صيف عام ‪ 1825‬م‪ .‬كطبيب متدرب‪ ،‬حيث كان ي�ساعد �أباه‬
‫يف عالج فقراء مقاطعة �رشوب�شاير‪ ،‬وكان ذلك قبل ذهابه �إىل كلية الطب بجامعة �أدنربة مع‬
‫�شقيقه �إيرا�سمو�س يف �أكتوبر عام ‪ 1825‬م‪ .‬وجد داروين املحا�رضات ممل ًة واجلراحة مقلق ًة‪،‬‬
‫فتجاهل درا�سته‪ .‬وتعلم التحنيط من جون �إدمون�ستون‪.‬‬
‫ان�ضم يف �سنته الثانية �إىل جمعية بلينيان وهي نادي للطالب املهتمني بالتاريخ الطبيعي‪ ،‬الذين‬
‫انحرفت نقا�شاتهم نحو املادية املتطرفة‪.‬‬
‫ق ّدم داروين امل�ساعدة لروبرت �آدموند يف �أبحاثه عن ت�رشيح ودورة حياة الالفقاريات البحرية‬
‫يف فريث �أو فورث‪ .‬ويف ال�سابع والع�رشين من مار�س عام ‪ 1827‬م‪ .‬ق ّدم اكت�شافه اخلا�ص يف‬
‫جمعية بلينيان ب�أن الأبواغ ال�سوداء التي ُوجدت يف املحارة كانت ً‬
‫بي�ضا ل�سمك الورنك‪.‬‬
‫يف يو ِم ما‪ ،‬امتدح جرانت �أفكار المارك عن الن�شوء‪ ،‬فاج�أ ذلك داروين لكنه كان قد قر�أ م�ؤخرا ً‬
‫�أفكارا ً م�شابه ًة جلده �إيرا�سمو�س فظل غري مكرتث‪.‬‬
‫كان ف�صل التاريخ الطبيعي لروبرت جيم�سون (‪ُ )'Robert Jameson‬ي�شعر داروين‬
‫بامللل‪ ،‬وهذه املادة التي تغطي اجليولوجيا بالإ�ضافة �إىل مناق�شة بني النبتونية والبلوتونية‪.‬‬
‫تعلم ت�صنيف النباتات و�ساعد يف العمل على ت�شكيالت متحف اجلامعة‪ ،‬وهو واحد من �أكرب‬
‫املتاحف يف �أوروبا يف ذلك الوقت‪� .‬إن �إهماله للدرا�سات الطبية جعل والده ينزعج ‪ ،‬مما حدا به‬
‫�إىل �إر�ساله �إىل كلية امل�سيح بكامربدج للح�صول على بكالوريو�س الفنون كخطوة �أولية لي�صبح‬
‫رجل دين بالكن�سية الإجنيلية‪ .‬كان داروين غري م�ؤهل للح�صول على درجة الرتيبوزولذلك‬
‫التحق بالربنامج الدرا�سي االعتيادي يف يناير ‪1828‬م‪ .‬لقد ف�ضل داروين ركوب اخليل‬
‫والرماية بدالً من الدرا�سة‪.‬‬
‫حفزه ابن عمه وليام داروين فوك�س على جمع اخلناف�س‪ ،‬وفعالً كان داروين ي�ستمتع بذلك‪،‬‬
‫ون�رشت له بع�ض الر�سومات التو�ضيحية يف دورية �ستيفن للح�رشات الربيطانية‪.‬‬
‫�أ�صبح داروين �صديقا ً مقربا ً من �أ�ستاذ علم النباتات جون �ستيفنز هن�سلو وتعرف �أي�ضا على‬
‫ً‬
‫�آخرين من املهتمني بالطبيعة‪ ،‬والذين كانوا ينظرون للعلم من زاوية دينية بحتة‪� .‬أ�صبح داروين‬
‫يف ما بعد معروفا ً ب" الرجل الذي مي�شى مع هن�سلو"‪.‬‬
‫بعد عدة ت�أجيالت‪� ،‬شارك يف رحلة بحرية بد�أت يف ‪ 27‬دي�سمرب من عام ‪ 1831‬م‪ ،.‬وا�ستمرت ما‬
‫يقارب اخلم�س �سنوات‪ .‬وكما كانت ُخطة الكابنت فيزتوري‪ ،‬فقد ق�ضى داروين ُمعظم وقته �آنذاك‬
‫على الياب�سة يف امل�سح اجليولوجي ودرا�سة التاريخ الطبيعي للأنواع وكذلك ر�سم ال�سواحل‪.‬‬
‫لقد احتفظ داروين مبا جمعه من مالحظات بحذر وكذلك مبا و�ضعه من �أُطروحات ونظريات‪،‬‬
‫وما بني فرتة و�أخرى كانت ُتر�سل عيِّناته �إىل جامعة كامربدج مع ن�سخة من دوريته العلمية �إىل‬
‫�أ�رسته‪.‬‬
‫بع�ض اخلربة يف اجليولوجيا‪ ،‬وجمع وت�رشيح الالفقاريات‪ ،‬و�أما يف‬ ‫ُ‬ ‫لقد كان لداروين‬
‫املجاالت الأخرى فقد كان ُمبتدئًا وي�ستعني باخلرباء‪ .‬على الرغم مما كان يعانيه ِطوال‬
‫رحلتهم البحرية من ُدوار البحر‪ ،‬فلم مينع ذلك داروين من ال ِكتابة والت�أليف بغزارة بينما‬
‫هو على منت ال�سفينة‪.‬‬
‫ُمعظم مالحظاته وكتاباته يف علم احليوان كانت حول الالفقاريات البحرية‪ ،‬والتي تبد�أ من‬ ‫‪160‬‬
‫العوالق البحرية التي يجمعها عندما تهد�أ الأمواج‪.‬‬
‫يف �أول توقف لهم على �شاطئ �سانتيقو وجد داروين حزم ًة بي�ضاء متواجدة يف �سفوح‬
‫اجلبال الربكانية ومن �ضمنها �أ�صدا ًفا بحري ًة‪ .‬وقد �أعطاه فيتزروي الن�سخة الأوىل من‬
‫(نظريات اجليولوجيا) لت�شارلز اليل‪ ،‬والتي �ش َّكلت مفاهيم ارتفاع �سطح الأر�ض �أو هبوطه‬
‫على فرتات متباعدة‪ .‬ولقد ر�أى داروين الأمور من وجهة نظر اليل‪ ،‬مفك ًرا وحملالً ليكتب‬
‫كتا ًبا عن اجليولوجيا (علم الأر�ض)‪.‬‬
‫يف الربازيل �سرُ َّ داروين من ر�ؤية الغابات اال�ستوائية‪ ،‬ولكن �ساءته مناظر العبودية‪ .‬كما‬
‫وجد �أحافري عظمي ًة لثدييات �ضخمة منقر�ضة يف �أحد املنحدرات‪ ،‬بجانب �أ�صداف بحرية‬
‫تغي يف الطق�س‪.‬‬
‫حديثة‪ ،‬والتي ت�شري �إىل االنقرا�ض وعدم وجود عالمات لكارثة �أو ُرّ‬
‫�أي�ضا ً تع َّرف على ما ُيدعى بـ (جماثريمي) ‪ Megatheriumm‬ال�صغري‪ ،‬عرب ر�ؤية �أ�سنانه‬
‫والت�صاقه بدرع عظمي والذي َبدا له لأول وهلة كن�سخة عمالقة من حيوان املدرع املحلي‪.‬‬
‫وقد �أ َّدى ذلك الك�شف �إىل �إحداث جلبة واهتمام عند عودته �إىل �إجنلرتا‪.‬‬
‫ويف رحالته مع جو�شيو�س (‪ )gauchoss‬ال�ستك�شاف اجليولوجيا وجتميع املزيد من‬
‫الأحافري والتي �أك�سبته ر�ؤي َة �سيا�سية اجتماعية و�إنرثوبولوجية (علم الإن�سان) لك ٍل من‬
‫ال�سكان الأ�صليني واال�ستعماريني يف وقت الثورة‪ ،‬وعلِم �أن هناك نوعني من طيور الريا‬
‫(‪ )rhea‬املُختلفة واملتداخلة يف ال�شكل‪.‬‬
‫و ُكل َّما اجته �إىل اجلنوب �أكرث‪ ،‬كان يرى جمموع ًة من الأخ�شاب والأ�صداف البحرية ك�شواطئ‬
‫مرتفعة وك�أنها �سل�سلة من املرتفعات‪.‬‬
‫كما قام بقراءة الن�سخة الثانية ل"اليل" وتقبَّل وجهة نظره حول (مركز اخللق الإلهي)‬
‫للكائنات‪ ،‬ولكن اكت�شافاته ونظرياته حت َّدت �أفكار اليل با�ستمرار‪ ،‬بخ�صو�ص انقرا�ض‬
‫الكائنات‪.‬‬
‫نكونت نظرية داروين حول اجليولوجيا وانقرا�ض الثدييات العمالقة‪ ،‬خالل امل�سح يف‬
‫�سواحل �أمريكا اجلنوبية‪.‬‬
‫وعلى �صعيد االختالفات بني الب�رش‪ ،‬فبالن�سبة لداروين‪ ،‬هذه االختالفات �أظهرت فرقا ً يف‬
‫التق ُّدم احل�ضاري وبعي ًدا عن الدونية العن�رصية‪.‬‬
‫وعلى عك�س زمالئه ال ُعلماء‪ ،‬يعتقد الآن �أ َّنه " ال يوجد فجوة ميكن ردمها بني الإن�سان‬
‫واحليوان "‪.‬‬
‫يف نهاية املطاف‪ ،‬مت �إعادة كتابة ُم�شاهدات داروين يف عدد ثالث من جملة التاريخ الطبيعي‪.‬‬
‫ويف العا�صمة اجلنوب �أفريقية كيب تاون‪ ،‬قابل داروين وفيتزروي �شخ�صا ً ُيدعى جون‬
‫هري�شيل (‪ ،)John Herschell‬والذي كان قد َكتب ُم�ؤخ ًرا �إىل اليل‪ُ ،‬م�شي ًدا بفتحه املجال‬
‫للتك ُهنات اجلريئة لأ�رسار الأ�رسار‪ ،‬وعملية ا�ستبدال الكائنات املنقر�ضة ب�أنواع �أخرى‬
‫والذي يتناق�ض مع قوانني الطبيعة‪ .‬بد�أ داروين خالل العودة �إىل الوطن يف تنظيم مالحظاته‬
‫وم�شاهداته‪ ،‬وكتب‪:‬‬
‫‪161‬‬ ‫"�إذا ما كانت �شكوكي املتزايدة حول الطيور املحاكية‪ ،‬وال�سالحف‪ ،‬وثعلب جزر فوكالند‬
‫�صحيح ًة‪ ،‬ف� َّإن هذه احلقائق �سوف ُتق ّو�ض نظرية ا�ستقرار الأنواع"‪ .‬و ُيالحظ �أ َّنه بحذر‬
‫�شديد ا�ستخدم كلمة �سوف‪ ،‬قبل كلمة ُتق ّو�ض‪ .‬بعد ذلك كتب‪َّ �":‬إن من �ش�أن هذه احلقائق �أن‬
‫ُتلقي بع�ض ال�ضوء على �أ�صل الأنواع"‪.‬‬
‫ا�ستطاع داروين �أن يثبت ب�أن الإن�سان لي�س �إال واح ًدا من بني الكائنات املتطورة‪ ،‬و�أن الإن�سان‬
‫لي�ست له هذه الأهمية التي كان يت�صورها معظم النا�س يف املا�ضي‪ ،‬فمن يدرى رمبا �سبقته‬
‫كائنات �أخرى يف التطور‪.‬‬
‫وقد تكون هذه الدالالت النظرية هي ال�سبب الرئي�سي يف فزع رجال الدين و�سخطهم‪ ،‬الذين‬
‫ر�أوا يف داروين ملح ًدا لأنه مل ي�أخذ مبا جاء يف الكتاب املقد�س حرفياً‪ ،‬مع �أن نظرية التطور‬
‫كانت لتف�سري كيفية وجود �أول خلية‪.‬‬
‫تويف ت�شارلز داروين يف ‪ 17‬من �أبريل عام ‪ 1882‬م‪ .‬يف منزله دون " ‪، "Down House‬‬
‫ربا زوجته �إميا‪�" :‬أنا ل�ست خائ ًفا من املوت‪� ...‬أخربي كل‬ ‫وقد كانت �أخر كلماته لأ�رسته خم ً‬
‫�أوالدي �أن يتذكروا كم كانوا جيّدين معي"‪ .‬كما توقع �أن يتم دفنه يف مقربة كني�سة �سانت‬
‫ماري يف دون‪ ،‬ولكن بطلب من زمالء داروين بعد الدعاوى اجلماهريية والربملانية‪ ،‬نظم‬
‫ميا لداروين ودفن يف‬ ‫وليام �سبوت�سوود‪ ،‬رئي�س زمالة املجتمع العلمي‪ ،‬جناز ًة ر�سمية تكر ً‬
‫مقربة و�ستمن�سرت وبجانب جون هر�شل و�إ�سحاق نيوتن‪.‬‬
‫�أقنع داروين معظم العلماء ب�أن نظرية التطور �صحيحة‪ ،‬وقد مت مكاف�أته كعامل عظيم لديه‬
‫�أفكار ثورية‪ ،‬ومع ذلك فقلّة هم الذين وافقوا على نظريته التي تقول ب�أنّ "االنتقاء الطبيعي‬
‫هو الو�سيلة الأ�سا�سية ‪ -‬ولكنه لي�س ا�ستثنا ًء للتطور"‪.‬‬
‫يف عام ‪1909‬م‪ .‬مت تكرميه من قبل �أكرث من ‪ 4000‬عامل حول العامل‪ ،‬والذين تقابلوا يف‬
‫كامربيدج ليحتفلوا بذكراه ال�سنوية وبالذكرى اخلام�سة ع�رشة لـكتابه "�أ�صل الكائنات ‪".‬‬
‫يف هذه الفرتة والتي �أطلق عليها فرتة " ك�سوف دارويني"‪ ،‬تقدم العلماء بو�سائل متعددة‬
‫تطورية والتي �أثبتت فعاليتها الح ًقا؛ دمج التطور احلديث الرتكيبي (من ‪ 1930‬م‪� .‬إىل‬
‫‪ 1950‬م‪ ).‬باالنتقاء الطبيعي للوراثة ال�سكانية مع الوراثة املندلية والتي القت �إجما ًعا كب ً‬
‫ريا‬
‫ب�أن االنتقاء الطبيعي هو الطريقة الأ�سا�سية للتطور؛ هذه الرتكيبة عيّنت الإطار املرجعي‬
‫للمناق�شات والتح�سينات احلديثة للنظرية‪.‬‬
‫احلرب العاملية الأوىل‬ ‫‪162‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫" احل�ضارة حتتاج �إىل �أكرث من القانون لتتما�سك‪ .‬ال يت�ساوى النا�س يف قبول قوانني احل�ضارة"‬

‫من معارك الإنكليز يف ال�صحراء‬

‫تو ُّترات وانقالبات احلرب العامل ّية الأوىل‬


‫هذه احلرب التي بد�أت يف البلقان يف العام ‪ 1914‬م‪ .‬وانتهت يف العام ‪ 1918‬م‪ .‬وقعت بني‬
‫�أملانيا والنم�سا وتركيا من جهة‪ ،‬ورو�سيا وبريطانيا وفرن�سا (والواليات املتحدة الحقاً) من‬
‫جهة �أخرى‪.‬‬
‫�أ ّدت احلرب العاملية الأوىل ‪ -‬يف نهايتها ‪� -‬إىل هزمية تركيا و�أملانيا والنم�سا‪ ،‬وتوقيعها‬
‫اتفاقيات ا�ست�سالم بدءا ً باتفاقية فر�ساي (‪ 1918‬م‪ ،).‬وهذه التفاقيات كان لها �أ�ش ّد الوط�أة‬
‫على �أملانيا وتركيا � ً‬
‫أر�ضا و�شعبًا‪.‬‬
‫كما دفعت �شعوب يف ال�رشق والغرب م ًعا �أفظع اخل�سائر من جراء هذه احلرب‪ ،‬فقتل املاليني‬
‫يف هذه احلرب‪ ،‬ود ّمرت بلدا ًنا ومد ًنا‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫الثورة البل�شفية‬
‫احل�ضارات‬

‫الثورة ال�شيوعية الأول‬

‫الثورة البل�شف ّية‬


‫كانت �سيا�سات احلكومة الرو�سية امل�ؤقتة قد دفعت البالد �إىل حافة الكارثة‪ :‬ا�ضطرابات يف ال�صناعة‬
‫والنقل‪ ،‬وازدادت ال�صعوبات يف احل�صول على �أحكام‪ ،‬وانخف�ض �إجمايل الإنتاج ال�صناعي يف عام‬
‫‪1917‬م‪ .‬بن�سبة تزيد على ‪ 36‬يف املئة عما كان عليه يف العام ‪ 1916‬م‪.‬‬
‫يف اخلريف‪ ،‬ما ي�صل �إىل ‪ 50‬يف املئة من جميع ال�رشكات مت �إغالقها يف جبال الأورال ودونبا�س‪ ،‬واملراكز‬
‫ال�صناعية الأخرى‪ ،‬مما �أدّى �إىل ارتفاع معدالت البطالة‪ .‬ويف الوقت نف�سه‪ ،‬ارتفعت تكاليف املعي�شة‬
‫ب�شكل حاد‪ ،‬وتراجعت الأجور احلقيقية للعمال بنحو ‪ 50‬يف املئة عما كانت عليه يف عام ‪ 1913‬م‪.‬‬
‫وكانت ديون رو�سيا يف �أكتوبر ‪ 1917‬م‪ .‬قد ارتفعت �إىل ‪ 50‬مليار روبل‪.‬‬
‫هذا وكانت ت�شكل الديون امل�ستحقة للحكومات الأجنبية على رو�سيا �أكرث من ‪ 11‬مليار روبل‪ ،‬فكان البلد‬
‫يواجه خطرالإفال�س‪.‬‬
‫يف مذكرة دبلوما�سية يف ‪ 1‬مايو ‪ 1917‬م‪ ،‬قام وزير ال�ش�ؤون اخلارجية باقل ماليكوف و�أعرب عن رغبة‬
‫احلكومة امل�ؤقتة يف ا�ستمرار تعهداتها بالن�سبة �إىل احللفاء وا�ستمرار احلرب �ضد قوات املحور حلني‬
‫خروج رو�سيا منت�رص ًة‪ ،‬مما �أثار �سخطا ً وا�سع النطاق‪.‬‬
‫يف ‪ 4-1‬مايو ‪ 1917‬م‪ .‬حواىل ‪ 100,000‬من العمال واجلنود يف بطر�سربغ‪ ،‬وبعدهم العمال واجلنود‬
‫من املدن الأخرى‪ ،‬بقيادة البال�شفة‪ ،‬قاموا مبظاهرات حتت الفتات كتب عليها «ت�سقط احلرب» و»كل‬
‫ال�سلطة لل�سوفيات»‪ ،‬ف�أوقعت املظاهرات احلا�شدة احلكومة االنتقالية يف �أزمة‪.‬‬
‫يوم ‪ 1‬يوليو ‪ 1917‬م‪ .‬حوايل ‪ 500,000‬من العمال واجلنود يف �سانت بطر�سربغ جتمهروا رافعني‬
‫�شعارات «كل ال�سلطة لل�سوفيات»‪« ،‬فلت�سقط احلرب» و»لي�سقط ع�رشة وزراء للر�أ�سمالية‪ ».‬احلكومة‬
‫امل�ؤقتة تفتح هجو ًما �ضد الأملان يف ‪ 1‬يوليو‪ ،‬ولكنه �رسعان ما ينهار‪ .‬وعززت الأنباء عن الهجوم‬ ‫‪164‬‬
‫وانهياره ن�ضال العمال واجلنود‪ ،‬وبد�أت �أزمة جديدة يف احلكومة امل�ؤقتة يف ‪ 15‬يوليو ‪ 1917‬م‪.‬‬
‫بد�أ العمال واجلنود مبظاهرة عفوية يوم ‪ 16‬يوليو ‪ 1917‬م‪ .‬مطالبني ب�سلطة �أكرب لل�سوفيات‪.‬‬
‫يف ‪ 17‬متوز ‪ /‬يوليو‪� ،‬شارك �أكرث من ‪� 500,000‬شخ�ص يف تظاهرة �سلمية يف �سانت بطر�سربغ‪.‬‬
‫احلكومة امل�ؤقتة‪ ،‬بدعم من املنا�شفة‪ ،‬قامت بهجوم م�سلح �ضد املتظاهرين �أوقع ‪ 566‬قتيالً‪ ،‬و�أ�صاب‬
‫‪.650‬‬
‫بد�أت م�ؤامرة �ضد احلكومة‪ ،‬بقيادة اجلرنال كورنيلوف الذي كان القائد العام للقوات امل�سلحة منذ ‪18‬‬
‫يوليو‪ ،‬والذي اعرت�ض علي �سيا�سة كريين�سكي الرامية �إىل ما و�صفه بحل اجلي�ش والهزمية يف احلرب‪،‬‬
‫ً‬
‫وا�ستجابة لنداء البل�شفية‪،‬‬ ‫فقاد الوحدات املخل�صة له �إىل �سانت بطر�سربغ ليطيح باحلكومة امل�ؤقتة‪.‬‬
‫بد�أت الطبقة العاملة يف مو�سكو �إ�رضابا ً بحواىل ‪ 4000000‬عامل‪.‬‬
‫واجتاحت مو�سكو موجة من الإ�رضابات واملظاهرات احتجاج من قبل العاملني يف‪ :‬كييف‪،‬خاركوف ‪،‬‬
‫نيجني نوفغورود ‪� ،‬إيكاترينربج وغريها من املدن‪.‬‬
‫يف ‪� 25‬أغ�سط�س‪ ،‬بد�أ اليميني كورنيلوف متردًا ع�سكر ًيا‪ ،‬وبد�أ يتحرك يف اجتاه �سانت بطر�سربغ‪.‬‬
‫ونا�شدت اللجنة املركزية يف حزب العمل اال�شرتاكي الدميقراطي الرو�سي يف ‪� 27‬أغ�سط�س العمال‬
‫واجلنود والبحارة االجتاه لبطر�سربغ للدفاع عن الثورة‪.‬‬
‫احلزب البل�شفي من جهته‪ ،‬قام بتعبئة وتنظيم ال�شعب لهزمية التمرد‪.‬‬
‫واجته احلر�س الأحمر �إىل العا�صمة‪ ،‬والتي بلغ عدد قواته حواىل ‪ 250000‬مقاتل‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬
‫حامية للمدينة‪.‬‬
‫وقام كل من بحارة �أ�سطول بحر البلطيق‪ ،‬وع ّمال ال�سكك احلديدية‪ ،‬والعمال يف مو�سكو‪ ،‬ودونبا�س‪،‬‬
‫و جبال الأورال‪ ،‬واجلنود يف اجلبهة ويف العمق‪ ،‬فتمكنوا من هزمية اجلرنال كورنيلوف قائد التمرد‪.‬‬
‫يف ‪� 31‬أغ�سط�س‪ ،‬اكت�سح البال�شفة انتخابات احتاد العمال (ال�سوفيات) يف بريان�سك‪� ،‬سمارة‪،‬‬
‫�ساراتوف‪ ،‬مين�سك ‪،‬كييف وط�شقند وغريها من املدن‪.‬‬
‫يف يوم ‪� 1‬أيلول ‪� /‬سبتمرب ‪ ،‬تلقت اللجنة التنفيذية املركزية لل�سوفييت طلبات من ‪ 126‬من جمال�س‬
‫ال�سوفيات املحلية حثتها على اال�ستيالء على ال�سلطة‪.‬‬
‫يف �سبتمرب و�أكتوبر ‪ 1917‬م‪ ،‬كانت هناك �إ�رضابات من قبل العمال يف مو�سكو و�سانت بطر�سربغ‬
‫وعمال املناجم من دونبا�س‪ ،‬وكذلك من احلدادين من جبال الأورال‪ ،‬وعمال النفط يف باكو‪ ،‬وعمال‬
‫الغزل والن�سيج‪ ،‬وعمال ال�سكك احلديدية يف ‪ 444‬من خطوط ال�سكك احلديدية‪.‬‬
‫يف هذه الأ�شهر القليلة‪� ،‬أكرث من مليون عامل �شاركوا يف الإ�رضاب‪.‬‬
‫قام العمال بال�سيطرة على الإنتاج والتوزيع يف العديد من امل�صانع‪.‬‬
‫يف ‪� 10‬أكتوبر ‪ 1917‬م‪ ،‬اللجنة املركزية للبال�شفة �صوتت ‪� 10‬ضد ‪ 2‬لقرار يقول � ّإن «انتفا�ضة م�سلحة‬
‫�أمر ال مفر منه‪ ،‬وب�أن الوقت قد حان لذلك متا ًما»‪.‬‬
‫يوم ‪� 23‬أكتوبر ‪ 1917‬م‪ ،‬قام الثوار الي�ساريون حتت قيادة جيان بانتفا�ضة يف تالني‪ ،‬عا�صمة‬
‫�إ�ستونيا‪.‬‬
‫يف ‪� 25‬أكتوبر عام ‪ 1917‬م‪ ،‬قاد البال�شفة قواتهم �إيل االنتفا�ضة يف عا�صمة رو�سيا‪ ،‬ويف مقاومة غري‬
‫‪165‬‬ ‫" فلقد كان الرغيف برزخ العبور من مرحلة الهمجية �إىل مرحلة احل�ضارة"‬
‫فعالة من قبل كريين�سكي واحلكومة امل�ؤقتة‪ ،‬متكن البال�شفة من اال�ستيالء على املرافق احلكومية‬
‫الرئي�سية‪.‬‬
‫يف ليلة ‪� 26/25‬أكتوبر‪ ،‬مت �إطالق الهجوم على الق�رص ال�شتوي للقي�رص الذي كان يحر�سه القوزاق‬
‫وكتيبة من الن�ساء‪ ،‬ومتت ال�سيطرة عليه بدون مقاومة تذكر‪.‬‬
‫�أعلنت احلكومة اجلديدة التي �شكلها البال�شفة خروج رو�سيا من احلرب العاملية ورغبتها يف توقيع‬
‫اتفاقية انف�صالية مع �أملانيا‪.‬‬
‫كما �أ�صدر البال�شفة الذين غنموا ال�سلطة يف البالد‪ ،‬مرا�سيم تق�ضي مب�صادرة �أرا�ضي كبارالإقطاعيني‬
‫ومعامل الر�أ�سماليني‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �إعالن حق �شعوب الإمرباطورية الرو�سية باالنف�صال عنها‪.‬‬
‫يف ‪ 12‬نوفمرب عام ‪ 1917‬م‪� .‬أجريت يف رو�سيا االنتخابات يف اجلمعية الت�أ�سي�سية (الربملان)‪ ،‬لكن‬
‫احلزب البل�شفي مل يح�صل فيها على �أغلبية الأ�صوات‪ ،‬كما ع ّول على ذلك‪.‬‬
‫وبعد رف�ض نواب الربملان �إقرار املرا�سيم ال�صادرة عن احلكومة البل�شفية‪ ،‬مت حل اجلمعية الت�أ�سي�سية‬
‫بالقوة يف يناير عام ‪ 1918‬م‪ ،‬الأمر الذي �أثار احتجاج القوى الدميوقراطية يف البالد‪.‬‬
‫لكن البال�شفة �أمروا ب�إطالق النريان على املظاهرة ال�سلمية‪ ،‬مما �أدى �إىل مقتل ‪� 21‬شخ�صا‪ً.‬‬
‫كانت �أهداف الثورة‪:‬‬
‫‪ -‬حتقيق امل�ساواة بني فئات ال�شعب كافة من جميع النواحي‪.‬‬
‫‪ -‬والق�ضاء على الر�أ�سمالية الإقطاعية‪.‬‬
‫‪ -‬وحتقيق اال�شرتاكية والعمل اال�شرتاكي املوحد‪.‬‬
‫ومن نتائجها‪:‬‬
‫مت �إقرار جمل�س مف ّو�ضي ال�شعب ك�أ�سا�س للحكومة اجلديدة‪.‬‬
‫قام جمل�س مفو�ضي ال�شعب ب�إقرار �سل�سلة من االعتقاالت لكل من زعماء املعار�ضة وقادة املنا�شفة‬
‫واحلزب اال�شرتاكي الثوري‪ ،‬وحب�سهم بقلعة بول�س وبطر�س‪.‬‬
‫كما مت �إطالق جمموعة من املرا�سيم ت�شمل ‪:‬‬
‫مر�سوم �صدّق على �أعمال الفالحني الذين ا�ستولوا على الأرا�ضي يف جميع �أنحاء رو�سيا و�إعادة‬
‫توزيعها فيما بينهم‪.‬‬
‫مت ت�أميم جميع البنوك الرو�سية‪.‬‬ ‫و ّ‬
‫و�صودرت احل�سابات امل�رصفية اخلا�صة‪.‬‬
‫كما �صودرت خ�صائ�ص الكني�سة (مبا يف ذلك احل�سابات امل�رصفية) امل�ضبوطة‪.‬‬
‫ترب�أ البال�شفة من جميع الديون اخلارجية‪.‬‬
‫و�أعطي التحكم يف امل�صانع لل�سوفييت‪.‬‬
‫كما مت �إ�صالح الأجور مبعدالت �أعلى مما كانت عليه خالل احلرب‪ ،‬وبدوام �أق�رص‪ ،‬ملدة ثماين �ساعات‬
‫عمل يف اليوم‪.‬‬
‫بدايات الفا�شية والنازية‬ ‫‪166‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫" تعجز احل�ضارة �أحيانا عن ت�شذيب االن�سان ‪"...‬‬

‫عر�ض للنازيني‬

‫الإيديولوج َّيات‬
‫تتح ّول �إىل �أنظمة وحروب‬
‫بدايات الفا�ش ّية والنا ّزية‬
‫منذ خ�سارة احلرب العاملية الأوىل واليمينيون الأملان يف حالة توتر وغليان ون�شاط غري‬
‫منقطع‪� ،‬أدى يف النهاية �إىل ت�شكيل حزب مييني متطرف قوي هو احلزب العمايل اال�شرتاكي‬
‫الأملاين امل�سمى اخت�صارا ً (نازي)‪ ،‬و�أبرز قياداته �أدولف هتلر الذي �أ�صدر د�ستور حزبه‬
‫كتابه ال�شهري "كفاحي" منذ عام ‪ 1921‬م‪.‬‬
‫وقامت باملقابل ويف املوازاة �أنظمة فا�شية يف ك ّل من اليابان (الإمرباطور هريوهيتو) و�إيطاليا‬
‫(مو�سوليني) و�إ�سبانيا (فرانكو)‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬كان حلف ه�ؤالء نواة "دول املحور" التي واجهت "دول التحالف" يف حرب مل‬
‫ي�شهد التاريخ لها مثيالً‪ ،‬هي احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫‪167‬‬ ‫احلرب العاملية الثانية‬
‫احل�ضارات‬ ‫" اخلائفون من الإبداع‪ ,‬قد يبنون مدنا‪ ,‬ولكنهم ال ي�ستطيعون ان يبنوا ح�ضارة"‬

‫دمار هائل خالل احلرب العاملية الثانية‬

‫احلرب العاملية الثانية‬

‫خم�سة وخم�سون مليون �ضحية �سقطوا يف احلرب العاملية الثانية‪ ،‬التي ا�ستمرت بني‬
‫عامي ‪ 1939‬م‪ .‬و‪ 1945‬م‪.‬‬
‫قامت هذه احلرب بعدما احت ّل اجلي�ش النازي بولونيا يف خريف ‪ 1939‬م‪ .‬ف�أعلنت كل من‬
‫بريطانيا وفرن�سا احلرب على نظام هتلر‪ ،‬الذي حتالف معه نظام مو�سوليني يف �إيطاليا‬
‫وكذلك اليابان‪.‬‬
‫وتو�سع اجلي�ش النازي ب�شكل كبري‪� ،‬إن�ض ّم ال�سوفيات �إىل احللفاء‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫مع تق ّدم املعارك‬
‫ث ّم الواليات املتحدة‪.‬‬
‫�إنتهت هذه احلرب بهزمية �إيطاليا �أوالً ومن ث ّم �أملانيا و�أخريا ً اليابان يف �صيف العام ‪ 1945‬م‪.‬‬
‫�إ�ستخدم ال�سالح النووي لأول مرة خالل هذه احلرب‪.‬‬
‫قيام الأمم املتحدة‬ ‫‪168‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫" تعليمنا يف املدار�س يزكي فينا احل�ضارة فقط‪ ،‬وال ي�ساهم ب�شيء يف ثقافتنا"‬

‫قادة العامل احلديث‬

‫ما بعد احلرب العاملية الثانية‬


‫قيام الأمم امل ّتحدة‬
‫كان للخ�سائر التي منيت بها الب�رشية من جراء احلرب العاملية الثانية الأثر العميق على الفكر‬
‫والوجدان الإن�ساين‪.‬‬
‫ف�أن�شئت منظمة الأمم املتحدة (‪ 1945‬م‪ ،).‬لإيجاد و�سائل �سلمية حل ّل النزاعات الأممية‬
‫بديلة عن احلروب‪.‬‬
‫كما كانت الأمم املتحدة خالل الن�صف الثاين من القرن الع�رشين امليالدي وحتى الآن‪ ،‬تلعب‬
‫دو ًرا �إن�سانيًا �شامالً‪ ،‬من خالل فروعها ومنظماتها املتعددة‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان‬
‫احل�ضارات‬ ‫"الكتاب هو النور الذي ير�شد �إىل احل�ضارة"‬

‫�شعار الأمم املتحدة‬

‫الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان‬

‫�أعلنت �رشعة حقوق الإن�سان (‪ 1948‬م‪ ).‬لو�ضع �أ�س�س ومبادئ قيميّة للتعامل بني الب�رش‬
‫باحرتام للكرامة واحلياة‪.‬‬
‫فكان هذا الإعالن فري ًدا وا�ستثنائيًا و�شامالً ملجمل احلقوق الإن�سانية (حقوق الإن�سان واملدنيني‬
‫واملر�أة والطفل واملع ّوقني‪.)...‬‬
‫ومن الالفت �أنّ �صيغة الإعالن و�ضعها املف ّكر اللبناين الدكتور �شارل مالك‪ ،‬ما اعترب م�ساهم ًة‬
‫لبناني ًة �إ�ضافي ًة يف احل�ضارة العاملية املعا�رصة‪.‬‬
‫احلرب الباردة وحمطاتها‬ ‫‪170‬‬
‫احل�ضارات‬

‫ال�شعوب بني مع�سكرين‬

‫احلرب الباردة وحمطاتها‬

‫احلرب الباردة م�صطلح ي�ستخدم لو�صف حالة ال�رصاع والتوتر والتناف�س التي كانت‬
‫توجد بني الواليات املتحدة واالحتاد ال�سوفييتي وحلفاء ك ّل منهما‪ ،‬يف الفرتة ما بني منت�صف‬
‫الأربعينيات وحتى �أوائل الت�سعينيات من القرن الع�رشين للميالد‪.‬‬
‫خالل هذه الفرتة‪ ،‬ظهرت الن ّدية بني القوتني العظميني من خالل التحالفات الع�سكرية‬
‫ووو�سائل الدعاية وتطوير الأ�سلحة والتقدم ال�صناعي وتطوير التكنولوجيا والت�سابق‬
‫الف�ضائي‪.‬‬
‫ولقد تناف�ست الق ّوتان العظميان يف �إنفاق كبري على الدفاع الع�سكري والرت�سانات النووية‬
‫واحلروب غري املبا�رشة (با�ستخدام و�سيط)‪.‬‬
‫ويف ظ ّل غياب حرب معلنة بني الواليات املتحدة واالحتاد ال�سوفييتي‪ ،‬قامت القوتان‬
‫باال�شرتاك يف عمليات بناء حتالفات ع�سكرية و�رصاعات �سيا�سية من �أجل امل�ساندة‪ .‬على‬
‫الرغم من �أن الواليات املتحدة واالحتاد ال�سوفييتي كانا حليفني �ضد قوات املحور‪� ،‬إال �أن‬
‫القوتني اختلفتا يف كيفية �إدارة ما بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬و�إعادة بناء العامل‪.‬‬
‫فخالل ال�سنوات التالية للحرب‪ ،‬انت�رشت احلرب الباردة خارج �أوروبا �إىل كل مكان يف‬
‫العامل‪ ،‬حيث �سعت الواليات املتحدة �إىل �سيا�سات املحا�رصة واال�ستئ�صال لل�شيوعية وح�شد‬
‫احللفاء خا�ص ًة يف �أوروبا الغربية وال�رشق الأو�سط‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫خالل هذه الأثناء‪ ،‬دعم االحتاد ال�سوفييتي احلركات ال�شيوعية حول العامل خا�ص ًة يف �أوروبا‬
‫ال�رشقية و�أمريكا الالتينية ودول جنوب �رشق �آ�سيا‪.‬‬
‫�صاحبت فرتة احلرب الباردة عدة �أزمات دولية مثل‪:‬‬
‫�أزمة ح�صار برلني ‪ 1949 1948-‬م‪.‬‬
‫واحلرب الكورية ‪ 1953 1950-‬و�أزمة برلني عام ‪ 1961‬وحرب فيتنام ‪1975-1956‬‬
‫والغزو ال�سوفييتي لأفغان�ستان وخا�صة �أزمة ال�صواريخ الكوبية ‪ 1962‬م‪ .‬عندما �شعر‬
‫العامل �أنه على حافة االجنراف �إىل حرب عاملية ثالثة‪.‬‬
‫و�آخر �أزمة حدثت خالل تدريبات قوات الناتو ‪1983‬عام ‪ 1983‬م‪.‬‬
‫أي�ضا فرتات من التهدئة عندما كانت القوتان العظميان ت�سعيان نحو‬ ‫�شهدت احلرب الباردة � ً‬
‫التهدئة‪.‬‬
‫كما مت جتنب املواجهات الع�سكرية املبا�رشة‪ ،‬لأن حدوثها كان �سي�ؤدي �إىل دمار حمتم لكال‬
‫الطرفني ب�سبب الأ�سلحة النووية‪.‬‬
‫اقرتبت احلرب الباردة من نهايتها �أواخر الثمانينات وبداية الت�سعينات‪.‬‬
‫بو�صول الرئي�س الأمريكي رونالد ريغان �إىل ال�سلطة‪� ،‬ضاعفت الواليات املتحدة �ضغوطها‬
‫ال�سيا�سية والع�سكرية واالقت�صادية على االحتاد ال�سوفيتي‪.‬‬
‫يف الن�صف الثاين من الثمانينات‪ ،‬ق ّدم القائد اجلديد لالحتاد ال�سوفيتي ميخائيل غوربات�شوف‬
‫مبادرتي بريي�ستوريكا (�إ�صالحات اقت�صادية) وغال�سنوت (مبادرة اتباع �سيا�سات �أكرث‬
‫�شفافي ًة و�رصاح ًة)‪.‬‬
‫لينهار االحتاد ال�سوفييتي عام ‪ 1991‬تار ًكا الواليات املتحدة القوة العظمى الوحيدة يف عامل‬
‫�أحادي القطب‪.‬‬
‫العلم يف تط ّور حمموم‬ ‫‪172‬‬
‫احل�ضارات‬

‫الربت اين�شتاين‬

‫العلم يف تط ّور حمموم‬

‫عرف هذا الع�رص تطو ًرا علميًا هائالً مل ت�شهده الب�رشية من قبل‪ ،‬فقد تقدمت النظريات‬
‫العلمية واالبتكارات العملية با�ستمرار‪� ،‬أما التكنولوجيا ف�أ�صبحت يف م�ستويات ال ميكن‬
‫متابعتها من حيث ال�رسعة والتفوق على � ّأي خيال‪.‬‬

‫من هو �ألربت �أين�شتاين؟‬


‫ُولد �ألربت �أين�شتاين يف مدينة �أُومل الأملانية يف ‪ 14‬مار�س ‪ 1879‬م‪ .‬لأبوين يهوديني‪ ،‬و�أم�ضى‬
‫�سِ ن يفاعته يف ميونخ‪ .‬كان �أبوه "هريمان �أين�شتاين" يعمل يف بيع ال ّري�ش امل�ستخدم يف �صناعة‬
‫الو�سائد‪ ،‬وعملت �أ ّمه "ين بولني كوخ" معه يف �إدارة ور�ش ٍة �صغري ٍة لت�صنيع الأدوات الكهربائية‬
‫بعد تخلّيه عن مهنة بيع ال ّري�ش‪.‬‬
‫ت�أخر �أين�شتاين الطفل يف النطق حتى الثالثة من عمره‪ ،‬لكنه �أبدى �شغ ًفا كب ً‬
‫ريا بالطبيعة‪ ،‬ومقدر ًة‬
‫على �إدراك املفاهيم الريا�ضيّة ال�صعبة‪ ،‬وقد در�س وحده الهند�سة الإقليدية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من انتمائه لليهودية‪ ،‬فقد دخل �أين�شتاين مدر�سة �إعدادية كاثوليكية وتل ّقى درو�سا ً‬
‫يف العزف على �آلة الكمان‪.‬‬
‫يف اخلام�سة من عمره‪� ،‬أعطاه �أبوه بو�صل ًة‪ ،‬وقد �أدرك �أين�شتاين �آنذاك �أن ث ّمة قو ًة يف الف�ضاء تقوم‬
‫بالت�أثري على �إبرة البو�صلة وتقوم بتحريكها‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫وقد كان يعاين من �صعوبة يف اال�ستيعاب‪ ،‬ورمبا كان مر ُّد ذلك �إىل خجله يف طفولته‪ .‬وي�شاع �أن‬
‫�أين�شتاين الطفل قد ر�سب يف مادة الريا�ضيات يف ما بعد‪� ،‬إال �أن املرجح �أن التعديل يف تقييم درجات‬
‫التالميذ �آنذاك �أدى �إىل �أن الطفل �أين�شتاين قد ت� ّأخر ور�سب يف مادة الريا�ضيات‪ .‬وتبنَّى اثنان من‬
‫�أعمام �أين�شتاين رعايته ودعم اهتمام هذا الطفل بالعلم ب�شكل عام‪ ،‬فز ّوداه بكتب ٍتتعلق بالعلوم‬
‫والريا�ضيات‪.‬‬
‫بعد تكرر خ�سائر الور�شة التي �أن�ش�أها والداه يف عام ‪1894‬م‪ ،‬انتقلت عائلته �إىل مدينة بافيا يف‬
‫�إيطاليا‪ ،‬وا�ستغل �أين�شتاين االبن الفر�صة ال�سانحة لالن�سحاب من املدر�سة يف ميونخ التي كره‬
‫فيها النظام ال�صارم والروح اخلانقة‪.‬‬
‫و�أم�ضى بعدها �أين�شتاين �سن ًة مع والديه يف مدينة ميالنو‪ ،‬حتى تبني �أن من الواجب عليه حتديد‬
‫طريقه يف احلياة‪ ،‬ف�أنهى درا�سته الثانوية يف مدينة �آروا ال�سوي�رسية‪ ،‬وتق َدّم بعدها �إىل امتحانات‬
‫املعهد الإحتادي ال�سوي�رسي للتقنية يف زيورخ عام ‪ 1895‬م‪ ،‬وقد �أحب �أين�شتاين طرق التدري�س‬
‫فيه‪ ،‬وكان كثريا ً ما يقتطع من وقته ليدر�س الفيزياء مبفرده‪� ،‬أو ليعزف على كمانه‪� ،‬إىل �أن اجتاز‬
‫ر�شحوه للدخول �إىل اجلامعة‪...‬‬ ‫االمتحانات وتخ َّرج يف عام ‪ 1900‬م‪ ،‬لكن ُمد ِّر�سيه مل ُي ِّ‬
‫ومن �أعظم �إجنازاته هو �إكت�شافه ملوجات اجلاذبية التي ال ميكن ر�ؤيتها‪ ،‬ولكن ي�ستدل عليها من‬
‫�آثارها التي تظهر �أكرث ما تظهر عندما تتحرك الأجرام الهائلة يف الف�ضاء بقوة ‪.‬‬
‫ومن تكهناته‪� :‬إميانه ب�إ�ستحالة قيا�س ال�رسعة اللحظية للج�سيمات املتناهية ال�صغر‪ ،‬والتي تهت ّز‬
‫ع�شوائيا ً يف خمتلف الإجتاهات يف ما يعرف با�سم "احلركة الرباونية"‪.‬‬
‫وخالل لقاء مع �صحيفة يف مدينة بيت�سربغ‪ ،‬بخ�س �أين�شتاين قدرة العلماء على �شطر الذرة‬
‫بت�صويب القذائف الربوتونية‪ ،‬وا�ص ًفا �إياها كمن ي�سدد يف الليل نحو الع�صافري يف بلد لي�س فيه‬
‫�إال قلة من الع�صافري‪ .‬وهذا ما دح�ضه فريمي ورفاقه بعد ع�رش �سنوات حينما �شطروا الذرة‬
‫و�صنعوا القنبلة النووية‪.‬‬
‫كان �أين�شتاين قد تنازل عن �أوراقه الر�سمية الأملانية يف عام ‪ 1896‬م‪ ،‬حتى ال ي�ؤدي اخلدمة‬
‫معي‪.‬‬‫الع�سكرية التي كان يكره �أداءها ب�شدة‪ ،‬مما جعله بال هوية �إثبات �شخ�صية �أو �إنتما ٍء لأي بل ٍد نّ‬
‫ويف عام ‪ 1898‬م‪ ،‬التقى �أين�شتاين ب "ميلفا ماريك ‪ "Mileva Maricc‬زميلته ال�رصبية على‬
‫مقاعد الدرا�سة ووقع يف غرامها‪ ،‬وكان يف فرتة الدرا�سة يتناق�ش مع �أ�صدقائه املق ّربني يف املوا�ضيع‬
‫العلمية‪.‬‬
‫ً‬
‫وبعد تخرجه يف عام ‪ 1900‬م‪ .‬عمل �أين�شتاين مد ّر ً�سا بديال‪ ،‬ويف العام الذي يليه ح�صل على حق‬
‫املواطنة ال�سوي�رسية‪ ،‬و ُرزق بطفل ٍة غري �رشعية من �صديقته �أ�سمياها (لي�سريل)‪ ،‬وذلك يف كانون‬
‫الثاين (يناير) من العام ‪ 1901‬م‪.‬‬
‫معظم ما �أخذه �أين�شتاين يف نظريته الن�سبية اخلا�صة كان من العامل الإجنليزي �إ�سحاق نيوتن‪.‬‬
‫منا�سب يف �سلك‬
‫ٍ‬ ‫�أما جر�أة �أين�شتاين يف �شبابه فحالت بينه وبني احل�صول على عمل‬
‫التدري�س‪ ،‬لكن ومب�ساعدة والد �أحد زمالء مقاعد الدرا�سة ح�صل على وظيفة فاح�ص‬
‫(مخُ تبرِ ) يف مكتب ت�سجيل براءة االخرتاعات ال�سوي�رسي يف عام ‪ .1902‬تزوج �أين�شتاين‬
‫من �صديقته "ميلِفا" يف ‪ 6‬كانون الثاين يناير ‪1903‬و ُرزق بابن حمل ا�سم "هانز" يف ‪14‬‬
‫"�إن احل�ضارة ال ميثلها الغرب �أو ال�رشق بل ميثلها الإن�سان القادر على تذ ُّوق اجلمال �أينما يراه"‬ ‫‪174‬‬

‫من �أيار (مايو) عام ‪ ،1904‬ويف هذه الأثناء �أ�صبح عمل �أين�شتاين يف مكتب الت�سجيل‬
‫ال�سوي�رسي دائماً‪ ،‬وقام بالتح�ضري لر�سالة الدكتوراه يف نف�س الفرتة‪ ،‬ومتكن من‬
‫احل�صول على �شهادة الدكتوراه يف عام ‪ 1905‬من جامعة زيورخ‪ ،‬وكان مو�ضوع‬
‫مقاالت علمي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫الر�سالة يدور حول �أبعاد اجلزيئات‪ ،‬ويف العام نف�سه كتب �أين�شتاين ‪4‬‬
‫دون الرجوع للكثري من املراجع العلمية �أو الت�شاور مع زمالئه الأكادمييني‪ ،‬وتعترب‬
‫هذه املقاالت العلمية اللبنة الأوىل للفيزياء احلديثة التي نعرفها اليوم‪ .‬در�س �أين�شتاين يف‬
‫الورقة الأوىل ما ُيعرف با�سم احلركة الرباونية‪ ،‬فقدم العديد من التنبُّ�ؤات حول حركة‬
‫اجل�سيمات املوزعة ب�صور ٍة ع�شوائية يف ال�سائل‪.‬‬
‫كما عرف �أين�شتاين "ب�أبي الن�سبية"‪ ،‬تلك النظرية التي هزت العامل من اجلانب العلمي‪،‬‬
‫�إال �أن جائزة نوبل ُمنحت له يف جمال �آخر (املفعول الكهر�ضوئي) وهو ما كان مو�ضوع‬
‫الورقة الثانية‪.‬‬
‫�أما ورقة �أين�شتاين العلمية الثالثة فكانت عن "النظرية الن�سبية اخلا�صة"‪،‬‬
‫فتناولت هذه الورقة ‪:‬‬
‫الزمان‪ ،‬واملكان‪ ،‬والكتلة‪ ،‬والطاقة‪ .‬و�أ�سهمت نظرية �أين�شتاين هذه ب�إزالة الغمو�ض‬
‫الذي جنم عن التجربة ال�شهرية التي �أجراها الأمريكيّان الفيزيائي �ألربت ميكل�سون‬
‫والكيميائي �إدوارد موريل) �أواخر القرن التا�سع ع�رشامليالدي) يف عام ‪ 1887‬م‪ ،‬فقد‬
‫�أثبت �أين�شتاين �أن موجات ال�ضوء ت�ستطيع �أن تنت�رش يف اخلالء دون احلاجة لوجود‬
‫و�سط �أو جمال‪ ،‬على خالف املوجات الأخرى املعروفة التي حتتاج �إىل و�سط تنت�رش فيه‬
‫كالهواء �أو املاء‪ ،‬و�أن �رسعة ال�ضوء هي �رسعة ثابتة ولي�ست ن�سبي ًة مع حركة املراقب‬
‫(املالحظ)‪.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن نظرية �أين�شتاين تلك تناق�ضت ب�شكل كلّي مع ا�ستنتاجات‬
‫"�إ�سحاق نيوتن‪".‬‬
‫جاءت ت�سمية النظرية باخلا�صة‪ ،‬للتفريق بينها وبني نظرية �أين�شتاين الالحقة التي‬
‫�س ِّميت بالن�سبية العامة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يف عام ‪ 1906‬م‪ .‬ترقى �أين�شتاين يف ال�سلم الوظيفي من مرتبة فاح�ص فني خمترب‬
‫�أول �إىل مرتبة فاح�ص فني من الدرجة الثانية‪ ،‬ويف عام ‪ 1908‬م‪ُ .‬منح �إجاز ًة لإلقاء‬
‫الدرو�س واملحا�رضات من "برين" يف �سوي�رسا‪ ،‬و ُولد الطفل الثاين لأين�شتاين الذي‬
‫�س ِّمي "�إدوارد" يف ‪ 28‬متوز يوليو ‪ 1910‬م‪ ،.‬وطلّق �أين�شتاين بعدها زوجته ميلِفا يف‬ ‫ُ‬
‫‪� 14‬شباط (فرباير ‪ 1919‬م‪ ،).‬وتزوج من ابنة ع ّمه "ايل�سا لوينثال" التي كانت تكربه‬
‫بثالث �سنوات يف ‪ 2‬حزيران يونيو‪ 1919‬م‪.‬‬
‫وال يعلم �أحد حتى هذه ال�ساعة �شيئًا عن م�صري طفلة �أين�شتاين الأوىل غري ال�رشعية‬
‫‪175‬‬ ‫من زوجته ميلِفا‪� ،‬إذ يعتقد البع�ض �أنها ماتت يف فرتة الر�ضاعة‪ ،‬ويعتقد البع�ض الآخر �أن‬
‫والديها �أعطياها ملن ال �أوالد له للتبني‪.‬‬
‫�أ ّما بالن�سبة لأوالد �أين�شتاين الباقني‪ ،‬فقد �أُ�صيب �أحدهما مبر�ض انف�صام ال�شخ�صية‪،‬‬
‫ومات فيما بعد يف امل�صح العقلي الذي توىل عالجه ورعايته‪.‬‬
‫�أ ّما االبن الثاين‪ ،‬فقد انتقل لوالية كاليفورنيا الأمريكية للعي�ش فيها‪ ،‬ومن ثم �أ�صبح �أ�ستا ًذا‬
‫يف اجلامعة‪ ،‬وكانت ات�صاالته مع والده حمدود ًة ج ًدا‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1914‬م‪ .‬وقبيل احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬ا�ستقر �أين�شتاين يف مدينة "برلني" الأملانية‪،‬‬
‫ومل يكن �أين�شتاين من دعاة احلرب ولكنه كان �أملانيًا يهود ًيا‪ ،‬مما ت�سبب ب�شعور القوميني‬
‫الأملان بال�ضيق جتاه هذا الرجل‪ ،‬وت�أجج هذا االمتعا�ض لأين�شتاين من قبل القوميني‬
‫الأملان عندما �أ�صبح �أين�شتاين معرو ًفا على امل�ستوى العاملي بعدما خرجت جملة "التامي"‬
‫الأمريكية يف ‪ 7‬ت�رشين الثاين (نوفمرب) ‪ 1919‬م‪ .‬مبقالٍ ي�ؤكد �صحة نظرية �أين�شتاين‬
‫املتعلقة باجلاذبية‪.‬‬
‫بو�صول القائد النازي �أدولف هتلر �إىل ال�سلطة يف �أملانيا عام ‪ 1933‬م‪ .‬تزايدت الكراهية‬
‫جتاه �أين�شتاين‪ ،‬فاتهمه القوميون النازيون بت�أ�سي�س "الفيزياء اليهودية"‪ ،‬كما حاول‬
‫بع�ض العلماء الأملان النيل من حقوق �أين�شتاين يف نظرياته‪ ،‬الأمر الذي دفع �أين�شتاين‬
‫للهرب �إىل الواليات املتحدة الأمريكية والتي منحته بدورها �إقام ًة دائم ًة‪ ،‬وحيث انخرط يف‬
‫"معهد الدرا�سات املتقدمة" التابع جلامعة برين�ستون يف والية نيو جري�سي‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1939‬م‪ .‬كتب ر�سالته ال�شهرية �إىل الرئي�س الأمريكي روزفلت‪ ،‬لينبهه �إىل‬
‫�رضورة الإ�رساع يف �إنتاج القنبلة الذرية قبل الأملان وذلك قبل �أن يهاجر �إىل الواليات‬
‫املتحدة‪.‬‬
‫ويف عام ‪1940‬م‪� ،‬صار �أين�شتاين مواطنًا �أمريكيًا مع احتفاظه بجن�سيته ال�سوي�رسية‪.‬‬
‫يف ‪� 18‬أبريل ‪ 1955‬م‪ .‬تُويف �ألربت �أين�شتاينن و�أحرِقَ جثمانه يف مدينة "ترينتون" يف والية‬
‫وحفظ دماغ العامل �أين�شتاين يف ج ّرة‬ ‫"نيو جري�سي" ونُرث رماد ُه يف مكان غري معلوم‪ُ ،‬‬
‫عند الطبيب ال�رشعي "توما�س هاريف" الذي كان قد قام بت�رشيح جثته بعد موته‪ .‬وقد‬
‫�أو�صى �أين�شتاين �أن حتفظ م�سوداته ومرا�سالته يف اجلامعة العربية يف القد�س‪ ،‬و�أن تنقل‬
‫حقوق ا�ستخدام ا�سمه و�صورته �إىل هذه اجلامعة‪ .‬وكان �سبب الوفاة التمدد يف ال�رشيان‬
‫الأورطي‪.‬‬
‫الإهتمام بالبيئة ُي�صبح عامل ًّيا‬ ‫‪176‬‬
‫احل�ضارات‬

‫الدكتور بديع �أبو جودة يزرع �شجرة �أرز على مدخل الأون�سكو‬
‫‪ -‬بريوت‬
‫يوم البيئة العاملي الأول ‪ -‬لبناين‬
‫يف القرن الع�رشين للميالد‪ ،‬ظهرت بادرة نحو البيئة‪� ،‬إنطلقت �رشار ًة من لبنان‪ ،‬وع ّمت العامل‬
‫�أجمع‪.‬‬
‫فقد �أعلن الدكتور بديع �أبو جودة‪ ،‬يف العام ‪ 1962‬م‪" .‬يوم البيئة العاملي" فكانت �سابق ًة تاريخية‪،‬‬
‫تبعها �إعالن �صادر عن منظمة الأمم املتحدة لتعيني يوم "البيئة العاملي" بعد ع�رش �سنوات‪� ،‬أي يف‬
‫العام ‪ 1972‬م‪.‬‬
‫وقد �أق ّرت عدة جهات دولية (حكومي ًة وغري حكومية) ‪،‬جامعات‪ ،‬جماعات ومنظمات وجمعيات‬
‫وجه البابا‬‫�أممية وحملية‪� ،‬أ�سبقية الإعالن اللبناين املتمثّل ب�شخ�ص الدكتور بديع �أبو جودة‪ .‬كما ّ‬
‫القدي�س يوحنا بول�س الثاين ر�سال ًة فريد ًة يف هذا ال�ش�أن للدكتور بديع �أبو جودة‪ ،‬مثنيا ً على‬
‫دوره الريادي ومبار ًكا للبيئيني ورجال ال�سالم على عملهم ال�صالح للإن�سانية جمعاء‪� .‬إنّ‬
‫�أهمية هذه البادرة يف الإعالن عن "يوم البيئة العاملي" تتخطى ال�شكل �إىل امل�ضمون وتتجاوز‬
‫املنا�سبة لتغو�ص يف املغزى‪� ،‬إذ باتت البيئة حتت ّل منذ ذلك احلني ال�صدارة يف اهتمام وتقومي‬
‫امل�س�ؤولني والهيئات كاف ًة على امتداد العامل‪ ،‬وب�شكل متزايد وم ّطرد عرب العقود وال�سنني‪.‬‬
‫وبهذا املنحى‪ ،‬ت�ش ّكل البيئة اليوم نطا ًقا رحبًا وميدا ًنا وا�س ًعا‪ ،‬للوعي والعمل م ًعا‪ ،‬من �أجل‬
‫�إنقاذ الب�رشية والكوكب‪ ،‬من �أ�رش�س ما يته َّددهما من �أخطار‪.‬‬
‫‪177‬‬

‫ن�ص ر�سالة البابا القدي�س يوحنا بول�س الثاين لرائد البيئة الأول يف العامل‬
‫ّ‬
‫الدكتور بديع �أبو جودة‬
‫حروب العرب و�إ�رسائيل‬ ‫‪178‬‬
‫احل�ضارات‬

‫حرب اكتوبر‬

‫حروب العرب و�إ�رسائيل‬


‫�إ�رسائيل هي من نتاجات احلرب العاملية الثانية‪ ،‬والتي �أعلن قيامها ‪ -‬كدولة ‪ -‬دافيد بن‬
‫غوريون يف مايو �أيار من العام ‪ 1948‬م‪.‬‬
‫فاندلعت على �أثر هذا الإعالن احلرب العربية الإ�رسائيلية الأوىل التي هزم فيها العرب‪،‬‬
‫رشد خاللها ع�رشات �آالف الفل�سطينيني‪.‬‬ ‫و� ّ‬
‫بعدها ح�صلت عدة حروب بني العرب و�إ�رسائيل‪ ،‬كالتايل‪:‬‬
‫‪ -‬حرب العام ‪ 1956‬م‪ .‬بعد ت�أميم قناة ال�سوي�س‪ ،‬يف ما عرف بالعدوان الثالثي على م�رص‪.‬‬
‫‪ -‬حرب العام ‪ 1967‬م‪ .‬وعرفت بالنك�سة‪.‬‬
‫‪ -‬حرب العام ‪ 1973‬م‪ .‬وعرفت بحرب التحرير �أو "ن�رص �أوكتوبر"‪.‬‬
‫‪ -‬حرب لبنان الأوىل عام ‪ 1982‬م‪.‬‬
‫‪ -‬حرب لبنان الثانية عام ‪ 2006‬م‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫احل�ضارات‬

‫انهيار جدار برلني‬

‫نحو عامل �أحاديِّ ال ُقطب‬


‫�إنهيار جدار برلني‬
‫جدار برلني كان جدا ًرا طويالً يف الزمان واملكان‪ ،‬يف�صل �شطري برلني ال�رشقي‬
‫والغربي واملناطق املحيطة يف �أملانيا ال�رشقية‪ ،‬ولقد كان الغر�ض منه حتجيم املرور‬
‫بني برلني الغربية و�أملانيا ال�رشقية‪ ،‬وبد�أ بنا�ؤه يف ‪� 13‬أغ�سط�س ‪1961‬م‪ ،‬وجرى‬
‫حت�صينه على مدار الزمن‪ ،‬ولكن مت فتحه يف ‪ 9‬نوفمرب ‪ 1989‬م‪ ،‬وهدم بعد ذلك‬
‫ب�شكل �شبه كامل‪.‬‬

‫�أ ّما خلفية بنائه فهي كالتايل‪:‬‬


‫بعد انتهاء احلرب العاملية الثانية عام ‪1945‬م‪ ،‬ق�سمت �أملانيا �إىل �أربع مناطق حمتلة‬
‫بح�سب يالطا‪ .‬كانت الدول املحتلة لأملانيا هي الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬واالحتاد‬
‫ال�سوفييتي‪ ،‬واململكة املتحدة وفرن�سا‪ .‬وكانت هذه الدول هي املتحكمة واملديرة‬
‫للمناطق املحتلة من �أملانيا‪ ،‬وتب ًعا لذلك‪ ،‬ق�سمت العا�صمة ال�سابقة للرايخ الأملاين �إىل‬
‫�أربع مناطق � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ويف ذات احلقبة‪ ،‬بد�أت احلرب الباردة بني املع�سكر اال�شرتاكي ال�رشقي والغرب‬ ‫‪180‬‬
‫م�رسحا للمعارك اال�ستخباراتية بينهما‪.‬‬‫ً‬ ‫الر�أ�سمايل‪ ،‬ومثّلت برلني‬
‫يف عام ‪ 1949‬م‪ ،‬وبعد قيام جمهورية �أملانيا االحتادية (�أملانيا الغربية) يف املناطق‬
‫املحتلة من قبل الواليات الأمريكية املتحدة واململكة املتحدة وفرن�سا‪ ،‬وقيام‬
‫جمهورية �أملانيا الدميقراطية (�أملانيا ال�رشقية) بعد ذلك يف املنطقة املحتلة من قبل‬
‫ال�سوفييت‪ ،‬بد�أ العمل على قدم و�ساق على حدود كال البلدين لت�أمينها‪ ،‬وبقيام‬
‫كيانني‪ ،‬دعم التق�سيم ال�سيا�سي لأملانيا‪ ،‬وبني �أملانيا ال�رشقية و�أملانيا الغربية‪،‬‬
‫وو�ضع ب�شكل �أويل �رشط ًة‪ ,‬وحر�س احلدود‪ ،‬والح ًقا على الطرف ال�رشقي بد�أ‬
‫و�ضع الأ�سيجة‪.‬‬
‫ر�سميًا‪ ،‬كانت مدينة برلني املق�سمة �أربعة �أق�سام منطق ًة خالي ًة من الع�سكر‪ ،‬وكانت‬
‫م�ستقل ًة عن الدولتني الأملانيتني اجلديدتني‪ ،‬ولكن عمليًّا‪ ،‬مل يكن احلال كذلك‪،‬‬
‫فاملناطق الغربية من برلني �أ�صبحت �أقرب �إىل كونها والي ًة �أملاني ًة غربية‪ ،‬وخال ًفا‬
‫للمعاهدات �أعلنت برلني ال�رشقية عا�صمة جلمهورية �أملانيا الدميقراطية‪.‬‬
‫مع زيادة ح ّدة احلرب الباردة التي من جملة ما �أ ّدت �إليه التقييد يف احلركة التجارية‬
‫مع املع�سكر ال�رشقي وخلق معارك ديبلوما�سية �صغرية م�ستمرة بالإ�ضافة‬
‫أي�ضا تعزيز احلدود‪ ،‬ولكن حدود جمهورية �أملانيا‬ ‫ل�سباق يف الت�سلح‪ ،‬حيث بد�أ � ً‬
‫الدميقراطية مل تعد حدو ًدا بني �أق�سام �أملانيا‪ ،‬بل �أ�صبحت احلدود بني املع�سكر‬
‫ال�رشقي والغربي‪� ،‬أو بني حلف وار�سو وحلف الناتو‪� ،‬أي بني �أيديولوجيّتني‬
‫�سيا�سيتني خمتلفتني‪ ،‬وبني قطبني اقت�صاديني وثقافيني كبريين‪.‬‬
‫ومنذ ت�أ�سي�س جمهورية �أملانيا اال�شرتاكية‪ ،‬بد�أ انتقال �أعداد متزايدة من مواطنيها‬
‫�إىل �أملانيا الغربية‪ ،‬وعلى وجه اخل�صو�ص عرب برلني‪ ،‬والتي كان من �شبه امل�ستحيل‬
‫مراقبة احلدود فيها‪ ،‬حيث كانت احلدود متر يف و�سط املدينة و�أحيائها‪.‬‬
‫وبني عامي ‪ 1949‬م‪� .‬إىل ‪ 1961‬م‪ .‬ترك قرابة ‪ 33‬ماليني �أملاين جمهورية �أملانيا‬
‫اال�شرتاكية‪ ،‬وحيث انهم كانوا يف معظم الأحيان من الفئة املتعلمة‪ ،‬ه ّدد ذلك‬
‫القدرة االقت�صادية لأملانيا ال�رشقية‪ ،‬وه ّدد كيان الدولة ككل‪.‬‬
‫فكان جدار برلني بذلك الو�سيلة ملنع هذه الهجرة‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫نوظفها"‬
‫"احل�ضارة لي�ست �أدوات ن�ستعملها ون�ستهلكها‪ ،‬و�إمنا هي �أخالق �سامية ِّ‬

‫وقبل بناء اجلدار‪ ،‬كانت القوات الأملانية ال�رشقية تراقب وتفح�ص التحركات على‬
‫الطرق امل�ؤدية �إىل غرب برلني بحثًا عن الالجئني واملهربني‪.‬‬
‫وكان الكثري من �سكان برلني الغربية وال�رشقيني العاملني يف برلني الغربية قد‬
‫ح�صلوا ‪ -‬بتبادل العملة يف ال�سوق ال�سوداء ‪ -‬على ميزة احل�صول على املواد‬
‫الأ�سا�سية ب�أ�سعار مغرية مبقابل قلة �رشائهم للكماليات العالية القيمة من ال�رشق‪،‬‬
‫الأمر الذي كان ي�ضعف االقت�صاد يف برلني ال�رشقية �أكرث ف�أكرث‪.‬‬
‫وبتاريخ ‪ 9‬نوفمرب من عام ‪1989‬م‪ ،‬وبعد �أكرث من ‪ 28‬عا ًما على بنائ ِه الذي �أعترب‬
‫تق�سي ًما ملدينة وتق�سي ًما ل�شعب‪� ،‬أعلن غونرت �شابوف�سكي لل�صحافة ‪ -‬وهو الناطق‬
‫الر�سمي و�سكرتري اللجنة املركزية خللية و�سائل الإعالم وع�ضو املكتب ال�سيا�سي‬
‫للحزب اال�شرتاكي الأملاين ‪� -‬أن قيود التنقل بني الأملانيتني قد رفعت‪ ،‬وذلك �أثناء‬
‫مما ت�سبب‬‫حوار �إعالمي عن طريق اخلط�أ‪� ،‬إذ مل يكن متثبتًا من توقيت الإعالن‪ّ ،‬‬
‫يف فو�ضى عارمة �أمام نقاط العبور يف اجلدار‪ ،‬فتوجهت �أعداد كبرية من الأملان‬
‫ال�رشقيني عرب احلدود املفتوحة �إىل برلني الغربية‪ ،‬واعترب هذا اليوم يوم �سقوط‬
‫جدار برلني‪.‬‬
‫تفكك االحتاد ال�سوفياتي‬ ‫‪182‬‬
‫احل�ضارات‬

‫حتل ّ‬
‫حمل االحتاد ال�سوفياتي‬ ‫رو�سيا ّ‬

‫انهيار ال حِّإتاد ال�سوفياتي‬


‫تفكك االحتاد ال�سوفياتي هو حدث عاملي ي�شري �إىل انتهاء الوجود القانوين لدولة احتاد‬
‫اجلمهوريات ال�سوفياتية اال�شرتاكية‪ ،‬وقد حدث ذلك التفكك يف ‪ 26‬دي�سمرب ‪1991‬م‪ .‬عقب‬
‫�إ�صدار جمل�س ال�سوفياتي الأعلى لالحتاد ال�سوفياتي الإعالن رقم (‪ )H-142‬والذي‬
‫�أُعلن فيه عن االعرتاف با�ستقالل اجلمهوريات ال�سوفياتية ال�سابقة‪ ،‬و�إن�شاء "رابطة الدول‬
‫امل�ستقلة" لتحل حمل االحتاد ال�سوفياتي‪.‬‬
‫قبل يوم من ذلك االعالن‪ ،‬ويف ‪ 25‬دي�سمرب ‪ 1991‬م‪ .‬قام الرئي�س الأول لالحتاد ال�سوفياتي‬
‫واحلاكم الثامن لالحتاد ال�سوفياتي منذ �إن�شائه‪ ،‬ميخائيل غوربات�شوف‪ ،‬ب�إعالن ا�ستقالته‬
‫وجهه �إىل ال�شعب ال�سوفياتي عرب التلفزيون الر�سمي لالحتاد ال�سوفياتي‪.‬‬ ‫يف خطاب ّ‬
‫و�أ�شار يف اخلطاب �إىل �أن مكتب رئي�س احتاد اجلمهوريات ال�سوفياتية اال�شرتاكية قد مت‬
‫�إلغا�ؤه‪ ،‬و�أعلن ت�سليم كافة �سلطاته الد�ستورية مبا فيها ال�سلطة على الأ�سلحة النووية‬
‫الرو�سية‪� ،‬إىل الرئي�س الرو�سي بوري�س يلت�سني ‪.‬‬
‫عقب خطابه ذاك غادر غوربات�شوف مبنى الكرملني حتت جنح الظالم‪.‬‬
‫ويف ال�ساعة ‪ 07:32‬م�سا ًء بتوقيت مو�سكو ‪ ،‬مت �إنزال علم االحتاد ال�سوفياتي الأحمر عن‬
‫مبنى الكرملني وذلك للمرة الأخرية يف التاريخ‪ ،‬و ُر ِفع حمله علم رو�سيا الثّالثي الألوان‪.‬‬
‫قبل احلل الر�سمي لالحتاد‪ ،‬وخالل الفرتة ما بني �أغ�سط�س ‪ 1991‬م‪� .‬إىل دي�سمرب‪ 1991‬م‪،‬‬
‫جميع اجلمهوريات املكونة لالحتاد‪ ،‬مبا فيها رو�سيا نف�سها‪� ،‬أعلنت انف�صالها عن االحتاد‬
‫ال�سوفييتي ب�شكل فردي‪ .‬و قبل �أ�سبوع من احلل الر�سمي لالحتاد‪ ،‬اجتمع ممثلو ‪ 11‬دولة‬
‫مكونة لالحتاد ال�سوفياتي ‪ -‬با�ستثناء دول البلطيق وجورجيا ‪ -‬وو ّقعوا بروتوكول "�أملا‬
‫�آتا" الذي مت مبوجبه �إن�شاء رابطة الدول امل�ستقلة ‪ .‬و�أعلن الربوتوكول �رصاح ًة حل احتاد‬
‫اجلمهوريات اال�شرتاكية ال�سوفياتية‪ ،‬و�أ�شار �إىل �أن االحتاد ال�سوفياتي مل يعد موجو ًدا‬
‫‪183‬‬ ‫"احل�ضارة متوت باالنتحار ال بالقتل"‬

‫قانونيًا كدولة ‪.‬‬


‫على ال�صعيد الدويل‪ ،‬مثّل تفكك االحتاد ال�سوفياتي نهاية احلرب الباردة‪ ،‬حيث �ساعدت‬
‫ثورات عام ‪1989‬م‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل تفكك االحتاد‪ ،‬على نهاية العداء امل�ستمر منذ عقود بني حلف‬
‫�شمال الأطل�سي وحلف وار�سو‪ ،‬والذي كان ال�سمة املميزة للحرب الباردة‪.‬‬
‫�أما على ال�صعيد الداخلي للدول ال�سوفياتية ال�سابقة‪ ،‬فقد احتفظت اجلمهوريات ال�سوفياتية‬
‫ال�سابقة بعالقات وثيقة مع االحتاد الرو�سي الذي ميثل اخلليفة ال�سيا�سية لالحتاد‪.‬‬
‫و�شكلت رو�سيا واجلمهوريات ال�سوفياتية ال�سابقة العديد من املنظمات التعاونية مثل‬
‫املجموعة االقت�صادية الأورو �آ�سيوية ‪ ،‬والدولة االحتادية بني رو�سيا وبيالرو�سيا‪ ،‬واالحتاد‬
‫اجلمركي الأورا�سي‪ ،‬واملجموعة االقت�صادية الأورو �آ�سيوية لتعزيز التعاون االقت�صادي‬
‫والأمني‪.‬‬
‫وباملقابل‪ ،‬حتاول بع�ض دول االحتاد ال�سوفييتي ال�سابقة االن�ضمام �إىل حلف �شمال‬
‫الأطل�سي‪ ،‬لتعزيز اال�ستقالل الع�سكري واالقت�صادي عن رو�سيا‪.‬‬
‫العاملي اجلديد‬
‫ُّ‬ ‫النظام‬ ‫‪184‬‬
‫احل�ضارات‬

‫الرئي�س جورج بو�ش (الأب)‬

‫العاملي اجلديد‬
‫ُّ‬ ‫ال ِّنظا ُم‬
‫"النظام العاملي اجلديد" م�صطلح ا�ستخدمه الرئي�س الأمريكي جورج بو�ش (الأب) يف‬
‫خطاب وجهه �إىل الأمة الأمريكية مبنا�سبة �إر�سال القوات الأمريكية �إىل اخلليج «بعد‬
‫�أ�سبوع واحد من ن�شوب الأزمة يف �أغ�سط�س ‪1990‬م‪ ،».‬ففي معر�ض حديثه عن هذا القرار‪،‬‬
‫حتدث عن فكرة «ع�رص جديد»‪ ،‬و«حقبة للحرية»‪ ،‬و«زمن لل�سالم لكل ال�شعوب»‪.‬‬
‫وبعد ذلك ب�أقل من �شهر (‪� 11‬سبتمرب ‪1990‬م)‪� ،‬أ�شار �إىل �إقامة «نظام عاملي جديد» يكون‬
‫متحر ًرا من الإرهاب‪ ،‬فعاالً يف البحث عن العدل‪ ،‬و�أكرث �أمنا ً يف طلب ال�سالم؛ ع�رص ت�ستطيع‬
‫فيه كل �أمم العامل غر ًبا و�رش ًقا و�شماالً وجنو ًبا‪� ،‬أن تنعم بالرخاء وتعي�ش يف تناغم‪.‬‬
‫�إنّ جوهر النظام العاملي هو جمموعة القوانني والقيم الكامنة التي تف�رس حركة هذا النظام‬
‫خ�ص �أخالقيات‬ ‫ّ‬ ‫و�سلوك القائمني عليه‪ ،‬و�أولوياتهم واختياراتهم وتوقعاتهم‪ .‬يف ما‬
‫الإجراءات‪ ،‬يقول دعاة النظام العاملي اجلديد �إن ما يدعو �إليه النظام هو �شكل من �أ�شكال‬
‫تب�سيط العالقات وجتاوز العقد التاريخية والنف�سية والنظر للعامل باعتباره وحد ًة‬
‫متجان�سة واحدة‪ .‬والنظام العاملي اجلديد‪ ،‬بح�سب ر�ؤيتهم‪ ،‬هو نظام ر�شيد ي�ض ّم العامل‬
‫ب�أ�رسه‪ ،‬فلم يعد هناك انف�صال �أو انقطاع بني امل�صلحة الوطنية وامل�صالح الدولية وبني‬
‫الداخل واخلارج‪.‬‬
‫وهو يحاول (النظام العاملي اجلديد) �أن ي�ضمن اال�ستقرار والعدل للجميع «مبا يف ذلك‬
‫املجتمعات ال�صغرية»‪ ،‬وي�ضمن حقوق الإن�سان للأفراد‪.‬‬
‫�أما الآليات فهي من خالل م�ؤ�س�سات دولية «ر�شيدة» مثل هيئة الأمم املتحدة ومنظماتها‬
‫الدولية والبنك الدويل وقوات الطوارئ الدولية‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫"احل�ضارة تبنيها الأفعال‪ ،‬ويهدمها االنفعال"‬
‫وب�إمكان كل الدول �أن ت�ستفيد من اخلربة الدولية يف �إدارة �ش�ؤون الداخل وتكييفه مع النظام‬
‫العاملي اجلديد‪.‬‬
‫و�سيتم ك ّل هذا يف �إطار ما يقال عنه «ال�رشعية الدولية» التي ت�ستند �إىل هذه الر�ؤية‪ ،‬و�إىل املقدرة‬
‫على حتويلها �إىل �إجراءات‪ ،‬متا ًما كما حدث يف حرب اخلليج حني مت �صد العدوان العراقي على‬
‫الكويت‪.‬‬
‫امل�ؤيدون‪ :‬يرى دعاة هذا النظام �أنّ بو�سعه �أن يحقق قد ًرا معقوالً من النجاح ب�سبب و�سائل‬
‫الإعالم الغربية «العاملية على حد قولهم» التي ح ّولت العامل �إىل قرية �صغرية‪.‬‬
‫فتدفق املعلومات يجعل املعلومات متاح ًة للجميع‪ ،‬الأمر الذي يحقق قد ًرا من االنفتاح يف العامل‬
‫ريا من دميقراطية القرار‪.‬‬ ‫وقد ًرا كب ً‬
‫وقد �أ ّدى انهيار املنظومة اال�شرتاكية والتالقي «‪ »Convergence‬بني املجتمعات الغربية‬
‫ال�صناعية‪ ،‬واختفاء اخلالف الأيديولوجي الأ�سا�سي يف العامل الغربي‪� ،‬إىل تقوية الإح�سا�س‬
‫ب�أن ثمة نظا ًما عامليًا جدي ًدا‪ ،‬و�إىل �أنه مل تعد هناك خالفات �أيديولوجية ت�ستع�صي على احلل‪.‬‬
‫أي�ضا‪� ،‬أن اخلطر الذي يتهدد الأمن ال ي�أتي من اخلارج و�إمنا‬ ‫ويرى املدافعون عن هذا النظام � ً‬
‫من الداخل‪ ،‬من قوى تقف �ضد الدميقراطية و�ضد ت�أ�سي�س املجتمع على �أ�س�س اقت�صادية‬
‫وعلى �أ�س�س الت ّكيف مع النظام العاملي‪ ،‬هذه القوى هي التي جتر الداخل القومي �إىل �رصاع‬
‫مع اخلارج الدويل بدعوى الدفاع عن الكرامة �أو اال�ستقاللية �أوال�شخ�صية القومية �أو الرغبة‬
‫فادحا‪ ،‬ومن املنطقي �أن يت�صور املب�رشون بهذا‬ ‫ً‬ ‫يف التنمية امل�ستقلة‪ ،‬وهي تكلف الداخل ثمنًا‬
‫النظام �أن القيادة فيه ال بد �أن تكون للقوة االقت�صادية العظمى‪� ،‬أي للمجتمع ال�صناعي الغربي‬
‫وعلى ر�أ�سه الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬وبالتايل ف�إن الدول كلها يجب �أن تن�ضوي حتت هذه‬
‫القيادة‪.‬‬
‫وثمة افرتا�ض كامن‪ ،‬ب�أن املجتمع الأمريكي «الذي يفرت�ض �أنّ الدافع الأ�سا�سي يف �سلوك‬
‫الب�رش هو الدافع االقت�صادي» ال بد �أن ي�صبح القدوة واملثل الأعلى لهذا التوجه‪.‬‬
‫املعار�ضون‪:‬‬
‫يرى معار�ضو النظام العاملي اجلديد �أنه ال ميكن �أن يتحقق �إال بالق�ضاء على �أي معتقد �آخر؛‬
‫ليجعل من العامل فك ًرا واح ًدا؛ وبالتايل لي�سهل ال�سيطرة عليه اقت�صاد ًيا وثقافيًا و�سيا�سيًا‬
‫وع�سكر ًيا‪.‬‬
‫العوملة وتداعياتها‬ ‫‪186‬‬
‫احل�ضارات‬

‫العوملة تغيرّ وجه العامل‬

‫العوملة وتداعياتها‬
‫العوملة تعني جعل ال�شيء عامليًا �أو جعل ال�شيء دويل االنت�شار يف مداه �أو تطبيقه‪ .‬وهي �أي�ضا ً العملية التي تكون من‬
‫ً‬
‫�سيا�سية‪ ،‬ويتبع ذلك اجلوانب االجتماعية والثقافية وهكذا‪.‬‬ ‫ً‬
‫اقت�صادية يف املقام الأول‪ ،‬ثم‬ ‫خاللها العوملة ً‬
‫عملية‬
‫�أما جعل ال�شيء دوليًا فقد يعني غالبًا جعل ال�شيء منا�سبًا �أو مفهومًا �أو يف املتناول ملختلف دول العامل‪.‬‬
‫ومتتد العوملة لتكون عملية حتكم و�سيطرة وو�ضع قوانني وروابط‪ ،‬مع �إزاحة �أ�سوار وحواجز حمددة بني بع�ض الدول‬
‫وبع�ضها البع�ض‪.‬‬
‫تعرف جمموعة من الدول الر�أ�سمالية املتحكمة يف االقت�صاد العاملي منوًا كبريًا جعلها تبحث عن م�صادر و�أ�سواق‬
‫جديدة ‪ ،‬مما يجعل حدودها االقت�صادية متتد �إىل ربط جمموعة من العالقات مع دول نامية ‪ ،‬لك ّن ال�شيء غري املرغوب‬
‫فيه هو �أن هذه الدول املتطورة على جميع امل�ستويات الفكرية والثقافية والعلمية دخلت يف هوية الدول الأخرى‪� ،‬إال �أنها‬
‫خا�صة و�أن العوملة مل تقت�رص فقط على البعد املايل واالقت�صادي بل تع ّدت ذلك �إىل بعد‬ ‫ً‬ ‫حافظت على هويتها الثقافية‪،‬‬
‫حيوي ثقايف متمثل يف جمموع التقاليد واملعتقدات والقيم‪.‬‬
‫ً‬
‫كما �أن العوملة ال تعرتف باحلدود اجلغرافية لأي بلد‪ ،‬بل جعلت من العامل قرية �صغري ًة‪.‬‬
‫ي�ستخدم مفهوم العوملة لو�صف كل العمليات التي تكت�سب بها العالقات الإجتماعية نوعًا من عدم الف�صل وتال�شي‬
‫امل�سافة‪ ،‬حيث جتري احلياة يف العامل كمكان واحد ـ قرية واحدة �صغرية‪.‬‬
‫ويع ّرف املفكر الربيطاين رونالد روبرت�سون العوملة ب�أنها «اجتاه تاريخي نحو انكما�ش العامل وزيادة وعي الأفراد‬
‫واملجتمعات بهذا االنكما�ش»‪ ،‬كما يع ّرفها مالكوم واترز م�ؤلف كتاب "العوملة" ب�أنها‪« :‬كل امل�ستجدات والتطورات التي‬
‫ت�سعى بق�صد �أو بدون ق�صد �إىل دمج �سكان العامل يف جمتمع عاملي واحد"‪.‬‬
‫مقايي�س العوملة‪:‬‬
‫ت�ستخدم العوملة للإ�شارة �إىل‪ :‬تكوين القرية العاملية‪� :‬أي حتول العامل الكبري �إىل ما ي�شبه القرية لتقارب ال�صالت بني‬
‫الأجزاء املختلفة من العامل مع ازدياد �سهولة انتقال الأفراد‪ ،‬والتفاهم املتبادل وال�صداقة بني "�سكان الأر�ض"‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫"فقط �أولئك الذين يفكرون‪ ,‬وي�شعرون‪ ,‬ويعملون م ًعا‪ :‬ي�صنعون احل�ضارة!"‬

‫العوملة االقت�صادية‪:‬‬
‫�أي ازدياد احلرية االقت�صادية وقوة العالقات بني �أ�صحاب امل�صالح ال�صناعية يف بقاع الأر�ض املختلفة‪.‬‬
‫الت�أثري ال�سلبي لل�رشكات الربحية املتعددة اجلن�س َّيات‪:‬‬
‫�أي ا�ستخدام الأ�ساليب القانونية املعقدة ملراوغة القوانني واملقايي�س املحلية ال�ستغالل للقوى العاملة والقدرة اخلدماتية‬
‫ملناطق متفاوتة يف التطور‪ ،‬مما ي�ؤدي �إىل ا�ستنزاف �أحد الأطراف (الدول) يف مقابل اال�ستفادة والربحية لهذه ال�رشكات‪.‬‬
‫العوملة الثقافية‪:‬‬
‫العوملة الثقافية تعني االرتباط الثقايف بني املجتمعات والأعراق‪� ،‬أو مبعنى �آخر انتقال الأفكار والعادات من جمتمع �إىل‬
‫�آخر‪.‬‬
‫العمليات االنتقالية الثقافية بني املجتمعات تختلف يف الأهمية ودرجة الت�أثري‪ ،‬فعلى �سبيل املثال‪ :‬الهيمنة ال�سيا�سية‬
‫والع�سكرية والثقافية والإعالمية يف العامل تعود للواليات املتحدة‪ ،‬ومن هذا املنطلق ن�ستطيع اجلزم ب�أن الثقافة الأمريكية‬
‫لها ت�أثري كبري على ثقافة جمتمعات العامل بحكم ال�سيطرة الثقافية‪.‬‬
‫أي�ضا ب�أن الأفالم الهوليوودية (�أو ما يعرف بالأفالم الأمريكية) هي الأفالم الرائدة يف عامل الإنتاج ال�سينمائي‪،‬‬ ‫كما نرى � ً‬
‫ولهذا جتد �أ ّن الثقافة الأمريكية لها ت�أثري قوي على ثقافات املجتمعات الأخرى وقد يكون �إيجابيًا �أو �سلبيًا‪.‬‬
‫معار�ضو العوملة‪:‬‬
‫هناك الكثري من معار�ضي العوملة ملا بها من م�ساوئ‪ ،‬وهناك �أمثلة عليها �إذا ما حتدثنا من الناحية االقت�صادية‪:‬‬
‫‪ - 1‬اال�ستغالل‪ :‬وهو ا�ستغالل الدول الكربى لدول العامل الثالث لأخذ املواد اخلام‪.‬‬
‫‪ - 2‬الإ�رساف يف اال�ستهالك‪ :‬وهو جعل املواطنني حتت ظل ال�سكرة‬
‫الإعالنية‪ ،‬ي�رسفون يف �رشاء الكماليات‪.‬‬
‫‪ - 3‬االقت�صاد لقلة من الأقوياء‪ :‬هو ال�سيطرة االقت�صادية واالكتناز املايل‬
‫لقلة من النا�س‪ ،‬وهذه الفئة تندرج حتت اال�ستغالل حيث �أن املوارد‬
‫امل�ستخدمة ال ت�ضاهي �سعر ال�سلعة املنتجة‪.‬‬
‫الثقافة والهوية الثقافية‪:‬‬
‫�إن مفهوم الثقافة هو من املفاهيم التي مل تقت�رص على تعريف واحد وموحّ د‪ ،‬بل �أعطيت لها تعاريف متعددة كان �أبرزها‬
‫جماعة عن �أخرى‪ ،‬وهي �شاملة لطرائق احلياة‬ ‫ً‬ ‫�أن الثقافة هي جميع ال�سمات الروحيّة والفكرية والقومية التي متيَّز‬
‫ً‬
‫والتفكري والتقاليد واملعتقدات والآداب والقيم والبعد التاريخي‪ ،‬باعتباره عامال جوهريًا يف مفهوم الثقافة‪.‬‬
‫ولي�س هناك ثقافة واحدة و�إمنا ت�سود �أنواع و�أ�شكال ثقافية عديدة‪ ،‬منها ما مييل �إىل االنغالق واالنعزال‪ ،‬ومنها ما ي�سعى‬
‫�إىل االنفتاح واالنت�شار‪.‬‬
‫�إن مفهوم الهوية الثقافية يع ّرف من جهتني‪ :‬الأوىل خارجية بد�أت يف الآونة الأخرية مع العوملة وتعددت تعريفاتها على‬
‫م�ستوى كل املجاالت املعروفة وما متثله العوملة من حماولة لتنظيم �أو �إعداد نظام عاملي جديد بكل ما يرتتب عليه من‬
‫النظام من �سلبيَّات تطال يف معظمها بلدان العامل الثالث‪.‬‬
‫ً‬
‫�أما اجلهة الثانية فهي داخلية‪ ،‬وتتمثل يف ندرة املقاربات العلمية واملو�ضوعية بهذا املو�ضوع‪ ،‬خا�صة يف دول العامل الثالث‪،‬‬
‫فالهوية الثقافية ال تكتمل �إال �إذا كانت مرجعيتها جميع الوطن والأمة والدولة بو�صفها التج�سيد القانوين لوحدة الوطن‬
‫والأمة‪ ،‬وكل م�سّ بواحدة من هذه هو م�س بالهوية الثقافية‪.‬‬
‫بانتظار ع�رص �أكرث �أمنا ً‬ ‫‪188‬‬
‫احل�ضارات‬ ‫"ال تنح�رس احل�ضارة �أبدا‪ ،‬فقانون احلاجة دائما ما يدفعها �إىل الأمام"‬

‫بانتظار ع�رص �أكرث �أم ًنا‬


‫عمل ّية ‪� 11‬سبتمرب وتغيري وجه العامل‬
‫كان للهجمات الدمو ّية املذهلة التي �أ�صابت الواليات املتَّحدة يف �صميم م�ؤ�س�ساتها الأمنية‬
‫واالقت�صادية يوم احلادي ع�رش من �سبتمرب ‪� 2001‬أثر مد ّو على ال�ساحة العاملية‪ ،‬فانطلقت‬
‫على �إثرها حملة حممومة يف الغرب ملالحقة الإرهاب وتدمري مالجئه‪ ،‬كما تغريت �أنظمة‬
‫خ�صو�صا يف منطقة ال�رشق الأو�سط‪.‬‬
‫ً‬ ‫عديدة‪ ،‬واندلعت �أحداث وثورات‬
‫‪189‬‬ ‫مراجع‬

‫• لتلمود ‪ -‬طبعة �أم�سرتدام ‪ 1648-1644‬م‪ 14 .‬جمل ًدا‪.‬‬


‫للرابي جوزف كارو‪ .‬طبعة البندقية �سنة ‪ 1594‬م‪ .‬بدون تعليقات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫• «�شوخلان �آروخ»‪،‬‬
‫• «زوهار» طبعة ام�سرتدام‪� ،‬سنة ‪ 1805‬م‪ .‬ثالثة جملّدات‪.‬‬
‫• «ميكرا غيدواله» طبعة �أم�سرتدام‪� ،‬سنة ‪ 1792‬م‪ 12 .‬جمل ًدا‪ ،‬وطبعة بازل ‪ 1620‬م‪ .‬‬
‫جملّدان وطبعة البندقية‪.‬‬
‫للرابي بن ميمون ( ميمونيد�س)‪ ،‬طبعة فو�سيّو�س ‪ 1675‬م‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫• «هيلخوث �آكوم»‬
‫• الإجنيل املقد�س العهد اجلديد (دار الكتاب املق ّد�س يف ال�رشق الأو�سط)‪.‬‬
‫• النريفانا و�أثرها يف �أدب جربان ونعيمة‪ ،‬طبعة �أوىل ‪.1990‬‬
‫• املو�سوعة العربية املي�سرّ ة‪ ،‬ب�إ�رشاف حممد �شفيق غربال‪ ،‬دار اجليل ‪ 1995‬م‪.‬‬
‫• اجلمعيات ال�رسية (تاريخ الرمزية والباطنية) ربيع داغر وفريال مو�سى‪،‬‬
‫طبعة �أوىل ‪.2015‬‬
‫• بحث اجلن�س الب�رشي عن اهلل‪. international bible students association Brooklyn usa ،‬‬
‫• تاريخ ال�شعوب امل�رشقية‪ ،‬م�ؤلفات املطران يو�سف الدب�س الكاملة‪ ،‬دار نظري‬
‫عبود‪ ،‬الطبعة الأوىل ‪2000‬م‪.‬‬
‫• مو�سوعة الأديان يف العامل‪ ، edito creps ،‬الطيعة الأ�صلية ‪2000‬م‪.‬‬
‫• مو�سوعة املا�سونية والأديان‪� ،‬أنطوان عا�صي‪ ،‬م�ؤ�س�سة عا�صي للإعالم‬
‫والتوزيع‪ ،‬بريوت ‪ 1991‬م‪.‬‬
‫• الزندقة والزنادقة‪ ،‬الدكتور عاطف �شكري �أبو عو�ض‪ ،‬دار الفكر الأردن عمان‪.‬‬
‫• احلقائق ال�رسية عن اجلمعية املا�سونية‪ ،‬نقله �إىل العربية جمموعة من الباحثني‪ ،‬‬
‫توزيع دار بي�سان للن�رش والتوزيع والإعالم‪ ،‬الطبعة الأوىل ‪ 2003‬م‪ 1424 .‬ه‪.‬‬
‫• مع اخلالدين‪� ،‬سمري �شيخاين‪ ،‬دار املعارف بلبنان‪.‬‬
‫• كل امللوك وامللكات يف الكتاب املق ّد�س ‪ ،‬بقلم هربرت لوكري‪ ،‬دار الثقافة ‪1995‬‬
‫• التجدد واملتجددون‪ ،‬الق�س فريد خوري‪ ،‬دار من�شورات النفري‪ ،‬الطبعة الأوىل ‪.2000‬‬
‫• جملة «ر�سالة الكلمة» ‪ ،‬العدد احلادي ع�رش‪ ،‬كانون الأول ‪.2001‬‬
‫• مو�سوعة «الديانات واجلمعيات ال�رسية» (حقائق وخفايا)‪� 6 ،‬أجزاء‪،‬‬
‫�إعداد ربيع داغر‪� ،‬إ�ش�ؤاف �سامي اخلوري‪ ،‬دار ‪ perfection‬للن�رش‬
‫والتوزيع‪ ،‬طبعة �أوىل ‪. 2013‬‬
‫• الكتاب املقد�س‪� ،‬أي �أ�سفار العهد القدمي والعهد اجلديد‪ ،‬وقد ترجم‬
‫عن اللغات الإ�صلية‪ ،‬دار الكتاب املقد�س يف ال�رشق الأو�سط‪.‬‬
‫• الز�ؤان يف الكتاب املقد�س ‪ ،‬كميل اخلباز‪ ،‬طبعة �أوىل ‪.1990‬‬ ‫‪190‬‬
‫• امللل والنحل لل�شهر�ستاين‪ ،‬املجلد الثاين‪.‬‬
‫• ال�رس امل�صون يف �شيعة الفارما�سون‪ ،‬نظر تاريخي �أدبي �إجتماعي‪،‬‬
‫بقلم الأب لوي�س �شيخو الي�سوعي‪ ،‬الكرا�س الأول ‪ ،‬طبعة ثالثة‪ ،‬بريوت �سنة ‪. 1910‬‬
‫• احل�شا�شون فرقة ثورية يف تاريخ الإ�سالم‪ ،‬برنارد لوي�س‪.‬‬
‫• الإ�سماعيليون يف الع�رص الو�سيط ‪ ،‬فرهاد دفرتي‪..‬‬
‫• واال�س َبـدچ‪� ،‬آلهة امل�رصيني (اجلزء الأول)‪ ،‬ترجمة‪ :‬حممد ح�سني يون�س‪،‬‬
‫مكتبة مدبويل (القاهرة‪ 1418 ،‬هـ‪ 1998 /‬م)‪.‬‬
‫• الزندقة ‪ -‬ماين واملانوية‪ .‬ت�أليف جيووايد نغرين‪ ،‬ترجمة وزيادة مالحق‪:‬‬
‫د‪� .‬سهيل زكار‪ .‬دار التكوين‪ ،‬دم�شق‪.‬‬
‫• اعرتافات القدي�س �أغو�سطينو�س‪ -‬املطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بريوت ‪.1962‬‬
‫• جملة «امل�رسة»‪ ،‬كانون الأول ‪ ،1978‬العدد ‪.640‬‬
‫• قارة �أطالنط�س املفقودة (حلم الب�رشية ال�ضائع)‪ -‬خالد العريف‪.‬‬
‫• «املا�سونية احلقيقية» للأخ كالفيل ‪ ،‬النا�رش دانتو ‪ ،‬باري�س‪. 1853 ،‬‬
‫• «الطق�س ال�سحري ال�سامي»‪ ،‬للأخ كونت�سان‪.‬‬
‫• الطقو�س املقد�سة للقاد�ش‪ ،‬الكتيب الكبري الثامن‪ ،‬طبع ب�أمر من املجل�س الأعلى‬
‫دون دار ن�رش‪ ،‬باللغتني الفرن�سية والإنكليزية‪.‬‬
‫• ‪urton, Tobias. The Golden Builders:Alchemists, Rosicrucians, and the First Freemasons.‬‬
‫‪.New York: Barnes and Noble, 2002‬‬
‫• ‪.Les societies secrètes- Arkon Daraul – édition (j’ai lu) – série l’aventure mystérieuse – Paris 1970‬‬
‫• ‪.LA FRANC – MACONNERIE ET LES SOCIETES SECRETES – SAINT ALBIN‬‬
‫• ‪History of Humanity: From the seventh century B.C. to the seventh century A.D. Routledge‬‬
‫‪.183-102812-X, pp. 182-3-reference, Siegfried J. de Laet, UNESCO, 1996,ISBN 92‬‬
‫• ‪LA LUMIERE DU CORAN FLORE DESCIEUX – LA PENSEE UNIVERSELLE 1995‬‬
‫‪191‬‬ ‫الـفـهـر�س‬
‫الأديان ال�سماوية‪:‬‬
‫الف�صل الأول‪" :‬اليهوديّ "‪6 ...................................................................................‬‬
‫الف�صل الثاين‪" :‬امل�سيح ّية" ‪20 ..............................................................................‬‬
‫الف�صل الثالث "الإ�سالم" ‪44 ................................................................................‬‬

‫احل�ضارات‪:‬‬
‫• الف�صل الأول‪ :‬ما قبل احل�ضارات ‪84 .....................................................................‬‬
‫• الف�صل الثاين‪ :‬ع�صور ما قبل التاريخ ‪89 ..............................................................‬‬
‫الثالث‪:‬تغيات يف احل�ضارات القدمية ‪91........................................................‬‬
‫رُّ‬ ‫• الف�صل‬
‫• الف�صل الرابع‪:‬ح�ضارة م�صر القدمية ‪93.................................................................‬‬
‫• الف�صل اخلام�س‪ :‬الديانتان اللتان � َّأ�س�ستا احل�ضارة الهندية ‪95........................................‬‬
‫• الف�صل ال�ساد�س‪ :‬احل�ضارة يف ال�صني ‪98 ................................................................‬‬
‫• الف�صل ال�سابع‪ :‬ظهور احل�ضارة اليونانية ‪100 ..........................................................‬‬
‫• الف�صل الثامن‪ :‬نه�ضة روما ‪107 .........................................................................‬‬
‫• الف�صل التا�سع‪� :‬إبتداء احل�ضارة امل�سيحية ‪111 ..........................................................‬‬
‫• الف�صل العا�شر‪ :‬ح�ضارات القارة الأمريكية ‪112 ........................................................‬‬
‫• الف�صل احلادي ع�شر ‪ :‬الع�صور الو�سطى‪114 ............................................................‬‬
‫• الف�صل الثاين ع�شر‪ :‬الإمرباطور َّية البيزنطية وح�ضارتها ‪118 ........................................‬‬
‫• الف�صل الثالث ع�شر ‪ :‬نه�ضة الإ�سالم ‪119...............................................................‬‬
‫• الف�صل الرابع ع�شر ‪ :‬احلقبة العثمانية ‪122 ............................................................‬‬
‫• الف�صل اخلام�س ع�شر‪ :‬الإمرباطور ّية ال�صفو ّية ‪123 ..................................................‬‬
‫• الف�صل ال�ساد�س ع�شر ‪ :‬مراحل ح�ضارات �أفريقيا ‪125 ..................................................‬‬
‫• الف�صل ال�سابع ع�شر ‪ :‬ظهور املغول وغزواتهم ‪128 ......................................................‬‬
‫• الف�صل الثامن ع�شر ‪ :‬احل�ضارتان املتجاورتان يف كوريا واليابان ‪129 .................................‬‬
‫• الف�صل التا�سع ع�شر ‪ :‬ح�ضارات جنوب �شرق �آ�سيا ‪131 ..................................................‬‬
‫• الف�صل الع�شرون‪ :‬احل�ضارة الأوروب ّية احلديثة ‪132 ....................................................‬‬
‫• الف�صل احلادي والع�شرون‪ :‬البحار وطريق الإ�ستعمار ‪137 .............................................‬‬
‫• الف�صل الثاين والع�شرون‪ :‬بريطانيا �أ ّم الدولة احلديثة ‪140 ..........................................‬‬
‫• الف�صل الثالث والع�شرون‪ :‬ع�صر العقل ‪141 .............................................................‬‬
‫• الف�صل الرابع والع�شرون‪ :‬ن�ش�أة اجلمهور ّية الأمريكية ‪142 ............................................‬‬
‫• الف�صل اخلام�س والع�شرون‪ :‬الثورة الفرن�س ّية و�أثارها العامل ّية‪146 ................................... :‬‬ ‫‪192‬‬
‫• الف�صل ال�ساد�س والع�شرون‪ :‬فجر الع�صر ال�صناعي‪148................................................ :‬‬
‫• الف�صل ال�سابع والع�شرون‪ :‬ع�صر الإيديولوج ّيات والثورات‪151 ........................................ :‬‬
‫• الف�صل الثامن والع�شرون‪� :‬إطاللة على الزمن احلا�ضر‪156 ...........................................:‬‬
‫• احلرب العاملية الأوىل‪ :‬تو ُّترات وانقالبات احلرب العامل ّية الأوىل‪162 ................................. :‬‬
‫• الثورة البل�شفية ‪163....................................................................................... :‬‬
‫• بدايات الفا�شية والنازية‪166 ............................................................................. :‬‬
‫• احلرب العاملية الثانية‪167 ................................................................................ :‬‬
‫• قيام الأمم املتحدة‪168 .................................................................................... :‬‬
‫• الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان‪169 ..................................................................... :‬‬
‫• احلرب الباردة وحمطاتها‪171 ............................................................................ :‬‬
‫• العلم يف تط ّور حمموم‪172 ............................................................................... :‬‬
‫• يوم البيئة العاملي االول ‪ -‬لبناين‪176 ....................................................................:‬‬
‫• حروب العرب و�إ�سرائيل‪178............................................................................... :‬‬
‫• �إنهيار جدار برلني‪179 .................................................................................... :‬‬
‫• تفكك االحتاد ال�سوفياتي ‪182 ............................................................................:‬‬
‫العاملي اجلديد ‪184 ............................................................................... :‬‬
‫ُّ‬ ‫• النظام‬
‫• العوملة وتداعياتها ‪186 ....................................................................................:‬‬
‫• بانتظار ع�صر �أكرث �أمناً ‪189 .............................................................................. :‬‬

You might also like