You are on page 1of 13

‫قضــايا فقهــية | أسلحة الدمار الشامل " حكم امتالكها ‪ ،‬واستخدامها"‬

‫بقلم اإلمام يوسف القرضاوي ‪ -‬رئيس االتحاد العالمي لعلماء المسلمين‬


‫إن األسلحة الكيماوية‪ ،‬واألسلحة ال ُجرثومية أو البيولوجية‪ ،‬واألسلحة النووية‪،‬‬
‫وغيرها مما يطلق عليه اليوم (أسلحة الدمار الشامل)‪ ،‬التي تقتل األلوف والماليين‬
‫وتدمر الحياة واألحياء‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫دفعة واحدة‪ ،‬وتأخذ المسيء والبريء‪ ،‬والمحارب والمسالم‪،‬‬
‫يحرم استخدامها شرعا في نظر اإلسالم‪ ،‬ألن األصل‬ ‫واإلنسان والبيئة‪ :‬هذه األسلحة ُ‬
‫في القانون اإلسالمي‪ :‬أنه ال يُ َج ِّوز قتل َمن ال يقاتل‪ ،‬و َمن ال َعالقة له بالحرب‪ ،‬وقد‬
‫أنكر النبي صلى هللا عليه وسلم قتل امرأة في إحدى المعارك‪ ،‬ونهى عن قتل النساء‬
‫والصبيان‪ ،‬ونهى خلفاؤه عن قتل الرهبان والفالحين والتجار‪ .‬فكيف يجيز هذا الدين‬
‫قتل الجماهير الغفيرة من الناس‪ ،‬وال ذنب لها‪ ،‬وليس لها في العير وال في النفير‪،‬‬
‫وليس لها في الحرب ناقة وال بعير؟‬
‫كما نهى اإلسالم عن اإلفساد في األرض‪ ،‬وقطع األشجار‪ ،‬وهدم األبنية‪ ،‬وتخريب‬
‫حرمه هللا تعالى‪ ،‬وكره‬ ‫العمران من غير ضرورة‪ ،‬ألن هذا من اإلفساد الذي َّ‬
‫ض ِّليُ أف ِّسدَ فِّي َها َويُ أه ِّل َك أال َح أر َ‬
‫ث‬ ‫{و ِّإذَا ت َ َولَّى َ‬
‫س َعى فِّي أاأل َ أر ِّ‬ ‫أصحابه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫سادَ} [البقرة‪].205:‬‬ ‫َّللاُ ال يُ ِّحبُّ أالفَ َ‬
‫َوالنَّ أس َل َو َّ‬
‫ومع هذا أرى‪ :‬أن اإلسالم يوجب على األمة المسلمة‪ :‬أن تمتلك هذه األسلحة الرادعة‪،‬‬
‫ما دام غيرها يملكها‪ ،‬ويمكن أن يهدِّدها بها‪.‬‬
‫فان األمة إذا لم تمتلك هذه األسلحة تصبح مهيضة الجناح‪ ،‬مهددة م َّمن يملكها‪ ،‬وال‬
‫سيما أن العدو الصهيوني الذي اغتصب أرضها ‪ -‬أرض المقدسات واإلسراء‬
‫والمعراج – وشرد أهلها منها‪ ،‬وفصل بين مشرق العروبة ومغربها‪ :‬أمسى من‬
‫والمخوفين بها‪ .‬ال سيما أن في سفر التثنية من التوراة ما‬‫ِّ‬ ‫مالكها والقادرين عليها‪،‬‬
‫س َمة حية[ ‪]!!1‬‬
‫يجيز لهم في البالد القربية منهم‪ :‬أال يبقوا فيها نَ َ‬
‫ومن عجب أن تملك أمريكا والدول الكبرى هذه األسلحة‪ ،‬ثم تحظر على اآلخرين أن‬
‫يملكوها‪ .‬وتمنع الدول العربية مجتمعة أن تملك قنبلة نووية‪ ،‬وإسرائيل وحدها تملك‬
‫أكثر من مائتين منها!‬
‫•حكم استخدام األسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية‪:‬‬
‫بكل ما يمكن من األسلحة‪ ،‬التي‬
‫وقد ذهب عدد من الفقهاء‪ ،‬إلى جواز قتال العدو ِّ‬
‫تدمر‬
‫تعجل بهزيمة العدو‪ ،‬وإن كانت تقتل البشر‪ ،‬والحيوان والنبات وغيرها‪ ،‬أو ِّ‬‫ِّ‬
‫المباني والمنشآت‪ ،‬ولو كان مثل إلقاء النيران المشتعلة على المقاتلين من األعداء ‪...‬‬
‫إذا كان من شأن العدو أن يستعمل مثل هذه األسلحة ضدَّ المسلمين‪ ،‬وإذا كان ال‬
‫يُستطاع كسب المعارك ضدَّه إال باستخدامها‪.‬‬
‫وبعض المذاهب الفقهية أجاز استخدام تلك األسلحة ضدَّ العدو‪ ،‬وإن كان من الممكن‬
‫التغلُّب عليه باألسلحة التقليدية‪.‬‬
‫يقول اإلمام النووي في (المنهاج)‪ :‬يجوز حصار الكفار في البالد والقالع‪ ،‬وإرسال‬
‫الماء عليهم‪ ،‬ورميهم بنار ومنجنيق‪ ،‬وتبيتهم في غفلة[ ‪].2‬‬
‫شراح (المنهاج) في (مغني المحتاج) على ما قاله‬ ‫ويعلق الخطيب الشربيني من َّ‬‫ِّ‬
‫النووي‪ ،‬فيزيد عليه بقوله‪ :‬وما في معنى ذلك‪ ،‬من هدم بيوتهم‪ ،‬وقطع الماء عنهم‪،‬‬
‫{و ُخذُوهُ أم‬ ‫وإلقاء حيات أو عقارب عليهم! ولو كان فيهم نساء وصبيان‪ ،‬لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ص ُرو ُه أم} [التوبة‪ ،]5:‬وفي الصحيحين‪ :‬أنه صلى هللا عليه وسلم حاصر الطائف‬ ‫اح ُ‬ ‫َو أ‬
‫[‪ .]3‬وروى البيهقي‪ :‬أنه نصب عليهم المنجنيق ‪[4].‬وقيس به ما في معناه مما يع ُّم‬
‫اإلهالك به‪ .‬إلى أن يقول‪ :‬وظاهر كالمهم‪ :‬أنه يجوز إتالفهم بما ذُكر‪ ،‬وإن قدرنا‬
‫عليهم بدونه[ ‪].5‬‬
‫•االستدالل بكالم الشافعي في (األُم)‪:‬‬
‫صن العدو في جبل أو‬ ‫وأصل هذا‪ :‬ما ذكره اإلمام الشافعي في (األم) بقوله‪( :‬وإذا تح َّ‬
‫صن به‪ ،‬فال بأس أن ير َموا بالمجانيق‬ ‫سك [‪ ،]6‬أو بما يُتح َّ‬‫حصن أو خندق أو ب َح َ‬
‫وكل ما يكرهونه‪ ،‬وأن يبثقوا عليهم‬‫والعرادات [‪ ]7‬والنيران والعقارب والحيَّات‪ِّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫الماء ليُغرقوهم أو يوحلوهم فيه‪ ،‬وسواء كان معهم األطفال والنساء والرهبان أو لم‬
‫يكونوا‪ ،‬ألن الدار غير ممنوعة بإسالم وال عهد‪ ،‬وكذلك ال بأس أن يحرقوا شجرهم‬
‫ويخربوا عامرهم‪ ،‬وك َّل ما ال روح فيه من أموالهم‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫المثمر وغير المثمر‪،‬‬
‫وصفت‪ ،‬وفيهم الولدان والنساء المنهي عن قتلهم؟‬
‫َ‬ ‫فإن قال قائل‪ :‬ما الح َّجة فيما‬
‫قيل‪ :‬الح َّجة فيه‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نصب على أهل الطائف منجنيقا‬
‫عرادة‪ ،‬ونحن نعلم أن فيهم النساء والولدان‪ ،‬وأن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫أو َّ‬
‫قطع أموال بني النضير وحرقها‪...‬‬
‫قال الشافعي رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬فقد نهى بعد التحريق في أموال بني النضير؟‬
‫قيل له‪ :‬إن شاء هللا تعالى ‪ -‬إنما نُهى عنه‪ ،‬أن هللا َّ‬
‫عز وج َّل وعده بها‪ ،‬فكان تحريقه‬
‫إذهابا منه لعين ماله‪ ،‬وذلك في بعض األحاديث معروف عند أهل المغازي‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬فهل حرق أو قطع بعد ذلك؟‬
‫قيل‪ :‬نعم قطع بخيبر وهي بعد بني النضير‪ ،‬وبالطائف [‪ ]8‬وهي آخر غزوة غزاها‬
‫لقي فيها قتاال) [‪].9‬‬
‫•مناقشة كالم الشافعي‪:‬‬
‫َّ‬
‫مضطرا إلى أن أخالفه فيما‬ ‫ومع احترامي وإجاللي إلمامنا الكبير (الشافعي) أراني‬
‫ذهب إليه‪ ،‬وأتَّفق مع األئمة الذي يضيِّقون في استعمال هذا النوع من األسلحة‪ ،‬إال ما‬
‫أوجبته الضرورات الحربية‪.‬‬
‫سلم به اآلخرون له‪ ،‬كما في (بداية المجتهد) ‪.‬‬‫وما استد َّل به إمامنا الشافعي‪ ،‬لم يُ ِّ‬
‫يجز قتل المواشي‪ ،‬وال تحريق النخل‪ ،‬مع أنه يعلم أن النبي حرق نخل‬ ‫فاإلمام مالك لم ِّ‬
‫بني النضير [‪ .]10‬واإلمام األوزاعي كره قطع الشجر المثمر‪ ،‬وتخريب العامر‪،‬‬
‫كنيسة كان أو غير ذلك‪ .‬والشافعي يرى تحريق النخل إذا اتخذوه مع ِّقال لهم‪ ،‬وال‬
‫يجيزه إذا لم يكن مع ِّقال لهم‪.‬‬
‫ولذا أورد ابن رشد في (بداية المجتهد) رأي مالك واألوزاعي‪ ،‬والشافعي وما بينهم‬
‫من خالف‪ ،‬ثم قال( ‪:‬والسبب في اختالفهم‪ :‬مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وذلك أنه ثبت أنه عليه الصالة والسالم حرق نخل بني النضير‪،‬‬
‫تخربن عامرا" [‪ ،]11‬ف َمن َّ‬
‫ظن أن‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫تقطعن شجرا‪ ،‬وال‬ ‫وثبت عن أبي بكر أنه قال‪ :‬ال‬
‫فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬إذ‬
‫صا ببني‬
‫ال يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله‪ ،‬أو رأى أن ذلك كان خا ًّ‬
‫النضير لغزوهم‪ ،‬قال بقول أبي بكر‪.‬‬
‫ير قول أحد وال فعله ح َّجة عليه‪ ،‬قال‬
‫و َمن اعتمد فعله عليه الصالة والسالم‪ ،‬ولم َ‬
‫بتحريق الشجر‪.‬‬
‫فرق مالك بين الحيوان والشجر؛ ألن قتل الحيوان ُمثلة‪ ،‬وقد نُهى عن المثلة‪،‬‬ ‫وإنما َّ‬
‫ت عنه عليه الصالة والسالم أنه قتل حيوانا) [‪].12‬‬ ‫ولم يأ ِّ‬
‫أبين هنا‪ :‬أن كالم الشافعي في (األم) ال يشمل ك َّل حاالت الحرب‪ ،‬وال‬
‫هذا وأودُّ أن ِّ‬
‫صن في‬‫ك َّل بالد الحربيين ومدنهم وقراهم‪ ،‬بل نراه مقيَّدا بحالة حصار العدو إذا ما تح َّ‬
‫بكل ما يجبرهم على‬
‫جبل أو حصن أو خندق ونحو ذلك‪ .‬فهو يجيز ضرب هؤالء ِّ‬
‫التسليم‪ ،‬وعدم إطالة الحرب‪ ،‬وما وراءها من معاناة للطرفين‪.‬‬
‫وال يُفهم من عبارة الشافعي‪ :‬جواز استخدام األشياء التي ذكرها في مطلق الحرب‪،‬‬
‫ومع أهل المدن والبلدان التي فيها األعداء‪ ،‬الذين ليسوا في حصن وال قلعة ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫•موقف الشوكاني‪:‬‬
‫وخالف اإلمام الشوكاني في استخدام النار ضدَّ العدو‪ ،‬مستدالًّ بما جاء في الحديث عن‬
‫أبي هريرة قال‪ :‬بعثنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في بعث‪ ،‬فقال‪" :‬إن وجدتم فالنا‬
‫وفالنا ‪ -‬لرجلين ‪ -‬فأحرقوهما بالنار"‪ .‬ثم قال حين أردنا الخروج‪" :‬إني كنتُ أمرتُكم‬
‫تحرقوا فالنا‪ ،‬وإن النار ال يعذب بها إال هللا‪ ،‬فإن وجدتموهما فاقتلوهما[ "‪].13‬‬
‫أن أ‬
‫والرجالن هما‪َ :‬هبَّار بن األسود‪ ،‬ورفيقه [‪ ،]14‬اللذان آذيا زينب بنت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أثناء هجرتها إلى المدينة‪ ،‬وكان زوج زينب أبو العاص بن‬
‫الربيع‪ ،‬لما أسره الصحابة في بدر‪ ،‬وكان مشركا‪ ،‬ثم أطلقه النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ :‬شرط عليه أن يجهز إليه ابنته‪ ،‬فجهزها‪ ،‬فتبعها هبَّار ورفيقه‪ ،‬فنخسا بعيرها‪،‬‬
‫فأسقطت (أي جنينها) ومرضت من ذلك [‪ .]15‬فأمر عليه الصالة والسالم أوال‬
‫بإحراقهما‪ ،‬ثم نهى عن ذلك‪ ،‬واكتفى بالقتل‪.‬‬
‫قال الشوكاني‪ :‬وظاهر النهي في حديث الباب‪ :‬التحريم‪ ،‬وهو نسخ األمر المتقدِّم‪،‬‬
‫سواء كان بوحي إليه أو باجتهاد ‪.‬وهو محمول على َمن قصد ذلك في شخص بعينه‬
‫[‪].16‬‬
‫•تعليق الشوكاني على كالم صاحب األزهار في فقه الزيدية‪:‬‬
‫غرق‬‫وقد علَّق اإلمام الشوكاني على قول صاحب (األزهار) في فقه الزيدية( ‪:‬ويُ ِّ‬
‫حرق ويخنُق (أي في الحرب) إن تعذَّر السيف‪ ،‬وخلَوا ع َّمن ال يُقتل‪ ،‬وإال فال‪ ،‬إال‬‫ويُ ِّ‬
‫للضرورة) اهـ‪.‬‬
‫فقال الشوكاني‪ :‬قد أمر هللا بقتل المشركين‪ ،‬ولم يعيِّن لنا الصفة التي يكون عليها‪ ،‬وال‬
‫بكل سبب للقتل‪ ،‬من رمي‪ ،‬أو‬‫أخذ علينا‪ :‬أال نفعل إال كذا دون كذا‪ ،‬فال مانع من قتلهم ِّ‬
‫طعن‪ ،‬أو تغريق‪ ،‬أو هدم‪ ،‬أو دفع من شاهق‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬ولم يرد المنع إال من‬
‫التحريق‪.‬‬
‫وبما ذكرناه تعرف أنه ال وجه لقول المصنف إن تعذر السيف ومن جملة ما ال يجوز‬
‫أن يكون القتل به المثلة لثبوت النهي عنها في األحاديث الكثيرة فيكون ذلك مخصصا‬
‫ألدلة قتل المشركين على كل حال وبكل سبب من أسباب القتل [‪ ]17‬اهـ‪.‬‬
‫•مناقشة الشوكاني فيما ذهب إليه من جواز اإلغراق واإلحراق والخنق في الحرب‪:‬‬
‫وأنا من المعجبين بالعالمة الشوكاني وتحقيقاته في علم الفقه واألصول‪ ،‬وترجيحاته‬
‫في االستنباط من أحاديث األحكام‪ ،‬كما في (نيل األوطار)‪ ،‬ومن أعظم كتبه التي‬
‫أعجبت بها‪ :‬كتابه (السيل الجرار) الذي أفرغ فيه ثمار نضجه‪ ،‬ومنتهى اجتهاده‪.‬‬
‫ومع هذا أخالفه فيما ذهب إليه هنا‪ ،‬وكل عالم يؤخذ منه ويرد عليه‪ ،‬وأرى أن ما قاله‬
‫صاحب األزهار هو األقوم قيال‪ ،‬واألهدى سبيال‪ .‬فقد قيد جواز اإلغراق واإلحراق‬
‫والخنق بثالثة قيود‪:‬‬
‫‪1.‬أن يكون القتل بالسيف (ومثله القتل بالرصاص) متعذرا‪.‬‬
‫‪2.‬أال يكون في القوم من ال يحل قتله‪.‬‬
‫‪3.‬أال يكون هناك ضرورة الستخدام هذه األنواع من القتل‪.‬‬
‫وقد اعترض الشوكاني على نفسه‪ ،‬بحديث‪" :‬إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[ "‪ ،]18‬وأجاب‬
‫بأن المراد باإلحسان في الحديث‪ :‬ترك التعذيب‪ ،‬وتعجيل ما يحصل به الموت‪ ،‬وليس‬
‫ذلك مختصا بقتل السيف اهـ‪.‬‬
‫وهنا أخالف اإلمام الشوكاني في اعتباره التغريق والتحريق والرمي من شاهق‪،‬‬
‫(ومثل ذلك‪ :‬إلقاء الحيات والعقارب كما قال الشافعي)‪ ،‬ونحوها‪ :‬من (إحسان القتلة)‬
‫التي أمر بها الحديث‪ ،‬بل هما من أسوأ أنواع الموت‪ ،‬ولذا تحرم القوانين الدولية تنفيذ‬
‫اإلعدام فيمن يستحقه بأي وسيلة من هذه الوسائل‪ .‬وهو ما يوجبه معظم فقهاء‬
‫المسلمين‪ :‬أال قصاص إال بالسيف‪ .‬ومثله ما كان أرفق منه‪.‬‬
‫ثم هو لم يرد على ما ذكره في (األزهار) من خلو األعداء ممن يجوز قتله‪ ،‬فكيف‬
‫نسلط عليهم من األدوات ما يقتلهم‬
‫يمنع الشارع قتلهم‪ ،‬وينكر ذلك أشد اإلنكار‪ ،‬ثم ِّ‬
‫بالجملة؟‬
‫والذي ينبغي لنا ‪ -‬نحن المسلمين ‪ -‬اليوم أن نتبني من اآلراء ما ما يعكس صورة‬
‫اإلسالم في دعوته إلى السلم‪ ،‬ونبذ العنف والقسوة‪ ،‬واالقتصار في استخدام القوة على‬
‫موضع الضرورة‪.‬‬
‫•مناقشة الدكتور محمد خير هيكل في جواز قتال العدو بكل سالح‪:‬‬
‫ومما أعجب له أن يتبنَّى بعض الباحثين المعاصرين [‪ :]19‬أشدَّ هذه اآلراء مبالغة في‬
‫القسوة التي لم تُع َهد عند المسلمين‪ .‬وكان مما قاله هنا في كتابه‪:‬‬
‫بكل سالح‪ ،‬ما دام ذلك في حالة الحرب قبل‬ ‫(األصل هو جواز قتال العدو‪ ،‬وقتله ِّ‬
‫استسالمه‪ ،‬أو إلقاء القبض عليه‪ .‬وذلك ألن النصوص الشرعية لم تحدِّد آلة أو وسيلة‬
‫{وقَاتِّلُوا فِّي‬
‫حربية معينة‪ ،‬الستخدامها ضدَّ العدو فيما نحن فيه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫{وا أقتُلُو ُه أم َحي ُ‬
‫أث ث َ ِّق أفت ُ ُمو ُه أم} [البقرة‪ .]191:‬ومن مقتضى‬ ‫سبِّي ِّل َّ‬
‫َّللاِّ ‪[ }...‬البقرة‪َ ،]190:‬‬ ‫َ‬
‫كل األسلحة والوسائل الحربية‬ ‫هذا اإلطالق في القتال والقتل‪ :‬أن يد َّل على إباحة ِّ‬
‫خاص بتحريم وسيلة معينة منها‪ ،‬كما أن من مقتضى‬ ‫ٌّ‬ ‫المؤدية إليهما‪ ،‬ما لم يرد دليل‬
‫هذا اإلطالق في النصوص الشرعية‪ :‬أنه يجوز استخدام كل األسلحة والوسائل‬
‫الحربية بدون أي ِّ قيد‪ .‬أعني‪ :‬ولو لم يستعمل العدو مثل تلك األسلحة المستخدمة في‬
‫الحرب معه‪ ،‬حتى ولو كان من الممكن التغلُّب عليه بأسلحة أو وسائل أقل خطرا من‬
‫تلك التي تُستع َمل ضدَّه) انتهى‪.‬‬
‫ونقل صاحب هذا الكتاب في هذا في هذا الصدد عن الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس‬
‫حزب التحرير‪ :‬ما يؤيِّد دعواه‪ ،‬وذلك قوله‪ :‬إن األسلحة النووية يجوز للمسلمين أن‬
‫يستعملوها في حربهم مع العدو‪ ،‬ولو كان ذلك قبل أن يستعملها العدو معهم‪ ،‬ألن‬
‫الدول كلَّها تستبيح استعمال األسلحة النووية في الحرب‪ ،‬فيجوز استعمالها‪ .‬مع أن‬
‫األسلحة النووية يحرم استعمالها (أي دوليا من الناحية النظرية)‪ ،‬ألنها تُهلك البشر‪،‬‬
‫والجهاد إلحياء البشر باإلسالم‪ ،‬ال إلفناء اإلنسانية [‪ ]20‬انتهى‪.‬‬
‫•تقرير هذا الحكم ينافي مبادئ اإلسالم وقيمه في القتال‪:‬‬
‫وأنا أتوقَّف طويال عند هذا الكالم‪ ،‬وأرى أنه ال ِّ‬
‫يعبر عن ُروح اإلسالم‪ ،‬وال أخالقياته‬
‫التي تميَّز بها سلوكه في السلم والحرب‪ ،‬وهو يضع المسلمين في موضع االتهام‬
‫بالعنف‪ ،‬في حين يتنادى العالم بالسالم‪ .‬وهو ينافي قِّيَما ومبادئ وتوجيهات أساسية‬
‫قررها اإلسالم في معامالته مع الناس‪ ،‬مسلمين أو غير مسلمين‪ ،‬مسالمين أو‬ ‫َّ‬
‫محاربين‪ .‬من هذه المبادئ وال ِّقيَم‪:‬‬
‫أ‪ -‬أنه ال يُقتَل في الحرب إال َمن يقاتل‪ ،‬ولهذا نهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ‬
‫والحراث في المزارع‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الهرمين‪ ،‬والرهبان في الصوامع‪،‬‬
‫تفرق بين صغير وكبير‪ ،‬أو بين رجل‬
‫فكيف نجيز استخدام أسلحة تدميرية‪ ،‬ال ِّ‬
‫وامرأة‪ ،‬أو مشارك في القتال وغير مشارك فيه؟‬
‫ب‪ -‬أن األصل في اإلسالم‪ :‬أنه يدعو إلى اإلصالح والعمران‪ ،‬وينهى عن اإلفساد‬
‫الح َها}‬ ‫ص ِّ‬ ‫{وال ت ُ أف ِّسدُوا فِّي أاأل َ أر ِّ‬
‫ض َب أعدَ ِّإ أ‬ ‫والتخريب‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫وكرر القرآن على لسان‬ ‫[األعراف‪ ،]56:‬وذ َّم الذين يسعَون في األرض فسادا‪َّ ،‬‬
‫ض ُم أف ِّسدِّينَ } [البقرة‪ ،60:‬األعراف‪ ،74:‬هود‪،85:‬‬ ‫{وال ت َ أعث َ أوا فِّي أاأل َ أر ِّ‬
‫األنبياء‪َ :‬‬
‫س َعى فِّي أاأل َ أر ِّ‬
‫ض ِّليُ أف ِّسدَ فِّي َها‬ ‫الشعراء‪ ،183:‬العنكبوت‪ ،]36:‬وقال تعالى{ ‪َ :‬و ِّإذَا ت َ َولَّى َ‬
‫سادَ} [البقرة‪].205:‬‬ ‫َّللاُ ال يُ ِّحبُّ أالفَ َ‬
‫ث َوالنَّ أس َل َو َّ‬ ‫َويُ أه ِّل َك أال َح أر َ‬
‫وفي ضوء هذه النصوص يجب أن يُمنع ك ُّل ما هو من قبيل اإلفساد في األرض‪.‬‬
‫جـ‪ -‬روى مالك في (الموطأ)‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ :‬أن أبا بكر رضي هللا عنه بعث‬
‫جيوشا إلى الشام‪ ،‬فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان‪ ،‬وكان يزيد أميرا ربع من تلك‬
‫األرباع‪ ،‬فقال‪ :‬إني موصيك بعشر خالل‪ :‬ال تقتل امرأة‪ ،‬وال صبيًّا‪ ،‬وال كبيرا هرما‪،‬‬
‫َّ‬
‫تعقرن‬ ‫َّ‬
‫تعقرن شاة إال لمأكلة‪ ،‬وال‬ ‫وال تقطع شجرا مثمرا‪ ،‬وال تخرب عامرا‪ ،‬وال‬
‫َّ‬
‫تغلن‪ ،‬وال تجبن[ ‪].21‬‬ ‫نخال وال تحرقه‪ ،‬وال‬
‫وأبو بكر أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أُمرنا أن نتبع سنَّتهم ]‪ ،[22‬وهو ينهى‬
‫هنا بصراحة عن قطع الشجر المثمر‪ ،‬وعن تخريب العامر‪ ،‬وعقر الشاة والبعير‬
‫(ذبحها) إال لحاجة األكل‪ ،‬وعن عقر النخل (أي اقتالعه) أو تحريقه ‪ ...‬ومنه تتضح‬
‫األخالقية اإلسالمية‪.‬‬
‫وأما ما حدث في غزوة بني النضير‪ ،‬من تحريق نخيلهم [‪ ،]23‬فهو رخصة من هللا‬
‫لرسوله أذن له بها‪ ،‬فال يقاس غيرها عليها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ما قَ َ‬
‫ط أعت ُ أم ِّم أن ِّلينَ ٍة ‪ -‬أي‬
‫ي أالفَا ِّس ِّقينَ } [الحشر‪].5:‬‬ ‫نخلة ‪ -‬أ َ أو ت َ َر أكت ُ ُموهَا قَائِّ َمةً َعلَى أ ُ ُ‬
‫صو ِّل َها فَ ِّبإ ِّ أذ ِّن َّ‬
‫َّللاِّ َو ِّليُ أخ ِّز َ‬
‫ولو كان سيدنا أبو بكر يعرف أن تحريق النخيل وقطع األشجار‪ :‬حكم عام وأمر دائم‪،‬‬
‫ما كان له أن يخالف رسول هللا‪ ،‬وينهى عن قطع النخيل وتخريب العامر‪ .‬وقد كان‬
‫أحرص الناس على اتباع هدي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫كل شيء‪ ،‬فإذا قتلتم‬‫د‪ -‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن هللا كتب اإلحسان على ِّ‬
‫فأحسنوا ال ِّقتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة" [‪ .]24‬ونحن هنا لم نراعِّ فريضة‬
‫(اإلحسان) ولم نحسن القتل‪ ،‬كما أمر النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بل أجزنا أن نحرقهم‬
‫نسلط عليهم الحيَّات والعقارب على الناس في‬ ‫بالنار‪ ،‬وأن نغرقهم بالمياه‪ ،‬وأن ِّ‬
‫بيوتهم‪ ،‬تلدغ وتلسع وتميت َمن تجده من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى‪ ،‬م َّمن‬
‫ال يستطيعون حيلة وال يهتدون سبيال‪.‬‬
‫َّ‬
‫المكتظة بالسكان بالقنابل الذرية‪ ،‬وباألسلحة الكيماوية‬ ‫بل أجزنا أن نضرب المدن‬
‫وتدمر الحياة في دقائق‬
‫ِّ‬ ‫والبيولوجية‪ ،‬التي تقتل الماليين من اإلنسان والحيوان‪،‬‬
‫معدودات‪.‬‬
‫هـ‪ -‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬نهى عن التحريق بالنار‪ ،‬أو التعذيب بالنار‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"ال يعذِّب بالنار إال ربُّ النار" أو "إال هللا" [‪ ]25‬ج َّل شأنه‪ .‬وبهذا قيَّد اإلمام‬
‫الشوكاني األسلحة والوسائل التي تُستخدَم في الحرب بأال يكون منها‪ :‬النار‪.‬‬
‫ظني أن الحكمة في ذلك‪ :‬أن القتل بالنار فيه شدَّة وعنف‪ ،‬وقد يترك اإلنسان بعده‬ ‫وفي ِّ‬
‫سمح باستخدامها بإطالق ‪ -‬من شأنها أن تنتشر وتتَّسع‪ ،‬وفي‬ ‫فحمة‪ ،‬كما أن النار ‪ -‬إذا ُ‬
‫وشر مستطير‪.‬‬
‫هذه الحالة تأكل األخضر واليابس‪ ،‬وتؤدِّي إلى هالك كبير‪ٍ ،‬‬
‫ى" (النجم‪ ،)38:‬وأن " ُك ُّل‬‫"ال ت ً ِّز ُر َو ِّاز َرة ٌ ِّو أز َر أ ُ أخ َر َ‬
‫و‪ -‬أن األصل في اإلسالم‪ :‬أنه َ‬
‫ت َر ِّهينَةٌ"(المدثر ‪ .)38:‬فال يجوز قتل الشعوب بسبب ح َّكامها الظلمة‬ ‫نَ أف ٍس بِّ َما َ َك َ‬
‫سبَ أ‬
‫والمستبدِّين‪ ،‬وال يجوز االنتقام من غير المقاتلين بسبب المقاتلين‪ .‬وهذه األسلحة‬
‫التدميرية المعاصرة‪ ،‬تقتل البريء والمسيئ‪ ،‬بل تقتل اإلنسان والحيوان والنبات‪،‬‬
‫وتقضي على المدن العامرة في لحظات‪.‬‬
‫ز‪ -‬أن اإلسالم دين الرحمة ال القسوة‪ ،‬والرفق ال العنف‪ ،‬وقد قال هللا تعالى مخاطبا‬
‫َاك ِّإ َّال َر أح َمةً ِّل أل َعالَ ِّمينَ } [األنبياء‪ ،]107:‬وقال الرسول الكريم‬ ‫س ألن َ‬ ‫{و َما أ َ أر َ‬
‫لرسوله‪َ :‬‬
‫عن نفسه‪" :‬إنما أنا رحمة مهداة[ "‪ ،]26‬وقال أيضا‪" :‬الراحمون يرحمهم الرحمن‪،‬‬
‫ارحموا من في األرض يرحمكم من في السماء" [‪ ،]27‬وذ َّم بني إسرائيل بقوله‪{ :‬ث ُ َّم‬
‫شدُّ قَ أس َوةً} [البقرة‪ ،]74:‬وقوله‪{ :‬فَ ِّب َما‬ ‫ي َك أال ِّح َج َ‬
‫ارةِّ أ َ أو أ َ َ‬ ‫ت قُلُوبُ ُك أم ِّمن َب أع ِّد ذَ ِّل َك فَ ِّه َ‬
‫س أ‬ ‫قَ َ‬
‫ض ِّه أم ِّميثَاقَ ُه أم لَعَنَّا ُه أم َو َجعَ ألنَا قُلُوبَ ُه أم قَا ِّسيَةً} [المائدة‪ ،]13:‬وال يليق بدين شعاره‬ ‫نَ أق ِّ‬
‫الرحمة‪ :‬أن يجيز أعماال طابعها القسوة والعنف‪ ،‬بغير ضرورة إليها‪.‬‬
‫حـ‪ -‬أن األصل في الدماء الحرمة‪ ،‬واألصل في النفوس هو العصمة‪ ،‬وقد ضيَّق‬
‫يجز منها‪ :‬إال ما تؤدِّي إليه الضرورة‪،‬‬
‫بكل الطرق‪ ،‬ولم ِّ‬
‫اإلسالم في الدماء ِّ‬
‫والضرورة تقدَّر بقدرها‪.‬‬
‫ط‪ -‬أن القانون األخالقي في اإلسالم يتميَّز بشموله وتكامله‪ ،‬فهو يشمل السلم‬
‫والحرب‪ ،‬والسياسة واالقتصاد‪ ،‬والغايات والوسائل‪ ،‬وهو ال يقبل المبدأ المعروف‬
‫تبرر الوسيلة‪ ،‬بل ال بد من الغاية الشريفة‪ ،‬والوسيلة‬ ‫(ميكافللي) وهو‪ :‬أن الغاية ِّ‬
‫ِّ‬ ‫بمبدأ‬
‫طيبا‪ ،‬ولهذا ال يقبل إعالء كلمة هللا باستعمال أسلحة‬
‫طيب ال يقبل إال ِّ‬‫النظيفة‪ ،‬إن هللا ِّ‬
‫التدمير الشامل التي تقتل الحياة واألحياء‪ ،‬فال يُقبل ما يقوله بعض الفقهاء من إلقاء‬
‫الحيَّات والعقارب على األعداء‪ ،‬أو تسميم مياههم أو أغذيتهم‪ ،‬فهذا ينافي أخالق‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫ي‪ -‬أن قياس األسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية ‪ -‬مما يس َّمى أسلحة الدمار‬
‫الشامل ‪ -‬على الرمي بالمنجنيق‪ :‬هو قياس مع الفارق الكبير‪ ،‬فال يجوز أن ننسب إلى‬
‫اإلمام الشافعي وال أي ِّ إمام آخر‪ :‬أنه أجاز استخدام هذه األسلحة‪ ،‬فهذا ما لم يخطر‬
‫ببال أحد منهم‪ :‬أن يجيز إبادة مدينة مثل هيروشيما أو ناجازاكي إبادة كاملة في‬
‫لحظات!‬
‫كل أنواع األسلحة ضدَّ العدو‪ ،‬إنما‬
‫سع في استخدام ِّ‬
‫ك‪ -‬أن اإلمام الشافعي الذي تو َّ‬
‫أجازها في حالة الحصار لحصن أو قلعة أو خندق ونحو ذلك‪ ،‬وغرضه إجبارهم على‬
‫يجز قتل حيواناتهم‪ ،‬بل كل ما ال ُروح فيه من أموالهم‪.‬‬‫فك الحصار‪ .‬ومع هذا لم ِّ‬‫ِّ‬
‫•مشروعية استخدامها للضرورة‪:‬‬
‫ونستطيع أن نستثني من تحريم استخدام هذه األسلحة مع األعداء‪ :‬حالة الضرورة‪،‬‬
‫فإن للضرورات أحكامها‪ ،‬ومن القواعد المتَّفق عليها بين فقهاء األمة ِّ‬
‫كلها‪ :‬أن‬
‫الضرورات تبيح المحظورات‪ .‬وهذا من واقعية الشريعة[ ‪].28‬‬
‫وهنا ال بد من قيود تجب رعايتها‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن تتحقَّق الضرورة بالفعل‪ ،‬بأن يصبح المسلمون في خطر يهدِّد كيانهم‬
‫ووجودهم‪ ،‬وال سيما إذا كان العدو يملك هذه األسلحة ويهدِّد المسلمين باستعمالها‬
‫ضدَّهم‪ .‬وال يوجد لديه دين يردعه‪ ،‬وال خلق يمنعه‪ .‬فإذا بدت بوادر ذلك‪ :‬أمكن‬
‫للمسلمين أن يأخذوا بزمام المبادرة‪ ،‬ويبدؤوا بالضربة القاصمة دفاعا عن أنفسهم‪.‬‬
‫ويتحتَّم هنا‪ :‬أن يكون ذلك في جهاد الدفع ال جهاد الطلب‪ ،‬وجهاد الدفع هو جهاد‬
‫المقاومة لتحرير األرض‪ ،‬وطرد العدو الغازي من ربوعها‪ .‬فهذا الجهاد هو الذي‬
‫تتحقَّق فيه الضرورة‪ .‬أما جهاد الطلب‪ :‬أن نتَّبعه نحن في عقر داره‪ ،‬ونحن آمنون في‬
‫دارنا‪ ،‬فال حاجة لنا إلى ضربه بهذه األسلحة التدميرية‪.‬‬
‫سع فيها‪ ،‬ولكن يجب النظر إليها دائما‪:‬‬
‫الثاني‪ :‬أال نتمادى في رخصة الضرورة ونتو َّ‬
‫أنها استثناء‪ ،‬خفَّف الشارع بها عن المسلمين‪ ،‬دفعا للحرج عنهم‪ ،‬وتحقيقا لمبدأ اليسر‪:‬‬
‫َّللاُ ِّب ُك ُم أاليُ أس َر َوال يُ ِّريدُ ِّب ُك ُم أالعُ أس َر} [البقرة‪].185:‬‬
‫{يُ ِّريدُ َّ‬
‫ولهذا وجدنا العلماء قيَّدوا قاعدة‪( :‬الضرورات تبيح المحظورات) بقاعدة أخرى‬
‫وتكملها‪ ،‬وهي قاعدة‪( :‬ما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تضبطها‬
‫فإذا كانت الضرورة تحتاج إلى اإلباحة في بلد‪ ،‬فال يجوز أن تتعدَّى إلى غيره‪ ،‬وإذا‬
‫جازت أن تطبَّق في وقت معين‪ ،‬فال يجوز أن تطبَّق وقت آخر‪ ،‬زائد على الوقت‬
‫المطلوب‪.‬‬
‫وبمجرد إنهاء المهمة المنوطة بها‪ ،‬تعود األمور إلى مجراها الطبيعي‪ ،‬ويحظر‬
‫َّ‬
‫استعمال هذه األسلحة‪.‬‬
‫وطبعا ال يمكن للمسلمين أن يستخدموا هذه األسلحة ‪ -‬في حالة الضرورة كما ذكرنا ‪-‬‬
‫إال أن يكونوا مالكين لها‪ .‬وهو ما سبق لنا القول بجوازه‪ :‬أن نملكها وإن لم نستعملها‪.‬‬
‫انتهى من موسوعة "فقه الجهاد" لإلمام يوسف القرضاوي‬
‫‪---------‬‬
‫هوامش‪:‬‬
‫]‪[1‬انظر‪ :‬ما ذكرناه من قبل في الباب الرابع‪ ،‬الفصل الخامس‪( :‬الجهاد بين شريعة‬
‫القرآن وشريعة التوراة)‪.‬‬
‫]‪[2‬انظر‪ :‬منهاج الطالبين بتحقيق د‪ .‬أحمد عبد العزيز الحداد (‪ ،)267/3‬طبعة دار‬
‫البشائر اإلسالمية‪ .‬ومعنى‪ :‬تبيتهم في غفلة‪ :‬اإلغارة عليهم ليال وهم غافلون‪ .‬استدالال‬
‫بإغارة النبي على بني المصطلق دون إعالم أو إنذار لهم ‪.‬ولكن ثبت أنهم كانوا‬
‫يجمعون الجموع للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬واستثنى بعضهم من لم تبلغه الدعوة‪،‬‬
‫فال يجوز قتالهم حتى يد َعوا إلى اإلسالم‪ .‬قال في (مغني المحتاج)‪ :‬وال حاجة إلى هذا‬
‫االستثناء؛ ألن هذا شرط ألصل القتال ‪(6/66).‬‬
‫]‪[3‬متفق عليه‪ :‬رواه البخاري في المغازي (‪ ،)4325‬ومسلم في الجهاد (‪،)4596‬‬
‫كما رواه أحمد في المسند (‪ ،)4588‬عن ابن عمر‪.‬‬
‫]‪[4‬رواه البيهقي في الكبرى كتاب السير (‪ ،)72/9‬عن أبي عبيدة بن الجراح‪.‬‬
‫]‪[5‬مغني المحتاج( ‪).66/6‬‬
‫الر أجلَة وعند ورقه‬‫محركةً‪ :‬نبات ت َ أعلَق ثمرته بصوف الغنم ورقه كورق ِّ‬ ‫َّ‬ ‫سكُ‬
‫]‪[6‬ال َح َ‬
‫ش َعب ‪ ...‬ويُعمل على مثال ش أَوكه أداة للحرب من حديد أو‬ ‫ص ألب ذو ثالث ُ‬ ‫شوك ُملَ َّزز ُ‬
‫قصب فيُ ألقَى حول العسكر ويُس َّمى باسمه ‪.‬القاموس المحيط صـ‪.1209‬‬
‫ش ِّبي ُهه‪ .‬تاج العروس صـ‪.2116‬‬
‫ق َ‬‫صغر من ال َم أن َجنِّي ِّ‬
‫ُ‬ ‫]‪[7‬ال َع َّرادَة ُ بالتشديد‪ :‬أشي ٌء أ َ‬
‫]‪[8‬روى البيهقي في الكبرى كتاب السير (‪ ،)84/9‬عن عروة بن الزبير قال‪ :‬نزل‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم باألكمة عند حصن الطائف‪ ،‬فحاصرهم بضع عشرة‬
‫ليلة‪ ،‬وقاتلته ثقيف بالنبل والحجارة‪ ،‬وهم في حصن الطائف‪ ،‬وكثرت القتلى في‬
‫المسلمين وفي ثقيف‪ ،‬وقطع المسلمون شيئا من كروم ثقيف ليغيظوهم بذلك‪ ،‬قال‬
‫عروة‪ :‬وأمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المسلمين حين حاصروا ثقيف‪ :‬أن يقطع‬
‫كل رجل من المسلمين خمس نخالت أو حبالت من كرومهم‪ .‬فأتاه عمر بن الخطاب‬
‫رضي هللا عنه فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إنها عفا لم تؤكل ثمارها‪ .‬فأمرهم أن يقطعوا ما‬
‫أكلت ثمرته األول فاألول‪.‬‬
‫]‪[9‬األم للشافعي صـ‪ 830‬اعتنى به حسان عبد المنان‪ ،‬طبعة بيت األفكار الدولية‪.‬‬
‫]‪[10‬متفق عليه عن بن عمر وسيأتي تخريجه‪.‬‬
‫]‪[11‬سيأتي تخريجه‪.‬‬
‫]‪[12‬بداية المجتهد البن رشد( ‪).386/1‬‬
‫]‪[13‬رواه البخاري في الجهاد (‪ ،)2954‬وأحمد في المسند (‪ ،)8068‬وأبو داود في‬
‫الجهاد (‪ ،)2674‬والترمذي في السير (‪ ،)1571‬عن أبي هريرة‪.‬‬
‫]‪[14‬قال ابن حجر‪ :‬هبار بن األسود‪ ،‬ونافع بن عمرو‪ .‬أخرجه ابن بشكوال‪ ،‬ووقع‬
‫في السيرة البن هشام هبار‪ ،‬وخالد بن عبد قيس‪ ،‬وكذا هو في مسند البزار‪ ،‬وفي‬
‫كتاب الصحابة البن السكن هبار ونافع بن قيس‪ ،‬والصواب نافع بن عبد قيس بن لقيط‬
‫حرره البالذري‪ .‬انظر‪ :‬هدي الساري مقدمة فتح‬ ‫بن عامر الفهري وهو والد عقبة‪َّ ،‬‬
‫الباري البن حجر صـ‪ 484‬طبعة دار أبي حيان‪.‬‬
‫]‪[15‬رواه الطبراني في الكبير (‪ ،)431/22‬والحاكم في الطالق (‪،)219/2‬‬
‫وص َّححه على شرط الشيخين‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ ،‬وانظر‪ :‬نيل األوطار (‪ )75/8‬طبعة‬
‫دار الجيل‪.‬‬
‫]‪[16‬المصدر السابق( ‪).76/8‬‬
‫]‪[17‬السيل الجرار المتدفق على حدائق األزهار( ‪).535 ،534/4‬‬
‫]‪[18‬رواه مسلم في الصيد والذبائح (‪ )1955‬وأحمد في المسند (‪ ،)17113‬وأبو‬
‫داود في الضحايا (‪ ،)2815‬والترمذي في الديات (‪ ،)1409‬والنسائي في الضحايا‬
‫)‪ ،(4405‬وابن ماجه في الذبائح (‪ ،)3170‬عن شداد بن أوس‪.‬‬
‫]‪[19‬هو د‪ .‬محمد خير هيكل في كتابه (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية) مع أنه‬
‫بذل في كتابه جهدا مشكورا جـ‪ 2‬صـ‪ 347‬وما بعدها‪.‬‬
‫]‪([20‬الشخصية اإلسالمية) للشيخ تقي الدين النبهاني (‪ )168/3‬نقال عن (الجهاد‬
‫والقتال) المذكور( ‪).354/2‬‬
‫]‪[21‬رواه مالك (‪ ،)965‬وعبد الرزاق (‪ ،)199/5‬كالهما في الجهاد‪ ،‬والبيهقي في‬
‫الكبرى كتاب السير (‪ ،)89/9‬عن أبي بكر‪.‬‬
‫]‪[22‬إشارة إلى حديث العرباض بن سارية‪ :‬صلى بنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫ووجلت منها‬
‫ذات يوم‪ ،‬ثم أقبل علينا‪ ،‬فوعظنا موعظة بليغة‪ ،‬ذرفت منها العيون‪ِّ ،‬‬
‫القلوب‪ .‬فقال قائل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬كأن هذه موعظة مودع‪ ،‬فماذا تعهد إلينا؟ فقال‬
‫"أوصيكم بتقوى هللا‪ ،‬والسمع والطاعة‪ ،‬وإن عبدا حبشيا‪ ،‬فإنه َمن يعش منكم بعدي‬
‫فسيرى اختالفا كثيرا‪ ،‬فعليكم بسنتي‪ ،‬وسنة الخلفاء المهديين الراشدين‪ ،‬تمسكوا بها‪،‬‬
‫وعضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات األمور‪ ،‬فإن ك َّل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة‬
‫مخرجوه‪ :‬حديث صحيح رجاله‬ ‫ضاللة"‪ .‬رواه أحمد في المسند )‪ ،(17144‬وقال ِّ‬
‫ثقات‪ ،‬وأبو داود في السنة( ‪ ،)4607‬والترمذي في العلم (‪ ،)2676‬وقال‪ :‬حسن‬
‫صحيح‪ ،‬وابن ماجه في المقدمة( ‪).43‬‬
‫]‪[23‬عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال‪ :‬حرق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نخل‬
‫ط أعت ُ أم ِّم أن ِّلينَ ٍة أ َ أو ت َ َر أكت ُ ُموهَا قَائِّ َمةً َعلَى‬ ‫بني النضير وقطع‪ ،‬وهي البويرة‪ ،‬فنزلت‪َ { :‬ما قَ َ‬
‫َّللاِّ }[الحشر‪ .]5:‬متفق عليه‪ :‬رواه البخاري في المغازي (‪،)4031‬‬ ‫أُ ُ‬
‫صو ِّل َها فَبِّإ ِّ أذ ِّن َّ‬
‫ومسلم في الجهاد )‪ ،(1746‬كما رواه أحمد في المسند (‪ ،)6054‬وأبو داود في‬
‫الجهاد( ‪ ،)2615‬والترمذي في السير (‪ ،)1552‬وابن ماجه في الجهاد( ‪).2844‬‬
‫]‪[24‬رواه مسلم عن شداد بن أوس وقد سبق تخريجه‪.‬‬
‫مخرجوه‪ :‬حديث صحيح وهذا إسناد‬ ‫]‪[25‬رواه أحمد في المسند (‪ ،)16034‬وقال ِّ‬
‫حسن‪ ،‬وأبو داود في الجهاد (‪ ،)2673‬وعبد الرزاق في الجهاد (‪ ،)9418‬وسعيد بن‬
‫منصور في كراهية أن يعذب بالنار (‪ ،)243/2‬وأبو يعلى في المسند( ‪،)105/2‬‬
‫والطبراني في الكبير (‪ ،)158/3‬والبيهقي في الكبرى كتاب السير (‪ ،)72/9‬عن‬
‫حمزة بن عمرو األسلمي‪ ،‬وص َّححه األلباني في صحيح أبي داود( ‪).2327‬‬
‫]‪[26‬رواه الحاكم في اإليمان (‪ ،)91/1‬وص َّححه على شرطهما‪ ،‬ووافقه الذهبي‪،‬‬
‫والطبراني في األوسط (‪ ،)223/3‬والبيهقي في الشعب باب حب النبي (‪،)164/2‬‬
‫عن أبي هريرة‪ ،‬وص َّححه األلباني في مشكاة المصابيح( ‪).5800‬‬
‫مخرجوه‪ :‬صحيح لغيره‪ ،‬وأبو داود في‬ ‫]‪[27‬رواه أحمد في المسند (‪ ،)6494‬وقال ِّ‬
‫األدب( ‪ ،)4941‬والترمذي في البر والصلة (‪ ،)1924‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬عن عبد‬
‫هللا بن عمرو‪.‬‬
‫]‪[28‬انظر‪ :‬خصيصة (الواقعية) من كتابنا (مدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية)‬
‫صـ‪.119‬‬
‫‪https://www.facebook.com/qaradawy.fg/photos/pb.7730371327‬‬
‫‪85401.-‬‬
‫‪2207520000.1425885268./793453567410424/?type=1&theater‬‬
‫‪— with Essam Ahmad,‬محمد السيالوي أبو حمزة ‪, Roshdy Abou‬‬
‫‪Samra and 46 others.‬‬

You might also like