Professional Documents
Culture Documents
الأسد الأعرج
الأسد الأعرج
لم تكن تلك المرة األولى التي يهجم فيها األسد على قطيعنا ,كأنه كان يعلم بغياب فرسان قريتنا ,أخبرني
"هارون" أنه أخذ بقرتين من قريتهم يوم السوق و الرجال بين تاجر أو مشتر أو مرافق ,ولوال لطف هللا
لكانت "حليمة" أخت "جرقندي" ضمن و ليمة األسد و لكن ساقيها أنقذاها ,و ربما حدس األسد أخبره بأن و
راء تلك األكمة الرجال الذين يخشاهم ..لكنه أكتفى ببقرتين أكل كثيرا من األولى و جر الثانية الى داخل
قلت له:
-لكنه ال يخشى الرجال فقد هجم قبل أعوام كما يحكي أهل قريتنا -الواقعة في أطراف غابة كثيفة
يقطنها الكثير من الحيوانات أليفها و مخيفها..-على جدي "إيدام" و "سعدان" و "الرضي" و عض
أخاه "إبراهيم" و "الناجي" و مات على إثر هذا الهجوم ثالثة من إخوة جدي "إيدام" ...ما زلت ألمس
أثر هذه العضة فوق ورك جدي ،كانت عضة كبيرة أثرت على حركته فأصبح يسير بعكاز قطعه من
شجرة األبنوس سوداء الساق ...كردفان تزخر بمثل هذه الغابات وجدت في كتاب الجغرافيا الذي
يدرسنا إياه أستاذ آدم أن هذه الغابات تمنع الحكومة قطعها ألن الحيوانات ستهاجر منها قلت له:
أجاب:
نعم -
تعجبت حينها لماذا ال تزيلها هذه الحكومة وكنت كلما سمعت بمهاجمته لقرية أو قطيع أو بشر إزداد
كرهي للحكومة..
1
تناقل الناس خبر بقرتي "مرحوم" اللتين أكلهما األسد ،وضجت القرية وكان كلما اجتمع نفر من المواسين في
بيت الحاج "مرحوم" ينعقد شبه إجماع على أن قطيع األسود قد تكاثر و أنه إذا لم تحل هذ المشكلة و تتدخل
الحكومة فإن األسود البد و أن يهجموا ذات يوم على القرية و يروعوا أهلها و ربما أكلوا من نسائها وولدانها
من لم يستطع المقاومة بل ومن يقاوم ال يسلم من األذى إن لم يففقد روحه كذلك...
ضحكوا في أسى و نظر كل منهم الى طرف بعيد يقلب هذا الحديث الساذج في رأسه ..صحت أليس
ال ليس كذلك الحكومة تنظر الى األمر من وجهة نظر أخرى... -
وهللا البلد أصبحت فوضى كيف تفضل الحكومة الحيوانات على البشر ... -
و أخذ يذكر أمثلة كثيرة على هذا التمييز العنصري الذي يفضل عنصر الحيوان على اإلنسان و استنتج :
-أال تذكرون قبل أعوام حينما طالبتنا الحكومة بأن نغير موقع القرية ألن هذا المكان أصبح يشكل
مهددا للحيوانات و أننا ربما نقلنا الى الغابة بعض األمراض ،أو تسببنا في حريق يدمر الغابة
بحيواناتها ،و يصيح :تخيلوا نحن ننقل أمراضا الى الحيوانات و يصفق بيديه متهكما :باهلل شوف..
2
أستاذ "آدم" الذي تحترمه القرية كلها و القرى المجاورة كان لكالمه أثره و ال يستطيع أحد أن يتجاوزه ألنه
هو الوحيد المتعلم في هذه البلدة و قد نذر نفسه لتعليم أبناء قريتنا و القرى المجاورة ,طلب من أهل القرى
مساعدته في بناء منزل من القش ثم طلب من أهلها أن يرسلوا إليه أبناءهم ففعلوا و حشرهم فيه و أنا منهم و
أخذ يدرسنا ...لم يكونوا يعصون له أمرا فقد كان محل ثقة ,هو الذي ينقل طلباتهم الى الحكومة و يسعى لحل
مشاكلهم معها لن ينسوا أبدا أنه صدق لهم مركزا صحيا جعلهم يبنونه من حر مالهم و أنه كان يطببهم لفترة
طويلة إال أن صدقت لهم الحكومة بحكيم يعالجهم بما تيسر له من دواء و أعشاب و بصارة ..و أن فريق
قريتهم لكرة القدم الذي أسسه لهم أستاذ "آدم" و علمهم لعب الكرة و كان هو مدربه صعد الى صدارة الدوري
لكن العجيب كان ألستاذ "آدم" رأي قريب من رأي الحكومة و قال لهم:
نحن بين نارين إما أن نرحل و نطيع أمر الحكومة ونحفظ أنفسنا و أموالنا أو أن نصبر على األسود -
احتدم النقاش و زاد االجتماع و أصبح منزل الحاج مرحوم يؤمه كل يوم عند الضحى خلق كثير يجلسون
تحت ضل شجرة الهجيلج الوارفة الظالل ...يتدارس هذا األمرالرجال عند عودتهم من مواقع زراعتهم ألخذ
بعض الراحة و رغم أن بيت الحاج مرحوم لم يكن على قارعة الطريق إال أن الحدث يبدوا أنه كان كبيرا هذه
المرة ...كان الجميع يعلم أن الرأي الذي يأتي كل يوم هو نتاج نقاش دار في البيوت و أن اآلراء الجديدة ليست
ملكا حصريا ألصحابها بل هم ناقلون لها ليس إال و لذلك ال يدافعون عنها كثيرا و ال يحاججون بها طويال و
3
ثم يجيد اإلستماع حتى يفهم الرأي الجديد ليذهب و يحاجج به فالنة لعله يفوز عليها هذه المرة ...وتجده يأتي
مبكرا لينقل الرأي الذي ظفر به مجددا بعد أن دُ ِحض الرأي الذي ذهب به باألمس...
أصبحت لعبتنا المفضلة هي لعبة ; األسود كبست حيث ينقسم الالعبون الى فريقين فريق األسود و فريق
الحراس حيث يؤخذ واحد من فريق األسود كرهينة عند فريق الحرس و يقف الجميع على رجل و احدة و
يحاول فريق األسود تخليص الرهينة من أيد الحرس ..و أصبحت أغاني البنات التي يرددنها في المناسبات
في كل القرى المجاورة لها عالقة باألسد و بالفارس الذي خلص القرية منه.منها مثال. :
فترد عليهن:
فيصحن :
سحم"
األسد األكل "أم ُ -
سحم" هذه بقرةالحاج "مرحوم" التي أكلها األسد و كانت بقرة جميلة عالية غزيرة إدرار اللبن مشهورة
و "أم ُ
في منطقتنا لم يزل أبوها يطلبه الذين يريدون تحسين ساللة أبقارهم في كل القرى من حاج "المرحوم".
4
أمي أعدت طعاما كبقية أهل القرية ،قسمته الى نصفين نصف حمله أبي في إناء و احد عبارة عن عصيدة من
الدخن و كنت أحمل معه براد الشاي و تحمل هي و "الشوقارة" أختي مثل هذا الحمل إلى بيت "حواء" زوجة
حاج "مرحوم" ,و كان شبيه مجلس الرجال ينعقد هناك بينهن لكن مجلسهن أكثر صخبا و أعلى ضجيجا و
أكثر حجة و أشد إصرارا على اإلقناع من مجلس الرجال ..حتى أن حاج المرحوم كان كثيرا ما يقوم حامال
فينصعن ألمره دقائق معدودات ال يلبث بعدها الصياح أن يعود مرة أخرى ..غير أن مجالس النساء حيث
أمي كان يحدث فيها الغضب أحيانا كثيرة فكثيرا ما تخرج إحداهن مغاضبة النتصار رأي على رأيها
..أمي سمعتها تخرج مغاضبة و تنتهر أختي "الشوقارة" تحثها على القيام ثم تلتفت الى الحريم داعية
عليهن :
-شاحدة هللا األسد اليكمل بقركن ...و تحمل صحنها و برادها و تخرج..
عقدت في مجلس الحاج مرحوم أكثر من زيجة حيث طلب "حامد ود الفضل" يد" سعدية بنت النعمة" خالته
من أبيها و وافق أبوها و هو يأكل غداءه الذي كان يتكفل به الجميع بمنزل الحاج "المرحوم" منذ الحادثة
المشؤومة ,إال أن "سعدية" لم ترض بعد فقد اشترطت شرطا لم يف به "حامد و د الفضل" ...و "الناير" من
القرية التي تقع شمالنا كاد أن يحظى بعلقة ساخنة ألنه هاجم شيخ القرية في بداية الغداء و طلب يد ابنته في
نهايته....
5
و الحال هكذا و الجميع يغسل يديه استعدادا للغداء إذ يأتي صياح من جهة الغابة تبينت صاحبه من الوهلة
األولى هو صوت "صغيرون" ابن خالتي "نعمات" يصيح و يجري صوبنا :يا ناس القريااااا يا ناس القرية
األسود هجمت على القرية يا أهل القرياااااا األسود األسود يااا ....
2
"سعدية" "أم جفيل"" كانت تملك ذلك القدر من الجمال الذي يلهم الشعراء و المغامرين الذين يشدهم الحماس
الى رؤيتها ،فال يتهيب الرجل أن يسير المسافات الطوال ذات الليالي و األيام لكي يحظى برؤية قد ال تتحقق
و إن تحققت فقد تكون للمحة خاطفة ال تشفي غليال و ال تروي ظمأ ،و لكن سيرتها التي عمت جميع القرى
لم يكن هذا باألمر المريح ألمها "نعمة" التي كانت تخاف عليها كثيرا من عيون الناظرين و ال تريدها أن
تمر بنفس تجربتها ،لكن هذا األمر كان يعجب أباها -الذي يظهر غير ذلك فعادة الرجال الغيرة على بناتهم
ألن فيه إشارة الى جمال أمها التي حظي بها بعد تنافس شديد على قلبها مع شبان القرى أجمعين ،و لكنه -
هو من ظفر بها أخيرا ،و كان يفخر بهذا كثيرا في المجالس و يقول (أنا صياد العناق النافر) يقصد "نعمة".
و "نعمة" أم "سعدية" بنت "حمدان" ابن "تيراب" بن "فطومة الدهباية" بنت "أحمد األحيمر" بن "شارفة أم
بوارق" التونسية بنت "النَّقّ ْو" األولى بنت "الشرتاي حاكم" ،و "شارفة" ابنة أبيها و أمها الوحيدة -أنجبتها
"النقو "قبل أن تختفي هي و زوجها ،كانت أمها تلقبها "بأم بوارق" كناية عن جمالها و جدها يلقبها بالتونسية
نسبة ألبيها الذي جاء يطلب الذهب من بالد بعيدة تسمى "تونس" هكذا كانت تقولها جدتي ،و تقول أنه كان
شديد البياض فكان يتحاشاه الناس -أول أمره -خوفا من مرض يصيبهم أو لعنة تلحق بهم من مخالطتهم له
فتلحقهم به ،فإنهم يذكرون في تاريخهم مثل هذا المرض الذي يذهب اللون و يأكل األطراف و يزهق
األرواح...
6
فقد استطاع التونسي جمع ذهب كثير عبر غرابيل جاء بها معه و سائل يصبه على التراب فيصبح ذهبا ،
كان شديد الكرم يغدق بالمال الكثير على من يعملون معه و يساعدونه في مهنته هذه ،و كان منهم جد
"سعدية"الشرتاي "حاكم" الذي أصبح شرتايا – أميرا على القبيلة – بسبب كرمه و إنفاقه الكثير من المال
الذي كان يجنيه على الناس و حاجاتهم ،فحفر لهم الحفاير و اآلبار و كان يقرضهم و يهديهم حتى أحبوه و
جاؤوا به شرتايا عليهم رغم أنف الشرتاي آنذاك " سرور" الذي ناصبه العداء ،و ما زالت العداوة بين أبناء
"عاشة" و "غبيشة" أختا "سعدية "أم جفيل" لم يكن يغرن منها رغم تعاليها وداللها فقد كانت أصغرهن ،
وهن من قمن بذلك التدليل و سمحن لها بل ربينها على ذلك التعالي و الدالل ،حتى أن أختها الكبرى أهدتها
ذلك الجفيل الذي أهدته لها أمها "نعمة" و كانت تسميه "جفيل أبوي التونسي" الذي وصلها منه عبر أمهاتها
األقدم ،و كانت "سعدية أم جفيل" تفخر به و تظهره كلما خرجت رافعة يدها في حركة ليبرق مع ضوء
الشمس كأنها تعلن للعشاق عن خروجها فيراها من سعى لذلك ،حتى أصبح ذلك الجفيل عالمة يضرب بها
المثل في الجمال و يحلف به فيقول مشتر إذا أغلى له بائع ثمنا :
لكن ذلك اليوم الذي ذهبت لترد هي و أختاها في "الحفير الصباحي " أي الشرقي و الذي يقع شرق غابة
صغيرة تفصل بين قريتنا و بينه لم يكن كبقية األيام ،خرجت الفتيات الثالث و كل واحدة منهن تحمل في
حمارها أواني تجلب بها الماء الى بيت أبيها الذي أعد لهذا الماء "تبريقا ً " -حوضا -بناه من الطين و ملط
خارجه بروث البهائم حتى ال يتسرب الماء ثم كسا الروث بالطين الالزب الذي يكسب الحوض صالبة تمنع
7
الماء من الهروب الى خارجه فيشرب البيت من هذا الماء و يغتسل لعدة أيام ثم يخرجن للورود مرة أخرى
إذا كاد أن ينضب ..و كان من عادتهن و عادة النساء اللواتي يجلبن الماء أن يغتسلن و يغسلن مالبسهن و
مالبس ذويهن على حافة هذا الحفير الموصول بمجرى سيل ال يكاد ماؤه ينضب اال أياما قالئل قبل استئناف
المطر صبه من جديد بعد أشهر من التوقف ،و لقد أوصت "النعمة" -كما يحلو "للحسين" زوجها أن
يناديها -أوصت بنتيها "غبيشة" و "عاشة" أن ال يدعن "سعدية" تبترد أمام البنات و النسوة الواردات خوفا
عليها من عين كافرة تصيبها كما أصابت خالتها من قبلها فأوردتها موارد الهالك ،فقد كانت "سعدية" فارعة
الطول بارزة الصدر منهدلة الكفل .ضامرة الخصر مكتنزة الورك يتيه الشباب في نضارة وجنتيها و جمال
عينيها وحالوة ابتسامتها ،ذات لون رملي له بريق يتموج مع تموجات جسدها ،كم كنا ننتظر يوم ورودها
الحفير لنختبئ تحت شجرة أو فوقها ننتظر ساعة ابترادها كما ينتظر الزرع المطر ...
لكن "سعدية" التي يعجبها إظهار فتنتها كانت تتأبى عليهما و تصر أن تبترد مع البنات رصيفاتها على حافة
الحفير ،فيغصبنها على اإلختباء وراء تبلدية عتيقة كبيرة واسعة الساق ،فتخلع مالبسها و تضع جفيلها فوق
المالبس التي تضعها على حمارها المربوط في فرع ناتئ من شجرة التبلدي الكبيرة...
كان هذا يتكرر كل مرة يذهبن فيها الى الماء ..الذي يكاد ال ينضب أبدا ...
ندمت كثيرا أنني لم أخرج هذا اليوم فقد تورمت قدمي إثر شوكة كسرت بداخلها أخرجتها أمي بشوكة أخري
كبيرة ،فكواها لي و الدي بميسم البقر حتى ال يزداد تورمها فأصابتني الحمى فلم أستطع الخروج ،و بينما أنا
راقد على فراش مرضي إذ بي أسمع جلبة و ضوضاء و خروج الناس يتدافعون نحو أصوات الصبية و
-األسد أكل "أم جفيل" و أخواتها ...األسد أكل "أم جفيل" و أخواتها ....
8
الروايات التي تروى كلها تلتقي في أن "سعدية" هذه ليست من البشر و أنها ذات عالقة بالجن لم تتضح ،أقل
هذه الروايات تشددا هي التي تقول أن ِعرق أبيها "التونسي" و أمها "النقو" القديمان التي اختلط دمها بدمه
به دم جن ظاهر وأنه ما دله على هذه المنطقة غير الجن آبائه ،فقد أتى من بالد بعيدة كما تح ّجينا – تقص
علينا -جدتي حين تحكي عنه و عنها ،فنحن نقطن هنا منذ أول الدنيا و لم نكتشف هذا الذهب ،رغم أن
بعض المرويات القديمة كانت تقول باشتغال أجدادنا القدماء في الذهب مستدلين بجفيل التونسي الذي وجده
ضمن كنز مدفون تحت بيت نمل كبير يحرسه أسد ضخم ،و أن الدنيا كلها كانت تأتي الى هنا من أجل هذا
الذهب.
أخذت تستظهر هذه الروايات بعض القصص المطوية عن قدراته العظيمة في استخراج الذهب ،و كم
من مرة عثر على حجر ذهب كبير كتلة و احدة حتى أنه لم يستطع حمله إال بمعاونة الرجال ،ويذكرون كيف
أن "حاكم" الشرتاي كان حارس خزنته األمين و أنه كسب هذه المنزلة عنده لسببين أولهما أنه صاحب
األرض ،و ثانيهما حينما جاء له مرة بحجر يعلوه تراب أصر "حاكم" على أن به ذهبا مخفيا يظهر ْ
إن فتته
الى تراب ثم حرقه بالنار ،فلما فعل التونسي ذلك تحت إصرار "حاكم" فإذا بالحجر يزداد لمعانه قليال قليال
إال أن أصبح ذهبا خالصا ،كافأ "حاكم" "مهران التونسي" بأن منحه هذا الحجر كامال دون أخذ نصيبه منه ،
فترجاه "مهران"أن يكون حارسه و صديقه ،و تتويجا لهذه العالقة تقدم "مهران التونسي" بطلب ابنة حاكم
بعض هذه الروايات المؤكدة لعالقة "التونسي" بالجن تشير في تساؤل أين ذهب هذا الذهب الكثير فإن
"التونسي" لم يغادر المنطقة منذ جاء إال مرتين في و في المرتين لم يخرج بشيء كثير مما أخرج من خير
األرض إن لم يكن يخرجه له أهله الجن ،بعض الخبثاء كانوا يلمحون أن "حاكم" هو من يخرجه له تهريبا
ضنا به على السلطان ،و لكن لم تثبت هذه الرواية أو أن الناس كانوا ال يتجرؤون على قولها و ترديدها
9
كثيرا لسببين ،األول هو حبهم آلل "حاكم" الذين استمروا في برهم و تفانيهم في خدمة المنطقة ،و السبب
وآخر بواعث الشك في عالقة الجن بالشاب التونسي هي قصة اختفائه الفجائي هو وزوجته دون أن يعلم أحد
بمكانهما حتى اآلن ،وما يرويه الكثيرون عبر السنوات الممتدة منذ اختفائه الى يومنا هذا عن رؤيتهم له فجأة
ثم اختفائه كما ظهر في أماكن كثيرة وفي أحداث مختلفة آخرها يوم هجوم األسد على "سعدية أم جفيل"..
زواج "التونسي" بابنة "حاكم" "النّقّ ْو" كان حدثا كبيرا في الوادي كله ،فقد كانت تعتمل مؤامرة كبيرة
إلخراجه ،من المنطقة يقودها الشرتاي "سرور" الذي رأى فيه خطرا يهدد زعامته ..و يبدو أن خبر تلك
اإلجتماعات التي تعقد ليال لتدبير مخطط إخراجه كان يصل إليه بطريقة ما ،و هذا مادفعه الى التعجيل بطلب
يد ابنة "حاكم" لتكون زوجة له ،يحتمي بنسبها و عزوتها من مكايد األعداء فقد كان يعلم و يعي جيدا أنه
ذهب "سرور" الى السلطان في "الفاشر" يستعديه على الغريب الذي جاء ليسرق خيرات البلد المدفونة ،و
ليستعين به على آل "حاكم" الذين ينتمون لبيت حكم قديم أخذه جد "سرور" منهم عنوة في معركة مشهورة
صفا األمر "للتونسي" الغريب بعد أن ارتبط بعالقة النسب مع "حاكم" ،و أخذ "حاكم" "مهران التونسي"
للسلطان ،و أخذ معه هدية من الذهب الخالص و نصيب السلطنة و أخذ معه نفر من الشهود على ما قام به
هذا التونسي من إعمار للمنطقة باآلبار و الحفاير و تمهيد الطرق ،و أبان للسطان أن اإلتفاق معه يقسم ما
تخرج األرض من ذهب الى أربعة أكيال ،كيل لسلطان الفاشر و سلطنته و كيل ألهل المنطقة و كيل للتونسي
و الكيل األخير "لحاكم" حيث تقع أعمال "مهران التونسي" في نطاق أراضيه ،.فاقتنع السلطان بعد أن
10
ثم قام بإرسال موفد يهدئ من التوتر بين البيتين القويين وهو ما لم يرض "سرور" و كان كافيا "لحاكم" و
استتباب األمور و ازدهار الثروة و االندماج في المجتمع بهذه السرعة بعد أن كان منبوذا ال يجد من يأويه ،
ثم الزواج من "النقو" العزيزة بنت "حاكم" التي لم يكن أحد يجرؤ على التفوه باسمها دعك من زواجها ،ثم
ازدياد ثقة الناس للدرجة التي يذهب نفر من أعيانهم للشفاعة له عند سلطان الفاشر ثم رضا السلطان و
ترحيبه به حينما زاره هو و نسيبه "حاكم" ...كل هذا عزز رواية تأييد الجن له ،هذا إضافة إلى ما روي عنه
من صالته الكثيرة التي اشتهر بها و التي يكثر منها بالليالي الحالكة السواد و صوته العذب في قراءة القرآن ،
هذا الصوت الذي كان يجذب العمال الذين جاؤوا للعمل معه في مشروع ذهبه خارج المنطقة المسكونة قرب
سفح جبل بعيد يحتاج الى أيام بلياليها للوصول إليه في منطقة موحشة تسكنها الحيوانات بأنواعها كلها ،و
-هذه البنية -تقصد سعدية – البد و أن سر أبيها وأمها قد ظهر فيها و بان دون أختيها ...
-هل رأيت عينيها التين تشبهان عيني "المرفعين" – الذئب .-و لونها الذي يشبه لون بيت النمل ؟
قالت و هي تحمل عودا من شجر الدروت بيد و باليد الثانية فأسا لتكسره به لتزيد به لهب النار الذي يتوهج
-و حياة الفكي "الشريف " هذه البنية ما ستفعله في هذه المنطقة أبوها التونسي ما فعله و البعيش
11
قلت لها :
قاطعتني قائلة و هي تحشر عود الحطب الذي كسرته الى قطعتين تحت أثافي اإلناء الذي كاد أن يفور بلبنه:
-أنا لو كنت مكان األسد ألكلت الحمار فهو أكبر حجما و قد كان مربوطا ..
-أنت يا المطموس قاتلك ريدها – حبها -زي وليداتنا الباقين ..قم و انهر تلك العنز حتى ال تدفق
اللبن...
الحكاوي و األقاويل تكاثرت حول عودتها هي و أخواتها لكن نساء الحفير الذين جلبن الخبر يؤكدن أنهن
رأينها تقف بين األسد و الحمار الذي هاج و اضطرب اضطرابا شديدا ثم قطع حبله وجرى الى داخل الغابة و
"علي األحيمر" صاحبي خصني بسره و هو يقسم أنه رأى الحمار عندما هاج و اضطرب و أن شجرته
التي كان يتلصص منها على "أم جفيل" كشفت له كل شيء ،و أنه تسمر في مكانه من هول المفاجأة و شدة
الخوف ،قال لي أن األسد بعد أن كان متجها الى البنت و أختيها تركها و جرى و راء الحمار ،و أن سعدية
كانت أشجع من أختيها -التين فرتا مع النساء -حينما رأت اضطراب الحمار نظرت الى حيث يكثر الحمار
اإللتفات ،و أنها رأت األسد و هي من صاحت بالنسوة منبهة لهن بوجوده لكنها لم تشرد مثلهن ،بل عمدت
الى غصن مكسور تتفرع منه أغصان حملته و هي تردد بصوت عال وفي تحد عجيب :
12
-أنا "أم جفيل" بت أبوي القتل أبوك يا األسد ...أبقى راجل و تعال ..
-أن األسد بعد أن كان متجها إليها حرن في مكانه كأنه رأى ما أخافه ولم يتحرك ثم التفت الى الحمار
وجرى وراءه.
خلعت "عاشة" قميصها و أعطته ألختها الصغرى "أم جفيل" لكن األخيرة رفضت العودة حتى تعثر على
جفيلها الذي كان فوق مالبسها فوق ظهر الحمار ،و تقول لهن ال بد أنه سقط ساعة هيجان الحمار لكن أختيها
أخذن يجبرنها على العودة وهي تصر على البحث عنه فحملنها حمال و أجبرنها على العودة...
هذا السر لم أقله سوى لجدتي و بعض أصحابي لينتشر انتشار النار في العويش –الهشيم.. -
وقف "علي األحيمر" أمام "نعمة" حاسر الرأس و لم يكن دفاعه سوى "أن كلهم يفعلون" مثبتا تهمة التلصص
عليها و هي تبترد عليه ،لكن "نعمة" لم يكن هدفها من سؤاله أمام أمه أن تلومه ألنها تعلم أنهم يفعلون فقد
كان أبوه و رفقاؤه يفعلون مثله حينما كانت تبترد عندما كانت في سن "سعدية أم جفيل" بل أتت لتتأكد هل
الجفيل الذي ضاع شغل البادية كلها ،ألف الشعراء فيه األغاني و القصائد التي تصفه و تصف بريقه و تعطيه
صفات أسطورية في الجمال ،و بعضهم حكى قصته وكيف أن هللا أخفاه آالف السنين ليدخره لتك اليد التي
خلقها هللا بعناية له ،و بعضهم يصف حزنه على فراق معصم سعدية ،و بعضهم يصف األسد و ولهه بها
بعد أن رآها و يرثون لحاله الذي تبدل و أن قومه اتخذوا ملكا غيره لغابتهم ِلما تغير من حاله ،و أنه أي
األسد ذهل حينما رأى جمالها و أنه لم يجر وراء الحمار بل نجا بقلبه منها ،و البعض األكثر واقعية يصف
شجاعتها و نبلها و تضحيتها و يرجعها الى أمها "النقو" بنت"حاكم" الفارس المغوار ضنا ً بالفراسة و النبل
على "التونسي" الغريب و القليلون الذين يشركونه في هذا الفخر ،و آخرون أخذوا يصورونها وهي عارية
13
تقاتل األسد بسالح فتنتها و ..و ..و أخذ الدعاة و العباد يندهون – يتوسلون بالدعاء -الفقراء و الصالحين ثم
رب العالمين أن يمن على الجميع و يرجعه ،مشركينه في حياء مع دعاء أن يخلص الغابة من شر األسود ،و
الشباب الذين يؤزهم الحماس أزا يخرجون في جماعات يقصدون األسد الذي هاجم "سعدية" لعلهم يقتصون
منه في إفزاعها ،و قد أصاب بعضهم أكثر من أسد و بعضهم أصابته األسود إصابات خطيرة ال ينجو منها
الكثير من الناس ،و بعضهم صاد أسدا صغيرا في بدايه بلوغه و جاء به إليها لكنها قالت أنه ليس هو و أن
األسد الذي هاجمها يشبه األسد الذي قتله جدها قبل قرنين من الزمن ،فلما طلبوها أن تصفه قالت:
-له عقصة سوداء في أعلى كتفه األيمن تجعله يعتب حين يجري على ثالث قوائم ..
ثم أعلنت أمام الجميع و تحت شجرة ال ُح ْك ِم و بكل جرأة لم و لن تمتلكها بنت غيرها :
أن الذي يقتل األسد األعرج ذا العقصة السوداء أعلى كتفه ستقبل به زوجا ولو كان فقيرا معدما و -
3
لم تثن الحروب التي كان سببها التنافس على حكم "دارفور" و"كردفان" ما بين "الداجو" و "الفونج"
و"التنجر" و "عرب الغديات" "سلطان الفاشر" من تتبع أخبار "الغريب" الذي بدأ في بسط نفوذه بماله و
بفرص العمل التي انخرط فيها عدد كبير من الشباب و الشيوخ و بما كان يفعله هو و "حاكم" من إعمار
للمنطقة ,فقد كان الصراع محتدما على أشده على حكم هذا اإلقليم المترع بالخيرات ,و كان قبل أن
تصله شكوى "الشرتاي سرور" من تطاول آل "حاكم" عليهم و عدم انصياعهم لحكمه و استقوائهم
14
بالغريب الذي ال يعرف له أصل قريب يرجع إليه نسبه يمكنهم الوثوق به و الرجوع إليه حال أخطأ أو
تعدى ,أرسل في طلب معرفة خبر هذا "الغريب" و ماذا يريد و بث العيون التي تأتي بخبره أوال بأول ,
بل و حاولت أن تعرف سر قدومه الى هذه المنطقة ومن أين هو...
و رغم تضارب المرويات التي وصلت الى السلطان حول الغريب فقد أجمعت كلها على ثالثة أشياء أولها
أنه من بالد تبعد مسيرة أشهر بالخيل السريعة إن أ ُ ِمن الموتُ عطشا و من مدينة أسمها "بنزرت",
تفصلها عن ديار السلطان غابات و صحاري و أنهر و أن هذه البالد اسمها "تونس" و يطلقون عليها
أحيانا "أفريقية" تقع خلف بحر كبير و الحقيقة الثانية أن حكام تلك المنطقة و الذين يسمون "الدايات" -
مفردها "الداي" -منشغلون بصراعات و حروب داخليه و أن هذه الصراعات لم تهدأ على مر تاريخ
طويل و أنهم في حالة حرب و تناوش مع العثمانيين المسلمين و تناوش فيما بينهم وتناوش مع طامعين
كفار من وراء البحر المالح ...اجتمعت هذه المرويات لتؤكد الحقيقة المهمة الثالثة أن هذا الغريب ال
خوف منه...
لكن لغز مجيئه من تلك البالد البعيدة الى بالد السلطان لم يزل يدفع الريبة في قلب السلطان و الذي كان ال
يزال يعاني من اضطربات تتهدد ممكلته في أطرافها الشرقية ,و إنه إن أمن من كونه عينا و معينا ألهله
األبعدين فال يوجد ما يمنع أن يكون عينا و يدا ألعدائه األقربين لذلك ألصق به من يراقبه كظله ...و قد
سعى مرات ليست بالقليلة كما يروى الى قتله خالل فترة وجوده المتطاول في المنطقة حتى بعد زواجه
من "النقو" ,و يتهمه كثيرون بأن له يدا في اختفائه المفاجئ و الذي لم يعد بعده أبدا فمن قائل أنه قتله
عبر سم دسه له في طعامه عبر أحد أتباعه الذين كانوا يعملون في مناجمه ولكن السم ظهر أثره بعد حين
و أنه وقع ميتا متأثرا بسمه في غابة قريبة و افترسته السباع أو أكلته دابة األرض ,و من قائل أنه
اختطفه عند خروجه الى مناجمه عائدا إثر تفقده الكثير لسير العمل في إحدى الحفائر بعد أن كمن له في
15
تلك الغابة أيضا و األقاويل كثيرة من هذا القبيل...لكنها كلها تؤكد خوف السلطان منه ...خاصة بعد
و لما أن جاء الشرتاي "سرور" مشتكيا من ذهاب نفوذه الذي أستمده من نصرة جده أي جد السلطان بعد
تلك المعركة الكبيرة قبل زمن ليس بالقريب و ال بالبعيد فإن رد السلطان له كان بأن نهاية "التونسي"
قريبة و أن عليه أن يصبر و يتريث و أن يكتم هذا األمر حتى ال يفسد خطته فهو ليس بحاجة ألن يثير
المنطقة ضد سلطانه بعد أن ظهرت أفضال "التونسي" على الناس و زاد خيره بينهم .
لكن السلطان استقبل "التونسي" و "حاكم" استقباال حسنا و أقام لهما مأدبة كبيرة دعا لها أعيان المنطقة و
قبل منهما هداياهما ,و فطن األثنان لمخاوف السلطان فأعلنا له على المأل دعمهما للسلطنة في حربه
العادلة ضد خصومه المعتدين بالمال و أن ربع الذهب المستخرج حق معلوم دائم للسلطان و دولته
فاعتبر السلطان هذا إعالن خضوع و اتفاق إذعان لحكمه مما زاده اطمئنانا ولكنه لم يقض على مخاوفه
بصورة نهائية.
و قبل رجوعهما أسر السلطان "لحاكم" بأنه سيرسل وفدا يصلح بينه و بين "سرور" و أن عليه أن يقبل
بحكم وساطتهم ،فاستعلمه عن هذا الوفد فأخبره بأسمائهم فقصدهم "حاكم" بهدايا خاصة رققت القلوب و
أتمت المطلوب.
وانفرد السلطان "بالتونسي" و "حاكم" ترجمان بينهما أثناء المأدبة المقامة على شرفهما فسأله مستحلفا له
باهلل أن يصدقه القول ويخبره عن سر قدومه الى منطقتهم من دون المناطق المشهورة بذهبها و فضتها.
فقال له التونسي و المعازف و األبواق و الدفوف تمنع القريبين من سماع الحوار الذي يدور بينهما:
-سأصدقك القول يا سيدي السلطان إن الذي جاء بي إليكم ليس الذهب وال النقود و ال الثروة و النفوذ و
لم أفعل شيئا يوجب فراري من أهلي فلم أخرج من بلدي خائفا و ال متسوال فقد كنت غنيا ذا منعة و
16
مال ونفوذ ورثته كابرا عن كابر ...و لكني خرجت أبتغي الثأر ممن قتل والدي رحمه هللا وهو يعيش
عدل السلطان من جلسته بعد أن كان متكئا و بدت سيماء الجدية على وجهه ,و قد الحظ الجميع ذلك مما
جعل صوت المزامير و الدفوف ينخفض و حديث الناس تحول من صاخب عالي الى هامس خاشع ..و قد
الحظ "التونسي" ذلك أيضا و كذلك "حاكم" الذي كان يترجم ما بين "السلطان" و "التونسي" لكن األخير
-وهو ملك عظيم في دياركم هذه فما كان لحقير أو ضعيف أن تمتد يده على والدي العظيم المقام ...
اجتهد "حاكم" أن يخفف من نبرة التحدي في ترجمته لجاللة السلطان الذي بدأ الفضول و اإلهتمام يزداد عنده
كثيرا حتى أن ذلك بدا على جبينه الذي ازداد تقطبا وقال بصوت عال سكتت له المعازف نهائيا:
كلّها غيري ..البد أن من نقل إليك خبر موته قصد بالد -ال يوجد في بالدي هذه ملك بعد هللاِ م ِ
لك الدنيا ِ
السلطان "هاشم " فهي تحاددنا ...أو أنه قصدني فال ملك غيري هنا يقتل و يحيي ,و لئن قتل والدك
لكز "حاكم" "التونسي" الذي استمر كأن لم يقل شيئا أغضب ملكا عظيما يتهدده بالقتل ,قال
"التونسي":..
-نحن أسرة تتاجر في األسود و السباع من نمور و فهود و ذئاب و ضباع و ثعالب و غيرها و نتعفف
عن صيد الغزالن و الوعول و الطيور إال ما جرح منها كالصقور و النسور ,ورثنا ذلك من جدودنا
فنحن على آثارهم سائرون ,ثم نأخذها و نبيعها في بالدنا في سوق عظيم يقام للسباع يسمى "سوق
أهراس" ,نركب لذلك المغامرات و الصعاب فإن بها مكسبا طيبا و سمعة عظيمة و شرفا بين أهلنا
17
...رباني أبي على ذلك كما ربى أبي أبوه ..و نعلم عن غاباتكم هذه و غابات غير غاباتكم الكثير مما
ثم أخرج من داخل عباءته ورقة كبيرة وفرشها أمام السلطان بعد أن بسطها من طيتها :
-أنظر يا سيدي هذه "الفاشر" حيث نجلس نحن و هنا "أوري" حيث كان ملككم يقيم قبل أن تنتقلوا إلى
"الفاشر" و تتخذونها عاصمة لكم و هذه "األبيض" حيث خرج جدكم "أحمد المعقور " العظيم ..و
حيث يجترئ عليكم "السلطان هاشم" سلطان "المسبعات "و هذا األتساع الكبير يحتوي على غابات
كثيرة تتكاثف حين تتجه جنوبا و شرقا حيث بالد حكم "الفونج" الذين ينافسونكم على حكم هذه البالد
لم تمنع هيبة السلطان و ال حرسه الحضور من اإللتفاف حول السلطان و صاحبه التونسي ليروا ما سر تلك
األوراق الكبيرة ...و قد أثارهم الفضول و تملكتهم الدهشة مما رسم فيها و زاد عجبهم نبرة التونسي الواثقة
المتحدية التي تكاد تقول للسلطان أنا أعلم منك ببالدك ..
-هذه بها تفاصيل الغابات و عرائن األسود و مرابض السباع تصفها تفصيال ...و في هذه الغابة – و
أشار بيده الى سواد مرسوم في ورقته -قتل ملكها والدي رحمه...
ضرب السلطان األرض غاضبا و صائحا :قلت لك ال ملك غيري في هذه البالد ..أنظر أيها الغريب إما أن
-هدئ من روعك يا موالي فإن الذي قتل و الدي ليس من البشر فما كان لفارس أن يجرؤ على قتله
مهما بلغت شجاعته و ليس من الجن فإن الجن يتهيب حامل القرآن و قد كان والدي يحفظ القرآن و
18
ي ستظهره عن ظهر قلب و لقد روض والدي ملوكهم و أسلموا له قيادهم ..لكن من قتله ملك عظيم
نتتبعه من عشرات السنوات إنه األسد ذو العقصة السوداء في كتفه ,ملك كل غابات أقليم السودان
الداخلي نتتبعه منذ أن كان شبال يافعا ..نتسقط أخباره كما تتسقط أخبار أعدائك العظام و جاءت
لصيده الحمالت إثر الحمالت فقد كان منيعا في سربه ,ال تصل إليه إال بعد أن تقضي على أسود و
سباع كثيرة ,فإن الذئاب و الضباع و بقية أهل الغابة يظاهرونه الوالء في نموذج عجيب شد انتباه
صيادينا و حق له ذلك ,فقد استبسل في تأمين الغابات كلها من شر الصيادين و المغامرين أمثالنا و
لقد أدهشنا حضوره و امتداد نفوذه فما من غابة ندخلها إال ونجده بها متأهبا متحفزا لقتالنا و طردنا
كأن هناك من يخبره بتحركنا من بالدنا و بوجهتنا قبل الوصول الى المنطقة ،وقد قتل هذا الملك
والدي حينما واجهه كما يتواجه الفرسان الشجعان وجها لوجه ...
ضحك السلطان حتى كاد أن ينكفئ على قفاه بعد أن علم بأن هذا الملك ملك من السباع و ليس من البشر و
لكنه أسرها في نفسه و اعتبرها نوع من عدم احترامه ذكر الملوك أمامه بهذه الجرأة و التحدي وقال له:
-نحن ال نقتل ملوك الحيوانات يا "تونسي" بل نكرمهم و نطعمهم و نحميهم ,و لقد هيأنا فرقة من
العسكر ال هم لها غير منع الصيادين و المغامرين من قتل األسود و النمور و الحيّات العظيمة ,بيننا و
بينهم تحالف و ميثاق لم ننقضه منذ مئات السنين و لم ينقضوه...و لوال أننا انشغلنا في سنواتنا
األخيرة بحروبنا مع الفونج األقوياء وحلفائهم لما كنت في مجلسك هذا و لما مات أبوك بعضة أسد
..كما تزعم و لكنكم استمرأتم الدخول الى أراضينا في غياب جنودنا و عساكرنا وانشغالهم بالقتال.
19
-إن مناطق الغابات تذخر بالصيادين المهرة من أهلها الذين يجيدون صيد األسود ..و بعضهم كان
يبيعها لنا و بعضهم نشتري منه عاج األفيال الثمين و جلد الثعابين الضخمة و لحم الكركدن األبيض
جاللة السلطان العظيم إن ثأري مع أسد واحد و ليس مع كل األسود فأنا أعاهدك على حمايتها كما
أحمي زوجتي و بناتي و سأتعاون مع عسسك و عساكرك في هذا إن أذنت لي بذلك ..ولكني نذرت
نفسي على القضاء عليه و لئن رجعت الى قومي بدونه فسوف ينبذونني و يطردونني ..فأنا ابن
"عليسة" العظيمة منذ أول الدنيا التي طوعت الجبال و البحار و وهبت حياتها إيفاء بعهدها ,و سليل
"ديهيا الكاهنة" التي خضع لها البر و البحر في زمانها لن أخون كلمتي ,,و مهجتي دون عهدي..
عظم الغريب في عيني "السلطان" و سرته نبرته و ثقته رغم أنها أخافته منه ,قال له:
-ما كان لك أن تتفوه بمثل كالمك و أنت في حضرتي لوال اطمئنانك لعهدي وثقتك بأني ال أقتل ضيفي
,و سنحمل قولك على هذا المحمل ...لكن من قال لك بأن أسدك ما زال حيا بين السباع..ربما مات
كما تموت األحياء كلها لتلتقي عند من ال يموت يوم الدينونة الكبرى ,وربما مرض أو هزل فما
لعظيم عظمة مع مرض و ربما اصطاده صياد غيرك فإن حواء والدة و فوق كل ذي علم عليم فما
تغير وجه التونسي و احمر حتى بانت الدماء في خديه و عينيه و قال:
-ما كان ألحد غيري أن يقتله و لن يموت أو أموت قبل أن أصل إليه طال الزمن أو قصر ثق بذلك
أيها السلطان الجليل ..كذا يقول الكتاب و هكذا أخبرني أبي قبل أن يموت متأثرا بجراحه و إني لقاتله
بإذن هللا...
20
لم تقنع قصة األسد السلطان كثيرا بقدر ما أثارت الشكوك في قلبه ،فما عالقة األسد بالتنجيم
عن الذهب و كيف استطاع التونسي رسم كل هذه الرسوم عن مملكته و معرفة أماكن الغابات و المدن ،و
لذلك أرسل من يراقب التونسي و يلز ُمه في حركاته و سكناته بالذات عندما يخرج خارج مناجمه ,كما
أنه استدعى حاكم في صباح ليلة الوليمة ليوجه له رسالة واضحة أن هذا الغريب تحت مسؤوليته المباشرة
و أن "حاكم" و أهله أجمعين تحت تهديد جاللته المباشر إن شعر بريبة في أمره فهو في وضع ال يحتمل
التسامح في الصغائر دعك من الكبائر ,و أبان له جيدا أنه سيقبل بأن يكون التونسي تحت حماية "حاكم"
شريطة أن يؤمن له تلك المنطقة و أن يأتيه بأخبارها ,و أنه سيعتمده "شرتايا" على أن يقبل بحكم
كان كالم "التونسي" عن األسد مثار استغراب "حاكم" فهذه المرة األولى التي يفصح فيها عن قصته مع
األسد ,و لقد أجابت هذه الرواية عن أسئلة كثيرة كانت تحوم في صدره حول نسيبه "التونسي" ..خروجه
و اختفائه أليام دون أن يعلم أحد بمكانه ..الغرباء الذين كانوا يأتون بين كل فترة و أخرى محملين بأنياب
و جلود و رؤوس ثعابين و حيوانات مختلفة ,ذلك الغريب الذي جيء محموال به و مات و دفن تحت سفح
الجبل ...ذلك الجرح الغائر في جنبه الذي تثور آالمه كل فترة من الزمن و بالذات في فصل المطر حتى
تقعده عن الحركة ..كل هذه أسرار لم يبح بها له و لم تتكشف معالم حقيقتها غير يوم أن أخبر السلطان
العظيم بسره ....ثم إن المسؤولية أصبحت كبيرة بتهديد السلطان له و السلطان في أيامه هذه أشرس من
أسد جريح هاج من رائحة دم ،و يبدو أن نفس األسئلة التي كانت تدور قبال في رأس السلطان بدأت تعمل
في رأسه ..من هو و ماذا يريد و هل له عالقة بما يدور في المنطقة من كر و فر بين سلطان المسبعات
وبين سلطان الفور خاصة و هو يقطن بين منطقتين النفوذ فيها لسلطان الفاشر و القرب فيها لسلطان
"األبيض"...
21
و في طريق الرجعة و في ساعة راحة و مقيل طلب "حاكم" من "التونسي" أن يذهب معه بعيدا عن
القافلة التي جاء بها لزيارة السلطان ليريه شيئا يخبؤه في منطقة قريبة من موقع مقيل القافلة حتى إذا ابتعد
بحيث ال يسمع أحد حديثهما طلب منه التوقف و الجلوس ريثما يخرج شيئا من ال ُخ ْرجِ و أمده بماء من
قربة يحملها في حصانه ليشرب ,فلما اطمأن إلى اطمئنانه و جلوسه ووضعه وكاء القربة في فمه أخرج
خنجرا من جفيره وأتى من خلف "التونسي" ووضع الخنجر في رقبته ممسكا برأسه تاال له إلى الخلف :
من أنت و ماذا تريد ...أصدقني و إال و حياة "أبوي الشريف" لترجعن من هنا رأسا بال قدمين...
4
-مالك يا ولد؟
ثم قامت الى شاة أخرى تحلبها تزيد بها اللبن في ماعونها األبيض ذي الوردة الحمراء ...وقفتُ
أراقبها و أراقب رقة أناملها و هي تمسك بذلك الثدي تمصره بأطراف أناملها تستجدي اللبن استجداء
و اللبن الماجن يتمنع حينا و يتطاير حينا خارج إنائه ،على يدها تارة و على وجنتها تارة أخرى و
على أعلى شفتها أو على رمشها ..فتمسح بكتفها ما طار الى وجهها و رمشها و تلعق ما عال شفتها
و يدها في تغنج و دالل ال تتكلفه ...كأنها أول مرة تحلب اللبن أو كأن ضرع الشاة لم تمتد له يد حالب
قبلها ,لكن السعادة تحسها على وجه الشياه المستسلمة الوادعة ال تقاوم بل تمد رجلها الخلفية الى يد
-هيي ها
22
-عملت شنو أنا عشان تقول لي خافي هللا؟ ...أنا هللا خايفااه ..الما خايفه أبوي يديني لي ود الفضل ..
-ود الفضل إن دايرني اليجيب جفيل أبوي التونسي ...البجيب جفيلي بياخد قسمته مني.
-شوية ما كتيرة..
-و الباقي؟
-هم ما واحد؟؟
قامت بعد أن أطلقت الشاة من بين فخذيها ثم و قفت حاملة إنائها الى شاة ثالثة و ضحكت ضحكة
قلت لها و أنا أحمل عنها إناء اللبن الى حيث النار الموقدة لغليه:
-األسد ما فارقني من يوم فتحت في الدنيا دي بقتله في اليوم مرتين و ثالثة كيف ما بقدر عليه...
23
-األسد بقتلوه كيف ؟
-ما قتلت لي أسد قبل كدة لكن بقولوا يا بحربة يا بسيف يا بحجر يفجخو بيه راسه..
"علي ود األحيمر" قال "لنعمة" بين يدي أمه و هو يروي تفاصيل ما حدث بين "سعدية" و األسد بعد
-األسد قبل ما "سعدية" تقبل عليه جاري عليها جرية جوع .....مصاريني من شفت الحمار يتلجلج و
ينطط زي المهبوش ظنيتها وقعت من بطني ..و لما سمعت نفس األسد و دق كرعيه في ورق الشجر
بتك دي ما عاقلة يا "نعمة" في عاقل يقيف لألسد؟ ...و األسد ما أسدا هوين ...األسد الشفته دة
-يا ولد هة قول بسم هللا عقلك وين ودرته ؟ البت تقيف لألسد و إنت مصارينك تقع و قلبك يطير إنت
ماك ود بطني؟..
هدأتها نعمة:
-الولد وقت بقى يعاين للبنات في برودن الجهل فارقو تب ..كالمه دة إن مرق يا "نعمة" بتفضحي
ولدي ..وأنت إن قلته تاني بقطع لسانك و ّال تفوتني ما أشوفك تاني الك ولدي وال بعرفك.
-يا مرة ما تقهري الولد الولد الكالم دةما بقا ليه بكرة تشوفيه يبقا هو ذاته األسد ما األسد البحجوا بيه.
24
قول لي يا علي ولدي وبعدين.
-الحريم هناك عيطن و صيحن ...النصيحة فيهن شالنها كرعيها – رجليها -وجرت ,و الغبت –
أغمي عليها -وعت بعد شافت أخواتها جرن جرت وراهن .و الحمار المربوط يناتل في قيده لما قلع
الغصن من شجرته بي أوراقه و باقي فروعه وجرى على جوة الغابة عكس جهة األسد الجاي
-أها
-بتك شافت األسد الجاري عليها هناك " ...عاشة" كوركت -صيحت -ووقعت مغبية – مغمى عليها -
و "غبيشة" جرت و ال اتلفتت علي زول ...إال "سعدية" جرت علي فرع التبلدية شالته و قبلت علي
األسد الجاري قبيل حرن فجأة زي التقول مربوط بي حبل و زول نتله لي ورا..
و المجنونة دي جارية عليه وتقول ليه :أبقا راجل و تعال أنا بت أبوي القتل أبوك ..
و األسد بقا زاحف ال ورا بعد ما كان جاري عليها و هي شايلة فرعها و جارية عليه ...
-أنا بت أبوي القتل أبوك أبقا راجل و تعال ...و األسد رفع راسه زي البفتش علي مكان يشرد فيه....
عيني و عينه اتالقن ..ما خلن لعيون سعدية شي الخالق الناطق ...إال شال عيونه من عيوني...و
25
-جد سعدية ظهر يا "علي" و ال ما ظهر أبوها التونسي وقف جنب بته و ال خالها لألسد ,نهر األسد
-من عين األسد وقعت في عيني الدنيا ضلمت قدامي النهار بقا أسود زي الليل ...لما نور عيوني رجع
5
والدي و أستاذ آدم و الحاج مرحوم و شيخ القرية و مجموعة من كبار أهل القرية جلسوا مع وفد من
الحكومة الذي جاء في ثالث عربات "كومر" ..تعلوا أصواتهم بين حين و آخر ثم تهدأ من جديد...
نقف نحن خارج القطية الكبيرة نتصنت الى ما يدور فلما يكثر عددنا بحيث نحجب الهواء الداخل أو
حين يعلوا صوتنا على صوت من بالداخل ينتهرنا أحد الكبار طاردا لنا ..و ما فهمناه من الحديث أن
الذين جاؤوا من الحكومة إنما جاؤوا لغرضين أولهما أنهم جاؤوا ليطمئنوا على أهل هذه القرية من
هجوم األسود األخير و ليطمئنوا على أن ال خسائر في األرواح و الممتلكات كبيرة عارضين
مواساتهم و خدمتهم في أخذ جرحى الهجوم الى مشافي أكبر من مشفى أستاذ آدم ,...و الغرض
الثاني هو إقناع أهل القرية بترك هذه القرية الى قرية أكثر أمنا و أرحب منزال و أنفع خدمات ..
قرية ملحقة بمدينة كبير ،مياهها متوفرة و مدارسها مبنية و سوقها عامر و مشافيها مؤهلة و طرقها
فلما وقفت أمامه سألني و عينه على شيخ القرية الذي كان يعلو صوته قبله :هل تقرأ فلما هززت
26
-في أي صف
-أنا هنا أدرسهم جميعا في فصل واحد أعلمهم القرآن و بعض الحساب و شيء من العلوم
األوالد سيكونون ضحية بقائكم هنا ..ليس معقوال أن يدرسوا بهذه الطريقة بينما تتوفر الخدمات و -
انفض سامر اإلجتماع بال نتيجة غير غضب الطرفين و القرية القابعة بين مجاري مياه الخريف
الكثيرة تحتوشها األشجار و تحيط بها من كل جانب و بكثافة من ناحيتها الشرقية ال تزال تتوجع من
هجمة األسود األخيرة و تجاهل الحكومة و طلبها لهم بترك منازلهم القديمة التي توارثوها من أزمان
-قالوا إنه القرية الجنبنا قرروا االستجابة لطلب الحكومة وأنهم بدأوا بالرحيل فعال ...خافوا أن يحصل
-يا أخوانا العاقل يعرف محل يضع راسه ...األسود طالبة شي من قريتنا القرى الجنبنا كلها آمنة و
مستقرة مع إنها أقرب الى مراتع الحيوانات من قريتنا لكنها هجمتنا أكثر من ثالث مرات نحن دون
-هل جننت ؟ الحيوانات ما بتفرز بحركها الجوع بتمشي من غير دليل غير ريحة فريستها ..قسمتكم
27
أخذ رأي يتبلور أن هذه الحيوانات مدفوعة لغاية يجهلها الجميع ...و بدأ همس خبيث أعرف مصدره
يومئ الى حادثة "أم جفيل" و هجوم األسود األخير مستشهدا بمالحظات بدأت تنتشر نارها سريعا ,
فاألسود كان بإمكانها أن تحدث خسائر كبيرة لو كان محركها الجوع فقط فقد كان متاحا لها بقر و
أغنا م و ضأن كثير كان يسرح بالقرب من مكان هجومها و لكنها لم تذهب في إتجاهه ,و أنها لقيت
أول من لقيت بنت "الناجي" ابنة العاشرة و هي تسرح و راء غنمها لكنها لم تهجم عليها و ال على
غنمها ,ثم أنها لم تهاجم الجموع التي تصدت لها كما أنها لم تهرب منهم أول رؤيتهم بل انتظرتهم
حتى هاجموها و بدأوا يضربونها بالحجارة و الحراب و يشعلوا النار في وجهها ..حينها هاجمتهم و
هربت ...
قلت لها و أ نا مستلق على ظهري فوق حصير أمام باب بيتنا أنظر الى نجمة بعيدة :ألم يقولوا أنها
تحمل أرواح آبائنا األقدمين و أنها تجري بسرهم و تعيش قصتهم في عالمها ..
اتكأت جدتي في سريرها واضعة رأسها فوق كفها متخذة ساعدها و يدها كوسادة :العلم عند هللا لكن
سر هذه الوحوش هذه األيام مدفون في قريتنا ...و أنا أعرف مكانه.
كأني كنت أعلم ما تريد قوله لكني لم أحول نظري من نجمتي :أين مكانه؟
نظرت اليها فوجدتها تنظر الى حيث كنت أنظر :يا حبوبة كالمك هذا مأل القرية كلها ...لماذا ال
-أمي هي الما بتحب أمها و أرضعتنا كرهها من نحن لسة ما فطمونا ..كان أنا مفروض أكون "نعمة"
و ألني سمعت هذه القصة كثيرا و بحكمة شيخ ال طفل صغير قلت :
28
-أال يقولون على هذه القسمة كل واحد يأخذ قسمته يا حبوبة
سكتت ثم استطردت:
ثم تحدثت كمن يحدث نفسه :بركة الما بقيت "نعمة" ...ال أقدر على مثل هذه الشقاء..
-الشقاء لما "نعمة" تشوف األسد بياكل بناتها واحدة ورا الثانية أمام عينيها..
جدتي تحمل حقدا قديما على "نعمة" و بناتها و تظن أنها كانت األولى بهذا الجمال منهن لو أن و الد
"نعمة" تزوج أمها هكذا أخبرها "الودع" الذي ترميه تستكشف به الماضي و المستقبل و هكذا قصت
لها أمها عن غرام استبيح لم يرعه "حمدان" حق رعايته رغم و عود الهوى و خلواته ,فقد كانت
-سنرى عجبا ...األسود إن لم تأخذ ثأرها من بنت "حاكم " نعمة" لن تترك القرية تهنأ براحة ...
-اليوم ناس الحكومة جاؤوا و طلبوا أن نرحل من هذه القرية ..ناسنا كأنهم اقتنعوا شايف القرى التي
حولنا تمتثل الى أمر الحكومة ...لو رحلنا لربما كفينا القرية شر األسود هكذا يقول أستاذ آدم..
ضحكت جدتي و هي تنظر الى أفق بعيد بعد أن استلقت تنظر الى نجمتي التي ازداد بريقها مع ازدياد
تملكني إحساس غريب حرك لي بطني من هول ما قالت جدتي كيف يأكلهن األسد؟ و تذكرت قول "أم
29
استطاعت جدتي نشر هذه الرؤية بقوة فانتشرت بين النساء ثم بين الرجال و ازدادت بتأويالت أخرى
المنطقي فيها أقل من الخيالي ...يقول بعضهم أن األسود جاءت لتثأر لهزيمة كبيرهم من "أم جفيل" في
يوم الهجوم المشهور عند "الحفير الصباحي" فقبيلة األسود كالثعابين ال ترضى الهزيمة و ال تنسى من
هزمها و ال تقر له بنصر ،و آخرون ذهبوا لرواية تروى عن والد "التونسي" الذي خطفته األسود ثم
عادت به كما خطفت "مهران" ولده من بعده ،و لربما هي عائدة لتخطف "سعدية" كما خطفت أختها من
قبل ...و لكن الفرصة التي سنحت لها ضيعتها ،فهل رجعت مرة أخرى لهذا األمر ؟ هذا معناه أنها ستعود
ثانية و ثالثة الى أن تجد "سعدية" فيرد بعض مناصريها و هم كثر معظمهم من الشباب المفتونين
"بسعدية " :إن هذا الهجوم محسوب ضمن الهجمات الثالث المذكورة و الهجمة األولى هي هجوم على
قطيع الحاج مرحوم و األخيرة هي هذه فاألمر ال يعدو أن يكون جوع تملك الغابة إثر هجرة القطعان
جنوبا خلف المطر فوجدت األسود أن األرض خلت ممن يكون لها طعاما فاستهدفت القرى لسهولة
اصطياد األبقار و الشياه المزروبة و المدجنة التي لم تعتد على فرار أو دفاع.....
بعضهم يقول أن هذا البيت أي بيت آل "نعمة " أصابته لعنة قديمة انتقلت من أمها ال من أبيها "حمدان"
إذ انتكس عمل سحر أسود قامت به أمها لخطف قلب أبيها لكونها لم تلتزم بشروط الساحر الصعبة فارتد
العمل على بيتها و استدلوا بقلة انجاب هذا البيت بل و تأخره في ذلك الى أن تزوج "حمدان" بأخرى لكنه
لم ينجب منها و انجب اثنتين من أم "نعمة" إحداهن "نعمة" و الثانية أختها التي ماتت أو هكذا يظن إذ
خرجت ذات ورود لجلب الماء و لم تعد ..و إني ألرى يد جدتي في هذا القول واضحة ال تورية فيها.. ..
و لكن من حضر الماضي أنكر كثيرا مما تزعمه هذه الرؤية ..فإن والد "نعمة" "حمدان" اشتهر منذ
صغره بحبه ألم "نعمة" و كان زواجه منها تتويجا لهذا الحب فرح به كل ذويهما فهما ابناء عمومة
يجمعهما دم واحد قبل قلبيهما الذين يجري فيهما ,و لوال إلحاح أم "حمدان" عليه أن يتزوج -بعد أن لم
يرزقه هللا الذرية -لعل هللا يرزقه من أخرى بنين تقر بهم عينه كما يفعل الرجال لما فعل ،و لقد أنجبت
30
أم "نعمة" بنتيها على كبر بعد أن يأست من اإلنجاب و يبقى سر اختفاء بنت "نعمة" األولى هو نقطة قوة
هذه الرواية...
6
في "سوق أهراس" ..السوق الشهري الذي يجتمع له باعة ومشتري السباع المفترسة و المروضة و
أعضائها الثمينة كرؤوس السباع و أنيابها و جلودها و ما غال منها و ندر من كل الدنيا ,يعقد ك ُل أول
أسبوع من أول شهر قمري ويستمر لمد عشرة أيام ,ينفض بعدها ليعقد في موعده أول الشهرالقادم ,
ويكاد يكون مهرجانا ال يتم فيه البيع و الشراء فحسب بل تقام فيه المهرجانات الراقصة و حلبات
المصارعة و سباقات الخيل و اإلبل و بيع النوادر من التحف و العطور التي يكون أغالها عطر دم
الغزال " المسك " و عطر دم الحوت " العنبر" ،و بهذاالسوق جناح ألخشاب األثاث و لألخشاب
الطبية التي تقصد من بالد الدنيا المختلفة و أخشاب العطر كالصندل و الطلح ي ُ
بعث إليها خدم األمراء
واألميرات و الملوك الوفود من أماكن و دول بعيدة غالبا ما تكون وراء البحر األبيض المتوسط ...كما
تزدهر فيه تجارة الرقيق الذين يُجلبون عبر حمالت منظمة يقوم بها تجار و ن ّهابة يتخصصون في
اصطياد الشباب من الجنسين ،أو تتبع أخبارالحروب في كل الدنيا القريبة ليقومو بشراء أسراها من
الطرفين فإما أن يتم مقايضتهم مع ذويهم مقابل ثمن يزيد و ينقص حسب وضع األسير و إما أن يباعوا في
أسواق العبيد المنتشرة في الدنيا و هذا السوق أحدها بل ومن أكبرها .
و يستبشر الناس إن وقع السوق يوم جمعة أو خميس لما فيهما من بركة و فضل على بقية األيام ؛ و
بالسوق حوانيت للزينة يقصدها الرجال كما النساء و حمامات للرجال و للنساء تعنى بنظافة البشرة و
تجميلها و العناية بالشعر بالزيوت األفريقية التي لن تجدها مجتمعة إال هنا ,يأتي بها التجار و الصيادون
من أدغال أفريقيا البعيدة ,ملحقة بأبنية المنازل التي تستضيف الوفود من كل مكان يعمل بها ولدان و
31
جواري بمو اصفات خاصة رقيقي األيدي و الحواشي حلوي اللسان و الكالم جميلي الوجه و الطلة ،هذه
النزل لها درجات و مقامات فنزل األمراء ليست كنزل عامة األغنياء و من باب أولى ليست كنزل العامة
من تجار و مشترين و عابري سبيل ,فاألولى تكون على مرتفعات شرقي السوق مطلة عليه كما و تطل
على أودية خالبة المناظر يتدفق منها الماء تنأى بهم عن سماع الضجيج و زحمة الباعة و المشترين
والمتطفلين لها طرق معبدة مرصوفة تسع خيلهم و بقالهم ذوات العربات الفارهة ,و الثانية أقل منها
ارتفاعا و أقرب مكانا للسوق و تشرف على متنزه جميل أعد بعناية لمقام ذوي المال و األخيرة تجاور
و سوق "أهراس" مصدر ضخم للروايات و القصص واألساطير التي ينشط رواتها في أيام هذا السوق
يتخذون لهم مواقع يتحلق الناس حولها اشتهر منهم رواة بعينهم يقصدهم طالبي األساطير و معرفة أخبار
الدنيا ,و يجعلون لهم مترجمين توضع لهم منابر خاصة يؤمها أصحاب اللغات و اللهجات المختلفة الذين
يقصدون هذا السوق ليزيدو ثقافتهم ويرووا نهمهم حول ما يجري في الدنيا و خصوصا األوربيون منهم ,
و يقصدها كذلك جواسيس ملوك و سالطين ودايات و رؤساء دول مختلفة حيث يجدون بعض األخبار و
الروايات التي تشجع المغامرين منهم على خوض حروب أو تثنيهم عنها فقد نشط طالب المجد و التوسع
منهم ..
يجلس هؤالء الرواة مع الصيادين و التجار الذين جابوا البالد و الغابات يأخذون منهم قصصهم و
أحاجيهم و الروايات و المغامرات التي كثيرا ما يزيدها أصحابها ليعطوا بعض المجد و النبوغ و السيرة
ألشخاصهم فيعيدون صياغتها أضافة و حذفا ,تشويقا و تهويال لتخرج بثوب قشيب تصحبه موسيقا
"القنيبري" و "الهجهوج" ...و بأختصار هذا سوق للذين يحملون من األموال الكثير و للذين يحملون من
الشغف المثير.
32
و كان لقصة األسد األعرج جمهور خاص بعضهم يأتي من وراء البحار البعيدة و أخرون من البلدان
التي ترهق الخيل القوية في طلب الوصول إليها ,يأتي كل شهر ليعرف الجديد من أخباره و تغلبه على
الصيادين الذين ال يخلو شهر من خبر منهم أو عنهم يزيد في إثارتها ,فقد أصبح األسد بطال أسطوريا ,
له جمهور كبير يؤيد و يتتبع و يفرح النتصاراته على الصيادين من مختلف جنسياتهم ,كما اشتهر
صيادون قلة عبر هؤالء الرواة منهم علوش و المحمداني و حسان من الشمال كما يأتي من العمق
األفريقي صيادون أشاوس يعرضون نتاج صيدهم منهم موجيانا و شيانقا و كوباكي ....كما جذب األسد
مغامرين أوربيين ليخوضوا األدغال األفريقية تحركوا من بلدانهم خصيصا ألجل صيده فقد كان وقع
قصص هؤالء الحكواتية كبيرا على نفوس السامعة ،خصوصا و أن بعض القصص يكون لها شواهد
حية كصياد حي موجود يرونه ماشيا في السوق و ليس من الخيال ،أو أسد شجاع يرونه مكتوفا بين
المعروضات ،أو رأس فيل و السيف الذي جزه ،بل و الصيادين الذين تمكنوا منه ...بل و أحيانا يؤكد
الغلو في هذه القصص و إثارتها تأثرهم فرحا و حزنا بغياب صياد لموت أو لجرح أو مواصلة مطاردة ،
و كثير من الصيادين يحملون جروحا غائرة أو ظاهرة يتباهون بها إظهارا لشجاعتهم في وجه األسود ..
ينسجون حولها القصص الدالة على استبسالهم و شجاعتهم في مواجهتها كأنها هي التي قصدتهم ال هم من
اعتدى عليها و روعها باألسر أو القتل يجيئون إلى مواطنها اآلمنة من بلدان بعيدة ال لشيء سوى لكي
يؤذونها ،و كان لتجريد الحمالت في العثور على صياد اختفى أو حملة صيد تأخرت ،و الحركة التي
تصاحب إعدادها في السوق من جمع تبرعات و تجهيز مطايا و إعداد مؤن فإن صادفت أيام السوق
الكبيرة كان لها صدى يزيد من حماس الناس و الرواة و السامعين الذين يشدهم الفضول لمتابعة خبره ،
فتكون مادة غنية للتأليف و الزيادة و الخيال ،هذه الحمالت التي كان أولها حملة العثور على "الباهي"
33
و قد كانت الجبال المحيطة بالسوق و غاباتها المخضرة مدار العام مسرحا لعمليات صيد كبير زاد من
حماسها ذلك األسد المرعب الذي لم يستطع عليه أمهر الصائدين و الذي أطلق عليه الحكواتية لقب "مراد
باي" تشبيها له "بمراد باي" العظيم الذي سمت به همته من العبودية و الرق الى حكم تونس كلها ..خلق
هذا األسد حماسا غريبا لطالب البطولة و السمعة الحسنة و المغامرة ...حتى أن بعض مضاربي السوق
وضعوا مبلغا كبيرا ل من يأتي به حيا و مبلغا كبيرا و لكن أقل منه لمن يأتي به ميتا ,و كان كلما جاءت
بعثة صيد أو جماعة صائدة أو صيادون منفردون و قليل ما هم ,يتكاثر حولهم الناس ليأخذوا األخبار
طازجة عنهم قبل نقلها للحكواتية و لكن الصيادين كانوا ال يخبرون أحدا غيرهم ,فهم يدفعون لهم مقابل
ذلك ثم إنهم يقومون بتمجيدهم و الدعاية لهم أمام الزوار خاصة األوربيون الذين يدفعون أثمانا عالية
مقابل صيد الصياد ذي السمعة الماجدة ...و كان يحرص كل صائد أن ال يعود خالي الوفاض من خبر أو
قصة عن ذلك األسد "مراد باي" حتى و إن لم يقابله أو يتعرض لموقف معه فإنه يجلس هو وزمرته
الصائدة ينسجون قصة من وحي الخيال تقارب الواقع لينقلوها الى الحكواتية ...فقد كان عيبا كبيرا أن
يرجع صياد دون أن تكون له قصة أو مغامرة مع هذا األسد مما أضاف لألسد األعرج بل لألسود عموما
أبعادا أسطورية جعلت منهم ملوكا للغابات في الرصيد الشعبي العالمي ال نملك غير أن نقول أنهم
يستحقونها...
أصبح األسد األعرج "مراد باي" بركة على بقية الحيوانات التي كسد سوقها و قلت أسعارها و وباال على
األسود التي تناقص عددها بشكل ملحوظ حيث كثر صيدها و تهافت الصيادون عليها وعرفوا مخابأها و
أماكن تواجدها و عاداتها و أزمان توالدها و طرق تناسلها و حياتها اإلجتماعية و مصايفها و مشاتيها ...
و ابتكروا طرقا مبتكرة لصيدها و تفننوا في ذلك و صنعوا آالت ذات إمكانيات متخصصة تفلح في تشتيت
انتباه األسد األعرج فقد صنعت خصيصا له ,إذ شكلت حمى األسد األعرج في منطقة الشمال و الغرب
األفريقي ظاهرة اجتاحت حتى المجتمعات الثقافية و الدينية و أصحاب المهن اإلقتصادية المختلفة التي ال
34
عالقة لها بالصيد كالزراعة و الرعي...و تباهى األغنياء باقتنائهم لجلود األسود و أنيابها و رؤوسها
رغما عن نهي الوعاظ في المساجد عن ذلك و اعتبارهم أن هذا من السخط و اللعنة اإلالهية ,و أصبح
من كسوة العروس الالزمة ف ْرو جلد األسد الذي يوضع زينة في البيت أو يتخذ كسجادة صالة أو تعمل
منه األحذية و أواني حفظ و تبريد الماء بدال عن جلود األبقار و الماعز بل و صنعت منها اآلالت
الموسيقية الفخمة ...و كل هذا يباع في سوق أهراس ثم منه الى األسواق األوربية و األسواق الداخلية
غير أن هذه الموجة الشرسة التي استمرت ألربع سنوات حسوما تزيد و ال تنقص أدت الى هجر األسود
للغابة المتاخمة للسوق ,و ابتعادها في العمق األفريقي جنوبا و غربا و شرقا عبر امتداد الغابات و
الصحاري و اقترانها مع بعضها البعض ,فاصبحت طلعات الصيادين تتأخر لشهور تكاد تقارب السنة
مما جعل الحماس يفتر عن سابقته و أصبحت قصص األسد األعرج تكاد تندثر إال من حكواتي يؤلف
شكل وجود األسد األعرج أو "مراد باي" لغزا محيرا و تحديا مثيرا للهواة و المحترفين من الصيادين ,
ال تجد له مكانا محددا فهو كثير الحركة و التجوال في غابات الجبال المحيطة بالسوق فمن وجده بجبال
"صالح" لن ينكر على من رآه بجبال "أوالد مؤمن" و لن يغالط إن ادعى ثالث سماع صوته المميز في
جبال "أم العظائم" ,و كثيرا ما يروي صياد عن ظهوره المفاجئ له كالجني في "عين دالية " يعدو
الذي تتجاوب معه األسود و السباع فتزأر بعده مأوبة مثيرة الرعب في قلب كل من سولت له نفسه اقتحام
مملكته ,و كم من مرة يعد الصياد و فريقه الشراك الجعدلية المحكمة لصيده ثم يختبئون خلف شجرة أو
35
صخرة فيفاجأ الجميع بتخطيه الشرك و ظهوره أمامهم مباشرة وجها لوجه بال عازل أو ملجأ و سرعان
ما يتجمع األسود و السباع المختلفة إثر زأرة واحدة تدلهم على مكانه و صيده من الصيادين الضحايا
فتصبح الغابة كلها أسودا ...فال يملكون غير انتظار رحمة هللا التي عزمت صحبتها "لمراد باي" و قبيلته
دون الصياد و زمرته ,و لكنها أي رحمة هللا تتدخل فتصرف عنهم األسود زهدا فيهم و إعالنا لإلنتصار
المنتصر المهزوم الى خارج الغابة مطرودا ذليال تاركا سالحه و شراكه خلفه بعد معركة
ُ عليهم فيُش ِيّع
بسيطة الهدف منها رمي سالح العدو و طرده ليس إال ,يقتل فيها من يقاوم و يجرح فيها من ال يعلن
استسالمه بسهولة ...و لذلك أصبح من مسلمات صيد األسود في تلك النواحي االستسالم ورمي السالح و
رفع اليدين الفارغتين و التقهقر رويدا رويدا الى إن تُأمن غضبة "مراد باي األعرج " إذا ما خانك الحظ
و رماك قدرك في مثل هذا الموقف المهيب ..و لكن الويل لك إن كانت هذه المرة هي المرة الثانية التي
وكم من مرة أتى بخبره أهل العمق األفريقي بالذات في الفترة التي انحسر وجود األسود في الجبال
الشمالية فيأتي بأخباره صيادوا "باماكو" و نهر " نيل السودان " كما يسميه العرب أو نهر"اجرون
يجرون" كما يسميه "الطوارق " أو نهر "النيجر" كما سمي حديثا ،فشبهوه بالبطل العظيم " ماندينقا
سوندياتا كيتا" أو " ماري جاتا" األعرج و التي تعني "أسد مالي" فقد كان مقعدا و لكنه أمسك
بصولجان أبيه فقام و قامت معه بالده فو ّحد القبائل و انتصر على "سمانجورو" في معركة "كيريانا"
الشهيرة و أنشأ "سلطنة مالي العظيمة" على طول "نهرالنيجر" حتى "المحيط األطلسي" و التي امتدت
لقرون طويلة مجيدة عزيزة – فأطلق عليه صيادوا قبائل "السوننكي" و قبائل "المادينغا" و مقاتلوها
األشاوس لقب " ماري جاتا " بعد أن فعل بهم مثل ما فعل بسابقيهم في الشمال البعيد و قد الحظوا
بفراستهم تفانيه في حماية كل الغابة و ليس قطيعه الذي يماشيه و يستأنس به فقط كفعل باقي الحيوانات و
36
فلما كثر عدد األسود أصبح وجودها خطرا يتهدد الحيوانات و البشر في تلك المناطق أخذ السكان يشنون
عليها حمالت منتظمة و مستمرة تهدف الى قتلها أو طردها من المناطق المتاخمة يتزعمها الصياد
الشهير "موجيانا" الذي جابت سمعته اآلفاق حتى وصلت الى ذلك السوق البعيد فوصله منه من يدعوه
الى مهرجاناته ليراه الناس و يحكي لهم عن مغامراته مع األسود و بالذات األسد ذي العرجة البائنة
"مراد باي" أو " ماري جاتا " و كان ذلك بتمويل من أحد األثرياء األوربيين ألحد أشهر الحكواتية الذين
بدأ سوقهم يضمحل بعد اضمحالل قصص األسد األعرج و تطاول الزمن على أخبار صياديه..
و كما في الشمال األفريقي فإن استبسال " ماري جاتا" األعرج في العمق األفريقي في حماية القطعان من
األسود التي رحلت بسبب الهجمات المتعطشة للمجد و الشهرة تاركة وراءها بيئتها التي نشأت فيها و
تكاثرت سالالتها بها منذ القدم ,ساعد استبساله في الحفاظ على كينونة األسود الشمالية من التشتت و على
ساللتها الجبلية من اإلنقراض و على هويتها وسط حيوانات و سباع الداخل األفريقي الشهيرة بحدة
طباعها و شراستها التي مرستها عليها كثافة األدغال و قوة الصراع بين الحيوانات المفترسة القوية على
ضعاف الحيوانات المستضعفة التي غالبا ما تكون فريسة سائغة ألسد ظالم أو لنمر عابث أو لذئب مخادع
القرويون الذين يحاددون نهر "النيجر" شهدت حياتهم الكثير من التحوالت اإلقتصادية وفقا لسخاء المطر
المعطاء وشحه الذي ال يكاد يتوقف اال قليال ال اعتمادا على فيض أياد النهر العظيم و كرمه و لذلك كانوا
كثيري الشكر هلل ,الذين وهبهم رزقهم من السماء ال يتعبهم فيه بشق أرض وال بحفر ترعة ,و كانوا
يتقاسمون التصدق بعجل شهري يلقونه لألسود و السباع داخل الغابة امتنانا و عرفانا هلل على توجيهه لها
بعدم مهاجمتهم ,ثم تقربا لها و تزلفا بسالف يد عندها تحميهم من غضبتها حين تجوع و رغبتها في
اإلفتراس ..و حين يتأخر المطر فإنهم يعمدون الى طفل معاق أو طفلة عاجزة بمرض أو إعاقة تحايال
على شرط "السحرة" الذين طالبوا بطفل صحيح الجسم غير معتل -يختارونه بالقرعة بواسطة ساحرهم
37
األكبر أو من ينوب عنه ثم يحملونه و يربطونه الى جزع شجرة كبيرة يوما كامال فإن وجدوه صبيحة
اليوم التالي حيا لم يصب بشيء فرحوا و انتظروا المطر الذي ال يتأخر عليهم بعدها كثيرا ,و إن وجدوه
قد افترسه حيوان مفترس ل ّجوا في التضرع و االستغفار و وهب األبقار للحيوانات المفترسة تصدقا هلل
كي يتعطف عليهم و يكرمهم بإنزال المطر ,,,ولو شقوا الترع و حفروا القنوات لكان خيرا لهم.
تعودت األسود التي نشأت في منطقة حوض النيجر األوسط على هذه العادة و رعت عهودها بعناية فائقة
فكانت ال تعتدي على إنسان طالما التزم عدم اإلعتداء عليها ..ال يشذ عنها إال الذئب ذو النفس الجشعة و
الضبع ذو الطبيعة الغدارة ...فإذا أغضبت كرائم السباع باعتداء عليها فإنها تثور في غضبة كبيرة تهاجم
إثرها القرى و حيواناتها و إنسا نها ال ترعى عهدا و ال ذمة قديمة ..و كذلك إذا ما اعتدى أحد السباع
على قرية أو حيوان مستأنس هو ألحد القرويين أو انسان بريء فإن أهل القرى القريبة كلهم
يتضامنون في غضبة ضارية تخرج لها كل القرى رجاال و نساء شبابا و شيبا و أطفاال يحرقون مراتعها
و يقتلون من وجدوه منها ال يسلم منهم إال من أنقذته أقدامه ويستمر هذا األمر الى أن يتدخل حكيم يصلح
بين الطرفين فتعود الحياة الى سابق عهدها....و يكون اإلصالح بجمع ما قتل من السباع و الوحوش ال
ليأكلوه و كانوا إذا ما اصطادوا شيئا من السباع في غير هذا اليوم أكلوه ,,بل يرمونه إليهم في مناطق
بعيدة تفصل بين الفريقين فريق السباع و فريق القرويين و يرجع القرويون الى قراهم بعد أن هدأت
ثائرتهم و شفي غيظ قلوبهم و أطمأنوا أنهم لقنوا األسود و السباع المفترسة األخرى درسا قاسيا ..ال تلبث
الحياة بعدها أن تعود الى سابق عهدها...لكن األسود الغريبة جديدة على عادات أهل هذه المنطقة لم تتعود
عليها فقد كانت حياتها كلها بين طارد و مطرود ,لم تعهد السلم مع هذا الكائن ذي االساقين الذي يقف
منتصبا كما األشجار و لكنه ال كمثلها يتحرك ،و ال لفترات قليلة يستجم فيها الطرفان كهدنة ينصلح فيها
حالها يزيد نسلها و تقوى صحتها ..خاصة في الفترات األخيرة ،أدى هذا الحال لريبتها منه و اتخاذها له
عدوا مبينا..
38
و لذلك كثيرا ما كانت تتعدى على تلك المواثيق و العادات المتبعة بين أهل هذه المنطقة الجديدة عليهم و
بين أهلها من السباع و الوحوش ،فإذا ما وجدت بقرة أو عجال أو كبشا أو غير ذلك مما عظم أو صغر
من ماشيتهم فإنها ال تتورع من الفتك به و أخذه لسد جوعة أو لتأمين غذاء ،وإذا ما التقت بذلك الكائن
المنتصب ذي القدمين المتحرك فإن ردة فعلها الطبيعية هي الهجوم عليه ال تخاف عاقبة و ال تبالي
بمصير...
فاتخذتها السباع األخرى عدوا نافسها في المرعى و المسكن و النفوذ ,و أثار حفيظة القرويين الحلفاء
عليهم أجمعين القدامى و القادمين ,إذ تتالت هجماتهم الضارية عليهم ,فروعتهم فأصبح دخولهم الى
مراتعهم في الغابة دخول توجس و مكوثهم فيها مكوث عجلة ,عكس القادمين الجدد الذين اعتادوا على
الكر و الفر في ماضيهم القريب فليس في حفيظة ثائرة من مهدد و ال في نار متقدة من خطر و ال في
سالح مشهرور من مخاف ،ترد التهديد بهجمة أو فرار بعده هجمة و تجيد التعامل مع النار ،فقد تعلمت
أن النار تؤذي عدوها كما تؤذيها ,و تعرف كيف تخاتل السالح فال يصيبها إال حين غفلة ،ثم إنها تعتدي
على من اعتدى عليها ال تترك ثأرا يبيت ،هذا و قائدها األعرج "ماري جاتا" يكبح جنوده حينا و يجمح
بهم حينا آخر فاشتهر و ذاع صيته كما كان ذائعا في مراتع الشمال البعيدة...
حانوت "الباهي البنزرتي" الكبير األنيق الذي يقع في الجهة الشرقية المطلة على مدخل الملوك و
األمراء ,يقع منها في الواجهة المشرفة على الجبال الشرقية ..يأخذ كل المنظر المطل على السوق من
نزل األغنياء و األمراء و أصحاب الفخامة ,فال يُرى من السوق إال حانوته و بعض يسير من الحانوت
الذي يجاوره و حركة المتجولين الذين يدخلون الى السوق من هذه الناحية و أسقف الحوانيت المطلة على
الغرب و جدرها الخلفية ,التي حرص أصحابها على تزيينها و طالئها بألوان قشيبة حتى ال يجرح
المنظر الكلي حسن و بهاء اللوحة المطلة على نزل األمراء و األغنياء ,فيأخذ المنظر كله لوحة زاهية ...
اشتهر متجره هذا منذ عقود و رثه عن أبيه " لخضر" الذي جاء في وقت مبكر كصياد صغير يبيع ما
39
الصغيرة و الطيور المختلفة بعد أن بدأ من هللا به عليه من صيد يومه من الثعالب و الغزالن و األيائل
حياته و هو شاب صغير كصائد أسماك في مدينة "هيبو" أو "بنزرت" كما يسميها األوربيون الذين
تطورت حياة " لخضر"والد "الباهي" و ازدهرت بعد أن قطن "سوق أهراس" و بدأ كتاجر صغير يبيع
صيده اليومي مفترشا األرض ثم متخذا له طاولة تطورت الى عربة متحركة تعرف بسببها على
"مختار" كبير تجارالسوق يقضي له حوائجه و يوصل له أماناته بعد أن اشتهر بهذ الخصلة الثمينة
"األمانة" ,فلما أن امتلك قليل مال و بواسطة صديقه التاجر الكبير امتلك حانوتا صغيرا في أقصى زوايا
السوق ,و بجهده و اجتهاده أصبح دكانه القصي مقصودا بعينه ,تجد فيه ما ال تجده في غيره من
مطلوبات الصيد فقد تطورت مهنته من تاجر يبيع ما يصيده الى تاجر يبيع أدوات الصيد و يعلم الصيادين
الجدد و الهواة مهارات الصيد و كيفية استخدام اآلالت التي يشترونها منه مقابل جعل من المال متفق عليه
،و تخرج على يديه كثيرمن أمهر صيادي "سوق أهراس" ،فقد كان يأخذهم في طلوعه للصيد مدربا و
مستفيدا مما يصيدونه بنسبة متفق عليها ...و رويدا رويدا زاد ماله الذي لم يكن ينفق منه كثيرا فال والد
قريب ينفق عليه و ال زوجة و ال ولد ..فاشترى دكانا وسط السوق حيث المشترين الكبار يأخذ إليه ما
زوجه"مختار"
يستغليه على حانوته الصغير القصي الذي جعل فيه صبيا يخلفه في البيع و الحراسةّ ...
كبير تجار السوق ابنته الكبيرة " ح ّمانة" ،ذات الشخصية القوية و المكانة الكبيرة في قلب أبيها الذي كان
يكثر من مشورتها و االستفادة من رأيها الثاقب ،وهي من أشارت إليه بتقريب هذا الشاب ال"الهيبوي""
البنزرتي" فقد آنست فيه ما لم تأنس في بقية تجار سوق "أهراس" كلهم ..فهو شاب صغير السن تكاد
سيماء الذكاء تطفر من عينه وثبا ,طموح يقضي الليالي ذوات العدد في إعداد بضائعه و ترتيبها ,أمين
اتخذه كثير من التجار مخبأ أموالهم و أسرارهم ,محبوب وسطهم و قل أن تجد بينهم من يتمتع بهذه
الصفة فقد كانوا يتحاسدون و يغير كل منهم من أخيه كما التجار في كل الدنيا يفعلون ,زاده زواجه من
40
"حمانة" مكانة و هيبة بين التجار و لكنه لم يعتمد على هذا الزواج إال في تعجيل بزوغ اسمه فقد كان
عصاميا يخرج الى صيده بنفسه و يدير تجارته وحده و يضع خططه و ينفذها بإرادته و كسب يده,
و قد حاولت "ح ّمانة" تمويله في كثير مما يعزم على فعله و لكنه كان يرفض و يقول لها مات أبي و لم
يأخذ من أم ي درهما واحدا و لن أدنس نهج أبي بفعلتي هذه ويقول لها دائما :ما ال نستطيع فعله اليوم
نفعله غدا بإذن هللا إن قصدناه ,فلما أن وهبهما هللا "الباهي" أخذت بعض مال و وضعته في يده قائلة هذه
هدية "للباهي " خذها و نميها له تنفعه بها ,فأخذها و اشترى بها قطعة كبيرة شمال السوق وخارجه
سجلها باسم "الباهي" مطلة على الجبال الشرقية و جعلها كلها متجرا رغم امتعاض التجار و اعتراض
كبيرهم أبي "ح ّمانة" الذي بدأ الخوف يدب في قلبه من منازعة هذا الشاب له في شياخته على السوق ..
لكن ابنته العاقلة هدأت من روعه قائلة له بأنه ال أحد من أبنائه اآلخرين له رغبة في تجارة و ال علم لهم
بها ألن تجارة هذا السوق تجارة خطرة تتعامل مع الحيوانات و تتطلب جهدا شاقا لم يعودهم عليه أبوهم ,
و نصحته بأن يتخذ صهره ولدا فهو ليس بالغريب فهو زوج ابنته الحبيبة و قالت له فإذا ما أصابك ضعف
الكبر تنازل له تدريجيا عن مكانتك التي أظنه سيمألها و سينميها و ينفع بها السوق.
أشار "لخضر" على نسيبه "مختار" كبير التجار و شيخ السوق أن يغير تخطيط السوق توسعة شرقا و
غربا ثم يتطاول جنوبا و شماال ,و تنبأ له بأن هذا السوق بقليل توسعة و جميل عرض و إدخال بعض
البضائع و النشاط فإ نه سيكون سوقا تأتي له الدنيا كلها ,و اقترح عليه أن يدعو السلطان العثماني
الفتتاحه كما و يدعو سالطين و ملوك بلدان قريبة من العمق األفريقي و يدعوا تجار و أغنياء لهذا اليوم
العظيم من الدنيا المحيطة ...فوافق على التوسعه و لم يوافق على دعوة السلطان و بقية الملوك و رآه
تعديا للحدود و طموحا فوق الطموح ,وجمع كبار التجار الذين لهم السطوة في السوق فأخبرهم برأي
صهره فأعجبوا بفكرته ,و بدأت توسعة السوق التي لم تستغرق سوى شهور قليلة فالمال يختصر كثير
41
أهدى "مختار" حفيده "الباهي" الصغي ر ابن العشرة أعوام جروين من األسود ذكرأ و أنثى جميلين
وجدهما تحت لبوة صادها و هي نائمة متعبة بعد أن وضعتهما و جروين آخرين ماتا كما ماتت أمهما ...
ففرح بهما "الباهي" فرحا شديدا ,رغم أن أمه لم ترض ذلك فقد خافت عليه منهما ,إال أنه قال لها :من
أراد أن يم تهن مهنتنا البد له أن يتربى بين السباع و الوحوش حتى يتعلم الجرأة عليهم و يعرف مخاطبتهم
ترعرع األسدان تحت رعاية "الباهي" و والده الذي كان يشرف على هذه العالقة الخطيرة بين األسدين
و ابنه ...أما "الباهي" فقد كان يحبهما حبا كبيرا و كانا يبادالنه نفس الحب يلعب معهما و ينام بينهما و
ال يكاد يفارقهما ..يذهبان معه الى السوق والى حلقة الدرس و الى المسجد حتى عرفهما السوق و عرفا
7
أعيا الجفيل و أسده الذي ذهب به العشاق و طالب البطولة بحثا ,و كان إعالن صاحبة الجفيل عن
جائزتها الثمينة بمثابة الشرارة التي أضرمت النار في الغابة ,فأصبحت عرائن األسود هدفا مقصودا و
صياد عوضا عنها ففزعت الغابة فزعا شديدا و لم تسلم بقية الحيوانات من حمى
صارت مراتعها مراتع لل ُ
جفيل "سعدية" فال تكاد تجد حيوانا رابضا في مرقده إال وهو خائف يكثر التلفت ,و امتألت الغابة
بالبشر بعد أن كانت مليئة بالحيوانات ,و قد أحس األسود باستهدافهم و رأوا هذا الكم الهائل الذي لم
يجابهوه من قبل ال يريد من الحيوانات غيرهم ,و صارالموت يأتيهم من جهاتهم األربع ,فليس هناك من
جهة إال و فيها قانص أو متربص أو صاحب شرك وحيلة ,فزاد هذا من شراستها و قسوتها وانبرى أسد
أعرج شديد الفتوة ينافح عنها بقوة عجيبة و شراسة مهيبة ,تزيد على شراسة و قوة و دهاء بقية األسود ,
42
و قد أحست األسود بهذا النشاط و تلك الحنكة في مجابهة الصيادين و الغزاة و الحالمين ,ولما كان األمر
أمر حياة لم ينافسه في زعامة األسود منافس فقبائل الحيوان شديدة الجرأة في اإلعتراف بفضل صاحب
الفضل ال تنازعه فضله و ال تغمطه حقه و التحسده و تضع العراقيل في طريقه ,فالشجاع شجاع عندها
ال تباريه في انفعال و القوي قوي ال تجاريه في قتال و الذكي ذكي ال تماريه في جدال...و لوال حماسة
و شراسة هذا األسد لما بقي أسد في الغابة سالما ,فهو يعرف مكامن الشراك فينقضها على أصحابها و
يعلم مواقيت خروج الصيادين فينتظرهم في غير ما يتوقعون يدخل الرعب في قلوبهم بقتال عنيف أو
زئير مخيف و تؤازره بقية األسود تهجم حين هجمته و تزأر ساع زأرته.
لم ينقض شهر على ضحى يوم الجمعة الذي وقفت فيه "سعدية" أمام شيخ القرية و تحت شجرته و هو يقضي
بين الناس و يحكم حيث أعلنت شرطها الذي طارت به الروايات و انتشر في القرية قبل انتصاف النهار و
وصل أقاصي القرى الساكنة في الغابة قبل بزوغ شمس اليوم الثاني و الذي ح ّكمت فيه شيخ القرية بعد أن
وصفت له أسدها المقصود و جفيلها المفقود ,لم يمض الشهر حتى كثر الجرحى و امتألت مشافي المدينة و
ّ
بالخطاب الذين يزعمون أنهم قتلوا األسد المعني , بفضل من هللا لم يمت أحد ,كما امتأل دار أبو "سعدية"
بعضهم أتى بشواهد مثل فروة أسد ,أو ناب يشبه أنياب األسود أو شاهد يقسم على أن صديقه صاد األسد و
لكن لم يستطع حمله إليها طالبا ذهابها الى حيث تركه ملقى ,و بعضهم جاء بجثة أسد صغير واضح عليه أثر
الصغر و بعضهم جاء بجثة أسد كبير خانته طاقته في الدفاع عن نفسه ...و انشغلت البادية باألسد الذي كان
في بداية األمر مجهوال متوهما ال تجد من يرسم له صورة متخيلة في ذهنه غير أن به وحمة أو عقصة سوداء
أعلى كتفه ثم جاء الوصف الحقا بأنه أعرج و لم يتضح ذلك العرج أنتيجة ضربة أو مرض أو عيب خلقي؟
و بعد مضي أيام قالئل صار لكل و احد قصة مع هذا األسد ,السريع رغم عرجته القوي رغم خفته الفتي
رغم عمره الحليم رغم غضبته ...فقد الحظوا أنه اليقتل وهو يدافع ربما ألن الزمن ال يسعف فالهجوم عادة ما
يكون سريعا على مرتع األسود و ربما ألنه يجبن خوفا من إثارة المهاجمين إن قتل أحدهم و ربما ألن هذا
43
طبع فيه ,فقد تمكن من أكثر من صائد و وقف منهم موقف الصائد من فريسته األول يعلو الثاني ناظرا إليه
مكشرا عن أنيابه يبدو الغضب الشديد و اإلثارة البالغة في محياه ثم يزأر زأرة ينخلع لها قلب الرهينة الذي
يجد نفسه محاطا بأصحابه يهنئونه على النجاة من بين فكي األسد حين يفيق...
استدعى شيخ القرية حاج "الحسين" والد "سعدية" الى شجرة الحكم طالبا منه الحضور سريعا ,فلما حضر
وجد شيخ القرية جالسا لوحده على غير عادته في مثل هذا المجلس المهيب الذي يدير منه شئون القرية و
يحكم فيه بين الناس في خالفاتها كلها ,يحرسه و ينفذ أحكامه شرطيان يشرفان على نفاذها في المحكوم عليهم
أو لهم ,ارتضاه أهل القرية شيخا عليهم بعد أبيه ينظم أمورهم و يقضي حوائجهم ,تعتبر شهادته حولهم
حاسمة في محاكم الحكومة و ال تقضى الحوائج إال بورقة منه عليها ختمه .
جاء حاج الحسين وعليه أثر اإلهتمام الذ ي زاده أن يجد الشجرة خالية من الناس ال يجلس تحتها غير شيخ
القرية :
-خير يا الشيخ
-أخبرتها أن الذي تفعلينه سيرتد عليك لم تسمع كالمي ...أمها تشجعها وأخواتها ..أخبرتهن أن األسود
44
-وهللا ال أدري أرسلوا لي ذلك الولد قالوا يريدونني أن أحضر "سعدية" و أبوها و أن أحضر معهم
-لماذا ما هو السبب؟ البنت لم تقتل أسدا و لم تجبر أحدا ...البنت يعجبها شبابها ككل البنات هل في
-الكالم ما بفيد يا حاج "الحسين" "سعدية" كما هي ابنتك فهي كذلك ابنتي قم انشاء هللا يكون خير
تحركت العربة الكومر التي أرسلها ضابط المركز تحمل غير حاج "الحسين" و شيخ القرية الذيْن
ركبا بجوار السائق تحمل"سعدية" و "نعمة" أمها و أختيها "عاشة" و "غبيشة" و حاج "الفضل"
زوج خالتها و ابن عم حاج "الحسين " مؤازرا ألخيه و أستاذ "آدم" ليحاجج بعلمه و منطقه و
"عاشة" أخت حاج "الحسين" لتؤازر "نعمة" و ابنتها يركبون في صندوقها الخلفي ...و تركت
العديد من رجال القرية ممتطين حميرهم يصيحون فيمن بالعربة :سنلحق بكم انشاء هللا ما تشيل هم
يا حاج الحسين جايين وراك قبل تزلوا بنكون وصلنا ...و العديد من النساء يصحن بالعربة أن ال
تفوتهم يردن الذهاب ليقفن مع "نعمة" و ابنتها في مثل هذا اليوم العصيب و شباب القرية الذين
قرصتني جدتي التي لم تخرج من بيتها تطالع من بعيد و أنا أقف بجانبها و نظرة الشماتة في عينيها :
كان المدخل الى مركز المدينة غير معبد و لكن ذلك لم يمنع الناس من االصطفاف على جانبي
الطريق في انتظار عربة الشرطة التي ذهبت لتحضر تلك التي شغلت الناس في البادية و مألت
مستشفياتهم بجرحى األسود ..و قد خرج الناس بالذات النساء منهم و الشباب منذ أن بلغهم أن ضابط
المركز أرسل في طلب "سعدية" تلك التي هام بها كثيرون قبل رؤيتها و ألقى كثيرون بأنفسهم الى
45
موارد الهالك في طلب رضاها و لم يكن يمضي يوم دون قصة عنها تمجد جمالها و تصفها بما فيها
و بما ال يوجد في نساء هذه الدنيا التي نعرفها و نعرف نساءها ...نسج الخيال الشعبي حولها روايات
كثيرة رغم وجودها الزماني القائم بينهم فهي ليست أسطورة رمى بها تطاول الزمان في مخيلة
الناس يروضون بها حوادث التاريخ لصالح مجدهم و كمال معتقدهم ,و رغم وجودها المكاني خلف
الجبال فهي ليس ت أحجية ترتع فيها األرواح من قسوة الواقع و وعورة تضايرسه رغم ذلك تناولها
الخيال الشعبي منذ والدتها و أسبغت عليها بعدا كونيا حيث صوروها أنها لم تولد كما يولد البشر
فاستكثروها أن يكون لها والد فقالوا أن أمها حبلت بها ال كما تحبل النساء بل جعلوا حملها بها شبيه
حبل األشجار بالثمار ألقت بها ريح طيبة في رحم أمها ..هكذا صورها الشعراء و شعراء استكثروها
على األم و األب معا فجعلوا والدتها كوالدة الشهاب في السماء الذي انبثق نوره من حيث ال نور ..
تناولها الخيال في المدينة التي لم ترها و هي تنمو نمو السحاب في السماء يحمل المطر يبدأ سحابة
صغيرة ثم تكبر و تكبر و تكبر ينتظرها كل شيء ينظر إليها ,يسعدهم نموها ويطربهم ترقبها و
حسن الظن بأنه سيصلهم برها و رحمتها حتى و إن لم تهطل عندهم..تناول الخيال الشعبي في المدينة
التي لم ترها كل شيء فيها ولذلك انتظرتها المدينة وهي قلقة متوجسة أن ال يكون ما تخيلوه هو عين
لم يقنع لقاء "الفاشر" الشرتاي "سرور" و أحس بأن زيارته لم تؤد الغرض المطلوب منها و أن
السلطان يماطله ,و رغم نظرة التحدي التي لمسها في عيني السلطان على حفظ حدود سلطانه لكنه
كأنما أحس بضعف ينهش في لحم السلطنة إذ الحظ أن السلطان شديد التوتر من تحركات السلطان
"هاشم" سلطان "المسبعات" على حدود مملكته ,و مما زاد عدم رضاه تلك األخبار التي وصلته عن
46
حفاوة استقبال السلطان "لحاكم" و "مهران التونسي" فبدأ يفكر في اإلتصال بالسلطان "هاشم"
سلطان "المسبعات" يعلن له والءه و انضمامه الى سلطته و أخذ يعد العدة مستغال غياب اإلثنين,
بعث الى مجموعة يعرف والءها القديم لبيته و ألسرته ,فالبشر يظل بعضهم أسيرا لماض ال يأمل
عودته ال لشيء إال ألنه بشر ,و قد كانت نظرة سرور للناس أنهم عبيد القوي الحاضر فإن غاب
القوي تبعوا حاضرا غيره و إن لم يكن قويا فإنهم يقوونه يسندون إليه حوائجهم و يرمون عليه
مسؤولياتهم ..ومن هذا المنطلق نادى من ناداه وهو عالم بباطن مواالتهم له ,مقنعا لهم بقرب زوال
ُملك سلطان "الفاشر" على هذه المنطقة ,الذي لمس حقيقته في زيارته األخيرة له ,و أن الغلبة
ستكون لسلطنة "المسبعات" المدعومة من سلطنة "الفونج" وسلطانها القوي الذي تصلهم أخبار
انتصاراته في كل آونة و حين ,و أنه من الحكمة أن ينحاز الوالء في هذه المنطقة الى القوي المرجو
فوزه وانتصاره بدال من الضعيف المنتظر خسارته و انكساره ,فإن هذا أشفع لهم مستقبال عند الفائز
و أزلف .وقد اصطفى منهم نفرا يحسنون الكالم و يجيدون االقناع و طلب منهم اإلنتشار في قرى
المنطقة تبشيرا بهذا الفكر و تأييدا للسلطان القادم ...كما اصطفى أخرين للذهاب معه إلى "األبيض"
و المنطقة جغرافيا أقرب الى حدود "سلطان األبيض" منها الى حدود سلطان "الفاشر" و لكن والءها
منذ القدم لسلطنة دارفور التي كانت عاصمتها "أوري" ثم أنتقلت الى "الفاشر" ,تأتمر بأمر سلطانها
و يتبايع الناس بعملتها و إن كان التعايش بين القبائل قائما و التزاوج بينهم مستمرا تعكره خالفات
المرعى و الطعام التي سرعان ما تنتهي بتدخل حكماء الطرفين ,و من الحكم العجيبة أن أول خالف
حول النفوذ في هذه المنطقة حسمه سلطان "دارفور" من عاصمته "الفاشر" قبل عقود ليس
بالمتطاولة في القدم بين والد حاكم ووالد "سرور" لصالح األخير .ولذلك يجد بعض أنصار سرور
ألنفسهم العذر في تبني رؤيته مهتدين بالحكمة القائلة أن صديق عدوك عدو لك.
47
جمع "سرور" نفرا من أهله و توجه الى "األبيض" يحملون هدايا من سيوف و حراب ليضعوها
أمام السلطان الطامع في توسيع نفوذه معلنين والءهم و والء سيوفهم له طالبين نصرته على "حاكم"
الغاشم مقابل أن ينصروه في حربه على سلطان "الفاشر" ...سلك الوفد طريقا غير الطريق المعبد
الذي يمر بمعظم القرى الواقعة في الوادي تجنبا لكثير سؤال و احتجاج ,و سلكوا طريقا يقطع غابات
عديدة حتى يلتقي بالطريق الرئيسي الذاهب الى "األبيض" عاصمة سلطنة المسبعات ,طريق غير
وعثائه فإنه يمر بمراتع الحيوانات يستخدمه الصيادة و أصحاب الصالح والعبادة الذين يخرجون في
خلوات يتعبدون هللا و يذكرونه ال يراهم أحد و ال يقطع خلوتهم صاحب دنيا..و رغم أن الطريق
طويل فإن بريق الطموح خالب و الطمع أملك للنواصي و الرقاب وحديث األماني ذو شجون :
-يا الشرتاي "سرور" ترى كيف سيستقبلنا السلطان "هاشم" ..خائف أن نخسر ما وراءنا و ما هو
قدامنا...
ضحك سرور مقهقها مأل شدقيه فقد بدت مالمح رؤاه تستبين و عالماتها تتضح في ناظريه:
كأني أرى وجه "حاكم " و هو يرى حكمه يتالشى من كالسراب بين يديه ووجه التونسي وحلمه -
قال آخر:
-لكن إن عرف رجل "الفاشر" ما نقوم به اآلن ربما يدركنا قبل أن ينصرنا "هاشم".
-لن نعود إلى قرانا إال ومعنا قوة من عسكر السلطان تمنع عنا أذى حاكم و سلطانه ريثما يستعد بجيش
ثم أخذ يحدثهم عن مجد ينتظر و عن فرصة سانحة تضييعها هو الخسران المبين و رسم لهم معالم
خطته و كيف أنه سيكون أحد أمرائه المهابين و قال لهم ربما يقتطع لنا السلطان "هاشم" ما بيننا و
48
"الفاشر" ليكون تحت حكمنا فنحن أصحاب األرض و الوالء معا األرض لنا و الوالء له نأتيه
لم يخيب السلطان "هاشم" رجاء و آمال الوفد و أحسن استقبالهم و تعامل معهم بلغة السياسي البصير
و أوضح لهم أن السياسة تجارة و الحرب سلعة تباع في سوقها كما أن السالم سلعة تباع أيضا في
سوق السياسة ,الرابح فيها من يعرض السلعة في موسم الحاجة إليها و أنهم عرفوا وقت حاجتها لكن
الشاري الناجح هو الذي يقلب ميزان ربحها و خسارتها قبل أن يساوم في شرائها...و أخبرهم أن
مجيأهم بال شك محل تقدير و امتنان .....و كما عرض سلعته عرضوا بضاعتهم التي يسيل لها لعابه
فأغروه بحكم الجبال كلها و الوديان التي بينها بما فيها من خيرات و ذهب ,و أنهم قادرون على إقناع
أهل تلك الجبال بأن يوالوه بدال عن والئهم لسلطان "الفاشر" و أن هذه فرصة يتيحونها له ربما لن
تتكرر ثانية ...وهذا أمر ليس بالسهل كما يعلم هو ,فنزع والء قديم ثابت كنزع إيمان من قلب
مؤمن يحتاج الى آيات وبراهين ,و جهد كبير سيقومون به إن ضمنوا تأييده و أوضوحوا له أن آية
هذا الوضع الجديد في قلوب أهل الجبال قوة ضاربة تكون في يدهم تعمل تحت إمرتهم يحركونها
حسب الوضع و الحاجة ...و أخذ "سرور" يستعرض المكاسب التي سيجنيها السلطان إن أضاف هذه
المنطقة الى رصيد سلطانه ,أكبرها غير كنوزها المدفونة حمايتها لظهره الكاشف من أي اعتداء
يأتي من الخلف ...فلما رأوا أنهم قد أثروا فيه أخبروه بأنهم أحرقوا مراكبهم من أجله و أن عودتهم
الى أهلهم بدون قوة تحميهم من "حاكم" و تمنع عنهم شر سلطان "دارفور" يعتبر القاء للنفس في
التهلكة بالنسبة لهم و ضياع لهذه الفرصة الى األبد بالنسبة له...
وجد "حاكم" و "مهران" الوضع غير الوضع الذي تركاه فالبادية تموج بحركة غير طبيعية أحسوا
بها منذ أول دخولهم ,فتحية الناس لهم غير تحيتهم التي عهدوها ,و نظرتهم إليهما غير تلك التي
كانت في عيونهم ...و ما أن وصل وفدهم الى منازله حتى أخبرت "النقو" أباها في حضرة زوجها
49
بما حصل من "سرور" الذي ذهب الى "األبيض" يحرش سلطانها على ضم هذه المنطقة الى سلطانه
كان أول قرار اتخذاه هو إرسال موفد سريع الى "الفاشر" بهذا الخبر يطلبان من مليكها نصرته و
يشرحان له خطورة الوضع ...ثم أخذا يطوفان على أهل البادية يبصرونهم بخطورة ما هم مقبلون
عليه إن انساق الناس الى ما ذهب اليه "سرور" و زمرته فالسالم الذي كانت تنعم به باديتهم ستنقشع
سحابته و لن ينعموا بظله أبدا إن خسروه ...و أخذا يضربان للناس األمثلة الحية على ما حدث لبالد
دخلتها جيوش السلطانين المقتتلين ,وصلتهم أخبارها و كيف أن الموت أصبح هو الذي يمشي بين
الناس و أن الجار قتل جاره و الساكن هجر داره و ضربوا لهم كيف أن األرض هناك بارت بعد أن
ُهجرت زراعتها ترى الثمار في األشجار ,و من يقطفها إما قتيل أو أسير أو الجئ مهاجر...
لم يجد "حاكم" و ال صهره كثير عناء في تثبيت الناس الذين كان أكثرهم رافضا لفتنة "سرور" و
لكن الحيلة التي بين يديهم في وجود شرتايهم الذي اختاروه بمأل إرادتهم لم تكن معهم حينها ,فكما
يقول "سرور" اإلنسان مجبول على التسليم إذا كان الرفض يتطلب بذال أكبر خصوصا إذا كان كشف
المكاسب و الخسائر به غبش ولو كان بسيطا هكذا تقاد الشعوب ...و بعد مجهود ثالثة أيام بلياليها
استتب األمر من جديد و سكت الصوت الذي كان ينادي بتمكين " سرور" و اإلتجاه شماال بقناعة
أكبر من الطرح الذي نكأه "سرور" ومن شايعه ...و لكن الغيب هو الذي يقلق ...
نادى "حاكم" ابنته و سألها ماذا رأت غريبا من أحوال "مهران" منذ زواجها به...
50
" -مراد باي"؟
-حدثني عنه "أبو شارفة " بنتي....هذا األسد الذي أقض مضاجع الصيادين في بالدهم و حفظ ساللته
من هجماتهم و هوالذي روع المزارعين في السودان الداخلي و أقلق الحيوانات فأسموه "ماري جاتا"
و هو الذي انتصر على الكجور في بالد النوير ...نعم هكذا أخبرني عنه..
-وهو أعرج كذلك إال أنه في سرعة الريح المرسلة و قوة الزالزل المدمرة و خفة الطيور ...
لم يقتنع حاكم كثيرا ولكنه فرح بهذا و قال لها :لقد أنقذت زوجك من خنجر أبيك
أسألك فور عودتنا عن هذا األسد فإن أجبت بأنه كان يحكي لك عنه
ِ ثم استرسل قائال :كان شرطي معه أن
فهذا يبرأه و إن كان ال يخبرك فهو بين أمرين أن يرحل من بالدنا أو أقتله.
شهقت "النقو" لهول ما سمعت و أحست بحجم ما قالت ثم نظرت الى أبيها :أتريد قتل زوجي بقولي يا أبي
قال "مهران" و السكين فوق رقبته و حاكم يمسك برأسه من الخلف و القربة التي فيها الماء تسقط من يده:
-أنا "مه ران" صديقك و صهرك الذي بنى معك ما نحن فيه اآلن من منعة و مجد ..زوج "النقو"
51
-صاح به "حاكم" و السكين تضغط على عنق "مهران"
-قل ما الذي أتى بك؟ تريد زرع الفتنة بين قومنا و تفرق بيني و بين ابن عمي "سرور" ,تعمل لجني
األرباح من الذهب و أنت تزعم للسلطان أن الذي جاء بك أسد ..ألم تر كيف نظر إليك السلطان لوال
أننا في ضيافته لربما كان ذلك اليوم هو اليوم األخير لنا ....قل ما الذي أتى بك ..؟
-و هللا ما قلت للسلطان غير الحق فما جاء بي من بالدي غير أسد ولكنه ال كاألسود روع أهلي و قتل
أبي و كاد أن يهلك مدينتي ,ع ّمر سوقنا ثم خربه علينا .عمره في التاريخ أطول من عمره الذي بقي..
الحيوانات ..
-يبدو أنك زاهد في عمرك....و لماذا لم تخبرني؟ نعمل سويا لنا أكثر من سنتين و لم تخبرني..لماذا؟؟
-خشيت أن ال تصدقني يا "حاكم" األسد لن يموت إال بيد تحمل الجفيل و الجفيل من ذهب مدفون في
-جفيل كانت ترتديه ملكة عظيمة كانت تحكم هذه األرض قبل آالف السنين ,امتد ملكها حتى وصل
الى بالد تحادد البحر الكبير الذي تصب فيه مياه األنهار كلها...أهداه إياها ملك من بالد تقع وراء هذا
البحر بعد أن هزمها في آخر معاركها إعجابا بشجاعتها و أمرها بالرجوع معززة مكرمة و أهداها
52
-أخبرت "النقو" ابنتك يمكنك أن تسألها
-خذ كلمتي هذه لئن سألتها و لم تعرف ما تقول فأنت بين خيارين أن تهلك بيدي أو تغادر بالدي هذه
و بعد هذا الحوار بأيام ال تتعدى األسبوع وفي نفس اليوم الذي سألها فيه أبوها و حيث الدنيا لبسها
-كيف ترضى ذلك لي أن يكون مصيرما بيننا معلق بين لساني و شفتي و أنت لم تطلعني...
-أنت تعلمين لم أطلع أحدا على سري الذي جئت به غيرك ...و لوال حبي الذي أكنه لك و ثقتي في
رجاحة عقلك و صدق مودتك لي و علمي بما ال تعلمين من قيمة ادخرها لك الزمان ,ما بحت به لك..
ثم نهض من رقدته و قعد بالقرب منها و أمسك بكلتي يديها يقبلهما ...أيتها األميرة الكريمة يا سليلة
الملكة العظي مة التي حكمت الدنيا في زمانها ,كم لي من الشرف أن أكون زوجك....الحمد هلل الذي
-إخبرني عنها يا ابن"أليسا" العظيمة التي حفظت عهدها و بنت مجدها و حكمت البر و البحر في
زمانها
قام من سريره الخشبي المنسوج بالحبال و ذهب الى صندوق كبير أخذ يبحث فيه حتى أخرج أوراق
كبيرة مطوية نشرها أمامها و جاء بالفانوس يستضيء بنوره و قال لها انظري ..نظرت فوجدت بها
كتابة و رسوما و وشوما و صورا ألناس تركب األحصنة و أناس يمشون و أناس يسجدون و أسود
تجر عربة تركبها أمرأة محفوفة بعدد من الناس الرافعي أيديهم ,و نظرت فوجدت صحراء كثبانها
مرسومة ال أشجار فيها تحفها جبال يلمع تحتها حجارة ,و رسوما تحوي أشجارا كثيفة تشقها خطوط
53
زرقاء و جباال تحتوشها من فوقها و من تحتها و روسما تحوي أناسا يحفرون و أناسا يحملون فوق
رؤوسهم أطباق كبيرة و فوقهم رجل يحمل سوطا ,,و هنالك أسود عرفتها بسيماها تركب فوق ظهور
أناس و أناس يركبون فوق ظهور أسود و أرض موشحة بلون أحمر ..و صورا لخلق كثير يحملون
الحراب يجرون بحبال أناسا ذليلين مجبرين كالعبيد أو األسرى ,و رأت صورا لجيش عرفته من
خوذة فوق الرؤوس ألبستهم لها اللوحة يكسو محاربيه لون السمار يجرون وراء جيش يكسو محاربيه
لون البياض و رجال يضع تاجا على رأسه يشير الى عكس جري جيشه و امرأة فوق رأسها تاج
تشير الى حيث جري جيشها و ترفع يدها األخرى التي يرك فوقها نسر كبير و صورا لجيش يكسو
محاربيه لون البياض يجرون وراء جيش يكسو محاربيه لون السمار و أمرأة فوق رأسها تاج تشير
الى عكس جري جيشها و رجل فوق رأسه تاج يشير الى جهة جري جيشه و يرفع يده األخرى يرك
فوقها نسر كبير ...و رأت أسدا حوله أسود ,و أسودا داخل رسمة أسد كبير ,و امرأة فوق رأسها
تاج تركب أسدا قصيرة إحدى رجليه ...رأت رسوم أشجار كثيفة يخرج من تحت أرضها ضوء
كبير على شكل دائرة ...و امرأة يقف يسارها نساء كثيرات أقصر منها و رجال أشد قصرا ويمينها
امرأة يخرج الضوء من معصمها تركب أسدا قصير الرجل اليسرى ..كل هذا و غيره الكثير
مرسوم بريشة فنان بديع في ورق أشبه بجريد النخل منه الى الكاغد المعروف حينها...
أشار "مهران" الى الورقة ووضع يده على رسمة فيها ثم نظر الى "النقو" :هذه أنت أيتها األميرة
العظيمة...
( )8
شب األسدان وقويا و بانت إمارات القوة على محياهما والذكاء الحاد الذي مكنهما من تفهم كونهما
أسدين ال بشرين يعرفان حدودهما فال يتجاوزانها و مكانهما فيلتزمانه سواء كان ذلك في السوق أو
54
البيت أو الملعب أو المسجد ساعة صالة أو ساعة تعلم ,و تعلما كيف يحسنان االستجابة لنداء
فيمتثالن له ,و اكتسبا محبة أهل السوق و ودهم الذين يبادلونهما حبا بحب و احتراس فكل أهل
السوق يضعون فارق النوع عقبة للتواصل رغم امتهانهم للصيد الذي علمهم أن هذا الفارق ال يمكن
جبره مهما تنكر األثنان اإلنسان و الحيوان لهذا الفارق بحسن معاملة أو طول معاشرة أو كثرة جميل
اتخذ "لخضر" لألسدين مربطا شمال دكانه يربطهما فيه و كانت أقفاص الحيوانات األخرى داخل
حوش المتجر ذي المساحة الكبيرة مصفوفة بحيث تجد بينها فراغات تسمح للمارة بالتفرج و النظر
الى ما يريدون من حيوان عشبي كان أو من آكالت اللحوم وكان يحرص على الفصل بين الحيوانات
المف ترسة وتلك الوديعة بحائط حتى ال تطمع األولى وال تفزع الثانية فإن الطمع يهيج الحيوان و
البشر مثلما يهيجه الخوف بل أكثر كما علمه "مختار" ..و يضع بعض أقفاصها أمام المتجر من
الجهة الجنوبية يعرضها للبيع ,و بداخل الدكان أصناف كثيرة من أعضاء الحيونات المختلفة فالجلود
لها أرفف بعينها تجد فيها كل أنواع جلود الحيوانات من فرو لألسود و النمور و الضباع و الذئاب و
األيائل و الغزالن و البقر الوحشي يشتريها أغنياء البالد و التجار الذين يقصدون بها بالد أوربا
يبيعونها لملوكها و أمرائها و ألغنيائها و جلد الزراف الذي هو من أغالها ال لصعوبة صيده بل
لكونه ال يسرب ماء و ال دهنا فيتخذ في صناعة األواني الجلدية الغالية ,وجلود دببة الجبال ذات
الفرو السميك و دببة الغابات ذات الفرو الغني بشعره و لونها المميز الذي يُطلب كذلك من أغنياء
الدنيا الذين يقصدون شراءه من أماكن بعيدة خاصة تلك التي تقع في أماكن مرتفعة أو باردة ,ثم
جلود األرانب و السناجب و الثعالب التي تحبها النساء و جلود الحيات الكبيرة و الصغيرة التي تتخذ
لصناعة األحذية و الحقائب و غيرها مما ال أعرف اسمه و ال كنهه مرصوصة بنظام معين يسهل
رؤيتها و الوصول إليها ,و تجد العاج بأحجامه المختلفة الذي يجلب من أدغال الغابات األفريقية
55
يشتريه صناع الحلي و تجارها ال يتورعون من دفع المبالغ الكبيرة في ثمنه ,و تجد كثيرا من العظام
و رؤوس الحيوانات و أسنانها المختلفة التي يقتنيها من هم يحبون المغامرات و ال يقدرون عليها
يعلقونها في جدر بيوتهم و في طاوالت أعدت لذلك ,وتجد عنده عيون الذئاب التي يحفظها في سائل
يشتريه بأثمان كبيرة و لذلك يبيعها بأثمان كبيرة كذلك يشتريها طالب السحر و طالب دفعه و الوقاية
منه و المرضى و األطباء الذين يستخدمونها كعالج لضعف البصر و لتحسسه ,و تجد في أواني
معينة أمعاء الفي لة و األسود و خصيها ال تكاد تأتي بضاعتها حتى تنفذ فمن موروث الثقافة أنها تزيد
الباه لدى الرجال فوق ما تزيده خصي األرانب و كالها ومن عجب أن زبائنها من النساء و ليس
و لم تكن مهمة األسدين الذكر و أخته الحراسة فقط فقد كان منظرهما دعاية كبيرة للمكان تجذب
السياح و المشترين ,أما "الباهي الصغير فكان كثير اللعب معهما ال يكاد يفارقهما و يأكل طعامه
معهما و كثيرا ما يأكالن من طعامه يخطفان اللقمة من فمه و يخطفها من فمهما ,وفي عصر كل يوم
يطلقهما "لخضر" ليذهبا في جولة للتنزه مع"الباهي" الصغير من غير خوف منهما يعتريه على ابنه
الذي يحصنه منهما "بالمعوذات" و سورة "الفيل" و يقول هللا كفيل بحفظه ,رغم تحذير أمه و عدد
كبير من التجار و الجيران له من مغبة فعل كهذا ...ويذهبان معه لحلقة الدرس في المسجد يربضان
خارجه الى أن يعود فإذا عاد من درسه فإنه يستذكره معهما يقرأ لهما ما تعلمه ويستمعان له كأنما
يفهمانه ...الحظ "لخضر" هذا األنسجام و التآلف الذي نشأ بين ابنه و األسدين و الرابطة التي
أصبحت قوية تكاد ال يعكرها اختالف مزاج و ال تفاوت فهم أو سرعة إدراك و ال اختالف رغبات و
احتياجات حتى كاد كل منهم أن يفهم الثاني من حركاته أو لفتاته أو حتى سكناته ويتفاعل معها وفقا
لذلك وهو ما لم يعهده في تعامل الناس و الحيوان – وهو الخبير في هذا المضمار -حتى األليف
منه..فاألخير يدرك ما يطلبه صاحبه إثر تكرار و تعود و تدريب على مهام معينة ال يتعداها فالكلب
56
يفهم مراد صاحبه في ما دربه عليه من حراسة أو رعي أو صيد أو بعض حركات اللعب و يفهمه
حين يناديه و حين يغضب منه و صاحبه يفهم حاجته من أكل أو شرب أو لعب ويعرف عكر صفوه
و صفا ء مزاجه و يفهم إشاراته التي دربه عليها في مهمته التي يريدها منه ,ال يزيد التفاهم بينهما
على ذلك و قس العالقة بين بقية الحيوانات و أصحابها على مثال الكلب ...أما ما يحدث بين
"الباهي" و أسديه فشيء يلفت اإلنتباه و يثيراالستغراب فكثيرا ما كان يلحظ كالم ابنه ألسديه
يتجاوبان معه بهزة رأس أو ذيل أو عواء و كثيرا ما كان يسمع حمحمة األسدين يتجاوب لها ابنه
بضحك أو حركة أو كالم و هكذا شاهد الناس أيضا ,فسرت إشاعة قوية أن "الباهي" الصغير يفهم
كالم األسود و تفهم األسود كالمه ,لم ينفها الباهي أو أبوه لم يؤكداها رغم كثرة الشواهد على ذلك,..
فقد كان كلما يجلب صائد أسدا يذهب الباهي الصغير إليه يتحدث معه بحركات يديه و فمه ثم ال يلبث
أن يدخل يده الى داخل القفص يربت عليه مطيبا خاطره فيتقبل األسد األسير ذلك و ال يثور أو يعتدي
على يد الولد المواسية ,و لما تثور هذه األسود إثر شيء أزعجها فيكثر زئيرها و جلبتها ال يستطيع
تهدئتها إال هو تهدأ لما تراه فكأنما السكينة تنزلت بقدومه عليها ..و لكنه أيضا كان كثيرا ما يشفع لها
بمكانة أبيه "لخضر" عند صائدها إن أراد تأديبها بضرب أو بحرمان غذاء أو بتعريض لحر الشمس
أو بتكبيل و شد وثاق فترات طويلة ضامنا عدم تكرارها لما فعلت و الغريب أن ضمانه ال ينقض
لما بلغ "الباهي" الخامسة عشر أصبح يأخذه والده معه للصيد في رفقة مجموعته التي تعمل
تحته و يأخذ معه األسدين الذين كانا يساعدانهم كثيرا في طراد الفرائس و اكتشاف أماكنها بما يملكان من
حاسة شم قوية و سرعة و هيبة وسط عالم الحيوان وأظهر الشاب الصغير و أسداه ملكة عالية و قدرة كبيرة و
انسجاما مبهرا انعكس على الكمية التي صار يأتي بها كل يوم صيد ,وكان من عادة "لخضر" أن ينظر الى
حاجة السوق فيقصدها لعينها لكنه كان كثيرا ما يقضي األيام الطويلة و أحيانا الشهور ال يأتيه مراده و اليظفر
57
به وكثيرا ما ينصب شراكه المحكم فلما يأتيه في صباح اليوم التالي إن كان نصبه مساء أو في مساء اليوم
نفسه إن كان نصبه صباحا ,ال يجد صيدا أو يجد ما صاده حيوانا واحدا أو اثنين و قد كان هيأ نفسه على صيد
وفير فلما يجده كذلك يطلقه و يرفع بصره الى السماء متحدثا مع ربه قائال " شوية يا رب" .,
أحدث دخول "الباهي" وأسديه عالم الصيد مع أبيه طفرة كبيرة جدا في كمية ما كان يصيده أبوه و نوعيته
فوق ما كان يتصور "لخضر" ,الذي ظن أن مهمته في تدريب ولده ووحشيه األنيسين ستكون ليست باليسيرة
فليس لهم جميعا معرفة مسبقة بالصيد وفنونه وعنته وصبره ...فكلهم نشأوا في الحلية و الحياة الرغدة يأتيهم
رزقهم رغدا كل حين بال جهد أو تعب و لكن هذا األداء أبهره فعلم أن ابن السبع صياد كما أن ابن الوز
عوام..
زاد دخل "لخضر" كثيرا و أصبحت مقتنيات متجره ال تضاهى بمقتنيات أي تاجر آخر و صار بعد أن كان
يخرج الى الصيد مرة كل أسبوع يجعلها كل ليلة خميس و يوم جمعة ,صار يخرج في الشهر مرة واحدة
مصطحبا معه أبناءه الثالثة األبن و األسدين ومجموعته التي ال تزيد على ثالثة آخرين ...و كان ولده يخرج
للصيد خلسة مع أسديه بدون رفقة و بدون أذن أبيه الذي كان يغضب كثيرا حين يعرف فيعنف ابنه طالبا منه
أال يفعل ذلك ,فلما آنس فيه رغبة و شكيمة و قدرة كبيرة على انجاز مهمة الصيد أصبح يأذن له بذلك رغم
صغر سنه محذرا إياه من اإلبتعاد الى أعماق الجبال ويرسل معه مجموعته لترافقه وتعينه ,,بل صار أحيانا
يوكل إليه طلعة الشهر منفردا هو أسديه وقد كان قبل ذلك ال يرضى بالتأخر عن الخروج فيها الى الصيد مهما
كان وضعه ,ولم يكن الولد يخذله أبدا بل يأتيه بكل ما أوكل إليه و يزيد أحيانا...
و ذات خميس مضيء بالقمر الذهبي المستدير و الشمس لما تعلن انسحابها خلف األفق بعد ,خرج
"الباهي" في رحلة صيده المعتادة و معه أسداه و مجموعة الصيادين الثالثة المساعدين ,على غير رضا أمه
و بعد أن أوصاه أبوه كالعادة أن ال يتأخر عن مساء الجمعة و أن ال تغريه الحيوانات و تخدعه فيتبعها الى
58
أماكن بعيدة....خرج "الباهي" الصغير و أسداه يحمل شراكه و حمال صغيرا يوضع كطعم أمام الشراك و
سهمه و نباله و رمحين أحدهما طويل و األخر قصير و أدوات حفر و حباال ودرقة من جلد ناشف لحمار
وحشي مدبوغ صلبة يصعب خرقها أهدتها له أمه و سيفا و سكينا موزعة بينه و بين جماعته التي خرجت
معه تحمل مثل حمله وتزيد حيث يحملون زادا و قربا يمألونها من ماء يتفجر من صخرة في جبل صالح
الغابة مع بغلين لبقية الركب يحملون فيهما أمتعة تعين على قضاء يومين في الخالء و أمتعة الصيد ,يتناوبون
في حراستها عندما ينفرون وراء هدف يصيدونه ....و كأن قلب األم على اتصال مع األسرار الغيبية لم يعد
"الباهي" و ال أسداه حتى مساء يوم السبت من حيث عادت المجموعة بدونه تحكي عن ضياعه بين الصخور
واألشجار منذ مساء اليوم األول الخميس هو واألسدين و رجوع حصانه بكامل مؤونته ..
في مهرجان تتويج ملك الماساي السنوي تجتمع أمة كبيرة من غرب ووسط و أفريقيا يكنون له إحتراما
توارثوه منذ القدم يأتون يوم هذا التتويج من كل حدب و صوب يحملون القرابين و الهدايا منها ما هو صغير و
منها الكبير كل حسب استطاعته و ربما تشارك أكثر من واحد عجال أو ثورا و لكن المميزين منهم هم أؤلئك
الذين يستطيعون جلب شيء ثمين يتطلب جهدا و مغامرة و ربما مال مثل فروة أسد أو ناب فيل أو قطعة
ذهب مشغولة أو غير مشغولة ,كل ذلك يتقبله الملك المتوج يوم تتويجه ,كما أنه يتوجب عليه تقديم عمل
كبير يجعله أهال يستحق هذا التتويج كإنزال بركة أو نزعها أو درء وباء أو شر متوقع أو عمل حسي
كإصالح بين بيتين نشب بينهما قتال و عنف أو تنمية اقتصادية ملموسة بإدارته أو ماله للناس .لكن المطلب
األساسي لجماهير هذا الملك الجديد هو عمل يحقق لهم أمانا من األسود و قائدهم األعرج ,الذي زادت
شراسته و تفاق م شره في الشمال المتاخم لهم مع ازدياد هجمات قرويي تلك المناطق على قبيلته عموما كرد
فعل متبادل من الطرفين ..فكان أن دعا صالحي قبيلته و سحرتها الى اجتماع عظيم يوم جمعة مشهود
59
تحضيرا ليوم العبادة االسبوعي الكبير "السبت" ليخرجوا بخطة تتدخل فيها اليد اإلالهية بفضل هؤالء
المدعوين الذين كلفوا باستجداء السماء لتساعدهم في القضاء على هذا األسد و بقية األسود ,فنودي في الناس
أن يوم السبت يوم عبادة عظيم على الناس أن يخرجوا في منتصف ليلته يحملون المشاعل كل أمام بيته ثم
يتوجهوا بالصلوات هلل الواحد أن يوحد قوته في درء هذا الخطر و القضاء عليه فقد استعصى األمر عليهم
كبشر محدودي القوة ,فكان ما طلبه ملكهم و اجتهد سحرتهم في ذبح القرابين أثناء قراءتهم لتعاويذ ثم صبوا
دماءها في آنية من ثمار القرع و خلطوها مع أعواد من شجر معين و ماء جلبوه من مستنقعات "جوروما" و
مزجوها مزجا جيدا ثم صبوها في أناء كبير و وزعت على صيادين أشاوس يأخذ كل واحد منهم من هذا الماء
المسحور شيئا يسيرا ثم يخلطه بماء يغتسل به يحرص على أن ال يترك موضعا إال و قد مسه هذا الماء ...ثم
لنشاط األسود ,و بعد صالة كبيرة ودعاء بأن يبارك هللا الملك و أن ييسر لهؤالء الصيادين مهمتهم تكلم كبير
السحرة و أوضح لهم أنهم محميون لن يستطيع أسد من األسود مسهم بشر و أن األسود ستكون طائعة في
أيديهم فعليهم أن يتقدموا بشجاعة نحوها ..وأمروهم أن يرشو فوقها بقية من الماء الذي اغتسلوا به وال
يمسوها بسوء كذلك و أن يخاطبوهم طالبين منهم أن يأتوا لهم باألسد األعرج ليقابل الملك الذي سيصطحبهم
الى مكان قريب من تجمعات األسود ,ثم عليهم أن يعطوا األسود مهلة يومين ليعودوا و معهم األسد األعرج
بعد أن يحدثوه بلسانهم فإنه سيفهمهم و يقولوا له بأنه في أمان الملك و حمايته الشخصية حينها سيأتي معكم .
بعد أسبوع من خروجهم وجد الصيادون قطعان األسود راقدة مسترخية تحن ظل شجرة فتقدموا نحوها بثبات
كبير و من عجب أنها لم تتحرك بل حركت أذيالها في إشارة ترحيب بهم فلما وصلوها أخرج كل واحد منهم
علبة بها ماء ثم أخذوا يرشونها به ثم تقدم رئيس الصيادين قائال أين ملككم األسد األعرج فإن ملكنا يريد أن
يتحدث إليه ...و سنعود إليكم بعد يومين في مثل هذا الوقت آملين حضوره لكي نذهب معه إلى الملك الذي
60
انتخب كبير السحرة اثنين من سحرته ليرافقوا معه الملك الجديد و اتخذ الملك من الصالحين الحكماء رجلين
ليكونا في وفده الى ملك األسود األعرج"جاري ماتا" فصار الوفد مكونا من أربعة رجال خامسهم الملك و
بعض األتباع و الحرس في موكب متواضع ال يتعدي العشرة أشخاص ,يركب الملك ثورا كبيرا وضع فوقه
هودج يليق به أما بقية الوفد فيركبون حصين مطهمة مزينة تشي بمكانتهم فلما وصلوا الى موضع أشار به
عليهم كبير السحرة نزل الملك ونزل من بعده الجميع و انزلوا رحالهم و فرشوا بساطه المعتاد الذي يجلس
عليه و كان مصنوعا من جلود األسود مخيطا بعضه الى بعض ليكون عريضا وواسعا ثم صفوا فوقه نمارق
يتكأ عليها و يستريح و جلس بقية الوفد في فرش جلبوها معهم ليقعدوا فيها و قد كان مسيرهم بعد يوم من
مسيرالصيادين.
وفي ضحى اليوم التالي و الترقب سيد الموقف و الصالحون تحت الشجرة يرفعون أيديدهم الى السماء في
تضرع و ابتهال شديدين و السحرة يرتلون تعاويذهم و يتراقصون في حركات يعرفونها على بعد قريب منهم
و الملك جالس في أريكته غير عابئ بما يدور أو هكذا بدا رغم ظهور عالمات قلق يتفرسها الذي ينظر إليه
بدقة ،ظهر الصيادون العشرة يمشون في صفين في مقدمة الصف األول كبيرهم و في مقدمة الصف الثاني
صياد آخر و بين الصف األول و األخير صفين من األسود يتقدم أحد هذين الصفين أنثى أسد ضخمة تسير في
مرفوعة الرأس كأنها تنظر الى السماء ال إلى الألمام و عن عزة و تبكل يتناثر من عينيها وقار و هيبة
يمينها أسد ضخم كثيف شعر الرأس عريض المنكبين مرفوع الرأس يسير في خطوات ثابتة واثقة ال يعرف
الناظر إليه من بعيد أ يمشي متبخترا أم في مشيه عرجة ...وقف الجميع إال الملك الذي ظل في مكانه لم
يتحرك تعلوه هيبة تضاهي هيبة األسد القادم بين جنود ملك البشر و جنود ملك الغابة..
توقف ركب "ماري جاتا" على مسافة تسمح للملك البشري التقدم الستقبال ضيفه الكريم بما يليق بمقامه
بينما تقدم الصيادون الشجعان يقفون خلف السحرة الذين تقدموا قبل الملك الذي وقف و وقف خلفه األتباع الى
جاللة الملك العظيم األسد األعرج "ماري ماتا" ثم أخذوا يرقصون رقصات لها معاني عندهم يضربون
61
األرض بأرجلهم ضربات ذات إيقاع ثم يستديرون دورات محسوبة يم ينثنون حتى يكادوا يالمسوا األرض و
يقومون في حركات موقعة و هم يتلون تعاويذ نسجت كلماتها ألول و آخر مرة على هذا الكوكب ..و تقدم
كبيرهم يحمل غصنا و يحمل االثنان اآلخران إنائين من قرع بداخل كل واحد منهما ماء له رائحة غير محببة
ذات لون أحمر ثم أدخل غصنه في اإلناء األول و قام بالتقدم الى جهة مليكه و نثر عليه من الماء الذي علق
في الغصن و أفرغ بقية الماء على الصالحين الحكماء الذين معه و على سحرته ليكونوا شهود صدق على ما
دار من حوار بين الملكين ثم رجع مرة أخرى و كرر نفس الشيء مع اإلناء الثاني ثم توجه الى األسود التي
كانت تنظر إليه في استغراب و فعل معها نفس ما فعل مع الملك ثم تقدم الى الملك قائال :األسود و مليكها
دخل الشرطي راكضا الى مركز الشرطة على غير عادة العساكر و هو يصيح :وصلت العربة البنت وصلت
يا سعادتك.
الضابط الوقور بدت عليه سيماء اإلضطراب حين سمع صوت جنديه مبشرا بخبر وصول العربة التي تقل
وفد سعدية تدور في رأسه نفس اإلسئلة ال تي تدور في رأس الناس الذين استقبلوها في الشوارع المطلة على
المركز ,لقد خرجت المدينة كلها حتى ليكاد المرء يجزم أنه ما بقي أحد في بيته و أنه لم يبق إال عاجز أقعده
مرض أو حبسه حابس عنيد ...حتى األطفال خرجوا يتقافزون أمام العربة التي مرت أمام الجموع المصطفة
على جانبي الطريق كل يحاول أن يلقي نظره داخل العربة ضيقة النوافذ لعله يظفر بنظرة على تلك الجميلة...
حتى بعض جرحاها الذين يرقدون في المشفى حينما علموا بقدومها خرجوا لعلها تنظر الى ما فعلت بهم أو
لينظروا إليها فربما نظرة منها تشفي غليال و تجيب على سؤال هل تستحق كل هذه التضحية ,فمعظمهم لم
يرها بغير عين خياله و لكن الذين رأوها زينوها لهم بأشعارهم و أخبارها في قلوبهم و خيالهم...
62
دخلت العربة و وراءها أمواج من الناس تتبعها فلما رأى الضابط هذا المنظر ذهل و حار دليال في الذي يفعله
فإن تدفق الجموع بهذه الكيفية ربما يؤذي هذه الحورية الجميلة و أهلها أذى حسيا و معنويا فلربما تكون أقل
مما هي في مخيلتهم فيؤذونها بكالم يجرحها و يجرح أهلها و قد ينفعل منفعل فيؤذيها أذى حسيا إما بضرب
أو بغير ذلك انتقاما ألخ أو صديق أصابه أسدها األعرج ...وربما تكون مثلما قيل عنها حينها سيخشى عليها
هجمة الناس الذين يريدون إلقاء نظرة عليها و ربما خشي على نفسه منها.
أسرع الضابط ذي الرتبة الصغيرة قبل قائده إلى العربة يأمر من بداخلها البقاء حيث هم ريثما يجد حال لهذه
الجموع ثم اتجه الى جنوده طالبا منهم أن يحاولوا أن يسيطروا على الجموع خارج المركز ...و بعد جهد
جهيد استطاع أن يخرجهم خارج أسوار المركز ..و خرج القائد يحمل مالءة كانت فوق سرير الضابط
المناوب و طلب من عسكريه الذي بداخل العربة أن يحدث أمها بلف المالءة حولها مغطية رأسها و صدرها
حتى ال يراها أحد فيصيبها مكروه .وجل ما كان يخشاه أن تصيب هذا الجمال عين تؤذيه فتصيبه حسرة ما
ثم خرج مخاطبا الجموع طالبا منهم الرجوع الى منازلهم فإن هذا ال يليق بأهل هذه البلدة ولكنه الحظ ان
الجموع في ازدياد و ليس في نقصان..فامر جنوده بأخذ أهبة اإلستعداد كاملة ...
أمر قائ د الشرطة السائق أن يقف بعربته قرب باب مكتبه مباشرة ثم طلب ممن بالعربة النزول فنزل شيخ
القرية و حاج الحسين أوال ثم وقفا قرب الباب الخلفي فتقدم الضابط الصغير ففتح الباب طالبا ممن هم
بالمقاعد الخلفية النزول فنزل حاج الفضل أوال ثم أستاذ آدم ثانيا و نزلت عمتها "عاشة ثم نعمة ثم نزلت
سعدية بعدها ملفوفة بمالءة الضابط و نزلت غبيشة و أختها عاشة .و كان كلما نزلت واحدة تصايح الناس
من خلف الجدار بين قائل هذه هي البنت المعنية و بين ناف وبين مصبر لهم الى أن ينزل الجميع وزادت
جلبتهم حين نزلت نعمة الجميلة فلما نزلت سعدية و هي في مالءتها سكت الناس فجأة كأنما ألجمت أفواههم
63
ثم تصايحوا في وقت واحد هاهي هاهي هاهي ....و تدافعوا حتى أن الحائط انهدم ووقع الناس فوق بعضهم
البعض.
سلم القائد على الحضور مبتدأ بشيخ القرية الذي يعرفه فكم من مرة أتى منافحا عن أحد أفراد قريته أو متظلما
و شاكيا ..ثم انبرى الشيخ يعرفه على الذين حضروا في رفقة "سعدية" واحدا واحد فلما جاء الى نعمة قال له
هذه أمها "نعمة" تبسم القائد محدثا نفسه وكيف تكون ابنتها اذن ثم سلم على أختيها و عمتها و جعلها آخر من
يسلم عليه ...فلما وقف بقربها قال لها :أنت بأمان هنا يا ابنتي انزعي عنك هذه المالءة فلما نزعتها ارتبك
قليال و قال بين الجهر و السر :ال إله اال هللا تبارك هللا أحسن الخالقين فلما أفاق من سكرته أحس بمن في
ابتدر النقاش شيخ القرية :يا السيد الضابط ما الذي فعلته هذه البنت
:انظر يا شيخ و يا حاج الحسين ابنتك هذه سببت فتنة كبيرة في البلد..
تكلم استاذ آدم مستميحا الشيخ و حاج الحسين ,و سعدية و أمهاتها ينظرن:
-المستشفى مليء بالجرحى و أنت شايف الخلق التي بالخارج أليست هذه فتنة هذا إضافة الى أن
الرئيس شخصيا مهتم بموضوع الحفاظ على الغابات و حيواناتها و التقارير كل يوم تأتينا بأن
64
قفز حاج الحسين:
-أليست هي التي قالت أن الذي ييريد أن يتزوجني عليه أن ييحضر لي أسدا صفاته كذا و كذا ...
-هذا شرطها لكنها لم تغصب أحدا على أن يتزوجها يا ابني...لم تحمل سيفا أوفأسا على أحد..
سكت الضابط مدة ثم قال وقد بدا عليه شديد التأثر :أعلم أنها لم تفعل ...لكن الحكومة تصر على نقل
قريتكم من مكانها للحفاظ على الحيوانات و هي من حرض الناس على قتل الحيوانات ...يا حاج الحسين
البالغ مفتوح عندنا هكذا أنا أنفذ تعليمات الخرطوم سنضطر الى التحفظ على ابنتك الى حين عرضها
9
اإلشاعات التي تكاثرت و تضاربت حول نية السلطان "هاشم" غزو البادية المحاذية للجبال أخذت تتزايد و
أنه بدأ فعال في ترتيب كتيبة من الجيش و أن هذه الكتيبة ستكون و قائدها تحت إمرة الشرتايي "سرور"
محض إشاعات ولكن الخبير بالمنطقة و ذو النفوذ القبلي و الطموح الغير محدود ...لم تكن هذه األشاعات
بها شيء من الحقيقة "فسرور" المتحدث اللبق وجد أرضا قابلة للزرع في فؤاد السلطان الشاب "هاشم"
الطموح الذي كان من األساس يخطط لضم هذه المنطقة لصالح نفوذه و توسعه فلما جاءت الفرصة في طبق
من ذهب فإن من الغباء أن ال يستغلها االستغالل األمثل ..و كان "سرور" ذكيا في طرح الفكرة إذ جعلها فكرة
متكاملة األركان حيث أوعز إليه بغنا المنطقة بالذهب الذي سيمول له حملته هذه على سلطان "دارفور" و
ماعليه إال اإلستعجال قبل أن يضع األخير يده عليها ,لكن جمع جيش ليس باألمر السهل حيث أن جيوشه
مستنفرة في الغرب األقصى في حروب مع ذات السلطان ذي القوة و المملكة العظيمة .فقرر أمرين أن يرسل
65
الى سلطان سنار ملك الفونج مليك شرق بالد السودان و الحبشة يطلب منه دعما و يعده بأن يظاهره على ابن
عمه القريب ,و تحت إصرار "سرور" و تبسيطه لألمر اتخذ قرارا آخر بإرسال سرية تفرض الهيمنة و
تبسط النفوذ و تعلن الوجود قبل أن يأتي الرد من ملك سنار ,فقام بجمع عساكرها من الجيش الموكل به حماية
"األبيض" العاصمة ....و جعل خطة التحرك بيد "سرور" الذي قرر أن يباغت منطقته التي ولد فيها بجيشه
الغازي عبر الطريق الغربي البعيد الذي جاء به من قبل و الذي يشق الغابات و ال يسير به اال صاحب
و في ليلة الخميس المظلمة و التي صادفت آخر شهر جمادى األول و البرد يبسط هيمنته على الوجود تحركت
السرية نحو الجبال التي لم تسقط عسكريا في يوم من األيام ألي غاز أو طامع غير تلك المرأة التي حكمتها
قال "حاكم" لصهره الذي ناصره في تثبيت المنطقة من فتنة سرور التي كادت أن تعصف بسالم مكونها
اإلجتماعي :
-أخشى عليك من تحركات "سرور" المريبة فلربما ستطاع أن يحرك األطماع في قلب السلطان
قال "مهران" و هو يربط السرج على ظهر الحصان و يرفع مؤونة سفره الى مواقع الذهب حيث
-لقد أطلنا الغياب عن مواقع العمل و هذا عمل ال يتحمل الغياب عنه كثيرا وأخشى أن يجد أحد من
العمال ما أبحث عنه فيسرقه أو يخبأه عنا فيضيع جهد سنتين و أمل عمر بأكمله ...ال تخش "سرور"
66
-األشاعات كثيرة كلها تؤكد و تقول أن "هاشم" سيحرك كتيبة الى هنا لتحتل الوادي و جباله ...و إن
كان هذا صعب في ظل الحروب الكثيرة التي تشغله و جيشه لكني أعرف "سرور" و مقدرته على
اإلقناع و أعرف شباب السلطان "هاشم" و تهوره و نفسه الطماعة التي تزين له ما ليس بحقه ..لو
انتظرت قليال حتى يأتي رد السلطان على رسالتنا ...أو دعني أرسل بعض العيون التي تأتينا
-سأتحرى اليقظة واإلنتباه ال تخف علي ...سأتخذ طريق الغابة الغربي البعيد عن مسار "األبيض"
فلن يتجرء "هاشم" على المهاجمة من خالله فهو بعيد عن مصادر اإلمداد و قطعه سهل...
-إن كان و ال بد فخذ عصاي هذه التي يعرفها أهل البادية جميعا فربما تحتاجها أما أنا فأسلحق بك بعد
فلما دخل "مهران" الى "النقو" زوجته قال لها :الخرائط و الورق الذي أريتك إياه ال تفرطي فيه أبدا و
إن رابك شيء أو خفت من شيء إدفنيه في طرف هذه الغرفة بعد أن تغطيه بساتر يحميه من التراب و
نمله األبيض.
وصل "مهران" الى ملتقى الطرق الذي يربط بين الطريق المؤدي الى "األبيض" و بين الطريق الذي
ينفذ من خلف القرى متجها الى الجبال...وهو كما ذكر آنفا طريق ال يختاره ذو عقل و ال رأي إال أن
يكون مضطرا كاضطراره ..فلما وقف ليستجم قليال سمع جلبة تأتي من بعيد من جهة الطريق القادم من
"األبيض" كأصوات الحوافر و صهيل الخيول و أصوات أناس تبين و تضيع بين بقية األصوات ...فلما
أمعن النظر لم ير شيئا لكثافة األشجار و تعرج الطريق و لكن الصوت ما فتأ يزداد قربا ...لم يكن تخيل و
استنتاج أن هذه القوة ما هي الى قوة السلطان هاشم التي أرسلها الى المنطقة باألمر الصعب بيد أنها
مفاجأة عكست التوقعات تماما ...كيف يقدم هذا المجنون على مغامرة مثل هذه ,و بدأت أسئلة كثيرة تدور
في الرأس أولها ما الذي يجب فعله سريعا ...حيث أن المسافة الى أول قرية تبعد مسافة يومين ...أهلها
67
يدينون بالوالء آلل حاكم و لسطان الفاشر ...لكنه قرر أن يقترب أكثر ليستطلع الخبر و يعرف حقيقة هذه
لذلك ركب حصانه و اتجه جنوبا الى داخل الغابة ,مبتعدا عن مدى حركة الفرسان القادمين ,فلما أحس
بأنه ابتعد بما فيه الكفاية أوقف حصانه و ربطه الى جذع شجرة ثم تركه و تقدم راجال حتى وصل الى
مكان يمكنه فيه سماع صوت الخيل المتحركة ,ثم اختار شجرة عالية و صعد فيها حتى و صل الى
أعالها و ضمن أن ألياف أغصانها كثيفة بما فيه الكفاية لتغطيه عن األعين المتربصة ....و كانت الخيل
تتقدم نحوه وهو في أعلى شجرته ....فما كلفه األمر غير زمن بسيط حتى استطاع أن يرى من على البعد
"سرور" يتقدم القوة الى جوار قائدها يضاحكه و يمازحه و عرف من بينهم بعض أناس الوفد الذين ذهبوا
معه يسيرون مع الجيش متفرقين و منتشرين بين جنوده...لم يكن الجيش كبيرا فقد استطاع أن يقدر عدده
ما بين المئتين و المئتين وخمسون فردا ال غير...توقفت القوة عند مفترق الطرق حيث أشار إليهم قائدهم
أن يرتكزوا ألخذ قسط من الراحة بعد أن دخلوا الى داخل الغابة قليال مبتعدين عن قارعة الطريق..
مازال مهران التونسي ينظر من عل عليهم يحصي أسلحتهم و يقدر قوتهم الضاربة و ينظر الى مراكب
أمتعتهم ...فوجد أن القوة تسليحها جيد بما فيه الكفاية إلدخال الرعب في القرى البسيطة التي تقطن هذه
المناطق و يبدو أن اختيار أفرادها تم بعناية فأجسام و أحجام الجنود تشي بذلك ,و بينما هو كذلك إذ يرى
حصانه بين يدي أحد الجنود يقوده الى حيث يوجد القائد ,فأسقط في يديه ....و بدأ بالنزول سريعا لعله
يدرك مهربا أو مالذا يلجأ إليه قبل أن يفطن إليه أحد ويعرف حصانه ...وحدث ما توقعه فعال فبمجرد ما
وصل الجندي الذي يقود حصان "مهران" الى المعسكر حتى رآه "سرور" فعرفه فجاء يخب الى حيث
68
وسرعان ما بدأ جنود باالنتشار في الغابة بحثا عنه ...سمع أصواتهم تتصايح بعضهم يصيح من هنا
واآلخر يصيح من هنا ...وحيث أن الحصان كان في اتجاه الجنوب جرى الجميع في ذلك اإلتجاه لكن
"مهران" اتخذ اإلتجاه الشمالي الشرقي مهربا حيث قدر أن الجنود سيتجهون الى حيث اتجاه مربط
الحصان ,لكن "سرور" الذكي خرج في جماعة أخرى من الجند وقال :
إذا كان الحصان للتونسي ال غيره فإنه أذكى من أن يختبئ حيث ترك حصانه . -
جرى مهران كما لم يجر من قبل مسرعا بعد أن رفع ذيل قميصه و ربطه في منتصفه و تحزم بعباءته و
أصوات الخيل تصل إليه من بعيد و صوت "سرور" األجش المميز ال يخفى عليه صائحا في جنوده:
انتشروا بحيث يرى كل منكم اآلخر و ال تقتربوا من بعضكم كثيرا فتضيقون عليكم مساحة -
البحث..ابحثوا في كل شيء خلف األشجار و فوقها بين األعشاب و الحجارة و خلف بيوت النمل
انخسوا العشب برماحكم ال تتركوا علوا دون أن تعلوه و ال منخفضا دون أن تطأوه وجب عليكم أن
سكتت "حمانة" كعادتها حين تغضب أو تتألم و اكتفت بنظرة قاسية الى أبيه الذي حذرته من مغبة خروج
الولد الصغير برفقة حيوانين مفترسين في رحلة صيد محفوفة بالمخاطر ,و تركت لعينيها أن يسيال بالدموع
و يعبرا عن مكنون صدرها ثم أشاحت بوجهها عنه دون كالم في غضبة منها لم يعهدها من قبل ...لكنه كان
أكثر ندما منها و قل قا على ابنه الذي بدأت مالمح مستقبله الزاهر ترتسم في األفق القريب ,و تبدت له صورته
المشرقة و هو يعلو كعبا على من ناددوه يبزهم ذكاء و مقدرة ,ظهرت عليه سيماء النجابة منذ نعومة أظافره
و تبدت عالمات القوة المتكاملة على جسمه و محياه تبرز عضالت صدره و ذراعيه و رجليه بصورة جلية
69
ال تخطؤها عين ,غير قوة إرادته و شكيمته و إصراره ...كان سريع التعلم فطنا حتى كاد أن يفهم لغة األسود
أو فهمها كما يقول أهل السوق الذين كانوا ينادونه إن استعصى عليهم قياد سبع أو التعامل معه ,,,كالم ابنه
الواثق و ضحكته الفاتنة تفعل به األفاعيل يطردها باإلستغفار و لكنها تتأبى عليه تمسك بتالبيبه و تحمله
استنفر "لخضر" حملة كبيرة للخروج بحثا عن ابنه المفقود في الجبال تعاطف معها كثير من تجار السوق و
صياديه تضامنا مع أخ طالما وقف مع صغيرهم و كبيرهم بحسن تعامله ,و خوفا على ابن رأوا فيه ما كانوا
يتمنونه ألبنائهم عوضا عن أنفسهم من كمال رجولة و جمال هيئة و حسن خلق ,انطلقت في نفس يوم وصول
و بعد هذا بخمسة أيام كان "الباهي" المفقود فاقدا للوعي قرب صخرة كبيرة و األسدان بجواره ينظران في
قلق إليه تارة و تارة يتلفتان بصورة غريبة ويدوران حول جسده المسجى ثم ال يلبث أن يتحرك أحدهما
مهروال و صاعدا أعلى الصخرة التي يرقد تحتها " الباهي" ثم يتلفت يمنة و يسرى مرار كاشفا المنطقة
بعينيه ثم يعود الى أخيه الذي يقوم بدوره بالصعود أعلى الصخرة مؤديا نفس حركة صاحبه السابقة ...لكنهما
أخذا يجرانه من ثيابه جرا ليذهبا به خلف صخرة أخرى تجاور الصخرة الكبيرة مشكلة معها نصف كهف
صغير...أدت هذه الحركة الى إفاقة "الباهي" متأثرا باأللم الناتج عن جر األسدين له..و األلم الناتج عن
جرحين غائرين في كتفيه كأنهما طعنتا سيف أو رمح اخترقتا كتفيه اختراقا ،و أحس بإنتفاخ على هيئة مربعة
يضغط على قفصه الصدري و بطنه ,أدرك أنها مجموعة من ورق في هيئة كتاب كأنها مخبأة بين جسده و
مالبسه ....و مع إفاقته سمع زئيرا كبيرا متجها نحوهم لكنه على مسافة ليست بالقريبة....
لم يكن سقوطه من أعلى الصخرة إثر انزالق قدمه أو فقدانه لألتزان بل نتيجة معركة ضارية بينه و بين أسد
ذو عرف كبير كان يتقاتل معه قتاال شرسا لم يترك اإلثنان فيه شيئا من فنون القتال إال و استعماله ،و لكن
70
العجيب أن أيا منهما لم يكن يريد قتل اآلخر ،بدا ذلك في الفرص التي أتيحت لألثنين حيث تمكن "الباهي"
أكثر مرة من اعتالء ظهر األسد و التمسك برقبته بيد و كانت اليد األخرى حرة بحيث تمكنه من حمل سكين
أو سيف أو ما شابه أو حبل يربط به فمه أو يلفه حول عنقه و رجليه كما كان يفعل مع أسود أخر حين يريدها
حية مما كان متاحا يحم له بين مالبسه أو بالقرب منه ليجهز على فريسته و لكنه لم يفعل ,و بدا أن األسد نفسه
ال يريد اإلجهاز على غريمه فقد عاله أكثر من مرة و خصمه ملقى إما على ظهره أو على بطنه غير أن
األسد لم يفعل سوى أن قفز من فوقه متهيأ لجولة عراك أخرى ,و كان سقوط "الباهي" نتيجة انهيار حجر من
تحت قدمه أثناء العراك جعلته يهوي من عل على أرض صلبة فاصطدم رأسه باألرض فأغمي عليه...
لكن العجيب في األمر أن األسدين لم يشتركا في القتال بل جلسا مقعيين خاشعين ينظران الى العراك بدون
تدخل لصالح أي الخصمين و يدوران حولهما في قلق كأنهما حكمان في مبارزة شريفة شرسة بين فارسين
شجاعين ...فهما من قاد الى هذا القتال فقد أوحيا الى الباهي بما بينهما من تفاهم أن يأتي و راءهما ليرياه شيئا
بدا ثمينا من اندفاع الباهي الذي لم يستمع الى محذر من عدم االبتعاد أو الى راج بالتقيد بتعليمات والده من
مجموعته المرافقة فوكز حصانه المدرب على صعود الجبال بسرعة اختفى بعدها في غياهب الصخور و
األشجار ,فظنه أصحابه لن يبتعد كثيرا ككل مرة و يعود بعد قليل ،و لكنه تبع األسدين الى مسافة بعيدة
يجريان أمامه ثم يتوقفان أو يتوقف أحدهما حتى يلحق بهما ثم يواصالن الجري حتى ابتعدا و حينما انتبه
الباهي وجد أنه قد صعد الى ارتفاع كبير عبر طريق وعر متعرج ,حتى أن حصانه بدت عليه آثار التعب و
اإلعياء و لكن إصرار أسديه عليه لم يدع له مجاال للتراجع فكان كلما نزل من حصانه و وقف قليال ليتروى
في تفكيره أمسكاه بأسنانهما يجرانه و يحثانه على التقدم ثم يركضا ,حتى وصل الى قمة عالية تحتها هضبة
كبيرة شاسعة غناء بمنتصفها بحيرة كبيرة بها تجمع كبير للحيوانات من كل األنواع ,فالناظر إليها من عل
يرى هذا الجمال الطبيعي البديع و يرى الحيوانات ما وسعه النظر عبر كثافة األشجار المنتشرة في تناسق
كأن يدا تدخلت في تنسيقه فذلك قطيع جواميس برية كبير يمشي بالقرب منه قطيع لحمر وحشية و هنالك في
71
جهة مغايرة تمرح مجموعة غزالن جميلة تأكل و تلعب و تلك طيور جميلة لم ير مثلها من قبل بعضها على
حواف البحيرة و بعضها يطير و البعض على غصون األشجار ,و تلتقي السماء في نهاية الهضبة الممتدة الى
مدى ال تصل العين الى نهايته تلتقي في منظر بهيج يلتقي فيه اللون األخضر الجميل مع اللون الرمادي
الممزوج باألبيض الباهت لسحاب خفيف كأنه شعر فوق جبهة األشجار من فوقه تنجلي زرقة السماء الصافية
الجميلة.
شد هذا الجمال انتباه الباهي كثيرا متأمال فيه ممتعا نظره و خياله ببهائه ,و قد لفت انتباهه كيف أن من
بالوادي في سوق أهراس لم يروا أو يسمعوا بهذه المنطقة الجميلة من قبل فطيلة ما هو بينهم لم يسمع بأحد
يتحدث عنها ,لعلهم كانوا منشغلين عن قمة الجبل بما هو تحته فقد أغناهم عن الصعود الى أعاليه حيث تكثر
الحيو انات التي تكفي حاجتهم فال يتعبون أنفسهم بحثا عن مزيد ..كان هذا أقرب تبريرغير مقنع يجيب على
هذا السؤال و فجأة قطع هذا التأمل اضطراب األسدين اللذين أخذا في الركض يمنة ويسرى كأنهما يطلبان
منه التحرك ..ثم جفل الحصان الذي كان لجامه مرخيا بيد الباهي الذي كان قد نزل منه ناظرا متأمال في بديع
خلق هللا الذي أمامه ،و جرى مذعورا كأن شيئا يجري و راءه حتى أنه أسقط بعض المتاع و السالح
المحمول عليه ..ذهل الباهي الذي ترنح قليال ثم استجمع قواه و وقف في حالة تأهب ينظر في كل اإلتجاهات
عله يرى ما أصاب حيواناته بالذهول فلم ير شيئا ..فنادى أسديه صائحا لهم :ماذا هنالك ...
لكن األسدين استمرا في اضطرابهما الممزوج بالرعب ,في أول مرة يراهما على هذه الحالة ..استجمع الولد
الفتي بعض قواه و جرى الى حيث المتاع الساقط ,فوجد فأسا و سيفا و رمحا و درقته الجلدية التي أعدتها له
أمه ليوم كهذا ..حمل األسلحة الثالثة مرة واحدة ,الفأس و الرمح بيد و السيف باليد األخرى وجعل الدرقة
بين قدميه و هو ينظر في كل االتجاهات مركزا على عكس الجهة التي جرى نحوها الحصان ...ثم سمع
صوتا قويا أشبه بصوت الرعد الضخم منه الى صوت الصاعقة الحاد ينتشر في كل مكان ...تحركت أوراق
األشجار في البدأ ببطأ ,ثم ازدادت حركتها و بدا كأن الطقس منذر بعاصفة قوية استجمعت قوتها في زمن
72
وجيز ..واستمر صوت الرعد في هزيمه المدوي المتزايد ,و السماء التي كانت صافية حشدت سحابها .و
الرياح تزداد قوتها حتى أنها صارت تدفعه بقوة نحو هاوية الجبل قاذفة درقته الجلدية من بين رجليه في
مهاوي الوادي ...تحرك بصعوبة نحو شجرة كبيرة وقف بقربها مستترا من قوة الرياح بساقها الكبير ...و
كما تحرك كل شيء فجاة صمت كل شيء فجأة ,عدا األسدين الذين ما زاال في حالة قلق شديد ...جرى
األسدان باتجاه صخرة كبيرة ناتئة في أعلى الجبل ,وهما يطلبان بحركاتهما من الباهي التحرك و راءهما و
الذي لبى نداءهما مسرعا مستجيبا ال يلوي على شيء ...وكما صمت كل شيء دوى صوت زئير كثيف من
كل االتجاهات يقترب منهم ليس ألسد واحد بل زئير يشي بأن الغابة كلها تحولت الى أسود حتى األشجار
تجاو بت مع هذا الزئير بترجيعها صداه فأصبح الصوت كثيرا كثيفا يأتي من كل مكان ...ما أن وصل الجميع
الى صخرة تقفل الصخرة الكبيرة مشكلة معها تجويفا يشبه الكهف حتى ظهرت مجموعة كبيرة من األسود
تمأل أرجاء المكان تتحرك عليه في وتيرة واحدة و بإيقاع واحد كلها يحمل عرفا كبيرا ذو لون أسود قاتم
السواد في نهايته لون أبيض يكسو كل نهايات شعر العرف الضخم ,تمشي على ثالثة أقدام و تمس األرض
بالرابعة مسا خفيفا كأنما تطأ بها على شوك ...حتى إذا اقتربت منه و هو في تلك الحالة من الذعر و الخوف
زأرت كلها في وقت واحد زئيرا مأل أرجاء المكان جعل كل الطيور التي سمعته تطير مذعورة مرتفعة عن
أوقف جدار الصخرة تقهقر الفتى المرعوب و أسديه بينما األسود تتقدم ,نظر الى الجدار خلفه فوجده خشنا
ذا نتوءات ,أخذ يتحسسها فوجدها واسعة تسع أرجله ,قوية تستطيع حمل وزنه فأسرع بتسلقها صاعدا الى
أعلى الصخرة الكبيرة..يضع رجال على نتوء منها يصعد به و يمسك بيد نتوءا أعال يتشبث به متسلقا مبدال
ما بين يديه و رجليه ,فلما وصل الى منتصف جدار الصخرة أمسك في نتوء و اتكأ عليه فإذا بالنتوء يتلجلج
في يده حتى إذا ضغط عليه بثقل جسمه ليصعد وقع منه حجر كبير لوال أنه سبقه بالتشبث بجدار الصخرة
بين يدي األسود التي اقتربت كثيرا من صخرته و أسديه...فلما وقع الحجر الكبيرة لكان سقط من علوه
73
الكبير توقفت األسود ..نظر الفتى المنهك الخائف ليجد حفرة كبيرة خلفها ذلك الحجر في جدار الصخرة
بسقوطه ...فزع منه ا وأراد أن يسرع بتخطيها صاعدا الى األعلى فانهدم الجدار من تحت يده العليا التي كان
يعتمد عليها في تثبيته على الحائط موسعة ثقب الحفرة لتصبح بئرا كبيرة تخترق الحائط الى داخله فأمسك بيده
األخرى عتبة الحفرة التي انفتحت ثم ألحقها يده الثانية ..ثم وجد نفسه يتكأ على يديه رافعا جسده الى داخل
الحفرة المظلمة .كانت الحفرة على ارتفاع سبعة رجال و ما انفتح منها كأنه ردم فوق بئر عميقة تمت إزاحته
فانكشفت البئر المستعرضة ليظهر عمق كانت الشمس كافية لتظهر سطحه القريب و الراجح أنه كهف طمرته
األيام ..رفع الباهي رجليه الى أعلى الكهف أو البئر ,و الخوف الذي كان واحدا أصبح خوفين خوف من
شيء يراه أمامه ساقته إليه قدماه و خوف جديد من شيء فتحته يداه ال يعلم ما كنهه و ما الذي سيخرج منه.
عاد الملك الجديد برفقة حاشيته و سحرته و صالحيه و في معيته ذلك األسد الذي مألت سمعته تلك األرجاء
ت رافقه زوجته و حاشيته من األسود يسيرون حوله في اضطراب و توجس تجدهم يتبادلون األماكن كل مرة و
يكثرون التلفت و بعضهم يسبق الركب و بعضهم يتأخر ثم يعودون لينتظموا في الموكب ا لملكي بينما يسير
ملكهم "جاري ماتا" في ثقة ال يشوبها اهتزاز و أنفة و اعتزاز ,خطواته تزيدها العرجة تبخترا و نظراته
خارقة لكل عين وقعت عليها تنفذ الى قلب صاحبها فتصيبه بالرهبة و الخوف ..و قد سبق الوفد رسول يبلغ
الناس بقدوم الملك و ضيفه المهيب ..فاستعدت المدينة و تهيأت لمثل هذا األستقبال الغريب األول من نوعه
يدعو فيه ملك بشري ملكا آخر من غير بني البشر بل من خلق طالما استعلى األول فيهما على الثاني يحبسه
و يذبحه و يقتله بال وازع و ال رحمة وال سبب يتخذه خادما له في كل أموره ال يغفر له زالته و ال يتسامح
معه في رغباته يمتلكها و يضن بها عليه..فإذا ما انتفض راغبا في تعديل وضعه انتقم الثاني بال رحمة و ال
و تفتق ذهن معدي برنامج ضمير ..و لم يعجبوا من ذلك فهكذا يفعلون هم مع بني جنسهم أنفسهم ...
االستقبال عن فقرات ذات صلة فقد كان جل ما يشغل بالهم هو كيف يكون جلوس الملكين في مقام واحد فإن
74
عرفت كيفية جلوس أحدهما فإن كيفية جلوس الثاني لهي المعضلة ,و قد الحظوا أن فرش ملكهم اآلدمي كلها
منسوجة من جلود قبيلة الملك الضيف أسودها و سباعها و نمورها و فهودها و يزينون برؤوسهم جدر قصره
و مجلس حكمه فقد كادوا يكنون بها عن العظمة و السؤدد ,أما و األمر قد تغير فقد استنفروا القبيلة في
صنع فرش من جلود األبقار و الماعز و الظباء و األيائل أخذوا من ك ٍّل ثورا أو بقرة أو غيرها مما يصلح أن
يكون جلده مفرشا و زينة ,و جمعوا رؤوس السباع التي علقت على جدران القصر من داخله و خبؤوها في
غرفة الملكة ريثما تنتهي مراسم اإلستقبال و يعود الضيف المهيب ,و قد أغاظ هذا األمر الملكة التي لم
تستسغ أن تزال صور العظمة و تماثيلها التي كانت للمولك األوائل من على جدار قصر مليكها الحالي فكأنما
و ُج ِمع الراقصون و الجمهور فأفهموا أن ال يلبس أحد منكم رأس أسد أو ما شابه حتى ال تثور ثائرة الملك
الضيف ,و أن يعمدوا في هذا اليوم الى القماش ليلبسوه إن وجد فإن لم يوجد فال بأس من أن يأتوا عراة ..
وانبرى المؤلفون منهم يصيغون عبارات تمجد ملكهم الذي أتاهم بسالم لم يكونوا يحلمون به و بسيرة ما سبقه
عليها أحد من األولين و تذكروا أن يذكروا محاسن الضيف المهيب في غنائهم و رقصهم ...و علموا أن
ضيفهم المهيب ربما يقضي معهم أياما يحتاج فيها الى طيب طعام فجمعوا من األبقار ما يسد نهمته و كلفوا
بها أحد أصحاب المالحم ليكون مسؤوال عن تقديم الطعام للملك الضيف و وفده المرافق و لم ينسوا أن يفصلوا
للملك "جاري ماتا" و زوجه مكانا لألكل غير مكان وفده المرافق و حفروا للماء حفرة زينوها بطين الزب
يمنع التسرب و يعطي منظرا حسنا جمعوا فيها ماء كثيرا كلف جهدا في نشله من اآلبار و مأل حوضه به..
أثار اصطفاف الناس على جانبي مدخل الملك الى المدينة حفيظة األسود التي لم تتعود من هذا المخلوق ذي
الرجلين غير األذى و القتل ,ولوال مفعول الماء المسحور الذي داوم السحرة على رشها به لحدث ما ال يحمد
عقباه ..فقد تحفزت وتهيأت للهجوم ..وكان كلما عال صوت آدمي أو نزا طرق طبل أو عوى صوت آلة
موسيقية تقافزت األسود و كشرت عن أنيابها ,و لكن ملكها األعرج سار بجوار الملك المضيف كأن شيئا لم
75
يطرق بقربه و ال صوتا عال بجانبه ,نظره معلق في السماء و رأسه لم تهتز أو تلتفت ال الى اليمين و ال الى
اليسار وقد رفع يمناه العرجاء ال يطأ بها األرض إال لماما كأنما يرحب بالجموع بيد خفيضة ليست بالعالية ..
و سار ركبه الميمون حتى دخل الى المدينة الملك مترجال و بجواره األسد و على شماله لبوته المكرمة ثم
يسير و راءهم و بالقرب منهم واحد من السحرة الثالثة يحمل إناء بيد و باليد األخرى غصنا صغيرا ذا أوراق
كثيرة ,يفصل الموكب عن بقي الركب مسافة قصيرة بعدها يسير صف مكون من خمسة أسود و خمسة
صيادين بين كل أسدين صياد خالي الوفاض من سالح يلبس حزاما كان يستخدم في حمل السيوف ال يلبس
شيئا غيره ,ثم ساحر يحمل نفس ما يحمل الساحر األول في صف لوحده ,و يتكون الصف الثاني كما انتظم
الصف األول و ترك الصف الرابع للساحر األخير ثم يأتي صف الجنود و الصالحين أرباب المعابد.
و بعد ذلك بمسافة تسير جماهير كثيفة خرجت الستقبال الملكين يعلو صوت غنائها و ضرب طبولها و خبط
فلما وصل الموكب الى القصر و مكان االحتفال خرج كبير السحرة و معه بقية السحرة الذين لم يرافقوا الملك
و بدأوا بعمل تعاويذهم يضربون األرض بأرجلهم و ينخفضون ثم يقومون في حركات متتالية و حملوا الماء
هذه المرة بأيدهم و بدأوا يرشونه في حواف المكان و حول مقعد الملك و دكة األسد الملك ,ثم اقتربا من
الملكين الذين كانا يقفان خارج المبنى المعد لألحتفال طالبين منهما التقدم للجلوس بعد أن ركعوا تحية و
إجالال.
تقدم الملك داعيا ضيفه للجلوس بقربه في دكة أعدت خصيصا له و للبوته التي لم تجد نظيرة ترحب بها فقد
خافت الملكة البشرية من الملكة األخرى بينما هي تصطنع التعالي و التأفف فلم تحضر اإلستقبال إال من
شرفتها ..و انسحب البقية على يمين و شمال الملكين في مقاعد و دكك مصفوفة أعدت بعناية لجلوسهم
بشرهم و أسودهم...و انطلقت برامج االحتفال المبتهجة الراقصة ,أتى فيها الناس زرافات زرافات كلما أتى
76
فوج قعى كما تقعي الحيوانات و سجد واضعا ظاهر كفيه على األرض منكفئا ً رأسه على راحتي يديه حتى ال
تتسخ رأسه بالتراب ,ثم يقومون مفسحين الطريق لفوج آخر ,و دقت الطبول و رقص الحضور كلهم
يتقافزون الى األعلى كأنما يتبارون أيهم أكثر ارتفاعا في قفزته ,أما النساء فقد أظهرن جمالهن بصدورهن
العارية يزين ما سفل منها بسيور أعدت من جلد البقر منسوجة في خيط واحد يلفونه حول الخصر ال تحجب
منظرا ,لبسنها لهذا اليوم البهيج و صرن يتمايلن في حبور يدور نصفهن األدنى عكس دوران نصفهن األعلى
,و وزعت على الناس كؤوس القرع المليئة بنقيع الذرة المسكر الذي يستنكرون شربه في غير هذه
اإلحتفاالت ,و جاء الناس بهدايا قيمة من أبقارهم و ضأنهم و دجاجهم للملك الضيف دون مليكهم -الذي ناله
يوم تتويجه حظ عظيم منها -فنظر إليها جاللة المهدى إليه بعين فاحصة كأنما يتأكد من عددها ,و هي تساق
إلى زرائب أعدت لهذا اليوم ,و كانت أهم فقرات الحفل كلمة الملك التي ختم بها الحفل ,فرحب فيها باألسد
األعرج و وفده المرافق شاكرا له على تلبيته هذه الدعوة التي لوالها لما صدقته قبيليته ,ثم توجه لشعبه مبينا
لهم ما توصل إليه معه من اتفاق سيرون نتائجه مباشرة بعد هذا الحفل البهيج ,طالبا من الجميع اإللتزام
بشروط هذا العهد وهو يضمن لهم إلتزام ملك األسود و قبيلته بشروطه ,و أبان لهم أن أهم بنود اإلتفاق ما
يلي :أن األسود لها حرمتها و مكانتها بين السباع تعزز هذه الحرمة بعدم مسها أو صيدها في خمسة من أيام
األسبوع عدا يومي األحد و الخميس يجوز صيدها فيهما ,و على األسود توخي الحذر في هذين اليومين إال
في حاال ت ثالث أولها إذا قتلت بشرا ثانيها اذا صادت حيوانا مزروبا ثالثها إذا نكصت عن هذا اإلتفاق
فيسري عليها العرف الذي كان سائدا من هيجة تغتال الكثير منهم و تضر بهم .و لألسود حق عبارة عن ثور
كل سبت تتناوب فيه القرى يلقونه لها في مكان معلوم يتم اإلتفاق عليه ...و بند مهم آخر أن تحمي القبائل
األسود من شر الصيادين من خارج حدودهم كأوالئك الذين يقدمون من الشمال بين حين و آخر و يعطى
األسد عهده و أمانه لكل أفراد قبيلة الماساي حيثما كانوا شريطة أن يلتزموا ببنود هذا العقد كما أن عهده و
سار على كل من أن أراد أن ينضم من بقية القبائل الى شروطه على أن تساعده القبيلة في الوصول الى
أمانه ٍ
77
موطنه األصلي بسالم حيث تاريخه التليد الذي أبعدته عنه الحروب و الغزوات التي انتظمت تلك المنطقة في
عهدها القديم ...و أكرم الملك ضيفه المهيب بضم قبيلة األسود الى قبيلة الماساي ليكونوا من أفرادها كما و
أخبرهم بأن ملكه الضيف قد منح جنسية األسود لكل فرد من قبيلتهم كمكرمة من ملك األسود الشهير "جاري
ماتا" فأصبح كل ماساوي أسدا كما أن كل أسد صار ماساويا ,ثم قام و ألبسه عباءة فخمة أعدت من قماش
أحمر مرصع باألسود ,إشهارا لهذه النسبة الجديدة و منحه لقب "مورونو ماتابا" تيمنا بالقائد الماساوي
العظيم ..
10
في مساء هذا اليوم الحزين كانت جدتي سعيدة أيما سعادة بما حدث لبنت "نعمة" ,و ككل مغرب أفرش
الحصير و أستلقي راقدا أمام البيت جاءت تحمل إناء اللبن و هي تغني على غير عادتها فمنذ أن ولدت لم
يحدث أن سمعت صوت جدتي و هي تغني غير قبل أيام طويلة خلت كانت تهدهد بنت خالتي المولودة ,
طلبت مني أن أقوم بهب النار بغطاء علبة ألقته لي ليزيد اشتعالها تحت اللبن الذي وضعته فوقها.
ريثما تعود بالعلبة التي تحمل حب الشاي و علبة السكر و أكواب الشاي ثم قالت لي من داخل بيتها :
-الباقي إثنين.
-إثنان من ماذا ؟
78
قالت وهي قادمة تحمل أشياءها في صينية قديمة ..
-حادثان كبيران ربما يأخذان هذه البنت الى األبد حادثان يشعالن النار في فؤاد نعمة يكون األخير
-كيف ذلك يا جدتي أال ترين أن هللا يحب نعمة و بناتها ...كل مصيبة تجعل الناس يزدادون تعلقا بها
أخذت قسطا من الشاي األسود في كفها األيمن و نثرته فوق إناء اللبن الموضوع تحت أثافي ثالث من
الحجارة ثم نفضت يدها فوق اإلناء و حركت العود الذي تشتعل فيه النار يمنة و يسرى وقالت وهي تنفخ
النار بفمها:
صدم قرار الضابط المدينة كلها إذ أن الحيثيات التي خرجت للناس لم تكن كلها مقنعة بحيث تؤدي الى حبسها
..و كيف تحبس المالئكة ؟؟؟ ...وكان أكثر الناس حزنا بهذا القرار الضابط نفسه ...و لكنه كما قال ينفذ
أوامرالحكومة التي أمرت بذلك بخطاب مشفوع بختم آمر النيابة ..و لم يشفع للبنت الجميلة بكاء أمها و
أخواتها و ال تضرع آبائها أو لجاجة أستاذ آدم الذي لم يدع حجة تقال يعرفها إال وقالها أو شفاعة شيخ القرية
...الذي جزم بأنهم سيخرجون من قريتهم إن عادت البنت معهم و إال فلن يخرج أحد و لتذهب الحكومة الى
ما وراء الشمس و لتحرق الغابة ولتأت الحكومة لترم بالقرية كلها في غيابة السجن ..و الناس يتابعون في
الخارج مجريات األمور وينظرون الى النقاش الحاد يسمعون بعضه و يكملون الباقي بما ملكوا من مقدرة
79
على الخيال و يتغامزون ناقلين الى من وراءهم ما يدور ...يمنعهم حرس المركز من الدخول لكنه ال يبخل
أحيانا بتسريب بعض ما يدور بالداخل يحفظ بها عالقة بينه و بينهم ..و البنت التي يدور حولها الخصام
واجمة تنظر الى ما يحدث بعين ال يعرف مراميها إال من يعرف سعدية لم تنبس ببنت شفة باديا الهم و الخوف
و التحدي على محياها ...أمها بين حين و آخر تنظر إليها مطمئنة لها و تنظر مرة أخرى مجزعة لها تقوم
وتحتضنها باكية ثم ترجع الى مقعدها ...وتثور في القائد ثورة ال يصدها غير نهر "حاج الحسين" لها :يا
فتسكت على مضض وهي غير مقتنعة بتعقل الرجال في موقف أكثر ما يحتاجه هو عدم التعقل...
و "القائد" يجادل بالحسنى أحيانا و أحيانا يثور مبررا موقفه و أنه ليس صاحب القرار ..و نفسه تقول له
كيف لصاحب قرار أن يحبس مثل هذا الحسن واضعا له بين اللصوص و القتلة و المجرمين ..يؤلمه قلبه حتى
يكاد يهصره بيده ليخفف ألمه وهو يسترق النظر في خضم الجدال العنيف الى المالك الذي قدر هللا له أن
يكون هو من يحبسه ....قامت "غبيشة" وهي تبكي و تقول ألبيها و للضابط القائد :
-أنا من قال للناس من أراد الزواج من "سعدية" فعليه أن يحضر األسد و الجفيل ...وليست
"سعدية"..
لو أن هذا األمر يحل القضية لقلت أنني من قال هذا و ليست أختك ... -
-سأبقيها في بيتي مع زوجتي و بناتي بدال من زنزانة المركز و أخصص لها من يحرسها ريثما نعد
لها من ينقلها الى السجن فالقضية تستلزم أن تكون في السجن أثناء مجريات المحكمة .و سأكتب طلبا
80
الى رئيس القضاء في "األبيض" بأن يستثنيها العتبارات كثيرة منها انتفاء مسؤوليتها المباشرة في
الذي حدث في الغابة ...و أن أهل القرى يربطون خروجهم من قراهم بخروجها على أن توقع لي
ذلك يا شيخ و سأذهب للمستشفيات استخرج من الجرحى شهادة بإخالء مسؤوليتها من التسبب في
حينها استيأس الوفد من محاوالت إثناء الضابط من حبسها و ذلك بعد أن قال لهم أستاذ "آدم" بأن هذا
هو أفضل ما يمكن أن يتحصل عليه من القائد واقترح أن يكون السعي مع الجهات العليا و أن يذهب
وفد الى أعلى جهات الدولة وقد اقترح عليهم هذا اإلقتراح القائد الذي أبدا تأثرا واضحا و انفعاال في
صالحها الفتا...
و قبل "القائد" أن يستضيف معها أمها في بيته أو من يروه مناسبا و قال لهم إن هذه اإلستضافة لن
تط ول فإجراءات التقاضي تقتضي أن تذهب الى سجن اإلنتظار في أقرب وقت ممكن فعليهم
اإلسراع...
انشغلت المدينة انشغاال كبيرا بهذه القضية و أصبح ال شأن للمدينة غير الحديث عن الحكومة التي
ألقت القبض على بنت بتهمة الجمال ...و الذي صار مثار استعاذة منه كمضرب مثل للنعمة التي
تتحول الى نقمة ,فالنساء اللواتي حركت الغيرة قلوبهن أخذن في الترويج الى مثل هذا القول ليقنعن
أصحابهن بأن القليل النافع خير من الكثير الضار فجمال معقول ال يجلب األذى لصاحبه أفضل من
جمال كثير يضر بصاحبه ,و اشتهر "القائد" بموقفه النبيل الذي شاطرته معه المدينة كلها فما تكاد
تمر ساعة زمن حتى يأتي من يطرق الباب حامل صينية طعام أو طبق فاكهة أو إناء لبن أما
ميسوري الحال فلم يتوانوا في إهداء خروف حنيذ يزيد حجمه مع زيادة مال مهديه و ما لبث بيت
"القائد" أن امتأل بالهدايا من هذه الشاكلة حتى أن "القائد" و أسرته أصبحوا يرفضون استقبال الهدايا
ال لشيء غير أن البيت ال مكان به أو متسع لكل هذا الحجم من الهدايا و لكن المهدين يصرون بأن
81
الهدية ليست لهم إنما هي للضيوف ...و انبرى نفر من قادة المدينة بالتقدم بخطاب للمحكمة لإلفراج
عن البنت بضمان أشخاصهم ,و بعضهم عرض فكرة ضمان مالي تقترحه الحكومة سيقومون
بتسديده مهما علت قيمته ...أما الجرحى فقد أرسلوا موفدا منهم يمثلهم ليعلنوا عفوهم التام و
لم تنم "سعدية" طيلة األيام الثالثة التي قضتها في منزل القائد و لم تتناول طعاما ,وقد حاولت معها
أمها كثيرا لكي تقنعها بالنوم أو األكل لكنها كانت تتأبى و ترفض و كانت تهز رأسها رافضة حتى
مجرد الكالم ...و قد حاولت زوجة القائد تطييب خاطرها و التسرية عنها بالحديث معها ..لكنها
كانت تبتسم ثم تشيح بوجهها عنها ...فشحب وجهها و ذوى ضوؤه و بريقه و هزل جسمها و أصاب
قوتها خور و ضعف شديد ...فأمر الطبيب بنقلها الى المستشفى ...فأحضر القائد عربته و حملها هي
و أمها و زوجته و حارسها الى هناك..وقد بدا التأثر عليه كثيرا بصورة ال تتناسب مع صرامة وجهه
حتى يكاد المتفرس ينظر الى دمعة بعيدة تلمع في قعر عينه تكاد تفضح هذا الجزع ...لكن حالتها لم
تتحسن رغم العناية المكثفة التي أولتها لها المستشفى المتواضعة اإلمكانيات فازداد شحوب "سعدية"
و هزالها و لزمت صمتا طويال و زهدا في الكالم ,حتى الرد بعينيها الذي كانت تتجاوب به مع أمها
-البنت بهذه الطريقة ستموت إن لم تنقل و على وجه السرعة الى الخرطوم ...و لكن الخرطوم ليست
قريبة كذلك ,تحتاج الى يومين أو ثالثة أيام بالعربة الجيدة أما بالمواصالت فليس أٌقل من خمسة أيام
بلياليها وهي عرضة في هذه المدة لمضاعفات تؤذيها إن لم تكن تحت عناية طبية.
82
-لن تموت ال يمكن أن تموت لن أكون سبب موتها ...أنظر يا دكتور أرجو أن تجهز لي من يرافقها
-كيف ذلك ال يمكن أن تخرج هذه البنت من البلدة فهي رهن اإلعتقال و أنت من يناط به حفظ النظام و
و خرج ليحدث أمها بأنه سيأخذها الى الخرطوم فبقاؤها هنا ال معنى له غير أنهم يقتلونها بأيديهم..و
أمر بإحضار والدها الذي اتخذ من ظل شجرة أمام باب المستشفى مكانا يجلس فيه في انتظار ما
-يا حاج "الحسين" يجب أن نأخذ ابنتك الى الخرطوم لتتعالج فبقاؤها هنا يعرضها لزيادة المرض و
خطر الموت و أريدك و زوجتك أن تستعدا لتذهبا معها ...و ال تخبرا أحدا بذلك...
احتج حاج "الحسين" بأن الذين جاؤوا معه اليمكن أن يتركهم دون أن يخبرهم فقد تركوا أشغالهم و
-إن الذي أفعله مخالف للقانون و سيعرضني ذلك لمساءلة كبيرة و ربما أسجن بسببها ...كل هذا ال
يهم كثيرا قدر أن تعود "سعدية" الى سابق عهدها و نضارتها ..ونحن نسابق الزمن فحالتها تزداد
سوءا ...
83
لكن أبا "سعدية" أًصر على إشراك "شيخ القرية" و "أستاذ آدم" في األمر دون أخوه و أخته فهذان
قريبان سيتفهمان األمر و بقية الذين لحقوا بهم ...و بعد ألي وافق "القائد" على مشاورتهم ...لكنهم
رفضوا الفكرة تماما و قالوا ال قبل لهم بالخرطوم ومصاريفها فهم ال يعرفون فيها أحدا و البنت تحت
رحمة هللا يفعل بها ما يشاء وهم سيسلمون بأمر هللا و قضائه و استقر رأي "حاج الحسين" على رأيهم...
لم يجادلهم "القائد" طويال ,و خرج ,ثم أرسل من يحمل أمر ترحيلها الى السجن و أخذها عنوة ,رغم
رفض الطبيب و بكاء أهلها و رجائهم ,الذين أكثروا اإلحتجاج فلم يسمع لهم الجنود ,و رفعوها
بمغذياتها الوريدية ,و ركب معها الطبيب نفسه ,بعد أن أخذ بعض األدوية و المغذيات الوريدية في
تعود على إحضارها حين يكون عليه دور المبيت في المشفى ,و ذهبوا
حقيبته ,و حمل كيسا به مالبس ّ
بها الى مركز الشرطة لتكملة اإلجراءت ...فاستقبلهم "القائد" و أمرهم بإنزالها الى عربته ,فلما فعلوا ,
ركب الطبيب معها وهو يحمل أدواته وقام بتعليق المغذي الوريدي في أعلى العربة من الداخل بشريط
الصق ,عندها أمر "القائد" السائق بالتحرك الى السجن وسط دهشة صغارالضباط و الجنود فهذه المرة
األولى التي يفعل فيها "القائد" مثل هذا الفعل المخالف لإلجراءات القانونية كلها ,ثم أمر حارسها و
"الطبيب" بالنزول فلبى األول و رفض الثاني ,الذي لم يجادله طويال ,و في الطريق أمر السائق
بالنزول فنزل ,و ساق هو و تحرك قليال ,ثم توجه بالحديث الى الطبيب :
84
ضحك "الطبيب" :
-لست وحدك كلنا يقتلنا هواها ....توكل على هللا...ما يريده هللا سيكون.
غضب السلطان "هاشم" أيما غضب من "سرور" ،الذي عاد الى "األبيض" تاركا السرية في تلك الغابة
لتسليم "مهران التونسي" له ليقوم بسجنه أو يرى فيه رأيه بعد انجالء المعركة و السيطرة على مناطق الجبال
،فرأي "سرور" أن الخطر كل الخطر من هذا الغريب ،فله مقدرة على اإلقناع و مال يشتري به الناس و
يستطيع أن يجهض هذه الحملة إذا ما اتفق مع "حاكم" ،لذلك فقد قرر أن يعود به الى "السلطان" بنفسه ألنه
ال يضمن أحدا ،و كذلك فإن إبقاء "مهران" حيا لربما يكون مفيدا ذات مفاوضات مع "حاكم" او مع "سلطان
لكن "السلطان هاشم" لم يكن يرى شيئا أهم من جيشه الذي تركه "سرور" في الغابة بسوء تقديره وغباء
تصرفه ،رغم أنه يعلم حجم المعاناة التي تكبدها في إخراج هذه البعثة العسكرية و خطورة مواقعها التي
تركتها و الزمن الذي يسابقه قبل أن يعلم بهم "سلطان الفاشر" ،فالحملة اختارت هذا الطريق الطويل للتمويه
وبقصد ال ِس ّرية ،فالزمن إن طال يكشف أمرها ،فيستعد أهل المنطقة حتى قبل مناصرة رجل "الفاشر" القوي
لهم ،ولذلك صرخ في وجهه أمام "التونسي" موبخا ً إياه على هذا التصرف الغير مسؤول كما يرى
85
-لقد ندمت أيما ندم بتصديقي لك و باعتمادي عليك و بنظرتي الخاطئة التي وضعتك في موضع ال
تستحقه ...
لم يترك مجاال لتفسير أوشرح من "سرور" ،و أمر بأن تتحرك البعثة مستعينة بالوفد الذي بقي معها في
معرفة الطريق الى حيث غاياتها ،و أن يستبقي "سرورا" حبيسا مع "مهران" التونسي الذي قرر قتله أو
النظر فيما يفعله به بعد أن تهدأ ثورته ،لكن أصحاب رأي قالوا له :
إن "سرور" رجل له مكانته عند أهله ،وهو من تعهد لك باستمالة أهل المنطقة للوقوف الى جانبك ، -
فإن استبقيته عندك و حبسته غضب بقية الوفد الذين لن تضمن والءهم بعد اآلن..
وبعد تفكير وتروي رضي بإرسال "سرور" مرة أخرى بعد أن حذره من التهاون في هذه المهمة ،و أنه
سيحمله مسؤولية أي فشل يحدث ،و رغم أن الطريق بين "األبيض" و بين مفترق الطرق حيث ترك
"سرور" جيشه ينتظره أخذ مسيرة الخمسة أيام للجيش الثقيل الكثير التوقف ،فإن "سرور" قطع المسافة
الى "األبيض" في يومين مع أسيره "مهران التونسي" و خمسة من الجند ،اتخذهم حرسا يحرسونه و
األسير لئال يفر من بين يديه فتكون الخسارة مضاعفة ؛ وصل سرور الى األبيض في يوم الجمعة حيث
تمتلئ المدينة بالقادمين من القرى للتبضع في يوم السوق الكبير ،ثم قضى يوما عند السلطان ريثما اتخذ
فيه قراره ،و أمره بالتحرك صبيحة اليوم التالي قبل أذان الفجر و أرسل معه جندا عشرا إضافة الى
الخمسة الذين جاؤوا معه ،و أمر بقتل "الغريب التونسي" في مكان عام بحجة الوالء "لسلطان دارفور"
الذي يناصبه العداء ،وأمر بأن يكون ذلك بعد أسبوع و في يوم السوق حيث يجتمع الناس و في الميدان
الكبير ،و جعل المعلنين يخرجون بطبولهم يضربون عليها ليجمعوا الناس حولهم ثم يعلمونهم بقرار
الملك بإعدام "غريب تونسي" وجد يتجسس على جيش السلطان ،ليكون عظة و عبرة لمن تحدثه نفسه
بالغدر و الخيانة ،فإن المنطقة تموج بالقبائل المتداخلة بين السلطنتين المتحاربتين ،و محفزا لذلك الذي
86
ينتظر اإلنجازات التي ترفع روحه المعنوية ،و لم يأبه السلطان لقول "سرور" و ال محاوالته بإثنائه عن
قراره هذا ،و ال للوساطات التي لم تدخر وسعا في ذلك بإيعاز من "سرور" ،الذي كان يعلم مدى شعبية
"التونسي" هناك" ،فسرور" فلم يكن يريد قتله بقدر ما أراد أن يستفيد من حبسه و المزايدة به في تعزيز
سلطانه بين أهله ،فكان القرار أن ينفذ الحكم فيه يوم الجمعة يوم السوق و بعد الصالة الجامعة في الميدان
العام و قرب مسجد السلطان ،بهذا جرت اآللة اإلعالمية التي بثها في المدينة و ضواحيها كلها...
تحرك الستة عشرة نفرا مسرعين ،و قد أوكلت قيادتهم لشخص آخر جعله السلطان قائدا للحملة كلها ،و غير
موقع "سرور" في هذه الحملة الى كبير مستشاري السلطان ،بدال من قائد عام الحملة ،و أمرهم باألخذ برأيه
و تقديمه على بقية اآلراء ،إال فيما يتعلق بالناحية الحربية فإن القائد له مطلق الحرية و التصرف..
و في الطريق و في اليوم الثاني و على بعد مسيرة يوم من مفترق الطرق ،ظهر من فوق األشجار غبار
مثار يبدو من بعيد متحركا نحوهم ،و بعده بقليل سمعوا صهيل أحصنة و خفق حوافرها في األرض تعدوا
مسرعة صوبهم ،ثم ظهرت الخيل المستنفرة من بعيد بعضها يحمل صاحبه و البعض اآلخر يعدو بال راكب
فوق ظهره عددها ليس بالقليل ،أمر قائد الحملة جيشه باإلنقسام الى قسمين سبعة يختبؤون يمين الطريق و
الثمانية الباقين يكونون من على يساره ،وجعل نفسه و "سرور" في الذين هم على اليمين و أمرهم بعدم
السلطان "هاشم" الشاب الطموح ،وافقت خطة "سرور" حلما قديما له بضم منطقة الجبال الصعبة
الى سلطانه ،وكان كلما هم بتحقيق حلمه أتى من ينصحه بتثبيت أركانه في الحدود الجنوبية الغربية
المتاخمة لنفوذ سلطان "الفاشر" ،الذي بدت نزعاته التوسعية في اتجاهه جنوبا ،رغم ما تردد عن
أن دوافعه التي قادته الى التحرك جنوبا كانت دوافع دفاعية بحتة ،لتأمين حدوده من هجمات القابئل
الجنوبية ،التي أحست بالقوة إثر توحدها تحت قيادة كجور ربط لهم الغيب بالواقع و أحيا في نفوسهم
87
دوافع القوة و محفزات المجد ،لذلك اتجه السلطان "هاشم" جنوبا ليكسب أرضا يحاور حولها في
حربِ ِه يشغل بها غريمه ،ريثما يقنع سلطانا آخر شديد الطموح هو سلطان مملكة "الفونج" الشرقيه
بمؤازرته في طموحه ،يشكل معه تحالفا قويا يستطيع من خالله ضم كل السودان الشرقي و الغربي
و السودان األدنى حيث أنهار أفريقا الغناء في "مالي" و ساحل الذهب "غانا" ،و لكنه أيضا لم يكن
يأمن "سرور" ،الذي تحركه أحقاد شخصية ال تخلو من نزعات استعمارية قد تتطور في مثل هذا
الوضع الهش الذي تعيشه المنطقة ،إضافة الى أن هذه المنطقة اآلمنة المستقرة الثابتة الوالء لسلطان
"الفاشر" إذا ما وصلت أخبار تحركاته فيها الى هذا األخير فإن ما رمى اليه بخطته سيتضح و
ستجعل سلطان "الفاشر" يتحرك حركة سريعة تقوض له كل أحالمه التوسعية ،و تطيش بتحالفاته
المتمناة أدراج الرياح ،خاصة أن الرد لم يأت من سلطان "الفونج" العظيم بقبول هذا التحالف النزق
بعد ،لذلك كانت ردة فعله عنيفة إزاء ما قام به "سرور "من رجوع بعد أن وجد غريمه التونسي ،
"فسرور" ال يعرف أن فشل حملته الصغيرة هذه ربما يؤدي الى ضياع مملكته كلها من بين يديه .
و في مساء الثالثاء األخير من يوم الجمعة الذي سيعدم فيه التونسي و السلطان راقد يقلب أفكاره في
رأسه تذهب به األماني و تعود به المخاوف ،تدخل خيل مسرعة الى قلب مدينة "األبيض" ،يركب
بعضها جند كان قد انتقاهم بعناية ،لحملة تخضع إقليم الجبال الى سيطرته ،و بعضها يحمل سروجا
بال فرسان ،لتقف أمام أسوار قصره ،أحدثت جلبتها الى حين تجمعها ضجيجا قطع أفكاره و بعث
جنود الخوف و الفزع الى رأسه وقلبه ،لتدك كل حصون األماني و اآلمال أمام ناظريه دكا دكا ،نظر
السلطان "هاشم" الى جنده العائدين فوجدهم بين ملقى على ظهر جواده خائر القوى و بين ملقى على
88
األسدان و األ سود تركزت عيونهم مع الباهي الصغير الذي جلس على كهف انفتح إثر سقوط حجر اعتمد
عليه في صعوده الى اآلعلى ،هربا ً مما لقي في األسفل ..لكن سطح الحفرة الذي جلس عليه لم يكن بالمتانة
التي تحمل وزنه ،فبدأ يتهدم من على أطرافه منذرا بتهدم أكبر إن استمر في الجلوس عليه ،فأخذ يتقهقر الى
الخلف في حذر من مصير ال تشرق فيه بارقة ،و كان كلما تراجع قليال انهدم ما تركه وراءه مما جعله يقرر
أن يقوم دفعة واحدة لينظر إن كان ثمة مخرج من هذا المكان أم أن القدر قد أطبق عليه بكلتا يديه ،فقد تعلم
من األسدين أن ال استسالم حتى يحكم هللا أمره و أن األقدار صنائع األسباب عليه أن يجد لحياته سببا يتعلق به
ينقذه من مصيره الذي جاء إليه بقدميه ،قفز الباهي واقفا بطريقة ال يتقنها أحد غيره معلنا أن سر الحياة ما
زال يعتمل بين جوانحه فكأنه كان يحفز نفسه و يشجعها بهذه القفزة ،و بدأ ينظر الى األعلى لعله يجد وسيلة
الى صعود ،لكن تهدم الصخرة التي كان يجلس عليها لم يدع له مجاال لكي يتشبث بالصخرة األعلى ،و
الصخرة التي يجلس عليها تستمر في التهدم فأخذ يتراجع قليال قليال ،و من عجب أنه كلما تراجع ظانا أنه
سيصطدم بحائط خلفه كلما انفسحت المساحة خلفه ،مما جعله ينظر الى خلفه ليرى أن الحفرة أصبحت كهفا
يبدو أنه كبير و لكنه ليس مظلما تماما فيبدو أن ثمة مداخل للنور توصله بالخارج في داخله ،لم يفكر كثيرا
لكنه قرر أن يدخل الى الكهف فربما أن ثمة مخرج ..أو ربما دخول ال خروج بعده ،و من حسن حظه أنه
اتخذ قرار الدخول في الوقت المناسب فإن حواف سقف الكهف بدأت في التساقط فأخذ يقفز قفزات حذرات
الى داخل الكهف ،و كلما دخل تنقشع الظلمة من عينيه قليال ،نقل عينيه في المكان يستجلي مواضع الضوء
التي بدت و كأنها بالداخل يحجزها جدار أو حاجز ال يجعل من ظهورها جليا بالقدر الكافي ؛ الكهف من
الداخل بدا كبيرا جدا أكبر من الصخرة التي تحتويه أو هكذا خيل للباهي ،فإن امتداداته في كل اإلتجاهات
كبيرة ال تصل العين الى نهايتها ،و إن كانت نوافذ الضوء فيه كثيرة جدا منتشرة على اتساعاته كلها و في
جميع االتجاهات ،تشير نهايته األمامية الى امتداد ال متناهي تبدو بهرة ضوء في نهايته كأن الليل ينفلق منه
النهار عندها ،و كأن سقف الكهف القريب يتمطى طويال ثم يتالشى أو كأنه ينفتح على أرض منبسطة تنتهي
89
بنتوء تظهر قاعدته و ال تظهر قمته ،وحين نظر الى شماله تنكشف له أرض منبسطة ممتدة بها نتوءات
خشنة و حشائش ،كل هذا في منطقة الضوء المنخفض داخل سقف الكهف و التي تنتهي ببهرة ضوء تنفلق
عن ماء كبير لم يتبين كنهه أسراب هو أم بحر ساحله القريب في نهاية الكهف و ال نهاية له في ساحل قريب ،
و لما نظر الى اليمين ظهرت في نهاية الكهف بهرة ضوء تنكشف عن أرض منبسطة صفراء كأنها صحراء
ذات حجارة كبيرة كالصخور متناثرة ،و العجب الممزوج بالخوف و الفرح بوجود مخارج ال تعرف الى أين
تؤدي ولكنها بأية حال خير من أسوده التي تركها خلفه ،و بينما هو في شعوره الغريب الذي تملكه بين تعجبه
الحذر و خوفه الفرح يسمع أصوات خيل تضبح و جلبة و ضوضاء مخيفة و قعقعة سيوف و اشتباك حديد و
صراخ رجال و صياح نساء و هتافات و نداءات ال يعلم من أين تأتي ،و لم يع غير أن رجليه ركضتا الى
صخرة صغيرة داخل الكهف يختبئ خلفها ،و ال ظهور لشيء غير الصوت الذي كلما تمر لحظة يزداد قوة و
وضوحا ،فصار ينقل النظر بين اليمين و الشمال و األمام لعله يجد أثر لهذه األصوات ،ولم يكن ينظر الى
خلفه فإنه ال يمكن لها أن تكون صادرة من خلفه القريب النهاية ،حيث مدخل الكهف الذي تهدم جله وراءه،
لكنه ما لبث أن شعر بوخزتين حادتين كوخزتي رمحين يخترقان جسده من خلفه يرفعانه الى األعلى و
حمله الجنديان و رفعاه الى حصان أحدهما ،رأسه و يداه ملقيان الى األسفل على صفحة الحصان اليمنى
و رجاله تتدليان من صفحته اليسرى قرب رجلي الحصان الخلفيتين وهو فاقد الوعي ينزف دما من
جرحين غائرين على كتفيه ،ثم انطلقا به الى حيث تصدر تلك األصوات المهيبة من خلف ظهره حيث
مدخل الكهف الذي امتد كأرض منبسطة على طول البصر ال يسده ردم و ال يقطعه هدم ...
10
90
سطع نجم األسد "مورونو ما باتا" بعد اتفاقه الشهير في السودان العميق و السودان الغربي و طغا اسمه
الجديد على اسميه األولين إال من قلة يعرفون تاريخ األسامي ومناسباتها أو من عنصريين ينتمون الى
مناطقهم و تاريخها يرون أن ال فضل "لمورونو ماباتا" على "ماري جاتا" بل الفضل لألخير أكبر فهو
صاحب مجد بناه من عدم ,أما اآلخر فمجيد ورث المجد كابرا عن كابر و الذي يبني مجده بيديه أولى
بالذكر ممن ورث مجدا فأدامه عليه ...و استمر هذا االسم يطلق عليه في هذه المنطقة و على ذريته من
بعده ما بقيت ساللته التي يعرفها أصحاب الفراسة و النسابة على مدى التاريخ بعده ..لكن األسد األعرج
اتخذ اسما جديدا حين بلغ مناطق أعالي النيل التي ينبجس منها هذا النهر العظيم تحفه بركات صالحي
الماساي و دعوات القرويين البسطاء و قد كان لوصوله إليهم قصة غريبة كانت سبب مجيئه األول و
عاش بينهم مجريا سنن اتفاقه مع الملك المساوي . .حتى انجالء الفتنة...
فقد مر أهل مناطق تجمع مياه البحيرة العظيمة التي تغذي النيل بفتنة كبيرة ,إذ كان يحكمهم شخص
ضخم يطلقون عليه لقب "كجور" ،له قداسة في نفوسهم يشاركهم في أمر معاشهم بما يسخر لهم من قوى
الطبيعة العاتية الظاهرة و الخفية التي تنصاع له كما يعتقدون ،و كان سبب الفتنة أن الكجور الذي
يؤمنون بقواه قد مات و اختلفوا في من يخلفه من بعده ،فقد كان عقيما ليس له ذرية تخلفه رغم زوجاته
الكثيرات اللواتي كن يتبارين في نيل حظوة اإلنجاب منه سعيا وراء ابن منه يكون هو كجور زمانهم
القادم بعد أبيه ،فاجتمع حكماؤهم و كباراؤهم و قرروا انتقال "الكجورية" من البيت الحالي الى بيت
تختاره القوى الخفية عبر مسارات عديدة من االختبار و االصطفاء تبدأ بطقس تشترك فيه كل القبائل
تحدد له مدة زمنية تتبارى فيه القبائل لنيل شرف انتقال الكجورية إليها ..ثم ينتقل التحدي بين بيوت
القبيلة المختارة عبر شروط محددة يجب توافرها في البيت المشارك في المنافسة ،وال يحق لبيت تتوفر
فيه الشروط اإلنسحاب أو اإلعتذار عن المشاركة في المنافسة فإن عين القوى الخفية ال يعلم أحد أين
تنظر ،و من أهم هذه الشروط وجود ذرية سليمة من العيوب الخلقية كالشلل أو العور أو المرض أو
91
العاهات المستديمة أو حتى المرض العادي إذا جاء إبان فترة الترشيح للمناسبة لما فيه من إشارة واضحة
بعدم رغبة القوى الخفية في اختياره ،و يجب أن تكون هذه الذرية من الذكور كبيرة العدد ال تقل عن
العشرين ابنا و كلما زاد عدد ذكور البيت زادت حظوظه ...الى أن يصل االصطفاء الى بيت واحد يقوم
أبناؤه بالتنافس لنيل هذا الشرف ،لكن الفتنة الكبيرة برزت في تهرب أبناء البيت الفائز من تحمل مشقة
التحول من إنسان عادي الى إنسان مختار بعين سماوية فاحصة ...يؤمنون بوحدتها و قوتها و حكمتها في
االختيار ،فإن عملية إعداد الكجور عملية شاقة تحتاج الى إعداد ضخم فيه مشاق و آالم ال تتحملها إال
نفس يصدق فيها حدس السماء في كونها أهل لتحمل هذه األمانة كما يدينون ،فالذي يريد أن يصل الى
هذه المرتبة عليه أن يمر بمراحل لتنقية روحه عبر انعزال يدوم لشهور عديدة في مناطق مظلمة مخيفة
تتوالها تلك األرواح بنفسها ،و لكي تصل روحه الى درجة الشفافية فعليه سلخ جلد وجهه الثخين و
بعض مناطق جسمه المسؤولة عن اإلتصال و التماس مع األرواح العلية لتسهل عملية االتصال التي
استمرت طقوس اختيار الكجور الى شهور طويلة حيث أن اإلختبارات بعضها له عالقة بالمواسم و
األمطار و نمو الزروع و كثرة المواليد و قلة األمراض ،تنبري لجنة تُحلّف بروح الكجور األعظم أن ال
تحابي و ال تنحاز و أن تحكم بعين "كجورية" العدالة للفصل و التحكيم ،فلما وصلت المنافسة الى مرحلة
البيوت الحظت اللجنة إحجام البيوت و خوفها من المشاركة في هذا الطقس ذي المسؤوليات العظيمة و
التبعات الجسيمة رغم حماس اآلباء إال أن إحجام األبناء كان هو األظهر ،و لذلك قررت اللجنة أن ترسل
موفدين الى بعض الدول القريبة تستعين بخبراتهم في مثل هذه الموقف التي لم يمروا بمثله قريبا ،فليس
لهم سابق تجربة في"كجور" يدركه الموت قبل أن ينجب ،فلما رجع المرسلون أجتمعت اللجنة و نظرت
في وصاياهم فكان أكثرها قبوال هو صاحب تجربة قبيلة الماساي الذي جاء و معه رسول من ملكهم يحمل
رسالة منه تبدي صادق اهتمامه و ترحابه بالمساهة في حل هذا اإلشكال ..
92
استمعت اللجنة الى رسول ملك الماساي و هو يشرح لهم كيف قام السحرة و الصالحون بالتعاون مع
ملكهم في درء شر األسود و أنهم من بعد ذلك اتخذوا األسود حلفاء يساعدونهم في إدارة شؤون
مملكتهم ,نما اقتصادهم بواسطتها حيث أمنوهم من شر الحيوانات المفترسة كلها ومن شر البشر
أيضا الذين هابوهم كما هابتهم الحيوانات حين علمت بتحالفهم مع األسود الغاشمة ,و اكتشف السحرة
و الصالحون من بعد ذلك عميق صالت بين األسود و قوى الطبيعة الظاهرة و الخفية ,فأخذوا
يستمطرون بها الغيث فينزل الغيث صيبا نافعا و يدرؤون بها اآلفات و شر الحشرات فال تهاجم
محاصيلهم فنمت زراعتهم و تباركت انتاجية أراضيهم ,و زئير أسد واحد كفيل بجعل خمسة بقرات
يتاومن في الوالدة بدال من انتاح عجل واحد ,ومن عقمت من األبقار فإنها بال شك سترزق بالذرية
التي تنفع صاحبها ....أما أمور الحكم فإن ملك األسود صار ال يكاد يغادر قصر ملك الماساي حتى
يزوره مرة أخرى يتشاوران في أمور الرعية و الحكم وصار الملك إذا ما احتار في قرار انتظر
صديقه األسد ,فما أشار به عليه أنفذه و ال يجروء أحد على االعتراض فحكم األسد حكم فرضته قوى
عليمة ,و زادت أموال المملكة عن طريق ضرائب تفرض على كل قرار يصدر من األسد فجعل
الملك يحول هذه األموال الى صالح الرعية من تنمية و إعمار ال يكنز لنفسه منها إال القليل ,,
وكان اقتراحه هو أن يستجلب ملك األسود بدعوة رسمية تعرض عليه فإن قبل يستعينون بحكمه
وحكمته و بركته إلى أن تنجب أمتهم كجورها فإن الكجور كما يقولون يصطفى كجورا وال يصنع...و
ما يقومون هم به اآلن من استعجال في انشاء "كجور" بطريقة ال تقرها الشريعة "الكجورية" السابقة
،يجعل من عاداتهم و تقاليدهم مسخا بين تقاليد البشر ال يحترمها أحد...و العجيب أنه رغم غرابة
اإلقتراح فإنه لقي تجاوبا إيجابيا من أعضاء اللجنة التي بدا أثر السأم و اإلرهاق و قلة الحيلة عليها....
فإن غرابة ا لحل كان لها نسب من غرابة المشكلة التي لم تصادفهم من قبل و ال يوجد في موروثهم ما
يفيد بحدوث مشكلة مثل هذه المشكلة ،فالمعروف أن الكجور ال يعقم و أنه ال يموت في سن مبكرة
93
بل الموروث أن الكجور يورث سلطته الروحية و الدينية و هو على قيد الحياة و أنه هو من يرشح
و رغم سرية أعمال اللجنة فإن الخبر لم يلبث أن أنتشر انتشار النار في الهشيم ،فأيده شعب
البحيرات و شعب أعالي النيل تأييدا كبيرا و لم يشذ عنهم إال آباء البيوت التي رشحت لنيل شرف
الكجورية و التي لم يكن عددها قليال ،فإن كل قبيلة أعدت من البيوت ما ينافسون به في هذا الشرف ,
ثم إن األبناء لما ضمنوا أن األمر قد بعد عنهم مالؤوا أباءهم في رفض قرار اللجنة ,و اشتدت ألواء
الرفض بين الشباب فصاروا يتجمعون في لقاءات متفرقة كل قبيلة على حدة ينشرون رفضهم لهذا
القرار الغير صائب ,ثم إنهم من بعد ذلك اتحدوا في جماعات كبيرة يهاجمون اللجنة الموقرة هجوما
عنيفا .ثم اجتمع أمرهم على أن يقاموا هذه الفكرة مهما كلفهم األمر من تضحيات.....
كاد القلق يفترسني إثر معرفتي بما جرى لسعدية من مرض أدخلت على إثره المشفى ،فليس من
عادة أهل الجبال المرض و ال دخول المشافي ،إال في حاالت يكون الموت دائما هو األسبق فيها من
الشفاء ،و كنت أهرب من لقاء جدتي التي كان يفرحها كل خبر سيء يصيب نعمة و بناتها ،وكانت
تعلم مدى تعلقي "بسعدية أم جفيل" ككل شباب البادية و أطفالها الذكور ،بل و الكبار كذلك الذين
كانوا يتحدثون بذلك سرا حين يخلوا الصديق بصديقه ،فقد سمعت و لم يأتن الخبر من واش عمي
"قادم" وهو يحدث أبي "بأن حبس هذه البنت قد حرق حشاه" فرد عليه أبي:
و كم من مرة رأيت و سمعت حاج "المختار" و هو يحدث نفسه بصوت عال وهو مستلق ينظر الى القمر
وهو يمرق من بين شظيتي سحاب متنهدا :آه يا "أم جفيل" ما أمسخ القرية بدونك.
94
و لقد غضبت جدتي كثيرا من و الدي حين وجدها تحدث ابنتها أمي بمصير مظلم مقبل على آل "نعمة"
تجره عليهم ابنتها "سعدية" ,فنهرها و وبخها و أقسم إن سمعها تتحدث بمثل هذا الحديث ثانية ليقطعن
-وما ذنبي أنا إذا كان هذا هو قدرها الذي نسجته لها اإلرادة اإلالهية....
-لكن اإلرادة األالهية لم تجعلك متحدثة بلسانها ...هللا يعرف ما يريد ال يريد منك أن ترشديه إليه
فالزمي الصمت..
فلما جاء المساء كعادتها و هي تحمل لبنها الذي حلبته من عنزاتها لتضعه على نار األثافي أمام بيتها قالت
لي:
-غدا سيسمع أبوك صدق ما أخبرته به ...البنت ذهبت خالص ..خطفها األقوى من القوي و هرب بها
قلق الطبيب و توتره أثرا في رباطة جأش الضابط الكبير ،الذي قرر أن يتخذ طريقا أسرع الى
الخرطوم من الطريق الذي عبدته الحكومة ...فطريق المواصالت و إن كان آمنا فإنه أطول ،يستغرق
سبعة أيام حتى الوصول الى الخرطوم ،غير ذلك فإنه يمر بمدن كثيرة ،بها قوات نظامية أكثر التزاما
بالضوابط و اللوائح ،فربما تحتاج الى تدابير إدارية و أذونات مكتوبة ،لتسمح لعربة القائد الرسمية
بالمرور ..فاتجه القائد الخبير بالدروب والطرق الى طريق أقصر بكثير ،يمكن أن يوصل الى
95
الخرطوم في يومين ،و إذا زادت المدة فلن تتجاوز الثالثة أيام ..و لكن الطبيب و القائد كانا مصرين على
أن يصال الى الخرطوم في يوم و ليلة ال أكثر ،فاتفقا على أن يتناوبا القيادة ينام أحدهما ما يكفيه ثم يبدل
صاحبه متى ما أحس بالتعب ...والقائد الخبير بالطرق و المدن كعادة كل الضباط الكبار الذين البد و أنهم
استيقظ القائد على صوت تأوهات تصدر من سعدية ،و الطبيب كان من عليه الدور في القيادة ،التفت
اليه الطبيب حيث يجلس القائد متكئا بقرب الصبية المريضة يغفو مرة و يصحو مرة ...
-ما بها؟
القائد نظر الى البنت المسجاة على الكرسي راقدة على ظهرها مثنية رجليها حيث ال تتسع العربة الحتواء
امتدادهما ،ثم نظر الى المغذي الوريدي الذي كاد أن يفرغ حمولته في وريد يدها البضة ،و وضع يده
نظرت إليه نظرة ال تعني شيئا سوى الضعف و انعدام القدرة على أي شيء حتى مجرد اإليماء بنعم أو ال
فتحت عينيها مرة أخرى ،و نظرت إليه ثم أغمضتها مرة أخرى ،أوقف الطبيب العربة و فتح الباب الخلفي
96
قال له الضابط بلهفة رزينة:
-أظن ذلك ...لكنها ال تزال في مرحلة حرجة ...أرى أن ننزلها لتستلقي على األرض قليال ،و تمدد
بالفعل أنزالها حمال الى األرض الرملية الطرية ،و أرقداها على ظهرها ،و صار الطبيب يحرك لها
رجليها ثنيا و مدا ،و يرفع لها يديدها و يحركهما الى االعلى و اليمين و اليسار ,و القائد يحمل المغذي
الوريدي بيده ،ثم قام الطبيب بإلصاق المغذي في جدار العربة الخارجي ،في وضع أعلى يسمح له
بالتدفق السلس إلى وريدها ،ثم استلقيا بالقرب منها على الرمل الذي ال يكاد يبين لونه من شدة الظالم...
الطبيب الذي تمدد على ظهره فاتحا ما بين رجليه و يديه قال وهو يحرك رجليه ضما و فردا يحركهما
سكت القائد كمن ينتظر من الطبيب االسترسال ,ثم أجاب لما لم يجد استرساال:
-ما قمت به أنا خطأ بمقياس كل شيء إال اإلحساس الذي تملكني تجاهها ..ال يمكن أن نحبس الجمال
ال لشيء إال ألنه أفصح في اإلبانة عن نفسه ...ال يمكن أن أكون أداة قتل لإلحساس ...لكنك لم تقم
بشيء يدينك ما قمت به هو عين الصواب لم يكن لك أن تترك مريضا يموت و أنت من أقسمت على
ذلك ..
-لم يحركني من عيادتي واجب وال مسؤولية إنما حركني إحساس كإحساسك تجاه هذه المخلوقة
الجميلة ،لقد أحسست أنها ليست من عالمنا الذي نعيشه ،لقد جاءني إحساس رحمة تجاهها فقدتها منذ
97
أن أمسكت يدي المبضع و أعملت في أجساد البشر الذين يرقدون أمامي كاآلالت الميتة التي ال تحس
و ال تشعر ،لقد أخرجني إ حساس باإلمتنان لها أن أعادتني الى آدميتي و بشريتي ،ألول مرة تؤلمني
-أتعرف يا دكتور منذ أن أرسلت في طلبها ذلك العسكري و أنا أتهيب لحظة قدومها ،حتى إذا
حضرت و دخل العسكري يخبرني بقدومها وددت أن أخرج من باب خلفي ال أراها وال تراني ..
لقد وقعت في غرامها من قبل أن أراها ...أخجل منها كلما تذكرت ماضي التليد في طراد المجرمين -
ثم أخذ األثنان نفسا عميقا قبل أن يقول الضابط المغرم لصاحبه المتيم ....
-ما الذي جعل تلك النجمة تكون من على يسارنا ؟ ...ألم أقل لك ال تدع النجمة تفلت منك فإنها شديدة
نهض الطبيب و هو ينظر الى النجنة المقصودة ..زاد الضابط الخبير باالستهداء بالنجوم :
-ال أدري لكن ليس قبل وقت طويل ربما ساعتين أو أقل قليال منذ آخر مرة انتبهت اليها..
لم تغن تحركات الضابط في معرفة موقعهم وال حثه للتراب مستطلعا اتجاه الريح الذي كان ساكنا ال يمكن
معرفة اتجاهه في هذا الظالم الكثيف وال صياحه المستجدي عسى أن يلحق بهم من يسمع صياحهم ،لكنهما
قررا أن يرجعا مستهديان بأثر عجالت العربة على األرض فحمال البنت المريضة و أدخالها الى العربة و
استلم القائد دفة القيادة ،و تحركت العربة مديرة إطاراتها الى اليمين األقصى بغرض استكمال الدورة الى
الخلف ،و لكن العربة تحركت ببطأ من أثر الرمل الذي بدأ يجذبها الى األسفل معيقا حركتها قليال ..وبخبرة
98
القائد المتمرس استطاع أن يخرجها من وحلها الذي كادت أن تغوص فيه بعد أن استعدل اتجاه اإلطارات الى
األمام و دار دورة واسعة ليصل الى الخلف الذي عناه ....ولكنه فقد اتجاه إطاراته السابق فلم يعثر عليه اال
بعد مدة من البحث الحذر فلما أن وجده سار محاذيا له ،لتقوده حركته الى الموقع الذي تحركوا منه قبل قليل
فعرف أنه يسير في دائرة مغلقة ،فعكس اتجاه دورانه هذه المرة و وجد اإلطارات كذلك ،و صار يتحرك
ببطأ في اتجاهها بعد أن أكد مساره بالنجمة التي جعلها من على يمينه ثم تحرك ال يلوي على شيء ....
مرت العربة ببعض بيوت معزولة مبنية من الطين ال تكاد تتبينها عن رمل األرض لوال ارتطام ضوء العربة
بحوائطها الخارجية و ظهور ضوء الفوانيس باهتا من داخلها فنزل القائد طارقا أحد أبوابها مستفهما عن
موقعه سائال أين اإلتجاه الى الخرطوم فقال الرجل الذي سألوه مستغربا:
-خرطوم ؟؟ أي خرطوم ال يوجد طريق يؤدي الى الخرطوم يمر من هنا...لكن انظرا الى تلك النجمة
المضيئة ،ضعاها بين عينيكما تمام ال تفارقاها أبدا ال يمنة و ال يسرة ،ستدخلكم الى قرية سيدلونكم
على طريق يوصلكم الى الخرطوم ستصلونها عند الفجر ،و الخرطوم مسيرة ضحوة منها ..
العربة لم تكن بحاجة الى شيء لتستكمل مسيرتها غير عزيمة قائدها الذي أيقظته المسؤولية ،و خاف أن
يحدث للبنت مكروه يؤذيها ،وهو الذي هرب بها لينقذها من مرض يمكن أن يهلكها ،لكنه طلب من صاحب
الدار أن يستضيفهم الى الصبح ألن البنت المريضة ربما تكون بحاجة لبعض راحة من وعثاء الطريق غير
المعبد ،فنزلوا ع ند صاحب البيت الذي وقفوا عنده بعد ترحيب من صاحبه ..الذي دخل و جاء يزوجته و
بناته ليحملن البنت المريضة الى الداخل و يقمن بالعناية بها الى الصبح ..أليس الصبح بقريب؟
صعق القائد من السؤال و نظر الى الطبيب لكن الرجل بادرهما :
99
-ال تخافا أنتما في أمان لقد توقعت أن تكونا مررتما من هنا ولكني يأست من ذلك بعد أن تأخرالوقت
-لقد عممت إشارة "برقية" الى قيادة الجيش في كل مكان بأن قائد الشرطة خرج بسجينة و معه
الطبيب ولم يصل الى السجن وال الى مكتبه وال الى بيته ،طالبة التعامل بمسؤولية و البحث عنهم
خوفا من أن يكون مكروها أصابهم .. ،و أنا أعمل في مكتب القائد و أنا من سلمه الرسالة ..فعلمت
أنك قصدت بها الخرطوم و أنك لن تسلك طريق المواصالت األبعد المحروس و لكنك ستأتي من هنا
فهذا طريق أقرب ال يعلمه اال من خدم في الشرطة أو الجيش طويال مثلك..
أعد الرجل لضيفيه سريرين منسوجين بالحبال ،و جلب لهما جلبابين يغيران بها مالبس السفر
المتسخة التي أعطاها لنسائه لكي يغسلنها في ليلتهما هذه ،فإن الركب مسافر صباحا ،كما جلب
لهما ماء في أبريق يستخدمانه إذا ما عنيا قضاء حاجتهما ،أو أرادا الوضوء للصالة ...و ما لبث أن
جاءهما بصحن كبير به عصيدة دخن أعدت سريعا ،ممروقة بلبن يتلوى بخاره على ضوء السراج.
وما أن بدءا في األكل حتى سمعوا صوت عربة بالخارج تالها صوت طرق على الباب و صوت
ينادي:
100
ثم دخل "الرحيمة" ومعه ضابط شرطة يحمل رتبة نقيب ،فلما وقفا أمام الرجلين القائد و الطبيب اتخذ
النقيب الزائر وقفة عسكرية ألقى التحية العسكرية بعدها محييا الضابط ضاربا األرض بقدمه ضربة
توحي بحجم اإلحترام الذي يكنه الضابط الصغير للضابط الكبير ....قام القائد من سريره الذي اضجع
عليه ووقف ثم ضم رجليه كناية على رد التحية بمثلها...ثم احتضنه قائال :
تعانق الرجالن عناقا حارا ثم أمسك القائد بيد الضابط الصغير و أجلسه بقربه رغم تحرج األخير فالمقام
ثم بدأ القائد يسأل النقيب "الرشيد" عن أحواله و أحوال المنطقة من الناحية األمنية و "الرشيد" يجاوب في
-سعادتك أتمنى أن تخرج من هنا اآلن قبل أن يأتي قائد الجيش فهم في اتنظارك منذ عصراليوم
جاؤونا أكثر من ثالث مرات يستفسرون إن كنت حضرت من هنا أم ال ..و ال أظنهم يضمرون
خيرا..
-أب كرنكات ...لقد تزامنا أنا وهو في مناطق كثيرة ...ال حول و ال قوة إال باهلل ...لقد اختلفنا أنا
وهو مرات كثيرة هذا الرجل ال يكن ألحد احتراما أبدا ،آخرها كان بسببك لو تذكر حينما اعتدى
أحد أفراده على أحد المواطنين و أرسلناك بخطاب لتبلغه فقام باعتقالك قائال لن يطلق سراحك قبل
101
-قال النقيب لذلك أتمنى أن تخرج من هنا بأسرع وقت قبل أن يعلم بحضورك ..ولقد أحضرت لك
-هذا واجبي أنت ما زلت قائدي لم يردني ما يفيد بنزولك من الخدمة و ال بإحالتك الى التحقيق وال أي
شيء من هذا القبيل أنت تقوم بواجب شرطي أنا أحترمه ومن واجبي مساعدتك...
سمع الجميع صوت عربة بالخارج ما لبث أن توقفت ...و صوت احتكاك الباب الخارجي بسطح األرض
منبئا عن فتحه بواسطة أحدهم ثم صوت العقيد "عبد المنعم أب كرنكات" عند باب الغرفة بعد أن ضحك
ضحكة مجلجلة:
فتح الباهي عينيه و األعياء يكاد يمنعه من فتحهما و آثار ألم بعيد غائر يعوي من على كتفيه وجلبة كثيفة
تصم اآلذان و تعم المكان ,فرأى كرسيا كبيرا فارغا ال يجلس عليه أحد و إن كان يحرسه رجالن
مدججان بالسالح يرتديانه و ال يرتديان شيئا غيره مما يستر البدن ,سود لون البشرة ,تبدو على
وجوههما آثار جالفة و قسوة ,أطوالهما ال كأطوال البشر الذين يعرفهم فهم طوال ’ يكاد الواحد فيهما
يفوق طوله الرجلين بل أكثر عراض ما بين المناكب ,تبدو عضالت كل واحد منهما كصخرات قائمة
بذاتها تنشز من على صدريهما و يديهما ...و بين كل لحظة و أختها يدخل ,رجل مثلهما مدجج بالسالح و
102
يخرج رجل يتحدث إليهما فيجيبانه مرة و مرة ال يجيبان على الداخل بل يكتفيان بالنظر إليه وهز كتفيهما
في حركات يتقنانها معا فال تصدر إال وفق انسجام في الرد بينهما ,و المكان حين جال بعينيه فيه دون
تحريك رأسه بدا كخيمة معدة لعظيم قوم مما الحظ من أثر الزخارف المنقوشة على قماش جدارها ,و
توجد أرائك و دكك مصفوفة على جانبي الكرسي ,و الصياح خارج يزيد و يفتر ثم ال يلبث أن يزيد مرة
أخرى.
ال يدري كم من الزمن مر عليه و هو ملقى في هذا المكان لكن األلم يعوي من جميع أنحاء جسده ...قطع
عليه حبل أفكاره و معاناته ازدياد الجلبة خارج الخيمة بشكل ملحوظ ,ثم دخول أناس بنفس صفات
الحارسين يقفون عند رأسه ,يتحدثون مع بعضهم ,يلكزونه بأقدامهم غير مبالين لجراحه ,يقلبونه
بأرجلهم كما يقل بون العود الملقى أو الشيء البالي ,لم يقاوم الباهي ما يفعلونه به ,فقد أظهر لهم أنه فاقد
للوعي ال يحس بما يفعلونه به رغم ضرواة اآلالم التي يعانيها .جلس أحدهم قرب صدره و أخرج سكينا
ثم بدأ يحك بها جلد يده ,و هو يتكلم مع رفاقه كأنما يشرح لهم شيئا ,,حتى نزف الدم من يده ..و الباهي
يزيد من تجلده و صبره كأنما يسلخون جلد شخص آخر غيره و الرجل ال يبالي ..و صار الرجل يمرر
يده على مالبسه متحسسا لها بخشونة و رعونة و قسوة و يقلبه ذات اليمين و ذات الشمال ...و فجأة
و الجلبة و الصياح بالخارج ال تكل و ال تهدأ ,ثم تدخل امرأة ..عظيمة الجسم تلبس درقة جلدية تشبه
تلك التي صنعتها له أمه ال تلبس شيئا غيرها ,إال سيرا من جلد على خصرها تربط عليه قطعتين من
قماش إحداهما تستر ما بدا من األمام و الثانية تستر ما دنا من خصرها من الخلف ,و تحمل سيفا آثار
الدماء فيه لم تجف ..وقفت عند رأس الباهي ثم أخذت تتحدث بصوت قوي صارم مع من حولها وهم
يستمعون إليها أحيانا و أحيانا أخرى يتحدثون و لكن بأدب واضح ,ثم جلس ذلك الرجل مرة أخرى و
حمل يده يريها ما فعل بها من قبل ,و أخرج سكينه مرة أخرى ,و أراد تكرار ما فعله المرة األولى ..
103
لكن الباهي سحب يده منه قبل أن يسلخها ففزعوا و قفز فوق رجليه و صدره اثنان منهم و ه ّما أن يضرباه
لوال تدخل المرأة القوية التي منعتهم من ذلك ،ثم جلست على رجل واحدة متكئة بيدها اليسرى على
الرجل األخرى و قد غرزت السيف الذي كانت تحمله باليد اليمنى أمام وجهه مباشرة ،ثم أمسكت بشعره
ترفعه الى األعلى ناظرة إلى عينيه بعينين تشبهان عيني أسديه الذين أتيا به الى هذا المكان ،ثم تحدثت
معه بلغة ال يفهمها ،فأشار إليها بعينيه ورأسه أنه ال يفهم ما تقول ،فصرخت في وجهه بقوة مكررة نفس
ما قالت ،فكرر لها حركة وجهه مرة أخرى ،وقفت المرأة التي كانت تتحدث إليه بعد أن ألقت رأسه من
يدها ،و أخذت تتحدث مع من حولها ،ثم أشارت إليهم بيدها كأنها تقول خذوه ،لكن الباهي قفز متحامال
على جراحه متكئا على كوع يده قفزة أثارت خوفهم فتراجعوا ،و قفز قفزة أخرى الى الدكة التي كانت
أمامه ،ثم رفع يديه الى األعلى مشيرا إلى أن يديه خاليتين من سالح ،و هم ينظرون في تحفز و انتباه
،و المرأة ثابتة ال تحرك غير رأسها في ثبات ال يجيده غير الملوك ،ثم خلع قميصه مبديا صدرا أعزال
خاليا من سالح ،و فك رباط إزاره ليقع مظهرا قبله و دبره عاريين ال يستران شيئا و ال يسترهما شيء
مما قد يثير الرعب ،ثم رفعه سريعا ،تقدمت إليه المرأة المبجلة و أمسكته من يده اليمين و تلته إلى
األرض تال ليقع على رجليه وقعة رجل مدرب على كيفية الوقوع اآلمن ،لكن جرح كتفه اليمين بدأ
ينزف سائال على ظهره بغزارة ،نظر إليه خلسة لكن المرأة القوية ركلته بقدمها ملقية له على األرض ،
تحدثت بعدها الى من هم حولها بكالم صارم كاألمر واجب التنفيذ ,لم يفهمه إال بعد أن نفذه من عناهم
األمر ,إذ قاموا بجره من يديه كما تجر الشياه ,ذاهبين به الى عريشة في الخارج ,بها رجال واقفون
حول رجال جرحى ملقين على االرض ,أو على حصير مجموع يخفف عليهم أثر األرض الصلبه ...
وقد فهم مما رآه أن هذا مكان معالجة الجرحى ,و أنهم أتوا به الى هذا المكان ليعالجوه من جرحه الذي
ينزف ...مما أوحى إليه بأهميته لديهم ,فهم ال يريدون أن يقتلوه ,و إال لما أمروا بتطبيبه من جرحه ،و
104
رأى خارج الخيمة ذلك الغبار الكثيف ،الذي يعلو بسبب قتال عنيف ،يدور رحاه على بعد ليس بالقريب
وقف "الباهي أمام تلك المرأة القوية في مساء نفس اليوم الذي يبدو أنه انتهى بانتصارها ألن الوجه الذي
قابلته به صباح اليوم غير الوجه الذي تقابله به اآلن ،و هي جالسة على كرسيها المنمق و خلفها حارسان
يشبهان الحارسين الذين كانا واقفين في نفس مكان هذين الحارسين ،وعلى يمين كرسيها يقعو أسد ضخم
على عجزه و رجليه الخلفيتين و هي تلعب بشعر لبدته تنثره ثم تمسح عليه ،و خيمتها مضاءة بنيران
أعواد ال تنطفئ ،و أصوات أهازيج و مرح و صياح فرح يتعالى بين لحظة و أخرى يأتي من خارج
الخيمة ...
أشارت إليه بيدها أن اقترب فلما تقدم ووقف بالقرب من كرسيها ،قامت و نزلت من على كرسيها العالي
ثم أمسكت بشعره تشده شدا ،و تكلمت كالما بين المنخفض الهامس و الصارخ الناهر ثم أطلقت شعره و
تحركت الى حيث يقف أحد الحارسين و أخذت منه سيفا كان يرتديه و سلته من جفيره ،و أتت و وضعته
على عنق الباهي و هي من خلفه تتكلم و تصمت تثور و تهدأ و السيف مسلط على عنقه ،و هو ثابت ال
يتحرك حتى أن دما أحس به يسيل من عنقه ،ثم رفعت السيف عن عنقه و ألقته الى الحارس الذي التقطه
في مهارة و أرجعه الى جرابه و رجعت الى كرسيها و هي تضحك كالممسوسة ،كل هذا و الباهي ال
يفهم شيئا مما تقول ،بل ال يفهم شيئا من كل ما حدث ،كان ذهنه مشتتا يفكر في هذا الذي هو فيه و
األسئلة الصعبة تتناوشه أين هو ؟ و من هؤالء ؟ و من أين أتوا ؟ و أين هم من سوق أهراس؟ و لماذا لم
105
لم يكن يخفف عليه وحشة هذه األسئلة ،و صعوبة هذه اللحظات القاسيات غير عيني األسد الجالس تحت
كرسي سيدته ،هاتان العينان اللتان تشبهان عيني أسديه اللذين تركهما خلفه ،ترى ما الذي حدث لهما ؟؟.
.
كان األسد ينظر إليه في ألفة هو يعرفها و يفهمها و ال يفهم سببها لماذا هذه اإللفة ،جرب أن يومئ إليه
بعينيه كما كان يفعل مع األسود في السوق ،و من عجب أن األسد تجاوب معه ،يبدو أن لغة األسود
واحدة في كل مكان ،وربما في كل زمان..فما يراه هنا يوحي بأنه في زمن غير الزمن الذي عاش فيه..
فهؤالء القوم بدائيون في كل شيء ،أسلحتهم مالبسهم أدوات طعامهم و أدوات تطبيبهم و عالجهم ..
مراكبهم كل شيء يوحي بأن هؤالء القوم يعيشون في زمن غير الزمن الذي يعيش فيه ،قطع عليه تفكيره
أثر الدم الذي سال من رقبته و صياح المراة القوية المبجلة ...
لكن هذا الحديث العنيف الذي ابتدرت به المرأة حديثها تغير الى حديث أخذ ينحو الى اللطف تدريجيا حتى
استقر الى كالم هادئ بعد أن حضر عدد من الرجال و النساء ،قامت إليهم السيدة المبجلة كأنها تحييهم واحدا
و احدا ،تمسك بأياديهم و رؤوسهم و تعانق بعضهم ،في حبور و فرحة ،وهم يبادلونها التحية بأحسن منها
تغير التعامل كليا فطيلة الليلة البهيجة التي كانت احتفاال بالنصر المؤزر كما يبدو ،كانت المرأة القوية تجلس
على كرسيها المبهرج و قد أعدت له مقعدا تحتها هو األقرب لها من بين بقية المقاعد ،يقابله في الجهة
األخرى األسد الذي لم يكن ابتهاجه و فرحه خافيا أيضا ،و قد كان حرصها باديا على أن تريه مظاهر قوة
جيشها الذي مرت بعض كتائبه أمامه ،ثم جيء بجنود آخرين ,يبين سمار لونهم األفتح من لون سمار الجنود
المنتصرين ..مقيدين بحبال من سعف األشجار يحرسهم جماعة من العساكر ..ال تخفي ابتهاجها و شماتتها و
قوة غيظ قلوبها من الذين يقودونهم مقرنين في األصفاد ،و لم يكن استنتاج أن األوائل أسرى المعركة باألمر
106
الصعب ،وكان من بينهم رجل ضخم الجثة في مقدمتهم مدجج بالسالح و الدروع ،و الدماء تلطخ أجزاء
كثيرة من جسده ،يمشي مرفوع الرأس على غير إرادة الجند الذين جاءوا به ،فقد كانوا يضربونه لكي ينحني
و لكنه كان يأبى عليهم ذلك ،فعرف أنه قائد الجند المهزومين أو ملكهم ،ثم جعلوهم قبالة المرأة القوية و
ركبتيه مرغما....
رفع القيد و الحظر عنه بل و أخذ للنوم في مكان أعد للقادة إذ الحظ أن من يرقدون فيه ال يرقدون على أرض
عادية كبقية الجيش بل في قش كثيف جمع و رص بطريقة تلينه مما يجعله مرتبة طيبة وثيرة.نام الباهي بعد
معاناة من آالم جراحه مستلقيا على بطنه حتى ال تلمس جروحه األرض و بعد زمن ليس بالقليل كما بدر الى
خلده غفت عيناه و ذهب في سبات عميق ...لكنه نفسه الباهي النائم كما ينام األموات قفز فجاة فزعا
كالمصعوق ,بسبب أنفاس ساخنة أحس بها قرب فمه و أنفه و عنقه ,و شيء طري لدن رطب كاللسان
لم يكن اختيار المكان الذي يمكن أن تخبئ فيه "النقو" ,األوراق و اللفائف التي أمنها عليها زوجها "مهران"
باألمر اليسير فإن البيت الصغير رغ م كبره كان بسيطا في مقتنياته للدرجة التي يمكن ألي شيء مدسوس فيه
أن يظهر جليا ,سواء أكان ذلك المخبأ حفرة أم علبة أو صندق فإنه سيكون ظاهرا ,و لكن التفكير هداها الى
أن أستر مكان للتخفي هو أظهره إذا أحسن التمويه ..فقررت اإلحتفاظ بها بالقرب من حفرة دخانها بين أعواد
حطب الطلح و الشاف و أبو ليلى التي تستعملها في أيقاده و قد موهت أوراقها بنشارة من تلك األعواد ,ثم
جعلتها في صندوقها األسطواني الطويل فبدت كأنها خشبة من أخشاب دخانها ..و النها خشيت عليها من أن
107
تلتبس عليها مع بقية األخشاب فإنها احتفظت بها داخل خزانتها متحسبة لليوم الذي تحتاج فيه الى تلك الحيلة..
وقد أحست من كالم زوجها بنذر شيء ال تدري ما هو و لكنه بال شك نذر شؤم يراه و ال تراه..
و لذلك غضبت من أبيها حين ترك زوجها التونسي يخرج الى مكان عمله بال حراسة و المته على ذلك كثيرا
،و كأنها تشير الى تهديده له في رحلة عودته من سلطان الفاشر..فقد أحست كأن أباها يتخلص من زوجها
حين سمح له بالخروج في مثل هذه األجواء وحيدا بال رفيق يؤانس و ال صديق يؤازر..و لذلك أخذت كالم
زوجها مأخذ الجد ,فلم تكتف بإعداد مكان لألوراق تخبؤها فيه فقط بل قامت بإرسال رجلين يقتفيان أثر
زوجها من على البعد دون أن يالحظهما بحيث يأتيانها بخبر أي مكروه يصيبه إن حدث ال قدر هللا ,و عليهما
التدخل إن قدرا على التدخل وإال فال جناح عليهما إن أتيا بالخبر اليقين الذي يعين على التصرف ..فكانت
"النقو " أول من سمع بما حدث لزوجها بما نقاله لها من خبر يؤكد ذلك ,فقد رأيا الشرتاي "سرور" و هو
يقوم بصفعه و ركله بعد أن قبض الجنود عليه و هو يجري محاوال اإلختفاء و اإلبتعاد عنهم ...و شهدوا كيف
أن بعضا من أفراد وفد سرور الذين ساقهم معه وكانوا في رفقت في حملته ,حاولوا إثناءه عن الذهاب به الى
السلطان هاشم ,و تسليمه له ,فإن هذا هدر للمروءة ,و خيانة لعرى الوصل ,و غدر بالضيف المؤمن ,أوال ,و
ثانيا فإن أي تأخير ربما يؤدي الى كشف خبر الحملة ,فتستعد البادية و جبالها لمواجهتهم ,و هم ال يريدون
لدماء أن تهرق في هذه الحملة ,فإن بين من سيقاتلونهم إخوانهم ,و أبناءهم و نساءهم و أهلهم أجمعين ,فقد
فهموا أن الحملة الغرض منها هو إظهار القوة ,و إحكام السيطرة ,ال إراقة الدماء ,و إزهاق األرواح ,
فنصحوه و ألحوا عليه في ذلك ,لكن "سرور" لم يستمع إليهم ,و رجع بزوجها مكبال مهانا الى
األبيض..فقامت بإخبار أبيها "حاكم" بما جرى لزوجها ,و أخبرته بخبر الحملة التي أرسلها السلطان المتهور
,إلى البادية و جبالها لضمها الى سلطانه و نفوذه ..ثم لم تكتف بذلك ,بل و أرسلت من يخبر نساء المنطقة
برغبتها في اإلجتماع بهن صبح اليوم التالي ألمر ضروري ,و قد أعتادت النساء التنادي للملمات الكبيرة ,مثل
الزواج و الفرح ,أو الموت و الترح ,أو للتشاور فيما يرين أنه موجب للتشاور ,فيأتين زرافات ووحدانا ,من
108
كل فج عميق ,في القرية و القرى المجاورة إن وصلهن الخبر ,فلما جئنها أخبرتهن بما أقدم عليه ابن عمهن
سرور ,الذي لم يراع حرمة رحم ,و ال عالقة دم..و أوضحت لهن خطورة الموقف ’و أن تصرفا كتصرفه
بإمكانه أن يهدم ما بناه أباؤهن و أجدادهن منذ قديم الزمن ’ من عيش هانئ و تصالح اجتماعي تحسدهم عليه
البوادي األخر ..فاتفقن على أن ال يتركن هذا األمر يمر مرور الكرام’ و كان فيمن حضر اجتماعها زوجة
سرور و بناته و أخواته اللواتي استهجن فعله و أنكرنه ..و أخبرن الجميع برفضهن تصرفه ,و أنهن سيقمن
بدور كبير في إثنائه عنه ,هذا على أن يضمن هذا المجلس لهن جبر خاطره ,و إعطائه بعض السلطة التي
فقدها..
أما "حاكم" ,فما أن المته ابنته في المرة األولى على تركه لصهره الذهاب وحيدا الى المناجم ,حتى أحس
بحجم خطئه الذي ارتكبه في حق ابنته و حق صهره ,الذي آزره في استعادة ملكه الضائع من "سرور" ...فلما
أكدت له ابنته أن سرور قد أسر زوجها ,و ذهب به الى األبيض ,قرر من فوره أن يذهب هو في وفد الى
األبيض لمقابلة سلطانها ,و الشفاعة لزوج ابنته الضيف و إثناء السلطان عن التهور ,فإن هذا سيؤدي الى
إثارة حروب في المنطقة ,هم في غنى عنها ,فإن بالدهم لم تشهد مثل هذه التوترات من قبل أبدا...
فلما وصل وفد الشرتاي "حاكم" الى "األبيض" ,كان ذلك في نفس ليلة وصول الجنود المذعورين الذين كانوا
في حملة الشرتاي "سرور" ,وقد ضجت المدينة باألخبار واإلشاعات المتضاربة ,فهناك إشاعة تقول بأن
الجيش ضل طريقه الى وادي اآلسود ,التي هاجمت و استأسدت في الدفاع عن حماها ,مما أدى الى هروب
الجيش ,بعد أن فقد عددا مقدرا من رجاله ,بين جريح و أكيل ,و إشاعة أخرى تقول :أن الجيش قابل جيشا
كبيرا لس لطان الفاشر ,الذي علم بتحرك الحملة ,فأرسله للدفاع عن أراضي تابعة لسلطانه منذ القدم ,فالتقت
بالجيش الصغير ,الذي أعد على عجل ,فقاتل جيش السلطان الفاشر كاألسود التي تهاجم قطيع حمر وحشية,
فتم تحطيم الجيش الصغير ,و هرب البقية عائدين ,يصيحون األسود األسود ,يقصدون جنود جيش الفاشر ,و
بعضهم أومأ الى أن الرجل الغريب األسير ,رجل ذو صالح ,ظهرت كرامته فيهم ,حيث سلط هللا عليهم أسودا
109
باغتت جيشهم وهم نيام ,أتت من حيث لم يحتسب الجيش ,فقائل يقول إنها جند مسلط من السماء مباشرة
لنصرته ,و هي رسالة بليغة إن لم يتنبه السلطان الى معناها فإن دمارا سيصيبه و بلده كما أصاب جيشه
الصغير..
كل هذه اإلشاعات و غيرها الكثير كان يصل الى السلطان المتهور الذي احتوشه الذعر من كل مكان ..و بدت
له سوءة فعلته كما لم تبد له من قبل ..فجمع وزراءه و مستشاريه صبيحة اليوم التالي مباشرة أي يوم
األربعاء ,فجاؤوا كل واحد منهم يحمل هم نفسه قبل هم مملكته و سلطانه ,فإنهم على علم بمدى شراسة و
طيش السلطان حين يغضب أو يخاف ..فابتدرهم بالسؤال عن ماذا سمعوا من حديث الناس بين األمس و
فأجاب كل واحد منهم بما يرضي السلطان و يخفف عنه هلعه إال رجلين قال أحدهما:
-لقد نقبت سدا كان يدرأ عنك شرا مستطيرا ..ردمه أخطر من هدمه..
وقال الثاني:
-لقد ركبت مهر الريح يطيح بك أول ما ما يصيح النزول منه أصعب من الركوب فيه
قال األول:
-أما وقد حدث ما حدث فأنت بين مسلكين ,أعبدهما وعر ,األول أن تخلص العداء لسلطان الفاشر ,فتهيأ
نفسك لحرب ال تبقي و ال تذر ,تجمع فيها جيوشك كلها على صعيد واحد ,و تحشد طاقتها لمعركة
كبيرة ,إن انتصرت فيها فأنت الغالب الذي يملك البلدان كلها ,و إن انهزمت فال لوم و ال عتاب
110
فالنصر من عند هللا الواحد القهار...و أما الثاني أن ترسل الى السلطان الغاضب ,فتعتذر له و أن
تحسن له الهدية و تظهر له الوالء ,و أن تتبع دولتك بدولته فتنجو إن رضي..
-الرأي عندي الجمع بين رأيي أخي الذي تحدث قبلي ..أن نعد للحرب عدتها ,و نجمع الجيوش كلها في
جيش واحد كبير ,و أن نعلن لذلك حملة استنفار كبرى ,نحرض الناس فيها على القتال ,فنجمع جيشا
كبيرا قادرا على مجابهة جيش سلطان الفاشر .كما و أننا من جهةأخرى نسترضي الملك الغاضب
بالهدايا و اإلعتذار ,و نرجع له أسراه فإن قبل و رضي اعتذارنا ,حينها نكف عن حربه حينا من
الزمن ,الى أن نرى انصالح حالنا ,فنقرر ما نريده و نحن أقوياء ,ال نخشى أحدا ,و إن رفض ,يكون
أصاب وفد الشرتاي "حاكم" الذهول من هول ما سمعوا من إشاعات ,و علموا أن المدينة الكبيرة تجري
مياه تحتها ربما تغير من مجريات األمور في مستقبل األيام و أنهم أمام فرصة عليهم استغالالها استغالال
حسنا و إال فإن الفرصة ربما ال تأتي مرة أخرى ..فالمدينة كلها تشعر بالخوف من سلطان الفاشر الذي
اعتُدِي على أرضه و حماه ,غير األخبار التي ترد من قصر السلطان هاشم مذيعة رعبه و خوفه من
عقابيل مغامرته غير محسوبة العواقب...فقرروا أن يستغلوا هيبة سلطان دارفور و يتحدثوا باسمه في
جرأة كبيرة ويعرضوا عليه مبادرة صلح ربما تنقذ المنطقة من ويالت حرب ال تبقي و ال تذر..
ما كاد اجتماع السلطان بمستشاريه ينتهي حتى دخل عليه داخل يخبره بوفد من سلطان دارفور يريد
مقابلته ..فسره له الحضور من المستشارين أن هذه فرصة من السماء لم تكن في الحسبان فالسلطان ال
ريب أرسل وفده هذا محذرا و منذرا و عارضا شروطا تسبق هدنة و صلحا سوف يتبناها إن هم وافقوا
111
عليها ففي هذه الحالة تتحول المعركة من معركة حربية الى معركة سياسية سيقومون هم باالستفادة منها
فائدة كبيرة..
دخل وفد حاكم الذي ادعى أنه وفد سلطان الفاشر ووجد المجلس مكتظا بالحضور فلم يلق تحية و ال
سالما و قد بدا الغضب واضحا في محياهم فتكلم "حاكم" الشرتاي بصوت بين الناهر و الجاهر يعرفه
خبراء المفاوضات:
-لقد ارتكبتم خطأ عظيما بهجومكم على أراض تتبع لحكمنا و سلطاننا لم تراعوا حرمة جوار و ال
طول عشرة و ال اختالط انساب ..و قد أوفدنا ملكنا لنخبركم بان تستعدوا لمقابلة جيش يمحوكم من
الوجود فتصبحوا بعدها خبرا بعد عين كأن لم تغنوا فيها ..
قام السلطان الشاب وقد بدا الغضب الشديد الممزوج برعب حقيقي يعرفه من يعرف الرجال :
-أتأتون الى مجلسي لتهددوني ..أال تعرفون كيف تخاطب الملوك؟ ثم التفت الى الجلوس من قومه
لقد تطاول هذا الوفد المرسل و تعدى حدود األدب و ألجعلنه عبرة للوفود أعلمهم كيف يخاطبون
الملوك و السالطين
-ال أظنك تبقى حتى تهنأ بما تريد فالجيش الجرار على مقربة من حدودك ولو أنني كنت مكانك ألمرت
النساء و الولدان و الشيوخ و كل من ال يقوى على القتال بالخروج من المدينة حتى يأمنوا على
أنفسهم فالملوك إذا دخلوا قرية استباحوها ...أما أنت فال حامي لك غير قوائم فرسك إن أسرعت
الهرب...
112
-أال يجيبه أحد قبل أن أجعلهم طعاما للطير و الوحوش
-أرى يا موالي أن نجلس إليهم و نحسن وفادتهم فإن الرسل ال يقتلون و لربما نكفي البالد شر حرب ال
تبقي و ال تذر إن تراضينا على ما يصلح األمر و الحكم ربيب الحكمة فإن أبوا فالسيف أولى برقابهم
سع فتقها..
و الحكمة تقول عندها إن غلبك رتقها و ِ ّ
نظر حاكم الى رفقته فهم يسيرون الى ما خططوا الوصول إليه بخطى وثيقة ..
انتهى التفاوض بعد شد و جذب على اآلتي :أن يرسل السلطان و فدا الى الفاشر يحمل هدايا و يعلن
اعتذاره طالبا السماح بتحديد موعد يأتي فيه سلطان المسبعات ملك "األبيض""هاشم" ليعتذر بنفسه على
هذه الغلطة الكبيرة ..فك األسير التونسي الغريب و اإلعتذار إليه و إرجاع حصانه له بما حمل ..التعهد
بعدم تكرار ذلك بل أن تكون العالقة مستقبال عالقة تعاون بناء يحمي كل من الملكين ظهر اآلخر ...
و قبل أن يقوم الوفد من مجلسه أرسل فجيء باألسير التونسي و قد فك وثاقه و أعيدت له مالبسه و
أغراضه ففرح الجميع بما تم تحقيقه من خالصات تفاوض سيؤدي الى خير المنطقة كلها..
ثم أمر السلطان بإعداد مأدبة عشاء دعاهم إليها أجمعين فاستأذن الوفد باإلنصراف الى حين وقت العشاء
ليلبوا دعوته وقد تصافحوا و تصافوا و أعلن كل منهم والءه لآلخر و أن وفد سلطان الفاشر بقيادة
الشرتاي "حاكم" سيتحرك صباحا الى الفاشر ليقوم بالشفاعة للسلطان المعتذر لدى السلطان القوي مهيأ له
فلما خال حاكم بالوفد قام الى صهره و عانقه طالبا منه السماح و الصفح على تقصيره و تفريطه في حقه ,
ثم تشاور في األمر كله مع بقية وفده و "مهران" بينهم و كان مدار الحوار على قسمين األول هو هل
113
سيستقيم "هاشم" على عهده أم أن هذه هدنة يستجمع فيها قواه ثم يعود الى مهاجمة بالدهم كما عرف عنه
من مراوغة و غدر ,فتكون شفاعتهم له عليهم ال لهم عند سلطان الفاشر ,أما األمر الثاني هو هل يلبون
دعوة السلطان للعشاء أم يستغلوا هذه الفرصة بالهرب قبل أن يرجع عن رأيه وهو أمر جائز ال ريب إن
استجد أي طارئ...
و لما خال السلطان بأهل شورته بعد خروج وفد "حاكم" أصاب الجميع فرح و حبور و اعتبروا أن هذا
فتحا من هللا و نصرا دون قتال هيأه هللا لهم ,إال الرجلين األولين صاحبي الرأي الصريح غير المداهن
للسلطان ,فقد قاال أن هذا الوفد ال عالقة له بالسلطان بل هو وفد جاء ليستنقذ األسير الغريب و قد استدلوا
بسرعة استجابتهم للعرض المقدم و أنه ال صالحية لهم للتفاوض معهم فكيف فوضوا أنفسهم للقيام بهذه
المهمة من غير إذن ,و ذكرا كثيرا من األدلة ظهرت في سقط الكالم أثناء النقاش و التفاوض ..فقال لهم
السلطان "هاشم":
ال أظن أنهم سيحضرون الى العشاء فإن حضروا فالرأي هو أسرهم و اإلستفادة منهم في التفاوض مع سلطان
الفاشر فإن اتضحت عالقتهم به نفعوا في التفاوض و إن لم تتضح عالقة بينة به قتلوا قبل أن يقتل التونسي ..
-بل الرأي عندي أن نلحق به م و نحضرهم اآلن قبل العشاء و نستبين من أمرهم فالحزم عند العزم
و بينما الجميع في تشاور و انهماك جاد دخل عليه حرسه ليهمس إليه بأن بالباب مرسل من ملك دولة
"الفونج" القوي يستأذن في الدخول إليه...ضحك السلطان النزق كما لم يضحك من قبل ،ضحكة أثارت
114
سعادة الحضور إال الرجلين الذين تكلما قبل دخول الحارس ؛ خرج السلطان من مجلسه ليجد الرسول
يركب حصانا و يقود حصانا آخر ال يوجد فوقه شيء غير حربة و سيفين و درقة مربوطات على ظهره
موجهات الى جهة األمام كناية على موافقة سلطان سنار أن يخوض معه حربه ضد سلطان الفاشر..
صمم الفتيان المرشحون لمنصب الكجور و الذي ربما يضيع عليهم إن تدخل ذلك الكائن األعرج الغريب
المسمى "مورونو ماباتا" ،و الذي ال يجدون عنتا في التعامل مع بني جنسه من السباع فهي كثيرة منتشرة و
شديدة الشراسة ،و لكنهم رغم ذلك كانوا يقدرون عليها و لم تكن تشكل هما كبيرا ،و رغم الصورة التي
وصلت إليهم من المرويات التي تنتقل عبر القبائل األفريقية بزيادات تضخمها و تضفي عليها طابعا يالئم
عقلية كل منطقة و معتقدها و طبيعتها ،بيد أن كل هذا وصلهم و لم يزدهم غير تصميم على إنجاز مهمتهم
التي تواثقوا عليها بطرده أو قتله و إنهاء أسطورته الى األبد ،رغم أن قلوبهم كانت شديدة األيمان بقدراته
بعد أن أطمأن موفد ملك الماساي إلى حسن ترتيب استقبال الوحوش بحيث ال يتجرأ عليها بنو البشر و ال
تتجرأ عليهم ،إال فيما تعورف عليه من التعامل بين السباع و البشر من تبادل منافع ال يتجاوز حدوده إلى
استهداف منظم يرجح كفة العداء على كفة التعاون المثمر ،فإن نزوات البشر غير المنضبطة الناتجة من
عاطفته أو طمعه أو خوفه أو فكره أو طيشه لجديرة بالتحسب لها لدى كتابة الوثائق و إبرام العهود ،هكذا
أوصى الملك الحكيم موفده أن يتحوط في اتفاقه مع أهل المناطق البعيدة عنه التي خالفت أعرافها أعرافه و
دياناتها ديانته رغم اتحادها كلها في توحيد اإلله و تعديد الزوجات و اختالفها فيما بين ذلك.
115
لكن األسد األعرج لم يعارض الفكرة مطلقا بل تحمس لها حماسا كبيرا خصوصا أنها تقربه الى موطنه
األصلي الذي بعثت ساللته فيه ،و لذلك لم ينتظر الموفد المرسل أن يعود قبل أن تنتشر ذريته شرقا سابقة له
مهيئة لمقدمه..
المواجهة الشرسة التي دارت بين األسد و فصيلته التي قدمت معه بل وسبقته و شباب قرى بحيرات النيل
العظمى كانت مثار استغراب اللجنة الكجورية التي قامت بمهمتها خير قيام في تجرد و نزاهة تامة شهد لها
بها كل أهل القرى المعنية بهذا األمر ،فلقد وضعوا شروطهم و لوائحهم التي يحتكمون إليها منذ بداية توليهم
مهامهم و نشروها بين القرى و البيوت في األسواق و مناطق الزراعة و الصيد و المشارب حيث يسهل
الوصول الى المياه و المشافي و الطرقات ،و قد كانت تحفهم حاسة إيمانية عميقة بخطورة ما يقومون به و
أنهم أمام اختبار غيبي كبير ،ثم إنهم من بعد ذلك كانوا يطلعون أهل القرى بكل جديد و مستجد فإذا ما اقتضى
ا ألمر تغيير بند في الخطة أذاعوا به بين الناس ال ألخذ الرأي و لكن للتنوير و العلم ،فإن أمر الكجورية ال
يخضع للمشورة و ال لرأي الناس بل للقوى الخفية التي تسير األمر وفق قانونها الذي تعرفه و ال يعرفه أحد
سواها ،فإنه حتى تلك البنود المستجدة ال تنفك أن تكون لقيت القبول عندها و إال لما انبثقت في ذهن عضو
لجنة و لما لقيت التأييد و المباركة من أعضاء اللجنة الباقين ،فإنها أي القوى الخفية تعمل على أن تنقدح
شرارة القبول سريعا في نفوس أعضاء اللجنة فيقرون بها و يعملون على تحقيقها ،كذلك كان األمر بالنسبة
لفكرة االستع انة بتجارب اآلخرين و كذلك صار الى أن يتفجر الحماس لفكرة أإلستعانة بتجربة الماساي و
ملكهم ،فكل شيء مقدر مسطر يمشي وفق إرادة قادرة تعرف ما تريد كما تؤمن المنطقة كلها بهذا ،و لذلك
كان تكتل الشباب ضد هذه الفكرة مثار استغراب اللجنة التي عهدت الى القوى الغيبية القادرة بما وجدته من
مباركتها لكل الخطوات السابقة التي مرت في يسر و سالم ،عهدت إليها أمر تغيير نفوس هؤالء الشباب لكن
األمر كان يسير في عكس هذا اإلتجاه بل في تصاعد شديد عبر الحمالت الكبيرة ضد هذه األسود ،ثم تصاعد
األمر الى أن أعضاء اللجنة أنفسهم أصبحوا في محط تهديد الشباب و تخويفهم ،و انقسم عامة الناس هنالك
116
الى قسمين غير متساويين قسم يؤيد اللجنة و فكرها و أعمالها و يباركه ،وهو القسم الكبير الغالب و الذي
أخذ حكماؤه على قلتهم يتحركون حركة إيجابية في تثبيت الناس على ما توارثوه منذ القدم من آبائهم و
أجدادهم يحاولون الجلوس مع هؤالء المتمردين على سلطان عقيدتهم ،و قسم أيد الشباب و ناصرهم في
فكرهم الجديد تحركهم دوافع شتى مختلفة أغلبها شخصي و قليل منها فكري و إن تزيا الشخصي بثياب
الفكري ،وهم قسم قليل ضعيفي الفكر قليلي الحيلة يلجم الحياء لسان أحدهم إذا ما برز لنقاش أو إبداء رأي ،
لكن الناشطون منهم كثيروا الحركة كثيروا الكالم جريئون يطرحون رؤاهم في أي مكان بال خوف وال وجل
لم يكن الشباب الثائر يجرؤ بادئ األمر على صيد هذه األسود أو التعرض لها باألذى وال على مطاردتها فإن
أثر األيمان ما زال قويا يعتمل في النفوس ،فلربما تغضب القوى الكجورية غضبة تصيب فاعل ذلك األمر
باللعنة التي ستالزمه مدى عمره و تالزم أسرته من بعده الى أبد اآلبدين ،الى أن انبعث أحد متهوريهم فصاد
أحد هذه األسود قاصدا و مدعيا الخطأ في نفس الوقت ،فانتظر الناس أن تصيبه لعنة تفقٌا عينيه أو تقطع لسانه
أو تصيبه بمرض عضال أو بموت زؤام ،هو أو أحد من آل بيته لكن شيئا من هذا لم يحدث ،فزاد هذا األمر
جرأتهم أكثر فصاروا يتحرشون بها دون أن يؤذوها أذى مباشرا ،يقطعون عنها ميرتها التي أعدها لها أهل
القرى دون بقية األسود و الحيوانات فيأتون بليل يسرقونها و يبعدونها عن مكان إلقائها المتفق عليه أو
يطردونها عن صيد اصطادته فيأخذونه عنوة من أمامها ،ثم ازداد األمر إذ بلغت جرأتهم أن أوقدوا النار في
مرابضها يريدون تخويفها لترحل لكن النار سرعان ما انطفأت و كانت هذه بمثابة رسالة واضحة لألسود
و األخبار تبلغ اللجنة تترى عن هذا الفجورالذي قام به بعض الشباب فيعمدون الى آبائهم يحذرونهم أو الى
شيوخ قراهم يأمرونهم بضبط أبنائهم حتى ال تصيب المنطقة لعنة ال تصيب الذين ظلموا خاصة ،الى أن جاء
مبعوث من األسد الى اللجنة في يوم انعقادها ينذرهم بطائلة عقاب لن يقدروا عليها خالل أيام ثالثة إن استمر
117
األمر على ما هو عليه ...و صادف أن هبت رياح شمالية كبيرة في أول األيام قبل موعد اإلنذار ،لم تؤذ
أحدا غير أنها كانت رياحا عاتية حركت األشجار و مياه البحيرات و غطت الجو بغبار غريب استمر يومين
كاملين ,فانتشر خبر اإلنذار انتشار النار في الهشيم فخاف الناس خوفا عظيما و ألقوا باللوم على أبنائهم ...
لكن الشاب الذي تهور أول األمر قال لهم إن هذه مصادفة ليس لها عالقة باإلنذار المزعوم و ليثبت لهم ذلك
أخذ شعلة من النار و ذهب بها الى قرب مرابض األسود شمال قريتهم و أشعل النار هناك و حمل شراكه و
سالحه هو و مجموعة معه ليقوم بصيد أحد هذه األسود و الرياح لم تفتر عزيمتها بعد...فانطلقت النار تتغذى
على العشب و الهواء الذي تحركه الرياح الشمالية و أخذت تتقدم باتجاه القرى الواقعة جنوب مرابض السود ,
و تنفث سمومها كأنها أنفاس (سخمت)* ،و كان األمر قبل انطفاء ضوء الشمس عند المغيب بقليل .رأى
الناس الدخان الكثيف ثم لما جن الليل ظهر ضوء النيران المتزايد الذي يقترب رويدا رويدا ،فاعتقد الناس أن
العقاب الموعود قد تهيأت له الظروف و أنه واقع بهم ال محالة ،و بدأت توسالتهم للجنتهم بالتحرك السريع
ألقناع األسود بكف النيران عنهم و تقديم االعتذار باسمهم ،و طالبوا الشباب الذين ظهرت عالمات االنهيار
و الصغار عليهم بالذهاب و اقناع األسود وتقديم القرابين عسى أن يكف ذلك بأس الغضبة الكجورية التي ال
شك أنها ستطال كل بيت في القرية بال استثناء ،و في الجهة األخرى كانت هذه النار كبيرة للدرجة التي لم تر
مثلها حيوانات الغابة من قبل ،و كان انتشارها بسرعة كبيرة جنوبا و غربا و شرقا و بطيئا الى جهة الشمال
و لكنها كانت تنتشر الى الشمال كذلك ،فأصاب الرعب الحيوانات و الطيور جميعا ،و ألنها ال تملك غير
غريزتها و حدسها فقد آثرت الهرب شماال و بسرعة كبيرة حتى و إن صادف طريقها قرية بشرية فإنها لم
تكن تتردد في اقتحامها اقتحام عبور كما كان سابقا ،لكن الخطرهذه المرة قد وصل الى مراحل التعقل فيها
يكون بعدم التعقل ،فأصبح الناس الذين أيضا أصابهم الهلع من هذه النار العظيمة يرونها تمر بالقرب منهم
هاربة فال يمنعونها وهي بالمقابل ال تصل اليهم ،و ببساطة شديدة لقد كان الخوف عظيما ،لكن الحيوان
الوحيد الذي ثبت و لم يتزحزح هو األسد الضيف بينما األسود أسياد الديار ولت هاربة في منظر ال يليق بأسد
118
يتزعم منطقة البحيرات بأكملها ،لكن هذا لم يمنع أن يتزحزح قليال الى الوراء إزاء هذه النار العاتية كلما
"سخمت" اإلالهة عند قدماء المصريين بنت اإلاله بتاح و هي نفسها اإلالهة إيزيس عندهم و عند قدماء األفارقة حامية تنفث النار في
"أنفاس سخمت" وجوه األعداء و يقال للسموم الشديد
و جاء موفد الماساي الذي رافق األسد في رحلته الى أعالي النيل يستجدي الساحر المترجم ليحدث األسود
باعتذار الشباب و طلبهم العفو و المغفرة و ندمهم الشديد على ما اقترفه أشقاهم ،الذي هو كذلك أبدى ندما
شديدا بعد أن قام أهل القرى بطرده من قراهم التي سيدمرها بتهوره و خروجه على مألوفهم .
قال الساحر إن األسود رفضت اإلعتذار و أن األمر قد خرج عن سيطرتها و سيطرة األسبار الى سيطرة
عليا تدير الكون و لكن عليهم االنتظار و التضرع الى خالق الكون صاحب القوة األعظم ،فلما رجع الموفد
الى اللجنة أرسلت معه ذلك الشاب الذي قام بإثارة الحرائق و تحريض أقرانه على الخروج على األعراف و
التمرد على القوى الخفية القاهرة مقيدا متبرأ منه ،ليكون تحت رحمة األسد يفعل به ما يشاء عله يكف عنهم
هذا البالء الذي بدأ في حرق البيوت و تشريد األسر و هروب الحيوانات المستأنسة أو نفوقها تحت و طأة
حرارة النيران العاتية ،فلما رآه األسد األعرج "مورونا ماتابا" زمجر زمجرة عظيمة و ثار و بدا عليه
غضب عجيب أخاف حتى حاشيته من بني جنسه عوضا عن اآلدميين الذين لم يجدوا بدا من الهرب و
اإلختفاء خلف شجرة ربما تقيهم من غضبته ،ومنهم من أسلم أمره الى رجليه تذهبان به حيث أرادا ،إال الولد
المربوط من يديه و رجليه جثا مرتعبا خائفا يتصبب العرق من جميع جسمه ،ثم اقترب األسد من الشاب
المقيد و ضربه بيده على وجهه ضربة شديدة سلخت جلد وجهه كله من جهته اليمنى التي ضربه عليها بل و
119
مزعت بعض اللحم منه ،ثم تالها بضربة أخرى على جهته اليسرى ففعلت مثلما فعلت في الجهة اليمنى و
ألقت بالشاب المقيد اليدين أرضا ثم زأر األسد و زمجر بعدها طويال ثم جرى بعيدا و هو يعوي غاضبا ،و
النار البعيدة آخذة في اإلقتراب و الرياح الشديدة لم ترخ هجمتها ،ثم أقبل جاريا بسرعة انقضاضه على
فريسة هاربة و قفز فوق ظهر الشاب ،و زأر مرة أخرى و اقترب بفمه من ظهره مكشرا عن أنيابه هاما
بعضه ،إال أنه توقف فجأة ...و كما هبت الرياح فجأة و بدون سابق مقدمات ،فإنها صمتت فجأة كذلك إثر
احتدام السماء بسحاب كثيف أسود مأل االفق كله حتى اسودت و انقلب النهار الى ليل حالك السواد تضيؤه
النار التي يجعلها سكون الرياح هادئة بريئة و هي تلتهم كل شيئ تجده أمامها ،كما يضيؤه وهج الصواعق
المتقطع الذي تزايدت و تيرته حتى ليكاد أن يكون متصال يتفوق ضوؤه على ضوء النار لوال أنه أبرد منها ،
و تدفق المطر كأنه بحر في السماء انهار سده فتدفق ماؤه تدفقا عظيما ،خمدت على إثره النار و انطفأت
جذوتها و تحولت الساحة التي كانت تضج بأصوات الحطب المحترق و تطاير الشرار و طقطقات األخشاب و
السافنا وصوت بعض الحيوانات التي لم تعنها سرعتها على الهرب ،الى بحر قاعه األرض وسطحه السماء
الذي ينبجس منها ،تحركت األرض تحمل الماء و بقايا األخشاب التي تساقطت خالل العام و التي تآكلت
بفعل الحريق الشديد و جثث الحيوانات التي احترقت من بغتة هجوم النار أو تلك التي صادها سبع لم يشبع
نهمته منها و تركها خوفا من اللهب الذي زادت سطوته و تراب األرض الغني و كثيرا من األعشاب تحملها
الى المنحدرات و مجاري السيول ،استمر هطول األمطار قرابة اليوم الكامل بوتيرة واحدة لم تهدأ و ال
للحظة خاطفة ،ثم هبت ريح من بعد ذلك قوية قل بعدها وقع المطر ليتحول الى بر ٍد ذي أحجام مختلفة
رجمت به السماء الغابة على طول امتدادها رجما استمر لساعات ثم تحول الى مطر أخرى أقل شدة من التي
شهد هذه اللحظات لحظة انفالق السماء بالماء المنهمر مع األسود أربعة أشخاص ال خامس لهم موفد الماساي
و الساحر المترجم و موفد اللجنة و قد تجمعوا بعد فرارهم يكسوا وجوههم الرعب و الصغار و الشاب الذي
120
جيء به وهو مقيد ذليل ..فلما انهمرت السماء فرحوا بها أيما فرح عدا ذلك المقيد المصفوع من األسد و الذي
علته مياه السيول و مضت تجرفه و تتقاذفه بين منعرجات األودية و األشجار المعترضة ،و البقية بأسودهم و
أنسهم ينظرون إليه وهو مقيد يتقلب من شدة جريا ن الماء ال يقوى على تخليص نفسه من قيده و ال الوقوف
ليجد مهربا أو مدخال يختبأ تحته أو يلجأ إليه ...و تجمعت المياه من جميع أنحاء الغابة في سيل كبير يجري
لم يقو على منحدرا بقوة كبيرة يحمل على ما يحمل من شجر و حجر و حيوان جسم ذلك الشاب الذي
مقاومة سرعة الرياح و تدفق و جريان المياه المنحدرة فوقع على األرض منكفيا على وجهه وأخذ يتدحرج
تحمله المياه الجارية و تتقاذفه وبدت الجروح التي غطت وجهه و ذهبت بلحم جسمه حتى بدا عظم مفاصله
بعد أن انسلخ عنها اللحم تنزف حتى ارتطم رأسه بعود شجرة ضخم فقد بعده الوعي و أخذ يغوص في الماء
المتحرك تارة و يطفو تارة أخرى و الموت حينها شمر عن ساعديه لقبض روحه..
حمحم األسد األعرج و زأر زأرة كبيرة ثم جرى كما فعل سابقا قافزا بين األشجار المتدحرجة بفعل أثر
الماء الجاري ثم رجع و زأر مرة أخرى و المطر الشديد ما زال على حاله يثج الماء ثجا صاح بعدها الساحر
-إن األسد يقول لندرك الشاب الذي جرفته السيول هكذا يقول األسد...
ثم زأر األسد بعدها مرة أخرى وجرى خلف جسد الشاب المتدحرج على السيل وقد اختفى من األنظار
فجروا و راءه كلهم ....فقال الساحر المترجم وهو يجري الهثا :لعله كجوركم المرتقب فالحقوا به إن كنتم ما
كان لهروب قائد الشرطة بالبنت أ ُثر كبير على المدينة فقد انتشر خبر يفيد بهروبه بالبنت الى الخرطوم
هو والطبيب انتشار النار في الهشيم و بدأت اإلشاعات تتكاثر فالمدينة هذه األيام ال حديث لها غير البنت
121
الجميلة المسجونه و مرضها ,فقد عاد الجندي الذي كان يسوق للقائد عربته و أبلغ أن القائد طلب منه أن يعود
و أنه هو من سيتولى القيادة ،و لم يكن القائد يفعل ذلك أبدا من قبل فقد كان سائقه هو من يتولى أمر عربته
بالكامل ،فلما عاد و أخبر نائب القائد بأن القائد طلب منه أن ينزل من قيادة العربة و أنه هو من سيتولى
قيادتها ،لم يدر في خلد النائب أن يكون قائده قد قرر أن يذهب بها إلى الخرطوم ،رغما عن استغرابه من
بعض تصرفاته في الفترة األخيرة ،فقد أخذ منه الختم الذي كان يحتفظ به و طلب اآللة الكاتبة من مكتب
الباشكاتب و وضعها أمامه في طاولته و أخذ يكتب عليها بنفسه ,ثم إنه أمر بأن يحضر وقود إضافي في
برميل و أمر برفعه الى العربة و أن يمأل خزانها...رغم ذلك لم يتبادر الى ذهن نائبه نيته بأخذها الى
الخرطوم مخالفا اللوائح و القوانين و معرضا نفسه للخطر بهذه الطريقة التي ليس لها تعريف لديهم سوى أنها
عملية اختطاف منظمة ،فلما طال انتظاره و لم يحضر القائد في نفس اليوم أرسل الى السجن يستفسر عن
وصول القائد إليهم فلما أخبروه أنه لم يحضر ال هو و ال السجينة ،أرسل الى بيته مستفسرا عنه فأخبروه أنه
منذ أن خرج صباحا لم يعد الى البيت ،هنا بدأ الشك يتسرب إلى النائب رغم أن الجنود الصغار كانوا
يتداولون فيما بينهم حديث هروب قائدهم بالبنت الى الخرطوم من غير بينة كبيرة تؤكد ،اللهم إال ما الحظوه
من حزن في وجه قائدهم لم يالحظوه عليه م نذ أن رافقوه في مهنتهم الذي هو قائدها ،وما جاءهم من فعلة
فعلها لم يفعلها من قبل مع سائق عربته ،و البنت المريضة معه و الطبيب في العربة ،حينها قام النائب
باستدعاء السائق الجندي الذي أكد له حقيقة أن القائد قد أنزله من العربة و قام بقيادتها بنفسه ،و أنه سمعه
يسأل الطبيب عن حال البنت إن كان يسمح بأن تذهب الى الخرطوم أم ال ،و أن الطبيب أجابه أنها إذا لم
تصل الى الخرطوم خالل يومين فلربما يعرضها هذا الى خطر حقيقي ،و أكد له الطبيب أن ذهابها الى
السجن بهذه الحالة معناه كتابة شهادة وفاة رسمية لها ليس إال ،هنا أمر نائب قائد الشرطة السائق الجندي
بلزوم الصمت و أن ال يفصح عن هذا الى أحد ريثما يتأكد من هذا الخبر ،و نفى له أن يكون القائد قد فعل
122
هذا فربما ذهب بها الى المشفى مرة أخرى ،أو الى بيت الطبيب أو الى القاضي األعلى ليستخرج إذن عالج
أو شيء من هذا القبيل ،و لكن القائد أعقل و أعرف بكل هذه األمور منهم جميعا ...
قال هذه الجملة بصوت أقرب الى النهر و الصوت العالي منه الى الوعظ ...لكن هذا لم يمنع المدينة من
الحديث فمنذ أن أمر القائد بأن تؤخذ البنت الى بيته تكلم الناس أن هذا القائد لن يسمح بدخولها السجن ولو كلفه
هذا منصبه ووظيفته و كلهم يقول لو كنت مكانه لفعلت مثل ما فعل و صار كل واحد منهم يتحدث عن ما
يخاله يرتسم في وجهه من تعابير الحب لهذا المالك الذي قدر هللا أن يكون في قبضته ،فمنهم من حكى
متخيال ،و منهم من حكى عن موقف شاهده بأم عينه في لقاء به في مكان ما من أمكنة الدنيا التي تجمع الناس
عادة كمناسبة فرح أو عزاء أو صالة أو غير ذلك ،و كان أكثرهم تأكيدا لخبر هروبه بها الى الخرطوم
"حاج عبد الجليل" تاجر المواشي الذي اشترى كل ما أهدته المدينة له تضامنا مع الصغيرة من خراف و
شياه و تيوس ،فقد روى أنه أدار حوارا معه وهو يسلمه المبلغ الذي يساوي قيمة ما اشتراه منه فقد قال له :
أنه سيستخدمه في عالجها في الخرطوم ،و قال أنه حينما سأله هل تنوي الذهاب بها الى الخرطوم فإن القائد
تلجلج قليال ثم قال كل شيء وارد في هذه الدنيا ،ربما تذهب بها إدارة السجن لكن بالضرورة أنها ستحتاج
و أصر "حاج عبد الجليل" و هو الخبير بالرجال أن قلب القائد ليس هو قلبه الذي يعرفه ،و أن وجهه تعلوه
سيماء حزن لو وزع على المنطقة كلها لكفاها ،و أن هذه البنت قد ذهبت بقلبه الى حيث تذهب النساء بقلوب
الرجال ،وأنها قد اتخذت مكانا قصيا هناك يصعب الوصول اليه و من ثم العودة منه.
و سرعان ما بلغ األمر حاكم اإلقليم األوسط كله الذي كان يتابع أمر هذه البنت عن كثب ،والذي قام
بزيارتها مرتين من قبل مرة عند القائد في بيته شاكرا له على مروؤته و حاضا له على االهتمام بها و
123
الحرص عليها لئال تهرب ،و مرة بعد أن لزمت السرير األبيض في المستشفى ،فهو من أمر بفتح البالغ
ضدها ،فقد أحس بأن هذه البنت تشكل حجر العثرة األساسي الذي يقف ضد سياساته في تطوير هذه المنطقة
و الحفاظ على ح يواناتها بما استطاعت أن تخلقه من تحريض و روح تحدي لقراراته ،و أن األشعار التي
كانت تمثل اإلعالن السياسي و الثقافي األول في المنطقة كلها كانت تتحدث عن أن سطوة جمالها و جبروته
أكبر من سطوة قرار الحاكم في "األبيض" ،و أنها هي الحاكم الفعلي للقلوب الذي يجب أن يطاع و ال أحد
يشبهونها بأسد قديم في التاريخ شرس تروى عنه األحاجي و غيرها ..و أنها أسد القلوب الفاتك "صولنج" ،
القصص سمته البادية قديما " سليمان صولنج" تشبيها له بالسلطان "سليمان صولنج" الذي وحد الفور و
العرب و أقام مملكة ال يزال التاريخ يتحدث عنها ،فصار لقب "صولنج "يعني "األسد" في هذه األيام يقولونه
و ال يدرون نسبته و مرجعيته ،فأطلق الشعراء و الناس عموما عليها أي على "سعدية "لقب "صولنج"
وذلك قبل أن تحضر حبيسة من باديتها ،مما أثار حفيظة "الحاكم" و اعتبره تحديا له ..بل إن الحاكم لم يعتبر
لحسن النية و الصدفة حكم في أمر هذه البنت ،فهو ليس بالسياسي الساذج الذي تنطلي عليه الحجج ،فإنه البد
و أن و راء هذه البنت جهة محرضة أو أن البنت نفسها أرادت أن تجعل لها مكانة بين الناس بتحديه و ليس
ببعيد أن تكون هذه المكانة ترتيبا سياسيا منها يقود الى انشاء حزب مضاد أو حركة مناوئة أو ماشابه ذلك ،و
لم يقتنع بما روي له عنها من أنها صغيرة السن لم تدخل مدرسة و لم تنل حظا من الممارسة السياسية التي
تؤهلها ألي تخطيط يدخلها في بؤرة العمل السياسي ،بل البادية كلها ليس فيها أحد يجيد السياسة إن كان ما
يفعله يسمى إجادة للسياسة غير "أستاذ آدم" ،الرجل الذي ال يخفي والءه للحكومة ،لكن السياسة علمته كما
يقول أن ال يتعامل بظاهر األمور بل عليه كسياسي أن يبحث عما وراءها ،و لقد جاءته غير ذات بعيد
وصية سياسية من القيادة في الخرطوم بالحرص واإلهتمام بمنطقة الجبال بالذات خشية أن تنضم الى
الحركات المتمردة في جنوب السودان ،فالمنطقة على مقربة من الجنوب المتمرد و أن ال يسمح بنشوء مثل
هذه الحركات فيها ....و لذلك تعامل مع إشاعة هروب قائد الشرطة بالبنت تعامال جادا و صارما فأمر
124
باستدعاء قائد المنطقة العسكرية ،و الذي يعتبر تحته "فالحاكم" قائد اللجنة األمنية باألقليم كله ،فلما حضر
أمره بصيغة حازمة أن يجد هذه البنت و القائد الذي هرب بها في مدة ال تتعدى األربعة و عشرين ساعة....
قال "أبو كرنكانت" بعد أن شرب الماء الذي جاء به "الرحيمة" و قد جلس بالقرب من القائد الشرطي :
-ما الذي يحصل و يجعل اإلقليم كله ال سيرة له غير الضابط الذي هرب بالبنت...؟
-أانا لم أهرب ببنت و ال ولد ،ال يمكن أن أخرب سمعتي الطويلة الممتازة بفعل شيء من هذا القبيل ،
كل ما في األمر أن القرار الذي اتخذته هو قرار من صميم عملي و قد أصدرته وفق الصالحيات
الممنوحة لي كقائد شرطة - ،ثم أخرج ورقة و أعطاها إياه -وهذا هو أمر التحرك بالذهاب الى
-بيننا عمل و رفقة درب طويلة و حقيقة ال أحب ان أؤذي هذه العالقة الممتدة بأي شيء يسيء اليك و
ال الى تاريخك المجيد في خدمة العمل الشرطي في هذه البالد ..
-لكني أجدني مضطرا الى أن أنفذ تعليمات قائد المنطقة العسكرية الذي أمر بإرجاعك و البنت
المريضة خالل أربعة و عشرين ساعة ،و الجيش كله مستنفر من أجل هذه القضية بل و الشرطة
كذلك ..
-هل لم يبق بالبلد شيء تهتم به غير هذه البنت المريضة المسكينة...
وقف القائد العسكري ووقف بعده القائد الشرطي ثم تحركا الى الى الباب ثم التفت قائد الجيش الى قائد
الشرطة:
125
أنا أطلب منك بصفتي قائدا للجنة أمن هذه المنطقة أن تحضر الى مكتبي و في معيتك هذه البنت -
للنظر في كيفية رجوعكم الى " األبيض " تلبية ألوامر قائد المنطقة العسكرية ..و ال بأس في أن
ثم ولى وجهه نحو الباب و خرج ثم ما لبث أن رجع مرة أخرى :
-سأترك مجموعة من الجنود خارج البيت ليساعدوك على اتخاذ القرار الصائب و المجيء الينا اذا
احتجت اليهم و ثق بأنني سأقول بأنك اتبعت كل اإلجراءات القانونية الالزمة وفق ما هو مسموح لك
به.
تدخل الطبيب هنا ووقف بين القائدين يشرح لهما خطورة وضع البنت الصحي:
-يا أيها السادة الضباط إن و ضع البنت ال يسمح لها بالعودة الى األبيض و إن أي تأخير في الوصول
نظر اليه قائد الشرطة نظرة لم يفهمها و إن كان فهمها القائد العسكري الذي ما لبث أن قال :
-هذه تعليمات عليا ال يحق لنا أن نخالفها ،و إن أدى األمر الى موتنا جميعا ال الى موت فرد واحد،
سأنتظركم عند الساعة السابعة صباحا في مكتبي و سأرسل للقيادة في األبيض أنك في ضيافتي و أنك
ثم خرج ملوحا بيده بعد أن القى عليهم سالم مودع يرجو لقاء قريبا...
وفي صبيحة نفس اليوم و عند الساعة السابعة و النصف صباحا ،هاج "ابو كرنكات" قائد الجيش أيما هياج و
ثار ثورة عظيمة في وجه "قائد الشرطة" بعد أن حضر األخير بمعية "الطبيب" و الجنود و "الرحيمة"
126
-كيف لم تجدوا البنت ...اسمع أيها القائد هذا أمر ال ينطلي علي .
-ماذا كنتم تفعلون طيلة الليل؟ هل نمتم ؟ ألم أأمركم أن تطوقوا البيت بحراسة مشددة حتى ال يهرب
-تكلم يا عسكري أين ذهبت البنت كيف خرجت من بيتكم كيف سمحت لها بالخروج ..هل فتشت البيت
و كانت ثورة الحاكم في األبيض أكبر لما وصله الخبر عبر برقية أوصل محتواها له قائد المنطقة
العسكرية بعثها له أبوكرنكات ,و اتضحت الصورة له تماما بعد أن كاد يصدق كالم الناس حول البنت
الذين زعموا براءتها و تعللوا بصغر سنها و أعجبهم جمالها و جرأتها ،فالبنت ال ريب و أنها ربيبة من
يضمر شرا أو أمرا مريبا إن أحسن التاويل ،فالمظاهر التي تخفي خبايا النفوس ال تغره و ال تلهيه عن
مكامن الشر في تلك النفوس ...ولكن الذي حيره كثيرا هو اتفاق صديقه قائد الشرطة معها ،وهو الذي كان
يعده أنيسا ومستشارا يأنس لرأيه و يستشيره في تدبير أمر الحكم حين تستعصي عليه دروب السياسة ,
وهو الذي يحمل سجال حافال باإلنجاز ،وهو من قهر به المجرمين و المخربين و الذين يكيدون له ،بل
وهو من أشار عليه بإحضارها إلى األبيض و بتر رأس الفتنة قبل أن يكبر هكذا يذكر أنه سمى هذه
البنت ،كيف ينسى كل هذا فجأة و نظير ماذا ؟ ..هذا و كثير غيره دار في خلد حاكم األقليم األوسط ،و
بدت له صورة البنت األسطورة التي هزمت الحكومة لوحدها رغم ضعفها و عزلتها ،و انتفت أمام
ناظريه براءتها و جهلها فلقد تجلت له مقدراتها العالية في التمثيل و المراوغة و ادعاء المرض كما تجلت
مهاراتها في الهروب و االختفاء و هي مهارة لم يصل اليها كبار المجرمين و عتاة اللصوص و القتلة
127
وهي نتاج تدريب البد و أنه متقن و شاق ..و جمح خياله الى من اتقن اختيارها لتكون ممثال لثورة وشيكة
و سرعان ما انتشر الخبر في األبيض كلها انتشار النار في الهشيم ،كانت شرارته حامل البرقية الذي
أوصلها الى قائده و قرأها له على غير العادة ،فالقائد يقرأ رسائل و برقيات قادته المنتشرون على مدى
األقليم األوسط بنفسه عادة ،و لكن القائد طلب منه أن يقرأها له هذه المرة ظانا أنه خبر مفرح سيسعد
جميع الحضور ،بعد أن وصله خبر العثور عليهم من "أبوكرنكات" قبيل سويعات قليلة ،فقد ظن أنه
يخبره بتحركهم الى األبيض ومعه قائد الشرطة و الطبيب والبنت ،وكان في معيته في تلك اللحظة بعض
الضباط و الجندي المراسلة ...كلهم سمعوا البرقية و رأوا غضب القائد و توتره الذي حاول إخفاءه ،
وكلهم نقل الخبر بطريقته الى خاصته و منهم الى البلدة كلها ،التي ابتهجت و فرحت فرحا ملؤه األمل
على البنت و ما يخبؤه لها القدر و كان أكثرهم فرحا آل حاج الحسين الذين ما زالوا يرابطون قرب
و أصبح قائد الشرطة في انفالقة حظ بطال شعبيا تروي عنه الروايات في كيفية استماتته في الدفاع عن
البنت الجميلة ،وكيف أنه أبدع في التخفي و التمويه ،فلما حانت لحظة المواجهة لم يتوان في مقاومة
الشرطة و الجيش ،و زاد من زاد بقتله لمجموعة منهم ،و أنه لوال خوفه على البنت المريضة أن تصاب
بأذى ما ألقى سالحه و تم القبض عليه ،و كان أمثلهم حديثا من قال أنه دخل في مفاوضات مع الجيش
رضي وفقها بأن يعود هو أسيرا مكبال بينما أطلق سراح البنت لتذهب و تتعالج ،و سرحت المخيلة
الشعرية في تصوير الملحمة البطولية لقائد الشرطة و نسبوا سر هذه القوة و البأس الى جمال البنت الذي
كلما فتر عزم القائد في المقاومة أمده بطاقة و روح جديدة ،و بعضهم جعل سالح عينيها هو الذي فتك
بعزيمة الجنود الذين هاجموا البنت و القائد كما تخيلوا ،وسرح بعضهم في قوة هذا الحب الذي جعل القائد
128
يتخلى عن كل شيء من أجل حبيبة كان هوالسبب في كل ما حصل لها ،وانتشرت هذه األشعار انتشار
وميض البرق ،و كان محصلتها انتصار الجمال على القوة أو الحب على الكره أو البنت على الحكومة...
12
ما أن وصل الخبر بأن "الباهي" قد تم العثور عليه الى "سوق أهراس" ،حتى عمت السوق فرحة
عظيمة ،و أخذ الناس و التجار فيه يتبادلون التهاني بتلقائية و فرح عفوي صادق ،و حدثت موجة من
االبتهاج و أخذ التجار يخرجون ما توفر لديهم من تمر أو فاكهة أو عصائر يتهادونها بينهم تعبيرا عن
سعادتهم ،فلما جاءت "حمانة" تستوثق من الخبر في فرح غامر يحرسه وقار مفتعل تمليه عليها مكانتها
في السوق ،قام لها الناس و التجار يستقبلونها بالتهاني و الفرح ،ثم زفوها يغنون و يرقصون الى دكان
أبيها في وسط السوق الذي أمر بإحضار عجل كبير ليذبحوه ابتهاجا و شكرا هلل الذي من عليهم بعودة
و لم يكن السوق قد اعتاد بعد على حركة الصيادين الكبيرة التي نمت و ازدهرت من بعد هذه الحادثة
نموا كبيرا ،ربما حبا في المغامرة و الشهرة و الصيت ،و ألن الرواية التي رواها الباهي أظهرت لهم
129
عظمة األرض التي يقطنونها ،و أنها ال تحتاج الى كثير بحث حتى تخرج خيراتها المخبوءة والتي
تطاول عليها الزمن ال يعرف أحد أماكنها .و كان أشد ما أثار انتباه الناس و أكد لهم ما يرويه "الباهي"
هو ذلك السوار الذي يلبسه في يده زاعما أن مليكة قوم قابلته في رحلة اختفائه هذه أهدته إياه ،هذا
السوار الشديد اللمعان ،ذهبه ال كالذهب العادي ،تزينه أحجار كريمة ملونة غاية في الجمال ،محفوف
بإطار من معدن أبيض براق ،و عقد من نفس معادن السوار و أحجاره ،ثقيل الوزن مصقول بعناية
فائقة ،يرتديه الباهي في عنقه كما ارتدى السوار في معصمه ،لم يخلعهما الى حين زواجه فقد جعله في
مهر عروسه و من ثم ورثه منها أكبر أبنائه الذي يدعى "مهران" وورثت العقد ابنتها األخرى.
هز اختفاء "الباهي" "السوق" هزا عنيفا ،و رغم أن الباهي لم يكن الصياد األول الذي صاده الصيد فاختفى
على أثره ،فإن ألبيه و أمه و جده ألمه بين التجار مكانة مهدت "للباهي" موقعا في نفوس أهل "سوق
أهراس" ،لما عهدوه في آبائه و أمه من نفس طيبة و خدمة للسوق و عدل بين مكوناته ،و لما للباهي نفسه
من دماثة خلق و لطافة طبع و همة في مساعدة اآلخرين خاصة في ما يتعلق بالتفاهم مع األسود و بقية السباع
،فقد شعر الجميع بفداحة خطب اختفائه ،و لربما كان للحملة التي جردها أبوه للعثور عليه أثر في نفوس أهل
السوق ،فقد شارك فيها عدد كبير منهم لما كان من حسن تجهيزها ،فقد أعد أبوه عدد مئة فرس بمؤونتها
التي تكفيها لشهر كامل دون أن تحتاج لشيء ،فمن لم يشارك فيها بنفسه أرسل من ينوب عنه فيها أو ساهم
بفرس أو مؤونة أو غيرها ،و صارت من بعد هذا اليوم عادة يتبعها السوق كلما حدث حادث مثله ،و لذلك
كان لعودته فرح في السوق بالغ فكل يعتقد و يؤمن أن له دور في هذه العودة .
لكن الروايات التي رواها لهم عن األحداث التي مرت به و شاهدها لم تكن لتدخل عقال بسهولة ،فإن ما
روى أنه شاهده في أسبوعه هذا ال تكفيه قرون متطاولة ،ولوال أنه ابن " لخضر" و "حمانة " ومن قبلهم
الحاج "مختار" لنبذوه أو اتهموه في عقله أو اتخذوا له طبيبا يطببه و بعضهم من اقترح هذا بالفعل ل "
لخضر" على استحياء ،و لكن ثقة الباهي فيما يرويه و الجروح و الكدمات الحية التي ال يزال بعضها ينزف
130
،يحكي قصة كل واحد منها فيطابق حجم الجرح و أثر الكدمة حجم مسببها ،فما قال أنه جرح بسبب رمح
فإن فتحة الجرح ال تزيد على رأس رمح ،و ما قال أنها كدمة بسبب وقع حجر عليه أو سقوطه من على
صخرة أو حائط ،فإن أثرها ال يزيد على حجم المسبب لها ،و أبرزها تلك الخدوش على جسده التي قال أنها
ألسد أعرج هجمت عليه أسود ساعده "الباهي" في االنتصار عليها ،و لكنه ضربه بالخطا أثناء عراك مع
تلك األسود المهاجمة ،فإن آثارها ال تزيد عن حجم خدوش من أظافر سبع كبير فإن هذا اعطى بعض
ولكن أعجب ما جاء به هو ذلك الكتاب المحبور على ورق لين و لكنه خشن الملمس عريض أبيض اللون
مجموع في صفحات عديدة لمسوه كلهم بأيديهم ،و العجب فيه أن "الباهي" زعم أن هذا الكتاب أهدته له ملكة
عظيمة خاضت حروبا عظيمة أخضعت الدنيا كلها من بحرها لبحرها شماال و جنوبا شرقا و غربا لسلطانها،
ملكة أحبها شعبها و أطاعها فأركبته حصان المجد و السؤدد ،ملكة شجاعة تخوض الحروب مع جنودها
تؤاكلهم و تؤاسنهم و تخالطهم بيد أن لها هيبة تجعل الجبال ترتعد عند ذكر اسمها ،هي من أهدته هذا الكتاب
،الذي كانت صفحته األولى محبرة مكتوب عليها ،أما باقي الصفحات فإنها كانت فارغة بيضاء ،و لكنها
امتالت مع األحداث كلما مر حدث كبير ُكتِب على صفحة منه ال يعلم من يكتبه و لكنه ينام و يصحو فيجده قد
و مما رواه لهم "الباهي" حديث ذلك األسد الضخم ذو العرجة البينة الذي أيقظه ذت ليل إثر احتفال بانتصار
عظيم ،بعد أن لعبت الخمر بالعقول و صار الناس في نومهم كالموتى ،طالبا منه بلغة أسود مبينة تشبه لغة
أسود زماننا لم يتغير فيها شيئ ،أن يركب على ظهره ،فلما ركب "الباهي" على ظهر األسد جرى به جريا
لم يعهد مثله من قبل ،فإذا به أمام كهفه القديم الذي احتمى به من األسود و الذي خرج منه بعد ذلك محموال
على فرس وهو مصفد رأسه الى أسفل ،و األسد يجري به داخال به الى مدخله الذي انفسح سابقا ،فإذا به
يضيق ليصير بابا من جديد و بدأت حوافه بالتهدم خلف أقدام األسد الجاري كما تهدمت من قبل خلف أقدامه ،
131
و لكن األسد قفز وهو على ظهره الى داخل الكهف المظلم الذي أضاءت نواحيه بضوء شمس قوي ،لتقع
عينيه على مليكته نفسها في موضع آخر و بزي آخر و بعمر آخر ،فهي ليست المرأة الشابة التي حكى لهم
عنها ،تلك الشديدة البأس الصارمة القسمات المفتولة العضالت التي رآها أول ما رآها و سيفها يقطر دما و
عينها تنفث شررا و الجميع صاغر من حولها يطيعها خوفا و رهبا ،سريعة الحركة نشيطة الهمة قوية
اإلشارة حازمة إصدار األوامر ،و لكنها اليوم امرأة في منتصف العمر وقورة رزينة ،تكثر المشورة و
تطيل السمع و الناس من حولها يتجمعون تجمع حب ال تجمع رعب ،تخطط و تدير تبني و تعمر ،و األسد
يجري به ال يتوقف وهو من فوقه ينظر في تعجب و دهشة و األرض التي كانت بلقعا يراها رأي عين و هي
تنهض باألبينة الشماء و إن كانت من خشب أو خيم من جلود الحيوان أو طين الزب مركب بمهارة أو من
حجر كبير و صغير ،و األرض الجرداء تنفلق وهو فوق ظهر أسده الجاري من تحت رجليه لتصير قنوات و
ترع ،و الصحراء تتحول الى مزارع و مروج ،هكذا فجأة كل شيء يتبدل سريعا أمام ناظريه وهو على
ظهر األسد الجاري بال كلل أو تعب ،في لمح البصر يرى األشياء تنمو و المباني تعلو و الترع تنشق ،و
الملكة في كل مكان يراه تظهر بثوب جديد و عمر جديد و أسد ذو بأس شديد يقف أو يمشي الى جوارها مع
أناس يختلفون و يتغيرون في كل مرة ،تسمع منهم أو تشير إليهم أو تأمرهم أو تنظر معهم الى شيء ذي
بال...
حتى إذا أظلم الليل وهو على ظهر األسد الجاري ،ظهر أمامهم مبنى كبير تنيره من الخارج مشاعل كثيرة
مصفوفة و مثبتة على جداره ،دخله األسد مارا أما حراسه الذين حيوه تحية إجالل كما يحيى الملوك و
األمراء ،تعجب "الباهي" منها لم يدر أهي لألسد أم له أم لهما معا ،ثم توقف أمام غرفة ضخمة كبيرة معدة
و مؤثثة بصورة جيدة ،ثم تقدم ماشيا الى داخلها ،و ألقاه من على ظهره كما يلقي الحمال الشيء الثقيل من
على ظهره ،فإذا هو أمام تلك الملكة يقع تحت رجليها مباشرة ،فتمسكه من يده بحنو و شفقة كمن تعرفه منذ
زمن بعيد ،بل و كأنه خرج من مجلس ها قبل قليل ثم عاد ،ال كمن فصلت بينه و بينها سنوات و عقود ،تلك
132
السنوات و العقود التي ظهرت في عمرها ما بين أول لقاء بها باألمس حيث كانت شابة فتية و بين لقائه هذا
كان الباهي حين يحدثهم و يحكي منتشيا يصف األشياء و عينه معلقة بالبعيد كمن يرى صور ال يريد أن يفلت
منها شيئا في وصفه ،و الناس من حوله يتحلقون ما بين منتش معجب بما يقول يفتح ُك ّم عقله و قلبه ليقتطف
المزيد من رحيق كالمه ،و بعضهم ينظر إليه وقاد ارتسمت صورة الخبل و الجنون في عقله عن هذا الشاب
الطيب المسكين يتحرك قلبه بشعور الشفقة و العطف و الرحمة عليه ...
-حينها رفعتني من يدي كما ترفع األم ابنها و هي تنظر الى ورق موضوع على منضدة من حجارة
موضوعة أمامها ،و الورق به رسم لشيء لم أعرفه مخطوط بحبر أسود اللون ،و هي تشرح لي و
أنا ال أفهم شيئا ثم ذهبت بي تفتح حفرة كبيرة مغطاة بحجر كبير ال يستطيع رفعه من هم في مثل
أحجامنا ،و لكنها رفعته بعناء بسيط و أخرجت خرجا كبيرا مليئ بالمجوهرات الثمينة و الحلي و
الذهب و الفضة و بمعادن تشع ال أعرفها و لم أر مثلها قبال ...ثم أخذت من المجوهرات ثالثة أسورة
و عقدين و ألبستني السوار و العقد و لبست سوارا و عقدا و أشارت لي ما فهمت منه أن األسورة
الثالثة ستحتفظ بها لبنت أشارت كانها تقول أن البنت هي ابنتي ثم أشارت مرة أخرى الى أن البنت
هي ابنتها ....فأصابني غم شديد إذ عني لي هذا ساعتها أنني سأعيش بينهم في دوامتي هذه حتى
يكون لي أبناء و بنات منها ،و زجرت ظني سريعا فلربما أخطأت الفهم ،ثم أدخلت السوار الثالث
الى داخل الكيس ،و أخذت ورقة كانت على الطاولة الحجرية مرسوم عليها رسوم كثيرة ،فعرفت
أنها خرائط ترسم المكان ،ثم رفعت الكيس الجلدي و أشارت إليه بيدها األخرى ثم وضعت يدها على
موضع مرسوم في الورقة ،لتقول لي ما فهمت منه أن هذا الخرج الجلدي سيكون في هذا الموضع
133
....حينها زأر األسد األعرج الذي بجوارها زأرة عظيمة انخلع لها قلبي ،ضحكت الملكة ضحكة
عطوفة ألقت بشعاع من حب لها في قلبي ،و أشارت إليه فجاء و أشارت إليه مرة أخرى فقعد فوق
الحجر الكبير الذي يغطي حفرة المجوهرت ،ثم زأر األسد وتحرك مرة أخرى بحركة لم تزحزحه
أنا حارس هذا الكنز و إ ّن ابنا لهذه المرأة في زمن ما كما و هو ابن لك كذلك هو فقط من سيسمح له -
فإذا برأسي يدور و تظلم الدنيا في عيني ،فال أعي إال وشيء رطب يلعق وجهي و رقبتي ،و أنا
ملقى على األرض قرب عرش الملكة ،و حولي أسدان أحدهما يجلس فوق الحفرة التي دار الحديث
حولها ،و اآلخر يأمرني بركوب ظهره و ال أحد غيرهما معي في الغرفة....
الحرب التي تدور رحاها بقوة كل أخبارها تقول بتقدم سلطان "الفاشر" على سلطان "المسبعات" "هاشم "بعد
أن لم يف سلطان "الفونج" بوعده و لم يرسل جنده لمناصرته كما وعده ،و الذي صار يتجرع كأس الهزائم
جرعة جرعة كل جرعة أمر من أختها التي سبقتها ،و أصبح كل ما كسبه من مجد من آبائه الذين بنوه
بالجماجم و سقوه بدماء عزيزة سالت على بطاح الصحاري و الغابات و الوهاد و الجبال وما بذلوه من مال
يسترضون به القبائل و يؤكدون به الوالء يكاد يطير أدراج الرياح ،و انشغال الناس بمتابعة أخبار هذه
الحرب كان له مبرره فكثيرمن أبنائهم انخرط في جيش سلطان دارفور العظيم الذي كما قالوا لم يروا له مثيال
من قبل ،فقد خرج السلطان بنفسه سائقا معه كل حريمه و أبنائه و أهله األقربين و األبعدين و أرسل الرسل
يأتونه بالجنود المتطوعين و المجبرين و من يبحث عن الثروة والمجد في حرب كهذه من كل مكان في
134
لكن "حاكم" و "صهره" كانا في انشغال آخر بالبحث عن شيء لم يظهراه للناس و المعدنين في الغابات التي
تحت الجبال ،فقد انخرطا في التعدين و انهمكا فيه بقوة لكي يعوضا ما فاتهما إبان تلك الفترة التي قضياها في
دحر الفتنة التي طالت منطقتهم بفعل طمع "سرور" و مناصريه ،بيد أنهما دائما ما كانا يخرجان ليال بعد
العشاء األول و ال يعودان اال بعد الفجر الكاذب بقليل من منجمهما الى مكان لم يطلعا عليه أحد بل الى أماكن
كثيرة ،فقد كانا كل مرة يغيران وجهتهما بعد أن يستفيضا في نقاش هامس صاخب تتغير فيه نبرات الوجوه و
ال يتغير مستوى الصوت الخافت فلم يكن أحد يسمع لهما حديثا ،بعد طرح ورق على األرض به خطوط
كثيرة و رسوم غريبة ،و لكن العمال كانوا يرون األيدي تشير و تنخفض و األنظار تنظر و تتجه و األعناق
تشرئب منهما وتنخفض في جدال بينهما ال ينتهي اال ساعة الخروج بعد المغرب بقليل بعد ظهور النجوم التي
يكون لها حظ من يد أشارت أو عين نظرت ،أما "النقو" زوجة "مهران" و بنت "حاكم" ذات القلق الذي
تغذيه حاسة فطرية كثيرة الصدق قليلة الخطأ جبلت عليها ،كانت تتابع حركتهما بقلق بالغ عبر العيون التي
بثتها ممن يعملون معهما ،فكل ما يدور في المنطقة من أحداث و حروب يشي بأن الليالي حبلى بكل ما هو
جديد و مستغرب ،و حديث زوجها لها و الورق الذي أراها إياه و قال لها أنه كتب منذ آماد سحيقة في
التاريخ و لكنه يتحدث عن أحداث ربما آن أوان حدوثها ،و الذي أخفاه عندها فأحسنت حفظه و صيانته ثم
جاء من سفرته التي عاد منها هاربا ليكون أول ما يسأل عنه زاد من قلقها ؛ و مما زاد قلقها هشاشة ذلك
الصلح الذي تم بين أبيها "حاكم" و غريمه "سرور" و الذي تبنته زوجة "سرور" و بناته و أجبرنه عليه بعد
أن هيجن عليه عشيرته األقربين ،فإنه ما كان لها أن تطمئن له وهي العليمة "بسرور" الذي تعرفه شديد
كما وصلها عبر عيونها من بني عمها و أبنائهم الذين كانوا يعملون مع زوجها و أبيها في تعدين الذهب خبر
ما بثه سلطان "الفاشر" من أعين تراقب حركة زوجها و تحصي عليه أفعاله ،و كانوا يخبرونها بالروح
الشريرة التي كانت تعتمل في نفوس هؤالء المبثوثين ،فقد كانوا كثيرا ما يقومون بإثارة المشاكل بين العمال
135
كما و أنهم كذلك كثيرا ما يحرضونهم إما لطلب زيادة عائد أو طلب تحسين وجبة طعام أو زيادة أجرة ،
وكانوا يدافعون عن العمال الذين يسرقون أو يفتعلون مشاكل فإذا ما عوقبوا و طردوا تدخلوا بقوة إلرجاعهم
للعمل ،و كان كلما يقوم "حاكم" أو "مهران" بالتخلص من واحد منهم يأتي آخر بنفس صفاته إن لم يكن أسوأ
،و كان أكثر ما أثار خوفها هو ما أخبرها به أحد أبناء عمها عن أن بعضا من هؤالء كان يخرج في أثر أبيها
وزوجها إذا ما خرجوا ليال كعادتهم ،فطلبت منه الخروج على أثرهم و أن يشكلوا حماية لهما من بعيد و هم
ال يشعرون ،و لكنهم عادوا بعد أيام فأخبروها بأن "مهران" اكتشف أمر تتبعهم له و حمايتهم له من على
البعد فغضب غضبا شديدا ،فلما أخبروه أنهم إنما فعلوا ذلك بطلب من "النقو" زوجته ازداد غضبه و طردهم
بعد أن قال:
إن على النساء أن ال يتدخلن في عمل الرجال كما ال يتدخل الرجال في عملهن .. -
و لم يترك لهم مجاال ليشرحوا له ما يدور حوله ؛ فلما رجعوا الى عمتهم عشاء و أخبروها بقصتهم مع
زوجها ،لم تنتظر صباحا ليشرق كما لم تستشر أحدا فيهم ،فركبت حصانا ألبيها و أخذت معها اثنين من
أبناء أبناء عمها األكبر و اتجهت الى حيث مناجم الذهب ،فقد أحست بحدسها الفطري بخطر محدق يحيط
كل هذا كان يعتمل في صدرها و رغم أنها حديثة وضوع بابنتها "شارفة" ،لكن "النقو" الهميمة
التي عرف عنها حزمها و قوتها و رأيها السديد الذي تبنيه على علم يسبقه إيمان و يقين بحدسها الذي
كان نادرا ما يخيب ،ما كان لها أن تقعد متفرجة و األرض تكاد تهتز من تحتها ،نظرت الى ذلك
النجم الذي تعرفه بسيما و ميضه المتالعب ،و اتخذته هاديا و توجهت جاعلة إياه من على اليمين
جاعلة المسافة بينه و بينها واحدة ال تتغير مهما تحرك الليل ،فهكذا كان يخبرها زوجها عن الطريق
الى موقع مناجمه ،و رغم أن أبناء بني عمها على معرفة بالطريق ،إال أنها لم تكن لتستعين بأحد
136
أبدا إذا ما توفر لها طرف خيط تمسك به ،و كانا كلما أحسا بأنها ابتعدت عن الجادة صبرا عليها فإذا
بها ترجع الى الطريق الذي يعرفونه أو يرجع إليها الطريق ،فلما أصبح الصبح ،طلع عليهم وهم
بين أكمتين الصغيرة أبعد من الكبيرة يتراءى سوادهما من بعيد رغم األشجار ،القريبة تبعد مسيرة
نصف نهار و إن بعدت فلن يأتي العصر إال و قاصدها يستظل بظل صخرتها مباشرة ،و البعيدة
تحتاج النهار كله و إن زادت فلن يأتي العشاء إال وقاصدها واضع فوق صخورها أرجله ،فقال
الولدان أنهما لم يعرفأ هذا المكان و لم يمرا به من قبل ،وقال أقربهم معرفة أنه يعرف هذا التل و
أشار الى األكمة الكبيرة و قال إنه يقع في الطريق الى المكان الذي يقصده "مهران" وهو يقع خلف
مناجمهم ال يظهر للرائي سواده إال إذا توجه شرقا مسيرة ضحى بالحصان ،فقد رآه أثناء تعقبه له من
-أعلم .
ثم تحركوا قليال باتجاه التلة الكبيرة فإذا بأربعة خيم من شعر الغنم قائمة لم تسقط و إذا بآثار خيول و
آثار أقدام بشر تمشي و آثار ألقدام تجري و آثار حيوان كالقط الجبلي أو األسد كثيرة كأنها لقطيع منها
و ليست لواحد تشغل مساحة كبيرة ،ثم حراب ملقية و سيوف منثورة كأن أصحابها ألقوها تخففا طلبا
للفرار و بعض دروع من جلد البقر المجفف و آثار دماء ،و غير بعيد لمعت أواني الطبخ بعضها
على أثافي طبخها و بعضها مكفي تحوم حوله أثار أقدام السباع ،و رغم أن هذه اآلثار ظاهر عليها
-إن لم أخش الكذب فهذه حملة "سرور" التي حركها باتجاهنا و صرفها هللا عنا بهجوم األسود.
ثم نزل من على ظهر حصانه وقال كخبير بصير بمعرفة األثر بعد أن أمسك بعود يشير به :
137
-هنا كان يخيم القائد وهذه خيمته و هذه خيمة "سرور" و وفده ..
ثم جلس على ركبته وقال ألثر غائر يبدو قرب وتد :
-وهذا أثر غائر ألقدام حصان "سرور" مشت عليه الخيل و األقدام كثيرا.
و أشار الى عالمة ال تظهر اال لخبير يعلم قص األثر مشيرا كأنه يؤكد ألخيه و عمته أن هذا فعال أثر
ثم انصرفت عنهم تبحث عن شيء بين آثار الحيوانات المهاجمة وهما منهمكان في تحليل ما يريانه فلما
-و هذه ؟
-هذه آثار ألسد يهاجم ...و لكن انظري الى هذا األثر ِرج ٌل قوية الضرب على األرض و رجل
-األسود جاءت من هذا اإلتجاه و المسافة التي جاءت منها ليست بالبعيدة انظري الى سرعة جريها لكأنها
تمس األرض مسا و ال تطؤها و طأ ،وانظري الى شدة كتح األقدام للتراب من أثر السرعة حتى قفزاتها
138
عالية شديدة أال ترين قوة أثرالقدمين الخلفيتين على التراب حين تقفز ...فلو كانت المسافة بعيدة لكان
-هذا ما كنا نبغي ..فلتأخذا حذركما نحن في مرابض األسود ..بل مربض األسد األعرج...
لم يمض على قولها هذا دقائق حتى هاجت الحصين الثالثة و بدأت تتململ ....أسرعت "النقو" الى حصانها
و أخرجت منه عودا أجوفا ،زاد هيجان الحصين فصاح أحد الشابين الذين جاءا معها وقفز الى حصانه :
لكن عمته تقدمت الى داخل األشجار ،و جفلت الحصين األثنان اللذان يحمالن الشابين و حصان "النقو" الذي
لم تعله سيدته وجرين بكل سرعة يملكنها خوفا من شيء لم يظهر لها و لكنها تعرفه بفطرتها ،و الشابان
يقاومان الحصين لئال تتحرك تاركة " النقو" و راءهما و لكنها انفلتت تعدو ال تلوي على شيء فما كان منهما
اال القفز منها ،فوقع األول كاسرا معصمه و اآلخر وقع على رأسه فأغمي عليه لوهلة ليست بالقصيرة ،فلما
تجنبتُ جدتي هذه األيام فقلت مجالستي لها حتى أنكرت علي هذا الصنيع و المتني ألمي ،فاستغربت أمي
لما تعرفه من حبي لها و تعلقي بها و تعلقها بي ،فهي أمي التي لم تنجبني ال أذكر ذلك اليوم الذي أهدتني
أمي لجدتني ألكون معها تربيني و تعتني بي ،بعد أن تفرق عنها أبناؤها بفعل الحياة و صروفها فقد بنى
كل واحد منهم داره و سكن بها فصار يزورها لماما ،أبرهم بها من يزورها صباحا و مساء و أعقهم من
يدور عليه األسبوع فال يراها غير مرة و احدة أو مرتين لظرف حياة يمر به أكثرهم ،عدا البنات منهم
139
فإنهن لم يكن يقطعن وصلها إال خالتي التي تزوجها رجل غريب فرحل بها الى حيث عشيرته .و لكني لم
أستطع تحمل كرهها و حقدها على سعدية و أمها نعمة وفرحها بكل سوء يصيبها ،و رغم أنها علمت ذلك
فصارت ال تكثر من إغاظتي بالتحدث عنها بما أكره ،غير أني في هذا اليوم رأيت عجبا من جدتي فقد
أصابها حزن ال أعلم سره و شرود غريب ،ليس كعادتها المرحة إطالقا وال نشاطها المعهود ،حتى اللبن
الذي كانت تحلبه من عنيزاتها لعمل شاي المغرب ،لم تقم الى حلبه قلت لها:
قالت لي و عينها تنظر الي نظرات عميقة أحسست بها تطرق بقوة داخل قلبي..
-تعال
-أنا أحبك أكثرمما أكرهها يا ولدي ..أدعي لها فهي اآلن أحوج الى دعوة محب ..إن لم تنج اليوم فال
140
قالت سعدية بصوت خفيض :
-قف هنا..
كاد قلب السائق أن يقع من على صدره و صاحت المرأة التي بقربها فرحا و اندهاشا من حديثها :
-سعدية سعدية يا بنتي حمدا هلل على سالمتك ،بركة االتكلمت يا بنتي..
-ال نتوقف عادة هنا هذه المنطقة معروفة بحيواناتها و هوامها و جنها دعيني أتقدم قليال
السائق الذي لم يخف فرحته و امتعاضه في نفس الوقت أخذ يبطئ من سرعة العربة الى أن توقفت و نزل من
كرسي القيادة و نزل حاج "محمد" الذي كان يجلس في المقعد األمامي بجوار السائق و الطبيب الذي يجلس
بقربه ،و جاءوا مسرعين الى الباب الخلفي حيث تضع سعدية رأسهاعلى رجل إحدى المرأتين اللتين كانتا
نظرت إليه بعينين تتجمع إرادة صاحبتهما فيهما رغم المرض و قالت بفم باهت الكالم:
141
-أنزلوني هنا ...
لكن سعدية التي ال تقوى على الحركة نزلت برجليها ووقفت منتصبة رغم ظهور ضعفها و انحناء ظهرها و
تعبها في نزولها و اندهاش الطبيب ،و تحركت ببطء سريع نحو األشجار التي بدت على جانبي الطريق
يراود النجوم وهي تتخفر منه قبيل الشروق بقليل ،صاح بهما حاج "محمد":
سعدية كأن لم تكن تسمع ما يقال لها استمرت في مشيها تتخلص من خطوتها التي خطتها بصعوبة بخطوة
أخرى يكبلها اإلعياء و الشجر يزداد كثافة قليال قليال صاحت المرأة:
وصل الطبيب إليها قبل السائق الذي جاء مسرعا كذلك ،قال الطبيب:
142
أشارت الى اإلتجاه الذي دخلت به الى األشجار ..فأشار الطبيب الى السائق بالبقاء و دخل وراءها و قد
توارت بحجابي الشجر و الظلمة ،و بعد قليل سمعوا صوت الطبيب ينادي سعدية سعدية و ال صوت يجيبه
نادى الطبيب على السائق آمرا له بمساعدته في البحث عنها ،و زاد نداؤه علوا سعدية سعدية و ال مجيب،
مضى وقت ليس بالقصير و الشمس أخذت ترسل أشعتها رويدا رويدا و الحلكة بدأت تذوب في الضوء و ال
سعدية بدت في المدى و ال صوتها يجيب من يناديه ..ازداد قلق السائق كثيرا و قلق حاج محمد و المرأتين
اللتين بدأتا في عويل خفي تنظر إحداهما الى األخرى تستمطر دموعها فتجيبها األخرى بأنة مكتومة و حركة
صاح السائق مناديا الطبيب أين أنت و لكن الطبيب لم يرد فصاح قائال له :
و لكن الطبيب لم يجب بيد أن الحاج محمد اقترب من السائق متحسسا طريقه بين األشجار :
-أين أنت
ثم صاح مرة أخرى بالطبيب الذي لم يجب أيضا لكن حاج محمد وصله سائال عماذا وجد فأشار إلى بيوت
نمل كبيرة منتشرة يظهر في نهاياتها معدن على شكل دائري كأنه جزء من وعاء معدني كبير.
-ما هذا ؟
قال السائق سائال الحاج محمد الذي أخذ حجرا صغيرا و طرق به اإلناء الذي اختفى كثير منه داخل بيت
النمل الكبير:
143
-هذا معسكر جيش قديم و ال ريب ،هذا وعاء كبير ال يكون استخدامه من قبل مجموعة صغيرة كبيت
هز السائق رأسه كمن وافق على رؤية الرجل الكبير ثم سأله:
-ما الذي أتى به هنا و بقية اآلنية التي بنت حولها األرضة قراها ،نحن نأتي من هنا كثيرا هذه أول
مرة أدخل عميقا في الغابة هكذا و أول مرة أرى فيها هذه األشياء..
-هذا الشارع شارع تهريب نستخدمه لتهريب البضائع التي تمنعها الحكومة و رغم ذلك فإننا نبغضه
جدا ،فكثير من السائقين رووا عن هذه المنطقة أشياء ال تسر ..ولوال إصراركم علي أن نأتي به ما
أتيت .
-كله بسبب هذ البنت المسكينة التي تريد الحكومة حبسها رغم مرضها..
144