Professional Documents
Culture Documents
1
/
2
3
()1
4
"أبسط يشء هو البوصةل اي س يديت .منذ أن خرجنا عن
الطريق الرئييس بعد هذه الس يول وأان ملزتم ابلسري رشقا ،من
املس تحيل أن نكون يف نفس املاكن".
هنا تدخلت قائال:
"رمبا كنا يف وادي املوت "وادي القائد األسود؟"
ردت ملياء:
"ال ،الوادي اكن عىل اجلانب اآلخر من الطريق ،فقد زرانه
قبل يومني".
وأضاف ادلليل:
"وأاي اكن ماكننا فالبوصةل س تعمل".
وألول مرة تلكم السائق األمسر قائال:
"حس ناً ،عىل األرحج حنن يف وادي املوت ،فاملوجود عىل
اجلانب اآلخر من الطريق جزء صغري معزول منه ،يس تخدم
لزايرات الس ياح؛ أما ابيق الوادي مفساحته هائةل ،وهو خطري
ألن من املس تحيل أن يعرف األدالء دروبه ،ألاهنا تتغري دوما
بسبب حركة الكثبان الرملية".
قال ادلليل:
5
"أعرف هذا؛ ولكن البوصةل ....أعين إننا منيش عىل هداها،
س منيش رشقا ،وس نصل حامت لطريق العامصة الرئييس".
هنا قلت:
"لكين مسعت إن تربة هذا الوادي غنية بأكس يد احلديد
املغناطييس ،مما يؤثر عىل البوصالت".
ساد الصمت الثقيل لفرتة ،مث نظر ادلليل إىل السامء ،وأخذ
يتأملها ردحا من الزمن .فسألته (ملياء) يف حتفز:
"ماذا تفعل بتأمل جامل النجوم اآلن؟ "
قال:
"أحبث عن النجم القطيب....آهه .....هل هو ذكل؟ آه ال....
نعم ها يه املغرفة و ...........حس نا اي رفاق هذا هو الشامل.
فعال البوصةل معطةل أو متأثرة هبذا احلديد املغناطييس اذلي
تلكم عنه األخ".
نظرت ملياء هل نظرة انرية ،مث رفعت رأسها إىل السامء ،وهتفت
بأعىل صوهتا:
"اللهم أجندان من أدالء آخر زمن!"
شعرت أن املوقف سينفجر مرة أخرى ،حفاولت تلطيف اجلو
قائال:
6
" عىل أي حال ،لقد عرفنا اآلن خطأان ،ونس تطيع الانطالق
من الغد إىل الطريق الصحيح ،وغدا س يكون لك هذا ذكرى
مضحكة".
أضاف ادلليل:
"لك ما علينا هو أن جنعل النجم القطيب عىل مييننا ،وس نصل
إىل طريق العامصة الرئييس خالل يوم عىل األكرث".
مل حتمتل ملياء أكرث من هذا ،فانفجرت فيه:
"عىل يساران أاها األمحق! ل ي نتهه رشقا ،جنعل الشامل عىل
يساران! أم إنك تريد أن تقودان لقلب الصحراء ،لهنكل جوعا
وعطشا".
وأخذت ترغي وتزبد يف رشاسة األم اليت ختاف عىل أطفالها،
واكتفيت أان مبراقبة الهتاهما لدلليل قليل اخلربة ،اذلي مل يعرف
املنطقة أكرث منا إال بشهر واحد ،إىل أن أشفق عليه أحدان،
واس تغل حلظة توقفت فهيا ملياء اللتقاط األنفاس وقال":جيب أن
ننطلق اآلن وحنن نرى النجم القطيب .لنتحرك ليال ،ونراتح
اهنارا".
فذهبت ملياء إليقاظ أطفالها ،اذلين مل يدخروا هجدا يف
الاحتهاج ،وتذمروا بإخالص شديد ،إىل أن أقنعهتم أهمم
ابلطريقة التقليدية.
7
وبيامن اكنوا ميسحون دموع الاقتناع ،أراد ادلليل إلهاهئم عن
األمل اذلي أوقعهم – وأوقعنا -فيه فقال للصغار:
"أتدرون اي أطفايل ما امس هذا املاكن؟"
رد الشقي األكرب جبفاء:
"امس يبعث عىل الاطمئنان! وادي املوت ،أو وادي القائد
األسود كام مسعت من جشارمك؟"
بدا اخلوف عىل وجه األصغرين ،اذلين مل ميتلاك شقاوة أخهيام
األكرب ،فأمكل ادلليل:
"نعم ،لكن هل تعرفون أن وراء هذا الامس قصة؟"
مل جيد مهنم ردا فأمكل:
"بإماكين أن أحكهيا لمك؛ لكن ال أدري أأنمت جشعان مبا يكفي أم
ال؟"
احليةل القدمية! تريد أن جتعل الطفل يفعل أي يشء ،مفا عليك
إال أن تسأهل إن اكن جشاعا أو كبريا مبا يكفي؟
وابلطبع رد الشقي األكرب:
"حنن أجشع منك ،لس نا صغارا لتخيفنا قصة".
تردد يف ذهين صوت يدعوين إلخراس ادلليل ،مل أكن أذكر
األسطورة متاما ،ولكهنا اكنت تتحدث عن موت قائد كبري،
8
وأش باح ،وأش ياء من هذا القبيل .لكين افرتضت حبسن نية أنه
س يحدهثم عن القصة التارخيية ،اليت قرأهتا يف الكتب ،فالزتمت
الصمت.
وهنا -للمرة املائة -أثبت حامقته! همام اكنت جشاعة الطفل،
فإن األمر ال يصل إىل إماكن أن ختربه بوجود ش بح يف
الصحراء ،يبحث عن التاهئني فهيا ،بزمع إنقاذمه ،قبل أن يقتلهم!
قصة غري مناس بة بتاات ألطفال اتهئني يف الصحراء! دعك من
أاهنم افرتضوا ،تلقائيا ،أن هذا ادلليل األمحق ،اذلي لكام حاول
إنقاذان ،زاد املوقف سو ًء ،هو القائد األسود .وأعذرمه يف ذكل،
فأدلهتم قوية ال تناقش .فالش بح موجود ،ألن الكبار يسمون
الوادي عىل امسه ،وحنن كنا بأمان يف الس يارة ،حىت قرر هذا
ادلليل (إنقاذان) ابمليض يف الصحراء حنو طريق العامصة الرئييس.
عىل أي حال ،اكن جيب أن أتدخل ،قبل أن يضيع ادلليل
املسكني جريرة حامقته ،وألنقذ ملياء من السجن املؤبد بهتمة
القتل ،فأرسعت أقول لألطفال:
"هذه جمرد قصة خييفون هبا األطفال هنا ،حىت ال يلعبوا يف
تكل الصحراء اخلطرية ،ولكن الامس سببه -كام هو مذكور يف
الكتب -إنه قد جرت هنا معركة هائةل ،بني قائد حميل من
أقىص رشق البالد ،عرف ابمس القائد األسود ألنه اكن ينمتي
9
لقبائل بين األسود يف الرشق ،وليس ألنه اكن ساحرا رشيرا
ميارس السحر األسود ،كام يزمع هذا ادلليل الطيب".
قال ادلليل:
"أان مل"............
قاطعته ممكال:
"حارب هذا القائد غزاة اكنوا آتني من الغرب ،وقاتلهم قتاال
مريرا دفاعا عن البالد؛ لكنه هزم بعد أن قتل من الطرفني
أعدادا هموةل ،فسمي هذا الوادي ابمس وادي املوت ختليدا
للقتىل الكرث .قبل هذا ،اكن يسمى خلطورته وادي الضياع .أما
القائد األسود ،فمل حيمتل الهزمية ،فبقى حينا متحصنا مع بعض
رجاهل يف الوادي ،حىت هلكوا مجيعا ،لكنه ظل حيمك الوادي
لفرتة ،فسمي ابمسه وادي القائد األسود".
قالت الصغرية:
"اي هل من بطل دافع عن بالده حىت الهناية".
وجدهتا فرصة للحديث عن الشهاعة والانتصار للوطن،
فبدأت أخاطب األطفال ابلبطوالت ،اليت يبذلها اجملاهدين يف
سبيل حرية بالدمه.
وهنا سأل الشقي الكبري:
"وماذا فعل الغزاة بعد انتصارمه؟"
10
مل أكن أعمل اجلواب فقلت مخمنا:
"طبعا حمكوا البالد إىل أن أىت الثوار وأخرجومه".
هنا تلكم أخريا السائق األمسر ،وهو الوحيد بيننا اذلي ينمتي
ألهل املنطقة ،فقال:
"حس ناً ،أان أذكر القصة اليت حاكها يل جدي عن جده عن
جده عن جدان األكرب ،وحيكهيا اجلدود يف بدلتنا ألحفادمه عن
الغول األمحر ،والقائد األسود"..........
قاطعته ملياء:
"مالنا ومال الغيالن واألش باح .حنن نتحدث عن البطوةل
والفداء اي أسطى".
أمكل السائق:
"وأان أحتدث عن أمسى معاين البطوةل والفداء .لكن القائد
األسود مل يكن بطال ،بل اكن أسودا الفعل والامس .لكن كعادة
التارخي هو من بقى أثره يف الكتب ،أما البطل احلقيقي ،اذلي
قام برحةل تفوق اخليال من أجل بالده ،ماكحفا ضد أسوأ عدو
يبتىل به اإلنسان ..ضد اليأس ،وضد لكمة ال فائدة ،ولكمة ال
حتاول غريك اكن أشطر ..لكامت قاتةل اكن يواهجه هبا لك من
يقابهل ويفرتض فيه املعاونة ،لكنه أرص عىل بذل لك ما ميكنه يف
سبيل ما يراه واجبا عليه،
11
سأهل الصغري:
"من هو هذا الرجل وما حاكيته؟"
قال السائق:
"امسه (عبد الشهيد ) ،وهو ابن (مسعان) الصياد ،وهل قصة
جعيبة سأحكهيا لمك ،كام مسعهتا عن جدي ،وكام مسعها جدي
األكرب من ( عبد الشهيد) نفسه.
12
()2
قال الراوي:
" كنت أحرث األرض اس تعدادا لبذر القمح ،أمه حمصول
طوال العام ،فهو اذلي نقتات منه أايم احلصار؛ ولكين كنت
متأخرا عن البقية ،ألنين ال أجد من يعاونين يف القرية ،بيامن
خربيت القليةل ال تسعفين يف زراعة تكل الرقعة اليت ورثهتا عن
وادلي (مسعان الصياد) .وذلا ،بقيت وحدي وسط اخلالء ،ال
حيوطين برش إال من عابر سبيل ،يظهر مبتعدا عىل مرىم
البرص.
وذلا اكنت دهش يت كبرية ،حيامن رأيت (محمدين) ،جاري،
والشخص الوحيد اذلي يبادلين لكامت مقتضبة يف البدلة ،ألنه
يرى إمث مقاطعة اجلار أشد من عيب حمادثيت.
وازدادت دهش يت ،حيامن أدركت أنه يقصدين ،فيتهه حنوي
مرسعا ،إذ مل حيدث أبدا أن ابدرين ابحلديث .وقد أبقيت هل
تكل العادة ،إذ غلبين فضويل ،فهتفت:
"كيف حاكل اي أاب عبد الرمحن؟ ما األمر؟"
13
قال:
"ش يخ البدل يريدك".
قلت متعجبا:
"وماذا يريد مين الش يخ غالب؟"
هز كتفيه وقال:
"علمي كعلمك!"
مضيت معه مندهشا .خفالل ثالث س نوات قضيهتا هنا ،مل
يدعين أبدا الش يخ غالب لبيته ،اذلي مل أدخهل سوى مرة
واحدة ،حيامن جئت للقرية مطالبا مبريايث من أيب .حىت حيامن
يدعو ش يخ البدل لك الش باب للقتال ضد اللصوص والههامة
وجامعات املامليك املارقة ،ال أعرف ابألمر إال صدفة ،ولهذا
فاتتين أكرث من معركة كنت يف أشد احلاجة للمشاركة فهيا،
إلثبات جشاعيت ومروءيت وواليئ ألهل قرييت.
ويبدو أن فضول أيب عبد الرمحن اكن أشد ،فسألين:
"أتعرف خشصا يدعى (نوري)؟ رمبا اكن من األعيان"
قلت:
"ال ،والامس ال يبدو مألوفا ،ولعهل ليس من بالدان".
قال:
14
"أىت خشص يرتدي مالبس غالية ،ويركب حصاان مل أر هل
مثيال ،حفدث ش يخ البدل كام لو اكن يعرفه ،ومهس هل قليال ،مث
اندفع للرشق مرسعا .وبعد قليل ،أرسل الش يخ رسوال إىل
انئب القايض ،يف زمام الش يخ عصفور ،وأحل عليه يف اإلرساع،
مث بعد قليل أرسلين كل".
أردت اجتذابه لرثثرة تذيب بعضا من جليد القلوب ،فسألته
"انئب القايض؟ أليس هذا لقب زعمي خدام الرضحي؟"
قال:
"نعم ،هو بعينه .أظنه اآلن شااب امسه (احلسيين) ،وهو ابن
شقيق سلفه (سعيد)؟"
قلت:
"ملم يسمي نفسه بنائب القايض؟ ليس يف قرى الزمام أو
خارهجا قضاة .إين مل أر قاضيا إال يف حارضة البالد ،بعيدا عن
هنا مسرية أسابيع".
قال:
"ألنه يقيض بني أهل الزمام وما حوهل من القرى ،إىل جانب
قيادته خلدم الرضحي".
قلت:
15
"إذن فمل مل يسم نفسه ابلقايض؟"
قال مبتسام:
"مل ترتب بيننا لتعرف! لقد جخل سلفه أن يسمي نفسه قاضيا
يف حرضة رضحي الش يخ عصفور .وكره أن يسمي نفسه أمريا،
أو قائدا للجند ،حىت ال يش به أولئك األجالف".
قلت:
"أظن أن رضحي الش يخ عصفور بعيد عن هنا ،هجة
اجلنوب؟"
قال:
"أمل تذهب لتتربك ابملقام من قبل؟ إنه سريا يس تغرق يومني
للجنوب".
قلت":لعكل تذهب معي لنقرأ هل الفاحتة قريبا؟"
مل أترك هل مفرا ،هكذا أورطه يف صداقيت رويدا ،رويدا ..مفن
ذا اذلي يرفض أن يدل خشصا عىل مقام الويل الصاحل ،الش يخ
عصفور ،أو يفكر يف صده عن قراءة الفاحتة هل؟
كنت قد مسعت الكثري عن هذا الش يخ ،اذلي اكن آخر
قاض عاش يف اإلقلمي الغريب من اململكة ،واكن حازما حاسام،
غزير العمل ،حمبا للعدل ،جماهدا للظمل .وقد ساعد الكثريين يف
أايم الفنت السوداء ،دون أن يرهب أمريا جائرا ،أو غنيا فاجرا،
16
أو مملواك ابطشا .واليوم ،بعد مرور العقود عىل وفاته ،مازال
رضحيه ملجئا للمظلومني ،ومقرا مجلاعة اجلند اليت أسسها إلقرار
العدل ،تتوارث هممهتا املقدسة داخل الزمام ،لتجعل منه واحة
شاذة من األمان ،وسط حصراء اخلوف .أمان جيعلين أغفر لك
ما أرفضه من مظاهر التقديس ،واخرتاع الكرامات ،وأعامل
اجلهاةل ،اليت تفرض للمخلوق معجزات ال جتوز لغري اخلالق .لك
هذا تربيت عىل نبذه يف كتّاب ش يخي ابلزرقاء ،حيث نشأت؛
لكن تشبث الناس هنا بقشة كرامات الش يخ ،لتحمهيم من
طوفان الفنت حوهلم ،ألمر جدير ابالحرتام ،بل الاس تغالل.
عاد فضوهل يلح:
" أما تدري ملاذا يريدك الش يخ غالب؟"
قلت:
"هذه أول مرة يطلبين فهيا منذ عوديت إىل هنا .لكن حدثين
عن هذا النوري كيف اكن؟"
قال:
" اكن يرتدي زاي مزركشا نفيسا ،ذا لون أبيض خملوط بصفار
ذهيب ،وغطاء رأس جعيب ،ال هو ذو زر فأقول طربوش ،وال
ملفوف فأقول عاممة ،وحامت ليس بطاقية".
سألته:
17
"قل يل أاكن يرتدي حذاءا؟"
قال:
"اكن قبقااب بس يطا عىل ما أذكر ،فقد اكن (يطرقع) عىل بالط
مسطبة الش يخ غالب".
ابتسمت يف فهم ،وقلت:
"أاكن ميسك سوطا ،أو اكن معه سالح أو رفاق؟"
هز رأسه نفيا:
"ال هذا وال ذاك!".
"كيف اكن جواده؟"
رد:
"رائعا فتاان .مل أر يف حيايت هل مثيال يف رشاقته وخفته".
قلت "حس ناً ،هذا عىل األرحج أحد اخلدم يف قصور األثرايء،
عمل بأمر خطري ،فاختلس حصان س يده ،ليرسع ألقرب قرية،
مث عاد مرسعا".
بدا القلق عىل وجه (محمدين) ،إذ أن النبأ اخلطري القادم من
األغنياء لن يكون خريا أبدا ،فقال يف رشاسة:
"وما أدراك أنت؟"
قلت:
18
"هذا احلصان المثني مل ميلكه إال ثري ،والرثي لن مييض وحيدا،
ولن يرتك حصانه خلادم .وهذا (النوري) يرتدي مالبس
مكالبس اخلدم واملامليك اذلين يعملون داخل قصور األثرايء.
عادة ما يلبسواهنم أهبىى األزايء أمام ضيوفهم ،وال اهمتون
ألحذيهتم .عىل أن اململوك لن مييض دون سالح أو كرابج".
أخذت أفكر ،عىل األرحج مسع (نوري) هذا أمرا خطريا من
سادته أثناء اس تقباهل لضيف هام ،ورمبا اكن يعرف ش يخ البدل،
أو لعلنا كنا أقرب قرية ،فأراد إبالغنا لنبلغ انئب القايض ابألمر
اجللل ،اذلي جعهل خيتلس حصان س يده.
انزتعين (محمدين) من أفاكري بقوهل:
"هل يرتدي اخلدم يف القصور مثل هذا؟"
قلت مبتسام لتعجبه:
"رأيت يف الزرقاء واحلارضة أشد من ذكل!"
قال:
"ختيفين حبديثك ،وتتحدث عام ال تعمل .أتدرك ماذا يعين أن
يضمر األثرايء لنا الرش مرة أخرى؟"
اكن هذا ما أفكر فيه فرددت:
"يعين العودة ألايم ألمية ،ولعل ش يخنا اس تعد لهذا اليوم ،وأعد
العدة بتجنيد نوري هذا داخل قصورمه".
19
هنا الح لنا مزنل ش يخ البدل الفس يح ،اجملاور للمسهد حىت
يسهل عليه صعود املئذنة ،ومراقبة ما حول القرية وقت الشدة.
واكن ابلفعل فوقها ،ينظر حنوان اكملرتبص .فلام وصلنا لبابه ،نزل
ورصف أاب عبد الرمحن حلال سبيهل ،وأدخلين إىل جحرة مغلقة
من املزنل ،ألجد الطعام ينتظرين.
جلست آللك لقاميت قليةل وأان مرتبص ،فمل أكن جائعا ،وإمنا
طامع يف رابط املودة ،اذلي تفرضه املشاركة يف الطعام عىل
رؤوس الكرام.
اكن وجه الش يخ متجهام ،ومل أكن ألفهم رس طلبه يل .الاحامتل
الوحيد إنه يريد سؤايل إن كنت سأكرر فعةل أيب ،أو إنه يرغب
يف رشاء أريض ،قبل أن أرحل ،وإال فمل ميسك بكيس نقوده
يف يده؟
ابتدرين ابحلديث:
"لعكل تتساءل مل أريدك؟"
قلت:
"أان يف خدمتك دوما اي ش يخ (غالب)".
قال:
20
"أنت رجل جشاع ،ومنذ جئت هنا وأنت تقاتل إىل جواران
بلك جشاعة دفاعا عن القرية .ذلا فعندي كل أمر مس تحق
للشهاعة".
مل أرد يف البداية ،انتظرت منه التوضيح ،مث عدلت عن رأيي
فقلت:
" أخربين أاب عبد الرمحن عن جميء رجل كل ،اكنت صفاته كام
يوصف خدم األثرايء؟"
قال " :هذا حصيح".
قلت " :لعهل جاء ليخربك بنبأ يسء عاجل؟"
قال " :حصيح!"
مل يزد ،فأمكلت:
"إ ًذا فاألغنياء س يحاولون مرة أخرى إحضار املرتزقة
لالستيالء عىل األرايض واملزارع حوهلم ،وحتويل الفالحني فهيا
إىل عبيد أرض .ولعكل تظن أنين سأفعل مثل أيب وأرحل؛ بيامن
القرية حباجة للك يد مقاتةل؟
قال:
"أنت مثل وادلك! ال أعين فراره؛ بيامن كنا حنتاجه ،وزواجه
من بدل بعيد؛ بيامن أراملنا وأيتامنا ال جيدون من يتكفل هبم .لكنه
21
اكن ذكيا ،جييد معرفة الكثري ،ويظن أنه يعرف األكرث من أقل
القليل".
قلت" :إ ًذا فاألمر حصيح".
قال" :وماذا س تفعل؟"
قلت حبزم" :لن أرحل عن البدل همام اكن".
قال:
"ليت وادلك اكن مثكل! أان أثق فيك ،وأدرك أنك لن هترب
مثهل قبل أن يعود لنا ودلك ،اذلي مل نره من قبل ،ليطالب
مبرياثه من األرض ،اليت محيناها بدمائنا ،وحافظنا علهيا بعرقنا،
فيأخذها جاهزة سائغة ،دون دم أو عرق".
قلت مرصا متهاهال نكأه للجراح القدمية:
"سأقاتل دفاعا عن أريض وقرييت".
قال يل:
"سأجتاوز عن هذا احلديث ،رمغ أنين ال أنكر عىل من يقول
إنك ودلت وتربيت بعيدا عنا ،فيصعب أن نسمهيا قريتك.
سأدع األفعال تثبت قوكل ..ما كنت أقوهل أن وادلك اكن يظن
أنه يعرف األكرث ،مصدقا لك ظنونه؛ لكن بعضها مل يكن
مصيبا".
22
قلت بتوجس" :ال أفهم اي س يدي؟"
قال:
"أان ال أعرف حىت اآلن ما اذلي يدبره األغنياء .لك ما يف
األمر أن (نوري) ،وهو خادم يف قرص ابن العبديل ،اذلي هو
رجل واسع الرثاء ،مل نر منه من قبل خريا أو رشا ،ويعزتل عادة
معارك األمراء ،فال نعرف عنه الكثري ،خاصة إنه يعيش منعزال
يف قرصه ،األش به ابحلصن عىل ربوة عالية منعزةل قرب اجلبل.
هذا الرجل – جفأة -أرسل رسهل يف طول البالد وعرضها،
يس تدعي لك أمري ،وقائد جند ،وزعمي قبيةل ،وحىت كبار
املامليك واألثرايء .وأرسل بعض اخلدم -ومهنم (نوري) -
ليجمعوا لك زعمي ذي بطش ،يدعومه ليضيفهم يف قرصه.
وأخربين (نوري) إنه مل يكتف بزعامء الغرب ،بل أحرض ضيوفا
آخرين من اإلقلمي الرشيق".
تعجبت قائال " :ومل لك هذا؟"
قال:
" ال أعمل ،هو يرسل رسائل خمتومة ،ال يعرف رسهل ما حتمهل.
أما اخلدم الهامئون مثل (نوري) ،فمل يقل هلم سوى أن يبحثوا
عن لك صاحب جند حيسب حسابه "فاخربوه إنين أدعوه
لقرصي ،ألضيفه ،ومن يأيت معه ،بسخاء يف ولمية ليس لها
مثيل ،عقب صالة امجلعة القادمة".
23
قلت" :أي بعد غد؟"
" نعم .مل يرسل هؤالء إال ابلاكد عىل املوعد .أما كبار القادة،
فأغلهبم ابلفعل يف قرصه أو اقرتبوا منه".
قلت" :لكن ملاذا؟"
قال الش يخ غالب:
" مل يعرف ( نوري) شيئا .الرجل حيمل يل معروفا قدميا ،مل
أطلب مقابهل إال أن يأتين بأي أخبار مريبة يف قصور األثرايء
وأحاديهثم .ذلا احنرف عن طريقه وأاتين".
قلت بقلقك
"لكن هذا أمر خطري جدا .لو احتد أحصاب اجلند مجيعا مع
األثرايء ،فلن يس تطيع الفالحون يف أي قرية أو مدينة الوقوف
يف وهجهم".
أمكل ما أفكر فيه بقوهل:
" ولو بدأان من اآلن ابالس تعداد ،ومعل األحالف ،وحتصني
البيوت فس يضيع مومس الزراعة ،لمنر بقحط شديد ،وجوع
أشد".
"-وماذا نفعل إ ًذا؟"
24
"-أردت مشورة انئب القايض ،لكن حيامن يأيت رسوهل
س يكون الوقت قد تأخر .ذلا فكرت يف إرسال خشص لهذا امجلع
يتلصص عليه".
أجبت برسعة:
"لكين ال أصلح لهذا األمر ،فأان ال أعرف أهل البدل ،وال
حىت الطرق والقرى".
قال:
"حس نا األمر خطري .لو اكتشفوا أمرك ،فأنت مقتول ،ذلا
س تتنكر يف شلك أمري ،أىت حلضور الضيافة ،فلن يعرفك أحد
وسط الزحام".
سألته بشك " :وملاذا أان ابذلات؟"
قال:
" ل ي نصل ملعلومة كبرية ،فلن ننالها إال من الكبار .والكبار لن
يتحدثوا إال ملن هو مثلهم ،وعندي زي مزود ابدلروع ،اس تعرته
من صديق يل ،يليق بأمري ،لكنه ال يناسب إال رجال فارع
الطول".
قلت جمادال:
" يوجد يف القرية س بعة آخرون من فارعي الطول .مثال
(عطية) وهو األبرع يف ركوب اخليل واملبارزة ،و(حسن السامك
25
) وهو حلو احلديث ،واسع ادلهاء ،حاد السمع ،يس تطيع
إخراج األنباء من األفواه املغلقة".
قال:
" (حسن) هل زوجة وأوالد ،و(عطية) يسعى عىل وادلين
جعوزين".
أمكلت حبنق:
"و(إبراهمي) هل أخوة حيزنون عليه ،أما (عبد الشهيد ابن
مسعان) خفسارته ليست جس مية ،وال أهل هل أو ودل ،وال حىت
جريان يطيقونه!"
أدرك الرجل زةل لسانه ،فصمت ،ومل يرد ،فقلت:
"أريد رحما!"
نظر يل بدهشة وسأل" :ماذا؟"
قلت بإحلاح:
"أريد رحما .أان لست ابرعا يف املبارزة ابلس يف ،ومل أرث عن
وادلي همارته يف الريم ابلسهام ،وال أجيد إال القتال ابلرمح.
وإذا كنت ذاهبا أللقي نفيس بني ذئاب ال ترمح ،فليكن معي
سالح أجيده ،وأان أجيد الرمح".
تهند يف ارتياح ،وقال:
26
" ليست مشلكة .ليس رحما حفسب ،بل أفضل رمح يف البدلة
لكها! هذا اذلي اشرتاه ابين من زمام الش يخ عصفور ،وهو رمح
ممتاز جدا ،وقوي ،ويصلح لرجل طويل مثكل".
قلت ممكال:
"وأريد من يرعى أريض يف غيايب ،وسأدفع هل األجر .وإذا مل
يكرمين هللا ابلعودة ساملا ،فإن وصييت أن تذهب األرض
لورييث الرشعي الوحيد ،ابن معيت (سعد الالكف) ،بدون
جدال أو نزاع".
قال مندهشا:
"ألست تكرهه كوادلك؟"
قلت:
"بىل .لكين ال أريد مقابةل ريب وحقه الرشعي معلق يف
رقبيت".
قال:
"دعك من هذا التشاؤم ،وخذ الزي وادلروع ،وهذا الكيس
من اذلهب لنفقاتك ،وليس عليك أن ختىش من رصف بعضه
أو لكه .لو أتت األنباء الطيبة ،فلن اهمت أحد بأين ذهبت بعض
ادلاننري".
قلت:
27
"ال أفعل هذا ألجل بضعة داننري .إمنا ألجل ما هو أغىل".
هز رأسه يف تفهم يشوبه السأم..
"حني تعود س تكون من أبناء القرية ،وس نعرتف كل مجيعنا
هبذا".
هززت رأيس نفيا ،وقلت:
"ال أفعل هذا ألكون من أبناء القرية ،وإمنا ألنين من أبناء
القرية".
جتاهلين كعادته ،وهكذا وجدت نفيس بدأت اليوم مرتداي
أسامال قذرة ،وأمحل فأسا يأخذ من طني األرض لينرث عىل
جسدي ،وأاهنيته مغتسال وأان أرتدي زاي رائعا مثينا ،مزودا
بدروع محراء منقوشة ،ميأل قلب مرتديه ابلرفعة والقوة ،وأمحل
عيل من عطره رحما ممتازا ابهظ المثن ،وش يخ البدل بنفسه ينرث ّ
اخلاص ،ويقودين حلظريته ،ألنظر مهبورا لهذا اجلواد البديع اذلي
خيفيه عنا .جواد أصيل نبيل يليق حقا بأمري مثيل!
لكن ش يخ البدل جتاوزه وهو يقودوين حنو مجل خضم ويقول:
" هذا اجلواد ،اذلي يعجبك ،ال يصلح لسفر طويل ،وال نريد
أن يعرف الناس أنك أتيت من مسرية أقل من يوم .أنت جتيد
ركوب امجلال ،أليس كذكل؟"
28
ابلطبع كنت أجيدها .لو مل أركب امجلال مع وادلي ،أثناء فراران
يف حصراء الرشق املهلكة ،هراب من الزرقاء بعد سقوطها ،ملا
بقيت عىل قيد احلياة .لكن ركوب امجلل مرهق ،دعك عن كونه
مرعبا ملن ال جييده ،مثل أكرث الفالحني .األمه هو أن امجلل
بطيء ،ابلنس بة للخيول ،ولو اضطررت للهرب ،فسأختار
اجلواد الرسيع ،وليس امجلل القوي اذلي يقطع مسافة أطول لن
أعيش ل ي أمكلها!
لكن إقناع الش يخ (غالب ) ليس أمرا سهال أبدا! كام مل أقنعه
بأن يرسل معي خشصا آخرا ،لتكون فرصة عودة أحدان
ابألخبار أكرب وقال:
" إذا اكتشفوك ،فلن ينفعك سوى دابة الرباق ذاهتا! عندمه
من اخلياةل البارعة ،واخليول الرسيعة ما يفوق قدرتك .ال فرق
بني جوادي المثني ومجيل البطيء! والرجالن يكشفان بعضهام
أكرث من الرجل الواحد! س تكون وحدك ذائبا وسط احلشد ،ال
تتلكم ،وال يسمع صوتك فال ينتهبون كل".
وهكذا سلمت أمري خلالقي ،وتولكت عليه ،ومحلت متاعي
وزادي القليل ،اذلي وضعه الش يخ (غالب) يف أكياس كبرية
تسع أضعافه ،ومحلت لك ذكل عىل راحليت ،وأخنهتا ألركهبا ،فإذا
ابلش يخ خيرج مرتددا من حزامه رصتني أخرتني حمشوتني
ابذلهب ،هبام ما يفوق مثن أريض الصغرية ،اليت أنكرها عيل
29
وجادلين فهيا طويال .وال أس تطيع أن أنكر عليه هذا األمر،
فقمية األرض ليست يف مثهنا ،وإمنا أنت ختلق من تراهبا وتمنو
بامثرها ،وتسكن عىل سطحها ،مث تدفن يف جوفها .فلك حياتك
أنت ومن حوكل رهينة ابألرض كام اكن وادلي يقول يل وهو
حيثين عىل العودة ألرضه بعد موته.
عيل الليل ،همتداي ابلنجوم ،اليت أجدت وانطلقت ،وقد أطبق ّ
قراءهتا عىل يد دليل ممتاز ،قادين يف رحليت الطويةل من احلارضة
إىل هذه القرية ،عرب دروب حصراء الغرب اخملادعة ،بعيدا عن
أيدي جامعي الرضائب واجلباة من أتباع أمراء املدن .وتعلمت
حيهنا أن أسافر ليال دوما .فرمغ كرثة الس باع يف الليل ،إال إنه
أكرث األوقات أمنا للمسافر الوحيد ،ألنه يسرته من أحصاب
البطش.
وعند الفجر ،متبعا أوامر الش يخ (غالب) ،درت حول
اجلبل ،متخذا الطريق الطويل ،حىت ال يعرف أحد من أي
عيل من غبارطريق جئت .وقد أعطت احليةل أثرها ،فبدا ّ
الطريق ،وإرهاق سفر الليل دون نوم ،أين آت من مسرية عام.
اكن مشهدا جعيبا ،،مل أر مثهل يف حيايت .قد يكون كام وصفه
فامي بعد (ابن البرصي) أش به مبعسكر جيش زاحف .عرشات
اخليام الضخمة ذات ألوان هبيهة ،وبيهنا أقوام كرث ،أغلهبم يلبس
30
زي القتال ،ومدججون ابلسالح وادلروع ،مثيل ،ويتجول بيهنم
غلامن ،حيملون الطعام والرشاب.
أاتين أحدمه ليضم مجيل حلظرية هموةل ،بعد أن أعلمين كيف
أجده فهيا ،وكيف اسرتجعه مهنا ،فنفحته دينارا اكمال .وملا رأيت
احلبور يف وهجه ،تشجعت ،وسألته:
"أخربين فمي يريدان س يد القرص؟"
قال يل:
" ال أدري اي س يدي ،لقد أرسل لس يدي ،يس تأجر منه لك
خدمه وعبيده ،مبال كثري ،ويدعوه لهذه الولمية".
قلت ملوحا بدينار اثن من ذهب الش يخ (غالب):
"أمل يعرف س يدك سبب ادلعوة؟"
قال بلهفة:
" ال ،لكين مسعت من خدم آخرين أنبا ًء عظمية".
دسست ادلينار الثاين يف يده ،وسألته عهنا ،فأجاب:
" يقولون إاهنم سيناقشون أمرا ،حيدد مصري البالد لكها،
والبعض يزمع أاهنم ال يعنون اإلقلمي الغريب حفسب ،بل لك
البالد .وواحد من زماليئ يظن أاهنم سيتفقون عىل تقس مي
اإلقلمي بيهنم ،ليهنوا حروهبم إىل األبد".
31
أقلقين حديثه ،ألن تقس مي البدل ،وإاهناء اخلالفات بني القادة
واألثرايء يعين حلفا خضام من لك ذي نفوذ ضد لك مسكني.
ومن انحية أخرى ال أظن أاهنم اجمتعوا لينصبوا حاكام يوحد
البالد ،فهذا أبعد ما يكون عن أطامعهم .ولو حدث ،لاكن هذا
امجلع يف احلارضة ،وليس يف قرى الغرب وواحاته املتناثرة.
واختلطت ابمجلوع ،أتسمع مسرمه ،دون أن أحاول العثور عىل
ماكن للنوم ،رمغ ما أصابين من تعب ،خش ية أن يس تصغرين
الناس إذا وجدوين أانم وحيدا ،بال خدم أو حشم .حفىت اآلن،
أعطتين مالبيس مفعولها القوي ،ونظر يل امجليع هبيبة واحرتام.
ومل أس تطع النوم إال بعد صالة العشاء ،حيامن أصبح املسهد
خاواي متاما( ،ولألسف اكن ش به خاو أثناءها!)؛ لكن خالل
هذا الوقت علمت ابلكثري.
علمت بوجود ضيوف من الرشق عىل قدر كبري من األمهية،
كام إنين مسعت أحد األمراء الكبار يقول لند هل إن رسالته اكنت
حتمل وعدا طيبا ،مل يفصح عنه ،وآخر حتدث عن أمر ما
حدث يف العامصة ،بدا أن امجليع يعرفونه ،وأنه شديد اخلطر.
وأخذت أحاول مجع القطع مع بعضها ،فمل أجد ما يرحيين..
الوعد الطيب قد يكون أرضا تزنع من أحصاهبا ،وما حدث يف
العامصة قد يكون حرب جديدة اثرت عىل حامكها الطاغية،
القائد األسود .حفارضة البالد حتولت ،منذ زمن بعيد ،ألسوأ
32
ماكن عىل ظهر األرض ،بسبب القتال املتكرر فهيا وعلهيا ،ورمبا
اكن أمراؤان ينوون الانضامم لهذا اجلانب أو ذاك ،ليجروا الغرب
املسامل لتكل احلروب املهلكة مرة أخرى.
اكن وادلي حي ي يل إنه منذ انهتت الفتنة العظمية ،اليت
أطاحت ابملكل ،مل يدخل حاكم الغرب يف رصاعات خارجه،
فمتتع بسالم وأمان أكرث من غريه ،يرجع أغلبه لغلبة الصحراء،
اليت تفصل بني قراان وواحاتنا ،إىل أن قرر األثرايء الاستيالء
عىل لك أرض تزرع ،واقتساهما بيهنم ،ليدور رصاع عىل احلياة
نفسها ،وليس عىل جمرد كرايس احلمك ،كام يف احلارضة وغريها.
ولكن حىت يف تكل األايم السوداء ،مل خيرج احملاربون حنو
الرشق ،أو يأتوا جبيوش الرشق لنا.
وجلست مرتبصا يف املسهد ،انتظر انرصاف الناس للنوم،
فالحظت رجال هبىي الطلعة ،اثبت اجلنان ،مصوت ،يرقبين
بعض الوقت ،قبل أن ينرصف حلاهل ،فسألت عنه ،ألعمل أنه
ابن العبديل ،صاحب ادلعوة العجيبة ،اليت اس تطاع هبا حشد
لك هؤالء الفرقاء ،وأقنعهم ابجمليء ،ال أدري كيف!
اكن نويم ابملسهد من حسن الطالع؛ رمغ إنين أذكر أن ش يخ
الكتاب اكن يهناان عن مثل هذا األمر ،ويقول مكروها .لكن
هذا النوم منحين س بقا يف الصباح الباكر ،إذ جلست عقب
الفجر يف الصفوف األوىل ،ال يس تطيع جسدي املهنك
33
مغادرهتا ،فأصبحت يف ماكن ممتاز ،حيث احتشد الكبار،
يعقهبم احلراس ،اذلين أبعدوا البقية قرسا ،لكهنم وجدوين (أان
اذلي ال يزيد عن قاع احلثاةل بني احلارضين!) س بقهتم للماكن،
جالسا جوار املنرب ،ولعل ردايئ أرههبم ،فمل يقرتب مين أحد!
كنت محميا بس تار قوي من هجلهم بشخيص ،وهو س تار
أجلس ين وسط ثالثني من أقوى رجال البالد وأشدمه علوا.
يس تطيع الواحد مهنم -بلكمة واحدة -أن يدمر لك من كنت
أخشامه من جامعي الرضائب ،وقطاع الطرق ،وقادة اجلند،
وش يوخ البدل! لك من ميثلون يل اكبوسا ،سريجتفون رعبا ملرأى
واحد فقط من تكل الزمرة اليت أجالسها كتفا بكتف!
ورسعان ما صعد اإلمام عىل املنرب .اكن مرجتفا ،مرتباك،
وخطب خطبة قصرية للغاية ،ليس لها معىن .ولو إنين كنت
ماكنه ،أخطب يف عصبة من الفهار ذوي البطش ،اذلين ال
يرىج مهنم رمحة ،مفاذا أفعل؟ أأاهنامه عن منكر يفعلونه بال
خش ية ،أم آمرمه مبعروف يبغضونه بال حياء ،أم لعيل أحدهثم
عن أحاكم الصالة ،اليت ال يؤدواهنا غري هذه املرة! ..رمبا ذكرت
بعض أحداث الصحابة ،وقصص اجلهاد ،فيهتمونين ابلتحريض
عىل حماربة الفرجنة واألهبال ،اذلين أصبحوا حلفاهئم .ال أس تطيع
يف مثل هذه اخلطبة أن أقول اتقوا هللا ،ألتقي أذامه!
34
ونزل اإلمام ،كام صعد ،مرجتفا ،ليصطف خلفه حاكم البالد،
والقابضني عىل ش ئون العباد .مل أر يف حيايت صالة مجعة أقرص
وأثقل من هذه!
بعد الصالة ،خرجنا نبغي الولمية .فوجدت املوائد املفروشة
ماكن اخليام ،وعلهيا اصطفت لك ألوان الطعام والرشاب بال
اس تثناء .أراهن إنك لو سألتين عن أي صنف من الطعام،
حالهل وحرامه ،ذليذه وسقميه ،رخيصه وغاليه ،لوجدته عىل تكل
املوائد! ..ورمغ ذكل ،مل تكن لنا ،بل اكنت للجند واخلدم ممن
صاحبوا الزعامء ،أما أحصاب املقامات الرفيعة (مثيل!) ،فاكنت
موائدمه داخل القرص ،حيث نصبت يف الفناء أفرشة أخرى،
أخفم حاال ،تطغى رواحئها البعيدة عن تكل املوائد القريبة ،املقامة
ابخلارج.
دخل الفناء لك من أمسى نفسه زعامي ،وهو أمر مذهل أن جتد
إلقلمي واحد ،من أقالمي البالد الامثنية ،لك هذا العدد من الزعامء!
أىن يل أن أحصهيم! ..لرمبا اكنوا مخسامئة ،توزعوا عىل املوائد
اخملتلفة ،لكين مل أتبعهم .إذ الحظت حفنة دخلت إىل داخل
القرص ،فأدركت أنه يوجد هناك مائدة اثلثة للمصطفني األرشار،
وعزمت عىل أن أنضم إلهيا ،ألنه لو اكن هناك نبأ هام،
فس يكون ابدلاخل.
35
لكن مضيف القرص أوقف نواايي ،إذ وقف عىل رأس هذا
احلشد ،وقال بصوت هجوري:
" أرحب بمك مجيعا يف قرصي ،وأرجو أن يعجبمك طعايم،
لكن اآلن قبل الطعام ،أريد منمك أن تتعرفوا عىل صاحب
ادلعوة احلقيقي ،وهو صديق قدمي يل ،طلب مجع لك وهجاء
الغرب ،ل ي جنمتع عىل قلب رجل واحد يف أمر جلل".
وأفسح اجملال لش يخ وقور ،رمبا اكن يف الامثنني من معره،
يستند عىل عصا من خشب أسود المع ،مل أر هل مثيال من
قبل ،إال مع بعض التهار اآلتني من أقىص اجلنوب ،اكنوا قد
وقعوا يف أرس القراصنة ،وبيعت جتارهتم يف الزرقاء ،قبل
سقوطها بقليل ،بأمثان ابهظة.
تلكم هذا الش يخ الوقور بصوت منخفض مهنك؛ بيامن إىل
جواره شاب صغري -يبدو كام لو اكن ابنا أو حفيدا هل -يردد
لكامته بصوت اهز املاكن.
"بعضمك يعرفين؛ لكين جئت من أقىص الرشق ،ذلا فلمن ال
يعمل ،أان ش يخ بين األسود".
وملئين الرعب! القائد األسود بنفسه! ال بد أين هاكل ال حماةل،
بل البد أن لك القرى هالكة ال حماةل.
مث أيقظتين لكامته..
36
" لكمك مسعمت عن ابين ،اذلي يلقب نفسه ابلقائد األسود ،هذا
العاق ،اذلي طردته من القبيةل ،لزيداد خطره ،حىت إنه منذ
أايم أعلن نفسه يف العامصة ملاك .لقد قطعت لك تكل الرحةل
الطويةل حبثا عن حلفاء يعينوين عليه ،ألكف أذاه عن الشعب".
هنا تدخل مضيفنا قائال:
"أتينا مجيعا ،ليتفق اإلقلمي الغريب عىل لكمة رجل واحد .إما أن
منيض مع األسود الكبري مجيعا ،التقاء رش القائد األسود ،وإما
أن جنمتع عىل رفض احلرب ،ونتحالف مع القائد ،ونقبل به ملاك
يهنىي عقودا من احلروب يف بالدان بصفوف موحدة ،لرنحب منه
أكرث ،ونتقي من عدوه اخلسارة األكرب ،اليت سيتحمل أغلهبا
الساكن املساكني.
لكن اآلن ،بعد حتية ش يخ ش يوخ بين األسود ،لنتناول
الطعام ،وليتفضل معي كبار الوهجاء ملائديت اخلاصة ابدلاخل".
وتقدم بعض الرجال يعلنون عن أنفسهم ،مهنم من هو من
زعامء الغرب املشاهري ،ومهنم من مه من حلفاء بين األسود يف
الرشق ،وبني األخريين ،انتهبت لرجل شديد البياض ،يرتدي
حريرا مزركشا ،إذ مسعته يعلن عن نفسه:
"األمري األبيض حامك الزرقاء"!
األمري العظمي ،حامك امليناء األكرب يف بالدان ،أىت بنفسه ،عرب
لك البالد من طرفها عىل الساحل الرشيق إىل هنا! البد أن
37
قلوب الناس ارجتفت هيبة لألمر ،ال يدركون أنه جمرد ألعوبة ال
قمية لها .فالقراصنة اذلين اس تولوا عىل املدينة ،واختذوا ميناءها
قاعدة هلم ،أ ّمروا علهيم أمريين من الفرجنة ،اذلين سقطوا أرسى
يف أيداهم ،ويقال إاهنام شقيقني من أبناء امللوك ،فقط ليكونوا
واهجة مجيةل ،حتفظ حقوق املدينة دلى ابيق األمراء من جريااهنا.
ولمك تدفقت الكراهية يف قليب جتاه هذا األمري األبيض ،رمغ
إنين أكرث من يعرف أنه بال حول وال قوة .لكن الرعب اذلي
شاهدته حني سقوط املدينة ،ترك يف نفيس ندواب ال تندمل.
اكن املزيد من األمراء يتقدمون معلنني عن أنفسهم ،فاكن
املضيف يشري إىل بوابة القرص الميىن ،حيث دخل األسود
الكبري حينا ،وإىل بوابة يرسى أحياان ،يه -عىل األرحج -ملن
يظهنم مدعني.
وأصبحت يف حرية من أمري ،فلو توهجت للباب األيرس ،فلن
أبتعد فقط عن األنباء احلقة ،وإمنا أهدد بكشف أمري ،حيامن
أجلس وسط مجع صغري من األمراء احلانقني ،اذلين يظنون أنه
قد مت احتقارمه ،بيامن البوابة الميىن مغلقة للكبار جدا فقط.
لكن حدث ما طمأن قليب ،إذ تقدم انئب القايض معلنا عن
نفسه (اكن رجال يف األربعني ،امسه رشيف بن األرشف ،وليس
احلسيين كام زمع يل محمدين!) هذا الرجل يقود وقت السمل
38
مخسامئة رجل ،يزيدون وقت احلرب مخلسة آالف ،وهل حلفاء
كرث ميكن أن ميدوه ابملزيد.
لكنه إذ أعلن عن نفسه ابللقب اذلي يعرفه امجليع ،زعمي خدام
الرضحي ،وهجه املضيف للقاعة اليرسى .بيامن أىت يف عقبه زعمي
أسود اجلبل ،فأرسهل الساذج للميىن ،وأسود اجلبل ما مه إال
جامعة من قطاع الطرق ،اذلين مل جيدوا ما يكفي من جتارة
لرسقهتا ،فتحولوا ملرتزقة يؤجرون س يوفهم ملن حيتاهجا من
أحصاب القرى.
وإذ رأيت هذه النكتة تقدمت واثقا ألحلق هبم ،بيامن اكن
املضيف قد مه ابالنرصاف ،فدلفت الباب األمين خلفهم،
وارتبكت إذ وجدت املضيف يرفع لفمه كواب من املاء يرطب
لسانه ،اذلي أحرقه احلديث الطويل.
ش يخ األساودة جالس ،وحوهل زمرة من رجاهل ،ينتظرون أمرا
ما ،وخلف ظهري احتشد عدد ال بأس به من الصغراء ،اذلين
ظنوين متسلال ،وأحبوا أن يتبعوين .لكن ما أربكين حقا ،اكن
احلرس ،اذلين امتدت أيداهم إىل السالح ،يرمقونين ويتأملون
رحمي يف حتفز .ليس أمايم إال منفذ واحد؛ أن أقدل من س بقين،
وأعلن عن نفيس ،فالن زعمي قبيةل كذا ،لكن جيب أن أنتقي
اسام خميفا خفام هل رهبة ،ألقنع هذا املضيف الساذج.
39
ألقول مثال إنين األمحر ،زعمي قبيةل الغيالن .امس خميف،
والئق بدروعي امحلراء ،ونقش الغيالن علهيا .األمحر زعمي قبيةل
الغيالن.
ويف ارتباك دققت األرض برحمي ،كام يفعل جامع الرضائب
وسط سوق القرية بعصاه ،حيامن يعلن عن الزايدة اجلديدة.
وابتلعت ريقي بصعوبة .ماذا خييفك؟ األمر سهل! فقط لتقل
األمحر ،زعمي قبيةل الغيالن ..األمحر زعمي قبيةل الغيالن! ليست
مجةل صعبة لهذا احلد.
وخرجت الس يوف مشهرة حنوي ،فاندفعت أقول بصوت
صارم "القبيل زعمي الغيالن امحلر!"
تبا أي امس خسيف هذا؟
لكن ما حدث عقهبا أثبت أنه ليس ابالمس السخيف ..بل
اخلطري ..رمبا أخطر مما حلمت بكثري!"
40
()3
41
"ظننتمك ذهبمت؟"
ذهبمت؟ ترى ماذا يعين؟ أيعين أن تكل الغيالن امحلر هلكت،
أم رحلت ،أم اختفت؟ ذلا قررت الالزتام بردود قصرية
غامضة ،فمل أقل سوى:
"عدان!"
قلهتا مبا بدا هلم ثباات وجرأة؛ لكنه اكن يف احلقيقة جتمدا من
اخلوف ،يغلفه خداع ايئس ،ياكحف ألجل احلياة.
سأل رجل ال أعرفه" :مك عددمك؟"
رددت" :س بعة!"
وسكت .مل أقل س بعة آالف ،أم س بعة أشخاص ،فقط قفز
الرمق ذلهين ،رمبا ألن عدد الغيالن املنقوشة عىل لك درع من
دروعي س بعة.
وهنا نطق األسود الكبري مبا أراحين:
"مه دامئا س بعة!"
مل أفهم ،لكين ارحتت قليال ،وتش بثت بثبايت الظاهري أكرث.
سألين األسود الكبري:
"نعرف أين كنمت وقت الفتنة الكبرية ،فيا ترى يف أي جانب
س تكونون هذه املرة؟"
42
قلت " :يف اجلانب الصحيح!"
مل يعجهبم ردي؛ لكهنم مل يناقشوه ،ومضوا مجيعا حنو مائدهتم.
وأاكد أقسم إاهنم اكنوا ينظرون يل نظرة خوف! ..مه اجلبابرة
خيافون مين! ..تبا! ..ترى من هؤالء الغيالن امحلر؟
وبيامن ندلف حلجرة الطعام ،قال الرشكيس:
"رمبا اكن اكذاب؟"
مل أفهم أنه يقصدين ،إال حيامن رد عليه األسود الكبري :
"أي أمحق سزيمع إنه من الغيالن امحلر ،إال إن اكن من
الغيالن امحلر!"
بدا يل رد األسود مبهتها بعض اليشء ،كأن ظهور تكل
الغيالن قد غري حساابته لألفضل .أما مضيف القرص ،فمل خيرج
بعد من صدمته ،ومازال وهجه مكن رأى املوت يطلبه ،وعيناه
مثبتتني حنوي ،وأزمع إنه يطيل النظر ذلكل النقش عىل
دروعي.
الوحيد اذلي بدا متشكاك يف أمري ،األمري األبيض اإلفرجني
اللعني .اكن ينظر يل مبكر ،ويبتسم ،بيامن الباقون -مبا فهيم
الرشكيس اجللف فظ اللسان -بدوا اهابونين ،ويسلمون بأمري.
43
لكن أمري هذا رسعان ما توارى حيامن بدأ النقاش .ففهأة،
اندفع ابن عامر -أقوى رجل يف الغرب ،وس يد الثغر الكبري –
بقوهل:
"ملاذا أتيت بلك أولئك الرعاع يف اخلارج اي ابن العبديل؟"
رد ابن العبديل:
" اي أاب وكيع ،مه ال قمية هلم إن اتفقنا عىل رأينا ،س يطيعوننا بال
مناقشة ،ولكن حتت لك يد مهنم بضع مئات من اجلنود ،وبعض
احللفاء الصغار .فلو أرضينامه ،وحشدان لك من معهم معا،
ملنحوان جيش كبري ،حنن يف أشد احلاجة هل".
قال ابن عامر بلههة صارمة:
"فقط لو حاربنا؟"
رد ابن العبديل:
" وحىت لو انضممنا للقائد األسود ،فلكام اكن موقفنا أقوى،
اس تطعنا أن نفرض عليه ما حنب من ماكسب".
بدا الضيق عىل وجه األسود الكبري ،لكنه مل يعلق .ويف احلقيقة
فقد دهشت ملوقف هذا الرجل ،نعم مسعت أنه نبذ ابنه منذ
س نوات بعيدة ،وطرده من القبيةل؛ لكن هذا الابن بني قوسني،
أو أدىن ،من أن يصبح مكل البالد لكها ،وحامت حاول من قبل
44
اس امتةل قلب وادله ،الرجل القوي ،اذلي تنتفض بأمره قبائل بين
األسود لكها ،وما أدراك ما قبائل بين األسود!
ما أن أاهنينا الطعام ،اذلي مل أذق -ومل أتصور أن أذق -ما
هو أذل منه (حامت يليق بأن يكون آخر زادي!) ،حىت اس تأنفت
املناقشة من حيث انهتت.
إذ انربى ذكل الرجل املهيب -اذلي ال أعرف امسه – وقال:
"وملاذا حنارب األسود؟ هل خناف من جربوته؟ أليس أفضل
من الفوىض اليت تغرق لك البالد؟ ال أحد يأمن عىل نفسه،
حىت لو اكن حماطا ابحلراس املدجهني ابلسالح ،ألن هؤالء
احلراس رمبا ينقلبون عليه ،فال يوجد من يردعهم أو يعاقهبم عىل
فعلهتم .البالد حباجة ماسة ملكل ،ومكل قوي .وال يوجد بيننا
من يصلح ،أو ميكل تكل القوة اليت ينازع هبا األسود يف مبتغاه".
قال شاب جدل ،أقسم -مطمئنا -أن رضبة يده قادرة عىل
فلق احلجر:
" لكمك يعمل أنين رجل األسود يف الغرب ،ألنين أمكل من
الشهاعة ما جيعلين أعلهنا ،بيامن الكثري منمك يراسهل رسا ،يف
الظالم ،وينتظر جيشه ،لينضم هل ،منقلبا عىل إخوانه .ال أمل
وال نفع من قتاهل ،وال هدف من معاندته ،س ينترص حامت،
وس يصبح مكل البالد شئمت أم أبيمت ،وال جدوى من هذا
الاجامتع!"
45
قال اثلث بغضب " لن أسمل نفيس للقائد األسود أبدا.
س يقتلين كام فعل بأهيل يف العامصة .لقد فررت لهنا ،ألن
الغرب هو املاكن الوحيد ،اذلي مل ميد هل نفوذه .وأقول لمك :ال
تأمنوا هل .س ميزقمك عند أول فرصة ساحنة ،ال فارق عنده بني
من حاربه ومن حالفه ،ولمك يف (ميت ادلم) عربة! ..أمل اهدهما
عىل رؤوس أهلها بعد أن أعطامه األمان؟ وس يوزع أرضمك
وأموالمك عىل حلفائه األقوايء من الفرجنة واألهبال ،ليلحق بمك
جوار اذلل واملهانة واخليبة ،وزر اخليانة ،وتسلمي البالد ألعداء
ادلين".
مرة أخرى تدخل ابن العبديل ،ليعيد ما قاهل من قبل:
"لن حنارب ،أو نعاهد األسود إال عىل قلب رجل واحد .لو
فعلنا هذا ،فس نحصل عىل األمان واملاكسب الكبرية ،سواء
حالفناه أو حاربناه .فقط لتتفقوا عىل قرار واحد".
قال الزوردي ،وهو واحد من كبار أمراء املامليك ،وس بحان
من ملكه مثانية آالف مملواك ،بعد أن اكن هو نفسه مملواك ،يباع
ويشرتى!
"ال أمل ،وال فائدة من قتاهل .س ينترص حامت ،ولس نا ندا
جليوشه ،أو جيوش حلفائه األهبال .ملاذا نقف يف وجه العاصفة
العاتية ،بيامن ميكن أن ننحين لها حىت متر ،ولك منا مرتبص يف
قلعته؟"
46
ال أدري ملاذا أحسست أن عيواهنم تعلقت يب ،بعد أن قال
لكمته ..لعلهم ينتظرون رأيي ،ورمبا خش ية أن يفضحين
الصمت ،اذلي أس ترت به ،أو ألن الفضول اكن يقتلين هبذا
السؤال ،أو خلشييت أن أفيت يف هذا الشأن اخلطري ،لتحملين
لكميت وزر مصائر األلوف ،فقلت انزعا لك سالح من لكاميت،
ومغريا جمرى احلديث:
"ال أفهم ملاذا يعادي األسود الكبري ابنه؟"
وهنا ،كأنين فتحت اباب للجنة ،تسابقوا عليه! واحد يرصخ:
"نعم نعم! هو ابنه مفا أدراان أنه س يغدر بنا؟"
وآخر اهتف:
"هل سريسل لنا جنودا تساعدان؟"
وجترأ اثلث:
"ماذا بعد موته؟ هل سيبقى األساودة عىل حلفهم معنا؟"
ورابع ،وخامس يتدافعون ،ال ياكدون يرتكون فرصة للرد .بل
لعلهم ال يريدون ترك فرصة للرد.
ظل الرجل صامتا ،حىت فرغ احملتجون من جضيجهم ،مث تلكم
هبدوء أخرس الباقني فورا:
47
"أان ال أطلب منمك حماربة ابين ألجيل .وإمنا أانشدمك الوقوف يف
وجه طاغية ،ألجل أنفسمك وأهلمك .لكام قتل ودلي بريئا،
أحسست بدمه معلقا يف عنقي ،وحيامن ينصب نفسه ملاك،
فس يجتاح البالد ،واهدر دم العباد ،ويدخل يف أراضينا
األغراب ،ولك هذا اذلنب معلق يف عنقي ،ألنين من تركته
يبطش ،ويفلت دون عقاب ،واكتفيت بطرده من القبيةل،
وأشفقت عليه من القتل شفقة األبوة اللعينة .لكن من دفع المثن
اكن شعبا مغبوان ،مغلواب عىل أمره .وها أان أقص عليمك جرامئ
ش بابه ،وهو اتبع ال متبوع ،لتحس بوا ما س يكون عليه جوره،
حني ميكل رقاب العباد يف أحناء البالد".
48
()4
49
حلفاءك سينقلبون عليك ،مبجرد أن تقيض عىل أعداهئم ،وقبل
أن جتهز عىل ابيق أعدائك.
لكنين رمغ املعارك اليت حاربهتا ،واجليوش اليت هزمهتا،
واخلياانت اليت جنوت مهنا ،كنت دوما متأكدا أن الرشق يل.
هو خالص يل ،مس تكني ،يسلمين أمره ،أان القابض عىل أمور
األساودة ،املمسكني بأرواح اخلالئق يف لك الرشق .ذلا اكنت
صدميت هموةل ،حني نظرت أمايم ،أتأمل ختوم اإلقلمي ،فالتقط
برصي -اذلي اكن يوما حادا -مشهد حشود جممتعة فوق
اجلبل ،كأمنا اكنت تنتظرين!
إ ًذا ،فالرشق قد جن جنونه ،ويريد أن يمتلص من قبضيت! أىن
يكون هذا!
وحىت إن أصاهبم اجلنون وامحلق ،أليس أهيل وعشرييت هنا،
لريدوا هلم عقوهلم؟ ..أترامه خانوين ،كام خانين غريمه؟ ..كيف
وابين ،األسد اجلسور خفر قبائل األسود ،عىل رأسهم من
خلفي؟
تقدمت حنو طالئعي ،يتبعين اخلدم والرفاق ،وهتف يب واحد
ممن أثق فهيم:
"ال تغضب نفسك اي موالي! مران نسحقهم واهندم اجلبل عىل
رؤوسهم .فرمبا طالت غيبتك ،فراودهتم أنفسهم مراودة لن يعرف
ملثل الندم علهيا ندما!"
50
قلت بغضب:
"إنه رشيق اي حسام ،رشيق! مل ي ،ال ينازعين فيه أحد؛
فكيف جيرؤون؟"
قال:
"إ ًذا ،فال ختاطر بنفسك ،ومران نبيدمه".
قلت:
"األمر ليس كذكل .جيب أن أعرف من ،وكيف".
اندفع الرجال خلفي يرثثرون بأاهنم س يجيبونين ،وينزتعون
اللكامت من بقااي جثهثم ،ألعرف ما أشاء .لكين كنت مرصا،
فتهاهلهتم ،إىل أن وصلت للطالئع اذلين توقفوا ينتظرونين.
وأحسست أن أمرا عظامي قد وقع علهيم ،فدب يف قليب هاجس
مريع ،فبادرهتم ابلسؤال اخمليف:
"أمه األهبال؟"
نفوا رسيعا ،دون أن يفصحوا .فمل أطق صربا ،واس تللت
س يفي ،ورصخت بقائدمه:
"من مه وإال قتلتك؟"
ظل صامتا متأرحجا ،كأمنا ينوء حتت محل ثقيل ،فتدخل أحد
أتباعه بقوهل:
51
"مه خارجون".
قلت ":مه ماذا؟"
قال ":ممتردون هاربون من س يدي األسود الصغري".
قلت":هل تعقل ما تقول اي رجل؟ حنن يف الرشق ،موطن
قبائل بين األسود ،ومس تقر ملكها ،وال يوجد يشء امسه
خروج علينا أو مترد".
قال:
"مران نفتك هبم اي س يدي".
لكنين لست كذكل .لست من يأخذ األمور عىل عالهتا،
فأندفع ملا ال ميكن الرجوع عنه أو تداركه .اكن معي يقول يل
دوما إنين أجيد النظر ملا وراء الظواهر ،وأخرب البواطن ،وذلا
فضلين عىل أبنائه ،وأخويت األكرب ،ألخلفه يف املش يخة الكربى
لقبائل األسود .لو مل أكن كذكل ،ملا عدت ذاك اليوم ملوطين،
ولظللت أحارب ثالثة عقود ،حبثا عن رساب النرص ،القريب
دوما ،والهارب دوما .أي رجل غريي اكن س يظل يف حرب
أبدية ،مغرتا ابنتصارات متوالية ،ومدفوعا حبنق خياانت متتالية،
حىت يفىن جيشه رجال بعد رجل.
وحيامن نزعت نفيس من رساب النرص ،عدت ألجد اكبوس
المترد!
52
أيف أريض أان خترج الناس؟ أتشق عصا طاعيت؟ الفتك هبم
ومتزيقهم اليوم ال ينفع .عصا الطاعة إن شقت يوما ،ال تلتمئ أبدا.
مل يكن هناك منفذ جيده عقيل ،إال أن أاهنىي اليوم دون قتال،
وأعيد الغمن الشارد حلظرييت ،بعد أن أاتها راعهيا الكبري ،يصلح
ما أفسده الصغار ،وحياسب هذا اذلي تركته خلفي ،خفاب.
حىت لو اكن حسااب ومهيا أمام الناس حفسب ،جملرد أن أومههم
عيل أان ،ش يخ الش يوخ ،وإمنا عىل ابن غر ساذج أاهنم مل يثوروا ّ
مل يكتسب بعد حمكة الكبار أمثايل .كظمت غيظي وأان أرمق
احلشد ،واس تعددت ألقلب األمر لصاحلي ،فقلت لهذا التابع:
" مل اثروا؟ ومن قائدمه؟"
مصت الرجل مهبوات ،كأمنا سألته أن يأيت ابلشمس من
املغرب ،فنظرت لقائده ،اذلي أحىن رأسه ومصت ،كأمنا يظلهل
العار .وأخريا تلكم التابع متلعامث:
" مه رعاع .خرجوا ظنا أن موالي ذهب وابتعد عهنم".
قلت حبسم " إن كنت ال تدري من قائدمه ،وماذا يريدون،
فليس كل ماكن بني طالئعي".
ارجتف الرجل ،كأمنا حمكت عليه ابملوت ،فتهاهلته ،ونظرت
لقائد الطالئع:
53
" أرسل رجال للعشرية ينبئوين عن هؤالء ،ورسوال ذلكل
املعسكر ،لريسلوا ّيل قائدمه".
وكأمنا أزحت جحرا يثقل لسانه ،تلكم أخريا قائد طالئعي:
"هو رسول من العشرية اي موالي ".وأشار لذلي ظننته اتبعا!
وتنهبت ،حيهنا فقط ،أن هذا املتحمس لدلماء ال تظهر عليه
وعثاء السفر وإاهناك القتال ،فنظرت هل غاضبا ،وقلت:
"إن كنت كذكل ،فكيف ال تعرف عن أمر هؤالء شيئا ،ومل
مل تأتين بدال من التلكؤ هنا؟"
قال:
"إمنا كنت أحذرمه من تلمك العصبة اخلائنة ،وأنبهئم أن
يس تعدوا لقتاهلم".
قلت بصوت مزلزل:
"أتأمر جنودي وأان بيهنم أاها العبد!"
قال بصوت متحرشج:
"حاشا هلل اي موالي! أان عبد ضعيف ،وإن يه إال رغبة
خليفتك ،وساعدك ،وابنك املبجل".
54
ظهر يل األمر جليا ،الطالئع مل تنتظرين ،بل اكنوا جيادلون
عيل؛ وإمنا لمينعونين من
رسول ابين .ورفايق مل يتبعوين خوفا ّ
رؤية ما حيدث.
اي للسامء! مك بلغ ابين من احلنكة حىت يصل ألقرب املقربني
يل ،فيحجب عين ما يشاء؟ ومك بلغ من غرور ،فيظن أنه يعمل
كيف أفكر ،وأنه س يدفعين ذلحب خطاايه فوق اجلبل ،ومك بلغ من
محق وخيبة حىت يس تطيع إاثرة الرشق الغايف دوما فوق
وساديت؟
نظرت بربود للتابع وسألته:
"من معك جاء من العشرية؟"
فأشار مرجتفا لرجل بني أذايل القوم ،قريب من آذان ندمايئ،
منمكش يرجو أن ختطئه عيين ،فتيقنت من حصة ما ذهب هل
عقيل ،وازداد عزيم عىل معرفة ما وراء ذكل المترد.
قلت هلام:
"أخرباين أاها املتعوسان ،مل مل يقم ابين ،املبجل كام تزعامن،
بسحق هؤالء ،بدال من انتظاري؟"
مل جييبا ،وكنت أخىش ذكل .إ ًذا ،فالفىت الغرير خيىش إن
خرج مبن معه لهؤالء أن يثور غريمه! أي اكرثة تكل اليت فعلهتا اي
ودلي لتحدث لك ذكل؟
55
نظرت ملن حويل حمتقرا مصهتم ،فهم يتآمرون مع ودلي ليخفوا
عين النكبات ،اليت لطخ هبا عرش أجداده .بل إن بعضهم
خيشاه .ال بأس عندي أن خيشوا ودلي ،ولكن أجيرؤون عىل
خشيته أكرث مين؟
قلت هلم":سأذهب ألرى من شأن هؤالء".
قال التابع األخرق:
"ال اي موالي ،ال جيوز .نذهب حنن ،ونأيت كل ابلرسل".
تركته يتلوى يف أمله ،انظرا بذهول ليده امللقاة أرضا ،وأعدت
الس يف لغمدي وأان أقول:
"هل هناك من جيرؤ عىل منعي من أمر أريده؟ أان األسود
الكبري ،مفن يريد منعي من يشء ،فليخربين من هو؟"
ومضيت ال ألوي عن أمري ،يتبعين الرجال متثاقلني حىت
وصلت للسفح ،فرأيت ما أذهلين ومجد عقيل بصقيع احلرية.
أمازال برصي حاد،ا وما أراه هو مالبس أطفال منشورة
لتجف ،ونساء ملكالت ابلسواد يطبخن! وجعائز يبكني؟ أهذا
جيش يطلب قتايل كام يزمعون؟ ما مه إال مساكني يطلبون
املالذ.
ووجدت ،عىل رأس الطريق الصاعد للجبل ،ثةل من جنود
مدجهني ابلسالح ،يرتدون الزي األسود اذلي فنت به ودلي،
56
فأدركت أاهنم جامعة من صعاليكه ،اذلين مجعهم ودرهبم ورغب
يف مضهم جليش القبائل ،لوال إنين نبذهتم رغام عن أنفه ،ألن
أمثاهلم ال يوثق فهيم.
ورفع أولئك الصعاليك سالهحم يف وهجىي ،وهتف أحدمه:
"ارجع أاها الش يخ العجوز ،فلن يصعد أحد حىت يأيت األسود
نفسه ابجليش ..أمل نقل لمك سابقا ارجعوا ،وأخربوا س يدمك إن
هناك خوارج راغبة يف قتهل؟ أال تفهمون شيئا اي محقى".
فهمت اآلن مل اكن قائد الطالئع يشعر ابلعار ،فقد أحس جبرم
سفك دماء النساء واألطفال ،رمغ فزعه من ودلي.
قلت هلم حماوال ترويض غضيب:
"من أمرك هبذا؟"
قال:
"القائد األسود بنفسه".
مل أكن قد مسعت هذا اللقب ،اذلي اختاره ودلي لنفسه من
قبل ،لكين أدركت من يقصد .الفىت الغرير يريد أن يزب شأين
حىت يف الامس .ش يخ األساودة مقابل القائد األسود!
قلت متذرعا ابلصرب:
" ومل يريد هذا؟"
57
رد:
" وما شأنك أنت أاها العجوز؟ أجترؤ عىل حتديه؟"
قلت:
"أوتدري من أان؟ ماذا س يفعل بمك األسود الكبري إن عمل
بذكل؟"
هز كتفيه مس هتزئا ،وقال بنربة هتديد:
"أتريد اللحاق بأيب جدلة؟ اي جعوز ال تتعجل ،فش يبتك
س تطفأ شوقك هل!"
مل أدر بنفيس ،إال وس يفي ميزق مخسة مهنم .تبا كل اي ودلي!
قلت كل من قبل إنك ،همام فعلت فهيم ،فس يظلون صعالياك
محقى!
رمغ كرب س ين ،وأن س يفي اكن يف مغده ،فقد مزقت مهنم
مخسة ،قبل أن يفيقوا من فزعهم .وحيامن اس تلوا س يوفهم،
أخريا ،اكن األوان قد فات .وبيامن كنت أحصد اثنني آخرين،
أتت الهتافات ملن خلفي:
"لبيك اي أسود".
فزع الصعاليك إذ أدركوا خشيص ،وأدركوا أن ثرثرهتم طالت ما
يكرهه س يدمه الصغري ،ففروا هاربني ،مل يعرف هلم طريق.
58
وإذ وصلت تلبية أحصايب ملسامع اجلبل ،فكأمنا بعثت فيه
احلياة بعد موات ،هملال وهاتفا ،فزنل املس تهريين منه ابكني،
قائلني:
"الغوث اي أسود ،الغوث اي أسود!"
وعلمت لك يشء يوهما.
أراد ودلي األمحق مجع جيش يدين هل هو ابلوالء دون سواه،
جفمع مئات الصعاليك ،وأحلقهم جبنده ،وابزت هبم أتباعي
ليطيعوه ،وخوفهم يف أهلهم ،فأصبحوا يرجعون هل ابألمر قبيل.
وملا غادرت حلريب الفاشةل ،توسع يف مد نفوذه ،والبطش
ابخمللصني يل ،حىت أن أيب جدلة ابن اجلالد ،اذلي زمعوا يل أنه
مات غريقا ،إمنا قتل عىل يده ،ألنه رفض أن ميده ابملال ،ل ي
يدفع نفقات أتباعه ،اذلين أكرثمه الطمع.
كنت -كعادة من س بقوين -أترك املال يف يد غري اليد اليت
أخلفها عىل القوم ،ومل أجد خري من رفيق الصبا ابن اجلالد ذي
العشرية والشوكة.
لكن بطش ودلي إذ كرس شوكة ابن اجلالد ،مل يكرس هيبيت
عندمه ،فمل خيلوا بينه وبني املال ،فقام الفىت الغر جبدل
الفالحني ،واهنب القرى ،حىت ازداد وزر صعاليكه ،ففر
البسطاء هاربني للقرى البعيدة .وأاثر هذا غضبه ،فتبعهم جبند
59
ارتدوا السواد عىل األجسام والقلوب ،كس يل عارم ،حرق تكل
القرى ،وأش بع أهلها واملس تهريين تقتيال.
وملا ضاقت عىل الناس األرض مبا رحبت ،وأحسوا أاهنم إن
بقوا يف قرامه اهنبوا ،وإن غادروها قتلوا ،جلئوا للتالل ،إىل أن
أاتمه نبأ عوديت ،خفرجوا عن بكرة أبهيم للجبل ،متحصنني به
حىت آيت وأنصفهم.
وأدرك ودلي أنه لن يس تطيع الاستيالء عىل اجلبل قبل
عوديت ،إال جبمع لك رجال القبيةل ،وحيهنا قد تنقض عليه
عشرية ابن اجلالد ،طلبا للثأر .فلهأ حليةل خائبة ،ليلوث يدي
أان بدم الفقراء.
هنا جلست أفكر وحدي ،مقلبا األمر عىل لك وجه .ولكام
حاولت أن أجد عذرا للفىت ،وجدت حامقته تذهبه.
أأقول خملص يل وللقبيةل ،يرغب يف زايدة جندها وهيبهتا
بقبضته الصارمة؟ مفاذا عن قتل أعواين ،وإخفاء احلقائق عين؟
أأفرتض أنه شاب طموح ،يريد أن يبين لنفسه ملاك راخسا ال
يس تطيع أحد منازعته فيه بعد مويت ،خاصة مع تربص أوالد
معوميت الساعني لعودة املش يخة يف نسلهم؟
مفاذا عن فشهل يف احلمك ،وعدم قدرته عىل تدبري أمواهل ،رمغ
لك ما اهنبه؟
60
مل يس تطع أن ينجح يف العدل ،أو يرحب من الظمل! ..بل خرب
األرض ،وأهكل املاش ية ،وهدد الرشق ابجملاعة .ولن نس تطيع
أخذ ما اعتدانه من رضائب من حطام الفقراء ،إال بعد س نوات
عدة.
أأحس به متآمرا ،يرغب يف قتيل والانفراد ابحلمك؟ اي هل من
متآمر ابئس ،مل جيد حىت تدريب أعوانه ،فمل تصمد ثةل مهنم
أمام رجل جعوز مخلس دقائق.
من لك وجه هو مذنب .مذنب يف إخالصه بتآمره ،ويف
تآمره بفشهل!
وأصبح العقاب حامت مقضيا .فأعددت احملامكة.
رفض الفىت أن ميثل أمام قضايئ قائال:
"أحتامكين أمام هؤالء اي وادلي؟ وألجل من؟ أان القائد
األسود ،ابن األسود الكبري ،خفر األساودة ،أحامك ألجل حفنة
من الفالحني وساكن القرى القذرين؟"
قلت هل:
"سفكت ادلماء ،واهنبت األموال بغري ذنب".
قال:
"وألي غرض؟ ألبين جيشا وملاك .ما هؤالء إال احلطب اذلي
أوقد به انر جمدي!"
61
رددت بغضبك
"وإذا ما نفد احلطب اي أمحق؟ تنطفئ انرك وال يبقى سوى
السخام!"
هز كتفيه قائال:
"بل أنزتع احلطب من أيدي من حويل!"
هنا أدركت أال أمل يف إصالحه .أفهم أن يرى األساودة فوق
غريمه ،وأجتاوز عن كربه جتاه أقرانه األدىن من عشريته ،فأقول
لنفيس إن األايم س هتذبه .أأغفر هل لك ما فعل ،فأقول أخطأت
يف كذا وكذا ،واكن جيب أن تفعل بدال منه كذا ،وأرشده ملا
اكن أحنك وأمكر؟ لكين ،ملا مسعت هجالته ،نظرت
للمس تقبل ،فمل أر ابين إال جرادة كبرية ،تدمر وال تعرف البناء.
وصنع اجملد ،إن اكن حيتاج لتدمري مكل غريك ،فلن يكمتل إال
ببناء ملكك .وودلي عاجز عن البناء ،ولو تركته اليوم،
فسيشق وحدة بين األسود لرشاذم متحاربة ،والفالحون ،اذلين
هربوا اليوم ،س يقاتلونه غدا.
فكرت أن أبقيه ،وأنقل اخلالفة لغريه ،لكن الفىت شديد
اذلاكء؛ رمغ افتقاده للحمكة ،وس يكون لعنة بال شفاء عىل لك
من يرتبع يف املش يخة .مازال املكل يل؛ لكنه جنح يف اخرتاق
أضيق صفويف ،وفتنة املكل سلطااهنا عليه لن خيبو.
62
وإلنقاذ بين األسود ،والرشق لكه ،من حرب بني اإلخوة،
حمكت عليه ابلطرد والنبذ من القبيةل.
هو ال حيتاج للقتل ،بل حيتاج لعقل أحمك ،ورمبا إذ تروضه
الس نون يعود يل عاقال ،فأعفو عنه وأبوئه مقعدي.
لكنه نظر يل غري مصدق للحمك ،وقال:
"أشهد إنك ستندم عىل هذا".
وقد صدق ،فليتين رضبت عنقه .فلو فعلت ،ما اثر ما أاثره
يف احلارضة ،وال جلس نا اليوم نتشاور يف شأنه .خناف عىل
أنفس نا مصري اجلبيل واملرصفي.
63
()5
64
ولكن كام هو احلال مع لك يح من أحياهئا ،انزعه يف هذا
املاكن القائد املرصفي .اكن املرصفي ابن واحد من قادة اجلند يف
جيش املكل ،وورث الزعامة عن أبيه ،وحاول أن يزيد عدد
رجاهل ،ليبين جيشا هميبا؛ لكنه مل يبؤ إال حبرب دامية بينه بني
اجلبيل ،يتنافسان عىل مجع احللفاء واألتباع واملال واملرتزقة.
وحني أىت القائد األسود مبئات الرجال ،أكرمه اجلبيل أميا إكرام،
وبسط هل امحلاية واملأوى ،وأقرضه املال لينارصه ضد املرصفي.
وكام ينتظر من خفر بين األسود ،أثبت الشهاعة والرباعة ،حىت
أذاق جنود املرصفي الرعب .وازداد بأس صعاليكه ،ذوي
اللباس األسود ،اذلي عرفه هبم القايص وادلاين من وقهتا.
اكن للمرصفي بنتا مجيةل ،ورثت عن أهما -اليت يزمعون أاهنا
اكنت من األرشاف -هبا ًء وحس نا ،جلب لباب أبهيا أفواجا من
اخلطاب ،فضن هبا علهيم ،ينتظر أن جيد حليفا يس تحقها.
فأاته القائد األسود رسا ،وقال هل إنه رآها عفوا ،فطار لبه
وسلبت روحه.
وقال للمرصفي:
"أاها األمري أان عبدك .لو وافقت عىل أن تزوجين ابنتك،
فسأختلص من اجلبيل".
65
وانهتز املرصفي الفرصة ،فوافق .فطلب منه القائد األسود أن
يوافيه ،يف ميعاد معني ،بأموال ورجال ،وسط الصحراء ،خارج
املدينة.
وخرج هل املرصفي برجاهل رسا ،فوجد مكينا من جنود األسود
واجلبيل ،قتلوه ومن معه ،واهنبوا املال.
واجزت األسود رأس املرصفي ،ووضعها يف سةل .وأمر رجال
اجلبيل ابلبقاء يف الصحراء منتظرين ،ألن املزيد من جنود
املرصفي آتني.
ورحل عهنم جبنده ،صانعا موكبا عظامي صاخبا ،خفرج هل اجلبيل
فرحا ،ليشاهد رأس غرميه املقطوعة .وملا محلها عاليا يف يديه
يراها ألبنائه ،اس تل القائد األسود س يفه ،وقطع رأسه هو
اآلخر ،لتتدحرج الرأسني الغرميني معا عند قدميه.
وهرب مبن معه خمتبئا يف اجلنوب ،بيامن خرج أبناء املرصفي
مجيعا ،يقودون اجلند للثأر من اجلبل،ي ال يعرفون بأمر مقتهل.
واس مترت احلرب بني الفريقني أايما دامية ،أاهنكهتام معا،
وضاعت رحي أبناء اجلبيل ،إذ تفرق عهنم املامليك ،ألن املال اكن
هو جامعهم ،وقد انفرد به كبريمه يف قلعة حصينة.
وزحف أبناء املرصفي ،حيارصون القلعة طمعا يف املال ،وقد
أشاع األسود بيهنم أنه خيتئب فهيا ،فزاد من إرصارمه برغبة الثأر.
66
وإذ انشغل اللك حبصار القلعة ،اجتذب األسود بعضا من
رجال اجلبيل ،الهاربني مبا اهنبه من مال املرصفي ،جفمعهم ،وجهم
جهمة حمسوبة عىل قرص املرصفي ،فأحرقه ،وقتل أغلب أبنائه
ومه نيام .مث اتفق مع كبري مماليك اجلبيل أن يكرس احلصار،
مقابل نصف الرثوة ،لميزق مبن معه جنود املرصفي ،واهرب آخر
أبنائه جنواب خارج العامصة .وأصبح عاجزا خانعا ،وهو اليوم من
أتباع األسود!
أما أخته احلس ناء ،فمل يعرف لها أثر ،وقيل إن أحد اجلنود
اختطفها ،وابعها إىل حاكم األهبال.
وهكذا قىض األسود عىل الغرميني معا ،واس توىل عىل أغلب
كنوزهام ،والكثري من رجاهلام ،ورسعان ما حول حلفاءه ألتباع.
اكن مازال يف حسن الفطنة ،وتعمل من خطيئ ،فمل يقبل أن
جيعل يف جيشه أمريا غريه ،ال يأمتر اجلند بغري أمره ،ومن يريد
حمالفته ،فليعمل أن عليه طاعته طاعة مطلقة .ورمغ ذكل فقد زاد
عدد جيشه لأللوف يف وقت قصري.
عىل أن انفراده بلك شامل العامصة ،مبا حتويه من قالع وجزر،
أاثر حفيظة ابيق األمراء ،خاصة احللفاء السابقني للجبيل
واملرصفي ،وأعداء األساودة .فتحالفوا معا عىل طرده ،ومجعوا
جيشا كبريا لسحقه.
لكهنم اكنوا يواهجون من ال قبل هلم به!
67
جنوده -عىل قلهتم -منظمون مدربون ،بيامن جنودمه أخالط
من غث ومسني .وزاد من حرهجم أن جنح جبواسيسه يف إيقاع
الفتنة بيهنم ،وجتنيد عدد من أتباعهم وخدهمم ،فانقض علهيم قبل
أن ينقضوا عليه ،وأش بع جنودمه ذحبا وتقتيال ،مل يعرف مثهل
منذ غزو األهبال ،واغتال أكرث من نصف أمراء العامصة يف
رضبة واحدة ،فتشتتوا همزومني ،يتلمسون الطرق لقصورمه
وقالعهم.
لكنه تتبع أعداءه ابجلواسيس والقتةل املأجورين ،يقتلهم يف
قعور بيوهتم واحدا تلو اآلخر ،حىت رفعوا راية الاستسالم،
وسلموا هل أكرث من نصف العامصة خالصة بال مراء.
ملا بلغ هذا الشأن ،فكرت أن أرسل هل عفوي وخفري بودلي،
اذلي أثبت براعة يف احلرب ،وحنكة يف القيادة ،وهمارة يف
الس ياسة .لكنه كرر خطأه األكرب مرة أخرى ،أثقل عىل أهل
العامصة ابلرضائب واملكوس ،حىت فسدت التهارة ،وزاد الفقر
والفاقة ،وهرب الناس من أرضه إىل أرض غريه.
مل يفهم ودلي أبدا كيف حيافظ عىل البقرة احللوب ،فينتفع مهنا
دون ذحبها ،أو إهالك جعولها .ظل يس تزنفها حىت جف الرضع،
ومضر اللحم.
وملا تناقصت األموال معه ،وتزايدت األحقاد عند خصومه،
أقدم عىل جرمية مل يس بقه لها أحد ،وما اكن للعفو ماكن بعدها.
68
أعطى األمان لبعض التهار واألمراء بعهد مكتوب ،مث غدر هبم،
فقتلهم ،واس تخلص أمواهلم .وكرر الفعةل مع عدد من حلفائه
األغنياء ،ولعل ذكرى (ميت ادلم) ،والهول اذلي فعهل فهيا،
ختربمك عن األهوال اليت يذيقها للحلفاء قبل األعداء.
لكن هذا البطش أاثر الرعب يف القلوب مع ما أذاعه عن
نفسه من أاكذيب ،كأنه مآخ للجن ،وأن هل ابعا يف السحر،
يعرف به ما يدور يف النفوس .فامتد سلطانه عىل العامصة لكها،
وما حولها ،ليوحدها ألول مرة منذ سقوط املكل.
مث حتالف مع األهبال ،وتعاهد مع الفرجنة ،لزتيد أمواهل برشامه،
وقويت شوكته ،وحسق لك من تسول هل نفسه أن يتحداه.
واليوم ،بعد أن امتد سلطانه عىل إقلمي الوسط بأمكهل ،توج
نفسه يف قرص املكل القدمي ،وأعلن نفسه حاكام عىل لك البالد.
إين أحذرمك من ات ّباعه .س يفسد يف األرض ،ويعيش الناس يف
عهده رعبا دامئا ،كام إنه س مينح األهبال والفرجنة من األرايض ما
جعزوا عن انزتاعه بس يوفهم منا.
حنن يف الرشق حمارصون بينه بني الفرجنة واألهبال ،وال أمل
يف الشامل اذلي جهر ،وال اإلقلميني اجلنوبيني اذلين امتلكهام
قطاع الطرق ،ومن بقى فيه من أمراء وقبائل يتذلل لألسود.
لكنمك يف الغرب أملنا الوحيد ،للوقوف ضد هذا الليل الغامش،
فمل متزقمك احلروب قدر ما مزقتنا ،وحلفاء األسود هنا قليلون ال
69
خيلص هلم وال خيلصون هل ،وليس هل الكثري من اجلواسيس هنا.
فلو حالفمت بين األسود بس يوفهم اجلبارة ،فسنس تأصل هذه
القرحة اخلبيثة ،وختلص البالد.......
هنا قاطع اسرتساهل الرجل املهيب صارخا:
"خالصة! ....ملن؟ ألش تات من أمراء؟ س تعود البالد لسريهتا
األوىل من تفكك ومتزق .هذا لو مل اهزمنا األسود مجيعا ،سواء
يف أول مرة ،أو حيامن يعود بعرشات األلوف من الفرجنة
واألهبال ،لتضيع أراضينا وأموالنا ،ويزيد المثن اذلي س يقبضه
الفرجنة واألهبال من أرضنا .لو عاهدان األسود وحالفناه،
فس نحقن ادلم املهدور عبثا".
70
()6
مع الصمت املاكن بعد تكل اللكامت .أراهن إنمك مثيل مل تتأثروا
كثريا حبديث العجوز الفارغ ،ونفاقه املفضوح .لكن من معي اكن
ميعن النظر يف جربوت األسود ،ويوازن ابخلوف من غدره .بيامن
كنت أفكر يف كيف يزالفنا هذا العجوز ابحلديث عن العدل
والبناء؛ بيامن مأخذه الوحيد عىل ابنه ليس ادلماء الربيئة ،وإمنا
فشهل يف الطغيان عىل الوجه الصحيح!
وذلا كنت أول من تلكم ،كنت الوحيد املنشغل بأحوال
البسطاء ألنين مهنم ،ببساطة لو مل يكن هناك بديال لألسود،
فأان أرحب به ملاك! أي مكل ينظم حياتنا ،أفضل من ال يشء.
لكن إن وجد من هو أفضل من الطاغية حليف األهبال ،فمل
ال؟
وهكذا كرست الصمت بقوليك
"لو اتفقمت عىل حرب األسود ،مفن يقود البالد؟ جيب أن نتفق
عىل مكل بديل هل ،حيارب األهبال من بعده وغال ،حفىت لو
71
انترصمت ،س يعود عىل رأس جيش مهنم ،ال يبقي وال يزر .جيب
أن ختتاروا ملاك بديال".
رصخ الرشكيس:
"لعكل تريد تسلمي البالد للغيالن امحلر!"
قاطعه ابن عامر:
"ليقصد ما يقصده ،املهم إن السؤال حصيح .إما أن نتفق –
واآلن -عىل خشص ال ينازعه أحد يف املكل ،وال يقول هل أحد:
أان أحق منك ،وإما أن نسمل أمران لألسود".
تلكم ألول مرة أمري شاب مرتف "لو اجمتعنا لكنا عىل مبايعة
ابن عامر ،أو حىت عىل الش يخ األسود ،فلن جيمتع هلام الناس يف
ابيق األقالمي ،وس تهدون من خيرج قائال "إن اكن هو يطلب
ابملكل لكذا فأان مثهل وأحق ابملكل منه".
اندفع آخر:
"إما أن يأيت ش يخنا ابمس يبدل األسود ،ال خيتلف عليه
اثنان ،أو يرحينا من إحلاحه وأحالفه املدمرة".
نظر امجليع بتحد لش يخ األساودة ،لكنه قابلنا اببتسامة غريبة،
كأمنا أتينا ملا يرغب .وظل هادئا ،منتظرا فراغنا من احلديث،
ففكرت أنه إمنا أىت لريخس يف أذهان األمراء الاستسالم للقائد
األسود ،وطاعته بدال من حماربته.
72
لكنه تلكم بغري ذكل متاما .أىت مبا ال يفهمه عقل ،أو يطيقه
صدر .تلكم عن سليل اخللفاء ،وريث امللوك ،حامل عهد
اخلليفة .هذا الوحق اكن يتحدث عن الوريث األخري ملكل البالد!
تبا هل ،لو اكن األمر بيدي لفتكت به ،وشاركين يف الثورة
عليه امجليع ،وأعين ابمجليع لك من يف القاعة ،حىت أتباعه اذلين
اكنوا يقفون خلفه ،فقد نظروا لس يدمه كأمنا به مس ابجلنون ،ال
"كأمنا" وإمنا هو به مس من اجلنون فعال!
هذا ادلعي الاكذب املارق أوجد طريقا ألذن السود الكبري؟
أوبلغ به اخلرف واجلنون أن ينىس مك من آالف أضاع أرواهحم
هذا ادلعي الاكذب؟ هدر دم أيب عبثا ،ومات مكدا بسبب هذا
املنافق .أنعود لهذه املأساة مرة أخرى؟ ندور ابدلعاة بني
املساكني والبسطاء وادلراويش إن آخر أحفاد املكل ،سليل
اخللفاء ،صاحب احلق الرشعي يف املكل ،كام سمل هل اخلليفة به
يف اخلطاب املشهور؟ أما يذكر كيف جهر اآلالف بيوهتم يتبعون
(صاحب احلق الوريث األخري) عىل أمل أن يرد هلم ما انزتع
مهنم ظلام يف الفنت ،اليت تتابعت علهيم كقطع الليل املظمل ،وعدد
من املغلوبني ،اذلين طمعوا يف اس تعادة اجملد بإتباعه ،مث انتبه هل
القائد األسود -ومل يكن قد وصل ملا وصل هل اليوم من قوة -
فهامجه ومزقه هو وجنوده رش ممزق ،مث افتضح كذبه وإنه ليس
سوى داعية من دعاة اخلوارج ،خدع اخلليفة ليسلب منه
73
البالد ،فانفض عنه الناس ،بعد أن أرسل اخلليفة ترب ًؤ منه،
واختفى يف أحراش الشامل مل يعرف هل مصري.
هتفت حممتيا بأصوات البقية:
"مل يكن هذا الوريث سوى داع اكذب ،وثبت برهان هذا
للناس اكفة".
أخريا اس تطاع الرجل أن يرد علينا ،واي لهيبة زعمي األساودة،
مفا أن نطق بلكمته األوىل ،حىت خرست األلس نة منصتة.
دعي اكذب فاسق ،وس نه اكن أكرب من سن "هذا اكن ّ
الوريث األخري احلقيقي ،لكنه اس تخدم أنبا ًء حقيقية ،ونس هبا
لنفسه زورا.
كنت بنفيس شاهدا عىل جناة ذكل األمري من القتل ،وهو
مازال جنينا يف بطن أمه ،فرمبا تذكرون أن آخر أبناء املكل
جلئوا ألنس باهئم ،يف واحات ساوة هنا يف الغرب".
كنت مسعت مبثل هذا األمر ،فاليح ساوة يتفاخرون دوما
عىل من حوهلم بأاهنم أنس باء املكل؛ لكهنا بدت يل دوما قصة
خسيفة ،ال يصدقها عقل.
أمكل ش يخ ش يوخ بين األسود:
"اعتصم آخر أبناء املكل يف ساوة من اذلحب ،اذلي أمعهل
الثوار يف آل املكل .إىل أن اقتحم أعداءمه الواحة ،وأابدومه..
74
أظهنم اكنوا من جنود حامك قلعة ساوة ،اليت يف اجلنوب اي
رشكيس؟"
رد الرشكيس متربما:
"ال مل يكونوا من جنود سلفي ،بل أتوا من احلارضة والطريق
األقرص عرب مدينيت".
نظرت مس هتزئا لهذا املغرور ،مفدينة ساوة ليست سوى
مجموعة من القالع ،تقع وسط الطريق بني الواحات واحلارضة،
لكنه يرص عىل تسميهتا مدينة!
تنحنح األسود ،قبل أن يبدأ يف قص األمر:
"جنا مهنم أمري واحد ،أو ابن أحد األمراء ،وتزوج من بنت
رجل ثري تسمى سارة ،أتت يل مس تغيثة -بعد أن قتل زوهجا-
حبىل اببنه ،ترغب يف الرحيل رشقا إىل مدينة طرابل ،لرجل
يسمى الش يخ (سلطان القنبوري) -كام أخربتين -وأان متيقن أن
ابهنا مازال يف طرابل ،مل يغادرها ،ومل يأت لتكل البالد لكنه
قابل أحد دعاة اخلوارج ،فقص عليه قصته ،لينتحل هذا ادلعي
خشصيته".
اكنت هذه أنباء غريبة عن أسامع القوم .حصيح إنه اكن هناك
دوما مهس بوجود أمري انج ،وبعض الرجال متادوا فزمعوا أاهنم
دعوه حلمك البالد ،وش هبوه بصقر قريش اذلي أنقذ األندلس من
فتنة مريرة؛ لكن هؤالء رسعان ما انكرسوا عىل يد أمراء
75
املامليك الطامعني يف العرش ،ومل يعد الناس تردد هذه اخلرافة،
خاصة بعد أن جاء الوريث الاكذب ،مث ااهنزم.
واليوم يأيت رجل توزن لكمته بألوف الس يوف ،لزيمع أاهنا
حقيقة!
تلكم أحد األمراء بلكامت متثاقةل:
"لنفرض بصحة هذا األمر .ما خطر الوريث عىل القائد
األسود؟ أىن هل جبمع الرجال والسالح الاكيف حملاربته؟"
رد هبدوئه املس تفز:
"القائد األسود يدعو لنفسه ابملكل ،ألن أحدا ال ينازعه عليه.
لكنه يدرك أن ليس هل يف مكل البالد حق رشعي ،أما حق
الوريث فال خيتلف عليه اثنان ،وال ينازعه فيه أحد .هو خشص
كام طلبمت ال يوجد يف لك البالد من يس تطيع أن يقول عندي
مثل ما عنده ،وأان أحق ابملكل منه".
كأمنا هو نفسه مل يطلب املكل! وكأمنا املامليك اهمتون ابحلق
الرشعي! عىل إن الفكرة نفسها تس تحق الاحرتام ،رشعية ال
يس تطيع أحد التشكيك فهيا أو منازعهتا؛ رمغ ضعفها ،مقابل قوة
غامشة .ومضة يقني وسط طوفان الشك! رمبا اكن هذا الوريث
آخر أمل للبالد ،حىت لو اكن أمال اكذاب واهنا ،لكنه يظل
األمل األخري ،ذلا يس تحق أن حناول ات ّباعه.
76
وأدرك األسود الكبري أنه مل يقنع أحدا مبا قال ،ذلا حاول تعزيز
جحته بقوهل:
"تذكروا إن الناس التفت حول الاكذب من قبل ،والتفافهم
حول الوريث احلقيقي س يكون أشد ،وخطاب اخلليفة مازال
قامئا مل يلغه ،حيامن أعلن تربؤه من الاكذب ،قال إنه نصب آخر
أبناء املكل خلفا هل ،وهذا الاكذب ليس هو املقصود ..لو وضعنا
اخلطاب يف اليد الصحيحة ،ووقفنا معا خلفه ،فتصوروا كيف
أثره!"
جادهل أحدمه:
" ليس للخليفة حول أو قوة .ماتت اخلالفة قبل موات امللكية
عندان بدهور".
رد عليه:
"الناس دوما حتب أن يبارك اخلليفة حامكها ،وحىت لو اكن
عاجزا ،مفازالت لكمته ذات أثر ،عىل األقل يف نفوس اجلند
واألهايل".
رد آخر:
"لكن تذكر كيف حسق األسود هذا ادلعي الاكذب قبل أن
تعرف حقيقته ،فمل ينفعه خليفة أو بسطاء .اليوم ،أصبح األسود
77
أقوى مائة مرة ،وحتالفه مع األهبال والفرجنة أشد ،فأىن للوريث
مبناطحته؟"
أمكل العجوز جمادلته الهادئة:
"مل يكن خلف ادلعي سوى دراويش وجماذيب ،أما الوريث
فس يكون معه أمراء الغرب ،وقبائل بين األسود .ولتعمل أن
حديثك هذا يقوي جحيت ،ألن ما قلته يثبت مك خاف القائد
امللعون من الوريث ،وإنه يعمل خطره عليه ،وإال ما خرج هل
من العامصة وهو مل يش تد عوده بعد!"
تلكم مضيفنا ابن العبديل:
"تتحدث عن رجل ال نعرف إن اكن حيا أم ال ،وال ندري
أيرغب يف مكل ال يغبط عليه أحد ،أم إنه عاقل زاهد فيه!"
قال األسود:
"مل أس تطع خماطبته وحدي لهذا السبب ،فس يخىش القتل
حامت ،إال لو أاته وفد من أمراء الغرب يأمنوه ،ويبايعوه مبايعة
مكتوبة ،وهنا س يعود حامت ليقودان يف حرب مقدسة لتوحيد
البالد .وأنمت س تكونون أمراءه ،وكبار رجاهل ،وحاشيته اليت
تبسط خريها عىل لك شرب من األقالمي الامثنية ،بدال من أن
تكونوا خدما لألسود".
78
بدت يل أن احلجرة أضيئت بلهيب الطمع ،اذلي برز من
بعض العيون ،لوال أن بدد ابن عامر األمر بسخطه قائال:
"تبا لهذا اللغو! أتدرك ما تطلبه منا؟ نسري يف حصراء قاحةل
عامرة بلصوصها ،يك نعرب الهنر بني يدي القائد األسود ،غرمينا يف
هذا األمر! مث نصل للثغور اليت يعتد حاكهما بأنفسهم ،ويقتلون،
ويسلبون من يشاؤون من املسافرين ،لمنر وسط حرب
رضوس بني أساطيل الصيادية ،والسور العيل ،لنصل لطرابل
ابحثني عن أمري ال نعرفه ،يف أرض ال نعرفها ،عند حامك لن
يرحب مبن يعاندون األهبال ،اذلين تذكرت اآلن إن هلم قالع
عىل طول الطريق من الساحل إىل طرابل!"
مل اهزت ش يخ بين األسود ابحلديث ،وإمنا قال:
"هذا حصيح ،وذلا فس تكون أنت عىل رأس الوفد!"
حشب وجه ابن عامر قليال ،لكنه مل يتلكم .ال أدري ،أخيىش
أن يبدو خائفا ،أم خيىش غضب الش يخ ،أم رمبا يفكر يف أمر
ما مكتوم عنا.
لكن األسود الكبري مل ينتبه لهذا ،وأمكل حديثه:
"أنت تعرف الطريق جيدا ،وقد عربته أكرث من مرة ملقابليت،
ولن يكون الطريق خطرا هكذا لو عربمت من اجلنوب ،بعيدا عن
أراض األسود إىل أرايض قبائلنا ،ألرحب بمك وأكرممك وأسلممك
حلليفي األمري األبيض ،أمري الزرقاء ،لتنقلمك سفنه عىل نفقيت
79
إىل طرابل مبارشة من البحر الرشيق ،بعيدا عن الصيادية
والسور العيل واألهبال".
مصت ابن عامر فامي بدا موافقة ،فقال ابن العبديل:
"هذا حيسم األمر يف ظين ،لو أىت الوريث من طرابل
،فسنسوده علينا ،لنسود البالد وهذه صفقة أطيب من أن
تفوت لوعود غادرة من القائد األسود؛ لكنه لو رفض ،فلن منكل
إال التسلمي معا ،أتوافقين عىل هذا اي ابن عامر؟"
هز ابن عامر رأسه موافقا ،فتبعه ابيق األمراء دون معارضة،
يبدو أنين -ألول مرة يف حيايت -أرامه حيمكون العقل ،بل أيضا
حيمكونه معا عىل قلب رجل واحد!
فقال ابن العبديل:
"ومن سريافق ابن عامر ،س يد الثغر الكبري ،يف رحلته؟"
قال األسود الكبري:
"أود مرافقتمك بنفيس ،لكن س ين الكبرية ال تسمح ،وسفينة
اإلفرجن ،اليت س تعيدين لبدلي مع أهيل ،لن تسعمك مجيعا،
خاصة لو رغبنا يف كامتن األمر عن ودلي .سريافقمك ابن أيخ
حسام بدال عين ،مفوضا من بين األسود ،ملبايعة الوريث
ملاك".
وأشار لهذا الشاب اذلي اكن يتس ند عليه.
80
وقال األمري األبيض بلهجته اإلفرجنية املضحكة:
"وسأرافقمك أان أيضا ،ألؤمن الطريق من الزرقاء ،وممثال عن
حماربهيا كام طلب من حليفي الكبري".
طبعا يقصد القراصنة ،لكن األمر بدا يل مش بوها أال يس بقنا
بسفينة اإلفرجن مع األسود الكبري ،وسفينة الفرجنة يه أآمن
طريق للسفر يف بالدان ،ألن أحدا لن جيرؤ عىل إغضاهبم.
مث انضم هذا الساخط ،اذلي يذكر يف لك مجةل (ميت ادلم)
واثنان آخران ،يبدو علهيام أاهنام موتوران ،واألمري (جركس ابن
ابرم ديهل) ،والالزوردي ،وشهاب الرشكيس ،اذلي سريافقهم
عىل األقل حىت قالع ساوة يف اجلنوب ،اليت حتمي الطريق بني
ساوة الواحة والعامصة ،وبيهنا وبني اإلقلمي اجلنويب .مجع لطيف
حقا ،كفيل بإقناع الوريث ،وحامت كنت سأوافق عليه ،لوال ما
فعهل ابن العبديل.
فقد فوجئت به يقول":إن كنا مرسلني أحدا إىل اخلطر حفامت
سرنسل غوال أمحر!"
جتمدت مذعورا ،ال أصدق أذين ،بيامن الش يخ األسود يضيف
ابرتياح:
"هذا ما أدركته منذ علمت بأمره! تكل حرفهتم وقوهتم!"
81
وحتلقت األنظار حويل ،وأدركت أال مفر لو أردت جتنب
املوت وافتضاح األمر .وبصوت متحرشج يعلو قلب خافق
قلت:
"أان معمك!!!!!"
82
()7
83
(ليس تنشق الهواء) حتت بضع خنالت ،وينظر يل يف دهشة،
بيامن امتدت أيدي حراسه للسالح فورا.
أشار هلم ليخفضوا سالهحم ،مث تقدم مين وهو يبتسم ابتسامة
ماكرة ،وقال:
"إىل أين اي رجل؟"
قلت يف تردد:
"أذهب لرأس الطريق ،ألكون أول الراحلني ،بعد أن أقابل
بعض األصدقاء".
حضك حضكة صافية كأنه طفل أهديته لعبة ،فقلت برصامة
زائفة:
"لست من يضحك عليه اي أمري الزرقاء! ليس أان!"
رد مبتسام:
"تعجبين! أنت حقا تعجبين! مل أر يف حيايت من يف مثل
دهائك وخداعك وجسارتك! أنت لص ،وأان أمري قراصنة ،ذلا
أعتربك نوعا ما من قويم! وذلا فسأهديك نصيحة غالية جدا".
رددت بغضب مصطنع:
"لست لصا ،كيف جترؤ؟"
هز كتفيه وقال:
84
"حقا؟! إذن فأخربين ما اكن امسك؟"
هبت ،وأخذت أحشذ ذاكريت ألتذكره ،بيامن رددت عليه برسعة:
"،أان س يد الغيالن امحلر".
حضك مرة أخرى وقال:
"أحسنت .إجابة مراوغة طيبة! لكهنا ليست إجابة سؤايل،
يقولون :عىل الكذوب أن يكون ذكور،ا وأنت مل تذكر امسك أاها
القبيل!"
قلت مناضال الااهنيار اذلي جيتاحين:
"ماذا تريد مين؟ أنصحك أال تعبث معي ،مفن ورايئ غيالن
ال ترمح".
هز رأسه وقال:
"مه حقا ال يرمحون ،أو اكنوا كذكل .لكن الغيالن امحلر انهتوا
حقا ،وقتلوا تقتيال ،فليس ملثلهم عودة .لكن يعجبين إرصارك،
فهكذا جيب أن يكون احملتال! ..دخلت القرص ،وجلست عىل
أعىل املوائد ،وخدعت األمراء ،بل أصبهتم ابلرعب منك،
واخرتت انتحاال يكرهونه واهابونه ،وأخذت ما تريد من كنوزمه
ورحلت! أهنئك .مل أر مثل هذه اجلسارة إال يف احلاكايت ،ومل
أكن أظن أن يوجد مثل أولئك األفاقني يف احلياة .لو أردت أن
85
تعمل معي ،فستسعد كثريا .وميكنين أن أس تعني مبثكل ،فأان
دوما أحتاج إىل جواري ذوي ادلهاء واجلرأة".
مصت متطلعا يل ،لكين انتظرت حديثه ،فقال:
"يف البداية ظننتك جاسوسا للقائد األسود ،لكنك بدوت
مندهشا من أنبائه ،واعرتضت عىل الاستسالم هل .وحني
شاهدتك تهنب الطعام اهنبا ،أدركت حقيقتك اليت حريتين :جمرد
صعلوك ماكر ،ارتدى درعا رسقه ،أو عرث عليه ،وانتحل زعامة
الغيالن ،أرهب فرقة يف األايم اخلالية ،واهنب ما خف وغال،
وسط صفوة احلاكم من حتت أنوفهم!"
أردت جماراته ،وفهم قصده ،فقلت:
عيل؟""واآلن ،وقد كشفت أمري ،ماذا س تفعل؟ تقبض ّ
ابتسم ،وقال:
"بل أعرض عليك أن تنضم يل ،ويف املقابل سأنقذ حياتك".
اعترصت الرمح منتهبا ،وقلت:
"ومم ستنقذها؟"
رد:
"ألنك متيض حنو هالكك! هذا هو الطريق اذلي اتفق الزعامء
عىل السفر منه ،هل تظن أاهنم حقا سيبحثون عن الوريث؟
86
لك أمري مهنم س بقك بإرسال عدد من رجاهل ،ليمكنوا يف الطريق
ويقتلوا اآلخرين! لكهم يعمل لألسود ،ويراسهل رسا ،ويطمع إن
قتل الوريث بيده ،فس يكسب عنده حظوة .حىت بين األسود
س يفعلون نفس األمر! مه يأمترون علنا بأمر ش يخهم ،إجالال هل،
كام أرسلين القراصنة لهنا ،حىت ال نغضبه؛ لكن وقت األفعال،
ال تعلوا لكمة فوق لكمة القائد األسود".
هبت لهذه اخليانة ،فوجدت نفيس أقول:
"وماذا عن ابن عامر ،واألمراء املوتورين من األسود؟"
نظر يل بدهشة ،وقال:
"وما اهمك من أمرمه؟ مه يفهمون احلقائق ،وسريجعون غالبا
دلايرمه ال يفعلون إال ما يفعلونه دوما :الانتظار".
قلت:
"إ ًذا فس يقتلون الوريث املسكني ،ال يدافع عنه أحد؟"
قال هبدوء:
"دعك من شأن هذا املغبون ،وقل يل ،ماذا عن العمل
معي؟"
رددت:
"أال يكفيك قراصنتك؟"
87
قال:
"أان أمعل عندمه ال العكس! وأاكد أقف وحيدا ،أجاهد إلنقاذ
الزرقاء من السقوط احملتوم".
رددت بغيظ:
"وهل بعد القراصنة سقوط؟"
قال:
"أنت إذن من املوتورين اذلين جهروها عندما سقطت!"
قلت:
"أو مسعت عن الهول ،اذلي حدث عىل أيديمك من أحد
مساكيهنا".
قال بغضب:
"عىل أيدينا؟ لست ممن ّذحبوا ساكاهنا .كنت أاتجر مع أهيل
يف السوق ،حفورصان بغتة ،ولو هروبنا للصحراء -مثلام فعلت
أنت -لقتلنا األعراب ،ألننا فرجنة .أنت هربت ،بيامن بقينا حنن
نشهد املوت وادلمار ،واهنرب من بيت مهتدم آلخر حمرتق ،نقفز
فوق اجلثث واألشالء ،ال منكل أن نلتفت خلفنا لنعني من
يسقط منا .تساقط أيب وأيم وأخويت واحد تلو اآلخر أمام
عيين ،وقتلوا أبشع قتةل ،وملا بقينا أان وأيخ ،توجوان -فوق
جثث أهلنا -أمراء عىل املدينة .ومن يوهما أدركت أن احلياة
88
وعيل أن أسري معها ،مقهورا أو راضيا ال فارق ،مادمت تسريّ ،
أعيش .اليوم يل مكل -ولو ابالمس -وبعض اخلدم واحلشم،
وبيت آمن ،فمل المترد عليه؟ بل ألحاول أن أحفظه قدر
هجدي".
عيل دوما عزيزة ،فسألته:غلبين فضويل ،وقد اكنت الزرقاء ّ
"وهل يوجد من اهدد الزرقاء؟ لك املتخامصني خيطبون
ودها".
رد بلههة من يلقن تلميذه درسا:
"إن انترص األسود ،فس يغدر بنا ،لميكل امليناء ،أو اهديه
حللفائه .ولو عاد الوريث ،فسيسعى لطردان -حامت -من بالده.
ولو اكتسح األهبال لك يشء ،فس يدمرون لك يشء كعادهتم.
ال أمل لنا يف البقاء إال ببقاء الفوىض ،فال يس تطيع أي خشص
توحيد البالد .وال أمكل إال املكر واخلداع وتأليب القوم عىل
بعضهم البعض ،وهنا أس تطيع أن أس تأجر رجال مثكل أنت
ولك عصابتك – ال تزمع إنك تعمل وحدك -وثق إنين ممن
جيزلون العطاء".
للحظة فكرت حقا يف اتباعه ،كنت أشعر حبقد وغضب عىل
األمراء ،وأحسست أاهنم خذلوين بشدة بعدما عرفته منه .أردت
الانتقام مهنم ،ولو ابتباع هذا اإلفرجني ،اذلي عرف كيف
89
يس متيلين حبديثه عن حصار الزرقاء ،وأصبح رشي ي يف أبشع
جتربة مررت هبا يف حيايت.
دمهتين اذلكرايت؛ وكيف أنساها؟ كيف أنىس صوت وادلي
امللتاع وهو يأخذين جفأة من الكتّاب ،وال يقول سوى
(القراصنة ،القراصنة!) ،وال ما رأيته من فزع الناس جيرون يف
لك اجتاه ،وأان طفل صغري ال يفهم ما األمر .فالقراصنة يف البحر
ما شأننا وشأاهنم؟
واحمتينا داخل املسهد ،ألعرف أن القراصنة يف الصباح
حارصوا امليناء ،وقتلوا من فيه ،وأرسلوا للحامك يأمنوه إن فتح
هلم أبواب املدينة ليهنبوها ويرحلون ،وفعلها األمحق اخلائن،
ليدفع هو وأههل واملساكني المثن ادلايم يف ساعات قالئل.
أاكن يتحدث عن الفرار من بيت لبيت؟ وماذا عنا حني
هدموا املسهد فوق رؤوس نا؟ مث أعلنوا امتالكهم للمدينة مالذا
آمنا هلم مجيعا ،بدال من اجلزر الصغرية اليت يتحاربون علهيا .أكرب
قرصنة يف التارخي كام يقولون :رسقة مدينة اكمةل بأهلها وأبنيهتا!
آه عليك اي زرقاء! ترى أأرجع كل مع هذا األمري؟ أذكر مك
كنت مجيةل مزدهرة وقت لعيب ،وكيف أصبحت خربة حمرتقة،
حيامن هربنا عىل مجل جعوز .فرتى ما شلكك اآلن اي مرعى
صباي؟
90
وهنا أتتين فكرة جمنونة ،ورمغ أنين حاولت نفضها من رأيس،
إال أنين سألته:
"وكيف علمت بأمر الكامئن املزعومة؟"
مل يقل سوى:
" يل طريق! وطريقي آمن يذهب يب إىل الزرقاء ،فهل
س تثبت حسن فطنتك ،وترافقين؟"
مصت ألفكر ،اكن ميكنين أن أتبعه ،عىل األقل حىت أصل
عيل ،وقد بدأ
آمنا لطريق القرية .كام إن تكل الفكرة اجملنونة تلح ّ
الضمري حيبذها ،ويثقلين عن الفرار .وال أفهم كيف وجدت
نفيس أسأهل:
" وماذا عن الوريث؟"
نظر بتعجب قائال:
"ما شأننا به؟"
قلت:
"س يقتل هكذا ،أليس كذكل؟"
رد ابس تخفافك
"ابلطبع ،هذا قدره هو وعائلته امللعونة ،أتفكر يف أن نس تغهل
مثال؟ س تكون هذه خماطرة محقاء".
91
ظللت صامتا فرتة ،أمجع أفاكري ،واس تجمع جشاعيت .املشلكة
إنين الوحيد يف هذا العامل ،اذلي ميتكل من الضمري واملعرفة ما
يوجب عليه حماوةل حتذير هذا املسكني .لقد ختىل أيب -ذات
مرة -عن فعل الواجب ،ألن هناك آخرين يقومون به ،وألن ال
فائدة ترىج من مناطحة من مه أقوى ،فدفع المثن غاليا غربة،
وأمكل ادلفع حىت اليوم .ذلا ،حفني وجدت إن دم هذا الرجل
س يعلق يف رقبيت ،وأن أمري أسوأ من أمر أيب ،اذلي ترك
خلفه جماهدين آخرين ،شعرت بأغالل جترين جرا حنو تكل
الهاوية ،اليت ال أعمل لها قرار ،من اخملاطر والعنت ،وأصبحت
الفكرة اجملنونة ،اآلن ،مصريا أساق هل جبربوت الضمري ،ال أجد
منه مناص .لكن األمري األبيض يقدر عىل مساعديت.
أخريا مجعت من العزم ما يكفي ،كام تعلمت يوما من ش يخي
(رس خلف ما ترى قلبك هل مييل ،أو هواك عنه راغب!)
وهواي يطلب النهاة من املوت ،والعودة للقرية .فالناس تقتل
عبثا ،لك يوم ،بال حساب يف هذا الزمن .بيامن قليب يطلب
النهاة من إمث ادلم الربيء ،وأن أغوص يف الظلامت ،فاذلنب ال
يضيع عند ادلاين اذلي ال ميوت.
وهكذا وجدت صويت حازما يقول:
"أميكنك مساعديت عىل إنقاذه".
نظر يل كام لو اكن يرى عفريتا! وقال:
92
"مصت دهرا ،ونطقت كفرا! ..أتعرف جزاء من يتحدى
األسود؟ لعكل متزح؟"
"فقط أحتاج منك لعبور البحر إىل طرابل ،وسأدفع كل ما
تشاء ما أن أعود من هناك ،سواء به أو بدونه".
هتف:
"جننت حامت!"
رددت:
"إمنا أرى ذنبا يف عنقي إن نكصت عن إنقاذ دمائه ،ويف
مقدوري ،ولو مثقال ذرة من هجد ،لتحذيره.
اي أمري الزرقاء أان لست لصا كام زمعت ،وإمنا فالح فقري،
خيش أن يكون اجامتع العظامء عىل ولمية من محله هو ،فأىت
ليتحسس األمر ،ألنذر إخواين من رشمه".
نظر يل ابحتقار ،وقال:
"فالح! حس نا أاها الفالح ..فكر يف أمري ،مفا عندي أرشف
وأعز .دعك من خسافاتك وأوهامك ،أو عىل األقل عد
لفالحتك آمنا".
غاظين إنه يعترب اللص والصعلوك أرشف وأعز من الفالح،
فرددت ابندفاع:
93
"بل سأذهب ،وأعود -بإذن هللا -هبذا الوريث ،ليواجه
األسود .ال خيتلف اثنني عىل أن أمر األسود رش ،لوال الفوىض
القامئة ،اليت ال ترتك هل بديال ،أما وها قد ظهر البديل يف
الوريث ،فسأسعى هل ،حىت لو كنت جمرد فالح".
حضك الرجل حىت اكد أن يسقط أرضا ،وقال:
"فالح يتحدى األسود! أنت لست فالحا ،بل أنت،
ببساطة ،ابلنس بة هل ال يشء ،جمرد كتةل من فراغ ملوث برتاب
األرض! أنت ضعيف جدا ،بل هني األمر؛ بيامن هو جبار ،أنت
وحيد يف وادي جنونك؛ بيامن يقود هو اجليوش يف عامل العقالء.
ال أمل وال فائدة .أجعبتين مبكرك ،فأترك عريض كل قامئا،
وأنصحك أال ترسح ،بغلواء األوهام ،عن طريقك!"
رددت عليه "عىل األقل سأحاول ،فهل لو وجدت جناحا
ستساعدين؟"
نظر يل بدهشة ،وقال":مرص إ ًذا؟! ال يفتأ املرء جيد العهائب
يف البرش! ..رمبا لو بقيت حيا حىت تصل للزرقاء ،أمسح كل
بعبور البحر ،تقديرا لشهاعتك الغبية ليس إال .غري هذا ال
تطلب إال نصيحيت كل ابلعودة من حيث أتيت إىل بيتك
ادلائف".
94
()8
ال أدري ما حدث ،وال أدرك كيف بدأ األمر .فقط ضوء سطع
يف عقيل ،جعلين أوجه مجيل حنو الغرب دون لكمة ،مطأطأ
الرأس .كنت أشعر أنين حدثت الرجل أكرث من الالزم ،ذلا مل
أقل املزيد ،ومشيت غراب.
ملاذا الغرب؟ قرييت يف الرشق ،والطريق مييض جنواب مث رشقا
إىل طرابل؟
ببساطة ،ألن واحة ساوة يف الغرب!
لو كنت أحبث عن الوريث حقا ،فيجب أن أفعل أمرين :أوال
لن أعود لقرييت ،وإال س يقيدونين بسارية املسهد حىت أشفى
من اجلنون ،وأفقد ادلرع وادلابة والنقود ،إذ يس تعيدمه الش يخ
غالب .عىل أي حال أريض وبييت رهنا عنده ،وجزء من املال
ميكن أن أعتربه أجري ،وسأحاول أن أرد البايق إن عدت حيا.
95
أما األنباء ،مفثلها لن خيفي عليه ،وس ينئب هبا انئب القايض لك
القرى ،ومن ساوة سأرسل هل رسوال.
األمر الثاين :إنين نظرت ملا وراء ما أعرف ،يبدو أن األمراء
فرحوا مبعرفهتم أن الوريث يف طرابل ،وس يتسابقون أاهم يصل
هناك أوال ،ليضيعوا أسابيع بال جدوى ،حبثا عن رجل ال
يعرفونه ،وال يعرفون بيته ،أو امسه .سأبدأ متأخرا عهنم راضيا،
ألن من األمه أن أعرف أوال شلك الوريث ،وامسه .وقد قال
الش يخ األسود إن أنس باءه يف ساوة ،ذلا فساوة يه مقصدي،
وبعدها جيب أن أعرف الطريق من الزرقاء إىل طرابل ،وهو ما
يعين رحةل أخرى حنو الغرب ،ترتك يل فامي بعد ،طريق الرشق
فارغا ،ال يتصورون أن هناك متخلف يتبعهم.
اكن الطريق لساوة قصريا يسريا ،ومل أجد أثرا حلافر أمايم ،أو
وقعا ملطارد خلفي .ومن الواحض إن الطغاة س يقتلون بعضهم جتاه
الرشق متسابقني ،ولن يدركوا احلقيقة إال بعد أن يصلوا لهناك.
تعلقت عقوهلم ابلرشق ،وأخذهتم محية الس بق ،ومل يبق هلم من
الفطنة يشء .ولعلها معونة اخلالق أغشت أبصارمه ،وأضاءت
بصرييت.
96
()9
يقول عبد الشهيد ابن مسعان :قال يل تميور ابن زهري عن
وادله عن جده تميور العالف قال:
(1-9التاجر)
اكنت حيايت مزدهرة ،وجتاريت راحبة .أشرتي األعالف والغالل
من ساوة وما حولها ،وأبيعها يف العامصة .جتارة ورثهتا من قريب
عن وادلي ،رضيت بأن تكون نصييب من إرثه ،اتراك األرض
والفالحة ألخويت األكرب س نا.
مل أكن أرحب الكثري ،حىت اثر األمراء يف اجلنوب ،وقطعوا
الغالل فارتفعت أمثان األقوات ،مث يف نفس العام ،أتت أنباء
زحف األهبال ،اآلتني من أقىص الرشق ،فأحرقوا بالد الهنرين،
اليت حاول املكل اس ترياد الغالل واألقوات مهنا ،فأصبحت
العامصة عىل شفا جماعة ،ورأيت بأم عيين من كنت أوقرمه من
97
التهار قد استئذبوا ،واس تحلوا احلرام ،يبيعون القوت بأضعاف
مثنه ،ويكمتونه عندمه يف اخملازن حىت اكد يفسد ،زامعني خواء
صوامعهم.
وما كنت ألسري يف هذا ادلرب الس ئي ،فكنت آيت بغالل
الغرب ،أبيعها برحب حالل يكفيين ،يزيد عن األايم اخلالية ،لكنه
يف مقدور الناس ،بدال من أسعار ابيق التهار الشاهقة .فكنت
ال أاكد أصل للسوق ،حىت تكون بضاعيت قد نفدت عن
آخرها ،واش تعل حولها الشهار والشحناء!
وعيل أن
وذات يوم ،أرسل يل كبري التهار يقول إنين أؤذاهمّ ،
أرفع األسعار ،فرفضت .وبعدها بأايم ،أىت انئب رئيس الرشطة
يهتمين ابإلخالل ابألمن العام ،ألنين أتسبب يف شغب الناس
حول بضاعيت! وخريين بني رفع األسعار كبايق التهار ،أو
الرحيل عن املدينة أو السجن!
طبعا رددت عليه ابللغة اليت يفهمها ،فأمسكت كيس نقود
ممتلئ ،وقلت هل:
"هذا رحب مومس واحد وهو يكفيين".
نظر للكيس جبشع ،فقلت:
"ميكنك أن ترحل بعيدا عين ،أو آخذ الكيس ،وأزور القايض
لينصفين!"
98
كنت أقصد إنين سأري القايض الرحب احلقيقي ،لكين كنت
أعمل أنه س يفهم أنين سأرشو القايض ،ليؤذيه وهو ما يكفي
إلبعاده عين.
مضت جتاريت مزدهرة حىت كرث املال ،ففكرت يف جتارة أخرى
تنفعين يف غري مومس احلصاد .اكن الفرجنة وجتار بالد الرشق
األقىص ،اكلهند والس ند وما وراءهام ،يأتون عرب البحر للزرقاء،
هذا امليناء العظمي ،ليبيعون ويشرتون النفائس والعهائب
واللطائف .ومهنم من يذهب يف قافةل كبرية لك عام إىل العامصة،
لبيع بضائعهم لألمراء واألثرايء .فأخذت أشرتي مهنم ما يعجبين،
فإذا عدت إىل ساوة مررت يف الطريق ،جباميل احملمةل ،ابملدن
والقرى الصغرية ،أبيع لوهجاهئا تكل اللطائف ،اليت ال يعرفواهنا وال
يتحملون مشقة السفر للوصول إلهيا يف العامصة .ولهؤالء كنت
أغيل المثن كام أشاء ،ألاهنا ليست ابلقوت أو الرضورة ،وإمنا من
الزينة اليت يمتتعون هبا.
وملا وجدت عظم الرحب يف تكل التهارة ،وواظبت علهيا،
وجدت إنين أضطر للبقاء يف العامصة عدة أسابيع ،بني اهناية
احلصاد ،وبداية توافد جتار الزرقاء ،عاةل عىل أقاريب .ففكرت
أن أشرتي دارا ،ترحيهم من ثقيل ،وتؤويين .مفضيت بني دور
العامصة حبثا عن سكن ،فوجدت سكنا ومودة.
99
ما أن رأيهتا حىت هبت! اكنت مجيةل حقا ،ليس امجلال اذلي
يؤذي العني ،ويؤجج الغرية؛ وإمنا جامل طيب ،ينساب إىل
روحك .اكنت هادئة جخوةل ،ال تاكد تسمع لها صوات ،أو تشم لها
عطرا .عيناها صافية كسامء ليةل صيف حانية ،وصوهتا اخلافت
أمجل ،يف أذاني ،من أواتر القيثارة .روهحا طيبة اكملالئكة،
وعىل فقرها ،اكنت خسية مع األفقر مهنا.
ما أن رأيت زهرية ،حىت اشرتيت ادلار املقابل لها ،رمغ إنه
اكن أبعد ادلور اليت عاينهتا عن السوق.
ومل ال؟ قد بلغت سن الرجوةل ،وأرحب ماال كثريا ،ويل دارا يف
ساوة ،وأخرى يف العامصة! كام تقول شقيقيت دوما ،بيوت
العرائس تفتح يل أبواهبا بيرس!
وهكذا أخذت أعد داري اجلديدة بأحسن ما ميكن ،مس تعينا
يف هذا جبرياين الطيبني ،ملمتسا األعذار ألسأل بفطنة عن أهل
ادلار املقابةل ،دون أن ألفت األنظار ألمري ،فعرفت امسها
امجليل (زهرية) ،وأاهنا يتمية تعيش مع أهما وجدهتا العجوز يف
ادلار ،حتت كنف خالها ش يخ الطريقة الشاذلية يف مسهد
املدينة الغريب الكبري.
علمت من أيب سكينة ،اتجر األمقشة اذلي أراين هذه ادلار،
أاهنا تعمل يف قرص املكل .ليس دوما ،وإمنا فقط يف الوالمئ
الكبرية تذهب للقرص منذ الصباح ،وتعود محمةل ابلكثري من
100
فضول الضيوف ،فتوزع بعضه عىل الفقراء ،وبعضه عىل
اجلريان ،وتبقي البعض تتقوت منه حىت الولمية التالية.
فأدركت أن (زهرييت) طباخة ،تعمل يف قرص املكل حيامن يثقل
العمل مبجيء الضيوف .فإ ًذا إن اكنت من نصييب ،س تذيقين
طعام امللوك!
وعقدت العزم عىل اخلطبة ،فتساءلت كيف أفعل؟ أمن
خالها؟ رمبا اكن لها عام غليظا ،أو أخا متكربا ،يس تكرث طريق
ابب اخلال بدال من ابهبم؟ وألنين أتبع النصيحة الرشيفة أن
اس تعينوا عىل قضاء حواجئمك ابلكامتن ،ويه النصيحة اليت طاملا
نفعتين يف جتاريت ،مل أفصح ألحد بسؤال،ي وأرسلت يف طلب
شقيقيت ،فهذه ش ئون ال قبل لنا هبا ،حنن معرش الرجال.
مل تقض أخيت أقل من الليةل ،إال وأتتين مبا شئت ،وما مل أشأ
من أخبار! عرفت أن أابها مات شهيدا ضد الفرجنة ،وال يعرف
لها مع أو معة ،ويه وحيدة تركها أبوها رضيعة ،فبقت أهما يف
حداد عليه لليوم .كذكل أخربتين بأصلها الطيب -عىل فقرها -
فقد اكن جدها لوادلها غنيا ،كام يقولون ،لكنه اكن سفهيا،
أضاع أمواهل ،وابع قرصه ،وأىت لهذه املنطقة عاش فهيا ذليال،
حىت مات حمسورا.
أما جدها ألهما ،فاكن قايض القضاة وش يخ ش يوخ الطرق
الصوفية يف لك القطر ،وهذا لنسب يليق بأمري ،لوال أن تفرق
101
عىل أبناء وعيال كرث ،مل يصب لك مهنم من املال واملنصب شيئا
يذكر.
واليوم مه رقيقو احلال ،مل يبق من العز القدمي شيئا ،ولوال
معونة اخلال األكرب ،وبقااي موائد القرص املل ي ،ملاتوا جوعا ،كام
يزمع القوم.
وأدركت مل تأخر عهنا اخلطاب حىت اليوم ،وحني قالت أخيت
بقلق:
"يتحدثون عن خطاب كرث أتوا فرحلوا؟"
رددت علهيا:
"ومن يذهب لها يف ظنك؟ ابحث عن فقرية مثهل ،يدمهه نبل
أصلها ،فيخاف ،أم ابحث عن نس هبا يفاجئه فقرها ،فيحجم؟
ما لها غريي بإذن هللا ،ومل يتأخر اخلطاب إال ل ي أتقدم أان!"
ردت شقيقيت ويه متط شفتهيا:
"أكره أن تزتوج من العامصة! مالنا ومال بناهتا املرفهات؟ تعال
لساوة انتقي من صوحيبايت ما شئت".
قلت لها سامئا هذا اجلدل املتكرر:
"أشعر أاهنا نصييب ،وال أكون اتجرا أريبا إن جتاهلت ما رمسه
يل القدر من مغمن".
102
قالت متربمة:
"أي مغمن؟ إن تزوجت من خارج ساوة ،فس تعيش خارج
ساوة ،ألفقد أان شقيقي ،وتفقد أنت جتارتك!"
جتاهلت تشاؤهما ،وما اكن العشق ليرتك جلدلها منفذا! طمأنهتا
إنين سآخذ زوجيت لساوة ،وأطعم أشقايئ من يداها طعام
امللوك ،فرتكتين قائةل:
"أما وقد أحمكت أغاللها عىل ل ّبك ،فال فائدة .ماذا س تفعل
اآلن؟"
إىل حد ما أحسست ابلقلق من شقيقيت! مادامت مل تتقبل
األمر ،فلن تراتح حىت تفسده حبيل النساء ،وما أدراك ما حيل
النساء! رمبا أجد داري قد حتول إىل كعبة لعائالت ساوة ،تتواىل
عيل!
عيل ضيوفا ،بزمع الهتنئة ،وحقيقة عرض بناهتن ّ ّ
ذلا قلت لها:
"خري الرب عاجهل!"
وتركهتا يف غيظها ،مل أخربها ابملزيد ،وعقدت عزيم عىل امليض
دواهنا .فتوهجت للمسهد الغريب الكبري.
وطوال الطريق ،أخذت أفكر كيف سأقابل الرجل؟ وماذا
أقول هل؟ يف احلقيقة ،لقد خارت قواي جفأة ،وأصابين الوهن
حىت ألكتين الظنون! أتراه يردين ردا غري مجيل؟ أيقول يل إنين
103
ابن الفالح ،ال أليق حبفيدة قايض القضاة ،ولو اكنت فقرية؟
أيهتمين برشاء النسب ابملال؟
وملا اقرتبت من املسهد ،تفككت أوصال،ي ودعتين قدماي
لركوب الرحي فرارا ،ويه ختاطبين مستنهدة :هل ارتديت حةل
تليق هبذا املقام؟ هل ترى نفسك حقا أهال للزواج؟ هل
عطرك مازال نرضا ،أم أن عرقك يفوح ليخنق الرجل؟ هل
الزواج اليوم أمر مناسب كل وحلاكل؟ أترى وهجك مليحا
يعجب الفتاة؟ أتظن بنات العامصة يصلحن لفتيان ساوة؟
وهكذا تقاذفتين أس ئةل عن شأين ،مع أس ئةل عن شلكي ،حىت
تثاقلت أقدايم ،وملا وصلت للمسهد ،قررت العودة مغلواب من
قلقي ،ألتزين وأتعطر ،وأعود يف خري حا،ل بعد أن أطمأن عىل
حايل وأحسب أموايل.
وملا عدت مصفر الوجه للبيت ،اس تقبلتين أخيت مبصممة
الشفاه شامت ًة!
قالت يل بلههة من توقعت األمر:
"هل اس تكرب عليك ساكن العامصة ،وأعادوك حلظريتك
وأهكل؟"
رددت مرجتفا:
104
"بل أصابين الفزع ،إذ أدركت سوء لبيس ،وقبح وهجىي،
وكراهة راحئيت!"
نظرت يل مندهشة ،واقرتبت مين ،فرتاجعت متضايقا إذ ال
هجد يل ملواهجة إحلاهحا ،ففوجئت هبا تتشممين ،وتقول:
"ال أمش إال طيبا ،وال أرى إال طيبا؟ ما بك؟ ال ختفي عىل
أختك .هل خذلوك؟"
رددت علهيا:
"بل تفكرت يف األمر ،خفشيت أن أقابل الرجل حبايل هذه،
فزيدريين".
عيل تبا لها! تركهتا ،ومضيت
حضكت! تكل امحلقاء تضحك ّ
حلجريت مكسوفا حمسورا ،وأان أشعر بضآةل قدري ،وحقارة
حال،ي فوجدهتا تتبعين مرسعة ،وحضاكهتا تدق عىل رأيس دقا.
قالت:
"أهذا أيخ اجلريء النش يط التاجر األريب؟ أتسرتخص
بضاعتك النفيسة؟ ما أظن فيك إال أنك خبري حال! أستبد بك
الفزع اي غاليم ،كام يصاب احلافظ إذا امتحنه ش يخ الكتّاب،
فيتوه منه حفظه! مل أظنك حتهبا لهذه ادلرجة ،إمنا ظننتك فتنت
جبامل مل أره فهيا ،ووجدت صوحيبايت أحق بك مهنا! هون
عليك اليوم وغدا سأرشف عىل تزيينك بنفيس! واطمأن
105
سأذهب الليةل لزايرة جرياننا ،حامةل معي بعضا من أرز ساوة،
وعطور الزرقاء ،ألتعرف علهيم وحيهنا سآتيك ابخلرب اليقني ،إن
اكنت نفوسهم طيبة تس تقبكل ،أم لئمية ينفرها هللا فيك لتنجو
مهنا!"
جفأة ،أاتين امحلاس اجلارف ال أدري من أين ،فقلت لها:
"ومل الليةل؟ أس تطيع أن أحرض كل أخفر األش ياء من اخملزن
و".........
قاطعتين:
"أاها اخلائب! ال حترق أرسارك هبذه الرسعة! يه هدية تعارف.
ال نرمه هبا لهفتك ،حىت ال يغلو المثن أاها التاجر األريب! اهدأ
أنت ،واس تخر هللا حىت الغد ،ودع األمر يل".
كام قلت من قبل ،يه ش ئون للنساء فهيا ابع ،ال قبل لنا حنن
الرجال به!
قضت الليةل يف قلق ورجاء ،ونزلت أخيت للمخزن تنتقي من
بضائعي شيئا ،فأحلحت علهيا أن تأخذ قدر ما تس تطيع لتظهر
قدريت وكفاييت .لكهنا حاجتين بأاهنا لو أخذت املزيد ،فقد يظهر
األمر كصدقة ،ال هدية عادية ،وهو أمر لن تتقبهل نفوسهم حامت.
فاكتفت حتت إحلايح جبوال من أرز ساوة الشهري ،وزجاجة
صغرية من العطر ،وقطعة مقاش نفيسة ،مث غادرتين مع اخلادم
قائةل بثقة:
106
"هون عليك ،مفثلها لن جتد مثكل أبدا .أنت ابلنس بة لها هدية
من السامء!"
جززت عىل أس نان،ي وودعهتا ،وجلست ألهتم أصابعي قلقا
مرتبصا.
ترى ماذا دهاين؟ يف الصباح كنت واثقا مطمئنا ،فإذا يب إذ
اقرتبت الساعة ،أزوغ وأتقهقر قلقا ،ما أن ظهر يل احامتل
الرفض ،حىت وليت مدبرا كلكب خنوع.
لكن الوقت مل ميض طويال ،وأتتين شقيقيت هادئة فسألهتا:
"كيف اكن األمر؟ عدت مبكرة؟"
ردت:
"مل أشأ أن أتركك يف قلقك!"
مث مصتت هنهية ،وقالت:
"مل يكن األمر يس تحق البقاء طويال .جارة تزور جارهتا هبدية،
وتتعرف علهيا وتعود ،كنت سأبدو خسيفة لو بقيت هناك".
سألهتا:
"وماذا دار بينكن؟"
ردت:
107
"حديث رسيع عن هدوء احلي هنا ،وأنك أيخ الطيب الرثي،
فضلت هذه ادلار لطيب جوها عن ادلور القريبة من السوق.
مث ذكرت إن الناس متدح يف جرياننا ،فأحببت التعرف إلهين،
خاصة وإن الناس تذكر زهرية ابخلري ،فرحنب يب ،وسألنين عن
كيف أرى احلياة هنا ،فقلت أرى حياة ساوة أطيب ،مث ودعهتم
وعدت".
نظرت لها نظرة خاوية ،وقلت:
"فقط هذا! أيهتا اللئمية ،ذهبت لتقويل لهن بدلي خري من
بدلكن ،مث عديت!"
ردت مبتسمة:
"ال ابلطبع! حيامن أخص ابحلديث من بني أهيل واحدا،
وابلسامع من بيهنن واحدة ،فاألمر معروف ،والتلميح يصل
للترصحي ،ولن يغيب عن أفامههن أاها املتذايك".
جززت أس ناين ،متذرعا ابلصرب:
"دعيين من أالعيب احلديث هذه ،واخربيين مبا رأيت".
قالت:
"تبدو فتاة طيبة ،نعم الزوجة .ولو أن أهما حزينة بشأاهنا ،عىل
األرحج لتأخر زواهجا ،وقد أحسست مهنا يه ابذلات ترحااب".
108
( 2-9اخلطبة )
هنا أحسست كأمنا قد زال عن طريقي قاطع طريق مرتبص!
وانرشح صدري ،وهتاوت خماويف ،حىت اس تحمقت نفيس ملا
أصاهبا ،وعقدت العزم عىل اذلهاب خلالها غدا دون إبطاء.
ويف الصباح قضيت حاجايت مبكرا ،ونظمت شؤوين ،ألعود
مبكرا للمزنل ،أغتسل وأتعطر ،وأختار أفضل ثيايب (أو اختارهتا
شقيقيت يل ابألحص) .وذهبت خبطى واثقة للمسهد ،ولكام عاد
ذلهين وسواس من وساوس األمس ،نبذته مس تعيذا ابهلل من
الش يطان.
توهجت للمسهد الغريب الكبري ،فسألت عن ش يخ الطريقة
الشاذلية ،فأشاروا يل عليه ،فتوهجت رأسا حنوه يف حلقة ذكره،
فقطعهتا عليه ،وقلت بصوت حامس:
"أريدك اي ش يخي يف أمر من مصلحة العباد ،فهال أذنت يل
ابنتظارك؟"
قال بصوت خاشع:
"بل آيت معك ،فقد علمنا خري الربية إن قضاء حواجئ العباد،
مقدم عىل نفل العبادات ،ومن اكن يف حاجة أخيه اكن هللا يف
حاجته".
وأاتين الش يخ الوقور متجهام قلقا ،فابتدرته:
109
"أريدك اي موالي يف حاجة عزيزة ،وأمنية رشيفة ،وال أرجو
منك إال خريا .أان من جتار ساوة ،أرىض ابحلالل ،وأنبذ احلرام،
وقد من هللا عيل ابملال والصحة ،فأردت أن أمكل ديين ،وأتبع
س نة نبيي ،وأس تظل بنعمة العفاف.
وقد حملت عيين زهرة صغرية أينعت ،وأدرك قليب أاهنا اخملتارة،
وأيقن عقيل أاهنا المين عىل داري .فإن أاتين رضا ولهيا ،أانرت يل
حيايت".
نظر يل متأمال لفرتة ،مث قال:
"أو تدري من وادل زهرية ،ومن جدها؟"
رددت:
"مسعت إن جدها أضاع ماهل ،مفايل وماهل؟ مات أبوها
شهيدا ،فهل بعد ذكل نسب؟ يزمعون فهيا فقرا ،فهل رأوا
خساءها؟ الغين مبا يعطي ،ال مبا يأخذ ،وذلا فزهرية عندي ال
تسأل يف نسب أو غىن ،وكفاها إن جدها ألهما قايض القضاة".
مط شفتيه ،وقال:
"أو تدري من وادل زهرية ،ومن جدها؟"
اكن صوته جادا ،ووجه عابسا ،فمل أعرف أحيذرين من عيب
فهيم ،أم ينهبين إىل أين دواهنم؟ ..لكن عزيم اكن قاطعا ،ونييت
صادقة ،فقلت:
110
"أوتدري اي ش يخنا من يه زهرية؟ مايل ومال جدها؟ لكمك
من آدم وآدم من تراب .إن كنت ختىش أن أضن علهيا ،أو
أكون أقل رشفا مهنا ،فقد قلت كل إن الكرمي أنعم عيل برزق
حالل ،ويل أهل وعزوة ،فلكنا يف ساوة أخوة .وإاهنم ليعينونين
وقت احلاجة ،كام أعيهنم عند الفاقة .فهل بعد هذا أسأل عن
رهط؟"
مصت الش يخ متفكرا حينا ،وقال كأن مل يسمع غريهاك
"لكمك من آدم وآدم من تراب".
مث أضاف:
"حس نا اي بين مك متهرها؟"
أرشقت السعادة يف قليب ،فقلت:
"بلك غال ونفيس".
قال:
"فمي تتجر؟"
رددت:
"أجتر يف األعالف صيفا ،والنفائس واللطائف ش تا ًء".
قال يل متحداث ببطء:
111
"أنت قلت إن الغين مبا يعطي ،ال مبا يأخذ؟ همر زهرية أن
تطعم ألف جائع ،وتكسو ألف عار ،وتعتق مائة رقبة .وقلت
إنمك يف ساوة إخوة ،مفهرها أن تشرتي لها دارا يف ساوة لها
وألهما .أتقدر عىل هذا املهر؟"
جتمدت للحظات أشعر ابلعجز ،لوال أن عقيل ،اذلي اعتاد
عىل حساب لك يشء قبل أن أفكر فيه ،أخربين أن األمر عىل
صعوبته ليس مس تحيال ،وأيده قليب اذلي حتدث عن اهنر خري
جيري عىل يد زوجة املس تقبل ،يف وقت اش تد فيه اجلوع بأهل
العامصة ،ومزق الظمل مالبسهم .حصيح إن األلف كثري ،ولن
تكفهيا أموايل ،إال لو قضيهتا عىل أعوام ،لكن مل يكن هناك
مناص فالرجل خيربين إاهنم ليسوا أهل طمع ،وإمنا مثلها همرها
همر األمريات ،ولست أان بأمري ،فلو جادلته سأرد خائبا.
ذلا ،اهنضت دون لكمة ،واجتهت للسوق أتدبر األمر عىل لك
وجه.
قد يكون أمر اإلطعام سهال عن غريه ،فإمنا يه جتارة مومس
واحد س تكفيين ،لكن كساء األلف ،وعتق املائة لن يبقى هل مال
حيهنا.
ول ي أنفق املال ،أحتاج للامل! وهنا عقدت العزم عىل القيام
بأفضل ما يس تطيعه التاجر اخلبري.
112
أول ما بدأت به ،هو جتارة اللطائف األكرث رحبا .مجعت لك ما
عندي من مال ،وخرجت للزرقاء أشرتي من جتارها ،مبجرد
نزوهلم من املراكب ،حيث يرخصون الرحب لإلرساع ابلعودة.
مل تكن هذه يه زايريت األوىل للزرقاء ،فقد زرهتا أحياان مع
بعض قوافل ساوة ،لكين مل أمحل وقهتا جتارة تذكر ،وكنت أبيع
ال أشرتي .وبدت يل املدينة امجليةل املزدهرة فاتنة حقا ،لكن
جتارها خرباء ماكرون ،احتاجوا مين ملناهضة طويةل يك ال أقع يف
براثهنم!
كنت ،ألول مرة ،يف مدينة تقوم عىل التهارة ،ولك أهلها من
التهار إال قةل من صيادين وحبارة ،فالبيع حيتاج لفاصل مع
املشرتي ،والرشاء حيتاج ملالجهة مع البائع ،وهو أمر مرهق أميا
إرهاق!
لكين خرجت مهنا بقافةل طيبة ،مفضيت من سوقها الكبري
املزدمح إىل أسوايق اخلاوية ،اليت ال يراتدها سواي يف املدن
والقرى الصغرية البعيدة يف الغرب.
113
( 3-9كرس احلصار )
ورمغ لك ما مجعته من مال يف هذه الرحةل ،إال إنه مل يكن
ليكفيين .وقد اقرتب وقت الش تاء العاصف ،اذلي تتوقف فيه
السفن عن زايرة الزرقاء ،وتندر بضائعها .إال إنين يف ترددي
عىل الزرقاء ذهااب وإاياب ،اخمترت يف ذهين فكرة.
حقول اجلنوب تتكدس بغاللها ،ال ميسها أحد ،بعد أن قطع
أمراء املامليك املئونة منذ عامني ،عقب هزمية جيش املكل
أماهمم .واحلصار شديد يشكو منه الناس ،ولوال إن ساوة ،وما
حولها ،تسد رمقهم لفتكت اجملاعة ابلبالد.
لكن لو اكنت الطرق مقطوعة بيننا ،وبني أقالمي اجلنوب ،فالبد
إن كنت مرصا عىل هديف ،أن أخرتق هذا احلصار ،أو ألتف
حوهل!
اس تأجرت من الزرقاء مركبا كبريا ،فرست به للجنوب حىت
شاطئ مقفر ،فزنلت مع جاميل ،ورست ببطء يف الصحراء،
أحتسس الطريق دون أدالء ،معمتدا عىل قراءة النجوم والرايح،
مقتصدا يف املاء والطعام ،حىت وصلت أخريا إىل أول القرى،
ومهنا ملدينة ينبوعة الصغرية ،اليت اعتدت زايرهتا مع ابيق جتار
الزرقاء قبل احلصار.
114
أتيت أشرتي بأرخص األسعار ،فأعطوين بأزهد مهنا .اكنت
بضائعهم ركدت ،حىت افتقروا ،وخشوا عىل حصادمه من
الفساد ،فبدوت هلم كغوث من السامء خيلصهم من محلهم!
وأىت التهار والزراع يلحون عيل يف الرشاء مهنم ،فأردمه بأين
ال أمكل من امجلال ما حيمل غري ما اشرتيت ،وقد نفدت أموايل.
وهنا جاء عبد هللا الطوخاين ،شهبندر التهار يف اإلقلمي ،اكن
كبري جتار الغالل ،وصاحب أكرب جتارة يف أقالمي اجلنوب لكها،
قبل أن ياكد يفلس بسبب احلصار.
قال يل:
عيل عزيزة ،لوال أاهنا مسنت من قةل العمل،"عندي جامل يه ّ
فاكدت أن متيض لذلحب زهيدة .ودلي غالل مكدسة يف صوامعي
منذ عامني ،أصبحت اهنبا للفرئان ،ال أصدها عهنا ألاهنا بال آلك
سواها .ال يرضين أن أقرضك امجلال ،حتمل بضائعي وبضائعك
لتذهب هبا للعامصة ،وكل نصف رحبي جزا ًء خملاطرتك حبياتك
يف خرق احلصار".
نظرت هل مرتددا وقلت:
"ال أس تطيع أن أقود قافةل هبذا احلجم اي س يدي ،كام أن إعادة
املال كل س تكون صعبة؟"
115
رد عيل هبدوء":أثق فيك اي بين ،كام أثق أن حق عبد هللا
الطوخاين عند أي اتجر لن يضيع! أموايل سأدكل عىل من
تعطهيا هل ،وس يوصلها يل ساملة ،يه وأموال من يفعل مثيل".
ملا مسع الناس بأمر خرويج بقافةل الشهبندر ،توافد ّ
إيل
الكثريون يرغبون ،إما من عاطلني يرغبون يف اخلروج معي،
ومشاطريت املغامرة والرحب ،أو ممن يرافقونين بتهارهتم ،أو
يريدون ائامتين عىل بضائعهم بنفس رشوط الشهبندر.
وإذا يب أزور مدينة واحدة ،ألخرج مهنا ببضائع إقلمي اكمل،
أغلهبا من الغالل ،وهبا بعض األش ياء األخرى اليت اعتاد الناس
جتارهتا.
مل أفرح هبذا األمر ،فاحلقيقة أن الناس فقدوا حذرمه ،ونسوا
إن املامليك لن يرضوا هبذا األمر ،ولو وصل اخلرب هلم،
فس يكون الهالك مصريا رحامي بنا! ولكام تضخمت قافليت ،صعب
عيل أن أزوغ عن أعيهنم ،كام إن سفينة الزرقاء لن تس تطيع
محل لك هذه األحامل ،مما اضطرين إلرسال رسول للبحارة ،ل ي
يعود بعضهم للزرقاء ،طالبا سفنا أخرى ،وهو ما كشف للناس
الطريق اذلي أتيت منه ،مما يسهل عىل أمراء املامليك تتبعي،
ويضطرين للتأخر مدة أطول يف انتظار السفن اجلديدة.
ومل أطق صربا مع تزايد الناس يف الرتايخ والرثثرة ،إذ فوجئت
وأان أجتول يف سوق املدينة ببعض الناس ترثثر عن رحليت
116
وبضائعي بال اكرتاث ،وعن املاكن اذلي نزلت فيه سفين
حتديدا! وقد علموا قبيل بوصولها وتكدسها ،وإن الكثري من
الصيادين املتعطلني عن العمل رافقومه طمعا يف أجر نقةل ما!
أرسعت أاندي ابلرحيل ،وأمجع القافةل املتضخمة وأان أرجو
الناس الكامتن ،فإذا يب أجد املدينة ،ومن حولها من قرى ،قد
خرجوا يل ولرجاهلم مودعني ،ومعهم النساء تنوح ،واألطفال
هتلل ،فشعرت بفضيحة من جيرسه القايض أثناء تسلهل لبيت
يرسقه!
اكن األمراء حىت اليوم غافلني ،فلس نا يف مومس جتارة أو
حصاد ،أو حىت صيد .ومه ال ينتهبون للناس ،خاصة يف القرى
واملدن الصغرية ،إال يف موامس مجع الرضائب ،واجلباايت الثقيةل.
لكن الفوىض العارمة ،والصخب الفادح اذلي حدث عند
مغادريت ،قد أعلام حىت األموات بأمري!
مضيت يف الصحراء املهجورة ،أقطع الطريق مرسعا محمال لك
خشص ومجل بقرب املاء ،وإذا خبيّال يلحق يب منذرا مبا
توجست منه..
"اي أخا اإلسالم أرسع".
رددت عليه:
"من أنت؟"
117
قال:
"أان نذير من أهل الينبوعة ،عمل األمري ططش األلفي بأمرك
فأرسل أغاه جبنوده القتناصك!"
تبا لهذا األمر .واألسوأ أن سبب معرفة األمري الظامل اكن
مغيظا يل .أحد الفالحني محل بعضا من متاعه ،يبيعه لألمري
بأي مثن ،فلام تعجب األمري ،أخربه الرجل مبنهتىى السذاجة إنه
جيمع املال لريسهل مع القافةل ألقاربه يف العامصة!
زدت ابلرسعة رمغ أحاميل ،وقد بدا األمر س باقا بيين وبني
جند األمري اخلفاف املدربني من انحية ،وبني لكينا واألرض
القاحةل اجلافة من انحية أخرى .لو اس تطعت الصرب مبا يكفي
بعيدا عن املاء ،بعد أن ينفد صربمه ،فقد أجنوا مهنم ،ألقع يف
براثن الظمأ.
أخذت أحث الرجال عىل املسري رمغ سطوع الشمس القاتةل،
والشمس هنا حارقة صيفا وش تا ًء ،وأحهثم يف الوقت نفسه عىل
الاقتصاد يف املاء .وجنحت يف األوىل ،فمل يظهر يل غبار
املطاردين إال عند الغروب .ودق قليب ذعرا ،لكهنم إذ أصاهبم
اإلرهاق والظمأ ،ارتدوا خائبني.
وهنا وقعت يف الثانية! الشمس القاس ية ،والرتبة اجلرداء،
والهواء اجلاف ،يتآمرون معا عىل مياهنا املتناقصة برسعة،
118
خاصة وقد روى الرجال ظمأمه بغري حساب أثناء املطاردة،
وبعضهم أهدر قربته عىل األرض بسبب ذعره.
هنا أوقفت القافةل لتسرتحي أخريا ،ومجعت الرجال ،فقلت هلم:
"اآلن إما أن تسمعوا يل ،أو تغادروين .منذ هذه اللحظة فأان
احلامك املطلق للقافةل ،وأمريمك اذلي يرسي أمره عىل رقابمك! لن
ننجو إال ابلتدبر واحلزم الشديد .فهل من معرتض؟"
نظرت لوجوههم ادلهشة املرتقبة ،ومل يأتين الرد ،فأمكلت:
" منذ اللحظة وحنن يف خطر أشد من س يوف املامليك ،أال
وهو املوت ظمئا بال مغيث .ذلا فلن يرشب أي منا يف اليوم إال
كوب واحد ،ويف الليةل إال نصف كوب .س منيش يف الليل،
وحنمتي من الشمس يف الهنار ،حىت خنفف من وطأة الظمأ .وال
أعدمك إال بعذاب مؤمل ،ومعاانة مضنية ،لكهنا س توصلمك للنهاة
بإذن هللا".
مل أتوقع مهنم الزتاما بأمري ،لهذا أخذت أدور عىل القرب
أتفقدها ،لكهنم خيبوا ظن السوء عندي ،ووجدهتم واعني
للخطر احملدق بنا.
رسان أايما أخرى ،يف طريقنا للسفن .اكن سريان بطيئا بسبب
أثقالنا ،وتفاوت قواان .فالقافةل تسري عىل محل أضعافها ،فبدا يل
أن ما ظننته يكفينا من ماء وزاد قبل الرحةل ،لن جيدي اليوم
حىت مع الاقتصاد نفعا .وأمرت القوم أن يكتفي لك مهنم بكوب
119
ماء واحد يف اليوم ،وأخذت أسـأل ذوي اخلربة ابملاكن مهنم،
هل من آابر قريبة ،فريدوا أن هذه أرضا همجورة ،ال يعرف فهيا
برئ!
وقبل أن نصل للساحل بيومني ،نفد املاء عن آخره ،وأصابين
الفزع والمكد .أمنوت من العطش هنا عىل أعتاب النهاة؟ وقد
استبد بنا وبدوابنا التعب ،فمل نس تطع أن جند املسري ،فأمرت
بنصب اخليام للمعسكر ،فرصخوا فزعني "س منوت عطشا".
قلت هلم:
"رمحة ربمك واسعة ،فنس تغيث هبا .سآخذ ابألس باب قدر
اس تطاعيت .سأختار منمك أجدلمك عىل أخف دابة ،ليطري
مس تغيثا ابلبحارة ،ليأتوان ابملاء ،بيامن نبقى حنن هنا ،مدخرين ما
بقى يف عروقنا من طاقة ،مبتعدين عن حر الهنار ،وزهمرير
الليل".
أرسلت رسول النهدة ،وحثثته أن يرسع ،وانتظرت مع من
معي ،أدعو هللا أن نصرب األايم األربع.
ابس تثناء املشقة والعطش ،مر أول يومني عىل خري؛ لكن
اإلرهاق شدد وطأته علينا بعدها .وبدا الهالك يرقبنا بصرب فارغ،
فأصيب مثانية منا دفعة واحدة ابمحلى ،اليت أقلقتنا .وخرجنا
نبحث عن عشب أو يشء يداواهم ،كام نصحنا أحد الرجال ممن
هل خربة ابلعطارة.
120
لكن هذا املاكن القاحل مل يكن به إال حفنة من أشواك،
وحطب ،وبعض الصبار القليل.
وهنا واتتين فكرة ،أتيت بصبارة ،فشققهتا متحامال األشواك،
واس تخرجت بعض لهبا ،مفضغته ،فمل أجد إال قليل من رطوبة
ومرارة ،لكهنا أنعشتين .فأخذت ثالثة من رجال ،مه لك من
يقوى معي عىل العمل ،منزق الصبار القليل حولنان وندفع بلبه
يف أفواه العطىش ،علها تتصرب قليال.
ولو إن بطوننا آملتنا يوهما بشدة ،خاصة وأن بعض أنواع
الصبار ملينة للبطن ،كام أعلمتين التجربة ،إال أننا جتاوزان اليوم
دون مزيد من جراح.
لكن يف جفر اليوم التايل ،بدا الهالك وش ياك حقا ،فأمرت
الرجال بذحب ثالثة من امجلال املهنكة ،ومجع دماهئا يف إانء كبري.
ورمغ إننا كنا يف مخمصة ،إال أن أاي منا مل يستسغ رشب ادلم
املسفوح ،رمغ الرضورة .وذلا مجعت ادلم ،وأوقدت عليه النار
أغليه ،وأضع أان والرجال بعض األطباق الباردة ،أو القدور
الفارغة ليتكثف علهيا بعض من قطرات املاء املر ،فنلعقها
بشغف حىت احرتق الوعاء مبا فيه ،دون أن جند ما يروي
الظمأ.
مث أىت اليوم الرابع ،اذلي أرحج جميء النهدة يف آخره ،فتطاول
علينا كأنه بال اهناية ،وقبل أن تغادر الشمس كبد السامء ،اكنت
121
امحلى أوقعت امجليع إال اثنني .وأحسست معهم ابألمل واليأس،
وبدأ الوهن يفتتين ،واألمل حيرقين ،وأرى الهالوس حويل يف لك
ماكن ،لوال أن متاسكت حىت ال يفقد الرجال بقية جأشهم إذا
وجدوا قائدمه قد انفطر.
وبدأ البعض حيترض فعال من العطش واإلاهناك ،لوال مطر
خفيف نزل جفأة عىل غري انتظار ،وأشد ترحاب .بدت يل
قطرات املطر حيهنا أمثن من قطرات ذهب وماس ،فأخذان نضع
خرق القامش عىل األرض لمتتص املاء ،فنضعه عىل أفواهنا،
وجباه احملمومني ،ومل منكل من اجلهد ما نس تطيع به مع املاء بغري
هذا الطريق ،وقد أصاب العطش البعض ابجلنون ،فهجموا عىل
اإلانء احملرتق ،اذلي حوى دم اإلبل ،يلعقونه مبا اجمتع فيه من
ماء آسن ،دون أن أقوى عىل ردمه.
ورفعت رأيس للسامء أس تغيث ،وخفضهتا فوجدت النهدة
آتية!
مثانية من األعراب ،حاملون قرب ماء ،يزنلون حنوان مرسعني
منهدين.
وقفت ذاهال ،متصورا أن الهالوس والرساب قد متكنا مين
أخريا ،إىل أن وجدت املاء العذب الذليذ يصب يف مفي منعشا.
اس تغرق األمر مين بضع دقائق ،حىت اس تعدت رشدي،
جفلست أحدث األعراب.
122
اكن كبريمه رجال جعوزا ،من بين سلمي ،يعمل راعيا للغمن،
ودليال للقوافل اآلتية من اجلنوب ،وقد مسع مبجيء جتارة من
الشامل إىل ساحل البحر ،خفرج لعهل يقتنص مهنا شيئا ،وحيهنا
قابل رسويل ،وعمل حبالنا فهب لنهدتنا.
وقال يل الش يخ العجوز":تركت بضاعيت خلفي ،ومحلت بدال
مهنا املاء ،وجئت لمك بدال من جتار الزرقاء ،لعل هللا يكتب يل
ثوااب حس نا بنهدتمك".
فهمت ما يقصد فقلت:
"ولن يضيع هللا أجر احملس نني .وأجر هذا املاء ومحهل لن
يضيع .ويف قافليت متسع لرشاء بضائعك".
كنت مدينا للرجل حبيايت أان ومن معي ،ذلا فقد أكرمته يف
المثن إكراما ال يعوض كرم النهدة ،همام فعلت.
وهنا اقرتب مين أحد رجاهل .اكن شااب حديثا ،تبدو عىل وهجه
سامت العزة ،وعىل مالبسه سامت الفاقة ،فقال يل:
"هل يل أن أطلب منك أمرا اي س يدي الفاضل".
قلت هل" :تفضل".
قاكل
عيل قطاع الطرق ،ورسق "أان من أبناء السبيل ،فقد خرج ّ
ما معي ،فبقيت هنا رشيدا ال أس تطيع العودة ملوطين ،ولوال كرم
123
بين سلمي معي ،لهلكت .لو محلتين معك عىل سفينتك للزرقاء؟
وسأرد كل نفقة السفر ما أن أعود ألهيل يف بين األسود،
عيل ال ميحوها ادلهر".
وتكون مكرمة كل ّ
ابتسمت ،وقلت:
"ال ختيب ظين يف بين األسود! أترد نفقة مساعدتك؟ ما اكن
هذا يل ،وما اكن لمك".
وهكذا زادت قافليت فردا ،واكن نش يطا خملصا ممتنا .وأمكلنا
طريقنا بأمان ،وأان أقودمه همتداي ابلنجوم ،حىت وصلت
للشاطئ .وقد حدت عن املاكن قليال ،واضطررت إلرسال
الكشافة عىل الساحل شامال وجنواب ،حىت اهتديت ملاكن لقايئ
ابلسفن.
وهنا أذهلين ما رأيت! السفن القليةل الصغرية اليت اتفقت معها
مل تعد وحدها! لقد وجدت ميناءا جديدا! مراكب كثرية بعضها
يتاجر ،وبعضها يصطاد ،وخيام حولها تش به أسواق األعراب،
وخلق من لك جنس ولون يبيعون ويشرتون! يبدو أن نبأ
رحليت وقافليت مل يصل آلذان املامليك فقط ،بل وصل للك
بدلان العامل! ومحلت السفن بضائعي ،وبضائع غريي ،وعدان
للزرقاء ،مل ننقص فردا ،ورست مهنا إىل العامصة ،فإذا يب
أدخلها دخول الفاحتني!
124
وجدت آالف الناس يف انتظاري ،هتتف ،وهتلل لقافليت،
وتلوح لنا يف ترحيب ،واألطفال يتقافزون حماولني النظر حبثا
عين ،كأين أجعوبة من أعاجيب ادلهر ،أو ساحر أىت هلم
بنفائس الهند والس ند!
وعلمت أن الناس تسامعت (ابلبطل) ،اذلي كرس احلصار
بعدما فشل يف كرسه جيش املكل ،وراوغ األمراء وخدعهم،
وأىت ابملرية رغام عن أنوفهم للعامصة اجلائعة ،وحكوا يف هذا
قصصا لطيفة ،وأساطري غريبة ،تشوقت لسامعها ،رمغ إنين
بطلها املزعوم!
واكمتلت هبهة الناس إذ أخذت أوزع الطعام عىل الفقراء هنا
وهناك ،حىت أمتمت األلف ،وزدت علهيم .وبيعت القافةل
الضخمة بأمكلها يف يومني فقط ،بأسعار غالية ما بني حاجب
املكل الراغب يف ملء خزائن القرص الفارغة ،وطبايخ األمراء،
وعامل القادة ،وابيق التهار املتنافسني ،حىت اجمتع يل رحب
همول ،مل أظن يف يوم أن أمجعه يف عام.
ومحدت ريب عىل هذا الرزق العظمي ،وأدركت أن صربي فامي
مىض ،ورفيض لرفع األسعار كبايق التهار ،قد اكن هل عوضا
مضاعفا ،وما عند الناس ينفد ،وما عند هللا ابق.
وبعد أن رددت أمثان البضائع ،وأجرة امجلال ،وأاهنيت ادليون
واحلساابت والهدااي والصدقات ،وأكرمت رفاق الزرقاء اذلين
125
أعانوين ،اس تعددت للجزء الثاين من املهر الغايل ،وهو أمر
أيرس مشقة ،وأغىل مثنا.
ولرشاء ألف ثوب ،دلين رجال الزرقاء عىل ما أريد ،وأحرضوا
البضائع لغاية عندي ،وأخذت أوزعها طوال األس بوع حىت
أمتمت األلف.
مث اشرتيت مائة من العبيد ،وأعتقهتم مجيعا ألسدد آخر رشط
يف املهر ،بآخر مايل إال قليال.
وجلست مهناك ،أحيص أحوال الرحةل الشاقة ،وأرابهحا،
وخسائرها .وبعدها جتهزت خبري ثويب وعطري ،وذهبت للش يخ
مرسعا ،ومعي الشهود العدول مبا فعلت ،ولو إنين أظنه مسع
بنبيئ ،كام مسع به لك أهل املدينة.
126
( 4-9احلجيج )
نظر يل الرجل متفكرا مث قال" أجحجت لبيت هللا اي بين؟"
رددت "مل يأذن يل هللا ابحلج بعد".
مط شفتيه وقال:
"مقت برحةل صعبة خطرة طويةل ،وتاكسلت عن احلج؟ وإين
ألعمل أن زهرية قد جحت من قبل مع وادلها قبل استشهاده،
وأكره أن أزوهجا ملن مل يقدم دينه عىل دنياه".
قلت جمادال:
"اي موالان ،إمنا أحاول أن أمكل نصف ديين هبا أوال ،وقد أجاز
الكثري من املشاخي تقدمي الزواج عىل احلج .وما اكنت رحليت
الطويةل إال لها".
قال الرجل حبزم مس تفز:
"رحةل أشق من احلج ،مث تقول يل تقدمي وتأخري؟ ال أظنك
مقت هبا ألجل زهرية ،وإمنا أنت حمب للمخاطرة يف املكسب،
والكسل يف الطاعة ،فال شأن يل بك".
اهنضت أجز عىل أس ناين غيظا ،لكين متاسكت ،وقلت:
"فليأذن هللا مبا فيه اخلري".
127
وخرجت من املسهد أفكر يف األمر .طريق احلج شاق،
واألعراب فيه يهنبون قوافل احلجيج ،ويقتلون ويرسقون ،بال
خش ية ،لك من يقرب احلهاز .لكن إن اكن قد أذن أذانه ،فلن
أجح وحدي.
عدت لساوة ،أنئب أخويت بعزيم عىل احلج ،سائلهم معن
يرافقين .وجادلتين شقيقيت طويال يف األمر ،فقد اكنت ختىش
عيل كثريا ،فقالت:
ّ
"دعك من الهتلكة ،واتبع نصيحيت ،أزوجك من يه خري مهنا
اي فىت .وأنت ال تدري ما شأن خالها هذا ،فلعهل يطلب منك
أن حترر بيت املقدس من الفرجنة قبل أن ختطهبا!"
لكين أرصرت ،وقلت:
"هذه فرصة ألداء الفريضة األشق ،وحنن يف حصتنا اي فتيان
ساوة!"
لست ممن يرجع يف أمر كهذا ،هناك قول للنيب العدانن (جحوا
قبل أال حتجوا ).وأما وقد عقدت العزم ،فال مفر وال مرجع.
اكن من أقنعها هو زوهجا طائع ،فقد بدا هل األمر إغراءا اندرا
مل يكن ليحمل مبثهل .فرست بقافليت الصغرية ،نس بق قوافل
احلجيج بثالثة أشهر اكمةل إال قليال ،لعلنا نصل قبل بدء مومس
اهنب القوافل.
128
حيامن وصلنا ملدينة الثغر الصغري ،بدا لنا طريق الرب شديد
اخلطر ،ومقطوعا .فاألهبال يزحفون عرب البالد ،ال يبقون عىل
برش أو حيوان أو بناء إال أهلكوه .والفرجنة يسترشون بني
املدن ،يساملون امللوك حينا فيأمن الناس ،أو يقاتلواهنم
فيس تحلوا لك دم تقرهبم.
نعم يف البحر قراصنة ،لكهنم ليسوا برش من قطاع الطرق من
جفرة األعراب ،كام إن سفن املكل وسفن الفرجنة وحىت سفن
األهبال تطاردمه هذه األايم .وذلا ملا علمت بقطع طريق الرب،
توهجت بأهيل إىل الزرقاء ،لنلحق بواحدة من سفن الهند.
كنت قد علمت أن سفن الهند تأيت محمةل ابلبضائع ،وتعود
خاوية لبالدها ،وأن أمثان البضائع ال حتمل علهيا ،بل تدفع يف
الهند من قبل أن تغادرها .ذلا فهىي يف عودهتا آمن سفن ،ألن
القراصنة يزهدون فهيا ويف خواهئا.
وهكذا ركبنا تكل السفينة ،لتحملنا للمين .ورمغ أن أكرث من
قرصان مر بنا ،لتبلغ القلوب احلناجر ،إال أاهنم اكنوا يبتعدون عنا
مدركني أننا ال نساوي هجدمه .مفىض البحر بسالم ،ونزلنا عندما
توقفت السفينة يف المين لتزتود ابملاء ،وهكذا وصلت للجزيرة
عرب طريق أطول ،أرجو أن يكون آمن.
كنت أنوي البقاء يف المين شهرا ،أنظر يف أسواقها ،وأتعمل من
جتارها .لكن أخويت قالوا إاهنم لن يصربوا عىل زايرة املدينة،
129
لرؤية مسهد احلبيب عليه السالم ،فأذعنت هلم ،ومضينا حنو
احلهاز ،مس تعينني بأدالء همرة ،جتاوزوا بنا مناطق اخلطر
بسهوةل ،ووصلنا للحرم الرشيف العطر ،لنقم خبري زايرة أتبعها
معرة ،وقضينا صوم الشهر الكرمي ،مث بقينا يف الرحاب الطاهر
متطهرين حىت أىت وقت احلج ،فاكن من دعايئ يف اليوم األعظم
فوق عرفة أن ييرس هللا حايل وأمر زهرية.
وبعد طواف الوداع ،وزايرة الوداع للمسهد النبوي ،تأهبنا
للعودة مع قوافل احلجيج ،فإذ يب أحلظ إن جتارا كثريين أتوا
لرشاء متر احلهاز والمين.
سألت ،فأخربوين أن األهبال -علهيم لعنة هللا -أحرقوا خنيل
دجةل والفرات ،وفزع الفالحون من زحفهم يف الشام ،فهربوا،
لتبور أرضهم ،فغلت المتور غال ًء فاحشا.
فرتكت أخويت يعودون مع القافةل ،والتحقت حبفنة من التهار
ومعي ما اشرتيته من متور ،نبغي بيعها يف أواخر مدن الشام،
قبل أن يدمهها األهبال.
وهنا دمهنا الفرجنة.
130
( 5-9يف األرس )
دمهتنا جامعة من جند الفرجنة ،فهنبوا لك أموالنا ،وقتلوا ادلليل
واحلرس ،وساقوان عبيدا لبيعنا يف السوق ،أو ليفتدي منا من
يقدر نفسه ابملال .ورمغ ما أصابين من فزع ،لكن من معي من
جتار طمأنوين ،بأاهنم سيتفامهون مع أمري الفرجنة ابإلاتوة
املعهودة ،وخنرج بفدية معا ،عىل أن أرد هلم املال فامي بعد.
وحثوين عىل الصرب ،وعدم المترد ،لئال يغضب علينا أولئك
اجلنود ،وأن أطيعهم فامي يطلبون .وقال يل اتجر طرابيل يسمى
زيتون:
"افعل ما يأمرونك به اكلعبد اذلليل ،فليس هذا وقت الكرامة
بل وقت النهاة".
امتعضت من األمر ،لكين أطعته .فهم أدرى بش ئون بالدمه
وبالايها.
لكن ما أقلقين اكن أمرا آخر .فالفرجنة ماضون حنو الرشق
بإرصار مزجع ،فتعجبت ..أمل يسمعوا خبطر األهبال الزاحفني
من هناك؟
131
واستبدلوا السمع رؤية! أاتان األهبال اكملوت اخلاطف ال فاكك
منه! ..بعد أقل من يوم ،فرقة من طالئعهم أمسكت بنا،
وساقتنا مجيعا أرسى ،ليصبح الفرجنة معنا يف أغالل واحدة.
أراد من معي الانقالب عىل جند الفرجنة ،ورضهبم انتقاما من
أذامه ،وغيظا لسقوطهم يف يد ال ترمح .لكين رددهتم بقويل:
"لكنا يف مه واحد اليوم ،وعلينا أن نفكر معا يف حيةل تنجينا
مجيعا".
اقرتبت ،عند الليل بعد نوم زماليئ ،من حارس نا ،وقلت هل:
"أريد احلديث مع قائدك".
مل يكن يفهم العربية ،فاكتفى بلطمي ،فأخذت أحاول أن أفهمه
بصوت خفيض ،دون جدوى سوى املزيد من اللطم ،ورصخ
غريب لعهل س باب.
ولكنه ،عىل ما يبدو ،اندهش أخريا من حريص عىل خفض
صويت ،فأخذين لزميل هلم ،أفهمين أنه الوحيد اذلي يفهم العربية
بيهنم ،ولن حيدثين القائد إال بعد أن يرى هو أمري.
قلت هل:
"أان اتجر من جتار ميناء الزرقاء الشهري ،واكن معي جواهر
وأموال ،أخذها مين الفرجنة ودفنوها يف الصحراء ،فلو إنمك
132
أطلقمت رسايح ،أدلمك عىل املال ،ولمك نصفه جزا ًء لتخلييص من
أولئك املعتدين ،عىل أال ختربوا أحدا من زماليئ ابألمر".
قال يل الرجل:
"ومل ختىش من زمالئك؟"
تصنعت التعلمث وقلت:
عيل،
"مه يظنوين اتجر متور .ال أريد إاثرة حسدمه وحقدمه ّ
أرجو حقا أال ختربومه بأنين أنبأتمك بأمر املال املدفون".
نظر يل الرجل ،وابتسم ابتسامة خبيثة ،فاطمأن قليب إنه ابتلع
الطعم ،وظن أن هذا ليس مايل ،وإمنا مال أحد زماليئ وأان
أرغب يف الفوز ببعضه.
مىض يب إىل القائد ،اذلي صدق القصة ،لكنه اكن أكرث اهامتما
بكوين من الزرقاء ،فأخذ يرثثر معي ،وعرض عيل رشااب "خنب
رشاكتنا وكزنان املشرتك" كام زمع ،فاعتذرت بأين ال أرشب
امخلر ،فتبسط معي يف القول ،وأخذ حيدثين عن احلياة يف
الزرقاء.
وأجزم أنه ماكر حقا ،لكن حلسن احلظ تبينت أن ما بدا يل
ثرثرة عادية ،إمنا هو أس ئةل مفصةل ذكية ،تدفعين دون وعي
لوصف بالدي وحصواهنا .وملا تنهبت لفخه ،أخذت أغلف
133
أحادييث ابلكذب ،وأضاعف يف قوة املكل وجنوده بفوق
احلقيقة ،وقد بدا يل اهامتمه ببالدي مرعبا حقا.
مضوا معنا منذ الصباح حنو اجلنوب ،وأان أدل اجلنود بإشارات
متفق علهيا عىل الطريق للكزن املزعوم ،كأمنا أخفي األمر عن
زماليئ!
اكن لك ما اس تطعت التفكري فيه ،هو حماوةل اس تدراهجم
لطريق القوافل ،اذلي أخذان منه الفرجنة ،لعل أحدمه يقابلنا،
فينقذان .فكنت أسأل الش يخ زيتون عن الطريق يف الليل ،ألدل
األهبال عليه يف الهنار ،لمتيض مخسة أايم قاس ية ،حيامن حملوا
أخريا بعض املسافرين عىل الطريق.
واس تبرش امجليع خريا ،حنن اس تبرشان ابلنهدة ،واألهبال
اس تبرشوا بغنمية جديدة! وذاب اس تبشاران يف آتون سعادهتم،
عندما أرسع املسافرين للفرار من وجوههم ،مرعوبني ملقني
السالح والتهارة خلفهم!
واندفع األهبال يف جشع يطاردواهنم ،مل يرتكوا إال أربعة من
احلرس .ولو إاهنم فعلوا هذا أول يوم أرسان فيه ،ملا جرؤان عىل
المترد ملا نسمعه من أساطري عن األهبال؛ لكنين خربهتم برشا
ليسوا إال يف األايم املاضية ،حفرضت زماليئ ما أن غاب عنا
الباقون ،لننقض عىل احلرس ،فقتلوا منا مخسة ،لكننا متكنا مهنم
يف الهناية ،وقتلنامه.
134
ويبدو أن الباقني أحسوا بثورتنا ،أو يأسوا من اللحاق
بطريدهتم ،فعال غبار خيوهلم عائدا حنون،ا فأراد امجليع الفرار،
فقلت هلم :
"بل اثبتوا واتئدوا وأحس نوا التدبري .ليأخذ الفرجنة اخليول
واهربوا هبا حنو الشامل فهم مدربني ،ولن يس تطيع األهبال
حلاقهم ،بيامن لنتسلل حنن خمتفني وسط الكثبان ،ولنأخذ
السالح معنا حيطة ،فلو ركبنا ما اس تطعنا الفرار".
أطاعوين مجيعا .فمل يرغب الفرجنة إال يف الطريان وحدمه عىل
ظهور اخليل ،بيامن كرهنا حنن أن نرتك الفرجنة مع السالح
جواران.
عرب األهبال جواران اكلربق يطلبون الفرجنة ،فهرعنا مبتعدين
جنري حنو القافةل اليت هامجها األهبال ،فلهأان هلم وجنوان بفضل
هللا.
وهنا أدركت أين قد نلت من السفر ما يكفيين ،وأال جتارة أو
بيع يل يف هذه البالد ،واس تعوضت هللا يف خساريت ،وعدت
لبالدي خائبا ال مال معي أو جتارة.
135
( 6-9العرس)
اكن طريق العودة شاقا مؤملا ،لكن هللا خسر يل من أعانين،
جزامه هللا خريا .عدت وحيدا مقهورا مضعضع النفس دلاري،
ألجد أهيل ينتظرونين هناك يف قلق ،جفلست مكتئبا أكمت مهي،
حيامن وجدت شقيقيت بعد ثالثة أايم تسألين:
"ألن تزنل للسوق؟"
قلت لها:
"ليس اآلن مفازلت همموما ،وال أمكل الكثري لبيعه ،إىل أن
يأيت احلصاد اجلديد يف ساوة".
مصتت قليال ،مث قالت:
"أولن تمكل عرسك اي فىت ساوة؟ ألن تذهب خلال عروسك
تطلهبا؟"
أتت أخيت عىل اجلرح ،ووطئته بقسوة ،فقلت لها اكمتا
دموعي:
"ال شأن كل ابألمر اآلن .حيامن أس تعيد عافييت ،ميكنك أن
تعريض يل من تشائني من صوحيباتك يف ساوة".
قالت يل:
136
"ومل؟ ألن ختطب زهرية؟"
نظرت لها مندهشا ،وقلت:
"ال مال عندي اآلن ،وقد خرست الكثري ،فأىن يل أن أجرؤ
اليوم عىل اذلهاب خلالها؟"
قالت:
"مل يطلب خالها ماال .سددت املهر اذلي طلب .وتاكليف
العرس س تجمعها من هدااي أهل ساوة .فنقوط تميور العالف لن
يكون قليال! وهذا ذهيب قد اس تأذنت زويج أن أبيعه
ألعينك".
مل افهم مل تغريت جفأة جتاه هذا الزواج ،بعد أن كدت أيأس أان
من متامه ،فأوحضت يل:
"ما اكن يل أن أجح لوالها .يه فتاة مميونة ،لن أضيع فرصة
مضها لعائلتنا اي تميور".
وهكذا مللمت نفيس ،وخرجت للمسهد الغريب الكبري،
واجتهت عقب الصالة رأسا للش يخ ،قبل أن يبدأ حلقته.
نظري يل بدهشة ،كأمنا غيايب األشهر املاضية قد أنعش يف
قلبه أمل يأيس .لكنه ابتلع دهش ته ،واس تقبلين برتحاب،
شعرت أنه صادر عن قلب طيب صادق ،فزاد من ارتبايك يف
عيل بتوأم رويح.
شأن هذا الرجل ،اذلي يتفنن يف الضن ّ
137
سألين عن أحوايل ،وما أصابين يف غيبيت الطويةل ،فأخذت
أح ي حاكييت من أولها ،وقد أخذ الناس يلتفون حول،ي كأين
ش يخ احللقة ال هو ،مبجرد أن ذكرت مقابليت لألهبال .التف
حويل الناس يسألون:
"أحقا رأيت األهبال؟ ما حاهلم وما شلكهم؟ أمه ابلفعل خضام
األجساد ،وهل عيواهنم تطلق لهبا جيفف ادلم يف العروق؟ أكام
يقولون أنياهبم أطول من أصابعنا؟"
أخذت أرد عىل الناس انفيا تكل األعاجيب:
"إمنا مه برش كسائر البرش ،لوال إن قلوهبم أشد قسوة من
احلهارة".
سألوين:
"أحقا يقاتلون بال وجل ،ويقبلون عىل املوت كأمنا يش هتونه؟
أوحقا إن الس يف جيري يف أيداهم ،كأمنا به ش يطان ،فميزق من
يريد ،ال يناهل أحد؟"
قلت هلم:
"إمنا قتاهلم كقتال البرش ،غري أين أشهد هلم ابجلدل والرباعة
واملكر .رأيمت من لعب األمراء ابلس يف يف األعياد من مه خري
مهنم اي رجال .وقد رأيت الغيالن امحلر أشد جدلا وجشاعة
وإقباال عىل املوت مهنم".
138
أخذوا يعيدون أس ئلهتم ،وقد دب القلق من األهبال يف
قلوهبم ،فأرادوا مداواته حبدييث ،لكين جئت لشأين ،خفشيت
أن يذهب القوم بوقته ،وأحببت أن أحمك أمري عىل الش يخ
املراوغ ،فقلت للسائلني:
"إن صدقمتوين فامي أصابين -وإين لصادق -أتشهدوا يل
ابلشهاعة؟"
قالوا" :نعم"
قلت:
"وإن أخربتمك إن الش يخ طلب مين كذا وكذا ،حفدث يل كذا
وكذا ،حىت أمتمت طلبه فهل تشهدون أين أوفيت؟"
قالوا" :نشهد طبعا".
نظرت للش يخ نظرة ،أفرغت فهيا عناء الشهور السابقة،
وقلت:
"فإين أشهدمك أين أطلب منه ابنة أخته ،بعد أن أوفيت مبهرها
املطلوب".
مصت الش يخ ،كأمنا اكن يعد طلبا آخر يؤخرين عن زهرية؛
لكين أمجلته أمام طالبه ،وأحرجته أمام األشهاد ،فقال مستسلام
أخريا:
"وأشهدمك أين قبلت طلبه ،فأت دلارها بعد مغرب امجلعة".
139
ذهبت يف امليعاد ،سعيدا متعطرا ،مرتداي خري الثياب المينية
احملالة ابلقشيب ،وأخذت معي ثالمثائة دينارا ذهبيا ،أقرضهم يل
أشقايئ ألمرها ،وجاءت معي شقيقيت وزوهجا ،مبهتهني حاملني
احللوى والهدااي املعتادة.
وجدت يف انتظاري الش يخ وأم العروس ابدلاخل ،وجعبت مل
أتت أهما تقابلين يف جملس الرجال ،وفيه الش يخ ،اتركة جملس
النساء خاواي مهنا؟ ويبدو أن الش يخ أدرك تساؤيل ،إذ اكن
أول ما قاهل ،بعد السالم والتعارف:
"هناك أمر أكرهتين أخيت عىل أن أقسم أال أذكره كل ،حىت ال
ترحل بال عودة ،كام رحل من قبكل .يه ختىش عىل ابنهتا
فوات الزواج ،وأخىش أان ما هو أشد وأخطر".
أصدرت األم زجمرة ،فقال الش يخ:
"لن أخربك برا بقسمي ،وعىل لك فقد حاولت أن أجعكل
تبحث عنه بنفسك ،لوال عنادك".
قلت:
"أهو أمر ميس زهرية وحياهتا؟"
قال" :ابلطبع".
زجمرت األم ،فتهاهلها وكرر:
"ميس حياهتا ابلطبع".
140
قلت:
"لعهل متعلق بأبهيا وجدها؟"
قال:
"هو حامت عن أبهيا وجدها".
كنت قد فكرت يف هذا األمر ألف مرة ،حصيح إن البعض
يقول أن العرق دساس ،ولكن زهرية قد مجعت املال واحلسب
وادلين ،وما اكن يل أن أمحلها ذنب أبهيا أو جدها .ذلا قلت
بقلب متيقن:
"إ ًذا ال شأن يل به ،وال تزر وازرة وزر أخرى".
نظرت املرأة بلوم ألخهيا ،وقالت ممتعضة:
"وزر؟"
تنحنح الرجل ،وقال:
"األمر ليس كام تظن ،وال وزر أو عيب فيه ،ولكن األمانة
يف عنقي جتعلين أنهبك لـ"....
قاطعته أخته صارخة:
"كفاك اي رجل ،وكفاان من أمانتك املزعومة هذه ،اليت تريد
كرس خاطر ابنيت وعريسها هبا .هل لنا أن جند زوجا خريا منه؟
141
هو ال يريد أن يعرف ،وأان ال أريدك أن تقول ،فهل تغصبنا
غصبا؟"
أعرتف إن الفضول قد اثر يف قليب حيهنا ،لكين خشيت من
غضب املرأة ،وجخلت من نفيس ،فكمتت فضويل ووأدته وأدا.
نظرت يل بمتعن ،وقالت:
"أتريد زهرية ذلاهتا أم ألهلها؟"
قلت" :بل ذلاهتا".
قالت:
"فهىي خري النساء ،ال عيب فهيا ،كام ياكد هذا الش يخ اخلرف
أن يومه الناس.
فتح أخوها مفه ليتلكم ،لكهنا أخرس ته ،وقالت:
"ابرك هللا كل فهيا ،ولها فيك .قد قبلناك بإذن هللا ،وأما
موعد الزفاف وغريه ،فلتتفق مع أيخ ،بيامن أنظر أان لضيويف
اذلين تركهتم!"
وغادرتنا ،بعد أن حسمت األمر جمللس النساء ،واتفق الش يخ
املستسمل معي عىل أن يكون الزفاف بعد احلصاد التايل ،ألكون
وقهتا قد احرتزت شيئا من املال ،وتفرغت من مومس التهارة،
ولعهل تعمد ترك املهةل يل للسؤال عن أهلها.
142
وابلطبع سألت لك من حوهلم ،فمل يأتين إال خريا ،مل يكن
ساكن احلي يعرفون عن أهل أبهيا الكثري ،لكنه منذ أىت لهذه
ادلار والناس تشهد هل حبسن اخللق ،من يوم جميئه حىت يوم
استشهاده .فكرت أن أسأل بعضا من خطاهبا السابقني ،أو
أحبث عن أمر جدها ،اذلي يزمعون أنه أضاع ماهل سفها ،ولكن
عيل حيب لها،انشغايل ابإلعداد للزفاف منعين ،وهون األمر ّ
وفرحيت ابنزتاع املوافقة من خالها.
ولعهل قضاء ونصيب يل أال أعمل حقيقة األمر إال بعد الزواج.
اكن العرس كبريا هبيهاً يف داري ابلعامصة .وأىت أهل ساوة لكهم
ليفرحوا يب ومعي ،والكثري من جتار السوق ،وأهايل العامصة ممن
يذكرون يل فضال يف كرس حصار الغالل وقت الشدة.
وأوملت الوالمئ ،مل أدخر هجدا يف إكرام الضيوف ،وابذلات
ادلراويش اذلين أتوا من لك البالد جياملون ش يخهم ،وقد اكنوا
شاكرين يل ،وأذكر لكمة أحدمه:
"كرم يليق حقا ابألمراء اي بين .أحسن ش يخنا إذ اختارك
ذلات النسب الرشيف ،واملاكنة النبيةل"
شكرته عىل اجملامةل ،مل أفهم ما وراءها؛ ولكن بعد أن ودعت
آخر الضيوف ،واكن خالها مل يرحل حىت قال يل:
"احرص علهيا وعىل نفسك ،وخري لكام أن تقامي يف ساوة عن
العامصة .كنت قلقا عليكام قبل اليوم ،لكن بعد أن رأيت حب
143
الناس كل اطمأننت .وأظن أن زجية اكن همرها إطعام ألف جائع
وجحة مربورة ،فإاهنا مباركة حمفوظة ،لن ينالها طاغية بأذى".
وتركين وخرج ،وما أن أغلقت الباب ،بعد أن غاب عن
نظري؛ حىت دق الباب مرة أخرى.
تاكسلت للحظة ،وأان أنظر لوجه عرويس امليضء ،فتكررت
ادلقات عنيفة و..
"افتح بأمر املكل".
نظرت يل زهرية خبوف ،وقالت:
"ال تفتح".
ابتسمت وأان اجته للباب ،وأفتحه قائال لها:
"اكنت يل جتارة مع القرص ،وقد اكن يل فضل كرس احلصار
العام املايض ،ولعل احلاجب أرسل لنا هتنئة أو هدية ،وهذا
رشف ال يرد ،سريفعك بني نساء ساوة".
فتحت الباب ،ويه تكرر بقلق:
"ال تفعل".
لكن القدر قد حمت ،والباب قد فتح ،واختطفين اجلند حبايل
وقديم ،واقتادوين اكلسهني ،ال أدري
واضعني القيد يف يد ّي ّ
من أمري إال أنين حزين.
144
حاولت سؤاهلم ،فأجابتين أسواطهم .اس تغثت ،فلام رأى
الناس اجلند فروا .ومضت زوجيت خلفي ،فهتفت هبا:
"اذهيب خلاكل أو لساوة ،فال أدري أيكرمك أولئك اللئام إن
أتيت خلفي"
قالت" :إمنا أريد أن أشفع كل".
تشفع يل مب ،وكيف ،ومن ماذا .هتفت علهيا أن تبتعد ،لكين مل
أمسع ردها ،إذ اقتادين الرجال مكبال فوق جواد مزجع ،وجروين
مرسعني حنو قرص املكل.
مضيت يف هذا الظالم معهم ،ال أفهم جريريت ،حىت وصلنا
للقرص ،فأنزلوين .فتوقعت أن أقابل احلاجب ،فأعاتبه ،لكهنم
مضوا يب أمام جحرته ،مل يدخلوها ،فتوجست خيفة ،وظننت أن
الوزير س يقابلين ،لكهنم جتاوزوا قاعته (أو ما مسعت من الناس
أاهنا قاعته) ،واجتهوا يب ألبعد من ذكل.
ووجدت نفيس يف قاعة العرش أمام املكل نفسه!
145
()10
( 1 -10عار املكل! )
مل أكن قد رأيت املكل من قبل .لكين عرفته بسهوةل .مل يعرف
عنه إنه ارتدى اتج آابئه من قبل ،ويزمعون أنه خيىش أن تعرف
الناس وهجه ،فيقتلونه إذا خرج من قرصه! .لكنه اكن أمايم،
مرتداي اتجا من اذلهب األبيضن تلمع عليه جواهر غالية،
وميسك مبا هو حامت الصوجلان ،اذلي أمسع عنه يف احلاكايت،
واكن عصا من الفضة املرصعة ابللؤلؤ والياقوت األمحر ،اذلي
اكن أقل محرة من وهجه امللهتب غيظا.
مل أدر ما أقول ،فأان أصال ال أعمل ما هتميت ،ألبرئ مهنا نفيس،
ذلا وقفت أمامه خاشعا منتظرا.
تلكم املكل بصوت اكلرعد:
"أهذا هو اذلي أهان نبلنا ،واعتدى عىل نسبنا؟"
146
هبت للهتمة الفظيعة ،وأردت أن أقول حاشا هلل ،لكن صويت
احتبس ،فقال قائد اجلند ،اذلي جسنين:
"هو اي موالي من تزوج ابألمرية زهرية".
قال املكل:
"كيف جترؤ أاها احلقري أن تنظر لصف سادتك ،وتطلب يد
األمرية زهرية بنت األمري اكمل ابن ابن مع وادلي ،سليةل امللوك
املنتس بة للخلفاء العباس يني ،وابنة بيت أعظم ملوك األقطار
لكها!"
نزل األمر عيل اكلصاعقة! إ ًذا فهذا هو ما اكن الش يخ خيشاه.
هذا احلامك املستبد الطاغية ،يظن أنين تطاولت عليه ،ألنين
نكحت من آل بيته.
أمكل املكل رضاوته:
"إنك قد ارتكبت جرمية س تلوكها ،فتلوكنا لك األلسن ،أهكذا
خيتلط دم امللوك بدماء الرعاع؟"
مل أحمتلن فوجدت نفيس أرد:
"إن هو إال رشع هللا ،وأمر هللا .ولو اكنت زهرييت ،كام
تقولون اي موالي ،أمرية ،فمل تعيش بني الرعاع ،إن مل تنكح من
الرعاع؟"
رد بغضب عاصف:
147
"أاها احلقري! أجترؤ عىل جدايل؟ اكن جدها مرسفا متلفا،
أضاع أمواهلم ،فعاشوا عىل قدر رزقهم .لكن نس هبم الرشيف،
وماكاهنم النبيل ليس للصعاليك".
رددت بثبات:
"قد نكحهتا بإذن ولهيا ،فأان زوهجا".
رد" :أان ولهيا".
فقلت انظرا هل:
"وخالها؟ هو من ينفق علهيا ويرعاها".
ابتسم املكل ساخرا وقال:
"ال ينكح األمرية إال أمري ،وإال ضاعت هيبة العائةل ،وما اكن
يل أن أمسح كل ابس تغالل قريبيت ،لرتىق بني النبالء ،وكونك
أصبحت زوهجا ليس ابحلهة اليت يصعب حضدها!
قلت بتحد مل أس تطع كامتنه:
"أتظنين أطلقها".
رد بسخط:
"تطليقها ليس حال وإمنا ترمّلها يهنىي املسأةل من جذورها!
مل أحر جوااب ،ومل تصدق اذاني البساطة ،اليت يتحدث هبا
عن إهدار ادلم اذلي حرمه هللا!
148
نظر يل ابس تخفاف ،وأمكل:
"لو أنك نظرت لألمر من نظريت ،فس تهد أن تطليقك لها
يعين بقاء لوثتك عىل امس أرسيت ،ويعين أن واحدا من العامة مل
يكتف ابلزواج منا ،وإمنا أضاف علينا عار الطالق! هذا
التطاول هل عالج رسيع فعال ،وعقاب رادع هو الس يف!
سأتركك الليةل لتفكر يف أحواكل ،وتويص بأموال،ك وتؤدي
ديونك ،وغدا سأابرك اهناري بدمائك!"
وأخذوين عىل قاع مظلمة أسفل القرص ،ومل ميض الكثري عىل
وحش يت ،حىت وجدت زوجيت تلقى يف الزنزانة املقابةل يل ،فقد
أتت تتشفع يل ،وتسرتمح ذوي الرمح أن يعفوا عهنا وزوهجا،
وتندب ألقارهبا سوء حظها ،فال نبيل يرغب فهيا لفقرها ،وال
زوج يقبل به ملكها.
لكن قايس القلب رصخ يف وهجها ،واهتمها بنكران امجليل،
وأىب إال أن يلقهيا يف السجن هذه الليةل ،لتشهد بعينهيا صباحا
حمو العار اذلي أصابته به!
وكمتت علهيا ما عناه املكل مبحو العار ،فمل أرد أن أثقل علهيا
بنبأ إعدايم ،بل أوصيهتا أن تغادر بعيدا عين ،ما أن خيرجوها
يف الصباح.
ويكفيين أين آنس بوجودها قريب ،يف ليليت األخرية.
149
وجلس نا طوال الليل ندعو هللا أن ينجينا من هذا الظامل
الغشوم ،ذي الكرب امللعون ،وامحلق املأفون ،املمتكل عىل
شؤون العباد ،واملتسلط عىل األنفس وادلماء ،مفا رمح عبدا،
وال أوىف حقا ،ومل يعصم دما حىت ذلوي القرىب واألنساب.
وأخذوان بعد الفجر من جسننا ،مكبلني معا ،يتحدثون عن قتل
لكينا ،فاكن الضيق رفيقنا ،وأيقنا أانّ الهالك هل ذاهبون ،وملر
احلياة وحلوها مغادرون.
أاتان كبري احلهاب جيادل املكل عنا .ويبدو أن هللا اس تهاب
دلعائنا ،بتدخل الشفعاء .فقد علمنا أن كبري احلهاب أنذر املكل
سوء العاقبة ،فلدلراويش سلطان عىل قلوب الرعية ،وزمع هل
أن خالها ليس ممن يرتك ثأره أبدا ،ولو اثر فس يتبعه ادلراويش
يف الثورة ،ولو اثر ادلراويش ،فستثور الناس ،لتقوى شوكة
اخلصوم ،وتذهب رحي احلصون.
فعفا املكل عن زهرية ،وقرر أن يقتلين وحدي!
وهنا تدخل ويل العهد يف شأين ،وقال:
"وملن ترتك زهرية بعد قتل زوهجا؟ أترتكها لتدور بني الناس يف
األسواق ،تشكو سوء احلظ ،وقسوة الويل ،فتثري الفتنة؟ كام
إن أهل ساوة س يغضبون ،وللمرية يقطعون ،فال يأتينا طعام من
غرب أو رشق ،واألهبال حيرقون حقول جرياننا ،واملامليك
حيبسون حقول جنوبنا .فاجلوع س مييض ،فال يبقي".
150
فقال املكل:
"أأطلقهام عن بعضهام .هذا عار ليس بعده عار".
فقال ويل العهدك
"فلتأت بقاض يفرق بيهنام ،فليس من هو مثهل يف مقاهما ،وال
يكون كفئا لها .مث حنجر علهيا خلبال أصاب عقلها ،فتحبس يف
القرص".
ومل يكن عىل املكل عسري أن يأت بقاض سكري ،يأمره فيأمتر.
ولكن حيهنا سيتدخل بعض القضا،ة ويدور القيل والقال،
ويتهادل يف شأننا الفقهاء ،فتسمع ابلفضيحة لك بالد املسلمني،
وتدون يف الكتب إىل أن يرث األرض رب العاملني!
فعاد املكل يقول:
"أقتلهام معا ومعهام خالها!"
واس متر اجلدال ،حىت زمع يل البعض أن املكل أوصل
ابملقتولني لبضع ومخسني نفرا!
ويجء يب أشهد ما أمسوه حمامكة ،وبدت يل حامقته جلية،
وحريته كبرية ،فأهلمين هللا إجابة ،ظننهتا تنجيين من الطاغية
بسالمة.
جتاهلت اإلجابة عن سؤال القايض ،وقلت:
151
"لو يرى موالي رأيي فاألمر هني ،بدال من أن أحلق بدرب
امللوك واألمراء ،وهو ما ال يليق ،ولعبد مثيل ال جيوز ،فلتلحق
األمرية بدرب الرعاع ،ويزنع عهنا إمارهتا ،فال يكون لها ،أو
لنسلها ،نبل أو إمارة".
رد املكل بدهشة:
"أو ميكن هذا؟ اإلمارة حق ابملودل".
قلت:
"أنت مكل البالد ،وس يد العباد ،وتقيض ما تشاء وتأمر ،مفن
خيالفك؟ ألست ختلع الوالايت؟ مفا خلع اإلمارة بأسهل من
هذا .أولست ختلع أمراء املامليك من إمارهتم؟ كيف يكون حق
املودل بعامص منك؟"
بدا عىل املكل التفكري ،خاصة وإن فكرة خلع أمراء املامليك
لترضب وترا حساسا يف قيثارة صدره السوداء ،لكن تبني يل
إأين أصبت سوءة خيشاها ويل العهد ،إذ تدخل فزعا قائال:
"ألن حق امليالد هو اذلي أعطاان حق املكل ،ال ينازعنا فيه
إال مارق".
هنا عاد املكل لسريته األوىل ،فأرسعت أقول:
"ال نعين ابألمر اخللع ،وإمنا الرتك .سأترك أي حق ذلرييت يف
اإلمارة ،وترتك زهرية حق إمارهتا بال رجعة ،ونكتب هذا يف
152
صك خيمته املكل خبمته ،وعفوه ،ورمبا يضفي علهيا براءة من لك
بيتمك الطيب! حنن أسأان لمك ،فلتتربءوا منا! وسرنحل فورا
لساوة ،نكفيمك خريان ورشان.
مصت املكل مفكرا مرة أخرى ،فتنحنح القايض ،وقال:
"حق املكل يؤكده خطاب اخلليفة ،اذلي ابيعه املؤمنون يف
ساللتمك الطاهرة ،فهو غري حق اإلمارة اي موالي ،ال جيوز فيه
خلع إال بأمر اخلليفة".
نظرت ابمتنان لهذا القايض ،ولو إنين واثق أنه لو طلب املكل
رأسينا ،لقىض هبذا دون تردد!
عىل أن املكل أاهنىى احملامكة ،وأمر بنا فساقوان للزانزين.
153
( 2 -10لكمة حنق )
مرت بنا أايم اكألعوام ،مث انزتعوان من السجن ذات صباح،
وألقوان بني يدي الطاغية.
اكن معه لفيف من الوهجاء ،مل أعرف مهنم إال ويل العهد،
وصغريه اذلي يقال هل الشهايب .أعلمتين زوجيت فامي بعد ،أاهنم
كبار أمراء ادلوةل ،وأراكن األرسة ،وقادة اجليوش.
بدأ املكل خطااب طويال مزجعا ،أن ّت منه اللغة ،قبل آذاننا،
اس تزنل فيه علينا اللعنات ،مث انهتىى بطردان من زمرة األمراء،
وإننا ختلينا عن حقوق النباةل ،مث دفع لنا بصك خمتوم ،اكن
شهادة بأننا طردان من أرسة املكل ،وختلينا عن أي كرم من
نفحاهتا.
وكتبنا هل ما أراد بنفس راضية ،وقبل أن أخرج مودعا العامصة
لكها ،جاشت يف نفيس العليةل لكمة ،أبت إال أن خترج للمكل،
فقلت هل:
"ما عاد لنا حق يف إمارة أو نباةل؛ لكن حق النسب ال يسقط
أبدا!"
154
نظر يل بغضب ،فأمكلت همروال ":إن احتجمت للمعونة ،أو أمل
بمك كرب ،فاعلموا أن لمك يف ساوة أنساب ،ال يقطعون الرمح
أبدا!"
وخرجت تالحقين حضاكته ،وامتألت قاعته بسخرية
الساخرين.
لكن مل ميض عىل اس تقراران يف ساوة أكرث من عام ،ولعل ابين
زهري مل يكن قد ودل بعد ،حىت أصبحت لكميت هذه طوق جناة
يتمي.
هاج األمراء لكهم عىل املكل ،وتشتت األجناد ،وتفتت البالد،
ودار املامليك يف لك األحياء يتصيدون املكل ،وأتباعه،
واألمراء ،وأقارهبم ،وأبناهئم ،فأحصومه عددا ،وقتلومه بددا،
واتبعوا خلفهم لك طريق ،وحبثوا عهنم يف لك ماكن ،معلوم أو
غريب ،حىت مل يبق من تكل األرسة العامرة ،والنجوم الساهرة
إال امرأيت زهرية أصدرت صك الرباءة للقتةل ،فرتكوان ضاحكني،
إال أن زعامهئم أصبحوا مهنم غاضبني ،فعادوا غادرين.
لكن س يف القدر بتار ،واألعامر مقدرة ،ورمحة ريب انتخبهتا
بعيدا عن األيدي الباطشة ،مفاتت زوجيت امجليةل ،وزهريت
الربيئة ،بعد والدهتا البين زهري.
وحني أىت غالظ األكباد ينوون هبا فعل األهوال ،وجدوها مهنم
عيل من
رمحت ،وللباري الرمحن ذهبت ،بيامن ادلنيا أظلمت ّ
155
نورها ،وبقيت يف وحدتني أجرت ذكرايهتا ،وأتعطر ابلرتمح عىل
ثراها.
غري أنين مل آيس من رمحة ريب ،ورمغ مصيبيت ،وعذايب
السقمي ،وحزين ادلفني ،فقد اكنت هناك مواساة.
مواساة أاهنا مل تقتل ،ومل هتن وتعذب قبل املوت ،كام فعل
بأقارهبا.
مواساة أن خيبت ظن زابنية ادلنيا ،فزفهتا مالئكة اجلنة.
مواساة يف ابهنا ،اذلي غفل عنه -أو تغافل عنه – اجلند،
ولعلهم أدركوا أن مثهل ال خوف منه.
ومواساة مبجيء الشهايب وسارة!
الشهايب املسكني ،ابن ويل العهد ،فر بعد أن اغتيل أبوه،
وجده ،وأخوته .فقد اكن يزور بيت ابن خالته ،وإذ خرج
للطريق ،بدأ عقبه احلريق .رجع دلاره ،فوجدها حطاما ،فتخبط
مرتباك يف العامصة .مل يكن يعرف أحدا من الناس ،بيامن الناس
تعرفه ،وتبغضه ،وتطلبه.
مل يكن هل مكرمة عىل أحد فيؤويه ،وال عود يقاتل به فينجيه،
إىل أن وجد زمرة من الغيالن امحلر!
ال أذكر من أي فرقة اكنوا .اكن بعض الغيالن يقاتلون جلوار
املكل ،ال ليشء إال ألاهنم أقسموا عىل حاميته ،والغيالن ال
156
تنكث قسمها أبدا ،رمغ كرههم للمكل ،وكواهنم اكنوا (أو أحد
فرقتهيم ال أدري) ،من أكرب الساعني عىل تدمريه ،وإاهناء
سلطانه.
اكنت تكل الزمرة قد استنقذت ،من أول بيت حرق ،بنت
أحد األمراء األغنياء ،ذوي القرابة البعيدة عن املكل ،ومل يكن
هل جند يدافعون عنه ،بيامن شغلت أمواهل الهنابني عن تتبع أبنائه،
فنجت تكل الفتاة سارة ،ومحلها الغيالن ،حىت وجدمه الشهايب،
اذلي مل يكن يعرفها ،فقال لنفسه:
"مك يف أرسيت من أانس مل أعرفهم ،أان ورمغ ذكل عرفهم القتةل
مجيعا!"
أدرك أال بقاء هل يف العامصة ،وتذكر لكميت إن حق النسب ال
يضيع عندي ،ويف مغرة ظالم الفىت ،مل جيد إال هذا الضوء،
مفىض يف الطريق ،قطعه وسط الصحراء متسلال ،خيىش القتل
وخيىش الناس ،وال يعرف أين ساوة ،وال يأمن أن يسأل عهنا
أحدا!
لكنه وصل لنا ..أاتين الفىت مس تغيثا ،بعد رحيل اجلنود،
ورحلت قبلهم زوجيت ،اليت ظلمت بيد املكل وأعدائه معا.
فكرت حقا حيهنا أن ألقيه -من نقميت -وسط الصحراء،
لذلئاب اجلائعة.
157
لكين أفقت ،وتذكرت أاهنام طفالن بريئان طمعا يف لكمة قلهتا،
ولست أان من يغدر هبام .لكمة احلنق القدمية ،حتولت ألمان ملن
أردت إغاظهتم هبا ،وعهد يف عنقي أن أمحهيم مع أهيل
بأرواحنا ،وس بحان هللا مقلب األحوال.
عاش الاثنني دهرا عندي ،وعلمت أن الغيالن ،اذلين
أنقذوهام ،قد رحلوا ،إذ أاتمه نبأ األهوال اليت حلت ،واحلروب
اليت اندلعت.
واكن ما اكن من غزو األهبال ،وخروهجم ،وصعود من أمسوا
أنفسهم ابألمراء ،يتنازعون املكل بيهنم ،وكنا يف ساوة عهنم
بعيدين ،وجبهلهم عنا ،وهجلنا عهنم متسرتين.
مث وصل نبأ الالجئ للجنود ،حفميت الفىت بلك هجدي،
وأوصيت به وبأههل ،أهيل وابين.
158
()11
159
دلوين عىل دار زهري ابن تميور ،العالف .وهو فالح حاذق،
قوي البنية ،طيب الوجه .نظر يل هو وأههل بتوجس ،لكنه،
دلهش يت ،اطمأن إذ مسع إنين غول أمحر .كنت قد عزمت عىل
اإلبقاء عىل هذا الس تار ،رمغ إن أولئك الغيالن -كام يظهر -
هلم أعداء كرث .لكن هيبة تكل القبيةل ،أو الفرقة ،تفزع الناس،
فتحميين مسعهتم من غدر أعدايئ ،وأعداهئم معا ،ولو إىل حني.
واتضح يل أنه من حسن الطالع ،كون أنس باء املكل أصدقاء
لتكل امجلاعة الغامضة .فقد حىك يل كيف إن جامعة مهنم ،تنمتي
إلحدى فرقتهيم ،قاتلوا مع وادله حىت قتلوا مجيعا ،أثناء دفاعهم
عن األمري الشهايب ،آخر أمراء بيت املكل ،مما زاد حرييت يف
شأن الغيالن ،ومن مه .لكين نفضت مغوضهم عن ذهين،
وأخذت أسأهل عن أمر الوريث.
اكن وقهتا حديث السن ،وقد أمعن يف إخفاء نس به املهكل يف
األايم املظلمة ،فمل يعرف الناس ،خارج الواحة ،سوى إاهنم
أنس باء املكل .أما إن أمه اكنت أمرية فقرية (وهو أمر ال أظنين
أصدقه!) فقد أخفوه متاما ،دلرجة إنه جهر همنة وادله -التهارة -
وبقى يف أرض أعاممه ،فالحا يزرع ،رمغ كون أمه أمرية من
البيت احلامك!
160
اكن أمرا حمريا يل .كيف قبلت أمرية الزواج مهنم ،لكين كنت
حلوحا يف أمر الوريث ،حفىك يل كيف اكنت املعركة ،اليت هربت
مهنا تكل الفتاة سارة.
حىك يل:
"أذكر ذات يوم ،بيامن كنت ألهو مع رفايق ،أن جاء حفنة من
رجال ،يرتدون دروعا محراء ،لعلها كدروعك هذه .وساد اذلعر
والاضطراب بني األهايل بعدها ،ومسعت إن اجلنود أتني لقتل
ابن خايل ،األمري الشهايب .اكن الشهايب شااب ظريفا ،طيبا،
همذاب ،يلهو معنا حينا ،ويعلمنا القراءة والقرآن يف كتاب القرية
أحياان أخرى ،فاكن حمبواب منا مجيعا ،وخاصة أان ،اذلي يرتبط
معه ابلقرابة.
أخذتنا أهماتنا بعيدا ،يف خيام بني بساتني النخيل ،بيامن أخذ
الرجال والش باب حيملون السالح ،دفاعا عن نسيهبا ،متحصنني
يف دار ش يخ الواحة الكبرية ،وحفروا حولها خندقا ،وأعدوا
العدة لقتال صارم ،مس تعينني بأولئك الغيالن.
وأىت اجلنود اهلمج .أتوا صارخني ،ممزقني ،يطيحون مبن يقابلهم.
فوقفوا مهبوتني ،إذ وجدوا راية الغيالن مرفوعة عىل ادلار
احملصنة.
161
يف البداية ،حاولوا إشعال النار يف احلقل اجملاور لدلار ،مث
الهجوم عليه أثناء الغروب .لكن ثةل الغيالن بس يوفها ،وأهل
الواحة بسهاهمم ردومه خائبني.
صعدان ،حنن الغلامن ،عىل النخالت العالية ،ننظر للقتال ،وننبأ
أهماتنا امللكومات يف أمر أزواهجن ،وأبناهئن .لكننا رأينا اجلند
يرجعون مقهورين ،فهللنا فرحا ،وظننا أن النرص أت ،وهللنا
ابمس املكل الشهايب املنصور ،داعني هل ابلنهاة وطول العمر.
لكن اجلنود عادوا برجال أكرث عند الفجر ،ونصبوا حصارا
حول ادلار ،يكتفون بتبادل الريم مع احملصورين بني احلني
واحلني.
دام احلصار اللعني س بعة أايم اكمةل .ومل يكن أحد حيسب
حساب هذا األمر .مل يكن الرجال ميلكون طعاما أو ما ًء يكفهيم
لك هذه املدة ،فإذا ابلغيالن ،يف اليوم السابع ،خيرجون من
ادلار حبللهم املدرعة امحلراء ،هاتفني ابمس الشهاعة ،معلنني
رفض الظمل واملهانة ،واندفعوا وسط اجلنود اكلليوث ،يف مشهد
مل يغادر ذهن أي صيب شاهده حىت اليوم.
حني قتلوا عن آخرمه ،جهم اجلند عىل ادلار ،فأحرقوها،
وقتلوا من فهيا مجيعا".
نزلت ادلموع من عني الرجل املسكني ،وهو حي ي كيف صلبوا
وادله ،والشهايب فوق خنيل الواحة ،يزنفون حىت املوت.
162
مث أمكل:
"لكن الشهايب اكنت هل زوجة .اكنت أمرية يه األخرى؛ لكن
أحدا مل يعرف بنهاهتا ،تدعى سارة بنت عدانن .واكنت حبىل،
خفيش زوهجا أن تقتل مع وليدها ،فأرسلها أيب تميور العالف
لصديق هل من أعراب يف الرشق ،يسمون بين األسود ،اكن
لوادلي أثناء جتارته مكرمة ما عليه".
مصت حينا ،مث أمكل:
"يزمع البعض إن هذا األعرايب ،اذلي محل األمرية خارج
البالد هو ش يخ ش يوخ بين األسود اليوم ،وأنه وادل جبار
العامصة ،غليظ القلب؛ وإن كنت ال أصدق هذا".
سألت زهريًا:
"وأين ذهبت تكل الفتاة بعدها؟ هل جنت من املطاردين؟
أعين ،أمل يأت أحدمه لسؤالمك عن ماكاهنا؟"
رد:
"ال ،مل يطاردها أحد ،رمغ تواتر بعض األقاويل عن إن
الشهايب ترك وراءه خلفا .انشغل األمراء حبروهبم مع بعضهم
البعض ،وصد غزوات خاانت األهبال ،وأمراء الفرجنة يف
الشامل والرشق ،وبتتبعهم للغيالن امحلر إلابدهتم ،وهو ما فشلوا
فيه كام يظهر! ..اقتحموا الواحة أكرث من مرة ،فمل يسألوا عن
163
األمرية ،وإمنا عن الغيالن ،يستنطقون حىت األطفال ،إن اكنوا
يعرفون أحدا مهنم .اكنوا خيشواهنم ،ويكرهواهنم ،وجيمعون إن
املكل لن يس تقمي ألحد يف وجودمه .حصيح أن غيالن الغرب
اكنوا قليلني جدا ،وأغلهبم ممن فروا من مواطهنم األوىل ،أظهنم
أتوا من اجلنوب األقىص ،والبعض يزمع بل من الشامل األقىص.
لعكل أكرث من يعرف هذا األمر؟"
وابتسم ،فمل أفهم األمر يف البداية ،قبل أن أعي إنه يقصدين،
فقلت حماوال ،من انحية ،أن أبتعد عن سؤاهل ،ومن انحية
أخرى ،أن أفهم املزيد عن أولئك القوم ،اذلين أنتحلهم"ماذا
تعرف أنت عن الغيالن؟ أعين من ساعدومك يف الواحة ،من
اكنوا؟"
مل يندهش لسؤايل عىل سذاجته ،اكن يبدو يل من النوع
الرثاثر ،اذلي حيب اإلجابة عىل أي سؤال ،همام اكن ،فقال:
"ال أعمل الكثري عنمك ،لكن جشاعتمك هموةل .الغول األمحر ال
خيىش شيئا ،وال اهاب أحدا .اكن هذا هتافمك .أعين هتاف من
أتوا لدلفاع عن الشهايب.
أعرتف إنين كنت معجبا بمك ،حىت متنيت لو أصبحت غوال
أمحرا بدوري ،لوال إنين ظننت جشاعتمك حامقة ،أدت لهالكمك
عن آخرمك .كنت طفال صغريا ،أتساءل دوما مل ال يكذبون؟
164
ملاذا إذا سألمك عدو مرتبص أأنمت من الغيالن امحلر ،ظهرمت من
خمبأمك وحاربمتوه ،بدال من أن تكذبوا ،فتنجوا وهتربوا.
حقا مل أنسمك طوال تكل الس نني ،وتساءلت عنمك ،قل يل
أحقا كنمت من الرافضة؟ لكن أفعالمك غري أفعالها .أم كنمت جامعة
من املامليك املارقة؟ لكين عرفت فيمك أحرارا جوار العبيد؟ مل
أفهم الغيالن أبدا ،فلعكل تفهمين شأاهنم؟"
تنحنحت مرتباك من السؤال املفاجئ ،رمغ أنين اكن جيب أن
أحسب حسابه ،فقلت مراوغا:
"ال أدري ما اذلي يربكك؟ حنن لس نا رافضة ،أو مماليك
مارقة .حنن غيالن محر ،وهذا هو األمر ببساطة!"
وهكذا فرست هل املاء ابملاء ،فمل يعلق؛ بل أمكل بأس ئةل أرذل:
"اكن منمك فريقان ،أحدهام حيارب املكل ،واآلخر حيارب معه.
والك الفريقني اصطاده األمراء ،فأي فرقة أنمت اليوم؟"
رددت:
"حنن الغيالن امحلر وفقط! اليوم نقاتل جوار احلق وفقطّ!"
مط شفتيه فعدت للسؤال:
"ماذا حدث لألمرية احلبىل؟"
قال:
165
"أثناء الانشغال ،والفوىض ،واحلروب املتتالية ،ذهبت الفتاة
مع بعض جتاران لبين األسود ،وهناك أخذها هذا الرجل ،اذلي
اكن مدينا أليب ،فاس تطاع إخراهجا من البالد بسهوةل إىل
طرابل .وملا اطمأن رجالنا علهيا ،وأتهتم رساةل بأاهنا وصلت
لتاجر طرابيل ،يسمى زيتون بن عبادة ،عادوا لساوة ،مث
انقطعت أخبارها متاما .فقد هكل زيتون وأههل وقريته منذ
دهور .تشتت الناس يف لك البالد ،بعد أن دمههتم حروب
العيل ،اليت مل ختمد من مائة عام".
مدنييت الصيادية والسور ّ
قلت:
"إ ًذا ،فال أمل يف العثور علهيا؟"
هز رأسه هبدوء ،وقال مبتسام:
"ال أمل ابلطبع ،وإال ما قصصت عليك حاكيهتا أصال!"
قلت جمادال:
"لكن اي ش يخ زهري ،إننا نريد الوصول للوريث إنقا ًذا حلياته.
رسل القائد األسود -جبار العامصة كام تسميه -غادرت من مدة
جتاه طرابل ،تبغي رأسه ،بعد أن أفىش ش يخ بين األسود
برسها ملن ال يؤمتنوا .أخربين كيف نصل للوريث ،فندافع عنه كام
دافعنا عن أبيه ،وننصبه ملاك عىل البالد ،يعيد لها أمهنا".
هز رأسه مرة أخرى ،وقال:
166
"هذا لك ما عندي! ال أعمل شيئا عام حدث لألمرية سارة.
آخر ما مسعته -واكن قوال ملن ال ترىج شهادته -أإها وضعت
وليدها حصيحا معاىف ،ولكن أين؟ وإىل أين ذهبت؟ من بعد
هتدم قرية ابن عبادة هذا ،مل أخرج من قرييت ،ومل خيرج جتاران
ألبعد من أرايض بين األسود .لقد زادت احلرب بني الصيادية
والسور العيل رضاوة ،وقطعت لك األنباء بيننا وبني طرابل،
وما حولها ،فهىي أرض مل يسمع أحدا عهنا من س نني! ولعل هذا
الوريث قد مات خالل هذا العمر ،ولعهل مل يودل أصال!"
أحسست ابلضياع برهة .اكن ما اعمتدت عليه هو أن أخدع
أهل ساوة ،ليطمأنوا يل ،فيخربوين مباكاهنا ،لكهنم رمغ اطمئنااهنم
يل -بفضل درعي األمحر -لكهنم ال يعرفون شيئا ينفعين!
بدا يل األمل الواهن ،هو الوحيد البايق ،ألتشبث به؛ ولكن
إقناع زهري هبذا األمر ليس بيسري.
قلت لزهري:
"أتذكر كيف اكن شلك الشهايب؟"
مط شفتيه ،وقال:
"حس نا بعض اليشء ،اكن طويال ،أبيض الوجه ،أسود
الشعر ،بين العني".
167
اكنت صفات معمعة حقا ،تنطبق عىل ثلث ساكن الواحة،
لكين جاريته بقويل:
"هذا عظمي ،ولكن لو أرشت يل عىل أحد أبنائك أنه يش هبه،
أعين أنمت آخر أقرابئه ،مفن هو؟"
رفع الرجل حاجبيه وهو حيك رأسه مفكرا ،وقال " أظن
أحدمه ،حىت تميور يف مثل طوهل ،ولكن".....
قاطعته قائال:
"إين ذاهب للبحث عن الوريث .وقد أوصاك وادلك -كام
تزمع -به وبأمه ،فعليك أن تلزم عهد أبيك ،وترسل معي أحد
ابنيك لطرابل ،فرمبا نرى يف قرابة ادلم ما جيعلنا نعرفه .مل يبق
دلي ملعرفة الوريث سوى الش به احملمتل كام ترى ،وذلا"........
قاطعين بغضب:
"ليس كل أن تطلـ"........
مل يمكل لكمته ،إذ أنين استبدلت رسيعا اإلقناع ابإلرهاب،
فألقيت رحمي بغضب مصطنع ،مفرق إىل جواره ،لينغرس يف
ابب داره املهتالكة ،فشطرت نصفني ،ونظرت هل حبدة قائال:
"تذكر أنك حتدث غوال أمحر!"
فصمت الرجل ،وأشار البنه األكرب تميور ،ل ي يذهب معي".
168
()12
169
ومل يكن هناك غريه ألسأهل ،الش يخ وهدان احلكمي!
اندهش تميور بن زهري ،إذ وجدين أسري غراب ،فسأل:
"ألس نا ذاهبني لطرابل؟"
قلت هل:
"نعم ،لكين سأصعد اجلبل الكبري أوال".
اكن الش يخ وهدان حكامي ،بلغ من العمر أرذهل .هو غري
معروف ألهل ساوة ،لكنه معروف لقراان وما حولها ،وهل شهرة
يف لك زمام الش يخ عصفور -كام أمسع -لكنه ترك القرية منذ
س نوات بعيدة ،ليعيش متعبدا متصوفا يف صومعة ابجلبل ،ال
يشق عليه هدوءها إال طاليب املشورة.
وطالبو مشورته كرث ،ألن معارفه كثرية حقا .فهو حبر يف أخبار
الناس ووقائعهم ،وخبري ابلطب وادلواء ،والطرق وادلواب.
وحيكون عن ش بابه ،إنه قطع البالد جيئة وذهااب ،مرات كثرية،
بل غادرها يف أسفار بعيدة رشقا وغراب ،حىت زمعوا أنه تردد
عىل قصور ملوك الفرجنة وراء البحر! كام إنه اكن جنداي مغوارا،
يتندرون بعبقريته يف املعارك واحلروب ،رمغ إنه مل يكن سوى
جندي صغري ،مل يتول قيادة الزمام يف أي حرب؛ لكهنا عادة
أهل الريف يف إضفاء األساطري عىل لك المع من أبناهئم.
170
اكن وادلي حي ي يل عنه ،وعن معارفه ،مثلام حىك يل الناس
بعد عوديت .وذل،ا بدا يل أن الاس تعانة خبربة صديق قدمي
لوادلي ،ملعرفة آمن الطرق لطرابل ،همام اكن شاقا أو طويال.
وانهتزهتا فرصة ،ألفهم منه املزيد عن أولئك الغيالن ،بدال من
أن حيرجين خشص ،كام فعل األمري األبيض بفطنته ،أو زهري
بسذاجته.
اكن القليل اذلي عرفته عن أولئك القوم ،من حديث تميور
وأبيه زهري ،قد جعلين أزداد التصاقا ابلغيالن ،ألن حامت
الوريث س يطمنئ هلم عن غريمه ،وس يتبعين فقط لو مل يكشف
قناعي!
وصلت لصومعته عند الغروب ،وحلسن حظي اكن خاوية من
الزوار ،فأبقيت تميور خارجا عند ادلواب والزاد ،ودخلت هل
وحدي.
سلمت عليه ،وجلست بني يديه ،وقلت:
"اي س يدي ،أان عبد الشهيد ابن مسعان .وادلي هو مسعان
الصياد ،ابن وردان ،واكن من تالميذك ،وأوصاين كثريا بزايرتك
إن عدت لبدلته".
لكن ذاكرة الش يخ اكنت حديدية! فرد فورا:
"أذكر مسعان ابن وردان؛ لكنه مل يعرف ابلصياد أبدا! ومل يكن
تلميذا يل ،فمل أره إال ملاما ،ولن أنىس أنه أبق للزرقاء ،إذ
171
ادهلمت اخلطوب! ال حتاول منافقيت اي غالم ،وقل حاجتك،
وارحل عن رأيس العجوز!"
ابتلعت ريقي وقلت:
"نعم اي س يدي ،هرب وادلي للزرقاء ،وتزوج هناك وأجنبين،
قبل أن اهنرب مرة أخرى ،بعد أن حطم القراصنة املدينة،
ففزعنا للصحراء نقتات من صيد سهامه ،فعرف بني الناس
ابلصياد .مضت علينا س نوات رشيدة يف البالد ،حىت مسعنا
ابلوريث ،اذلي اكن دعيا اكذاب ،فاتبعناه مع من اتبعه ،وحاربنا
معه ،مل نهنزم مع من هزموا وفروا .اكتفى أيب من الفرار حيهنا،
وظل صامدا أمام اخلطوب العظام ،لوال معرفتنا بكذبه ،مفات
أيب مكدا حمسورا ،وأوصاين ابلعودة للبدلة .ال تقس عىل وادلي،
فقد جازته احلياة بقسوهتا".
مصت الرجل ،قبل أن يرتشف رشفة ماء من قدر جواره،
وقال:
"أعمل تكل احلاكية ،أاتين الش يخ غالب ش يخ البدل يقصها
عيل ،ويسألين كيف يسمل كل األرض ،وأىن هل مبعرفة حقيقة ّ
نس بك ،حىت أخربته بصفات اكنت يف أبيك ،وجدها فيك ،مفا
زالت يل براعة يف عمل القيافة اي غالم ،لعلها نفعتك!"
اكنت أول مرة أعرف فهيا هذا األمر ،فغلبين الصمت ،فقال
احلكمي:
172
"ما هذا اذلي ترتديه؟ إنه درع أمانة ،ترك عندي واس تعاره
الش يخ غالب منذ أايم ومل يرده؟ بل إنه أرسل يل يقول أنه
خيىش فقده ،فكيف انهتىى إليك؟"
هنا حكيت لك نبأي منذ غادرت القرية ،حىت دخلت
الصومعة!
نظر الرجل يل بإشفاق ،وقال:
"حامسة الش باب ،قد ذقت وهللا سكرهتا مرات عديدة! أحقا
ترغب يف جمادلة ابن األسود اي غالم؟ أنت لست أهال هل!
أنصحك ابلظفر ابلسالمة ،فال جدوى وال نرص يف معاداة هذا
اجلبار الظامل ،أاها الفسل الصغري ،اذلي مل ينبت هل عود بعد!
عد لقريتك ،ولتكن شوكتك بني أهكل .لن تس تطيع ،فارجع
ساملا خري كل".
قلت هل جمادهل حبجته:
"السالمة طلهبا وادلي ،مفات رشيدا! لن يراتح مضريي ما مل
عيل".
أؤدي ما قيض ّ
قال يل:
"لن تنجح ،فمل احملاوةل العبثة؟"
قلت مرصا:
173
"لن حياسبنا هللا عىل جناحنا فامي اس تطعناه اي موالان،
س يحاسبنا عىل سعينا فامي وجب علينا".
ابتسم الرجل وقال:
"حامسة الش باب ،قد ذقت ذلهتا وبراءهتا! عىس هللا أن جيعل
حظك يف الرب خريا مين ومن أبيك! عندي أمر قد ينفعك مل
أفهمه وقهتا ،ومل أخرب به أحدا قبكل .واي س بحان هللا ،اذلي
خسرين أحفظه كل حىت جميئك بعد الس نني! أاتين رسول من
ش يخ مسهد طرابل الكبري ،منذ دهور بعيدة ،بعد وفاة الش يخ
عصفور مبدة قصرية .اكن الرجل يسأل عن القايض ،فلام أخربوه
مبوته ،سأهلم عن خليفته .ولعل الناس ظنوه يسأل عن خليفته
يف ادلين ،واكنت شهريت يف القرى بدأت تعرف ،عندما غرتين
احلياة ،وتصورت أن التصوف هو أن يكون يل حلقة متهدين
ابمس هللا يف لك قرية!
دهل الناس عىل بييت ،فألقى عيل السالم ،وطلب اخللوة،
فأخربين إنه أىت من صديق للقطب الصويف الش يخ عصفور،
هو الش يخ زعفران إمام مسهد طرابل الكبري ،واكن يريده أن
يبلغ أهل فتاة يف ساوة -بعيدا عن أعني املرتبصني -بأاهنا
وصلت ساملة ،يه ومحلها ،وأاهنا تركت رجال ،يدعى ابن عبادة
ألاهنا مل تثق يف بين األسود .مل أكن أعرف من سارة هذه،
ومعرفيت بأهل ساوة ضعيفة ،فلن أس تطيع معرفة املرتبص من
174
غري املرتبص فهيم .مل أكن أدري شيئا ،كام إنين أعرف مدى
بطش بين األسود ،اذلين ال تثق فهيم الفتاة ،ففضلت الكامتن
عىل إنه خري من اإلخبار.
واي س بحان هللا! تأتيين أنت اليوم ،كأمنا هو قدر مقدور،
لتعرف ابلنبأ وحدك!"
قلت مبهتها:
"هو نبأ عظمي ،غفل عنه الباقون ،عىس أن أجد هذا اإلمام،
أو أهل بيته ،أول ما أصل لطرابل .ولكن يف جعبيت أس ئةل
مزجعة ،أرجو أن هتدهئا".
مصت الرجل منتظرا ،فقلت:
"أوال من أي طريق أذهب إىل طرابل؟ أعين الطريق اذلي
يغفل عنه األعداء .ومن مه الغيالن امحلر اذلين انتحل خشصهم؟
وأحقا هذا ادلرع هلم؟
كام ،هل تعرف يف آل املكل عالمة أمزي هبا الوريث عن
غريه؟"
قال الرجل اذلي أخربته الس نون:
"اي بين ،ال أعمل عن آل املكل شيئا ،ولكن لعل قريبه اذلي
أخذته معك حين دمه هل .أما الطريق فال أس تطيع أان أو غريي
إجابتك .حيامن كنت أجتول طريدا مثكل ،كنت أان من أرمس
175
الطريق .سرتى اخلطر ،فتحيد عنه ،وترى الرض ،فتتنحى هل.
لك ما أظنه ينفعك هو نصيحيت بأال تعرب الهنر من أرايض
األسود.
انتظر حلظة ،كنت قد مسعت إن األحراش يف الشامل،
واملستنقعات قرب الساحل ،أكرث أمنا بكثري ،وهمجورة متاما،
حصيح إنك س تضطر لعبور فروع الهنر ،واحدا تلو اآلخر ،بدال
من عبوره دفعة واحدة ،لكنك س تبتعد عن يد هذا الظامل
اجلبار".
كنت أعمل بعض األش ياء عن أرض الشامل ،اليت مصدان فهيا مع
الوريث الاكذب ،فبدت يل نصيحته طيبة .لكين عدت أسأهل
بلهفة:
"وماذا عن الغيالن امحلر؟ من مه؟"
قال:
"سأح ي كل حاكيهتم".
176
()13
177
أولئك املغامرون اش تد نفوذمه ،وقويت شوكهتم ،فوعيت لدلنيا
ومه ملء السمع والبرص ،تسلطوا عىل مدن وقالع كثرية يف
الرشق والشامل ،حىت بلغ من جربوهتم أن اس تطاعوا إجالء
بعض قبائل بين األسود عن أراضهيم ،وشتتومه إىل اجلنوب ،مل
يرجعوا إال بعد غزو األهبال.
اكن الغيالن امحلر يؤمنون ابلشهاعة ،فهىي أمسى ما عندمه،
ويه ما يمثنون به الرجال .خطيئهتم الكربى يه أن ترى خطرا
فترتكه ،لتكون غوال أمحر ،فعليك مطاردة األخطار ،ال الهروب
مهنا.
قيل إاهنم ال يضمون رجال هلم ،إال إذا اصطاد وحشا بيديه
العاريتني ،وابلتحديد الغيالن من األحراش يف الشامل ،ولهذا
مسومه ابلغيالن امحلر.
لكين أظن هذا ابطال ،ألن الغيالن احلقيقية ال وجود لها
أصال.
قاطعت الش يخ وهدان بقويل:
"مسعت ،من بعض الزنوج يف الزرقاء ،إنه توجد غاابت بعيدة
جدا يف اجلنوب ،حيث بالدمه ال ينقطع عهنا احلر واملطر -يف
زمعهم -تنبت أجشارها غيالان سودا ًء خضمة خرساء .ويقولون
إاهنا قبيحة اكلقردة ،كثيفة الشعر كام لو اكنت لبدة أسد سوداء
178
تغطي لك جسدها؛ لكهنا ال تألك اللحم .غري إن من يغضهبا
يعرض نفسه لقوهتا املريعة".
قال احلكمي وهدان:
"اي بين ،هذه حيواانت من خلق هللا يف أبعد بالد هللا ،لكن
حىت تكل الغيالن ،ال توجد يف بالدان .أظن أن الغيالن امحلر
اكنوا يصطادون اذلئاب أو ابن آوى .عىل أي حال مه مل يعرفوا
ابمس آخر ،أاي اكن من أساممه به.
اكنوا يكررون دوما قوهلم (الغول األمحر ال خيىش شيئا ،وال
اهاب أحدا) ومسعهتم يسمون هذا ابلقانون األول .اكن هلم كتاب
صغري ،يسمونه القوانني ،حيمهل لك فرد مهنم ،حيوي ما كتبه هلم
غوهلم األكرب ،اذلي يزمعون أنه غول حقيقي معالق من نسل
ملوك اجلن ،طرده غرمي ألبيه ،فرابه صعاليك البرش ،وقد كتب
هلم مائة قانون ،حتوي خالصة حمكة ملوك اجلن يف هذا
الكتاب ،اذلي يقرؤونه .وقد اكن تعمل القراءة والكتابة لزاما علهيم
كام أظن .لكين شاهدت هذا الكتاب ،حني اكن جيمع وحيرق،
فوجدته رقعا صغرية ،ال أظهنا تس تطيع أن حتمل أكرث من
مخسني قانوان.
حيكون إن بدايهتم اكنت قتال الظاملني واجلائرين ،لكين مل
أشهد أشد مهنم جورا وظلام وبطشا ابلضعفاء .نرشوا الرعب يف
القايص وادلاين ،حىت تسامع هبم امللوك خارج بالدان ،وأصبحت
179
هلم رهبة ،فال يذكر امسهم إال بوجل .عاثوا يف األرض فسادا ،ال
يردمه أحد ،واقتلعوا لك لسان يعظهم ،وقطعوا لك يد تردمه،
وقذفوا ابلفزع يف قلوب األمراء ،اذلين اكنوا خيافون ممن ال
خيافون املوت.
عرف عهنم اختطاف األطفال من األهايل الفقرية ،يدفعواهنم
لزعميهم لريبهيم يف قلعته ،عىل حبه واإلخالص هل ،وعىل اعتناق
الشهاعة اخلالصة ،ليكونوا غيالان محرا أشداء .لكن هذا اكن
خطأمه األكرب ،حفني حانت ساعهتم ،اكن أولئك األبناء أشد
الساعني علهيم.
حيامن استرشى نفوذ الغيالن يف لك ماكن ،جعلوا مهنم فرقة،
تسمى اخلفية ،اكنت أول حملة من نفاق فهيم .تتخفى بني الناس،
وتتسمع األخبار ،وتقاتل جلوار أعداهئم ،حىت تعرف لك يشء،
فتخرب به غوهلم الكبري .وأراد املكل اتقاء رشمه ،واس تغالل
بطشهم ،فهاداهنم ،وعقد معهم حلفا ،أن مينحوه فرقة حتميه.
فشلكوا فرقة جديدة ،أمسوها امللكيني ،يقاتلون معه ،برشط أال
يقاتلوا غوال أمحرا آخر أبدا.
لكهنم مل يكرثوا من احللفاء ،قدر إكثارمه للكره والبغضاء ،فقد
اكنوا يزمعون الشهاعة ،فيأتون ابلقساوة ،ويقاتلون برباعة ،لكن
قلوهبم اكحلهارة.
180
مث تفسخ مكل املكل ،وخرج عليه أمراء املامليك ،لزيداد اجلوع
والفنت ،قبل أن يأيت األهبال.
اكن األهبال قبائل وخالئط تتقاتل فامي بيهنا ،غري أن ظهر هلم
زعمي قاس ،يقال هل (الهول) ،فاكن هوال عىل الناس .مضوا
اكلطوفان ،حيرقون ويقتلون .يقال إنه عرب مائة عام ،مل تتوقف
احلروب بني الصيادية والسور العيل ،إال دلمار املدينتني معا
عىل يد األهبال .اكنوا يدمرون ،فال تعصم مهنم احلصون،
ويقتلون ،فال هترب مهنم ادلروب ،وقيل إن أرض بني الهنرين
حبامر ادلم عقهبم أربعني خريفا .وأن اآلابر فهيا اكنت تضخ دما
بدال من املاء.
وملا اكتسحوا ،بقيادة الهول ،ما حولنا من بدلان ،أغرامه ضعفنا
وما أصابنا من فنت وحروب ،فالتفتوا لنا جبيوش ال أول لها وال
آخر.
حطموا جيش املكل ،اذلي خرج ملالقاهتم ،رش حتطمي،
فأابدوه عن آخره ،مل يبقوا هل راكب أو راجل ،وحيهنا سقط
مكل املكل فورا ،إذ أدرك الناس أنه فقد س نده ،فسفكوا دمه،
ومزقوا أههل وملكه.
ومىض األهبال ،حفاول بين األسود اذلود عن مراعهيم،
فدمرومه .مث مضوا شامال ،فوصلوا لقالع الغيالن امحلر ،ويه
181
س بعة قالع ،قيل إن فهيا س بعة آالف غول ،مه أكرب عددمه،
وأقوى عزهمم ،وعلهيم رؤساؤمه وحكامؤمه.
مل يكن الغيالن يلقون ابال لألهبال ،وال أظهنم اكنوا ينوون
حرهبم لو تركومه وشأاهنم .لكن جيش الهول العظمي ،اذلي فاض
عن الثالمثائة ألف مقاتل ،هامج القالع ،يتصور حتطميها كام فعل
بغريها.
مل يكونوا عاملني ابلغيالن ،مل اهرب الغيالن كغريمه ،ومل يساملوا
الهول ،أو يبتعدوا عن هول جيشه ،فمل يكونوا مبن اهرب من
قتال يطلهبم.
مجعوا لك أعوااهنم ،ومصدوا يف قالعهم زمنا طويال ،شهورا
عدة تفوق أي زمن مصد فيه أحد أمام الهول .اكنوا ال يزيدون
عن عرشة آالف غول ،أمام ثالمثائة ألف من األهبال،
فيقاتلواهنم بطريقهتم املعهودة ،وجشاعهتم املعهودةن وبراعهتم
املسمومة .وأذاقوا الهول هوهلم اخلاص ،وألقوا يف قلوب رجاهل
الرعب من مواهجهتم.
قتل الغيالن عن آخرمه ،وسويت قالعهم ابألرض ،لكن بعد
أن قتلوا من جيش الهول س تني ،ويقال مثانني ألفا من األهبال
األبطال.
اكنوا أول من مصد أمام األهبال ،منذ بدأ زحفهم ،ومعهم عرف
أولئك القوم الغالظ طعم احلرب ،اليت ال حرب بعدها.
182
قيل إمنا اكنت هزميهتم غدرا ،إذ أرسل هلم الهول من يأ ّمهنم،
ويطلب عفومه ،عىل أن يبتعد عن بالدمه آمنا من جهامهتم ،فلام
قبلوا ،غدر هبم وأرسل جيشا يرتدي زاهم ،ففتحوا هل األبواب،
ليس يطر عىل ابب القالع ،واهجم علهيم بلك جيشه يف مقتةل
مريعة ،سالت فهيا دماء رجاهل أاهنارا ،فمل يلق لها ابال ،وأقسم أال
يرتك امليدان حىت يقتل آخر غول.
وزمعوا أن هناك خونة ،قالوا للغول الكبري إن القتال وراء
اجلدران ليس من ش مي الغول األمحر احلق ،فاس متعوا لتكل
امحلاقة ،وخرجوا باكمل عدهتم ملالقاة عدومه ،فهلكوا مجيعا.
عىل أن الغيالن بقت هلم قالع صغرية ،وجامعات متناثرة يف
لك البالد ،يناجزون األهبال ثأرا .فاكنت فرق األهبال تفزع إذا
وجدومه ،ولو رأوا علمهم يف قرية ،حادوا عهنا خوفا.
طوال هذه احلرب ،اليت قاربت عىل العام ،اكن األمراء
منشغلني حبرب املكل ،وقتل أههل .فلام أابدومه ،قاتلوا بعضهم
بعضا ،حىت اقرتب األهبال من العامصة.
هنا برز أحدمه ،يدعى األمري منصور ،جفمع امجلوع ،ووحد
الصفوف ،وألبس جيشه لكه زي الغيالن ،ودروعهم امحلراء،
وجهم هبم عىل معسكر الهول ،فظن األهبال أاهنم أمام مائة ألف
غول أمحر ،فاستبد هبم الفزع ،اذلي أذاقوه من قبل للناس،
183
وتشتتوا يف البالد ،وهزم بقيهتم هزمية منكرة ،وقتل الهول رش
قتةل ،وابنه األكرب معه.
ومازالوا يتتبعون األهبال ،ميزقواهنم حىت طرابل ،حيث دارت
موقعة كبرية -شهدهتا -بني الفريقني ،قتلنا فهيا خاقااهنم األعظم،
وقتل أمريان منصور يف تكل املوقعة ،فعاد األهبال لسريهتم
األوىل ،من الفرقة والتنازع عىل ما ملكوه من قالع يف بالد
الرشق ،ورجع أمراؤان حلاهلم ،من التنازع والتقاتل عىل العرش
املسموم.
وأصبح األهبال يغريون عىل احلدود أحياان ،فريحبون مرة،
ويطردمه األساودة ،أو الفرجنة ،أو األمراء مرات .غري أن هيبهتم
ظلت يف النفوس ،وتضاعفت يف أايم ضعفنا هذه ،رمغ إننا كنا
من أذاقهم الهزمية املرة يوما.
مث تتابعت عىل بالدان املسكينة الفنت العظمية ،والبلوى الكبرية،
فانقلب الناس عىل بعضهم البعض ،وقاتل األمري األمري،
واململوك اململوك ،والغول األمحر الغول األمحر.
هاجت البالد وماجت ،فاكن أمراء املدن حياربون أتباع
املكل ،واملامليك حياربون أمراء املدن ،والعامة تقتل املامليك،
والعرابن يتخطفون العامة .وانفرد لك وال ببدله ،ولك أمري
بأرضه ،واكن ما اكن من رشاء املرتزقة ،وجتمع األثرايء لهنب
184
أرايض القرى ،واس تعباد أحصاهبا ،فدار ما تعرفه من حرب
هرب مهنا أبوك.
أما الغيالن ،فقد انقسموا لفرقتني عظميتني .قسم أمسى نفسه
ابملولودين ،واكن ممتردا ،جهل ممن خطفوا يف طفولهتم ،فش بوا
عىل البغضاء ،وشهوة الانتقام.
والثاين تسمى ابملبتدأين ،واكن من ظل عىل العهد القدمي.
وانشطرت معهم الفرقة امللكية ،وتكل اخلفية ،فأصبحوا يقاتلون
هنا وهناك ،جلوار هذا وضد ذاك ،يف فوىض مزرية .إال أن
تواعد الطرفان يف واد معيق ،قرب الثغر الصغري ،يسمى وادي
اذلهب ،فتقاتلوا يف مقتةل عظمية ،يف حرب مل ير مثلها أبدا.
رأيت يف حيايت الكثري من املعارك ،وشاركت يف الكثري مهنا،
لكين إذ كنت فوق التل ،أرقب تكل املعركة مذهوال .صليل
الس يوف يقرع اآلذان ،وهدير السهام يرجف القلوب،
ورصخات الهجوم كقصف الرعد ،وطريان الرماح كرضب
الربق.
ال أدري أي الفريقني دارت عليه ادلائرة ،إذ ما إن تبقى مهنم
القليل املهنك ،حىت أمران األمراء ابالنقضاض علهيم ،فأبدان لك
من يف امليدان ،كام تنقض الضباع عىل األسد اجلرحي.
وسارت يف البالد اكمحلى أن اقتلوا الغيالن! تتبّعهم األمراء
بأشد ما تتبعوا آل املكل .خيريواهنم بإما القتل ،أو ترك مذهب
185
الغيالن .وقد اكن يف قوانيهنم قوال" :إن الغول األمحر ،لو أنكر
حقيقته ،بسبب اخلوف ،فمل يعد مهنم" .وذلا ،سهل عىل
خصوهمم كشفهم وإابدهتم .فآمن األمراء رشمه بعد س نني
املطاردة ،ومل يعد هلم وجود من عقود .وإن بقيت مسعهتم
ورهبهتم يف صدور الكرباء واملس نني حىت اليوم.
وهذه اي بين حاكية الغيالن امحلر.
يقول عبد الشهيد ابن مسعان:
"اس متعت حلاكية احلكمي بإنصات ،وتذكرت مهنا شذرات .حقا
كنت قد مسعت بعض ما قال يف س نني الطفوةل يف الزرقاء.
لكين علمت بعض ما ينفع ،مكسأةل كتاهبم املسمى ابلقوانني ،وأن
زعميهم (أي أان) يسمى ابلغول األعظم .وفهمت ما يقصدون
ابلفرقتني املتنازعتني ،اليت حتدث عهنام زهري.
غري إين تذكرت أمرا ،فقلت للحكمي:
"هذا ادلرع اذلي أرتديه يبدو حقا درعا للغيالن .من أين
أاتك؟ لو اكن من بيهنم من ظل حيا ،فسأنتفع به حامت".
قال احلكمي:
"أاتين منذ زمن فىت صغري ،يرجو النهاة من القتل ،فوضع
عندي هذا ادلرع أمانة ،إىل أن يرسل يل من يأخذه .لكنه رحل
186
ومل يعد ،حىت طلبه الش يخ غالب ،إذ رآه عندي ذات يوم،
لريتديه ابنه يقيه يف حرب األثرايء".
قلت:
"ش يخي أشكرك ،ولكن من اكن هذا الفىت؟ أمازال حيا؟
وهل اكن من امللكيني اذلين أقسموا عىل حامية املكل؟"
ابتسم وقال:
"ال أعمل اي بين يف أي فريق اكن .لكنه كرب يف السن ،وزاد يف
املال ونسيين ،وأان مل أنسه! حاول خداعي يف امسه ،لكنك
تعرف امسه احلقيقي ،وقد التقيته".
ردت مندهشا:
"أان؟ من هو؟ أهو الش يخ غالب؟"
حضك الش يخ وقال:
"الش يخ غالب أاها املفرتي! ال! بل هو الرثي اذلي مجعمك يف
داره مع ش يخ األساودة .هو ابن العبديل"
187
()14
188
"الرب مش تعل جبيوش الصيادية والسور العيل منذ مائة عام،
وحبر الشامل يغيل بأساطيلهام".
قلت:
"هو ال يدري أن القراصنة أقىس ،وأمرمه أخطر .ولعل
احلرب بيهنام تتوقف هنهية ،خنتلسها للعبور إىل طرابل".
قال تميور:
"قال يل حسان ابن مهدان ،عن أبيه مهدان ،إن احلرب مل
تنطفئ حلظة واحدة .فقد اكنت الصيادية قرية صغرية ،تعيش
عىل الصيد يف البحر ،بيامن السور العيل مدينة كبرية ،تعيش عىل
التهارة .وذات يوم ،خرج بعض من الصيادين ،فأنزلوا ش باكهم،
فاغرتفت هلم من البحر كزنا من اذلهب ،ففرحوا به ،وأخذوه
لبيعه يف السور العيل.
لكن بعض احلرس رأومه ،فرضبومه ،واس تولوا عىل كزنمه،
وأغلقوا أبواب املدينة دواهنم .وغضب أهل الصيادية ،فقطعوا
عن السور العيل املؤن ،وامتنعوا عن بيع أمساكهم يف أسواقها.
فبىن أهل السور العيل سورا عظامي حول شواطهئم ،لمينع تزود
سفن الصيادين ابملاء العذب من ينابيعهم.
مث حدث أن اكن ملكل السور العيل ودلان ،شاابن وس امين
جدلان ،يقدر الواحد مهنام عىل فلق احلجر برضبة يده ،وعىل
صيد الش يطان برمية سهمه!
189
لكن اخلالف دب بني الاثنني ،إذ أحبا نفس الفتاة امجليةل ابنة
الوزير .غري أن الفتاة مال قلهبا لألخ األصغر ،فأوغرت الغرية
قلب أخيه األكرب حقدا.
ومات املكل ،فورثه األخ األكرب ،فتآمر مع الوزير ليزتوج ابنته
رغام عهنا ،ففكرت يف الهرب مع حبيهبا .لكن جنود املكل
أمسكوا هبام ،وانتقم األخ من أخيه بغل ،فقطع إحدى أذنيه،
وانزتع أمواهل ومالبسه ،وألقاه عاراي معدما خارج املدينة.
خرج األمري املقهور ،مييض بني البالد ايئسا ،فقابهل عراف
آواه وأطعمه ،وأخربه إن ملاك كبريا ينتظره يف بدل أعدائه ،فعمل
أاهنا الصيادية ،وذهب إلهيا.
وهنا وجد القرية تعاين من وحش مريع ،يألك ش باهبا إذا
خرجوا للصحراء ،ما مل يرتكوا هل مكية خضمة من صيدمه حتت
جشرة كبرية.
ذهب األمري يراقب الوحش ،إذ يأيت ألخذ إاتوته ،وتتبعه
لعرينه ،فوجده حفنة من لصوص ترتدي جدل وحش ،يقال هل
ادلب ،تفزع به الناس .فأخرج قوسه وسهامه ،فأسقط نصفهم
قبل أن ينتهبوا ،مث نزل علهيم بس يفه فشطرمه نصفني ،لك
برضبة واحدة ،وعاد جبدل ادلب للقرية.
وهلل هل الناس ،وأثنوا عىل جشاعته ،واكن أمريمه مريضا
حيترض (ويزمع اخلبثاء أنه مسمه!) ،فاختذه خلفا هل ،ليعلنوه من
190
بعده ملاك علهيم .فاس تطاع بقوة شكميته ،وشدة عزمه أن يبين
الصيادية ،لتصبح مدينة كبرية ،مض لها ما حولها من قرى ومدن
صغرية.
وأراد املكل ،ذو األذن الواحدة ،الثأر من أخيه .فأعد جيشا
كبريا ،وأسطوال عظامي ،أسامهام جيش وأسطول الوحدة ،يريد
هبام توحيد الصيادية والسور العيل حتت رايته.
وجهم عىل مدينة آابئه .غري أن أخيه اكن قد بىن سورا عاليا
حيمي املدينة من اجليش ،وحصن سور الساحل ليحمهيا من
األسطول ،فصدهام.
وهنا أحرق األخ األصغر سفن جتارة السور العيل ،وأصاهبم
مبهاعة وكساد.
ورد األخ األكرب بإلقاء مس يف البحر ،قتل أمساكه ،لتصاب
الصيادية مبثل ما أصاب السور العيل.
ومن يوهما واحلرب بني البدلتني جسال ،واحلقد مس تعر ،وانر
الثأر ال تعرف لها إطفاء .مفا تاكد ختمد حراب بيهنام إال تأججت
أخرى ،طوال مائة عام من معارك ،ال هدنة فهيا.
191
()15
192
"أتعرف من أان؟"
رد:
"القبيل زعمي الغيالن امحلر".
قلتك
"هذا حسن ،واآلن من أنت؟"
مصت حينان مث قال:
"حس نا ،أان من الغيالن امحلر .أو كنت كذكل حىت أنكرهتم".
قلت بلههة القايض ،اذلي يصطاد مهتام منكرسا:
"عظمي ،إ ًذا مازلت تذكر شيئا مما تعلمته يف كتاب القوانني".
هنا التفت يل حبدة ،وتأملين قليال ،قبل أن يقول:
"أنت لست من الغيالن!"
ظللت يف جلس يت هادئا ،أنظر هل ،فأمكل:
"أنت ال تعرف عن الغيالن شيئا ،وما أنت إال مدع".
هززت رأيس موافقا ،وقلت هبدوءك
"هذا حصيح .ما أان إال مدع ،لكنك لست مثيل .ودرعك
اذلي عىل بدين يشهد هبذا ،كام أخربين الش يخ وهدان".
رد بعصبية:
193
"مل تفعل هذا؟ ماذا تريد؟"
قلت حمتفظا هبدويئ:
"يف البداية ،مل أكن أرغب إال يف التلصص عليمك ،فقد ظن
ش يخ بدليت أنمك جتمتعون لسلبنا أراضينا مرة أخرى".
هدئت نفسه قليال ،وقال:
"أما وقد علمت غري ذكل؟"
قلت:
"أما وقد علمت ابألمر ،وعلمت بغدر األمراء ،وأن الوريث
مقتول ال حماةل ،فقد عزمت عىل اذلهاب إليه ،واإلتيان به
لإلقلمي الغريب ،ليتوىل مكل أجداده ،ويعيد لنا األمن والعدل".
نظر يل مكن ينظر إىل جواد هل رأس ضفدع بأنياب ذئب!
وقال:
"أجننت؟ فالح مثكل يتحدى القائد األسود ذاته!!!!!!!!! من
أنت؟ حقا من أنت؟ أنت ال يشء ،هذه يه احلقيقة الوحيدة،
اليت جيب أن تفهمها ،بدال من أن تورط نفسك ،وتورطين
معك يف العبث القاتل .أنت ال يشء يف قوته ،وال يشء يف
سلطانه أو ذاكئه ودهائه .أنت ال يشء يف بطشه ،وال يشء يف
عدد أعوانه ،وحلفائه ،وجواسيسه .أىن كل خبطيئة جمرد التفكري
يف حتديه! أمل تر كيف فعل الكرباء والوهجاء ،اذلين مه ملء
194
السمع والبرص؟ جتنبوا جلب الوابل عىل أنفسهم .أما أان فال
أمكل إال اذلعر يف انتظار وصوهل ،جملرد إنين اقرتحت مواهجته.
مفا ابكل أنت اي من هو أجعز من المنةل؟ عد دلارك ،وال جتلب
وعيل الوابل".
عليك ّ
ال أفهم ملاذا يفزعون لك هذا الفزع من لكاميت ،كأمنا أضع
الس يف ،وأذهب ألطرق به عىل أبواب األسود؟ جادلته
بقويل:
"هل إن متكل األسود ،فلن يأتينا الوابل؟"
قال بتوتر:
"بىل ،ولكنه س يأيت ابألمن والوحدة للبالد بعد طول ضياع.
وس يكون للمقام وقهتا مقال آخر.
قلت:
"توحيد البالد ،أم توزيعها عىل األهبال والفرجنة؟ لو مل يكن هل
بديل لوافقتك ،لكن ما دام الوريث موجود ،وهناك من
س يتبعه ضد األسود ،فمل ال جنازف؟
اهزت يف مقعده قلقا ،وقال:
"وماذا يفعل الوريث؟ هذا املزعوم ما اذلي ميلكه جملاهبة
األسود ،غري أنساب اكلهباء املنثور؟"
قلت:
195
"س يقود أمراء الغرب والرشق ،ويوحد البالد".
حضك حضكة قصرية ،وقال:
"أتصدق األمراء اذلين عاهدوين ،مث خرجوا يتقاتلون عىل أاهم
أس بق لتدمري العهد؟"
قلت:
"الك ابلطبع؛ لكين آمل يف قبس من نور الضمري ،وجذوة من
انر السأم يف أتباعهم .آمل يف حماوةل ،ال أدري أتنجح ،أم
أهكل دواهنا .لو هلكت ،فلن أعيش ألشاهد ذل اخلضوع جلبار
العامصة ،ولو عشت فسأحس أننا حاولنا -عىل األقل -صده..
أنه مل يأخذها بسهوةل".
مصت ومل يرد ،وطال الصمت بيننا ،حىت قطعته بقويل:
"أتساعدين؟ أنت كنت من الغيالن ،وتعمل من مه حلفاءمه،
اذلين ألتجئ إلهيم ،ومن ال اهادنواهنم فأبتعد عهنم .ورمبا تعمل كيف
أصل لطرابل ساملا ،ولعكل من امللكيني ،فأنت ملزم بقسمك
لرتافقين هناك.
قال يف سأم:
"دعك من أساطري الغيالن عن امللكيني واخملفيني! لك الغيالن
هلكوا ،مل يبق مهنم سواك".
قلت:
196
"أنت الغول ال أان".
قال:
"بل أعلنك غوال أمحر ،بصفيت الغول األمحر األخري ،تبعا
الس تثناء القانون األخري من كتاب الشهاعة".
نظرت هل نظرة بلهاء ،فقال:
"انتظر هنا ،وسأفهمك".
خرج قليال ،مث عاد حامال كتااب صغريا من ورق همرتئ ،وقال:
"هذا هو كتاب الشهاعة .ليست ابلنسخة العادية منه ،وإمنا
هو النسخة األم ،اليت كتبت بيد مؤسس الغيالن .به مثانية
وثالثون قانوان ،يلزتم هبا الغول األمحر .يه وصااي يف أغلهبا،
وليست قوانني ملزمة ،والكتاب امسه الشهاعة ال القوانني.
أول قانون فيه :الغول األمحر ال خيىش شيئا ،وال اهاب أحدا.
القانون الثاين :الغول األمحر جييب لك متحد ،ويندفع عرب لك
خطر.
القانون الثالث :الغول األمحر يطيع قائده ،وال حيارب غوال
آخر
وهكذا مثانية وثالثون قانوان ،مكتوبني يف عهدة لك غول أمحر،
إال القانون األخري ،نصفه فقط هو املكتوب يف النسخ العادية،
197
فهو مكتوب فهيا :الغول األمحر يظل دوما غوال أمحر ،إال لو
أنكر هذا ،خوفا أو طلبا لنهاة.
النصف الثاين من القانون مل يكتب سوى هنا ،وهو اذلي كنا
حنفظه ونسميه الاس تثناء :إال الغول األمحر األخري ،فإنه يظل
دوما غوال أمحر ،حىت جيند غوال جديدا.
وأان كنت هذا الغول األخري .كنت صبيا صغريا جدا ،واكن
خايل من كبار زعامء الغيالن ،وجندين رغام عن أنف أيب وأيم،
ألنين من سالةل ابن العبديل ،املؤسس األكرب ،أو أول غول
كبري ،كام يسمونه ،هذا اذلي اكن يزمع للناس أنه وريث ملوك
اجلن ،ربيب الصعاليك ،اكن جدي ،اذلي أفتخر يف صباي
بسريته!
عيل من اخلطر ،وقد صدق اكن أيب يكرهنا ،وأيم ختىش ّ
عيل يف قلعة الغيالن أايم قالئل ،إال
حدسهام .إذ مل ميض ّ
ودارت علينا ادلوائر ،وسالت دماؤان أاهنارا ،بأيدينا وأيدي
الغادرين ،مث اختطفين وادلي من القلعة ،مغامرا حبياته وحبس ين
يف قبو القرص ،معلنا للناس إين هلكت مع الغيالن عندما
أحرق املامليك قلعهتم ،ليخفيين عن األعني.
وأخذين وادلي للغرب ،بعيدا معن يعرفوان ،وظل حيبس ين يف
قاع القرص اجلديد زمنا.
198
وذات يوم مظمل ،أاتين خايل يزنف ادلماء ،ال أعرف كيف
عيل ،وال كيف تسلل لقلب القرص ،أو اس تطاع دخول عرث ّ
احلجرة احلصينة ،اليت حبست فهيا .بل كيف أصال اس تطاع
البقاء حيا تكل الس نوات حىت وصلين.
أعلنين الغول األمحر األخري ،وأعطاين كتاب الشهاعة ،ودرعه،
وأوصاين ابحلفاظ علهيام ،وزرا معلقا يف رقبيت ،حىت أجند
غيالان جددا ،يعيدون جمدان.
اكن يعرفين ،وأان صيب صغري ،مفتوان بسرية أجداده ،وجشاعة
الغيالن امحلقاء ،ودروعهم املنقوشة امحلراء ،لكنه مل يعرف الفىت
احلبيس ،اذلي ذاق الرعب شهورا تلو الشهور ،ينمكش يف
حبسه اذلي فرض عليه لكام جتول اجلنود يف ادلار ،خوفا من أن
يصلوا هل ،فيقتلوه ،حىت اس تعذب احلبس ،واس تذل اجلنب،
واس تطعم احلياة اآلمنة.
قبلت تركة خايل احملترض ،لميوت مطمئنا؛ لكين كنت أدرك أن
الغيالن هلكوا بال عودة أبدا ،فأخفيت الكتاب ،وألقيت ادلرع
يف ركن مظلمة ،قبل أن أعطيه ألحد ادلراويش ،خيفيه عنده
ومينحه ملن يطلبه ،إساكات لضمريي ،بأنين هكذا أكون وفيت
بعهدي خلايل ،وعشت حيايت مبرياث وادلي ،يف رعب يزنع
عين أي صفة من تركة خايل امللعونة ،حىت أتيت أنت.
199
ما أن أعلنت أنت إنك غول أمحر ،وسط أعداهئمن حىت
أصبحت ابلفعل واحدا مهنم .ومبا إنين كنت الغول األخري ،وقد
أعلنتكن ومنحتك الكتاب واللقب ،فقد زال عين وزر خايل،
وخلعت نفيس من تكل امجلاعة ،فال عهد لها اهمين ،وال
اس تحقاق علهيا يقىض مين.
ورمغ ذكل ،سأساعدك مبا أس تطيع ،من مال وزاد ودواب،
ليس إال ،عىل أال خترب أحدا مبا عرفته عين ،همام اكن.
سأمدك ابلنصاحئ النافعة ،وما أسهل النصح ،وما أصعب
التطبيق! لك من يقول كل أان حليف الغيالن ،فهو غادر
اكذب ،إذ مل يبق هلم حليف واحد حيامن انقلب اللك علهيم.
أدل أعدائنا مه بين األسود ،فاحذرمه ،ولكهنم خيشون لقب
الغول كثريا ،فس يحميك مهنم ،ولكن إايك أن تثق فهيم ،همام
اكن ،فقد اكنوا مه من بدأ العداوة مع الغيالن امحلر ،بل مه من
تسببوا يف إجيادمه.
200
()16
اكن عبد الرمحن العبديل رجال واسع الرثاء ،ذو جتارة واسعة.
يعيش يف قرية ،أمسوها أم اخلريات ،ألن اخلري يأتهيا من البحر
القريب صيدا ،ومن األرض اخلصبة مثارا ،ومن املدن احمليطة
جتارة.
فاكن عبد الرمحن ميكل من هذا أرضا واسعة ،وسفنا كبرية،
وقوافال تروح وجتيء.
واكنت القرية عىل حدود مراعي بين األسود ،ورمغ إنه مل يكن
هلم وقهتا ما هلم اآلن من شأن وسطوة ،إال أن لكمهتم اكنت
مسموعة ،واكنوا أصدقا ًء هل ،يشرتون منه ،ويبيعون هل،
ويؤجرون أراضيه للرعي ،ويؤجر رعاهتم ملاشيته.
وفوق لك هذا ،اكن عبد الرمحن العبديل يفاخر القوم بنسب
بعيد هل مع األمراء بين األمحر ،حاكم األندلس ،حىت اكن يسمي
نفسه أحياان األمري العبديل األمحر ،فريد القوم ساخرين "هو
أمحر أم اخلريات" يعنون أنه حامر!
201
لكن ادلنيا مل جتمع لك أطرافها لهذا الرجل .فرمغ امتالكه للامل
والنسب ،فمل يكن هل عقب! فقد عاش مع أزواجه ،ال يعيش هل
أبدا ودل.
مث مسع نصيحة مش ئومة ،بأن مسي أبناءك بقبيح األسامء،
ليعيشون ،ونىس وصية الرسول بإحسان أسامء أوالدمك.
وملا أجنب بعدها ،أمسى ابنه حشاتة ،فعاش .وفرح به ،وأجنب
بعده توأما ،أسامهام غوال ووحشا .وسعد هبم أن يكونوا الس ند،
اذلي يستند هل ،وهو مييض مرسعا حنو الش يخوخة.
عىل إنه بعد س نوات ،عمل أن عذاب الفقدان أشد مرارة من
عذاب احلرمان .ما اكن يتصوره أملا كبريا ،عندما ميوت ودله
عقب الوالدة ،اكن أهون ألف مرة مما أصابه حني مات حشاتة
وهو ابن ثالث س نوات ،مث مرض وحش ومل يمكل س بع
س نوات ،وحلق بأخيه.
ومل يبق للرجل العجوز سوى غول ،اذلي شب فاسدا مرتفا،
أذاق وادله الهوان والفضيحة .رمبا ألنه اكن هل نصيبا من امسه،
ورمبا ألن وادله دلـهل خش ية عليه من أدىن أمل ،وحرص عىل
رضاه همام متادى يف البطش والسب واألذى.
وزاد الكرب فوق الكرب ،أن قتل غول وهو فىت مل يمتم
س بعة عرش ربيعا ،يف جشار اتفه ،عىل درامه قليةل ،فعاش
الش يخ العجوز وحدة كئيبة ،وأحس بضياع احلياة منه هدرا.
202
وهنا أىت وسط الظالم حملة أمل .فودله الفاسد نكح واحدة
من جواري ادلار رسا ،بعد أن أغراها ابلزواج منه ،لتكون
س يدة ادلار .مث ملا عمل أاهنا حتمل ابنه ،حاول إهجاضها ظلام ،رمغ
إاهنا حليلته ،واس تأجر لغرضه امرأة من الغجر ،لتوقع هبا ،لوال
أن هربت الفتاة من ادلار ،ومل ترجع إال بعد مقتل حبيهبا.
اس تقبل عبد الرمحن احلفيد غري املتوقع ،كأنه جندة من السامء،
أو كزن مثني خيىش عليه من العيون .أسامه حسن ،ألنه اكن
ابلفعل حسن الوجه ،وأس بغ عليه العطف واحلنان ،وأراد تربيته
تربية أصلح من وادله .لكن الفىت شب وجده رجل يف أرذل
العمر ،فاكن من قام عليه هن نسوة القرص ،فاكتسب شيئا من
الرخاوة والطراوة والرعونة ،اليت امزتجت مع ما ورثه عن وادله
من اجلري وراء شهواته.
اكن شااب موفور الصحة ،وس امي ،واسع الرثاء ،تتبعه الفتيات
معجبة مذهوةل ،أو طامعة محمومة ،فأصبح مزواجا ،يزتوج
ليطلق ،مث يزتوج مرة أخرى ،ليكون حرميا خضام ،من الزوجات
احلاليات ،والسابقات ،واجلواري .لك واحدة تقمي مع أبناهئا،
قرب قرصه ،وقد أحاط لك تكل ادلور بسور واحد ،وسامها
الضيعة.
203
وذات يوم رأى إعرابية حس ناء وسط صوحيباهتا ،ترعى الغمن
يف بعض أراضيه ،فأجعب هبا ،وفتنت الفتاة به ،وأدار عقلها
بسحره ،وأسكرها حبيهل ،وطلهبا للزواج.
اكنت من بين األسود .ومه ال يقبلون تزوجي بناهتن من خارج
األساودة ،إال ملاما ،وملن ميتلكون رشف نسب ال يقاوم ،أو
لعقد األحالف مع قبائل أخرى .وابلطبع رفض أهلها تزوجيه
مهنا ،خاصة مع ما عرف عنه من عبث وتطليق.
لكنه أكرث اإلحلاح ،وفنت الفتاة ،فأطار لهبا ،لتمترد عىل أبهيا
وأخهيا .وذهب حسن ابن العبديل إىل ش يخ ش يوخ بين
األسود ،واكن رجال طامعا دنيئا ،فأعطاه الهدااي والرشا ،ليقيض
عىل أىب الفتاة بزتوجيها.
عىل إنه إن اكن بين األسود ال يقبلون بزتوجي بناهتن لغريمه،
فإاهنم ال يعرفون أصال طالقهن! ذلا اكنت الصفعة أمىض وأفظع،
حيامن سأم حسن من عروسه ،وطمع يف غريها ،فطلقها وأعادها
مغبونة ذليةل ألبهيا ،جيللها العار.
واش تعل األب غيظا ومكدا ،حىت مات حبرسته يف حيهنا .وهنا
سألت الفتاة من أخهيا الثأر .ونداء الثأر هل رصاخ عال يف قلب
أي من األساودة .رصخة الثأر النارية ،اليت ال ميكن إطفاءها،
حمكت ابلهالك عىل حسن ابن العبديل ،وعروسه اجلديدة.
204
أحلت وأحلت األخت املغدورة ،كغراب الشؤم تنعق طلبا
للخراب .واألخ مغلول اليد ،ألنه لو استنفر القبيةل ،فسريشو
حسن ش يخ الش يوخ مرة أخرى ،ليقعوا بني انرين ،إما الرضاء
ابلعار ،أو اخلروج عىل ش يخ الش يوخ ،وهذا عار عىل أي
أسودي.
جلأ األخ للكامتن ،ومعل بأعامل اخلسة ،مس تعينا برداء الغدر
الفعال .ذهب مجلاعة من الصعاليك املطرودين يف اجلبال ،من
قساة القلوب ،قطاع الطرق .ونفحهم املال ،ووعدمه ابملزيد
مقابل رأس حسن ابن العبديل .مل يكن يرغب إال يف الثأر
لشقيقته ،حىت إنه مل يسمع لفحيح أخته ،تطلب رأس العروس
اجلديدة أيضا .لكن الفهار مل اهمتوا إال ابملال .وجدوا ضيعة ثرية،
وماداموا س هيامجواهنا يف لك حال ،فليهنبوا ما يشاءون!
قتلوا امجليع .امجليع بال اس تثناء ذحبوا .حسن ،وأزواجه،
وجواريه ،ولك أطفاهل ،وأههل .حىت املطلقات ،واملربيات،
والعهائز من عامته قتلوا عن آخرمه ،واهنبت أمواهلم.
205
()17
206
إنه الفىت الصغري ،حسان ابن عنبة .واحد من صبيان حسن
الكثريين ،أجنبه من طليقته عنبة ،الفتاة ذات األصل الفقري
واحلسن الكبري.
شقوا الكفن ،وأخرجوا الصيب .اكنت رضبة الس يف قد شقت
رأسه ،وأطارت واحدة من عينيه ،وأفقدته رشده ،فظنه الناس
مات مع من ماتوا .لكنه جنا .النايج الوحيد ،من مذحبة مروعة،
صيب جهر احلسن وهجه ،بعد أن الهتمته ندبة بشعة ،تقسم وهجه
نصفني ،وفقد واحدة من الغاليتني.
اندفع الناس اهللون ويكربون ،لكن ما أن انهتوا من الهتليل
والتسبيح ،حىت أىت العمدة يقول:
"الفىت معجزة من هللا .عليه أن يلحق ابدلراويش ،وننصبه وليا
يف مودل الش يخ بدار!"
لكن الصيب أدرك غرض العمدة اخلبيث ،فانتفض من بني األمل
وامحلى ،يرفض ويقول:
"أريد العودة دلاري".
فهتف العمدة بني الناس:
"أرأيمت اي أهل أم اخلريات؟ الفىت ينطق ابلكفر ،ويرفض
العبادة ،ويرغب عن اإلميان! أرأيمت! إنه ليس حسان ابن
العبديل! هذا ش يطان مريد ،اس توىل عىل جسده ليفتنمك.
207
حسان مات ،فرتمحوا هللا عىل روحه ،وابتعدوا عن هذا
الش يطان ،بل ارمجوه .انظروا لقبيح وهجه ،وسواد عينه؟"
وبني الفنية واألخرى ،يلوح العمدة بس يفه وذهبه ،فتخىل
الناس عن اليتمي املغبون ،وتركوه ليعيش يف القرية ذليال فقريا.
حىت أهل أمه ،اضطروا للتربؤ منه ،فعاش يف العراء.
اكنت احلياة عىل حسان ابن العبديل قاس ية جدا يف أم
اخلريات .أتباع العمدة ينادوه ابلش يطان ،ابن اجلن ،اذلي
اس توىل عىل اجلسد الربيء؛ بيامن رعاة األساودة يغلظون هل لكام
رأوه ،ويتفننون يف إيذائه ،وينادوه اببن العاهر.
أما أطفال القرية ،فقد اكنوا يسخرون منه ،لغرابة شلكه
وفقره ،ولقبوه ابللقب اذلي التصق عليه ،وأس بغه هو فامي بعد
عىل نفسه .اكنوا ينادونه ابلغول األمحر .غول لقبح وهجه ،والمس
جده ،غول ابن عبد الرمحن .وأمحر ملا اكن يزمعه من نسب لبين
األمحر يف األندلس ،ومحلرة وهجه اذلي زالت عنه برشته.
عاش الغول األمحر يف تكل القساوة حينا ،مث مل جيد بدا من
الرحيل عن أم اخلريات ،مييض وحيدا يف الصحراء ،فظن الناس
أنه هكل ،واس تطاب هلم العيش يف بيوته املهنوبة ،واأللك من
صيد سفنه املرسوقة.
لكن الغالم التحق بركب من الصعاليك ،خيدهمم ،ويتعمل مهنم
الرضب والطعان ،وفنون الشهاعة واإلقدام .أصبح ال يبارى يف
208
الركوب ،والريم ،واملبارزة ،وهو مازال صغريا مل يمتم الثالثة
عرش فامي يزمعون .وعندها عاد للقرية ،أو لقرهبا عىل األحص.
عاش يف الصحراء حولها ،يتجول بني الكثبان ،ويسقى من ماء
اآلابر املتناثرة ،ويعمل حامال للقوافل ،اليت حتمل بعضها ما اكن
جيب أن يكون مرياثه ،فال يأبه ،أو يبدي للناس أنه ال يأبه.
يف احلقيقة ،اكن هناك هاجس يس يطر عليه .صورة متلكته
عند الطفوةل ،حيامن هرب أخوه األصغر من بني براثن القتةل،
فأمسكوه ،ليندفع حسان حماوال إنقاذه ،فتصيبه رضبة الس يف.
هو جهم فنها ،وأخوه أدبر فقتل .الشهاعة أنقذته ،والشهاعة
كفيةل بإنقاذ املغلوبني!
تعرف حسان ،حيامن اكن يغىش القرية ،عىل س تة صبية ،بيهنم
أخوان يسميان ماجد وجمد ،تصادقوا ،وتعاهدوا عىل اإلخالص
بيهنم ،وأمسوا أنفسهم عصبة الغيالن امحلر يف لهومه.
وعندما بلغ حسان ابن العبديل أشده ،اكن يتبعه س بعامئة من
الغيالن ،مجعهم من الصعاليك واحلرافيش واملس تضعفني ،اذلين
لفظهتم أم اخلريات وغريها من القرى .أغلهبم فقراء ،ال جيدون
قوهتم ،وأكرث من نصفهم مل يبلغ احلمل إال قريبا.
اكن أول بدل بدأ هبا يه أم اخلريات .أحرقها بأهلها ،وقتل
العمدة رش قتةل ،وبىن ماكن الضيعة القدمية أوىل قالع الغيالن،
وكتب كتاب الشهاعة بقوانينه الامثنية والثالثني ،ودعا الناس
209
إلتباع الشهاعة ،واختاذ اجلسارة مذهبا .معلنا القانون الثامن:
"قد يعجز احلق عن النرصة أمام القوي ،والقوة ختذل أمام
األقوى؛ لكن الشهاعة يه املطلق ،ال يؤذاها ما عند غريك.
فالشهاعة تسمو فوق امجليع".
مىض األمر معه عىل خري ما يرام .حوهل مدن كثرية لفظت
يتاىم ومقهورين ،أتوا للغول الكبري -سلسل ملوك اجلن،
وربيب الصعاليك ،كام أشاع عن نفسه – يستنرصوه،
فنرصمه ،وآوامه ودرهبم ،ليصبحوا ألوفا من الغيالن امحلر
اخمللصني.
وملا ازداد ضعف املكل ،ومل يقدر عىل حمك األقالمي البعيدة،
متدد نفوذ ابن العبديل ،حىت أصبح الوالة واألمراء ،يف الشامل
والرشق ،يأمترون بأمره.
210
()18
لكن الصدام اكن حمتيا مع قبائل بين األسود القوية .ليس فقط
ألن هل معهم ثأر قدمي؛ وإمنا أيضا ألاهنم اكنوا يبسطون نفوذمه
عىل الرشق ،خاصة جزئه اجلنويب ،فلام ازدادت قوة الغيالن يف
الشامل الرشيق ،حاولوا التصدي هل.
ودارت حرب عنيفة ،مل يذق األساودة لها مثيل من قبل.
وألول مرة يدب الرعب يف قلوهبم أمام كتائب الغيالن املنظمة،
اليت تتقدم حامةل الس يوف والرماح ،وال ترتاجع أمنةل حىت تظفر
بعدوها .ومسع القايص وادلاين بأمر الغيالن امحلر ،عندما اضطر
األساودة للهجرة للجنوب عىل أيداهم .اكن حدث جلل ،سلط
لك العيون اخلاشعة عىل تكل القوة اجلبارة النامية.
وتضخم أمر الغيالن املنترصين يف وقت قصري ،وبعد أن مات
حسان ابن العبدلني توىل الشقيقان ماجد وجمد زعامة الغيالن
من بعده .فأما ماجد ،فقد بقى يف القلعة الرئيس ية يزيد نفوذ
وقوة الغيالن يف املنطقة ،حىت وصلت جنواب لقرب الزرقاء،
وشامال إىل ساحل البحر .وأما جمد ،فذهب للحارضة ،يبث
211
العيون واألعوان هنا وهناك ،وهو من أنشأ الفرقة اخلفية ،اليت
تتلصص وتغتال ،وترتكب أبشع ما ارتكبه الغيالن امحلر.
اكن جمد هذا هو جد من أجداد أيمّ ،زوج ابنته لتاجر ثري،
ليس تويل عىل أمواهل .فاكنت عائةل أيم مقسمة ،بني جامعة تكره
الغيالن أميا كره ،وجامعة مفتونة بقوهتم وبنس هبم ،تتبعهم أيامن
ذهبوا.
بعد وفاة ماجد ،واغتيال جمد ،مىض عهد الغول الكبري ،اتراك
وراءه اإلرث املريع ،اذلي تواله دوما س بعة زعامء ،حيمكون معا،
ال يفوق أحدمه اآلخر ،إال واحد مهنم ،ال يقيض أمرا إال
مبشورهتم.
اكنوا دوما س بعة .كام بدءوا س بعة زعامء ،يقودون س بعة
رجال ،أو س بعة جيوش ،املهم أن يكونوا س بعة! كام بدءوا
يظلون حىت جعلوه القانون السابع" :الغيالن امحلر دوما س بعة!
أصبح الزعامء الس بعة يأمرون ،فيطاعون ،وميلكون ،فال
ينازعون .ال جيرؤ األمراء عىل معاندهتم ،وال يفكر امللوك يف
مواهجهتم .دبوا الرهبة يف لك القلوب ،حىت ملوك املدن البعيدة.
ذات يوم ،هامجهم مكل من ملوك المين ،وقتل بعض الغيالن
امحلر ،اذلين اكنوا ماضني للحج ،واس توىل عىل أموال اكنوا
حيرسواهنا .أرسل الغيالن س بعة رجال متخفني ،بقوا يف المين
ساكنني ،خملصني مللكها ،حيامن يدعو الناس لنرصته .وانتظروا
212
حىت اطمأن هلم ،مث ارتدوا ادلروع امحلراء ،وقتلوه يف عقر
قرصه ،يف فاجعة أهبتت ملوك الرشق والغرب!
إىل أن أىت آخر امللوك ،بضعفه وهوانه ،انزعه أخوه عىل املكل
مبرتزقة من السور العيل والفرجنة ،فاشرتى املكل آالف املامليك
بلك نقود ادلوةل ،ووقعت معركة رهيبة بني الفريقني عند الثغر
الصغري ،ااهنزم فهيا الفرجنة هزمية ساحقة عىل يد املامليك،
وتشتت جند الصيادية عىل يد جنود جيش املكل.
لكن نفقة املامليك ورواتهبم تضخمت خالل س نني احلرب،
فأجعزوا املكل أكرث من مرة ،خاصة مع زايدة أعدادمه ،وزايدة
متردمه .فثار أمراؤمه عليه ،ومل جيد املكل من ينقذه من رشمه
سوى الغيالن امحلر .فعقد معهم عهدا مذال ،يدفع هلم به جزية،
ويرتك هلم نفوذا وسلطة ،عىل أن مينحوه واحدة من فرق
الغيالن ،تنرصه عىل املامليك ،ويه اليت تسمت ابمللكيني.
اكن زعامء الغيالن قد طمعوا وقهتا يف إنشاء دوةل هلم،
حيمكواهنا .وأصاب (ماخس) -الغول األكرب وقهتا -هوس جبمع
األتباع ،وزايدة القوة ،فطغى وجترب ،وانفرد حبمك اجلزء الشاميل
من اإلقلمي الرشيق ،ال يدخهل عليه حىت حمتسب ،أو جالب
رضائب صغري.
وتوسع يف خطف األطفال والصبية ،لرتبيهتم غيالان ،ويه
البدعة اليت بدأها ماجد يف الس نني اخلالية .وتدخل ماخس يف لك
213
ش ئون ادلوةل والس ياسة ،مفرقا بني املكل وحلفائه ،ومضعضعا
أراكن ادلوةل املهتاوية أصال .وزاد عىل هذا ،أن فرض إاتوات،
واهنب أموال التهار ،ليهلب املال اذلي يكفيه.
وزاد جربوته وعنفه ،فمتلمل منه عدد من الغيالن امحلر ،جلهم
من الصغار والصبية ،اذلين كرهوا احلياة القاس ية ،اليت فرضت
علهيم ،بيامن يرون الغول الكبري يمتتع ابملذلات .لكنه رد علهيم
ابلقمع والقوة ،وهذا خطأ كبري ،أن حتاول إرهاب من دربهتم،
منذ نعومة أظافرمه ،عىل الشهاعة! فنادوا بصيحة المترد ،وأعلنوا
أنفسهم غيالان جديدة ،ودلت من رمح العداةل ،فسمومه
ابملس تودلين .واكن أول انشقاق عىل الغول الكبري ،وإنذار
بتصدع دولهتم الباذخة.
مث زحف األهبال حنو البالد الرشقية ،فدمروا السور العيل،
وهزموا الفرجنة ،ليزناح عن املكل خطر أخيه .حاول املكل
طردمه من البالد ،وقطع رواتهبم .فثاروا ثورة عنيفة عليه،
تزامنت مع غزو األهبال ،وما جرى فيه من وقائع ،لعلها اكنت
احلس نة اليتمية للغيالن امحلر ،أن سامهوا يف دفع طوفااهنم عن
البالد ،وللمامليك من بعدمه أن هزمومه ،بيامن املكل جالس يف
قرصه ،متخاذل عن القتال.
مث تتابعت األحداث اليت تعرفها ،من قتل املكل وأههل ،مث
نشوب الفتنة الكربى ،حيامن أصبح أخوك رشا من عدوك،
214
وصديقك أغدر بك من الغريب ،وأخذ الغيالن ابلقتل
والتعذيب ،ثأرا من فسادمه ،اذلي اكن هل يد عظمية فامي أصاب
البدل من نكبات ،ومداهنة خلصوهمم من املامليك ،وقبائل بين
األسود.
ودارت عىل دوةل الغيالن ادلوائر ،فزالت سطوهتم ،وابد
جندمه ،واثر علهيم عبيدمه وصنائعهم .وانضم للمولودين مجع
كثري ،بيامن جتمع بقااي أتباع الزعامء الس بعة ،ومسوا أنفسهم
ابملبتدأين ،لتدور بني الفريقني حروب ووقائع ،انهتت بهنايهتم.
215
()19
216
فإذا يب أجد مشهدا مزجعا مضحاك! تميور غارق يف مذلات
الطعام ،ينهتب مهنا اهنبا! حىت إنين خفت عليه من املوت ختمة.
وأحزنته بنبأ اس تعدادان للرحيل ،وأنه ليس لنا هنا اليوم مبيت!
ولكن حزنه اجنىل رسيعا ،إذ رأى دوابنا محلت ابملذلات ،لتكون
لنا الزاد ،وهو ما مل يسعدين كثريا ،إلثقاهل عىل دوابنا الثالثة،
وإبطاهئا يف الصحراء ،فيطول علينا املرور يف األرايض اخلطرة،
لنتعرض للقتةل ،وغريها من الرشور امجلة.
لكن من انحية أخرى ،كنت أدرك أنه ليس من اليسري يل
احلصول عىل الطعام والزاد يف رحليت الطويةل ،خاصة وإين ال
آمن لنفيس يف قرية ،أو مدينة .فقبلت الهدية عىل مضض،
وجتاهلت مالحظة تميور عن إن بعض هذا الزاد ليس مما حيمتل
البقاء مدة طويةل ،وأنه حامت س يفسد.
اي هل من متفائل! أيتصور أننا س نحافظ عىل طعامنا ،وراحلتنا
طوال الطريق! إما أن يهنبه لصوص ،أو يرسقه وحوش ،وإن
حدثت املعجزة وجنحنا يف احلفاظ عليه ،فرمبا نتصدق به عىل
جائع ،نسأهل أن يدلنا عىل الطريق.
كنت قد عقدت العزم عىل اختاذ طريق الشامل بني
املستنقعات واألحراش املهجورة ،قاطعا فروع الهنر ،حماذاي
لشاطئ البحر ،ألنين عشت يف تكل املنطقة فرتة ال بأس
217
بطولها ،مرافقا مع وادلي للوريث املزيف ،وأظنين أخربها أكرث
من اآلخرين ،اذلين أخشامه.
ورمغ إن هذا حدث منذ س نني عدة ،كام إنين وقهتا مررت
بأخطار خمتلفة ،والبالد متوج برشار قاتةل ،تغري األحوال لك
شهور قليةل ،ولست واثقا من بقاء حال هذا الطريق عىل
املأمون من ماكئده ،اليت خربهتا ،أم أن خطره زاد وتفامق؟ لكنه
يف الهناية أكرث أمنا يل من غريه.
أنزلت عباءيت فوق دروعي امحلراء ،وأخفيت حتهتا س يفي
اجلديد ،وأذنت ابلرحيل .فبدأان الرحةل فورا ،وقد بدا الضيق
عىل وجه تميور ،فتهاهلته ،حىت انفجر ابلسؤال اذلي أعرفه
جيدا..
"ملاذا نرحل يف الليل وأخطاره؟ الهنار هل عيون كام يقولون!
كام إنين أخىش الوحوش واذلئاب".
قلت:
"لنتفادى ذئاب البرش".
ابغتين بسؤاهل:
"ألست غوال أمحر ال خيىش شيئا وال اهاب أحدا؟"
ارتبكت للحظة ،قبل أن أس تعيد رابطة جأيش ،وأقول:
218
"الشهاعة ال تعين امحلاقة .احلمكة مطلوبة ،ولنا هدف خطري
علينا أن ننجزه .لو خرسان الهدف السايم لسبب اكن ميكن
جتنبه ،فهذه ليست جشاعة حامت".
بدا عليه الشك ،فأرسعت أضيف:
"حنن الغيالن امحلر قد جددان عهودان ،مل نعد نقول أن
الشهاعة يه مواهجة األخطار ،بل أصبح قانوننا الثامن اجلديد،
إن الشهاعة يه الصرب عىل احلق همام اكن مرا!"
مصت ومل يرد ،فأجعبتين الكذبة! واختذت لنفيس أمام جلاجة
هذا املهنج ،إنه لكام أزجعين بسؤال ،أس ندته لقانون جديد يف
كتاب الشهاعة!
وهكذا رسان ليال متتابعة ،حىت أتت اللحظة احملتومة ،ومسعنا
أخريا العواء اذلي خش يه تميور.
جتمدان يف ماكننا ،فسألين تميور:
"أنرجع؟"
قلت:
"الك ،جيب أن نعرب الصحراء ،حىت نصل للثغر الكبري ،وغدا
س تنتظران اذلئاب مثل اليوم".
قال:
219
"ماذا س نفعل إ ًذا؟ أنبقى هنا حىت ترحل".
اي هل من مزجع! أيتصور أنين صايف اذلهن ،ألرد عىل أس ئلته
اليت يدور أمثالها يف ذهين؟ عىل أي حال ،مل يكن هناك إال
حل واحد
"سنرسع بأقىص ما نس تطيع ،علنا نتهاوزمه".
وحثثنا امجلال أن ترسع ،وقد أقلقها العواء ،خففت همروةل لكن
هذا مل ينفعنا كثريا ،إذ رسعان ما تاكثرت اذلئاب حولنا مطاردة.
أمسكت رحمي ،ومددت الس يف لتميور .وملا قفز علينا أول
اذلئاب ،جشجت رأسه مبؤخرة الرمح ،وتركته يتكور وهو يعوي
من األمل ،وأرسعت ألتفت للجهة األخرى ،ألصد الثاين بطعنة
خفيفة ،فقد خشيت أن ينغرس الرمح يف أحدمه ،وال أس تطيع
إخراجه من جسده ،فأفقده .وبدا يل حرج موقفنا يزتايد ،فقلت
لتميور:
"ألق ما عندك من حلم وغريه علنا نشغلهم".
فأمسك حبقائب اللحم والفاكهة ،اليت أخذانها من ابن
العبديل ،وألقاها خلفنا ،بيامن ألقيت أان ابيق املؤن ،ألخفف عن
امجلال امحلل ،إال قربة املاء .لكن أغلب اذلئاب مضت تطاردان
بإرصار.
220
بدا يل احلل قاس يا ،لكنه املمكن اكن امجلل الثالث ،اذلي
أصبح بال محل ،ياكد جيري ويس بقنا ،فطعنته طعنة قاس ية
برحمي يف خفذه ،وأرسعت بسحب الرمح برسعة الربق ،وأان
أدعو هللا أال ينتبه مجيل لهذا األمر ،ألن امجلال ذكية ،وال تغفر
الغدر أبدا.
وأتت حيليت يشء من اإلمثار .فقد ختلف امجلل اجلرحي،
فهجمت عليه جامعة من اذلئاب تنهتشه ،لكن بعضها ظل
يطاردان بعناد خسيف.
هتفت لتميور:
"ألق بلك ما عىل مجكل ،وأرسع بقدر ما تس تطيع فوق
األرض الصخرية ،حىت ال تبطئنا الرمال".
أخذ يلقي بلك ما معه ،يقذف به رؤوس اذلئاب يف غل ،حىت
إنه ،حبامقته ،ألقى بقربة مائه فامي ألقى! وأخذت برحمي ،وتميور
ابلس يف نذب عنا من اهجم مهنم.
مرت الساعات البطيئة اخلطرة ،قبل أن حتني الساعة،
فيسقط مجل تميور مهناك ،مما أصابه من خدوش واهنشات .ولوال
أن تعلق بيدي يف اللحظة املناس بة ،وتشبث جبانب مجيل،
النهتت حياته .لكنه ،مبعجزة ما ،تسلق مجيل رمغ رسعته،
وجلس خلفني وأرسعنا وسط الفزع والرعب نمكل الفرار.
221
لكن اذلئاب انشغلت بفريس هتا الثانية ،أو اكتفت هبا ،فمل
تمكل مطاردتنا .ولعل بين اذلئب يف هذا أرشف من بين
اإلنسان ،فإاهنا إن وجدت ما يش بعها ،مل تلتفت للطريدة ،حىت
لو اكنت سهةل؛ بيامن بين اإلنسان ال ميأل عيواهنم إال الرتاب.
لكننا رسعان ما توقفنا مكرهني .فقد انلنا من التعب واجلروح
ما انلنا ،وزادت عينا انقتنا اليت ااهنارت من أسفلنا دفعة واحدة.
وسقطنا أرضا ،لنهد تكل الطيبة قد نزفت الكثري لكهنا ظلت
جتري حىت أبعدتنا عن األنياب اليت اهنشت محلها.
وأرسع تميور ميسك س يفي ،فذحب الناقة من فوره ،يزكهيا قبيل
أن تنفق .ورمغ حزين عىل تكل اليت أنقذتنا؛ لكين كنت أدرك
أاهنا الرضورة ،ألننا فقدان لك طعامنا.
مجعنا بعضا من اللحم ،ورسان مبتعدين عن أرض اخلطر .وملا
طلعت علينا الشمس ،أخذ تميور يبسط اللحم حتهتا ،ليقدده
لمنتكل مئونة تكفينا يوما أو اثنني.
لكن الرحةل أطول من هذا بكثري .قد يكفينا ما استنقذته من
ماء ببعض الصرب ،لكن املشلكة يف الطعام .أصبح الصيد اآلن
حامت علينا ،لكنين لست ابلبارع فيه.
وبدأان املسري عند الغروب ،مقتصدين يف املألك واملرشب،
متلمسني الطريق بقراءة النجوم ،مفضت أحوالنا بيرس دون
أخطار ،حىت قضينا اليوم الثالث.
222
ففي ذكل اليوم ،عرثان عىل واحة صغرية ،وبدت ليا هدية من
السامء ،وأرسعت حنوها أبغي مجع ما ميكننا من المتور.
لكننا فوجئنا بعرشة من األعراب ،اهجمون علينا .اكنت
مالحمهم غليظة ،وحيملون خناجر غري مس نونة ،وينظرون لنا
نظرة أبشع من نظرة اذلئاب!
ألقيت السالم ،حماوال إاهناء املوقف بأمان ،وقلت:
"السالم عليمك اي إخوة اإلسالم .حنن مسافرون ،فقدان دابتنا،
ولو بعمتوان دابة وبعض المتر ،فس نهذل لمك العطاء ،ونرحبمك
المثن".
حضك أحدمه ،واكن طويال بني رجاهل ،ياكد يصل لقاميت.
وكرش عن أس نان سوداء خنرة ،وقال:
"أاتان صيد طيب أفنرتكه؟ مب ستشرتي منا ادلابة ،بيامن أمواكل
قد أصبحت لنا غنمية!"
وحضك عىل دعابته السمهة ،فضحك رجاهل جماملني!
قلت برصامة:
"ال أبغي قتاال ،لكنه لن يكون يف صاحلمك .إمنا أبغي مصلحة
رشيفة بيين وبينمك".
تقدم هذا الطويل أسود األس نان مين خطوات ،وهو يكرر
الكيم بطريقة مسهة:
223
"ال أبغي قتاال! أبغي مصلحة رشيفة! اي كل من جشاع! لو إنك
ترى يف نفسك القوة ،لتحفظ أمواكل ،فافعل! لكين أنصحك
بأن تسلمنا ما معك ،فرمبا نرتكك حيا ،ولن تنفعك تكل العصا
اليت تتسلح هبا اي أخا".............
مل يمكل الكمه .يف احلقيقة اكن أمكر مما يبدو عليه ،إذ أراد
إشغايل حبديثه السمج ،بيامن يتسلل من خلفي واحد آخر من
رجاهل .فوجئت برضبة عىل ظهري ،ورنني صدمة اخلنجر عىل
درعي اخملتئب ،اذلي مل يتوقعه الغادر ،اآلت من خلفي .والتفت
برسعة ،فهويت عىل املهامج املندهش برضبة ساحقة من رحمي،
أفقدته رشده .ومسعت صيحة تميور أن احرتس ،فعدت أنظر
لتكل الطغمة ،ألجد هذا الزعمي قد أمسك س يفا صدئا ،هوى
عيل لوال أن صده تميور ابلس يف اذلي كنت قد أعطيته هل. به ّ
عيل مرة أخرى؛ لكن حسب زعمي اللصوص س يفه ،وهوى به ّ
رحمي اكن أس بق ،فطعنته يف ذراعه ،ليسقط منه هذا الس يف
الصدئ ،فاحنىن تميور برسعة والتقطه .بدا أن الرصاع بيننا
س يكون متاكفئا ،فنحن منكل أسلحة أمىض ،وألبس أان دروعا
قوية ،بيامن مه ال ميلكون إال حفنة من خناجر وساككني غري
مس نونة؛ لكن عددمه أحد عرش شقيا.
224
حسب األشقياء زعميهم املصاب ،ورفيقهم املغيش عليه ،ومه
يس بون ويلعنون ،وقد بدا واحضا أاهنم لن جيرؤوا عىل همامجتنا
مرة أخرى.
تقدمت مهنم وأان أقول برصامة:
"لك ما أبغيه هو التهارة معمك"...............
قاطعوين مبزيد من س باب ،وقال أحدمهك
"لن نعطيك شيئا ،فافعل ما شئت .ولن تذوق قطرة ماء من
برئ الواحة ،وس نكتفي ابلصرب حىت اهلكك الظمأ ،فنغمن ماكل اي
أمحق".
أدركت أنه ال فائدة ،وذلا أرشت لتميور أن خنرج من الواحة
خائبني ،فرسان حبذر متقهقرين.
اكن معي من املاء ما يكفينا ،فمل أقلق من هتديدمه ،لكن
مشلكة الطعام بقيت كام يه ،فقلت لتميور:
"لن نبتعد عن الواحة ،حفامت حيواانت الصحراء وس باعها تأتهيا
لرشب املاء ،ورمبا نصيد مهنا شيئا ينفعنا".
هز رأسه موافقا ،فقلت:
"ابملناس بة ،أشكرك .حصيح إن هذا الس يف الصدئ اكن عىل
األرحج سيهتشم عىل درعي ،ولكنك حاولت إنقاذ حيايت".
225
ابتسم وقال:
"وأنت أنقذتين من اذلئاب! ال شكر هنا اي رفيق".
تركته ،وخرجت حبثا عن صيد .ومل خيب ظين ،إذ عدت
بظيب كبري.
املشلكة إنين ال أجيد الصيد ،وبراعيت يف ريم النبال فقرية! ذلا
عيل أمر عسري.فصيد حيوان صغري ،أو طائر يف السامء لهو ّ
ذلا ،اكن عيل أن أحتمل سؤال تميور املستنكر ،حيامن وضعت
أمامه هذا الظيب الثقيل.
"لك هذا! " ونظر ملا مجعه من حطب ،واكن ال يكفي حامت،
مث نظر بإشفاق حلجم الظيب ،اذلي س يضطر لسلخه وجتهزيه،
وقال:
"ما لك هذا؟ لن نس تطيع إاهناءه يف يوم وال أس بوع،
وس يفسد منا دون حاجة!"
قلت:
"أال تس تطيع تقديد بقية محله؟"
قال:
"أسنبقى هنا حىت يقدد! وهناك رجال مرتبصون لنا ،ال حنب
أن نبقى الليةل قرهبم؟ ملا مل تصد أرنبا أو طريا ،فإين رأيت بعض
األرانب جتري هنا وهناك؟"
226
عيل ثقيال ،فإن صيد األرانب إن اكن صيد احليوان الصغري ّ
لعنة! رمغ إنين أحب حلم األرنب ،ورمغ إن الكثري من األرانب
اليت جهرها أحصاهبا يف الواحات ،عندما رحلوا جلفاف ،أو بعد
تعرضهم للغزو والهنب ،فإن صيد األرنب ،اذلي يقفز رسيعا هنا
وهناك أمر ال أطيقه! لعيل ال أحب محلها إال ألنه عزيز املنال!
قلت بضيق:
"ال أصيد األرانب".
مث أدركت أاهنا فلتة لسان ،حيامن نظر يل نظرة غريبة ،وسأل
بصوت خافت يقطر شاك:
"أحترهما؟"
قلت ألخرسه:
"نعم".
مث فزعت إذ أدركت متأخرا ما وراء السؤال! فإن بعض
الرافضة كام يزمعون ،حيرمون حلم األرنب! فأرسعت أقول:
"أحرم نفيس من صيدها ،ال محلها".
نظر يل بدهشة ،وسأل السؤال املتوقع:
"وملاذا؟"
227
أخذت أقدح ذهين مرتباك ،أفكر يف جحة ،فوجدتين أقول
مراوغا:
"عاهدت نفيس أال أقتلها".
كرر بإرصار:
"وملاذا؟"
ليتين قلت هل إنين ال أجيد الصيد ،بدال من اخلجل ،اذلي
أرسلين لكذابت هملكة! لكن ال مفر من اخلوض يف املزيد من
الكذب األمحق!
قلت:
"حنن الغيالن نتخذ من الوحوش أخا ،وأيخ هو األرنب!"
نظر يل بفم مفتوح ،وقال:
"أخوك الوحش هو األرنب!"
عضضت لساين األمحق ،وأحسست بغباء لكاميت؛ ولكن مل
يكن هناك مفر غري امليض قدما ،فقط أرجو أن أذكر لك هذه
األاكذيب ،بدال من أن أخطئ فهيا أمامه!
فقلت حماوال اس تعادة صفاء ذهين ،والعودة ملهنجي القدمي يف
خداعه:
228
"لك غول يبحث عن أخالق احليوان ...أعين أخالق اإلنسان
يف احليوان .....آآآ الكتاب ....أعين كتاب الشهاعة يف القانون
الـ ....الثامن (مث تذكرت أنين أخربته ابلقانون الثامن من قبل)
القانون الثامن عرش ....يقول "علينا أن نبحث عن الصفات
املطلقة ،واألخالق النقية.
بدأ ينظر يل بفضول ،فأرسعت أحمك خدعيت بقويل:
"الشهاعة ،والوفاء ،واإلخالص ،وغريها يه أمور عىل الغول
أن يسعى للوصول لها ،قبل أن يصبح غوال أمحر .لكن اإلنسان
يلوهثا ابلغدر ،واجلنب ،والنفاق .لهذا نبحث عهنا يف صورهتا
األول،ى يف ماكاهنا النقي دلى احليوان .فيكون عىل من يريد أن
يصبح غوال ،أن يالزم حيواان ملدة طويةل .عام جهري مثال!
يراقبه ،وحياول التعمل منه .اكن حيواين هو األرنب ،وعادة ما
نعاهد أنفس نا أال نقتل هذا احليوان ،وفاءا هل ،حىت لو ألكناه
عىل املوائد .بل إنين ال أجخل من أن أقول إنين أحب األرانب
املقلية ابذلات!"
نظر يل بغري فهم وهو يقول:
"أفاكرمك جعيبة اي غيالن! ولكن ماذا تعلمت من األرنب؟ هو
حيوان ضعيف جبان رشه! كنت أظن أن زعمي الغيالن امحلر
س ينتقي األسد مثال؟"
229
فكرت يف أن هذا الرجل أمحق حامت! أيريد مين أن أعيش مع
أسد عام اكمل!!!!!
رددت عليه مراوغا:
"ال يقاس األمر عندان ببطش احليوان .والزعمي اكن يوما
تلميذا ،وأيخ من بين احليوان ال يعريين!"
أحل ،كعادته حيامن يسأل أس ئةل مسهة:
"وماذا تعلمت من األرنب!"
قلت متحامال عىل نفيس أن تصمد:
"ما أتعلمه هو يل ،ال أس تطيع أن آخذه من أحد ،أو أمنحه
ألحد".
فتح مفه ليمكل جلاجته ،وكنت قد وصلت لهناية صربي،
وأصابين الصداع من كرثة التفكري ،فلهأت للحل األسهل
إلخراسه! ورصخت فيه:
"ألن تنظر ملا بني يديك ،وتطهو لنا من حلم الظيب؟"
بدأ يف العمل ،فنجوت من أس ئلته وخرجت راحبا! إذ توىل
هو الصيد يف األايم التالية!
230
()20
231
لإلقلمي الغريب ،يدار مهنا ش ئونه وأحواهل ،سواء ما بني قراه
ومدنه ،أو ما يأيت من مملكة ابرق وقبائل الطارق يف غربنا.
لكن داء حب السلطان أىت بأوجاع الاقتتال ،وعفن الفوىض،
فمل يرتك شربا يف بالدان إال وحطمه .فضمرت امليناء ،وحل علهيا
الكساد ،بسبب اقتتال أمراء الغرب .ويقال إاهنا اكنت هبا أايم
ملعونة ،متزقت فهيا أحياؤها بني األمراء ،كام حدث مع العامصة.
لكهنم اجمتعوا معا ،واتفقوا عىل أال يقتتلوا ،وال ينازع أحدمه
اآلخر يف سلطانه ،وبفضل هذه احلمكة ،وقيادة كبريمه ابن عامر
العاقةل ،مع الهدوء الغرب لكه ،ابس تثناء مناوشات ،ومحالت
سلب واهنب ،ورصاعات بني الفالحني واألثرايء؛ لكهنا لكها ال
تساوي ربع ما حدث يف الوسط واجلنوب من مذاحب ومتزق ،أو
ثمن ما أصاب الشامل ،اذلي جهره أههل ،حىت حتول
ملستنقعات ،وابرت أراضيه.
مل أكن أعمل عمل اليقني ما شأن ابن عامر ،وهل س يحالف ابن
األساودة ،ويسعى لقتل الوريث ،أم يبقى عىل حاهل من احلياد،
وتأييد ما تكون فيه املصلحة ،بعد أن حيسم األمر.
لهذا تكمتت أخباري ،ومل أسع هل طلبا للمعونة .واس تغللت
بقايئ يف الثغر الكبري ،ل ي أتشمم األخبار ،وأعرف أحوال ابيق
األمراء.
232
اكنت أخبار مقتل أمري الزرقاء اإلفرجني قد أتهتم هنا ،ومعها
نبأ مقتل جركس ابن ابرم ديهل ،وذحب أمري اثلث يدعى
طاووس ،أرحج أنه اكن هذا الساخط املوتور ،اذلي قتل
األسود أههل.
وهكذا أمعنت يف الاختفاء ،حىت إنين أحمكت العباءة مغلقة
فوق درعي األمحر ونقش الغيالن اذلي عليه.
اكن لتميور هنا أصدقاء كثريون من التهار ،اذلين يرتددون
عىل ساوة ،يشرتون البذور ،أو يبيعون حصاد األرايض ،اليت
تزرع عىل الساحل مباء األمطار .فبتنا ليلتنا عند بعضهم ،واتفقوا
لنا مع بعض الصيادين ،ليحملوان ابلبحر إىل مف الهنر األول.
سألين تميور:
"ومل ال نبحث عن مركب تأخذان مبارشة إىل طرابل؟"
اكنت هذه فكرة طيبة ،لكهنا مس تحيةل .مفن يقومون برحةل
طويةل يف البحر ،يطلبون ماال كثريا ال أملكه ،كام أإين ال أعرف
الطريق جيدا ،وابلتايل قد خيدعوان بسهوةل ،ويلقوا بنا عىل أي
شاطئ .واألخطر ،هو أساطيل الفرجنة ،والصيادية ،والسور
العيل ،اليت تتحارب بيهنا .وفوق هذا لكه ،فنبأ سفر البعض من
الثغر الكبري إىل طرابل ،ستنقهل اآلذان اخلبيثة ،حامت ،للقائد
األسود ،ليس تقبلنا الهالك ما أن تطأ أقدامنا األرض!
233
اقتنع تميور حبدييث ،وجلس متربما ملوال عىل أرض املركب،
اليت تفوح براحئة السمك اخلانقة .لكن هذا هو أطيب سفر لنا
يف الشامل ،وما بعده س يكون أدىه وأمر.
أنزلنا الصياد الطيب عند مصب أول فروع الهنر (أو آخرها
للقادمني من الرشق) ،حيث تأيت دوما مراكب الصيد ،وقت
الفيضان ،جتمع الرسدين.
نزلنا عىل الشاطئ ،وتركت تميور يوما يراتح يف إحدى
اخلرائب ،ملا اكن ذات يوم قرية مزدهرة .حفامت علينا أن نراتح،
قبل بدأ املسرية الطينية السخيفة يف املستنقعات".
234
()21
235
أراد تميور أن نبحث عن طريق أكرث جفافا ،بعد أن تربم من
اجلرذان واحلرشات الالسعة ،لكين أرصرت عىل البقاء يف
أقىص الشامل ،منيش موازين للبحر إىل مف الهنر األخري ،عند
الثغر الصغري .واكن عبور هذا اجلزء من الهنر هو األخطر ،يف
ظين ،ألن عبور الهنر ،دون إذن حامك املدينة ،شديد الصعوبة
وهو -كام مسعت من أهايل الثغر الكبري -حامك ظامل ،خيطف
الناس ،ويبيعهم عبيدا .ويزمع البعض إنه حليف للفرجنةـ
وآخرون أنه من أتباع القائد األسود.
ولكن مل أشغل نفيس اآلن هبذا اهلم؟ طريقي آمن اآلن نعم،
لكنه شاق وطويل .علينا احلذر من األفاعي ،اليت حتت لك
جحر .حصيح إن أغلهبا ليس من ذوي السم اذلي يقتل -كام
تعلمت من عرشات الدلغات ،اليت رافقتين يف األايم اخلالية -
ولكن مب يفيدين هذا ،وأان ال أثق أي مهنا اليت أيقظتين من نويم
عىل لسعهتا؟
والفرئان يه اخلصم الثاين لنا يف الطريق! ال ترتك زادا وال
لباسا إال ودمرته ،ولها يف هذا أفانني جعيبة ،وطرق ال ختطر
عىل ابل البرش! رأيت بعض األذكياء يربطون زادمه يف حبل،
ويعلقونه عىل أغصان األجشار ،مفا رأوا يف اليوم التايل غري فتات
عىل األرض ،بعد أن الهتمت الفرئان الزاد ،والكيس حبباهل!
236
ذلا اكن علينا لك ليةل أن ننتقي أرضا جافة جرداء للمبيت ،وال
ينام أحدان ،إال والثاين مستيقظ حيرس الزاد والطعام.
رسان بضعة أايم عىل وترية واحدة ،فبدأ ذهين يفكر يف عبور
الثغر الصغري ،وفامي وراءه .وما وراءه هذا اكن ما يقلقين بشدة،
ألنين ال أعرفه أصال! ال أعمل أي طريق أختذ ،فمل أجتاوز يف
أسفاري مع وادلي الثغر الصغري أبدا ،منذ رحلت طفال عن
الزرقاء حنو العامصة.
وعلمت أن الفراغ هو عدو العزمية األول! فألنين ال أجد ما
أفعهل يف هذه املسرية الهادئة املزجعة اللزجة ،تناوبتين األفاكر
ويه مراتحة ،جتد للك مهنا الوقت الاكيف لتثبيط عزمييت.
حصيح إنين كنت أطردها من ذهين رسيعا ،لكن عقيل اكن
يعود لها ،وجيادلين بعد لك هذا الشوط الطويل .مفثال أقول
لنفيس "ما يل وما لهذا األمر؟ مل وضعت نفيس يف هذا الشأن
أصال؟ منذ مىت اكن لعوام الناس دور يف تدبري احلمك إال أوقات
الفنت والثورات؟ ألعد لقرييت ،وأللزم داري ،وأعيش يف سالم
دون متاعب .حىت من الموا أيب عىل فراره قدميا ،الموين عىل
ذهايب اليوم!
ال بأس ،سأحتمل القليل من السخرية ،وسأقيض بضعة أعوام
أسدد للش يخ غالب ما أنفقته ،وما ضاع من ماهل ،فهذا أهون
حامت من الس يوف الباترة ،والوحوش الاكرسة!
237
أاهنىي نفيس عن هذا التخاذل وأقول "أبعد لك هذا ترتاجع؟
أبعد أن يرس هللا كل ما مىض من صعاب ختنع يف اجلزء
األيرس؟ أبعد ماكبرتك وجمادلتك مع لك من عرفوا بأمرك؟"
فرتجع النفس األمارة ابلسوء لتقول "البالد ستسقط حامت،
مفاذا يف يد فرد عادي مثكل ليفعهل؟
فأعود لنفض األمر عن ذهين جاهدا ،فيبتعد ،لكنه مل ينف
لبعيد ،وإمنا اكتفى ابلتواري يف ماكن مظمل اكمنا يل!
كنا اآلن خنوض يف أعامق األحراش ،فتأهبنا للمبيت ،وأخذت
عىل عاتقي نوبة احلراسة األوىل والثانية ،ألنين أفضل تأخري
نويم ،آلخذه دفعة واحدة سهةل .وعىل أي حال ،فأمر احلراسة
هنا ليس خبطري؛ إن يه إال حفنة من فرئان وثعابني.
وكأمنا أحس تميور ابطمئناين ،فأىب إال أن يفسده! فأخذ يسيل
نفسه إىل أن يأتيه النوم بأن يقص عيل خماطر الفرئان ،ونبأ من
أصاهبم اجلنون وامحلى بعد أن عقرهتم!
لكنه أسدى يل خدمة ال بأس هبا ،ألن قلقي من الفرئان اليت
مسها اجلن ،وس تذيب عقيل -كام يزمع – ابمحلى ،قد أزاح من
ذهين وساوس العودة والرتاجع ،وإن مل يزحزح قلقي بشأن
جتاوز الثغر الصغري وما وراءه.
مث أدركت متأخرا أنين إمنا كنت أحسب مثن السمك من قبل
صيده! فاملتاعب أتت مبكرا جدا عن الثغر الصغري!
238
اس تقيظت يف الصباح ،ألجد حولنا رجاال شعثا غربا ،يرتدون
أسامال ابلية ،وميسكون بأغصان ميتة ،يتخذواهنا عصيا ،وقد
أطلقوا لشعورمه العنان ،وحلامه الزمام ،عيواهنم محمرة ،وأس نااهنم
مصفرة ،يلفون عىل أعناقهم عقودا طويةل من ودع وخرز
وحىص.
ظننت لوهةل أاهنم من أهل اجلان ،اذلين سكنوا ادلاير بعد
خراهبا من أهلها .مث أفقت من غفليت ،واهنضت مستندا عىل
س يفي ،وهتفت هبم:
"من أنمت وما شأنمك؟"
رد أحدمه:
"بل من أنمت وما شأنمك؟"
قلت:
"حنن مسافران إىل الرشق".
رد الرجل:
"سافروا من طريق آخر!"
قلت مرصا:
"ال يوجد طريق آمن آخر ،وحنن ال ننوي لمك أذى".
رد بغضب:
239
"حنن حتت حامية الش يخ ،فلن ينالنا أذامك! هذه أرض س يدان
الفويل ،وليس ألحد أن يطأها!"
مل أمسع من قبل بس يدان الفويل هذا ،لكين كمتت دهش يت،
وقلت هماودا:
"نريد مقابةل س يدان الفويل".
قال:
"لن يدخل أحدا أرضه إال بإذنه!"
قلت:
"نريد أن نأخذ إذنه".
هز رأسه املغربة وهو يقول:
"مات موالان منذ س نوات أاها اجلاحد! لكن إن ظهرت هل
كرامة لمك ،مسحنا لمك ابلعبور!"
نظرت حنوه بغباء ،ال أاكد أفهم ،مث قلت:
"إذا مفا حدود أرض س يدان الفويل لندور حولها؟"
قال اخلبيث:
"يه لك ما حول الرضحي من األرض ،بني البحر ،ومدينة
دلها".
240
تبا هل! إاهنم ال يرتكون لنا خيارا ،فدلها وما دواهنا خاضعة ألمر
األسود ،وهبا حامية قلقة ،تيسء للمسافرين ،خش ية أن يندس
بيهنم غادر .والساحل يف هذه املنطقة خطري موحل ،ال يصلح
للسري فيه.
مل أكن أريد ،انهيك عن الاس تطاعة ،أن أشق طريقي قتاال
بني لك هؤالء .فمل أمكل سوى الانتظار حىت يظهر يل أمر
جديد ،أو أعود من حيث أتيت .وعسكران قرب أولئك
ادلراويش أس بوعا ،ال نزتحزح فيه قيد أمنةل ،وال اهزت عنادمه
مبثقال خردةل!
اكنت أعدادمه كبرية ،رمبا بضع مئات من اجملاذيب .ورمغ غالظة
مظهرمه ،وقذارة ملبسهم ،إال أاهنم اكنوا طيبني ودودين معنا يف
احلديث ،وأمدوان ابملاء العذب والطعام دون مقابل ،ألننا
(ضيوف الش يخ) ،دون أن يسمحوا لنا بزايرة هذا املضيف!
وعلمت مهنم أاهنم جامعة من ادلراويش ،اذلين تبعوا الوريث
الكذاب مع بعض من اكنوا يعيشون يف اخلالء ،جتمعوا حول
صومعة ملتصوف امسه الفويل ،وأصبحوا جماذيبه حىت مات.
وبعدها أىت ثالثة رجال ،زمعوا أاهنم خلفائه .مهنم رجل يسمى أاب
برق ،وقد عرفت رجال هبذا الامس بني أتباع الوريث ،اكن
منافقا مكروها ،واكن وادلي يرى أنه جشع ،أاتان حبثا عن املال،
رمغ إنه أضعف من الارتزاق ،فال نفع منه يف حرب ،وال جخل
منه يف طلب املال!
241
ويبدو أن أاب برق عرث عىل اثنني من األفاقني ،ساعداه عىل
تويل أمر أولئك اجملاذيب ابألاكذيب! فبنوا رضحيا ،وغرروا
ابملساكني ،ليبسطوا ألنفسهم سلطاان عىل بقعة من األرض،
حىت لو اكنت خرائب!
لكن الثالثة (اخللفاء) ماتوا بعد وقت قصري ،وكام يزمع القوم:
بعد أن عقرمه فأر ،فأصيبوا ابمحلى! يبدو أن هناك الكثريون
ممن يسمعون ملثل أحاديث تميور املفزعة! لن آمن لفأر بعد
اليوم!
ولكن األثر اخلبيث لألفاقني مازال ابقيا ،وهل يه األرض
وعيل أن أعرث عىل كرامة ما ،ليسمحعلينا حمرمة إتباعا لبدعهتم! ّ
يل جماذيب الفويل ابلعبور.
ظللنا يف معسكران هذا ال نغادره إال للسمر مع حرس
ادلراويش ،لنأخذ مهنم املؤن ،وجنادهلم دون جدوى ،ونتبادل
احلاكايت واألخبار ،فأقص علهيم ما حدث يف أمر البالد ،اليت
جهروها منذ زمن بعيد ،وخيربونين بأمر هذه األرض اخلربة،
واملواضع اليت أحذرها ،لكرثة الس باع أو الامتس يح فهيا .وقد
اصطدت معهم ،مبعونة تميور ،متساحا كبريا ،اكن يلهتم ادلجاج
اذلي يربيه ادلراويش ،وجلس نا معهم نشق محله القايس،
لنسلخه ،مث تركوا يل اجلدل اكمال ،زاهدين يف مثنه ،أو أجرهتم!
242
فهو يف نظرمه زينة ال تليق هبم .وتركته بدوري لتميور ،فهو
التاجر اآليت من ساوة ،وس يعرف كيف يبيعه يف ماكن ما!
وأخذت أس نان المتساح ،فعاجلهتا ،وثقبهتا ،وهذبهتا ألصنع مهنا
مس بحة ،ألطف شالك من تكل الغليظة ،اليت يضعها اجملاذيب
عىل صدورمه من احلطب واحلجر والودع ،وأهديهتا ألحدمه،
علها تذيب شيئا من سد الطريق ،وأخذت أجادهلم وأحذرمه
من خطر القائد األسود ،وحلفائه الفرجنة واألهبال ،اذلين
يطمعون يف امتالك الثغور ،مقابل مساعدته ،وال يقف أماهمم
سوى الوريث ،وال يقف بيين وبني الوريث سوامه!
لكن اجملاذيب مغيبون يف عامل آخر ،ال يرون مما حيدث حوهلم
ويل صاحل سينقذمه! وما أظن شيئا ،وال يفهمون إال أن الفويل ّ
الفويل جهر العمران إىل األحراش إال هراب من أمثال تكل العقول
املغلقة!
اكنوا ال يسأمون من جدايل معهم ،ألاهنم ال يعريون جحجي
التفاات ،وال حترك لكاميت عقوهلم ،إال كام حيرك الرحي اجلبل! حىت
بدأ السأم يصيبين أان ،وأدركت أن الاستسالم والعودة للسالمة
هو اخليار الوحيد للعاقلني.
لكن أثناء اجلدال ،أفزعين سؤال .هل أان خري من جماذيب
الفويل؟ مه يدفنون عقوهلم ،واهربون من عاملنا القايس إىل
روحانيات أرضحة األولياء ،بيامن أان أراود نفيس يف العودة ساملا
243
دلاري ..ءأفلست مثلهم؟ أغيب عقيل ،وأخسر رويح ،إلرضاء
مه بطين ،وأمن جسدي؟ عىل األقل مه يسعون لروح ابقية،
ولو أخطئوا طريقها ،وأان ال أسعى إال لسالمة جسد فان ،وإن
أصبت الطريق.
هنا اكنت حلظة حامسة ،قطعت دابر أفاكري اخلانعة ،وأعادت
لعزمييت إخالصها ،وأوقدت انر احلرب ضد األسود يف قليب.
استيقظ يف قليب اآلن جزء صغري أماته موت أيب .اجلزء
الوحيد اذلي اكن يفهم مل ذهب أيب لقتال مع الوريث ،وملاذا
قتهل المكد حيامن عمل بكذبه ،رمغ إدراكه أن الهزمية قد حلت علينا
من قبلها .ورمغ أن ابيق أجزاء صدري اكنت ال تفهم غري تأييده
يف الفرار من القرية ومن الزرقاء وقت اخلطر!
هكذا أخريا خلصت نييت يف رحليت ،وحيامن ختلص النية ،تأيت
النهدة!
ال أدري كيف أاتين اإللهام لزتوير كرامة للفويل! كنا نتجول
حول جمرى صغري ،يبدو أنه اكن ذات يوم قناة للري ،فإذا يب
أجد عىل جانبه بعض البيض الكبري املدفون يف الطني ،ففرحت
به وأرسعت حنوه مس تبرشا ،لكن تميور أوقفين بقوهل:
"دعك من هذا ،فهو ليس بيض طيور ،بل بيض متاس يح!"
"ماذا؟"
244
"بيض متاس يح!"
نظرت هل مستنكرا ،وقلت:
"بيض متاس يح! مل أمسع مبثل هذه األجعوبة من قبل! وما أدراك
أنت؟"
قال":رأيته من قبل ،ففي أوقات اجلفاف ،نذهب حنن أهل
ساوة يف قوافل كبرية ،نشرتي الغالل والتقاوي من اجلنوب
وأقىص اجلنوب .وهناك تكرث الامتس يح عىل ضفاف الهنر ،وقد
رأيت بيضها ،وأخربين عنه أهل البالد .الامتس يح هناك كبرية
جدا ،ورشسة ،وأعدادها أكرث من هنا بكثري .ففي اجلنوب
موطهنا ،ومن ضفافه منبعها .وإن اكنت هنا أكرث بكثري من
العامصة وما وراءها ،ال أدري كيف".
قلت مخمنا:
"رمبا لكرثة الوحل ،وقةل البرش".
مث قفزت ذلهين تكل الكرامة الفريدة! فقصدت اجملاذيب بعد
صالة الفجر ،وقلت إلماهمم بصوت يسمعه امجليع
"قد جاءين الش يخ الفويل يف املنام ،وأخربين إنه غاضب
عليمك ،وأنمك جيب أن ترتكوين أعرب".
نظر يل مستنكرا ،وقال:
"إن كنت قد رأيته حقا ،فصفه لنا!"
245
مل يفاجئين سؤاهل ،إذ كنت أعددت هل العدة ،فقلت:
"قد اكن يف وهجه نور ساطع ،ويرتدي الثياب اخلرض
اإلس تربق! وبني حاجبيه نور ،ويف عينيه صفاء ،ويف وهجه نعمي
اجلنة!"
قال أحد اجملاذيب:
"هللا أكرب!"
نظر يل اإلمام بغيظ ،بيامن التف حويل البقية مصدقني ،رمغ
إنين مل أذكر هلم صفة واحدة تعرف!
ابدرت ابلالكم:
"قد أخربين إن الصدأ عال قلوبمك ،وأنمك لن تصدقوين ،ذلا
فس ميسخ هللا طعاممك ،مث رشابمك ،مث ميسخمك أنفسمك ،إن مل
ختلوا بيين وبني درب اجلهاد ،إلصالح سبيل املسلمني!"
نظر يل اإلمام بغضب جامح ،ورصخ:
"أعىل قلوبنا حنن الصدأ أاها الفاسق؟ وماذا تعين مبسخ
طعامنا؟"
بدا يل أن أول بذرة حليليت قد منت ،فالغضب يف سؤاهل األول
مل خيف القلق يف سؤاهل الثاين!
هززت كتفي حائرا ،وقلت:
246
"ال أدري! هذا هو ما قاهل يل ،وقد جئت أخربك به ،ألرحي
مضريي ،وأنفذ وصيته".
نظر يل متأمال ،كأمنا حياول رؤية ما بصدري ،مث يأس ،فقال:
"إ ًذا ،فاذهب اآلن ،وسننظر يف أمرك".
تركته ،وأخذت تميور معي ،فسألين مبهتها:
"أحقا جاءك س يدان الفويل ،وس ميسخ اجملاذيب؟"
قلت هل:
"ال تكن أمحقا اي غالم! األولياء ال يرضون وال ينفعون بعد
مماهتم ،وليس هلم إال ادلعوة الصاحلة يف حياهتم .ربك وحده هو
الضار النافع".
هز كتفيه وقال:
"إمنا نتربك هبم".
قلت بغضب:
"اخلطوة األوىل عىل سبيل قوم نوح .أما قرأت يف كتاب هللا
تعاىل (ما نعبدمه إال ليقربوان إىل هللا زلفى)؟"
قال تميور:
"إ ًذا فمل قلت هذا للرجل؟"
أرشت هل ليرسع خلفي ،وقلت:
247
"اتبعين يف مصت".
ويف الصباح التايل ،اكن ادلراويش قلقون ،يهتامسون إذا
رأوين ،والحظت أن البيض قد اختفى من طعاهمم ،اذلي
يضيفوننا عليه.
ولثالثة أايم متتالية ،ظل ادلراويش يصدمون ،لكام أرادوا مجع
البيض من حظائرمه .ورسعان ما علمت أاهنم جيدونه مليئا ابدلم
حيوي أشاكال كراهة ،فيلقونه فزعني.
لكهنم مل يزتحزحوا عن عنادمه ،وظننت أن الفشل آت
خلطيت ،ما مل أجد الطريقة ملسخ رشاهبم.
لكن يف الهنار الرابع ،مسعت رصاخا واستنهادا ،فهنضت
مفزوعا ومعي تميور ،ألجد أحدمه قد أمسكت به الامتس يح عند
حظرية ادلجاج.
اكن متساحا هموال ،مل أر يف حيايت مثيهل ،يقبض بأس نان من
حديد عىل ذراع أحد ادلراويش ،وجيرره جرا ،بيامن اجملاذيب
يرصخون ،واهوون بعصهيم عىل الوحش دون جدوى.
هويت برحمي عىل عنق المتساح ،فأفلت ذراع املسكني،
والتفت حنوي بعينني صفراوتني حتنان لدلم .اكن جدله القوي قد
أمّنه من الرضبة األول،ى فدفعت ابلثانية يف مفه الفاغر ،لينبثق
منه ادلم الغزير ،فقبض عىل الرمح بأس نانه ،مل أس تطع نزعه
مهنا ،وهوى بذيهل حنوي ،فتفاديته ،وأخرجت س يفي وجال،
248
أحتاىش هذا الوحش املريع ،وهتفت بتميور أن خيرج اجلرحي
بعيدا عن هنا.
نظرت متحفزا للمتساح ،فوجدت خلفه متاس يح أخرى ،متأل
حظرية ادلجاج ،وإن اكنت حلسن احلظ أصغر جحام .فرتاجعت
ببطء ،والوحش يتبعين ،وقد أثقهل الرمح املغروس يف فكه ،مث
قفزت عليه مرة واحدة ،وهويت ابلس يف بأقىص قويت عىل
رأسه ،لكن الرضبة بدت دون أثر يذكر .ورد عيل بلطمة من
ذيهل ،أوقعتين ،وأسالت ادلم من رأيس ،وأحسست بعينه
تنظر يل يف شهوة املنترص ،فأصابين الفزع ،ودفعت بس يفي دفع
اليائس ،فأصاب عنقه.
ويبدو أن الرضبة اكنت يف موضع رضبة أخرى جشت جدله،
فغرس الس يف يف جسده ،ودفعته بإرصار يف اللحم القايس
حىت املقبض ،مث أخرجته ملطخا ابدلماء ،مبتعدا عن انتفاضة
اجلرحي ،اذلي رسعان ما مهد إىل األبد.
اهنضت مرسعا بس يفي ،فشطرت متساحا صغريا إىل نصفني،
ورسعان ما أىت تميور وابيق ادلراويش ،حيملون الفئوس،
وميزقون أرساب الامتس يح حىت لكت أيدينا ،وسالت ادلماء،
فصبغت الربكة اليت يرشبون مهنا ابللون األمحر.
وعدت جلثة المتساح العمالق ،فزنعت رحمي منه بصعوبة،
ورفعته حنو السامء ،أرقب ما أصابه من رضر يف ضوء الشمس.
249
والتفت ،فوجدت ادلراويش ينظرون يل بإجالل ورهبة ،مث
اندفعوا حنوي معتذرين عام سلف ،ويشكرونين عىل إنقاذ
زميلهم .شكر مل أشعر أنين أس تحقه ،فأان السبب فامي أصاب
الرجل .ومغرين الندم ،لو فقد هذا ادلرويش ذراعه ،فإمنا حدث
هذا ألنين كنت أختلس بيض الامتس يح ،وأبدل به بيض ادلجاج
أثناء الليل ،وأتت أم الوحوش تبحث عن أبناهئا اذلين رسقهتم.
لكين حيامن ذهبت للجرحي اطمأننت .وتوليت بنفيس غسل
اجلرح ،وتنظيفه ،ومعاجلته .مل أفقد بعد ما تعلمته وأان صغري عىل
يد طبيب حاذق ،اكن معنا مع الهاربني من الزرقاء ،وقد اختذين
مساعدا ،ألنين أصغر املوجودين وأخفهم يدا .رمح هللا الطبيب
ابن جلجمة ،فقد تعلمت منه عالج اجلروح ،فعاجلت جرح
ذنيب ،وأدركت أن الرجل لن يفقد ذراعه بإذن هللا ،وأنه مازال
يس تطيع حتريكها عىل خري.
وبقيت طوال األس بوع التايل أرعى الرجل اجلرحي ،وامسه
مغبون ابن مظلوم .ال أدري أهل نصيب من امسه ،أم مه لقبوه
هبذا بسبب حظه! وبعد أن زال اخلطر ،ومل تدمهه امحلى ،وبدأ
يشفى بأمر هللا الشايف ،مسح يل اجملاذيب بعبور أرضهم ،عىل
أن أزور رضحي س يدان الفويل واس تعطفه ،أال ميسخوا كام مسخ
الطعام واملاء!
250
وزرت الرضحي ،وقرأت هل الفاحتة .أحسست هناك أنين
ابلفعل يف ماكن مربوك ،جوار رجل صاحل بريء مما حوهل من
بدع منكرة .فدعوت هللا أن يوفقين يف أمري ،ويوفق اجملاذيب
للهدى.
ومشيت يف أمان ،عابرا أرض جماذيب الفويل ،ومعنا مهنم
واحد يلكم بقية جامعاهتم ،ليرتكوان منر ،وهو خيربمه بكرامة
الش يخ اجلديدة.
وقبل أن أغادر آخر أرضهم ،قلت دللييل:
"الش يخ الفويل غاضب حقا عليمك .هو يرى ،وأظنه احلق،
أنمك قدمستوه أكرث من الالزم ،وهللا وحده هو القدوس .وإن
هذا لزيلقمك إىل الرشك ،وقد اكن هذا ما خيشاه منمك يف حياته،
فقد أوقعمتوه بعد مماته ،فاتقوا طريق قوم نوح".
تركين الرجل دامع العينني ،مصدقا ملقوليت ،ورآها كرامة
أخرى! إذ كيف علمت أن الش يخ الفويل اكن خيشامه ويهنرمه يف
حياته؟
وتركت أولئك القوم الطيبني املساكني ،ومضيت يف طريقي حنو
الثغر الصغري ،ال أدري ما يصيبين فيه ،وهو كأرض الفويل ال
همرب منه ،بل أشد ،ألن ال عبور لفرع الهنر األخري ،إال
جبرسمه اذلي يقف عليه حرس حامكهم الظامل.
251
()22
ال أدري ،لعلها براكت الش يخ الفويل قد حلت علينا فعال! فقد
اكن أمران سهال .عربان من أرضه ،وما وراءها بيرس ،وعربان
فروع الهنر دون مشقة ،حىت أتينا للفرع الرشيق األخري ،أكرثمه
غزارة ومعقا ،وأصعهبم يف العبور إال جبرس كبري ،بناه أهل الثغر
الصغري ،ألجل جتارهتم مع أهل الشامل .وألنه يؤدي لقلب
مدينهتم مبارشة ،فقد اكن احلرس املشدد عليه ال ينام.
لكن لعلها كام قلت ،براكت س يدان الفويل .فقد وجدت اجلرس
خاليا ،ال حارس عليه ،وال عابر فوقه!
اكن يبدو ،هو وغرفة احلرس ،همملني ،يعلومه الرتاب والعفن.
رمبا بعدما جهرت األرايض غرب املدينة ،ترك الناس اجلرس ،بعد
أن أصبح بال نفع!
ودخلنا للمدينة بسهوةل ويرس ،واشرتينا راحةل من سوقها،
دون إزعاج ،وأتينا ابلزاد والزواد ،وتوهجنا لبوابة املدينة
اجلنوبية ،نبغي اخلروج مطمئنني.
252
وهنا انهتت آخر أايم السالمة يف رحلتنا ،وبدأت متاعبنا
األكرث خشونة.
قبض علينا حراس الوايل ،وحنن عىل البوابة ،واقتادوان بغلظة
هل.
اكن الوايل رجال مسينا جدا ،يبلغ من معره األربعني تقريبا،
وخيفي نصف وهجه أسفل عاممة خضمة من احلرير ،مزينة بريش
كبري ،ال أدهش إن اكن ريش النعام! ويتدىل مهنا عقود لؤلؤ ،يف
مجهرة للبذخ والتفاخر ،تؤذي العني ولذلوق السلمي .وأما نصف
وهجه الثاين ،فقد اختبأ خلف شارب عظمي ،مل أر يف حيايت هل
مثيال ،وهو ال ينفك يربمه وميسحه ،بعد لك لكمة يقولها.
اكن جيلس فوق عرش عال جدا ،حىت لو أن أحدمه دفعه من
أعاله ،لسقط ميتا .فاكن علينا ،وقد ألصقوان بأسفل العرش
راكعني ،أن نرفع رقبتينا عالية ،لننظر هل ،حىت أصاب األمل
عنقينا .وال أدري مل لك هذا الكرب يف نفسه!
تلكم بلسان معوج ،نصف أجعمي ،متعرث يف حبات التني ،اليت
يلقهيا يف مفه الكبرين كام نلقي حنن حبات الزبيب يف أفواهنا ،فمل
أفهم منه لكمة واحدة! لكن رجاهل ردوا عليه بقوهلم:
"قبضنا علهيم عند الباب اجلنويب ،يريدون اخلروج ،وقد
اعرتفوا أاهنم غرابء عن املدينة ،ومل جند معهم أوراق دخولها،
فعلمنا أاهنم متسللون".
253
سأل الوايل سؤالا آخر ،مل أفهمه ،فأجاب رجهل:
"اكن معهام راحةل ،وطعاما يكفي ملسافة بعيدة ،فشككنا يف
أمرهام ،لعلهام جاسوسني".
تلكم الوايل مرة أخرى ،بطريقته املتغطرسة املتعرثة املقيتة
،واحتاج األمر مين هجدا ،ل ي أفهم أنه حيدثنا حنن ،وأنه عىل
األرحج يسألنا من حنن ،وإىل أين نذهب.
وقبل أن أفك طالمس الفم الغليظ ،تدخل مف خميف آخر! مف
ثراثر خفيف العقل! فيبدو أن احلرس أدركوا أننا لن نفهم مقاةل
الوايل ،وألن تميور اكن متأخرا خلفي ،فقد مهس احلرس هل
بتفسري سؤال الوايل ،فأرسع جييب حبامقة قبيل.
قال تميور:
"أان تميور الساوايت .من آل العالف يف ساوة ،وحنن أنس باء
املكل".
أردت الالتفات هل ،ألخرسه؛ لكن أحد احلرس لطمين ،ألعود
لرفع رأيس حنو الوايل ،وأمكل األمحق:
"وهذا هو القبيل ،زعمي الغيالن امحلر ،وحنن ذاهبان إىل
طرابل لـــ"...........
مل يمكل ألن يدي هوت عىل ركبته ألخرسه .ولكن بعد أن
وقعت الواقعة!
254
ابلطبع صادروا أموالنا ،وأسلحتنا ،واقتادوان للسجن .فالوايل
ممن يراءون القائد األسود ،وقد أتته كام أفهمنا حرسه أنباء الوفود
اذلاهبة للوريث ،فأدرك بفضل حامقة تميور ،اذلي قال إنه من
أنس باء املكل ،أننا وفد مثلهم ،لكن معاد لألسود!
اكن السجن يف أسفل القرص مظلام كئيبا واسعا ،لكهنم ألقوا
فيه بلك السجناء معا ،فضاق هبم .وما أن دخلناه ،حىت التف
حولنا ثالثة رجال خضام اجلثة!
قال هذا اذلي عىل مييين:
"من أنمت؟"
أما اذلي عىل يسار تميور فقال:
"ما اذلي ألقى بمك هنا؟"
وأتبعه الثالث من أمامنا:
"يبدو أاهنم خرس بمك!"
وهنا ابغتنا الرابع من خلفنا بصوت أجش:
"مه خدم جديد ملكل السجن ،وسيبدءون بدفع التقدمة
اآلن!"
255
()23
هوى أحد الرجال األربعة عىل كتف تميور ،كأمنا يصاحفه ،لكن
يده هوت ،وهوت بتميور ذاته معها! وبدت ابتسامة خبيثة عىل
وجوه الرجال األربعة ،وامتأل عقيل برعب الفهم! س يفتتحون
ليلتنا برضبنا ،وحتطمي ضلوعنا كتقدمة لزعمي الزنزانة .ويف هذه
اللحظة ،ضاع مين أي أثر للغيالن ،وامحلر ،واألسود ،والقتال!
ال أحب أن أرضب؛ وإن وجدت نفيس دون سالح ،حماطا
بأربعة عامليق ،فسأفعل لك ما يطلبونه مين دون تردد!
لكن النهدة أتت من حيث ال حنتسب ،فأحد احلرس ابخلارج
هتف:
"اي لكثوم دعهم ،فهذا من الغيالن امحلر".
جتمدت الزنزانة لكها ،قبل أن يهنض لك من فهيا ،وينظر
حنوان ،كأمنا يرون أجعوبة من أعاجيب ادلهر .أاكد أزمع أن قوم
مثود ما نظروا بأجعب من هذا إىل انقة صاحل!
256
حنن هنا يف الرشق ويف شامهل حتديدا ،حيث للغيالن ذكرى
قوية .فهنا نش ئوا وتسلطنوا ،واكنت تكل املدينة أول املدن
الكبرية خضوعا هلم ،وأول من ذاقت طعم خطف األبناء عىل يد
الغيالن .ذلا فقد اكن للقيب رهبة يف النفوس ،مل أجدها يف أي
إقلمي آخر .حىت يف اجلنوب الرشيق اجملاور هلم ،نزع األساودة
الكثري من ذكرى الغيالن امحلر.
وتكل اذلكرى املرهبة يه ما أنقذتنا تكل الليةل ،كام أخربين
الشاطر عدانن.
اكن هذا اللكثوم هو العمالق ،اذلي أىت من خلفنا .اكن خضام
جدا ،حىت إن جحمه مياثل الثالثة اآلخرين جممتعني! ويظهر عىل
وهجه حملات ذاكء ،عىل األقل تفوق رجاهل.
أجلس نا لكثوم معه ،وأفرد لنا ماكان مرحيا ،تفوح منه راحئة نتنة
وسألين:
"أنت من الغيالن امحلر حقا؟ ظننهتم ابدوا؟"
أجبته مبثل جوايب لش يخ بين األسود:
"لقد عدان".
نظر حنوي بفضول وقال:
"قد قتل جدي عىل يد الغيالن حيامن اختطفوا أيخ األكرب،
وقد قتل هو اآلخر يف حروهبم ،اليت ال انقة لنا فهيا وال مجل".
257
ابتلعت ريقي بصعوبة حماوال الامتسك .لو اكن اكرها للغيالن،
فأن خيشاان أفضل من أن يأمن لنا.
قلت حموال احلديث انحيته:
"ظننتك أصغر س نا من هذا؟"
قال بفخر:
"أان من أرسة معمرة ،كام إنين ودلت بعد هذا األمر بعقود،
أقول كل احلق ،إنين أكره الغيالن امحلر ،وأقولها رصاحة بال
خش ية .لكن هؤالء رجايل ،أكره أن أدخلهم عدا ًء ال داع هل".
تذكرت قوال قرأته يف كتاب الشهاعة ،اذلي اكن تسلييت
الوحيدة أثناء انتظاران عىل بوابة الفويل:
"الغول األمحر احلق ،ليس اذلي يتبع الغيالن ،وإمنا اذلي ال
اهاب حىت الغيالن".
قال متربما:
"ما هذا الهراء؟"
قلت:
"قانوننا السابع والثالثني".
فتح عينيه بدهشة ،وقال:
258
"إ ًذأ فأنت غول أمحر حقا! سأرى ما يقوهل الشاطر يف أمرك.
ما كنت ألقطع يف هذا الشأن دونه".
مل أفهم ،ومل أسأل ،فاليوم ظهرت يل حكومة أخرى ،تس يطر
عىل قاع املدينة وجسهنا ،بقبضة أقوى من قبضة الوايل الظامل
عىل بقيهتا .وظهر أن هؤالء الصعاليك واحلرافيش ،يأمترون بأمر
واحد ،وفوجئت مفاجأة مل ترسين ،إن هذا اللكثوم الغليظ ليس
سوى بلطجي أقوى من غريه ،يبسط نفوذه عىل السجن وإمنا
هو اتبع لزعمي آخر ،هذا اذلي يلقبه ابلشاطر ،وال أدري ،إن
اكن هذا هو التابع ،فأىن يل بلقاء املتبوع؟
عند الفجر أيقظنا لكثوم ،وأخذان لباب الزنزانة ،فسألته:
"ماذا تريد اي لكثوم؟ ثأر جدك؟"
حضك اكشفا أس نانه املسودة ،وقال:
"الك! إمنا سأخرجكام من هنا".
قلت بلهفة:
"ماذا؟ كيف؟ دلنا عىل الطريق".
قال:
"أخربين أوال ماذا تريد الغيالن من هذه البدل؟"
259
فتح تميور مفه ،ليلقي باكرثة أخرى عىل األرحج ،لوال أن
س بقته بقويل:
"ال يشء .فقط كنا ذاهبني إىل طرابل ،لزايرة أقارب هذا
الشاب".
نظر يل بسخرية ،وقال:
"أهو من الغيالن؟ طبعا ال! إ ًذا مل تصحبه؟"
قلت برصامة:
"هذا شأن من ش ئون الغيالن".
النت مالحمه جفأة ،وقال هماودا:
"حس نا ،حس نا! أخربين الشاطر إنكام ذاهبان الس تدعاء
املكل حلرب كبرية مع بين األسود! واألمر يقلق الوايل كثريا،
ولعهل يفكر يف قتلكام .لكن الشاطر يريدكام هو اآلخر ،ألنه ينقم
عليكام إضاعتكام لوس يةل! وملا اكن األمر كذكل ،فقد أخربين قائد
احلرس أن نرحيه منكام ،ونرحيكام منه ،فهو يكره أن يكون هل ثأر
مع الغيالن إن قتلمتتا هنا ،وال يأمن بقاءكام معنا ،ذلا حفني
نذهب الس تعادة وس يةل ،فس يغفل عنكام احلرس".
مل أفهم شيئا مما قال! اكن يتلكم ببساطة عن أش ياء ال أعرفها،
وأحداث ال يقبلها العقل! من يه وس يةل؟ وكيف أضعناها؟
260
وكيف حيادثه قائد احلرس هبذه البساطة عن هروبنا؟ ومن هو
الشاطر أصال ،وكيف عرف مبقصدان؟
لكن مل يكن هناك الكثري مما أحتاج لفهمه ،فقد أتتين رضبة
عىل رأيس ،وألقوا كيسا عىل وهجىي ،وحسبوين وتميور للخارج
اكجلوالني!
ظنوا أين فقدت الرشد ،وساعدهتم عىل ذكل ،ألنه ال حاجة
يل لرضبة مؤملة أخرى! وانتهبت لسامع ما حيدث حويل،
فوجدت أصواات زاعقة ،وصليل س يوف ،وهتاف إن الغول
خطف س يفا ،وهامج احلرس بيامن الغول يف احلقيقة ملقى عىل
عربة كراهة الراحئة ،ظننهتا يف البداية حتمل القاممة ،مث عرفت
فهيا الطعام اذلي يقدم للمساجني! وبرسعة الربق ،كنا مجيعا
خارج القرص!
أاهنضوين ،وافاقوين جبهد (فقد أجدت المتثيل ،علهيم دلرجة أن
ألقوا عيل بوعائني من ماء قذر!) ففتحت عيين أخريا ،أرقب ما
حويل ،فوجدت رجال مألوف املظهر ،ال أذكر أين رأيته من
قبل.
مث نظرت حويل ،ألجد تميور مثيل ،وجواره لكثوم يفيقه،
ونظرت لعربة الطعام ،فرأيت ادلابة اليت جترها ،فعرفهتا وتذكرت
من هذا الواقف أمايم!
ابتسم يل ،وسألين بلههة ودودة:
261
"كيف حاكل أاها الغول اهلامم؟ كام ترى فقد أصلحنا ذنبك،
واس تعدان وس يةل!"
نظرت هل حماوال الفهم ،وقلت:
"وس يةل؟ أيه ادلابة اليت اشرتيهتا منك ابألمس؟"
عقد حاجبيه وقال:
"ال تقل عىل وس يةل دابة! إمنا يه أفضل دابة يف العامل ،أبيعها
يف الصباح لساذج مثكل ،فتعود يل يف املساء محمةل مبتاعه
وأمواهل! ذلا فهىي مثينة جدا عندي ،وال أقوى عىل فراقها!"
نظرت إليه متعجبا ،فمل أمسع يف حيايت مبثل هذه احليةل ،عىل
كرثة ما مسعت من طرائف احملتالني والشطار.
سألته:
"أنت هو الشاطر أليس كذكل؟"
قال:
"حمسوبك الشهبندر عدانن ،كبري جتار سوق ادلواب ابلثغر
صباحا ،والشاطر عدانن املكل املسايئ للمدينة!"
قلت:
"عىل لك أشكرك إلنقاذان".
قال:
262
"حس نا ما أن أخربين لكثوم – آه! – تذكرت! اي لكثوم ،جيب
عليك أن تعود للسجن قبل طعام الغذاء! ماذا كنت أقول؟
حس نا! ما أن أخربين لكثوم بوجود غول أمحر يف زنزانته ،حىت
معيل
ابهتجت! ليس ألن أجدادي اكنوا مهنم كام ظن ،فأان رجل ّ
يرتك األموات يف قبورها ،وال ينازعها يف أجمادها! وإمنا ألنه
س تلصق بك هتمة اقتحام القرص ،ورسقته ،بدال من رجايل
حيامن ،نذهب الس تعادة وس يةل! ولوال هذا ،لقام الوايل مبصادرة
لك نياق السوق ثأرا!"
قلت بغضب:
"هذا الوايل الظامل .حامت سأراه هالاك ،حيامن تنهتىي احلروب من
البالد".
قال الشاطر عدانن:
"تنهتىي احلروب! ألها اهناية! عىل أي حال ال أظن أن هذا
س يحدث ،ألنه سينحين للحامك اجلديد ،بنفس امحلاسة
واإلخالص ،اللتان ينحين هبام لفرق الفرجنة اخملتلفة ،وسادات
األهبال! ويداهنه كام يداهن ملوك الصيادية ،والسور العيل،
وقبائل األسود! لك حامك قوي حيتاج لبعض من ينحنون هل،
والوايل جييد هذا بشدة!"
قلت:
"رائع! تضيف هل هتميت النفاق واخليانة!"
263
هز رأسه نفيا ،وقال:
"عزيزي ،أان مدين لهذا احلامك بثالثة خصال .األوىل ،إن يف
عهده السعيد ،أصبحت أان اللص احلقري ،زعامي مطاعا يف
املدينة ،وبفضل املال يتلقى قائد احلرس أوامري ،قبل أوامره
أحياان! والثانية ،إنه بإحنناءه للك من حولنا من طغاة ،أنقذ
املدينة من ادلمار واخلراب ،ولو أىت حامك آخر ميكل ذرة من
كرامة لهذه املدينة ،لتسبب يف هدهما عىل رؤوس نا! متاما كام
حدث لغريان من املدن .والثالثة ،إنه ال حيب القتل ،ولعكل أنت
نفسك مدين هل هبذه! ومك من مرة أمسك فهيا بلكثوم ،فمل يؤذه
إذا ما اتفقنا إن السجن املل ي ،اذلي يعيش فيه ،أفضل بكثري
من اجلحر اذلي ودل فيه!"
كنت أمسع هل بنصف أذن ،ألن عقيل مشغول مبصريي مع هذا
الشاطر .كنت أرحج أنه لن يقتلنا ،ولكين أشك يف أنه س يرتكنا
نرحل هبدوء ،ورمبا اكن خري ما أفعهل هو أن أتشبث بزي
الغيالن امحلر ،لعل احلنني ألسالفه ينفعين.
ومضت علينا أايم عدة يف (ضيافة) الشاطر عدانن ،حىت
أدركت أنه ينتظر منا مثن إاهناء هذه الضيافة ،وهو أمر صعب
،بعدما فقدت املال والسالح ،ومل يبق يل إال هذا ادلرع
السخيف اذلي أوقعين يف لك هذه املصائب! وخشيت أن
264
ينتظر المثن من خصومنا ،وصارحت تميور هبذا األمر ،فأظهر
يل الفىت أول حملة ذاكء منذ رافقين يف الرحةل!
ذهب إىل الشاطر ،وأخربه أنه يريد اذلهاب للسوق ،للبحث
عن بعض أهل ساوة ،يقرتض مهنم ماال ياكفئه به عىل حسن
ضيافته .ودوما يف السوق جتد رجال من أهل ساوة ،أو ممن
يرتددون علهيم ،فتهارهتم قد تتسع أحياان حىت تصل لبالد
احلهاز رشقا ،والسواد جنواب ،وقد أجادوا معامةل احلاكم يف
املدن ،فمل يعد أحد يتعرض هلم ،خاصة إاهنم حيملون أمثن
سلعة ،ذات أرخص مثن ،أال ويه الطعام! فال يوجد اللص
اذلي يطمع فهيم ،وال األمري الراغب عهنم!
عىل أي حال ،متت الصفقة .فقد أىت الشاطر عدانن بأحد
جتار ساوة ،يدعى أدمه ،اكن آتيا هل لرشاء راحةل منه ،فقابهل
تميور وعرفه ،واقرتض منه ماال ،أعطاه للشاطر مقابل حريتنا،
والزاد ،والراحةل ،اليت اطمأننت أاهنا ليست وس يةل!
ونصحنا الشاطر عدانن أال نرحل سواي ،حىت ال يتذكران
احلرس ،ويقبض علينا مرة أخرى ،فرحل تميور مع التاجر أدمه،
عىل أن أحلق هبام يف الطريق.
وما أن ابتعد تميور وأدمه عن أنظاران ،حىت ابغتين رجال
عدانن وقيدوين!
نظرت هل نظرة استناكر ،ختفي رعيب ،فابتسم وقال:
265
"هذا ابن ساوة قد افتداه ابن ساوة ،مفن يفتديك أاها الغول؟
أخربك أان! لقد أخربين الوايل أثناء غدايئ معه ،حيامن اكن يطلب
مين قرضا ،أن القائد األسود يريد زعمي الغيالن امحلر بشدة ،وال
ختف! أظنه لن يقتكل ،وس يجزل يل العطاء إن أتيته بك حيا!
أظنه يريد منمك أاها الغيالن أن تساندوه ،أو عىل األقل تكفوه
حربمك".
وهكذا ألبسوين كرها درع الغيالن ،ووضعوا س يفهم ورحمي يف
لفافة ،ربطوها خلف ظهري ،قبل أن يقيدونين ،وتناول الشاطر
عدانن كتاب الشهاعة ،فنظر هل بسخرية ،وألقاه يف وهجىي،
فوضعه أحد الرجال يف جراب ،علقه حبزايم.
وقال الشاطر عدانن:
"كام ترون اي رجال ،حفىت الغيالن امحلر املفزعني ال ميلكون من
شأاهنم شيئا أمام سطوة املال .املال ،اذلي أىت هبم يتذللون يل،
أان الشاطر عدانن ،مكل ليل املدينة ،واملال اذلي جعل الوايل
يبيعين بضائعهم ،وجعل القائد األسود يتخلص من عدو مرير
هل".
مث ألصق وهجه بعيين ،وحضك بسخرية ،وأمكل:
"عزيزي زعمي الغيالن! ال تنقم عيل ،وعىل أي حال ،ال هتمين
نقمتمك! فأان لست مثل الوايل .لن تس تطيع غيالنك أن تذهب
لقرصي لتؤذيين ،أو لقلعيت لتقتلين ،ألنين بال قرص وبال قلعة.
266
األمر الوحيد اذلي مينعين من إرساكل لألسود جثة هامدة ،يه
إنين أخىش أال تكون من الغيالن ،حقا فأثري غيظه .حصيح إنه
لن ينالين هو اآلخر بسوء ،لكنه لن جيزل يل العطاء حيهنا .ال
حتزن اي رجل ،إاهنا حمض جتارة! وعىل أي حال ،كام قلت كل ال
أخشاك أنت أو األسود ،ألن بطش األسد ال ينفع ،أمام
اختالس الربغوث لدلم ،مادام الربغوث ال يبقى يف ماكنه .أما
مسعت حباكية األسد والربغوث؟"
267
()24
268
حضك النس ناس ،وقال:
"حنميك من اجلزار اي أبهل! قد أوقعت نفسك يف عداوة من
اجلزار ،ومل تفز ابللحم .لن يرتكك احلرس ،حىت تقدم للمكل
شيئا من طعامك ،وأنت ال متكل إال قطعة اللحم".
وسار اللكب األجرب مقهورا لعرين السد ،حفياه وقال:
"موالي املكل العظمي ،أشكو كل مظلميت .قد جوعين أهل
القرية ونبذوين ،وإذ اختلست من اللحم الزنر اليسري ،ألجنو
من املوت جوعا ،وجلأت ململكتك ،أراد اللئام اإليقاع بينك
وبني رعيتك ،فزمعوا اكذبني أنك راغب يف طعايم ،وإين ألراك
مكل عظمي ،يف غىن ورفاهة ،فأنصفين من اللئام ،وأجرين من
اجلزار".
قال األسد:
"قد أنصفتك وأجرتك".
قال اللكب:
"أشكرك اي موالي".
فقال األسد:
"ولكن اإلنصاف واإلجارة هلام أجر! وأرى أنك ال متكل إال
قطعة اللحم هذه ،فاتركها أجرا يل عىل حاميتك!"
269
قال اللكب مندهشا:
"لكن اي موالي إمنا أحمتي ،ألجنو هبا!"
فمل يرد األسد عليه إال بزئري مرعب ،وقال:
"ال متكل سواها ،وعليك أن تدفع!"
فقال اللكب حبقد:
"ال أمكل سواها إال يشء صغري ،وسأمنحك لك ما أمكل اي
موالي".
وترك اللكب األجرب اللحم أمام األسد ،مث رفع قدمه اخللفية،
ونفض جدله ،فألقى برغواث فوق اللحم ،وانرصف مقهورا.
أما األسد ،فقال ألحصابه:
"انظروا ألعظم حيوان يف الغابة! هذا اذلي قهر اإلنسان،
وخطف منه اللحم ،أاتين ذليال ،يسلمين ما رسقه!"
وانقض عىل قطعة اللحم ،فالتقمها لقمة واحدة ،وقفز مهنا
الربغوث ،فاختبأ يف لبدة األسد الكثيفة .وأخذ يدلغ األسد دلغا
شديدا ،انهبا دماءه .ولكام هوى األسد بيده الباطشة عىل
موضع الدلغة ،وجد إن الربغوث قد انتقل ملاكن جديد ،فال
ينال األسد إال من شعر لبدته ،وال يصيب إال نفسه ابجلروح،
حىت سقط تعبا مقهورا.
270
وعلمت احليواانت بأمر تعب األسد ،ففرحت ،وبدأت ختالفه،
وبدأ سلطانه يضعف ،ال يس تطيع ردعهم ،ألنه متعب مرهق ال
ينام ،وجسده امتأل ابجلروح ،اليت أحدهثا يف نفسه .ونظر
األسد ،مستنهدا ابلنس ناس ،أخلص أعوانه ،فأشار النس ناس
لألسد ابلصرب ،وقال:
"هاهو األسد العظمي قد قهر".
نظر األسد هل بغضب ،فأشار هل النس ناس خلسة إنه يدبر
أمرا.
وأتت احليواانت عىل صيحة النس ناس فرحة ،فأخذ النس ناس
يشمت يف األسد ،ويعبث بشعره ساخرا ،واألسد املرهق راقد
مقهور هامد ،مث أخذ النس ناس اهتف:
"يعيش الربغوث العظمي قاهر السد".
فهتفت احليواانت:
"يعيش الربغوث س يد الغابة اجلديد".
فقال النس ناس:
"لنرشب مجيعا خنب س يد الغابة اجلديد".
وهنا وقف الربغوث فرحا خفورا ،يتأمل اجلسد العظمي ،اذلي
أسقطه ،وأمسك ببعض دم األسد املس تكني ،فرشب خنب
271
الانتصار .لكنه حيهنا قد بقى يف ماكن واحد أكرث من الالزم،
فمل يدر إال بقبضة األسد هتوي عليه وتسحقه!"
272
()25
273
ليال أبدا .احلقيقة إنين مل أره ينام أبدا .فاكن يسيل نفسه ،بيامن
اآلخرون نيام ،ابحلديث والرثثرة يف أذين ،حىت يغلبين النوم.
اكن يرثثر ويرثثر ويرثثر ،حىت وددت لو تطوى بنا األرض،
فأصل لزابنية السود يف مغضة عني ،ألختلص من ثرثرته!
مل أكن أعي أغلب ما يقول ،ألنين يف شغل عنه مبا أصابين من
نصب ،بفضل السري واحلر والعطش ،لكننا حيامن وصلنا ألم
العيون حيث تتفرع الفروع الس بعة للهنر ،وأدرك أننا مل يبق لنا
إال أقل من اليوم لنصل للعامصة ،أاتين يف غفةل من زمالئه،
وسألين:
"أحقا أنت من الغيالن امحلر؟"
قلت هل مهناك:
"ومل تسأل؟"
قال:
"رمبا أكون غبيا؛ لكنين أعرف أن الغيالن هلكوا عن آخرمه،
وإن ظهروا اليوم ،وسط هذا العداء ،فلن يرسلوا رجال وحيدا،
وإمنا سيسريون يف جامعة كبرية ،تظهر بطشهم .عىل األقل لن
يرسلوا زعميهم كام تزمع".
قلت حماوال إيقاظ عقيل للمهادةل:
"أنسيت أن الشهاعة فرض عىل الغول؟"
274
ابتسم وقال:
"لكنك لست جشاعا! رأيت هذا يف عينيك أكرث من مرة،
ورأيته يف أفعاكل أيضا .لقد مسعت الكثري عن الغيالن امحلر،
وأرى أنك لست مهنم .حىت الشاطر عنان يشك يف أمرك".
قلت بسأم:
"ومب يفيدك السؤال واجلواب؟ قد انهتىى األمر ،وخلصت
البالد ألسود الامس والقلب والفعل".
نظر حنوي ابهامتم وقال:
"أتفعل هذا حقا ل ي حتارب األسود ،ومتنعه من سلب ابيق
البالد؟"
قلت:
"ومل أفعهل إذن؟"
قال:
"طلبا للمكل لنفسك!"
مل أس تطع كمت الضحكة البائسة .املكل لنفيس! ومن أان حىت
أطلب املكل؟ إن أان إال عبد فقري ،ال ياكد حيفظ مكل أرض
ورهثا عن أجداده ،أفأطلب مكل البالد لكها!
275
غلبين اليأس واحلزن والتعب ،واس توت عندي لك األمور،
ومل أجد ما مينع أن أفيش لك أمري لهذا الرجل ،اذلي ال أعرف
حىت امسه .أخربته بنبأي منذ ذاك املساء يف دار الش يخ غالب،
وحىت أتيت للثغر الصغري.
وملا انهتيت من حاكييت قال:
"اياااااااااااااااااااااااه! لو مسعت منك األمر مائة مرة ما
صدقتك! لكين أراه بعيين .إن ما فعلته يفوق أي أمر آخر رأيته
يف حيايت بني الشطار والصعاليك! أنت أشد جرأة حىت من
عدانن حيامن خدع أهل الغاربة".
حيامن اكن عدانن شااب ،أراد أن يثبت زعامته عىل رجال أبيه،
لكهنم اس تخفوا به ،وحتداه أكربمه ،وهو لكثوم ،اذلي طمع يف
زعامة العصابة لنفسه ،وقال:
"ما أنت اي عدانن إال شاب غرير ،ال يس تطيع السلب
والهنب ،إال بسواعد الرجال األقوايء .وال حيق كل أن تطلب منا
الزعامة ،ومشاركتنا يف غنميتنا اليت نبذل فهيا اجلهد".
فقال عدانن:
"لكن بعقيل وختطيطي ،سأقود العصابة ألكرب الغنامئ".
فقال لكثوم:
276
"ال أرى أن عقكل أشد مكرا من عقيل .وأان أحق ابألمر
منك".
واختلف الرجالن ،وأيد لك مهنام بعض الرجال ،مث حتداه
لكثوم حتد صعب ليعجزه ،فقال:
"إن اس تطعت رسقة أبناء الغاربة ابحليةل فقط ،سودانك علينا
ال ينازعك أحدان".
وقبل عدانن التحدي ،ورحل من الثغر للغاربة .وأهل الغاربة
قوم خش نون ،منغلقون عىل أنفسهم ،وما اكنت مدينهتم إال
حفنة من قالع وحصون ،بنيت حول واحة صغرية عىل طريق
التهارة بني الرشق والغرب لتؤمنه .واكن أهلها أخالط ،من لك
البالد أتت ،واس تقرت ،وامزتج فهيم التهار والعبيد ،اآلبقني،
وحثاةل األقوام ،وبعض الصناع ،ليخرج من أصالهبم قوم غرابء
األطوار ،رسيعي الغضب ،ابرعي التهارة ،شديدي البخل
واملهارة .وقد أغلقوا علهيم األسوار العالية ،واحلصون القوية،
عندما نشبت احلروب يف البالد ،ورفضوا أي سلطان علهيم،
حىت لبين األسود ،أو للقائد األسود يف العامصة .وخلطر موقفهم،
وكرثة أعداهئم ،وخبلهم ذهب هبم احلذر ألبعد احلدود ،فهم ال
يقبلون بدخول أي غريب دلايرمه ،حىت رضب هبم املثل يف
الفطنة ،ويف صعوبة النيل مهنم.
277
وذهب عدانن للغاربة ،مرتداي زي األعراب ،وساق أماهمم
بعض الغمن ،وأقام أمام أبواهبم شهرا اكمال ،حىت اطمأنوا هل ،مث
اراتد أسواقهم يبيع اللنب ،ويشرتي بعض احلاجات.
مث ذهب ذات يوم ألحد التهار ،وعرض بيع لك غمنه هل،
مقابل حصان واحد رسيع ،واشرتط أن خيترب رسعته أوال ،وإال
أعاده.
قبل التاجر ابلصفقة فورا ،فاألغنام قميهتا معا أكرب من مثن أي
من خيوهل ،ولو عاد احلصان هل ،فس يكون قد انتفع ابللنب
والصوف ،أكرث من أجرة احلصان.
ولكن عدانن أعاد هل احلصان بعد يوم ،واس تعاد غمنه ،وذهب
هبم لتاجر آخر ،يطلب أرسع خيوهل.
ونظر التاجر األول حلصانه ،ليطمنئ عليه ،ففوجئ بأثر تراب
اذلهب عىل حوافرهن فرتبص لليوم التايل ،وذهب ليهد أن
عدانن قد أعاد هل حصانه ،وأيضا يف حوافره بعض الترب!
وكرر عدانن هذا األمر مع أغلب التهار ،حىت أاثر جنواهنم!
وأرادوا اكتشاف مصدر هذا اذلهب ،اذلي يعلق حبوافر
خيوهلم .وبعد أن بلغت هبم اللهفة أقصاها ،جلس الشاطر مع
بعض الندماء يف جلسة مخر ،حىت سكروا مجيعا ،فتصنع أنه
مخمور مثلهم ،وأخذ حيدهثم بفخر عن واد قريب ،موجود خارج
املدينة ،وقال أنه حني جيري حبصان رسيع يف هذا الوادي ،وهو
278
يقول لكامت علمها هل س مييايئ جعوز ،يتحول بعض ترابه ذلهب،
فيجمع منه ما يشاء.
مث أخذ أحد الندماء معه إذ مل يصدقه ،وأردفه خلفه ،وجرى
حبصانه ،وأشهده عىل ما وجده يف األرض من بريق اذلهب.
ويف الصباح ،التف الناس حول الشاطر ،يلحون ،واهددون،
ويغرون ،يريدونه أن يكشف هلم عن اللكامت السحرية!
وأخريا دفعوا هل مبلغا خضام جدا ،ظنوا أاهنم سيس تعيدونه يف
شهر واحد ،فأخربمه إن علهيم البدء جفر يوم امجلعة ،ألنه يوم
مبارك ،وأن اذلهب لن يظهر إال لو جرت اخليول بأقىص رسعة
من الفجر ،وحىت تعلو الشمس كبد السامء.
وترك القوم يعدون العدة لذلهب املوعود ،وذهب هو للكثوم،
اذلي اكن قد نىس أمره ،فألقى ابملال بني يديه ،وقال:
"هذا ذهب الغاربيني .وإن أتيمت معي اآلن ،سقنا خيوهلم
وبضائعهم ،فأرحبمك أكرث مما تفعلون يف عام اكمل".
وتبعوه مندهشني .وعندما علت الشمس لكبد السامء من يوم
امجلعة ،وأصبح رجال الغاربة مهنكني ،وقد أضنامه اجلري،
والرصاخ ،وحر الشمس ،انقض علهيم عدانن برجاهل ،فقيدومه
بسهوةل ،واس تولوا عىل خيوهلم ،ومالبسهم ،وارتدهتا العصابة.
وقادمه عدانن للمدينة ،واضعا عىل رأس القافةل صناديق ،أحدها
مفتوح ،مأله ابلرتاب ،وغطى سطحه مبزجي من النحاس
279
األصفر ،يلمع اكذلهب يف مشس الظهرية .وملا اكن أهل املدينة
إما مقيدين يف الوادي املهجور ،أو منشغلني يف صالة امجلعة،
فمل ينتبه أحد لوجوه العائدين ،ومل ينظر احلرس إال لربيق
اذلهب املزيف ،ففتحوا البواابت للعصابة فورا ،فدخلوا للمدينة
بسهوةل ،وقيدوا احلراس املهبوتني ،واندفعوا للسوق اخلاوي،
فهنبوه عن آخره ،وخرجوا بأمان ،غامنني ،قبل انهتاء صالة
امجلعة!
ومن يوهما ،أصبح الشاطر عدانن زعمي اللصوص ،وس يد
الصعاليك ،ومكل الشطار! ال يزب يف الثغر الصغري ،وال يعال
عليه فامي حوهل ،فهو الرجل اذلي اهنب مدينة الغاربة بأمكلها!
280
()26
281
مصوده معنا ،لسلمت لألسود ،وساندته .فرمغ مساوئه ،س يوحد
لكمة البالد بعد المتزق ،أو عىل األقل ما يبقى مهنا ،بعد اقتطاع
الفرجنة واألهبال ملا يريدونه .لكن الوريث موجود ،ذلا ،فمل ال
حناول؟ الاكرثة يه أن ال أحدا حياول إنقاذ البدل اذلي نعيش
فيه .اكن أيب ،وهو يتبع الوريث الاكذب ،يقول يل "هذا بدل
غارق يف الظلامت ،واللك جيأر من هذا ،واللك يتعذب .ذلا
حيامن يأيت رجل ،يقول إنه س يعيد األمان ،فعلينا أن نتبعه ،وإال
اكنت شكواان بال معىن ،وسنشارك يف إمث من ضيعوا البالد
قبلنا .هذا ما رخس يف ذهين من أيب ،وهو ما أحاول اليوم إعادة
بعثه".
مط الرجل شفتيه وقال:
"أكره األسود والفرجنة ،ولك هؤالء الطغاة .أكره حياة الرسقة،
فال أعرف طريقا آخر للعيش ،مع معرفيت يف نفيس امحلاقة! أنعم
هللا عيل جبسد خضم ،لكين ال أمكل إال قلب صغري ،ينمكش
ابخلوف دوما .خائف من أن يقتلنني أو يرسقين أحد ،فانضم
للقتةل والسارقني .خائف من الفقر واجلوع ،فأجهم برضاوة عىل
املال .دوما خائف من احلياة ،ومن املوت ،ومن لك يشء".
قلت هل حبامس:
282
"إ ًذأ ،فاتبعين! مل يظهر الغيالن امحلر إال من بني اخلائفني،
اذلين كرهوا خوفهم ،وأرادوا أن يس تعبدوه بدال من أن
يس تعبدمه .انضم يل ،وطلق حياة اخلوف".
قال حبرية:
"لكنك لست غوال؟"
قلت:
"وال أريد أن أكون غوال .لكن أعداءان حيتاجون لزي غيالن
يردمه .اتبعين عىل مثل اهنج الغيالن امحلر .عىل اهنج الغيالن
امحلر اجلدد ،لنقف أمام هؤالء ،وخنربمه أن ساعة القصاص قد
حانت ،حىت يقيض هللا أمرا اكن مفعوال".
قال برتدد:
"ولكن"......
عاجلته:
"ابب التوبة مفتوح اي رجل ،فانهتز الفرصة ،وتب عام س بق
من آاثمك ،واكسب لنفسك مقعدا بني اجملاهدين .اهزم
خوفك ،وختلص من مقتك لنفسك".
اكنت حريته شديدة ،وقال وهو يبدو كأمنا جيادل نفسهن أكرث
من جمادليت:
283
"وأين نذهب إ ًذا؟ أرض األسود متتد حولنا يف لك اجتاه".
قلت:
"لنذهب للغاربة ،اليت أخربتين عهنا .لنلهأ لها حينا ،حىت تلك
عنا العيون ،مث نرحل مهنا للزرقاء ،ونركب البحر لطرابل".
أمكل جداهل لنفسه:
"لكن الغاربة يف قلب الصحراء وأهلها ال يدخلون علهيم
غريبا؟"
قلت:
"اس متع لصوت قلبك اذلي ينئ أملا ،واجهر أوزارك .لو
أخلصت لقلبك ،فس يخلص الطريق كل .لو أخلصت هل،
فس يصدقك لسانك ،وحيامن يصدقك لسانك ،س يصدقك
الناس ،ويفتحون كل األبواب".
بدت عليه احلرية القاس ية ،ومصت كأمنا يصارع نفسه رصاعا
مريرا ،فاحرتمت مصته .مل أحاول أن أتدخل أكرث من هذا ،حىت
لو اكن مصريي معلق بقراره .لو فعلت ،فسأكون حمكت عليه
بشقاء وعنت ،مازالت نفيس تراودين لرتكه .لو مل يتخذ هو
قراره بنفسه ،فلن أمكل هل من األمر شيئا ،ولو حثثته أكرث من
هذا ،فتبعين بغري قناعة ،لهكل وأهلكين معه.
284
ولكن الصمت انهتىى بصوت آذان الفجر يعلو ،آتيا عرب الليل
الصايف من أم العيون .مل يكن الغالظ حرايس يصلون ،ولكن
صوت اآلذان ،اذلي فاجئنا نزل رطبا عىل قلبه ،ورشح
صدره ،فقال:
"أتبعك عىل بركة هللا ،وحىت الهناية بإذن هللا".
فقلت هل مبتسام:
"إ ًذا،فأعلنك غوال أمحرا جديدا ،ما امسك؟"
قال:
"سأنبذ حيايت القدمية ابمس جديد .ال تناديين بغريه :غول
احلق .فلن ألزم إال جانب احلق".
قلت:
"حس نا اي غول احلق كام تشاء .لكن أرجو أال أثقل عليك بفك
قيدي ،قبل أن يستيقظ الزابنية!"
285
()27
286
وصلنا أخريا آلخر قرية من قرى الوادي ،وأصبح علينا أن
نتهه للغاربة من طريق غري مطروق ،بعيد عن جنود األسود،
وهو ما حيتاج لزاد وراحةل ،وهام ما حيتاجان للامل.
وهنا ،اكن حامت علينا أن نبقى ملدة طويةل يف القريةن جند
ونعمل لكسب املال .وقد طالت بنا املدة إىل شهر بأمكهل ،شهر
تعلمت فيه بعض أصول الزراعة ،اليت ستنفعين لو عدت
ألريض .ولكن لكام مىض الوقت ،ازداد قلقي من أالّ أصل
لطرابل ،إال بعد فوات األوان.
عىل إن األنباء تتناثر ،واألخبار الغالية العزيزة تصبح سائغة يف
لك األفواه مبرور الوقت .فقد علمت ،من جمالس السمر ،أن
هناك وفود أمراء عدة ذهبت إىل طرابل ،وتقابلت يف الطريق،
فدار بيهنم قتال شديد ،مث اشتبكوا مع لصوص ،وبعض بين
األسود والفرجنة ،وبعد هذه األهوال ،مل يس تطيعوا الوصول
للوريث ،ومل خيربمه أهل طرابل عنه شيئا.
وعلمت أيضا أن هناك غوال أمحرا جنا من الثغر الصغري،
ويسعى إلعادة الوريث ،وهو ما أاثر غضب القائد األسود،
املنشغل يف حروب ضارية يف اجلنوب ،فأرسل مجموعة من
رجاهل ،أمرمه أال يغادروا طرابل ،إال ومعهم رأس الوريث .وأن
تكل الفرقة س تخرج من العامصة بعد أايم ،وعىل رأسها شقيق
287
األسود األصغر ،وهو فارس مشهور برباعته وقوته ،يسمى
ميسون ،ويلقبه الناس ابدلامه.
وهنا أدركت أن البقاء أكرث من هذا ال جيدي ،جفمعت ما معنا
من قروش قليةل ،ومل أس تطع أن أشرتي هبا إال حامر جعوز ليس
حامت ما يعمتد عليه يف عبور الصحراء؛ لكنه عىل األقل س يحمل
الثقيل من املتاع واملاء.
ومضينا فورا حنو الغاربة ،يف طريق شاقن لكننا كنا مطمئنني،
ألن خصومنا قد يئسوا حامت من مطاردتنا ،ولعلهم يظنون أننا
وصلنا لطرابل اآلن.
مضينا يف الطريقن وقد أاهنكنا ،لكن يف غري الظمأ واحلر مل
يقابلنا ما يس تحق اذلكر .مضينا حتت الشمس القاتةل ،واضعني
متاعنا وطعامنا القليل عىل ظهر امحلار العليل ،متتبعني جنام
يسميه أهل املنطقة ابلغارب ،من مييض عىل هداه وقت
الغروب ،يصل للغاربة ،ومنه جاء امسها.
مل أهمت كثريا ابلتعب ،فقد عرفت أايما أسوأ ،لكن ما شعرت
به من أمان؛ رمغ إنين يف قلب أرايض األسود ،كام إنين أعترب
غول احلق إىل جواري عالمة من العالمات ،اليت ترشدين هبا
السامء إىل التشبث بطريقي ،وأن أعمل أن هللا معي.
288
كننت يف مقة التفاؤل ،واملصاعب اليت تبدو مس تحيةل هانت
انظري ،وقلت لنفيس "س تفرج كام فرجت غريها من يف ّ
األبواب املغلقة! هلل در الشاعر:
ضاقت فلام اس تحمكت حلقاهتا ~ فرجت وكنت أظهنا ال تفرج
حامت النرص يل مقدر".
ووصلنا أخريا للغاربة.
اكنت تش به قلعة كبرية .تذكرين مبدينة ساوة ،اليت بنيت جنوب
الواحات ،محلاية جتارهتا .لكن أسوارها احلصينة أخضم بكثري،
وحولها بضع خيام متناثرة ،وجدان هبا التهار ،واملسافرين ،وأبناء
السبيل ،يتعاملون مع أهل املدينة ،ال يسمحون هلم بدخولها.
وعلمت أاهنم زادوا احليطة واحلراسة ،بعد أن أعلنوا رفضهم
الانضواء حتت لواء القائد األسود ،فهم خيشون أن اهامجهم
جبيوشه ،ولكن هذه العداوة ،اليت تغلق يف وهجىي األبواب ،يه
ما أعمتد عليه ،ل ي يعينونين ابلقوت ،وادلليل ،والراحةل للزرقاء.
عيل اليوم أن أكون حشاذا انحجا ،ألنزتع مهنم املعونة!ّ
توهجنا للحرس وانديت:
"السالم عليمك اي أهل الغاربة".
رد علينا أحدمه:
"وعليمك السالم .ماذا تبغيان؟"
289
قلت:
"حنن رسوالن من سادة الغيالن امحلر الس بعة ،نريد مقابةل
زعمي املدينة".
بدا الاضطراب والصدمة عىل وجوه احلرس ،وساد بيهنم هرج
ومرج ،ومل يفعلوا شيئا سوى دخول البوابة ،وإغالقها خلفهم!
بقيت منتظرا قليال ،مث عدان عىل أعقابنا ،ويف الهنار التايل
ذهبت هلم اثنية ،وهنا خرج يل أحد أبناء حامك املدينة.
اكن شااب هادئا صارما ،ابدرين ابلسؤال:
"من أنامت؟"
قلت:
"حنن من الغيالن امحلر".
قال:
"الغيالن هلكوا".
قلت:
"لقد عادوا".
قال:
"بل أنامت اكذابن!"
290
تذكرت لكمة قالها ش يخ بين األسودن عندما شكك يف أمري
أحد األمراء ،فكررهتا هل:
"أي أمحق سزيمع أنه من الغيالن ،إال إن اكن من الغيالن؟"
هبت للحظة ،لكنه أثبت رسعة بداهة ،ورد:
"عدو للغيالن خيدع أهل الغاربة!"
قلت:
"ال نبغي بمك رشا .وحنن من الغيالن حقا وأخبار عودتنا مسع
هبا لك أهل البالد".
قال الفىت بصوت خافت:
"أن تسمع ليس كام ت .....لكن ماذا يريد من الغيالن؟"
قلت:
"ال نريد بمك خريا أو رشا! إن هو إال أمر بيننا وبني القائد
األسود".
قال:
"أحالفمتوه؟"
قلت:
"الك الك! بل نعاديه ،ألنه عاداان وحاول قتل زعمينا .إمنا نريد
اذلهاب إىل طرابل ،الس تعادة الوريث يك يقود احلرب ضده".
291
قال مندهشا:
"أي وريث؟"
وهكذا دار بيننا حوار طويل ،ذكرت هل فيه ما أعرفه عن
الوريث احلقيقي ،ومساندة ش يخ ش يوخ بين األسود لعودته،
واجامتع أمراء الغرب عىل تأييده ،مث ساد بيننا مصت طويل ،مل
يكرسه الفىت ،فودعته ،عىل أن أعود غدا ،وعدت إلحدى
اخليام املبسوطة صدقة لعابري السبيل حيث نبيت.
ولكن األمر طال لبضعة أايم ،أتردد عىل بوابهتم ،فال
يدخلونين وإمنا يكتفي هذا الشاب مبحادثيت .وبدأ اخلوف يدب
يف قليب ،أن يصل نبأي البن األسودن أو الشاطر عدانن،
فيبعث من يغتالنا .ولكن غول احلق اكن يطمئنين ،بأنه ليس
للشاطر هنا عيون ،ألن أهل الغاربة شديدي احلذر ،ال حياة
للص بيهنم ،وهو لن يطلب قتلنا ،ألن ما اهمه ليس إال املال.
لكين مل أطمنئ ،وأخذت أغري ماكن املبيت لك ليةل ،وخلعت
درع الغيالن ،وأبقيت السالح يف يدي دوما.
وصدق حديس .إذ كنا سائرين حنو البوابة – كعادتنا -طالبني
املعونة من أهل املدينة ،فإذا برجل يقرتب منا وهو ينظر حنوي
مبتسام ،فنظرت هل رادا الابتسامة ،أحاول أن أفهم مغزاها،
خش ية أن يكون قد علق يف ثيايب أو وهجىي يشء مضحك!
292
وبيامن أان مرتبك ،إذا برفيقي غول احلق ،خيرج س يفه بغتةن
واهوي به عىل رجل خلفنا ،فأطاح رأسه!
والتفت فزعا ،فوجدت الرجل املبتسم ميد يده ألسفل عباءته،
فعاجلته بطعنة من رحمي ،وإذا بنار حمرقة تش تعل يف ذراعي
األيرس ،كأمنا أان املطعون ،وليس هو! ومل يطل جعيب ،إذ
قديم ،ونظرت ،فوجدت ملامثوجدت سهم اثن يسقط بني ّ
خمتبئا يف الرمال ،يعد سهام اثلث.
لكين مل أس تطع الاجتاه حنوه ملقاتلته ،إذ خرج لنا ثالثة رجال
شاهرين الس يوف ،بعد أن أيقنوا فشل تسلل زميلهيم ،فأسقط
غول احلق أحدمه فورا ،لكن الرايم أصابه بسهمه يف ظهره،
فقفزت مبتعدا عن الرجلني قدر اس تطاعيت ،وصوبت رحمي
وقذفت الرايم ،بأرسع ما أس تطيع ،وأظنين أصبته .مث أخرجت
س يفي ،اذلي ال أجيد اس تخدامه ،موقنا ابلهالك ،خاصة مع
جرح ذراعي .لكن عىل األقل ألمت مرفوع الرأس ،مثل غول
احلق ،اذلي اهنض وادلم يغمره ،متحامال عىل نفسه يبغي القتال.
لكن سهم نزل علينا ،تاله اثن .هذه املرة يف صدور خصومنا،
فأسقطهم جمندلني .ونظرت ابحثا عن املنقذ ،فوجدته هذا
الشاب ،ابن حامك املدينة ،يعتيل السور بقوسه وسهامه.
نظرت لغول احلق ،ألرى جرحه ،لكنه قال:
293
"أرسع وطارد رايم السهام ،قبل أن يأتينا ابملزيد من
األعوان".
نظرت حنو الرايم ،فوجدت إن رحمي مل يصبه ،لكنه انغرس،
حلسن احلظ ،يف كنانة أسهمه فأبعدها عن يده ،جفريت بأقىص
ما أس تطيع ،أطارده .حىت رأيته أمايم ،قد أبطأ العدو ،فشهرت
رحمي ،وأطلقته بإتقان هذه املرة ،ليصيب قدمه ،ويسقطه.
وذهبت حنوه أريد هتديده ملعرفة من وراءه.
لكين وجدت نفيس يف مواهجة من مه أمامه! ثالثة آخرين،
خرجوا مرسعني من خمية صغرية ،حيملون س يوفا وفئوسا،
وأدركت أن الرمح لن ينفعين بيد مصابة ،والس يف لن ينجيين
برباعة مفقودة ،خفلعت قناع الغول الشهاع ،ووليت األدابر
أبغي الفرار.
لكين مل أبتعد كثريا ،إذ أىت بعض حراس الغاربة ،فهرب
إيل رحمي.الرجال حاملني جرحيهم ،بعد أن قذفوا ّ
نظرت للحرس ،وقد أضناين التعب واألمل ،ومألين اهلم،
وظننت أن أمري انكشف ،بفراري اذلي ال يصح من الغيالن
امحلر.
لكن احلرس ومه يرافقونين ،أخذوا يتحدثون عن جشاعيت
العظمية ،وكيف إننا كنا اثنني هزمنا مخسة ،وكنت واحدا
294
وواهجت أربعة! مل ينتهبوا ألنين كنت أويل األدابر ،وانقلب األمر
لصاحلي ،فمل يعد أحد يشكك يف كوين غوال!
وأاتين هذا الشاب ،ابن حامك املدينة ،فرحب يب ،وأخربين أن
امسه جابر ،وأخذين لواحدة من اخليام ،يف ماكن منعزل،
وأرشف بنفسه عىل عالج جرويح ،أان وغول احلق.
وأصبح بعدها ودودا معي ،حيدثين دون تلكف ،أخربين إاهنم
يؤيدونين يف هديف ،ولكهنم يكرهون إدخايل املدينة ،وإعالن
التأييد يل يف حرب األسود ،ألاهنم ابلطبع ال يتعهلون حربه! فهم
إن اكنوا ال يقبلون بسلطانه ،إال إاهنم يفضلون البقاء يف احلياد،
بعيدا عن املوت وادلمار.
طلبت منه معونة ،وطعام ،ودليل يقودان للزرقاء ،فأجابين
للك هذا من حر ماهل ،عىل أن أقسم أال أخرب أحدا مبن منحين
هذه املساعدة ،وال أعلن ألحد أن الغاربة معي ضد األسود،
فأقسمت هل.
وأخربين إنه عرفين منذ رآين أول مرة ،ألن رجال من ساوة
أخربمه إنه متهه للزرقاء ،وأنه اكن رفيقا لزعمي الغيالن امحلر!
لقد مر تميور من هنا ،ومازال مرصا عىل إكامل الطريق وحده،
يبدو أن هذا الفىت خيفي من الشهاعة والصالبة ،ما مل
أتصوره".
295
()28
296
وبعدها تشاجر مع األعراب حبامقة ،فطردوان من واحهتم ،اليت
عيل
رغبنا يف رشاء طعام مهنا ،وأنقذت حياته بأجعوبة ،مث أصبح ّ
وحدي عناء الصيد إلطعامه!
وكأن الشؤم ال يفارقنا ،وأىن هل أن يفارقنا وامحلاقة ترافقنا!
أهناك عاقل يشق طريقه وسط أحراش مقفرة ،ومستنقعات
مظلمة ،بدال من الطريق املطروق اآلمن األقرص واألرسع ،زعام
بأن هذا خوفا من رجال األسود؟ أىن لرجال األسود أن يعرفوا
خبربان؟ لنتلمث ،ونندس بني الناس ،فلن يزجعنا أحد! لكنه أرص
عىل طريقه ،وسط الفرئان اليت تبخ السم يف عقرها ،والبعوض
املسموم ،اذلي يدلغ ابمحلى ،والثعابني اليت اكنت حتت لك
خطوة خنطوها!
ووجد إن األمور ليست طيبة مبا يكفي ،فأراد زايدة الطني
بةل .وحني أتينا ألرض أحد األولياء الصاحلني ،جلأ حليل خبيثة،
وخدع ادلراويش ،ليرتكوان نعرب ،بعد أن أومههم أن الفويل
غاضب علهيم.
ولكن العقوبة أتت ،فألقوان يف جسن الثغر الصغري ،عاجزين.
ولوال أن قيض هللا لنا هذا الرجل الكرمي ،املدعو الشاطر
عدانن ،ملا جنوان من املوت.
وظننت أخريا أن الطريق تيرس ،بعد تركنا لألرايض املهجورة،
وسريان يف ادلروب املطروقة ،ولكن القبيل زاد يف اس تخفافه
297
يب ،فبعد أن حاولت إخراجنا من املدينة بقرض من أحد
معاريف ،طلب من الغول األمحر مضاعفة القرض ،ملاكفأة
عدانن ،ورشاء جتهزيات السفر ،كأن الاس تدانة أمر بس يط،
وكأنين أمكل يف ساوة كنوزا ،تسدد ما عيل بسهوةل! وفوق
هذا ،إنه سألين أن أس بقه ،وس يلحق بنا يف الطريق ،فبقيت مع
صاحيب أدمه الساوايت ننتظره مدة طويةل ،لكنه غدر بنا،
ورحل وحده .وزاد من نقميت عليه ،أن نوقنا هربت حبملها ،بعد
أن سأمت من انتظار الغيالن! ولعهل غضب س يدان الفويل،
اذلي دنس هذا الغول مقامه ،قد أصابين فاستيقظنا ذات
صباح ،لنهد إننا بال راحةل ،أو زاد ،أو ماء!
بدا الهالك وش ياك ،ولكن من رمحة هللا بنا أن أدمه اكن
حيتفظ جبواره دوما بقربة ماء ،ألنه كثري العطش .فأنقذتنا ،حىت
محلتنا قافةل ذاهبة ملدينة تدعى الغاربة ،فاشرتى مهنم أدمه
عيل برشاء بغل قوي، طعاما لنا ،وزادا ،وأمكل أايديه البيضاء ّ
ومحلين معه حىت الطريق إىل الزرقاء ،وتركين أرافق إحدى
القوافل اذلاهبة لهناك.
كنت وقهتا قد اس توثقت من أن البقاء مع الغول األمحر لن
يصيبين إال ابلشؤم ،والعنت ،وكرثة األعداء .ذلا ،قررت أن أيف
بعهد العائةل وحدي ،وأحاول أن أجد مركبا يف الزرقاء ،حتملين
إىل طرابل ،أو الفيحاء ،أو أي ميناء قريب مهنا.
298
مل أذهب للزرقاء من قبل .كثري من أهل ساوة يتحدثون عن
أايم جمدها ،وزهوهتا قبل السقوط يف يد القراصنة .اكنت
أحاديهثم تشوقين ،وجتعلين أمتىن الوصول لها ،لرؤية تكل
العجيبة ،اليت حوت هباء البحار ،ومشوخ اجلبال ،وهيبة
الصحراء .أعظم ميناء عىل البحر الرشيق ،بني أحضان جبال
شاخمة ،حتفها الصحراء بس ياج واق ،جعلها حصينة منيعة ،ال
يس تطيع أحد اقتحاهما عنوة ،إال لو أاتها من البحر بأسطول
عظمي .لكنين اليوم ،إذ قطعت املاكن ،ووصلهتا ،علمت أنه من
احملال قطع الزمان لرؤيهتا! فزرقاء املايض ال أثر لها يف تكل
األسوار املهدمة قبيحة املنظر ،وادلماء اليت لطخت لك أبواهبا
من أثر القتال ،اذلي ال ينقطع يف طرقاهتا .هنا يف زرقاء
القراصنة ،ال يتفامه الناس ،وال يتشاجرون إال ابلسالح ،وال
يرحبون إال بقتل اخلصوم! وترتك اجلثث ال تدفن ،إال لو طغت
راحئهتا عىل النفوس ،فتدفن بعد أن تتعفن أمام العيون.
جتولت بني البيوت ،اليت سودهتا آاثر احملارق ،والقصور
املنيفة اليت أصبحت خرائب .ومضيت عابرا األحياء ،اليت
انفردت لك عصبة من القراصنة ابلس يطرة علهيا ،تتقاتل فامي
بيهنا ،كشأن أغلب املدن الكبرية يف بالدان ،ال فرق بني قراصنة
صعاليك ،وبني أمراء مماليك!
لكن ما ميزيمه هنا عن غريمه من حاكم املدن هو السوق!
سوق واحدة جتمع اللك ،ألن املال هنا يتحدث! اللكمة يف
299
السوق واحدة ،واحلمك يف جشارات السوق واحد ،لألمري
األبيض الثاين ،حامكهم اإلفرجني ،اذلي قتل أخوه أمام ساوة
منذ شهور قليةل.
اكن القراصنة يدركون خطر السوق عىل حياهتم .فلو خرب
متاما ،فلن يس تطيعوا بيع غنامئهم بسهوةل ،بل س يضطرون إىل
ترسيهبا يف املدن بأخبس األسعار ،واي س بحان هللا! مه يف
حرصهم ،عىل مصلحة التهار ،وأمان التهارة ،قد فاقوا امحلقى
من األمراء ،فوجدت يف زرقاء القراصنة احملرتقة حياة أفضل،
وأكرث ازدهارا من بعض املدن ،اليت اكنت يوما عظمية حىت
أفقرها حاكهما!
لكهنا لغة املال ،اليت ال يفهم القراصنة سواها ،فيجيدون
احلفاظ علهيا!
ال تدخل القوافل الزرقاء مبارشة .فللصوصها لصوص آخرون
مرتبصون! حول املدينة -كام أخربوين -جامعات من املطرودين
واملوتورين ،اذلين حيقدون عىل من بقوا داخلها ،وذلا تتوقف
القافةل عىل مسرية يوم من الزرقاء ،وتتشتت ،ليدخل لك
مسافر وحده لقلب املدينة .أما يوم خروج القافةل ،فهو يوم
عظمي ،جتمتع فيه جيوش ،وتدور حروب ،ترافقها حىت خترج من
قبضة جبال الزرقاء القاس ية.
300
وأخربوين إن جبال الزرقاء غادرة جدا .لها أساطري وحاكايت
تشيب الودلان! وذلا خشيت ،إن تسللت وسطها ،من
وحوشها .ودلفت بشهاعة السائس البائس ،اذلي ال ميكل ما
يرسق منه ،للمدينة من أبواهبا ،وس بحان من جناين من قطاع
الطريق!
اآلن أان يف قلب املدينة اخمليفة ،اليت ال يأمن أحد عىل نفسه
فهيا .اضطررت ألن أبيت أول ليةل يف السوق ،ألاهنم يزمعون
أنه أكرث األماكن أمنا يف املدينة ،لكين ال أس تطيع املبيت فيه لك
يوم ،وإال قبض عيل جنود األمري األبيض .ال أمكل إال ثالثة
داننري حفسب ،ال تكفي للوصول لطرابل ،وال لعوديت لساوة،
وال تنفعين يف البقاء ورشاء قويت من تكل املدينة اخلبيثة.
لكين من أهل ساوة ،وحامت ،كبايق أهلها ،أعرف طريق
السوق! أخذت أبيع هجدي يف األحامل ،وأدلل عىل البضائع،
وأساوم هذا وذاك ،وأفاوض هنا وهناك .وبعد أس بوع واحد،
التقطين أحد جتار الفرجنة ،يسمى جربائيل ،ألمعل عىل بضائعه
فرتة مكوثه يف املدينة .وقدم يل املأوى ،واملألك ،واألجرة
ألسابيع اتلية.
وأخذت ،يف أوقات فراغني أتسلل للميناء ،أتنسم منه األخبار.
اكن أخبث ماكن عىل ظهر األرض هو ميناء الزرقاء! أخالط
من أغلظ القراصنة ،وأحقر اللصوص يؤ ّمونه من لك العامل!
301
ولكين شققت طريقي فيه ابحلذر والفطنة ،ومسعت أخبار
األمراء ،اذلين رحلوا لطرابل ،وأنباء حروب األسود ،وتاكسل
األهبال عن نرصته ،وأدركت أن وقت الرحيل قد أزف.
أخذت أدبر أمري كيف أرحل؟ وأثناء مكويث ،عند إحدى
املقايه ،أاتين اجلواب.
وجدت رجال يتفاوض مهسا مع قرصان ،ليحمهل معه للفيحاء،
عىل أن خيدم عىل ظهر السفينة بأجرة النقل .فأرسعت أنضم
هلام ،وأقدم نفس العرض ،ودفعت ما معي من مال عربوان.
وفزت بصفقة الرحيل عن البالد.
وأخذت أهجز نفيس رسا .فكام احلديث الرشيف (اس تعينوا
عىل قضاء حواجئمك ابلكامتن) كمتت أمري حىت عن التاجر
اإلفرجني .ولكين تركت هل قرطاس ،وحضت فيه بإخالص ما اكن
من جتارته ،وأمر ذهايب ومغادرته.
وهذا الصباح ،اكن أول يوم يف حيايت أركب فيه البحر.
مل تكن معرفيت ابلبحر مجيةل .أذكر حاكية أيم يل عن صبية
البحر املليحة .تكل اليت تفنت الرجال ،اذلين يكون هذا أول
سفر هلم يف حبرها ،مث تغدر هبم ،وتغرقهم ،ل ي يقتات بلحمهم
آابؤها من األسامك آلكة اللحم .كام اكن أيب حي ي يل عام يواهجه
احلهاج من أهوال يف البحر ،مثل العواصف ،اليت يرتفع املوج
302
فهيا اكجلبال ،أو الثعابني العمالقة ،اليت تلهتم السفن ،أو األسامك
املفرتسة ،اليت تقفز لتخطف فريس هتا من فوق سطح السفن.
ذلا اكن لألمر رهبة وهتيب؛ لكن بقايئ يف املدينة اخلبيثة،
حيث الهنب غنمية ،والقتل رشيعة ،أمر ال أطيقه.
ذهبت للميناء منذ الصباح الباكر ،ومل أركب السفينة إال مع
آخر ضوء غارب ،ألعلو البحر الغدار ،وأذوق بنفيس املرار!
ما أن غابت الزرقاء عن العيون ،حىت أمسك بنا البحارة،
وقيدوان ،وأعلنوان إننا وقعنا يف رش أعاملنا ،وسيمت بيعنا عبيدا
يف أسواق الفرجنة.
وجلست يف اذلل مكرواب ،ال أمكل إال ادلعاء والاس تغاثة
ابهلل .اكن الغالظ يوقظوننا من الفجر ،ننظف قذارهتم ،حتت
سلطان الس ياط ،وحنبس بعدها يف قعر السفينة ،دون طعام
يذكر ،ومه يقولون بسخرية:
"س تصلون قريبا للفيحاء ،وحيهنا تعلمون أننا رحامء بمك ،بعد
أن تتذوقوا أفاعيل خنايس الفرجنة!"
ولكن القدر تدخل ،فهامجتنا سفينة قرصان جبار ،أسقط
السفينة وبضائعها يف يده ،واهنب لك من علهيا .مث أىت ابلبحارة،
فقطع رقاهبم ،وابلسفينة فأحرقها .ونظر للبضائع ،فأبقى ما
يش هتيه ،وألقى ابلبقية يف املاء .وأخريا التفت للعبيد.
303
وقف ينظر إلينا ،وهو يفكر بصوت مسموع:
"ترى أيس تحقون مشقة نقلهم للسوق لبيعهم أم أقتلهم
وأسرتحي؟"
طبعا مل جيرؤ أحدان عىل القول بأنه حر خمطوف ،لئال يلحق
ابخلاطف ذي العنق املقصوف.
اكن كبري القراصنة رجال قصريا جدا ،تزين حسنته الندوب ،وهل
شفة مشقوقة ،يرتدي رسوالا فضفاضا ،أكرب منه بكثري،
يزمعون أنه خيفي أسفهل أكوام من اخلناجر والس يوف .واكنت
براعته يف اس تخدام السالح مذهةل ،ابرز حبارة السفينة
بس يفه ،فأوقعهم ،ولكن خناجره اكنت أوقع هبم .أثناء املعركة،
رأيته يقذف خناجره ،واحدا تلو اآلخر ،ليسقط هبا الصناديد
كألواح من حديد!
وجلس نا حتت رمحة أيب شفة (وهذا لقبه) مرجتفني .اكن رسيع
الغضب ،ال يطيق مراجعته يف أي أمر ،وجعرفته عظمية ،واحلقد
يف قلبه ال حياول دفنه .فقد مجعنا جفأة يف اليوم التايل ،ألنه
استيقظ ومزاجه غري رائق ،فانتقى منا لك طويل ووس مي ،فذحبه
بيده! مث أبقى بقيتنا ،ليبيعهم يف الزرقاء!
ووجدت إنين أعود حليث بدأت ،حىت إنين فكرت يف العودة
إىل ساوة ،وكفاين ما أصابين من حرسة وندامة .ولكن أين املفر
من األرس؟
304
وبعد يومني يف البحر الغادر ،عدان للمدينة امللعونة ،وقادوان
اكلهبامئ للسوق.
وهنا وجدين التاجر اإلفرجني ،جربائيل ،اذلي كنت أمعل
عنده!
أرسع حنوي ينظر ،وبشأين يفكر ،مث رصخ يف امجلوع أن
أغيثوه ،فهذه بضائع مرسوقة ،ومنه مهنوبة ،وهذا القرصان قد
خالف العهد ،ونقض اذلمة ،ورسق اتجرا حامال لصك األمان.
دهشت حينا ،حىت فهمت أن بعض جتار الفرجنة حيصلون
عىل ما يسمى بصك األمان من األمري األبيض ،مقابل أموال،
وبعد وساطات .لكن من حيمل هذا الصك ،ال يقرتب منه أي
من قراصنة الزرقاء ،سواء يف املدينة ،أو يف البحر .ومن خيالف
هذا الصك ،ينبذ من املدينة ،وال يسمح هل أن يبيع فهيا الغنمية.
وجادهل القرصان بغضب ،ألن السفينة اليت اهنهبا ليست ألحد
التهار ،وإمنا لصياد ينقل جتارة دون إذن ،أو دفع إاتوة .لكنه
بعد أن أحرق السفينة ،وقتل البحارة ،مل يبق يف يده دليل
يدحض بينة التاجر.
وبينة التاجر قوية! مال يريش به من شاء من الشهود،
وأحالف مع أمراء الفرجنة ،وغريمه من القراصنة ،ينرصونه
ليضيقوا اخلناق عىل خصمه!
305
وابلفعل جتمع عدد من الرجال ،مييلون عىل جربائيل ،يفاوضونه
مهسا يف مثن نرصته .ودارت العيون حولنا ،لرنى عرشات
البلطجية يتجمعون ،طمعا يف أن ينشب القتال ،ليحصلوا عىل
أجر عن لك رأس يقطعونه.
وهنا ذابت جعرفة أيب شفة القصري ،وطلب احلمك والتقدير من
أمري املدينة ،ألن هذا خالف سوق ،وخالفات السوق ال حتل
ابلقتال ،وإمنا عند األمري.
وهنا أتوا بنا وابلبضائع لألمري .ومهس التاجر قليال يف أذنه،
حفمك ابلبضائع أليب شفة ،والعبيد جلربائيل ،عىل أن يدفع أليب
شفة مقدار اإلاتوة املفروضة عىل سفن البضائع ،فرىض الاثنان
ابحلمك ،اذلي بدا للقرصان خسيا معه ،فمل جيادل!
وتدافعنا عىل جربائيل نشكره ،ويفتدي من يس تطيع نفسه
ابملال ،ال نرغب إال يف الفرار من تكل املدينة امللعونة.
أطلقهم التاجر ابلفدية إال أان .أبقاين جانبا ،مث أخذين لألمري.
تلكم األمري:
"هذا التاجر يزمع إنك رسول من رسل القائد األسود؟"
مصت ومل أجب ،فتلكم جربائيل نيابة عين:
"خدمين بضعة أسابيع اي موالي ،زاعام إنه آت من ساوة يف
الغرب ،من حيث أىت أولئك األمراء .وما سأل عن يشء ،إال
306
عن أنباء األمراء ،هو جاسوس للقائد األسود ،يتسمع األخبار
حامت".
نظر هل األمري األبيض بربود ،مث أخرج كيس داننري ،فنفحه هل،
وأشار هل أن يرتكنا منفردين.
ما أن خرج جربائيل ،حىت قال األمري:
"أتعمل أن بيين وبني س يدك ثأرا؟"
أرسعت أقول:
"موالي األمري األبيض .لست خبادم للحقري ،وال جاسوس
للطاغية .إين ذاهب إىل طرابل ،إلنقاذ قرييب من رشه ،فأان من
أهل ساوة ،وللوريث علينا ذمة وأمانة ،ووجبت علينا حاميته
من القتل غدرا وغيةل".
نظر يل بدهشة ،وقال:
"أنت رفيق الغول األمحر ،اذلي يتحدثون عنه إ ًذا؟ ما شأن
ذكل الرجل؟"
رددت:
" مايل وماهل؟ هو رجل أمحق مغرور ،لكنه واسع احليةل،
شديد اجلرأة والبطش .عىل إنين انفصلت عنه عند الثغر
الصغري ،وأمكلت طريقي وحدي".
تلكم األمري بصوت هامس:
307
"يقال أنه حاول إنقاذ أيخ من قتةل األسود؟"
رددت مبا علمت:
"أخربين إنه التقى بشقيقك ،واكن بيهنام يشء من وفاق ،ولكن
شقيقك أرص عىل السري يف طريقه وحده ،معزتما همادنة
األسود ،لوال أن األخري غدر به ،كام س يغدر بلك حلفاءه".
تغري وجه األمري يف رسعة مذهةل ،وقال برصامة:
"حس نا اي ابن ساوة .القائد األسود رش البد منه ،وال أس تطيع
منابذته ،وإرساكل إىل طرابل .ولكن قليب ال يقوى عىل إرساكل
هل ،مفازلت انمقا أليخ .عىل أي حال ،أان أبعد نظرا من هذا
الغول ،اذلي بعث حيا بعد طول موات ،وسأختار إبقاءك يف
جسين ،حىت نرى من أمر األمور ،واحتدام اخلطوب ،وكيف
تسري بنا املقادير يف هذا اهلم اخلطري".
واقتادوين إىل قعر مظلمة ،ألقيت فهيا ،وسط خليط من
أرجاس ومظالمي ،ال أدري من شأين شيئا ،وال أعمل لهناية الليل
جفرا".
308
()29
309
بذنوبه ،وتسمينا ابجلدد .وقد غريان من بعض القوانني الظاملة يف
كتاب الشهاعة ،اذلي اكن الفىت مفتوان به ،حىت إنه نسخه
ابلاكمل يف ليةل واحدة.
عيل! فقد اكن يناقش ين يف الكثري من واكن نسخه لعنة ّ
القوانني ،اليت ال أعهيا ،فأرحي رأيس ،وأقول إننا استبدلناها بكذا
وكذا.
مفثال أاتين يقول:
"أترى حقا كام القانون الثامن أن الشهاعة تسمو فوق لك
يشء؟"
فأقول هل:
"القانون اجلديد نلزم جانب احلق همام اكن".
واحلادي والعرشين اجلديد:
"ال ضعيف بني الغيالن".
والثالث عرش:
"س يفنا ال خيفمض حىت مخيفض الظامل"
وغريها من التغيريات ،اليت مل أحتفظ هبا يف ذاكريت ،لكنه
سارع بنقشها يف أوراقه! مث أاتين ذات يوم بسؤال مزجع:
"كيف يصبح املرء غوال أمحر؟"
310
أخذت أحشذ ذهين ،وأجيب ببعض األاكذيب ،اليت خدعت
هبا تميور ابن زهري الساوايت ،مضيفا القانون الطريف بأمر
البحث عن األخالق النقية عند احليواانت ،حىت أزحي مهه
عين ،فال يفاجئين بطلب الانضامم هلم!
وقد حتمس جابر لتكل اخلزعبالت ،ال ألقي يف انره ابجلديد
مهنا ،إال زاد يف إزعايج طلبا للمزيد .وذل،ا مفا أن اش تد
ساعدي ،عزمت بلك ارتياح عىل الرحيل ،وتوهجت مع غول
احلق إىل الزرقاء.
رسان مع دليل ،أوصلنا لبداية الطريق ،مث أمكلنا وحدان،
همتدين ابلنجوم حتت سرت الليل اآلمن ،ومضينا حىت وصلنا
للزرقاء.
الزرقاء ،تكل املدينة العتيدة ،اليت شهدت طفوليت ،ومراعي
الصبا .واه اي زرقاء! مك اش تقت إليك .ومك أهابك اي من خضبتك
ادلماء.
مدينة غادرة ،متقلبة اكلبحر اذلي نبت منه ،ال أمان حلامك
فيك ،وال مس تقر لساكن منك .مك ابتلعت قبورك من أبرايء،
ومك لفظ حبرك من حضااي ،ومك جذبت أسواقك من مفتونني ،ومك
آوت جباكل من أشقياء!
311
هلكت جيوش تطمع يف غزوك ،وأخرى تدافع عنك ،وبني
هذين ،سالت دماء أبنائك أاهنارا بريئة ،ال تصب إال يف حبرك
املاحل.
لكين ال أنىس كرمك الفائض ،وخرياتك املنعمة حيامن حتنني ،كام
حنوت عىل أيب الالجئ ،وآويته ،وأمّنته من غدر األهل،
وجور احلاكم .لكنك أخذت المثن بقطف مثرة قلبه البكر دون
إنذار ،قبل أن تغريق لكك يف حبور الفهار.
آه اي زرقاء .ها أان أعود كل ،عىل غري انتظار ،كام خرجت
منك بغري توقع .وش تان بني اليوم واألمس ،خرجت فارا،
تطاردين األهوال ،وأجاهد ل ي أحلق خبطى وادلي املرسعة ،يف
اثين هروب هل ،ومل يكن األخري ،لقد هربنا حىت سأمنا الهرب.
ورمغ فزعه ،أذكر أنه مل يقاوم الالتفات خلفنا ،والنظر إليك
نظرة ،ظننهتا األخرية ،وأنت تتوههني بنار ،وقودها القصور
واألبرايء.
لهنا أىت وادلي فالحا ،فأصبح صياد مسك .وهنا عرف أيم،
وتزوهجا ،وذاق حالوة األبناء والسعادة .ومن هنا خرجنا
فزعني ،ال جند أماان إال يف اجلبال اخمليفة ،اليت تربينا عىل
حاكايهتا املفزعة عن جن وش ياطني ،وعش نا عىل صيد الرب
نقتات ونبيع ،حىت جهران املاكن لكه ،وابتعدت عنا املدينة
احلبيبة ،ويه حتترض يف قبضة حاكهما اجلدد.
312
ش تان بني األمس واليوم .خرجت ابألمس من أسوار بيضاء
مجيل،ة مزينة برسوم زهور وأسامك ،واليوم أعود لها شااب فتيا،
يزمع إنه زعمي هماب ،يطارد األخطار عرب حطام همدم أسود.
دخلت مع غول احلق للمدينة ،وجتولت يف طرق أحفظها رمغ
يد ادلمار اليت بدلهتا .هذا اكن قرص شهبندر جتار األمقشة ،وهو
اليوم خرابة متتلئ ابلننت واخمللفات .وتكل اكنت حديقة ألعب فهيا
مع أطفال املدينة ،ومنرح حول انفوراهتا يف قيظ الصيف،
حتولت ملقربة مكدسة بآالف القتىل.
وذاك اكن املسهد العامر ،منارة العمل والفقه واإلميان ،أصبح
همجورا منبوذا ،يأوي البوم اهنارا ،واملرشدين ليال.
وبه اكن مبيتنا.
بت ابيق الليل مع غول احلق ،أجاهد دموعي عىل ما آلت هل
أحوال املدينة .وملا استيقظنا -إن اكن بعد األرق يقظة -أردت
معرفة ما أصاب أهلها ،فتجولنا.
اكن أهل الزرقاء ،الودودون البشوشون املهذبون ،قد
انقرضوا ،مل يبق من وجوههم امجليةل يشء ،وحل حملها تكل
السحن البغيضة القاس ية .مل أجد ممن عرفهتم من الساكن أحدا.
مل يعد للمدينة اليت عرفهتا أثرا.
آه اي زرقاء ،مك تبدلت اي مدينة التهار والبحارة!
313
عىل إنين يف الهنار التايل ،أدركت أن بعض سنن املدينة القدمية
مازالت حية .ل ي تعرف ما تريد من أخبار ،فس تهدها بسهوةل
يف امليناء؛ ولكن يف املقابل ،س يعرف لك من هب ودب
بأمرك! ..لكن لو تركت امليناء ،واكتفيت ابإلنصات يف امحلامات
واألسواق الصغرية املزدمحة ،أو لو ثرثرت مع عامل السفن
الرحاةل ،يف أمر بعيد متاما عام تريد ،س تهد أنباء ادلنيا لكها،
تنصب بيرس يف أذنك ،تنتقي مهنا ما تشاء.
واختلطت ابلعامل ،اذلين يتجمعون قرب األسواق ،ينتظرون
أن يكرتاهم أي خشص يف الرب أو البحر ،كام اعتدت عىل رؤيهتم
يف صباي .فقط زاد علهيم أن انضم هلم البلطجية ،ملن يرغب يف
تأجري سفاك دماء!
علمت ،مما مجعته من أخبار ،أن الكثري من األمراء والرسل
رحلوا من الزرقاء لطرابل ،ولكن أكرث من نصفهم مل يصل
(لفرحيت وشامتيت) لها ساملا!
ومسعت نبأ غريب ،عن جاسوس لألسود ،اعتقهل قرصان،
فافتداه اتجر ليحبسه األمري! وأصابين الشك يف هذا النبأ ،وما
أكد شكويك ،هو إن أمري الزرقاء اجلديد ،إما أن اهادن السود،
فيطلق رساح جاسوسه ،أو يقتهل ثأرا ألخيه.
وراودتين نفيس أنه رمبا يكون تميور ،فهو أمحق مبا يكفي ل ي
يعمل لك أهل املدينة أنه يطلب طرابل ،سعيا خلف الوريث،
314
ويف الوقت نفسه تلقى درسا مؤملا يف الثغر الصغري ،ليكمت أمر
نس به وتأييده للوريث.
وألقطع الشك ابليقني ،ذهبت للتاجر اإلفرجني جربائيل ،زاعام
البحث عن معل ،وابلفعل كنت ،وغول احلق ،حباجة للعمل،
لنتكسب معيشتنا ،دون أن نلفت انتباه الناس ملا معنا من نفقة
قليةل ،منحنا إايها جابر الغاريب.
لكن التاجر املاكر مل يأمن لنا يف البداية .جفسداان الطويالن
القواين يصلحان محلل األثقال ،كام يصلحان للقتل والاغتيال!
أخذت أحاول إزاةل الريبة من قلبه ،وأخربته إنين ودلت يف هذه
املدينة ،ويه حقيقة ،يسهل أن أثبهتا بذكر أسامء األرس القدمية.
وقلت هل إنين عدت مع أيب لبدلته القدمية ،هراب من مذاحب
القراصنة ،ولكن أههل طردوين ،ملا مات ،واس تولوا عىل أريض،
فقلت إن األمر سواس ية ،وألعد دلار طفوليت ،مع صاحيب
نسرتزق من التهار .اكنت حاكية ممنقة متاثلها آالف احلاكاي اليت
مسعها الرجل ،ولكن ما ميزيها إنين أعرف خبااي املدينة ،واألمه
خبااي جبالها ،اليت جلئت لها عدة شهور.
وجبال الزرقاء وعرة ،خميفة أساطريها ،ولكهنا امللهأ وقت
الاحتياج ،إن اثر عليك غضب القراصنة ،وممراهتا تتحمك بطرق
القوافل الربية ،اآلتية ابلكثري من الرزق واملكسب ،وثناايها
315
ختفي لصوص القوافل ،اذلين ترغب يف الهروب مهنم
ببضاعتك ،والاتفاق عىل رشاء خبس ملا اهنبوه من بضائع غريك!
وذلا اكنت معرفيت هبا هدية مثينة جلربائيل .وأمحد هللا إن غول
احلق مل يسمع حباكايت اكلوعر ابن حمباس ،واألمرية سليةل،
وشقيق اجملذوب ،وغريها من األساطري املرعبة ،وإال ما سار
معي خطوة واحدة حنوها!
316
()30
317
()31
وأما األمرية سليةل ،فهىي قصة خميفة تثري فزعي حىت اليوم.
حيىك أن األمرية سليةل اكنت فتاة مجيةل ،يه أهبىى بنات وايل
الزرقاء .ولكهنا أصيبت ابلسل اللعني ،فاختنق صدرها ،وضاق
نفسها ،ومل تعد تطيق هواء البحر.
ومجع لها وادلها احلكامء من لك البالد ،فأمجعوا أنه ال عالج لها
إال أن تستشفى يف هواء جاف ،يف منطقة جبلية ما .وحذروه
إنه ال حياة لها جوار البحر.
وألن وادلها اكن يعشقها ،وال يطيق فراقها ،فقد رأى أال
يبعدها عنه إىل مدبنة أخرى .فأرسلها لتعيش فوق أعىل جبال
الزرقاء ،وبىن لها قرصا مجيال ،مأله ابخلدم واحلرس .واكن
يزورها لك حني ،ويأيت لها معه بأغىل العطور واأللبسة.
لكن قرصها امجليل اكن مطمعا للكثريين .مفهنم من أاتها خاطبا،
ومهنم من هامجه مغريا .فأما اخلطاب ،فقد ردمه أبوها ،ألنه
318
خيىش عىل جسدها العليل من أثقال الزواج .وأما املغريين،
فردمه حرسها القوي ،والسور املنيع.
عاشت سليةل يف قرصها املنعزل حياة هادئة طيبة .ومل جتد ما
تشغل نفسها فيه إال حديقهتا .زرعت حديقة صغرية يف فناء
القرص ،وقضت أغلب وقهتا يف رعايهتا ،رمغ أن قسوة الرتبة،
وندرة املاء حتمك عىل أي حديقة ابلهالك.
لكن حديقة سليةل ازدهرت ،رغام عن أنف الساخرين .وأمام
عيون وصيفاهتا اذلاهةل ،تفتحت الزهور ،وأينعت الرايحني،
واجمتع لها من النبااتت النادرة ،ذات الرواحئ واأللوان املهبرة ما
ال يوجد حىت يف حدائق امللوك واخللفاء.
وذات يوم ،صعد اجلبل إعرايب صعلوك من املغامرين ،يسمى
األهجم .اكن األهجم قد قتل أحد الفالحني ،وطارده أههل طلبا
للثأر ،فمل جيد مفرا إال صعود اجلبل املهجور .واكد أن اهكل
جوعا وعطشا ،عندما التقطت أنفه راحئة الرايحني ،فقال
لنفسه:
"لعهل ومه يصيبين يف الاحتضار .فأان لست ابملرء الصاحل،
اذلي جيد رحي اجلنة عند موته! اي خليبيت اليت أضاعتين،
وأضاعت حيايت هدرا ،وجعلت آخريت رضا!"
319
لكنه مىض يتتبع الراحئة الزكية ،ففتح عينيه مهبورا إذ رأى
القرص يف هذا املاكن املهجور ،حىت تصور أنه قرص من قصور
ملوك اجلان.
طرق ابب القرص مس تغيثا ،ال يطلب إال حفنة من طعام،
ورشبة ماء تنقذه من املوت .فرق قلب األمرية هل ،وأمرت
احلرس أن يفتحوا هل الباب ،ويكرموا الضيف.
وأكرمته أميا إكرام .فبسطت هل موائد الطعام والرشاب ،وأفردت
هل جحرة يف القرص للمبيت .مث تركته وذهبت كعادهتا ،للعناية
حبديقهتا.
وملا ذهب عناء اجلوع ،ووعكة السفر ،زحفت غشاوة اجلشع،
فوق فضائل الوفاء .وحترك قلب الصعلوك الهنم إىل ما رآه من
كنوز وجموهرات عند األمرية سليةل .لكنه اكن أكرث مكرا ورشا
وطمعا من أن خيتلس القليل واهرب .فذهب لقائد احلرس،
وأخذ حيدثه وميازحه ،ووجد عنده زجاجة مخر ،خيفهيا عن
األمرية اليت تكرهها ،فقال هل:
"وما ذلة الرشب دون ندمي؟"
جفلس قائد احلرس واألهجم معا يعاقران امخلر ،حىت خف
لسان القائد ،وتودد هل الصعلوك ،وبدأ يغريه ،فقال:
"تكل األمرية املسكينة مريضة حقا .وإن موهتا لقريب".
320
قال قائد احلرس:
"حقا س متوت قريبا ،لنعود دلايران أخريا".
قال األهجم:
"وأظن أن أهلها لينتظرون موهتا".
حضك قائد احلرس ،وقال:
"ليس مثيل .أان أنتظره بصرب فارغ ،ألعود دلاري ،ومه
ينتظرونه حبزن وتوجس اكره".
قال األهجم:
"تعين أاهنم ال يطمعون يف مرياهثا ،وتوزيع كنوزها؟"
قال القائد:
"وما كنوزها وسط أموال أبهيا؟ إنه وايل الزرقاء ،يغرف يف
األموال كيف يشاء من التهار والبحارة".
قال األهجم:
"خسارة حقا أن حترس لك هذا املال ،وأن تبذل حياتك
محلايته ،من أجل فتاة ميتة ،مث يف الهناية ال تنال شيئا ،وتعود
خائبا".
قال القائد:
"ال تذكرين ،وتزيد مهي".
321
فقال األهجم:
"لو اكن كل رشيك مفكر ،لرمبا اس تطعت أن تفوز بقليل من
الغنمية ،ماكفأة تس تحقها عىل هجدك".
قال القائد:
"وكيف هذا؟"
قال األهجم:
"لو كنت ماكنك لبحثت عن خشص يعينين .مفا أن متوت
األمرية ،حىت يدفن يف قربها بعض اجلواهر واذلهب .وبعد أن
ينفض الناس ،ويغادروا القرص ،ويفتشوا لك احلرس ،ويطمئنوا
أن شيئا مل خيرج معهم ،تعود فتأخذ اجلواهر املدفونة ،وتقتسمها
معه".
قال قائد احلرس متعجبا:
"وماذا عن جسد األمرية؟"
قال األهجم:
"هذا دور الرشيك املاكر ،فعليه أن حيمل جثهتا ،وخيفهيا
بعيدا".
قال قائد احلرس ابهامتم:
"ولكن عند موت األمرية س يحوطها احلكامء والوصيفات؟"
322
حتول األهجم للرصاحة ،فقال:
"أكفيك أان رش األمرية .آخذها وأضعها يف كهف رأيته،
أحبسها حىت متوت .بيامن تعلن أنت موهتا ،وتدفن اذلهب يف
كفهنا .لن يكذبك أحد اي قائد احلرس ،فلك يشء هنا حتت
إمرتك ورمحتك .وتبقى األمرية عندي ،حىت تعود يل ابذلهب،
وتقتسمه معي .فيأمن الكان غدر صاحبه .أنت معك املال ،فال
أس تطيع تركك ،وأان معي األمرية ،لو تركهتا هلكت أنت".
فكر الغادران معا يف اخلطة املاكرة ،وقلباها عىل لك وجه ،مث
أمساك ابألمرية ،فوضعها الصعلوك يف كيس ضيق ،ومجع القائد
ذههبا ،ولفه يف خرقة من كتان أبيض ،اكلكفن ووضعها يف
اتبوت ،وخرج عىل القوم مولوال ،معلنا أن األمرية سقطت ميتة
بغتة.
محل احلرس اتبوت اذلهب ،فدفنوه يف احلديقة اليت أحبهتا
األمرية ،بيامن انهتز األهجم انشغال القوم ،وتسلل ابلكيس،
املربوطة فيه األمرية سليةل ،حنو اجلبل.
وجاء الوايل حزينا ،يشهد دفن ابنته ،ويصيل علهيا ،مث رحل
مع اخلدم والوصيفات ،اتراك أغواته حيرتزون املال ،واحلىل،
واألاثث ،قبل أن يغلق القائد أبواب القرص ،ويعود معهم نظيفا
خايل الوفاض للمدينة ،ال يرى أحد معه درمه من ذهب الوايل.
323
مث يف الليل ،عاد قائد احلرس .ليس خاوي الوفاض ،كام غادر؛
بل اكن حيمل معه ثالثة أش ياء :مفاتيح القرص ،وجمرفا للحفر،
وس يفا مسموما لقتل األعرايب واألمرية!
أخذ حيفر القرب الومهي ،وفتح التابوت متلهفا ،لرؤية أكداس
اذلهب ،فإذا به جيد بدال مهنا جسد األمرية!
ففي غيبة احلرس ،اكن من السهل عىل مغامر ممترس مثل
األهجم ،أن يتسلق سور القرص ،ويأخذ الرثوة لنفسه ،ووضع
ماكاهنا سليةل املسكينة ،وأغلق علهيا القرب ويه حية.
واثرت دماء القائد الغادر املغدور ،حفمل س يفه املسموم،
وترك جثة سليةل مكشوفة للضباع واذلئاب ،وخرج من القرص
يتتبع آاثر أقدام األهجم يف غضب حقود.
وعرث عليه رسيعا.
أو عىل األحص عرث عىل ما بقى منه .اكنت عيناه مقلوعتني،
وجدله مسلوخ ابلاكمل ،وقد علق ومازال فيه النفس فوق جشرة
هزيةل ،وأسفهل الوحوش تلعق دمه ،وتهنش قدمه.
لكن بريق اذلهب األصفر اكن غالاب لدلم األمحر ،فغض نظره
عن رشيكه املتعذب ،واحنىن عىل أكوام النقود امللقاة خلف
الشجرة ،يريد مجع ما يس تطيع مهنا والهرب.
324
وإذا به جيد قدما تقف فوق املال .رفع عينه ،فوجد األمرية
واقفة أمامه!
اكنت ميتة حامت .عفن املوت يفوح من جسدها ،اذلي اكن
غضا ،ورمغ ذكل خرجت من قربها ،ومشت جتاهه!
متاكل جأشه كعسكري حمنك ،وأخرج الس يف ،فبرت رأسها
برضبة واحدة.
لكن ابيق جسدها ،ظل يقرتب منه ،فمل ميكل إال الرتاجع
خبطى مذعورة.
طعهنا مرة أخرى ابلس يف ،ومل ينزتعه من جسدها ،بل تركه
وهرب .لكن اذلهب ثقيل ،واألجحار وعرة ،فتعرث املرة تلو املرة،
ومل يلبث أن ألقى ابملال أرضا ،وأرسع اهرب مهنا خفيفا.
وهنا احتبسه جفأة وحش معالق.
يزمعون أنه اكن يف صورة ابن آوى ،أو ذئب ،أو ضبع ،لكن
خضامة جسده ،وهجامة وهجه مل تكن مثل أي من تكل
الوحوش .واكنت العينان مش تعلتني بنار ،تبدو آتية من اجلحمي،
واألنياب طولها ذراع اكمل ،وخمالبه من حديد ،اخرتق درع
القائد بسهوةل.
تلكم الوحش اثئرا ،وقال إنه مكل جن هذا اجلبل .عاش فيه
زاهدا منعزال منبوذا ،حىت جاورته األمرية ،وأثلجت صدره
325
بلكامهتا الرقيقة ،اليت صربته عىل عقوق أههل .فوقع يف حهبا،
وزرع لها حديقة بال مثيل ،مث أتت ش ياطني اإلنس ،فاقتلعت
احلديقة ،ودفنت بني جذورها غدرا سليةل.
وارجتف قائد احلرس رعبا ،وقال:
"لست قاتلها .مل يكن أان".
قال مكل اجلن:
"أاها اخلائن احلقري .أعمل ما فعهل صاحبك ،فنال مين أقل مما
يس تحقه .لكن جرمك أش نع وأفظع ،ولن أتركك متوت مراتحا،
بل ألقي جبرميتك يف وهجك".
وانقض عليه ،فهنش وهجه ،واقتلع عينيه ،وسلخ ذراعه الميىن
اليت محلت اجملرفة وانهتكت قرب سليةل .وقال هل إن روح األمرية
س تظل هامئة يف اجلبل تنذره بلك من يقلق مضجعها ،وحيهنا
س يأيت ،ويثأر منه بأبشع قتةل .وأمره أن يرحل بعاره ،وتشوهه،
وأن خيرب الناس بأال يقربوا قرص حمبوبته ،وإال س يلحق هبم
غضهبا وثأرها.
326
()32
327
وخيش كبري التهار عىل ابنته من ألس نة الناس ،إن مات الفىت
يف الزرقاء ،فأمر وادل الفىت ابخلروج من املدينة هو وأرسته.
لكن األب رفض ،ومتسك ببيته اذلي ورثه عن أجداده،
فغضب كبري التهار ،وسلط رجاهل عىل األرسة املسكينة ،فدمهوا
داره يف قلب الليل ،واختطفوا اجملذوب ووادليه ،وألقوا هبم يف
الصحراء ،خارج املدينة ،واستبقوا عندمه الابن األصغر،
وهددومه بقتهل لو عادوا للزرقاء.
وهكذا ،خش ية عىل اخملطوف ،أخرج املقهور أبنه اجملذوب
من الزرقاء.
وبقى شقيق اجملذوب صبيا صغريا أسريا ،مل اهمت به أحد .ومل
يلق التاجر هل ابال ،بل ضاق بنفقة إطعامه فأمر رجاهل بإلقائه
بعيدا عنه .فأمسكوا به ،وقيدوه ،وألقوه يف الصحراء ،لكن
الفىت هرب مهنم ،وصعد للجبل ،وأصبح احلقد يمتلكه عىل لك
أهل الزرقاء ،فإن رأى إنس يا يصعد اجلبل تسلل وراءه ،ودفعه
لهيوي قتيال من حالق.
وغري هذه من احلاكايت الكثري ،عن خملوقات اثئرة ،تبغي
ادلماء ،تسكن أعايل اجلبال احمليطة ابلزرقاء ،فتنفر أهلها من
الاقرتاب مهنا.
328
()33
اكن جربائيل عاشقا متامي .وحبه الكبري ميأل عليه حياته ،فلك ما
يفعهل ينبع من هذا احلب ،ولهذا احلب! ولكن حبه مل يكن لفتاة،
أو أهل ،أو بدل ،اكن حبه لكه للامل وحده! هل قلب يسع أي
خشص ،همام اكن حقريا ،أو فاسدا ،أو مبغضا هل ،مادام سزيهر
حياته مبعشوقاته من ادلاننري اذلهبية!
هكذا عرفته ،بعد وقت قصري من العمل معه .القراصنة ال
تتسامح أبدا مع أي خشص اهرب من دفع إاتواهتا ،أو يشرتي
بضائع مل تدفع علهيا اإلاتوات الباهظة؛ ولكنه يقبل اخملاطرة،
بقلب جسور ،للفوز ابملزيد من املال .وقد ذهب يف هذا ألبعد
احلدود فوق تصوري ،رحبت ثقته برسعة أذهلتين ،بل أصابتين
ابلريبة! ورسعان ما اس تخدمين أان وغول احلق ،لنقل البضائع
المثينة من ماكن آلخر ،عرب املدينة ،أو خلارهجا بعيدا عن
العيون .وجعلنا اهنرب مهنا العطور والتوابل ،وإلهيا العاج
واجلواهر ،عرب اجلبال ،بعيدا عن مداخل املدينة املطروقة.
329
عيل يف بدايهتا ،ألن حال اجلبال تغري
اكنت املهمة شاقة جدا ّ
كثريا خالل الس نوات املاضية ،ومعرت بعض أجزاءها بأخالط
من قطاع الطرق واملهربني ،اذلين جذبهتم ،أو لفظهتم املدينة
الهاجئة .وأضف لهذا إنين إمنا كنت صيب صغري يف دروب اجلبال
ال يعي لك ما حوهل .لكن بقليل من احلظ واخملاطرة ،مزجته
ابحلذر والفطنة ،شققت طريقي آمنا ،وعرفت من ادلروب
الفريدة ،ما غفل عنه غريي ممن سكنوها منذ س نني!
ورسعان ما اطمنئ التاجر لنا ،بعد أن اس توثق من براعتنا
وأمانتنا .وكنت يف أمر األمانة هذه حذرا ،ألنه سرياتب حامت
فمين يعمل يف هذه املهمة اخلطرة ،دون أن تراوده نفسه لبعض
املغامن ،فاختذت حال وسطا ،بأن أعود هل بعد لك هممة ،حمتفظا
بيشء من البضائع لنفيس ،ألقول هل بغلظة:
"اكن األمر اليوم شاقا فزدت من أجري وأخذت كذا!"
وألن هذا الـ (كذا) يكون أقل مما خيتلسه غريي يف غفةل منه،
فقد رىض هبذا احلال ،بل قال يل:
"إين آلنس بك اي عندليب (وهو الامس اذلي انتحلته لنفيس)
فإنك مثيل حمب للامل ،وخملص هل ،وتفهم كيف ترحبه دون أن
تثري غضب غريك .ويه صفة عظمية ،جتعلين أطمنئ لوالئك يل،
مادام رزقك معي!"
330
وجاريته يف ثرثرته ،ومسعت منه حاكيته .اكن اتجر عطور
وعطارة صغري يف البندقية ،وملا هبت امحلالت اإلفرجنية ،تتواىل
كقطع الليل املظمل عىل بالدان العربية ،خرج جده مع املقاتلني
اآلمثني ،فأصبح هل إمارة وجند ،قبل أن ميوت ،وخيلفه أكرب
أبنائه.
وتوىل احلامك اجلديد اإلمارة الصغرية ،وفرح مبا غمنه ،وتطلع ألن
جيمع لك أههل من حوهل ،يساندونه ويعزونه .فأرسل إلخوته
وأبناء إخوته ومعومته أن يأتوه ،ومهنم جربائيل ،وأكرهمم ،ونصهبم
فرساان.
واكن جربائيل يف ش بابه (كام يزمع ولست واثقا من قوهل)
وس امي مليحا ،يعجب الفتيات ،فأحبته ابنة معه األمري ،وتطلعت
هل زوجا .كام إنه اكن علامي ،بفضل جتارته ،ابلعربية والهندية،،
ولغات عدة جعلته جييد العمل مع األمراء ،واخلاانت ،وغريمه
ممن يرتددون عىل قلعة معه ،طلبا للحلف أو احلرب.
ولهذا وذاك ،قربه معه هل أكرث من غريه ،واختذه أحد وزرائه،
وهمد ألمر زواجه من ابنته ،لوال أن قتل بغتة يف غارة عىل
إحدى املدن العربية.
وهنا أمضر هل أبناء معه ،وإخوة خطيبته ،الرش .اكن املكل
الصلييب لبيت املقدس حيب بث الفرقة بني األمراء الصغار ،ل ي
331
تظل قالعهم الصغرية ضعيفة أمامه ،تطيع أمره .حفذر أبناء مع
جربائيل ،وقال هلم:
"هذا رجل يعرف من اللغات واأللس نة ما ال تعرفون ،مفا
أدرامك أن يتآمر مع سفراء خصوممك أماممك ،وأنمت ال تدرون؟
ويعرف من فنون العطارة الكثري ،مفا أدرامك أن يدس يف طعاممك
أو عطورمك سام خيلصه منمك ،بعد زواجه من أختمك؟ خشص
كهذا لو اكن يف بالطي لقطعت رأسه!"
لكن جربائيل مل يكن هاواي لسلطة أو زعامة ،املال هو عشقه
الوحيد! مل يصعب عليه أن اهجر األمرية ابنة معه ،وأقاربه،
والفرسان اذلين يلهجون ابمسه .ختىل بسهوةل عن لك هذا
الزخرف ،رمغ إنه -كام يزمع -اكن حمبواب من اجلنود والساسة،
ولو أراد ،خللع خصومه ،وتوىل ماكاهنم! ببساطة رحل عن قلعة
معه خمتارا ،وعاد إىل التهارة حيث اكن مجع املال من أرايض
الرشق املهنوبة أمرا سهال .هناك كنوز وأموال اهنبت ،جتري يف
أيدي جنود ال يعرفون قميهتا ،أو جواهر مرسوقة يبيعها السارق
بربع المثن ،حيامن يغيل ،ل ي يرحتل ويرسق غريها!
وجد الكثري من منامج اذلهب ،اليت تفيض ألي جشع،
ورسعان ما أصبح ثراي جدا ،ووجد يف الزرقاء مالذا ومس تقرا
آمنا .أدرك بفطنته أن القراصنة -بعدما أحرقوا املدينة -لن
ميانعوا يف جميء التهار هلم ،لبيع غنامئهم ،فاكن أول اتجر يتجرأ
332
عىل الاقرتاب من املدينة بعد سقوطها! وقد أغمنه هذا أرابح
خميفة ،مازال يتذكرها حبنان وشوق! وأكس به نفوذا كبريا وسطهم.
الفرجنة معوما ال يتورعون عن التعامل مع القراصنة ،فالتهارة
شطارة ابلنس بة هلم ،ال اهم أن تكون البضائع مرسوقة .فنهد
العالقة بني الفريقني طيبة ،رمغ إن لك مهنام يتصيد اآلخر يف
البحر! ال أفهم حقا كيف أصف األمر بني الفريقني ،فهو أجعوبة
من جعائب ادلهر! عىل إنين أذكر مقوةل اكن يقولها أحد
املتفلسفني يف الزرقاء ،إن القرصان خيرج يف سفينة لغزو
سفينة ،واإلفرجني خيرج يف أسطول لهنب مدينة! فالكهام أخوة!
عىل أي حال ،أجدت دور املس متع املداهن ،واملساعد
عيل
املشاغب جلربائيل اإلفرجني ،ورسعان ما اعتاد أن يقص ّ
أجماده ومآثره! أي خشص تعريه أذن مس متعة ،وتزمع إنك
معجب به ،س يفيض ابحلديث معك مفاخرا بسهوةل،
وس يصعب عليه أن يكمت عنك أرساره! اس متعت يف صرب
حلاكيته املزعومة مع أوالد العمومة ،وأبديت إجعايب به ،فانتقل
مفاخرا ملكره وصفقاته ،وكيف خدع هذا وذاك ،مدليا بأرسار
كثرية ،لكهنا قدمية ،فزمعت أنه يل مثل أعىل ،أتعمل منه ألكون
يوما مثهل! ورسعان ما انتقل من حديث التارخي حلديث
احلارض ،وبعد صرب ألايم أدىل أخريا مبا أرغبه ،وحتدث عن
ماكنته دلى حاكم املدينة ،وكيف خدهمم حبامس ،وأومههم
ابإلخالص ،فأصبح موضع ثقهتم ،ونفوذه عندمه مزدهر!
333
وابلطبع اكن حديثه عن جاسوس األسود ،اذلي معل عنده
هو ما أمهين! علمت منه صفاته ،وازداد يقيين إنه تميور،
وعزمت عىل اس تغالل نفوذ التاجر الواسع ،ملساعديت يف
إخراج تميور من جسنه ،والسفر إىل طرابل.
وأاتين غول احلق ذات يوم خبرب سعيد ،بيامن كنت أحسب
وأخطط دلخول السجن ،فعلها هو ببساطة! ذهب ليال
للسجن ،وغافل احلراس هنا وهناك ،حىت وصل لقلبه ،وشاهد
تميور وعرف ماكنه ،مث انسل عائدا! اكن يتحدث ببساطة
شديدة ،كأمنا هذا فعل يسري ،اعتاده يف جسون الثغر الصغري،
األشد من جسن الزرقاء كام يقول.
واتفق معي عىل أن يتوىل إخراج تميور من السجن ،عىل أن
أعد العدة للخروج من الزرقاء بعدها فورا ،وإال فرسعان ما
يكتشفون أمران ،وميسكون بنا مجيعا.
هنا انتقلت من مرحةل الاس امتع للتاجر ،إىل مرحةل احلديث
والتطبيق ،أخربته إنين أريد اخلوض يف مغامرات املال مثهل
ومعه ،وإنين أحتاج للخروج إىل جتارته يف املدن األخرى،
ألشاهد وأتعمل .طبعا مل يس تجب يل يف البداية ،الحتياجه يل
هنا .لكين أحلحت ،وزدت اإلحلاح ،واألغراء مباكسب من
البالد الرشقية ،أزمع إنين أس تطيع جلهبا هل .كنت أحتاج بشدة
للسفر عىل سفنه اآلمنة من القراصنة ،وأحتاج للسفر بأرسع
334
وقت ممكن .لقد تأخرت شهورا طويةل عن األمراء القتةل
ووفودمه .واألسود يزداد قوة ،واألنباء عن قرب تفامهه مع
الفرجنة واألهبال ،ملساعدته يف غزو البالد تزتايد .اكن اخلطر
يزيد مبرور الوقت ،وتأخري أكرث من هذا ليس يف صاحلي.
لكن تأخري هذا اكنت هل مزية ما مل أتوقعها! الوريث! حاكايت
متتالية بني الناس عن الوريث ،حاكايت ميلؤها األمل يرددها
البسطاء .اكنوا يتلكمون عن عظمة الوريث ،وعبقريته يف
الاختفاء عن األمراء ،ويذكرون مبنهتىى الشامتة ما أصاب
بعضهم ،عندما سقطوا أسارى يف يد األهبال ،فعذبومه حىت
املوت!
اكن األمل هذا ينفخ يف صدري حامسا ،ويزيد لهفيت عىل
السفر .وذلا مل أرحت ،حىت أعددت لك يشء عىل ما أريد.
اس تعددت للرحيل جفر امجلعة ،مع أول سفينة مغادرة للتاجر
جربائيل ،وأعد غول احلق نفسه الس تخراج تميور من جسنه .مل
أسأهل كيف س يفعلها ،مفثهل من عارش الشاطر عدانن ،يعمل من
احليل ما يعجز العقول!
وعند جفر امجلعة ،أاتين الغول وتميور ساملني .اكن تميور مرهقا
جدا ،ومهناك ،وقد الىق أهوال يف جسن حراسه من اللصوص.
مل يرغب حىت يف احلديث عام أصابه ،واكن يلهج حبمد هللا أن
خرج من هذا اجلحمي الضيق .لكين برشته إنه س يعود لبعض
335
الضيق ،حيث س نحرشه يف صندوق صغري ،لنضمه للبضائع
إىل أن خترج السفينة للميناء.
وصعدان للسفينة ،وجلس نا يف أماكننا ،حىت غفل عنا البحارة،
فأخرجنا تميور من خمبئه ،وفردت األرشعة ،وحتركت ابنة المي
بعد أن مألهتا رحي احلرية.
لقد خرجنا أخريا من الزرقاء.
لقد غادران اململكة أخريا ،وأصبحت طرابل أقرب إلينا من
حبل الوريد.
أخي ــــــــــــــــــــــــــــــرا !!!!!
336
()34
337
"حامت جربائيل قد اتفق مع جتار خارج املدينة ،ل ي يلتقط مهنم
بضائعا أخرى بعيدا عن إاتوات القراصنة".
واقتنعت حبديثه ،فقد فعلناها لسفن جربائيل عرشات املرات،
وقد ظهر إنه اكن حمقا ،لكن البضائع اكنت تزنل من السفينة إىل
الشاطئ ،وليس العكس.
فقد كنا حنن هذه البضائع!
حارصان البحارة جفأة ،واندفع بعضهم حنو متاعنا ،فأخرجوه
وانزتعوا منه درع الغيالن ،مث قيدوان ومحلوان ،يف مركب صغري
نزل بنا للشاطئ.
وهناك وجدان جربائيل ،وجواره خشص مل أره من قبل ،لكين
عرفته ،األمري األبيض الثاين ،أمري الزرقاء اجلديد!
اكنت الشامتة تقطر من جربائيل ،ال أعرف السبب ،فمل ير منا
هذا الرجل إال الرحب واملال ،لكهنا طباع الفرجنة اللئمية حامت!
سلمنا التاجر مقيدين ،اكلنعاج املهيئة لذلحب ،حلرس األمري،
قبل أن يركب سفينته ،ويغادران مع حبارته .ووقف األمري يرقهبم،
حىت غابوا عن انظريه ،مث أمسك بدرع الغيالن يتأمهل ،قبل أن
يقول:
"من منمك س يد الغيالن امحلر؟"
رددت عليه:
338
"أان من تطلب".
نظر يل بدهشة ،وقال:
"أنت؟ لكنك تبدو يل ابلرجل ذو احليل ،مل أمسع إن الغيالن
تلهأ للتحايل أبدا؟"
قلت بغيظ:
"احليةل خري من امحلاقة".
التقط نفسا معيقا ،حبسه دهرا ،حىت ظننت أنه سيسقط بني
أيدينا خمتنقا ،مث قال بصوت مبحوح:
"يزمعون إنك آخر من حدث أيخ ،قبل مقتهل؟"
نظرت هل ال أدري ماذا أقول ،وأان واقع حتت رمحته ،فاكتفيت
هبز رأيس عالمة اإلجياب.
فأشار يل أن أزيد ،فقلت":أخربين عام أصاب أهلكام يف
الزرقاء وقت سقوطها ،وعن إنه ال يثق يف األسود ،وال يمتىن
انتصاره ،لكنه يكره عداوته".
نظر يل بمتعن ،وقال:
"أأنت واثق من أنك زعمي الغيالن؟ يبدو يل أن شقيقي ثرثر
معك ابلكثري ،رمغ إنه ال يعرفك .قل يل ،ملاذا تناجز األسود؟
339
حامت سيسعده التحالف مع الغيالن امحلر ،لكن الغيالن ال أمل
لها يف حماربته ،فلك الناس تعاداها؟"
قلنت وأان أشعر ابلسأم من تكرار هذا السؤال:
"لك ما أرجوه هو عودة األمن لبالدان ،وتنصيب الوريث
حكام عدال للك أرجاءها .األسود س ينرش دما ًء وفوىض أكرث مما
هو موجود اليوم".
قال ابمتعاض:
"ال نفع يف حرب هذا اجلبار العيت .هل حلفاء عظام ،هتزت هلم
العروش الراخسة ،مفا ابكل بأنقاض عرش الوريث! أىن لنا حبرب
العيل جممتعني؟ األسود يفاوض لكاألهبال ،والفرجنة ،والسور ّ
هؤالء لنرصته ،ودعين أقول إنه اقرتب كثريا من إرضاهئم .مث
ماذا عن ضبة بين األسود؟ اليوم مه اهاندون زعميهم ،ويناصبون
ابنه العداء ،لكهنم حامت سينقلبون للهانب اآلخر! لك هذا ومعه
جيوش رجاهل اخمللصني ،وعقهل العسكري اجلبار ،اذلي أدار به
ادلوائر عىل لك من عاداه .كيف تطلب منا حرب األسود؟
احليةل خري من امحلاقة كام تزمع؟ ملاذا تس تخدم احليةل لنرصة أكرب
حامقة إذن؟"
قلت:
"لنرصة احلق".
340
قال:
"أي نرصة! بل الهزمية الساحقة! أنت نفسك مل تأمن لرجاكل
أن يقوموا عنك هبذه السفارة ،فأتيت بنفسك ،خش ية من أن
يبايعوا األسود عليك .أحتارب من ال تقدر عليه اجليوش؟ وألي
سبب غري ادلمار والانتحار؟ أتبحث عن ثأر ما؟ ال أمكل كل
حىت يف النيل من أظافره! أنت تقاتل بال هدف اي عزيزي ،بال
هدف".
بدا يل كأمنا جيادل نفسه أكرث مما جيادلين ،مل حيدث أصال أن
طلبت نرصة منه ،أو من الزرقاء .اكن شقيقه هو رفيقه الوحيد،
يف حياة ألمية جعيبة ،صعدت به أمريا عىل قتةل وادليه! أمري يؤمر
وال يأمر ،هل نفس تواقة للثأر من األسود ،وعقل خواف من
جنوده .أردت النفخ يف انر غضبه ،لعلها تذيب قيد يدي.
تلكمت حبامس:
"وماذا اهم النهاح والفشل؟ ملاذا ال أحاول؟ لو مل أفعل
لقضيت حيايت اندما متأملا حمرتقا .لو هلكت ،فلن تضايقين
ذكرى األقارب اذلين أهلكهم األسود! هللا حياسبنا عىل أعاملنا،
وليس عىل جناهحا أو فشلها .لن يقلقين مضريي ابلفشل إن
فعلت ما بوسعي ،ولن اهمد لنهاح أىت من هروب! السكون
ينجيين ،لكنه لن يطفئ انر الثلكى ،املقاومة عاجزة ،لكهنا تربد
قلوب املوتورين".
341
حضك حضكة جملهة قبيحة ،وقال:
"أنت ماكر أمحق! أختاطب ثأري عىس أن أساعدك؟ أقول
كل اسع لنفعك ،ودعك من هذا الشأن ،فتقول يل أن أرافقك
يف رحةل الهالك؟ وملاذا؟ ألجل هذه البدل؟"
قلت برصامة:
"ليست بدلك ،فال ألومك ،لكنين من أهلها ،ولو سعينا لنفعنا
عىل حساب نفعها ،فس نخرس مجيعا « .ممث مل الْقمامئ عم مىل حدود
اب ب م ْعضه ْماَّلل موالْ مواقع فهيما ممكمثمل قم ْوم ْاسهتم مموا عم مىل مسفينمة ،فم مأ مص م
أم ْع مالهما موب م ْعضه ْم أم ْسفملمهما ،فم ماك من اذل مين يف أم ْسفملهما إ مذا ْاس متقم ْوا م من
الْ مماء مم ُّروا عم مىل مم ْن فم ْوقمه ْم فمقمالوا لم ْو أمان خ ممر ْقنما يف ن مصيبنما خ ْمرقاً،
ومه مو مما أم مرادوا هملمكوا ممجيعاً ،موإ ْن مولم ْم ن ْؤذ مم ْن فم ْوقمنما .فمإ ْن ي م ْرتك ْ
أمخمذوا عم مىل أميْداه ْم م مجن ْوا مو م مجن ْوا ممجيعاً » هكذا علمنا نبينا ،لو مل
جيد األسود وزابنيته من يرضب عىل أيداهم ،فس يخرقون
السفينة ويغرقوننا".
رد بسخط:
"تدخلون ادلين يف لك أمرمك اي أهل املرشق ،وجتعلون أمر
هللا يف خالفاتمك ،وتقلبون لك حروبمك هجادا!"
قلت بربود:
"أوليس ادلين اكن زمعمك يف زحفمك عىل بالدان اي فرجنة؟"
342
رد جبفاء:
"أنت أعمل مين هبذا! أتينا فاحتني ،مثلام يفعل ملوكمك ببعض،
وكام يفعل األسود مبا حوهل من أقالمي".
مرة أخرى يثبت الطغاة إاهنم عىل مةل واحدة ،ولو توزعوا عىل
فرجنة وقراصنة وأساودة! نفس العقل واجلدل ،ويتخذون بعضهم
لبعض جحها! إما إاهنم يسريون عىل خطى فالن ،أو مه
يتهربون محلايتنا من جربوت عالن! مةل واحدة ،قبلهتا يه
األرايض املهنوبة ،وصالهتا اعتصار الفالحني الغالبة.
كنت قد أدركت عقم حماوريت ،وأنين ابلفعل أمحق ،من
اس تغىن من قبل عن ثأر أبيه ،فامب اهمه ثأر أخيه؟ وذلا مصت،
وكففت عن اجلدل العقمي.
أخذ األمري ينظر لنا متحريا ،قبل أن يعود لنفس اهنهه ،اذلي
اتبعه مع تميور ،فأمر حراسه بسجننا .لكن هذه املرة ليس يف
جسن قرصه ،وإمنا يف أحد بيوت الزرقاء بعيدا عن العيون
واآلذان ،وقال:
"س تظلون ضيوفا عندي ،حىت اهكل الوريث ،أو يطلبمك
األسود ،ولمك أن تمتنوا األوىل بشدة!"
وهكذا رددان للزرقاء خائبني ،وعدان لتكل املدينة اجملنونة ،اليت
ال تطيق بقاءان فهيا ،وال خروجنا مهنا!
343
()35
344
وهكذا س نحت يل يف حلظة غفةل ،أن أخرج من احلجرة
املغلقة! فقد أخذت أفكك اخلشب املهرتئ للباب حول
مفصلته ،حىت فككته ابلاكمل ،وخرجت منه .وتدليت من
السطح إىل انفذة يف ادلور األول ،ومهنا إىل جحرة احلرس
الغافل ،فأغلقت الباب علهيم ،ووضعت خلفه منضدة ثقيةل ،مث
هرعت إىل متاعنا ،فاس تعدت السالح ،سواء س يوفنا ،أو
رحمي ،وبلطة غول احلق .وأرسعت لألعىل ،وخصب احلراس
زمييل ،وألقيت إلهيم ابلسالح ،وخرجنا خلفي ،مفزقت قيود ّ
لنهد احلراس الامثنية ينتظروننا مهبوتني.
ابدرمه تميور ،فأمسك ببلطة غول احلق ،وقذفها ،فبرتت يد
أحدمه ،وأخرجته من القتال ،وهنا جرى الرمح يف يدي كنار
تنني هاجئ ،فأطاحت ابثنني مهنام ،قبل أن يفيقوا من ذهوهلم.
واندفع غول احلق ،فصد عين س يوفهم .وهنا تبادلوا بلغهتم بضع
لكامت ،مث ألقى كبريمه س يفه أرضا ،وهتف:
"كفى قتاال!"
تراجعنا للخلف خطوة متحفزين ،فأمكل بتوتر:
"ال نرغب يف قتال الغيالن امحلر .حربمك مع األسود ،ال انقة لنا
فهيا وال مجل! اذهبوا عنا ،ونذهب عنمك ،وس نقول ألمريان أن
الغيالن دمهوان وأخرجومك".
345
ال أثق كثريا يف لكامت الفرجنة ،ولكهنم بدوا خملصني يف رغبهتم
عن قتال ال مغمن فيه .ذلا حزمنا متاعنا ،وأخذان ما ابلبيت من
طعام وأموال ،وركبنا الربق مرسعني ،هاربني من الزرقاء
امللعونة!
رضبنا طريقنا فامي حولها من حصراء ،ال ندري ماذا نفعل ،وألي
طريق نذهب.
اكن اليأس حيوطين من لك اجتاه .لو كنت يف طريق مسدود،
حيوطين فيه أعداء جبارين ،يبغون سفك دمايئ ،لقاتلهتم ،حىت
املوت ال أابيل .لكننا اآلن يف طريق بال اهناية! أغلقت أمامنا
بوابة الزرقاء ،وجنوان مهنا ،وال منكل إال السري قرب الساحل
حنو اجلنوب ،عىل أمل ومهي واه ،أن يأيت حبار يقلنا .فأخذت
أقود رفيق ّي بال جدوى ،يف تيه الصحراء القاحةل ،واألرايض
اخلاوية ،ال يظللنا إال مشس قاتةل.
اآلن أصبح وفايض خاواي ،وحييل خائبة ،وأيقنت إننا ال نسري
إال للهالك .فأمرت رفيق ّي ابلعودة آلخر برئ مرران عليه ،وأاهنيت
املسري هناك .فال يوجد طريق أصال ل ي نسري فيه.
اليأس خملوق ال يقهر ،لو أحمك مصيدته عليك .وأظن أن
مصيدة الصحراء قد أحمكت من حولنا!
346
أبعد لك هذا تكون الهناية؟ لو كنت يف جسن ،لبحثت عن
املهرب .ولو كنت يف حرب ،لطلبت الشهادة .لكننا اآلن وسط
الفراغ!
هو ضياع وسط رمال ال تنهتىي.
ال ملهأ وال مفر وال خمرج.
إال ابدلعاء هلل أن اهدينا سواء السبيل.
وهكذا ارتفعت األكف تطلب الغوث.
أظنين خملصا يف دعويت ،ال أبغي من أمري إال مصلحة البالد
والعباد ،وسط أمواج الطغاة واألعداء املتاكلبة علهيا.
فاللهم غوثك.
اللهم غوثك
اللهم غوثك.
وقبل أن تزل األكف ،أىت الغوث ،يف هيئة الش يخ معران.
347
()36
348
ستش تد حاجة عشرييت للسالح يف تكل األايم املظلمة ،فبين
سلمي لن يسلموا أنفسهم بسهوةل دلهامء جنده.
وبيامن كنت أجول بني اآلابر واملراعي وراء الزرقاء ،عرثت عند
البرئ الثامنة يف خمية يتمية ،فعزمت عىل أن أمكث جوارها،
ليجمتع مرضب جديد حولنا ،وأكسب رحب البكور يف البيع،
وخبس العهةل يف الرشاء .ودخلت عىل اخلمية ،فألقيت عىل من
فهيا حتية اإلسالم:
"السالم عليمك اي إخوة العرب".
اكن ابخلمية ثالثة رجال أشداء .اثنان مهنام خضامن طويالن،
حىت خشيت عىل نفيس من بطشهام ،لكن من يبدو ككبريمه
رد عيل بوجه بشوش:
"وعليمك السالم اي أخا اإلسالم ،من أي بطون العرب أنمت؟"
أجبته:
"أان الش يخ معران ،ش يخ عشرية العريب ،من بين سلمي أو
بطهنا ،املوجود قرب مدينة جبة يف اجلنوب".
سألين كبريمه:
"أوليس كل أبناء مع من حلفاء ابن األسود ،يف مضارب هلم
قرب احلارضة؟"
قلت حبذر:
349
"اكن هلم اي س يدي ،اكن هلم ،أمل تسمع بأمر طردمه من
هناك؟ انقلب علهيم األسود اللعني ،ورسعان ما يزحف جنواب،
ليطردان خلفهم".
بدوا يل هممتني بشدة بأمر احلارضة ،وطاغيهتا .ورسعان ما
عرفهتم ،فقد اكن يل من الفطنة ما يكفي ألن أدرك أن هذا هو
القبيل ،زعمي الغيالن امحلر ،اذلي يناجز األسود إلعادة الوريث
ملاك .فأنباؤه تناثرت ،حىت مسع هبا لك رجل وطفل ،وتغىن هبا
لك راجز وراع ،وأسعدين أن ألقى هللا يف طريقي بعض ثأر
أبناء معي ،فعرضت علهيم خدميت ،ومايل ،وساعدي.
طلبوا مين أن أدهلم عىل طريق يركبون به البحر إىل البالد
الرشقية ،فرست هبم ألبعد مما كنت أظنين ألسري يوما! قدهتم
عرب درب البدل امليت ،لنذهب إىل طرابل برا!
اكن هذا دراب مشهورا للقوافل قدميا ،متر به من الرشق
للغرب ،ومن الغرب للرشق ،تأيت عربه الغالل واألمقشة،
وخترج منه المتور واحلجيج.
وملا تداعى املكل يف بالدان ،أمهل املكل تأمني طريق القوافل
الربي ،واندفع للزرقاء يغرف من رضائب ميناهئا املزدمح .أما
ادلرب املهمل ،فقد أقبل عليه قطاع الطرق ينهتبون ،بعدما
اطمأنوا من العقاب .فهجرت القوافل ادلرب ،وحيهنا انفض
ساكن البالد والقرى القامئة حوهل عنه ،واجتهوا حليث مضت
350
التهارة يف الزرقاء وختوهما .وملا حدث هذا ،أمهلت آابره
وردمت ،ومات الطريق وما حوهل من بدلان ،حىت قطاع
الطرق جهروه ،ومضوا لغريه ،فمل يعد يذكره إال قةل من األدةل
والش يوخ.
وهكذا قدهتم عرب ادلرب ،من بدل ميت آلخر ،وحنفر ابحثني
عن برئ مردوم هنا أو هناك ،لنقطع الطريق املهجور بأمان رمغ
املشقة ،وخرجنا من اململكة املمزقة ،لنسري يف الطريق الربي
أقودمه إىل طرابل ،عرب ختوم تغيل ابحلروب ،بني قالع خاانت
العيل والصيادية ،اليت
األهبال ،ومدن الفرجنة ،ومعارك السور ّ
ال تنهتىي .لكين رمغ هذا وصلت هبم يف مسرية أايم قالئل من
طرابل ،وهو ما مل يقدروا عىل فعهل دوين".
351
()37
352
وهكذا ،رمغ طول الطريق ومشقته يف أرض همجورة ،فبفضل
هذا الش يخ السلميي ،اكن هذا أيرس آمن جزء يف رحلتنا ،فمل
تظهر لنا متاعب إال بعد أن دخلنا يف ختوم السور العيل ،حيث
جتري احلرب بيهنا وبني الصيادية.
وهناك اعتقلنا جنود من الك الفريقني أكرث من مرة ،فكنا خنرج
مهنم ابلرجاء ،أو ابلرشوة اترة ،وابلقتال ،أو الفرار اترات أخرى.
مث قطعت جامعة من عسكر الفرجنة الطريق ،فأجاران واحد
من األهايل يدعى قسطنطني ،ورمغ إنه نرصاين ،إال إنه اكن
رجال دمث األخالق ،يكره الفرجنة لكرثة فسادمه .وأخفاان يف
قريته وسط أههل بضعة أايم.
مث مىض بنا الطريق حبلوه ومره ،نتسلل يف الظالم حينا،
ونقتحم الظهرية حينا ،ومس تعينني ابحليةل أحياان.
فإذا تعرضنا جلند من األهبال ،فنحن جتار من العراق ،نزور
أهلنا يف البادية ،ولو هامجنا رجال الصيادية ،فنحن جحاج
مغاربة ،أما الفرجنة ،فالرشوة تنفع ،والفرار أجنع!
لكن أمه ما أصابنا أمران ،أحدهام مع الفرجنة ،والثاين مع
األهبال .فأما األول ،فقد اكن عقب مغادرتنا لبيت قسطنطني
مبسرية يوم ،طلعت علينا زمرة من قطاع الطرق ،فناوش نامه.
وأثناء القتال ،صادفتنا جتريدة من عسكر الفرجنة ،اكنت تطلب
353
أولئك اللصوص فاعتقلوان معهم ،وساقوان إىل أمريمه ،اذلي
صادر لك ما معنا ،وألقى بنا خارج حصنه.
وما اكن يل أن أمكل الطريق دون مال أو زاد ،واألدىه دون
درع الغيالن ،اذلي قد جيلب لقلب الوريث األمان ،ليتبعين
دوان عن ابيق األمراء السفاكني.
ذلا تربصنا طول الليل ،حىت خرج اجلند يف جتريدة أخرى
عند الفجر ،فتسللت مع غول احلق إىل ذخائر األمري ،فأخذان
ما أخذ منا ،وفوقه بعض املال غنمية .وإذا ابجلند يدركوننا ،قبل
أن خنرج من احلصن ،فأشعلت النار فامي حويل من مقاش
وحرير ،والهتبت يف حلظات لك نفائس األمري ،فأمر جنوده هبلع
أن يرتدوا عنا إلطفاء احلريق ،خفرجنا ساملني واحلصن خلفنا
مجرة من انر هجمن.
ولكن اخلروج الظافر هل مثن ،فقد طلبنا الفرجنة يف لك ماكن،
مذهولني من أولئك اذلين جترءوا عىل حصواهنم ،وأشاع الناس
أن غيالان محرا هامجت الفرجنة ،وانترش اخلرب بأرسع من الربق،
مفا نزلنا يف بيت إال واكن أههل يتسامعون مبجيء الغيالن امحلر
إىل هذه النوايح!
مث أتينا لطريق بني اجلبال ،أغلقه يف وجوه الناس فئة من
الروافض ،حفاولنا شق طريقنا بيهنم ابلقوة ،لكن القتال طال،
وأتوا ابملزيد من جنودمه ،فارتددت مبن معي ،وأمرت أحد أبناء
354
الش يخ معران أن يش يع بني الناس بوجود الغيالن امحلر يف هذا
املاكن .فإذا ابلفرجنة يرسعون يف أقل من اليوم إىل املاكن ،ودار
قتال عنيف بيهنم وبني الروافض ،وخرجنا من بني الفريقني إىل
طريقنا ساملني".
355
()38
"وهنا دخلنا ألرايض خاانت األهبال .مل منض كثريا إال وقبضوا
علينا ،وساقوان إىل أقرب قالعهم مرسعني .وما أن أتينا لباب
القلعة ،طلب أمري اجلند اذلي اعتقلنا ابدلخول لس يده اخلان
قوالي خان ،فلام س ئل معن معه ،أرسعت ابملقاطعة قائال:
"ارسع بفتح الباب أاها اجلندي ،فس يدك ينتظران ،ولوال أمري
اجلند األمحق هذا ملا تأخران عنه لك هذا الوقت!"
فتح أمري اجلند مفه ليتلكم ،لكين أرسعت ابلقول:
"أخربوا اخلان العظمي إن رسل القائد األسود أتت تطلب
املثول بني يديه".
هبت احلرس ،وأرسعوا لدلاخل ،بيامن وقف أمري اجلند
مندهشا ،ال يدري ما يقول .أما أان – األسري -فقد أخذت
أتلكم ،وأرسل األوامر ،وأحتدث بثقة وتفاد صرب ،فمل جيرؤ
أحدمه عىل مراجعيت!!!
356
وجنحت حيليت اجملنونة!
كنت قد عزمت عىل أن أزمع كوننا رسل لألسود ،مثلام ظن
الناس بتميور يف الزرقاء .ومن حسن حظي ،إن األهبال اكنوا
ينتظرون ابلفعل رسوال من األسود! فأدخلوين والش يح معران
إىل اخلان يف قاعته ،فبدأت ابالحنناء هل والتحية.
"حتيايت أاها اخلان العظمي من القائد األسود".
رد عيل متجهام:
"لقد أرسلنا إىل قائدك هذا ،بال رد".
األهبال قوم معليون ،ال يضيعون وقتا يف التحيات،
والسخافات ،وال يتأثرون بألقاب التفخمي ،اليت يس بغها عىل
نفسه لك فسل من أمرائنا! ونظرة واحدة للقاعة حولنا ،تكفي
لندرك هذا .جمرد أاثث بس يط ،ال يزيد عام جتده يف أي بيت
ميسور احلال ،خيلو من الزخارف والنفائس املعتادة يف قاعات
ملوكنا وأمراءان.
عىل أي حال اكن ردي عىل قوالي خان معليا هو اآلخر.
أرشت ألحد اخلدم ،فأدخل تميور حامال درع الغول األمحر،
واحننيت مرة أخرى ،وقلت:
"تأخران قليال ،ألنين كنت أطارد زعمي الغيالن امحلر ،وهذا
درعه ،أمرين س يدي حبمهل لمك ،وللخاانت العظام ،دليل قوته
357
وبطشه ،وإنه ال جيرؤ عىل الوقوف ضده أحد ،إال من حاقت
به املهاكل".
قاطعين اخلان:
"إىل آخره إىل آخره! ما اهمين هو إن هناك ابلفعل غيالان
محرا أعلنت التحدي".
سألته حبذر:
"ال أظن أن حداث كهذا اهز احللف اجمليد بينمك وبني س يدي؟"
رد بسخط:
"حنن ال خنىش الغيالن ،ولكن تكمت س يدك األمر عنا يغضبنا!
لقد عرفنا من أفواه العامة هنا بوجودمه ،قبل جميئك بزمان! رمغ
إناكر س يدك".
أحسست أاهنم ابلفعل قلقون من الغيالن امحلر ،فأردت أن
أطلق سهمي عهل يصيب ،وما رميت إذ رميت ولكن هللا رىم.
قلت:
"موالي يعدمك بسحق الغيالن حسقا ،ومه مل يعودوا بذي
الشأن ،ويؤكد لمك إنمك إن نرصمتوه ،فسزييد لمك من ماكفأته".
358
ونظرت لعينه ،فقرأت يف وهجه إنه فهم ما وراء اللكامت ،وأنه
يظن اآلن أن األسود خيىش حقا الغيالن ،ويريدمه أن ينرصوه
علهيم .رمبا خيوف هذا األهبال ،ويعوقهم يف زحفهم قليال.
قال يل اخلان:
"لن أختىل عن نرصة س يدك أبدا ،لو أنه جعل يل نصيبا أكرب
بعض اليشء .قل هل أن قوالي خان يريد الثغر الصغري خالصا
هل ،ال يشاركه أدشاي خان فيه .عليه أن يرسل أدشاي خان
ألي بدل آخر ،بعيدا عين".
مل أتصور أن تكون خيانة القائد األسود مفجعة لهذه ادلرجة ،مل
أتصور أنه وعد األهبال مبدن وأقالمي اكمةل ،أال فتبا هل.
عىل أي حال ،غادرت القلعة حتت حراسة جند قوالي خان،
ألصل بأمان لقلعة حليفه ،جواد خان ،فذكرت هل مثل ما ذكرت
من قبل ،مظهرا درع الغيالن ،وغادرت قلعته منحرفا عن طريق
طرابل ،أبغي قلعة أدشاي خان.
وبيامن كنت أحدث أدشاي خان مبثل ما حدثت به غريه ،أظهر
تميور فطنة ال بأس هبا .فقد جتاوب مع حديث اخلدم ،اذلين
يستنطقونه .وهذا فن من التجسس ،برع فيه األهبال كثريا،
حيث يصادقون اخلدم ابخلدم ،ليعرفوا أرسار السادة ،وملا اكن
تميور يف زي اخلادم أماهمم ،فقد رسب هلم كأمنا بغري قصد قول
قوالي خان ،وطلبه الانفراد ابلثغر الصغري.
359
اكن أحد خدم جواد خان قد أخربه ،حيامن سأهل عام يدور بني
األهبال من حروب ،إاهنا لن تعيقهم عن نرصة القائد األسود،
حيامن يزحف معهم لتدمري قالع الغرب احلصينة ،ألنه وعدمه
بأراض تفوق بكثري تكل األش بار ،اليت يتصارعون علهيا هنا.
وظن أبشاي أن غنميته الكبرية س تضيع ،وأدرك أن قوالي
يضمر هل رشا ،فأحدثت حيةل تميور حراب رضوسا بني خاانت
األهبال ،امتدت لقالعهم مجيعا!
360
()39
361
واكن قد خسر يف خدمته ساحر حقود ،منغمس يف الكفر،
يتعبد ويسهد لش يطان مريد ،مكل من ملوك اجلن األرشار،
علمي ابلسحر والكفار ،ميده ابألالعيب واللعنات.
وذات يوم ،قرر مكل طرابل ختليص بالده من رش هذا الغول
بنفسه ،فسار جبيش خضم حنو اجلبل ،وحارصه.
وأرسل الغول إىل خادمه ،فطلب منه سالحا عظامي ،يسحق
هذا اجليش الكبري.
وحبث الساحر امللعون يف فنون الرش ،وكتب القدماء ،حىت
جعز ،فطلب معونة من معبوده الش يطان.
مفنحه الش يطان جحرا صغريا ،يف جحم قبضة اليد ،ذا لون
أمحر ،يعلوه بريق ذهيب جعيب ،وقال هل:
"هذا هو جحر الهالك .ما أن ينظر هل برش ،حىت تتعلق عيناه
بربيقه اذلهيب ،فميأله اجلشع ،وإذا مأله اجلشع ،سعى للفتك
بلك من حول،ه وبعدها ميوت ،ويتحول قلبه حلجر يش هبه.
أخذ الساحر احلجر فرحا لس يده الغول ،لكنه احتقره واس هتان
به ،وألقاه بعيدا وسط أجحار اجلبل ،وطلب من ساحره إعداد
سالح حقيقي جبار ،يدمر العرشات.
وهنا التقطه واحد من اخلدم ،فنظر هل .فإذا ابحلجر يسلب
انظريه ،وحيرك فيه اجلشع .فذهب املفتون لس يفه ،فاغتال
362
الغول والساحر ،والتف حوهل األعوان فقتلوه .وانفطر عنه
قلبه ،اذلي حتول حلجر جديد ،أمسكه أحد األعوان ،فنظر هل،
فأصابه مبثل ما أصاب سابقه ،ورسعان ما أخذ جند الغول
يقتلون بعضهم بعضا ،حىت هلكوا ،مل يبق إال آخرمه رجل
واحد.
وحيامن جهم جند املكل عىل القرص ،مل جيدوا إال هذا الرجل،
فاستنطقوه ليعرفوا ما حدث ،حفىك هلم عن جحر الشؤم هذا.
وعندها أصاب املكل احلرية ،مل يدر ماذا يفعل لريفع بالء
الش يطان هذا عن مدينته ،وبيامن اكن يف حريته أتته زوجته
فسألته عام اهمه فقال لها:
"هذا احلجر القاتل ،لو تركته يف اجلبل ،فقد يأيت خشص
ويناهل ،ليزنل ابلبالء ملدينيت .ولو أرسلت جندا مجلعه،
فس هيلكهم".
فردت الزوجة احلصيفة:
"دع عنك اهلم اي موالي ،فاألمر بس يط .أرسل مجلعه أانس ال
يس هتواهم اذلهب ،وال حيرق قلوهبم اجلشع ،وال يقوون عىل
الفتك".
فقال لها متحريا:
"وهل يوجد مثل هذا بني البرش؟"
363
ردت:
"نعم! أرسل صبية صغارا مل يبلغوا احلمل بعد .فهؤالء أصعب
عىل الش يطان من اجلند اجملندة .ولو أصاب أحدمه مثل هذا
اجلنون ،فلن يؤذي أحدا بضعفه وقدرة جنودك عليه".
فأرسل املكل لك صبية طرابل ،يبحثون عن قلوب الرجال
املتحجرة ،جفمعها مجيعا ،وأحرقها يف النار ،وألقى رمادها يف
البحر ليتخلص مهنا.
ولكن قيل أن جحرا واحدا بقى وجنا .احلجر األول ،اذلي أىت
به الش يطان للساحر .فقد بقى يف ماكنه األول بني أجحار اجلبل.
ومن يوهما ،خرج عرشات امللوك يبحثون عن جحر الهالك
هذا ،يرسلون العبيد واألطفال حبثا عنه ،يبغون به تدمري
أعداهئم ،ومع مرور الزمن ،أدرك الناس أنه لو خرج مكل لهذا
اجلبل ،فإمنا هو ينوي احلرب قريبا .دلرجة إن األعداء واخلصوم
إذا عرفوا بزايرة غرميهم للجبل ،يرتصدون هل ،فيقتلوه وأصبح
اذلاهبون للجبل اهلكون دوما ،فسمي جببل الهالكني.
وقد قيل غري ذكل ،وإمنا اكن ابجلبل معبد قدمي ،من أايم
الكفر ،حيج هل ملوك طرابل قبل احلرب ،يس تعينون بقوى
الش ياطني اليت ختدمه ،ولكن تكل القصة منبوذة عادة بني
األهايل.
364
( 2-39حاكية جبل الضائعني)
اكن جبل الهالكني سهال يف تسلقه ،والزنول منه ،رمغ إنين مل
أعتد هذه اجلبال العالية ،ذات القمم املثلهة .لكنه اكن أيرس
بكثري من جبل الضائعني ،اذلي اكنت أجحاره خش نة ،وتربته
مفككة ،نزنلق من فوقها بسهوةل.
وحىك لنا الش يخ معر حاكية هذا اجلبل .فقد قيل إنه اكن
يعيش فيه راعية للغمن ،فتاة هادئة ،عىل قدر من احلسن ،تعول
أرسهتا ،بعدما قتل أخوها يف هتمة رسقة ،اهتم هبا أحد النبالء
أهل قريهتا.
وذات يوم ،شاهدها ابن أحد األمراء ،ويه ترعى الغمن وحيدة
يف اجلبل ،فظهنا فريسة سهةل ،واش هتاها.
لكن الفتاة قاومته برشاسة ،وهوت عليه بعصاها ،حىت أجربته
عىل تركها .مث أرسعت للمدينة ،تس تغيث برئيس الرشطة.
وألن اجملرم ابن أمري ،فقد طردها رش طردة .فذهب عن ابن
األمري القلق ،وزاده هذا البطش جرأة ،فأعاد علهيا الكرة ،ليهد
خنجرها يف انتظاره ،قد زاده الظمل حدة.
365
دفنت الفىت ،وهربت عندما أىت أههل يطلبواهنا للثأر .فصعدت
ألعىل اجلبل ،ومه وراءها متعطشون لدلم .لكهنم حيامن وصلوا
لقمة اجلبل مل جيدوها.
اكن هناك نبع ماء مل يره أحد يف املاكن من قبل ،وعندما
حاول أحدمه أن يدس رأسه يف املاء ،ينظر حبثا عن الفتاة
أتكون غرقت فيه ،احنرس املاء بعيدا عنه ،وارجتف ،وعال فوق
الرؤوس منذرا .فرتاجعوا حائرين ،ونزلوا من اجلبل متحريين.
وأرسل األمري رجاال آخرين ،يبحثون عن قاتةل ودله ،مفا
وجدوها ،وال وجدوا الينبوع املزعوم.
وهنا أىت أحد األولياء ،فقالت إن الفتاة زارته يف املنام ،وأاهنا
لكواهنا بريئة ،فقد فتح لها يف الينبوع اباب للجنة ،مرت عربه.
وزمع أحد العرافني للقوم إن هذا اجلبل -فامي يقول األقدمون -
ينبوع الش باب ادلامئ ،وأنه حامت هو ما رآه الناس الباحثني عن
الفتاة.
ومن يوهما ،خيرج للجبل املئات ،إما مظلوم هارب مصدق
للويل يبحث عن ابب اجلنة ،أو طامع جعوز مصدق لدلرويش ّ
يبحث عن الينبوع!
366
()40
367
يف وجوههم ،لكن بعضهم تسلل دلاخلها ،وقبض علهيم احلرس،
فألقومه خارهجا بعد جتريسهم.
وكام توقعت ،انل املتآمرين خيبة أمل عظمى ،عندما س بقوا يف
الوصول ،مث وجدوا أنفسهم متحريين ،ال يدرون مع يسألون! لو
اكن ابيل رائقا ،لقضيت وقتا يف الشامتة .لكين اليوم أتعرض ملثل
اختبارمه ،ال أدري أأس تطيع الوصول للوريث ،أم أرتد خائبا
مثلهم.
انتقلنا من القرية جتاه املدينة ،وحذران بعض التهار من وجود
الكثري من الرجال اخلطرين حولها ،فيبدو أن األمراء عندما
ارتدوا عىل أعقاهبم خائبني ،خلفوا وراءمه عددا من املرتزقة
الرشسني ،اذلين أخذوا حيومون حول املدينة حبثا عن أي أثر
للوريث طمعا يف ماكفآت مرصودة.
كام علمنا أن سفارة من القائد األسود ،رفض احلامك إدخالها
للمدينة ،بقيت اكمنة يف اجلبال ،مرتبصة ،تراقب الطرق من
هجة اجلنوب املؤدية إىل البحر ..حلسن احلظ إننا أتينا من
الشامل برا ،وإال لعمل األسود بوصولنا.
وأخريا طالعتنا أسوار املدينة العتيدة ،اليت راوغتين كثريا!
أخريا حنن داخل طرابل! يــــــــــــــــاه! مك اكنت تبدو يل
بعيدة ،كام لو اكنت يف آخر ادلنيا! لقد ظننت أنين لن أصلها
368
أبدا ،وأن طريقها ال ينهتىي! لكنين اآلن يف قلهبا أخريا ،وهلل
امحلد.
حبثنا عن بيت نزنل فيه ،فاس تأجران جحرة قريبة من مسهد
املدينة الكبري ،دلى اتجر اهودي .ولبثنا أايما نرتدد عىل
السوق ،مثل لك التهار ،ونواظب عىل الصالة يف املسهد،
حىت ألفنا رواده .وملا أحسست أن الناس قد اراتحت لنا،
وزال الرتبص من عيواهنم ،ذهبت لإلمام عقب صالة امجلعة،
أسأل عن الش يخ زعفران ،اذلي أخربين احلكمي وهدان إنه من
آوى األمرية سارة.
دلين عىل مزنل أكرب أبناءه ،واكن امسه سلامن .ويعمل اكتبا يف
قرص احلامك .واطمأننت ألمري ،إذ مل يشك أحد يف ،وعلمت أن
صيادي األسود بعيدون عن سلامن هذا ،مل تصهل ريبهتم.
وهكذا رست يف الشوارع الضيقة للمدينة حنو هذا البيت،
مرتداي درع الغيالن ،وقد دثرته بعباءة أثقلها احلر عىل أكتايف،
حامال رحمي اجلديد ،ومجمعا أش تايت ،وأحاول التفكري فامي
سأقوهل.
كيف أقنعهم بتسلميي الوريث؟ طوال رحليت الطويةل أقنعت
عيل هممة أشق وأصعب ،ويه الكثريون بكذابت متقنات .اليوم ّ
إقناعهم بصديق!
369
وصلت للسوق املزدمح ،ومنه إىل الزقاق اجملاور لقرص كبري،
ويف اهنايته الح يل الباب.
وقفت أمام ابب دار سلامن ،ال أدري ماذا س يحدث.
حلظات انتظار ليست كأي حلظات.
ترى كيف هو الوريث؟ هل هو يح أصال؟ هل
س يصدقونين ويأمتنون إلخالص نواايي؟
فتح الباب لنا.
اآلن ،يف هذه اللحظة ،انهتت رحةل اذلهاب الطويةل.
وهللا وحده يعمل كيف س يكون اإلايب.
370
()41
371
فأمكلت هبدوء:
"أرجو أن يكون خبري".
الذ ابلصمت مرة أخرى ،لكن فزع أهل ادلار طمأنين بأنين
أصبت املراد أخريا.
حامت هناك وريث ،ومه حيمونه .بل لعل هذا الشاب هو ابن
الوريث األمري البطل ،اذلي س يقاتل األسود إىل جواران.
وانزتعين الش يخ معران من أحاليم ،فقال بنفاد صرب:
"اي فىت أتينا من رحةل طويةل .عىل األقل هناك حق الضيافة
لنا عليك .أين وادلك لنحدثه؟"
بدا احلرج عىل الشاب ،مث مل يلبث أن قادان حلجرة الضيوف،
فأجلس نا فهيا ،وخرج مغلقا خلفنا الباب بإحاكم ،وانتظران وحنن
نسمع صليل الس يوف ،لكام مر أحد قرب ابهبا.
وأخريا أاتان سلامن هذا.
ألقيت عباءيت من فوق،ي وقدمت نفيس هل:
"أان القبيل زعمي الغيالن امحلر ،وهذا دلييل الش يخ معران من
بين سلمي ،وهذا ساعدي األمين غول احلق".
مث أرشت لتميور وقلت:
"وهذا خشص من ساوة".
372
نظر هل سلامن ابهامتم ،نزل عىل قليب بردا وسالما ،وقال:
"مسعنا بنبأ عن الغيالن امحلر ،وحرهبم مع األسود؛ ولكن ال
أدري ما شأن هذا بشخيص الضعيف؟"
قلت:
"هذا هو تميور ابن زهري ابن تميور العالف".
ومصت للحظة أرقب وقع الامس عليه ،مث أمكلت:
"أتينا حبثا عن وديعة ،اكنت عند الش يخ زعفران .وديعة لها
حق القرىب عند أهل ساوة ،وحق النرص عند الغيالن امحلر".
قال بقلق:
"وما أدراين بصدقمك؟"
قلت:
"لو كنا من الغرابن الصيادة ،ملا أتينا نطلب الضيافة ،ونلوذ
ابلصرب يف انتظارك ،بيامن يتسلح لك أهل البيت! والنهتزان فرصة
الباب اذلي ترك لنا مفتوحا ،واقتحمناه عليمك .ومن غري الغول
األمحر سزيمع إنه كذكل؟"
بدا عليه الرتدد ،فأمكلت:
373
"لعكل مسعت مبا وقع بيننا وبني الفرجنة ،وبأن األهبال يطلبون
رأيس .أي جمنون ينتحل خشصا حمكوما عليه ابلقتل؟ ومن غري
أهل ساوة ،س يعمل بنبأ الش يخ زعفران؟"
التقط نفسا معيقا قبل أن يقول:
"أتقسم عىل ما تقول؟"
قلت متحريا:
"وما يغين القسم إن كنت ممن يس مترءون الكذب؟" مث
أقسمت هل ثالاث إنين ال أبغي ابلوريث إال اخلري ،وكذا فعل من
معي.
قال لنا:
" أتعلمون أنين أمعل اكتبا يف ديوان القايض؟ أعمل جيدا ،من
طول مالزميت للمتخامصني ،كيف أفرق بني من يقسم كذاب وهو
مرتدد ،وبني من يقسمها بال وجل العتياده عىل الميني الغموس،
وبيهنام وبني من يقسم صادقا خملصا.
منذ يويم األول يف هذا العمل ،تعرضت للمقسمني الثالثة،
وطاملا رأيهتم يتكررون أمام عيين ،حىت خربهتم ،وعلمت أن
حلفهم ال ينفعهم وال يداراهم".
374
()42
375
وأما الثاين فاكن حامال يف السوق ،احرتف الكذب ،واعتاده
ليرسق الناس .أىت يقسم بغري وجل ،وقلب اثبت ،مفال عيل
القايض يقول:
"أترى اي سلامن؟ روحه ماتت من كذبه ،فتهد قسمه ابردا
ميتا مثلها".
وما اكن قسمه لينفعه ،لشهرة كذبه ،وسوء أخالقه .فقبل
القايض فيه شهادة الشهود ،وقطعت يده حدا.
وأما الثالث فاهتموه برسقة انقة خصمي هل ،اكن بيهنام ثأر ،أاكد
أقسم إنه اكن ينوي الاعرتاف ابجلرم تباهيا ،وناكية يف عائةل
خصمه ،لكن القسم أهابه ،فأقسم إنه مل يفعل ورمغ شهادة
الشهود الزور ،إال إنين أحسست بصدقه ،فأوصيت القايض
ابلصرب والتثبت .وأرسلنا اجلنود يتحرون ،فعرثوا عىل الناقة يف
سوق امجلال ،دلى اتجر آخر!
376
()43
377
"ال أس تطيع نفعمك اليوم .واألمر حيتاج لتبيان ،واس تيثاق،
ومشورة .ائتوين غدا بعد صالة الظهر ،يف جملس القايض بقرص
احلامك".
رحلنا مس تبرشين ،حتفنا السعادة ،واإلحساس ابلنرص! أقول
لمك إنين قضت ليلهتا يف احتفال هادئ مكتوم ،لكنه مهبج ،مع
تميور ومعران وغول احلق .ومضت ّ
عيل اللحظات ثقيةل ،ومل
نطق صربا ،حىت أىت امليعاد ،فسارعنا لقرص احلامك متلهفني.
وأدخلنا احلرس ،بعد تفتيش ومتعن ،وسألنا عن سلامن ،فقادوان
جمللس القايض ،اذلي ما أن رآان ،حىت أمر برصف الناس،
وإخالء القاعة.
نظر لنا القايض بعني اثقبة وقال:
"ما شأنمك؟"
قلت بقوة:
"أتينا نبغي عودة آخر أمراء بيت ملكنا إىل بالدان ،ليحمكها".
قال:
"أليس بينمك من حيمك غريه؟"
قلت:
"مل ينل املرياث غريه ،ومل ينل الوالية من اخلليفة غريه ،وما
بقي غري القائد األسود ،يعيث يف األرض الفساد ،ويسمل الثغور
378
للفرجنة واألهبال .لكن الكثري من األمراء ،والش يوخ ،وحىت
العوام ،اتفقوا عىل أن يبايعوا ابن امللوك ،وسليل اخللفاء".
قال ساخرا:
"األمراء والش يوخ والعوام ،اذلين تتحدث عهنم ،مه من
خرجوا يطلبون رأس لك أمري يف بدلك ،حىت مل يبقوا إال عىل
سارة املسكينة".
قلت:
"اكن هذا عهد رعب ودمار ،وأايم جاهلية ،وألقلها رصاحة،
فمل يكونوا ملواك عادلني .مل آت ملبايعة الوريث ملاك ،وإمنا أتيته
ألابيعه ،برشط احلمك ابلعدل ،ورشيعة هللا".
مصت القايض ،وأشار ألحد احلهاب ،ففتح اباب صغريا خلف
مقعد القايض ،ليدخل منه خشص جليل ،يرتدي ثيااب غالية،
ويبدو عليه النعمي واهلم معا.
اكن هذا هو حامك طرابل بنفسه!
واكن حيمل صندوقا من الصدف ،فتحه ليخرج لنا منه لفافة،
وضعها يف يدي ،وقال:
"قلت لسلامن إنك أتيت تسأل عن الوديعة؟ هذه يه الوديعة
اليت كتبهتا األمرية سارة ،ختىش أن متوت ،فال يعرف وليدها
أابه ،وحاكيهتا معه .كل أن تقرأها".
379
فضضت اللفافة ،ال أدري ما أمهيهتا ،وما نفعها بشأين ،وبدأت
أتلو ما هبا بصوت عال ،ليسمعين رفايق".
380
()44
381
"مل اي أماه؟ أنت ال تقرأين ،وحىت مواليت ،األمرية فاطمة ،ال
تقرأ".
اكن علينا أن خناطب زوجة أيب مبواليت دوما ،سواء كنا عبيده
أو أبناءه من غريها.
ترد أيم حبزم:
"اي ابنيت اعلمي قدرك .بني األمريات ،أنت بنت اجلارية ،وبني
النساء قبيحة ،ولن تنايل من مال أبيك شيئا ،طاملا اكنت فاطمة
وأبناؤها أحياء .ال أمكل ما أحفظك به من الضياع إال هذا .مه
أمهلوا العمل ،فعليك بغنميته".
اكنت أيم ترجو أن تراين خريا من أقراين .ال أدري هل أمكل
من اذلاكء نصيبا أم ال؛ لكين حامت ال أطاول عقل فاطمة اجلبار،
وهمام فعلت ،فسأظل يف القرص جمرد فتاة .فتاة أدىن من إخوهتا
نس با وجامال.
تكل اكنت قيودي ،وهذه اكنت أيم حتاول أن ترفعها عين.
اكنت العبودية حترقها ،فرتغب يف جعيل حرة .حرة من اجلهل،
ومن ضعف األنوثة ،ومن احلاجة للئام لن ينرصوين .فتنظر
حولها بقةل حيلهتا ،فمل تر إال مؤدب األمراء ،اذلي لهت عنه
أخوايت ،وعصاه ،اليت توصيه ابس تعاملها لكام أخطئت!
وهكذا ،طوال ما اكن من حياهتا القصرية ،مضت طفوليت يف
قرص أيب .وقبل أن أغادر أطالل الطفوةل ،أىت الهول حيرقها.
382
يزمعون أنه لوال األهبال ،وزعميهم املسمى ابلهول ،وس يفه
اذلي اكن يفتك بعرشة فرسان برضبة واحدة ،ملىض مكل أابيئ
دهورا أخرى.
لكن هذا يف عمل الغيب .إذ أذكر من شظااي الطفوةل ،تكل
اللكامت عن إن املكل قد أصبح وحيدا ،ال يقمي ملكه إال عىل
حفنة الغيالن امحلر ،اليت جتاهره بعدم اإلخالص ،وتعلن عىل
رؤوس األشهاد ،إنه يوم يأيت زعميهم ليتبوأ العرش ،فلن جيد من
يقف دونه ،ألن حىت املكل ،ال ميكل إال جامعة الغيالن امحلر.
عهد جعيب هذا اذلي بني املكل وتكل امجلاعة .يساعدوه عىل
احلفاظ عىل ملكه ،عىل أن يأخذوه ألنفسهم حيامن يريدون .مل
أفهم يف محق الطفوةل املغزى ،فقد اكن املكل لنا خملوقا خميفا
جبارا .اكن قوة هموةل ترهب آابءان .األمرية فاطمة تفزعين ،لكهنا
تفزع من املكل!
أذكر حيامن كنا جنمتع لولمية ،كنا األطفال حنتشد للهو ،ال فرق
بني أمري وخادم ،أو بنت ملكة وبنت اجلارية ،إال الشهايب.
عندما ننظر هل ،ونقرتب منه لندعوه معنا ،يهنران آابؤان
ويقولون" :إال الشهايب .هذا ابن ويل العهد ،وسريث املكل
يوما".
383
لكن حيامن تتابعت اخلطوب ،ظهر إن هذا املكل العظمي ،ليس
إال رجال عاجزا أمحقا ،اس تعان بأعدائه عىل إخوته ،علهم
يؤخرون ساعته ،ولكن أجل هللا إذا جاء ال يؤخر.
كنت ألهو كعاديت يف برج القرص ،أكرس يف بعض من أطباق
املطبخ! وأرمق زهور احلديقة البديعة ،أرنو للهو فهيا ،إن
مسحت يل مواليت فاطمة.
مىت اكن الوقت؟ أظنه ساعة احتضار الشمس ،حيث اكنت
السامء تب ي .وأظهنا تب ي عىل الهنار الرصيع ،بيامن الباكء العظمي
يتأهب لغزوي.
مسعت خصبا وجلبة ،فنظرت من النافذة ،ألشاهد مشهدا بدا
يل خميفا.
أعداد كبرية ،وحشود غاضبة تصيح ابملقت والبغض ،ويه
حتارص البيت.
ال أدري ماذا فعل أيب ليغضهبم .مل أفهم مل بدا هلم الكره فضيةل،
فمل يكن عقيل ليس توعب مثل هذا احلقد ،اذلي ودل من الظمل
ليدل الظلامت.
وجدت هرجا ومرجا ،ومسعت ولوةل ورصاخا ،بيامن العبيد
واجلواري جيرون يف رعب ال أول هل وال آخر.
384
اكن الناس قد نصحوا أيب ابلهرب بنا ،لكن نفائسه مل هتن
عليه ،وجواهره أثقلت قدمه .فأمر ابلصمود ،وأرسل يطلب
عون فرقة من الغيالن امحلر.
قالوا هل" :لن يصلوا اليوم أبدا ،وليس عندان من طعام يكفي
حصارا ،ولو لليةل".
فأمر بإطالق لك اجلواري والعبيد.
هكذا ببساطة ،طرد حيوات كثرية ذلئاب املوت اجلائعة .دوما
ما اكنوا يتهاهلونين ،لكين مل أتصور أن ينزتعوا مين أيم،
ويلقواهنا خارجا.
ترى هل ظهنم الثوار جنودا يطلبواهنم ،أم أن احلقد أمعى
القلوب واألبصار ،فهاجت الفئوس والس يوف ،ال تطلب إال
اللحم املمزق.
عيين اذلاهلتني ،رأيت طوائف اجلواري ،الاليت عشت وأمام ّ
بيهنن ،تؤلك صفا تلو الصف ،وأيم ترصخ بقلب يب معلق،
وعني عىل أخوهتا دامعة ،ويد لنهدهتا عاجزة.
ال أدري ما حدث .آخر ما أذكره مشهد أيم ترفع يداها ،فال
أدري ألتس تعطف الظاملني ،أم لتتقي الس يوف ،أم لتدعو رب
املس تضعفني.
385
وأفقت عىل نفيس أعدو خارج القرص ،بل مبتعدة عنه.
يغمرين العرق ،وتتقطع أنفايس تعبا وفزعا.
أهربت ،أم محلتين املالئكة فوق امجلوع؟ لعلها دعوة أيم
األخرية أن أجنو ،وليس بني هللا ودعوة املظلوم جحاب.
وجدتين يف ساحة ال أعرفها ،فنظرت خلفي ،ألرى برج القرص
اذلي اكن مثوى لعيب ومرعى طفوليت حيرتق ،فقلت مذهوةل:
"بييت .بييت حيرتق .وابيتاه!"
فعرفين أحد املامليك ،فهتف مبن معه:
"تكل عداننية ،فافتكوا هبا".
تصلبت يف ماكين ،ال أدري همراب ،ورمبا ال أريده .لكهنم مل
ينالوين أبدا.
اكنوا جامعة من الغيالن امحلر استنقذوين من بيهنم ،وأمعلوا
فهيم الس يوف والرماح ،كأمنا يه انر حترق جنودا من أوراق.
قبلها كنت أكره الغيالن كثريا .أحصاب الوجوه العابسة،
واألصوات الصاخبة ،اذلين خيطفون األطفال من أهلهم ،ال
أدري لعلهم يألكواهنم!
لكن تكل الزمرة اكن بقلوهبم يشء من السامحة ،وبأحدمه من
الشفقة ما يكفي لنهديت ،قائال ألحصابه:
386
"أرأيمت تكل الفتاة التعسة .قالت وابيتاه ،وليس واقرصاه.
حزنت عىل السقف اذلي ظللها ،بدال من القرص اذلي أمتعها".
رد آخر:
"دعك مهنا ولمنض".
فرد عليه:
"وبأي ذنب تقتل تكل الربيئة ،اليت مل تبلغ من العمر ما حتبس
به اذلنوب؟"
رد عليه زميهل:
"ما ذنهبا! إاهنا أمرية".
قال األول:
"أمرية ؟ يه جمرد فتاة صغرية ،لن ترث من املكل اذلي ضاع
شيئا اي إخويت".
اكن الغيالن ينادون بعضهم بعضا دوما ابإلخوة ،ال أدري مل.
حيامن كنت أصغر س نا ،كنت أتسائل عن هذا األب ،اذلي
أجنب ورىب لك هؤالء!
لكن أخوهتم الغامضة تكل قد احتضنتين ،خبري مما فعل أبناء
أيب رمحهم هللا.
387
مضوا يب متحريين ،وأحدمه يقول ،وهو ينظر للقصور املهنوبة
حولنا:
"ها قد ضاعت البالد .واأسفاه! لو عمل الغول األعظم بنبأ تكل
الفوىض! مك يكره التفلت ،فإذا به قد فاض عىل لك ما عداه".
رد عليه زميهل:
"أتظن ذكل؟ قد اكن من أكرب الساعني لهذه الفوىض .أمل
يضعف شوكة املكل ،مث أعانه عىل خصومه .اليوم إذ يغزوان
األهبال ،مل جيدوا من يردمه ،فضاع لك يشء ،ومعهم الغول
األعظم نفسه ،هو والقادة الس بعة".
قال األول:
"أتصدق تكل األنباء؟ أحقا قتهل األهبال؟ يزمعون أن لك
إخواننا س يخرجون للثأر من الهول وجنوده".
تدخل خشص آخر يف احلديث ،وهو يسأل بصوت يقطر
خسرية:
"أي إخوان؟ اذلين امسوا أنفسهم ابملولودين؟ قد اش تد عودمه
وخروهجم ،حىت ألزمع أنه مل يعد يف الغيالن غريمه ،مه ومن وقع
يف حبائل مكرمه .إن هو إال وقت يسري ،حىت خيرجوا عن اهنج
القادة الس بعة ،وميزقوا كتاب الشهاعة".
رد عليه برصامة ،هذا الرجل ذو الشفقة ،اذلي رأف حلايل:
388
"الغيالن واحد ،وإن مه شقوا ،فال تشق أنت عهنم .لو بقينا
هنا فلن اهمنا من هذا األمر شيئا ،ألن الهالك حولنا .لنعقد
أمران أوال ،ونعرف ماذا حنن فاعلون".
رد عليه هذا الساخر:
"وهل بأيدينا غري أن خنرج الفتاة من احلارضة ،وندفعها إىل
جعوز فقري تنتفع مبا علهيا من جوهر وحرير ،وتنفعها ابملألك
واملأمن؟"
وهكذا مضينا خنرج من املدينة ،اليت حيرق سوادها بعضه
بعضا .ولك حني وآخر ،يربز لنا مجعا من سفاكني ،أو اهنابني،
أو من املامليك املتعطشني لدلم ،لكهنم يفرون رسيعا ما أن تظهر
هلم دروع الغيالن امحلراء.
وعندما توغلنا يف الليل ،انتحوا معي جانبا من أطالل قرص
مهتدم ،مل يبق فيه ما يسلب ،ل ي ننال الراحة .لكين ما نلت
مهنا شيئا ،إذ انمكشت عىل نفيس يف ركن حقري ،انتظر أمل
الفجر بصرب انفد.
وأتت شعةل الفجر أخريا .وعقب الصالة مبارشة ارحتلنا ،فإذا
يب أراه أمامنا.
اكن مرجتفا ابردا مرتددا ،يقدم رجال ويؤخر أخرى .ينظر
برجاء للغيالن ،وخبوف ألسلحهتم .عرفته ومل يعرفين ،فهتفت
عليه:
389
"اي شهايب .إىل هنا .همل فس يحموننا".
نظر يل الغيالن مهبوتني ،وقال أحدمه:
"الشهايب؟ أتعنني ابن ويل العهد األمري الشهايب؟ أجنا وسط
لك ها؟ اي للعجب!"
التفوا حولنا ،يتداولون مصريان ،فقد اكن أحدمه شديد
الغضب وهو يقول:
"أخذ الشهايب معنا هو دعوة لقتلنا .إنه املوت للك من
يرافقه!"
رد اثن:
"بل علينا إنقاذه".
"-اتهلل قد أصابك اخلبال .إن رؤيته مع الغيالن أشد خطرا
عليه وعلينا من رؤيته وحيداً .قد أنقذه هللا حىت اآلن ،فليس
لنا من األمر يشء".
" -بل ساقه هللا إلينا لنحميه .ال نكون غيالان محراً .بل ال
نكون رجاال ،إن تركنا الصيب يقتل .أنت غول ال ختىش شيئا
وال هتاب أحدا".
" -تبا كل ولشفقتك .أمل تسمع بأن لنا إخواننا ،قتلوا غلام ًان ألن
آابءمه اثروا علينا؟ ليس من واجبات الغول أن حيمي طفل
الهالك هذا".
390
" -ليس من شأننا أن نتبع هؤالء يف جريرهتم .قد أقسمنا عىل
حامية املكل وأههل ،ذلا فقد أاتان يرجوان بقسمنا ،مفا لنا أن
حننث فيه".
حسم هذا األمر ،وإن مل ينه باكء الشهايب ،اذلي مسعهم ومه
يتناولون موته وحياته .لكن قلوهبم رقت هل ،كام رقت يل .فإذا
هبذا الغاضب يقول:
"غالم وفتاة .لعهل تدبري من القدر".
وأخذوا يتداولون عن اجلهة اليت يذهبون بنا إلهيا ،فتلكم
الصيب فورا:
"إىل ساوة".
نظروا هل مستنكرين وقالوا:
"ساوة؟ املدينة وحصهنا سقطت من زمن .أما الواحة مفا
شأنك بأهلها ،فهم لن حيموك".
قال:
"واحات ساوة لنا هبا نسيب ،وعدان ابملعونة ما أصابنا
خطب".
ردوا:
391
"أمك رومية فأي نسيب هذا؟ ما مسعنا بأنس باء للمكل يف
غري احلارضة .وما ابكل إن اكن من الفالحني".
قال ابكيا:
"ال أعمل أحداً غريه .فلنذهب إىل ساوة .هو اتجر يدعى تميور
العالف ،وقد تزوج أمرية ،فزنع عهنا جدي اإلمارة ،فقال هل إن
حق النسب مكفول ال يضيع".
قالوا حمذرين ،وش به مس هتزئني:
"الطريق اي فتاان طويل ،واخلطر مرتبص ،وس منكث لك حني
يف خمابئنا أايما دون طعام أو رشاب ،ال نتحرك وسط
الصحراء ،حىت نصل آمنني .وبعدها س يتتبعونكام حىت هناك".
قال:
"ليس يل غريها .ال أعمل أمراً آخر".
قالوا:
"هو غالم ال يعمل أمراً آخر .إن اكن يسعى لهالكه ،فهذا
شأنه .يه ساوة إ ًذا".
وهكذا مضوا ممتلملني متذمرين ،وقد بدت دروعهم امحلراء
الثقيةل أثقل من اجلبال يف صهد الصحراء .ومل يكن الطريق
ابليسري ،لكهنم أحس نوا تفادي خطره ،فمل نلق حر ًاب أو قتا ًال،
392
وإن كرث منا الفرار والتخفي .تنقلنا كثريا بني القرى والواحات
الصغرية ،وحدان عن الطريق أكرثه ،حىت أتت إلينا ساوة.
وس بقتنا إلهيا أنباء مظلمة متتالية ،عام أصاب البالد من فنت
وحروب وخراب.
ووصلنا إىل ساوة ،لنهد حالها ال خيتلف كثريا ،فقد جفع تميور
العالف يف زوجته زهرية ،لكنه رحب بنا ،وآواان بني أههل،
ألعرف يف حيايت السعادة احلقة.
وجدت ساوة واحة خرضاء مجيةل ،ذات جحم همول ،هبا آالف
النخل ،اذلي يسقى من عرشات اآلابر والعيون ،ويف شاملها
أراض فس يحة ،تزرع ش تاءا عىل املطر ،لتتحول إىل بساط
أخرض بديع.
وهنا يف ساوة عرفت معىن اللطف والكرم ،اذلي هجلته بني
أغنياء القصور .ال يعريين أحد بأيم اجلارية ،أو يقيدين أحدمه
بأيب األمري .واكن يل بني النساء شأن كبري .إذ كنت أجيد
القراءة والكتابة ،وهو أمر اندر بني الرجال ،وفريد بني النساء.
فإن رغبت امرأة فمين يكتب لها ،أو يقرأ ،وما اكن لها أن تدخل
غريباً علهيا ،فقد اكنت ترسل يل ،وتنفحين مترات شهيات ،أو
قطع حلوى ال مثيل لذلهتا.
قبل أن حينون عيل قائالت:
393
"أمرية يتمية مظلومة ،من نسل اخللفاء ،هاربة فقرية .جعبا
لشأنك".
عيين عن دمع ذكراها.
فتعود يل ذكرى أيم ،فال أمسك ّ
وكربت بيهنن ،ال أمسع إال قولهن:
"سارة للشهايب ،وليس للشهايب غري سارة".
وهكذا أصبحنا .مل يكن ألحدان غري رفيقه .هل أزمع إنين
عشقته؟ ال أدري لكن ما اكن بيننا أمسى من احلب ،وأقوى من
الشهوة .اكن بيننا اإلخالص ال يفرت ،والارتباط ال يفصم.
كنا لك يشء لآلخر يف هذه احلياة ،ألن لك يشء آخر قد
فقدانه.
فاكن زواجنا حامت مقضيا.
ورمغ إننا قضينا هذا (الزواج) يف لهو طفوةل طاملا حرم منه
الشهايب .فإن تأخر محيل ،مل يشغل ابل أحد .فقد كنت
العروس الوحيدة اليت ال تنشغل األلس نة بهنشها لهذا األمر.
فسارة للشهايب ،وليس للشهايب غري سارة!
عش نا معا يف رحةل واحدة ،وماكنتنا بني أهل الواحة تعلو.
أصبح الشهايب حمفظاً للقرآن لرجال الواحة ،فقد أجربه رجالها
عىل هذا ،بعد أن أجربهتم نساؤمه عىل إجباره عىل هذا ،ل ي
حيفظين ،وأصبح أان قارئهتن ،حمفظهتن أيضا!
394
إاهنا البذرة ،اليت زرعهتا أيم بني القصور ،قد أورقت ،لتظللين
بني بيوت الواحة الطينية .فها أان وزويج ،حامال لواء القرآن
أللقى تبجيال مل أر عبيدا يقدمونه للملوك.
ذلا ،حفيامن أتت اخلطوب ،مل أتعجب إذ افتدوان بدماهئم.
اكن محيل ابلاكد ظهر ،حيامن أتت قطع الليل املظمل ،بنذرها
من الغيالن امحلر.
أولئك الغيالن اذلين تركوان يف ساوة ،عادوا جفأة بعد س نوات
طوال ،متوجسني يطلبون لقايئ والشهايب.
قال يل كبريمه:
"أمسكوا بأحدان .عذبوه عذااب رهيبا ،ليخربمه عن لك إخوانه،
فمل حيمتل ،وأخربمه بلك يشء ميكن أن جيعلهم يرتكوه .أخربمه
عن أين جيدوا الشهايب الوريث الهارب!"
قلت فزعة:
"أخربمه بنبئنا؟ أليس غوال أمحر .أما اس تطاع الصمت".
قال يل الشهايب:
"أوليس برشا اي سارة".
ّ
مصت ،فأمكل الغول:
395
"أاتان إذ تركوه فرحني ابلغنمية .اكن حيترض من العذاب ،فقال
لنا:
"رأيت حيايت لكها إفك ،وشأننا حنن الغيالن غثا ًء وزبداً
يذهب جفا ًء ،مفا وجدت ،إذ أاتين ظالم املوت ،ضو ًء غري
طفلني اس تغااث يب ،فأغثهتام .هال أجندمتوهام؟ اي إخواين هال
أنقذمت حملة الضوء الوحيدة يف حيايت".
بىك الغول حيهنا ،فتعجبت لباكئه ،فقال الشهايب:
"أوليس برشا اي سارة؟"
نظر يل الغول بعينه الصارمة الباكية ،وقال:
"مه آتون يطلبونكام .لو أمسكوكام ،فسينالمك القتل حامتً".
قال تميور:
"س نفداهام بأرواحنا".
رد الغول:
"لو حشدت لك أهل الواحة ،ولك من بقى من الغيالن
امحلر ،ما نفعمك هذا إال بردمه مرة أو اثنتني ،لريجعوا حبشود أكرب
ال تبقي وال تذر .ما هلام غري الفرار".
قال تميور:
"إذن نرسع بإخراهجام إىل أي بدل".
396
رد الغول:
"الشهايب طلبة كربى .لو فر الشهايب ،فس يحرثون األرض حبثا
عن وريث املكل .أرى أن سارة حبىل .فلهترب يه بوليدها،
ويبقى الشهايب يشاغلهم عهنا ،حىت يقيض هللا أمرا اكن مفعوال".
مل أقبل .أان ال أعرف غريه أحدا .عاملي بأمكهل ال يستند إال عىل
ركنني ،الشهايب وأان ،يستندان عىل تلمك األرض الطيبة .وهذا
الغريب يطلب مين هدمه بزمع النهاة.
أي جناة تكل أاها الغول.
الك اي رجال .لن يكون مصريي مضغة يف أفواهمك ،فقد
جتاوزت هذا العمر .هذه حيايت ومصريي أان .لن أتركمك
تدمرواهنا.
جلئت للك ما أعرفه من اعرتاض ،ورصاخ ،وغرقت يف باكء
دموعه كنار حترقين .إن اكن عاملي يتصدع ،فألذهب معه .ما
قمية هذه احلياة إ ًذا؟ ما يبقيين فهيا بعد ضياع لك ما أعرفه من
حلوها؟ إما أن أخرج مع الشهايب ،أو أموت معه هنا.
ردوا عيل ابحلهة ،فرددت ابلرصاخ .حدثوين ابلتعقل،
فقاطعهتم ابلباكء احلازم .وحني أحلوا ،لطمت وهجىي حىت مصتوا.
وإذا ابلشهايب خيرس ين.
يه لكمة واحدة أعادت اإلنصات ملعجمي،
397
"أحبك اي سارة".
جلست مهنارة وقلت:
"وأان ال أرى "............
قاطعين ممكال "أحبك فأموت يف سبيكل .إن مت معي مل
أعمل سببا غري الظمل الغامش لتكل املقتةل .أما إن جنوت ،فقد
علمت أنين افتديتك بديم .ال حترميين هذا األمر".
هبت .واسودت احلياة بعد أن انطفأت انر الغضب ،وتبخر
اإلرصار ،ومل يبق إال طاعة زويج يف آخر أمر هل يف هذه
احلياة .ما عاد لعييش سبب غري أن أجنو بوليدي ،وعىس هللا
أن جيمعنا يف جنة رمحته ،بعد أن فرقنا حجمي ظمل اإلنسان.
خرجت يف قافةل صغرية ،هترول خش ية ذئاب تبغينا ،وتبطئ
خش ية محل يثقلين.
أعطاين تميور العالف ورقة وأان راحةل .وأمرين أال يقرأها أحد
غريي ،وأحرقها يف عقيب بعيداً عن ساوة .ففضتهتا عند
الغروب ،وأان أرى بني محرة السامء ،محرة انر يف ماكن ما،
بتكل الواحة اليت ابتعدت ،حتارص زويج وتعترص قليب.
بني ادلموع ،وجدت لكامت العالف اذلائبة ،تعزيين يف مصايب،
اذلي ال يعزى ،وتدعو يل ابلتصرب بأخبار آالم األنبياء موىس
398
ونوح وأيوب وعيىس علهيم السالم .لكهم القوا ظلام أشد ،وعىل
يد أقارهبم وأقواهمم .مث أاتمه نرص هللا يف الهناية.
أخربين أن أذهب لرجل من بين األسود ،يف رشق البالد،
اكن هل يد بيضاء عليه يوما ،وقد مسع إن مع هذا الرجل قد
أصبح ش يخ ش يوخ تكل القبائل القوية ،وهو داهية ال مثيل هل،
ذلا فهو مطمنئ إنه س يحميين ،وييرس يل الرحيل خارج
اململكة ،إىل طرابل ،حيث يصل يب إىل رجل يعرفه هناك.
عيل إذ مسع نبيئ.أكرمين هذا الرجل من بين األسود ،وأشفق ّ
مل أخربه بأصيل ،واكتفيت بذكر أمر زويج وهالكه .أشفق عىل
وليدي أن يلحق بأبيه ،قبل أن يتنفس هواء احلياة ،فقال يل:
"حس ناً اي أم اليتمي .سأضعك عىل سفينة راحةل إىل ميناء
الزاهرة ،فال تعلمي أحداً بأمرك أو مقصدك .وغريي من
مسكنك بعد األايم األوىل .وسأخذل عنك ما اس تطعت".
لكن أايم املطاردة انهتت بعدها .اس تقررت عند ش يخ جعوز
يف قرية قريبة من ختوم طرابل ،إال أن احلرب املتأجهة بني
مدينيت الصيادية والسور العيل طالهتا بغارات مرتزقهتا الفرجنة.
فرحلت -إذ كرثت الهجامت -مع غريي من نساهئا ،خش ية
الس يب .ما اكن يل أن أعيد سرية أيم ،ليصبح وليدي القادم ابن
جارية.
399
ذهبت لطرابل يف آخر هروب ،فلجئت لش يخ مسهدها
الكبري ،اذلي أكرمين ،وآواين ،واس توىص يب خريا.
وهناك يف قلب بيته أاتين اخملاض وأجنبت.
وهنا مصت عبد الشهيد ابن مسعان ،ومل يمكل ما كتبته األمرية
سارة بنت عدانن".
400
()45
قال الراوي:
"مصت عبد الشهيد ابن مسعان ،ومل يمكل القراءة ،نظر للورقة
يف مجود ،مذهوال ،وقد بدا هل أنه حظي بأعنف صفعة يف
حياته .جف حلقه وذهب صوته ،ومل يس تطع إال أن خيرج صوات
واحدا..
"أ...................؟!"
قال سلامن:
"نعم! هو كذكل!"
أجرب عبد الشهيد نفسه عىل احلديث ،وقال بصوت متحرشج:
"الوريث األخري؟ ماذا عن....؟ أحقا! أجنبت سارة فتاة!"
قال سلامن:
"األمرية الشهابية ،زوجة حامك طرابل السابق".
قال عبد الشهيد:
401
"من؟"
تلكم حامك املدينة:
"مل تنجب سارة وريثا للعرش ،لقد أجنبت طفةل ورثت جامل
أبهيا ،وعزمية أهما يه األمرية الشهابية ،مث ماتت سارة ،بعد
س نوات قليةل ،وشبت الشهابية يتمية يف بيت الش يخ زعفران،
ومعلت يف قرص احلامك ،مضن من تعملن فيه من بنات طرابل.
ورآها ابن احلامك ،واكن شااب عابثا ،مولعا ابلنساء ،فراودها عن
نفسها ،فصدته صد غري مجيل ،واش تكت ألمه ،اليت ما أن
عرفت ابلنسب الرشيف ،حىت زوجهتا البهنا .واكنت خري نساء
طرابل ،إذ مجعت من القوة واحلمكة ما دبرت به ش ئون زوهجا
ومدينته حىت مات .ولها عندان ماكنة عظمية ،فالناس حتهبا
لعدلها ،وعطفها عىل الفقراء واحملتاجني .لن جتد من يرسب عهنا
لكمة واحدة ألعداهئا يف لك طرابل .ويه اليوم تعيش مع ابهنا،
وهو زوج أخيت يف قرص بشامل املدينة ،بيامن تزوجت أان من
ابنهتا ،وتمي معنا يف هذا القرص ،لتبقى الشهابية دعامة خري تقوي
مكل طرابل".
هوى الغول مهبوات عىل مقعد جوار القايض ،وهو ينئ بقوهل:
"أبعد لك هذا؟ بعد الطريق الطويل واملشقات واخملاطر ،أبعد
لك تكل األمور ،وبعد أن الح األمل عقب الضياع ،أجنبت
سارة بنتا .خلف الشهايب فتاة فقط!"
402
قال القايض:
"هذا أمر هللا اي بين ،مل يعد مللوكمك وريث .عد لبالدك،
واترك الشهابية هنا يف سالم".
فتح عبد الشهيد مفه حمتها وقال:
"ولكن القائد األسود"......
ومصت ومل يمكل ،فقد غلبه اهلم .وغادر قرص احلامك خمزاي مع
رفاقه .وتشاور األمر معهم ،فمل جيدوا بدا من العودة للبالد
خاويي الوفاض ،لكن تميور طلب البقاء أايما ،حىت يزور
نس يبته ،وينقل لها حتيات أههل وأهل ساوة .وقد أكرمته الشهابية
أميا إكرام ،وأعطته هدااي ونفائس ألهايل البدل ،اذلي آوى
وادلاها ،وافتداهام بأرواحه.
مث بعد أن أاهنوا الزايرة ،وأوصلوا الرمح ،مجع الرفاق املنكرسين
متاعهم ،وعزموا عىل العودة.
وبدءوا رحةل إايب خاوي الوفاض.
لكن الطريق مل يتخل عن معاندته هلم ،فمل يبتعدوا كثريا عن
طرابل ،حىت بدأت املتاعب ،من قبل أن يتهاوزوا حصون
األهبال.
اكنوا يف طريق مظمل ،قد ظلهل اليأس ،حني قطعه علهيم عرشة
من الرجال ،فتوقفت القافةل الصغرية ،وأخرجوا سالهحم .فإذا
403
بعرشة أخرى تطلع من ماكمن خلفهم ،واثلثة تربز شاهرة
الس يوف عن يسارمه ،ومتام األربعني خرجوا مرتبصني من
الميني.
هتف احملصورون:
"ما شأنمك؟"
القطاع شاب ،يبدو عليه سامت اعتداد خرج من جامعة ّ
النفس والثقة يف النرص .اكن وهجه مألوفا لعبد الشهيد ،لكنه مل
يس تطع أن يتذكر أين رآه من قبل.
تلكم الشاب:
"مرحبا ابلقبيل زعمي الغيالن امحلر! الرجل ،اذلي أصابنا
ابلكرب ،وآذاان مبكره".
رد عبد الشهيد:
"ال مرحبا وال سالما! ماذا تريدون؟"
تلكم الرجل:
"لعكل ال تذكرين اي س يد الغيالن؟ كنت واحدا من رجال
ش يخ بين األسود ،اذلين التقوك يف دار ابن العبديل ،امسي
حسام".
قال عبد الشهيد برصامة ختفي قلقه:
404
"وماذا تريد منا أاها احلسام األعوج؟"
ابتسم حسام وقال:
"وماذا سأريد؟ الوريث طبعا".
قال عبد الشهيد:
"ال يوجد وريث ،أمل تبحث فمل جتد؟"
قال حسام:
"حبثنا غري حبث الغيالن؟ ألس مت تعودون ظافرين ،بيامن حنن
هنا ابقني خائبني؟"
قال عبد الشهيد:
"دع عنك هذا! قد أجنب الشهايب فتاة! ال يوجد وريث
للمكل أصال .اذهب عين اآلن ،قبل أن أذيقك حسايم أاها
احلسام األعوج".
مصت حسام مهبوات هو ومن معه ،فمل يس تطع عبد الشهيد
كبت حضكة مريرة ،وقال:
"مثيل متاما! لكنا فكران يف أي أمر ،يف أن يكون الوريث
عاش ،أو قتل ،أو اختبأ .لكنمك مثيل ،مل تفكروا يف أمر أن
يكون فتاة! عقول جمنونة ،أضاعت نفسها يف رحةل عقمية!"
405
اكنت املرارة يف قلب عبد الشهيد كبرية ،وقد أخذ يسأل نفسه
لك حلظة مل افرتض امجليع أن وليد سارة ذكرا! لكن مرارته اكنت
هبهة يف قلوب غرميه ،إذ هتف امجلع املعتدي مهتلال ،يصيح
صيحات الفرح.
وقال حسام:
"حس نا ،تكل أنباء رائعة ،إ ًذا ،فقد خلصت البالد أخريا لفخر
بين األسود".
أراد عبد الشهيد إغاظته بقوهل:
"مازال وادله يعرتضه ،وال يرىض به حكام ،وحامت س يهد ش يخ
بين األسود أنصارا يف حربه ضد ابنه".
حضك حسام بقوة وقال:
"أمل تأتك األنباء اي س يد الغيالن؟ اكنوا يزمعون أن الغيالن
يأتون ابألنباء من قبل أن حتدث! لقد مات الش يخ العجوز اي
رجل! مات بغتة وهو انمئ ،ال أدري أمعره املتثاقل قد ااهند
جفأة ،أم إن صرب ابنه مل يسع ذنبه األخري؟ عىل أي حال ابيعت
لك القبائل ابن العم هماب ش يخا ،وابيعنا مجيعا القائد املغوار
ملاك عىل البالد".
مصت عبد الشهيد ،فمل جيد جوااب ،وانتصب الرمح والس يف
يف يده ،فقال حسام:
406
"أراد ملي ي أن حيالفمك أاها الغيالن ،ال نبغي بمك رشا! اآلن قد
ارتدت األخطار عن عرشه ،فاقسم هل الوالء واإلخالص
وس يجزل لمك العطاء".
فكر عبد الشهيد قليال ،مل يعد هل هدف اآلن إال العودة ساملا،
ليعيش فالحا يف أرضه ،حىت ميوت ويدفن فهيا .مل يعد للكفاح
والقتال اآلن قمية ،فقد خلصت البالد لألسود ،كام قال هذا
احلسام.
رد ببطء:
"أما وقد ثبت لنا أن املكل الرشعي للبالد قد انهتىى نسهل ،فمل
يعد هناك بد من مبايعة مكل جديد ،أال وال يوجد خري من
املغوار ،أو القائد األسود ليوحد البالد ،وجيمع لكمهتا".
نظر هل حسام بثبات ،وقال:
"مل أمسع قسام وال مبايعة".
ابتلع عبد الشهيد ريقه ،وأمكل املراوغة قليال ،عىس أن خيرج
هو ورفاقه أحياء .مفن انحية اكن يكره أن يقسم عىل اإلخالص
لألسود ،ومن انحية أخرى خيىش أن يأخذه حسام ملقابةل
املغوار ،فيفتضح أمره ،ويقتل هو ومن معه ،ذلا فقد قال:
"أعاهدك إنين ما أن أرجع إىل اململكة ،حىت أمجع الغيالن
امحلر ملبايعة املكل اجلديد".
407
ابتسم حسام وقال:
"يبدو يل أنك مازلت حمتفظا ببعض من عقكل ،أكرث مما
ظننت .هال صاحفتين عىل هذا العهد؟"
وترجل حسام ،وألقى بس يفه عالمة األمان .فتقدم هل عبد
الشهيد ،ملقيا برحمه وس يفه ،ومد يده ليصاحفه.
مد حسام ميناه ،وقبض هبا عىل ذراع عبد الشهيد ،وبرسعة
الربق اكنت ذراعه تس تل خنجرا من حتت عباءته ،وهوى به
لميزق جانب الغول األمحر بطعنة جنالء ،وجدت طريقها بني
ادلروع.
وانزتع اخلنجر لهيوي عىل اجلسد الرصيع ،بطعنة تلو األخرى.
واستبد الفزع بغول احلق ،فصاح يف ارتياع ،ومحل س يفه ،لكن
أحد رجال األسود رماه حبربة أسقطته ،وجهم الفرسان عليه
ميزقونه بس يوفهم.
وسقط غول احلق مرضجا بدمائه ،واي للعجب ،علت عىل
شفتيه ابتسامة غريبة ،كأمنا الىق صديقا قدميا طال اشتياقه هل.
وسقط عبد الشهيد مرضجا يف دمائه .اكن لك ما يف ذهنه
والسواد يبتلعه ،إنه كرر سرية أبيه ابملوت غريبا رشيدا .وأنه
أهكل رفاقا طيبني بال ذنب.
408
وقبل أن تدركه الظلمة ،اكنت آخر حملة ضوء ذاقها يه
ابتسامة غول احلق ،وأضاء ذكل القبس اخلاطف قلبه بسكينة
جعيبة ،فمل يبق يف صدره غري الارتياح ،اذلي طرد حىت آالم
الطعنات.
وهوى عبد الشهيد ،آخر الغيالن ،مرصوعا.
وأىت حسام ،فوقف عىل رأس الغولني الرصيعني ،وأشار
لرجاهل ،حفملوا اجلثتني ،وصلبوهام عىل الطريق فوق ساريتني،
محلتا عمل األسود وعمل األهبال.
مث أاته رجاهل يسألونه ،ماذا يفعلون ابلبقية؟ معران وتميور؟
نظر هلام بربود وقال:
"أرأيامت األمحقني؟"
وبصق عىل جسد عبد الشهيد ،فأفلتت صيحة غيظ من
تميور ،فالتفت هل حسام وأمكل:
"موالي املغوار ،القائد األسود مكل البالد ،ميد يده مرة
واحدة فقط ،وال ميدها إال لتلقي بيعة رصحية .من يراوغ يده
العليا ،أو يردها ،فس متتد اليد مرة اثنية ابلهالك .تعال أاها
اإلعرايب".
409
وكبل رجلني من رجاهل الش يخ معران ،فأجلسوه راكعا عىل
األرض أمام حسام ،اذلي أخرج خنجره وهو مازال مرضجا
بدم عبد الشهيد ،ورفعه أمام عني العجوز املذعور.
قال حسام بقسوة:
"هل ترى أاها اإلعرايب جزاء من يتحدى األساودة؟"
قال معران مرجتفا:
"ما أان إال دليل للطريق".
مط حسام شفتيه ابس هتزاء وقال:
"سأتركك حتيا لتقص عىل الناس أيامن حللت عن بطش املكل
الوحيد لبالدان ،وعن خرسان من يتحداه ،لكن سأترك كل
تذاكرا صغريا حىت ال تنىس هذا ادلرس".
وبرضبة رسيعة ،جدع أنف الرجل املسكني ،مث شق أذنيه،
ورلكه ليسقطه أرضا ابحتقار ،قبل أن يلتفت لتميور ويقول:
"ومن أنت؟ هذان غوالن ،وذاك دليلهام مفن أنت؟"
رد تميور وهو يرجتف من الغضب ،حماوال كبح جامح نفسه:
"ما أان إال فالح متواضع من ساوة".
قال حسام ابس تخفاف:
"وما اذلي أىت بك بعيدا عن أرايض ساوة وجتارهتا؟"
410
فكر تميور أنه بعد أن انهتىى لك يشء ،مفاهل إال أن يس يطر
عىل نفسه ،ويسعى للنهاة من هذا الغادر ،فقال مكرها متلعامث:
"لقد اقتادين الغيالن جربا من بدلي .ألن ألهل ساوة نس با مع
الوريث ،أرادين أن أكون رسول أمان هل".
قال حسام:
"أحقا اكن الوريث إمرأة؟"
رد تميور:
"بىل اي موالي امرأة جعوز ،تزوجت من حامك املدينة السابق،
وأهل طرابل حيمواهنا ،فال يس تطيع أحد نيلها".
ابتسم حسام منتش يا وقال:
"ال حاجة لنا بقتل امرأة".
اكن سعيدا بنرصه عىل الغول ،فمل جيد يف نفسه حاجة لقتل
الفىت ،خاصة بعد أن أكد هل األنباء الطيبة عن الوريث ،وانهتاء
عقب امللوك وساللهتم ،ذلا أمر الرجال بضم الفىت للعبيد ،اذلين
س هيداهم لقلعة األهبال القادمة ،مث أشار لرجاهل ليتحركوا
مبتعدين.
وقبل أن يرحل ،ألقى نظرة ساخرة عىل اجلثتني املصلوبتني،
وقال:
411
"حقا يصل بعض الناس لشأن من امحلاقة ،ال يداواها دواء إال
الس يف".
412
()46
413
أشعر ابلنار تكوي جسدي .اي هللا أأان مقبل عىل العذاب؟
أحانت حلظة احلصاد؟ أيه انر القرب تشوي أجنايب؟ لطفك اي
رب ،لطفك اي رب ،لطفك اي رب ،لطفك اي لطيف اي حلمي.
واجتاحين أمل رهيب ،فرصخت" .ومه يصطرخون فهيا ربنا
أخرجنا نعمل صاحلا .رب أخرجين من هذا أمعل معال صاحلا".
"صاحل بأمر هللا ،هون عليك".
كأين أمسع صوات عذاب حيدثين؟ أهو مالك يتزنل عيل ابلرمحة؟
أم ش يطان يبغي فتنة؟
وكأين أحسست بنفحة من عاصفة ابردة جتتاحين ،فهنضت
جفأة وأان أشهق ،وأنطق ابلشهادة.
وألول مرة ،انقشع الظالم ،وزالت غشاوة عيين .اكن البياض
حويل يف لك ماكن ،واكنت هناك حورية ذات وجه ميضء،
عيل املاء البارد ،ورجال حويل يلبسون البياض.
تصب ّ
ظننت لوهةل أنين يف اجلنة ،مث أدركت أنين مازلت حيا!"
414
415
()47
416
"أين تميور؟"
قال أحد الرجال:
"لقد أفاق الرجل".
رد عليه آخر:
"دعه اآلن وغدا تراه اخلاتون".
قلت بوهن حىت مل أكد أن أمسع صويت:
"أي خاتون؟"
مسعين الرجل اذلي جير مجيل ،فأجاب:
"يه الس يدة اليت أنقذتك أاها الغول .إاهنا الس يدة املرصفية
الرشيفة ،امرأة بألف رجل ،تقدر أن تدبر أموران ،وتفصل يف
أحوالنا ،وعىل مالها يتعيش أيتامنا وأراملنا".
مل جتبين قصيدة املدح تكل عن سؤايل ،لكين مل أهمت .مل يكن
األمل يف جسدي ،والقلق يف صدري ،يسمح يل ابالهامتم ،أو
الفضول ،لكين أحسست ابالمتنان لقوهل "أنقذتك" ،فرددت
اللكمة خبفوت:
"أنقذتين".
بدت هلم كسؤال ،فقال الرجل:
417
"كنا ذاهبني للحج ،حيامن مرران بكام مصلوبني ،خففنا إذ رأينا
راية األهبال ،وأردان ترككام وإرساع اخلطى ،لكهنا اهنرتنا بقولها:
عار عليمك ،أيقبل جحمك إن تركمت مسلمني مصلوبني يف طريقمك؟
أنزلوهام ،وادفنوهام ،أو ارجعوا لبيوتمك خائبني.
ومل جند ما نفعهل غري ذكل ،فأنزلنا زميكل ودفناه ،وملا أتينا كل
وجدان بك رمق احلياة ،فأرسعت تطببك ،وتداوي جروحك
الكثرية بنفسها ،حىت أنقذتك".
أحسست بشكر ال جيزاها ،تكل الس يدة العظمية امللقبة
ابخلاتون .رمغ لك ما حدث ،فبفضل هللا وفضلها جنوت ،ورمبا
أس تطيع العودة لبالدي.
ودفعت الفكرة يف صدري ببعض القوة ،فسألهتم:
"وأين حنن اآلن؟"
ردوا:
"عىل مشارف بيت هللا احلرام ،أمل نقل كل إننا يف طريقنا
للحج؟"
مل أس تطع أن أبقي عىل يقظيت أكرث من هذا ،ورسعان ما
هزمين الظالم اثنية ،ومل أستيقظ بعدها إال يف عرص اليوم
التايل ،أو اذلي يليه.
418
أيقظتين الشمس احلامية ،اليت تسللت من فرجة ابخلمية ،اليت
وضعوين فهيا .جفرجرت نفيس ،حىت ابتعدت عن قبسها
احلارق ،واكنت أول مرة أحرك فهيا جسدي منذ عهد بدا يل
اكدلهر الطويل .وكأمنا اكنت حسب بددهتا تكل الشمس ،صفت
رأيس جفأة من آالهما وطنيهنا ،واس تطعت أن أملح طبقا به
بعض المترات جواري ،فأدركت جفأة أنين مل آلك شيئا منذ
غادرت طرابل خمزاي .وكأمنا ذكرت بطين هبذا ،فتحرك ّيف جوع
قاتل ،جعلين أحتامل عىل نفيس ،ومددت يدي للمتر ،فألكت
بعضه.
ودلف عيل حيهنا أحد احلهاج ،فتبسم ملا رآين ،وقال:
"أعطاك هللا العافية اي أخا اإلسالم .محدا هلل عىل سالمتك".
رددت:
"محدا هلل ،وشكرا لمك عىل إنقاذي".
قال "بل الشكر هلل أوال ،ومن بعده ،إن شكرت،
فللخاتون".
مل أفهم ما يعين يف البداية ،مث تذكرت ،تكل الس يدة ،اليت
حدثوين عهنا أاهنا حثهتم عىل إنقاذي ،فاس تخلصتين من املوت.
أان مدين حقا لهذه الس يدة.
مث تنهبت ألمر ما فقلت للرجل:
419
"أخربتين أو أحد رفاقك إنمك من احلهاج ،أليس الوقت مبكرا
عىل مومس احلج؟"
رد عيل مبتسام "هذا ألنك لست من بالدان .عندمك يتفق املكل
مع الفرجنة ،صلحا أو حراب ،ليؤمن طريق احلهاج .أما حنن ،فال
جند من حيمينا ،خاصة إنه يف مومس احلج ،يزداد بطش
األعراب ،وغاراهتم ،واهنهبم ،فنتفادى الفرجنة ابلطرق الوعرة،
غري املأهوةل ،ورشوة بعض أمراهئم ،ونتقي رش األعراب بأال
نأيت لبالد احلهاز إال مع شهر رمضان ،حيث يكفون أذامه عن
الطريق قليال".
جتمدت يدي يف طريقها للمتر ،وسألت مفزوعا:
"أبدأ شهر رمضان؟"
قال مبتسام:
"ال حرج عليك! أنت مريض ،وكنت يف غيبوبة طيةل أسابيع
ثالثة ،مل تذق فهيا شيئا".
نظرت هل مندهشا ،فمل أتصور أنين قضيت ثالثة أسابيع اكمةل،
ولكن ظلت غصة غريبة يف حلقي ،وأان آلك المتر .مل أفطر يوما
يف رمضان منذ بلغت العارشة ،ورمغ إن معي رخصتان للمرض
والسفر ،لكن يف القلب يشء يعلق ،وللصوم النفس هتفو .لكين
مل أجرؤ عىل الصوم ،متذكرا حديث الرسول م « لمي مْس م من الْرب
420
الص ْوم ىف السفمر ،».وقوهل « عملم ْي ْمك برخ مْصة اَّلل اذلى مرخ مص
لم ْمك ».وما اكن يل أن أرد منحة هللا يل يف وقت مشقيت.
اكن مازال يب أثر من امحلى ،لكين أجربت نفيس عىل الهنوض
من فرايش ،فعيل الكثري ألقضيه ،وأوهل ما فاتين من صلوات يف
غيبوبيت ،وما اكن يل أن أتاكسل عهنا ،وقد رأيت بعيين األجل
ياكد ينسلخ ،مث ارتد جفأة بأمر من الرمحن الرحمي.
كام إ ّن عيل أن أعد العدة لسفر طويل شاق لبالدي ،وأن
أجد معال يقمي أودي ،ويعينين عىل لكفة السفر.
وبني هذا وذاك ،شاغلتين نفيس بأمرين ،أأنهتز فرصة ذهبية
وأرافق القوم ألجح جحة سهةل املنال ،مل تكن عىل اخلاطر ،أم
أنهتز فرصة خلو الطريق ،وتشاغل األعداء ،ألعود لبالدي
ساملا؟ كنت أفكر يف مرافقة احلهاج ،ولكن ليس معي مال أو
زاد ،وصعب أن أحصل علهيم يف هذه األرض ،اليت ال أعرف
أهلها ،وال أجيد حرفة من حرفهم.
ولكين وجدت احلهاج مرحبني يب ،ميدونين من فضلهم،
فاس مترأت األمر رمغ جخيل ،ولكهنا فرصة جح ال تعوض!
كنا عىل مسرية يوم من مكة ،وهجزت نفيس للغد ،اذلي أاليق
فيه احلرم ،حيامن أاتين الرجال يطلبونين للقاء اخلاتون.
فاس تعددت للقاء منقذيت اجملهوةل ،تكل الس يدة العظمية ،اليت
يتغىن الرجال بثناهئا ،فدخلت خميهتا الكبرية مهتيبا.
421
اكنت ترتدي ثيااب انمعة ،تزيهنا جواهر غالية ،ونقاهبا من حرير
مشغول ،وجتلس بني خادماهتا جلسة ،تذكرين ببنات الوايل يف
الزرقاء ،حامت يه امرأة من بيت منعم وال ريب.
ما أن دلفت اخلمية ،حىت نظرت يل طويال بعينني زرقاوتني
كعيون الفرجنة ،مث تلكمت بصوت خفيض واثق:
"لن تدخل مكة معنا أاها الغول األمحر!"
نظرت لها مذهوال ،وقلت بصوت مرجتف:
"ومل؟"
مث أاتين خاطر فأضفت:
"إن شئمت أن أفارقمك ،وأس بقمك لهناك ،خش ية أن يؤذيمك
وجودي معمك ،فال أمكل إال التسلمي ،وجزامك هللا خريا عام
فعلمتوه يل ،وإن قدرت عىل ".......
قاطعتين بصوهتا اخلفيض الواثق:
"أنت لن تدخل مكة ،ال معنا ،وال وحدك ،وال حىت مع
غريان .س تعود أدراجك فورا".
انقلب امتناين إىل جفاء ،وأان أسألها مغتاظا:
"وكيف هذا؟"
قالت:
422
"هذا أمري ،وليس كل أن تعارض".
قلت:
"أتصدينين عن املسهد احلرام؟ مفا جزاء هذا؟"
ردت بصوهتا الواثق ،كأنه ال اهزت أبدا:
"أهكذا ختاطب من تدين لها بعد هللا حبياتك؟"
أمجلين ردها ،وأجخلين ،وسكت متحريا .فأشارت للرجال
ليرتكوان ،خفرجوا صاغرين ،مث قالت يل:
"اقرتب".
اقرتبت مهنا ،وجلست قبالهتا مبارشة ،فهنضت خادماهتا
مبتعدات عنا بضعة أذرع.
وهنا كشفت عن وهجها ،وأاكد أزمع أن الضوء سطع من وراء
النقاب ويه تسحبه ،اي هللا! أيوجد مثل هذا امجلال بني
البرش؟ ابلاكد بقى يل يشء من لب ،ل ي أغض برصي اذلي
أعامه ضياءها.
قالت يل بصوهتا الفتان هذا:
"ما سأطلبه منك ،ال جيب أن يطلب يف األرض احلرام .أنت
مدين يل حبياتك ،وال أقبل برد ادلين ،إال حبياة القائد األسود!"
423
نظرت لها بغضب للحظة ،لكن مرأى وهجها أذهلين ،خففضت
برصي اثنية ،وقلت مرتباك:
"لست ابن ملجم اي مواليت اخلاتون".
عبس وهجها كام بدا يل ،وأان أختلس هل نظرة خاطفة ،وقالت:
"ال أقبل اإلهانة اي هذا .لست أعرض نفيس الغالية عليك،
عيل
وال أطلب منك رأس خليفة عادل ،أال تتقي هللا! أتقارن ّ
العيل ،ابألسود املسود؟"
ّ
رددت بصرب:
"ال أقارن هذا بذاك ،ولكين لست قاتال مأجورا ،خيدم س يدة
مجلالها".
ابتسمت ابتسامة خفيفة ،وقد كشفت لها أن ما أرادته من
كشف وهجها يل قد أعطى أثره ،فانتقلت من فتنة املالمح،
لفتنة اللكامت األشد وطأة.
قالت يل موسوسة:
"دم األسود همدور هبدره دماء املسلمني ،ولو قتلته فقد
أرحت البالد والعباد من رشه".
رددت حبسم:
424
"لو قتلته بدون مكل ميسك البالد ماكنه ،فقد أضعت أملها
يف الوحدة ،واجامتع اللكمة".
عيل:
ردت ّ
" األسود ليس ابخلري أبدا ،لو تركته ،فس مينح ثلث البالد،
وجل ثغورها لألهبال والفرجنة".
دهشت ملعرفهتا بتكل املؤامرة ،اليت يتكمت عهنا األسود
وحلفاؤه ،وما عرفهتا أان إال صدفة .لكين عقدت العزم عىل إاهناء
هذا األمر ،اذلي زججت بنفيس فيه فوق طاقيت ،فقلت:
"ولو قتلت األسود ،فس يجتاح األهبال لك بالدان".
أرشقت ابتسامهتا الناصعة ،وقالت:
"ال لن يفعلوا ،بل سريتدوا خائبني".
قلت ساخرا:
"أحقا؟ ومن سريدمه؟ ابتسامتك هذه؟"
قالت ويه ال تزال عىل هدوهئا املس تفز ،اذلي اهزين بأشد
من لهيب الثوار:
"أعرف عن األهبال أكرث مما تعمل .وأعمل ما خيططون هل حىت
من وراء ظهر األسود".
425
نظرت لها مس تخفا ،فاألهبال أكرث خلق هللا تكامت ،وما من
أمري أرسل علهيم عيوان إال فقئوها ،وما من حامك تسرت علهيم أمرا
إال كشفوه.
أمكلت قائةل:
"يل عىل األهبال عيون كثرية ،مه يرتكون جل أعامهلم لعبيدمه،
وبني العبيد رجايل ،فأرى ما يرون وأمسع ما يسمعون .لو مل أكن
خبرية بأمر األهبال ،أتظن أولئك القوم يقبلونين أمرية علهيم ،وأان
امرأة؟"
هزتين لكامهتا ،لكين تش بثت وقلت:
"اعلمي عهنم ما شئت فأنت ال تعلمني عن بالدان شيئا ،وما
شأنك أيهتا اخلاتون الرشيفة بذحب األمراء واحلاكم يف بالدان؟"
هنا ألول مرة اهزتت ،وبدا عىل وهجها املالئ ي ش ياطني
احلقد ،وقالت بصوت موتور:
"هذا املسمى ابملغوار ،امللقب ابلقائد األسود ،هو أبغض خلق
هللا يل .لن اهنأ يل يف ادلنيا ابل أو حال حىت أسفك دمه".
قلت مندهشا:
"القائد األسود؟ ومل؟ هو مل خيرج من بالدان منذ".......
ولكين قطعت الكيم ،إذ تذكرت أمرا ،اكنوا يسمواهنا ابخلاتون
املرصفية ،أتراها تكون......؟
426
وسألهتا فورا:
"أنت يه؟ بنت املرصفي األمري ،اذلي غدر به القائد األسود
يف العامصة ،هو وعدوه اجلبيل؟"
أمكل ش يطان حقدها احلديث:
"نعم أان يه ،أان من قتل أابها وأخاها ،وس ىب أهما الرشيفة
سليةل آل البيت ،وطردها مرشدة يف البالد ،ملقاة لالكب
حقرية جائعة .ولوال جندة أتتين من هللا ،وعزيم وتشبيث ابحلياة،
آلخذ بثأري منه ،لهلكت منذ زمن بعيد".
غلبين الفضول ،فقلت":وأىن كل مبا أنت عليه اليوم؟"
ردت مس تعيدة هدوءها:
"تكل حاكية تطول ،ورشح ال يرسين ،ذلكرى أكره عودهتا.
لقد ألقى هللا بك يف طريقي أاها القبيل ،وأان أدل أعداء األسود
بعد أن خسر يل املال واألعوان ،يف وقت اش تدت فيه حاجة
البالد كل .أما مسعت بتخريب األسود للثغر الكبري ،بعد أن
انقلب عىل حليفه ابن عامر ،وقتهل قتةل شنيعة ابخلازوق ،وترك
جثته تننت يف املدينة املهدمة؟ أمثل هذا تأمتنه عىل بالدك
ملاك؟ أما مسعت بقتهل ملئات ادلراويش املساكني يف أحراش
الشامل ،ألاهنم مل يرفعوا هل ادلعاء عىل منرب مسهد الش يخ
الفويل؟ أما مسعت خبيانته وتعاونه مع أسطول الفرجنة ،فشن
427
معهم حراب رضوسا عىل الزرقاء ،ليبدل قراصنهتا ابلفرجنة
املالعني؟"
فتحت مفي مذهوال ،لكهنا أمكلت:
"لو كنت مسعت هبذا ،فكيف تقبل به ملاك؟ أتسأل عن
توحيد البالد؟ أما تراه انقلب عىل بين سالم ،وذحب اآلالف
مهنم ،فقط ألن أحدمه اكن دليكل؟ أهذا مكل يوحد لكمة
القبائل اي رجل؟ وفوق لك هذا ،األنباء أتتين بأن األهبال
حيشدون حشودا لغزو الثغر الصغري وما حوهل من بالد .إن
األسود ال يوحد لكمتمك ،وال جيمع فرقتمك؛ إمنا هو ميزق البالد
أشال ًء ،ليفوز بأكرب قطعة فهيا ،ملقيا بأطايهبا لألعداء ،عىل
حساب جثث اخللصاء .هو يدمر لك من يطلب خري البالد،
ألنه ال يعمل غري الرش طعام ،وغري ادلم رشاب".
وهكذا أخذت تكل اخلاتون توسوس ،وتوسوس .وهللا ما أعمل
أىن يل -أو لغريي -ابلصمود أمام فتنة عقل راحج ،ووجه قاتل،
والكم معسول بتحريض مسموم!
لكن اكنت هناك حقيقة واحدة مل تعرفها ،عصمتين مهنا :أان
لست غوال أمحر ،وال أقدر عىل النيل من شعرة واحدة من
شعر القائد األسود .وملا كنت ال أقدر عىل البوح هبذه احلقيقة،
خش ية انتقاهما مين ،فقد كررت لها ما أخربهتا به من قبل :بدون
428
مكل يطلب العرش ،ويتبعه الناس فال أمل من حرب األسود،
وبقاؤه خري من قتهل.
وأشهد إاهنا تالعبت يب بقوة رهيبة ،حىت أحسست أين دمية
تتقاذفها أيد معالقة غليظة .أحسست أنين حقا بال حول وال
قوة ،أمام هذه اخلاتون الرهيبة ،اليت جتيد التالعب ابألفاكر
واألقوال .كدت أن أعقد العزم عىل السفر للعامصة ،واغتيال
األسود ابلفعل! مث فكرت يف جعزي ،اذلي اكن أقوى من أي
يشء آخر! إاهنا قوة العدم ،اذلي ال ينبت ،همام سلطت عليه
من حماريث! أىن لألرض العقمي أن تنتفع جبهد اجملهتدين؟
ولكن ألنقذ رأيس من الضياع ،قلت لها:
"األمر قاطع س يديت الفاضةل ،وهو ليس أمري وحدي ،بل
أمر لك الغيالن امحلر ،اذلي اجمتعوا عليه! قد تعاهدان أن نلزم
جانب احلق ،وأمجعنا عىل إن مصلحة األمة يف اتباع املكل ضد
األسود ،فإن مل يكن مكل ،فال حرب ضد األسود ،وال مساس
به ،وال ميكنين أن أخرق عهد الغيالن ،أو أطالهبم بتغيريه".
أخريا أخرس هتا! أخريا جعلهتا تدرك أال جدوى من مناقش يت،
فصمتت ،وتركت يل فسحة من الوقت ،أمجع فهيا ش تات
فكري.
ولكن مثل هذا العقل املاكر ال يستسمل أبدا! فقد أخرجت يل
من جعبهتا املزيد من العهائب!
429
أخذت نفسا معيقا ،وزفرته ببطء من بني شفتهيا الفاتنتني،
وحدقت يف عيين مبارشة ،فتحاشيت النظر لها مرجتفا ،خش ية
أن تفضح عيوين أاكذييب ،أمام هذا البرص الثاقب ،اذلي ياكد
خيرتق الصدور،
وتلكمت مس تعيدة هدوءها ،وقالت:
"أتريد ملاك؟ اكن املكل بني يديك ،وسأعيده كل! هذا الفىت
اذلي أىت معك من ساوة".........
قلت "تميور بن زهري؟ ماذا أصابه؟"
قالت "لقد أخذوه مع العبيد ،وأهدوه لألهبال ،هذا الفىت
نسيب لألمرية الشهابية زوجة حامك طرابل األس بق ،وبنت
الشهايب آخر أحفاد املكل".
نظرت لها مندهشا ،ال أدري كيف عرفت هبذا أو ذاك.
والحظت يه دهش يت ،فقالت:
"ال يشء خيفى عن اخلاتون اي فىت ،ال يشء خيفى عن اخلاتون!
عىل أي حال ،فهذا الشاب حيمل دما ملكيا .تكل الوثيقة اليت
تزنع عنه ،وعن نسل زهرية اإلمارة ،لكهنا ال تزنع حقه يف
املطالبة ابملكل ،إن تزوج بنت آخر امللوك .مك من مكل توىل يف
العرب أو الفرجنة ليس بنس به ،وإمنا بنسب زوجته ،وهذه
رشيعة معروفة بني امللوك واألمراء .لك ما عليك فعهل ،هو أن
تزوجه الشهابية ،وتشهد حامك طرابل عىل العقد مع قاضهيا،
430
وعقد الزواج مع شهادة نس هبا ،ونس به املتصل ابخللفاء،
وخطاب اخلليفة بتولية الوريث ،ولك هذا س تهده عند قايض
طرابل ،إال خطاب اخلليفة ،فهو معي وسأعطيه كل
اآلن"........
قاطعهتا مذهوال:
"ماذا؟ لكن"......
قالت:
"ال تقاطعين! ال تسألين كيف حصلت عىل هذا ،فهىي أمور ال
يقدر علهيا إال اخلاتون الرشيفة املرصفية!"
تبلبلت أفاكري متاما مبا قالته ،لكن اخلوف من العودة لهذا
الكفاح ،بعد أن خلصت نفيس للراحة واليأس ،دفعين للمهادةل
فقلت لها:
"أىن يل ابحلصول عىل تميور بعد أن أخذه األهبال؟ ليس
اقتحام قالعهم بأمر سهل حىت لغول أمحر! مث كيف أقنعه هو
والشهابية ابلزواج! وأىن حلامك طرابل أن يقبل مبثل هذا الزواج!
مث كيف يقبل األسود واألمراء بذريعة مثل هذا املكل؟"
مل اهزت هدوءها الفتّاك ،وقالت:
"أمر تميور سهل .فقبل أن ترجع لطرابل ،س تهده عند أتباعي
معززا مكرما! وإقناعه لن يصعب عليك ،وقد أقنعته بإتباعك يف
431
تكل الرحةل املهلكة من قبل! وأما الشهابية ،فهىي امرأة عنيدة،
لكين رمغ كريه لها؛ أعرتف إاهنا حصيفة ،وأشهد لها ابحلمكة ولو
اكن يل أن أشهد المرأة ،أخرى غريي ،حبمكة وشكمية تس بق
الرجال ،الخرتهتا يه ،لوال إاهنا ال تزبين ذاكء ،أو جامال ،وابلطبع
ش بااب! س تعمل يف الهناية ،بعد طول جدل ،ما واجهبا ،وأن دماء
املسلمني يف رقبهتا ،ستس تطيع أن حتاججها بأنه إذا ازداد بطش
األهبال بعد اس تقواهئم ابألرايض والثغور ،اليت س يكس بواهنا من
األسود ،فإن طرابل ستهتدد من انقالهبم علهيا ،كام هتددت من
قبل .وأما زوج ابنهتا ،فسريحب بأي أمر يزحي اكهل حامته
عنه ،فهو خيشاها ،ويضيق بتدخلها يف ش ئونه! وال تتواضع
وتقلل من شأن الغيالن امحلر ،وقدرهتم عىل تليني الرؤوس
الصلبة أو هتشمهيا! إن لمك لرهبة يف النفوس ،ال تزال ابقية عىل
تطاول الزمن ،وبعد املسافة".
نظرت لها مرتباك ،إاهنا تعد ردا للك جحة ،تكل اخلاتون
العجيبة ،اليت مجعت ما ال جيب أن جتمعه امرأة واحدة من قوة،
ومكر ،وذاكء ،وجامل ،ورشف ،وزعامة ،ودهاء! إاهنا لتزب
الزابء بزا! خبرية بأحوال النفوس ،وأعامق اخلالئق ،ومفاتيح
عقول الرجال ،فتعبث هبا كيفام شاءت ،وإاهنا لتأيت بأمور أش به
ابخلوارق! أال حفقا إن كيدهن عظمي! اللهم اكشف عين كيد أمثال
تكل املرأة ،اليت غلبتين ،حيامن مل يغلبين عتاة الرجال! إين ألاكد
432
أشفق عىل األسود املسكني أن اختذ لنفسه عدوا مثل هذه! وما
اكن يل أن أكرر خطئه!
وهكذا عدت خمذوال عن أبواب احلرم إىل طرابل ،ال أدري
كيف أقيض حايل فهيا .لكين أثناء املسري ،استبدلت اليأس بأمل
اكحس .سواء اكن ما قالته اخلاتون عن قناعة ،أو جمرد مكر تفتنين
به ،فال أظن أن جنايت من املوت ،وعوديت لدلنيا من أعتاب
اآلخرة ،إىل طريق جحاج تقودمه عدوة كئود لعدوي؟ لك هذا ال
ميكن أن أجتاههل! حامت هو قضاء من هللا ،وعون يل ألمكل
طريقي بعد أن خال ،وأصبح أكرث أمنا ،إذ عاد األساودة لبالدمه
ظافرين ،ومسع الناس مبقتل الغول .اليوم نرصمه وهجلهم
يسرتاين ،ل ي أجتاز ما عرفت من عوائق ،وبقى أمايم عراقيل
جعيبة ،مل أختربها من قبل ،ومل أتصور أن تكون يف رحليت!
ليس جنود مرتبصني ،بل زوج جعيب ،ألب زواهجام كخاطبة
مشطاء!"
433
()48
434
وأما أغرب األمور ،فهو إن ش يوخ القبائل ،وأمراءان لزموا
منازهلم ،ال حياربون يف رمضان! لعمري هذا أمر جعيب ،ابتليت
به األمة .حفاكمنا يقعدون عن اجلهاد طوال العام ،وال يقعدون
عن احلروب احملرمة بيهنم ،اليت تنشب طلبا لدلنيا ،إال يف
رمضان ،مع إنه ليس من األشهر احلرم! أما إن سألهتم عن
األشهر احلرم ،اليت قال هللا عن القتال فهيا (ق ْل قتما ٌل فيه كمبريٌ
مو مص ٌّد عمن مسبيل ّاَّلل موك ْف ٌر به) فال جتد ردا إال رماحا مرفوعة،
ودما ًء مسفوكة ،وحرمات منهتكة .بل أصبحت تكل الشهور،
اليت ال حتل فهيا احلرب إال لرضورة قصوى ،ردا عىل عدو
س بقنا ابنهتاكها ،فرصة لهنب احلهاج األبرايء ،بس يوف تزمع إاهنا
مسلمة ،وما تعرف عن اإلسالم شيئا.
ليت شعري! مل اس تحل املسلمون املسلمني ،وحرماهتم بنفس
هينة ،وجحج واهنة ،وال ينفضون عهنم أرجاس األهبال،
وأوساخ الفرجنة خوفا وطمعا؟
وصلت إىل سوق الفتوح ،حيث مزنل اخلاتون العامر،
فوجدت املزيد من أموالها ينتظرين ،مع درع الغيالن األمحر ،قد
نظف وملع ،وأصلح ،وصنعوا منه نسخة أخرى ،لتكون معي إن
أصابه يشء! وأوقن إاهنم صنعوا منه عددا ،تنتفع به اخلاتون يف
حيلها.
435
وجدت كذكل عددا من أتباعها املتحمسني خلدميت ،يطيعونين
يف لك أمري ،ولكن ابلطبع ليس فهيم مثقال ذرة من إخالص
غول احلق ،رمحه هللا.
أمرهتم بإعداد دواب ،وزاد للرحيل ،وسألت عن تميور فظهر
إاهنا حفظته يف ماكن بعيد ،حىت أرجع لطرابل ،يك تطمنئ
لعوديت لها ،تكل اخلاتون احملاذرة .فغادرت املاكن ،واجتهت إىل
طرابل ،فزنلت عىل بيت سلامن.
اس تقبلين سلامن بدهشة كبرية ،واكن أول ما ألقاه ّ
عيل قبل رد
التحية:
"أمل تقتل؟"
قلت:
"ليس من السهل أن تقتل غوال أمحر اي سلامن! دع عنك
هذا ،فهناك أمر جلل ،وهممة وعرة ،أحتاج كل فهيا".
وبدون مقدمات أخرى ،ألقيت هل األمر لكه!
نظر يل نظرة من يرمق جمنوان ،وفتح مفه ،رمبا ليرصخ ،مث
أغلقه مهبوات ،مث فتحه ،مث أغلقه! فأمكلت جهويم عليه:
"هل تس تطيع أن تساعدين يف هذا األمر؟"
436
لو سقط أمايم مصااب ابلفاجل ،ملا ملته قط! لكنه بذل جمهودا -
أحسده عليه -لكظم غيظه ،وتلكم من بني أس نان تطحن
بعضها البعض:
"فمي أساعدك؟ أساعدك عىل أن تزوج أمرية ،بنت امللوك،
سليةل اخللفاء ،لفالح وضيع ،يصغرها يف السن رمبا بعرشين
عاما ،بعد أن اكنت زوجة حامك طرابل السابق؟ وملاذا؟ ل ي
تضع عنقها حتت س يف طاغيتمك األسود ،وتثري علينا جنون
طواغيت األهبال؟ سواء كنت غوال ،أو عفريتا ،أو حىت
ش يطاان ،فهذا أمر ال ميكن أن يكون هل متام".
قلت هل:
"ال تكن هبذه الثقة ،فإن كيد البرش أنىك من كيد الش ياطني.
ووهللا إين لقيت امرأة ،لو طلبت إبليس ،الس تعاذ ابهلل مهنا!
وإاهنا معي يف هذا األمر ،وإنه -بإذن هللا -مقيض .إين ألحس
أن األقدار تسري معي ،غالبة من يغالبين".
نظر يل بفضول ،وقال:
"أي امرأة تكل؟"
قلت هل:
"وما شأنك؟ يه عقل حكمي ألقاه هللا يف طريقي ،وخسره يل،
ل ي أقيض أمرا ،هو بإذن هللا مفعول .هذا الفالح نسيب
437
لألمرية ،وزواجه مهنا جيعهل ملاك متوجا ،ومتلكه حيقن دماء
املسلمني ،اليت سرييقها األهبال ،وحيفظ بالدمه .اي رجل أمل تقرأ
يف كتاب هللا ( مولم ْوال مدفْع اَّلل الن ماس ب م ْعضم ه ْم ب مب ْعض مل مف مسدم ت
ْ ماأل ْرض)؟ لو مل يظهر من بيننا من يدفع رش األهبال ،فس يعم
فسادمه األرض ،حىت طرابل .ولو مل يأت من يدفع رش الفرجنة،
فس ميتد بطشهم حىت احلهاز .لو مل نتصد خليانة األسود،
فس يزنل غضب السامء عىل املتخاذلني ،قبل املعتدين .ثق إن
طرابل لن تكون آمنة ،لو سقطت بالدان".
قاطعين يف فزع:
"ومل؟ ما شأننا بمك؟ بل معونتمك يه اليت س تهلب الوابل
ترىج!"علينا ،ونقمة اخلاانت ،بال فائدة ّ
أدركت أن هذا وتر حساس ،فعزفت عليه ..قلت مس تعيدا
هدويئ ،ممتثال لههة اخلاتون الواثقة القوية:
"من اذلي كرس األهبال قدميا ،وحطم حمل زعميهم الهول؟
بالدان .وحني تسقط بالدان ،ألن تنتعش أحالهمم ،ويسعوا
إلعادة بناء مملكة الهول؟ سينترشون يف األرض ،ال يبقون
أخرضا أو ايبسا.
وماذا حيدث عندما يتخذ الفرجنة الزرقاء قاعدة هلم؟
س ميلكون البحر متاما ،ويقضون عىل ما بقى من موانيه األصغر
438
بسهوةل .ووقهتا سيتحمكون يف موانيمك ،فال متر جتارة لطرابل،
وال لغريها ،إال بأمرمه!"
اصفر وهجه ،وقال:
"ما هذه إال خترصات منك ،تبغي هبا إاثريت ،وجريف معك
إىل جنونك".
قلت مرصا:
"ما حيدث عندان يف الغرب ،نزفه يديم يف الرشق .وال نفاذ
لمك من هذا املأزق ،إال ابلسري خلف مكل يتبعه العامة
واخلاصة .ينرش العدل ،ويقود اجلند اجملاهد ،ويرد الطغاة عىل
أعقاهبم خارسين ،ويكرس مجوع األهبال مرة أخرى ،ال يقومون
مهنا أبدا".
نظر يل مستنكرا ،وقال:
"أترى يف الشاب الغرير تميور ملاك كهذا؟"
قلت:
"ليس وحده .املكل لو الزتم ابلعدل والشورى ،وخاف هللا،
فقد أصاب العبء األكرب .س نكون معه ،وقد رافقته مدة
طويةل ،ورمغ يشء من سذاجة فيه ،إال إنه حقا غالم طيب
خملص ،حيمل يف قلبه قوة كفيةل بزحزحة اجلبال".
439
قلهتا جمامال ،لكن وأان أفكر فهيا ،دار يف ذهين كيف اكن تميور
صلبا معي ،وكيف أمكل الطريق -أو حاول أن يفعل -وحده
عندما فرقنا الشاطر عدانن .رمبا لو اكن حمكي عليه يوم التقيته،
ملا جرؤت عىل هذه الصفة .لكين قلبت األمر يف ذهين مليا،
ووجدته اكتسب يف هذه الرحةل من األمل ما قد جيعهل أكرث حذرا
وفطنة .عىل أي حال ،مل يكن أمايم إال تميور .هو القشة اليت
أتعلق هبا يف غريق.
نظر يل سلامن مفكرا ،مث قال:
"ال أس تطيع أن أعدك بيشء أاها اجملنون ،لكين سأحاول!"
ال أدري أي معجزة تكل ،اليت جعلته يسمل يل ابألمر .أغلب
الظن بسبب بغض أهل طرابل الشديد لألهبال .اكن ذكر أي
أذى يصيهبم حيمسه ،وذكر أي رحب يكس بوه خييفه.
اكن سلامن مفتاحا لقلب القايض واحلامك ،وهام يف ظين من
يس تطيعا تليني رأس الشهابية .أرجو أن يكون احلامك اكرها
محلاته ،كام زمعت يل اخلاتون.
وبعد أن حتولت خلاطبة مشطاء ،اكن عيل اذلهاب للفىت تميور،
وإقناعه ابلزواج من امرأة ال تصغر أابه كثريا!
"تبا! ما اذلي تزمع إنك تفكر فيه أاها الغول!"
440
اكن هذا رده احلانق ،عندما رجعت للزنل ،اذلي نزلت فيه،
ووجدته ينتظرين ،قد أرسهل يل رجال اخلاتون ،فأقبل عيل
هملال ،ال يصدق رؤييت حيا ،قبل أن يرده الكيم عين!
جادلته ،قلت هل أن هذا هو األمل األخري لنهد ملاك ينقذ
البالد ،لكنه رد برصامة:
"ال أريد هذا املكل .تبا هل مكل يغبط املرء عىل النهاة منه!
أتيت معك الزتاما بعهد جدي ،ال ألجعل نفيس ملاك!"
رددت هبدوء:
"بل أتيت معي إلنقاذ البالد من سفك ادلماء وتضييع
احلرمات ،ورد األهبال والفرجنة عهنا".......
قاطعين بسخط:
"أو س نفعل هذا ابلزواج من تكل العجوز؟ دع عنك هذا.
تريد اجلهاد ،امحل س يفك وجاهد ،ودع عنك زجيات القصور،
وأالعيب ادلواوين ،اليت ال طائل مهنا!"
قلت:
"هذا ما دلينا .يه س نة امللوك ،وزواجك من ابنة املكل،
يؤهكل لطلب مرياثه ،فيتبعك األمراء و"......
قاطعين حبسم:
441
"دع عنك هذا! واحبث لها عن زوج غريي ،فإن يل خطيبة
يف بدلي تنتظرين ،ما تركهتا إال لنداء واجب عىل أهيل ،وما
تركتين أرحل إال ألعود لها بطال ،ال ملاك عىل غري مملكة ،بزوج
كئود غليظة!"
للمرة الثانية ال أضع بداهية يف احلس بان .وشاركتين اخلاتون
هذه املرة ،فمل نتصور أن يكون للفىت قلب أحب ،وعهد ال
يس تطيع خيانته .لكننا بصد جد ،ال هزل فيه ،فمل أجد بدا من
اإلرصار بقويل:
"ال أطلب منك أن تزتوهجا ،لتنجب مهنا خليفة ،أو لتأخذ
مالها وتنتفع به .يه س يدة رشيفة مجيةل ،ذات مكل أهداها كل،
ألهديك أنت لبالدان".
طبعا مل يقنعه حدييث ،واتضح أن هممة إقناعه أصعب مما أتصور
بكثري .لكن مازال يف جعبيت الكثري من احليل ،الرتغيب يف
املكل ،والاس تعطاف عىل أهل البدل ،والتخويف من األسود،
بل ،والهتديد ببطش الغيالن امحلر! مل أترك حيةل واحدة إال
واس تخدمهتا غري اندم.
لكن بدا يل أن احليةل الوحيدة اجملدية يه اإلحلاح! اإلحلاح
األشد مرارة من السحر ،ليل اهنار عىل أذنه حىت يستسمل.
وهكذا دخلت العامل الغريب الشائك للخاطبات! أسري بني
الاثنني ،أوسوس ،وأحل.
442
تركت أمر تميور مراهنا عىل رقة قلبه ،وعطفه عىل أههل،
وذهبت ملعركة األمرية الشهابية الصعبة .س يدة قوية ،عركهتا
الس نون واخلطوب ،تربت بعيدا عن بالدان ،فال تعرف غري
طرابل وطنا ،ولن يكون أمرها أبدا سهال.
بدأت مبن حولها ،لنضغط علهيا معا ،فقد كنت يف جعةل من
أمري ،أريد العودة ابملكل ،قبل أن يهنىي األسود حصار الزرقاء.
لقد فقدت ابلفعل ابن عامر ،حامك الثغر الكبري ،بعد أن قتهل
األسود ،جملرد إنه تعهد بإتباع رأي ابيق األمراء ،إن أىت هلم
الوريث .وسأفقد حامت ابيق أمراء الغرب ،لو حسم األسود
رسيعا أمر الزرقاء ،وسار جبيوشه قبيل حنو الغرب .لو سقطت
أي من مدن الغرب ،كواحة ساوة ،أو حصن ساوة ،أو مدينة
الطارحة ،فأجزم إن لك أمري س يأخذ جنوده ،واهرب بعيدا
منكفئا عىل نفسه يف ذعر ،دون مزيد من قتال.
اكن حامك طرابل ،زايد ابن أسامة ،الشخص الوحيد املتحمس
ألمري ،ليس كرها يف بقاء حامته قربه ،فقد اكن أبعد من هذا
نظرا ،لقد رأى أنه لو انترص املكل ،فس يكون حليفا قواي
لطرابل ،يكرس عهنا هتديد األهبال ،وشوكة الفرجنة ،ولو ااهنزم
فسريهق جنودمه ،ويكتفون مبا انهتبوه من بالدان ،ال يطمحون
للمزيد من التوسع هجة الرشق ،ورمبا ينقلبون عىل األسود يف
حرب طويةل ،ويف مجيع األحوال لن خترس طرابل شيئا.
443
وقد أيدته يف قوهل ،وزدت عليه بتخويفه من ترك الساحة
حللف الطغاة خالية .فلو الهتموا بالدان سائغة ،فس يطمعون يف
املزيد من البالد ،فكام يقول الشاعر (إن الطعام يقوي شهوة
الهنم).
ومبساعدة زايد ابن أسامة ،جنحت يف إقناع ابن معه ،عبد هللا
بن محمد ،ابن الشهابية ،وزوج أخته .حصيح إن اجلدال معه اكن
عنيفا ،لكنه سمل لنا ابملوافقة ،مل أدر رهبة من الغيالن امحلر،
اذلين يتناقلون عهنم أساطريا جعيبة يف بالد مل ترمه ،إال قليال،
أم طمعا يف أن يصبح وليا للعهد ،عقب تميور ،كام ملح هل حامك
طرابل.
ولكن اتضح يل أن الك الظنني خمطئ ،اكن األمر متعلقا بتميور
نفسه! هناك نفوس ما أن تلتقي حىت تتآلف ،واكن هذا ما
حدث! ما أن تلكم الاثنان ،حىت طابت نفس لك مهنام لآلخر،
وحتداث هبدوء بعد الغضب ،وظهر البن الشهابية إن الفىت راغب
متاما عن هذه الزجية ،لوال إشفاقه عىل أههل من بطش األسود
والفرجنة.
بعد أن أقنعت عبد هللا ،ظننت أن الطريق أصبح ممهدا،
واتفقت معهم عىل أن جنلس مجيعا مع الشهابية يف الغد،
إلقناعها ،لكين فوجئت بعائق آخر ،مل يكن يف احلس بان!
444
()49
445
"ما هذه امحلاقة؟"
نظرت يل بعيون جمنونة ،وقالت:
"لن أتركك تزحي أيم من طريق اخلاتون اي مأفون".
بدت يل ربة مزنل ساذجة ،ال تفهم شيئا ،فقلت حماوال هتدئهتا:
"ما شأين وشأن اخلاتون؟ لقد أتيت حملاربة الـ".......
قاطعتين:
"لست بلهاء! رجاكل وأعوانك وأمواكل من عند اخلاتون".
قلت:
"يه تساعدين لعداوة بيهنا وبني الـ".......
قاطعتين مرة أخرى:
"تساعدك ل ي تزحي أيم عن اكههل ،فيس تطيع الزواج مهنا".
نظرت لها بغري فهم ،وقلت:
"من يزتوج من؟"
قالت:
عيل من
"زويج حامك طرابل! يريد إزاحة أيم ،ليزتوج ّ
اخلاتون".
446
فغرت فايه مذهوال ،ونظرت حويل غري مصدق ،فرفعت
سكيهنا مرة أخرى ،وقالت:
"سأدافع عن زويج ابدلم اي أمحق ،ولن هتمين دروع العامل
لكها ،همام اكنت محراء".
واندفعت تغادر املاكن ،ويه جتهش ابلباكء! وقفت يف ماكين
متجمدا ،فإذا بأحد احلرس ميد يده يل خبرقة مقاش ،ويقول:
"لقد جرحتك يف عنقك! امسح ادلم اي س يدي!"
نظرت هل مستنكرا ،فقال:
"آسف حقا ملا فعلنا .إن مواليت تغري غرية غري عادية من
اخلاتون .موالي احلامك مل يس تطع النوم طوال األس بوع املايض،
منذ خاطبته يف شأن مواليت الشهابية ،فهو يف جشار دامئ ليل
اهنار معها!"
تركته وأرسعت للحامك .اكن علينا أن نقابل الشهابية بعد
ساعات ،وما كنت أتصور أن غرية النساء ستتدخل لتفسد
أمري .لقد حضى تميور ابلكثري ،وأجرب نفسه عىل القبول بأمر
س يجرح حمبوبته ،اليت تنتظره يف طرابل ،وحضيت أان بأريض
وحيايت ،وفقد غول احلق روحه ،أيهنار لك هذا لغرية اتفهة ،أم
يه شهوة حقيقية دلى احلامك؟
447
اخلاتون حقا ليست ابلهتديد اليسري ألي امرأة يف العامل ،ومع
رضاوة تكل الابنة الرشسة ،فعيل أن أتيقن أن األمر ال يزيد
عن شكوك نساء يف بعضهن البعض .وملا واهجت احلامك أحفمين
برده
عيل آراءها ،وملا كربت"اي رجل ،ذقت حياة صعبة ألم تفرض ّ
عيل
وأصبحت حاكام للك طرابل ،اكنت حاميت امرأة أقوى ،تعد ّ
أنفايس ،أبعد لك هذا ألقي بنفيس يف أتون جبارة اكخلاتون؟ من
ذاق الزواج مثلام ذقته ،مل يطلبه مرة أخرى! ال أنفي إين،
كغريي ،معجب ابخلاتون؛ لكين أخشاها .لها حمكة كحمكة
بلقيس ،مع دهاء كدهاء إبليس ،ووجه مجيل اكملالئكة ،يغطي
قلب مرتفع اكألاكرسة! الك! لست أهال لها ،وال يه أهل يل.
رمبا تفتت غريي بلسااهنا ،اذلي يذيب احلديد؛ لكنين لن أرى
مهنا إال كربها ،اذلي حيقر أي مريد .لن أريدها ،ولن أكون من
مريداها".
بدا يل غزهل املمزوج ابذلم مقلقا ،لكن منطقه أقنعين .يف
احلقيقة ،حاولت وضع نفيس ماكنه ،وفزعت! أن أكون زوجا
للخاتون ليس ابألمر اذلي يغبط عليه املرء ،حامت إال لو اكن
اهوي العبودية! أعوذ ابهلل من هذه الفكرة .أكون زوجا للخاتون؟
مل أحمتل بقايئ يف خميهتا ساعة ،فأىن يل بفكرة محقاء كهذه!
448
تركت احلامك لهينأ بدقائق من راحة قبل الاجامتع املرتقب.
أخذت أعدد جحجي ،وأفكر يف هذا اجلدل الطويل القادم .مل
أقابل الشهابية من قبل ،إال للحظات معدودة ،وال أعرفها،
ولكن امجليع يؤكد فطنهتا ،وقوة شكميهتا .ترى كيف أقنع امرأة
مثلها؟
جلس نا يف جملس القايض ،ننتظر الشهابية ،فدخلت علينا مع
ابنهتا ،وزوجة ابهنا ،وجلسن قبالتنا صامتات ،بيامن تنظر يل
الابنة متحفزة ،حىت أاكد أقسم إاهنا ،يف أي حلظة ،س تقفز
عيل ،لتهنش عنقي ،كام يفعل ابن آوى بفريس ته! ّ
لكن الشهابية نفسها اكنت هادئة ،رصينة ،تذكرين هبدوء
اخلاتون لكهنا أكرث وقارا.
تلكم القايض أوال ،فقال:
"بسم هللا اذلي هل ما يف األرض ،وما يف السامء ،ماكل
امللكوت ،رافع العبيد ،وخافض امللوك .قد مجعنا هللا ألمر
مبارك ،أن ننظر يف حلف بني بدلين مسلمني ،ضد أعداء
اإلسالم ،يف زمن مل يعد املسمل يتحالف فيه ،إال ل ي يتقي رش
أخيه املسمل! حلف خنمته بإذن هللا ،بزواج مبارك ،يعقد لواء
املكل ملن يرفع لواء اجلهاد".
صدرت رصخة مزجعة من زوجة احلامك ،اليت نظرت بذهول
للقايض ،وقالت:
449
"موالان وش يخنا ،أمل حتدثين ابألمس عن إن الزواج ال جيوز
بغري كفء؟"
تنحنح القايض ،وقال:
"قد وحض يل س يديت عظم الفائدة ،وصالح احلال يف الزجية،
كام أن أمر قبول الكفء وغري الكفء يف يد الويل من انحية،
وهو موالان احلامك ،ويف يد مواليت الشهابية ،فهىي ثيب،
ومشهود لها ابحلمكة".
انبثقت ابتسامة مكتومة عىل وجه زايد ،وأحسست أن ما
رأيته هذا الصباح ،مل يكن سوى شاهد قرب ،مدفون يف داخهل
مؤامرات حبجم األفيال!
لكن الشهابية تلكمت ،فصمت امجليع منصتني ،بدأت بذكر
امس هللا ،والثناء عليه ،مث قالت:
"ما أن مسعت بطلب الزواج اجملنون هذا ،حىت حضكت
واس هتزأت ،وكدت آمر بنفيك أاها القبيل من املدينة ،وما اكن
لهيمين أن تكون غوال أمحرا ،أو تنينا أسودا! لكين يف حيايت مل
أقطع أمرا ،همام بدا حمامت ،إال ابالستشارة ،والاس تخارة ،أما
الاستشارة ،فاكنت وابال عليك ،مل يكرسها إال زوج ابنيت
اهلامم ،لغرض يف نفس يعقوب!
لكن الاس تخارة اكن أمرها جعبا! مل أشهد يف حيايت تغريا حلايل،
وتقلبا لصدري ،بني يوم وليةل مثل اليوم .أدركت أاهنا زجية
450
ملصلحة املسلمني ،ال أدري أاكن يف حلمي ،أم يف يقظيت أين
مسعت تميور اهمس يف أذين (عصمة ادلم أوىل.).
مل يبد يل كهذا الشاب الواقف أمايم ،بل بدا رجال هميبا،
قوي العزم ،لعهل جده العالف ،صاحب الفضل عىل أهيل.
وهللا إن فيك أاها القبيل رس ما ،ال يعلمه إال هللا! لعهل
اإلخالص ،اذلي وصفه بعض الصاحلني ،إنه قادر عىل زحزحة
اجلبال بأمر هللا! إين ألرى أنك منصور بأمر هللا ،وهللا غالب
عىل أمره ،ولو كره الاكفرون".
اكن حديهثا هادئا ،واثقا ،مفعام ابإلميان .تكل امرأة أاتها هللا
احلمكة ،لتعمل هبا ،وليست اكخلاتون ،تعمل لصاحل حالها وثأرها
فقط.
نظرت بقلق لالبنة الرشسة ،لكين وجدت لك الوجوه قد
سكنت ،وهدأت ،وانطفأت الش ياطني اليت اكنت تتقافز يف
عيين الابنة الغيور .فقلت مراتح البال:
"جزاك هللا خريا اي مواليت األمرية ،وإن هذا أمر ،ال يأيت من
ورائه إال اخلري بإذن هللا".
قالت الشهابية:
"حس بك ،مل أمكل الكيم بعد .قلت لمك إين ملا أتيت
ابالس تخارة ،مل يطمنئ قليب لغري القبول هبذا األمر العجيب،
ألتزوج من شاب يف معر ودلي ،مل أره قبل أسابيع قليةل،
451
فأسافر معه لبالد لفظتين قبل أن أودل ،وأهدرت دماء وادلي،
رمحه هللا ،بغري ذنب .تكل ليست ببالدي ،فأان مولودة يف
طرابل ،ولها أنمتي ،وفهيا عييش ومقايم ،وإين ألخىش عىل أهلها
من ورايئ الاضطراب .لو رحلت عن طرابل ،فلن اطمأن يف
سفري ،إال ومعي ابين ،وحيهنا سأترك نعهة اهنمة ،كزوج ابنيت،
فريسة سهةل ذلئبة جاحمة اكخلاتون! وما اكن يل أن أفعل هذا
أبدا!"
أخ! ..ها قد عدان حلديث الغرية ،ما كنت ألمسي حامك طرابل
ابلنعهة أبدا ،وإين أظهنا ،رمغ عظم قدرها ،حامة ال تعطي زوج
ابنهتا قدره أبدا!
رددت بنفاد صرب:
"ليست اخلاتون ذئبة مرتبصة ببالدمك ،وإاهنا لفي احلرب معنا،
وال امسي حامك طرابل ابلنعـ"...........
قاطعتين بقولها:
"المتس يل عذرا اي هذا! فقد عارشت نعهة اهنمة لس نوات
طوال ،ولوال حصافيت ،ألضاع ميل زويج للنساء طرابل وما
حولها! مل تعش بيننا ،وتسمع احلاكايت العهائب عن الاليت
اذهنب عقهل من حس ناوات ،دسهن علينا األهبال! لوال ما
أهلمين هللا به من تدبري ،ملا اكن احلال هو حالنا اليوم .أمثال
متن أبدا .ولو
اخلاتون أعرفهن ،وأخربهن جيدا ،وإاهنن ال يؤ ّ
452
تسلطنت عىل رجل ،همام صور هل غروره من عزة وكرامة،
فس تذهل ،وحتوهل برضاه عبدا حقريا ألقداهما! لن أرحل من
طرابل ،وخطر تكل امللعونة يرتبص مبدينيت".
آآآآآآآآآآآآآآآآه! هذا هو تباغض النساء ،وكيدهن لبعض!
ال أمكل دواء لهذا العناد.
حاول احلامك أن يدافع عن نفسه ،وأن يقسم لكن الشهابية
أخرس ته بإشارة من يدها ،وقالت:
"قل يل اي تميور ،ملاذا قبلت بتكل الزجية ،رمغ أنك حتب امرأة
أخرى تنتظرك؟"
رد تميور بصوت كئيب:
"ما اكن يل أن أبين حيب فوق دماء األبرايء ،عيل أن أحضي".
قالت اخلاتون:
"وما أطلبه أهون من هذه التضحية ،أاها القبيل اي زعمي
الغيالن ،لن أرحل إال إذا وجدت اخلاتون زوجا غري احلامك ،وما
كنت ألجد زوجا لها أفضل منك! لتزتوج أنت اخلاتون ،وترحل
هبا معنا عىل نفس املركب!"
453
()50
454
وال حىت القبيل زعمي الغيالن ،أو ابن أسامة حامك طرابل!
اخلاتون ال تبحث عن زوج ،وإمنا لك ما تبغيه هو رأس القائد
األسود".
نظروا يل بغري فهم ،مع اس هتهان من النساء ،فأردفت بقويل:
"ماذا تعرفون عن اخلاتون ،قبل أن تأيت لطرابل؟"
قال ابن الشهابية ،برسعة أندمته نظرة زوجته علهيا:
"اكنت زوجة لشهبندر سوق الفتوح ،وورثت عنه بعض
ثروته".
قلت هلم:
"يه بنت األمري املرصفي ،اذلي اكن قائدا للجند يف عامصتنا،
وغدر به القائد األسود ،فسلب ماهل وس ىب نساءه ،وقتل أغلب
ودله ،إال واحدا جعهل هل خادما ذليال .اكنت اخلاتون أمرية غري
متوجة عىل العامصة ،فذاقت الويل والهوان والس يب عىل يد
األسود .ال حتمل يف قلهبا إال حقدا عليه ،فلن تنازعكن يف
ملككن اي نساء طرابل ،فدعوان من هذا الشأن ،فهىي معنا عىل
غرمينا ،ولن جترؤ عىل مضايقتكن ،حىت ال نرجع عن حرب
األسود .وإذا انهتت احلرب بنرصان ،بإذن هللا ،فس تعود لقرص
أبهيا ،تعمره بعد خراب ،وترفع رايهتا ماكن راية األسود".
455
هدأت نفوس النسوة ،رمبا ألاهنن كن يبحنث عن الهدوء،
فأطعنين فيه! أو لعلها طبيعهتن يف حب أحاديث المنمية ،وأخبار
املايض ،وأرسار الغرميات! أاي اكن ،فقد انزتعت بعد مشقة
موافقة الشهابية ،وتميور ،وأمت القايض الزواج يف جلستنا.
ما أن أاهنينا عقد القران ،وانفض جملس نا الصغري ،وجلس نا مع
قايض طرابل ،ليكتب لنا شهادته ،حىت أىت احلرس يقولون إن
هناك رسوال من اخلاتون ينتظر.
حشب وهجىي ،ونظرت جتاه الشهابية قلقا ،لكهنا قالت جبفاء:
"أدخلوه".
دخل شاب صغري ،أنيق الزي ،فاحنىن ،وقال:
"حتية وتعظمي ملواليت امللكة الشهابية".
مث أعطاها لفافة خمتومة ،وقال:
"هدية زواج من مواليت اخلاتون".
مدت الشهابية يدها للفافة بفضول ،مث تداركت نفسها،
فوضعهتا جانبا ،وأشارت بكربايء للرسول لريحل .وما أن غاب
عنا الرسول ،حىت قالت بغيظ:
"كيف ومىت علمت؟"
456
انقضت ابنهتا عىل الرساةل ،ففتحهتا ،ونظرت لها مذهوةل ،مث
سلمهتا ألهما ،اليت امحر وهجها ،وقالت:
"تكل املاكرة ،كيف تس تطيع أن تصنع تكل األمور ،وهللا ال أثق
فمين مبثل مكرها أبدا! كيف أرحل عن طرابل ،وأتركها
للخاتون؟"
457
()51
( 1 -51الرحيل )
يقول عبد الشهيد ابن مسعان ،آخر الغيالن:
"أخريا أعددان العدة للرحيل بعد شد وجذب ،وبدأت أجتهز،
وقد زادت ثقتنا ،وتضاعفت آمالنا .اتفقنا عىل الرحيل ابلبحر،
ألنه أكرث أمنا ،خاصة مع ما أصاب سفن القراصنة يف حصار
الزرقاء ادلايم .أشهد أن هؤالء اللصوص يدافعون عن وكرمه
بقوة ،أشد مما دافع أهلها عهنا يف الغزوة األوىل! واكن هذا
حلسن طالعنا.
لكن حمطة بالدان الوحيدة عىل البحر الرشيق يه الزرقاء
نفسها ،اليت حترتق ابحلرب واحلصار .وهنا سألت ،فقال الناس
يل:
"عليك ببحار ال مثيل هل ،هو معر ابن األرشف".
458
اكن ميكل سفينة صغرية ،لكهنا رسيعة ،ويتفاخر دوما بأاهنا
أرسع ما جيري فوق البحار مجيعا ،بأمر هللا.
حتدثت مع ابن األرشف قليال ،ل ي أرى كيف يكون رحيلنا.
ومل أخربه ابلطبع عن أخباران وغرضنا .فقط أعلمته بأنين أريد
الرحيل لساوة ،لزتور الشهابية قرب أبهيا.
أخربين إن السفر طويل خطر ،وال جدوى من حماوةل التسلل
للزرقاء .وقال:
"ال يوجد يف بالدمك ميناء غريها ،والبحر الشاميل ال أنصح به،
رمغ أنه أقرص وأيرس ،أعرف حبارة طيبني يعملون فيه ،ميكنين
أن أدلمك علهيم إن أردمت ،لكن خطر سفن الصيادية والسور
العيل هناك كبري ،والثغر الصغري يزحف األهبال عليه -كام
مسعت -والكبري قد هتدم ،وخضع للقائد األسود ،وهو طاغية
قاس ،ال آمن عىل أمريتنا الشهابية منه".
قلت هل ،كأنين ال أعرف مثهل وأكرث:
"مفا احلل إذن؟"
رد:
"لرتكبوا معي يف أرسع سفينة وسط البحار ،اليوم حرب عىل
الزرقاء ،س يعقهبا تشتت القراصنة ،اهيجون يف لك البحر.
فلننهتز الفرصة ،وأميض بمك رسيعا ألقىص اجلنوب .هناك ميناء
459
صغري أعرفه ،يس تخدمه بعض التهار رسا ،بعيدا عن عيون
القراصنة ،أنقلمك لهناك ،وترحلون منه عرب بالد األحباش
والسواد ،فرتكبوا الهنر شامال ،حىت تصلوا لبالدمك".
بدت يل فكرة جيدة ،رمغ طول السفر ،وضيق الوقت .فقط
ألدعو هللا أن يظل األسود عالقا يف الزرقاء ،وال يشن جهومه
عىل الغرب اآلن.
وهكذا هرعنا للسفر عىل سفينة ابن األرشف (الساملة) ،ال
حنمل إال القليل من املتاع ،وأغاله طبعا هذا اخلطاب المثني،
اذلي أوصلته لنا اخلاتون .ال أدري كيف تفعل هذه املرأة ما
تفعهل! كيف ويه وسط حصراء احلهاز البعيدة ،وصلت إىل
اخلليفة لتنزتع منه خطااب يعرتف بتميور ابن زهري ملاك عىل
بالدان!
تكل رضبة قامصة ،أفرغت فهيا لك حقدها عىل األسود! حقا
إن كيدهن عظمي! لكن همام أوتيت اخلاتون من جعائب ،مفازالت
احلرب ضد األسود مريرة ،غري يسرية.
اليوم ،وقد أصبحت أفضل حاال مما بدأت ،وامتلكت أقىص ما
كنت أحمل به ويزيد ،اكن اليأس يراودين .بعد أن اقرتبت ساعة
احلق ،وفرغت من أمر الوريث ،أخذت أفكر فامي هو اتل.
سأخترب اآلن معدن األمراء .والاكرثة إين أعمل ابلفعل مك هو
خسيس هذا املعدن! سينفض أغلهبم عنا حامت ،الوحيد اذلي
460
كنت أعقد أمال عىل شهامته ومروءته ،هو ابن عامر ،اذلي
غدر به األسود ،وقتهل رش قتةل.
لكن أوان الرتاجع قد فات ،ليتين كنت حقا زعامي للغيالن
امحلر ،ألجد مهنم نصريا للحق .لكن عهد الغيالن ،ومن يعتنقون
الشهاعة مذهبا ،قد وىل عن بالدان بغري رجعة.
أخرجت كتاب الشهاعة ،أسيل نفيس فيه .الغول األمحر ال
خيىش شيئا ،وال اهاب أحدا .ليتين أمتكل مثل هذه الشهاعة
امحلقاء ،أو عىل األقل ألمتكل من اإلميان قدر يعوضين ،ويثبتين
يف رحليت هذه .آه عليك اي غول احلق ،رمحك هللا .مك أحتاج
اليوم لنرصتك.
هنا دخل عيل ابن األرشف ،يدعوين لطعام أول غداء يف
الرحةل ،قائال:
"أتفاءل بأن نألك مجيعا معا أول يوم ،لرتبطنا مودة اإلطعام،
مفا يكون يل أن أضايق ضيف مائديت ،وما يكون ملن أطعمته
أن يغدر يب .ولو إين أعرف ابلطبع أن رفاق الشهابية لن
يغدروا!"
ألقيت كتاب الشهاعة جانبا ،واهنضت ،فأمسك به ابن
األرشف متسائال:
"ما هذا؟ ال أقرأ فاعذرين إن سألت".
461
رددت عليه خمفيا ارتبايك:
"دعك منه ،إن هو إال كتاب توارثته عن أساليف".
مصت حلظة يتأملين ،مث خرج دون رد .فاتبعته ،وجلس نا عىل
مائدته ،نتناول السمك الشهىي ،واخلزب الساخن ،مع بعض المتور
احلهازية الشهرية.
462
( 2 -51حاكية أبو الشوارب )
أخذ يقص علينا حاكايت ،وحاكايت عن البحر والبحارة
والقراصنة .اكن خفورا مبهنته ،وسفينته املسامة ابلساملة .وحيفظ
قدرا هائال من أخبار البحارة ،ومل يدخر فرصة ،طوال الرحةل،
ليقص علينا بعضا مهنا.
"مفثال ،ذات يوم أبطأت السفينة ،رمغ هدوء البحر ،ومين
الرايح ،فنظرت أحبث عن الشاطئ ،فأدركت أنه بعيد وأن
املاكن ليس ابلضحل ،وملا كنت عىل عمل بقليل من معل البحر،
منذ كنت صبيا ،خيرج مع وادله للصيد ،فقد تعجبت من هذا،
عيل:
فرد ّ
"إاهنا الشعب! أسفل املاء هنا ،يمنو مرجان كثيف ،لو اصطدم
بقعر أي سفينة ،فس يغرقها .البحارة عادة ما يلتفون بعيدا عن
املاكن ،ليضيعوا أايما يف مياه حضةل ،قرب الشاطئ ،لكين
أعرف طريقي بيهنا جيدا ،فأسكل الطريق اخملترص ولكن حبذر
طبعا .ذات مرة اعرتضين أبو الشوارب ،رمبا ال تذكرونه ،لكنه
اكن قرصاان رهيبا مشهورا يف لك ماكن .مل تكن الزرقاء قد
سقطت ،بعد فاكن أبو الشوارب ينتقل بني لك املواين ،همددا
السفن .هامجين ،لكن الساملة احلبيبة س بقته ،فتبعين بإرصار،
جفررته لهذه املنطقة ،وشاهدته وأان أحضك ،بيامن سفينته تغرق،
463
وقد قصمها املرجان ،حىت اكدت تشطر لنصفني .وشاهدته
يركب مركبا صغريا ،ومل أظن هل النهاة ،فسخرت منه ،وقلت هل
"سألقي كل ببعض الطعام ،واملاء العذب ،إن حلقت شواربك
اي أاب الشوارب!"
واكن يف ضيق عظمي حقا ،لكين مل أظنه يفعلها ،فوجئت أان
ورجاهل به خيرج خنجره ،ويقطع به شاربه العظمي بغلظة،
وألزمتين لكميت ،فألقيت يف املاء قربه بعض الطعام واملاء،
وابتعدت مرسعا .وحيامن عدت إىل ميناء الزاهرة ،أمسك يب هو
ورجاهل يف مقهىى هناك!
أيقنت حلظهتا أين هاكل ال حماةل ،ورقبيت س تلحق بشاربه!
لكن الرجل فاجئين للمرة الثانية ،فقدم يل كيسا به عرشة آالف
درمه!
مل تسمعين خطئا! نعم ابلفعل عرشة آالف درمه ،ال تنقص
واحدا! وقال يل:
"أبو الشوارب ال يأخذ يف الرب ما أخذ منه يف البحر ،ما اكن
يل أن أثأر منك عىل الشاطئ اي من غلبين يف مملكيت ،خذ هذا
املال ،واجهر املالحة".
وأخذت منه املال احلرام ،فوزعته عىل األيتام ،والثاكىل ،اذلين
أفقدمه أبو الشوارب عوائلهم .وعدت للمالحة مرة أخرى
متهاهال طلبه ،أتدري ما حدث؟ حاول مطارديت مرة أخرى،
464
لكين كنت أكرث حذرا منه ،فهربت منه بفضل رسعة سفينيت
وخربيت الكبرية .مفاذا فعل أبو الشوارب؟ هل تتصور؟ لقد
اعزتل البحر ،بعد أن غلب فيه! مل يقبل أن جيد من يتفوق عليه
يف البحار ،وأىب أن يأخذ ثأره ابلغدر يف املقايه .رجل غريب
أبو الشوارب هذا .هو جمرم لص ،لكنه اكن حيمل يف قلبه شيئا
من الرجوةل".
وأاهنىى ابن األرشف حاكيته العجيبة ،وانهتت معها منطقة
الشعاب ،فأرسعت السفينة مع الرحي مرسعة حنو اجلنوب.
وأخذت أتأمل بشوق وحنني صفحة املاء الهادئة أثناء الليل،
حيامن كنت صبيا ،اكن وادلي إذا اش تدت بنا الفاقة ،خيرج
للصيد رسا أثناء الليل .اكن خيتار الليايل املقمرة يف الصيف
الهادئ ،فيأخذين معه ،ويتهه حنو املياه العميقة ،فيصيد ما
ميكنه ،ويرتكين ألهو كام أشاء حوهل ،أو أتأمل النجوم الالمعة.
وجنوم البحر ،غري جنوم الرب ،غري جنوم اجلبل .لك مهنا هل
مذاقه ،ومتعته .وحني يهنىي أيب صيده ،يزنلين أجرجر السمك
يف جوال من اخليش حنو املزنل ،متسلال بعيدا عن أعني جباة
الرضائب ،بيامن يعود هو هلم ابلقارب خاواي عند املرىس.
كنت أذهب بدال من أيخ األكرب رمحه هللا ،ألنين أحب هذه
الرحالت الليلية ،اليت يتأفف مهنا شقيقي .ثقل امحلل اذلي
أجرجره خلفي ،اهون لساعات الذلة ،والبحر ملكنا وحدان ،أما
465
أيخ فاكن يقول إن علينا مواهجة اجلباة ،ليكفوا أيداهم عن
اهنبنا ،بدال من التسلل برزقنا اكللصوص .رمحه هللا ،ما انل غري
الس يف! وما انل أيب أيضا غري الس يف ،وأظن الس يف ينالين
يف الهناية!
466
( 3 -51حاكية السمكة الفتانة )
بيامن كنت غارقا يف ذكراييت ،انتشلين مهنا ابن األرشف قائال:
"ال تقف كثريا أثناء الليل عىل سطح السفينة ،فنحن منر اآلن
جوار جزر الغطسان".
نظرت هل بغري فهم ،فبدأ كعادته حي ي:
"جزر الغطسان جزر صغرية ،يغمرها املاء عند املد ،وتظهر
فقط يف أوقات اجلزر ،أو عند اكامتل القمر .يقال إاهنا اكنت
عامرة ابلساكن ،فمتردوا وجتربوا عىل خلق هللا ،حىت أىت ويل
من األولياء ،دعا علهيم ،فغطست اجلزر هبم .ولكن ال أظن
هذا ،فال يظهر يل فهيا -حيامن تربز -أثرا ملبىن أو جحر .لكن
البحارة خيشون مهنا املرور ليال ،حىت ال خترج هلم كام يزمعون
السمكة الفتانة".
سألته عن السمكة الفتانة ،فأجاب:
"يه خملوق رشير ،يقال إاهنا اكنت ابنة مجيةل ،لساحر يعمل
عند مكل عظمي .لكهنا مل ترض مبا رزقت به من جامل ونفوذ،
فقد اكنت حسودة حقودة ،تهنشها الغرية ملا يف يد غريها .قالت
لنفسها :
467
"أيقال عين مجيةل ،وزوجة املكل أمجل؟ أيقال عين غنية،
وابنة املكل أغىن؟ أيظنونين معروفة بني الناس مرموقة ،واملكل
أشهر؟"
حقدت كثريا عىل املكل وأرسته ،ودبرت هلم املاكئد.
فاختلست من أحسار أبهيا شيئا ،ألقته عىل املكل ،فأصابه
املرض والضعف والرشود.
واحتارت زوجة املكل ملا أصاب زوهجا ،فدارت تسأل وتأيت
هل ابحلكامء والسحرة ،فمل يعرفوا ما أصابه ،وما ختيلوا أن تأخذ
ابنة الساحر شيئا ،تؤذي به س يدها .وهنا وسوست الفتاة
احلقود للزوجة املسكينة ،فقالت لها:
"مثل هذا اذلي يصيب الرجال إذا أحبوا! لقد سقط املكل
العجوز يف قبضة ش يطانة صغرية ،طامعة يف اتجك اي مواليت".
قالت الزوجة املكروبة:
"وكيف هذا ،ومن يه؟"
قالت الساحرة:
"أما ترينه يتغري إذا أتته ابنته مع صديقاهتا؟ تكل امللعونة
مميونة ،اليت ختتال بنفسها أمام الرجال؟ إاهنا سبب تغري حال
زوجك ،ولو طردتهيا من القرص ،فس يعتدل حاهل".
468
غارت األم عىل زوهجا ،وتشاجرت مع ابنهتا ،تريد إجبارها عىل
مقاطعة صديقاهتا مجيعا.
وهنا أتت الساحرة لألمرية ،يف صورة الوصيفة اخمللصة
النصح ،تقول لها:
"ال أفهم مل تغضب أمك عىل صديقاتك جفأة؟ رمبا يكون يف
األمر شيئا ،ختىش أن يعارضهنا فيه".
سألت الربيئة املسكينة:
"وأي شأن تتدخل صديقايت فيه؟"
قالت اخلبيثة:
"أما ترين موالان املكل مريض قد ضعف؟ يف هذه األوقات
تسعى املامكل لتقوية ملكها مبصاهرة احللفاء ،حىت ال تغري وعكة
امللوك أعداءمه".
فهمت البنت ما تلمح هل الساحرة .اكن هلم حليفا ملاك جعوزا،
تبغضه بشدة ملا عرف عنه من اش هتاء النساء ،وإيذاءهن.
وظنت أن أهما تسعى لزتوهجا هل ،لتقوي عرش أبهيا وأخهيا،
وقالت الساحرة:
"تستبق رفضك بإضعافك حامت .لو بقيت صديقاتك إىل
جوارك ،حفامت س يقوينك عىل الرفض ،ويشددن من أزرك!"
469
غضبت البنت من أهما ،وأرصت عىل إبقاء صديقاهتا قريبات
مهنا .لو تنازلت يف أمر صديقاهتا اليوم ،فاهلل أعمل ما س تهرباهنا
عىل التنازل عنه غدا!
وازداد الشقاق يف البيت ،اذلي اكن آمنا ،فتعجبت أم امللكة
مما دار بني حفيدهتا وابنهتا أثناء مرض الزوج .حفاولت اإلصالح
بني الثالثة قدر اس تطاعهتا .واندفعت الساحرة تدور بني
الثالثة ،حامةل رسائل اجلدة ،كأمنا تساعدها بإخالص يف
الصلح؛ لكهنا ألقت النار عىل الفتنة دوما.
وأحست اجلدة ابلتعب .ال تفهم ما حيدث ،ألن لك واحدة
تكمت خماوفها عن األخرايت ،فإذا هبا حتدث الساحرة تس تفهم
مهنا عن أصل الشهار ،فزمعت لها أن البنت الصغرى قد
وقعت يف حب غالم من غلامن أخهيا ،وتريد الزواج منه.
ولضعة الفىت ،وخش ية الفضيحة ،فالوادلين يكامتن األمر.
ودست اخلبيثة من حسرها ووسوس هتا ،ما جعل الظنون تتواىل
عىل اجلدة ،حىت تومهت أن الفتاة قد أذنبت مع الغالم.
واثر ادلم احلار يف عروق اجلدة ،اليت عرفت بشدهتا .فدبرت
قتل الغالم ،وحبست األمرية يف جسن ال يعرفه سواها!
تعجب املكل من اختفاء ابنته ،بيامن غضب الابن ملقتل
مساعده .وأخذ يبحث عن السبب ،لكن الساحرة اكنت
س باقة ،أومهته أن اجلدة -أم امللكة -ملا علمت مبرض املكل،
470
وأن موته قد يكون قريبا ،تبغي رؤية ابهنا يه وريثا للعرش،
وذلا تكيد حلفيدها .وبدأت بقصقصة أجنحته ،ابس هتداف أعوانه
اخمللصني ،ورمهيم ابهتامات ال ميكن تصديقها.
وأصيب الفىت ابخلش ية عىل املكل ،اذلي ال ميلكه! وهذا نوع
قاتل من اخلوف ،يصيب ابجلنون ،ويذهب ابلعقول ،ومك من
جرامئ ارتكهبا ويل عهد جتاه أبيه ،وأخ يف حق أخيه ،ممن جيري
يف عروقهم نفس ادلم.
ودبر األمري مبعاونة الساحرة ثورة دموية ،ابس تخدام عدد من
السجناء واجملرمني ،فقتل املكل وامللكة ،وجدته وخاهل ،وانفرد
ابلعرش املسموم ،وأجلس الساحرة زوجة إىل جواره ،جزاء
مساعدهتا هل.
لكهنا تدخلت يف ش ئون احلمك ،فضاق هبا ،وخيش عىل نفسه
من مكرها ودهاهئا ،فذهب لها وقال:
"إن أخيت حبيسة اجلدران ،اليت وضعهتا جديت فهيا ،وإين
عيل ثأرا ألبهيا .ولو أبقيهتا
أخىش إن أطلقهتا أن جتمع الناس ّ
عيل القادة .أريد أنجسينة فقد هترب ،ولو قتلهتا فرمبا يثور ّ
أسقهيا شيئا مسحورا ،حيولها لشلك قبيح منفر ،يبعد عهنا
الناس ،ويعجزها ،فال تقدر عىل معل يشء ضدي .ال أريدها
أن متوت ،ويف الوقت نفسه لن تظل حية!"
471
حبثت الفتاة يف أكوام السحر اليت خلفها وادلها خلفه ،فوجدت
رشااب حيول من يرشبه إىل مسكة ،متوت لو خرجت من املاء
اهنارا ،وتعود يف الليل برشا.
ذهبت فرحة لزوهجا بنرصها ،وقالت هل:
"اسقها هذا الرشاب .يف الصباح ختتنق لو خرجت من املاء،
فال جترؤ عىل مغادرة جسهنا ،ويف الليل يراها الناس حية ،ال
يهتمونك بقتلها .لك ما عليك أن تضعها يف جسن يف الصحراء،
حىت ال يأيت علهيا الهنار ،ويه يف طريق به ماء".
أخذ املكل الشاب الرشاب امللعون ،فأخفاه دليه يوما ،مث
دسه لزوجته يف الرشاب .وملا حتولت لسمكة ،وضعها يف إانء،
وأمر رجاهل حببسها يف قلعة يف الصحراء ،لتظل جسينة دليه
لألبد.
مل يرد أن يقتلها ،فقد ظن أن يديه قد تلطخت بدماء كثرية،
ولو أكرث القتل عن هذا ،فس يخشاه أعوانه ،ولن يأمنوا هل .كام
إنه ظن أنه قد حيتاج ليشء من حسرها يف حاميته من أعدائه.
ويف جسهنا ،أغوت الساحرة جباملها ،وعذب لسااهنا ،ومكرها
أحد احلراس ،وأومهته أاهنا حتبه ،حىت أصبح ألعوبة يف يدها،
وأومهته أنه لو قتل زوهجا ،فس تزتوجه وهترب معه.
472
ودبرت معه حيةل ماكرة .فأرسل احلارس رساةل للمكل ،خيربه
أن بعض الثوار هامجوا القلعة ،يريدون خطف امللكة ملساومته
علهيا.
وأصاب املكل الفزع ،وخاف أن تسقط أرساره يف يد أعدائه
مع امللكة النامقة ،فتكشف للناس أنه قاتل أبيه وأمه ،وأنه من
دبر الثورة الومهية اليت سفكت دماء عائلته ،لينقلبوا عليه.
هرع املكل للحصن مع جنوده ،وأرسل مع احلارس اخلائن
رساةل للقائد ابلصمود أمام الثوار بأي مثن ،حىت يأتيه ابدلمع.
فتح احلارس خطاب املكل ،وغري لكامته كام أمرته الساحرة.
وذهب للقائد خيربه بفزع إن املكل اعترب حرس القلعة ممتردين،
وينوي همامجهتم ،وقتلهم مجيعا ،ليتخلص من زوجته ،ملصقا
هتمة قتلها يف احلراس املمتردين .وأبرز هل اخلطاب املزيف ،اذلي
أصبح موهجا لقائد اجليش ،يأمره بسحق املمتردين عند قلعة
الصحراء!
وهنا أمر القائد رجاهل ابدلفاع عن أنفسهم ،فأخربه عش يق
الساحرة إن أفضل وس يةل لهذا يه أن جيعلوا القلعة تبدو خاوية
متاما ،فيختبئون يف أعامقها ،فإذا دخلها املكل ليفتشها ،هامجوه
هو ورجاهل ،ويباغتونه ،فيقتلواهنم ،واهربون بعدها إىل امليناء،
ومنه عرب البحر إىل أي بدل ،حاملني اتج املكل ،املزين بألف
جوهرة ،يقتسمواهنا بيهنم.
473
وأحمك التدبري ،فذهب املكل جبيشه ،ليهد احلارس اخلائن
ينتظره ،فأخربه إن املمتردين قد انكرسوا عن القلعة ،فرتاجعوا
واحتشدوا خلف اجلبال ،لكن امللكة تطلبه ألمر هام.
خيش املكل إن ذهب للملكة ،أن تؤذيه بسحر ما ،وإن
خذلها اآلن وهو قريب مهنا ،أن تنتقم ابلهروب إىل الثوار،
فأرسل جيشه لتتبع املمتردين املزعومني ،وذهب بصفوة جنوده
اذلين يثق متاما يف إخالصهم هل ،ليحمتي هبم يف زايرته للملكة.
وهنا وجد املوت والقتل يف انتظاره ،جزاءا وفاقا ملا فعهل
بأههل!
وأرسع اجلنود املمتردين اهربون من القلعة يف الصباح ،حاملني
وعاءا كبريا من املاء ،حيوي امللكة السمكة ،واتجا ذهبيا ،سالت
بلك جوهرة فيه دماء بريء.
ركب اجلنود سفينة لريحلوا هبا عن البالد ،وفوق سطح
السفينة ،اس مترت الساحرة يف لعب لعبهتا القاتةل يف زرع الفنت،
فألبت الرجال عىل بعضهم البعض ،لك مهنم يظن أن اآلخر
يريد الفوز ابلتاج وحده ،تطمع أن تفوز يه به يف الهناية وحدها.
ولكن لعبهتا ازدادت لهيبا ،فشب قتال عنيف ،قتل فيه لك
املالحني ،اذلين يعرفون هذه املياه اخلطرة ،فاصطدمت السفينة
جبزر الغطسان ،وغرقت مبن فهيا.
474
وقبل أن متوت الساحرة بلحظة واحدة ،انبلج الفجر ،وحتولت
لسمكة ،وجنت.
لكهنا بقيت ملعونة مدى احلياة ،تذوق لك يوم طعم املوت
مرتني .عند الفجر خينقها الهواء ،ال تراتح أال لو غرقت يف
البحر ،وعند الغروب يغرقها املاء ،متوت لو مل خترج للسطح.
ويف الك احلالني ،تطاردها اآلالم من وحوش األسامك،
وألعاجيب البحر ،وما أكرثها .لكهنا ما فكرت أبدا يف التكفري
عن ذنوهبا ،بل تفجر احلقد يف قلهبا جتاه لك البرش ،فلك من
عرب آمنا يف سفينته ليال ،واكنت يف شلكها البرشي ،خرجت هل
وحدثته ،ففتنته حبديهثا ،وجاملها ل ي تغرقه.
مرة تومه الناس أاهنا جنية من بنات مكل اجلان ،لو تتبعها يف
املاء لن يغرق ،وإمنا يصبح لها زوجا ،ويف مملكهتا أمريا ،واترة
تومهه أاهنا عروس البحر ،س تدهل عىل كزن الكنوز يف جزر
الغطسان ،وتغريه ابلتاج المثني ،زامعة إنه جزء ضئيل من الكزن
املدفون ،فيتبعها املسكني ،حىت يدركه املد عند الفجر ،فيغرق
وتنجو يه اكلسمكة.
يزمعون إاهنا تقول أحياان إاهنا سقطت من سفينة هامجها
القراصنة ،فتصعد للسفينة اليت تنقذها ،وهنا يكون أشد رشها
إذ ال هتدأ حىت تقلب لك البحارة ضد بعضهم البعض ،حىت
اهلكوا مجيعا.
475
إن حياة البحارة أاها الغول األمحر شاقة حقا .واخلطر لك
اخلطر أن تنشق صفوفنا ،فليس للمترد عىل سطح السفينة
ماكن .حىت القراصنة األجالف ،إن اختلفوا يصفون خالفاهتم
ابدلم ،إما من سفينتني ،أو عىل الرب .لكن ال تنجو سفينة أبدا
يف وجود فتّان ،جيعل من علهيا يتنازعون .لهذا خفطر السمكة
الفتّانة كبري جدا ،يتطري منه البحارة أاها الغول األمحر".
476
( 4 -51مصيب الش يخ الفويل )
يقول عبد الشهيد ابن مسعان:
ااهنىى ابن األرشف حاكيته ،فصمت أفكر فهيا ،مث انتهبت
فقلت:
"كيف علمت أين غول أمحر؟"
ابتسم ،وقال:
"لست بغيب ،أنت متسك بكتابك ،اذلي يش به ما يتناقلونه
عن كتاب الغيالن فهذه السفينة نقلت غيالان محر يف عهد أيب،
وقد حىك يل عهنم حاكايت كثرية .وإىل جانب هذا ،مفعك
األمرية الشهابية ترحل لساوة .الالكم كثري ،واحلديث كثري اي
س يدي .فبالدمك بأمكلها تتحدث عن نبأ الوريث القادم مع
الغول ،اذلي نرصه الش يخ الفويل ،ومنحه الرمح املصيب! لعل
هذا الشاب أو ابن الشهابية هو وريثمك املنتظر؟"
نظرت هل بدهشة ،وقلت:
"ماذا تسمع عن الغول والوريث؟ أتتحدث البالد عن هذا؟"
حضك وقال:
477
"لك ميناء ،صغري أو كبري ،يتعامل مع بالدمك تأتيه احلاكايت.
بعد أن هدم األسود مسهد جماذيب الفويل ،وقتل أغلهبم،
هرب بقيهتم متناثرين يف البالد ،يبرشون الناس يف لك ماكن،
حىت أصغر القرى ،بل حىت يف قلب مضارب بين األسود ،ويف
احلي اذلي يوجد به قرص املغوار! يتحدثون إنه ملا مع الظمل
األرض ،ذهب زعمي الغيالن ،فقرأ الفاحتة للفويل ،وأدركته
غفةل ،جفاءه الش يخ يف املنام ،يأمره ابذلهاب إىل طرابل ،ليهد
الوريث احلقيقي ،فيعود به للناس ،لينرش العدل ،واهزم األسود.
وملا اش تىك ضعفه ،وقةل جنده أمام األساودة الغالظ ،قال هل
إنه ممنوح املصيب.
استيقظ زعمي الغيالن ،فقص عىل كبري اجملاذيب رؤايه ،فكربوا
وقالوا إن النرص آت
وملا كربوا ،ارجتت األرض لتكبريمه ،وأرعدت السامء ،ونزل
املطر إال عىل بقعة واحدة من األرض ،غش هيا نور هل جالل.
ذهب كبري اجملاذيب لتكل البقعة ،فنبشها فوجد فهيا رمح
الش يخ الفويل ،اذلي ال اهزم حامهل أبدا ،فكرب ،ومنحه لزعمي
الغيالن ،اذلي ألقاه حنو جشرة بعيدة ،تبعد ألف ذراع ،فأصاهبا
حيث شاء ،فكرب ،وأمسى الرمح ابملصيب ،وتوعد هبزمية
األسود ،فقد ظهرت العالمات مجيعا ،وحان وقت عودة
478
الوريث ملكل األجداد .وغادر زعمي الغيالن إىل طرابل ،ال
يغالبه إال همزوم!"
479
( 5 -51ش ياطني القائد األسود )
حضكت كثريا وأان أمسع تكل احلاكية الغريبة عين ،ومل أمكل
نفيس أن أقول:
"اي هلم من أفاقني مساكني! غفر هللا هلم ،فهم يرفعون شأن
الفويل ملا يفوق مقامات البرش! يسعدين أن يؤلبوا الناس عىل
األسود ،لكهنم أجعزوا رحمي اآلن ،فلو قاتلت به ،فس يتبعين
الناس نرصة لصمن الفويل ،بدال من اجلهاد يف سبيل هللا ضد
الطغاة والظاملني ،طلبا للعدل يف أرض هللا".
قال ابن األرشف:
"لن أتركك حىت حت ي يل حقيقة ما دار بينك وبني اجملاذيب.
أما دعوهتم مفا يه إال جزا ًء وفاقا ألفعال األسود .حيامن بدأ ملكه
يف الظهور ،اكنت تصلين حاكايته السقمية ،اليت ينرشها بني
الناس يف املواين ومدن الرشق .اكن يزمع إن هل أنصارا من
اجلن ،وأنه حيامن خرج من قبيةل أبيه ،خرج هل ش يطان مكل،
اكن قد عقد حلفا مع جد األساودة األكرب ،إذ غلبه يف قدمي
األزل ،فعاهده إن تركه أن حيمي قبيلته ،من أن تشق أبدا،
فأراد معاقبته عىل خروجه عن طاعة أبيه.
فقال هل القائد األسود:
480
"إين ألطلب طلبة عظمية ،وعظم املطالب ترجو عظم البذل.
أطلب مكل البالد ووحدهتا ،فشقي لصف األساودة حينا ،إمنا
هو بذل لرأب صدع لك البالد".
فقال الش يطان:
"جبنودي وملكويت ،ال أتركك خترق عهدي جلدك .حمكت
عليك بلعنة أبدية ،تغرق يف رمال الصحراء ،مع صعاليك اجلن
اجملانني".
وحبسه يف واد هو جسن اجلن ،حيبسون فيه من يصاب
ابجلنون فهيم ،وال يرىج شفاؤه ،فقاتلهم األسود بس يفه ،حىت
غلهبم مجيعا ،وأخضعهم ألمره ،وسار هبم يبغي اخلروج من ابب
السجن.
فقال هل مكل الش ياطني:
"كيف غلبت هؤالء ،ومجعهتم عىل لكمتك ،ومه جمانني؟"
قال األسود:
"حيامن ختتل العقول ،ال يبقى إال الس يف مقنعا .ول ي يتبعك
اجلنود ،فعلهيم أن يتبعوا عقكل وحده .فوقهتا ال فارق بني
جندي جمنون ،وآخر عاقل!"
وابرز مكل الش ياطني فغلبه ،فعاهده عىل تركه ،عىل أن
يساعده عىل البطش بأعدائه ،همام بعدت هبم املسافة.
481
وغري هذا من أساطري أرهب هبا الناس حينا ،وحيامن ظهرت
أسطورتك أاها القبيل ،وجدوا فيك ضالهتم ،لتحمهيم من
ش ياطني األسود!"
482
()52
483
األساودة! وكيف هذا؟ منذ مىت اهمت القراصنة ابجملد واملعارك،
جفل اهامتهمم هو املال حفسب!
عىل أي حال لن أشكو من سهوةل رحلتنا! نزلنا يف هذا امليناء
الصغري ،القريب من بالد األحباش ،واكن حاهل بدائيا سيئا،
لكنه يكفي لقضاء احلواجئ.
عرثان بسهوةل عىل قافةل ،قبلت حبملنا معها ،مقابل أجر زهيد
إىل شامل بالد الس ّواد ،ومهنا نرحتل قليال جلنوب بالدان .اكن
طريق القوافل ،املايض بيننا وبني األحباش و ّ
السواد ،مطروقا،
خيدمه حاكم املدن وأمراؤها ،ويندر أن تلقى فيه قاطع طريق،
لشدة العسكر علهيم .أخذ تميور حي ي يل كيف اكنت اآلابر
متقاربة عىل طول الطريق املعبد ،فمتر عليه جتارة خضمة ،تعرب
خمتلف املامكل واملدن رشقا وغراب ،وراء لك احلدود اليت نعرفها.
وأجعبتين حمكة قالها" :الطريق اآلمن ياكئف حراسه جيدا!"
وحقا وجدت أن األحباش حراس طرق خملصون! رمغ غلظهتم
وخشونهتم يف التعامل ،وكرثة تذكرمه حلروب قدمية ،دفن ثأرها
منذ قرون ،لكهنم حرصوا عىل األمانة معنا يف لك بيع ورشاء،
فمل نر مهنم غشا أو غدرا .وعلمت أن هذا ديداهنم مع لك
التهار ،ألن احلاكم هنا اهمتون هبم كثريا .وقد قيل يل يف سبب
ذكل حاكايت ،أشهره إنه ذات مرة ،أىت اتجر ومعه جارية فاتنة
عابثة ،ألقت حببائلها عىل ابن أحد األمراء ،وأقنعته بأن يأخذها
484
بعيدا عن صاحهبا .وفر هبا الفىت غصبا ،فاش تاكه التاجر
للقايض ،وأرسل الباحثني يطلب حقه ،بيامن غضب الوادل لزواج
ابنه من فتاة حقرية املقام ،فأرسل خلفه القتةل ،يطلبون رأس
زوجته!
وأىت الفىت ابلفتاة للمكل ،يتوسل هل ،ويظهر هل كيف إن حهبام
عظمي .فرق قلب املكل هلام ،وأمر األب بإيقاف س يفه ،وطرد
التاجر املسكني ،بعد أن عذبه ،وصادر أمواهل ،وقيل بل قتهل.
وهنا خاف التهار عىل جتارهتم وأرواهحم ،وقال بعضهم لبعض:
"إذا اكن املكل ينصف حب عابثني عىل جثة العدل واحلق،
فأىن لنا أن نأمن يف تكل البالد؟"
فاهزتت األسواق ،وضاعت أموال وأقوات كثرية ،مع مومس
جفاف حل اكلناعق املش ئوم عىل البدل ،حىت خىش الناس
اجملاعة ،وظهرت بيهنم أحاديث إن هذا عقاب السامء لظمل
األرض!
فاجمتع أهل احلل والربط يف البدل ،وأقسموا عهدا صارما ال
ينفك ،بأال يظمل يف بالدمه اتجر أبدا ،همام حدث ،وأن يأمن
الغرابء عىل أمواهلم وأهلهم ،فرحب الظمل همام كرب خرسان.
وهنا تذكرت اآلية الكرمية (قل ال ي ْمستموي الْخمبيث موالطيب مولم ْو
أم ْ مجع مب مك كم ْرثمة الْخمبيث)
485
فطمع احلاكم يف بالدان زادمه هام ،والبالد فقرا .وحيامن قامسوا
التهار والصناع أمواهلم ،والفالحني أقواهتم ،خرب احلال،
وضاع املآل!
وإذا يب أحرتق غيظا ،إذ أجد بدلا فقريا كهذه ،ال يوجد به ما
عندان من كنوز األرض والبحر ،ميناءه حقري ال يقارن ابلزرقاء
أو الثغور ،قد امتكل من القوة والرثوة ما فاق أحوالنا.
السواد
جتاوزان أرض األحباش الغليظة ،ودخلنا يف مماكل ّ
التسعة .وأغلب أهل تكل البالد العريقة سود البرشة بيض
القلوب ،عىل أن رؤوسهم رسيعة الاش تعال ،عىل املرء أن حيذر
من أقل فعل ،قد يفرس إنه إهانة هلم ،أو خدش لكرامهتم.
ويه بالد مجيةل ثرية ،وأشد ما أجعبين فهيا هو الغاابت .طوال
معري أمسع عن الغابة يف القصص واحلاكايت ،واكن هذا أول
لقاء يل مع تكل األماكن الشاخمة!
فشاهدت -من بعيد -بعض األسود ،اليت أمسكها الصيادون
الشجعان ،يبيعواهنا حية ،أو بعض جدلها وأنياهبا (وقد اشرتيت
بعضه ألتباىه به أمام أهل القرية .لكن احلقيقة ،اكن أكرث ما
رحبته من الرشاء هو قصص الشجعان ،عن كيف صادوا تكل
األسود من أعامق الغابة املظلمة اخلانقة!)
وأثناء توقف القافةل يف إحدى القرى ،ذهبنا مع أحد األهايل،
جفعلنا نشاهد الزراف .كنت -وأان صغري -شاهدت أحد تكل
486
اخمللوقات البديعة يف الزرقاء ،حيث عرضها أحد التهار الفرجنة
عىل الناس ،مقابل أجرة غالية .لكنين تسللت خلف امجلوع،
وتعلقت حببال رشاع سفينته ألشاهدها .لكهنا اليوم ،ويه حرة
آمنة ،بدت أبدع وأمجل بكثري.
سألت عن الغيالن كام وصفها يل الزنوج وأان صغري ،فقيل يل
إاهنا قردة كبرية جخوةل ،وتوجد يف أعامق الغابة يف اجلنوب البعيد،
ال يراها الناس هنا .لكن رؤية فرس الهنر الضخم ،بفمه
العمالق ،عوضتين عن حرسيت.
اكنت حقا رحةل متعة لألنظار واألسامع ،انهيك عن عطور
غريبة ،مل تعرفها أنفي من قبل ،تأيت ممزتجة من لك اجتاه .عىل
أن احلديث عن تكل الرحةل ال يطول ،فقد كنا يف جعةل من
أمران ،وبفضل هللا مل يعطلنا يشء.
وصلنا دلار الزبرجد ،فاس تأجران مهنا بعض امحلالني واألدةل،
ساروا بنا حنو ختوم بالدان ،نبغي الوصول ألقرب قرية أو مدينة
عىل الهنر.
وعلمنا من امحلالني أن احلرب عىل الزرقاء وضعت أوزارها
أخريا .هزم األسود يف البداية ،وانشقت ثغرة يف صفوف
حصاره ،دخل مهنا إمداد من الوقود والسالح للمدينة ،قدمه
بعض أشقياء جبال الزرقاء فامي يزمعون ،فقذفوا سفن الفرجنة
ابملنجنيق ،وأحرقوها .فاضطر جنود الفرجنة للزنول إىل الرب،
487
واشتبكوا يف معركة عظمية مع القراصنة وحلفاهئم داخل املدينة.
بيامن جاء األسود بنفسه ليقود جيوشه ،فأغلق الثغرة ،ومنع
القراصنة من الهروب برا أو حبرا ،فأمعلوا القتل اذلريع يف لك
من ابلزرقاء ،حىت قيل إن النار ،اليت أحرقوا هبا املدينة ،ظلت
موقدة ال تنطفئ أربعة عرش يوما ،ال يقدر أحد عىل إطفاهئا،
ليتسلمها الفرجنة قاعا صفصفا!
وهلل األمر من قبل ومن بعد .ها قد ذاق القراصنة كأسا اشد
مرارة مما أذاقوان!
وحيامن اقرتبنا من احلدود ،علمنا أن األسود يف اجلنوب
جبيوشه ،يشن محةل جديدة عىل بين سلمي ،حلفائه القداىم،
يريد اقتالعهم من البالد متاما ،حىت ال تقوم هلم قومة ،وال تظهر
مهنم ثورة .يبدو أن األسود يريد حتطمي لك من يعانده ،قبل
اذلهاب للغرب.
السواد يكرهون األسود ،لتحالفه مع الفرجنة ،حىت
اكن أهايل ّ
إاهنم زمعوا يل إن الكثري من ش باهبم ذهب حملاربته يف الزرقاء.
اكن بغضهم للفرجنة رهيبا ،ألاهنم يزنلون عىل شواطهئم بسفهنم،
فيعملون القتل والهنب اب،لقرى مث يسوقون البرش عبيدا،
وجيلبون بعض احليواانت الفريدة ،لزتين هبا قصور ملوكهم يف
الشامل البعيدة وراء البحار .ال أدري هل هذا من فعل الفرجنة
أم القراصنة ،لكن الفرجنة ،عامة ،حيتقرون غريمه من البرش ،ال
488
حيرتمون فهيم إال اليد اليت حتمل س يفا! يرون يف أنفسهم أاهنم
خري البرش ،وأمجلهم ويش هبون أحصاب البرشة السوداء ابلقرود!
لعمري إن القرد ليخجل أن حيمل عقال متغطرسا ،أو قلبا قاس يا
اكلفرجنة!
مع تقدمنا يف الطريق ،اكن قليب خيفق القرتاب رحي بالدان.
لكين وجدت رفايق يف شغل عين ،فتميور مع الشهابية وابهنا
عبد هللا قد أصبحوا أرسة واحدة ،تتقارب من بعضها ،وأبدو
بيهنم غريبا! فاعزتلهتم جتاه امحلالني ،أحتدث وأتبادل األخبار .اكنوا
لطفاء ودودين ،حكوا يل حاكايت لطيفة عن املكل صفوان
مكل اجلان ،اذلي مات عن غري وريث ،فوضع ثروته يف قلب
جبل ،فال جيد أحد مدخل الكزن ،إال إن اكن فقريا حباجة إىل
املال ،لكنه ليس بطامع يبحث عن الكنوز .فإذا دخل وأخذ من
املال قدر حاجته ،خرج غامنا .وإذا أصابه اجلشع ،ومجع أكرث من
حاجته ،أغلقت عليه األبواب ،حفبس بني خصور اجلبل إىل يوم
ادلين!
وحكوا عن احلورية امجليةل ،اليت تظهر للش باب يف شلك
جعوز قبيحة ،تطلب املساعدة .مفن يساعدها ،تكرمه وتزوجه
إحدى بناهتا امجليالت ،وإن نفر مهنا ،أتته مرة أخرى ،يف
شلكها احلسن ،تطلب املساعدة .فإن أرص الرجل عىل النفور،
قالت هل من حتجر قلبه حتجر جسده فميسخ جحرا يف ساعته.
489
ومن ساعدها ،قالت هل من جيري وراء األشاكل هو أقبح
الناس ،فمتسخ وهجه لوجه قرد!
وعندما رأيت مرة قنفذا ،أخربوين إن القنافذ إمنا أتت من
نسل املكل شواكن ،اذلي اكن يؤذي أههل ،ويظمل شعبه ،فدعا
عليه أحد األولياء ،مفسخ لفأر ذي شوك ،مفن اكن يبغي جندة
مليكه مهنم ،جرحت يده فينبذه!
وغري هذا من حاكايت السمر ،اليت تبادلوها معي .لكن أغلب
الليايل اكنوا يتفاخرون بصيدمه لوحوش األرض ،أو خداعهم
للفرجنة املتكربين!
وصلنا أخري مليناء سلوطة .وهو ميناء كبري للتهارة عرب الهنر،
بين منذ قدمي الزمن ،يف عهد املكل الصاحل املنصور ،ومازالت
آاثر العز والعظمة ابقية فيه ،رمغ إن احلال تدهور به ،مفا عاد
إال مأوى للصيادين ،اذلين يؤجرون مراكهبم العتيقة لتهار اإلبل،
يف مومس جتارهتا قبيل احلج.
أخذان نبحث عن سفينة تقلنا ،لكن أغلب املراكب مل تقبلنا.
اكن مومس احلج عىل وشك البدء ،ولك املراكب قد اتفقت مع
التهار عىل نقلها ،يريدون التنافس عىل أوائل الرعاة ،اذلين
يكونون األشد كرما ،واألكرث ثرا ًء .فأول من يصل للحهاز
ببضاعته ،يبيع أفضل من غريه .وتعجبت كيف يقطعون تكل
490
الرحةل اخلطرية ،معرضني أنفسهم خلطر قطاع الطرق ،واهنب
األمراء ،وغريها .فرد عيل أحد الصيادين بلكمة أجعبتين:
"هذا هو اهنر حياهتم .والهنر يشق طريقه إىل املصب ،ال
يس تطيع أحد إيقافه حىت اجلبال!"
اكن علينا أن جنزل العطاء مبا يكفي ،ل ي جند مركبا تقلنا ،لكننا
اآلن يف أراض تدين لألسود ابلطاعة ،حىت ولو مل تكن يف
قبضته بعد .ذلا اكن علينا أن نبعد عنا الش هبات ،فزمع تميور إننا
جتار ،أغلقت أمامنا الزرقاء ،ونريد نقل بعض العطور واألمقشة
رسيعا إىل العامصة ،لنلحق مبومس الزواج يف عيد األحضى!
ول ي أحمك احليةل ،أتيت ببعض الصناديق احملمكة ،مفلئهتا
ابحلىص والرتاب ،ووضعت فوقها طبقة رقيقة من األمقشة
السواد ،مث أحمكت واللطائف ،اليت اشرتيهتا من األحباش و ّ
غلقها .والطريف ،إن تميور وحصبه ظنوا أاهنا بضائع حقيقية،
بعض الغيالن امحلر أعطوها يل رسا ،بعد وصولنا .ووجدت أثرا
طيبا لهذا الومه ،اذلي أشعرمه بوجود حرس هلم يف الطريق
يراقهبم ،فرتكهتم يف ومههم!
وهبذه القافةل املزيفة ،اس تأجران مركبا كبريا ذا رشاعني ،ليصل
بنا إىل احلارضة ،متجنبني جيوش األسود ،وقرى بين سلمي
احملرتقة.
491
وأخريا اعتلينا الهنر ،الهنر العظمي ،اذلي قطعت عنا مياهه
ظلام! مك اش تقت هل!
واألمه ،إنين أخريا يف أرض أعرفها! وأقرتب حثيثا من اهناية
الرحةل الطويةل.
وأرض اجلنوب طيبة ،رمغ وعورهتا ،وهبا الكثري من العشائر
والقبائل ،اليت لها لكمة مسموعة فهيا .ويه عشائر طيبة ،تعيش
جنبا جلنب مع الفالحني ،ال تفرض علهيم بطشها كام تفعل قبائل
بين األسود يف الرشق مثال .لكهنم يعزتون بأنفسهم ،وبأصوهلم
بفخر ال يقل عن بين األسود ،ذلا خرجت مهنم ثورات
وحروب كثرية ضد القائد األسود ،لكام حاول أن يبسط سلطانه
علهيم .عىل أن تفككهم وتشتهتم يف األرض أضعفهم .كام إن ثالثة
من أمراء جيشه أذاقومه ،وأهايل اجلنوب مجيعا ،أهوالا ورعبا،
وأوهلم لكبه املسمى النعامن ابن املرصفي .اخلادم املطيع ،اذلي
أهدر دم وادله طمعا يف زينة ادلنيا .مل أجرؤ عىل أن أحتدث
بدعوة للوريث ،أو نقد يف األسود ،فال آمن أن خوف الناس
منه جيعلهم يغدرون بنا .فاخلوف ميسخ األرواح ،ويقلب الطيبة
رشا ،والكرم غدرا .فقط حيامن نصل لساوة ،ويأمننا أهلها،
سنس تطيع ادلعوة للحرب ،وتتوجي املكل اجلديد .وحيامن ينرصان
-بإذن هللا -أمراء الغرب ،س يلتف حولنا أفراد اجلنوب
والرشق ولك البالد بإذن هللا.
492
مضت بنا السفينة حبذر شديد ،لكام اقرتبنا من ماكن عىل
ضفافه كتل من غاب أو بوص ،يطلق الرابن العنان لرسعته
خش ية من اللصوص الاكمنني .واكن يتحرك دوما يف الظالم
احلاكل ،أو الظهرية القاتةل ،ألاهنام أكرث أمنا من بقية اليوم.
وبدا علينا تربم من هذا احلال ،فقال:
"فقط لنتهاوز مدينة أرجي ،وخنرج من اجلنوب األوسط إىل
اجلنوب األدىن ،حيث سلطان القائد األسود ،فس نأمن من
اللصوص".
سألته:
"أحتب األسود ملاك أاها الرجل الطيب؟"
قال:
"ال اهم أن أحبه أو أكرهه ،قد يكون ظمل وقتل واهنب ،لكن
ابلنس بة يل لقد أعاد األمن لنصف الهنر ،وطهره من اللصوص.
ال أحب ظلمه ،لكين آنس لسلطانه وأحمتي به!"
حاورته:
"يزمعون إن آخر أمراء املكل س يعود للبالد حملاربة األسود
وتوحيدها .فلو خريت بيهنام ،مفن ختتار؟"
قال الرجل ببساطة:
493
"وما شأين بتنازع امللوك؟ كام قلت كل ،ال اهمين إال أن آمن
عىل بييت ورزيق .األسود طهر نصف الهنر ،وهو مل ميكل البالد
بعد مفن أعرفه خري ممن ال أعرفه!"
حيهنا قلت بصوت عال:
"إذن فأنت ترى أن الوريث س يكون أفضل من األسود،
فقط حني يطهر النصف الثاين من الهنر؟ رمغ إن هممة تطهري
اكمل الهنر أصعب ،ألنك لن تكتفي بطرد اللصوص للجنوب
قليال ،وإمنا جيب أن تسحقهم حسقا".
وحني أىت الليل والنوم ،اقرتب مين تميور يسألين عام قصدته
حيهنا.
قلت هل:
"موالي املكل ،إمنا أردت أن أذكرك بأصل األمور ومبدأها .مل
خيلق الناس ليطيعوا امللوك ،وإمنا اختريت امللوك لتسري أمور
الناس .ما حيتاجه البسطاء يف هذه البدل ،ليس لكامت ودعوات.
وحرب األسود ليست إال خطوة أوىل ،س تكون رشا ال خريا
إن مل تتبعها اخلطوات األشق .أردت أن أذكر نفيس ،وأذكرك
معي ،بأن األمن والرزق ،عند أغلب البسطاء ،يغنهيم عن
دعاوى امللوك وأنساهبم وزجياهتم امللتوية!"
مصت للحظات متفكرا ،مث قال:
494
"مل أطمع يف هذا املكل ،بل هو اذلي طمع يف ،وفرض عىل
جثيت فرضا! مل أغرت به ،وأرجو من نفيس الضعيفة أال تغرت به اي
زعمي الغيالن .أعاهدك أمام هللا إنين لن أكون للبالد ملاك ،وإمنا
للعباد خادما ،ولن أهنأ قبل رفع الظمل عن البالد ،ونرش األمن
يف ربوعها ،أو أهكل دون ذكل .بإذن هللا ،لو نرصان هللا ،فلن
أنىس البسطاء وحيواهتم يف طريقي".
ابتسمت وقلت:
"وهللا عىل ما نقول شهيد ،الفاحتة".
وقرأان الفاحتة عىل العهد ،مث ابغتين بقوهل:
"واآلن أين عهدك أنت؟"
قلت:
"أي عهد؟"
ظننته يريد مين أن أابيعه أو يشء كهذا ،لكنه أحفمين بقوهل:
"تذكريي حبال العباد اليوم أمره سهل ،وأان طريد مل ي كأمنا
هو جرمية تطلب ديم! أريد عهدك إن نرصان هللا ،واس تقر
املكل ،أن تذكرين مبا ذكرتين به اليوم ،حيامن أكون ابطشا ،قادرا،
خيىش الناس أن خيلصوا يل النصح ،طمعا أو رهبا! ترى هل
ميكل الغول األمحر جشاعة اكفية ،ليقول لكمة احلق يف وجه مكل
495
ابطش! بدون تكل اللكمة ،حىت أان ،ال آمن من نفيس عىل
نفيس! فأين عهدك اي غول؟"
عاهدته عىل ما طلب ،ويب وخز من تأنيب مضري! حقا قد
تكون الثورة عىل احلامك الظامل حمرمة بشدة ،حىت لتخرج عن
ذمة ادلين ،لكن أمر هللا بقول لكمة احلق ،ولو دفع مثهنا دما
يتناساه الناس جبنا! أفهمين طلب تميور كيف تكون الثورة
ابلس يف والقتل ،مث الفرار ،أيرس كثريا من املواهجة ابللكمة
الشهاعة ،وحتمل عواقهبا! أظنه س يكون ملاك صاحلا تميور هذا.
قد ال يس تطيع الوفاء بعهده اكمال ،كام قد ال أس تطيع الوفاء
بعهدي اكمال ،لكن عىل أي حال مل خيلق بعد األنبياء برشا
حيسن لك حمكه! لهذا اكن املكل العادل يف ظل هللا يوم
القيامة.
لكن ما شأين هبذا اآلن؟ كام قال تميور ،احلديث يف هذا األمر
سهل اليوم ،لكن قميته ال تنفع إال إن قيل بعد هزمية الطاغية .ال
أمكل اآلن إال أمال مراوغا ،أن تراتح بالدان ،اليت اكتوت كثريا
فاللهم أغهثا وانرصها.
أخريا الحت لنا مدينة األرجي قريبة ،وتنفس نا الصعداء ،فقد
انهتىى اجلزء الشاق من الرحةل ،بزمع الرابن .وقريبا نصل لطريق
القوافل جنوب العامصة ،فنعربه إىل ساوة ،وتنهتىي رحلتنا.
496
لكن القدر خيفي لنا مفاجآت حىت اللحظات األخرية! مفن وراء
هويس قدمي ،اكن عىل مف ترعة جهرت ،خرجت ثالثة زوارق
للصوص أحمكوا حصار املركب ،وصعدوا علهيا شاهرين أسلحة
علهيا لون ادلم ،اذلي اختفى من وجوه البحارة املساكني،
واش هتت هل مياه الهنر املرتقب! فلصوص الهنر ال يرتكون وراءمه
أحياء ،حىت ال يعود هلم مطالب ابلثأر .بدا إننا س نقتل عىل
أعتاب الهناية بيد سارقة!
497
()53
498
هذه ملاك قواي ،لنرش فهيا األمن ،وأدب الفرجنة ،وعصم احلهاج
من األعراب .ولكنه التخاذل أعاذان هللا من رشوره)
ورد العريف مباهيا( :ها مه أوالد األسود معي ،عىس هللا أن
خيرج من بني ظهرانهيم من يفعلها).
وهنا انتصبت قاميت خفرا ،لتحطمها النظرة املس تخفة من
الش يخ اجلليل.
عىل حداثة ذهين وفكري وقهتا ،لكين عقدت العزم ،اذلي مل
يلن حىت اليوم ،عىل أن أوحد بالدان ،وأجعلها قوية ابطشة،
ترهب أعداءها.
وهنا انكببت من صغري عىل تتبع حاكايت الرسل املكرمني،
وامللوك األولني ،أنظر كيف اكن سعهيم ،وما يه طرق جناهحم.
وملا ازدادت فطنيت ،حبثت أكرث يف أس باب هزمية العظامء،
وضياع رحيهم .فقد رأيت بعيين كيف اجمتع أليب لك أس باب
القوة ،لكن أس باب الفشل غلبته يف الهناية.
أدركت عدة أش ياء ،وضعهتا نصب عيين ،ونصحت هبا لك من
حويل.
أوال :إن املطالب العظمية حتتاج لبذل أعظم ،والبد من
التضحية املؤملة يف سبيلها.
اثنيا :إن النرص ال يأيت لفرد أبدا! البد من جامعة تؤيد وتنارص.
499
اثلثا :إن العصبية ال تنرص سبيل وحدة قط! لنئ غلبت قبيةل
عىل غريها ،أو عشرية عىل ما دواهنا ،فإن احلرب س تظل جساال
ال ينفك! البد أن تكون امجلاعة املنارصة تعتنق فكرا ال دما.
تنرص لكمة ال قرىب .البد من دعوة جتمع الناس حويل ،ال هتمت
بقرابة أو قبيةل .فقط هو الكفء اجملاهد من يليق به أن يتبعين.
وحامت ،فاملامليك اذلين يتبعون املال ،أدىن ماكنة من أن أتركهم
هبذه البالد أصال!
فهكذا غلبت العرب العجم ،ودانت ادلول لس يوف اإلسالم
املطهرة ،وغلبت العجم العرب حيامن تفرقوا ،ونسوا نرصة ادلعوة،
لغلبة اإلثرة عىل البذل ،وتشتت امجلاعة ،والانتصار للعصبية.
ونظرت أيضا ،فوجدت إن حال البالد لن يس تقمي يل إال إذا
اكن جييش ال أمري به غريي ،ولن يس تقمي بعدي إال إذا أعددت
من ورايئ رجاال يؤمنون بلكميت ،ويأمترون بأمري ،ويأخذون
عهدي أمانة يمكلواهنا من بعدي ،إذا أصابين املصيب.
واكن أول ما قابلين من بذل مؤمل ،هو أن أترك أهل القبيةل،
وأبث دعويت بني العوام .آمن بنرصيت فريق ،بدأت يف
جتهزيمه ،فلقيت األذى والسخرية من قويم ،وقطعوا عين املال
واملعونة ،واهنرين أيب عام سامه عبثا ،ومعن ساممه صعالياك.
لكن هذا البذل اكن هينا عيل .ما اش تد عيل نفيس حقا فيه،
هو اضطراري لسحق بعض من كنت أحهبم ،وتربيت يف كنفهم.
500
حقا املطالب العظمية تتطلب بذل أعظم .مك آملين أن اضطر
لقتل بعض من رؤوس بين األسود ،حيامن عارضوين!
وملا ازدادت قويت وبطيش ،وهتيأ يل مئات من األتباع
اخمللصني ،اذلين يتبعونين أيامن حللت ،ازدادت حاجيت للامل .وملا
اكن الناس مه هدف رحليت املؤملة ،لتوحيد البالد ،فإمنا أسعى
هذا السعي لصاحلهم ،اكن علهيم أال يكتفوا حبصد الامثر ،فقررت
أن أرشكهم بنصيهبم يف البذل ،ال أقول ابدلم والعرق كام أفعل
بنفيس وأهيل ،وإمنا مبا هو أدىن من هذا ،ابملال اليسري.
لكن وادلي ،اذلي مل ير إال بين األسود ،وحقوق بين األسود،
عيل وهاج ،حىت وتناىس بقية البرش يف مملكتنا املعذبة ،اثر ّ
طردين من عنده .وإين كنت راحل حنو اجملد من قبل أن
يفعلها ،لكهنا األقدار اليت تقسم أال جتزي إال من يبتىل.
وجدت يف العامصة أمايم حفنة من امحلقى املنتفعني ،اذلين
منحهتم فوىض البالد ماكس با مجة .لك هؤالء ،اذلين مل اهمهم
يوما أنني الشعب ،ومعاانته ،وافتقاده ألبسط حقوقه من أمن
ومعيشة ،اكنوا حيولون بيين وبني الهدف األمسى .متسلحني مبا
ورثوه من أعباء اخلراب ،اذلي أقامه امللوك السابقني ،مبعونة
األهبال والغيالن والفرجنة والقراصنة .حقا مك أنت عظمية اي
أميت ،فبعد لك تكل الطعنات والهنبات ،مازلت حية صامدة.
501
فقط حتتاجني يدي أن متد كل ،لتخرجك معالقا اثئرا ،من
أسفل رماد الطغاة.
كرهت بشدة أولئك املنتفعني اللصوص .لكن اكن عيل أن
أصرب علهيم ،قبل أن أؤدهبم .وهنا اكن عيل بذل جديد ،فقد
تذكرت سري بعض العظامء ،كس يف ابن ذي يزن ،وكيف
اس تعانوا ابحلاكم األجانب حىت حني ،واس تقووا هبم لفرض
الطاعة يف بالدمه .أدركت أنين إن بدأت معاندا للجميع،
فعيل أن أفرق بيهنم ،حبلف مع هذا ،وحرب مع فس هيلكونينّ .
ذاك ،حىت ختلص يل البالد ،ال بأس أن أحضي ببعض املدن
والثغور للفرجنة ،أو أن أشارك يف حروب مع املامليك ،يقتل فهيا
األبرايء .فتكل املدن س تفقد حامت ،وأولئك األبرايء س هيلكون
غيةل أو جوعا .خري لهذا وذاك أن يكون يف سبيل توحيد
البالد ،وإحياهئا ،عىل أن يكون يف سبيل إطعام أفواه جشعة،
ال تش بع.
وقد أثبت الزمن حسن بصرييت ،إذ مل متض عيل أعوام قليةل
يف العامصة ،وعىل حتالفي املكروه مع اجلبيل اجلشع ،إال وقد
طهرت املدينة من أذانب امحلقى واللصوص ،ووحدهتا يف
قبضيت الطاهرة اآلمنة.
وإن يوم حلفايئ الفرجنة لقريب بإذن هللا! فقط بعد أن أمت
تطهري بالدان من رجس األمراء واملامليك.
502
ولكن لكام ظننت أنين قد قطعت الشوط األطول ،ظهر يل
أنه مازالت األخطار حمدقة ،واألعداء مرتبصة.
مل أكد أمت توحيد العامصة ،حىت بزغت تكل ادلعوة املزجعة.
دعوة لتوحيد البالد ،عىل مثل ما أرغب ،حتت يد مكل واحد
قوي .لكنه اكن رجال كذواب ،يزمع إنه وريث املكل ،ويطالب
حبق آابئه! أي حق هذا ألي آابء؟ اذلين ضيعوا البدل ابجلور
والتخاذل؟
لو إنين أثق أن هذا الرجل سيس تطيع أن يفي بنصف عهدي،
التبعته .لكن هذا الوحق مل يكتف جبمع العوام وادلهامء ،وحشد
اجملاذيب ،ليسلب هبم القرى الصغرية ،وإمنا اندفع عىل خشيص
تقريعا وس با .جعل دعوته احلقرية حتذير الناس من ظلمي! نفاق
مفضوح! هذا احلقري مض هل بعض األرجاس ،اليت طهرت
العامصة مهنا ،واكن يتودد هلم بش متي .أي عاقل سريى أن لك
من قتلته ،منذ أتيت للعامصة حىت ثورة الاكذب ،مبن فهيم
مماليك أعدايئ ،أقل من عدد األبرايء اذلين ذحبوا بال ذنب
سوى أن وجدوا يف ماكن يتصارع عليه أمريان ،خالل عام
واحد.
نعم أان قتلت الكثريين .لكين أنقذت ببذل أرواهحم أعدادا أكرب.
إاهنا الرضيبة الغالية ،اليت جيب عىل الشعوب دفعها يف طريقها
للمهد.
503
حسقت هذا الكذوب حسقا .هزمت جيشه املكون من رشاذم
أعدايئ ،ومن حيسدونين ،وتألكهم الغرية من نرص هللا يل .لكن
بيامن تشتت عنه املامليك ،واجلنود ،واحللفاء ،بقي العوام وادلهامء
اثبتني ،يناجزونين عاما أو اثنني .من اتبعوا املال أو السلطان
حسقهتم ،رمغ قوهتم يف رضبة واحدة .لكن من آمنوا ابللكمة،
مصدوا وعادوا للكر بعد الهزمية ،مل تغلهبم إال اللكمة عندما
كشفت هلم حقيقة الكذبة .اكن هذا درسا صارما يل .علمت
كيف يتحول اإلنسان احلقري اذلليل ،جلندي صامد ،فقط ألنه
آمن بقائده ،ويتبعه عن إخالص .لو وجدت يف جنودي
إخالص كهذا وأان همزوم ،ملا جنح العامل يف إيقايف .لكن أىن يل
أن أدخل لقلوهبم ،وأعرف هل يتبعونين افتناان ،أم إمياان؟
عيل.
وهنا علمت مدى خطر الغرب ّ
البالد مثانية أقالمي :ثالثة جنوبية ،وشامل ورشق ،والثغر
الصغري وما يتبعه ،واإلقلمي الغريب ،واحلارضة.
ادلعي
اكن نفوذي بعد سقوط العامصة ،وانتصاري عىل ّ
الاكذب ،يمتدد يف إقلمي الشامل ،وأقالمي اجلنوب برسعة مذهةل.
أما أهل الرشق ،فقبائل يسهل إرضاءها ،وجعلها إما أن
تتحالف معي ،أو تكفين رشها .فبين األسود أقسموا يل رسا
عىل الطاعة من بعد أيب .وبين سلمي حالفوين ،حىت سأمت من
تفاخرمه ومضايقهتم للتهار ،فأدبت عشائرمه.
504
أصبح ال يعوق طريقي إال قراصنة الزرقاء ،اذلين تضخم نفوذمه
وقوهتم ،وأقىص أقالمي اجلنوب ،بكرثة ساكاهنا ،وحتالف عشائرها
السواد التسعة ،والغرب اذلي اكن بعيدا عن يدي مبامع ملوك ّ
يفصلنا من حصراء.
فأما الزرقاء ،فلن تنفعين وأان بال عرش .بعهتا للفرجنة ،مقابل
أن ينرصوين .خضوع امليناء للفرجنة أرشف من بقاهئا بؤرة فساد
يف األرض ،تبخ سام فامي حولها .لو كنت أمكل أسطوال يقدر
عىل تأديب القراصنة ،ملا احتجت للفرجنة .عىل أي حال،
فالزرقاء ليست إال جزء صغري من البالد ،وقد ضاع مهنا
ابلفعل منذ وقت طويل .ومن يدري ،فرمبا أس تطيع اس تعادهتا
يف املس تقبل من الفرجنة.
وأما حتالف بعض عشائر اجلنوب مع ملوك السواد ،فقد اكن
أمره يسريا .ملوك السواد أنفسهم تربءوا من لك أعدايئ ،جملرد
إنين طهرت طرق التهارة والهنر من اللصوص! وجدوا إنين
أمحي جتارهتم ،فتخلوا عن بين سلمي ،وتركوين أحرقهم بسهوةل.
وبيشء من جمامةل ورشوة ،وبعض من قوة وترهيب ،س يخضع
يل اجلنوب .فقط عندما أمكل عددا اكفيا من اجلند لوضع حامية
يف لك مدينة ،فاس تغين عن حلفايئ من أمرائه.
مك كنت أمهل الغرب ،وأس هتني بشأنه! لكن درس الوريث
أصابين ابلفزع!
505
ملاذا ختىش الغرب أاها املغوار؟ أختىش حصراء يسكهنا
فالحون!
هكذا يسألين أعواين .محقى ال يقميّون األمور.
الغرب ساكنه ثالثة .فالحون ،ومماليك وأثرايء ،وهاربون.
الهاربون ،س هيربون مرة أخرى ملا وراء البالد .بعضهم قد يقف
وحياربين ،لكين ال أخشامه .من هرب مرة س هيرب الثانية.
أما املامليك ،فهم عىل كرثهتم مشتتون كعادهتم .ال أخىش مهنم
حراب إال قليال .لكهنم يكزنون أنفسهم يف قالع حصينة ،وتكل
القالع اليت مل تتعرض لرضابت فرجنة أو أهبال ،أو حىت
حروب عنيفة مع األمراء.
ألدمر تكل القالع أحتاج ألسلحة وخربة ال أملكها .وحرب
القالع طويةل .قالع مل حترق من قبل ،كقالع الرشق والشامل،
أو تقلب لقصور مرفهة ،كقالع أمراء الوسط واجلنوب .ولو
اس تعنت ابألهبال وأهل السور العيل ،فسأجد التحريض من
الصنف الثالث.
أختىش الفالحني اي موالي؟ وأي فالحني! أولئك اذلين
يعيشون عىل مطر وبرئ!
506
الغرب أفقر األقالمي الامثنية .وهذا الفقر جلب هل هدو ًء وأمنا
جعهل حقا أغىن األقالمي! وفالحوه ممترسون عىل احلرب ،بسبب
نزاعهم مع األمراء.
اكن هذا هو ادلرس ،اذلي تعلمته من الوريث الاكذب.
الفالح احلقري ال يس هتان به إن حارب مؤمنا بقضيته .لو دخلت
الغرب غازاي مع حلفاء يكرههم الناس ،اكألهبال والفرجنة،
فس تحرض تكل الفرئان ،املتحصنة يف قالعها ،الفالحني ّ
عيل،
كام حرض الاكذب فاليح الشامل ضدي .س يدعواهنم للجهاد
ضدي .وحرهبم لن تكون سهةل ،لكرثة خربهتم ،وتباعد قرامه،
وغلبة الصحراء املرهقة جلييش بني أراضهيم.
اكن جيب أن أغزو القلوب قبل البيوت .جيب أن أكون ملاك
متوجا من قبل أن أخطو خطوة واحدة يف الغرب .جيب أن
يرهبين الناس ،ويهنزموا قبل أن أحارهبم! وجيب أن خيضع لك
شرب يف اجلنوب يل ،حىت ال يثور أثناء انشغايل يف حصار
القالع الطويل .لهذا ،اكن الغرب جيربين عىل أن يكون آخر
حريب.
كدت أن أفعلها لوال أيب!
لكام ظننت أنين اقرتبت من الظفر ،ظهرت عقبة ،وتكل املرة
اكن أيب واضعها.
507
هذا احلقود ،اذلي نيس إنين ابنه ،ونيس إن هذه بالده،
وخيش عىل نفوذ قبيةل ،وعصبية دم ،حفرض أمراء الغرب
ضدي! أخرتين حركته احلقرية تكل عامني عىل األقل! اكن جيب
أن انتظر حىت تصبح قبائل بين األسود يف سلطاين بعد موته،
وكنت مضطرا للصرب عىل غزو الزرقاء ،وهمادنة قراصنهتا،
ليقطعوا طريق الوريث املزعوم .فلست يف حاجة لوريث
جديد ،يلتف الناس حوهل كام املرة األوىل .واضطررت لتدمري
الثغر الكبري أوال ،كدرس ألمراء الغرب ،وألختلص من نفوذ
الرجل القوي فيه ،ابن عامر ،مث أنسحب ألول مرة من مدينة
فتحهتا ،ألنين ال أس تطيع الاحتفاظ هبا .تبا هل من وادل! ومك
معيقة خيانته لهذا الوطن.
لكين اس تغللت الوقت فامي هو خري ،ختلصت من نفوذ بين
سلمي يف اجلنوب ،حتالفت مع عدد من املاكرين يف الرشق،
لتسهيل غزو األهبال للثغر الصغري ،ألنين احتاهجم بقوهتم يف
حرب الغرب ،بيامن حرضت القراصنة ،وقويت دفاعاهتم ،أثناء
جمامليت األوىل هلم ،ليكونوا شوكة يف حلق الفرجنة.
اكنت حرب الزرقاء أكرب جناحايت .مك آذيت الفرجنة هبا! جعلهتم
خدما يل ،يدمرون القراصنة ،ولكن بعد أن تدمرت قوهتم،
السواد دلاخل
وأسطوهلم املزجع! رسبت املقاتلني واجملاهدين من ّ
املدينة ،وأبقيهتا مغلقة ،أمنع من فهيا من الهروب ،بزمع احلصار،
ألجربمه عىل الصمود داخلها! كنت أمنح الفرجنة الزرقاء ،وأبدأ
508
أوىل خطوات سلهبا مهنم بتدمري أسطوهلم! اكن رشطي صارما:
"لو جنت سفينة قراصنة واحدة ،لتؤذي جحايج يف املس تقبل،
فأان يف حل من عهدمك ،بيامن اكن فعيل ساحقا ،إذ مل أترك للفرجنة
يف املدينة إال الرماد! دفعوا مثنا ،لبعض احلطام ،آالفا من
جنودمه ،وعرشات من سفهنم ،وكنت وبالدي الراحبني
الوحيدين يف املعركة!"
مث مات وادلي ،يش يع البعض إن بعضا من أحبايئ جعلوا
بهنايته ،ولو إن الرجل املعاند اكن أصال عىل حافة القرب.
اليوم أصبح بين األسود وس يوفهم رهن إشارة مين أخريا.
واألهبال والفرجنة يسريون معي يف جييش ،وقد أعددت هلم
مفاجأة عظمية ،أشد من مفاجأة الزرقاء.
اليوم أحمو خطااي أيب ،وخطااي امللوك قبيل يف مسرييت للغرب.
اليوم يوم وحدتك اي وطين ،فافرح واس تقبلين.
فقط خطوات قليةل ،ويصل اجملد لنا.
فقط خطوات قليةل.
509
()54
510
أرسعت حنو قاع املركب ،حيث ختزن املؤن ،فقبضت قبضة
من دقيق ،بللهتا ابملاء ،فأصبحت كرة صغرية من جعني ،حبثت
رسيعا عن يشء أمحر أصبغها به ،فمل أجد إال أن أجرح نفيس
وأصبغها بدمايئ .وجريت ملتاع تميور ،فاس تخرجت هذا
اخلطاب املزين اذلي تعلوه أختام اخلليفة ،وحامك طرابل ،وقاضهيا
فلففته ،ووضعت كرة العهني امحلراء عليه ،كأمنا يه خمت هل،
ودعوت هللا أن ينخدع هبا.
صعدت اثنية ،فوجدت اجلنود يس تعدون لتفتيش متاعنا،
فصحت هبم:
"انتظروا!"
نظروا يل متحفزين فقلت متعبا:
"هذه رساةل خمتومة كام ترون ،هل ترى عىل ظهرها هذا
اخلمت املل ي أاها القائد؟ إاهنا رساةل من مكل األحباش ،للقائد
األسود موالان املكل املغوار .كنا ذاهبني هل هبدااي ،لوال أن رسقها
اللصوص منا عند الهويس السابق".
نظر يل قائد اجلند ذو الزي السود بتحفز ،مث قال:
"لن نرتك اللصوص اهنئون ويرتعون يف اهنران .امضوا عىل بركة
هللا ،وبإذنه سننال مهنم ،ونعيد بضاعتمك".
511
وتركوان منر ،بيامن مجعوا بعضهم الس تعادة هدااي قائدمه املزعومة!
وتركوا معنا بعض احلرس حىت نصل للعامصة.
تسللنا أثناء الليل هاربني من السفينة س باحة ،حىت وصلنا
للشاطئ ،حممتني ابلغاب والبوص ،من مطاردة دؤوب قام هبا
جنود األسود لنا.
وبعد مغامرة شاقة ،غلهبا الطني ،اذلي أاثر جنون الشهابية،
األمرية اليت عاشت حياهتا يف القصور ،التحقنا أخريا بقافةل
ذاهبة لساو،ة فإذا بنا نقع يف أيدي (شهاب الرشكيس).
اكن (شهاب الرشكيس) حامك مدينة ساوة ،حانقا ّ
عيل منذ أول
مرة زمعت فهيا إنين زعمي الغيالن ،واكن ممن ميالئون األسود،
ومدينته ،اليت ليست إال حصن كبري ،حيمي الطريق املؤدي
للواحات اخلصبة من غارات األعراب ،تتحمك يف الطريق ،اذلي
يبدأ من بعد جنوب العامصة بقليل ،حىت الواحات ،فشدد
مراقبته بأمر س يده ل،ه وإذا به يتعرفين ،فأمسك يب!
اضطررت ألن أزمع إنين وحدي ،تركت الشهابية وتميور وعبد
هللا مع التهار يمكلون مسريهتم لساوة ،وسلمت نفيس بال قتال
جلند األمري.
اقتادوين لسجن يف قعر القلعة ،حتت حراسة مشددة ،إىل أن
يتدبر أمر إرسايل لس يده .اكن األمر عىل ما يبدو مرباك ،ألن
األسود يظن أنين قتلت .وفهمت من أحاديث اجلنود أن حسام
512
األسود يظهنا مؤامرة عليه للطعن يف إخالصه للقائد األسود.
فبدوت يف جسين مشلكة ،ال يعرف الرشكيس لها حال.
لكن احلل أىت رمغ أنفه! لقد وصل املكل ساملا إىل ساوة،
واثرت ،واثرت خلفها لك البالد!
ادلعوة اليت انتظرها الناس طويال ،بعدما برش هبا ادلراويش،
قد حتققت ،فأتوا من لك جفاج األرض لينرصوه .ادلعوة للجهاد
ضد الطغاة ،وتوحيد البالد حتت ظل مكل واحد ،يطرد مهنا
أعداء ادلين من الفرجنة واألهبال قد تأججت .جفرح سقوط
الزرقاء ،والثغر الصغري قد خب صديده يف وجوه أعوان األسود
أخريا ،ليطهر بدلان من ّمحاه.
أخرجين الرشكيس من جسين معززا مكرما ،وأعلن جبنب إنه
منضم للمكل!
وذهبت لساوة ،تس بقين األخبار عن إن األسود مجع جيشا
عظامي بال مثيل ،وسيسري حنو واحات ساوة مدمرا لك أمري
يقف يف طريقه ،حىت يصل لرأس املكل.
لقد بدأت احلرب املطهرة ،اليت سعيت لها طويال.
أخريا...أخريا س نحرر بالدان.
فقط لنصرب قليال حىت نتنسم احلرية.
فقط لنصرب قليال.
513
()55
( 1 -55فـقــراء )
يقول عبد الشهيد ابن مسعان ،آخر الغيالن:
"دخلت ساوة دخول الفاحتني .ووجدت جملس احلرب منعقدا
فهيا بزعامة الشهابية ،اكنت ،مبا لها من خربة يف حمك طرابل ،قد
تولت زمام األمر ،للسري يف الاجتاه الصحيح .فأرسلت الرسل
للك ماكن يف البالد ،تطلب البيعة للمكل اجلديد .أرسلت
رسال حىت لبين األسود ،وللقائد األسود نفسه!
وأتت الوفود تلو الوفود ،من أهال فقراء ،وصيادين معوزين،
وحماربني ترشذموا عن ساداهتم ،يس تجيبون لنا.
اكن ظهوري يف درعي األمحر جاذاب لآلالف من البسطاء.
حفاكية الغول األمحر ،حامل مصيب الفويل ،املنصور بأمر هللا،
قد تركت أثرا معيقا فمين ظلمهم القائد األسود.
514
لكين كنت أدرك أن لك هذا زبد ،يذهب جفاء .لقد نرص
مثل هؤالء الوريث الاكذب ،فمل ميلكوا أمام القائد األسود إال
أن يذحبوا اكلنعاج.
اكن جيب أن نس تعني ابألمراء ،اذلين بدأ هبم األمر ،وإلهيم
اهنايته .جتاذبت مع أطراف جملس احلرب احلديث ،واس تقرران
عىل أن ندعو لك زعامء الغرب مرة أخرى ،يف قرص ابن
العبديل .وأرصت الشهابية عىل أن تضع يف رساةل ادلعوة هتديدا
صارما ملن يتخلف ،ولو إنين أظن أن هذا لن جيدي ،مفن
يرغب يف نفاق األسود ،س يأتينا هو اآلخر ،حىت يتحسس
األخبار ،لكهنا ردت بأنه عىل املكل أال يرتك شيئا للظنون،
فعليه أن يأخذ بلك األس باب.
وأىت األمراء همرعني لهذا امجلع بال استبطاء ،قد ظنوا أن املكل
واألقالمي توزع غنمية فيه من قبل أن تكسب! مل أجد من بيهنم
سائال ،أو مشكاك يف أمر الوريث ،فقط اكنوا يسألون عن
العطااي ،والوالايت اليت س متنح هلم! حىت أصابين الضيق ،فمل
أحمتل ،واندفعت صارخا بيامن يتشاجر املركون ابن آسف مع
قلبهك ادلمرييل عىل مدينة رسبة ،وهتفت:
"أتعلمون من أان؟"
قالوا بأصوات مرجتفة:
"زعمي الغيالن امحلر".
515
قلت:
"وأتعلمون من هذا؟" مشريا إىل تميور.
ردوا:
"ملكنا ووارث بالدان".
قلت:
"أين بيعتمك؟ أتقسمون هل عىل الطاعة؟"
فردوا فورا:
"نقسم".
وهو قسم لو تعلمون خسيس! لقسم اللص أكرث وثوقا منه!
قلت مرصا :
"أتبايعونه عىل السمع والطاعة ،وعىل القتال دونه حىت يكون
غالبا؟"
ردوا بنعم.
فأمكلت:
"أتعلمون من عدوه؟"
"القائد األسود".
فقلت بغيظ:
516
"أس تحاربونه معنا؟"
ردوا ابس تخفاف:
"بىل!"
فقلت وقد أتيت لطلبيت أخريا:
"فأين جنودمك وسالحمك؟ ال أرى إال رشاذم ،بيامن جنودمك
مكنوزين يف قالع حتمي ما انهتبمتوه من قوت الفقراء ،أين
اجلنود اي أمراء الغرب؟ هل تظنون أن حرب األسود يسرية
لهذه ادلرجة؟ أتوزعون الغنامئ من قبل احلرب ،بيامن أسلحتمك
صدئت يف خمازاهنا؟ أين اجلنود اي أمراء املكل!"
وكأمنا أخذهتم عىل غرة! وأخذت يف جداهلم حلشد اجلنود
معنا ،فوافقوين بسهوةل تثري اإلحباط ،عهد كعهد األابلسة
خالفه وفاء!
517
( 2 -55وأمـراء! )
عدان ملعسكر احلرب يف ساوة مع من تبعنا ،وإذا بإحباطي
يتبدل أمال ،حيامن رأيت املشهد اجلديد .لقد مجعنا ،وهللا ،ما
يكفي للحرب بفضل هللا.
ثالثون ألفا من املامليك املدربني ،ما كنت أطمع من األمراء يف
أكرث من هذا ،رمغ إنين أعمل عمل اليقني أن قصورمه ختفي ضعف
هذا العد.
وانضم هلم ما يقرب من عرشة آالف من الرشاذمة اخملتلفة
األلوان ،بني جماذيب الفويل ،والفقراء ،والبسطاء .رمبا ال يكونوا
ابلقوة اليت يعمتد علهيا يف احلرب ،لكن وجودمه وعددمه قد
يصنع رهبة ما .وقد أثبتت الشهابية حسن الفطنة ،عندما أتت
هبؤالء حلفر اخلنادق ،وإعداد التحصينات لنس تفيد من أذرعهم
بأفضل ما ميكن.
لكن ظهر حشد اثلث.
ما يقرب من ألف ومخسامئة من اللصوص ،والههامة،
والعرابن ،اذلين ظنوا أن فرصة الهنب العظمية آتية ،فاحتشدوا
همددين ينتظرون وصول األسود ،ليسريوا معه ،ويغتمنون معه.
518
وقد أجرى لعاهبم ما تناقلته األلس نة عام احمتهل األسود من
كنوز ،حيامن اهنب مدينة الثغر الكبري ،مدمرا قصور أمراهئا.
ربضت جامعة املرتزقة املسامة أسود اجلبل عند آابر بين مر،
والتف حوهلم املئات من الغوغاء يف أايم قالئل .واضطرران
لالنتظار ،حىت أتتنا أنباء وصول طالئع حلفاء األسود للحارضة،
العيل أيضا .فأخذتمن األهبال ،والفرجنة ،وجنود من السور ّ
ألفا من خرية اجلنود ،وهامجت حشد اللصوص أثناء الليل،
فقتلهتم عن آخرمه ،مس تخلصا حسااب قدميا من الرعب ،اذلي
أذاقونيه يف الس نوات اخلالية ،ومنرشا فزعا جديدا من بطش
الغيالن امحلر.
وهنا أىت املزيد من األنصار لنا من لك البالد .فأىت زعمي خدام
الرضحي ،حامك زمام الش يخ عصفور ،بلك أنصاره وحلفائه يف
س تة آالف دفعة واحدة .ومن وراهئم ،ومعهم جامعات من
الرشق والشامل ،وكثري من أبناء عشائر بين سلمي ،اذلين غدر
هبم األسود من قبل .اكنت أعدادان تتضاعف ،حىت زاد األمل ملا
يش به اليقني.
وبقى علينا الرتبص لرنى خطوة العدو التالية.
اكن أمام األسود طريقني لغزو الغرب الشاسع .إما أن يسري
عرب الساحل ،لهيامجنا .وهو طريق اخرتقه من قبل بنهاح ،كام
إن دفاعات الثغر الكبري قد تدمرت ،وأزحيت من أمامه .وإما
519
أن يلتف عرب اجلنوب ،مواهجا قلعة مدينة ساوة احلصينة .وهو
طريق حصراوي جاف ،لكن عبوره من املمكن.
كنا مرتبصني يف واحات ساوة ،حتوطنا حصراء من لك اجتاه
يصعب شقها .ورشقها ابلطبع وادي الضياع ،غري الصاحل
للعبور ،ذلا اكن قلقنا من غزو يف اجلنوب حيتاج لصمود قلعة
ساوة ،أو جهوم عىل املدن والقرى املرتكزة يف الشامل ،قرب
الساحل ويه ،عىل كرثة ساكاهنا ،دفاعاهتا مشتتة .فكران أن
البقاء يف ساوة يف املنتصف أفضل ،حىت تأتينا أنباء حترك جيش
األسود ،فنرسع ملالقاته يف أي من الاجتاهني.
لكنه تربص وانتظر .ال أعرف ما يدبره ،وملاذا مل يرسع برضب
رضبته .أظنه ينتظر حىت جيمتع لك أعدائه يف جيش واحد،
يتخلص منه برضبة واحدة ،ال يعاين بعدها من مترد .لكن تأخره
يزيدان قوة ،وقد أاثر عبد هللا بن محمد ويل العهد ،وابن الشهابية
قلقي ،وقال إن األسود ،حامت ،يدس بني األنصار القادمة لنا يف
الرشق جواسيسا.
وهنا انتقيت بعض الرجال اخمللصني ،من خدام الرضي،ح
وعامل ابن العبديل ،ليندسوا بني الصفوف يأتوين ابألخبار،
فأتتين األخبار املريبة برسعة الربق.
جامعة من املتطوعني أتوا من الثغر الصغري ،يرتاسلون مع بعض
األمراء؟
520
أهل الثغر الصغري أصال مل يهنضوا حملاربة األهبال ،حيامن سقط.
فقط حامكهم اخلانع ،وقف وقفة الرجال ،صامدا رافضا للتسلمي،
حماراب عن قرصه ،بعد أن ختىل جنوده عن أسوار املدينة،
ليقتل رش قتةل بعد دفاع مس متيت ،مل يزد عن الشهر.
521
( 3 -55وجواسيس! )
نزلت بنفيس متخفيا ،أنظر لهؤالء الرجال ،فإذا يب أراه
بشحمه ومحله ومكره! الشاطر عدانن نفسه! هذا امللعون
اخلبيث ،اذلي أكرث يل يف األذى ،ال يريد تريك يف حايل ،وأىت
برشه خلفي حىت هنا؟ كدت أن أجهم عليه فأقتهل ،لوال بقية من
حمكة.
ذهبت البن العبديل ،التاجر الرثي ،اذلي منحين كتاب
الغيالن ،وحيامن جد اجلد مجع لك رجاهل خلفنا ،ونصب لنفسه
خمية عظمية ،اكنت مس تقر قيادتنا .وأنفق من أمواهل عىل طعام
اجليش ،ومعاونة األهايل.
أخربته مبا حدث ،فدبر معي تدبريا .أىت ببعض من امخلور
الفاخرة ،وطلب مين أن أرسلها للشاطر ورجاهل ،زاعام إاهنا
هدية صداقة من األمري الرشكيس ،حامك مدينة ساوة .امشأززت
من أمر امخلر ،لكنه قال يل:
"يه اآلن سالح حنارب به عدوان!"
لو اكن الشاطر عدانن مدسوسا من األهبال أو األسود ،حفامت
سرياسل الرشكيس ،أجنب األمراء ،واذلي بيده أمه قلعة يف
522
الغرب .لو اس تطعت اس تجواب هذا الشاطر ،ومعرفة ما
وراءه ،فرمبا أتقي رشا عظامي.
كام توقعت ،قبل الشاطر الهدية بسهوةل ،كأمنا أتته مثلها من
قبل .اكن ابن العبديل قد مزج امخلر بنبات منوم ،يقال هل
القنب ،فرتبصنا حىت غلبت السكرة والتخدير أتباع الشاطر،
فتسللنا عند الفجر هبدوء ،للقبض عىل الشاطر عدانن.
وتعرثت ،أو تعمدت أن أتعرث يف اجلسد ادلينء للكثوم العمالق.
دمهنا خمية الشاطر ،واكن أمكر من أن يسمل نفسه للخمر.
فاختطفناه هبدوء ،وجذبناه ،دون أن يشعر أحد ،بعيدا،
لنحبسه يف مزنل ش يخ الواحة.
فتح الرجل عينيه اخلبيثتني ،ليهدين يف دروعي امحلراء ،أضع
رحمي بني عينيه!
صاح بفزع:
"ظننتك هلكت!"
قلت:
"إذن فهذه أخبار سيئة جدا كل! ألنين سأكون ش بحا أىت
حلرق كبدك وأنت يح!"
قال:
523
"آه ...ال ....طبعا أخبار مفرحة كونك يح .كذب علينا
األسود كعادته إ ًذا؟ لقد أخربين إنه يريد حمالفتك ،وذلا ظننت
أنين أحسن كل صنعا بإرساكل هل؛ لكن هذا اذلي ابع البالد،
ال يصعب عليه أن خيدعــ"....
قاطعته زاعقا:
"خدعك؟ خدعك اي مكل اخلداع؟ أنت اي أمكر احلقراء عىل
ظهر البس يطة؟ اليوم تدفع المثن اكمال غري منقوص!"
أيقن ابلهالك ،فتحول ملتوسل:
"ال أرجوك".
قلت هل:
"أنت خري من يعرف أن الغيالن امحلر ال تعرف الرمحة مع من
يغدر هبم أو خيون".
قال:
"لكين سأفعل كل لك ما بوسعي .سأفعل أي يشء تطلبه
مين ،وأنت تعمل عظم نفعي".
مصت للحظات كأنين أفكر ،مث قلت:
"لو ظهر يل إنك ذو نفع ،فرمبا أفكر يف اإلبقاء عىل حياتك".
قال بلهفة اجلبناء:
524
"نعم ،نعم .سأكون ذو نفع عظمي .أرسلين إىل األسود،
وسأريك ما سأفعهل به"......
قاطعته:
"هل تراين أمحقا أمامك؟ لن أطلق ثعباان مسموما مثكل من
حمبسه أبدا".
قال مراوغا:
"إن مل تطلقين ،فكيف ينفعك مكري؟"
مصت كأمنا هبتين ،اتراك األمل يداعب قلبه ،مث قلت:
"مهمم .هذه جحة قوية حقا .عندك حق ،إن مل أطلقك فال نفع
كل ،ولهذا ال حل سوى قتكل".
وخرجت من احلجرة قائال بربود للمامليك اذلين معي:
"جزوا رأسه ،وعلقوه عىل ابب املعسكر ،عربة للك
جاسوس".
مضيت مغادرا ،وأصوات اس تغاثته تثقب اآلذان .ترى مك
مس تغيث أغاثه هذا احلقري؟ مك من مغدور قتل بسببه؟ مك من
مسافر آمن مات من اجلوع والعطش ،بعد أن تركته ادلابة
وس يةل وسط الصحراء القاحةل ،لتعود لبائعها؟
قبل أن أغادر املزنل ،وصلتين رصخته األخرية:
525
"سأدكل عىل اخلونة من األمراااااااااء!"
عدت من فوري ،أرفع عنه الس يف اذلي أدىم رقبته .اكنت
حالته مزرية حقا ،ودموعه تلطخ خديه ،ممزتجة بلعابه ،اذلي
سال ،بيامن بوهل قد جنس األرض الطاهرة من أسفهل.
قال -مبجرد أن رآين -مهنارا:
"كنت أراسل األمراء .كنت أراسل األمراء ،اتركين أدكل
علهيم .س يغدرون بك .مه واألسود تآمروا عليك .أبق عىل
حيايت وسأخربك".
نظرت هل ابحتقار ،وقلت:
"أخربين ،ورمبا ابقي عىل حياتك .أما تذكر حاكية الربغوث
اذلي أزجع األسد؟ تكل اليت خسرت مين هبا؟ ال يكون األسد
إال أمحقا ،لو ترك الربغوث اهرب مقابل بضع لكامت".
اكنت عيناه تدوران زائغتني بغري اس تقرار ،وبدا أنه مل يفهم
أغلب لكاميت .أدركت أن الشاطر رمغ جرأته ،لكنه جبان ،وهو
من النوع اذلي يفزع حقا من املوت ،حيامن يلقاه حمتوما ،ذلا فقد
مالت نفيس لتصديقه.
قال:
"أس تطيع أن أثبت كل .فعندي رسائل .كنت أنسخ الرسائل
خبطي ،وأحتفظ بأصل رسائل األسود عندي .ظننت أن املكل
526
إن انترص ،فسيشرتون مين الرسائل األصلية بأي مثن ،وإن
انترص األسود ،فس يظنون أن خطي إمنا هل هو ،فأنتفع به يف
خداعهم! لكهم اي موالي خونة حقراء ،أسوأ مين أان اللص
املسكني ،اذلي أذاه حمدود! لكهم إال الوكيع ابن عامر ،واكيدمه
ابن ابرم ديهل ،خيونونك وس تهد أسامءمه".
اكن حديثه منطقيا ،فالوكيع يطلب ثأر أبيه ابن عامر ،اذلي
أحرقه األسود حيا يف الثغر الكبري ،واكيدمه يطلب ثأر شقيقه
جركس ،اذلي قتل يف مكني مع أمري الزرقاء ،ليةل أن غادرت
قرص ابن العبديل جللب الوريث .ولكن امجليع يس تطيعون أن
يضيفوا هلام امسني أو ثالثة ،حيفظون أاهنم لن اهادنوا األسود.
وليست شهادة عدانن ابملقبوةل.
قلت للشاطر:
"أين تكل األوراق؟"
قال:
"أخرجين آتيك هبا".
قلت:
"مرة أخرى تضيع وقيت عبثا .ورايئ جند أهمت هبم".......
قاطعين متوسال:
527
"أرجوك ،لو قتلتين دون أن تصدقين ،فس متوت من ورايئ
حامت .دعين أرسع كل ابألوراق ،فاألسود اآلن يزحف حنومك
مبائيت ألف جندي ،و حني يصـ"........
رصخت مقاطعا:
"مك تقول؟"
قال مهنارا:
"األوراق يف صندوق مدفون ،أسفل فرايش ،يف خمييت .ال
أحد غريي يعرف بوجوده .ولكن أحد رجايل أخربين أن األسود
حشد مائيت ألف جندي من أنصاره ،وحلفائه ،وبين األسود.
وهو خيرب أمراء الغرب يف رسائهل إاهنم مائة ألف فقط ،ألنه
ينوي التغرير هبم ،واخلالص مهنم مجيعا .لكين واثق من أن
جنده وصلوا ملائيت ألف ،ذلا اس تغرق يف مجعهم وقتا طويال.
أظنه س يأيت هبم عرب اجلنوب ،حيث تستسمل هل قلعة ساوة.
والفرجنة أمدوه بأربعني ألف ،ورأيت بأم عيين مخسني ألفا
يتجهزون ،من األهبال ،يف الثغر الصغري .وعرشة آالف من
السور العيل ،مه اآلن يف احلارضة ،ميدونه بأدوات احلصار ،عىل
أن ينرصمه ضد الصيادية! اقسم كل إاهنا حقائق ،علمهتا من
رجايل .لو قرأت الرسائل ،فس تهد فهيا بعضا مما أقول".
تبا لهذا ،لو صدق فقد هزمنا من قبل أن حنارب .هذا حشد
مل تر البالد مثهل منذ غزو األهبال .بعد لك هجدان مل حنشد إال
528
مخسة عرش ألفا من الغوغاء ،اذلين لن يس تطيعوا قتاال ،وثالثني
ألفا من املامليك ،سينفض عنا أغلهبم بأمر أمراهئم اخلونة ،ومل
يتبق سوى س تة آالف مقاتل ،اذلين أىت هبم زعمي خدام
الرضحي ،أىن هلم ابلصمود أمام لك هؤالء؟
أرسلت رجال ليتسلل لفراش الشاطر ،ويأتيين ابلصندوق،
وأرسعت للمكل وامللكة ،وويل العهد أخربمه ابلاكرثة.
مل جنمع يف جملس نا سوى أربعتنا ،وابن العبديل ،ووكيع بن عامر
حامك الثغر الكبري.
يف البداية اكنت الشهابية اثبتة اجلأش ،لكهنا فاجأتين بقولها:
"مادام ال أمل من احلرب ،فلنحقن ادلماء ،ونعد ساملني عىل
طرابل!!!!!!!!!!"
أردت أن أرد علهيا بكياسة ،إن ادلماء ستس يل أاهنارا مبجرد
دخول األسود للغرب ،لكن اكن تميور هو من رد علهيا حبدة:
"وهللا إان ال نقاتل طلبا ملكل أو مغمن ،وإمنا طلبا حلق وهجاد!
ال ضري عندي أن جتز عنقي يف سبيل حتقيق ما أرجوه ،فدعي
عنك أوهام السالمة تكل ،فإن طريق اجلهاد مرير ،ومن بدأ
فيه فعليه أال ينتكس عنه أبدا".
مصتت مكظومة من الغيظ ،خاصة وأن ابهنا قد أرسع معنا،
يقلب األمر وحيس به.
529
اكنت األزمة صعبة ،ولكن الشهابية عادت ابقرتاح أكرث حمكة
من اقرتاهحا األول:
"لنطلب من األسود طرد الفرجنة واألهبال من البالد ،ونسمل
هل املكل ،فنحن ال نطمع فيه ،وإمنا تثري غريتنا هذا الانهتاك
ألراضينا".
لكن وكيع رفض أي صلح مع قاتل وادله ،وطلبه للثأر حارق
ماحق ،ذلا فقد رد حبهة قوية:
"أيرس عىل األسود أن حياربنا حنن ،فمل جنمع بعد عددا من
اجلند يصل جليش أحدهام ،انهيك عن أن حيارهبام معا!"
فقال ابن العبديل:
"تربصوا لبعد غد ،حفيهنا س تكون أنباء زحف الفرجنة واألهبال
قد اتضحت ،وحنمك عن بينة ،لكن جيب أن جنمع أكرب عدد
ممكن من اجلند اخمللصني ،ونتكمت األمر عن األمراء ،وإال فال
نعرف كيف س يفعلون ،إذا علموا ابفتضاح أمرمه".
قلت:
"من أين نأيت جبنود آخرين؟ مه عند األمراء اخلونة!"
قال وكيع:
"هذا وقت الغيالن امحلر .أين غيالنك أاها القبيل؟"
530
مصت مهبوات ،قبل أن تسعفين بداهيت ،فقلت:
"نعرف أن األهبال يتلكئون حىت يتثبتوا من أمر الغيالن
وأعدادمه".
قال يل:
"هذا حصيح".
قلت:
"فمل أجعل بظهور الغيالن امحلر؟ ليتلكأ رجايل عىس أن يزداد
تباطأ األهبال ،فيفوتون املعركة ونكفى رشمه!"
بدت جحيت مقنعة ،فصمت عىل مضض ،وبدا أنه يفكر يف رد
آخر ،لكن ابن العبديل تدخل لينقذين حموال احلديث:
"هناك الكثري من صغار األمراء والقادة ،ال يأمتر أحدمه عىل
أكرث من مائة أو مائتني من اجلنود ،لو مجعنامه فرمبا نس تقوي
هبم".
هنا أتتين فكرة مقلقة ،لكن يف هذا الظرف الكئيب بدت يل
حمتية .فقلت:
"سأتركمك اآلن ،حماوال تدبر أمر عدد من اجلنود ،ولنلتقي
بإذن هللا هنا بعد ثالثة أايم يف جملس حرب".
531
نظروا يل بغري فهم ،وفتح وكيع مفه لعهل يريد السؤال عن
الغيالن امحلر ،لكين تركهتم ورحلت".
532
( 4 -55الش يخ غالب )
"ركبت حصاان قواي ،وعدت لقرييت القدمية.
ال مل أهرب ،بل أتيت ألستنهد بأهلها!
اكن شعوري غريبا حقا ،حيامن الحت يل عىل مسافة طويةل.
ألكن صادقا ،مل أعترب أن قرييت يه وطين احلقيقي ،إذ مل أعش
فهيا إال مدة قصرية ،لكن تكل الرحةل الطويةل ،اليت قطعهتا وأان
أمتىن يف لك حلظة ترك لك يشء والعودة لها ،ولك تكل املرات
اليت كدت أن أموت ،فمتنيت أن أدفن فهيا ،بدال من أن أدفن
غريبا رشيدا ،جعلت قليب ينتفض حيامن دخلهتا ،ونظرت لبيوهتا
الطينية البس يطة.
مك مر من وقت؟ آه شهور طويةل ،ترى كيف حال أريض؟
لألسف مل حين بعد وقت القص ،ومعرفة األنباء ،إن اكن مثل
هذا الوقت س يحني أصال!
ذهبت إىل الش يخ غالب ،ومك اكنت دهش ته عظمية غذ رآين!
امحر وهجه بشدة ،وأشار ملن معه ابالنرصاف ،خفرجوا وقلوهبم
حترتق من الفضول.
بعد السالم ،قلت لش يخ بدليت الش يخ غالب:
"اي ش يخي ،تعمل اآلن أنين من جنود املكل؟"
533
رصخ بغيظ:
"طبعا أاها املاكر اخملادع الاكذب! تزمع إنك"...
قاطعته:
"ال أزمع شيئا ،أنت من أعطاين ادلرع ،اليوم لك البالد يف
حاجة لهذا ادلرع ،ويف حاجة أكرب لس يوفمك ودروعمك".
قال يل:
"أتدعوان للحرب! أبلغت جرأتك بعد ما فعلته أن تدعوان
للهالك معك؟ ولو افرتضت إنين أجبتك ،فمك رجل يف القرية
قادر عىل القتال بعيدا عن مزنهل؟ لو أكرههتم ابلس ياط ،فلن
أزيدمك إال مخسني مقاتال".
اس تبرشت برده خريا ،مل جيادلين يف سبب القتال وغرضه،
فأدركت أنه مقتنع أانّ عىل حق ،فقط هو اكلبقية خيىش عاقبة
األمر ،ويقعده جعز املوارد.
قلت:
"اليوم يوم احلسم .اليوم يوم الوحدة .منذ اآلن لن تقاتل لك
قرية وحدها .بل امخلسون القادمون من لك قرية س يقاتلون معا،
دفاعا عن وطننا ،ودرءا لألهبال والفرجنة عنا .اليوم حان الوقت
للفالحني أن يدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم معا ،فال ماكن ألمراء
املامليك ،ألاهنم لن ينفعوان".
534
قال متربما:
"وماذا بيدان لنفعهل؟ حاربوا أنمت إن شئمت".
قلت:
"اليوم س تدور حرب رضوس ،مماليك وأعراب وفرجنة يف
جانب واحد ،مفن بقى ليصدمه؟ ظننت أن امس الوريث قد
جيدي ،فمل يغن شيئا ،وخذهل األمراء .اس تعنت بأساطري
ادلراويش ،فمل جتلب إال رشاذم ،أغرينا األمراء ،ودفعنا
للمرتزقة ،فأغرامه السود ،وأرههبم مبا فوق طاقتنا .مك بقى لنا من
قوة ندفع هبا أعداء ادلين والوطن عنا؟ مك من قوة بقيت لنا
لنصد طغيان السود من أن ينالنا ،فتهنب أرضنا ،ودماءان حالال
لرجاهل؟"
قال يل:
"ال يشء! ذلا فعلينا أن نستسمل ونسامل .ال فائدة".
قلت:
"وهللا اذلي ال إهل إال هو ،لو أنك قلت يل هذه اللكمة من
قبل ألطعتك! هل تعمل ملاذا؟ ألن هذا هو ما نفعهل دوما.
نستسمل .لكن ماذا جنينا من الاستسالم والانكفاء؟ اضطرران
للحرب عىل أبواب بيوتنا مفزوعني ،أو رحلنا همجرين ،كام فعل
أيب .اليوم وقفت عىل أمر غريب .أكنت تصدق إنين سأس تطيع
535
اذلهاب لطرابل ،وجلب الوريث ،ومغالبة األسود لك هذا
الوقت اي ش يخ غالب؟"
هز رأسه نفيا ،وقد المتع الفضول يف عينه ،لكن مل يكن هذا
وقت لقص قصيص عليه ،فأمكلت:
"مل استسمل يف هذه الرحةل املس تحيةل .أتعمل مك خشص طيب
ورشير أخربين انحصا أال فائدة؟ من لك األشاكل واأللوان
فرجنة ،وعرب ،وأساودة ،ولصوص ،ومقاتلني أبطال! لكين
جنحت .هل تعمل ملاذا؟ ألن دافعي األول يف هذه الرحةل اكن
أنت اي ش يخ غرب!"
انتفض جالسا ،وقال:
"أان؟"
قلت:
"نعم أنت! أتذكر حني عايرتين بوادلي اذلي هرب؟ لقد هرب
وادلي من هنا للزرقاء ،ومن الزرقاء ألحراش الشامل ،مفا جنح
يف الفرار من املوت! قلت لنفيس ألمكل املسري ،فاملوت حمتوم.
املوت حمتوم اي ش يخ غالب .لكين قلت لنفيس ألمت مرة وأان
غري هارب! بل اكر همامج! ألمت ميتة ال خزي فهيا ،وال يعايرين
هبا الش يخ غالب .مث علمت أمرا آخر ،هو أن هللا ال حياسبنا
عىل ما حققناه ،وما ظفران به .جزاء الشهيد واحد ،سواء
انترص ،أم غلب .فقد مات يف سبيل هللا ،ال يف سبيل النرص!
536
أال تذكر هذا احلديث الرشيف ،اذلي تتلوه علينا لكام خرجنا
حلرب اجملرمني الطامعني يف اهنب حصادان؟ (من قتل دون ماهل
فهو شهيد) فإين أذكرك حبديث آخر ":مس مأ مل رجل مرسو مل اَّلل
صىل هللا عليه وسمل عمن الْقتمال ىف مسبيل اَّلل عمز مو مجل ،فمقما مل
الرجل يقماتل غمضم باً ،مويقماتل ممحي ًة .قما مل :فم مرفم مع مرْأ مسه إلم ْيه – مو مما
ون ملك ممةمرفم مع مرْأ مسه إلم ْيه إال أمنه ماك من قمائامً – فمقما مل « مم ْن قمات م مل ل متك م
ىه الْعلْ ميا ،فمه مو ىف مسبيل اَّلل ».اَّلل م
أفهمت اي ش يخ غالب احلديث؟ ال أطلب منك القتال
جشاعة ،أو محية ،بل أقول كل قاتل لتكون لكمة هللا يه العليا،
فرتفع بس يفك الظمل عن عباد هللا.
أقول كل قاتل أعداء هللا ،اذلين يبغون الفساد يف األرض،
فيس تحلون احملارم وادلماء ،مدمرين هويتنا ،وإسالمنا ،بسم
السلطان والقوة واألمر والطاعة.
ال أقول كل الفرجنة ،اذلين استباحوا البالد فقط ،وإمنا قبلهم
األمراء الفاسدين ،اذلين يظنونمك موىت ال تغضبون إال عىل إانء
طعاممك .هؤالء اذلين بثوا الفنت يف البالد .أترتكهم يمكلون
فسادمه ،وينصبون طاغوات ملاك؟ أما حانت حلظة احلرب علهيم
بعد ،ومه من بدءوان ابحلرب؟
إين ال أدعوك لفتنة أو ثورة عىل مكل جائر ،فنصرب طاعة
ألمر هللا ،وإمنا أدعوك حلرب ظامل جترب ،أىت ألبوابنا يطلب
537
دماءان ،متسلحا ابلفرجنة واألهبال الكفرة ،ومبيحا هلم دماءان
وأعراضنا .أفرنتد عهنم ،ألننا لس نا أقوايء ،ولس نا جشعان؟
الك اي ش يخنا ،فإان ال نقاتل يف سبيل غنمية أو نرص ،ولن
حياسبنا هللا عىل ما مجعناه من غنامئ أو انتصارات .سيسألنا
وحياسبنا عىل ملاذا قاتلنا ،وكيف قاتلنا.
اي س يدي ش يخ البدل ،البدل اليت حتمكها مل تذق من سواعد
املرتزقة إال اجلور والفجور ،فمل ينقذها إال أيدي أبناهئا ،وكذكل،
فبالدان لن يوحدها إال أيدي أبناهئا.
مد يدك يف يدي ،وأرسل للك القرى جتمع أبناءها ،فاجلهاد
اليوم فرض عني ال فرض كفاية .مادام العدو أىت ألرضنا ،فيجب
عىل لك مسمل أن يهنض دلفعه ،وقد وجب هذا منذ زمن بعيد،
وحانت اليوم فرصته".
أاهنيت حدييث الغاضب ،وأخذت ألهث منتظرا يف غري أمل.
اندرا ما غريت اللكامت إنسان ،فاللكامت خبرها رسيع أمام انر
ادلنيا ،املوقدة ابلفنت ،وميل الهوى لدلعة والراحة.
وجدت الش يخ غالب يهنض دون رد ،فقلت بصوت واه:
"إىل أين اي ش يخ البدل؟"
قال برصامة:
538
"سأحرض ساليح ،فأان حباجة هل! وال تضيع وقيت اآلن،
فس تحتاج للكامت أشد تمنيقا يف لك قرية متر علهيا .اذهب
لنائب القايض ،فلو أعلن دعوة عامة للجهاد ،ووافقك ،فلن
يتبعك زمام الش يخ عصفور حفسب ،بل لك الغرب .اذهب
ملساجد القرى ،فوخب ش يوخها لقعودمه عن اجلهاد ،فإاهنم إن
تبعوك تبعك األهايل .ال تضيع وقيت اي غالم اي ابن الصياد!"
وهكذا بدأت يف رحةل ظافرة ،مجلع اجملاهدين .حفنة من لك
قرية ،وجامعة من لك مدينة أو زمام .جماميع صغرية ،اكنت
تكتفي ابدلفاع عن قريهتا ابلاكد ،لكهنم معا أصبحوا جيشا من
عدة آالف مجعهتم عند زمام الش يخ عصفور ،وانطلقت هبم إىل
ساوة خملفا ورايئ ادلعاة ،حيثون املزيد من الناس عىل اجلهاد.
وهللا ما كنت أظن أنين سأفلح يف مجعهم ،لكين رأيت محى
عاتية ،جتتاهحم ،وتدفعهم حنو املوت بال سؤال عن مكسب أو
مغمن .مفازال اخلري يف األمة إىل يوم القيامة.
عدت شاعرا ابلظفر ،رمغ أن أعدادان ما زالت ال تقارن جبيش
األسود املزعوم ،ألجد يف ساوة أمرا جعيبا!
لقد ابتدر املكل تميور األمراء اخلائنني ،فاعتقل رؤوسهم،
واس توىل بغتة عىل مدينة ساوة ،وانزتعها من يد شهاب
الرشكيس ،وجسنه .وهنا تشتت أغلب األمراء وجندمه ،فارين
اكلفرئان لقصورمه.
539
أال بعدا وحسقا هلم .مه من حق فهيم قول العزيز اجلبار احلكمي
يمك مما مزادو ْمك إال مخب م ًاال مو م مأل ْوضم عوا
يف كتابه الكرمي (لم ْو خ ممرجوا ف ْ
ون لمه ْم) خاللم ْمك ي م ْبغونممك الْف ْتنم مة موف ْ
يمك ممساع م
دخلت جمللس احلرب يف خمية ابن العبديل ،حيث اجمتع
الصامدون :املكل ،وزوجه ،وابهنا ،وابن العبديل ،ووكيع ابن
عامر ،واكيدمه ابن ابرم ديهل ،واثنان آخران من األمراء ال
أعرفهام ،وأخريا رجل جعوز أحفظه جيدا!
جعوز علمي بأمور احلرب واحلياة ،أحد ثالثة حكيت هلم قصيت
احلقيقية ،ويعرفون أنين لست بغول أمحر .تبا يل! مل مل أفكر يف
طلب مشورته؟ الش يخ وهدان احلكمي ،حبر العمل والعمل،
اذلي أخذت بركته يف بداية رحليت ،واذلي دلين عىل أن ابن
العبديل هو صاحب ادلرع اذلي ألبسه.
حكوا يل ما فاتين.
اكن ابن العبديل أرسل يطلب لك من يعرفه ،وميكن أن
ينفعنا ،سواء من زمالئه األثرايء ،أو بعض األمراء الباقية يف
نفوسهم خنوة .والش يخ وهدان ،حلمكته ،وعلمه ابحلروب منذ
قدم الزمان.
فقال الش يخ وهدان مصححا هلم:
540
"لن يبحث األسود عن الاستيالء عىل جنوب اإلقلمي ،أو
شامل،ه وإمنا س يذهب مبارشة لساوة ،لهيزم جيش املكل .فهذه
يه عادته ،أن يذهب دوما ألكرب رأس ،فيقطعها".
ورمس أماهمم عىل األرض خمطط للغرب.
"بني الغرب وساوة ،وادي الضياع وال جيتازه إال هاكل.
حاولت يف ش بايب مرة اختصار طريق يف حافته ،فكدت أن
أهكل .تالهل وكثبانه وطرقه تتغري برسعة مذهةل ،وهو جاف ال
حيوي ظل أو ماء .ذلا فلكنا ندرك أنه يس تحيل عىل أي فرد،
انهيك عن جيش أن يعربه .فإما أن يلتف حوهل جنواب ،يف
طريق القوافل ،أو شامال".
قال تميور:
"نعرف هذا لكه .إما أن حيطم قالع مدينة ساوة ،أو أن يعاود
الزحف شامال عرب املدن املزدمحة".
فقال الش يخ وهدان بصرب:
"طريق اجلنوب تعرتضه قالع ساوة احلصينة ،ولن ينفعه
خضامة جيشه يف اقتحاهما ،فهىي حتتاج حلصار طويل .ولكن
احلصار جليش أغلبه من املشاة ،وسط حصراء قاس ية ،س يجعل
جيشه يعاين كثريا .ولو حاول تركها ،وامليض قدما لساوة
الواحات ،فس يهد مؤخرته حتت رمحتنا ،واإلمدادات -خاصة
املؤن والطعام جليشه الكبري -ستنقطع يف زحفه البطيء ،وال
541
يوجد يف الغرب لكه ما يكفيه إلطعام وسقاية هذا اجليش
الضخم!"
قال وكيع:
"وما أدراك أن أغلب جيشه من املشاة ال الفرسان؟ وقهتا
سزيحف برسعة مكتفيا حبصار القلعة".
قال الش يخ وهدان:
"تزمعون إاهنم مائيت ألف جندي؟ أىن هل بدواب حتملهم
مجيعا؟ لو أننا أحمكنا قبضتنا عىل قلعة ساوة"....
أمكل تميور لكامته:
"فس يضطر لالجتاه شامال ،أو س يلقى عنتا كبريا جبيشه البطيء
عطشا وجوعا .ستتحول خضامة جيشه لنقمة عليه!"
وقال ويل العهد:
"وحامت س يضطر لاللتفاف عرب الشامل ،ليهدان صامدين هناك
أمامه ،ولكين أخىش من األهبال والفرجنة".
قال الش يخ وهدان:
"األهبال تتلكأ خش ية الغيالن .أصبحوا اآلن يفضلون الفوز
السهل غري ذي الشوكة .أما مسعمت أن مائة من الغيالن امحلر
مصدت أماهمم شهرا اكمال ،مع حامك الثغر الصغري ،أمام جيشهم
ذي امخلسني ألف مقاتل؟ لن يقرتب األهبال منا ،إال بعد أن
542
يشتبك األسود يف القتال معنا ومع الغيالن فعال .س يحطمون هل
القالع الصغرية ألمراء املامليك واألثرايء هنا وهناك ،حيث أكوام
اذلهب مكدسة! لكهنم سيتأخرون عن دخول املعارك الكبرية،
كثرية اللكفة ،قليةل املغمن ،وإىل أن يصلوا لنا ،فس يكون أمامنا
ما يشغلنا!"
قال ويل العهد مرصا:
"أوافقك عىل هذا ،فهىي طباع األهبال ،ولكن الفرجنة ليسوا
كذكل ،سيسابقون األسود حبثا عن املدن والثغور .ال اهمهم
اذلهب ،قدر ما اهمهم األرض .سيسعون حامت لالستيالء عىل
الثغر الكبري ،رغام عن أنف األسود .مفا من مرة دخل الفرجنة
فهيا مينا ًء ،إال التصقوا به ،ولو اكن حللفاهئم!"
قال وهدان مبتسام:
"ها قد أصبت ما أريم إليه! لو أغلقنا طريق اجلنوب أمام
األسود ،ابالستيالء عىل قلعة ساوة ،فس يضطر للسري الطويل
شامال بيامن يتلكأ خلفه األهبال ،ويرسع قبهل الفرجنة وحدمه
منفردين".
أمكل ويل العهد:
"ووقهتا س يكونون وحدمه خبمسني ألفا فقط .ونس تطيع أن
نكتفي برتك حامية صغرية قوية يف قلعة ساوة ،وجنمع ابيق
543
جيش نا لكه بسهوةل ،مطمئنني لظهوران ملواهجة الفرجنة .فإن
فرغنا مهنم ،بدأان يف حرب األسود دون عواهنم هل".
وإذ اتفقوا عىل تكل اخلطة ،طلب املكل لقاء األمراء ،ألنه
يس تعد للرحيل جنواب للتحصن يف قلعة ساوة ،فأتوه فرحني
يظنون أنه س يصبح يف أيداهم لقمة سائغة ،يسلمواهنا لألسود يف
جسن القلعة ،بعيدا عن أيدي األهايل والعوام املتحمسني،
ليهدوا أنفسهم مه من يعتقلون ،وترسع رسية من مخسامئة
مقاتل ،من جنود خدام الرضحي ،للتسلل ملدينة ساوة والس يطرة
عىل أبواهبا .ورمغ إن أكرث اجليش انرصف عنا ،لكن البقية أكرث
بركة ومنعة اآلن.
وإذ أتيهتم جبيش جديد ،شد من أزرمه أتتنا األخبار من
الكشافني ،بأنه ابلفعل ال أثر جليش األسود عىل الطريق
اجلنويب ،رمغ إنه خرج من البوابة اجلنوبية للعامصة ،فاطمأننا أننا
دحران خطته األوىل ،برتكنا حنارص بني زحفه من اجلنوب
وزحف الفرجنة واألهبال من الشامل ،وس يضطر للسري شامال
مسرية طويةل.
وهنا مل يكن هناك وقت لنضيعه ،إن كنا نرغب حقا يف مباغتة
الفرجنة قبل وصول األسود هلم .فرتكنا حامية يف الواحة ،من
بقية جند خدام الرضحي ،مع بعض أهلها ،وتركنا املكل يف قلعة
ساوة مع بعض املامليك من أتباع ابن العبديل ،أنفق علهيم جل
544
ماهل ليرشفوا عىل حسن حتصني املدينة ،وتركنا معهم جامعة
ادلراويش واملساكني املتحمسني ،اذلين ال جييدون القتال مفن
وراء اجلدر ،رأى تميور ،أاهنم س يكونون أكرث نفعا عن ميدان
القتال املفتوح .ويف الوقت نفسه نبعدمه عن حتراكت جيش نا
خش ية ،أن يكون فهيم جواسيس آخرون.
وهكذا حتركنا من واحة ساوة جبيش أقل من عرشين ألفا،
أغلبه من الفالحني ،ودوابه من امحلري والبغال! ال يساندمه إال
فرسان وكيع ،واكيدمه ،فأرسعنا نبغي إنقاذ الثغر الكبري من
أيدي الفرجنة.
قادان يف الطريق وكيع ،ألاهنا مدينته ،وفضل أال ندخل املدينة،
بل نرتبص يف الصحراء حولها حىت ال يصل نبأ عن وصولنا
للفرجنة ،ألن جواسيسهم كرث ابملدينة ،فعسكر بنا يف ماكن
كريه ،يكرث فيه احلىص واحلهارة القاس ية ،ومياهه برك ماحلة ،أو
ممزتجة بقطران أسود! بزمع إنه بعيد عن العيون ،لكنه أضاع من
عيوننا النوم!
ورسعان ما وصلتنا األنباء عن الزحف الرسيع للفرجنة حنوان.
وهنا أخذ ويل العهد زمام القيادة ،فهو أخربان ابحلروب".
545
()56
546
"يرسع الفرجنة ابلطالئع دلخول املدينة الختبار دفاعاهتا.
س نرتكهم يفعلون ،واملدينة بال جيش ألن اجليش يبغي صيدا
أكرب من الطالئع ،وأمثن من سفن الصيد! ولكن ذكرين أن
أسأكل عن تكل املراكب فامي بعد!"
ابلفعل عسكر جيش الفرجنة ،ومه قرابة مخسني ألفا ،رشق
املدينة ،ال يبعدون كثريا عن معسكران لكهنم اكنوا يف ماكن
أفضل بكثري من أكوام الرمل اليت أخفاان فهيا وكيع! عىل أي
حال ،كفالحني ،فقد مننا يف أماكن أشد قسوة من هذه! أظن
أن األمراء املرفهني فقط ،مه من س يعانون بأشد منا.
زحفنا طوال الليل يف سكون ،حىت أرشفنا عىل معسكر
الفرجنة .اكنوا مازالوا منشغلني يف نصبه ،فمل يرسلوا بعد
ادلورايت لتأمني املنطقة حوهل .وهو خطأ حلسن حظنا،
س نجعلهم يدفعون مثنه عظامي! أو لعهل هذا املاكن الكريه ،اذلي
اختاره وكيع لنعسكر فيه ،قد أنفت كشافهتم دخوهل!
أخذت أرقهبم ومه ينصبون اخليام الضخمة اكلبيوت للك أمري
من أمراءمه ،وللفرجنة أمراء كرث مثلنا ،لكهنم وقت احلرب
جيمتعون عىل قلب واحد ،بيامن تش تتنا األهواء!
لكن هذا لن حيدث اليوم بإذن هللا.
547
قدت الهجوم األول رافعا رحمي ،وشاهرا راييت ،وضوء الفجر
يلمع عىل درعي األمحر ،وخلفي أسود ال تش هتىي إال ادلم .دماء
تغسل ذنوب س نني من اخلضوع والفزع.
ورأينا اجلبارين املتفاخرين يتشتتون اكلنعاج يف فزع ،كأاهنم محر
مستنفرة فرت من قسورة.
شققت طريقي يف صفوفهم ،ال أدري من أين أتتين جشاعة
كهذه؟ كأن اخلوف مات ودفن يف قرب معيق ،ال أعرف هل
شاهد.
أمه فرجنة؟ وفرسان حمرتفون؟
ال اهم.
أأان غول أم فالح أم ابن صياد هارب؟
ال اهم.
فقط لك ما أعرفه ،أنين سأذيقهم اليوم طعين!
اكن أول من اعرتضين مهنم فارس جلف خضم ،ولكن قبل أن
متتد يده لس يفه اكن رحمي الطويل يتحاىش دروعه ،لميزق عنقه
برباعة مل أعرفها يف نفيس ،مث يرتكها لهيوي عىل رأس آخر فزع،
جيري من أمايم ،مث وجدت الرمح يعود للخلف ليسقط اثلث
عن يساري!
548
شققت طريقي ،ومن معي ،يف تكل الصفوف املرجتفة ،منيض
كس يل عارم ال يتشتت أبدا ،بل حيتفظ بصفوفه موحدة ،كبنيان
مرصوص .تنكرس عىل جوانبنا لك الهجامت ،اليت حتاول
رشاذهمم ش هنا علينا ،لكننا ال حنيد عن هدفنا املرسوم أبدا.
اخلمية الكربى يف قلب معسكرمه ،حيث يوجد أجل أمراهئم
عادة.
قاتل من معي برشاسة ،ممهدين طريقا من دم وأشالء .ولكن
الكونتات واألمراء مجعوا مشلهم ،واس تعادوا اتزااهنم ،ليقاتلوان
برشاسة أخرى ال تعرف الرمحة.
أصوات نفريمه تعلو ،لتوقظهم ،فرتدها صيحة هللا أكرب لتهبهتم.
وأنني غضبنا يعلو فوق رصاخ حمترضاهم ،فالنار تش تعل يف
مؤاهنم ،وس يوفنا تلمع اكلربق اخلاطف لنور عيواهنم.
انتظمت صفوفهم كتل مرتاصة أمامنا .وازداد مجعهم يبغون
حصاران وكرسان .لكن ههيات .ليس اليوم فهو ليس يوم
انكساران أبدا!
واجمتع عدد مهنم عىل الساحل ،يرموننا ابلسهام .ها قد
استيقظ الرماة من نوهمم ،لميطروننا ابلهالك فهل وجدت أحدا
منا يبايل؟ ههيات.
وهنا أاتمه الهجوم الثاين بقيادة وكيع.
549
مئات من مراكب الصيادين الصغرية ،خرجت جفأة ،تنقض
عىل سفهنم ،اليت انشغل حبارهتا مبراقبة جهويم ،أو الزنول عىل
الشاطئ إلمطاران بنباهلم.
مئات املراكب املدهونة ابلسواد ،فال تظهر يف الليل ،اقرتبت
من السفن رسا ،وقد ملئت ابملقاتلني األشداء.
انطلقت تكل املراكب مرسعة رش يقة ،تلقي جبامر النار فتحرق،
أو تنقض وتقتحم ،لتلقي ابملغاوير عىل أسطح السفن ،فميزقون
وال يبقون.
وارتبك الفرجنة أميا ارتباك ،حيامن رأوا سفهنم حترتق ،أو هترب،
فاحناز شطر مهنم يطلب الفرار رشقا.
وهنا اكن الهجوم احلامس األخري ببايق اجلند ،خلف ويل العهد.
كنت ،ومن معي ،حمارصين من الشامل برماة النبال ،وبعض
الكتائب ،ومن اجلنوب بفيلق اكمل ،وأمايم هجة الرشق جيوش
أمزقها .مث أىت جهوم وكيع من البحر يف الشامل ،مزق رماهتم
وكتائهبم ،وأىت اآلن جهوم ويل العهد من اجلنوب ،لتصبح فرقهم
يه احملارصة إما بيين وبني وكيع ،أو بيين وبني جيش ويل العهد.
وأمعلنا يف ايئس هيم التقتيل ،ورأيت الش يخ غالب يأخذ
شطرا من الرجال ،ويندفع لقلب معسكرمه حيث مجعت أكرب
حظائر اخليول ،فشتت خيوهلم ،قبل أن يركبوها ،ليصبح أغلهبم
مشاة ،لقمة سائغة لفرساننا وراكبينا.
550
دار القتال العنيف من الفجر ،حىت الظهرية ،لكنه اكن قد
حسم لنا ابلفعل ،منذ جهوم ويل العهد ،وفرار عدد كبري مهنم
رشقا.
انهتت املعركة أخريا ،بنرص مبني وجثث اآلالف من الفرجنة
مكومة يف لك ماكن ،مع عرشات من سفهنم احملرتقة.
وأخذت أتفحص خسائر جيش نا البطل ،فوجدت إننا فقدان
أكرث من ألفي شهيد ،وثالثة آالف جرحي ،وأفسد عيل فرحة
النرص أن اكن من الشهداء الش يخ غالب ،وكثري من أهل
قرييت.
رمحه هللا ،اكن حكامي حصيفا ،مات شهيدا ،فاللهم أسكنه
فس يح جناتك.
وجلس نا نلممل أحوالنا ،ونوزع غنامئنا بعد النرص ،وقد اكنت
أكربها تكل الرساةل القوية ،اليت ألقينا هبا إىل األسود واألهبال!
ولكن قبل أن نلتقط أنفاس نا ،ونمكل شأننا أاتان الصارخ
املش ئوم
األسود حيرق واحات ساوة!"
551
()57
552
"إنه ليس برشا! حامت هو صادق يف زمعه أن هل أخا من اجلن،
فقد ساعده ش يطانه ،اذلي ال اهزم ،ألن يعرب وادي الضياع
جبيشه".
بدا األمر غريبا ال يصدق ،وادي الضياع ال يعربه إال هاكل.
حىت أخرب األدالء وأحنكهم يعجزمه أطراف الوادي ،انهيك
عن شق قلبه من العامصة إىل ساوة مبارشة .كيف يعربه جبيش
اكمل؟ كيف؟
لكن مل يكن هناك وقت للبحث عن تفسري ،أمام تكل الاكرثة،
فقد حورص املكل اآلن ،بعيدا عن أغلب جيشه.
سأل وكيع:
"مك عدد جند األسود؟"
قال الرسول:
"عىل األقل مخسني ومائيت ألف مقاتل ،مقسمني مخلسة فيالق
لك مهنا مخسني ألفا ،مهنم مثانني ألف فارس وهاجن".
أسقط يف يدان ،وجتمدان حيث حنن مذهولني.
قال اكيدمه ابن ابرم ديهل:
"ال فائدة .هزمنا الفرجنة ،وصددان رشمه عن البالد ،لهنداها
خالصة لألسود .فلهنادنه!"
553
حىت وكيع بدا مرجتفا .مائتان ومخسون ألفا بيهنم مثانون ألف
هاجن وفارس! هذا شعب بأمكهل! أىن هل بلك هؤالء!
وانترش النبأ املفزع بني جنودان اكلنار يف الهش مي ،فثار الفزع،
وبدا الاضطراب بني اجلنود ،حىت وصلتنا رصخات أانس،
ينادون عىل بعضهم ،للعودة إىل قرامه.
اكن اليأس س يد املوقف ،حفىت لو عاد معي بعضهم،
فس يحاربون وقلوهبم همزومة.
ونظران للسامء ،ودعوان هللا نس تغيث ،بيامن خرج ويل العهد
خياطب يف اجلنود مثبتا قلوهبم.
وهنا أاتان نذير آخر.
"جيش زاحف يقرتب!"
رست موجة من الاضطراب ..أتكون فلول الفرجنة علمت بنبأ
األسود ،فازدادت عزميهتا؟ أم لعلهم األهبال قد وصلوا بأرسع مما
أبلغنا الكشافة؟
وهنا ارجتت األرض بصوت اكلرعد.
مل يكن بدقات طبول حرب كام ظننا يف البداية ،فقد بدا إنه
كدقات س يوف عىل دروع قوية.
قلت بصوت مبحوح:
554
"ليسوا الفرجنة حامت".
التقت عيوننا عىل أمر واحد .مه األهبال حامت.
وبدون لكمة واحدة ،قفز وكيع ،منزتعا الراية من يدي ،وقفز
عىل جواده ،وخرج اهتف بني اجلنود:
"يح عىل اجلهاد .يح عىل اجلهااااااااد .هللا أكرب هللا أكرب".
بدأت الصفوف تلتمئ ،وامجلوع حتتشد ،والسالح خيرج من
أماكنه .مادام اجلهاد قد أاتان ،فالبد أن نليب نداءه .اكن هذا
حال اجلنود ،ولو أن اليأس اكن مازال عىل وجوههم.
اهنضنا حنن أيضا ،لنعد العدة رسيعا ،أمام أولئك القادمني.
علت صوت ادلقات اكلرعد مقرتبة.
ومعها أقدام اثبتة تدوي يف األرض ،فزتلزلها.
نظر الناس وجلني ،واهزتت القلوب ،وغشيت األبصار ،مث
أمران ويل العهد ابلتقدم لرنى ما األمر.
آألهبال أتوا بدمارمه؟ أم شطر من جيش األسود أىت لنهدة
الفرجنة ،ومشاغلتنا عن جندة املكل؟ أم أي مصيبة أخرجهتا لنا
األرض من طياهتا!
لكنه اكن نرصا مل أر هل مثيال!
555
اليائسون هتفوا يف حبور ،من اكنوا يعدون العدة للرحيل،
عادوا مكربين همللني.
اللك ينظر حنوي مس تبرشا.
هذا نرص هللا وال أعمل شيئا اي رفاق.
أمه مالئكة؟ مالئكة يف صورة برش أتت لتحارب معنا؟
مل يكن يف العامل سوى ثالثة غيالن محر فقط.
ابن العبديل وقد اعزتل ،وغول احلق وقد قتل ،وأان!
زمعوا إن اجلنود اذلين مصدوا يف الثغر الصغري مع حامكها ،اكنوا
مائة من الغيالن امحلر ،ظننت هذا جمرد أسطورة ،حتية هلم
عىل بطولهتم ،كام أن األهبال أابدومه عن آخرمه.
إذن مفن أين أىت جيش الغيالن امحلر هذا!
من أين أىت عرشة آالف غول أمحر ،بدروعهم امحلراء،
ورماهحم املنتصبة ،يف صفوف متساوية ،تتقدم بقوة ،ويه تدق
عىل األرض بأقداهما ،وعىل ادلروع برماهحا ،وعىل رأسهم خشص
حيمل فوق درعه رأسا ،خلان من خاانت األهبال!
عرشة آالف غوال أمحرا ،يسريون حنوان بقوة ومشوخ وعزة.
عرشة آالف وقفوا حتت أقدامنا ،أسفل التبة اهتفون:
"عاش القبيل زعمي الغيالن امحلر!"
556
لقد وصل جيش الغيالن كام وعدت! لكن كيف! ال أدري !!
557
()58
تقدم قادة جيش الغيالن امحلر حنوان .وما أن وصلوا لنا ،حىت
رفع زعميهم رحمه ،اذلي يزينه رأس هذا اخلان من خاانت
األهبال ،وهتف مرة أخرى:
"عاش القبيل زعمي الغيالن امحلر!"
رددوا من ورائه:
"عاش!"
هتف مرة أخرى:
"بأمر القانون الثامن اجلديد ،نلزم جانب احلق همام اكن ،نقاتل
اليوم بأمر هللا يف صفوف املكل اجلديد ،طلبا للعدل بني
العباد ،وهجادا يف سبيل رب األرض والسامء .هللا أكرب".
هتف امجليع ،الغيالن ،واجلند ،والقادة:
"هللا أكرب!"
اكنت عينا وكيع مغرقتان ابدلموع ،وهو يربت عىل كتفي:
558
"هللا أكرب ،أخريا أىت غيالنك ،وأتوا يف خري وقت!"
نظرت لوهجه الشاب املتحمس ،ال أعرف مب أرد عليه .كنت
مذهوال مأخوذا ،كأمنا أان يف حمل مجيل ،أهرب به من حلظات
اليأس ،لكن األخرية تأىب إال أن تطاردين مبقارع من حديد! هل
مه حقا غيالن؟ أأتت جندة السامء هبذه الرسعة؟ مرت عيل
مواقف كثرية كنت أطلب فهيا جندة السامء ،فال تزنل لكن حيامن
يغلق حقا لك ابب الجهتاد برشي ،وأطلهبا ،فإاهنا أتتين برسعة
مذهةل .ذات يوم يف صورة ادلليل معران من بين سالم ،فهل
أتتين اليوم هبذه الرسعة؟ مالئكة يف صورة غيالن محر!
مل يكونوا مالئكة ،بل جماهدين أشداء.
تبينت أخريا الصوت املألوف ،وعرفته ،حيامن خلع خوذته،
ليظهر وهجه! هذا هو زعمي لعرشة آالف غوال أمحرا! جابر،
الشاب اذلي عرفته اثئرا ،منقذا ،متحمسا يف مدينة الغاربة!
أدخلته خلمييت فورا ،أسأهل األخبار ،وأس تفهم .وتبعين يف
هدوء ،فمل يكن يرغب أن يسمع رجاهل ما يقصه!
بعدما غادرت مدينة الغاربة ،متجها إىل الزرقاء مع غول احلق،
أخذ جابر ما مجعه عن لساين من قوانني الغيالن امحلر اجلديدة،
وأخذ يدعو الناس يف مدينته املغلقة األبواب إلتباعها .اكن يقول
للناس:
559
"إن إغالق أبوابنا علينا لن ينقذان من اخلوف .ال اهزم اخلوف
إال مبحاربته ،وال نرص يف حربه إن مل نلزم جانب احلق ،وهذا
هو ما يدعوا هل الغيالن اجلدد".
اكن يزمع هلم إنه انضم للغيالن امحلر ،وقد رآها فرصة تكسب
قوة دلعوته ،يف الوقوف ضد الطغاة ،موقفا أشد من إغالق
أسوار املدينة علهيم .يف البداية مل يتبعه إال عدد قليل ،تزايدوا
لبضع عرشات مع اقرتاب زحف األهبال عىل الثغر الصغري.
وطلب الش باب أن خيرجوا جلهادمه ،بيامن يطلب العهائز إحاكم
غلق األسوار علهيم حىت متر العاصفة .وحيامن ذهب األهبال
للثغر الصغري ،خرج مائة من غيالن جابر إلهيا ،فدافعوا برضاوة
عهنا مع حامكها ،بعد استسالم حاميهتا ،وفرار أغلب أهلها.
قال يل جابر بأسف:
"حاول حامك الثغر الصغري إنقاذ مدينته الصغرية طويال ابلرشوة
والنفاق واخلضوع .مل يكن يف حد ذاته رجال سيئا كام بدا لنا،
لكن الفساد اذلي نرثه يف مدينته أسقطها متاما ،فبقى وحده
حامال س يفه ،وحتول جسده البدين ملرتاس ،يغلق أبواب القرص
يف وجه العدو بشهاعة ،مل أتصور أبدا وجودها فيه ،إىل أن انل
الشهادة ،وهو يقاتل فوق عرشه".
بعد أن مصد غيالن الغاربة شهرا اكمال يف وجه األهبال،
وأاثروا فزعهم ،تأكد الناس أن الغيالن حقا عادت ،وأاهنم يف
560
جانب احلق بقوة حتميه .فذاع صيت جابر ومعسكره ،وتبعته
أغلب الغاربة ،وكثري من القرى اليت يف رشقها ،وهرب إليه
بعض من رعااي األسود املظلومني ،وكثري ممن رشدهتم احلروب،
خاصة عىل الزرقاء.
وبقى جابر ساكنا يف ماكنه ،خلف أسوار الغاربة ،يدرب رجاهل
قدر اس تطاعته عىل فنون احلرب ،وعىل ما ظنه قوانني وعادات
الغيالن امحلر ،اليت اس تقاها مين! واعرتف خبجل إنه جتاوز
بعضها ،مكرافقة حيوان ما لعام اكمل ،ألنه مل يفهم هذا اجلزء
عندما حاكه هل تميور!
اكن ينوي أن يكون جيشه ،اذلي يتضخم برسعة مذهل،ة
درعا يفزع األسود عن الغاربة .وملا عاد الوريث للبالد ،وابيعه
الناس ملاك ،ومهنم أهل الغاربة ،عقدوا العزم عىل نرصته ،فتربع
أغنياء املدينة بصنع دروع محراء منقوشة ،ورماح .واجمتع
الغيالن اجلدد ،ومن حوهلم من أهل املدينة ،واملتطوعني،
وبعض العشائر .اجمتعوا عىل قلب واحد ،وابيعوا جابر عىل
القتال ،واجلهاد ،والالزتام بقوانني الغيالن.
أرسع ليلحق ابحلرب ،متتبعا جيش األهبال املتلكئ ،فباغهتم
من خلفهم.
س تون ألفا من األهبال ،أمام عرشة آالف فقط من الغيالن
امحلر!
561
لكهنا أوال املفاجأة الساحقة من المكني ،ومن رؤية الغيالن
قريبون مهنم يف الرشق ،ومعها الرهبة واذلكرى املؤملة اليت يف
نفوس األهبال من الغيالن امحلر ،وأخريا حسن تدريب جابر
لرجاهل زمنا طويال ،جعلهم حقا مقاتلني أفضل ممن اعرتضوا
األهبال قبلها.
تشتت أغلب األهبال فارين للثغر الصغري ،متحصنني ابألرض
اليت كس بوها من األسود دون مقابل ،بعدما ختلوا عن نرصته.
وحسق جابر بقيهتم حسقا ،وقتل زعميهم ،وسار برأسه ،لرياها للك
املدن ،اليت مر هبا جيش الغيالن عالمة الظفر!
وهنا عقدان جملس حرب جديد .جملسا استبدل فيه ابلرعب
األمل.
عقدان العزم عىل السري إىل ساوة ،بأرسع ما ميكن ،لنهدة
املكل.
قال الش يخ وهدان:
"أعدادان ال تكفي".
رد جابر حبامسة:
"ال اهمت الغيالن ابألعداد".
قال الش يخ مبتسام:
562
"مل أطلب منمك أال تقاتلوا ،وإمنا أن نتدبر األمر .رمبا ميكننا مجع
بعض املتطوعني اجلدد من القرى بعد نرصان عىل الفرجنة،
وانضامم الغيالن لنا ،ولكهنا لن تكفي .هناك جندة عظمية ما ،ال
أدري أأس تطيع جلهبا أم تعجزين .ترددت يف أمرها كثريا ،لكن
مل يبق يف جعبيت غريها ،إذا اكن األسود قد اس تطاع اجتياز
وادي الضياع ،ومجع لك هذا اجلند ،فال فائدة من الرتدد.
اذهبوا فقاتلوا قدر ما تس تطيعون ،عيل آتيمك ابلنهدة".
سألته:
"أي جندة تكل؟"
قال:
"ال أدري حقا! هو أمر يصيب ،أو خييب فال أدري حقا!"
تركنا ورحل ،فمل نعرف ما يف جعبته .لكن اكن جيب علينا
الرحيل بال إبطاء ،فأطلقنا النفري ،لالس تعداد للرحيل جنواب".
563
()59
564
بقينا يف ساوة نراتح الليةل ،أردت أن نتحرك ،لكن قائدان
وويل عهدان ،عبد هللا ابن محمد ،أرص عىل البقاء ،وقال:
"س يأتينا األسود ،فلننتظره".
ابلفعل أاتان من جنوب الواحة قوة تركها األسود ،غالبا
لتعطيلنا .اكنوا ثالثني ألفا ،جلهم من فرسان بين األسود ،وعىل
رأسهم حسام األسود ،اذلي قتل غول احلق ،واكد يقتلين يف
طرابل.
برزوا لنا ،وخرج حسام خمتاال يدعوان للمبارزة .أراد ويل العهد
أن خيرج هل ،لكين منعته ،وقلت:
"بيننا ثأر قدمي ،وأنت أدرى بإدارة جيشك".
خرجت هل ،مصمام عىل القتال حىت املوت .حصيح اكن يف
عقيل يشء من رهبة ،فأبناء ش يوخ بين األسود يربون عىل
املبارزة من نعومة أظافرمه ،لكن قليب مل يكن فيه إال اإلرصار
عىل جز رأسه.
خرجت هل ،مفا أن رآين ،حىت حجظت عيناه رعبا ،وهتف:
"أمل متت؟"
قلت بغل:
"ليس من السهل قتل غول أمحر يطلب الثأر!"
565
ألقى بدرعه ،وأرسع هاراب! مل يبارز هذا اخملتال أصال! ألقى
دروعه ،ولك ما يثقهل ،وقد ظنين ش يطاان رجامي ،فكربت ،وكرب
اجلنود ورايئ ،وبدأان املعركة.
اكن رجاهل حمرتفني ابرعني ،وجنودان مرهقني متطوعني ،لكن
امحلاسة يف قلوهبم ساوت املوازين .خاصة وإن معنا الغيالن
امحلر ،برماهحم الطويةل ،القادرة عىل اصطياد الفرسان ،فقد
وقفوا يف صفوف منتظمة ،لكام جهم علهيا بين األسود ،مزقهتم،
وردهتم ،مبساعدة سهام رماتنا ،أدركنا منذ معركة الفرجنة مدى
تأثري أمطار السهام عىل املهامجني ،فرضبنا هبا األساودة بقوة.
أدرك حسام أال فائدة من حماولته اخرتاق قلبنا ،فأمر جنوده
أن يلتفوا حول الغيالن من املمينة ،وامليرسة ،ليرضب ابيق
اجليش وراءمه.
هنا أوقع جيشه يف خطأ فادح .اكن فرسانه رسيعو احلركة أكرث
من الالزم ،أرسعوا لتنفيذ أمره برسعة كبرية ،فطاروا جتاه
مؤخرتنا ،لكن هذا ترك فراغا كبريا يف قلب جيشهم.
مل ينتظر وكيع أن يتقدم جنود األسود من املؤخرة لسد تكل
الثغرة ،فأمر فرسانه فورا ابلهجوم ،خمرتقا ،اكلسكني يف الزبد،
قلب األساودة ،جتاه قائدمه .أدركت أاهنا خماطرة ابلهالك يف
معركة ضد جند أقوى وأكرث ،لكهنا فرصة لنرص حامس رسيع،
فأخذت شطرا من الغيالن ،ومحلت معه ،ألصبح يف قلب
566
فرسان بين األسود ،أقاتل برحمي ،مسقطا هذا عن مييين ،وذاك
عن يساري.
احمتى القتال ،وتأججت الس يوف بدماء فرائسها ،وأحسست
أن فرسان بين األسود يلتفون حولنا ،ليعزلوان عن ابيق جيش نا،
لكن وكيع شن علهيم جهوما اكحسا ،مع زمرة من رجاهل ،كرس
احلصار ،وأعاد اإلرتباك لصفوف بين األسود.
بدت املعركة يف صاحلنا ،وحنن نشق صفوفهم واحدا تلو
اآلخر ،ونصد جهامهتم املضادة .ال أدري مك قتلت مهنم ،لكنه ليس
ابلعدد اليسري.
وانكرست أخريا صفوف بين األسود ،وبدأان نعمق اخرتاقنا
هلم ،لو جنحنا يف شطر جيشهم لنصفني معزولني ،فسنسقط
أحدهام بني انر الس يوف ،ولهيب السهام ،معزولني عن قائدمه.
فتحمس نا ،وكربان ،وزدان يف الطعان.
مل أنتبه للخدعة املاكرة إال متأخرا .وجدت الفرسان تتحرك من
أمامنا ،لتلتف خلفنا .مسح حسام لنا ابخرتاق صفوفه ،أكرث من
قدرتنا ،مث أمر رجاهل ابلهجوم عىل املنطقة الضعيفة ،اليت تفصلنا
عن ابيق اجليش ،بعد أن ابتعدان عن مرىم رماتنا ،وأاهنكنا
التوغل وسط فرسانه.
567
وأدركت من ارتباك األسهم الطائرة فوقنا ،أن فرسانه األوائل
جنحوا أخريا يف الالتفاف حول ابيق اجليش ،ليحارصوه،
ويرضبوا مؤخرته.
مل يكن النرص مس تحيال ،لكن موقفنا أصبح دقيقا .كنت ووكيع
حناول التقهقر ،مقاتلني ،لنعود لبايق اجليش ،بيامن حياول ويل
العهد مض صفوفه معا ،ليقلل من أثر احلصار علهيا ،حيامن مسعت
صوات عاليا ،يرصخ بظفر:
"ألف دينار ملن جيز رأس زعمي الغيالن ،وحيرضه يل".
نظرت جتاه الصوت ،مزحيا جسدا ثقيال عن طريقي ،فرأيته،
اكن حسام حماطا ببعض حراسه األشداء .مكره انقلب عليه مرة
أخرى ،فقد مسح لنا ابخرتاق قلبه ،حىت أصبح قريبا منا ،ومل
يرجع للمؤخرة رمبا لثقته يف النرص.
قلت لنفيس:
"تتباهني دوما برباعتك يف اس تخدام الرمح؟ حان يوم البالء
الفاصل".
هتفت بأربعة من الغيالن أن يتقدموين ،ويفسحوا يل اجملال،
فاندفعوا يصدون الس يوف ،اليت تاكثرت طمعا يف اجلائزة.
انطلق رحمي اكلطري األاببيل ،فدفع حسام مثنا غاليا دلرعه ،اذلي
ألقاه هراب من مبارزيت! مل جيد الوقت الاكيف ،ليطلب من
حراسه صد الرمح القادم ،وال أن جيد درعا يصد عنه الرضبة.
568
ارتفعت ذراعه اخلالية برسعة ،حامةل درعا ومهيا ،فاخرتقها الرمح،
واندفع يمكل طريقه إىل صدره ،فشقه وأسقطه من فوق جواده
رصيعا ،لتدهسه خيول حراسه ،وميوت ميتة أرش مما أذاقها
غول احلق.
أخريا أخذت بثأرك اي أيخ ،لو مزقتين الس يوف املتاكثرة
اآلن ،فسأموت هينء البال.
لكن الس يوف خفتت ،وتراجعت ..كنت أكرب:
"هللا أكرب"
بيامن األساودة يمتمتون:
"مصيب الفويل!"
إذا اكن القائد األسود جعل رجاهل يصدقون أوهام إنه منصور
مبكل من اجلان ،فقد دفع المثن ،إذ صدق رجاهل يف رهبة حاكية
عود رجاهل عىل ات ّباع عقل قائدمه
مصيب الفويل! وألن األسود ّ
فقط ،فقد فقدوا عقوهلم ،ملا أسقطت قائد جيشهم .اختبلت
قراراهتم ،وختبطوا ،وتشتتوا ،رمغ إن الظفر اكن قريبا مهنم .ومل
يلبثوا أن انسحبوا همزومني ،يطاردمه فرساننا ،حىت قتلوا مهنم
الكثري.
569
اكن نرصا مؤزرا ساحقا ،لكنه جمرد البداية .فأغلب جيش
األسود مل ميس ،وهو حيارص مدينة ساوة يف اجلنوب ،ويس تطيع
أن يرسل لنا عرشة جيوش أخرى ،اكليت هزمناه!
أراد أغلب الرجال السري فورا لقتل املغوار نفسه! اكن امحلاس
ميلؤان .فقد هزمنا الفرجنة ،واألهبال ،وبين األسود .وبقيت معركة
واحدة للوصول للنرص .لكن ويل العهد رفض متاما أن نتقدم أكرث
من هذا ،وقال:
"جيب أن يراتح جنودان متاما من أثر السفر املتكرر ،واملعارك
املتتالية ،ونطبب جرحاان ،عل بعضهم يلحق بنا قبل املعركة".
اكن بقاؤان عاةل عىل أهل الواحات ثقيةل .خاصة بعدما أصاهبم
من حقط ،واهنب يف غزو األسود املباغت .لكن ويل العهد اكن
مرصا عىل البقاء .أرحج أنه مل يغرت بنرصان ،وقد أقلقته األنباء عن
خضامة جيش األسود ،حىت لو بدت عسرية التصديق .كنا
نشكك فهيا ،ونقول إن الناس تبالغ ،فأىن هل بعبور وادي الضياع
بلك هذا العدد ،وعبوره أصال معجزة أذهلتنا؟ لكن ويل العهد
فضل الانتظار ،ل ي يرسل األسود لنا جز ًء آخر من جيشه،
فنحارب قواته مفتتة ،خري من أن نلقي بأنفس نا بني أنياهبا.
وهكذا مكثنا أايما يف ساوة .مل يرسل األسود لنا أحدا ،كام
أكدت العيون .وبدا أنه أدرك خطة ويل العهد ،فمل يتبعها،
570
وفضّ ل أن يرتكنا ننتظر ،بيامن يسقط هو القلعة .لكننا رحبنا
الراحة ،وعالج اجلرىح ،وانضامم املزيد من األنصار لنا.
عقدان أخريا أول جملس حرب بعد املعركة .ووجدت وكيعا،
وقد غطت جسده األربطة ،وكذكل جابر ،اذلي أصيب إصابة
شديدة ،لكن بريق عينيه املرصتني ،ظل كام هو ،يدعو للقتال
واجلهاد.
سألت عن اكيدمه ابن ابرم ديهل ،فقال جابر مندهشا:
"أمل تعرف؟"
نظرت هل متسائال أان ووكيع ،فقد كنا يف املقدمة ،مل نعرف ما
أصاب مؤخرة جيش نا.
اكن حسام قد أرسل ممينته ومقدمته ،وشطر من القلب،
لاللتفاف حولنا ،ورضب مؤخرة جيش نا ولكن قائد املؤخرة اكن
اكيدمه ،اذلي مصد مبن معه مصودا مرشفا ،أمام عدو أشد
وأقوى .ظل اكلسد املنيع حيمي جيش نا من ادلمار ،ولكن بعدما
اس تعاد حسام س يطرته عىل اجليش ،وامتص رضبة وكيع
املباغتة ،تساقط رجال اكيدمه واحدا تلو اآلخر ،وااهنالت عليه
الس يوف ،وجنحوا يف جره أسريا جرحيا معهم ،ومه ينسحبون.
أحزنتين خسارة هذا الفارس الشهاع ،ولعل األسود اآلن قد
قطع رقبته ،لكن ذكراه لن متوت معه .رأيت الكثري من جشعان
املامليك ،اذلين خيشون احلرب واملوت ،لكين مل أر إال القليل
571
جدا من أمثال اكيدمه ،اذلين ال خيشون الوقوف إىل جانب
احلق ،والتخيل عن متع ادلنيا يف سبيل اجلهاد.
مبا قلت من قبل ،إنه قاتل معنا ثأرا لشقيقه ،لكين أقولها
اليوم ،إنه قاتل ألنه يعرف أين احلق ،فاتبعه.
رمحه هللا يف موته ،وفرج كربه إن اكن حيا.
عىل أي حال ،اس تقر جملس نا عىل اذلهاب ملدينة ساوة ،دون
املزيد من اإلبطاء .لن نقف هنا مكتويف األيدي ،بيامن اهدم
األسود أسوارها سورا سورا ،متصورا أننا سنبقى منتظرين
حىت يتخلص من املكل.
وهكذا أمران اجلنود جفأة ابملسري ،نريد التحرك برسعة لنس بق
جواسيسه.
لكننا مل نفعل ،فقبل الاقرتاب من مشارف املدينة ،قطع علينا
الطريق مكني من رماة األسود ،بدا أنه أعد عىل جعل ،فقد عمل
بقدومنا من هذا الطريق بوس يةل ما من وسائهل الش يطانية،
واس تعد للمعركة جيدا.
اس تغرق التخلص من المكني بعض الوقت ،وفقدان عددا من
الرجال فيه ،ودب الاضطراب يف صفوف البقية ،لكن ويل
العهد أدار املعركة حبنكة ،متقدما جبنود مدرعني ببطء ،حىت
انل من الرماة ،واحتل الربوة اليت اكنوا خمتبئني فهيا.
572
وهنا حدث أمرين متتابعني ،أاثرا إحباط جنودان ،وضاعف
قلقهم.
فأوال :رأوا ،ورأيت معهم ،حبرا من السواد ال أول هل وال
آخر ،حييط بأسوار همدمة ،ومبان مفتتة حمرتقة! اكن عدد
جيش األسود ،اذلي بلغنا ،حقيقي! مل أتصور رؤية لك هؤالء
البرش يف ماكن واحد قبل يوم احلرش!
ومعهم اكنت آالت حرب خضمة ،مل نعرف لها مثيال ،تقذف
املدينة بس يل ال ينقطع من األجحار والنار.
اكن مئات األلوف من املشاة ،حيوطون املدينة ،كبحر هائل
العيل ،بيامن حييط هبم فرسان
ميوج وراء اجملانيق ،وجنود السور ّ
األسود يف حلقة خضمة حتمهيم.
وزاد األمر سو ًء ،أن نزل املطر .بدا يل ويل العهد مس تبرشا،
وهو يقول:
"نزول املطر قبل احلرب عالمة خري ،فهكذا ثبت هللا أقدام
الصحابة يف غزوة بدر".
قلت بقلق:
"املطر عالمة خري ،لكنه خري ضائع! أغلب جيش نا من
الفالحني املزارعني ،وحنن يف الغرب نعمتد عىل املطر واآلابر يف
الزراعة ،وننتظر نزول املطر طوال العام بفارغ الصرب ،فإذا نزل
573
فيجب أن نكون يف أراضينا نرعاها .أن يزنل املطر عىل جنودان،
ومه بعيدون عن فالحهتم ،فهو أمر حمزن هلم .مه اآلن يفكرون
يف العاقبة ،إن هزمنا فس يحرق األسود قرامه ،وإن انترصان فقد
ضاع مومس الزراعة اجلديد ،وس هيلكهم اجلوع".
قال وقد انتقل مهي هل:
"إن أمر احلمك لهو أصعب وأعىت من مجع اجليوش ،وحماربة
املعتدين .تنهتىي حربنا مع األسود ،عن قتل بس يف مثنه درمهني،
بيامن حربنا ضد اجلوع ال تنكرس".
وتهند وقال:
"لكن حرب الس يوف يه اليت أمامنا اآلن .أخربين ماذا
ترى؟"
قلت:
"ال أجد إال أن ختطب يف جنودك ،لتحمسهم قليال ،ولكن
أخربين كيف س نفعل أمام هذا البحر األسود؟"
أعطاين ظهره ،يتأمل معسكر األسود الهائل ،اذلي يفوق
املدينة جحام وقال:
"ال يوجد خيار آخر أمامنا .لو بقينا هنا مدة أطول،
فس تحطم اجملانيق آخر األسوار .جيب أن ندمر اجملانيق،
574
واألبراج اليت أىت هبا أهل السور العيل ،لتكون أمام القلعة
فرصة للصمود".
قلت:
"وكيف هذا ،وأمامنا لك هؤالء؟"
ارجتف صوته قليال ،وهو يقول:
"لو حاولنا الالتفاف حول جيشه ،فس يوقع بنا يف كامئن،
وحيارصان بسهوةل ،أو نضطر للحيد بعيدا يف قلب الصحراء.
يسهل عليه أن يطلق فيلقا من أمامنا ،وآخر من خلفنا ليوقعنا
بيهنام".
مل جيب سؤايل ،فانتظرت يف صرب ،مث قال كأمنا يس تجمع
جشاعته:
"علينا أن نكون مجيعا غيالان محرا اليوم .أن نلقي بأنفس نا بني
ف ي الوحش ،كام حيكون عن الغول أغاغول ،وثعبان السموم.
لعكل مسعت حاكيته؟"
مل أكن يف مزاج رائق لسامع حاكايت ،لكنه اكن قلقا مبا يكفي
ليضيع الوقت فهيا ،فمل ينتظر وقال:
575
()60
( 1 -60املبدأ )
قال:
"حيىك إنه اكن هناك حدادا شااب حنيال ،يعيش يف قرية
صغرية ،تبعد عن أقرب مدينة بعرشة فراخس .ذات يوم ،ذهب
ملزنل ش يخ البدل إلصالح بعضا من عدة مطبخه ،فإذا به يرى
ابنة ش يخ البدل ،تقدم هل الرشاب.
مل ير من وهجها إال عينهيا ،لكنه إذ نظر فهيام ،أحس كأمنا
هوت صاعقة من السامء عليه ،فقذفته من فوق جبل شاهق
إىل هوة حسيقة بال قرار ..أحس كأنه يطفو يف الهواء .ال هو يف
حبر فيغرق ،وال يف سامء فيقع ،وإمنا أصبح به خفة غريبة اكلطري
احمللق.
وهنا ذهب لش يخ البدل ،يطلب يد ابنته.
576
نظر ش يخ البدل لهذا الفىت ،وامتعض .اكن هزيل اجلسد ،ليس
بذي بنيان هميب ،ورزقه حمدود ،فليس ابلرثي املرحب به،
لكنه ،من انحية أخرى ،احلداد الوحيد ابلقرية ،وهو ال يرغب
يف إغضابه لريحل عهنا.
قال ش يخ البدل:
"ال أزوج ابنيت إال ملن يف مقاهما ،فإن كنت حقا راغبا فهيا،
فعليك أن تسمو بنفسك ،لتصل لها"
سأهل احلداد:
"وكيف ذكل؟"
قال ش يخ البدل:
"لو إنك انضممت لتكل امجلاعة ،اليت تسمي نفسها الغيالن
امحلر ،فسأقبل بك زوجا البنيت".
اكن ش يخ البدل يظن أاهنم لن يقبلوا فىت هزيال مثهل ،ولو
حدث وأاهنم قبلوه ،فأن يكون هل نسيب بيهنم ،س يقوي شوكته،
ويرهب أعداءه.
مل يكن احلداد يعرف عن الغيالن الكثري ،سوى إاهنم فرقة من
اجلند ،تسمو ابلشهاعة فوق لك يشء آخر يف احلياة ،وأن
إحدى قالعهم توجد قرب املدينة.
577
مجع احلداد متاعه القليل ،ورحل حنو املدينة ،يطلب قلعة
الغيالن .ووقف عىل ابهبم ملحا ،يطلب رؤية كبري القلعة ،أو
األغا اخلاص هبم .واكن لقب األغا ال يس تخدمه الغيالن ،بل
املامليك ،ذلا فقد غضبوا منه ،واس هتزءوا به.
لكن الفىت ظل واقفا عىل ابهبم ثالثة أايم ،ملحا بإرصار،
فتأفف منه كبري القلعة ،وأراد طرده بعيدا ،فسأهل أحد أعوانه :
"ومل ال تسمع منه؟"
قال كبري القلعة:
"إنه رجل هزيل ،ومثهل ال يصمد يف قتال".
قال املعاون:
"ومنذ مىت اكن الغيالن يقدرون الرجال بقوهتم ،أال تذكر ما
نقوهل يف كتاب الشهاعة؟ القوة قد ختذكل ،بأن يأيت خصمك
بأشد مهنا ،أما الشهاعة فال ختذل صاحهبا أبدا؟"
تأفف الكبري ،لكنه أدخل احلداد ليقابهل ،وعزم عىل أن يطلب
منه اختبارا مس تحيال ،لريده خمزاي.
نظر كبري الغيالن للحداد وقال هل:
"ما حرفتك؟"
قال:
578
"حداد"
قال هل كبريمه:
" الك لو أردت أن تكون منا ،حفرفتك يه أن تكون منا"!
مصت الفىت ومل يرد ،فقال الكبري:
" لك غول لينضم لنا ،إما أن ينضم منذ الصغر ،يف طفولته،
قد نأخذه قرسا من أههل ،أو اهدونه لنا ليتدرب عىل الشهاعة
احلقة ،أما من مه غري ذكل ،فالبد أن يثبتوا جشاعة ال تضاىه
لنقبلهم"
أحس احلداد بيشء من الرتدد ،مث تذكر عيين حمبوبته ،ولكمة
وادله ،اذلي اكن يقول هل" :ما مل يأت ابلعرس ،لن تعرف هل ذلة"
فأخذ نفسا معيقا وقال:
"وأان مس تعد ألي اختبار منمك".
نظر كبري القلعة هل ساخرا ،مث قال:
"عليك أن جتتاز ثالثة اختبارات ،ال تلهأ فهيا جلنب ،أو غدر،
أو خسة".
قال احلداد:
"أعاهدك عىل هذا".
قال كبريمه:
579
"املهمة األوىل :أن حترض كأس أمري املدينة املزينة ابذلهب
واجلوهر"
واكنت هذه كأسا ،وضعها األمري كهائزة ملن اهزمه يف
املصارعة ،اليت اكن ولعا هبا ،ومل اهزم فهيا قط.
ونظر الغيالن ابس هتزاء ،وحضكوا ،إذ وجدوا احلداد ،جبسده
الهزيل ،مازال واقفا بإرصار ،منتظرا أن يعرف ابيق املهام.
قال كبري الغيالن:
"واملهمة الثانية :أن تعرب وادي الهامات ليال ،وحدك".
اكن هذا الوادي يتناقل الناس عنه أخبارا مفزعة ،عن أش باح
قاتةل ،وجن وعفاريت يسكنونه ،مفن عربه ليال أو اهنارا ،ومل
يقتل ،خرج منه جمنوان
اهزت احلداد يف داخهل ،لكن إرصاره ثبت أقدامه ،خفرج صوته
حازما:
"واملهمة الثالثة؟"
نظر هل كبري القلعة بغيظ ،وظن أنه يس هتزئ به ،فاستبدل
الفكرة الثالثة بأش نع مهنا ،وقال:
"والثالثة أن تقتل ثعبان السموم".
580
شهق من حوهل يف دهشة ،فقد اكن هذا ثعباان جبارا ،طوهل
مائيت ذراع ،وفاكه يس تطيعان أن يقبضا عىل بقرتني ،أو ثالثة
يف وقت واحد ،فيبتلعهم يف قضمة واحدة.
لكن الفىت احلداد مل اهزت ،ألنه تذكر لكمة وادله" :ال حتمل مه
الغد قبل أن ختلص من مه اليوم" .إن حصل عىل الكأس،
واجتاز الوادي ،عندها فقط سيبدو الثعبان خميفا.
والتفت الفىت مغادرا دون لكمة واحدة ،فنظر هل كبري القلعة
متعجبا ،وقال لنفسه:
"إما إنه سريحل بال عودة ،وإما إنه جشاع دلرجة اجلنون،
وسيسعى ملا مهه ،ولو اكنت الثانية ،فليس أقل من أن أعينه
بيشء ما"
فنادى عىل احلداد ،وقال هل:
"قبل أن تغادر ملهمة تتبع الغيالن ،فكل أن متسك سالحا من
أسلحهتم".
وأعطاه س يفه .بدا للحداد اخلبري س يفا ممتازا ،لكنه مل يعرف
أنه س يف غري عادي ،يصيب أي هدف يطعنه يف مقتل ،خمرتقا
أقوى ادلروع.
عىل أن الس يف مل يكن لينفع احلداد يف هممته األوىل ،فوضعه
وسط متاعه ،وتوجه حنو األمري يطلب الفوز ابلكأس
581
نظر األمري بسخرية للفىت النحيل ،وقال:
"أواثق أنك تطلب نزايل؟"
582
( 2 -60الكـأس)
قال هل احلداد:
"نعم اي موالي وليفز ابلكأس أقواان جسدا:
اكن األمري قد أخذ عهدا بأال يرد أي طالب للزنال ،همام اكن،
إىل أن جيد من يغلبه ،وذلا خرج فورا للقاء احلداد
وغلبه بسهوةل طبعا ،رمغ مقاومة احلداد الرشسة ،فقال احلداد:
"ها أنت اي موالي غلبتين يف جولتك األوىل".
قال األمري:
"ارحل اي غالم فإين ال أصارع الرجل إال مرة ،فليس ملهزوم
أن ينال رشف مصارعيت".
قال احلداد:
"اي موالي األمري مل أذكر املصارعة .لكن الزنال ل ي نرى من
منا هل اجلسد األقوى ،وقد أثبت أن ذراعيك أقوى من ذراعي
ابملصارعة ،مفاذا عن ابيق اجلسد؟
نظر هل األمري بفضول ،وقد محت يف قلبه محى حب اخملاطرة،
واملنافسة ،فسأل متصنعا عدم الاكرتاث:
"ماذا تعين ببايق اجلسد؟"
583
قال احلداد:
"اي موالي اجلسد ذراعني وقدمني وبدن وصدر ورأس .فل ي
تثبت قوتك ،عليك أن تغلبين يف امخلسة ،وقد غلبتين يف نزال
اذلراعني حفسب.
قال األمري مندهشا:
"وكيف أثبت قويت يف األربع الباقية؟"
قال احلداد:
"أما القدمان فأمرهام بس يط .لنتسابق اآلن ،وأرسعنا يف
اجتياز طرقات القرص ،هو األقوى".
فاندفع الاثنان بأقىص ما ميكهنام من رسعة .عىل إن األمري ،رمغ
ثقل جسده ،اكن قوي البنيان ،معتادا عىل الرايضة ،فس بق
احلداد.
وأحس بذلة النرص اجلديد يف مفه ،فسأل احلداد بلهفة:
"أرين حرب البدن!"
قال احلداد:
"األمر بس يط ،حفرب البدن فامي جتيده البدن ،أال وهو
الطعام ،لرنم من منا أقدر عىل احامتل طعام غريه".
584
وابتسم األمري ساخرا ،متصورا أن هذا أهون الزنالات ،اليت
دخلها يف حياته ،حىت إنه فكر يف نبذه مس تكربا ،لوال إنه
ابلفعل وافق احلداد عىل مخس نزالات.
لكن األمر مل يكن كام تصور .فقد أصبح عليه أن يألك شظف
العيش ،اذلي حييا عليه احلداد ،من ملح ،وخزب ايبس ،وماء،
وبعض الفول.
أما احلداد ،فزناهل أن حييا حياة األمري املرفهة ،فيألك أطايب
الطعام ،وحلم الغزالن.
واملهزوم من يتخىل عن هذا الطعام أوال.
وحامت اكن هذا أشق نزال مر به األمري .أس بوع اكمل ال يألك
إال أدىن الطعام ،بيامن أمامه احلداد ،غارق يف املذلات اليت اكنت
هل ،وحارب بشدة يبغي الصمود ،ال يصدق أن تكون معدته
أضعف من معدة حداد حقري.
ولكن حيامن بلغ به الضيق مبلغه ،وأصبح قاب قوسني أو أدىن
من الهزمية ،أعلن احلداد إنه أصيب بأمل يف معدته ،وأن طعام
األمري اكلسم احلار ،يكوي جسده ،رمغ أنه ذليذ عىل اللسان؛
لكهنا ذلة تتبعها سكرة األمل واملرض.
وأىت النرص لألمري بني شفيت الهزمية ،مفنحه هذا روحا
متحمسة لإلكامل( .ولو إنه أصبح متشكاك يف طعامه من
بعدها ،ومل يعد يألك من يوهما ما اكن يألكه من قبل)
585
قال األمري ،وهو يتحسس بطنه بفخر!:
"هيا أاها احلداد ،أخربين كيف يتصارع الصدران؟"
قال احلداد:
"وماذا يفعل الصدر؟ يس تنشق الهواء .فأما ما يرحيه هو هواء
الوداين ،ونس مي البحار ،وأما ما يرهقه وجيلب التعب والعرس،
فهو اس تنشاق ادلخان .أقواان صدرا هو اذلي حيمتل ادلخان
الكثيف مدة أطول من غريه ،ال يسقط خاللها خمتنقا ،أو اهرب
للهواء طالبا".
واختار احلداد حطب الورد املندى ،ألنه خيرج دخاان كثيفا،
لكنه غري مؤذ ،كام زمع .فعمد األمري إىل حديقة الورد المثني يف
بساتينه ،فاقتلعها ،وكدس حطهبا يف زنزانة جحرية أسفل القرص،
ال ياكد يدخلها الهواء ،وحبس نفسه مع احلداد فهيا ،وأشعل
النار يف احلطب.
وانطلق ادلخان الكثيف ميأل املاكن ،وهام يكامتن أنفاسهام
بأقىص ما يس تطيعان ،ليتجنبا ادلخان احلار الكثيف.
ومرة أخرى ،بدا أن احلداد س ينترص .فعمهل كحداد جعهل
معتادا عىل دخان احلطب ،ونفخ الكري ،واحلرارة العالية للنار
املتأجهة.
586
وازرق وجه األمري ،وهو متشبث مباكنه ،حىت اكد اهكل،
لكنه متسك بأقدامه ،ال يريد خرسان الزنال.
وهنا ااهنار احلداد جفأة ،وطرق عىل ابب الزنزانة ،يطلب
اخلروج.
وخرج األمري خلفه ،يس تنشق الهواء من حدائقه الغناء ،ال
يصدق إنه مازال حيا ،ومازال منترصا.
وأحس بثقة ال حدود لها .ورمغ إن احلداد مل يعد هل أمل يف
الانتصار ،إال أن األمري حتمس للس باق التايل :س باق الرأس
قال احلداد:
"هو س باق للمكر ،وجيب أن يكون صعبا للكينا ،فال ينرصك
ماكل أو قوة عضالتك .جيب أن نكون متساوين أمام من نريد
غلبته ،للفوز ابلس باق".
فعاهده األمري املتعطش للتحدايت عىل هذا ،فقال احلداد:
"هناك امرأة خبيةل جعوز ،تعيش يف سوق املدينة ،تبيع األمقشة.
ويه ماكرة جدا ،وحادة الطبع ،فال يس تطيع أحد أن يغلهبا يف
مثن بضاعهتا ،ولو اس تطاع أحدان أن يأخذ مهنا شيئا بأقل من
مثنه ،قبل اآلخر ،فهو الفائز"
فقبل األمري متحمسا ،وأراد اذلهاب للسوق ،لكن احلداد
أوقفه قائال:
587
"اي موالي .أال تذكر عهدك؟"
قال األمري:
"بىل أذكره".
قال احلداد:
"لو رأت جندك ،خلشيت بطشهم ،ولو رأت مالبسك
الفاخرة ،طمعت يف ماكل ،ولو كشفت عن ذراعيك املفتولتني،
مصتت رعبا منك".
فقال األمري متحريا:
"إ ًذا مفاذا أفعل؟"
قال احلداد:
"ال أرى حال سوى أن ترتدي مثيل ،مالبسا رثة ممزقة ،وتضع
أحد ذراعيك داخل الثوب ،فتبدو أكتعا ،بيد واحدة ،فال
ختشاك ،أو تطمع فيك".
وقبل األمري الرشط عىل مضض ،لكنه الزتم ابلوفاء بعهده ،مل
حياول المتلص منه ،ألن وعد احلر دين عليه.
وخرج الاثنان وحدهام إىل السوق ،فذهب لها احلداد أوال،
يسألها عن أسعار أمقش هتا نوعا نوعا .حىت أصاهبا السأم ،لكهنا مل
588
ترض أن تزنل يف سعرها ،وملا بلغ إحلاحه مداه ،اثرت فيه ،لرتده
خمذوال.
فتقدم األمري ،ففعل مثهل قليال ،مث طلب مهنا وشاحا رخيصا،
فلام أحرضته ،أحل علهيا أن تلفه هل ،فلام فعلت ،تعرث يف كومة من
األوحشة الغالية ،فأسقطها ،فأخذ يعتذر ،ويرفع األوحشة ،يردها
ماكاهنا ،ويف غفةل من الس يدة ،استبدل وشاحه اذلي يف
اللفافة ،بأحد األوحشة الغالية ،واهنض أماهما حامال اللفافة،
فسألها عن مثهنا الرخيص ،ونقدها إايه.
ذهب األمري للحداد فرحا ،وقال ها هو الوشاح ،وها أان
غلبتك بذراعي ،وقديم ،وبطين ،وصدري ،ورأيس أاها الفىت
األمحق ،فابتعد عن وهجىي أاها املهزوم.
فقال هل احلداد:
"حق كل اي موالي أن تفرح ابنتصار رأسك ،وس يذكر الناس
عيل بأشد من أي نرص آخر ،همام طال العمر". حامت نرصك ّ
قال األمري متعجبا ،وخفورا:
"وما ميزيه عن غريه من انتصارايت ،وأجمادي؟"
قال احلداد:
"ألن الناس س تذكر أن األمري جرى يف طرقات قرصه كام
يفعل األطفال ،واستبدل طعامه الفاخر بطعام خشن ،واقتلع
589
زهوره الغالية ،ليحبس نفسه يف السجن معها ،ويشعل النار يف
احلجرة ،اليت جيلس فهيا ،مث ارتدى مالبس الشحاذين ،وذهب
ليحتال عىل جعوز مسكينة ،فرسق وشاهحا كام يفعل أدنأ
اللصوص!
مصت األمري مهبوات ،مث قال:
"إليك عين .خذ الكأس اذلهيب ،وارحل .فمل يغلبين ،ولن
يغلبين من هو رش منك".
فأخذ احلداد الكأس ،وذهب به لكبري قلعة الغيالن امحلر،
فتعجب هو ومن معه ،وقالوا:
"لكنك مل ترصع األمري؟"
قال احلداد:
"صارعته دون خش ية ،وفزت لمك ابلكأس ،مفاذا تريدون؟"
نظر كبريمه بإجعاب إىل الكأس امجليةل ،وقد تراقصت نفسه
قليال مع تأللؤها ،فقال لنفسه:
"وملاذا أرد الكأس؟ مازال أمامه هممتني لن ينجزهام".
فقال بصوت عال:
590
"قبلنا الكأس اي أغا غول (ساخرا من سؤاهل عن أغا القلعة،
أول ما أىت هلم ،فصار احلداد معروفا هبذا الامس الغريب:
أغاغول)
591
( 3 -60الوادي )
وأصبح عىل احلداد ،أو أغاغول ،أن يعرب وادي األش باح يف
ليةل ،وزاد من اخلوف أن اكنت تكل الليةل غري مقمرة.
لكن أغاغول أعد عدته قدر اس تطاعته .اكنت املشلكة إنه ال
يوجد من عرب الوادي ،من قبل ،سلامي ل ي يسأهل عن األخطار
اليت س تواهجه فيه ،ذلا قرر إنه جيب أن يتأخر خلف خشص
ما ،حىت يرى ما يناهل ،قبل أن يتقدم هو.
أعد مج ًال كبريا ،ووضع عليه حشوة من قش ،عىل شلك
إنسان ،كام لو اكنت الراكب ،وأطلق امجلل أمامه ،ومىض
متسلال خلفه.
مل ميض وقت طويل ،حىت بدأت أخطار الوادي تتواىل .اكن
أول ما صادفه أصوات جعيبة تدوي حوهل .تبدو كام لو اكنت
تنطلق من لك جحر ونبتة أمامه .رصخات شنيعة مرعبة يف
البداية ،لكنه تشبث بشهاعته ،وبذكرى عيين عروسه املرتقبة،
ومىض .مث أتت حضاكت قوية ،أشعرته بنشوة غريبة ،ورغبة يف
أن يضحك حىت املوت
فأخذ يذكر لك أحزان حياته ،ووفاة وادله ،وأمه ،وأحزن
القصص واألشعار ،واجتاز تكل املنطقة مبشقة كبرية.
592
وهنا بدأت أصوات أسوأ من سابقهتا .أصوات مغرية فاتنة،
تذيب القلوب ،وتؤجج األهواء ،تدعوه لفنت ومذلات ال حد
لها ،وتصور هل إاهنا موجودة عىل جانب الطريق ،لكنه إذ اكد
يضعف ،سد أذنيه وتقدم حنو مجهل املضطرب ،فغطى أذنيه هو
اآلخر ،ليمكل املسري يف مصم.
وقطع ثلث الوادي آمنا،
لكن الثلث الثاين بدأ بداية أكرث إفزاعا .مل تكن هناك أصوات،
بل رؤى شنيعة.
اكن مييش مطمئنا ،بعد أن جحب عن أذنيه تكل األصوات
املدمرة ،فإذا به يرى حمبوبته ساقطة عىل األرض ،ومجهل يتقدم
بإرصار ،فيدهسها.
وأصابه الهلع ،إذ رأى ادلماء تتدفق مهنا ،وجسدها الغض
يتشوه ،واندفع مرسعا حنوها ،لوال أن ساعده احلظ ،فتعرث يف
جلام مجهل ،وسقط أرضا ،وحني اهنض ،وجد إن اجلسد احملبوب
تالىش.
ونظر حوهل ،ليهدها يف لك ماكن .أش باح ،وهوام تطري،
وتسري ،ترصخ ،وترضب ،وتطلب رؤوس أانس ال يعرفهم ،لكنه
أحس برغبة عارمة يف قتلهم ،ومتزيقهم .اكنت ترصخ بـأصوات ال
تسمع عرب اآلذان ،بل عرب القلوب ،فال ينفعه مهنا حامية ،واكنت
593
تتحدث وتتحدث بإحلاح ،حىت جتذب ذهنه ،فترشده عن
الطريق.
أحس أنه يسقط يف برئ معيقة بال قرار ،وأنه ال يرغب إال يف
الرحيل عن هذا املاكن بأي مثن ،وحيامن فكر يف هذا ،وجد من
اهمس يف أذنه ،أو عىل األحص لقلبه بإغراء :ولو اكن المثن أيب،
وأيم ،وعيين حمبوبيت.
لكن هذا اكن خطأ تكل الهوام اجلس مي .فقد أطلقت يف عروقه
دفقات غضب انرية ،أنقذته من احلال اذلي اكن غارقا فهيا،
فثبت أقدامه ،وتشبث حببل ربطه يف مجهل ،وخفض أذنه
يبعدها عن رؤى املوت ،والرعب ،والفنت ،واملذلات ،اليت
أخذت تتكرر أمامه ،إما تدعوه جلانب الطريق ،أو ختوفه من
الاس مترار فيه.
وبعد زمن مىض عليه كدهر ،انهتت تكل الرؤى الشنيعة ،لكن
بعدها وجد يف نفسه وساوس أخرى تلح عليه.
يرغب يف أن يرصخ ،أو يرقص ،أو يقفز .أحياان يشعر خبفة،
جتعهل يظن أنه قادر عىل الطريان ،أو أنه لو قفز وسط الرمال،
فسيس بح فهيا كام لو اكنت حبرا .لكنه حتمك يف نفسه ،وظل اكمنا
يف اختبائه ،مييض متسلال خلف مجهل ذو احلشوة ،وأخذ يكرر
لنفسه آية الكريس ،واملعوذتني ليقوه تكل الوساوس.
وأخريا قطع الثلث الثاين من الطريق بسالم.
594
بدا هل أن املاكن قد أصبح آمنا ،وأن مجهل مييش يف ثقة.
وأحس براحة كبرية ،وبدا هل هذا اجلزء من الوادي متسعا رحبا،
بال خماطر.
مث جفأة ،تفتت الصخور ،وتشققت األرض حول مجهل ،وانطلق
جضيج ورعب ،لتلفظ األرض لهبا حارا السعا ،لكنه أسود ال
ضياء فيه ،ونفثت دخاان مقبضا قامتا ،خانقا بأشد من أي دخان
رآه احلداد.
ومكن أغاغول مرتعبا خلف خصرة ،يرقب فإذا ابألرض تلفظ
ش ياطينا كثرية مرعبة ،لها قرون كقرون الثريان ،وأذانب كذيول
اذلئاب ،وأقداهما كأقدام البغال ،وأس نااهنا حادة المعة كأس نان
األسود ،لوال إن أنياهبا طويةل ،كام لو اكنت مسامري من
الصلب ،وتشهر خمالهبا اليت تش به خناجر قاطعة.
رصخت تكل الش ياطني بأصوات قبيحة ،وهللت فرحة ويه
تدور حول امجلل ،وترصخ وتعوي قبل أن تنقض عليه ،فهجمت
أوال عىل احلشوة القش .فلام وجدهتا ليست برشا ،أشاروا لها
بأصابعهم ،فإذا هبا تش تعل بلسان من لهب أمحر ،مث أسقطوا
امجلل املسكني ،وااهنالوا عليه متزيقا مبخالهبم وأنياهبم ،وأغاغول
يراقهبم يف رعب .مث الحظ إاهنم ينزتعون جز ًء من أطيب
األماكن يف امجلل ،فال يقربوه ،وإمنا جيمعوه يف قدر كبري ،كام أتوا
بكأس خضم من احلجر ،عليه نقش يش به امحلار ،مفلئوه بدماء
595
امجلل ،مث محلوه حنو ش يطان كبري ،جيلس منتظرا ال يشاركهم
عبهثم ،فأمسك الش يطان الكبري بقطعة من اللحم الين ،مفضغها،
مث بصقها وقال:
"ما هذا؟"
قالت ابيق الش ياطني بصوهتا القبيح ،اذلي يش به مزجيا من
حفيح الثعبان ،وعواء اذلئب:
"أطيب حلم امجلل اي موالان".
قال الش يطان الكبري:
"تبا لهذا أال يوجد يشء من حلم البرش الذليذ؟"
بدت الش ياطني مرجتفة ،ويه تقول:
"مل جند مع امجلل برشا اي موالن ،اكنت عليه حشوة من قش".
نظر هلم ملكهم املريع هذا بعني غاضبة ،فأضاءت بضوء أمحر
قوي ،سطع عىل رمال الصحراء ،فذابت لتتحول إىل زجاج.
ومر به عىل أجساد أتباعه ،فأطلقوا رصخات أمل ،قبل أن
خيفض عينيه إىل الكأس اململوء ابدلم ،فريتشف منه رشفة
ويقول:
"وما هذا ادلم؟"
قالوا مرتعبني بصوت يش به صوت البوم:
596
"دم من دم امجلل! طازج اي ملكنا مل يذقه أحد قبكل!"
مط ملكهم شفتيه وقال:
"ال بأس اذهبوا وامرحوا!"
هرعت ابيق الش ياطني عائدة للجمل ،تلهتم من محله ،وترشب
من دمه ،ويه تغين غنا ًء بشعا ،فتسلل أغاغول مقرتاب،
مس تغال انشغاهلم هذا.
وهنا ،التفت هل املكل ،ورصخ رصخة شنيعة ،اهزتت لها
خصور الوادي ورماهل ،فشهر أغاغول س يفه ،واندفع ميزق ثالثة،
أو أربعة ش ياطني من طريقه ،متجها حنو املكل.
الش ياطني خملوقة من انر -كام تعرف -فال تؤذاها الس يوف،
لكهنا إذا جتسدت ،وخرجت يف صورة البرش ،لتؤذاهم أو
تقتلهم ،فإاهنا متتكل ابملقابل اجلسد ،اذلي تؤذيه الس يوف
والرماح ،فتفقد حاميهتا النارية .وهكذا اندفع أغاغول ابلس يف،
اذلي أعطاه هل كبري القلعة ،ليسقط ثالثة آخرين من حرس
املكل ،مث أمسك املكل نفسه ،فقبض عىل عنقه األسود،
املغطى ابلشعر اخلشن ،ووضع س يفه عىل حلقومه.
اثرت الش ياطني وهاجت ،وشهرت خمالهبا ،اليت تش به
اخلناجر ،تبغي متزيق أغاغول ،فضغط بنصل س يفه عىل مكل
الش ياطني ،حىت جرحه ،خفاف األخري عىل حياته ،فرفع يده
حنو أتباعه يأمرمه ابلسكون ،فصمتوا.
597
مث قال املكل:
"اي ابن آدم .قد قطعت علينا مجعنا ،وهتكت سرتان ،وقتلت
من رجالنا .لكنك إذ ارتكبت هذا اجلرم ،فقد أبليت بال ًء
فعيل كل إنك إن متنيت أي حس نا ،وأثبت جشاعة محمودة ،وذلا ّ
عيل ،وسأحقق أمنية ،أجبهتا بلمح البرص .أطلقين ،مث متىن ّ
بقويت وحسري ما تشاء ،وسأجعكل أغىن أهل األرض".
لكن أغاغول رجل حصيف ،يعمل أن الش ياطني ال تفي
بوعودها ،ولو أوفت فهذا رش من أالّ تفي ،ألن أمرمه ال يأيت
منه خري قط .حىت لو أعطوه ماال ،فس يكون ماال ملعوان ،يزيد
مهومه وال ينقصها.
ذلا فقد قال:
" الك! لن أتركك أاها املكل ،حىت أخرج من الوادي آمنا ،أو
أهكل معك!"
فأخرج الش يطان من معطفه جحرا أصفرا المعا ،وقال:
"تعجبين رابطة جأشك ،وذلا سأزيد املاكفأة ،خذ هذا احلجر
السحري ،اي ابن آدم وحدق فيه .لو حدقت فيه بقوة ،فسرتى
لك كنوز األرض يف أماكهنا ،لتنال مهنا ما تشاء .لو ألقيته حنو
عدو كل ،فس يقتهل هو ومن معه ،ويعود كل ساملا ،ولو وضعته
عىل رأس صديق كل ،فسيشفى من أي مرض .لو أمسكت
فيه ،ونفخت فسرتى نوااي من أمامك ،وتعرف إن اكن يضمر
598
كل خريا أو رشا .هذه هدية مثينة جدا ،وكزن من كنوزان
األعظم .خذه وجربه ،فإين صادق معك ،ألين أفتدي به حيايت.
أقذفه عىل أي واحد من هؤالء ،فس هيكل ،ويعود كل احلجر
ساملا ،امسحه عىل رأسك ،فستشفى جروحك.
تعلقت عينا أغاغول ابحلجر مرتددا ،وهو يفكر ،حىت إنه وجد
يده متتد هل ،ومتسك به دون أن ينتبه .وأثناء حتديقه فيه ،تراءت
لعينيه ألوان وبريق المع ،راودته نفسه إنه لو دقق فهيا أكرث،
فسريى جواهر مجيةل.
لكنه انتقل برشوده إىل جامل عيين حبيبته ،وبدت هل أمجل
من لك اجلواهر ،فإذا به يراهام يف احلجر
وهنا أفاق من السكرة ،وأدرك إن األمر ال يعدو جمرد حسر
وفتنة ،مث تذكر اآلية الكرمية (اَّلل اذلي مخلمقم ْمك مث مر مزقم ْمك مث يميت ْمك
يشء) فقال رش ماكئمك من ي م ْف معل من مذلمك من م ْ يمك ه ْمل من م مث ْحيي ْ
لنفسه :ومل الطمع؟ املرض والشفاء واملوت واحلياة والرزق لكها
عيل أن أجلأ
عيل أن أسعى ،ولكن ليس ّ بأمر هللا .نعم ّ
للش ياطني ،فأكون مكن قال هللا فهيم (أملم ْم تم مر إ مىل اذل مين يم ْزمع م
ون
ون أم ْن يمتم مح مامكوا
كل يريد م أماهن ْم آممنوا ب مما أنز مل إلم ْي مك مو مما أنز مل م ْن قم ْب م
إ مىل الطاغوت موقمدْ أمروا أم ْن يم ْكفروا به مويريد الش ْي مطان أم ْن
يضله ْم ضم مال ًال بمعيداً ا)؟
599
لو أصابين أان أو أحصايب قضاء ،فلن ينفعنا جحر الش ياطني،
ولو طمعت ،فس هيلكين اذلهب ،فضحاايه كرث قبيل.
ورمغ إن يف نفسه بقية من تردد ،وإحساس أنه قد يندم عىل
هذا يف املس تقبل ،لكنه تشبث بعزمية اإلميان ،وألقى ابحلجر حنو
واحد من الش ياطني ،بدا هل هزيال عن غريه ،وقال هل:
"خذ هذا احلجر كل ،فلو اكن كام قال ،جلعكل ملاك عىل هذا
الوادي!"
نظر الش يطان الهزيل فرحا للحجر ،وأخذ حيدق فيه ،وقد
جذبته األلوان والتأللؤ ،اذلي جذب أنظار أغاغول من قبل،
فإذا به ينظر حوهل ،كأمنا هو ابلفعل يف اذلهب واجلوهر ،وأخذ
يبعرث الرمال ،كام لو اكنت لؤلؤا ،وبدا عليه اخلبال ،قبل أن
ينقض عليه ش يطان آخر ،قتهل لينزتع احلجر منه ،مث اندفع عدد
كبري مهنم يتصارعون عليه.
قال أغاغول:
"إ ًذا ،فهكذا أصبمت ابجلنون من ينجو منمك ،ويعرب الوادي؟
وهللا لن أتركك اي مكل الش ياطني ،حىت أخرج من هنا ساملا
بإذن هللا".
وأخذ يدفع املكل أمامه خطوة خبطوة ،والش ياطني األخرى
تتبعه عاجزة ،حىت وصل لهناية الوادي ،فوقفت مجيعا عاجزة،
وبدا اذلعر يف وجه وصوت املكل املذعور ،وهو يقول:
600
" أال يكفي هذا؟"
قال أغاغول برصامة:
"تقدم".
قال املكل:
"أتوسل إليك .لو إنين تقدمت ،فسأهكل معك .أنت تريد
الاس مترار ،هذا شأنك ،لكن يوجد يف اهناية الوادي وحش
رشير مريع ،ال ينجو منه إنس ،أو جن ،أو ش يطان .حاول أن
تقتهل أنت ،أو هترب منه كام تشاء ،لكننا حنن الش ياطني ال نقدر
عىل ذكل".
فكر أغاغول قليال ،مث قال للش ياطني األخرى ،اليت تتبعه:
ارجعوا أنمت وابتعدوا.
فأرسعوا اهربون ،كأمنا انر اجلحمي تطاردمه ،وملا غابوا عن
نظره ،أطلق مكل الش ياطني ،اذلي أرسع يعدو هاراب هو
اآلخر ،مث توقف وهتف:
"أاها األنيس الشهاع! ارضب الوحش يف عينيه ،إذا اقرتب
منك وهجه ،فهذا سبيل جناتك".
مث أرسع يمكل عدوه حنو اجلهة األخرى من الوادي ،فاندفع
أغاغول بدوره يعدو حنو الهناية.
601
وهنا وجد جشرة كبرية جدا ،تسد الطريق .فتقدم زاحفا ،حياول
أن مير من أسفلها ،فإذا به جيد إاهنا ليست جشرة.
اكنت حلية مارد همول ،انمئ عىل مف الوادي.
اهنض املارد العمالق ،لرتتفع رأسه لعنان السامء ،قدمه يف جحم
أخضم األجشار ،اليت رآها أغاغول يف حياته ،أو أكرب .وميسك
بعصا غليظة ،بدت ألغاغول يف طول سارية مركب ،من أخضم
سفن أسطول املكل.
مث أحىن العمالق رأسه ،لينظر بوهجه القبيح ألغاغول ،ويقول:
"من هنا؟"
قال أغاغول ،وجسده اهزت من دوي صوت املارد:
"السالم عليمك .أان حداد بس يط ،كنت أعرب الوادي،
فطاردتين الش ياطني ،وهربت مهنم .أرجو أن تسمح يل اي
س يدي ابلعبور".
هنا احنىن املارد ،حىت أصبحت أنفه مالصقة لألرض ،ليحدق
بعينيه يف أغاغول ،اذلي فكر إنه لو أطلق س يفه اآلن،
فس يعمي عيين العمالق ،كام نصحه مكل الش ياطني ،مث
يس تطيع التسلل من بني يديه ،وينجو مبتعدا.
لكنه عاد ،وفكر مك يف هذا من ظمل .لقد انتظر العمالق حىت
يتثبت من أمره ،ويعرف من هو .وتذكر اآلية الكرمية (إ ْن مجا مء ْمك
602
فماسقٌ بنمبمإ فمتم مبينوا) وعيب عليه إن ابتدر ابلهجوم ،قبل أن يتبني
أمر العمالق ،حىت لو اكن مثن اخملاطرة شديدا.
تشمم املارد راحئة أغاغول بقوة ،حىت إن األخري أحس أن
شهيقه س يهذبه ألعامق صدر املارد.
مث قال املارد:
"راحئتك اكلبرش ،لكن البرش ال حياولون عبور هذا الوادي
ليال!"
قال أغاغول:
"اضطررت لهذا .اكن وعد قطعته عىل نفيس ،وأنت اي
س يدي الكرمي خري من يعرف إن وعد احلر دين عليه".
هز املارد رأسه موافقا ،مث قال:
"لكن القةل اليت رأيهتا من البرش ،تعرب الوادي يف الهنار ،اكنوا
إيل إال جمانني مساكني ،وأنت حتتفظ بعقكل". ال يصلون ّ
قال أغاغول وهو يتحفز بس يفه -ألنه حىت وإن بدا املارد
ودودا فإن احلذر ينفع وال يرض: -
"أغروين ابذلهب ليذهب عقيل ،لكين فطنت أنه ال نفع يف
يشء يأيت من الش ياطني".
603
فضحك املارد حضكة شنيعة ،دفع زفريها أغاغول للخلف،
وقال:
"هذا حصيح .ليتين كنت يف فطنتك .أول مرة أتيت فهيا لهذا
الوادي منذ ثالمثائة عام ،تقربوا يل وتوددوا ،وأهدوين حذا ًء.
لعكل تدرك مدى عظم تكل الهدية عندان معرش املردة .فليس
من السهل عىل من يف مثل جحمي أن جيد حذا ًء يناس به ،وال
عىل من ميكل يدين غليظتني كيد ّي أن يصنع واحدا .لكن ما أن
ارتديت احلذاء ،حىت اكتشفت إنه مسحور ملعون .لو خطوت
به خطوة ،فإنه ال يتوقف أبدا ،حىت أبتعد عن أرضهم ،ولو
وقفت به خارج حدودها ،فإنه يتوقف أبدا ،وال يتحرك،
ويتشبث بقديم ال يريد أن خيلع .أخذ األمر مين مخسني عاما،
ل ي أس تطيع العودة للوادي ،سائرا مقلواب عىل يد ّي ،ألقف
عىل مفه ،فأحبسهم فيه ،وأدفع أذامه عن ابيق الناس ،رمغ إن
حسر احلذاء اللعني مينعين من أن أقتحم أرضهم".
مث اهنض العمالق مرة أخرى ،وقال:
"حس نا اي ابن آدم .أنت ضيفي اليوم .سأطعمك غذا ًء مل تذق
مثهل أبدا ،فأان خري من يطهو جذور الاكفور .ليس لك يوم
أقابل جشاعا من األنس ،غلب الش ياطني".
قال أغاغول:
604
"أشكرك س يدي دلعوتك الكرمية ،ولكين ملزم بعهدي أن
أخرج من هذا الوادي قبل طلوع الفجر .ميكنين أن آيت كل
وأزورك ،وأحاول أن أفك عنك قيدك املسحور يف وقت
الحق".
ابتسم العمالق قائال:
"ال أظن أنك س تعود يل اي عزيزي".
قال أغاغول:
"ومل ال اي س يدي؟ سآيت من هذه الهناية للوادي ،ألزورك
مبارشة دون املرور ببايق أخطاره".
قال العمالق :لن ينفعك هذا .أان دوما يف اهناية الوادي .لو
أتيت من تكل اجلهة ،فس متر بلك ما مررت به اآلن ،بنفس
الرتتيب ،فهذا ليس واداي عاداي .الفارق بني هذا املدخل ،أو
ذاك .ولهذا فائدة ،فهكذا اس تطعت حبس الش ياطني فيه ال
خيرجون منه.
شعر أغاغول ابحلرج ،مث قال لنفسه" :لو أردت أن أنضم
للغيالن امحلر اذلين يرفعون الشهاعة فوق أي يشء آخر فلن
أفلح إن جبنت عن زايرة هذا املارد الطيب".
فقال للامرد:
605
"أعدك اي س يدي إنين إن جنحت يف همميت ،وجنوت من ثعبان
السموم ،فسآيت لزايرتك مرة أخرى".
ابتسم العمالق ابتسامته الشنيعة ،وقال:
"تفضل ابلعبور آمنا بإذن هللا ،وأان يف انتظار عودتك ،أدعو
كل ابلنهاح يف هممتك".
وهكذا عرب أغاغول الوادي قبل الفجر بقليل ،ليقابل جامعة
الغيالن تنتظره يف ملل ،لكهنم ذهلوا ،ورصخوا مهبورين إذ
وجدوه قد خرج منه آمنا.
حيهنا قال كبري الغيالن:
"ال حاجة لنا ابملزيد من الاختبارات .أنت اي بين من خري
الغيالن امحلر".
فقال أغاغول:
"وعدتك بقتل ثعبان السموم ،وسأيف بوعدي".
قال كبري القلعة:
"أنت يف حل من وعدك".
قال أغاغول:
"وعد احلر دين عليه ،ووعد الغول األمحر س يف مسلط عىل
رقبته ،ال جيب أن يرجعه عنه أسوأ األخطار.
606
كام ترى فإن أغاغول قد تغري بعد هذه التجربة ،وأصبح حمبا
ملواهجة األخطار ،وأكرث عزما يف مواهجهتا .اكن يشعر أن مواهجة
ثعبان السموم أمر واجب ،عليه أال يتخاذل فيه ،كام لو اكن
بيهنام ثأر خشيص.
فرحل حنو الصحراء ،اليت يعيش فهيا الثعبان ،وكبري القلعة
يتأسف عليه ،ويتحرس عىل ضياع مثل هذا الغول املمتاز ،وإن
اكن ما اهون األمر ،إنه قد حقق هدفه ،وأصبح فعال من
الغيالن امحلر ،قبل أن ميوت".
607
( 4 -60ثعبان السموم )
وارتدى أغاغول ثياب الغيالن ،ودروعهم امحلراء املنقوشة،
ومحل س يفه الفتاك ،حنو تكل الصحراء ،ابحثا عنه.
يف البداية وجد درواب ومدقات عريضة ،يسهل امليش فهيا،
فاختذها هل طريقا أثناء حبثه .مث عرث عىل بركة من ماء وسط
الطريق ،فاحنىن ليرشب مهنا ،مث تراجع ،إذ أدرك أن هذا املاء
يلمع حتت ضوء الشمس ،بأشد من املاء العادي .ونظر حوهل
متحريا ،وجفأة قفزت احلقيقة ذلهنه ..هو ليس يف طريق معبد،
بل هذه آاثر زحف الثعبان العمالق ،وهذه ليست بركة مياه،
بل يه بركة من لعاب الثعبان املسموم ،ولو اكن مسه بيده
لقتهل.
إ ًذا ،فهذا الثعبان املاكر يعد كامئنا لفرائسه.
مغس أغاغول س يفه يف بركة السم ،لزييد فتكه ،مث تقدم زاحفا
حبذر ،متتبعا اآلاثر لريى الثعبان.
وليته مل يره! اكن خضام حقا ،بأضعاف ما تتناقهل األساطري .مل
يتصور وجود يشء يف العامل هبذا احلجم اخمليف! وأخذ يفكر من
أي هجة اهجم ،لينال منه؟
608
لو إنه تسلل من اخللف ،فس ميزقه اذليل العظمي إراب ،ولو
التف من أحد اجلانبني ،فس يعترصه اجلسد اجلبار اعتصارا ،ولو
حاول الزحف من أسفل ،فس يقتهل الثقل اخمليف.
وطبعا من األمام ،هناك الرأس الفتاك ،بأنيابه القاتةل ،اليت
تفيض سام!
أينتظر نومه؟ لكن كام تعمل ،فإن نوم الثعابني خمادع ،وابذلات
تكل العامليق ،اليت تدرك أاهنا لن تفاجئ فرائسها أبدا ،فتبدو لها
خامةل ،علها ختدعها ..نوم الثعبان مساو لغدر الثعبان.
اكن أمامه الرأس العظمي مبارشة ،ابلفكني الضخمني ،اذلين لو
فتحا ،لبد موا كباب كهف كبري ،والنابني الالمعني ينذران ابدلمار
للك من يواهجهام ،والعينان الرباقتان ،اللتان يقال إاهنام تصيبان
من يتأملهام بنوم غامش.
وأدرك أغاغول أنه لو أراد أن يصل ملقتل الثعبان ،فلن ينفعه
مراوغة أو مناورة .الهجوم املبارش هو احلل الوحيد ،اذلي به
نفع ،رمغ إنه األشد خطرا بني ابيق احللول .ولكن منذ مىت اكنت
الغيالن امحلر تلقي ابال لألخطار ،وأنت طبعا خري من يعمل
هذا؟
اندفع صارخا حنو الثعبان ،اذلي جتمد للحظة مدهوشا من أمر
مل ير هل مثيال من قبل .مث فتح فكيه ممنيا نفسه بلحم البرش،
واندفع بدوره اكلطوفان ،حنو هذه الفريسة السائغة
609
وجهم أغاغول مرسعا ،فقفز بني ف ي الثعبان إىل قلب مفه!
وحاذر أن ختدشه األنياب السامة ،وجتاوز األس نان القاطعة،
حممتيا بدروعه امحلراء ،حىت ال ميسه اللعاب املسموم .وما أن
أصبح مس تقرا يف مف الوحش ،أرسع مسابقا الوقت ،قبل أن
يبتلعه ،بطعنه بلك قوة.
طعنة تلو الطعنة ،يشق الطريق دلماء الثعبان
وتدفقت ادلماء تغمر املاكن اكلفيضان ،وتدفق مس الثعبان
ليرسي يف دمائه ،فرصخ الثعبان متأملا ،وقذف مبا يف مفه ،ملقيا
أغاغول الغارق يف دماء الثعبان ،مث ارتفع اجلسد املهول ألعىل
وهو يرجتف ،قبل أن اهوي خاشعا فوق أغاغول ،اذلي قفز
متجنبا الثقل العظمي يف آخر حلظة ،وارتعش جسد الوحش
رعشة أخرية ،وانتفض انتفاضة عظمية ،قذفت بأغاغول وأكوام
من الرمال بعيدا ،قبل أن اهمد لألبد.
610
( 5 -60املنهتىى )
وأخريا اهنض أغاغول حامال س يفه ،فنظف جسده مما علق به
برسعة ،حىت ال يصيبه السم .مث اندفع بس يفه ،وفأس قوي،
فكرس مف الثعبان ،وانزتع أحد النابني ،ونظفه من السم ،وذهب
به إىل الغيالن دليال عىل جناحه.
فرح به الغيالن كثريا ،وفرح أهل املدينة وما حولها من القرى
هبالك الثعبان الرشير ،وأاته ش يخ بدلته فرحا ،مقبال ابلعروس.
ففرح أغاغول كثريا ،لكنه طلب تأجيل الزفاف شهرين اكملني،
ألن عنده وعد قطعه عىل نفسه يف وادي األش باح ،وعليه أن
يفي به.
وتركهم ورحل حنو الوادي .ال أحد يعمل ماذا فعل يف هذين
الشهرين ،لكن يقال إنه شق طريقه بس يفه الفتاك بني
الش ياطني ،فأش بعهم قتال وعاش لفرتة مع املارد الطيب ،وأهداه
الناب الثاين للثعبان ،ففرح بتكل الهدية كثرية ،وقاده يف زايرة
لعدة بدلان وأماكن جعيبة ،ومرا مبغامرات يشيب لها الودلان،
قبل أن يعود ظافرا للمدينة ،فنصبه الغيالن كبريا عىل قلعهتم،
وتزوج من حمبوبة قلبه ،وعاش معها يف سعادة آلخر ادلهر.
611
()61
أمت ويل العهد حاكيته ،اليت يبدو أنه أطال فهيا تلكؤا عن اختاذ
قرار خميف .لكن أعرتف إاهنا اكنت مسلية ،أزالت بعض التوتر
اذلي كنا حنسه ،ومن انحية أخرى ،فلكام بقى اجلنود مدة
أطول عىل مشارف جيش األسود ،فرمبا اعتادوا مشهده ،وبدا
أقل وحشة يف عيواهنم!
أخذ يرشح لنا خطته .مل يكن يرى أمامنا إال اجملازفة ابالندفاع
يف خط مس تقمي حنو القلعة ،حماولني شق طريقنا ابلقوة،
واملفاجأة ،وسط معسكر األسود .علينا أن خنرتق الصفوف
األوىل للفرسان برسعة ،وبعدها س منيض اكإلعصار وسط حبر
املشاة هذا ،لنصل إىل كتائب السور العيل ،وجمانيقها،
فندمرها ،ونعتصم ابلقلعة مع من فهيا ،إن بقى منا انجون!
كنا ندرك أن اخلطة ستبوء ابلفشل .حفامت س يصمد أمامنا املشاة
مبا يكفي إلطباق حصار الفرسان علينا .وحىت لو جنحنا ،فإننا ال
612
ندري هل يف القلعة من مؤن تكفينا مع احملارصين مدة طويةل؟
وهل أسوارها تس تطيع الصمود بعد ما أصاهبا؟
قلنا خماوفنا برصاحة ،لكن اكن البديالن الوحيدان ،إما أن
نقف متفرجني عىل إعدام املكل تميور ،أو أن نزنل جليش
عادي ،اهنكل فيه عن آخران بسهوةل األسود املس تعد يف قتال ّ
اتمة!
وقال وكيع ،مؤيدا تكل اخلطة اجملنونة:
"أفضل لنا أن نلقي بأنفس نا وسط مشاهتم ،عن أن حناول
الالتفاف حوهلم ،فيحارصان فرسااهنم .يكفينا ما ذقناه من أهوال
من أولئك الفرسان يف واحة ساوة ،فهم اكلش ياطني حقا!"
هنا تدخل جابر معرتضا ألول مرة ،فقال:
"حيامث تذهبون فإان ذاهبون .ولكن أقنعوا اجلنود إنمك ال تلقون
هبم إىل الهتلكة".
قال ويل العهد ،مس تعيدا رابطة جأشه وفطنته:
"علينا أن نأخذ فقط صفوة جنودان ،وأشدمه فنجعلهم يف
املقدمة .وس نأخذ الفرسان وأرسع الهجن حفسب ،ونرتك املشاة
والبقية خلفنا فالرسعة أمه ما يف املعركة .من ال جييد القتال فوق
دابته ،عليه أن يرتكها لغريه ،جلبنا معنا عددا ال بأس به من
اخليول من ساوة ،محلل األثقال فعلينا أن حنررها ،وحنولها خليول
613
قتال مجيعا .من جييدون الريم أفضل من غريمه ،س نرتكهم هنا
فوق التبة ،حيمون ظهوران ،حىت يشتتوا جهامت الفرسان املضادة
علينا .أمه يشء هو أن نتهاوز صفوف الفرسان رسيعا ،لنندفع
بأقىص رسعة وسط املشاة ،قبل أن تلحقنا بقية فرسااهنم.
األسود ال يتصور أننا س هنامجه ،عىل األقل مبارشة ،فقد ترك
معسكره كام هو ،مل ينظم صفوف مشاته .ذلا فالهجمة س تكون
مباغتة ،دون إعداد أو تنظمي صفوفنا ،حىت ال ينتهبوا
الس تعدادان للهجوم ،فتنتظم صفوفهم يف مواهجتنا .أملنا الوحيد
هو الرسعة العاتية ،واملباغتة الاكمةل".
قلت:
"لكن قوتنا الضاربة حقا يه الغيالن امحلر ،وجلهم من املشاة
اذلين يقاتلون ابلرماح الطويةل".
قال ويل العهد:
"أقوى ما يف الغيالن يه الرهبة ،اليت يقذفواهنا يف قلوب
العدو .وابلطبع إىل جوار مصيب الفويل خاصتك! س نلهأ حليةل
قدمية ،كام فعل املامليك قدميا ابألهبال .اليوم حنتاج أن نكون
مجيعا يف جشاعة الغيالن امحلر ،اذلين ال خيافون شيئا ،وال
اهابون أحدا .سيتخىل الغيالن عن دروعهم امحلراء لفرساننا،
ومن يس تطيع مهنم القتال من فوق فرس أو انقة فهبا ونعمت.
قد حيمل امجلل القوي اثنني ،أو ثالثة مقاتلني ،ولو إن هذا
614
سيبطئه .ذلا فس نأخذ مهنم قدر ما نس تطيع ،والبقية يتخلون
عن ادلروع امحلراء لزمالهئم".
قال وكيع:
"وماذا عن املشاة؟"
قال ويل العهد:
"يتحصنون هنا يف التبة حيمون ظهوران ورماتنا ،حىت إذا ما
أصبحنا بعيدا عن حامية سهام الرماة ،ينسحبون إىل واحة
ساوة .وس تكون أنت عىل رأسهم اي وكيع".
نظر وكيع هل بغضب الش باب املتحمس ،وقال:
"لن أتأخر عن احلرب معمك أبدا .فهذا يوم ثأري الكبري".
قال ويل العهد برصامة:
"أنت أخرب قاديت ،وأقدرمه عىل إبعاد هؤالء املساكني عن
بطش األسود ،وكل سلطان عىل الثغر الكبري ،فميكنك أن
تتحصن هبا معهم إن سارت األمور عىل غري ما حنب ،فنحفظها
عىل األقل من غارة أخرى للفرجنة .ولرمبا اس تطعت أن جتمع
بعض احللفاء من أمراء املامليك ،ليشفعوا للمقهورين عند
األسود!"
نظر وكيع بعناد ،حىت ظننت أنه سريد بقسوة ،لكنه تراجع
جفأة ،وقبل أمر ويل العهد.
615
فقلت:
"وماذا عنك اي موالي؟ أال ترجع أنت إىل ساوة؟ فلو أصابك
مكروه ،ال قدر هللا ،فقد "......
قاطعين برصامة:
"أعمل أنمك ابيعمتوين وليا للعهد ،لكن لو قتل املكل ومعه أيم
اليوم ،خفري يل وللبالد أن أحلق هبام .ليحسم األمر اآلن يف
معركتنا هذه ،سواء ابلظفر أو اخلرسان ،لكين لن أشعل حراب
طويةل ضد األسود ،مطالبا مبكل خرب مزعوم .إما أن تتوحد
بالدمك اليوم عىل يدان ،أو عىل يد األسود ،ويكفينا أننا رددان
الفرجنة واألهبال ،عىس األسود -وقد امتكل هذا اجليش
العظمي -أال حيتاج هلم مرة أخرى".
اكنت خطة معقدة ،ومربكة ،وحتتاج إىل رسعة إعداد للجنود.
خفرجنا نأمر العسكر جبمع اخليول ،وأرسع الهجن والغيالن خبلع
دروعهم .نظرت بقلق ،بيامن الاضطراب يعم صفوفنا ،حنو البحر
األسود من أسفلنا ،فطمأنين ويل العهد:
"س يظنون أننا نعد لالنسحاب .األسود سيتصور أنين سأعلن
نفيس ملاك ،وأخوض ضده جوةل أخرى ايئسة يف ماكن آخر
،حيامن يلمح صفوفنا ترتبك وترتاجع .اطمنئ ،فبإذن هللا لن يفهم
أننا نعد للهجوم".
616
يف احلقيقة حىت جندان تصوروا أننا نعد للرحيل ،خاصة حيامن
ّمحلنا لك فارس وههان ابلقليل من املؤن ،ننوي أن ندمع هبا
القلعة احملارصة ،لكهنا بدت كام لو اكنت تعد للرحيل! وقد
ساعدان هطول املطر عىل هذا التضليل ،وبدا أنه أاثر ضيقا يف
صفوف مشاة األسود .وعندما اكمتل أغلب اإلعداد ،وجتهز
الفرسان يف اخللف ،والرماة عىل مقة التبة كام أمر ويل العهد،
ليبدو األمر انسحااب ال جهوما ،قال ويل العهد يل:
"خاطب اجلنود ،وأثر حامسهم قليال".
قلت:
"أنت القائد وهذا واجبك".
ابتسم ابتسامة شاحبة ،وقال:
"أان غريب من طرابل! مه يعرفون أنك مهنم ،وأنت أخرب
بأحواهلم مين ،كام إنين أكره أن أقف حتت املطر ألخطب!"
خرجت للناس ال أدري ما أقول ،أخذت أفكر فمي أدعومه
إليه؟ أأهتف هبم قائال" :اليوم يوم احلسم إما النرص والرخاء أو
الهزمية وادلمار؟" وما أدراين ابملس تقبل؟ النرص حيتاج بعده
لكفاح ،كام س يعرفون ومه ينصتون يل.
617
وقفت عىل مقة التبة بني الرماة مشغول اذلهن يف خطبيت
القادمة ،فانتهبت جفأة إن اجلنود قد تعلقت يب عيواهنم ،وقد
أدركوا أنين سأخربمه مبا انتوينا عليه.
وجدت نفيس أهتف:
"اللهم انرصان عىل القوم الظاملني".
رددوا ورايئ:
"آمني".
أمكلت ادلعاء وقد وجدت فيه جنايت:
"اللهم إان عىل احلق ،أتينا لنرصة املظلوم ،فاللهم نرصك اذلي
وعدت".
"آمني".
"اللهم إن اكن األسود أعد جيشا كبريا ،فاهلل أكرب"
"هللا أكرب"
أدركتين جالةل ما ،فهفت نفيس للمزيد من ادلعاء والتوبة.
اللجوء للمغيث ،اذلي قال ( ادْعوين أم ْستمج ْب لم ْمك ) فهو القريب
مسيع ادلعاء.
"أقوة األسود كبرية؟ أوليس هللا أكرب؟ هل ختشون جنده؟
فاهلل أحق أن ختشوه إن كنمت مؤمنني .ووهللا إاهنم ليخشونمك.
618
أما تدرون أن ما عندمك ينفد ،وما عند هللا ابق؟ أما تعلمون أن
النرص بيد هللا ،ومك من فئة قليةل غلبة فئة كثرية بأمر هللا؟
مادممت عىل احلق فال ختشوا شيئا .ادعوا هللا أن ينرصمك .اليوم
يوم الفصل ،إما أن حيمك علينا ابلقهر واذلةل واخلراب عىل يد
األسود ،أو ندفع الظمل .فاهلل ال يغري ما بقوم ،حىت يغريوا ما
بأنفسهم .وجيب أن يدفع الناس بعضهم بعضا طلبا للعدل ،ل ي
تزنل رمحة السامء .فادعوا هللا أن ينرصمك ،ويثبت أقداممك".
"آمني".
أحسست بسكينة غريبة أش به ابخلدر .خدر جعيب مل خيدر
قليب وأحاسييس مجيعا ،وإمنا انتقى برباعة اخلوف ،والغضب،
واحلقد ،والقلق ،والندم ،والظمأ ،والتعب فأطفأ هذا لكه ،بيامن
زاد من العزمية ،واإلرصار ،وصفاء اذلهن ،حىت أحسست أنين
أرى لك يشء بوضوح ،كأمنا أرى ما أمايم ،وما خيفى عين
أيضا! أتكون هذه أعراض تصيب من يوقنون ابلشهادة؟
قلت للرجال:
"هالكمك آت ال حماةل .مفاذا بعده؟ وماذا أعددمت ليوم الرحيل؟
إما جنة ،أو انر موقدة تطلع عىل األفئدة .س تحاس بون عىل
حربمك هذه ،ولن تسألوا أهزممت أم انترصمت ،وإمنا س يكون
احلساب :ملاذا قاتلمت؟ وكيف قاتلمت؟ وهل أخلصمت؟ جنود
األسود س تكون إجابهتم :إان أطعنا سادتنا وكرباءان فأضلوان
619
السبيل .تبعومه طمعا يف مال وسلطان ،وقاتلوا حبمية اجلاهلية،
مغلقني قلوهبم عن احلق واإلميان.
مفاذا س تكون إجابتمك أنمت اي من جتاهدون يف سبيل هللا
والوطن؟ وهللا إنمك لغالبون حىت لو هزممت! إن هللا وعد
املؤمنني ابلنرص ،ولو اكن أمام لك مائة مهنم ألفا "إ ْن يمك ْن منْ ْمك
ون يمغْلبوا مائمتم ْني موإ ْن يمك ْن منْ ْمك مائ م ٌة يمغْلبوا أملْفًا
ون مصابر م ع ْرش م
م من اذل مين كمفمروا".
قد نقتل عن آخران اليوم .دعوين أكون صادقا يف ساعايت
األخرية! لكن يف الانتظار ،وراء املوت ،جنة .وألوالدان خفر
وعزة ،حىت لو هزمنا س يعمل الطغاة أن محلنا مر ،فس يخشون
أبناءان من بعدان ،ويكفوا عهنم أيداهم .فلنطلب املوت ،لتوهب
لنا وملن خلفنا احلياة .وليطلبوا مه احلياة ،جفهمن ال تش بع حطبا!
أوس هنكل؟ أقول لمك عىل األرحج نعم! ولكن العدل سيبقى،
طاملا بقيت هناك س يوف مرفوعة يف سبيهل،
اَّلل ال يغمري مما بقم ْوم محىت يغمريوا مما ب مأن ْفسه ْم)(إن م
هذا الكم العيل العظمي وقد أكرمنا بقوهل تعاىل
( مولم ْوال مدفْع اَّلل الن ماس ب م ْعضم ه ْم ب مب ْعض لمفم مسدم ت ماألرض)
قال س بحانه (بعضهم ببعض) .جيب أن ندفع الظمل بأيدينا،
ليدفعه هللا عنا ،ولو ختاذلنا فلن يرفع الظمل والطغيان عنمك،
620
وعن أبنائمك وأبناء أبنائمك! لو جاهدمت اليوم ،فالنرص آت سواء
اليوم ،أو الغد فهذه س نة هللا يف خلقه ،أما لو ختاذلمت ،فلن ترفع
عنمك س يوف األهبال والفرجنة ،حىت ترتوي .ويه ال ترتوي من
دمنا أبدا!
ادعوا هللا أن ينجيمك ويغيثمك"
قالوا بصوت عال:
"آمني"
قلت:
"وهللا إاهنا دعوة ال تنفع أبدا! فدعوة املتخاذل ال تنفع! إال لو
أتت من قلب جماهد ،فإاهنا تشق الساموات الس بع ،ال حيجزها
عن هللا جحاب .حساب هللا لمك ،ورضاه عنمك س يكون عن
قتالمك ،وليس عن نرصمك ،فال تيأسوا من رمحة هللا إن رأيمت حبرا
أسودا يفيض ظلامت عىل سفينتمك ،فإاهنا منجيتمك بأمر هللا،
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد".
تركهتم حبثا عن جوادي ،فقابلت ويل العهد محمر الوجه ،وهو
يقول يل:
"أهذه يه اللكمة اليت حتمسهم هبا!"
مل أرد ،وتركته خيطب يف اجلند ،يثري محيهتم ،ويوقد صدورمه.
621
ال أعمل ملاذا غشيين هذا السكون ،كأمنا لك غضيب وحنقي
وحاميس وخويف وفزعي و ..و ..و ..ولك مشاعري غرقت يف
حبر معيق .ال مل تغرق ،وإمنا تس بح يف بركة هادئة تغسلها
وهتذهبا.
مل أفهم ما حيدث ّيف ،لكين مل أهمت إال بإلقاء نفيس وسط
الس يوف ،لنيل احلق! مك بدت الغاليات رخيصة يل اآلن ،ومك
مثنت دلي رخائص! بدا أن تمثيين للحياة وما فهيا قد تغري متاما،
بل قلب رأسا عىل عقب.
رمبا اكنت السكينة اليت يزنلها هللا عىل املؤمنني ،أو إن نفيس،
اليت تصبو إلهيا ،أومهتين بذكل؟ ورمبا اكن الاستسالم للمصري
احملتوم ،رفضا لالستسالم للحمك البغيض ،بعد طول رصاع
أرهقين ،ومزق عقيل؟
اليوم حيسم الرصاع ،اذلي أمهين طويال ،فمل هتمين نتيجته!
هل حقا مل أعد أخىش شيئا؟ بل أخىش فقط أال أظل عىل
نفس القدم الواثقة ،اليت كنت علهيا ،أخىش أن أهرب ،أو
أخذل نفيس ،فأضيع لك ما فعلت ،أخىش أن أكون كذبت عىل
نفيس ،خفدعهتا ابلشهاعة واملرؤة والسعي للجهاد ،بيامن احلقيقة
جنب ،س يظهر عندما جتيل الس يوف احلقائق!
622
حامت يه الهناية ،فهل أستسمل لها استسالما رشيفا بال مراوغة
ال جتدي؟ اهنامج بقةل كرثة كثرية متحصنة ،فهل أثبت يف املعركة،
أم تراودين نفيس؟
مل أكن أشعر ابخلوف من القتال إطالقا.
لكين واي للعجب ،كنت مرتعبا من اخلوف ذاته! مرجتفا من أن
يأتيين عند الهناية ،فتكون اخلامتة عىل غري ما أش هتىي ،خائفا من
أن أكتشف يف نفيس غري ما كنت أظن ،ويتضح يل زيف
إخاليص ومعيل.
مسعت أن املوت إذا أىت الصاحلني ،اكن ضيفا خفيفا،
يس تقبلوه بقلوب مطمئنة.
أترى قليب مطمنئ؟ أأكون من الصاحلني حقا؟
مث تالشت تكل األفاكر من ذهين بغري اهامتم ،يبدو أنه قبل
املوت ال اهمت املرء بيشء ،وال حىت املوت ذاته أو ما بعده.
حيامن ركبت فريس ،واندفعنا وسط املطر الغزير ،أحسست
أنين ال أعرف يف هذا العامل إال حقيقتني ،أنين أريد من س يفي
قوة الرضبة ،ومن قليب ثبات يف املاكن!
623
()62
624
جتمعنا خلف الصفوف ،وإذا بأحد الرجال اهتف أن هناك
حركة وقلقا بني فرسان األسود .فأشار ويل العهد بس يفه
للهجوم ،وحصنا معا صيحة مزلزةل:
"هللا أكرب"
نزلنا مع املطر س يال عرما ،منحدرين ومطيحني بلك ما اعرتض
طريقنا ،انطلقت السهام واحلراب والرماح مفسحة لنا ثغرة
وسط فرسان األسود ،اذلين أثقلهتم اجلراح واألمطار .إاهنار
سدمه األول ،من مخسة صفوف أو س تة ،أمام س يوفنا وجهومنا
املباغت ،واشتبكنا فورا مع سدمه الثاين ،نريد تفتيته .فشاغلهتم
الكتيبة الثالثة من جيش نا من الراكب املثقلني ،لنندفع أخريا حنو
املشاة.
بدا جهومنا مباغتا متاما لفرسان األسود ،لعلهم توقعوا أن ننتظر
توقف املطر ،أو أن اهنامج جوانهبم ال قلهبم ،فاكن هذا الهجوم
الانتحاري ،بدايته ،لصاحلنا.
سقط فرسان األسود رسيعا يف الاشتباك .كنا يف ماكن
الالتحام أكرثية تمتتع بغطاء من رماة السهام واحلراب ،فاختلت
صفوف السد الثاين ،وتشتتوا متقهقرين ميينا ويسارا ،منحازين
لبايق فرسااهنم ،اذلين يتكتلون حماولني الانقضاض عىل جانبنا،
رمغ دعوات ضباطهم اليائسني ابلثبات.
أدرك ويل العهد خطورة املوقف ،فهتف اثنية:
625
"هللا أكرب .إىل القلعة".
تركنا مؤخرتنا تشغل الفرسان واملشاة عن فتحة الثغرة،
واندفعنا نلقي بأنفس نا يف حبر ميوج من مشاة األسود.
واكنت املفاجأة ساحقة!
ما أن جتاوزان فرقيت الفرسان ،وجدان طريقا ممهدا سهال! املشاة
املصفوفة هترب من وجوهنا ،ومه ألوف مؤلفة! يرصخون
فزعني ،ملقني بأسلحهتم أرضا ،يف مشهد مل أمسع هل مثيال يف
حاكايت احلروب! لو وقف يف وهجنا عرشمه ،ألهلكوان لكهنم
ينطلقون ،ال يبغون إال الفرار من املاكن لكه!
وهنا حاول املشاة الهاربني يف فزعة عظمية ،واضطراب،
وفوىض ،بال مثيل أن خيرتقوا حلقة الفرسان احمليطة هبم ،لهيربوا
مفسحني لنا امليدان حىت القلعة! وإذا بفرسان األسود يرتكوننا،
ليهنالوا عىل مشاهتم قتال وتذبيحا ،ليعيدومه للصفوف دون
جدوى!
مل يعرتضنا إال الرصاخ والعويل ،حىت إن وكيع انهتزها فرصة،
فأخذ ابيق اجليش والرماة ،ونزل خمرتقا الصفوف ،يلحق بنا ،بيامن
القتال حتول إىل صيد من فرسان األسود ملشاته ،اتركينا يف
حالنا!!!!
626
ليست هذه مبعركة ،إذا ما نسينا قتال صفوف الفرسان
األوىل ،كأمنا ألقى هللا رعبا أمعى يف قلوب مشاة العدو منا،
فانقلب احلال خلطا يف خليط!
أخريا وصلنا للقلعة ،فاعرتضنا يف البداية بعضا من كتائب
األسود األقدم اخمللصة هل ،لكنه ،عىل ما يبدو ،أمرها
ابالنسحاب ،بعد اشتباك قصري .وال ألومه ،فرتتيب صفوفه
أصبح شغهل األعظم.
وصلنا نهنب األرض اهنبا جلنود السور العيل ،وسالهحم
وجمانيقهم ،فهامجنامه بأقىص قوة ،نريد تدمريمه قبل أن ينقلب
علينا األسود .لكهنم اصطفوا يف صفوف منتظمة ،كأمنا يه بنيان
جحر ال فرق برش ،وتراجعوا منتظمني ،ال تناهلم أسلحتنا رمغ إن
عددمه أقل منا ،واس تطاعوا حبامية بعضهم بعضا الانسحاب
بأمان بعيدا عنا ،دون أن يفقدوا الكثري ،بل حىت دون أن
حنطم ربع جمانيقهم ،اليت اكنت هدفنا األصيل!
وأخريا بدأت الغشاوة تنقشع ،وأرسع األسود ينظم فرسانه،
بعد أن أجربمه عىل التخيل عن املشاة ،وذحبهم ،أشهد هل
ابحلنكة وقوة الشكمية ،مفن يرى الفوىض اليت اكن علهيا جيشه،
ال يصدق أنه اس تعاد نظامه هبذه الرسعة.
627
اكن معه قرابة الامثنني ألف فارسا ابرعا ،بيامن لك جيش نا ابملشاة
رمبا ال يزيد عن ثالثني أو أربعني ألفا ،مبن فهيم من حتصنوا
ابلقلعة.
وهنا أخذت املبادرة ،فهتفت للغيالن أن يتقدموا الصفوف.
وقلت لويل العهد:
"ادخل برجاكل إىل القلعة فورا".
قال يل بقلق:
"لو فعلنا وفتحت القلعة أبواهبا لنا ،فس تكون فرصة ذهبية
ليدمهوها وراءان".
قلت:
"لهذا يرتبص حميطا بنا ،ومل يبادران ابلهجوم فاملاكر يريد منحنا
فرصة دلخول القلعة ،لكين مع الغيالن سنبقى أماهما نصدمه
عهنا".
قال:
"هذا معناه إابدتمك حىت آخر رجل؟"
قلت:
"هذا معناه إننا نشرتي بأرواحنا جناة ابيق اجليش ،بدال من
هالكنا مجيعا".
628
بدا عليه الرتدد ،لكنين كنت مصمام .ال أعمل ما رأي غيالن
الغاربة يف هذا األمر ،فهم ليسوا غيالان محرا حقا ،لكهنا بدت
يل الفرصة الوحيدة.
لكن ظنوين ،وخماوف ويل العهد ،مل تغن شيئا .إذ انطلقت
األبواق صاخبة! ونظران فوجدان لك األبواب تفتح .وارتفعت
أعالم املكل مرفرفة من خلف اجلدران املهدمة.
وظهر املكل تميور خارجا من حاميهتا.
خرج مع لك جنده فامي يظهر ،جفريت حنوه فزعا أقول:
"ارجع! ارجع 1احمت!"
لكنه أشار يل بثبات ،أن أبقى يف موقعي .نظرت هل ،فألول
مرة مل أر تميور الساوايت ،الشاب العنيد اخمللص ،وإمنا املكل
تميور القائد ،اذلي يتقدم جنوده يف أحكل املواقف.
اكن اتجه خوذة من حديد ،مزخرفة بشعار املكل ،لكهنا بدت
ذات هيبة يف العيون ،مل يكن زيه حريرا ،وإمنا هو من سائر
أزايء الناس ،ورمغ ذكل بدا عليه شاخما .ال أزمع إنين رأيت
ملواك من قبل ،لكن من يراه حامت س يعرف يف عينه نظرة
امللوك!
نظرة األب ،اذلي خيىش عىل أبنائه اجلنود ،ويريد مشاركهتم
املصري.
629
نظرة من حيمل عبئا ،يعرف ثقهل ،لكنه يعرف أنه جيب أن
يكون قادرا عىل محهل.
وصل عىل جواده لنا ،وقال مبتسام:
"هتدمت القلعة كام ترون ،ولو احمتينا خلفها ،بعد جناة عدد
السور العيل ،فس هنزم يف قلهبا! لنواجه اليوم ،وحنسم األمر
ابلنرص بإذن هللا".
انتظمت صفوفنا مع القوة اجلديدة ،وأخذ جنودان يكربون"هللا
أكرب ".اكألسود املزجمرة.
لكن األسود أثبت مرة أخرى أنه قائد أريب .مل يكتف بأن
اس تعاد انتظام جيشه ،أو ما بقى منه ،هبذه الرسعة اخلارقة،
وإمنا بدل خطته ،وصفوفه يف دقائق معدودة ،كأمنا بفعل
السحر .وبدال من تقس مي جيشه جامعات ،تطارد من حياولون
دخول القلعة ،أصبحوا جفأة فرقا منتظمة من الفرسان ،حتارصان
من ثالثة جوانب! ووسطها قلب قوي عسري الاخرتاق ،وعىل
جانبيه جناحني خفيفني قويني ،يس تطيعان حصاران ،والالتفاف
عىل جوانبنا برسعة الربق.
أخذ املكل ينادي اجلنود محمسا:
"جتمعوا معا ،ابقوا صفوفمك منتظمة اكلبنيان املرصوص .امجعوا
العيل يفعلون".
بعضمك وامحوا بعضمك بعضا كام رأيمت أبناء السور ّ
630
العيل هلم خربة
اكنت توجهيات طيبة ،ولو إن رجال السور ّ
مائة عام من احلروب مع الصيادية ،أما جنودان خفربهتم يف القتال
ضد لصوص ومغريين ،فال يس تطيعون أن يتحولوا لقطع
شطرجن حيركها القائد بإحاكم ،كام يفعل القائد األسود يف
جنوده ،أو يعملون معا يف تنامغ ،كام يفعل أبناء السور العيل!
اكن أخربان ابحلروب هو ويل العهد ،ملا شارك فيه من معارك
يف طرابل ،ذلا رسعان ما أخذ زمام األمر ،ونظم الصفوف ملحا
عىل اجلنود:
"ابقوا دوما كتةل واحدة صامدة جوار بعضمك ،تشدون أزر
بعض .كتةل صلبة حتطم من اهامجها".
وأمر الرماة ابعتالء ا ألماكن العالية يف القلعة ،لتعزيزان،
وليهددوا ذخريهتم من السهام من خمزون القلعة.
ولكن قبل أن يدخلوا األبواب ،اكن األسود قد ابدر ابلهجوم.
انقض علينا اكلكامشة .يتقدم املمينة وامليرسة عىل خيول خفيفة
رسيعة ،حتيد عنا قليال ،تبغي رضب جنبينا ،بيامن يف القلب
وضع الههانة الثقيةل الواثقة.
اخليول الرسيعة ستبيل بال ًء حس نا يف حصارن،ا ورمبا تلتف
حولنا للمدينة ،لكن الههانة الثابتة األقدام فوق األرض املبتةل
ابملطر ،س تكون قوة عاتية بطيئة ،يصعب صدها أو اخرتاقها!
631
تكتلنا يف فرقة واحدة كام أمران ويل العهد ،ممتسكني مبوقعنا،
حناول حامية أبواب القلعة ،وبدأان يف ريم فرسانه وههانته
ببعض النبال ،واس تعددان لالشتباك العايت.
لكن األسود أظهر مكره!
اكنت ميرسته أخضم من ممينته مبقدار الضعف ،وما أن وصلت
جلانب جيش نا األمين ،حىت انشطرت نصفني ،نصف يشاغلنا
وميطران ابلسهام ،ونصف أمكل اندفاعه الرسيع مسابقا الرحي
للخلف .مل نس توعب يف البداية غرضه ،سوى وكيع اذلي أدرك
برسعة بداهته خطة األسود.
وهنا ظهر لنا عيب كون اجليش كتةل واحدة ،بدال من تقس ميه
ممينة وميرسة وقلب.
لقد هامجنا األسود مبيرستني ،أحدهام حتارب والثانية تمكل
طريقها اكلربق ،تكبس عىل جنودان أمام القلعة ،تريد أن تعتلهيا
فتس تويل علهيا ،ومتطران حنن ابلسهام مهنا! ولوال وكيع ،لهزمنا
هزمية فورية ،فقد انسلخ عنا برسعة مع رجاهل ،يف س باق مريع
ضد رجال األسود .ورمغ إنه اكن األقرب للقلعة ،لكنه مل يلحق
هبم إال ومه ينقضون عىل رماتنا ،اذلين اكنوا مازالوا يدخلون عرب
األبواب ،فأخذ يبارزمه مبن معه.
لو اكن جيش نا مقسم لفرق ،لسهل علينا أن حنرك إحداها
للتصدي هلم ،وأخرى دلمعه! لكن حركة وكيع اجملنونة ،اكنت بال
632
أمل ،إال كسب الوقت ،وقد اشرتى الوقت المثني بروحه،
وأرواح جنوده ،إذ سهل عىل فرسان األسود حمارصة مجموعته،
ومتزيقها ،ليسقط البطل أمام عيوننا شهيدا.
ظل حىت آخر نفس يقاتل ،حىت مزقته الس يوف ،وتلونت
مالبسه خبضاب ادلم ،ومازال واقفا يناجز ،حىت أتته النهالء.
ولكن الوقت المثني ،اذلي اشرتاه ،مكن رماتنا من اعتالء
أماكهنم ،وأمطروا امليرسة األخرى بسهاهمم ،يطلبون الثأر
للبطل الرشيف.
انسحبت امليرسة األخرى ،بعد فشل جهوهما مرسعة ،لتلحق
ببايق امليرسة يف انقضاضها عىل جانبنا األمين ،اذلي اكن قد
اختل ،بعد ترسب صفوفه مع وكيع.
وهنا اهزت جانبنا األمين بقوة وختلخل .فكثري من جنده اكنوا من
أتباع وكيع ،شاهدوا قائدمه ميوت ،كام أن الضغط عليه قد
تضاعف .فاضطر املكل تميور أن يرسع بنفسه لهذا اجلانب
مقاتال ،حماوال تنظميه اثنية .وملا رأى الرجال ملكهم حيارب
جوارمه ،نفخت فهيم روح اجلهاد من جديد.
لكن ظل اجلانب األمين خمتال بشدة ،حىت إن ويل العهد،
وابن العبديل من ماكاهنام يف مؤخرة اجليش ،أخذا يرسالن
اجلنود لتدعميه.
633
اكن جابر مع غيالنه الرائعني يف اجلانب األيرس ،خصرة صلبة
ال تتحطم ،وجند األسود يقاتلون يف كر عنيف ،مث يرتاجعون
رسيعا مبتدعني عن السهام والرماح ،قبل أن يعاودوا الكر.
ومىض القتال رشسا ،وأشده رشاسة عند اجلانبني خاصة
األمين.
بقيت القائد الوحيد يف الوسط ،أحاول احلفاظ عىل ثبات
صفوفه ،وتدعمي اجلانبني ،شاهدت املكل تميور يقاتل برشاسة،
وحراسه يفتدونه حبياهتم ،ينقذونه من قةل خربته ،واندفاعه
وجواره ابن العبديل ،قد استيقظت فيه روح الغيالن امحلر
القدمية ،يقاتل بيرساه رمغ جرح رهيب ،اكد أن يفصل ميناه عن
جسده ،كأمنا هو أسد يطيح بذئاب غادرة.
وإذا بكتائب جديدة من فرسان األسود تنقض عىل اليسار،
حيث جابر والغيالن ،لكن صفوفهم املنتظمة امتصت الهجوم،
ومصدت عصية عىل الكرس ،ولكام فقدوا جنداي ،تقدم غريه من
خلفه ،يسد الثغرة بأرسع من الربق.
وأشار ويل العهد للرماة أن يزيدوا محيهتم عىل الميني اخملتل،
اذلي حيوي املكل ،حىت تركزت لك رضابهتم عليه ،ولوال أوامر
ويل العهد ،ذلهبت لهناك بنفيس ،أحاول تدعمي الصفوف أمام
هذا الهجوم العيت.
وهنا ألقى األسود بداهيته اجلديدة!
634
أثبت يل إنه مل يأخذ شهرته من فراغ ،وأنه قادر عىل قلب
املائدة فوق اخلصوم يف حلظات!
حتركت فرقة السور العيل جمددا مبهانيقها حنو القلعة!
وأدرك ويل العهد الفزع ،فاندفع بشطر من جنوده ،حياول
التصدي هلم ،وهنا .هنا فقط جهم قلب اجليش األسود بلك
قوته! تربص املاكر بأقوى جزء يف جيشه ،حىت أخذت جنودان
تنهذب رويدا حنو اجلانبني ،حيث أمحى القتال ،وانشغل الرماة
واملؤخرة خبطر اجملانيق ،اليت لو تركناها فستسقط رماتنا
مبواقعهم .وسهل عليه اآلن أن يشق قلبنا جبنوده ،كام يشق
الس يف مقاشا ابليا همرتئا!
اآلن ذقنا الهزمية ،وعرفنا طعم العجز! تشتت جنودان رمغ
حماوليت دفعهم للصمود ،وانقسموا لرشاذم يسهل حمارصهتا
وتصفيهتا! نظرت حويل ،فمل أجد إال الفزع ،والتفكري يف
التسلمي ،وعلمت أن املوت قد أاتين أخريا ،وذكرت نفيس أن
النتيهة ال هتم ،وإمنا العمل! فأخذت لواء املكل ،اذلي سقط
فرفعته عاليا فوق رحمي ،وهتفت:
"هللا أكرب ،هللا أكرب .هلموا اي رفاق ،هلموا اي طالب
الشهادة ،ال خوف بعد اليوم ،إىل ثرى اجلنة!"
أيه هزمية؟ ومن اهمت
رصخت:
635
"إىل ثرى اجلنة".
وتقدمت مندفعا حنو الس يوف الظمأة ،يتبعين من يتبعين
وصويت جيلجل:
"ال خوف بعد اليوم ،هلموا إىل ثرى اجلنة".
واهزت املاكن بصوت من ورايئ:
"إىل ثرى اجلنة".
نعم فقد حانت حلظة احتضان ثراها! ال أدري من أو مك تبعين،
ومل أر من مه ،جفنود األسود يقفون حائال بيين وبني اجلنة!
اقرتبت مهنم بأشد مما اقرتبوا مين ،وكررت بصوت همول ،مل
أظنه ليخرج مين أبدا ،كأمنا هللا أرسل عىل الرايح أن تبلغ لك
الوطن بآخر ماكن يف رحليت:
"إىل ثرى اجلنة!"
جتلجل صويت يف الصحراء ،حىت أين مل أعرفه ،وحيامن غرقت
يف حبور الس يوف ،ظل صداه يعلو فوق صليلها ،أحسست
بوخزات خفيفة ،مل أدر ما يه ،لكن من مه أمايم مل يروا إال
الرعب والقتل.
أخذت أدفع صفوفهم للخلف قتال وجرحا .حاربت كام مل
أحارب يف حيايت ،حىت يف أحاليم أو ابألحرى كوابييس .رمغ
إاهنا اكنت يدا واحدة ،واألخرى ترفع فوق رحمي اللواء عاليا.
636
إىل ثرى اجلنة مساري ،وإلهيا بإذن هللا معادي .إىل ثرى اجلنة
تنهتىي رحليت الطويةل .عىل ثرى اجلنة.
وأخذ صناديد السود يرتصدونين ،يريدون إسقاط اللواء
الرشيف ،فأبيت وأسقطهتم ،وصدمه عين الرفاق ليعلمومه من
مه الصناديد ،ومن األبطال احلقة ،مزقت رؤوسهم بقوة الرضبة
اليت حترث األرض ،فتفجرت دماءمه تسقهيا!
وعال صدى الهتاف جملهال:
"هللا أكرب ..هلموا اي طالب الشهادة".
"هللا أكرب ..ال خوف بعد اليوم".
"هللا أكرب ..إىل ثرى اجلنة".
"هللا أكرب من الطغاة واملتهربين ،هللا أكرب ..إىل ثرى اجلنة".
دى خيفت كام يه الطبيعة ،وإمنا يعلو ويزأر. مل يكن ص ً
ودب اذلعر يف صفوف العدو ،إذ تفجرت من أرض الصحراء
أمواج سوداء تكرر الهتاف ،أمواج تلو األمواج ،تليب نداء
الشهادة ،أمواج تقصد اللواء املرفوع ،تبغي نرصته.
وتردد بني اجلنود إن املالئكة أتت تنرصان ،بيامن ردد األساودة
إن الصحراء خترج ش ياطيهنا ،لتبتلعهم.
637
وإذا بصفوفنا تلتمئ مرة أخرى ،كأمنا جرهحا أاته البلسم الشايف،
وتقهقر جنود السور العيل إىل غري رجعة ،معلنني الانسحاب
لبالدمه ،وأتت املوجات السوداء ،جتتاح جيش اخلصوم.
مل يكونوا مالئكة أو ش ياطني! بل اكنوا مشاة األسود ،اليت
هربت من امليدان جناة منا!
ليسوا مجيعا ،وإمنا الكثري مهنم .ألوف مؤلفة أتت تباعا ،حتمل
فؤوسا وساككينا ،وال جتد عندمه الس يوف إال قليال ،بل رأيت
بيهنم من ال حيمل إال احلهارة ،يقذفها عىل الفرسان! انقضوا عىل
جيش األسود انقضاض املنتقم ،وبدا يل أاهنم مساكني ال جييدون
من أمر القتال شيئا! لكهنم اكنوا كرثة خملصة ،نرصتنا يف وقت
العرسة ،ويتوافد املزيد مهنم من لك اجتاه.
واصطبغ لك يشء بلون ادلم .األرض والهواء واألجساد .يف
لك حلظة مئات الرقاب تقطع ،وفرسان األسود اهيجون هنا
وهناك ،مثريين القتل يف لك ما تصل إليه أيداهم ،وقد اس تعاد
زعميهم اجلبار زماهمم ،وأعاد هلم رابطة جأشهم.
ويف املقابل ،زادت قوة رجالنا وعزميهتم ،فتقدموا بثبات
خيرتقون قلب جيش األسود ،وميزقون جناحيه .أما رماتنا فقد
انقطعت سهاهمم ،ال أدري لنفاد اذلخرية ،أم الضطراب املواقف.
فقد اختلط احلابل ابلنابل مع قدوم املزيد من املشاة .وتشتت
من لك فريق جنود يف لك اجتاه ،وال أحد يعرف إال إنه يرضب
638
فمين حوهل ،ال ياكد ميزي من هو ،ومن يتبع! ادلم عليك يغرقك،
ال تعرف منك أم من عدوك ،ورمبا اكن حليفك! األرض محراء
قانية ،تفيض بدم فاق ماء املطر ،والسامء ذحب ليلها مشسها،
وأريقت دماءها تروي األفق ،فوق الفرق املتحاربة ،وفقدان
اإلحساس ابلزمن والوجود ،ومل نعرف أين الطعن والطعان،
وبدأ الظالم يعم ،بعد احتضار الشمس اجلرحية ،فإذا ابألسود
اهتف برجاهل أن انسحبوا.
وانهتت املعركة أخريا.
سالت دماء كثرية جدا اليوم يف قتال ما بني الرشوق للغروب.
مل يكن أمامنا حنن أيضا إال التقهقر حبذر حنو القلعة ،نراقب
تقهقر األسود بدوره هجة الشامل الرشيق.
وأتت ليةل فضت بني اذلاحبني وحضاايمه.
639
()63
640
وفاقت قدرته عىل الس يطرة مع دخول الليل ،فرتاجع مؤقتا
وس هيامجنا برضاوة مع أول ضوء للشمس.
فاكنت علينا ليةل ليالء .نرتقب يف الفجر جهوما مروعا ،وليس
أمامنا إال وقت ضئيل ،إلصالح بعض شأن القلعة ،وقد
خرسان نصف جنودان ،ومن تبقى جرحي أو مهنك القوى،
وخيولنا وجاملنا وحىت بغالنا قد أرهقت ،واس تزنفت ،دون أن
اهمت أحد بسقياها أو إطعاهما ،ألن اللك مشغول مبداواة جرحه
هو أو زميهل ،غري من يبحثون عن أقرابهئم بني أكوام اجلثث.
وبيامن أحاول البحث معن يرعى اخليول الليةل ،لشدة حاجتنا لها
غدا ،أاتين من يطلبين ،ألن جابر حيترض ،ويريد رؤييت.
اي هللا! هذا الشاب امجليل الثائر؟ هذا اذلي فتنته بأساطري
وأاكذيب ،فقلهبا حقائق قلبت احلرب لصاحلنا؟ أهذا البطل
امجليل ميوت؟
اي هللا.
مل أبك يف حيايت قدر ما بكيت وأان أهرول حنوه .مل يعترصين
األمل القارس ،اذلي يذحبين إال اليوم ،ويوم مات غول احلق .أان
من فعل بك هذا اي مسكني ،أان من فتنك ،وحرضك
وأخرجك من أسوار مدينتك اآلمنة .اكن مرأى جسده املمزق
وقد فقد ذراعيه ،وادلم اكلطوفان ،ال يسد جرح ،إال تدفق
ليغرقين ابألمل ،اهزمين .آه اي غاليم املسكني .مل تر يف احلياة إال
641
اهلم ،وملا حاولت التصدي للهموم ،مغرتا بلكامت ش ياطيين،
غادرتك احلياة لكها.
آه اي جابر ،أاها البطل العظمي ،اذلي مل أر مثاال إلرصاره وقوة
عزميته إال يف األساطري.
مل تكن برشا اكلبرش ،بل كنت بطال من عامل آخر ،مثايل،
يقوم الناس فيه بعمل احلق ،ونرصة املظلوم .عامل ليس عاملنا ،ذلا
فقد غادرتنا .اليوم متوت قبل أن جيتاحنا األسود ،ويف مفك حملة
من نرص ،آه اي جابر.
أخذت ألقنه الشهادة من بني دموعي املتدفقة ،وحويل ش باب
الغاربة اليافع ،اذلين امسوا أنفسهم ابلغيالن ،يتحدثون مهبورين
عنه ،وكيف قتل هذا البطل أو ذاك ،وكيف حارب كأمنا هو
األسد وسط النعام ،ومل توقفه رضبة أو طعنة ،وبرتت ذراعه،
فمل يبال ،وقاتل مرصا ،متذكرا سرية مصعب ابن معي،ر وأتته
الرضبة الثانية تبرت اليد اليرسى ،فبقى صامدا متذكرا الصحايب
اجلليل ،اذلي بقى يف امليدان حامال اللواء بعضديه .ولوال أن
حسبه ابيق الغيالن قرسا من املعركة ،لبقى هناك حىت تدهسه
اخليول.
مل أابل بتكل األوصاف ،لست مس متعا لسرية أصفق لها اآلن،
بل أشعر أنين أب ينظر لودله الرصيع ،كأمنا ودلته وربيته
642
وفقدته لك هذا يف يوم واحد .احننيت أزحي ادلم عن وهجه
امليضء ،فأتت منه إفاقة ،وقال:
"امحلد هلل إنك أتيت اي س يدي القبيل ،فقد كنت أرجو أن
تزفين أنت إىل اجلنة".
غسلت دموعي وهجه وأان أقول:
"اندين بعبد الشهيد ،امسي عبد الشهيد اي جابر".
قال مبتسام:
"أتؤثر األسامء يف مصائران حقا؟ ........أتب ي اي س يدي؟
كنت أظنك س تكون سعيدا خفورا يب".
قلت هل:
"أان برش ،ال غول اي بين .فراقك ليس سهال".
قال:
"لس نا غيالان اي عبد الشهيد ،بل طالب شهادة .لقد مسعت
نداءك ،فلبيته فمل احلزن؟ مسعتك تقول هلموا اي طالب
الشهادة إىل ثرى اجلنة ،فأحسست أنك تقصدين ال غريي،
وأشهد حيهنا إنين مشمت حقا عبري اجلنة ،فأقبلت حنوها ال
أابيل .أحسست برفقة نورانية ،ال تعرفها أرضنا هذه ،فغش يتين
السكينة حىت بدت طعناهتم يل راحة ال عذااب.
643
ال تبك اي س يدي أرجوك ،بل ابهتج وأنت تزفين للجنة".
مل أس تطع أن أقاوم ،فأخذت أزحي املزيد من ادلم عن وهجه
بدموعي ،توقف يلتقط أنفاسه بصعوبة ،مث قال:
"رمبا لو كنت يف مقتل آخر ،أو لو كنت جرحيا يف غري
سكرات املوت ،لبكيت معك .أتعمل إنين كنت أب ي إذا أصابين
أقل جرح ،حىت اكن أيب يهتمين أنين أضعف من شقيقايت
الفتيات؟ لكين اآلن يف خري حال .حال أدهش هل أان نفيس ،فمل
أصدق من قبل زمعهم أن الشهداء ميوتون مبتسمني ،أريد أن
أموت مبتسام مثلهم ،فأرجوك اي س يدي ال تب ي".
ليس الباكء ابألمر الهني وقفه ،حيامن ميزقك احلزن والتخبط.
عيل طاعته ،فهو الس يد حقا بني لكن لكامته بدت يل أمراّ ،
الغيالن امحلر.
أتته رجفة ،وقال:
"قولوا أليم إن ابهنا شهيد مع أبيه وخاهل".
وظل يكرر الشهادة ،وأان أمسح شعره بيدي ،وغارق إىل
جواره يف حزين ،حىت أتت اللحظة ،وحولوه لتهاه القبةل.
ووجدت لساين ينطق عن غري وعي:
"إان هلل وإان إليه راجعون".
644
فأفاقت عقيل من ضبابه ،ولكن مل تنقذ قليب من حزنه.
وجلست يف صالة صامتة لهذا الشهيد ،اذلي أهدته األرض
أمسى هدية ألمسى جنان.
هذا هو حامت ممن خصهم الرسول حبديثه ،إن معلهم كعمل
مخسني من الصحابة ،ألاهنم ال جيدون من يعيهنم عىل اخلري .فقد
عاىن جابر وحده ،وسط السلبية واخلوف ،وأرص عىل الصمود
والعمل ،ففعل ما مل يقدر أحد ،أو جيرؤ أحد عىل فعهل.
اس تغاث بقشة الغيالن الواهية ،اليت ألقيت هبا هل ،فصنع مهنا
س يفا مسلوال جياهد يف سبيل هللا ،ويرفع به الظمل.
حيامن محلوه من فراشه ،مل أحمتل ،وسقطت مهنارا ،ال أقوى
عىل رفع جسدي.
وحيهنا أقبل بعضهم فزعا:
"القبيل زعمينا قد سقط".
أخذوا يقلبونين ،ويزنعون عين ادلروع امحلراء ،ومن وسط
غشيهتم مسعهتم يقولون:
"اي هللا! كيف بقى حيا مييش! أمل يرتكوا شربا يف جسده دون
طعنة؟ س بحان هللا! كيف ظل مييش ،ويتحدث لك هذا
الوقت".
645
مل أدرك أاهنم يتحدثون عين ،إال بعد أن اندوا حبثا عن طبيب
ألجل القبيل زعمي الغيالن امحلر ،وأىن هلم العثور عىل طبيب
هنا؟
اآلن فقط فهمت ما تكل الوخزات اخلفيفة ،اليت أصابتين يف
املعركة ..اآلن فقط اطمأننت عىل جابر ،وأدركت أنه مل يتأمل..
واآلن فقط استسلمت لظالم ،أعمل أن وراءه بإذن هللا نور.
646
()64
مل أدر مىت أفقت ،وال كيف أفقت .اكنت هذه اثين مرة أرافق
فهيا موات رفيقا ،مث أرجع عن املوت صفر اليدين .لكين هذه املرة
كنت مدراك ملا حويل ،إذ أن سطوع الشمس يف عيين ،جعلين
أدرك أن الهنار طلع ،وأن حامت معركة األسود ،قد بدأت فقفزت
من فرايش مفزوعا ،أحبث عن ادلرع والسالح.
عيل احلجرة رجالن يرتداين السواد،
وإذ أصدرت جضة ،دخل ّ
ففزعت ،وأيقنت أنين أسري عند جنود األسود.
قال أحدهام:
"س يدي القبيل ماذا تفعل؟"
وقال اآلخر:
"ارحت هنا اي س يدي ،مفوالي املكل أمران أن جنعكل تراتح،
وإن أفقت فس يأيت هو كل".
قلت مرتقبا:
647
"من أنامت؟"
قال األول:
"أان طعمية وهذا أيخ مكرم .أمران موالان املكل تميور برعايتك،
حىت تشفى من جروحك العديدة".
إذ مسعت امس تميور تهندت يف ارتياح ،وقلت:
"أبدأت املعركة؟"
قال طعمية برتدد:
"أنت جرحت فهيا اي موالي".
قلت:
"أعين جهوم األسود .أمل اهامجنا مع الفجر؟"
قال مكرم:
"ال اي موالي ،بعد أن هزم منذ يومني .....فأنت جروحك
اكنت شديدة ،ولوال قوة بنيانك لهلكت ،لكنك غبت عنا يومني
اكملني .بعد هزميته ،مل يعد للحرب ،بل تقهقر للوادي اخمليف
ذاك".
نظرت هل بدهشة ،أحاول فهم مقولته ،مث سألته:
"ومل ترتدي السواد ،وهو زي القائد األسود؟"
قال مكرم:
648
"كنت يف جيشه اي س يدي .كنت واحدا ممن مسعوا نداء
املكل ،ورأى رايته خترق صفوف امللعون ،فهببنا لنرصته".
أدركين الفضول ،فقلت:
"أنت من مشاة األسود؟ مل هربمت مث انقلبمت عليه؟"
حفكيا يل حاكيهتم .واتضح يل أن األسود اكن يريد اجتياح
الغرب وتدمريه عن آخره ،فال يبقي يف رؤوسه رأسا واحد
سلامي ،حىت بني من اهادنوه.
لكنه بعد أن ترك اجليوش يف اجلنوب ،لتس يطر عليه ،وحامية
يف الشامل تسد عيون األهبال اجلشعة ،غري من تركهم قرب
الزرقاء من بين األسود ،ليأمن رش الفرجنة مل يبق هل إال مثانني
ألفا من الفرسان ،أغلهبم من بين األسود ،وليسوا من جنوده
اذلين أنشأمه بيده.
أدرك أن هذا العدد قد يكفي لهزمية املكل ،واملمتردين معه لكن
لن ينفع ،حيامن يكرش عن أنيابه ويدمر قالع املامليك .فطلب
معونة الفرجنة واألهبال والسور العيل ،متصورا أاهنم س ميدونه
بامثنني ألف أخرى.
لكنه فزع من حامسهم الشديد! مخسني ألفا من الفرجنة،
وس تني من األهبال ،وعرشين من السور العيل؟ فوق املائة
والثالثني ألف جندي لن يرحلوا يف سالم!
649
خيش مهنم الغدر ،وقرر إاهنم قد يسحقونه بعد املكل ،لو خرج
بامثنني ألفا فقط.
فكيف يضاعف عدد جنوده؟
مجع لك ساكن العامصة ،وما حولها من قرى ومدن! رجال
وأطفال وش يوخ ،وحىت بعض الفتيات الاليت جز جنوده
شعورهن! وألبسهم السواد ،فاجمتع هل مجع عظمي كيوم احلرش!
فقادمه بقسوة ،وهو اهددمه بفرسانه ،اذلين ساروا حوهلم يف
حلقة حممكة .ترك الفرجنة واألهبال يسريون للشامل ،مواهجني
املقاومة العنيفة ،وخدع امجليع فعرب جبيشه ،أو من أساممه جيشه
وادي الضياع مبارشة حنو ساوة ،من أقرص الطرق وأفزعها.
قال يل مكرم:
"ال أفهم كيف اكن يعرف طريقه يف هذا املاكن املفزع ،هناك
فرقة تأخرت عنا مسرية نصف ساعة فقط ،فإذا هبا تضل
الطريق ،لوال أن عاد هلم األسود بنفسه ،فأنقذمه من الهالك.
حامت كنا ولك هذا احلشد املهول سنباد عن آخران ،لو بقينا يف
هذا الوادي وحدان دون األسود ،اذلي اكن يشق طريقه فيه
بثقة ،وجينبنا السري يف أماكنه اخلطرة املهلكة".
حىت رجال األسود املقربني مل يفهموا كيف جنح يف عبور هذا
الوادي الرهيب ،لكن املشاة املسكينة مل تأت للحرب ،فبقوا
650
كأرسى أو مساجني يف أماكهنم ،بيامن أعدادمه اخمليفة تلقي الرعب
يف قلوب امجليع ،حىت األهبال والفرجنة.
لقد حارب األسود ابخلوف أكرث من الس يف!
وحيامن أزاح جيش املكل فرسان األسود ،واجته حنو املشاة
املساكني ،هربوا يف لك اجتاه ،وتشتتوا .ولكن أوامر الفرسان
السابقة ،بقتل لك من حياول الهرب مهنم أصابت جيش األسود
ابجلنون! وأخريا هربوا من الساحة للصحراء ،ليقفوا متحريين.
ال يس تطيعون العودة عرب الطريق اجلنويب للعامصة ،فاملعركة
تقطع طريقهم وال البقاء يف الصحراء ،لهيلكهم اجلوع والعطش.
فارحتل بعضهم للشامل يتخبط طريقه حبثا عن أي بدلة ،وتربص
الباقون ينتظرون انهتاء املعركة ،للتسلل عرب الطريق اجلنويب.
وحني مسعوا الهتاف اجمللجل ،أدركهتم امحلاسة ،وظنوا أن
األسود يهنزم ،وأن الفرصة حانت لالنتقام منه ،ومن جنوده،
فأرسع بعضهم يلبون نداء املكل ابجلهاد.
وحيامن انهتت املعركة مع قدوم الليل ،نزلت جامعات خضمة
مهنم تبايع املكل ،وتطلب منه الغوث واملؤونة.
أاهنيا احلاكية العجيبة ،مث ساعداين عىل ارتداء مالبيس،
واهنضت فاغتسلت ،وتوضأت ،وصليت ما فاتين يف يويم
الغيبوبة .وجلست التقط أنفايس ،مث اهنضت خارجا ،أحبث عن
املكل ،وابيق قادته.
651
كنت داخال إحدى جحرات قرص الرشكيس ،يف قلب مدينة
ساوة ،فتجولت حىت عرثت عىل املكل ،جممتعا مبن بقى من
القادة ،ومه ليسوا بكثري .املكل ،وويل العهد أصابهتام خدوش
وطعنات خفيفة ،بيامن حتول جسدي للحم مفري كام يزمعون!
وفقد ابن العبديل إحدى ذراعيه.
مض املكل لنا ش يخ واحات ساوة ،وأمري مملويك خضم امسه
بريك ،يقولون أنه أبىل بال ًء حس نا ،دفاعا عن املكل واس تعاد
صفوف جانبنا المين ،بعدما تراخت.
سألت املكل:
"موالي تميور ،أمل اهامجنا األسود؟"
قال املكل "مرحبا بك أوال اي س يد الغيالن! جنوت من املوت
مرة أخرى؟ حقا ما يقال عنك ،إنه ليس من السهل قتل غول
أمحر!"
تذكرت موت غول احلق ،وجابر بيامن أرى نظرة رهبة وإجعاب
يف عني بريك ،فرددت برصامة:
"خري الغيالن مه من ماتوا دفاعا عن احلق ،ومل يشأ هللا أن
يكرمين تكل املكرمة بعد".
قال بريك:
652
"لقد أرسلت بعض جنود الاس تطالع ،بعد أن تعجبت من
تأخر األسود عن همامجتنا ،وحنن فريسة سهةل هل ،اتراك لنا
فرصة مداواة اجلرىح ،وإصالح القلعة .لكين فوجئت إنه أخىل
معسكره اجلديد ،وانسحب لوادي الضياع ،متحصنا فيه
مرتبصا .ال هو عاد للعامصة ،وال خرج لرضبنا كأنه ينتظران أن
نتبعه لهناك؟"
يبدو أنين سأجعب بربيك أان اآلخر ،فهو حامس معيل ،أرسع
يتهاهل احلديث عن الغيالن ،ورد عىل سؤايل مبارشة ،ورده
يظهر إنه يرسع بإجناز الواجب واملهام فورا .لو اكن قلبه كام
أرجو رقيقا ،عىل عكس غلظة جسده ،فس يكون بإذن هللا خري
معاون للمكل .لكن لو اكنت األخرى ،فوقاان هللا رش بطانة
السوء ،اليت إن رأيهتم تعجبك أجساهمم ،وإن يقولوا تسمع
لقوهلم كأاهنم خشب مس ندة .أال فهم العدو فاحذرمه.
مل نكن ابلطبع نفكر يف تتبع األسود يف وادي الضياع ،لهذا
أخذان ننظم الرجال ،وحناول أن نقوي أنفس نا مبن يقدر من مشاة
األسود ،وننتظر خطوته املقبةل.
وظللنا هكذا ،حىت أتتنا الطبول بعد صرب ثالثة أايم.
طبول عظمية مدوية ،طبول نعرفها مجيعا يف الغرب فهىي طبول
بين الطارق.
653
واثر الفزع فينا .أترى األسود اس تطاع التحالف مع جرياننا يف
البالد غربنا ،كام حتالف مع أعدائنا يف الرشق؟
اكن بنو الطارق قبائل شهرية ،متأل لك ما غربنا بعشائرها ،وهلم
بنا عالقة طيبة ،وجتارة هادئة ،وعرفنا عهنم قوة احلرب والقتال،
وكرثة اجلنود كعدد الرمال ،لكهنم ال حيبون الغزو والسلب ،وإال
اجتاحوا العامل كام فعل األهبال.
مه حمبون لبالدمه ،يعيشون حياة بس يطة ،ال تفرق فهيا بني
أمري ووضيع .لكن لعل األسود ّغري فهيم شيئا ،جعلهم جيتازون
حدودا مل يعربوها لغري التهارة؟
أرسعنا نطلق األبواق ،ونعد اجلنود ،ونغلق أبواب القلعة تأهبا
لهجوم غريب مل نتصوره.
لكن احلال غري احلال.
أىت لنا مهنم رسوال ليس كأي مرسال!
اكن الش يخ وهدان!
كدت أنىس هذا احلكمي العجوز ،اذلي غادران عقب معركة
الثغر الكبري ،ليجمع لنا كام زمع جنودا! وأي جنود مجع!
أاتان هملال ،حي ي لنا ما حدث".
654
()65
655
بالد بين الطارق .فاجلنوب شديد احلر ،والرشق أشد الهتااب،
ومل يبق للفرار إال تكل البالد الصحراوية.
لو اس تطعت إقناع أولئك القوم ابلعودة لبالدان ،مقاتلني حتت
لواء املكل؟ لرمبا مجعت ثالثني ألفا دفعة واحدة ،فهم ليسوا
ابلقةل حمت،ا مع أصهارمه وحلفاهئم من بين الطارق.
مل يرتك يل األسود خيارا ،كنت أكره أن استبدل غزو الفرجنة
بغزو بين الطارق ،رمغ طيب معرش هؤالء القوم ،لكن حيامن
تكون الس يادة والقوة يف أيداهم ،فكيف سريضون ابلرحيل؟
لكن اآلن اخليار بني اثنني أحالهام مر ،ولرمبا إن ثبتنا يف حرب
األسود ،اكنت لنا شوكة جياملها بين الطارق ،ومه عامة ال
حيبون الغزو والقتال.
وهكذا عدت ألاييم اخلوايل ،تكل اليت كنت أجول فهيا وحيدا
يف الصحاري ،أخرتق اجلبال واألودية ،متحسسا ادلروب،
ومزيغا عن املرتبصني ،وهازما األعداء الكرث ابملكر وحده! آه! مك
اكنت مجيةل أايم الش باب! ومك أخذت فهيا من أجماد! لكهنا ولت،
دون أن ترتك يل سوى ندوب اجلسد ،واحلمكة.
مضيت يف تكل ادلروب ،اليت أحفظها وحتفظين ،حىت أتيت
ألول واحة من البالد الغربية .اكنت واحة صغرية همجورة ،ال
يعرفها سواي لكن اليوم غري أايم الش باب.
656
اجتهت مبارشة للعني اخملتفية بني الصخور شامل الواحة .ليست
بعني أو برئ؛ بل يه نضخ ماء ،وسط الرمال ،لكهنا أعذب ما ًء
من تكل الكبرية يف وسطها .وإذ احننيت علهيا ،أحاول عب
املاء ،وملء قربيت ،مسعت وقع أقدام خلفي ،فالتفت مرسعا،
شاهرا س يفي ،ألجده مشريا لامثنية من الرجال ،يبدو أاهنم اكنوا
يف صيد ،وقد تتبعوا آاثر دابيت حىت هنا ،خففضت س يفي
وقلت:
"السالم عليمك اي إخوة العرب ،إمنا أان مسافر جعوز ،يقصد
مدينتمك العابرة ،وقد كنت أسقي من ماء العني ادلافئة".
قال أحدمه بصوت أجش:
"أيوجد عني أخرى هنا؟ يبدو أنه يعرف الواحة خري منا!"
ابتسمت وقلت:
"اكنت يل أسفاري يف مثل معرمك اي أبنايئ! هال أعنمت رجال
جعوزا اي ش باب؟"
لكن أحدمه ،اذلي بدا يل رجال همااب ،وس يدا مطاعا من
البقية ،قال:
"وما أدراان أي خطر حتمهل معك اي رجل؟"
قلت:
"وأي خطر يأيت من رجل جعوز مثيل؟"
657
رد برصامة:
"جعوز شهر س يفه برسعة الربق! ال أس هتني بك ،كام اس هتان
بنو عزام ابلعراف.
658
( 2 -65حاكية العراف وبين عزام )
أما مسعت أاها العجوز خبرب العراف الهرم ،اذلي امتأل قلبه
حقدا عىل عزام التاجر لغناه وماهل وكرثة أوالده وجامل زوجته؟
وملا مات عزام ،أراد العراف اهنب املال.
ذهب مستندا إىل عصاه القدمية ،وقال ألوالده "اي أوالدي إن
بييت مهتدم ،وأرغب يف أن أؤجر من مزنلمك جحرة ،أعيش فهيا.
سرتحبون مين ،ليس فقط األجرة ،فأانس كرث يأتونين طلبا
لعلمي ،فسريوجون بضائعمك ،وجيلبون القدم اجلارية ملتجرمك".
بدا الاقرتاح مقبوال من الفتيان ،لكن زوجة أبهيم حملت يف عني
العراف نظرة ،عرفهتا وفهمهتا ،فهىي ال تغفل عن فهمها النساء،
فرصخت يف الفتيان:
"هذا جعوز حقود ماكر ،يكره أبيمك ،فاحذروه ،وابتعدوا عن
رشه".
وافقها الفتيان عىل ما وصفت ،لكهنم اس هتزءوا بتحذيرها،
وقالوا:
"حنن فتيان وفتوة ،وهو جعوز مييض حنو الهالك اي محقاء! أي
خطر يقدر عليه!"
659
وأقام العجوز يف املزنل ،يرتدد عليه الناس ،يطلبون منه أمور
الكهانة ،حىت أاته شاب ،يطلب أن يعرف إن اكنت فتاته حتبه
حقا ،أم تظهر غري ما تبطن ،لوجود خشص آخر؟ فإاهنا كثرية
ادلالل عليه ،حىت لتذهب بعقهل!
قال هل األعراف:
"ال أقرأ املكتوب يف الصدور ،دون النظر يف العيون! ائت
بفتاتك إىل هنا".
مث ذهب العراف ألحد األبناء الثالثة ،واكن قد ختصص يف
جتارة العطور ،ويعرف عنه اهنمه للامل فقال هل:
"قد رأيت كل بني ثنااي الرمال ومهس الودع ثروة عظمية،
فاغتمنها ،عىل أن تذكرين خبري عند زوجة أبيك ،فهىي تثقل يل
يف القول".
قال الفىت:
"وأي ثروة تكل؟"
قال العراف:
"ال تفصح الغيوب مرصحة دوما ،لكن ما رأيته أنه س يزنل
عليك من أعىل وقت الظهرية لؤلؤة بال مثيل ،إن أتيهتا ،فعليك
أن تردها بعطر بال مثيل ،فأراك ملاك متوجا بذهب بال مثيل!"
660
مل يفهم الشاب شيئا ،لكن يف اليوم التايل ،أىت العراف الشاب
العاشق مع حمبوبته درة ،اكن امسها كام عرف العراف درة.
قال لها العراف:
"ال تكذيب ،فأان أعرف من قبل أن تعريف ،ولكن الصدق
مطهرة لنفسك ،فينفعين لنفعك! أحتبني عاشقك هذا؟"
قالت هل بتربم:
"نعم ،لكنه كثري الغرية اكملهووس حىت خينقين ،ال أدري
أحيبين ،أم هو همووس يب هوس قد يشفى منه! لو إنك
تس تطيع مساعديت؟"
قال العراف:
"ابلطبع مفا أسهل هذا .ال تكشف الغيوب ،وال يسمعين
الودع الفرق بني الهوس واحلب! لكن األمر حيتاج حلهاب جيد
الصنع ،فقط قةل من العرافني جييدونه! خذي هذا احلهاب ،قد
يبدو كل أنه ال حيمل إال الرتاب .ولكن لكام أخذت ذرات من
الرتاب هذا ،وحبيبك مييش معك ،فإذا لقيت رجال فابتسمي،
وألقي ابلرتاب عليه! فإذا نفد الرتاب من الكيس ،والفىت عىل
حاهل من احلب دون الغرية ،فهو يعشقك عشقا حقيقيا ،فمتس ي
به ،وإن نفد الرتاب ،فظل عىل غريته ،فإمنا هو يظنك بضاعة
مثينة يش هتهيا طمعا ،ويضن هبا عىل غريه حشا ،فدعيه فدعيه
فدعيه واجني بنفسك!"
661
أخذت الفتاة احلهاب ،ووقفت منتظرة ،جفاءه حبيهبا فقال هل
العراف:
"حتبك حبا بال اهناية ،لكهنا واقعة حتت حسر معيق جلين
أريب! وقد رشاه ساحر جبار ،مل يس تطع إخواين من اجلن
املؤمنني معرفته ،لعظم حيلته ،حىت إنه ليتنكر يف شلك رجل
بس يط! وهو رشير خطري ،يطمع يف التفريق بينك وبني
حمبوبتك ،ألنه يطمع يف جاملها أن يكون هدية ،وحضية ،ملكل
الش ياطني السفلية ،مينحه مقابلها الفدية الكربى ،اليت ال يعرف
بعظم خطرها إال السحرة!"
صاح الشاب يف فزع:
"وكيف أنقذها؟"
قال العراف:
"عليك ابلفرار هبا بعيدا عن هذا الرش! منحهتا جحااب واقيا
س يقوى لكام انديهتا ابمسها بعشق ،ومحيهتا بإخالص ،وأمسكت
نفسك عن إيذاهئا بإرصار .لكن السحر سيتهدد ،وس يغلب
جحايب إن سقاها الساحر املاكر حسره مرة أخرى ،فكن عىل
حذر ،فأخوه من اجلن السفيل ذو سلطان جبار!"
حشب وجه الفىت ،وخرج مرتعبا ،ميسك بيد حمبوبته ،ويتلطف
لها .فلام نزلت لصحن ادلار ،مقابةل اخلدم نرثت علهيم بعض
الرتاب مبتسمة ،فانرصفوا متأففني! فتعجب الشاب ،لكنه صرب
662
ملا رآه من جحاب العراف الوايق! 0ولكم حبيبته بلطف متذكرا
لكمة العراف:
"اي درة اي دريت هيا بنا إىل بيتك".
ونزلت الفتاة مع الفىت من دار ابن عزام إىل األسفل ،حيث
يقع متجر األبناء الثالثة ،ابئع العطور ،وابئع احلىل ،وابئع
األمقشة.
مسع ابئع العطور لكمة درة فانتبه ،ادلرة يه اللؤلؤة ،ويه تزنل
عليه من أعىل وقت الظهرية؟ لعلها أمرية ،إن أهداها عطرا
جيدا هتديه ثروة!
أرسع البائع خيطف قنينة من أمثن العطور ،وتقدم حنو الفتاة
مبتسام ،فألقت عليه قبضة الرتاب ،لكنه مل يرحل ،ومل ينتبه ملا
تلقيه عليه.
نظر العاشق للرجل املتقدم جبنون ،وإىل الزجاجة يف شك،
فلام قال البائع بألطف صوت ميلكه:
"اي مواليت ،لو تقبلني هدية متواضعة مين؟"
اش تعل الغضب يف قلب العاشق! حامت هذا هو الساحر املاكر
يدس حسره يف العطر ،فانزتع القنينة بقسوة من الفتاة ،اليت
هبتت ،ونظرت إىل جحاب الساحر قد فرغ ،وعاشقها غاضب،
وتذكرت لكامته أن تنجو منه ،فانفلتت منه صارخة:
663
"أنت جمنون همووس ،دعين وال تأتيين أبدا!"
جن جنون العاشق ،وظن أن السحر -ال املكر -نزل عىل
حمبوبته .فاس تل خنجره ،وطعن الفىت ،وانطلق جير الفتاة
هاراب!
مل ميت ابئع العطور ،لكنه تدمر متاما ،فقد تناقلت لك العهائز
األريبات قصة الفىت ،اذلي يغوي النساء بعطر مسحور ،حىت
فرق بني عاشقني اكان مرضب األمثال ،فاضطر اجلرحي للرحيل
بعد بوار جتارته.
وهنا أتت زوجة األب ،تلح عىل الشقيقني الباقيني أن يطردا
العراف ،فهو حامت وراء ما حدث.
قال لها اتجر األمقشة:
"أبعد خسارتنا لتهارة العطور ،خنرس أجرة العراف وزابئنه؟
هذا فىت أخرق ،هبته جامل امرأة غريه ،فدفع المثن!"
لكن العراف أدرك خطر تكل املرأة امجليةل عليه ،بإحلاهحا عىل
أبناء زوهجا .اكن يش هتهيا ،ويعمل أنه لن ينالها ،فوضعها هدفا هل.
ذهب للشقيق األصغر ،اتجر احلىل واكن يعرف فيه نقيصة
الفضول املميت ،فقال هل:
664
"قل يل اي فىت ،وأنت اتجر شهري ،ترتدد عليك نساء من لك
صنف ولون ،فمل مل تزتوج؟ الزواج لشاب مثكل حصن،
ولتهارتك رواج".
قال الفىت:
"وكيف يكون الرواج يف الزواج؟"
قال العراف:
"أما تدري أن الرجال حيبسون عنك نساءمه ،خش ية علهيم
منك؟"
قال الفىت:
"لكن شقيقي األكرب مل يزتوج هو اآلخر ،وأغلب زابئنه مثيل
من النساء".
رد العراف:
"رمبا حىت اآلن .لكن النجوم تؤكد يل أن يف قلب أخيك فتاة
ما تشغهل".
ومصت ومل يمكل ،وتركه لصومعة كهانته ،فظن الفىت أنه عرف
رسا جديدا عن أخيه.
665
اش تعل الفضول يف ذهن الفىت ،وأراد أن يعرف من يه اليت
تشغل ذهن أخيه ،فأخذ يراقب من ترتدد عليه من النساء،
دون أن جيد ميال ألاهن.
وأحل يف السؤال عىل العراف ،حىت أجضره ،فاكن يرد
بغموض:
"مل جتبين النجوم عن سؤاكل ،فهىي تتكمته وال أدري السبب،
هذه اي بين رضيبة العراف الصادق ،فإما أن يعرتف جبههل
فيضيع رواجه ،أو يتخىل عن الصدق وهو ما ال أرضاه لنفيس!"
وملا اش تد فضول اتجر احليل ،ذهب ألخيه مبارشة يسأهل،
فأنكر وملا أحل الفضويل بقوهل إن اهلم ابد عىل وجه أخيه ،فرد
بغضب:
"أوليست املصيبة اليت نزلت عىل رأس شقيقك األوسط
اكفية؟"
مل يقنع الفضويل برد شقيقه ،فعاد للعراف يسأهل ،فقال:
"قد اس تغلق ّ
عيل أبواب الكهانة ،لكن عمل العقول وفهم
النفوس ال يغلق أبدا ،انظر حوكل .من من النساء يربد لرؤيهتن
وجه أخيك ،أاهن يسمع لالكهما أكرث من غريها؟ من مهنن اهمت
ألمرها وقرهبا منه؟ لو اكن حيتفظ بيشء من أثرها لاكن هذا
دليال حاسام ،وتوقع أغرب النتاجئ ،ما دامت النجوم قد
اس تكمتت أمرها عين!"
666
فعاد الفضويل لتتبع أخيه بنصاحئ العراف ،فأظهرت هل نفثات
الاكهن شكواك مفزعة! ذهب بعقهل األمحق إىل حيث أراد عدوه!
فزوجة أبيه مازالت شابة ،ويه مجيةل ،وأخوه يوقرها كثريا،
بزمع إاهنا كأمه ،ويقيض معها وقتا طويال بزمع إنه يهنىي لها
حساابهتا ،وأرابهحا من مرياث أبهيم يف التهارات الثالث! رمغ
إاهنا ال جتلس معه ،ومل جتلس أبدا مع اتجر العطور! كام إاهنا
تأخذ حاجهتا من الثياب منه دوما ،وهو اذلي يذهب هبا
للحائك.
اكنت الفكرة البشعة ،اليت أوىح هل هبا العراف احلقري ،أش نع
من أن يصدقها .لكهنا اكنت كذاببة حلوح ،ال ترتك ذهنه إال
وتعود هل .وملا ملح العراف مثار حصاده يف عيون األخ املراتبة،
اش تكت جفأة زوجة األب من اختفاء أحد أزايهئا ،فذهب األخ
الفضويل مبارشة يبحث بني حاجات أخيه ،فوجدها!
وظن أن ظنونه قد صدقت! ودار بني األخوين جشار رهيب،
ارجتت هل املدينة ،حىت اكدا أن يقتال بعضهام .وإذ حاولت زوجة
أبهيم الفض بيهنم ،ااهنال علهيا األصغر ابلس باب ،فباراه األكرب يف
س هبا ،يريد إظهار أنه يبغضها .ودون أن تفهم ما أصاهبام ،غادرت
ادلار مقهورة ،مفسحة جماال أوسع للعراف ،مل يبق من خصومه
إال شقيقني متحاربني!
667
انتظر العراف قليال ،لتربد النار اليت أشعلها عىل الشقيق
األكرب ،اتجر األمقشة ،مث أصبح هو معركته التالية! فقد اكن
أكرثمه ماال ،خاصة بعد أن أرشف عىل ما تركه اتجر العطور،
وتركته زوجة األب من أموال خلفهام ،يديرها هلام.
اكن هذا األخ جريئا مقداما ،ذلا مل يكن خياف من مواهجة
العراف ،واكن أول من اس هتزأ خبطره ،رمغ علمه عمل اليقني
ببغضه لوادله ،واكن يف قلبه حب لذلة املغامرة ،وعشق للتعرض
للمخاطر ،لوال أن أقعدته املواريث يف ماكنه .ظن العراف أنه قد
يتلف املال إذا أذاق الفىت ذلة املغامرة اليت جهرها.
ذهب العراف لتاجر األمقشة قائال:
"إن براعيت يف اس تكشاف الغيب قد بلغت شأان مل أكن
ألتصوره ،ورمغ كريه للزينة والشهرة كام ترى -فأان أكتفي
حبجرة صغرية يف مزنلمك ،ولوال إنين أخىش أن أكمت علمي عن
الناس ،ملا أخربهتم وأعلمهتم مبا ينتظرمه – فإن شهريت جتاوزت
اآلفاق ،ووصلت إىل أمري املدينة نفسه ،وقد أرسل يل يطلبين
يف قرصه ،لتفسري حمل أاته ،لكين كام ترى رجل جعوز ،وال
أعرف دروب املدينة جيدا ،فأحببت أن أتس ند عىل شاب
قوي مثكل يف تكل الرحةل املهمة".
مل يكن األمري طلب ،أو حىت مسع ابلعراف اخلبيث ،لكن
جوار قرص األمري يف هذا الوقت من الس نة ،يمت معل مودل كبري
668
ألحد األولياء ،مودل جتري فيه اآلاثم واملعايص ،كام جيري املاء
يف المي!
وصل الاثنني للقرص ،فقال العراف:
"آهه ،يبدو أن املودل هنا! اذهب وتسىل فيه قليال اي بين،
فقد أتأخر عند األمري".
قال التاجر:
"وكيف تس تدل عىل ماكين أاها العجوز إن افرتقنا؟"
حضك العراف وقال:
"ال أكون عرافا إ ًذ إن اته عين غالم يف العقد الثالث من
معره!"
دلف الفىت لينظر بني الناس لعهائب املدينة ،اليت ال يعرفها
يف أطرافها .ورسعان ما رأى أحد األفاقني يتحدى الناس
بثالث علب ،ترى أاها خيفي حتهتا اذلهب وهل اجلائزة؟
تفرج الفىت قليال يشاهد الراحب واخلارس ،مث انضم للمراهنني
متحمسا.
وأخذته فتنة املقامرة! وجلس العراف بعد قليل جواره ،يراقب
راضيا عاقبة معهل ،مث مهس للفىت مباكن العلبة الصحيحة ،فراهن
علهيا وفاز.
669
يف ش بابه اكن العراف هو من يلعب ابلعلب يف هذا املودل!
اكن خبريا ،حىت إن حيل األفاق الغش مي بدت هل ساذجة! ولكام
أخرب اتجر األمقشة ابلعلبة الصحيحة ،فزع األفاق ،وحتداه يف
لعبة جديدة ،مع مضاعفة الرهان .وإلتذ الفىت برحبه املغامرة،
فقبل التحدي ،وأخذ الرهان يتضخم ويتضخم ،والفىت يرحب
ويرحب ،حىت التف حوهل الناس واألثرايء واألمراء ،يراقبون هذا
الفىت البارع احملظوظ!
وأصابت بعضهم محى التحدي ،فأخذوا يراهنون الفىت،
ويزيدون يف الرهان عىل خسارته ،فريحبهم! حىت أصبح الرهان
أضعافا كثرية ،وأخذ البعض يسههل يف أوراق ،ويف حلظة أخرب
العراف الفىت بعلبة خارسة ،ليخرس لك ما رحبه وفوقه جتارته
وجتارة أخوته!
وفرح العراف بنرصه فرحا كبريا ،واشرتى من الفىت املغلوب
بيت عزام بمثن خبس ،زاعام إنه يساعده ،كام ساعدوه برتكه
يعيش فيه ،فسيبقى الوضع كام هو ،غري إنه لن يدفع إجيارا ،ولن
يطالهبم بأجرة.
ولكن ما أن امتكل صك البيت يف يده ،حىت طردمه رش
طردة! وانترص عىل أبناء الرجل ،اذلي حقد عليه وظفر ببيهتم،
وفرق مشلهم!
670
ولكن األايم مرت عىل الزوجة املظلومة ،إذ رآها أمري املدينة
ذات يوم ،فوقع يف حهبا ،فزتوهجا ،فاكن همرها رأس اخلبيث!
671
( 3 - 65حاكية العجوز املس تهرية )
قال الش يخ وهدان:
"وملا مسعت احلاكية من هذا الس يد ،قلت هل:
"اي س يدي ،اكن هذا خبيثا ،يس تغل نقائص الطمع والفضول
واملقامرة ،وال أظن كرميا مثكل يوجد به نقائص تقتل غري أعدائه!
إمنا أان جعوز مس تهري بمك ،فأجريوين وال تكونوا مكن خزل
العجوز املس تهرية يف وادي اللصوص،
أما مسعت حباكيهتا؟
اكن هناك واد ،يعيش فيه لصوص الصحراء ،فبه خيتبئون،
وهل أرسامه يسوقون ،وفيه كنوزمه يدفنون.
وذات يوم ،ساقوا أماهمم قافةل من العبيد للوادي ،يوزعواهنا
بيهنم .وإذ اقتنصوا البنات والش باب ،وجدوا بني األرسى امرأة
جعوز ،احنىن ظهرها ،فألقوها خارج الوادي ،ليرتكوها لذلئاب
تألكها ،أو العطش يفنهيا.
مل تكن العجوز قادرة عىل أن تسري يف الصحراء هاربة،
وأخذت تس تعطف اللصوص ،فآذوها فمل متكل إال أن تطوف
حول الوادي ،حتاول أن ختتلس جيفة تألكها ،أو رشبة تسقهيا.
672
وذات يوم ،أتت جامعة من الفرسان املغامرين ،فأغاروا عىل
وادي اللصوص ،فقتلوا مهنم من قتلوا ،مث أخذوا ما اس تطاعوا
من كنوزمه غنمية .فأرسعت هلم العجوز مس تهرية ،تطلب مهنم
الغوث ،فقالوا ألنفسهم:
"وماذا اكنت تفعل تكل العجوز بني اللصوص ،وما شأننا
وشأاهنا؟"
فردوها ردا غري مجيل ،مث رحلوا عائدين.
ومل يقطعوا مسافة طويةل ،إال وأمسكهم جنود املكل ،يظنواهنم
لصوص الصحراء ،فقبضوا علهيم ،مث جهم اجلند عىل الوادي ال
يبحثون إال عن جعوز مس تهرية ،فلام وجدوها قالوا لها:
"ادعي هللا ملوالان املكل ،فقد مرض مرضا شديدا ،فاس تهار
ابهلل فأاته حمل رهيب ،به انر وحجمي أسود ،وهاتف اهتف به
(كيف جيريك هللا ،وتكل العجوز تس تهري يف وادي اللصوص،
فال يسمعها أحد؟) فأدرك املكل أنه هاكل ،ما مل ينقذك".
وهنا نظر لها الفرسان املغامرون مس تعطفني ،واس تحلفوها أن
تشفع هلم عند املكل ،فقالت:
"وما شأين وشأنمك؟"
فساقومه للموت ،ال جيدون جمريا!
673
( 4 - 65حاكية زندي وشاهر )
قال هذا الس يد للش يخ وهدان:
"أما وقد مسعت مقولتك ،فإين ألكره أن أكون جمريا ملس تهري
غادر ،كام أجار الزندي شاهر!
أما مسعت حباكيته؟
حيىك أنه اكن زندي فارسا هامما ،عطوفا عىل الناس .إن مىض
يف طريق ،أقام فيه العدل ،وأغاث امللهوف .وذات يوم مسع
اس تغاثة لصيب صغري ،فاندفع لنهدته ،فوجد رجاال ميسكون
الس يوف ،يبغون قتل الصيب ،فردمه بس يفه ،وقتلهم .واكن
س يفه بتارا ال يقهر ،رحبه من حرب مع وحش ،نصف جين
ونصف إنسان ،اكن يرعب الناس يف الطرقات ،حىت هزمه.
وأخذ زندي الصيب شاهر ،فأجاره ،وجعهل يقمي عنده ،حىت
يس تعيد قوته .وملا أفاق الصيب من غيبوبته ،اطمأن زندي،
وأراد أن يهنض ويمكل رحلته ،لكنه وجد الفىت امللعون ينقض
عىل عنقه ،ويهنشه بأس نانه .فشاهر مل يكن إال ابن غول من
غيالن اجلن ،ألك بعض الصبية ،فطارده أهلهم يريدون الثأر،
وملا أنقذه زندي دون أن يتبني حقيقة األمر ،ترك الغول يس تعيد
عافيته ،ليألك منقذه!
674
( 5 - 65الغــوث )
قال الش يخ وهدان:
"مسعت حاكية زندي وشاهر ،فرددت علهيا حباكية البحار
عيل هذا األمري حباكية وأخرى ،فأرده بأخرى! سامر ،لريد ّ
وأخذت أابرز هذا الس يد ،حاكية حباكية ،حىت أتت الظهرية،
وحرها يؤملنا ،فقلت:
"تبدو متعبا اي موالي ،فهال أمكلنا حديثنا يف قرصك؟"
قال يل:
"وما أدراك أن يل قرصا؟"
قلت:
"إمنا عيين لكيةل ،لكهنا تعي إنك س يد بني قبائل بين الطارق".
وحملت يف عيون رجاهل نظرة اس تخفاف ،فأدركت احلقيقة،
فأمكلت مرسعا:
"حىت ألاكد أظنك أمريا عظامي بيهنم".
قال يل مبتسام:
"أجعبتين فراس تك ،كام أمتعتين حاكايتك ،أان حرب بن سالم،
مكل بين الطارق ،وصاحب العامرة وس يد مملكة ابرق ،مفن
أنت؟"
675
قلت هل:
"ال يعرفونين خارج بدليت ،لكهنم يدعونين ابلش يخ وهدان".
قال يل:
"ظننتك هو! الصويف العامل اجلليل! ما هو شهري عندمك نعرفه
عندان .فالتهار تتناقل األنباء ،ونبأك مع ملكك اجلديد ،نرصه
هللا ،فوق لك نبأ!"
قلت:
"مل أعمل أن جاللتمك هتمتون مبا حيدث يف بالدان مبثل هذا
العطف".
قال:
"أنمت إخوتنا يف اإلسالم ،واقرتاب األهبال والفرجنة من حدودان
أمر غري محمود ،ال يغفل عنه امللوك .غري ما بني بالدان وبالدمك
من جتارة ابرت ،بعد أن سلط هللا بعضمك عىل بعض".
قال أحد رجاهل:
"اي موالان الش يخ وهدان ،مل نأت لهذه الواحة البعيدة إال
لنتسمع أخبار بالدمك ،فقد علمنا بأن موقعة عظمية جرت ،أو
س تجري عند الثغر الكبري".
قلت:
676
"فامحلد هلل من قبل ومن بعد .قد هزمنا الفرجنة ،لكهنم
س يعودون ،فاألسود أىت لنا جبيش ال أول هل وال آخر ،فأردان
نرصتمك لنا".
قال حرب بن سالم:
"ما شأننا واألسود؟ إمنا خنىش الفرجنة واألهبال عىل حدودان
حفسب".
قلت:
"لكن األسود وعدمه ابلثغر الكبري".
حضك وقال:
"حىت األسود لن يفرط يف ثغوره لكها هبذه البساطة".
قلت:
"أظننت أنه لو مل يدعهم ليشء يف الغرب ،اكنوا سزيحفون
معه؟ ملم حيارب الفرجنة واألهبال معه بعد أن قبضوا المثن من
ثغوران الرشقية اكمال؟"
فاقتنع مكل بين الطارق فورا! مل أتصور أن أحقق هذا النهاح
أبدا ،وهبذه السهوةل ،لكهنا األقدار ساقتين إىل حيث مرضبه،
ألقنع رأس البالد فورا دون هجد ،فإذا به يعد العدة ،ويطلب
اجلند عىل وجه الرسعة للسري رشقا.
677
()66
678
عىل ظهوران! كنا مضطرين لتقبل التحدي الصعب ،والسري يف
وادي الضياع الرهيب ملالقاته!
أعددان للرحةل والزحف ،ومجعنا لك ما اس تطعناه من جند،
واس تعنا بأخرب األدالء ،وأعرفهم ابلنجوم والرايح ،خفطر الضياع
يف الوادي ألعن من خطر حرب األسود!
رسان ببطء شديد ،تس بقنا دوما طالئع ،تتقدم ملسافة قصرية
طاملا يه أمام عيوننا ظاهرة! فإذا ما بدأت ختتفي عن األنظار
توقفت ،وغرست يف األرض عالمة ،وبيارق ،وانر موقدة تبقى
جامعة من اجلند حريصة علهيا ،حىت إذا ما وصلنا لها أطلقنا
جامعة أخرى ،تفعل مثلام فعلت ،لنتقدم اتركني خلفنا طريقا
مضيئا!
اكن اخلوف مازال اكمنا من عاصفة رملية تذهب ،بلك ما
صنعنا لكن األدالء يؤكدون أن عواصف الصحراء ساكنة هذه
األايم ،وأاهنا ستنال من األسود بأشد منا ،لكن األسود يعرف
طريقه يف هذا الوادي (هللا أعمل كيف) بيامن حنن ال نعرف!
مل نتوغل كثريا يف هذا الوادي الرهيب ،ومل نتعرض للكثري من
أخطاره ،وااهنيار الرمال علينا ،وقرصات الثعابني والعقارب.
ألننا عرثان رسيعا عىل معسكر األسود!
معسكر خضم ميتد عىل مرىم البرص.
679
به جيش أخضم من جيش نا اكمل العدد والعدة.
من املوىت!
مثانون ألف فارس وهاجن خبيوهلم وإبلهم موىت!
كأمنا نزلت صاعقة من السامء أهلكهتم عن آخرمه ،فأخذهتم يف
حلظة واحدة!
دب الفزع يف قلوبنا ،وأخذ اجلنود يرددون يف رهبة:
"وادي املوت! وادي املوت! لنخرج منه اآلن!"
لكننا بقينا مرصين عىل البحث عن يح واحد بني أكوام
اجلثث،
أو عىل األقل عىل جثة األسود امللعون!
مل نعرث إال عىل األمري اململويك الشهاع ،اكيدمه ابن ابرم ديهل.
األسري املسكني ،اكن محموما هالاك من اجلوع والعطش ،والبد
أن األساودة ظنوه مات ،فألقوه خارج معسكرمه ،قبل أن حتل
هبم لعنة الوادي ،حاولنا سقايته املاء ،فرفض حىت أجربانه
ابلقوة.
تشاوران ماذا نفعل .اكنت الرهبة متأل قلوبنا ،فبدت فكرة
إرسال اجلنود للبحث عن القائد األسود خسيفة ،غري جمدية ،مع
680
ما دب يف قلوب جنودان من رهبة ،خاصة إنه حيامن استنطق
بعضنا اكيدمه ابن ابرم ديهل ،مل يقل إال لكمة واحدة مفزعة.
"األسود قتل لك هؤالء وحده!"
أشعل هذا رعبا ما بعده رعب من القائد األسود يف قلوب
رجالنا .يبدو أنه ،رمغ لك يشء ،متحالف ابلفعل مع الش ياطني،
حىت يقهر وحده مثانني ألفا من الفرسان! فانسحبنا عائدين ملدينة
ساوة ،اتركني الوادي امللعون خالصا هل! عىل أي حال قد
انترصان ،وانهتىى أمر املكل ،ال يرضان وال ينقصنا غياب سلطاننا
عن هذا الوادي امللعون.
زمع البعض إن الهزمية أهلكت األسود ،فأصبح ش بحا منتقام
انمقا عىل رجاهل ،وأنه بعدما أنقذمه من الهالك يف املعركة ،انقلب
علهيم وأهلكهم عن آخرمه.
وزمع البعض إمنا ش ياطني الوادي أتته ،وعرضت عليه -ملا
رأته فيه من قوة وجربوت -أن يصبح ملاك علهيا ،عىل أن يفعل
من الرش فعال بال مثيل ،فقتل لك رجاهل ،ليصبح ملاك خمدلا يف
لعنات هذا الوادي! لكنه أصبح بال سلوى ،وال ترف مما اعتاده
يف حياته البرشية ،فأصبحت تسليته الوحيدة يه أن خيدع من
يقوده سوء حظه للوادي ،فيتسىل بإنقاذه من الضياع ،حىت إذا
مش راحئة النهاة قتهل!
عىل أي حال فلهينأ مبملكته ،ال نريد مهنا شيئا!"
681
()67
682
ويتحالف مع مكل بين الطارق ،وقد اجمتعت الناس عىل لكمته
ابلرضا ،كام مل جتمتع من قبل.
وذلا ،اكن جيب أن ينهتىي أمر الغيالن امحلر ،فأمرت رجال
الغاربة خبلع ادلروع امحلراء ،وتدمريها وأعلنت للك الناس اهناية
الغيالن امحلر برضامه ،ألنه جيب أال ترتفع راية أخرى سوى راية
املكل ،مادام قد متكل!
وذهبت لتميور يف احلارضة ،ألول مرة أدخلها ،بعد أن خرجت
مهنا مع أيب لنجيب دعوة الوريث الاكذب .فوجدت تميور
يرتدي اتجا من اذلهب والفضة ،فتقدمت منه ،وخلعته عنه،
وقلت:
"ما هذا اي موالي؟"
قال:
"أهدته يل اخلاتون ،عالمة املكل ،وشعار األرسة املالكة
القدمي".
قلت هل:
"إذن فأنت تريد أن تنهتىي مقتوال مثلهم! ثبت ملكك بأن تطعم
بمثنه الناس! وإايك أن تس متع لبطانة السوء أبدا".
بدا عىل وهجه اخلجل ،وقال:
"امحلد هلل اذلي أكرمين بك إىل جواري".
683
قلت هل:
"لن أبقى جلوارك ،فقد خلعت زي الغيالن ،وإين راحل
لبدليت!"
نظر يل مهبوات ،وقال:
"أتغادرين وأان حباجة إليك؟"
قلت:
"بإذن هللا ما عادت كل يب حاجة! بإذن هللا س تنترص عىل
األهبال والفرجنة واألعراب ،وس تعيد جمد البالد القدمي ،وتؤمن
ما حولها من ختوم وطرقات .فبفضل هللا ،قد فقد الفرجنة أعدادا
خضمة ،وسفنا كثرية ،ودب الشقاق والرعب يف قلوب األهبال،
فسينرصك هللا علهيم".
قال:
"أحتاج لشهاعتك وفطنتك أاها القبيل عىل جواري .حس نا،
أعمل أنك لست ابلقبيل ،فقد أخربتين حباكيتك الغريبة ،رمغ إنين
ال أاكد أصدقها ،لكنك كنت خري معني ،وس تكون خري وزير".
قلت هل:
"جيب أن أرحل اآلن اي موالي ،مفومس الزراعة قارب عىل
الانهتاء ،وس تصاب البالد ابجملاعة لو مل ندرك بعضه .كام قلت
سابقا كل -لو تذكر -حرب األسود تنهتىي ،لكن حرب اجلوع ال
684
تنهتىي! لقد قارب نرصك عىل الاكامتل ،بفضل جند فالحني .وملا
أصبح دليك ما يكفي من اجلند احملرتفني ،فعليك برتك البعض
لزراعة األرض حىت ال تبور .صدقين فأنت اآلن يف حاجة
لرضابت الفؤوس ،أكرب من حاجتك لطعنات الس يوف".
هنا ملعت عيناه ابدلموع ،وقال:
"أبعد لك هذا ترتكين؟ أبعد الرحةل الطويةل ،والرفقة املريرة اي
قبيل ،أو اي عبد الشهيد؟ أنت خري الرفاق ،فاثبت معي يف أايم
البالط".
قلت مبتسام:
"يه حرب أكرب من طاقيت تكل اليت يف البالط! لو بقيت،
فلن يرىض ملكك يب! اليوم اي موالي جيب أن أرحل ،وأان
واثق يف عدكل وفطنتك ،وأن مملكتك لن تبىن عىل اجلور ،مثل
من هلكوا قبكل ،وأهلكوا! أنك س تتبع نصيحة معر ابن عبد
العزيز أن حصهنا ابلعدل .لو بقيت ،فسأذوق من املشاحنات،
واملنافسات ،وأجواء القصور ما ال أرضاه لنفيس من عنت ،قد
يضلين ،فأضكل معي! وإاهنا لنصيحة مثينة ،أن تبعد بنفسك
عهنا".
نظر يل صامتا حلظات اكدلهور ،مث قال:
"أعمل أنك عنيد ،ولن أغري رأيك حىت تنال ما تريد ،لو مل تكن
كذكل ،ملا كنت أان ملاك اآلن ،لن أكرهك عىل البقاء كام فعل
685
األسود بأهل العامصة ،فاكنوا سبب هزميته .لكن عىل األقل
دلي كل هدية ،فاقبلها".
قلت قلقا:
"وما يه؟"
قال:
"مثكل ال يزتوج إال أمرية! وكنت أبغي كل خري النسب".
قلت مرصا:
"أرامل قرييت ويامتها أوىل يب من أمريات طرابل .خذل وادلي
أهل القرية ،ولن أخذلها بعدما حضت مبا اس تطاعت يف حربنا".
قال مرتباك:
"ليست أمرية من طرابل ،وإمنا من احلارضة! امرأة مل تعرف
لنفسها من الرجال كفئا سواك .اخلاتون املرصفية حدثتين
ألخطبك لها ،أو أخطهبا كل ،أاهام أحص!"
آه! الفكرة القدمية وقلق نساء القرص من اخلاتون! لن أسقط
نفيس يف هذا الفخ مرة أخرى .يكفيين ما انلين منه املرة
السابقة!
قلت مفزوعا:
686
"وأين أان من اخلاتون؟ دعين ألرامل قرييت اي موالي .أىن يل
مبناطحة ذاكءها ،ومكرها ،وثروهتا؟ امحلد هلل إين عائد لقرييت،
مبتعدا عن أثر فتنهتا .وهللا مل يغلبين أحد بأمر مما غلبتين يه!"
قال وعىل شفتيه ابتسامة حزينة:
"وهللا مل أكن ألقبل هبذا األمر ،لوال أنك عائد إىل قريتك ،تعمل
أن بقاء اخلاتون هنا ،قرب قرص املكل ،يثري قلقةل يف القرص.
وغرية النساء وكيدهن هلام خطر عىل أي مكل! أرغب يف غول
أمحر ينقذين بشهاعته من هذا اخلوف! ويأخذها معه لقريته!
وقد قالت يل إاهنا لن متانع يف هذا".
ال أنكر ،رمغ رهبيت من اخلاتون ،إن يف القلب ميال لها،
ومثلها لمييل القلب إال من عصم ربك .ال يفتنين جاملها قدر ما
يفتنين إخالصها ومثابرهتا وفطنهتا .لكين مازلت أخشاها كثريا.
وهنا أاتين من خلفي صوهتا العذب ،المئا ،كأمنا قرأ أفاكري:
"أحقا أان مفزعة لهذه ادلرجة؟ يزمعون إن الغول األمحر هو
املفزع!"
من أين تأيت تكل املرأة دوما يف الوقت املناسب ،عاملة حبقائق
األمور! نظرت لها مرتباك ،وقد تتدفق ادلم لوهجىي .لقد شهدت
املوت ،وذقت احلرب ،وقابلت الطعن ،فمل أرتبك مثلام ارتبكت
أماهما!
687
قلت لها معاندا:
"ال أصلح كل اي س يديت .قد علمت حبقيقة أمري ،ولعهل األمر
الوحيد اذلي خدعك أحدمه فيه ،مفا أان بغول أمحر ،وإمنا فالح
بس يط فقري ،متزق جسده بطعنات الس يوف".
قالت:
"وما أدراك أين أبغي ماال ،فدلي منه الكثري ،أو جاها ،فهو ال
ينقصين؟ أنت من أمت ثأري ،وأثبت شهامتك ،واحلياة يف
قريتك عندي أفضل من القصور مع غريك .أنت متكل من
الشهامة ما افتقدته حيامن كنت أسرية مغلوبة ،مطرودة ،مطاردة
من هذه املدينة اليت نقف فهيا اآلن! أبعد أن ابعين أيب لألسود
مقابل رأس خصمه ،وترك إخويت الكبار حامييت جراي وراء
الكنوز ،وابع شقيقي األصغر دم أيب ورشيف نفاقا للمغوار
األسود ،أبعد لك هذه املعادن اخلسيسة ،اليت أظهرها أقرب
الرجال يل ،ترى يف نفيس طمعا لها؟"
يف احلقيقة كنت ألراها تطمع ،فقد شبت عىل اجلاه
والسلطان ،وأرصت عىل اس تعادهتام ،حيامن سلبا مهنا! ولكن
قليب رق عن أن يغلظ لها الرد املكذب ،فقلت:
"اي ذات النسب الرشيف عن أمك ،وسليةل األمراء والقادة
عن أبيك ،واملال عن زوجك الشهبندر ،واخلربة عن لطامت
688
احلياة! أىن لصيب غرير فقري مثيل ،شوهته الس يوف ،بأن ينظر
إليك؟"
قالت:
"يه أومسة اجلهاد عىل صدرك ،فهبا رشفت!"
اكن زوايج هبا مصلحة للمكل -كام أظن -وحامت سعت
الشهابية وابنهتا هل ،وتطلبه اخلاتون بنفسها ،ال أدري مل؟ رمبا
تظن ابلفعل إنين خشص يليق مبقاهما السايم ،ملا أجراه هللا
بفضهل عىل يدي؟ أو ألنين أخذت ثأر أبهيا كام تقول؟
لكن ما اكن بيننا أشد من أن أجتاوزه ،مشهد الش يخ غالب
رمحه هللا شهيدا يف سبيل القرية ،وحديثه يل عن إننا ننجو بأن
يعني بعضنا بعضا .ذلا قلت:
"لو اتبعت الهوى لتبعتك! ولو اتبع الناس الهوى لفسدت
األرض! يف قرييت يتاىم وأرامل أوىل يب ،واملكل خري من يعرف
أن هناك أمورا أوجب من احلب ،عليه أن يفسح لها الطريق،
حىت لو رصخ من األمل".
حشبت ابتسامة املكل ،متذكرا ما اكن من شأن حبه ،بيامن
أمكلت أان:
"ذلا ،فرغام عام حتبه نفيس وتمتناه ،أرجع لبدليت ،أتوىل من أمر
أهلها اي مواليت اخلاتون ،فاعذريين".
689
جتمد وجه اخلاتون ،وقالت للمكل:
"رمبا اتبعه فامي بعد مطاردة ،ورمبا ال أغفر هل ردي عنه! لكن
اآلن اي موالي ائذن يل ابملغادرة".
واحننت ،واجتهت مغادرة ،فناداها املكل تميور قائال:
"أيهتا اخلاتون!"
التفتت هل ويه تقول:
"أمر موالي؟"
قال:
"ال تنحين ،وال ينحين أحد يف جمليس أبدا .فاإلحنناء ال يكون
إال هلل .خذي اتجك هذا ،فأطعمي به الفقراء ،أثبت ملل ي
منه".
قالت:
"لعل الغول األمحر يعرف من فقراء ساوة خريا مين ،فقد
اغرتبت عن البدل طويال!"
وتركتنا مغادرة .ونظرت للمكل مودعا ،مث تبعهتا خلارج القرص،
فقلت لها:
"هللا يشهد مك أحرتمك ،وأكن كل اي خاتون ،ولكن"........
قاطعتين بقولها:
690
"يه أمور أوجب ،ال بأس اي غول ،ارحل اآلن عين ،ال تأمن
نقميت!"
يقول عبد الشهيد ابن مسعان:
"وهكذا عدت إىل قرييت ،أحاول أن أصلح فهيا ما أحرقته
احلروب ،واس تغرقتين فصول الزرع املتتابعة ،كام اس تغرقت
أحوال املكل املتقلبة ملي ي".
691
()68
692
وأخريا ظهرت لنا أضواء بعيدة .فزع األطفال يف البداية ،يظنواهنا انر
األسود السحرية ،اليت ذكرها يف احلاكية ،لكهنا اكنت أضواء العرابت
املرسعة عىل الطريق الرئييس!
لقد جنوان أخريا! تبا لهذا ادلليل اذلي أضاعنا! لو كنت أصدق
األساطري ،لظننت أنه ش بح القائد األسود هذا!
عىل أي حال ،جلس نا عىل جانب الطريق ،ننتظر العربة الرحمية
القادمة ،لتقلنا إىل وهجتنا.
693
()69
األساودي:
ّ يقول القائد األسود املغوار بن احلازم
عظم املطالب يأيت بعظم البذل ،أدركت حلول الهزمية ،وأن
األمر لن خيلص يل ،لكين عرفت أنه مادام جندي وبين األسود
حافظني لشوكهتم ،فلن خيلص األمر لتميور الساوايت هذا أبدا.
فاكن عيل أن أبذل جييش النفيس مثنا لوحدة الوطن!
!
694
الاكتب:
محمد أمحد ادلواخيل ،من مواليد 1981خترج من لكية
الصيدةل جامعة القاهرة عام .2003
عضو يف جامعة التكية األدبية ،وحمرر سابق يف جمةل حتت
الكوبري اإللكرتونية
فاز جبائزة س ند راشد لعام 2008للمركز األول يف مسابقة
قصة اخليال العلمي بتحكمي د .نبيل فاروق.
صدر هل:
القصة القصرية:
-شارك يف مجموعة "اعذريين وخماوف أخرى" عن دار اكتب،
مع عدد من كتاب الرعب الش باب.
-شارك يف عدد من إصدارات التكية امجلاعية (حىت القهوة
أصاهبا الربود -فأر يف املصيدة)
كوميكس" :بيت التاهئني" رواية مصورة ابلتعاون مع فريق
معل اجلنويب للنرش.
الرتمجة" :طةل عىل بالد برة" (خمتارات من األدب العاملي).
695
696