You are on page 1of 144

‫األسد األعرج‬

‫لم تكن تلك المرة األولى التي يهجم فيها األسد على قطيعنا‪ ,‬كأنه كان يعلم بغياب فرسان قريتنا ‪ ,‬أخبرني‬

‫"هارون" أنه أخذ بقرتين من قريتهم يوم السوق و الرجال بين تاجر أو مشتر أو مرافق ‪ ,‬ولوال لطف هللا‬

‫لكانت "حليمة" أخت "جرقندي" ضمن و ليمة األسد و لكن ساقيها أنقذاها ‪ ,‬و ربما حدس األسد أخبره بأن و‬

‫راء تلك األكمة الرجال الذين يخشاهم‪ ..‬لكنه أكتفى ببقرتين أكل كثيرا من األولى و جر الثانية الى داخل‬

‫الغابة هكذا قال "هارون" لي ‪..‬‬

‫قلت له‪:‬‬

‫‪ -‬لكنه ال يخشى الرجال فقد هجم قبل أعوام كما يحكي أهل قريتنا ‪-‬الواقعة في أطراف غابة كثيفة‬

‫يقطنها الكثير من الحيوانات أليفها و مخيفها‪..-‬على جدي "إيدام" و "سعدان" و "الرضي" و عض‬

‫أخاه "إبراهيم" و "الناجي" و مات على إثر هذا الهجوم ثالثة من إخوة جدي "إيدام" ‪...‬ما زلت ألمس‬

‫أثر هذه العضة فوق ورك جدي ‪ ،‬كانت عضة كبيرة أثرت على حركته فأصبح يسير بعكاز قطعه من‬

‫شجرة األبنوس سوداء الساق‪ ...‬كردفان تزخر بمثل هذه الغابات وجدت في كتاب الجغرافيا الذي‬

‫يدرسنا إياه أستاذ آدم أن هذه الغابات تمنع الحكومة قطعها ألن الحيوانات ستهاجر منها قلت له‪:‬‬

‫حتى األسد سيهاجر؟‬ ‫‪-‬‬

‫أجاب‪:‬‬

‫نعم‬ ‫‪-‬‬

‫تعجبت حينها لماذا ال تزيلها هذه الحكومة وكنت كلما سمعت بمهاجمته لقرية أو قطيع أو بشر إزداد‬

‫كرهي للحكومة‪..‬‬

‫‪1‬‬
‫تناقل الناس خبر بقرتي "مرحوم" اللتين أكلهما األسد ‪ ،‬وضجت القرية وكان كلما اجتمع نفر من المواسين في‬

‫بيت الحاج "مرحوم" ينعقد شبه إجماع على أن قطيع األسود قد تكاثر و أنه إذا لم تحل هذ المشكلة و تتدخل‬

‫الحكومة فإن األسود البد و أن يهجموا ذات يوم على القرية و يروعوا أهلها و ربما أكلوا من نسائها وولدانها‬

‫من لم يستطع المقاومة بل ومن يقاوم ال يسلم من األذى إن لم يففقد روحه كذلك‪...‬‬

‫قلت لهم ‪:‬‬

‫‪ -‬إن الحكومة ال تريد ذهاب األسد و تفضله عليكم ‪...‬‬

‫ضحكوا في أسى و نظر كل منهم الى طرف بعيد يقلب هذا الحديث الساذج في رأسه ‪ ..‬صحت أليس‬

‫كذلك يا أستاذ "آدم" ‪...‬قال آدم‪:‬‬

‫ال ليس كذلك الحكومة تنظر الى األمر من وجهة نظر أخرى‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫الحاج "معروف" قال‪:‬‬

‫وهللا البلد أصبحت فوضى كيف تفضل الحكومة الحيوانات على البشر ‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫و أخذ يذكر أمثلة كثيرة على هذا التمييز العنصري الذي يفضل عنصر الحيوان على اإلنسان و استنتج ‪:‬‬

‫نحن عند الحكومة أقل قيمة من الحيوانات ‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫و الدي لم يكذب حديثهم و قال‪:‬‬

‫‪ -‬أال تذكرون قبل أعوام حينما طالبتنا الحكومة بأن نغير موقع القرية ألن هذا المكان أصبح يشكل‬

‫مهددا للحيوانات و أننا ربما نقلنا الى الغابة بعض األمراض ‪ ،‬أو تسببنا في حريق يدمر الغابة‬

‫بحيواناتها ‪ ،‬و يصيح‪ :‬تخيلوا نحن ننقل أمراضا الى الحيوانات و يصفق بيديه متهكما ‪ :‬باهلل شوف‪..‬‬

‫‪2‬‬
‫أستاذ "آدم" الذي تحترمه القرية كلها و القرى المجاورة كان لكالمه أثره و ال يستطيع أحد أن يتجاوزه ألنه‬

‫هو الوحيد المتعلم في هذه البلدة و قد نذر نفسه لتعليم أبناء قريتنا و القرى المجاورة ‪ ,‬طلب من أهل القرى‬

‫مساعدته في بناء منزل من القش ثم طلب من أهلها أن يرسلوا إليه أبناءهم ففعلوا و حشرهم فيه و أنا منهم و‬

‫أخذ يدرسنا‪ ...‬لم يكونوا يعصون له أمرا فقد كان محل ثقة ‪ ,‬هو الذي ينقل طلباتهم الى الحكومة و يسعى لحل‬

‫مشاكلهم معها لن ينسوا أبدا أنه صدق لهم مركزا صحيا جعلهم يبنونه من حر مالهم و أنه كان يطببهم لفترة‬

‫طويلة إال أن صدقت لهم الحكومة بحكيم يعالجهم بما تيسر له من دواء و أعشاب و بصارة ‪ ..‬و أن فريق‬

‫قريتهم لكرة القدم الذي أسسه لهم أستاذ "آدم" و علمهم لعب الكرة و كان هو مدربه صعد الى صدارة الدوري‬

‫المحلي بفضل جهد أستاذ "آدم"‪....‬‬

‫لكن العجيب كان ألستاذ "آدم" رأي قريب من رأي الحكومة و قال لهم‪:‬‬

‫نحن بين نارين إما أن نرحل و نطيع أمر الحكومة ونحفظ أنفسنا و أموالنا أو أن نصبر على األسود‬ ‫‪-‬‬

‫و نحاول أن نتجنبها و أن نرعى ببقرنا بعيدا عن مواقعها‪....‬‬

‫احتدم النقاش و زاد االجتماع و أصبح منزل الحاج مرحوم يؤمه كل يوم عند الضحى خلق كثير يجلسون‬

‫تحت ضل شجرة الهجيلج الوارفة الظالل ‪ ...‬يتدارس هذا األمرالرجال عند عودتهم من مواقع زراعتهم ألخذ‬

‫بعض الراحة و رغم أن بيت الحاج مرحوم لم يكن على قارعة الطريق إال أن الحدث يبدوا أنه كان كبيرا هذه‬

‫المرة‪ ...‬كان الجميع يعلم أن الرأي الذي يأتي كل يوم هو نتاج نقاش دار في البيوت و أن اآلراء الجديدة ليست‬

‫ملكا حصريا ألصحابها بل هم ناقلون لها ليس إال و لذلك ال يدافعون عنها كثيرا و ال يحاججون بها طويال و‬

‫ما أن يُضحض رأي حتى يتمتم صاحبه مسارا نفسه‪:‬‬

‫دايما رأيك غلط يا فالنة ‪..‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪3‬‬
‫ثم يجيد اإلستماع حتى يفهم الرأي الجديد ليذهب و يحاجج به فالنة لعله يفوز عليها هذه المرة ‪ ...‬وتجده يأتي‬

‫مبكرا لينقل الرأي الذي ظفر به مجددا بعد أن دُ ِحض الرأي الذي ذهب به باألمس‪...‬‬

‫أصبحت لعبتنا المفضلة هي لعبة ; األسود كبست حيث ينقسم الالعبون الى فريقين فريق األسود و فريق‬

‫الحراس حيث يؤخذ واحد من فريق األسود كرهينة عند فريق الحرس و يقف الجميع على رجل و احدة و‬

‫يحاول فريق األسود تخليص الرهينة من أيد الحرس ‪ ..‬و أصبحت أغاني البنات التي يرددنها في المناسبات‬

‫في كل القرى المجاورة لها عالقة باألسد و بالفارس الذي خلص القرية منه‪.‬منها مثال‪. :‬‬

‫تنبري مغنية ‪:‬‬

‫فارسي الما هماه األسد‬ ‫‪-‬‬

‫فتصيح بقية البنات‪:‬‬

‫األسد أب راسا لبد‬ ‫‪-‬‬

‫فترد عليهن‪:‬‬

‫‪ -‬فارسي أب قلبا أصم‬

‫فيصحن ‪:‬‬

‫سحم"‬
‫األسد األكل "أم ُ‬ ‫‪-‬‬

‫سحم" هذه بقرةالحاج "مرحوم" التي أكلها األسد و كانت بقرة جميلة عالية غزيرة إدرار اللبن مشهورة‬
‫و "أم ُ‬

‫في منطقتنا لم يزل أبوها يطلبه الذين يريدون تحسين ساللة أبقارهم في كل القرى من حاج "المرحوم"‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أمي أعدت طعاما كبقية أهل القرية‪ ،‬قسمته الى نصفين نصف حمله أبي في إناء و احد عبارة عن عصيدة من‬

‫الدخن و كنت أحمل معه براد الشاي و تحمل هي و "الشوقارة" أختي مثل هذا الحمل إلى بيت "حواء" زوجة‬

‫حاج "مرحوم" ‪ ,‬و كان شبيه مجلس الرجال ينعقد هناك بينهن لكن مجلسهن أكثر صخبا و أعلى ضجيجا و‬

‫أكثر حجة و أشد إصرارا على اإلقناع من مجلس الرجال ‪..‬حتى أن حاج المرحوم كان كثيرا ما يقوم حامال‬

‫عصاه قارعا باب البيت بشدة صائحا ومهددا ‪:‬‬

‫حرم إال العكاز ياباكن – أي سيعلوهن ضربا بالعكاز الى أن يتكسر‬


‫‪ -‬يا حريم أسمع حسكن مرة ثانية ّ‬

‫العكاز و يصبح غير قادر على الضرب‪-‬‬

‫فينصعن ألمره دقائق معدودات ال يلبث بعدها الصياح أن يعود مرة أخرى‪ ..‬غير أن مجالس النساء حيث‬

‫أمي كان يحدث فيها الغضب أحيانا كثيرة فكثيرا ما تخرج إحداهن مغاضبة النتصار رأي على رأيها‬

‫‪..‬أمي سمعتها تخرج مغاضبة و تنتهر أختي "الشوقارة" تحثها على القيام ثم تلتفت الى الحريم داعية‬

‫عليهن ‪:‬‬

‫‪ -‬شاحدة هللا األسد اليكمل بقركن ‪ ...‬و تحمل صحنها و برادها و تخرج‪..‬‬

‫عقدت في مجلس الحاج مرحوم أكثر من زيجة حيث طلب "حامد ود الفضل" يد" سعدية بنت النعمة" خالته‬

‫من أبيها و وافق أبوها و هو يأكل غداءه الذي كان يتكفل به الجميع بمنزل الحاج "المرحوم" منذ الحادثة‬

‫المشؤومة‪ ,‬إال أن "سعدية" لم ترض بعد فقد اشترطت شرطا لم يف به "حامد و د الفضل"‪ ...‬و "الناير" من‬

‫القرية التي تقع شمالنا كاد أن يحظى بعلقة ساخنة ألنه هاجم شيخ القرية في بداية الغداء و طلب يد ابنته في‬

‫نهايته‪....‬‬

‫‪5‬‬
‫و الحال هكذا و الجميع يغسل يديه استعدادا للغداء إذ يأتي صياح من جهة الغابة تبينت صاحبه من الوهلة‬

‫األولى هو صوت "صغيرون" ابن خالتي "نعمات" يصيح و يجري صوبنا ‪ :‬يا ناس القريااااا يا ناس القرية‬

‫األسود هجمت على القرية يا أهل القرياااااا األسود األسود يااا ‪....‬‬

‫‪2‬‬

‫"سعدية" "أم جفيل"" كانت تملك ذلك القدر من الجمال الذي يلهم الشعراء و المغامرين الذين يشدهم الحماس‬

‫الى رؤيتها ‪ ،‬فال يتهيب الرجل أن يسير المسافات الطوال ذات الليالي و األيام لكي يحظى برؤية قد ال تتحقق‬

‫و إن تحققت فقد تكون للمحة خاطفة ال تشفي غليال و ال تروي ظمأ ‪ ،‬و لكن سيرتها التي عمت جميع القرى‬

‫في الوادي بل وفي البادية كلها كانت شديدة التحفيز لرؤيتها‪.‬‬

‫لم يكن هذا باألمر المريح ألمها "نعمة" التي كانت تخاف عليها كثيرا من عيون الناظرين و ال تريدها أن‬

‫تمر بنفس تجربتها ‪ ،‬لكن هذا األمر كان يعجب أباها ‪ -‬الذي يظهر غير ذلك فعادة الرجال الغيرة على بناتهم‬

‫ألن فيه إشارة الى جمال أمها التي حظي بها بعد تنافس شديد على قلبها مع شبان القرى أجمعين ‪ ،‬و لكنه‬ ‫‪-‬‬

‫هو من ظفر بها أخيرا ‪ ،‬و كان يفخر بهذا كثيرا في المجالس و يقول (أنا صياد العناق النافر) يقصد "نعمة"‪.‬‬

‫و "نعمة" أم "سعدية" بنت "حمدان" ابن "تيراب" بن "فطومة الدهباية" بنت "أحمد األحيمر" بن "شارفة أم‬

‫بوارق" التونسية بنت "النَّقّ ْو" األولى بنت "الشرتاي حاكم" ‪ ،‬و "شارفة" ابنة أبيها و أمها الوحيدة ‪ -‬أنجبتها‬

‫"النقو "قبل أن تختفي هي و زوجها ‪ ،‬كانت أمها تلقبها "بأم بوارق" كناية عن جمالها و جدها يلقبها بالتونسية‬

‫نسبة ألبيها الذي جاء يطلب الذهب من بالد بعيدة تسمى "تونس" هكذا كانت تقولها جدتي ‪ ،‬و تقول أنه كان‬

‫شديد البياض فكان يتحاشاه الناس ‪ -‬أول أمره ‪ -‬خوفا من مرض يصيبهم أو لعنة تلحق بهم من مخالطتهم له‬

‫فتلحقهم به ‪ ،‬فإنهم يذكرون في تاريخهم مثل هذا المرض الذي يذهب اللون و يأكل األطراف و يزهق‬

‫األرواح‪...‬‬

‫‪6‬‬
‫فقد استطاع التونسي جمع ذهب كثير عبر غرابيل جاء بها معه و سائل يصبه على التراب فيصبح ذهبا ‪،‬‬

‫كان شديد الكرم يغدق بالمال الكثير على من يعملون معه و يساعدونه في مهنته هذه ‪ ،‬و كان منهم جد‬

‫"سعدية"الشرتاي "حاكم" الذي أصبح شرتايا – أميرا على القبيلة – بسبب كرمه و إنفاقه الكثير من المال‬

‫الذي كان يجنيه على الناس و حاجاتهم ‪ ،‬فحفر لهم الحفاير و اآلبار و كان يقرضهم و يهديهم حتى أحبوه و‬

‫جاؤوا به شرتايا عليهم رغم أنف الشرتاي آنذاك " سرور" الذي ناصبه العداء ‪ ،‬و ما زالت العداوة بين أبناء‬

‫"سرور" و أبناء "حاكم" قائمة الى اليوم‪...‬‬

‫"عاشة" و "غبيشة" أختا "سعدية "أم جفيل" لم يكن يغرن منها رغم تعاليها وداللها فقد كانت أصغرهن ‪،‬‬

‫وهن من قمن بذلك التدليل و سمحن لها بل ربينها على ذلك التعالي و الدالل ‪ ،‬حتى أن أختها الكبرى أهدتها‬

‫ذلك الجفيل الذي أهدته لها أمها "نعمة" و كانت تسميه "جفيل أبوي التونسي" الذي وصلها منه عبر أمهاتها‬

‫األقدم ‪ ،‬و كانت "سعدية أم جفيل" تفخر به و تظهره كلما خرجت رافعة يدها في حركة ليبرق مع ضوء‬

‫الشمس كأنها تعلن للعشاق عن خروجها فيراها من سعى لذلك ‪ ،‬حتى أصبح ذلك الجفيل عالمة يضرب بها‬

‫المثل في الجمال و يحلف به فيقول مشتر إذا أغلى له بائع ثمنا ‪:‬‬

‫‪ -‬أهو جفيل التونسي حتى تغلي سعره الى هذا الدرجة‪..‬‬

‫أو يحاجج مغالط صاحبه فيقول له ‪:‬‬

‫‪ -‬أن رأيه أوضح من بريق جفيل التونسي ‪...‬‬

‫لكن ذلك اليوم الذي ذهبت لترد هي و أختاها في "الحفير الصباحي " أي الشرقي و الذي يقع شرق غابة‬

‫صغيرة تفصل بين قريتنا و بينه لم يكن كبقية األيام ‪ ،‬خرجت الفتيات الثالث و كل واحدة منهن تحمل في‬

‫حمارها أواني تجلب بها الماء الى بيت أبيها الذي أعد لهذا الماء "تبريقا ً " ‪ -‬حوضا ‪ -‬بناه من الطين و ملط‬

‫خارجه بروث البهائم حتى ال يتسرب الماء ثم كسا الروث بالطين الالزب الذي يكسب الحوض صالبة تمنع‬

‫‪7‬‬
‫الماء من الهروب الى خارجه فيشرب البيت من هذا الماء و يغتسل لعدة أيام ثم يخرجن للورود مرة أخرى‬

‫إذا كاد أن ينضب ‪..‬و كان من عادتهن و عادة النساء اللواتي يجلبن الماء أن يغتسلن و يغسلن مالبسهن و‬

‫مالبس ذويهن على حافة هذا الحفير الموصول بمجرى سيل ال يكاد ماؤه ينضب اال أياما قالئل قبل استئناف‬

‫المطر صبه من جديد بعد أشهر من التوقف ‪ ،‬و لقد أوصت "النعمة" ‪ -‬كما يحلو "للحسين" زوجها أن‬

‫يناديها ‪ -‬أوصت بنتيها "غبيشة" و "عاشة" أن ال يدعن "سعدية" تبترد أمام البنات و النسوة الواردات خوفا‬

‫عليها من عين كافرة تصيبها كما أصابت خالتها من قبلها فأوردتها موارد الهالك ‪ ،‬فقد كانت "سعدية" فارعة‬

‫الطول بارزة الصدر منهدلة الكفل ‪.‬ضامرة الخصر مكتنزة الورك يتيه الشباب في نضارة وجنتيها و جمال‬

‫عينيها وحالوة ابتسامتها ‪ ،‬ذات لون رملي له بريق يتموج مع تموجات جسدها ‪ ،‬كم كنا ننتظر يوم ورودها‬

‫الحفير لنختبئ تحت شجرة أو فوقها ننتظر ساعة ابترادها كما ينتظر الزرع المطر ‪...‬‬

‫لكن "سعدية" التي يعجبها إظهار فتنتها كانت تتأبى عليهما و تصر أن تبترد مع البنات رصيفاتها على حافة‬

‫الحفير‪ ،‬فيغصبنها على اإلختباء وراء تبلدية عتيقة كبيرة واسعة الساق ‪ ،‬فتخلع مالبسها و تضع جفيلها فوق‬

‫المالبس التي تضعها على حمارها المربوط في فرع ناتئ من شجرة التبلدي الكبيرة‪...‬‬

‫كان هذا يتكرر كل مرة يذهبن فيها الى الماء ‪..‬الذي يكاد ال ينضب أبدا ‪...‬‬

‫ندمت كثيرا أنني لم أخرج هذا اليوم فقد تورمت قدمي إثر شوكة كسرت بداخلها أخرجتها أمي بشوكة أخري‬

‫كبيرة ‪ ،‬فكواها لي و الدي بميسم البقر حتى ال يزداد تورمها فأصابتني الحمى فلم أستطع الخروج ‪ ،‬و بينما أنا‬

‫راقد على فراش مرضي إذ بي أسمع جلبة و ضوضاء و خروج الناس يتدافعون نحو أصوات الصبية و‬

‫النساء العاريات الباكيات يندبن و يصحن ‪:‬‬

‫‪ -‬األسد أكل "أم جفيل" و أخواتها ‪...‬األسد أكل "أم جفيل" و أخواتها ‪....‬‬

‫‪8‬‬
‫الروايات التي تروى كلها تلتقي في أن "سعدية" هذه ليست من البشر و أنها ذات عالقة بالجن لم تتضح ‪ ،‬أقل‬

‫هذه الروايات تشددا هي التي تقول أن ِعرق أبيها "التونسي" و أمها "النقو" القديمان التي اختلط دمها بدمه‬

‫به دم جن ظاهر وأنه ما دله على هذه المنطقة غير الجن آبائه ‪ ،‬فقد أتى من بالد بعيدة كما تح ّجينا – تقص‬

‫علينا ‪ -‬جدتي حين تحكي عنه و عنها ‪ ،‬فنحن نقطن هنا منذ أول الدنيا و لم نكتشف هذا الذهب ‪ ،‬رغم أن‬

‫بعض المرويات القديمة كانت تقول باشتغال أجدادنا القدماء في الذهب مستدلين بجفيل التونسي الذي وجده‬

‫ضمن كنز مدفون تحت بيت نمل كبير يحرسه أسد ضخم ‪ ،‬و أن الدنيا كلها كانت تأتي الى هنا من أجل هذا‬

‫الذهب‪.‬‬

‫أخذت تستظهر هذه الروايات بعض القصص المطوية عن قدراته العظيمة في استخراج الذهب ‪ ،‬و كم‬

‫من مرة عثر على حجر ذهب كبير كتلة و احدة حتى أنه لم يستطع حمله إال بمعاونة الرجال‪ ،‬ويذكرون كيف‬

‫أن "حاكم" الشرتاي كان حارس خزنته األمين و أنه كسب هذه المنزلة عنده لسببين أولهما أنه صاحب‬

‫األرض ‪ ،‬و ثانيهما حينما جاء له مرة بحجر يعلوه تراب أصر "حاكم" على أن به ذهبا مخفيا يظهر ْ‬
‫إن فتته‬

‫الى تراب ثم حرقه بالنار ‪ ،‬فلما فعل التونسي ذلك تحت إصرار "حاكم" فإذا بالحجر يزداد لمعانه قليال قليال‬

‫إال أن أصبح ذهبا خالصا ‪ ،‬كافأ "حاكم" "مهران التونسي" بأن منحه هذا الحجر كامال دون أخذ نصيبه منه ‪،‬‬

‫فترجاه "مهران"أن يكون حارسه و صديقه ‪ ،‬و تتويجا لهذه العالقة تقدم "مهران التونسي" بطلب ابنة حاكم‬

‫"النَّقُو" لتكون زوجة له‪.‬‬

‫بعض هذه الروايات المؤكدة لعالقة "التونسي" بالجن تشير في تساؤل أين ذهب هذا الذهب الكثير فإن‬

‫"التونسي" لم يغادر المنطقة منذ جاء إال مرتين في و في المرتين لم يخرج بشيء كثير مما أخرج من خير‬

‫األرض إن لم يكن يخرجه له أهله الجن ‪ ،‬بعض الخبثاء كانوا يلمحون أن "حاكم" هو من يخرجه له تهريبا‬

‫ضنا به على السلطان ‪ ،‬و لكن لم تثبت هذه الرواية أو أن الناس كانوا ال يتجرؤون على قولها و ترديدها‬

‫‪9‬‬
‫كثيرا لسببين ‪ ،‬األول هو حبهم آلل "حاكم" الذين استمروا في برهم و تفانيهم في خدمة المنطقة ‪ ،‬و السبب‬

‫الثاني هو خوفهم من بطشهم فهم يعلمون كم هم عنيفون حين يقدح في أمانتهم‪...‬‬

‫وآخر بواعث الشك في عالقة الجن بالشاب التونسي هي قصة اختفائه الفجائي هو وزوجته دون أن يعلم أحد‬

‫بمكانهما حتى اآلن ‪ ،‬وما يرويه الكثيرون عبر السنوات الممتدة منذ اختفائه الى يومنا هذا عن رؤيتهم له فجأة‬

‫ثم اختفائه كما ظهر في أماكن كثيرة وفي أحداث مختلفة آخرها يوم هجوم األسد على "سعدية أم جفيل"‪..‬‬

‫زواج "التونسي" بابنة "حاكم" "النّقّ ْو" كان حدثا كبيرا في الوادي كله ‪ ،‬فقد كانت تعتمل مؤامرة كبيرة‬

‫إلخراجه ‪ ،‬من المنطقة يقودها الشرتاي "سرور" الذي رأى فيه خطرا يهدد زعامته ‪ ..‬و يبدو أن خبر تلك‬

‫اإلجتماعات التي تعقد ليال لتدبير مخطط إخراجه كان يصل إليه بطريقة ما ‪ ،‬و هذا مادفعه الى التعجيل بطلب‬

‫يد ابنة "حاكم" لتكون زوجة له ‪ ،‬يحتمي بنسبها و عزوتها من مكايد األعداء فقد كان يعلم و يعي جيدا أنه‬

‫وحيد غريب في هذه المنطقة فال بد له من ظهير يستند إليه ‪.‬‬

‫ذهب "سرور" الى السلطان في "الفاشر" يستعديه على الغريب الذي جاء ليسرق خيرات البلد المدفونة ‪ ،‬و‬

‫ليستعين به على آل "حاكم" الذين ينتمون لبيت حكم قديم أخذه جد "سرور" منهم عنوة في معركة مشهورة‬

‫حسمها تدخل سلطان الفاشر آن ذاك لصالح آل "سرور"‪.‬‬

‫صفا األمر "للتونسي" الغريب بعد أن ارتبط بعالقة النسب مع "حاكم" ‪ ،‬و أخذ "حاكم" "مهران التونسي"‬

‫للسلطان ‪ ،‬و أخذ معه هدية من الذهب الخالص و نصيب السلطنة و أخذ معه نفر من الشهود على ما قام به‬

‫هذا التونسي من إعمار للمنطقة باآلبار و الحفاير و تمهيد الطرق ‪ ،‬و أبان للسطان أن اإلتفاق معه يقسم ما‬

‫تخرج األرض من ذهب الى أربعة أكيال ‪ ،‬كيل لسلطان الفاشر و سلطنته و كيل ألهل المنطقة و كيل للتونسي‬

‫و الكيل األخير "لحاكم" حيث تقع أعمال "مهران التونسي" في نطاق أراضيه‪ ،.‬فاقتنع السلطان بعد أن‬

‫سم بما في ذلك ما يصله و سلطنته منه ‪،‬‬


‫أضاف كيال "هلل" هو كيل الزكاة لكنه جعله من كل المنتج قبل أن يق ّ‬

‫‪10‬‬
‫ثم قام بإرسال موفد يهدئ من التوتر بين البيتين القويين وهو ما لم يرض "سرور" و كان كافيا "لحاكم" و‬

‫صهره في هذه المرحلة على األقل‪.‬‬

‫استتباب األمور و ازدهار الثروة و االندماج في المجتمع بهذه السرعة بعد أن كان منبوذا ال يجد من يأويه ‪،‬‬

‫ثم الزواج من "النقو" العزيزة بنت "حاكم" التي لم يكن أحد يجرؤ على التفوه باسمها دعك من زواجها ‪ ،‬ثم‬

‫ازدياد ثقة الناس للدرجة التي يذهب نفر من أعيانهم للشفاعة له عند سلطان الفاشر ثم رضا السلطان و‬

‫ترحيبه به حينما زاره هو و نسيبه "حاكم"‪ ...‬كل هذا عزز رواية تأييد الجن له ‪ ،‬هذا إضافة إلى ما روي عنه‬

‫من صالته الكثيرة التي اشتهر بها و التي يكثر منها بالليالي الحالكة السواد و صوته العذب في قراءة القرآن ‪،‬‬

‫هذا الصوت الذي كان يجذب العمال الذين جاؤوا للعمل معه في مشروع ذهبه خارج المنطقة المسكونة قرب‬

‫سفح جبل بعيد يحتاج الى أيام بلياليها للوصول إليه في منطقة موحشة تسكنها الحيوانات بأنواعها كلها ‪ ،‬و‬

‫تتراءى فوانيس الجن فيها بالليل تضلل الناس و تلعب بأخيلتهم‪..‬‬

‫قالت لي جدتي ‪:‬‬

‫‪ -‬هذه البنية ‪ -‬تقصد سعدية – البد و أن سر أبيها وأمها قد ظهر فيها و بان دون أختيها ‪...‬‬

‫قلت لها ‪:‬‬

‫‪ -‬هل رأيت عينيها التين تشبهان عيني "المرفعين" – الذئب‪ .-‬و لونها الذي يشبه لون بيت النمل ؟‬

‫قالت و هي تحمل عودا من شجر الدروت بيد و باليد الثانية فأسا لتكسره به لتزيد به لهب النار الذي يتوهج‬

‫تحت إناء اللبن‪:‬‬

‫‪ -‬و حياة الفكي "الشريف " هذه البنية ما ستفعله في هذه المنطقة أبوها التونسي ما فعله و البعيش‬

‫بشوف‪..‬البنت بعد أن ماتت و أكلها األسد تظهر مثل الشيطان ؟؟‪...‬‬

‫‪11‬‬
‫قلت لها ‪:‬‬

‫‪ -‬لكنها قالت أن األسد أكل حمارها و لم يأكلها و أنها‪...‬‬

‫قاطعتني قائلة و هي تحشر عود الحطب الذي كسرته الى قطعتين تحت أثافي اإلناء الذي كاد أن يفور بلبنه‪:‬‬

‫‪ -‬أتصدق أن األسد فرزها دون حمارها و أكل حمارها ‪..‬‬

‫ضحكت و قلت ‪:‬‬

‫‪ -‬أنا لو كنت مكان األسد ألكلت الحمار فهو أكبر حجما و قد كان مربوطا ‪..‬‬

‫رمتني بقطعة قماش كانت في يدها ‪:‬‬

‫‪ -‬أنت يا المطموس قاتلك ريدها – حبها ‪ -‬زي وليداتنا الباقين ‪..‬قم و انهر تلك العنز حتى ال تدفق‬

‫اللبن‪...‬‬

‫الحكاوي و األقاويل تكاثرت حول عودتها هي و أخواتها لكن نساء الحفير الذين جلبن الخبر يؤكدن أنهن‬

‫رأينها تقف بين األسد و الحمار الذي هاج و اضطرب اضطرابا شديدا ثم قطع حبله وجرى الى داخل الغابة و‬

‫هو من نبه الجميع الى خطر األسد القادم ‪..‬‬

‫"علي األحيمر" صاحبي خصني بسره و هو يقسم أنه رأى الحمار عندما هاج و اضطرب و أن شجرته‬

‫التي كان يتلصص منها على "أم جفيل" كشفت له كل شيء ‪ ،‬و أنه تسمر في مكانه من هول المفاجأة و شدة‬

‫الخوف ‪ ،‬قال لي أن األسد بعد أن كان متجها الى البنت و أختيها تركها و جرى و راء الحمار ‪ ،‬و أن سعدية‬

‫كانت أشجع من أختيها ‪ -‬التين فرتا مع النساء ‪ -‬حينما رأت اضطراب الحمار نظرت الى حيث يكثر الحمار‬

‫اإللتفات ‪ ،‬و أنها رأت األسد و هي من صاحت بالنسوة منبهة لهن بوجوده لكنها لم تشرد مثلهن ‪ ،‬بل عمدت‬

‫الى غصن مكسور تتفرع منه أغصان حملته و هي تردد بصوت عال وفي تحد عجيب ‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ -‬أنا "أم جفيل" بت أبوي القتل أبوك يا األسد ‪...‬أبقى راجل و تعال ‪..‬‬

‫حلف "علي" ‪:‬‬

‫‪ -‬أن األسد بعد أن كان متجها إليها حرن في مكانه كأنه رأى ما أخافه ولم يتحرك ثم التفت الى الحمار‬

‫وجرى وراءه‪.‬‬

‫خلعت "عاشة" قميصها و أعطته ألختها الصغرى "أم جفيل" لكن األخيرة رفضت العودة حتى تعثر على‬

‫جفيلها الذي كان فوق مالبسها فوق ظهر الحمار ‪ ،‬و تقول لهن ال بد أنه سقط ساعة هيجان الحمار لكن أختيها‬

‫أخذن يجبرنها على العودة وهي تصر على البحث عنه فحملنها حمال و أجبرنها على العودة‪...‬‬

‫هذا السر لم أقله سوى لجدتي و بعض أصحابي لينتشر انتشار النار في العويش –الهشيم‪.. -‬‬

‫وقف "علي األحيمر" أمام "نعمة" حاسر الرأس و لم يكن دفاعه سوى "أن كلهم يفعلون" مثبتا تهمة التلصص‬

‫عليها و هي تبترد عليه ‪ ،‬لكن "نعمة" لم يكن هدفها من سؤاله أمام أمه أن تلومه ألنها تعلم أنهم يفعلون فقد‬

‫كان أبوه و رفقاؤه يفعلون مثله حينما كانت تبترد عندما كانت في سن "سعدية أم جفيل" بل أتت لتتأكد هل‬

‫ظهر جدها "مهران " و حمى ابنته من شر األسد أم ال‪...‬‬

‫الجفيل الذي ضاع شغل البادية كلها ‪ ،‬ألف الشعراء فيه األغاني و القصائد التي تصفه و تصف بريقه و تعطيه‬

‫صفات أسطورية في الجمال ‪ ،‬و بعضهم حكى قصته وكيف أن هللا أخفاه آالف السنين ليدخره لتك اليد التي‬

‫خلقها هللا بعناية له ‪ ،‬و بعضهم يصف حزنه على فراق معصم سعدية ‪ ،‬و بعضهم يصف األسد و ولهه بها‬

‫بعد أن رآها و يرثون لحاله الذي تبدل و أن قومه اتخذوا ملكا غيره لغابتهم ِلما تغير من حاله ‪ ،‬و أنه أي‬

‫األسد ذهل حينما رأى جمالها و أنه لم يجر وراء الحمار بل نجا بقلبه منها ‪ ،‬و البعض األكثر واقعية يصف‬

‫شجاعتها و نبلها و تضحيتها و يرجعها الى أمها "النقو" بنت"حاكم" الفارس المغوار ضنا ً بالفراسة و النبل‬

‫على "التونسي" الغريب و القليلون الذين يشركونه في هذا الفخر ‪ ،‬و آخرون أخذوا يصورونها وهي عارية‬

‫‪13‬‬
‫تقاتل األسد بسالح فتنتها و ‪..‬و‪ ..‬و أخذ الدعاة و العباد يندهون – يتوسلون بالدعاء ‪ -‬الفقراء و الصالحين ثم‬

‫رب العالمين أن يمن على الجميع و يرجعه ‪ ،‬مشركينه في حياء مع دعاء أن يخلص الغابة من شر األسود ‪ ،‬و‬

‫الشباب الذين يؤزهم الحماس أزا يخرجون في جماعات يقصدون األسد الذي هاجم "سعدية" لعلهم يقتصون‬

‫منه في إفزاعها ‪ ،‬و قد أصاب بعضهم أكثر من أسد و بعضهم أصابته األسود إصابات خطيرة ال ينجو منها‬

‫الكثير من الناس ‪ ،‬و بعضهم صاد أسدا صغيرا في بدايه بلوغه و جاء به إليها لكنها قالت أنه ليس هو و أن‬

‫األسد الذي هاجمها يشبه األسد الذي قتله جدها قبل قرنين من الزمن ‪ ،‬فلما طلبوها أن تصفه قالت‪:‬‬

‫‪ -‬له عقصة سوداء في أعلى كتفه األيمن تجعله يعتب حين يجري على ثالث قوائم ‪..‬‬

‫ثم أعلنت أمام الجميع و تحت شجرة ال ُح ْك ِم و بكل جرأة لم و لن تمتلكها بنت غيرها ‪:‬‬

‫أن الذي يقتل األسد األعرج ذا العقصة السوداء أعلى كتفه ستقبل به زوجا ولو كان فقيرا معدما و‬ ‫‪-‬‬

‫لو كان دميما أعورا و لو كان عبدا مملوكا‬

‫لتعلن احتدام المنافسة ‪....‬‬

‫‪3‬‬

‫لم تثن الحروب التي كان سببها التنافس على حكم "دارفور" و"كردفان" ما بين "الداجو" و "الفونج"‬

‫و"التنجر" و "عرب الغديات" "سلطان الفاشر" من تتبع أخبار "الغريب" الذي بدأ في بسط نفوذه بماله و‬

‫بفرص العمل التي انخرط فيها عدد كبير من الشباب و الشيوخ و بما كان يفعله هو و "حاكم" من إعمار‬

‫للمنطقة ‪ ,‬فقد كان الصراع محتدما على أشده على حكم هذا اإلقليم المترع بالخيرات ‪ ,‬و كان قبل أن‬

‫تصله شكوى "الشرتاي سرور" من تطاول آل "حاكم" عليهم و عدم انصياعهم لحكمه و استقوائهم‬

‫‪14‬‬
‫بالغريب الذي ال يعرف له أصل قريب يرجع إليه نسبه يمكنهم الوثوق به و الرجوع إليه حال أخطأ أو‬

‫تعدى ‪ ,‬أرسل في طلب معرفة خبر هذا "الغريب" و ماذا يريد و بث العيون التي تأتي بخبره أوال بأول ‪,‬‬

‫بل و حاولت أن تعرف سر قدومه الى هذه المنطقة ومن أين هو‪...‬‬

‫و رغم تضارب المرويات التي وصلت الى السلطان حول الغريب فقد أجمعت كلها على ثالثة أشياء أولها‬

‫أنه من بالد تبعد مسيرة أشهر بالخيل السريعة إن أ ُ ِمن الموتُ عطشا و من مدينة أسمها "بنزرت"‪,‬‬

‫تفصلها عن ديار السلطان غابات و صحاري و أنهر و أن هذه البالد اسمها "تونس" و يطلقون عليها‬

‫أحيانا "أفريقية" تقع خلف بحر كبير و الحقيقة الثانية أن حكام تلك المنطقة و الذين يسمون "الدايات" ‪-‬‬

‫مفردها "الداي" ‪ -‬منشغلون بصراعات و حروب داخليه و أن هذه الصراعات لم تهدأ على مر تاريخ‬

‫طويل و أنهم في حالة حرب و تناوش مع العثمانيين المسلمين و تناوش فيما بينهم وتناوش مع طامعين‬

‫كفار من وراء البحر المالح ‪ ...‬اجتمعت هذه المرويات لتؤكد الحقيقة المهمة الثالثة أن هذا الغريب ال‬

‫خوف منه‪...‬‬

‫لكن لغز مجيئه من تلك البالد البعيدة الى بالد السلطان لم يزل يدفع الريبة في قلب السلطان و الذي كان ال‬

‫يزال يعاني من اضطربات تتهدد ممكلته في أطرافها الشرقية ‪ ,‬و إنه إن أمن من كونه عينا و معينا ألهله‬

‫األبعدين فال يوجد ما يمنع أن يكون عينا و يدا ألعدائه األقربين لذلك ألصق به من يراقبه كظله‪ ...‬و قد‬

‫سعى مرات ليست بالقليلة كما يروى الى قتله خالل فترة وجوده المتطاول في المنطقة حتى بعد زواجه‬

‫من "النقو" ‪ ,‬و يتهمه كثيرون بأن له يدا في اختفائه المفاجئ و الذي لم يعد بعده أبدا فمن قائل أنه قتله‬

‫عبر سم دسه له في طعامه عبر أحد أتباعه الذين كانوا يعملون في مناجمه ولكن السم ظهر أثره بعد حين‬

‫و أنه وقع ميتا متأثرا بسمه في غابة قريبة و افترسته السباع أو أكلته دابة األرض ‪ ,‬و من قائل أنه‬

‫اختطفه عند خروجه الى مناجمه عائدا إثر تفقده الكثير لسير العمل في إحدى الحفائر بعد أن كمن له في‬

‫‪15‬‬
‫تلك الغابة أيضا و األقاويل كثيرة من هذا القبيل‪...‬لكنها كلها تؤكد خوف السلطان منه ‪...‬خاصة بعد‬

‫زواجه من ابنة "حاكم"‪..‬‬

‫و لما أن جاء الشرتاي "سرور" مشتكيا من ذهاب نفوذه الذي أستمده من نصرة جده أي جد السلطان بعد‬

‫تلك المعركة الكبيرة قبل زمن ليس بالقريب و ال بالبعيد فإن رد السلطان له كان بأن نهاية "التونسي"‬

‫قريبة و أن عليه أن يصبر و يتريث و أن يكتم هذا األمر حتى ال يفسد خطته فهو ليس بحاجة ألن يثير‬

‫المنطقة ضد سلطانه بعد أن ظهرت أفضال "التونسي" على الناس و زاد خيره بينهم ‪.‬‬

‫لكن السلطان استقبل "التونسي" و "حاكم" استقباال حسنا و أقام لهما مأدبة كبيرة دعا لها أعيان المنطقة و‬

‫قبل منهما هداياهما ‪ ,‬و فطن األثنان لمخاوف السلطان فأعلنا له على المأل دعمهما للسلطنة في حربه‬

‫العادلة ضد خصومه المعتدين بالمال و أن ربع الذهب المستخرج حق معلوم دائم للسلطان و دولته‬

‫فاعتبر السلطان هذا إعالن خضوع و اتفاق إذعان لحكمه مما زاده اطمئنانا ولكنه لم يقض على مخاوفه‬

‫بصورة نهائية‪.‬‬

‫و قبل رجوعهما أسر السلطان "لحاكم" بأنه سيرسل وفدا يصلح بينه و بين "سرور" و أن عليه أن يقبل‬

‫بحكم وساطتهم ‪ ،‬فاستعلمه عن هذا الوفد فأخبره بأسمائهم فقصدهم "حاكم" بهدايا خاصة رققت القلوب و‬

‫أتمت المطلوب‪.‬‬

‫وانفرد السلطان "بالتونسي" و "حاكم" ترجمان بينهما أثناء المأدبة المقامة على شرفهما فسأله مستحلفا له‬

‫باهلل أن يصدقه القول ويخبره عن سر قدومه الى منطقتهم من دون المناطق المشهورة بذهبها و فضتها‪.‬‬

‫فقال له التونسي و المعازف و األبواق و الدفوف تمنع القريبين من سماع الحوار الذي يدور بينهما‪:‬‬

‫‪ -‬سأصدقك القول يا سيدي السلطان إن الذي جاء بي إليكم ليس الذهب وال النقود و ال الثروة و النفوذ و‬

‫لم أفعل شيئا يوجب فراري من أهلي فلم أخرج من بلدي خائفا و ال متسوال فقد كنت غنيا ذا منعة و‬

‫‪16‬‬
‫مال ونفوذ ورثته كابرا عن كابر ‪...‬و لكني خرجت أبتغي الثأر ممن قتل والدي رحمه هللا وهو يعيش‬

‫بينكم في بالدكم هذه‪,‬‬

‫عدل السلطان من جلسته بعد أن كان متكئا و بدت سيماء الجدية على وجهه ‪ ,‬و قد الحظ الجميع ذلك مما‬

‫جعل صوت المزامير و الدفوف ينخفض و حديث الناس تحول من صاخب عالي الى هامس خاشع‪ ..‬و قد‬

‫الحظ "التونسي" ذلك أيضا و كذلك "حاكم" الذي كان يترجم ما بين "السلطان" و "التونسي" لكن األخير‬

‫استمر في حديثه في نبرة متحدية قصدها ‪:‬‬

‫‪ -‬وهو ملك عظيم في دياركم هذه فما كان لحقير أو ضعيف أن تمتد يده على والدي العظيم المقام ‪...‬‬

‫اجتهد "حاكم" أن يخفف من نبرة التحدي في ترجمته لجاللة السلطان الذي بدأ الفضول و اإلهتمام يزداد عنده‬

‫كثيرا حتى أن ذلك بدا على جبينه الذي ازداد تقطبا وقال بصوت عال سكتت له المعازف نهائيا‪:‬‬

‫كلّها غيري ‪..‬البد أن من نقل إليك خبر موته قصد بالد‬ ‫‪ -‬ال يوجد في بالدي هذه ملك بعد هللاِ م ِ‬
‫لك الدنيا ِ‬

‫السلطان "هاشم " فهي تحاددنا ‪ ...‬أو أنه قصدني فال ملك غيري هنا يقتل و يحيي ‪ ,‬و لئن قتل والدك‬

‫بأمري لكنت ألحقتك به قبل أن تصلني‪..‬هوووي يا "التونسي" اعدل كالمك ‪..‬‬

‫لكز "حاكم" "التونسي" الذي استمر كأن لم يقل شيئا أغضب ملكا عظيما يتهدده بالقتل ‪ ,‬قال‬

‫"التونسي"‪:..‬‬

‫‪ -‬نحن أسرة تتاجر في األسود و السباع من نمور و فهود و ذئاب و ضباع و ثعالب و غيرها و نتعفف‬

‫عن صيد الغزالن و الوعول و الطيور إال ما جرح منها كالصقور و النسور‪ ,‬ورثنا ذلك من جدودنا‬

‫فنحن على آثارهم سائرون ‪ ,‬ثم نأخذها و نبيعها في بالدنا في سوق عظيم يقام للسباع يسمى "سوق‬

‫أهراس" ‪ ,‬نركب لذلك المغامرات و الصعاب فإن بها مكسبا طيبا و سمعة عظيمة و شرفا بين أهلنا‬

‫‪17‬‬
‫‪ ...‬رباني أبي على ذلك كما ربى أبي أبوه‪ ..‬و نعلم عن غاباتكم هذه و غابات غير غاباتكم الكثير مما‬

‫تعلمونه أنتم و ال تعلمونه ‪...‬‬

‫ثم أخرج من داخل عباءته ورقة كبيرة وفرشها أمام السلطان بعد أن بسطها من طيتها ‪:‬‬

‫‪ -‬أنظر يا سيدي هذه "الفاشر" حيث نجلس نحن و هنا "أوري" حيث كان ملككم يقيم قبل أن تنتقلوا إلى‬

‫"الفاشر" و تتخذونها عاصمة لكم و هذه "األبيض" حيث خرج جدكم "أحمد المعقور " العظيم ‪ ..‬و‬

‫حيث يجترئ عليكم "السلطان هاشم" سلطان "المسبعات "و هذا األتساع الكبير يحتوي على غابات‬

‫كثيرة تتكاثف حين تتجه جنوبا و شرقا حيث بالد حكم "الفونج" الذين ينافسونكم على حكم هذه البالد‬

‫و هذه "سنار" عاصمتهم ‪...‬‬

‫لم تمنع هيبة السلطان و ال حرسه الحضور من اإللتفاف حول السلطان و صاحبه التونسي ليروا ما سر تلك‬

‫األوراق الكبيرة ‪...‬و قد أثارهم الفضول و تملكتهم الدهشة مما رسم فيها و زاد عجبهم نبرة التونسي الواثقة‬

‫المتحدية التي تكاد تقول للسلطان أنا أعلم منك ببالدك ‪..‬‬

‫ثم أخرج ورقة أخرى كانت تحت الورقة األولى ‪:‬‬

‫‪ -‬هذه بها تفاصيل الغابات و عرائن األسود و مرابض السباع تصفها تفصيال ‪...‬و في هذه الغابة – و‬

‫أشار بيده الى سواد مرسوم في ورقته ‪ -‬قتل ملكها والدي رحمه‪...‬‬

‫ضرب السلطان األرض غاضبا و صائحا ‪:‬قلت لك ال ملك غيري في هذه البالد ‪ ..‬أنظر أيها الغريب إما أن‬

‫تفصح عن قاتل أبيك أو اخرج من مجلسي هذا و انتظر حكمي ‪...‬‬

‫‪ -‬هدئ من روعك يا موالي فإن الذي قتل و الدي ليس من البشر فما كان لفارس أن يجرؤ على قتله‬

‫مهما بلغت شجاعته و ليس من الجن فإن الجن يتهيب حامل القرآن و قد كان والدي يحفظ القرآن و‬

‫‪18‬‬
‫ي ستظهره عن ظهر قلب و لقد روض والدي ملوكهم و أسلموا له قيادهم ‪ ..‬لكن من قتله ملك عظيم‬

‫نتتبعه من عشرات السنوات إنه األسد ذو العقصة السوداء في كتفه ‪ ,‬ملك كل غابات أقليم السودان‬

‫الداخلي نتتبعه منذ أن كان شبال يافعا ‪ ..‬نتسقط أخباره كما تتسقط أخبار أعدائك العظام و جاءت‬

‫لصيده الحمالت إثر الحمالت فقد كان منيعا في سربه ‪ ,‬ال تصل إليه إال بعد أن تقضي على أسود و‬

‫سباع كثيرة ‪ ,‬فإن الذئاب و الضباع و بقية أهل الغابة يظاهرونه الوالء في نموذج عجيب شد انتباه‬

‫صيادينا و حق له ذلك ‪ ,‬فقد استبسل في تأمين الغابات كلها من شر الصيادين و المغامرين أمثالنا و‬

‫لقد أدهشنا حضوره و امتداد نفوذه فما من غابة ندخلها إال ونجده بها متأهبا متحفزا لقتالنا و طردنا‬

‫كأن هناك من يخبره بتحركنا من بالدنا و بوجهتنا قبل الوصول الى المنطقة ‪ ،‬وقد قتل هذا الملك‬

‫والدي حينما واجهه كما يتواجه الفرسان الشجعان وجها لوجه ‪...‬‬

‫ضحك السلطان حتى كاد أن ينكفئ على قفاه بعد أن علم بأن هذا الملك ملك من السباع و ليس من البشر و‬

‫لكنه أسرها في نفسه و اعتبرها نوع من عدم احترامه ذكر الملوك أمامه بهذه الجرأة و التحدي وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬نحن ال نقتل ملوك الحيوانات يا "تونسي" بل نكرمهم و نطعمهم و نحميهم ‪ ,‬و لقد هيأنا فرقة من‬

‫العسكر ال هم لها غير منع الصيادين و المغامرين من قتل األسود و النمور و الحيّات العظيمة ‪,‬بيننا و‬

‫بينهم تحالف و ميثاق لم ننقضه منذ مئات السنين و لم ينقضوه‪...‬و لوال أننا انشغلنا في سنواتنا‬

‫األخيرة بحروبنا مع الفونج األقوياء وحلفائهم لما كنت في مجلسك هذا و لما مات أبوك بعضة أسد‬

‫‪..‬كما تزعم و لكنكم استمرأتم الدخول الى أراضينا في غياب جنودنا و عساكرنا وانشغالهم بالقتال‪.‬‬

‫تبسم التونسي مجامال مضيفه في ضحكته ‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬إن مناطق الغابات تذخر بالصيادين المهرة من أهلها الذين يجيدون صيد األسود ‪ ..‬و بعضهم كان‬

‫يبيعها لنا و بعضهم نشتري منه عاج األفيال الثمين و جلد الثعابين الضخمة و لحم الكركدن األبيض‬

‫الشرس الذي أظن أن نسله سينقطع عاجال إن لم تقوموا بحمايته ‪.‬‬

‫جاللة السلطان العظيم إن ثأري مع أسد واحد و ليس مع كل األسود فأنا أعاهدك على حمايتها كما‬

‫أحمي زوجتي و بناتي و سأتعاون مع عسسك و عساكرك في هذا إن أذنت لي بذلك‪ ..‬ولكني نذرت‬

‫نفسي على القضاء عليه و لئن رجعت الى قومي بدونه فسوف ينبذونني و يطردونني ‪ ..‬فأنا ابن‬

‫"عليسة" العظيمة منذ أول الدنيا التي طوعت الجبال و البحار و وهبت حياتها إيفاء بعهدها ‪ ,‬و سليل‬

‫"ديهيا الكاهنة" التي خضع لها البر و البحر في زمانها لن أخون كلمتي ‪ ,,‬و مهجتي دون عهدي‪..‬‬

‫عظم الغريب في عيني "السلطان" و سرته نبرته و ثقته رغم أنها أخافته منه ‪ ,‬قال له‪:‬‬

‫‪ -‬ما كان لك أن تتفوه بمثل كالمك و أنت في حضرتي لوال اطمئنانك لعهدي وثقتك بأني ال أقتل ضيفي‬

‫‪ ,‬و سنحمل قولك على هذا المحمل ‪ ...‬لكن من قال لك بأن أسدك ما زال حيا بين السباع‪..‬ربما مات‬

‫كما تموت األحياء كلها لتلتقي عند من ال يموت يوم الدينونة الكبرى ‪ ,‬وربما مرض أو هزل فما‬

‫لعظيم عظمة مع مرض و ربما اصطاده صياد غيرك فإن حواء والدة و فوق كل ذي علم عليم فما‬

‫أنت أول الفرسان وال أنت آخرهم‪.‬‬

‫تغير وجه التونسي و احمر حتى بانت الدماء في خديه و عينيه و قال‪:‬‬

‫‪ -‬ما كان ألحد غيري أن يقتله و لن يموت أو أموت قبل أن أصل إليه طال الزمن أو قصر ثق بذلك‬

‫أيها السلطان الجليل‪ ..‬كذا يقول الكتاب و هكذا أخبرني أبي قبل أن يموت متأثرا بجراحه و إني لقاتله‬

‫بإذن هللا‪...‬‬

‫‪20‬‬
‫لم تقنع قصة األسد السلطان كثيرا بقدر ما أثارت الشكوك في قلبه ‪ ،‬فما عالقة األسد بالتنجيم‬

‫عن الذهب و كيف استطاع التونسي رسم كل هذه الرسوم عن مملكته و معرفة أماكن الغابات و المدن ‪ ،‬و‬

‫لذلك أرسل من يراقب التونسي و يلز ُمه في حركاته و سكناته بالذات عندما يخرج خارج مناجمه‪ ,‬كما‬

‫أنه استدعى حاكم في صباح ليلة الوليمة ليوجه له رسالة واضحة أن هذا الغريب تحت مسؤوليته المباشرة‬

‫و أن "حاكم" و أهله أجمعين تحت تهديد جاللته المباشر إن شعر بريبة في أمره فهو في وضع ال يحتمل‬

‫التسامح في الصغائر دعك من الكبائر‪ ,‬و أبان له جيدا أنه سيقبل بأن يكون التونسي تحت حماية "حاكم"‬

‫شريطة أن يؤمن له تلك المنطقة و أن يأتيه بأخبارها ‪ ,‬و أنه سيعتمده "شرتايا" على أن يقبل بحكم‬

‫الوساطة الذي سيأتيه للحكم بينه و بين الشرتاي "سرور"‪.‬‬

‫كان كالم "التونسي" عن األسد مثار استغراب "حاكم" فهذه المرة األولى التي يفصح فيها عن قصته مع‬

‫األسد ‪ ,‬و لقد أجابت هذه الرواية عن أسئلة كثيرة كانت تحوم في صدره حول نسيبه "التونسي"‪ ..‬خروجه‬

‫و اختفائه أليام دون أن يعلم أحد بمكانه‪ ..‬الغرباء الذين كانوا يأتون بين كل فترة و أخرى محملين بأنياب‬

‫و جلود و رؤوس ثعابين و حيوانات مختلفة‪ ,‬ذلك الغريب الذي جيء محموال به و مات و دفن تحت سفح‬

‫الجبل ‪ ...‬ذلك الجرح الغائر في جنبه الذي تثور آالمه كل فترة من الزمن و بالذات في فصل المطر حتى‬

‫تقعده عن الحركة‪ ..‬كل هذه أسرار لم يبح بها له و لم تتكشف معالم حقيقتها غير يوم أن أخبر السلطان‬

‫العظيم بسره‪ ....‬ثم إن المسؤولية أصبحت كبيرة بتهديد السلطان له و السلطان في أيامه هذه أشرس من‬

‫أسد جريح هاج من رائحة دم ‪ ،‬و يبدو أن نفس األسئلة التي كانت تدور قبال في رأس السلطان بدأت تعمل‬

‫في رأسه‪ ..‬من هو و ماذا يريد و هل له عالقة بما يدور في المنطقة من كر و فر بين سلطان المسبعات‬

‫وبين سلطان الفور خاصة و هو يقطن بين منطقتين النفوذ فيها لسلطان الفاشر و القرب فيها لسلطان‬

‫"األبيض"‪...‬‬

‫‪21‬‬
‫و في طريق الرجعة و في ساعة راحة و مقيل طلب "حاكم" من "التونسي" أن يذهب معه بعيدا عن‬

‫القافلة التي جاء بها لزيارة السلطان ليريه شيئا يخبؤه في منطقة قريبة من موقع مقيل القافلة حتى إذا ابتعد‬

‫بحيث ال يسمع أحد حديثهما طلب منه التوقف و الجلوس ريثما يخرج شيئا من ال ُخ ْرجِ و أمده بماء من‬

‫قربة يحملها في حصانه ليشرب‪ ,‬فلما اطمأن إلى اطمئنانه و جلوسه ووضعه وكاء القربة في فمه أخرج‬

‫خنجرا من جفيره وأتى من خلف "التونسي" ووضع الخنجر في رقبته ممسكا برأسه تاال له إلى الخلف ‪:‬‬

‫من أنت و ماذا تريد ‪...‬أصدقني و إال و حياة "أبوي الشريف" لترجعن من هنا رأسا بال قدمين‪...‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬آ "سعدية" ‪ ...‬ما بتخافي من هللا‪...‬؟‬

‫‪ -‬مالك يا ولد؟‬

‫‪ -‬المسوياه في الخلوق دي هللا بسألك منه وحياة أبوي الشريف‪.‬‬

‫‪ -‬أنا سويت شنو؟‬

‫ثم قامت الى شاة أخرى تحلبها تزيد بها اللبن في ماعونها األبيض ذي الوردة الحمراء ‪ ...‬وقفتُ‬

‫أراقبها و أراقب رقة أناملها و هي تمسك بذلك الثدي تمصره بأطراف أناملها تستجدي اللبن استجداء‬

‫و اللبن الماجن يتمنع حينا و يتطاير حينا خارج إنائه ‪ ،‬على يدها تارة و على وجنتها تارة أخرى و‬

‫على أعلى شفتها أو على رمشها ‪ ..‬فتمسح بكتفها ما طار الى وجهها و رمشها و تلعق ما عال شفتها‬

‫و يدها في تغنج و دالل ال تتكلفه‪ ...‬كأنها أول مرة تحلب اللبن أو كأن ضرع الشاة لم تمتد له يد حالب‬

‫قبلها ‪ ,‬لكن السعادة تحسها على وجه الشياه المستسلمة الوادعة ال تقاوم بل تمد رجلها الخلفية الى يد‬

‫حالبتها في حركة مقصودة تدل على تعود و إلفة‪ ..‬نهرتني‪:‬‬

‫‪ -‬هيي ها‬

‫و كأني عائد من سفر بعيد نظرت إليها ‪ ...‬ثم تابعت قائلة‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -‬عملت شنو أنا عشان تقول لي خافي هللا؟‪ ...‬أنا هللا خايفااه ‪ ..‬الما خايفه أبوي يديني لي ود الفضل ‪..‬‬

‫‪ -‬ماله ود الفضل مش ود خالتك‬

‫‪ -‬ود الفضل إن دايرني اليجيب جفيل أبوي التونسي ‪ ...‬البجيب جفيلي بياخد قسمته مني‪.‬‬

‫‪ -‬ما بياخدك كلك يعني ‪ ...‬و قسمته كم؟‬

‫ضحكت في تهتك قصدتني به‪..‬‬

‫‪ -‬شوية ما كتيرة‪..‬‬

‫‪ -‬و الباقي؟‬

‫‪ -‬الباقي حق البجيب لي األسد‪.‬‬

‫‪ -‬هم ما واحد؟؟‬

‫نظرت إلي نظرة خلعت قلبي من مراقده‪.‬‬

‫‪ -‬اسكت يا الغشيم ‪...‬األسد بجيبه براي –لوحدي‪-‬‬

‫‪ -‬بتجيبيه كيف ؟؟‬

‫قامت بعد أن أطلقت الشاة من بين فخذيها ثم و قفت حاملة إنائها الى شاة ثالثة و ضحكت ضحكة‬

‫تسلب الروح من حشاشتها وقالت وهي تمشي و ترمقني‪..‬‬

‫‪ -‬أنا بتك يا أبوي‪..‬‬

‫قلت لها و أنا أحمل عنها إناء اللبن الى حيث النار الموقدة لغليه‪:‬‬

‫‪ -‬الجد يا سعدية وريني كيف قدرت على األسد‬

‫‪ -‬األسد ما فارقني من يوم فتحت في الدنيا دي بقتله في اليوم مرتين و ثالثة كيف ما بقدر عليه‪...‬‬

‫‪ -‬بتقتلي كيف ‪...‬‬

‫بكل قوة ذئبي عينيها طعنتني في أم عيني‪:‬‬

‫‪23‬‬
‫‪ -‬األسد بقتلوه كيف ؟‬

‫‪ -‬ما قتلت لي أسد قبل كدة لكن بقولوا يا بحربة يا بسيف يا بحجر يفجخو بيه راسه‪..‬‬

‫‪ -‬أنا بخنقه بي يدي دييل ‪ ...‬أنا و "مهران أبوي"‪....‬‬

‫‪ -‬أبوك البجيبه شنو من رقدة موته يا بت ؟؟‬

‫"علي ود األحيمر" قال "لنعمة" بين يدي أمه و هو يروي تفاصيل ما حدث بين "سعدية" و األسد بعد‬

‫أن لم تتوقف في فعلته بالتجسس على بنتها كثيرا و هي تبترد ‪:‬‬

‫‪ -‬األسد قبل ما "سعدية" تقبل عليه جاري عليها جرية جوع ‪ .....‬مصاريني من شفت الحمار يتلجلج و‬

‫ينطط زي المهبوش ظنيتها وقعت من بطني ‪ ..‬و لما سمعت نفس األسد و دق كرعيه في ورق الشجر‬

‫الفي األرض ‪ ..‬فتشت قلبي ما لقيته ‪..‬‬

‫بتك دي ما عاقلة يا "نعمة" في عاقل يقيف لألسد؟ ‪ ...‬و األسد ما أسدا هوين ‪ ...‬األسد الشفته دة‬

‫أعتى من قرنتية في مكنه و أطول من حصان في علوه و أخف من زرزور في جريه‪...‬‬

‫نهرته أمه خجلة من نعمة‪:‬‬

‫‪ -‬يا ولد هة قول بسم هللا عقلك وين ودرته ؟ البت تقيف لألسد و إنت مصارينك تقع و قلبك يطير إنت‬

‫ماك ود بطني؟‪..‬‬

‫هدأتها نعمة‪:‬‬

‫‪ -‬الولد جاهل لسة ما قدر "سعدية" "سعدية" فايتاه بي حولين‪..‬‬

‫‪ -‬الولد وقت بقى يعاين للبنات في برودن الجهل فارقو تب ‪ ..‬كالمه دة إن مرق يا "نعمة" بتفضحي‬

‫ولدي ‪ ..‬وأنت إن قلته تاني بقطع لسانك و ّال تفوتني ما أشوفك تاني الك ولدي وال بعرفك‪.‬‬

‫‪ -‬يا مرة ما تقهري الولد الولد الكالم دةما بقا ليه بكرة تشوفيه يبقا هو ذاته األسد ما األسد البحجوا بيه‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫قول لي يا علي ولدي وبعدين‪.‬‬

‫اعتدل علي ‪:‬‬

‫‪ -‬الحريم هناك عيطن و صيحن ‪ ...‬النصيحة فيهن شالنها كرعيها – رجليها‪ -‬وجرت ‪ ,‬و الغبت –‬

‫أغمي عليها ‪ -‬وعت بعد شافت أخواتها جرن جرت وراهن‪ .‬و الحمار المربوط يناتل في قيده لما قلع‬

‫الغصن من شجرته بي أوراقه و باقي فروعه وجرى على جوة الغابة عكس جهة األسد الجاي‬

‫منها‪ ...‬الغصن انحل من حبله‪..‬‬

‫‪ -‬أها‬

‫‪ -‬بتك شافت األسد الجاري عليها هناك ‪" ...‬عاشة" كوركت ‪ -‬صيحت‪ -‬ووقعت مغبية – مغمى عليها ‪-‬‬

‫و "غبيشة" جرت و ال اتلفتت علي زول‪ ...‬إال "سعدية" جرت علي فرع التبلدية شالته و قبلت علي‬

‫األسد و جرت عليه‪...‬‬

‫األسد الجاري قبيل حرن فجأة زي التقول مربوط بي حبل و زول نتله لي ورا‪..‬‬

‫و المجنونة دي جارية عليه وتقول ليه ‪ :‬أبقا راجل و تعال أنا بت أبوي القتل أبوك ‪..‬‬

‫و األسد بقا زاحف ال ورا بعد ما كان جاري عليها و هي شايلة فرعها و جارية عليه ‪...‬‬

‫أخذ علي يرتجف كالحموم و يتصبب عرقا ‪ ..‬أشفقت عليه أمه‪:‬‬

‫يا ولد مالك قول بسم هللا‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬أنا بت أبوي القتل أبوك أبقا راجل و تعال ‪ ...‬و األسد رفع راسه زي البفتش علي مكان يشرد فيه‪....‬‬

‫عيني و عينه اتالقن ‪ ..‬ما خلن لعيون سعدية شي الخالق الناطق ‪ ...‬إال شال عيونه من عيوني‪...‬و‬

‫جفل على جهة الصعيد ورا الحمار‪......‬‬

‫مسكته نعمة من قميصه و شدته ‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫‪ -‬جد سعدية ظهر يا "علي" و ال ما ظهر أبوها التونسي وقف جنب بته و ال خالها لألسد‪ ,‬نهر األسد‬

‫وال األسد خاف براه ‪....‬قول يا ولدي‪..‬‬

‫‪ -‬من عين األسد وقعت في عيني الدنيا ضلمت قدامي النهار بقا أسود زي الليل ‪...‬لما نور عيوني رجع‬

‫أشوف األسد جاري على جهة الحمار ما جرى‪..‬‬

‫‪5‬‬

‫والدي و أستاذ آدم و الحاج مرحوم و شيخ القرية و مجموعة من كبار أهل القرية جلسوا مع وفد من‬

‫الحكومة الذي جاء في ثالث عربات "كومر" ‪ ..‬تعلوا أصواتهم بين حين و آخر ثم تهدأ من جديد‪...‬‬

‫نقف نحن خارج القطية الكبيرة نتصنت الى ما يدور فلما يكثر عددنا بحيث نحجب الهواء الداخل أو‬

‫حين يعلوا صوتنا على صوت من بالداخل ينتهرنا أحد الكبار طاردا لنا‪ ..‬و ما فهمناه من الحديث أن‬

‫الذين جاؤوا من الحكومة إنما جاؤوا لغرضين أولهما أنهم جاؤوا ليطمئنوا على أهل هذه القرية من‬

‫هجوم األسود األخير و ليطمئنوا على أن ال خسائر في األرواح و الممتلكات كبيرة عارضين‬

‫مواساتهم و خدمتهم في أخذ جرحى الهجوم الى مشافي أكبر من مشفى أستاذ آدم ‪ ,...‬و الغرض‬

‫الثاني هو إقناع أهل القرية بترك هذه القرية الى قرية أكثر أمنا و أرحب منزال و أنفع خدمات ‪..‬‬

‫قرية ملحقة بمدينة كبير ‪ ،‬مياهها متوفرة و مدارسها مبنية و سوقها عامر و مشافيها مؤهلة و طرقها‬

‫معبدة هي بال ريب خير من قريتنا هذه في رأيهم‪.‬‬

‫ناداني كبير الوفد ‪ :‬تعال يا ولد‬

‫فلما وقفت أمامه سألني و عينه على شيخ القرية الذي كان يعلو صوته قبله‪ :‬هل تقرأ فلما هززت‬

‫رأسي باإليجاب ‪ :‬أين تدرس‬

‫‪ -‬أدرس مع أستاذ "آدم" في ذلك المبنى‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬في أي صف‬

‫تدخل أستاذ آدم ‪:‬‬

‫‪ -‬أنا هنا أدرسهم جميعا في فصل واحد أعلمهم القرآن و بعض الحساب و شيء من العلوم‬

‫يلتفت ألى شيخ القرية ممسكا بكتفي ‪:‬‬

‫األوالد سيكونون ضحية بقائكم هنا ‪ ..‬ليس معقوال أن يدرسوا بهذه الطريقة بينما تتوفر الخدمات و‬ ‫‪-‬‬

‫التعليم بصورة أحسن لو ذهبتم إليه ‪..‬‬

‫انفض سامر اإلجتماع بال نتيجة غير غضب الطرفين و القرية القابعة بين مجاري مياه الخريف‬

‫الكثيرة تحتوشها األشجار و تحيط بها من كل جانب و بكثافة من ناحيتها الشرقية ال تزال تتوجع من‬

‫هجمة األسود األخيرة و تجاهل الحكومة و طلبها لهم بترك منازلهم القديمة التي توارثوها من أزمان‬

‫ليست بالقريبة ‪:‬‬

‫‪ -‬هكذا إذن نترك بيوتنا حتى ال تهاجمنا األسود ‪..‬‬

‫‪ -‬قالوا إنه القرية الجنبنا قرروا االستجابة لطلب الحكومة وأنهم بدأوا بالرحيل فعال ‪ ...‬خافوا أن يحصل‬

‫لهم ما حصل لنا‪..‬‬

‫‪ -‬عاقلون ‪...‬السعيد يشوف جر الشوك في جلد أخوه‪..‬‬

‫‪ -‬يا أخوانا العاقل يعرف محل يضع راسه ‪ ...‬األسود طالبة شي من قريتنا القرى الجنبنا كلها آمنة و‬

‫مستقرة مع إنها أقرب الى مراتع الحيوانات من قريتنا لكنها هجمتنا أكثر من ثالث مرات نحن دون‬

‫القرى التي حولنا‪...‬‬

‫‪ -‬هل جننت ؟ الحيوانات ما بتفرز بحركها الجوع بتمشي من غير دليل غير ريحة فريستها ‪..‬قسمتكم‬

‫هي من أتى بها إليكم ‪..‬‬

‫‪27‬‬
‫أخذ رأي يتبلور أن هذه الحيوانات مدفوعة لغاية يجهلها الجميع ‪ ...‬و بدأ همس خبيث أعرف مصدره‬

‫يومئ الى حادثة "أم جفيل" و هجوم األسود األخير مستشهدا بمالحظات بدأت تنتشر نارها سريعا ‪,‬‬

‫فاألسود كان بإمكانها أن تحدث خسائر كبيرة لو كان محركها الجوع فقط فقد كان متاحا لها بقر و‬

‫أغنا م و ضأن كثير كان يسرح بالقرب من مكان هجومها و لكنها لم تذهب في إتجاهه ‪ ,‬و أنها لقيت‬

‫أول من لقيت بنت "الناجي" ابنة العاشرة و هي تسرح و راء غنمها لكنها لم تهجم عليها و ال على‬

‫غنمها ‪ ,‬ثم أنها لم تهاجم الجموع التي تصدت لها كما أنها لم تهرب منهم أول رؤيتهم بل انتظرتهم‬

‫حتى هاجموها و بدأوا يضربونها بالحجارة و الحراب و يشعلوا النار في وجهها ‪ ..‬حينها هاجمتهم و‬

‫هربت ‪...‬‬

‫قالت جدتي ‪ :‬هذه المخلوقات ال نعرف سرها ‪...‬‬

‫قلت لها و أ نا مستلق على ظهري فوق حصير أمام باب بيتنا أنظر الى نجمة بعيدة ‪ :‬ألم يقولوا أنها‬

‫تحمل أرواح آبائنا األقدمين و أنها تجري بسرهم و تعيش قصتهم في عالمها ‪..‬‬

‫اتكأت جدتي في سريرها واضعة رأسها فوق كفها متخذة ساعدها و يدها كوسادة ‪ :‬العلم عند هللا لكن‬

‫سر هذه الوحوش هذه األيام مدفون في قريتنا‪ ...‬و أنا أعرف مكانه‪.‬‬

‫كأني كنت أعلم ما تريد قوله لكني لم أحول نظري من نجمتي‪ :‬أين مكانه؟‬

‫نظرت الى نجمتي التي أنظر اليها ‪ :‬في بيت "نعمة"‬

‫نظرت اليها فوجدتها تنظر الى حيث كنت أنظر‪ :‬يا حبوبة كالمك هذا مأل القرية كلها‪ ...‬لماذا ال‬

‫تحبين "نعمة" و بناتها‪..‬‬

‫‪ -‬أمي هي الما بتحب أمها و أرضعتنا كرهها من نحن لسة ما فطمونا ‪ ..‬كان أنا مفروض أكون "نعمة"‬

‫و ال أختها الماتت زمان ‪...‬‬

‫و ألني سمعت هذه القصة كثيرا و بحكمة شيخ ال طفل صغير قلت ‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ -‬أال يقولون على هذه القسمة كل واحد يأخذ قسمته يا حبوبة‬

‫سكتت ثم استطردت‪:‬‬

‫‪ -‬يا ولد انت ما الذي عرفك بهذه األمور‬

‫ثم تحدثت كمن يحدث نفسه ‪ :‬بركة الما بقيت "نعمة" ‪ ...‬ال أقدر على مثل هذه الشقاء‪..‬‬

‫‪ -‬كيف يمكن أن تكوني "نعمة" و أين هو "الشقاء"‪..‬‬

‫‪ -‬الشقاء لما "نعمة" تشوف األسد بياكل بناتها واحدة ورا الثانية أمام عينيها‪..‬‬

‫قمت من رقدتي و قد شدني حديثها ‪ :‬يا حبوبة ما هذا الذي تقولينه‬

‫‪ -‬هللا يحيينا و نشوف ‪...‬‬

‫جدتي تحمل حقدا قديما على "نعمة" و بناتها و تظن أنها كانت األولى بهذا الجمال منهن لو أن و الد‬

‫"نعمة" تزوج أمها هكذا أخبرها "الودع" الذي ترميه تستكشف به الماضي و المستقبل و هكذا قصت‬

‫لها أمها عن غرام استبيح لم يرعه "حمدان" حق رعايته رغم و عود الهوى و خلواته ‪ ,‬فقد كانت‬

‫أمها ال ينقصها من جمال أم "نعمة" شيء كثير كما تقول ‪....‬‬

‫‪ -‬ما الذي سنراه يا جدتي‬

‫‪ -‬سنرى عجبا ‪ ...‬األسود إن لم تأخذ ثأرها من بنت "حاكم " نعمة" لن تترك القرية تهنأ براحة ‪...‬‬

‫‪ -‬اليوم ناس الحكومة جاؤوا و طلبوا أن نرحل من هذه القرية ‪..‬ناسنا كأنهم اقتنعوا شايف القرى التي‬

‫حولنا تمتثل الى أمر الحكومة‪ ...‬لو رحلنا لربما كفينا القرية شر األسود هكذا يقول أستاذ آدم‪..‬‬

‫ضحكت جدتي و هي تنظر الى أفق بعيد بعد أن استلقت تنظر الى نجمتي التي ازداد بريقها مع ازدياد‬

‫الظالم ‪ ...‬ثم تنهدت و قالت ‪ :‬البعيش بشوف‪….‬‬

‫تملكني إحساس غريب حرك لي بطني من هول ما قالت جدتي كيف يأكلهن األسد؟ و تذكرت قول "أم‬

‫جفيل" ‪ :‬أنا بخنقه بي يدي ديل‪..‬أنا و أبوي "مهران"‪..‬‬

‫‪29‬‬
‫استطاعت جدتي نشر هذه الرؤية بقوة فانتشرت بين النساء ثم بين الرجال و ازدادت بتأويالت أخرى‬

‫المنطقي فيها أقل من الخيالي‪ ...‬يقول بعضهم أن األسود جاءت لتثأر لهزيمة كبيرهم من "أم جفيل" في‬

‫يوم الهجوم المشهور عند "الحفير الصباحي" فقبيلة األسود كالثعابين ال ترضى الهزيمة و ال تنسى من‬

‫هزمها و ال تقر له بنصر ‪ ،‬و آخرون ذهبوا لرواية تروى عن والد "التونسي" الذي خطفته األسود ثم‬

‫عادت به كما خطفت "مهران" ولده من بعده ‪ ،‬و لربما هي عائدة لتخطف "سعدية" كما خطفت أختها من‬

‫قبل‪ ...‬و لكن الفرصة التي سنحت لها ضيعتها ‪،‬فهل رجعت مرة أخرى لهذا األمر ؟ هذا معناه أنها ستعود‬

‫ثانية و ثالثة الى أن تجد "سعدية" فيرد بعض مناصريها و هم كثر معظمهم من الشباب المفتونين‬

‫"بسعدية "‪ :‬إن هذا الهجوم محسوب ضمن الهجمات الثالث المذكورة و الهجمة األولى هي هجوم على‬

‫قطيع الحاج مرحوم و األخيرة هي هذه فاألمر ال يعدو أن يكون جوع تملك الغابة إثر هجرة القطعان‬

‫جنوبا خلف المطر فوجدت األسود أن األرض خلت ممن يكون لها طعاما فاستهدفت القرى لسهولة‬

‫اصطياد األبقار و الشياه المزروبة و المدجنة التي لم تعتد على فرار أو دفاع‪.....‬‬

‫بعضهم يقول أن هذا البيت أي بيت آل "نعمة " أصابته لعنة قديمة انتقلت من أمها ال من أبيها "حمدان"‬

‫إذ انتكس عمل سحر أسود قامت به أمها لخطف قلب أبيها لكونها لم تلتزم بشروط الساحر الصعبة فارتد‬

‫العمل على بيتها و استدلوا بقلة انجاب هذا البيت بل و تأخره في ذلك الى أن تزوج "حمدان" بأخرى لكنه‬

‫لم ينجب منها و انجب اثنتين من أم "نعمة" إحداهن "نعمة" و الثانية أختها التي ماتت أو هكذا يظن إذ‬

‫خرجت ذات ورود لجلب الماء و لم تعد ‪ ..‬و إني ألرى يد جدتي في هذا القول واضحة ال تورية فيها‪.. ..‬‬

‫و لكن من حضر الماضي أنكر كثيرا مما تزعمه هذه الرؤية ‪ ..‬فإن والد "نعمة" "حمدان" اشتهر منذ‬

‫صغره بحبه ألم "نعمة" و كان زواجه منها تتويجا لهذا الحب فرح به كل ذويهما فهما ابناء عمومة‬

‫يجمعهما دم واحد قبل قلبيهما الذين يجري فيهما‪ ,‬و لوال إلحاح أم "حمدان" عليه أن يتزوج ‪ -‬بعد أن لم‬

‫يرزقه هللا الذرية ‪ -‬لعل هللا يرزقه من أخرى بنين تقر بهم عينه كما يفعل الرجال لما فعل ‪ ،‬و لقد أنجبت‬

‫‪30‬‬
‫أم "نعمة" بنتيها على كبر بعد أن يأست من اإلنجاب و يبقى سر اختفاء بنت "نعمة" األولى هو نقطة قوة‬

‫هذه الرواية‪...‬‬

‫‪6‬‬

‫في "سوق أهراس" ‪..‬السوق الشهري الذي يجتمع له باعة ومشتري السباع المفترسة و المروضة و‬

‫أعضائها الثمينة كرؤوس السباع و أنيابها و جلودها و ما غال منها و ندر من كل الدنيا ‪ ,‬يعقد ك ُل أول‬

‫أسبوع من أول شهر قمري ويستمر لمد عشرة أيام ‪ ,‬ينفض بعدها ليعقد في موعده أول الشهرالقادم ‪,‬‬

‫ويكاد يكون مهرجانا ال يتم فيه البيع و الشراء فحسب بل تقام فيه المهرجانات الراقصة و حلبات‬

‫المصارعة و سباقات الخيل و اإلبل و بيع النوادر من التحف و العطور التي يكون أغالها عطر دم‬

‫الغزال " المسك " و عطر دم الحوت " العنبر" ‪ ،‬و بهذاالسوق جناح ألخشاب األثاث و لألخشاب‬

‫الطبية التي تقصد من بالد الدنيا المختلفة و أخشاب العطر كالصندل و الطلح ي ُ‬
‫بعث إليها خدم األمراء‬

‫واألميرات و الملوك الوفود من أماكن و دول بعيدة غالبا ما تكون وراء البحر األبيض المتوسط ‪ ...‬كما‬

‫تزدهر فيه تجارة الرقيق الذين يُجلبون عبر حمالت منظمة يقوم بها تجار و ن ّهابة يتخصصون في‬

‫اصطياد الشباب من الجنسين ‪ ،‬أو تتبع أخبارالحروب في كل الدنيا القريبة ليقومو بشراء أسراها من‬

‫الطرفين فإما أن يتم مقايضتهم مع ذويهم مقابل ثمن يزيد و ينقص حسب وضع األسير و إما أن يباعوا في‬

‫أسواق العبيد المنتشرة في الدنيا و هذا السوق أحدها بل ومن أكبرها ‪.‬‬

‫و يستبشر الناس إن وقع السوق يوم جمعة أو خميس لما فيهما من بركة و فضل على بقية األيام ؛ و‬

‫بالسوق حوانيت للزينة يقصدها الرجال كما النساء و حمامات للرجال و للنساء تعنى بنظافة البشرة و‬

‫تجميلها و العناية بالشعر بالزيوت األفريقية التي لن تجدها مجتمعة إال هنا ‪ ,‬يأتي بها التجار و الصيادون‬

‫من أدغال أفريقيا البعيدة ‪ ,‬ملحقة بأبنية المنازل التي تستضيف الوفود من كل مكان يعمل بها ولدان و‬

‫‪31‬‬
‫جواري بمو اصفات خاصة رقيقي األيدي و الحواشي حلوي اللسان و الكالم جميلي الوجه و الطلة ‪ ،‬هذه‬

‫النزل لها درجات و مقامات فنزل األمراء ليست كنزل عامة األغنياء و من باب أولى ليست كنزل العامة‬

‫من تجار و مشترين و عابري سبيل ‪ ,‬فاألولى تكون على مرتفعات شرقي السوق مطلة عليه كما و تطل‬

‫على أودية خالبة المناظر يتدفق منها الماء تنأى بهم عن سماع الضجيج و زحمة الباعة و المشترين‬

‫والمتطفلين لها طرق معبدة مرصوفة تسع خيلهم و بقالهم ذوات العربات الفارهة ‪ ,‬و الثانية أقل منها‬

‫ارتفاعا و أقرب مكانا للسوق و تشرف على متنزه جميل أعد بعناية لمقام ذوي المال و األخيرة تجاور‬

‫السوق بل وتجدها أحيانا بداخله ;‬

‫و سوق "أهراس" مصدر ضخم للروايات و القصص واألساطير التي ينشط رواتها في أيام هذا السوق‬

‫يتخذون لهم مواقع يتحلق الناس حولها اشتهر منهم رواة بعينهم يقصدهم طالبي األساطير و معرفة أخبار‬

‫الدنيا‪ ,‬و يجعلون لهم مترجمين توضع لهم منابر خاصة يؤمها أصحاب اللغات و اللهجات المختلفة الذين‬

‫يقصدون هذا السوق ليزيدو ثقافتهم ويرووا نهمهم حول ما يجري في الدنيا و خصوصا األوربيون منهم ‪,‬‬

‫و يقصدها كذلك جواسيس ملوك و سالطين ودايات و رؤساء دول مختلفة حيث يجدون بعض األخبار و‬

‫الروايات التي تشجع المغامرين منهم على خوض حروب أو تثنيهم عنها فقد نشط طالب المجد و التوسع‬

‫منهم ‪..‬‬

‫يجلس هؤالء الرواة مع الصيادين و التجار الذين جابوا البالد و الغابات يأخذون منهم قصصهم و‬

‫أحاجيهم و الروايات و المغامرات التي كثيرا ما يزيدها أصحابها ليعطوا بعض المجد و النبوغ و السيرة‬

‫ألشخاصهم فيعيدون صياغتها أضافة و حذفا ‪ ,‬تشويقا و تهويال لتخرج بثوب قشيب تصحبه موسيقا‬

‫"القنيبري" و "الهجهوج" ‪ ...‬و بأختصار هذا سوق للذين يحملون من األموال الكثير و للذين يحملون من‬

‫الشغف المثير‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫و كان لقصة األسد األعرج جمهور خاص بعضهم يأتي من وراء البحار البعيدة و أخرون من البلدان‬

‫التي ترهق الخيل القوية في طلب الوصول إليها ‪ ,‬يأتي كل شهر ليعرف الجديد من أخباره و تغلبه على‬

‫الصيادين الذين ال يخلو شهر من خبر منهم أو عنهم يزيد في إثارتها ‪ ,‬فقد أصبح األسد بطال أسطوريا ‪,‬‬

‫له جمهور كبير يؤيد و يتتبع و يفرح النتصاراته على الصيادين من مختلف جنسياتهم ‪ ,‬كما اشتهر‬

‫صيادون قلة عبر هؤالء الرواة منهم علوش و المحمداني و حسان من الشمال كما يأتي من العمق‬

‫األفريقي صيادون أشاوس يعرضون نتاج صيدهم منهم موجيانا و شيانقا و كوباكي‪ ....‬كما جذب األسد‬

‫مغامرين أوربيين ليخوضوا األدغال األفريقية تحركوا من بلدانهم خصيصا ألجل صيده فقد كان وقع‬

‫قصص هؤالء الحكواتية كبيرا على نفوس السامعة ‪ ،‬خصوصا و أن بعض القصص يكون لها شواهد‬

‫حية كصياد حي موجود يرونه ماشيا في السوق و ليس من الخيال ‪ ،‬أو أسد شجاع يرونه مكتوفا بين‬

‫المعروضات ‪ ،‬أو رأس فيل و السيف الذي جزه ‪ ،‬بل و الصيادين الذين تمكنوا منه ‪...‬بل و أحيانا يؤكد‬

‫الغلو في هذه القصص و إثارتها تأثرهم فرحا و حزنا بغياب صياد لموت أو لجرح أو مواصلة مطاردة ‪،‬‬

‫و كثير من الصيادين يحملون جروحا غائرة أو ظاهرة يتباهون بها إظهارا لشجاعتهم في وجه األسود ‪..‬‬

‫ينسجون حولها القصص الدالة على استبسالهم و شجاعتهم في مواجهتها كأنها هي التي قصدتهم ال هم من‬

‫اعتدى عليها و روعها باألسر أو القتل يجيئون إلى مواطنها اآلمنة من بلدان بعيدة ال لشيء سوى لكي‬

‫يؤذونها ‪ ،‬و كان لتجريد الحمالت في العثور على صياد اختفى أو حملة صيد تأخرت ‪ ،‬و الحركة التي‬

‫تصاحب إعدادها في السوق من جمع تبرعات و تجهيز مطايا و إعداد مؤن فإن صادفت أيام السوق‬

‫الكبيرة كان لها صدى يزيد من حماس الناس و الرواة و السامعين الذين يشدهم الفضول لمتابعة خبره ‪،‬‬

‫فتكون مادة غنية للتأليف و الزيادة و الخيال ‪ ،‬هذه الحمالت التي كان أولها حملة العثور على "الباهي"‬

‫ابن "لخضر" والد "مهران البنرزتي"‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫و قد كانت الجبال المحيطة بالسوق و غاباتها المخضرة مدار العام مسرحا لعمليات صيد كبير زاد من‬

‫حماسها ذلك األسد المرعب الذي لم يستطع عليه أمهر الصائدين و الذي أطلق عليه الحكواتية لقب "مراد‬

‫باي" تشبيها له "بمراد باي" العظيم الذي سمت به همته من العبودية و الرق الى حكم تونس كلها ‪ ..‬خلق‬

‫هذا األسد حماسا غريبا لطالب البطولة و السمعة الحسنة و المغامرة‪ ...‬حتى أن بعض مضاربي السوق‬

‫وضعوا مبلغا كبيرا ل من يأتي به حيا و مبلغا كبيرا و لكن أقل منه لمن يأتي به ميتا ‪ ,‬و كان كلما جاءت‬

‫بعثة صيد أو جماعة صائدة أو صيادون منفردون و قليل ما هم ‪ ,‬يتكاثر حولهم الناس ليأخذوا األخبار‬

‫طازجة عنهم قبل نقلها للحكواتية و لكن الصيادين كانوا ال يخبرون أحدا غيرهم ‪ ,‬فهم يدفعون لهم مقابل‬

‫ذلك ثم إنهم يقومون بتمجيدهم و الدعاية لهم أمام الزوار خاصة األوربيون الذين يدفعون أثمانا عالية‬

‫مقابل صيد الصياد ذي السمعة الماجدة‪ ...‬و كان يحرص كل صائد أن ال يعود خالي الوفاض من خبر أو‬

‫قصة عن ذلك األسد "مراد باي" حتى و إن لم يقابله أو يتعرض لموقف معه فإنه يجلس هو وزمرته‬

‫الصائدة ينسجون قصة من وحي الخيال تقارب الواقع لينقلوها الى الحكواتية‪ ...‬فقد كان عيبا كبيرا أن‬

‫يرجع صياد دون أن تكون له قصة أو مغامرة مع هذا األسد مما أضاف لألسد األعرج بل لألسود عموما‬

‫أبعادا أسطورية جعلت منهم ملوكا للغابات في الرصيد الشعبي العالمي ال نملك غير أن نقول أنهم‬

‫يستحقونها‪...‬‬

‫أصبح األسد األعرج "مراد باي" بركة على بقية الحيوانات التي كسد سوقها و قلت أسعارها و وباال على‬

‫األسود التي تناقص عددها بشكل ملحوظ حيث كثر صيدها و تهافت الصيادون عليها وعرفوا مخابأها و‬

‫أماكن تواجدها و عاداتها و أزمان توالدها و طرق تناسلها و حياتها اإلجتماعية و مصايفها و مشاتيها ‪...‬‬

‫و ابتكروا طرقا مبتكرة لصيدها و تفننوا في ذلك و صنعوا آالت ذات إمكانيات متخصصة تفلح في تشتيت‬

‫انتباه األسد األعرج فقد صنعت خصيصا له ‪ ,‬إذ شكلت حمى األسد األعرج في منطقة الشمال و الغرب‬

‫األفريقي ظاهرة اجتاحت حتى المجتمعات الثقافية و الدينية و أصحاب المهن اإلقتصادية المختلفة التي ال‬

‫‪34‬‬
‫عالقة لها بالصيد كالزراعة و الرعي‪...‬و تباهى األغنياء باقتنائهم لجلود األسود و أنيابها و رؤوسها‬

‫رغما عن نهي الوعاظ في المساجد عن ذلك و اعتبارهم أن هذا من السخط و اللعنة اإلالهية ‪ ,‬و أصبح‬

‫من كسوة العروس الالزمة ف ْرو جلد األسد الذي يوضع زينة في البيت أو يتخذ كسجادة صالة أو تعمل‬

‫منه األحذية و أواني حفظ و تبريد الماء بدال عن جلود األبقار و الماعز بل و صنعت منها اآلالت‬

‫الموسيقية الفخمة‪ ...‬و كل هذا يباع في سوق أهراس ثم منه الى األسواق األوربية و األسواق الداخلية‬

‫التي ال يقصدها إال علية القوم و علية القوم فقط‪..‬‬

‫غير أن هذه الموجة الشرسة التي استمرت ألربع سنوات حسوما تزيد و ال تنقص أدت الى هجر األسود‬

‫للغابة المتاخمة للسوق ‪ ,‬و ابتعادها في العمق األفريقي جنوبا و غربا و شرقا عبر امتداد الغابات و‬

‫الصحاري و اقترانها مع بعضها البعض ‪ ,‬فاصبحت طلعات الصيادين تتأخر لشهور تكاد تقارب السنة‬

‫مما جعل الحماس يفتر عن سابقته و أصبحت قصص األسد األعرج تكاد تندثر إال من حكواتي يؤلف‬

‫قصة حوله جذبا للمستمعين يشوبها عدم الصدق و قلة السامعة‪.‬‬

‫شكل وجود األسد األعرج أو "مراد باي" لغزا محيرا و تحديا مثيرا للهواة و المحترفين من الصيادين ‪,‬‬

‫ال تجد له مكانا محددا فهو كثير الحركة و التجوال في غابات الجبال المحيطة بالسوق فمن وجده بجبال‬

‫"صالح" لن ينكر على من رآه بجبال "أوالد مؤمن" و لن يغالط إن ادعى ثالث سماع صوته المميز في‬

‫جبال "أم العظائم" ‪ ,‬و كثيرا ما يروي صياد عن ظهوره المفاجئ له كالجني في "عين دالية " يعدو‬

‫رام أو ناقضا لشراك أو مثيرا لرعب بزئيره‬


‫عليهم بسرعة فائقة تكاد تسابق السهم المنطلق منقضا على ٍ‬

‫الذي تتجاوب معه األسود و السباع فتزأر بعده مأوبة مثيرة الرعب في قلب كل من سولت له نفسه اقتحام‬

‫مملكته ‪ ,‬و كم من مرة يعد الصياد و فريقه الشراك الجعدلية المحكمة لصيده ثم يختبئون خلف شجرة أو‬

‫‪35‬‬
‫صخرة فيفاجأ الجميع بتخطيه الشرك و ظهوره أمامهم مباشرة وجها لوجه بال عازل أو ملجأ و سرعان‬

‫ما يتجمع األسود و السباع المختلفة إثر زأرة واحدة تدلهم على مكانه و صيده من الصيادين الضحايا‬

‫فتصبح الغابة كلها أسودا‪ ...‬فال يملكون غير انتظار رحمة هللا التي عزمت صحبتها "لمراد باي" و قبيلته‬

‫دون الصياد و زمرته ‪ ,‬و لكنها أي رحمة هللا تتدخل فتصرف عنهم األسود زهدا فيهم و إعالنا لإلنتصار‬

‫المنتصر المهزوم الى خارج الغابة مطرودا ذليال تاركا سالحه و شراكه خلفه بعد معركة‬
‫ُ‬ ‫عليهم فيُش ِيّع‬

‫بسيطة الهدف منها رمي سالح العدو و طرده ليس إال ‪ ,‬يقتل فيها من يقاوم و يجرح فيها من ال يعلن‬

‫استسالمه بسهولة‪ ...‬و لذلك أصبح من مسلمات صيد األسود في تلك النواحي االستسالم ورمي السالح و‬

‫رفع اليدين الفارغتين و التقهقر رويدا رويدا الى إن تُأمن غضبة "مراد باي األعرج " إذا ما خانك الحظ‬

‫و رماك قدرك في مثل هذا الموقف المهيب ‪..‬و لكن الويل لك إن كانت هذه المرة هي المرة الثانية التي‬

‫ترى فيها في مثل هذا الموقف‪.‬‬

‫وكم من مرة أتى بخبره أهل العمق األفريقي بالذات في الفترة التي انحسر وجود األسود في الجبال‬

‫الشمالية فيأتي بأخباره صيادوا "باماكو" و نهر " نيل السودان " كما يسميه العرب أو نهر"اجرون‬

‫يجرون" كما يسميه "الطوارق " أو نهر "النيجر" كما سمي حديثا‪ ،‬فشبهوه بالبطل العظيم " ماندينقا‬

‫سوندياتا كيتا" أو " ماري جاتا" األعرج و التي تعني "أسد مالي" فقد كان مقعدا و لكنه أمسك‬

‫بصولجان أبيه فقام و قامت معه بالده فو ّحد القبائل و انتصر على "سمانجورو" في معركة "كيريانا"‬

‫الشهيرة و أنشأ "سلطنة مالي العظيمة" على طول "نهرالنيجر" حتى "المحيط األطلسي" و التي امتدت‬

‫لقرون طويلة مجيدة عزيزة – فأطلق عليه صيادوا قبائل "السوننكي" و قبائل "المادينغا" و مقاتلوها‬

‫األشاوس لقب " ماري جاتا " بعد أن فعل بهم مثل ما فعل بسابقيهم في الشمال البعيد و قد الحظوا‬

‫بفراستهم تفانيه في حماية كل الغابة و ليس قطيعه الذي يماشيه و يستأنس به فقط كفعل باقي الحيوانات و‬

‫الوحوش التي ال تحمي إال زمرتها وقطيعها‪...‬‬

‫‪36‬‬
‫فلما كثر عدد األسود أصبح وجودها خطرا يتهدد الحيوانات و البشر في تلك المناطق أخذ السكان يشنون‬

‫عليها حمالت منتظمة و مستمرة تهدف الى قتلها أو طردها من المناطق المتاخمة يتزعمها الصياد‬

‫الشهير "موجيانا" الذي جابت سمعته اآلفاق حتى وصلت الى ذلك السوق البعيد فوصله منه من يدعوه‬

‫الى مهرجاناته ليراه الناس و يحكي لهم عن مغامراته مع األسود و بالذات األسد ذي العرجة البائنة‬

‫"مراد باي" أو " ماري جاتا " و كان ذلك بتمويل من أحد األثرياء األوربيين ألحد أشهر الحكواتية الذين‬

‫بدأ سوقهم يضمحل بعد اضمحالل قصص األسد األعرج و تطاول الزمن على أخبار صياديه‪..‬‬

‫و كما في الشمال األفريقي فإن استبسال " ماري جاتا" األعرج في العمق األفريقي في حماية القطعان من‬

‫األسود التي رحلت بسبب الهجمات المتعطشة للمجد و الشهرة تاركة وراءها بيئتها التي نشأت فيها و‬

‫تكاثرت سالالتها بها منذ القدم ‪ ,‬ساعد استبساله في الحفاظ على كينونة األسود الشمالية من التشتت و على‬

‫ساللتها الجبلية من اإلنقراض و على هويتها وسط حيوانات و سباع الداخل األفريقي الشهيرة بحدة‬

‫طباعها و شراستها التي مرستها عليها كثافة األدغال و قوة الصراع بين الحيوانات المفترسة القوية على‬

‫ضعاف الحيوانات المستضعفة التي غالبا ما تكون فريسة سائغة ألسد ظالم أو لنمر عابث أو لذئب مخادع‬

‫أو لضبع عربيد ‪...‬‬

‫القرويون الذين يحاددون نهر "النيجر" شهدت حياتهم الكثير من التحوالت اإلقتصادية وفقا لسخاء المطر‬

‫المعطاء وشحه الذي ال يكاد يتوقف اال قليال ال اعتمادا على فيض أياد النهر العظيم و كرمه و لذلك كانوا‬

‫كثيري الشكر هلل ‪ ,‬الذين وهبهم رزقهم من السماء ال يتعبهم فيه بشق أرض وال بحفر ترعة ‪ ,‬و كانوا‬

‫يتقاسمون التصدق بعجل شهري يلقونه لألسود و السباع داخل الغابة امتنانا و عرفانا هلل على توجيهه لها‬

‫بعدم مهاجمتهم ‪ ,‬ثم تقربا لها و تزلفا بسالف يد عندها تحميهم من غضبتها حين تجوع و رغبتها في‬

‫اإلفتراس ‪ ..‬و حين يتأخر المطر فإنهم يعمدون الى طفل معاق أو طفلة عاجزة بمرض أو إعاقة تحايال‬

‫على شرط "السحرة" الذين طالبوا بطفل صحيح الجسم غير معتل ‪ -‬يختارونه بالقرعة بواسطة ساحرهم‬

‫‪37‬‬
‫األكبر أو من ينوب عنه ثم يحملونه و يربطونه الى جزع شجرة كبيرة يوما كامال فإن وجدوه صبيحة‬

‫اليوم التالي حيا لم يصب بشيء فرحوا و انتظروا المطر الذي ال يتأخر عليهم بعدها كثيرا ‪ ,‬و إن وجدوه‬

‫قد افترسه حيوان مفترس ل ّجوا في التضرع و االستغفار و وهب األبقار للحيوانات المفترسة تصدقا هلل‬

‫كي يتعطف عليهم و يكرمهم بإنزال المطر‪ ,,,‬ولو شقوا الترع و حفروا القنوات لكان خيرا لهم‪.‬‬

‫تعودت األسود التي نشأت في منطقة حوض النيجر األوسط على هذه العادة و رعت عهودها بعناية فائقة‬

‫فكانت ال تعتدي على إنسان طالما التزم عدم اإلعتداء عليها ‪..‬ال يشذ عنها إال الذئب ذو النفس الجشعة و‬

‫الضبع ذو الطبيعة الغدارة ‪ ...‬فإذا أغضبت كرائم السباع باعتداء عليها فإنها تثور في غضبة كبيرة تهاجم‬

‫إثرها القرى و حيواناتها و إنسا نها ال ترعى عهدا و ال ذمة قديمة ‪ ..‬و كذلك إذا ما اعتدى أحد السباع‬

‫على قرية أو حيوان مستأنس هو ألحد القرويين أو انسان بريء فإن أهل القرى القريبة كلهم‬

‫يتضامنون في غضبة ضارية تخرج لها كل القرى رجاال و نساء شبابا و شيبا و أطفاال يحرقون مراتعها‬

‫و يقتلون من وجدوه منها ال يسلم منهم إال من أنقذته أقدامه ويستمر هذا األمر الى أن يتدخل حكيم يصلح‬

‫بين الطرفين فتعود الحياة الى سابق عهدها‪....‬و يكون اإلصالح بجمع ما قتل من السباع و الوحوش ال‬

‫ليأكلوه و كانوا إذا ما اصطادوا شيئا من السباع في غير هذا اليوم أكلوه‪ ,,‬بل يرمونه إليهم في مناطق‬

‫بعيدة تفصل بين الفريقين فريق السباع و فريق القرويين و يرجع القرويون الى قراهم بعد أن هدأت‬

‫ثائرتهم و شفي غيظ قلوبهم و أطمأنوا أنهم لقنوا األسود و السباع المفترسة األخرى درسا قاسيا‪ ..‬ال تلبث‬

‫الحياة بعدها أن تعود الى سابق عهدها‪...‬لكن األسود الغريبة جديدة على عادات أهل هذه المنطقة لم تتعود‬

‫عليها فقد كانت حياتها كلها بين طارد و مطرود ‪ ,‬لم تعهد السلم مع هذا الكائن ذي االساقين الذي يقف‬

‫منتصبا كما األشجار و لكنه ال كمثلها يتحرك ‪ ،‬و ال لفترات قليلة يستجم فيها الطرفان كهدنة ينصلح فيها‬

‫حالها يزيد نسلها و تقوى صحتها ‪ ..‬خاصة في الفترات األخيرة ‪ ،‬أدى هذا الحال لريبتها منه و اتخاذها له‬

‫عدوا مبينا‪..‬‬

‫‪38‬‬
‫و لذلك كثيرا ما كانت تتعدى على تلك المواثيق و العادات المتبعة بين أهل هذه المنطقة الجديدة عليهم و‬

‫بين أهلها من السباع و الوحوش ‪ ،‬فإذا ما وجدت بقرة أو عجال أو كبشا أو غير ذلك مما عظم أو صغر‬

‫من ماشيتهم فإنها ال تتورع من الفتك به و أخذه لسد جوعة أو لتأمين غذاء ‪ ،‬وإذا ما التقت بذلك الكائن‬

‫المنتصب ذي القدمين المتحرك فإن ردة فعلها الطبيعية هي الهجوم عليه ال تخاف عاقبة و ال تبالي‬

‫بمصير‪...‬‬

‫فاتخذتها السباع األخرى عدوا نافسها في المرعى و المسكن و النفوذ ‪ ,‬و أثار حفيظة القرويين الحلفاء‬

‫عليهم أجمعين القدامى و القادمين ‪ ,‬إذ تتالت هجماتهم الضارية عليهم ‪ ,‬فروعتهم فأصبح دخولهم الى‬

‫مراتعهم في الغابة دخول توجس و مكوثهم فيها مكوث عجلة ‪ ,‬عكس القادمين الجدد الذين اعتادوا على‬

‫الكر و الفر في ماضيهم القريب فليس في حفيظة ثائرة من مهدد و ال في نار متقدة من خطر و ال في‬

‫سالح مشهرور من مخاف ‪ ،‬ترد التهديد بهجمة أو فرار بعده هجمة و تجيد التعامل مع النار ‪ ،‬فقد تعلمت‬

‫أن النار تؤذي عدوها كما تؤذيها ‪ ,‬و تعرف كيف تخاتل السالح فال يصيبها إال حين غفلة ‪ ،‬ثم إنها تعتدي‬

‫على من اعتدى عليها ال تترك ثأرا يبيت ‪ ،‬هذا و قائدها األعرج "ماري جاتا" يكبح جنوده حينا و يجمح‬

‫بهم حينا آخر فاشتهر و ذاع صيته كما كان ذائعا في مراتع الشمال البعيدة‪...‬‬

‫حانوت "الباهي البنزرتي" الكبير األنيق الذي يقع في الجهة الشرقية المطلة على مدخل الملوك و‬

‫األمراء ‪ ,‬يقع منها في الواجهة المشرفة على الجبال الشرقية ‪..‬يأخذ كل المنظر المطل على السوق من‬

‫نزل األغنياء و األمراء و أصحاب الفخامة ‪ ,‬فال يُرى من السوق إال حانوته و بعض يسير من الحانوت‬

‫الذي يجاوره و حركة المتجولين الذين يدخلون الى السوق من هذه الناحية و أسقف الحوانيت المطلة على‬

‫الغرب و جدرها الخلفية ‪ ,‬التي حرص أصحابها على تزيينها و طالئها بألوان قشيبة حتى ال يجرح‬

‫المنظر الكلي حسن و بهاء اللوحة المطلة على نزل األمراء و األغنياء ‪ ,‬فيأخذ المنظر كله لوحة زاهية ‪...‬‬

‫اشتهر متجره هذا منذ عقود و رثه عن أبيه " لخضر" الذي جاء في وقت مبكر كصياد صغير يبيع ما‬

‫‪39‬‬
‫الصغيرة و الطيور المختلفة بعد أن بدأ‬ ‫من هللا به عليه من صيد يومه من الثعالب و الغزالن و األيائل‬

‫حياته و هو شاب صغير كصائد أسماك في مدينة "هيبو" أو "بنزرت" كما يسميها األوربيون الذين‬

‫يقصدون سواحلها الجميلة في السياحة و البحث عن البضائع األفريقية ‪.‬‬

‫تطورت حياة " لخضر"والد "الباهي" و ازدهرت بعد أن قطن "سوق أهراس" و بدأ كتاجر صغير يبيع‬

‫صيده اليومي مفترشا األرض ثم متخذا له طاولة تطورت الى عربة متحركة تعرف بسببها على‬

‫"مختار" كبير تجارالسوق يقضي له حوائجه و يوصل له أماناته بعد أن اشتهر بهذ الخصلة الثمينة‬

‫"األمانة" ‪ ,‬فلما أن امتلك قليل مال و بواسطة صديقه التاجر الكبير امتلك حانوتا صغيرا في أقصى زوايا‬

‫السوق ‪ ,‬و بجهده و اجتهاده أصبح دكانه القصي مقصودا بعينه ‪ ,‬تجد فيه ما ال تجده في غيره من‬

‫مطلوبات الصيد فقد تطورت مهنته من تاجر يبيع ما يصيده الى تاجر يبيع أدوات الصيد و يعلم الصيادين‬

‫الجدد و الهواة مهارات الصيد و كيفية استخدام اآلالت التي يشترونها منه مقابل جعل من المال متفق عليه‬

‫‪ ،‬و تخرج على يديه كثيرمن أمهر صيادي "سوق أهراس" ‪ ،‬فقد كان يأخذهم في طلوعه للصيد مدربا و‬

‫مستفيدا مما يصيدونه بنسبة متفق عليها‪ ...‬و رويدا رويدا زاد ماله الذي لم يكن ينفق منه كثيرا فال والد‬

‫قريب ينفق عليه و ال زوجة و ال ولد ‪ ..‬فاشترى دكانا وسط السوق حيث المشترين الكبار يأخذ إليه ما‬

‫زوجه"مختار"‬
‫يستغليه على حانوته الصغير القصي الذي جعل فيه صبيا يخلفه في البيع و الحراسة‪ّ ...‬‬

‫كبير تجار السوق ابنته الكبيرة " ح ّمانة"‪ ،‬ذات الشخصية القوية و المكانة الكبيرة في قلب أبيها الذي كان‬

‫يكثر من مشورتها و االستفادة من رأيها الثاقب ‪ ،‬وهي من أشارت إليه بتقريب هذا الشاب ال"الهيبوي""‬

‫البنزرتي" فقد آنست فيه ما لم تأنس في بقية تجار سوق "أهراس" كلهم‪ ..‬فهو شاب صغير السن تكاد‬

‫سيماء الذكاء تطفر من عينه وثبا ‪ ,‬طموح يقضي الليالي ذوات العدد في إعداد بضائعه و ترتيبها ‪ ,‬أمين‬

‫اتخذه كثير من التجار مخبأ أموالهم و أسرارهم ‪ ,‬محبوب وسطهم و قل أن تجد بينهم من يتمتع بهذه‬

‫الصفة فقد كانوا يتحاسدون و يغير كل منهم من أخيه كما التجار في كل الدنيا يفعلون ‪ ,‬زاده زواجه من‬

‫‪40‬‬
‫"حمانة" مكانة و هيبة بين التجار و لكنه لم يعتمد على هذا الزواج إال في تعجيل بزوغ اسمه فقد كان‬

‫عصاميا يخرج الى صيده بنفسه و يدير تجارته وحده و يضع خططه و ينفذها بإرادته و كسب يده‪,‬‬

‫و قد حاولت "ح ّمانة" تمويله في كثير مما يعزم على فعله و لكنه كان يرفض و يقول لها مات أبي و لم‬

‫يأخذ من أم ي درهما واحدا و لن أدنس نهج أبي بفعلتي هذه ويقول لها دائما ‪ :‬ما ال نستطيع فعله اليوم‬

‫نفعله غدا بإذن هللا إن قصدناه ‪ ,‬فلما أن وهبهما هللا "الباهي" أخذت بعض مال و وضعته في يده قائلة هذه‬

‫هدية "للباهي " خذها و نميها له تنفعه بها ‪ ,‬فأخذها و اشترى بها قطعة كبيرة شمال السوق وخارجه‬

‫سجلها باسم "الباهي" مطلة على الجبال الشرقية و جعلها كلها متجرا رغم امتعاض التجار و اعتراض‬

‫كبيرهم أبي "ح ّمانة" الذي بدأ الخوف يدب في قلبه من منازعة هذا الشاب له في شياخته على السوق ‪..‬‬

‫لكن ابنته العاقلة هدأت من روعه قائلة له بأنه ال أحد من أبنائه اآلخرين له رغبة في تجارة و ال علم لهم‬

‫بها ألن تجارة هذا السوق تجارة خطرة تتعامل مع الحيوانات و تتطلب جهدا شاقا لم يعودهم عليه أبوهم ‪,‬‬

‫و نصحته بأن يتخذ صهره ولدا فهو ليس بالغريب فهو زوج ابنته الحبيبة و قالت له فإذا ما أصابك ضعف‬

‫الكبر تنازل له تدريجيا عن مكانتك التي أظنه سيمألها و سينميها و ينفع بها السوق‪.‬‬

‫أشار "لخضر" على نسيبه "مختار" كبير التجار و شيخ السوق أن يغير تخطيط السوق توسعة شرقا و‬

‫غربا ثم يتطاول جنوبا و شماال ‪ ,‬و تنبأ له بأن هذا السوق بقليل توسعة و جميل عرض و إدخال بعض‬

‫البضائع و النشاط فإ نه سيكون سوقا تأتي له الدنيا كلها ‪ ,‬و اقترح عليه أن يدعو السلطان العثماني‬

‫الفتتاحه كما و يدعو سالطين و ملوك بلدان قريبة من العمق األفريقي و يدعوا تجار و أغنياء لهذا اليوم‬

‫العظيم من الدنيا المحيطة ‪ ...‬فوافق على التوسعه و لم يوافق على دعوة السلطان و بقية الملوك و رآه‬

‫تعديا للحدود و طموحا فوق الطموح ‪ ,‬وجمع كبار التجار الذين لهم السطوة في السوق فأخبرهم برأي‬

‫صهره فأعجبوا بفكرته ‪ ,‬و بدأت توسعة السوق التي لم تستغرق سوى شهور قليلة فالمال يختصر كثير‬

‫الشرح و يفتح مغلق األفهام‪...‬‬

‫‪41‬‬
‫أهدى "مختار" حفيده "الباهي" الصغي ر ابن العشرة أعوام جروين من األسود ذكرأ و أنثى جميلين‬

‫وجدهما تحت لبوة صادها و هي نائمة متعبة بعد أن وضعتهما و جروين آخرين ماتا كما ماتت أمهما ‪...‬‬

‫ففرح بهما "الباهي" فرحا شديدا ‪ ,‬رغم أن أمه لم ترض ذلك فقد خافت عليه منهما ‪ ,‬إال أنه قال لها ‪ :‬من‬

‫أراد أن يم تهن مهنتنا البد له أن يتربى بين السباع و الوحوش حتى يتعلم الجرأة عليهم و يعرف مخاطبتهم‬

‫و لغتهم و يأمن خطرهم و شرهم ‪....‬‬

‫ترعرع األسدان تحت رعاية "الباهي" و والده الذي كان يشرف على هذه العالقة الخطيرة بين األسدين‬

‫و ابنه ‪ ...‬أما "الباهي" فقد كان يحبهما حبا كبيرا و كانا يبادالنه نفس الحب يلعب معهما و ينام بينهما و‬

‫ال يكاد يفارقهما‪ ..‬يذهبان معه الى السوق والى حلقة الدرس و الى المسجد حتى عرفهما السوق و عرفا‬

‫أهل السوق ‪..‬‬

‫‪7‬‬

‫أعيا الجفيل و أسده الذي ذهب به العشاق و طالب البطولة بحثا ‪ ,‬و كان إعالن صاحبة الجفيل عن‬

‫جائزتها الثمينة بمثابة الشرارة التي أضرمت النار في الغابة ‪ ,‬فأصبحت عرائن األسود هدفا مقصودا و‬

‫صياد عوضا عنها ففزعت الغابة فزعا شديدا و لم تسلم بقية الحيوانات من حمى‬
‫صارت مراتعها مراتع لل ُ‬

‫جفيل "سعدية" فال تكاد تجد حيوانا رابضا في مرقده إال وهو خائف يكثر التلفت ‪ ,‬و امتألت الغابة‬

‫بالبشر بعد أن كانت مليئة بالحيوانات ‪ ,‬و قد أحس األسود باستهدافهم و رأوا هذا الكم الهائل الذي لم‬

‫يجابهوه من قبل ال يريد من الحيوانات غيرهم ‪ ,‬و صارالموت يأتيهم من جهاتهم األربع ‪ ,‬فليس هناك من‬

‫جهة إال و فيها قانص أو متربص أو صاحب شرك وحيلة ‪ ,‬فزاد هذا من شراستها و قسوتها وانبرى أسد‬

‫أعرج شديد الفتوة ينافح عنها بقوة عجيبة و شراسة مهيبة ‪ ,‬تزيد على شراسة و قوة و دهاء بقية األسود ‪,‬‬

‫‪42‬‬
‫و قد أحست األسود بهذا النشاط و تلك الحنكة في مجابهة الصيادين و الغزاة و الحالمين ‪ ,‬ولما كان األمر‬

‫أمر حياة لم ينافسه في زعامة األسود منافس فقبائل الحيوان شديدة الجرأة في اإلعتراف بفضل صاحب‬

‫الفضل ال تنازعه فضله و ال تغمطه حقه و التحسده و تضع العراقيل في طريقه‪ ,‬فالشجاع شجاع عندها‬

‫ال تباريه في انفعال و القوي قوي ال تجاريه في قتال و الذكي ذكي ال تماريه في جدال‪...‬و لوال حماسة‬

‫و شراسة هذا األسد لما بقي أسد في الغابة سالما ‪ ,‬فهو يعرف مكامن الشراك فينقضها على أصحابها و‬

‫يعلم مواقيت خروج الصيادين فينتظرهم في غير ما يتوقعون يدخل الرعب في قلوبهم بقتال عنيف أو‬

‫زئير مخيف و تؤازره بقية األسود تهجم حين هجمته و تزأر ساع زأرته‪.‬‬

‫لم ينقض شهر على ضحى يوم الجمعة الذي وقفت فيه "سعدية" أمام شيخ القرية و تحت شجرته و هو يقضي‬

‫بين الناس و يحكم حيث أعلنت شرطها الذي طارت به الروايات و انتشر في القرية قبل انتصاف النهار و‬

‫وصل أقاصي القرى الساكنة في الغابة قبل بزوغ شمس اليوم الثاني و الذي ح ّكمت فيه شيخ القرية بعد أن‬

‫وصفت له أسدها المقصود و جفيلها المفقود ‪ ,‬لم يمض الشهر حتى كثر الجرحى و امتألت مشافي المدينة و‬

‫ّ‬
‫بالخطاب الذين يزعمون أنهم قتلوا األسد المعني ‪,‬‬ ‫بفضل من هللا لم يمت أحد ‪ ,‬كما امتأل دار أبو "سعدية"‬

‫بعضهم أتى بشواهد مثل فروة أسد ‪ ,‬أو ناب يشبه أنياب األسود أو شاهد يقسم على أن صديقه صاد األسد و‬

‫لكن لم يستطع حمله إليها طالبا ذهابها الى حيث تركه ملقى ‪ ,‬و بعضهم جاء بجثة أسد صغير واضح عليه أثر‬

‫الصغر و بعضهم جاء بجثة أسد كبير خانته طاقته في الدفاع عن نفسه ‪ ...‬و انشغلت البادية باألسد الذي كان‬

‫في بداية األمر مجهوال متوهما ال تجد من يرسم له صورة متخيلة في ذهنه غير أن به وحمة أو عقصة سوداء‬

‫أعلى كتفه ثم جاء الوصف الحقا بأنه أعرج و لم يتضح ذلك العرج أنتيجة ضربة أو مرض أو عيب خلقي؟‬

‫و بعد مضي أيام قالئل صار لكل و احد قصة مع هذا األسد ‪ ,‬السريع رغم عرجته القوي رغم خفته الفتي‬

‫رغم عمره الحليم رغم غضبته‪ ...‬فقد الحظوا أنه اليقتل وهو يدافع ربما ألن الزمن ال يسعف فالهجوم عادة ما‬

‫يكون سريعا على مرتع األسود و ربما ألنه يجبن خوفا من إثارة المهاجمين إن قتل أحدهم و ربما ألن هذا‬

‫‪43‬‬
‫طبع فيه ‪ ,‬فقد تمكن من أكثر من صائد و وقف منهم موقف الصائد من فريسته األول يعلو الثاني ناظرا إليه‬

‫مكشرا عن أنيابه يبدو الغضب الشديد و اإلثارة البالغة في محياه ثم يزأر زأرة ينخلع لها قلب الرهينة الذي‬

‫يجد نفسه محاطا بأصحابه يهنئونه على النجاة من بين فكي األسد حين يفيق‪...‬‬

‫استدعى شيخ القرية حاج "الحسين" والد "سعدية" الى شجرة الحكم طالبا منه الحضور سريعا ‪ ,‬فلما حضر‬

‫وجد شيخ القرية جالسا لوحده على غير عادته في مثل هذا المجلس المهيب الذي يدير منه شئون القرية و‬

‫يحكم فيه بين الناس في خالفاتها كلها‪ ,‬يحرسه و ينفذ أحكامه شرطيان يشرفان على نفاذها في المحكوم عليهم‬

‫أو لهم ‪ ,‬ارتضاه أهل القرية شيخا عليهم بعد أبيه ينظم أمورهم و يقضي حوائجهم ‪ ,‬تعتبر شهادته حولهم‬

‫حاسمة في محاكم الحكومة و ال تقضى الحوائج إال بورقة منه عليها ختمه ‪.‬‬

‫جاء حاج الحسين وعليه أثر اإلهتمام الذ ي زاده أن يجد الشجرة خالية من الناس ال يجلس تحتها غير شيخ‬

‫القرية ‪:‬‬

‫‪ -‬خير يا الشيخ‬

‫نظر إليه الشيخ وفي نبرة تجمع التعاطف و الحزم‬

‫‪ -‬ال و هللا‪ ...‬الحكومة تريد بنتك "سعدية"‬

‫ضرب حاج الحسين يدا بيد و قال كمن يحدث نفسه‬

‫‪ -‬أخبرتها أن الذي تفعلينه سيرتد عليك لم تسمع كالمي ‪ ...‬أمها تشجعها وأخواتها‪ ..‬أخبرتهن أن األسود‬

‫ستموت و الناس ستموت و سيعلقون موتهم في رقبتها لم يسمعن كالمي‬

‫ثم يلتفت الى شيخ القرية‪:‬‬

‫‪ -‬ما الذي تريده الحكومة‪...‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ -‬وهللا ال أدري أرسلوا لي ذلك الولد قالوا يريدونني أن أحضر "سعدية" و أبوها و أن أحضر معهم‬

‫‪....‬و أشار الى شرطي يقف بعيدا ‪.‬‬

‫‪ -‬لماذا ما هو السبب؟ البنت لم تقتل أسدا و لم تجبر أحدا ‪ ...‬البنت يعجبها شبابها ككل البنات هل في‬

‫ذلك مشكلة ‪..‬الناس هم المجانين ‪...‬‬

‫‪ -‬الكالم ما بفيد يا حاج "الحسين" "سعدية" كما هي ابنتك فهي كذلك ابنتي قم انشاء هللا يكون خير‬

‫خليها تجهز و تأتي بغيار معها ليوم أو يومين الدنيا ما معروفة‪...‬‬

‫تحركت العربة الكومر التي أرسلها ضابط المركز تحمل غير حاج "الحسين" و شيخ القرية الذيْن‬

‫ركبا بجوار السائق تحمل"سعدية" و "نعمة" أمها و أختيها "عاشة" و "غبيشة" و حاج "الفضل"‬

‫زوج خالتها و ابن عم حاج "الحسين " مؤازرا ألخيه و أستاذ "آدم" ليحاجج بعلمه و منطقه و‬

‫"عاشة" أخت حاج "الحسين" لتؤازر "نعمة" و ابنتها يركبون في صندوقها الخلفي ‪ ...‬و تركت‬

‫العديد من رجال القرية ممتطين حميرهم يصيحون فيمن بالعربة ‪ :‬سنلحق بكم انشاء هللا ما تشيل هم‬

‫يا حاج الحسين جايين وراك قبل تزلوا بنكون وصلنا ‪ ...‬و العديد من النساء يصحن بالعربة أن ال‬

‫تفوتهم يردن الذهاب ليقفن مع "نعمة" و ابنتها في مثل هذا اليوم العصيب و شباب القرية الذين‬

‫شمروا و سبقوا العربة بأرجلهم الى حيث مركز الشرطة ‪...‬‬

‫قرصتني جدتي التي لم تخرج من بيتها تطالع من بعيد و أنا أقف بجانبها و نظرة الشماتة في عينيها ‪:‬‬

‫بدأنا بسم هللا عد قل "واحد"‬

‫كان المدخل الى مركز المدينة غير معبد و لكن ذلك لم يمنع الناس من االصطفاف على جانبي‬

‫الطريق في انتظار عربة الشرطة التي ذهبت لتحضر تلك التي شغلت الناس في البادية و مألت‬

‫مستشفياتهم بجرحى األسود ‪ ..‬و قد خرج الناس بالذات النساء منهم و الشباب منذ أن بلغهم أن ضابط‬

‫المركز أرسل في طلب "سعدية" تلك التي هام بها كثيرون قبل رؤيتها و ألقى كثيرون بأنفسهم الى‬

‫‪45‬‬
‫موارد الهالك في طلب رضاها و لم يكن يمضي يوم دون قصة عنها تمجد جمالها و تصفها بما فيها‬

‫و بما ال يوجد في نساء هذه الدنيا التي نعرفها و نعرف نساءها‪ ...‬نسج الخيال الشعبي حولها روايات‬

‫كثيرة رغم وجودها الزماني القائم بينهم فهي ليست أسطورة رمى بها تطاول الزمان في مخيلة‬

‫الناس يروضون بها حوادث التاريخ لصالح مجدهم و كمال معتقدهم ‪ ,‬و رغم وجودها المكاني خلف‬

‫الجبال فهي ليس ت أحجية ترتع فيها األرواح من قسوة الواقع و وعورة تضايرسه رغم ذلك تناولها‬

‫الخيال الشعبي منذ والدتها و أسبغت عليها بعدا كونيا حيث صوروها أنها لم تولد كما يولد البشر‬

‫فاستكثروها أن يكون لها والد فقالوا أن أمها حبلت بها ال كما تحبل النساء بل جعلوا حملها بها شبيه‬

‫حبل األشجار بالثمار ألقت بها ريح طيبة في رحم أمها‪ ..‬هكذا صورها الشعراء و شعراء استكثروها‬

‫على األم و األب معا فجعلوا والدتها كوالدة الشهاب في السماء الذي انبثق نوره من حيث ال نور ‪..‬‬

‫تناولها الخيال في المدينة التي لم ترها و هي تنمو نمو السحاب في السماء يحمل المطر يبدأ سحابة‬

‫صغيرة ثم تكبر و تكبر و تكبر ينتظرها كل شيء ينظر إليها ‪ ,‬يسعدهم نموها ويطربهم ترقبها و‬

‫حسن الظن بأنه سيصلهم برها و رحمتها حتى و إن لم تهطل عندهم‪..‬تناول الخيال الشعبي في المدينة‬

‫التي لم ترها كل شيء فيها ولذلك انتظرتها المدينة وهي قلقة متوجسة أن ال يكون ما تخيلوه هو عين‬

‫الواقع و متوجسة من المستقبل المجهول الذي قد ينتظر هذه اآلية األالهية‪...‬‬

‫لم يقنع لقاء "الفاشر" الشرتاي "سرور" و أحس بأن زيارته لم تؤد الغرض المطلوب منها و أن‬

‫السلطان يماطله ‪ ,‬و رغم نظرة التحدي التي لمسها في عيني السلطان على حفظ حدود سلطانه لكنه‬

‫كأنما أحس بضعف ينهش في لحم السلطنة إذ الحظ أن السلطان شديد التوتر من تحركات السلطان‬

‫"هاشم" سلطان "المسبعات" على حدود مملكته ‪ ,‬و مما زاد عدم رضاه تلك األخبار التي وصلته عن‬

‫‪46‬‬
‫حفاوة استقبال السلطان "لحاكم" و "مهران التونسي" فبدأ يفكر في اإلتصال بالسلطان "هاشم"‬

‫سلطان "المسبعات" يعلن له والءه و انضمامه الى سلطته و أخذ يعد العدة مستغال غياب اإلثنين‪,‬‬

‫بعث الى مجموعة يعرف والءها القديم لبيته و ألسرته ‪ ,‬فالبشر يظل بعضهم أسيرا لماض ال يأمل‬

‫عودته ال لشيء إال ألنه بشر ‪ ,‬و قد كانت نظرة سرور للناس أنهم عبيد القوي الحاضر فإن غاب‬

‫القوي تبعوا حاضرا غيره و إن لم يكن قويا فإنهم يقوونه يسندون إليه حوائجهم و يرمون عليه‬

‫مسؤولياتهم ‪ ..‬ومن هذا المنطلق نادى من ناداه وهو عالم بباطن مواالتهم له ‪ ,‬مقنعا لهم بقرب زوال‬

‫ُملك سلطان "الفاشر" على هذه المنطقة ‪ ,‬الذي لمس حقيقته في زيارته األخيرة له ‪ ,‬و أن الغلبة‬

‫ستكون لسلطنة "المسبعات" المدعومة من سلطنة "الفونج" وسلطانها القوي الذي تصلهم أخبار‬

‫انتصاراته في كل آونة و حين ‪ ,‬و أنه من الحكمة أن ينحاز الوالء في هذه المنطقة الى القوي المرجو‬

‫فوزه وانتصاره بدال من الضعيف المنتظر خسارته و انكساره ‪ ,‬فإن هذا أشفع لهم مستقبال عند الفائز‬

‫و أزلف ‪ .‬وقد اصطفى منهم نفرا يحسنون الكالم و يجيدون االقناع و طلب منهم اإلنتشار في قرى‬

‫المنطقة تبشيرا بهذا الفكر و تأييدا للسلطان القادم ‪ ...‬كما اصطفى أخرين للذهاب معه إلى "األبيض"‬

‫ألعالن مبايعة المنطقة للسلطان "هاشم" قبل عودة القويين الغائبين‪...‬‬

‫و المنطقة جغرافيا أقرب الى حدود "سلطان األبيض" منها الى حدود سلطان "الفاشر" و لكن والءها‬

‫منذ القدم لسلطنة دارفور التي كانت عاصمتها "أوري" ثم أنتقلت الى "الفاشر"‪ ,‬تأتمر بأمر سلطانها‬

‫و يتبايع الناس بعملتها و إن كان التعايش بين القبائل قائما و التزاوج بينهم مستمرا تعكره خالفات‬

‫المرعى و الطعام التي سرعان ما تنتهي بتدخل حكماء الطرفين ‪ ,‬و من الحكم العجيبة أن أول خالف‬

‫حول النفوذ في هذه المنطقة حسمه سلطان "دارفور" من عاصمته "الفاشر" قبل عقود ليس‬

‫بالمتطاولة في القدم بين والد حاكم ووالد "سرور" لصالح األخير‪ .‬ولذلك يجد بعض أنصار سرور‬

‫ألنفسهم العذر في تبني رؤيته مهتدين بالحكمة القائلة أن صديق عدوك عدو لك‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫جمع "سرور" نفرا من أهله و توجه الى "األبيض" يحملون هدايا من سيوف و حراب ليضعوها‬

‫أمام السلطان الطامع في توسيع نفوذه معلنين والءهم و والء سيوفهم له طالبين نصرته على "حاكم"‬

‫الغاشم مقابل أن ينصروه في حربه على سلطان "الفاشر"‪ ...‬سلك الوفد طريقا غير الطريق المعبد‬

‫الذي يمر بمعظم القرى الواقعة في الوادي تجنبا لكثير سؤال و احتجاج ‪ ,‬و سلكوا طريقا يقطع غابات‬

‫عديدة حتى يلتقي بالطريق الرئيسي الذاهب الى "األبيض" عاصمة سلطنة المسبعات ‪ ,‬طريق غير‬

‫وعثائه فإنه يمر بمراتع الحيوانات يستخدمه الصيادة و أصحاب الصالح والعبادة الذين يخرجون في‬

‫خلوات يتعبدون هللا و يذكرونه ال يراهم أحد و ال يقطع خلوتهم صاحب دنيا‪..‬و رغم أن الطريق‬

‫طويل فإن بريق الطموح خالب و الطمع أملك للنواصي و الرقاب وحديث األماني ذو شجون ‪:‬‬

‫‪ -‬يا الشرتاي "سرور" ترى كيف سيستقبلنا السلطان "هاشم"‪ ..‬خائف أن نخسر ما وراءنا و ما هو‬

‫قدامنا‪...‬‬

‫ضحك سرور مقهقها مأل شدقيه فقد بدت مالمح رؤاه تستبين و عالماتها تتضح في ناظريه‪:‬‬

‫كأني أرى وجه "حاكم " و هو يرى حكمه يتالشى من كالسراب بين يديه ووجه التونسي وحلمه‬ ‫‪-‬‬

‫يتطاير كالجراد أمام عينيه‪..‬‬

‫قال آخر‪:‬‬

‫‪ -‬لكن إن عرف رجل "الفاشر" ما نقوم به اآلن ربما يدركنا قبل أن ينصرنا "هاشم"‪.‬‬

‫‪ -‬لن نعود إلى قرانا إال ومعنا قوة من عسكر السلطان تمنع عنا أذى حاكم و سلطانه ريثما يستعد بجيش‬

‫كبير نغزو به كل األقليم ‪...‬‬

‫ثم أخذ يحدثهم عن مجد ينتظر و عن فرصة سانحة تضييعها هو الخسران المبين و رسم لهم معالم‬

‫خطته و كيف أنه سيكون أحد أمرائه المهابين و قال لهم ربما يقتطع لنا السلطان "هاشم" ما بيننا و‬

‫‪48‬‬
‫"الفاشر" ليكون تحت حكمنا فنحن أصحاب األرض و الوالء معا األرض لنا و الوالء له نأتيه‬

‫بجبايتها التي كانت تذهب جنوبا و ‪....‬‬

‫لم يخيب السلطان "هاشم" رجاء و آمال الوفد و أحسن استقبالهم و تعامل معهم بلغة السياسي البصير‬

‫و أوضح لهم أن السياسة تجارة و الحرب سلعة تباع في سوقها كما أن السالم سلعة تباع أيضا في‬

‫سوق السياسة ‪ ,‬الرابح فيها من يعرض السلعة في موسم الحاجة إليها و أنهم عرفوا وقت حاجتها لكن‬

‫الشاري الناجح هو الذي يقلب ميزان ربحها و خسارتها قبل أن يساوم في شرائها‪...‬و أخبرهم أن‬

‫مجيأهم بال شك محل تقدير و امتنان ‪ .....‬و كما عرض سلعته عرضوا بضاعتهم التي يسيل لها لعابه‬

‫فأغروه بحكم الجبال كلها و الوديان التي بينها بما فيها من خيرات و ذهب‪ ,‬و أنهم قادرون على إقناع‬

‫أهل تلك الجبال بأن يوالوه بدال عن والئهم لسلطان "الفاشر" و أن هذه فرصة يتيحونها له ربما لن‬

‫تتكرر ثانية ‪ ...‬وهذا أمر ليس بالسهل كما يعلم هو ‪ ,‬فنزع والء قديم ثابت كنزع إيمان من قلب‬

‫مؤمن يحتاج الى آيات وبراهين ‪ ,‬و جهد كبير سيقومون به إن ضمنوا تأييده و أوضوحوا له أن آية‬

‫هذا الوضع الجديد في قلوب أهل الجبال قوة ضاربة تكون في يدهم تعمل تحت إمرتهم يحركونها‬

‫حسب الوضع و الحاجة‪ ...‬و أخذ "سرور" يستعرض المكاسب التي سيجنيها السلطان إن أضاف هذه‬

‫المنطقة الى رصيد سلطانه ‪ ,‬أكبرها غير كنوزها المدفونة حمايتها لظهره الكاشف من أي اعتداء‬

‫يأتي من الخلف ‪...‬فلما رأوا أنهم قد أثروا فيه أخبروه بأنهم أحرقوا مراكبهم من أجله و أن عودتهم‬

‫الى أهلهم بدون قوة تحميهم من "حاكم" و تمنع عنهم شر سلطان "دارفور" يعتبر القاء للنفس في‬

‫التهلكة بالنسبة لهم و ضياع لهذه الفرصة الى األبد بالنسبة له‪...‬‬

‫وجد "حاكم" و "مهران" الوضع غير الوضع الذي تركاه فالبادية تموج بحركة غير طبيعية أحسوا‬

‫بها منذ أول دخولهم ‪ ,‬فتحية الناس لهم غير تحيتهم التي عهدوها ‪ ,‬و نظرتهم إليهما غير تلك التي‬

‫كانت في عيونهم ‪...‬و ما أن وصل وفدهم الى منازله حتى أخبرت "النقو" أباها في حضرة زوجها‬

‫‪49‬‬
‫بما حصل من "سرور" الذي ذهب الى "األبيض" يحرش سلطانها على ضم هذه المنطقة الى سلطانه‬

‫مستجديا نصرته عليهما‪....‬‬

‫كان أول قرار اتخذاه هو إرسال موفد سريع الى "الفاشر" بهذا الخبر يطلبان من مليكها نصرته و‬

‫يشرحان له خطورة الوضع ‪ ...‬ثم أخذا يطوفان على أهل البادية يبصرونهم بخطورة ما هم مقبلون‬

‫عليه إن انساق الناس الى ما ذهب اليه "سرور" و زمرته فالسالم الذي كانت تنعم به باديتهم ستنقشع‬

‫سحابته و لن ينعموا بظله أبدا إن خسروه ‪ ...‬و أخذا يضربان للناس األمثلة الحية على ما حدث لبالد‬

‫دخلتها جيوش السلطانين المقتتلين ‪ ,‬وصلتهم أخبارها و كيف أن الموت أصبح هو الذي يمشي بين‬

‫الناس و أن الجار قتل جاره و الساكن هجر داره و ضربوا لهم كيف أن األرض هناك بارت بعد أن‬

‫ُهجرت زراعتها ترى الثمار في األشجار ‪ ,‬و من يقطفها إما قتيل أو أسير أو الجئ مهاجر‪...‬‬

‫لم يجد "حاكم" و ال صهره كثير عناء في تثبيت الناس الذين كان أكثرهم رافضا لفتنة "سرور" و‬

‫لكن الحيلة التي بين يديهم في وجود شرتايهم الذي اختاروه بمأل إرادتهم لم تكن معهم حينها ‪ ,‬فكما‬

‫يقول "سرور" اإلنسان مجبول على التسليم إذا كان الرفض يتطلب بذال أكبر خصوصا إذا كان كشف‬

‫المكاسب و الخسائر به غبش ولو كان بسيطا هكذا تقاد الشعوب ‪...‬و بعد مجهود ثالثة أيام بلياليها‬

‫استتب األمر من جديد و سكت الصوت الذي كان ينادي بتمكين " سرور" و اإلتجاه شماال بقناعة‬

‫أكبر من الطرح الذي نكأه "سرور" ومن شايعه‪ ...‬و لكن الغيب هو الذي يقلق ‪...‬‬

‫نادى "حاكم" ابنته و سألها ماذا رأت غريبا من أحوال "مهران" منذ زواجها به‪...‬‬

‫أطرقت طويال ثم رفعت رأسها ‪:‬‬

‫‪ -‬الغريب عنده كثير مالذي تعنيه يا أبي؟‬

‫‪ -‬هل قال أمامك شيء عن أسد أو ثأر أو شيء من هذا القبيل؟‬

‫أجابت كأنها كانت تنتظر هذا السؤال‪..‬‬

‫‪50‬‬
‫‪" -‬مراد باي"؟‬

‫نظر أبوها إليها مستفهما لعلها تكمل‬

‫‪ -‬األسد اسمه "مراد باي"‬

‫زادت نظرته إليها استغرابا‪..‬‬

‫‪ -‬حدثني عنه "أبو شارفة " بنتي‪....‬هذا األسد الذي أقض مضاجع الصيادين في بالدهم و حفظ ساللته‬

‫من هجماتهم و هوالذي روع المزارعين في السودان الداخلي و أقلق الحيوانات فأسموه "ماري جاتا"‬

‫و هو الذي انتصر على الكجور في بالد النوير ‪ ...‬نعم هكذا أخبرني عنه‪..‬‬

‫‪ -‬أسد واحد كيف يفعل هذا‪ ...‬بأي روح و بأي طاقة‬

‫‪ -‬وهو أعرج كذلك إال أنه في سرعة الريح المرسلة و قوة الزالزل المدمرة و خفة الطيور ‪...‬‬

‫لم يقتنع حاكم كثيرا ولكنه فرح بهذا و قال لها ‪ :‬لقد أنقذت زوجك من خنجر أبيك‬

‫أسألك فور عودتنا عن هذا األسد فإن أجبت بأنه كان يحكي لك عنه‬
‫ِ‬ ‫ثم استرسل قائال ‪ :‬كان شرطي معه أن‬

‫فهذا يبرأه و إن كان ال يخبرك فهو بين أمرين أن يرحل من بالدنا أو أقتله‪.‬‬

‫شهقت "النقو" لهول ما سمعت و أحست بحجم ما قالت ثم نظرت الى أبيها ‪ :‬أتريد قتل زوجي بقولي يا أبي‬

‫‪...‬ثم جرت و هي تبكي‪...‬‬

‫وقبل هذا بأيام ال تتعدى األسبوع‬

‫قال "مهران" و السكين فوق رقبته و حاكم يمسك برأسه من الخلف و القربة التي فيها الماء تسقط من يده‪:‬‬

‫‪ -‬أنا "مه ران" صديقك و صهرك الذي بنى معك ما نحن فيه اآلن من منعة و مجد ‪ ..‬زوج "النقو"‬

‫ابنتك الكبيرة ‪...‬‬

‫‪51‬‬
‫‪ -‬صاح به "حاكم" و السكين تضغط على عنق "مهران"‬

‫‪ -‬قل ما الذي أتى بك؟ تريد زرع الفتنة بين قومنا و تفرق بيني و بين ابن عمي "سرور" ‪ ,‬تعمل لجني‬

‫األرباح من الذهب و أنت تزعم للسلطان أن الذي جاء بك أسد‪ ..‬ألم تر كيف نظر إليك السلطان لوال‬

‫أننا في ضيافته لربما كان ذلك اليوم هو اليوم األخير لنا‪ ....‬قل ما الذي أتى بك ‪..‬؟‬

‫‪ -‬و هللا ما قلت للسلطان غير الحق فما جاء بي من بالدي غير أسد ولكنه ال كاألسود روع أهلي و قتل‬

‫أبي و كاد أن يهلك مدينتي ‪ ,‬ع ّمر سوقنا ثم خربه علينا ‪.‬عمره في التاريخ أطول من عمره الذي بقي‪..‬‬

‫زاد "حاكم" ضغط السكين على عنق التونسي‬

‫‪ -‬أي أسد يفعل الذي تقول؟‬

‫فروع مزارعهم و طمس عاداتهم و فتن ما بينهم و‬


‫بل دخل الى أرض "الطوارق" و "السوننكي" ّ‬ ‫‪-‬‬

‫الحيوانات ‪..‬‬

‫‪ -‬يبدو أنك زاهد في عمرك‪....‬و لماذا لم تخبرني؟ نعمل سويا لنا أكثر من سنتين و لم تخبرني‪..‬لماذا؟؟‬

‫‪ -‬خشيت أن ال تصدقني يا "حاكم" األسد لن يموت إال بيد تحمل الجفيل و الجفيل من ذهب مدفون في‬

‫أرضكم هذه ‪...‬‬

‫‪ -‬أي جفيل هذا و أي أرض‬

‫أطلقه "حاكم " و لكنه ظل حامال خنجره في يده‬

‫‪ -‬جفيل كانت ترتديه ملكة عظيمة كانت تحكم هذه األرض قبل آالف السنين ‪ ,‬امتد ملكها حتى وصل‬

‫الى بالد تحادد البحر الكبير الذي تصب فيه مياه األنهار كلها‪...‬أهداه إياها ملك من بالد تقع وراء هذا‬

‫البحر بعد أن هزمها في آخر معاركها إعجابا بشجاعتها و أمرها بالرجوع معززة مكرمة و أهداها‬

‫أسدا كذلك يرمز الى عزتها ‪.‬‬

‫‪ -‬هذا أمر اصطنعته هنا لتنجو من غضبتي‬

‫‪52‬‬
‫‪ -‬أخبرت "النقو" ابنتك يمكنك أن تسألها‬

‫‪ -‬خذ كلمتي هذه لئن سألتها و لم تعرف ما تقول فأنت بين خيارين أن تهلك بيدي أو تغادر بالدي هذه‬

‫‪ -‬ال ينبغي لي مغادرة بالدك هذه قبل أن أجد الجفيل‬

‫‪ -‬إذن ليكن قولك هو الحق‪.‬‬

‫و بعد هذا الحوار بأيام ال تتعدى األسبوع وفي نفس اليوم الذي سألها فيه أبوها و حيث الدنيا لبسها‬

‫الليل و القلوب كستها السكينة‪...‬‬

‫قالت "النقو" "لمهران" ‪:‬‬

‫‪ -‬كيف ترضى ذلك لي أن يكون مصيرما بيننا معلق بين لساني و شفتي و أنت لم تطلعني‪...‬‬

‫‪ -‬أنت تعلمين لم أطلع أحدا على سري الذي جئت به غيرك ‪ ...‬و لوال حبي الذي أكنه لك و ثقتي في‬

‫رجاحة عقلك و صدق مودتك لي و علمي بما ال تعلمين من قيمة ادخرها لك الزمان ‪,‬ما بحت به لك‪..‬‬

‫ثم نهض من رقدته و قعد بالقرب منها و أمسك بكلتي يديها يقبلهما ‪ ...‬أيتها األميرة الكريمة يا سليلة‬

‫الملكة العظي مة التي حكمت الدنيا في زمانها ‪ ,‬كم لي من الشرف أن أكون زوجك‪....‬الحمد هلل الذي‬

‫ألهمك قول الصدق ألبيك‪.‬‬

‫‪ -‬إخبرني عنها يا ابن"أليسا" العظيمة التي حفظت عهدها و بنت مجدها و حكمت البر و البحر في‬

‫زمانها‬

‫قام من سريره الخشبي المنسوج بالحبال و ذهب الى صندوق كبير أخذ يبحث فيه حتى أخرج أوراق‬

‫كبيرة مطوية نشرها أمامها و جاء بالفانوس يستضيء بنوره و قال لها انظري ‪ ..‬نظرت فوجدت بها‬

‫كتابة و رسوما و وشوما و صورا ألناس تركب األحصنة و أناس يمشون و أناس يسجدون و أسود‬

‫تجر عربة تركبها أمرأة محفوفة بعدد من الناس الرافعي أيديهم ‪ ,‬و نظرت فوجدت صحراء كثبانها‬

‫مرسومة ال أشجار فيها تحفها جبال يلمع تحتها حجارة ‪ ,‬و رسوما تحوي أشجارا كثيفة تشقها خطوط‬

‫‪53‬‬
‫زرقاء و جباال تحتوشها من فوقها و من تحتها و روسما تحوي أناسا يحفرون و أناسا يحملون فوق‬

‫رؤوسهم أطباق كبيرة و فوقهم رجل يحمل سوطا‪ ,,‬و هنالك أسود عرفتها بسيماها تركب فوق ظهور‬

‫أناس و أناس يركبون فوق ظهور أسود و أرض موشحة بلون أحمر ‪..‬و صورا لخلق كثير يحملون‬

‫الحراب يجرون بحبال أناسا ذليلين مجبرين كالعبيد أو األسرى ‪ ,‬و رأت صورا لجيش عرفته من‬

‫خوذة فوق الرؤوس ألبستهم لها اللوحة يكسو محاربيه لون السمار يجرون وراء جيش يكسو محاربيه‬

‫لون البياض و رجال يضع تاجا على رأسه يشير الى عكس جري جيشه و امرأة فوق رأسها تاج‬

‫تشير الى حيث جري جيشها و ترفع يدها األخرى التي يرك فوقها نسر كبير و صورا لجيش يكسو‬

‫محاربيه لون البياض يجرون وراء جيش يكسو محاربيه لون السمار و أمرأة فوق رأسها تاج تشير‬

‫الى عكس جري جيشها و رجل فوق رأسه تاج يشير الى جهة جري جيشه و يرفع يده األخرى يرك‬

‫فوقها نسر كبير ‪ ...‬و رأت أسدا حوله أسود ‪ ,‬و أسودا داخل رسمة أسد كبير ‪ ,‬و امرأة فوق رأسها‬

‫تاج تركب أسدا قصيرة إحدى رجليه ‪ ...‬رأت رسوم أشجار كثيفة يخرج من تحت أرضها ضوء‬

‫كبير على شكل دائرة ‪ ...‬و امرأة يقف يسارها نساء كثيرات أقصر منها و رجال أشد قصرا ويمينها‬

‫امرأة يخرج الضوء من معصمها تركب أسدا قصير الرجل اليسرى ‪ ..‬كل هذا و غيره الكثير‬

‫مرسوم بريشة فنان بديع في ورق أشبه بجريد النخل منه الى الكاغد المعروف حينها‪...‬‬

‫أشار "مهران" الى الورقة ووضع يده على رسمة فيها ثم نظر الى "النقو"‪ :‬هذه أنت أيتها األميرة‬

‫العظيمة‪...‬‬

‫( ‪)8‬‬

‫شب األسدان وقويا و بانت إمارات القوة على محياهما والذكاء الحاد الذي مكنهما من تفهم كونهما‬

‫أسدين ال بشرين يعرفان حدودهما فال يتجاوزانها و مكانهما فيلتزمانه سواء كان ذلك في السوق أو‬

‫‪54‬‬
‫البيت أو الملعب أو المسجد ساعة صالة أو ساعة تعلم ‪ ,‬و تعلما كيف يحسنان االستجابة لنداء‬

‫فيمتثالن له ‪ ,‬و اكتسبا محبة أهل السوق و ودهم الذين يبادلونهما حبا بحب و احتراس فكل أهل‬

‫السوق يضعون فارق النوع عقبة للتواصل رغم امتهانهم للصيد الذي علمهم أن هذا الفارق ال يمكن‬

‫جبره مهما تنكر األثنان اإلنسان و الحيوان لهذا الفارق بحسن معاملة أو طول معاشرة أو كثرة جميل‬

‫فالحيوان في نظرهم يبقى حيوانا و اإلنسان هو اإلنسان على مدارالتاريخ‪...‬‬

‫اتخذ "لخضر" لألسدين مربطا شمال دكانه يربطهما فيه و كانت أقفاص الحيوانات األخرى داخل‬

‫حوش المتجر ذي المساحة الكبيرة مصفوفة بحيث تجد بينها فراغات تسمح للمارة بالتفرج و النظر‬

‫الى ما يريدون من حيوان عشبي كان أو من آكالت اللحوم وكان يحرص على الفصل بين الحيوانات‬

‫المف ترسة وتلك الوديعة بحائط حتى ال تطمع األولى وال تفزع الثانية فإن الطمع يهيج الحيوان و‬

‫البشر مثلما يهيجه الخوف بل أكثر كما علمه "مختار" ‪..‬و يضع بعض أقفاصها أمام المتجر من‬

‫الجهة الجنوبية يعرضها للبيع ‪ ,‬و بداخل الدكان أصناف كثيرة من أعضاء الحيونات المختلفة فالجلود‬

‫لها أرفف بعينها تجد فيها كل أنواع جلود الحيوانات من فرو لألسود و النمور و الضباع و الذئاب و‬

‫األيائل و الغزالن و البقر الوحشي يشتريها أغنياء البالد و التجار الذين يقصدون بها بالد أوربا‬

‫يبيعونها لملوكها و أمرائها و ألغنيائها و جلد الزراف الذي هو من أغالها ال لصعوبة صيده بل‬

‫لكونه ال يسرب ماء و ال دهنا فيتخذ في صناعة األواني الجلدية الغالية ‪ ,‬وجلود دببة الجبال ذات‬

‫الفرو السميك و دببة الغابات ذات الفرو الغني بشعره و لونها المميز الذي يُطلب كذلك من أغنياء‬

‫الدنيا الذين يقصدون شراءه من أماكن بعيدة خاصة تلك التي تقع في أماكن مرتفعة أو باردة ‪ ,‬ثم‬

‫جلود األرانب و السناجب و الثعالب التي تحبها النساء و جلود الحيات الكبيرة و الصغيرة التي تتخذ‬

‫لصناعة األحذية و الحقائب و غيرها مما ال أعرف اسمه و ال كنهه مرصوصة بنظام معين يسهل‬

‫رؤيتها و الوصول إليها ‪ ,‬و تجد العاج بأحجامه المختلفة الذي يجلب من أدغال الغابات األفريقية‬

‫‪55‬‬
‫يشتريه صناع الحلي و تجارها ال يتورعون من دفع المبالغ الكبيرة في ثمنه ‪ ,‬و تجد كثيرا من العظام‬

‫و رؤوس الحيوانات و أسنانها المختلفة التي يقتنيها من هم يحبون المغامرات و ال يقدرون عليها‬

‫يعلقونها في جدر بيوتهم و في طاوالت أعدت لذلك ‪ ,‬وتجد عنده عيون الذئاب التي يحفظها في سائل‬

‫يشتريه بأثمان كبيرة و لذلك يبيعها بأثمان كبيرة كذلك يشتريها طالب السحر و طالب دفعه و الوقاية‬

‫منه و المرضى و األطباء الذين يستخدمونها كعالج لضعف البصر و لتحسسه‪ ,‬و تجد في أواني‬

‫معينة أمعاء الفي لة و األسود و خصيها ال تكاد تأتي بضاعتها حتى تنفذ فمن موروث الثقافة أنها تزيد‬

‫الباه لدى الرجال فوق ما تزيده خصي األرانب و كالها ومن عجب أن زبائنها من النساء و ليس‬

‫الرجال‪ ...‬وغير ذلك مما يمتلئ به متجر "لخضر"‪..‬‬

‫و لم تكن مهمة األسدين الذكر و أخته الحراسة فقط فقد كان منظرهما دعاية كبيرة للمكان تجذب‬

‫السياح و المشترين ‪ ,‬أما "الباهي الصغير فكان كثير اللعب معهما ال يكاد يفارقهما و يأكل طعامه‬

‫معهما و كثيرا ما يأكالن من طعامه يخطفان اللقمة من فمه و يخطفها من فمهما ‪ ,‬وفي عصر كل يوم‬

‫يطلقهما "لخضر" ليذهبا في جولة للتنزه مع"الباهي" الصغير من غير خوف منهما يعتريه على ابنه‬

‫الذي يحصنه منهما "بالمعوذات" و سورة "الفيل" و يقول هللا كفيل بحفظه ‪ ,‬رغم تحذير أمه و عدد‬

‫كبير من التجار و الجيران له من مغبة فعل كهذا ‪ ...‬ويذهبان معه لحلقة الدرس في المسجد يربضان‬

‫خارجه الى أن يعود فإذا عاد من درسه فإنه يستذكره معهما يقرأ لهما ما تعلمه ويستمعان له كأنما‬

‫يفهمانه ‪ ...‬الحظ "لخضر" هذا األنسجام و التآلف الذي نشأ بين ابنه و األسدين و الرابطة التي‬

‫أصبحت قوية تكاد ال يعكرها اختالف مزاج و ال تفاوت فهم أو سرعة إدراك و ال اختالف رغبات و‬

‫احتياجات حتى كاد كل منهم أن يفهم الثاني من حركاته أو لفتاته أو حتى سكناته ويتفاعل معها وفقا‬

‫لذلك وهو ما لم يعهده في تعامل الناس و الحيوان – وهو الخبير في هذا المضمار‪ -‬حتى األليف‬

‫منه‪..‬فاألخير يدرك ما يطلبه صاحبه إثر تكرار و تعود و تدريب على مهام معينة ال يتعداها فالكلب‬

‫‪56‬‬
‫يفهم مراد صاحبه في ما دربه عليه من حراسة أو رعي أو صيد أو بعض حركات اللعب و يفهمه‬

‫حين يناديه و حين يغضب منه و صاحبه يفهم حاجته من أكل أو شرب أو لعب ويعرف عكر صفوه‬

‫و صفا ء مزاجه و يفهم إشاراته التي دربه عليها في مهمته التي يريدها منه ‪ ,‬ال يزيد التفاهم بينهما‬

‫على ذلك و قس العالقة بين بقية الحيوانات و أصحابها على مثال الكلب ‪ ...‬أما ما يحدث بين‬

‫"الباهي" و أسديه فشيء يلفت اإلنتباه و يثيراالستغراب فكثيرا ما كان يلحظ كالم ابنه ألسديه‬

‫يتجاوبان معه بهزة رأس أو ذيل أو عواء و كثيرا ما كان يسمع حمحمة األسدين يتجاوب لها ابنه‬

‫بضحك أو حركة أو كالم و هكذا شاهد الناس أيضا ‪ ,‬فسرت إشاعة قوية أن "الباهي" الصغير يفهم‬

‫كالم األسود و تفهم األسود كالمه ‪ ,‬لم ينفها الباهي أو أبوه لم يؤكداها رغم كثرة الشواهد على ذلك‪,..‬‬

‫فقد كان كلما يجلب صائد أسدا يذهب الباهي الصغير إليه يتحدث معه بحركات يديه و فمه ثم ال يلبث‬

‫أن يدخل يده الى داخل القفص يربت عليه مطيبا خاطره فيتقبل األسد األسير ذلك و ال يثور أو يعتدي‬

‫على يد الولد المواسية‪ ,‬و لما تثور هذه األسود إثر شيء أزعجها فيكثر زئيرها و جلبتها ال يستطيع‬

‫تهدئتها إال هو تهدأ لما تراه فكأنما السكينة تنزلت بقدومه عليها‪ ..‬و لكنه أيضا كان كثيرا ما يشفع لها‬

‫بمكانة أبيه "لخضر" عند صائدها إن أراد تأديبها بضرب أو بحرمان غذاء أو بتعريض لحر الشمس‬

‫أو بتكبيل و شد وثاق فترات طويلة ضامنا عدم تكرارها لما فعلت و الغريب أن ضمانه ال ينقض‬

‫أبدا‪..‬كل ذلك و هو لم يتعد الثانية عشر من عمره‪...‬‬

‫لما بلغ "الباهي" الخامسة عشر أصبح يأخذه والده معه للصيد في رفقة مجموعته التي تعمل‬

‫تحته و يأخذ معه األسدين الذين كانا يساعدانهم كثيرا في طراد الفرائس و اكتشاف أماكنها بما يملكان من‬

‫حاسة شم قوية و سرعة و هيبة وسط عالم الحيوان وأظهر الشاب الصغير و أسداه ملكة عالية و قدرة كبيرة و‬

‫انسجاما مبهرا انعكس على الكمية التي صار يأتي بها كل يوم صيد ‪ ,‬وكان من عادة "لخضر" أن ينظر الى‬

‫حاجة السوق فيقصدها لعينها لكنه كان كثيرا ما يقضي األيام الطويلة و أحيانا الشهور ال يأتيه مراده و اليظفر‬

‫‪57‬‬
‫به وكثيرا ما ينصب شراكه المحكم فلما يأتيه في صباح اليوم التالي إن كان نصبه مساء أو في مساء اليوم‬

‫نفسه إن كان نصبه صباحا ‪ ,‬ال يجد صيدا أو يجد ما صاده حيوانا واحدا أو اثنين و قد كان هيأ نفسه على صيد‬

‫وفير فلما يجده كذلك يطلقه و يرفع بصره الى السماء متحدثا مع ربه قائال " شوية يا رب" ‪.,‬‬

‫أحدث دخول "الباهي" وأسديه عالم الصيد مع أبيه طفرة كبيرة جدا في كمية ما كان يصيده أبوه و نوعيته‬

‫فوق ما كان يتصور "لخضر" ‪ ,‬الذي ظن أن مهمته في تدريب ولده ووحشيه األنيسين ستكون ليست باليسيرة‬

‫فليس لهم جميعا معرفة مسبقة بالصيد وفنونه وعنته وصبره ‪ ...‬فكلهم نشأوا في الحلية و الحياة الرغدة يأتيهم‬

‫رزقهم رغدا كل حين بال جهد أو تعب و لكن هذا األداء أبهره فعلم أن ابن السبع صياد كما أن ابن الوز‬

‫عوام‪..‬‬

‫زاد دخل "لخضر" كثيرا و أصبحت مقتنيات متجره ال تضاهى بمقتنيات أي تاجر آخر و صار بعد أن كان‬

‫يخرج الى الصيد مرة كل أسبوع يجعلها كل ليلة خميس و يوم جمعة ‪ ,‬صار يخرج في الشهر مرة واحدة‬

‫مصطحبا معه أبناءه الثالثة األبن و األسدين ومجموعته التي ال تزيد على ثالثة آخرين ‪ ...‬و كان ولده يخرج‬

‫للصيد خلسة مع أسديه بدون رفقة و بدون أذن أبيه الذي كان يغضب كثيرا حين يعرف فيعنف ابنه طالبا منه‬

‫أال يفعل ذلك ‪ ,‬فلما آنس فيه رغبة و شكيمة و قدرة كبيرة على انجاز مهمة الصيد أصبح يأذن له بذلك رغم‬

‫صغر سنه محذرا إياه من اإلبتعاد الى أعماق الجبال ويرسل معه مجموعته لترافقه وتعينه‪ ,,‬بل صار أحيانا‬

‫يوكل إليه طلعة الشهر منفردا هو أسديه وقد كان قبل ذلك ال يرضى بالتأخر عن الخروج فيها الى الصيد مهما‬

‫كان وضعه ‪ ,‬ولم يكن الولد يخذله أبدا بل يأتيه بكل ما أوكل إليه و يزيد أحيانا‪...‬‬

‫و ذات خميس مضيء بالقمر الذهبي المستدير و الشمس لما تعلن انسحابها خلف األفق بعد ‪ ,‬خرج‬

‫"الباهي" في رحلة صيده المعتادة و معه أسداه و مجموعة الصيادين الثالثة المساعدين ‪ ,‬على غير رضا أمه‬

‫و بعد أن أوصاه أبوه كالعادة أن ال يتأخر عن مساء الجمعة و أن ال تغريه الحيوانات و تخدعه فيتبعها الى‬

‫‪58‬‬
‫أماكن بعيدة‪....‬خرج "الباهي" الصغير و أسداه يحمل شراكه و حمال صغيرا يوضع كطعم أمام الشراك و‬

‫سهمه و نباله و رمحين أحدهما طويل و األخر قصير و أدوات حفر و حباال ودرقة من جلد ناشف لحمار‬

‫وحشي مدبوغ صلبة يصعب خرقها أهدتها له أمه و سيفا و سكينا موزعة بينه و بين جماعته التي خرجت‬

‫معه تحمل مثل حمله وتزيد حيث يحملون زادا و قربا يمألونها من ماء يتفجر من صخرة في جبل صالح‬

‫غربا ‪ ,‬و ألنه ابن "لخضر" ركب حصانا سيربطونه في مدخل‬


‫الشرقية أو من عيون صغيرة منتشرة إذا ما ّ‬

‫الغابة مع بغلين لبقية الركب يحملون فيهما أمتعة تعين على قضاء يومين في الخالء و أمتعة الصيد ‪ ,‬يتناوبون‬

‫في حراستها عندما ينفرون وراء هدف يصيدونه ‪ ....‬و كأن قلب األم على اتصال مع األسرار الغيبية لم يعد‬

‫"الباهي" و ال أسداه حتى مساء يوم السبت من حيث عادت المجموعة بدونه تحكي عن ضياعه بين الصخور‬

‫واألشجار منذ مساء اليوم األول الخميس هو واألسدين و رجوع حصانه بكامل مؤونته ‪..‬‬

‫في مهرجان تتويج ملك الماساي السنوي تجتمع أمة كبيرة من غرب ووسط و أفريقيا يكنون له إحتراما‬

‫توارثوه منذ القدم يأتون يوم هذا التتويج من كل حدب و صوب يحملون القرابين و الهدايا منها ما هو صغير و‬

‫منها الكبير كل حسب استطاعته و ربما تشارك أكثر من واحد عجال أو ثورا و لكن المميزين منهم هم أؤلئك‬

‫الذين يستطيعون جلب شيء ثمين يتطلب جهدا و مغامرة و ربما مال مثل فروة أسد أو ناب فيل أو قطعة‬

‫ذهب مشغولة أو غير مشغولة ‪ ,‬كل ذلك يتقبله الملك المتوج يوم تتويجه ‪ ,‬كما أنه يتوجب عليه تقديم عمل‬

‫كبير يجعله أهال يستحق هذا التتويج كإنزال بركة أو نزعها أو درء وباء أو شر متوقع أو عمل حسي‬

‫كإصالح بين بيتين نشب بينهما قتال و عنف أو تنمية اقتصادية ملموسة بإدارته أو ماله للناس‪ .‬لكن المطلب‬

‫األساسي لجماهير هذا الملك الجديد هو عمل يحقق لهم أمانا من األسود و قائدهم األعرج ‪ ,‬الذي زادت‬

‫شراسته و تفاق م شره في الشمال المتاخم لهم مع ازدياد هجمات قرويي تلك المناطق على قبيلته عموما كرد‬

‫فعل متبادل من الطرفين‪ ..‬فكان أن دعا صالحي قبيلته و سحرتها الى اجتماع عظيم يوم جمعة مشهود‬

‫‪59‬‬
‫تحضيرا ليوم العبادة االسبوعي الكبير "السبت" ليخرجوا بخطة تتدخل فيها اليد اإلالهية بفضل هؤالء‬

‫المدعوين الذين كلفوا باستجداء السماء لتساعدهم في القضاء على هذا األسد و بقية األسود ‪ ,‬فنودي في الناس‬

‫أن يوم السبت يوم عبادة عظيم على الناس أن يخرجوا في منتصف ليلته يحملون المشاعل كل أمام بيته ثم‬

‫يتوجهوا بالصلوات هلل الواحد أن يوحد قوته في درء هذا الخطر و القضاء عليه فقد استعصى األمر عليهم‬

‫كبشر محدودي القوة ‪ ,‬فكان ما طلبه ملكهم و اجتهد سحرتهم في ذبح القرابين أثناء قراءتهم لتعاويذ ثم صبوا‬

‫دماءها في آنية من ثمار القرع و خلطوها مع أعواد من شجر معين و ماء جلبوه من مستنقعات "جوروما" و‬

‫مزجوها مزجا جيدا ثم صبوها في أناء كبير و وزعت على صيادين أشاوس يأخذ كل واحد منهم من هذا الماء‬

‫المسحور شيئا يسيرا ثم يخلطه بماء يغتسل به يحرص على أن ال يترك موضعا إال و قد مسه هذا الماء ‪ ...‬ثم‬

‫عمد و شيوخ المناطق المتاخمة‬


‫جيء بهؤالء الصيادين الى اجتماع الملك الذي حضره صالحوهم و سحرتهم و ُ‬

‫لنشاط األسود ‪ ,‬و بعد صالة كبيرة ودعاء بأن يبارك هللا الملك و أن ييسر لهؤالء الصيادين مهمتهم تكلم كبير‬

‫السحرة و أوضح لهم أنهم محميون لن يستطيع أسد من األسود مسهم بشر و أن األسود ستكون طائعة في‬

‫أيديهم فعليهم أن يتقدموا بشجاعة نحوها ‪ ..‬وأمروهم أن يرشو فوقها بقية من الماء الذي اغتسلوا به وال‬

‫يمسوها بسوء كذلك و أن يخاطبوهم طالبين منهم أن يأتوا لهم باألسد األعرج ليقابل الملك الذي سيصطحبهم‬

‫الى مكان قريب من تجمعات األسود ‪ ,‬ثم عليهم أن يعطوا األسود مهلة يومين ليعودوا و معهم األسد األعرج‬

‫بعد أن يحدثوه بلسانهم فإنه سيفهمهم و يقولوا له بأنه في أمان الملك و حمايته الشخصية حينها سيأتي معكم ‪.‬‬

‫بعد أسبوع من خروجهم وجد الصيادون قطعان األسود راقدة مسترخية تحن ظل شجرة فتقدموا نحوها بثبات‬

‫كبير و من عجب أنها لم تتحرك بل حركت أذيالها في إشارة ترحيب بهم فلما وصلوها أخرج كل واحد منهم‬

‫علبة بها ماء ثم أخذوا يرشونها به ثم تقدم رئيس الصيادين قائال أين ملككم األسد األعرج فإن ملكنا يريد أن‬

‫يتحدث إليه ‪ ...‬و سنعود إليكم بعد يومين في مثل هذا الوقت آملين حضوره لكي نذهب معه إلى الملك الذي‬

‫ينتظره في مكان قريب من هنا‪...‬‬

‫‪60‬‬
‫انتخب كبير السحرة اثنين من سحرته ليرافقوا معه الملك الجديد و اتخذ الملك من الصالحين الحكماء رجلين‬

‫ليكونا في وفده الى ملك األسود األعرج"جاري ماتا" فصار الوفد مكونا من أربعة رجال خامسهم الملك و‬

‫بعض األتباع و الحرس في موكب متواضع ال يتعدي العشرة أشخاص ‪ ,‬يركب الملك ثورا كبيرا وضع فوقه‬

‫هودج يليق به أما بقية الوفد فيركبون حصين مطهمة مزينة تشي بمكانتهم فلما وصلوا الى موضع أشار به‬

‫عليهم كبير السحرة نزل الملك ونزل من بعده الجميع و انزلوا رحالهم و فرشوا بساطه المعتاد الذي يجلس‬

‫عليه و كان مصنوعا من جلود األسود مخيطا بعضه الى بعض ليكون عريضا وواسعا ثم صفوا فوقه نمارق‬

‫يتكأ عليها و يستريح و جلس بقية الوفد في فرش جلبوها معهم ليقعدوا فيها و قد كان مسيرهم بعد يوم من‬

‫مسيرالصيادين‪.‬‬

‫وفي ضحى اليوم التالي و الترقب سيد الموقف و الصالحون تحت الشجرة يرفعون أيديدهم الى السماء في‬

‫تضرع و ابتهال شديدين و السحرة يرتلون تعاويذهم و يتراقصون في حركات يعرفونها على بعد قريب منهم‬

‫و الملك جالس في أريكته غير عابئ بما يدور أو هكذا بدا رغم ظهور عالمات قلق يتفرسها الذي ينظر إليه‬

‫بدقة ‪ ،‬ظهر الصيادون العشرة يمشون في صفين في مقدمة الصف األول كبيرهم و في مقدمة الصف الثاني‬

‫صياد آخر و بين الصف األول و األخير صفين من األسود يتقدم أحد هذين الصفين أنثى أسد ضخمة تسير في‬

‫مرفوعة الرأس كأنها تنظر الى السماء ال إلى الألمام و عن‬ ‫عزة و تبكل يتناثر من عينيها وقار و هيبة‬

‫يمينها أسد ضخم كثيف شعر الرأس عريض المنكبين مرفوع الرأس يسير في خطوات ثابتة واثقة ال يعرف‬

‫الناظر إليه من بعيد أ يمشي متبخترا أم في مشيه عرجة ‪...‬وقف الجميع إال الملك الذي ظل في مكانه لم‬

‫يتحرك تعلوه هيبة تضاهي هيبة األسد القادم بين جنود ملك البشر و جنود ملك الغابة‪..‬‬

‫توقف ركب "ماري جاتا" على مسافة تسمح للملك البشري التقدم الستقبال ضيفه الكريم بما يليق بمقامه‬

‫بينما تقدم الصيادون الشجعان يقفون خلف السحرة الذين تقدموا قبل الملك الذي وقف و وقف خلفه األتباع الى‬

‫جاللة الملك العظيم األسد األعرج "ماري ماتا" ثم أخذوا يرقصون رقصات لها معاني عندهم يضربون‬

‫‪61‬‬
‫األرض بأرجلهم ضربات ذات إيقاع ثم يستديرون دورات محسوبة يم ينثنون حتى يكادوا يالمسوا األرض و‬

‫يقومون في حركات موقعة و هم يتلون تعاويذ نسجت كلماتها ألول و آخر مرة على هذا الكوكب ‪..‬و تقدم‬

‫كبيرهم يحمل غصنا و يحمل االثنان اآلخران إنائين من قرع بداخل كل واحد منهما ماء له رائحة غير محببة‬

‫ذات لون أحمر ثم أدخل غصنه في اإلناء األول و قام بالتقدم الى جهة مليكه و نثر عليه من الماء الذي علق‬

‫في الغصن و أفرغ بقية الماء على الصالحين الحكماء الذين معه و على سحرته ليكونوا شهود صدق على ما‬

‫دار من حوار بين الملكين ثم رجع مرة أخرى و كرر نفس الشيء مع اإلناء الثاني ثم توجه الى األسود التي‬

‫كانت تنظر إليه في استغراب و فعل معها نفس ما فعل مع الملك ثم تقدم الى الملك قائال‪ :‬األسود و مليكها‬

‫األسد األعرج جاهزة لتتقبل استقبالك و التحدث إليك يا موالي‪..‬‬

‫دخل الشرطي راكضا الى مركز الشرطة على غير عادة العساكر و هو يصيح ‪ :‬وصلت العربة البنت وصلت‬

‫يا سعادتك‪.‬‬

‫الضابط الوقور بدت عليه سيماء اإلضطراب حين سمع صوت جنديه مبشرا بخبر وصول العربة التي تقل‬

‫وفد سعدية تدور في رأسه نفس اإلسئلة ال تي تدور في رأس الناس الذين استقبلوها في الشوارع المطلة على‬

‫المركز ‪ ,‬لقد خرجت المدينة كلها حتى ليكاد المرء يجزم أنه ما بقي أحد في بيته و أنه لم يبق إال عاجز أقعده‬

‫مرض أو حبسه حابس عنيد‪ ...‬حتى األطفال خرجوا يتقافزون أمام العربة التي مرت أمام الجموع المصطفة‬

‫على جانبي الطريق كل يحاول أن يلقي نظره داخل العربة ضيقة النوافذ لعله يظفر بنظرة على تلك الجميلة‪...‬‬

‫حتى بعض جرحاها الذين يرقدون في المشفى حينما علموا بقدومها خرجوا لعلها تنظر الى ما فعلت بهم أو‬

‫لينظروا إليها فربما نظرة منها تشفي غليال و تجيب على سؤال هل تستحق كل هذه التضحية ‪ ,‬فمعظمهم لم‬

‫يرها بغير عين خياله و لكن الذين رأوها زينوها لهم بأشعارهم و أخبارها في قلوبهم و خيالهم‪...‬‬

‫‪62‬‬
‫دخلت العربة و وراءها أمواج من الناس تتبعها فلما رأى الضابط هذا المنظر ذهل و حار دليال في الذي يفعله‬

‫فإن تدفق الجموع بهذه الكيفية ربما يؤذي هذه الحورية الجميلة و أهلها أذى حسيا و معنويا فلربما تكون أقل‬

‫مما هي في مخيلتهم فيؤذونها بكالم يجرحها و يجرح أهلها و قد ينفعل منفعل فيؤذيها أذى حسيا إما بضرب‬

‫أو بغير ذلك انتقاما ألخ أو صديق أصابه أسدها األعرج‪ ...‬وربما تكون مثلما قيل عنها حينها سيخشى عليها‬

‫هجمة الناس الذين يريدون إلقاء نظرة عليها و ربما خشي على نفسه منها‪.‬‬

‫أسرع الضابط ذي الرتبة الصغيرة قبل قائده إلى العربة يأمر من بداخلها البقاء حيث هم ريثما يجد حال لهذه‬

‫الجموع ثم اتجه الى جنوده طالبا منهم أن يحاولوا أن يسيطروا على الجموع خارج المركز‪ ...‬و بعد جهد‬

‫جهيد استطاع أن يخرجهم خارج أسوار المركز ‪..‬و خرج القائد يحمل مالءة كانت فوق سرير الضابط‬

‫المناوب و طلب من عسكريه الذي بداخل العربة أن يحدث أمها بلف المالءة حولها مغطية رأسها و صدرها‬

‫حتى ال يراها أحد فيصيبها مكروه‪ .‬وجل ما كان يخشاه أن تصيب هذا الجمال عين تؤذيه فتصيبه حسرة ما‬

‫بقي من أيامه في هذه الدنيا فهو من أمر بإحضارها‪...‬‬

‫ثم خرج مخاطبا الجموع طالبا منهم الرجوع الى منازلهم فإن هذا ال يليق بأهل هذه البلدة ولكنه الحظ ان‬

‫الجموع في ازدياد و ليس في نقصان‪..‬فامر جنوده بأخذ أهبة اإلستعداد كاملة ‪...‬‬

‫أمر قائ د الشرطة السائق أن يقف بعربته قرب باب مكتبه مباشرة ثم طلب ممن بالعربة النزول فنزل شيخ‬

‫القرية و حاج الحسين أوال ثم وقفا قرب الباب الخلفي فتقدم الضابط الصغير ففتح الباب طالبا ممن هم‬

‫بالمقاعد الخلفية النزول فنزل حاج الفضل أوال ثم أستاذ آدم ثانيا و نزلت عمتها "عاشة ثم نعمة ثم نزلت‬

‫سعدية بعدها ملفوفة بمالءة الضابط و نزلت غبيشة و أختها عاشة ‪ .‬و كان كلما نزلت واحدة تصايح الناس‬

‫من خلف الجدار بين قائل هذه هي البنت المعنية و بين ناف وبين مصبر لهم الى أن ينزل الجميع وزادت‬

‫جلبتهم حين نزلت نعمة الجميلة فلما نزلت سعدية و هي في مالءتها سكت الناس فجأة كأنما ألجمت أفواههم‬

‫‪63‬‬
‫ثم تصايحوا في وقت واحد هاهي هاهي هاهي‪ ....‬و تدافعوا حتى أن الحائط انهدم ووقع الناس فوق بعضهم‬

‫البعض‪.‬‬

‫سلم القائد على الحضور مبتدأ بشيخ القرية الذي يعرفه فكم من مرة أتى منافحا عن أحد أفراد قريته أو متظلما‬

‫و شاكيا ‪ ..‬ثم انبرى الشيخ يعرفه على الذين حضروا في رفقة "سعدية" واحدا واحد فلما جاء الى نعمة قال له‬

‫هذه أمها "نعمة" تبسم القائد محدثا نفسه وكيف تكون ابنتها اذن ثم سلم على أختيها و عمتها و جعلها آخر من‬

‫يسلم عليه‪ ...‬فلما وقف بقربها قال لها ‪:‬أنت بأمان هنا يا ابنتي انزعي عنك هذه المالءة فلما نزعتها ارتبك‬

‫قليال و قال بين الجهر و السر ‪ :‬ال إله اال هللا تبارك هللا أحسن الخالقين فلما أفاق من سكرته أحس بمن في‬

‫الغرفة‪ ..‬و طلب منهم الجلوس‬

‫ابتدر النقاش شيخ القرية‪ :‬يا السيد الضابط ما الذي فعلته هذه البنت‬

‫ضحك الضابط من اسلوب شيخ القرية متحاشيا النظر الى سعدية‬

‫‪ :‬انظر يا شيخ و يا حاج الحسين ابنتك هذه سببت فتنة كبيرة في البلد‪..‬‬

‫تكلم استاذ آدم مستميحا الشيخ و حاج الحسين ‪ ,‬و سعدية و أمهاتها ينظرن‪:‬‬

‫‪ -‬فتنة كيف يا حضرة الضابط‬

‫‪ -‬المستشفى مليء بالجرحى و أنت شايف الخلق التي بالخارج أليست هذه فتنة هذا إضافة الى أن‬

‫الرئيس شخصيا مهتم بموضوع الحفاظ على الغابات و حيواناتها و التقارير كل يوم تأتينا بأن‬

‫الصيادين أجبروا الحيوانات على الفرار جنوبا‪.‬‬

‫‪ -‬و مادخل البنت في هذا كله‬

‫‪ -‬كيف ما دخلها ؟ كل هؤالء الذين بالمشفى أليس هي من حرضتهم على ذلك؟‬

‫‪64‬‬
‫قفز حاج الحسين‪:‬‬

‫‪ -‬حرضت من و متى و كيف‬

‫‪ -‬أليست هي التي قالت أن الذي ييريد أن يتزوجني عليه أن ييحضر لي أسدا صفاته كذا و كذا ‪...‬‬

‫‪ -‬هذا شرطها لكنها لم تغصب أحدا على أن يتزوجها يا ابني‪...‬لم تحمل سيفا أوفأسا على أحد‪..‬‬

‫سكت الضابط مدة ثم قال وقد بدا عليه شديد التأثر‪ :‬أعلم أنها لم تفعل ‪ ...‬لكن الحكومة تصر على نقل‬

‫قريتكم من مكانها للحفاظ على الحيوانات و هي من حرض الناس على قتل الحيوانات ‪ ...‬يا حاج الحسين‬

‫البالغ مفتوح عندنا هكذا أنا أنفذ تعليمات الخرطوم سنضطر الى التحفظ على ابنتك الى حين عرضها‬

‫على القاضي ‪....‬‬

‫‪9‬‬

‫اإلشاعات التي تكاثرت و تضاربت حول نية السلطان "هاشم" غزو البادية المحاذية للجبال أخذت تتزايد و‬

‫أنه بدأ فعال في ترتيب كتيبة من الجيش و أن هذه الكتيبة ستكون و قائدها تحت إمرة الشرتايي "سرور"‬

‫محض إشاعات ولكن‬ ‫الخبير بالمنطقة و ذو النفوذ القبلي و الطموح الغير محدود ‪ ...‬لم تكن هذه األشاعات‬

‫بها شيء من الحقيقة "فسرور" المتحدث اللبق وجد أرضا قابلة للزرع في فؤاد السلطان الشاب "هاشم"‬

‫الطموح الذي كان من األساس يخطط لضم هذه المنطقة لصالح نفوذه و توسعه فلما جاءت الفرصة في طبق‬

‫من ذهب فإن من الغباء أن ال يستغلها االستغالل األمثل‪ ..‬و كان "سرور" ذكيا في طرح الفكرة إذ جعلها فكرة‬

‫متكاملة األركان حيث أوعز إليه بغنا المنطقة بالذهب الذي سيمول له حملته هذه على سلطان "دارفور" و‬

‫ماعليه إال اإلستعجال قبل أن يضع األخير يده عليها ‪ ,‬لكن جمع جيش ليس باألمر السهل حيث أن جيوشه‬

‫مستنفرة في الغرب األقصى في حروب مع ذات السلطان ذي القوة و المملكة العظيمة‪ .‬فقرر أمرين أن يرسل‬

‫‪65‬‬
‫الى سلطان سنار ملك الفونج مليك شرق بالد السودان و الحبشة يطلب منه دعما و يعده بأن يظاهره على ابن‬

‫عمه القريب ‪ ,‬و تحت إصرار "سرور" و تبسيطه لألمر اتخذ قرارا آخر بإرسال سرية تفرض الهيمنة و‬

‫تبسط النفوذ و تعلن الوجود قبل أن يأتي الرد من ملك سنار ‪ ,‬فقام بجمع عساكرها من الجيش الموكل به حماية‬

‫"األبيض" العاصمة ‪ ....‬و جعل خطة التحرك بيد "سرور" الذي قرر أن يباغت منطقته التي ولد فيها بجيشه‬

‫الغازي عبر الطريق الغربي البعيد الذي جاء به من قبل و الذي يشق الغابات و ال يسير به اال صاحب‬

‫غرض ال يريد أن يضطلع على غرضه أحد‪...‬‬

‫و في ليلة الخميس المظلمة و التي صادفت آخر شهر جمادى األول و البرد يبسط هيمنته على الوجود تحركت‬

‫السرية نحو الجبال التي لم تسقط عسكريا في يوم من األيام ألي غاز أو طامع غير تلك المرأة التي حكمتها‬

‫قبل نيف و ثالثة آالف عام‪...‬‬

‫قال "حاكم" لصهره الذي ناصره في تثبيت المنطقة من فتنة سرور التي كادت أن تعصف بسالم مكونها‬

‫اإلجتماعي ‪:‬‬

‫‪ -‬أخشى عليك من تحركات "سرور" المريبة فلربما ستطاع أن يحرك األطماع في قلب السلطان‬

‫المتهور "هاشم" ‪ ...‬فلو انتظرت قليال ريثما تهدأ األمور قليال‪..‬‬

‫قال "مهران" و هو يربط السرج على ظهر الحصان و يرفع مؤونة سفره الى مواقع الذهب حيث‬

‫يعمل له أناس بإشراف أحد عماله الثقات‪:‬‬

‫‪ -‬لقد أطلنا الغياب عن مواقع العمل و هذا عمل ال يتحمل الغياب عنه كثيرا وأخشى أن يجد أحد من‬

‫العمال ما أبحث عنه فيسرقه أو يخبأه عنا فيضيع جهد سنتين و أمل عمر بأكمله‪ ...‬ال تخش "سرور"‬

‫فما أعتقد أن السلطان "هاشم" بهذه الغشامة ليتهور في مغامرة كهذه‪...‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ -‬األشاعات كثيرة كلها تؤكد و تقول أن "هاشم" سيحرك كتيبة الى هنا لتحتل الوادي و جباله ‪ ...‬و إن‬

‫كان هذا صعب في ظل الحروب الكثيرة التي تشغله و جيشه لكني أعرف "سرور" و مقدرته على‬

‫اإلقناع و أعرف شباب السلطان "هاشم" و تهوره و نفسه الطماعة التي تزين له ما ليس بحقه‪ ..‬لو‬

‫انتظرت قليال حتى يأتي رد السلطان على رسالتنا ‪ ...‬أو دعني أرسل بعض العيون التي تأتينا‬

‫باألخبار قبل أن تتحرك أرى هذا أفضل من الحركة بدون بصيرة‪...‬‬

‫‪ -‬سأتحرى اليقظة واإلنتباه ال تخف علي ‪ ...‬سأتخذ طريق الغابة الغربي البعيد عن مسار "األبيض"‬

‫فلن يتجرء "هاشم" على المهاجمة من خالله فهو بعيد عن مصادر اإلمداد و قطعه سهل‪...‬‬

‫‪ -‬إن كان و ال بد فخذ عصاي هذه التي يعرفها أهل البادية جميعا فربما تحتاجها أما أنا فأسلحق بك بعد‬

‫أن تستتب األوضاع و تنجلي هذه الغمة‪...‬‬

‫فلما دخل "مهران" الى "النقو" زوجته قال لها ‪:‬الخرائط و الورق الذي أريتك إياه ال تفرطي فيه أبدا و‬

‫إن رابك شيء أو خفت من شيء إدفنيه في طرف هذه الغرفة بعد أن تغطيه بساتر يحميه من التراب و‬

‫نمله األبيض‪.‬‬

‫وصل "مهران" الى ملتقى الطرق الذي يربط بين الطريق المؤدي الى "األبيض" و بين الطريق الذي‬

‫ينفذ من خلف القرى متجها الى الجبال‪...‬وهو كما ذكر آنفا طريق ال يختاره ذو عقل و ال رأي إال أن‬

‫يكون مضطرا كاضطراره ‪ ..‬فلما وقف ليستجم قليال سمع جلبة تأتي من بعيد من جهة الطريق القادم من‬

‫"األبيض" كأصوات الحوافر و صهيل الخيول و أصوات أناس تبين و تضيع بين بقية األصوات ‪ ...‬فلما‬

‫أمعن النظر لم ير شيئا لكثافة األشجار و تعرج الطريق و لكن الصوت ما فتأ يزداد قربا ‪...‬لم يكن تخيل و‬

‫استنتاج أن هذه القوة ما هي الى قوة السلطان هاشم التي أرسلها الى المنطقة باألمر الصعب بيد أنها‬

‫مفاجأة عكست التوقعات تماما‪ ...‬كيف يقدم هذا المجنون على مغامرة مثل هذه ‪ ,‬و بدأت أسئلة كثيرة تدور‬

‫في الرأس أولها ما الذي يجب فعله سريعا ‪ ...‬حيث أن المسافة الى أول قرية تبعد مسافة يومين ‪ ...‬أهلها‬

‫‪67‬‬
‫يدينون بالوالء آلل حاكم و لسطان الفاشر ‪ ...‬لكنه قرر أن يقترب أكثر ليستطلع الخبر و يعرف حقيقة هذه‬

‫القوة و عددها إن أمكن و نيتها الحقيقية قبل أن يخطو أي خطوة‪.‬‬

‫لذلك ركب حصانه و اتجه جنوبا الى داخل الغابة ‪ ,‬مبتعدا عن مدى حركة الفرسان القادمين ‪ ,‬فلما أحس‬

‫بأنه ابتعد بما فيه الكفاية أوقف حصانه و ربطه الى جذع شجرة ثم تركه و تقدم راجال حتى وصل الى‬

‫مكان يمكنه فيه سماع صوت الخيل المتحركة ‪ ,‬ثم اختار شجرة عالية و صعد فيها حتى و صل الى‬

‫أعالها و ضمن أن ألياف أغصانها كثيفة بما فيه الكفاية لتغطيه عن األعين المتربصة ‪....‬و كانت الخيل‬

‫تتقدم نحوه وهو في أعلى شجرته ‪ ....‬فما كلفه األمر غير زمن بسيط حتى استطاع أن يرى من على البعد‬

‫"سرور" يتقدم القوة الى جوار قائدها يضاحكه و يمازحه و عرف من بينهم بعض أناس الوفد الذين ذهبوا‬

‫معه يسيرون مع الجيش متفرقين و منتشرين بين جنوده‪...‬لم يكن الجيش كبيرا فقد استطاع أن يقدر عدده‬

‫ما بين المئتين و المئتين وخمسون فردا ال غير‪...‬توقفت القوة عند مفترق الطرق حيث أشار إليهم قائدهم‬

‫أن يرتكزوا ألخذ قسط من الراحة بعد أن دخلوا الى داخل الغابة قليال مبتعدين عن قارعة الطريق‪..‬‬

‫مازال مهران التونسي ينظر من عل عليهم يحصي أسلحتهم و يقدر قوتهم الضاربة و ينظر الى مراكب‬

‫أمتعتهم ‪ ...‬فوجد أن القوة تسليحها جيد بما فيه الكفاية إلدخال الرعب في القرى البسيطة التي تقطن هذه‬

‫المناطق و يبدو أن اختيار أفرادها تم بعناية فأجسام و أحجام الجنود تشي بذلك ‪ ,‬و بينما هو كذلك إذ يرى‬

‫حصانه بين يدي أحد الجنود يقوده الى حيث يوجد القائد ‪ ,‬فأسقط في يديه ‪ ....‬و بدأ بالنزول سريعا لعله‬

‫يدرك مهربا أو مالذا يلجأ إليه قبل أن يفطن إليه أحد ويعرف حصانه‪ ...‬وحدث ما توقعه فعال فبمجرد ما‬

‫وصل الجندي الذي يقود حصان "مهران" الى المعسكر حتى رآه "سرور" فعرفه فجاء يخب الى حيث‬

‫القائد خبا و يقول و هو متهلل األسارير ‪:.‬‬

‫‪. -‬مهمتنا قضيت قبل أن نبدأها‪...‬‬

‫‪68‬‬
‫وسرعان ما بدأ جنود باالنتشار في الغابة بحثا عنه‪ ...‬سمع أصواتهم تتصايح بعضهم يصيح من هنا‬

‫واآلخر يصيح من هنا ‪ ...‬وحيث أن الحصان كان في اتجاه الجنوب جرى الجميع في ذلك اإلتجاه لكن‬

‫"مهران" اتخذ اإلتجاه الشمالي الشرقي مهربا حيث قدر أن الجنود سيتجهون الى حيث اتجاه مربط‬

‫الحصان ‪ ,‬لكن "سرور" الذكي خرج في جماعة أخرى من الجند وقال ‪:‬‬

‫إذا كان الحصان للتونسي ال غيره فإنه أذكى من أن يختبئ حيث ترك حصانه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫و اتجه بجند الى الشمال الشرقي حاثا الخيل على اإلسراع‪...‬‬

‫جرى مهران كما لم يجر من قبل مسرعا بعد أن رفع ذيل قميصه و ربطه في منتصفه و تحزم بعباءته و‬

‫أصوات الخيل تصل إليه من بعيد و صوت "سرور" األجش المميز ال يخفى عليه صائحا في جنوده‪:‬‬

‫انتشروا بحيث يرى كل منكم اآلخر و ال تقتربوا من بعضكم كثيرا فتضيقون عليكم مساحة‬ ‫‪-‬‬

‫البحث‪..‬ابحثوا في كل شيء خلف األشجار و فوقها بين األعشاب و الحجارة و خلف بيوت النمل‬

‫انخسوا العشب برماحكم ال تتركوا علوا دون أن تعلوه و ال منخفضا دون أن تطأوه وجب عليكم أن‬

‫تجدوه و من وجده منكم له جائزة كبيرة‪.‬‬

‫سكتت "حمانة" كعادتها حين تغضب أو تتألم و اكتفت بنظرة قاسية الى أبيه الذي حذرته من مغبة خروج‬

‫الولد الصغير برفقة حيوانين مفترسين في رحلة صيد محفوفة بالمخاطر ‪ ,‬و تركت لعينيها أن يسيال بالدموع‬

‫و يعبرا عن مكنون صدرها ثم أشاحت بوجهها عنه دون كالم في غضبة منها لم يعهدها من قبل‪ ...‬لكنه كان‬

‫أكثر ندما منها و قل قا على ابنه الذي بدأت مالمح مستقبله الزاهر ترتسم في األفق القريب ‪ ,‬و تبدت له صورته‬

‫المشرقة و هو يعلو كعبا على من ناددوه يبزهم ذكاء و مقدرة ‪ ,‬ظهرت عليه سيماء النجابة منذ نعومة أظافره‬

‫و تبدت عالمات القوة المتكاملة على جسمه و محياه تبرز عضالت صدره و ذراعيه و رجليه بصورة جلية‬

‫‪69‬‬
‫ال تخطؤها عين ‪ ,‬غير قوة إرادته و شكيمته و إصراره ‪ ...‬كان سريع التعلم فطنا حتى كاد أن يفهم لغة األسود‬

‫أو فهمها كما يقول أهل السوق الذين كانوا ينادونه إن استعصى عليهم قياد سبع أو التعامل معه ‪ ,,,‬كالم ابنه‬

‫الواثق و ضحكته الفاتنة تفعل به األفاعيل يطردها باإلستغفار و لكنها تتأبى عليه تمسك بتالبيبه و تحمله‬

‫المسؤولية الكبيرة على فقدانه‪...‬‬

‫استنفر "لخضر" حملة كبيرة للخروج بحثا عن ابنه المفقود في الجبال تعاطف معها كثير من تجار السوق و‬

‫صياديه تضامنا مع أخ طالما وقف مع صغيرهم و كبيرهم بحسن تعامله ‪ ,‬و خوفا على ابن رأوا فيه ما كانوا‬

‫يتمنونه ألبنائهم عوضا عن أنفسهم من كمال رجولة و جمال هيئة و حسن خلق ‪ ,‬انطلقت في نفس يوم وصول‬

‫خبر اختفائه أي بعد يومين من فقدانه يقودها "لخضر" بنفسه‪...‬‬

‫و بعد هذا بخمسة أيام كان "الباهي" المفقود فاقدا للوعي قرب صخرة كبيرة و األسدان بجواره ينظران في‬

‫قلق إليه تارة و تارة يتلفتان بصورة غريبة ويدوران حول جسده المسجى ثم ال يلبث أن يتحرك أحدهما‬

‫مهروال و صاعدا أعلى الصخرة التي يرقد تحتها " الباهي" ثم يتلفت يمنة و يسرى مرار كاشفا المنطقة‬

‫بعينيه ثم يعود الى أخيه الذي يقوم بدوره بالصعود أعلى الصخرة مؤديا نفس حركة صاحبه السابقة‪ ...‬لكنهما‬

‫أخذا يجرانه من ثيابه جرا ليذهبا به خلف صخرة أخرى تجاور الصخرة الكبيرة مشكلة معها نصف كهف‬

‫صغير‪...‬أدت هذه الحركة الى إفاقة "الباهي" متأثرا باأللم الناتج عن جر األسدين له‪..‬و األلم الناتج عن‬

‫جرحين غائرين في كتفيه كأنهما طعنتا سيف أو رمح اخترقتا كتفيه اختراقا ‪ ،‬و أحس بإنتفاخ على هيئة مربعة‬

‫يضغط على قفصه الصدري و بطنه ‪ ,‬أدرك أنها مجموعة من ورق في هيئة كتاب كأنها مخبأة بين جسده و‬

‫مالبسه‪ ....‬و مع إفاقته سمع زئيرا كبيرا متجها نحوهم لكنه على مسافة ليست بالقريبة‪....‬‬

‫لم يكن سقوطه من أعلى الصخرة إثر انزالق قدمه أو فقدانه لألتزان بل نتيجة معركة ضارية بينه و بين أسد‬

‫ذو عرف كبير كان يتقاتل معه قتاال شرسا لم يترك اإلثنان فيه شيئا من فنون القتال إال و استعماله ‪ ،‬و لكن‬

‫‪70‬‬
‫العجيب أن أيا منهما لم يكن يريد قتل اآلخر‪ ،‬بدا ذلك في الفرص التي أتيحت لألثنين حيث تمكن "الباهي"‬

‫أكثر مرة من اعتالء ظهر األسد و التمسك برقبته بيد و كانت اليد األخرى حرة بحيث تمكنه من حمل سكين‬

‫أو سيف أو ما شابه أو حبل يربط به فمه أو يلفه حول عنقه و رجليه كما كان يفعل مع أسود أخر حين يريدها‬

‫حية مما كان متاحا يحم له بين مالبسه أو بالقرب منه ليجهز على فريسته و لكنه لم يفعل ‪ ,‬و بدا أن األسد نفسه‬

‫ال يريد اإلجهاز على غريمه فقد عاله أكثر من مرة و خصمه ملقى إما على ظهره أو على بطنه غير أن‬

‫األسد لم يفعل سوى أن قفز من فوقه متهيأ لجولة عراك أخرى ‪ ,‬و كان سقوط "الباهي" نتيجة انهيار حجر من‬

‫تحت قدمه أثناء العراك جعلته يهوي من عل على أرض صلبة فاصطدم رأسه باألرض فأغمي عليه‪...‬‬

‫لكن العجيب في األمر أن األسدين لم يشتركا في القتال بل جلسا مقعيين خاشعين ينظران الى العراك بدون‬

‫تدخل لصالح أي الخصمين و يدوران حولهما في قلق كأنهما حكمان في مبارزة شريفة شرسة بين فارسين‬

‫شجاعين‪ ...‬فهما من قاد الى هذا القتال فقد أوحيا الى الباهي بما بينهما من تفاهم أن يأتي و راءهما ليرياه شيئا‬

‫بدا ثمينا من اندفاع الباهي الذي لم يستمع الى محذر من عدم االبتعاد أو الى راج بالتقيد بتعليمات والده من‬

‫مجموعته المرافقة فوكز حصانه المدرب على صعود الجبال بسرعة اختفى بعدها في غياهب الصخور و‬

‫األشجار ‪ ,‬فظنه أصحابه لن يبتعد كثيرا ككل مرة و يعود بعد قليل ‪ ،‬و لكنه تبع األسدين الى مسافة بعيدة‬

‫يجريان أمامه ثم يتوقفان أو يتوقف أحدهما حتى يلحق بهما ثم يواصالن الجري حتى ابتعدا و حينما انتبه‬

‫الباهي وجد أنه قد صعد الى ارتفاع كبير عبر طريق وعر متعرج ‪ ,‬حتى أن حصانه بدت عليه آثار التعب و‬

‫اإلعياء و لكن إصرار أسديه عليه لم يدع له مجاال للتراجع فكان كلما نزل من حصانه و وقف قليال ليتروى‬

‫في تفكيره أمسكاه بأسنانهما يجرانه و يحثانه على التقدم ثم يركضا ‪ ,‬حتى وصل الى قمة عالية تحتها هضبة‬

‫كبيرة شاسعة غناء بمنتصفها بحيرة كبيرة بها تجمع كبير للحيوانات من كل األنواع ‪ ,‬فالناظر إليها من عل‬

‫يرى هذا الجمال الطبيعي البديع و يرى الحيوانات ما وسعه النظر عبر كثافة األشجار المنتشرة في تناسق‬

‫كأن يدا تدخلت في تنسيقه فذلك قطيع جواميس برية كبير يمشي بالقرب منه قطيع لحمر وحشية و هنالك في‬

‫‪71‬‬
‫جهة مغايرة تمرح مجموعة غزالن جميلة تأكل و تلعب و تلك طيور جميلة لم ير مثلها من قبل بعضها على‬

‫حواف البحيرة و بعضها يطير و البعض على غصون األشجار ‪ ,‬و تلتقي السماء في نهاية الهضبة الممتدة الى‬

‫مدى ال تصل العين الى نهايته تلتقي في منظر بهيج يلتقي فيه اللون األخضر الجميل مع اللون الرمادي‬

‫الممزوج باألبيض الباهت لسحاب خفيف كأنه شعر فوق جبهة األشجار من فوقه تنجلي زرقة السماء الصافية‬

‫الجميلة‪.‬‬

‫شد هذا الجمال انتباه الباهي كثيرا متأمال فيه ممتعا نظره و خياله ببهائه ‪ ,‬و قد لفت انتباهه كيف أن من‬

‫بالوادي في سوق أهراس لم يروا أو يسمعوا بهذه المنطقة الجميلة من قبل فطيلة ما هو بينهم لم يسمع بأحد‬

‫يتحدث عنها ‪ ,‬لعلهم كانوا منشغلين عن قمة الجبل بما هو تحته فقد أغناهم عن الصعود الى أعاليه حيث تكثر‬

‫الحيو انات التي تكفي حاجتهم فال يتعبون أنفسهم بحثا عن مزيد‪ ..‬كان هذا أقرب تبريرغير مقنع يجيب على‬

‫هذا السؤال و فجأة قطع هذا التأمل اضطراب األسدين اللذين أخذا في الركض يمنة ويسرى كأنهما يطلبان‬

‫منه التحرك‪ ..‬ثم جفل الحصان الذي كان لجامه مرخيا بيد الباهي الذي كان قد نزل منه ناظرا متأمال في بديع‬

‫خلق هللا الذي أمامه‪ ،‬و جرى مذعورا كأن شيئا يجري و راءه حتى أنه أسقط بعض المتاع و السالح‬

‫المحمول عليه ‪..‬ذهل الباهي الذي ترنح قليال ثم استجمع قواه و وقف في حالة تأهب ينظر في كل اإلتجاهات‬

‫عله يرى ما أصاب حيواناته بالذهول فلم ير شيئا ‪ ..‬فنادى أسديه صائحا لهم ‪ :‬ماذا هنالك ‪...‬‬

‫لكن األسدين استمرا في اضطرابهما الممزوج بالرعب ‪ ,‬في أول مرة يراهما على هذه الحالة ‪..‬استجمع الولد‬

‫الفتي بعض قواه و جرى الى حيث المتاع الساقط ‪ ,‬فوجد فأسا و سيفا و رمحا و درقته الجلدية التي أعدتها له‬

‫أمه ليوم كهذا ‪..‬حمل األسلحة الثالثة مرة واحدة ‪ ,‬الفأس و الرمح بيد و السيف باليد األخرى وجعل الدرقة‬

‫بين قدميه و هو ينظر في كل االتجاهات مركزا على عكس الجهة التي جرى نحوها الحصان‪ ...‬ثم سمع‬

‫صوتا قويا أشبه بصوت الرعد الضخم منه الى صوت الصاعقة الحاد ينتشر في كل مكان ‪ ...‬تحركت أوراق‬

‫األشجار في البدأ ببطأ ‪ ,‬ثم ازدادت حركتها و بدا كأن الطقس منذر بعاصفة قوية استجمعت قوتها في زمن‬

‫‪72‬‬
‫وجيز ‪ ..‬واستمر صوت الرعد في هزيمه المدوي المتزايد ‪ ,‬و السماء التي كانت صافية حشدت سحابها ‪ .‬و‬

‫الرياح تزداد قوتها حتى أنها صارت تدفعه بقوة نحو هاوية الجبل قاذفة درقته الجلدية من بين رجليه في‬

‫مهاوي الوادي ‪ ...‬تحرك بصعوبة نحو شجرة كبيرة وقف بقربها مستترا من قوة الرياح بساقها الكبير ‪ ...‬و‬

‫كما تحرك كل شيء فجاة صمت كل شيء فجأة ‪ ,‬عدا األسدين الذين ما زاال في حالة قلق شديد ‪ ...‬جرى‬

‫األسدان باتجاه صخرة كبيرة ناتئة في أعلى الجبل‪ ,‬وهما يطلبان بحركاتهما من الباهي التحرك و راءهما و‬

‫الذي لبى نداءهما مسرعا مستجيبا ال يلوي على شيء‪ ...‬وكما صمت كل شيء دوى صوت زئير كثيف من‬

‫كل االتجاهات يقترب منهم ليس ألسد واحد بل زئير يشي بأن الغابة كلها تحولت الى أسود حتى األشجار‬

‫تجاو بت مع هذا الزئير بترجيعها صداه فأصبح الصوت كثيرا كثيفا يأتي من كل مكان ‪...‬ما أن وصل الجميع‬

‫الى صخرة تقفل الصخرة الكبيرة مشكلة معها تجويفا يشبه الكهف حتى ظهرت مجموعة كبيرة من األسود‬

‫تمأل أرجاء المكان تتحرك عليه في وتيرة واحدة و بإيقاع واحد كلها يحمل عرفا كبيرا ذو لون أسود قاتم‬

‫السواد في نهايته لون أبيض يكسو كل نهايات شعر العرف الضخم ‪ ,‬تمشي على ثالثة أقدام و تمس األرض‬

‫بالرابعة مسا خفيفا كأنما تطأ بها على شوك‪ ...‬حتى إذا اقتربت منه و هو في تلك الحالة من الذعر و الخوف‬

‫زأرت كلها في وقت واحد زئيرا مأل أرجاء المكان جعل كل الطيور التي سمعته تطير مذعورة مرتفعة عن‬

‫األرض التي صدر منها هذ الصوت‪....‬‬

‫أوقف جدار الصخرة تقهقر الفتى المرعوب و أسديه بينما األسود تتقدم ‪ ,‬نظر الى الجدار خلفه فوجده خشنا‬

‫ذا نتوءات ‪ ,‬أخذ يتحسسها فوجدها واسعة تسع أرجله ‪ ,‬قوية تستطيع حمل وزنه فأسرع بتسلقها صاعدا الى‬

‫أعلى الصخرة الكبيرة‪..‬يضع رجال على نتوء منها يصعد به و يمسك بيد نتوءا أعال يتشبث به متسلقا مبدال‬

‫ما بين يديه و رجليه ‪ ,‬فلما وصل الى منتصف جدار الصخرة أمسك في نتوء و اتكأ عليه فإذا بالنتوء يتلجلج‬

‫في يده حتى إذا ضغط عليه بثقل جسمه ليصعد وقع منه حجر كبير لوال أنه سبقه بالتشبث بجدار الصخرة‬

‫بين يدي األسود التي اقتربت كثيرا من صخرته و أسديه‪...‬فلما وقع الحجر‬ ‫الكبيرة لكان سقط من علوه‬

‫‪73‬‬
‫الكبير توقفت األسود ‪..‬نظر الفتى المنهك الخائف ليجد حفرة كبيرة خلفها ذلك الحجر في جدار الصخرة‬

‫بسقوطه ‪ ...‬فزع منه ا وأراد أن يسرع بتخطيها صاعدا الى األعلى فانهدم الجدار من تحت يده العليا التي كان‬

‫يعتمد عليها في تثبيته على الحائط موسعة ثقب الحفرة لتصبح بئرا كبيرة تخترق الحائط الى داخله فأمسك بيده‬

‫األخرى عتبة الحفرة التي انفتحت ثم ألحقها يده الثانية ‪ ..‬ثم وجد نفسه يتكأ على يديه رافعا جسده الى داخل‬

‫الحفرة المظلمة ‪ .‬كانت الحفرة على ارتفاع سبعة رجال و ما انفتح منها كأنه ردم فوق بئر عميقة تمت إزاحته‬

‫فانكشفت البئر المستعرضة ليظهر عمق كانت الشمس كافية لتظهر سطحه القريب و الراجح أنه كهف طمرته‬

‫األيام ‪ ..‬رفع الباهي رجليه الى أعلى الكهف أو البئر ‪ ,‬و الخوف الذي كان واحدا أصبح خوفين خوف من‬

‫شيء يراه أمامه ساقته إليه قدماه و خوف جديد من شيء فتحته يداه ال يعلم ما كنهه و ما الذي سيخرج منه‪.‬‬

‫عاد الملك الجديد برفقة حاشيته و سحرته و صالحيه و في معيته ذلك األسد الذي مألت سمعته تلك األرجاء‬

‫ت رافقه زوجته و حاشيته من األسود يسيرون حوله في اضطراب و توجس تجدهم يتبادلون األماكن كل مرة و‬

‫يكثرون التلفت و بعضهم يسبق الركب و بعضهم يتأخر ثم يعودون لينتظموا في الموكب ا لملكي بينما يسير‬

‫ملكهم "جاري ماتا" في ثقة ال يشوبها اهتزاز و أنفة و اعتزاز ‪ ,‬خطواته تزيدها العرجة تبخترا و نظراته‬

‫خارقة لكل عين وقعت عليها تنفذ الى قلب صاحبها فتصيبه بالرهبة و الخوف‪ ..‬و قد سبق الوفد رسول يبلغ‬

‫الناس بقدوم الملك و ضيفه المهيب ‪ ..‬فاستعدت المدينة و تهيأت لمثل هذا األستقبال الغريب األول من نوعه‬

‫يدعو فيه ملك بشري ملكا آخر من غير بني البشر بل من خلق طالما استعلى األول فيهما على الثاني يحبسه‬

‫و يذبحه و يقتله بال وازع و ال رحمة وال سبب يتخذه خادما له في كل أموره ال يغفر له زالته و ال يتسامح‬

‫معه في رغباته يمتلكها و يضن بها عليه‪..‬فإذا ما انتفض راغبا في تعديل وضعه انتقم الثاني بال رحمة و ال‬

‫و تفتق ذهن معدي برنامج‬ ‫ضمير ‪..‬و لم يعجبوا من ذلك فهكذا يفعلون هم مع بني جنسهم أنفسهم ‪...‬‬

‫االستقبال عن فقرات ذات صلة فقد كان جل ما يشغل بالهم هو كيف يكون جلوس الملكين في مقام واحد فإن‬

‫‪74‬‬
‫عرفت كيفية جلوس أحدهما فإن كيفية جلوس الثاني لهي المعضلة ‪ ,‬و قد الحظوا أن فرش ملكهم اآلدمي كلها‬

‫منسوجة من جلود قبيلة الملك الضيف أسودها و سباعها و نمورها و فهودها و يزينون برؤوسهم جدر قصره‬

‫و مجلس حكمه فقد كادوا يكنون بها عن العظمة و السؤدد ‪ ,‬أما و األمر قد تغير فقد استنفروا القبيلة في‬

‫صنع فرش من جلود األبقار و الماعز و الظباء و األيائل أخذوا من ك ٍّل ثورا أو بقرة أو غيرها مما يصلح أن‬

‫يكون جلده مفرشا و زينة ‪ ,‬و جمعوا رؤوس السباع التي علقت على جدران القصر من داخله و خبؤوها في‬

‫غرفة الملكة ريثما تنتهي مراسم اإلستقبال و يعود الضيف المهيب ‪ ,‬و قد أغاظ هذا األمر الملكة التي لم‬

‫تستسغ أن تزال صور العظمة و تماثيلها التي كانت للمولك األوائل من على جدار قصر مليكها الحالي فكأنما‬

‫أحست بذلك استخفافا و إهانة رغم شرح الشراح و وصفهم‪.‬‬

‫و ُج ِمع الراقصون و الجمهور فأفهموا أن ال يلبس أحد منكم رأس أسد أو ما شابه حتى ال تثور ثائرة الملك‬

‫الضيف ‪ ,‬و أن يعمدوا في هذا اليوم الى القماش ليلبسوه إن وجد فإن لم يوجد فال بأس من أن يأتوا عراة ‪..‬‬

‫وانبرى المؤلفون منهم يصيغون عبارات تمجد ملكهم الذي أتاهم بسالم لم يكونوا يحلمون به و بسيرة ما سبقه‬

‫عليها أحد من األولين و تذكروا أن يذكروا محاسن الضيف المهيب في غنائهم و رقصهم‪ ...‬و علموا أن‬

‫ضيفهم المهيب ربما يقضي معهم أياما يحتاج فيها الى طيب طعام فجمعوا من األبقار ما يسد نهمته و كلفوا‬

‫بها أحد أصحاب المالحم ليكون مسؤوال عن تقديم الطعام للملك الضيف و وفده المرافق و لم ينسوا أن يفصلوا‬

‫للملك "جاري ماتا" و زوجه مكانا لألكل غير مكان وفده المرافق و حفروا للماء حفرة زينوها بطين الزب‬

‫يمنع التسرب و يعطي منظرا حسنا جمعوا فيها ماء كثيرا كلف جهدا في نشله من اآلبار و مأل حوضه به‪..‬‬

‫أثار اصطفاف الناس على جانبي مدخل الملك الى المدينة حفيظة األسود التي لم تتعود من هذا المخلوق ذي‬

‫الرجلين غير األذى و القتل ‪ ,‬ولوال مفعول الماء المسحور الذي داوم السحرة على رشها به لحدث ما ال يحمد‬

‫عقباه ‪ ..‬فقد تحفزت وتهيأت للهجوم ‪ ..‬وكان كلما عال صوت آدمي أو نزا طرق طبل أو عوى صوت آلة‬

‫موسيقية تقافزت األسود و كشرت عن أنيابها ‪ ,‬و لكن ملكها األعرج سار بجوار الملك المضيف كأن شيئا لم‬

‫‪75‬‬
‫يطرق بقربه و ال صوتا عال بجانبه ‪ ,‬نظره معلق في السماء و رأسه لم تهتز أو تلتفت ال الى اليمين و ال الى‬

‫اليسار وقد رفع يمناه العرجاء ال يطأ بها األرض إال لماما كأنما يرحب بالجموع بيد خفيضة ليست بالعالية ‪..‬‬

‫و سار ركبه الميمون حتى دخل الى المدينة الملك مترجال و بجواره األسد و على شماله لبوته المكرمة ثم‬

‫يسير و راءهم و بالقرب منهم واحد من السحرة الثالثة يحمل إناء بيد و باليد األخرى غصنا صغيرا ذا أوراق‬

‫كثيرة ‪ ,‬يفصل الموكب عن بقي الركب مسافة قصيرة بعدها يسير صف مكون من خمسة أسود و خمسة‬

‫صيادين بين كل أسدين صياد خالي الوفاض من سالح يلبس حزاما كان يستخدم في حمل السيوف ال يلبس‬

‫شيئا غيره ‪ ,‬ثم ساحر يحمل نفس ما يحمل الساحر األول في صف لوحده‪ ,‬و يتكون الصف الثاني كما انتظم‬

‫الصف األول و ترك الصف الرابع للساحر األخير ثم يأتي صف الجنود و الصالحين أرباب المعابد‪.‬‬

‫و بعد ذلك بمسافة تسير جماهير كثيفة خرجت الستقبال الملكين يعلو صوت غنائها و ضرب طبولها و خبط‬

‫أرجلها في األرض خبطات موقعة تتناغم مع حركات رقصها‪...‬‬

‫فلما وصل الموكب الى القصر و مكان االحتفال خرج كبير السحرة و معه بقية السحرة الذين لم يرافقوا الملك‬

‫و بدأوا بعمل تعاويذهم يضربون األرض بأرجلهم و ينخفضون ثم يقومون في حركات متتالية و حملوا الماء‬

‫هذه المرة بأيدهم و بدأوا يرشونه في حواف المكان و حول مقعد الملك و دكة األسد الملك ‪ ,‬ثم اقتربا من‬

‫الملكين الذين كانا يقفان خارج المبنى المعد لألحتفال طالبين منهما التقدم للجلوس بعد أن ركعوا تحية و‬

‫إجالال‪.‬‬

‫تقدم الملك داعيا ضيفه للجلوس بقربه في دكة أعدت خصيصا له و للبوته التي لم تجد نظيرة ترحب بها فقد‬

‫خافت الملكة البشرية من الملكة األخرى بينما هي تصطنع التعالي و التأفف فلم تحضر اإلستقبال إال من‬

‫شرفتها ‪ ..‬و انسحب البقية على يمين و شمال الملكين في مقاعد و دكك مصفوفة أعدت بعناية لجلوسهم‬

‫بشرهم و أسودهم‪...‬و انطلقت برامج االحتفال المبتهجة الراقصة ‪ ,‬أتى فيها الناس زرافات زرافات كلما أتى‬

‫‪76‬‬
‫فوج قعى كما تقعي الحيوانات و سجد واضعا ظاهر كفيه على األرض منكفئا ً رأسه على راحتي يديه حتى ال‬

‫تتسخ رأسه بالتراب ‪ ,‬ثم يقومون مفسحين الطريق لفوج آخر ‪ ,‬و دقت الطبول و رقص الحضور كلهم‬

‫يتقافزون الى األعلى كأنما يتبارون أيهم أكثر ارتفاعا في قفزته ‪ ,‬أما النساء فقد أظهرن جمالهن بصدورهن‬

‫العارية يزين ما سفل منها بسيور أعدت من جلد البقر منسوجة في خيط واحد يلفونه حول الخصر ال تحجب‬

‫منظرا ‪ ,‬لبسنها لهذا اليوم البهيج و صرن يتمايلن في حبور يدور نصفهن األدنى عكس دوران نصفهن األعلى‬

‫‪ ,‬و وزعت على الناس كؤوس القرع المليئة بنقيع الذرة المسكر الذي يستنكرون شربه في غير هذه‬

‫اإلحتفاالت ‪ ,‬و جاء الناس بهدايا قيمة من أبقارهم و ضأنهم و دجاجهم للملك الضيف دون مليكهم ‪-‬الذي ناله‬

‫يوم تتويجه حظ عظيم منها ‪ -‬فنظر إليها جاللة المهدى إليه بعين فاحصة كأنما يتأكد من عددها ‪ ,‬و هي تساق‬

‫إلى زرائب أعدت لهذا اليوم ‪ ,‬و كانت أهم فقرات الحفل كلمة الملك التي ختم بها الحفل ‪ ,‬فرحب فيها باألسد‬

‫األعرج و وفده المرافق شاكرا له على تلبيته هذه الدعوة التي لوالها لما صدقته قبيليته ‪ ,‬ثم توجه لشعبه مبينا‬

‫لهم ما توصل إليه معه من اتفاق سيرون نتائجه مباشرة بعد هذا الحفل البهيج ‪ ,‬طالبا من الجميع اإللتزام‬

‫بشروط هذا العهد وهو يضمن لهم إلتزام ملك األسود و قبيلته بشروطه ‪ ,‬و أبان لهم أن أهم بنود اإلتفاق ما‬

‫يلي ‪ :‬أن األسود لها حرمتها و مكانتها بين السباع تعزز هذه الحرمة بعدم مسها أو صيدها في خمسة من أيام‬

‫األسبوع عدا يومي األحد و الخميس يجوز صيدها فيهما ‪ ,‬و على األسود توخي الحذر في هذين اليومين إال‬

‫في حاال ت ثالث أولها إذا قتلت بشرا ثانيها اذا صادت حيوانا مزروبا ثالثها إذا نكصت عن هذا اإلتفاق‬

‫فيسري عليها العرف الذي كان سائدا من هيجة تغتال الكثير منهم و تضر بهم ‪ .‬و لألسود حق عبارة عن ثور‬

‫كل سبت تتناوب فيه القرى يلقونه لها في مكان معلوم يتم اإلتفاق عليه ‪...‬و بند مهم آخر أن تحمي القبائل‬

‫األسود من شر الصيادين من خارج حدودهم كأوالئك الذين يقدمون من الشمال بين حين و آخر و يعطى‬

‫األسد عهده و أمانه لكل أفراد قبيلة الماساي حيثما كانوا شريطة أن يلتزموا ببنود هذا العقد كما أن عهده و‬

‫سار على كل من أن أراد أن ينضم من بقية القبائل الى شروطه على أن تساعده القبيلة في الوصول الى‬
‫أمانه ٍ‬

‫‪77‬‬
‫موطنه األصلي بسالم حيث تاريخه التليد الذي أبعدته عنه الحروب و الغزوات التي انتظمت تلك المنطقة في‬

‫عهدها القديم‪ ...‬و أكرم الملك ضيفه المهيب بضم قبيلة األسود الى قبيلة الماساي ليكونوا من أفرادها كما و‬

‫أخبرهم بأن ملكه الضيف قد منح جنسية األسود لكل فرد من قبيلتهم كمكرمة من ملك األسود الشهير "جاري‬

‫ماتا" فأصبح كل ماساوي أسدا كما أن كل أسد صار ماساويا ‪ ,‬ثم قام و ألبسه عباءة فخمة أعدت من قماش‬

‫أحمر مرصع باألسود ‪ ,‬إشهارا لهذه النسبة الجديدة و منحه لقب "مورونو ماتابا" تيمنا بالقائد الماساوي‬

‫العظيم ‪..‬‬

‫‪10‬‬

‫في مساء هذا اليوم الحزين كانت جدتي سعيدة أيما سعادة بما حدث لبنت "نعمة" ‪ ,‬و ككل مغرب أفرش‬

‫الحصير و أستلقي راقدا أمام البيت جاءت تحمل إناء اللبن و هي تغني على غير عادتها فمنذ أن ولدت لم‬

‫يحدث أن سمعت صوت جدتي و هي تغني غير قبل أيام طويلة خلت كانت تهدهد بنت خالتي المولودة ‪,‬‬

‫تحملها من أمها التي خرجت من نفاسها قريبا ‪ ,‬قلت لها ‪:‬‬

‫‪ -‬البلد كلها حزينة و غاضبة من أجل سعدية و أنت فرحانة ‪..‬‬

‫طلبت مني أن أقوم بهب النار بغطاء علبة ألقته لي ليزيد اشتعالها تحت اللبن الذي وضعته فوقها‪.‬‬

‫ريثما تعود بالعلبة التي تحمل حب الشاي و علبة السكر و أكواب الشاي ثم قالت لي من داخل بيتها ‪:‬‬

‫‪ -‬الباقي إثنين‪.‬‬

‫قلت لها و الدخان يكاد يبتلع وجهي ‪:‬‬

‫‪ -‬إثنان من ماذا ؟‬

‫‪78‬‬
‫قالت وهي قادمة تحمل أشياءها في صينية قديمة ‪..‬‬

‫‪ -‬حادثان كبيران ربما يأخذان هذه البنت الى األبد حادثان يشعالن النار في فؤاد نعمة يكون األخير‬

‫فيهما أقسى من األول ‪...‬‬

‫توقفت من هب النار و ألقيت بغطاء العلبة من يدي ووقفت‪:‬‬

‫‪ -‬كيف ذلك يا جدتي أال ترين أن هللا يحب نعمة و بناتها ‪...‬كل مصيبة تجعل الناس يزدادون تعلقا بها‬

‫وتخرج منها سالمة معافاة‪...‬‬

‫أخذت قسطا من الشاي األسود في كفها األيمن و نثرته فوق إناء اللبن الموضوع تحت أثافي ثالث من‬

‫الحجارة ثم نفضت يدها فوق اإلناء و حركت العود الذي تشتعل فيه النار يمنة و يسرى وقالت وهي تنفخ‬

‫النار بفمها‪:‬‬

‫‪ -‬ليس بعد اآلن‬

‫و التفتت إلي ‪ :‬ليس بعد اآلن‬

‫صدم قرار الضابط المدينة كلها إذ أن الحيثيات التي خرجت للناس لم تكن كلها مقنعة بحيث تؤدي الى حبسها‬

‫‪..‬و كيف تحبس المالئكة ؟؟؟ ‪ ...‬وكان أكثر الناس حزنا بهذا القرار الضابط نفسه‪ ...‬و لكنه كما قال ينفذ‬

‫أوامرالحكومة التي أمرت بذلك بخطاب مشفوع بختم آمر النيابة ‪ ..‬و لم يشفع للبنت الجميلة بكاء أمها و‬

‫أخواتها و ال تضرع آبائها أو لجاجة أستاذ آدم الذي لم يدع حجة تقال يعرفها إال وقالها أو شفاعة شيخ القرية‬

‫‪ ...‬الذي جزم بأنهم سيخرجون من قريتهم إن عادت البنت معهم و إال فلن يخرج أحد و لتذهب الحكومة الى‬

‫ما وراء الشمس و لتحرق الغابة ولتأت الحكومة لترم بالقرية كلها في غيابة السجن ‪..‬و الناس يتابعون في‬

‫الخارج مجريات األمور وينظرون الى النقاش الحاد يسمعون بعضه و يكملون الباقي بما ملكوا من مقدرة‬

‫‪79‬‬
‫على الخيال و يتغامزون ناقلين الى من وراءهم ما يدور ‪ ...‬يمنعهم حرس المركز من الدخول لكنه ال يبخل‬

‫أحيانا بتسريب بعض ما يدور بالداخل يحفظ بها عالقة بينه و بينهم ‪ ..‬و البنت التي يدور حولها الخصام‬

‫واجمة تنظر الى ما يحدث بعين ال يعرف مراميها إال من يعرف سعدية لم تنبس ببنت شفة باديا الهم و الخوف‬

‫و التحدي على محياها ‪ ...‬أمها بين حين و آخر تنظر إليها مطمئنة لها و تنظر مرة أخرى مجزعة لها تقوم‬

‫وتحتضنها باكية ثم ترجع الى مقعدها ‪ ...‬وتثور في القائد ثورة ال يصدها غير نهر "حاج الحسين" لها ‪ :‬يا‬

‫مرة خلي الرجال يتكلموا خلينا نشوف المصيبة دي بحلوها كيف‪...‬‬

‫فتسكت على مضض وهي غير مقتنعة بتعقل الرجال في موقف أكثر ما يحتاجه هو عدم التعقل‪...‬‬

‫و "القائد" يجادل بالحسنى أحيانا و أحيانا يثور مبررا موقفه و أنه ليس صاحب القرار ‪ ..‬و نفسه تقول له‬

‫كيف لصاحب قرار أن يحبس مثل هذا الحسن واضعا له بين اللصوص و القتلة و المجرمين ‪..‬يؤلمه قلبه حتى‬

‫يكاد يهصره بيده ليخفف ألمه وهو يسترق النظر في خضم الجدال العنيف الى المالك الذي قدر هللا له أن‬

‫يكون هو من يحبسه‪ ....‬قامت "غبيشة" وهي تبكي و تقول ألبيها و للضابط القائد ‪:‬‬

‫‪ -‬أنا من قال للناس من أراد الزواج من "سعدية" فعليه أن يحضر األسد و الجفيل ‪ ...‬وليست‬

‫"سعدية"‪..‬‬

‫نزلت دمعة من عين "القائد" قاومها فانتصرت عليه ‪:‬‬

‫لو أن هذا األمر يحل القضية لقلت أنني من قال هذا و ليست أختك ‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫و في خرق واضح للقانون قال لهم ‪:‬‬

‫‪ -‬سأبقيها في بيتي مع زوجتي و بناتي بدال من زنزانة المركز و أخصص لها من يحرسها ريثما نعد‬

‫لها من ينقلها الى السجن فالقضية تستلزم أن تكون في السجن أثناء مجريات المحكمة ‪ .‬و سأكتب طلبا‬

‫‪80‬‬
‫الى رئيس القضاء في "األبيض" بأن يستثنيها العتبارات كثيرة منها انتفاء مسؤوليتها المباشرة في‬

‫الذي حدث في الغابة ‪ ...‬و أن أهل القرى يربطون خروجهم من قراهم بخروجها على أن توقع لي‬

‫ذلك يا شيخ و سأذهب للمستشفيات استخرج من الجرحى شهادة بإخالء مسؤوليتها من التسبب في‬

‫إحداث األذى الجسيم لهم ‪...‬‬

‫حينها استيأس الوفد من محاوالت إثناء الضابط من حبسها و ذلك بعد أن قال لهم أستاذ "آدم" بأن هذا‬

‫هو أفضل ما يمكن أن يتحصل عليه من القائد واقترح أن يكون السعي مع الجهات العليا و أن يذهب‬

‫وفد الى أعلى جهات الدولة وقد اقترح عليهم هذا اإلقتراح القائد الذي أبدا تأثرا واضحا و انفعاال في‬

‫صالحها الفتا‪...‬‬

‫و قبل "القائد" أن يستضيف معها أمها في بيته أو من يروه مناسبا و قال لهم إن هذه اإلستضافة لن‬

‫تط ول فإجراءات التقاضي تقتضي أن تذهب الى سجن اإلنتظار في أقرب وقت ممكن فعليهم‬

‫اإلسراع‪...‬‬

‫انشغلت المدينة انشغاال كبيرا بهذه القضية و أصبح ال شأن للمدينة غير الحديث عن الحكومة التي‬

‫ألقت القبض على بنت بتهمة الجمال ‪ ...‬و الذي صار مثار استعاذة منه كمضرب مثل للنعمة التي‬

‫تتحول الى نقمة ‪ ,‬فالنساء اللواتي حركت الغيرة قلوبهن أخذن في الترويج الى مثل هذا القول ليقنعن‬

‫أصحابهن بأن القليل النافع خير من الكثير الضار فجمال معقول ال يجلب األذى لصاحبه أفضل من‬

‫جمال كثير يضر بصاحبه ‪ ,‬و اشتهر "القائد" بموقفه النبيل الذي شاطرته معه المدينة كلها فما تكاد‬

‫تمر ساعة زمن حتى يأتي من يطرق الباب حامل صينية طعام أو طبق فاكهة أو إناء لبن أما‬

‫ميسوري الحال فلم يتوانوا في إهداء خروف حنيذ يزيد حجمه مع زيادة مال مهديه و ما لبث بيت‬

‫"القائد" أن امتأل بالهدايا من هذه الشاكلة حتى أن "القائد" و أسرته أصبحوا يرفضون استقبال الهدايا‬

‫ال لشيء غير أن البيت ال مكان به أو متسع لكل هذا الحجم من الهدايا و لكن المهدين يصرون بأن‬

‫‪81‬‬
‫الهدية ليست لهم إنما هي للضيوف ‪ ...‬و انبرى نفر من قادة المدينة بالتقدم بخطاب للمحكمة لإلفراج‬

‫عن البنت بضمان أشخاصهم ‪ ,‬و بعضهم عرض فكرة ضمان مالي تقترحه الحكومة سيقومون‬

‫بتسديده مهما علت قيمته‪ ...‬أما الجرحى فقد أرسلوا موفدا منهم يمثلهم ليعلنوا عفوهم التام و‬

‫مسؤوليتهم الشخصية عن كل ماجرى لهم و أن ال دخل لهذه البنت بما أصابهم‪...‬‬

‫لم تنم "سعدية" طيلة األيام الثالثة التي قضتها في منزل القائد و لم تتناول طعاما ‪ ,‬وقد حاولت معها‬

‫أمها كثيرا لكي تقنعها بالنوم أو األكل لكنها كانت تتأبى و ترفض و كانت تهز رأسها رافضة حتى‬

‫مجرد الكالم ‪ ...‬و قد حاولت زوجة القائد تطييب خاطرها و التسرية عنها بالحديث معها ‪ ..‬لكنها‬

‫كانت تبتسم ثم تشيح بوجهها عنها ‪ ...‬فشحب وجهها و ذوى ضوؤه و بريقه و هزل جسمها و أصاب‬

‫قوتها خور و ضعف شديد ‪...‬فأمر الطبيب بنقلها الى المستشفى ‪ ...‬فأحضر القائد عربته و حملها هي‬

‫و أمها و زوجته و حارسها الى هناك‪..‬وقد بدا التأثر عليه كثيرا بصورة ال تتناسب مع صرامة وجهه‬

‫حتى يكاد المتفرس ينظر الى دمعة بعيدة تلمع في قعر عينه تكاد تفضح هذا الجزع ‪...‬لكن حالتها لم‬

‫تتحسن رغم العناية المكثفة التي أولتها لها المستشفى المتواضعة اإلمكانيات فازداد شحوب "سعدية"‬

‫و هزالها و لزمت صمتا طويال و زهدا في الكالم ‪ ,‬حتى الرد بعينيها الذي كانت تتجاوب به مع أمها‬

‫أحيانا أصبحت ال تفعله ‪...‬‬

‫و بعد نقاش طويل مع "القائد" قال الطبيب ‪:‬‬

‫‪ -‬البنت بهذه الطريقة ستموت إن لم تنقل و على وجه السرعة الى الخرطوم‪ ...‬و لكن الخرطوم ليست‬

‫قريبة كذلك ‪ ,‬تحتاج الى يومين أو ثالثة أيام بالعربة الجيدة أما بالمواصالت فليس أٌقل من خمسة أيام‬

‫بلياليها وهي عرضة في هذه المدة لمضاعفات تؤذيها إن لم تكن تحت عناية طبية‪.‬‬

‫و للمرة األولى ينهار القائد رغم اجتهاده في التجلد‪:‬‬

‫‪82‬‬
‫‪ -‬لن تموت ال يمكن أن تموت لن أكون سبب موتها ‪ ...‬أنظر يا دكتور أرجو أن تجهز لي من يرافقها‬

‫الى الخرطوم و ساتدبر أمر العربة‪..‬‬

‫‪ -‬كيف ذلك ال يمكن أن تخرج هذه البنت من البلدة فهي رهن اإلعتقال و أنت من يناط به حفظ النظام و‬

‫تطبيق القانون‪...‬لن أتحمل مثل هذه المسؤولية‪..‬‬

‫قال بانفعال و قور‪...‬‬

‫‪ -‬ال يمكن أن نسمح للموت أن يختطفها و نحن ننظر ‪...‬‬

‫ثم خرج و عاد بعد ساعة و قال مخاطبا الطبيب‪:‬‬

‫‪ -‬أين المرافق الذي سيذهب معها‬

‫و خرج ليحدث أمها بأنه سيأخذها الى الخرطوم فبقاؤها هنا ال معنى له غير أنهم يقتلونها بأيديهم‪..‬و‬

‫أمر بإحضار والدها الذي اتخذ من ظل شجرة أمام باب المستشفى مكانا يجلس فيه في انتظار ما‬

‫ستسفر عنه األقدار ‪ ...‬فلما حضر أبوها قال له‪:‬‬

‫‪ -‬يا حاج "الحسين" يجب أن نأخذ ابنتك الى الخرطوم لتتعالج فبقاؤها هنا يعرضها لزيادة المرض و‬

‫خطر الموت و أريدك و زوجتك أن تستعدا لتذهبا معها ‪...‬و ال تخبرا أحدا بذلك‪...‬‬

‫احتج حاج "الحسين" بأن الذين جاؤوا معه اليمكن أن يتركهم دون أن يخبرهم فقد تركوا أشغالهم و‬

‫أموالهم و أهلهم و راحتهم ليرافقوه كيف يذهب دون أن يخبرهم‪.‬‬

‫أسر له القائد قائال‪:‬‬

‫‪ -‬إن الذي أفعله مخالف للقانون و سيعرضني ذلك لمساءلة كبيرة و ربما أسجن بسببها ‪ ...‬كل هذا ال‬

‫يهم كثيرا قدر أن تعود "سعدية" الى سابق عهدها و نضارتها‪ ..‬ونحن نسابق الزمن فحالتها تزداد‬

‫سوءا ‪...‬‬

‫‪83‬‬
‫لكن أبا "سعدية" أًصر على إشراك "شيخ القرية" و "أستاذ آدم" في األمر دون أخوه و أخته فهذان‬

‫قريبان سيتفهمان األمر و بقية الذين لحقوا بهم ‪ ...‬و بعد ألي وافق "القائد" على مشاورتهم ‪ ...‬لكنهم‬

‫رفضوا الفكرة تماما و قالوا ال قبل لهم بالخرطوم ومصاريفها فهم ال يعرفون فيها أحدا و البنت تحت‬

‫رحمة هللا يفعل بها ما يشاء وهم سيسلمون بأمر هللا و قضائه و استقر رأي "حاج الحسين" على رأيهم‪...‬‬

‫لم يجادلهم "القائد" طويال ‪ ,‬و خرج ‪ ,‬ثم أرسل من يحمل أمر ترحيلها الى السجن و أخذها عنوة ‪ ,‬رغم‬

‫رفض الطبيب و بكاء أهلها و رجائهم ‪ ,‬الذين أكثروا اإلحتجاج فلم يسمع لهم الجنود ‪ ,‬و رفعوها‬

‫بمغذياتها الوريدية ‪ ,‬و ركب معها الطبيب نفسه ‪ ,‬بعد أن أخذ بعض األدوية و المغذيات الوريدية في‬

‫تعود على إحضارها حين يكون عليه دور المبيت في المشفى ‪ ,‬و ذهبوا‬
‫حقيبته ‪ ,‬و حمل كيسا به مالبس ّ‬

‫بها الى مركز الشرطة لتكملة اإلجراءت ‪...‬فاستقبلهم "القائد" و أمرهم بإنزالها الى عربته ‪ ,‬فلما فعلوا ‪,‬‬

‫ركب الطبيب معها وهو يحمل أدواته وقام بتعليق المغذي الوريدي في أعلى العربة من الداخل بشريط‬

‫الصق ‪ ,‬عندها أمر "القائد" السائق بالتحرك الى السجن وسط دهشة صغارالضباط و الجنود فهذه المرة‬

‫األولى التي يفعل فيها "القائد" مثل هذا الفعل المخالف لإلجراءات القانونية كلها ‪ ,‬ثم أمر حارسها و‬

‫"الطبيب" بالنزول فلبى األول و رفض الثاني ‪ ,‬الذي لم يجادله طويال ‪ ,‬و في الطريق أمر السائق‬

‫بالنزول فنزل ‪ ,‬و ساق هو و تحرك قليال ‪ ,‬ثم توجه بالحديث الى الطبيب ‪:‬‬

‫‪ -‬أنا ذاهب بها الى الخرطوم هل ستذهب معي؟‬

‫ضحك "الطبيب" كمن لم يتفاجأ و قال‪:‬‬

‫‪ -‬هل تعلم عواقب ما تقوم به‪.‬‬

‫تبسم "القائد" و أخذ نفسا عميقا‪:‬‬

‫األمر كله بيد هللا‪..‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪84‬‬
‫ضحك "الطبيب" ‪:‬‬

‫‪ -‬لست وحدك كلنا يقتلنا هواها ‪ ....‬توكل على هللا‪...‬ما يريده هللا سيكون‪.‬‬

‫و اتجه بالعربة الى الطريق المؤدية الى الخرطوم‪...‬‬

‫غضب السلطان "هاشم" أيما غضب من "سرور" ‪ ،‬الذي عاد الى "األبيض" تاركا السرية في تلك الغابة‬

‫لتسليم "مهران التونسي" له ليقوم بسجنه أو يرى فيه رأيه بعد انجالء المعركة و السيطرة على مناطق الجبال‬

‫‪ ،‬فرأي "سرور" أن الخطر كل الخطر من هذا الغريب ‪ ،‬فله مقدرة على اإلقناع و مال يشتري به الناس و‬

‫يستطيع أن يجهض هذه الحملة إذا ما اتفق مع "حاكم" ‪ ،‬لذلك فقد قرر أن يعود به الى "السلطان" بنفسه ألنه‬

‫ال يضمن أحدا ‪ ،‬و كذلك فإن إبقاء "مهران" حيا لربما يكون مفيدا ذات مفاوضات مع "حاكم" او مع "سلطان‬

‫الفاشر" أو مع أهله إن كان له أهل يتابعون أخباره من يدري‪.‬‬

‫لكن "السلطان هاشم" لم يكن يرى شيئا أهم من جيشه الذي تركه "سرور" في الغابة بسوء تقديره وغباء‬

‫تصرفه ‪ ،‬رغم أنه يعلم حجم المعاناة التي تكبدها في إخراج هذه البعثة العسكرية و خطورة مواقعها التي‬

‫تركتها و الزمن الذي يسابقه قبل أن يعلم بهم "سلطان الفاشر" ‪ ،‬فالحملة اختارت هذا الطريق الطويل للتمويه‬

‫وبقصد ال ِس ّرية ‪ ،‬فالزمن إن طال يكشف أمرها ‪ ،‬فيستعد أهل المنطقة حتى قبل مناصرة رجل "الفاشر" القوي‬

‫لهم ‪ ،‬ولذلك صرخ في وجهه أمام "التونسي" موبخا ً إياه على هذا التصرف الغير مسؤول كما يرى‬

‫"السلطان" ‪ ،‬و قال له ‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫‪ -‬لقد ندمت أيما ندم بتصديقي لك و باعتمادي عليك و بنظرتي الخاطئة التي وضعتك في موضع ال‬

‫تستحقه ‪...‬‬

‫لم يترك مجاال لتفسير أوشرح من "سرور" ‪ ،‬و أمر بأن تتحرك البعثة مستعينة بالوفد الذي بقي معها في‬

‫معرفة الطريق الى حيث غاياتها ‪ ،‬و أن يستبقي "سرورا" حبيسا مع "مهران" التونسي الذي قرر قتله أو‬

‫النظر فيما يفعله به بعد أن تهدأ ثورته ‪ ،‬لكن أصحاب رأي قالوا له ‪:‬‬

‫إن "سرور" رجل له مكانته عند أهله ‪ ،‬وهو من تعهد لك باستمالة أهل المنطقة للوقوف الى جانبك ‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫فإن استبقيته عندك و حبسته غضب بقية الوفد الذين لن تضمن والءهم بعد اآلن‪..‬‬

‫وبعد تفكير وتروي رضي بإرسال "سرور" مرة أخرى بعد أن حذره من التهاون في هذه المهمة ‪ ،‬و أنه‬

‫سيحمله مسؤولية أي فشل يحدث ‪ ،‬و رغم أن الطريق بين "األبيض" و بين مفترق الطرق حيث ترك‬

‫"سرور" جيشه ينتظره أخذ مسيرة الخمسة أيام للجيش الثقيل الكثير التوقف ‪ ،‬فإن "سرور" قطع المسافة‬

‫الى "األبيض" في يومين مع أسيره "مهران التونسي" و خمسة من الجند ‪ ،‬اتخذهم حرسا يحرسونه و‬

‫األسير لئال يفر من بين يديه فتكون الخسارة مضاعفة ؛ وصل سرور الى األبيض في يوم الجمعة حيث‬

‫تمتلئ المدينة بالقادمين من القرى للتبضع في يوم السوق الكبير ‪ ،‬ثم قضى يوما عند السلطان ريثما اتخذ‬

‫فيه قراره ‪ ،‬و أمره بالتحرك صبيحة اليوم التالي قبل أذان الفجر و أرسل معه جندا عشرا إضافة الى‬

‫الخمسة الذين جاؤوا معه ‪ ،‬و أمر بقتل "الغريب التونسي" في مكان عام بحجة الوالء "لسلطان دارفور"‬

‫الذي يناصبه العداء ‪ ،‬وأمر بأن يكون ذلك بعد أسبوع و في يوم السوق حيث يجتمع الناس و في الميدان‬

‫الكبير ‪ ،‬و جعل المعلنين يخرجون بطبولهم يضربون عليها ليجمعوا الناس حولهم ثم يعلمونهم بقرار‬

‫الملك بإعدام "غريب تونسي" وجد يتجسس على جيش السلطان ‪ ،‬ليكون عظة و عبرة لمن تحدثه نفسه‬

‫بالغدر و الخيانة ‪ ،‬فإن المنطقة تموج بالقبائل المتداخلة بين السلطنتين المتحاربتين ‪ ،‬و محفزا لذلك الذي‬

‫‪86‬‬
‫ينتظر اإلنجازات التي ترفع روحه المعنوية ‪ ،‬و لم يأبه السلطان لقول "سرور" و ال محاوالته بإثنائه عن‬

‫قراره هذا ‪ ،‬و ال للوساطات التي لم تدخر وسعا في ذلك بإيعاز من "سرور" ‪ ،‬الذي كان يعلم مدى شعبية‬

‫"التونسي" هناك‪" ،‬فسرور" فلم يكن يريد قتله بقدر ما أراد أن يستفيد من حبسه و المزايدة به في تعزيز‬

‫سلطانه بين أهله ‪ ،‬فكان القرار أن ينفذ الحكم فيه يوم الجمعة يوم السوق و بعد الصالة الجامعة في الميدان‬

‫العام و قرب مسجد السلطان ‪ ،‬بهذا جرت اآللة اإلعالمية التي بثها في المدينة و ضواحيها كلها‪...‬‬

‫تحرك الستة عشرة نفرا مسرعين ‪ ،‬و قد أوكلت قيادتهم لشخص آخر جعله السلطان قائدا للحملة كلها ‪ ،‬و غير‬

‫موقع "سرور" في هذه الحملة الى كبير مستشاري السلطان ‪ ،‬بدال من قائد عام الحملة ‪ ،‬و أمرهم باألخذ برأيه‬

‫و تقديمه على بقية اآلراء ‪ ،‬إال فيما يتعلق بالناحية الحربية فإن القائد له مطلق الحرية و التصرف‪..‬‬

‫و في الطريق و في اليوم الثاني و على بعد مسيرة يوم من مفترق الطرق ‪ ،‬ظهر من فوق األشجار غبار‬

‫مثار يبدو من بعيد متحركا نحوهم ‪ ،‬و بعده بقليل سمعوا صهيل أحصنة و خفق حوافرها في األرض تعدوا‬

‫مسرعة صوبهم ‪ ،‬ثم ظهرت الخيل المستنفرة من بعيد بعضها يحمل صاحبه و البعض اآلخر يعدو بال راكب‬

‫فوق ظهره عددها ليس بالقليل ‪ ،‬أمر قائد الحملة جيشه باإلنقسام الى قسمين سبعة يختبؤون يمين الطريق و‬

‫الثمانية الباقين يكونون من على يساره ‪ ،‬وجعل نفسه و "سرور" في الذين هم على اليمين و أمرهم بعدم‬

‫الحركة و التدخل إال بإشارة من عنده‪.‬‬

‫السلطان "هاشم" الشاب الطموح ‪ ،‬وافقت خطة "سرور" حلما قديما له بضم منطقة الجبال الصعبة‬

‫الى سلطانه ‪ ،‬وكان كلما هم بتحقيق حلمه أتى من ينصحه بتثبيت أركانه في الحدود الجنوبية الغربية‬

‫المتاخمة لنفوذ سلطان "الفاشر" ‪ ،‬الذي بدت نزعاته التوسعية في اتجاهه جنوبا ‪ ،‬رغم ما تردد عن‬

‫أن دوافعه التي قادته الى التحرك جنوبا كانت دوافع دفاعية بحتة ‪ ،‬لتأمين حدوده من هجمات القابئل‬

‫الجنوبية ‪ ،‬التي أحست بالقوة إثر توحدها تحت قيادة كجور ربط لهم الغيب بالواقع و أحيا في نفوسهم‬

‫‪87‬‬
‫دوافع القوة و محفزات المجد ‪ ،‬لذلك اتجه السلطان "هاشم" جنوبا ليكسب أرضا يحاور حولها في‬

‫حربِ ِه يشغل بها غريمه ‪ ،‬ريثما يقنع سلطانا آخر شديد الطموح هو سلطان مملكة "الفونج" الشرقيه‬

‫بمؤازرته في طموحه ‪ ،‬يشكل معه تحالفا قويا يستطيع من خالله ضم كل السودان الشرقي و الغربي‬

‫و السودان األدنى حيث أنهار أفريقا الغناء في "مالي" و ساحل الذهب "غانا"‪ ،‬و لكنه أيضا لم يكن‬

‫يأمن "سرور" ‪ ،‬الذي تحركه أحقاد شخصية ال تخلو من نزعات استعمارية قد تتطور في مثل هذا‬

‫الوضع الهش الذي تعيشه المنطقة ‪ ،‬إضافة الى أن هذه المنطقة اآلمنة المستقرة الثابتة الوالء لسلطان‬

‫"الفاشر" إذا ما وصلت أخبار تحركاته فيها الى هذا األخير فإن ما رمى اليه بخطته سيتضح و‬

‫ستجعل سلطان "الفاشر" يتحرك حركة سريعة تقوض له كل أحالمه التوسعية ‪ ،‬و تطيش بتحالفاته‬

‫المتمناة أدراج الرياح ‪ ،‬خاصة أن الرد لم يأت من سلطان "الفونج" العظيم بقبول هذا التحالف النزق‬

‫بعد ‪ ،‬لذلك كانت ردة فعله عنيفة إزاء ما قام به "سرور "من رجوع بعد أن وجد غريمه التونسي ‪،‬‬

‫"فسرور" ال يعرف أن فشل حملته الصغيرة هذه ربما يؤدي الى ضياع مملكته كلها من بين يديه ‪.‬‬

‫و في مساء الثالثاء األخير من يوم الجمعة الذي سيعدم فيه التونسي و السلطان راقد يقلب أفكاره في‬

‫رأسه تذهب به األماني و تعود به المخاوف ‪ ،‬تدخل خيل مسرعة الى قلب مدينة "األبيض" ‪ ،‬يركب‬

‫بعضها جند كان قد انتقاهم بعناية ‪ ،‬لحملة تخضع إقليم الجبال الى سيطرته ‪ ،‬و بعضها يحمل سروجا‬

‫بال فرسان ‪ ،‬لتقف أمام أسوار قصره ‪ ،‬أحدثت جلبتها الى حين تجمعها ضجيجا قطع أفكاره و بعث‬

‫جنود الخوف و الفزع الى رأسه وقلبه ‪ ،‬لتدك كل حصون األماني و اآلمال أمام ناظريه دكا دكا‪ ،‬نظر‬

‫السلطان "هاشم" الى جنده العائدين فوجدهم بين ملقى على ظهر جواده خائر القوى و بين ملقى على‬

‫األرض قرب جواده ‪ ،‬كلهم يهذي‪ :‬األسود ‪...‬األسود ‪ ...‬األسود‪...‬‬

‫‪88‬‬
‫األسدان و األ سود تركزت عيونهم مع الباهي الصغير الذي جلس على كهف انفتح إثر سقوط حجر اعتمد‬

‫عليه في صعوده الى اآلعلى ‪ ،‬هربا ً مما لقي في األسفل ‪..‬لكن سطح الحفرة الذي جلس عليه لم يكن بالمتانة‬

‫التي تحمل وزنه ‪ ،‬فبدأ يتهدم من على أطرافه منذرا بتهدم أكبر إن استمر في الجلوس عليه ‪ ،‬فأخذ يتقهقر الى‬

‫الخلف في حذر من مصير ال تشرق فيه بارقة ‪ ،‬و كان كلما تراجع قليال انهدم ما تركه وراءه مما جعله يقرر‬

‫أن يقوم دفعة واحدة لينظر إن كان ثمة مخرج من هذا المكان أم أن القدر قد أطبق عليه بكلتا يديه ‪ ،‬فقد تعلم‬

‫من األسدين أن ال استسالم حتى يحكم هللا أمره و أن األقدار صنائع األسباب عليه أن يجد لحياته سببا يتعلق به‬

‫ينقذه من مصيره الذي جاء إليه بقدميه ‪ ،‬قفز الباهي واقفا بطريقة ال يتقنها أحد غيره معلنا أن سر الحياة ما‬

‫زال يعتمل بين جوانحه فكأنه كان يحفز نفسه و يشجعها بهذه القفزة ‪ ،‬و بدأ ينظر الى األعلى لعله يجد وسيلة‬

‫الى صعود ‪ ،‬لكن تهدم الصخرة التي كان يجلس عليها لم يدع له مجاال لكي يتشبث بالصخرة األعلى ‪ ،‬و‬

‫الصخرة التي يجلس عليها تستمر في التهدم فأخذ يتراجع قليال قليال ‪ ،‬و من عجب أنه كلما تراجع ظانا أنه‬

‫سيصطدم بحائط خلفه كلما انفسحت المساحة خلفه ‪،‬مما جعله ينظر الى خلفه ليرى أن الحفرة أصبحت كهفا‬

‫يبدو أنه كبير و لكنه ليس مظلما تماما فيبدو أن ثمة مداخل للنور توصله بالخارج في داخله ‪ ،‬لم يفكر كثيرا‬

‫لكنه قرر أن يدخل الى الكهف فربما أن ثمة مخرج ‪..‬أو ربما دخول ال خروج بعده ‪ ،‬و من حسن حظه أنه‬

‫اتخذ قرار الدخول في الوقت المناسب فإن حواف سقف الكهف بدأت في التساقط فأخذ يقفز قفزات حذرات‬

‫الى داخل الكهف ‪ ،‬و كلما دخل تنقشع الظلمة من عينيه قليال ‪ ،‬نقل عينيه في المكان يستجلي مواضع الضوء‬

‫التي بدت و كأنها بالداخل يحجزها جدار أو حاجز ال يجعل من ظهورها جليا بالقدر الكافي ؛ الكهف من‬

‫الداخل بدا كبيرا جدا أكبر من الصخرة التي تحتويه أو هكذا خيل للباهي ‪ ،‬فإن امتداداته في كل اإلتجاهات‬

‫كبيرة ال تصل العين الى نهايتها ‪ ،‬و إن كانت نوافذ الضوء فيه كثيرة جدا منتشرة على اتساعاته كلها و في‬

‫جميع االتجاهات ‪ ،‬تشير نهايته األمامية الى امتداد ال متناهي تبدو بهرة ضوء في نهايته كأن الليل ينفلق منه‬

‫النهار عندها ‪ ،‬و كأن سقف الكهف القريب يتمطى طويال ثم يتالشى أو كأنه ينفتح على أرض منبسطة تنتهي‬

‫‪89‬‬
‫بنتوء تظهر قاعدته و ال تظهر قمته ‪ ،‬وحين نظر الى شماله تنكشف له أرض منبسطة ممتدة بها نتوءات‬

‫خشنة و حشائش ‪ ،‬كل هذا في منطقة الضوء المنخفض داخل سقف الكهف و التي تنتهي ببهرة ضوء تنفلق‬

‫عن ماء كبير لم يتبين كنهه أسراب هو أم بحر ساحله القريب في نهاية الكهف و ال نهاية له في ساحل قريب ‪،‬‬

‫و لما نظر الى اليمين ظهرت في نهاية الكهف بهرة ضوء تنكشف عن أرض منبسطة صفراء كأنها صحراء‬

‫ذات حجارة كبيرة كالصخور متناثرة ‪ ،‬و العجب الممزوج بالخوف و الفرح بوجود مخارج ال تعرف الى أين‬

‫تؤدي ولكنها بأية حال خير من أسوده التي تركها خلفه ‪ ،‬و بينما هو في شعوره الغريب الذي تملكه بين تعجبه‬

‫الحذر و خوفه الفرح يسمع أصوات خيل تضبح و جلبة و ضوضاء مخيفة و قعقعة سيوف و اشتباك حديد و‬

‫صراخ رجال و صياح نساء و هتافات و نداءات ال يعلم من أين تأتي ‪ ،‬و لم يع غير أن رجليه ركضتا الى‬

‫صخرة صغيرة داخل الكهف يختبئ خلفها ‪ ،‬و ال ظهور لشيء غير الصوت الذي كلما تمر لحظة يزداد قوة و‬

‫وضوحا ‪ ،‬فصار ينقل النظر بين اليمين و الشمال و األمام لعله يجد أثر لهذه األصوات ‪ ،‬ولم يكن ينظر الى‬

‫خلفه فإنه ال يمكن لها أن تكون صادرة من خلفه القريب النهاية ‪ ،‬حيث مدخل الكهف الذي تهدم جله وراءه‪،‬‬

‫لكنه ما لبث أن شعر بوخزتين حادتين كوخزتي رمحين يخترقان جسده من خلفه يرفعانه الى األعلى و‬

‫صوتين يصرخان فيه بشدة و بلغة ال يفهمها‪...‬‬

‫حمله الجنديان و رفعاه الى حصان أحدهما ‪ ،‬رأسه و يداه ملقيان الى األسفل على صفحة الحصان اليمنى‬

‫و رجاله تتدليان من صفحته اليسرى قرب رجلي الحصان الخلفيتين وهو فاقد الوعي ينزف دما من‬

‫جرحين غائرين على كتفيه ‪ ،‬ثم انطلقا به الى حيث تصدر تلك األصوات المهيبة من خلف ظهره حيث‬

‫مدخل الكهف الذي امتد كأرض منبسطة على طول البصر ال يسده ردم و ال يقطعه هدم ‪...‬‬

‫‪10‬‬

‫‪90‬‬
‫سطع نجم األسد "مورونو ما باتا" بعد اتفاقه الشهير في السودان العميق و السودان الغربي و طغا اسمه‬

‫الجديد على اسميه األولين إال من قلة يعرفون تاريخ األسامي ومناسباتها أو من عنصريين ينتمون الى‬

‫مناطقهم و تاريخها يرون أن ال فضل "لمورونو ماباتا" على "ماري جاتا" بل الفضل لألخير أكبر فهو‬

‫صاحب مجد بناه من عدم ‪ ,‬أما اآلخر فمجيد ورث المجد كابرا عن كابر و الذي يبني مجده بيديه أولى‬

‫بالذكر ممن ورث مجدا فأدامه عليه ‪ ...‬و استمر هذا االسم يطلق عليه في هذه المنطقة و على ذريته من‬

‫بعده ما بقيت ساللته التي يعرفها أصحاب الفراسة و النسابة على مدى التاريخ بعده‪ ..‬لكن األسد األعرج‬

‫اتخذ اسما جديدا حين بلغ مناطق أعالي النيل التي ينبجس منها هذا النهر العظيم تحفه بركات صالحي‬

‫الماساي و دعوات القرويين البسطاء و قد كان لوصوله إليهم قصة غريبة كانت سبب مجيئه األول و‬

‫عاش بينهم مجريا سنن اتفاقه مع الملك المساوي ‪. .‬حتى انجالء الفتنة‪...‬‬

‫فقد مر أهل مناطق تجمع مياه البحيرة العظيمة التي تغذي النيل بفتنة كبيرة ‪ ,‬إذ كان يحكمهم شخص‬

‫ضخم يطلقون عليه لقب "كجور" ‪ ،‬له قداسة في نفوسهم يشاركهم في أمر معاشهم بما يسخر لهم من قوى‬

‫الطبيعة العاتية الظاهرة و الخفية التي تنصاع له كما يعتقدون ‪ ،‬و كان سبب الفتنة أن الكجور الذي‬

‫يؤمنون بقواه قد مات و اختلفوا في من يخلفه من بعده ‪ ،‬فقد كان عقيما ليس له ذرية تخلفه رغم زوجاته‬

‫الكثيرات اللواتي كن يتبارين في نيل حظوة اإلنجاب منه سعيا وراء ابن منه يكون هو كجور زمانهم‬

‫القادم بعد أبيه ‪ ،‬فاجتمع حكماؤهم و كباراؤهم و قرروا انتقال "الكجورية" من البيت الحالي الى بيت‬

‫تختاره القوى الخفية عبر مسارات عديدة من االختبار و االصطفاء تبدأ بطقس تشترك فيه كل القبائل‬

‫تحدد له مدة زمنية تتبارى فيه القبائل لنيل شرف انتقال الكجورية إليها ‪ ..‬ثم ينتقل التحدي بين بيوت‬

‫القبيلة المختارة عبر شروط محددة يجب توافرها في البيت المشارك في المنافسة ‪ ،‬وال يحق لبيت تتوفر‬

‫فيه الشروط اإلنسحاب أو اإلعتذار عن المشاركة في المنافسة فإن عين القوى الخفية ال يعلم أحد أين‬

‫تنظر ‪ ،‬و من أهم هذه الشروط وجود ذرية سليمة من العيوب الخلقية كالشلل أو العور أو المرض أو‬

‫‪91‬‬
‫العاهات المستديمة أو حتى المرض العادي إذا جاء إبان فترة الترشيح للمناسبة لما فيه من إشارة واضحة‬

‫بعدم رغبة القوى الخفية في اختياره ‪ ،‬و يجب أن تكون هذه الذرية من الذكور كبيرة العدد ال تقل عن‬

‫العشرين ابنا و كلما زاد عدد ذكور البيت زادت حظوظه ‪ ...‬الى أن يصل االصطفاء الى بيت واحد يقوم‬

‫أبناؤه بالتنافس لنيل هذا الشرف ‪ ،‬لكن الفتنة الكبيرة برزت في تهرب أبناء البيت الفائز من تحمل مشقة‬

‫التحول من إنسان عادي الى إنسان مختار بعين سماوية فاحصة ‪...‬يؤمنون بوحدتها و قوتها و حكمتها في‬

‫االختيار ‪ ،‬فإن عملية إعداد الكجور عملية شاقة تحتاج الى إعداد ضخم فيه مشاق و آالم ال تتحملها إال‬

‫نفس يصدق فيها حدس السماء في كونها أهل لتحمل هذه األمانة كما يدينون ‪ ،‬فالذي يريد أن يصل الى‬

‫هذه المرتبة عليه أن يمر بمراحل لتنقية روحه عبر انعزال يدوم لشهور عديدة في مناطق مظلمة مخيفة‬

‫تتوالها تلك األرواح بنفسها ‪ ،‬و لكي تصل روحه الى درجة الشفافية فعليه سلخ جلد وجهه الثخين و‬

‫بعض مناطق جسمه المسؤولة عن اإلتصال و التماس مع األرواح العلية لتسهل عملية االتصال التي‬

‫يحول دونها جلده الثخين ‪.....‬‬

‫استمرت طقوس اختيار الكجور الى شهور طويلة حيث أن اإلختبارات بعضها له عالقة بالمواسم و‬

‫األمطار و نمو الزروع و كثرة المواليد و قلة األمراض ‪ ،‬تنبري لجنة تُحلّف بروح الكجور األعظم أن ال‬

‫تحابي و ال تنحاز و أن تحكم بعين "كجورية" العدالة للفصل و التحكيم ‪ ،‬فلما وصلت المنافسة الى مرحلة‬

‫البيوت الحظت اللجنة إحجام البيوت و خوفها من المشاركة في هذا الطقس ذي المسؤوليات العظيمة و‬

‫التبعات الجسيمة رغم حماس اآلباء إال أن إحجام األبناء كان هو األظهر ‪ ،‬و لذلك قررت اللجنة أن ترسل‬

‫موفدين الى بعض الدول القريبة تستعين بخبراتهم في مثل هذه الموقف التي لم يمروا بمثله قريبا ‪ ،‬فليس‬

‫لهم سابق تجربة في"كجور" يدركه الموت قبل أن ينجب ‪ ،‬فلما رجع المرسلون أجتمعت اللجنة و نظرت‬

‫في وصاياهم فكان أكثرها قبوال هو صاحب تجربة قبيلة الماساي الذي جاء و معه رسول من ملكهم يحمل‬

‫رسالة منه تبدي صادق اهتمامه و ترحابه بالمساهة في حل هذا اإلشكال ‪..‬‬

‫‪92‬‬
‫استمعت اللجنة الى رسول ملك الماساي و هو يشرح لهم كيف قام السحرة و الصالحون بالتعاون مع‬

‫ملكهم في درء شر األسود و أنهم من بعد ذلك اتخذوا األسود حلفاء يساعدونهم في إدارة شؤون‬

‫مملكتهم ‪ ,‬نما اقتصادهم بواسطتها حيث أمنوهم من شر الحيوانات المفترسة كلها ومن شر البشر‬

‫أيضا الذين هابوهم كما هابتهم الحيوانات حين علمت بتحالفهم مع األسود الغاشمة ‪ ,‬و اكتشف السحرة‬

‫و الصالحون من بعد ذلك عميق صالت بين األسود و قوى الطبيعة الظاهرة و الخفية ‪ ,‬فأخذوا‬

‫يستمطرون بها الغيث فينزل الغيث صيبا نافعا و يدرؤون بها اآلفات و شر الحشرات فال تهاجم‬

‫محاصيلهم فنمت زراعتهم و تباركت انتاجية أراضيهم ‪ ,‬و زئير أسد واحد كفيل بجعل خمسة بقرات‬

‫يتاومن في الوالدة بدال من انتاح عجل واحد ‪ ,‬ومن عقمت من األبقار فإنها بال شك سترزق بالذرية‬

‫التي تنفع صاحبها ‪....‬أما أمور الحكم فإن ملك األسود صار ال يكاد يغادر قصر ملك الماساي حتى‬

‫يزوره مرة أخرى يتشاوران في أمور الرعية و الحكم وصار الملك إذا ما احتار في قرار انتظر‬

‫صديقه األسد ‪ ,‬فما أشار به عليه أنفذه و ال يجروء أحد على االعتراض فحكم األسد حكم فرضته قوى‬

‫عليمة ‪ ,‬و زادت أموال المملكة عن طريق ضرائب تفرض على كل قرار يصدر من األسد فجعل‬

‫الملك يحول هذه األموال الى صالح الرعية من تنمية و إعمار ال يكنز لنفسه منها إال القليل ‪,,‬‬

‫وكان اقتراحه هو أن يستجلب ملك األسود بدعوة رسمية تعرض عليه فإن قبل يستعينون بحكمه‬

‫وحكمته و بركته إلى أن تنجب أمتهم كجورها فإن الكجور كما يقولون يصطفى كجورا وال يصنع‪...‬و‬

‫ما يقومون هم به اآلن من استعجال في انشاء "كجور" بطريقة ال تقرها الشريعة "الكجورية" السابقة‬

‫‪ ،‬يجعل من عاداتهم و تقاليدهم مسخا بين تقاليد البشر ال يحترمها أحد‪...‬و العجيب أنه رغم غرابة‬

‫اإلقتراح فإنه لقي تجاوبا إيجابيا من أعضاء اللجنة التي بدا أثر السأم و اإلرهاق و قلة الحيلة عليها‪....‬‬

‫فإن غرابة ا لحل كان لها نسب من غرابة المشكلة التي لم تصادفهم من قبل و ال يوجد في موروثهم ما‬

‫يفيد بحدوث مشكلة مثل هذه المشكلة ‪ ،‬فالمعروف أن الكجور ال يعقم و أنه ال يموت في سن مبكرة‬

‫‪93‬‬
‫بل الموروث أن الكجور يورث سلطته الروحية و الدينية و هو على قيد الحياة و أنه هو من يرشح‬

‫خليفته و يعده لمهمته إعدادا‪..‬‬

‫و رغم سرية أعمال اللجنة فإن الخبر لم يلبث أن أنتشر انتشار النار في الهشيم ‪ ،‬فأيده شعب‬

‫البحيرات و شعب أعالي النيل تأييدا كبيرا و لم يشذ عنهم إال آباء البيوت التي رشحت لنيل شرف‬

‫الكجورية و التي لم يكن عددها قليال ‪ ،‬فإن كل قبيلة أعدت من البيوت ما ينافسون به في هذا الشرف ‪,‬‬

‫ثم إن األبناء لما ضمنوا أن األمر قد بعد عنهم مالؤوا أباءهم في رفض قرار اللجنة ‪ ,‬و اشتدت ألواء‬

‫الرفض بين الشباب فصاروا يتجمعون في لقاءات متفرقة كل قبيلة على حدة ينشرون رفضهم لهذا‬

‫القرار الغير صائب ‪ ,‬ثم إنهم من بعد ذلك اتحدوا في جماعات كبيرة يهاجمون اللجنة الموقرة هجوما‬

‫عنيفا‪ .‬ثم اجتمع أمرهم على أن يقاموا هذه الفكرة مهما كلفهم األمر من تضحيات‪.....‬‬

‫كاد القلق يفترسني إثر معرفتي بما جرى لسعدية من مرض أدخلت على إثره المشفى ‪ ،‬فليس من‬

‫عادة أهل الجبال المرض و ال دخول المشافي ‪،‬إال في حاالت يكون الموت دائما هو األسبق فيها من‬

‫الشفاء‪ ،‬و كنت أهرب من لقاء جدتي التي كان يفرحها كل خبر سيء يصيب نعمة و بناتها‪ ،‬وكانت‬

‫تعلم مدى تعلقي "بسعدية أم جفيل" ككل شباب البادية و أطفالها الذكور ‪ ،‬بل و الكبار كذلك الذين‬

‫كانوا يتحدثون بذلك سرا حين يخلوا الصديق بصديقه ‪ ،‬فقد سمعت و لم يأتن الخبر من واش عمي‬

‫"قادم" وهو يحدث أبي "بأن حبس هذه البنت قد حرق حشاه" فرد عليه أبي‪:‬‬

‫لقد حرق حشا القرية كلها‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫و كم من مرة رأيت و سمعت حاج "المختار" و هو يحدث نفسه بصوت عال وهو مستلق ينظر الى القمر‬

‫وهو يمرق من بين شظيتي سحاب متنهدا ‪ :‬آه يا "أم جفيل" ما أمسخ القرية بدونك‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫و لقد غضبت جدتي كثيرا من و الدي حين وجدها تحدث ابنتها أمي بمصير مظلم مقبل على آل "نعمة"‬

‫تجره عليهم ابنتها "سعدية" ‪ ,‬فنهرها و وبخها و أقسم إن سمعها تتحدث بمثل هذا الحديث ثانية ليقطعن‬

‫لسانها من جذوره ‪ ..‬و قد أجابته محتجة‪:‬‬

‫‪ -‬وما ذنبي أنا إذا كان هذا هو قدرها الذي نسجته لها اإلرادة اإلالهية‪....‬‬

‫قال لها ‪:‬‬

‫‪ -‬لكن اإلرادة األالهية لم تجعلك متحدثة بلسانها ‪ ...‬هللا يعرف ما يريد ال يريد منك أن ترشديه إليه‬

‫فالزمي الصمت‪..‬‬

‫فلما جاء المساء كعادتها و هي تحمل لبنها الذي حلبته من عنزاتها لتضعه على نار األثافي أمام بيتها قالت‬

‫لي‪:‬‬

‫‪ -‬غدا سيسمع أبوك صدق ما أخبرته به ‪ ...‬البنت ذهبت خالص ‪..‬خطفها األقوى من القوي و هرب بها‬

‫من المستشفى ‪...‬‬

‫ثم التفتت إلي ‪:‬‬

‫‪ -‬قل إثنان ‪......‬‬

‫قلق الطبيب و توتره أثرا في رباطة جأش الضابط الكبير ‪ ،‬الذي قرر أن يتخذ طريقا أسرع الى‬

‫الخرطوم من الطريق الذي عبدته الحكومة ‪ ...‬فطريق المواصالت و إن كان آمنا فإنه أطول ‪ ،‬يستغرق‬

‫سبعة أيام حتى الوصول الى الخرطوم ‪ ،‬غير ذلك فإنه يمر بمدن كثيرة ‪ ،‬بها قوات نظامية أكثر التزاما‬

‫بالضوابط و اللوائح ‪ ،‬فربما تحتاج الى تدابير إدارية و أذونات مكتوبة ‪ ،‬لتسمح لعربة القائد الرسمية‬

‫بالمرور ‪ ..‬فاتجه القائد الخبير بالدروب والطرق الى طريق أقصر بكثير ‪ ،‬يمكن أن يوصل الى‬

‫‪95‬‬
‫الخرطوم في يومين ‪ ،‬و إذا زادت المدة فلن تتجاوز الثالثة أيام ‪..‬و لكن الطبيب و القائد كانا مصرين على‬

‫أن يصال الى الخرطوم في يوم و ليلة ال أكثر ‪ ،‬فاتفقا على أن يتناوبا القيادة ينام أحدهما ما يكفيه ثم يبدل‬

‫صاحبه متى ما أحس بالتعب ‪ ...‬والقائد الخبير بالطرق و المدن كعادة كل الضباط الكبار الذين البد و أنهم‬

‫مروا بهذه الطرقات مرات ومرات إبان تنقالتهم العملية ‪..‬‬

‫استيقظ القائد على صوت تأوهات تصدر من سعدية ‪ ،‬و الطبيب كان من عليه الدور في القيادة ‪ ،‬التفت‬

‫اليه الطبيب حيث يجلس القائد متكئا بقرب الصبية المريضة يغفو مرة و يصحو مرة ‪...‬‬

‫‪ -‬ما بها؟‬

‫القائد نظر الى البنت المسجاة على الكرسي راقدة على ظهرها مثنية رجليها حيث ال تتسع العربة الحتواء‬

‫امتدادهما ‪ ،‬ثم نظر الى المغذي الوريدي الذي كاد أن يفرغ حمولته في وريد يدها البضة ‪ ،‬و وضع يده‬

‫على جبينها الذي يتصبب عرقا و تحدث إليها‪:‬‬

‫‪ -‬سعدية يا بنت الرجال أتسمعينني ؟‬

‫نظرت إليه نظرة ال تعني شيئا سوى الضعف و انعدام القدرة على أي شيء حتى مجرد اإليماء بنعم أو ال‬

‫‪ ،‬ثم أغمضت عينيها في غير اكتراث له‪.‬‬

‫واصل القائد كالمه معها ‪:‬‬

‫‪ -‬يا بنتي كيف حالك هل أنت بخير‪...‬‬

‫فتحت عينيها مرة أخرى ‪ ،‬و نظرت إليه ثم أغمضتها مرة أخرى ‪ ،‬أوقف الطبيب العربة و فتح الباب الخلفي‬

‫حيث سعدية و القائد ‪ ،‬أمسك بمعصمها وقال كمن يتمتم‪:‬‬

‫‪ -‬نبضها ضعيف لكنه أحسن من الصباح و حرارتها أدفأ قليال ‪..‬‬

‫‪96‬‬
‫قال له الضابط بلهفة رزينة‪:‬‬

‫‪ -‬هل هي أفضل من ذي قبل؟‪..‬‬

‫‪ -‬أظن ذلك‪ ...‬لكنها ال تزال في مرحلة حرجة‪ ...‬أرى أن ننزلها لتستلقي على األرض قليال ‪ ،‬و تمدد‬

‫رجليها فإن الركوب في العربة بطريقتها هذه متعب جدا‪.‬‬

‫بالفعل أنزالها حمال الى األرض الرملية الطرية ‪ ،‬و أرقداها على ظهرها ‪ ،‬و صار الطبيب يحرك لها‬

‫رجليها ثنيا و مدا ‪ ،‬و يرفع لها يديدها و يحركهما الى االعلى و اليمين و اليسار ‪ ,‬و القائد يحمل المغذي‬

‫الوريدي بيده ‪ ،‬ثم قام الطبيب بإلصاق المغذي في جدار العربة الخارجي ‪ ،‬في وضع أعلى يسمح له‬

‫بالتدفق السلس إلى وريدها ‪ ،‬ثم استلقيا بالقرب منها على الرمل الذي ال يكاد يبين لونه من شدة الظالم‪...‬‬

‫الطبيب الذي تمدد على ظهره فاتحا ما بين رجليه و يديه قال وهو يحرك رجليه ضما و فردا يحركهما‬

‫ليجري الدم فيهما ‪:‬‬

‫‪ -‬هل ما قمنا به صحيح ‪..‬‬

‫سكت القائد كمن ينتظر من الطبيب االسترسال ‪ ,‬ثم أجاب لما لم يجد استرساال‪:‬‬

‫‪ -‬ما قمت به أنا خطأ بمقياس كل شيء إال اإلحساس الذي تملكني تجاهها ‪ ..‬ال يمكن أن نحبس الجمال‬

‫ال لشيء إال ألنه أفصح في اإلبانة عن نفسه ‪ ...‬ال يمكن أن أكون أداة قتل لإلحساس ‪ ...‬لكنك لم تقم‬

‫بشيء يدينك ما قمت به هو عين الصواب لم يكن لك أن تترك مريضا يموت و أنت من أقسمت على‬

‫ذلك ‪..‬‬

‫ضحك الطبيب ثم اطلف آهة طويلة و قال‪:‬‬

‫‪ -‬لم يحركني من عيادتي واجب وال مسؤولية إنما حركني إحساس كإحساسك تجاه هذه المخلوقة‬

‫الجميلة ‪ ،‬لقد أحسست أنها ليست من عالمنا الذي نعيشه ‪ ،‬لقد جاءني إحساس رحمة تجاهها فقدتها منذ‬

‫‪97‬‬
‫أن أمسكت يدي المبضع و أعملت في أجساد البشر الذين يرقدون أمامي كاآلالت الميتة التي ال تحس‬

‫و ال تشعر ‪ ،‬لقد أخرجني إ حساس باإلمتنان لها أن أعادتني الى آدميتي و بشريتي ‪ ،‬ألول مرة تؤلمني‬

‫آهة مريض و تسحقني نظرة رجائه منذ عشرين عاما‪....‬‬

‫‪ -‬أتعرف يا دكتور منذ أن أرسلت في طلبها ذلك العسكري و أنا أتهيب لحظة قدومها ‪ ،‬حتى إذا‬

‫حضرت و دخل العسكري يخبرني بقدومها وددت أن أخرج من باب خلفي ال أراها وال تراني ‪..‬‬

‫ثم ضحك ضحك حزينة‪...‬و أكمل‪:‬‬

‫لقد وقعت في غرامها من قبل أن أراها ‪ ...‬أخجل منها كلما تذكرت ماضي التليد في طراد المجرمين‬ ‫‪-‬‬

‫و إنفاذ القانون ‪....‬‬

‫ثم أخذ األثنان نفسا عميقا قبل أن يقول الضابط المغرم لصاحبه المتيم ‪....‬‬

‫‪ -‬ما الذي جعل تلك النجمة تكون من على يسارنا ؟‪ ...‬ألم أقل لك ال تدع النجمة تفلت منك فإنها شديدة‬

‫المراوغة في هذه الكثبان الملتوية‪..‬‬

‫نهض الطبيب و هو ينظر الى النجنة المقصودة ‪ ..‬زاد الضابط الخبير باالستهداء بالنجوم ‪:‬‬

‫‪ -‬قبل كم من الزمن فارقت عينك نورها ؟‬

‫‪ -‬ال أدري لكن ليس قبل وقت طويل ربما ساعتين أو أقل قليال منذ آخر مرة انتبهت اليها‪..‬‬

‫‪ -‬ال تقلق ال أظن أننا ابتعدنا كثيرا لقد رجعنا قليال‬

‫لم تغن تحركات الضابط في معرفة موقعهم وال حثه للتراب مستطلعا اتجاه الريح الذي كان ساكنا ال يمكن‬

‫معرفة اتجاهه في هذا الظالم الكثيف وال صياحه المستجدي عسى أن يلحق بهم من يسمع صياحهم ‪ ،‬لكنهما‬

‫قررا أن يرجعا مستهديان بأثر عجالت العربة على األرض فحمال البنت المريضة و أدخالها الى العربة و‬

‫استلم القائد دفة القيادة ‪ ،‬و تحركت العربة مديرة إطاراتها الى اليمين األقصى بغرض استكمال الدورة الى‬

‫الخلف ‪ ،‬و لكن العربة تحركت ببطأ من أثر الرمل الذي بدأ يجذبها الى األسفل معيقا حركتها قليال ‪ ..‬وبخبرة‬

‫‪98‬‬
‫القائد المتمرس استطاع أن يخرجها من وحلها الذي كادت أن تغوص فيه بعد أن استعدل اتجاه اإلطارات الى‬

‫األمام و دار دورة واسعة ليصل الى الخلف الذي عناه ‪ ....‬ولكنه فقد اتجاه إطاراته السابق فلم يعثر عليه اال‬

‫بعد مدة من البحث الحذر فلما أن وجده سار محاذيا له ‪ ،‬لتقوده حركته الى الموقع الذي تحركوا منه قبل قليل‬

‫فعرف أنه يسير في دائرة مغلقة ‪ ،‬فعكس اتجاه دورانه هذه المرة و وجد اإلطارات كذلك ‪ ،‬و صار يتحرك‬

‫ببطأ في اتجاهها بعد أن أكد مساره بالنجمة التي جعلها من على يمينه ثم تحرك ال يلوي على شيء ‪....‬‬

‫مرت العربة ببعض بيوت معزولة مبنية من الطين ال تكاد تتبينها عن رمل األرض لوال ارتطام ضوء العربة‬

‫بحوائطها الخارجية و ظهور ضوء الفوانيس باهتا من داخلها فنزل القائد طارقا أحد أبوابها مستفهما عن‬

‫موقعه سائال أين اإلتجاه الى الخرطوم فقال الرجل الذي سألوه مستغربا‪:‬‬

‫‪ -‬خرطوم ؟؟ أي خرطوم ال يوجد طريق يؤدي الى الخرطوم يمر من هنا‪...‬لكن انظرا الى تلك النجمة‬

‫المضيئة ‪ ،‬ضعاها بين عينيكما تمام ال تفارقاها أبدا ال يمنة و ال يسرة ‪ ،‬ستدخلكم الى قرية سيدلونكم‬

‫على طريق يوصلكم الى الخرطوم ستصلونها عند الفجر ‪ ،‬و الخرطوم مسيرة ضحوة منها ‪..‬‬

‫العربة لم تكن بحاجة الى شيء لتستكمل مسيرتها غير عزيمة قائدها الذي أيقظته المسؤولية ‪ ،‬و خاف أن‬

‫يحدث للبنت مكروه يؤذيها ‪ ،‬وهو الذي هرب بها لينقذها من مرض يمكن أن يهلكها ‪ ،‬لكنه طلب من صاحب‬

‫الدار أن يستضيفهم الى الصبح ألن البنت المريضة ربما تكون بحاجة لبعض راحة من وعثاء الطريق غير‬

‫المعبد ‪ ،‬فنزلوا ع ند صاحب البيت الذي وقفوا عنده بعد ترحيب من صاحبه ‪ ..‬الذي دخل و جاء يزوجته و‬

‫بناته ليحملن البنت المريضة الى الداخل و يقمن بالعناية بها الى الصبح ‪ ..‬أليس الصبح بقريب؟‬

‫الرجل الذي نزال عنده قال له‪:‬‬

‫‪ -‬أأنت القائد الذي هرب بالبنت ؟؟‬

‫صعق القائد من السؤال و نظر الى الطبيب لكن الرجل بادرهما ‪:‬‬

‫‪99‬‬
‫‪ -‬ال تخافا أنتما في أمان لقد توقعت أن تكونا مررتما من هنا ولكني يأست من ذلك بعد أن تأخرالوقت‬

‫و قد جلست في قارعة الطريق انتظر قدومكم ‪...‬‬

‫سأله الضابط ‪:‬‬

‫كيف عرفت بنا و مجيئنا من هذا الطريق‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬لقد عممت إشارة "برقية" الى قيادة الجيش في كل مكان بأن قائد الشرطة خرج بسجينة و معه‬

‫الطبيب ولم يصل الى السجن وال الى مكتبه وال الى بيته ‪ ،‬طالبة التعامل بمسؤولية و البحث عنهم‬

‫خوفا من أن يكون مكروها أصابهم ‪.. ،‬و أنا أعمل في مكتب القائد و أنا من سلمه الرسالة ‪ ..‬فعلمت‬

‫أنك قصدت بها الخرطوم و أنك لن تسلك طريق المواصالت األبعد المحروس و لكنك ستأتي من هنا‬

‫فهذا طريق أقرب ال يعلمه اال من خدم في الشرطة أو الجيش طويال مثلك‪..‬‬

‫أعد الرجل لضيفيه سريرين منسوجين بالحبال ‪ ،‬و جلب لهما جلبابين يغيران بها مالبس السفر‬

‫المتسخة التي أعطاها لنسائه لكي يغسلنها في ليلتهما هذه ‪ ،‬فإن الركب مسافر صباحا ‪ ،‬كما جلب‬

‫لهما ماء في أبريق يستخدمانه إذا ما عنيا قضاء حاجتهما ‪ ،‬أو أرادا الوضوء للصالة ‪...‬و ما لبث أن‬

‫جاءهما بصحن كبير به عصيدة دخن أعدت سريعا ‪ ،‬ممروقة بلبن يتلوى بخاره على ضوء السراج‪.‬‬

‫وما أن بدءا في األكل حتى سمعوا صوت عربة بالخارج تالها صوت طرق على الباب و صوت‬

‫ينادي‪:‬‬

‫‪" -‬الرحيمة" "الرحيمة "‪..‬‬

‫خرج صاحب البيت وهو يلبي صائحا ‪:‬‬

‫مرحب مرحب ‪....‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪100‬‬
‫ثم دخل "الرحيمة" ومعه ضابط شرطة يحمل رتبة نقيب ‪ ،‬فلما وقفا أمام الرجلين القائد و الطبيب اتخذ‬

‫النقيب الزائر وقفة عسكرية ألقى التحية العسكرية بعدها محييا الضابط ضاربا األرض بقدمه ضربة‬

‫توحي بحجم اإلحترام الذي يكنه الضابط الصغير للضابط الكبير‪ ....‬قام القائد من سريره الذي اضجع‬

‫عليه ووقف ثم ضم رجليه كناية على رد التحية بمثلها‪...‬ثم احتضنه قائال ‪:‬‬

‫‪ -‬ابني "الرشيد" ما شاء هللا ماشاء هللا‬

‫تعانق الرجالن عناقا حارا ثم أمسك القائد بيد الضابط الصغير و أجلسه بقربه رغم تحرج األخير فالمقام‬

‫و األدب العسكري ال يسمح بذلك ‪...‬‬

‫ثم بدأ القائد يسأل النقيب "الرشيد" عن أحواله و أحوال المنطقة من الناحية األمنية و "الرشيد" يجاوب في‬

‫أدب جم يشوبه نوع من التقدير و اإلكبار‪...‬لكن "الرشيد" قاطعه قائال‪:‬‬

‫‪ -‬سعادتك أتمنى أن تخرج من هنا اآلن قبل أن يأتي قائد الجيش فهم في اتنظارك منذ عصراليوم‬

‫جاؤونا أكثر من ثالث مرات يستفسرون إن كنت حضرت من هنا أم ال ‪ ..‬و ال أظنهم يضمرون‬

‫خيرا‪..‬‬

‫هز القائد رأسه و قال له‪:‬‬

‫من هو قائد الجيش في الحامية ‪.‬؟‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬سيادة العقيد "عبدالمنعم أب كرنكات"‬

‫‪ -‬أب كرنكات ‪ ...‬لقد تزامنا أنا وهو في مناطق كثيرة ‪ ...‬ال حول و ال قوة إال باهلل ‪ ...‬لقد اختلفنا أنا‬

‫وهو مرات كثيرة هذا الرجل ال يكن ألحد احتراما أبدا ‪ ،‬آخرها كان بسببك لو تذكر حينما اعتدى‬

‫أحد أفراده على أحد المواطنين و أرسلناك بخطاب لتبلغه فقام باعتقالك قائال لن يطلق سراحك قبل‬

‫أن نطلق سراح العسكري‪ ...‬أذكره جيدا‬

‫‪101‬‬
‫‪ -‬قال النقيب لذلك أتمنى أن تخرج من هنا بأسرع وقت قبل أن يعلم بحضورك ‪ ..‬ولقد أحضرت لك‬

‫برميل وقود ‪..‬‬

‫‪ -‬لست مضطرا لتفعل ذلك يمكك أن تؤدي واجبك ‪...‬‬

‫قاطعه النقيب الرشيد‪:‬‬

‫‪ -‬هذا واجبي أنت ما زلت قائدي لم يردني ما يفيد بنزولك من الخدمة و ال بإحالتك الى التحقيق وال أي‬

‫شيء من هذا القبيل أنت تقوم بواجب شرطي أنا أحترمه ومن واجبي مساعدتك‪...‬‬

‫سمع الجميع صوت عربة بالخارج ما لبث أن توقفت‪ ...‬و صوت احتكاك الباب الخارجي بسطح األرض‬

‫منبئا عن فتحه بواسطة أحدهم ثم صوت العقيد "عبد المنعم أب كرنكات" عند باب الغرفة بعد أن ضحك‬

‫ضحكة مجلجلة‪:‬‬

‫‪ -‬أخيرا التقينا ‪....‬مرحبا قائد الشرطة الهمام ‪...‬ألف مرحب‬

‫فتح الباهي عينيه و األعياء يكاد يمنعه من فتحهما و آثار ألم بعيد غائر يعوي من على كتفيه وجلبة كثيفة‬

‫تصم اآلذان و تعم المكان ‪ ,‬فرأى كرسيا كبيرا فارغا ال يجلس عليه أحد و إن كان يحرسه رجالن‬

‫مدججان بالسالح يرتديانه و ال يرتديان شيئا غيره مما يستر البدن ‪ ,‬سود لون البشرة ‪ ,‬تبدو على‬

‫وجوههما آثار جالفة و قسوة ‪ ,‬أطوالهما ال كأطوال البشر الذين يعرفهم فهم طوال ’ يكاد الواحد فيهما‬

‫يفوق طوله الرجلين بل أكثر عراض ما بين المناكب ‪ ,‬تبدو عضالت كل واحد منهما كصخرات قائمة‬

‫بذاتها تنشز من على صدريهما و يديهما ‪...‬و بين كل لحظة و أختها يدخل ‪ ,‬رجل مثلهما مدجج بالسالح و‬

‫‪102‬‬
‫يخرج رجل يتحدث إليهما فيجيبانه مرة و مرة ال يجيبان على الداخل بل يكتفيان بالنظر إليه وهز كتفيهما‬

‫في حركات يتقنانها معا فال تصدر إال وفق انسجام في الرد بينهما ‪ ,‬و المكان حين جال بعينيه فيه دون‬

‫تحريك رأسه بدا كخيمة معدة لعظيم قوم مما الحظ من أثر الزخارف المنقوشة على قماش جدارها ‪ ,‬و‬

‫توجد أرائك و دكك مصفوفة على جانبي الكرسي ‪ ,‬و الصياح خارج يزيد و يفتر ثم ال يلبث أن يزيد مرة‬

‫أخرى‪.‬‬

‫ال يدري كم من الزمن مر عليه و هو ملقى في هذا المكان لكن األلم يعوي من جميع أنحاء جسده ‪ ...‬قطع‬

‫عليه حبل أفكاره و معاناته ازدياد الجلبة خارج الخيمة بشكل ملحوظ ‪ ,‬ثم دخول أناس بنفس صفات‬

‫الحارسين يقفون عند رأسه ‪ ,‬يتحدثون مع بعضهم ‪ ,‬يلكزونه بأقدامهم غير مبالين لجراحه ‪ ,‬يقلبونه‬

‫بأرجلهم كما يقل بون العود الملقى أو الشيء البالي ‪ ,‬لم يقاوم الباهي ما يفعلونه به‪ ,‬فقد أظهر لهم أنه فاقد‬

‫للوعي ال يحس بما يفعلونه به رغم ضرواة اآلالم التي يعانيها‪ .‬جلس أحدهم قرب صدره و أخرج سكينا‬

‫ثم بدأ يحك بها جلد يده‪ ,‬و هو يتكلم مع رفاقه كأنما يشرح لهم شيئا ‪ ,,‬حتى نزف الدم من يده ‪..‬و الباهي‬

‫يزيد من تجلده و صبره كأنما يسلخون جلد شخص آخر غيره و الرجل ال يبالي ‪..‬و صار الرجل يمرر‬

‫يده على مالبسه متحسسا لها بخشونة و رعونة و قسوة و يقلبه ذات اليمين و ذات الشمال ‪ ...‬و فجأة‬

‫يتوقف كل شيء ‪ ,‬و يقف الرجال و يصمتون‪,,‬‬

‫و الجلبة و الصياح بالخارج ال تكل و ال تهدأ ‪ ,‬ثم تدخل امرأة ‪ ..‬عظيمة الجسم تلبس درقة جلدية تشبه‬

‫تلك التي صنعتها له أمه ال تلبس شيئا غيرها ‪ ,‬إال سيرا من جلد على خصرها تربط عليه قطعتين من‬

‫قماش إحداهما تستر ما بدا من األمام و الثانية تستر ما دنا من خصرها من الخلف ‪ ,‬و تحمل سيفا آثار‬

‫الدماء فيه لم تجف‪ ..‬وقفت عند رأس الباهي ثم أخذت تتحدث بصوت قوي صارم مع من حولها وهم‬

‫يستمعون إليها أحيانا و أحيانا أخرى يتحدثون و لكن بأدب واضح ‪ ,‬ثم جلس ذلك الرجل مرة أخرى و‬

‫حمل يده يريها ما فعل بها من قبل ‪ ,‬و أخرج سكينه مرة أخرى ‪ ,‬و أراد تكرار ما فعله المرة األولى ‪..‬‬

‫‪103‬‬
‫لكن الباهي سحب يده منه قبل أن يسلخها ففزعوا و قفز فوق رجليه و صدره اثنان منهم و ه ّما أن يضرباه‬

‫لوال تدخل المرأة القوية التي منعتهم من ذلك ‪ ،‬ثم جلست على رجل واحدة متكئة بيدها اليسرى على‬

‫الرجل األخرى و قد غرزت السيف الذي كانت تحمله باليد اليمنى أمام وجهه مباشرة‪ ،‬ثم أمسكت بشعره‬

‫ترفعه الى األعلى ناظرة إلى عينيه بعينين تشبهان عيني أسديه الذين أتيا به الى هذا المكان ‪ ،‬ثم تحدثت‬

‫معه بلغة ال يفهمها ‪ ،‬فأشار إليها بعينيه ورأسه أنه ال يفهم ما تقول ‪،‬فصرخت في وجهه بقوة مكررة نفس‬

‫ما قالت ‪ ،‬فكرر لها حركة وجهه مرة أخرى ‪ ،‬وقفت المرأة التي كانت تتحدث إليه بعد أن ألقت رأسه من‬

‫يدها ‪ ،‬و أخذت تتحدث مع من حولها ‪ ،‬ثم أشارت إليهم بيدها كأنها تقول خذوه‪ ،‬لكن الباهي قفز متحامال‬

‫على جراحه متكئا على كوع يده قفزة أثارت خوفهم فتراجعوا ‪ ،‬و قفز قفزة أخرى الى الدكة التي كانت‬

‫أمامه ‪ ،‬ثم رفع يديه الى األعلى مشيرا إلى أن يديه خاليتين من سالح ‪ ،‬و هم ينظرون في تحفز و انتباه‬

‫‪ ،‬و المرأة ثابتة ال تحرك غير رأسها في ثبات ال يجيده غير الملوك ‪ ،‬ثم خلع قميصه مبديا صدرا أعزال‬

‫خاليا من سالح ‪ ،‬و فك رباط إزاره ليقع مظهرا قبله و دبره عاريين ال يستران شيئا و ال يسترهما شيء‬

‫مما قد يثير الرعب‪ ،‬ثم رفعه سريعا ‪ ،‬تقدمت إليه المرأة المبجلة و أمسكته من يده اليمين و تلته إلى‬

‫األرض تال ليقع على رجليه وقعة رجل مدرب على كيفية الوقوع اآلمن ‪ ،‬لكن جرح كتفه اليمين بدأ‬

‫ينزف سائال على ظهره بغزارة ‪ ،‬نظر إليه خلسة لكن المرأة القوية ركلته بقدمها ملقية له على األرض ‪،‬‬

‫تحدثت بعدها الى من هم حولها بكالم صارم كاألمر واجب التنفيذ ‪ ,‬لم يفهمه إال بعد أن نفذه من عناهم‬

‫األمر ‪ ,‬إذ قاموا بجره من يديه كما تجر الشياه ‪ ,‬ذاهبين به الى عريشة في الخارج ‪ ,‬بها رجال واقفون‬

‫حول رجال جرحى ملقين على االرض ‪ ,‬أو على حصير مجموع يخفف عليهم أثر األرض الصلبه ‪...‬‬

‫وقد فهم مما رآه أن هذا مكان معالجة الجرحى ‪ ,‬و أنهم أتوا به الى هذا المكان ليعالجوه من جرحه الذي‬

‫ينزف ‪...‬مما أوحى إليه بأهميته لديهم ‪ ,‬فهم ال يريدون أن يقتلوه ‪ ,‬و إال لما أمروا بتطبيبه من جرحه‪ ،‬و‬

‫‪104‬‬
‫رأى خارج الخيمة ذلك الغبار الكثيف ‪ ،‬الذي يعلو بسبب قتال عنيف ‪ ،‬يدور رحاه على بعد ليس بالقريب‬

‫و ال البعيد ‪،‬قتال ما رأى مثله من قبل‪....‬‬

‫وقف "الباهي أمام تلك المرأة القوية في مساء نفس اليوم الذي يبدو أنه انتهى بانتصارها ألن الوجه الذي‬

‫قابلته به صباح اليوم غير الوجه الذي تقابله به اآلن ‪ ،‬و هي جالسة على كرسيها المنمق و خلفها حارسان‬

‫يشبهان الحارسين الذين كانا واقفين في نفس مكان هذين الحارسين ‪ ،‬وعلى يمين كرسيها يقعو أسد ضخم‬

‫على عجزه و رجليه الخلفيتين و هي تلعب بشعر لبدته تنثره ثم تمسح عليه ‪ ،‬و خيمتها مضاءة بنيران‬

‫أعواد ال تنطفئ ‪ ،‬و أصوات أهازيج و مرح و صياح فرح يتعالى بين لحظة و أخرى يأتي من خارج‬

‫الخيمة ‪...‬‬

‫أشارت إليه بيدها أن اقترب فلما تقدم ووقف بالقرب من كرسيها ‪ ،‬قامت و نزلت من على كرسيها العالي‬

‫ثم أمسكت بشعره تشده شدا ‪ ،‬و تكلمت كالما بين المنخفض الهامس و الصارخ الناهر ثم أطلقت شعره و‬

‫تحركت الى حيث يقف أحد الحارسين و أخذت منه سيفا كان يرتديه و سلته من جفيره ‪ ،‬و أتت و وضعته‬

‫على عنق الباهي و هي من خلفه تتكلم و تصمت تثور و تهدأ و السيف مسلط على عنقه ‪ ،‬و هو ثابت ال‬

‫يتحرك حتى أن دما أحس به يسيل من عنقه ‪ ،‬ثم رفعت السيف عن عنقه و ألقته الى الحارس الذي التقطه‬

‫في مهارة و أرجعه الى جرابه و رجعت الى كرسيها و هي تضحك كالممسوسة ‪ ،‬كل هذا و الباهي ال‬

‫يفهم شيئا مما تقول ‪ ،‬بل ال يفهم شيئا من كل ما حدث ‪ ،‬كان ذهنه مشتتا يفكر في هذا الذي هو فيه و‬

‫األسئلة الصعبة تتناوشه أين هو ؟ و من هؤالء ؟ و من أين أتوا ؟ و أين هم من سوق أهراس؟ و لماذا لم‬

‫يشعر بهم أهله في السوق؟ و و و‪...‬‬

‫‪105‬‬
‫لم يكن يخفف عليه وحشة هذه األسئلة ‪ ،‬و صعوبة هذه اللحظات القاسيات غير عيني األسد الجالس تحت‬

‫كرسي سيدته ‪ ،‬هاتان العينان اللتان تشبهان عيني أسديه اللذين تركهما خلفه ‪ ،‬ترى ما الذي حدث لهما ؟؟‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫كان األسد ينظر إليه في ألفة هو يعرفها و يفهمها و ال يفهم سببها لماذا هذه اإللفة ‪ ،‬جرب أن يومئ إليه‬

‫بعينيه كما كان يفعل مع األسود في السوق ‪ ،‬و من عجب أن األسد تجاوب معه ‪ ،‬يبدو أن لغة األسود‬

‫واحدة في كل مكان ‪ ،‬وربما في كل زمان‪..‬فما يراه هنا يوحي بأنه في زمن غير الزمن الذي عاش فيه‪..‬‬

‫فهؤالء القوم بدائيون في كل شيء ‪ ،‬أسلحتهم مالبسهم أدوات طعامهم و أدوات تطبيبهم و عالجهم ‪..‬‬

‫مراكبهم كل شيء يوحي بأن هؤالء القوم يعيشون في زمن غير الزمن الذي يعيش فيه ‪ ،‬قطع عليه تفكيره‬

‫أثر الدم الذي سال من رقبته و صياح المراة القوية المبجلة ‪...‬‬

‫لكن هذا الحديث العنيف الذي ابتدرت به المرأة حديثها تغير الى حديث أخذ ينحو الى اللطف تدريجيا حتى‬

‫استقر الى كالم هادئ بعد أن حضر عدد من الرجال و النساء ‪ ،‬قامت إليهم السيدة المبجلة كأنها تحييهم واحدا‬

‫و احدا ‪ ،‬تمسك بأياديهم و رؤوسهم و تعانق بعضهم ‪ ،‬في حبور و فرحة ‪ ،‬وهم يبادلونها التحية بأحسن منها‬

‫أدبا و تبجيال ‪....‬‬

‫تغير التعامل كليا فطيلة الليلة البهيجة التي كانت احتفاال بالنصر المؤزر كما يبدو‪ ،‬كانت المرأة القوية تجلس‬

‫على كرسيها المبهرج و قد أعدت له مقعدا تحتها هو األقرب لها من بين بقية المقاعد‪ ،‬يقابله في الجهة‬

‫األخرى األسد الذي لم يكن ابتهاجه و فرحه خافيا أيضا ‪ ،‬و قد كان حرصها باديا على أن تريه مظاهر قوة‬

‫جيشها الذي مرت بعض كتائبه أمامه‪ ،‬ثم جيء بجنود آخرين ‪ ,‬يبين سمار لونهم األفتح من لون سمار الجنود‬

‫المنتصرين ‪ ..‬مقيدين بحبال من سعف األشجار يحرسهم جماعة من العساكر ‪ ..‬ال تخفي ابتهاجها و شماتتها و‬

‫قوة غيظ قلوبها من الذين يقودونهم مقرنين في األصفاد ‪ ،‬و لم يكن استنتاج أن األوائل أسرى المعركة باألمر‬

‫‪106‬‬
‫الصعب ‪ ،‬وكان من بينهم رجل ضخم الجثة في مقدمتهم مدجج بالسالح و الدروع ‪ ،‬و الدماء تلطخ أجزاء‬

‫كثيرة من جسده ‪ ،‬يمشي مرفوع الرأس على غير إرادة الجند الذين جاءوا به ‪ ،‬فقد كانوا يضربونه لكي ينحني‬

‫و لكنه كان يأبى عليهم ذلك ‪ ،‬فعرف أنه قائد الجند المهزومين أو ملكهم ‪ ،‬ثم جعلوهم قبالة المرأة القوية و‬

‫ضرب في رجله بحديدة قوية فجثا على‬


‫أمروهم برفع أياديهم عاليا ثم السجود لها ففعلوا ‪ ،‬إال قائدهم الذي ُ‬

‫ركبتيه مرغما‪....‬‬

‫رفع القيد و الحظر عنه بل و أخذ للنوم في مكان أعد للقادة إذ الحظ أن من يرقدون فيه ال يرقدون على أرض‬

‫عادية كبقية الجيش بل في قش كثيف جمع و رص بطريقة تلينه مما يجعله مرتبة طيبة وثيرة‪.‬نام الباهي بعد‬

‫معاناة من آالم جراحه مستلقيا على بطنه حتى ال تلمس جروحه األرض و بعد زمن ليس بالقليل كما بدر الى‬

‫خلده غفت عيناه و ذهب في سبات عميق ‪...‬لكنه نفسه الباهي النائم كما ينام األموات قفز فجاة فزعا‬

‫كالمصعوق‪ ,‬بسبب أنفاس ساخنة أحس بها قرب فمه و أنفه و عنقه ‪ ,‬و شيء طري لدن رطب كاللسان‬

‫يدغدغ رقبته و خده و أنفه ‪.‬‬

‫لم يكن اختيار المكان الذي يمكن أن تخبئ فيه "النقو" ‪ ,‬األوراق و اللفائف التي أمنها عليها زوجها "مهران"‬

‫باألمر اليسير فإن البيت الصغير رغ م كبره كان بسيطا في مقتنياته للدرجة التي يمكن ألي شيء مدسوس فيه‬

‫أن يظهر جليا ‪ ,‬سواء أكان ذلك المخبأ حفرة أم علبة أو صندق فإنه سيكون ظاهرا ‪ ,‬و لكن التفكير هداها الى‬

‫أن أستر مكان للتخفي هو أظهره إذا أحسن التمويه‪ ..‬فقررت اإلحتفاظ بها بالقرب من حفرة دخانها بين أعواد‬

‫حطب الطلح و الشاف و أبو ليلى التي تستعملها في أيقاده و قد موهت أوراقها بنشارة من تلك األعواد ‪ ,‬ثم‬

‫جعلتها في صندوقها األسطواني الطويل فبدت كأنها خشبة من أخشاب دخانها ‪ ..‬و النها خشيت عليها من أن‬

‫‪107‬‬
‫تلتبس عليها مع بقية األخشاب فإنها احتفظت بها داخل خزانتها متحسبة لليوم الذي تحتاج فيه الى تلك الحيلة‪..‬‬

‫وقد أحست من كالم زوجها بنذر شيء ال تدري ما هو و لكنه بال شك نذر شؤم يراه و ال تراه‪..‬‬

‫و لذلك غضبت من أبيها حين ترك زوجها التونسي يخرج الى مكان عمله بال حراسة و المته على ذلك كثيرا‬

‫‪ ،‬و كأنها تشير الى تهديده له في رحلة عودته من سلطان الفاشر‪..‬فقد أحست كأن أباها يتخلص من زوجها‬

‫حين سمح له بالخروج في مثل هذه األجواء وحيدا بال رفيق يؤانس و ال صديق يؤازر‪..‬و لذلك أخذت كالم‬

‫زوجها مأخذ الجد ‪ ,‬فلم تكتف بإعداد مكان لألوراق تخبؤها فيه فقط بل قامت بإرسال رجلين يقتفيان أثر‬

‫زوجها من على البعد دون أن يالحظهما بحيث يأتيانها بخبر أي مكروه يصيبه إن حدث ال قدر هللا ‪ ,‬و عليهما‬

‫التدخل إن قدرا على التدخل وإال فال جناح عليهما إن أتيا بالخبر اليقين الذي يعين على التصرف‪ ..‬فكانت‬

‫"النقو " أول من سمع بما حدث لزوجها بما نقاله لها من خبر يؤكد ذلك ‪ ,‬فقد رأيا الشرتاي "سرور" و هو‬

‫يقوم بصفعه و ركله بعد أن قبض الجنود عليه و هو يجري محاوال اإلختفاء و اإلبتعاد عنهم ‪ ...‬و شهدوا كيف‬

‫أن بعضا من أفراد وفد سرور الذين ساقهم معه وكانوا في رفقت في حملته‪ ,‬حاولوا إثناءه عن الذهاب به الى‬

‫السلطان هاشم‪ ,‬و تسليمه له‪ ,‬فإن هذا هدر للمروءة‪ ,‬و خيانة لعرى الوصل ‪,‬و غدر بالضيف المؤمن ‪,‬أوال‪ ,‬و‬

‫ثانيا فإن أي تأخير ربما يؤدي الى كشف خبر الحملة‪ ,‬فتستعد البادية و جبالها لمواجهتهم ‪,‬و هم ال يريدون‬

‫لدماء أن تهرق في هذه الحملة ‪,‬فإن بين من سيقاتلونهم إخوانهم ‪,‬و أبناءهم و نساءهم و أهلهم أجمعين‪ ,‬فقد‬

‫فهموا أن الحملة الغرض منها هو إظهار القوة ‪,‬و إحكام السيطرة ‪,‬ال إراقة الدماء ‪,‬و إزهاق األرواح ‪,‬‬

‫فنصحوه و ألحوا عليه في ذلك ‪,‬لكن "سرور" لم يستمع إليهم ‪,‬و رجع بزوجها مكبال مهانا الى‬

‫األبيض‪..‬فقامت بإخبار أبيها "حاكم" بما جرى لزوجها‪ ,‬و أخبرته بخبر الحملة التي أرسلها السلطان المتهور‬

‫‪,‬إلى البادية و جبالها لضمها الى سلطانه و نفوذه‪ ..‬ثم لم تكتف بذلك ‪,‬بل و أرسلت من يخبر نساء المنطقة‬

‫برغبتها في اإلجتماع بهن صبح اليوم التالي ألمر ضروري ‪,‬و قد أعتادت النساء التنادي للملمات الكبيرة‪ ,‬مثل‬

‫الزواج و الفرح‪ ,‬أو الموت و الترح‪ ,‬أو للتشاور فيما يرين أنه موجب للتشاور‪ ,‬فيأتين زرافات ووحدانا‪ ,‬من‬

‫‪108‬‬
‫كل فج عميق ‪,‬في القرية و القرى المجاورة إن وصلهن الخبر‪ ,‬فلما جئنها أخبرتهن بما أقدم عليه ابن عمهن‬

‫سرور ‪,‬الذي لم يراع حرمة رحم ‪,‬و ال عالقة دم‪..‬و أوضحت لهن خطورة الموقف ’و أن تصرفا كتصرفه‬

‫بإمكانه أن يهدم ما بناه أباؤهن و أجدادهن منذ قديم الزمن ’ من عيش هانئ و تصالح اجتماعي تحسدهم عليه‬

‫البوادي األخر‪ ..‬فاتفقن على أن ال يتركن هذا األمر يمر مرور الكرام’ و كان فيمن حضر اجتماعها زوجة‬

‫سرور و بناته و أخواته اللواتي استهجن فعله و أنكرنه ‪ ..‬و أخبرن الجميع برفضهن تصرفه ‪ ,‬و أنهن سيقمن‬

‫بدور كبير في إثنائه عنه‪ ,‬هذا على أن يضمن هذا المجلس لهن جبر خاطره ‪,‬و إعطائه بعض السلطة التي‬

‫فقدها‪..‬‬

‫أما "حاكم" ‪ ,‬فما أن المته ابنته في المرة األولى على تركه لصهره الذهاب وحيدا الى المناجم ‪,‬حتى أحس‬

‫بحجم خطئه الذي ارتكبه في حق ابنته و حق صهره‪ ,‬الذي آزره في استعادة ملكه الضائع من "سرور"‪ ...‬فلما‬

‫أكدت له ابنته أن سرور قد أسر زوجها ‪ ,‬و ذهب به الى األبيض ‪ ,‬قرر من فوره أن يذهب هو في وفد الى‬

‫األبيض لمقابلة سلطانها‪ ,‬و الشفاعة لزوج ابنته الضيف و إثناء السلطان عن التهور‪ ,‬فإن هذا سيؤدي الى‬

‫إثارة حروب في المنطقة ‪,‬هم في غنى عنها ‪,‬فإن بالدهم لم تشهد مثل هذه التوترات من قبل أبدا‪...‬‬

‫فلما وصل وفد الشرتاي "حاكم" الى "األبيض"‪ ,‬كان ذلك في نفس ليلة وصول الجنود المذعورين الذين كانوا‬

‫في حملة الشرتاي "سرور" ‪ ,‬وقد ضجت المدينة باألخبار واإلشاعات المتضاربة ‪ ,‬فهناك إشاعة تقول بأن‬

‫الجيش ضل طريقه الى وادي اآلسود ‪,‬التي هاجمت و استأسدت في الدفاع عن حماها‪ ,‬مما أدى الى هروب‬

‫الجيش ‪,‬بعد أن فقد عددا مقدرا من رجاله‪ ,‬بين جريح و أكيل ‪ ,‬و إشاعة أخرى تقول ‪:‬أن الجيش قابل جيشا‬

‫كبيرا لس لطان الفاشر‪ ,‬الذي علم بتحرك الحملة ‪,‬فأرسله للدفاع عن أراضي تابعة لسلطانه منذ القدم‪ ,‬فالتقت‬

‫بالجيش الصغير ‪,‬الذي أعد على عجل ‪,‬فقاتل جيش السلطان الفاشر كاألسود التي تهاجم قطيع حمر وحشية‪,‬‬

‫فتم تحطيم الجيش الصغير‪ ,‬و هرب البقية عائدين ‪,‬يصيحون األسود األسود‪ ,‬يقصدون جنود جيش الفاشر ‪ ,‬و‬

‫بعضهم أومأ الى أن الرجل الغريب األسير ‪,‬رجل ذو صالح‪ ,‬ظهرت كرامته فيهم‪ ,‬حيث سلط هللا عليهم أسودا‬

‫‪109‬‬
‫باغتت جيشهم وهم نيام ‪,‬أتت من حيث لم يحتسب الجيش ‪,‬فقائل يقول إنها جند مسلط من السماء مباشرة‬

‫لنصرته‪ ,‬و هي رسالة بليغة إن لم يتنبه السلطان الى معناها فإن دمارا سيصيبه و بلده كما أصاب جيشه‬

‫الصغير‪..‬‬

‫كل هذه اإلشاعات و غيرها الكثير كان يصل الى السلطان المتهور الذي احتوشه الذعر من كل مكان ‪..‬و بدت‬

‫له سوءة فعلته كما لم تبد له من قبل ‪ ..‬فجمع وزراءه و مستشاريه صبيحة اليوم التالي مباشرة أي يوم‬

‫األربعاء ‪ ,‬فجاؤوا كل واحد منهم يحمل هم نفسه قبل هم مملكته و سلطانه ‪ ,‬فإنهم على علم بمدى شراسة و‬

‫طيش السلطان حين يغضب أو يخاف‪ ..‬فابتدرهم بالسؤال عن ماذا سمعوا من حديث الناس بين األمس و‬

‫اليوم‪ ..‬فأخبروه فقال لهم ما رأيكم أنتم؟‬

‫فأجاب كل واحد منهم بما يرضي السلطان و يخفف عنه هلعه إال رجلين قال أحدهما‪:‬‬

‫‪ -‬لقد نقبت سدا كان يدرأ عنك شرا مستطيرا ‪..‬ردمه أخطر من هدمه‪..‬‬

‫وقال الثاني‪:‬‬

‫‪ -‬لقد ركبت مهر الريح يطيح بك أول ما ما يصيح النزول منه أصعب من الركوب فيه‬

‫صاح حينها بهما‪:‬‬

‫فكيف الفعل إذن؟‬ ‫‪-‬‬

‫قال األول‪:‬‬

‫‪ -‬أما وقد حدث ما حدث فأنت بين مسلكين ‪,‬أعبدهما وعر ‪,‬األول أن تخلص العداء لسلطان الفاشر‪ ,‬فتهيأ‬

‫نفسك لحرب ال تبقي و ال تذر ‪,‬تجمع فيها جيوشك كلها على صعيد واحد ‪,‬و تحشد طاقتها لمعركة‬

‫كبيرة ‪,‬إن انتصرت فيها فأنت الغالب الذي يملك البلدان كلها‪ ,‬و إن انهزمت فال لوم و ال عتاب‬

‫‪110‬‬
‫فالنصر من عند هللا الواحد القهار‪...‬و أما الثاني أن ترسل الى السلطان الغاضب ‪,‬فتعتذر له و أن‬

‫تحسن له الهدية و تظهر له الوالء‪ ,‬و أن تتبع دولتك بدولته فتنجو إن رضي‪..‬‬

‫أما الثاني فقال‪:‬‬

‫‪ -‬الرأي عندي الجمع بين رأيي أخي الذي تحدث قبلي‪ ..‬أن نعد للحرب عدتها ‪,‬و نجمع الجيوش كلها في‬

‫جيش واحد كبير‪ ,‬و أن نعلن لذلك حملة استنفار كبرى ‪,‬نحرض الناس فيها على القتال‪ ,‬فنجمع جيشا‬

‫كبيرا قادرا على مجابهة جيش سلطان الفاشر‪ .‬كما و أننا من جهةأخرى نسترضي الملك الغاضب‬

‫بالهدايا و اإلعتذار ‪ ,‬و نرجع له أسراه فإن قبل و رضي اعتذارنا ‪,‬حينها نكف عن حربه حينا من‬

‫الزمن ‪,‬الى أن نرى انصالح حالنا‪ ,‬فنقرر ما نريده و نحن أقوياء‪ ,‬ال نخشى أحدا ‪,‬و إن رفض‪ ,‬يكون‬

‫جيشنا على أهبة اإلستعداد للتصدي له‪..‬‬

‫أصاب وفد الشرتاي "حاكم" الذهول من هول ما سمعوا من إشاعات ‪ ,‬و علموا أن المدينة الكبيرة تجري‬

‫مياه تحتها ربما تغير من مجريات األمور في مستقبل األيام و أنهم أمام فرصة عليهم استغالالها استغالال‬

‫حسنا و إال فإن الفرصة ربما ال تأتي مرة أخرى‪ ..‬فالمدينة كلها تشعر بالخوف من سلطان الفاشر الذي‬

‫اعتُدِي على أرضه و حماه‪ ,‬غير األخبار التي ترد من قصر السلطان هاشم مذيعة رعبه و خوفه من‬

‫عقابيل مغامرته غير محسوبة العواقب‪...‬فقرروا أن يستغلوا هيبة سلطان دارفور و يتحدثوا باسمه في‬

‫جرأة كبيرة ويعرضوا عليه مبادرة صلح ربما تنقذ المنطقة من ويالت حرب ال تبقي و ال تذر‪..‬‬

‫ما كاد اجتماع السلطان بمستشاريه ينتهي حتى دخل عليه داخل يخبره بوفد من سلطان دارفور يريد‬

‫مقابلته‪ ..‬فسره له الحضور من المستشارين أن هذه فرصة من السماء لم تكن في الحسبان فالسلطان ال‬

‫ريب أرسل وفده هذا محذرا و منذرا و عارضا شروطا تسبق هدنة و صلحا سوف يتبناها إن هم وافقوا‬

‫‪111‬‬
‫عليها ففي هذه الحالة تتحول المعركة من معركة حربية الى معركة سياسية سيقومون هم باالستفادة منها‬

‫فائدة كبيرة‪..‬‬

‫دخل وفد حاكم الذي ادعى أنه وفد سلطان الفاشر ووجد المجلس مكتظا بالحضور فلم يلق تحية و ال‬

‫سالما و قد بدا الغضب واضحا في محياهم فتكلم "حاكم" الشرتاي بصوت بين الناهر و الجاهر يعرفه‬

‫خبراء المفاوضات‪:‬‬

‫‪ -‬لقد ارتكبتم خطأ عظيما بهجومكم على أراض تتبع لحكمنا و سلطاننا لم تراعوا حرمة جوار و ال‬

‫طول عشرة و ال اختالط انساب ‪..‬و قد أوفدنا ملكنا لنخبركم بان تستعدوا لمقابلة جيش يمحوكم من‬

‫الوجود فتصبحوا بعدها خبرا بعد عين كأن لم تغنوا فيها ‪..‬‬

‫قام السلطان الشاب وقد بدا الغضب الشديد الممزوج برعب حقيقي يعرفه من يعرف الرجال ‪:‬‬

‫‪ -‬أتأتون الى مجلسي لتهددوني ‪ ..‬أال تعرفون كيف تخاطب الملوك؟ ثم التفت الى الجلوس من قومه‬

‫لقد تطاول هذا الوفد المرسل و تعدى حدود األدب و ألجعلنه عبرة للوفود أعلمهم كيف يخاطبون‬

‫الملوك و السالطين‬

‫لم يخفف "حاكم" من لهجته‪:.‬‬

‫‪ -‬ال أظنك تبقى حتى تهنأ بما تريد فالجيش الجرار على مقربة من حدودك ولو أنني كنت مكانك ألمرت‬

‫النساء و الولدان و الشيوخ و كل من ال يقوى على القتال بالخروج من المدينة حتى يأمنوا على‬

‫أنفسهم فالملوك إذا دخلوا قرية استباحوها ‪ ...‬أما أنت فال حامي لك غير قوائم فرسك إن أسرعت‬

‫الهرب‪...‬‬

‫ضحك السلطان ساخرا و ناظرا الى من بالمجلس علهم يسعفونه‬

‫‪112‬‬
‫‪ -‬أال يجيبه أحد قبل أن أجعلهم طعاما للطير و الوحوش‬

‫قام أحد الشيخين الناصحين ووفد حاكم ينظر إليه‪:‬‬

‫‪ -‬أرى يا موالي أن نجلس إليهم و نحسن وفادتهم فإن الرسل ال يقتلون و لربما نكفي البالد شر حرب ال‬

‫تبقي و ال تذر إن تراضينا على ما يصلح األمر و الحكم ربيب الحكمة فإن أبوا فالسيف أولى برقابهم‬

‫سع فتقها‪..‬‬
‫و الحكمة تقول عندها إن غلبك رتقها و ِ ّ‬

‫نظر حاكم الى رفقته فهم يسيرون الى ما خططوا الوصول إليه بخطى وثيقة ‪..‬‬

‫انتهى التفاوض بعد شد و جذب على اآلتي‪ :‬أن يرسل السلطان و فدا الى الفاشر يحمل هدايا و يعلن‬

‫اعتذاره طالبا السماح بتحديد موعد يأتي فيه سلطان المسبعات ملك "األبيض""هاشم" ليعتذر بنفسه على‬

‫هذه الغلطة الكبيرة ‪ ..‬فك األسير التونسي الغريب و اإلعتذار إليه و إرجاع حصانه له بما حمل ‪..‬التعهد‬

‫بعدم تكرار ذلك بل أن تكون العالقة مستقبال عالقة تعاون بناء يحمي كل من الملكين ظهر اآلخر ‪...‬‬

‫و قبل أن يقوم الوفد من مجلسه أرسل فجيء باألسير التونسي و قد فك وثاقه و أعيدت له مالبسه و‬

‫أغراضه ففرح الجميع بما تم تحقيقه من خالصات تفاوض سيؤدي الى خير المنطقة كلها‪..‬‬

‫ثم أمر السلطان بإعداد مأدبة عشاء دعاهم إليها أجمعين فاستأذن الوفد باإلنصراف الى حين وقت العشاء‬

‫ليلبوا دعوته وقد تصافحوا و تصافوا و أعلن كل منهم والءه لآلخر و أن وفد سلطان الفاشر بقيادة‬

‫الشرتاي "حاكم" سيتحرك صباحا الى الفاشر ليقوم بالشفاعة للسلطان المعتذر لدى السلطان القوي مهيأ له‬

‫لقبول اإلعتذار و الصلح‪..‬‬

‫فلما خال حاكم بالوفد قام الى صهره و عانقه طالبا منه السماح و الصفح على تقصيره و تفريطه في حقه ‪,‬‬

‫ثم تشاور في األمر كله مع بقية وفده و "مهران" بينهم و كان مدار الحوار على قسمين األول هو هل‬

‫‪113‬‬
‫سيستقيم "هاشم" على عهده أم أن هذه هدنة يستجمع فيها قواه ثم يعود الى مهاجمة بالدهم كما عرف عنه‬

‫من مراوغة و غدر ‪ ,‬فتكون شفاعتهم له عليهم ال لهم عند سلطان الفاشر ‪ ,‬أما األمر الثاني هو هل يلبون‬

‫دعوة السلطان للعشاء أم يستغلوا هذه الفرصة بالهرب قبل أن يرجع عن رأيه وهو أمر جائز ال ريب إن‬

‫استجد أي طارئ‪...‬‬

‫و لما خال السلطان بأهل شورته بعد خروج وفد "حاكم" أصاب الجميع فرح و حبور و اعتبروا أن هذا‬

‫فتحا من هللا و نصرا دون قتال هيأه هللا لهم ‪ ,‬إال الرجلين األولين صاحبي الرأي الصريح غير المداهن‬

‫للسلطان‪ ,‬فقد قاال أن هذا الوفد ال عالقة له بالسلطان بل هو وفد جاء ليستنقذ األسير الغريب و قد استدلوا‬

‫بسرعة استجابتهم للعرض المقدم و أنه ال صالحية لهم للتفاوض معهم فكيف فوضوا أنفسهم للقيام بهذه‬

‫المهمة من غير إذن ‪ ,‬و ذكرا كثيرا من األدلة ظهرت في سقط الكالم أثناء النقاش و التفاوض‪ ..‬فقال لهم‬

‫السلطان "هاشم"‪:‬‬

‫سيظهر هذا جليا و يتضح في مأدبة العشاء‪..‬‬ ‫‪-‬‬

‫فقال أحد الرجلين‪:‬‬

‫ال أظن أنهم سيحضرون الى العشاء فإن حضروا فالرأي هو أسرهم و اإلستفادة منهم في التفاوض مع سلطان‬

‫الفاشر فإن اتضحت عالقتهم به نفعوا في التفاوض و إن لم تتضح عالقة بينة به قتلوا قبل أن يقتل التونسي ‪..‬‬

‫قال الرجل الثاني‪:‬‬

‫‪ -‬بل الرأي عندي أن نلحق به م و نحضرهم اآلن قبل العشاء و نستبين من أمرهم فالحزم عند العزم‬

‫أولى بألي الحكم‪...‬‬

‫و بينما الجميع في تشاور و انهماك جاد دخل عليه حرسه ليهمس إليه بأن بالباب مرسل من ملك دولة‬

‫"الفونج" القوي يستأذن في الدخول إليه‪...‬ضحك السلطان النزق كما لم يضحك من قبل ‪ ،‬ضحكة أثارت‬

‫‪114‬‬
‫سعادة الحضور إال الرجلين الذين تكلما قبل دخول الحارس ؛ خرج السلطان من مجلسه ليجد الرسول‬

‫يركب حصانا و يقود حصانا آخر ال يوجد فوقه شيء غير حربة و سيفين و درقة مربوطات على ظهره‬

‫موجهات الى جهة األمام كناية على موافقة سلطان سنار أن يخوض معه حربه ضد سلطان الفاشر‪..‬‬

‫صمم الفتيان المرشحون لمنصب الكجور و الذي ربما يضيع عليهم إن تدخل ذلك الكائن األعرج الغريب‬

‫المسمى "مورونو ماباتا" ‪ ،‬و الذي ال يجدون عنتا في التعامل مع بني جنسه من السباع فهي كثيرة منتشرة و‬

‫شديدة الشراسة ‪ ،‬و لكنهم رغم ذلك كانوا يقدرون عليها و لم تكن تشكل هما كبيرا ‪ ،‬و رغم الصورة التي‬

‫وصلت إليهم من المرويات التي تنتقل عبر القبائل األفريقية بزيادات تضخمها و تضفي عليها طابعا يالئم‬

‫عقلية كل منطقة و معتقدها و طبيعتها ‪ ،‬بيد أن كل هذا وصلهم و لم يزدهم غير تصميم على إنجاز مهمتهم‬

‫التي تواثقوا عليها بطرده أو قتله و إنهاء أسطورته الى األبد ‪ ،‬رغم أن قلوبهم كانت شديدة األيمان بقدراته‬

‫التي تفوق الوصف و التي عبرت آذانهم الى عقولهم و قلوبهم‪..‬‬

‫بعد أن أطمأن موفد ملك الماساي إلى حسن ترتيب استقبال الوحوش بحيث ال يتجرأ عليها بنو البشر و ال‬

‫تتجرأ عليهم ‪ ،‬إال فيما تعورف عليه من التعامل بين السباع و البشر من تبادل منافع ال يتجاوز حدوده إلى‬

‫استهداف منظم يرجح كفة العداء على كفة التعاون المثمر ‪ ،‬فإن نزوات البشر غير المنضبطة الناتجة من‬

‫عاطفته أو طمعه أو خوفه أو فكره أو طيشه لجديرة بالتحسب لها لدى كتابة الوثائق و إبرام العهود ‪ ،‬هكذا‬

‫أوصى الملك الحكيم موفده أن يتحوط في اتفاقه مع أهل المناطق البعيدة عنه التي خالفت أعرافها أعرافه و‬

‫دياناتها ديانته رغم اتحادها كلها في توحيد اإلله و تعديد الزوجات و اختالفها فيما بين ذلك‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫لكن األسد األعرج لم يعارض الفكرة مطلقا بل تحمس لها حماسا كبيرا خصوصا أنها تقربه الى موطنه‬

‫األصلي الذي بعثت ساللته فيه ‪ ،‬و لذلك لم ينتظر الموفد المرسل أن يعود قبل أن تنتشر ذريته شرقا سابقة له‬

‫مهيئة لمقدمه‪..‬‬

‫المواجهة الشرسة التي دارت بين األسد و فصيلته التي قدمت معه بل وسبقته و شباب قرى بحيرات النيل‬

‫العظمى كانت مثار استغراب اللجنة الكجورية التي قامت بمهمتها خير قيام في تجرد و نزاهة تامة شهد لها‬

‫بها كل أهل القرى المعنية بهذا األمر ‪ ،‬فلقد وضعوا شروطهم و لوائحهم التي يحتكمون إليها منذ بداية توليهم‬

‫مهامهم و نشروها بين القرى و البيوت في األسواق و مناطق الزراعة و الصيد و المشارب حيث يسهل‬

‫الوصول الى المياه و المشافي و الطرقات ‪ ،‬و قد كانت تحفهم حاسة إيمانية عميقة بخطورة ما يقومون به و‬

‫أنهم أمام اختبار غيبي كبير ‪ ،‬ثم إنهم من بعد ذلك كانوا يطلعون أهل القرى بكل جديد و مستجد فإذا ما اقتضى‬

‫ا ألمر تغيير بند في الخطة أذاعوا به بين الناس ال ألخذ الرأي و لكن للتنوير و العلم ‪ ،‬فإن أمر الكجورية ال‬

‫يخضع للمشورة و ال لرأي الناس بل للقوى الخفية التي تسير األمر وفق قانونها الذي تعرفه و ال يعرفه أحد‬

‫سواها ‪ ،‬فإنه حتى تلك البنود المستجدة ال تنفك أن تكون لقيت القبول عندها و إال لما انبثقت في ذهن عضو‬

‫لجنة و لما لقيت التأييد و المباركة من أعضاء اللجنة الباقين ‪ ،‬فإنها أي القوى الخفية تعمل على أن تنقدح‬

‫شرارة القبول سريعا في نفوس أعضاء اللجنة فيقرون بها و يعملون على تحقيقها ‪ ،‬كذلك كان األمر بالنسبة‬

‫لفكرة االستع انة بتجارب اآلخرين و كذلك صار الى أن يتفجر الحماس لفكرة أإلستعانة بتجربة الماساي و‬

‫ملكهم ‪ ،‬فكل شيء مقدر مسطر يمشي وفق إرادة قادرة تعرف ما تريد كما تؤمن المنطقة كلها بهذا ‪ ،‬و لذلك‬

‫كان تكتل الشباب ضد هذه الفكرة مثار استغراب اللجنة التي عهدت الى القوى الغيبية القادرة بما وجدته من‬

‫مباركتها لكل الخطوات السابقة التي مرت في يسر و سالم ‪ ،‬عهدت إليها أمر تغيير نفوس هؤالء الشباب لكن‬

‫األمر كان يسير في عكس هذا اإلتجاه بل في تصاعد شديد عبر الحمالت الكبيرة ضد هذه األسود ‪ ،‬ثم تصاعد‬

‫األمر الى أن أعضاء اللجنة أنفسهم أصبحوا في محط تهديد الشباب و تخويفهم ‪ ،‬و انقسم عامة الناس هنالك‬

‫‪116‬‬
‫الى قسمين غير متساويين قسم يؤيد اللجنة و فكرها و أعمالها و يباركه ‪ ،‬وهو القسم الكبير الغالب و الذي‬

‫أخذ حكماؤه على قلتهم يتحركون حركة إيجابية في تثبيت الناس على ما توارثوه منذ القدم من آبائهم و‬

‫أجدادهم يحاولون الجلوس مع هؤالء المتمردين على سلطان عقيدتهم ‪ ،‬و قسم أيد الشباب و ناصرهم في‬

‫فكرهم الجديد تحركهم دوافع شتى مختلفة أغلبها شخصي و قليل منها فكري و إن تزيا الشخصي بثياب‬

‫الفكري ‪ ،‬وهم قسم قليل ضعيفي الفكر قليلي الحيلة يلجم الحياء لسان أحدهم إذا ما برز لنقاش أو إبداء رأي ‪،‬‬

‫لكن الناشطون منهم كثيروا الحركة كثيروا الكالم جريئون يطرحون رؤاهم في أي مكان بال خوف وال وجل‬

‫وهم القليل األقل‪...‬‬

‫لم يكن الشباب الثائر يجرؤ بادئ األمر على صيد هذه األسود أو التعرض لها باألذى وال على مطاردتها فإن‬

‫أثر األيمان ما زال قويا يعتمل في النفوس ‪ ،‬فلربما تغضب القوى الكجورية غضبة تصيب فاعل ذلك األمر‬

‫باللعنة التي ستالزمه مدى عمره و تالزم أسرته من بعده الى أبد اآلبدين ‪ ،‬الى أن انبعث أحد متهوريهم فصاد‬

‫أحد هذه األسود قاصدا و مدعيا الخطأ في نفس الوقت ‪ ،‬فانتظر الناس أن تصيبه لعنة تفقٌا عينيه أو تقطع لسانه‬

‫أو تصيبه بمرض عضال أو بموت زؤام ‪ ،‬هو أو أحد من آل بيته لكن شيئا من هذا لم يحدث ‪ ،‬فزاد هذا األمر‬

‫جرأتهم أكثر فصاروا يتحرشون بها دون أن يؤذوها أذى مباشرا ‪ ،‬يقطعون عنها ميرتها التي أعدها لها أهل‬

‫القرى دون بقية األسود و الحيوانات فيأتون بليل يسرقونها و يبعدونها عن مكان إلقائها المتفق عليه أو‬

‫يطردونها عن صيد اصطادته فيأخذونه عنوة من أمامها ‪ ،‬ثم ازداد األمر إذ بلغت جرأتهم أن أوقدوا النار في‬

‫مرابضها يريدون تخويفها لترحل لكن النار سرعان ما انطفأت و كانت هذه بمثابة رسالة واضحة لألسود‬

‫الضيوف بأن هنالك من يعارض وجودهم بينهم‪..‬‬

‫و األخبار تبلغ اللجنة تترى عن هذا الفجورالذي قام به بعض الشباب فيعمدون الى آبائهم يحذرونهم أو الى‬

‫شيوخ قراهم يأمرونهم بضبط أبنائهم حتى ال تصيب المنطقة لعنة ال تصيب الذين ظلموا خاصة ‪ ،‬الى أن جاء‬

‫مبعوث من األسد الى اللجنة في يوم انعقادها ينذرهم بطائلة عقاب لن يقدروا عليها خالل أيام ثالثة إن استمر‬

‫‪117‬‬
‫األمر على ما هو عليه ‪ ...‬و صادف أن هبت رياح شمالية كبيرة في أول األيام قبل موعد اإلنذار ‪ ،‬لم تؤذ‬

‫أحدا غير أنها كانت رياحا عاتية حركت األشجار و مياه البحيرات و غطت الجو بغبار غريب استمر يومين‬

‫كاملين ‪ ,‬فانتشر خبر اإلنذار انتشار النار في الهشيم فخاف الناس خوفا عظيما و ألقوا باللوم على أبنائهم ‪...‬‬

‫لكن الشاب الذي تهور أول األمر قال لهم إن هذه مصادفة ليس لها عالقة باإلنذار المزعوم و ليثبت لهم ذلك‬

‫أخذ شعلة من النار و ذهب بها الى قرب مرابض األسود شمال قريتهم و أشعل النار هناك و حمل شراكه و‬

‫سالحه هو و مجموعة معه ليقوم بصيد أحد هذه األسود و الرياح لم تفتر عزيمتها بعد‪...‬فانطلقت النار تتغذى‬

‫على العشب و الهواء الذي تحركه الرياح الشمالية و أخذت تتقدم باتجاه القرى الواقعة جنوب مرابض السود ‪,‬‬

‫و تنفث سمومها كأنها أنفاس (سخمت)*‪ ،‬و كان األمر قبل انطفاء ضوء الشمس عند المغيب بقليل ‪ .‬رأى‬

‫الناس الدخان الكثيف ثم لما جن الليل ظهر ضوء النيران المتزايد الذي يقترب رويدا رويدا ‪ ،‬فاعتقد الناس أن‬

‫العقاب الموعود قد تهيأت له الظروف و أنه واقع بهم ال محالة ‪ ،‬و بدأت توسالتهم للجنتهم بالتحرك السريع‬

‫ألقناع األسود بكف النيران عنهم و تقديم االعتذار باسمهم ‪ ،‬و طالبوا الشباب الذين ظهرت عالمات االنهيار‬

‫و الصغار عليهم بالذهاب و اقناع األسود وتقديم القرابين عسى أن يكف ذلك بأس الغضبة الكجورية التي ال‬

‫شك أنها ستطال كل بيت في القرية بال استثناء ‪ ،‬و في الجهة األخرى كانت هذه النار كبيرة للدرجة التي لم تر‬

‫مثلها حيوانات الغابة من قبل ‪ ،‬و كان انتشارها بسرعة كبيرة جنوبا و غربا و شرقا و بطيئا الى جهة الشمال‬

‫و لكنها كانت تنتشر الى الشمال كذلك ‪ ،‬فأصاب الرعب الحيوانات و الطيور جميعا ‪ ،‬و ألنها ال تملك غير‬

‫غريزتها و حدسها فقد آثرت الهرب شماال و بسرعة كبيرة حتى و إن صادف طريقها قرية بشرية فإنها لم‬

‫تكن تتردد في اقتحامها اقتحام عبور كما كان سابقا ‪ ،‬لكن الخطرهذه المرة قد وصل الى مراحل التعقل فيها‬

‫يكون بعدم التعقل ‪ ،‬فأصبح الناس الذين أيضا أصابهم الهلع من هذه النار العظيمة يرونها تمر بالقرب منهم‬

‫هاربة فال يمنعونها وهي بالمقابل ال تصل اليهم ‪ ،‬و ببساطة شديدة لقد كان الخوف عظيما ‪ ،‬لكن الحيوان‬

‫الوحيد الذي ثبت و لم يتزحزح هو األسد الضيف بينما األسود أسياد الديار ولت هاربة في منظر ال يليق بأسد‬

‫‪118‬‬
‫يتزعم منطقة البحيرات بأكملها ‪ ،‬لكن هذا لم يمنع أن يتزحزح قليال الى الوراء إزاء هذه النار العاتية كلما‬

‫تقاربت منه و أهله الذين معه‪.‬‬

‫"سخمت" اإلالهة عند قدماء المصريين بنت اإلاله بتاح و هي نفسها اإلالهة إيزيس عندهم و عند قدماء األفارقة حامية تنفث النار في‬ ‫‪‬‬
‫"أنفاس سخمت"‬ ‫وجوه األعداء و يقال للسموم الشديد‬

‫و جاء موفد الماساي الذي رافق األسد في رحلته الى أعالي النيل يستجدي الساحر المترجم ليحدث األسود‬

‫باعتذار الشباب و طلبهم العفو و المغفرة و ندمهم الشديد على ما اقترفه أشقاهم ‪ ،‬الذي هو كذلك أبدى ندما‬

‫شديدا بعد أن قام أهل القرى بطرده من قراهم التي سيدمرها بتهوره و خروجه على مألوفهم ‪.‬‬

‫قال الساحر إن األسود رفضت اإلعتذار و أن األمر قد خرج عن سيطرتها و سيطرة األسبار الى سيطرة‬

‫عليا تدير الكون و لكن عليهم االنتظار و التضرع الى خالق الكون صاحب القوة األعظم ‪ ،‬فلما رجع الموفد‬

‫الى اللجنة أرسلت معه ذلك الشاب الذي قام بإثارة الحرائق و تحريض أقرانه على الخروج على األعراف و‬

‫التمرد على القوى الخفية القاهرة مقيدا متبرأ منه ‪ ،‬ليكون تحت رحمة األسد يفعل به ما يشاء عله يكف عنهم‬

‫هذا البالء الذي بدأ في حرق البيوت و تشريد األسر و هروب الحيوانات المستأنسة أو نفوقها تحت و طأة‬

‫حرارة النيران العاتية ‪ ،‬فلما رآه األسد األعرج "مورونا ماتابا" زمجر زمجرة عظيمة و ثار و بدا عليه‬

‫غضب عجيب أخاف حتى حاشيته من بني جنسه عوضا عن اآلدميين الذين لم يجدوا بدا من الهرب و‬

‫اإلختفاء خلف شجرة ربما تقيهم من غضبته ‪ ،‬ومنهم من أسلم أمره الى رجليه تذهبان به حيث أرادا ‪ ،‬إال الولد‬

‫المربوط من يديه و رجليه جثا مرتعبا خائفا يتصبب العرق من جميع جسمه ‪ ،‬ثم اقترب األسد من الشاب‬

‫المقيد و ضربه بيده على وجهه ضربة شديدة سلخت جلد وجهه كله من جهته اليمنى التي ضربه عليها بل و‬

‫‪119‬‬
‫مزعت بعض اللحم منه ‪ ،‬ثم تالها بضربة أخرى على جهته اليسرى ففعلت مثلما فعلت في الجهة اليمنى و‬

‫ألقت بالشاب المقيد اليدين أرضا ثم زأر األسد و زمجر بعدها طويال ثم جرى بعيدا و هو يعوي غاضبا ‪ ،‬و‬

‫النار البعيدة آخذة في اإلقتراب و الرياح الشديدة لم ترخ هجمتها ‪ ،‬ثم أقبل جاريا بسرعة انقضاضه على‬

‫فريسة هاربة و قفز فوق ظهر الشاب ‪ ،‬و زأر مرة أخرى و اقترب بفمه من ظهره مكشرا عن أنيابه هاما‬

‫بعضه ‪ ،‬إال أنه توقف فجأة ‪ ...‬و كما هبت الرياح فجأة و بدون سابق مقدمات ‪ ،‬فإنها صمتت فجأة كذلك إثر‬

‫احتدام السماء بسحاب كثيف أسود مأل االفق كله حتى اسودت و انقلب النهار الى ليل حالك السواد تضيؤه‬

‫النار التي يجعلها سكون الرياح هادئة بريئة و هي تلتهم كل شيئ تجده أمامها ‪ ،‬كما يضيؤه وهج الصواعق‬

‫المتقطع الذي تزايدت و تيرته حتى ليكاد أن يكون متصال يتفوق ضوؤه على ضوء النار لوال أنه أبرد منها ‪،‬‬

‫و تدفق المطر كأنه بحر في السماء انهار سده فتدفق ماؤه تدفقا عظيما ‪ ،‬خمدت على إثره النار و انطفأت‬

‫جذوتها و تحولت الساحة التي كانت تضج بأصوات الحطب المحترق و تطاير الشرار و طقطقات األخشاب و‬

‫السافنا وصوت بعض الحيوانات التي لم تعنها سرعتها على الهرب ‪ ،‬الى بحر قاعه األرض وسطحه السماء‬

‫الذي ينبجس منها ‪ ،‬تحركت األرض تحمل الماء و بقايا األخشاب التي تساقطت خالل العام و التي تآكلت‬

‫بفعل الحريق الشديد و جثث الحيوانات التي احترقت من بغتة هجوم النار أو تلك التي صادها سبع لم يشبع‬

‫نهمته منها و تركها خوفا من اللهب الذي زادت سطوته و تراب األرض الغني و كثيرا من األعشاب تحملها‬

‫الى المنحدرات و مجاري السيول ‪ ،‬استمر هطول األمطار قرابة اليوم الكامل بوتيرة واحدة لم تهدأ و ال‬

‫للحظة خاطفة ‪ ،‬ثم هبت ريح من بعد ذلك قوية قل بعدها وقع المطر ليتحول الى بر ٍد ذي أحجام مختلفة‬

‫رجمت به السماء الغابة على طول امتدادها رجما استمر لساعات ثم تحول الى مطر أخرى أقل شدة من التي‬

‫سبقتها ثم بدأت تقل شدتها تدريجيا الى أن توقفت‪.‬‬

‫شهد هذه اللحظات لحظة انفالق السماء بالماء المنهمر مع األسود أربعة أشخاص ال خامس لهم موفد الماساي‬

‫و الساحر المترجم و موفد اللجنة و قد تجمعوا بعد فرارهم يكسوا وجوههم الرعب و الصغار و الشاب الذي‬

‫‪120‬‬
‫جيء به وهو مقيد ذليل ‪ ..‬فلما انهمرت السماء فرحوا بها أيما فرح عدا ذلك المقيد المصفوع من األسد و الذي‬

‫علته مياه السيول و مضت تجرفه و تتقاذفه بين منعرجات األودية و األشجار المعترضة ‪ ،‬و البقية بأسودهم و‬

‫أنسهم ينظرون إليه وهو مقيد يتقلب من شدة جريا ن الماء ال يقوى على تخليص نفسه من قيده و ال الوقوف‬

‫ليجد مهربا أو مدخال يختبأ تحته أو يلجأ إليه ‪ ...‬و تجمعت المياه من جميع أنحاء الغابة في سيل كبير يجري‬

‫لم يقو على‬ ‫منحدرا بقوة كبيرة يحمل على ما يحمل من شجر و حجر و حيوان جسم ذلك الشاب الذي‬

‫مقاومة سرعة الرياح و تدفق و جريان المياه المنحدرة فوقع على األرض منكفيا على وجهه وأخذ يتدحرج‬

‫تحمله المياه الجارية و تتقاذفه وبدت الجروح التي غطت وجهه و ذهبت بلحم جسمه حتى بدا عظم مفاصله‬

‫بعد أن انسلخ عنها اللحم تنزف حتى ارتطم رأسه بعود شجرة ضخم فقد بعده الوعي و أخذ يغوص في الماء‬

‫المتحرك تارة و يطفو تارة أخرى و الموت حينها شمر عن ساعديه لقبض روحه‪..‬‬

‫حمحم األسد األعرج و زأر زأرة كبيرة ثم جرى كما فعل سابقا قافزا بين األشجار المتدحرجة بفعل أثر‬

‫الماء الجاري ثم رجع و زأر مرة أخرى و المطر الشديد ما زال على حاله يثج الماء ثجا صاح بعدها الساحر‬

‫وهو يجري وراءه ‪:‬‬

‫‪ -‬إن األسد يقول لندرك الشاب الذي جرفته السيول هكذا يقول األسد‪...‬‬

‫ثم زأر األسد بعدها مرة أخرى وجرى خلف جسد الشاب المتدحرج على السيل وقد اختفى من األنظار‬

‫فجروا و راءه كلهم ‪ ....‬فقال الساحر المترجم وهو يجري الهثا ‪ :‬لعله كجوركم المرتقب فالحقوا به إن كنتم ما‬

‫زلتم تسعون الى كجور لمنطقتكم‪ ..‬و لتبتهلوا أن تجدوه حيا‪....‬‬

‫كان لهروب قائد الشرطة بالبنت أ ُثر كبير على المدينة فقد انتشر خبر يفيد بهروبه بالبنت الى الخرطوم‬

‫هو والطبيب انتشار النار في الهشيم و بدأت اإلشاعات تتكاثر فالمدينة هذه األيام ال حديث لها غير البنت‬

‫‪121‬‬
‫الجميلة المسجونه و مرضها ‪ ,‬فقد عاد الجندي الذي كان يسوق للقائد عربته و أبلغ أن القائد طلب منه أن يعود‬

‫و أنه هو من سيتولى القيادة ‪ ،‬و لم يكن القائد يفعل ذلك أبدا من قبل فقد كان سائقه هو من يتولى أمر عربته‬

‫بالكامل ‪ ،‬فلما عاد و أخبر نائب القائد بأن القائد طلب منه أن ينزل من قيادة العربة و أنه هو من سيتولى‬

‫قيادتها ‪ ،‬لم يدر في خلد النائب أن يكون قائده قد قرر أن يذهب بها إلى الخرطوم ‪ ،‬رغما عن استغرابه من‬

‫بعض تصرفاته في الفترة األخيرة ‪ ،‬فقد أخذ منه الختم الذي كان يحتفظ به و طلب اآللة الكاتبة من مكتب‬

‫الباشكاتب و وضعها أمامه في طاولته و أخذ يكتب عليها بنفسه ‪ ,‬ثم إنه أمر بأن يحضر وقود إضافي في‬

‫برميل و أمر برفعه الى العربة و أن يمأل خزانها‪...‬رغم ذلك لم يتبادر الى ذهن نائبه نيته بأخذها الى‬

‫الخرطوم مخالفا اللوائح و القوانين و معرضا نفسه للخطر بهذه الطريقة التي ليس لها تعريف لديهم سوى أنها‬

‫عملية اختطاف منظمة ‪ ،‬فلما طال انتظاره و لم يحضر القائد في نفس اليوم أرسل الى السجن يستفسر عن‬

‫وصول القائد إليهم فلما أخبروه أنه لم يحضر ال هو و ال السجينة ‪ ،‬أرسل الى بيته مستفسرا عنه فأخبروه أنه‬

‫منذ أن خرج صباحا لم يعد الى البيت ‪ ،‬هنا بدأ الشك يتسرب إلى النائب رغم أن الجنود الصغار كانوا‬

‫يتداولون فيما بينهم حديث هروب قائدهم بالبنت الى الخرطوم من غير بينة كبيرة تؤكد ‪ ،‬اللهم إال ما الحظوه‬

‫من حزن في وجه قائدهم لم يالحظوه عليه م نذ أن رافقوه في مهنتهم الذي هو قائدها ‪ ،‬وما جاءهم من فعلة‬

‫فعلها لم يفعلها من قبل مع سائق عربته ‪ ،‬و البنت المريضة معه و الطبيب في العربة ‪ ،‬حينها قام النائب‬

‫باستدعاء السائق الجندي الذي أكد له حقيقة أن القائد قد أنزله من العربة و قام بقيادتها بنفسه ‪ ،‬و أنه سمعه‬

‫يسأل الطبيب عن حال البنت إن كان يسمح بأن تذهب الى الخرطوم أم ال ‪ ،‬و أن الطبيب أجابه أنها إذا لم‬

‫تصل الى الخرطوم خالل يومين فلربما يعرضها هذا الى خطر حقيقي ‪ ،‬و أكد له الطبيب أن ذهابها الى‬

‫السجن بهذه الحالة معناه كتابة شهادة وفاة رسمية لها ليس إال‪ ،‬هنا أمر نائب قائد الشرطة السائق الجندي‬

‫بلزوم الصمت و أن ال يفصح عن هذا الى أحد ريثما يتأكد من هذا الخبر ‪ ،‬و نفى له أن يكون القائد قد فعل‬

‫‪122‬‬
‫هذا فربما ذهب بها الى المشفى مرة أخرى ‪ ،‬أو الى بيت الطبيب أو الى القاضي األعلى ليستخرج إذن عالج‬

‫أو شيء من هذا القبيل‪ ،‬و لكن القائد أعقل و أعرف بكل هذه األمور منهم جميعا ‪...‬‬

‫‪ -‬وأيا كان فعله فهوالفعل األصح ‪...‬‬

‫قال هذه الجملة بصوت أقرب الى النهر و الصوت العالي منه الى الوعظ ‪ ...‬لكن هذا لم يمنع المدينة من‬

‫الحديث فمنذ أن أمر القائد بأن تؤخذ البنت الى بيته تكلم الناس أن هذا القائد لن يسمح بدخولها السجن ولو كلفه‬

‫هذا منصبه ووظيفته و كلهم يقول لو كنت مكانه لفعلت مثل ما فعل و صار كل واحد منهم يتحدث عن ما‬

‫يخاله يرتسم في وجهه من تعابير الحب لهذا المالك الذي قدر هللا أن يكون في قبضته ‪ ،‬فمنهم من حكى‬

‫متخيال ‪ ،‬و منهم من حكى عن موقف شاهده بأم عينه في لقاء به في مكان ما من أمكنة الدنيا التي تجمع الناس‬

‫عادة كمناسبة فرح أو عزاء أو صالة أو غير ذلك ‪ ،‬و كان أكثرهم تأكيدا لخبر هروبه بها الى الخرطوم‬

‫"حاج عبد الجليل" تاجر المواشي الذي اشترى كل ما أهدته المدينة له تضامنا مع الصغيرة من خراف و‬

‫شياه و تيوس ‪ ،‬فقد روى أنه أدار حوارا معه وهو يسلمه المبلغ الذي يساوي قيمة ما اشتراه منه فقد قال له ‪:‬‬

‫أنه سيستخدمه في عالجها في الخرطوم ‪ ،‬و قال أنه حينما سأله هل تنوي الذهاب بها الى الخرطوم فإن القائد‬

‫تلجلج قليال ثم قال كل شيء وارد في هذه الدنيا ‪ ،‬ربما تذهب بها إدارة السجن لكن بالضرورة أنها ستحتاج‬

‫الى مال لكي تتدبر به أمر العالج ‪..‬‬

‫و أصر "حاج عبد الجليل" و هو الخبير بالرجال أن قلب القائد ليس هو قلبه الذي يعرفه ‪ ،‬و أن وجهه تعلوه‬

‫سيماء حزن لو وزع على المنطقة كلها لكفاها ‪ ،‬و أن هذه البنت قد ذهبت بقلبه الى حيث تذهب النساء بقلوب‬

‫الرجال ‪ ،‬وأنها قد اتخذت مكانا قصيا هناك يصعب الوصول اليه و من ثم العودة منه‪.‬‬

‫و سرعان ما بلغ األمر حاكم اإلقليم األوسط كله الذي كان يتابع أمر هذه البنت عن كثب ‪ ،‬والذي قام‬

‫بزيارتها مرتين من قبل مرة عند القائد في بيته شاكرا له على مروؤته و حاضا له على االهتمام بها و‬

‫‪123‬‬
‫الحرص عليها لئال تهرب ‪ ،‬و مرة بعد أن لزمت السرير األبيض في المستشفى ‪ ،‬فهو من أمر بفتح البالغ‬

‫ضدها ‪ ،‬فقد أحس بأن هذه البنت تشكل حجر العثرة األساسي الذي يقف ضد سياساته في تطوير هذه المنطقة‬

‫و الحفاظ على ح يواناتها بما استطاعت أن تخلقه من تحريض و روح تحدي لقراراته ‪ ،‬و أن األشعار التي‬

‫كانت تمثل اإلعالن السياسي و الثقافي األول في المنطقة كلها كانت تتحدث عن أن سطوة جمالها و جبروته‬

‫أكبر من سطوة قرار الحاكم في "األبيض" ‪ ،‬و أنها هي الحاكم الفعلي للقلوب الذي يجب أن يطاع و ال أحد‬

‫يشبهونها بأسد قديم في التاريخ شرس تروى عنه األحاجي و‬ ‫غيرها‪ ..‬و أنها أسد القلوب الفاتك "صولنج" ‪،‬‬

‫القصص سمته البادية قديما " سليمان صولنج" تشبيها له بالسلطان "سليمان صولنج" الذي وحد الفور و‬

‫العرب و أقام مملكة ال يزال التاريخ يتحدث عنها ‪ ،‬فصار لقب "صولنج "يعني "األسد" في هذه األيام يقولونه‬

‫و ال يدرون نسبته و مرجعيته ‪ ،‬فأطلق الشعراء و الناس عموما عليها أي على "سعدية "لقب "صولنج"‬

‫وذلك قبل أن تحضر حبيسة من باديتها ‪ ،‬مما أثار حفيظة "الحاكم" و اعتبره تحديا له ‪ ..‬بل إن الحاكم لم يعتبر‬

‫لحسن النية و الصدفة حكم في أمر هذه البنت ‪ ،‬فهو ليس بالسياسي الساذج الذي تنطلي عليه الحجج ‪ ،‬فإنه البد‬

‫و أن و راء هذه البنت جهة محرضة أو أن البنت نفسها أرادت أن تجعل لها مكانة بين الناس بتحديه و ليس‬

‫ببعيد أن تكون هذه المكانة ترتيبا سياسيا منها يقود الى انشاء حزب مضاد أو حركة مناوئة أو ماشابه ذلك ‪ ،‬و‬

‫لم يقتنع بما روي له عنها من أنها صغيرة السن لم تدخل مدرسة و لم تنل حظا من الممارسة السياسية التي‬

‫تؤهلها ألي تخطيط يدخلها في بؤرة العمل السياسي ‪ ،‬بل البادية كلها ليس فيها أحد يجيد السياسة إن كان ما‬

‫يفعله يسمى إجادة للسياسة غير "أستاذ آدم" ‪ ،‬الرجل الذي ال يخفي والءه للحكومة ‪ ،‬لكن السياسة علمته كما‬

‫يقول أن ال يتعامل بظاهر األمور بل عليه كسياسي أن يبحث عما وراءها ‪ ،‬و لقد جاءته غير ذات بعيد‬

‫وصية سياسية من القيادة في الخرطوم بالحرص واإلهتمام بمنطقة الجبال بالذات خشية أن تنضم الى‬

‫الحركات المتمردة في جنوب السودان ‪ ،‬فالمنطقة على مقربة من الجنوب المتمرد و أن ال يسمح بنشوء مثل‬

‫هذه الحركات فيها‪ ....‬و لذلك تعامل مع إشاعة هروب قائد الشرطة بالبنت تعامال جادا و صارما فأمر‬

‫‪124‬‬
‫باستدعاء قائد المنطقة العسكرية ‪ ،‬و الذي يعتبر تحته "فالحاكم" قائد اللجنة األمنية باألقليم كله ‪ ،‬فلما حضر‬

‫أمره بصيغة حازمة أن يجد هذه البنت و القائد الذي هرب بها في مدة ال تتعدى األربعة و عشرين ساعة‪....‬‬

‫قال "أبو كرنكانت" بعد أن شرب الماء الذي جاء به "الرحيمة" و قد جلس بالقرب من القائد الشرطي ‪:‬‬

‫‪ -‬ما الذي يحصل و يجعل اإلقليم كله ال سيرة له غير الضابط الذي هرب بالبنت‪...‬؟‬

‫ضحك القائد الشرطي ‪:‬‬

‫‪ -‬أانا لم أهرب ببنت و ال ولد ‪ ،‬ال يمكن أن أخرب سمعتي الطويلة الممتازة بفعل شيء من هذا القبيل ‪،‬‬

‫كل ما في األمر أن القرار الذي اتخذته هو قرار من صميم عملي و قد أصدرته وفق الصالحيات‬

‫الممنوحة لي كقائد شرطة ‪ - ،‬ثم أخرج ورقة و أعطاها إياه ‪ -‬وهذا هو أمر التحرك بالذهاب الى‬

‫الخرطوم أصدرته وفق الالئحة المنظمة التي تمنحني هذا الحق‪....‬‬

‫‪ -‬بيننا عمل و رفقة درب طويلة و حقيقة ال أحب ان أؤذي هذه العالقة الممتدة بأي شيء يسيء اليك و‬

‫ال الى تاريخك المجيد في خدمة العمل الشرطي في هذه البالد ‪..‬‬

‫‪ -‬لن أحوجك الى هذا كما لم أحوجك اليه من قبل‪...‬‬

‫‪ -‬لكني أجدني مضطرا الى أن أنفذ تعليمات قائد المنطقة العسكرية الذي أمر بإرجاعك و البنت‬

‫المريضة خالل أربعة و عشرين ساعة ‪ ،‬و الجيش كله مستنفر من أجل هذه القضية بل و الشرطة‬

‫كذلك ‪..‬‬

‫ضحك القائد ضحكة متألم ‪:‬‬

‫‪ -‬هل لم يبق بالبلد شيء تهتم به غير هذه البنت المريضة المسكينة‪...‬‬

‫وقف القائد العسكري ووقف بعده القائد الشرطي ثم تحركا الى الى الباب ثم التفت قائد الجيش الى قائد‬

‫الشرطة‪:‬‬

‫‪125‬‬
‫أنا أطلب منك بصفتي قائدا للجنة أمن هذه المنطقة أن تحضر الى مكتبي و في معيتك هذه البنت‬ ‫‪-‬‬

‫للنظر في كيفية رجوعكم الى " األبيض " تلبية ألوامر قائد المنطقة العسكرية ‪ ..‬و ال بأس في أن‬

‫يكون هذا في الصباح الباكر بعد أن تأخذ قسطا من الراحة ‪..‬‬

‫ثم ولى وجهه نحو الباب و خرج ثم ما لبث أن رجع مرة أخرى ‪:‬‬

‫‪ -‬سأترك مجموعة من الجنود خارج البيت ليساعدوك على اتخاذ القرار الصائب و المجيء الينا اذا‬

‫احتجت اليهم و ثق بأنني سأقول بأنك اتبعت كل اإلجراءات القانونية الالزمة وفق ما هو مسموح لك‬

‫به‪.‬‬

‫تدخل الطبيب هنا ووقف بين القائدين يشرح لهما خطورة وضع البنت الصحي‪:‬‬

‫‪ -‬يا أيها السادة الضباط إن و ضع البنت ال يسمح لها بالعودة الى األبيض و إن أي تأخير في الوصول‬

‫الى الخرطوم عن يوم الغد سيعتبر قتال لها و ال ريب‪.‬‬

‫نظر اليه قائد الشرطة نظرة لم يفهمها و إن كان فهمها القائد العسكري الذي ما لبث أن قال ‪:‬‬

‫‪ -‬هذه تعليمات عليا ال يحق لنا أن نخالفها ‪ ،‬و إن أدى األمر الى موتنا جميعا ال الى موت فرد واحد‪،‬‬

‫سأنتظركم عند الساعة السابعة صباحا في مكتبي و سأرسل للقيادة في األبيض أنك في ضيافتي و أنك‬

‫ستصل إليهم عند عصر اليوم و في معيتك البنت و الطبيب‪.‬‬

‫ثم خرج ملوحا بيده بعد أن القى عليهم سالم مودع يرجو لقاء قريبا‪...‬‬

‫وفي صبيحة نفس اليوم و عند الساعة السابعة و النصف صباحا‪ ،‬هاج "ابو كرنكات" قائد الجيش أيما هياج و‬

‫ثار ثورة عظيمة في وجه "قائد الشرطة" بعد أن حضر األخير بمعية "الطبيب" و الجنود و "الرحيمة"‬

‫صاحب الدار التي استضافتهم و ال بنت معهم و أخذ يصيح ‪:‬‬

‫‪126‬‬
‫‪ -‬كيف لم تجدوا البنت ‪ ...‬اسمع أيها القائد هذا أمر ال ينطلي علي ‪.‬‬

‫ثم التفت الى الجنود و الطبيب صائحا‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا كنتم تفعلون طيلة الليل؟ هل نمتم ؟ ألم أأمركم أن تطوقوا البيت بحراسة مشددة حتى ال يهرب‬

‫واحد منهم ؟‪..‬‬

‫و يمسك بتالبيب الرحيمة‪:‬‬

‫‪ -‬تكلم يا عسكري أين ذهبت البنت كيف خرجت من بيتكم كيف سمحت لها بالخروج ‪ ..‬هل فتشت البيت‬

‫جيدا أين كان نساء بيتك‪...‬‬

‫و كانت ثورة الحاكم في األبيض أكبر لما وصله الخبر عبر برقية أوصل محتواها له قائد المنطقة‬

‫العسكرية بعثها له أبوكرنكات ‪ ,‬و اتضحت الصورة له تماما بعد أن كاد يصدق كالم الناس حول البنت‬

‫الذين زعموا براءتها و تعللوا بصغر سنها و أعجبهم جمالها و جرأتها ‪ ،‬فالبنت ال ريب و أنها ربيبة من‬

‫يضمر شرا أو أمرا مريبا إن أحسن التاويل‪ ،‬فالمظاهر التي تخفي خبايا النفوس ال تغره و ال تلهيه عن‬

‫مكامن الشر في تلك النفوس‪ ...‬ولكن الذي حيره كثيرا هو اتفاق صديقه قائد الشرطة معها‪ ،‬وهو الذي كان‬

‫يعده أنيسا ومستشارا يأنس لرأيه و يستشيره في تدبير أمر الحكم حين تستعصي عليه دروب السياسة ‪,‬‬

‫وهو الذي يحمل سجال حافال باإلنجاز ‪ ،‬وهو من قهر به المجرمين و المخربين و الذين يكيدون له ‪ ،‬بل‬

‫وهو من أشار عليه بإحضارها إلى األبيض و بتر رأس الفتنة قبل أن يكبر هكذا يذكر أنه سمى هذه‬

‫البنت‪ ،‬كيف ينسى كل هذا فجأة و نظير ماذا ؟‪ ..‬هذا و كثير غيره دار في خلد حاكم األقليم األوسط ‪ ،‬و‬

‫بدت له صورة البنت األسطورة التي هزمت الحكومة لوحدها رغم ضعفها و عزلتها‪ ،‬و انتفت أمام‬

‫ناظريه براءتها و جهلها فلقد تجلت له مقدراتها العالية في التمثيل و المراوغة و ادعاء المرض كما تجلت‬

‫مهاراتها في الهروب و االختفاء و هي مهارة لم يصل اليها كبار المجرمين و عتاة اللصوص و القتلة‬

‫‪127‬‬
‫وهي نتاج تدريب البد و أنه متقن و شاق‪ ..‬و جمح خياله الى من اتقن اختيارها لتكون ممثال لثورة وشيكة‬

‫تخرج من الجبال تستهدف أمن المنطقة كلها‪....‬‬

‫و سرعان ما انتشر الخبر في األبيض كلها انتشار النار في الهشيم ‪ ،‬كانت شرارته حامل البرقية الذي‬

‫أوصلها الى قائده و قرأها له على غير العادة ‪ ،‬فالقائد يقرأ رسائل و برقيات قادته المنتشرون على مدى‬

‫األقليم األوسط بنفسه عادة ‪ ،‬و لكن القائد طلب منه أن يقرأها له هذه المرة ظانا أنه خبر مفرح سيسعد‬

‫جميع الحضور ‪ ،‬بعد أن وصله خبر العثور عليهم من "أبوكرنكات" قبيل سويعات قليلة ‪ ،‬فقد ظن أنه‬

‫يخبره بتحركهم الى األبيض ومعه قائد الشرطة و الطبيب والبنت ‪ ،‬وكان في معيته في تلك اللحظة بعض‬

‫الضباط و الجندي المراسلة ‪ ...‬كلهم سمعوا البرقية و رأوا غضب القائد و توتره الذي حاول إخفاءه ‪،‬‬

‫وكلهم نقل الخبر بطريقته الى خاصته و منهم الى البلدة كلها ‪ ،‬التي ابتهجت و فرحت فرحا ملؤه األمل‬

‫على البنت و ما يخبؤه لها القدر و كان أكثرهم فرحا آل حاج الحسين الذين ما زالوا يرابطون قرب‬

‫المشفى و خاصة أمها و أبيها‪.‬‬

‫و أصبح قائد الشرطة في انفالقة حظ بطال شعبيا تروي عنه الروايات في كيفية استماتته في الدفاع عن‬

‫البنت الجميلة ‪ ،‬وكيف أنه أبدع في التخفي و التمويه ‪ ،‬فلما حانت لحظة المواجهة لم يتوان في مقاومة‬

‫الشرطة و الجيش ‪ ،‬و زاد من زاد بقتله لمجموعة منهم ‪ ،‬و أنه لوال خوفه على البنت المريضة أن تصاب‬

‫بأذى ما ألقى سالحه و تم القبض عليه ‪ ،‬و كان أمثلهم حديثا من قال أنه دخل في مفاوضات مع الجيش‬

‫رضي وفقها بأن يعود هو أسيرا مكبال بينما أطلق سراح البنت لتذهب و تتعالج ‪ ،‬و سرحت المخيلة‬

‫الشعرية في تصوير الملحمة البطولية لقائد الشرطة و نسبوا سر هذه القوة و البأس الى جمال البنت الذي‬

‫كلما فتر عزم القائد في المقاومة أمده بطاقة و روح جديدة ‪ ،‬و بعضهم جعل سالح عينيها هو الذي فتك‬

‫بعزيمة الجنود الذين هاجموا البنت و القائد كما تخيلوا ‪ ،‬وسرح بعضهم في قوة هذا الحب الذي جعل القائد‬

‫‪128‬‬
‫يتخلى عن كل شيء من أجل حبيبة كان هوالسبب في كل ما حصل لها ‪ ،‬وانتشرت هذه األشعار انتشار‬

‫وميض البرق ‪ ،‬و كان محصلتها انتصار الجمال على القوة أو الحب على الكره أو البنت على الحكومة‪...‬‬

‫‪12‬‬

‫ما أن وصل الخبر بأن "الباهي" قد تم العثور عليه الى "سوق أهراس" ‪ ،‬حتى عمت السوق فرحة‬

‫عظيمة ‪ ،‬و أخذ الناس و التجار فيه يتبادلون التهاني بتلقائية و فرح عفوي صادق ‪ ،‬و حدثت موجة من‬

‫االبتهاج و أخذ التجار يخرجون ما توفر لديهم من تمر أو فاكهة أو عصائر يتهادونها بينهم تعبيرا عن‬

‫سعادتهم ‪ ،‬فلما جاءت "حمانة" تستوثق من الخبر في فرح غامر يحرسه وقار مفتعل تمليه عليها مكانتها‬

‫في السوق ‪ ،‬قام لها الناس و التجار يستقبلونها بالتهاني و الفرح ‪ ،‬ثم زفوها يغنون و يرقصون الى دكان‬

‫أبيها في وسط السوق الذي أمر بإحضار عجل كبير ليذبحوه ابتهاجا و شكرا هلل الذي من عليهم بعودة‬

‫"الباهي" الصغير المحبوب ‪.‬‬

‫و لم يكن السوق قد اعتاد بعد على حركة الصيادين الكبيرة التي نمت و ازدهرت من بعد هذه الحادثة‬

‫نموا كبيرا ‪ ،‬ربما حبا في المغامرة و الشهرة و الصيت ‪ ،‬و ألن الرواية التي رواها الباهي أظهرت لهم‬

‫‪129‬‬
‫عظمة األرض التي يقطنونها ‪ ،‬و أنها ال تحتاج الى كثير بحث حتى تخرج خيراتها المخبوءة والتي‬

‫تطاول عليها الزمن ال يعرف أحد أماكنها‪ .‬و كان أشد ما أثار انتباه الناس و أكد لهم ما يرويه "الباهي"‬

‫هو ذلك السوار الذي يلبسه في يده زاعما أن مليكة قوم قابلته في رحلة اختفائه هذه أهدته إياه ‪ ،‬هذا‬

‫السوار الشديد اللمعان ‪ ،‬ذهبه ال كالذهب العادي ‪ ،‬تزينه أحجار كريمة ملونة غاية في الجمال ‪ ،‬محفوف‬

‫بإطار من معدن أبيض براق ‪ ،‬و عقد من نفس معادن السوار و أحجاره ‪ ،‬ثقيل الوزن مصقول بعناية‬

‫فائقة ‪ ،‬يرتديه الباهي في عنقه كما ارتدى السوار في معصمه ‪ ،‬لم يخلعهما الى حين زواجه فقد جعله في‬

‫مهر عروسه و من ثم ورثه منها أكبر أبنائه الذي يدعى "مهران" وورثت العقد ابنتها األخرى‪.‬‬

‫هز اختفاء "الباهي" "السوق" هزا عنيفا ‪ ،‬و رغم أن الباهي لم يكن الصياد األول الذي صاده الصيد فاختفى‬

‫على أثره ‪ ،‬فإن ألبيه و أمه و جده ألمه بين التجار مكانة مهدت "للباهي" موقعا في نفوس أهل "سوق‬

‫أهراس" ‪ ،‬لما عهدوه في آبائه و أمه من نفس طيبة و خدمة للسوق و عدل بين مكوناته ‪ ،‬و لما للباهي نفسه‬

‫من دماثة خلق و لطافة طبع و همة في مساعدة اآلخرين خاصة في ما يتعلق بالتفاهم مع األسود و بقية السباع‬

‫‪ ،‬فقد شعر الجميع بفداحة خطب اختفائه ‪ ،‬و لربما كان للحملة التي جردها أبوه للعثور عليه أثر في نفوس أهل‬

‫السوق ‪ ،‬فقد شارك فيها عدد كبير منهم لما كان من حسن تجهيزها ‪ ،‬فقد أعد أبوه عدد مئة فرس بمؤونتها‬

‫التي تكفيها لشهر كامل دون أن تحتاج لشيء ‪ ،‬فمن لم يشارك فيها بنفسه أرسل من ينوب عنه فيها أو ساهم‬

‫بفرس أو مؤونة أو غيرها ‪ ،‬و صارت من بعد هذا اليوم عادة يتبعها السوق كلما حدث حادث مثله ‪ ،‬و لذلك‬

‫كان لعودته فرح في السوق بالغ فكل يعتقد و يؤمن أن له دور في هذه العودة ‪.‬‬

‫لكن الروايات التي رواها لهم عن األحداث التي مرت به و شاهدها لم تكن لتدخل عقال بسهولة ‪ ،‬فإن ما‬

‫روى أنه شاهده في أسبوعه هذا ال تكفيه قرون متطاولة ‪ ،‬ولوال أنه ابن " لخضر" و "حمانة " ومن قبلهم‬

‫الحاج "مختار" لنبذوه أو اتهموه في عقله أو اتخذوا له طبيبا يطببه و بعضهم من اقترح هذا بالفعل ل "‬

‫لخضر" على استحياء ‪ ،‬و لكن ثقة الباهي فيما يرويه و الجروح و الكدمات الحية التي ال يزال بعضها ينزف‬

‫‪130‬‬
‫‪ ،‬يحكي قصة كل واحد منها فيطابق حجم الجرح و أثر الكدمة حجم مسببها ‪ ،‬فما قال أنه جرح بسبب رمح‬

‫فإن فتحة الجرح ال تزيد على رأس رمح ‪ ،‬و ما قال أنها كدمة بسبب وقع حجر عليه أو سقوطه من على‬

‫صخرة أو حائط ‪ ،‬فإن أثرها ال يزيد على حجم المسبب لها ‪ ،‬و أبرزها تلك الخدوش على جسده التي قال أنها‬

‫ألسد أعرج هجمت عليه أسود ساعده "الباهي" في االنتصار عليها ‪ ،‬و لكنه ضربه بالخطا أثناء عراك مع‬

‫تلك األسود المهاجمة ‪ ،‬فإن آثارها ال تزيد عن حجم خدوش من أظافر سبع كبير فإن هذا اعطى بعض‬

‫المصدقاية لقوله الغريب ‪.‬‬

‫ولكن أعجب ما جاء به هو ذلك الكتاب المحبور على ورق لين و لكنه خشن الملمس عريض أبيض اللون‬

‫مجموع في صفحات عديدة لمسوه كلهم بأيديهم ‪ ،‬و العجب فيه أن "الباهي" زعم أن هذا الكتاب أهدته له ملكة‬

‫عظيمة خاضت حروبا عظيمة أخضعت الدنيا كلها من بحرها لبحرها شماال و جنوبا شرقا و غربا لسلطانها‪،‬‬

‫ملكة أحبها شعبها و أطاعها فأركبته حصان المجد و السؤدد ‪ ،‬ملكة شجاعة تخوض الحروب مع جنودها‬

‫تؤاكلهم و تؤاسنهم و تخالطهم بيد أن لها هيبة تجعل الجبال ترتعد عند ذكر اسمها ‪ ،‬هي من أهدته هذا الكتاب‬

‫‪ ،‬الذي كانت صفحته األولى محبرة مكتوب عليها ‪ ،‬أما باقي الصفحات فإنها كانت فارغة بيضاء‪ ،‬و لكنها‬

‫امتالت مع األحداث كلما مر حدث كبير ُكتِب على صفحة منه ال يعلم من يكتبه و لكنه ينام و يصحو فيجده قد‬

‫ُكتب ال يعلم من كتبه و كيف‪.‬‬

‫و مما رواه لهم "الباهي" حديث ذلك األسد الضخم ذو العرجة البينة الذي أيقظه ذت ليل إثر احتفال بانتصار‬

‫عظيم ‪،‬بعد أن لعبت الخمر بالعقول و صار الناس في نومهم كالموتى ‪ ،‬طالبا منه بلغة أسود مبينة تشبه لغة‬

‫أسود زماننا لم يتغير فيها شيئ ‪ ،‬أن يركب على ظهره ‪ ،‬فلما ركب "الباهي" على ظهر األسد جرى به جريا‬

‫لم يعهد مثله من قبل ‪ ،‬فإذا به أمام كهفه القديم الذي احتمى به من األسود و الذي خرج منه بعد ذلك محموال‬

‫على فرس وهو مصفد رأسه الى أسفل ‪ ،‬و األسد يجري به داخال به الى مدخله الذي انفسح سابقا ‪ ،‬فإذا به‬

‫يضيق ليصير بابا من جديد و بدأت حوافه بالتهدم خلف أقدام األسد الجاري كما تهدمت من قبل خلف أقدامه ‪،‬‬

‫‪131‬‬
‫و لكن األسد قفز وهو على ظهره الى داخل الكهف المظلم الذي أضاءت نواحيه بضوء شمس قوي ‪ ،‬لتقع‬

‫عينيه على مليكته نفسها في موضع آخر و بزي آخر و بعمر آخر ‪ ،‬فهي ليست المرأة الشابة التي حكى لهم‬

‫عنها ‪ ،‬تلك الشديدة البأس الصارمة القسمات المفتولة العضالت التي رآها أول ما رآها و سيفها يقطر دما و‬

‫عينها تنفث شررا و الجميع صاغر من حولها يطيعها خوفا و رهبا ‪ ،‬سريعة الحركة نشيطة الهمة قوية‬

‫اإلشارة حازمة إصدار األوامر ‪ ،‬و لكنها اليوم امرأة في منتصف العمر وقورة رزينة ‪ ،‬تكثر المشورة و‬

‫تطيل السمع و الناس من حولها يتجمعون تجمع حب ال تجمع رعب ‪ ،‬تخطط و تدير تبني و تعمر ‪ ،‬و األسد‬

‫يجري به ال يتوقف وهو من فوقه ينظر في تعجب و دهشة و األرض التي كانت بلقعا يراها رأي عين و هي‬

‫تنهض باألبينة الشماء و إن كانت من خشب أو خيم من جلود الحيوان أو طين الزب مركب بمهارة أو من‬

‫حجر كبير و صغير ‪ ،‬و األرض الجرداء تنفلق وهو فوق ظهر أسده الجاري من تحت رجليه لتصير قنوات و‬

‫ترع ‪ ،‬و الصحراء تتحول الى مزارع و مروج ‪ ،‬هكذا فجأة كل شيء يتبدل سريعا أمام ناظريه وهو على‬

‫ظهر األسد الجاري بال كلل أو تعب ‪ ،‬في لمح البصر يرى األشياء تنمو و المباني تعلو و الترع تنشق ‪ ،‬و‬

‫الملكة في كل مكان يراه تظهر بثوب جديد و عمر جديد و أسد ذو بأس شديد يقف أو يمشي الى جوارها مع‬

‫أناس يختلفون و يتغيرون في كل مرة ‪ ،‬تسمع منهم أو تشير إليهم أو تأمرهم أو تنظر معهم الى شيء ذي‬

‫بال‪...‬‬

‫حتى إذا أظلم الليل وهو على ظهر األسد الجاري ‪ ،‬ظهر أمامهم مبنى كبير تنيره من الخارج مشاعل كثيرة‬

‫مصفوفة و مثبتة على جداره ‪ ،‬دخله األسد مارا أما حراسه الذين حيوه تحية إجالل كما يحيى الملوك و‬

‫األمراء ‪،‬تعجب "الباهي" منها لم يدر أهي لألسد أم له أم لهما معا ‪ ،‬ثم توقف أمام غرفة ضخمة كبيرة معدة‬

‫و مؤثثة بصورة جيدة ‪ ،‬ثم تقدم ماشيا الى داخلها ‪ ،‬و ألقاه من على ظهره كما يلقي الحمال الشيء الثقيل من‬

‫على ظهره ‪ ،‬فإذا هو أمام تلك الملكة يقع تحت رجليها مباشرة ‪ ،‬فتمسكه من يده بحنو و شفقة كمن تعرفه منذ‬

‫زمن بعيد ‪ ،‬بل و كأنه خرج من مجلس ها قبل قليل ثم عاد ‪ ،‬ال كمن فصلت بينه و بينها سنوات و عقود ‪ ،‬تلك‬

‫‪132‬‬
‫السنوات و العقود التي ظهرت في عمرها ما بين أول لقاء بها باألمس حيث كانت شابة فتية و بين لقائه هذا‬

‫و هي بنت األربعين أو الخمسين ‪.‬‬

‫كان الباهي حين يحدثهم و يحكي منتشيا يصف األشياء و عينه معلقة بالبعيد كمن يرى صور ال يريد أن يفلت‬

‫منها شيئا في وصفه ‪ ،‬و الناس من حوله يتحلقون ما بين منتش معجب بما يقول يفتح ُك ّم عقله و قلبه ليقتطف‬

‫المزيد من رحيق كالمه ‪ ،‬و بعضهم ينظر إليه وقاد ارتسمت صورة الخبل و الجنون في عقله عن هذا الشاب‬

‫الطيب المسكين يتحرك قلبه بشعور الشفقة و العطف و الرحمة عليه ‪...‬‬

‫و يكمل "الباهي" ‪:‬‬

‫‪ -‬حينها رفعتني من يدي كما ترفع األم ابنها و هي تنظر الى ورق موضوع على منضدة من حجارة‬

‫موضوعة أمامها ‪ ،‬و الورق به رسم لشيء لم أعرفه مخطوط بحبر أسود اللون ‪ ،‬و هي تشرح لي و‬

‫أنا ال أفهم شيئا ثم ذهبت بي تفتح حفرة كبيرة مغطاة بحجر كبير ال يستطيع رفعه من هم في مثل‬

‫أحجامنا ‪ ،‬و لكنها رفعته بعناء بسيط و أخرجت خرجا كبيرا مليئ بالمجوهرات الثمينة و الحلي و‬

‫الذهب و الفضة و بمعادن تشع ال أعرفها و لم أر مثلها قبال‪ ...‬ثم أخذت من المجوهرات ثالثة أسورة‬

‫و عقدين و ألبستني السوار و العقد و لبست سوارا و عقدا و أشارت لي ما فهمت منه أن األسورة‬

‫الثالثة ستحتفظ بها لبنت أشارت كانها تقول أن البنت هي ابنتي ثم أشارت مرة أخرى الى أن البنت‬

‫هي ابنتها ‪ ....‬فأصابني غم شديد إذ عني لي هذا ساعتها أنني سأعيش بينهم في دوامتي هذه حتى‬

‫يكون لي أبناء و بنات منها ‪ ،‬و زجرت ظني سريعا فلربما أخطأت الفهم ‪ ،‬ثم أدخلت السوار الثالث‬

‫الى داخل الكيس ‪ ،‬و أخذت ورقة كانت على الطاولة الحجرية مرسوم عليها رسوم كثيرة ‪ ،‬فعرفت‬

‫أنها خرائط ترسم المكان ‪ ،‬ثم رفعت الكيس الجلدي و أشارت إليه بيدها األخرى ثم وضعت يدها على‬

‫موضع مرسوم في الورقة ‪ ،‬لتقول لي ما فهمت منه أن هذا الخرج الجلدي سيكون في هذا الموضع‬

‫‪133‬‬
‫‪....‬حينها زأر األسد األعرج الذي بجوارها زأرة عظيمة انخلع لها قلبي ‪ ،‬ضحكت الملكة ضحكة‬

‫عطوفة ألقت بشعاع من حب لها في قلبي ‪ ،‬و أشارت إليه فجاء و أشارت إليه مرة أخرى فقعد فوق‬

‫الحجر الكبير الذي يغطي حفرة المجوهرت ‪ ،‬ثم زأر األسد وتحرك مرة أخرى بحركة لم تزحزحه‬

‫من مكانه ليقول لي بلسان أسدي مبين‪:‬‬

‫أنا حارس هذا الكنز و إ ّن ابنا لهذه المرأة في زمن ما كما و هو ابن لك كذلك هو فقط من سيسمح له‬ ‫‪-‬‬

‫بفتح هذه الحفرة‪...‬‬

‫فإذا برأسي يدور و تظلم الدنيا في عيني ‪ ،‬فال أعي إال وشيء رطب يلعق وجهي و رقبتي ‪ ،‬و أنا‬

‫ملقى على األرض قرب عرش الملكة ‪ ،‬و حولي أسدان أحدهما يجلس فوق الحفرة التي دار الحديث‬

‫حولها ‪ ،‬و اآلخر يأمرني بركوب ظهره و ال أحد غيرهما معي في الغرفة‪....‬‬

‫الحرب التي تدور رحاها بقوة كل أخبارها تقول بتقدم سلطان "الفاشر" على سلطان "المسبعات" "هاشم "بعد‬

‫أن لم يف سلطان "الفونج" بوعده و لم يرسل جنده لمناصرته كما وعده ‪ ،‬و الذي صار يتجرع كأس الهزائم‬

‫جرعة جرعة كل جرعة أمر من أختها التي سبقتها ‪ ،‬و أصبح كل ما كسبه من مجد من آبائه الذين بنوه‬

‫بالجماجم و سقوه بدماء عزيزة سالت على بطاح الصحاري و الغابات و الوهاد و الجبال وما بذلوه من مال‬

‫يسترضون به القبائل و يؤكدون به الوالء يكاد يطير أدراج الرياح ‪ ،‬و انشغال الناس بمتابعة أخبار هذه‬

‫الحرب كان له مبرره فكثيرمن أبنائهم انخرط في جيش سلطان دارفور العظيم الذي كما قالوا لم يروا له مثيال‬

‫من قبل ‪ ،‬فقد خرج السلطان بنفسه سائقا معه كل حريمه و أبنائه و أهله األقربين و األبعدين و أرسل الرسل‬

‫يأتونه بالجنود المتطوعين و المجبرين و من يبحث عن الثروة والمجد في حرب كهذه من كل مكان في‬

‫مملكته ‪ ،‬فأتاه الناس من كل فج قريب و بعيد ‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫لكن "حاكم" و "صهره" كانا في انشغال آخر بالبحث عن شيء لم يظهراه للناس و المعدنين في الغابات التي‬

‫تحت الجبال ‪ ،‬فقد انخرطا في التعدين و انهمكا فيه بقوة لكي يعوضا ما فاتهما إبان تلك الفترة التي قضياها في‬

‫دحر الفتنة التي طالت منطقتهم بفعل طمع "سرور" و مناصريه ‪ ،‬بيد أنهما دائما ما كانا يخرجان ليال بعد‬

‫العشاء األول و ال يعودان اال بعد الفجر الكاذب بقليل من منجمهما الى مكان لم يطلعا عليه أحد بل الى أماكن‬

‫كثيرة ‪ ،‬فقد كانا كل مرة يغيران وجهتهما بعد أن يستفيضا في نقاش هامس صاخب تتغير فيه نبرات الوجوه و‬

‫ال يتغير مستوى الصوت الخافت فلم يكن أحد يسمع لهما حديثا ‪ ،‬بعد طرح ورق على األرض به خطوط‬

‫كثيرة و رسوم غريبة ‪ ،‬و لكن العمال كانوا يرون األيدي تشير و تنخفض و األنظار تنظر و تتجه و األعناق‬

‫تشرئب منهما وتنخفض في جدال بينهما ال ينتهي اال ساعة الخروج بعد المغرب بقليل بعد ظهور النجوم التي‬

‫يكون لها حظ من يد أشارت أو عين نظرت ‪ ،‬أما "النقو" زوجة "مهران" و بنت "حاكم" ذات القلق الذي‬

‫تغذيه حاسة فطرية كثيرة الصدق قليلة الخطأ جبلت عليها ‪ ،‬كانت تتابع حركتهما بقلق بالغ عبر العيون التي‬

‫بثتها ممن يعملون معهما ‪ ،‬فكل ما يدور في المنطقة من أحداث و حروب يشي بأن الليالي حبلى بكل ما هو‬

‫جديد و مستغرب ‪ ،‬و حديث زوجها لها و الورق الذي أراها إياه و قال لها أنه كتب منذ آماد سحيقة في‬

‫التاريخ و لكنه يتحدث عن أحداث ربما آن أوان حدوثها ‪ ،‬و الذي أخفاه عندها فأحسنت حفظه و صيانته ثم‬

‫جاء من سفرته التي عاد منها هاربا ليكون أول ما يسأل عنه زاد من قلقها ؛ و مما زاد قلقها هشاشة ذلك‬

‫الصلح الذي تم بين أبيها "حاكم" و غريمه "سرور" و الذي تبنته زوجة "سرور" و بناته و أجبرنه عليه بعد‬

‫أن هيجن عليه عشيرته األقربين ‪ ،‬فإنه ما كان لها أن تطمئن له وهي العليمة "بسرور" الذي تعرفه شديد‬

‫الحقد كالثعبان يضمر الضغائن‪.‬‬

‫كما وصلها عبر عيونها من بني عمها و أبنائهم الذين كانوا يعملون مع زوجها و أبيها في تعدين الذهب خبر‬

‫ما بثه سلطان "الفاشر" من أعين تراقب حركة زوجها و تحصي عليه أفعاله ‪ ،‬و كانوا يخبرونها بالروح‬

‫الشريرة التي كانت تعتمل في نفوس هؤالء المبثوثين ‪ ،‬فقد كانوا كثيرا ما يقومون بإثارة المشاكل بين العمال‬

‫‪135‬‬
‫كما و أنهم كذلك كثيرا ما يحرضونهم إما لطلب زيادة عائد أو طلب تحسين وجبة طعام أو زيادة أجرة ‪،‬‬

‫وكانوا يدافعون عن العمال الذين يسرقون أو يفتعلون مشاكل فإذا ما عوقبوا و طردوا تدخلوا بقوة إلرجاعهم‬

‫للعمل ‪ ،‬و كان كلما يقوم "حاكم" أو "مهران" بالتخلص من واحد منهم يأتي آخر بنفس صفاته إن لم يكن أسوأ‬

‫‪ ،‬و كان أكثر ما أثار خوفها هو ما أخبرها به أحد أبناء عمها عن أن بعضا من هؤالء كان يخرج في أثر أبيها‬

‫وزوجها إذا ما خرجوا ليال كعادتهم ‪ ،‬فطلبت منه الخروج على أثرهم و أن يشكلوا حماية لهما من بعيد و هم‬

‫ال يشعرون ‪ ،‬و لكنهم عادوا بعد أيام فأخبروها بأن "مهران" اكتشف أمر تتبعهم له و حمايتهم له من على‬

‫البعد فغضب غضبا شديدا ‪ ،‬فلما أخبروه أنهم إنما فعلوا ذلك بطلب من "النقو" زوجته ازداد غضبه و طردهم‬

‫بعد أن قال‪:‬‬

‫إن على النساء أن ال يتدخلن في عمل الرجال كما ال يتدخل الرجال في عملهن ‪..‬‬ ‫‪-‬‬

‫و لم يترك لهم مجاال ليشرحوا له ما يدور حوله ؛ فلما رجعوا الى عمتهم عشاء و أخبروها بقصتهم مع‬

‫زوجها ‪ ،‬لم تنتظر صباحا ليشرق كما لم تستشر أحدا فيهم ‪ ،‬فركبت حصانا ألبيها و أخذت معها اثنين من‬

‫أبناء أبناء عمها األكبر و اتجهت الى حيث مناجم الذهب ‪ ،‬فقد أحست بحدسها الفطري بخطر محدق يحيط‬

‫بزوجها و خشيت أن يصيبه مكروه قبل عودته‪.‬‬

‫كل هذا كان يعتمل في صدرها و رغم أنها حديثة وضوع بابنتها "شارفة" ‪ ،‬لكن "النقو" الهميمة‬

‫التي عرف عنها حزمها و قوتها و رأيها السديد الذي تبنيه على علم يسبقه إيمان و يقين بحدسها الذي‬

‫كان نادرا ما يخيب ‪ ،‬ما كان لها أن تقعد متفرجة و األرض تكاد تهتز من تحتها ‪ ،‬نظرت الى ذلك‬

‫النجم الذي تعرفه بسيما و ميضه المتالعب ‪ ،‬و اتخذته هاديا و توجهت جاعلة إياه من على اليمين‬

‫جاعلة المسافة بينه و بينها واحدة ال تتغير مهما تحرك الليل ‪ ،‬فهكذا كان يخبرها زوجها عن الطريق‬

‫الى موقع مناجمه ‪ ،‬و رغم أن أبناء بني عمها على معرفة بالطريق ‪ ،‬إال أنها لم تكن لتستعين بأحد‬

‫‪136‬‬
‫أبدا إذا ما توفر لها طرف خيط تمسك به ‪ ،‬و كانا كلما أحسا بأنها ابتعدت عن الجادة صبرا عليها فإذا‬

‫بها ترجع الى الطريق الذي يعرفونه أو يرجع إليها الطريق ‪ ،‬فلما أصبح الصبح ‪ ،‬طلع عليهم وهم‬

‫بين أكمتين الصغيرة أبعد من الكبيرة يتراءى سوادهما من بعيد رغم األشجار ‪ ،‬القريبة تبعد مسيرة‬

‫نصف نهار و إن بعدت فلن يأتي العصر إال و قاصدها يستظل بظل صخرتها مباشرة ‪ ،‬و البعيدة‬

‫تحتاج النهار كله و إن زادت فلن يأتي العشاء إال وقاصدها واضع فوق صخورها أرجله‪ ،‬فقال‬

‫الولدان أنهما لم يعرفأ هذا المكان و لم يمرا به من قبل ‪ ،‬وقال أقربهم معرفة أنه يعرف هذا التل و‬

‫أشار الى األكمة الكبيرة و قال إنه يقع في الطريق الى المكان الذي يقصده "مهران" وهو يقع خلف‬

‫مناجمهم ال يظهر للرائي سواده إال إذا توجه شرقا مسيرة ضحى بالحصان ‪ ،‬فقد رآه أثناء تعقبه له من‬

‫بعيد ‪ ،‬ولكن عمتهم القوية الصارمة لم تزد على أن قالت ‪:‬‬

‫‪ -‬أعلم ‪.‬‬

‫ثم تحركوا قليال باتجاه التلة الكبيرة فإذا بأربعة خيم من شعر الغنم قائمة لم تسقط و إذا بآثار خيول و‬

‫آثار أقدام بشر تمشي و آثار ألقدام تجري و آثار حيوان كالقط الجبلي أو األسد كثيرة كأنها لقطيع منها‬

‫و ليست لواحد تشغل مساحة كبيرة ‪ ،‬ثم حراب ملقية و سيوف منثورة كأن أصحابها ألقوها تخففا طلبا‬

‫للفرار و بعض دروع من جلد البقر المجفف و آثار دماء ‪ ،‬و غير بعيد لمعت أواني الطبخ بعضها‬

‫على أثافي طبخها و بعضها مكفي تحوم حوله أثار أقدام السباع ‪ ،‬و رغم أن هذه اآلثار ظاهر عليها‬

‫القدم و لكنه ليس بالقدم الذي يمحوها ‪.‬‬

‫قالت النقو لولديها الفتيين‪:‬‬

‫‪ -‬من يقول لي ما هذا؟‬

‫‪ -‬إن لم أخش الكذب فهذه حملة "سرور" التي حركها باتجاهنا و صرفها هللا عنا بهجوم األسود‪.‬‬

‫ثم نزل من على ظهر حصانه وقال كخبير بصير بمعرفة األثر بعد أن أمسك بعود يشير به ‪:‬‬

‫‪137‬‬
‫‪ -‬هنا كان يخيم القائد وهذه خيمته و هذه خيمة "سرور" و وفده ‪..‬‬

‫ثم جلس على ركبته وقال ألثر غائر يبدو قرب وتد ‪:‬‬

‫‪ -‬وهذا أثر غائر ألقدام حصان "سرور" مشت عليه الخيل و األقدام كثيرا‪.‬‬

‫و أشار الى عالمة ال تظهر اال لخبير يعلم قص األثر مشيرا كأنه يؤكد ألخيه و عمته أن هذا فعال أثر‬

‫حصان "سرور" ‪ ،‬لكن عمته بادرته‪.‬‬

‫‪ -‬و هذه آثار أقدام حصان "مهران"‪.‬‬

‫ثم انصرفت عنهم تبحث عن شيء بين آثار الحيوانات المهاجمة وهما منهمكان في تحليل ما يريانه فلما‬

‫عثرت عليه نادت عليهما فلما وقفا قربها قالت ‪:‬‬

‫‪ -‬و هذه ؟‬

‫جلس قرب األثر الذي أشارت إليه‪...‬‬

‫‪ -‬هذه آثار ألسد يهاجم ‪ ...‬و لكن انظري الى هذا األثر ِرج ٌل قوية الضرب على األرض و رجل‬

‫ضعيفة الضرب عليها‪...‬‬

‫قال أخوه ‪:‬‬

‫‪ -‬هذا األسد أعرج‪.‬‬

‫قال األول ‪:‬‬

‫‪ -‬األسود جاءت من هذا اإلتجاه و المسافة التي جاءت منها ليست بالبعيدة انظري الى سرعة جريها لكأنها‬

‫تمس األرض مسا و ال تطؤها و طأ ‪ ،‬وانظري الى شدة كتح األقدام للتراب من أثر السرعة حتى قفزاتها‬
‫‪138‬‬
‫عالية شديدة أال ترين قوة أثرالقدمين الخلفيتين على التراب حين تقفز‪ ...‬فلو كانت المسافة بعيدة لكان‬

‫اإلرهاق بدا على سرعتها و على قوة قفزتها‪.‬‬

‫قالت لهم بنبرة لم يسمعاها منها من قبل‪:‬‬

‫‪ -‬هذا ما كنا نبغي ‪ ..‬فلتأخذا حذركما نحن في مرابض األسود‪ ..‬بل مربض األسد األعرج‪...‬‬

‫لم يمض على قولها هذا دقائق حتى هاجت الحصين الثالثة و بدأت تتململ ‪ ....‬أسرعت "النقو" الى حصانها‬

‫و أخرجت منه عودا أجوفا ‪ ،‬زاد هيجان الحصين فصاح أحد الشابين الذين جاءا معها وقفز الى حصانه ‪:‬‬

‫‪ -‬اسرعي و اركبي يا عمتي‪...‬‬

‫لكن عمته تقدمت الى داخل األشجار ‪ ،‬و جفلت الحصين األثنان اللذان يحمالن الشابين و حصان "النقو" الذي‬

‫لم تعله سيدته وجرين بكل سرعة يملكنها خوفا من شيء لم يظهر لها و لكنها تعرفه بفطرتها ‪ ،‬و الشابان‬

‫يقاومان الحصين لئال تتحرك تاركة " النقو" و راءهما و لكنها انفلتت تعدو ال تلوي على شيء فما كان منهما‬

‫اال القفز منها ‪ ،‬فوقع األول كاسرا معصمه و اآلخر وقع على رأسه فأغمي عليه لوهلة ليست بالقصيرة ‪ ،‬فلما‬

‫استفاقا بحثا عن عمتهما فلم يعثرا لها على أثر‪...‬‬

‫تجنبتُ جدتي هذه األيام فقلت مجالستي لها حتى أنكرت علي هذا الصنيع و المتني ألمي ‪ ،‬فاستغربت أمي‬

‫لما تعرفه من حبي لها و تعلقي بها و تعلقها بي ‪ ،‬فهي أمي التي لم تنجبني ال أذكر ذلك اليوم الذي أهدتني‬

‫أمي لجدتني ألكون معها تربيني و تعتني بي ‪ ،‬بعد أن تفرق عنها أبناؤها بفعل الحياة و صروفها فقد بنى‬

‫كل واحد منهم داره و سكن بها فصار يزورها لماما ‪ ،‬أبرهم بها من يزورها صباحا و مساء و أعقهم من‬

‫يدور عليه األسبوع فال يراها غير مرة و احدة أو مرتين لظرف حياة يمر به أكثرهم ‪ ،‬عدا البنات منهم‬

‫‪139‬‬
‫فإنهن لم يكن يقطعن وصلها إال خالتي التي تزوجها رجل غريب فرحل بها الى حيث عشيرته‪ .‬و لكني لم‬

‫أستطع تحمل كرهها و حقدها على سعدية و أمها نعمة وفرحها بكل سوء يصيبها ‪ ،‬و رغم أنها علمت ذلك‬

‫فصارت ال تكثر من إغاظتي بالتحدث عنها بما أكره ‪ ،‬غير أني في هذا اليوم رأيت عجبا من جدتي فقد‬

‫أصابها حزن ال أعلم سره و شرود غريب ‪ ،‬ليس كعادتها المرحة إطالقا وال نشاطها المعهود ‪ ،‬حتى اللبن‬

‫الذي كانت تحلبه من عنيزاتها لعمل شاي المغرب ‪ ،‬لم تقم الى حلبه قلت لها‪:‬‬

‫‪ -‬هل آتي لك بالحطب؟‬

‫نظرت إلي و لم تجب‬

‫‪ -‬مالك يا جدتي الليلة ‪...‬‬

‫قالت لي و عينها تنظر الي نظرات عميقة أحسست بها تطرق بقوة داخل قلبي‪..‬‬

‫‪ -‬تعال‬

‫جئتها فأخذتني الى حضنها و قالت‪:‬‬

‫‪ -‬يحزنني كل ما يحزنك يا ابني‬

‫أخذت رأسي من على كتفها كالملدوغ‬

‫‪ -‬هل حصل لسعدية شيء‬

‫نظرت الى عيني مرة أخرى و سقطت دمعة من عينيها‬

‫‪ -‬أنا أحبك أكثرمما أكرهها يا ولدي ‪..‬أدعي لها فهي اآلن أحوج الى دعوة محب ‪ ..‬إن لم تنج اليوم فال‬

‫نجاة لها بعده أبدا‪..‬‬

‫‪140‬‬
‫قالت سعدية بصوت خفيض ‪:‬‬

‫‪ -‬قف هنا‪..‬‬

‫كاد قلب السائق أن يقع من على صدره و صاحت المرأة التي بقربها فرحا و اندهاشا من حديثها ‪:‬‬

‫‪ -‬سعدية سعدية يا بنتي حمدا هلل على سالمتك ‪ ،‬بركة االتكلمت يا بنتي‪..‬‬

‫ثم صاحت بالسائق‪:‬‬

‫‪ -‬ألم تقل لك توقف قف‪..‬‬

‫‪ -‬ال نتوقف عادة هنا هذه المنطقة معروفة بحيواناتها و هوامها و جنها دعيني أتقدم قليال‬

‫صاحت سعدية بكل قوة صوت ضعيف ال يقوى على الكالم‪:‬‬

‫‪ -‬توقف هنا ‪ ...‬توقف هنا‪.‬‬

‫السائق الذي لم يخف فرحته و امتعاضه في نفس الوقت أخذ يبطئ من سرعة العربة الى أن توقفت و نزل من‬

‫كرسي القيادة و نزل حاج "محمد" الذي كان يجلس في المقعد األمامي بجوار السائق و الطبيب الذي يجلس‬

‫بقربه‪ ،‬و جاءوا مسرعين الى الباب الخلفي حيث تضع سعدية رأسهاعلى رجل إحدى المرأتين اللتين كانتا‬

‫معها و رجليها على رجل المرأة الثانية‪..‬‬

‫قال الطبيب بعد أن وضع يده على جبيها‪:‬‬

‫‪ -‬سعدية الحمد هلل على السالمة كيف أنت سبحان هللا‬

‫نظرت إليه بعينين تتجمع إرادة صاحبتهما فيهما رغم المرض و قالت بفم باهت الكالم‪:‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -‬أنزلوني هنا ‪...‬‬

‫قال الحاج محمد إلحدى النساء ‪:‬‬

‫‪ -‬أنزلي معها يمكن تكون تريد قضاء حاجتها‪..‬‬

‫لكن سعدية التي ال تقوى على الحركة نزلت برجليها ووقفت منتصبة رغم ظهور ضعفها و انحناء ظهرها و‬

‫تعبها في نزولها و اندهاش الطبيب ‪ ،‬و تحركت ببطء سريع نحو األشجار التي بدت على جانبي الطريق‬

‫تزداد كثافتها كلما توغل السائر الى الداخل و المرأة التي ُ‬


‫طلب منها مرافقتها تسير بقربها ‪ ،‬و شعاع الشمس‬

‫يراود النجوم وهي تتخفر منه قبيل الشروق بقليل ‪ ،‬صاح بهما حاج "محمد"‪:‬‬

‫‪ -‬ال تبتعدن الى الداخل خوفا من الثعابين و الهوام‪..‬‬

‫المرأة صاحت في سعدية وهي تجري وراءها ‪:‬‬

‫‪ -‬اقضي حاجتك هنا ال أحد يراك ال تدخلي الى الداخل‪..‬‬

‫سعدية كأن لم تكن تسمع ما يقال لها استمرت في مشيها تتخلص من خطوتها التي خطتها بصعوبة بخطوة‬

‫أخرى يكبلها اإلعياء و الشجر يزداد كثافة قليال قليال صاحت المرأة‪:‬‬

‫‪ -‬يا حاج محمد الحق بالبنت البنت رفضت أن تتوقف‪..‬‬

‫و توقفت المرأة و ألحت على الحاج بنداء ثاني ‪:‬‬

‫‪ -‬البنت ستضيع داخل الغابة فليلحق بها أحد ‪..‬‬

‫وصل الطبيب إليها قبل السائق الذي جاء مسرعا كذلك ‪ ،‬قال الطبيب‪:‬‬

‫‪ -‬الى أين ذهبت؟‬

‫‪142‬‬
‫أشارت الى اإلتجاه الذي دخلت به الى األشجار ‪ ..‬فأشار الطبيب الى السائق بالبقاء و دخل وراءها و قد‬

‫توارت بحجابي الشجر و الظلمة ‪ ،‬و بعد قليل سمعوا صوت الطبيب ينادي سعدية سعدية و ال صوت يجيبه‬

‫نادى الطبيب على السائق آمرا له بمساعدته في البحث عنها ‪ ،‬و زاد نداؤه علوا سعدية سعدية و ال مجيب‪،‬‬

‫مضى وقت ليس بالقصير و الشمس أخذت ترسل أشعتها رويدا رويدا و الحلكة بدأت تذوب في الضوء و ال‬

‫سعدية بدت في المدى و ال صوتها يجيب من يناديه‪ ..‬ازداد قلق السائق كثيرا و قلق حاج محمد و المرأتين‬

‫اللتين بدأتا في عويل خفي تنظر إحداهما الى األخرى تستمطر دموعها فتجيبها األخرى بأنة مكتومة و حركة‬

‫يدين تعلنان الخيبة و الفشل و قلة الحيلة‪.‬‬

‫صاح السائق مناديا الطبيب أين أنت و لكن الطبيب لم يرد فصاح قائال له ‪:‬‬

‫‪ -‬يا دكتور تعال و انظر ماذا وجدت‬

‫و لكن الطبيب لم يجب بيد أن الحاج محمد اقترب من السائق متحسسا طريقه بين األشجار ‪:‬‬

‫‪ -‬أين أنت‬

‫‪ -‬هنا هنا أنا أراك هنا يا حاج محمد‬

‫ثم صاح مرة أخرى بالطبيب الذي لم يجب أيضا لكن حاج محمد وصله سائال عماذا وجد فأشار إلى بيوت‬

‫نمل كبيرة منتشرة يظهر في نهاياتها معدن على شكل دائري كأنه جزء من وعاء معدني كبير‪.‬‬

‫‪ -‬ما هذا ؟‬

‫قال السائق سائال الحاج محمد الذي أخذ حجرا صغيرا و طرق به اإلناء الذي اختفى كثير منه داخل بيت‬

‫النمل الكبير‪:‬‬

‫‪143‬‬
‫‪ -‬هذا معسكر جيش قديم و ال ريب ‪ ،‬هذا وعاء كبير ال يكون استخدامه من قبل مجموعة صغيرة كبيت‬

‫أو جماعة صغيرة‪..‬‬

‫هز السائق رأسه كمن وافق على رؤية الرجل الكبير ثم سأله‪:‬‬

‫‪ -‬ما الذي أتى به هنا و بقية اآلنية التي بنت حولها األرضة قراها ‪ ،‬نحن نأتي من هنا كثيرا هذه أول‬

‫مرة أدخل عميقا في الغابة هكذا و أول مرة أرى فيها هذه األشياء‪..‬‬

‫هز الرجل الكبير كتفه بعدم المعرفة فأكمل السائق ‪:‬‬

‫‪ -‬هذا الشارع شارع تهريب نستخدمه لتهريب البضائع التي تمنعها الحكومة و رغم ذلك فإننا نبغضه‬

‫جدا ‪ ،‬فكثير من السائقين رووا عن هذه المنطقة أشياء ال تسر ‪ ..‬ولوال إصراركم علي أن نأتي به ما‬

‫أتيت ‪.‬‬

‫‪ -‬كله بسبب هذ البنت المسكينة التي تريد الحكومة حبسها رغم مرضها‪..‬‬

‫‪144‬‬

You might also like