You are on page 1of 5

‫حول حديث الذباب‬

‫السؤال‪:‬‬
‫ما قولكم في حديث الذباب أعني الحديث الشريف النبوي الذي يقول‪" :‬‬
‫إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه‪ ،‬فإن في أحد جناحيه داء وفي‬
‫الخآر شفاء"‪ .‬فهل هذا الحديث صحيح متفق على صحته؟ وما حكم من‬
‫أنكره أو تشكك في صحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل‬
‫يخرجه هذا من الدين؟ فإن بعض الطأباء في عصرنا أثاروا غبارا حول صحة‬
‫هذا الحديث إلى حد السخرية بمن صدق بمضمونه وذلك لما هو معروف‬
‫في ‪-‬علم الطب الوقائي والعلجي‪ -‬من أن الذباب أحد الدوات الناشرة‬
‫للمراض‪ ،‬لما يحمل من الجراثيم الضارة‪ ،‬ولم يعرف أن أحدا استخدمه‬
‫للعلجا فكيف يقول الحديث‪ :‬إن في أحد جناحيه شفاء؟ نرجو اليضاح‪ .‬فقد‬
‫كثرت المجادلت حول هذا الحديث‪ ،‬حتى اتخذه بعض من ل دين لهم‪ ،‬تكئة‬
‫للتنديد بالدين‪ ،‬والستخفاف بالمتدينين‪.‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫الحمد لله‪ ،‬والصلة والسلما على رسول الله‪ ،‬وعلى آله وصحبه‪ ،‬ومن اتبعه‬
‫إلى يوما الدين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫أما الجواب عن سؤال صاحب السؤال‪ ،‬وما تضمنه من استفسارات‬
‫فألخصه في النقاط التالية‪:‬‬
‫أول‪ :‬إن الحديث صحيح رواه الماما البخاري في جامعه الصحيح‪ ،‬ولكنه ل‬
‫يعد من "المتفق عليه" في اصطلح علماء الحديث‪ ،‬لن المتفق عليه‬
‫عندهم هو ما اتفق على روايته الشيخان ‪-‬البخاري ومسلم‪ -‬في صحيحهما‪.‬‬
‫وهذا الحديث مما انفرد به البخاري‪ ،‬ولم يخرجه مسلم‪ ،‬رحمهما الله‪.‬‬
‫ومعلوما أن أحاديث صحيح البخاري متلقاة بالقبول لدى جماهير المة في‬
‫مختلف العصور‪ ،‬وخآصوصا فيما سلم فيها من النقد والعتراض من جهابذة‬
‫علماء المة من المحدثين والفقهاء الراسخين‪.‬‬
‫ول أعلم أحدا من العلماء السابقين أثار إشكال حول هذا الحديث أو تحدث‬
‫عن علة قادحة في سنده أو متنه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إن هذا الحديث ل يتعلق ببيان أصل من أصول الدين‪ ،‬من اللهيات أو‬
‫النبوات أو السمعيات‪ ،‬ول ببيان فريضة من فرائضه الظاهرة أو الباطأنة‪،‬‬
‫الشخصية أو الجتماعية… ول ببيان أمر من أمور الحلل والحراما في حياة‬
‫الفرد أو الجماعة‪ ،‬ول ببيان تشريع من تشريعات السلما المنظمة لحياة‬
‫السرة والمجتمع والدولة والعلقات الدولية‪ ،‬ول ببيان خآلق من أخآلق‬
‫السلما التي بعث الرسول ليتمم مكارمها‪.‬‬
‫ولو أن مسلما عاش عمره دون أن يقرأ هذا الحديث أو يسمع به‪ ،‬لم يكن‬
‫ذلك خآدشا في دينه‪ ،‬ول أثر ذلك في عقيدته أو عبادته‪ ،‬أو سلوكه العاما‪.‬‬
‫فلو سلمنا ‪-‬جدل‪ -‬بكل ما أثاره المتشككون حول الحديث‪ ،‬وحذفناه من‬
‫صحيح البخاري أصل‪ ،‬ما ضر ذلك دين الله شيئا‪.‬‬
‫فل مجال لولئك الذين يتخذون من الشبهات المثارة حول الحديث‪ ،‬سبيل‬
‫للطعن في الدين كله‪ ،‬فالدين ‪-‬أعني السلما‪ -‬أرسخ قدما‪ ،‬وأثبت أصول‪،‬‬
‫وأعمق جذورا من أن ينال منه بسبب هذه الشبهات الواهية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬إن هذا الحديث ‪-‬وإن كان صحيحا لدى علماء المة‪ -‬هو من أحاديث‬
‫الحاد‪ ،‬وليس من المتواتر الذي يفيد اليقين‪.‬‬
‫وأحاديث الحاد إذا رواها الشيخان أو أحدهما قد اخآتلف فيها العلماء‪ :‬هل‬
‫تفيد العلم أي اليقين أما تفيد مجرد الظن الراجح؟ أما يفيد بعضها العلم‬
‫بشروط خآاصة؟‬
‫وهذا الخلف يكفي للقول بأن من أنكر حديثا من أحاديث الحاد‪ ،‬قامت‬
‫شبهة في نفسه حول ثبوته ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم‪ .‬ل‬
‫يخرجا بذلك من الدين لن الذي يخرجا منه إنكار ما كان منه بيقين ل ريب‬
‫فيه‪ ،‬ول خآلف معه‪ ،‬أي القطعي الذي يسميه العلماء "المعلوما من الدين‬
‫بالضرورة"‪.‬‬
‫إنما يخرجا من الدين حقا من اتخذ من الغبار المثار حول هذا الحديث وسيلة‬
‫للطعن في الدين والستهزاء به‪ ،‬فإن هذا كفر صريح‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أما مضمون الحديث وعلقته بالعلم والطب الحديث‪ ،‬فقد دافع عنه‬
‫كثير من كبار الطأباء ورجال العلم‪ ،‬مستشهدين ببحوث ودراسات لعلماء‬
‫غربيين مرموقين‪ .‬ونشر ذلك كثير من المجلت السلمية في مناسبات‬
‫شتى‪.‬‬

‫وحسبي هنا أن أنقل أحدث رد علمي طأبي حول هذا الموضوع‪ ،‬نشرته‬
‫مجلة "التوحيد" المصرية في عددها الخامس لسنة ‪ 1977-1397‬وهو‬
‫للستاذ الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظاما والتقويم بجامعة‬
‫السكندرية‪ ،‬إثر مقال نشرته بعض الصحف لطبيب آخآر تشكك في الحديث‬
‫المذكور‪.‬‬
‫يقول الدكتور أمين رضا‪:‬‬
‫" في جريدة الجمعة يوما ‪ 18/3/1977‬رفض أحد الطأباء الزملء حديث‬
‫الذبابة على أساس التحليل العلمي العقلي لمتنه ل على أساس سنده‪.‬‬
‫وامتدادا للمناقشة الهادئة التي بدأتها هذه الجريدة أرى أن أعارض الزميل‬
‫الفاضل بما يأتي‪:‬‬
‫‪ .1‬ليس من حقه أن يرفض هذا الحديث أو أي حديث نبوي آخآر لمجرد عدما‬
‫موافقته للعلم الحالي‪ .‬فالعلم يتطور ويتغير‪ .‬بل ويتقلب كذلك‪ .‬فمن‬
‫النظريات العلمية ما تصف شيئا اليوما بأنه صحيح‪ ،‬ثم تصفه بعد زمن قريب‬
‫أو بعيد بأنه خآطأ‪ .‬فإذا كان هذا هو حال العلم فكيف يمكننا أن نصف حديثا‬
‫بأنه خآطأ قياسا على نظرية علمية حالية‪ .‬ثم نرجع فنصححه إذا تغيرت هذه‬
‫النظرية العلمية مستقبل؟‬
‫‪ .2‬ليس من حقه رفض هذا الحديث أو أي حديث آخآر لنه "اصطدما بعقله‬
‫اصطداما" على حد تعبيره‪ .‬فالعيب الذي سبب هذا الصطداما ليس من‬
‫الحديث بل من العقل‪ ،‬فكل المهتمين بالعلوما الحديثة يحترمون عقولهم‬
‫احتراما عظيما‪ ،‬ومن احتراما العقل أن نقارن العلم بالجهل‪.‬‬
‫العلم يتكون من أكداس المعرفة التي تراكمت لدى النسانية جمعاء‬
‫بتضافر جهودها جيل بعد جيل لسبر أغوار المجهول‪ .‬أما الجهل فهو كل ما‬
‫نجهله‪ ،‬أي ما لم يدخآل بعد في نطاق العلم‪ .‬وبالنظرة المتعقلة تجد أن‬
‫العلم لم يكتمل بعد‪ .‬وإل لتوقف تقدما النسانية‪ .‬وأن الجهل ل حدود له‪.‬‬
‫والدليل على ذلك تقدما العلم وتوالي الكتشافات يوما بعد يوما من غير أن‬
‫يظهر للجهل نهاية‪.‬‬
‫إن العالم العاقل المنصف يدرك أن العلم ضخم ولكن حجم الجهل أضخم‪.‬‬
‫ولذلك ل يجب أن يغرقنا العلم الذي بين أيدينا في الغرور بأنفسنا‪ .‬ول يجب‬
‫أن يعمينا علمنا عن الجهل الذي نسبح فيه‪ .‬فإننا إذا قلنا أن علم اليوما هو‬
‫كل شيء‪ ،‬وإنه آخآر ما يمكن الوصول إليه أدى ذلك بنا إلى الغرور بأنفسنا‪،‬‬
‫وإلى التوقف عن التقدما‪ ،‬وإلى البلبلة في التفكير‪.‬‬
‫وكل هذا يفسد حكمنا على الشياء‪ ،‬ويعمينا عن الحق حتى لو كان أماما‬
‫عيوننا‪ .‬ويجعلنا نرى الحق خآطأ‪ ،‬والخطأ حقا‪ ،‬فتكون النتيجة أننا نقابل أمورا‬
‫تصطدما بعقولنا اصطداما‪ ..‬وما كان لها أن تصطدما لو استعملنا عقولنا‬
‫استعمال فطريا سليما يحدوه التواضع والحساس بضخامة الجهل أكثر من‬
‫التأثر ببريق العلم والزهو به‪.‬‬
‫‪ .3‬ليس صحيحا أنه لم يرد في الطب شيء عن علجا المراض بالذباب‪،‬‬
‫فعندي من المراجع القديمة ما يوصف وصفات طأبية لمراض مختلفة‬
‫باستعمال الذباب‪ .‬أما في العصر الحديث فجميع الجراحين الذي عاشوا‬
‫في السنوات التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا ‪-‬أي في السنوات‬
‫العشر الثالثة من القرن الحالي‪ -‬رأوا بأعينهم علجا الكسور المضاعفة‬
‫والقرحات المزمنة بالذباب‪ .‬وكان الذباب يربى لذلك خآصيصا‪.‬‬
‫وكان هذا العلجا مبنيا على اكتشاف فيروس البكتريوفاجا القاتل للجراثيم‪.‬‬
‫على أساس أن الذباب يحمل في آن واحد الجراثيم التي تسبب المرض‪،‬‬
‫وكذلك البكتريوفاجا الذي يهاجم هذه الجراثيم‪ .‬وكلمة بكتريوفاجا هذه معناها‬
‫"آكلة الجراثيم"‪ .‬وجدير بالذكر أن توقف البحاث عن علجا القرحات‬
‫بالذباب لم يكن سببه فشل هذه الطريقة العلجية‪.‬‬
‫وإنما كان ذلك بسبب اكتشاف مركبات السلفا التي جذبت أنظار العلماء‬
‫جذبا شديدا‪ .‬وكل هذا مفصل تفصيل دقيقا في الجزء التاريخي من رسالة‬
‫الدكتوراة التي أعدها الزميل الدكتور أبو الفتوح مصطفى عيد تحت‬
‫إشرافي عن التهابات العظاما والمقدمة لجامعة السكندرية من حوالي‬
‫سبع سنوات‪.‬‬
‫‪ .4‬في هذا الحديث إعلما بالغيب عن وجود سم في الذباب‪ .‬وهذا شيء لم‬
‫يكشفه العلم الحديث بصفة قاطأعة إل في القرنين الخآيرين‪ .‬وقبل ذلك‬
‫كان يمكن للعلماء أن يكذبوا الحديث النبوي لعدما ثبوت وجود شيء ضار‬
‫على الذباب‪ .‬ثم بعد اكتشاف الجراثيم يعودون فيصححون الحديث‪.‬‬
‫‪ .5‬إن كان ما نأخآذه على الذباب هو الجراثيم التي يحملها فيجب مراعاة ما‬
‫نعلمه عن ذلك‪:‬‬
‫) أ ( ليس صحيحا أن جميع الجراثيم التي يحملها الذباب جراثيم ضارة أو‬
‫تسبب أمراضا‪.‬‬
‫)ب( ليس صحيحا أن عدد الجراثيم التي تحملها الذبابة أو الذبابتان كاف‬
‫لحداث مرض فيمن يتناول هذه الجراثيم‪.‬‬
‫)جـ( ليس صحيحا أن عزل جسم النسان عزل تاما عن الجراثيم الضارة‬
‫ممكن‪ .‬وإن كان ممكنا فهذا أكبر ضرر له‪ .‬لن جسم النسان إذا تناول‬
‫كميات يسيرة متكررة من الجراثيم الضارة تكونت عنده مناعة ضد هذه‬
‫الجراثيم تدريجيا‪.‬‬
‫‪ .6‬في هذا الحديث إعلما بالغيب عن وجود شيء على الذباب يضاد‬
‫السموما التي تحملها‪ .‬والعلم الحديث يعلمنا أن الحياء الدقيقة من بكتريا‬
‫وفيروسات وفطريات تشن الواحدة منها على الخآرى حربا ل هوادة فيها‪.‬‬
‫فالواحدة منها تقتل الخآرى بإفراز مواد سامة‪ .‬ومن هذه المواد السامة‬
‫بعض النواع التي يمكن استعمالها في العلجا‪ .‬وهي ما نسميه "المضادات‬
‫الحيوية" مثل البنسلين والكلوروميستين وغيرهما‪.‬‬
‫‪ .7‬إن ما ل يعلمه وما لم يكشفه المتخصصون في علم الجراثيم حتى الن‬
‫ل يمكن التكهن به‪ .‬ولكن يمكن أن يكون فيه الكثير مما يوضح المور‬
‫توضيحا أكمل‪ .‬ولذلك يجب علينا أن نتريث قليل قبل أن نقطع بعدما صحة‬
‫هذا الحديث بغير سند من علم الحديث‪ ،‬ول سند من العلم الحديث‪.‬‬
‫‪ .8‬هذا الحديث النبوي لم يدع أحدا إلى صيد الذباب ووضعه عنوة في الناء‪،‬‬
‫ولم يشجع على ترك النية مكشوفة‪ ،‬ولم يشجع على الهمال في نظافة‬
‫البيوت والشوارع وفي حماية المنازل من دخآول الذباب إليها‪.‬‬
‫‪ .9‬إن من يقع الذباب في إنائه ويشمئز من ذلك ول يمكنه تناول ما فيه فإن‬
‫الله ل يكلف نفسا إل وسعها‪.‬‬
‫‪ .10‬هذا الحديث النبوي ل يمنع أحدا من الطأباء والقائمين على صحة‬
‫الشعب من التصدي للذباب في مواطأنه ومحاربته وإعدامه وإبادته‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن يتبادر إلى ذهن أحد علماء الدين أن هذا الحديث يدعو الناس إلى‬
‫إقامة مزارع أو مفارخ للذباب‪ .‬أو أنه يدعو إلى التهاون في محاربته‪ .‬ومن‬
‫صنع ذلك أو اعتقد فيه فقد وقع في خآطأ كبير "‪.‬‬
‫هذا ما قاله الطبيب العالم الستاذ الدكتور أمين رضا بلسان العلم والطب‬
‫المعاصر وفيه كفاية وغنية جزاه الله خآيرا‪.‬‬
‫الحمد لله‪ ،‬والصلة والسلما على رسول الله‪ ،‬وعلى آله وصحبه‪ ،‬ومن اتبعه‬
‫إلى يوما الدين‪ ،‬وبعد‪:‬المعلوما من الدين بالضرورة‬

You might also like