You are on page 1of 696

‫من حاكايت‬

‫الغول األمحر األخري‬


‫(فانتازاي اترخيية)‬

‫د‪ .‬محمد ادلواخيل‬

‫‪1‬‬
/

2
3
‫(‪)1‬‬

‫ابتسمت ملياء البنهتا‪ ،‬ويه تربت عىل كتفها مطمئنة‪ ،‬وأخذت‬


‫هتمس لها مبا أزال القلق من وهجها‪ ،‬قبل أن تهنض الصغرية إىل‬
‫داخل اخلمية‪ ،‬لتنام مع إخوهتا‪ .‬وما أن غابت عن أنظاران‪ ،‬حىت‬
‫نظرت ملياء دلليلنا برشاسة األم امللتاعة‪ ،‬وقالت بصوت خفيض‬
‫لكنه همدد‪:‬‬
‫"أنت جتعلنا ندور يف دوائر‪ .‬هذه املنطقة كنا هبا ابألمس‪".‬‬
‫رد ابرتباك‪:‬‬
‫"أؤكد كل س يديت أنه جمرد تشابه‪".‬‬
‫ردت حبنق‪:‬‬
‫"وما أدراك؟"‬
‫قال‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫"أبسط يشء هو البوصةل اي س يديت‪ .‬منذ أن خرجنا عن‬
‫الطريق الرئييس بعد هذه الس يول وأان ملزتم ابلسري رشقا‪ ،‬من‬
‫املس تحيل أن نكون يف نفس املاكن‪".‬‬
‫هنا تدخلت قائال‪:‬‬
‫"رمبا كنا يف وادي املوت "وادي القائد األسود؟"‬
‫ردت ملياء‪:‬‬
‫"ال‪ ،‬الوادي اكن عىل اجلانب اآلخر من الطريق‪ ،‬فقد زرانه‬
‫قبل يومني‪".‬‬
‫وأضاف ادلليل‪:‬‬
‫"وأاي اكن ماكننا فالبوصةل س تعمل‪".‬‬
‫وألول مرة تلكم السائق األمسر قائال‪:‬‬
‫"حس ناً‪ ،‬عىل األرحج حنن يف وادي املوت‪ ،‬فاملوجود عىل‬
‫اجلانب اآلخر من الطريق جزء صغري معزول منه‪ ،‬يس تخدم‬
‫لزايرات الس ياح؛ أما ابيق الوادي مفساحته هائةل‪ ،‬وهو خطري‬
‫ألن من املس تحيل أن يعرف األدالء دروبه‪ ،‬ألاهنا تتغري دوما‬
‫بسبب حركة الكثبان الرملية‪".‬‬
‫قال ادلليل‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫"أعرف هذا؛ ولكن البوصةل‪ ....‬أعين إننا منيش عىل هداها‪،‬‬
‫س منيش رشقا‪ ،‬وس نصل حامت لطريق العامصة الرئييس‪".‬‬
‫هنا قلت‪:‬‬
‫"لكين مسعت إن تربة هذا الوادي غنية بأكس يد احلديد‬
‫املغناطييس‪ ،‬مما يؤثر عىل البوصالت‪".‬‬
‫ساد الصمت الثقيل لفرتة‪ ،‬مث نظر ادلليل إىل السامء‪ ،‬وأخذ‬
‫يتأملها ردحا من الزمن‪ .‬فسألته (ملياء) يف حتفز‪:‬‬
‫"ماذا تفعل بتأمل جامل النجوم اآلن؟ "‬
‫قال‪:‬‬
‫"أحبث عن النجم القطيب‪....‬آهه‪ .....‬هل هو ذكل؟ آه ال‪....‬‬
‫نعم ها يه املغرفة و‪ ...........‬حس نا اي رفاق هذا هو الشامل‪.‬‬
‫فعال البوصةل معطةل أو متأثرة هبذا احلديد املغناطييس اذلي‬
‫تلكم عنه األخ‪".‬‬
‫نظرت ملياء هل نظرة انرية‪ ،‬مث رفعت رأسها إىل السامء‪ ،‬وهتفت‬
‫بأعىل صوهتا‪:‬‬
‫"اللهم أجندان من أدالء آخر زمن!"‬
‫شعرت أن املوقف سينفجر مرة أخرى‪ ،‬حفاولت تلطيف اجلو‬
‫قائال‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫" عىل أي حال‪ ،‬لقد عرفنا اآلن خطأان‪ ،‬ونس تطيع الانطالق‬
‫من الغد إىل الطريق الصحيح‪ ،‬وغدا س يكون لك هذا ذكرى‬
‫مضحكة‪".‬‬
‫أضاف ادلليل‪:‬‬
‫"لك ما علينا هو أن جنعل النجم القطيب عىل مييننا‪ ،‬وس نصل‬
‫إىل طريق العامصة الرئييس خالل يوم عىل األكرث‪".‬‬
‫مل حتمتل ملياء أكرث من هذا‪ ،‬فانفجرت فيه‪:‬‬
‫"عىل يساران أاها األمحق! ل ي نتهه رشقا‪ ،‬جنعل الشامل عىل‬
‫يساران! أم إنك تريد أن تقودان لقلب الصحراء‪ ،‬لهنكل جوعا‬
‫وعطشا‪".‬‬
‫وأخذت ترغي وتزبد يف رشاسة األم اليت ختاف عىل أطفالها‪،‬‬
‫واكتفيت أان مبراقبة الهتاهما لدلليل قليل اخلربة‪ ،‬اذلي مل يعرف‬
‫املنطقة أكرث منا إال بشهر واحد‪ ،‬إىل أن أشفق عليه أحدان‪،‬‬
‫واس تغل حلظة توقفت فهيا ملياء اللتقاط األنفاس وقال‪":‬جيب أن‬
‫ننطلق اآلن وحنن نرى النجم القطيب‪ .‬لنتحرك ليال‪ ،‬ونراتح‬
‫اهنارا‪".‬‬
‫فذهبت ملياء إليقاظ أطفالها‪ ،‬اذلين مل يدخروا هجدا يف‬
‫الاحتهاج‪ ،‬وتذمروا بإخالص شديد‪ ،‬إىل أن أقنعهتم أهمم‬
‫ابلطريقة التقليدية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وبيامن اكنوا ميسحون دموع الاقتناع‪ ،‬أراد ادلليل إلهاهئم عن‬
‫األمل اذلي أوقعهم – وأوقعنا ‪ -‬فيه فقال للصغار‪:‬‬
‫"أتدرون اي أطفايل ما امس هذا املاكن؟"‬
‫رد الشقي األكرب جبفاء‪:‬‬
‫"امس يبعث عىل الاطمئنان! وادي املوت‪ ،‬أو وادي القائد‬
‫األسود كام مسعت من جشارمك؟"‬
‫بدا اخلوف عىل وجه األصغرين‪ ،‬اذلين مل ميتلاك شقاوة أخهيام‬
‫األكرب‪ ،‬فأمكل ادلليل‪:‬‬
‫"نعم‪ ،‬لكن هل تعرفون أن وراء هذا الامس قصة؟"‬
‫مل جيد مهنم ردا فأمكل‪:‬‬
‫"بإماكين أن أحكهيا لمك؛ لكن ال أدري أأنمت جشعان مبا يكفي أم‬
‫ال؟"‬
‫احليةل القدمية! تريد أن جتعل الطفل يفعل أي يشء‪ ،‬مفا عليك‬
‫إال أن تسأهل إن اكن جشاعا أو كبريا مبا يكفي؟‬
‫وابلطبع رد الشقي األكرب‪:‬‬
‫"حنن أجشع منك‪ ،‬لس نا صغارا لتخيفنا قصة‪".‬‬
‫تردد يف ذهين صوت يدعوين إلخراس ادلليل‪ ،‬مل أكن أذكر‬
‫األسطورة متاما‪ ،‬ولكهنا اكنت تتحدث عن موت قائد كبري‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫وأش باح‪ ،‬وأش ياء من هذا القبيل‪ .‬لكين افرتضت حبسن نية أنه‬
‫س يحدهثم عن القصة التارخيية‪ ،‬اليت قرأهتا يف الكتب‪ ،‬فالزتمت‬
‫الصمت‪.‬‬
‫وهنا ‪ -‬للمرة املائة ‪ -‬أثبت حامقته! همام اكنت جشاعة الطفل‪،‬‬
‫فإن األمر ال يصل إىل إماكن أن ختربه بوجود ش بح يف‬
‫الصحراء‪ ،‬يبحث عن التاهئني فهيا‪ ،‬بزمع إنقاذمه‪ ،‬قبل أن يقتلهم!‬
‫قصة غري مناس بة بتاات ألطفال اتهئني يف الصحراء! دعك من‬
‫أاهنم افرتضوا‪ ،‬تلقائيا‪ ،‬أن هذا ادلليل األمحق‪ ،‬اذلي لكام حاول‬
‫إنقاذان‪ ،‬زاد املوقف سو ًء‪ ،‬هو القائد األسود‪ .‬وأعذرمه يف ذكل‪،‬‬
‫فأدلهتم قوية ال تناقش‪ .‬فالش بح موجود‪ ،‬ألن الكبار يسمون‬
‫الوادي عىل امسه‪ ،‬وحنن كنا بأمان يف الس يارة‪ ،‬حىت قرر هذا‬
‫ادلليل (إنقاذان) ابمليض يف الصحراء حنو طريق العامصة الرئييس‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬اكن جيب أن أتدخل‪ ،‬قبل أن يضيع ادلليل‬
‫املسكني جريرة حامقته‪ ،‬وألنقذ ملياء من السجن املؤبد بهتمة‬
‫القتل‪ ،‬فأرسعت أقول لألطفال‪:‬‬
‫"هذه جمرد قصة خييفون هبا األطفال هنا‪ ،‬حىت ال يلعبوا يف‬
‫تكل الصحراء اخلطرية‪ ،‬ولكن الامس سببه ‪ -‬كام هو مذكور يف‬
‫الكتب ‪ -‬إنه قد جرت هنا معركة هائةل‪ ،‬بني قائد حميل من‬
‫أقىص رشق البالد‪ ،‬عرف ابمس القائد األسود ألنه اكن ينمتي‬

‫‪9‬‬
‫لقبائل بين األسود يف الرشق‪ ،‬وليس ألنه اكن ساحرا رشيرا‬
‫ميارس السحر األسود‪ ،‬كام يزمع هذا ادلليل الطيب‪".‬‬
‫قال ادلليل‪:‬‬
‫"أان مل‪"............‬‬
‫قاطعته ممكال‪:‬‬
‫"حارب هذا القائد غزاة اكنوا آتني من الغرب‪ ،‬وقاتلهم قتاال‬
‫مريرا دفاعا عن البالد؛ لكنه هزم بعد أن قتل من الطرفني‬
‫أعدادا هموةل‪ ،‬فسمي هذا الوادي ابمس وادي املوت ختليدا‬
‫للقتىل الكرث‪ .‬قبل هذا‪ ،‬اكن يسمى خلطورته وادي الضياع‪ .‬أما‬
‫القائد األسود‪ ،‬فمل حيمتل الهزمية‪ ،‬فبقى حينا متحصنا مع بعض‬
‫رجاهل يف الوادي‪ ،‬حىت هلكوا مجيعا‪ ،‬لكنه ظل حيمك الوادي‬
‫لفرتة‪ ،‬فسمي ابمسه وادي القائد األسود‪".‬‬
‫قالت الصغرية‪:‬‬
‫"اي هل من بطل دافع عن بالده حىت الهناية‪".‬‬
‫وجدهتا فرصة للحديث عن الشهاعة والانتصار للوطن‪،‬‬
‫فبدأت أخاطب األطفال ابلبطوالت‪ ،‬اليت يبذلها اجملاهدين يف‬
‫سبيل حرية بالدمه‪.‬‬
‫وهنا سأل الشقي الكبري‪:‬‬
‫"وماذا فعل الغزاة بعد انتصارمه؟"‬

‫‪10‬‬
‫مل أكن أعمل اجلواب فقلت مخمنا‪:‬‬
‫"طبعا حمكوا البالد إىل أن أىت الثوار وأخرجومه‪".‬‬
‫هنا تلكم أخريا السائق األمسر‪ ،‬وهو الوحيد بيننا اذلي ينمتي‬
‫ألهل املنطقة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"حس ناً‪ ،‬أان أذكر القصة اليت حاكها يل جدي عن جده عن‬
‫جده عن جدان األكرب‪ ،‬وحيكهيا اجلدود يف بدلتنا ألحفادمه عن‬
‫الغول األمحر‪ ،‬والقائد األسود‪"..........‬‬
‫قاطعته ملياء‪:‬‬
‫"مالنا ومال الغيالن واألش باح‪ .‬حنن نتحدث عن البطوةل‬
‫والفداء اي أسطى‪".‬‬
‫أمكل السائق‪:‬‬
‫"وأان أحتدث عن أمسى معاين البطوةل والفداء‪ .‬لكن القائد‬
‫األسود مل يكن بطال‪ ،‬بل اكن أسودا الفعل والامس‪ .‬لكن كعادة‬
‫التارخي هو من بقى أثره يف الكتب‪ ،‬أما البطل احلقيقي‪ ،‬اذلي‬
‫قام برحةل تفوق اخليال من أجل بالده‪ ،‬ماكحفا ضد أسوأ عدو‬
‫يبتىل به اإلنسان‪ ..‬ضد اليأس‪ ،‬وضد لكمة ال فائدة‪ ،‬ولكمة ال‬
‫حتاول غريك اكن أشطر‪ ..‬لكامت قاتةل اكن يواهجه هبا لك من‬
‫يقابهل ويفرتض فيه املعاونة‪ ،‬لكنه أرص عىل بذل لك ما ميكنه يف‬
‫سبيل ما يراه واجبا عليه‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫سأهل الصغري‪:‬‬
‫"من هو هذا الرجل وما حاكيته؟"‬
‫قال السائق‪:‬‬
‫"امسه (عبد الشهيد )‪ ،‬وهو ابن (مسعان) الصياد ‪،‬وهل قصة‬
‫جعيبة سأحكهيا لمك‪ ،‬كام مسعهتا عن جدي‪ ،‬وكام مسعها جدي‬
‫األكرب من ( عبد الشهيد) نفسه‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫(‪)2‬‬

‫قال الراوي‪:‬‬
‫" كنت أحرث األرض اس تعدادا لبذر القمح‪ ،‬أمه حمصول‬
‫طوال العام‪ ،‬فهو اذلي نقتات منه أايم احلصار؛ ولكين كنت‬
‫متأخرا عن البقية‪ ،‬ألنين ال أجد من يعاونين يف القرية‪ ،‬بيامن‬
‫خربيت القليةل ال تسعفين يف زراعة تكل الرقعة اليت ورثهتا عن‬
‫وادلي (مسعان الصياد)‪ .‬وذلا‪ ،‬بقيت وحدي وسط اخلالء‪ ،‬ال‬
‫حيوطين برش إال من عابر سبيل‪ ،‬يظهر مبتعدا عىل مرىم‬
‫البرص‪.‬‬
‫وذلا اكنت دهش يت كبرية ‪ ،‬حيامن رأيت (محمدين) ‪ ،‬جاري‪،‬‬
‫والشخص الوحيد اذلي يبادلين لكامت مقتضبة يف البدلة‪ ،‬ألنه‬
‫يرى إمث مقاطعة اجلار أشد من عيب حمادثيت‪.‬‬
‫وازدادت دهش يت‪ ،‬حيامن أدركت أنه يقصدين‪ ،‬فيتهه حنوي‬
‫مرسعا‪ ،‬إذ مل حيدث أبدا أن ابدرين ابحلديث‪ .‬وقد أبقيت هل‬
‫تكل العادة‪ ،‬إذ غلبين فضويل‪ ،‬فهتفت‪:‬‬
‫"كيف حاكل اي أاب عبد الرمحن؟ ما األمر؟"‬

‫‪13‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"ش يخ البدل يريدك‪".‬‬
‫قلت متعجبا‪:‬‬
‫"وماذا يريد مين الش يخ غالب؟"‬
‫هز كتفيه وقال‪:‬‬
‫"علمي كعلمك!"‬
‫مضيت معه مندهشا‪ .‬خفالل ثالث س نوات قضيهتا هنا‪ ،‬مل‬
‫يدعين أبدا الش يخ غالب لبيته‪ ،‬اذلي مل أدخهل سوى مرة‬
‫واحدة‪ ،‬حيامن جئت للقرية مطالبا مبريايث من أيب‪ .‬حىت حيامن‬
‫يدعو ش يخ البدل لك الش باب للقتال ضد اللصوص والههامة‬
‫وجامعات املامليك املارقة‪ ،‬ال أعرف ابألمر إال صدفة‪ ،‬ولهذا‬
‫فاتتين أكرث من معركة كنت يف أشد احلاجة للمشاركة فهيا‪،‬‬
‫إلثبات جشاعيت ومروءيت وواليئ ألهل قرييت‪.‬‬
‫ويبدو أن فضول أيب عبد الرمحن اكن أشد‪ ،‬فسألين‪:‬‬
‫"أتعرف خشصا يدعى (نوري)؟ رمبا اكن من األعيان"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ال‪ ،‬والامس ال يبدو مألوفا‪ ،‬ولعهل ليس من بالدان‪".‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪14‬‬
‫"أىت خشص يرتدي مالبس غالية‪ ،‬ويركب حصاان مل أر هل‬
‫مثيال‪ ،‬حفدث ش يخ البدل كام لو اكن يعرفه‪ ،‬ومهس هل قليال‪ ،‬مث‬
‫اندفع للرشق مرسعا‪ .‬وبعد قليل‪ ،‬أرسل الش يخ رسوال إىل‬
‫انئب القايض‪ ،‬يف زمام الش يخ عصفور‪ ،‬وأحل عليه يف اإلرساع‪،‬‬
‫مث بعد قليل أرسلين كل‪".‬‬
‫أردت اجتذابه لرثثرة تذيب بعضا من جليد القلوب‪ ،‬فسألته‬
‫"انئب القايض؟ أليس هذا لقب زعمي خدام الرضحي؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"نعم‪ ،‬هو بعينه‪ .‬أظنه اآلن شااب امسه (احلسيين)‪ ،‬وهو ابن‬
‫شقيق سلفه (سعيد)؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ملم يسمي نفسه بنائب القايض؟ ليس يف قرى الزمام أو‬
‫خارهجا قضاة‪ .‬إين مل أر قاضيا إال يف حارضة البالد‪ ،‬بعيدا عن‬
‫هنا مسرية أسابيع‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"ألنه يقيض بني أهل الزمام وما حوهل من القرى‪ ،‬إىل جانب‬
‫قيادته خلدم الرضحي‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫"إذن فمل مل يسم نفسه ابلقايض؟"‬
‫قال مبتسام‪:‬‬
‫"مل ترتب بيننا لتعرف! لقد جخل سلفه أن يسمي نفسه قاضيا‬
‫يف حرضة رضحي الش يخ عصفور‪ .‬وكره أن يسمي نفسه أمريا‪،‬‬
‫أو قائدا للجند‪ ،‬حىت ال يش به أولئك األجالف‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أظن أن رضحي الش يخ عصفور بعيد عن هنا‪ ،‬هجة‬
‫اجلنوب؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"أمل تذهب لتتربك ابملقام من قبل؟ إنه سريا يس تغرق يومني‬
‫للجنوب‪".‬‬
‫قلت‪":‬لعكل تذهب معي لنقرأ هل الفاحتة قريبا؟"‬
‫مل أترك هل مفرا‪ ،‬هكذا أورطه يف صداقيت رويدا‪ ،‬رويدا‪ ..‬مفن‬
‫ذا اذلي يرفض أن يدل خشصا عىل مقام الويل الصاحل‪ ،‬الش يخ‬
‫عصفور‪ ،‬أو يفكر يف صده عن قراءة الفاحتة هل؟‬
‫كنت قد مسعت الكثري عن هذا الش يخ‪ ،‬اذلي اكن آخر‬
‫قاض عاش يف اإلقلمي الغريب من اململكة‪ ،‬واكن حازما حاسام‪،‬‬
‫غزير العمل‪ ،‬حمبا للعدل‪ ،‬جماهدا للظمل‪ .‬وقد ساعد الكثريين يف‬
‫أايم الفنت السوداء‪ ،‬دون أن يرهب أمريا جائرا‪ ،‬أو غنيا فاجرا‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫أو مملواك ابطشا‪ .‬واليوم‪ ،‬بعد مرور العقود عىل وفاته‪ ،‬مازال‬
‫رضحيه ملجئا للمظلومني‪ ،‬ومقرا مجلاعة اجلند اليت أسسها إلقرار‬
‫العدل‪ ،‬تتوارث هممهتا املقدسة داخل الزمام‪ ،‬لتجعل منه واحة‬
‫شاذة من األمان‪ ،‬وسط حصراء اخلوف‪ .‬أمان جيعلين أغفر لك‬
‫ما أرفضه من مظاهر التقديس‪ ،‬واخرتاع الكرامات‪ ،‬وأعامل‬
‫اجلهاةل‪ ،‬اليت تفرض للمخلوق معجزات ال جتوز لغري اخلالق‪ .‬لك‬
‫هذا تربيت عىل نبذه يف كتّاب ش يخي ابلزرقاء‪ ،‬حيث نشأت؛‬
‫لكن تشبث الناس هنا بقشة كرامات الش يخ‪ ،‬لتحمهيم من‬
‫طوفان الفنت حوهلم‪ ،‬ألمر جدير ابالحرتام‪ ،‬بل الاس تغالل‪.‬‬
‫عاد فضوهل يلح‪:‬‬
‫" أما تدري ملاذا يريدك الش يخ غالب؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"هذه أول مرة يطلبين فهيا منذ عوديت إىل هنا‪ .‬لكن حدثين‬
‫عن هذا النوري كيف اكن؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫" اكن يرتدي زاي مزركشا نفيسا‪ ،‬ذا لون أبيض خملوط بصفار‬
‫ذهيب‪ ،‬وغطاء رأس جعيب‪ ،‬ال هو ذو زر فأقول طربوش‪ ،‬وال‬
‫ملفوف فأقول عاممة‪ ،‬وحامت ليس بطاقية‪".‬‬
‫سألته‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫"قل يل أاكن يرتدي حذاءا؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"اكن قبقااب بس يطا عىل ما أذكر‪ ،‬فقد اكن (يطرقع) عىل بالط‬
‫مسطبة الش يخ غالب‪".‬‬
‫ابتسمت يف فهم‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"أاكن ميسك سوطا‪ ،‬أو اكن معه سالح أو رفاق؟"‬
‫هز رأسه نفيا‪:‬‬
‫"ال هذا وال ذاك!‪".‬‬
‫"كيف اكن جواده؟"‬
‫رد‪:‬‬
‫"رائعا فتاان‪ .‬مل أر يف حيايت هل مثيال يف رشاقته وخفته‪".‬‬
‫قلت "حس ناً‪ ،‬هذا عىل األرحج أحد اخلدم يف قصور األثرايء‪،‬‬
‫عمل بأمر خطري‪ ،‬فاختلس حصان س يده‪ ،‬ليرسع ألقرب قرية‪،‬‬
‫مث عاد مرسعا‪".‬‬
‫بدا القلق عىل وجه (محمدين)‪ ،‬إذ أن النبأ اخلطري القادم من‬
‫األغنياء لن يكون خريا أبدا‪ ،‬فقال يف رشاسة‪:‬‬
‫"وما أدراك أنت؟"‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫"هذا احلصان المثني مل ميلكه إال ثري‪ ،‬والرثي لن مييض وحيدا‪،‬‬
‫ولن يرتك حصانه خلادم‪ .‬وهذا (النوري) يرتدي مالبس‬
‫مكالبس اخلدم واملامليك اذلين يعملون داخل قصور األثرايء‪.‬‬
‫عادة ما يلبسواهنم أهبىى األزايء أمام ضيوفهم‪ ،‬وال اهمتون‬
‫ألحذيهتم‪ .‬عىل أن اململوك لن مييض دون سالح أو كرابج‪".‬‬
‫أخذت أفكر‪ ،‬عىل األرحج مسع (نوري) هذا أمرا خطريا من‬
‫سادته أثناء اس تقباهل لضيف هام‪ ،‬ورمبا اكن يعرف ش يخ البدل‪،‬‬
‫أو لعلنا كنا أقرب قرية‪ ،‬فأراد إبالغنا لنبلغ انئب القايض ابألمر‬
‫اجللل‪ ،‬اذلي جعهل خيتلس حصان س يده‪.‬‬
‫انزتعين (محمدين) من أفاكري بقوهل‪:‬‬
‫"هل يرتدي اخلدم يف القصور مثل هذا؟"‬
‫قلت مبتسام لتعجبه‪:‬‬
‫"رأيت يف الزرقاء واحلارضة أشد من ذكل!"‬
‫قال‪:‬‬
‫"ختيفين حبديثك‪ ،‬وتتحدث عام ال تعمل‪ .‬أتدرك ماذا يعين أن‬
‫يضمر األثرايء لنا الرش مرة أخرى؟"‬
‫اكن هذا ما أفكر فيه فرددت‪:‬‬
‫"يعين العودة ألايم ألمية‪ ،‬ولعل ش يخنا اس تعد لهذا اليوم‪ ،‬وأعد‬
‫العدة بتجنيد نوري هذا داخل قصورمه‪".‬‬

‫‪19‬‬
‫هنا الح لنا مزنل ش يخ البدل الفس يح‪ ،‬اجملاور للمسهد حىت‬
‫يسهل عليه صعود املئذنة‪ ،‬ومراقبة ما حول القرية وقت الشدة‪.‬‬
‫واكن ابلفعل فوقها‪ ،‬ينظر حنوان اكملرتبص‪ .‬فلام وصلنا لبابه‪ ،‬نزل‬
‫ورصف أاب عبد الرمحن حلال سبيهل‪ ،‬وأدخلين إىل جحرة مغلقة‬
‫من املزنل‪ ،‬ألجد الطعام ينتظرين‪.‬‬
‫جلست آللك لقاميت قليةل وأان مرتبص‪ ،‬فمل أكن جائعا‪ ،‬وإمنا‬
‫طامع يف رابط املودة‪ ،‬اذلي تفرضه املشاركة يف الطعام عىل‬
‫رؤوس الكرام‪.‬‬
‫اكن وجه الش يخ متجهام‪ ،‬ومل أكن ألفهم رس طلبه يل‪ .‬الاحامتل‬
‫الوحيد إنه يريد سؤايل إن كنت سأكرر فعةل أيب‪ ،‬أو إنه يرغب‬
‫يف رشاء أريض‪ ،‬قبل أن أرحل‪ ،‬وإال فمل ميسك بكيس نقوده‬
‫يف يده؟‬
‫ابتدرين ابحلديث‪:‬‬
‫"لعكل تتساءل مل أريدك؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أان يف خدمتك دوما اي ش يخ (غالب)‪".‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫"أنت رجل جشاع‪ ،‬ومنذ جئت هنا وأنت تقاتل إىل جواران‬
‫بلك جشاعة دفاعا عن القرية‪ .‬ذلا فعندي كل أمر مس تحق‬
‫للشهاعة‪".‬‬
‫مل أرد يف البداية‪ ،‬انتظرت منه التوضيح‪ ،‬مث عدلت عن رأيي‬
‫فقلت‪:‬‬
‫" أخربين أاب عبد الرمحن عن جميء رجل كل‪ ،‬اكنت صفاته كام‬
‫يوصف خدم األثرايء؟"‬
‫قال‪ " :‬هذا حصيح‪".‬‬
‫قلت‪ " :‬لعهل جاء ليخربك بنبأ يسء عاجل؟"‬
‫قال‪ " :‬حصيح!"‬
‫مل يزد‪ ،‬فأمكلت‪:‬‬
‫"إ ًذا فاألغنياء س يحاولون مرة أخرى إحضار املرتزقة‬
‫لالستيالء عىل األرايض واملزارع حوهلم‪ ،‬وحتويل الفالحني فهيا‬
‫إىل عبيد أرض‪ .‬ولعكل تظن أنين سأفعل مثل أيب وأرحل؛ بيامن‬
‫القرية حباجة للك يد مقاتةل؟‬
‫قال‪:‬‬
‫"أنت مثل وادلك! ال أعين فراره؛ بيامن كنا حنتاجه‪ ،‬وزواجه‬
‫من بدل بعيد؛ بيامن أراملنا وأيتامنا ال جيدون من يتكفل هبم‪ .‬لكنه‬

‫‪21‬‬
‫اكن ذكيا‪ ،‬جييد معرفة الكثري‪ ،‬ويظن أنه يعرف األكرث من أقل‬
‫القليل‪".‬‬
‫قلت‪" :‬إ ًذا فاألمر حصيح‪".‬‬
‫قال‪" :‬وماذا س تفعل؟"‬
‫قلت حبزم‪" :‬لن أرحل عن البدل همام اكن‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"ليت وادلك اكن مثكل! أان أثق فيك‪ ،‬وأدرك أنك لن هترب‬
‫مثهل قبل أن يعود لنا ودلك‪ ،‬اذلي مل نره من قبل‪ ،‬ليطالب‬
‫مبرياثه من األرض‪ ،‬اليت محيناها بدمائنا‪ ،‬وحافظنا علهيا بعرقنا‪،‬‬
‫فيأخذها جاهزة سائغة‪ ،‬دون دم أو عرق‪".‬‬
‫قلت مرصا متهاهال نكأه للجراح القدمية‪:‬‬
‫"سأقاتل دفاعا عن أريض وقرييت‪".‬‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"سأجتاوز عن هذا احلديث‪ ،‬رمغ أنين ال أنكر عىل من يقول‬
‫إنك ودلت وتربيت بعيدا عنا‪ ،‬فيصعب أن نسمهيا قريتك‪.‬‬
‫سأدع األفعال تثبت قوكل‪ ..‬ما كنت أقوهل أن وادلك اكن يظن‬
‫أنه يعرف األكرث‪ ،‬مصدقا لك ظنونه؛ لكن بعضها مل يكن‬
‫مصيبا‪".‬‬

‫‪22‬‬
‫قلت بتوجس‪" :‬ال أفهم اي س يدي؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"أان ال أعرف حىت اآلن ما اذلي يدبره األغنياء‪ .‬لك ما يف‬
‫األمر أن (نوري) ‪،‬وهو خادم يف قرص ابن العبديل‪ ،‬اذلي هو‬
‫رجل واسع الرثاء‪ ،‬مل نر منه من قبل خريا أو رشا‪ ،‬ويعزتل عادة‬
‫معارك األمراء‪ ،‬فال نعرف عنه الكثري‪ ،‬خاصة إنه يعيش منعزال‬
‫يف قرصه‪ ،‬األش به ابحلصن عىل ربوة عالية منعزةل قرب اجلبل‪.‬‬
‫هذا الرجل – جفأة ‪ -‬أرسل رسهل يف طول البالد وعرضها‪،‬‬
‫يس تدعي لك أمري‪ ،‬وقائد جند‪ ،‬وزعمي قبيةل‪ ،‬وحىت كبار‬
‫املامليك واألثرايء‪ .‬وأرسل بعض اخلدم ‪ -‬ومهنم (نوري) ‪-‬‬
‫ليجمعوا لك زعمي ذي بطش‪ ،‬يدعومه ليضيفهم يف قرصه‪.‬‬
‫وأخربين (نوري) إنه مل يكتف بزعامء الغرب‪ ،‬بل أحرض ضيوفا‬
‫آخرين من اإلقلمي الرشيق‪".‬‬
‫تعجبت قائال‪ " :‬ومل لك هذا؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫" ال أعمل‪ ،‬هو يرسل رسائل خمتومة‪ ،‬ال يعرف رسهل ما حتمهل‪.‬‬
‫أما اخلدم الهامئون مثل (نوري)‪ ،‬فمل يقل هلم سوى أن يبحثوا‬
‫عن لك صاحب جند حيسب حسابه "فاخربوه إنين أدعوه‬
‫لقرصي‪ ،‬ألضيفه‪ ،‬ومن يأيت معه‪ ،‬بسخاء يف ولمية ليس لها‬
‫مثيل‪ ،‬عقب صالة امجلعة القادمة‪".‬‬

‫‪23‬‬
‫قلت‪" :‬أي بعد غد؟"‬
‫" نعم‪ .‬مل يرسل هؤالء إال ابلاكد عىل املوعد‪ .‬أما كبار القادة‪،‬‬
‫فأغلهبم ابلفعل يف قرصه أو اقرتبوا منه‪".‬‬
‫قلت‪" :‬لكن ملاذا؟"‬
‫قال الش يخ غالب‪:‬‬
‫" مل يعرف ( نوري) شيئا‪ .‬الرجل حيمل يل معروفا قدميا‪ ،‬مل‬
‫أطلب مقابهل إال أن يأتين بأي أخبار مريبة يف قصور األثرايء‬
‫وأحاديهثم‪ .‬ذلا احنرف عن طريقه وأاتين‪".‬‬
‫قلت بقلقك‬
‫"لكن هذا أمر خطري جدا‪ .‬لو احتد أحصاب اجلند مجيعا مع‬
‫األثرايء‪ ،‬فلن يس تطيع الفالحون يف أي قرية أو مدينة الوقوف‬
‫يف وهجهم‪".‬‬
‫أمكل ما أفكر فيه بقوهل‪:‬‬
‫" ولو بدأان من اآلن ابالس تعداد‪ ،‬ومعل األحالف‪ ،‬وحتصني‬
‫البيوت فس يضيع مومس الزراعة‪ ،‬لمنر بقحط شديد‪ ،‬وجوع‬
‫أشد‪".‬‬
‫‪"-‬وماذا نفعل إ ًذا؟"‬

‫‪24‬‬
‫‪ "-‬أردت مشورة انئب القايض‪ ،‬لكن حيامن يأيت رسوهل‬
‫س يكون الوقت قد تأخر‪ .‬ذلا فكرت يف إرسال خشص لهذا امجلع‬
‫يتلصص عليه‪".‬‬
‫أجبت برسعة‪:‬‬
‫"لكين ال أصلح لهذا األمر‪ ،‬فأان ال أعرف أهل البدل‪ ،‬وال‬
‫حىت الطرق والقرى‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"حس نا األمر خطري‪ .‬لو اكتشفوا أمرك‪ ،‬فأنت مقتول‪ ،‬ذلا‬
‫س تتنكر يف شلك أمري‪ ،‬أىت حلضور الضيافة‪ ،‬فلن يعرفك أحد‬
‫وسط الزحام‪".‬‬
‫سألته بشك‪ " :‬وملاذا أان ابذلات؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫" ل ي نصل ملعلومة كبرية‪ ،‬فلن ننالها إال من الكبار‪ .‬والكبار لن‬
‫يتحدثوا إال ملن هو مثلهم‪ ،‬وعندي زي مزود ابدلروع‪ ،‬اس تعرته‬
‫من صديق يل‪ ،‬يليق بأمري‪ ،‬لكنه ال يناسب إال رجال فارع‬
‫الطول‪".‬‬
‫قلت جمادال‪:‬‬
‫" يوجد يف القرية س بعة آخرون من فارعي الطول‪ .‬مثال‬
‫(عطية) وهو األبرع يف ركوب اخليل واملبارزة‪ ،‬و(حسن السامك‬

‫‪25‬‬
‫) وهو حلو احلديث‪ ،‬واسع ادلهاء‪ ،‬حاد السمع‪ ،‬يس تطيع‬
‫إخراج األنباء من األفواه املغلقة‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫" (حسن) هل زوجة وأوالد‪ ،‬و(عطية) يسعى عىل وادلين‬
‫جعوزين‪".‬‬
‫أمكلت حبنق‪:‬‬
‫"و(إبراهمي) هل أخوة حيزنون عليه‪ ،‬أما (عبد الشهيد ابن‬
‫مسعان) خفسارته ليست جس مية‪ ،‬وال أهل هل أو ودل‪ ،‬وال حىت‬
‫جريان يطيقونه!"‬
‫أدرك الرجل زةل لسانه‪ ،‬فصمت‪ ،‬ومل يرد‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"أريد رحما!"‬
‫نظر يل بدهشة وسأل‪" :‬ماذا؟"‬
‫قلت بإحلاح‪:‬‬
‫"أريد رحما‪ .‬أان لست ابرعا يف املبارزة ابلس يف‪ ،‬ومل أرث عن‬
‫وادلي همارته يف الريم ابلسهام‪ ،‬وال أجيد إال القتال ابلرمح‪.‬‬
‫وإذا كنت ذاهبا أللقي نفيس بني ذئاب ال ترمح‪ ،‬فليكن معي‬
‫سالح أجيده‪ ،‬وأان أجيد الرمح‪".‬‬
‫تهند يف ارتياح‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫" ليست مشلكة‪ .‬ليس رحما حفسب‪ ،‬بل أفضل رمح يف البدلة‬
‫لكها! هذا اذلي اشرتاه ابين من زمام الش يخ عصفور‪ ،‬وهو رمح‬
‫ممتاز جدا‪ ،‬وقوي‪ ،‬ويصلح لرجل طويل مثكل‪".‬‬
‫قلت ممكال‪:‬‬
‫"وأريد من يرعى أريض يف غيايب‪ ،‬وسأدفع هل األجر‪ .‬وإذا مل‬
‫يكرمين هللا ابلعودة ساملا‪ ،‬فإن وصييت أن تذهب األرض‬
‫لورييث الرشعي الوحيد‪ ،‬ابن معيت (سعد الالكف)‪ ،‬بدون‬
‫جدال أو نزاع‪".‬‬
‫قال مندهشا‪:‬‬
‫"ألست تكرهه كوادلك؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"بىل‪ .‬لكين ال أريد مقابةل ريب وحقه الرشعي معلق يف‬
‫رقبيت‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"دعك من هذا التشاؤم‪ ،‬وخذ الزي وادلروع‪ ،‬وهذا الكيس‬
‫من اذلهب لنفقاتك‪ ،‬وليس عليك أن ختىش من رصف بعضه‬
‫أو لكه‪ .‬لو أتت األنباء الطيبة‪ ،‬فلن اهمت أحد بأين ذهبت بعض‬
‫ادلاننري‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫"ال أفعل هذا ألجل بضعة داننري‪ .‬إمنا ألجل ما هو أغىل‪".‬‬
‫هز رأسه يف تفهم يشوبه السأم‪..‬‬
‫"حني تعود س تكون من أبناء القرية‪ ،‬وس نعرتف كل مجيعنا‬
‫هبذا‪".‬‬
‫هززت رأيس نفيا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"ال أفعل هذا ألكون من أبناء القرية‪ ،‬وإمنا ألنين من أبناء‬
‫القرية‪".‬‬
‫جتاهلين كعادته‪ ،‬وهكذا وجدت نفيس بدأت اليوم مرتداي‬
‫أسامال قذرة‪ ،‬وأمحل فأسا يأخذ من طني األرض لينرث عىل‬
‫جسدي‪ ،‬وأاهنيته مغتسال وأان أرتدي زاي رائعا مثينا‪ ،‬مزودا‬
‫بدروع محراء منقوشة‪ ،‬ميأل قلب مرتديه ابلرفعة والقوة‪ ،‬وأمحل‬
‫عيل من عطره‬ ‫رحما ممتازا ابهظ المثن‪ ،‬وش يخ البدل بنفسه ينرث ّ‬
‫اخلاص‪ ،‬ويقودين حلظريته‪ ،‬ألنظر مهبورا لهذا اجلواد البديع اذلي‬
‫خيفيه عنا‪ .‬جواد أصيل نبيل يليق حقا بأمري مثيل!‬
‫لكن ش يخ البدل جتاوزه وهو يقودوين حنو مجل خضم ويقول‪:‬‬
‫" هذا اجلواد‪ ،‬اذلي يعجبك‪ ،‬ال يصلح لسفر طويل‪ ،‬وال نريد‬
‫أن يعرف الناس أنك أتيت من مسرية أقل من يوم‪ .‬أنت جتيد‬
‫ركوب امجلال‪ ،‬أليس كذكل؟"‬

‫‪28‬‬
‫ابلطبع كنت أجيدها‪ .‬لو مل أركب امجلال مع وادلي‪ ،‬أثناء فراران‬
‫يف حصراء الرشق املهلكة‪ ،‬هراب من الزرقاء بعد سقوطها‪ ،‬ملا‬
‫بقيت عىل قيد احلياة‪ .‬لكن ركوب امجلل مرهق‪ ،‬دعك عن كونه‬
‫مرعبا ملن ال جييده‪ ،‬مثل أكرث الفالحني‪ .‬األمه هو أن امجلل‬
‫بطيء‪ ،‬ابلنس بة للخيول‪ ،‬ولو اضطررت للهرب‪ ،‬فسأختار‬
‫اجلواد الرسيع‪ ،‬وليس امجلل القوي اذلي يقطع مسافة أطول لن‬
‫أعيش ل ي أمكلها!‬
‫لكن إقناع الش يخ (غالب ) ليس أمرا سهال أبدا! كام مل أقنعه‬
‫بأن يرسل معي خشصا آخرا‪ ،‬لتكون فرصة عودة أحدان‬
‫ابألخبار أكرب وقال‪:‬‬
‫" إذا اكتشفوك‪ ،‬فلن ينفعك سوى دابة الرباق ذاهتا! عندمه‬
‫من اخلياةل البارعة‪ ،‬واخليول الرسيعة ما يفوق قدرتك‪ .‬ال فرق‬
‫بني جوادي المثني ومجيل البطيء! والرجالن يكشفان بعضهام‬
‫أكرث من الرجل الواحد! س تكون وحدك ذائبا وسط احلشد‪ ،‬ال‬
‫تتلكم‪ ،‬وال يسمع صوتك فال ينتهبون كل‪".‬‬
‫وهكذا سلمت أمري خلالقي‪ ،‬وتولكت عليه‪ ،‬ومحلت متاعي‬
‫وزادي القليل‪ ،‬اذلي وضعه الش يخ (غالب) يف أكياس كبرية‬
‫تسع أضعافه‪ ،‬ومحلت لك ذكل عىل راحليت‪ ،‬وأخنهتا ألركهبا‪ ،‬فإذا‬
‫ابلش يخ خيرج مرتددا من حزامه رصتني أخرتني حمشوتني‬
‫ابذلهب‪ ،‬هبام ما يفوق مثن أريض الصغرية‪ ،‬اليت أنكرها عيل‬

‫‪29‬‬
‫وجادلين فهيا طويال‪ .‬وال أس تطيع أن أنكر عليه هذا األمر‪،‬‬
‫فقمية األرض ليست يف مثهنا‪ ،‬وإمنا أنت ختلق من تراهبا وتمنو‬
‫بامثرها‪ ،‬وتسكن عىل سطحها‪ ،‬مث تدفن يف جوفها‪ .‬فلك حياتك‬
‫أنت ومن حوكل رهينة ابألرض كام اكن وادلي يقول يل وهو‬
‫حيثين عىل العودة ألرضه بعد موته‪.‬‬
‫عيل الليل‪ ،‬همتداي ابلنجوم‪ ،‬اليت أجدت‬ ‫وانطلقت‪ ،‬وقد أطبق ّ‬
‫قراءهتا عىل يد دليل ممتاز‪ ،‬قادين يف رحليت الطويةل من احلارضة‬
‫إىل هذه القرية‪ ،‬عرب دروب حصراء الغرب اخملادعة‪ ،‬بعيدا عن‬
‫أيدي جامعي الرضائب واجلباة من أتباع أمراء املدن‪ .‬وتعلمت‬
‫حيهنا أن أسافر ليال دوما‪ .‬فرمغ كرثة الس باع يف الليل‪ ،‬إال إنه‬
‫أكرث األوقات أمنا للمسافر الوحيد‪ ،‬ألنه يسرته من أحصاب‬
‫البطش‪.‬‬
‫وعند الفجر‪ ،‬متبعا أوامر الش يخ (غالب) ‪ ،‬درت حول‬
‫اجلبل‪ ،‬متخذا الطريق الطويل‪ ،‬حىت ال يعرف أحد من أي‬
‫عيل من غبار‬‫طريق جئت‪ .‬وقد أعطت احليةل أثرها‪ ،‬فبدا ّ‬
‫الطريق‪ ،‬وإرهاق سفر الليل دون نوم‪ ،‬أين آت من مسرية عام‪.‬‬
‫اكن مشهدا جعيبا‪ ،،‬مل أر مثهل يف حيايت‪ .‬قد يكون كام وصفه‬
‫فامي بعد (ابن البرصي) أش به مبعسكر جيش زاحف‪ .‬عرشات‬
‫اخليام الضخمة ذات ألوان هبيهة‪ ،‬وبيهنا أقوام كرث‪ ،‬أغلهبم يلبس‬

‫‪30‬‬
‫زي القتال‪ ،‬ومدججون ابلسالح وادلروع‪ ،‬مثيل‪ ،‬ويتجول بيهنم‬
‫غلامن‪ ،‬حيملون الطعام والرشاب‪.‬‬
‫أاتين أحدمه ليضم مجيل حلظرية هموةل‪ ،‬بعد أن أعلمين كيف‬
‫أجده فهيا‪ ،‬وكيف اسرتجعه مهنا‪ ،‬فنفحته دينارا اكمال‪ .‬وملا رأيت‬
‫احلبور يف وهجه‪ ،‬تشجعت‪ ،‬وسألته‪:‬‬
‫"أخربين فمي يريدان س يد القرص؟"‬
‫قال يل‪:‬‬
‫" ال أدري اي س يدي‪ ،‬لقد أرسل لس يدي‪ ،‬يس تأجر منه لك‬
‫خدمه وعبيده‪ ،‬مبال كثري‪ ،‬ويدعوه لهذه الولمية‪".‬‬
‫قلت ملوحا بدينار اثن من ذهب الش يخ (غالب)‪:‬‬
‫"أمل يعرف س يدك سبب ادلعوة؟"‬
‫قال بلهفة‪:‬‬
‫" ال‪ ،‬لكين مسعت من خدم آخرين أنبا ًء عظمية‪".‬‬
‫دسست ادلينار الثاين يف يده‪ ،‬وسألته عهنا‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫" يقولون إاهنم سيناقشون أمرا‪ ،‬حيدد مصري البالد لكها‪،‬‬
‫والبعض يزمع أاهنم ال يعنون اإلقلمي الغريب حفسب‪ ،‬بل لك‬
‫البالد‪ .‬وواحد من زماليئ يظن أاهنم سيتفقون عىل تقس مي‬
‫اإلقلمي بيهنم‪ ،‬ليهنوا حروهبم إىل األبد‪".‬‬

‫‪31‬‬
‫أقلقين حديثه‪ ،‬ألن تقس مي البدل‪ ،‬وإاهناء اخلالفات بني القادة‬
‫واألثرايء يعين حلفا خضام من لك ذي نفوذ ضد لك مسكني‪.‬‬
‫ومن انحية أخرى ال أظن أاهنم اجمتعوا لينصبوا حاكام يوحد‬
‫البالد‪ ،‬فهذا أبعد ما يكون عن أطامعهم‪ .‬ولو حدث‪ ،‬لاكن هذا‬
‫امجلع يف احلارضة‪ ،‬وليس يف قرى الغرب وواحاته املتناثرة‪.‬‬
‫واختلطت ابمجلوع‪ ،‬أتسمع مسرمه‪ ،‬دون أن أحاول العثور عىل‬
‫ماكن للنوم‪ ،‬رمغ ما أصابين من تعب‪ ،‬خش ية أن يس تصغرين‬
‫الناس إذا وجدوين أانم وحيدا‪ ،‬بال خدم أو حشم‪ .‬حفىت اآلن‪،‬‬
‫أعطتين مالبيس مفعولها القوي‪ ،‬ونظر يل امجليع هبيبة واحرتام‪.‬‬
‫ومل أس تطع النوم إال بعد صالة العشاء‪ ،‬حيامن أصبح املسهد‬
‫خاواي متاما‪( ،‬ولألسف اكن ش به خاو أثناءها!)؛ لكن خالل‬
‫هذا الوقت علمت ابلكثري‪.‬‬
‫علمت بوجود ضيوف من الرشق عىل قدر كبري من األمهية‪،‬‬
‫كام إنين مسعت أحد األمراء الكبار يقول لند هل إن رسالته اكنت‬
‫حتمل وعدا طيبا‪ ،‬مل يفصح عنه‪ ،‬وآخر حتدث عن أمر ما‬
‫حدث يف العامصة‪ ،‬بدا أن امجليع يعرفونه‪ ،‬وأنه شديد اخلطر‪.‬‬
‫وأخذت أحاول مجع القطع مع بعضها‪ ،‬فمل أجد ما يرحيين‪..‬‬
‫الوعد الطيب قد يكون أرضا تزنع من أحصاهبا‪ ،‬وما حدث يف‬
‫العامصة قد يكون حرب جديدة اثرت عىل حامكها الطاغية‪،‬‬
‫القائد األسود‪ .‬حفارضة البالد حتولت‪ ،‬منذ زمن بعيد‪ ،‬ألسوأ‬

‫‪32‬‬
‫ماكن عىل ظهر األرض‪ ،‬بسبب القتال املتكرر فهيا وعلهيا‪ ،‬ورمبا‬
‫اكن أمراؤان ينوون الانضامم لهذا اجلانب أو ذاك‪ ،‬ليجروا الغرب‬
‫املسامل لتكل احلروب املهلكة مرة أخرى‪.‬‬
‫اكن وادلي حي ي يل إنه منذ انهتت الفتنة العظمية‪ ،‬اليت‬
‫أطاحت ابملكل‪ ،‬مل يدخل حاكم الغرب يف رصاعات خارجه‪،‬‬
‫فمتتع بسالم وأمان أكرث من غريه‪ ،‬يرجع أغلبه لغلبة الصحراء‪،‬‬
‫اليت تفصل بني قراان وواحاتنا‪ ،‬إىل أن قرر األثرايء الاستيالء‬
‫عىل لك أرض تزرع‪ ،‬واقتساهما بيهنم‪ ،‬ليدور رصاع عىل احلياة‬
‫نفسها‪ ،‬وليس عىل جمرد كرايس احلمك‪ ،‬كام يف احلارضة وغريها‪.‬‬
‫ولكن حىت يف تكل األايم السوداء‪ ،‬مل خيرج احملاربون حنو‬
‫الرشق‪ ،‬أو يأتوا جبيوش الرشق لنا‪.‬‬
‫وجلست مرتبصا يف املسهد‪ ،‬انتظر انرصاف الناس للنوم‪،‬‬
‫فالحظت رجال هبىي الطلعة‪ ،‬اثبت اجلنان‪ ،‬مصوت‪ ،‬يرقبين‬
‫بعض الوقت‪ ،‬قبل أن ينرصف حلاهل‪ ،‬فسألت عنه‪ ،‬ألعمل أنه‬
‫ابن العبديل‪ ،‬صاحب ادلعوة العجيبة‪ ،‬اليت اس تطاع هبا حشد‬
‫لك هؤالء الفرقاء‪ ،‬وأقنعهم ابجمليء‪ ،‬ال أدري كيف!‬
‫اكن نويم ابملسهد من حسن الطالع؛ رمغ إنين أذكر أن ش يخ‬
‫الكتاب اكن يهناان عن مثل هذا األمر‪ ،‬ويقول مكروها‪ .‬لكن‬
‫هذا النوم منحين س بقا يف الصباح الباكر‪ ،‬إذ جلست عقب‬
‫الفجر يف الصفوف األوىل‪ ،‬ال يس تطيع جسدي املهنك‬

‫‪33‬‬
‫مغادرهتا‪ ،‬فأصبحت يف ماكن ممتاز‪ ،‬حيث احتشد الكبار‪،‬‬
‫يعقهبم احلراس‪ ،‬اذلين أبعدوا البقية قرسا‪ ،‬لكهنم وجدوين (أان‬
‫اذلي ال يزيد عن قاع احلثاةل بني احلارضين!) س بقهتم للماكن‪،‬‬
‫جالسا جوار املنرب‪ ،‬ولعل ردايئ أرههبم‪ ،‬فمل يقرتب مين أحد!‬
‫كنت محميا بس تار قوي من هجلهم بشخيص‪ ،‬وهو س تار‬
‫أجلس ين وسط ثالثني من أقوى رجال البالد وأشدمه علوا‪.‬‬
‫يس تطيع الواحد مهنم ‪ -‬بلكمة واحدة ‪ -‬أن يدمر لك من كنت‬
‫أخشامه من جامعي الرضائب‪ ،‬وقطاع الطرق‪ ،‬وقادة اجلند‪،‬‬
‫وش يوخ البدل! لك من ميثلون يل اكبوسا‪ ،‬سريجتفون رعبا ملرأى‬
‫واحد فقط من تكل الزمرة اليت أجالسها كتفا بكتف!‬
‫ورسعان ما صعد اإلمام عىل املنرب‪ .‬اكن مرجتفا‪ ،‬مرتباك‪،‬‬
‫وخطب خطبة قصرية للغاية‪ ،‬ليس لها معىن‪ .‬ولو إنين كنت‬
‫ماكنه‪ ،‬أخطب يف عصبة من الفهار ذوي البطش‪ ،‬اذلين ال‬
‫يرىج مهنم رمحة‪ ،‬مفاذا أفعل؟ أأاهنامه عن منكر يفعلونه بال‬
‫خش ية‪ ،‬أم آمرمه مبعروف يبغضونه بال حياء‪ ،‬أم لعيل أحدهثم‬
‫عن أحاكم الصالة‪ ،‬اليت ال يؤدواهنا غري هذه املرة!‪ ..‬رمبا ذكرت‬
‫بعض أحداث الصحابة‪ ،‬وقصص اجلهاد‪ ،‬فيهتمونين ابلتحريض‬
‫عىل حماربة الفرجنة واألهبال‪ ،‬اذلين أصبحوا حلفاهئم‪ .‬ال أس تطيع‬
‫يف مثل هذه اخلطبة أن أقول اتقوا هللا‪ ،‬ألتقي أذامه!‬

‫‪34‬‬
‫ونزل اإلمام‪ ،‬كام صعد‪ ،‬مرجتفا‪ ،‬ليصطف خلفه حاكم البالد‪،‬‬
‫والقابضني عىل ش ئون العباد‪ .‬مل أر يف حيايت صالة مجعة أقرص‬
‫وأثقل من هذه!‬
‫بعد الصالة‪ ،‬خرجنا نبغي الولمية‪ .‬فوجدت املوائد املفروشة‬
‫ماكن اخليام‪ ،‬وعلهيا اصطفت لك ألوان الطعام والرشاب بال‬
‫اس تثناء‪ .‬أراهن إنك لو سألتين عن أي صنف من الطعام‪،‬‬
‫حالهل وحرامه‪ ،‬ذليذه وسقميه‪ ،‬رخيصه وغاليه‪ ،‬لوجدته عىل تكل‬
‫املوائد!‪ ..‬ورمغ ذكل‪ ،‬مل تكن لنا‪ ،‬بل اكنت للجند واخلدم ممن‬
‫صاحبوا الزعامء‪ ،‬أما أحصاب املقامات الرفيعة (مثيل!)‪ ،‬فاكنت‬
‫موائدمه داخل القرص‪ ،‬حيث نصبت يف الفناء أفرشة أخرى‪،‬‬
‫أخفم حاال‪ ،‬تطغى رواحئها البعيدة عن تكل املوائد القريبة‪ ،‬املقامة‬
‫ابخلارج‪.‬‬
‫دخل الفناء لك من أمسى نفسه زعامي‪ ،‬وهو أمر مذهل أن جتد‬
‫إلقلمي واحد‪ ،‬من أقالمي البالد الامثنية‪ ،‬لك هذا العدد من الزعامء!‬
‫أىن يل أن أحصهيم!‪ ..‬لرمبا اكنوا مخسامئة‪ ،‬توزعوا عىل املوائد‬
‫اخملتلفة‪ ،‬لكين مل أتبعهم‪ .‬إذ الحظت حفنة دخلت إىل داخل‬
‫القرص‪ ،‬فأدركت أنه يوجد هناك مائدة اثلثة للمصطفني األرشار‪،‬‬
‫وعزمت عىل أن أنضم إلهيا‪ ،‬ألنه لو اكن هناك نبأ هام‪،‬‬
‫فس يكون ابدلاخل‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫لكن مضيف القرص أوقف نواايي‪ ،‬إذ وقف عىل رأس هذا‬
‫احلشد‪ ،‬وقال بصوت هجوري‪:‬‬
‫" أرحب بمك مجيعا يف قرصي‪ ،‬وأرجو أن يعجبمك طعايم‪،‬‬
‫لكن اآلن قبل الطعام‪ ،‬أريد منمك أن تتعرفوا عىل صاحب‬
‫ادلعوة احلقيقي‪ ،‬وهو صديق قدمي يل‪ ،‬طلب مجع لك وهجاء‬
‫الغرب‪ ،‬ل ي جنمتع عىل قلب رجل واحد يف أمر جلل‪".‬‬
‫وأفسح اجملال لش يخ وقور‪ ،‬رمبا اكن يف الامثنني من معره‪،‬‬
‫يستند عىل عصا من خشب أسود المع‪ ،‬مل أر هل مثيال من‬
‫قبل‪ ،‬إال مع بعض التهار اآلتني من أقىص اجلنوب‪ ،‬اكنوا قد‬
‫وقعوا يف أرس القراصنة‪ ،‬وبيعت جتارهتم يف الزرقاء‪ ،‬قبل‬
‫سقوطها بقليل‪ ،‬بأمثان ابهظة‪.‬‬
‫تلكم هذا الش يخ الوقور بصوت منخفض مهنك؛ بيامن إىل‬
‫جواره شاب صغري ‪ -‬يبدو كام لو اكن ابنا أو حفيدا هل ‪ -‬يردد‬
‫لكامته بصوت اهز املاكن‪.‬‬
‫"بعضمك يعرفين؛ لكين جئت من أقىص الرشق‪ ،‬ذلا فلمن ال‬
‫يعمل‪ ،‬أان ش يخ بين األسود‪".‬‬
‫وملئين الرعب! القائد األسود بنفسه! ال بد أين هاكل ال حماةل‪،‬‬
‫بل البد أن لك القرى هالكة ال حماةل‪.‬‬
‫مث أيقظتين لكامته‪..‬‬

‫‪36‬‬
‫" لكمك مسعمت عن ابين‪ ،‬اذلي يلقب نفسه ابلقائد األسود‪ ،‬هذا‬
‫العاق‪ ،‬اذلي طردته من القبيةل‪ ،‬لزيداد خطره‪ ،‬حىت إنه منذ‬
‫أايم أعلن نفسه يف العامصة ملاك‪ .‬لقد قطعت لك تكل الرحةل‬
‫الطويةل حبثا عن حلفاء يعينوين عليه‪ ،‬ألكف أذاه عن الشعب‪".‬‬
‫هنا تدخل مضيفنا قائال‪:‬‬
‫"أتينا مجيعا‪ ،‬ليتفق اإلقلمي الغريب عىل لكمة رجل واحد‪ .‬إما أن‬
‫منيض مع األسود الكبري مجيعا‪ ،‬التقاء رش القائد األسود‪ ،‬وإما‬
‫أن جنمتع عىل رفض احلرب‪ ،‬ونتحالف مع القائد‪ ،‬ونقبل به ملاك‬
‫يهنىي عقودا من احلروب يف بالدان بصفوف موحدة‪ ،‬لرنحب منه‬
‫أكرث‪ ،‬ونتقي من عدوه اخلسارة األكرب‪ ،‬اليت سيتحمل أغلهبا‬
‫الساكن املساكني‪.‬‬
‫لكن اآلن‪ ،‬بعد حتية ش يخ ش يوخ بين األسود‪ ،‬لنتناول‬
‫الطعام‪ ،‬وليتفضل معي كبار الوهجاء ملائديت اخلاصة ابدلاخل‪".‬‬
‫وتقدم بعض الرجال يعلنون عن أنفسهم‪ ،‬مهنم من هو من‬
‫زعامء الغرب املشاهري‪ ،‬ومهنم من مه من حلفاء بين األسود يف‬
‫الرشق‪ ،‬وبني األخريين‪ ،‬انتهبت لرجل شديد البياض‪ ،‬يرتدي‬
‫حريرا مزركشا‪ ،‬إذ مسعته يعلن عن نفسه‪:‬‬
‫"األمري األبيض حامك الزرقاء"!‬
‫األمري العظمي‪ ،‬حامك امليناء األكرب يف بالدان‪ ،‬أىت بنفسه‪ ،‬عرب‬
‫لك البالد من طرفها عىل الساحل الرشيق إىل هنا! البد أن‬

‫‪37‬‬
‫قلوب الناس ارجتفت هيبة لألمر‪ ،‬ال يدركون أنه جمرد ألعوبة ال‬
‫قمية لها‪ .‬فالقراصنة اذلين اس تولوا عىل املدينة‪ ،‬واختذوا ميناءها‬
‫قاعدة هلم‪ ،‬أ ّمروا علهيم أمريين من الفرجنة‪ ،‬اذلين سقطوا أرسى‬
‫يف أيداهم‪ ،‬ويقال إاهنام شقيقني من أبناء امللوك‪ ،‬فقط ليكونوا‬
‫واهجة مجيةل‪ ،‬حتفظ حقوق املدينة دلى ابيق األمراء من جريااهنا‪.‬‬
‫ولمك تدفقت الكراهية يف قليب جتاه هذا األمري األبيض‪ ،‬رمغ‬
‫إنين أكرث من يعرف أنه بال حول وال قوة‪ .‬لكن الرعب اذلي‬
‫شاهدته حني سقوط املدينة‪ ،‬ترك يف نفيس ندواب ال تندمل‪.‬‬
‫اكن املزيد من األمراء يتقدمون معلنني عن أنفسهم‪ ،‬فاكن‬
‫املضيف يشري إىل بوابة القرص الميىن‪ ،‬حيث دخل األسود‬
‫الكبري حينا‪ ،‬وإىل بوابة يرسى أحياان‪ ،‬يه ‪ -‬عىل األرحج‪ -‬ملن‬
‫يظهنم مدعني‪.‬‬
‫وأصبحت يف حرية من أمري‪ ،‬فلو توهجت للباب األيرس‪ ،‬فلن‬
‫أبتعد فقط عن األنباء احلقة‪ ،‬وإمنا أهدد بكشف أمري‪ ،‬حيامن‬
‫أجلس وسط مجع صغري من األمراء احلانقني‪ ،‬اذلين يظنون أنه‬
‫قد مت احتقارمه‪ ،‬بيامن البوابة الميىن مغلقة للكبار جدا فقط‪.‬‬
‫لكن حدث ما طمأن قليب‪ ،‬إذ تقدم انئب القايض معلنا عن‬
‫نفسه (اكن رجال يف األربعني‪ ،‬امسه رشيف بن األرشف‪ ،‬وليس‬
‫احلسيين كام زمع يل محمدين!) هذا الرجل يقود وقت السمل‬

‫‪38‬‬
‫مخسامئة رجل‪ ،‬يزيدون وقت احلرب مخلسة آالف‪ ،‬وهل حلفاء‬
‫كرث ميكن أن ميدوه ابملزيد‪.‬‬
‫لكنه إذ أعلن عن نفسه ابللقب اذلي يعرفه امجليع‪ ،‬زعمي خدام‬
‫الرضحي‪ ،‬وهجه املضيف للقاعة اليرسى‪ .‬بيامن أىت يف عقبه زعمي‬
‫أسود اجلبل‪ ،‬فأرسهل الساذج للميىن‪ ،‬وأسود اجلبل ما مه إال‬
‫جامعة من قطاع الطرق‪ ،‬اذلين مل جيدوا ما يكفي من جتارة‬
‫لرسقهتا‪ ،‬فتحولوا ملرتزقة يؤجرون س يوفهم ملن حيتاهجا من‬
‫أحصاب القرى‪.‬‬
‫وإذ رأيت هذه النكتة تقدمت واثقا ألحلق هبم‪ ،‬بيامن اكن‬
‫املضيف قد مه ابالنرصاف‪ ،‬فدلفت الباب األمين خلفهم‪،‬‬
‫وارتبكت إذ وجدت املضيف يرفع لفمه كواب من املاء يرطب‬
‫لسانه‪ ،‬اذلي أحرقه احلديث الطويل‪.‬‬
‫ش يخ األساودة جالس‪ ،‬وحوهل زمرة من رجاهل‪ ،‬ينتظرون أمرا‬
‫ما‪ ،‬وخلف ظهري احتشد عدد ال بأس به من الصغراء‪ ،‬اذلين‬
‫ظنوين متسلال‪ ،‬وأحبوا أن يتبعوين‪ .‬لكن ما أربكين حقا‪ ،‬اكن‬
‫احلرس‪ ،‬اذلين امتدت أيداهم إىل السالح‪ ،‬يرمقونين ويتأملون‬
‫رحمي يف حتفز‪ .‬ليس أمايم إال منفذ واحد؛ أن أقدل من س بقين‪،‬‬
‫وأعلن عن نفيس‪ ،‬فالن زعمي قبيةل كذا‪ ،‬لكن جيب أن أنتقي‬
‫اسام خميفا خفام هل رهبة‪ ،‬ألقنع هذا املضيف الساذج‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ألقول مثال إنين األمحر‪ ،‬زعمي قبيةل الغيالن‪ .‬امس خميف‪،‬‬
‫والئق بدروعي امحلراء‪ ،‬ونقش الغيالن علهيا‪ .‬األمحر زعمي قبيةل‬
‫الغيالن‪.‬‬
‫ويف ارتباك دققت األرض برحمي‪ ،‬كام يفعل جامع الرضائب‬
‫وسط سوق القرية بعصاه‪ ،‬حيامن يعلن عن الزايدة اجلديدة‪.‬‬
‫وابتلعت ريقي بصعوبة‪ .‬ماذا خييفك؟ األمر سهل! فقط لتقل‬
‫األمحر‪ ،‬زعمي قبيةل الغيالن‪ ..‬األمحر زعمي قبيةل الغيالن! ليست‬
‫مجةل صعبة لهذا احلد‪.‬‬
‫وخرجت الس يوف مشهرة حنوي‪ ،‬فاندفعت أقول بصوت‬
‫صارم "القبيل زعمي الغيالن امحلر!"‬
‫تبا أي امس خسيف هذا؟‬
‫لكن ما حدث عقهبا أثبت أنه ليس ابالمس السخيف‪ ..‬بل‬
‫اخلطري‪ ..‬رمبا أخطر مما حلمت بكثري!"‬

‫‪40‬‬
‫(‪)3‬‬

‫عيل وطأة من نعيق ألف‬ ‫دوى الصمت يف أذين! مصت أشد ّ‬


‫غراب! وامتأل قليب ابلرعب‪ ،‬حني رأيت الناس انقسمت‬
‫لفريقني‪ :‬فريق مذهول ملا مسعه مين‪ ،‬وعىل رأسه املضيف‪،‬‬
‫اذلي ترك كوبه يسقط عىل األرض مهتشام‪ ،‬واألسود الكبري‬
‫اذلي انتصب جسده احملين جفأة يف فزع‪ .‬وفريق اثين جهل من‬
‫الصغار خلفي‪ ،‬واحلرس أمايم مندهش الندهاش الكرباء‪،‬‬
‫ومرتبص‪ ،‬لريى ما يكون من أمرمه‪.‬‬
‫وال اثلث لتكل الفرقتني‪ ،‬إال رجال أمحقا مسكينا‪ ،‬مل يرتك‬
‫الرعب يف قلبه غري ماكن ضئيل يف عقهل‪ ،‬ال يس تطيع التفكري‬
‫إال يف أي مصيبة تكل اليت أوقعت فهيا نفسك اي (عبد‬
‫الشهيد)؟!‬
‫اس متر األمر مجمدا عىل هذا احلال بضع حلظات‪ ،‬لكين حني‬
‫أدركت أن اجلند لن يقتلونين‪ ،‬أو عىل األقل لن يفعلوها اآلن‪،‬‬
‫اطمأن قليب بعض اليشء‪ .‬لكين بقيت يف ماكين‪ ،‬أنتظرمه‪ .‬إىل‬
‫أن اكن شهاب الرشكيس ‪ -‬حامك مدينة وقلعة ساوة ‪ -‬هو أول‬
‫من أخرج نفسه من ادلهشة‪ ،‬فقال بصوت متحرشج‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫"ظننتمك ذهبمت؟"‬
‫ذهبمت؟ ترى ماذا يعين؟ أيعين أن تكل الغيالن امحلر هلكت‪،‬‬
‫أم رحلت‪ ،‬أم اختفت؟ ذلا قررت الالزتام بردود قصرية‬
‫غامضة‪ ،‬فمل أقل سوى‪:‬‬
‫"عدان!"‬
‫قلهتا مبا بدا هلم ثباات وجرأة؛ لكنه اكن يف احلقيقة جتمدا من‬
‫اخلوف‪ ،‬يغلفه خداع ايئس‪ ،‬ياكحف ألجل احلياة‪.‬‬
‫سأل رجل ال أعرفه‪" :‬مك عددمك؟"‬
‫رددت‪" :‬س بعة!"‬
‫وسكت‪ .‬مل أقل س بعة آالف‪ ،‬أم س بعة أشخاص‪ ،‬فقط قفز‬
‫الرمق ذلهين‪ ،‬رمبا ألن عدد الغيالن املنقوشة عىل لك درع من‬
‫دروعي س بعة‪.‬‬
‫وهنا نطق األسود الكبري مبا أراحين‪:‬‬
‫"مه دامئا س بعة!"‬
‫مل أفهم‪ ،‬لكين ارحتت قليال‪ ،‬وتش بثت بثبايت الظاهري أكرث‪.‬‬
‫سألين األسود الكبري‪:‬‬
‫"نعرف أين كنمت وقت الفتنة الكبرية‪ ،‬فيا ترى يف أي جانب‬
‫س تكونون هذه املرة؟"‬

‫‪42‬‬
‫قلت‪ " :‬يف اجلانب الصحيح!"‬
‫مل يعجهبم ردي؛ لكهنم مل يناقشوه‪ ،‬ومضوا مجيعا حنو مائدهتم‪.‬‬
‫وأاكد أقسم إاهنم اكنوا ينظرون يل نظرة خوف!‪ ..‬مه اجلبابرة‬
‫خيافون مين!‪ ..‬تبا!‪ ..‬ترى من هؤالء الغيالن امحلر؟‬
‫وبيامن ندلف حلجرة الطعام‪ ،‬قال الرشكيس‪:‬‬
‫"رمبا اكن اكذاب؟"‬
‫مل أفهم أنه يقصدين‪ ،‬إال حيامن رد عليه األسود الكبري ‪:‬‬
‫"أي أمحق سزيمع إنه من الغيالن امحلر‪ ،‬إال إن اكن من‬
‫الغيالن امحلر!"‬
‫بدا يل رد األسود مبهتها بعض اليشء‪ ،‬كأن ظهور تكل‬
‫الغيالن قد غري حساابته لألفضل‪ .‬أما مضيف القرص‪ ،‬فمل خيرج‬
‫بعد من صدمته‪ ،‬ومازال وهجه مكن رأى املوت يطلبه‪ ،‬وعيناه‬
‫مثبتتني حنوي‪ ،‬وأزمع إنه يطيل النظر ذلكل النقش عىل‬
‫دروعي‪.‬‬
‫الوحيد اذلي بدا متشكاك يف أمري‪ ،‬األمري األبيض اإلفرجني‬
‫اللعني‪ .‬اكن ينظر يل مبكر‪ ،‬ويبتسم‪ ،‬بيامن الباقون ‪ -‬مبا فهيم‬
‫الرشكيس اجللف فظ اللسان ‪ -‬بدوا اهابونين‪ ،‬ويسلمون بأمري‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫لكن أمري هذا رسعان ما توارى حيامن بدأ النقاش‪ .‬ففهأة‪،‬‬
‫اندفع ابن عامر ‪ -‬أقوى رجل يف الغرب‪ ،‬وس يد الثغر الكبري –‬
‫بقوهل‪:‬‬
‫"ملاذا أتيت بلك أولئك الرعاع يف اخلارج اي ابن العبديل؟"‬
‫رد ابن العبديل‪:‬‬
‫" اي أاب وكيع‪ ،‬مه ال قمية هلم إن اتفقنا عىل رأينا‪ ،‬س يطيعوننا بال‬
‫مناقشة‪ ،‬ولكن حتت لك يد مهنم بضع مئات من اجلنود‪ ،‬وبعض‬
‫احللفاء الصغار‪ .‬فلو أرضينامه‪ ،‬وحشدان لك من معهم معا‪،‬‬
‫ملنحوان جيش كبري‪ ،‬حنن يف أشد احلاجة هل‪".‬‬
‫قال ابن عامر بلههة صارمة‪:‬‬
‫"فقط لو حاربنا؟"‬
‫رد ابن العبديل‪:‬‬
‫" وحىت لو انضممنا للقائد األسود‪ ،‬فلكام اكن موقفنا أقوى‪،‬‬
‫اس تطعنا أن نفرض عليه ما حنب من ماكسب‪".‬‬
‫بدا الضيق عىل وجه األسود الكبري‪ ،‬لكنه مل يعلق‪ .‬ويف احلقيقة‬
‫فقد دهشت ملوقف هذا الرجل‪ ،‬نعم مسعت أنه نبذ ابنه منذ‬
‫س نوات بعيدة‪ ،‬وطرده من القبيةل؛ لكن هذا الابن بني قوسني‪،‬‬
‫أو أدىن‪ ،‬من أن يصبح مكل البالد لكها‪ ،‬وحامت حاول من قبل‬

‫‪44‬‬
‫اس امتةل قلب وادله‪ ،‬الرجل القوي‪ ،‬اذلي تنتفض بأمره قبائل بين‬
‫األسود لكها‪ ،‬وما أدراك ما قبائل بين األسود!‬
‫ما أن أاهنينا الطعام‪ ،‬اذلي مل أذق ‪ -‬ومل أتصور أن أذق ‪ -‬ما‬
‫هو أذل منه (حامت يليق بأن يكون آخر زادي!)‪ ،‬حىت اس تأنفت‬
‫املناقشة من حيث انهتت‪.‬‬
‫إذ انربى ذكل الرجل املهيب ‪ -‬اذلي ال أعرف امسه – وقال‪:‬‬
‫"وملاذا حنارب األسود؟ هل خناف من جربوته؟ أليس أفضل‬
‫من الفوىض اليت تغرق لك البالد؟ ال أحد يأمن عىل نفسه‪،‬‬
‫حىت لو اكن حماطا ابحلراس املدجهني ابلسالح‪ ،‬ألن هؤالء‬
‫احلراس رمبا ينقلبون عليه‪ ،‬فال يوجد من يردعهم أو يعاقهبم عىل‬
‫فعلهتم‪ .‬البالد حباجة ماسة ملكل‪ ،‬ومكل قوي‪ .‬وال يوجد بيننا‬
‫من يصلح‪ ،‬أو ميكل تكل القوة اليت ينازع هبا األسود يف مبتغاه‪".‬‬
‫قال شاب جدل‪ ،‬أقسم ‪ -‬مطمئنا ‪ -‬أن رضبة يده قادرة عىل‬
‫فلق احلجر‪:‬‬
‫" لكمك يعمل أنين رجل األسود يف الغرب‪ ،‬ألنين أمكل من‬
‫الشهاعة ما جيعلين أعلهنا‪ ،‬بيامن الكثري منمك يراسهل رسا‪ ،‬يف‬
‫الظالم‪ ،‬وينتظر جيشه‪ ،‬لينضم هل‪ ،‬منقلبا عىل إخوانه‪ .‬ال أمل‬
‫وال نفع من قتاهل‪ ،‬وال هدف من معاندته‪ ،‬س ينترص حامت‪،‬‬
‫وس يصبح مكل البالد شئمت أم أبيمت‪ ،‬وال جدوى من هذا‬
‫الاجامتع!"‬

‫‪45‬‬
‫قال اثلث بغضب " لن أسمل نفيس للقائد األسود أبدا‪.‬‬
‫س يقتلين كام فعل بأهيل يف العامصة‪ .‬لقد فررت لهنا‪ ،‬ألن‬
‫الغرب هو املاكن الوحيد‪ ،‬اذلي مل ميد هل نفوذه‪ .‬وأقول لمك‪ :‬ال‬
‫تأمنوا هل‪ .‬س ميزقمك عند أول فرصة ساحنة‪ ،‬ال فارق عنده بني‬
‫من حاربه ومن حالفه‪ ،‬ولمك يف (ميت ادلم) عربة!‪ ..‬أمل اهدهما‬
‫عىل رؤوس أهلها بعد أن أعطامه األمان؟ وس يوزع أرضمك‬
‫وأموالمك عىل حلفائه األقوايء من الفرجنة واألهبال‪ ،‬ليلحق بمك‬
‫جوار اذلل واملهانة واخليبة‪ ،‬وزر اخليانة‪ ،‬وتسلمي البالد ألعداء‬
‫ادلين‪".‬‬
‫مرة أخرى تدخل ابن العبديل‪ ،‬ليعيد ما قاهل من قبل‪:‬‬
‫"لن حنارب‪ ،‬أو نعاهد األسود إال عىل قلب رجل واحد‪ .‬لو‬
‫فعلنا هذا‪ ،‬فس نحصل عىل األمان واملاكسب الكبرية‪ ،‬سواء‬
‫حالفناه أو حاربناه‪ .‬فقط لتتفقوا عىل قرار واحد‪".‬‬
‫قال الزوردي‪ ،‬وهو واحد من كبار أمراء املامليك‪ ،‬وس بحان‬
‫من ملكه مثانية آالف مملواك‪ ،‬بعد أن اكن هو نفسه مملواك‪ ،‬يباع‬
‫ويشرتى!‬
‫"ال أمل‪ ،‬وال فائدة من قتاهل‪ .‬س ينترص حامت‪ ،‬ولس نا ندا‬
‫جليوشه‪ ،‬أو جيوش حلفائه األهبال‪ .‬ملاذا نقف يف وجه العاصفة‬
‫العاتية‪ ،‬بيامن ميكن أن ننحين لها حىت متر‪ ،‬ولك منا مرتبص يف‬
‫قلعته؟"‬

‫‪46‬‬
‫ال أدري ملاذا أحسست أن عيواهنم تعلقت يب‪ ،‬بعد أن قال‬
‫لكمته‪ ..‬لعلهم ينتظرون رأيي‪ ،‬ورمبا خش ية أن يفضحين‬
‫الصمت‪ ،‬اذلي أس ترت به‪ ،‬أو ألن الفضول اكن يقتلين هبذا‬
‫السؤال‪ ،‬أو خلشييت أن أفيت يف هذا الشأن اخلطري‪ ،‬لتحملين‬
‫لكميت وزر مصائر األلوف‪ ،‬فقلت انزعا لك سالح من لكاميت‪،‬‬
‫ومغريا جمرى احلديث‪:‬‬
‫"ال أفهم ملاذا يعادي األسود الكبري ابنه؟"‬
‫وهنا‪ ،‬كأنين فتحت اباب للجنة‪ ،‬تسابقوا عليه! واحد يرصخ‪:‬‬
‫"نعم نعم! هو ابنه مفا أدراان أنه س يغدر بنا؟"‬
‫وآخر اهتف‪:‬‬
‫"هل سريسل لنا جنودا تساعدان؟"‬
‫وجترأ اثلث‪:‬‬
‫"ماذا بعد موته؟ هل سيبقى األساودة عىل حلفهم معنا؟"‬
‫ورابع‪ ،‬وخامس يتدافعون‪ ،‬ال ياكدون يرتكون فرصة للرد‪ .‬بل‬
‫لعلهم ال يريدون ترك فرصة للرد‪.‬‬
‫ظل الرجل صامتا‪ ،‬حىت فرغ احملتجون من جضيجهم‪ ،‬مث تلكم‬
‫هبدوء أخرس الباقني فورا‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫"أان ال أطلب منمك حماربة ابين ألجيل‪ .‬وإمنا أانشدمك الوقوف يف‬
‫وجه طاغية‪ ،‬ألجل أنفسمك وأهلمك‪ .‬لكام قتل ودلي بريئا‪،‬‬
‫أحسست بدمه معلقا يف عنقي‪ ،‬وحيامن ينصب نفسه ملاك‪،‬‬
‫فس يجتاح البالد‪ ،‬واهدر دم العباد‪ ،‬ويدخل يف أراضينا‬
‫األغراب‪ ،‬ولك هذا اذلنب معلق يف عنقي‪ ،‬ألنين من تركته‬
‫يبطش‪ ،‬ويفلت دون عقاب‪ ،‬واكتفيت بطرده من القبيةل‪،‬‬
‫وأشفقت عليه من القتل شفقة األبوة اللعينة‪ .‬لكن من دفع المثن‬
‫اكن شعبا مغبوان‪ ،‬مغلواب عىل أمره‪ .‬وها أان أقص عليمك جرامئ‬
‫ش بابه‪ ،‬وهو اتبع ال متبوع‪ ،‬لتحس بوا ما س يكون عليه جوره‪،‬‬
‫حني ميكل رقاب العباد يف أحناء البالد‪".‬‬

‫‪48‬‬
‫(‪)4‬‬

‫قال األسود الكبري‪:‬‬


‫ربيت أوالدي عىل خري ما يفعهل بنو األسود‪ .‬حنن األساودة‬
‫نريب أبناءان عىل الفروس ية‪ ،‬واملبارزة‪ ،‬والكرامة‪ ،‬والانامتء‬
‫للقبيةل‪ ،‬والفخر هبا عىل لك ما عاداها‪ .‬كنت يف جاهلية‬
‫الش باب‪ ،‬ومل ختربين الس نون بعد‪ ،‬إن ما ورثته عن آابيئ ظمل‪،‬‬
‫ألن املرياث األعظم أىت من ظهر واحد‪ ،‬مث توزع عىل األمم‪.‬‬
‫لكين علمت هبذا بطريق مؤمل‪.‬‬
‫أنشأت أبنايئ عىل إن بين األسود خري مما عادامه‪ ،‬فامن يف‬
‫نفوس بعضهم إنه خري ممن سواه‪ ،‬وأن بين األسود ال يس توون‬
‫مع البرش يف عصمة ادلم‪.‬‬
‫كنت عائدا من حارضة البالد‪ ،‬حيث كنت‪ ،‬ورجايل‪ ،‬نقاتل‬
‫دفاعا عن حقوقنا يف حمك البالد‪ ،‬وعدت بعد أن أدركت أن‬
‫الفتنة ستس متر ‪ -‬حامت ‪ -‬عقودا طويةل‪ ،‬وأن ال أمل من حماوةل‬
‫الس يطرة عىل تكل املدينة اجملنونة‪ ،‬وابيق البالد ابلقوة‪ ،‬ألن‬

‫‪49‬‬
‫حلفاءك سينقلبون عليك‪ ،‬مبجرد أن تقيض عىل أعداهئم‪ ،‬وقبل‬
‫أن جتهز عىل ابيق أعدائك‪.‬‬
‫لكنين رمغ املعارك اليت حاربهتا‪ ،‬واجليوش اليت هزمهتا‪،‬‬
‫واخلياانت اليت جنوت مهنا‪ ،‬كنت دوما متأكدا أن الرشق يل‪.‬‬
‫هو خالص يل‪ ،‬مس تكني‪ ،‬يسلمين أمره‪ ،‬أان القابض عىل أمور‬
‫األساودة‪ ،‬املمسكني بأرواح اخلالئق يف لك الرشق‪ .‬ذلا اكنت‬
‫صدميت هموةل‪ ،‬حني نظرت أمايم‪ ،‬أتأمل ختوم اإلقلمي‪ ،‬فالتقط‬
‫برصي ‪ -‬اذلي اكن يوما حادا ‪ -‬مشهد حشود جممتعة فوق‬
‫اجلبل‪ ،‬كأمنا اكنت تنتظرين!‬
‫إ ًذا‪ ،‬فالرشق قد جن جنونه‪ ،‬ويريد أن يمتلص من قبضيت! أىن‬
‫يكون هذا!‬
‫وحىت إن أصاهبم اجلنون وامحلق‪ ،‬أليس أهيل وعشرييت هنا‪،‬‬
‫لريدوا هلم عقوهلم؟‪ ..‬أترامه خانوين‪ ،‬كام خانين غريمه؟‪ ..‬كيف‬
‫وابين‪ ،‬األسد اجلسور خفر قبائل األسود‪ ،‬عىل رأسهم من‬
‫خلفي؟‬
‫تقدمت حنو طالئعي‪ ،‬يتبعين اخلدم والرفاق‪ ،‬وهتف يب واحد‬
‫ممن أثق فهيم‪:‬‬
‫"ال تغضب نفسك اي موالي! مران نسحقهم واهندم اجلبل عىل‬
‫رؤوسهم‪ .‬فرمبا طالت غيبتك‪ ،‬فراودهتم أنفسهم مراودة لن يعرف‬
‫ملثل الندم علهيا ندما!"‬

‫‪50‬‬
‫قلت بغضب‪:‬‬
‫"إنه رشيق اي حسام‪ ،‬رشيق! مل ي‪ ،‬ال ينازعين فيه أحد؛‬
‫فكيف جيرؤون؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"إ ًذا‪ ،‬فال ختاطر بنفسك‪ ،‬ومران نبيدمه‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"األمر ليس كذكل‪ .‬جيب أن أعرف من‪ ،‬وكيف‪".‬‬
‫اندفع الرجال خلفي يرثثرون بأاهنم س يجيبونين‪ ،‬وينزتعون‬
‫اللكامت من بقااي جثهثم‪ ،‬ألعرف ما أشاء‪ .‬لكين كنت مرصا‪،‬‬
‫فتهاهلهتم‪ ،‬إىل أن وصلت للطالئع اذلين توقفوا ينتظرونين‪.‬‬
‫وأحسست أن أمرا عظامي قد وقع علهيم‪ ،‬فدب يف قليب هاجس‬
‫مريع‪ ،‬فبادرهتم ابلسؤال اخمليف‪:‬‬
‫"أمه األهبال؟"‬
‫نفوا رسيعا‪ ،‬دون أن يفصحوا‪ .‬فمل أطق صربا‪ ،‬واس تللت‬
‫س يفي‪ ،‬ورصخت بقائدمه‪:‬‬
‫"من مه وإال قتلتك؟"‬
‫ظل صامتا متأرحجا‪ ،‬كأمنا ينوء حتت محل ثقيل‪ ،‬فتدخل أحد‬
‫أتباعه بقوهل‪:‬‬

‫‪51‬‬
‫"مه خارجون‪".‬‬
‫قلت‪ ":‬مه ماذا؟"‬
‫قال‪ ":‬ممتردون هاربون من س يدي األسود الصغري‪".‬‬
‫قلت‪":‬هل تعقل ما تقول اي رجل؟ حنن يف الرشق‪ ،‬موطن‬
‫قبائل بين األسود‪ ،‬ومس تقر ملكها‪ ،‬وال يوجد يشء امسه‬
‫خروج علينا أو مترد‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"مران نفتك هبم اي س يدي‪".‬‬
‫لكنين لست كذكل‪ .‬لست من يأخذ األمور عىل عالهتا‪،‬‬
‫فأندفع ملا ال ميكن الرجوع عنه أو تداركه‪ .‬اكن معي يقول يل‬
‫دوما إنين أجيد النظر ملا وراء الظواهر‪ ،‬وأخرب البواطن‪ ،‬وذلا‬
‫فضلين عىل أبنائه‪ ،‬وأخويت األكرب‪ ،‬ألخلفه يف املش يخة الكربى‬
‫لقبائل األسود‪ .‬لو مل أكن كذكل‪ ،‬ملا عدت ذاك اليوم ملوطين‪،‬‬
‫ولظللت أحارب ثالثة عقود‪ ،‬حبثا عن رساب النرص‪ ،‬القريب‬
‫دوما‪ ،‬والهارب دوما‪ .‬أي رجل غريي اكن س يظل يف حرب‬
‫أبدية‪ ،‬مغرتا ابنتصارات متوالية‪ ،‬ومدفوعا حبنق خياانت متتالية‪،‬‬
‫حىت يفىن جيشه رجال بعد رجل‪.‬‬
‫وحيامن نزعت نفيس من رساب النرص‪ ،‬عدت ألجد اكبوس‬
‫المترد!‬

‫‪52‬‬
‫أيف أريض أان خترج الناس؟ أتشق عصا طاعيت؟ الفتك هبم‬
‫ومتزيقهم اليوم ال ينفع‪ .‬عصا الطاعة إن شقت يوما‪ ،‬ال تلتمئ أبدا‪.‬‬
‫مل يكن هناك منفذ جيده عقيل‪ ،‬إال أن أاهنىي اليوم دون قتال‪،‬‬
‫وأعيد الغمن الشارد حلظرييت‪ ،‬بعد أن أاتها راعهيا الكبري‪ ،‬يصلح‬
‫ما أفسده الصغار‪ ،‬وحياسب هذا اذلي تركته خلفي‪ ،‬خفاب‪.‬‬
‫حىت لو اكن حسااب ومهيا أمام الناس حفسب‪ ،‬جملرد أن أومههم‬
‫عيل أان‪ ،‬ش يخ الش يوخ‪ ،‬وإمنا عىل ابن غر ساذج‬ ‫أاهنم مل يثوروا ّ‬
‫مل يكتسب بعد حمكة الكبار أمثايل‪ .‬كظمت غيظي وأان أرمق‬
‫احلشد‪ ،‬واس تعددت ألقلب األمر لصاحلي‪ ،‬فقلت لهذا التابع‪:‬‬
‫" مل اثروا؟ ومن قائدمه؟"‬
‫مصت الرجل مهبوات‪ ،‬كأمنا سألته أن يأيت ابلشمس من‬
‫املغرب‪ ،‬فنظرت لقائده‪ ،‬اذلي أحىن رأسه ومصت‪ ،‬كأمنا يظلهل‬
‫العار‪ .‬وأخريا تلكم التابع متلعامث‪:‬‬
‫" مه رعاع‪ .‬خرجوا ظنا أن موالي ذهب وابتعد عهنم‪".‬‬
‫قلت حبسم " إن كنت ال تدري من قائدمه‪ ،‬وماذا يريدون‪،‬‬
‫فليس كل ماكن بني طالئعي‪".‬‬
‫ارجتف الرجل‪ ،‬كأمنا حمكت عليه ابملوت‪ ،‬فتهاهلته‪ ،‬ونظرت‬
‫لقائد الطالئع‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫" أرسل رجال للعشرية ينبئوين عن هؤالء‪ ،‬ورسوال ذلكل‬
‫املعسكر‪ ،‬لريسلوا ّيل قائدمه‪".‬‬
‫وكأمنا أزحت جحرا يثقل لسانه‪ ،‬تلكم أخريا قائد طالئعي‪:‬‬
‫"هو رسول من العشرية اي موالي‪ ".‬وأشار لذلي ظننته اتبعا!‬
‫وتنهبت‪ ،‬حيهنا فقط‪ ،‬أن هذا املتحمس لدلماء ال تظهر عليه‬
‫وعثاء السفر وإاهناك القتال‪ ،‬فنظرت هل غاضبا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"إن كنت كذكل‪ ،‬فكيف ال تعرف عن أمر هؤالء شيئا‪ ،‬ومل‬
‫مل تأتين بدال من التلكؤ هنا؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"إمنا كنت أحذرمه من تلمك العصبة اخلائنة‪ ،‬وأنبهئم أن‬
‫يس تعدوا لقتاهلم‪".‬‬
‫قلت بصوت مزلزل‪:‬‬
‫"أتأمر جنودي وأان بيهنم أاها العبد!"‬
‫قال بصوت متحرشج‪:‬‬
‫"حاشا هلل اي موالي! أان عبد ضعيف‪ ،‬وإن يه إال رغبة‬
‫خليفتك‪ ،‬وساعدك‪ ،‬وابنك املبجل‪".‬‬

‫‪54‬‬
‫ظهر يل األمر جليا‪ ،‬الطالئع مل تنتظرين‪ ،‬بل اكنوا جيادلون‬
‫عيل؛ وإمنا لمينعونين من‬
‫رسول ابين‪ .‬ورفايق مل يتبعوين خوفا ّ‬
‫رؤية ما حيدث‪.‬‬
‫اي للسامء! مك بلغ ابين من احلنكة حىت يصل ألقرب املقربني‬
‫يل‪ ،‬فيحجب عين ما يشاء؟ ومك بلغ من غرور‪ ،‬فيظن أنه يعمل‬
‫كيف أفكر‪ ،‬وأنه س يدفعين ذلحب خطاايه فوق اجلبل‪ ،‬ومك بلغ من‬
‫محق وخيبة حىت يس تطيع إاثرة الرشق الغايف دوما فوق‬
‫وساديت؟‬
‫نظرت بربود للتابع وسألته‪:‬‬
‫"من معك جاء من العشرية؟"‬
‫فأشار مرجتفا لرجل بني أذايل القوم‪ ،‬قريب من آذان ندمايئ‪،‬‬
‫منمكش يرجو أن ختطئه عيين‪ ،‬فتيقنت من حصة ما ذهب هل‬
‫عقيل‪ ،‬وازداد عزيم عىل معرفة ما وراء ذكل المترد‪.‬‬
‫قلت هلام‪:‬‬
‫"أخرباين أاها املتعوسان‪ ،‬مل مل يقم ابين‪ ،‬املبجل كام تزعامن‪،‬‬
‫بسحق هؤالء‪ ،‬بدال من انتظاري؟"‬
‫مل جييبا‪ ،‬وكنت أخىش ذكل‪ .‬إ ًذا‪ ،‬فالفىت الغرير خيىش إن‬
‫خرج مبن معه لهؤالء أن يثور غريمه! أي اكرثة تكل اليت فعلهتا اي‬
‫ودلي لتحدث لك ذكل؟‬

‫‪55‬‬
‫نظرت ملن حويل حمتقرا مصهتم‪ ،‬فهم يتآمرون مع ودلي ليخفوا‬
‫عين النكبات‪ ،‬اليت لطخ هبا عرش أجداده‪ .‬بل إن بعضهم‬
‫خيشاه‪ .‬ال بأس عندي أن خيشوا ودلي‪ ،‬ولكن أجيرؤون عىل‬
‫خشيته أكرث مين؟‬
‫قلت هلم‪":‬سأذهب ألرى من شأن هؤالء‪".‬‬
‫قال التابع األخرق‪:‬‬
‫"ال اي موالي‪ ،‬ال جيوز‪ .‬نذهب حنن‪ ،‬ونأيت كل ابلرسل‪".‬‬
‫تركته يتلوى يف أمله‪ ،‬انظرا بذهول ليده امللقاة أرضا‪ ،‬وأعدت‬
‫الس يف لغمدي وأان أقول‪:‬‬
‫"هل هناك من جيرؤ عىل منعي من أمر أريده؟ أان األسود‬
‫الكبري‪ ،‬مفن يريد منعي من يشء‪ ،‬فليخربين من هو؟"‬
‫ومضيت ال ألوي عن أمري‪ ،‬يتبعين الرجال متثاقلني حىت‬
‫وصلت للسفح‪ ،‬فرأيت ما أذهلين ومجد عقيل بصقيع احلرية‪.‬‬
‫أمازال برصي حاد‪،‬ا وما أراه هو مالبس أطفال منشورة‬
‫لتجف‪ ،‬ونساء ملكالت ابلسواد يطبخن! وجعائز يبكني؟ أهذا‬
‫جيش يطلب قتايل كام يزمعون؟ ما مه إال مساكني يطلبون‬
‫املالذ‪.‬‬
‫ووجدت‪ ،‬عىل رأس الطريق الصاعد للجبل‪ ،‬ثةل من جنود‬
‫مدجهني ابلسالح‪ ،‬يرتدون الزي األسود اذلي فنت به ودلي‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫فأدركت أاهنم جامعة من صعاليكه‪ ،‬اذلين مجعهم ودرهبم ورغب‬
‫يف مضهم جليش القبائل‪ ،‬لوال إنين نبذهتم رغام عن أنفه‪ ،‬ألن‬
‫أمثاهلم ال يوثق فهيم‪.‬‬
‫ورفع أولئك الصعاليك سالهحم يف وهجىي‪ ،‬وهتف أحدمه‪:‬‬
‫"ارجع أاها الش يخ العجوز‪ ،‬فلن يصعد أحد حىت يأيت األسود‬
‫نفسه ابجليش‪ ..‬أمل نقل لمك سابقا ارجعوا‪ ،‬وأخربوا س يدمك إن‬
‫هناك خوارج راغبة يف قتهل؟ أال تفهمون شيئا اي محقى‪".‬‬
‫فهمت اآلن مل اكن قائد الطالئع يشعر ابلعار‪ ،‬فقد أحس جبرم‬
‫سفك دماء النساء واألطفال‪ ،‬رمغ فزعه من ودلي‪.‬‬
‫قلت هلم حماوال ترويض غضيب‪:‬‬
‫"من أمرك هبذا؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"القائد األسود بنفسه‪".‬‬
‫مل أكن قد مسعت هذا اللقب‪ ،‬اذلي اختاره ودلي لنفسه من‬
‫قبل‪ ،‬لكين أدركت من يقصد‪ .‬الفىت الغرير يريد أن يزب شأين‬
‫حىت يف الامس‪ .‬ش يخ األساودة مقابل القائد األسود!‬
‫قلت متذرعا ابلصرب‪:‬‬
‫" ومل يريد هذا؟"‬

‫‪57‬‬
‫رد‪:‬‬
‫" وما شأنك أنت أاها العجوز؟ أجترؤ عىل حتديه؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أوتدري من أان؟ ماذا س يفعل بمك األسود الكبري إن عمل‬
‫بذكل؟"‬
‫هز كتفيه مس هتزئا‪ ،‬وقال بنربة هتديد‪:‬‬
‫"أتريد اللحاق بأيب جدلة؟ اي جعوز ال تتعجل‪ ،‬فش يبتك‬
‫س تطفأ شوقك هل!"‬
‫مل أدر بنفيس‪ ،‬إال وس يفي ميزق مخسة مهنم‪ .‬تبا كل اي ودلي!‬
‫قلت كل من قبل إنك‪ ،‬همام فعلت فهيم‪ ،‬فس يظلون صعالياك‬
‫محقى!‬
‫رمغ كرب س ين‪ ،‬وأن س يفي اكن يف مغده‪ ،‬فقد مزقت مهنم‬
‫مخسة‪ ،‬قبل أن يفيقوا من فزعهم‪ .‬وحيامن اس تلوا س يوفهم‪،‬‬
‫أخريا‪ ،‬اكن األوان قد فات‪ .‬وبيامن كنت أحصد اثنني آخرين‪،‬‬
‫أتت الهتافات ملن خلفي‪:‬‬
‫"لبيك اي أسود‪".‬‬
‫فزع الصعاليك إذ أدركوا خشيص‪ ،‬وأدركوا أن ثرثرهتم طالت ما‬
‫يكرهه س يدمه الصغري‪ ،‬ففروا هاربني‪ ،‬مل يعرف هلم طريق‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وإذ وصلت تلبية أحصايب ملسامع اجلبل‪ ،‬فكأمنا بعثت فيه‬
‫احلياة بعد موات‪ ،‬هملال وهاتفا‪ ،‬فزنل املس تهريين منه ابكني‪،‬‬
‫قائلني‪:‬‬
‫"الغوث اي أسود‪ ،‬الغوث اي أسود!"‬
‫وعلمت لك يشء يوهما‪.‬‬
‫أراد ودلي األمحق مجع جيش يدين هل هو ابلوالء دون سواه‪،‬‬
‫جفمع مئات الصعاليك‪ ،‬وأحلقهم جبنده‪ ،‬وابزت هبم أتباعي‬
‫ليطيعوه‪ ،‬وخوفهم يف أهلهم‪ ،‬فأصبحوا يرجعون هل ابألمر قبيل‪.‬‬
‫وملا غادرت حلريب الفاشةل‪ ،‬توسع يف مد نفوذه‪ ،‬والبطش‬
‫ابخمللصني يل‪ ،‬حىت أن أيب جدلة ابن اجلالد‪ ،‬اذلي زمعوا يل أنه‬
‫مات غريقا‪ ،‬إمنا قتل عىل يده‪ ،‬ألنه رفض أن ميده ابملال‪ ،‬ل ي‬
‫يدفع نفقات أتباعه‪ ،‬اذلين أكرثمه الطمع‪.‬‬
‫كنت ‪ -‬كعادة من س بقوين ‪ -‬أترك املال يف يد غري اليد اليت‬
‫أخلفها عىل القوم‪ ،‬ومل أجد خري من رفيق الصبا ابن اجلالد ذي‬
‫العشرية والشوكة‪.‬‬
‫لكن بطش ودلي إذ كرس شوكة ابن اجلالد‪ ،‬مل يكرس هيبيت‬
‫عندمه‪ ،‬فمل خيلوا بينه وبني املال‪ ،‬فقام الفىت الغر جبدل‬
‫الفالحني‪ ،‬واهنب القرى‪ ،‬حىت ازداد وزر صعاليكه‪ ،‬ففر‬
‫البسطاء هاربني للقرى البعيدة‪ .‬وأاثر هذا غضبه‪ ،‬فتبعهم جبند‬

‫‪59‬‬
‫ارتدوا السواد عىل األجسام والقلوب‪ ،‬كس يل عارم‪ ،‬حرق تكل‬
‫القرى‪ ،‬وأش بع أهلها واملس تهريين تقتيال‪.‬‬
‫وملا ضاقت عىل الناس األرض مبا رحبت‪ ،‬وأحسوا أاهنم إن‬
‫بقوا يف قرامه اهنبوا‪ ،‬وإن غادروها قتلوا‪ ،‬جلئوا للتالل‪ ،‬إىل أن‬
‫أاتمه نبأ عوديت‪ ،‬خفرجوا عن بكرة أبهيم للجبل‪ ،‬متحصنني به‬
‫حىت آيت وأنصفهم‪.‬‬
‫وأدرك ودلي أنه لن يس تطيع الاستيالء عىل اجلبل قبل‬
‫عوديت‪ ،‬إال جبمع لك رجال القبيةل‪ ،‬وحيهنا قد تنقض عليه‬
‫عشرية ابن اجلالد‪ ،‬طلبا للثأر‪ .‬فلهأ حليةل خائبة‪ ،‬ليلوث يدي‬
‫أان بدم الفقراء‪.‬‬
‫هنا جلست أفكر وحدي‪ ،‬مقلبا األمر عىل لك وجه‪ .‬ولكام‬
‫حاولت أن أجد عذرا للفىت‪ ،‬وجدت حامقته تذهبه‪.‬‬
‫أأقول خملص يل وللقبيةل‪ ،‬يرغب يف زايدة جندها وهيبهتا‬
‫بقبضته الصارمة؟ مفاذا عن قتل أعواين‪ ،‬وإخفاء احلقائق عين؟‬
‫أأفرتض أنه شاب طموح‪ ،‬يريد أن يبين لنفسه ملاك راخسا ال‬
‫يس تطيع أحد منازعته فيه بعد مويت‪ ،‬خاصة مع تربص أوالد‬
‫معوميت الساعني لعودة املش يخة يف نسلهم؟‬
‫مفاذا عن فشهل يف احلمك‪ ،‬وعدم قدرته عىل تدبري أمواهل‪ ،‬رمغ‬
‫لك ما اهنبه؟‬

‫‪60‬‬
‫مل يس تطع أن ينجح يف العدل‪ ،‬أو يرحب من الظمل!‪ ..‬بل خرب‬
‫األرض‪ ،‬وأهكل املاش ية‪ ،‬وهدد الرشق ابجملاعة‪ .‬ولن نس تطيع‬
‫أخذ ما اعتدانه من رضائب من حطام الفقراء‪ ،‬إال بعد س نوات‬
‫عدة‪.‬‬
‫أأحس به متآمرا‪ ،‬يرغب يف قتيل والانفراد ابحلمك؟ اي هل من‬
‫متآمر ابئس‪ ،‬مل جيد حىت تدريب أعوانه‪ ،‬فمل تصمد ثةل مهنم‬
‫أمام رجل جعوز مخلس دقائق‪.‬‬
‫من لك وجه هو مذنب‪ .‬مذنب يف إخالصه بتآمره‪ ،‬ويف‬
‫تآمره بفشهل!‬
‫وأصبح العقاب حامت مقضيا‪ .‬فأعددت احملامكة‪.‬‬
‫رفض الفىت أن ميثل أمام قضايئ قائال‪:‬‬
‫"أحتامكين أمام هؤالء اي وادلي؟ وألجل من؟ أان القائد‬
‫األسود‪ ،‬ابن األسود الكبري‪ ،‬خفر األساودة‪ ،‬أحامك ألجل حفنة‬
‫من الفالحني وساكن القرى القذرين؟"‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"سفكت ادلماء‪ ،‬واهنبت األموال بغري ذنب‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"وألي غرض؟ ألبين جيشا وملاك‪ .‬ما هؤالء إال احلطب اذلي‬
‫أوقد به انر جمدي!"‬

‫‪61‬‬
‫رددت بغضبك‬
‫"وإذا ما نفد احلطب اي أمحق؟ تنطفئ انرك وال يبقى سوى‬
‫السخام!"‬
‫هز كتفيه قائال‪:‬‬
‫"بل أنزتع احلطب من أيدي من حويل!"‬
‫هنا أدركت أال أمل يف إصالحه‪ .‬أفهم أن يرى األساودة فوق‬
‫غريمه‪ ،‬وأجتاوز عن كربه جتاه أقرانه األدىن من عشريته‪ ،‬فأقول‬
‫لنفيس إن األايم س هتذبه‪ .‬أأغفر هل لك ما فعل‪ ،‬فأقول أخطأت‬
‫يف كذا وكذا‪ ،‬واكن جيب أن تفعل بدال منه كذا‪ ،‬وأرشده ملا‬
‫اكن أحنك وأمكر؟ لكين‪ ،‬ملا مسعت هجالته‪ ،‬نظرت‬
‫للمس تقبل‪ ،‬فمل أر ابين إال جرادة كبرية‪ ،‬تدمر وال تعرف البناء‪.‬‬
‫وصنع اجملد‪ ،‬إن اكن حيتاج لتدمري مكل غريك‪ ،‬فلن يكمتل إال‬
‫ببناء ملكك‪ .‬وودلي عاجز عن البناء‪ ،‬ولو تركته اليوم‪،‬‬
‫فسيشق وحدة بين األسود لرشاذم متحاربة‪ ،‬والفالحون‪ ،‬اذلين‬
‫هربوا اليوم‪ ،‬س يقاتلونه غدا‪.‬‬
‫فكرت أن أبقيه‪ ،‬وأنقل اخلالفة لغريه‪ ،‬لكن الفىت شديد‬
‫اذلاكء؛ رمغ افتقاده للحمكة‪ ،‬وس يكون لعنة بال شفاء عىل لك‬
‫من يرتبع يف املش يخة‪ .‬مازال املكل يل؛ لكنه جنح يف اخرتاق‬
‫أضيق صفويف‪ ،‬وفتنة املكل سلطااهنا عليه لن خيبو‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وإلنقاذ بين األسود‪ ،‬والرشق لكه‪ ،‬من حرب بني اإلخوة‪،‬‬
‫حمكت عليه ابلطرد والنبذ من القبيةل‪.‬‬
‫هو ال حيتاج للقتل‪ ،‬بل حيتاج لعقل أحمك‪ ،‬ورمبا إذ تروضه‬
‫الس نون يعود يل عاقال‪ ،‬فأعفو عنه وأبوئه مقعدي‪.‬‬
‫لكنه نظر يل غري مصدق للحمك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أشهد إنك ستندم عىل هذا‪".‬‬
‫وقد صدق‪ ،‬فليتين رضبت عنقه‪ .‬فلو فعلت‪ ،‬ما اثر ما أاثره‬
‫يف احلارضة‪ ،‬وال جلس نا اليوم نتشاور يف شأنه‪ .‬خناف عىل‬
‫أنفس نا مصري اجلبيل واملرصفي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫(‪)5‬‬

‫خرج ودلي عىل رأس بضع مئات‪ ،‬ممن بقوا من صعاليكه‪،‬‬


‫وأثبت أخريا شيئا من الفطنة‪ ،‬ففتك بلك عشرية بين اجلالد‬
‫قبل الرحيل‪ ،‬حىت ال يطلبوا ثأره‪ ،‬ونزع مهنم بعض ما يقبضون‬
‫عليه من مال‪ .‬مث أثبت املزيد من الفطنة‪ ،‬ابختياره للعامصة‬
‫مس تقرا هل ‪ -‬فرمغ خرويج مهنا‪ ،‬لكن متزقها بني األمراء‪ ،‬يعطي‬
‫حلفنته من الرجال قمية أكرب من حقيقهتا ‪ -‬فانطوى حتت ظل‬
‫أمري‪ ،‬يقال هل اجلبيل‪ .‬وأخذت أتتبع أنباءه‪ ،‬لعيل أرسل هل ابلعفو‬
‫فامي بعد‪ ،‬لكنه زاد يف الطيش دلرجة أفزعتين‪.‬‬
‫اكنت بدايته طيبة‪ .‬حيث اس تضافه األمري اجلبيل‪ ،‬واكن مملواك‬
‫شاميا تسلطن عىل بعض الرجال‪ ،‬وشارك يف حروب بعض من‬
‫اس تأجروه‪ ،‬إىل أن تعب امجليع من احلرب‪ ،‬وانفرد لك مهنم مبا‬
‫حتت يده‪ ،‬فاس تأثر هو ابجلزر امجليةل‪ ،‬اليت ترصع صفحة الهنر‬
‫يف شامل العامصة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫ولكن كام هو احلال مع لك يح من أحياهئا‪ ،‬انزعه يف هذا‬
‫املاكن القائد املرصفي‪ .‬اكن املرصفي ابن واحد من قادة اجلند يف‬
‫جيش املكل‪ ،‬وورث الزعامة عن أبيه‪ ،‬وحاول أن يزيد عدد‬
‫رجاهل‪ ،‬ليبين جيشا هميبا؛ لكنه مل يبؤ إال حبرب دامية بينه بني‬
‫اجلبيل‪ ،‬يتنافسان عىل مجع احللفاء واألتباع واملال واملرتزقة‪.‬‬
‫وحني أىت القائد األسود مبئات الرجال‪ ،‬أكرمه اجلبيل أميا إكرام‪،‬‬
‫وبسط هل امحلاية واملأوى‪ ،‬وأقرضه املال لينارصه ضد املرصفي‪.‬‬
‫وكام ينتظر من خفر بين األسود‪ ،‬أثبت الشهاعة والرباعة‪ ،‬حىت‬
‫أذاق جنود املرصفي الرعب‪ .‬وازداد بأس صعاليكه‪ ،‬ذوي‬
‫اللباس األسود‪ ،‬اذلي عرفه هبم القايص وادلاين من وقهتا‪.‬‬
‫اكن للمرصفي بنتا مجيةل‪ ،‬ورثت عن أهما ‪ -‬اليت يزمعون أاهنا‬
‫اكنت من األرشاف ‪ -‬هبا ًء وحس نا‪ ،‬جلب لباب أبهيا أفواجا من‬
‫اخلطاب‪ ،‬فضن هبا علهيم‪ ،‬ينتظر أن جيد حليفا يس تحقها‪.‬‬
‫فأاته القائد األسود رسا‪ ،‬وقال هل إنه رآها عفوا‪ ،‬فطار لبه‬
‫وسلبت روحه‪.‬‬
‫وقال للمرصفي‪:‬‬
‫"أاها األمري أان عبدك‪ .‬لو وافقت عىل أن تزوجين ابنتك‪،‬‬
‫فسأختلص من اجلبيل‪".‬‬

‫‪65‬‬
‫وانهتز املرصفي الفرصة‪ ،‬فوافق‪ .‬فطلب منه القائد األسود أن‬
‫يوافيه‪ ،‬يف ميعاد معني‪ ،‬بأموال ورجال‪ ،‬وسط الصحراء‪ ،‬خارج‬
‫املدينة‪.‬‬
‫وخرج هل املرصفي برجاهل رسا‪ ،‬فوجد مكينا من جنود األسود‬
‫واجلبيل‪ ،‬قتلوه ومن معه‪ ،‬واهنبوا املال‪.‬‬
‫واجزت األسود رأس املرصفي‪ ،‬ووضعها يف سةل‪ .‬وأمر رجال‬
‫اجلبيل ابلبقاء يف الصحراء منتظرين‪ ،‬ألن املزيد من جنود‬
‫املرصفي آتني‪.‬‬
‫ورحل عهنم جبنده‪ ،‬صانعا موكبا عظامي صاخبا‪ ،‬خفرج هل اجلبيل‬
‫فرحا‪ ،‬ليشاهد رأس غرميه املقطوعة‪ .‬وملا محلها عاليا يف يديه‬
‫يراها ألبنائه‪ ،‬اس تل القائد األسود س يفه‪ ،‬وقطع رأسه هو‬
‫اآلخر‪ ،‬لتتدحرج الرأسني الغرميني معا عند قدميه‪.‬‬
‫وهرب مبن معه خمتبئا يف اجلنوب‪ ،‬بيامن خرج أبناء املرصفي‬
‫مجيعا‪ ،‬يقودون اجلند للثأر من اجلبل‪،‬ي ال يعرفون بأمر مقتهل‪.‬‬
‫واس مترت احلرب بني الفريقني أايما دامية‪ ،‬أاهنكهتام معا‪،‬‬
‫وضاعت رحي أبناء اجلبيل‪ ،‬إذ تفرق عهنم املامليك‪ ،‬ألن املال اكن‬
‫هو جامعهم‪ ،‬وقد انفرد به كبريمه يف قلعة حصينة‪.‬‬
‫وزحف أبناء املرصفي‪ ،‬حيارصون القلعة طمعا يف املال‪ ،‬وقد‬
‫أشاع األسود بيهنم أنه خيتئب فهيا‪ ،‬فزاد من إرصارمه برغبة الثأر‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وإذ انشغل اللك حبصار القلعة‪ ،‬اجتذب األسود بعضا من‬
‫رجال اجلبيل‪ ،‬الهاربني مبا اهنبه من مال املرصفي‪ ،‬جفمعهم‪ ،‬وجهم‬
‫جهمة حمسوبة عىل قرص املرصفي‪ ،‬فأحرقه‪ ،‬وقتل أغلب أبنائه‬
‫ومه نيام‪ .‬مث اتفق مع كبري مماليك اجلبيل أن يكرس احلصار‪،‬‬
‫مقابل نصف الرثوة‪ ،‬لميزق مبن معه جنود املرصفي‪ ،‬واهرب آخر‬
‫أبنائه جنواب خارج العامصة‪ .‬وأصبح عاجزا خانعا‪ ،‬وهو اليوم من‬
‫أتباع األسود!‬
‫أما أخته احلس ناء‪ ،‬فمل يعرف لها أثر‪ ،‬وقيل إن أحد اجلنود‬
‫اختطفها‪ ،‬وابعها إىل حاكم األهبال‪.‬‬
‫وهكذا قىض األسود عىل الغرميني معا‪ ،‬واس توىل عىل أغلب‬
‫كنوزهام‪ ،‬والكثري من رجاهلام‪ ،‬ورسعان ما حول حلفاءه ألتباع‪.‬‬
‫اكن مازال يف حسن الفطنة‪ ،‬وتعمل من خطيئ‪ ،‬فمل يقبل أن‬
‫جيعل يف جيشه أمريا غريه‪ ،‬ال يأمتر اجلند بغري أمره‪ ،‬ومن يريد‬
‫حمالفته‪ ،‬فليعمل أن عليه طاعته طاعة مطلقة‪ .‬ورمغ ذكل فقد زاد‬
‫عدد جيشه لأللوف يف وقت قصري‪.‬‬
‫عىل أن انفراده بلك شامل العامصة‪ ،‬مبا حتويه من قالع وجزر‪،‬‬
‫أاثر حفيظة ابيق األمراء‪ ،‬خاصة احللفاء السابقني للجبيل‬
‫واملرصفي‪ ،‬وأعداء األساودة‪ .‬فتحالفوا معا عىل طرده‪ ،‬ومجعوا‬
‫جيشا كبريا لسحقه‪.‬‬
‫لكهنم اكنوا يواهجون من ال قبل هلم به!‬

‫‪67‬‬
‫جنوده ‪ -‬عىل قلهتم ‪ -‬منظمون مدربون‪ ،‬بيامن جنودمه أخالط‬
‫من غث ومسني‪ .‬وزاد من حرهجم أن جنح جبواسيسه يف إيقاع‬
‫الفتنة بيهنم‪ ،‬وجتنيد عدد من أتباعهم وخدهمم‪ ،‬فانقض علهيم قبل‬
‫أن ينقضوا عليه‪ ،‬وأش بع جنودمه ذحبا وتقتيال‪ ،‬مل يعرف مثهل‬
‫منذ غزو األهبال‪ ،‬واغتال أكرث من نصف أمراء العامصة يف‬
‫رضبة واحدة‪ ،‬فتشتتوا همزومني‪ ،‬يتلمسون الطرق لقصورمه‬
‫وقالعهم‪.‬‬
‫لكنه تتبع أعداءه ابجلواسيس والقتةل املأجورين‪ ،‬يقتلهم يف‬
‫قعور بيوهتم واحدا تلو اآلخر‪ ،‬حىت رفعوا راية الاستسالم‪،‬‬
‫وسلموا هل أكرث من نصف العامصة خالصة بال مراء‪.‬‬
‫ملا بلغ هذا الشأن‪ ،‬فكرت أن أرسل هل عفوي وخفري بودلي‪،‬‬
‫اذلي أثبت براعة يف احلرب‪ ،‬وحنكة يف القيادة‪ ،‬وهمارة يف‬
‫الس ياسة‪ .‬لكنه كرر خطأه األكرب مرة أخرى‪ ،‬أثقل عىل أهل‬
‫العامصة ابلرضائب واملكوس‪ ،‬حىت فسدت التهارة‪ ،‬وزاد الفقر‬
‫والفاقة‪ ،‬وهرب الناس من أرضه إىل أرض غريه‪.‬‬
‫مل يفهم ودلي أبدا كيف حيافظ عىل البقرة احللوب‪ ،‬فينتفع مهنا‬
‫دون ذحبها‪ ،‬أو إهالك جعولها‪ .‬ظل يس تزنفها حىت جف الرضع‪،‬‬
‫ومضر اللحم‪.‬‬
‫وملا تناقصت األموال معه‪ ،‬وتزايدت األحقاد عند خصومه‪،‬‬
‫أقدم عىل جرمية مل يس بقه لها أحد‪ ،‬وما اكن للعفو ماكن بعدها‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫أعطى األمان لبعض التهار واألمراء بعهد مكتوب‪ ،‬مث غدر هبم‪،‬‬
‫فقتلهم‪ ،‬واس تخلص أمواهلم‪ .‬وكرر الفعةل مع عدد من حلفائه‬
‫األغنياء‪ ،‬ولعل ذكرى (ميت ادلم)‪ ،‬والهول اذلي فعهل فهيا‪،‬‬
‫ختربمك عن األهوال اليت يذيقها للحلفاء قبل األعداء‪.‬‬
‫لكن هذا البطش أاثر الرعب يف القلوب مع ما أذاعه عن‬
‫نفسه من أاكذيب‪ ،‬كأنه مآخ للجن‪ ،‬وأن هل ابعا يف السحر‪،‬‬
‫يعرف به ما يدور يف النفوس‪ .‬فامتد سلطانه عىل العامصة لكها‪،‬‬
‫وما حولها‪ ،‬ليوحدها ألول مرة منذ سقوط املكل‪.‬‬
‫مث حتالف مع األهبال‪ ،‬وتعاهد مع الفرجنة‪ ،‬لزتيد أمواهل برشامه‪،‬‬
‫وقويت شوكته‪ ،‬وحسق لك من تسول هل نفسه أن يتحداه‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬بعد أن امتد سلطانه عىل إقلمي الوسط بأمكهل‪ ،‬توج‬
‫نفسه يف قرص املكل القدمي‪ ،‬وأعلن نفسه حاكام عىل لك البالد‪.‬‬
‫إين أحذرمك من ات ّباعه‪ .‬س يفسد يف األرض‪ ،‬ويعيش الناس يف‬
‫عهده رعبا دامئا‪ ،‬كام إنه س مينح األهبال والفرجنة من األرايض ما‬
‫جعزوا عن انزتاعه بس يوفهم منا‪.‬‬
‫حنن يف الرشق حمارصون بينه بني الفرجنة واألهبال‪ ،‬وال أمل‬
‫يف الشامل اذلي جهر‪ ،‬وال اإلقلميني اجلنوبيني اذلين امتلكهام‬
‫قطاع الطرق‪ ،‬ومن بقى فيه من أمراء وقبائل يتذلل لألسود‪.‬‬
‫لكنمك يف الغرب أملنا الوحيد‪ ،‬للوقوف ضد هذا الليل الغامش‪،‬‬
‫فمل متزقمك احلروب قدر ما مزقتنا‪ ،‬وحلفاء األسود هنا قليلون ال‬

‫‪69‬‬
‫خيلص هلم وال خيلصون هل‪ ،‬وليس هل الكثري من اجلواسيس هنا‪.‬‬
‫فلو حالفمت بين األسود بس يوفهم اجلبارة‪ ،‬فسنس تأصل هذه‬
‫القرحة اخلبيثة‪ ،‬وختلص البالد‪.......‬‬
‫هنا قاطع اسرتساهل الرجل املهيب صارخا‪:‬‬
‫"خالصة!‪ ....‬ملن؟ ألش تات من أمراء؟ س تعود البالد لسريهتا‬
‫األوىل من تفكك ومتزق‪ .‬هذا لو مل اهزمنا األسود مجيعا‪ ،‬سواء‬
‫يف أول مرة‪ ،‬أو حيامن يعود بعرشات األلوف من الفرجنة‬
‫واألهبال‪ ،‬لتضيع أراضينا وأموالنا‪ ،‬ويزيد المثن اذلي س يقبضه‬
‫الفرجنة واألهبال من أرضنا‪ .‬لو عاهدان األسود وحالفناه‪،‬‬
‫فس نحقن ادلم املهدور عبثا‪".‬‬

‫‪70‬‬
‫(‪)6‬‬

‫مع الصمت املاكن بعد تكل اللكامت‪ .‬أراهن إنمك مثيل مل تتأثروا‬
‫كثريا حبديث العجوز الفارغ‪ ،‬ونفاقه املفضوح‪ .‬لكن من معي اكن‬
‫ميعن النظر يف جربوت األسود‪ ،‬ويوازن ابخلوف من غدره‪ .‬بيامن‬
‫كنت أفكر يف كيف يزالفنا هذا العجوز ابحلديث عن العدل‬
‫والبناء؛ بيامن مأخذه الوحيد عىل ابنه ليس ادلماء الربيئة‪ ،‬وإمنا‬
‫فشهل يف الطغيان عىل الوجه الصحيح!‬
‫وذلا كنت أول من تلكم‪ ،‬كنت الوحيد املنشغل بأحوال‬
‫البسطاء ألنين مهنم‪ ،‬ببساطة لو مل يكن هناك بديال لألسود‪،‬‬
‫فأان أرحب به ملاك! أي مكل ينظم حياتنا‪ ،‬أفضل من ال يشء‪.‬‬
‫لكن إن وجد من هو أفضل من الطاغية حليف األهبال‪ ،‬فمل‬
‫ال؟‬
‫وهكذا كرست الصمت بقوليك‬
‫"لو اتفقمت عىل حرب األسود‪ ،‬مفن يقود البالد؟ جيب أن نتفق‬
‫عىل مكل بديل هل‪ ،‬حيارب األهبال من بعده وغال‪ ،‬حفىت لو‬

‫‪71‬‬
‫انترصمت‪ ،‬س يعود عىل رأس جيش مهنم‪ ،‬ال يبقي وال يزر‪ .‬جيب‬
‫أن ختتاروا ملاك بديال‪".‬‬
‫رصخ الرشكيس‪:‬‬
‫"لعكل تريد تسلمي البالد للغيالن امحلر!"‬
‫قاطعه ابن عامر‪:‬‬
‫"ليقصد ما يقصده‪ ،‬املهم إن السؤال حصيح‪ .‬إما أن نتفق –‬
‫واآلن ‪ -‬عىل خشص ال ينازعه أحد يف املكل‪ ،‬وال يقول هل أحد‪:‬‬
‫أان أحق منك‪ ،‬وإما أن نسمل أمران لألسود‪".‬‬
‫تلكم ألول مرة أمري شاب مرتف "لو اجمتعنا لكنا عىل مبايعة‬
‫ابن عامر‪ ،‬أو حىت عىل الش يخ األسود‪ ،‬فلن جيمتع هلام الناس يف‬
‫ابيق األقالمي‪ ،‬وس تهدون من خيرج قائال "إن اكن هو يطلب‬
‫ابملكل لكذا فأان مثهل وأحق ابملكل منه‪".‬‬
‫اندفع آخر‪:‬‬
‫"إما أن يأيت ش يخنا ابمس يبدل األسود‪ ،‬ال خيتلف عليه‬
‫اثنان‪ ،‬أو يرحينا من إحلاحه وأحالفه املدمرة‪".‬‬
‫نظر امجليع بتحد لش يخ األساودة‪ ،‬لكنه قابلنا اببتسامة غريبة‪،‬‬
‫كأمنا أتينا ملا يرغب‪ .‬وظل هادئا‪ ،‬منتظرا فراغنا من احلديث‪،‬‬
‫ففكرت أنه إمنا أىت لريخس يف أذهان األمراء الاستسالم للقائد‬
‫األسود‪ ،‬وطاعته بدال من حماربته‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫لكنه تلكم بغري ذكل متاما‪ .‬أىت مبا ال يفهمه عقل‪ ،‬أو يطيقه‬
‫صدر‪ .‬تلكم عن سليل اخللفاء‪ ،‬وريث امللوك‪ ،‬حامل عهد‬
‫اخلليفة‪ .‬هذا الوحق اكن يتحدث عن الوريث األخري ملكل البالد!‬
‫تبا هل‪ ،‬لو اكن األمر بيدي لفتكت به‪ ،‬وشاركين يف الثورة‬
‫عليه امجليع‪ ،‬وأعين ابمجليع لك من يف القاعة‪ ،‬حىت أتباعه اذلين‬
‫اكنوا يقفون خلفه‪ ،‬فقد نظروا لس يدمه كأمنا به مس ابجلنون‪ ،‬ال‬
‫"كأمنا" وإمنا هو به مس من اجلنون فعال!‬
‫هذا ادلعي الاكذب املارق أوجد طريقا ألذن السود الكبري؟‬
‫أوبلغ به اخلرف واجلنون أن ينىس مك من آالف أضاع أرواهحم‬
‫هذا ادلعي الاكذب؟ هدر دم أيب عبثا‪ ،‬ومات مكدا بسبب هذا‬
‫املنافق‪ .‬أنعود لهذه املأساة مرة أخرى؟ ندور ابدلعاة بني‬
‫املساكني والبسطاء وادلراويش إن آخر أحفاد املكل‪ ،‬سليل‬
‫اخللفاء‪ ،‬صاحب احلق الرشعي يف املكل ‪ ،‬كام سمل هل اخلليفة به‬
‫يف اخلطاب املشهور؟ أما يذكر كيف جهر اآلالف بيوهتم يتبعون‬
‫(صاحب احلق الوريث األخري) عىل أمل أن يرد هلم ما انزتع‬
‫مهنم ظلام يف الفنت‪ ،‬اليت تتابعت علهيم كقطع الليل املظمل‪ ،‬وعدد‬
‫من املغلوبني‪ ،‬اذلين طمعوا يف اس تعادة اجملد بإتباعه‪ ،‬مث انتبه هل‬
‫القائد األسود ‪ -‬ومل يكن قد وصل ملا وصل هل اليوم من قوة ‪-‬‬
‫فهامجه ومزقه هو وجنوده رش ممزق‪ ،‬مث افتضح كذبه وإنه ليس‬
‫سوى داعية من دعاة اخلوارج‪ ،‬خدع اخلليفة ليسلب منه‬

‫‪73‬‬
‫البالد‪ ،‬فانفض عنه الناس‪ ،‬بعد أن أرسل اخلليفة ترب ًؤ منه‪،‬‬
‫واختفى يف أحراش الشامل مل يعرف هل مصري‪.‬‬
‫هتفت حممتيا بأصوات البقية‪:‬‬
‫"مل يكن هذا الوريث سوى داع اكذب‪ ،‬وثبت برهان هذا‬
‫للناس اكفة‪".‬‬
‫أخريا اس تطاع الرجل أن يرد علينا‪ ،‬واي لهيبة زعمي األساودة‪،‬‬
‫مفا أن نطق بلكمته األوىل‪ ،‬حىت خرست األلس نة منصتة‪.‬‬
‫دعي اكذب فاسق‪ ،‬وس نه اكن أكرب من سن‬ ‫"هذا اكن ّ‬
‫الوريث األخري احلقيقي‪ ،‬لكنه اس تخدم أنبا ًء حقيقية‪ ،‬ونس هبا‬
‫لنفسه زورا‪.‬‬
‫كنت بنفيس شاهدا عىل جناة ذكل األمري من القتل‪ ،‬وهو‬
‫مازال جنينا يف بطن أمه‪ ،‬فرمبا تذكرون أن آخر أبناء املكل‬
‫جلئوا ألنس باهئم‪ ،‬يف واحات ساوة هنا يف الغرب‪".‬‬
‫كنت مسعت مبثل هذا األمر‪ ،‬فاليح ساوة يتفاخرون دوما‬
‫عىل من حوهلم بأاهنم أنس باء املكل؛ لكهنا بدت يل دوما قصة‬
‫خسيفة‪ ،‬ال يصدقها عقل‪.‬‬
‫أمكل ش يخ ش يوخ بين األسود‪:‬‬
‫"اعتصم آخر أبناء املكل يف ساوة من اذلحب‪ ،‬اذلي أمعهل‬
‫الثوار يف آل املكل‪ .‬إىل أن اقتحم أعداءمه الواحة‪ ،‬وأابدومه‪..‬‬

‫‪74‬‬
‫أظهنم اكنوا من جنود حامك قلعة ساوة‪ ،‬اليت يف اجلنوب اي‬
‫رشكيس؟"‬
‫رد الرشكيس متربما‪:‬‬
‫"ال مل يكونوا من جنود سلفي‪ ،‬بل أتوا من احلارضة والطريق‬
‫األقرص عرب مدينيت‪".‬‬
‫نظرت مس هتزئا لهذا املغرور‪ ،‬مفدينة ساوة ليست سوى‬
‫مجموعة من القالع‪ ،‬تقع وسط الطريق بني الواحات واحلارضة‪،‬‬
‫لكنه يرص عىل تسميهتا مدينة!‬
‫تنحنح األسود‪ ،‬قبل أن يبدأ يف قص األمر‪:‬‬
‫"جنا مهنم أمري واحد‪ ،‬أو ابن أحد األمراء‪ ،‬وتزوج من بنت‬
‫رجل ثري تسمى سارة‪ ،‬أتت يل مس تغيثة‪ -‬بعد أن قتل زوهجا‪-‬‬
‫حبىل اببنه‪ ،‬ترغب يف الرحيل رشقا إىل مدينة طرابل‪ ،‬لرجل‬
‫يسمى الش يخ (سلطان القنبوري) ‪-‬كام أخربتين‪ -‬وأان متيقن أن‬
‫ابهنا مازال يف طرابل‪ ،‬مل يغادرها‪ ،‬ومل يأت لتكل البالد لكنه‬
‫قابل أحد دعاة اخلوارج‪ ،‬فقص عليه قصته‪ ،‬لينتحل هذا ادلعي‬
‫خشصيته‪".‬‬
‫اكنت هذه أنباء غريبة عن أسامع القوم‪ .‬حصيح إنه اكن هناك‬
‫دوما مهس بوجود أمري انج‪ ،‬وبعض الرجال متادوا فزمعوا أاهنم‬
‫دعوه حلمك البالد‪ ،‬وش هبوه بصقر قريش اذلي أنقذ األندلس من‬
‫فتنة مريرة؛ لكن هؤالء رسعان ما انكرسوا عىل يد أمراء‬

‫‪75‬‬
‫املامليك الطامعني يف العرش‪ ،‬ومل يعد الناس تردد هذه اخلرافة‪،‬‬
‫خاصة بعد أن جاء الوريث الاكذب‪ ،‬مث ااهنزم‪.‬‬
‫واليوم يأيت رجل توزن لكمته بألوف الس يوف‪ ،‬لزيمع أاهنا‬
‫حقيقة!‬
‫تلكم أحد األمراء بلكامت متثاقةل‪:‬‬
‫"لنفرض بصحة هذا األمر‪ .‬ما خطر الوريث عىل القائد‬
‫األسود؟ أىن هل جبمع الرجال والسالح الاكيف حملاربته؟"‬
‫رد هبدوئه املس تفز‪:‬‬
‫"القائد األسود يدعو لنفسه ابملكل‪ ،‬ألن أحدا ال ينازعه عليه‪.‬‬
‫لكنه يدرك أن ليس هل يف مكل البالد حق رشعي‪ ،‬أما حق‬
‫الوريث فال خيتلف عليه اثنان‪ ،‬وال ينازعه فيه أحد‪ .‬هو خشص‬
‫كام طلبمت ال يوجد يف لك البالد من يس تطيع أن يقول عندي‬
‫مثل ما عنده‪ ،‬وأان أحق ابملكل منه‪".‬‬
‫كأمنا هو نفسه مل يطلب املكل! وكأمنا املامليك اهمتون ابحلق‬
‫الرشعي! عىل إن الفكرة نفسها تس تحق الاحرتام‪ ،‬رشعية ال‬
‫يس تطيع أحد التشكيك فهيا أو منازعهتا؛ رمغ ضعفها‪ ،‬مقابل قوة‬
‫غامشة‪ .‬ومضة يقني وسط طوفان الشك! رمبا اكن هذا الوريث‬
‫آخر أمل للبالد‪ ،‬حىت لو اكن أمال اكذاب واهنا‪ ،‬لكنه يظل‬
‫األمل األخري‪ ،‬ذلا يس تحق أن حناول ات ّباعه‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وأدرك األسود الكبري أنه مل يقنع أحدا مبا قال‪ ،‬ذلا حاول تعزيز‬
‫جحته بقوهل‪:‬‬
‫"تذكروا إن الناس التفت حول الاكذب من قبل‪ ،‬والتفافهم‬
‫حول الوريث احلقيقي س يكون أشد‪ ،‬وخطاب اخلليفة مازال‬
‫قامئا مل يلغه‪ ،‬حيامن أعلن تربؤه من الاكذب‪ ،‬قال إنه نصب آخر‬
‫أبناء املكل خلفا هل‪ ،‬وهذا الاكذب ليس هو املقصود‪ ..‬لو وضعنا‬
‫اخلطاب يف اليد الصحيحة‪ ،‬ووقفنا معا خلفه‪ ،‬فتصوروا كيف‬
‫أثره!"‬
‫جادهل أحدمه‪:‬‬
‫" ليس للخليفة حول أو قوة‪ .‬ماتت اخلالفة قبل موات امللكية‬
‫عندان بدهور‪".‬‬
‫رد عليه‪:‬‬
‫"الناس دوما حتب أن يبارك اخلليفة حامكها‪ ،‬وحىت لو اكن‬
‫عاجزا‪ ،‬مفازالت لكمته ذات أثر‪ ،‬عىل األقل يف نفوس اجلند‬
‫واألهايل‪".‬‬
‫رد آخر‪:‬‬
‫"لكن تذكر كيف حسق األسود هذا ادلعي الاكذب قبل أن‬
‫تعرف حقيقته‪ ،‬فمل ينفعه خليفة أو بسطاء‪ .‬اليوم‪ ،‬أصبح األسود‬

‫‪77‬‬
‫أقوى مائة مرة‪ ،‬وحتالفه مع األهبال والفرجنة أشد‪ ،‬فأىن للوريث‬
‫مبناطحته؟"‬
‫أمكل العجوز جمادلته الهادئة‪:‬‬
‫"مل يكن خلف ادلعي سوى دراويش وجماذيب‪ ،‬أما الوريث‬
‫فس يكون معه أمراء الغرب‪ ،‬وقبائل بين األسود‪ .‬ولتعمل أن‬
‫حديثك هذا يقوي جحيت‪ ،‬ألن ما قلته يثبت مك خاف القائد‬
‫امللعون من الوريث‪ ،‬وإنه يعمل خطره عليه‪ ،‬وإال ما خرج هل‬
‫من العامصة وهو مل يش تد عوده بعد!"‬
‫تلكم مضيفنا ابن العبديل‪:‬‬
‫"تتحدث عن رجل ال نعرف إن اكن حيا أم ال‪ ،‬وال ندري‬
‫أيرغب يف مكل ال يغبط عليه أحد‪ ،‬أم إنه عاقل زاهد فيه!"‬
‫قال األسود‪:‬‬
‫"مل أس تطع خماطبته وحدي لهذا السبب‪ ،‬فس يخىش القتل‬
‫حامت‪ ،‬إال لو أاته وفد من أمراء الغرب يأمنوه‪ ،‬ويبايعوه مبايعة‬
‫مكتوبة‪ ،‬وهنا س يعود حامت ليقودان يف حرب مقدسة لتوحيد‬
‫البالد‪ .‬وأنمت س تكونون أمراءه‪ ،‬وكبار رجاهل‪ ،‬وحاشيته اليت‬
‫تبسط خريها عىل لك شرب من األقالمي الامثنية‪ ،‬بدال من أن‬
‫تكونوا خدما لألسود‪".‬‬

‫‪78‬‬
‫بدت يل أن احلجرة أضيئت بلهيب الطمع‪ ،‬اذلي برز من‬
‫بعض العيون‪ ،‬لوال أن بدد ابن عامر األمر بسخطه قائال‪:‬‬
‫"تبا لهذا اللغو! أتدرك ما تطلبه منا؟ نسري يف حصراء قاحةل‬
‫عامرة بلصوصها‪ ،‬يك نعرب الهنر بني يدي القائد األسود‪ ،‬غرمينا يف‬
‫هذا األمر! مث نصل للثغور اليت يعتد حاكهما بأنفسهم‪ ،‬ويقتلون‪،‬‬
‫ويسلبون من يشاؤون من املسافرين‪ ،‬لمنر وسط حرب‬
‫رضوس بني أساطيل الصيادية‪ ،‬والسور العيل‪ ،‬لنصل لطرابل‬
‫ابحثني عن أمري ال نعرفه‪ ،‬يف أرض ال نعرفها‪ ،‬عند حامك لن‬
‫يرحب مبن يعاندون األهبال‪ ،‬اذلين تذكرت اآلن إن هلم قالع‬
‫عىل طول الطريق من الساحل إىل طرابل!"‬
‫مل اهزت ش يخ بين األسود ابحلديث‪ ،‬وإمنا قال‪:‬‬
‫"هذا حصيح‪ ،‬وذلا فس تكون أنت عىل رأس الوفد!"‬
‫حشب وجه ابن عامر قليال‪ ،‬لكنه مل يتلكم‪ .‬ال أدري‪ ،‬أخيىش‬
‫أن يبدو خائفا‪ ،‬أم خيىش غضب الش يخ‪ ،‬أم رمبا يفكر يف أمر‬
‫ما مكتوم عنا‪.‬‬
‫لكن األسود الكبري مل ينتبه لهذا‪ ،‬وأمكل حديثه‪:‬‬
‫"أنت تعرف الطريق جيدا‪ ،‬وقد عربته أكرث من مرة ملقابليت‪،‬‬
‫ولن يكون الطريق خطرا هكذا لو عربمت من اجلنوب‪ ،‬بعيدا عن‬
‫أراض األسود إىل أرايض قبائلنا‪ ،‬ألرحب بمك وأكرممك وأسلممك‬
‫حلليفي األمري األبيض‪ ،‬أمري الزرقاء‪ ،‬لتنقلمك سفنه عىل نفقيت‬

‫‪79‬‬
‫إىل طرابل مبارشة من البحر الرشيق‪ ،‬بعيدا عن الصيادية‬
‫والسور العيل واألهبال‪".‬‬
‫مصت ابن عامر فامي بدا موافقة‪ ،‬فقال ابن العبديل‪:‬‬
‫"هذا حيسم األمر يف ظين‪ ،‬لو أىت الوريث من طرابل‬
‫‪،‬فسنسوده علينا‪ ،‬لنسود البالد وهذه صفقة أطيب من أن‬
‫تفوت لوعود غادرة من القائد األسود؛ لكنه لو رفض‪ ،‬فلن منكل‬
‫إال التسلمي معا‪ ،‬أتوافقين عىل هذا اي ابن عامر؟"‬
‫هز ابن عامر رأسه موافقا‪ ،‬فتبعه ابيق األمراء دون معارضة‪،‬‬
‫يبدو أنين ‪ -‬ألول مرة يف حيايت ‪ -‬أرامه حيمكون العقل‪ ،‬بل أيضا‬
‫حيمكونه معا عىل قلب رجل واحد!‬
‫فقال ابن العبديل‪:‬‬
‫"ومن سريافق ابن عامر‪ ،‬س يد الثغر الكبري‪ ،‬يف رحلته؟"‬
‫قال األسود الكبري‪:‬‬
‫"أود مرافقتمك بنفيس‪ ،‬لكن س ين الكبرية ال تسمح‪ ،‬وسفينة‬
‫اإلفرجن‪ ،‬اليت س تعيدين لبدلي مع أهيل‪ ،‬لن تسعمك مجيعا‪،‬‬
‫خاصة لو رغبنا يف كامتن األمر عن ودلي‪ .‬سريافقمك ابن أيخ‬
‫حسام بدال عين‪ ،‬مفوضا من بين األسود‪ ،‬ملبايعة الوريث‬
‫ملاك‪".‬‬
‫وأشار لهذا الشاب اذلي اكن يتس ند عليه‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫وقال األمري األبيض بلهجته اإلفرجنية املضحكة‪:‬‬
‫"وسأرافقمك أان أيضا‪ ،‬ألؤمن الطريق من الزرقاء‪ ،‬وممثال عن‬
‫حماربهيا كام طلب من حليفي الكبري‪".‬‬
‫طبعا يقصد القراصنة‪ ،‬لكن األمر بدا يل مش بوها أال يس بقنا‬
‫بسفينة اإلفرجن مع األسود الكبري‪ ،‬وسفينة الفرجنة يه أآمن‬
‫طريق للسفر يف بالدان‪ ،‬ألن أحدا لن جيرؤ عىل إغضاهبم‪.‬‬
‫مث انضم هذا الساخط‪ ،‬اذلي يذكر يف لك مجةل (ميت ادلم)‬
‫واثنان آخران‪ ،‬يبدو علهيام أاهنام موتوران‪ ،‬واألمري (جركس ابن‬
‫ابرم ديهل)‪ ،‬والالزوردي‪ ،‬وشهاب الرشكيس‪ ،‬اذلي سريافقهم‬
‫عىل األقل حىت قالع ساوة يف اجلنوب‪ ،‬اليت حتمي الطريق بني‬
‫ساوة الواحة والعامصة‪ ،‬وبيهنا وبني اإلقلمي اجلنويب‪ .‬مجع لطيف‬
‫حقا‪ ،‬كفيل بإقناع الوريث‪ ،‬وحامت كنت سأوافق عليه‪ ،‬لوال ما‬
‫فعهل ابن العبديل‪.‬‬
‫فقد فوجئت به يقول‪":‬إن كنا مرسلني أحدا إىل اخلطر حفامت‬
‫سرنسل غوال أمحر!"‬
‫جتمدت مذعورا‪ ،‬ال أصدق أذين‪ ،‬بيامن الش يخ األسود يضيف‬
‫ابرتياح‪:‬‬
‫"هذا ما أدركته منذ علمت بأمره! تكل حرفهتم وقوهتم!"‬

‫‪81‬‬
‫وحتلقت األنظار حويل‪ ،‬وأدركت أال مفر لو أردت جتنب‬
‫املوت وافتضاح األمر‪ .‬وبصوت متحرشج يعلو قلب خافق‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أان معمك!!!!!"‬

‫‪82‬‬
‫(‪)7‬‬

‫أدركت أن الفرار واجب‪ ،‬والنهاة مطلوبة‪ ،‬وأن الليةل جيب أال‬


‫عيل يف هذا القرص اخلانق‪ .‬اكن األمراء قد اتفقوا عىل‬
‫متيض ّ‬
‫التاليق بعد يوم‪ ،‬عىل رأس طريق العامصة‪ ،‬بعد أن يدبر لك‬
‫مهنم أمره‪ ،‬فيجمتعوا عند قالع ساوة‪ .‬وابلطبع‪ ،‬مل أرغب يف أن‬
‫أعلق معهم‪ ،‬وأجرب عىل اذلهاب‪ ،‬لو انتظرت للصباح‪ ،‬فتفاديت‬
‫احلرج بأن غادرت مبكرا جدا‪ ،‬أثناء الليل والناس نيام‪.‬‬
‫تسللت للحظرية‪ ،‬آلخذ مجيل‪ .‬وما إن دلفت يف الصحراء‪،‬‬
‫حىت تبني يل أنين من املتأخرين‪ ،‬ال املبكرين‪ .‬فآاثر اخليول متأل‬
‫لك اجتاه‪ ،‬وخشيت أن أقابل أحصاهبا‪ ،‬فدرت حول اجلبل‬
‫رشقا‪ ،‬مث جنواب‪ .‬رمغ إنين أدرك أن هذا يؤدي يب لطريق‬
‫العامصة‪ ،‬لكين فكرت إنه لو قابلين مراتب ما‪ ،‬فسأخرسه‬
‫بزمعي أنين أبكر ملاكن التجمع‪.‬‬
‫مل ميض الكثري حىت القيت هذا املراتب! األمري األبيض‬
‫اإلفرجني‪ ،‬احلامك الامسي لثغران الوحيد عىل البحر الرشيق‪ ،‬خرج‬

‫‪83‬‬
‫(ليس تنشق الهواء) حتت بضع خنالت‪ ،‬وينظر يل يف دهشة‪،‬‬
‫بيامن امتدت أيدي حراسه للسالح فورا‪.‬‬
‫أشار هلم ليخفضوا سالهحم‪ ،‬مث تقدم مين وهو يبتسم ابتسامة‬
‫ماكرة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"إىل أين اي رجل؟"‬
‫قلت يف تردد‪:‬‬
‫"أذهب لرأس الطريق‪ ،‬ألكون أول الراحلني‪ ،‬بعد أن أقابل‬
‫بعض األصدقاء‪".‬‬
‫حضك حضكة صافية كأنه طفل أهديته لعبة‪ ،‬فقلت برصامة‬
‫زائفة‪:‬‬
‫"لست من يضحك عليه اي أمري الزرقاء! ليس أان!"‬
‫رد مبتسام‪:‬‬
‫"تعجبين! أنت حقا تعجبين! مل أر يف حيايت من يف مثل‬
‫دهائك وخداعك وجسارتك! أنت لص‪ ،‬وأان أمري قراصنة‪ ،‬ذلا‬
‫أعتربك نوعا ما من قويم! وذلا فسأهديك نصيحة غالية جدا‪".‬‬
‫رددت بغضب مصطنع‪:‬‬
‫"لست لصا‪ ،‬كيف جترؤ؟"‬
‫هز كتفيه وقال‪:‬‬

‫‪84‬‬
‫"حقا؟! إذن فأخربين ما اكن امسك؟"‬
‫هبت‪ ،‬وأخذت أحشذ ذاكريت ألتذكره‪ ،‬بيامن رددت عليه برسعة‪:‬‬
‫‪"،‬أان س يد الغيالن امحلر‪".‬‬
‫حضك مرة أخرى وقال‪:‬‬
‫"أحسنت‪ .‬إجابة مراوغة طيبة! لكهنا ليست إجابة سؤايل‪،‬‬
‫يقولون‪ :‬عىل الكذوب أن يكون ذكور‪،‬ا وأنت مل تذكر امسك أاها‬
‫القبيل!"‬
‫قلت مناضال الااهنيار اذلي جيتاحين‪:‬‬
‫"ماذا تريد مين؟ أنصحك أال تعبث معي‪ ،‬مفن ورايئ غيالن‬
‫ال ترمح‪".‬‬
‫هز رأسه وقال‪:‬‬
‫"مه حقا ال يرمحون‪ ،‬أو اكنوا كذكل‪ .‬لكن الغيالن امحلر انهتوا‬
‫حقا‪ ،‬وقتلوا تقتيال‪ ،‬فليس ملثلهم عودة‪ .‬لكن يعجبين إرصارك‪،‬‬
‫فهكذا جيب أن يكون احملتال!‪ ..‬دخلت القرص‪ ،‬وجلست عىل‬
‫أعىل املوائد‪ ،‬وخدعت األمراء‪ ،‬بل أصبهتم ابلرعب منك‪،‬‬
‫واخرتت انتحاال يكرهونه واهابونه‪ ،‬وأخذت ما تريد من كنوزمه‬
‫ورحلت! أهنئك‪ .‬مل أر مثل هذه اجلسارة إال يف احلاكايت‪ ،‬ومل‬
‫أكن أظن أن يوجد مثل أولئك األفاقني يف احلياة‪ .‬لو أردت أن‬

‫‪85‬‬
‫تعمل معي‪ ،‬فستسعد كثريا‪ .‬وميكنين أن أس تعني مبثكل‪ ،‬فأان‬
‫دوما أحتاج إىل جواري ذوي ادلهاء واجلرأة‪".‬‬
‫مصت متطلعا يل‪ ،‬لكين انتظرت حديثه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"يف البداية ظننتك جاسوسا للقائد األسود‪ ،‬لكنك بدوت‬
‫مندهشا من أنبائه‪ ،‬واعرتضت عىل الاستسالم هل‪ .‬وحني‬
‫شاهدتك تهنب الطعام اهنبا‪ ،‬أدركت حقيقتك اليت حريتين‪ :‬جمرد‬
‫صعلوك ماكر‪ ،‬ارتدى درعا رسقه‪ ،‬أو عرث عليه‪ ،‬وانتحل زعامة‬
‫الغيالن‪ ،‬أرهب فرقة يف األايم اخلالية‪ ،‬واهنب ما خف وغال‪،‬‬
‫وسط صفوة احلاكم من حتت أنوفهم!"‬
‫أردت جماراته‪ ،‬وفهم قصده‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫عيل؟"‬‫"واآلن‪ ،‬وقد كشفت أمري‪ ،‬ماذا س تفعل؟ تقبض ّ‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"بل أعرض عليك أن تنضم يل‪ ،‬ويف املقابل سأنقذ حياتك‪".‬‬
‫اعترصت الرمح منتهبا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"ومم ستنقذها؟"‬
‫رد‪:‬‬
‫"ألنك متيض حنو هالكك! هذا هو الطريق اذلي اتفق الزعامء‬
‫عىل السفر منه‪ ،‬هل تظن أاهنم حقا سيبحثون عن الوريث؟‬

‫‪86‬‬
‫لك أمري مهنم س بقك بإرسال عدد من رجاهل‪ ،‬ليمكنوا يف الطريق‬
‫ويقتلوا اآلخرين! لكهم يعمل لألسود‪ ،‬ويراسهل رسا‪ ،‬ويطمع إن‬
‫قتل الوريث بيده‪ ،‬فس يكسب عنده حظوة‪ .‬حىت بين األسود‬
‫س يفعلون نفس األمر! مه يأمترون علنا بأمر ش يخهم‪ ،‬إجالال هل‪،‬‬
‫كام أرسلين القراصنة لهنا‪ ،‬حىت ال نغضبه؛ لكن وقت األفعال‪،‬‬
‫ال تعلوا لكمة فوق لكمة القائد األسود‪".‬‬
‫هبت لهذه اخليانة‪ ،‬فوجدت نفيس أقول‪:‬‬
‫"وماذا عن ابن عامر‪ ،‬واألمراء املوتورين من األسود؟"‬
‫نظر يل بدهشة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"وما اهمك من أمرمه؟ مه يفهمون احلقائق‪ ،‬وسريجعون غالبا‬
‫دلايرمه ال يفعلون إال ما يفعلونه دوما‪ :‬الانتظار‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"إ ًذا فس يقتلون الوريث املسكني‪ ،‬ال يدافع عنه أحد؟"‬
‫قال هبدوء‪:‬‬
‫"دعك من شأن هذا املغبون‪ ،‬وقل يل‪ ،‬ماذا عن العمل‬
‫معي؟"‬
‫رددت‪:‬‬
‫"أال يكفيك قراصنتك؟"‬

‫‪87‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أان أمعل عندمه ال العكس! وأاكد أقف وحيدا‪ ،‬أجاهد إلنقاذ‬
‫الزرقاء من السقوط احملتوم‪".‬‬
‫رددت بغيظ‪:‬‬
‫"وهل بعد القراصنة سقوط؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"أنت إذن من املوتورين اذلين جهروها عندما سقطت!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أو مسعت عن الهول‪ ،‬اذلي حدث عىل أيديمك من أحد‬
‫مساكيهنا‪".‬‬
‫قال بغضب‪:‬‬
‫"عىل أيدينا؟ لست ممن ّذحبوا ساكاهنا‪ .‬كنت أاتجر مع أهيل‬
‫يف السوق‪ ،‬حفورصان بغتة‪ ،‬ولو هروبنا للصحراء ‪ -‬مثلام فعلت‬
‫أنت ‪ -‬لقتلنا األعراب‪ ،‬ألننا فرجنة‪ .‬أنت هربت‪ ،‬بيامن بقينا حنن‬
‫نشهد املوت وادلمار‪ ،‬واهنرب من بيت مهتدم آلخر حمرتق‪ ،‬نقفز‬
‫فوق اجلثث واألشالء‪ ،‬ال منكل أن نلتفت خلفنا لنعني من‬
‫يسقط منا‪ .‬تساقط أيب وأيم وأخويت واحد تلو اآلخر أمام‬
‫عيين‪ ،‬وقتلوا أبشع قتةل‪ ،‬وملا بقينا أان وأيخ‪ ،‬توجوان ‪ -‬فوق‬
‫جثث أهلنا ‪ -‬أمراء عىل املدينة‪ .‬ومن يوهما أدركت أن احلياة‬

‫‪88‬‬
‫وعيل أن أسري معها‪ ،‬مقهورا أو راضيا ال فارق‪ ،‬مادمت‬ ‫تسري‪ّ ،‬‬
‫أعيش‪ .‬اليوم يل مكل ‪ -‬ولو ابالمس ‪ -‬وبعض اخلدم واحلشم‪،‬‬
‫وبيت آمن‪ ،‬فمل المترد عليه؟ بل ألحاول أن أحفظه قدر‬
‫هجدي‪".‬‬
‫عيل دوما عزيزة‪ ،‬فسألته‪:‬‬‫غلبين فضويل‪ ،‬وقد اكنت الزرقاء ّ‬
‫"وهل يوجد من اهدد الزرقاء؟ لك املتخامصني خيطبون‬
‫ودها‪".‬‬
‫رد بلههة من يلقن تلميذه درسا‪:‬‬
‫"إن انترص األسود‪ ،‬فس يغدر بنا‪ ،‬لميكل امليناء‪ ،‬أو اهديه‬
‫حللفائه‪ .‬ولو عاد الوريث‪ ،‬فسيسعى لطردان ‪ -‬حامت ‪ -‬من بالده‪.‬‬
‫ولو اكتسح األهبال لك يشء‪ ،‬فس يدمرون لك يشء كعادهتم‪.‬‬
‫ال أمل لنا يف البقاء إال ببقاء الفوىض‪ ،‬فال يس تطيع أي خشص‬
‫توحيد البالد‪ .‬وال أمكل إال املكر واخلداع وتأليب القوم عىل‬
‫بعضهم البعض‪ ،‬وهنا أس تطيع أن أس تأجر رجال مثكل أنت‬
‫ولك عصابتك – ال تزمع إنك تعمل وحدك ‪ -‬وثق إنين ممن‬
‫جيزلون العطاء‪".‬‬
‫للحظة فكرت حقا يف اتباعه‪ ،‬كنت أشعر حبقد وغضب عىل‬
‫األمراء‪ ،‬وأحسست أاهنم خذلوين بشدة بعدما عرفته منه‪ .‬أردت‬
‫الانتقام مهنم‪ ،‬ولو ابتباع هذا اإلفرجني‪ ،‬اذلي عرف كيف‬

‫‪89‬‬
‫يس متيلين حبديثه عن حصار الزرقاء‪ ،‬وأصبح رشي ي يف أبشع‬
‫جتربة مررت هبا يف حيايت‪.‬‬
‫دمهتين اذلكرايت؛ وكيف أنساها؟ كيف أنىس صوت وادلي‬
‫امللتاع وهو يأخذين جفأة من الكتّاب‪ ،‬وال يقول سوى‬
‫(القراصنة‪ ،‬القراصنة!)‪ ،‬وال ما رأيته من فزع الناس جيرون يف‬
‫لك اجتاه‪ ،‬وأان طفل صغري ال يفهم ما األمر‪ .‬فالقراصنة يف البحر‬
‫ما شأننا وشأاهنم؟‬
‫واحمتينا داخل املسهد‪ ،‬ألعرف أن القراصنة يف الصباح‬
‫حارصوا امليناء‪ ،‬وقتلوا من فيه‪ ،‬وأرسلوا للحامك يأمنوه إن فتح‬
‫هلم أبواب املدينة ليهنبوها ويرحلون‪ ،‬وفعلها األمحق اخلائن‪،‬‬
‫ليدفع هو وأههل واملساكني المثن ادلايم يف ساعات قالئل‪.‬‬
‫أاكن يتحدث عن الفرار من بيت لبيت؟ وماذا عنا حني‬
‫هدموا املسهد فوق رؤوس نا؟ مث أعلنوا امتالكهم للمدينة مالذا‬
‫آمنا هلم مجيعا‪ ،‬بدال من اجلزر الصغرية اليت يتحاربون علهيا‪ .‬أكرب‬
‫قرصنة يف التارخي كام يقولون‪ :‬رسقة مدينة اكمةل بأهلها وأبنيهتا!‬
‫آه عليك اي زرقاء! ترى أأرجع كل مع هذا األمري؟ أذكر مك‬
‫كنت مجيةل مزدهرة وقت لعيب‪ ،‬وكيف أصبحت خربة حمرتقة‪،‬‬
‫حيامن هربنا عىل مجل جعوز‪ .‬فرتى ما شلكك اآلن اي مرعى‬
‫صباي؟‬

‫‪90‬‬
‫وهنا أتتين فكرة جمنونة‪ ،‬ورمغ أنين حاولت نفضها من رأيس‪،‬‬
‫إال أنين سألته‪:‬‬
‫"وكيف علمت بأمر الكامئن املزعومة؟"‬
‫مل يقل سوى‪:‬‬
‫" يل طريق! وطريقي آمن يذهب يب إىل الزرقاء‪ ،‬فهل‬
‫س تثبت حسن فطنتك‪ ،‬وترافقين؟"‬
‫مصت ألفكر‪ ،‬اكن ميكنين أن أتبعه‪ ،‬عىل األقل حىت أصل‬
‫عيل‪ ،‬وقد بدأ‬
‫آمنا لطريق القرية‪ .‬كام إن تكل الفكرة اجملنونة تلح ّ‬
‫الضمري حيبذها‪ ،‬ويثقلين عن الفرار‪ .‬وال أفهم كيف وجدت‬
‫نفيس أسأهل‪:‬‬
‫" وماذا عن الوريث؟"‬
‫نظر بتعجب قائال‪:‬‬
‫"ما شأننا به؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"س يقتل هكذا‪ ،‬أليس كذكل؟"‬
‫رد ابس تخفافك‬
‫"ابلطبع‪ ،‬هذا قدره هو وعائلته امللعونة‪ ،‬أتفكر يف أن نس تغهل‬
‫مثال؟ س تكون هذه خماطرة محقاء‪".‬‬

‫‪91‬‬
‫ظللت صامتا فرتة‪ ،‬أمجع أفاكري‪ ،‬واس تجمع جشاعيت‪ .‬املشلكة‬
‫إنين الوحيد يف هذا العامل‪ ،‬اذلي ميتكل من الضمري واملعرفة ما‬
‫يوجب عليه حماوةل حتذير هذا املسكني‪ .‬لقد ختىل أيب ‪ -‬ذات‬
‫مرة ‪ -‬عن فعل الواجب‪ ،‬ألن هناك آخرين يقومون به‪ ،‬وألن ال‬
‫فائدة ترىج من مناطحة من مه أقوى‪ ،‬فدفع المثن غاليا غربة‪،‬‬
‫وأمكل ادلفع حىت اليوم‪ .‬ذلا‪ ،‬حفني وجدت إن دم هذا الرجل‬
‫س يعلق يف رقبيت‪ ،‬وأن أمري أسوأ من أمر أيب‪ ،‬اذلي ترك‬
‫خلفه جماهدين آخرين‪ ،‬شعرت بأغالل جترين جرا حنو تكل‬
‫الهاوية‪ ،‬اليت ال أعمل لها قرار‪ ،‬من اخملاطر والعنت‪ ،‬وأصبحت‬
‫الفكرة اجملنونة‪ ،‬اآلن‪ ،‬مصريا أساق هل جبربوت الضمري‪ ،‬ال أجد‬
‫منه مناص‪ .‬لكن األمري األبيض يقدر عىل مساعديت‪.‬‬
‫أخريا مجعت من العزم ما يكفي‪ ،‬كام تعلمت يوما من ش يخي‬
‫(رس خلف ما ترى قلبك هل مييل‪ ،‬أو هواك عنه راغب!)‬
‫وهواي يطلب النهاة من املوت‪ ،‬والعودة للقرية‪ .‬فالناس تقتل‬
‫عبثا‪ ،‬لك يوم‪ ،‬بال حساب يف هذا الزمن‪ .‬بيامن قليب يطلب‬
‫النهاة من إمث ادلم الربيء‪ ،‬وأن أغوص يف الظلامت‪ ،‬فاذلنب ال‬
‫يضيع عند ادلاين اذلي ال ميوت‪.‬‬
‫وهكذا وجدت صويت حازما يقول‪:‬‬
‫"أميكنك مساعديت عىل إنقاذه‪".‬‬
‫نظر يل كام لو اكن يرى عفريتا! وقال‪:‬‬

‫‪92‬‬
‫"مصت دهرا‪ ،‬ونطقت كفرا!‪ ..‬أتعرف جزاء من يتحدى‬
‫األسود؟ لعكل متزح؟"‬
‫"فقط أحتاج منك لعبور البحر إىل طرابل‪ ،‬وسأدفع كل ما‬
‫تشاء ما أن أعود من هناك‪ ،‬سواء به أو بدونه‪".‬‬
‫هتف‪:‬‬
‫"جننت حامت!"‬
‫رددت‪:‬‬
‫"إمنا أرى ذنبا يف عنقي إن نكصت عن إنقاذ دمائه‪ ،‬ويف‬
‫مقدوري‪ ،‬ولو مثقال ذرة من هجد‪ ،‬لتحذيره‪.‬‬
‫اي أمري الزرقاء أان لست لصا كام زمعت‪ ،‬وإمنا فالح فقري‪،‬‬
‫خيش أن يكون اجامتع العظامء عىل ولمية من محله هو‪ ،‬فأىت‬
‫ليتحسس األمر‪ ،‬ألنذر إخواين من رشمه‪".‬‬
‫نظر يل ابحتقار‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"فالح! حس نا أاها الفالح‪ ..‬فكر يف أمري‪ ،‬مفا عندي أرشف‬
‫وأعز‪ .‬دعك من خسافاتك وأوهامك‪ ،‬أو عىل األقل عد‬
‫لفالحتك آمنا‪".‬‬
‫غاظين إنه يعترب اللص والصعلوك أرشف وأعز من الفالح‪،‬‬
‫فرددت ابندفاع‪:‬‬

‫‪93‬‬
‫"بل سأذهب‪ ،‬وأعود ‪ -‬بإذن هللا ‪ -‬هبذا الوريث‪ ،‬ليواجه‬
‫األسود‪ .‬ال خيتلف اثنني عىل أن أمر األسود رش‪ ،‬لوال الفوىض‬
‫القامئة‪ ،‬اليت ال ترتك هل بديال‪ ،‬أما وها قد ظهر البديل يف‬
‫الوريث‪ ،‬فسأسعى هل‪ ،‬حىت لو كنت جمرد فالح‪".‬‬
‫حضك الرجل حىت اكد أن يسقط أرضا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"فالح يتحدى األسود! أنت لست فالحا‪ ،‬بل أنت‪،‬‬
‫ببساطة‪ ،‬ابلنس بة هل ال يشء‪ ،‬جمرد كتةل من فراغ ملوث برتاب‬
‫األرض! أنت ضعيف جدا‪ ،‬بل هني األمر؛ بيامن هو جبار‪ ،‬أنت‬
‫وحيد يف وادي جنونك؛ بيامن يقود هو اجليوش يف عامل العقالء‪.‬‬
‫ال أمل وال فائدة‪ .‬أجعبتين مبكرك‪ ،‬فأترك عريض كل قامئا‪،‬‬
‫وأنصحك أال ترسح‪ ،‬بغلواء األوهام‪ ،‬عن طريقك!"‬
‫رددت عليه "عىل األقل سأحاول‪ ،‬فهل لو وجدت جناحا‬
‫ستساعدين؟"‬
‫نظر يل بدهشة‪ ،‬وقال‪":‬مرص إ ًذا؟! ال يفتأ املرء جيد العهائب‬
‫يف البرش!‪ ..‬رمبا لو بقيت حيا حىت تصل للزرقاء‪ ،‬أمسح كل‬
‫بعبور البحر‪ ،‬تقديرا لشهاعتك الغبية ليس إال‪ .‬غري هذا ال‬
‫تطلب إال نصيحيت كل ابلعودة من حيث أتيت إىل بيتك‬
‫ادلائف‪".‬‬

‫‪94‬‬
‫(‪)8‬‬

‫ال أدري ما حدث‪ ،‬وال أدرك كيف بدأ األمر‪ .‬فقط ضوء سطع‬
‫يف عقيل‪ ،‬جعلين أوجه مجيل حنو الغرب دون لكمة‪ ،‬مطأطأ‬
‫الرأس‪ .‬كنت أشعر أنين حدثت الرجل أكرث من الالزم‪ ،‬ذلا مل‬
‫أقل املزيد‪ ،‬ومشيت غراب‪.‬‬
‫ملاذا الغرب؟ قرييت يف الرشق‪ ،‬والطريق مييض جنواب مث رشقا‬
‫إىل طرابل؟‬
‫ببساطة‪ ،‬ألن واحة ساوة يف الغرب!‬
‫لو كنت أحبث عن الوريث حقا‪ ،‬فيجب أن أفعل أمرين‪ :‬أوال‬
‫لن أعود لقرييت‪ ،‬وإال س يقيدونين بسارية املسهد حىت أشفى‬
‫من اجلنون‪ ،‬وأفقد ادلرع وادلابة والنقود‪ ،‬إذ يس تعيدمه الش يخ‬
‫غالب‪ .‬عىل أي حال أريض وبييت رهنا عنده‪ ،‬وجزء من املال‬
‫ميكن أن أعتربه أجري‪ ،‬وسأحاول أن أرد البايق إن عدت حيا‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫أما األنباء‪ ،‬مفثلها لن خيفي عليه‪ ،‬وس ينئب هبا انئب القايض لك‬
‫القرى‪ ،‬ومن ساوة سأرسل هل رسوال‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬إنين نظرت ملا وراء ما أعرف‪ ،‬يبدو أن األمراء‬
‫فرحوا مبعرفهتم أن الوريث يف طرابل‪ ،‬وس يتسابقون أاهم يصل‬
‫هناك أوال‪ ،‬ليضيعوا أسابيع بال جدوى‪ ،‬حبثا عن رجل ال‬
‫يعرفونه‪ ،‬وال يعرفون بيته‪ ،‬أو امسه‪ .‬سأبدأ متأخرا عهنم راضيا‪،‬‬
‫ألن من األمه أن أعرف أوال شلك الوريث‪ ،‬وامسه‪ .‬وقد قال‬
‫الش يخ األسود إن أنس باءه يف ساوة‪ ،‬ذلا فساوة يه مقصدي‪،‬‬
‫وبعدها جيب أن أعرف الطريق من الزرقاء إىل طرابل‪ ،‬وهو ما‬
‫يعين رحةل أخرى حنو الغرب‪ ،‬ترتك يل فامي بعد‪ ،‬طريق الرشق‬
‫فارغا‪ ،‬ال يتصورون أن هناك متخلف يتبعهم‪.‬‬
‫اكن الطريق لساوة قصريا يسريا‪ ،‬ومل أجد أثرا حلافر أمايم‪ ،‬أو‬
‫وقعا ملطارد خلفي‪ .‬ومن الواحض إن الطغاة س يقتلون بعضهم جتاه‬
‫الرشق متسابقني‪ ،‬ولن يدركوا احلقيقة إال بعد أن يصلوا لهناك‪.‬‬
‫تعلقت عقوهلم ابلرشق‪ ،‬وأخذهتم محية الس بق‪ ،‬ومل يبق هلم من‬
‫الفطنة يشء‪ .‬ولعلها معونة اخلالق أغشت أبصارمه‪ ،‬وأضاءت‬
‫بصرييت‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫(‪)9‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ :‬قال يل تميور ابن زهري عن‬
‫وادله عن جده تميور العالف قال‪:‬‬

‫‪ (1-9‬التاجر)‬
‫اكنت حيايت مزدهرة‪ ،‬وجتاريت راحبة‪ .‬أشرتي األعالف والغالل‬
‫من ساوة وما حولها‪ ،‬وأبيعها يف العامصة‪ .‬جتارة ورثهتا من قريب‬
‫عن وادلي‪ ،‬رضيت بأن تكون نصييب من إرثه‪ ،‬اتراك األرض‬
‫والفالحة ألخويت األكرب س نا‪.‬‬
‫مل أكن أرحب الكثري‪ ،‬حىت اثر األمراء يف اجلنوب‪ ،‬وقطعوا‬
‫الغالل فارتفعت أمثان األقوات‪ ،‬مث يف نفس العام‪ ،‬أتت أنباء‬
‫زحف األهبال‪ ،‬اآلتني من أقىص الرشق‪ ،‬فأحرقوا بالد الهنرين‪،‬‬
‫اليت حاول املكل اس ترياد الغالل واألقوات مهنا‪ ،‬فأصبحت‬
‫العامصة عىل شفا جماعة‪ ،‬ورأيت بأم عيين من كنت أوقرمه من‬

‫‪97‬‬
‫التهار قد استئذبوا‪ ،‬واس تحلوا احلرام‪ ،‬يبيعون القوت بأضعاف‬
‫مثنه‪ ،‬ويكمتونه عندمه يف اخملازن حىت اكد يفسد‪ ،‬زامعني خواء‬
‫صوامعهم‪.‬‬
‫وما كنت ألسري يف هذا ادلرب الس ئي‪ ،‬فكنت آيت بغالل‬
‫الغرب‪ ،‬أبيعها برحب حالل يكفيين‪ ،‬يزيد عن األايم اخلالية‪ ،‬لكنه‬
‫يف مقدور الناس‪ ،‬بدال من أسعار ابيق التهار الشاهقة‪ .‬فكنت‬
‫ال أاكد أصل للسوق‪ ،‬حىت تكون بضاعيت قد نفدت عن‬
‫آخرها‪ ،‬واش تعل حولها الشهار والشحناء!‬
‫وعيل أن‬
‫وذات يوم‪ ،‬أرسل يل كبري التهار يقول إنين أؤذاهم‪ّ ،‬‬
‫أرفع األسعار‪ ،‬فرفضت‪ .‬وبعدها بأايم‪ ،‬أىت انئب رئيس الرشطة‬
‫يهتمين ابإلخالل ابألمن العام‪ ،‬ألنين أتسبب يف شغب الناس‬
‫حول بضاعيت! وخريين بني رفع األسعار كبايق التهار‪ ،‬أو‬
‫الرحيل عن املدينة أو السجن!‬
‫طبعا رددت عليه ابللغة اليت يفهمها‪ ،‬فأمسكت كيس نقود‬
‫ممتلئ‪ ،‬وقلت هل‪:‬‬
‫"هذا رحب مومس واحد وهو يكفيين‪".‬‬
‫نظر للكيس جبشع‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"ميكنك أن ترحل بعيدا عين‪ ،‬أو آخذ الكيس‪ ،‬وأزور القايض‬
‫لينصفين!"‬

‫‪98‬‬
‫كنت أقصد إنين سأري القايض الرحب احلقيقي‪ ،‬لكين كنت‬
‫أعمل أنه س يفهم أنين سأرشو القايض‪ ،‬ليؤذيه وهو ما يكفي‬
‫إلبعاده عين‪.‬‬
‫مضت جتاريت مزدهرة حىت كرث املال‪ ،‬ففكرت يف جتارة أخرى‬
‫تنفعين يف غري مومس احلصاد‪ .‬اكن الفرجنة وجتار بالد الرشق‬
‫األقىص‪ ،‬اكلهند والس ند وما وراءهام‪ ،‬يأتون عرب البحر للزرقاء‪،‬‬
‫هذا امليناء العظمي‪ ،‬ليبيعون ويشرتون النفائس والعهائب‬
‫واللطائف‪ .‬ومهنم من يذهب يف قافةل كبرية لك عام إىل العامصة‪،‬‬
‫لبيع بضائعهم لألمراء واألثرايء‪ .‬فأخذت أشرتي مهنم ما يعجبين‪،‬‬
‫فإذا عدت إىل ساوة مررت يف الطريق‪ ،‬جباميل احملمةل‪ ،‬ابملدن‬
‫والقرى الصغرية‪ ،‬أبيع لوهجاهئا تكل اللطائف‪ ،‬اليت ال يعرفواهنا وال‬
‫يتحملون مشقة السفر للوصول إلهيا يف العامصة‪ .‬ولهؤالء كنت‬
‫أغيل المثن كام أشاء‪ ،‬ألاهنا ليست ابلقوت أو الرضورة‪ ،‬وإمنا من‬
‫الزينة اليت يمتتعون هبا‪.‬‬
‫وملا وجدت عظم الرحب يف تكل التهارة‪ ،‬وواظبت علهيا‪،‬‬
‫وجدت إنين أضطر للبقاء يف العامصة عدة أسابيع‪ ،‬بني اهناية‬
‫احلصاد‪ ،‬وبداية توافد جتار الزرقاء‪ ،‬عاةل عىل أقاريب‪ .‬ففكرت‬
‫أن أشرتي دارا‪ ،‬ترحيهم من ثقيل‪ ،‬وتؤويين‪ .‬مفضيت بني دور‬
‫العامصة حبثا عن سكن‪ ،‬فوجدت سكنا ومودة‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ما أن رأيهتا حىت هبت! اكنت مجيةل حقا‪ ،‬ليس امجلال اذلي‬
‫يؤذي العني‪ ،‬ويؤجج الغرية؛ وإمنا جامل طيب‪ ،‬ينساب إىل‬
‫روحك‪ .‬اكنت هادئة جخوةل‪ ،‬ال تاكد تسمع لها صوات‪ ،‬أو تشم لها‬
‫عطرا‪ .‬عيناها صافية كسامء ليةل صيف حانية‪ ،‬وصوهتا اخلافت‬
‫أمجل‪ ،‬يف أذاني‪ ،‬من أواتر القيثارة‪ .‬روهحا طيبة اكملالئكة‪،‬‬
‫وعىل فقرها‪ ،‬اكنت خسية مع األفقر مهنا‪.‬‬
‫ما أن رأيت زهرية‪ ،‬حىت اشرتيت ادلار املقابل لها‪ ،‬رمغ إنه‬
‫اكن أبعد ادلور اليت عاينهتا عن السوق‪.‬‬
‫ومل ال؟ قد بلغت سن الرجوةل‪ ،‬وأرحب ماال كثريا‪ ،‬ويل دارا يف‬
‫ساوة‪ ،‬وأخرى يف العامصة! كام تقول شقيقيت دوما‪ ،‬بيوت‬
‫العرائس تفتح يل أبواهبا بيرس!‬
‫وهكذا أخذت أعد داري اجلديدة بأحسن ما ميكن‪ ،‬مس تعينا‬
‫يف هذا جبرياين الطيبني‪ ،‬ملمتسا األعذار ألسأل بفطنة عن أهل‬
‫ادلار املقابةل‪ ،‬دون أن ألفت األنظار ألمري‪ ،‬فعرفت امسها‬
‫امجليل (زهرية)‪ ،‬وأاهنا يتمية تعيش مع أهما وجدهتا العجوز يف‬
‫ادلار‪ ،‬حتت كنف خالها ش يخ الطريقة الشاذلية يف مسهد‬
‫املدينة الغريب الكبري‪.‬‬
‫علمت من أيب سكينة‪ ،‬اتجر األمقشة اذلي أراين هذه ادلار‪،‬‬
‫أاهنا تعمل يف قرص املكل‪ .‬ليس دوما‪ ،‬وإمنا فقط يف الوالمئ‬
‫الكبرية تذهب للقرص منذ الصباح‪ ،‬وتعود محمةل ابلكثري من‬

‫‪100‬‬
‫فضول الضيوف‪ ،‬فتوزع بعضه عىل الفقراء‪ ،‬وبعضه عىل‬
‫اجلريان‪ ،‬وتبقي البعض تتقوت منه حىت الولمية التالية‪.‬‬
‫فأدركت أن (زهرييت) طباخة‪ ،‬تعمل يف قرص املكل حيامن يثقل‬
‫العمل مبجيء الضيوف‪ .‬فإ ًذا إن اكنت من نصييب‪ ،‬س تذيقين‬
‫طعام امللوك!‬
‫وعقدت العزم عىل اخلطبة‪ ،‬فتساءلت كيف أفعل؟ أمن‬
‫خالها؟ رمبا اكن لها عام غليظا‪ ،‬أو أخا متكربا‪ ،‬يس تكرث طريق‬
‫ابب اخلال بدال من ابهبم؟ وألنين أتبع النصيحة الرشيفة أن‬
‫اس تعينوا عىل قضاء حواجئمك ابلكامتن‪ ،‬ويه النصيحة اليت طاملا‬
‫نفعتين يف جتاريت‪ ،‬مل أفصح ألحد بسؤال‪،‬ي وأرسلت يف طلب‬
‫شقيقيت‪ ،‬فهذه ش ئون ال قبل لنا هبا‪ ،‬حنن معرش الرجال‪.‬‬
‫مل تقض أخيت أقل من الليةل‪ ،‬إال وأتتين مبا شئت‪ ،‬وما مل أشأ‬
‫من أخبار! عرفت أن أابها مات شهيدا ضد الفرجنة‪ ،‬وال يعرف‬
‫لها مع أو معة‪ ،‬ويه وحيدة تركها أبوها رضيعة‪ ،‬فبقت أهما يف‬
‫حداد عليه لليوم‪ .‬كذكل أخربتين بأصلها الطيب ‪ -‬عىل فقرها ‪-‬‬
‫فقد اكن جدها لوادلها غنيا‪ ،‬كام يقولون‪ ،‬لكنه اكن سفهيا‪،‬‬
‫أضاع أمواهل‪ ،‬وابع قرصه‪ ،‬وأىت لهذه املنطقة عاش فهيا ذليال‪،‬‬
‫حىت مات حمسورا‪.‬‬
‫أما جدها ألهما‪ ،‬فاكن قايض القضاة وش يخ ش يوخ الطرق‬
‫الصوفية يف لك القطر‪ ،‬وهذا لنسب يليق بأمري‪ ،‬لوال أن تفرق‬

‫‪101‬‬
‫عىل أبناء وعيال كرث‪ ،‬مل يصب لك مهنم من املال واملنصب شيئا‬
‫يذكر‪.‬‬
‫واليوم مه رقيقو احلال‪ ،‬مل يبق من العز القدمي شيئا‪ ،‬ولوال‬
‫معونة اخلال األكرب‪ ،‬وبقااي موائد القرص املل ي‪ ،‬ملاتوا جوعا‪ ،‬كام‬
‫يزمع القوم‪.‬‬
‫وأدركت مل تأخر عهنا اخلطاب حىت اليوم‪ ،‬وحني قالت أخيت‬
‫بقلق‪:‬‬
‫"يتحدثون عن خطاب كرث أتوا فرحلوا؟"‬
‫رددت علهيا‪:‬‬
‫"ومن يذهب لها يف ظنك؟ ابحث عن فقرية مثهل‪ ،‬يدمهه نبل‬
‫أصلها‪ ،‬فيخاف‪ ،‬أم ابحث عن نس هبا يفاجئه فقرها‪ ،‬فيحجم؟‬
‫ما لها غريي بإذن هللا‪ ،‬ومل يتأخر اخلطاب إال ل ي أتقدم أان!"‬
‫ردت شقيقيت ويه متط شفتهيا‪:‬‬
‫"أكره أن تزتوج من العامصة! مالنا ومال بناهتا املرفهات؟ تعال‬
‫لساوة انتقي من صوحيبايت ما شئت‪".‬‬
‫قلت لها سامئا هذا اجلدل املتكرر‪:‬‬
‫"أشعر أاهنا نصييب‪ ،‬وال أكون اتجرا أريبا إن جتاهلت ما رمسه‬
‫يل القدر من مغمن‪".‬‬

‫‪102‬‬
‫قالت متربمة‪:‬‬
‫"أي مغمن؟ إن تزوجت من خارج ساوة‪ ،‬فس تعيش خارج‬
‫ساوة‪ ،‬ألفقد أان شقيقي‪ ،‬وتفقد أنت جتارتك!"‬
‫جتاهلت تشاؤهما‪ ،‬وما اكن العشق ليرتك جلدلها منفذا! طمأنهتا‬
‫إنين سآخذ زوجيت لساوة‪ ،‬وأطعم أشقايئ من يداها طعام‬
‫امللوك‪ ،‬فرتكتين قائةل‪:‬‬
‫"أما وقد أحمكت أغاللها عىل ل ّبك‪ ،‬فال فائدة‪ .‬ماذا س تفعل‬
‫اآلن؟"‬
‫إىل حد ما أحسست ابلقلق من شقيقيت! مادامت مل تتقبل‬
‫األمر‪ ،‬فلن تراتح حىت تفسده حبيل النساء‪ ،‬وما أدراك ما حيل‬
‫النساء! رمبا أجد داري قد حتول إىل كعبة لعائالت ساوة‪ ،‬تتواىل‬
‫عيل!‬
‫عيل ضيوفا‪ ،‬بزمع الهتنئة‪ ،‬وحقيقة عرض بناهتن ّ‬ ‫ّ‬
‫ذلا قلت لها‪:‬‬
‫"خري الرب عاجهل!"‬
‫وتركهتا يف غيظها‪ ،‬مل أخربها ابملزيد‪ ،‬وعقدت عزيم عىل امليض‬
‫دواهنا‪ .‬فتوهجت للمسهد الغريب الكبري‪.‬‬
‫وطوال الطريق‪ ،‬أخذت أفكر كيف سأقابل الرجل؟ وماذا‬
‫أقول هل؟ يف احلقيقة‪ ،‬لقد خارت قواي جفأة‪ ،‬وأصابين الوهن‬
‫حىت ألكتين الظنون! أتراه يردين ردا غري مجيل؟ أيقول يل إنين‬

‫‪103‬‬
‫ابن الفالح‪ ،‬ال أليق حبفيدة قايض القضاة‪ ،‬ولو اكنت فقرية؟‬
‫أيهتمين برشاء النسب ابملال؟‬
‫وملا اقرتبت من املسهد‪ ،‬تفككت أوصال‪،‬ي ودعتين قدماي‬
‫لركوب الرحي فرارا‪ ،‬ويه ختاطبين مستنهدة‪ :‬هل ارتديت حةل‬
‫تليق هبذا املقام؟ هل ترى نفسك حقا أهال للزواج؟ هل‬
‫عطرك مازال نرضا‪ ،‬أم أن عرقك يفوح ليخنق الرجل؟ هل‬
‫الزواج اليوم أمر مناسب كل وحلاكل؟ أترى وهجك مليحا‬
‫يعجب الفتاة؟ أتظن بنات العامصة يصلحن لفتيان ساوة؟‬
‫وهكذا تقاذفتين أس ئةل عن شأين‪ ،‬مع أس ئةل عن شلكي‪ ،‬حىت‬
‫تثاقلت أقدايم‪ ،‬وملا وصلت للمسهد‪ ،‬قررت العودة مغلواب من‬
‫قلقي‪ ،‬ألتزين وأتعطر‪ ،‬وأعود يف خري حا‪،‬ل بعد أن أطمأن عىل‬
‫حايل وأحسب أموايل‪.‬‬
‫وملا عدت مصفر الوجه للبيت‪ ،‬اس تقبلتين أخيت مبصممة‬
‫الشفاه شامت ًة!‬
‫قالت يل بلههة من توقعت األمر‪:‬‬
‫"هل اس تكرب عليك ساكن العامصة‪ ،‬وأعادوك حلظريتك‬
‫وأهكل؟"‬
‫رددت مرجتفا‪:‬‬

‫‪104‬‬
‫"بل أصابين الفزع‪ ،‬إذ أدركت سوء لبيس‪ ،‬وقبح وهجىي‪،‬‬
‫وكراهة راحئيت!"‬
‫نظرت يل مندهشة‪ ،‬واقرتبت مين‪ ،‬فرتاجعت متضايقا إذ ال‬
‫هجد يل ملواهجة إحلاهحا‪ ،‬ففوجئت هبا تتشممين‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫"ال أمش إال طيبا‪ ،‬وال أرى إال طيبا؟ ما بك؟ ال ختفي عىل‬
‫أختك‪ .‬هل خذلوك؟"‬
‫رددت علهيا‪:‬‬
‫"بل تفكرت يف األمر‪ ،‬خفشيت أن أقابل الرجل حبايل هذه‪،‬‬
‫فزيدريين‪".‬‬
‫عيل تبا لها! تركهتا‪ ،‬ومضيت‬
‫حضكت! تكل امحلقاء تضحك ّ‬
‫حلجريت مكسوفا حمسورا‪ ،‬وأان أشعر بضآةل قدري‪ ،‬وحقارة‬
‫حال‪،‬ي فوجدهتا تتبعين مرسعة‪ ،‬وحضاكهتا تدق عىل رأيس دقا‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫"أهذا أيخ اجلريء النش يط التاجر األريب؟ أتسرتخص‬
‫بضاعتك النفيسة؟ ما أظن فيك إال أنك خبري حال! أستبد بك‬
‫الفزع اي غاليم‪ ،‬كام يصاب احلافظ إذا امتحنه ش يخ الكتّاب‪،‬‬
‫فيتوه منه حفظه! مل أظنك حتهبا لهذه ادلرجة‪ ،‬إمنا ظننتك فتنت‬
‫جبامل مل أره فهيا‪ ،‬ووجدت صوحيبايت أحق بك مهنا! هون‬
‫عليك اليوم وغدا سأرشف عىل تزيينك بنفيس! واطمأن‬

‫‪105‬‬
‫سأذهب الليةل لزايرة جرياننا‪ ،‬حامةل معي بعضا من أرز ساوة‪،‬‬
‫وعطور الزرقاء‪ ،‬ألتعرف علهيم وحيهنا سآتيك ابخلرب اليقني‪ ،‬إن‬
‫اكنت نفوسهم طيبة تس تقبكل‪ ،‬أم لئمية ينفرها هللا فيك لتنجو‬
‫مهنا!"‬
‫جفأة‪ ،‬أاتين امحلاس اجلارف ال أدري من أين‪ ،‬فقلت لها‪:‬‬
‫"ومل الليةل؟ أس تطيع أن أحرض كل أخفر األش ياء من اخملزن‬
‫و‪".........‬‬
‫قاطعتين‪:‬‬
‫"أاها اخلائب! ال حترق أرسارك هبذه الرسعة! يه هدية تعارف‪.‬‬
‫ال نرمه هبا لهفتك‪ ،‬حىت ال يغلو المثن أاها التاجر األريب! اهدأ‬
‫أنت‪ ،‬واس تخر هللا حىت الغد‪ ،‬ودع األمر يل‪".‬‬
‫كام قلت من قبل‪ ،‬يه ش ئون للنساء فهيا ابع‪ ،‬ال قبل لنا حنن‬
‫الرجال به!‬
‫قضت الليةل يف قلق ورجاء‪ ،‬ونزلت أخيت للمخزن تنتقي من‬
‫بضائعي شيئا‪ ،‬فأحلحت علهيا أن تأخذ قدر ما تس تطيع لتظهر‬
‫قدريت وكفاييت‪ .‬لكهنا حاجتين بأاهنا لو أخذت املزيد‪ ،‬فقد يظهر‬
‫األمر كصدقة‪ ،‬ال هدية عادية‪ ،‬وهو أمر لن تتقبهل نفوسهم حامت‪.‬‬
‫فاكتفت حتت إحلايح جبوال من أرز ساوة الشهري‪ ،‬وزجاجة‬
‫صغرية من العطر‪ ،‬وقطعة مقاش نفيسة‪ ،‬مث غادرتين مع اخلادم‬
‫قائةل بثقة‪:‬‬

‫‪106‬‬
‫"هون عليك‪ ،‬مفثلها لن جتد مثكل أبدا‪ .‬أنت ابلنس بة لها هدية‬
‫من السامء!"‬
‫جززت عىل أس نان‪،‬ي وودعهتا‪ ،‬وجلست ألهتم أصابعي قلقا‬
‫مرتبصا‪.‬‬
‫ترى ماذا دهاين؟ يف الصباح كنت واثقا مطمئنا‪ ،‬فإذا يب إذ‬
‫اقرتبت الساعة‪ ،‬أزوغ وأتقهقر قلقا‪ ،‬ما أن ظهر يل احامتل‬
‫الرفض‪ ،‬حىت وليت مدبرا كلكب خنوع‪.‬‬
‫لكن الوقت مل ميض طويال‪ ،‬وأتتين شقيقيت هادئة فسألهتا‪:‬‬
‫"كيف اكن األمر؟ عدت مبكرة؟"‬
‫ردت‪:‬‬
‫"مل أشأ أن أتركك يف قلقك!"‬
‫مث مصتت هنهية‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"مل يكن األمر يس تحق البقاء طويال‪ .‬جارة تزور جارهتا هبدية‪،‬‬
‫وتتعرف علهيا وتعود‪ ،‬كنت سأبدو خسيفة لو بقيت هناك‪".‬‬
‫سألهتا‪:‬‬
‫"وماذا دار بينكن؟"‬
‫ردت‪:‬‬

‫‪107‬‬
‫"حديث رسيع عن هدوء احلي هنا‪ ،‬وأنك أيخ الطيب الرثي‪،‬‬
‫فضلت هذه ادلار لطيب جوها عن ادلور القريبة من السوق‪.‬‬
‫مث ذكرت إن الناس متدح يف جرياننا‪ ،‬فأحببت التعرف إلهين‪،‬‬
‫خاصة وإن الناس تذكر زهرية ابخلري‪ ،‬فرحنب يب‪ ،‬وسألنين عن‬
‫كيف أرى احلياة هنا‪ ،‬فقلت أرى حياة ساوة أطيب‪ ،‬مث ودعهتم‬
‫وعدت‪".‬‬
‫نظرت لها نظرة خاوية‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"فقط هذا! أيهتا اللئمية‪ ،‬ذهبت لتقويل لهن بدلي خري من‬
‫بدلكن‪ ،‬مث عديت!"‬
‫ردت مبتسمة‪:‬‬
‫"ال ابلطبع! حيامن أخص ابحلديث من بني أهيل واحدا‪،‬‬
‫وابلسامع من بيهنن واحدة‪ ،‬فاألمر معروف‪ ،‬والتلميح يصل‬
‫للترصحي‪ ،‬ولن يغيب عن أفامههن أاها املتذايك‪".‬‬
‫جززت أس ناين‪ ،‬متذرعا ابلصرب‪:‬‬
‫"دعيين من أالعيب احلديث هذه‪ ،‬واخربيين مبا رأيت‪".‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫"تبدو فتاة طيبة‪ ،‬نعم الزوجة‪ .‬ولو أن أهما حزينة بشأاهنا‪ ،‬عىل‬
‫األرحج لتأخر زواهجا‪ ،‬وقد أحسست مهنا يه ابذلات ترحااب‪".‬‬

‫‪108‬‬
‫‪ ( 2-9‬اخلطبة )‬
‫هنا أحسست كأمنا قد زال عن طريقي قاطع طريق مرتبص!‬
‫وانرشح صدري‪ ،‬وهتاوت خماويف‪ ،‬حىت اس تحمقت نفيس ملا‬
‫أصاهبا‪ ،‬وعقدت العزم عىل اذلهاب خلالها غدا دون إبطاء‪.‬‬
‫ويف الصباح قضيت حاجايت مبكرا‪ ،‬ونظمت شؤوين‪ ،‬ألعود‬
‫مبكرا للمزنل‪ ،‬أغتسل وأتعطر‪ ،‬وأختار أفضل ثيايب (أو اختارهتا‬
‫شقيقيت يل ابألحص)‪ .‬وذهبت خبطى واثقة للمسهد‪ ،‬ولكام عاد‬
‫ذلهين وسواس من وساوس األمس‪ ،‬نبذته مس تعيذا ابهلل من‬
‫الش يطان‪.‬‬
‫توهجت للمسهد الغريب الكبري‪ ،‬فسألت عن ش يخ الطريقة‬
‫الشاذلية‪ ،‬فأشاروا يل عليه‪ ،‬فتوهجت رأسا حنوه يف حلقة ذكره‪،‬‬
‫فقطعهتا عليه‪ ،‬وقلت بصوت حامس‪:‬‬
‫"أريدك اي ش يخي يف أمر من مصلحة العباد‪ ،‬فهال أذنت يل‬
‫ابنتظارك؟"‬
‫قال بصوت خاشع‪:‬‬
‫"بل آيت معك‪ ،‬فقد علمنا خري الربية إن قضاء حواجئ العباد‪،‬‬
‫مقدم عىل نفل العبادات‪ ،‬ومن اكن يف حاجة أخيه اكن هللا يف‬
‫حاجته‪".‬‬
‫وأاتين الش يخ الوقور متجهام قلقا‪ ،‬فابتدرته‪:‬‬

‫‪109‬‬
‫"أريدك اي موالي يف حاجة عزيزة‪ ،‬وأمنية رشيفة‪ ،‬وال أرجو‬
‫منك إال خريا‪ .‬أان من جتار ساوة‪ ،‬أرىض ابحلالل‪ ،‬وأنبذ احلرام‪،‬‬
‫وقد من هللا عيل ابملال والصحة‪ ،‬فأردت أن أمكل ديين‪ ،‬وأتبع‬
‫س نة نبيي‪ ،‬وأس تظل بنعمة العفاف‪.‬‬
‫وقد حملت عيين زهرة صغرية أينعت‪ ،‬وأدرك قليب أاهنا اخملتارة‪،‬‬
‫وأيقن عقيل أاهنا المين عىل داري‪ .‬فإن أاتين رضا ولهيا‪ ،‬أانرت يل‬
‫حيايت‪".‬‬
‫نظر يل متأمال لفرتة‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"أو تدري من وادل زهرية‪ ،‬ومن جدها؟"‬
‫رددت‪:‬‬
‫"مسعت إن جدها أضاع ماهل‪ ،‬مفايل وماهل؟ مات أبوها‬
‫شهيدا‪ ،‬فهل بعد ذكل نسب؟ يزمعون فهيا فقرا‪ ،‬فهل رأوا‬
‫خساءها؟ الغين مبا يعطي‪ ،‬ال مبا يأخذ‪ ،‬وذلا فزهرية عندي ال‬
‫تسأل يف نسب أو غىن‪ ،‬وكفاها إن جدها ألهما قايض القضاة‪".‬‬
‫مط شفتيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أو تدري من وادل زهرية‪ ،‬ومن جدها؟"‬
‫اكن صوته جادا‪ ،‬ووجه عابسا‪ ،‬فمل أعرف أحيذرين من عيب‬
‫فهيم‪ ،‬أم ينهبين إىل أين دواهنم؟‪ ..‬لكن عزيم اكن قاطعا‪ ،‬ونييت‬
‫صادقة‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫‪110‬‬
‫"أوتدري اي ش يخنا من يه زهرية؟ مايل ومال جدها؟ لكمك‬
‫من آدم وآدم من تراب‪ .‬إن كنت ختىش أن أضن علهيا‪ ،‬أو‬
‫أكون أقل رشفا مهنا‪ ،‬فقد قلت كل إن الكرمي أنعم عيل برزق‬
‫حالل‪ ،‬ويل أهل وعزوة‪ ،‬فلكنا يف ساوة أخوة‪ .‬وإاهنم ليعينونين‬
‫وقت احلاجة‪ ،‬كام أعيهنم عند الفاقة‪ .‬فهل بعد هذا أسأل عن‬
‫رهط؟"‬
‫مصت الش يخ متفكرا حينا‪ ،‬وقال كأن مل يسمع غريهاك‬
‫"لكمك من آدم وآدم من تراب‪".‬‬
‫مث أضاف‪:‬‬
‫"حس نا اي بين مك متهرها؟"‬
‫أرشقت السعادة يف قليب‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"بلك غال ونفيس‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"فمي تتجر؟"‬
‫رددت‪:‬‬
‫"أجتر يف األعالف صيفا‪ ،‬والنفائس واللطائف ش تا ًء‪".‬‬
‫قال يل متحداث ببطء‪:‬‬

‫‪111‬‬
‫"أنت قلت إن الغين مبا يعطي‪ ،‬ال مبا يأخذ؟ همر زهرية أن‬
‫تطعم ألف جائع‪ ،‬وتكسو ألف عار‪ ،‬وتعتق مائة رقبة‪ .‬وقلت‬
‫إنمك يف ساوة إخوة‪ ،‬مفهرها أن تشرتي لها دارا يف ساوة لها‬
‫وألهما‪ .‬أتقدر عىل هذا املهر؟"‬
‫جتمدت للحظات أشعر ابلعجز‪ ،‬لوال أن عقيل‪ ،‬اذلي اعتاد‬
‫عىل حساب لك يشء قبل أن أفكر فيه‪ ،‬أخربين أن األمر عىل‬
‫صعوبته ليس مس تحيال‪ ،‬وأيده قليب اذلي حتدث عن اهنر خري‬
‫جيري عىل يد زوجة املس تقبل‪ ،‬يف وقت اش تد فيه اجلوع بأهل‬
‫العامصة‪ ،‬ومزق الظمل مالبسهم‪ .‬حصيح إن األلف كثري‪ ،‬ولن‬
‫تكفهيا أموايل‪ ،‬إال لو قضيهتا عىل أعوام‪ ،‬لكن مل يكن هناك‬
‫مناص فالرجل خيربين إاهنم ليسوا أهل طمع‪ ،‬وإمنا مثلها همرها‬
‫همر األمريات‪ ،‬ولست أان بأمري‪ ،‬فلو جادلته سأرد خائبا‪.‬‬
‫ذلا‪ ،‬اهنضت دون لكمة‪ ،‬واجتهت للسوق أتدبر األمر عىل لك‬
‫وجه‪.‬‬
‫قد يكون أمر اإلطعام سهال عن غريه‪ ،‬فإمنا يه جتارة مومس‬
‫واحد س تكفيين‪ ،‬لكن كساء األلف‪ ،‬وعتق املائة لن يبقى هل مال‬
‫حيهنا‪.‬‬
‫ول ي أنفق املال‪ ،‬أحتاج للامل! وهنا عقدت العزم عىل القيام‬
‫بأفضل ما يس تطيعه التاجر اخلبري‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫أول ما بدأت به‪ ،‬هو جتارة اللطائف األكرث رحبا‪ .‬مجعت لك ما‬
‫عندي من مال‪ ،‬وخرجت للزرقاء أشرتي من جتارها‪ ،‬مبجرد‬
‫نزوهلم من املراكب‪ ،‬حيث يرخصون الرحب لإلرساع ابلعودة‪.‬‬
‫مل تكن هذه يه زايريت األوىل للزرقاء‪ ،‬فقد زرهتا أحياان مع‬
‫بعض قوافل ساوة‪ ،‬لكين مل أمحل وقهتا جتارة تذكر‪ ،‬وكنت أبيع‬
‫ال أشرتي‪ .‬وبدت يل املدينة امجليةل املزدهرة فاتنة حقا‪ ،‬لكن‬
‫جتارها خرباء ماكرون‪ ،‬احتاجوا مين ملناهضة طويةل يك ال أقع يف‬
‫براثهنم!‬
‫كنت‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬يف مدينة تقوم عىل التهارة‪ ،‬ولك أهلها من‬
‫التهار إال قةل من صيادين وحبارة‪ ،‬فالبيع حيتاج لفاصل مع‬
‫املشرتي‪ ،‬والرشاء حيتاج ملالجهة مع البائع‪ ،‬وهو أمر مرهق أميا‬
‫إرهاق!‬
‫لكين خرجت مهنا بقافةل طيبة‪ ،‬مفضيت من سوقها الكبري‬
‫املزدمح إىل أسوايق اخلاوية‪ ،‬اليت ال يراتدها سواي يف املدن‬
‫والقرى الصغرية البعيدة يف الغرب‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫‪ ( 3-9‬كرس احلصار )‬
‫ورمغ لك ما مجعته من مال يف هذه الرحةل‪ ،‬إال إنه مل يكن‬
‫ليكفيين‪ .‬وقد اقرتب وقت الش تاء العاصف‪ ،‬اذلي تتوقف فيه‬
‫السفن عن زايرة الزرقاء‪ ،‬وتندر بضائعها‪ .‬إال إنين يف ترددي‬
‫عىل الزرقاء ذهااب وإاياب‪ ،‬اخمترت يف ذهين فكرة‪.‬‬
‫حقول اجلنوب تتكدس بغاللها‪ ،‬ال ميسها أحد‪ ،‬بعد أن قطع‬
‫أمراء املامليك املئونة منذ عامني‪ ،‬عقب هزمية جيش املكل‬
‫أماهمم‪ .‬واحلصار شديد يشكو منه الناس‪ ،‬ولوال إن ساوة‪ ،‬وما‬
‫حولها‪ ،‬تسد رمقهم لفتكت اجملاعة ابلبالد‪.‬‬
‫لكن لو اكنت الطرق مقطوعة بيننا‪ ،‬وبني أقالمي اجلنوب‪ ،‬فالبد‬
‫إن كنت مرصا عىل هديف‪ ،‬أن أخرتق هذا احلصار‪ ،‬أو ألتف‬
‫حوهل!‬
‫اس تأجرت من الزرقاء مركبا كبريا‪ ،‬فرست به للجنوب حىت‬
‫شاطئ مقفر‪ ،‬فزنلت مع جاميل‪ ،‬ورست ببطء يف الصحراء‪،‬‬
‫أحتسس الطريق دون أدالء‪ ،‬معمتدا عىل قراءة النجوم والرايح‪،‬‬
‫مقتصدا يف املاء والطعام‪ ،‬حىت وصلت أخريا إىل أول القرى‪،‬‬
‫ومهنا ملدينة ينبوعة الصغرية‪ ،‬اليت اعتدت زايرهتا مع ابيق جتار‬
‫الزرقاء قبل احلصار‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫أتيت أشرتي بأرخص األسعار‪ ،‬فأعطوين بأزهد مهنا‪ .‬اكنت‬
‫بضائعهم ركدت‪ ،‬حىت افتقروا‪ ،‬وخشوا عىل حصادمه من‬
‫الفساد‪ ،‬فبدوت هلم كغوث من السامء خيلصهم من محلهم!‬
‫وأىت التهار والزراع يلحون عيل يف الرشاء مهنم‪ ،‬فأردمه بأين‬
‫ال أمكل من امجلال ما حيمل غري ما اشرتيت‪ ،‬وقد نفدت أموايل‪.‬‬
‫وهنا جاء عبد هللا الطوخاين‪ ،‬شهبندر التهار يف اإلقلمي‪ ،‬اكن‬
‫كبري جتار الغالل‪ ،‬وصاحب أكرب جتارة يف أقالمي اجلنوب لكها‪،‬‬
‫قبل أن ياكد يفلس بسبب احلصار‪.‬‬
‫قال يل‪:‬‬
‫عيل عزيزة‪ ،‬لوال أاهنا مسنت من قةل العمل‪،‬‬‫"عندي جامل يه ّ‬
‫فاكدت أن متيض لذلحب زهيدة‪ .‬ودلي غالل مكدسة يف صوامعي‬
‫منذ عامني‪ ،‬أصبحت اهنبا للفرئان‪ ،‬ال أصدها عهنا ألاهنا بال آلك‬
‫سواها‪ .‬ال يرضين أن أقرضك امجلال‪ ،‬حتمل بضائعي وبضائعك‬
‫لتذهب هبا للعامصة‪ ،‬وكل نصف رحبي جزا ًء خملاطرتك حبياتك‬
‫يف خرق احلصار‪".‬‬
‫نظرت هل مرتددا وقلت‪:‬‬
‫"ال أس تطيع أن أقود قافةل هبذا احلجم اي س يدي‪ ،‬كام أن إعادة‬
‫املال كل س تكون صعبة؟"‬

‫‪115‬‬
‫رد عيل هبدوء‪":‬أثق فيك اي بين‪ ،‬كام أثق أن حق عبد هللا‬
‫الطوخاين عند أي اتجر لن يضيع! أموايل سأدكل عىل من‬
‫تعطهيا هل‪ ،‬وس يوصلها يل ساملة‪ ،‬يه وأموال من يفعل مثيل‪".‬‬
‫ملا مسع الناس بأمر خرويج بقافةل الشهبندر‪ ،‬توافد ّ‬
‫إيل‬
‫الكثريون يرغبون‪ ،‬إما من عاطلني يرغبون يف اخلروج معي‪،‬‬
‫ومشاطريت املغامرة والرحب‪ ،‬أو ممن يرافقونين بتهارهتم‪ ،‬أو‬
‫يريدون ائامتين عىل بضائعهم بنفس رشوط الشهبندر‪.‬‬
‫وإذا يب أزور مدينة واحدة‪ ،‬ألخرج مهنا ببضائع إقلمي اكمل‪،‬‬
‫أغلهبا من الغالل‪ ،‬وهبا بعض األش ياء األخرى اليت اعتاد الناس‬
‫جتارهتا‪.‬‬
‫مل أفرح هبذا األمر‪ ،‬فاحلقيقة أن الناس فقدوا حذرمه‪ ،‬ونسوا‬
‫إن املامليك لن يرضوا هبذا األمر‪ ،‬ولو وصل اخلرب هلم‪،‬‬
‫فس يكون الهالك مصريا رحامي بنا! ولكام تضخمت قافليت‪ ،‬صعب‬
‫عيل أن أزوغ عن أعيهنم‪ ،‬كام إن سفينة الزرقاء لن تس تطيع‬
‫محل لك هذه األحامل‪ ،‬مما اضطرين إلرسال رسول للبحارة‪ ،‬ل ي‬
‫يعود بعضهم للزرقاء‪ ،‬طالبا سفنا أخرى‪ ،‬وهو ما كشف للناس‬
‫الطريق اذلي أتيت منه‪ ،‬مما يسهل عىل أمراء املامليك تتبعي‪،‬‬
‫ويضطرين للتأخر مدة أطول يف انتظار السفن اجلديدة‪.‬‬
‫ومل أطق صربا مع تزايد الناس يف الرتايخ والرثثرة‪ ،‬إذ فوجئت‬
‫وأان أجتول يف سوق املدينة ببعض الناس ترثثر عن رحليت‬

‫‪116‬‬
‫وبضائعي بال اكرتاث‪ ،‬وعن املاكن اذلي نزلت فيه سفين‬
‫حتديدا! وقد علموا قبيل بوصولها وتكدسها‪ ،‬وإن الكثري من‬
‫الصيادين املتعطلني عن العمل رافقومه طمعا يف أجر نقةل ما!‬
‫أرسعت أاندي ابلرحيل‪ ،‬وأمجع القافةل املتضخمة وأان أرجو‬
‫الناس الكامتن‪ ،‬فإذا يب أجد املدينة‪ ،‬ومن حولها من قرى‪ ،‬قد‬
‫خرجوا يل ولرجاهلم مودعني‪ ،‬ومعهم النساء تنوح‪ ،‬واألطفال‬
‫هتلل‪ ،‬فشعرت بفضيحة من جيرسه القايض أثناء تسلهل لبيت‬
‫يرسقه!‬
‫اكن األمراء حىت اليوم غافلني‪ ،‬فلس نا يف مومس جتارة أو‬
‫حصاد‪ ،‬أو حىت صيد‪ .‬ومه ال ينتهبون للناس‪ ،‬خاصة يف القرى‬
‫واملدن الصغرية‪ ،‬إال يف موامس مجع الرضائب‪ ،‬واجلباايت الثقيةل‪.‬‬
‫لكن الفوىض العارمة‪ ،‬والصخب الفادح اذلي حدث عند‬
‫مغادريت‪ ،‬قد أعلام حىت األموات بأمري!‬
‫مضيت يف الصحراء املهجورة‪ ،‬أقطع الطريق مرسعا محمال لك‬
‫خشص ومجل بقرب املاء‪ ،‬وإذا خبيّال يلحق يب منذرا مبا‬
‫توجست منه‪..‬‬
‫"اي أخا اإلسالم أرسع‪".‬‬
‫رددت عليه‪:‬‬
‫"من أنت؟"‬

‫‪117‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أان نذير من أهل الينبوعة‪ ،‬عمل األمري ططش األلفي بأمرك‬
‫فأرسل أغاه جبنوده القتناصك!"‬
‫تبا لهذا األمر‪ .‬واألسوأ أن سبب معرفة األمري الظامل اكن‬
‫مغيظا يل‪ .‬أحد الفالحني محل بعضا من متاعه‪ ،‬يبيعه لألمري‬
‫بأي مثن‪ ،‬فلام تعجب األمري‪ ،‬أخربه الرجل مبنهتىى السذاجة إنه‬
‫جيمع املال لريسهل مع القافةل ألقاربه يف العامصة!‬
‫زدت ابلرسعة رمغ أحاميل‪ ،‬وقد بدا األمر س باقا بيين وبني‬
‫جند األمري اخلفاف املدربني من انحية‪ ،‬وبني لكينا واألرض‬
‫القاحةل اجلافة من انحية أخرى‪ .‬لو اس تطعت الصرب مبا يكفي‬
‫بعيدا عن املاء‪ ،‬بعد أن ينفد صربمه‪ ،‬فقد أجنوا مهنم‪ ،‬ألقع يف‬
‫براثن الظمأ‪.‬‬
‫أخذت أحث الرجال عىل املسري رمغ سطوع الشمس القاتةل‪،‬‬
‫والشمس هنا حارقة صيفا وش تا ًء‪ ،‬وأحهثم يف الوقت نفسه عىل‬
‫الاقتصاد يف املاء‪ .‬وجنحت يف األوىل‪ ،‬فمل يظهر يل غبار‬
‫املطاردين إال عند الغروب‪ .‬ودق قليب ذعرا‪ ،‬لكهنم إذ أصاهبم‬
‫اإلرهاق والظمأ‪ ،‬ارتدوا خائبني‪.‬‬
‫وهنا وقعت يف الثانية! الشمس القاس ية‪ ،‬والرتبة اجلرداء‪،‬‬
‫والهواء اجلاف‪ ،‬يتآمرون معا عىل مياهنا املتناقصة برسعة‪،‬‬

‫‪118‬‬
‫خاصة وقد روى الرجال ظمأمه بغري حساب أثناء املطاردة‪،‬‬
‫وبعضهم أهدر قربته عىل األرض بسبب ذعره‪.‬‬
‫هنا أوقفت القافةل لتسرتحي أخريا‪ ،‬ومجعت الرجال‪ ،‬فقلت هلم‪:‬‬
‫"اآلن إما أن تسمعوا يل‪ ،‬أو تغادروين‪ .‬منذ هذه اللحظة فأان‬
‫احلامك املطلق للقافةل‪ ،‬وأمريمك اذلي يرسي أمره عىل رقابمك! لن‬
‫ننجو إال ابلتدبر واحلزم الشديد‪ .‬فهل من معرتض؟"‬
‫نظرت لوجوههم ادلهشة املرتقبة‪ ،‬ومل يأتين الرد‪ ،‬فأمكلت‪:‬‬
‫" منذ اللحظة وحنن يف خطر أشد من س يوف املامليك‪ ،‬أال‬
‫وهو املوت ظمئا بال مغيث‪ .‬ذلا فلن يرشب أي منا يف اليوم إال‬
‫كوب واحد‪ ،‬ويف الليةل إال نصف كوب‪ .‬س منيش يف الليل‪،‬‬
‫وحنمتي من الشمس يف الهنار‪ ،‬حىت خنفف من وطأة الظمأ‪ .‬وال‬
‫أعدمك إال بعذاب مؤمل‪ ،‬ومعاانة مضنية‪ ،‬لكهنا س توصلمك للنهاة‬
‫بإذن هللا‪".‬‬
‫مل أتوقع مهنم الزتاما بأمري‪ ،‬لهذا أخذت أدور عىل القرب‬
‫أتفقدها‪ ،‬لكهنم خيبوا ظن السوء عندي‪ ،‬ووجدهتم واعني‬
‫للخطر احملدق بنا‪.‬‬
‫رسان أايما أخرى‪ ،‬يف طريقنا للسفن‪ .‬اكن سريان بطيئا بسبب‬
‫أثقالنا‪ ،‬وتفاوت قواان‪ .‬فالقافةل تسري عىل محل أضعافها‪ ،‬فبدا يل‬
‫أن ما ظننته يكفينا من ماء وزاد قبل الرحةل‪ ،‬لن جيدي اليوم‬
‫حىت مع الاقتصاد نفعا‪ .‬وأمرت القوم أن يكتفي لك مهنم بكوب‬

‫‪119‬‬
‫ماء واحد يف اليوم‪ ،‬وأخذت أسـأل ذوي اخلربة ابملاكن مهنم‪،‬‬
‫هل من آابر قريبة‪ ،‬فريدوا أن هذه أرضا همجورة‪ ،‬ال يعرف فهيا‬
‫برئ!‬
‫وقبل أن نصل للساحل بيومني‪ ،‬نفد املاء عن آخره‪ ،‬وأصابين‬
‫الفزع والمكد‪ .‬أمنوت من العطش هنا عىل أعتاب النهاة؟ وقد‬
‫استبد بنا وبدوابنا التعب‪ ،‬فمل نس تطع أن جند املسري‪ ،‬فأمرت‬
‫بنصب اخليام للمعسكر‪ ،‬فرصخوا فزعني "س منوت عطشا‪".‬‬
‫قلت هلم‪:‬‬
‫"رمحة ربمك واسعة‪ ،‬فنس تغيث هبا‪ .‬سآخذ ابألس باب قدر‬
‫اس تطاعيت‪ .‬سأختار منمك أجدلمك عىل أخف دابة‪ ،‬ليطري‬
‫مس تغيثا ابلبحارة‪ ،‬ليأتوان ابملاء‪ ،‬بيامن نبقى حنن هنا‪ ،‬مدخرين ما‬
‫بقى يف عروقنا من طاقة‪ ،‬مبتعدين عن حر الهنار‪ ،‬وزهمرير‬
‫الليل‪".‬‬
‫أرسلت رسول النهدة‪ ،‬وحثثته أن يرسع‪ ،‬وانتظرت مع من‬
‫معي‪ ،‬أدعو هللا أن نصرب األايم األربع‪.‬‬
‫ابس تثناء املشقة والعطش‪ ،‬مر أول يومني عىل خري؛ لكن‬
‫اإلرهاق شدد وطأته علينا بعدها‪ .‬وبدا الهالك يرقبنا بصرب فارغ‪،‬‬
‫فأصيب مثانية منا دفعة واحدة ابمحلى‪ ،‬اليت أقلقتنا‪ .‬وخرجنا‬
‫نبحث عن عشب أو يشء يداواهم‪ ،‬كام نصحنا أحد الرجال ممن‬
‫هل خربة ابلعطارة‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫لكن هذا املاكن القاحل مل يكن به إال حفنة من أشواك‪،‬‬
‫وحطب‪ ،‬وبعض الصبار القليل‪.‬‬
‫وهنا واتتين فكرة‪ ،‬أتيت بصبارة‪ ،‬فشققهتا متحامال األشواك‪،‬‬
‫واس تخرجت بعض لهبا‪ ،‬مفضغته‪ ،‬فمل أجد إال قليل من رطوبة‬
‫ومرارة‪ ،‬لكهنا أنعشتين‪ .‬فأخذت ثالثة من رجال‪ ،‬مه لك من‬
‫يقوى معي عىل العمل‪ ،‬منزق الصبار القليل حولنان وندفع بلبه‬
‫يف أفواه العطىش‪ ،‬علها تتصرب قليال‪.‬‬
‫ولو إن بطوننا آملتنا يوهما بشدة‪ ،‬خاصة وأن بعض أنواع‬
‫الصبار ملينة للبطن‪ ،‬كام أعلمتين التجربة‪ ،‬إال أننا جتاوزان اليوم‬
‫دون مزيد من جراح‪.‬‬
‫لكن يف جفر اليوم التايل‪ ،‬بدا الهالك وش ياك حقا‪ ،‬فأمرت‬
‫الرجال بذحب ثالثة من امجلال املهنكة‪ ،‬ومجع دماهئا يف إانء كبري‪.‬‬
‫ورمغ إننا كنا يف مخمصة‪ ،‬إال أن أاي منا مل يستسغ رشب ادلم‬
‫املسفوح‪ ،‬رمغ الرضورة‪ .‬وذلا مجعت ادلم‪ ،‬وأوقدت عليه النار‬
‫أغليه‪ ،‬وأضع أان والرجال بعض األطباق الباردة‪ ،‬أو القدور‬
‫الفارغة ليتكثف علهيا بعض من قطرات املاء املر‪ ،‬فنلعقها‬
‫بشغف حىت احرتق الوعاء مبا فيه‪ ،‬دون أن جند ما يروي‬
‫الظمأ‪.‬‬
‫مث أىت اليوم الرابع‪ ،‬اذلي أرحج جميء النهدة يف آخره‪ ،‬فتطاول‬
‫علينا كأنه بال اهناية‪ ،‬وقبل أن تغادر الشمس كبد السامء‪ ،‬اكنت‬

‫‪121‬‬
‫امحلى أوقعت امجليع إال اثنني‪ .‬وأحسست معهم ابألمل واليأس‪،‬‬
‫وبدأ الوهن يفتتين‪ ،‬واألمل حيرقين‪ ،‬وأرى الهالوس حويل يف لك‬
‫ماكن‪ ،‬لوال أن متاسكت حىت ال يفقد الرجال بقية جأشهم إذا‬
‫وجدوا قائدمه قد انفطر‪.‬‬
‫وبدأ البعض حيترض فعال من العطش واإلاهناك‪ ،‬لوال مطر‬
‫خفيف نزل جفأة عىل غري انتظار‪ ،‬وأشد ترحاب‪ .‬بدت يل‬
‫قطرات املطر حيهنا أمثن من قطرات ذهب وماس‪ ،‬فأخذان نضع‬
‫خرق القامش عىل األرض لمتتص املاء‪ ،‬فنضعه عىل أفواهنا‪،‬‬
‫وجباه احملمومني‪ ،‬ومل منكل من اجلهد ما نس تطيع به مع املاء بغري‬
‫هذا الطريق‪ ،‬وقد أصاب العطش البعض ابجلنون‪ ،‬فهجموا عىل‬
‫اإلانء احملرتق‪ ،‬اذلي حوى دم اإلبل‪ ،‬يلعقونه مبا اجمتع فيه من‬
‫ماء آسن‪ ،‬دون أن أقوى عىل ردمه‪.‬‬
‫ورفعت رأيس للسامء أس تغيث‪ ،‬وخفضهتا فوجدت النهدة‬
‫آتية!‬
‫مثانية من األعراب‪ ،‬حاملون قرب ماء‪ ،‬يزنلون حنوان مرسعني‬
‫منهدين‪.‬‬
‫وقفت ذاهال‪ ،‬متصورا أن الهالوس والرساب قد متكنا مين‬
‫أخريا‪ ،‬إىل أن وجدت املاء العذب الذليذ يصب يف مفي منعشا‪.‬‬
‫اس تغرق األمر مين بضع دقائق‪ ،‬حىت اس تعدت رشدي‪،‬‬
‫جفلست أحدث األعراب‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫اكن كبريمه رجال جعوزا‪ ،‬من بين سلمي‪ ،‬يعمل راعيا للغمن‪،‬‬
‫ودليال للقوافل اآلتية من اجلنوب‪ ،‬وقد مسع مبجيء جتارة من‬
‫الشامل إىل ساحل البحر‪ ،‬خفرج لعهل يقتنص مهنا شيئا‪ ،‬وحيهنا‬
‫قابل رسويل‪ ،‬وعمل حبالنا فهب لنهدتنا‪.‬‬
‫وقال يل الش يخ العجوز‪":‬تركت بضاعيت خلفي‪ ،‬ومحلت بدال‬
‫مهنا املاء‪ ،‬وجئت لمك بدال من جتار الزرقاء‪ ،‬لعل هللا يكتب يل‬
‫ثوااب حس نا بنهدتمك‪".‬‬
‫فهمت ما يقصد فقلت‪:‬‬
‫"ولن يضيع هللا أجر احملس نني‪ .‬وأجر هذا املاء ومحهل لن‬
‫يضيع‪ .‬ويف قافليت متسع لرشاء بضائعك‪".‬‬
‫كنت مدينا للرجل حبيايت أان ومن معي‪ ،‬ذلا فقد أكرمته يف‬
‫المثن إكراما ال يعوض كرم النهدة‪ ،‬همام فعلت‪.‬‬
‫وهنا اقرتب مين أحد رجاهل‪ .‬اكن شااب حديثا‪ ،‬تبدو عىل وهجه‬
‫سامت العزة‪ ،‬وعىل مالبسه سامت الفاقة‪ ،‬فقال يل‪:‬‬
‫"هل يل أن أطلب منك أمرا اي س يدي الفاضل‪".‬‬
‫قلت هل‪" :‬تفضل‪".‬‬
‫قاكل‬
‫عيل قطاع الطرق‪ ،‬ورسق‬ ‫"أان من أبناء السبيل‪ ،‬فقد خرج ّ‬
‫ما معي‪ ،‬فبقيت هنا رشيدا ال أس تطيع العودة ملوطين‪ ،‬ولوال كرم‬

‫‪123‬‬
‫بين سلمي معي‪ ،‬لهلكت‪ .‬لو محلتين معك عىل سفينتك للزرقاء؟‬
‫وسأرد كل نفقة السفر ما أن أعود ألهيل يف بين األسود‪،‬‬
‫عيل ال ميحوها ادلهر‪".‬‬
‫وتكون مكرمة كل ّ‬
‫ابتسمت‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"ال ختيب ظين يف بين األسود! أترد نفقة مساعدتك؟ ما اكن‬
‫هذا يل‪ ،‬وما اكن لمك‪".‬‬
‫وهكذا زادت قافليت فردا‪ ،‬واكن نش يطا خملصا ممتنا‪ .‬وأمكلنا‬
‫طريقنا بأمان‪ ،‬وأان أقودمه همتداي ابلنجوم‪ ،‬حىت وصلت‬
‫للشاطئ‪ .‬وقد حدت عن املاكن قليال‪ ،‬واضطررت إلرسال‬
‫الكشافة عىل الساحل شامال وجنواب‪ ،‬حىت اهتديت ملاكن لقايئ‬
‫ابلسفن‪.‬‬
‫وهنا أذهلين ما رأيت! السفن القليةل الصغرية اليت اتفقت معها‬
‫مل تعد وحدها! لقد وجدت ميناءا جديدا! مراكب كثرية بعضها‬
‫يتاجر‪ ،‬وبعضها يصطاد‪ ،‬وخيام حولها تش به أسواق األعراب‪،‬‬
‫وخلق من لك جنس ولون يبيعون ويشرتون! يبدو أن نبأ‬
‫رحليت وقافليت مل يصل آلذان املامليك فقط‪ ،‬بل وصل للك‬
‫بدلان العامل! ومحلت السفن بضائعي‪ ،‬وبضائع غريي‪ ،‬وعدان‬
‫للزرقاء‪ ،‬مل ننقص فردا‪ ،‬ورست مهنا إىل العامصة‪ ،‬فإذا يب‬
‫أدخلها دخول الفاحتني!‬

‫‪124‬‬
‫وجدت آالف الناس يف انتظاري‪ ،‬هتتف‪ ،‬وهتلل لقافليت‪،‬‬
‫وتلوح لنا يف ترحيب‪ ،‬واألطفال يتقافزون حماولني النظر حبثا‬
‫عين‪ ،‬كأين أجعوبة من أعاجيب ادلهر‪ ،‬أو ساحر أىت هلم‬
‫بنفائس الهند والس ند!‬
‫وعلمت أن الناس تسامعت (ابلبطل)‪ ،‬اذلي كرس احلصار‬
‫بعدما فشل يف كرسه جيش املكل‪ ،‬وراوغ األمراء وخدعهم‪،‬‬
‫وأىت ابملرية رغام عن أنوفهم للعامصة اجلائعة‪ ،‬وحكوا يف هذا‬
‫قصصا لطيفة‪ ،‬وأساطري غريبة‪ ،‬تشوقت لسامعها‪ ،‬رمغ إنين‬
‫بطلها املزعوم!‬
‫واكمتلت هبهة الناس إذ أخذت أوزع الطعام عىل الفقراء هنا‬
‫وهناك‪ ،‬حىت أمتمت األلف‪ ،‬وزدت علهيم‪ .‬وبيعت القافةل‬
‫الضخمة بأمكلها يف يومني فقط‪ ،‬بأسعار غالية ما بني حاجب‬
‫املكل الراغب يف ملء خزائن القرص الفارغة‪ ،‬وطبايخ األمراء‪،‬‬
‫وعامل القادة‪ ،‬وابيق التهار املتنافسني‪ ،‬حىت اجمتع يل رحب‬
‫همول‪ ،‬مل أظن يف يوم أن أمجعه يف عام‪.‬‬
‫ومحدت ريب عىل هذا الرزق العظمي‪ ،‬وأدركت أن صربي فامي‬
‫مىض‪ ،‬ورفيض لرفع األسعار كبايق التهار‪ ،‬قد اكن هل عوضا‬
‫مضاعفا‪ ،‬وما عند الناس ينفد‪ ،‬وما عند هللا ابق‪.‬‬
‫وبعد أن رددت أمثان البضائع‪ ،‬وأجرة امجلال‪ ،‬وأاهنيت ادليون‬
‫واحلساابت والهدااي والصدقات‪ ،‬وأكرمت رفاق الزرقاء اذلين‬

‫‪125‬‬
‫أعانوين‪ ،‬اس تعددت للجزء الثاين من املهر الغايل‪ ،‬وهو أمر‬
‫أيرس مشقة‪ ،‬وأغىل مثنا‪.‬‬
‫ولرشاء ألف ثوب‪ ،‬دلين رجال الزرقاء عىل ما أريد‪ ،‬وأحرضوا‬
‫البضائع لغاية عندي‪ ،‬وأخذت أوزعها طوال األس بوع حىت‬
‫أمتمت األلف‪.‬‬
‫مث اشرتيت مائة من العبيد‪ ،‬وأعتقهتم مجيعا ألسدد آخر رشط‬
‫يف املهر‪ ،‬بآخر مايل إال قليال‪.‬‬
‫وجلست مهناك‪ ،‬أحيص أحوال الرحةل الشاقة‪ ،‬وأرابهحا‪،‬‬
‫وخسائرها‪ .‬وبعدها جتهزت خبري ثويب وعطري‪ ،‬وذهبت للش يخ‬
‫مرسعا‪ ،‬ومعي الشهود العدول مبا فعلت‪ ،‬ولو إنين أظنه مسع‬
‫بنبيئ‪ ،‬كام مسع به لك أهل املدينة‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫‪ ( 4-9‬احلجيج )‬
‫نظر يل الرجل متفكرا مث قال" أجحجت لبيت هللا اي بين؟"‬
‫رددت "مل يأذن يل هللا ابحلج بعد‪".‬‬
‫مط شفتيه وقال‪:‬‬
‫"مقت برحةل صعبة خطرة طويةل‪ ،‬وتاكسلت عن احلج؟ وإين‬
‫ألعمل أن زهرية قد جحت من قبل مع وادلها قبل استشهاده‪،‬‬
‫وأكره أن أزوهجا ملن مل يقدم دينه عىل دنياه‪".‬‬
‫قلت جمادال‪:‬‬
‫"اي موالان‪ ،‬إمنا أحاول أن أمكل نصف ديين هبا أوال‪ ،‬وقد أجاز‬
‫الكثري من املشاخي تقدمي الزواج عىل احلج‪ .‬وما اكنت رحليت‬
‫الطويةل إال لها‪".‬‬
‫قال الرجل حبزم مس تفز‪:‬‬
‫"رحةل أشق من احلج‪ ،‬مث تقول يل تقدمي وتأخري؟ ال أظنك‬
‫مقت هبا ألجل زهرية‪ ،‬وإمنا أنت حمب للمخاطرة يف املكسب‪،‬‬
‫والكسل يف الطاعة‪ ،‬فال شأن يل بك‪".‬‬
‫اهنضت أجز عىل أس ناين غيظا‪ ،‬لكين متاسكت‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"فليأذن هللا مبا فيه اخلري‪".‬‬

‫‪127‬‬
‫وخرجت من املسهد أفكر يف األمر‪ .‬طريق احلج شاق‪،‬‬
‫واألعراب فيه يهنبون قوافل احلجيج‪ ،‬ويقتلون ويرسقون‪ ،‬بال‬
‫خش ية‪ ،‬لك من يقرب احلهاز‪ .‬لكن إن اكن قد أذن أذانه‪ ،‬فلن‬
‫أجح وحدي‪.‬‬
‫عدت لساوة‪ ،‬أنئب أخويت بعزيم عىل احلج‪ ،‬سائلهم معن‬
‫يرافقين‪ .‬وجادلتين شقيقيت طويال يف األمر‪ ،‬فقد اكنت ختىش‬
‫عيل كثريا‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫"دعك من الهتلكة‪ ،‬واتبع نصيحيت‪ ،‬أزوجك من يه خري مهنا‬
‫اي فىت‪ .‬وأنت ال تدري ما شأن خالها هذا‪ ،‬فلعهل يطلب منك‬
‫أن حترر بيت املقدس من الفرجنة قبل أن ختطهبا!"‬
‫لكين أرصرت‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"هذه فرصة ألداء الفريضة األشق‪ ،‬وحنن يف حصتنا اي فتيان‬
‫ساوة!"‬
‫لست ممن يرجع يف أمر كهذا‪ ،‬هناك قول للنيب العدانن (جحوا‬
‫قبل أال حتجوا‪ ).‬وأما وقد عقدت العزم‪ ،‬فال مفر وال مرجع‪.‬‬
‫اكن من أقنعها هو زوهجا طائع‪ ،‬فقد بدا هل األمر إغراءا اندرا‬
‫مل يكن ليحمل مبثهل‪ .‬فرست بقافليت الصغرية‪ ،‬نس بق قوافل‬
‫احلجيج بثالثة أشهر اكمةل إال قليال‪ ،‬لعلنا نصل قبل بدء مومس‬
‫اهنب القوافل‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫حيامن وصلنا ملدينة الثغر الصغري‪ ،‬بدا لنا طريق الرب شديد‬
‫اخلطر‪ ،‬ومقطوعا‪ .‬فاألهبال يزحفون عرب البالد‪ ،‬ال يبقون عىل‬
‫برش أو حيوان أو بناء إال أهلكوه‪ .‬والفرجنة يسترشون بني‬
‫املدن‪ ،‬يساملون امللوك حينا فيأمن الناس‪ ،‬أو يقاتلواهنم‬
‫فيس تحلوا لك دم تقرهبم‪.‬‬
‫نعم يف البحر قراصنة‪ ،‬لكهنم ليسوا برش من قطاع الطرق من‬
‫جفرة األعراب‪ ،‬كام إن سفن املكل وسفن الفرجنة وحىت سفن‬
‫األهبال تطاردمه هذه األايم‪ .‬وذلا ملا علمت بقطع طريق الرب‪،‬‬
‫توهجت بأهيل إىل الزرقاء‪ ،‬لنلحق بواحدة من سفن الهند‪.‬‬
‫كنت قد علمت أن سفن الهند تأيت محمةل ابلبضائع‪ ،‬وتعود‬
‫خاوية لبالدها‪ ،‬وأن أمثان البضائع ال حتمل علهيا‪ ،‬بل تدفع يف‬
‫الهند من قبل أن تغادرها‪ .‬ذلا فهىي يف عودهتا آمن سفن‪ ،‬ألن‬
‫القراصنة يزهدون فهيا ويف خواهئا‪.‬‬
‫وهكذا ركبنا تكل السفينة‪ ،‬لتحملنا للمين‪ .‬ورمغ أن أكرث من‬
‫قرصان مر بنا‪ ،‬لتبلغ القلوب احلناجر‪ ،‬إال أاهنم اكنوا يبتعدون عنا‬
‫مدركني أننا ال نساوي هجدمه‪ .‬مفىض البحر بسالم‪ ،‬ونزلنا عندما‬
‫توقفت السفينة يف المين لتزتود ابملاء‪ ،‬وهكذا وصلت للجزيرة‬
‫عرب طريق أطول‪ ،‬أرجو أن يكون آمن‪.‬‬
‫كنت أنوي البقاء يف المين شهرا‪ ،‬أنظر يف أسواقها‪ ،‬وأتعمل من‬
‫جتارها‪ .‬لكن أخويت قالوا إاهنم لن يصربوا عىل زايرة املدينة‪،‬‬

‫‪129‬‬
‫لرؤية مسهد احلبيب عليه السالم‪ ،‬فأذعنت هلم‪ ،‬ومضينا حنو‬
‫احلهاز‪ ،‬مس تعينني بأدالء همرة‪ ،‬جتاوزوا بنا مناطق اخلطر‬
‫بسهوةل‪ ،‬ووصلنا للحرم الرشيف العطر‪ ،‬لنقم خبري زايرة أتبعها‬
‫معرة‪ ،‬وقضينا صوم الشهر الكرمي‪ ،‬مث بقينا يف الرحاب الطاهر‬
‫متطهرين حىت أىت وقت احلج‪ ،‬فاكن من دعايئ يف اليوم األعظم‬
‫فوق عرفة أن ييرس هللا حايل وأمر زهرية‪.‬‬
‫وبعد طواف الوداع‪ ،‬وزايرة الوداع للمسهد النبوي‪ ،‬تأهبنا‬
‫للعودة مع قوافل احلجيج‪ ،‬فإذ يب أحلظ إن جتارا كثريين أتوا‬
‫لرشاء متر احلهاز والمين‪.‬‬
‫سألت‪ ،‬فأخربوين أن األهبال ‪ -‬علهيم لعنة هللا ‪ -‬أحرقوا خنيل‬
‫دجةل والفرات‪ ،‬وفزع الفالحون من زحفهم يف الشام‪ ،‬فهربوا‪،‬‬
‫لتبور أرضهم‪ ،‬فغلت المتور غال ًء فاحشا‪.‬‬
‫فرتكت أخويت يعودون مع القافةل‪ ،‬والتحقت حبفنة من التهار‬
‫ومعي ما اشرتيته من متور‪ ،‬نبغي بيعها يف أواخر مدن الشام‪،‬‬
‫قبل أن يدمهها األهبال‪.‬‬
‫وهنا دمهنا الفرجنة‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫‪ ( 5-9‬يف األرس )‬
‫دمهتنا جامعة من جند الفرجنة‪ ،‬فهنبوا لك أموالنا‪ ،‬وقتلوا ادلليل‬
‫واحلرس‪ ،‬وساقوان عبيدا لبيعنا يف السوق‪ ،‬أو ليفتدي منا من‬
‫يقدر نفسه ابملال‪ .‬ورمغ ما أصابين من فزع‪ ،‬لكن من معي من‬
‫جتار طمأنوين‪ ،‬بأاهنم سيتفامهون مع أمري الفرجنة ابإلاتوة‬
‫املعهودة‪ ،‬وخنرج بفدية معا‪ ،‬عىل أن أرد هلم املال فامي بعد‪.‬‬
‫وحثوين عىل الصرب‪ ،‬وعدم المترد‪ ،‬لئال يغضب علينا أولئك‬
‫اجلنود‪ ،‬وأن أطيعهم فامي يطلبون‪ .‬وقال يل اتجر طرابيل يسمى‬
‫زيتون‪:‬‬
‫"افعل ما يأمرونك به اكلعبد اذلليل‪ ،‬فليس هذا وقت الكرامة‬
‫بل وقت النهاة‪".‬‬
‫امتعضت من األمر‪ ،‬لكين أطعته‪ .‬فهم أدرى بش ئون بالدمه‬
‫وبالايها‪.‬‬
‫لكن ما أقلقين اكن أمرا آخر‪ .‬فالفرجنة ماضون حنو الرشق‬
‫بإرصار مزجع‪ ،‬فتعجبت‪ ..‬أمل يسمعوا خبطر األهبال الزاحفني‬
‫من هناك؟‬

‫‪131‬‬
‫واستبدلوا السمع رؤية! أاتان األهبال اكملوت اخلاطف ال فاكك‬
‫منه!‪ ..‬بعد أقل من يوم‪ ،‬فرقة من طالئعهم أمسكت بنا‪،‬‬
‫وساقتنا مجيعا أرسى‪ ،‬ليصبح الفرجنة معنا يف أغالل واحدة‪.‬‬
‫أراد من معي الانقالب عىل جند الفرجنة‪ ،‬ورضهبم انتقاما من‬
‫أذامه‪ ،‬وغيظا لسقوطهم يف يد ال ترمح‪ .‬لكين رددهتم بقويل‪:‬‬
‫"لكنا يف مه واحد اليوم‪ ،‬وعلينا أن نفكر معا يف حيةل تنجينا‬
‫مجيعا‪".‬‬
‫اقرتبت‪ ،‬عند الليل بعد نوم زماليئ‪ ،‬من حارس نا‪ ،‬وقلت هل‪:‬‬
‫"أريد احلديث مع قائدك‪".‬‬
‫مل يكن يفهم العربية‪ ،‬فاكتفى بلطمي‪ ،‬فأخذت أحاول أن أفهمه‬
‫بصوت خفيض‪ ،‬دون جدوى سوى املزيد من اللطم‪ ،‬ورصخ‬
‫غريب لعهل س باب‪.‬‬
‫ولكنه‪ ،‬عىل ما يبدو‪ ،‬اندهش أخريا من حريص عىل خفض‬
‫صويت‪ ،‬فأخذين لزميل هلم‪ ،‬أفهمين أنه الوحيد اذلي يفهم العربية‬
‫بيهنم‪ ،‬ولن حيدثين القائد إال بعد أن يرى هو أمري‪.‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"أان اتجر من جتار ميناء الزرقاء الشهري‪ ،‬واكن معي جواهر‬
‫وأموال‪ ،‬أخذها مين الفرجنة ودفنوها يف الصحراء‪ ،‬فلو إنمك‬

‫‪132‬‬
‫أطلقمت رسايح‪ ،‬أدلمك عىل املال‪ ،‬ولمك نصفه جزا ًء لتخلييص من‬
‫أولئك املعتدين‪ ،‬عىل أال ختربوا أحدا من زماليئ ابألمر‪".‬‬
‫قال يل الرجل‪:‬‬
‫"ومل ختىش من زمالئك؟"‬
‫تصنعت التعلمث وقلت‪:‬‬
‫عيل‪،‬‬
‫"مه يظنوين اتجر متور‪ .‬ال أريد إاثرة حسدمه وحقدمه ّ‬
‫أرجو حقا أال ختربومه بأنين أنبأتمك بأمر املال املدفون‪".‬‬
‫نظر يل الرجل‪ ،‬وابتسم ابتسامة خبيثة‪ ،‬فاطمأن قليب إنه ابتلع‬
‫الطعم‪ ،‬وظن أن هذا ليس مايل‪ ،‬وإمنا مال أحد زماليئ وأان‬
‫أرغب يف الفوز ببعضه‪.‬‬
‫مىض يب إىل القائد‪ ،‬اذلي صدق القصة‪ ،‬لكنه اكن أكرث اهامتما‬
‫بكوين من الزرقاء‪ ،‬فأخذ يرثثر معي‪ ،‬وعرض عيل رشااب "خنب‬
‫رشاكتنا وكزنان املشرتك" كام زمع‪ ،‬فاعتذرت بأين ال أرشب‬
‫امخلر‪ ،‬فتبسط معي يف القول‪ ،‬وأخذ حيدثين عن احلياة يف‬
‫الزرقاء‪.‬‬
‫وأجزم أنه ماكر حقا‪ ،‬لكن حلسن احلظ تبينت أن ما بدا يل‬
‫ثرثرة عادية‪ ،‬إمنا هو أس ئةل مفصةل ذكية‪ ،‬تدفعين دون وعي‬
‫لوصف بالدي وحصواهنا‪ .‬وملا تنهبت لفخه‪ ،‬أخذت أغلف‬

‫‪133‬‬
‫أحادييث ابلكذب‪ ،‬وأضاعف يف قوة املكل وجنوده بفوق‬
‫احلقيقة‪ ،‬وقد بدا يل اهامتمه ببالدي مرعبا حقا‪.‬‬
‫مضوا معنا منذ الصباح حنو اجلنوب‪ ،‬وأان أدل اجلنود بإشارات‬
‫متفق علهيا عىل الطريق للكزن املزعوم‪ ،‬كأمنا أخفي األمر عن‬
‫زماليئ!‬
‫اكن لك ما اس تطعت التفكري فيه‪ ،‬هو حماوةل اس تدراهجم‬
‫لطريق القوافل‪ ،‬اذلي أخذان منه الفرجنة‪ ،‬لعل أحدمه يقابلنا‪،‬‬
‫فينقذان‪ .‬فكنت أسأل الش يخ زيتون عن الطريق يف الليل‪ ،‬ألدل‬
‫األهبال عليه يف الهنار‪ ،‬لمتيض مخسة أايم قاس ية‪ ،‬حيامن حملوا‬
‫أخريا بعض املسافرين عىل الطريق‪.‬‬
‫واس تبرش امجليع خريا‪ ،‬حنن اس تبرشان ابلنهدة‪ ،‬واألهبال‬
‫اس تبرشوا بغنمية جديدة! وذاب اس تبشاران يف آتون سعادهتم‪،‬‬
‫عندما أرسع املسافرين للفرار من وجوههم‪ ،‬مرعوبني ملقني‬
‫السالح والتهارة خلفهم!‬
‫واندفع األهبال يف جشع يطاردواهنم‪ ،‬مل يرتكوا إال أربعة من‬
‫احلرس‪ .‬ولو إاهنم فعلوا هذا أول يوم أرسان فيه‪ ،‬ملا جرؤان عىل‬
‫المترد ملا نسمعه من أساطري عن األهبال؛ لكنين خربهتم برشا‬
‫ليسوا إال يف األايم املاضية‪ ،‬حفرضت زماليئ ما أن غاب عنا‬
‫الباقون‪ ،‬لننقض عىل احلرس‪ ،‬فقتلوا منا مخسة‪ ،‬لكننا متكنا مهنم‬
‫يف الهناية‪ ،‬وقتلنامه‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫ويبدو أن الباقني أحسوا بثورتنا‪ ،‬أو يأسوا من اللحاق‬
‫بطريدهتم‪ ،‬فعال غبار خيوهلم عائدا حنون‪،‬ا فأراد امجليع الفرار‪،‬‬
‫فقلت هلم ‪:‬‬
‫"بل اثبتوا واتئدوا وأحس نوا التدبري‪ .‬ليأخذ الفرجنة اخليول‬
‫واهربوا هبا حنو الشامل فهم مدربني‪ ،‬ولن يس تطيع األهبال‬
‫حلاقهم‪ ،‬بيامن لنتسلل حنن خمتفني وسط الكثبان‪ ،‬ولنأخذ‬
‫السالح معنا حيطة‪ ،‬فلو ركبنا ما اس تطعنا الفرار‪".‬‬
‫أطاعوين مجيعا‪ .‬فمل يرغب الفرجنة إال يف الطريان وحدمه عىل‬
‫ظهور اخليل‪ ،‬بيامن كرهنا حنن أن نرتك الفرجنة مع السالح‬
‫جواران‪.‬‬
‫عرب األهبال جواران اكلربق يطلبون الفرجنة‪ ،‬فهرعنا مبتعدين‬
‫جنري حنو القافةل اليت هامجها األهبال‪ ،‬فلهأان هلم وجنوان بفضل‬
‫هللا‪.‬‬
‫وهنا أدركت أين قد نلت من السفر ما يكفيين‪ ،‬وأال جتارة أو‬
‫بيع يل يف هذه البالد‪ ،‬واس تعوضت هللا يف خساريت‪ ،‬وعدت‬
‫لبالدي خائبا ال مال معي أو جتارة‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫‪( 6-9‬العرس)‬
‫اكن طريق العودة شاقا مؤملا‪ ،‬لكن هللا خسر يل من أعانين‪،‬‬
‫جزامه هللا خريا‪ .‬عدت وحيدا مقهورا مضعضع النفس دلاري‪،‬‬
‫ألجد أهيل ينتظرونين هناك يف قلق‪ ،‬جفلست مكتئبا أكمت مهي‪،‬‬
‫حيامن وجدت شقيقيت بعد ثالثة أايم تسألين‪:‬‬
‫"ألن تزنل للسوق؟"‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫"ليس اآلن مفازلت همموما‪ ،‬وال أمكل الكثري لبيعه‪ ،‬إىل أن‬
‫يأيت احلصاد اجلديد يف ساوة‪".‬‬
‫مصتت قليال‪ ،‬مث قالت‪:‬‬
‫"أولن تمكل عرسك اي فىت ساوة؟ ألن تذهب خلال عروسك‬
‫تطلهبا؟"‬
‫أتت أخيت عىل اجلرح‪ ،‬ووطئته بقسوة‪ ،‬فقلت لها اكمتا‬
‫دموعي‪:‬‬
‫"ال شأن كل ابألمر اآلن‪ .‬حيامن أس تعيد عافييت‪ ،‬ميكنك أن‬
‫تعريض يل من تشائني من صوحيباتك يف ساوة‪".‬‬
‫قالت يل‪:‬‬

‫‪136‬‬
‫"ومل؟ ألن ختطب زهرية؟"‬
‫نظرت لها مندهشا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"ال مال عندي اآلن‪ ،‬وقد خرست الكثري‪ ،‬فأىن يل أن أجرؤ‬
‫اليوم عىل اذلهاب خلالها؟"‬
‫قالت‪:‬‬
‫"مل يطلب خالها ماال‪ .‬سددت املهر اذلي طلب‪ .‬وتاكليف‬
‫العرس س تجمعها من هدااي أهل ساوة‪ .‬فنقوط تميور العالف لن‬
‫يكون قليال! وهذا ذهيب قد اس تأذنت زويج أن أبيعه‬
‫ألعينك‪".‬‬
‫مل افهم مل تغريت جفأة جتاه هذا الزواج‪ ،‬بعد أن كدت أيأس أان‬
‫من متامه‪ ،‬فأوحضت يل‪:‬‬
‫"ما اكن يل أن أجح لوالها‪ .‬يه فتاة مميونة‪ ،‬لن أضيع فرصة‬
‫مضها لعائلتنا اي تميور‪".‬‬
‫وهكذا مللمت نفيس‪ ،‬وخرجت للمسهد الغريب الكبري‪،‬‬
‫واجتهت عقب الصالة رأسا للش يخ‪ ،‬قبل أن يبدأ حلقته‪.‬‬
‫نظري يل بدهشة‪ ،‬كأمنا غيايب األشهر املاضية قد أنعش يف‬
‫قلبه أمل يأيس‪ .‬لكنه ابتلع دهش ته‪ ،‬واس تقبلين برتحاب‪،‬‬
‫شعرت أنه صادر عن قلب طيب صادق‪ ،‬فزاد من ارتبايك يف‬
‫عيل بتوأم رويح‪.‬‬
‫شأن هذا الرجل‪ ،‬اذلي يتفنن يف الضن ّ‬

‫‪137‬‬
‫سألين عن أحوايل‪ ،‬وما أصابين يف غيبيت الطويةل‪ ،‬فأخذت‬
‫أح ي حاكييت من أولها‪ ،‬وقد أخذ الناس يلتفون حول‪،‬ي كأين‬
‫ش يخ احللقة ال هو‪ ،‬مبجرد أن ذكرت مقابليت لألهبال‪ .‬التف‬
‫حويل الناس يسألون‪:‬‬
‫"أحقا رأيت األهبال؟ ما حاهلم وما شلكهم؟ أمه ابلفعل خضام‬
‫األجساد‪ ،‬وهل عيواهنم تطلق لهبا جيفف ادلم يف العروق؟ أكام‬
‫يقولون أنياهبم أطول من أصابعنا؟"‬
‫أخذت أرد عىل الناس انفيا تكل األعاجيب‪:‬‬
‫"إمنا مه برش كسائر البرش‪ ،‬لوال إن قلوهبم أشد قسوة من‬
‫احلهارة‪".‬‬
‫سألوين‪:‬‬
‫"أحقا يقاتلون بال وجل‪ ،‬ويقبلون عىل املوت كأمنا يش هتونه؟‬
‫أوحقا إن الس يف جيري يف أيداهم‪ ،‬كأمنا به ش يطان‪ ،‬فميزق من‬
‫يريد‪ ،‬ال يناهل أحد؟"‬
‫قلت هلم‪:‬‬
‫"إمنا قتاهلم كقتال البرش‪ ،‬غري أين أشهد هلم ابجلدل والرباعة‬
‫واملكر‪ .‬رأيمت من لعب األمراء ابلس يف يف األعياد من مه خري‬
‫مهنم اي رجال‪ .‬وقد رأيت الغيالن امحلر أشد جدلا وجشاعة‬
‫وإقباال عىل املوت مهنم‪".‬‬

‫‪138‬‬
‫أخذوا يعيدون أس ئلهتم‪ ،‬وقد دب القلق من األهبال يف‬
‫قلوهبم‪ ،‬فأرادوا مداواته حبدييث‪ ،‬لكين جئت لشأين‪ ،‬خفشيت‬
‫أن يذهب القوم بوقته‪ ،‬وأحببت أن أحمك أمري عىل الش يخ‬
‫املراوغ‪ ،‬فقلت للسائلني‪:‬‬
‫"إن صدقمتوين فامي أصابين ‪ -‬وإين لصادق ‪ -‬أتشهدوا يل‬
‫ابلشهاعة؟"‬
‫قالوا‪" :‬نعم"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وإن أخربتمك إن الش يخ طلب مين كذا وكذا‪ ،‬حفدث يل كذا‬
‫وكذا‪ ،‬حىت أمتمت طلبه فهل تشهدون أين أوفيت؟"‬
‫قالوا‪" :‬نشهد طبعا‪".‬‬
‫نظرت للش يخ نظرة‪ ،‬أفرغت فهيا عناء الشهور السابقة‪،‬‬
‫وقلت‪:‬‬
‫"فإين أشهدمك أين أطلب منه ابنة أخته‪ ،‬بعد أن أوفيت مبهرها‬
‫املطلوب‪".‬‬
‫مصت الش يخ‪ ،‬كأمنا اكن يعد طلبا آخر يؤخرين عن زهرية؛‬
‫لكين أمجلته أمام طالبه‪ ،‬وأحرجته أمام األشهاد‪ ،‬فقال مستسلام‬
‫أخريا‪:‬‬
‫"وأشهدمك أين قبلت طلبه‪ ،‬فأت دلارها بعد مغرب امجلعة‪".‬‬

‫‪139‬‬
‫ذهبت يف امليعاد‪ ،‬سعيدا متعطرا‪ ،‬مرتداي خري الثياب المينية‬
‫احملالة ابلقشيب‪ ،‬وأخذت معي ثالمثائة دينارا ذهبيا‪ ،‬أقرضهم يل‬
‫أشقايئ ألمرها‪ ،‬وجاءت معي شقيقيت وزوهجا‪ ،‬مبهتهني حاملني‬
‫احللوى والهدااي املعتادة‪.‬‬
‫وجدت يف انتظاري الش يخ وأم العروس ابدلاخل‪ ،‬وجعبت مل‬
‫أتت أهما تقابلين يف جملس الرجال‪ ،‬وفيه الش يخ‪ ،‬اتركة جملس‬
‫النساء خاواي مهنا؟ ويبدو أن الش يخ أدرك تساؤيل‪ ،‬إذ اكن‬
‫أول ما قاهل‪ ،‬بعد السالم والتعارف‪:‬‬
‫"هناك أمر أكرهتين أخيت عىل أن أقسم أال أذكره كل‪ ،‬حىت ال‬
‫ترحل بال عودة‪ ،‬كام رحل من قبكل‪ .‬يه ختىش عىل ابنهتا‬
‫فوات الزواج‪ ،‬وأخىش أان ما هو أشد وأخطر‪".‬‬
‫أصدرت األم زجمرة‪ ،‬فقال الش يخ‪:‬‬
‫"لن أخربك برا بقسمي‪ ،‬وعىل لك فقد حاولت أن أجعكل‬
‫تبحث عنه بنفسك‪ ،‬لوال عنادك‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أهو أمر ميس زهرية وحياهتا؟"‬
‫قال‪" :‬ابلطبع‪".‬‬
‫زجمرت األم‪ ،‬فتهاهلها وكرر‪:‬‬
‫"ميس حياهتا ابلطبع‪".‬‬

‫‪140‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لعهل متعلق بأبهيا وجدها؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"هو حامت عن أبهيا وجدها‪".‬‬
‫كنت قد فكرت يف هذا األمر ألف مرة‪ ،‬حصيح إن البعض‬
‫يقول أن العرق دساس‪ ،‬ولكن زهرية قد مجعت املال واحلسب‬
‫وادلين‪ ،‬وما اكن يل أن أمحلها ذنب أبهيا أو جدها‪ .‬ذلا قلت‬
‫بقلب متيقن‪:‬‬
‫"إ ًذا ال شأن يل به‪ ،‬وال تزر وازرة وزر أخرى‪".‬‬
‫نظرت املرأة بلوم ألخهيا‪ ،‬وقالت ممتعضة‪:‬‬
‫"وزر؟"‬
‫تنحنح الرجل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"األمر ليس كام تظن‪ ،‬وال وزر أو عيب فيه‪ ،‬ولكن األمانة‬
‫يف عنقي جتعلين أنهبك لـ‪"....‬‬
‫قاطعته أخته صارخة‪:‬‬
‫"كفاك اي رجل‪ ،‬وكفاان من أمانتك املزعومة هذه‪ ،‬اليت تريد‬
‫كرس خاطر ابنيت وعريسها هبا‪ .‬هل لنا أن جند زوجا خريا منه؟‬

‫‪141‬‬
‫هو ال يريد أن يعرف‪ ،‬وأان ال أريدك أن تقول‪ ،‬فهل تغصبنا‬
‫غصبا؟"‬
‫أعرتف إن الفضول قد اثر يف قليب حيهنا‪ ،‬لكين خشيت من‬
‫غضب املرأة‪ ،‬وجخلت من نفيس‪ ،‬فكمتت فضويل ووأدته وأدا‪.‬‬
‫نظرت يل بمتعن‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"أتريد زهرية ذلاهتا أم ألهلها؟"‬
‫قلت‪" :‬بل ذلاهتا‪".‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫"فهىي خري النساء‪ ،‬ال عيب فهيا‪ ،‬كام ياكد هذا الش يخ اخلرف‬
‫أن يومه الناس‪.‬‬
‫فتح أخوها مفه ليتلكم‪ ،‬لكهنا أخرس ته‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"ابرك هللا كل فهيا‪ ،‬ولها فيك‪ .‬قد قبلناك بإذن هللا‪ ،‬وأما‬
‫موعد الزفاف وغريه‪ ،‬فلتتفق مع أيخ‪ ،‬بيامن أنظر أان لضيويف‬
‫اذلين تركهتم!"‬
‫وغادرتنا‪ ،‬بعد أن حسمت األمر جمللس النساء‪ ،‬واتفق الش يخ‬
‫املستسمل معي عىل أن يكون الزفاف بعد احلصاد التايل‪ ،‬ألكون‬
‫وقهتا قد احرتزت شيئا من املال‪ ،‬وتفرغت من مومس التهارة‪،‬‬
‫ولعهل تعمد ترك املهةل يل للسؤال عن أهلها‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫وابلطبع سألت لك من حوهلم‪ ،‬فمل يأتين إال خريا‪ ،‬مل يكن‬
‫ساكن احلي يعرفون عن أهل أبهيا الكثري‪ ،‬لكنه منذ أىت لهذه‬
‫ادلار والناس تشهد هل حبسن اخللق‪ ،‬من يوم جميئه حىت يوم‬
‫استشهاده‪ .‬فكرت أن أسأل بعضا من خطاهبا السابقني‪ ،‬أو‬
‫أحبث عن أمر جدها‪ ،‬اذلي يزمعون أنه أضاع ماهل سفها‪ ،‬ولكن‬
‫عيل حيب لها‪،‬‬‫انشغايل ابإلعداد للزفاف منعين‪ ،‬وهون األمر ّ‬
‫وفرحيت ابنزتاع املوافقة من خالها‪.‬‬
‫ولعهل قضاء ونصيب يل أال أعمل حقيقة األمر إال بعد الزواج‪.‬‬
‫اكن العرس كبريا هبيهاً يف داري ابلعامصة‪ .‬وأىت أهل ساوة لكهم‬
‫ليفرحوا يب ومعي‪ ،‬والكثري من جتار السوق‪ ،‬وأهايل العامصة ممن‬
‫يذكرون يل فضال يف كرس حصار الغالل وقت الشدة‪.‬‬
‫وأوملت الوالمئ‪ ،‬مل أدخر هجدا يف إكرام الضيوف‪ ،‬وابذلات‬
‫ادلراويش اذلين أتوا من لك البالد جياملون ش يخهم‪ ،‬وقد اكنوا‬
‫شاكرين يل‪ ،‬وأذكر لكمة أحدمه‪:‬‬
‫"كرم يليق حقا ابألمراء اي بين‪ .‬أحسن ش يخنا إذ اختارك‬
‫ذلات النسب الرشيف‪ ،‬واملاكنة النبيةل"‬
‫شكرته عىل اجملامةل‪ ،‬مل أفهم ما وراءها؛ ولكن بعد أن ودعت‬
‫آخر الضيوف‪ ،‬واكن خالها مل يرحل حىت قال يل‪:‬‬
‫"احرص علهيا وعىل نفسك‪ ،‬وخري لكام أن تقامي يف ساوة عن‬
‫العامصة‪ .‬كنت قلقا عليكام قبل اليوم‪ ،‬لكن بعد أن رأيت حب‬

‫‪143‬‬
‫الناس كل اطمأننت‪ .‬وأظن أن زجية اكن همرها إطعام ألف جائع‬
‫وجحة مربورة‪ ،‬فإاهنا مباركة حمفوظة‪ ،‬لن ينالها طاغية بأذى‪".‬‬
‫وتركين وخرج‪ ،‬وما أن أغلقت الباب‪ ،‬بعد أن غاب عن‬
‫نظري؛ حىت دق الباب مرة أخرى‪.‬‬
‫تاكسلت للحظة‪ ،‬وأان أنظر لوجه عرويس امليضء‪ ،‬فتكررت‬
‫ادلقات عنيفة و‪..‬‬
‫"افتح بأمر املكل‪".‬‬
‫نظرت يل زهرية خبوف‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"ال تفتح‪".‬‬
‫ابتسمت وأان اجته للباب‪ ،‬وأفتحه قائال لها‪:‬‬
‫"اكنت يل جتارة مع القرص‪ ،‬وقد اكن يل فضل كرس احلصار‬
‫العام املايض‪ ،‬ولعل احلاجب أرسل لنا هتنئة أو هدية‪ ،‬وهذا‬
‫رشف ال يرد‪ ،‬سريفعك بني نساء ساوة‪".‬‬
‫فتحت الباب‪ ،‬ويه تكرر بقلق‪:‬‬
‫"ال تفعل‪".‬‬
‫لكن القدر قد حمت‪ ،‬والباب قد فتح‪ ،‬واختطفين اجلند حبايل‬
‫وقديم‪ ،‬واقتادوين اكلسهني‪ ،‬ال أدري‬
‫واضعني القيد يف يد ّي ّ‬
‫من أمري إال أنين حزين‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫حاولت سؤاهلم‪ ،‬فأجابتين أسواطهم‪ .‬اس تغثت‪ ،‬فلام رأى‬
‫الناس اجلند فروا‪ .‬ومضت زوجيت خلفي‪ ،‬فهتفت هبا‪:‬‬
‫"اذهيب خلاكل أو لساوة‪ ،‬فال أدري أيكرمك أولئك اللئام إن‬
‫أتيت خلفي"‬
‫قالت‪" :‬إمنا أريد أن أشفع كل‪".‬‬
‫تشفع يل مب‪ ،‬وكيف‪ ،‬ومن ماذا‪ .‬هتفت علهيا أن تبتعد‪ ،‬لكين مل‬
‫أمسع ردها‪ ،‬إذ اقتادين الرجال مكبال فوق جواد مزجع‪ ،‬وجروين‬
‫مرسعني حنو قرص املكل‪.‬‬
‫مضيت يف هذا الظالم معهم‪ ،‬ال أفهم جريريت‪ ،‬حىت وصلنا‬
‫للقرص‪ ،‬فأنزلوين‪ .‬فتوقعت أن أقابل احلاجب‪ ،‬فأعاتبه‪ ،‬لكهنم‬
‫مضوا يب أمام جحرته‪ ،‬مل يدخلوها‪ ،‬فتوجست خيفة‪ ،‬وظننت أن‬
‫الوزير س يقابلين‪ ،‬لكهنم جتاوزوا قاعته (أو ما مسعت من الناس‬
‫أاهنا قاعته)‪ ،‬واجتهوا يب ألبعد من ذكل‪.‬‬
‫ووجدت نفيس يف قاعة العرش أمام املكل نفسه!‬

‫‪145‬‬
‫(‪)10‬‬

‫‪ ( 1 -10‬عار املكل! )‬
‫مل أكن قد رأيت املكل من قبل‪ .‬لكين عرفته بسهوةل‪ .‬مل يعرف‬
‫عنه إنه ارتدى اتج آابئه من قبل‪ ،‬ويزمعون أنه خيىش أن تعرف‬
‫الناس وهجه‪ ،‬فيقتلونه إذا خرج من قرصه!‪ .‬لكنه اكن أمايم‪،‬‬
‫مرتداي اتجا من اذلهب األبيضن تلمع عليه جواهر غالية‪،‬‬
‫وميسك مبا هو حامت الصوجلان‪ ،‬اذلي أمسع عنه يف احلاكايت‪،‬‬
‫واكن عصا من الفضة املرصعة ابللؤلؤ والياقوت األمحر‪ ،‬اذلي‬
‫اكن أقل محرة من وهجه امللهتب غيظا‪.‬‬
‫مل أدر ما أقول‪ ،‬فأان أصال ال أعمل ما هتميت‪ ،‬ألبرئ مهنا نفيس‪،‬‬
‫ذلا وقفت أمامه خاشعا منتظرا‪.‬‬
‫تلكم املكل بصوت اكلرعد‪:‬‬
‫"أهذا هو اذلي أهان نبلنا‪ ،‬واعتدى عىل نسبنا؟"‬

‫‪146‬‬
‫هبت للهتمة الفظيعة‪ ،‬وأردت أن أقول حاشا هلل‪ ،‬لكن صويت‬
‫احتبس‪ ،‬فقال قائد اجلند‪ ،‬اذلي جسنين‪:‬‬
‫"هو اي موالي من تزوج ابألمرية زهرية‪".‬‬
‫قال املكل‪:‬‬
‫"كيف جترؤ أاها احلقري أن تنظر لصف سادتك‪ ،‬وتطلب يد‬
‫األمرية زهرية بنت األمري اكمل ابن ابن مع وادلي‪ ،‬سليةل امللوك‬
‫املنتس بة للخلفاء العباس يني‪ ،‬وابنة بيت أعظم ملوك األقطار‬
‫لكها!"‬
‫نزل األمر عيل اكلصاعقة! إ ًذا فهذا هو ما اكن الش يخ خيشاه‪.‬‬
‫هذا احلامك املستبد الطاغية‪ ،‬يظن أنين تطاولت عليه‪ ،‬ألنين‬
‫نكحت من آل بيته‪.‬‬
‫أمكل املكل رضاوته‪:‬‬
‫"إنك قد ارتكبت جرمية س تلوكها‪ ،‬فتلوكنا لك األلسن‪ ،‬أهكذا‬
‫خيتلط دم امللوك بدماء الرعاع؟"‬
‫مل أحمتلن فوجدت نفيس أرد‪:‬‬
‫"إن هو إال رشع هللا‪ ،‬وأمر هللا‪ .‬ولو اكنت زهرييت‪ ،‬كام‬
‫تقولون اي موالي‪ ،‬أمرية‪ ،‬فمل تعيش بني الرعاع‪ ،‬إن مل تنكح من‬
‫الرعاع؟"‬
‫رد بغضب عاصف‪:‬‬

‫‪147‬‬
‫"أاها احلقري! أجترؤ عىل جدايل؟ اكن جدها مرسفا متلفا‪،‬‬
‫أضاع أمواهلم‪ ،‬فعاشوا عىل قدر رزقهم‪ .‬لكن نس هبم الرشيف‪،‬‬
‫وماكاهنم النبيل ليس للصعاليك‪".‬‬
‫رددت بثبات‪:‬‬
‫"قد نكحهتا بإذن ولهيا‪ ،‬فأان زوهجا‪".‬‬
‫رد‪" :‬أان ولهيا‪".‬‬
‫فقلت انظرا هل‪:‬‬
‫"وخالها؟ هو من ينفق علهيا ويرعاها‪".‬‬
‫ابتسم املكل ساخرا وقال‪:‬‬
‫"ال ينكح األمرية إال أمري‪ ،‬وإال ضاعت هيبة العائةل‪ ،‬وما اكن‬
‫يل أن أمسح كل ابس تغالل قريبيت‪ ،‬لرتىق بني النبالء‪ ،‬وكونك‬
‫أصبحت زوهجا ليس ابحلهة اليت يصعب حضدها!‬
‫قلت بتحد مل أس تطع كامتنه‪:‬‬
‫"أتظنين أطلقها‪".‬‬
‫رد بسخط‪:‬‬
‫"تطليقها ليس حال وإمنا ترمّلها يهنىي املسأةل من جذورها!‬
‫مل أحر جوااب‪ ،‬ومل تصدق اذاني البساطة‪ ،‬اليت يتحدث هبا‬
‫عن إهدار ادلم اذلي حرمه هللا!‬

‫‪148‬‬
‫نظر يل ابس تخفاف‪ ،‬وأمكل‪:‬‬
‫"لو أنك نظرت لألمر من نظريت‪ ،‬فس تهد أن تطليقك لها‬
‫يعين بقاء لوثتك عىل امس أرسيت‪ ،‬ويعين أن واحدا من العامة مل‬
‫يكتف ابلزواج منا‪ ،‬وإمنا أضاف علينا عار الطالق! هذا‬
‫التطاول هل عالج رسيع فعال‪ ،‬وعقاب رادع هو الس يف!‬
‫سأتركك الليةل لتفكر يف أحواكل‪ ،‬وتويص بأموال‪،‬ك وتؤدي‬
‫ديونك‪ ،‬وغدا سأابرك اهناري بدمائك!"‬
‫وأخذوين عىل قاع مظلمة أسفل القرص‪ ،‬ومل ميض الكثري عىل‬
‫وحش يت‪ ،‬حىت وجدت زوجيت تلقى يف الزنزانة املقابةل يل‪ ،‬فقد‬
‫أتت تتشفع يل‪ ،‬وتسرتمح ذوي الرمح أن يعفوا عهنا وزوهجا‪،‬‬
‫وتندب ألقارهبا سوء حظها‪ ،‬فال نبيل يرغب فهيا لفقرها‪ ،‬وال‬
‫زوج يقبل به ملكها‪.‬‬
‫لكن قايس القلب رصخ يف وهجها‪ ،‬واهتمها بنكران امجليل‪،‬‬
‫وأىب إال أن يلقهيا يف السجن هذه الليةل‪ ،‬لتشهد بعينهيا صباحا‬
‫حمو العار اذلي أصابته به!‬
‫وكمتت علهيا ما عناه املكل مبحو العار‪ ،‬فمل أرد أن أثقل علهيا‬
‫بنبأ إعدايم‪ ،‬بل أوصيهتا أن تغادر بعيدا عين‪ ،‬ما أن خيرجوها‬
‫يف الصباح‪.‬‬
‫ويكفيين أين آنس بوجودها قريب‪ ،‬يف ليليت األخرية‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫وجلس نا طوال الليل ندعو هللا أن ينجينا من هذا الظامل‬
‫الغشوم‪ ،‬ذي الكرب امللعون‪ ،‬وامحلق املأفون‪ ،‬املمتكل عىل‬
‫شؤون العباد‪ ،‬واملتسلط عىل األنفس وادلماء‪ ،‬مفا رمح عبدا‪،‬‬
‫وال أوىف حقا‪ ،‬ومل يعصم دما حىت ذلوي القرىب واألنساب‪.‬‬
‫وأخذوان بعد الفجر من جسننا‪ ،‬مكبلني معا‪ ،‬يتحدثون عن قتل‬
‫لكينا‪ ،‬فاكن الضيق رفيقنا‪ ،‬وأيقنا أانّ الهالك هل ذاهبون‪ ،‬وملر‬
‫احلياة وحلوها مغادرون‪.‬‬
‫أاتان كبري احلهاب جيادل املكل عنا‪ .‬ويبدو أن هللا اس تهاب‬
‫دلعائنا‪ ،‬بتدخل الشفعاء‪ .‬فقد علمنا أن كبري احلهاب أنذر املكل‬
‫سوء العاقبة‪ ،‬فلدلراويش سلطان عىل قلوب الرعية‪ ،‬وزمع هل‬
‫أن خالها ليس ممن يرتك ثأره أبدا‪ ،‬ولو اثر فس يتبعه ادلراويش‬
‫يف الثورة‪ ،‬ولو اثر ادلراويش‪ ،‬فستثور الناس‪ ،‬لتقوى شوكة‬
‫اخلصوم‪ ،‬وتذهب رحي احلصون‪.‬‬
‫فعفا املكل عن زهرية‪ ،‬وقرر أن يقتلين وحدي!‬
‫وهنا تدخل ويل العهد يف شأين‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"وملن ترتك زهرية بعد قتل زوهجا؟ أترتكها لتدور بني الناس يف‬
‫األسواق‪ ،‬تشكو سوء احلظ‪ ،‬وقسوة الويل‪ ،‬فتثري الفتنة؟ كام‬
‫إن أهل ساوة س يغضبون‪ ،‬وللمرية يقطعون‪ ،‬فال يأتينا طعام من‬
‫غرب أو رشق‪ ،‬واألهبال حيرقون حقول جرياننا‪ ،‬واملامليك‬
‫حيبسون حقول جنوبنا‪ .‬فاجلوع س مييض‪ ،‬فال يبقي‪".‬‬

‫‪150‬‬
‫فقال املكل‪:‬‬
‫"أأطلقهام عن بعضهام‪ .‬هذا عار ليس بعده عار‪".‬‬
‫فقال ويل العهدك‬
‫"فلتأت بقاض يفرق بيهنام‪ ،‬فليس من هو مثهل يف مقاهما‪ ،‬وال‬
‫يكون كفئا لها‪ .‬مث حنجر علهيا خلبال أصاب عقلها‪ ،‬فتحبس يف‬
‫القرص‪".‬‬
‫ومل يكن عىل املكل عسري أن يأت بقاض سكري‪ ،‬يأمره فيأمتر‪.‬‬
‫ولكن حيهنا سيتدخل بعض القضا‪،‬ة ويدور القيل والقال‪،‬‬
‫ويتهادل يف شأننا الفقهاء‪ ،‬فتسمع ابلفضيحة لك بالد املسلمني‪،‬‬
‫وتدون يف الكتب إىل أن يرث األرض رب العاملني!‬
‫فعاد املكل يقول‪:‬‬
‫"أقتلهام معا ومعهام خالها!"‬
‫واس متر اجلدال‪ ،‬حىت زمع يل البعض أن املكل أوصل‬
‫ابملقتولني لبضع ومخسني نفرا!‬
‫ويجء يب أشهد ما أمسوه حمامكة‪ ،‬وبدت يل حامقته جلية‪،‬‬
‫وحريته كبرية‪ ،‬فأهلمين هللا إجابة‪ ،‬ظننهتا تنجيين من الطاغية‬
‫بسالمة‪.‬‬
‫جتاهلت اإلجابة عن سؤال القايض‪ ،‬وقلت‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫"لو يرى موالي رأيي فاألمر هني‪ ،‬بدال من أن أحلق بدرب‬
‫امللوك واألمراء‪ ،‬وهو ما ال يليق‪ ،‬ولعبد مثيل ال جيوز‪ ،‬فلتلحق‬
‫األمرية بدرب الرعاع‪ ،‬ويزنع عهنا إمارهتا‪ ،‬فال يكون لها‪ ،‬أو‬
‫لنسلها‪ ،‬نبل أو إمارة‪".‬‬
‫رد املكل بدهشة‪:‬‬
‫"أو ميكن هذا؟ اإلمارة حق ابملودل‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أنت مكل البالد‪ ،‬وس يد العباد‪ ،‬وتقيض ما تشاء وتأمر‪ ،‬مفن‬
‫خيالفك؟ ألست ختلع الوالايت؟ مفا خلع اإلمارة بأسهل من‬
‫هذا‪ .‬أولست ختلع أمراء املامليك من إمارهتم؟ كيف يكون حق‬
‫املودل بعامص منك؟"‬
‫بدا عىل املكل التفكري‪ ،‬خاصة وإن فكرة خلع أمراء املامليك‬
‫لترضب وترا حساسا يف قيثارة صدره السوداء‪ ،‬لكن تبني يل‬
‫إأين أصبت سوءة خيشاها ويل العهد‪ ،‬إذ تدخل فزعا قائال‪:‬‬
‫"ألن حق امليالد هو اذلي أعطاان حق املكل‪ ،‬ال ينازعنا فيه‬
‫إال مارق‪".‬‬
‫هنا عاد املكل لسريته األوىل‪ ،‬فأرسعت أقول‪:‬‬
‫"ال نعين ابألمر اخللع‪ ،‬وإمنا الرتك‪ .‬سأترك أي حق ذلرييت يف‬
‫اإلمارة‪ ،‬وترتك زهرية حق إمارهتا بال رجعة‪ ،‬ونكتب هذا يف‬

‫‪152‬‬
‫صك خيمته املكل خبمته‪ ،‬وعفوه‪ ،‬ورمبا يضفي علهيا براءة من لك‬
‫بيتمك الطيب! حنن أسأان لمك‪ ،‬فلتتربءوا منا! وسرنحل فورا‬
‫لساوة‪ ،‬نكفيمك خريان ورشان‪.‬‬
‫مصت املكل مفكرا مرة أخرى‪ ،‬فتنحنح القايض‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"حق املكل يؤكده خطاب اخلليفة‪ ،‬اذلي ابيعه املؤمنون يف‬
‫ساللتمك الطاهرة‪ ،‬فهو غري حق اإلمارة اي موالي‪ ،‬ال جيوز فيه‬
‫خلع إال بأمر اخلليفة‪".‬‬
‫نظرت ابمتنان لهذا القايض‪ ،‬ولو إنين واثق أنه لو طلب املكل‬
‫رأسينا‪ ،‬لقىض هبذا دون تردد!‬
‫عىل أن املكل أاهنىى احملامكة‪ ،‬وأمر بنا فساقوان للزانزين‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‪ ( 2 -10‬لكمة حنق )‬
‫مرت بنا أايم اكألعوام‪ ،‬مث انزتعوان من السجن ذات صباح‪،‬‬
‫وألقوان بني يدي الطاغية‪.‬‬
‫اكن معه لفيف من الوهجاء‪ ،‬مل أعرف مهنم إال ويل العهد‪،‬‬
‫وصغريه اذلي يقال هل الشهايب‪ .‬أعلمتين زوجيت فامي بعد‪ ،‬أاهنم‬
‫كبار أمراء ادلوةل‪ ،‬وأراكن األرسة‪ ،‬وقادة اجليوش‪.‬‬
‫بدأ املكل خطااب طويال مزجعا‪ ،‬أن ّت منه اللغة‪ ،‬قبل آذاننا‪،‬‬
‫اس تزنل فيه علينا اللعنات‪ ،‬مث انهتىى بطردان من زمرة األمراء‪،‬‬
‫وإننا ختلينا عن حقوق النباةل‪ ،‬مث دفع لنا بصك خمتوم‪ ،‬اكن‬
‫شهادة بأننا طردان من أرسة املكل‪ ،‬وختلينا عن أي كرم من‬
‫نفحاهتا‪.‬‬
‫وكتبنا هل ما أراد بنفس راضية‪ ،‬وقبل أن أخرج مودعا العامصة‬
‫لكها‪ ،‬جاشت يف نفيس العليةل لكمة‪ ،‬أبت إال أن خترج للمكل‪،‬‬
‫فقلت هل‪:‬‬
‫"ما عاد لنا حق يف إمارة أو نباةل؛ لكن حق النسب ال يسقط‬
‫أبدا!"‬

‫‪154‬‬
‫نظر يل بغضب‪ ،‬فأمكلت همروال‪ ":‬إن احتجمت للمعونة‪ ،‬أو أمل‬
‫بمك كرب‪ ،‬فاعلموا أن لمك يف ساوة أنساب‪ ،‬ال يقطعون الرمح‬
‫أبدا!"‬
‫وخرجت تالحقين حضاكته‪ ،‬وامتألت قاعته بسخرية‬
‫الساخرين‪.‬‬
‫لكن مل ميض عىل اس تقراران يف ساوة أكرث من عام‪ ،‬ولعل ابين‬
‫زهري مل يكن قد ودل بعد‪ ،‬حىت أصبحت لكميت هذه طوق جناة‬
‫يتمي‪.‬‬
‫هاج األمراء لكهم عىل املكل‪ ،‬وتشتت األجناد‪ ،‬وتفتت البالد‪،‬‬
‫ودار املامليك يف لك األحياء يتصيدون املكل‪ ،‬وأتباعه‪،‬‬
‫واألمراء‪ ،‬وأقارهبم‪ ،‬وأبناهئم‪ ،‬فأحصومه عددا‪ ،‬وقتلومه بددا‪،‬‬
‫واتبعوا خلفهم لك طريق‪ ،‬وحبثوا عهنم يف لك ماكن‪ ،‬معلوم أو‬
‫غريب‪ ،‬حىت مل يبق من تكل األرسة العامرة‪ ،‬والنجوم الساهرة‬
‫إال امرأيت زهرية أصدرت صك الرباءة للقتةل‪ ،‬فرتكوان ضاحكني‪،‬‬
‫إال أن زعامهئم أصبحوا مهنم غاضبني‪ ،‬فعادوا غادرين‪.‬‬
‫لكن س يف القدر بتار‪ ،‬واألعامر مقدرة‪ ،‬ورمحة ريب انتخبهتا‬
‫بعيدا عن األيدي الباطشة‪ ،‬مفاتت زوجيت امجليةل‪ ،‬وزهريت‬
‫الربيئة‪ ،‬بعد والدهتا البين زهري‪.‬‬
‫وحني أىت غالظ األكباد ينوون هبا فعل األهوال‪ ،‬وجدوها مهنم‬
‫عيل من‬
‫رمحت‪ ،‬وللباري الرمحن ذهبت‪ ،‬بيامن ادلنيا أظلمت ّ‬

‫‪155‬‬
‫نورها‪ ،‬وبقيت يف وحدتني أجرت ذكرايهتا‪ ،‬وأتعطر ابلرتمح عىل‬
‫ثراها‪.‬‬
‫غري أنين مل آيس من رمحة ريب‪ ،‬ورمغ مصيبيت‪ ،‬وعذايب‬
‫السقمي‪ ،‬وحزين ادلفني‪ ،‬فقد اكنت هناك مواساة‪.‬‬
‫مواساة أاهنا مل تقتل‪ ،‬ومل هتن وتعذب قبل املوت‪ ،‬كام فعل‬
‫بأقارهبا‪.‬‬
‫مواساة أن خيبت ظن زابنية ادلنيا‪ ،‬فزفهتا مالئكة اجلنة‪.‬‬
‫مواساة يف ابهنا‪ ،‬اذلي غفل عنه ‪ -‬أو تغافل عنه – اجلند‪،‬‬
‫ولعلهم أدركوا أن مثهل ال خوف منه‪.‬‬
‫ومواساة مبجيء الشهايب وسارة!‬
‫الشهايب املسكني‪ ،‬ابن ويل العهد‪ ،‬فر بعد أن اغتيل أبوه‪،‬‬
‫وجده‪ ،‬وأخوته‪ .‬فقد اكن يزور بيت ابن خالته‪ ،‬وإذ خرج‬
‫للطريق‪ ،‬بدأ عقبه احلريق‪ .‬رجع دلاره‪ ،‬فوجدها حطاما‪ ،‬فتخبط‬
‫مرتباك يف العامصة‪ .‬مل يكن يعرف أحدا من الناس‪ ،‬بيامن الناس‬
‫تعرفه‪ ،‬وتبغضه‪ ،‬وتطلبه‪.‬‬
‫مل يكن هل مكرمة عىل أحد فيؤويه‪ ،‬وال عود يقاتل به فينجيه‪،‬‬
‫إىل أن وجد زمرة من الغيالن امحلر!‬
‫ال أذكر من أي فرقة اكنوا‪ .‬اكن بعض الغيالن يقاتلون جلوار‬
‫املكل‪ ،‬ال ليشء إال ألاهنم أقسموا عىل حاميته‪ ،‬والغيالن ال‬

‫‪156‬‬
‫تنكث قسمها أبدا‪ ،‬رمغ كرههم للمكل‪ ،‬وكواهنم اكنوا (أو أحد‬
‫فرقتهيم ال أدري)‪ ،‬من أكرب الساعني عىل تدمريه‪ ،‬وإاهناء‬
‫سلطانه‪.‬‬
‫اكنت تكل الزمرة قد استنقذت‪ ،‬من أول بيت حرق‪ ،‬بنت‬
‫أحد األمراء األغنياء‪ ،‬ذوي القرابة البعيدة عن املكل‪ ،‬ومل يكن‬
‫هل جند يدافعون عنه‪ ،‬بيامن شغلت أمواهل الهنابني عن تتبع أبنائه‪،‬‬
‫فنجت تكل الفتاة سارة‪ ،‬ومحلها الغيالن‪ ،‬حىت وجدمه الشهايب‪،‬‬
‫اذلي مل يكن يعرفها‪ ،‬فقال لنفسه‪:‬‬
‫"مك يف أرسيت من أانس مل أعرفهم‪ ،‬أان ورمغ ذكل عرفهم القتةل‬
‫مجيعا!"‬
‫أدرك أال بقاء هل يف العامصة‪ ،‬وتذكر لكميت إن حق النسب ال‬
‫يضيع عندي‪ ،‬ويف مغرة ظالم الفىت‪ ،‬مل جيد إال هذا الضوء‪،‬‬
‫مفىض يف الطريق‪ ،‬قطعه وسط الصحراء متسلال‪ ،‬خيىش القتل‬
‫وخيىش الناس‪ ،‬وال يعرف أين ساوة‪ ،‬وال يأمن أن يسأل عهنا‬
‫أحدا!‬
‫لكنه وصل لنا‪ ..‬أاتين الفىت مس تغيثا‪ ،‬بعد رحيل اجلنود‪،‬‬
‫ورحلت قبلهم زوجيت‪ ،‬اليت ظلمت بيد املكل وأعدائه معا‪.‬‬
‫فكرت حقا حيهنا أن ألقيه ‪ -‬من نقميت ‪ -‬وسط الصحراء‪،‬‬
‫لذلئاب اجلائعة‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫لكين أفقت‪ ،‬وتذكرت أاهنام طفالن بريئان طمعا يف لكمة قلهتا‪،‬‬
‫ولست أان من يغدر هبام‪ .‬لكمة احلنق القدمية‪ ،‬حتولت ألمان ملن‬
‫أردت إغاظهتم هبا‪ ،‬وعهد يف عنقي أن أمحهيم مع أهيل‬
‫بأرواحنا‪ ،‬وس بحان هللا مقلب األحوال‪.‬‬
‫عاش الاثنني دهرا عندي‪ ،‬وعلمت أن الغيالن‪ ،‬اذلين‬
‫أنقذوهام‪ ،‬قد رحلوا‪ ،‬إذ أاتمه نبأ األهوال اليت حلت‪ ،‬واحلروب‬
‫اليت اندلعت‪.‬‬
‫واكن ما اكن من غزو األهبال‪ ،‬وخروهجم‪ ،‬وصعود من أمسوا‬
‫أنفسهم ابألمراء‪ ،‬يتنازعون املكل بيهنم‪ ،‬وكنا يف ساوة عهنم‬
‫بعيدين‪ ،‬وجبهلهم عنا‪ ،‬وهجلنا عهنم متسرتين‪.‬‬
‫مث وصل نبأ الالجئ للجنود‪ ،‬حفميت الفىت بلك هجدي‪،‬‬
‫وأوصيت به وبأههل‪ ،‬أهيل وابين‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫(‪)11‬‬

‫قال عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫بعد أن غادرت األمري األبيض ‪ -‬أمري الزرقاء اخملادع ‪ -‬توهجت‬
‫حنو ساوة‪ ،‬حبثا عن أنس باء املكل املزعومني‪ .‬كنت أعمل الطريق‬
‫إىل ساوة‪ ،‬حفني أتيت لقرييت أول مرة‪ ،‬مل يرغب أحد يف بيعي‬
‫يشء مما أحتاجه للزراعة‪ ،‬من بذور وتقاوي‪ ،‬فرتددت عىل ساوة‬
‫أكرث من مرة‪ ،‬ألشرتي من جتارها‪ .‬اكن طريقها من الطرق القليةل‬
‫اآلمنة يف بالدان‪ .‬حفىت قطاع الطرق يدركون أن قطع قوافل‬
‫الغالل‪ ،‬من ساوة للحارضة‪ ،‬أمر مريع‪ ،‬اهكل الناس من اجلوع‪،‬‬
‫ويثري غضب حاكم احلارضة‪ ،‬ومه اليوم القائد األسود اخمليف‬
‫نفسه! مل أكن أخىش اللصوص‪ ،‬لكين خشيت أن يتذكرين اتجر‬
‫ممن اشرتيت مهنم‪ .‬ذلا‪ ،‬فقد أنزلت اللثام عىل وهجىي‪ ،‬وغريت‬
‫صويت‪ ،‬وتوهجت ألول مزنل قابلين خارج الواحة‪ ،‬فسألت عن‬
‫أنس باء املكل‪ ،‬ال أعرف هلم اسام‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫دلوين عىل دار زهري ابن تميور‪ ،‬العالف‪ .‬وهو فالح حاذق‪،‬‬
‫قوي البنية‪ ،‬طيب الوجه‪ .‬نظر يل هو وأههل بتوجس‪ ،‬لكنه‪،‬‬
‫دلهش يت‪ ،‬اطمأن إذ مسع إنين غول أمحر‪ .‬كنت قد عزمت عىل‬
‫اإلبقاء عىل هذا الس تار‪ ،‬رمغ إن أولئك الغيالن ‪ -‬كام يظهر ‪-‬‬
‫هلم أعداء كرث‪ .‬لكن هيبة تكل القبيةل‪ ،‬أو الفرقة‪ ،‬تفزع الناس‪،‬‬
‫فتحميين مسعهتم من غدر أعدايئ‪ ،‬وأعداهئم معا‪ ،‬ولو إىل حني‪.‬‬
‫واتضح يل أنه من حسن الطالع‪ ،‬كون أنس باء املكل أصدقاء‬
‫لتكل امجلاعة الغامضة‪ .‬فقد حىك يل كيف إن جامعة مهنم‪ ،‬تنمتي‬
‫إلحدى فرقتهيم‪ ،‬قاتلوا مع وادله حىت قتلوا مجيعا‪ ،‬أثناء دفاعهم‬
‫عن األمري الشهايب‪ ،‬آخر أمراء بيت املكل‪ ،‬مما زاد حرييت يف‬
‫شأن الغيالن‪ ،‬ومن مه‪ .‬لكين نفضت مغوضهم عن ذهين‪،‬‬
‫وأخذت أسأهل عن أمر الوريث‪.‬‬
‫اكن وقهتا حديث السن‪ ،‬وقد أمعن يف إخفاء نس به املهكل يف‬
‫األايم املظلمة‪ ،‬فمل يعرف الناس‪ ،‬خارج الواحة‪ ،‬سوى إاهنم‬
‫أنس باء املكل‪ .‬أما إن أمه اكنت أمرية فقرية (وهو أمر ال أظنين‬
‫أصدقه!) فقد أخفوه متاما‪ ،‬دلرجة إنه جهر همنة وادله ‪ -‬التهارة ‪-‬‬
‫وبقى يف أرض أعاممه‪ ،‬فالحا يزرع‪ ،‬رمغ كون أمه أمرية من‬
‫البيت احلامك!‬

‫‪160‬‬
‫اكن أمرا حمريا يل‪ .‬كيف قبلت أمرية الزواج مهنم‪ ،‬لكين كنت‬
‫حلوحا يف أمر الوريث‪ ،‬حفىك يل كيف اكنت املعركة‪ ،‬اليت هربت‬
‫مهنا تكل الفتاة سارة‪.‬‬
‫حىك يل‪:‬‬
‫"أذكر ذات يوم‪ ،‬بيامن كنت ألهو مع رفايق‪ ،‬أن جاء حفنة من‬
‫رجال‪ ،‬يرتدون دروعا محراء‪ ،‬لعلها كدروعك هذه‪ .‬وساد اذلعر‬
‫والاضطراب بني األهايل بعدها‪ ،‬ومسعت إن اجلنود أتني لقتل‬
‫ابن خايل‪ ،‬األمري الشهايب‪ .‬اكن الشهايب شااب ظريفا‪ ،‬طيبا‪،‬‬
‫همذاب‪ ،‬يلهو معنا حينا‪ ،‬ويعلمنا القراءة والقرآن يف كتاب القرية‬
‫أحياان أخرى‪ ،‬فاكن حمبواب منا مجيعا‪ ،‬وخاصة أان‪ ،‬اذلي يرتبط‬
‫معه ابلقرابة‪.‬‬
‫أخذتنا أهماتنا بعيدا‪ ،‬يف خيام بني بساتني النخيل‪ ،‬بيامن أخذ‬
‫الرجال والش باب حيملون السالح‪ ،‬دفاعا عن نسيهبا‪ ،‬متحصنني‬
‫يف دار ش يخ الواحة الكبرية‪ ،‬وحفروا حولها خندقا‪ ،‬وأعدوا‬
‫العدة لقتال صارم‪ ،‬مس تعينني بأولئك الغيالن‪.‬‬
‫وأىت اجلنود اهلمج‪ .‬أتوا صارخني‪ ،‬ممزقني‪ ،‬يطيحون مبن يقابلهم‪.‬‬
‫فوقفوا مهبوتني‪ ،‬إذ وجدوا راية الغيالن مرفوعة عىل ادلار‬
‫احملصنة‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫يف البداية‪ ،‬حاولوا إشعال النار يف احلقل اجملاور لدلار‪ ،‬مث‬
‫الهجوم عليه أثناء الغروب‪ .‬لكن ثةل الغيالن بس يوفها‪ ،‬وأهل‬
‫الواحة بسهاهمم ردومه خائبني‪.‬‬
‫صعدان‪ ،‬حنن الغلامن‪ ،‬عىل النخالت العالية‪ ،‬ننظر للقتال‪ ،‬وننبأ‬
‫أهماتنا امللكومات يف أمر أزواهجن‪ ،‬وأبناهئن‪ .‬لكننا رأينا اجلند‬
‫يرجعون مقهورين‪ ،‬فهللنا فرحا‪ ،‬وظننا أن النرص أت‪ ،‬وهللنا‬
‫ابمس املكل الشهايب املنصور‪ ،‬داعني هل ابلنهاة وطول العمر‪.‬‬
‫لكن اجلنود عادوا برجال أكرث عند الفجر‪ ،‬ونصبوا حصارا‬
‫حول ادلار‪ ،‬يكتفون بتبادل الريم مع احملصورين بني احلني‬
‫واحلني‪.‬‬
‫دام احلصار اللعني س بعة أايم اكمةل‪ .‬ومل يكن أحد حيسب‬
‫حساب هذا األمر‪ .‬مل يكن الرجال ميلكون طعاما أو ما ًء يكفهيم‬
‫لك هذه املدة‪ ،‬فإذا ابلغيالن‪ ،‬يف اليوم السابع‪ ،‬خيرجون من‬
‫ادلار حبللهم املدرعة امحلراء‪ ،‬هاتفني ابمس الشهاعة‪ ،‬معلنني‬
‫رفض الظمل واملهانة‪ ،‬واندفعوا وسط اجلنود اكلليوث‪ ،‬يف مشهد‬
‫مل يغادر ذهن أي صيب شاهده حىت اليوم‪.‬‬
‫حني قتلوا عن آخرمه‪ ،‬جهم اجلند عىل ادلار‪ ،‬فأحرقوها‪،‬‬
‫وقتلوا من فهيا مجيعا‪".‬‬
‫نزلت ادلموع من عني الرجل املسكني‪ ،‬وهو حي ي كيف صلبوا‬
‫وادله‪ ،‬والشهايب فوق خنيل الواحة‪ ،‬يزنفون حىت املوت‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫مث أمكل‪:‬‬
‫"لكن الشهايب اكنت هل زوجة‪ .‬اكنت أمرية يه األخرى؛ لكن‬
‫أحدا مل يعرف بنهاهتا‪ ،‬تدعى سارة بنت عدانن‪ .‬واكنت حبىل‪،‬‬
‫خفيش زوهجا أن تقتل مع وليدها‪ ،‬فأرسلها أيب تميور العالف‬
‫لصديق هل من أعراب يف الرشق‪ ،‬يسمون بين األسود‪ ،‬اكن‬
‫لوادلي أثناء جتارته مكرمة ما عليه‪".‬‬
‫مصت حينا‪ ،‬مث أمكل‪:‬‬
‫"يزمع البعض إن هذا األعرايب‪ ،‬اذلي محل األمرية خارج‬
‫البالد هو ش يخ ش يوخ بين األسود اليوم‪ ،‬وأنه وادل جبار‬
‫العامصة‪ ،‬غليظ القلب؛ وإن كنت ال أصدق هذا‪".‬‬
‫سألت زهريًا‪:‬‬
‫"وأين ذهبت تكل الفتاة بعدها؟ هل جنت من املطاردين؟‬
‫أعين‪ ،‬أمل يأت أحدمه لسؤالمك عن ماكاهنا؟"‬
‫رد‪:‬‬
‫"ال‪ ،‬مل يطاردها أحد‪ ،‬رمغ تواتر بعض األقاويل عن إن‬
‫الشهايب ترك وراءه خلفا‪ .‬انشغل األمراء حبروهبم مع بعضهم‬
‫البعض‪ ،‬وصد غزوات خاانت األهبال‪ ،‬وأمراء الفرجنة يف‬
‫الشامل والرشق‪ ،‬وبتتبعهم للغيالن امحلر إلابدهتم‪ ،‬وهو ما فشلوا‬
‫فيه كام يظهر!‪ ..‬اقتحموا الواحة أكرث من مرة‪ ،‬فمل يسألوا عن‬

‫‪163‬‬
‫األمرية‪ ،‬وإمنا عن الغيالن‪ ،‬يستنطقون حىت األطفال‪ ،‬إن اكنوا‬
‫يعرفون أحدا مهنم‪ .‬اكنوا خيشواهنم‪ ،‬ويكرهواهنم‪ ،‬وجيمعون إن‬
‫املكل لن يس تقمي ألحد يف وجودمه‪ .‬حصيح أن غيالن الغرب‬
‫اكنوا قليلني جدا‪ ،‬وأغلهبم ممن فروا من مواطهنم األوىل‪ ،‬أظهنم‬
‫أتوا من اجلنوب األقىص‪ ،‬والبعض يزمع بل من الشامل األقىص‪.‬‬
‫لعكل أكرث من يعرف هذا األمر؟"‬
‫وابتسم‪ ،‬فمل أفهم األمر يف البداية‪ ،‬قبل أن أعي إنه يقصدين‪،‬‬
‫فقلت حماوال‪ ،‬من انحية‪ ،‬أن أبتعد عن سؤاهل‪ ،‬ومن انحية‬
‫أخرى‪ ،‬أن أفهم املزيد عن أولئك القوم‪ ،‬اذلين أنتحلهم"ماذا‬
‫تعرف أنت عن الغيالن؟ أعين من ساعدومك يف الواحة‪ ،‬من‬
‫اكنوا؟"‬
‫مل يندهش لسؤايل عىل سذاجته‪ ،‬اكن يبدو يل من النوع‬
‫الرثاثر‪ ،‬اذلي حيب اإلجابة عىل أي سؤال‪ ،‬همام اكن‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"ال أعمل الكثري عنمك‪ ،‬لكن جشاعتمك هموةل‪ .‬الغول األمحر ال‬
‫خيىش شيئا‪ ،‬وال اهاب أحدا‪ .‬اكن هذا هتافمك‪ .‬أعين هتاف من‬
‫أتوا لدلفاع عن الشهايب‪.‬‬
‫أعرتف إنين كنت معجبا بمك‪ ،‬حىت متنيت لو أصبحت غوال‬
‫أمحرا بدوري‪ ،‬لوال إنين ظننت جشاعتمك حامقة‪ ،‬أدت لهالكمك‬
‫عن آخرمك‪ .‬كنت طفال صغريا‪ ،‬أتساءل دوما مل ال يكذبون؟‬

‫‪164‬‬
‫ملاذا إذا سألمك عدو مرتبص أأنمت من الغيالن امحلر‪ ،‬ظهرمت من‬
‫خمبأمك وحاربمتوه‪ ،‬بدال من أن تكذبوا‪ ،‬فتنجوا وهتربوا‪.‬‬
‫حقا مل أنسمك طوال تكل الس نني‪ ،‬وتساءلت عنمك‪ ،‬قل يل‬
‫أحقا كنمت من الرافضة؟ لكن أفعالمك غري أفعالها‪ .‬أم كنمت جامعة‬
‫من املامليك املارقة؟ لكين عرفت فيمك أحرارا جوار العبيد؟ مل‬
‫أفهم الغيالن أبدا‪ ،‬فلعكل تفهمين شأاهنم؟"‬
‫تنحنحت مرتباك من السؤال املفاجئ‪ ،‬رمغ أنين اكن جيب أن‬
‫أحسب حسابه‪ ،‬فقلت مراوغا‪:‬‬
‫"ال أدري ما اذلي يربكك؟ حنن لس نا رافضة‪ ،‬أو مماليك‬
‫مارقة‪ .‬حنن غيالن محر‪ ،‬وهذا هو األمر ببساطة!"‬
‫وهكذا فرست هل املاء ابملاء‪ ،‬فمل يعلق؛ بل أمكل بأس ئةل أرذل‪:‬‬
‫"اكن منمك فريقان‪ ،‬أحدهام حيارب املكل‪ ،‬واآلخر حيارب معه‪.‬‬
‫والك الفريقني اصطاده األمراء‪ ،‬فأي فرقة أنمت اليوم؟"‬
‫رددت‪:‬‬
‫"حنن الغيالن امحلر وفقط! اليوم نقاتل جوار احلق وفقطّ!"‬
‫مط شفتيه فعدت للسؤال‪:‬‬
‫"ماذا حدث لألمرية احلبىل؟"‬
‫قال‪:‬‬

‫‪165‬‬
‫"أثناء الانشغال‪ ،‬والفوىض‪ ،‬واحلروب املتتالية‪ ،‬ذهبت الفتاة‬
‫مع بعض جتاران لبين األسود‪ ،‬وهناك أخذها هذا الرجل‪ ،‬اذلي‬
‫اكن مدينا أليب‪ ،‬فاس تطاع إخراهجا من البالد بسهوةل إىل‬
‫طرابل‪ .‬وملا اطمأن رجالنا علهيا‪ ،‬وأتهتم رساةل بأاهنا وصلت‬
‫لتاجر طرابيل‪ ،‬يسمى زيتون بن عبادة‪ ،‬عادوا لساوة‪ ،‬مث‬
‫انقطعت أخبارها متاما‪ .‬فقد هكل زيتون وأههل وقريته منذ‬
‫دهور‪ .‬تشتت الناس يف لك البالد‪ ،‬بعد أن دمههتم حروب‬
‫العيل‪ ،‬اليت مل ختمد من مائة عام‪".‬‬
‫مدنييت الصيادية والسور ّ‬
‫قلت‪:‬‬
‫"إ ًذا‪ ،‬فال أمل يف العثور علهيا؟"‬
‫هز رأسه هبدوء‪ ،‬وقال مبتسام‪:‬‬
‫"ال أمل ابلطبع‪ ،‬وإال ما قصصت عليك حاكيهتا أصال!"‬
‫قلت جمادال‪:‬‬
‫"لكن اي ش يخ زهري‪ ،‬إننا نريد الوصول للوريث إنقا ًذا حلياته‪.‬‬
‫رسل القائد األسود ‪ -‬جبار العامصة كام تسميه ‪ -‬غادرت من مدة‬
‫جتاه طرابل‪ ،‬تبغي رأسه‪ ،‬بعد أن أفىش ش يخ بين األسود‬
‫برسها ملن ال يؤمتنوا‪ .‬أخربين كيف نصل للوريث‪ ،‬فندافع عنه كام‬
‫دافعنا عن أبيه‪ ،‬وننصبه ملاك عىل البالد‪ ،‬يعيد لها أمهنا‪".‬‬
‫هز رأسه مرة أخرى‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪166‬‬
‫"هذا لك ما عندي! ال أعمل شيئا عام حدث لألمرية سارة‪.‬‬
‫آخر ما مسعته ‪ -‬واكن قوال ملن ال ترىج شهادته ‪ -‬أإها وضعت‬
‫وليدها حصيحا معاىف‪ ،‬ولكن أين؟ وإىل أين ذهبت؟ من بعد‬
‫هتدم قرية ابن عبادة هذا‪ ،‬مل أخرج من قرييت‪ ،‬ومل خيرج جتاران‬
‫ألبعد من أرايض بين األسود‪ .‬لقد زادت احلرب بني الصيادية‬
‫والسور العيل رضاوة‪ ،‬وقطعت لك األنباء بيننا وبني طرابل‪،‬‬
‫وما حولها‪ ،‬فهىي أرض مل يسمع أحدا عهنا من س نني! ولعل هذا‬
‫الوريث قد مات خالل هذا العمر‪ ،‬ولعهل مل يودل أصال!"‬
‫أحسست ابلضياع برهة‪ .‬اكن ما اعمتدت عليه هو أن أخدع‬
‫أهل ساوة‪ ،‬ليطمأنوا يل‪ ،‬فيخربوين مباكاهنا‪ ،‬لكهنم رمغ اطمئنااهنم‬
‫يل ‪ -‬بفضل درعي األمحر ‪ -‬لكهنم ال يعرفون شيئا ينفعين!‬
‫بدا يل األمل الواهن‪ ،‬هو الوحيد البايق‪ ،‬ألتشبث به؛ ولكن‬
‫إقناع زهري هبذا األمر ليس بيسري‪.‬‬
‫قلت لزهري‪:‬‬
‫"أتذكر كيف اكن شلك الشهايب؟"‬
‫مط شفتيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"حس نا بعض اليشء‪ ،‬اكن طويال‪ ،‬أبيض الوجه‪ ،‬أسود‬
‫الشعر‪ ،‬بين العني‪".‬‬

‫‪167‬‬
‫اكنت صفات معمعة حقا‪ ،‬تنطبق عىل ثلث ساكن الواحة‪،‬‬
‫لكين جاريته بقويل‪:‬‬
‫"هذا عظمي‪ ،‬ولكن لو أرشت يل عىل أحد أبنائك أنه يش هبه‪،‬‬
‫أعين أنمت آخر أقرابئه‪ ،‬مفن هو؟"‬
‫رفع الرجل حاجبيه وهو حيك رأسه مفكرا‪ ،‬وقال " أظن‬
‫أحدمه‪ ،‬حىت تميور يف مثل طوهل‪ ،‬ولكن‪".....‬‬
‫قاطعته قائال‪:‬‬
‫"إين ذاهب للبحث عن الوريث‪ .‬وقد أوصاك وادلك ‪ -‬كام‬
‫تزمع ‪ -‬به وبأمه‪ ،‬فعليك أن تلزم عهد أبيك‪ ،‬وترسل معي أحد‬
‫ابنيك لطرابل‪ ،‬فرمبا نرى يف قرابة ادلم ما جيعلنا نعرفه‪ .‬مل يبق‬
‫دلي ملعرفة الوريث سوى الش به احملمتل كام ترى‪ ،‬وذلا‪"........‬‬
‫قاطعين بغضب‪:‬‬
‫"ليس كل أن تطلـ‪"........‬‬
‫مل يمكل لكمته‪ ،‬إذ أنين استبدلت رسيعا اإلقناع ابإلرهاب‪،‬‬
‫فألقيت رحمي بغضب مصطنع‪ ،‬مفرق إىل جواره‪ ،‬لينغرس يف‬
‫ابب داره املهتالكة‪ ،‬فشطرت نصفني‪ ،‬ونظرت هل حبدة قائال‪:‬‬
‫"تذكر أنك حتدث غوال أمحر!"‬
‫فصمت الرجل‪ ،‬وأشار البنه األكرب تميور‪ ،‬ل ي يذهب معي‪".‬‬

‫‪168‬‬
‫(‪)12‬‬

‫"بت ليليت يف مزنل آل العالف‪ ،‬ل ي أستيقظ عىل أخبار‬


‫جعاف! فقد أتت قافةل من جتار ساوة‪ ،‬فإذا ابلناس يلمتون حولها‬
‫يف لغط‪ ،‬فذهبت ألرى ما الغلط‪ ،‬فعلمت أاهنم وجدوا األمري‬
‫األبيض ‪ -‬أمري الزرقاء ‪ -‬قد قتل‪ ،‬هو ومن معه‪ ،‬وأن القتةل‬
‫تركوا املال والنفائس‪ ،‬مل حيملوها معهم‪ ،‬فدب اذلعر يف قلوب‬
‫الناس‪ ،‬يتحدثون عن قتةل من جن وش ياطني‪ ،‬يبغون الروح ال‬
‫املال!‬
‫وتواترت األنباء رسيعا عن س باق بني عدة جامعات من‬
‫األمراء‪ ،‬ترسع عرب الرشق‪ ،‬وتقتل بعضها بعضا‪ ،‬وضعت كامئن‬
‫هنا وهناك‪ ،‬تغتال املسافرين بال رمحة‪ .‬وبدا األمر حمري‪،‬ا والناس‬
‫يف ساوة ال تفهم ما حيدث‪ ،‬فامتنعوا عن مغادرة البدلة رعبا!‬
‫وهنا أدركت أن الطريق اذلي أعرفه ليس آمنا أبدا‪ ،‬وأن‬
‫رحييل حنو الرشق يعين الهالك احلمتي‪ ،‬وأيقنت أنه البد من‬
‫البحث عن طريق آخر‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ومل يكن هناك غريه ألسأهل‪ ،‬الش يخ وهدان احلكمي!‬
‫اندهش تميور بن زهري‪ ،‬إذ وجدين أسري غراب‪ ،‬فسأل‪:‬‬
‫"ألس نا ذاهبني لطرابل؟"‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"نعم‪ ،‬لكين سأصعد اجلبل الكبري أوال‪".‬‬
‫اكن الش يخ وهدان حكامي‪ ،‬بلغ من العمر أرذهل‪ .‬هو غري‬
‫معروف ألهل ساوة‪ ،‬لكنه معروف لقراان وما حولها‪ ،‬وهل شهرة‬
‫يف لك زمام الش يخ عصفور ‪ -‬كام أمسع ‪ -‬لكنه ترك القرية منذ‬
‫س نوات بعيدة‪ ،‬ليعيش متعبدا متصوفا يف صومعة ابجلبل‪ ،‬ال‬
‫يشق عليه هدوءها إال طاليب املشورة‪.‬‬
‫وطالبو مشورته كرث‪ ،‬ألن معارفه كثرية حقا‪ .‬فهو حبر يف أخبار‬
‫الناس ووقائعهم‪ ،‬وخبري ابلطب وادلواء‪ ،‬والطرق وادلواب‪.‬‬
‫وحيكون عن ش بابه‪ ،‬إنه قطع البالد جيئة وذهااب‪ ،‬مرات كثرية‪،‬‬
‫بل غادرها يف أسفار بعيدة رشقا وغراب‪ ،‬حىت زمعوا أنه تردد‬
‫عىل قصور ملوك الفرجنة وراء البحر! كام إنه اكن جنداي مغوارا‪،‬‬
‫يتندرون بعبقريته يف املعارك واحلروب‪ ،‬رمغ إنه مل يكن سوى‬
‫جندي صغري‪ ،‬مل يتول قيادة الزمام يف أي حرب؛ لكهنا عادة‬
‫أهل الريف يف إضفاء األساطري عىل لك المع من أبناهئم‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫اكن وادلي حي ي يل عنه‪ ،‬وعن معارفه‪ ،‬مثلام حىك يل الناس‬
‫بعد عوديت‪ .‬وذل‪،‬ا بدا يل أن الاس تعانة خبربة صديق قدمي‬
‫لوادلي‪ ،‬ملعرفة آمن الطرق لطرابل‪ ،‬همام اكن شاقا أو طويال‪.‬‬
‫وانهتزهتا فرصة‪ ،‬ألفهم منه املزيد عن أولئك الغيالن‪ ،‬بدال من‬
‫أن حيرجين خشص‪ ،‬كام فعل األمري األبيض بفطنته‪ ،‬أو زهري‬
‫بسذاجته‪.‬‬
‫اكن القليل اذلي عرفته عن أولئك القوم‪ ،‬من حديث تميور‬
‫وأبيه زهري‪ ،‬قد جعلين أزداد التصاقا ابلغيالن‪ ،‬ألن حامت‬
‫الوريث س يطمنئ هلم عن غريمه‪ ،‬وس يتبعين فقط لو مل يكشف‬
‫قناعي!‬
‫وصلت لصومعته عند الغروب‪ ،‬وحلسن حظي اكن خاوية من‬
‫الزوار‪ ،‬فأبقيت تميور خارجا عند ادلواب والزاد‪ ،‬ودخلت هل‬
‫وحدي‪.‬‬
‫سلمت عليه‪ ،‬وجلست بني يديه‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"اي س يدي‪ ،‬أان عبد الشهيد ابن مسعان‪ .‬وادلي هو مسعان‬
‫الصياد‪ ،‬ابن وردان‪ ،‬واكن من تالميذك‪ ،‬وأوصاين كثريا بزايرتك‬
‫إن عدت لبدلته‪".‬‬
‫لكن ذاكرة الش يخ اكنت حديدية! فرد فورا‪:‬‬
‫"أذكر مسعان ابن وردان؛ لكنه مل يعرف ابلصياد أبدا! ومل يكن‬
‫تلميذا يل‪ ،‬فمل أره إال ملاما‪ ،‬ولن أنىس أنه أبق للزرقاء‪ ،‬إذ‬

‫‪171‬‬
‫ادهلمت اخلطوب! ال حتاول منافقيت اي غالم‪ ،‬وقل حاجتك‪،‬‬
‫وارحل عن رأيس العجوز!"‬
‫ابتلعت ريقي وقلت‪:‬‬
‫"نعم اي س يدي‪ ،‬هرب وادلي للزرقاء‪ ،‬وتزوج هناك وأجنبين‪،‬‬
‫قبل أن اهنرب مرة أخرى‪ ،‬بعد أن حطم القراصنة املدينة‪،‬‬
‫ففزعنا للصحراء نقتات من صيد سهامه‪ ،‬فعرف بني الناس‬
‫ابلصياد‪ .‬مضت علينا س نوات رشيدة يف البالد‪ ،‬حىت مسعنا‬
‫ابلوريث‪ ،‬اذلي اكن دعيا اكذاب‪ ،‬فاتبعناه مع من اتبعه‪ ،‬وحاربنا‬
‫معه‪ ،‬مل نهنزم مع من هزموا وفروا‪ .‬اكتفى أيب من الفرار حيهنا‪،‬‬
‫وظل صامدا أمام اخلطوب العظام‪ ،‬لوال معرفتنا بكذبه‪ ،‬مفات‬
‫أيب مكدا حمسورا‪ ،‬وأوصاين ابلعودة للبدلة‪ .‬ال تقس عىل وادلي‪،‬‬
‫فقد جازته احلياة بقسوهتا‪".‬‬
‫مصت الرجل‪ ،‬قبل أن يرتشف رشفة ماء من قدر جواره‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫"أعمل تكل احلاكية‪ ،‬أاتين الش يخ غالب ش يخ البدل يقصها‬
‫عيل‪ ،‬ويسألين كيف يسمل كل األرض‪ ،‬وأىن هل مبعرفة حقيقة‬ ‫ّ‬
‫نس بك‪ ،‬حىت أخربته بصفات اكنت يف أبيك‪ ،‬وجدها فيك‪ ،‬مفا‬
‫زالت يل براعة يف عمل القيافة اي غالم‪ ،‬لعلها نفعتك!"‬
‫اكنت أول مرة أعرف فهيا هذا األمر‪ ،‬فغلبين الصمت‪ ،‬فقال‬
‫احلكمي‪:‬‬

‫‪172‬‬
‫"ما هذا اذلي ترتديه؟ إنه درع أمانة‪ ،‬ترك عندي واس تعاره‬
‫الش يخ غالب منذ أايم ومل يرده؟ بل إنه أرسل يل يقول أنه‬
‫خيىش فقده‪ ،‬فكيف انهتىى إليك؟"‬
‫هنا حكيت لك نبأي منذ غادرت القرية‪ ،‬حىت دخلت‬
‫الصومعة!‬
‫نظر الرجل يل بإشفاق‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"حامسة الش باب‪ ،‬قد ذقت وهللا سكرهتا مرات عديدة! أحقا‬
‫ترغب يف جمادلة ابن األسود اي غالم؟ أنت لست أهال هل!‬
‫أنصحك ابلظفر ابلسالمة‪ ،‬فال جدوى وال نرص يف معاداة هذا‬
‫اجلبار الظامل‪ ،‬أاها الفسل الصغري‪ ،‬اذلي مل ينبت هل عود بعد!‬
‫عد لقريتك‪ ،‬ولتكن شوكتك بني أهكل‪ .‬لن تس تطيع‪ ،‬فارجع‬
‫ساملا خري كل‪".‬‬
‫قلت هل جمادهل حبجته‪:‬‬
‫"السالمة طلهبا وادلي‪ ،‬مفات رشيدا! لن يراتح مضريي ما مل‬
‫عيل‪".‬‬
‫أؤدي ما قيض ّ‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"لن تنجح‪ ،‬فمل احملاوةل العبثة؟"‬
‫قلت مرصا‪:‬‬

‫‪173‬‬
‫"لن حياسبنا هللا عىل جناحنا فامي اس تطعناه اي موالان‪،‬‬
‫س يحاسبنا عىل سعينا فامي وجب علينا‪".‬‬
‫ابتسم الرجل وقال‪:‬‬
‫"حامسة الش باب‪ ،‬قد ذقت ذلهتا وبراءهتا! عىس هللا أن جيعل‬
‫حظك يف الرب خريا مين ومن أبيك! عندي أمر قد ينفعك مل‬
‫أفهمه وقهتا‪ ،‬ومل أخرب به أحدا قبكل‪ .‬واي س بحان هللا‪ ،‬اذلي‬
‫خسرين أحفظه كل حىت جميئك بعد الس نني! أاتين رسول من‬
‫ش يخ مسهد طرابل الكبري ‪،‬منذ دهور بعيدة‪ ،‬بعد وفاة الش يخ‬
‫عصفور مبدة قصرية‪ .‬اكن الرجل يسأل عن القايض‪ ،‬فلام أخربوه‬
‫مبوته‪ ،‬سأهلم عن خليفته‪ .‬ولعل الناس ظنوه يسأل عن خليفته‬
‫يف ادلين‪ ،‬واكنت شهريت يف القرى بدأت تعرف‪ ،‬عندما غرتين‬
‫احلياة‪ ،‬وتصورت أن التصوف هو أن يكون يل حلقة متهدين‬
‫ابمس هللا يف لك قرية!‬
‫دهل الناس عىل بييت‪ ،‬فألقى عيل السالم‪ ،‬وطلب اخللوة‪،‬‬
‫فأخربين إنه أىت من صديق للقطب الصويف الش يخ عصفور‪،‬‬
‫هو الش يخ زعفران إمام مسهد طرابل الكبري‪ ،‬واكن يريده أن‬
‫يبلغ أهل فتاة يف ساوة ‪ -‬بعيدا عن أعني املرتبصني ‪ -‬بأاهنا‬
‫وصلت ساملة‪ ،‬يه ومحلها‪ ،‬وأاهنا تركت رجال‪ ،‬يدعى ابن عبادة‬
‫ألاهنا مل تثق يف بين األسود‪ .‬مل أكن أعرف من سارة هذه‪،‬‬
‫ومعرفيت بأهل ساوة ضعيفة‪ ،‬فلن أس تطيع معرفة املرتبص من‬

‫‪174‬‬
‫غري املرتبص فهيم‪ .‬مل أكن أدري شيئا‪ ،‬كام إنين أعرف مدى‬
‫بطش بين األسود‪ ،‬اذلين ال تثق فهيم الفتاة‪ ،‬ففضلت الكامتن‬
‫عىل إنه خري من اإلخبار‪.‬‬
‫واي س بحان هللا! تأتيين أنت اليوم‪ ،‬كأمنا هو قدر مقدور‪،‬‬
‫لتعرف ابلنبأ وحدك!"‬
‫قلت مبهتها‪:‬‬
‫"هو نبأ عظمي‪ ،‬غفل عنه الباقون‪ ،‬عىس أن أجد هذا اإلمام‪،‬‬
‫أو أهل بيته‪ ،‬أول ما أصل لطرابل‪ .‬ولكن يف جعبيت أس ئةل‬
‫مزجعة‪ ،‬أرجو أن هتدهئا‪".‬‬
‫مصت الرجل منتظرا‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"أوال من أي طريق أذهب إىل طرابل؟ أعين الطريق اذلي‬
‫يغفل عنه األعداء‪ .‬ومن مه الغيالن امحلر اذلين انتحل خشصهم؟‬
‫وأحقا هذا ادلرع هلم؟‬
‫كام‪ ،‬هل تعرف يف آل املكل عالمة أمزي هبا الوريث عن‬
‫غريه؟"‬
‫قال الرجل اذلي أخربته الس نون‪:‬‬
‫"اي بين‪ ،‬ال أعمل عن آل املكل شيئا‪ ،‬ولكن لعل قريبه اذلي‬
‫أخذته معك حين دمه هل‪ .‬أما الطريق فال أس تطيع أان أو غريي‬
‫إجابتك‪ .‬حيامن كنت أجتول طريدا مثكل‪ ،‬كنت أان من أرمس‬

‫‪175‬‬
‫الطريق‪ .‬سرتى اخلطر‪ ،‬فتحيد عنه‪ ،‬وترى الرض‪ ،‬فتتنحى هل‪.‬‬
‫لك ما أظنه ينفعك هو نصيحيت بأال تعرب الهنر من أرايض‬
‫األسود‪.‬‬
‫انتظر حلظة‪ ،‬كنت قد مسعت إن األحراش يف الشامل‪،‬‬
‫واملستنقعات قرب الساحل‪ ،‬أكرث أمنا بكثري‪ ،‬وهمجورة متاما‪،‬‬
‫حصيح إنك س تضطر لعبور فروع الهنر‪ ،‬واحدا تلو اآلخر‪ ،‬بدال‬
‫من عبوره دفعة واحدة‪ ،‬لكنك س تبتعد عن يد هذا الظامل‬
‫اجلبار‪".‬‬
‫كنت أعمل بعض األش ياء عن أرض الشامل‪ ،‬اليت مصدان فهيا مع‬
‫الوريث الاكذب‪ ،‬فبدت يل نصيحته طيبة‪ .‬لكين عدت أسأهل‬
‫بلهفة‪:‬‬
‫"وماذا عن الغيالن امحلر؟ من مه؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"سأح ي كل حاكيهتم"‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫(‪)13‬‬

‫ظهر الغيالن يف رشق البالد‪ ،‬اكن أكرث نفوذمه يف الشامل‬


‫والرشق‪ ،‬ال مينعهم عن اجلنوب سوى بين األسود‪ ،‬وعن الغرب‬
‫سوى احلارضة‪ .‬زمع أعداؤمه أاهنم فرقة من اخلوارج أو الروافض‪.‬‬
‫وزمع آخرون أاهنم قبيةل ممتردة من األساودة‪ ،‬أو جامعة مماليك‬
‫آبقة‪ .‬لكن لك هذا ليس من الباطل ببعيد‪ .‬فقد رأيت بني‬
‫جندمه روافض‪ ،‬وخوارج‪ ،‬ونصارى أيضا من األحرار‪ ،‬وقةل من‬
‫املامليك!‬
‫ال أعمل الكثري عن بدايهتم‪ ،‬ومذاههبم‪ ،‬لكين كنت شاهد عيان‬
‫عىل اهنايهتم‪.‬‬
‫أظهنم بدءوا كعصابة‪ ،‬مثل قطاع الطرق‪ .‬أنت تعرف أولئك‬
‫املرتزقة‪ ،‬اذلين يسمون أنفسهم أسود اجلبل؟ اذلين اكنوا‬
‫لصوصا‪ ،‬قبل أن يتحولوا المهتان القتال؟ أرحج أن الغيالن امحلر‬
‫مثلهم‪ ،‬ألاهنم مل يكونوا يدعون دلين أو مةل‪ ،‬وال ملذهب أو‬
‫ش يعة‪ ،‬عىل عكس غريمه من الفرق!‬

‫‪177‬‬
‫أولئك املغامرون اش تد نفوذمه‪ ،‬وقويت شوكهتم‪ ،‬فوعيت لدلنيا‬
‫ومه ملء السمع والبرص‪ ،‬تسلطوا عىل مدن وقالع كثرية يف‬
‫الرشق والشامل‪ ،‬حىت بلغ من جربوهتم أن اس تطاعوا إجالء‬
‫بعض قبائل بين األسود عن أراضهيم‪ ،‬وشتتومه إىل اجلنوب‪ ،‬مل‬
‫يرجعوا إال بعد غزو األهبال‪.‬‬
‫اكن الغيالن امحلر يؤمنون ابلشهاعة‪ ،‬فهىي أمسى ما عندمه‪،‬‬
‫ويه ما يمثنون به الرجال‪ .‬خطيئهتم الكربى يه أن ترى خطرا‬
‫فترتكه‪ ،‬لتكون غوال أمحر‪ ،‬فعليك مطاردة األخطار‪ ،‬ال الهروب‬
‫مهنا‪.‬‬
‫قيل إاهنم ال يضمون رجال هلم‪ ،‬إال إذا اصطاد وحشا بيديه‬
‫العاريتني‪ ،‬وابلتحديد الغيالن من األحراش يف الشامل‪ ،‬ولهذا‬
‫مسومه ابلغيالن امحلر‪.‬‬
‫لكين أظن هذا ابطال‪ ،‬ألن الغيالن احلقيقية ال وجود لها‬
‫أصال‪.‬‬
‫قاطعت الش يخ وهدان بقويل‪:‬‬
‫"مسعت ‪ ،‬من بعض الزنوج يف الزرقاء‪ ،‬إنه توجد غاابت بعيدة‬
‫جدا يف اجلنوب‪ ،‬حيث بالدمه ال ينقطع عهنا احلر واملطر ‪ -‬يف‬
‫زمعهم ‪ -‬تنبت أجشارها غيالان سودا ًء خضمة خرساء‪ .‬ويقولون‬
‫إاهنا قبيحة اكلقردة‪ ،‬كثيفة الشعر كام لو اكنت لبدة أسد سوداء‬

‫‪178‬‬
‫تغطي لك جسدها؛ لكهنا ال تألك اللحم‪ .‬غري إن من يغضهبا‬
‫يعرض نفسه لقوهتا املريعة‪".‬‬
‫قال احلكمي وهدان‪:‬‬
‫"اي بين‪ ،‬هذه حيواانت من خلق هللا يف أبعد بالد هللا‪ ،‬لكن‬
‫حىت تكل الغيالن‪ ،‬ال توجد يف بالدان‪ .‬أظن أن الغيالن امحلر‬
‫اكنوا يصطادون اذلئاب أو ابن آوى‪ .‬عىل أي حال مه مل يعرفوا‬
‫ابمس آخر‪ ،‬أاي اكن من أساممه به‪.‬‬
‫اكنوا يكررون دوما قوهلم (الغول األمحر ال خيىش شيئا‪ ،‬وال‬
‫اهاب أحدا) ومسعهتم يسمون هذا ابلقانون األول‪ .‬اكن هلم كتاب‬
‫صغري‪ ،‬يسمونه القوانني‪ ،‬حيمهل لك فرد مهنم‪ ،‬حيوي ما كتبه هلم‬
‫غوهلم األكرب‪ ،‬اذلي يزمعون أنه غول حقيقي معالق من نسل‬
‫ملوك اجلن‪ ،‬طرده غرمي ألبيه‪ ،‬فرابه صعاليك البرش‪ ،‬وقد كتب‬
‫هلم مائة قانون‪ ،‬حتوي خالصة حمكة ملوك اجلن يف هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬اذلي يقرؤونه‪ .‬وقد اكن تعمل القراءة والكتابة لزاما علهيم‬
‫كام أظن‪ .‬لكين شاهدت هذا الكتاب‪ ،‬حني اكن جيمع وحيرق‪،‬‬
‫فوجدته رقعا صغرية‪ ،‬ال أظهنا تس تطيع أن حتمل أكرث من‬
‫مخسني قانوان‪.‬‬
‫حيكون إن بدايهتم اكنت قتال الظاملني واجلائرين‪ ،‬لكين مل‬
‫أشهد أشد مهنم جورا وظلام وبطشا ابلضعفاء‪ .‬نرشوا الرعب يف‬
‫القايص وادلاين‪ ،‬حىت تسامع هبم امللوك خارج بالدان‪ ،‬وأصبحت‬

‫‪179‬‬
‫هلم رهبة‪ ،‬فال يذكر امسهم إال بوجل‪ .‬عاثوا يف األرض فسادا‪ ،‬ال‬
‫يردمه أحد‪ ،‬واقتلعوا لك لسان يعظهم‪ ،‬وقطعوا لك يد تردمه‪،‬‬
‫وقذفوا ابلفزع يف قلوب األمراء‪ ،‬اذلين اكنوا خيافون ممن ال‬
‫خيافون املوت‪.‬‬
‫عرف عهنم اختطاف األطفال من األهايل الفقرية‪ ،‬يدفعواهنم‬
‫لزعميهم لريبهيم يف قلعته‪ ،‬عىل حبه واإلخالص هل‪ ،‬وعىل اعتناق‬
‫الشهاعة اخلالصة‪ ،‬ليكونوا غيالان محرا أشداء‪ .‬لكن هذا اكن‬
‫خطأمه األكرب‪ ،‬حفني حانت ساعهتم‪ ،‬اكن أولئك األبناء أشد‬
‫الساعني علهيم‪.‬‬
‫حيامن استرشى نفوذ الغيالن يف لك ماكن‪ ،‬جعلوا مهنم فرقة‪،‬‬
‫تسمى اخلفية‪ ،‬اكنت أول حملة من نفاق فهيم‪ .‬تتخفى بني الناس‪،‬‬
‫وتتسمع األخبار‪ ،‬وتقاتل جلوار أعداهئم‪ ،‬حىت تعرف لك يشء‪،‬‬
‫فتخرب به غوهلم الكبري‪ .‬وأراد املكل اتقاء رشمه‪ ،‬واس تغالل‬
‫بطشهم‪ ،‬فهاداهنم‪ ،‬وعقد معهم حلفا‪ ،‬أن مينحوه فرقة حتميه‪.‬‬
‫فشلكوا فرقة جديدة‪ ،‬أمسوها امللكيني‪ ،‬يقاتلون معه‪ ،‬برشط أال‬
‫يقاتلوا غوال أمحرا آخر أبدا‪.‬‬
‫لكهنم مل يكرثوا من احللفاء‪ ،‬قدر إكثارمه للكره والبغضاء‪ ،‬فقد‬
‫اكنوا يزمعون الشهاعة‪ ،‬فيأتون ابلقساوة‪ ،‬ويقاتلون برباعة‪ ،‬لكن‬
‫قلوهبم اكحلهارة‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫مث تفسخ مكل املكل‪ ،‬وخرج عليه أمراء املامليك‪ ،‬لزيداد اجلوع‬
‫والفنت‪ ،‬قبل أن يأيت األهبال‪.‬‬
‫اكن األهبال قبائل وخالئط تتقاتل فامي بيهنا‪ ،‬غري أن ظهر هلم‬
‫زعمي قاس‪ ،‬يقال هل (الهول)‪ ،‬فاكن هوال عىل الناس‪ .‬مضوا‬
‫اكلطوفان‪ ،‬حيرقون ويقتلون‪ .‬يقال إنه عرب مائة عام‪ ،‬مل تتوقف‬
‫احلروب بني الصيادية والسور العيل‪ ،‬إال دلمار املدينتني معا‬
‫عىل يد األهبال‪ .‬اكنوا يدمرون‪ ،‬فال تعصم مهنم احلصون‪،‬‬
‫ويقتلون‪ ،‬فال هترب مهنم ادلروب‪ ،‬وقيل إن أرض بني الهنرين‬
‫حبامر ادلم عقهبم أربعني خريفا‪ .‬وأن اآلابر فهيا اكنت تضخ دما‬
‫بدال من املاء‪.‬‬
‫وملا اكتسحوا‪ ،‬بقيادة الهول‪ ،‬ما حولنا من بدلان‪ ،‬أغرامه ضعفنا‬
‫وما أصابنا من فنت وحروب‪ ،‬فالتفتوا لنا جبيوش ال أول لها وال‬
‫آخر‪.‬‬
‫حطموا جيش املكل‪ ،‬اذلي خرج ملالقاهتم‪ ،‬رش حتطمي‪،‬‬
‫فأابدوه عن آخره‪ ،‬مل يبقوا هل راكب أو راجل‪ ،‬وحيهنا سقط‬
‫مكل املكل فورا‪ ،‬إذ أدرك الناس أنه فقد س نده‪ ،‬فسفكوا دمه‪،‬‬
‫ومزقوا أههل وملكه‪.‬‬
‫ومىض األهبال‪ ،‬حفاول بين األسود اذلود عن مراعهيم‪،‬‬
‫فدمرومه‪ .‬مث مضوا شامال‪ ،‬فوصلوا لقالع الغيالن امحلر‪ ،‬ويه‬

‫‪181‬‬
‫س بعة قالع‪ ،‬قيل إن فهيا س بعة آالف غول‪ ،‬مه أكرب عددمه‪،‬‬
‫وأقوى عزهمم‪ ،‬وعلهيم رؤساؤمه وحكامؤمه‪.‬‬
‫مل يكن الغيالن يلقون ابال لألهبال‪ ،‬وال أظهنم اكنوا ينوون‬
‫حرهبم لو تركومه وشأاهنم‪ .‬لكن جيش الهول العظمي‪ ،‬اذلي فاض‬
‫عن الثالمثائة ألف مقاتل‪ ،‬هامج القالع‪ ،‬يتصور حتطميها كام فعل‬
‫بغريها‪.‬‬
‫مل يكونوا عاملني ابلغيالن‪ ،‬مل اهرب الغيالن كغريمه‪ ،‬ومل يساملوا‬
‫الهول‪ ،‬أو يبتعدوا عن هول جيشه‪ ،‬فمل يكونوا مبن اهرب من‬
‫قتال يطلهبم‪.‬‬
‫مجعوا لك أعوااهنم‪ ،‬ومصدوا يف قالعهم زمنا طويال‪ ،‬شهورا‬
‫عدة تفوق أي زمن مصد فيه أحد أمام الهول‪ .‬اكنوا ال يزيدون‬
‫عن عرشة آالف غول‪ ،‬أمام ثالمثائة ألف من األهبال‪،‬‬
‫فيقاتلواهنم بطريقهتم املعهودة‪ ،‬وجشاعهتم املعهودةن وبراعهتم‬
‫املسمومة‪ .‬وأذاقوا الهول هوهلم اخلاص‪ ،‬وألقوا يف قلوب رجاهل‬
‫الرعب من مواهجهتم‪.‬‬
‫قتل الغيالن عن آخرمه‪ ،‬وسويت قالعهم ابألرض‪ ،‬لكن بعد‬
‫أن قتلوا من جيش الهول س تني‪ ،‬ويقال مثانني ألفا من األهبال‬
‫األبطال‪.‬‬
‫اكنوا أول من مصد أمام األهبال‪ ،‬منذ بدأ زحفهم‪ ،‬ومعهم عرف‬
‫أولئك القوم الغالظ طعم احلرب‪ ،‬اليت ال حرب بعدها‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫قيل إمنا اكنت هزميهتم غدرا‪ ،‬إذ أرسل هلم الهول من يأ ّمهنم‪،‬‬
‫ويطلب عفومه‪ ،‬عىل أن يبتعد عن بالدمه آمنا من جهامهتم‪ ،‬فلام‬
‫قبلوا‪ ،‬غدر هبم وأرسل جيشا يرتدي زاهم‪ ،‬ففتحوا هل األبواب‪،‬‬
‫ليس يطر عىل ابب القالع‪ ،‬واهجم علهيم بلك جيشه يف مقتةل‬
‫مريعة‪ ،‬سالت فهيا دماء رجاهل أاهنارا‪ ،‬فمل يلق لها ابال‪ ،‬وأقسم أال‬
‫يرتك امليدان حىت يقتل آخر غول‪.‬‬
‫وزمعوا أن هناك خونة‪ ،‬قالوا للغول الكبري إن القتال وراء‬
‫اجلدران ليس من ش مي الغول األمحر احلق‪ ،‬فاس متعوا لتكل‬
‫امحلاقة‪ ،‬وخرجوا باكمل عدهتم ملالقاة عدومه‪ ،‬فهلكوا مجيعا‪.‬‬
‫عىل أن الغيالن بقت هلم قالع صغرية‪ ،‬وجامعات متناثرة يف‬
‫لك البالد‪ ،‬يناجزون األهبال ثأرا‪ .‬فاكنت فرق األهبال تفزع إذا‬
‫وجدومه‪ ،‬ولو رأوا علمهم يف قرية‪ ،‬حادوا عهنا خوفا‪.‬‬
‫طوال هذه احلرب‪ ،‬اليت قاربت عىل العام‪ ،‬اكن األمراء‬
‫منشغلني حبرب املكل‪ ،‬وقتل أههل‪ .‬فلام أابدومه‪ ،‬قاتلوا بعضهم‬
‫بعضا‪ ،‬حىت اقرتب األهبال من العامصة‪.‬‬
‫هنا برز أحدمه‪ ،‬يدعى األمري منصور‪ ،‬جفمع امجلوع‪ ،‬ووحد‬
‫الصفوف‪ ،‬وألبس جيشه لكه زي الغيالن‪ ،‬ودروعهم امحلراء‪،‬‬
‫وجهم هبم عىل معسكر الهول‪ ،‬فظن األهبال أاهنم أمام مائة ألف‬
‫غول أمحر‪ ،‬فاستبد هبم الفزع‪ ،‬اذلي أذاقوه من قبل للناس‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫وتشتتوا يف البالد‪ ،‬وهزم بقيهتم هزمية منكرة‪ ،‬وقتل الهول رش‬
‫قتةل‪ ،‬وابنه األكرب معه‪.‬‬
‫ومازالوا يتتبعون األهبال‪ ،‬ميزقواهنم حىت طرابل‪ ،‬حيث دارت‬
‫موقعة كبرية ‪ -‬شهدهتا ‪ -‬بني الفريقني‪ ،‬قتلنا فهيا خاقااهنم األعظم‪،‬‬
‫وقتل أمريان منصور يف تكل املوقعة‪ ،‬فعاد األهبال لسريهتم‬
‫األوىل‪ ،‬من الفرقة والتنازع عىل ما ملكوه من قالع يف بالد‬
‫الرشق‪ ،‬ورجع أمراؤان حلاهلم‪ ،‬من التنازع والتقاتل عىل العرش‬
‫املسموم‪.‬‬
‫وأصبح األهبال يغريون عىل احلدود أحياان‪ ،‬فريحبون مرة‪،‬‬
‫ويطردمه األساودة‪ ،‬أو الفرجنة‪ ،‬أو األمراء مرات‪ .‬غري أن هيبهتم‬
‫ظلت يف النفوس‪ ،‬وتضاعفت يف أايم ضعفنا هذه‪ ،‬رمغ إننا كنا‬
‫من أذاقهم الهزمية املرة يوما‪.‬‬
‫مث تتابعت عىل بالدان املسكينة الفنت العظمية‪ ،‬والبلوى الكبرية‪،‬‬
‫فانقلب الناس عىل بعضهم البعض‪ ،‬وقاتل األمري األمري‪،‬‬
‫واململوك اململوك‪ ،‬والغول األمحر الغول األمحر‪.‬‬
‫هاجت البالد وماجت‪ ،‬فاكن أمراء املدن حياربون أتباع‬
‫املكل‪ ،‬واملامليك حياربون أمراء املدن‪ ،‬والعامة تقتل املامليك‪،‬‬
‫والعرابن يتخطفون العامة‪ .‬وانفرد لك وال ببدله‪ ،‬ولك أمري‬
‫بأرضه‪ ،‬واكن ما اكن من رشاء املرتزقة‪ ،‬وجتمع األثرايء لهنب‬

‫‪184‬‬
‫أرايض القرى‪ ،‬واس تعباد أحصاهبا‪ ،‬فدار ما تعرفه من حرب‬
‫هرب مهنا أبوك‪.‬‬
‫أما الغيالن‪ ،‬فقد انقسموا لفرقتني عظميتني‪ .‬قسم أمسى نفسه‬
‫ابملولودين‪ ،‬واكن ممتردا‪ ،‬جهل ممن خطفوا يف طفولهتم‪ ،‬فش بوا‬
‫عىل البغضاء‪ ،‬وشهوة الانتقام‪.‬‬
‫والثاين تسمى ابملبتدأين‪ ،‬واكن من ظل عىل العهد القدمي‪.‬‬
‫وانشطرت معهم الفرقة امللكية‪ ،‬وتكل اخلفية‪ ،‬فأصبحوا يقاتلون‬
‫هنا وهناك‪ ،‬جلوار هذا وضد ذاك‪ ،‬يف فوىض مزرية‪ .‬إال أن‬
‫تواعد الطرفان يف واد معيق‪ ،‬قرب الثغر الصغري‪ ،‬يسمى وادي‬
‫اذلهب‪ ،‬فتقاتلوا يف مقتةل عظمية‪ ،‬يف حرب مل ير مثلها أبدا‪.‬‬
‫رأيت يف حيايت الكثري من املعارك‪ ،‬وشاركت يف الكثري مهنا‪،‬‬
‫لكين إذ كنت فوق التل‪ ،‬أرقب تكل املعركة مذهوال‪ .‬صليل‬
‫الس يوف يقرع اآلذان‪ ،‬وهدير السهام يرجف القلوب‪،‬‬
‫ورصخات الهجوم كقصف الرعد‪ ،‬وطريان الرماح كرضب‬
‫الربق‪.‬‬
‫ال أدري أي الفريقني دارت عليه ادلائرة‪ ،‬إذ ما إن تبقى مهنم‬
‫القليل املهنك‪ ،‬حىت أمران األمراء ابالنقضاض علهيم‪ ،‬فأبدان لك‬
‫من يف امليدان‪ ،‬كام تنقض الضباع عىل األسد اجلرحي‪.‬‬
‫وسارت يف البالد اكمحلى أن اقتلوا الغيالن! تتبّعهم األمراء‬
‫بأشد ما تتبعوا آل املكل‪ .‬خيريواهنم بإما القتل‪ ،‬أو ترك مذهب‬

‫‪185‬‬
‫الغيالن‪ .‬وقد اكن يف قوانيهنم قوال‪" :‬إن الغول األمحر‪ ،‬لو أنكر‬
‫حقيقته‪ ،‬بسبب اخلوف‪ ،‬فمل يعد مهنم"‪ .‬وذلا‪ ،‬سهل عىل‬
‫خصوهمم كشفهم وإابدهتم‪ .‬فآمن األمراء رشمه بعد س نني‬
‫املطاردة‪ ،‬ومل يعد هلم وجود من عقود‪ .‬وإن بقيت مسعهتم‬
‫ورهبهتم يف صدور الكرباء واملس نني حىت اليوم‪.‬‬
‫وهذه اي بين حاكية الغيالن امحلر‪.‬‬
‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬
‫"اس متعت حلاكية احلكمي بإنصات‪ ،‬وتذكرت مهنا شذرات‪ .‬حقا‬
‫كنت قد مسعت بعض ما قال يف س نني الطفوةل يف الزرقاء‪.‬‬
‫لكين علمت بعض ما ينفع‪ ،‬مكسأةل كتاهبم املسمى ابلقوانني‪ ،‬وأن‬
‫زعميهم (أي أان) يسمى ابلغول األعظم‪ .‬وفهمت ما يقصدون‬
‫ابلفرقتني املتنازعتني‪ ،‬اليت حتدث عهنام زهري‪.‬‬
‫غري إين تذكرت أمرا‪ ،‬فقلت للحكمي‪:‬‬
‫"هذا ادلرع اذلي أرتديه يبدو حقا درعا للغيالن‪ .‬من أين‬
‫أاتك؟ لو اكن من بيهنم من ظل حيا‪ ،‬فسأنتفع به حامت‪".‬‬
‫قال احلكمي‪:‬‬
‫"أاتين منذ زمن فىت صغري‪ ،‬يرجو النهاة من القتل‪ ،‬فوضع‬
‫عندي هذا ادلرع أمانة‪ ،‬إىل أن يرسل يل من يأخذه‪ .‬لكنه رحل‬

‫‪186‬‬
‫ومل يعد‪ ،‬حىت طلبه الش يخ غالب‪ ،‬إذ رآه عندي ذات يوم‪،‬‬
‫لريتديه ابنه يقيه يف حرب األثرايء‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ش يخي أشكرك‪ ،‬ولكن من اكن هذا الفىت؟ أمازال حيا؟‬
‫وهل اكن من امللكيني اذلين أقسموا عىل حامية املكل؟"‬
‫ابتسم وقال‪:‬‬
‫"ال أعمل اي بين يف أي فريق اكن‪ .‬لكنه كرب يف السن‪ ،‬وزاد يف‬
‫املال ونسيين‪ ،‬وأان مل أنسه! حاول خداعي يف امسه‪ ،‬لكنك‬
‫تعرف امسه احلقيقي‪ ،‬وقد التقيته‪".‬‬
‫ردت مندهشا‪:‬‬
‫"أان؟ من هو؟ أهو الش يخ غالب؟"‬
‫حضك الش يخ وقال‪:‬‬
‫"الش يخ غالب أاها املفرتي! ال! بل هو الرثي اذلي مجعمك يف‬
‫داره مع ش يخ األساودة‪ .‬هو ابن العبديل"‬

‫‪187‬‬
‫(‪)14‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"مضيت أبغي قرص ابن العبديل‪ ،‬ألس توحض منه األمر‪،‬‬
‫وأطلب العون‪ .‬اآلن فهمت مل اكن يتأملين يف دهشة‪ ،‬ومل اكن‬
‫األكرث فزعا‪ ،‬إذ قلت إنين من الغيالن امحلر‪ .‬وأخذت معي تميور‬
‫الساوايت‪ ،‬اذلي ورث‪ ،‬عن أبيه زهري‪ ،‬حب الرثثرة‪ ،‬فأخذ‬
‫يصدعين حباكايت متتالية عن الطريق‪ ،‬اذلي ال أدري أنصل هل‬
‫ساملني أم ال‪.‬‬
‫قال يل تميور ابن زهري‪:‬‬
‫"قال يل حسان ابن مهدان الصياداين إن العبور إىل طرابل‬
‫من الرب مس تحيل‪ ،‬وأن ال منفذ لها إال من البحر الرشيق‪ ،‬ال‬
‫الشاميل‪".‬‬
‫قلت هل‪" :‬ومل؟"‬
‫قال‪:‬‬

‫‪188‬‬
‫"الرب مش تعل جبيوش الصيادية والسور العيل منذ مائة عام‪،‬‬
‫وحبر الشامل يغيل بأساطيلهام‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"هو ال يدري أن القراصنة أقىس‪ ،‬وأمرمه أخطر‪ .‬ولعل‬
‫احلرب بيهنام تتوقف هنهية‪ ،‬خنتلسها للعبور إىل طرابل‪".‬‬
‫قال تميور‪:‬‬
‫"قال يل حسان ابن مهدان‪ ،‬عن أبيه مهدان‪ ،‬إن احلرب مل‬
‫تنطفئ حلظة واحدة‪ .‬فقد اكنت الصيادية قرية صغرية‪ ،‬تعيش‬
‫عىل الصيد يف البحر‪ ،‬بيامن السور العيل مدينة كبرية‪ ،‬تعيش عىل‬
‫التهارة‪ .‬وذات يوم‪ ،‬خرج بعض من الصيادين‪ ،‬فأنزلوا ش باكهم‪،‬‬
‫فاغرتفت هلم من البحر كزنا من اذلهب‪ ،‬ففرحوا به‪ ،‬وأخذوه‬
‫لبيعه يف السور العيل‪.‬‬
‫لكن بعض احلرس رأومه‪ ،‬فرضبومه‪ ،‬واس تولوا عىل كزنمه‪،‬‬
‫وأغلقوا أبواب املدينة دواهنم‪ .‬وغضب أهل الصيادية‪ ،‬فقطعوا‬
‫عن السور العيل املؤن‪ ،‬وامتنعوا عن بيع أمساكهم يف أسواقها‪.‬‬
‫فبىن أهل السور العيل سورا عظامي حول شواطهئم‪ ،‬لمينع تزود‬
‫سفن الصيادين ابملاء العذب من ينابيعهم‪.‬‬
‫مث حدث أن اكن ملكل السور العيل ودلان‪ ،‬شاابن وس امين‬
‫جدلان‪ ،‬يقدر الواحد مهنام عىل فلق احلجر برضبة يده‪ ،‬وعىل‬
‫صيد الش يطان برمية سهمه!‬

‫‪189‬‬
‫لكن اخلالف دب بني الاثنني‪ ،‬إذ أحبا نفس الفتاة امجليةل ابنة‬
‫الوزير‪ .‬غري أن الفتاة مال قلهبا لألخ األصغر‪ ،‬فأوغرت الغرية‬
‫قلب أخيه األكرب حقدا‪.‬‬
‫ومات املكل‪ ،‬فورثه األخ األكرب‪ ،‬فتآمر مع الوزير ليزتوج ابنته‬
‫رغام عهنا‪ ،‬ففكرت يف الهرب مع حبيهبا‪ .‬لكن جنود املكل‬
‫أمسكوا هبام‪ ،‬وانتقم األخ من أخيه بغل‪ ،‬فقطع إحدى أذنيه‪،‬‬
‫وانزتع أمواهل ومالبسه‪ ،‬وألقاه عاراي معدما خارج املدينة‪.‬‬
‫خرج األمري املقهور‪ ،‬مييض بني البالد ايئسا‪ ،‬فقابهل عراف‬
‫آواه وأطعمه‪ ،‬وأخربه إن ملاك كبريا ينتظره يف بدل أعدائه‪ ،‬فعمل‬
‫أاهنا الصيادية‪ ،‬وذهب إلهيا‪.‬‬
‫وهنا وجد القرية تعاين من وحش مريع‪ ،‬يألك ش باهبا إذا‬
‫خرجوا للصحراء‪ ،‬ما مل يرتكوا هل مكية خضمة من صيدمه حتت‬
‫جشرة كبرية‪.‬‬
‫ذهب األمري يراقب الوحش‪ ،‬إذ يأيت ألخذ إاتوته‪ ،‬وتتبعه‬
‫لعرينه‪ ،‬فوجده حفنة من لصوص ترتدي جدل وحش‪ ،‬يقال هل‬
‫ادلب‪ ،‬تفزع به الناس‪ .‬فأخرج قوسه وسهامه‪ ،‬فأسقط نصفهم‬
‫قبل أن ينتهبوا‪ ،‬مث نزل علهيم بس يفه فشطرمه نصفني‪ ،‬لك‬
‫برضبة واحدة‪ ،‬وعاد جبدل ادلب للقرية‪.‬‬
‫وهلل هل الناس‪ ،‬وأثنوا عىل جشاعته‪ ،‬واكن أمريمه مريضا‬
‫حيترض (ويزمع اخلبثاء أنه مسمه!)‪ ،‬فاختذه خلفا هل‪ ،‬ليعلنوه من‬

‫‪190‬‬
‫بعده ملاك علهيم‪ .‬فاس تطاع بقوة شكميته‪ ،‬وشدة عزمه أن يبين‬
‫الصيادية‪ ،‬لتصبح مدينة كبرية‪ ،‬مض لها ما حولها من قرى ومدن‬
‫صغرية‪.‬‬
‫وأراد املكل‪ ،‬ذو األذن الواحدة‪ ،‬الثأر من أخيه‪ .‬فأعد جيشا‬
‫كبريا‪ ،‬وأسطوال عظامي‪ ،‬أسامهام جيش وأسطول الوحدة‪ ،‬يريد‬
‫هبام توحيد الصيادية والسور العيل حتت رايته‪.‬‬
‫وجهم عىل مدينة آابئه‪ .‬غري أن أخيه اكن قد بىن سورا عاليا‬
‫حيمي املدينة من اجليش‪ ،‬وحصن سور الساحل ليحمهيا من‬
‫األسطول‪ ،‬فصدهام‪.‬‬
‫وهنا أحرق األخ األصغر سفن جتارة السور العيل‪ ،‬وأصاهبم‬
‫مبهاعة وكساد‪.‬‬
‫ورد األخ األكرب بإلقاء مس يف البحر‪ ،‬قتل أمساكه‪ ،‬لتصاب‬
‫الصيادية مبثل ما أصاب السور العيل‪.‬‬
‫ومن يوهما واحلرب بني البدلتني جسال‪ ،‬واحلقد مس تعر‪ ،‬وانر‬
‫الثأر ال تعرف لها إطفاء‪ .‬مفا تاكد ختمد حراب بيهنام إال تأججت‬
‫أخرى‪ ،‬طوال مائة عام من معارك‪ ،‬ال هدنة فهيا‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫(‪)15‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"وصلت دلار هذا الرثي الغريب‪ ،‬املدعو اببن العبديل‪،‬‬
‫فوجدت قرصه عىل حال غري احلال اذلي عرفته فهيا‪ .‬فقد أصبح‬
‫خاواي‪ ،‬وحديقته‪ ،‬اليت اكنت تفيض ابلضيوف واخلدم واحلشم‪،‬‬
‫مل أر فهيا إال حارس وبس تانني علمت مهنام أن س يد القرص يبيت‬
‫يف برج‪ ،‬بناه بأعىل تكل الربوة املوجود هبا قرصه‪ ،‬فال يس تخدم‬
‫القرص نفسه إال للضيوف‪ ،‬اذلين رحلوا مجيعا يبغون رأس‬
‫الوريث‪.‬‬
‫أرسلت أطلب لقاءه‪ ،‬فأاتين اخلدم يقودونين‪ ،‬فأبقيت معهم‬
‫الفىت تميور‪ ،‬وأوصيهتم بإكرامه والاعتناء بدوابنا‪ ،‬وذهبت لهذا‬
‫الربج‪ ،‬فدخلت عىل ابن العبديل‪.‬‬
‫اكن شاحب الوجه‪ ،‬زائغ النظرات‪ ،‬مضطرب السلوك‪،‬‬
‫فانتظرت حىت غادران اخلدم‪ ،‬وسألته‪:‬‬

‫‪192‬‬
‫"أتعرف من أان؟"‬
‫رد‪:‬‬
‫"القبيل زعمي الغيالن امحلر‪".‬‬
‫قلتك‬
‫"هذا حسن‪ ،‬واآلن من أنت؟"‬
‫مصت حينان مث قال‪:‬‬
‫"حس نا‪ ،‬أان من الغيالن امحلر‪ .‬أو كنت كذكل حىت أنكرهتم‪".‬‬
‫قلت بلههة القايض‪ ،‬اذلي يصطاد مهتام منكرسا‪:‬‬
‫"عظمي‪ ،‬إ ًذا مازلت تذكر شيئا مما تعلمته يف كتاب القوانني‪".‬‬
‫هنا التفت يل حبدة‪ ،‬وتأملين قليال‪ ،‬قبل أن يقول‪:‬‬
‫"أنت لست من الغيالن!"‬
‫ظللت يف جلس يت هادئا‪ ،‬أنظر هل‪ ،‬فأمكل‪:‬‬
‫"أنت ال تعرف عن الغيالن شيئا‪ ،‬وما أنت إال مدع‪".‬‬
‫هززت رأيس موافقا‪ ،‬وقلت هبدوءك‬
‫"هذا حصيح‪ .‬ما أان إال مدع‪ ،‬لكنك لست مثيل‪ .‬ودرعك‬
‫اذلي عىل بدين يشهد هبذا‪ ،‬كام أخربين الش يخ وهدان‪".‬‬
‫رد بعصبية‪:‬‬

‫‪193‬‬
‫"مل تفعل هذا؟ ماذا تريد؟"‬
‫قلت حمتفظا هبدويئ‪:‬‬
‫"يف البداية‪ ،‬مل أكن أرغب إال يف التلصص عليمك‪ ،‬فقد ظن‬
‫ش يخ بدليت أنمك جتمتعون لسلبنا أراضينا مرة أخرى‪".‬‬
‫هدئت نفسه قليال‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أما وقد علمت غري ذكل؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أما وقد علمت ابألمر‪ ،‬وعلمت بغدر األمراء‪ ،‬وأن الوريث‬
‫مقتول ال حماةل‪ ،‬فقد عزمت عىل اذلهاب إليه‪ ،‬واإلتيان به‬
‫لإلقلمي الغريب‪ ،‬ليتوىل مكل أجداده‪ ،‬ويعيد لنا األمن والعدل‪".‬‬
‫نظر يل مكن ينظر إىل جواد هل رأس ضفدع بأنياب ذئب!‬
‫وقال‪:‬‬
‫"أجننت؟ فالح مثكل يتحدى القائد األسود ذاته!!!!!!!!! من‬
‫أنت؟ حقا من أنت؟ أنت ال يشء‪ ،‬هذه يه احلقيقة الوحيدة‪،‬‬
‫اليت جيب أن تفهمها‪ ،‬بدال من أن تورط نفسك‪ ،‬وتورطين‬
‫معك يف العبث القاتل‪ .‬أنت ال يشء يف قوته‪ ،‬وال يشء يف‬
‫سلطانه أو ذاكئه ودهائه‪ .‬أنت ال يشء يف بطشه‪ ،‬وال يشء يف‬
‫عدد أعوانه‪ ،‬وحلفائه‪ ،‬وجواسيسه‪ .‬أىن كل خبطيئة جمرد التفكري‬
‫يف حتديه! أمل تر كيف فعل الكرباء والوهجاء‪ ،‬اذلين مه ملء‬

‫‪194‬‬
‫السمع والبرص؟ جتنبوا جلب الوابل عىل أنفسهم‪ .‬أما أان فال‬
‫أمكل إال اذلعر يف انتظار وصوهل‪ ،‬جملرد إنين اقرتحت مواهجته‪.‬‬
‫مفا ابكل أنت اي من هو أجعز من المنةل؟ عد دلارك‪ ،‬وال جتلب‬
‫وعيل الوابل"‪.‬‬
‫عليك ّ‬
‫ال أفهم ملاذا يفزعون لك هذا الفزع من لكاميت‪ ،‬كأمنا أضع‬
‫الس يف‪ ،‬وأذهب ألطرق به عىل أبواب األسود؟ جادلته‬
‫بقويل‪:‬‬
‫"هل إن متكل األسود‪ ،‬فلن يأتينا الوابل؟"‬
‫قال بتوتر‪:‬‬
‫"بىل‪ ،‬ولكنه س يأيت ابألمن والوحدة للبالد بعد طول ضياع‪.‬‬
‫وس يكون للمقام وقهتا مقال آخر‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"توحيد البالد‪ ،‬أم توزيعها عىل األهبال والفرجنة؟ لو مل يكن هل‬
‫بديل لوافقتك‪ ،‬لكن ما دام الوريث موجود‪ ،‬وهناك من‬
‫س يتبعه ضد األسود‪ ،‬فمل ال جنازف؟‬
‫اهزت يف مقعده قلقا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"وماذا يفعل الوريث؟ هذا املزعوم ما اذلي ميلكه جملاهبة‬
‫األسود‪ ،‬غري أنساب اكلهباء املنثور؟"‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪195‬‬
‫"س يقود أمراء الغرب والرشق‪ ،‬ويوحد البالد‪".‬‬
‫حضك حضكة قصرية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أتصدق األمراء اذلين عاهدوين‪ ،‬مث خرجوا يتقاتلون عىل أاهم‬
‫أس بق لتدمري العهد؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"الك ابلطبع؛ لكين آمل يف قبس من نور الضمري‪ ،‬وجذوة من‬
‫انر السأم يف أتباعهم‪ .‬آمل يف حماوةل‪ ،‬ال أدري أتنجح‪ ،‬أم‬
‫أهكل دواهنا‪ .‬لو هلكت‪ ،‬فلن أعيش ألشاهد ذل اخلضوع جلبار‬
‫العامصة‪ ،‬ولو عشت فسأحس أننا حاولنا ‪ -‬عىل األقل‪ -‬صده‪..‬‬
‫أنه مل يأخذها بسهوةل‪".‬‬
‫مصت ومل يرد‪ ،‬وطال الصمت بيننا‪ ،‬حىت قطعته بقويل‪:‬‬
‫"أتساعدين؟ أنت كنت من الغيالن‪ ،‬وتعمل من مه حلفاءمه‪،‬‬
‫اذلين ألتجئ إلهيم‪ ،‬ومن ال اهادنواهنم فأبتعد عهنم‪ .‬ورمبا تعمل كيف‬
‫أصل لطرابل ساملا‪ ،‬ولعكل من امللكيني‪ ،‬فأنت ملزم بقسمك‬
‫لرتافقين هناك‪.‬‬
‫قال يف سأم‪:‬‬
‫"دعك من أساطري الغيالن عن امللكيني واخملفيني! لك الغيالن‬
‫هلكوا‪ ،‬مل يبق مهنم سواك‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪196‬‬
‫"أنت الغول ال أان‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"بل أعلنك غوال أمحر‪ ،‬بصفيت الغول األمحر األخري‪ ،‬تبعا‬
‫الس تثناء القانون األخري من كتاب الشهاعة‪".‬‬
‫نظرت هل نظرة بلهاء‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"انتظر هنا‪ ،‬وسأفهمك‪".‬‬
‫خرج قليال‪ ،‬مث عاد حامال كتااب صغريا من ورق همرتئ‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"هذا هو كتاب الشهاعة‪ .‬ليست ابلنسخة العادية منه‪ ،‬وإمنا‬
‫هو النسخة األم‪ ،‬اليت كتبت بيد مؤسس الغيالن‪ .‬به مثانية‬
‫وثالثون قانوان‪ ،‬يلزتم هبا الغول األمحر‪ .‬يه وصااي يف أغلهبا‪،‬‬
‫وليست قوانني ملزمة‪ ،‬والكتاب امسه الشهاعة ال القوانني‪.‬‬
‫أول قانون فيه‪ :‬الغول األمحر ال خيىش شيئا‪ ،‬وال اهاب أحدا‪.‬‬
‫القانون الثاين‪ :‬الغول األمحر جييب لك متحد‪ ،‬ويندفع عرب لك‬
‫خطر‪.‬‬
‫القانون الثالث‪ :‬الغول األمحر يطيع قائده‪ ،‬وال حيارب غوال‬
‫آخر‬
‫وهكذا مثانية وثالثون قانوان‪ ،‬مكتوبني يف عهدة لك غول أمحر‪،‬‬
‫إال القانون األخري‪ ،‬نصفه فقط هو املكتوب يف النسخ العادية‪،‬‬

‫‪197‬‬
‫فهو مكتوب فهيا‪ :‬الغول األمحر يظل دوما غوال أمحر‪ ،‬إال لو‬
‫أنكر هذا‪ ،‬خوفا أو طلبا لنهاة‪.‬‬
‫النصف الثاين من القانون مل يكتب سوى هنا‪ ،‬وهو اذلي كنا‬
‫حنفظه ونسميه الاس تثناء‪ :‬إال الغول األمحر األخري‪ ،‬فإنه يظل‬
‫دوما غوال أمحر‪ ،‬حىت جيند غوال جديدا‪.‬‬
‫وأان كنت هذا الغول األخري‪ .‬كنت صبيا صغريا جدا‪ ،‬واكن‬
‫خايل من كبار زعامء الغيالن‪ ،‬وجندين رغام عن أنف أيب وأيم‪،‬‬
‫ألنين من سالةل ابن العبديل‪ ،‬املؤسس األكرب‪ ،‬أو أول غول‬
‫كبري‪ ،‬كام يسمونه‪ ،‬هذا اذلي اكن يزمع للناس أنه وريث ملوك‬
‫اجلن‪ ،‬ربيب الصعاليك‪ ،‬اكن جدي‪ ،‬اذلي أفتخر يف صباي‬
‫بسريته!‬
‫عيل من اخلطر‪ ،‬وقد صدق‬ ‫اكن أيب يكرهنا‪ ،‬وأيم ختىش ّ‬
‫عيل يف قلعة الغيالن أايم قالئل‪ ،‬إال‬
‫حدسهام‪ .‬إذ مل ميض ّ‬
‫ودارت علينا ادلوائر‪ ،‬وسالت دماؤان أاهنارا‪ ،‬بأيدينا وأيدي‬
‫الغادرين‪ ،‬مث اختطفين وادلي من القلعة‪ ،‬مغامرا حبياته وحبس ين‬
‫يف قبو القرص‪ ،‬معلنا للناس إين هلكت مع الغيالن عندما‬
‫أحرق املامليك قلعهتم‪ ،‬ليخفيين عن األعني‪.‬‬
‫وأخذين وادلي للغرب‪ ،‬بعيدا معن يعرفوان‪ ،‬وظل حيبس ين يف‬
‫قاع القرص اجلديد زمنا‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫وذات يوم مظمل‪ ،‬أاتين خايل يزنف ادلماء‪ ،‬ال أعرف كيف‬
‫عيل‪ ،‬وال كيف تسلل لقلب القرص‪ ،‬أو اس تطاع دخول‬ ‫عرث ّ‬
‫احلجرة احلصينة‪ ،‬اليت حبست فهيا‪ .‬بل كيف أصال اس تطاع‬
‫البقاء حيا تكل الس نوات حىت وصلين‪.‬‬
‫أعلنين الغول األمحر األخري‪ ،‬وأعطاين كتاب الشهاعة‪ ،‬ودرعه‪،‬‬
‫وأوصاين ابحلفاظ علهيام‪ ،‬وزرا معلقا يف رقبيت‪ ،‬حىت أجند‬
‫غيالان جددا‪ ،‬يعيدون جمدان‪.‬‬
‫اكن يعرفين‪ ،‬وأان صيب صغري‪ ،‬مفتوان بسرية أجداده‪ ،‬وجشاعة‬
‫الغيالن امحلقاء‪ ،‬ودروعهم املنقوشة امحلراء‪ ،‬لكنه مل يعرف الفىت‬
‫احلبيس‪ ،‬اذلي ذاق الرعب شهورا تلو الشهور‪ ،‬ينمكش يف‬
‫حبسه اذلي فرض عليه لكام جتول اجلنود يف ادلار‪ ،‬خوفا من أن‬
‫يصلوا هل‪ ،‬فيقتلوه‪ ،‬حىت اس تعذب احلبس‪ ،‬واس تذل اجلنب‪،‬‬
‫واس تطعم احلياة اآلمنة‪.‬‬
‫قبلت تركة خايل احملترض‪ ،‬لميوت مطمئنا؛ لكين كنت أدرك أن‬
‫الغيالن هلكوا بال عودة أبدا‪ ،‬فأخفيت الكتاب‪ ،‬وألقيت ادلرع‬
‫يف ركن مظلمة‪ ،‬قبل أن أعطيه ألحد ادلراويش‪ ،‬خيفيه عنده‬
‫ومينحه ملن يطلبه‪ ،‬إساكات لضمريي‪ ،‬بأنين هكذا أكون وفيت‬
‫بعهدي خلايل‪ ،‬وعشت حيايت مبرياث وادلي‪ ،‬يف رعب يزنع‬
‫عين أي صفة من تركة خايل امللعونة‪ ،‬حىت أتيت أنت‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ما أن أعلنت أنت إنك غول أمحر‪ ،‬وسط أعداهئمن حىت‬
‫أصبحت ابلفعل واحدا مهنم‪ .‬ومبا إنين كنت الغول األخري‪ ،‬وقد‬
‫أعلنتكن ومنحتك الكتاب واللقب‪ ،‬فقد زال عين وزر خايل‪،‬‬
‫وخلعت نفيس من تكل امجلاعة‪ ،‬فال عهد لها اهمين‪ ،‬وال‬
‫اس تحقاق علهيا يقىض مين‪.‬‬
‫ورمغ ذكل‪ ،‬سأساعدك مبا أس تطيع‪ ،‬من مال وزاد ودواب‪،‬‬
‫ليس إال‪ ،‬عىل أال خترب أحدا مبا عرفته عين‪ ،‬همام اكن‪.‬‬
‫سأمدك ابلنصاحئ النافعة‪ ،‬وما أسهل النصح‪ ،‬وما أصعب‬
‫التطبيق! لك من يقول كل أان حليف الغيالن‪ ،‬فهو غادر‬
‫اكذب‪ ،‬إذ مل يبق هلم حليف واحد حيامن انقلب اللك علهيم‪.‬‬
‫أدل أعدائنا مه بين األسود‪ ،‬فاحذرمه‪ ،‬ولكهنم خيشون لقب‬
‫الغول كثريا‪ ،‬فس يحميك مهنم‪ ،‬ولكن إايك أن تثق فهيم‪ ،‬همام‬
‫اكن‪ ،‬فقد اكنوا مه من بدأ العداوة مع الغيالن امحلر‪ ،‬بل مه من‬
‫تسببوا يف إجيادمه‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫(‪)16‬‬

‫اكن عبد الرمحن العبديل رجال واسع الرثاء‪ ،‬ذو جتارة واسعة‪.‬‬
‫يعيش يف قرية‪ ،‬أمسوها أم اخلريات‪ ،‬ألن اخلري يأتهيا من البحر‬
‫القريب صيدا‪ ،‬ومن األرض اخلصبة مثارا‪ ،‬ومن املدن احمليطة‬
‫جتارة‪.‬‬
‫فاكن عبد الرمحن ميكل من هذا أرضا واسعة‪ ،‬وسفنا كبرية‪،‬‬
‫وقوافال تروح وجتيء‪.‬‬
‫واكنت القرية عىل حدود مراعي بين األسود‪ ،‬ورمغ إنه مل يكن‬
‫هلم وقهتا ما هلم اآلن من شأن وسطوة‪ ،‬إال أن لكمهتم اكنت‬
‫مسموعة‪ ،‬واكنوا أصدقا ًء هل‪ ،‬يشرتون منه‪ ،‬ويبيعون هل‪،‬‬
‫ويؤجرون أراضيه للرعي‪ ،‬ويؤجر رعاهتم ملاشيته‪.‬‬
‫وفوق لك هذا‪ ،‬اكن عبد الرمحن العبديل يفاخر القوم بنسب‬
‫بعيد هل مع األمراء بين األمحر‪ ،‬حاكم األندلس‪ ،‬حىت اكن يسمي‬
‫نفسه أحياان األمري العبديل األمحر‪ ،‬فريد القوم ساخرين "هو‬
‫أمحر أم اخلريات" يعنون أنه حامر!‬

‫‪201‬‬
‫لكن ادلنيا مل جتمع لك أطرافها لهذا الرجل‪ .‬فرمغ امتالكه للامل‬
‫والنسب‪ ،‬فمل يكن هل عقب! فقد عاش مع أزواجه‪ ،‬ال يعيش هل‬
‫أبدا ودل‪.‬‬
‫مث مسع نصيحة مش ئومة‪ ،‬بأن مسي أبناءك بقبيح األسامء‪،‬‬
‫ليعيشون‪ ،‬ونىس وصية الرسول بإحسان أسامء أوالدمك‪.‬‬
‫وملا أجنب بعدها‪ ،‬أمسى ابنه حشاتة‪ ،‬فعاش‪ .‬وفرح به‪ ،‬وأجنب‬
‫بعده توأما‪ ،‬أسامهام غوال ووحشا‪ .‬وسعد هبم أن يكونوا الس ند‪،‬‬
‫اذلي يستند هل‪ ،‬وهو مييض مرسعا حنو الش يخوخة‪.‬‬
‫عىل إنه بعد س نوات‪ ،‬عمل أن عذاب الفقدان أشد مرارة من‬
‫عذاب احلرمان‪ .‬ما اكن يتصوره أملا كبريا‪ ،‬عندما ميوت ودله‬
‫عقب الوالدة‪ ،‬اكن أهون ألف مرة مما أصابه حني مات حشاتة‬
‫وهو ابن ثالث س نوات‪ ،‬مث مرض وحش ومل يمكل س بع‬
‫س نوات‪ ،‬وحلق بأخيه‪.‬‬
‫ومل يبق للرجل العجوز سوى غول‪ ،‬اذلي شب فاسدا مرتفا‪،‬‬
‫أذاق وادله الهوان والفضيحة‪ .‬رمبا ألنه اكن هل نصيبا من امسه‪،‬‬
‫ورمبا ألن وادله دلـهل خش ية عليه من أدىن أمل‪ ،‬وحرص عىل‬
‫رضاه همام متادى يف البطش والسب واألذى‪.‬‬
‫وزاد الكرب فوق الكرب‪ ،‬أن قتل غول وهو فىت مل يمتم‬
‫س بعة عرش ربيعا‪ ،‬يف جشار اتفه‪ ،‬عىل درامه قليةل‪ ،‬فعاش‬
‫الش يخ العجوز وحدة كئيبة‪ ،‬وأحس بضياع احلياة منه هدرا‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫وهنا أىت وسط الظالم حملة أمل‪ .‬فودله الفاسد نكح واحدة‬
‫من جواري ادلار رسا‪ ،‬بعد أن أغراها ابلزواج منه‪ ،‬لتكون‬
‫س يدة ادلار‪ .‬مث ملا عمل أاهنا حتمل ابنه‪ ،‬حاول إهجاضها ظلام‪ ،‬رمغ‬
‫إاهنا حليلته‪ ،‬واس تأجر لغرضه امرأة من الغجر‪ ،‬لتوقع هبا‪ ،‬لوال‬
‫أن هربت الفتاة من ادلار‪ ،‬ومل ترجع إال بعد مقتل حبيهبا‪.‬‬
‫اس تقبل عبد الرمحن احلفيد غري املتوقع‪ ،‬كأنه جندة من السامء‪،‬‬
‫أو كزن مثني خيىش عليه من العيون‪ .‬أسامه حسن‪ ،‬ألنه اكن‬
‫ابلفعل حسن الوجه‪ ،‬وأس بغ عليه العطف واحلنان‪ ،‬وأراد تربيته‬
‫تربية أصلح من وادله‪ .‬لكن الفىت شب وجده رجل يف أرذل‬
‫العمر‪ ،‬فاكن من قام عليه هن نسوة القرص‪ ،‬فاكتسب شيئا من‬
‫الرخاوة والطراوة والرعونة‪ ،‬اليت امزتجت مع ما ورثه عن وادله‬
‫من اجلري وراء شهواته‪.‬‬
‫اكن شااب موفور الصحة‪ ،‬وس امي‪ ،‬واسع الرثاء‪ ،‬تتبعه الفتيات‬
‫معجبة مذهوةل‪ ،‬أو طامعة محمومة‪ ،‬فأصبح مزواجا‪ ،‬يزتوج‬
‫ليطلق‪ ،‬مث يزتوج مرة أخرى‪ ،‬ليكون حرميا خضام‪ ،‬من الزوجات‬
‫احلاليات‪ ،‬والسابقات‪ ،‬واجلواري‪ .‬لك واحدة تقمي مع أبناهئا‪،‬‬
‫قرب قرصه‪ ،‬وقد أحاط لك تكل ادلور بسور واحد‪ ،‬وسامها‬
‫الضيعة‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫وذات يوم رأى إعرابية حس ناء وسط صوحيباهتا‪ ،‬ترعى الغمن‬
‫يف بعض أراضيه‪ ،‬فأجعب هبا‪ ،‬وفتنت الفتاة به‪ ،‬وأدار عقلها‬
‫بسحره‪ ،‬وأسكرها حبيهل‪ ،‬وطلهبا للزواج‪.‬‬
‫اكنت من بين األسود‪ .‬ومه ال يقبلون تزوجي بناهتن من خارج‬
‫األساودة‪ ،‬إال ملاما‪ ،‬وملن ميتلكون رشف نسب ال يقاوم‪ ،‬أو‬
‫لعقد األحالف مع قبائل أخرى‪ .‬وابلطبع رفض أهلها تزوجيه‬
‫مهنا‪ ،‬خاصة مع ما عرف عنه من عبث وتطليق‪.‬‬
‫لكنه أكرث اإلحلاح‪ ،‬وفنت الفتاة‪ ،‬فأطار لهبا‪ ،‬لتمترد عىل أبهيا‬
‫وأخهيا‪ .‬وذهب حسن ابن العبديل إىل ش يخ ش يوخ بين‬
‫األسود‪ ،‬واكن رجال طامعا دنيئا‪ ،‬فأعطاه الهدااي والرشا‪ ،‬ليقيض‬
‫عىل أىب الفتاة بزتوجيها‪.‬‬
‫عىل إنه إن اكن بين األسود ال يقبلون بزتوجي بناهتن لغريمه‪،‬‬
‫فإاهنم ال يعرفون أصال طالقهن! ذلا اكنت الصفعة أمىض وأفظع‪،‬‬
‫حيامن سأم حسن من عروسه‪ ،‬وطمع يف غريها‪ ،‬فطلقها وأعادها‬
‫مغبونة ذليةل ألبهيا‪ ،‬جيللها العار‪.‬‬
‫واش تعل األب غيظا ومكدا‪ ،‬حىت مات حبرسته يف حيهنا‪ .‬وهنا‬
‫سألت الفتاة من أخهيا الثأر‪ .‬ونداء الثأر هل رصاخ عال يف قلب‬
‫أي من األساودة‪ .‬رصخة الثأر النارية‪ ،‬اليت ال ميكن إطفاءها‪،‬‬
‫حمكت ابلهالك عىل حسن ابن العبديل‪ ،‬وعروسه اجلديدة‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫أحلت وأحلت األخت املغدورة‪ ،‬كغراب الشؤم تنعق طلبا‬
‫للخراب‪ .‬واألخ مغلول اليد‪ ،‬ألنه لو استنفر القبيةل‪ ،‬فسريشو‬
‫حسن ش يخ الش يوخ مرة أخرى‪ ،‬ليقعوا بني انرين‪ ،‬إما الرضاء‬
‫ابلعار‪ ،‬أو اخلروج عىل ش يخ الش يوخ‪ ،‬وهذا عار عىل أي‬
‫أسودي‪.‬‬
‫جلأ األخ للكامتن‪ ،‬ومعل بأعامل اخلسة‪ ،‬مس تعينا برداء الغدر‬
‫الفعال‪ .‬ذهب مجلاعة من الصعاليك املطرودين يف اجلبال‪ ،‬من‬
‫قساة القلوب‪ ،‬قطاع الطرق‪ .‬ونفحهم املال‪ ،‬ووعدمه ابملزيد‬
‫مقابل رأس حسن ابن العبديل‪ .‬مل يكن يرغب إال يف الثأر‬
‫لشقيقته‪ ،‬حىت إنه مل يسمع لفحيح أخته‪ ،‬تطلب رأس العروس‬
‫اجلديدة أيضا‪ .‬لكن الفهار مل اهمتوا إال ابملال‪ .‬وجدوا ضيعة ثرية‪،‬‬
‫وماداموا س هيامجواهنا يف لك حال‪ ،‬فليهنبوا ما يشاءون!‬
‫قتلوا امجليع‪ .‬امجليع بال اس تثناء ذحبوا‪ .‬حسن‪ ،‬وأزواجه‪،‬‬
‫وجواريه‪ ،‬ولك أطفاهل‪ ،‬وأههل‪ .‬حىت املطلقات‪ ،‬واملربيات‪،‬‬
‫والعهائز من عامته قتلوا عن آخرمه‪ ،‬واهنبت أمواهلم‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫(‪)17‬‬

‫ملا أىت أهل القرية‪ ،‬بعد هروب الظلمة الفجرة‪ ،‬روعهتم‬


‫املذحبة‪ ،‬وغرقوا يف احلزن عىل ما أصاب حسن‪ ،‬وانل معه‬
‫الكثري من بناهتن‪ .‬أرسلوا يف غضب يطلبون القصاص‪ ،‬ولكن‬
‫الوايل مل يكن دليه مناص‪ ،‬فقد اكنت قبضة احلاكم عىل الرشق‬
‫ضعيفة‪ ،‬واملارقني يزيدون بغيا‪ ،‬والقتةل هربوا ابلغنمية‪ ،‬وبين‬
‫األسود حيمون احملرضني‪.‬‬
‫كام اكن وراء معدة أم اخلريات مهّا آخر‪ ..‬لقد وجد إن‬
‫األرايض الواسعة‪ ،‬وادلور الفس يحة خلت من أهلها‪ .‬وقبل أن‬
‫يدفن الناس اجلثث املكومة‪ ،‬يبكون انهتاء نسل عبد الرمحن‬
‫العبديل‪ ،‬اكن قد احرتز ما بقى من مال‪ ،‬واحتل رجاهل األرض‬
‫وادلور‪ ،‬وانهتب لنفسه احلدائق والبساتني والسفن‪ ،‬ليمكل معل‬
‫قطاع الطرق املأفون‪.‬‬
‫وبيامن الناس تتلو دعوات الرمحة‪ ،‬ويف القرب الكبري تزنل اجلثة‬
‫تلو اجلثة‪ ،‬إذا بشهقة تعلو‪ ،‬ورصخة ينفطر عهنا أحد األكفان!‬

‫‪206‬‬
‫إنه الفىت الصغري‪ ،‬حسان ابن عنبة‪ .‬واحد من صبيان حسن‬
‫الكثريين‪ ،‬أجنبه من طليقته عنبة‪ ،‬الفتاة ذات األصل الفقري‬
‫واحلسن الكبري‪.‬‬
‫شقوا الكفن‪ ،‬وأخرجوا الصيب‪ .‬اكنت رضبة الس يف قد شقت‬
‫رأسه‪ ،‬وأطارت واحدة من عينيه‪ ،‬وأفقدته رشده‪ ،‬فظنه الناس‬
‫مات مع من ماتوا‪ .‬لكنه جنا‪ .‬النايج الوحيد‪ ،‬من مذحبة مروعة‪،‬‬
‫صيب جهر احلسن وهجه‪ ،‬بعد أن الهتمته ندبة بشعة‪ ،‬تقسم وهجه‬
‫نصفني‪ ،‬وفقد واحدة من الغاليتني‪.‬‬
‫اندفع الناس اهللون ويكربون‪ ،‬لكن ما أن انهتوا من الهتليل‬
‫والتسبيح‪ ،‬حىت أىت العمدة يقول‪:‬‬
‫"الفىت معجزة من هللا‪ .‬عليه أن يلحق ابدلراويش‪ ،‬وننصبه وليا‬
‫يف مودل الش يخ بدار!"‬
‫لكن الصيب أدرك غرض العمدة اخلبيث‪ ،‬فانتفض من بني األمل‬
‫وامحلى‪ ،‬يرفض ويقول‪:‬‬
‫"أريد العودة دلاري‪".‬‬
‫فهتف العمدة بني الناس‪:‬‬
‫"أرأيمت اي أهل أم اخلريات؟ الفىت ينطق ابلكفر‪ ،‬ويرفض‬
‫العبادة‪ ،‬ويرغب عن اإلميان! أرأيمت! إنه ليس حسان ابن‬
‫العبديل! هذا ش يطان مريد‪ ،‬اس توىل عىل جسده ليفتنمك‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫حسان مات‪ ،‬فرتمحوا هللا عىل روحه‪ ،‬وابتعدوا عن هذا‬
‫الش يطان‪ ،‬بل ارمجوه‪ .‬انظروا لقبيح وهجه‪ ،‬وسواد عينه؟"‬
‫وبني الفنية واألخرى‪ ،‬يلوح العمدة بس يفه وذهبه‪ ،‬فتخىل‬
‫الناس عن اليتمي املغبون‪ ،‬وتركوه ليعيش يف القرية ذليال فقريا‪.‬‬
‫حىت أهل أمه‪ ،‬اضطروا للتربؤ منه‪ ،‬فعاش يف العراء‪.‬‬
‫اكنت احلياة عىل حسان ابن العبديل قاس ية جدا يف أم‬
‫اخلريات‪ .‬أتباع العمدة ينادوه ابلش يطان‪ ،‬ابن اجلن‪ ،‬اذلي‬
‫اس توىل عىل اجلسد الربيء؛ بيامن رعاة األساودة يغلظون هل لكام‬
‫رأوه‪ ،‬ويتفننون يف إيذائه‪ ،‬وينادوه اببن العاهر‪.‬‬
‫أما أطفال القرية‪ ،‬فقد اكنوا يسخرون منه‪ ،‬لغرابة شلكه‬
‫وفقره‪ ،‬ولقبوه ابللقب اذلي التصق عليه‪ ،‬وأس بغه هو فامي بعد‬
‫عىل نفسه‪ .‬اكنوا ينادونه ابلغول األمحر‪ .‬غول لقبح وهجه‪ ،‬والمس‬
‫جده‪ ،‬غول ابن عبد الرمحن‪ .‬وأمحر ملا اكن يزمعه من نسب لبين‬
‫األمحر يف األندلس‪ ،‬ومحلرة وهجه اذلي زالت عنه برشته‪.‬‬
‫عاش الغول األمحر يف تكل القساوة حينا‪ ،‬مث مل جيد بدا من‬
‫الرحيل عن أم اخلريات‪ ،‬مييض وحيدا يف الصحراء‪ ،‬فظن الناس‬
‫أنه هكل‪ ،‬واس تطاب هلم العيش يف بيوته املهنوبة‪ ،‬واأللك من‬
‫صيد سفنه املرسوقة‪.‬‬
‫لكن الغالم التحق بركب من الصعاليك‪ ،‬خيدهمم‪ ،‬ويتعمل مهنم‬
‫الرضب والطعان‪ ،‬وفنون الشهاعة واإلقدام‪ .‬أصبح ال يبارى يف‬

‫‪208‬‬
‫الركوب‪ ،‬والريم‪ ،‬واملبارزة‪ ،‬وهو مازال صغريا مل يمتم الثالثة‬
‫عرش فامي يزمعون‪ .‬وعندها عاد للقرية‪ ،‬أو لقرهبا عىل األحص‪.‬‬
‫عاش يف الصحراء حولها‪ ،‬يتجول بني الكثبان‪ ،‬ويسقى من ماء‬
‫اآلابر املتناثرة‪ ،‬ويعمل حامال للقوافل‪ ،‬اليت حتمل بعضها ما اكن‬
‫جيب أن يكون مرياثه‪ ،‬فال يأبه‪ ،‬أو يبدي للناس أنه ال يأبه‪.‬‬
‫يف احلقيقة‪ ،‬اكن هناك هاجس يس يطر عليه‪ .‬صورة متلكته‬
‫عند الطفوةل‪ ،‬حيامن هرب أخوه األصغر من بني براثن القتةل‪،‬‬
‫فأمسكوه‪ ،‬ليندفع حسان حماوال إنقاذه‪ ،‬فتصيبه رضبة الس يف‪.‬‬
‫هو جهم فنها‪ ،‬وأخوه أدبر فقتل‪ .‬الشهاعة أنقذته‪ ،‬والشهاعة‬
‫كفيةل بإنقاذ املغلوبني!‬
‫تعرف حسان‪ ،‬حيامن اكن يغىش القرية‪ ،‬عىل س تة صبية‪ ،‬بيهنم‬
‫أخوان يسميان ماجد وجمد‪ ،‬تصادقوا‪ ،‬وتعاهدوا عىل اإلخالص‬
‫بيهنم‪ ،‬وأمسوا أنفسهم عصبة الغيالن امحلر يف لهومه‪.‬‬
‫وعندما بلغ حسان ابن العبديل أشده‪ ،‬اكن يتبعه س بعامئة من‬
‫الغيالن‪ ،‬مجعهم من الصعاليك واحلرافيش واملس تضعفني‪ ،‬اذلين‬
‫لفظهتم أم اخلريات وغريها من القرى‪ .‬أغلهبم فقراء‪ ،‬ال جيدون‬
‫قوهتم‪ ،‬وأكرث من نصفهم مل يبلغ احلمل إال قريبا‪.‬‬
‫اكن أول بدل بدأ هبا يه أم اخلريات‪ .‬أحرقها بأهلها‪ ،‬وقتل‬
‫العمدة رش قتةل‪ ،‬وبىن ماكن الضيعة القدمية أوىل قالع الغيالن‪،‬‬
‫وكتب كتاب الشهاعة بقوانينه الامثنية والثالثني‪ ،‬ودعا الناس‬

‫‪209‬‬
‫إلتباع الشهاعة‪ ،‬واختاذ اجلسارة مذهبا‪ .‬معلنا القانون الثامن‪:‬‬
‫"قد يعجز احلق عن النرصة أمام القوي‪ ،‬والقوة ختذل أمام‬
‫األقوى؛ لكن الشهاعة يه املطلق‪ ،‬ال يؤذاها ما عند غريك‪.‬‬
‫فالشهاعة تسمو فوق امجليع‪".‬‬
‫مىض األمر معه عىل خري ما يرام‪ .‬حوهل مدن كثرية لفظت‬
‫يتاىم ومقهورين‪ ،‬أتوا للغول الكبري ‪ -‬سلسل ملوك اجلن‪،‬‬
‫وربيب الصعاليك‪ ،‬كام أشاع عن نفسه – يستنرصوه‪،‬‬
‫فنرصمه‪ ،‬وآوامه ودرهبم‪ ،‬ليصبحوا ألوفا من الغيالن امحلر‬
‫اخمللصني‪.‬‬
‫وملا ازداد ضعف املكل‪ ،‬ومل يقدر عىل حمك األقالمي البعيدة‪،‬‬
‫متدد نفوذ ابن العبديل‪ ،‬حىت أصبح الوالة واألمراء‪ ،‬يف الشامل‬
‫والرشق‪ ،‬يأمترون بأمره‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫(‪)18‬‬

‫لكن الصدام اكن حمتيا مع قبائل بين األسود القوية‪ .‬ليس فقط‬
‫ألن هل معهم ثأر قدمي؛ وإمنا أيضا ألاهنم اكنوا يبسطون نفوذمه‬
‫عىل الرشق‪ ،‬خاصة جزئه اجلنويب‪ ،‬فلام ازدادت قوة الغيالن يف‬
‫الشامل الرشيق‪ ،‬حاولوا التصدي هل‪.‬‬
‫ودارت حرب عنيفة‪ ،‬مل يذق األساودة لها مثيل من قبل‪.‬‬
‫وألول مرة يدب الرعب يف قلوهبم أمام كتائب الغيالن املنظمة‪،‬‬
‫اليت تتقدم حامةل الس يوف والرماح‪ ،‬وال ترتاجع أمنةل حىت تظفر‬
‫بعدوها‪ .‬ومسع القايص وادلاين بأمر الغيالن امحلر‪ ،‬عندما اضطر‬
‫األساودة للهجرة للجنوب عىل أيداهم‪ .‬اكن حدث جلل‪ ،‬سلط‬
‫لك العيون اخلاشعة عىل تكل القوة اجلبارة النامية‪.‬‬
‫وتضخم أمر الغيالن املنترصين يف وقت قصري‪ ،‬وبعد أن مات‬
‫حسان ابن العبدلني توىل الشقيقان ماجد وجمد زعامة الغيالن‬
‫من بعده‪ .‬فأما ماجد‪ ،‬فقد بقى يف القلعة الرئيس ية يزيد نفوذ‬
‫وقوة الغيالن يف املنطقة‪ ،‬حىت وصلت جنواب لقرب الزرقاء‪،‬‬
‫وشامال إىل ساحل البحر‪ .‬وأما جمد‪ ،‬فذهب للحارضة‪ ،‬يبث‬

‫‪211‬‬
‫العيون واألعوان هنا وهناك‪ ،‬وهو من أنشأ الفرقة اخلفية‪ ،‬اليت‬
‫تتلصص وتغتال‪ ،‬وترتكب أبشع ما ارتكبه الغيالن امحلر‪.‬‬
‫اكن جمد هذا هو جد من أجداد أيم‪ّ ،‬زوج ابنته لتاجر ثري‪،‬‬
‫ليس تويل عىل أمواهل‪ .‬فاكنت عائةل أيم مقسمة‪ ،‬بني جامعة تكره‬
‫الغيالن أميا كره‪ ،‬وجامعة مفتونة بقوهتم وبنس هبم‪ ،‬تتبعهم أيامن‬
‫ذهبوا‪.‬‬
‫بعد وفاة ماجد‪ ،‬واغتيال جمد‪ ،‬مىض عهد الغول الكبري‪ ،‬اتراك‬
‫وراءه اإلرث املريع‪ ،‬اذلي تواله دوما س بعة زعامء‪ ،‬حيمكون معا‪،‬‬
‫ال يفوق أحدمه اآلخر‪ ،‬إال واحد مهنم‪ ،‬ال يقيض أمرا إال‬
‫مبشورهتم‪.‬‬
‫اكنوا دوما س بعة‪ .‬كام بدءوا س بعة زعامء‪ ،‬يقودون س بعة‬
‫رجال‪ ،‬أو س بعة جيوش‪ ،‬املهم أن يكونوا س بعة! كام بدءوا‬
‫يظلون حىت جعلوه القانون السابع‪" :‬الغيالن امحلر دوما س بعة!‬
‫أصبح الزعامء الس بعة يأمرون‪ ،‬فيطاعون‪ ،‬وميلكون‪ ،‬فال‬
‫ينازعون‪ .‬ال جيرؤ األمراء عىل معاندهتم‪ ،‬وال يفكر امللوك يف‬
‫مواهجهتم‪ .‬دبوا الرهبة يف لك القلوب‪ ،‬حىت ملوك املدن البعيدة‪.‬‬
‫ذات يوم‪ ،‬هامجهم مكل من ملوك المين‪ ،‬وقتل بعض الغيالن‬
‫امحلر‪ ،‬اذلين اكنوا ماضني للحج‪ ،‬واس توىل عىل أموال اكنوا‬
‫حيرسواهنا‪ .‬أرسل الغيالن س بعة رجال متخفني‪ ،‬بقوا يف المين‬
‫ساكنني‪ ،‬خملصني مللكها‪ ،‬حيامن يدعو الناس لنرصته‪ .‬وانتظروا‬

‫‪212‬‬
‫حىت اطمأن هلم‪ ،‬مث ارتدوا ادلروع امحلراء‪ ،‬وقتلوه يف عقر‬
‫قرصه‪ ،‬يف فاجعة أهبتت ملوك الرشق والغرب!‬
‫إىل أن أىت آخر امللوك‪ ،‬بضعفه وهوانه‪ ،‬انزعه أخوه عىل املكل‬
‫مبرتزقة من السور العيل والفرجنة‪ ،‬فاشرتى املكل آالف املامليك‬
‫بلك نقود ادلوةل‪ ،‬ووقعت معركة رهيبة بني الفريقني عند الثغر‬
‫الصغري‪ ،‬ااهنزم فهيا الفرجنة هزمية ساحقة عىل يد املامليك‪،‬‬
‫وتشتت جند الصيادية عىل يد جنود جيش املكل‪.‬‬
‫لكن نفقة املامليك ورواتهبم تضخمت خالل س نني احلرب‪،‬‬
‫فأجعزوا املكل أكرث من مرة‪ ،‬خاصة مع زايدة أعدادمه‪ ،‬وزايدة‬
‫متردمه‪ .‬فثار أمراؤمه عليه‪ ،‬ومل جيد املكل من ينقذه من رشمه‬
‫سوى الغيالن امحلر‪ .‬فعقد معهم عهدا مذال‪ ،‬يدفع هلم به جزية‪،‬‬
‫ويرتك هلم نفوذا وسلطة‪ ،‬عىل أن مينحوه واحدة من فرق‬
‫الغيالن‪ ،‬تنرصه عىل املامليك‪ ،‬ويه اليت تسمت ابمللكيني‪.‬‬
‫اكن زعامء الغيالن قد طمعوا وقهتا يف إنشاء دوةل هلم‪،‬‬
‫حيمكواهنا‪ .‬وأصاب (ماخس) ‪ -‬الغول األكرب وقهتا ‪ -‬هوس جبمع‬
‫األتباع‪ ،‬وزايدة القوة‪ ،‬فطغى وجترب‪ ،‬وانفرد حبمك اجلزء الشاميل‬
‫من اإلقلمي الرشيق‪ ،‬ال يدخهل عليه حىت حمتسب‪ ،‬أو جالب‬
‫رضائب صغري‪.‬‬
‫وتوسع يف خطف األطفال والصبية‪ ،‬لرتبيهتم غيالان‪ ،‬ويه‬
‫البدعة اليت بدأها ماجد يف الس نني اخلالية‪ .‬وتدخل ماخس يف لك‬

‫‪213‬‬
‫ش ئون ادلوةل والس ياسة‪ ،‬مفرقا بني املكل وحلفائه‪ ،‬ومضعضعا‬
‫أراكن ادلوةل املهتاوية أصال‪ .‬وزاد عىل هذا‪ ،‬أن فرض إاتوات‪،‬‬
‫واهنب أموال التهار‪ ،‬ليهلب املال اذلي يكفيه‪.‬‬
‫وزاد جربوته وعنفه‪ ،‬فمتلمل منه عدد من الغيالن امحلر‪ ،‬جلهم‬
‫من الصغار والصبية‪ ،‬اذلين كرهوا احلياة القاس ية‪ ،‬اليت فرضت‬
‫علهيم‪ ،‬بيامن يرون الغول الكبري يمتتع ابملذلات‪ .‬لكنه رد علهيم‬
‫ابلقمع والقوة‪ ،‬وهذا خطأ كبري‪ ،‬أن حتاول إرهاب من دربهتم‪،‬‬
‫منذ نعومة أظافرمه‪ ،‬عىل الشهاعة! فنادوا بصيحة المترد‪ ،‬وأعلنوا‬
‫أنفسهم غيالان جديدة‪ ،‬ودلت من رمح العداةل‪ ،‬فسمومه‬
‫ابملس تودلين‪ .‬واكن أول انشقاق عىل الغول الكبري‪ ،‬وإنذار‬
‫بتصدع دولهتم الباذخة‪.‬‬
‫مث زحف األهبال حنو البالد الرشقية‪ ،‬فدمروا السور العيل‪،‬‬
‫وهزموا الفرجنة‪ ،‬ليزناح عن املكل خطر أخيه‪ .‬حاول املكل‬
‫طردمه من البالد‪ ،‬وقطع رواتهبم‪ .‬فثاروا ثورة عنيفة عليه‪،‬‬
‫تزامنت مع غزو األهبال‪ ،‬وما جرى فيه من وقائع‪ ،‬لعلها اكنت‬
‫احلس نة اليتمية للغيالن امحلر‪ ،‬أن سامهوا يف دفع طوفااهنم عن‬
‫البالد‪ ،‬وللمامليك من بعدمه أن هزمومه‪ ،‬بيامن املكل جالس يف‬
‫قرصه‪ ،‬متخاذل عن القتال‪.‬‬
‫مث تتابعت األحداث اليت تعرفها‪ ،‬من قتل املكل وأههل‪ ،‬مث‬
‫نشوب الفتنة الكربى‪ ،‬حيامن أصبح أخوك رشا من عدوك‪،‬‬

‫‪214‬‬
‫وصديقك أغدر بك من الغريب‪ ،‬وأخذ الغيالن ابلقتل‬
‫والتعذيب‪ ،‬ثأرا من فسادمه‪ ،‬اذلي اكن هل يد عظمية فامي أصاب‬
‫البدل من نكبات‪ ،‬ومداهنة خلصوهمم من املامليك‪ ،‬وقبائل بين‬
‫األسود‪.‬‬
‫ودارت عىل دوةل الغيالن ادلوائر‪ ،‬فزالت سطوهتم‪ ،‬وابد‬
‫جندمه‪ ،‬واثر علهيم عبيدمه وصنائعهم‪ .‬وانضم للمولودين مجع‬
‫كثري‪ ،‬بيامن جتمع بقااي أتباع الزعامء الس بعة‪ ،‬ومسوا أنفسهم‬
‫ابملبتدأين‪ ،‬لتدور بني الفريقني حروب ووقائع‪ ،‬انهتت بهنايهتم‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫(‪)19‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"أاهنىى ابن العبديل حاكيته‪ ،‬وأفهمين أخريا من مه الغيالن‪،‬‬
‫وكيف اكنوا‪ ،‬ومل تسموا هبذا الامس‪ .‬مث منحين كتاب الشهاعة‪،‬‬
‫وس يف خاهل‪ ،‬وحفنة من مال‪ ،‬معتذرا إنه ال يس تطيع مساعديت‬
‫بفوق هذا‪ .‬وقال يل إنه يمتىن ظفري بقلبه؛ ولكنه يدرك احلقيقة‬
‫بعقهل‪ .‬ولو إنين عدت يوما حيا‪ ،‬سواء ظافرا أو خمزاي‪،‬‬
‫فس يحسن اس تقبايل‪ ،‬وسيسعى محلاييت وجنايت‪.‬‬
‫وزاد يف كرمه واعتذاره أن أخربين إنه سريسل رسوهل نوري‬
‫إىل الش يخ غالب‪ ،‬ينبئه ببعض من أمري‪ ،‬ويرد هل ماهل‪،‬‬
‫ويس تأمنه عىل أريض‪.‬‬
‫وخرجت من عنده مشغول الفكر‪ ،‬أقلب يف رأيس األفاكر‪،‬‬
‫وأدرس الطريق‪ ،‬وكيف يكون‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫فإذا يب أجد مشهدا مزجعا مضحاك! تميور غارق يف مذلات‬
‫الطعام‪ ،‬ينهتب مهنا اهنبا! حىت إنين خفت عليه من املوت ختمة‪.‬‬
‫وأحزنته بنبأ اس تعدادان للرحيل‪ ،‬وأنه ليس لنا هنا اليوم مبيت!‬
‫ولكن حزنه اجنىل رسيعا‪ ،‬إذ رأى دوابنا محلت ابملذلات‪ ،‬لتكون‬
‫لنا الزاد‪ ،‬وهو ما مل يسعدين كثريا‪ ،‬إلثقاهل عىل دوابنا الثالثة‪،‬‬
‫وإبطاهئا يف الصحراء‪ ،‬فيطول علينا املرور يف األرايض اخلطرة‪،‬‬
‫لنتعرض للقتةل‪ ،‬وغريها من الرشور امجلة‪.‬‬
‫لكن من انحية أخرى‪ ،‬كنت أدرك أنه ليس من اليسري يل‬
‫احلصول عىل الطعام والزاد يف رحليت الطويةل‪ ،‬خاصة وإين ال‬
‫آمن لنفيس يف قرية‪ ،‬أو مدينة‪ .‬فقبلت الهدية عىل مضض‪،‬‬
‫وجتاهلت مالحظة تميور عن إن بعض هذا الزاد ليس مما حيمتل‬
‫البقاء مدة طويةل‪ ،‬وأنه حامت س يفسد‪.‬‬
‫اي هل من متفائل! أيتصور أننا س نحافظ عىل طعامنا‪ ،‬وراحلتنا‬
‫طوال الطريق! إما أن يهنبه لصوص‪ ،‬أو يرسقه وحوش‪ ،‬وإن‬
‫حدثت املعجزة وجنحنا يف احلفاظ عليه‪ ،‬فرمبا نتصدق به عىل‬
‫جائع‪ ،‬نسأهل أن يدلنا عىل الطريق‪.‬‬
‫كنت قد عقدت العزم عىل اختاذ طريق الشامل بني‬
‫املستنقعات واألحراش املهجورة‪ ،‬قاطعا فروع الهنر‪ ،‬حماذاي‬
‫لشاطئ البحر‪ ،‬ألنين عشت يف تكل املنطقة فرتة ال بأس‬

‫‪217‬‬
‫بطولها‪ ،‬مرافقا مع وادلي للوريث املزيف‪ ،‬وأظنين أخربها أكرث‬
‫من اآلخرين‪ ،‬اذلين أخشامه‪.‬‬
‫ورمغ إن هذا حدث منذ س نني عدة‪ ،‬كام إنين وقهتا مررت‬
‫بأخطار خمتلفة‪ ،‬والبالد متوج برشار قاتةل‪ ،‬تغري األحوال لك‬
‫شهور قليةل‪ ،‬ولست واثقا من بقاء حال هذا الطريق عىل‬
‫املأمون من ماكئده‪ ،‬اليت خربهتا‪ ،‬أم أن خطره زاد وتفامق؟ لكنه‬
‫يف الهناية أكرث أمنا يل من غريه‪.‬‬
‫أنزلت عباءيت فوق دروعي امحلراء‪ ،‬وأخفيت حتهتا س يفي‬
‫اجلديد‪ ،‬وأذنت ابلرحيل‪ .‬فبدأان الرحةل فورا‪ ،‬وقد بدا الضيق‬
‫عىل وجه تميور‪ ،‬فتهاهلته‪ ،‬حىت انفجر ابلسؤال اذلي أعرفه‬
‫جيدا‪..‬‬
‫"ملاذا نرحل يف الليل وأخطاره؟ الهنار هل عيون كام يقولون!‬
‫كام إنين أخىش الوحوش واذلئاب‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لنتفادى ذئاب البرش‪".‬‬
‫ابغتين بسؤاهل‪:‬‬
‫"ألست غوال أمحر ال خيىش شيئا وال اهاب أحدا؟"‬
‫ارتبكت للحظة‪ ،‬قبل أن أس تعيد رابطة جأيش‪ ،‬وأقول‪:‬‬

‫‪218‬‬
‫"الشهاعة ال تعين امحلاقة‪ .‬احلمكة مطلوبة‪ ،‬ولنا هدف خطري‬
‫علينا أن ننجزه‪ .‬لو خرسان الهدف السايم لسبب اكن ميكن‬
‫جتنبه‪ ،‬فهذه ليست جشاعة حامت‪".‬‬
‫بدا عليه الشك‪ ،‬فأرسعت أضيف‪:‬‬
‫"حنن الغيالن امحلر قد جددان عهودان‪ ،‬مل نعد نقول أن‬
‫الشهاعة يه مواهجة األخطار‪ ،‬بل أصبح قانوننا الثامن اجلديد‪،‬‬
‫إن الشهاعة يه الصرب عىل احلق همام اكن مرا!"‬
‫مصت ومل يرد‪ ،‬فأجعبتين الكذبة! واختذت لنفيس أمام جلاجة‬
‫هذا املهنج‪ ،‬إنه لكام أزجعين بسؤال‪ ،‬أس ندته لقانون جديد يف‬
‫كتاب الشهاعة!‬
‫وهكذا رسان ليال متتابعة‪ ،‬حىت أتت اللحظة احملتومة‪ ،‬ومسعنا‬
‫أخريا العواء اذلي خش يه تميور‪.‬‬
‫جتمدان يف ماكننا‪ ،‬فسألين تميور‪:‬‬
‫"أنرجع؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"الك‪ ،‬جيب أن نعرب الصحراء‪ ،‬حىت نصل للثغر الكبري‪ ،‬وغدا‬
‫س تنتظران اذلئاب مثل اليوم‪".‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪219‬‬
‫"ماذا س نفعل إ ًذا؟ أنبقى هنا حىت ترحل‪".‬‬
‫اي هل من مزجع! أيتصور أنين صايف اذلهن‪ ،‬ألرد عىل أس ئلته‬
‫اليت يدور أمثالها يف ذهين؟ عىل أي حال‪ ،‬مل يكن هناك إال‬
‫حل واحد‬
‫"سنرسع بأقىص ما نس تطيع‪ ،‬علنا نتهاوزمه‪".‬‬
‫وحثثنا امجلال أن ترسع‪ ،‬وقد أقلقها العواء‪ ،‬خففت همروةل لكن‬
‫هذا مل ينفعنا كثريا‪ ،‬إذ رسعان ما تاكثرت اذلئاب حولنا مطاردة‪.‬‬
‫أمسكت رحمي‪ ،‬ومددت الس يف لتميور‪ .‬وملا قفز علينا أول‬
‫اذلئاب‪ ،‬جشجت رأسه مبؤخرة الرمح‪ ،‬وتركته يتكور وهو يعوي‬
‫من األمل‪ ،‬وأرسعت ألتفت للجهة األخرى‪ ،‬ألصد الثاين بطعنة‬
‫خفيفة‪ ،‬فقد خشيت أن ينغرس الرمح يف أحدمه‪ ،‬وال أس تطيع‬
‫إخراجه من جسده‪ ،‬فأفقده‪ .‬وبدا يل حرج موقفنا يزتايد‪ ،‬فقلت‬
‫لتميور‪:‬‬
‫"ألق ما عندك من حلم وغريه علنا نشغلهم‪".‬‬
‫فأمسك حبقائب اللحم والفاكهة‪ ،‬اليت أخذانها من ابن‬
‫العبديل‪ ،‬وألقاها خلفنا‪ ،‬بيامن ألقيت أان ابيق املؤن‪ ،‬ألخفف عن‬
‫امجلال امحلل‪ ،‬إال قربة املاء‪ .‬لكن أغلب اذلئاب مضت تطاردان‬
‫بإرصار‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫بدا يل احلل قاس يا‪ ،‬لكنه املمكن اكن امجلل الثالث‪ ،‬اذلي‬
‫أصبح بال محل‪ ،‬ياكد جيري ويس بقنا‪ ،‬فطعنته طعنة قاس ية‬
‫برحمي يف خفذه‪ ،‬وأرسعت بسحب الرمح برسعة الربق‪ ،‬وأان‬
‫أدعو هللا أال ينتبه مجيل لهذا األمر‪ ،‬ألن امجلال ذكية‪ ،‬وال تغفر‬
‫الغدر أبدا‪.‬‬
‫وأتت حيليت يشء من اإلمثار‪ .‬فقد ختلف امجلل اجلرحي‪،‬‬
‫فهجمت عليه جامعة من اذلئاب تنهتشه‪ ،‬لكن بعضها ظل‬
‫يطاردان بعناد خسيف‪.‬‬
‫هتفت لتميور‪:‬‬
‫"ألق بلك ما عىل مجكل‪ ،‬وأرسع بقدر ما تس تطيع فوق‬
‫األرض الصخرية‪ ،‬حىت ال تبطئنا الرمال‪".‬‬
‫أخذ يلقي بلك ما معه‪ ،‬يقذف به رؤوس اذلئاب يف غل‪ ،‬حىت‬
‫إنه‪ ،‬حبامقته‪ ،‬ألقى بقربة مائه فامي ألقى! وأخذت برحمي‪ ،‬وتميور‬
‫ابلس يف نذب عنا من اهجم مهنم‪.‬‬
‫مرت الساعات البطيئة اخلطرة‪ ،‬قبل أن حتني الساعة‪،‬‬
‫فيسقط مجل تميور مهناك‪ ،‬مما أصابه من خدوش واهنشات‪ .‬ولوال‬
‫أن تعلق بيدي يف اللحظة املناس بة‪ ،‬وتشبث جبانب مجيل‪،‬‬
‫النهتت حياته‪ .‬لكنه‪ ،‬مبعجزة ما‪ ،‬تسلق مجيل رمغ رسعته‪،‬‬
‫وجلس خلفني وأرسعنا وسط الفزع والرعب نمكل الفرار‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫لكن اذلئاب انشغلت بفريس هتا الثانية‪ ،‬أو اكتفت هبا‪ ،‬فمل‬
‫تمكل مطاردتنا‪ .‬ولعل بين اذلئب يف هذا أرشف من بين‬
‫اإلنسان‪ ،‬فإاهنا إن وجدت ما يش بعها‪ ،‬مل تلتفت للطريدة‪ ،‬حىت‬
‫لو اكنت سهةل؛ بيامن بين اإلنسان ال ميأل عيواهنم إال الرتاب‪.‬‬
‫لكننا رسعان ما توقفنا مكرهني‪ .‬فقد انلنا من التعب واجلروح‬
‫ما انلنا‪ ،‬وزادت عينا انقتنا اليت ااهنارت من أسفلنا دفعة واحدة‪.‬‬
‫وسقطنا أرضا‪ ،‬لنهد تكل الطيبة قد نزفت الكثري لكهنا ظلت‬
‫جتري حىت أبعدتنا عن األنياب اليت اهنشت محلها‪.‬‬
‫وأرسع تميور ميسك س يفي‪ ،‬فذحب الناقة من فوره‪ ،‬يزكهيا قبيل‬
‫أن تنفق‪ .‬ورمغ حزين عىل تكل اليت أنقذتنا؛ لكين كنت أدرك‬
‫أاهنا الرضورة‪ ،‬ألننا فقدان لك طعامنا‪.‬‬
‫مجعنا بعضا من اللحم‪ ،‬ورسان مبتعدين عن أرض اخلطر‪ .‬وملا‬
‫طلعت علينا الشمس‪ ،‬أخذ تميور يبسط اللحم حتهتا‪ ،‬ليقدده‬
‫لمنتكل مئونة تكفينا يوما أو اثنني‪.‬‬
‫لكن الرحةل أطول من هذا بكثري‪ .‬قد يكفينا ما استنقذته من‬
‫ماء ببعض الصرب‪ ،‬لكن املشلكة يف الطعام‪ .‬أصبح الصيد اآلن‬
‫حامت علينا‪ ،‬لكنين لست ابلبارع فيه‪.‬‬
‫وبدأان املسري عند الغروب‪ ،‬مقتصدين يف املألك واملرشب‪،‬‬
‫متلمسني الطريق بقراءة النجوم‪ ،‬مفضت أحوالنا بيرس دون‬
‫أخطار‪ ،‬حىت قضينا اليوم الثالث‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫ففي ذكل اليوم‪ ،‬عرثان عىل واحة صغرية‪ ،‬وبدت ليا هدية من‬
‫السامء‪ ،‬وأرسعت حنوها أبغي مجع ما ميكننا من المتور‪.‬‬
‫لكننا فوجئنا بعرشة من األعراب‪ ،‬اهجمون علينا‪ .‬اكنت‬
‫مالحمهم غليظة‪ ،‬وحيملون خناجر غري مس نونة‪ ،‬وينظرون لنا‬
‫نظرة أبشع من نظرة اذلئاب!‬
‫ألقيت السالم‪ ،‬حماوال إاهناء املوقف بأمان‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"السالم عليمك اي إخوة اإلسالم‪ .‬حنن مسافرون‪ ،‬فقدان دابتنا‪،‬‬
‫ولو بعمتوان دابة وبعض المتر‪ ،‬فس نهذل لمك العطاء‪ ،‬ونرحبمك‬
‫المثن‪".‬‬
‫حضك أحدمه‪ ،‬واكن طويال بني رجاهل‪ ،‬ياكد يصل لقاميت‪.‬‬
‫وكرش عن أس نان سوداء خنرة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أاتان صيد طيب أفنرتكه؟ مب ستشرتي منا ادلابة‪ ،‬بيامن أمواكل‬
‫قد أصبحت لنا غنمية!"‬
‫وحضك عىل دعابته السمهة‪ ،‬فضحك رجاهل جماملني!‬
‫قلت برصامة‪:‬‬
‫"ال أبغي قتاال‪ ،‬لكنه لن يكون يف صاحلمك‪ .‬إمنا أبغي مصلحة‬
‫رشيفة بيين وبينمك‪".‬‬
‫تقدم هذا الطويل أسود األس نان مين خطوات‪ ،‬وهو يكرر‬
‫الكيم بطريقة مسهة‪:‬‬

‫‪223‬‬
‫"ال أبغي قتاال! أبغي مصلحة رشيفة! اي كل من جشاع! لو إنك‬
‫ترى يف نفسك القوة‪ ،‬لتحفظ أمواكل‪ ،‬فافعل! لكين أنصحك‬
‫بأن تسلمنا ما معك‪ ،‬فرمبا نرتكك حيا‪ ،‬ولن تنفعك تكل العصا‬
‫اليت تتسلح هبا اي أخا‪".............‬‬
‫مل يمكل الكمه‪ .‬يف احلقيقة اكن أمكر مما يبدو عليه‪ ،‬إذ أراد‬
‫إشغايل حبديثه السمج‪ ،‬بيامن يتسلل من خلفي واحد آخر من‬
‫رجاهل‪ .‬فوجئت برضبة عىل ظهري‪ ،‬ورنني صدمة اخلنجر عىل‬
‫درعي اخملتئب‪ ،‬اذلي مل يتوقعه الغادر‪ ،‬اآلت من خلفي‪ .‬والتفت‬
‫برسعة‪ ،‬فهويت عىل املهامج املندهش برضبة ساحقة من رحمي‪،‬‬
‫أفقدته رشده‪ .‬ومسعت صيحة تميور أن احرتس‪ ،‬فعدت أنظر‬
‫لتكل الطغمة‪ ،‬ألجد هذا الزعمي قد أمسك س يفا صدئا‪ ،‬هوى‬
‫عيل لوال أن صده تميور ابلس يف اذلي كنت قد أعطيته هل‪.‬‬ ‫به ّ‬
‫عيل مرة أخرى؛ لكن‬ ‫حسب زعمي اللصوص س يفه‪ ،‬وهوى به ّ‬
‫رحمي اكن أس بق‪ ،‬فطعنته يف ذراعه‪ ،‬ليسقط منه هذا الس يف‬
‫الصدئ‪ ،‬فاحنىن تميور برسعة والتقطه‪ .‬بدا أن الرصاع بيننا‬
‫س يكون متاكفئا‪ ،‬فنحن منكل أسلحة أمىض‪ ،‬وألبس أان دروعا‬
‫قوية‪ ،‬بيامن مه ال ميلكون إال حفنة من خناجر وساككني غري‬
‫مس نونة؛ لكن عددمه أحد عرش شقيا‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫حسب األشقياء زعميهم املصاب‪ ،‬ورفيقهم املغيش عليه‪ ،‬ومه‬
‫يس بون ويلعنون‪ ،‬وقد بدا واحضا أاهنم لن جيرؤوا عىل همامجتنا‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫تقدمت مهنم وأان أقول برصامة‪:‬‬
‫"لك ما أبغيه هو التهارة معمك‪"...............‬‬
‫قاطعوين مبزيد من س باب‪ ،‬وقال أحدمهك‬
‫"لن نعطيك شيئا‪ ،‬فافعل ما شئت‪ .‬ولن تذوق قطرة ماء من‬
‫برئ الواحة‪ ،‬وس نكتفي ابلصرب حىت اهلكك الظمأ‪ ،‬فنغمن ماكل اي‬
‫أمحق‪".‬‬
‫أدركت أنه ال فائدة‪ ،‬وذلا أرشت لتميور أن خنرج من الواحة‬
‫خائبني‪ ،‬فرسان حبذر متقهقرين‪.‬‬
‫اكن معي من املاء ما يكفينا‪ ،‬فمل أقلق من هتديدمه‪ ،‬لكن‬
‫مشلكة الطعام بقيت كام يه‪ ،‬فقلت لتميور‪:‬‬
‫"لن نبتعد عن الواحة‪ ،‬حفامت حيواانت الصحراء وس باعها تأتهيا‬
‫لرشب املاء‪ ،‬ورمبا نصيد مهنا شيئا ينفعنا‪".‬‬
‫هز رأسه موافقا‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"ابملناس بة‪ ،‬أشكرك‪ .‬حصيح إن هذا الس يف الصدئ اكن عىل‬
‫األرحج سيهتشم عىل درعي‪ ،‬ولكنك حاولت إنقاذ حيايت‪".‬‬

‫‪225‬‬
‫ابتسم وقال‪:‬‬
‫"وأنت أنقذتين من اذلئاب! ال شكر هنا اي رفيق‪".‬‬
‫تركته‪ ،‬وخرجت حبثا عن صيد‪ .‬ومل خيب ظين‪ ،‬إذ عدت‬
‫بظيب كبري‪.‬‬
‫املشلكة إنين ال أجيد الصيد‪ ،‬وبراعيت يف ريم النبال فقرية! ذلا‬
‫عيل أمر عسري‪.‬‬‫فصيد حيوان صغري‪ ،‬أو طائر يف السامء لهو ّ‬
‫ذلا‪ ،‬اكن عيل أن أحتمل سؤال تميور املستنكر‪ ،‬حيامن وضعت‬
‫أمامه هذا الظيب الثقيل‪.‬‬
‫"لك هذا! " ونظر ملا مجعه من حطب‪ ،‬واكن ال يكفي حامت‪،‬‬
‫مث نظر بإشفاق حلجم الظيب‪ ،‬اذلي س يضطر لسلخه وجتهزيه‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫"ما لك هذا؟ لن نس تطيع إاهناءه يف يوم وال أس بوع‪،‬‬
‫وس يفسد منا دون حاجة!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أال تس تطيع تقديد بقية محله؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"أسنبقى هنا حىت يقدد! وهناك رجال مرتبصون لنا‪ ،‬ال حنب‬
‫أن نبقى الليةل قرهبم؟ ملا مل تصد أرنبا أو طريا‪ ،‬فإين رأيت بعض‬
‫األرانب جتري هنا وهناك؟"‬

‫‪226‬‬
‫عيل ثقيال‪ ،‬فإن صيد األرانب‬ ‫إن اكن صيد احليوان الصغري ّ‬
‫لعنة! رمغ إنين أحب حلم األرنب‪ ،‬ورمغ إن الكثري من األرانب‬
‫اليت جهرها أحصاهبا يف الواحات‪ ،‬عندما رحلوا جلفاف‪ ،‬أو بعد‬
‫تعرضهم للغزو والهنب‪ ،‬فإن صيد األرنب‪ ،‬اذلي يقفز رسيعا هنا‬
‫وهناك أمر ال أطيقه! لعيل ال أحب محلها إال ألنه عزيز املنال!‬
‫قلت بضيق‪:‬‬
‫"ال أصيد األرانب‪".‬‬
‫مث أدركت أاهنا فلتة لسان‪ ،‬حيامن نظر يل نظرة غريبة‪ ،‬وسأل‬
‫بصوت خافت يقطر شاك‪:‬‬
‫"أحترهما؟"‬
‫قلت ألخرسه‪:‬‬
‫"نعم‪".‬‬
‫مث فزعت إذ أدركت متأخرا ما وراء السؤال! فإن بعض‬
‫الرافضة كام يزمعون‪ ،‬حيرمون حلم األرنب! فأرسعت أقول‪:‬‬
‫"أحرم نفيس من صيدها‪ ،‬ال محلها‪".‬‬
‫نظر يل بدهشة‪ ،‬وسأل السؤال املتوقع‪:‬‬
‫"وملاذا؟"‬

‫‪227‬‬
‫أخذت أقدح ذهين مرتباك‪ ،‬أفكر يف جحة‪ ،‬فوجدتين أقول‬
‫مراوغا‪:‬‬
‫"عاهدت نفيس أال أقتلها‪".‬‬
‫كرر بإرصار‪:‬‬
‫"وملاذا؟"‬
‫ليتين قلت هل إنين ال أجيد الصيد‪ ،‬بدال من اخلجل‪ ،‬اذلي‬
‫أرسلين لكذابت هملكة! لكن ال مفر من اخلوض يف املزيد من‬
‫الكذب األمحق!‬
‫قلت‪:‬‬
‫"حنن الغيالن نتخذ من الوحوش أخا‪ ،‬وأيخ هو األرنب!"‬
‫نظر يل بفم مفتوح‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أخوك الوحش هو األرنب!"‬
‫عضضت لساين األمحق‪ ،‬وأحسست بغباء لكاميت؛ ولكن مل‬
‫يكن هناك مفر غري امليض قدما‪ ،‬فقط أرجو أن أذكر لك هذه‬
‫األاكذيب‪ ،‬بدال من أن أخطئ فهيا أمامه!‬
‫فقلت حماوال اس تعادة صفاء ذهين‪ ،‬والعودة ملهنجي القدمي يف‬
‫خداعه‪:‬‬

‫‪228‬‬
‫"لك غول يبحث عن أخالق احليوان‪ ...‬أعين أخالق اإلنسان‬
‫يف احليوان‪ .....‬آآآ الكتاب ‪ ....‬أعين كتاب الشهاعة يف القانون‬
‫الـ ‪ ....‬الثامن (مث تذكرت أنين أخربته ابلقانون الثامن من قبل)‬
‫القانون الثامن عرش‪ ....‬يقول "علينا أن نبحث عن الصفات‬
‫املطلقة‪ ،‬واألخالق النقية‪.‬‬
‫بدأ ينظر يل بفضول‪ ،‬فأرسعت أحمك خدعيت بقويل‪:‬‬
‫"الشهاعة‪ ،‬والوفاء‪ ،‬واإلخالص‪ ،‬وغريها يه أمور عىل الغول‬
‫أن يسعى للوصول لها‪ ،‬قبل أن يصبح غوال أمحر‪ .‬لكن اإلنسان‬
‫يلوهثا ابلغدر‪ ،‬واجلنب‪ ،‬والنفاق‪ .‬لهذا نبحث عهنا يف صورهتا‬
‫األول‪،‬ى يف ماكاهنا النقي دلى احليوان‪ .‬فيكون عىل من يريد أن‬
‫يصبح غوال‪ ،‬أن يالزم حيواان ملدة طويةل‪ .‬عام جهري مثال!‬
‫يراقبه‪ ،‬وحياول التعمل منه‪ .‬اكن حيواين هو األرنب‪ ،‬وعادة ما‬
‫نعاهد أنفس نا أال نقتل هذا احليوان‪ ،‬وفاءا هل‪ ،‬حىت لو ألكناه‬
‫عىل املوائد‪ .‬بل إنين ال أجخل من أن أقول إنين أحب األرانب‬
‫املقلية ابذلات!"‬
‫نظر يل بغري فهم وهو يقول‪:‬‬
‫"أفاكرمك جعيبة اي غيالن! ولكن ماذا تعلمت من األرنب؟ هو‬
‫حيوان ضعيف جبان رشه! كنت أظن أن زعمي الغيالن امحلر‬
‫س ينتقي األسد مثال؟"‬

‫‪229‬‬
‫فكرت يف أن هذا الرجل أمحق حامت! أيريد مين أن أعيش مع‬
‫أسد عام اكمل!!!!!‬
‫رددت عليه مراوغا‪:‬‬
‫"ال يقاس األمر عندان ببطش احليوان‪ .‬والزعمي اكن يوما‬
‫تلميذا‪ ،‬وأيخ من بين احليوان ال يعريين!"‬
‫أحل‪ ،‬كعادته حيامن يسأل أس ئةل مسهة‪:‬‬
‫"وماذا تعلمت من األرنب!"‬
‫قلت متحامال عىل نفيس أن تصمد‪:‬‬
‫"ما أتعلمه هو يل‪ ،‬ال أس تطيع أن آخذه من أحد‪ ،‬أو أمنحه‬
‫ألحد‪".‬‬
‫فتح مفه ليمكل جلاجته‪ ،‬وكنت قد وصلت لهناية صربي‪،‬‬
‫وأصابين الصداع من كرثة التفكري‪ ،‬فلهأت للحل األسهل‬
‫إلخراسه! ورصخت فيه‪:‬‬
‫"ألن تنظر ملا بني يديك‪ ،‬وتطهو لنا من حلم الظيب؟"‬
‫بدأ يف العمل‪ ،‬فنجوت من أس ئلته وخرجت راحبا! إذ توىل‬
‫هو الصيد يف األايم التالية!‬

‫‪230‬‬
‫(‪)20‬‬

‫وصلنا إىل واحات البوادي‪ ،‬ويه مجموعة من الواحات‬


‫الصغرية‪ ،‬القريبة من الهنر‪ ،‬وال تبعد كثريا عن جنوب العامصة‪.‬‬
‫فاشرتينا مهنا بعض ادلواب‪ ،‬وتكمتنا أمران‪ ،‬حىت زمعنا أننا‬
‫ذاهبون لساوة‪ ،‬فقد اكن اخلوف علينا عظامي‪ ،‬ألاهنا من األرايض‬
‫اخلاضعة لسلطان القائد األسود‪ .‬ومهنا رسان شامال‪ ،‬يف طريق‬
‫القوافل‪ ،‬حنو الثغر الكبري‪.‬‬
‫اكنت مدينة الثغر الكبري أكرب ميناء يف بالدان‪ ،‬وأعظمها‬
‫ازدهارا‪ .‬يزمع البعض أاهنا اكنت ذات يوم عامصة للك البالد‪ ،‬يف‬
‫عهد الرومان‪ ،‬اذلين اكنوا يفضلون دوما أن تكون عوامص البالد‬
‫موان كبرية‪ ،‬تس تقبل أساطيلهم احلانقة‪ ،‬لقمع أي ثورة أو مترد‪.‬‬
‫ورمغ بناء حارضة البالد وزهرهتا‪ ،‬اليت جيمث علهيا اآلن األسود‪،‬‬
‫فقد ظلت الثغر الكبري عظمية مزدهرة‪ ،‬لها ثقلها‪ ،‬وحلامكها ماكنة‪.‬‬
‫وألاهنا أكرب مدن الغرب‪ ،‬فبعد ااهنيار اململكة‪ ،‬أصبحت عامصة‬

‫‪231‬‬
‫لإلقلمي الغريب‪ ،‬يدار مهنا ش ئونه وأحواهل‪ ،‬سواء ما بني قراه‬
‫ومدنه‪ ،‬أو ما يأيت من مملكة ابرق وقبائل الطارق يف غربنا‪.‬‬
‫لكن داء حب السلطان أىت بأوجاع الاقتتال‪ ،‬وعفن الفوىض‪،‬‬
‫فمل يرتك شربا يف بالدان إال وحطمه‪ .‬فضمرت امليناء‪ ،‬وحل علهيا‬
‫الكساد‪ ،‬بسبب اقتتال أمراء الغرب‪ .‬ويقال إاهنا اكنت هبا أايم‬
‫ملعونة‪ ،‬متزقت فهيا أحياؤها بني األمراء‪ ،‬كام حدث مع العامصة‪.‬‬
‫لكهنم اجمتعوا معا‪ ،‬واتفقوا عىل أال يقتتلوا‪ ،‬وال ينازع أحدمه‬
‫اآلخر يف سلطانه‪ ،‬وبفضل هذه احلمكة‪ ،‬وقيادة كبريمه ابن عامر‬
‫العاقةل‪ ،‬مع الهدوء الغرب لكه‪ ،‬ابس تثناء مناوشات‪ ،‬ومحالت‬
‫سلب واهنب‪ ،‬ورصاعات بني الفالحني واألثرايء؛ لكهنا لكها ال‬
‫تساوي ربع ما حدث يف الوسط واجلنوب من مذاحب ومتزق‪ ،‬أو‬
‫ثمن ما أصاب الشامل‪ ،‬اذلي جهره أههل‪ ،‬حىت حتول‬
‫ملستنقعات‪ ،‬وابرت أراضيه‪.‬‬
‫مل أكن أعمل عمل اليقني ما شأن ابن عامر‪ ،‬وهل س يحالف ابن‬
‫األساودة‪ ،‬ويسعى لقتل الوريث‪ ،‬أم يبقى عىل حاهل من احلياد‪،‬‬
‫وتأييد ما تكون فيه املصلحة‪ ،‬بعد أن حيسم األمر‪.‬‬
‫لهذا تكمتت أخباري‪ ،‬ومل أسع هل طلبا للمعونة‪ .‬واس تغللت‬
‫بقايئ يف الثغر الكبري‪ ،‬ل ي أتشمم األخبار‪ ،‬وأعرف أحوال ابيق‬
‫األمراء‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫اكنت أخبار مقتل أمري الزرقاء اإلفرجني قد أتهتم هنا‪ ،‬ومعها‬
‫نبأ مقتل جركس ابن ابرم ديهل‪ ،‬وذحب أمري اثلث يدعى‬
‫طاووس‪ ،‬أرحج أنه اكن هذا الساخط املوتور‪ ،‬اذلي قتل‬
‫األسود أههل‪.‬‬
‫وهكذا أمعنت يف الاختفاء‪ ،‬حىت إنين أحمكت العباءة مغلقة‬
‫فوق درعي األمحر ونقش الغيالن اذلي عليه‪.‬‬
‫اكن لتميور هنا أصدقاء كثريون من التهار‪ ،‬اذلين يرتددون‬
‫عىل ساوة‪ ،‬يشرتون البذور‪ ،‬أو يبيعون حصاد األرايض‪ ،‬اليت‬
‫تزرع عىل الساحل مباء األمطار‪ .‬فبتنا ليلتنا عند بعضهم‪ ،‬واتفقوا‬
‫لنا مع بعض الصيادين‪ ،‬ليحملوان ابلبحر إىل مف الهنر األول‪.‬‬
‫سألين تميور‪:‬‬
‫"ومل ال نبحث عن مركب تأخذان مبارشة إىل طرابل؟"‬
‫اكنت هذه فكرة طيبة‪ ،‬لكهنا مس تحيةل‪ .‬مفن يقومون برحةل‬
‫طويةل يف البحر‪ ،‬يطلبون ماال كثريا ال أملكه‪ ،‬كام أإين ال أعرف‬
‫الطريق جيدا‪ ،‬وابلتايل قد خيدعوان بسهوةل‪ ،‬ويلقوا بنا عىل أي‬
‫شاطئ‪ .‬واألخطر‪ ،‬هو أساطيل الفرجنة‪ ،‬والصيادية‪ ،‬والسور‬
‫العيل‪ ،‬اليت تتحارب بيهنا‪ .‬وفوق هذا لكه‪ ،‬فنبأ سفر البعض من‬
‫الثغر الكبري إىل طرابل‪ ،‬ستنقهل اآلذان اخلبيثة‪ ،‬حامت‪ ،‬للقائد‬
‫األسود‪ ،‬ليس تقبلنا الهالك ما أن تطأ أقدامنا األرض!‬

‫‪233‬‬
‫اقتنع تميور حبدييث‪ ،‬وجلس متربما ملوال عىل أرض املركب‪،‬‬
‫اليت تفوح براحئة السمك اخلانقة‪ .‬لكن هذا هو أطيب سفر لنا‬
‫يف الشامل‪ ،‬وما بعده س يكون أدىه وأمر‪.‬‬
‫أنزلنا الصياد الطيب عند مصب أول فروع الهنر (أو آخرها‬
‫للقادمني من الرشق)‪ ،‬حيث تأيت دوما مراكب الصيد‪ ،‬وقت‬
‫الفيضان‪ ،‬جتمع الرسدين‪.‬‬
‫نزلنا عىل الشاطئ‪ ،‬وتركت تميور يوما يراتح يف إحدى‬
‫اخلرائب‪ ،‬ملا اكن ذات يوم قرية مزدهرة‪ .‬حفامت علينا أن نراتح‪،‬‬
‫قبل بدأ املسرية الطينية السخيفة يف املستنقعات‪".‬‬

‫‪234‬‬
‫(‪)21‬‬

‫"وبدأت رحلتنا يف الشامل‪ ،‬يف أحراشه ومستنقعاته‪ ،‬األرض‬


‫اليت يغرقها الهنر مبائه‪ ،‬ويفسدها البحر مبلحه‪ ،‬فتصبح طينا عفنا‬
‫ثقيال ميتا‪ .‬لكهنا عىل األقل همجورة‪ ،‬نس تطيع السري فهيا اهنارا‪،‬‬
‫بعد أن أضناان سفر الليل‪.‬‬
‫يف املايض‪ ،‬اكنت أرضا عامرة حية‪ ،‬تنبت الزرع حيامن اكن‬
‫الفالحون يرعواهنا‪ ،‬واهمتون هبا‪ ،‬حىت ليس تصلحون األرض‬
‫املالصقة لساحل البحر! لكن يزمع الزامعني أنه ملا أصاب‬
‫اجلفاف البالد‪ ،‬مث أثقل املكل الرضائب‪ ،‬جهر الناس تكل‬
‫األرايض إىل ادلاخل‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬كنت شاهد عىل الهجرة‬
‫الثانية‪ ،‬حيامن جهرت ابيق األرايض بسبب احلروب والهنب‪.‬‬
‫اكنت املنطقة املوازية للساحل ‪ -‬رمغ وحلها ‪ -‬مناس بة جدا‬
‫لسريي‪ ،‬ألاهنا همجورة‪ ،‬ال سلطان فهيا إال للهوام واألفاعي‪ ،‬وال‬
‫يسكهنا إال حفنة مشتتة من املطرودين‪ ،‬اذلين بقوا من أثر مترد‬
‫الوريث الاكذب‪ ،‬أو ادلراويش الباحثون عن اخللوة‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫أراد تميور أن نبحث عن طريق أكرث جفافا‪ ،‬بعد أن تربم من‬
‫اجلرذان واحلرشات الالسعة‪ ،‬لكين أرصرت عىل البقاء يف‬
‫أقىص الشامل‪ ،‬منيش موازين للبحر إىل مف الهنر األخري‪ ،‬عند‬
‫الثغر الصغري‪ .‬واكن عبور هذا اجلزء من الهنر هو األخطر‪ ،‬يف‬
‫ظين‪ ،‬ألن عبور الهنر‪ ،‬دون إذن حامك املدينة‪ ،‬شديد الصعوبة‬
‫وهو ‪ -‬كام مسعت من أهايل الثغر الكبري ‪ -‬حامك ظامل‪ ،‬خيطف‬
‫الناس‪ ،‬ويبيعهم عبيدا‪ .‬ويزمع البعض إنه حليف للفرجنةـ‬
‫وآخرون أنه من أتباع القائد األسود‪.‬‬
‫ولكن مل أشغل نفيس اآلن هبذا اهلم؟ طريقي آمن اآلن نعم‪،‬‬
‫لكنه شاق وطويل‪ .‬علينا احلذر من األفاعي‪ ،‬اليت حتت لك‬
‫جحر‪ .‬حصيح إن أغلهبا ليس من ذوي السم اذلي يقتل ‪ -‬كام‬
‫تعلمت من عرشات الدلغات‪ ،‬اليت رافقتين يف األايم اخلالية ‪-‬‬
‫ولكن مب يفيدين هذا‪ ،‬وأان ال أثق أي مهنا اليت أيقظتين من نويم‬
‫عىل لسعهتا؟‬
‫والفرئان يه اخلصم الثاين لنا يف الطريق! ال ترتك زادا وال‬
‫لباسا إال ودمرته‪ ،‬ولها يف هذا أفانني جعيبة‪ ،‬وطرق ال ختطر‬
‫عىل ابل البرش! رأيت بعض األذكياء يربطون زادمه يف حبل‪،‬‬
‫ويعلقونه عىل أغصان األجشار‪ ،‬مفا رأوا يف اليوم التايل غري فتات‬
‫عىل األرض‪ ،‬بعد أن الهتمت الفرئان الزاد‪ ،‬والكيس حبباهل!‬

‫‪236‬‬
‫ذلا اكن علينا لك ليةل أن ننتقي أرضا جافة جرداء للمبيت‪ ،‬وال‬
‫ينام أحدان‪ ،‬إال والثاين مستيقظ حيرس الزاد والطعام‪.‬‬
‫رسان بضعة أايم عىل وترية واحدة‪ ،‬فبدأ ذهين يفكر يف عبور‬
‫الثغر الصغري‪ ،‬وفامي وراءه‪ .‬وما وراءه هذا اكن ما يقلقين بشدة‪،‬‬
‫ألنين ال أعرفه أصال! ال أعمل أي طريق أختذ‪ ،‬فمل أجتاوز يف‬
‫أسفاري مع وادلي الثغر الصغري أبدا‪ ،‬منذ رحلت طفال عن‬
‫الزرقاء حنو العامصة‪.‬‬
‫وعلمت أن الفراغ هو عدو العزمية األول! فألنين ال أجد ما‬
‫أفعهل يف هذه املسرية الهادئة املزجعة اللزجة‪ ،‬تناوبتين األفاكر‬
‫ويه مراتحة‪ ،‬جتد للك مهنا الوقت الاكيف لتثبيط عزمييت‪.‬‬
‫حصيح إنين كنت أطردها من ذهين رسيعا‪ ،‬لكن عقيل اكن‬
‫يعود لها‪ ،‬وجيادلين بعد لك هذا الشوط الطويل‪ .‬مفثال أقول‬
‫لنفيس "ما يل وما لهذا األمر؟ مل وضعت نفيس يف هذا الشأن‬
‫أصال؟ منذ مىت اكن لعوام الناس دور يف تدبري احلمك إال أوقات‬
‫الفنت والثورات؟ ألعد لقرييت‪ ،‬وأللزم داري‪ ،‬وأعيش يف سالم‬
‫دون متاعب‪ .‬حىت من الموا أيب عىل فراره قدميا‪ ،‬الموين عىل‬
‫ذهايب اليوم!‬
‫ال بأس‪ ،‬سأحتمل القليل من السخرية‪ ،‬وسأقيض بضعة أعوام‬
‫أسدد للش يخ غالب ما أنفقته‪ ،‬وما ضاع من ماهل‪ ،‬فهذا أهون‬
‫حامت من الس يوف الباترة‪ ،‬والوحوش الاكرسة!‬

‫‪237‬‬
‫أاهنىي نفيس عن هذا التخاذل وأقول "أبعد لك هذا ترتاجع؟‬
‫أبعد أن يرس هللا كل ما مىض من صعاب ختنع يف اجلزء‬
‫األيرس؟ أبعد ماكبرتك وجمادلتك مع لك من عرفوا بأمرك؟"‬
‫فرتجع النفس األمارة ابلسوء لتقول "البالد ستسقط حامت‪،‬‬
‫مفاذا يف يد فرد عادي مثكل ليفعهل؟‬
‫فأعود لنفض األمر عن ذهين جاهدا‪ ،‬فيبتعد‪ ،‬لكنه مل ينف‬
‫لبعيد‪ ،‬وإمنا اكتفى ابلتواري يف ماكن مظمل اكمنا يل!‬
‫كنا اآلن خنوض يف أعامق األحراش‪ ،‬فتأهبنا للمبيت‪ ،‬وأخذت‬
‫عىل عاتقي نوبة احلراسة األوىل والثانية‪ ،‬ألنين أفضل تأخري‬
‫نويم‪ ،‬آلخذه دفعة واحدة سهةل‪ .‬وعىل أي حال‪ ،‬فأمر احلراسة‬
‫هنا ليس خبطري؛ إن يه إال حفنة من فرئان وثعابني‪.‬‬
‫وكأمنا أحس تميور ابطمئناين‪ ،‬فأىب إال أن يفسده! فأخذ يسيل‬
‫نفسه إىل أن يأتيه النوم بأن يقص عيل خماطر الفرئان‪ ،‬ونبأ من‬
‫أصاهبم اجلنون وامحلى بعد أن عقرهتم!‬
‫لكنه أسدى يل خدمة ال بأس هبا‪ ،‬ألن قلقي من الفرئان اليت‬
‫مسها اجلن‪ ،‬وس تذيب عقيل ‪ -‬كام يزمع – ابمحلى‪ ،‬قد أزاح من‬
‫ذهين وساوس العودة والرتاجع‪ ،‬وإن مل يزحزح قلقي بشأن‬
‫جتاوز الثغر الصغري وما وراءه‪.‬‬
‫مث أدركت متأخرا أنين إمنا كنت أحسب مثن السمك من قبل‬
‫صيده! فاملتاعب أتت مبكرا جدا عن الثغر الصغري!‬

‫‪238‬‬
‫اس تقيظت يف الصباح‪ ،‬ألجد حولنا رجاال شعثا غربا‪ ،‬يرتدون‬
‫أسامال ابلية‪ ،‬وميسكون بأغصان ميتة‪ ،‬يتخذواهنا عصيا‪ ،‬وقد‬
‫أطلقوا لشعورمه العنان‪ ،‬وحلامه الزمام‪ ،‬عيواهنم محمرة‪ ،‬وأس نااهنم‬
‫مصفرة‪ ،‬يلفون عىل أعناقهم عقودا طويةل من ودع وخرز‬
‫وحىص‪.‬‬
‫ظننت لوهةل أاهنم من أهل اجلان‪ ،‬اذلين سكنوا ادلاير بعد‬
‫خراهبا من أهلها‪ .‬مث أفقت من غفليت‪ ،‬واهنضت مستندا عىل‬
‫س يفي‪ ،‬وهتفت هبم‪:‬‬
‫"من أنمت وما شأنمك؟"‬
‫رد أحدمه‪:‬‬
‫"بل من أنمت وما شأنمك؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"حنن مسافران إىل الرشق‪".‬‬
‫رد الرجل‪:‬‬
‫"سافروا من طريق آخر!"‬
‫قلت مرصا‪:‬‬
‫"ال يوجد طريق آمن آخر‪ ،‬وحنن ال ننوي لمك أذى‪".‬‬
‫رد بغضب‪:‬‬

‫‪239‬‬
‫"حنن حتت حامية الش يخ‪ ،‬فلن ينالنا أذامك! هذه أرض س يدان‬
‫الفويل‪ ،‬وليس ألحد أن يطأها!"‬
‫مل أمسع من قبل بس يدان الفويل هذا‪ ،‬لكين كمتت دهش يت‪،‬‬
‫وقلت هماودا‪:‬‬
‫"نريد مقابةل س يدان الفويل‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"لن يدخل أحدا أرضه إال بإذنه!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"نريد أن نأخذ إذنه‪".‬‬
‫هز رأسه املغربة وهو يقول‪:‬‬
‫"مات موالان منذ س نوات أاها اجلاحد! لكن إن ظهرت هل‬
‫كرامة لمك‪ ،‬مسحنا لمك ابلعبور!"‬
‫نظرت حنوه بغباء‪ ،‬ال أاكد أفهم‪ ،‬مث قلت‪:‬‬
‫"إذا مفا حدود أرض س يدان الفويل لندور حولها؟"‬
‫قال اخلبيث‪:‬‬
‫"يه لك ما حول الرضحي من األرض‪ ،‬بني البحر‪ ،‬ومدينة‬
‫دلها‪".‬‬

‫‪240‬‬
‫تبا هل! إاهنم ال يرتكون لنا خيارا‪ ،‬فدلها وما دواهنا خاضعة ألمر‬
‫األسود‪ ،‬وهبا حامية قلقة‪ ،‬تيسء للمسافرين‪ ،‬خش ية أن يندس‬
‫بيهنم غادر‪ .‬والساحل يف هذه املنطقة خطري موحل‪ ،‬ال يصلح‬
‫للسري فيه‪.‬‬
‫مل أكن أريد‪ ،‬انهيك عن الاس تطاعة‪ ،‬أن أشق طريقي قتاال‬
‫بني لك هؤالء‪ .‬فمل أمكل سوى الانتظار حىت يظهر يل أمر‬
‫جديد‪ ،‬أو أعود من حيث أتيت‪ .‬وعسكران قرب أولئك‬
‫ادلراويش أس بوعا‪ ،‬ال نزتحزح فيه قيد أمنةل‪ ،‬وال اهزت عنادمه‬
‫مبثقال خردةل!‬
‫اكنت أعدادمه كبرية‪ ،‬رمبا بضع مئات من اجملاذيب‪ .‬ورمغ غالظة‬
‫مظهرمه‪ ،‬وقذارة ملبسهم‪ ،‬إال أاهنم اكنوا طيبني ودودين معنا يف‬
‫احلديث‪ ،‬وأمدوان ابملاء العذب والطعام دون مقابل‪ ،‬ألننا‬
‫(ضيوف الش يخ)‪ ،‬دون أن يسمحوا لنا بزايرة هذا املضيف!‬
‫وعلمت مهنم أاهنم جامعة من ادلراويش‪ ،‬اذلين تبعوا الوريث‬
‫الكذاب مع بعض من اكنوا يعيشون يف اخلالء‪ ،‬جتمعوا حول‬
‫صومعة ملتصوف امسه الفويل‪ ،‬وأصبحوا جماذيبه حىت مات‪.‬‬
‫وبعدها أىت ثالثة رجال‪ ،‬زمعوا أاهنم خلفائه‪ .‬مهنم رجل يسمى أاب‬
‫برق‪ ،‬وقد عرفت رجال هبذا الامس بني أتباع الوريث‪ ،‬اكن‬
‫منافقا مكروها‪ ،‬واكن وادلي يرى أنه جشع‪ ،‬أاتان حبثا عن املال‪،‬‬
‫رمغ إنه أضعف من الارتزاق‪ ،‬فال نفع منه يف حرب‪ ،‬وال جخل‬
‫منه يف طلب املال!‬

‫‪241‬‬
‫ويبدو أن أاب برق عرث عىل اثنني من األفاقني‪ ،‬ساعداه عىل‬
‫تويل أمر أولئك اجملاذيب ابألاكذيب! فبنوا رضحيا‪ ،‬وغرروا‬
‫ابملساكني‪ ،‬ليبسطوا ألنفسهم سلطاان عىل بقعة من األرض‪،‬‬
‫حىت لو اكنت خرائب!‬
‫لكن الثالثة (اخللفاء) ماتوا بعد وقت قصري‪ ،‬وكام يزمع القوم‪:‬‬
‫بعد أن عقرمه فأر‪ ،‬فأصيبوا ابمحلى! يبدو أن هناك الكثريون‬
‫ممن يسمعون ملثل أحاديث تميور املفزعة! لن آمن لفأر بعد‬
‫اليوم!‬
‫ولكن األثر اخلبيث لألفاقني مازال ابقيا‪ ،‬وهل يه األرض‬
‫وعيل أن أعرث عىل كرامة ما‪ ،‬ليسمح‬‫علينا حمرمة إتباعا لبدعهتم! ّ‬
‫يل جماذيب الفويل ابلعبور‪.‬‬
‫ظللنا يف معسكران هذا ال نغادره إال للسمر مع حرس‬
‫ادلراويش‪ ،‬لنأخذ مهنم املؤن‪ ،‬وجنادهلم دون جدوى‪ ،‬ونتبادل‬
‫احلاكايت واألخبار‪ ،‬فأقص علهيم ما حدث يف أمر البالد‪ ،‬اليت‬
‫جهروها منذ زمن بعيد‪ ،‬وخيربونين بأمر هذه األرض اخلربة‪،‬‬
‫واملواضع اليت أحذرها‪ ،‬لكرثة الس باع أو الامتس يح فهيا‪ .‬وقد‬
‫اصطدت معهم‪ ،‬مبعونة تميور‪ ،‬متساحا كبريا‪ ،‬اكن يلهتم ادلجاج‬
‫اذلي يربيه ادلراويش‪ ،‬وجلس نا معهم نشق محله القايس‪،‬‬
‫لنسلخه‪ ،‬مث تركوا يل اجلدل اكمال‪ ،‬زاهدين يف مثنه‪ ،‬أو أجرهتم!‬

‫‪242‬‬
‫فهو يف نظرمه زينة ال تليق هبم‪ .‬وتركته بدوري لتميور‪ ،‬فهو‬
‫التاجر اآليت من ساوة‪ ،‬وس يعرف كيف يبيعه يف ماكن ما!‬
‫وأخذت أس نان المتساح‪ ،‬فعاجلهتا‪ ،‬وثقبهتا‪ ،‬وهذبهتا ألصنع مهنا‬
‫مس بحة‪ ،‬ألطف شالك من تكل الغليظة‪ ،‬اليت يضعها اجملاذيب‬
‫عىل صدورمه من احلطب واحلجر والودع‪ ،‬وأهديهتا ألحدمه‪،‬‬
‫علها تذيب شيئا من سد الطريق‪ ،‬وأخذت أجادهلم وأحذرمه‬
‫من خطر القائد األسود‪ ،‬وحلفائه الفرجنة واألهبال‪ ،‬اذلين‬
‫يطمعون يف امتالك الثغور‪ ،‬مقابل مساعدته‪ ،‬وال يقف أماهمم‬
‫سوى الوريث‪ ،‬وال يقف بيين وبني الوريث سوامه!‬
‫لكن اجملاذيب مغيبون يف عامل آخر‪ ،‬ال يرون مما حيدث حوهلم‬
‫ويل صاحل سينقذمه! وما أظن‬ ‫شيئا‪ ،‬وال يفهمون إال أن الفويل ّ‬
‫الفويل جهر العمران إىل األحراش إال هراب من أمثال تكل العقول‬
‫املغلقة!‬
‫اكنوا ال يسأمون من جدايل معهم‪ ،‬ألاهنم ال يعريون جحجي‬
‫التفاات‪ ،‬وال حترك لكاميت عقوهلم‪ ،‬إال كام حيرك الرحي اجلبل! حىت‬
‫بدأ السأم يصيبين أان‪ ،‬وأدركت أن الاستسالم والعودة للسالمة‬
‫هو اخليار الوحيد للعاقلني‪.‬‬
‫لكن أثناء اجلدال‪ ،‬أفزعين سؤال‪ .‬هل أان خري من جماذيب‬
‫الفويل؟ مه يدفنون عقوهلم‪ ،‬واهربون من عاملنا القايس إىل‬
‫روحانيات أرضحة األولياء‪ ،‬بيامن أان أراود نفيس يف العودة ساملا‬

‫‪243‬‬
‫دلاري‪ ..‬ءأفلست مثلهم؟ أغيب عقيل‪ ،‬وأخسر رويح‪ ،‬إلرضاء‬
‫مه بطين‪ ،‬وأمن جسدي؟ عىل األقل مه يسعون لروح ابقية‪،‬‬
‫ولو أخطئوا طريقها‪ ،‬وأان ال أسعى إال لسالمة جسد فان‪ ،‬وإن‬
‫أصبت الطريق‪.‬‬
‫هنا اكنت حلظة حامسة‪ ،‬قطعت دابر أفاكري اخلانعة‪ ،‬وأعادت‬
‫لعزمييت إخالصها‪ ،‬وأوقدت انر احلرب ضد األسود يف قليب‪.‬‬
‫استيقظ يف قليب اآلن جزء صغري أماته موت أيب‪ .‬اجلزء‬
‫الوحيد اذلي اكن يفهم مل ذهب أيب لقتال مع الوريث‪ ،‬وملاذا‬
‫قتهل المكد حيامن عمل بكذبه‪ ،‬رمغ إدراكه أن الهزمية قد حلت علينا‬
‫من قبلها‪ .‬ورمغ أن ابيق أجزاء صدري اكنت ال تفهم غري تأييده‬
‫يف الفرار من القرية ومن الزرقاء وقت اخلطر!‬
‫هكذا أخريا خلصت نييت يف رحليت‪ ،‬وحيامن ختلص النية‪ ،‬تأيت‬
‫النهدة!‬
‫ال أدري كيف أاتين اإللهام لزتوير كرامة للفويل! كنا نتجول‬
‫حول جمرى صغري‪ ،‬يبدو أنه اكن ذات يوم قناة للري‪ ،‬فإذا يب‬
‫أجد عىل جانبه بعض البيض الكبري املدفون يف الطني‪ ،‬ففرحت‬
‫به وأرسعت حنوه مس تبرشا‪ ،‬لكن تميور أوقفين بقوهل‪:‬‬
‫"دعك من هذا‪ ،‬فهو ليس بيض طيور‪ ،‬بل بيض متاس يح!"‬
‫"ماذا؟"‬

‫‪244‬‬
‫"بيض متاس يح!"‬
‫نظرت هل مستنكرا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"بيض متاس يح! مل أمسع مبثل هذه األجعوبة من قبل! وما أدراك‬
‫أنت؟"‬
‫قال‪":‬رأيته من قبل‪ ،‬ففي أوقات اجلفاف‪ ،‬نذهب حنن أهل‬
‫ساوة يف قوافل كبرية‪ ،‬نشرتي الغالل والتقاوي من اجلنوب‬
‫وأقىص اجلنوب‪ .‬وهناك تكرث الامتس يح عىل ضفاف الهنر‪ ،‬وقد‬
‫رأيت بيضها‪ ،‬وأخربين عنه أهل البالد‪ .‬الامتس يح هناك كبرية‬
‫جدا‪ ،‬ورشسة‪ ،‬وأعدادها أكرث من هنا بكثري‪ .‬ففي اجلنوب‬
‫موطهنا‪ ،‬ومن ضفافه منبعها‪ .‬وإن اكنت هنا أكرث بكثري من‬
‫العامصة وما وراءها‪ ،‬ال أدري كيف‪".‬‬
‫قلت مخمنا‪:‬‬
‫"رمبا لكرثة الوحل‪ ،‬وقةل البرش‪".‬‬
‫مث قفزت ذلهين تكل الكرامة الفريدة! فقصدت اجملاذيب بعد‬
‫صالة الفجر‪ ،‬وقلت إلماهمم بصوت يسمعه امجليع‬
‫"قد جاءين الش يخ الفويل يف املنام‪ ،‬وأخربين إنه غاضب‬
‫عليمك‪ ،‬وأنمك جيب أن ترتكوين أعرب‪".‬‬
‫نظر يل مستنكرا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"إن كنت قد رأيته حقا‪ ،‬فصفه لنا!"‬

‫‪245‬‬
‫مل يفاجئين سؤاهل‪ ،‬إذ كنت أعددت هل العدة‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"قد اكن يف وهجه نور ساطع‪ ،‬ويرتدي الثياب اخلرض‬
‫اإلس تربق! وبني حاجبيه نور‪ ،‬ويف عينيه صفاء‪ ،‬ويف وهجه نعمي‬
‫اجلنة!"‬
‫قال أحد اجملاذيب‪:‬‬
‫"هللا أكرب!"‬
‫نظر يل اإلمام بغيظ‪ ،‬بيامن التف حويل البقية مصدقني‪ ،‬رمغ‬
‫إنين مل أذكر هلم صفة واحدة تعرف!‬
‫ابدرت ابلالكم‪:‬‬
‫"قد أخربين إن الصدأ عال قلوبمك‪ ،‬وأنمك لن تصدقوين‪ ،‬ذلا‬
‫فس ميسخ هللا طعاممك‪ ،‬مث رشابمك‪ ،‬مث ميسخمك أنفسمك‪ ،‬إن مل‬
‫ختلوا بيين وبني درب اجلهاد‪ ،‬إلصالح سبيل املسلمني!"‬
‫نظر يل اإلمام بغضب جامح‪ ،‬ورصخ‪:‬‬
‫"أعىل قلوبنا حنن الصدأ أاها الفاسق؟ وماذا تعين مبسخ‬
‫طعامنا؟"‬
‫بدا يل أن أول بذرة حليليت قد منت‪ ،‬فالغضب يف سؤاهل األول‬
‫مل خيف القلق يف سؤاهل الثاين!‬
‫هززت كتفي حائرا‪ ،‬وقلت‪:‬‬

‫‪246‬‬
‫"ال أدري! هذا هو ما قاهل يل‪ ،‬وقد جئت أخربك به‪ ،‬ألرحي‬
‫مضريي‪ ،‬وأنفذ وصيته‪".‬‬
‫نظر يل متأمال‪ ،‬كأمنا حياول رؤية ما بصدري‪ ،‬مث يأس‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"إ ًذا‪ ،‬فاذهب اآلن‪ ،‬وسننظر يف أمرك‪".‬‬
‫تركته‪ ،‬وأخذت تميور معي‪ ،‬فسألين مبهتها‪:‬‬
‫"أحقا جاءك س يدان الفويل‪ ،‬وس ميسخ اجملاذيب؟"‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"ال تكن أمحقا اي غالم! األولياء ال يرضون وال ينفعون بعد‬
‫مماهتم‪ ،‬وليس هلم إال ادلعوة الصاحلة يف حياهتم‪ .‬ربك وحده هو‬
‫الضار النافع‪".‬‬
‫هز كتفيه وقال‪:‬‬
‫"إمنا نتربك هبم‪".‬‬
‫قلت بغضب‪:‬‬
‫"اخلطوة األوىل عىل سبيل قوم نوح‪ .‬أما قرأت يف كتاب هللا‬
‫تعاىل (ما نعبدمه إال ليقربوان إىل هللا زلفى)؟"‬
‫قال تميور‪:‬‬
‫"إ ًذا فمل قلت هذا للرجل؟"‬
‫أرشت هل ليرسع خلفي‪ ،‬وقلت‪:‬‬

‫‪247‬‬
‫"اتبعين يف مصت‪".‬‬
‫ويف الصباح التايل‪ ،‬اكن ادلراويش قلقون‪ ،‬يهتامسون إذا‬
‫رأوين‪ ،‬والحظت أن البيض قد اختفى من طعاهمم‪ ،‬اذلي‬
‫يضيفوننا عليه‪.‬‬
‫ولثالثة أايم متتالية‪ ،‬ظل ادلراويش يصدمون‪ ،‬لكام أرادوا مجع‬
‫البيض من حظائرمه‪ .‬ورسعان ما علمت أاهنم جيدونه مليئا ابدلم‬
‫حيوي أشاكال كراهة‪ ،‬فيلقونه فزعني‪.‬‬
‫لكهنم مل يزتحزحوا عن عنادمه‪ ،‬وظننت أن الفشل آت‬
‫خلطيت‪ ،‬ما مل أجد الطريقة ملسخ رشاهبم‪.‬‬
‫لكن يف الهنار الرابع‪ ،‬مسعت رصاخا واستنهادا‪ ،‬فهنضت‬
‫مفزوعا ومعي تميور‪ ،‬ألجد أحدمه قد أمسكت به الامتس يح عند‬
‫حظرية ادلجاج‪.‬‬
‫اكن متساحا هموال‪ ،‬مل أر يف حيايت مثيهل‪ ،‬يقبض بأس نان من‬
‫حديد عىل ذراع أحد ادلراويش‪ ،‬وجيرره جرا‪ ،‬بيامن اجملاذيب‬
‫يرصخون‪ ،‬واهوون بعصهيم عىل الوحش دون جدوى‪.‬‬
‫هويت برحمي عىل عنق المتساح‪ ،‬فأفلت ذراع املسكني‪،‬‬
‫والتفت حنوي بعينني صفراوتني حتنان لدلم‪ .‬اكن جدله القوي قد‬
‫أمّنه من الرضبة األول‪،‬ى فدفعت ابلثانية يف مفه الفاغر‪ ،‬لينبثق‬
‫منه ادلم الغزير‪ ،‬فقبض عىل الرمح بأس نانه‪ ،‬مل أس تطع نزعه‬
‫مهنا‪ ،‬وهوى بذيهل حنوي‪ ،‬فتفاديته‪ ،‬وأخرجت س يفي وجال‪،‬‬

‫‪248‬‬
‫أحتاىش هذا الوحش املريع‪ ،‬وهتفت بتميور أن خيرج اجلرحي‬
‫بعيدا عن هنا‪.‬‬
‫نظرت متحفزا للمتساح‪ ،‬فوجدت خلفه متاس يح أخرى‪ ،‬متأل‬
‫حظرية ادلجاج‪ ،‬وإن اكنت حلسن احلظ أصغر جحام‪ .‬فرتاجعت‬
‫ببطء‪ ،‬والوحش يتبعين‪ ،‬وقد أثقهل الرمح املغروس يف فكه‪ ،‬مث‬
‫قفزت عليه مرة واحدة‪ ،‬وهويت ابلس يف بأقىص قويت عىل‬
‫رأسه‪ ،‬لكن الرضبة بدت دون أثر يذكر‪ .‬ورد عيل بلطمة من‬
‫ذيهل‪ ،‬أوقعتين‪ ،‬وأسالت ادلم من رأيس‪ ،‬وأحسست بعينه‬
‫تنظر يل يف شهوة املنترص‪ ،‬فأصابين الفزع‪ ،‬ودفعت بس يفي دفع‬
‫اليائس‪ ،‬فأصاب عنقه‪.‬‬
‫ويبدو أن الرضبة اكنت يف موضع رضبة أخرى جشت جدله‪،‬‬
‫فغرس الس يف يف جسده‪ ،‬ودفعته بإرصار يف اللحم القايس‬
‫حىت املقبض‪ ،‬مث أخرجته ملطخا ابدلماء‪ ،‬مبتعدا عن انتفاضة‬
‫اجلرحي‪ ،‬اذلي رسعان ما مهد إىل األبد‪.‬‬
‫اهنضت مرسعا بس يفي‪ ،‬فشطرت متساحا صغريا إىل نصفني‪،‬‬
‫ورسعان ما أىت تميور وابيق ادلراويش‪ ،‬حيملون الفئوس‪،‬‬
‫وميزقون أرساب الامتس يح حىت لكت أيدينا‪ ،‬وسالت ادلماء‪،‬‬
‫فصبغت الربكة اليت يرشبون مهنا ابللون األمحر‪.‬‬
‫وعدت جلثة المتساح العمالق‪ ،‬فزنعت رحمي منه بصعوبة‪،‬‬
‫ورفعته حنو السامء‪ ،‬أرقب ما أصابه من رضر يف ضوء الشمس‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫والتفت‪ ،‬فوجدت ادلراويش ينظرون يل بإجالل ورهبة‪ ،‬مث‬
‫اندفعوا حنوي معتذرين عام سلف‪ ،‬ويشكرونين عىل إنقاذ‬
‫زميلهم‪ .‬شكر مل أشعر أنين أس تحقه‪ ،‬فأان السبب فامي أصاب‬
‫الرجل‪ .‬ومغرين الندم‪ ،‬لو فقد هذا ادلرويش ذراعه‪ ،‬فإمنا حدث‬
‫هذا ألنين كنت أختلس بيض الامتس يح‪ ،‬وأبدل به بيض ادلجاج‬
‫أثناء الليل‪ ،‬وأتت أم الوحوش تبحث عن أبناهئا اذلين رسقهتم‪.‬‬
‫لكين حيامن ذهبت للجرحي اطمأننت‪ .‬وتوليت بنفيس غسل‬
‫اجلرح‪ ،‬وتنظيفه‪ ،‬ومعاجلته‪ .‬مل أفقد بعد ما تعلمته وأان صغري عىل‬
‫يد طبيب حاذق‪ ،‬اكن معنا مع الهاربني من الزرقاء‪ ،‬وقد اختذين‬
‫مساعدا‪ ،‬ألنين أصغر املوجودين وأخفهم يدا‪ .‬رمح هللا الطبيب‬
‫ابن جلجمة‪ ،‬فقد تعلمت منه عالج اجلروح‪ ،‬فعاجلت جرح‬
‫ذنيب‪ ،‬وأدركت أن الرجل لن يفقد ذراعه بإذن هللا‪ ،‬وأنه مازال‬
‫يس تطيع حتريكها عىل خري‪.‬‬
‫وبقيت طوال األس بوع التايل أرعى الرجل اجلرحي‪ ،‬وامسه‬
‫مغبون ابن مظلوم‪ .‬ال أدري أهل نصيب من امسه‪ ،‬أم مه لقبوه‬
‫هبذا بسبب حظه! وبعد أن زال اخلطر‪ ،‬ومل تدمهه امحلى‪ ،‬وبدأ‬
‫يشفى بأمر هللا الشايف‪ ،‬مسح يل اجملاذيب بعبور أرضهم‪ ،‬عىل‬
‫أن أزور رضحي س يدان الفويل واس تعطفه‪ ،‬أال ميسخوا كام مسخ‬
‫الطعام واملاء!‬

‫‪250‬‬
‫وزرت الرضحي‪ ،‬وقرأت هل الفاحتة‪ .‬أحسست هناك أنين‬
‫ابلفعل يف ماكن مربوك‪ ،‬جوار رجل صاحل بريء مما حوهل من‬
‫بدع منكرة‪ .‬فدعوت هللا أن يوفقين يف أمري‪ ،‬ويوفق اجملاذيب‬
‫للهدى‪.‬‬
‫ومشيت يف أمان‪ ،‬عابرا أرض جماذيب الفويل‪ ،‬ومعنا مهنم‬
‫واحد يلكم بقية جامعاهتم‪ ،‬ليرتكوان منر‪ ،‬وهو خيربمه بكرامة‬
‫الش يخ اجلديدة‪.‬‬
‫وقبل أن أغادر آخر أرضهم‪ ،‬قلت دللييل‪:‬‬
‫"الش يخ الفويل غاضب حقا عليمك‪ .‬هو يرى‪ ،‬وأظنه احلق‪،‬‬
‫أنمك قدمستوه أكرث من الالزم‪ ،‬وهللا وحده هو القدوس‪ .‬وإن‬
‫هذا لزيلقمك إىل الرشك‪ ،‬وقد اكن هذا ما خيشاه منمك يف حياته‪،‬‬
‫فقد أوقعمتوه بعد مماته‪ ،‬فاتقوا طريق قوم نوح‪".‬‬
‫تركين الرجل دامع العينني‪ ،‬مصدقا ملقوليت‪ ،‬ورآها كرامة‬
‫أخرى! إذ كيف علمت أن الش يخ الفويل اكن خيشامه ويهنرمه يف‬
‫حياته؟‬
‫وتركت أولئك القوم الطيبني املساكني‪ ،‬ومضيت يف طريقي حنو‬
‫الثغر الصغري‪ ،‬ال أدري ما يصيبين فيه‪ ،‬وهو كأرض الفويل ال‬
‫همرب منه‪ ،‬بل أشد‪ ،‬ألن ال عبور لفرع الهنر األخري‪ ،‬إال‬
‫جبرسمه اذلي يقف عليه حرس حامكهم الظامل‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫(‪)22‬‬

‫ال أدري‪ ،‬لعلها براكت الش يخ الفويل قد حلت علينا فعال! فقد‬
‫اكن أمران سهال‪ .‬عربان من أرضه‪ ،‬وما وراءها بيرس‪ ،‬وعربان‬
‫فروع الهنر دون مشقة‪ ،‬حىت أتينا للفرع الرشيق األخري‪ ،‬أكرثمه‬
‫غزارة ومعقا‪ ،‬وأصعهبم يف العبور إال جبرس كبري‪ ،‬بناه أهل الثغر‬
‫الصغري‪ ،‬ألجل جتارهتم مع أهل الشامل‪ .‬وألنه يؤدي لقلب‬
‫مدينهتم مبارشة‪ ،‬فقد اكن احلرس املشدد عليه ال ينام‪.‬‬
‫لكن لعلها كام قلت‪ ،‬براكت س يدان الفويل‪ .‬فقد وجدت اجلرس‬
‫خاليا‪ ،‬ال حارس عليه‪ ،‬وال عابر فوقه!‬
‫اكن يبدو‪ ،‬هو وغرفة احلرس‪ ،‬همملني‪ ،‬يعلومه الرتاب والعفن‪.‬‬
‫رمبا بعدما جهرت األرايض غرب املدينة‪ ،‬ترك الناس اجلرس‪ ،‬بعد‬
‫أن أصبح بال نفع!‬
‫ودخلنا للمدينة بسهوةل ويرس‪ ،‬واشرتينا راحةل من سوقها‪،‬‬
‫دون إزعاج‪ ،‬وأتينا ابلزاد والزواد‪ ،‬وتوهجنا لبوابة املدينة‬
‫اجلنوبية‪ ،‬نبغي اخلروج مطمئنني‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫وهنا انهتت آخر أايم السالمة يف رحلتنا‪ ،‬وبدأت متاعبنا‬
‫األكرث خشونة‪.‬‬
‫قبض علينا حراس الوايل‪ ،‬وحنن عىل البوابة‪ ،‬واقتادوان بغلظة‬
‫هل‪.‬‬
‫اكن الوايل رجال مسينا جدا‪ ،‬يبلغ من معره األربعني تقريبا‪،‬‬
‫وخيفي نصف وهجه أسفل عاممة خضمة من احلرير‪ ،‬مزينة بريش‬
‫كبري‪ ،‬ال أدهش إن اكن ريش النعام! ويتدىل مهنا عقود لؤلؤ‪ ،‬يف‬
‫مجهرة للبذخ والتفاخر‪ ،‬تؤذي العني ولذلوق السلمي‪ .‬وأما نصف‬
‫وهجه الثاين‪ ،‬فقد اختبأ خلف شارب عظمي‪ ،‬مل أر يف حيايت هل‬
‫مثيال‪ ،‬وهو ال ينفك يربمه وميسحه‪ ،‬بعد لك لكمة يقولها‪.‬‬
‫اكن جيلس فوق عرش عال جدا‪ ،‬حىت لو أن أحدمه دفعه من‬
‫أعاله‪ ،‬لسقط ميتا‪ .‬فاكن علينا‪ ،‬وقد ألصقوان بأسفل العرش‬
‫راكعني‪ ،‬أن نرفع رقبتينا عالية‪ ،‬لننظر هل‪ ،‬حىت أصاب األمل‬
‫عنقينا‪ .‬وال أدري مل لك هذا الكرب يف نفسه!‬
‫تلكم بلسان معوج‪ ،‬نصف أجعمي‪ ،‬متعرث يف حبات التني‪ ،‬اليت‬
‫يلقهيا يف مفه الكبرين كام نلقي حنن حبات الزبيب يف أفواهنا‪ ،‬فمل‬
‫أفهم منه لكمة واحدة! لكن رجاهل ردوا عليه بقوهلم‪:‬‬
‫"قبضنا علهيم عند الباب اجلنويب‪ ،‬يريدون اخلروج‪ ،‬وقد‬
‫اعرتفوا أاهنم غرابء عن املدينة‪ ،‬ومل جند معهم أوراق دخولها‪،‬‬
‫فعلمنا أاهنم متسللون‪".‬‬

‫‪253‬‬
‫سأل الوايل سؤالا آخر‪ ،‬مل أفهمه‪ ،‬فأجاب رجهل‪:‬‬
‫"اكن معهام راحةل‪ ،‬وطعاما يكفي ملسافة بعيدة‪ ،‬فشككنا يف‬
‫أمرهام‪ ،‬لعلهام جاسوسني‪".‬‬
‫تلكم الوايل مرة أخرى‪ ،‬بطريقته املتغطرسة املتعرثة املقيتة‬
‫‪،‬واحتاج األمر مين هجدا‪ ،‬ل ي أفهم أنه حيدثنا حنن‪ ،‬وأنه عىل‬
‫األرحج يسألنا من حنن‪ ،‬وإىل أين نذهب‪.‬‬
‫وقبل أن أفك طالمس الفم الغليظ‪ ،‬تدخل مف خميف آخر! مف‬
‫ثراثر خفيف العقل! فيبدو أن احلرس أدركوا أننا لن نفهم مقاةل‬
‫الوايل‪ ،‬وألن تميور اكن متأخرا خلفي‪ ،‬فقد مهس احلرس هل‬
‫بتفسري سؤال الوايل‪ ،‬فأرسع جييب حبامقة قبيل‪.‬‬
‫قال تميور‪:‬‬
‫"أان تميور الساوايت‪ .‬من آل العالف يف ساوة‪ ،‬وحنن أنس باء‬
‫املكل‪".‬‬
‫أردت الالتفات هل‪ ،‬ألخرسه؛ لكن أحد احلرس لطمين‪ ،‬ألعود‬
‫لرفع رأيس حنو الوايل‪ ،‬وأمكل األمحق‪:‬‬
‫"وهذا هو القبيل‪ ،‬زعمي الغيالن امحلر‪ ،‬وحنن ذاهبان إىل‬
‫طرابل لـــ‪"...........‬‬
‫مل يمكل ألن يدي هوت عىل ركبته ألخرسه‪ .‬ولكن بعد أن‬
‫وقعت الواقعة!‬

‫‪254‬‬
‫ابلطبع صادروا أموالنا‪ ،‬وأسلحتنا‪ ،‬واقتادوان للسجن‪ .‬فالوايل‬
‫ممن يراءون القائد األسود‪ ،‬وقد أتته كام أفهمنا حرسه أنباء الوفود‬
‫اذلاهبة للوريث‪ ،‬فأدرك بفضل حامقة تميور‪ ،‬اذلي قال إنه من‬
‫أنس باء املكل‪ ،‬أننا وفد مثلهم‪ ،‬لكن معاد لألسود!‬
‫اكن السجن يف أسفل القرص مظلام كئيبا واسعا‪ ،‬لكهنم ألقوا‬
‫فيه بلك السجناء معا‪ ،‬فضاق هبم‪ .‬وما أن دخلناه‪ ،‬حىت التف‬
‫حولنا ثالثة رجال خضام اجلثة!‬
‫قال هذا اذلي عىل مييين‪:‬‬
‫"من أنمت؟"‬
‫أما اذلي عىل يسار تميور فقال‪:‬‬
‫"ما اذلي ألقى بمك هنا؟"‬
‫وأتبعه الثالث من أمامنا‪:‬‬
‫"يبدو أاهنم خرس بمك!"‬
‫وهنا ابغتنا الرابع من خلفنا بصوت أجش‪:‬‬
‫"مه خدم جديد ملكل السجن‪ ،‬وسيبدءون بدفع التقدمة‬
‫اآلن!"‬

‫‪255‬‬
‫(‪)23‬‬

‫هوى أحد الرجال األربعة عىل كتف تميور‪ ،‬كأمنا يصاحفه‪ ،‬لكن‬
‫يده هوت‪ ،‬وهوت بتميور ذاته معها! وبدت ابتسامة خبيثة عىل‬
‫وجوه الرجال األربعة‪ ،‬وامتأل عقيل برعب الفهم! س يفتتحون‬
‫ليلتنا برضبنا‪ ،‬وحتطمي ضلوعنا كتقدمة لزعمي الزنزانة‪ .‬ويف هذه‬
‫اللحظة‪ ،‬ضاع مين أي أثر للغيالن‪ ،‬وامحلر‪ ،‬واألسود‪ ،‬والقتال!‬
‫ال أحب أن أرضب؛ وإن وجدت نفيس دون سالح‪ ،‬حماطا‬
‫بأربعة عامليق‪ ،‬فسأفعل لك ما يطلبونه مين دون تردد!‬
‫لكن النهدة أتت من حيث ال حنتسب‪ ،‬فأحد احلرس ابخلارج‬
‫هتف‪:‬‬
‫"اي لكثوم دعهم‪ ،‬فهذا من الغيالن امحلر‪".‬‬
‫جتمدت الزنزانة لكها‪ ،‬قبل أن يهنض لك من فهيا‪ ،‬وينظر‬
‫حنوان‪ ،‬كأمنا يرون أجعوبة من أعاجيب ادلهر‪ .‬أاكد أزمع أن قوم‬
‫مثود ما نظروا بأجعب من هذا إىل انقة صاحل!‬

‫‪256‬‬
‫حنن هنا يف الرشق ويف شامهل حتديدا‪ ،‬حيث للغيالن ذكرى‬
‫قوية‪ .‬فهنا نش ئوا وتسلطنوا‪ ،‬واكنت تكل املدينة أول املدن‬
‫الكبرية خضوعا هلم‪ ،‬وأول من ذاقت طعم خطف األبناء عىل يد‬
‫الغيالن‪ .‬ذلا فقد اكن للقيب رهبة يف النفوس‪ ،‬مل أجدها يف أي‬
‫إقلمي آخر‪ .‬حىت يف اجلنوب الرشيق اجملاور هلم‪ ،‬نزع األساودة‬
‫الكثري من ذكرى الغيالن امحلر‪.‬‬
‫وتكل اذلكرى املرهبة يه ما أنقذتنا تكل الليةل‪ ،‬كام أخربين‬
‫الشاطر عدانن‪.‬‬
‫اكن هذا اللكثوم هو العمالق‪ ،‬اذلي أىت من خلفنا‪ .‬اكن خضام‬
‫جدا‪ ،‬حىت إن جحمه مياثل الثالثة اآلخرين جممتعني! ويظهر عىل‬
‫وهجه حملات ذاكء‪ ،‬عىل األقل تفوق رجاهل‪.‬‬
‫أجلس نا لكثوم معه‪ ،‬وأفرد لنا ماكان مرحيا‪ ،‬تفوح منه راحئة نتنة‬
‫وسألين‪:‬‬
‫"أنت من الغيالن امحلر حقا؟ ظننهتم ابدوا؟"‬
‫أجبته مبثل جوايب لش يخ بين األسود‪:‬‬
‫"لقد عدان‪".‬‬
‫نظر حنوي بفضول وقال‪:‬‬
‫"قد قتل جدي عىل يد الغيالن حيامن اختطفوا أيخ األكرب‪،‬‬
‫وقد قتل هو اآلخر يف حروهبم‪ ،‬اليت ال انقة لنا فهيا وال مجل‪".‬‬

‫‪257‬‬
‫ابتلعت ريقي بصعوبة حماوال الامتسك‪ .‬لو اكن اكرها للغيالن‪،‬‬
‫فأن خيشاان أفضل من أن يأمن لنا‪.‬‬
‫قلت حموال احلديث انحيته‪:‬‬
‫"ظننتك أصغر س نا من هذا؟"‬
‫قال بفخر‪:‬‬
‫"أان من أرسة معمرة‪ ،‬كام إنين ودلت بعد هذا األمر بعقود‪،‬‬
‫أقول كل احلق‪ ،‬إنين أكره الغيالن امحلر‪ ،‬وأقولها رصاحة بال‬
‫خش ية‪ .‬لكن هؤالء رجايل‪ ،‬أكره أن أدخلهم عدا ًء ال داع هل‪".‬‬
‫تذكرت قوال قرأته يف كتاب الشهاعة‪ ،‬اذلي اكن تسلييت‬
‫الوحيدة أثناء انتظاران عىل بوابة الفويل‪:‬‬
‫"الغول األمحر احلق‪ ،‬ليس اذلي يتبع الغيالن‪ ،‬وإمنا اذلي ال‬
‫اهاب حىت الغيالن‪".‬‬
‫قال متربما‪:‬‬
‫"ما هذا الهراء؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"قانوننا السابع والثالثني‪".‬‬
‫فتح عينيه بدهشة‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪258‬‬
‫"إ ًذأ فأنت غول أمحر حقا! سأرى ما يقوهل الشاطر يف أمرك‪.‬‬
‫ما كنت ألقطع يف هذا الشأن دونه‪".‬‬
‫مل أفهم‪ ،‬ومل أسأل‪ ،‬فاليوم ظهرت يل حكومة أخرى‪ ،‬تس يطر‬
‫عىل قاع املدينة وجسهنا‪ ،‬بقبضة أقوى من قبضة الوايل الظامل‬
‫عىل بقيهتا‪ .‬وظهر أن هؤالء الصعاليك واحلرافيش‪ ،‬يأمترون بأمر‬
‫واحد‪ ،‬وفوجئت مفاجأة مل ترسين‪ ،‬إن هذا اللكثوم الغليظ ليس‬
‫سوى بلطجي أقوى من غريه‪ ،‬يبسط نفوذه عىل السجن وإمنا‬
‫هو اتبع لزعمي آخر‪ ،‬هذا اذلي يلقبه ابلشاطر‪ ،‬وال أدري‪ ،‬إن‬
‫اكن هذا هو التابع‪ ،‬فأىن يل بلقاء املتبوع؟‬
‫عند الفجر أيقظنا لكثوم‪ ،‬وأخذان لباب الزنزانة‪ ،‬فسألته‪:‬‬
‫"ماذا تريد اي لكثوم؟ ثأر جدك؟"‬
‫حضك اكشفا أس نانه املسودة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"الك! إمنا سأخرجكام من هنا‪".‬‬
‫قلت بلهفة‪:‬‬
‫"ماذا؟ كيف؟ دلنا عىل الطريق‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أخربين أوال ماذا تريد الغيالن من هذه البدل؟"‬

‫‪259‬‬
‫فتح تميور مفه‪ ،‬ليلقي باكرثة أخرى عىل األرحج‪ ،‬لوال أن‬
‫س بقته بقويل‪:‬‬
‫"ال يشء‪ .‬فقط كنا ذاهبني إىل طرابل‪ ،‬لزايرة أقارب هذا‬
‫الشاب‪".‬‬
‫نظر يل بسخرية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أهو من الغيالن؟ طبعا ال! إ ًذا مل تصحبه؟"‬
‫قلت برصامة‪:‬‬
‫"هذا شأن من ش ئون الغيالن‪".‬‬
‫النت مالحمه جفأة‪ ،‬وقال هماودا‪:‬‬
‫"حس نا‪ ،‬حس نا! أخربين الشاطر إنكام ذاهبان الس تدعاء‬
‫املكل حلرب كبرية مع بين األسود! واألمر يقلق الوايل كثريا‪،‬‬
‫ولعهل يفكر يف قتلكام‪ .‬لكن الشاطر يريدكام هو اآلخر‪ ،‬ألنه ينقم‬
‫عليكام إضاعتكام لوس يةل! وملا اكن األمر كذكل‪ ،‬فقد أخربين قائد‬
‫احلرس أن نرحيه منكام‪ ،‬ونرحيكام منه‪ ،‬فهو يكره أن يكون هل ثأر‬
‫مع الغيالن إن قتلمتتا هنا‪ ،‬وال يأمن بقاءكام معنا‪ ،‬ذلا حفني‬
‫نذهب الس تعادة وس يةل‪ ،‬فس يغفل عنكام احلرس‪".‬‬
‫مل أفهم شيئا مما قال! اكن يتلكم ببساطة عن أش ياء ال أعرفها‪،‬‬
‫وأحداث ال يقبلها العقل! من يه وس يةل؟ وكيف أضعناها؟‬

‫‪260‬‬
‫وكيف حيادثه قائد احلرس هبذه البساطة عن هروبنا؟ ومن هو‬
‫الشاطر أصال‪ ،‬وكيف عرف مبقصدان؟‬
‫لكن مل يكن هناك الكثري مما أحتاج لفهمه‪ ،‬فقد أتتين رضبة‬
‫عىل رأيس‪ ،‬وألقوا كيسا عىل وهجىي‪ ،‬وحسبوين وتميور للخارج‬
‫اكجلوالني!‬
‫ظنوا أين فقدت الرشد‪ ،‬وساعدهتم عىل ذكل‪ ،‬ألنه ال حاجة‬
‫يل لرضبة مؤملة أخرى! وانتهبت لسامع ما حيدث حويل‪،‬‬
‫فوجدت أصواات زاعقة‪ ،‬وصليل س يوف‪ ،‬وهتاف إن الغول‬
‫خطف س يفا‪ ،‬وهامج احلرس بيامن الغول يف احلقيقة ملقى عىل‬
‫عربة كراهة الراحئة‪ ،‬ظننهتا يف البداية حتمل القاممة‪ ،‬مث عرفت‬
‫فهيا الطعام اذلي يقدم للمساجني! وبرسعة الربق‪ ،‬كنا مجيعا‬
‫خارج القرص!‬
‫أاهنضوين‪ ،‬وافاقوين جبهد (فقد أجدت المتثيل‪ ،‬علهيم دلرجة أن‬
‫ألقوا عيل بوعائني من ماء قذر!) ففتحت عيين أخريا‪ ،‬أرقب ما‬
‫حويل‪ ،‬فوجدت رجال مألوف املظهر‪ ،‬ال أذكر أين رأيته من‬
‫قبل‪.‬‬
‫مث نظرت حويل‪ ،‬ألجد تميور مثيل‪ ،‬وجواره لكثوم يفيقه‪،‬‬
‫ونظرت لعربة الطعام‪ ،‬فرأيت ادلابة اليت جترها‪ ،‬فعرفهتا وتذكرت‬
‫من هذا الواقف أمايم!‬
‫ابتسم يل‪ ،‬وسألين بلههة ودودة‪:‬‬

‫‪261‬‬
‫"كيف حاكل أاها الغول اهلامم؟ كام ترى فقد أصلحنا ذنبك‪،‬‬
‫واس تعدان وس يةل!"‬
‫نظرت هل حماوال الفهم‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"وس يةل؟ أيه ادلابة اليت اشرتيهتا منك ابألمس؟"‬
‫عقد حاجبيه وقال‪:‬‬
‫"ال تقل عىل وس يةل دابة! إمنا يه أفضل دابة يف العامل‪ ،‬أبيعها‬
‫يف الصباح لساذج مثكل‪ ،‬فتعود يل يف املساء محمةل مبتاعه‬
‫وأمواهل! ذلا فهىي مثينة جدا عندي‪ ،‬وال أقوى عىل فراقها!"‬
‫نظرت إليه متعجبا‪ ،‬فمل أمسع يف حيايت مبثل هذه احليةل‪ ،‬عىل‬
‫كرثة ما مسعت من طرائف احملتالني والشطار‪.‬‬
‫سألته‪:‬‬
‫"أنت هو الشاطر أليس كذكل؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"حمسوبك الشهبندر عدانن‪ ،‬كبري جتار سوق ادلواب ابلثغر‬
‫صباحا‪ ،‬والشاطر عدانن املكل املسايئ للمدينة!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"عىل لك أشكرك إلنقاذان‪".‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪262‬‬
‫"حس نا ما أن أخربين لكثوم – آه! – تذكرت! اي لكثوم‪ ،‬جيب‬
‫عليك أن تعود للسجن قبل طعام الغذاء! ماذا كنت أقول؟‬
‫حس نا! ما أن أخربين لكثوم بوجود غول أمحر يف زنزانته‪ ،‬حىت‬
‫معيل‬
‫ابهتجت! ليس ألن أجدادي اكنوا مهنم كام ظن‪ ،‬فأان رجل ّ‬
‫يرتك األموات يف قبورها‪ ،‬وال ينازعها يف أجمادها! وإمنا ألنه‬
‫س تلصق بك هتمة اقتحام القرص‪ ،‬ورسقته‪ ،‬بدال من رجايل‬
‫حيامن‪ ،‬نذهب الس تعادة وس يةل! ولوال هذا‪ ،‬لقام الوايل مبصادرة‬
‫لك نياق السوق ثأرا!"‬
‫قلت بغضب‪:‬‬
‫"هذا الوايل الظامل‪ .‬حامت سأراه هالاك‪ ،‬حيامن تنهتىي احلروب من‬
‫البالد‪".‬‬
‫قال الشاطر عدانن‪:‬‬
‫"تنهتىي احلروب! ألها اهناية! عىل أي حال ال أظن أن هذا‬
‫س يحدث‪ ،‬ألنه سينحين للحامك اجلديد‪ ،‬بنفس امحلاسة‬
‫واإلخالص‪ ،‬اللتان ينحين هبام لفرق الفرجنة اخملتلفة‪ ،‬وسادات‬
‫األهبال! ويداهنه كام يداهن ملوك الصيادية‪ ،‬والسور العيل‪،‬‬
‫وقبائل األسود! لك حامك قوي حيتاج لبعض من ينحنون هل‪،‬‬
‫والوايل جييد هذا بشدة!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"رائع! تضيف هل هتميت النفاق واخليانة!"‬

‫‪263‬‬
‫هز رأسه نفيا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"عزيزي‪ ،‬أان مدين لهذا احلامك بثالثة خصال‪ .‬األوىل‪ ،‬إن يف‬
‫عهده السعيد‪ ،‬أصبحت أان اللص احلقري‪ ،‬زعامي مطاعا يف‬
‫املدينة‪ ،‬وبفضل املال يتلقى قائد احلرس أوامري‪ ،‬قبل أوامره‬
‫أحياان! والثانية‪ ،‬إنه بإحنناءه للك من حولنا من طغاة‪ ،‬أنقذ‬
‫املدينة من ادلمار واخلراب‪ ،‬ولو أىت حامك آخر ميكل ذرة من‬
‫كرامة لهذه املدينة‪ ،‬لتسبب يف هدهما عىل رؤوس نا! متاما كام‬
‫حدث لغريان من املدن‪ .‬والثالثة‪ ،‬إنه ال حيب القتل‪ ،‬ولعكل أنت‬
‫نفسك مدين هل هبذه! ومك من مرة أمسك فهيا بلكثوم‪ ،‬فمل يؤذه‬
‫إذا ما اتفقنا إن السجن املل ي‪ ،‬اذلي يعيش فيه‪ ،‬أفضل بكثري‬
‫من اجلحر اذلي ودل فيه!"‬
‫كنت أمسع هل بنصف أذن‪ ،‬ألن عقيل مشغول مبصريي مع هذا‬
‫الشاطر‪ .‬كنت أرحج أنه لن يقتلنا‪ ،‬ولكين أشك يف أنه س يرتكنا‬
‫نرحل هبدوء‪ ،‬ورمبا اكن خري ما أفعهل هو أن أتشبث بزي‬
‫الغيالن امحلر‪ ،‬لعل احلنني ألسالفه ينفعين‪.‬‬
‫ومضت علينا أايم عدة يف (ضيافة) الشاطر عدانن‪ ،‬حىت‬
‫أدركت أنه ينتظر منا مثن إاهناء هذه الضيافة‪ ،‬وهو أمر صعب‬
‫‪،‬بعدما فقدت املال والسالح‪ ،‬ومل يبق يل إال هذا ادلرع‬
‫السخيف اذلي أوقعين يف لك هذه املصائب! وخشيت أن‬

‫‪264‬‬
‫ينتظر المثن من خصومنا‪ ،‬وصارحت تميور هبذا األمر‪ ،‬فأظهر‬
‫يل الفىت أول حملة ذاكء منذ رافقين يف الرحةل!‬
‫ذهب إىل الشاطر‪ ،‬وأخربه أنه يريد اذلهاب للسوق‪ ،‬للبحث‬
‫عن بعض أهل ساوة‪ ،‬يقرتض مهنم ماال ياكفئه به عىل حسن‬
‫ضيافته‪ .‬ودوما يف السوق جتد رجال من أهل ساوة‪ ،‬أو ممن‬
‫يرتددون علهيم‪ ،‬فتهارهتم قد تتسع أحياان حىت تصل لبالد‬
‫احلهاز رشقا‪ ،‬والسواد جنواب‪ ،‬وقد أجادوا معامةل احلاكم يف‬
‫املدن‪ ،‬فمل يعد أحد يتعرض هلم‪ ،‬خاصة إاهنم حيملون أمثن‬
‫سلعة‪ ،‬ذات أرخص مثن‪ ،‬أال ويه الطعام! فال يوجد اللص‬
‫اذلي يطمع فهيم‪ ،‬وال األمري الراغب عهنم!‬
‫عىل أي حال‪ ،‬متت الصفقة‪ .‬فقد أىت الشاطر عدانن بأحد‬
‫جتار ساوة‪ ،‬يدعى أدمه‪ ،‬اكن آتيا هل لرشاء راحةل منه‪ ،‬فقابهل‬
‫تميور وعرفه‪ ،‬واقرتض منه ماال‪ ،‬أعطاه للشاطر مقابل حريتنا‪،‬‬
‫والزاد‪ ،‬والراحةل‪ ،‬اليت اطمأننت أاهنا ليست وس يةل!‬
‫ونصحنا الشاطر عدانن أال نرحل سواي‪ ،‬حىت ال يتذكران‬
‫احلرس‪ ،‬ويقبض علينا مرة أخرى‪ ،‬فرحل تميور مع التاجر أدمه‪،‬‬
‫عىل أن أحلق هبام يف الطريق‪.‬‬
‫وما أن ابتعد تميور وأدمه عن أنظاران‪ ،‬حىت ابغتين رجال‬
‫عدانن وقيدوين!‬
‫نظرت هل نظرة استناكر‪ ،‬ختفي رعيب‪ ،‬فابتسم وقال‪:‬‬

‫‪265‬‬
‫"هذا ابن ساوة قد افتداه ابن ساوة‪ ،‬مفن يفتديك أاها الغول؟‬
‫أخربك أان! لقد أخربين الوايل أثناء غدايئ معه‪ ،‬حيامن اكن يطلب‬
‫مين قرضا‪ ،‬أن القائد األسود يريد زعمي الغيالن امحلر بشدة‪ ،‬وال‬
‫ختف! أظنه لن يقتكل‪ ،‬وس يجزل يل العطاء إن أتيته بك حيا!‬
‫أظنه يريد منمك أاها الغيالن أن تساندوه‪ ،‬أو عىل األقل تكفوه‬
‫حربمك‪".‬‬
‫وهكذا ألبسوين كرها درع الغيالن‪ ،‬ووضعوا س يفهم ورحمي يف‬
‫لفافة‪ ،‬ربطوها خلف ظهري‪ ،‬قبل أن يقيدونين‪ ،‬وتناول الشاطر‬
‫عدانن كتاب الشهاعة‪ ،‬فنظر هل بسخرية‪ ،‬وألقاه يف وهجىي‪،‬‬
‫فوضعه أحد الرجال يف جراب‪ ،‬علقه حبزايم‪.‬‬
‫وقال الشاطر عدانن‪:‬‬
‫"كام ترون اي رجال‪ ،‬حفىت الغيالن امحلر املفزعني ال ميلكون من‬
‫شأاهنم شيئا أمام سطوة املال‪ .‬املال‪ ،‬اذلي أىت هبم يتذللون يل‪،‬‬
‫أان الشاطر عدانن‪ ،‬مكل ليل املدينة‪ ،‬واملال اذلي جعل الوايل‬
‫يبيعين بضائعهم‪ ،‬وجعل القائد األسود يتخلص من عدو مرير‬
‫هل‪".‬‬
‫مث ألصق وهجه بعيين‪ ،‬وحضك بسخرية‪ ،‬وأمكل‪:‬‬
‫"عزيزي زعمي الغيالن! ال تنقم عيل‪ ،‬وعىل أي حال‪ ،‬ال هتمين‬
‫نقمتمك! فأان لست مثل الوايل‪ .‬لن تس تطيع غيالنك أن تذهب‬
‫لقرصي لتؤذيين‪ ،‬أو لقلعيت لتقتلين‪ ،‬ألنين بال قرص وبال قلعة‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫األمر الوحيد اذلي مينعين من إرساكل لألسود جثة هامدة‪ ،‬يه‬
‫إنين أخىش أال تكون من الغيالن‪ ،‬حقا فأثري غيظه‪ .‬حصيح إنه‬
‫لن ينالين هو اآلخر بسوء‪ ،‬لكنه لن جيزل يل العطاء حيهنا‪ .‬ال‬
‫حتزن اي رجل‪ ،‬إاهنا حمض جتارة! وعىل أي حال‪ ،‬كام قلت كل ال‬
‫أخشاك أنت أو األسود‪ ،‬ألن بطش األسد ال ينفع‪ ،‬أمام‬
‫اختالس الربغوث لدلم‪ ،‬مادام الربغوث ال يبقى يف ماكنه‪ .‬أما‬
‫مسعت حباكية األسد والربغوث؟"‬

‫‪267‬‬
‫(‪)24‬‬

‫حيىك أن أسدا قواي ابطشا فرض سلطانه‪ ،‬وبسط حمكه عىل‬


‫لك حيواانت الغابة‪ ،‬وقد زاد يف البطش قامعا لك الوحوش‪،‬‬
‫فال تسمع إال رأيه‪ ،‬وال هتتف إال بتأييده‪.‬‬
‫وحمك عىل لك حيوان يف الغابة أن يقدم هل شيئا من طعامه‬
‫رضيبة‪ .‬واكن يكدس ما يألك وما ال يألك من الطعام‪ ،‬حىت لو‬
‫فسد‪ ،‬مينعه عن اجلائعني من رعيته‪.‬‬
‫مث أىت ذات يوم لكب أجرب‪ ،‬أمسك بقطعة حلم‪ ،‬وقعت من‬
‫أحد اجلزارين‪ ،‬وطارده اجلزار فهرب من القرية للغابة‪ .‬وهناك‬
‫أمسك به حرس األسد‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫"ما هذا اذلي بني أس نانك؟"‬
‫قال هلم‪:‬‬
‫"أان لكب جائع فقري‪ ،‬اختلست شيئا من اجلزار أسد به رمقي‪.‬‬
‫ال تفشو رسي‪ ،‬وامحوين من اجلزار‪ ،‬أكون لمك شاكرا‪".‬‬

‫‪268‬‬
‫حضك النس ناس‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"حنميك من اجلزار اي أبهل! قد أوقعت نفسك يف عداوة من‬
‫اجلزار‪ ،‬ومل تفز ابللحم‪ .‬لن يرتكك احلرس‪ ،‬حىت تقدم للمكل‬
‫شيئا من طعامك‪ ،‬وأنت ال متكل إال قطعة اللحم‪".‬‬
‫وسار اللكب األجرب مقهورا لعرين السد‪ ،‬حفياه وقال‪:‬‬
‫"موالي املكل العظمي‪ ،‬أشكو كل مظلميت‪ .‬قد جوعين أهل‬
‫القرية ونبذوين‪ ،‬وإذ اختلست من اللحم الزنر اليسري‪ ،‬ألجنو‬
‫من املوت جوعا‪ ،‬وجلأت ململكتك‪ ،‬أراد اللئام اإليقاع بينك‬
‫وبني رعيتك‪ ،‬فزمعوا اكذبني أنك راغب يف طعايم‪ ،‬وإين ألراك‬
‫مكل عظمي‪ ،‬يف غىن ورفاهة‪ ،‬فأنصفين من اللئام‪ ،‬وأجرين من‬
‫اجلزار‪".‬‬
‫قال األسد‪:‬‬
‫"قد أنصفتك وأجرتك‪".‬‬
‫قال اللكب‪:‬‬
‫"أشكرك اي موالي‪".‬‬
‫فقال األسد‪:‬‬
‫"ولكن اإلنصاف واإلجارة هلام أجر! وأرى أنك ال متكل إال‬
‫قطعة اللحم هذه‪ ،‬فاتركها أجرا يل عىل حاميتك!"‬

‫‪269‬‬
‫قال اللكب مندهشا‪:‬‬
‫"لكن اي موالي إمنا أحمتي‪ ،‬ألجنو هبا!"‬
‫فمل يرد األسد عليه إال بزئري مرعب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"ال متكل سواها‪ ،‬وعليك أن تدفع!"‬
‫فقال اللكب حبقد‪:‬‬
‫"ال أمكل سواها إال يشء صغري‪ ،‬وسأمنحك لك ما أمكل اي‬
‫موالي‪".‬‬
‫وترك اللكب األجرب اللحم أمام األسد‪ ،‬مث رفع قدمه اخللفية‪،‬‬
‫ونفض جدله‪ ،‬فألقى برغواث فوق اللحم‪ ،‬وانرصف مقهورا‪.‬‬
‫أما األسد‪ ،‬فقال ألحصابه‪:‬‬
‫"انظروا ألعظم حيوان يف الغابة! هذا اذلي قهر اإلنسان‪،‬‬
‫وخطف منه اللحم‪ ،‬أاتين ذليال‪ ،‬يسلمين ما رسقه!"‬
‫وانقض عىل قطعة اللحم‪ ،‬فالتقمها لقمة واحدة‪ ،‬وقفز مهنا‬
‫الربغوث‪ ،‬فاختبأ يف لبدة األسد الكثيفة‪ .‬وأخذ يدلغ األسد دلغا‬
‫شديدا‪ ،‬انهبا دماءه‪ .‬ولكام هوى األسد بيده الباطشة عىل‬
‫موضع الدلغة‪ ،‬وجد إن الربغوث قد انتقل ملاكن جديد‪ ،‬فال‬
‫ينال األسد إال من شعر لبدته‪ ،‬وال يصيب إال نفسه ابجلروح‪،‬‬
‫حىت سقط تعبا مقهورا‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫وعلمت احليواانت بأمر تعب األسد‪ ،‬ففرحت‪ ،‬وبدأت ختالفه‪،‬‬
‫وبدأ سلطانه يضعف‪ ،‬ال يس تطيع ردعهم‪ ،‬ألنه متعب مرهق ال‬
‫ينام‪ ،‬وجسده امتأل ابجلروح‪ ،‬اليت أحدهثا يف نفسه‪ .‬ونظر‬
‫األسد‪ ،‬مستنهدا ابلنس ناس‪ ،‬أخلص أعوانه‪ ،‬فأشار النس ناس‬
‫لألسد ابلصرب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"هاهو األسد العظمي قد قهر‪".‬‬
‫نظر األسد هل بغضب‪ ،‬فأشار هل النس ناس خلسة إنه يدبر‬
‫أمرا‪.‬‬
‫وأتت احليواانت عىل صيحة النس ناس فرحة‪ ،‬فأخذ النس ناس‬
‫يشمت يف األسد‪ ،‬ويعبث بشعره ساخرا‪ ،‬واألسد املرهق راقد‬
‫مقهور هامد‪ ،‬مث أخذ النس ناس اهتف‪:‬‬
‫"يعيش الربغوث العظمي قاهر السد‪".‬‬
‫فهتفت احليواانت‪:‬‬
‫"يعيش الربغوث س يد الغابة اجلديد‪".‬‬
‫فقال النس ناس‪:‬‬
‫"لنرشب مجيعا خنب س يد الغابة اجلديد‪".‬‬
‫وهنا وقف الربغوث فرحا خفورا‪ ،‬يتأمل اجلسد العظمي‪ ،‬اذلي‬
‫أسقطه‪ ،‬وأمسك ببعض دم األسد املس تكني‪ ،‬فرشب خنب‬

‫‪271‬‬
‫الانتصار‪ .‬لكنه حيهنا قد بقى يف ماكن واحد أكرث من الالزم‪،‬‬
‫فمل يدر إال بقبضة األسد هتوي عليه وتسحقه!"‬

‫‪272‬‬
‫(‪)25‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن امحلر‪:‬‬


‫"أرسلين الشاطر عدانن‪ ،‬مع حفنة من رجاهل‪ ،‬حنو العامصة‪.‬‬
‫ومضت القافةل حتث اخلطو للجنوب عىل ضفة الهنر‪ ،‬حىت‬
‫وصلنا للماكن اذلي جتمتع فيه فروع الهنر معا‪ ،‬عند قرية أم‬
‫العيون‪ ،‬عىل مقربة من شامل العامصة‪ .‬اكنوا س تة من الرجال‬
‫املسلحني‪ ،‬أحدمه واحد من عاملقة لكثوم‪ ،‬اذلين قابلهتم يف جسن‬
‫الوايل‪ .‬اكنوا يتبادلون عىل ثالثة جامل‪ ،‬وجيرونين خلفهم أميش‬
‫مثقال ابدلرع والسالح‪ ،‬ومه يصارحونين إاهنم يرغبون يف إاهنايك‪،‬‬
‫حىت ال أجرؤ عىل قتاهلم‪ ،‬وال أدري كيف أفعلها وأان مقيد بلك‬
‫هذه القيود!‬
‫من الغريب‪ ،‬إن الوحيد فهيم اذلي اكن به يشء من الود‬
‫واللطف جتايه‪ ،‬هو أغلظهم مظهرا‪ ،‬أال وهو هذا العمالق‬
‫رشس الوجه ظاهر الغباء! بعد أايم من رحلتنا‪ ،‬بدا يل أش به‬
‫ابلعبد‪ ،‬اذلي ال ميكل إال أن يؤمر‪ ،‬فيطيع ذليال‪ .‬ومل يكن ينام‬

‫‪273‬‬
‫ليال أبدا‪ .‬احلقيقة إنين مل أره ينام أبدا‪ .‬فاكن يسيل نفسه‪ ،‬بيامن‬
‫اآلخرون نيام‪ ،‬ابحلديث والرثثرة يف أذين‪ ،‬حىت يغلبين النوم‪.‬‬
‫اكن يرثثر ويرثثر ويرثثر‪ ،‬حىت وددت لو تطوى بنا األرض‪،‬‬
‫فأصل لزابنية السود يف مغضة عني‪ ،‬ألختلص من ثرثرته!‬
‫مل أكن أعي أغلب ما يقول‪ ،‬ألنين يف شغل عنه مبا أصابين من‬
‫نصب‪ ،‬بفضل السري واحلر والعطش‪ ،‬لكننا حيامن وصلنا ألم‬
‫العيون حيث تتفرع الفروع الس بعة للهنر‪ ،‬وأدرك أننا مل يبق لنا‬
‫إال أقل من اليوم لنصل للعامصة‪ ،‬أاتين يف غفةل من زمالئه‪،‬‬
‫وسألين‪:‬‬
‫"أحقا أنت من الغيالن امحلر؟"‬
‫قلت هل مهناك‪:‬‬
‫"ومل تسأل؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"رمبا أكون غبيا؛ لكنين أعرف أن الغيالن هلكوا عن آخرمه‪،‬‬
‫وإن ظهروا اليوم‪ ،‬وسط هذا العداء‪ ،‬فلن يرسلوا رجال وحيدا‪،‬‬
‫وإمنا سيسريون يف جامعة كبرية‪ ،‬تظهر بطشهم‪ .‬عىل األقل لن‬
‫يرسلوا زعميهم كام تزمع‪".‬‬
‫قلت حماوال إيقاظ عقيل للمهادةل‪:‬‬
‫"أنسيت أن الشهاعة فرض عىل الغول؟"‬

‫‪274‬‬
‫ابتسم وقال‪:‬‬
‫"لكنك لست جشاعا! رأيت هذا يف عينيك أكرث من مرة‪،‬‬
‫ورأيته يف أفعاكل أيضا‪ .‬لقد مسعت الكثري عن الغيالن امحلر‪،‬‬
‫وأرى أنك لست مهنم‪ .‬حىت الشاطر عنان يشك يف أمرك‪".‬‬
‫قلت بسأم‪:‬‬
‫"ومب يفيدك السؤال واجلواب؟ قد انهتىى األمر‪ ،‬وخلصت‬
‫البالد ألسود الامس والقلب والفعل‪".‬‬
‫نظر حنوي ابهامتم وقال‪:‬‬
‫"أتفعل هذا حقا ل ي حتارب األسود‪ ،‬ومتنعه من سلب ابيق‬
‫البالد؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ومل أفعهل إذن؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"طلبا للمكل لنفسك!"‬
‫مل أس تطع كمت الضحكة البائسة‪ .‬املكل لنفيس! ومن أان حىت‬
‫أطلب املكل؟ إن أان إال عبد فقري‪ ،‬ال ياكد حيفظ مكل أرض‬
‫ورهثا عن أجداده‪ ،‬أفأطلب مكل البالد لكها!‬

‫‪275‬‬
‫غلبين اليأس واحلزن والتعب‪ ،‬واس توت عندي لك األمور‪،‬‬
‫ومل أجد ما مينع أن أفيش لك أمري لهذا الرجل‪ ،‬اذلي ال أعرف‬
‫حىت امسه‪ .‬أخربته بنبأي منذ ذاك املساء يف دار الش يخ غالب‪،‬‬
‫وحىت أتيت للثغر الصغري‪.‬‬
‫وملا انهتيت من حاكييت قال‪:‬‬
‫"اياااااااااااااااااااااااه! لو مسعت منك األمر مائة مرة ما‬
‫صدقتك! لكين أراه بعيين‪ .‬إن ما فعلته يفوق أي أمر آخر رأيته‬
‫يف حيايت بني الشطار والصعاليك! أنت أشد جرأة حىت من‬
‫عدانن حيامن خدع أهل الغاربة‪".‬‬
‫حيامن اكن عدانن شااب‪ ،‬أراد أن يثبت زعامته عىل رجال أبيه‪،‬‬
‫لكهنم اس تخفوا به‪ ،‬وحتداه أكربمه‪ ،‬وهو لكثوم‪ ،‬اذلي طمع يف‬
‫زعامة العصابة لنفسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"ما أنت اي عدانن إال شاب غرير‪ ،‬ال يس تطيع السلب‬
‫والهنب‪ ،‬إال بسواعد الرجال األقوايء‪ .‬وال حيق كل أن تطلب منا‬
‫الزعامة‪ ،‬ومشاركتنا يف غنميتنا اليت نبذل فهيا اجلهد‪".‬‬
‫فقال عدانن‪:‬‬
‫"لكن بعقيل وختطيطي‪ ،‬سأقود العصابة ألكرب الغنامئ‪".‬‬
‫فقال لكثوم‪:‬‬

‫‪276‬‬
‫"ال أرى أن عقكل أشد مكرا من عقيل‪ .‬وأان أحق ابألمر‬
‫منك‪".‬‬
‫واختلف الرجالن‪ ،‬وأيد لك مهنام بعض الرجال‪ ،‬مث حتداه‬
‫لكثوم حتد صعب ليعجزه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"إن اس تطعت رسقة أبناء الغاربة ابحليةل فقط‪ ،‬سودانك علينا‬
‫ال ينازعك أحدان‪".‬‬
‫وقبل عدانن التحدي‪ ،‬ورحل من الثغر للغاربة‪ .‬وأهل الغاربة‬
‫قوم خش نون‪ ،‬منغلقون عىل أنفسهم‪ ،‬وما اكنت مدينهتم إال‬
‫حفنة من قالع وحصون‪ ،‬بنيت حول واحة صغرية عىل طريق‬
‫التهارة بني الرشق والغرب لتؤمنه‪ .‬واكن أهلها أخالط‪ ،‬من لك‬
‫البالد أتت‪ ،‬واس تقرت‪ ،‬وامزتج فهيم التهار والعبيد‪ ،‬اآلبقني‪،‬‬
‫وحثاةل األقوام‪ ،‬وبعض الصناع‪ ،‬ليخرج من أصالهبم قوم غرابء‬
‫األطوار‪ ،‬رسيعي الغضب‪ ،‬ابرعي التهارة‪ ،‬شديدي البخل‬
‫واملهارة‪ .‬وقد أغلقوا علهيم األسوار العالية‪ ،‬واحلصون القوية‪،‬‬
‫عندما نشبت احلروب يف البالد‪ ،‬ورفضوا أي سلطان علهيم‪،‬‬
‫حىت لبين األسود‪ ،‬أو للقائد األسود يف العامصة‪ .‬وخلطر موقفهم‪،‬‬
‫وكرثة أعداهئم‪ ،‬وخبلهم ذهب هبم احلذر ألبعد احلدود‪ ،‬فهم ال‬
‫يقبلون بدخول أي غريب دلايرمه‪ ،‬حىت رضب هبم املثل يف‬
‫الفطنة‪ ،‬ويف صعوبة النيل مهنم‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫وذهب عدانن للغاربة‪ ،‬مرتداي زي األعراب‪ ،‬وساق أماهمم‬
‫بعض الغمن‪ ،‬وأقام أمام أبواهبم شهرا اكمال‪ ،‬حىت اطمأنوا هل‪ ،‬مث‬
‫اراتد أسواقهم يبيع اللنب‪ ،‬ويشرتي بعض احلاجات‪.‬‬
‫مث ذهب ذات يوم ألحد التهار‪ ،‬وعرض بيع لك غمنه هل‪،‬‬
‫مقابل حصان واحد رسيع‪ ،‬واشرتط أن خيترب رسعته أوال‪ ،‬وإال‬
‫أعاده‪.‬‬
‫قبل التاجر ابلصفقة فورا‪ ،‬فاألغنام قميهتا معا أكرب من مثن أي‬
‫من خيوهل‪ ،‬ولو عاد احلصان هل‪ ،‬فس يكون قد انتفع ابللنب‬
‫والصوف‪ ،‬أكرث من أجرة احلصان‪.‬‬
‫ولكن عدانن أعاد هل احلصان بعد يوم‪ ،‬واس تعاد غمنه‪ ،‬وذهب‬
‫هبم لتاجر آخر‪ ،‬يطلب أرسع خيوهل‪.‬‬
‫ونظر التاجر األول حلصانه‪ ،‬ليطمنئ عليه‪ ،‬ففوجئ بأثر تراب‬
‫اذلهب عىل حوافرهن فرتبص لليوم التايل‪ ،‬وذهب ليهد أن‬
‫عدانن قد أعاد هل حصانه‪ ،‬وأيضا يف حوافره بعض الترب!‬
‫وكرر عدانن هذا األمر مع أغلب التهار‪ ،‬حىت أاثر جنواهنم!‬
‫وأرادوا اكتشاف مصدر هذا اذلهب‪ ،‬اذلي يعلق حبوافر‬
‫خيوهلم‪ .‬وبعد أن بلغت هبم اللهفة أقصاها‪ ،‬جلس الشاطر مع‬
‫بعض الندماء يف جلسة مخر‪ ،‬حىت سكروا مجيعا‪ ،‬فتصنع أنه‬
‫مخمور مثلهم‪ ،‬وأخذ حيدهثم بفخر عن واد قريب‪ ،‬موجود خارج‬
‫املدينة‪ ،‬وقال أنه حني جيري حبصان رسيع يف هذا الوادي‪ ،‬وهو‬

‫‪278‬‬
‫يقول لكامت علمها هل س مييايئ جعوز‪ ،‬يتحول بعض ترابه ذلهب‪،‬‬
‫فيجمع منه ما يشاء‪.‬‬
‫مث أخذ أحد الندماء معه إذ مل يصدقه‪ ،‬وأردفه خلفه‪ ،‬وجرى‬
‫حبصانه‪ ،‬وأشهده عىل ما وجده يف األرض من بريق اذلهب‪.‬‬
‫ويف الصباح‪ ،‬التف الناس حول الشاطر‪ ،‬يلحون‪ ،‬واهددون‪،‬‬
‫ويغرون‪ ،‬يريدونه أن يكشف هلم عن اللكامت السحرية!‬
‫وأخريا دفعوا هل مبلغا خضام جدا‪ ،‬ظنوا أاهنم سيس تعيدونه يف‬
‫شهر واحد‪ ،‬فأخربمه إن علهيم البدء جفر يوم امجلعة‪ ،‬ألنه يوم‬
‫مبارك‪ ،‬وأن اذلهب لن يظهر إال لو جرت اخليول بأقىص رسعة‬
‫من الفجر‪ ،‬وحىت تعلو الشمس كبد السامء‪.‬‬
‫وترك القوم يعدون العدة لذلهب املوعود‪ ،‬وذهب هو للكثوم‪،‬‬
‫اذلي اكن قد نىس أمره‪ ،‬فألقى ابملال بني يديه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"هذا ذهب الغاربيني‪ .‬وإن أتيمت معي اآلن‪ ،‬سقنا خيوهلم‬
‫وبضائعهم‪ ،‬فأرحبمك أكرث مما تفعلون يف عام اكمل‪".‬‬
‫وتبعوه مندهشني‪ .‬وعندما علت الشمس لكبد السامء من يوم‬
‫امجلعة‪ ،‬وأصبح رجال الغاربة مهنكني‪ ،‬وقد أضنامه اجلري‪،‬‬
‫والرصاخ‪ ،‬وحر الشمس‪ ،‬انقض علهيم عدانن برجاهل‪ ،‬فقيدومه‬
‫بسهوةل‪ ،‬واس تولوا عىل خيوهلم‪ ،‬ومالبسهم‪ ،‬وارتدهتا العصابة‪.‬‬
‫وقادمه عدانن للمدينة‪ ،‬واضعا عىل رأس القافةل صناديق‪ ،‬أحدها‬
‫مفتوح‪ ،‬مأله ابلرتاب‪ ،‬وغطى سطحه مبزجي من النحاس‬

‫‪279‬‬
‫األصفر‪ ،‬يلمع اكذلهب يف مشس الظهرية‪ .‬وملا اكن أهل املدينة‬
‫إما مقيدين يف الوادي املهجور‪ ،‬أو منشغلني يف صالة امجلعة‪،‬‬
‫فمل ينتبه أحد لوجوه العائدين‪ ،‬ومل ينظر احلرس إال لربيق‬
‫اذلهب املزيف‪ ،‬ففتحوا البواابت للعصابة فورا‪ ،‬فدخلوا للمدينة‬
‫بسهوةل‪ ،‬وقيدوا احلراس املهبوتني‪ ،‬واندفعوا للسوق اخلاوي‪،‬‬
‫فهنبوه عن آخره‪ ،‬وخرجوا بأمان‪ ،‬غامنني‪ ،‬قبل انهتاء صالة‬
‫امجلعة!‬
‫ومن يوهما‪ ،‬أصبح الشاطر عدانن زعمي اللصوص‪ ،‬وس يد‬
‫الصعاليك‪ ،‬ومكل الشطار! ال يزب يف الثغر الصغري‪ ،‬وال يعال‬
‫عليه فامي حوهل‪ ،‬فهو الرجل اذلي اهنب مدينة الغاربة بأمكلها!‬

‫‪280‬‬
‫(‪)26‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"فرغ الرجل من حاكيته العجيبة‪ ،‬اليت لو مسعهتا من قبل ما‬
‫وثقت حلظة يف هذا الشاطر‪ ،‬ولكن اآلن قد مح القضاء! ونظر‬
‫يل الرجل العمالق وقال‪:‬‬
‫"مل تفعل هذا؟ ال تبغي املال مثل الشاطر عدانن ومثلنا‪.‬‬
‫والقائد األسود بطشه ال يقدر عليه أحد‪ ،‬ولست بند هل‪،‬‬
‫واألمراء خونة غدارون‪ ،‬ال يوثق بلكمهتم‪ ،‬وال نفع من معونهتم‪.‬‬
‫إنك لهاكل ال حماةل‪ ،‬لو كنت غوال لفهمت أنك تبغي إثبات‬
‫الشهاعة‪ ،‬لكنك رجل عادي من أهل البدل‪ ،‬ممن يطلبون‬
‫السرت والسالمة‪".‬‬
‫رددت‪:‬‬
‫"رجل من أهل البدل‪ ،‬أبغي لها لكها السرت والسالمة‪ ،‬عىل‬
‫حساب سالميت‪ .‬صدقين لو إنه مل يكن هناك وريث يرىج‬

‫‪281‬‬
‫مصوده معنا‪ ،‬لسلمت لألسود‪ ،‬وساندته‪ .‬فرمغ مساوئه‪ ،‬س يوحد‬
‫لكمة البالد بعد المتزق‪ ،‬أو عىل األقل ما يبقى مهنا‪ ،‬بعد اقتطاع‬
‫الفرجنة واألهبال ملا يريدونه‪ .‬لكن الوريث موجود‪ ،‬ذلا‪ ،‬فمل ال‬
‫حناول؟ الاكرثة يه أن ال أحدا حياول إنقاذ البدل اذلي نعيش‬
‫فيه‪ .‬اكن أيب‪ ،‬وهو يتبع الوريث الاكذب‪ ،‬يقول يل "هذا بدل‬
‫غارق يف الظلامت‪ ،‬واللك جيأر من هذا‪ ،‬واللك يتعذب‪ .‬ذلا‬
‫حيامن يأيت رجل‪ ،‬يقول إنه س يعيد األمان‪ ،‬فعلينا أن نتبعه‪ ،‬وإال‬
‫اكنت شكواان بال معىن‪ ،‬وسنشارك يف إمث من ضيعوا البالد‬
‫قبلنا‪ .‬هذا ما رخس يف ذهين من أيب‪ ،‬وهو ما أحاول اليوم إعادة‬
‫بعثه‪".‬‬
‫مط الرجل شفتيه وقال‪:‬‬
‫"أكره األسود والفرجنة‪ ،‬ولك هؤالء الطغاة‪ .‬أكره حياة الرسقة‪،‬‬
‫فال أعرف طريقا آخر للعيش‪ ،‬مع معرفيت يف نفيس امحلاقة! أنعم‬
‫هللا عيل جبسد خضم‪ ،‬لكين ال أمكل إال قلب صغري‪ ،‬ينمكش‬
‫ابخلوف دوما‪ .‬خائف من أن يقتلنني أو يرسقين أحد‪ ،‬فانضم‬
‫للقتةل والسارقني‪ .‬خائف من الفقر واجلوع‪ ،‬فأجهم برضاوة عىل‬
‫املال‪ .‬دوما خائف من احلياة‪ ،‬ومن املوت‪ ،‬ومن لك يشء‪".‬‬
‫قلت هل حبامس‪:‬‬

‫‪282‬‬
‫"إ ًذأ‪ ،‬فاتبعين! مل يظهر الغيالن امحلر إال من بني اخلائفني‪،‬‬
‫اذلين كرهوا خوفهم‪ ،‬وأرادوا أن يس تعبدوه بدال من أن‬
‫يس تعبدمه‪ .‬انضم يل‪ ،‬وطلق حياة اخلوف‪".‬‬
‫قال حبرية‪:‬‬
‫"لكنك لست غوال؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وال أريد أن أكون غوال‪ .‬لكن أعداءان حيتاجون لزي غيالن‬
‫يردمه‪ .‬اتبعين عىل مثل اهنج الغيالن امحلر‪ .‬عىل اهنج الغيالن‬
‫امحلر اجلدد‪ ،‬لنقف أمام هؤالء‪ ،‬وخنربمه أن ساعة القصاص قد‬
‫حانت‪ ،‬حىت يقيض هللا أمرا اكن مفعوال‪".‬‬
‫قال برتدد‪:‬‬
‫"ولكن‪"......‬‬
‫عاجلته‪:‬‬
‫"ابب التوبة مفتوح اي رجل‪ ،‬فانهتز الفرصة‪ ،‬وتب عام س بق‬
‫من آاثمك‪ ،‬واكسب لنفسك مقعدا بني اجملاهدين‪ .‬اهزم‬
‫خوفك‪ ،‬وختلص من مقتك لنفسك‪".‬‬
‫اكنت حريته شديدة‪ ،‬وقال وهو يبدو كأمنا جيادل نفسهن أكرث‬
‫من جمادليت‪:‬‬

‫‪283‬‬
‫"وأين نذهب إ ًذا؟ أرض األسود متتد حولنا يف لك اجتاه‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لنذهب للغاربة‪ ،‬اليت أخربتين عهنا‪ .‬لنلهأ لها حينا‪ ،‬حىت تلك‬
‫عنا العيون‪ ،‬مث نرحل مهنا للزرقاء‪ ،‬ونركب البحر لطرابل‪".‬‬
‫أمكل جداهل لنفسه‪:‬‬
‫"لكن الغاربة يف قلب الصحراء وأهلها ال يدخلون علهيم‬
‫غريبا؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"اس متع لصوت قلبك اذلي ينئ أملا‪ ،‬واجهر أوزارك‪ .‬لو‬
‫أخلصت لقلبك‪ ،‬فس يخلص الطريق كل‪ .‬لو أخلصت هل‪،‬‬
‫فس يصدقك لسانك‪ ،‬وحيامن يصدقك لسانك‪ ،‬س يصدقك‬
‫الناس‪ ،‬ويفتحون كل األبواب‪".‬‬
‫بدت عليه احلرية القاس ية‪ ،‬ومصت كأمنا يصارع نفسه رصاعا‬
‫مريرا‪ ،‬فاحرتمت مصته‪ .‬مل أحاول أن أتدخل أكرث من هذا‪ ،‬حىت‬
‫لو اكن مصريي معلق بقراره‪ .‬لو فعلت‪ ،‬فسأكون حمكت عليه‬
‫بشقاء وعنت‪ ،‬مازالت نفيس تراودين لرتكه‪ .‬لو مل يتخذ هو‬
‫قراره بنفسه‪ ،‬فلن أمكل هل من األمر شيئا‪ ،‬ولو حثثته أكرث من‬
‫هذا‪ ،‬فتبعين بغري قناعة‪ ،‬لهكل وأهلكين معه‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫ولكن الصمت انهتىى بصوت آذان الفجر يعلو‪ ،‬آتيا عرب الليل‬
‫الصايف من أم العيون‪ .‬مل يكن الغالظ حرايس يصلون‪ ،‬ولكن‬
‫صوت اآلذان‪ ،‬اذلي فاجئنا نزل رطبا عىل قلبه‪ ،‬ورشح‬
‫صدره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"أتبعك عىل بركة هللا‪ ،‬وحىت الهناية بإذن هللا‪".‬‬
‫فقلت هل مبتسام‪:‬‬
‫"إ ًذا‪،‬فأعلنك غوال أمحرا جديدا‪ ،‬ما امسك؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"سأنبذ حيايت القدمية ابمس جديد‪ .‬ال تناديين بغريه‪ :‬غول‬
‫احلق‪ .‬فلن ألزم إال جانب احلق‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"حس نا اي غول احلق كام تشاء‪ .‬لكن أرجو أال أثقل عليك بفك‬
‫قيدي‪ ،‬قبل أن يستيقظ الزابنية!"‬

‫‪285‬‬
‫(‪)27‬‬

‫مضينا شامال‪ ،‬حبذاء الهنر مسافة قصرية‪ ،‬مث توغلنا يف الرشق‪،‬‬


‫واختفينا وسط بعض األمجة‪ ،‬فصلينا الصبح‪ ،‬وبقينا ننتظر‪.‬‬
‫وأطاعين يف هذا رفيقي اجلديد‪ ،‬دون جدال‪ ،‬رمغ إن احلرية‬
‫اكنت يف عينيه‪ .‬ولكن احلرية انطفأت‪ ،‬عندما وجد امخلسة‬
‫املطاردين لنا يتتبعون آاثران‪ ،‬وحيثون اخلطى للشامل‪ ،‬يظنون‬
‫أاهنم يطاردوننا إىل الثغر‪ .‬كنت أرحج أاهنم س يظنون أين سأعود‬
‫للبحث عن تميور‪ ،‬أو العودة للغرب عرب اجلرس‪ ،‬ولكين مكنت‬
‫يف ماكين‪ ،‬حىت اطمأننت أاهنم س بقوان مبسافة كبرية‪ ،‬وأمكلت‬
‫طريقي آمنا‪ ،‬ألن املسافة بيننا تزيد لك يوم‪ ،‬حيث منيش ببطء‬
‫ومه اهرعون مرسعني يف مطاردة مقلوبة!‬
‫رسان ثالثة أايم حبذاء الهنر‪ ،‬نقتات من مسكه‪ ،‬أو بعض ما‬
‫نعرث عليه من مثار‪ ،‬مث توهجنا للرشق بني القرى الصغرية‪ ،‬ننام‬
‫يف مساجدها‪ ،‬ونألك من كرم فالحهيا‪ ،‬ونساعد البعض يف‬
‫أعامهل‪ ،‬مقابل الطعام واملأوى‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫وصلنا أخريا آلخر قرية من قرى الوادي‪ ،‬وأصبح علينا أن‬
‫نتهه للغاربة من طريق غري مطروق‪ ،‬بعيد عن جنود األسود‪،‬‬
‫وهو ما حيتاج لزاد وراحةل‪ ،‬وهام ما حيتاجان للامل‪.‬‬
‫وهنا‪ ،‬اكن حامت علينا أن نبقى ملدة طويةل يف القريةن جند‬
‫ونعمل لكسب املال‪ .‬وقد طالت بنا املدة إىل شهر بأمكهل‪ ،‬شهر‬
‫تعلمت فيه بعض أصول الزراعة‪ ،‬اليت ستنفعين لو عدت‬
‫ألريض‪ .‬ولكن لكام مىض الوقت‪ ،‬ازداد قلقي من أالّ أصل‬
‫لطرابل‪ ،‬إال بعد فوات األوان‪.‬‬
‫عىل إن األنباء تتناثر‪ ،‬واألخبار الغالية العزيزة تصبح سائغة يف‬
‫لك األفواه مبرور الوقت‪ .‬فقد علمت‪ ،‬من جمالس السمر‪ ،‬أن‬
‫هناك وفود أمراء عدة ذهبت إىل طرابل‪ ،‬وتقابلت يف الطريق‪،‬‬
‫فدار بيهنم قتال شديد‪ ،‬مث اشتبكوا مع لصوص‪ ،‬وبعض بين‬
‫األسود والفرجنة‪ ،‬وبعد هذه األهوال‪ ،‬مل يس تطيعوا الوصول‬
‫للوريث‪ ،‬ومل خيربمه أهل طرابل عنه شيئا‪.‬‬
‫وعلمت أيضا أن هناك غوال أمحرا جنا من الثغر الصغري‪،‬‬
‫ويسعى إلعادة الوريث‪ ،‬وهو ما أاثر غضب القائد األسود‪،‬‬
‫املنشغل يف حروب ضارية يف اجلنوب‪ ،‬فأرسل مجموعة من‬
‫رجاهل‪ ،‬أمرمه أال يغادروا طرابل‪ ،‬إال ومعهم رأس الوريث‪ .‬وأن‬
‫تكل الفرقة س تخرج من العامصة بعد أايم‪ ،‬وعىل رأسها شقيق‬

‫‪287‬‬
‫األسود األصغر‪ ،‬وهو فارس مشهور برباعته وقوته‪ ،‬يسمى‬
‫ميسون‪ ،‬ويلقبه الناس ابدلامه‪.‬‬
‫وهنا أدركت أن البقاء أكرث من هذا ال جيدي‪ ،‬جفمعت ما معنا‬
‫من قروش قليةل‪ ،‬ومل أس تطع أن أشرتي هبا إال حامر جعوز ليس‬
‫حامت ما يعمتد عليه يف عبور الصحراء؛ لكنه عىل األقل س يحمل‬
‫الثقيل من املتاع واملاء‪.‬‬
‫ومضينا فورا حنو الغاربة‪ ،‬يف طريق شاقن لكننا كنا مطمئنني‪،‬‬
‫ألن خصومنا قد يئسوا حامت من مطاردتنا‪ ،‬ولعلهم يظنون أننا‬
‫وصلنا لطرابل اآلن‪.‬‬
‫مضينا يف الطريقن وقد أاهنكنا‪ ،‬لكن يف غري الظمأ واحلر مل‬
‫يقابلنا ما يس تحق اذلكر‪ .‬مضينا حتت الشمس القاتةل‪ ،‬واضعني‬
‫متاعنا وطعامنا القليل عىل ظهر امحلار العليل‪ ،‬متتبعني جنام‬
‫يسميه أهل املنطقة ابلغارب‪ ،‬من مييض عىل هداه وقت‬
‫الغروب‪ ،‬يصل للغاربة‪ ،‬ومنه جاء امسها‪.‬‬
‫مل أهمت كثريا ابلتعب‪ ،‬فقد عرفت أايما أسوأ‪ ،‬لكن ما شعرت‬
‫به من أمان؛ رمغ إنين يف قلب أرايض األسود‪ ،‬كام إنين أعترب‬
‫غول احلق إىل جواري عالمة من العالمات‪ ،‬اليت ترشدين هبا‬
‫السامء إىل التشبث بطريقي‪ ،‬وأن أعمل أن هللا معي‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫كننت يف مقة التفاؤل‪ ،‬واملصاعب اليت تبدو مس تحيةل هانت‬
‫انظري‪ ،‬وقلت لنفيس "س تفرج كام فرجت غريها من‬ ‫يف ّ‬
‫األبواب املغلقة! هلل در الشاعر‪:‬‬
‫ضاقت فلام اس تحمكت حلقاهتا ~ فرجت وكنت أظهنا ال تفرج‬
‫حامت النرص يل مقدر‪".‬‬
‫ووصلنا أخريا للغاربة‪.‬‬
‫اكنت تش به قلعة كبرية‪ .‬تذكرين مبدينة ساوة‪ ،‬اليت بنيت جنوب‬
‫الواحات‪ ،‬محلاية جتارهتا‪ .‬لكن أسوارها احلصينة أخضم بكثري‪،‬‬
‫وحولها بضع خيام متناثرة‪ ،‬وجدان هبا التهار‪ ،‬واملسافرين‪ ،‬وأبناء‬
‫السبيل‪ ،‬يتعاملون مع أهل املدينة‪ ،‬ال يسمحون هلم بدخولها‪.‬‬
‫وعلمت أاهنم زادوا احليطة واحلراسة‪ ،‬بعد أن أعلنوا رفضهم‬
‫الانضواء حتت لواء القائد األسود‪ ،‬فهم خيشون أن اهامجهم‬
‫جبيوشه‪ ،‬ولكن هذه العداوة‪ ،‬اليت تغلق يف وهجىي األبواب‪ ،‬يه‬
‫ما أعمتد عليه‪ ،‬ل ي يعينونين ابلقوت‪ ،‬وادلليل‪ ،‬والراحةل للزرقاء‪.‬‬
‫عيل اليوم أن أكون حشاذا انحجا‪ ،‬ألنزتع مهنم املعونة!‬‫ّ‬
‫توهجنا للحرس وانديت‪:‬‬
‫"السالم عليمك اي أهل الغاربة‪".‬‬
‫رد علينا أحدمه‪:‬‬
‫"وعليمك السالم‪ .‬ماذا تبغيان؟"‬

‫‪289‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"حنن رسوالن من سادة الغيالن امحلر الس بعة‪ ،‬نريد مقابةل‬
‫زعمي املدينة‪".‬‬
‫بدا الاضطراب والصدمة عىل وجوه احلرس‪ ،‬وساد بيهنم هرج‬
‫ومرج‪ ،‬ومل يفعلوا شيئا سوى دخول البوابة‪ ،‬وإغالقها خلفهم!‬
‫بقيت منتظرا قليال‪ ،‬مث عدان عىل أعقابنا‪ ،‬ويف الهنار التايل‬
‫ذهبت هلم اثنية‪ ،‬وهنا خرج يل أحد أبناء حامك املدينة‪.‬‬
‫اكن شااب هادئا صارما‪ ،‬ابدرين ابلسؤال‪:‬‬
‫"من أنامت؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"حنن من الغيالن امحلر‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"الغيالن هلكوا‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لقد عادوا‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"بل أنامت اكذابن!"‬

‫‪290‬‬
‫تذكرت لكمة قالها ش يخ بين األسودن عندما شكك يف أمري‬
‫أحد األمراء‪ ،‬فكررهتا هل‪:‬‬
‫"أي أمحق سزيمع أنه من الغيالن‪ ،‬إال إن اكن من الغيالن؟"‬
‫هبت للحظة‪ ،‬لكنه أثبت رسعة بداهة‪ ،‬ورد‪:‬‬
‫"عدو للغيالن خيدع أهل الغاربة!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ال نبغي بمك رشا‪ .‬وحنن من الغيالن حقا وأخبار عودتنا مسع‬
‫هبا لك أهل البالد‪".‬‬
‫قال الفىت بصوت خافت‪:‬‬
‫"أن تسمع ليس كام ت‪ .....‬لكن ماذا يريد من الغيالن؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ال نريد بمك خريا أو رشا! إن هو إال أمر بيننا وبني القائد‬
‫األسود‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أحالفمتوه؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"الك الك! بل نعاديه‪ ،‬ألنه عاداان وحاول قتل زعمينا‪ .‬إمنا نريد‬
‫اذلهاب إىل طرابل‪ ،‬الس تعادة الوريث يك يقود احلرب ضده‪".‬‬

‫‪291‬‬
‫قال مندهشا‪:‬‬
‫"أي وريث؟"‬
‫وهكذا دار بيننا حوار طويل‪ ،‬ذكرت هل فيه ما أعرفه عن‬
‫الوريث احلقيقي‪ ،‬ومساندة ش يخ ش يوخ بين األسود لعودته‪،‬‬
‫واجامتع أمراء الغرب عىل تأييده‪ ،‬مث ساد بيننا مصت طويل‪ ،‬مل‬
‫يكرسه الفىت‪ ،‬فودعته‪ ،‬عىل أن أعود غدا‪ ،‬وعدت إلحدى‬
‫اخليام املبسوطة صدقة لعابري السبيل حيث نبيت‪.‬‬
‫ولكن األمر طال لبضعة أايم‪ ،‬أتردد عىل بوابهتم‪ ،‬فال‬
‫يدخلونين وإمنا يكتفي هذا الشاب مبحادثيت‪ .‬وبدأ اخلوف يدب‬
‫يف قليب‪ ،‬أن يصل نبأي البن األسودن أو الشاطر عدانن‪،‬‬
‫فيبعث من يغتالنا‪ .‬ولكن غول احلق اكن يطمئنين‪ ،‬بأنه ليس‬
‫للشاطر هنا عيون‪ ،‬ألن أهل الغاربة شديدي احلذر‪ ،‬ال حياة‬
‫للص بيهنم‪ ،‬وهو لن يطلب قتلنا‪ ،‬ألن ما اهمه ليس إال املال‪.‬‬
‫لكين مل أطمنئ‪ ،‬وأخذت أغري ماكن املبيت لك ليةل‪ ،‬وخلعت‬
‫درع الغيالن‪ ،‬وأبقيت السالح يف يدي دوما‪.‬‬
‫وصدق حديس‪ .‬إذ كنا سائرين حنو البوابة – كعادتنا ‪ -‬طالبني‬
‫املعونة من أهل املدينة‪ ،‬فإذا برجل يقرتب منا وهو ينظر حنوي‬
‫مبتسام‪ ،‬فنظرت هل رادا الابتسامة‪ ،‬أحاول أن أفهم مغزاها‪،‬‬
‫خش ية أن يكون قد علق يف ثيايب أو وهجىي يشء مضحك!‬

‫‪292‬‬
‫وبيامن أان مرتبك‪ ،‬إذا برفيقي غول احلق‪ ،‬خيرج س يفه بغتةن‬
‫واهوي به عىل رجل خلفنا‪ ،‬فأطاح رأسه!‬
‫والتفت فزعا‪ ،‬فوجدت الرجل املبتسم ميد يده ألسفل عباءته‪،‬‬
‫فعاجلته بطعنة من رحمي‪ ،‬وإذا بنار حمرقة تش تعل يف ذراعي‬
‫األيرس‪ ،‬كأمنا أان املطعون‪ ،‬وليس هو! ومل يطل جعيب‪ ،‬إذ‬
‫قديم‪ ،‬ونظرت‪ ،‬فوجدت ملامث‬‫وجدت سهم اثن يسقط بني ّ‬
‫خمتبئا يف الرمال‪ ،‬يعد سهام اثلث‪.‬‬
‫لكين مل أس تطع الاجتاه حنوه ملقاتلته‪ ،‬إذ خرج لنا ثالثة رجال‬
‫شاهرين الس يوف‪ ،‬بعد أن أيقنوا فشل تسلل زميلهيم‪ ،‬فأسقط‬
‫غول احلق أحدمه فورا‪ ،‬لكن الرايم أصابه بسهمه يف ظهره‪،‬‬
‫فقفزت مبتعدا عن الرجلني قدر اس تطاعيت‪ ،‬وصوبت رحمي‬
‫وقذفت الرايم‪ ،‬بأرسع ما أس تطيع‪ ،‬وأظنين أصبته‪ .‬مث أخرجت‬
‫س يفي‪ ،‬اذلي ال أجيد اس تخدامه‪ ،‬موقنا ابلهالك‪ ،‬خاصة مع‬
‫جرح ذراعي‪ .‬لكن عىل األقل ألمت مرفوع الرأس‪ ،‬مثل غول‬
‫احلق‪ ،‬اذلي اهنض وادلم يغمره‪ ،‬متحامال عىل نفسه يبغي القتال‪.‬‬
‫لكن سهم نزل علينا‪ ،‬تاله اثن‪ .‬هذه املرة يف صدور خصومنا‪،‬‬
‫فأسقطهم جمندلني‪ .‬ونظرت ابحثا عن املنقذ‪ ،‬فوجدته هذا‬
‫الشاب‪ ،‬ابن حامك املدينة‪ ،‬يعتيل السور بقوسه وسهامه‪.‬‬
‫نظرت لغول احلق‪ ،‬ألرى جرحه‪ ،‬لكنه قال‪:‬‬

‫‪293‬‬
‫"أرسع وطارد رايم السهام‪ ،‬قبل أن يأتينا ابملزيد من‬
‫األعوان‪".‬‬
‫نظرت حنو الرايم‪ ،‬فوجدت إن رحمي مل يصبه‪ ،‬لكنه انغرس‪،‬‬
‫حلسن احلظ‪ ،‬يف كنانة أسهمه فأبعدها عن يده‪ ،‬جفريت بأقىص‬
‫ما أس تطيع‪ ،‬أطارده‪ .‬حىت رأيته أمايم‪ ،‬قد أبطأ العدو‪ ،‬فشهرت‬
‫رحمي‪ ،‬وأطلقته بإتقان هذه املرة‪ ،‬ليصيب قدمه‪ ،‬ويسقطه‪.‬‬
‫وذهبت حنوه أريد هتديده ملعرفة من وراءه‪.‬‬
‫لكين وجدت نفيس يف مواهجة من مه أمامه! ثالثة آخرين‪،‬‬
‫خرجوا مرسعني من خمية صغرية‪ ،‬حيملون س يوفا وفئوسا‪،‬‬
‫وأدركت أن الرمح لن ينفعين بيد مصابة‪ ،‬والس يف لن ينجيين‬
‫برباعة مفقودة‪ ،‬خفلعت قناع الغول الشهاع‪ ،‬ووليت األدابر‬
‫أبغي الفرار‪.‬‬
‫لكين مل أبتعد كثريا‪ ،‬إذ أىت بعض حراس الغاربة‪ ،‬فهرب‬
‫إيل رحمي‪.‬‬‫الرجال حاملني جرحيهم‪ ،‬بعد أن قذفوا ّ‬
‫نظرت للحرس‪ ،‬وقد أضناين التعب واألمل‪ ،‬ومألين اهلم‪،‬‬
‫وظننت أن أمري انكشف‪ ،‬بفراري اذلي ال يصح من الغيالن‬
‫امحلر‪.‬‬
‫لكن احلرس ومه يرافقونين‪ ،‬أخذوا يتحدثون عن جشاعيت‬
‫العظمية‪ ،‬وكيف إننا كنا اثنني هزمنا مخسة‪ ،‬وكنت واحدا‬

‫‪294‬‬
‫وواهجت أربعة! مل ينتهبوا ألنين كنت أويل األدابر‪ ،‬وانقلب األمر‬
‫لصاحلي‪ ،‬فمل يعد أحد يشكك يف كوين غوال!‬
‫وأاتين هذا الشاب‪ ،‬ابن حامك املدينة‪ ،‬فرحب يب‪ ،‬وأخربين أن‬
‫امسه جابر‪ ،‬وأخذين لواحدة من اخليام‪ ،‬يف ماكن منعزل‪،‬‬
‫وأرشف بنفسه عىل عالج جرويح‪ ،‬أان وغول احلق‪.‬‬
‫وأصبح بعدها ودودا معي‪ ،‬حيدثين دون تلكف‪ ،‬أخربين إاهنم‬
‫يؤيدونين يف هديف‪ ،‬ولكهنم يكرهون إدخايل املدينة‪ ،‬وإعالن‬
‫التأييد يل يف حرب األسود‪ ،‬ألاهنم ابلطبع ال يتعهلون حربه! فهم‬
‫إن اكنوا ال يقبلون بسلطانه‪ ،‬إال إاهنم يفضلون البقاء يف احلياد‪،‬‬
‫بعيدا عن املوت وادلمار‪.‬‬
‫طلبت منه معونة‪ ،‬وطعام‪ ،‬ودليل يقودان للزرقاء‪ ،‬فأجابين‬
‫للك هذا من حر ماهل‪ ،‬عىل أن أقسم أال أخرب أحدا مبن منحين‬
‫هذه املساعدة‪ ،‬وال أعلن ألحد أن الغاربة معي ضد األسود‪،‬‬
‫فأقسمت هل‪.‬‬
‫وأخربين إنه عرفين منذ رآين أول مرة‪ ،‬ألن رجال من ساوة‬
‫أخربمه إنه متهه للزرقاء‪ ،‬وأنه اكن رفيقا لزعمي الغيالن امحلر!‬
‫لقد مر تميور من هنا‪ ،‬ومازال مرصا عىل إكامل الطريق وحده‪،‬‬
‫يبدو أن هذا الفىت خيفي من الشهاعة والصالبة‪ ،‬ما مل‬
‫أتصوره‪".‬‬

‫‪295‬‬
‫(‪)28‬‬

‫قال تميور الساوايت‪:‬‬


‫"خرجت من ساوة مكرها‪ ،‬يف رحةل ظهر شؤهما من بدايهتا!‬
‫لو اكن األمر بيدي‪ ،‬لعدت دلاري منذ وقت طويل‪ ،‬ولكنه‬
‫الواجب والعهد املعلق يف رقبيت‪ ،‬أان وآل العالف‪ ،‬يغل يدي‪.‬‬
‫أول األمر‪ ،‬اكن إكراه عىل خرويج‪ ،‬رغام عن أنف أيب‪ ،‬اذلي‬
‫أرهبه القبيل زعمي الغيالن امحلر‪ ،‬اذلي أاتان بنفسه يطلب‬
‫معونتنا‪ ،‬للوصول إىل الوريث‪ .‬وبعد أن أثبت هذا القبيل جربوته‬
‫وعناده‪ ،‬أثبت حامقته‪ ،‬وسار بنا يف الليل الهبمي وسط الصحراء‪،‬‬
‫رمغ إحلايح عليه‪ .‬وثبت أين عىل حق‪ ،‬فهامجتنا اذلئاب‪،‬‬
‫وأضاعت أغلب متاعنا‪ ،‬ولوال فطنيت‪ ،‬وحسن تدبريي أن‬
‫قذفت لها بعض اللحم‪ ،‬اذلي كنا حنمهل معنا ألهلكتنا‪ .‬مث واصل‬
‫يف ماكبرة طريقه وسط الظالم بعد هذا!‬

‫‪296‬‬
‫وبعدها تشاجر مع األعراب حبامقة‪ ،‬فطردوان من واحهتم‪ ،‬اليت‬
‫عيل‬
‫رغبنا يف رشاء طعام مهنا‪ ،‬وأنقذت حياته بأجعوبة‪ ،‬مث أصبح ّ‬
‫وحدي عناء الصيد إلطعامه!‬
‫وكأن الشؤم ال يفارقنا‪ ،‬وأىن هل أن يفارقنا وامحلاقة ترافقنا!‬
‫أهناك عاقل يشق طريقه وسط أحراش مقفرة‪ ،‬ومستنقعات‬
‫مظلمة‪ ،‬بدال من الطريق املطروق اآلمن األقرص واألرسع‪ ،‬زعام‬
‫بأن هذا خوفا من رجال األسود؟ أىن لرجال األسود أن يعرفوا‬
‫خبربان؟ لنتلمث‪ ،‬ونندس بني الناس‪ ،‬فلن يزجعنا أحد! لكنه أرص‬
‫عىل طريقه‪ ،‬وسط الفرئان اليت تبخ السم يف عقرها‪ ،‬والبعوض‬
‫املسموم‪ ،‬اذلي يدلغ ابمحلى‪ ،‬والثعابني اليت اكنت حتت لك‬
‫خطوة خنطوها!‬
‫ووجد إن األمور ليست طيبة مبا يكفي‪ ،‬فأراد زايدة الطني‬
‫بةل‪ .‬وحني أتينا ألرض أحد األولياء الصاحلني‪ ،‬جلأ حليل خبيثة‪،‬‬
‫وخدع ادلراويش‪ ،‬ليرتكوان نعرب‪ ،‬بعد أن أومههم أن الفويل‬
‫غاضب علهيم‪.‬‬
‫ولكن العقوبة أتت‪ ،‬فألقوان يف جسن الثغر الصغري‪ ،‬عاجزين‪.‬‬
‫ولوال أن قيض هللا لنا هذا الرجل الكرمي‪ ،‬املدعو الشاطر‬
‫عدانن‪ ،‬ملا جنوان من املوت‪.‬‬
‫وظننت أخريا أن الطريق تيرس‪ ،‬بعد تركنا لألرايض املهجورة‪،‬‬
‫وسريان يف ادلروب املطروقة‪ ،‬ولكن القبيل زاد يف اس تخفافه‬

‫‪297‬‬
‫يب‪ ،‬فبعد أن حاولت إخراجنا من املدينة بقرض من أحد‬
‫معاريف‪ ،‬طلب من الغول األمحر مضاعفة القرض‪ ،‬ملاكفأة‬
‫عدانن‪ ،‬ورشاء جتهزيات السفر‪ ،‬كأن الاس تدانة أمر بس يط‪،‬‬
‫وكأنين أمكل يف ساوة كنوزا‪ ،‬تسدد ما عيل بسهوةل! وفوق‬
‫هذا‪ ،‬إنه سألين أن أس بقه‪ ،‬وس يلحق بنا يف الطريق‪ ،‬فبقيت مع‬
‫صاحيب أدمه الساوايت ننتظره مدة طويةل‪ ،‬لكنه غدر بنا‪،‬‬
‫ورحل وحده‪ .‬وزاد من نقميت عليه‪ ،‬أن نوقنا هربت حبملها‪ ،‬بعد‬
‫أن سأمت من انتظار الغيالن! ولعهل غضب س يدان الفويل‪،‬‬
‫اذلي دنس هذا الغول مقامه‪ ،‬قد أصابين فاستيقظنا ذات‬
‫صباح‪ ،‬لنهد إننا بال راحةل‪ ،‬أو زاد‪ ،‬أو ماء!‬
‫بدا الهالك وش ياك‪ ،‬ولكن من رمحة هللا بنا أن أدمه اكن‬
‫حيتفظ جبواره دوما بقربة ماء‪ ،‬ألنه كثري العطش‪ .‬فأنقذتنا‪ ،‬حىت‬
‫محلتنا قافةل ذاهبة ملدينة تدعى الغاربة‪ ،‬فاشرتى مهنم أدمه‬
‫عيل برشاء بغل قوي‪،‬‬ ‫طعاما لنا‪ ،‬وزادا‪ ،‬وأمكل أايديه البيضاء ّ‬
‫ومحلين معه حىت الطريق إىل الزرقاء‪ ،‬وتركين أرافق إحدى‬
‫القوافل اذلاهبة لهناك‪.‬‬
‫كنت وقهتا قد اس توثقت من أن البقاء مع الغول األمحر لن‬
‫يصيبين إال ابلشؤم‪ ،‬والعنت‪ ،‬وكرثة األعداء‪ .‬ذلا‪ ،‬قررت أن أيف‬
‫بعهد العائةل وحدي‪ ،‬وأحاول أن أجد مركبا يف الزرقاء‪ ،‬حتملين‬
‫إىل طرابل‪ ،‬أو الفيحاء‪ ،‬أو أي ميناء قريب مهنا‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫مل أذهب للزرقاء من قبل‪ .‬كثري من أهل ساوة يتحدثون عن‬
‫أايم جمدها‪ ،‬وزهوهتا قبل السقوط يف يد القراصنة‪ .‬اكنت‬
‫أحاديهثم تشوقين‪ ،‬وجتعلين أمتىن الوصول لها‪ ،‬لرؤية تكل‬
‫العجيبة‪ ،‬اليت حوت هباء البحار‪ ،‬ومشوخ اجلبال‪ ،‬وهيبة‬
‫الصحراء‪ .‬أعظم ميناء عىل البحر الرشيق‪ ،‬بني أحضان جبال‬
‫شاخمة‪ ،‬حتفها الصحراء بس ياج واق‪ ،‬جعلها حصينة منيعة‪ ،‬ال‬
‫يس تطيع أحد اقتحاهما عنوة‪ ،‬إال لو أاتها من البحر بأسطول‬
‫عظمي‪ .‬لكنين اليوم‪ ،‬إذ قطعت املاكن‪ ،‬ووصلهتا‪ ،‬علمت أنه من‬
‫احملال قطع الزمان لرؤيهتا! فزرقاء املايض ال أثر لها يف تكل‬
‫األسوار املهدمة قبيحة املنظر‪ ،‬وادلماء اليت لطخت لك أبواهبا‬
‫من أثر القتال‪ ،‬اذلي ال ينقطع يف طرقاهتا‪ .‬هنا يف زرقاء‬
‫القراصنة‪ ،‬ال يتفامه الناس‪ ،‬وال يتشاجرون إال ابلسالح‪ ،‬وال‬
‫يرحبون إال بقتل اخلصوم! وترتك اجلثث ال تدفن‪ ،‬إال لو طغت‬
‫راحئهتا عىل النفوس‪ ،‬فتدفن بعد أن تتعفن أمام العيون‪.‬‬
‫جتولت بني البيوت‪ ،‬اليت سودهتا آاثر احملارق‪ ،‬والقصور‬
‫املنيفة اليت أصبحت خرائب‪ .‬ومضيت عابرا األحياء‪ ،‬اليت‬
‫انفردت لك عصبة من القراصنة ابلس يطرة علهيا‪ ،‬تتقاتل فامي‬
‫بيهنا‪ ،‬كشأن أغلب املدن الكبرية يف بالدان‪ ،‬ال فرق بني قراصنة‬
‫صعاليك‪ ،‬وبني أمراء مماليك!‬
‫لكن ما ميزيمه هنا عن غريمه من حاكم املدن هو السوق!‬
‫سوق واحدة جتمع اللك‪ ،‬ألن املال هنا يتحدث! اللكمة يف‬

‫‪299‬‬
‫السوق واحدة‪ ،‬واحلمك يف جشارات السوق واحد‪ ،‬لألمري‬
‫األبيض الثاين‪ ،‬حامكهم اإلفرجني‪ ،‬اذلي قتل أخوه أمام ساوة‬
‫منذ شهور قليةل‪.‬‬
‫اكن القراصنة يدركون خطر السوق عىل حياهتم‪ .‬فلو خرب‬
‫متاما‪ ،‬فلن يس تطيعوا بيع غنامئهم بسهوةل‪ ،‬بل س يضطرون إىل‬
‫ترسيهبا يف املدن بأخبس األسعار‪ ،‬واي س بحان هللا! مه يف‬
‫حرصهم‪ ،‬عىل مصلحة التهار‪ ،‬وأمان التهارة‪ ،‬قد فاقوا امحلقى‬
‫من األمراء‪ ،‬فوجدت يف زرقاء القراصنة احملرتقة حياة أفضل‪،‬‬
‫وأكرث ازدهارا من بعض املدن‪ ،‬اليت اكنت يوما عظمية حىت‬
‫أفقرها حاكهما!‬
‫لكهنا لغة املال‪ ،‬اليت ال يفهم القراصنة سواها‪ ،‬فيجيدون‬
‫احلفاظ علهيا!‬
‫ال تدخل القوافل الزرقاء مبارشة‪ .‬فللصوصها لصوص آخرون‬
‫مرتبصون! حول املدينة ‪ -‬كام أخربوين ‪ -‬جامعات من املطرودين‬
‫واملوتورين‪ ،‬اذلين حيقدون عىل من بقوا داخلها‪ ،‬وذلا تتوقف‬
‫القافةل عىل مسرية يوم من الزرقاء‪ ،‬وتتشتت‪ ،‬ليدخل لك‬
‫مسافر وحده لقلب املدينة‪ .‬أما يوم خروج القافةل‪ ،‬فهو يوم‬
‫عظمي‪ ،‬جتمتع فيه جيوش‪ ،‬وتدور حروب‪ ،‬ترافقها حىت خترج من‬
‫قبضة جبال الزرقاء القاس ية‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫وأخربوين إن جبال الزرقاء غادرة جدا‪ .‬لها أساطري وحاكايت‬
‫تشيب الودلان! وذلا خشيت‪ ،‬إن تسللت وسطها‪ ،‬من‬
‫وحوشها‪ .‬ودلفت بشهاعة السائس البائس‪ ،‬اذلي ال ميكل ما‬
‫يرسق منه‪ ،‬للمدينة من أبواهبا‪ ،‬وس بحان من جناين من قطاع‬
‫الطريق!‬
‫اآلن أان يف قلب املدينة اخمليفة‪ ،‬اليت ال يأمن أحد عىل نفسه‬
‫فهيا‪ .‬اضطررت ألن أبيت أول ليةل يف السوق‪ ،‬ألاهنم يزمعون‬
‫أنه أكرث األماكن أمنا يف املدينة‪ ،‬لكين ال أس تطيع املبيت فيه لك‬
‫يوم‪ ،‬وإال قبض عيل جنود األمري األبيض‪ .‬ال أمكل إال ثالثة‬
‫داننري حفسب‪ ،‬ال تكفي للوصول لطرابل‪ ،‬وال لعوديت لساوة‪،‬‬
‫وال تنفعين يف البقاء ورشاء قويت من تكل املدينة اخلبيثة‪.‬‬
‫لكين من أهل ساوة‪ ،‬وحامت‪ ،‬كبايق أهلها‪ ،‬أعرف طريق‬
‫السوق! أخذت أبيع هجدي يف األحامل‪ ،‬وأدلل عىل البضائع‪،‬‬
‫وأساوم هذا وذاك‪ ،‬وأفاوض هنا وهناك‪ .‬وبعد أس بوع واحد‪،‬‬
‫التقطين أحد جتار الفرجنة‪ ،‬يسمى جربائيل‪ ،‬ألمعل عىل بضائعه‬
‫فرتة مكوثه يف املدينة‪ .‬وقدم يل املأوى‪ ،‬واملألك‪ ،‬واألجرة‬
‫ألسابيع اتلية‪.‬‬
‫وأخذت‪ ،‬يف أوقات فراغني أتسلل للميناء‪ ،‬أتنسم منه األخبار‪.‬‬
‫اكن أخبث ماكن عىل ظهر األرض هو ميناء الزرقاء! أخالط‬
‫من أغلظ القراصنة‪ ،‬وأحقر اللصوص يؤ ّمونه من لك العامل!‬

‫‪301‬‬
‫ولكين شققت طريقي فيه ابحلذر والفطنة‪ ،‬ومسعت أخبار‬
‫األمراء‪ ،‬اذلين رحلوا لطرابل‪ ،‬وأنباء حروب األسود‪ ،‬وتاكسل‬
‫األهبال عن نرصته‪ ،‬وأدركت أن وقت الرحيل قد أزف‪.‬‬
‫أخذت أدبر أمري كيف أرحل؟ وأثناء مكويث‪ ،‬عند إحدى‬
‫املقايه‪ ،‬أاتين اجلواب‪.‬‬
‫وجدت رجال يتفاوض مهسا مع قرصان‪ ،‬ليحمهل معه للفيحاء‪،‬‬
‫عىل أن خيدم عىل ظهر السفينة بأجرة النقل‪ .‬فأرسعت أنضم‬
‫هلام‪ ،‬وأقدم نفس العرض‪ ،‬ودفعت ما معي من مال عربوان‪.‬‬
‫وفزت بصفقة الرحيل عن البالد‪.‬‬
‫وأخذت أهجز نفيس رسا‪ .‬فكام احلديث الرشيف (اس تعينوا‬
‫عىل قضاء حواجئمك ابلكامتن) كمتت أمري حىت عن التاجر‬
‫اإلفرجني‪ .‬ولكين تركت هل قرطاس‪ ،‬وحضت فيه بإخالص ما اكن‬
‫من جتارته‪ ،‬وأمر ذهايب ومغادرته‪.‬‬
‫وهذا الصباح‪ ،‬اكن أول يوم يف حيايت أركب فيه البحر‪.‬‬
‫مل تكن معرفيت ابلبحر مجيةل‪ .‬أذكر حاكية أيم يل عن صبية‬
‫البحر املليحة‪ .‬تكل اليت تفنت الرجال‪ ،‬اذلين يكون هذا أول‬
‫سفر هلم يف حبرها‪ ،‬مث تغدر هبم‪ ،‬وتغرقهم‪ ،‬ل ي يقتات بلحمهم‬
‫آابؤها من األسامك آلكة اللحم‪ .‬كام اكن أيب حي ي يل عام يواهجه‬
‫احلهاج من أهوال يف البحر‪ ،‬مثل العواصف‪ ،‬اليت يرتفع املوج‬

‫‪302‬‬
‫فهيا اكجلبال‪ ،‬أو الثعابني العمالقة‪ ،‬اليت تلهتم السفن‪ ،‬أو األسامك‬
‫املفرتسة‪ ،‬اليت تقفز لتخطف فريس هتا من فوق سطح السفن‪.‬‬
‫ذلا اكن لألمر رهبة وهتيب؛ لكن بقايئ يف املدينة اخلبيثة‪،‬‬
‫حيث الهنب غنمية‪ ،‬والقتل رشيعة‪ ،‬أمر ال أطيقه‪.‬‬
‫ذهبت للميناء منذ الصباح الباكر‪ ،‬ومل أركب السفينة إال مع‬
‫آخر ضوء غارب‪ ،‬ألعلو البحر الغدار‪ ،‬وأذوق بنفيس املرار!‬
‫ما أن غابت الزرقاء عن العيون‪ ،‬حىت أمسك بنا البحارة‪،‬‬
‫وقيدوان‪ ،‬وأعلنوان إننا وقعنا يف رش أعاملنا‪ ،‬وسيمت بيعنا عبيدا‬
‫يف أسواق الفرجنة‪.‬‬
‫وجلست يف اذلل مكرواب‪ ،‬ال أمكل إال ادلعاء والاس تغاثة‬
‫ابهلل‪ .‬اكن الغالظ يوقظوننا من الفجر‪ ،‬ننظف قذارهتم‪ ،‬حتت‬
‫سلطان الس ياط‪ ،‬وحنبس بعدها يف قعر السفينة‪ ،‬دون طعام‬
‫يذكر‪ ،‬ومه يقولون بسخرية‪:‬‬
‫"س تصلون قريبا للفيحاء‪ ،‬وحيهنا تعلمون أننا رحامء بمك‪ ،‬بعد‬
‫أن تتذوقوا أفاعيل خنايس الفرجنة!"‬
‫ولكن القدر تدخل‪ ،‬فهامجتنا سفينة قرصان جبار‪ ،‬أسقط‬
‫السفينة وبضائعها يف يده‪ ،‬واهنب لك من علهيا‪ .‬مث أىت ابلبحارة‪،‬‬
‫فقطع رقاهبم‪ ،‬وابلسفينة فأحرقها‪ .‬ونظر للبضائع‪ ،‬فأبقى ما‬
‫يش هتيه‪ ،‬وألقى ابلبقية يف املاء‪ .‬وأخريا التفت للعبيد‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫وقف ينظر إلينا‪ ،‬وهو يفكر بصوت مسموع‪:‬‬
‫"ترى أيس تحقون مشقة نقلهم للسوق لبيعهم أم أقتلهم‬
‫وأسرتحي؟"‬
‫طبعا مل جيرؤ أحدان عىل القول بأنه حر خمطوف‪ ،‬لئال يلحق‬
‫ابخلاطف ذي العنق املقصوف‪.‬‬
‫اكن كبري القراصنة رجال قصريا جدا‪ ،‬تزين حسنته الندوب‪ ،‬وهل‬
‫شفة مشقوقة‪ ،‬يرتدي رسوالا فضفاضا‪ ،‬أكرب منه بكثري‪،‬‬
‫يزمعون أنه خيفي أسفهل أكوام من اخلناجر والس يوف‪ .‬واكنت‬
‫براعته يف اس تخدام السالح مذهةل‪ ،‬ابرز حبارة السفينة‬
‫بس يفه‪ ،‬فأوقعهم‪ ،‬ولكن خناجره اكنت أوقع هبم‪ .‬أثناء املعركة‪،‬‬
‫رأيته يقذف خناجره‪ ،‬واحدا تلو اآلخر‪ ،‬ليسقط هبا الصناديد‬
‫كألواح من حديد!‬
‫وجلس نا حتت رمحة أيب شفة (وهذا لقبه) مرجتفني‪ .‬اكن رسيع‬
‫الغضب‪ ،‬ال يطيق مراجعته يف أي أمر‪ ،‬وجعرفته عظمية‪ ،‬واحلقد‬
‫يف قلبه ال حياول دفنه‪ .‬فقد مجعنا جفأة يف اليوم التايل‪ ،‬ألنه‬
‫استيقظ ومزاجه غري رائق‪ ،‬فانتقى منا لك طويل ووس مي‪ ،‬فذحبه‬
‫بيده! مث أبقى بقيتنا‪ ،‬ليبيعهم يف الزرقاء!‬
‫ووجدت إنين أعود حليث بدأت‪ ،‬حىت إنين فكرت يف العودة‬
‫إىل ساوة‪ ،‬وكفاين ما أصابين من حرسة وندامة‪ .‬ولكن أين املفر‬
‫من األرس؟‬

‫‪304‬‬
‫وبعد يومني يف البحر الغادر‪ ،‬عدان للمدينة امللعونة‪ ،‬وقادوان‬
‫اكلهبامئ للسوق‪.‬‬
‫وهنا وجدين التاجر اإلفرجني‪ ،‬جربائيل‪ ،‬اذلي كنت أمعل‬
‫عنده!‬
‫أرسع حنوي ينظر‪ ،‬وبشأين يفكر‪ ،‬مث رصخ يف امجلوع أن‬
‫أغيثوه‪ ،‬فهذه بضائع مرسوقة‪ ،‬ومنه مهنوبة‪ ،‬وهذا القرصان قد‬
‫خالف العهد‪ ،‬ونقض اذلمة‪ ،‬ورسق اتجرا حامال لصك األمان‪.‬‬
‫دهشت حينا‪ ،‬حىت فهمت أن بعض جتار الفرجنة حيصلون‬
‫عىل ما يسمى بصك األمان من األمري األبيض‪ ،‬مقابل أموال‪،‬‬
‫وبعد وساطات‪ .‬لكن من حيمل هذا الصك‪ ،‬ال يقرتب منه أي‬
‫من قراصنة الزرقاء‪ ،‬سواء يف املدينة‪ ،‬أو يف البحر‪ .‬ومن خيالف‬
‫هذا الصك‪ ،‬ينبذ من املدينة‪ ،‬وال يسمح هل أن يبيع فهيا الغنمية‪.‬‬
‫وجادهل القرصان بغضب‪ ،‬ألن السفينة اليت اهنهبا ليست ألحد‬
‫التهار‪ ،‬وإمنا لصياد ينقل جتارة دون إذن‪ ،‬أو دفع إاتوة‪ .‬لكنه‬
‫بعد أن أحرق السفينة‪ ،‬وقتل البحارة‪ ،‬مل يبق يف يده دليل‬
‫يدحض بينة التاجر‪.‬‬
‫وبينة التاجر قوية! مال يريش به من شاء من الشهود‪،‬‬
‫وأحالف مع أمراء الفرجنة‪ ،‬وغريمه من القراصنة‪ ،‬ينرصونه‬
‫ليضيقوا اخلناق عىل خصمه!‬

‫‪305‬‬
‫وابلفعل جتمع عدد من الرجال‪ ،‬مييلون عىل جربائيل‪ ،‬يفاوضونه‬
‫مهسا يف مثن نرصته‪ .‬ودارت العيون حولنا‪ ،‬لرنى عرشات‬
‫البلطجية يتجمعون‪ ،‬طمعا يف أن ينشب القتال‪ ،‬ليحصلوا عىل‬
‫أجر عن لك رأس يقطعونه‪.‬‬
‫وهنا ذابت جعرفة أيب شفة القصري‪ ،‬وطلب احلمك والتقدير من‬
‫أمري املدينة‪ ،‬ألن هذا خالف سوق‪ ،‬وخالفات السوق ال حتل‬
‫ابلقتال‪ ،‬وإمنا عند األمري‪.‬‬
‫وهنا أتوا بنا وابلبضائع لألمري‪ .‬ومهس التاجر قليال يف أذنه‪،‬‬
‫حفمك ابلبضائع أليب شفة‪ ،‬والعبيد جلربائيل‪ ،‬عىل أن يدفع أليب‬
‫شفة مقدار اإلاتوة املفروضة عىل سفن البضائع‪ ،‬فرىض الاثنان‬
‫ابحلمك‪ ،‬اذلي بدا للقرصان خسيا معه‪ ،‬فمل جيادل!‬
‫وتدافعنا عىل جربائيل نشكره‪ ،‬ويفتدي من يس تطيع نفسه‬
‫ابملال‪ ،‬ال نرغب إال يف الفرار من تكل املدينة امللعونة‪.‬‬
‫أطلقهم التاجر ابلفدية إال أان‪ .‬أبقاين جانبا‪ ،‬مث أخذين لألمري‪.‬‬
‫تلكم األمري‪:‬‬
‫"هذا التاجر يزمع إنك رسول من رسل القائد األسود؟"‬
‫مصت ومل أجب‪ ،‬فتلكم جربائيل نيابة عين‪:‬‬
‫"خدمين بضعة أسابيع اي موالي‪ ،‬زاعام إنه آت من ساوة يف‬
‫الغرب‪ ،‬من حيث أىت أولئك األمراء‪ .‬وما سأل عن يشء‪ ،‬إال‬

‫‪306‬‬
‫عن أنباء األمراء‪ ،‬هو جاسوس للقائد األسود‪ ،‬يتسمع األخبار‬
‫حامت‪".‬‬
‫نظر هل األمري األبيض بربود‪ ،‬مث أخرج كيس داننري‪ ،‬فنفحه هل‪،‬‬
‫وأشار هل أن يرتكنا منفردين‪.‬‬
‫ما أن خرج جربائيل‪ ،‬حىت قال األمري‪:‬‬
‫"أتعمل أن بيين وبني س يدك ثأرا؟"‬
‫أرسعت أقول‪:‬‬
‫"موالي األمري األبيض‪ .‬لست خبادم للحقري‪ ،‬وال جاسوس‬
‫للطاغية‪ .‬إين ذاهب إىل طرابل‪ ،‬إلنقاذ قرييب من رشه‪ ،‬فأان من‬
‫أهل ساوة‪ ،‬وللوريث علينا ذمة وأمانة‪ ،‬ووجبت علينا حاميته‬
‫من القتل غدرا وغيةل‪".‬‬
‫نظر يل بدهشة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أنت رفيق الغول األمحر‪ ،‬اذلي يتحدثون عنه إ ًذا؟ ما شأن‬
‫ذكل الرجل؟"‬
‫رددت‪:‬‬
‫" مايل وماهل؟ هو رجل أمحق مغرور‪ ،‬لكنه واسع احليةل‪،‬‬
‫شديد اجلرأة والبطش‪ .‬عىل إنين انفصلت عنه عند الثغر‬
‫الصغري‪ ،‬وأمكلت طريقي وحدي‪".‬‬
‫تلكم األمري بصوت هامس‪:‬‬

‫‪307‬‬
‫"يقال أنه حاول إنقاذ أيخ من قتةل األسود؟"‬
‫رددت مبا علمت‪:‬‬
‫"أخربين إنه التقى بشقيقك‪ ،‬واكن بيهنام يشء من وفاق‪ ،‬ولكن‬
‫شقيقك أرص عىل السري يف طريقه وحده‪ ،‬معزتما همادنة‬
‫األسود‪ ،‬لوال أن األخري غدر به‪ ،‬كام س يغدر بلك حلفاءه‪".‬‬
‫تغري وجه األمري يف رسعة مذهةل‪ ،‬وقال برصامة‪:‬‬
‫"حس نا اي ابن ساوة‪ .‬القائد األسود رش البد منه‪ ،‬وال أس تطيع‬
‫منابذته‪ ،‬وإرساكل إىل طرابل‪ .‬ولكن قليب ال يقوى عىل إرساكل‬
‫هل‪ ،‬مفازلت انمقا أليخ‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬أان أبعد نظرا من هذا‬
‫الغول‪ ،‬اذلي بعث حيا بعد طول موات‪ ،‬وسأختار إبقاءك يف‬
‫جسين‪ ،‬حىت نرى من أمر األمور‪ ،‬واحتدام اخلطوب‪ ،‬وكيف‬
‫تسري بنا املقادير يف هذا اهلم اخلطري‪".‬‬
‫واقتادوين إىل قعر مظلمة‪ ،‬ألقيت فهيا‪ ،‬وسط خليط من‬
‫أرجاس ومظالمي‪ ،‬ال أدري من شأين شيئا‪ ،‬وال أعمل لهناية الليل‬
‫جفرا‪".‬‬

‫‪308‬‬
‫(‪)29‬‬

‫يقول الغول األمحر‪ ،‬عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"بقينا عىل أطراف الغاربة‪ ،‬يطببنا جابر‪ ،‬متكامت أمران‪ ،‬وأشاع‬
‫بني الناس نبأ رحيلنا‪ .‬اكن فىت خملصا‪ ،‬متحمسا‪ ،‬تعم نفسه‬
‫ابلثورة‪ ،‬وخينقه الضيق واحلزن عىل أحوال تكل اململكة‪ ،‬اليت‬
‫اكنت يوما عظمية‪ .‬ذكرين بشقيقي األكرب‪ ،‬اذلي قتهل وايل‬
‫الزرقاء‪ ،‬ليتخلص من حتريضه للمظلومني عىل الظاملني‪.‬‬
‫أحببت جابر هذا كثريا‪ ،‬وأظنين القيت هوى يف نفسه‪ .‬اكن‬
‫يأتينا لك ليةل‪ ،‬يتسمع مين ما أعرفه من أخبار البالد‪ ،‬وحال ما‬
‫أصاب الشامل والغرب من بالء‪ .‬لكنه أاثر ضيقي‪ ،‬بإحلاحه يف‬
‫السؤال عن أمر الغيالن امحلر ‪،‬فاكن إذا ما بدأ احلديث عهنم مل‬
‫ينته‪ ،‬ولو حاولت برته‪ ،‬ويبقى راخسا ال مييض‪ ،‬ولو حاولت‬
‫رصفه!‬
‫زمعت هل إننا غيالن محر جدد‪ ،‬لس نا من املولودين‪ ،‬أو غريمه‬
‫من فرق الغيالن القدمية‪ .‬وإمنا حنن بعث جديد‪ .‬نبذان املايض‬

‫‪309‬‬
‫بذنوبه‪ ،‬وتسمينا ابجلدد‪ .‬وقد غريان من بعض القوانني الظاملة يف‬
‫كتاب الشهاعة‪ ،‬اذلي اكن الفىت مفتوان به‪ ،‬حىت إنه نسخه‬
‫ابلاكمل يف ليةل واحدة‪.‬‬
‫عيل! فقد اكن يناقش ين يف الكثري من‬ ‫واكن نسخه لعنة ّ‬
‫القوانني‪ ،‬اليت ال أعهيا‪ ،‬فأرحي رأيس‪ ،‬وأقول إننا استبدلناها بكذا‬
‫وكذا‪.‬‬
‫مفثال أاتين يقول‪:‬‬
‫"أترى حقا كام القانون الثامن أن الشهاعة تسمو فوق لك‬
‫يشء؟"‬
‫فأقول هل‪:‬‬
‫"القانون اجلديد نلزم جانب احلق همام اكن‪".‬‬
‫واحلادي والعرشين اجلديد‪:‬‬
‫"ال ضعيف بني الغيالن‪".‬‬
‫والثالث عرش‪:‬‬
‫"س يفنا ال خيفمض حىت مخيفض الظامل"‬
‫وغريها من التغيريات‪ ،‬اليت مل أحتفظ هبا يف ذاكريت‪ ،‬لكنه‬
‫سارع بنقشها يف أوراقه! مث أاتين ذات يوم بسؤال مزجع‪:‬‬
‫"كيف يصبح املرء غوال أمحر؟"‬

‫‪310‬‬
‫أخذت أحشذ ذهين‪ ،‬وأجيب ببعض األاكذيب‪ ،‬اليت خدعت‬
‫هبا تميور ابن زهري الساوايت‪ ،‬مضيفا القانون الطريف بأمر‬
‫البحث عن األخالق النقية عند احليواانت‪ ،‬حىت أزحي مهه‬
‫عين‪ ،‬فال يفاجئين بطلب الانضامم هلم!‬
‫وقد حتمس جابر لتكل اخلزعبالت‪ ،‬ال ألقي يف انره ابجلديد‬
‫مهنا‪ ،‬إال زاد يف إزعايج طلبا للمزيد‪ .‬وذل‪،‬ا مفا أن اش تد‬
‫ساعدي‪ ،‬عزمت بلك ارتياح عىل الرحيل‪ ،‬وتوهجت مع غول‬
‫احلق إىل الزرقاء‪.‬‬
‫رسان مع دليل‪ ،‬أوصلنا لبداية الطريق‪ ،‬مث أمكلنا وحدان‪،‬‬
‫همتدين ابلنجوم حتت سرت الليل اآلمن‪ ،‬ومضينا حىت وصلنا‬
‫للزرقاء‪.‬‬
‫الزرقاء‪ ،‬تكل املدينة العتيدة‪ ،‬اليت شهدت طفوليت‪ ،‬ومراعي‬
‫الصبا‪ .‬واه اي زرقاء! مك اش تقت إليك‪ .‬ومك أهابك اي من خضبتك‬
‫ادلماء‪.‬‬
‫مدينة غادرة‪ ،‬متقلبة اكلبحر اذلي نبت منه‪ ،‬ال أمان حلامك‬
‫فيك‪ ،‬وال مس تقر لساكن منك‪ .‬مك ابتلعت قبورك من أبرايء‪،‬‬
‫ومك لفظ حبرك من حضااي‪ ،‬ومك جذبت أسواقك من مفتونني‪ ،‬ومك‬
‫آوت جباكل من أشقياء!‬

‫‪311‬‬
‫هلكت جيوش تطمع يف غزوك‪ ،‬وأخرى تدافع عنك‪ ،‬وبني‬
‫هذين‪ ،‬سالت دماء أبنائك أاهنارا بريئة‪ ،‬ال تصب إال يف حبرك‬
‫املاحل‪.‬‬
‫لكين ال أنىس كرمك الفائض‪ ،‬وخرياتك املنعمة حيامن حتنني‪ ،‬كام‬
‫حنوت عىل أيب الالجئ‪ ،‬وآويته‪ ،‬وأمّنته من غدر األهل‪،‬‬
‫وجور احلاكم‪ .‬لكنك أخذت المثن بقطف مثرة قلبه البكر دون‬
‫إنذار‪ ،‬قبل أن تغريق لكك يف حبور الفهار‪.‬‬
‫آه اي زرقاء‪ .‬ها أان أعود كل‪ ،‬عىل غري انتظار‪ ،‬كام خرجت‬
‫منك بغري توقع‪ .‬وش تان بني اليوم واألمس‪ ،‬خرجت فارا‪،‬‬
‫تطاردين األهوال‪ ،‬وأجاهد ل ي أحلق خبطى وادلي املرسعة‪ ،‬يف‬
‫اثين هروب هل‪ ،‬ومل يكن األخري‪ ،‬لقد هربنا حىت سأمنا الهرب‪.‬‬
‫ورمغ فزعه‪ ،‬أذكر أنه مل يقاوم الالتفات خلفنا‪ ،‬والنظر إليك‬
‫نظرة‪ ،‬ظننهتا األخرية‪ ،‬وأنت تتوههني بنار‪ ،‬وقودها القصور‬
‫واألبرايء‪.‬‬
‫لهنا أىت وادلي فالحا‪ ،‬فأصبح صياد مسك‪ .‬وهنا عرف أيم‪،‬‬
‫وتزوهجا‪ ،‬وذاق حالوة األبناء والسعادة‪ .‬ومن هنا خرجنا‬
‫فزعني‪ ،‬ال جند أماان إال يف اجلبال اخمليفة‪ ،‬اليت تربينا عىل‬
‫حاكايهتا املفزعة عن جن وش ياطني‪ ،‬وعش نا عىل صيد الرب‬
‫نقتات ونبيع‪ ،‬حىت جهران املاكن لكه‪ ،‬وابتعدت عنا املدينة‬
‫احلبيبة‪ ،‬ويه حتترض يف قبضة حاكهما اجلدد‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫ش تان بني األمس واليوم‪ .‬خرجت ابألمس من أسوار بيضاء‬
‫مجيل‪،‬ة مزينة برسوم زهور وأسامك‪ ،‬واليوم أعود لها شااب فتيا‪،‬‬
‫يزمع إنه زعمي هماب‪ ،‬يطارد األخطار عرب حطام همدم أسود‪.‬‬
‫دخلت مع غول احلق للمدينة‪ ،‬وجتولت يف طرق أحفظها رمغ‬
‫يد ادلمار اليت بدلهتا‪ .‬هذا اكن قرص شهبندر جتار األمقشة‪ ،‬وهو‬
‫اليوم خرابة متتلئ ابلننت واخمللفات‪ .‬وتكل اكنت حديقة ألعب فهيا‬
‫مع أطفال املدينة‪ ،‬ومنرح حول انفوراهتا يف قيظ الصيف‪،‬‬
‫حتولت ملقربة مكدسة بآالف القتىل‪.‬‬
‫وذاك اكن املسهد العامر‪ ،‬منارة العمل والفقه واإلميان‪ ،‬أصبح‬
‫همجورا منبوذا‪ ،‬يأوي البوم اهنارا‪ ،‬واملرشدين ليال‪.‬‬
‫وبه اكن مبيتنا‪.‬‬
‫بت ابيق الليل مع غول احلق‪ ،‬أجاهد دموعي عىل ما آلت هل‬
‫أحوال املدينة‪ .‬وملا استيقظنا ‪ -‬إن اكن بعد األرق يقظة ‪ -‬أردت‬
‫معرفة ما أصاب أهلها‪ ،‬فتجولنا‪.‬‬
‫اكن أهل الزرقاء‪ ،‬الودودون البشوشون املهذبون‪ ،‬قد‬
‫انقرضوا‪ ،‬مل يبق من وجوههم امجليةل يشء‪ ،‬وحل حملها تكل‬
‫السحن البغيضة القاس ية‪ .‬مل أجد ممن عرفهتم من الساكن أحدا‪.‬‬
‫مل يعد للمدينة اليت عرفهتا أثرا‪.‬‬
‫آه اي زرقاء‪ ،‬مك تبدلت اي مدينة التهار والبحارة!‬

‫‪313‬‬
‫عىل إنين يف الهنار التايل‪ ،‬أدركت أن بعض سنن املدينة القدمية‬
‫مازالت حية‪ .‬ل ي تعرف ما تريد من أخبار‪ ،‬فس تهدها بسهوةل‬
‫يف امليناء؛ ولكن يف املقابل‪ ،‬س يعرف لك من هب ودب‬
‫بأمرك!‪ ..‬لكن لو تركت امليناء‪ ،‬واكتفيت ابإلنصات يف امحلامات‬
‫واألسواق الصغرية املزدمحة‪ ،‬أو لو ثرثرت مع عامل السفن‬
‫الرحاةل‪ ،‬يف أمر بعيد متاما عام تريد‪ ،‬س تهد أنباء ادلنيا لكها‪،‬‬
‫تنصب بيرس يف أذنك‪ ،‬تنتقي مهنا ما تشاء‪.‬‬
‫واختلطت ابلعامل‪ ،‬اذلين يتجمعون قرب األسواق‪ ،‬ينتظرون‬
‫أن يكرتاهم أي خشص يف الرب أو البحر‪ ،‬كام اعتدت عىل رؤيهتم‬
‫يف صباي‪ .‬فقط زاد علهيم أن انضم هلم البلطجية‪ ،‬ملن يرغب يف‬
‫تأجري سفاك دماء!‬
‫علمت‪ ،‬مما مجعته من أخبار‪ ،‬أن الكثري من األمراء والرسل‬
‫رحلوا من الزرقاء لطرابل‪ ،‬ولكن أكرث من نصفهم مل يصل‬
‫(لفرحيت وشامتيت) لها ساملا!‬
‫ومسعت نبأ غريب‪ ،‬عن جاسوس لألسود‪ ،‬اعتقهل قرصان‪،‬‬
‫فافتداه اتجر ليحبسه األمري! وأصابين الشك يف هذا النبأ‪ ،‬وما‬
‫أكد شكويك‪ ،‬هو إن أمري الزرقاء اجلديد‪ ،‬إما أن اهادن السود‪،‬‬
‫فيطلق رساح جاسوسه‪ ،‬أو يقتهل ثأرا ألخيه‪.‬‬
‫وراودتين نفيس أنه رمبا يكون تميور‪ ،‬فهو أمحق مبا يكفي ل ي‬
‫يعمل لك أهل املدينة أنه يطلب طرابل‪ ،‬سعيا خلف الوريث‪،‬‬

‫‪314‬‬
‫ويف الوقت نفسه تلقى درسا مؤملا يف الثغر الصغري‪ ،‬ليكمت أمر‬
‫نس به وتأييده للوريث‪.‬‬
‫وألقطع الشك ابليقني‪ ،‬ذهبت للتاجر اإلفرجني جربائيل‪ ،‬زاعام‬
‫البحث عن معل‪ ،‬وابلفعل كنت‪ ،‬وغول احلق‪ ،‬حباجة للعمل‪،‬‬
‫لنتكسب معيشتنا‪ ،‬دون أن نلفت انتباه الناس ملا معنا من نفقة‬
‫قليةل‪ ،‬منحنا إايها جابر الغاريب‪.‬‬
‫لكن التاجر املاكر مل يأمن لنا يف البداية‪ .‬جفسداان الطويالن‬
‫القواين يصلحان محلل األثقال‪ ،‬كام يصلحان للقتل والاغتيال!‬
‫أخذت أحاول إزاةل الريبة من قلبه‪ ،‬وأخربته إنين ودلت يف هذه‬
‫املدينة‪ ،‬ويه حقيقة‪ ،‬يسهل أن أثبهتا بذكر أسامء األرس القدمية‪.‬‬
‫وقلت هل إنين عدت مع أيب لبدلته القدمية‪ ،‬هراب من مذاحب‬
‫القراصنة‪ ،‬ولكن أههل طردوين‪ ،‬ملا مات‪ ،‬واس تولوا عىل أريض‪،‬‬
‫فقلت إن األمر سواس ية‪ ،‬وألعد دلار طفوليت‪ ،‬مع صاحيب‬
‫نسرتزق من التهار‪ .‬اكنت حاكية ممنقة متاثلها آالف احلاكاي اليت‬
‫مسعها الرجل‪ ،‬ولكن ما ميزيها إنين أعرف خبااي املدينة‪ ،‬واألمه‬
‫خبااي جبالها‪ ،‬اليت جلئت لها عدة شهور‪.‬‬
‫وجبال الزرقاء وعرة‪ ،‬خميفة أساطريها‪ ،‬ولكهنا امللهأ وقت‬
‫الاحتياج‪ ،‬إن اثر عليك غضب القراصنة‪ ،‬وممراهتا تتحمك بطرق‬
‫القوافل الربية‪ ،‬اآلتية ابلكثري من الرزق واملكسب‪ ،‬وثناايها‬

‫‪315‬‬
‫ختفي لصوص القوافل‪ ،‬اذلين ترغب يف الهروب مهنم‬
‫ببضاعتك‪ ،‬والاتفاق عىل رشاء خبس ملا اهنبوه من بضائع غريك!‬
‫وذلا اكنت معرفيت هبا هدية مثينة جلربائيل‪ .‬وأمحد هللا إن غول‬
‫احلق مل يسمع حباكايت اكلوعر ابن حمباس‪ ،‬واألمرية سليةل‪،‬‬
‫وشقيق اجملذوب‪ ،‬وغريها من األساطري املرعبة‪ ،‬وإال ما سار‬
‫معي خطوة واحدة حنوها!‬

‫‪316‬‬
‫(‪)30‬‬

‫فأما الوعر ابن حمباس‪ ،‬فاكن‪ ،‬فامي يزمعون‪ ،‬قاطع طريق‬


‫شهري‪ .‬أسقطه أحد األمراء‪ ،‬وقتهل‪ .‬ولكن الناس تزمع أنه جنا‪،‬‬
‫وهرب إىل أعىل اجلبل‪ ،‬حيث ال يعيش برش‪ .‬اكنت مقة اجلبل‬
‫أرضا خالية‪ ،‬خالصة لساكاهنا من اجلن‪ ،‬فلام اقتحم الوعر بن‬
‫حمباس خلوهتم‪ ،‬وأاثر الضجيج‪ ،‬وأزجع راحهتم‪ ،‬لعنه مكل اجلن‪،‬‬
‫مفسخه وحشا بني اإلنسان والثعبان‪ ،‬فهو مييض متجوال هنا‬
‫وهناك‪ ،‬بلني ثنااي اجلبل‪ .‬مفن وجده هناك من البرش‪ ،‬ابغته فبخ‬
‫السم القاتل يف وهجه‪ ،‬ومن حاربه‪ ،‬قصمه ابلس يف‪ .‬وحيكون أن‬
‫هل ذيل طويل جدا‪ ،‬يصل إىل مائة ذراع‪ ،‬فلو واجه عدو‬
‫صلب‪ ،‬شاغهل من أمامه ابلس يف‪ ،‬بيامن ميد ذيهل يلتف بني‬
‫الصخور‪ ،‬متسلال من خلف عدوه‪ ،‬حىت يلتف حوهل بغتة‪،‬‬
‫ويعترص رقبته اعتصارا‪ ،‬فيلهتم الرؤوس‪ ،‬ويرتك ابيق اجلسد‪،‬‬
‫فريسة إلخوته من احليات‪ .‬وهلم عنه وعن معاركه املفزعة‬
‫أقاصيص كثرية غريبة‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫(‪)31‬‬

‫وأما األمرية سليةل‪ ،‬فهىي قصة خميفة تثري فزعي حىت اليوم‪.‬‬
‫حيىك أن األمرية سليةل اكنت فتاة مجيةل‪ ،‬يه أهبىى بنات وايل‬
‫الزرقاء‪ .‬ولكهنا أصيبت ابلسل اللعني‪ ،‬فاختنق صدرها‪ ،‬وضاق‬
‫نفسها‪ ،‬ومل تعد تطيق هواء البحر‪.‬‬
‫ومجع لها وادلها احلكامء من لك البالد‪ ،‬فأمجعوا أنه ال عالج لها‬
‫إال أن تستشفى يف هواء جاف‪ ،‬يف منطقة جبلية ما‪ .‬وحذروه‬
‫إنه ال حياة لها جوار البحر‪.‬‬
‫وألن وادلها اكن يعشقها‪ ،‬وال يطيق فراقها‪ ،‬فقد رأى أال‬
‫يبعدها عنه إىل مدبنة أخرى‪ .‬فأرسلها لتعيش فوق أعىل جبال‬
‫الزرقاء‪ ،‬وبىن لها قرصا مجيال‪ ،‬مأله ابخلدم واحلرس‪ .‬واكن‬
‫يزورها لك حني‪ ،‬ويأيت لها معه بأغىل العطور واأللبسة‪.‬‬
‫لكن قرصها امجليل اكن مطمعا للكثريين‪ .‬مفهنم من أاتها خاطبا‪،‬‬
‫ومهنم من هامجه مغريا‪ .‬فأما اخلطاب‪ ،‬فقد ردمه أبوها‪ ،‬ألنه‬

‫‪318‬‬
‫خيىش عىل جسدها العليل من أثقال الزواج‪ .‬وأما املغريين‪،‬‬
‫فردمه حرسها القوي‪ ،‬والسور املنيع‪.‬‬
‫عاشت سليةل يف قرصها املنعزل حياة هادئة طيبة‪ .‬ومل جتد ما‬
‫تشغل نفسها فيه إال حديقهتا‪ .‬زرعت حديقة صغرية يف فناء‬
‫القرص‪ ،‬وقضت أغلب وقهتا يف رعايهتا‪ ،‬رمغ أن قسوة الرتبة‪،‬‬
‫وندرة املاء حتمك عىل أي حديقة ابلهالك‪.‬‬
‫لكن حديقة سليةل ازدهرت‪ ،‬رغام عن أنف الساخرين‪ .‬وأمام‬
‫عيون وصيفاهتا اذلاهةل‪ ،‬تفتحت الزهور‪ ،‬وأينعت الرايحني‪،‬‬
‫واجمتع لها من النبااتت النادرة‪ ،‬ذات الرواحئ واأللوان املهبرة ما‬
‫ال يوجد حىت يف حدائق امللوك واخللفاء‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬صعد اجلبل إعرايب صعلوك من املغامرين‪ ،‬يسمى‬
‫األهجم‪ .‬اكن األهجم قد قتل أحد الفالحني‪ ،‬وطارده أههل طلبا‬
‫للثأر‪ ،‬فمل جيد مفرا إال صعود اجلبل املهجور‪ .‬واكد أن اهكل‬
‫جوعا وعطشا‪ ،‬عندما التقطت أنفه راحئة الرايحني‪ ،‬فقال‬
‫لنفسه‪:‬‬
‫"لعهل ومه يصيبين يف الاحتضار‪ .‬فأان لست ابملرء الصاحل‪،‬‬
‫اذلي جيد رحي اجلنة عند موته! اي خليبيت اليت أضاعتين‪،‬‬
‫وأضاعت حيايت هدرا‪ ،‬وجعلت آخريت رضا!"‬

‫‪319‬‬
‫لكنه مىض يتتبع الراحئة الزكية‪ ،‬ففتح عينيه مهبورا إذ رأى‬
‫القرص يف هذا املاكن املهجور‪ ،‬حىت تصور أنه قرص من قصور‬
‫ملوك اجلان‪.‬‬
‫طرق ابب القرص مس تغيثا‪ ،‬ال يطلب إال حفنة من طعام‪،‬‬
‫ورشبة ماء تنقذه من املوت‪ .‬فرق قلب األمرية هل‪ ،‬وأمرت‬
‫احلرس أن يفتحوا هل الباب‪ ،‬ويكرموا الضيف‪.‬‬
‫وأكرمته أميا إكرام‪ .‬فبسطت هل موائد الطعام والرشاب‪ ،‬وأفردت‬
‫هل جحرة يف القرص للمبيت‪ .‬مث تركته وذهبت كعادهتا‪ ،‬للعناية‬
‫حبديقهتا‪.‬‬
‫وملا ذهب عناء اجلوع‪ ،‬ووعكة السفر‪ ،‬زحفت غشاوة اجلشع‪،‬‬
‫فوق فضائل الوفاء‪ .‬وحترك قلب الصعلوك الهنم إىل ما رآه من‬
‫كنوز وجموهرات عند األمرية سليةل‪ .‬لكنه اكن أكرث مكرا ورشا‬
‫وطمعا من أن خيتلس القليل واهرب‪ .‬فذهب لقائد احلرس‪،‬‬
‫وأخذ حيدثه وميازحه‪ ،‬ووجد عنده زجاجة مخر‪ ،‬خيفهيا عن‬
‫األمرية اليت تكرهها‪ ،‬فقال هل‪:‬‬
‫"وما ذلة الرشب دون ندمي؟"‬
‫جفلس قائد احلرس واألهجم معا يعاقران امخلر‪ ،‬حىت خف‬
‫لسان القائد‪ ،‬وتودد هل الصعلوك‪ ،‬وبدأ يغريه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"تكل األمرية املسكينة مريضة حقا‪ .‬وإن موهتا لقريب‪".‬‬

‫‪320‬‬
‫قال قائد احلرس‪:‬‬
‫"حقا س متوت قريبا‪ ،‬لنعود دلايران أخريا‪".‬‬
‫قال األهجم‪:‬‬
‫"وأظن أن أهلها لينتظرون موهتا‪".‬‬
‫حضك قائد احلرس‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"ليس مثيل‪ .‬أان أنتظره بصرب فارغ‪ ،‬ألعود دلاري‪ ،‬ومه‬
‫ينتظرونه حبزن وتوجس اكره‪".‬‬
‫قال األهجم‪:‬‬
‫"تعين أاهنم ال يطمعون يف مرياهثا‪ ،‬وتوزيع كنوزها؟"‬
‫قال القائد‪:‬‬
‫"وما كنوزها وسط أموال أبهيا؟ إنه وايل الزرقاء‪ ،‬يغرف يف‬
‫األموال كيف يشاء من التهار والبحارة‪".‬‬
‫قال األهجم‪:‬‬
‫"خسارة حقا أن حترس لك هذا املال‪ ،‬وأن تبذل حياتك‬
‫محلايته‪ ،‬من أجل فتاة ميتة‪ ،‬مث يف الهناية ال تنال شيئا‪ ،‬وتعود‬
‫خائبا‪".‬‬
‫قال القائد‪:‬‬
‫"ال تذكرين‪ ،‬وتزيد مهي‪".‬‬

‫‪321‬‬
‫فقال األهجم‪:‬‬
‫"لو اكن كل رشيك مفكر‪ ،‬لرمبا اس تطعت أن تفوز بقليل من‬
‫الغنمية‪ ،‬ماكفأة تس تحقها عىل هجدك‪".‬‬
‫قال القائد‪:‬‬
‫"وكيف هذا؟"‬
‫قال األهجم‪:‬‬
‫"لو كنت ماكنك لبحثت عن خشص يعينين‪ .‬مفا أن متوت‬
‫األمرية‪ ،‬حىت يدفن يف قربها بعض اجلواهر واذلهب‪ .‬وبعد أن‬
‫ينفض الناس‪ ،‬ويغادروا القرص‪ ،‬ويفتشوا لك احلرس‪ ،‬ويطمئنوا‬
‫أن شيئا مل خيرج معهم‪ ،‬تعود فتأخذ اجلواهر املدفونة‪ ،‬وتقتسمها‬
‫معه‪".‬‬
‫قال قائد احلرس متعجبا‪:‬‬
‫"وماذا عن جسد األمرية؟"‬
‫قال األهجم‪:‬‬
‫"هذا دور الرشيك املاكر‪ ،‬فعليه أن حيمل جثهتا‪ ،‬وخيفهيا‬
‫بعيدا‪".‬‬
‫قال قائد احلرس ابهامتم‪:‬‬
‫"ولكن عند موت األمرية س يحوطها احلكامء والوصيفات؟"‬

‫‪322‬‬
‫حتول األهجم للرصاحة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"أكفيك أان رش األمرية‪ .‬آخذها وأضعها يف كهف رأيته‪،‬‬
‫أحبسها حىت متوت‪ .‬بيامن تعلن أنت موهتا‪ ،‬وتدفن اذلهب يف‬
‫كفهنا‪ .‬لن يكذبك أحد اي قائد احلرس‪ ،‬فلك يشء هنا حتت‬
‫إمرتك ورمحتك‪ .‬وتبقى األمرية عندي‪ ،‬حىت تعود يل ابذلهب‪،‬‬
‫وتقتسمه معي‪ .‬فيأمن الكان غدر صاحبه‪ .‬أنت معك املال‪ ،‬فال‬
‫أس تطيع تركك‪ ،‬وأان معي األمرية‪ ،‬لو تركهتا هلكت أنت‪".‬‬
‫فكر الغادران معا يف اخلطة املاكرة‪ ،‬وقلباها عىل لك وجه‪ ،‬مث‬
‫أمساك ابألمرية‪ ،‬فوضعها الصعلوك يف كيس ضيق‪ ،‬ومجع القائد‬
‫ذههبا‪ ،‬ولفه يف خرقة من كتان أبيض‪ ،‬اكلكفن ووضعها يف‬
‫اتبوت‪ ،‬وخرج عىل القوم مولوال‪ ،‬معلنا أن األمرية سقطت ميتة‬
‫بغتة‪.‬‬
‫محل احلرس اتبوت اذلهب‪ ،‬فدفنوه يف احلديقة اليت أحبهتا‬
‫األمرية‪ ،‬بيامن انهتز األهجم انشغال القوم‪ ،‬وتسلل ابلكيس‪،‬‬
‫املربوطة فيه األمرية سليةل‪ ،‬حنو اجلبل‪.‬‬
‫وجاء الوايل حزينا‪ ،‬يشهد دفن ابنته‪ ،‬ويصيل علهيا‪ ،‬مث رحل‬
‫مع اخلدم والوصيفات‪ ،‬اتراك أغواته حيرتزون املال‪ ،‬واحلىل‪،‬‬
‫واألاثث‪ ،‬قبل أن يغلق القائد أبواب القرص‪ ،‬ويعود معهم نظيفا‬
‫خايل الوفاض للمدينة‪ ،‬ال يرى أحد معه درمه من ذهب الوايل‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫مث يف الليل‪ ،‬عاد قائد احلرس‪ .‬ليس خاوي الوفاض‪ ،‬كام غادر؛‬
‫بل اكن حيمل معه ثالثة أش ياء‪ :‬مفاتيح القرص‪ ،‬وجمرفا للحفر‪،‬‬
‫وس يفا مسموما لقتل األعرايب واألمرية!‬
‫أخذ حيفر القرب الومهي‪ ،‬وفتح التابوت متلهفا‪ ،‬لرؤية أكداس‬
‫اذلهب‪ ،‬فإذا به جيد بدال مهنا جسد األمرية!‬
‫ففي غيبة احلرس‪ ،‬اكن من السهل عىل مغامر ممترس مثل‬
‫األهجم‪ ،‬أن يتسلق سور القرص‪ ،‬ويأخذ الرثوة لنفسه‪ ،‬ووضع‬
‫ماكاهنا سليةل املسكينة‪ ،‬وأغلق علهيا القرب ويه حية‪.‬‬
‫واثرت دماء القائد الغادر املغدور‪ ،‬حفمل س يفه املسموم‪،‬‬
‫وترك جثة سليةل مكشوفة للضباع واذلئاب‪ ،‬وخرج من القرص‬
‫يتتبع آاثر أقدام األهجم يف غضب حقود‪.‬‬
‫وعرث عليه رسيعا‪.‬‬
‫أو عىل األحص عرث عىل ما بقى منه‪ .‬اكنت عيناه مقلوعتني‪،‬‬
‫وجدله مسلوخ ابلاكمل‪ ،‬وقد علق ومازال فيه النفس فوق جشرة‬
‫هزيةل‪ ،‬وأسفهل الوحوش تلعق دمه‪ ،‬وتهنش قدمه‪.‬‬
‫لكن بريق اذلهب األصفر اكن غالاب لدلم األمحر‪ ،‬فغض نظره‬
‫عن رشيكه املتعذب‪ ،‬واحنىن عىل أكوام النقود امللقاة خلف‬
‫الشجرة‪ ،‬يريد مجع ما يس تطيع مهنا والهرب‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫وإذا به جيد قدما تقف فوق املال‪ .‬رفع عينه‪ ،‬فوجد األمرية‬
‫واقفة أمامه!‬
‫اكنت ميتة حامت‪ .‬عفن املوت يفوح من جسدها‪ ،‬اذلي اكن‬
‫غضا‪ ،‬ورمغ ذكل خرجت من قربها‪ ،‬ومشت جتاهه!‬
‫متاكل جأشه كعسكري حمنك‪ ،‬وأخرج الس يف‪ ،‬فبرت رأسها‬
‫برضبة واحدة‪.‬‬
‫لكن ابيق جسدها‪ ،‬ظل يقرتب منه‪ ،‬فمل ميكل إال الرتاجع‬
‫خبطى مذعورة‪.‬‬
‫طعهنا مرة أخرى ابلس يف‪ ،‬ومل ينزتعه من جسدها‪ ،‬بل تركه‬
‫وهرب‪ .‬لكن اذلهب ثقيل‪ ،‬واألجحار وعرة‪ ،‬فتعرث املرة تلو املرة‪،‬‬
‫ومل يلبث أن ألقى ابملال أرضا‪ ،‬وأرسع اهرب مهنا خفيفا‪.‬‬
‫وهنا احتبسه جفأة وحش معالق‪.‬‬
‫يزمعون أنه اكن يف صورة ابن آوى‪ ،‬أو ذئب‪ ،‬أو ضبع‪ ،‬لكن‬
‫خضامة جسده‪ ،‬وهجامة وهجه مل تكن مثل أي من تكل‬
‫الوحوش‪ .‬واكنت العينان مش تعلتني بنار‪ ،‬تبدو آتية من اجلحمي‪،‬‬
‫واألنياب طولها ذراع اكمل‪ ،‬وخمالبه من حديد‪ ،‬اخرتق درع‬
‫القائد بسهوةل‪.‬‬
‫تلكم الوحش اثئرا‪ ،‬وقال إنه مكل جن هذا اجلبل‪ .‬عاش فيه‬
‫زاهدا منعزال منبوذا‪ ،‬حىت جاورته األمرية‪ ،‬وأثلجت صدره‬

‫‪325‬‬
‫بلكامهتا الرقيقة‪ ،‬اليت صربته عىل عقوق أههل‪ .‬فوقع يف حهبا‪،‬‬
‫وزرع لها حديقة بال مثيل‪ ،‬مث أتت ش ياطني اإلنس‪ ،‬فاقتلعت‬
‫احلديقة‪ ،‬ودفنت بني جذورها غدرا سليةل‪.‬‬
‫وارجتف قائد احلرس رعبا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"لست قاتلها‪ .‬مل يكن أان‪".‬‬
‫قال مكل اجلن‪:‬‬
‫"أاها اخلائن احلقري‪ .‬أعمل ما فعهل صاحبك‪ ،‬فنال مين أقل مما‬
‫يس تحقه‪ .‬لكن جرمك أش نع وأفظع‪ ،‬ولن أتركك متوت مراتحا‪،‬‬
‫بل ألقي جبرميتك يف وهجك‪".‬‬
‫وانقض عليه‪ ،‬فهنش وهجه‪ ،‬واقتلع عينيه‪ ،‬وسلخ ذراعه الميىن‬
‫اليت محلت اجملرفة وانهتكت قرب سليةل‪ .‬وقال هل إن روح األمرية‬
‫س تظل هامئة يف اجلبل تنذره بلك من يقلق مضجعها‪ ،‬وحيهنا‬
‫س يأيت‪ ،‬ويثأر منه بأبشع قتةل‪ .‬وأمره أن يرحل بعاره‪ ،‬وتشوهه‪،‬‬
‫وأن خيرب الناس بأال يقربوا قرص حمبوبته‪ ،‬وإال س يلحق هبم‬
‫غضهبا وثأرها‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫(‪)32‬‬

‫وحي ي أهل الزرقاء‪ ،‬أيضا عن جبالها‪ ،‬حاكية اجملذوب‬


‫وشقيقه‪ .‬اكن اجملذوب فىت لعواب وس امي‪ .‬عشقته ابنة كبري التهار‪،‬‬
‫لكنه رسعان ما س ئها‪ ،‬ورغب عهنا‪ ،‬ألنه اكن اكرها للبقاء يف‬
‫املدينة‪ ،‬يطمح أن يسافر‪ ،‬ويشاهد العامل‪ ،‬فنبذ لك يشء إال‬
‫البحر وأخبار البحر‪.‬‬
‫وقال الناس إن حورية من حور البحر فتنته‪ ،‬فدبرت هل‬
‫عاشقته السابقة بنت كبري التهار انتقاما شنيعا‪ .‬فصنعت هل معال‬
‫مسحورا‪ ،‬جعهل جمذواب شاردا‪ ،‬ال يدري من أمره شيئا‪ ،‬جيلس‬
‫مسكينا أمام شاطئ البحر ذاهال‪.‬‬
‫مث ازدادت حالته خطورة‪ ،‬حفاول أن يلقي بنفسه يف أعامق‬
‫البحر غري مرة‪ ،‬لوال أن أنقذه الصيادون‪ ،‬وأخذ الناس‬
‫يتحرسون عىل الشاب الوس مي‪ ،‬ويتحدثون يف األسواق بأمره‬
‫هو وابنة كبري التهار‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫وخيش كبري التهار عىل ابنته من ألس نة الناس‪ ،‬إن مات الفىت‬
‫يف الزرقاء‪ ،‬فأمر وادل الفىت ابخلروج من املدينة هو وأرسته‪.‬‬
‫لكن األب رفض‪ ،‬ومتسك ببيته اذلي ورثه عن أجداده‪،‬‬
‫فغضب كبري التهار‪ ،‬وسلط رجاهل عىل األرسة املسكينة‪ ،‬فدمهوا‬
‫داره يف قلب الليل‪ ،‬واختطفوا اجملذوب ووادليه‪ ،‬وألقوا هبم يف‬
‫الصحراء‪ ،‬خارج املدينة‪ ،‬واستبقوا عندمه الابن األصغر‪،‬‬
‫وهددومه بقتهل لو عادوا للزرقاء‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬خش ية عىل اخملطوف‪ ،‬أخرج املقهور أبنه اجملذوب‬
‫من الزرقاء‪.‬‬
‫وبقى شقيق اجملذوب صبيا صغريا أسريا‪ ،‬مل اهمت به أحد‪ .‬ومل‬
‫يلق التاجر هل ابال‪ ،‬بل ضاق بنفقة إطعامه فأمر رجاهل بإلقائه‬
‫بعيدا عنه‪ .‬فأمسكوا به‪ ،‬وقيدوه‪ ،‬وألقوه يف الصحراء‪ ،‬لكن‬
‫الفىت هرب مهنم‪ ،‬وصعد للجبل‪ ،‬وأصبح احلقد يمتلكه عىل لك‬
‫أهل الزرقاء‪ ،‬فإن رأى إنس يا يصعد اجلبل تسلل وراءه‪ ،‬ودفعه‬
‫لهيوي قتيال من حالق‪.‬‬
‫وغري هذه من احلاكايت الكثري‪ ،‬عن خملوقات اثئرة‪ ،‬تبغي‬
‫ادلماء‪ ،‬تسكن أعايل اجلبال احمليطة ابلزرقاء‪ ،‬فتنفر أهلها من‬
‫الاقرتاب مهنا‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫(‪)33‬‬

‫اكن جربائيل عاشقا متامي‪ .‬وحبه الكبري ميأل عليه حياته‪ ،‬فلك ما‬
‫يفعهل ينبع من هذا احلب‪ ،‬ولهذا احلب! ولكن حبه مل يكن لفتاة‪،‬‬
‫أو أهل‪ ،‬أو بدل‪ ،‬اكن حبه لكه للامل وحده! هل قلب يسع أي‬
‫خشص‪ ،‬همام اكن حقريا‪ ،‬أو فاسدا‪ ،‬أو مبغضا هل‪ ،‬مادام سزيهر‬
‫حياته مبعشوقاته من ادلاننري اذلهبية!‬
‫هكذا عرفته‪ ،‬بعد وقت قصري من العمل معه‪ .‬القراصنة ال‬
‫تتسامح أبدا مع أي خشص اهرب من دفع إاتواهتا‪ ،‬أو يشرتي‬
‫بضائع مل تدفع علهيا اإلاتوات الباهظة؛ ولكنه يقبل اخملاطرة‪،‬‬
‫بقلب جسور‪ ،‬للفوز ابملزيد من املال‪ .‬وقد ذهب يف هذا ألبعد‬
‫احلدود فوق تصوري‪ ،‬رحبت ثقته برسعة أذهلتين‪ ،‬بل أصابتين‬
‫ابلريبة! ورسعان ما اس تخدمين أان وغول احلق‪ ،‬لنقل البضائع‬
‫المثينة من ماكن آلخر‪ ،‬عرب املدينة‪ ،‬أو خلارهجا بعيدا عن‬
‫العيون‪ .‬وجعلنا اهنرب مهنا العطور والتوابل‪ ،‬وإلهيا العاج‬
‫واجلواهر‪ ،‬عرب اجلبال‪ ،‬بعيدا عن مداخل املدينة املطروقة‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫عيل يف بدايهتا‪ ،‬ألن حال اجلبال تغري‬
‫اكنت املهمة شاقة جدا ّ‬
‫كثريا خالل الس نوات املاضية‪ ،‬ومعرت بعض أجزاءها بأخالط‬
‫من قطاع الطرق واملهربني‪ ،‬اذلين جذبهتم‪ ،‬أو لفظهتم املدينة‬
‫الهاجئة‪ .‬وأضف لهذا إنين إمنا كنت صيب صغري يف دروب اجلبال‬
‫ال يعي لك ما حوهل‪ .‬لكن بقليل من احلظ واخملاطرة‪ ،‬مزجته‬
‫ابحلذر والفطنة‪ ،‬شققت طريقي آمنا‪ ،‬وعرفت من ادلروب‬
‫الفريدة‪ ،‬ما غفل عنه غريي ممن سكنوها منذ س نني!‬
‫ورسعان ما اطمنئ التاجر لنا‪ ،‬بعد أن اس توثق من براعتنا‬
‫وأمانتنا‪ .‬وكنت يف أمر األمانة هذه حذرا‪ ،‬ألنه سرياتب حامت‬
‫فمين يعمل يف هذه املهمة اخلطرة‪ ،‬دون أن تراوده نفسه لبعض‬
‫املغامن‪ ،‬فاختذت حال وسطا‪ ،‬بأن أعود هل بعد لك هممة‪ ،‬حمتفظا‬
‫بيشء من البضائع لنفيس‪ ،‬ألقول هل بغلظة‪:‬‬
‫"اكن األمر اليوم شاقا فزدت من أجري وأخذت كذا!"‬
‫وألن هذا الـ (كذا) يكون أقل مما خيتلسه غريي يف غفةل منه‪،‬‬
‫فقد رىض هبذا احلال‪ ،‬بل قال يل‪:‬‬
‫"إين آلنس بك اي عندليب (وهو الامس اذلي انتحلته لنفيس)‬
‫فإنك مثيل حمب للامل‪ ،‬وخملص هل‪ ،‬وتفهم كيف ترحبه دون أن‬
‫تثري غضب غريك‪ .‬ويه صفة عظمية‪ ،‬جتعلين أطمنئ لوالئك يل‪،‬‬
‫مادام رزقك معي!"‬

‫‪330‬‬
‫وجاريته يف ثرثرته‪ ،‬ومسعت منه حاكيته‪ .‬اكن اتجر عطور‬
‫وعطارة صغري يف البندقية‪ ،‬وملا هبت امحلالت اإلفرجنية‪ ،‬تتواىل‬
‫كقطع الليل املظمل عىل بالدان العربية‪ ،‬خرج جده مع املقاتلني‬
‫اآلمثني‪ ،‬فأصبح هل إمارة وجند‪ ،‬قبل أن ميوت‪ ،‬وخيلفه أكرب‬
‫أبنائه‪.‬‬
‫وتوىل احلامك اجلديد اإلمارة الصغرية‪ ،‬وفرح مبا غمنه‪ ،‬وتطلع ألن‬
‫جيمع لك أههل من حوهل‪ ،‬يساندونه ويعزونه‪ .‬فأرسل إلخوته‬
‫وأبناء إخوته ومعومته أن يأتوه‪ ،‬ومهنم جربائيل‪ ،‬وأكرهمم‪ ،‬ونصهبم‬
‫فرساان‪.‬‬
‫واكن جربائيل يف ش بابه (كام يزمع ولست واثقا من قوهل)‬
‫وس امي مليحا‪ ،‬يعجب الفتيات‪ ،‬فأحبته ابنة معه األمري‪ ،‬وتطلعت‬
‫هل زوجا‪ .‬كام إنه اكن علامي‪ ،‬بفضل جتارته‪ ،‬ابلعربية والهندية‪،،‬‬
‫ولغات عدة جعلته جييد العمل مع األمراء‪ ،‬واخلاانت‪ ،‬وغريمه‬
‫ممن يرتددون عىل قلعة معه‪ ،‬طلبا للحلف أو احلرب‪.‬‬
‫ولهذا وذاك‪ ،‬قربه معه هل أكرث من غريه‪ ،‬واختذه أحد وزرائه‪،‬‬
‫وهمد ألمر زواجه من ابنته‪ ،‬لوال أن قتل بغتة يف غارة عىل‬
‫إحدى املدن العربية‪.‬‬
‫وهنا أمضر هل أبناء معه‪ ،‬وإخوة خطيبته‪ ،‬الرش‪ .‬اكن املكل‬
‫الصلييب لبيت املقدس حيب بث الفرقة بني األمراء الصغار‪ ،‬ل ي‬

‫‪331‬‬
‫تظل قالعهم الصغرية ضعيفة أمامه‪ ،‬تطيع أمره‪ .‬حفذر أبناء مع‬
‫جربائيل‪ ،‬وقال هلم‪:‬‬
‫"هذا رجل يعرف من اللغات واأللس نة ما ال تعرفون‪ ،‬مفا‬
‫أدرامك أن يتآمر مع سفراء خصوممك أماممك‪ ،‬وأنمت ال تدرون؟‬
‫ويعرف من فنون العطارة الكثري‪ ،‬مفا أدرامك أن يدس يف طعاممك‬
‫أو عطورمك سام خيلصه منمك‪ ،‬بعد زواجه من أختمك؟ خشص‬
‫كهذا لو اكن يف بالطي لقطعت رأسه!"‬
‫لكن جربائيل مل يكن هاواي لسلطة أو زعامة‪ ،‬املال هو عشقه‬
‫الوحيد! مل يصعب عليه أن اهجر األمرية ابنة معه‪ ،‬وأقاربه‪،‬‬
‫والفرسان اذلين يلهجون ابمسه‪ .‬ختىل بسهوةل عن لك هذا‬
‫الزخرف‪ ،‬رمغ إنه ‪ -‬كام يزمع ‪ -‬اكن حمبواب من اجلنود والساسة‪،‬‬
‫ولو أراد‪ ،‬خللع خصومه‪ ،‬وتوىل ماكاهنم! ببساطة رحل عن قلعة‬
‫معه خمتارا‪ ،‬وعاد إىل التهارة حيث اكن مجع املال من أرايض‬
‫الرشق املهنوبة أمرا سهال‪ .‬هناك كنوز وأموال اهنبت‪ ،‬جتري يف‬
‫أيدي جنود ال يعرفون قميهتا‪ ،‬أو جواهر مرسوقة يبيعها السارق‬
‫بربع المثن‪ ،‬حيامن يغيل‪ ،‬ل ي يرحتل ويرسق غريها!‬
‫وجد الكثري من منامج اذلهب‪ ،‬اليت تفيض ألي جشع‪،‬‬
‫ورسعان ما أصبح ثراي جدا‪ ،‬ووجد يف الزرقاء مالذا ومس تقرا‬
‫آمنا‪ .‬أدرك بفطنته أن القراصنة ‪ -‬بعدما أحرقوا املدينة ‪ -‬لن‬
‫ميانعوا يف جميء التهار هلم‪ ،‬لبيع غنامئهم‪ ،‬فاكن أول اتجر يتجرأ‬

‫‪332‬‬
‫عىل الاقرتاب من املدينة بعد سقوطها! وقد أغمنه هذا أرابح‬
‫خميفة‪ ،‬مازال يتذكرها حبنان وشوق! وأكس به نفوذا كبريا وسطهم‪.‬‬
‫الفرجنة معوما ال يتورعون عن التعامل مع القراصنة‪ ،‬فالتهارة‬
‫شطارة ابلنس بة هلم‪ ،‬ال اهم أن تكون البضائع مرسوقة‪ .‬فنهد‬
‫العالقة بني الفريقني طيبة‪ ،‬رمغ إن لك مهنام يتصيد اآلخر يف‬
‫البحر! ال أفهم حقا كيف أصف األمر بني الفريقني‪ ،‬فهو أجعوبة‬
‫من جعائب ادلهر! عىل إنين أذكر مقوةل اكن يقولها أحد‬
‫املتفلسفني يف الزرقاء‪ ،‬إن القرصان خيرج يف سفينة لغزو‬
‫سفينة‪ ،‬واإلفرجني خيرج يف أسطول لهنب مدينة! فالكهام أخوة!‬
‫عىل أي حال‪ ،‬أجدت دور املس متع املداهن‪ ،‬واملساعد‬
‫عيل‬
‫املشاغب جلربائيل اإلفرجني‪ ،‬ورسعان ما اعتاد أن يقص ّ‬
‫أجماده ومآثره! أي خشص تعريه أذن مس متعة‪ ،‬وتزمع إنك‬
‫معجب به‪ ،‬س يفيض ابحلديث معك مفاخرا بسهوةل‪،‬‬
‫وس يصعب عليه أن يكمت عنك أرساره! اس متعت يف صرب‬
‫حلاكيته املزعومة مع أوالد العمومة‪ ،‬وأبديت إجعايب به‪ ،‬فانتقل‬
‫مفاخرا ملكره وصفقاته‪ ،‬وكيف خدع هذا وذاك‪ ،‬مدليا بأرسار‬
‫كثرية‪ ،‬لكهنا قدمية‪ ،‬فزمعت أنه يل مثل أعىل‪ ،‬أتعمل منه ألكون‬
‫يوما مثهل! ورسعان ما انتقل من حديث التارخي حلديث‬
‫احلارض‪ ،‬وبعد صرب ألايم أدىل أخريا مبا أرغبه‪ ،‬وحتدث عن‬
‫ماكنته دلى حاكم املدينة‪ ،‬وكيف خدهمم حبامس‪ ،‬وأومههم‬
‫ابإلخالص‪ ،‬فأصبح موضع ثقهتم‪ ،‬ونفوذه عندمه مزدهر!‬

‫‪333‬‬
‫وابلطبع اكن حديثه عن جاسوس األسود‪ ،‬اذلي معل عنده‬
‫هو ما أمهين! علمت منه صفاته‪ ،‬وازداد يقيين إنه تميور‪،‬‬
‫وعزمت عىل اس تغالل نفوذ التاجر الواسع‪ ،‬ملساعديت يف‬
‫إخراج تميور من جسنه‪ ،‬والسفر إىل طرابل‪.‬‬
‫وأاتين غول احلق ذات يوم خبرب سعيد‪ ،‬بيامن كنت أحسب‬
‫وأخطط دلخول السجن‪ ،‬فعلها هو ببساطة! ذهب ليال‬
‫للسجن‪ ،‬وغافل احلراس هنا وهناك‪ ،‬حىت وصل لقلبه‪ ،‬وشاهد‬
‫تميور وعرف ماكنه‪ ،‬مث انسل عائدا! اكن يتحدث ببساطة‬
‫شديدة‪ ،‬كأمنا هذا فعل يسري‪ ،‬اعتاده يف جسون الثغر الصغري‪،‬‬
‫األشد من جسن الزرقاء كام يقول‪.‬‬
‫واتفق معي عىل أن يتوىل إخراج تميور من السجن‪ ،‬عىل أن‬
‫أعد العدة للخروج من الزرقاء بعدها فورا‪ ،‬وإال فرسعان ما‬
‫يكتشفون أمران‪ ،‬وميسكون بنا مجيعا‪.‬‬
‫هنا انتقلت من مرحةل الاس امتع للتاجر‪ ،‬إىل مرحةل احلديث‬
‫والتطبيق‪ ،‬أخربته إنين أريد اخلوض يف مغامرات املال مثهل‬
‫ومعه‪ ،‬وإنين أحتاج للخروج إىل جتارته يف املدن األخرى‪،‬‬
‫ألشاهد وأتعمل‪ .‬طبعا مل يس تجب يل يف البداية‪ ،‬الحتياجه يل‬
‫هنا‪ .‬لكين أحلحت‪ ،‬وزدت اإلحلاح‪ ،‬واألغراء مباكسب من‬
‫البالد الرشقية‪ ،‬أزمع إنين أس تطيع جلهبا هل‪ .‬كنت أحتاج بشدة‬
‫للسفر عىل سفنه اآلمنة من القراصنة‪ ،‬وأحتاج للسفر بأرسع‬

‫‪334‬‬
‫وقت ممكن‪ .‬لقد تأخرت شهورا طويةل عن األمراء القتةل‬
‫ووفودمه‪ .‬واألسود يزداد قوة‪ ،‬واألنباء عن قرب تفامهه مع‬
‫الفرجنة واألهبال‪ ،‬ملساعدته يف غزو البالد تزتايد‪ .‬اكن اخلطر‬
‫يزيد مبرور الوقت‪ ،‬وتأخري أكرث من هذا ليس يف صاحلي‪.‬‬
‫لكن تأخري هذا اكنت هل مزية ما مل أتوقعها! الوريث! حاكايت‬
‫متتالية بني الناس عن الوريث‪ ،‬حاكايت ميلؤها األمل يرددها‬
‫البسطاء‪ .‬اكنوا يتلكمون عن عظمة الوريث‪ ،‬وعبقريته يف‬
‫الاختفاء عن األمراء‪ ،‬ويذكرون مبنهتىى الشامتة ما أصاب‬
‫بعضهم‪ ،‬عندما سقطوا أسارى يف يد األهبال‪ ،‬فعذبومه حىت‬
‫املوت!‬
‫اكن األمل هذا ينفخ يف صدري حامسا‪ ،‬ويزيد لهفيت عىل‬
‫السفر‪ .‬وذلا مل أرحت‪ ،‬حىت أعددت لك يشء عىل ما أريد‪.‬‬
‫اس تعددت للرحيل جفر امجلعة‪ ،‬مع أول سفينة مغادرة للتاجر‬
‫جربائيل‪ ،‬وأعد غول احلق نفسه الس تخراج تميور من جسنه‪ .‬مل‬
‫أسأهل كيف س يفعلها‪ ،‬مفثهل من عارش الشاطر عدانن‪ ،‬يعمل من‬
‫احليل ما يعجز العقول!‬
‫وعند جفر امجلعة‪ ،‬أاتين الغول وتميور ساملني‪ .‬اكن تميور مرهقا‬
‫جدا‪ ،‬ومهناك‪ ،‬وقد الىق أهوال يف جسن حراسه من اللصوص‪.‬‬
‫مل يرغب حىت يف احلديث عام أصابه‪ ،‬واكن يلهج حبمد هللا أن‬
‫خرج من هذا اجلحمي الضيق‪ .‬لكين برشته إنه س يعود لبعض‬

‫‪335‬‬
‫الضيق‪ ،‬حيث س نحرشه يف صندوق صغري‪ ،‬لنضمه للبضائع‬
‫إىل أن خترج السفينة للميناء‪.‬‬
‫وصعدان للسفينة‪ ،‬وجلس نا يف أماكننا‪ ،‬حىت غفل عنا البحارة‪،‬‬
‫فأخرجنا تميور من خمبئه‪ ،‬وفردت األرشعة‪ ،‬وحتركت ابنة المي‬
‫بعد أن مألهتا رحي احلرية‪.‬‬
‫لقد خرجنا أخريا من الزرقاء‪.‬‬
‫لقد غادران اململكة أخريا‪ ،‬وأصبحت طرابل أقرب إلينا من‬
‫حبل الوريد‪.‬‬
‫أخي ــــــــــــــــــــــــــــــرا !!!!!‬

‫‪336‬‬
‫(‪)34‬‬

‫أقبلنا عىل نس مي احلرية نس تنشقه‪ .‬اكن تميور متفائال جدا‪ ،‬يزمع‬


‫إن ركوب البحر للمرة الثانية أسهل بكثري من املرة األوىل‪ ،‬اليت‬
‫حيفها بعد اخملاطر والشؤم‪ .‬وبعد أن هدأت نفسه‪ ،‬جلس نا نتبادل‬
‫األحاديث‪ .‬مل يعرف غول احلق؛ لكين زمعت هل إنه من الغيالن‬
‫امحلر‪ ،‬كنا قد دسس ناه منذ زمن يف الثغر الصغري‪ ،‬فأىت وأنقذين‬
‫من الشاطر عدانن‪ .‬مل يصدق يف البداية غدر عدانن‪ ،‬وبدا‬
‫مصدوما من األمر‪ .‬مث حىك لنا كيف وصل للزرقاء‪ ،‬وسقط يف‬
‫أيدي األمري األبيض‪ ،‬فسجنه‪.‬‬
‫بعد أن صلينا الظهر والعرص جامعة‪ ،‬وقد كنت أرجو أن‬
‫تكون صالة امجلعة‪ ،‬غري إنه مل يكن هناك سواان حنن الثالثة‪،‬‬
‫نظرت للبحر‪ ،‬فأصابين القلق‪ ،‬مازلنا قريبني من الشاطئ‪ ،‬مل‬
‫ندخل حىت اآلن يف عرض البحر‪ ،‬لكن غول احلق طمأنين‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬

‫‪337‬‬
‫"حامت جربائيل قد اتفق مع جتار خارج املدينة‪ ،‬ل ي يلتقط مهنم‬
‫بضائعا أخرى بعيدا عن إاتوات القراصنة‪".‬‬
‫واقتنعت حبديثه‪ ،‬فقد فعلناها لسفن جربائيل عرشات املرات‪،‬‬
‫وقد ظهر إنه اكن حمقا‪ ،‬لكن البضائع اكنت تزنل من السفينة إىل‬
‫الشاطئ‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬
‫فقد كنا حنن هذه البضائع!‬
‫حارصان البحارة جفأة‪ ،‬واندفع بعضهم حنو متاعنا‪ ،‬فأخرجوه‬
‫وانزتعوا منه درع الغيالن‪ ،‬مث قيدوان ومحلوان‪ ،‬يف مركب صغري‬
‫نزل بنا للشاطئ‪.‬‬
‫وهناك وجدان جربائيل‪ ،‬وجواره خشص مل أره من قبل‪ ،‬لكين‬
‫عرفته‪ ،‬األمري األبيض الثاين‪ ،‬أمري الزرقاء اجلديد!‬
‫اكنت الشامتة تقطر من جربائيل‪ ،‬ال أعرف السبب‪ ،‬فمل ير منا‬
‫هذا الرجل إال الرحب واملال‪ ،‬لكهنا طباع الفرجنة اللئمية حامت!‬
‫سلمنا التاجر مقيدين‪ ،‬اكلنعاج املهيئة لذلحب‪ ،‬حلرس األمري‪،‬‬
‫قبل أن يركب سفينته‪ ،‬ويغادران مع حبارته‪ .‬ووقف األمري يرقهبم‪،‬‬
‫حىت غابوا عن انظريه‪ ،‬مث أمسك بدرع الغيالن يتأمهل‪ ،‬قبل أن‬
‫يقول‪:‬‬
‫"من منمك س يد الغيالن امحلر؟"‬
‫رددت عليه‪:‬‬

‫‪338‬‬
‫"أان من تطلب‪".‬‬
‫نظر يل بدهشة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أنت؟ لكنك تبدو يل ابلرجل ذو احليل‪ ،‬مل أمسع إن الغيالن‬
‫تلهأ للتحايل أبدا؟"‬
‫قلت بغيظ‪:‬‬
‫"احليةل خري من امحلاقة‪".‬‬
‫التقط نفسا معيقا‪ ،‬حبسه دهرا‪ ،‬حىت ظننت أنه سيسقط بني‬
‫أيدينا خمتنقا‪ ،‬مث قال بصوت مبحوح‪:‬‬
‫"يزمعون إنك آخر من حدث أيخ‪ ،‬قبل مقتهل؟"‬
‫نظرت هل ال أدري ماذا أقول‪ ،‬وأان واقع حتت رمحته‪ ،‬فاكتفيت‬
‫هبز رأيس عالمة اإلجياب‪.‬‬
‫فأشار يل أن أزيد‪ ،‬فقلت‪":‬أخربين عام أصاب أهلكام يف‬
‫الزرقاء وقت سقوطها‪ ،‬وعن إنه ال يثق يف األسود‪ ،‬وال يمتىن‬
‫انتصاره‪ ،‬لكنه يكره عداوته‪".‬‬
‫نظر يل بمتعن‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أأنت واثق من أنك زعمي الغيالن؟ يبدو يل أن شقيقي ثرثر‬
‫معك ابلكثري‪ ،‬رمغ إنه ال يعرفك‪ .‬قل يل‪ ،‬ملاذا تناجز األسود؟‬

‫‪339‬‬
‫حامت سيسعده التحالف مع الغيالن امحلر‪ ،‬لكن الغيالن ال أمل‬
‫لها يف حماربته‪ ،‬فلك الناس تعاداها؟"‬
‫قلنت وأان أشعر ابلسأم من تكرار هذا السؤال‪:‬‬
‫"لك ما أرجوه هو عودة األمن لبالدان‪ ،‬وتنصيب الوريث‬
‫حكام عدال للك أرجاءها‪ .‬األسود س ينرش دما ًء وفوىض أكرث مما‬
‫هو موجود اليوم‪".‬‬
‫قال ابمتعاض‪:‬‬
‫"ال نفع يف حرب هذا اجلبار العيت‪ .‬هل حلفاء عظام‪ ،‬هتزت هلم‬
‫العروش الراخسة‪ ،‬مفا ابكل بأنقاض عرش الوريث! أىن لنا حبرب‬
‫العيل جممتعني؟ األسود يفاوض لك‬‫األهبال‪ ،‬والفرجنة‪ ،‬والسور ّ‬
‫هؤالء لنرصته‪ ،‬ودعين أقول إنه اقرتب كثريا من إرضاهئم‪ .‬مث‬
‫ماذا عن ضبة بين األسود؟ اليوم مه اهاندون زعميهم‪ ،‬ويناصبون‬
‫ابنه العداء‪ ،‬لكهنم حامت سينقلبون للهانب اآلخر! لك هذا ومعه‬
‫جيوش رجاهل اخمللصني‪ ،‬وعقهل العسكري اجلبار‪ ،‬اذلي أدار به‬
‫ادلوائر عىل لك من عاداه‪ .‬كيف تطلب منا حرب األسود؟‬
‫احليةل خري من امحلاقة كام تزمع؟ ملاذا تس تخدم احليةل لنرصة أكرب‬
‫حامقة إذن؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لنرصة احلق‪".‬‬

‫‪340‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أي نرصة! بل الهزمية الساحقة! أنت نفسك مل تأمن لرجاكل‬
‫أن يقوموا عنك هبذه السفارة‪ ،‬فأتيت بنفسك‪ ،‬خش ية من أن‬
‫يبايعوا األسود عليك‪ .‬أحتارب من ال تقدر عليه اجليوش؟ وألي‬
‫سبب غري ادلمار والانتحار؟ أتبحث عن ثأر ما؟ ال أمكل كل‬
‫حىت يف النيل من أظافره! أنت تقاتل بال هدف اي عزيزي‪ ،‬بال‬
‫هدف‪".‬‬
‫بدا يل كأمنا جيادل نفسه أكرث مما جيادلين‪ ،‬مل حيدث أصال أن‬
‫طلبت نرصة منه‪ ،‬أو من الزرقاء‪ .‬اكن شقيقه هو رفيقه الوحيد‪،‬‬
‫يف حياة ألمية جعيبة‪ ،‬صعدت به أمريا عىل قتةل وادليه! أمري يؤمر‬
‫وال يأمر‪ ،‬هل نفس تواقة للثأر من األسود‪ ،‬وعقل خواف من‬
‫جنوده‪ .‬أردت النفخ يف انر غضبه‪ ،‬لعلها تذيب قيد يدي‪.‬‬
‫تلكمت حبامس‪:‬‬
‫"وماذا اهم النهاح والفشل؟ ملاذا ال أحاول؟ لو مل أفعل‬
‫لقضيت حيايت اندما متأملا حمرتقا‪ .‬لو هلكت‪ ،‬فلن تضايقين‬
‫ذكرى األقارب اذلين أهلكهم األسود! هللا حياسبنا عىل أعاملنا‪،‬‬
‫وليس عىل جناهحا أو فشلها‪ .‬لن يقلقين مضريي ابلفشل إن‬
‫فعلت ما بوسعي‪ ،‬ولن اهمد لنهاح أىت من هروب! السكون‬
‫ينجيين‪ ،‬لكنه لن يطفئ انر الثلكى‪ ،‬املقاومة عاجزة‪ ،‬لكهنا تربد‬
‫قلوب املوتورين‪".‬‬

‫‪341‬‬
‫حضك حضكة جملهة قبيحة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أنت ماكر أمحق! أختاطب ثأري عىس أن أساعدك؟ أقول‬
‫كل اسع لنفعك‪ ،‬ودعك من هذا الشأن‪ ،‬فتقول يل أن أرافقك‬
‫يف رحةل الهالك؟ وملاذا؟ ألجل هذه البدل؟"‬
‫قلت برصامة‪:‬‬
‫"ليست بدلك‪ ،‬فال ألومك‪ ،‬لكنين من أهلها‪ ،‬ولو سعينا لنفعنا‬
‫عىل حساب نفعها‪ ،‬فس نخرس مجيعا‪ « .‬ممث مل الْقمامئ عم مىل حدود‬
‫اب ب م ْعضه ْم‬‫اَّلل موالْ مواقع فهيما ممكمثمل قم ْوم ْاسهتم مموا عم مىل مسفينمة ‪ ،‬فم مأ مص م‬
‫أم ْع مالهما موب م ْعضه ْم أم ْسفملمهما‪ ،‬فم ماك من اذل مين يف أم ْسفملهما إ مذا ْاس متقم ْوا م من‬
‫الْ مماء مم ُّروا عم مىل مم ْن فم ْوقمه ْم فمقمالوا لم ْو أمان خ ممر ْقنما يف ن مصيبنما خ ْمرقاً‪،‬‬
‫ومه مو مما أم مرادوا هملمكوا ممجيعاً‪ ،‬موإ ْن‬ ‫مولم ْم ن ْؤذ مم ْن فم ْوقمنما‪ .‬فمإ ْن ي م ْرتك ْ‬
‫أمخمذوا عم مىل أميْداه ْم م مجن ْوا مو م مجن ْوا ممجيعاً » هكذا علمنا نبينا‪ ،‬لو مل‬
‫جيد األسود وزابنيته من يرضب عىل أيداهم‪ ،‬فس يخرقون‬
‫السفينة ويغرقوننا‪".‬‬
‫رد بسخط‪:‬‬
‫"تدخلون ادلين يف لك أمرمك اي أهل املرشق‪ ،‬وجتعلون أمر‬
‫هللا يف خالفاتمك‪ ،‬وتقلبون لك حروبمك هجادا!"‬
‫قلت بربود‪:‬‬
‫"أوليس ادلين اكن زمعمك يف زحفمك عىل بالدان اي فرجنة؟"‬

‫‪342‬‬
‫رد جبفاء‪:‬‬
‫"أنت أعمل مين هبذا! أتينا فاحتني‪ ،‬مثلام يفعل ملوكمك ببعض‪،‬‬
‫وكام يفعل األسود مبا حوهل من أقالمي‪".‬‬
‫مرة أخرى يثبت الطغاة إاهنم عىل مةل واحدة‪ ،‬ولو توزعوا عىل‬
‫فرجنة وقراصنة وأساودة! نفس العقل واجلدل‪ ،‬ويتخذون بعضهم‬
‫لبعض جحها! إما إاهنم يسريون عىل خطى فالن‪ ،‬أو مه‬
‫يتهربون محلايتنا من جربوت عالن! مةل واحدة‪ ،‬قبلهتا يه‬
‫األرايض املهنوبة‪ ،‬وصالهتا اعتصار الفالحني الغالبة‪.‬‬
‫كنت قد أدركت عقم حماوريت‪ ،‬وأنين ابلفعل أمحق‪ ،‬من‬
‫اس تغىن من قبل عن ثأر أبيه‪ ،‬فامب اهمه ثأر أخيه؟ وذلا مصت‪،‬‬
‫وكففت عن اجلدل العقمي‪.‬‬
‫أخذ األمري ينظر لنا متحريا‪ ،‬قبل أن يعود لنفس اهنهه‪ ،‬اذلي‬
‫اتبعه مع تميور‪ ،‬فأمر حراسه بسجننا‪ .‬لكن هذه املرة ليس يف‬
‫جسن قرصه‪ ،‬وإمنا يف أحد بيوت الزرقاء بعيدا عن العيون‬
‫واآلذان‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"س تظلون ضيوفا عندي‪ ،‬حىت اهكل الوريث‪ ،‬أو يطلبمك‬
‫األسود‪ ،‬ولمك أن تمتنوا األوىل بشدة!"‬
‫وهكذا رددان للزرقاء خائبني‪ ،‬وعدان لتكل املدينة اجملنونة‪ ،‬اليت‬
‫ال تطيق بقاءان فهيا‪ ،‬وال خروجنا مهنا!‬

‫‪343‬‬
‫(‪)35‬‬

‫قيدان احلراس بغلظة‪ ،‬وأحمكوا ربط أيدينا ابلليف اخلشن‪،‬‬


‫وأقدامنا ابلسالسل احلديدية الثقيةل‪ ،‬وحبسوان مع عدتنا‬
‫ومتاعنا‪ ،‬يف بيت صغري‪ ،‬هو الوحيد السلمي‪ ،‬وما حوهل بيوت‬
‫همدمة‪ ،‬فامي اكن يوما شامل الزرقاء‪.‬‬
‫اكن ماكننا هو جحرة ضيقة عىل سطح املزنل‪ ،‬وقد تفنن احلرس‬
‫اإلفرجني يف مضايقتنا‪ ،‬والتضييق علينا‪ .‬واكنوا يتناوبون علينا لك‬
‫يوم‪ .‬فيطلقون رساح واحد فقط لالغتسال واأللك‪ ،‬ويبقون‬
‫القيود الغليظة يف الاثنني اآلخرين‪.‬‬
‫اكن عددمه مثانية‪ ،‬أغلهبم ال جييد العربية‪ ،‬وقد تسلحوا ابدلروع‬
‫والس يوف حىت األس نان‪ ،‬وقد بدا علهيم الفزع من هروبنا‪ .‬لكن‬
‫مع مرور األايم‪ ،‬تراخت أعصاهبم‪ ،‬وكلك حارس‪ ،‬ال جيد لنفسه‬
‫هممة غري مراقبة جسناء عاجزين‪ ،‬يغلبه السأم‪ ،‬ويفرت حامسه‪،‬‬
‫وينشغل عن وديعته بلك أمر اتفه!‬

‫‪344‬‬
‫وهكذا س نحت يل يف حلظة غفةل‪ ،‬أن أخرج من احلجرة‬
‫املغلقة! فقد أخذت أفكك اخلشب املهرتئ للباب حول‬
‫مفصلته‪ ،‬حىت فككته ابلاكمل‪ ،‬وخرجت منه‪ .‬وتدليت من‬
‫السطح إىل انفذة يف ادلور األول‪ ،‬ومهنا إىل جحرة احلرس‬
‫الغافل‪ ،‬فأغلقت الباب علهيم‪ ،‬ووضعت خلفه منضدة ثقيةل‪ ،‬مث‬
‫هرعت إىل متاعنا‪ ،‬فاس تعدت السالح‪ ،‬سواء س يوفنا‪ ،‬أو‬
‫رحمي‪ ،‬وبلطة غول احلق‪ .‬وأرسعت لألعىل‪ ،‬وخصب احلراس‬
‫زمييل‪ ،‬وألقيت إلهيم ابلسالح‪ ،‬وخرجنا‬ ‫خلفي‪ ،‬مفزقت قيود ّ‬
‫لنهد احلراس الامثنية ينتظروننا مهبوتني‪.‬‬
‫ابدرمه تميور‪ ،‬فأمسك ببلطة غول احلق‪ ،‬وقذفها‪ ،‬فبرتت يد‬
‫أحدمه‪ ،‬وأخرجته من القتال‪ ،‬وهنا جرى الرمح يف يدي كنار‬
‫تنني هاجئ‪ ،‬فأطاحت ابثنني مهنام‪ ،‬قبل أن يفيقوا من ذهوهلم‪.‬‬
‫واندفع غول احلق‪ ،‬فصد عين س يوفهم‪ .‬وهنا تبادلوا بلغهتم بضع‬
‫لكامت‪ ،‬مث ألقى كبريمه س يفه أرضا‪ ،‬وهتف‪:‬‬
‫"كفى قتاال!"‬
‫تراجعنا للخلف خطوة متحفزين‪ ،‬فأمكل بتوتر‪:‬‬
‫"ال نرغب يف قتال الغيالن امحلر‪ .‬حربمك مع األسود‪ ،‬ال انقة لنا‬
‫فهيا وال مجل! اذهبوا عنا‪ ،‬ونذهب عنمك‪ ،‬وس نقول ألمريان أن‬
‫الغيالن دمهوان وأخرجومك‪".‬‬

‫‪345‬‬
‫ال أثق كثريا يف لكامت الفرجنة‪ ،‬ولكهنم بدوا خملصني يف رغبهتم‬
‫عن قتال ال مغمن فيه‪ .‬ذلا حزمنا متاعنا‪ ،‬وأخذان ما ابلبيت من‬
‫طعام وأموال‪ ،‬وركبنا الربق مرسعني‪ ،‬هاربني من الزرقاء‬
‫امللعونة!‬
‫رضبنا طريقنا فامي حولها من حصراء‪ ،‬ال ندري ماذا نفعل‪ ،‬وألي‬
‫طريق نذهب‪.‬‬
‫اكن اليأس حيوطين من لك اجتاه‪ .‬لو كنت يف طريق مسدود‪،‬‬
‫حيوطين فيه أعداء جبارين‪ ،‬يبغون سفك دمايئ‪ ،‬لقاتلهتم‪ ،‬حىت‬
‫املوت ال أابيل‪ .‬لكننا اآلن يف طريق بال اهناية! أغلقت أمامنا‬
‫بوابة الزرقاء‪ ،‬وجنوان مهنا‪ ،‬وال منكل إال السري قرب الساحل‬
‫حنو اجلنوب‪ ،‬عىل أمل ومهي واه‪ ،‬أن يأيت حبار يقلنا‪ .‬فأخذت‬
‫أقود رفيق ّي بال جدوى‪ ،‬يف تيه الصحراء القاحةل‪ ،‬واألرايض‬
‫اخلاوية‪ ،‬ال يظللنا إال مشس قاتةل‪.‬‬
‫اآلن أصبح وفايض خاواي‪ ،‬وحييل خائبة‪ ،‬وأيقنت إننا ال نسري‬
‫إال للهالك‪ .‬فأمرت رفيق ّي ابلعودة آلخر برئ مرران عليه‪ ،‬وأاهنيت‬
‫املسري هناك‪ .‬فال يوجد طريق أصال ل ي نسري فيه‪.‬‬
‫اليأس خملوق ال يقهر‪ ،‬لو أحمك مصيدته عليك‪ .‬وأظن أن‬
‫مصيدة الصحراء قد أحمكت من حولنا!‬

‫‪346‬‬
‫أبعد لك هذا تكون الهناية؟ لو كنت يف جسن‪ ،‬لبحثت عن‬
‫املهرب‪ .‬ولو كنت يف حرب‪ ،‬لطلبت الشهادة‪ .‬لكننا اآلن وسط‬
‫الفراغ!‬
‫هو ضياع وسط رمال ال تنهتىي‪.‬‬
‫ال ملهأ وال مفر وال خمرج‪.‬‬
‫إال ابدلعاء هلل أن اهدينا سواء السبيل‪.‬‬
‫وهكذا ارتفعت األكف تطلب الغوث‪.‬‬
‫أظنين خملصا يف دعويت‪ ،‬ال أبغي من أمري إال مصلحة البالد‬
‫والعباد‪ ،‬وسط أمواج الطغاة واألعداء املتاكلبة علهيا‪.‬‬
‫فاللهم غوثك‪.‬‬
‫اللهم غوثك‬
‫اللهم غوثك‪.‬‬
‫وقبل أن تزل األكف‪ ،‬أىت الغوث‪ ،‬يف هيئة الش يخ معران‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫(‪)36‬‬

‫يقول الش يخ أبو الوفاء معران ابن العريب السلميي‪:‬‬


‫"كنت أميض بقافليت الصغرية‪ ،‬أبغي مضارب الزرقاء‪.‬‬
‫ومضارب الزرقاء يه اجامتع‪ ،‬بغري اتفاق‪ ،‬للرعاة والتهار من هنا‬
‫وهناك‪ ،‬حول بعض املراعي أو اآلابر‪ ،‬قرب الزرقاء‪ ،‬يبيعون‬
‫ويشرتون فهيا لبضعة أايم‪ ،‬إىل أن يصل خربمه حلاكم املدينة‪،‬‬
‫فيطردواهنم مهنا‪ .‬وملا اكن قد جتمع عندي ما يزيد عن حاجيت من‬
‫الصوف والمتر‪ ،‬فقد مجعت بعضا من عشرييت‪ ،‬لنبحث عن‬
‫املضارب‪ ،‬لبيع بضاعتنا‪ ،‬ورشاء السالح املهند اجليد‪ ،‬اذلي‬
‫س نحتاج هل بعدما تواتر من أنباء‪ ،‬عن موقعة عظمية‪ ،‬بني‬
‫إخواننا من بين سلمي يف العامصة‪ ،‬والقائد األسود‪ .‬وأن أمري‬
‫جيشه قد طردمه من مساكهنم‪ ،‬وقهر بين زادة ومن معهم من‬
‫الثوار املغاربة‪ ،‬فأيقنا مجيعا إنه بعدما ختلص من آخر حلفائه‬
‫السابقني يف العامصة‪ ،‬سزيحف حنو اجلنوب ليخضعه‪ ،‬وحامت‬

‫‪348‬‬
‫ستش تد حاجة عشرييت للسالح يف تكل األايم املظلمة‪ ،‬فبين‬
‫سلمي لن يسلموا أنفسهم بسهوةل دلهامء جنده‪.‬‬
‫وبيامن كنت أجول بني اآلابر واملراعي وراء الزرقاء‪ ،‬عرثت عند‬
‫البرئ الثامنة يف خمية يتمية‪ ،‬فعزمت عىل أن أمكث جوارها‪،‬‬
‫ليجمتع مرضب جديد حولنا‪ ،‬وأكسب رحب البكور يف البيع‪،‬‬
‫وخبس العهةل يف الرشاء‪ .‬ودخلت عىل اخلمية‪ ،‬فألقيت عىل من‬
‫فهيا حتية اإلسالم‪:‬‬
‫"السالم عليمك اي إخوة العرب‪".‬‬
‫اكن ابخلمية ثالثة رجال أشداء‪ .‬اثنان مهنام خضامن طويالن‪،‬‬
‫حىت خشيت عىل نفيس من بطشهام‪ ،‬لكن من يبدو ككبريمه‬
‫رد عيل بوجه بشوش‪:‬‬
‫"وعليمك السالم اي أخا اإلسالم‪ ،‬من أي بطون العرب أنمت؟"‬
‫أجبته‪:‬‬
‫"أان الش يخ معران‪ ،‬ش يخ عشرية العريب‪ ،‬من بين سلمي أو‬
‫بطهنا‪ ،‬املوجود قرب مدينة جبة يف اجلنوب‪".‬‬
‫سألين كبريمه‪:‬‬
‫"أوليس كل أبناء مع من حلفاء ابن األسود‪ ،‬يف مضارب هلم‬
‫قرب احلارضة؟"‬
‫قلت حبذر‪:‬‬

‫‪349‬‬
‫"اكن هلم اي س يدي‪ ،‬اكن هلم‪ ،‬أمل تسمع بأمر طردمه من‬
‫هناك؟ انقلب علهيم األسود اللعني‪ ،‬ورسعان ما يزحف جنواب‪،‬‬
‫ليطردان خلفهم‪".‬‬
‫بدوا يل هممتني بشدة بأمر احلارضة‪ ،‬وطاغيهتا‪ .‬ورسعان ما‬
‫عرفهتم‪ ،‬فقد اكن يل من الفطنة ما يكفي ألن أدرك أن هذا هو‬
‫القبيل‪ ،‬زعمي الغيالن امحلر‪ ،‬اذلي يناجز األسود إلعادة الوريث‬
‫ملاك‪ .‬فأنباؤه تناثرت‪ ،‬حىت مسع هبا لك رجل وطفل‪ ،‬وتغىن هبا‬
‫لك راجز وراع‪ ،‬وأسعدين أن ألقى هللا يف طريقي بعض ثأر‬
‫أبناء معي‪ ،‬فعرضت علهيم خدميت‪ ،‬ومايل‪ ،‬وساعدي‪.‬‬
‫طلبوا مين أن أدهلم عىل طريق يركبون به البحر إىل البالد‬
‫الرشقية‪ ،‬فرست هبم ألبعد مما كنت أظنين ألسري يوما! قدهتم‬
‫عرب درب البدل امليت‪ ،‬لنذهب إىل طرابل برا!‬
‫اكن هذا دراب مشهورا للقوافل قدميا‪ ،‬متر به من الرشق‬
‫للغرب‪ ،‬ومن الغرب للرشق‪ ،‬تأيت عربه الغالل واألمقشة‪،‬‬
‫وخترج منه المتور واحلجيج‪.‬‬
‫وملا تداعى املكل يف بالدان‪ ،‬أمهل املكل تأمني طريق القوافل‬
‫الربي‪ ،‬واندفع للزرقاء يغرف من رضائب ميناهئا املزدمح‪ .‬أما‬
‫ادلرب املهمل‪ ،‬فقد أقبل عليه قطاع الطرق ينهتبون‪ ،‬بعدما‬
‫اطمأنوا من العقاب‪ .‬فهجرت القوافل ادلرب‪ ،‬وحيهنا انفض‬
‫ساكن البالد والقرى القامئة حوهل عنه‪ ،‬واجتهوا حليث مضت‬

‫‪350‬‬
‫التهارة يف الزرقاء وختوهما‪ .‬وملا حدث هذا‪ ،‬أمهلت آابره‬
‫وردمت‪ ،‬ومات الطريق وما حوهل من بدلان‪ ،‬حىت قطاع‬
‫الطرق جهروه‪ ،‬ومضوا لغريه‪ ،‬فمل يعد يذكره إال قةل من األدةل‬
‫والش يوخ‪.‬‬
‫وهكذا قدهتم عرب ادلرب‪ ،‬من بدل ميت آلخر‪ ،‬وحنفر ابحثني‬
‫عن برئ مردوم هنا أو هناك‪ ،‬لنقطع الطريق املهجور بأمان رمغ‬
‫املشقة‪ ،‬وخرجنا من اململكة املمزقة‪ ،‬لنسري يف الطريق الربي‬
‫أقودمه إىل طرابل‪ ،‬عرب ختوم تغيل ابحلروب‪ ،‬بني قالع خاانت‬
‫العيل والصيادية‪ ،‬اليت‬
‫األهبال‪ ،‬ومدن الفرجنة‪ ،‬ومعارك السور ّ‬
‫ال تنهتىي‪ .‬لكين رمغ هذا وصلت هبم يف مسرية أايم قالئل من‬
‫طرابل‪ ،‬وهو ما مل يقدروا عىل فعهل دوين‪".‬‬

‫‪351‬‬
‫(‪)37‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"خرجت من داري وحيدا مأمورا‪ ،‬واليوم أخرج من لك‬
‫اململكة أمريا عىل س تة أفراد! بعد أن جعزت حييل‪ ،‬واهزت أميل‬
‫أاتين واحد من البدو‪ ،‬من رعاة بين سالم‪ ،‬يقود عددا من‬
‫عشريته حبثا عن بعض التهار‪ .‬اكن امسه الش يخ معران‪ ،‬واكن‬
‫رجال طيبا بشوشا كرميا‪ .‬يعمل يف جتارة قليةل‪ ،‬ورعي بعض‬
‫األغنام‪ ،‬وأحياان دليل للقوافل واحلهاج‪ ،‬فدلنا هللا به للخروج‬
‫من تيه الفهاج‪.‬‬
‫اكن قد أدركنا من القنوط‪ ،‬مفد لنا يد اجلود‪ ،‬وأغاثنا بكرمه‪،‬‬
‫ومحلنا عىل فضل ظهره‪ ،‬فمل يكتف بأن يكون دليال لنا عىل‬
‫طريق القوافل القدمي‪ ،‬بل رافقنا إىل طرابل‪ ،‬وأعاران من بعريه‬
‫ظهورا نركهبا‪ ،‬ومن نياقه لبنا نرشبه‪ ،‬ومن نقوده نفقة تكفينا‪،‬‬
‫وزاد عىل هذا أن خسر نفسه وأوالده الثالثة يف إمرتنا‪ ،‬ولغايتنا‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫وهكذا‪ ،‬رمغ طول الطريق ومشقته يف أرض همجورة‪ ،‬فبفضل‬
‫هذا الش يخ السلميي‪ ،‬اكن هذا أيرس آمن جزء يف رحلتنا‪ ،‬فمل‬
‫تظهر لنا متاعب إال بعد أن دخلنا يف ختوم السور العيل‪ ،‬حيث‬
‫جتري احلرب بيهنا وبني الصيادية‪.‬‬
‫وهناك اعتقلنا جنود من الك الفريقني أكرث من مرة‪ ،‬فكنا خنرج‬
‫مهنم ابلرجاء‪ ،‬أو ابلرشوة اترة‪ ،‬وابلقتال‪ ،‬أو الفرار اترات أخرى‪.‬‬
‫مث قطعت جامعة من عسكر الفرجنة الطريق‪ ،‬فأجاران واحد‬
‫من األهايل يدعى قسطنطني‪ ،‬ورمغ إنه نرصاين‪ ،‬إال إنه اكن‬
‫رجال دمث األخالق‪ ،‬يكره الفرجنة لكرثة فسادمه‪ .‬وأخفاان يف‬
‫قريته وسط أههل بضعة أايم‪.‬‬
‫مث مىض بنا الطريق حبلوه ومره‪ ،‬نتسلل يف الظالم حينا‪،‬‬
‫ونقتحم الظهرية حينا‪ ،‬ومس تعينني ابحليةل أحياان‪.‬‬
‫فإذا تعرضنا جلند من األهبال‪ ،‬فنحن جتار من العراق‪ ،‬نزور‬
‫أهلنا يف البادية‪ ،‬ولو هامجنا رجال الصيادية‪ ،‬فنحن جحاج‬
‫مغاربة‪ ،‬أما الفرجنة‪ ،‬فالرشوة تنفع‪ ،‬والفرار أجنع!‬
‫لكن أمه ما أصابنا أمران‪ ،‬أحدهام مع الفرجنة‪ ،‬والثاين مع‬
‫األهبال‪ .‬فأما األول‪ ،‬فقد اكن عقب مغادرتنا لبيت قسطنطني‬
‫مبسرية يوم‪ ،‬طلعت علينا زمرة من قطاع الطرق‪ ،‬فناوش نامه‪.‬‬
‫وأثناء القتال‪ ،‬صادفتنا جتريدة من عسكر الفرجنة‪ ،‬اكنت تطلب‬

‫‪353‬‬
‫أولئك اللصوص فاعتقلوان معهم‪ ،‬وساقوان إىل أمريمه‪ ،‬اذلي‬
‫صادر لك ما معنا‪ ،‬وألقى بنا خارج حصنه‪.‬‬
‫وما اكن يل أن أمكل الطريق دون مال أو زاد‪ ،‬واألدىه دون‬
‫درع الغيالن‪ ،‬اذلي قد جيلب لقلب الوريث األمان‪ ،‬ليتبعين‬
‫دوان عن ابيق األمراء السفاكني‪.‬‬
‫ذلا تربصنا طول الليل‪ ،‬حىت خرج اجلند يف جتريدة أخرى‬
‫عند الفجر‪ ،‬فتسللت مع غول احلق إىل ذخائر األمري‪ ،‬فأخذان‬
‫ما أخذ منا‪ ،‬وفوقه بعض املال غنمية‪ .‬وإذا ابجلند يدركوننا‪ ،‬قبل‬
‫أن خنرج من احلصن‪ ،‬فأشعلت النار فامي حويل من مقاش‬
‫وحرير‪ ،‬والهتبت يف حلظات لك نفائس األمري‪ ،‬فأمر جنوده هبلع‬
‫أن يرتدوا عنا إلطفاء احلريق‪ ،‬خفرجنا ساملني واحلصن خلفنا‬
‫مجرة من انر هجمن‪.‬‬
‫ولكن اخلروج الظافر هل مثن‪ ،‬فقد طلبنا الفرجنة يف لك ماكن‪،‬‬
‫مذهولني من أولئك اذلين جترءوا عىل حصواهنم‪ ،‬وأشاع الناس‬
‫أن غيالان محرا هامجت الفرجنة‪ ،‬وانترش اخلرب بأرسع من الربق‪،‬‬
‫مفا نزلنا يف بيت إال واكن أههل يتسامعون مبجيء الغيالن امحلر‬
‫إىل هذه النوايح!‬
‫مث أتينا لطريق بني اجلبال‪ ،‬أغلقه يف وجوه الناس فئة من‬
‫الروافض‪ ،‬حفاولنا شق طريقنا بيهنم ابلقوة‪ ،‬لكن القتال طال‪،‬‬
‫وأتوا ابملزيد من جنودمه‪ ،‬فارتددت مبن معي‪ ،‬وأمرت أحد أبناء‬

‫‪354‬‬
‫الش يخ معران أن يش يع بني الناس بوجود الغيالن امحلر يف هذا‬
‫املاكن‪ .‬فإذا ابلفرجنة يرسعون يف أقل من اليوم إىل املاكن‪ ،‬ودار‬
‫قتال عنيف بيهنم وبني الروافض‪ ،‬وخرجنا من بني الفريقني إىل‬
‫طريقنا ساملني‪".‬‬

‫‪355‬‬
‫(‪)38‬‬

‫"وهنا دخلنا ألرايض خاانت األهبال‪ .‬مل منض كثريا إال وقبضوا‬
‫علينا‪ ،‬وساقوان إىل أقرب قالعهم مرسعني‪ .‬وما أن أتينا لباب‬
‫القلعة‪ ،‬طلب أمري اجلند اذلي اعتقلنا ابدلخول لس يده اخلان‬
‫قوالي خان‪ ،‬فلام س ئل معن معه‪ ،‬أرسعت ابملقاطعة قائال‪:‬‬
‫"ارسع بفتح الباب أاها اجلندي‪ ،‬فس يدك ينتظران‪ ،‬ولوال أمري‬
‫اجلند األمحق هذا ملا تأخران عنه لك هذا الوقت!"‬
‫فتح أمري اجلند مفه ليتلكم‪ ،‬لكين أرسعت ابلقول‪:‬‬
‫"أخربوا اخلان العظمي إن رسل القائد األسود أتت تطلب‬
‫املثول بني يديه‪".‬‬
‫هبت احلرس‪ ،‬وأرسعوا لدلاخل‪ ،‬بيامن وقف أمري اجلند‬
‫مندهشا‪ ،‬ال يدري ما يقول‪ .‬أما أان – األسري ‪ -‬فقد أخذت‬
‫أتلكم‪ ،‬وأرسل األوامر‪ ،‬وأحتدث بثقة وتفاد صرب‪ ،‬فمل جيرؤ‬
‫أحدمه عىل مراجعيت!!!‬

‫‪356‬‬
‫وجنحت حيليت اجملنونة!‬
‫كنت قد عزمت عىل أن أزمع كوننا رسل لألسود‪ ،‬مثلام ظن‬
‫الناس بتميور يف الزرقاء‪ .‬ومن حسن حظي‪ ،‬إن األهبال اكنوا‬
‫ينتظرون ابلفعل رسوال من األسود! فأدخلوين والش يح معران‬
‫إىل اخلان يف قاعته‪ ،‬فبدأت ابالحنناء هل والتحية‪.‬‬
‫"حتيايت أاها اخلان العظمي من القائد األسود‪".‬‬
‫رد عيل متجهام‪:‬‬
‫"لقد أرسلنا إىل قائدك هذا‪ ،‬بال رد‪".‬‬
‫األهبال قوم معليون‪ ،‬ال يضيعون وقتا يف التحيات‪،‬‬
‫والسخافات‪ ،‬وال يتأثرون بألقاب التفخمي‪ ،‬اليت يس بغها عىل‬
‫نفسه لك فسل من أمرائنا! ونظرة واحدة للقاعة حولنا‪ ،‬تكفي‬
‫لندرك هذا‪ .‬جمرد أاثث بس يط‪ ،‬ال يزيد عام جتده يف أي بيت‬
‫ميسور احلال‪ ،‬خيلو من الزخارف والنفائس املعتادة يف قاعات‬
‫ملوكنا وأمراءان‪.‬‬
‫عىل أي حال اكن ردي عىل قوالي خان معليا هو اآلخر‪.‬‬
‫أرشت ألحد اخلدم‪ ،‬فأدخل تميور حامال درع الغول األمحر‪،‬‬
‫واحننيت مرة أخرى‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"تأخران قليال‪ ،‬ألنين كنت أطارد زعمي الغيالن امحلر‪ ،‬وهذا‬
‫درعه‪ ،‬أمرين س يدي حبمهل لمك‪ ،‬وللخاانت العظام‪ ،‬دليل قوته‬

‫‪357‬‬
‫وبطشه‪ ،‬وإنه ال جيرؤ عىل الوقوف ضده أحد‪ ،‬إال من حاقت‬
‫به املهاكل‪".‬‬
‫قاطعين اخلان‪:‬‬
‫"إىل آخره إىل آخره! ما اهمين هو إن هناك ابلفعل غيالان‬
‫محرا أعلنت التحدي‪".‬‬
‫سألته حبذر‪:‬‬
‫"ال أظن أن حداث كهذا اهز احللف اجمليد بينمك وبني س يدي؟"‬
‫رد بسخط‪:‬‬
‫"حنن ال خنىش الغيالن‪ ،‬ولكن تكمت س يدك األمر عنا يغضبنا!‬
‫لقد عرفنا من أفواه العامة هنا بوجودمه‪ ،‬قبل جميئك بزمان! رمغ‬
‫إناكر س يدك‪".‬‬
‫أحسست أاهنم ابلفعل قلقون من الغيالن امحلر‪ ،‬فأردت أن‬
‫أطلق سهمي عهل يصيب‪ ،‬وما رميت إذ رميت ولكن هللا رىم‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"موالي يعدمك بسحق الغيالن حسقا‪ ،‬ومه مل يعودوا بذي‬
‫الشأن‪ ،‬ويؤكد لمك إنمك إن نرصمتوه‪ ،‬فسزييد لمك من ماكفأته‪".‬‬

‫‪358‬‬
‫ونظرت لعينه‪ ،‬فقرأت يف وهجه إنه فهم ما وراء اللكامت‪ ،‬وأنه‬
‫يظن اآلن أن األسود خيىش حقا الغيالن‪ ،‬ويريدمه أن ينرصوه‬
‫علهيم‪ .‬رمبا خيوف هذا األهبال‪ ،‬ويعوقهم يف زحفهم قليال‪.‬‬
‫قال يل اخلان‪:‬‬
‫"لن أختىل عن نرصة س يدك أبدا‪ ،‬لو أنه جعل يل نصيبا أكرب‬
‫بعض اليشء‪ .‬قل هل أن قوالي خان يريد الثغر الصغري خالصا‬
‫هل‪ ،‬ال يشاركه أدشاي خان فيه‪ .‬عليه أن يرسل أدشاي خان‬
‫ألي بدل آخر‪ ،‬بعيدا عين‪".‬‬
‫مل أتصور أن تكون خيانة القائد األسود مفجعة لهذه ادلرجة‪ ،‬مل‬
‫أتصور أنه وعد األهبال مبدن وأقالمي اكمةل‪ ،‬أال فتبا هل‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬غادرت القلعة حتت حراسة جند قوالي خان‪،‬‬
‫ألصل بأمان لقلعة حليفه‪ ،‬جواد خان‪ ،‬فذكرت هل مثل ما ذكرت‬
‫من قبل‪ ،‬مظهرا درع الغيالن‪ ،‬وغادرت قلعته منحرفا عن طريق‬
‫طرابل‪ ،‬أبغي قلعة أدشاي خان‪.‬‬
‫وبيامن كنت أحدث أدشاي خان مبثل ما حدثت به غريه‪ ،‬أظهر‬
‫تميور فطنة ال بأس هبا‪ .‬فقد جتاوب مع حديث اخلدم‪ ،‬اذلين‬
‫يستنطقونه‪ .‬وهذا فن من التجسس‪ ،‬برع فيه األهبال كثريا‪،‬‬
‫حيث يصادقون اخلدم ابخلدم‪ ،‬ليعرفوا أرسار السادة‪ ،‬وملا اكن‬
‫تميور يف زي اخلادم أماهمم‪ ،‬فقد رسب هلم كأمنا بغري قصد قول‬
‫قوالي خان‪ ،‬وطلبه الانفراد ابلثغر الصغري‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫اكن أحد خدم جواد خان قد أخربه‪ ،‬حيامن سأهل عام يدور بني‬
‫األهبال من حروب‪ ،‬إاهنا لن تعيقهم عن نرصة القائد األسود‪،‬‬
‫حيامن يزحف معهم لتدمري قالع الغرب احلصينة‪ ،‬ألنه وعدمه‬
‫بأراض تفوق بكثري تكل األش بار‪ ،‬اليت يتصارعون علهيا هنا‪.‬‬
‫وظن أبشاي أن غنميته الكبرية س تضيع‪ ،‬وأدرك أن قوالي‬
‫يضمر هل رشا‪ ،‬فأحدثت حيةل تميور حراب رضوسا بني خاانت‬
‫األهبال‪ ،‬امتدت لقالعهم مجيعا!‬

‫‪360‬‬
‫(‪)39‬‬

‫"اكن علينا‪ ،‬يف طريقنا إىل طرابل‪ ،‬أن نبتعد عن معارك‬


‫األهبال‪ ،‬وجامعات الفرجنة‪ ،‬اليت ترتزق من احلروب بيهنم‪ ،‬ذلا‬
‫قادان الش يخ معران إىل طريق بأعىل اجلبال‪ ،‬يقود للمدينة‬
‫مبارشة‪ .‬واكن علينا أن نصعد جبلني‪ ،‬يسميان ابلسدين‬
‫العظميني‪ .‬األول يدعى جببل الهالكني‪ ،‬والثاين هو جبل‬
‫الضائعني‪ .‬ومل تبد يل األسامء مهبهة ومرحية ملن يرغب يف‬
‫صعودهام؛ لكنه هون األمر عيل‪ ،‬وحىك يل عن سبب‬
‫التسمية‪".‬‬
‫‪ ( 1 -39‬حاكية جبل الهالكني )‬
‫أما جبل الهالكني‪ ،‬فزيمعون أنه اكن يعيش عليه غول عظمي‪.‬‬
‫وحش خضم اهبط من اجلبل لك ليةل‪ ،‬ليصطاد البرش ويألكهم‪.‬‬
‫واكن هل أعوان‪ ،‬وأتباع‪ ،‬وقرص كبري فوق اجلبل‪ ،‬جعهل مس تقرا‬
‫ومقاما للك أعامل الرش‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫واكن قد خسر يف خدمته ساحر حقود‪ ،‬منغمس يف الكفر‪،‬‬
‫يتعبد ويسهد لش يطان مريد‪ ،‬مكل من ملوك اجلن األرشار‪،‬‬
‫علمي ابلسحر والكفار‪ ،‬ميده ابألالعيب واللعنات‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬قرر مكل طرابل ختليص بالده من رش هذا الغول‬
‫بنفسه‪ ،‬فسار جبيش خضم حنو اجلبل‪ ،‬وحارصه‪.‬‬
‫وأرسل الغول إىل خادمه‪ ،‬فطلب منه سالحا عظامي‪ ،‬يسحق‬
‫هذا اجليش الكبري‪.‬‬
‫وحبث الساحر امللعون يف فنون الرش‪ ،‬وكتب القدماء‪ ،‬حىت‬
‫جعز‪ ،‬فطلب معونة من معبوده الش يطان‪.‬‬
‫مفنحه الش يطان جحرا صغريا‪ ،‬يف جحم قبضة اليد‪ ،‬ذا لون‬
‫أمحر‪ ،‬يعلوه بريق ذهيب جعيب‪ ،‬وقال هل‪:‬‬
‫"هذا هو جحر الهالك‪ .‬ما أن ينظر هل برش‪ ،‬حىت تتعلق عيناه‬
‫بربيقه اذلهيب‪ ،‬فميأله اجلشع‪ ،‬وإذا مأله اجلشع‪ ،‬سعى للفتك‬
‫بلك من حول‪،‬ه وبعدها ميوت‪ ،‬ويتحول قلبه حلجر يش هبه‪.‬‬
‫أخذ الساحر احلجر فرحا لس يده الغول‪ ،‬لكنه احتقره واس هتان‬
‫به‪ ،‬وألقاه بعيدا وسط أجحار اجلبل‪ ،‬وطلب من ساحره إعداد‬
‫سالح حقيقي جبار‪ ،‬يدمر العرشات‪.‬‬
‫وهنا التقطه واحد من اخلدم‪ ،‬فنظر هل‪ .‬فإذا ابحلجر يسلب‬
‫انظريه‪ ،‬وحيرك فيه اجلشع‪ .‬فذهب املفتون لس يفه‪ ،‬فاغتال‬

‫‪362‬‬
‫الغول والساحر‪ ،‬والتف حوهل األعوان فقتلوه‪ .‬وانفطر عنه‬
‫قلبه‪ ،‬اذلي حتول حلجر جديد‪ ،‬أمسكه أحد األعوان‪ ،‬فنظر هل‪،‬‬
‫فأصابه مبثل ما أصاب سابقه‪ ،‬ورسعان ما أخذ جند الغول‬
‫يقتلون بعضهم بعضا‪ ،‬حىت هلكوا‪ ،‬مل يبق إال آخرمه رجل‬
‫واحد‪.‬‬
‫وحيامن جهم جند املكل عىل القرص‪ ،‬مل جيدوا إال هذا الرجل‪،‬‬
‫فاستنطقوه ليعرفوا ما حدث‪ ،‬حفىك هلم عن جحر الشؤم هذا‪.‬‬
‫وعندها أصاب املكل احلرية‪ ،‬مل يدر ماذا يفعل لريفع بالء‬
‫الش يطان هذا عن مدينته‪ ،‬وبيامن اكن يف حريته أتته زوجته‬
‫فسألته عام اهمه فقال لها‪:‬‬
‫"هذا احلجر القاتل‪ ،‬لو تركته يف اجلبل‪ ،‬فقد يأيت خشص‬
‫ويناهل‪ ،‬ليزنل ابلبالء ملدينيت‪ .‬ولو أرسلت جندا مجلعه‪،‬‬
‫فس هيلكهم‪".‬‬
‫فردت الزوجة احلصيفة‪:‬‬
‫"دع عنك اهلم اي موالي‪ ،‬فاألمر بس يط‪ .‬أرسل مجلعه أانس ال‬
‫يس هتواهم اذلهب‪ ،‬وال حيرق قلوهبم اجلشع‪ ،‬وال يقوون عىل‬
‫الفتك‪".‬‬
‫فقال لها متحريا‪:‬‬
‫"وهل يوجد مثل هذا بني البرش؟"‬

‫‪363‬‬
‫ردت‪:‬‬
‫"نعم! أرسل صبية صغارا مل يبلغوا احلمل بعد‪ .‬فهؤالء أصعب‬
‫عىل الش يطان من اجلند اجملندة‪ .‬ولو أصاب أحدمه مثل هذا‬
‫اجلنون‪ ،‬فلن يؤذي أحدا بضعفه وقدرة جنودك عليه‪".‬‬
‫فأرسل املكل لك صبية طرابل‪ ،‬يبحثون عن قلوب الرجال‬
‫املتحجرة‪ ،‬جفمعها مجيعا‪ ،‬وأحرقها يف النار‪ ،‬وألقى رمادها يف‬
‫البحر ليتخلص مهنا‪.‬‬
‫ولكن قيل أن جحرا واحدا بقى وجنا‪ .‬احلجر األول‪ ،‬اذلي أىت‬
‫به الش يطان للساحر‪ .‬فقد بقى يف ماكنه األول بني أجحار اجلبل‪.‬‬
‫ومن يوهما‪ ،‬خرج عرشات امللوك يبحثون عن جحر الهالك‬
‫هذا‪ ،‬يرسلون العبيد واألطفال حبثا عنه‪ ،‬يبغون به تدمري‬
‫أعداهئم‪ ،‬ومع مرور الزمن‪ ،‬أدرك الناس أنه لو خرج مكل لهذا‬
‫اجلبل‪ ،‬فإمنا هو ينوي احلرب قريبا‪ .‬دلرجة إن األعداء واخلصوم‬
‫إذا عرفوا بزايرة غرميهم للجبل‪ ،‬يرتصدون هل‪ ،‬فيقتلوه وأصبح‬
‫اذلاهبون للجبل اهلكون دوما‪ ،‬فسمي جببل الهالكني‪.‬‬
‫وقد قيل غري ذكل‪ ،‬وإمنا اكن ابجلبل معبد قدمي‪ ،‬من أايم‬
‫الكفر‪ ،‬حيج هل ملوك طرابل قبل احلرب‪ ،‬يس تعينون بقوى‬
‫الش ياطني اليت ختدمه‪ ،‬ولكن تكل القصة منبوذة عادة بني‬
‫األهايل‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫‪ ( 2-39‬حاكية جبل الضائعني)‬
‫اكن جبل الهالكني سهال يف تسلقه‪ ،‬والزنول منه‪ ،‬رمغ إنين مل‬
‫أعتد هذه اجلبال العالية‪ ،‬ذات القمم املثلهة‪ .‬لكنه اكن أيرس‬
‫بكثري من جبل الضائعني‪ ،‬اذلي اكنت أجحاره خش نة‪ ،‬وتربته‬
‫مفككة‪ ،‬نزنلق من فوقها بسهوةل‪.‬‬
‫وحىك لنا الش يخ معر حاكية هذا اجلبل‪ .‬فقد قيل إنه اكن‬
‫يعيش فيه راعية للغمن‪ ،‬فتاة هادئة‪ ،‬عىل قدر من احلسن‪ ،‬تعول‬
‫أرسهتا‪ ،‬بعدما قتل أخوها يف هتمة رسقة‪ ،‬اهتم هبا أحد النبالء‬
‫أهل قريهتا‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬شاهدها ابن أحد األمراء‪ ،‬ويه ترعى الغمن وحيدة‬
‫يف اجلبل‪ ،‬فظهنا فريسة سهةل‪ ،‬واش هتاها‪.‬‬
‫لكن الفتاة قاومته برشاسة‪ ،‬وهوت عليه بعصاها‪ ،‬حىت أجربته‬
‫عىل تركها‪ .‬مث أرسعت للمدينة‪ ،‬تس تغيث برئيس الرشطة‪.‬‬
‫وألن اجملرم ابن أمري‪ ،‬فقد طردها رش طردة‪ .‬فذهب عن ابن‬
‫األمري القلق‪ ،‬وزاده هذا البطش جرأة‪ ،‬فأعاد علهيا الكرة‪ ،‬ليهد‬
‫خنجرها يف انتظاره‪ ،‬قد زاده الظمل حدة‪.‬‬

‫‪365‬‬
‫دفنت الفىت‪ ،‬وهربت عندما أىت أههل يطلبواهنا للثأر‪ .‬فصعدت‬
‫ألعىل اجلبل‪ ،‬ومه وراءها متعطشون لدلم‪ .‬لكهنم حيامن وصلوا‬
‫لقمة اجلبل مل جيدوها‪.‬‬
‫اكن هناك نبع ماء مل يره أحد يف املاكن من قبل‪ ،‬وعندما‬
‫حاول أحدمه أن يدس رأسه يف املاء‪ ،‬ينظر حبثا عن الفتاة‬
‫أتكون غرقت فيه‪ ،‬احنرس املاء بعيدا عنه‪ ،‬وارجتف‪ ،‬وعال فوق‬
‫الرؤوس منذرا‪ .‬فرتاجعوا حائرين‪ ،‬ونزلوا من اجلبل متحريين‪.‬‬
‫وأرسل األمري رجاال آخرين‪ ،‬يبحثون عن قاتةل ودله‪ ،‬مفا‬
‫وجدوها‪ ،‬وال وجدوا الينبوع املزعوم‪.‬‬
‫وهنا أىت أحد األولياء‪ ،‬فقالت إن الفتاة زارته يف املنام‪ ،‬وأاهنا‬
‫لكواهنا بريئة‪ ،‬فقد فتح لها يف الينبوع اباب للجنة‪ ،‬مرت عربه‪.‬‬
‫وزمع أحد العرافني للقوم إن هذا اجلبل ‪ -‬فامي يقول األقدمون ‪-‬‬
‫ينبوع الش باب ادلامئ‪ ،‬وأنه حامت هو ما رآه الناس الباحثني عن‬
‫الفتاة‪.‬‬
‫ومن يوهما‪ ،‬خيرج للجبل املئات‪ ،‬إما مظلوم هارب مصدق‬
‫للويل يبحث عن ابب اجلنة‪ ،‬أو طامع جعوز مصدق لدلرويش‬ ‫ّ‬
‫يبحث عن الينبوع!‬

‫‪366‬‬
‫(‪)40‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬


‫"كنت مهناك‪ ،‬أشعر كأمنا مائة رجل اجمتعوا ّ‬
‫عىل‪ ،‬مبقارع من‬
‫حديد‪ ،‬يدقونين‪ .‬ليس من السهل صعود جبل الضائعني‪ ،‬وال‬
‫من اليسري الزنول منه‪.‬‬
‫لكننا فعلناها‪ ،‬حقا فعلناها‪ ،‬وأصبحنا عىل مشارف طرابل‪.‬‬
‫لبثت ‪ -‬رمغ لهفيت ‪ -‬ثالثة أايم بعد الزنول من اجلبل‪ ،‬اس تجمع‬
‫قويت‪ ،‬زاعام ألحصايب إنين انتظر قليال حىت ختفت أنباء وصول‬
‫رسل األسود لألهبال‪ ،‬حىت ال خيشاان الناس يظنوننا مه‪.‬‬
‫مث ذهبنا لقرية قريبة من طرابل‪ ،‬نتحسس األنباء فهيا أوال‪،‬‬
‫وأهل القرى عادة أقل حذرا وحرصا يف احلديث من أهل‬
‫املدن‪ ،‬اذلين اعتادوا احلروب‪ ،‬واحلصار‪ ،‬واجلواسيس‪ .‬فعلمنا‬
‫أن أعدادا من األمراء‪ ،‬واملامليك‪ ،‬والقتةل املأجورين توافدوا‬
‫طوال الشهور املاضية عىل لك القرى حول طرابل‪ ،‬يتحسسون‬
‫األنباء‪ ،‬ويسألون عن الوريث‪ .‬ورمغ أن حامك املدينة أغلق أبواهبا‬

‫‪367‬‬
‫يف وجوههم‪ ،‬لكن بعضهم تسلل دلاخلها‪ ،‬وقبض علهيم احلرس‪،‬‬
‫فألقومه خارهجا بعد جتريسهم‪.‬‬
‫وكام توقعت‪ ،‬انل املتآمرين خيبة أمل عظمى‪ ،‬عندما س بقوا يف‬
‫الوصول‪ ،‬مث وجدوا أنفسهم متحريين‪ ،‬ال يدرون مع يسألون! لو‬
‫اكن ابيل رائقا‪ ،‬لقضيت وقتا يف الشامتة‪ .‬لكين اليوم أتعرض ملثل‬
‫اختبارمه‪ ،‬ال أدري أأس تطيع الوصول للوريث‪ ،‬أم أرتد خائبا‬
‫مثلهم‪.‬‬
‫انتقلنا من القرية جتاه املدينة‪ ،‬وحذران بعض التهار من وجود‬
‫الكثري من الرجال اخلطرين حولها‪ ،‬فيبدو أن األمراء عندما‬
‫ارتدوا عىل أعقاهبم خائبني‪ ،‬خلفوا وراءمه عددا من املرتزقة‬
‫الرشسني‪ ،‬اذلين أخذوا حيومون حول املدينة حبثا عن أي أثر‬
‫للوريث طمعا يف ماكفآت مرصودة‪.‬‬
‫كام علمنا أن سفارة من القائد األسود‪ ،‬رفض احلامك إدخالها‬
‫للمدينة‪ ،‬بقيت اكمنة يف اجلبال‪ ،‬مرتبصة‪ ،‬تراقب الطرق من‬
‫هجة اجلنوب املؤدية إىل البحر‪ ..‬حلسن احلظ إننا أتينا من‬
‫الشامل برا‪ ،‬وإال لعمل األسود بوصولنا‪.‬‬
‫وأخريا طالعتنا أسوار املدينة العتيدة‪ ،‬اليت راوغتين كثريا!‬
‫أخريا حنن داخل طرابل! يــــــــــــــــاه! مك اكنت تبدو يل‬
‫بعيدة‪ ،‬كام لو اكنت يف آخر ادلنيا! لقد ظننت أنين لن أصلها‬

‫‪368‬‬
‫أبدا‪ ،‬وأن طريقها ال ينهتىي! لكنين اآلن يف قلهبا أخريا‪ ،‬وهلل‬
‫امحلد‪.‬‬
‫حبثنا عن بيت نزنل فيه‪ ،‬فاس تأجران جحرة قريبة من مسهد‬
‫املدينة الكبري‪ ،‬دلى اتجر اهودي‪ .‬ولبثنا أايما نرتدد عىل‬
‫السوق‪ ،‬مثل لك التهار‪ ،‬ونواظب عىل الصالة يف املسهد‪،‬‬
‫حىت ألفنا رواده‪ .‬وملا أحسست أن الناس قد اراتحت لنا‪،‬‬
‫وزال الرتبص من عيواهنم‪ ،‬ذهبت لإلمام عقب صالة امجلعة‪،‬‬
‫أسأل عن الش يخ زعفران‪ ،‬اذلي أخربين احلكمي وهدان إنه من‬
‫آوى األمرية سارة‪.‬‬
‫دلين عىل مزنل أكرب أبناءه‪ ،‬واكن امسه سلامن‪ .‬ويعمل اكتبا يف‬
‫قرص احلامك‪ .‬واطمأننت ألمري‪ ،‬إذ مل يشك أحد يف‪ ،‬وعلمت أن‬
‫صيادي األسود بعيدون عن سلامن هذا‪ ،‬مل تصهل ريبهتم‪.‬‬
‫وهكذا رست يف الشوارع الضيقة للمدينة حنو هذا البيت‪،‬‬
‫مرتداي درع الغيالن‪ ،‬وقد دثرته بعباءة أثقلها احلر عىل أكتايف‪،‬‬
‫حامال رحمي اجلديد‪ ،‬ومجمعا أش تايت‪ ،‬وأحاول التفكري فامي‬
‫سأقوهل‪.‬‬
‫كيف أقنعهم بتسلميي الوريث؟ طوال رحليت الطويةل أقنعت‬
‫عيل هممة أشق وأصعب‪ ،‬ويه‬ ‫الكثريون بكذابت متقنات‪ .‬اليوم ّ‬
‫إقناعهم بصديق!‬

‫‪369‬‬
‫وصلت للسوق املزدمح‪ ،‬ومنه إىل الزقاق اجملاور لقرص كبري‪،‬‬
‫ويف اهنايته الح يل الباب‪.‬‬
‫وقفت أمام ابب دار سلامن‪ ،‬ال أدري ماذا س يحدث‪.‬‬
‫حلظات انتظار ليست كأي حلظات‪.‬‬
‫ترى كيف هو الوريث؟ هل هو يح أصال؟ هل‬
‫س يصدقونين ويأمتنون إلخالص نواايي؟‬
‫فتح الباب لنا‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬يف هذه اللحظة‪ ،‬انهتت رحةل اذلهاب الطويةل‪.‬‬
‫وهللا وحده يعمل كيف س يكون اإلايب‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫(‪)41‬‬

‫"فتحت لنا جارية محقاء الباب‪ .‬وما أن رأتنا‪ ،‬حىت أرسعت‬


‫إىل ادلاخل ترصخ يف فزع!‬
‫بدا القلق عىل تميور‪ ،‬فأرشت هل أن يثبت ماكنه‪ .‬وانتظران‬
‫حيث حنن أمام الباب املفتوح هادئني‪ .‬مث أاتان شاب صغري‪،‬‬
‫فبادرته‪:‬‬
‫"السالم عليمك ورمحة هللا وبراكته اي أخا اإلسالم‪".‬‬
‫نظر يل جبمود‪ ،‬قبل أن يرد السالم ببطء‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"هل تريدون أمرا ما؟"‬
‫رددت مبتسام‪ ،‬بأقىص ود أس تطيعه‪:‬‬
‫"نبحث عن سلامن ابن الش يخ زعفران‪".‬‬
‫مل يرد يف البداية‪ ،‬وحملت يده تتحرك من خلف ظهره‪ ،‬وظهر‬
‫جزء من مقبض س يف‪ ،‬حياول إخفاءه عنا‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫فأمكلت هبدوء‪:‬‬
‫"أرجو أن يكون خبري‪".‬‬
‫الذ ابلصمت مرة أخرى‪ ،‬لكن فزع أهل ادلار طمأنين بأنين‬
‫أصبت املراد أخريا‪.‬‬
‫حامت هناك وريث‪ ،‬ومه حيمونه‪ .‬بل لعل هذا الشاب هو ابن‬
‫الوريث األمري البطل‪ ،‬اذلي س يقاتل األسود إىل جواران‪.‬‬
‫وانزتعين الش يخ معران من أحاليم‪ ،‬فقال بنفاد صرب‪:‬‬
‫"اي فىت أتينا من رحةل طويةل‪ .‬عىل األقل هناك حق الضيافة‬
‫لنا عليك‪ .‬أين وادلك لنحدثه؟"‬
‫بدا احلرج عىل الشاب‪ ،‬مث مل يلبث أن قادان حلجرة الضيوف‪،‬‬
‫فأجلس نا فهيا‪ ،‬وخرج مغلقا خلفنا الباب بإحاكم‪ ،‬وانتظران وحنن‬
‫نسمع صليل الس يوف‪ ،‬لكام مر أحد قرب ابهبا‪.‬‬
‫وأخريا أاتان سلامن هذا‪.‬‬
‫ألقيت عباءيت من فوق‪،‬ي وقدمت نفيس هل‪:‬‬
‫"أان القبيل زعمي الغيالن امحلر‪ ،‬وهذا دلييل الش يخ معران من‬
‫بين سلمي‪ ،‬وهذا ساعدي األمين غول احلق‪".‬‬
‫مث أرشت لتميور وقلت‪:‬‬
‫"وهذا خشص من ساوة‪".‬‬

‫‪372‬‬
‫نظر هل سلامن ابهامتم‪ ،‬نزل عىل قليب بردا وسالما‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"مسعنا بنبأ عن الغيالن امحلر‪ ،‬وحرهبم مع األسود؛ ولكن ال‬
‫أدري ما شأن هذا بشخيص الضعيف؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"هذا هو تميور ابن زهري ابن تميور العالف‪".‬‬
‫ومصت للحظة أرقب وقع الامس عليه‪ ،‬مث أمكلت‪:‬‬
‫"أتينا حبثا عن وديعة‪ ،‬اكنت عند الش يخ زعفران‪ .‬وديعة لها‬
‫حق القرىب عند أهل ساوة‪ ،‬وحق النرص عند الغيالن امحلر‪".‬‬
‫قال بقلق‪:‬‬
‫"وما أدراين بصدقمك؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لو كنا من الغرابن الصيادة‪ ،‬ملا أتينا نطلب الضيافة‪ ،‬ونلوذ‬
‫ابلصرب يف انتظارك‪ ،‬بيامن يتسلح لك أهل البيت! والنهتزان فرصة‬
‫الباب اذلي ترك لنا مفتوحا‪ ،‬واقتحمناه عليمك‪ .‬ومن غري الغول‬
‫األمحر سزيمع إنه كذكل؟"‬
‫بدا عليه الرتدد‪ ،‬فأمكلت‪:‬‬

‫‪373‬‬
‫"لعكل مسعت مبا وقع بيننا وبني الفرجنة‪ ،‬وبأن األهبال يطلبون‬
‫رأيس‪ .‬أي جمنون ينتحل خشصا حمكوما عليه ابلقتل؟ ومن غري‬
‫أهل ساوة‪ ،‬س يعمل بنبأ الش يخ زعفران؟"‬
‫التقط نفسا معيقا قبل أن يقول‪:‬‬
‫"أتقسم عىل ما تقول؟"‬
‫قلت متحريا‪:‬‬
‫"وما يغين القسم إن كنت ممن يس مترءون الكذب؟" مث‬
‫أقسمت هل ثالاث إنين ال أبغي ابلوريث إال اخلري‪ ،‬وكذا فعل من‬
‫معي‪.‬‬
‫قال لنا‪:‬‬
‫" أتعلمون أنين أمعل اكتبا يف ديوان القايض؟ أعمل جيدا‪ ،‬من‬
‫طول مالزميت للمتخامصني‪ ،‬كيف أفرق بني من يقسم كذاب وهو‬
‫مرتدد‪ ،‬وبني من يقسمها بال وجل العتياده عىل الميني الغموس‪،‬‬
‫وبيهنام وبني من يقسم صادقا خملصا‪.‬‬
‫منذ يويم األول يف هذا العمل‪ ،‬تعرضت للمقسمني الثالثة‪،‬‬
‫وطاملا رأيهتم يتكررون أمام عيين‪ ،‬حىت خربهتم‪ ،‬وعلمت أن‬
‫حلفهم ال ينفعهم وال يداراهم‪".‬‬

‫‪374‬‬
‫(‪)42‬‬

‫يقول سلامن الاكتب ابن زعفران‪:‬‬


‫"اكن هناك اتجر من السور العيل‪ ،‬اشرتى بضائع من أحد‬
‫جتار طرابل ابألجل‪ ،‬وختلف عن دفع ابيق مثهنا‪ ،‬فأاته خيتصمه‬
‫عند القايض‪ .‬وألن البينة عىل من ادعى‪ ،‬ومل يكن هناك شهود‬
‫فقد ألقى القايض ابلميني عىل املنكر‪ ،‬وهو اتجر السور ّ‬
‫العيل‪.‬‬
‫أقسم إنه قد سدد المثن اكذاب‪ ،‬لكهنا اكنت كذبته الكربى‬
‫األوىل وقال يل القايض‪:‬‬
‫"انظر كيف يتعرث لسانه يف عراقيل مضريه؟ لكهنا شهوة املال‬
‫اي سلامن! وما اكن لنا أن نقيض بغري البينة‪".‬‬
‫عاد التاجر لبالده فرحا ابلغنمية‪ ،‬فإذا ابألهبال يعرتضونه‪،‬‬
‫فسلبوه الغنمية وروح حاملها!‬

‫‪375‬‬
‫وأما الثاين فاكن حامال يف السوق‪ ،‬احرتف الكذب‪ ،‬واعتاده‬
‫ليرسق الناس‪ .‬أىت يقسم بغري وجل‪ ،‬وقلب اثبت‪ ،‬مفال عيل‬
‫القايض يقول‪:‬‬
‫"أترى اي سلامن؟ روحه ماتت من كذبه‪ ،‬فتهد قسمه ابردا‬
‫ميتا مثلها‪".‬‬
‫وما اكن قسمه لينفعه‪ ،‬لشهرة كذبه‪ ،‬وسوء أخالقه‪ .‬فقبل‬
‫القايض فيه شهادة الشهود‪ ،‬وقطعت يده حدا‪.‬‬
‫وأما الثالث فاهتموه برسقة انقة خصمي هل‪ ،‬اكن بيهنام ثأر‪ ،‬أاكد‬
‫أقسم إنه اكن ينوي الاعرتاف ابجلرم تباهيا‪ ،‬وناكية يف عائةل‬
‫خصمه‪ ،‬لكن القسم أهابه‪ ،‬فأقسم إنه مل يفعل ورمغ شهادة‬
‫الشهود الزور‪ ،‬إال إنين أحسست بصدقه‪ ،‬فأوصيت القايض‬
‫ابلصرب والتثبت‪ .‬وأرسلنا اجلنود يتحرون‪ ،‬فعرثوا عىل الناقة يف‬
‫سوق امجلال‪ ،‬دلى اتجر آخر!‬

‫‪376‬‬
‫(‪)43‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"أخذ سلامن قسمنا وصدقه‪ .‬مث سألنا عن أخباران‪ ،‬وأحوال‬
‫بالدان‪ ،‬فعددت هذا عالمة طيبة‪ ،‬وأنه سينقل قولنا للوريث‪ .‬مث‬
‫سألنا‪:‬‬
‫"وماذا س تفعلون إن وصلمت ملا تبغون؟"‬
‫قلت حبامس‪:‬‬
‫"ندافع عن الوريث قدر اس تطاعتنا‪ ،‬وحنميه بأرواحنا‪ ،‬حىت‬
‫يصل لبالده‪ ،‬ويأخذ مرياثه وحقه‪ ،‬عىل أن يعاهدان أن يكون‬
‫حاكام عدال‪ ،‬يقف ضد الفرجنة واألهبال‪".‬‬
‫مط شفتيه‪ ،‬وبدا عليه التفكري الشديد‪ ،‬مث قال‪:‬‬

‫‪377‬‬
‫"ال أس تطيع نفعمك اليوم‪ .‬واألمر حيتاج لتبيان‪ ،‬واس تيثاق‪،‬‬
‫ومشورة‪ .‬ائتوين غدا بعد صالة الظهر‪ ،‬يف جملس القايض بقرص‬
‫احلامك‪".‬‬
‫رحلنا مس تبرشين‪ ،‬حتفنا السعادة‪ ،‬واإلحساس ابلنرص! أقول‬
‫لمك إنين قضت ليلهتا يف احتفال هادئ مكتوم‪ ،‬لكنه مهبج‪ ،‬مع‬
‫تميور ومعران وغول احلق‪ .‬ومضت ّ‬
‫عيل اللحظات ثقيةل‪ ،‬ومل‬
‫نطق صربا‪ ،‬حىت أىت امليعاد‪ ،‬فسارعنا لقرص احلامك متلهفني‪.‬‬
‫وأدخلنا احلرس‪ ،‬بعد تفتيش ومتعن‪ ،‬وسألنا عن سلامن‪ ،‬فقادوان‬
‫جمللس القايض‪ ،‬اذلي ما أن رآان‪ ،‬حىت أمر برصف الناس‪،‬‬
‫وإخالء القاعة‪.‬‬
‫نظر لنا القايض بعني اثقبة وقال‪:‬‬
‫"ما شأنمك؟"‬
‫قلت بقوة‪:‬‬
‫"أتينا نبغي عودة آخر أمراء بيت ملكنا إىل بالدان‪ ،‬ليحمكها‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أليس بينمك من حيمك غريه؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"مل ينل املرياث غريه‪ ،‬ومل ينل الوالية من اخلليفة غريه‪ ،‬وما‬
‫بقي غري القائد األسود‪ ،‬يعيث يف األرض الفساد‪ ،‬ويسمل الثغور‬

‫‪378‬‬
‫للفرجنة واألهبال‪ .‬لكن الكثري من األمراء‪ ،‬والش يوخ‪ ،‬وحىت‬
‫العوام‪ ،‬اتفقوا عىل أن يبايعوا ابن امللوك‪ ،‬وسليل اخللفاء‪".‬‬
‫قال ساخرا‪:‬‬
‫"األمراء والش يوخ والعوام‪ ،‬اذلين تتحدث عهنم‪ ،‬مه من‬
‫خرجوا يطلبون رأس لك أمري يف بدلك‪ ،‬حىت مل يبقوا إال عىل‬
‫سارة املسكينة‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"اكن هذا عهد رعب ودمار‪ ،‬وأايم جاهلية‪ ،‬وألقلها رصاحة‪،‬‬
‫فمل يكونوا ملواك عادلني‪ .‬مل آت ملبايعة الوريث ملاك‪ ،‬وإمنا أتيته‬
‫ألابيعه‪ ،‬برشط احلمك ابلعدل‪ ،‬ورشيعة هللا‪".‬‬
‫مصت القايض‪ ،‬وأشار ألحد احلهاب‪ ،‬ففتح اباب صغريا خلف‬
‫مقعد القايض‪ ،‬ليدخل منه خشص جليل‪ ،‬يرتدي ثيااب غالية‪،‬‬
‫ويبدو عليه النعمي واهلم معا‪.‬‬
‫اكن هذا هو حامك طرابل بنفسه!‬
‫واكن حيمل صندوقا من الصدف‪ ،‬فتحه ليخرج لنا منه لفافة‪،‬‬
‫وضعها يف يدي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"قلت لسلامن إنك أتيت تسأل عن الوديعة؟ هذه يه الوديعة‬
‫اليت كتبهتا األمرية سارة‪ ،‬ختىش أن متوت‪ ،‬فال يعرف وليدها‬
‫أابه‪ ،‬وحاكيهتا معه‪ .‬كل أن تقرأها‪".‬‬

‫‪379‬‬
‫فضضت اللفافة‪ ،‬ال أدري ما أمهيهتا‪ ،‬وما نفعها بشأين‪ ،‬وبدأت‬
‫أتلو ما هبا بصوت عال‪ ،‬ليسمعين رفايق‪".‬‬

‫‪380‬‬
‫(‪)44‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"قرأت ما كتبت األمرية سارة‪ ،‬فإذا هبا تقول‪:‬‬
‫"كنت ضائعة يف قرصي‪ .‬مفقودة ال يبحث عين أحد‪ ،‬ال أعمل‬
‫شيئا مما فيه‪ ،‬وال يدري يب أحد ممن فيه‪.‬‬
‫كنت فتاة ودلت يف قرص أمري‪ .‬اي للتعاسة‪ ،‬فهىي ال متكل من‬
‫امجلال شيئا‪ ،‬متيل به قلوب الرجال‪ .‬فكنت لوادلي‪ ،‬األمري الرثي‬
‫عدانن‪ ،‬جتارة راكدة‪ .‬ال أان ابلودل‪ ،‬اذلي يعينه‪ ،‬أو ابمجليةل‪ ،‬اليت‬
‫يزوهجا حلليف ينرصه‪.‬‬
‫بني نساء القرص‪ ،‬كنت ابنة اجلارية‪ .‬واكنت تكل اجلارية‪،‬‬
‫ببصريهتا النافذة‪ ،‬حتس مبصيبيت‪ ،‬قبل أن أدركها‪ .‬ذلا‪ ،‬فعندما‬
‫عيل‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫كنت أشكو لها عرسي يف القراءة‪ ،‬تقسو ّ‬
‫"اي بنية‪ .‬ليس كل سواه‪ .‬جيب أن تكتيب‪ ،‬وتقريئ‪ ،‬وتتعلمي‪".‬‬
‫أرد وادلموع مرة يف مفي‪:‬‬

‫‪381‬‬
‫"مل اي أماه؟ أنت ال تقرأين‪ ،‬وحىت مواليت‪ ،‬األمرية فاطمة‪ ،‬ال‬
‫تقرأ‪".‬‬
‫اكن علينا أن خناطب زوجة أيب مبواليت دوما‪ ،‬سواء كنا عبيده‬
‫أو أبناءه من غريها‪.‬‬
‫ترد أيم حبزم‪:‬‬
‫"اي ابنيت اعلمي قدرك‪ .‬بني األمريات‪ ،‬أنت بنت اجلارية‪ ،‬وبني‬
‫النساء قبيحة‪ ،‬ولن تنايل من مال أبيك شيئا‪ ،‬طاملا اكنت فاطمة‬
‫وأبناؤها أحياء‪ .‬ال أمكل ما أحفظك به من الضياع إال هذا‪ .‬مه‬
‫أمهلوا العمل‪ ،‬فعليك بغنميته‪".‬‬
‫اكنت أيم ترجو أن تراين خريا من أقراين‪ .‬ال أدري هل أمكل‬
‫من اذلاكء نصيبا أم ال؛ لكين حامت ال أطاول عقل فاطمة اجلبار‪،‬‬
‫وهمام فعلت‪ ،‬فسأظل يف القرص جمرد فتاة‪ .‬فتاة أدىن من إخوهتا‬
‫نس با وجامال‪.‬‬
‫تكل اكنت قيودي‪ ،‬وهذه اكنت أيم حتاول أن ترفعها عين‪.‬‬
‫اكنت العبودية حترقها‪ ،‬فرتغب يف جعيل حرة‪ .‬حرة من اجلهل‪،‬‬
‫ومن ضعف األنوثة‪ ،‬ومن احلاجة للئام لن ينرصوين‪ .‬فتنظر‬
‫حولها بقةل حيلهتا‪ ،‬فمل تر إال مؤدب األمراء‪ ،‬اذلي لهت عنه‬
‫أخوايت‪ ،‬وعصاه‪ ،‬اليت توصيه ابس تعاملها لكام أخطئت!‬
‫وهكذا‪ ،‬طوال ما اكن من حياهتا القصرية‪ ،‬مضت طفوليت يف‬
‫قرص أيب‪ .‬وقبل أن أغادر أطالل الطفوةل‪ ،‬أىت الهول حيرقها‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫يزمعون أنه لوال األهبال‪ ،‬وزعميهم املسمى ابلهول‪ ،‬وس يفه‬
‫اذلي اكن يفتك بعرشة فرسان برضبة واحدة‪ ،‬ملىض مكل أابيئ‬
‫دهورا أخرى‪.‬‬
‫لكن هذا يف عمل الغيب‪ .‬إذ أذكر من شظااي الطفوةل‪ ،‬تكل‬
‫اللكامت عن إن املكل قد أصبح وحيدا‪ ،‬ال يقمي ملكه إال عىل‬
‫حفنة الغيالن امحلر‪ ،‬اليت جتاهره بعدم اإلخالص‪ ،‬وتعلن عىل‬
‫رؤوس األشهاد‪ ،‬إنه يوم يأيت زعميهم ليتبوأ العرش‪ ،‬فلن جيد من‬
‫يقف دونه‪ ،‬ألن حىت املكل‪ ،‬ال ميكل إال جامعة الغيالن امحلر‪.‬‬
‫عهد جعيب هذا اذلي بني املكل وتكل امجلاعة‪ .‬يساعدوه عىل‬
‫احلفاظ عىل ملكه‪ ،‬عىل أن يأخذوه ألنفسهم حيامن يريدون‪ .‬مل‬
‫أفهم يف محق الطفوةل املغزى‪ ،‬فقد اكن املكل لنا خملوقا خميفا‬
‫جبارا‪ .‬اكن قوة هموةل ترهب آابءان‪ .‬األمرية فاطمة تفزعين‪ ،‬لكهنا‬
‫تفزع من املكل!‬
‫أذكر حيامن كنا جنمتع لولمية‪ ،‬كنا األطفال حنتشد للهو‪ ،‬ال فرق‬
‫بني أمري وخادم‪ ،‬أو بنت ملكة وبنت اجلارية‪ ،‬إال الشهايب‪.‬‬
‫عندما ننظر هل‪ ،‬ونقرتب منه لندعوه معنا‪ ،‬يهنران آابؤان‬
‫ويقولون‪" :‬إال الشهايب‪ .‬هذا ابن ويل العهد‪ ،‬وسريث املكل‬
‫يوما"‪.‬‬

‫‪383‬‬
‫لكن حيامن تتابعت اخلطوب‪ ،‬ظهر إن هذا املكل العظمي‪ ،‬ليس‬
‫إال رجال عاجزا أمحقا‪ ،‬اس تعان بأعدائه عىل إخوته‪ ،‬علهم‬
‫يؤخرون ساعته‪ ،‬ولكن أجل هللا إذا جاء ال يؤخر‪.‬‬
‫كنت ألهو كعاديت يف برج القرص‪ ،‬أكرس يف بعض من أطباق‬
‫املطبخ! وأرمق زهور احلديقة البديعة‪ ،‬أرنو للهو فهيا‪ ،‬إن‬
‫مسحت يل مواليت فاطمة‪.‬‬
‫مىت اكن الوقت؟ أظنه ساعة احتضار الشمس‪ ،‬حيث اكنت‬
‫السامء تب ي‪ .‬وأظهنا تب ي عىل الهنار الرصيع‪ ،‬بيامن الباكء العظمي‬
‫يتأهب لغزوي‪.‬‬
‫مسعت خصبا وجلبة‪ ،‬فنظرت من النافذة‪ ،‬ألشاهد مشهدا بدا‬
‫يل خميفا‪.‬‬
‫أعداد كبرية‪ ،‬وحشود غاضبة تصيح ابملقت والبغض‪ ،‬ويه‬
‫حتارص البيت‪.‬‬
‫ال أدري ماذا فعل أيب ليغضهبم‪ .‬مل أفهم مل بدا هلم الكره فضيةل‪،‬‬
‫فمل يكن عقيل ليس توعب مثل هذا احلقد‪ ،‬اذلي ودل من الظمل‬
‫ليدل الظلامت‪.‬‬
‫وجدت هرجا ومرجا‪ ،‬ومسعت ولوةل ورصاخا‪ ،‬بيامن العبيد‬
‫واجلواري جيرون يف رعب ال أول هل وال آخر‪.‬‬

‫‪384‬‬
‫اكن الناس قد نصحوا أيب ابلهرب بنا‪ ،‬لكن نفائسه مل هتن‬
‫عليه‪ ،‬وجواهره أثقلت قدمه‪ .‬فأمر ابلصمود‪ ،‬وأرسل يطلب‬
‫عون فرقة من الغيالن امحلر‪.‬‬
‫قالوا هل‪" :‬لن يصلوا اليوم أبدا‪ ،‬وليس عندان من طعام يكفي‬
‫حصارا‪ ،‬ولو لليةل"‪.‬‬
‫فأمر بإطالق لك اجلواري والعبيد‪.‬‬
‫هكذا ببساطة‪ ،‬طرد حيوات كثرية ذلئاب املوت اجلائعة‪ .‬دوما‬
‫ما اكنوا يتهاهلونين‪ ،‬لكين مل أتصور أن ينزتعوا مين أيم‪،‬‬
‫ويلقواهنا خارجا‪.‬‬
‫ترى هل ظهنم الثوار جنودا يطلبواهنم‪ ،‬أم أن احلقد أمعى‬
‫القلوب واألبصار‪ ،‬فهاجت الفئوس والس يوف‪ ،‬ال تطلب إال‬
‫اللحم املمزق‪.‬‬
‫عيين اذلاهلتني‪ ،‬رأيت طوائف اجلواري‪ ،‬الاليت عشت‬ ‫وأمام ّ‬
‫بيهنن‪ ،‬تؤلك صفا تلو الصف‪ ،‬وأيم ترصخ بقلب يب معلق‪،‬‬
‫وعني عىل أخوهتا دامعة‪ ،‬ويد لنهدهتا عاجزة‪.‬‬
‫ال أدري ما حدث‪ .‬آخر ما أذكره مشهد أيم ترفع يداها‪ ،‬فال‬
‫أدري ألتس تعطف الظاملني‪ ،‬أم لتتقي الس يوف‪ ،‬أم لتدعو رب‬
‫املس تضعفني‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫وأفقت عىل نفيس أعدو خارج القرص‪ ،‬بل مبتعدة عنه‪.‬‬
‫يغمرين العرق‪ ،‬وتتقطع أنفايس تعبا وفزعا‪.‬‬
‫أهربت‪ ،‬أم محلتين املالئكة فوق امجلوع؟ لعلها دعوة أيم‬
‫األخرية أن أجنو‪ ،‬وليس بني هللا ودعوة املظلوم جحاب‪.‬‬
‫وجدتين يف ساحة ال أعرفها‪ ،‬فنظرت خلفي‪ ،‬ألرى برج القرص‬
‫اذلي اكن مثوى لعيب ومرعى طفوليت حيرتق‪ ،‬فقلت مذهوةل‪:‬‬
‫"بييت‪ .‬بييت حيرتق‪ .‬وابيتاه!"‬
‫فعرفين أحد املامليك‪ ،‬فهتف مبن معه‪:‬‬
‫"تكل عداننية‪ ،‬فافتكوا هبا‪".‬‬
‫تصلبت يف ماكين‪ ،‬ال أدري همراب‪ ،‬ورمبا ال أريده‪ .‬لكهنم مل‬
‫ينالوين أبدا‪.‬‬
‫اكنوا جامعة من الغيالن امحلر استنقذوين من بيهنم‪ ،‬وأمعلوا‬
‫فهيم الس يوف والرماح‪ ،‬كأمنا يه انر حترق جنودا من أوراق‪.‬‬
‫قبلها كنت أكره الغيالن كثريا‪ .‬أحصاب الوجوه العابسة‪،‬‬
‫واألصوات الصاخبة‪ ،‬اذلين خيطفون األطفال من أهلهم‪ ،‬ال‬
‫أدري لعلهم يألكواهنم!‬
‫لكن تكل الزمرة اكن بقلوهبم يشء من السامحة‪ ،‬وبأحدمه من‬
‫الشفقة ما يكفي لنهديت‪ ،‬قائال ألحصابه‪:‬‬

‫‪386‬‬
‫"أرأيمت تكل الفتاة التعسة‪ .‬قالت وابيتاه‪ ،‬وليس واقرصاه‪.‬‬
‫حزنت عىل السقف اذلي ظللها‪ ،‬بدال من القرص اذلي أمتعها‪".‬‬
‫رد آخر‪:‬‬
‫"دعك مهنا ولمنض‪".‬‬
‫فرد عليه‪:‬‬
‫"وبأي ذنب تقتل تكل الربيئة‪ ،‬اليت مل تبلغ من العمر ما حتبس‬
‫به اذلنوب؟"‬
‫رد عليه زميهل‪:‬‬
‫"ما ذنهبا! إاهنا أمرية‪".‬‬
‫قال األول‪:‬‬
‫"أمرية ؟ يه جمرد فتاة صغرية‪ ،‬لن ترث من املكل اذلي ضاع‬
‫شيئا اي إخويت‪".‬‬
‫اكن الغيالن ينادون بعضهم بعضا دوما ابإلخوة‪ ،‬ال أدري مل‪.‬‬
‫حيامن كنت أصغر س نا‪ ،‬كنت أتسائل عن هذا األب‪ ،‬اذلي‬
‫أجنب ورىب لك هؤالء!‬
‫لكن أخوهتم الغامضة تكل قد احتضنتين‪ ،‬خبري مما فعل أبناء‬
‫أيب رمحهم هللا‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫مضوا يب متحريين‪ ،‬وأحدمه يقول‪ ،‬وهو ينظر للقصور املهنوبة‬
‫حولنا‪:‬‬
‫"ها قد ضاعت البالد‪ .‬واأسفاه! لو عمل الغول األعظم بنبأ تكل‬
‫الفوىض! مك يكره التفلت‪ ،‬فإذا به قد فاض عىل لك ما عداه‪".‬‬
‫رد عليه زميهل‪:‬‬
‫"أتظن ذكل؟ قد اكن من أكرب الساعني لهذه الفوىض‪ .‬أمل‬
‫يضعف شوكة املكل‪ ،‬مث أعانه عىل خصومه‪ .‬اليوم إذ يغزوان‬
‫األهبال‪ ،‬مل جيدوا من يردمه‪ ،‬فضاع لك يشء‪ ،‬ومعهم الغول‬
‫األعظم نفسه‪ ،‬هو والقادة الس بعة‪".‬‬
‫قال األول‪:‬‬
‫"أتصدق تكل األنباء؟ أحقا قتهل األهبال؟ يزمعون أن لك‬
‫إخواننا س يخرجون للثأر من الهول وجنوده‪".‬‬
‫تدخل خشص آخر يف احلديث‪ ،‬وهو يسأل بصوت يقطر‬
‫خسرية‪:‬‬
‫"أي إخوان؟ اذلين امسوا أنفسهم ابملولودين؟ قد اش تد عودمه‬
‫وخروهجم‪ ،‬حىت ألزمع أنه مل يعد يف الغيالن غريمه‪ ،‬مه ومن وقع‬
‫يف حبائل مكرمه‪ .‬إن هو إال وقت يسري‪ ،‬حىت خيرجوا عن اهنج‬
‫القادة الس بعة‪ ،‬وميزقوا كتاب الشهاعة‪".‬‬
‫رد عليه برصامة‪ ،‬هذا الرجل ذو الشفقة‪ ،‬اذلي رأف حلايل‪:‬‬

‫‪388‬‬
‫"الغيالن واحد‪ ،‬وإن مه شقوا‪ ،‬فال تشق أنت عهنم‪ .‬لو بقينا‬
‫هنا فلن اهمنا من هذا األمر شيئا‪ ،‬ألن الهالك حولنا‪ .‬لنعقد‬
‫أمران أوال‪ ،‬ونعرف ماذا حنن فاعلون‪".‬‬
‫رد عليه هذا الساخر‪:‬‬
‫"وهل بأيدينا غري أن خنرج الفتاة من احلارضة‪ ،‬وندفعها إىل‬
‫جعوز فقري تنتفع مبا علهيا من جوهر وحرير‪ ،‬وتنفعها ابملألك‬
‫واملأمن؟"‬
‫وهكذا مضينا خنرج من املدينة‪ ،‬اليت حيرق سوادها بعضه‬
‫بعضا‪ .‬ولك حني وآخر‪ ،‬يربز لنا مجعا من سفاكني‪ ،‬أو اهنابني‪،‬‬
‫أو من املامليك املتعطشني لدلم‪ ،‬لكهنم يفرون رسيعا ما أن تظهر‬
‫هلم دروع الغيالن امحلراء‪.‬‬
‫وعندما توغلنا يف الليل‪ ،‬انتحوا معي جانبا من أطالل قرص‬
‫مهتدم‪ ،‬مل يبق فيه ما يسلب‪ ،‬ل ي ننال الراحة‪ .‬لكين ما نلت‬
‫مهنا شيئا‪ ،‬إذ انمكشت عىل نفيس يف ركن حقري‪ ،‬انتظر أمل‬
‫الفجر بصرب انفد‪.‬‬
‫وأتت شعةل الفجر أخريا‪ .‬وعقب الصالة مبارشة ارحتلنا‪ ،‬فإذا‬
‫يب أراه أمامنا‪.‬‬
‫اكن مرجتفا ابردا مرتددا‪ ،‬يقدم رجال ويؤخر أخرى‪ .‬ينظر‬
‫برجاء للغيالن‪ ،‬وخبوف ألسلحهتم‪ .‬عرفته ومل يعرفين‪ ،‬فهتفت‬
‫عليه‪:‬‬

‫‪389‬‬
‫"اي شهايب‪ .‬إىل هنا‪ .‬همل فس يحموننا‪".‬‬
‫نظر يل الغيالن مهبوتني‪ ،‬وقال أحدمه‪:‬‬
‫"الشهايب؟ أتعنني ابن ويل العهد األمري الشهايب؟ أجنا وسط‬
‫لك ها؟ اي للعجب!"‬
‫التفوا حولنا‪ ،‬يتداولون مصريان‪ ،‬فقد اكن أحدمه شديد‬
‫الغضب وهو يقول‪:‬‬
‫"أخذ الشهايب معنا هو دعوة لقتلنا‪ .‬إنه املوت للك من‬
‫يرافقه!"‬
‫رد اثن‪:‬‬
‫"بل علينا إنقاذه‪".‬‬
‫‪"-‬اتهلل قد أصابك اخلبال‪ .‬إن رؤيته مع الغيالن أشد خطرا‬
‫عليه وعلينا من رؤيته وحيداً‪ .‬قد أنقذه هللا حىت اآلن‪ ،‬فليس‬
‫لنا من األمر يشء‪".‬‬
‫‪" -‬بل ساقه هللا إلينا لنحميه‪ .‬ال نكون غيالان محراً‪ .‬بل ال‬
‫نكون رجاال‪ ،‬إن تركنا الصيب يقتل‪ .‬أنت غول ال ختىش شيئا‬
‫وال هتاب أحدا‪".‬‬
‫‪" -‬تبا كل ولشفقتك‪ .‬أمل تسمع بأن لنا إخواننا‪ ،‬قتلوا غلام ًان ألن‬
‫آابءمه اثروا علينا؟ ليس من واجبات الغول أن حيمي طفل‬
‫الهالك هذا‪".‬‬

‫‪390‬‬
‫‪" -‬ليس من شأننا أن نتبع هؤالء يف جريرهتم‪ .‬قد أقسمنا عىل‬
‫حامية املكل وأههل‪ ،‬ذلا فقد أاتان يرجوان بقسمنا‪ ،‬مفا لنا أن‬
‫حننث فيه‪".‬‬
‫حسم هذا األمر‪ ،‬وإن مل ينه باكء الشهايب‪ ،‬اذلي مسعهم ومه‬
‫يتناولون موته وحياته‪ .‬لكن قلوهبم رقت هل‪ ،‬كام رقت يل‪ .‬فإذا‬
‫هبذا الغاضب يقول‪:‬‬
‫"غالم وفتاة‪ .‬لعهل تدبري من القدر‪".‬‬
‫وأخذوا يتداولون عن اجلهة اليت يذهبون بنا إلهيا‪ ،‬فتلكم‬
‫الصيب فورا‪:‬‬
‫"إىل ساوة‪".‬‬
‫نظروا هل مستنكرين وقالوا‪:‬‬
‫"ساوة؟ املدينة وحصهنا سقطت من زمن‪ .‬أما الواحة مفا‬
‫شأنك بأهلها‪ ،‬فهم لن حيموك‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"واحات ساوة لنا هبا نسيب‪ ،‬وعدان ابملعونة ما أصابنا‬
‫خطب‪".‬‬
‫ردوا‪:‬‬

‫‪391‬‬
‫"أمك رومية فأي نسيب هذا؟ ما مسعنا بأنس باء للمكل يف‬
‫غري احلارضة‪ .‬وما ابكل إن اكن من الفالحني‪".‬‬
‫قال ابكيا‪:‬‬
‫"ال أعمل أحداً غريه‪ .‬فلنذهب إىل ساوة‪ .‬هو اتجر يدعى تميور‬
‫العالف‪ ،‬وقد تزوج أمرية‪ ،‬فزنع عهنا جدي اإلمارة‪ ،‬فقال هل إن‬
‫حق النسب مكفول ال يضيع‪".‬‬
‫قالوا حمذرين‪ ،‬وش به مس هتزئني‪:‬‬
‫"الطريق اي فتاان طويل‪ ،‬واخلطر مرتبص‪ ،‬وس منكث لك حني‬
‫يف خمابئنا أايما دون طعام أو رشاب‪ ،‬ال نتحرك وسط‬
‫الصحراء‪ ،‬حىت نصل آمنني‪ .‬وبعدها س يتتبعونكام حىت هناك‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"ليس يل غريها‪ .‬ال أعمل أمراً آخر‪".‬‬
‫قالوا‪:‬‬
‫"هو غالم ال يعمل أمراً آخر‪ .‬إن اكن يسعى لهالكه‪ ،‬فهذا‬
‫شأنه‪ .‬يه ساوة إ ًذا‪".‬‬
‫وهكذا مضوا ممتلملني متذمرين‪ ،‬وقد بدت دروعهم امحلراء‬
‫الثقيةل أثقل من اجلبال يف صهد الصحراء‪ .‬ومل يكن الطريق‬
‫ابليسري‪ ،‬لكهنم أحس نوا تفادي خطره‪ ،‬فمل نلق حر ًاب أو قتا ًال‪،‬‬

‫‪392‬‬
‫وإن كرث منا الفرار والتخفي‪ .‬تنقلنا كثريا بني القرى والواحات‬
‫الصغرية‪ ،‬وحدان عن الطريق أكرثه‪ ،‬حىت أتت إلينا ساوة‪.‬‬
‫وس بقتنا إلهيا أنباء مظلمة متتالية‪ ،‬عام أصاب البالد من فنت‬
‫وحروب وخراب‪.‬‬
‫ووصلنا إىل ساوة‪ ،‬لنهد حالها ال خيتلف كثريا‪ ،‬فقد جفع تميور‬
‫العالف يف زوجته زهرية‪ ،‬لكنه رحب بنا‪ ،‬وآواان بني أههل‪،‬‬
‫ألعرف يف حيايت السعادة احلقة‪.‬‬
‫وجدت ساوة واحة خرضاء مجيةل‪ ،‬ذات جحم همول‪ ،‬هبا آالف‬
‫النخل‪ ،‬اذلي يسقى من عرشات اآلابر والعيون‪ ،‬ويف شاملها‬
‫أراض فس يحة‪ ،‬تزرع ش تاءا عىل املطر‪ ،‬لتتحول إىل بساط‬
‫أخرض بديع‪.‬‬
‫وهنا يف ساوة عرفت معىن اللطف والكرم‪ ،‬اذلي هجلته بني‬
‫أغنياء القصور‪ .‬ال يعريين أحد بأيم اجلارية‪ ،‬أو يقيدين أحدمه‬
‫بأيب األمري‪ .‬واكن يل بني النساء شأن كبري‪ .‬إذ كنت أجيد‬
‫القراءة والكتابة‪ ،‬وهو أمر اندر بني الرجال‪ ،‬وفريد بني النساء‪.‬‬
‫فإن رغبت امرأة فمين يكتب لها‪ ،‬أو يقرأ‪ ،‬وما اكن لها أن تدخل‬
‫غريباً علهيا‪ ،‬فقد اكنت ترسل يل‪ ،‬وتنفحين مترات شهيات‪ ،‬أو‬
‫قطع حلوى ال مثيل لذلهتا‪.‬‬
‫قبل أن حينون عيل قائالت‪:‬‬

‫‪393‬‬
‫"أمرية يتمية مظلومة‪ ،‬من نسل اخللفاء‪ ،‬هاربة فقرية‪ .‬جعبا‬
‫لشأنك‪".‬‬
‫عيين عن دمع ذكراها‪.‬‬
‫فتعود يل ذكرى أيم‪ ،‬فال أمسك ّ‬
‫وكربت بيهنن‪ ،‬ال أمسع إال قولهن‪:‬‬
‫"سارة للشهايب‪ ،‬وليس للشهايب غري سارة‪".‬‬
‫وهكذا أصبحنا‪ .‬مل يكن ألحدان غري رفيقه‪ .‬هل أزمع إنين‬
‫عشقته؟ ال أدري لكن ما اكن بيننا أمسى من احلب‪ ،‬وأقوى من‬
‫الشهوة‪ .‬اكن بيننا اإلخالص ال يفرت‪ ،‬والارتباط ال يفصم‪.‬‬
‫كنا لك يشء لآلخر يف هذه احلياة‪ ،‬ألن لك يشء آخر قد‬
‫فقدانه‪.‬‬
‫فاكن زواجنا حامت مقضيا‪.‬‬
‫ورمغ إننا قضينا هذا (الزواج) يف لهو طفوةل طاملا حرم منه‬
‫الشهايب‪ .‬فإن تأخر محيل‪ ،‬مل يشغل ابل أحد‪ .‬فقد كنت‬
‫العروس الوحيدة اليت ال تنشغل األلس نة بهنشها لهذا األمر‪.‬‬
‫فسارة للشهايب‪ ،‬وليس للشهايب غري سارة!‬
‫عش نا معا يف رحةل واحدة‪ ،‬وماكنتنا بني أهل الواحة تعلو‪.‬‬
‫أصبح الشهايب حمفظاً للقرآن لرجال الواحة‪ ،‬فقد أجربه رجالها‬
‫عىل هذا‪ ،‬بعد أن أجربهتم نساؤمه عىل إجباره عىل هذا‪ ،‬ل ي‬
‫حيفظين‪ ،‬وأصبح أان قارئهتن‪ ،‬حمفظهتن أيضا!‬

‫‪394‬‬
‫إاهنا البذرة‪ ،‬اليت زرعهتا أيم بني القصور‪ ،‬قد أورقت‪ ،‬لتظللين‬
‫بني بيوت الواحة الطينية‪ .‬فها أان وزويج‪ ،‬حامال لواء القرآن‬
‫أللقى تبجيال مل أر عبيدا يقدمونه للملوك‪.‬‬
‫ذلا‪ ،‬حفيامن أتت اخلطوب‪ ،‬مل أتعجب إذ افتدوان بدماهئم‪.‬‬
‫اكن محيل ابلاكد ظهر‪ ،‬حيامن أتت قطع الليل املظمل‪ ،‬بنذرها‬
‫من الغيالن امحلر‪.‬‬
‫أولئك الغيالن اذلين تركوان يف ساوة‪ ،‬عادوا جفأة بعد س نوات‬
‫طوال‪ ،‬متوجسني يطلبون لقايئ والشهايب‪.‬‬
‫قال يل كبريمه‪:‬‬
‫"أمسكوا بأحدان‪ .‬عذبوه عذااب رهيبا‪ ،‬ليخربمه عن لك إخوانه‪،‬‬
‫فمل حيمتل‪ ،‬وأخربمه بلك يشء ميكن أن جيعلهم يرتكوه‪ .‬أخربمه‬
‫عن أين جيدوا الشهايب الوريث الهارب!"‬
‫قلت فزعة‪:‬‬
‫"أخربمه بنبئنا؟ أليس غوال أمحر‪ .‬أما اس تطاع الصمت‪".‬‬
‫قال يل الشهايب‪:‬‬
‫"أوليس برشا اي سارة‪".‬‬
‫ّ‬
‫مصت‪ ،‬فأمكل الغول‪:‬‬

‫‪395‬‬
‫"أاتان إذ تركوه فرحني ابلغنمية‪ .‬اكن حيترض من العذاب‪ ،‬فقال‬
‫لنا‪:‬‬
‫"رأيت حيايت لكها إفك‪ ،‬وشأننا حنن الغيالن غثا ًء وزبداً‬
‫يذهب جفا ًء‪ ،‬مفا وجدت‪ ،‬إذ أاتين ظالم املوت‪ ،‬ضو ًء غري‬
‫طفلني اس تغااث يب‪ ،‬فأغثهتام‪ .‬هال أجندمتوهام؟ اي إخواين هال‬
‫أنقذمت حملة الضوء الوحيدة يف حيايت‪".‬‬
‫بىك الغول حيهنا‪ ،‬فتعجبت لباكئه‪ ،‬فقال الشهايب‪:‬‬
‫"أوليس برشا اي سارة؟"‬
‫نظر يل الغول بعينه الصارمة الباكية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"مه آتون يطلبونكام‪ .‬لو أمسكوكام‪ ،‬فسينالمك القتل حامتً‪".‬‬
‫قال تميور‪:‬‬
‫"س نفداهام بأرواحنا‪".‬‬
‫رد الغول‪:‬‬
‫"لو حشدت لك أهل الواحة‪ ،‬ولك من بقى من الغيالن‬
‫امحلر‪ ،‬ما نفعمك هذا إال بردمه مرة أو اثنتني‪ ،‬لريجعوا حبشود أكرب‬
‫ال تبقي وال تذر‪ .‬ما هلام غري الفرار‪".‬‬
‫قال تميور‪:‬‬
‫"إذن نرسع بإخراهجام إىل أي بدل‪".‬‬

‫‪396‬‬
‫رد الغول‪:‬‬
‫"الشهايب طلبة كربى‪ .‬لو فر الشهايب‪ ،‬فس يحرثون األرض حبثا‬
‫عن وريث املكل‪ .‬أرى أن سارة حبىل‪ .‬فلهترب يه بوليدها‪،‬‬
‫ويبقى الشهايب يشاغلهم عهنا‪ ،‬حىت يقيض هللا أمرا اكن مفعوال‪".‬‬
‫مل أقبل‪ .‬أان ال أعرف غريه أحدا‪ .‬عاملي بأمكهل ال يستند إال عىل‬
‫ركنني‪ ،‬الشهايب وأان‪ ،‬يستندان عىل تلمك األرض الطيبة‪ .‬وهذا‬
‫الغريب يطلب مين هدمه بزمع النهاة‪.‬‬
‫أي جناة تكل أاها الغول‪.‬‬
‫الك اي رجال‪ .‬لن يكون مصريي مضغة يف أفواهمك‪ ،‬فقد‬
‫جتاوزت هذا العمر‪ .‬هذه حيايت ومصريي أان‪ .‬لن أتركمك‬
‫تدمرواهنا‪.‬‬
‫جلئت للك ما أعرفه من اعرتاض‪ ،‬ورصاخ‪ ،‬وغرقت يف باكء‬
‫دموعه كنار حترقين‪ .‬إن اكن عاملي يتصدع‪ ،‬فألذهب معه‪ .‬ما‬
‫قمية هذه احلياة إ ًذا؟ ما يبقيين فهيا بعد ضياع لك ما أعرفه من‬
‫حلوها؟ إما أن أخرج مع الشهايب‪ ،‬أو أموت معه هنا‪.‬‬
‫ردوا عيل ابحلهة‪ ،‬فرددت ابلرصاخ‪ .‬حدثوين ابلتعقل‪،‬‬
‫فقاطعهتم ابلباكء احلازم‪ .‬وحني أحلوا‪ ،‬لطمت وهجىي حىت مصتوا‪.‬‬
‫وإذا ابلشهايب خيرس ين‪.‬‬
‫يه لكمة واحدة أعادت اإلنصات ملعجمي‪،‬‬

‫‪397‬‬
‫"أحبك اي سارة‪".‬‬
‫جلست مهنارة وقلت‪:‬‬
‫"وأان ال أرى ‪"............‬‬
‫قاطعين ممكال "أحبك فأموت يف سبيكل‪ .‬إن مت معي مل‬
‫أعمل سببا غري الظمل الغامش لتكل املقتةل‪ .‬أما إن جنوت‪ ،‬فقد‬
‫علمت أنين افتديتك بديم‪ .‬ال حترميين هذا األمر‪".‬‬
‫هبت‪ .‬واسودت احلياة بعد أن انطفأت انر الغضب‪ ،‬وتبخر‬
‫اإلرصار‪ ،‬ومل يبق إال طاعة زويج يف آخر أمر هل يف هذه‬
‫احلياة‪ .‬ما عاد لعييش سبب غري أن أجنو بوليدي‪ ،‬وعىس هللا‬
‫أن جيمعنا يف جنة رمحته‪ ،‬بعد أن فرقنا حجمي ظمل اإلنسان‪.‬‬
‫خرجت يف قافةل صغرية‪ ،‬هترول خش ية ذئاب تبغينا‪ ،‬وتبطئ‬
‫خش ية محل يثقلين‪.‬‬
‫أعطاين تميور العالف ورقة وأان راحةل‪ .‬وأمرين أال يقرأها أحد‬
‫غريي‪ ،‬وأحرقها يف عقيب بعيداً عن ساوة‪ .‬ففضتهتا عند‬
‫الغروب‪ ،‬وأان أرى بني محرة السامء‪ ،‬محرة انر يف ماكن ما‪،‬‬
‫بتكل الواحة اليت ابتعدت‪ ،‬حتارص زويج وتعترص قليب‪.‬‬
‫بني ادلموع‪ ،‬وجدت لكامت العالف اذلائبة‪ ،‬تعزيين يف مصايب‪،‬‬
‫اذلي ال يعزى‪ ،‬وتدعو يل ابلتصرب بأخبار آالم األنبياء موىس‬

‫‪398‬‬
‫ونوح وأيوب وعيىس علهيم السالم‪ .‬لكهم القوا ظلام أشد‪ ،‬وعىل‬
‫يد أقارهبم وأقواهمم‪ .‬مث أاتمه نرص هللا يف الهناية‪.‬‬
‫أخربين أن أذهب لرجل من بين األسود‪ ،‬يف رشق البالد‪،‬‬
‫اكن هل يد بيضاء عليه يوما‪ ،‬وقد مسع إن مع هذا الرجل قد‬
‫أصبح ش يخ ش يوخ تكل القبائل القوية‪ ،‬وهو داهية ال مثيل هل‪،‬‬
‫ذلا فهو مطمنئ إنه س يحميين‪ ،‬وييرس يل الرحيل خارج‬
‫اململكة‪ ،‬إىل طرابل‪ ،‬حيث يصل يب إىل رجل يعرفه هناك‪.‬‬
‫عيل إذ مسع نبيئ‪.‬‬‫أكرمين هذا الرجل من بين األسود‪ ،‬وأشفق ّ‬
‫مل أخربه بأصيل‪ ،‬واكتفيت بذكر أمر زويج وهالكه‪ .‬أشفق عىل‬
‫وليدي أن يلحق بأبيه‪ ،‬قبل أن يتنفس هواء احلياة‪ ،‬فقال يل‪:‬‬
‫"حس ناً اي أم اليتمي‪ .‬سأضعك عىل سفينة راحةل إىل ميناء‬
‫الزاهرة‪ ،‬فال تعلمي أحداً بأمرك أو مقصدك‪ .‬وغريي من‬
‫مسكنك بعد األايم األوىل‪ .‬وسأخذل عنك ما اس تطعت‪".‬‬
‫لكن أايم املطاردة انهتت بعدها‪ .‬اس تقررت عند ش يخ جعوز‬
‫يف قرية قريبة من ختوم طرابل‪ ،‬إال أن احلرب املتأجهة بني‬
‫مدينيت الصيادية والسور العيل طالهتا بغارات مرتزقهتا الفرجنة‪.‬‬
‫فرحلت ‪-‬إذ كرثت الهجامت ‪ -‬مع غريي من نساهئا‪ ،‬خش ية‬
‫الس يب‪ .‬ما اكن يل أن أعيد سرية أيم‪ ،‬ليصبح وليدي القادم ابن‬
‫جارية‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫ذهبت لطرابل يف آخر هروب‪ ،‬فلجئت لش يخ مسهدها‬
‫الكبري‪ ،‬اذلي أكرمين‪ ،‬وآواين‪ ،‬واس توىص يب خريا‪.‬‬
‫وهناك يف قلب بيته أاتين اخملاض وأجنبت‪.‬‬
‫وهنا مصت عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬ومل يمكل ما كتبته األمرية‬
‫سارة بنت عدانن‪".‬‬

‫‪400‬‬
‫(‪)45‬‬

‫قال الراوي‪:‬‬
‫"مصت عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬ومل يمكل القراءة‪ ،‬نظر للورقة‬
‫يف مجود‪ ،‬مذهوال‪ ،‬وقد بدا هل أنه حظي بأعنف صفعة يف‬
‫حياته‪ .‬جف حلقه وذهب صوته‪ ،‬ومل يس تطع إال أن خيرج صوات‬
‫واحدا‪..‬‬
‫"أ‪...................‬؟!"‬
‫قال سلامن‪:‬‬
‫"نعم! هو كذكل!"‬
‫أجرب عبد الشهيد نفسه عىل احلديث‪ ،‬وقال بصوت متحرشج‪:‬‬
‫"الوريث األخري؟ ماذا عن‪....‬؟ أحقا! أجنبت سارة فتاة!"‬
‫قال سلامن‪:‬‬
‫"األمرية الشهابية‪ ،‬زوجة حامك طرابل السابق‪".‬‬
‫قال عبد الشهيد‪:‬‬

‫‪401‬‬
‫"من؟"‬
‫تلكم حامك املدينة‪:‬‬
‫"مل تنجب سارة وريثا للعرش‪ ،‬لقد أجنبت طفةل ورثت جامل‬
‫أبهيا‪ ،‬وعزمية أهما يه األمرية الشهابية‪ ،‬مث ماتت سارة‪ ،‬بعد‬
‫س نوات قليةل‪ ،‬وشبت الشهابية يتمية يف بيت الش يخ زعفران‪،‬‬
‫ومعلت يف قرص احلامك‪ ،‬مضن من تعملن فيه من بنات طرابل‪.‬‬
‫ورآها ابن احلامك‪ ،‬واكن شااب عابثا‪ ،‬مولعا ابلنساء‪ ،‬فراودها عن‬
‫نفسها‪ ،‬فصدته صد غري مجيل‪ ،‬واش تكت ألمه‪ ،‬اليت ما أن‬
‫عرفت ابلنسب الرشيف‪ ،‬حىت زوجهتا البهنا‪ .‬واكنت خري نساء‬
‫طرابل‪ ،‬إذ مجعت من القوة واحلمكة ما دبرت به ش ئون زوهجا‬
‫ومدينته حىت مات‪ .‬ولها عندان ماكنة عظمية‪ ،‬فالناس حتهبا‬
‫لعدلها‪ ،‬وعطفها عىل الفقراء واحملتاجني‪ .‬لن جتد من يرسب عهنا‬
‫لكمة واحدة ألعداهئا يف لك طرابل‪ .‬ويه اليوم تعيش مع ابهنا‪،‬‬
‫وهو زوج أخيت يف قرص بشامل املدينة‪ ،‬بيامن تزوجت أان من‬
‫ابنهتا‪ ،‬وتمي معنا يف هذا القرص‪ ،‬لتبقى الشهابية دعامة خري تقوي‬
‫مكل طرابل‪".‬‬
‫هوى الغول مهبوات عىل مقعد جوار القايض‪ ،‬وهو ينئ بقوهل‪:‬‬
‫"أبعد لك هذا؟ بعد الطريق الطويل واملشقات واخملاطر‪ ،‬أبعد‬
‫لك تكل األمور‪ ،‬وبعد أن الح األمل عقب الضياع‪ ،‬أجنبت‬
‫سارة بنتا‪ .‬خلف الشهايب فتاة فقط!"‬

‫‪402‬‬
‫قال القايض‪:‬‬
‫"هذا أمر هللا اي بين‪ ،‬مل يعد مللوكمك وريث‪ .‬عد لبالدك‪،‬‬
‫واترك الشهابية هنا يف سالم‪".‬‬
‫فتح عبد الشهيد مفه حمتها وقال‪:‬‬
‫"ولكن القائد األسود‪"......‬‬
‫ومصت ومل يمكل‪ ،‬فقد غلبه اهلم‪ .‬وغادر قرص احلامك خمزاي مع‬
‫رفاقه‪ .‬وتشاور األمر معهم‪ ،‬فمل جيدوا بدا من العودة للبالد‬
‫خاويي الوفاض‪ ،‬لكن تميور طلب البقاء أايما‪ ،‬حىت يزور‬
‫نس يبته‪ ،‬وينقل لها حتيات أههل وأهل ساوة‪ .‬وقد أكرمته الشهابية‬
‫أميا إكرام‪ ،‬وأعطته هدااي ونفائس ألهايل البدل‪ ،‬اذلي آوى‬
‫وادلاها‪ ،‬وافتداهام بأرواحه‪.‬‬
‫مث بعد أن أاهنوا الزايرة‪ ،‬وأوصلوا الرمح‪ ،‬مجع الرفاق املنكرسين‬
‫متاعهم‪ ،‬وعزموا عىل العودة‪.‬‬
‫وبدءوا رحةل إايب خاوي الوفاض‪.‬‬
‫لكن الطريق مل يتخل عن معاندته هلم‪ ،‬فمل يبتعدوا كثريا عن‬
‫طرابل‪ ،‬حىت بدأت املتاعب‪ ،‬من قبل أن يتهاوزوا حصون‬
‫األهبال‪.‬‬
‫اكنوا يف طريق مظمل‪ ،‬قد ظلهل اليأس‪ ،‬حني قطعه علهيم عرشة‬
‫من الرجال‪ ،‬فتوقفت القافةل الصغرية‪ ،‬وأخرجوا سالهحم‪ .‬فإذا‬

‫‪403‬‬
‫بعرشة أخرى تطلع من ماكمن خلفهم‪ ،‬واثلثة تربز شاهرة‬
‫الس يوف عن يسارمه‪ ،‬ومتام األربعني خرجوا مرتبصني من‬
‫الميني‪.‬‬
‫هتف احملصورون‪:‬‬
‫"ما شأنمك؟"‬
‫القطاع شاب‪ ،‬يبدو عليه سامت اعتداد‬ ‫خرج من جامعة ّ‬
‫النفس والثقة يف النرص‪ .‬اكن وهجه مألوفا لعبد الشهيد‪ ،‬لكنه مل‬
‫يس تطع أن يتذكر أين رآه من قبل‪.‬‬
‫تلكم الشاب‪:‬‬
‫"مرحبا ابلقبيل زعمي الغيالن امحلر! الرجل‪ ،‬اذلي أصابنا‬
‫ابلكرب‪ ،‬وآذاان مبكره‪".‬‬
‫رد عبد الشهيد‪:‬‬
‫"ال مرحبا وال سالما! ماذا تريدون؟"‬
‫تلكم الرجل‪:‬‬
‫"لعكل ال تذكرين اي س يد الغيالن؟ كنت واحدا من رجال‬
‫ش يخ بين األسود‪ ،‬اذلين التقوك يف دار ابن العبديل‪ ،‬امسي‬
‫حسام‪".‬‬
‫قال عبد الشهيد برصامة ختفي قلقه‪:‬‬

‫‪404‬‬
‫"وماذا تريد منا أاها احلسام األعوج؟"‬
‫ابتسم حسام وقال‪:‬‬
‫"وماذا سأريد؟ الوريث طبعا‪".‬‬
‫قال عبد الشهيد‪:‬‬
‫"ال يوجد وريث‪ ،‬أمل تبحث فمل جتد؟"‬
‫قال حسام‪:‬‬
‫"حبثنا غري حبث الغيالن؟ ألس مت تعودون ظافرين‪ ،‬بيامن حنن‬
‫هنا ابقني خائبني؟"‬
‫قال عبد الشهيد‪:‬‬
‫"دع عنك هذا! قد أجنب الشهايب فتاة! ال يوجد وريث‬
‫للمكل أصال‪ .‬اذهب عين اآلن‪ ،‬قبل أن أذيقك حسايم أاها‬
‫احلسام األعوج‪".‬‬
‫مصت حسام مهبوات هو ومن معه‪ ،‬فمل يس تطع عبد الشهيد‬
‫كبت حضكة مريرة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"مثيل متاما! لكنا فكران يف أي أمر‪ ،‬يف أن يكون الوريث‬
‫عاش‪ ،‬أو قتل‪ ،‬أو اختبأ‪ .‬لكنمك مثيل‪ ،‬مل تفكروا يف أمر أن‬
‫يكون فتاة! عقول جمنونة‪ ،‬أضاعت نفسها يف رحةل عقمية!"‬

‫‪405‬‬
‫اكنت املرارة يف قلب عبد الشهيد كبرية‪ ،‬وقد أخذ يسأل نفسه‬
‫لك حلظة مل افرتض امجليع أن وليد سارة ذكرا! لكن مرارته اكنت‬
‫هبهة يف قلوب غرميه‪ ،‬إذ هتف امجلع املعتدي مهتلال‪ ،‬يصيح‬
‫صيحات الفرح‪.‬‬
‫وقال حسام‪:‬‬
‫"حس نا‪ ،‬تكل أنباء رائعة‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬فقد خلصت البالد أخريا لفخر‬
‫بين األسود‪".‬‬
‫أراد عبد الشهيد إغاظته بقوهل‪:‬‬
‫"مازال وادله يعرتضه‪ ،‬وال يرىض به حكام‪ ،‬وحامت س يهد ش يخ‬
‫بين األسود أنصارا يف حربه ضد ابنه‪".‬‬
‫حضك حسام بقوة وقال‪:‬‬
‫"أمل تأتك األنباء اي س يد الغيالن؟ اكنوا يزمعون أن الغيالن‬
‫يأتون ابألنباء من قبل أن حتدث! لقد مات الش يخ العجوز اي‬
‫رجل! مات بغتة وهو انمئ‪ ،‬ال أدري أمعره املتثاقل قد ااهند‬
‫جفأة‪ ،‬أم إن صرب ابنه مل يسع ذنبه األخري؟ عىل أي حال ابيعت‬
‫لك القبائل ابن العم هماب ش يخا‪ ،‬وابيعنا مجيعا القائد املغوار‬
‫ملاك عىل البالد‪".‬‬
‫مصت عبد الشهيد‪ ،‬فمل جيد جوااب‪ ،‬وانتصب الرمح والس يف‬
‫يف يده‪ ،‬فقال حسام‪:‬‬

‫‪406‬‬
‫"أراد ملي ي أن حيالفمك أاها الغيالن‪ ،‬ال نبغي بمك رشا! اآلن قد‬
‫ارتدت األخطار عن عرشه‪ ،‬فاقسم هل الوالء واإلخالص‬
‫وس يجزل لمك العطاء‪".‬‬
‫فكر عبد الشهيد قليال‪ ،‬مل يعد هل هدف اآلن إال العودة ساملا‪،‬‬
‫ليعيش فالحا يف أرضه‪ ،‬حىت ميوت ويدفن فهيا‪ .‬مل يعد للكفاح‬
‫والقتال اآلن قمية‪ ،‬فقد خلصت البالد لألسود‪ ،‬كام قال هذا‬
‫احلسام‪.‬‬
‫رد ببطء‪:‬‬
‫"أما وقد ثبت لنا أن املكل الرشعي للبالد قد انهتىى نسهل‪ ،‬فمل‬
‫يعد هناك بد من مبايعة مكل جديد‪ ،‬أال وال يوجد خري من‬
‫املغوار‪ ،‬أو القائد األسود ليوحد البالد‪ ،‬وجيمع لكمهتا‪".‬‬
‫نظر هل حسام بثبات‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"مل أمسع قسام وال مبايعة‪".‬‬
‫ابتلع عبد الشهيد ريقه‪ ،‬وأمكل املراوغة قليال‪ ،‬عىس أن خيرج‬
‫هو ورفاقه أحياء‪ .‬مفن انحية اكن يكره أن يقسم عىل اإلخالص‬
‫لألسود‪ ،‬ومن انحية أخرى خيىش أن يأخذه حسام ملقابةل‬
‫املغوار‪ ،‬فيفتضح أمره‪ ،‬ويقتل هو ومن معه‪ ،‬ذلا فقد قال‪:‬‬
‫"أعاهدك إنين ما أن أرجع إىل اململكة‪ ،‬حىت أمجع الغيالن‬
‫امحلر ملبايعة املكل اجلديد‪".‬‬

‫‪407‬‬
‫ابتسم حسام وقال‪:‬‬
‫"يبدو يل أنك مازلت حمتفظا ببعض من عقكل‪ ،‬أكرث مما‬
‫ظننت‪ .‬هال صاحفتين عىل هذا العهد؟"‬
‫وترجل حسام‪ ،‬وألقى بس يفه عالمة األمان‪ .‬فتقدم هل عبد‬
‫الشهيد‪ ،‬ملقيا برحمه وس يفه‪ ،‬ومد يده ليصاحفه‪.‬‬
‫مد حسام ميناه‪ ،‬وقبض هبا عىل ذراع عبد الشهيد‪ ،‬وبرسعة‬
‫الربق اكنت ذراعه تس تل خنجرا من حتت عباءته‪ ،‬وهوى به‬
‫لميزق جانب الغول األمحر بطعنة جنالء‪ ،‬وجدت طريقها بني‬
‫ادلروع‪.‬‬
‫وانزتع اخلنجر لهيوي عىل اجلسد الرصيع‪ ،‬بطعنة تلو األخرى‪.‬‬
‫واستبد الفزع بغول احلق‪ ،‬فصاح يف ارتياع‪ ،‬ومحل س يفه‪ ،‬لكن‬
‫أحد رجال األسود رماه حبربة أسقطته‪ ،‬وجهم الفرسان عليه‬
‫ميزقونه بس يوفهم‪.‬‬
‫وسقط غول احلق مرضجا بدمائه‪ ،‬واي للعجب‪ ،‬علت عىل‬
‫شفتيه ابتسامة غريبة‪ ،‬كأمنا الىق صديقا قدميا طال اشتياقه هل‪.‬‬
‫وسقط عبد الشهيد مرضجا يف دمائه‪ .‬اكن لك ما يف ذهنه‬
‫والسواد يبتلعه‪ ،‬إنه كرر سرية أبيه ابملوت غريبا رشيدا‪ .‬وأنه‬
‫أهكل رفاقا طيبني بال ذنب‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫وقبل أن تدركه الظلمة‪ ،‬اكنت آخر حملة ضوء ذاقها يه‬
‫ابتسامة غول احلق‪ ،‬وأضاء ذكل القبس اخلاطف قلبه بسكينة‬
‫جعيبة‪ ،‬فمل يبق يف صدره غري الارتياح‪ ،‬اذلي طرد حىت آالم‬
‫الطعنات‪.‬‬
‫وهوى عبد الشهيد‪ ،‬آخر الغيالن‪ ،‬مرصوعا‪.‬‬
‫وأىت حسام‪ ،‬فوقف عىل رأس الغولني الرصيعني‪ ،‬وأشار‬
‫لرجاهل‪ ،‬حفملوا اجلثتني‪ ،‬وصلبوهام عىل الطريق فوق ساريتني‪،‬‬
‫محلتا عمل األسود وعمل األهبال‪.‬‬
‫مث أاته رجاهل يسألونه‪ ،‬ماذا يفعلون ابلبقية؟ معران وتميور؟‬
‫نظر هلام بربود وقال‪:‬‬
‫"أرأيامت األمحقني؟"‬
‫وبصق عىل جسد عبد الشهيد‪ ،‬فأفلتت صيحة غيظ من‬
‫تميور‪ ،‬فالتفت هل حسام وأمكل‪:‬‬
‫"موالي املغوار‪ ،‬القائد األسود مكل البالد‪ ،‬ميد يده مرة‬
‫واحدة فقط‪ ،‬وال ميدها إال لتلقي بيعة رصحية‪ .‬من يراوغ يده‬
‫العليا‪ ،‬أو يردها‪ ،‬فس متتد اليد مرة اثنية ابلهالك‪ .‬تعال أاها‬
‫اإلعرايب‪".‬‬

‫‪409‬‬
‫وكبل رجلني من رجاهل الش يخ معران‪ ،‬فأجلسوه راكعا عىل‬
‫األرض أمام حسام‪ ،‬اذلي أخرج خنجره وهو مازال مرضجا‬
‫بدم عبد الشهيد‪ ،‬ورفعه أمام عني العجوز املذعور‪.‬‬
‫قال حسام بقسوة‪:‬‬
‫"هل ترى أاها اإلعرايب جزاء من يتحدى األساودة؟"‬
‫قال معران مرجتفا‪:‬‬
‫"ما أان إال دليل للطريق‪".‬‬
‫مط حسام شفتيه ابس هتزاء وقال‪:‬‬
‫"سأتركك حتيا لتقص عىل الناس أيامن حللت عن بطش املكل‬
‫الوحيد لبالدان‪ ،‬وعن خرسان من يتحداه‪ ،‬لكن سأترك كل‬
‫تذاكرا صغريا حىت ال تنىس هذا ادلرس‪".‬‬
‫وبرضبة رسيعة‪ ،‬جدع أنف الرجل املسكني‪ ،‬مث شق أذنيه‪،‬‬
‫ورلكه ليسقطه أرضا ابحتقار‪ ،‬قبل أن يلتفت لتميور ويقول‪:‬‬
‫"ومن أنت؟ هذان غوالن‪ ،‬وذاك دليلهام مفن أنت؟"‬
‫رد تميور وهو يرجتف من الغضب‪ ،‬حماوال كبح جامح نفسه‪:‬‬
‫"ما أان إال فالح متواضع من ساوة‪".‬‬
‫قال حسام ابس تخفاف‪:‬‬
‫"وما اذلي أىت بك بعيدا عن أرايض ساوة وجتارهتا؟"‬

‫‪410‬‬
‫فكر تميور أنه بعد أن انهتىى لك يشء‪ ،‬مفاهل إال أن يس يطر‬
‫عىل نفسه‪ ،‬ويسعى للنهاة من هذا الغادر‪ ،‬فقال مكرها متلعامث‪:‬‬
‫"لقد اقتادين الغيالن جربا من بدلي‪ .‬ألن ألهل ساوة نس با مع‬
‫الوريث‪ ،‬أرادين أن أكون رسول أمان هل‪".‬‬
‫قال حسام‪:‬‬
‫"أحقا اكن الوريث إمرأة؟"‬
‫رد تميور‪:‬‬
‫"بىل اي موالي امرأة جعوز‪ ،‬تزوجت من حامك املدينة السابق‪،‬‬
‫وأهل طرابل حيمواهنا‪ ،‬فال يس تطيع أحد نيلها‪".‬‬
‫ابتسم حسام منتش يا وقال‪:‬‬
‫"ال حاجة لنا بقتل امرأة‪".‬‬
‫اكن سعيدا بنرصه عىل الغول‪ ،‬فمل جيد يف نفسه حاجة لقتل‬
‫الفىت‪ ،‬خاصة بعد أن أكد هل األنباء الطيبة عن الوريث‪ ،‬وانهتاء‬
‫عقب امللوك وساللهتم‪ ،‬ذلا أمر الرجال بضم الفىت للعبيد‪ ،‬اذلين‬
‫س هيداهم لقلعة األهبال القادمة‪ ،‬مث أشار لرجاهل ليتحركوا‬
‫مبتعدين‪.‬‬
‫وقبل أن يرحل‪ ،‬ألقى نظرة ساخرة عىل اجلثتني املصلوبتني‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬

‫‪411‬‬
‫"حقا يصل بعض الناس لشأن من امحلاقة‪ ،‬ال يداواها دواء إال‬
‫الس يف‪".‬‬

‫‪412‬‬
‫(‪)46‬‬

‫إن الظالم يبتلعين‪ ،‬ظالم خيبة وندامة‪ ،‬ونتاج حامقة وهتور‪.‬‬


‫أتراين أعذب يف اجلحمي‪ ،‬مبا جلبته أعاميل عىل رفايق؟ أتوجد‬
‫النار املوقدة يف انتظاري‪ ،‬عند آخر هذا الطريق؟ لكن نييت‬
‫اكنت طيبة‪ ،‬حامت اجلنة مثواي‪ ،‬فإمنا األعامل ابلنيات‪.‬‬
‫وما أدراين؟ لعيل مل أكن خملصا يف نييت؟ لعلها شهوة متكربة‬
‫بأن أكون شيئا‪ ،‬وأن أغري األحوال‪ ،‬إلثبات بأس ّيف ومكر‬
‫دلي؟‬
‫اي إلهىي الرحمي الطف يب‪ ،‬مفا كنت أبغي غري صالح البدل بعد‬
‫طول فساد‪ .‬اي رب اي ماكل امللكوت‪ ،‬تؤيت املكل من تشاء‪،‬‬
‫هتبه لألسود‪ ،‬أو غريه‪ .‬ما كنت أانزع يف مكل‪ ،‬وإمنا عىل‬
‫إصالح‪.‬‬
‫رب ما أسأكل غري املغفرة‪ ،‬رب ما أسأكل غري املغفرة‪ ،‬رب ما‬
‫أسأكل غري املغفرة‪ ،‬وأنت أرمح الرامحني‪ ،‬وخري الغافرين‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫أشعر ابلنار تكوي جسدي‪ .‬اي هللا أأان مقبل عىل العذاب؟‬
‫أحانت حلظة احلصاد؟ أيه انر القرب تشوي أجنايب؟ لطفك اي‬
‫رب‪ ،‬لطفك اي رب‪ ،‬لطفك اي رب‪ ،‬لطفك اي لطيف اي حلمي‪.‬‬
‫واجتاحين أمل رهيب‪ ،‬فرصخت‪" .‬ومه يصطرخون فهيا ربنا‬
‫أخرجنا نعمل صاحلا‪ .‬رب أخرجين من هذا أمعل معال صاحلا"‪.‬‬
‫"صاحل بأمر هللا‪ ،‬هون عليك‪".‬‬
‫كأين أمسع صوات عذاب حيدثين؟ أهو مالك يتزنل عيل ابلرمحة؟‬
‫أم ش يطان يبغي فتنة؟‬
‫وكأين أحسست بنفحة من عاصفة ابردة جتتاحين‪ ،‬فهنضت‬
‫جفأة وأان أشهق‪ ،‬وأنطق ابلشهادة‪.‬‬
‫وألول مرة‪ ،‬انقشع الظالم‪ ،‬وزالت غشاوة عيين‪ .‬اكن البياض‬
‫حويل يف لك ماكن‪ ،‬واكنت هناك حورية ذات وجه ميضء‪،‬‬
‫عيل املاء البارد‪ ،‬ورجال حويل يلبسون البياض‪.‬‬
‫تصب ّ‬
‫ظننت لوهةل أنين يف اجلنة‪ ،‬مث أدركت أنين مازلت حيا!"‬

‫‪414‬‬
415
‫(‪)47‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"نظرت حويل لرجال يرتدون البياض‪ ،‬تصورت أنين مت‪،‬‬
‫وصعدت للجنة‪ ،‬لكين أفقت من الغشاوة‪ ،‬وأدركت أنين وسط‬
‫قافةل من معمترين أو جحاج‪ ،‬ولكن ترى ما اذلي أىت يب لهنا؟‬
‫جلت بنظري بيهنم‪ ،‬أتأمل الوجوه‪ ،‬لكن األمل غلبين‪ ،‬فأمغضت‬
‫عيين حلظة‪ ،‬أو هكذا بدت‪ ،‬لكهنا حامت اكنت ساعات‪ ،‬إذ إنين‬
‫ملا فتحهتا‪ ،‬وجدت إننا قرب الغروب‪ ،‬وقد محلوين عىل مجل‬
‫كبري‪ .‬اس تجمعت عزيم ألتلكم‪ ،‬لكين جعزت‪ .‬فقد اكنت أنفايس‬
‫ثقيةل‪ ،‬وصدري يؤملين‪ ،‬ولساين بطيء ال جياري أفاكري‬
‫املتسارعة يف رأيس‪ ،‬اذلي يطن كأمنا هوت عليه مطارق من‬
‫حديد مصهور‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬قبل لساين أن يتحرك بسؤال واحد‪ ،‬فسألت عن‬
‫أشد ما أصابين‪:‬‬

‫‪416‬‬
‫"أين تميور؟"‬
‫قال أحد الرجال‪:‬‬
‫"لقد أفاق الرجل‪".‬‬
‫رد عليه آخر‪:‬‬
‫"دعه اآلن وغدا تراه اخلاتون‪".‬‬
‫قلت بوهن حىت مل أكد أن أمسع صويت‪:‬‬
‫"أي خاتون؟"‬
‫مسعين الرجل اذلي جير مجيل‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫"يه الس يدة اليت أنقذتك أاها الغول‪ .‬إاهنا الس يدة املرصفية‬
‫الرشيفة‪ ،‬امرأة بألف رجل‪ ،‬تقدر أن تدبر أموران‪ ،‬وتفصل يف‬
‫أحوالنا‪ ،‬وعىل مالها يتعيش أيتامنا وأراملنا‪".‬‬
‫مل جتبين قصيدة املدح تكل عن سؤايل‪ ،‬لكين مل أهمت‪ .‬مل يكن‬
‫األمل يف جسدي‪ ،‬والقلق يف صدري‪ ،‬يسمح يل ابالهامتم‪ ،‬أو‬
‫الفضول‪ ،‬لكين أحسست ابالمتنان لقوهل "أنقذتك"‪ ،‬فرددت‬
‫اللكمة خبفوت‪:‬‬
‫"أنقذتين‪".‬‬
‫بدت هلم كسؤال‪ ،‬فقال الرجل‪:‬‬

‫‪417‬‬
‫"كنا ذاهبني للحج‪ ،‬حيامن مرران بكام مصلوبني‪ ،‬خففنا إذ رأينا‬
‫راية األهبال‪ ،‬وأردان ترككام وإرساع اخلطى‪ ،‬لكهنا اهنرتنا بقولها‪:‬‬
‫عار عليمك‪ ،‬أيقبل جحمك إن تركمت مسلمني مصلوبني يف طريقمك؟‬
‫أنزلوهام‪ ،‬وادفنوهام‪ ،‬أو ارجعوا لبيوتمك خائبني‪.‬‬
‫ومل جند ما نفعهل غري ذكل‪ ،‬فأنزلنا زميكل ودفناه‪ ،‬وملا أتينا كل‬
‫وجدان بك رمق احلياة‪ ،‬فأرسعت تطببك‪ ،‬وتداوي جروحك‬
‫الكثرية بنفسها‪ ،‬حىت أنقذتك‪".‬‬
‫أحسست بشكر ال جيزاها‪ ،‬تكل الس يدة العظمية امللقبة‬
‫ابخلاتون‪ .‬رمغ لك ما حدث‪ ،‬فبفضل هللا وفضلها جنوت‪ ،‬ورمبا‬
‫أس تطيع العودة لبالدي‪.‬‬
‫ودفعت الفكرة يف صدري ببعض القوة‪ ،‬فسألهتم‪:‬‬
‫"وأين حنن اآلن؟"‬
‫ردوا‪:‬‬
‫"عىل مشارف بيت هللا احلرام‪ ،‬أمل نقل كل إننا يف طريقنا‬
‫للحج؟"‬
‫مل أس تطع أن أبقي عىل يقظيت أكرث من هذا‪ ،‬ورسعان ما‬
‫هزمين الظالم اثنية‪ ،‬ومل أستيقظ بعدها إال يف عرص اليوم‬
‫التايل‪ ،‬أو اذلي يليه‪.‬‬

‫‪418‬‬
‫أيقظتين الشمس احلامية‪ ،‬اليت تسللت من فرجة ابخلمية‪ ،‬اليت‬
‫وضعوين فهيا‪ .‬جفرجرت نفيس‪ ،‬حىت ابتعدت عن قبسها‬
‫احلارق‪ ،‬واكنت أول مرة أحرك فهيا جسدي منذ عهد بدا يل‬
‫اكدلهر الطويل‪ .‬وكأمنا اكنت حسب بددهتا تكل الشمس‪ ،‬صفت‬
‫رأيس جفأة من آالهما وطنيهنا‪ ،‬واس تطعت أن أملح طبقا به‬
‫بعض المترات جواري‪ ،‬فأدركت جفأة أنين مل آلك شيئا منذ‬
‫غادرت طرابل خمزاي‪ .‬وكأمنا ذكرت بطين هبذا‪ ،‬فتحرك ّيف جوع‬
‫قاتل‪ ،‬جعلين أحتامل عىل نفيس‪ ،‬ومددت يدي للمتر‪ ،‬فألكت‬
‫بعضه‪.‬‬
‫ودلف عيل حيهنا أحد احلهاج‪ ،‬فتبسم ملا رآين‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أعطاك هللا العافية اي أخا اإلسالم‪ .‬محدا هلل عىل سالمتك‪".‬‬
‫رددت‪:‬‬
‫"محدا هلل‪ ،‬وشكرا لمك عىل إنقاذي‪".‬‬
‫قال "بل الشكر هلل أوال‪ ،‬ومن بعده‪ ،‬إن شكرت‪،‬‬
‫فللخاتون‪".‬‬
‫مل أفهم ما يعين يف البداية‪ ،‬مث تذكرت‪ ،‬تكل الس يدة‪ ،‬اليت‬
‫حدثوين عهنا أاهنا حثهتم عىل إنقاذي‪ ،‬فاس تخلصتين من املوت‪.‬‬
‫أان مدين حقا لهذه الس يدة‪.‬‬
‫مث تنهبت ألمر ما فقلت للرجل‪:‬‬

‫‪419‬‬
‫"أخربتين أو أحد رفاقك إنمك من احلهاج‪ ،‬أليس الوقت مبكرا‬
‫عىل مومس احلج؟"‬
‫رد عيل مبتسام "هذا ألنك لست من بالدان‪ .‬عندمك يتفق املكل‬
‫مع الفرجنة‪ ،‬صلحا أو حراب‪ ،‬ليؤمن طريق احلهاج‪ .‬أما حنن‪ ،‬فال‬
‫جند من حيمينا‪ ،‬خاصة إنه يف مومس احلج‪ ،‬يزداد بطش‬
‫األعراب‪ ،‬وغاراهتم‪ ،‬واهنهبم‪ ،‬فنتفادى الفرجنة ابلطرق الوعرة‪،‬‬
‫غري املأهوةل‪ ،‬ورشوة بعض أمراهئم‪ ،‬ونتقي رش األعراب بأال‬
‫نأيت لبالد احلهاز إال مع شهر رمضان‪ ،‬حيث يكفون أذامه عن‬
‫الطريق قليال‪".‬‬
‫جتمدت يدي يف طريقها للمتر‪ ،‬وسألت مفزوعا‪:‬‬
‫"أبدأ شهر رمضان؟"‬
‫قال مبتسام‪:‬‬
‫"ال حرج عليك! أنت مريض‪ ،‬وكنت يف غيبوبة طيةل أسابيع‬
‫ثالثة‪ ،‬مل تذق فهيا شيئا‪".‬‬
‫نظرت هل مندهشا‪ ،‬فمل أتصور أنين قضيت ثالثة أسابيع اكمةل‪،‬‬
‫ولكن ظلت غصة غريبة يف حلقي‪ ،‬وأان آلك المتر‪ .‬مل أفطر يوما‬
‫يف رمضان منذ بلغت العارشة‪ ،‬ورمغ إن معي رخصتان للمرض‬
‫والسفر‪ ،‬لكن يف القلب يشء يعلق‪ ،‬وللصوم النفس هتفو‪ .‬لكين‬
‫مل أجرؤ عىل الصوم‪ ،‬متذكرا حديث الرسول م « لمي مْس م من الْرب‬

‫‪420‬‬
‫الص ْوم ىف السفمر‪ ،».‬وقوهل « عملم ْي ْمك برخ مْصة اَّلل اذلى مرخ مص‬
‫لم ْمك‪ ».‬وما اكن يل أن أرد منحة هللا يل يف وقت مشقيت‪.‬‬
‫اكن مازال يب أثر من امحلى‪ ،‬لكين أجربت نفيس عىل الهنوض‬
‫من فرايش‪ ،‬فعيل الكثري ألقضيه‪ ،‬وأوهل ما فاتين من صلوات يف‬
‫غيبوبيت‪ ،‬وما اكن يل أن أتاكسل عهنا‪ ،‬وقد رأيت بعيين األجل‬
‫ياكد ينسلخ‪ ،‬مث ارتد جفأة بأمر من الرمحن الرحمي‪.‬‬
‫كام إ ّن عيل أن أعد العدة لسفر طويل شاق لبالدي‪ ،‬وأن‬
‫أجد معال يقمي أودي‪ ،‬ويعينين عىل لكفة السفر‪.‬‬
‫وبني هذا وذاك‪ ،‬شاغلتين نفيس بأمرين‪ ،‬أأنهتز فرصة ذهبية‬
‫وأرافق القوم ألجح جحة سهةل املنال‪ ،‬مل تكن عىل اخلاطر‪ ،‬أم‬
‫أنهتز فرصة خلو الطريق‪ ،‬وتشاغل األعداء‪ ،‬ألعود لبالدي‬
‫ساملا؟ كنت أفكر يف مرافقة احلهاج‪ ،‬ولكن ليس معي مال أو‬
‫زاد‪ ،‬وصعب أن أحصل علهيم يف هذه األرض‪ ،‬اليت ال أعرف‬
‫أهلها‪ ،‬وال أجيد حرفة من حرفهم‪.‬‬
‫ولكين وجدت احلهاج مرحبني يب‪ ،‬ميدونين من فضلهم‪،‬‬
‫فاس مترأت األمر رمغ جخيل‪ ،‬ولكهنا فرصة جح ال تعوض!‬
‫كنا عىل مسرية يوم من مكة‪ ،‬وهجزت نفيس للغد‪ ،‬اذلي أاليق‬
‫فيه احلرم‪ ،‬حيامن أاتين الرجال يطلبونين للقاء اخلاتون‪.‬‬
‫فاس تعددت للقاء منقذيت اجملهوةل‪ ،‬تكل الس يدة العظمية‪ ،‬اليت‬
‫يتغىن الرجال بثناهئا‪ ،‬فدخلت خميهتا الكبرية مهتيبا‪.‬‬

‫‪421‬‬
‫اكنت ترتدي ثيااب انمعة‪ ،‬تزيهنا جواهر غالية‪ ،‬ونقاهبا من حرير‬
‫مشغول‪ ،‬وجتلس بني خادماهتا جلسة‪ ،‬تذكرين ببنات الوايل يف‬
‫الزرقاء‪ ،‬حامت يه امرأة من بيت منعم وال ريب‪.‬‬
‫ما أن دلفت اخلمية‪ ،‬حىت نظرت يل طويال بعينني زرقاوتني‬
‫كعيون الفرجنة‪ ،‬مث تلكمت بصوت خفيض واثق‪:‬‬
‫"لن تدخل مكة معنا أاها الغول األمحر!"‬
‫نظرت لها مذهوال‪ ،‬وقلت بصوت مرجتف‪:‬‬
‫"ومل؟"‬
‫مث أاتين خاطر فأضفت‪:‬‬
‫"إن شئمت أن أفارقمك‪ ،‬وأس بقمك لهناك‪ ،‬خش ية أن يؤذيمك‬
‫وجودي معمك‪ ،‬فال أمكل إال التسلمي‪ ،‬وجزامك هللا خريا عام‬
‫فعلمتوه يل‪ ،‬وإن قدرت عىل ‪".......‬‬
‫قاطعتين بصوهتا اخلفيض الواثق‪:‬‬
‫"أنت لن تدخل مكة‪ ،‬ال معنا‪ ،‬وال وحدك‪ ،‬وال حىت مع‬
‫غريان‪ .‬س تعود أدراجك فورا‪".‬‬
‫انقلب امتناين إىل جفاء‪ ،‬وأان أسألها مغتاظا‪:‬‬
‫"وكيف هذا؟"‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪422‬‬
‫"هذا أمري‪ ،‬وليس كل أن تعارض‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أتصدينين عن املسهد احلرام؟ مفا جزاء هذا؟"‬
‫ردت بصوهتا الواثق‪ ،‬كأنه ال اهزت أبدا‪:‬‬
‫"أهكذا ختاطب من تدين لها بعد هللا حبياتك؟"‬
‫أمجلين ردها‪ ،‬وأجخلين‪ ،‬وسكت متحريا‪ .‬فأشارت للرجال‬
‫ليرتكوان‪ ،‬خفرجوا صاغرين‪ ،‬مث قالت يل‪:‬‬
‫"اقرتب‪".‬‬
‫اقرتبت مهنا‪ ،‬وجلست قبالهتا مبارشة‪ ،‬فهنضت خادماهتا‬
‫مبتعدات عنا بضعة أذرع‪.‬‬
‫وهنا كشفت عن وهجها‪ ،‬وأاكد أزمع أن الضوء سطع من وراء‬
‫النقاب ويه تسحبه‪ ،‬اي هللا! أيوجد مثل هذا امجلال بني‬
‫البرش؟ ابلاكد بقى يل يشء من لب‪ ،‬ل ي أغض برصي اذلي‬
‫أعامه ضياءها‪.‬‬
‫قالت يل بصوهتا الفتان هذا‪:‬‬
‫"ما سأطلبه منك‪ ،‬ال جيب أن يطلب يف األرض احلرام‪ .‬أنت‬
‫مدين يل حبياتك‪ ،‬وال أقبل برد ادلين‪ ،‬إال حبياة القائد األسود!"‬

‫‪423‬‬
‫نظرت لها بغضب للحظة‪ ،‬لكن مرأى وهجها أذهلين‪ ،‬خففضت‬
‫برصي اثنية‪ ،‬وقلت مرتباك‪:‬‬
‫"لست ابن ملجم اي مواليت اخلاتون‪".‬‬
‫عبس وهجها كام بدا يل‪ ،‬وأان أختلس هل نظرة خاطفة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"ال أقبل اإلهانة اي هذا‪ .‬لست أعرض نفيس الغالية عليك‪،‬‬
‫عيل‬
‫وال أطلب منك رأس خليفة عادل‪ ،‬أال تتقي هللا! أتقارن ّ‬
‫العيل‪ ،‬ابألسود املسود؟"‬
‫ّ‬
‫رددت بصرب‪:‬‬
‫"ال أقارن هذا بذاك‪ ،‬ولكين لست قاتال مأجورا‪ ،‬خيدم س يدة‬
‫مجلالها‪".‬‬
‫ابتسمت ابتسامة خفيفة‪ ،‬وقد كشفت لها أن ما أرادته من‬
‫كشف وهجها يل قد أعطى أثره‪ ،‬فانتقلت من فتنة املالمح‪،‬‬
‫لفتنة اللكامت األشد وطأة‪.‬‬
‫قالت يل موسوسة‪:‬‬
‫"دم األسود همدور هبدره دماء املسلمني‪ ،‬ولو قتلته فقد‬
‫أرحت البالد والعباد من رشه‪".‬‬
‫رددت حبسم‪:‬‬

‫‪424‬‬
‫"لو قتلته بدون مكل ميسك البالد ماكنه‪ ،‬فقد أضعت أملها‬
‫يف الوحدة‪ ،‬واجامتع اللكمة‪".‬‬
‫عيل‪:‬‬
‫ردت ّ‬
‫" األسود ليس ابخلري أبدا‪ ،‬لو تركته‪ ،‬فس مينح ثلث البالد‪،‬‬
‫وجل ثغورها لألهبال والفرجنة‪".‬‬
‫دهشت ملعرفهتا بتكل املؤامرة‪ ،‬اليت يتكمت عهنا األسود‬
‫وحلفاؤه‪ ،‬وما عرفهتا أان إال صدفة‪ .‬لكين عقدت العزم عىل إاهناء‬
‫هذا األمر‪ ،‬اذلي زججت بنفيس فيه فوق طاقيت‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"ولو قتلت األسود‪ ،‬فس يجتاح األهبال لك بالدان‪".‬‬
‫أرشقت ابتسامهتا الناصعة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"ال لن يفعلوا‪ ،‬بل سريتدوا خائبني‪".‬‬
‫قلت ساخرا‪:‬‬
‫"أحقا؟ ومن سريدمه؟ ابتسامتك هذه؟"‬
‫قالت ويه ال تزال عىل هدوهئا املس تفز‪ ،‬اذلي اهزين بأشد‬
‫من لهيب الثوار‪:‬‬
‫"أعرف عن األهبال أكرث مما تعمل‪ .‬وأعمل ما خيططون هل حىت‬
‫من وراء ظهر األسود‪".‬‬

‫‪425‬‬
‫نظرت لها مس تخفا‪ ،‬فاألهبال أكرث خلق هللا تكامت‪ ،‬وما من‬
‫أمري أرسل علهيم عيوان إال فقئوها‪ ،‬وما من حامك تسرت علهيم أمرا‬
‫إال كشفوه‪.‬‬
‫أمكلت قائةل‪:‬‬
‫"يل عىل األهبال عيون كثرية‪ ،‬مه يرتكون جل أعامهلم لعبيدمه‪،‬‬
‫وبني العبيد رجايل‪ ،‬فأرى ما يرون وأمسع ما يسمعون‪ .‬لو مل أكن‬
‫خبرية بأمر األهبال‪ ،‬أتظن أولئك القوم يقبلونين أمرية علهيم‪ ،‬وأان‬
‫امرأة؟"‬
‫هزتين لكامهتا‪ ،‬لكين تش بثت وقلت‪:‬‬
‫"اعلمي عهنم ما شئت فأنت ال تعلمني عن بالدان شيئا‪ ،‬وما‬
‫شأنك أيهتا اخلاتون الرشيفة بذحب األمراء واحلاكم يف بالدان؟"‬
‫هنا ألول مرة اهزتت‪ ،‬وبدا عىل وهجها املالئ ي ش ياطني‬
‫احلقد‪ ،‬وقالت بصوت موتور‪:‬‬
‫"هذا املسمى ابملغوار‪ ،‬امللقب ابلقائد األسود‪ ،‬هو أبغض خلق‬
‫هللا يل‪ .‬لن اهنأ يل يف ادلنيا ابل أو حال حىت أسفك دمه‪".‬‬
‫قلت مندهشا‪:‬‬
‫"القائد األسود؟ ومل؟ هو مل خيرج من بالدان منذ‪".......‬‬
‫ولكين قطعت الكيم‪ ،‬إذ تذكرت أمرا‪ ،‬اكنوا يسمواهنا ابخلاتون‬
‫املرصفية‪ ،‬أتراها تكون‪......‬؟‬

‫‪426‬‬
‫وسألهتا فورا‪:‬‬
‫"أنت يه؟ بنت املرصفي األمري‪ ،‬اذلي غدر به القائد األسود‬
‫يف العامصة‪ ،‬هو وعدوه اجلبيل؟"‬
‫أمكل ش يطان حقدها احلديث‪:‬‬
‫"نعم أان يه‪ ،‬أان من قتل أابها وأخاها‪ ،‬وس ىب أهما الرشيفة‬
‫سليةل آل البيت‪ ،‬وطردها مرشدة يف البالد‪ ،‬ملقاة لالكب‬
‫حقرية جائعة‪ .‬ولوال جندة أتتين من هللا‪ ،‬وعزيم وتشبيث ابحلياة‪،‬‬
‫آلخذ بثأري منه‪ ،‬لهلكت منذ زمن بعيد‪".‬‬
‫غلبين الفضول‪ ،‬فقلت‪":‬وأىن كل مبا أنت عليه اليوم؟"‬
‫ردت مس تعيدة هدوءها‪:‬‬
‫"تكل حاكية تطول‪ ،‬ورشح ال يرسين‪ ،‬ذلكرى أكره عودهتا‪.‬‬
‫لقد ألقى هللا بك يف طريقي أاها القبيل‪ ،‬وأان أدل أعداء األسود‬
‫بعد أن خسر يل املال واألعوان‪ ،‬يف وقت اش تدت فيه حاجة‬
‫البالد كل‪ .‬أما مسعت بتخريب األسود للثغر الكبري‪ ،‬بعد أن‬
‫انقلب عىل حليفه ابن عامر‪ ،‬وقتهل قتةل شنيعة ابخلازوق‪ ،‬وترك‬
‫جثته تننت يف املدينة املهدمة؟ أمثل هذا تأمتنه عىل بالدك‬
‫ملاك؟ أما مسعت بقتهل ملئات ادلراويش املساكني يف أحراش‬
‫الشامل‪ ،‬ألاهنم مل يرفعوا هل ادلعاء عىل منرب مسهد الش يخ‬
‫الفويل؟ أما مسعت خبيانته وتعاونه مع أسطول الفرجنة‪ ،‬فشن‬

‫‪427‬‬
‫معهم حراب رضوسا عىل الزرقاء‪ ،‬ليبدل قراصنهتا ابلفرجنة‬
‫املالعني؟"‬
‫فتحت مفي مذهوال‪ ،‬لكهنا أمكلت‪:‬‬
‫"لو كنت مسعت هبذا‪ ،‬فكيف تقبل به ملاك؟ أتسأل عن‬
‫توحيد البالد؟ أما تراه انقلب عىل بين سالم‪ ،‬وذحب اآلالف‬
‫مهنم‪ ،‬فقط ألن أحدمه اكن دليكل؟ أهذا مكل يوحد لكمة‬
‫القبائل اي رجل؟ وفوق لك هذا‪ ،‬األنباء أتتين بأن األهبال‬
‫حيشدون حشودا لغزو الثغر الصغري وما حوهل من بالد‪ .‬إن‬
‫األسود ال يوحد لكمتمك‪ ،‬وال جيمع فرقتمك؛ إمنا هو ميزق البالد‬
‫أشال ًء‪ ،‬ليفوز بأكرب قطعة فهيا‪ ،‬ملقيا بأطايهبا لألعداء‪ ،‬عىل‬
‫حساب جثث اخللصاء‪ .‬هو يدمر لك من يطلب خري البالد‪،‬‬
‫ألنه ال يعمل غري الرش طعام‪ ،‬وغري ادلم رشاب‪".‬‬
‫وهكذا أخذت تكل اخلاتون توسوس‪ ،‬وتوسوس‪ .‬وهللا ما أعمل‬
‫أىن يل ‪ -‬أو لغريي ‪ -‬ابلصمود أمام فتنة عقل راحج‪ ،‬ووجه قاتل‪،‬‬
‫والكم معسول بتحريض مسموم!‬
‫لكن اكنت هناك حقيقة واحدة مل تعرفها‪ ،‬عصمتين مهنا‪ :‬أان‬
‫لست غوال أمحر‪ ،‬وال أقدر عىل النيل من شعرة واحدة من‬
‫شعر القائد األسود‪ .‬وملا كنت ال أقدر عىل البوح هبذه احلقيقة‪،‬‬
‫خش ية انتقاهما مين‪ ،‬فقد كررت لها ما أخربهتا به من قبل ‪:‬بدون‬

‫‪428‬‬
‫مكل يطلب العرش‪ ،‬ويتبعه الناس فال أمل من حرب األسود‪،‬‬
‫وبقاؤه خري من قتهل‪.‬‬
‫وأشهد إاهنا تالعبت يب بقوة رهيبة‪ ،‬حىت أحسست أين دمية‬
‫تتقاذفها أيد معالقة غليظة‪ .‬أحسست أنين حقا بال حول وال‬
‫قوة‪ ،‬أمام هذه اخلاتون الرهيبة‪ ،‬اليت جتيد التالعب ابألفاكر‬
‫واألقوال‪ .‬كدت أن أعقد العزم عىل السفر للعامصة‪ ،‬واغتيال‬
‫األسود ابلفعل! مث فكرت يف جعزي‪ ،‬اذلي اكن أقوى من أي‬
‫يشء آخر! إاهنا قوة العدم‪ ،‬اذلي ال ينبت‪ ،‬همام سلطت عليه‬
‫من حماريث! أىن لألرض العقمي أن تنتفع جبهد اجملهتدين؟‬
‫ولكن ألنقذ رأيس من الضياع‪ ،‬قلت لها‪:‬‬
‫"األمر قاطع س يديت الفاضةل‪ ،‬وهو ليس أمري وحدي‪ ،‬بل‬
‫أمر لك الغيالن امحلر‪ ،‬اذلي اجمتعوا عليه! قد تعاهدان أن نلزم‬
‫جانب احلق‪ ،‬وأمجعنا عىل إن مصلحة األمة يف اتباع املكل ضد‬
‫األسود‪ ،‬فإن مل يكن مكل‪ ،‬فال حرب ضد األسود‪ ،‬وال مساس‬
‫به‪ ،‬وال ميكنين أن أخرق عهد الغيالن‪ ،‬أو أطالهبم بتغيريه‪".‬‬
‫أخريا أخرس هتا! أخريا جعلهتا تدرك أال جدوى من مناقش يت‪،‬‬
‫فصمتت‪ ،‬وتركت يل فسحة من الوقت‪ ،‬أمجع فهيا ش تات‬
‫فكري‪.‬‬
‫ولكن مثل هذا العقل املاكر ال يستسمل أبدا! فقد أخرجت يل‬
‫من جعبهتا املزيد من العهائب!‬

‫‪429‬‬
‫أخذت نفسا معيقا‪ ،‬وزفرته ببطء من بني شفتهيا الفاتنتني‪،‬‬
‫وحدقت يف عيين مبارشة‪ ،‬فتحاشيت النظر لها مرجتفا‪ ،‬خش ية‬
‫أن تفضح عيوين أاكذييب‪ ،‬أمام هذا البرص الثاقب‪ ،‬اذلي ياكد‬
‫خيرتق الصدور‪،‬‬
‫وتلكمت مس تعيدة هدوءها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"أتريد ملاك؟ اكن املكل بني يديك‪ ،‬وسأعيده كل! هذا الفىت‬
‫اذلي أىت معك من ساوة‪".........‬‬
‫قلت "تميور بن زهري؟ ماذا أصابه؟"‬
‫قالت "لقد أخذوه مع العبيد‪ ،‬وأهدوه لألهبال‪ ،‬هذا الفىت‬
‫نسيب لألمرية الشهابية زوجة حامك طرابل األس بق‪ ،‬وبنت‬
‫الشهايب آخر أحفاد املكل‪".‬‬
‫نظرت لها مندهشا‪ ،‬ال أدري كيف عرفت هبذا أو ذاك‪.‬‬
‫والحظت يه دهش يت‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫"ال يشء خيفى عن اخلاتون اي فىت‪ ،‬ال يشء خيفى عن اخلاتون!‬
‫عىل أي حال‪ ،‬فهذا الشاب حيمل دما ملكيا‪ .‬تكل الوثيقة اليت‬
‫تزنع عنه‪ ،‬وعن نسل زهرية اإلمارة‪ ،‬لكهنا ال تزنع حقه يف‬
‫املطالبة ابملكل‪ ،‬إن تزوج بنت آخر امللوك‪ .‬مك من مكل توىل يف‬
‫العرب أو الفرجنة ليس بنس به‪ ،‬وإمنا بنسب زوجته‪ ،‬وهذه‬
‫رشيعة معروفة بني امللوك واألمراء‪ .‬لك ما عليك فعهل‪ ،‬هو أن‬
‫تزوجه الشهابية‪ ،‬وتشهد حامك طرابل عىل العقد مع قاضهيا‪،‬‬

‫‪430‬‬
‫وعقد الزواج مع شهادة نس هبا‪ ،‬ونس به املتصل ابخللفاء‪،‬‬
‫وخطاب اخلليفة بتولية الوريث‪ ،‬ولك هذا س تهده عند قايض‬
‫طرابل‪ ،‬إال خطاب اخلليفة‪ ،‬فهو معي وسأعطيه كل‬
‫اآلن‪"........‬‬
‫قاطعهتا مذهوال‪:‬‬
‫"ماذا؟ لكن‪"......‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫"ال تقاطعين! ال تسألين كيف حصلت عىل هذا‪ ،‬فهىي أمور ال‬
‫يقدر علهيا إال اخلاتون الرشيفة املرصفية!"‬
‫تبلبلت أفاكري متاما مبا قالته‪ ،‬لكن اخلوف من العودة لهذا‬
‫الكفاح‪ ،‬بعد أن خلصت نفيس للراحة واليأس‪ ،‬دفعين للمهادةل‬
‫فقلت لها‪:‬‬
‫"أىن يل ابحلصول عىل تميور بعد أن أخذه األهبال؟ ليس‬
‫اقتحام قالعهم بأمر سهل حىت لغول أمحر! مث كيف أقنعه هو‬
‫والشهابية ابلزواج! وأىن حلامك طرابل أن يقبل مبثل هذا الزواج!‬
‫مث كيف يقبل األسود واألمراء بذريعة مثل هذا املكل؟"‬
‫مل اهزت هدوءها الفتّاك‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"أمر تميور سهل‪ .‬فقبل أن ترجع لطرابل‪ ،‬س تهده عند أتباعي‬
‫معززا مكرما! وإقناعه لن يصعب عليك‪ ،‬وقد أقنعته بإتباعك يف‬

‫‪431‬‬
‫تكل الرحةل املهلكة من قبل! وأما الشهابية‪ ،‬فهىي امرأة عنيدة‪،‬‬
‫لكين رمغ كريه لها؛ أعرتف إاهنا حصيفة‪ ،‬وأشهد لها ابحلمكة ولو‬
‫اكن يل أن أشهد المرأة‪ ،‬أخرى غريي‪ ،‬حبمكة وشكمية تس بق‬
‫الرجال‪ ،‬الخرتهتا يه‪ ،‬لوال إاهنا ال تزبين ذاكء‪ ،‬أو جامال‪ ،‬وابلطبع‬
‫ش بااب! س تعمل يف الهناية‪ ،‬بعد طول جدل‪ ،‬ما واجهبا‪ ،‬وأن دماء‬
‫املسلمني يف رقبهتا‪ ،‬ستس تطيع أن حتاججها بأنه إذا ازداد بطش‬
‫األهبال بعد اس تقواهئم ابألرايض والثغور‪ ،‬اليت س يكس بواهنا من‬
‫األسود‪ ،‬فإن طرابل ستهتدد من انقالهبم علهيا‪ ،‬كام هتددت من‬
‫قبل‪ .‬وأما زوج ابنهتا‪ ،‬فسريحب بأي أمر يزحي اكهل حامته‬
‫عنه‪ ،‬فهو خيشاها‪ ،‬ويضيق بتدخلها يف ش ئونه! وال تتواضع‬
‫وتقلل من شأن الغيالن امحلر‪ ،‬وقدرهتم عىل تليني الرؤوس‬
‫الصلبة أو هتشمهيا! إن لمك لرهبة يف النفوس‪ ،‬ال تزال ابقية عىل‬
‫تطاول الزمن‪ ،‬وبعد املسافة‪".‬‬
‫نظرت لها مرتباك‪ ،‬إاهنا تعد ردا للك جحة‪ ،‬تكل اخلاتون‬
‫العجيبة‪ ،‬اليت مجعت ما ال جيب أن جتمعه امرأة واحدة من قوة‪،‬‬
‫ومكر‪ ،‬وذاكء‪ ،‬وجامل‪ ،‬ورشف‪ ،‬وزعامة‪ ،‬ودهاء! إاهنا لتزب‬
‫الزابء بزا! خبرية بأحوال النفوس‪ ،‬وأعامق اخلالئق‪ ،‬ومفاتيح‬
‫عقول الرجال‪ ،‬فتعبث هبا كيفام شاءت‪ ،‬وإاهنا لتأيت بأمور أش به‬
‫ابخلوارق! أال حفقا إن كيدهن عظمي! اللهم اكشف عين كيد أمثال‬
‫تكل املرأة‪ ،‬اليت غلبتين‪ ،‬حيامن مل يغلبين عتاة الرجال! إين ألاكد‬

‫‪432‬‬
‫أشفق عىل األسود املسكني أن اختذ لنفسه عدوا مثل هذه! وما‬
‫اكن يل أن أكرر خطئه!‬
‫وهكذا عدت خمذوال عن أبواب احلرم إىل طرابل‪ ،‬ال أدري‬
‫كيف أقيض حايل فهيا‪ .‬لكين أثناء املسري‪ ،‬استبدلت اليأس بأمل‬
‫اكحس‪ .‬سواء اكن ما قالته اخلاتون عن قناعة‪ ،‬أو جمرد مكر تفتنين‬
‫به‪ ،‬فال أظن أن جنايت من املوت‪ ،‬وعوديت لدلنيا من أعتاب‬
‫اآلخرة‪ ،‬إىل طريق جحاج تقودمه عدوة كئود لعدوي؟ لك هذا ال‬
‫ميكن أن أجتاههل! حامت هو قضاء من هللا‪ ،‬وعون يل ألمكل‬
‫طريقي بعد أن خال‪ ،‬وأصبح أكرث أمنا‪ ،‬إذ عاد األساودة لبالدمه‬
‫ظافرين‪ ،‬ومسع الناس مبقتل الغول‪ .‬اليوم نرصمه وهجلهم‬
‫يسرتاين‪ ،‬ل ي أجتاز ما عرفت من عوائق‪ ،‬وبقى أمايم عراقيل‬
‫جعيبة‪ ،‬مل أختربها من قبل‪ ،‬ومل أتصور أن تكون يف رحليت!‬
‫ليس جنود مرتبصني‪ ،‬بل زوج جعيب‪ ،‬ألب زواهجام كخاطبة‬
‫مشطاء!"‬

‫‪433‬‬
‫(‪)48‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬


‫"مضيت ابملال واملتاع‪ ،‬اذلي منحتين إايه بنت املرصفي‪ ،‬عىل‬
‫ادلابة القوية‪ ،‬اليت وهبتين‪ ،‬أحث اخلطى‪ ،‬وأقلب عقيل يف‬
‫شأين‪.‬‬
‫اكن الطريق‪ ،‬رمغ الصيام‪ ،‬يسريا إىل طرابل‪ .‬فالطريق هادئ‪،‬‬
‫ويل خربة بقطع الصحراء‪ ،‬والاهتداء ابلنجوم‪ ،‬ومن قابلهتم‬
‫دلوين عىل الطريق بود‪ ،‬هدامه هللا‪ ،‬وجزامه عين‪.‬‬
‫اكن الفرجنة قد مجعوا حشودمه حلرب الزرقاء‪ ،‬اليت الهتبت‬
‫بأشد مما ظنوا‪ ،‬بعد أن دمعت بعض القبائل املدافعني عن‬
‫املدينة‪ ،‬وأمد بعض ملوك العراق القراصنة ابلسفن‪ ،‬ناكية يف‬
‫الفرجنة‪ ،‬حيث تدور حرب عاتية معهم يف أرايض الرافدين‪ .‬أما‬
‫األهبال فقد توقفت حروهبم‪ ،‬واختفوا من خارج قالعهم‪ ،‬ولعل‬
‫زحفهم عىل الثغر الصغري قد ابتدأ فعال‪.‬‬

‫‪434‬‬
‫وأما أغرب األمور‪ ،‬فهو إن ش يوخ القبائل‪ ،‬وأمراءان لزموا‬
‫منازهلم‪ ،‬ال حياربون يف رمضان! لعمري هذا أمر جعيب‪ ،‬ابتليت‬
‫به األمة‪ .‬حفاكمنا يقعدون عن اجلهاد طوال العام‪ ،‬وال يقعدون‬
‫عن احلروب احملرمة بيهنم‪ ،‬اليت تنشب طلبا لدلنيا‪ ،‬إال يف‬
‫رمضان‪ ،‬مع إنه ليس من األشهر احلرم! أما إن سألهتم عن‬
‫األشهر احلرم‪ ،‬اليت قال هللا عن القتال فهيا (ق ْل قتما ٌل فيه كمبريٌ‬
‫مو مص ٌّد عمن مسبيل ّاَّلل موك ْف ٌر به) فال جتد ردا إال رماحا مرفوعة‪،‬‬
‫ودما ًء مسفوكة‪ ،‬وحرمات منهتكة‪ .‬بل أصبحت تكل الشهور‪،‬‬
‫اليت ال حتل فهيا احلرب إال لرضورة قصوى‪ ،‬ردا عىل عدو‬
‫س بقنا ابنهتاكها‪ ،‬فرصة لهنب احلهاج األبرايء‪ ،‬بس يوف تزمع إاهنا‬
‫مسلمة‪ ،‬وما تعرف عن اإلسالم شيئا‪.‬‬
‫ليت شعري! مل اس تحل املسلمون املسلمني‪ ،‬وحرماهتم بنفس‬
‫هينة‪ ،‬وجحج واهنة‪ ،‬وال ينفضون عهنم أرجاس األهبال‪،‬‬
‫وأوساخ الفرجنة خوفا وطمعا؟‬
‫وصلت إىل سوق الفتوح‪ ،‬حيث مزنل اخلاتون العامر‪،‬‬
‫فوجدت املزيد من أموالها ينتظرين‪ ،‬مع درع الغيالن األمحر‪ ،‬قد‬
‫نظف وملع‪ ،‬وأصلح‪ ،‬وصنعوا منه نسخة أخرى‪ ،‬لتكون معي إن‬
‫أصابه يشء! وأوقن إاهنم صنعوا منه عددا‪ ،‬تنتفع به اخلاتون يف‬
‫حيلها‪.‬‬

‫‪435‬‬
‫وجدت كذكل عددا من أتباعها املتحمسني خلدميت‪ ،‬يطيعونين‬
‫يف لك أمري‪ ،‬ولكن ابلطبع ليس فهيم مثقال ذرة من إخالص‬
‫غول احلق‪ ،‬رمحه هللا‪.‬‬
‫أمرهتم بإعداد دواب‪ ،‬وزاد للرحيل‪ ،‬وسألت عن تميور فظهر‬
‫إاهنا حفظته يف ماكن بعيد‪ ،‬حىت أرجع لطرابل‪ ،‬يك تطمنئ‬
‫لعوديت لها‪ ،‬تكل اخلاتون احملاذرة‪ .‬فغادرت املاكن‪ ،‬واجتهت إىل‬
‫طرابل‪ ،‬فزنلت عىل بيت سلامن‪.‬‬
‫اس تقبلين سلامن بدهشة كبرية‪ ،‬واكن أول ما ألقاه ّ‬
‫عيل قبل رد‬
‫التحية‪:‬‬
‫"أمل تقتل؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ليس من السهل أن تقتل غوال أمحر اي سلامن! دع عنك‬
‫هذا‪ ،‬فهناك أمر جلل‪ ،‬وهممة وعرة‪ ،‬أحتاج كل فهيا‪".‬‬
‫وبدون مقدمات أخرى‪ ،‬ألقيت هل األمر لكه!‬
‫نظر يل نظرة من يرمق جمنوان‪ ،‬وفتح مفه‪ ،‬رمبا ليرصخ‪ ،‬مث‬
‫أغلقه مهبوات‪ ،‬مث فتحه‪ ،‬مث أغلقه! فأمكلت جهويم عليه‪:‬‬
‫"هل تس تطيع أن تساعدين يف هذا األمر؟"‬

‫‪436‬‬
‫لو سقط أمايم مصااب ابلفاجل‪ ،‬ملا ملته قط! لكنه بذل جمهودا ‪-‬‬
‫أحسده عليه ‪ -‬لكظم غيظه‪ ،‬وتلكم من بني أس نان تطحن‬
‫بعضها البعض‪:‬‬
‫"فمي أساعدك؟ أساعدك عىل أن تزوج أمرية‪ ،‬بنت امللوك‪،‬‬
‫سليةل اخللفاء‪ ،‬لفالح وضيع‪ ،‬يصغرها يف السن رمبا بعرشين‬
‫عاما‪ ،‬بعد أن اكنت زوجة حامك طرابل السابق؟ وملاذا؟ ل ي‬
‫تضع عنقها حتت س يف طاغيتمك األسود‪ ،‬وتثري علينا جنون‬
‫طواغيت األهبال؟ سواء كنت غوال‪ ،‬أو عفريتا‪ ،‬أو حىت‬
‫ش يطاان‪ ،‬فهذا أمر ال ميكن أن يكون هل متام‪".‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"ال تكن هبذه الثقة‪ ،‬فإن كيد البرش أنىك من كيد الش ياطني‪.‬‬
‫ووهللا إين لقيت امرأة‪ ،‬لو طلبت إبليس‪ ،‬الس تعاذ ابهلل مهنا!‬
‫وإاهنا معي يف هذا األمر‪ ،‬وإنه ‪ -‬بإذن هللا ‪ -‬مقيض‪ .‬إين ألحس‬
‫أن األقدار تسري معي‪ ،‬غالبة من يغالبين‪".‬‬
‫نظر يل بفضول‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أي امرأة تكل؟"‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"وما شأنك؟ يه عقل حكمي ألقاه هللا يف طريقي‪ ،‬وخسره يل‪،‬‬
‫ل ي أقيض أمرا‪ ،‬هو بإذن هللا مفعول‪ .‬هذا الفالح نسيب‬

‫‪437‬‬
‫لألمرية‪ ،‬وزواجه مهنا جيعهل ملاك متوجا‪ ،‬ومتلكه حيقن دماء‬
‫املسلمني‪ ،‬اليت سرييقها األهبال‪ ،‬وحيفظ بالدمه‪ .‬اي رجل أمل تقرأ‬
‫يف كتاب هللا ( مولم ْوال مدفْع اَّلل الن ماس ب م ْعضم ه ْم ب مب ْعض مل مف مسدم ت‬
‫ْ ماأل ْرض)؟ لو مل يظهر من بيننا من يدفع رش األهبال‪ ،‬فس يعم‬
‫فسادمه األرض‪ ،‬حىت طرابل‪ .‬ولو مل يأت من يدفع رش الفرجنة‪،‬‬
‫فس ميتد بطشهم حىت احلهاز‪ .‬لو مل نتصد خليانة األسود‪،‬‬
‫فس يزنل غضب السامء عىل املتخاذلني‪ ،‬قبل املعتدين‪ .‬ثق إن‬
‫طرابل لن تكون آمنة‪ ،‬لو سقطت بالدان‪".‬‬
‫قاطعين يف فزع‪:‬‬
‫"ومل؟ ما شأننا بمك؟ بل معونتمك يه اليت س تهلب الوابل‬
‫ترىج!"‬‫علينا‪ ،‬ونقمة اخلاانت‪ ،‬بال فائدة ّ‬
‫أدركت أن هذا وتر حساس‪ ،‬فعزفت عليه‪ ..‬قلت مس تعيدا‬
‫هدويئ‪ ،‬ممتثال لههة اخلاتون الواثقة القوية‪:‬‬
‫"من اذلي كرس األهبال قدميا‪ ،‬وحطم حمل زعميهم الهول؟‬
‫بالدان‪ .‬وحني تسقط بالدان‪ ،‬ألن تنتعش أحالهمم‪ ،‬ويسعوا‬
‫إلعادة بناء مملكة الهول؟ سينترشون يف األرض‪ ،‬ال يبقون‬
‫أخرضا أو ايبسا‪.‬‬
‫وماذا حيدث عندما يتخذ الفرجنة الزرقاء قاعدة هلم؟‬
‫س ميلكون البحر متاما‪ ،‬ويقضون عىل ما بقى من موانيه األصغر‬

‫‪438‬‬
‫بسهوةل‪ .‬ووقهتا سيتحمكون يف موانيمك‪ ،‬فال متر جتارة لطرابل‪،‬‬
‫وال لغريها‪ ،‬إال بأمرمه!"‬
‫اصفر وهجه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"ما هذه إال خترصات منك‪ ،‬تبغي هبا إاثريت‪ ،‬وجريف معك‬
‫إىل جنونك‪".‬‬
‫قلت مرصا‪:‬‬
‫"ما حيدث عندان يف الغرب‪ ،‬نزفه يديم يف الرشق‪ .‬وال نفاذ‬
‫لمك من هذا املأزق‪ ،‬إال ابلسري خلف مكل يتبعه العامة‬
‫واخلاصة‪ .‬ينرش العدل‪ ،‬ويقود اجلند اجملاهد‪ ،‬ويرد الطغاة عىل‬
‫أعقاهبم خارسين‪ ،‬ويكرس مجوع األهبال مرة أخرى‪ ،‬ال يقومون‬
‫مهنا أبدا‪".‬‬
‫نظر يل مستنكرا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أترى يف الشاب الغرير تميور ملاك كهذا؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ليس وحده‪ .‬املكل لو الزتم ابلعدل والشورى‪ ،‬وخاف هللا‪،‬‬
‫فقد أصاب العبء األكرب‪ .‬س نكون معه‪ ،‬وقد رافقته مدة‬
‫طويةل‪ ،‬ورمغ يشء من سذاجة فيه‪ ،‬إال إنه حقا غالم طيب‬
‫خملص‪ ،‬حيمل يف قلبه قوة كفيةل بزحزحة اجلبال‪".‬‬

‫‪439‬‬
‫قلهتا جمامال‪ ،‬لكن وأان أفكر فهيا‪ ،‬دار يف ذهين كيف اكن تميور‬
‫صلبا معي‪ ،‬وكيف أمكل الطريق ‪ -‬أو حاول أن يفعل ‪ -‬وحده‬
‫عندما فرقنا الشاطر عدانن‪ .‬رمبا لو اكن حمكي عليه يوم التقيته‪،‬‬
‫ملا جرؤت عىل هذه الصفة‪ .‬لكين قلبت األمر يف ذهين مليا‪،‬‬
‫ووجدته اكتسب يف هذه الرحةل من األمل ما قد جيعهل أكرث حذرا‬
‫وفطنة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬مل يكن أمايم إال تميور‪ .‬هو القشة اليت‬
‫أتعلق هبا يف غريق‪.‬‬
‫نظر يل سلامن مفكرا‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"ال أس تطيع أن أعدك بيشء أاها اجملنون‪ ،‬لكين سأحاول!"‬
‫ال أدري أي معجزة تكل‪ ،‬اليت جعلته يسمل يل ابألمر‪ .‬أغلب‬
‫الظن بسبب بغض أهل طرابل الشديد لألهبال‪ .‬اكن ذكر أي‬
‫أذى يصيهبم حيمسه‪ ،‬وذكر أي رحب يكس بوه خييفه‪.‬‬
‫اكن سلامن مفتاحا لقلب القايض واحلامك‪ ،‬وهام يف ظين من‬
‫يس تطيعا تليني رأس الشهابية‪ .‬أرجو أن يكون احلامك اكرها‬
‫محلاته‪ ،‬كام زمعت يل اخلاتون‪.‬‬
‫وبعد أن حتولت خلاطبة مشطاء‪ ،‬اكن عيل اذلهاب للفىت تميور‪،‬‬
‫وإقناعه ابلزواج من امرأة ال تصغر أابه كثريا!‬
‫"تبا! ما اذلي تزمع إنك تفكر فيه أاها الغول!"‬

‫‪440‬‬
‫اكن هذا رده احلانق‪ ،‬عندما رجعت للزنل‪ ،‬اذلي نزلت فيه‪،‬‬
‫ووجدته ينتظرين‪ ،‬قد أرسهل يل رجال اخلاتون‪ ،‬فأقبل عيل‬
‫هملال‪ ،‬ال يصدق رؤييت حيا‪ ،‬قبل أن يرده الكيم عين!‬
‫جادلته‪ ،‬قلت هل أن هذا هو األمل األخري لنهد ملاك ينقذ‬
‫البالد‪ ،‬لكنه رد برصامة‪:‬‬
‫"ال أريد هذا املكل‪ .‬تبا هل مكل يغبط املرء عىل النهاة منه!‬
‫أتيت معك الزتاما بعهد جدي‪ ،‬ال ألجعل نفيس ملاك!"‬
‫رددت هبدوء‪:‬‬
‫"بل أتيت معي إلنقاذ البالد من سفك ادلماء وتضييع‬
‫احلرمات‪ ،‬ورد األهبال والفرجنة عهنا‪".......‬‬
‫قاطعين بسخط‪:‬‬
‫"أو س نفعل هذا ابلزواج من تكل العجوز؟ دع عنك هذا‪.‬‬
‫تريد اجلهاد‪ ،‬امحل س يفك وجاهد‪ ،‬ودع عنك زجيات القصور‪،‬‬
‫وأالعيب ادلواوين‪ ،‬اليت ال طائل مهنا!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"هذا ما دلينا‪ .‬يه س نة امللوك‪ ،‬وزواجك من ابنة املكل‪،‬‬
‫يؤهكل لطلب مرياثه‪ ،‬فيتبعك األمراء و‪"......‬‬
‫قاطعين حبسم‪:‬‬

‫‪441‬‬
‫"دع عنك هذا! واحبث لها عن زوج غريي‪ ،‬فإن يل خطيبة‬
‫يف بدلي تنتظرين‪ ،‬ما تركهتا إال لنداء واجب عىل أهيل‪ ،‬وما‬
‫تركتين أرحل إال ألعود لها بطال‪ ،‬ال ملاك عىل غري مملكة‪ ،‬بزوج‬
‫كئود غليظة!"‬
‫للمرة الثانية ال أضع بداهية يف احلس بان‪ .‬وشاركتين اخلاتون‬
‫هذه املرة‪ ،‬فمل نتصور أن يكون للفىت قلب أحب‪ ،‬وعهد ال‬
‫يس تطيع خيانته‪ .‬لكننا بصد جد‪ ،‬ال هزل فيه‪ ،‬فمل أجد بدا من‬
‫اإلرصار بقويل‪:‬‬
‫"ال أطلب منك أن تزتوهجا‪ ،‬لتنجب مهنا خليفة‪ ،‬أو لتأخذ‬
‫مالها وتنتفع به‪ .‬يه س يدة رشيفة مجيةل‪ ،‬ذات مكل أهداها كل‪،‬‬
‫ألهديك أنت لبالدان‪".‬‬
‫طبعا مل يقنعه حدييث‪ ،‬واتضح أن هممة إقناعه أصعب مما أتصور‬
‫بكثري‪ .‬لكن مازال يف جعبيت الكثري من احليل‪ ،‬الرتغيب يف‬
‫املكل‪ ،‬والاس تعطاف عىل أهل البدل‪ ،‬والتخويف من األسود‪،‬‬
‫بل‪ ،‬والهتديد ببطش الغيالن امحلر! مل أترك حيةل واحدة إال‬
‫واس تخدمهتا غري اندم‪.‬‬
‫لكن بدا يل أن احليةل الوحيدة اجملدية يه اإلحلاح! اإلحلاح‬
‫األشد مرارة من السحر‪ ،‬ليل اهنار عىل أذنه حىت يستسمل‪.‬‬
‫وهكذا دخلت العامل الغريب الشائك للخاطبات! أسري بني‬
‫الاثنني‪ ،‬أوسوس‪ ،‬وأحل‪.‬‬

‫‪442‬‬
‫تركت أمر تميور مراهنا عىل رقة قلبه‪ ،‬وعطفه عىل أههل‪،‬‬
‫وذهبت ملعركة األمرية الشهابية الصعبة‪ .‬س يدة قوية‪ ،‬عركهتا‬
‫الس نون واخلطوب‪ ،‬تربت بعيدا عن بالدان‪ ،‬فال تعرف غري‬
‫طرابل وطنا‪ ،‬ولن يكون أمرها أبدا سهال‪.‬‬
‫بدأت مبن حولها‪ ،‬لنضغط علهيا معا‪ ،‬فقد كنت يف جعةل من‬
‫أمري‪ ،‬أريد العودة ابملكل‪ ،‬قبل أن يهنىي األسود حصار الزرقاء‪.‬‬
‫لقد فقدت ابلفعل ابن عامر‪ ،‬حامك الثغر الكبري‪ ،‬بعد أن قتهل‬
‫األسود‪ ،‬جملرد إنه تعهد بإتباع رأي ابيق األمراء‪ ،‬إن أىت هلم‬
‫الوريث‪ .‬وسأفقد حامت ابيق أمراء الغرب‪ ،‬لو حسم األسود‬
‫رسيعا أمر الزرقاء‪ ،‬وسار جبيوشه قبيل حنو الغرب‪ .‬لو سقطت‬
‫أي من مدن الغرب‪ ،‬كواحة ساوة‪ ،‬أو حصن ساوة‪ ،‬أو مدينة‬
‫الطارحة‪ ،‬فأجزم إن لك أمري س يأخذ جنوده‪ ،‬واهرب بعيدا‬
‫منكفئا عىل نفسه يف ذعر‪ ،‬دون مزيد من قتال‪.‬‬
‫اكن حامك طرابل‪ ،‬زايد ابن أسامة‪ ،‬الشخص الوحيد املتحمس‬
‫ألمري‪ ،‬ليس كرها يف بقاء حامته قربه‪ ،‬فقد اكن أبعد من هذا‬
‫نظرا‪ ،‬لقد رأى أنه لو انترص املكل‪ ،‬فس يكون حليفا قواي‬
‫لطرابل‪ ،‬يكرس عهنا هتديد األهبال‪ ،‬وشوكة الفرجنة‪ ،‬ولو ااهنزم‬
‫فسريهق جنودمه‪ ،‬ويكتفون مبا انهتبوه من بالدان‪ ،‬ال يطمحون‬
‫للمزيد من التوسع هجة الرشق‪ ،‬ورمبا ينقلبون عىل األسود يف‬
‫حرب طويةل‪ ،‬ويف مجيع األحوال لن خترس طرابل شيئا‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫وقد أيدته يف قوهل‪ ،‬وزدت عليه بتخويفه من ترك الساحة‬
‫حللف الطغاة خالية‪ .‬فلو الهتموا بالدان سائغة‪ ،‬فس يطمعون يف‬
‫املزيد من البالد‪ ،‬فكام يقول الشاعر (إن الطعام يقوي شهوة‬
‫الهنم)‪.‬‬
‫ومبساعدة زايد ابن أسامة‪ ،‬جنحت يف إقناع ابن معه‪ ،‬عبد هللا‬
‫بن محمد‪ ،‬ابن الشهابية‪ ،‬وزوج أخته‪ .‬حصيح إن اجلدال معه اكن‬
‫عنيفا‪ ،‬لكنه سمل لنا ابملوافقة‪ ،‬مل أدر رهبة من الغيالن امحلر‪،‬‬
‫اذلين يتناقلون عهنم أساطريا جعيبة يف بالد مل ترمه‪ ،‬إال قليال‪،‬‬
‫أم طمعا يف أن يصبح وليا للعهد‪ ،‬عقب تميور‪ ،‬كام ملح هل حامك‬
‫طرابل‪.‬‬
‫ولكن اتضح يل أن الك الظنني خمطئ‪ ،‬اكن األمر متعلقا بتميور‬
‫نفسه! هناك نفوس ما أن تلتقي حىت تتآلف‪ ،‬واكن هذا ما‬
‫حدث! ما أن تلكم الاثنان‪ ،‬حىت طابت نفس لك مهنام لآلخر‪،‬‬
‫وحتداث هبدوء بعد الغضب‪ ،‬وظهر البن الشهابية إن الفىت راغب‬
‫متاما عن هذه الزجية‪ ،‬لوال إشفاقه عىل أههل من بطش األسود‬
‫والفرجنة‪.‬‬
‫بعد أن أقنعت عبد هللا‪ ،‬ظننت أن الطريق أصبح ممهدا‪،‬‬
‫واتفقت معهم عىل أن جنلس مجيعا مع الشهابية يف الغد‪،‬‬
‫إلقناعها‪ ،‬لكين فوجئت بعائق آخر‪ ،‬مل يكن يف احلس بان!‬

‫‪444‬‬
‫(‪)49‬‬

‫أتتين ابنة الشهابية‪ ،‬زوجة حامك طرابل‪ ،‬قبل اجمللس‪ ،‬فرحبت‬


‫هبا هبدوء‪ ،‬وأان أنظر حبذر للحراس امخلسة املدجهني‪ ،‬اذلين‬
‫أتت هبم معها‪ ،‬لكين فوجئت هبا خترج من بني مالبسها سكينا‪،‬‬
‫ووضعته عىل عنقي!‬
‫فتحت مفي ألتلكم‪ ،‬لكن أحد احلراس مكمين من اخللف بغتة‪،‬‬
‫وقالت املرأة بصوت اكلفحيح‪:‬‬
‫"مؤامرة اخلاتون امحلقاء هذه‪ ،‬لن جتدي معي أاها األفاق! لو مل‬
‫ترتك طرابل فورا‪ ،‬أنت وهذا الشحاذ‪ ،‬فلن ترحال ألبعد من‬
‫قبور طرابل!"‬
‫عقدت حاجباي يف غضب‪ .‬كنت واثقا إاهنا لن جترؤ عىل قتيل‬
‫يف قلب قرص احلامك هذا‪ ،‬لو إاهنا من النوع اذلي يقتل أصال‪.‬‬
‫نزعت يدي بقوة من احلارس‪ ،‬فمل ميانعين كثريا‪ ،‬وأمسكت‬
‫بيدها أبعد السكني‪ ،‬وقلت يف غضب‪:‬‬

‫‪445‬‬
‫"ما هذه امحلاقة؟"‬
‫نظرت يل بعيون جمنونة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"لن أتركك تزحي أيم من طريق اخلاتون اي مأفون‪".‬‬
‫بدت يل ربة مزنل ساذجة‪ ،‬ال تفهم شيئا‪ ،‬فقلت حماوال هتدئهتا‪:‬‬
‫"ما شأين وشأن اخلاتون؟ لقد أتيت حملاربة الـ‪".......‬‬
‫قاطعتين‪:‬‬
‫"لست بلهاء! رجاكل وأعوانك وأمواكل من عند اخلاتون‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"يه تساعدين لعداوة بيهنا وبني الـ‪".......‬‬
‫قاطعتين مرة أخرى‪:‬‬
‫"تساعدك ل ي تزحي أيم عن اكههل‪ ،‬فيس تطيع الزواج مهنا‪".‬‬
‫نظرت لها بغري فهم‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"من يزتوج من؟"‬
‫قالت‪:‬‬
‫عيل من‬
‫"زويج حامك طرابل! يريد إزاحة أيم‪ ،‬ليزتوج ّ‬
‫اخلاتون‪".‬‬

‫‪446‬‬
‫فغرت فايه مذهوال‪ ،‬ونظرت حويل غري مصدق‪ ،‬فرفعت‬
‫سكيهنا مرة أخرى‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"سأدافع عن زويج ابدلم اي أمحق‪ ،‬ولن هتمين دروع العامل‬
‫لكها‪ ،‬همام اكنت محراء‪".‬‬
‫واندفعت تغادر املاكن‪ ،‬ويه جتهش ابلباكء! وقفت يف ماكين‬
‫متجمدا‪ ،‬فإذا بأحد احلرس ميد يده يل خبرقة مقاش‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"لقد جرحتك يف عنقك! امسح ادلم اي س يدي!"‬
‫نظرت هل مستنكرا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"آسف حقا ملا فعلنا‪ .‬إن مواليت تغري غرية غري عادية من‬
‫اخلاتون‪ .‬موالي احلامك مل يس تطع النوم طوال األس بوع املايض‪،‬‬
‫منذ خاطبته يف شأن مواليت الشهابية‪ ،‬فهو يف جشار دامئ ليل‬
‫اهنار معها!"‬
‫تركته وأرسعت للحامك‪ .‬اكن علينا أن نقابل الشهابية بعد‬
‫ساعات‪ ،‬وما كنت أتصور أن غرية النساء ستتدخل لتفسد‬
‫أمري‪ .‬لقد حضى تميور ابلكثري‪ ،‬وأجرب نفسه عىل القبول بأمر‬
‫س يجرح حمبوبته‪ ،‬اليت تنتظره يف طرابل‪ ،‬وحضيت أان بأريض‬
‫وحيايت‪ ،‬وفقد غول احلق روحه‪ ،‬أيهنار لك هذا لغرية اتفهة‪ ،‬أم‬
‫يه شهوة حقيقية دلى احلامك؟‬

‫‪447‬‬
‫اخلاتون حقا ليست ابلهتديد اليسري ألي امرأة يف العامل‪ ،‬ومع‬
‫رضاوة تكل الابنة الرشسة‪ ،‬فعيل أن أتيقن أن األمر ال يزيد‬
‫عن شكوك نساء يف بعضهن البعض‪ .‬وملا واهجت احلامك أحفمين‬
‫برده‬
‫عيل آراءها‪ ،‬وملا كربت‬‫"اي رجل‪ ،‬ذقت حياة صعبة ألم تفرض ّ‬
‫عيل‬
‫وأصبحت حاكام للك طرابل‪ ،‬اكنت حاميت امرأة أقوى‪ ،‬تعد ّ‬
‫أنفايس‪ ،‬أبعد لك هذا ألقي بنفيس يف أتون جبارة اكخلاتون؟ من‬
‫ذاق الزواج مثلام ذقته‪ ،‬مل يطلبه مرة أخرى! ال أنفي إين‪،‬‬
‫كغريي‪ ،‬معجب ابخلاتون؛ لكين أخشاها‪ .‬لها حمكة كحمكة‬
‫بلقيس‪ ،‬مع دهاء كدهاء إبليس‪ ،‬ووجه مجيل اكملالئكة‪ ،‬يغطي‬
‫قلب مرتفع اكألاكرسة! الك! لست أهال لها‪ ،‬وال يه أهل يل‪.‬‬
‫رمبا تفتت غريي بلسااهنا‪ ،‬اذلي يذيب احلديد؛ لكنين لن أرى‬
‫مهنا إال كربها‪ ،‬اذلي حيقر أي مريد‪ .‬لن أريدها‪ ،‬ولن أكون من‬
‫مريداها‪".‬‬
‫بدا يل غزهل املمزوج ابذلم مقلقا‪ ،‬لكن منطقه أقنعين‪ .‬يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬حاولت وضع نفيس ماكنه‪ ،‬وفزعت! أن أكون زوجا‬
‫للخاتون ليس ابألمر اذلي يغبط عليه املرء‪ ،‬حامت إال لو اكن‬
‫اهوي العبودية! أعوذ ابهلل من هذه الفكرة‪ .‬أكون زوجا للخاتون؟‬
‫مل أحمتل بقايئ يف خميهتا ساعة‪ ،‬فأىن يل بفكرة محقاء كهذه!‬

‫‪448‬‬
‫تركت احلامك لهينأ بدقائق من راحة قبل الاجامتع املرتقب‪.‬‬
‫أخذت أعدد جحجي‪ ،‬وأفكر يف هذا اجلدل الطويل القادم‪ .‬مل‬
‫أقابل الشهابية من قبل‪ ،‬إال للحظات معدودة‪ ،‬وال أعرفها‪،‬‬
‫ولكن امجليع يؤكد فطنهتا‪ ،‬وقوة شكميهتا‪ .‬ترى كيف أقنع امرأة‬
‫مثلها؟‬
‫جلس نا يف جملس القايض‪ ،‬ننتظر الشهابية‪ ،‬فدخلت علينا مع‬
‫ابنهتا‪ ،‬وزوجة ابهنا‪ ،‬وجلسن قبالتنا صامتات‪ ،‬بيامن تنظر يل‬
‫الابنة متحفزة‪ ،‬حىت أاكد أقسم إاهنا‪ ،‬يف أي حلظة‪ ،‬س تقفز‬
‫عيل‪ ،‬لتهنش عنقي‪ ،‬كام يفعل ابن آوى بفريس ته!‬ ‫ّ‬
‫لكن الشهابية نفسها اكنت هادئة‪ ،‬رصينة‪ ،‬تذكرين هبدوء‬
‫اخلاتون لكهنا أكرث وقارا‪.‬‬
‫تلكم القايض أوال‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"بسم هللا اذلي هل ما يف األرض‪ ،‬وما يف السامء‪ ،‬ماكل‬
‫امللكوت‪ ،‬رافع العبيد‪ ،‬وخافض امللوك‪ .‬قد مجعنا هللا ألمر‬
‫مبارك‪ ،‬أن ننظر يف حلف بني بدلين مسلمني‪ ،‬ضد أعداء‬
‫اإلسالم‪ ،‬يف زمن مل يعد املسمل يتحالف فيه‪ ،‬إال ل ي يتقي رش‬
‫أخيه املسمل! حلف خنمته بإذن هللا‪ ،‬بزواج مبارك‪ ،‬يعقد لواء‬
‫املكل ملن يرفع لواء اجلهاد‪".‬‬
‫صدرت رصخة مزجعة من زوجة احلامك‪ ،‬اليت نظرت بذهول‬
‫للقايض‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫‪449‬‬
‫"موالان وش يخنا‪ ،‬أمل حتدثين ابألمس عن إن الزواج ال جيوز‬
‫بغري كفء؟"‬
‫تنحنح القايض‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"قد وحض يل س يديت عظم الفائدة‪ ،‬وصالح احلال يف الزجية‪،‬‬
‫كام أن أمر قبول الكفء وغري الكفء يف يد الويل من انحية‪،‬‬
‫وهو موالان احلامك‪ ،‬ويف يد مواليت الشهابية‪ ،‬فهىي ثيب‪،‬‬
‫ومشهود لها ابحلمكة‪".‬‬
‫انبثقت ابتسامة مكتومة عىل وجه زايد‪ ،‬وأحسست أن ما‬
‫رأيته هذا الصباح‪ ،‬مل يكن سوى شاهد قرب‪ ،‬مدفون يف داخهل‬
‫مؤامرات حبجم األفيال!‬
‫لكن الشهابية تلكمت‪ ،‬فصمت امجليع منصتني‪ ،‬بدأت بذكر‬
‫امس هللا‪ ،‬والثناء عليه‪ ،‬مث قالت‪:‬‬
‫"ما أن مسعت بطلب الزواج اجملنون هذا‪ ،‬حىت حضكت‬
‫واس هتزأت‪ ،‬وكدت آمر بنفيك أاها القبيل من املدينة‪ ،‬وما اكن‬
‫لهيمين أن تكون غوال أمحرا‪ ،‬أو تنينا أسودا! لكين يف حيايت مل‬
‫أقطع أمرا‪ ،‬همام بدا حمامت‪ ،‬إال ابالستشارة‪ ،‬والاس تخارة‪ ،‬أما‬
‫الاستشارة‪ ،‬فاكنت وابال عليك‪ ،‬مل يكرسها إال زوج ابنيت‬
‫اهلامم‪ ،‬لغرض يف نفس يعقوب!‬
‫لكن الاس تخارة اكن أمرها جعبا! مل أشهد يف حيايت تغريا حلايل‪،‬‬
‫وتقلبا لصدري‪ ،‬بني يوم وليةل مثل اليوم‪ .‬أدركت أاهنا زجية‬

‫‪450‬‬
‫ملصلحة املسلمني‪ ،‬ال أدري أاكن يف حلمي‪ ،‬أم يف يقظيت أين‬
‫مسعت تميور اهمس يف أذين (عصمة ادلم أوىل‪.).‬‬
‫مل يبد يل كهذا الشاب الواقف أمايم‪ ،‬بل بدا رجال هميبا‪،‬‬
‫قوي العزم‪ ،‬لعهل جده العالف‪ ،‬صاحب الفضل عىل أهيل‪.‬‬
‫وهللا إن فيك أاها القبيل رس ما‪ ،‬ال يعلمه إال هللا! لعهل‬
‫اإلخالص‪ ،‬اذلي وصفه بعض الصاحلني‪ ،‬إنه قادر عىل زحزحة‬
‫اجلبال بأمر هللا! إين ألرى أنك منصور بأمر هللا‪ ،‬وهللا غالب‬
‫عىل أمره‪ ،‬ولو كره الاكفرون‪".‬‬
‫اكن حديهثا هادئا‪ ،‬واثقا‪ ،‬مفعام ابإلميان‪ .‬تكل امرأة أاتها هللا‬
‫احلمكة‪ ،‬لتعمل هبا‪ ،‬وليست اكخلاتون‪ ،‬تعمل لصاحل حالها وثأرها‬
‫فقط‪.‬‬
‫نظرت بقلق لالبنة الرشسة‪ ،‬لكين وجدت لك الوجوه قد‬
‫سكنت‪ ،‬وهدأت‪ ،‬وانطفأت الش ياطني اليت اكنت تتقافز يف‬
‫عيين الابنة الغيور‪ .‬فقلت مراتح البال‪:‬‬
‫"جزاك هللا خريا اي مواليت األمرية‪ ،‬وإن هذا أمر‪ ،‬ال يأيت من‬
‫ورائه إال اخلري بإذن هللا‪".‬‬
‫قالت الشهابية‪:‬‬
‫"حس بك‪ ،‬مل أمكل الكيم بعد‪ .‬قلت لمك إين ملا أتيت‬
‫ابالس تخارة‪ ،‬مل يطمنئ قليب لغري القبول هبذا األمر العجيب‪،‬‬
‫ألتزوج من شاب يف معر ودلي‪ ،‬مل أره قبل أسابيع قليةل‪،‬‬

‫‪451‬‬
‫فأسافر معه لبالد لفظتين قبل أن أودل‪ ،‬وأهدرت دماء وادلي‪،‬‬
‫رمحه هللا‪ ،‬بغري ذنب‪ .‬تكل ليست ببالدي‪ ،‬فأان مولودة يف‬
‫طرابل‪ ،‬ولها أنمتي‪ ،‬وفهيا عييش ومقايم‪ ،‬وإين ألخىش عىل أهلها‬
‫من ورايئ الاضطراب‪ .‬لو رحلت عن طرابل‪ ،‬فلن اطمأن يف‬
‫سفري‪ ،‬إال ومعي ابين‪ ،‬وحيهنا سأترك نعهة اهنمة‪ ،‬كزوج ابنيت‪،‬‬
‫فريسة سهةل ذلئبة جاحمة اكخلاتون! وما اكن يل أن أفعل هذا‬
‫أبدا!"‬
‫أخ!‪ ..‬ها قد عدان حلديث الغرية‪ ،‬ما كنت ألمسي حامك طرابل‬
‫ابلنعهة أبدا‪ ،‬وإين أظهنا‪ ،‬رمغ عظم قدرها‪ ،‬حامة ال تعطي زوج‬
‫ابنهتا قدره أبدا!‬
‫رددت بنفاد صرب‪:‬‬
‫"ليست اخلاتون ذئبة مرتبصة ببالدمك‪ ،‬وإاهنا لفي احلرب معنا‪،‬‬
‫وال امسي حامك طرابل ابلنعـ‪"...........‬‬
‫قاطعتين بقولها‪:‬‬
‫"المتس يل عذرا اي هذا! فقد عارشت نعهة اهنمة لس نوات‬
‫طوال‪ ،‬ولوال حصافيت‪ ،‬ألضاع ميل زويج للنساء طرابل وما‬
‫حولها! مل تعش بيننا‪ ،‬وتسمع احلاكايت العهائب عن الاليت‬
‫اذهنب عقهل من حس ناوات‪ ،‬دسهن علينا األهبال! لوال ما‬
‫أهلمين هللا به من تدبري‪ ،‬ملا اكن احلال هو حالنا اليوم‪ .‬أمثال‬
‫متن أبدا‪ .‬ولو‬
‫اخلاتون أعرفهن‪ ،‬وأخربهن جيدا‪ ،‬وإاهنن ال يؤ ّ‬

‫‪452‬‬
‫تسلطنت عىل رجل‪ ،‬همام صور هل غروره من عزة وكرامة‪،‬‬
‫فس تذهل‪ ،‬وحتوهل برضاه عبدا حقريا ألقداهما! لن أرحل من‬
‫طرابل‪ ،‬وخطر تكل امللعونة يرتبص مبدينيت‪".‬‬
‫آآآآآآآآآآآآآآآآه! هذا هو تباغض النساء‪ ،‬وكيدهن لبعض!‬
‫ال أمكل دواء لهذا العناد‪.‬‬
‫حاول احلامك أن يدافع عن نفسه‪ ،‬وأن يقسم لكن الشهابية‬
‫أخرس ته بإشارة من يدها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"قل يل اي تميور‪ ،‬ملاذا قبلت بتكل الزجية‪ ،‬رمغ أنك حتب امرأة‬
‫أخرى تنتظرك؟"‬
‫رد تميور بصوت كئيب‪:‬‬
‫"ما اكن يل أن أبين حيب فوق دماء األبرايء‪ ،‬عيل أن أحضي‪".‬‬
‫قالت اخلاتون‪:‬‬
‫"وما أطلبه أهون من هذه التضحية‪ ،‬أاها القبيل اي زعمي‬
‫الغيالن‪ ،‬لن أرحل إال إذا وجدت اخلاتون زوجا غري احلامك‪ ،‬وما‬
‫كنت ألجد زوجا لها أفضل منك! لتزتوج أنت اخلاتون‪ ،‬وترحل‬
‫هبا معنا عىل نفس املركب!"‬

‫‪453‬‬
‫(‪)50‬‬

‫"أمجلتين املفاجأة! بيامن أىت الرد الرشس من حيث ال أحتسب!‬


‫من شقيقة احلامك‪ ،‬زوجة عبد هللا! اثرت وقالت‪:‬‬
‫"أتأخذيهنا مع ودلك يف مركب واحد! وهللا ال آمن عىل زويج‬
‫مهنا‪ ،‬ولو اكنت مزتوجة‪ ،‬فإاهنا إن مل تغوه‪ ،‬أذهبت عقهل‪ ،‬وقلبته‬
‫عىل أهل بيته!"‬
‫قالت الشهابية ببساطة‪ ،‬كأمنا تدعوها للتزنه يف حديقة غناء‪:‬‬
‫"فلتأت أنت األخرى معنا إذن!"‬
‫وهنا جتهم احلامك‪ ،‬خوفا عىل أخته‪ ،‬وجتهمت األخت خوفا عىل‬
‫زوهجا‪ ،‬وجتهم الزوج من إحلاح الزوجة!‬
‫بيامن انفجر غيظي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"تكل رحةل قد ال تأيت مهنا عودة‪ ،‬وما أحب أن أمجعمك إىل‬
‫املوت معا! لكام قل عددان‪ ،‬وخف محلنا زادت آمالنا‪ .‬لن أرحل‬
‫ويثقلين نصف نساء طرابل‪ ،‬ألنكن ختشني من اخلاتون! دعوين‬
‫أخربمك أن اخلاتون ال ترى يف أي من رجالمك من هو أهل لها‪،‬‬

‫‪454‬‬
‫وال حىت القبيل زعمي الغيالن‪ ،‬أو ابن أسامة حامك طرابل!‬
‫اخلاتون ال تبحث عن زوج‪ ،‬وإمنا لك ما تبغيه هو رأس القائد‬
‫األسود‪".‬‬
‫نظروا يل بغري فهم‪ ،‬مع اس هتهان من النساء‪ ،‬فأردفت بقويل‪:‬‬
‫"ماذا تعرفون عن اخلاتون‪ ،‬قبل أن تأيت لطرابل؟"‬
‫قال ابن الشهابية‪ ،‬برسعة أندمته نظرة زوجته علهيا‪:‬‬
‫"اكنت زوجة لشهبندر سوق الفتوح‪ ،‬وورثت عنه بعض‬
‫ثروته‪".‬‬
‫قلت هلم‪:‬‬
‫"يه بنت األمري املرصفي‪ ،‬اذلي اكن قائدا للجند يف عامصتنا‪،‬‬
‫وغدر به القائد األسود‪ ،‬فسلب ماهل وس ىب نساءه‪ ،‬وقتل أغلب‬
‫ودله‪ ،‬إال واحدا جعهل هل خادما ذليال‪ .‬اكنت اخلاتون أمرية غري‬
‫متوجة عىل العامصة‪ ،‬فذاقت الويل والهوان والس يب عىل يد‬
‫األسود‪ .‬ال حتمل يف قلهبا إال حقدا عليه‪ ،‬فلن تنازعكن يف‬
‫ملككن اي نساء طرابل‪ ،‬فدعوان من هذا الشأن‪ ،‬فهىي معنا عىل‬
‫غرمينا‪ ،‬ولن جترؤ عىل مضايقتكن‪ ،‬حىت ال نرجع عن حرب‬
‫األسود‪ .‬وإذا انهتت احلرب بنرصان‪ ،‬بإذن هللا‪ ،‬فس تعود لقرص‬
‫أبهيا‪ ،‬تعمره بعد خراب‪ ،‬وترفع رايهتا ماكن راية األسود‪".‬‬

‫‪455‬‬
‫هدأت نفوس النسوة‪ ،‬رمبا ألاهنن كن يبحنث عن الهدوء‪،‬‬
‫فأطعنين فيه! أو لعلها طبيعهتن يف حب أحاديث المنمية‪ ،‬وأخبار‬
‫املايض‪ ،‬وأرسار الغرميات! أاي اكن‪ ،‬فقد انزتعت بعد مشقة‬
‫موافقة الشهابية‪ ،‬وتميور‪ ،‬وأمت القايض الزواج يف جلستنا‪.‬‬
‫ما أن أاهنينا عقد القران‪ ،‬وانفض جملس نا الصغري‪ ،‬وجلس نا مع‬
‫قايض طرابل‪ ،‬ليكتب لنا شهادته‪ ،‬حىت أىت احلرس يقولون إن‬
‫هناك رسوال من اخلاتون ينتظر‪.‬‬
‫حشب وهجىي‪ ،‬ونظرت جتاه الشهابية قلقا‪ ،‬لكهنا قالت جبفاء‪:‬‬
‫"أدخلوه‪".‬‬
‫دخل شاب صغري‪ ،‬أنيق الزي‪ ،‬فاحنىن‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"حتية وتعظمي ملواليت امللكة الشهابية‪".‬‬
‫مث أعطاها لفافة خمتومة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"هدية زواج من مواليت اخلاتون‪".‬‬
‫مدت الشهابية يدها للفافة بفضول‪ ،‬مث تداركت نفسها‪،‬‬
‫فوضعهتا جانبا‪ ،‬وأشارت بكربايء للرسول لريحل‪ .‬وما أن غاب‬
‫عنا الرسول‪ ،‬حىت قالت بغيظ‪:‬‬
‫"كيف ومىت علمت؟"‬

‫‪456‬‬
‫انقضت ابنهتا عىل الرساةل‪ ،‬ففتحهتا‪ ،‬ونظرت لها مذهوةل‪ ،‬مث‬
‫سلمهتا ألهما‪ ،‬اليت امحر وهجها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫"تكل املاكرة‪ ،‬كيف تس تطيع أن تصنع تكل األمور‪ ،‬وهللا ال أثق‬
‫فمين مبثل مكرها أبدا! كيف أرحل عن طرابل‪ ،‬وأتركها‬
‫للخاتون؟"‬

‫‪457‬‬
‫(‪)51‬‬

‫‪ ( 1 -51‬الرحيل )‬
‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬
‫"أخريا أعددان العدة للرحيل بعد شد وجذب‪ ،‬وبدأت أجتهز‪،‬‬
‫وقد زادت ثقتنا‪ ،‬وتضاعفت آمالنا‪ .‬اتفقنا عىل الرحيل ابلبحر‪،‬‬
‫ألنه أكرث أمنا‪ ،‬خاصة مع ما أصاب سفن القراصنة يف حصار‬
‫الزرقاء ادلايم‪ .‬أشهد أن هؤالء اللصوص يدافعون عن وكرمه‬
‫بقوة‪ ،‬أشد مما دافع أهلها عهنا يف الغزوة األوىل! واكن هذا‬
‫حلسن طالعنا‪.‬‬
‫لكن حمطة بالدان الوحيدة عىل البحر الرشيق يه الزرقاء‬
‫نفسها‪ ،‬اليت حترتق ابحلرب واحلصار‪ .‬وهنا سألت‪ ،‬فقال الناس‬
‫يل‪:‬‬
‫"عليك ببحار ال مثيل هل‪ ،‬هو معر ابن األرشف"‪.‬‬

‫‪458‬‬
‫اكن ميكل سفينة صغرية‪ ،‬لكهنا رسيعة‪ ،‬ويتفاخر دوما بأاهنا‬
‫أرسع ما جيري فوق البحار مجيعا‪ ،‬بأمر هللا‪.‬‬
‫حتدثت مع ابن األرشف قليال‪ ،‬ل ي أرى كيف يكون رحيلنا‪.‬‬
‫ومل أخربه ابلطبع عن أخباران وغرضنا‪ .‬فقط أعلمته بأنين أريد‬
‫الرحيل لساوة‪ ،‬لزتور الشهابية قرب أبهيا‪.‬‬
‫أخربين إن السفر طويل خطر‪ ،‬وال جدوى من حماوةل التسلل‬
‫للزرقاء‪ .‬وقال‪:‬‬
‫"ال يوجد يف بالدمك ميناء غريها‪ ،‬والبحر الشاميل ال أنصح به‪،‬‬
‫رمغ أنه أقرص وأيرس‪ ،‬أعرف حبارة طيبني يعملون فيه‪ ،‬ميكنين‬
‫أن أدلمك علهيم إن أردمت‪ ،‬لكن خطر سفن الصيادية والسور‬
‫العيل هناك كبري‪ ،‬والثغر الصغري يزحف األهبال عليه ‪ -‬كام‬
‫مسعت ‪ -‬والكبري قد هتدم‪ ،‬وخضع للقائد األسود‪ ،‬وهو طاغية‬
‫قاس‪ ،‬ال آمن عىل أمريتنا الشهابية منه‪".‬‬
‫قلت هل‪ ،‬كأنين ال أعرف مثهل وأكرث‪:‬‬
‫"مفا احلل إذن؟"‬
‫رد‪:‬‬
‫"لرتكبوا معي يف أرسع سفينة وسط البحار‪ ،‬اليوم حرب عىل‬
‫الزرقاء‪ ،‬س يعقهبا تشتت القراصنة‪ ،‬اهيجون يف لك البحر‪.‬‬
‫فلننهتز الفرصة‪ ،‬وأميض بمك رسيعا ألقىص اجلنوب‪ .‬هناك ميناء‬

‫‪459‬‬
‫صغري أعرفه‪ ،‬يس تخدمه بعض التهار رسا‪ ،‬بعيدا عن عيون‬
‫القراصنة‪ ،‬أنقلمك لهناك‪ ،‬وترحلون منه عرب بالد األحباش‬
‫والسواد‪ ،‬فرتكبوا الهنر شامال‪ ،‬حىت تصلوا لبالدمك‪".‬‬
‫بدت يل فكرة جيدة‪ ،‬رمغ طول السفر‪ ،‬وضيق الوقت‪ .‬فقط‬
‫ألدعو هللا أن يظل األسود عالقا يف الزرقاء‪ ،‬وال يشن جهومه‬
‫عىل الغرب اآلن‪.‬‬
‫وهكذا هرعنا للسفر عىل سفينة ابن األرشف (الساملة)‪ ،‬ال‬
‫حنمل إال القليل من املتاع‪ ،‬وأغاله طبعا هذا اخلطاب المثني‪،‬‬
‫اذلي أوصلته لنا اخلاتون‪ .‬ال أدري كيف تفعل هذه املرأة ما‬
‫تفعهل! كيف ويه وسط حصراء احلهاز البعيدة‪ ،‬وصلت إىل‬
‫اخلليفة لتنزتع منه خطااب يعرتف بتميور ابن زهري ملاك عىل‬
‫بالدان!‬
‫تكل رضبة قامصة‪ ،‬أفرغت فهيا لك حقدها عىل األسود! حقا‬
‫إن كيدهن عظمي! لكن همام أوتيت اخلاتون من جعائب‪ ،‬مفازالت‬
‫احلرب ضد األسود مريرة‪ ،‬غري يسرية‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬وقد أصبحت أفضل حاال مما بدأت‪ ،‬وامتلكت أقىص ما‬
‫كنت أحمل به ويزيد‪ ،‬اكن اليأس يراودين‪ .‬بعد أن اقرتبت ساعة‬
‫احلق‪ ،‬وفرغت من أمر الوريث‪ ،‬أخذت أفكر فامي هو اتل‪.‬‬
‫سأخترب اآلن معدن األمراء‪ .‬والاكرثة إين أعمل ابلفعل مك هو‬
‫خسيس هذا املعدن! سينفض أغلهبم عنا حامت‪ ،‬الوحيد اذلي‬

‫‪460‬‬
‫كنت أعقد أمال عىل شهامته ومروءته‪ ،‬هو ابن عامر‪ ،‬اذلي‬
‫غدر به األسود‪ ،‬وقتهل رش قتةل‪.‬‬
‫لكن أوان الرتاجع قد فات‪ ،‬ليتين كنت حقا زعامي للغيالن‬
‫امحلر‪ ،‬ألجد مهنم نصريا للحق‪ .‬لكن عهد الغيالن‪ ،‬ومن يعتنقون‬
‫الشهاعة مذهبا‪ ،‬قد وىل عن بالدان بغري رجعة‪.‬‬
‫أخرجت كتاب الشهاعة‪ ،‬أسيل نفيس فيه‪ .‬الغول األمحر ال‬
‫خيىش شيئا‪ ،‬وال اهاب أحدا‪ .‬ليتين أمتكل مثل هذه الشهاعة‬
‫امحلقاء‪ ،‬أو عىل األقل ألمتكل من اإلميان قدر يعوضين‪ ،‬ويثبتين‬
‫يف رحليت هذه‪ .‬آه عليك اي غول احلق‪ ،‬رمحك هللا‪ .‬مك أحتاج‬
‫اليوم لنرصتك‪.‬‬
‫هنا دخل عيل ابن األرشف‪ ،‬يدعوين لطعام أول غداء يف‬
‫الرحةل‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫"أتفاءل بأن نألك مجيعا معا أول يوم‪ ،‬لرتبطنا مودة اإلطعام‪،‬‬
‫مفا يكون يل أن أضايق ضيف مائديت‪ ،‬وما يكون ملن أطعمته‬
‫أن يغدر يب‪ .‬ولو إين أعرف ابلطبع أن رفاق الشهابية لن‬
‫يغدروا!"‬
‫ألقيت كتاب الشهاعة جانبا‪ ،‬واهنضت‪ ،‬فأمسك به ابن‬
‫األرشف متسائال‪:‬‬
‫"ما هذا؟ ال أقرأ فاعذرين إن سألت‪".‬‬

‫‪461‬‬
‫رددت عليه خمفيا ارتبايك‪:‬‬
‫"دعك منه‪ ،‬إن هو إال كتاب توارثته عن أساليف‪".‬‬
‫مصت حلظة يتأملين‪ ،‬مث خرج دون رد‪ .‬فاتبعته‪ ،‬وجلس نا عىل‬
‫مائدته‪ ،‬نتناول السمك الشهىي‪ ،‬واخلزب الساخن‪ ،‬مع بعض المتور‬
‫احلهازية الشهرية‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫‪ ( 2 -51‬حاكية أبو الشوارب )‬
‫أخذ يقص علينا حاكايت‪ ،‬وحاكايت عن البحر والبحارة‬
‫والقراصنة‪ .‬اكن خفورا مبهنته‪ ،‬وسفينته املسامة ابلساملة‪ .‬وحيفظ‬
‫قدرا هائال من أخبار البحارة‪ ،‬ومل يدخر فرصة‪ ،‬طوال الرحةل‪،‬‬
‫ليقص علينا بعضا مهنا‪.‬‬
‫"مفثال‪ ،‬ذات يوم أبطأت السفينة‪ ،‬رمغ هدوء البحر‪ ،‬ومين‬
‫الرايح‪ ،‬فنظرت أحبث عن الشاطئ‪ ،‬فأدركت أنه بعيد وأن‬
‫املاكن ليس ابلضحل‪ ،‬وملا كنت عىل عمل بقليل من معل البحر‪،‬‬
‫منذ كنت صبيا‪ ،‬خيرج مع وادله للصيد‪ ،‬فقد تعجبت من هذا‪،‬‬
‫عيل‪:‬‬
‫فرد ّ‬
‫"إاهنا الشعب! أسفل املاء هنا‪ ،‬يمنو مرجان كثيف‪ ،‬لو اصطدم‬
‫بقعر أي سفينة‪ ،‬فس يغرقها‪ .‬البحارة عادة ما يلتفون بعيدا عن‬
‫املاكن‪ ،‬ليضيعوا أايما يف مياه حضةل‪ ،‬قرب الشاطئ‪ ،‬لكين‬
‫أعرف طريقي بيهنا جيدا‪ ،‬فأسكل الطريق اخملترص ولكن حبذر‬
‫طبعا‪ .‬ذات مرة اعرتضين أبو الشوارب‪ ،‬رمبا ال تذكرونه‪ ،‬لكنه‬
‫اكن قرصاان رهيبا مشهورا يف لك ماكن‪ .‬مل تكن الزرقاء قد‬
‫سقطت‪ ،‬بعد فاكن أبو الشوارب ينتقل بني لك املواين‪ ،‬همددا‬
‫السفن‪ .‬هامجين‪ ،‬لكن الساملة احلبيبة س بقته‪ ،‬فتبعين بإرصار‪،‬‬
‫جفررته لهذه املنطقة‪ ،‬وشاهدته وأان أحضك‪ ،‬بيامن سفينته تغرق‪،‬‬

‫‪463‬‬
‫وقد قصمها املرجان‪ ،‬حىت اكدت تشطر لنصفني‪ .‬وشاهدته‬
‫يركب مركبا صغريا‪ ،‬ومل أظن هل النهاة‪ ،‬فسخرت منه‪ ،‬وقلت هل‬
‫"سألقي كل ببعض الطعام‪ ،‬واملاء العذب‪ ،‬إن حلقت شواربك‬
‫اي أاب الشوارب!"‬
‫واكن يف ضيق عظمي حقا‪ ،‬لكين مل أظنه يفعلها‪ ،‬فوجئت أان‬
‫ورجاهل به خيرج خنجره‪ ،‬ويقطع به شاربه العظمي بغلظة‪،‬‬
‫وألزمتين لكميت‪ ،‬فألقيت يف املاء قربه بعض الطعام واملاء‪،‬‬
‫وابتعدت مرسعا‪ .‬وحيامن عدت إىل ميناء الزاهرة‪ ،‬أمسك يب هو‬
‫ورجاهل يف مقهىى هناك!‬
‫أيقنت حلظهتا أين هاكل ال حماةل‪ ،‬ورقبيت س تلحق بشاربه!‬
‫لكن الرجل فاجئين للمرة الثانية‪ ،‬فقدم يل كيسا به عرشة آالف‬
‫درمه!‬
‫مل تسمعين خطئا! نعم ابلفعل عرشة آالف درمه‪ ،‬ال تنقص‬
‫واحدا! وقال يل‪:‬‬
‫"أبو الشوارب ال يأخذ يف الرب ما أخذ منه يف البحر‪ ،‬ما اكن‬
‫يل أن أثأر منك عىل الشاطئ اي من غلبين يف مملكيت‪ ،‬خذ هذا‬
‫املال‪ ،‬واجهر املالحة‪".‬‬
‫وأخذت منه املال احلرام‪ ،‬فوزعته عىل األيتام‪ ،‬والثاكىل‪ ،‬اذلين‬
‫أفقدمه أبو الشوارب عوائلهم‪ .‬وعدت للمالحة مرة أخرى‬
‫متهاهال طلبه‪ ،‬أتدري ما حدث؟ حاول مطارديت مرة أخرى‪،‬‬

‫‪464‬‬
‫لكين كنت أكرث حذرا منه‪ ،‬فهربت منه بفضل رسعة سفينيت‬
‫وخربيت الكبرية‪ .‬مفاذا فعل أبو الشوارب؟ هل تتصور؟ لقد‬
‫اعزتل البحر‪ ،‬بعد أن غلب فيه! مل يقبل أن جيد من يتفوق عليه‬
‫يف البحار‪ ،‬وأىب أن يأخذ ثأره ابلغدر يف املقايه‪ .‬رجل غريب‬
‫أبو الشوارب هذا‪ .‬هو جمرم لص‪ ،‬لكنه اكن حيمل يف قلبه شيئا‬
‫من الرجوةل"‪.‬‬
‫وأاهنىى ابن األرشف حاكيته العجيبة‪ ،‬وانهتت معها منطقة‬
‫الشعاب‪ ،‬فأرسعت السفينة مع الرحي مرسعة حنو اجلنوب‪.‬‬
‫وأخذت أتأمل بشوق وحنني صفحة املاء الهادئة أثناء الليل‪،‬‬
‫حيامن كنت صبيا‪ ،‬اكن وادلي إذا اش تدت بنا الفاقة‪ ،‬خيرج‬
‫للصيد رسا أثناء الليل‪ .‬اكن خيتار الليايل املقمرة يف الصيف‬
‫الهادئ‪ ،‬فيأخذين معه‪ ،‬ويتهه حنو املياه العميقة‪ ،‬فيصيد ما‬
‫ميكنه‪ ،‬ويرتكين ألهو كام أشاء حوهل‪ ،‬أو أتأمل النجوم الالمعة‪.‬‬
‫وجنوم البحر‪ ،‬غري جنوم الرب‪ ،‬غري جنوم اجلبل‪ .‬لك مهنا هل‬
‫مذاقه‪ ،‬ومتعته‪ .‬وحني يهنىي أيب صيده‪ ،‬يزنلين أجرجر السمك‬
‫يف جوال من اخليش حنو املزنل‪ ،‬متسلال بعيدا عن أعني جباة‬
‫الرضائب‪ ،‬بيامن يعود هو هلم ابلقارب خاواي عند املرىس‪.‬‬
‫كنت أذهب بدال من أيخ األكرب رمحه هللا‪ ،‬ألنين أحب هذه‬
‫الرحالت الليلية‪ ،‬اليت يتأفف مهنا شقيقي‪ .‬ثقل امحلل اذلي‬
‫أجرجره خلفي‪ ،‬اهون لساعات الذلة‪ ،‬والبحر ملكنا وحدان‪ ،‬أما‬

‫‪465‬‬
‫أيخ فاكن يقول إن علينا مواهجة اجلباة‪ ،‬ليكفوا أيداهم عن‬
‫اهنبنا‪ ،‬بدال من التسلل برزقنا اكللصوص‪ .‬رمحه هللا‪ ،‬ما انل غري‬
‫الس يف! وما انل أيب أيضا غري الس يف‪ ،‬وأظن الس يف ينالين‬
‫يف الهناية!‬

‫‪466‬‬
‫‪ ( 3 -51‬حاكية السمكة الفتانة )‬
‫بيامن كنت غارقا يف ذكراييت‪ ،‬انتشلين مهنا ابن األرشف قائال‪:‬‬
‫"ال تقف كثريا أثناء الليل عىل سطح السفينة‪ ،‬فنحن منر اآلن‬
‫جوار جزر الغطسان‪".‬‬
‫نظرت هل بغري فهم‪ ،‬فبدأ كعادته حي ي‪:‬‬
‫"جزر الغطسان جزر صغرية‪ ،‬يغمرها املاء عند املد‪ ،‬وتظهر‬
‫فقط يف أوقات اجلزر‪ ،‬أو عند اكامتل القمر‪ .‬يقال إاهنا اكنت‬
‫عامرة ابلساكن‪ ،‬فمتردوا وجتربوا عىل خلق هللا‪ ،‬حىت أىت ويل‬
‫من األولياء‪ ،‬دعا علهيم‪ ،‬فغطست اجلزر هبم‪ .‬ولكن ال أظن‬
‫هذا‪ ،‬فال يظهر يل فهيا ‪ -‬حيامن تربز‪ -‬أثرا ملبىن أو جحر‪ .‬لكن‬
‫البحارة خيشون مهنا املرور ليال‪ ،‬حىت ال خترج هلم كام يزمعون‬
‫السمكة الفتانة"‪.‬‬
‫سألته عن السمكة الفتانة‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫"يه خملوق رشير‪ ،‬يقال إاهنا اكنت ابنة مجيةل‪ ،‬لساحر يعمل‬
‫عند مكل عظمي‪ .‬لكهنا مل ترض مبا رزقت به من جامل ونفوذ‪،‬‬
‫فقد اكنت حسودة حقودة‪ ،‬تهنشها الغرية ملا يف يد غريها‪ .‬قالت‬
‫لنفسها ‪:‬‬

‫‪467‬‬
‫"أيقال عين مجيةل‪ ،‬وزوجة املكل أمجل؟ أيقال عين غنية‪،‬‬
‫وابنة املكل أغىن؟ أيظنونين معروفة بني الناس مرموقة‪ ،‬واملكل‬
‫أشهر؟"‬
‫حقدت كثريا عىل املكل وأرسته‪ ،‬ودبرت هلم املاكئد‪.‬‬
‫فاختلست من أحسار أبهيا شيئا‪ ،‬ألقته عىل املكل‪ ،‬فأصابه‬
‫املرض والضعف والرشود‪.‬‬
‫واحتارت زوجة املكل ملا أصاب زوهجا‪ ،‬فدارت تسأل وتأيت‬
‫هل ابحلكامء والسحرة‪ ،‬فمل يعرفوا ما أصابه‪ ،‬وما ختيلوا أن تأخذ‬
‫ابنة الساحر شيئا‪ ،‬تؤذي به س يدها‪ .‬وهنا وسوست الفتاة‬
‫احلقود للزوجة املسكينة‪ ،‬فقالت لها‪:‬‬
‫"مثل هذا اذلي يصيب الرجال إذا أحبوا! لقد سقط املكل‬
‫العجوز يف قبضة ش يطانة صغرية‪ ،‬طامعة يف اتجك اي مواليت‪".‬‬
‫قالت الزوجة املكروبة‪:‬‬
‫"وكيف هذا‪ ،‬ومن يه؟"‬
‫قالت الساحرة‪:‬‬
‫"أما ترينه يتغري إذا أتته ابنته مع صديقاهتا؟ تكل امللعونة‬
‫مميونة‪ ،‬اليت ختتال بنفسها أمام الرجال؟ إاهنا سبب تغري حال‬
‫زوجك‪ ،‬ولو طردتهيا من القرص‪ ،‬فس يعتدل حاهل‪".‬‬

‫‪468‬‬
‫غارت األم عىل زوهجا‪ ،‬وتشاجرت مع ابنهتا‪ ،‬تريد إجبارها عىل‬
‫مقاطعة صديقاهتا مجيعا‪.‬‬
‫وهنا أتت الساحرة لألمرية‪ ،‬يف صورة الوصيفة اخمللصة‬
‫النصح‪ ،‬تقول لها‪:‬‬
‫"ال أفهم مل تغضب أمك عىل صديقاتك جفأة؟ رمبا يكون يف‬
‫األمر شيئا‪ ،‬ختىش أن يعارضهنا فيه‪".‬‬
‫سألت الربيئة املسكينة‪:‬‬
‫"وأي شأن تتدخل صديقايت فيه؟"‬
‫قالت اخلبيثة‪:‬‬
‫"أما ترين موالان املكل مريض قد ضعف؟ يف هذه األوقات‬
‫تسعى املامكل لتقوية ملكها مبصاهرة احللفاء‪ ،‬حىت ال تغري وعكة‬
‫امللوك أعداءمه‪".‬‬
‫فهمت البنت ما تلمح هل الساحرة‪ .‬اكن هلم حليفا ملاك جعوزا‪،‬‬
‫تبغضه بشدة ملا عرف عنه من اش هتاء النساء‪ ،‬وإيذاءهن‪.‬‬
‫وظنت أن أهما تسعى لزتوهجا هل‪ ،‬لتقوي عرش أبهيا وأخهيا‪،‬‬
‫وقالت الساحرة‪:‬‬
‫"تستبق رفضك بإضعافك حامت‪ .‬لو بقيت صديقاتك إىل‬
‫جوارك‪ ،‬حفامت س يقوينك عىل الرفض‪ ،‬ويشددن من أزرك!"‬

‫‪469‬‬
‫غضبت البنت من أهما‪ ،‬وأرصت عىل إبقاء صديقاهتا قريبات‬
‫مهنا‪ .‬لو تنازلت يف أمر صديقاهتا اليوم‪ ،‬فاهلل أعمل ما س تهرباهنا‬
‫عىل التنازل عنه غدا!‬
‫وازداد الشقاق يف البيت‪ ،‬اذلي اكن آمنا‪ ،‬فتعجبت أم امللكة‬
‫مما دار بني حفيدهتا وابنهتا أثناء مرض الزوج‪ .‬حفاولت اإلصالح‬
‫بني الثالثة قدر اس تطاعهتا‪ .‬واندفعت الساحرة تدور بني‬
‫الثالثة‪ ،‬حامةل رسائل اجلدة‪ ،‬كأمنا تساعدها بإخالص يف‬
‫الصلح؛ لكهنا ألقت النار عىل الفتنة دوما‪.‬‬
‫وأحست اجلدة ابلتعب‪ .‬ال تفهم ما حيدث‪ ،‬ألن لك واحدة‬
‫تكمت خماوفها عن األخرايت‪ ،‬فإذا هبا حتدث الساحرة تس تفهم‬
‫مهنا عن أصل الشهار‪ ،‬فزمعت لها أن البنت الصغرى قد‬
‫وقعت يف حب غالم من غلامن أخهيا‪ ،‬وتريد الزواج منه‪.‬‬
‫ولضعة الفىت‪ ،‬وخش ية الفضيحة‪ ،‬فالوادلين يكامتن األمر‪.‬‬
‫ودست اخلبيثة من حسرها ووسوس هتا‪ ،‬ما جعل الظنون تتواىل‬
‫عىل اجلدة‪ ،‬حىت تومهت أن الفتاة قد أذنبت مع الغالم‪.‬‬
‫واثر ادلم احلار يف عروق اجلدة‪ ،‬اليت عرفت بشدهتا‪ .‬فدبرت‬
‫قتل الغالم‪ ،‬وحبست األمرية يف جسن ال يعرفه سواها!‬
‫تعجب املكل من اختفاء ابنته‪ ،‬بيامن غضب الابن ملقتل‬
‫مساعده‪ .‬وأخذ يبحث عن السبب‪ ،‬لكن الساحرة اكنت‬
‫س باقة‪ ،‬أومهته أن اجلدة ‪ -‬أم امللكة ‪ -‬ملا علمت مبرض املكل‪،‬‬

‫‪470‬‬
‫وأن موته قد يكون قريبا‪ ،‬تبغي رؤية ابهنا يه وريثا للعرش‪،‬‬
‫وذلا تكيد حلفيدها‪ .‬وبدأت بقصقصة أجنحته‪ ،‬ابس هتداف أعوانه‬
‫اخمللصني‪ ،‬ورمهيم ابهتامات ال ميكن تصديقها‪.‬‬
‫وأصيب الفىت ابخلش ية عىل املكل‪ ،‬اذلي ال ميلكه! وهذا نوع‬
‫قاتل من اخلوف‪ ،‬يصيب ابجلنون‪ ،‬ويذهب ابلعقول‪ ،‬ومك من‬
‫جرامئ ارتكهبا ويل عهد جتاه أبيه‪ ،‬وأخ يف حق أخيه‪ ،‬ممن جيري‬
‫يف عروقهم نفس ادلم‪.‬‬
‫ودبر األمري مبعاونة الساحرة ثورة دموية‪ ،‬ابس تخدام عدد من‬
‫السجناء واجملرمني‪ ،‬فقتل املكل وامللكة‪ ،‬وجدته وخاهل‪ ،‬وانفرد‬
‫ابلعرش املسموم‪ ،‬وأجلس الساحرة زوجة إىل جواره‪ ،‬جزاء‬
‫مساعدهتا هل‪.‬‬
‫لكهنا تدخلت يف ش ئون احلمك‪ ،‬فضاق هبا‪ ،‬وخيش عىل نفسه‬
‫من مكرها ودهاهئا‪ ،‬فذهب لها وقال‪:‬‬
‫"إن أخيت حبيسة اجلدران‪ ،‬اليت وضعهتا جديت فهيا‪ ،‬وإين‬
‫عيل ثأرا ألبهيا‪ .‬ولو أبقيهتا‬
‫أخىش إن أطلقهتا أن جتمع الناس ّ‬
‫عيل القادة‪ .‬أريد أن‬‫جسينة فقد هترب‪ ،‬ولو قتلهتا فرمبا يثور ّ‬
‫أسقهيا شيئا مسحورا‪ ،‬حيولها لشلك قبيح منفر‪ ،‬يبعد عهنا‬
‫الناس‪ ،‬ويعجزها‪ ،‬فال تقدر عىل معل يشء ضدي‪ .‬ال أريدها‬
‫أن متوت‪ ،‬ويف الوقت نفسه لن تظل حية!"‬

‫‪471‬‬
‫حبثت الفتاة يف أكوام السحر اليت خلفها وادلها خلفه‪ ،‬فوجدت‬
‫رشااب حيول من يرشبه إىل مسكة‪ ،‬متوت لو خرجت من املاء‬
‫اهنارا‪ ،‬وتعود يف الليل برشا‪.‬‬
‫ذهبت فرحة لزوهجا بنرصها‪ ،‬وقالت هل‪:‬‬
‫"اسقها هذا الرشاب‪ .‬يف الصباح ختتنق لو خرجت من املاء‪،‬‬
‫فال جترؤ عىل مغادرة جسهنا‪ ،‬ويف الليل يراها الناس حية‪ ،‬ال‬
‫يهتمونك بقتلها‪ .‬لك ما عليك أن تضعها يف جسن يف الصحراء‪،‬‬
‫حىت ال يأيت علهيا الهنار‪ ،‬ويه يف طريق به ماء‪".‬‬
‫أخذ املكل الشاب الرشاب امللعون‪ ،‬فأخفاه دليه يوما‪ ،‬مث‬
‫دسه لزوجته يف الرشاب‪ .‬وملا حتولت لسمكة‪ ،‬وضعها يف إانء‪،‬‬
‫وأمر رجاهل حببسها يف قلعة يف الصحراء‪ ،‬لتظل جسينة دليه‬
‫لألبد‪.‬‬
‫مل يرد أن يقتلها‪ ،‬فقد ظن أن يديه قد تلطخت بدماء كثرية‪،‬‬
‫ولو أكرث القتل عن هذا‪ ،‬فس يخشاه أعوانه‪ ،‬ولن يأمنوا هل‪ .‬كام‬
‫إنه ظن أنه قد حيتاج ليشء من حسرها يف حاميته من أعدائه‪.‬‬
‫ويف جسهنا‪ ،‬أغوت الساحرة جباملها‪ ،‬وعذب لسااهنا‪ ،‬ومكرها‬
‫أحد احلراس‪ ،‬وأومهته أاهنا حتبه‪ ،‬حىت أصبح ألعوبة يف يدها‪،‬‬
‫وأومهته أنه لو قتل زوهجا‪ ،‬فس تزتوجه وهترب معه‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫ودبرت معه حيةل ماكرة‪ .‬فأرسل احلارس رساةل للمكل‪ ،‬خيربه‬
‫أن بعض الثوار هامجوا القلعة‪ ،‬يريدون خطف امللكة ملساومته‬
‫علهيا‪.‬‬
‫وأصاب املكل الفزع‪ ،‬وخاف أن تسقط أرساره يف يد أعدائه‬
‫مع امللكة النامقة‪ ،‬فتكشف للناس أنه قاتل أبيه وأمه‪ ،‬وأنه من‬
‫دبر الثورة الومهية اليت سفكت دماء عائلته‪ ،‬لينقلبوا عليه‪.‬‬
‫هرع املكل للحصن مع جنوده‪ ،‬وأرسل مع احلارس اخلائن‬
‫رساةل للقائد ابلصمود أمام الثوار بأي مثن‪ ،‬حىت يأتيه ابدلمع‪.‬‬
‫فتح احلارس خطاب املكل‪ ،‬وغري لكامته كام أمرته الساحرة‪.‬‬
‫وذهب للقائد خيربه بفزع إن املكل اعترب حرس القلعة ممتردين‪،‬‬
‫وينوي همامجهتم‪ ،‬وقتلهم مجيعا‪ ،‬ليتخلص من زوجته‪ ،‬ملصقا‬
‫هتمة قتلها يف احلراس املمتردين‪ .‬وأبرز هل اخلطاب املزيف‪ ،‬اذلي‬
‫أصبح موهجا لقائد اجليش‪ ،‬يأمره بسحق املمتردين عند قلعة‬
‫الصحراء!‬
‫وهنا أمر القائد رجاهل ابدلفاع عن أنفسهم‪ ،‬فأخربه عش يق‬
‫الساحرة إن أفضل وس يةل لهذا يه أن جيعلوا القلعة تبدو خاوية‬
‫متاما‪ ،‬فيختبئون يف أعامقها‪ ،‬فإذا دخلها املكل ليفتشها‪ ،‬هامجوه‬
‫هو ورجاهل‪ ،‬ويباغتونه‪ ،‬فيقتلواهنم‪ ،‬واهربون بعدها إىل امليناء‪،‬‬
‫ومنه عرب البحر إىل أي بدل‪ ،‬حاملني اتج املكل‪ ،‬املزين بألف‬
‫جوهرة‪ ،‬يقتسمواهنا بيهنم‪.‬‬

‫‪473‬‬
‫وأحمك التدبري‪ ،‬فذهب املكل جبيشه‪ ،‬ليهد احلارس اخلائن‬
‫ينتظره‪ ،‬فأخربه إن املمتردين قد انكرسوا عن القلعة‪ ،‬فرتاجعوا‬
‫واحتشدوا خلف اجلبال‪ ،‬لكن امللكة تطلبه ألمر هام‪.‬‬
‫خيش املكل إن ذهب للملكة‪ ،‬أن تؤذيه بسحر ما‪ ،‬وإن‬
‫خذلها اآلن وهو قريب مهنا‪ ،‬أن تنتقم ابلهروب إىل الثوار‪،‬‬
‫فأرسل جيشه لتتبع املمتردين املزعومني‪ ،‬وذهب بصفوة جنوده‬
‫اذلين يثق متاما يف إخالصهم هل‪ ،‬ليحمتي هبم يف زايرته للملكة‪.‬‬
‫وهنا وجد املوت والقتل يف انتظاره‪ ،‬جزاءا وفاقا ملا فعهل‬
‫بأههل!‬
‫وأرسع اجلنود املمتردين اهربون من القلعة يف الصباح‪ ،‬حاملني‬
‫وعاءا كبريا من املاء‪ ،‬حيوي امللكة السمكة‪ ،‬واتجا ذهبيا‪ ،‬سالت‬
‫بلك جوهرة فيه دماء بريء‪.‬‬
‫ركب اجلنود سفينة لريحلوا هبا عن البالد‪ ،‬وفوق سطح‬
‫السفينة‪ ،‬اس مترت الساحرة يف لعب لعبهتا القاتةل يف زرع الفنت‪،‬‬
‫فألبت الرجال عىل بعضهم البعض‪ ،‬لك مهنم يظن أن اآلخر‬
‫يريد الفوز ابلتاج وحده‪ ،‬تطمع أن تفوز يه به يف الهناية وحدها‪.‬‬
‫ولكن لعبهتا ازدادت لهيبا‪ ،‬فشب قتال عنيف‪ ،‬قتل فيه لك‬
‫املالحني‪ ،‬اذلين يعرفون هذه املياه اخلطرة‪ ،‬فاصطدمت السفينة‬
‫جبزر الغطسان‪ ،‬وغرقت مبن فهيا‪.‬‬

‫‪474‬‬
‫وقبل أن متوت الساحرة بلحظة واحدة‪ ،‬انبلج الفجر‪ ،‬وحتولت‬
‫لسمكة‪ ،‬وجنت‪.‬‬
‫لكهنا بقيت ملعونة مدى احلياة‪ ،‬تذوق لك يوم طعم املوت‬
‫مرتني‪ .‬عند الفجر خينقها الهواء‪ ،‬ال تراتح أال لو غرقت يف‬
‫البحر‪ ،‬وعند الغروب يغرقها املاء‪ ،‬متوت لو مل خترج للسطح‪.‬‬
‫ويف الك احلالني‪ ،‬تطاردها اآلالم من وحوش األسامك‪،‬‬
‫وألعاجيب البحر‪ ،‬وما أكرثها‪ .‬لكهنا ما فكرت أبدا يف التكفري‬
‫عن ذنوهبا‪ ،‬بل تفجر احلقد يف قلهبا جتاه لك البرش‪ ،‬فلك من‬
‫عرب آمنا يف سفينته ليال‪ ،‬واكنت يف شلكها البرشي‪ ،‬خرجت هل‬
‫وحدثته‪ ،‬ففتنته حبديهثا‪ ،‬وجاملها ل ي تغرقه‪.‬‬
‫مرة تومه الناس أاهنا جنية من بنات مكل اجلان‪ ،‬لو تتبعها يف‬
‫املاء لن يغرق‪ ،‬وإمنا يصبح لها زوجا‪ ،‬ويف مملكهتا أمريا‪ ،‬واترة‬
‫تومهه أاهنا عروس البحر‪ ،‬س تدهل عىل كزن الكنوز يف جزر‬
‫الغطسان‪ ،‬وتغريه ابلتاج المثني‪ ،‬زامعة إنه جزء ضئيل من الكزن‬
‫املدفون‪ ،‬فيتبعها املسكني‪ ،‬حىت يدركه املد عند الفجر‪ ،‬فيغرق‬
‫وتنجو يه اكلسمكة‪.‬‬
‫يزمعون إاهنا تقول أحياان إاهنا سقطت من سفينة هامجها‬
‫القراصنة‪ ،‬فتصعد للسفينة اليت تنقذها‪ ،‬وهنا يكون أشد رشها‬
‫إذ ال هتدأ حىت تقلب لك البحارة ضد بعضهم البعض‪ ،‬حىت‬
‫اهلكوا مجيعا‪.‬‬

‫‪475‬‬
‫إن حياة البحارة أاها الغول األمحر شاقة حقا‪ .‬واخلطر لك‬
‫اخلطر أن تنشق صفوفنا‪ ،‬فليس للمترد عىل سطح السفينة‬
‫ماكن‪ .‬حىت القراصنة األجالف‪ ،‬إن اختلفوا يصفون خالفاهتم‬
‫ابدلم‪ ،‬إما من سفينتني‪ ،‬أو عىل الرب‪ .‬لكن ال تنجو سفينة أبدا‬
‫يف وجود فتّان‪ ،‬جيعل من علهيا يتنازعون‪ .‬لهذا خفطر السمكة‬
‫الفتّانة كبري جدا‪ ،‬يتطري منه البحارة أاها الغول األمحر"‪.‬‬

‫‪476‬‬
‫‪ ( 4 -51‬مصيب الش يخ الفويل )‬
‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬
‫ااهنىى ابن األرشف حاكيته‪ ،‬فصمت أفكر فهيا‪ ،‬مث انتهبت‬
‫فقلت‪:‬‬
‫"كيف علمت أين غول أمحر؟"‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"لست بغيب‪ ،‬أنت متسك بكتابك‪ ،‬اذلي يش به ما يتناقلونه‬
‫عن كتاب الغيالن فهذه السفينة نقلت غيالان محر يف عهد أيب‪،‬‬
‫وقد حىك يل عهنم حاكايت كثرية‪ .‬وإىل جانب هذا‪ ،‬مفعك‬
‫األمرية الشهابية ترحل لساوة‪ .‬الالكم كثري‪ ،‬واحلديث كثري اي‬
‫س يدي‪ .‬فبالدمك بأمكلها تتحدث عن نبأ الوريث القادم مع‬
‫الغول‪ ،‬اذلي نرصه الش يخ الفويل‪ ،‬ومنحه الرمح املصيب! لعل‬
‫هذا الشاب أو ابن الشهابية هو وريثمك املنتظر؟"‬
‫نظرت هل بدهشة‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"ماذا تسمع عن الغول والوريث؟ أتتحدث البالد عن هذا؟"‬
‫حضك وقال‪:‬‬

‫‪477‬‬
‫"لك ميناء‪ ،‬صغري أو كبري‪ ،‬يتعامل مع بالدمك تأتيه احلاكايت‪.‬‬
‫بعد أن هدم األسود مسهد جماذيب الفويل‪ ،‬وقتل أغلهبم‪،‬‬
‫هرب بقيهتم متناثرين يف البالد‪ ،‬يبرشون الناس يف لك ماكن‪،‬‬
‫حىت أصغر القرى‪ ،‬بل حىت يف قلب مضارب بين األسود‪ ،‬ويف‬
‫احلي اذلي يوجد به قرص املغوار! يتحدثون إنه ملا مع الظمل‬
‫األرض‪ ،‬ذهب زعمي الغيالن‪ ،‬فقرأ الفاحتة للفويل‪ ،‬وأدركته‬
‫غفةل‪ ،‬جفاءه الش يخ يف املنام‪ ،‬يأمره ابذلهاب إىل طرابل‪ ،‬ليهد‬
‫الوريث احلقيقي‪ ،‬فيعود به للناس‪ ،‬لينرش العدل‪ ،‬واهزم األسود‪.‬‬
‫وملا اش تىك ضعفه‪ ،‬وقةل جنده أمام األساودة الغالظ‪ ،‬قال هل‬
‫إنه ممنوح املصيب‪.‬‬
‫استيقظ زعمي الغيالن‪ ،‬فقص عىل كبري اجملاذيب رؤايه‪ ،‬فكربوا‬
‫وقالوا إن النرص آت‬
‫وملا كربوا‪ ،‬ارجتت األرض لتكبريمه‪ ،‬وأرعدت السامء‪ ،‬ونزل‬
‫املطر إال عىل بقعة واحدة من األرض‪ ،‬غش هيا نور هل جالل‪.‬‬
‫ذهب كبري اجملاذيب لتكل البقعة‪ ،‬فنبشها فوجد فهيا رمح‬
‫الش يخ الفويل‪ ،‬اذلي ال اهزم حامهل أبدا‪ ،‬فكرب‪ ،‬ومنحه لزعمي‬
‫الغيالن‪ ،‬اذلي ألقاه حنو جشرة بعيدة‪ ،‬تبعد ألف ذراع‪ ،‬فأصاهبا‬
‫حيث شاء‪ ،‬فكرب‪ ،‬وأمسى الرمح ابملصيب‪ ،‬وتوعد هبزمية‬
‫األسود‪ ،‬فقد ظهرت العالمات مجيعا‪ ،‬وحان وقت عودة‬

‫‪478‬‬
‫الوريث ملكل األجداد‪ .‬وغادر زعمي الغيالن إىل طرابل‪ ،‬ال‬
‫يغالبه إال همزوم!"‬

‫‪479‬‬
‫‪ ( 5 -51‬ش ياطني القائد األسود )‬
‫حضكت كثريا وأان أمسع تكل احلاكية الغريبة عين‪ ،‬ومل أمكل‬
‫نفيس أن أقول‪:‬‬
‫"اي هلم من أفاقني مساكني! غفر هللا هلم‪ ،‬فهم يرفعون شأن‬
‫الفويل ملا يفوق مقامات البرش! يسعدين أن يؤلبوا الناس عىل‬
‫األسود‪ ،‬لكهنم أجعزوا رحمي اآلن‪ ،‬فلو قاتلت به‪ ،‬فس يتبعين‬
‫الناس نرصة لصمن الفويل‪ ،‬بدال من اجلهاد يف سبيل هللا ضد‬
‫الطغاة والظاملني‪ ،‬طلبا للعدل يف أرض هللا‪".‬‬
‫قال ابن األرشف‪:‬‬
‫"لن أتركك حىت حت ي يل حقيقة ما دار بينك وبني اجملاذيب‪.‬‬
‫أما دعوهتم مفا يه إال جزا ًء وفاقا ألفعال األسود‪ .‬حيامن بدأ ملكه‬
‫يف الظهور‪ ،‬اكنت تصلين حاكايته السقمية‪ ،‬اليت ينرشها بني‬
‫الناس يف املواين ومدن الرشق‪ .‬اكن يزمع إن هل أنصارا من‬
‫اجلن‪ ،‬وأنه حيامن خرج من قبيةل أبيه‪ ،‬خرج هل ش يطان مكل‪،‬‬
‫اكن قد عقد حلفا مع جد األساودة األكرب‪ ،‬إذ غلبه يف قدمي‬
‫األزل‪ ،‬فعاهده إن تركه أن حيمي قبيلته‪ ،‬من أن تشق أبدا‪،‬‬
‫فأراد معاقبته عىل خروجه عن طاعة أبيه‪.‬‬
‫فقال هل القائد األسود‪:‬‬

‫‪480‬‬
‫"إين ألطلب طلبة عظمية‪ ،‬وعظم املطالب ترجو عظم البذل‪.‬‬
‫أطلب مكل البالد ووحدهتا‪ ،‬فشقي لصف األساودة حينا‪ ،‬إمنا‬
‫هو بذل لرأب صدع لك البالد‪".‬‬
‫فقال الش يطان‪:‬‬
‫"جبنودي وملكويت‪ ،‬ال أتركك خترق عهدي جلدك‪ .‬حمكت‬
‫عليك بلعنة أبدية‪ ،‬تغرق يف رمال الصحراء‪ ،‬مع صعاليك اجلن‬
‫اجملانني‪".‬‬
‫وحبسه يف واد هو جسن اجلن‪ ،‬حيبسون فيه من يصاب‬
‫ابجلنون فهيم‪ ،‬وال يرىج شفاؤه‪ ،‬فقاتلهم األسود بس يفه‪ ،‬حىت‬
‫غلهبم مجيعا‪ ،‬وأخضعهم ألمره‪ ،‬وسار هبم يبغي اخلروج من ابب‬
‫السجن‪.‬‬
‫فقال هل مكل الش ياطني‪:‬‬
‫"كيف غلبت هؤالء‪ ،‬ومجعهتم عىل لكمتك‪ ،‬ومه جمانني؟"‬
‫قال األسود‪:‬‬
‫"حيامن ختتل العقول‪ ،‬ال يبقى إال الس يف مقنعا‪ .‬ول ي يتبعك‬
‫اجلنود‪ ،‬فعلهيم أن يتبعوا عقكل وحده‪ .‬فوقهتا ال فارق بني‬
‫جندي جمنون‪ ،‬وآخر عاقل!"‬
‫وابرز مكل الش ياطني فغلبه‪ ،‬فعاهده عىل تركه‪ ،‬عىل أن‬
‫يساعده عىل البطش بأعدائه‪ ،‬همام بعدت هبم املسافة‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫وغري هذا من أساطري أرهب هبا الناس حينا‪ ،‬وحيامن ظهرت‬
‫أسطورتك أاها القبيل‪ ،‬وجدوا فيك ضالهتم‪ ،‬لتحمهيم من‬
‫ش ياطني األسود!"‬

‫‪482‬‬
‫(‪)52‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬


‫"أحسست براحة يف نفيس‪ ،‬ملا أبلغين به ابن األرشف من‬
‫أنباء‪ .‬كنت قلقا أال جييبنا أحد حيامن ندعو لتميور‪ ،‬لكن‪ ،‬يف‬
‫ظين‪ ،‬لن نواجه اآلن تكل العقبة‪ .‬مادامت الناس تنتظر‬
‫الوريث‪ ،‬فأي وريث يأتهيا لن تنازعه‪ ،‬أو تشكك فيه‪،‬‬
‫سيبدءون يف حربه‪ ،‬والسعي لقتهل فقط! ولو إنين أخىش أال‬
‫يتبعنا سوى العامة‪ ،‬فنلقى نفس مصري الوريث الاكذب‪ ،‬وأعيد‬
‫سرية أيب بأشد مهنا نكبا!‬
‫مضت بنا الرحةل أايما أخرى‪ ،‬منطلقني برسعة عظمية‪ ،‬مل مأر‬
‫مثيلها يف سفينة من قبل‪ .‬اكن البحر صافيا‪ ،‬مل يعكره مطارد أو‬
‫قرصان‪ .‬األسود بنفسه أخىل لنا الطريق‪ ،‬حبربه عىل الزرقاء‪،‬‬
‫ولو إنين متحري‪ ،‬ملاذا تشبث القراصنة ابملدينة‪ ،‬ومل يفروا مهنا‬
‫قبل أن حتارص‪ ،‬كعادهتم حني اهامجهم أحد؟ رمبا صور هلم‬
‫الغرور إاهنم قادرون عىل هزمية سفن الفرجنة‪ ،‬وجيوش‬

‫‪483‬‬
‫األساودة! وكيف هذا؟ منذ مىت اهمت القراصنة ابجملد واملعارك‪،‬‬
‫جفل اهامتهمم هو املال حفسب!‬
‫عىل أي حال لن أشكو من سهوةل رحلتنا! نزلنا يف هذا امليناء‬
‫الصغري‪ ،‬القريب من بالد األحباش‪ ،‬واكن حاهل بدائيا سيئا‪،‬‬
‫لكنه يكفي لقضاء احلواجئ‪.‬‬
‫عرثان بسهوةل عىل قافةل‪ ،‬قبلت حبملنا معها‪ ،‬مقابل أجر زهيد‬
‫إىل شامل بالد الس ّواد‪ ،‬ومهنا نرحتل قليال جلنوب بالدان‪ .‬اكن‬
‫طريق القوافل‪ ،‬املايض بيننا وبني األحباش و ّ‬
‫السواد‪ ،‬مطروقا‪،‬‬
‫خيدمه حاكم املدن وأمراؤها‪ ،‬ويندر أن تلقى فيه قاطع طريق‪،‬‬
‫لشدة العسكر علهيم‪ .‬أخذ تميور حي ي يل كيف اكنت اآلابر‬
‫متقاربة عىل طول الطريق املعبد‪ ،‬فمتر عليه جتارة خضمة‪ ،‬تعرب‬
‫خمتلف املامكل واملدن رشقا وغراب‪ ،‬وراء لك احلدود اليت نعرفها‪.‬‬
‫وأجعبتين حمكة قالها‪" :‬الطريق اآلمن ياكئف حراسه جيدا!"‬
‫وحقا وجدت أن األحباش حراس طرق خملصون! رمغ غلظهتم‬
‫وخشونهتم يف التعامل‪ ،‬وكرثة تذكرمه حلروب قدمية‪ ،‬دفن ثأرها‬
‫منذ قرون‪ ،‬لكهنم حرصوا عىل األمانة معنا يف لك بيع ورشاء‪،‬‬
‫فمل نر مهنم غشا أو غدرا‪ .‬وعلمت أن هذا ديداهنم مع لك‬
‫التهار‪ ،‬ألن احلاكم هنا اهمتون هبم كثريا‪ .‬وقد قيل يل يف سبب‬
‫ذكل حاكايت‪ ،‬أشهره إنه ذات مرة‪ ،‬أىت اتجر ومعه جارية فاتنة‬
‫عابثة‪ ،‬ألقت حببائلها عىل ابن أحد األمراء‪ ،‬وأقنعته بأن يأخذها‬

‫‪484‬‬
‫بعيدا عن صاحهبا‪ .‬وفر هبا الفىت غصبا‪ ،‬فاش تاكه التاجر‬
‫للقايض‪ ،‬وأرسل الباحثني يطلب حقه‪ ،‬بيامن غضب الوادل لزواج‬
‫ابنه من فتاة حقرية املقام‪ ،‬فأرسل خلفه القتةل‪ ،‬يطلبون رأس‬
‫زوجته!‬
‫وأىت الفىت ابلفتاة للمكل‪ ،‬يتوسل هل‪ ،‬ويظهر هل كيف إن حهبام‬
‫عظمي‪ .‬فرق قلب املكل هلام‪ ،‬وأمر األب بإيقاف س يفه‪ ،‬وطرد‬
‫التاجر املسكني‪ ،‬بعد أن عذبه‪ ،‬وصادر أمواهل‪ ،‬وقيل بل قتهل‪.‬‬
‫وهنا خاف التهار عىل جتارهتم وأرواهحم‪ ،‬وقال بعضهم لبعض‪:‬‬
‫"إذا اكن املكل ينصف حب عابثني عىل جثة العدل واحلق‪،‬‬
‫فأىن لنا أن نأمن يف تكل البالد؟"‬
‫فاهزتت األسواق‪ ،‬وضاعت أموال وأقوات كثرية‪ ،‬مع مومس‬
‫جفاف حل اكلناعق املش ئوم عىل البدل‪ ،‬حىت خىش الناس‬
‫اجملاعة‪ ،‬وظهرت بيهنم أحاديث إن هذا عقاب السامء لظمل‬
‫األرض!‬
‫فاجمتع أهل احلل والربط يف البدل‪ ،‬وأقسموا عهدا صارما ال‬
‫ينفك‪ ،‬بأال يظمل يف بالدمه اتجر أبدا‪ ،‬همام حدث‪ ،‬وأن يأمن‬
‫الغرابء عىل أمواهلم وأهلهم‪ ،‬فرحب الظمل همام كرب خرسان‪.‬‬
‫وهنا تذكرت اآلية الكرمية (قل ال ي ْمستموي الْخمبيث موالطيب مولم ْو‬
‫أم ْ مجع مب مك كم ْرثمة الْخمبيث)‬

‫‪485‬‬
‫فطمع احلاكم يف بالدان زادمه هام‪ ،‬والبالد فقرا‪ .‬وحيامن قامسوا‬
‫التهار والصناع أمواهلم‪ ،‬والفالحني أقواهتم‪ ،‬خرب احلال‪،‬‬
‫وضاع املآل!‬
‫وإذا يب أحرتق غيظا‪ ،‬إذ أجد بدلا فقريا كهذه‪ ،‬ال يوجد به ما‬
‫عندان من كنوز األرض والبحر‪ ،‬ميناءه حقري ال يقارن ابلزرقاء‬
‫أو الثغور‪ ،‬قد امتكل من القوة والرثوة ما فاق أحوالنا‪.‬‬
‫السواد‬
‫جتاوزان أرض األحباش الغليظة‪ ،‬ودخلنا يف مماكل ّ‬
‫التسعة‪ .‬وأغلب أهل تكل البالد العريقة سود البرشة بيض‬
‫القلوب‪ ،‬عىل أن رؤوسهم رسيعة الاش تعال‪ ،‬عىل املرء أن حيذر‬
‫من أقل فعل‪ ،‬قد يفرس إنه إهانة هلم‪ ،‬أو خدش لكرامهتم‪.‬‬
‫ويه بالد مجيةل ثرية‪ ،‬وأشد ما أجعبين فهيا هو الغاابت‪ .‬طوال‬
‫معري أمسع عن الغابة يف القصص واحلاكايت‪ ،‬واكن هذا أول‬
‫لقاء يل مع تكل األماكن الشاخمة!‬
‫فشاهدت ‪ -‬من بعيد‪ -‬بعض األسود‪ ،‬اليت أمسكها الصيادون‬
‫الشجعان‪ ،‬يبيعواهنا حية‪ ،‬أو بعض جدلها وأنياهبا (وقد اشرتيت‬
‫بعضه ألتباىه به أمام أهل القرية‪ .‬لكن احلقيقة‪ ،‬اكن أكرث ما‬
‫رحبته من الرشاء هو قصص الشجعان‪ ،‬عن كيف صادوا تكل‬
‫األسود من أعامق الغابة املظلمة اخلانقة!)‬
‫وأثناء توقف القافةل يف إحدى القرى‪ ،‬ذهبنا مع أحد األهايل‪،‬‬
‫جفعلنا نشاهد الزراف‪ .‬كنت ‪ -‬وأان صغري ‪ -‬شاهدت أحد تكل‬

‫‪486‬‬
‫اخمللوقات البديعة يف الزرقاء‪ ،‬حيث عرضها أحد التهار الفرجنة‬
‫عىل الناس‪ ،‬مقابل أجرة غالية‪ .‬لكنين تسللت خلف امجلوع‪،‬‬
‫وتعلقت حببال رشاع سفينته ألشاهدها‪ .‬لكهنا اليوم‪ ،‬ويه حرة‬
‫آمنة‪ ،‬بدت أبدع وأمجل بكثري‪.‬‬
‫سألت عن الغيالن كام وصفها يل الزنوج وأان صغري‪ ،‬فقيل يل‬
‫إاهنا قردة كبرية جخوةل‪ ،‬وتوجد يف أعامق الغابة يف اجلنوب البعيد‪،‬‬
‫ال يراها الناس هنا‪ .‬لكن رؤية فرس الهنر الضخم‪ ،‬بفمه‬
‫العمالق‪ ،‬عوضتين عن حرسيت‪.‬‬
‫اكنت حقا رحةل متعة لألنظار واألسامع‪ ،‬انهيك عن عطور‬
‫غريبة‪ ،‬مل تعرفها أنفي من قبل‪ ،‬تأيت ممزتجة من لك اجتاه‪ .‬عىل‬
‫أن احلديث عن تكل الرحةل ال يطول‪ ،‬فقد كنا يف جعةل من‬
‫أمران‪ ،‬وبفضل هللا مل يعطلنا يشء‪.‬‬
‫وصلنا دلار الزبرجد‪ ،‬فاس تأجران مهنا بعض امحلالني واألدةل‪،‬‬
‫ساروا بنا حنو ختوم بالدان‪ ،‬نبغي الوصول ألقرب قرية أو مدينة‬
‫عىل الهنر‪.‬‬
‫وعلمنا من امحلالني أن احلرب عىل الزرقاء وضعت أوزارها‬
‫أخريا‪ .‬هزم األسود يف البداية‪ ،‬وانشقت ثغرة يف صفوف‬
‫حصاره‪ ،‬دخل مهنا إمداد من الوقود والسالح للمدينة‪ ،‬قدمه‬
‫بعض أشقياء جبال الزرقاء فامي يزمعون‪ ،‬فقذفوا سفن الفرجنة‬
‫ابملنجنيق‪ ،‬وأحرقوها‪ .‬فاضطر جنود الفرجنة للزنول إىل الرب‪،‬‬

‫‪487‬‬
‫واشتبكوا يف معركة عظمية مع القراصنة وحلفاهئم داخل املدينة‪.‬‬
‫بيامن جاء األسود بنفسه ليقود جيوشه‪ ،‬فأغلق الثغرة‪ ،‬ومنع‬
‫القراصنة من الهروب برا أو حبرا‪ ،‬فأمعلوا القتل اذلريع يف لك‬
‫من ابلزرقاء‪ ،‬حىت قيل إن النار‪ ،‬اليت أحرقوا هبا املدينة‪ ،‬ظلت‬
‫موقدة ال تنطفئ أربعة عرش يوما‪ ،‬ال يقدر أحد عىل إطفاهئا‪،‬‬
‫ليتسلمها الفرجنة قاعا صفصفا!‬
‫وهلل األمر من قبل ومن بعد‪ .‬ها قد ذاق القراصنة كأسا اشد‬
‫مرارة مما أذاقوان!‬
‫وحيامن اقرتبنا من احلدود‪ ،‬علمنا أن األسود يف اجلنوب‬
‫جبيوشه‪ ،‬يشن محةل جديدة عىل بين سلمي‪ ،‬حلفائه القداىم‪،‬‬
‫يريد اقتالعهم من البالد متاما‪ ،‬حىت ال تقوم هلم قومة‪ ،‬وال تظهر‬
‫مهنم ثورة‪ .‬يبدو أن األسود يريد حتطمي لك من يعانده‪ ،‬قبل‬
‫اذلهاب للغرب‪.‬‬
‫السواد يكرهون األسود‪ ،‬لتحالفه مع الفرجنة‪ ،‬حىت‬
‫اكن أهايل ّ‬
‫إاهنم زمعوا يل إن الكثري من ش باهبم ذهب حملاربته يف الزرقاء‪.‬‬
‫اكن بغضهم للفرجنة رهيبا‪ ،‬ألاهنم يزنلون عىل شواطهئم بسفهنم‪،‬‬
‫فيعملون القتل والهنب اب‪،‬لقرى مث يسوقون البرش عبيدا‪،‬‬
‫وجيلبون بعض احليواانت الفريدة‪ ،‬لزتين هبا قصور ملوكهم يف‬
‫الشامل البعيدة وراء البحار‪ .‬ال أدري هل هذا من فعل الفرجنة‬
‫أم القراصنة‪ ،‬لكن الفرجنة‪ ،‬عامة‪ ،‬حيتقرون غريمه من البرش‪ ،‬ال‬

‫‪488‬‬
‫حيرتمون فهيم إال اليد اليت حتمل س يفا! يرون يف أنفسهم أاهنم‬
‫خري البرش‪ ،‬وأمجلهم ويش هبون أحصاب البرشة السوداء ابلقرود!‬
‫لعمري إن القرد ليخجل أن حيمل عقال متغطرسا‪ ،‬أو قلبا قاس يا‬
‫اكلفرجنة!‬
‫مع تقدمنا يف الطريق‪ ،‬اكن قليب خيفق القرتاب رحي بالدان‪.‬‬
‫لكين وجدت رفايق يف شغل عين‪ ،‬فتميور مع الشهابية وابهنا‬
‫عبد هللا قد أصبحوا أرسة واحدة‪ ،‬تتقارب من بعضها‪ ،‬وأبدو‬
‫بيهنم غريبا! فاعزتلهتم جتاه امحلالني‪ ،‬أحتدث وأتبادل األخبار‪ .‬اكنوا‬
‫لطفاء ودودين‪ ،‬حكوا يل حاكايت لطيفة عن املكل صفوان‬
‫مكل اجلان‪ ،‬اذلي مات عن غري وريث‪ ،‬فوضع ثروته يف قلب‬
‫جبل‪ ،‬فال جيد أحد مدخل الكزن‪ ،‬إال إن اكن فقريا حباجة إىل‬
‫املال‪ ،‬لكنه ليس بطامع يبحث عن الكنوز‪ .‬فإذا دخل وأخذ من‬
‫املال قدر حاجته‪ ،‬خرج غامنا‪ .‬وإذا أصابه اجلشع‪ ،‬ومجع أكرث من‬
‫حاجته‪ ،‬أغلقت عليه األبواب‪ ،‬حفبس بني خصور اجلبل إىل يوم‬
‫ادلين!‬
‫وحكوا عن احلورية امجليةل‪ ،‬اليت تظهر للش باب يف شلك‬
‫جعوز قبيحة‪ ،‬تطلب املساعدة‪ .‬مفن يساعدها‪ ،‬تكرمه وتزوجه‬
‫إحدى بناهتا امجليالت‪ ،‬وإن نفر مهنا‪ ،‬أتته مرة أخرى‪ ،‬يف‬
‫شلكها احلسن‪ ،‬تطلب املساعدة‪ .‬فإن أرص الرجل عىل النفور‪،‬‬
‫قالت هل من حتجر قلبه حتجر جسده فميسخ جحرا يف ساعته‪.‬‬

‫‪489‬‬
‫ومن ساعدها‪ ،‬قالت هل من جيري وراء األشاكل هو أقبح‬
‫الناس‪ ،‬فمتسخ وهجه لوجه قرد!‬
‫وعندما رأيت مرة قنفذا‪ ،‬أخربوين إن القنافذ إمنا أتت من‬
‫نسل املكل شواكن‪ ،‬اذلي اكن يؤذي أههل‪ ،‬ويظمل شعبه‪ ،‬فدعا‬
‫عليه أحد األولياء‪ ،‬مفسخ لفأر ذي شوك‪ ،‬مفن اكن يبغي جندة‬
‫مليكه مهنم‪ ،‬جرحت يده فينبذه!‬
‫وغري هذا من حاكايت السمر‪ ،‬اليت تبادلوها معي‪ .‬لكن أغلب‬
‫الليايل اكنوا يتفاخرون بصيدمه لوحوش األرض‪ ،‬أو خداعهم‬
‫للفرجنة املتكربين!‬
‫وصلنا أخري مليناء سلوطة‪ .‬وهو ميناء كبري للتهارة عرب الهنر‪،‬‬
‫بين منذ قدمي الزمن‪ ،‬يف عهد املكل الصاحل املنصور‪ ،‬ومازالت‬
‫آاثر العز والعظمة ابقية فيه‪ ،‬رمغ إن احلال تدهور به‪ ،‬مفا عاد‬
‫إال مأوى للصيادين‪ ،‬اذلين يؤجرون مراكهبم العتيقة لتهار اإلبل‪،‬‬
‫يف مومس جتارهتا قبيل احلج‪.‬‬
‫أخذان نبحث عن سفينة تقلنا‪ ،‬لكن أغلب املراكب مل تقبلنا‪.‬‬
‫اكن مومس احلج عىل وشك البدء‪ ،‬ولك املراكب قد اتفقت مع‬
‫التهار عىل نقلها‪ ،‬يريدون التنافس عىل أوائل الرعاة‪ ،‬اذلين‬
‫يكونون األشد كرما‪ ،‬واألكرث ثرا ًء‪ .‬فأول من يصل للحهاز‬
‫ببضاعته‪ ،‬يبيع أفضل من غريه‪ .‬وتعجبت كيف يقطعون تكل‬

‫‪490‬‬
‫الرحةل اخلطرية‪ ،‬معرضني أنفسهم خلطر قطاع الطرق‪ ،‬واهنب‬
‫األمراء‪ ،‬وغريها‪ .‬فرد عيل أحد الصيادين بلكمة أجعبتين‪:‬‬
‫"هذا هو اهنر حياهتم‪ .‬والهنر يشق طريقه إىل املصب‪ ،‬ال‬
‫يس تطيع أحد إيقافه حىت اجلبال!"‬
‫اكن علينا أن جنزل العطاء مبا يكفي‪ ،‬ل ي جند مركبا تقلنا‪ ،‬لكننا‬
‫اآلن يف أراض تدين لألسود ابلطاعة‪ ،‬حىت ولو مل تكن يف‬
‫قبضته بعد‪ .‬ذلا اكن علينا أن نبعد عنا الش هبات‪ ،‬فزمع تميور إننا‬
‫جتار‪ ،‬أغلقت أمامنا الزرقاء‪ ،‬ونريد نقل بعض العطور واألمقشة‬
‫رسيعا إىل العامصة‪ ،‬لنلحق مبومس الزواج يف عيد األحضى!‬
‫ول ي أحمك احليةل‪ ،‬أتيت ببعض الصناديق احملمكة‪ ،‬مفلئهتا‬
‫ابحلىص والرتاب‪ ،‬ووضعت فوقها طبقة رقيقة من األمقشة‬
‫السواد‪ ،‬مث أحمكت‬ ‫واللطائف‪ ،‬اليت اشرتيهتا من األحباش و ّ‬
‫غلقها‪ .‬والطريف‪ ،‬إن تميور وحصبه ظنوا أاهنا بضائع حقيقية‪،‬‬
‫بعض الغيالن امحلر أعطوها يل رسا‪ ،‬بعد وصولنا‪ .‬ووجدت أثرا‬
‫طيبا لهذا الومه‪ ،‬اذلي أشعرمه بوجود حرس هلم يف الطريق‬
‫يراقهبم‪ ،‬فرتكهتم يف ومههم!‬
‫وهبذه القافةل املزيفة‪ ،‬اس تأجران مركبا كبريا ذا رشاعني‪ ،‬ليصل‬
‫بنا إىل احلارضة‪ ،‬متجنبني جيوش األسود‪ ،‬وقرى بين سلمي‬
‫احملرتقة‪.‬‬

‫‪491‬‬
‫وأخريا اعتلينا الهنر‪ ،‬الهنر العظمي‪ ،‬اذلي قطعت عنا مياهه‬
‫ظلام! مك اش تقت هل!‬
‫واألمه‪ ،‬إنين أخريا يف أرض أعرفها! وأقرتب حثيثا من اهناية‬
‫الرحةل الطويةل‪.‬‬
‫وأرض اجلنوب طيبة‪ ،‬رمغ وعورهتا‪ ،‬وهبا الكثري من العشائر‬
‫والقبائل‪ ،‬اليت لها لكمة مسموعة فهيا‪ .‬ويه عشائر طيبة‪ ،‬تعيش‬
‫جنبا جلنب مع الفالحني‪ ،‬ال تفرض علهيم بطشها كام تفعل قبائل‬
‫بين األسود يف الرشق مثال‪ .‬لكهنم يعزتون بأنفسهم‪ ،‬وبأصوهلم‬
‫بفخر ال يقل عن بين األسود‪ ،‬ذلا خرجت مهنم ثورات‬
‫وحروب كثرية ضد القائد األسود‪ ،‬لكام حاول أن يبسط سلطانه‬
‫علهيم‪ .‬عىل أن تفككهم وتشتهتم يف األرض أضعفهم‪ .‬كام إن ثالثة‬
‫من أمراء جيشه أذاقومه‪ ،‬وأهايل اجلنوب مجيعا‪ ،‬أهوالا ورعبا‪،‬‬
‫وأوهلم لكبه املسمى النعامن ابن املرصفي‪ .‬اخلادم املطيع‪ ،‬اذلي‬
‫أهدر دم وادله طمعا يف زينة ادلنيا‪ .‬مل أجرؤ عىل أن أحتدث‬
‫بدعوة للوريث‪ ،‬أو نقد يف األسود‪ ،‬فال آمن أن خوف الناس‬
‫منه جيعلهم يغدرون بنا‪ .‬فاخلوف ميسخ األرواح‪ ،‬ويقلب الطيبة‬
‫رشا‪ ،‬والكرم غدرا‪ .‬فقط حيامن نصل لساوة‪ ،‬ويأمننا أهلها‪،‬‬
‫سنس تطيع ادلعوة للحرب‪ ،‬وتتوجي املكل اجلديد‪ .‬وحيامن ينرصان‬
‫‪ -‬بإذن هللا ‪ -‬أمراء الغرب‪ ،‬س يلتف حولنا أفراد اجلنوب‬
‫والرشق ولك البالد بإذن هللا‪.‬‬

‫‪492‬‬
‫مضت بنا السفينة حبذر شديد‪ ،‬لكام اقرتبنا من ماكن عىل‬
‫ضفافه كتل من غاب أو بوص‪ ،‬يطلق الرابن العنان لرسعته‬
‫خش ية من اللصوص الاكمنني‪ .‬واكن يتحرك دوما يف الظالم‬
‫احلاكل‪ ،‬أو الظهرية القاتةل‪ ،‬ألاهنام أكرث أمنا من بقية اليوم‪.‬‬
‫وبدا علينا تربم من هذا احلال‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"فقط لنتهاوز مدينة أرجي‪ ،‬وخنرج من اجلنوب األوسط إىل‬
‫اجلنوب األدىن‪ ،‬حيث سلطان القائد األسود‪ ،‬فس نأمن من‬
‫اللصوص‪".‬‬
‫سألته‪:‬‬
‫"أحتب األسود ملاك أاها الرجل الطيب؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"ال اهم أن أحبه أو أكرهه‪ ،‬قد يكون ظمل وقتل واهنب‪ ،‬لكن‬
‫ابلنس بة يل لقد أعاد األمن لنصف الهنر‪ ،‬وطهره من اللصوص‪.‬‬
‫ال أحب ظلمه‪ ،‬لكين آنس لسلطانه وأحمتي به!"‬
‫حاورته‪:‬‬
‫"يزمعون إن آخر أمراء املكل س يعود للبالد حملاربة األسود‬
‫وتوحيدها‪ .‬فلو خريت بيهنام‪ ،‬مفن ختتار؟"‬
‫قال الرجل ببساطة‪:‬‬

‫‪493‬‬
‫"وما شأين بتنازع امللوك؟ كام قلت كل‪ ،‬ال اهمين إال أن آمن‬
‫عىل بييت ورزيق‪ .‬األسود طهر نصف الهنر‪ ،‬وهو مل ميكل البالد‬
‫بعد مفن أعرفه خري ممن ال أعرفه!"‬
‫حيهنا قلت بصوت عال‪:‬‬
‫"إذن فأنت ترى أن الوريث س يكون أفضل من األسود‪،‬‬
‫فقط حني يطهر النصف الثاين من الهنر؟ رمغ إن هممة تطهري‬
‫اكمل الهنر أصعب‪ ،‬ألنك لن تكتفي بطرد اللصوص للجنوب‬
‫قليال‪ ،‬وإمنا جيب أن تسحقهم حسقا‪".‬‬
‫وحني أىت الليل والنوم‪ ،‬اقرتب مين تميور يسألين عام قصدته‬
‫حيهنا‪.‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"موالي املكل‪ ،‬إمنا أردت أن أذكرك بأصل األمور ومبدأها‪ .‬مل‬
‫خيلق الناس ليطيعوا امللوك‪ ،‬وإمنا اختريت امللوك لتسري أمور‬
‫الناس‪ .‬ما حيتاجه البسطاء يف هذه البدل‪ ،‬ليس لكامت ودعوات‪.‬‬
‫وحرب األسود ليست إال خطوة أوىل‪ ،‬س تكون رشا ال خريا‬
‫إن مل تتبعها اخلطوات األشق‪ .‬أردت أن أذكر نفيس‪ ،‬وأذكرك‬
‫معي‪ ،‬بأن األمن والرزق‪ ،‬عند أغلب البسطاء‪ ،‬يغنهيم عن‬
‫دعاوى امللوك وأنساهبم وزجياهتم امللتوية!"‬
‫مصت للحظات متفكرا‪ ،‬مث قال‪:‬‬

‫‪494‬‬
‫"مل أطمع يف هذا املكل‪ ،‬بل هو اذلي طمع يف‪ ،‬وفرض عىل‬
‫جثيت فرضا! مل أغرت به‪ ،‬وأرجو من نفيس الضعيفة أال تغرت به اي‬
‫زعمي الغيالن‪ .‬أعاهدك أمام هللا إنين لن أكون للبالد ملاك‪ ،‬وإمنا‬
‫للعباد خادما‪ ،‬ولن أهنأ قبل رفع الظمل عن البالد‪ ،‬ونرش األمن‬
‫يف ربوعها‪ ،‬أو أهكل دون ذكل‪ .‬بإذن هللا‪ ،‬لو نرصان هللا‪ ،‬فلن‬
‫أنىس البسطاء وحيواهتم يف طريقي‪".‬‬
‫ابتسمت وقلت‪:‬‬
‫"وهللا عىل ما نقول شهيد‪ ،‬الفاحتة‪".‬‬
‫وقرأان الفاحتة عىل العهد‪ ،‬مث ابغتين بقوهل‪:‬‬
‫"واآلن أين عهدك أنت؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أي عهد؟"‬
‫ظننته يريد مين أن أابيعه أو يشء كهذا‪ ،‬لكنه أحفمين بقوهل‪:‬‬
‫"تذكريي حبال العباد اليوم أمره سهل‪ ،‬وأان طريد مل ي كأمنا‬
‫هو جرمية تطلب ديم! أريد عهدك إن نرصان هللا‪ ،‬واس تقر‬
‫املكل‪ ،‬أن تذكرين مبا ذكرتين به اليوم‪ ،‬حيامن أكون ابطشا‪ ،‬قادرا‪،‬‬
‫خيىش الناس أن خيلصوا يل النصح‪ ،‬طمعا أو رهبا! ترى هل‬
‫ميكل الغول األمحر جشاعة اكفية‪ ،‬ليقول لكمة احلق يف وجه مكل‬

‫‪495‬‬
‫ابطش! بدون تكل اللكمة‪ ،‬حىت أان‪ ،‬ال آمن من نفيس عىل‬
‫نفيس! فأين عهدك اي غول؟"‬
‫عاهدته عىل ما طلب‪ ،‬ويب وخز من تأنيب مضري! حقا قد‬
‫تكون الثورة عىل احلامك الظامل حمرمة بشدة‪ ،‬حىت لتخرج عن‬
‫ذمة ادلين‪ ،‬لكن أمر هللا بقول لكمة احلق‪ ،‬ولو دفع مثهنا دما‬
‫يتناساه الناس جبنا! أفهمين طلب تميور كيف تكون الثورة‬
‫ابلس يف والقتل‪ ،‬مث الفرار‪ ،‬أيرس كثريا من املواهجة ابللكمة‬
‫الشهاعة‪ ،‬وحتمل عواقهبا! أظنه س يكون ملاك صاحلا تميور هذا‪.‬‬
‫قد ال يس تطيع الوفاء بعهده اكمال‪ ،‬كام قد ال أس تطيع الوفاء‬
‫بعهدي اكمال‪ ،‬لكن عىل أي حال مل خيلق بعد األنبياء برشا‬
‫حيسن لك حمكه! لهذا اكن املكل العادل يف ظل هللا يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫لكن ما شأين هبذا اآلن؟ كام قال تميور‪ ،‬احلديث يف هذا األمر‬
‫سهل اليوم‪ ،‬لكن قميته ال تنفع إال إن قيل بعد هزمية الطاغية‪ .‬ال‬
‫أمكل اآلن إال أمال مراوغا‪ ،‬أن تراتح بالدان‪ ،‬اليت اكتوت كثريا‬
‫فاللهم أغهثا وانرصها‪.‬‬
‫أخريا الحت لنا مدينة األرجي قريبة‪ ،‬وتنفس نا الصعداء‪ ،‬فقد‬
‫انهتىى اجلزء الشاق من الرحةل‪ ،‬بزمع الرابن‪ .‬وقريبا نصل لطريق‬
‫القوافل جنوب العامصة‪ ،‬فنعربه إىل ساوة‪ ،‬وتنهتىي رحلتنا‪.‬‬

‫‪496‬‬
‫لكن القدر خيفي لنا مفاجآت حىت اللحظات األخرية! مفن وراء‬
‫هويس قدمي‪ ،‬اكن عىل مف ترعة جهرت‪ ،‬خرجت ثالثة زوارق‬
‫للصوص أحمكوا حصار املركب‪ ،‬وصعدوا علهيا شاهرين أسلحة‬
‫علهيا لون ادلم‪ ،‬اذلي اختفى من وجوه البحارة املساكني‪،‬‬
‫واش هتت هل مياه الهنر املرتقب! فلصوص الهنر ال يرتكون وراءمه‬
‫أحياء‪ ،‬حىت ال يعود هلم مطالب ابلثأر‪ .‬بدا إننا س نقتل عىل‬
‫أعتاب الهناية بيد سارقة!‬

‫‪497‬‬
‫(‪)53‬‬

‫يقول القائد األسود‪ ،‬املغوار بن احلازم األسودي‪:‬‬


‫من يعرف قدره‪ ،‬وعظم مهته‪ ،‬وماكنته العالية بني الناس‪ ،‬فال‬
‫يأخذها‪ ،‬فهو أمحق‪ ،‬حمك عىل نفسه ابذلةل والندامة!‬
‫علمت منذ الصبا أنين ممن قالت فهيم اخلنساء‪:‬‬
‫إذا القوم مدوا أيداهم إىل اجملد‬
‫مد إليه اجملد يدا!‬
‫كنت صبيا صغريا‪ ،‬حديث السن‪ ،‬يف أول تردده عىل‬
‫الكتّاب‪ ،‬حيامن أىت للعريف ش يخ جليل‪ ،‬وصل من رحةل احلج‬
‫مؤخرا‪ .‬واجمتعنا‪ ،‬حنن الصغار‪ ،‬نتسمع بشوق ملا بدا لنا‬
‫مغامرات مذهةل‪ ،‬لكنه اكن للش يخ اجلليل عذاابت وآالم يف‬
‫رحةل اإلميان‪ .‬وإن نسيت‪ ،‬ال أنىس قوهل‪( :‬لو قيد هللا لبدلان‬

‫‪498‬‬
‫هذه ملاك قواي‪ ،‬لنرش فهيا األمن‪ ،‬وأدب الفرجنة‪ ،‬وعصم احلهاج‬
‫من األعراب‪ .‬ولكنه التخاذل أعاذان هللا من رشوره)‬
‫ورد العريف مباهيا‪( :‬ها مه أوالد األسود معي‪ ،‬عىس هللا أن‬
‫خيرج من بني ظهرانهيم من يفعلها‪).‬‬
‫وهنا انتصبت قاميت خفرا‪ ،‬لتحطمها النظرة املس تخفة من‬
‫الش يخ اجلليل‪.‬‬
‫عىل حداثة ذهين وفكري وقهتا‪ ،‬لكين عقدت العزم‪ ،‬اذلي مل‬
‫يلن حىت اليوم‪ ،‬عىل أن أوحد بالدان‪ ،‬وأجعلها قوية ابطشة‪،‬‬
‫ترهب أعداءها‪.‬‬
‫وهنا انكببت من صغري عىل تتبع حاكايت الرسل املكرمني‪،‬‬
‫وامللوك األولني‪ ،‬أنظر كيف اكن سعهيم‪ ،‬وما يه طرق جناهحم‪.‬‬
‫وملا ازدادت فطنيت‪ ،‬حبثت أكرث يف أس باب هزمية العظامء‪،‬‬
‫وضياع رحيهم‪ .‬فقد رأيت بعيين كيف اجمتع أليب لك أس باب‬
‫القوة‪ ،‬لكن أس باب الفشل غلبته يف الهناية‪.‬‬
‫أدركت عدة أش ياء‪ ،‬وضعهتا نصب عيين‪ ،‬ونصحت هبا لك من‬
‫حويل‪.‬‬
‫أوال‪ :‬إن املطالب العظمية حتتاج لبذل أعظم‪ ،‬والبد من‬
‫التضحية املؤملة يف سبيلها‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬إن النرص ال يأيت لفرد أبدا! البد من جامعة تؤيد وتنارص‪.‬‬

‫‪499‬‬
‫اثلثا‪ :‬إن العصبية ال تنرص سبيل وحدة قط! لنئ غلبت قبيةل‬
‫عىل غريها‪ ،‬أو عشرية عىل ما دواهنا‪ ،‬فإن احلرب س تظل جساال‬
‫ال ينفك! البد أن تكون امجلاعة املنارصة تعتنق فكرا ال دما‪.‬‬
‫تنرص لكمة ال قرىب‪ .‬البد من دعوة جتمع الناس حويل‪ ،‬ال هتمت‬
‫بقرابة أو قبيةل‪ .‬فقط هو الكفء اجملاهد من يليق به أن يتبعين‪.‬‬
‫وحامت‪ ،‬فاملامليك اذلين يتبعون املال‪ ،‬أدىن ماكنة من أن أتركهم‬
‫هبذه البالد أصال!‬
‫فهكذا غلبت العرب العجم‪ ،‬ودانت ادلول لس يوف اإلسالم‬
‫املطهرة‪ ،‬وغلبت العجم العرب حيامن تفرقوا‪ ،‬ونسوا نرصة ادلعوة‪،‬‬
‫لغلبة اإلثرة عىل البذل‪ ،‬وتشتت امجلاعة‪ ،‬والانتصار للعصبية‪.‬‬
‫ونظرت أيضا‪ ،‬فوجدت إن حال البالد لن يس تقمي يل إال إذا‬
‫اكن جييش ال أمري به غريي‪ ،‬ولن يس تقمي بعدي إال إذا أعددت‬
‫من ورايئ رجاال يؤمنون بلكميت‪ ،‬ويأمترون بأمري‪ ،‬ويأخذون‬
‫عهدي أمانة يمكلواهنا من بعدي‪ ،‬إذا أصابين املصيب‪.‬‬
‫واكن أول ما قابلين من بذل مؤمل‪ ،‬هو أن أترك أهل القبيةل‪،‬‬
‫وأبث دعويت بني العوام‪ .‬آمن بنرصيت فريق‪ ،‬بدأت يف‬
‫جتهزيمه‪ ،‬فلقيت األذى والسخرية من قويم‪ ،‬وقطعوا عين املال‬
‫واملعونة‪ ،‬واهنرين أيب عام سامه عبثا‪ ،‬ومعن ساممه صعالياك‪.‬‬
‫لكن هذا البذل اكن هينا عيل‪ .‬ما اش تد عيل نفيس حقا فيه‪،‬‬
‫هو اضطراري لسحق بعض من كنت أحهبم‪ ،‬وتربيت يف كنفهم‪.‬‬

‫‪500‬‬
‫حقا املطالب العظمية تتطلب بذل أعظم‪ .‬مك آملين أن اضطر‬
‫لقتل بعض من رؤوس بين األسود‪ ،‬حيامن عارضوين!‬
‫وملا ازدادت قويت وبطيش‪ ،‬وهتيأ يل مئات من األتباع‬
‫اخمللصني‪ ،‬اذلين يتبعونين أيامن حللت‪ ،‬ازدادت حاجيت للامل‪ .‬وملا‬
‫اكن الناس مه هدف رحليت املؤملة‪ ،‬لتوحيد البالد‪ ،‬فإمنا أسعى‬
‫هذا السعي لصاحلهم‪ ،‬اكن علهيم أال يكتفوا حبصد الامثر‪ ،‬فقررت‬
‫أن أرشكهم بنصيهبم يف البذل‪ ،‬ال أقول ابدلم والعرق كام أفعل‬
‫بنفيس وأهيل‪ ،‬وإمنا مبا هو أدىن من هذا‪ ،‬ابملال اليسري‪.‬‬
‫لكن وادلي‪ ،‬اذلي مل ير إال بين األسود‪ ،‬وحقوق بين األسود‪،‬‬
‫عيل وهاج‪ ،‬حىت‬ ‫وتناىس بقية البرش يف مملكتنا املعذبة‪ ،‬اثر ّ‬
‫طردين من عنده‪ .‬وإين كنت راحل حنو اجملد من قبل أن‬
‫يفعلها‪ ،‬لكهنا األقدار اليت تقسم أال جتزي إال من يبتىل‪.‬‬
‫وجدت يف العامصة أمايم حفنة من امحلقى املنتفعني‪ ،‬اذلين‬
‫منحهتم فوىض البالد ماكس با مجة‪ .‬لك هؤالء‪ ،‬اذلين مل اهمهم‬
‫يوما أنني الشعب‪ ،‬ومعاانته‪ ،‬وافتقاده ألبسط حقوقه من أمن‬
‫ومعيشة‪ ،‬اكنوا حيولون بيين وبني الهدف األمسى‪ .‬متسلحني مبا‬
‫ورثوه من أعباء اخلراب‪ ،‬اذلي أقامه امللوك السابقني‪ ،‬مبعونة‬
‫األهبال والغيالن والفرجنة والقراصنة‪ .‬حقا مك أنت عظمية اي‬
‫أميت‪ ،‬فبعد لك تكل الطعنات والهنبات‪ ،‬مازلت حية صامدة‪.‬‬

‫‪501‬‬
‫فقط حتتاجني يدي أن متد كل‪ ،‬لتخرجك معالقا اثئرا‪ ،‬من‬
‫أسفل رماد الطغاة‪.‬‬
‫كرهت بشدة أولئك املنتفعني اللصوص‪ .‬لكن اكن عيل أن‬
‫أصرب علهيم‪ ،‬قبل أن أؤدهبم‪ .‬وهنا اكن عيل بذل جديد‪ ،‬فقد‬
‫تذكرت سري بعض العظامء‪ ،‬كس يف ابن ذي يزن‪ ،‬وكيف‬
‫اس تعانوا ابحلاكم األجانب حىت حني‪ ،‬واس تقووا هبم لفرض‬
‫الطاعة يف بالدمه‪ .‬أدركت أنين إن بدأت معاندا للجميع‪،‬‬
‫فعيل أن أفرق بيهنم‪ ،‬حبلف مع هذا‪ ،‬وحرب مع‬ ‫فس هيلكونين‪ّ .‬‬
‫ذاك‪ ،‬حىت ختلص يل البالد‪ ،‬ال بأس أن أحضي ببعض املدن‬
‫والثغور للفرجنة‪ ،‬أو أن أشارك يف حروب مع املامليك‪ ،‬يقتل فهيا‬
‫األبرايء‪ .‬فتكل املدن س تفقد حامت‪ ،‬وأولئك األبرايء س هيلكون‬
‫غيةل أو جوعا‪ .‬خري لهذا وذاك أن يكون يف سبيل توحيد‬
‫البالد‪ ،‬وإحياهئا‪ ،‬عىل أن يكون يف سبيل إطعام أفواه جشعة‪،‬‬
‫ال تش بع‪.‬‬
‫وقد أثبت الزمن حسن بصرييت‪ ،‬إذ مل متض عيل أعوام قليةل‬
‫يف العامصة‪ ،‬وعىل حتالفي املكروه مع اجلبيل اجلشع‪ ،‬إال وقد‬
‫طهرت املدينة من أذانب امحلقى واللصوص‪ ،‬ووحدهتا يف‬
‫قبضيت الطاهرة اآلمنة‪.‬‬
‫وإن يوم حلفايئ الفرجنة لقريب بإذن هللا! فقط بعد أن أمت‬
‫تطهري بالدان من رجس األمراء واملامليك‪.‬‬

‫‪502‬‬
‫ولكن لكام ظننت أنين قد قطعت الشوط األطول‪ ،‬ظهر يل‬
‫أنه مازالت األخطار حمدقة‪ ،‬واألعداء مرتبصة‪.‬‬
‫مل أكد أمت توحيد العامصة‪ ،‬حىت بزغت تكل ادلعوة املزجعة‪.‬‬
‫دعوة لتوحيد البالد‪ ،‬عىل مثل ما أرغب‪ ،‬حتت يد مكل واحد‬
‫قوي‪ .‬لكنه اكن رجال كذواب‪ ،‬يزمع إنه وريث املكل‪ ،‬ويطالب‬
‫حبق آابئه! أي حق هذا ألي آابء؟ اذلين ضيعوا البدل ابجلور‬
‫والتخاذل؟‬
‫لو إنين أثق أن هذا الرجل سيس تطيع أن يفي بنصف عهدي‪،‬‬
‫التبعته‪ .‬لكن هذا الوحق مل يكتف جبمع العوام وادلهامء‪ ،‬وحشد‬
‫اجملاذيب‪ ،‬ليسلب هبم القرى الصغرية‪ ،‬وإمنا اندفع عىل خشيص‬
‫تقريعا وس با‪ .‬جعل دعوته احلقرية حتذير الناس من ظلمي! نفاق‬
‫مفضوح! هذا احلقري مض هل بعض األرجاس‪ ،‬اليت طهرت‬
‫العامصة مهنا‪ ،‬واكن يتودد هلم بش متي‪ .‬أي عاقل سريى أن لك‬
‫من قتلته‪ ،‬منذ أتيت للعامصة حىت ثورة الاكذب‪ ،‬مبن فهيم‬
‫مماليك أعدايئ‪ ،‬أقل من عدد األبرايء اذلين ذحبوا بال ذنب‬
‫سوى أن وجدوا يف ماكن يتصارع عليه أمريان‪ ،‬خالل عام‬
‫واحد‪.‬‬
‫نعم أان قتلت الكثريين‪ .‬لكين أنقذت ببذل أرواهحم أعدادا أكرب‪.‬‬
‫إاهنا الرضيبة الغالية‪ ،‬اليت جيب عىل الشعوب دفعها يف طريقها‬
‫للمهد‪.‬‬

‫‪503‬‬
‫حسقت هذا الكذوب حسقا‪ .‬هزمت جيشه املكون من رشاذم‬
‫أعدايئ‪ ،‬ومن حيسدونين‪ ،‬وتألكهم الغرية من نرص هللا يل‪ .‬لكن‬
‫بيامن تشتت عنه املامليك‪ ،‬واجلنود‪ ،‬واحللفاء‪ ،‬بقي العوام وادلهامء‬
‫اثبتني‪ ،‬يناجزونين عاما أو اثنني‪ .‬من اتبعوا املال أو السلطان‬
‫حسقهتم‪ ،‬رمغ قوهتم يف رضبة واحدة‪ .‬لكن من آمنوا ابللكمة‪،‬‬
‫مصدوا وعادوا للكر بعد الهزمية‪ ،‬مل تغلهبم إال اللكمة عندما‬
‫كشفت هلم حقيقة الكذبة‪ .‬اكن هذا درسا صارما يل‪ .‬علمت‬
‫كيف يتحول اإلنسان احلقري اذلليل‪ ،‬جلندي صامد‪ ،‬فقط ألنه‬
‫آمن بقائده‪ ،‬ويتبعه عن إخالص‪ .‬لو وجدت يف جنودي‬
‫إخالص كهذا وأان همزوم‪ ،‬ملا جنح العامل يف إيقايف‪ .‬لكن أىن يل‬
‫أن أدخل لقلوهبم‪ ،‬وأعرف هل يتبعونين افتناان‪ ،‬أم إمياان؟‬
‫عيل‪.‬‬
‫وهنا علمت مدى خطر الغرب ّ‬
‫البالد مثانية أقالمي‪ :‬ثالثة جنوبية‪ ،‬وشامل ورشق‪ ،‬والثغر‬
‫الصغري وما يتبعه‪ ،‬واإلقلمي الغريب‪ ،‬واحلارضة‪.‬‬
‫ادلعي‬
‫اكن نفوذي بعد سقوط العامصة‪ ،‬وانتصاري عىل ّ‬
‫الاكذب‪ ،‬يمتدد يف إقلمي الشامل‪ ،‬وأقالمي اجلنوب برسعة مذهةل‪.‬‬
‫أما أهل الرشق‪ ،‬فقبائل يسهل إرضاءها‪ ،‬وجعلها إما أن‬
‫تتحالف معي‪ ،‬أو تكفين رشها‪ .‬فبين األسود أقسموا يل رسا‬
‫عىل الطاعة من بعد أيب‪ .‬وبين سلمي حالفوين‪ ،‬حىت سأمت من‬
‫تفاخرمه ومضايقهتم للتهار‪ ،‬فأدبت عشائرمه‪.‬‬

‫‪504‬‬
‫أصبح ال يعوق طريقي إال قراصنة الزرقاء‪ ،‬اذلين تضخم نفوذمه‬
‫وقوهتم‪ ،‬وأقىص أقالمي اجلنوب‪ ،‬بكرثة ساكاهنا‪ ،‬وحتالف عشائرها‬
‫السواد التسعة‪ ،‬والغرب اذلي اكن بعيدا عن يدي مبا‬‫مع ملوك ّ‬
‫يفصلنا من حصراء‪.‬‬
‫فأما الزرقاء‪ ،‬فلن تنفعين وأان بال عرش‪ .‬بعهتا للفرجنة‪ ،‬مقابل‬
‫أن ينرصوين‪ .‬خضوع امليناء للفرجنة أرشف من بقاهئا بؤرة فساد‬
‫يف األرض‪ ،‬تبخ سام فامي حولها‪ .‬لو كنت أمكل أسطوال يقدر‬
‫عىل تأديب القراصنة‪ ،‬ملا احتجت للفرجنة‪ .‬عىل أي حال‪،‬‬
‫فالزرقاء ليست إال جزء صغري من البالد‪ ،‬وقد ضاع مهنا‬
‫ابلفعل منذ وقت طويل‪ .‬ومن يدري‪ ،‬فرمبا أس تطيع اس تعادهتا‬
‫يف املس تقبل من الفرجنة‪.‬‬
‫وأما حتالف بعض عشائر اجلنوب مع ملوك السواد‪ ،‬فقد اكن‬
‫أمره يسريا‪ .‬ملوك السواد أنفسهم تربءوا من لك أعدايئ‪ ،‬جملرد‬
‫إنين طهرت طرق التهارة والهنر من اللصوص! وجدوا إنين‬
‫أمحي جتارهتم‪ ،‬فتخلوا عن بين سلمي‪ ،‬وتركوين أحرقهم بسهوةل‪.‬‬
‫وبيشء من جمامةل ورشوة‪ ،‬وبعض من قوة وترهيب‪ ،‬س يخضع‬
‫يل اجلنوب‪ .‬فقط عندما أمكل عددا اكفيا من اجلند لوضع حامية‬
‫يف لك مدينة‪ ،‬فاس تغين عن حلفايئ من أمرائه‪.‬‬
‫مك كنت أمهل الغرب‪ ،‬وأس هتني بشأنه! لكن درس الوريث‬
‫أصابين ابلفزع!‬

‫‪505‬‬
‫ملاذا ختىش الغرب أاها املغوار؟ أختىش حصراء يسكهنا‬
‫فالحون!‬
‫هكذا يسألين أعواين‪ .‬محقى ال يقميّون األمور‪.‬‬
‫الغرب ساكنه ثالثة‪ .‬فالحون‪ ،‬ومماليك وأثرايء‪ ،‬وهاربون‪.‬‬
‫الهاربون‪ ،‬س هيربون مرة أخرى ملا وراء البالد‪ .‬بعضهم قد يقف‬
‫وحياربين‪ ،‬لكين ال أخشامه‪ .‬من هرب مرة س هيرب الثانية‪.‬‬
‫أما املامليك‪ ،‬فهم عىل كرثهتم مشتتون كعادهتم‪ .‬ال أخىش مهنم‬
‫حراب إال قليال‪ .‬لكهنم يكزنون أنفسهم يف قالع حصينة‪ ،‬وتكل‬
‫القالع اليت مل تتعرض لرضابت فرجنة أو أهبال‪ ،‬أو حىت‬
‫حروب عنيفة مع األمراء‪.‬‬
‫ألدمر تكل القالع أحتاج ألسلحة وخربة ال أملكها‪ .‬وحرب‬
‫القالع طويةل‪ .‬قالع مل حترق من قبل‪ ،‬كقالع الرشق والشامل‪،‬‬
‫أو تقلب لقصور مرفهة‪ ،‬كقالع أمراء الوسط واجلنوب‪ .‬ولو‬
‫اس تعنت ابألهبال وأهل السور العيل‪ ،‬فسأجد التحريض من‬
‫الصنف الثالث‪.‬‬
‫أختىش الفالحني اي موالي؟ وأي فالحني! أولئك اذلين‬
‫يعيشون عىل مطر وبرئ!‬

‫‪506‬‬
‫الغرب أفقر األقالمي الامثنية‪ .‬وهذا الفقر جلب هل هدو ًء وأمنا‬
‫جعهل حقا أغىن األقالمي! وفالحوه ممترسون عىل احلرب‪ ،‬بسبب‬
‫نزاعهم مع األمراء‪.‬‬
‫اكن هذا هو ادلرس‪ ،‬اذلي تعلمته من الوريث الاكذب‪.‬‬
‫الفالح احلقري ال يس هتان به إن حارب مؤمنا بقضيته‪ .‬لو دخلت‬
‫الغرب غازاي مع حلفاء يكرههم الناس‪ ،‬اكألهبال والفرجنة‪،‬‬
‫فس تحرض تكل الفرئان‪ ،‬املتحصنة يف قالعها‪ ،‬الفالحني ّ‬
‫عيل‪،‬‬
‫كام حرض الاكذب فاليح الشامل ضدي‪ .‬س يدعواهنم للجهاد‬
‫ضدي‪ .‬وحرهبم لن تكون سهةل‪ ،‬لكرثة خربهتم‪ ،‬وتباعد قرامه‪،‬‬
‫وغلبة الصحراء املرهقة جلييش بني أراضهيم‪.‬‬
‫اكن جيب أن أغزو القلوب قبل البيوت‪ .‬جيب أن أكون ملاك‬
‫متوجا من قبل أن أخطو خطوة واحدة يف الغرب‪ .‬جيب أن‬
‫يرهبين الناس‪ ،‬ويهنزموا قبل أن أحارهبم! وجيب أن خيضع لك‬
‫شرب يف اجلنوب يل‪ ،‬حىت ال يثور أثناء انشغايل يف حصار‬
‫القالع الطويل‪ .‬لهذا‪ ،‬اكن الغرب جيربين عىل أن يكون آخر‬
‫حريب‪.‬‬
‫كدت أن أفعلها لوال أيب!‬
‫لكام ظننت أنين اقرتبت من الظفر‪ ،‬ظهرت عقبة‪ ،‬وتكل املرة‬
‫اكن أيب واضعها‪.‬‬

‫‪507‬‬
‫هذا احلقود‪ ،‬اذلي نيس إنين ابنه‪ ،‬ونيس إن هذه بالده‪،‬‬
‫وخيش عىل نفوذ قبيةل‪ ،‬وعصبية دم‪ ،‬حفرض أمراء الغرب‬
‫ضدي! أخرتين حركته احلقرية تكل عامني عىل األقل! اكن جيب‬
‫أن انتظر حىت تصبح قبائل بين األسود يف سلطاين بعد موته‪،‬‬
‫وكنت مضطرا للصرب عىل غزو الزرقاء‪ ،‬وهمادنة قراصنهتا‪،‬‬
‫ليقطعوا طريق الوريث املزعوم‪ .‬فلست يف حاجة لوريث‬
‫جديد‪ ،‬يلتف الناس حوهل كام املرة األوىل‪ .‬واضطررت لتدمري‬
‫الثغر الكبري أوال‪ ،‬كدرس ألمراء الغرب‪ ،‬وألختلص من نفوذ‬
‫الرجل القوي فيه‪ ،‬ابن عامر‪ ،‬مث أنسحب ألول مرة من مدينة‬
‫فتحهتا‪ ،‬ألنين ال أس تطيع الاحتفاظ هبا‪ .‬تبا هل من وادل! ومك‬
‫معيقة خيانته لهذا الوطن‪.‬‬
‫لكين اس تغللت الوقت فامي هو خري‪ ،‬ختلصت من نفوذ بين‬
‫سلمي يف اجلنوب‪ ،‬حتالفت مع عدد من املاكرين يف الرشق‪،‬‬
‫لتسهيل غزو األهبال للثغر الصغري‪ ،‬ألنين احتاهجم بقوهتم يف‬
‫حرب الغرب‪ ،‬بيامن حرضت القراصنة‪ ،‬وقويت دفاعاهتم‪ ،‬أثناء‬
‫جمامليت األوىل هلم‪ ،‬ليكونوا شوكة يف حلق الفرجنة‪.‬‬
‫اكنت حرب الزرقاء أكرب جناحايت‪ .‬مك آذيت الفرجنة هبا! جعلهتم‬
‫خدما يل‪ ،‬يدمرون القراصنة‪ ،‬ولكن بعد أن تدمرت قوهتم‪،‬‬
‫السواد دلاخل‬
‫وأسطوهلم املزجع! رسبت املقاتلني واجملاهدين من ّ‬
‫املدينة‪ ،‬وأبقيهتا مغلقة‪ ،‬أمنع من فهيا من الهروب‪ ،‬بزمع احلصار‪،‬‬
‫ألجربمه عىل الصمود داخلها! كنت أمنح الفرجنة الزرقاء‪ ،‬وأبدأ‬

‫‪508‬‬
‫أوىل خطوات سلهبا مهنم بتدمري أسطوهلم! اكن رشطي صارما‪:‬‬
‫"لو جنت سفينة قراصنة واحدة‪ ،‬لتؤذي جحايج يف املس تقبل‪،‬‬
‫فأان يف حل من عهدمك‪ ،‬بيامن اكن فعيل ساحقا‪ ،‬إذ مل أترك للفرجنة‬
‫يف املدينة إال الرماد! دفعوا مثنا‪ ،‬لبعض احلطام‪ ،‬آالفا من‬
‫جنودمه‪ ،‬وعرشات من سفهنم‪ ،‬وكنت وبالدي الراحبني‬
‫الوحيدين يف املعركة!"‬
‫مث مات وادلي‪ ،‬يش يع البعض إن بعضا من أحبايئ جعلوا‬
‫بهنايته‪ ،‬ولو إن الرجل املعاند اكن أصال عىل حافة القرب‪.‬‬
‫اليوم أصبح بين األسود وس يوفهم رهن إشارة مين أخريا‪.‬‬
‫واألهبال والفرجنة يسريون معي يف جييش‪ ،‬وقد أعددت هلم‬
‫مفاجأة عظمية‪ ،‬أشد من مفاجأة الزرقاء‪.‬‬
‫اليوم أحمو خطااي أيب‪ ،‬وخطااي امللوك قبيل يف مسرييت للغرب‪.‬‬
‫اليوم يوم وحدتك اي وطين‪ ،‬فافرح واس تقبلين‪.‬‬
‫فقط خطوات قليةل‪ ،‬ويصل اجملد لنا‪.‬‬
‫فقط خطوات قليةل‪.‬‬

‫‪509‬‬
‫(‪)54‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬


‫" لكام تصورت أن األسوأ قد مىض‪ ،‬زادت اخملاطر حدة‪،‬‬
‫واقرتبت النصال أكرث من حبل الوريد‪ .‬فبعدما احتلت عىل‬
‫لصوص الهنر‪ ،‬وبعهتم (بضائعي) حبياتنا‪ ،‬وهربنا مهنم مرسعني‬
‫يطاردوننا‪ ،‬بعدما اقتسموا غنمية من تراب وحىص‪ ،‬وقعنا يف‬
‫مكني جلند األسود‪ ،‬معد للصوص الهنر‪.‬‬
‫طلبوا منا أن يفتشوننا‪ ،‬واكن هذا معناه هالكنا حامت‪ ،‬حيامن‬
‫يعرثون عىل درع الغيالن امحلر‪.‬‬
‫تسللت هبدوء للخلف‪ ،‬بيامن يفتش اجلنود البحارة‪ .‬قلت‬
‫لقائدمه‪ ،‬عندي أمر هام‪ ،‬أريد أن أريه كل‪ ،‬فأس تأذنك يف‬
‫اذلهاب ملتاعي‪ .‬قبل القائد‪ ،‬لكنه بفطنة أرص عىل أن يزنع أوال‬
‫سالح رفايق‪.‬‬

‫‪510‬‬
‫أرسعت حنو قاع املركب‪ ،‬حيث ختزن املؤن‪ ،‬فقبضت قبضة‬
‫من دقيق‪ ،‬بللهتا ابملاء‪ ،‬فأصبحت كرة صغرية من جعني‪ ،‬حبثت‬
‫رسيعا عن يشء أمحر أصبغها به‪ ،‬فمل أجد إال أن أجرح نفيس‬
‫وأصبغها بدمايئ‪ .‬وجريت ملتاع تميور‪ ،‬فاس تخرجت هذا‬
‫اخلطاب املزين اذلي تعلوه أختام اخلليفة‪ ،‬وحامك طرابل‪ ،‬وقاضهيا‬
‫فلففته‪ ،‬ووضعت كرة العهني امحلراء عليه‪ ،‬كأمنا يه خمت هل‪،‬‬
‫ودعوت هللا أن ينخدع هبا‪.‬‬
‫صعدت اثنية‪ ،‬فوجدت اجلنود يس تعدون لتفتيش متاعنا‪،‬‬
‫فصحت هبم‪:‬‬
‫"انتظروا!"‬
‫نظروا يل متحفزين فقلت متعبا‪:‬‬
‫"هذه رساةل خمتومة كام ترون‪ ،‬هل ترى عىل ظهرها هذا‬
‫اخلمت املل ي أاها القائد؟ إاهنا رساةل من مكل األحباش‪ ،‬للقائد‬
‫األسود موالان املكل املغوار‪ .‬كنا ذاهبني هل هبدااي‪ ،‬لوال أن رسقها‬
‫اللصوص منا عند الهويس السابق‪".‬‬
‫نظر يل قائد اجلند ذو الزي السود بتحفز‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"لن نرتك اللصوص اهنئون ويرتعون يف اهنران‪ .‬امضوا عىل بركة‬
‫هللا‪ ،‬وبإذنه سننال مهنم‪ ،‬ونعيد بضاعتمك‪".‬‬

‫‪511‬‬
‫وتركوان منر‪ ،‬بيامن مجعوا بعضهم الس تعادة هدااي قائدمه املزعومة!‬
‫وتركوا معنا بعض احلرس حىت نصل للعامصة‪.‬‬
‫تسللنا أثناء الليل هاربني من السفينة س باحة‪ ،‬حىت وصلنا‬
‫للشاطئ‪ ،‬حممتني ابلغاب والبوص‪ ،‬من مطاردة دؤوب قام هبا‬
‫جنود األسود لنا‪.‬‬
‫وبعد مغامرة شاقة‪ ،‬غلهبا الطني‪ ،‬اذلي أاثر جنون الشهابية‪،‬‬
‫األمرية اليت عاشت حياهتا يف القصور‪ ،‬التحقنا أخريا بقافةل‬
‫ذاهبة لساو‪،‬ة فإذا بنا نقع يف أيدي (شهاب الرشكيس)‪.‬‬
‫اكن (شهاب الرشكيس) حامك مدينة ساوة‪ ،‬حانقا ّ‬
‫عيل منذ أول‬
‫مرة زمعت فهيا إنين زعمي الغيالن‪ ،‬واكن ممن ميالئون األسود‪،‬‬
‫ومدينته‪ ،‬اليت ليست إال حصن كبري‪ ،‬حيمي الطريق املؤدي‬
‫للواحات اخلصبة من غارات األعراب‪ ،‬تتحمك يف الطريق‪ ،‬اذلي‬
‫يبدأ من بعد جنوب العامصة بقليل‪ ،‬حىت الواحات‪ ،‬فشدد‬
‫مراقبته بأمر س يده ل‪،‬ه وإذا به يتعرفين‪ ،‬فأمسك يب!‬
‫اضطررت ألن أزمع إنين وحدي‪ ،‬تركت الشهابية وتميور وعبد‬
‫هللا مع التهار يمكلون مسريهتم لساوة‪ ،‬وسلمت نفيس بال قتال‬
‫جلند األمري‪.‬‬
‫اقتادوين لسجن يف قعر القلعة‪ ،‬حتت حراسة مشددة‪ ،‬إىل أن‬
‫يتدبر أمر إرسايل لس يده‪ .‬اكن األمر عىل ما يبدو مرباك‪ ،‬ألن‬
‫األسود يظن أنين قتلت‪ .‬وفهمت من أحاديث اجلنود أن حسام‬

‫‪512‬‬
‫األسود يظهنا مؤامرة عليه للطعن يف إخالصه للقائد األسود‪.‬‬
‫فبدوت يف جسين مشلكة‪ ،‬ال يعرف الرشكيس لها حال‪.‬‬
‫لكن احلل أىت رمغ أنفه! لقد وصل املكل ساملا إىل ساوة‪،‬‬
‫واثرت‪ ،‬واثرت خلفها لك البالد!‬
‫ادلعوة اليت انتظرها الناس طويال‪ ،‬بعدما برش هبا ادلراويش‪،‬‬
‫قد حتققت‪ ،‬فأتوا من لك جفاج األرض لينرصوه‪ .‬ادلعوة للجهاد‬
‫ضد الطغاة‪ ،‬وتوحيد البالد حتت ظل مكل واحد‪ ،‬يطرد مهنا‬
‫أعداء ادلين من الفرجنة واألهبال قد تأججت‪ .‬جفرح سقوط‬
‫الزرقاء‪ ،‬والثغر الصغري قد خب صديده يف وجوه أعوان األسود‬
‫أخريا‪ ،‬ليطهر بدلان من ّمحاه‪.‬‬
‫أخرجين الرشكيس من جسين معززا مكرما‪ ،‬وأعلن جبنب إنه‬
‫منضم للمكل!‬
‫وذهبت لساوة‪ ،‬تس بقين األخبار عن إن األسود مجع جيشا‬
‫عظامي بال مثيل‪ ،‬وسيسري حنو واحات ساوة مدمرا لك أمري‬
‫يقف يف طريقه‪ ،‬حىت يصل لرأس املكل‪.‬‬
‫لقد بدأت احلرب املطهرة‪ ،‬اليت سعيت لها طويال‪.‬‬
‫أخريا‪...‬أخريا س نحرر بالدان‪.‬‬
‫فقط لنصرب قليال حىت نتنسم احلرية‪.‬‬
‫فقط لنصرب قليال‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫(‪)55‬‬

‫‪ ( 1 -55‬فـقــراء )‬
‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬
‫"دخلت ساوة دخول الفاحتني‪ .‬ووجدت جملس احلرب منعقدا‬
‫فهيا بزعامة الشهابية‪ ،‬اكنت‪ ،‬مبا لها من خربة يف حمك طرابل‪ ،‬قد‬
‫تولت زمام األمر‪ ،‬للسري يف الاجتاه الصحيح‪ .‬فأرسلت الرسل‬
‫للك ماكن يف البالد‪ ،‬تطلب البيعة للمكل اجلديد‪ .‬أرسلت‬
‫رسال حىت لبين األسود‪ ،‬وللقائد األسود نفسه!‬
‫وأتت الوفود تلو الوفود‪ ،‬من أهال فقراء‪ ،‬وصيادين معوزين‪،‬‬
‫وحماربني ترشذموا عن ساداهتم‪ ،‬يس تجيبون لنا‪.‬‬
‫اكن ظهوري يف درعي األمحر جاذاب لآلالف من البسطاء‪.‬‬
‫حفاكية الغول األمحر‪ ،‬حامل مصيب الفويل‪ ،‬املنصور بأمر هللا‪،‬‬
‫قد تركت أثرا معيقا فمين ظلمهم القائد األسود‪.‬‬

‫‪514‬‬
‫لكين كنت أدرك أن لك هذا زبد‪ ،‬يذهب جفاء‪ .‬لقد نرص‬
‫مثل هؤالء الوريث الاكذب‪ ،‬فمل ميلكوا أمام القائد األسود إال‬
‫أن يذحبوا اكلنعاج‪.‬‬
‫اكن جيب أن نس تعني ابألمراء‪ ،‬اذلين بدأ هبم األمر‪ ،‬وإلهيم‬
‫اهنايته‪ .‬جتاذبت مع أطراف جملس احلرب احلديث‪ ،‬واس تقرران‬
‫عىل أن ندعو لك زعامء الغرب مرة أخرى‪ ،‬يف قرص ابن‬
‫العبديل‪ .‬وأرصت الشهابية عىل أن تضع يف رساةل ادلعوة هتديدا‬
‫صارما ملن يتخلف‪ ،‬ولو إنين أظن أن هذا لن جيدي‪ ،‬مفن‬
‫يرغب يف نفاق األسود‪ ،‬س يأتينا هو اآلخر‪ ،‬حىت يتحسس‬
‫األخبار‪ ،‬لكهنا ردت بأنه عىل املكل أال يرتك شيئا للظنون‪،‬‬
‫فعليه أن يأخذ بلك األس باب‪.‬‬
‫وأىت األمراء همرعني لهذا امجلع بال استبطاء‪ ،‬قد ظنوا أن املكل‬
‫واألقالمي توزع غنمية فيه من قبل أن تكسب! مل أجد من بيهنم‬
‫سائال‪ ،‬أو مشكاك يف أمر الوريث‪ ،‬فقط اكنوا يسألون عن‬
‫العطااي‪ ،‬والوالايت اليت س متنح هلم! حىت أصابين الضيق‪ ،‬فمل‬
‫أحمتل‪ ،‬واندفعت صارخا بيامن يتشاجر املركون ابن آسف مع‬
‫قلبهك ادلمرييل عىل مدينة رسبة‪ ،‬وهتفت‪:‬‬
‫"أتعلمون من أان؟"‬
‫قالوا بأصوات مرجتفة‪:‬‬
‫"زعمي الغيالن امحلر‪".‬‬

‫‪515‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وأتعلمون من هذا؟" مشريا إىل تميور‪.‬‬
‫ردوا‪:‬‬
‫"ملكنا ووارث بالدان‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أين بيعتمك؟ أتقسمون هل عىل الطاعة؟"‬
‫فردوا فورا‪:‬‬
‫"نقسم‪".‬‬
‫وهو قسم لو تعلمون خسيس! لقسم اللص أكرث وثوقا منه!‬
‫قلت مرصا ‪:‬‬
‫"أتبايعونه عىل السمع والطاعة‪ ،‬وعىل القتال دونه حىت يكون‬
‫غالبا؟"‬
‫ردوا بنعم‪.‬‬
‫فأمكلت‪:‬‬
‫"أتعلمون من عدوه؟"‬
‫"القائد األسود‪".‬‬
‫فقلت بغيظ‪:‬‬

‫‪516‬‬
‫"أس تحاربونه معنا؟"‬
‫ردوا ابس تخفاف‪:‬‬
‫"بىل!"‬
‫فقلت وقد أتيت لطلبيت أخريا‪:‬‬
‫"فأين جنودمك وسالحمك؟ ال أرى إال رشاذم‪ ،‬بيامن جنودمك‬
‫مكنوزين يف قالع حتمي ما انهتبمتوه من قوت الفقراء‪ ،‬أين‬
‫اجلنود اي أمراء الغرب؟ هل تظنون أن حرب األسود يسرية‬
‫لهذه ادلرجة؟ أتوزعون الغنامئ من قبل احلرب‪ ،‬بيامن أسلحتمك‬
‫صدئت يف خمازاهنا؟ أين اجلنود اي أمراء املكل!"‬
‫وكأمنا أخذهتم عىل غرة! وأخذت يف جداهلم حلشد اجلنود‬
‫معنا‪ ،‬فوافقوين بسهوةل تثري اإلحباط‪ ،‬عهد كعهد األابلسة‬
‫خالفه وفاء!‬

‫‪517‬‬
‫‪ ( 2 -55‬وأمـراء! )‬
‫عدان ملعسكر احلرب يف ساوة مع من تبعنا‪ ،‬وإذا بإحباطي‬
‫يتبدل أمال‪ ،‬حيامن رأيت املشهد اجلديد‪ .‬لقد مجعنا‪ ،‬وهللا‪ ،‬ما‬
‫يكفي للحرب بفضل هللا‪.‬‬
‫ثالثون ألفا من املامليك املدربني‪ ،‬ما كنت أطمع من األمراء يف‬
‫أكرث من هذا‪ ،‬رمغ إنين أعمل عمل اليقني أن قصورمه ختفي ضعف‬
‫هذا العد‪.‬‬
‫وانضم هلم ما يقرب من عرشة آالف من الرشاذمة اخملتلفة‬
‫األلوان‪ ،‬بني جماذيب الفويل‪ ،‬والفقراء‪ ،‬والبسطاء‪ .‬رمبا ال يكونوا‬
‫ابلقوة اليت يعمتد علهيا يف احلرب‪ ،‬لكن وجودمه وعددمه قد‬
‫يصنع رهبة ما‪ .‬وقد أثبتت الشهابية حسن الفطنة‪ ،‬عندما أتت‬
‫هبؤالء حلفر اخلنادق‪ ،‬وإعداد التحصينات لنس تفيد من أذرعهم‬
‫بأفضل ما ميكن‪.‬‬
‫لكن ظهر حشد اثلث‪.‬‬
‫ما يقرب من ألف ومخسامئة من اللصوص‪ ،‬والههامة‪،‬‬
‫والعرابن‪ ،‬اذلين ظنوا أن فرصة الهنب العظمية آتية‪ ،‬فاحتشدوا‬
‫همددين ينتظرون وصول األسود‪ ،‬ليسريوا معه‪ ،‬ويغتمنون معه‪.‬‬

‫‪518‬‬
‫وقد أجرى لعاهبم ما تناقلته األلس نة عام احمتهل األسود من‬
‫كنوز‪ ،‬حيامن اهنب مدينة الثغر الكبري‪ ،‬مدمرا قصور أمراهئا‪.‬‬
‫ربضت جامعة املرتزقة املسامة أسود اجلبل عند آابر بين مر‪،‬‬
‫والتف حوهلم املئات من الغوغاء يف أايم قالئل‪ .‬واضطرران‬
‫لالنتظار‪ ،‬حىت أتتنا أنباء وصول طالئع حلفاء األسود للحارضة‪،‬‬
‫العيل أيضا‪ .‬فأخذت‬‫من األهبال‪ ،‬والفرجنة‪ ،‬وجنود من السور ّ‬
‫ألفا من خرية اجلنود‪ ،‬وهامجت حشد اللصوص أثناء الليل‪،‬‬
‫فقتلهتم عن آخرمه‪ ،‬مس تخلصا حسااب قدميا من الرعب‪ ،‬اذلي‬
‫أذاقونيه يف الس نوات اخلالية‪ ،‬ومنرشا فزعا جديدا من بطش‬
‫الغيالن امحلر‪.‬‬
‫وهنا أىت املزيد من األنصار لنا من لك البالد‪ .‬فأىت زعمي خدام‬
‫الرضحي‪ ،‬حامك زمام الش يخ عصفور‪ ،‬بلك أنصاره وحلفائه يف‬
‫س تة آالف دفعة واحدة‪ .‬ومن وراهئم‪ ،‬ومعهم جامعات من‬
‫الرشق والشامل‪ ،‬وكثري من أبناء عشائر بين سلمي‪ ،‬اذلين غدر‬
‫هبم األسود من قبل‪ .‬اكنت أعدادان تتضاعف‪ ،‬حىت زاد األمل ملا‬
‫يش به اليقني‪.‬‬
‫وبقى علينا الرتبص لرنى خطوة العدو التالية‪.‬‬
‫اكن أمام األسود طريقني لغزو الغرب الشاسع‪ .‬إما أن يسري‬
‫عرب الساحل‪ ،‬لهيامجنا‪ .‬وهو طريق اخرتقه من قبل بنهاح‪ ،‬كام‬
‫إن دفاعات الثغر الكبري قد تدمرت‪ ،‬وأزحيت من أمامه‪ .‬وإما‬

‫‪519‬‬
‫أن يلتف عرب اجلنوب‪ ،‬مواهجا قلعة مدينة ساوة احلصينة‪ .‬وهو‬
‫طريق حصراوي جاف‪ ،‬لكن عبوره من املمكن‪.‬‬
‫كنا مرتبصني يف واحات ساوة‪ ،‬حتوطنا حصراء من لك اجتاه‬
‫يصعب شقها‪ .‬ورشقها ابلطبع وادي الضياع‪ ،‬غري الصاحل‬
‫للعبور‪ ،‬ذلا اكن قلقنا من غزو يف اجلنوب حيتاج لصمود قلعة‬
‫ساوة‪ ،‬أو جهوم عىل املدن والقرى املرتكزة يف الشامل‪ ،‬قرب‬
‫الساحل ويه‪ ،‬عىل كرثة ساكاهنا‪ ،‬دفاعاهتا مشتتة‪ .‬فكران أن‬
‫البقاء يف ساوة يف املنتصف أفضل‪ ،‬حىت تأتينا أنباء حترك جيش‬
‫األسود‪ ،‬فنرسع ملالقاته يف أي من الاجتاهني‪.‬‬
‫لكنه تربص وانتظر‪ .‬ال أعرف ما يدبره‪ ،‬وملاذا مل يرسع برضب‬
‫رضبته‪ .‬أظنه ينتظر حىت جيمتع لك أعدائه يف جيش واحد‪،‬‬
‫يتخلص منه برضبة واحدة‪ ،‬ال يعاين بعدها من مترد‪ .‬لكن تأخره‬
‫يزيدان قوة‪ ،‬وقد أاثر عبد هللا بن محمد ويل العهد‪ ،‬وابن الشهابية‬
‫قلقي‪ ،‬وقال إن األسود‪ ،‬حامت‪ ،‬يدس بني األنصار القادمة لنا يف‬
‫الرشق جواسيسا‪.‬‬
‫وهنا انتقيت بعض الرجال اخمللصني‪ ،‬من خدام الرضي‪،‬ح‬
‫وعامل ابن العبديل‪ ،‬ليندسوا بني الصفوف يأتوين ابألخبار‪،‬‬
‫فأتتين األخبار املريبة برسعة الربق‪.‬‬
‫جامعة من املتطوعني أتوا من الثغر الصغري‪ ،‬يرتاسلون مع بعض‬
‫األمراء؟‬

‫‪520‬‬
‫أهل الثغر الصغري أصال مل يهنضوا حملاربة األهبال‪ ،‬حيامن سقط‪.‬‬
‫فقط حامكهم اخلانع‪ ،‬وقف وقفة الرجال‪ ،‬صامدا رافضا للتسلمي‪،‬‬
‫حماراب عن قرصه‪ ،‬بعد أن ختىل جنوده عن أسوار املدينة‪،‬‬
‫ليقتل رش قتةل بعد دفاع مس متيت‪ ،‬مل يزد عن الشهر‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫‪ ( 3 -55‬وجواسيس! )‬
‫نزلت بنفيس متخفيا‪ ،‬أنظر لهؤالء الرجال‪ ،‬فإذا يب أراه‬
‫بشحمه ومحله ومكره! الشاطر عدانن نفسه! هذا امللعون‬
‫اخلبيث‪ ،‬اذلي أكرث يل يف األذى‪ ،‬ال يريد تريك يف حايل‪ ،‬وأىت‬
‫برشه خلفي حىت هنا؟ كدت أن أجهم عليه فأقتهل‪ ،‬لوال بقية من‬
‫حمكة‪.‬‬
‫ذهبت البن العبديل‪ ،‬التاجر الرثي‪ ،‬اذلي منحين كتاب‬
‫الغيالن‪ ،‬وحيامن جد اجلد مجع لك رجاهل خلفنا‪ ،‬ونصب لنفسه‬
‫خمية عظمية‪ ،‬اكنت مس تقر قيادتنا‪ .‬وأنفق من أمواهل عىل طعام‬
‫اجليش‪ ،‬ومعاونة األهايل‪.‬‬
‫أخربته مبا حدث‪ ،‬فدبر معي تدبريا‪ .‬أىت ببعض من امخلور‬
‫الفاخرة‪ ،‬وطلب مين أن أرسلها للشاطر ورجاهل‪ ،‬زاعام إاهنا‬
‫هدية صداقة من األمري الرشكيس‪ ،‬حامك مدينة ساوة‪ .‬امشأززت‬
‫من أمر امخلر‪ ،‬لكنه قال يل‪:‬‬
‫"يه اآلن سالح حنارب به عدوان!"‬
‫لو اكن الشاطر عدانن مدسوسا من األهبال أو األسود‪ ،‬حفامت‬
‫سرياسل الرشكيس‪ ،‬أجنب األمراء‪ ،‬واذلي بيده أمه قلعة يف‬

‫‪522‬‬
‫الغرب‪ .‬لو اس تطعت اس تجواب هذا الشاطر‪ ،‬ومعرفة ما‬
‫وراءه‪ ،‬فرمبا أتقي رشا عظامي‪.‬‬
‫كام توقعت‪ ،‬قبل الشاطر الهدية بسهوةل‪ ،‬كأمنا أتته مثلها من‬
‫قبل‪ .‬اكن ابن العبديل قد مزج امخلر بنبات منوم‪ ،‬يقال هل‬
‫القنب‪ ،‬فرتبصنا حىت غلبت السكرة والتخدير أتباع الشاطر‪،‬‬
‫فتسللنا عند الفجر هبدوء‪ ،‬للقبض عىل الشاطر عدانن‪.‬‬
‫وتعرثت‪ ،‬أو تعمدت أن أتعرث يف اجلسد ادلينء للكثوم العمالق‪.‬‬
‫دمهنا خمية الشاطر‪ ،‬واكن أمكر من أن يسمل نفسه للخمر‪.‬‬
‫فاختطفناه هبدوء‪ ،‬وجذبناه‪ ،‬دون أن يشعر أحد‪ ،‬بعيدا‪،‬‬
‫لنحبسه يف مزنل ش يخ الواحة‪.‬‬
‫فتح الرجل عينيه اخلبيثتني‪ ،‬ليهدين يف دروعي امحلراء‪ ،‬أضع‬
‫رحمي بني عينيه!‬
‫صاح بفزع‪:‬‬
‫"ظننتك هلكت!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"إذن فهذه أخبار سيئة جدا كل! ألنين سأكون ش بحا أىت‬
‫حلرق كبدك وأنت يح!"‬
‫قال‪:‬‬

‫‪523‬‬
‫"آه‪ ...‬ال ‪ ....‬طبعا أخبار مفرحة كونك يح‪ .‬كذب علينا‬
‫األسود كعادته إ ًذا؟ لقد أخربين إنه يريد حمالفتك‪ ،‬وذلا ظننت‬
‫أنين أحسن كل صنعا بإرساكل هل؛ لكن هذا اذلي ابع البالد‪،‬‬
‫ال يصعب عليه أن خيدعــ‪"....‬‬
‫قاطعته زاعقا‪:‬‬
‫"خدعك؟ خدعك اي مكل اخلداع؟ أنت اي أمكر احلقراء عىل‬
‫ظهر البس يطة؟ اليوم تدفع المثن اكمال غري منقوص!"‬
‫أيقن ابلهالك‪ ،‬فتحول ملتوسل‪:‬‬
‫"ال أرجوك‪".‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"أنت خري من يعرف أن الغيالن امحلر ال تعرف الرمحة مع من‬
‫يغدر هبم أو خيون‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"لكين سأفعل كل لك ما بوسعي‪ .‬سأفعل أي يشء تطلبه‬
‫مين‪ ،‬وأنت تعمل عظم نفعي‪".‬‬
‫مصت للحظات كأنين أفكر‪ ،‬مث قلت‪:‬‬
‫"لو ظهر يل إنك ذو نفع‪ ،‬فرمبا أفكر يف اإلبقاء عىل حياتك‪".‬‬
‫قال بلهفة اجلبناء‪:‬‬

‫‪524‬‬
‫"نعم‪ ،‬نعم‪ .‬سأكون ذو نفع عظمي‪ .‬أرسلين إىل األسود‪،‬‬
‫وسأريك ما سأفعهل به‪"......‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫"هل تراين أمحقا أمامك؟ لن أطلق ثعباان مسموما مثكل من‬
‫حمبسه أبدا‪".‬‬
‫قال مراوغا‪:‬‬
‫"إن مل تطلقين‪ ،‬فكيف ينفعك مكري؟"‬
‫مصت كأمنا هبتين‪ ،‬اتراك األمل يداعب قلبه‪ ،‬مث قلت‪:‬‬
‫"مهمم‪ .‬هذه جحة قوية حقا‪ .‬عندك حق‪ ،‬إن مل أطلقك فال نفع‬
‫كل‪ ،‬ولهذا ال حل سوى قتكل‪".‬‬
‫وخرجت من احلجرة قائال بربود للمامليك اذلين معي‪:‬‬
‫"جزوا رأسه‪ ،‬وعلقوه عىل ابب املعسكر‪ ،‬عربة للك‬
‫جاسوس‪".‬‬
‫مضيت مغادرا‪ ،‬وأصوات اس تغاثته تثقب اآلذان‪ .‬ترى مك‬
‫مس تغيث أغاثه هذا احلقري؟ مك من مغدور قتل بسببه؟ مك من‬
‫مسافر آمن مات من اجلوع والعطش‪ ،‬بعد أن تركته ادلابة‬
‫وس يةل وسط الصحراء القاحةل‪ ،‬لتعود لبائعها؟‬
‫قبل أن أغادر املزنل‪ ،‬وصلتين رصخته األخرية‪:‬‬

‫‪525‬‬
‫"سأدكل عىل اخلونة من األمراااااااااء!"‬
‫عدت من فوري‪ ،‬أرفع عنه الس يف اذلي أدىم رقبته‪ .‬اكنت‬
‫حالته مزرية حقا‪ ،‬ودموعه تلطخ خديه‪ ،‬ممزتجة بلعابه‪ ،‬اذلي‬
‫سال‪ ،‬بيامن بوهل قد جنس األرض الطاهرة من أسفهل‪.‬‬
‫قال ‪ -‬مبجرد أن رآين ‪ -‬مهنارا‪:‬‬
‫"كنت أراسل األمراء‪ .‬كنت أراسل األمراء‪ ،‬اتركين أدكل‬
‫علهيم‪ .‬س يغدرون بك‪ .‬مه واألسود تآمروا عليك‪ .‬أبق عىل‬
‫حيايت وسأخربك‪".‬‬
‫نظرت هل ابحتقار‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"أخربين‪ ،‬ورمبا ابقي عىل حياتك‪ .‬أما تذكر حاكية الربغوث‬
‫اذلي أزجع األسد؟ تكل اليت خسرت مين هبا؟ ال يكون األسد‬
‫إال أمحقا‪ ،‬لو ترك الربغوث اهرب مقابل بضع لكامت‪".‬‬
‫اكنت عيناه تدوران زائغتني بغري اس تقرار‪ ،‬وبدا أنه مل يفهم‬
‫أغلب لكاميت‪ .‬أدركت أن الشاطر رمغ جرأته‪ ،‬لكنه جبان‪ ،‬وهو‬
‫من النوع اذلي يفزع حقا من املوت‪ ،‬حيامن يلقاه حمتوما‪ ،‬ذلا فقد‬
‫مالت نفيس لتصديقه‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أس تطيع أن أثبت كل‪ .‬فعندي رسائل‪ .‬كنت أنسخ الرسائل‬
‫خبطي‪ ،‬وأحتفظ بأصل رسائل األسود عندي‪ .‬ظننت أن املكل‬

‫‪526‬‬
‫إن انترص‪ ،‬فسيشرتون مين الرسائل األصلية بأي مثن‪ ،‬وإن‬
‫انترص األسود‪ ،‬فس يظنون أن خطي إمنا هل هو‪ ،‬فأنتفع به يف‬
‫خداعهم! لكهم اي موالي خونة حقراء‪ ،‬أسوأ مين أان اللص‬
‫املسكني‪ ،‬اذلي أذاه حمدود! لكهم إال الوكيع ابن عامر‪ ،‬واكيدمه‬
‫ابن ابرم ديهل‪ ،‬خيونونك وس تهد أسامءمه‪".‬‬
‫اكن حديثه منطقيا‪ ،‬فالوكيع يطلب ثأر أبيه ابن عامر‪ ،‬اذلي‬
‫أحرقه األسود حيا يف الثغر الكبري‪ ،‬واكيدمه يطلب ثأر شقيقه‬
‫جركس‪ ،‬اذلي قتل يف مكني مع أمري الزرقاء‪ ،‬ليةل أن غادرت‬
‫قرص ابن العبديل جللب الوريث‪ .‬ولكن امجليع يس تطيعون أن‬
‫يضيفوا هلام امسني أو ثالثة‪ ،‬حيفظون أاهنم لن اهادنوا األسود‪.‬‬
‫وليست شهادة عدانن ابملقبوةل‪.‬‬
‫قلت للشاطر‪:‬‬
‫"أين تكل األوراق؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"أخرجين آتيك هبا‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"مرة أخرى تضيع وقيت عبثا‪ .‬ورايئ جند أهمت هبم‪".......‬‬
‫قاطعين متوسال‪:‬‬

‫‪527‬‬
‫"أرجوك‪ ،‬لو قتلتين دون أن تصدقين‪ ،‬فس متوت من ورايئ‬
‫حامت‪ .‬دعين أرسع كل ابألوراق‪ ،‬فاألسود اآلن يزحف حنومك‬
‫مبائيت ألف جندي‪ ،‬و حني يصـ‪"........‬‬
‫رصخت مقاطعا‪:‬‬
‫"مك تقول؟"‬
‫قال مهنارا‪:‬‬
‫"األوراق يف صندوق مدفون‪ ،‬أسفل فرايش‪ ،‬يف خمييت‪ .‬ال‬
‫أحد غريي يعرف بوجوده‪ .‬ولكن أحد رجايل أخربين أن األسود‬
‫حشد مائيت ألف جندي من أنصاره‪ ،‬وحلفائه‪ ،‬وبين األسود‪.‬‬
‫وهو خيرب أمراء الغرب يف رسائهل إاهنم مائة ألف فقط‪ ،‬ألنه‬
‫ينوي التغرير هبم‪ ،‬واخلالص مهنم مجيعا‪ .‬لكين واثق من أن‬
‫جنده وصلوا ملائيت ألف‪ ،‬ذلا اس تغرق يف مجعهم وقتا طويال‪.‬‬
‫أظنه س يأيت هبم عرب اجلنوب‪ ،‬حيث تستسمل هل قلعة ساوة‪.‬‬
‫والفرجنة أمدوه بأربعني ألف‪ ،‬ورأيت بأم عيين مخسني ألفا‬
‫يتجهزون‪ ،‬من األهبال‪ ،‬يف الثغر الصغري‪ .‬وعرشة آالف من‬
‫السور العيل‪ ،‬مه اآلن يف احلارضة‪ ،‬ميدونه بأدوات احلصار‪ ،‬عىل‬
‫أن ينرصمه ضد الصيادية! اقسم كل إاهنا حقائق‪ ،‬علمهتا من‬
‫رجايل‪ .‬لو قرأت الرسائل‪ ،‬فس تهد فهيا بعضا مما أقول‪".‬‬
‫تبا لهذا‪ ،‬لو صدق فقد هزمنا من قبل أن حنارب‪ .‬هذا حشد‬
‫مل تر البالد مثهل منذ غزو األهبال‪ .‬بعد لك هجدان مل حنشد إال‬

‫‪528‬‬
‫مخسة عرش ألفا من الغوغاء‪ ،‬اذلين لن يس تطيعوا قتاال‪ ،‬وثالثني‬
‫ألفا من املامليك‪ ،‬سينفض عنا أغلهبم بأمر أمراهئم اخلونة‪ ،‬ومل‬
‫يتبق سوى س تة آالف مقاتل‪ ،‬اذلين أىت هبم زعمي خدام‬
‫الرضحي‪ ،‬أىن هلم ابلصمود أمام لك هؤالء؟‬
‫أرسلت رجال ليتسلل لفراش الشاطر‪ ،‬ويأتيين ابلصندوق‪،‬‬
‫وأرسعت للمكل وامللكة‪ ،‬وويل العهد أخربمه ابلاكرثة‪.‬‬
‫مل جنمع يف جملس نا سوى أربعتنا‪ ،‬وابن العبديل‪ ،‬ووكيع بن عامر‬
‫حامك الثغر الكبري‪.‬‬
‫يف البداية اكنت الشهابية اثبتة اجلأش‪ ،‬لكهنا فاجأتين بقولها‪:‬‬
‫"مادام ال أمل من احلرب‪ ،‬فلنحقن ادلماء‪ ،‬ونعد ساملني عىل‬
‫طرابل!!!!!!!!!!"‬
‫أردت أن أرد علهيا بكياسة‪ ،‬إن ادلماء ستس يل أاهنارا مبجرد‬
‫دخول األسود للغرب‪ ،‬لكن اكن تميور هو من رد علهيا حبدة‪:‬‬
‫"وهللا إان ال نقاتل طلبا ملكل أو مغمن‪ ،‬وإمنا طلبا حلق وهجاد!‬
‫ال ضري عندي أن جتز عنقي يف سبيل حتقيق ما أرجوه‪ ،‬فدعي‬
‫عنك أوهام السالمة تكل‪ ،‬فإن طريق اجلهاد مرير‪ ،‬ومن بدأ‬
‫فيه فعليه أال ينتكس عنه أبدا‪".‬‬
‫مصتت مكظومة من الغيظ‪ ،‬خاصة وأن ابهنا قد أرسع معنا‪،‬‬
‫يقلب األمر وحيس به‪.‬‬

‫‪529‬‬
‫اكنت األزمة صعبة‪ ،‬ولكن الشهابية عادت ابقرتاح أكرث حمكة‬
‫من اقرتاهحا األول‪:‬‬
‫"لنطلب من األسود طرد الفرجنة واألهبال من البالد‪ ،‬ونسمل‬
‫هل املكل‪ ،‬فنحن ال نطمع فيه‪ ،‬وإمنا تثري غريتنا هذا الانهتاك‬
‫ألراضينا‪".‬‬
‫لكن وكيع رفض أي صلح مع قاتل وادله‪ ،‬وطلبه للثأر حارق‬
‫ماحق‪ ،‬ذلا فقد رد حبهة قوية‪:‬‬
‫"أيرس عىل األسود أن حياربنا حنن‪ ،‬فمل جنمع بعد عددا من‬
‫اجلند يصل جليش أحدهام‪ ،‬انهيك عن أن حيارهبام معا!"‬
‫فقال ابن العبديل‪:‬‬
‫"تربصوا لبعد غد‪ ،‬حفيهنا س تكون أنباء زحف الفرجنة واألهبال‬
‫قد اتضحت‪ ،‬وحنمك عن بينة‪ ،‬لكن جيب أن جنمع أكرب عدد‬
‫ممكن من اجلند اخمللصني‪ ،‬ونتكمت األمر عن األمراء‪ ،‬وإال فال‬
‫نعرف كيف س يفعلون‪ ،‬إذا علموا ابفتضاح أمرمه‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"من أين نأيت جبنود آخرين؟ مه عند األمراء اخلونة!"‬
‫قال وكيع‪:‬‬
‫"هذا وقت الغيالن امحلر‪ .‬أين غيالنك أاها القبيل؟"‬

‫‪530‬‬
‫مصت مهبوات‪ ،‬قبل أن تسعفين بداهيت‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"نعرف أن األهبال يتلكئون حىت يتثبتوا من أمر الغيالن‬
‫وأعدادمه‪".‬‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"هذا حصيح‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"فمل أجعل بظهور الغيالن امحلر؟ ليتلكأ رجايل عىس أن يزداد‬
‫تباطأ األهبال‪ ،‬فيفوتون املعركة ونكفى رشمه!"‬
‫بدت جحيت مقنعة‪ ،‬فصمت عىل مضض‪ ،‬وبدا أنه يفكر يف رد‬
‫آخر‪ ،‬لكن ابن العبديل تدخل لينقذين حموال احلديث‪:‬‬
‫"هناك الكثري من صغار األمراء والقادة‪ ،‬ال يأمتر أحدمه عىل‬
‫أكرث من مائة أو مائتني من اجلنود‪ ،‬لو مجعنامه فرمبا نس تقوي‬
‫هبم‪".‬‬
‫هنا أتتين فكرة مقلقة‪ ،‬لكن يف هذا الظرف الكئيب بدت يل‬
‫حمتية‪ .‬فقلت‪:‬‬
‫"سأتركمك اآلن‪ ،‬حماوال تدبر أمر عدد من اجلنود‪ ،‬ولنلتقي‬
‫بإذن هللا هنا بعد ثالثة أايم يف جملس حرب‪".‬‬

‫‪531‬‬
‫نظروا يل بغري فهم‪ ،‬وفتح وكيع مفه لعهل يريد السؤال عن‬
‫الغيالن امحلر‪ ،‬لكين تركهتم ورحلت‪".‬‬

‫‪532‬‬
‫‪ ( 4 -55‬الش يخ غالب )‬
‫"ركبت حصاان قواي‪ ،‬وعدت لقرييت القدمية‪.‬‬
‫ال مل أهرب‪ ،‬بل أتيت ألستنهد بأهلها!‬
‫اكن شعوري غريبا حقا‪ ،‬حيامن الحت يل عىل مسافة طويةل‪.‬‬
‫ألكن صادقا‪ ،‬مل أعترب أن قرييت يه وطين احلقيقي‪ ،‬إذ مل أعش‬
‫فهيا إال مدة قصرية‪ ،‬لكن تكل الرحةل الطويةل‪ ،‬اليت قطعهتا وأان‬
‫أمتىن يف لك حلظة ترك لك يشء والعودة لها‪ ،‬ولك تكل املرات‬
‫اليت كدت أن أموت‪ ،‬فمتنيت أن أدفن فهيا‪ ،‬بدال من أن أدفن‬
‫غريبا رشيدا‪ ،‬جعلت قليب ينتفض حيامن دخلهتا‪ ،‬ونظرت لبيوهتا‬
‫الطينية البس يطة‪.‬‬
‫مك مر من وقت؟ آه شهور طويةل‪ ،‬ترى كيف حال أريض؟‬
‫لألسف مل حين بعد وقت القص‪ ،‬ومعرفة األنباء‪ ،‬إن اكن مثل‬
‫هذا الوقت س يحني أصال!‬
‫ذهبت إىل الش يخ غالب‪ ،‬ومك اكنت دهش ته عظمية غذ رآين!‬
‫امحر وهجه بشدة‪ ،‬وأشار ملن معه ابالنرصاف‪ ،‬خفرجوا وقلوهبم‬
‫حترتق من الفضول‪.‬‬
‫بعد السالم‪ ،‬قلت لش يخ بدليت الش يخ غالب‪:‬‬
‫"اي ش يخي‪ ،‬تعمل اآلن أنين من جنود املكل؟"‬

‫‪533‬‬
‫رصخ بغيظ‪:‬‬
‫"طبعا أاها املاكر اخملادع الاكذب! تزمع إنك‪"...‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫"ال أزمع شيئا‪ ،‬أنت من أعطاين ادلرع‪ ،‬اليوم لك البالد يف‬
‫حاجة لهذا ادلرع‪ ،‬ويف حاجة أكرب لس يوفمك ودروعمك‪".‬‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"أتدعوان للحرب! أبلغت جرأتك بعد ما فعلته أن تدعوان‬
‫للهالك معك؟ ولو افرتضت إنين أجبتك‪ ،‬فمك رجل يف القرية‬
‫قادر عىل القتال بعيدا عن مزنهل؟ لو أكرههتم ابلس ياط‪ ،‬فلن‬
‫أزيدمك إال مخسني مقاتال‪".‬‬
‫اس تبرشت برده خريا‪ ،‬مل جيادلين يف سبب القتال وغرضه‪،‬‬
‫فأدركت أنه مقتنع أانّ عىل حق‪ ،‬فقط هو اكلبقية خيىش عاقبة‬
‫األمر‪ ،‬ويقعده جعز املوارد‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"اليوم يوم احلسم‪ .‬اليوم يوم الوحدة‪ .‬منذ اآلن لن تقاتل لك‬
‫قرية وحدها‪ .‬بل امخلسون القادمون من لك قرية س يقاتلون معا‪،‬‬
‫دفاعا عن وطننا‪ ،‬ودرءا لألهبال والفرجنة عنا‪ .‬اليوم حان الوقت‬
‫للفالحني أن يدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم معا‪ ،‬فال ماكن ألمراء‬
‫املامليك‪ ،‬ألاهنم لن ينفعوان‪".‬‬

‫‪534‬‬
‫قال متربما‪:‬‬
‫"وماذا بيدان لنفعهل؟ حاربوا أنمت إن شئمت‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"اليوم س تدور حرب رضوس‪ ،‬مماليك وأعراب وفرجنة يف‬
‫جانب واحد‪ ،‬مفن بقى ليصدمه؟ ظننت أن امس الوريث قد‬
‫جيدي‪ ،‬فمل يغن شيئا‪ ،‬وخذهل األمراء‪ .‬اس تعنت بأساطري‬
‫ادلراويش‪ ،‬فمل جتلب إال رشاذم‪ ،‬أغرينا األمراء‪ ،‬ودفعنا‬
‫للمرتزقة‪ ،‬فأغرامه السود‪ ،‬وأرههبم مبا فوق طاقتنا‪ .‬مك بقى لنا من‬
‫قوة ندفع هبا أعداء ادلين والوطن عنا؟ مك من قوة بقيت لنا‬
‫لنصد طغيان السود من أن ينالنا‪ ،‬فتهنب أرضنا‪ ،‬ودماءان حالال‬
‫لرجاهل؟"‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"ال يشء! ذلا فعلينا أن نستسمل ونسامل‪ .‬ال فائدة‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وهللا اذلي ال إهل إال هو‪ ،‬لو أنك قلت يل هذه اللكمة من‬
‫قبل ألطعتك! هل تعمل ملاذا؟ ألن هذا هو ما نفعهل دوما‪.‬‬
‫نستسمل‪ .‬لكن ماذا جنينا من الاستسالم والانكفاء؟ اضطرران‬
‫للحرب عىل أبواب بيوتنا مفزوعني‪ ،‬أو رحلنا همجرين‪ ،‬كام فعل‬
‫أيب‪ .‬اليوم وقفت عىل أمر غريب‪ .‬أكنت تصدق إنين سأس تطيع‬

‫‪535‬‬
‫اذلهاب لطرابل‪ ،‬وجلب الوريث‪ ،‬ومغالبة األسود لك هذا‬
‫الوقت اي ش يخ غالب؟"‬
‫هز رأسه نفيا‪ ،‬وقد المتع الفضول يف عينه‪ ،‬لكن مل يكن هذا‬
‫وقت لقص قصيص عليه‪ ،‬فأمكلت‪:‬‬
‫"مل استسمل يف هذه الرحةل املس تحيةل‪ .‬أتعمل مك خشص طيب‬
‫ورشير أخربين انحصا أال فائدة؟ من لك األشاكل واأللوان‬
‫فرجنة‪ ،‬وعرب‪ ،‬وأساودة‪ ،‬ولصوص‪ ،‬ومقاتلني أبطال! لكين‬
‫جنحت‪ .‬هل تعمل ملاذا؟ ألن دافعي األول يف هذه الرحةل اكن‬
‫أنت اي ش يخ غرب!"‬
‫انتفض جالسا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أان؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"نعم أنت! أتذكر حني عايرتين بوادلي اذلي هرب؟ لقد هرب‬
‫وادلي من هنا للزرقاء‪ ،‬ومن الزرقاء ألحراش الشامل‪ ،‬مفا جنح‬
‫يف الفرار من املوت! قلت لنفيس ألمكل املسري‪ ،‬فاملوت حمتوم‪.‬‬
‫املوت حمتوم اي ش يخ غالب‪ .‬لكين قلت لنفيس ألمت مرة وأان‬
‫غري هارب! بل اكر همامج! ألمت ميتة ال خزي فهيا‪ ،‬وال يعايرين‬
‫هبا الش يخ غالب‪ .‬مث علمت أمرا آخر‪ ،‬هو أن هللا ال حياسبنا‬
‫عىل ما حققناه‪ ،‬وما ظفران به‪ .‬جزاء الشهيد واحد‪ ،‬سواء‬
‫انترص‪ ،‬أم غلب‪ .‬فقد مات يف سبيل هللا‪ ،‬ال يف سبيل النرص!‬

‫‪536‬‬
‫أال تذكر هذا احلديث الرشيف‪ ،‬اذلي تتلوه علينا لكام خرجنا‬
‫حلرب اجملرمني الطامعني يف اهنب حصادان؟ (من قتل دون ماهل‬
‫فهو شهيد) فإين أذكرك حبديث آخر‪ ":‬مس مأ مل رجل مرسو مل اَّلل‬
‫صىل هللا عليه وسمل عمن الْقتمال ىف مسبيل اَّلل عمز مو مجل‪ ،‬فمقما مل‬
‫الرجل يقماتل غمضم باً‪ ،‬مويقماتل ممحي ًة‪ .‬قما مل‪ :‬فم مرفم مع مرْأ مسه إلم ْيه – مو مما‬
‫ون ملك ممة‬‫مرفم مع مرْأ مسه إلم ْيه إال أمنه ماك من قمائامً – فمقما مل « مم ْن قمات م مل ل متك م‬
‫ىه الْعلْ ميا‪ ،‬فمه مو ىف مسبيل اَّلل »‪.‬‬‫اَّلل م‬
‫أفهمت اي ش يخ غالب احلديث؟ ال أطلب منك القتال‬
‫جشاعة‪ ،‬أو محية‪ ،‬بل أقول كل قاتل لتكون لكمة هللا يه العليا‪،‬‬
‫فرتفع بس يفك الظمل عن عباد هللا‪.‬‬
‫أقول كل قاتل أعداء هللا‪ ،‬اذلين يبغون الفساد يف األرض‪،‬‬
‫فيس تحلون احملارم وادلماء‪ ،‬مدمرين هويتنا‪ ،‬وإسالمنا‪ ،‬بسم‬
‫السلطان والقوة واألمر والطاعة‪.‬‬
‫ال أقول كل الفرجنة‪ ،‬اذلين استباحوا البالد فقط‪ ،‬وإمنا قبلهم‬
‫األمراء الفاسدين‪ ،‬اذلين يظنونمك موىت ال تغضبون إال عىل إانء‬
‫طعاممك‪ .‬هؤالء اذلين بثوا الفنت يف البالد‪ .‬أترتكهم يمكلون‬
‫فسادمه‪ ،‬وينصبون طاغوات ملاك؟ أما حانت حلظة احلرب علهيم‬
‫بعد‪ ،‬ومه من بدءوان ابحلرب؟‬
‫إين ال أدعوك لفتنة أو ثورة عىل مكل جائر‪ ،‬فنصرب طاعة‬
‫ألمر هللا‪ ،‬وإمنا أدعوك حلرب ظامل جترب‪ ،‬أىت ألبوابنا يطلب‬

‫‪537‬‬
‫دماءان‪ ،‬متسلحا ابلفرجنة واألهبال الكفرة‪ ،‬ومبيحا هلم دماءان‬
‫وأعراضنا‪ .‬أفرنتد عهنم‪ ،‬ألننا لس نا أقوايء‪ ،‬ولس نا جشعان؟‬
‫الك اي ش يخنا‪ ،‬فإان ال نقاتل يف سبيل غنمية أو نرص‪ ،‬ولن‬
‫حياسبنا هللا عىل ما مجعناه من غنامئ أو انتصارات‪ .‬سيسألنا‬
‫وحياسبنا عىل ملاذا قاتلنا‪ ،‬وكيف قاتلنا‪.‬‬
‫اي س يدي ش يخ البدل‪ ،‬البدل اليت حتمكها مل تذق من سواعد‬
‫املرتزقة إال اجلور والفجور‪ ،‬فمل ينقذها إال أيدي أبناهئا‪ ،‬وكذكل‪،‬‬
‫فبالدان لن يوحدها إال أيدي أبناهئا‪.‬‬
‫مد يدك يف يدي‪ ،‬وأرسل للك القرى جتمع أبناءها‪ ،‬فاجلهاد‬
‫اليوم فرض عني ال فرض كفاية‪ .‬مادام العدو أىت ألرضنا‪ ،‬فيجب‬
‫عىل لك مسمل أن يهنض دلفعه‪ ،‬وقد وجب هذا منذ زمن بعيد‪،‬‬
‫وحانت اليوم فرصته‪".‬‬
‫أاهنيت حدييث الغاضب‪ ،‬وأخذت ألهث منتظرا يف غري أمل‪.‬‬
‫اندرا ما غريت اللكامت إنسان‪ ،‬فاللكامت خبرها رسيع أمام انر‬
‫ادلنيا‪ ،‬املوقدة ابلفنت‪ ،‬وميل الهوى لدلعة والراحة‪.‬‬
‫وجدت الش يخ غالب يهنض دون رد‪ ،‬فقلت بصوت واه‪:‬‬
‫"إىل أين اي ش يخ البدل؟"‬
‫قال برصامة‪:‬‬

‫‪538‬‬
‫"سأحرض ساليح‪ ،‬فأان حباجة هل! وال تضيع وقيت اآلن‪،‬‬
‫فس تحتاج للكامت أشد تمنيقا يف لك قرية متر علهيا‪ .‬اذهب‬
‫لنائب القايض‪ ،‬فلو أعلن دعوة عامة للجهاد‪ ،‬ووافقك‪ ،‬فلن‬
‫يتبعك زمام الش يخ عصفور حفسب‪ ،‬بل لك الغرب‪ .‬اذهب‬
‫ملساجد القرى‪ ،‬فوخب ش يوخها لقعودمه عن اجلهاد‪ ،‬فإاهنم إن‬
‫تبعوك تبعك األهايل‪ .‬ال تضيع وقيت اي غالم اي ابن الصياد!"‬
‫وهكذا بدأت يف رحةل ظافرة‪ ،‬مجلع اجملاهدين‪ .‬حفنة من لك‬
‫قرية‪ ،‬وجامعة من لك مدينة أو زمام‪ .‬جماميع صغرية‪ ،‬اكنت‬
‫تكتفي ابدلفاع عن قريهتا ابلاكد‪ ،‬لكهنم معا أصبحوا جيشا من‬
‫عدة آالف مجعهتم عند زمام الش يخ عصفور‪ ،‬وانطلقت هبم إىل‬
‫ساوة خملفا ورايئ ادلعاة‪ ،‬حيثون املزيد من الناس عىل اجلهاد‪.‬‬
‫وهللا ما كنت أظن أنين سأفلح يف مجعهم‪ ،‬لكين رأيت محى‬
‫عاتية‪ ،‬جتتاهحم‪ ،‬وتدفعهم حنو املوت بال سؤال عن مكسب أو‬
‫مغمن‪ .‬مفازال اخلري يف األمة إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫عدت شاعرا ابلظفر‪ ،‬رمغ أن أعدادان ما زالت ال تقارن جبيش‬
‫األسود املزعوم‪ ،‬ألجد يف ساوة أمرا جعيبا!‬
‫لقد ابتدر املكل تميور األمراء اخلائنني‪ ،‬فاعتقل رؤوسهم‪،‬‬
‫واس توىل بغتة عىل مدينة ساوة‪ ،‬وانزتعها من يد شهاب‬
‫الرشكيس‪ ،‬وجسنه‪ .‬وهنا تشتت أغلب األمراء وجندمه‪ ،‬فارين‬
‫اكلفرئان لقصورمه‪.‬‬

‫‪539‬‬
‫أال بعدا وحسقا هلم‪ .‬مه من حق فهيم قول العزيز اجلبار احلكمي‬
‫يمك مما مزادو ْمك إال مخب م ًاال مو م مأل ْوضم عوا‬
‫يف كتابه الكرمي (لم ْو خ ممرجوا ف ْ‬
‫ون لمه ْم)‬ ‫خاللم ْمك ي م ْبغونممك الْف ْتنم مة موف ْ‬
‫يمك ممساع م‬
‫دخلت جمللس احلرب يف خمية ابن العبديل‪ ،‬حيث اجمتع‬
‫الصامدون‪ :‬املكل‪ ،‬وزوجه‪ ،‬وابهنا‪ ،‬وابن العبديل‪ ،‬ووكيع ابن‬
‫عامر‪ ،‬واكيدمه ابن ابرم ديهل‪ ،‬واثنان آخران من األمراء ال‬
‫أعرفهام‪ ،‬وأخريا رجل جعوز أحفظه جيدا!‬
‫جعوز علمي بأمور احلرب واحلياة‪ ،‬أحد ثالثة حكيت هلم قصيت‬
‫احلقيقية‪ ،‬ويعرفون أنين لست بغول أمحر‪ .‬تبا يل! مل مل أفكر يف‬
‫طلب مشورته؟ الش يخ وهدان احلكمي‪ ،‬حبر العمل والعمل‪،‬‬
‫اذلي أخذت بركته يف بداية رحليت‪ ،‬واذلي دلين عىل أن ابن‬
‫العبديل هو صاحب ادلرع اذلي ألبسه‪.‬‬
‫حكوا يل ما فاتين‪.‬‬
‫اكن ابن العبديل أرسل يطلب لك من يعرفه‪ ،‬وميكن أن‬
‫ينفعنا‪ ،‬سواء من زمالئه األثرايء‪ ،‬أو بعض األمراء الباقية يف‬
‫نفوسهم خنوة‪ .‬والش يخ وهدان‪ ،‬حلمكته‪ ،‬وعلمه ابحلروب منذ‬
‫قدم الزمان‪.‬‬
‫فقال الش يخ وهدان مصححا هلم‪:‬‬

‫‪540‬‬
‫"لن يبحث األسود عن الاستيالء عىل جنوب اإلقلمي‪ ،‬أو‬
‫شامل‪،‬ه وإمنا س يذهب مبارشة لساوة‪ ،‬لهيزم جيش املكل‪ .‬فهذه‬
‫يه عادته‪ ،‬أن يذهب دوما ألكرب رأس‪ ،‬فيقطعها‪".‬‬
‫ورمس أماهمم عىل األرض خمطط للغرب‪.‬‬
‫"بني الغرب وساوة‪ ،‬وادي الضياع وال جيتازه إال هاكل‪.‬‬
‫حاولت يف ش بايب مرة اختصار طريق يف حافته‪ ،‬فكدت أن‬
‫أهكل‪ .‬تالهل وكثبانه وطرقه تتغري برسعة مذهةل‪ ،‬وهو جاف ال‬
‫حيوي ظل أو ماء‪ .‬ذلا فلكنا ندرك أنه يس تحيل عىل أي فرد‪،‬‬
‫انهيك عن جيش أن يعربه‪ .‬فإما أن يلتف حوهل جنواب‪ ،‬يف‬
‫طريق القوافل‪ ،‬أو شامال‪".‬‬
‫قال تميور‪:‬‬
‫"نعرف هذا لكه‪ .‬إما أن حيطم قالع مدينة ساوة‪ ،‬أو أن يعاود‬
‫الزحف شامال عرب املدن املزدمحة‪".‬‬
‫فقال الش يخ وهدان بصرب‪:‬‬
‫"طريق اجلنوب تعرتضه قالع ساوة احلصينة‪ ،‬ولن ينفعه‬
‫خضامة جيشه يف اقتحاهما‪ ،‬فهىي حتتاج حلصار طويل‪ .‬ولكن‬
‫احلصار جليش أغلبه من املشاة‪ ،‬وسط حصراء قاس ية‪ ،‬س يجعل‬
‫جيشه يعاين كثريا‪ .‬ولو حاول تركها‪ ،‬وامليض قدما لساوة‬
‫الواحات‪ ،‬فس يهد مؤخرته حتت رمحتنا‪ ،‬واإلمدادات ‪ -‬خاصة‬
‫املؤن والطعام جليشه الكبري ‪ -‬ستنقطع يف زحفه البطيء‪ ،‬وال‬

‫‪541‬‬
‫يوجد يف الغرب لكه ما يكفيه إلطعام وسقاية هذا اجليش‬
‫الضخم!"‬
‫قال وكيع‪:‬‬
‫"وما أدراك أن أغلب جيشه من املشاة ال الفرسان؟ وقهتا‬
‫سزيحف برسعة مكتفيا حبصار القلعة‪".‬‬
‫قال الش يخ وهدان‪:‬‬
‫"تزمعون إاهنم مائيت ألف جندي؟ أىن هل بدواب حتملهم‬
‫مجيعا؟ لو أننا أحمكنا قبضتنا عىل قلعة ساوة‪"....‬‬
‫أمكل تميور لكامته‪:‬‬
‫"فس يضطر لالجتاه شامال‪ ،‬أو س يلقى عنتا كبريا جبيشه البطيء‬
‫عطشا وجوعا‪ .‬ستتحول خضامة جيشه لنقمة عليه!"‬
‫وقال ويل العهد‪:‬‬
‫"وحامت س يضطر لاللتفاف عرب الشامل‪ ،‬ليهدان صامدين هناك‬
‫أمامه‪ ،‬ولكين أخىش من األهبال والفرجنة‪".‬‬
‫قال الش يخ وهدان‪:‬‬
‫"األهبال تتلكأ خش ية الغيالن‪ .‬أصبحوا اآلن يفضلون الفوز‬
‫السهل غري ذي الشوكة‪ .‬أما مسعمت أن مائة من الغيالن امحلر‬
‫مصدت أماهمم شهرا اكمال‪ ،‬مع حامك الثغر الصغري‪ ،‬أمام جيشهم‬
‫ذي امخلسني ألف مقاتل؟ لن يقرتب األهبال منا‪ ،‬إال بعد أن‬

‫‪542‬‬
‫يشتبك األسود يف القتال معنا ومع الغيالن فعال‪ .‬س يحطمون هل‬
‫القالع الصغرية ألمراء املامليك واألثرايء هنا وهناك‪ ،‬حيث أكوام‬
‫اذلهب مكدسة! لكهنم سيتأخرون عن دخول املعارك الكبرية‪،‬‬
‫كثرية اللكفة‪ ،‬قليةل املغمن‪ ،‬وإىل أن يصلوا لنا‪ ،‬فس يكون أمامنا‬
‫ما يشغلنا!"‬
‫قال ويل العهد مرصا‪:‬‬
‫"أوافقك عىل هذا‪ ،‬فهىي طباع األهبال‪ ،‬ولكن الفرجنة ليسوا‬
‫كذكل‪ ،‬سيسابقون األسود حبثا عن املدن والثغور‪ .‬ال اهمهم‬
‫اذلهب‪ ،‬قدر ما اهمهم األرض‪ .‬سيسعون حامت لالستيالء عىل‬
‫الثغر الكبري‪ ،‬رغام عن أنف األسود‪ .‬مفا من مرة دخل الفرجنة‬
‫فهيا مينا ًء‪ ،‬إال التصقوا به‪ ،‬ولو اكن حللفاهئم!"‬
‫قال وهدان مبتسام‪:‬‬
‫"ها قد أصبت ما أريم إليه! لو أغلقنا طريق اجلنوب أمام‬
‫األسود‪ ،‬ابالستيالء عىل قلعة ساوة‪ ،‬فس يضطر للسري الطويل‬
‫شامال بيامن يتلكأ خلفه األهبال‪ ،‬ويرسع قبهل الفرجنة وحدمه‬
‫منفردين‪".‬‬
‫أمكل ويل العهد‪:‬‬
‫"ووقهتا س يكونون وحدمه خبمسني ألفا فقط‪ .‬ونس تطيع أن‬
‫نكتفي برتك حامية صغرية قوية يف قلعة ساوة‪ ،‬وجنمع ابيق‬

‫‪543‬‬
‫جيش نا لكه بسهوةل‪ ،‬مطمئنني لظهوران ملواهجة الفرجنة‪ .‬فإن‬
‫فرغنا مهنم‪ ،‬بدأان يف حرب األسود دون عواهنم هل‪".‬‬
‫وإذ اتفقوا عىل تكل اخلطة‪ ،‬طلب املكل لقاء األمراء‪ ،‬ألنه‬
‫يس تعد للرحيل جنواب للتحصن يف قلعة ساوة‪ ،‬فأتوه فرحني‬
‫يظنون أنه س يصبح يف أيداهم لقمة سائغة‪ ،‬يسلمواهنا لألسود يف‬
‫جسن القلعة‪ ،‬بعيدا عن أيدي األهايل والعوام املتحمسني‪،‬‬
‫ليهدوا أنفسهم مه من يعتقلون‪ ،‬وترسع رسية من مخسامئة‬
‫مقاتل‪ ،‬من جنود خدام الرضحي‪ ،‬للتسلل ملدينة ساوة والس يطرة‬
‫عىل أبواهبا‪ .‬ورمغ إن أكرث اجليش انرصف عنا‪ ،‬لكن البقية أكرث‬
‫بركة ومنعة اآلن‪.‬‬
‫وإذ أتيهتم جبيش جديد‪ ،‬شد من أزرمه أتتنا األخبار من‬
‫الكشافني‪ ،‬بأنه ابلفعل ال أثر جليش األسود عىل الطريق‬
‫اجلنويب‪ ،‬رمغ إنه خرج من البوابة اجلنوبية للعامصة‪ ،‬فاطمأننا أننا‬
‫دحران خطته األوىل‪ ،‬برتكنا حنارص بني زحفه من اجلنوب‬
‫وزحف الفرجنة واألهبال من الشامل‪ ،‬وس يضطر للسري شامال‬
‫مسرية طويةل‪.‬‬
‫وهنا مل يكن هناك وقت لنضيعه‪ ،‬إن كنا نرغب حقا يف مباغتة‬
‫الفرجنة قبل وصول األسود هلم‪ .‬فرتكنا حامية يف الواحة‪ ،‬من‬
‫بقية جند خدام الرضحي‪ ،‬مع بعض أهلها‪ ،‬وتركنا املكل يف قلعة‬
‫ساوة مع بعض املامليك من أتباع ابن العبديل‪ ،‬أنفق علهيم جل‬

‫‪544‬‬
‫ماهل ليرشفوا عىل حسن حتصني املدينة‪ ،‬وتركنا معهم جامعة‬
‫ادلراويش واملساكني املتحمسني‪ ،‬اذلين ال جييدون القتال مفن‬
‫وراء اجلدر‪ ،‬رأى تميور‪ ،‬أاهنم س يكونون أكرث نفعا عن ميدان‬
‫القتال املفتوح‪ .‬ويف الوقت نفسه نبعدمه عن حتراكت جيش نا‬
‫خش ية‪ ،‬أن يكون فهيم جواسيس آخرون‪.‬‬
‫وهكذا حتركنا من واحة ساوة جبيش أقل من عرشين ألفا‪،‬‬
‫أغلبه من الفالحني‪ ،‬ودوابه من امحلري والبغال! ال يساندمه إال‬
‫فرسان وكيع‪ ،‬واكيدمه‪ ،‬فأرسعنا نبغي إنقاذ الثغر الكبري من‬
‫أيدي الفرجنة‪.‬‬
‫قادان يف الطريق وكيع‪ ،‬ألاهنا مدينته‪ ،‬وفضل أال ندخل املدينة‪،‬‬
‫بل نرتبص يف الصحراء حولها حىت ال يصل نبأ عن وصولنا‬
‫للفرجنة‪ ،‬ألن جواسيسهم كرث ابملدينة‪ ،‬فعسكر بنا يف ماكن‬
‫كريه‪ ،‬يكرث فيه احلىص واحلهارة القاس ية‪ ،‬ومياهه برك ماحلة‪ ،‬أو‬
‫ممزتجة بقطران أسود! بزمع إنه بعيد عن العيون‪ ،‬لكنه أضاع من‬
‫عيوننا النوم!‬
‫ورسعان ما وصلتنا األنباء عن الزحف الرسيع للفرجنة حنوان‪.‬‬
‫وهنا أخذ ويل العهد زمام القيادة‪ ،‬فهو أخربان ابحلروب‪".‬‬

‫‪545‬‬
‫(‪)56‬‬

‫"نزل جيشهم من األسطول‪ ،‬بعد أول فروع الهنر مبارشة‪ ،‬مث‬


‫حثوا اخلطى حنو املدينة‪ ،‬يرافقهم األسطول عن جوارمه‪،‬‬
‫ووصلت طالئعهم لنا‪ ،‬فمكنا خمتبئني وسط التالل‪ ،‬وتركناها‬
‫بأمر ويل العهد متيض لتدخل املدينة‪ ،‬وبدت احلرسة يف عني‬
‫وكيع‪ ،‬فسأهل ويل العهد‪:‬‬
‫"أستسقط املدينة يف يد تكل الرشذمة؟"‬
‫رد وكيع بإابء‪:‬‬
‫"ابلطبع ال! س يصطادمه األهايل‪ ،‬وسريمهيم رجايل يف البحر‬
‫طعام للسمك! لكهنم س يحرقون وخيربون يف امليناء ومرايس‬
‫الصيد‪ .‬أغلب الصيادين تركوا زوارقهم‪ ،‬بأمري‪ ،‬يف جزيرة‬
‫همجورة شامل املدينة‪ ،‬حىت ال تدمر يف القتال‪ ،‬لكن بقيهتا‬
‫ليست خسارته ابلهينة بعد ما فقدانه يف غزوة األسود لنا‪".‬‬
‫قال ويل العهد‪:‬‬

‫‪546‬‬
‫"يرسع الفرجنة ابلطالئع دلخول املدينة الختبار دفاعاهتا‪.‬‬
‫س نرتكهم يفعلون‪ ،‬واملدينة بال جيش ألن اجليش يبغي صيدا‬
‫أكرب من الطالئع‪ ،‬وأمثن من سفن الصيد! ولكن ذكرين أن‬
‫أسأكل عن تكل املراكب فامي بعد!"‬
‫ابلفعل عسكر جيش الفرجنة‪ ،‬ومه قرابة مخسني ألفا‪ ،‬رشق‬
‫املدينة‪ ،‬ال يبعدون كثريا عن معسكران لكهنم اكنوا يف ماكن‬
‫أفضل بكثري من أكوام الرمل اليت أخفاان فهيا وكيع! عىل أي‬
‫حال‪ ،‬كفالحني‪ ،‬فقد مننا يف أماكن أشد قسوة من هذه! أظن‬
‫أن األمراء املرفهني فقط‪ ،‬مه من س يعانون بأشد منا‪.‬‬
‫زحفنا طوال الليل يف سكون‪ ،‬حىت أرشفنا عىل معسكر‬
‫الفرجنة‪ .‬اكنوا مازالوا منشغلني يف نصبه‪ ،‬فمل يرسلوا بعد‬
‫ادلورايت لتأمني املنطقة حوهل‪ .‬وهو خطأ حلسن حظنا‪،‬‬
‫س نجعلهم يدفعون مثنه عظامي! أو لعهل هذا املاكن الكريه‪ ،‬اذلي‬
‫اختاره وكيع لنعسكر فيه‪ ،‬قد أنفت كشافهتم دخوهل!‬
‫أخذت أرقهبم ومه ينصبون اخليام الضخمة اكلبيوت للك أمري‬
‫من أمراءمه‪ ،‬وللفرجنة أمراء كرث مثلنا‪ ،‬لكهنم وقت احلرب‬
‫جيمتعون عىل قلب واحد‪ ،‬بيامن تش تتنا األهواء!‬
‫لكن هذا لن حيدث اليوم بإذن هللا‪.‬‬

‫‪547‬‬
‫قدت الهجوم األول رافعا رحمي‪ ،‬وشاهرا راييت‪ ،‬وضوء الفجر‬
‫يلمع عىل درعي األمحر‪ ،‬وخلفي أسود ال تش هتىي إال ادلم‪ .‬دماء‬
‫تغسل ذنوب س نني من اخلضوع والفزع‪.‬‬
‫ورأينا اجلبارين املتفاخرين يتشتتون اكلنعاج يف فزع‪ ،‬كأاهنم محر‬
‫مستنفرة فرت من قسورة‪.‬‬
‫شققت طريقي يف صفوفهم‪ ،‬ال أدري من أين أتتين جشاعة‬
‫كهذه؟ كأن اخلوف مات ودفن يف قرب معيق‪ ،‬ال أعرف هل‬
‫شاهد‪.‬‬
‫أمه فرجنة؟ وفرسان حمرتفون؟‬
‫ال اهم‪.‬‬
‫أأان غول أم فالح أم ابن صياد هارب؟‬
‫ال اهم‪.‬‬
‫فقط لك ما أعرفه‪ ،‬أنين سأذيقهم اليوم طعين!‬
‫اكن أول من اعرتضين مهنم فارس جلف خضم‪ ،‬ولكن قبل أن‬
‫متتد يده لس يفه اكن رحمي الطويل يتحاىش دروعه‪ ،‬لميزق عنقه‬
‫برباعة مل أعرفها يف نفيس‪ ،‬مث يرتكها لهيوي عىل رأس آخر فزع‪،‬‬
‫جيري من أمايم‪ ،‬مث وجدت الرمح يعود للخلف ليسقط اثلث‬
‫عن يساري!‬

‫‪548‬‬
‫شققت طريقي‪ ،‬ومن معي‪ ،‬يف تكل الصفوف املرجتفة‪ ،‬منيض‬
‫كس يل عارم ال يتشتت أبدا‪ ،‬بل حيتفظ بصفوفه موحدة‪ ،‬كبنيان‬
‫مرصوص‪ .‬تنكرس عىل جوانبنا لك الهجامت‪ ،‬اليت حتاول‬
‫رشاذهمم ش هنا علينا‪ ،‬لكننا ال حنيد عن هدفنا املرسوم أبدا‪.‬‬
‫اخلمية الكربى يف قلب معسكرمه‪ ،‬حيث يوجد أجل أمراهئم‬
‫عادة‪.‬‬
‫قاتل من معي برشاسة‪ ،‬ممهدين طريقا من دم وأشالء‪ .‬ولكن‬
‫الكونتات واألمراء مجعوا مشلهم‪ ،‬واس تعادوا اتزااهنم‪ ،‬ليقاتلوان‬
‫برشاسة أخرى ال تعرف الرمحة‪.‬‬
‫أصوات نفريمه تعلو‪ ،‬لتوقظهم‪ ،‬فرتدها صيحة هللا أكرب لتهبهتم‪.‬‬
‫وأنني غضبنا يعلو فوق رصاخ حمترضاهم‪ ،‬فالنار تش تعل يف‬
‫مؤاهنم‪ ،‬وس يوفنا تلمع اكلربق اخلاطف لنور عيواهنم‪.‬‬
‫انتظمت صفوفهم كتل مرتاصة أمامنا‪ .‬وازداد مجعهم يبغون‬
‫حصاران وكرسان‪ .‬لكن ههيات‪ .‬ليس اليوم فهو ليس يوم‬
‫انكساران أبدا!‬
‫واجمتع عدد مهنم عىل الساحل‪ ،‬يرموننا ابلسهام‪ .‬ها قد‬
‫استيقظ الرماة من نوهمم‪ ،‬لميطروننا ابلهالك فهل وجدت أحدا‬
‫منا يبايل؟ ههيات‪.‬‬
‫وهنا أاتمه الهجوم الثاين بقيادة وكيع‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫مئات من مراكب الصيادين الصغرية‪ ،‬خرجت جفأة‪ ،‬تنقض‬
‫عىل سفهنم‪ ،‬اليت انشغل حبارهتا مبراقبة جهويم‪ ،‬أو الزنول عىل‬
‫الشاطئ إلمطاران بنباهلم‪.‬‬
‫مئات املراكب املدهونة ابلسواد‪ ،‬فال تظهر يف الليل‪ ،‬اقرتبت‬
‫من السفن رسا‪ ،‬وقد ملئت ابملقاتلني األشداء‪.‬‬
‫انطلقت تكل املراكب مرسعة رش يقة‪ ،‬تلقي جبامر النار فتحرق‪،‬‬
‫أو تنقض وتقتحم‪ ،‬لتلقي ابملغاوير عىل أسطح السفن‪ ،‬فميزقون‬
‫وال يبقون‪.‬‬
‫وارتبك الفرجنة أميا ارتباك‪ ،‬حيامن رأوا سفهنم حترتق‪ ،‬أو هترب‪،‬‬
‫فاحناز شطر مهنم يطلب الفرار رشقا‪.‬‬
‫وهنا اكن الهجوم احلامس األخري ببايق اجلند‪ ،‬خلف ويل العهد‪.‬‬
‫كنت‪ ،‬ومن معي‪ ،‬حمارصين من الشامل برماة النبال‪ ،‬وبعض‬
‫الكتائب‪ ،‬ومن اجلنوب بفيلق اكمل‪ ،‬وأمايم هجة الرشق جيوش‬
‫أمزقها‪ .‬مث أىت جهوم وكيع من البحر يف الشامل‪ ،‬مزق رماهتم‬
‫وكتائهبم‪ ،‬وأىت اآلن جهوم ويل العهد من اجلنوب‪ ،‬لتصبح فرقهم‬
‫يه احملارصة إما بيين وبني وكيع‪ ،‬أو بيين وبني جيش ويل العهد‪.‬‬
‫وأمعلنا يف ايئس هيم التقتيل‪ ،‬ورأيت الش يخ غالب يأخذ‬
‫شطرا من الرجال‪ ،‬ويندفع لقلب معسكرمه حيث مجعت أكرب‬
‫حظائر اخليول‪ ،‬فشتت خيوهلم‪ ،‬قبل أن يركبوها‪ ،‬ليصبح أغلهبم‬
‫مشاة‪ ،‬لقمة سائغة لفرساننا وراكبينا‪.‬‬

‫‪550‬‬
‫دار القتال العنيف من الفجر‪ ،‬حىت الظهرية‪ ،‬لكنه اكن قد‬
‫حسم لنا ابلفعل‪ ،‬منذ جهوم ويل العهد‪ ،‬وفرار عدد كبري مهنم‬
‫رشقا‪.‬‬
‫انهتت املعركة أخريا‪ ،‬بنرص مبني وجثث اآلالف من الفرجنة‬
‫مكومة يف لك ماكن‪ ،‬مع عرشات من سفهنم احملرتقة‪.‬‬
‫وأخذت أتفحص خسائر جيش نا البطل‪ ،‬فوجدت إننا فقدان‬
‫أكرث من ألفي شهيد‪ ،‬وثالثة آالف جرحي‪ ،‬وأفسد عيل فرحة‬
‫النرص أن اكن من الشهداء الش يخ غالب‪ ،‬وكثري من أهل‬
‫قرييت‪.‬‬
‫رمحه هللا‪ ،‬اكن حكامي حصيفا‪ ،‬مات شهيدا‪ ،‬فاللهم أسكنه‬
‫فس يح جناتك‪.‬‬
‫وجلس نا نلممل أحوالنا‪ ،‬ونوزع غنامئنا بعد النرص‪ ،‬وقد اكنت‬
‫أكربها تكل الرساةل القوية‪ ،‬اليت ألقينا هبا إىل األسود واألهبال!‬
‫ولكن قبل أن نلتقط أنفاس نا‪ ،‬ونمكل شأننا أاتان الصارخ‬
‫املش ئوم‬
‫األسود حيرق واحات ساوة!"‬

‫‪551‬‬
‫(‪)57‬‬

‫"نظران مذهولني للنذير‪ ،‬وأتينا به لنا فورا‪ .‬وهتفنا يف صوت‬


‫واحد‪:‬‬
‫"ماذا تقول؟"‬
‫قال الهثا‪:‬‬
‫"األسود نزل جبيوشه عند الواحات‪ ،‬وأحرق ابلفعل الواحة‬
‫الرشقية‪ ،‬فأرسلوين لمك‪ .‬هو يزحف جنواب‪ ،‬يبغي املكل اذلي‬
‫حتصن يف قلعة ساوة‪ ،‬ومعه من فر من الواحات‪".‬‬
‫قلت مذهوال‪:‬‬
‫"لكن كيف؟ كيف وصل لهناك هبذه الرسعة أصال‪ ،‬إن مل يكن‬
‫أىت من الطريق اجلنويب؟"‬
‫قال الرسول مهنارا‪:‬‬

‫‪552‬‬
‫"إنه ليس برشا! حامت هو صادق يف زمعه أن هل أخا من اجلن‪،‬‬
‫فقد ساعده ش يطانه‪ ،‬اذلي ال اهزم‪ ،‬ألن يعرب وادي الضياع‬
‫جبيشه‪".‬‬
‫بدا األمر غريبا ال يصدق‪ ،‬وادي الضياع ال يعربه إال هاكل‪.‬‬
‫حىت أخرب األدالء وأحنكهم يعجزمه أطراف الوادي‪ ،‬انهيك‬
‫عن شق قلبه من العامصة إىل ساوة مبارشة‪ .‬كيف يعربه جبيش‬
‫اكمل؟ كيف؟‬
‫لكن مل يكن هناك وقت للبحث عن تفسري‪ ،‬أمام تكل الاكرثة‪،‬‬
‫فقد حورص املكل اآلن‪ ،‬بعيدا عن أغلب جيشه‪.‬‬
‫سأل وكيع‪:‬‬
‫"مك عدد جند األسود؟"‬
‫قال الرسول‪:‬‬
‫"عىل األقل مخسني ومائيت ألف مقاتل‪ ،‬مقسمني مخلسة فيالق‬
‫لك مهنا مخسني ألفا‪ ،‬مهنم مثانني ألف فارس وهاجن‪".‬‬
‫أسقط يف يدان‪ ،‬وجتمدان حيث حنن مذهولني‪.‬‬
‫قال اكيدمه ابن ابرم ديهل‪:‬‬
‫"ال فائدة‪ .‬هزمنا الفرجنة‪ ،‬وصددان رشمه عن البالد‪ ،‬لهنداها‬
‫خالصة لألسود‪ .‬فلهنادنه!"‬

‫‪553‬‬
‫حىت وكيع بدا مرجتفا‪ .‬مائتان ومخسون ألفا بيهنم مثانون ألف‬
‫هاجن وفارس! هذا شعب بأمكهل! أىن هل بلك هؤالء!‬
‫وانترش النبأ املفزع بني جنودان اكلنار يف الهش مي‪ ،‬فثار الفزع‪،‬‬
‫وبدا الاضطراب بني اجلنود‪ ،‬حىت وصلتنا رصخات أانس‪،‬‬
‫ينادون عىل بعضهم‪ ،‬للعودة إىل قرامه‪.‬‬
‫اكن اليأس س يد املوقف‪ ،‬حفىت لو عاد معي بعضهم‪،‬‬
‫فس يحاربون وقلوهبم همزومة‪.‬‬
‫ونظران للسامء‪ ،‬ودعوان هللا نس تغيث‪ ،‬بيامن خرج ويل العهد‬
‫خياطب يف اجلنود مثبتا قلوهبم‪.‬‬
‫وهنا أاتان نذير آخر‪.‬‬
‫"جيش زاحف يقرتب!"‬
‫رست موجة من الاضطراب‪ ..‬أتكون فلول الفرجنة علمت بنبأ‬
‫األسود‪ ،‬فازدادت عزميهتا؟ أم لعلهم األهبال قد وصلوا بأرسع مما‬
‫أبلغنا الكشافة؟‬
‫وهنا ارجتت األرض بصوت اكلرعد‪.‬‬
‫مل يكن بدقات طبول حرب كام ظننا يف البداية‪ ،‬فقد بدا إنه‬
‫كدقات س يوف عىل دروع قوية‪.‬‬
‫قلت بصوت مبحوح‪:‬‬

‫‪554‬‬
‫"ليسوا الفرجنة حامت‪".‬‬
‫التقت عيوننا عىل أمر واحد‪ .‬مه األهبال حامت‪.‬‬
‫وبدون لكمة واحدة‪ ،‬قفز وكيع‪ ،‬منزتعا الراية من يدي‪ ،‬وقفز‬
‫عىل جواده‪ ،‬وخرج اهتف بني اجلنود‪:‬‬
‫"يح عىل اجلهاد‪ .‬يح عىل اجلهااااااااد‪ .‬هللا أكرب هللا أكرب‪".‬‬
‫بدأت الصفوف تلتمئ‪ ،‬وامجلوع حتتشد‪ ،‬والسالح خيرج من‬
‫أماكنه‪ .‬مادام اجلهاد قد أاتان‪ ،‬فالبد أن نليب نداءه‪ .‬اكن هذا‬
‫حال اجلنود‪ ،‬ولو أن اليأس اكن مازال عىل وجوههم‪.‬‬
‫اهنضنا حنن أيضا‪ ،‬لنعد العدة رسيعا‪ ،‬أمام أولئك القادمني‪.‬‬
‫علت صوت ادلقات اكلرعد مقرتبة‪.‬‬
‫ومعها أقدام اثبتة تدوي يف األرض‪ ،‬فزتلزلها‪.‬‬
‫نظر الناس وجلني‪ ،‬واهزتت القلوب‪ ،‬وغشيت األبصار‪ ،‬مث‬
‫أمران ويل العهد ابلتقدم لرنى ما األمر‪.‬‬
‫آألهبال أتوا بدمارمه؟ أم شطر من جيش األسود أىت لنهدة‬
‫الفرجنة‪ ،‬ومشاغلتنا عن جندة املكل؟ أم أي مصيبة أخرجهتا لنا‬
‫األرض من طياهتا!‬
‫لكنه اكن نرصا مل أر هل مثيال!‬

‫‪555‬‬
‫اليائسون هتفوا يف حبور‪ ،‬من اكنوا يعدون العدة للرحيل‪،‬‬
‫عادوا مكربين همللني‪.‬‬
‫اللك ينظر حنوي مس تبرشا‪.‬‬
‫هذا نرص هللا وال أعمل شيئا اي رفاق‪.‬‬
‫أمه مالئكة؟ مالئكة يف صورة برش أتت لتحارب معنا؟‬
‫مل يكن يف العامل سوى ثالثة غيالن محر فقط‪.‬‬
‫ابن العبديل وقد اعزتل‪ ،‬وغول احلق وقد قتل‪ ،‬وأان!‬
‫زمعوا إن اجلنود اذلين مصدوا يف الثغر الصغري مع حامكها‪ ،‬اكنوا‬
‫مائة من الغيالن امحلر‪ ،‬ظننت هذا جمرد أسطورة‪ ،‬حتية هلم‬
‫عىل بطولهتم‪ ،‬كام أن األهبال أابدومه عن آخرمه‪.‬‬
‫إذن مفن أين أىت جيش الغيالن امحلر هذا!‬
‫من أين أىت عرشة آالف غول أمحر‪ ،‬بدروعهم امحلراء‪،‬‬
‫ورماهحم املنتصبة‪ ،‬يف صفوف متساوية‪ ،‬تتقدم بقوة‪ ،‬ويه تدق‬
‫عىل األرض بأقداهما‪ ،‬وعىل ادلروع برماهحا‪ ،‬وعىل رأسهم خشص‬
‫حيمل فوق درعه رأسا‪ ،‬خلان من خاانت األهبال!‬
‫عرشة آالف غوال أمحرا‪ ،‬يسريون حنوان بقوة ومشوخ وعزة‪.‬‬
‫عرشة آالف وقفوا حتت أقدامنا‪ ،‬أسفل التبة اهتفون‪:‬‬
‫"عاش القبيل زعمي الغيالن امحلر!"‬

‫‪556‬‬
‫لقد وصل جيش الغيالن كام وعدت! لكن كيف! ال أدري !!‬

‫‪557‬‬
‫(‪)58‬‬

‫تقدم قادة جيش الغيالن امحلر حنوان‪ .‬وما أن وصلوا لنا‪ ،‬حىت‬
‫رفع زعميهم رحمه‪ ،‬اذلي يزينه رأس هذا اخلان من خاانت‬
‫األهبال‪ ،‬وهتف مرة أخرى‪:‬‬
‫"عاش القبيل زعمي الغيالن امحلر!"‬
‫رددوا من ورائه‪:‬‬
‫"عاش!"‬
‫هتف مرة أخرى‪:‬‬
‫"بأمر القانون الثامن اجلديد‪ ،‬نلزم جانب احلق همام اكن‪ ،‬نقاتل‬
‫اليوم بأمر هللا يف صفوف املكل اجلديد‪ ،‬طلبا للعدل بني‬
‫العباد‪ ،‬وهجادا يف سبيل رب األرض والسامء‪ .‬هللا أكرب‪".‬‬
‫هتف امجليع‪ ،‬الغيالن‪ ،‬واجلند‪ ،‬والقادة‪:‬‬
‫"هللا أكرب!"‬
‫اكنت عينا وكيع مغرقتان ابدلموع‪ ،‬وهو يربت عىل كتفي‪:‬‬

‫‪558‬‬
‫"هللا أكرب‪ ،‬أخريا أىت غيالنك‪ ،‬وأتوا يف خري وقت!"‬
‫نظرت لوهجه الشاب املتحمس‪ ،‬ال أعرف مب أرد عليه‪ .‬كنت‬
‫مذهوال مأخوذا‪ ،‬كأمنا أان يف حمل مجيل‪ ،‬أهرب به من حلظات‬
‫اليأس‪ ،‬لكن األخرية تأىب إال أن تطاردين مبقارع من حديد! هل‬
‫مه حقا غيالن؟ أأتت جندة السامء هبذه الرسعة؟ مرت عيل‬
‫مواقف كثرية كنت أطلب فهيا جندة السامء‪ ،‬فال تزنل لكن حيامن‬
‫يغلق حقا لك ابب الجهتاد برشي‪ ،‬وأطلهبا‪ ،‬فإاهنا أتتين برسعة‬
‫مذهةل‪ .‬ذات يوم يف صورة ادلليل معران من بين سالم‪ ،‬فهل‬
‫أتتين اليوم هبذه الرسعة؟ مالئكة يف صورة غيالن محر!‬
‫مل يكونوا مالئكة‪ ،‬بل جماهدين أشداء‪.‬‬
‫تبينت أخريا الصوت املألوف‪ ،‬وعرفته‪ ،‬حيامن خلع خوذته‪،‬‬
‫ليظهر وهجه! هذا هو زعمي لعرشة آالف غوال أمحرا! جابر‪،‬‬
‫الشاب اذلي عرفته اثئرا‪ ،‬منقذا‪ ،‬متحمسا يف مدينة الغاربة!‬
‫أدخلته خلمييت فورا‪ ،‬أسأهل األخبار‪ ،‬وأس تفهم‪ .‬وتبعين يف‬
‫هدوء‪ ،‬فمل يكن يرغب أن يسمع رجاهل ما يقصه!‬
‫بعدما غادرت مدينة الغاربة‪ ،‬متجها إىل الزرقاء مع غول احلق‪،‬‬
‫أخذ جابر ما مجعه عن لساين من قوانني الغيالن امحلر اجلديدة‪،‬‬
‫وأخذ يدعو الناس يف مدينته املغلقة األبواب إلتباعها‪ .‬اكن يقول‬
‫للناس‪:‬‬

‫‪559‬‬
‫"إن إغالق أبوابنا علينا لن ينقذان من اخلوف‪ .‬ال اهزم اخلوف‬
‫إال مبحاربته‪ ،‬وال نرص يف حربه إن مل نلزم جانب احلق‪ ،‬وهذا‬
‫هو ما يدعوا هل الغيالن اجلدد‪".‬‬
‫اكن يزمع هلم إنه انضم للغيالن امحلر‪ ،‬وقد رآها فرصة تكسب‬
‫قوة دلعوته‪ ،‬يف الوقوف ضد الطغاة‪ ،‬موقفا أشد من إغالق‬
‫أسوار املدينة علهيم‪ .‬يف البداية مل يتبعه إال عدد قليل‪ ،‬تزايدوا‬
‫لبضع عرشات مع اقرتاب زحف األهبال عىل الثغر الصغري‪.‬‬
‫وطلب الش باب أن خيرجوا جلهادمه‪ ،‬بيامن يطلب العهائز إحاكم‬
‫غلق األسوار علهيم حىت متر العاصفة‪ .‬وحيامن ذهب األهبال‬
‫للثغر الصغري‪ ،‬خرج مائة من غيالن جابر إلهيا‪ ،‬فدافعوا برضاوة‬
‫عهنا مع حامكها‪ ،‬بعد استسالم حاميهتا‪ ،‬وفرار أغلب أهلها‪.‬‬
‫قال يل جابر بأسف‪:‬‬
‫"حاول حامك الثغر الصغري إنقاذ مدينته الصغرية طويال ابلرشوة‬
‫والنفاق واخلضوع‪ .‬مل يكن يف حد ذاته رجال سيئا كام بدا لنا‪،‬‬
‫لكن الفساد اذلي نرثه يف مدينته أسقطها متاما‪ ،‬فبقى وحده‬
‫حامال س يفه‪ ،‬وحتول جسده البدين ملرتاس‪ ،‬يغلق أبواب القرص‬
‫يف وجه العدو بشهاعة‪ ،‬مل أتصور أبدا وجودها فيه‪ ،‬إىل أن انل‬
‫الشهادة‪ ،‬وهو يقاتل فوق عرشه‪".‬‬
‫بعد أن مصد غيالن الغاربة شهرا اكمال يف وجه األهبال‪،‬‬
‫وأاثروا فزعهم‪ ،‬تأكد الناس أن الغيالن حقا عادت‪ ،‬وأاهنم يف‬

‫‪560‬‬
‫جانب احلق بقوة حتميه‪ .‬فذاع صيت جابر ومعسكره‪ ،‬وتبعته‬
‫أغلب الغاربة‪ ،‬وكثري من القرى اليت يف رشقها‪ ،‬وهرب إليه‬
‫بعض من رعااي األسود املظلومني‪ ،‬وكثري ممن رشدهتم احلروب‪،‬‬
‫خاصة عىل الزرقاء‪.‬‬
‫وبقى جابر ساكنا يف ماكنه‪ ،‬خلف أسوار الغاربة‪ ،‬يدرب رجاهل‬
‫قدر اس تطاعته عىل فنون احلرب‪ ،‬وعىل ما ظنه قوانني وعادات‬
‫الغيالن امحلر‪ ،‬اليت اس تقاها مين! واعرتف خبجل إنه جتاوز‬
‫بعضها‪ ،‬مكرافقة حيوان ما لعام اكمل‪ ،‬ألنه مل يفهم هذا اجلزء‬
‫عندما حاكه هل تميور!‬
‫اكن ينوي أن يكون جيشه‪ ،‬اذلي يتضخم برسعة مذهل‪،‬ة‬
‫درعا يفزع األسود عن الغاربة‪ .‬وملا عاد الوريث للبالد‪ ،‬وابيعه‬
‫الناس ملاك‪ ،‬ومهنم أهل الغاربة‪ ،‬عقدوا العزم عىل نرصته‪ ،‬فتربع‬
‫أغنياء املدينة بصنع دروع محراء منقوشة‪ ،‬ورماح‪ .‬واجمتع‬
‫الغيالن اجلدد‪ ،‬ومن حوهلم من أهل املدينة‪ ،‬واملتطوعني‪،‬‬
‫وبعض العشائر‪ .‬اجمتعوا عىل قلب واحد‪ ،‬وابيعوا جابر عىل‬
‫القتال‪ ،‬واجلهاد‪ ،‬والالزتام بقوانني الغيالن‪.‬‬
‫أرسع ليلحق ابحلرب‪ ،‬متتبعا جيش األهبال املتلكئ‪ ،‬فباغهتم‬
‫من خلفهم‪.‬‬
‫س تون ألفا من األهبال‪ ،‬أمام عرشة آالف فقط من الغيالن‬
‫امحلر!‬

‫‪561‬‬
‫لكهنا أوال املفاجأة الساحقة من المكني‪ ،‬ومن رؤية الغيالن‬
‫قريبون مهنم يف الرشق‪ ،‬ومعها الرهبة واذلكرى املؤملة اليت يف‬
‫نفوس األهبال من الغيالن امحلر‪ ،‬وأخريا حسن تدريب جابر‬
‫لرجاهل زمنا طويال‪ ،‬جعلهم حقا مقاتلني أفضل ممن اعرتضوا‬
‫األهبال قبلها‪.‬‬
‫تشتت أغلب األهبال فارين للثغر الصغري‪ ،‬متحصنني ابألرض‬
‫اليت كس بوها من األسود دون مقابل‪ ،‬بعدما ختلوا عن نرصته‪.‬‬
‫وحسق جابر بقيهتم حسقا‪ ،‬وقتل زعميهم‪ ،‬وسار برأسه‪ ،‬لرياها للك‬
‫املدن‪ ،‬اليت مر هبا جيش الغيالن عالمة الظفر!‬
‫وهنا عقدان جملس حرب جديد‪ .‬جملسا استبدل فيه ابلرعب‬
‫األمل‪.‬‬
‫عقدان العزم عىل السري إىل ساوة‪ ،‬بأرسع ما ميكن‪ ،‬لنهدة‬
‫املكل‪.‬‬
‫قال الش يخ وهدان‪:‬‬
‫"أعدادان ال تكفي‪".‬‬
‫رد جابر حبامسة‪:‬‬
‫"ال اهمت الغيالن ابألعداد‪".‬‬
‫قال الش يخ مبتسام‪:‬‬

‫‪562‬‬
‫"مل أطلب منمك أال تقاتلوا‪ ،‬وإمنا أن نتدبر األمر‪ .‬رمبا ميكننا مجع‬
‫بعض املتطوعني اجلدد من القرى بعد نرصان عىل الفرجنة‪،‬‬
‫وانضامم الغيالن لنا‪ ،‬ولكهنا لن تكفي‪ .‬هناك جندة عظمية ما‪ ،‬ال‬
‫أدري أأس تطيع جلهبا أم تعجزين‪ .‬ترددت يف أمرها كثريا‪ ،‬لكن‬
‫مل يبق يف جعبيت غريها‪ ،‬إذا اكن األسود قد اس تطاع اجتياز‬
‫وادي الضياع‪ ،‬ومجع لك هذا اجلند‪ ،‬فال فائدة من الرتدد‪.‬‬
‫اذهبوا فقاتلوا قدر ما تس تطيعون‪ ،‬عيل آتيمك ابلنهدة‪".‬‬
‫سألته‪:‬‬
‫"أي جندة تكل؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"ال أدري حقا! هو أمر يصيب‪ ،‬أو خييب فال أدري حقا!"‬
‫تركنا ورحل‪ ،‬فمل نعرف ما يف جعبته‪ .‬لكن اكن جيب علينا‬
‫الرحيل بال إبطاء‪ ،‬فأطلقنا النفري‪ ،‬لالس تعداد للرحيل جنواب‪".‬‬

‫‪563‬‬
‫(‪)59‬‬

‫"رسان مرسعني إىل ساوة‪ ،‬يرافقنا مزجي من أمل ويأس‪ .‬العدو‬


‫همول حقا مبا وراء العقل‪ .‬جيش مل يذكر إال يف األساطري‪ ،‬اليت‬
‫تتحدث عن الهول‪ ،‬الزعمي األكرب لألهبال!‬
‫لكن من انحية أخرى‪ ،‬فالكثري من املعجزات‪ ،‬اليت ال تعقل‪،‬‬
‫قد حدثت ونرصتنا‪ .‬وقد هزمنا الفرجنة بنصف جيشهم‪ ،‬وهزم‬
‫الغيالن امحلر األهبال بسدس اجليش!‬
‫وصلنا إىل ساوة بعد مسرية شاقة الهثة‪ .‬وكام توقع ويل العهد‪،‬‬
‫مل يبق فهيا األسود‪ ،‬بعد أن أحرق مزارعها‪ ،‬وخنيلها‪ .‬فقد رحل‬
‫جبنوده‪ ،‬ليحارص مدينة ساوة وقالعها‪ ،‬يبغي رأس املكل‪ ،‬وانضم‬
‫لنا بعض من أش تات اجلند‪ ،‬وأهل الواحة‪ ،‬واملتطوعني اذلين‬
‫يطلبون اجلهاد‪ .‬وعرفنا مهنم إن األسود يسانده عرشون ألفا من‬
‫العيل‪ ،‬معهم الكثري من اجملانيق‪ ،‬وعدد احلصار‪،‬‬
‫أهل السور ّ‬
‫وقد انضم هل بعض من األمراء واملامليك‪ ،‬فزاد جيشه ملا انهز‬
‫ثالمثائة ألفا!‬

‫‪564‬‬
‫بقينا يف ساوة نراتح الليةل‪ ،‬أردت أن نتحرك‪ ،‬لكن قائدان‬
‫وويل عهدان‪ ،‬عبد هللا ابن محمد‪ ،‬أرص عىل البقاء‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"س يأتينا األسود‪ ،‬فلننتظره‪".‬‬
‫ابلفعل أاتان من جنوب الواحة قوة تركها األسود‪ ،‬غالبا‬
‫لتعطيلنا‪ .‬اكنوا ثالثني ألفا‪ ،‬جلهم من فرسان بين األسود‪ ،‬وعىل‬
‫رأسهم حسام األسود‪ ،‬اذلي قتل غول احلق‪ ،‬واكد يقتلين يف‬
‫طرابل‪.‬‬
‫برزوا لنا‪ ،‬وخرج حسام خمتاال يدعوان للمبارزة‪ .‬أراد ويل العهد‬
‫أن خيرج هل‪ ،‬لكين منعته‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"بيننا ثأر قدمي‪ ،‬وأنت أدرى بإدارة جيشك‪".‬‬
‫خرجت هل‪ ،‬مصمام عىل القتال حىت املوت‪ .‬حصيح اكن يف‬
‫عقيل يشء من رهبة‪ ،‬فأبناء ش يوخ بين األسود يربون عىل‬
‫املبارزة من نعومة أظافرمه‪ ،‬لكن قليب مل يكن فيه إال اإلرصار‬
‫عىل جز رأسه‪.‬‬
‫خرجت هل‪ ،‬مفا أن رآين‪ ،‬حىت حجظت عيناه رعبا‪ ،‬وهتف‪:‬‬
‫"أمل متت؟"‬
‫قلت بغل‪:‬‬
‫"ليس من السهل قتل غول أمحر يطلب الثأر!"‬

‫‪565‬‬
‫ألقى بدرعه‪ ،‬وأرسع هاراب! مل يبارز هذا اخملتال أصال! ألقى‬
‫دروعه‪ ،‬ولك ما يثقهل‪ ،‬وقد ظنين ش يطاان رجامي‪ ،‬فكربت‪ ،‬وكرب‬
‫اجلنود ورايئ‪ ،‬وبدأان املعركة‪.‬‬
‫اكن رجاهل حمرتفني ابرعني‪ ،‬وجنودان مرهقني متطوعني‪ ،‬لكن‬
‫امحلاسة يف قلوهبم ساوت املوازين‪ .‬خاصة وإن معنا الغيالن‬
‫امحلر‪ ،‬برماهحم الطويةل‪ ،‬القادرة عىل اصطياد الفرسان‪ ،‬فقد‬
‫وقفوا يف صفوف منتظمة‪ ،‬لكام جهم علهيا بين األسود‪ ،‬مزقهتم‪،‬‬
‫وردهتم‪ ،‬مبساعدة سهام رماتنا‪ ،‬أدركنا منذ معركة الفرجنة مدى‬
‫تأثري أمطار السهام عىل املهامجني‪ ،‬فرضبنا هبا األساودة بقوة‪.‬‬
‫أدرك حسام أال فائدة من حماولته اخرتاق قلبنا‪ ،‬فأمر جنوده‬
‫أن يلتفوا حول الغيالن من املمينة‪ ،‬وامليرسة‪ ،‬ليرضب ابيق‬
‫اجليش وراءمه‪.‬‬
‫هنا أوقع جيشه يف خطأ فادح‪ .‬اكن فرسانه رسيعو احلركة أكرث‬
‫من الالزم‪ ،‬أرسعوا لتنفيذ أمره برسعة كبرية‪ ،‬فطاروا جتاه‬
‫مؤخرتنا‪ ،‬لكن هذا ترك فراغا كبريا يف قلب جيشهم‪.‬‬
‫مل ينتظر وكيع أن يتقدم جنود األسود من املؤخرة لسد تكل‬
‫الثغرة‪ ،‬فأمر فرسانه فورا ابلهجوم‪ ،‬خمرتقا‪ ،‬اكلسكني يف الزبد‪،‬‬
‫قلب األساودة‪ ،‬جتاه قائدمه‪ .‬أدركت أاهنا خماطرة ابلهالك يف‬
‫معركة ضد جند أقوى وأكرث‪ ،‬لكهنا فرصة لنرص حامس رسيع‪،‬‬
‫فأخذت شطرا من الغيالن‪ ،‬ومحلت معه‪ ،‬ألصبح يف قلب‬

‫‪566‬‬
‫فرسان بين األسود‪ ،‬أقاتل برحمي‪ ،‬مسقطا هذا عن مييين‪ ،‬وذاك‬
‫عن يساري‪.‬‬
‫احمتى القتال‪ ،‬وتأججت الس يوف بدماء فرائسها‪ ،‬وأحسست‬
‫أن فرسان بين األسود يلتفون حولنا‪ ،‬ليعزلوان عن ابيق جيش نا‪،‬‬
‫لكن وكيع شن علهيم جهوما اكحسا‪ ،‬مع زمرة من رجاهل‪ ،‬كرس‬
‫احلصار‪ ،‬وأعاد اإلرتباك لصفوف بين األسود‪.‬‬
‫بدت املعركة يف صاحلنا‪ ،‬وحنن نشق صفوفهم واحدا تلو‬
‫اآلخر‪ ،‬ونصد جهامهتم املضادة‪ .‬ال أدري مك قتلت مهنم‪ ،‬لكنه ليس‬
‫ابلعدد اليسري‪.‬‬
‫وانكرست أخريا صفوف بين األسود‪ ،‬وبدأان نعمق اخرتاقنا‬
‫هلم‪ ،‬لو جنحنا يف شطر جيشهم لنصفني معزولني‪ ،‬فسنسقط‬
‫أحدهام بني انر الس يوف‪ ،‬ولهيب السهام‪ ،‬معزولني عن قائدمه‪.‬‬
‫فتحمس نا‪ ،‬وكربان‪ ،‬وزدان يف الطعان‪.‬‬
‫مل أنتبه للخدعة املاكرة إال متأخرا‪ .‬وجدت الفرسان تتحرك من‬
‫أمامنا‪ ،‬لتلتف خلفنا‪ .‬مسح حسام لنا ابخرتاق صفوفه‪ ،‬أكرث من‬
‫قدرتنا‪ ،‬مث أمر رجاهل ابلهجوم عىل املنطقة الضعيفة‪ ،‬اليت تفصلنا‬
‫عن ابيق اجليش‪ ،‬بعد أن ابتعدان عن مرىم رماتنا‪ ،‬وأاهنكنا‬
‫التوغل وسط فرسانه‪.‬‬

‫‪567‬‬
‫وأدركت من ارتباك األسهم الطائرة فوقنا‪ ،‬أن فرسانه األوائل‬
‫جنحوا أخريا يف الالتفاف حول ابيق اجليش‪ ،‬ليحارصوه‪،‬‬
‫ويرضبوا مؤخرته‪.‬‬
‫مل يكن النرص مس تحيال‪ ،‬لكن موقفنا أصبح دقيقا‪ .‬كنت ووكيع‬
‫حناول التقهقر‪ ،‬مقاتلني‪ ،‬لنعود لبايق اجليش‪ ،‬بيامن حياول ويل‬
‫العهد مض صفوفه معا‪ ،‬ليقلل من أثر احلصار علهيا‪ ،‬حيامن مسعت‬
‫صوات عاليا‪ ،‬يرصخ بظفر‪:‬‬
‫"ألف دينار ملن جيز رأس زعمي الغيالن‪ ،‬وحيرضه يل‪".‬‬
‫نظرت جتاه الصوت‪ ،‬مزحيا جسدا ثقيال عن طريقي‪ ،‬فرأيته‪،‬‬
‫اكن حسام حماطا ببعض حراسه األشداء‪ .‬مكره انقلب عليه مرة‬
‫أخرى‪ ،‬فقد مسح لنا ابخرتاق قلبه‪ ،‬حىت أصبح قريبا منا‪ ،‬ومل‬
‫يرجع للمؤخرة رمبا لثقته يف النرص‪.‬‬
‫قلت لنفيس‪:‬‬
‫"تتباهني دوما برباعتك يف اس تخدام الرمح؟ حان يوم البالء‬
‫الفاصل‪".‬‬
‫هتفت بأربعة من الغيالن أن يتقدموين‪ ،‬ويفسحوا يل اجملال‪،‬‬
‫فاندفعوا يصدون الس يوف‪ ،‬اليت تاكثرت طمعا يف اجلائزة‪.‬‬
‫انطلق رحمي اكلطري األاببيل‪ ،‬فدفع حسام مثنا غاليا دلرعه‪ ،‬اذلي‬
‫ألقاه هراب من مبارزيت! مل جيد الوقت الاكيف‪ ،‬ليطلب من‬
‫حراسه صد الرمح القادم‪ ،‬وال أن جيد درعا يصد عنه الرضبة‪.‬‬

‫‪568‬‬
‫ارتفعت ذراعه اخلالية برسعة‪ ،‬حامةل درعا ومهيا‪ ،‬فاخرتقها الرمح‪،‬‬
‫واندفع يمكل طريقه إىل صدره‪ ،‬فشقه وأسقطه من فوق جواده‬
‫رصيعا‪ ،‬لتدهسه خيول حراسه‪ ،‬وميوت ميتة أرش مما أذاقها‬
‫غول احلق‪.‬‬
‫أخريا أخذت بثأرك اي أيخ‪ ،‬لو مزقتين الس يوف املتاكثرة‬
‫اآلن‪ ،‬فسأموت هينء البال‪.‬‬
‫لكن الس يوف خفتت‪ ،‬وتراجعت‪ ..‬كنت أكرب‪:‬‬
‫"هللا أكرب"‬
‫بيامن األساودة يمتمتون‪:‬‬
‫"مصيب الفويل!"‬
‫إذا اكن القائد األسود جعل رجاهل يصدقون أوهام إنه منصور‬
‫مبكل من اجلان‪ ،‬فقد دفع المثن‪ ،‬إذ صدق رجاهل يف رهبة حاكية‬
‫عود رجاهل عىل ات ّباع عقل قائدمه‬
‫مصيب الفويل! وألن األسود ّ‬
‫فقط‪ ،‬فقد فقدوا عقوهلم‪ ،‬ملا أسقطت قائد جيشهم‪ .‬اختبلت‬
‫قراراهتم‪ ،‬وختبطوا‪ ،‬وتشتتوا‪ ،‬رمغ إن الظفر اكن قريبا مهنم‪ .‬ومل‬
‫يلبثوا أن انسحبوا همزومني‪ ،‬يطاردمه فرساننا‪ ،‬حىت قتلوا مهنم‬
‫الكثري‪.‬‬

‫‪569‬‬
‫اكن نرصا مؤزرا ساحقا‪ ،‬لكنه جمرد البداية‪ .‬فأغلب جيش‬
‫األسود مل ميس‪ ،‬وهو حيارص مدينة ساوة يف اجلنوب‪ ،‬ويس تطيع‬
‫أن يرسل لنا عرشة جيوش أخرى‪ ،‬اكليت هزمناه!‬
‫أراد أغلب الرجال السري فورا لقتل املغوار نفسه! اكن امحلاس‬
‫ميلؤان‪ .‬فقد هزمنا الفرجنة‪ ،‬واألهبال‪ ،‬وبين األسود‪ .‬وبقيت معركة‬
‫واحدة للوصول للنرص‪ .‬لكن ويل العهد رفض متاما أن نتقدم أكرث‬
‫من هذا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"جيب أن يراتح جنودان متاما من أثر السفر املتكرر‪ ،‬واملعارك‬
‫املتتالية‪ ،‬ونطبب جرحاان‪ ،‬عل بعضهم يلحق بنا قبل املعركة‪".‬‬
‫اكن بقاؤان عاةل عىل أهل الواحات ثقيةل‪ .‬خاصة بعدما أصاهبم‬
‫من حقط‪ ،‬واهنب يف غزو األسود املباغت‪ .‬لكن ويل العهد اكن‬
‫مرصا عىل البقاء‪ .‬أرحج أنه مل يغرت بنرصان‪ ،‬وقد أقلقته األنباء عن‬
‫خضامة جيش األسود‪ ،‬حىت لو بدت عسرية التصديق‪ .‬كنا‬
‫نشكك فهيا‪ ،‬ونقول إن الناس تبالغ‪ ،‬فأىن هل بعبور وادي الضياع‬
‫بلك هذا العدد‪ ،‬وعبوره أصال معجزة أذهلتنا؟ لكن ويل العهد‬
‫فضل الانتظار‪ ،‬ل ي يرسل األسود لنا جز ًء آخر من جيشه‪،‬‬
‫فنحارب قواته مفتتة‪ ،‬خري من أن نلقي بأنفس نا بني أنياهبا‪.‬‬
‫وهكذا مكثنا أايما يف ساوة‪ .‬مل يرسل األسود لنا أحدا‪ ،‬كام‬
‫أكدت العيون‪ .‬وبدا أنه أدرك خطة ويل العهد‪ ،‬فمل يتبعها‪،‬‬

‫‪570‬‬
‫وفضّ ل أن يرتكنا ننتظر‪ ،‬بيامن يسقط هو القلعة‪ .‬لكننا رحبنا‬
‫الراحة‪ ،‬وعالج اجلرىح‪ ،‬وانضامم املزيد من األنصار لنا‪.‬‬
‫عقدان أخريا أول جملس حرب بعد املعركة‪ .‬ووجدت وكيعا‪،‬‬
‫وقد غطت جسده األربطة‪ ،‬وكذكل جابر‪ ،‬اذلي أصيب إصابة‬
‫شديدة‪ ،‬لكن بريق عينيه املرصتني‪ ،‬ظل كام هو‪ ،‬يدعو للقتال‬
‫واجلهاد‪.‬‬
‫سألت عن اكيدمه ابن ابرم ديهل‪ ،‬فقال جابر مندهشا‪:‬‬
‫"أمل تعرف؟"‬
‫نظرت هل متسائال أان ووكيع‪ ،‬فقد كنا يف املقدمة‪ ،‬مل نعرف ما‬
‫أصاب مؤخرة جيش نا‪.‬‬
‫اكن حسام قد أرسل ممينته ومقدمته‪ ،‬وشطر من القلب‪،‬‬
‫لاللتفاف حولنا‪ ،‬ورضب مؤخرة جيش نا ولكن قائد املؤخرة اكن‬
‫اكيدمه‪ ،‬اذلي مصد مبن معه مصودا مرشفا‪ ،‬أمام عدو أشد‬
‫وأقوى‪ .‬ظل اكلسد املنيع حيمي جيش نا من ادلمار‪ ،‬ولكن بعدما‬
‫اس تعاد حسام س يطرته عىل اجليش‪ ،‬وامتص رضبة وكيع‬
‫املباغتة‪ ،‬تساقط رجال اكيدمه واحدا تلو اآلخر‪ ،‬وااهنالت عليه‬
‫الس يوف‪ ،‬وجنحوا يف جره أسريا جرحيا معهم‪ ،‬ومه ينسحبون‪.‬‬
‫أحزنتين خسارة هذا الفارس الشهاع‪ ،‬ولعل األسود اآلن قد‬
‫قطع رقبته‪ ،‬لكن ذكراه لن متوت معه‪ .‬رأيت الكثري من جشعان‬
‫املامليك‪ ،‬اذلين خيشون احلرب واملوت‪ ،‬لكين مل أر إال القليل‬

‫‪571‬‬
‫جدا من أمثال اكيدمه‪ ،‬اذلين ال خيشون الوقوف إىل جانب‬
‫احلق‪ ،‬والتخيل عن متع ادلنيا يف سبيل اجلهاد‪.‬‬
‫مبا قلت من قبل‪ ،‬إنه قاتل معنا ثأرا لشقيقه‪ ،‬لكين أقولها‬
‫اليوم‪ ،‬إنه قاتل ألنه يعرف أين احلق‪ ،‬فاتبعه‪.‬‬
‫رمحه هللا يف موته‪ ،‬وفرج كربه إن اكن حيا‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬اس تقر جملس نا عىل اذلهاب ملدينة ساوة‪ ،‬دون‬
‫املزيد من اإلبطاء‪ .‬لن نقف هنا مكتويف األيدي‪ ،‬بيامن اهدم‬
‫األسود أسوارها سورا سورا‪ ،‬متصورا أننا سنبقى منتظرين‬
‫حىت يتخلص من املكل‪.‬‬
‫وهكذا أمران اجلنود جفأة ابملسري‪ ،‬نريد التحرك برسعة لنس بق‬
‫جواسيسه‪.‬‬
‫لكننا مل نفعل‪ ،‬فقبل الاقرتاب من مشارف املدينة‪ ،‬قطع علينا‬
‫الطريق مكني من رماة األسود‪ ،‬بدا أنه أعد عىل جعل‪ ،‬فقد عمل‬
‫بقدومنا من هذا الطريق بوس يةل ما من وسائهل الش يطانية‪،‬‬
‫واس تعد للمعركة جيدا‪.‬‬
‫اس تغرق التخلص من المكني بعض الوقت‪ ،‬وفقدان عددا من‬
‫الرجال فيه‪ ،‬ودب الاضطراب يف صفوف البقية‪ ،‬لكن ويل‬
‫العهد أدار املعركة حبنكة‪ ،‬متقدما جبنود مدرعني ببطء‪ ،‬حىت‬
‫انل من الرماة‪ ،‬واحتل الربوة اليت اكنوا خمتبئني فهيا‪.‬‬

‫‪572‬‬
‫وهنا حدث أمرين متتابعني‪ ،‬أاثرا إحباط جنودان‪ ،‬وضاعف‬
‫قلقهم‪.‬‬
‫فأوال‪ :‬رأوا‪ ،‬ورأيت معهم‪ ،‬حبرا من السواد ال أول هل وال‬
‫آخر‪ ،‬حييط بأسوار همدمة‪ ،‬ومبان مفتتة حمرتقة! اكن عدد‬
‫جيش األسود‪ ،‬اذلي بلغنا‪ ،‬حقيقي! مل أتصور رؤية لك هؤالء‬
‫البرش يف ماكن واحد قبل يوم احلرش!‬
‫ومعهم اكنت آالت حرب خضمة‪ ،‬مل نعرف لها مثيال‪ ،‬تقذف‬
‫املدينة بس يل ال ينقطع من األجحار والنار‪.‬‬
‫اكن مئات األلوف من املشاة‪ ،‬حيوطون املدينة‪ ،‬كبحر هائل‬
‫العيل‪ ،‬بيامن حييط هبم فرسان‬
‫ميوج وراء اجملانيق‪ ،‬وجنود السور ّ‬
‫األسود يف حلقة خضمة حتمهيم‪.‬‬
‫وزاد األمر سو ًء‪ ،‬أن نزل املطر‪ .‬بدا يل ويل العهد مس تبرشا‪،‬‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫"نزول املطر قبل احلرب عالمة خري‪ ،‬فهكذا ثبت هللا أقدام‬
‫الصحابة يف غزوة بدر‪".‬‬
‫قلت بقلق‪:‬‬
‫"املطر عالمة خري‪ ،‬لكنه خري ضائع! أغلب جيش نا من‬
‫الفالحني املزارعني‪ ،‬وحنن يف الغرب نعمتد عىل املطر واآلابر يف‬
‫الزراعة‪ ،‬وننتظر نزول املطر طوال العام بفارغ الصرب‪ ،‬فإذا نزل‬

‫‪573‬‬
‫فيجب أن نكون يف أراضينا نرعاها‪ .‬أن يزنل املطر عىل جنودان‪،‬‬
‫ومه بعيدون عن فالحهتم‪ ،‬فهو أمر حمزن هلم‪ .‬مه اآلن يفكرون‬
‫يف العاقبة‪ ،‬إن هزمنا فس يحرق األسود قرامه‪ ،‬وإن انترصان فقد‬
‫ضاع مومس الزراعة اجلديد‪ ،‬وس هيلكهم اجلوع‪".‬‬
‫قال وقد انتقل مهي هل‪:‬‬
‫"إن أمر احلمك لهو أصعب وأعىت من مجع اجليوش‪ ،‬وحماربة‬
‫املعتدين‪ .‬تنهتىي حربنا مع األسود‪ ،‬عن قتل بس يف مثنه درمهني‪،‬‬
‫بيامن حربنا ضد اجلوع ال تنكرس‪".‬‬
‫وتهند وقال‪:‬‬
‫"لكن حرب الس يوف يه اليت أمامنا اآلن‪ .‬أخربين ماذا‬
‫ترى؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"ال أجد إال أن ختطب يف جنودك‪ ،‬لتحمسهم قليال‪ ،‬ولكن‬
‫أخربين كيف س نفعل أمام هذا البحر األسود؟"‬
‫أعطاين ظهره‪ ،‬يتأمل معسكر األسود الهائل‪ ،‬اذلي يفوق‬
‫املدينة جحام وقال‪:‬‬
‫"ال يوجد خيار آخر أمامنا‪ .‬لو بقينا هنا مدة أطول‪،‬‬
‫فس تحطم اجملانيق آخر األسوار‪ .‬جيب أن ندمر اجملانيق‪،‬‬

‫‪574‬‬
‫واألبراج اليت أىت هبا أهل السور العيل‪ ،‬لتكون أمام القلعة‬
‫فرصة للصمود‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وكيف هذا‪ ،‬وأمامنا لك هؤالء؟"‬
‫ارجتف صوته قليال‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫"لو حاولنا الالتفاف حول جيشه‪ ،‬فس يوقع بنا يف كامئن‪،‬‬
‫وحيارصان بسهوةل‪ ،‬أو نضطر للحيد بعيدا يف قلب الصحراء‪.‬‬
‫يسهل عليه أن يطلق فيلقا من أمامنا‪ ،‬وآخر من خلفنا ليوقعنا‬
‫بيهنام‪".‬‬
‫مل جيب سؤايل‪ ،‬فانتظرت يف صرب‪ ،‬مث قال كأمنا يس تجمع‬
‫جشاعته‪:‬‬
‫"علينا أن نكون مجيعا غيالان محرا اليوم‪ .‬أن نلقي بأنفس نا بني‬
‫ف ي الوحش‪ ،‬كام حيكون عن الغول أغاغول‪ ،‬وثعبان السموم‪.‬‬
‫لعكل مسعت حاكيته؟"‬
‫مل أكن يف مزاج رائق لسامع حاكايت‪ ،‬لكنه اكن قلقا مبا يكفي‬
‫ليضيع الوقت فهيا‪ ،‬فمل ينتظر وقال‪:‬‬

‫‪575‬‬
‫(‪)60‬‬

‫‪ ( 1 -60‬املبدأ )‬
‫قال‪:‬‬
‫"حيىك إنه اكن هناك حدادا شااب حنيال‪ ،‬يعيش يف قرية‬
‫صغرية‪ ،‬تبعد عن أقرب مدينة بعرشة فراخس‪ .‬ذات يوم‪ ،‬ذهب‬
‫ملزنل ش يخ البدل إلصالح بعضا من عدة مطبخه‪ ،‬فإذا به يرى‬
‫ابنة ش يخ البدل‪ ،‬تقدم هل الرشاب‪.‬‬
‫مل ير من وهجها إال عينهيا‪ ،‬لكنه إذ نظر فهيام‪ ،‬أحس كأمنا‬
‫هوت صاعقة من السامء عليه‪ ،‬فقذفته من فوق جبل شاهق‬
‫إىل هوة حسيقة بال قرار‪ ..‬أحس كأنه يطفو يف الهواء‪ .‬ال هو يف‬
‫حبر فيغرق‪ ،‬وال يف سامء فيقع‪ ،‬وإمنا أصبح به خفة غريبة اكلطري‬
‫احمللق‪.‬‬
‫وهنا ذهب لش يخ البدل‪ ،‬يطلب يد ابنته‪.‬‬

‫‪576‬‬
‫نظر ش يخ البدل لهذا الفىت‪ ،‬وامتعض‪ .‬اكن هزيل اجلسد‪ ،‬ليس‬
‫بذي بنيان هميب‪ ،‬ورزقه حمدود‪ ،‬فليس ابلرثي املرحب به‪،‬‬
‫لكنه‪ ،‬من انحية أخرى‪ ،‬احلداد الوحيد ابلقرية‪ ،‬وهو ال يرغب‬
‫يف إغضابه لريحل عهنا‪.‬‬
‫قال ش يخ البدل‪:‬‬
‫"ال أزوج ابنيت إال ملن يف مقاهما‪ ،‬فإن كنت حقا راغبا فهيا‪،‬‬
‫فعليك أن تسمو بنفسك‪ ،‬لتصل لها"‬
‫سأهل احلداد‪:‬‬
‫"وكيف ذكل؟"‬
‫قال ش يخ البدل‪:‬‬
‫"لو إنك انضممت لتكل امجلاعة‪ ،‬اليت تسمي نفسها الغيالن‬
‫امحلر‪ ،‬فسأقبل بك زوجا البنيت"‪.‬‬
‫اكن ش يخ البدل يظن أاهنم لن يقبلوا فىت هزيال مثهل‪ ،‬ولو‬
‫حدث وأاهنم قبلوه‪ ،‬فأن يكون هل نسيب بيهنم‪ ،‬س يقوي شوكته‪،‬‬
‫ويرهب أعداءه‪.‬‬
‫مل يكن احلداد يعرف عن الغيالن الكثري‪ ،‬سوى إاهنم فرقة من‬
‫اجلند‪ ،‬تسمو ابلشهاعة فوق لك يشء آخر يف احلياة‪ ،‬وأن‬
‫إحدى قالعهم توجد قرب املدينة‪.‬‬

‫‪577‬‬
‫مجع احلداد متاعه القليل‪ ،‬ورحل حنو املدينة‪ ،‬يطلب قلعة‬
‫الغيالن‪ .‬ووقف عىل ابهبم ملحا‪ ،‬يطلب رؤية كبري القلعة‪ ،‬أو‬
‫األغا اخلاص هبم‪ .‬واكن لقب األغا ال يس تخدمه الغيالن‪ ،‬بل‬
‫املامليك‪ ،‬ذلا فقد غضبوا منه‪ ،‬واس هتزءوا به‪.‬‬
‫لكن الفىت ظل واقفا عىل ابهبم ثالثة أايم‪ ،‬ملحا بإرصار‪،‬‬
‫فتأفف منه كبري القلعة‪ ،‬وأراد طرده بعيدا‪ ،‬فسأهل أحد أعوانه ‪:‬‬
‫"ومل ال تسمع منه؟"‬
‫قال كبري القلعة‪:‬‬
‫"إنه رجل هزيل‪ ،‬ومثهل ال يصمد يف قتال‪".‬‬
‫قال املعاون‪:‬‬
‫"ومنذ مىت اكن الغيالن يقدرون الرجال بقوهتم‪ ،‬أال تذكر ما‬
‫نقوهل يف كتاب الشهاعة؟ القوة قد ختذكل‪ ،‬بأن يأيت خصمك‬
‫بأشد مهنا‪ ،‬أما الشهاعة فال ختذل صاحهبا أبدا؟"‬
‫تأفف الكبري‪ ،‬لكنه أدخل احلداد ليقابهل‪ ،‬وعزم عىل أن يطلب‬
‫منه اختبارا مس تحيال‪ ،‬لريده خمزاي‪.‬‬
‫نظر كبري الغيالن للحداد وقال هل‪:‬‬
‫"ما حرفتك؟"‬
‫قال‪:‬‬

‫‪578‬‬
‫"حداد"‬
‫قال هل كبريمه‪:‬‬
‫" الك لو أردت أن تكون منا‪ ،‬حفرفتك يه أن تكون منا"!‬
‫مصت الفىت ومل يرد‪ ،‬فقال الكبري‪:‬‬
‫" لك غول لينضم لنا‪ ،‬إما أن ينضم منذ الصغر‪ ،‬يف طفولته‪،‬‬
‫قد نأخذه قرسا من أههل‪ ،‬أو اهدونه لنا ليتدرب عىل الشهاعة‬
‫احلقة‪ ،‬أما من مه غري ذكل‪ ،‬فالبد أن يثبتوا جشاعة ال تضاىه‬
‫لنقبلهم"‬
‫أحس احلداد بيشء من الرتدد‪ ،‬مث تذكر عيين حمبوبته‪ ،‬ولكمة‬
‫وادله‪ ،‬اذلي اكن يقول هل‪" :‬ما مل يأت ابلعرس‪ ،‬لن تعرف هل ذلة"‬
‫فأخذ نفسا معيقا وقال‪:‬‬
‫"وأان مس تعد ألي اختبار منمك"‪.‬‬
‫نظر كبري القلعة هل ساخرا‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"عليك أن جتتاز ثالثة اختبارات‪ ،‬ال تلهأ فهيا جلنب‪ ،‬أو غدر‪،‬‬
‫أو خسة"‪.‬‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"أعاهدك عىل هذا"‪.‬‬
‫قال كبريمه‪:‬‬

‫‪579‬‬
‫"املهمة األوىل‪ :‬أن حترض كأس أمري املدينة املزينة ابذلهب‬
‫واجلوهر"‬
‫واكنت هذه كأسا‪ ،‬وضعها األمري كهائزة ملن اهزمه يف‬
‫املصارعة‪ ،‬اليت اكن ولعا هبا‪ ،‬ومل اهزم فهيا قط‪.‬‬
‫ونظر الغيالن ابس هتزاء‪ ،‬وحضكوا‪ ،‬إذ وجدوا احلداد‪ ،‬جبسده‬
‫الهزيل‪ ،‬مازال واقفا بإرصار‪ ،‬منتظرا أن يعرف ابيق املهام‪.‬‬
‫قال كبري الغيالن‪:‬‬
‫"واملهمة الثانية‪ :‬أن تعرب وادي الهامات ليال‪ ،‬وحدك"‪.‬‬
‫اكن هذا الوادي يتناقل الناس عنه أخبارا مفزعة‪ ،‬عن أش باح‬
‫قاتةل‪ ،‬وجن وعفاريت يسكنونه‪ ،‬مفن عربه ليال أو اهنارا‪ ،‬ومل‬
‫يقتل‪ ،‬خرج منه جمنوان‬
‫اهزت احلداد يف داخهل‪ ،‬لكن إرصاره ثبت أقدامه‪ ،‬خفرج صوته‬
‫حازما‪:‬‬
‫"واملهمة الثالثة؟"‬
‫نظر هل كبري القلعة بغيظ‪ ،‬وظن أنه يس هتزئ به‪ ،‬فاستبدل‬
‫الفكرة الثالثة بأش نع مهنا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"والثالثة أن تقتل ثعبان السموم"‪.‬‬

‫‪580‬‬
‫شهق من حوهل يف دهشة‪ ،‬فقد اكن هذا ثعباان جبارا‪ ،‬طوهل‬
‫مائيت ذراع‪ ،‬وفاكه يس تطيعان أن يقبضا عىل بقرتني‪ ،‬أو ثالثة‬
‫يف وقت واحد‪ ،‬فيبتلعهم يف قضمة واحدة‪.‬‬
‫لكن الفىت احلداد مل اهزت‪ ،‬ألنه تذكر لكمة وادله‪" :‬ال حتمل مه‬
‫الغد قبل أن ختلص من مه اليوم"‪ .‬إن حصل عىل الكأس‪،‬‬
‫واجتاز الوادي‪ ،‬عندها فقط سيبدو الثعبان خميفا‪.‬‬
‫والتفت الفىت مغادرا دون لكمة واحدة‪ ،‬فنظر هل كبري القلعة‬
‫متعجبا‪ ،‬وقال لنفسه‪:‬‬
‫"إما إنه سريحل بال عودة‪ ،‬وإما إنه جشاع دلرجة اجلنون‪،‬‬
‫وسيسعى ملا مهه‪ ،‬ولو اكنت الثانية‪ ،‬فليس أقل من أن أعينه‬
‫بيشء ما"‬
‫فنادى عىل احلداد‪ ،‬وقال هل‪:‬‬
‫"قبل أن تغادر ملهمة تتبع الغيالن‪ ،‬فكل أن متسك سالحا من‬
‫أسلحهتم‪".‬‬
‫وأعطاه س يفه‪ .‬بدا للحداد اخلبري س يفا ممتازا‪ ،‬لكنه مل يعرف‬
‫أنه س يف غري عادي‪ ،‬يصيب أي هدف يطعنه يف مقتل‪ ،‬خمرتقا‬
‫أقوى ادلروع‪.‬‬
‫عىل أن الس يف مل يكن لينفع احلداد يف هممته األوىل‪ ،‬فوضعه‬
‫وسط متاعه‪ ،‬وتوجه حنو األمري يطلب الفوز ابلكأس‬

‫‪581‬‬
‫نظر األمري بسخرية للفىت النحيل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أواثق أنك تطلب نزايل؟"‬

‫‪582‬‬
‫‪ ( 2 -60‬الكـأس)‬
‫قال هل احلداد‪:‬‬
‫"نعم اي موالي وليفز ابلكأس أقواان جسدا‪:‬‬
‫اكن األمري قد أخذ عهدا بأال يرد أي طالب للزنال‪ ،‬همام اكن‪،‬‬
‫إىل أن جيد من يغلبه‪ ،‬وذلا خرج فورا للقاء احلداد‬
‫وغلبه بسهوةل طبعا‪ ،‬رمغ مقاومة احلداد الرشسة‪ ،‬فقال احلداد‪:‬‬
‫"ها أنت اي موالي غلبتين يف جولتك األوىل‪".‬‬
‫قال األمري‪:‬‬
‫"ارحل اي غالم فإين ال أصارع الرجل إال مرة‪ ،‬فليس ملهزوم‬
‫أن ينال رشف مصارعيت‪".‬‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"اي موالي األمري مل أذكر املصارعة‪ .‬لكن الزنال ل ي نرى من‬
‫منا هل اجلسد األقوى‪ ،‬وقد أثبت أن ذراعيك أقوى من ذراعي‬
‫ابملصارعة‪ ،‬مفاذا عن ابيق اجلسد؟‬
‫نظر هل األمري بفضول‪ ،‬وقد محت يف قلبه محى حب اخملاطرة‪،‬‬
‫واملنافسة‪ ،‬فسأل متصنعا عدم الاكرتاث‪:‬‬
‫"ماذا تعين ببايق اجلسد؟"‬

‫‪583‬‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"اي موالي اجلسد ذراعني وقدمني وبدن وصدر ورأس‪ .‬فل ي‬
‫تثبت قوتك‪ ،‬عليك أن تغلبين يف امخلسة‪ ،‬وقد غلبتين يف نزال‬
‫اذلراعني حفسب‪.‬‬
‫قال األمري مندهشا‪:‬‬
‫"وكيف أثبت قويت يف األربع الباقية؟"‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"أما القدمان فأمرهام بس يط‪ .‬لنتسابق اآلن‪ ،‬وأرسعنا يف‬
‫اجتياز طرقات القرص‪ ،‬هو األقوى‪".‬‬
‫فاندفع الاثنان بأقىص ما ميكهنام من رسعة‪ .‬عىل إن األمري‪ ،‬رمغ‬
‫ثقل جسده‪ ،‬اكن قوي البنيان‪ ،‬معتادا عىل الرايضة‪ ،‬فس بق‬
‫احلداد‪.‬‬
‫وأحس بذلة النرص اجلديد يف مفه‪ ،‬فسأل احلداد بلهفة‪:‬‬
‫"أرين حرب البدن!"‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"األمر بس يط‪ ،‬حفرب البدن فامي جتيده البدن‪ ،‬أال وهو‬
‫الطعام‪ ،‬لرنم من منا أقدر عىل احامتل طعام غريه‪".‬‬

‫‪584‬‬
‫وابتسم األمري ساخرا‪ ،‬متصورا أن هذا أهون الزنالات‪ ،‬اليت‬
‫دخلها يف حياته‪ ،‬حىت إنه فكر يف نبذه مس تكربا‪ ،‬لوال إنه‬
‫ابلفعل وافق احلداد عىل مخس نزالات‪.‬‬
‫لكن األمر مل يكن كام تصور‪ .‬فقد أصبح عليه أن يألك شظف‬
‫العيش‪ ،‬اذلي حييا عليه احلداد‪ ،‬من ملح‪ ،‬وخزب ايبس‪ ،‬وماء‪،‬‬
‫وبعض الفول‪.‬‬
‫أما احلداد‪ ،‬فزناهل أن حييا حياة األمري املرفهة‪ ،‬فيألك أطايب‬
‫الطعام‪ ،‬وحلم الغزالن‪.‬‬
‫واملهزوم من يتخىل عن هذا الطعام أوال‪.‬‬
‫وحامت اكن هذا أشق نزال مر به األمري‪ .‬أس بوع اكمل ال يألك‬
‫إال أدىن الطعام‪ ،‬بيامن أمامه احلداد‪ ،‬غارق يف املذلات اليت اكنت‬
‫هل‪ ،‬وحارب بشدة يبغي الصمود‪ ،‬ال يصدق أن تكون معدته‬
‫أضعف من معدة حداد حقري‪.‬‬
‫ولكن حيامن بلغ به الضيق مبلغه‪ ،‬وأصبح قاب قوسني أو أدىن‬
‫من الهزمية‪ ،‬أعلن احلداد إنه أصيب بأمل يف معدته‪ ،‬وأن طعام‬
‫األمري اكلسم احلار‪ ،‬يكوي جسده‪ ،‬رمغ أنه ذليذ عىل اللسان؛‬
‫لكهنا ذلة تتبعها سكرة األمل واملرض‪.‬‬
‫وأىت النرص لألمري بني شفيت الهزمية‪ ،‬مفنحه هذا روحا‬
‫متحمسة لإلكامل‪( .‬ولو إنه أصبح متشكاك يف طعامه من‬
‫بعدها‪ ،‬ومل يعد يألك من يوهما ما اكن يألكه من قبل)‬

‫‪585‬‬
‫قال األمري‪ ،‬وهو يتحسس بطنه بفخر!‪:‬‬
‫"هيا أاها احلداد‪ ،‬أخربين كيف يتصارع الصدران؟"‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"وماذا يفعل الصدر؟ يس تنشق الهواء‪ .‬فأما ما يرحيه هو هواء‬
‫الوداين‪ ،‬ونس مي البحار‪ ،‬وأما ما يرهقه وجيلب التعب والعرس‪،‬‬
‫فهو اس تنشاق ادلخان‪ .‬أقواان صدرا هو اذلي حيمتل ادلخان‬
‫الكثيف مدة أطول من غريه‪ ،‬ال يسقط خاللها خمتنقا‪ ،‬أو اهرب‬
‫للهواء طالبا"‪.‬‬
‫واختار احلداد حطب الورد املندى‪ ،‬ألنه خيرج دخاان كثيفا‪،‬‬
‫لكنه غري مؤذ‪ ،‬كام زمع‪ .‬فعمد األمري إىل حديقة الورد المثني يف‬
‫بساتينه‪ ،‬فاقتلعها‪ ،‬وكدس حطهبا يف زنزانة جحرية أسفل القرص‪،‬‬
‫ال ياكد يدخلها الهواء‪ ،‬وحبس نفسه مع احلداد فهيا‪ ،‬وأشعل‬
‫النار يف احلطب‪.‬‬
‫وانطلق ادلخان الكثيف ميأل املاكن‪ ،‬وهام يكامتن أنفاسهام‬
‫بأقىص ما يس تطيعان‪ ،‬ليتجنبا ادلخان احلار الكثيف‪.‬‬
‫ومرة أخرى‪ ،‬بدا أن احلداد س ينترص‪ .‬فعمهل كحداد جعهل‬
‫معتادا عىل دخان احلطب‪ ،‬ونفخ الكري‪ ،‬واحلرارة العالية للنار‬
‫املتأجهة‪.‬‬

‫‪586‬‬
‫وازرق وجه األمري‪ ،‬وهو متشبث مباكنه‪ ،‬حىت اكد اهكل‪،‬‬
‫لكنه متسك بأقدامه‪ ،‬ال يريد خرسان الزنال‪.‬‬
‫وهنا ااهنار احلداد جفأة‪ ،‬وطرق عىل ابب الزنزانة‪ ،‬يطلب‬
‫اخلروج‪.‬‬
‫وخرج األمري خلفه‪ ،‬يس تنشق الهواء من حدائقه الغناء‪ ،‬ال‬
‫يصدق إنه مازال حيا‪ ،‬ومازال منترصا‪.‬‬
‫وأحس بثقة ال حدود لها‪ .‬ورمغ إن احلداد مل يعد هل أمل يف‬
‫الانتصار‪ ،‬إال أن األمري حتمس للس باق التايل‪ :‬س باق الرأس‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"هو س باق للمكر‪ ،‬وجيب أن يكون صعبا للكينا‪ ،‬فال ينرصك‬
‫ماكل أو قوة عضالتك‪ .‬جيب أن نكون متساوين أمام من نريد‬
‫غلبته‪ ،‬للفوز ابلس باق‪".‬‬
‫فعاهده األمري املتعطش للتحدايت عىل هذا‪ ،‬فقال احلداد‪:‬‬
‫"هناك امرأة خبيةل جعوز‪ ،‬تعيش يف سوق املدينة‪ ،‬تبيع األمقشة‪.‬‬
‫ويه ماكرة جدا‪ ،‬وحادة الطبع‪ ،‬فال يس تطيع أحد أن يغلهبا يف‬
‫مثن بضاعهتا‪ ،‬ولو اس تطاع أحدان أن يأخذ مهنا شيئا بأقل من‬
‫مثنه‪ ،‬قبل اآلخر‪ ،‬فهو الفائز"‬
‫فقبل األمري متحمسا‪ ،‬وأراد اذلهاب للسوق‪ ،‬لكن احلداد‬
‫أوقفه قائال‪:‬‬

‫‪587‬‬
‫"اي موالي‪ .‬أال تذكر عهدك؟"‬
‫قال األمري‪:‬‬
‫"بىل أذكره‪".‬‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"لو رأت جندك‪ ،‬خلشيت بطشهم‪ ،‬ولو رأت مالبسك‬
‫الفاخرة‪ ،‬طمعت يف ماكل‪ ،‬ولو كشفت عن ذراعيك املفتولتني‪،‬‬
‫مصتت رعبا منك‪".‬‬
‫فقال األمري متحريا‪:‬‬
‫"إ ًذا مفاذا أفعل؟"‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"ال أرى حال سوى أن ترتدي مثيل‪ ،‬مالبسا رثة ممزقة‪ ،‬وتضع‬
‫أحد ذراعيك داخل الثوب‪ ،‬فتبدو أكتعا‪ ،‬بيد واحدة‪ ،‬فال‬
‫ختشاك‪ ،‬أو تطمع فيك‪".‬‬
‫وقبل األمري الرشط عىل مضض‪ ،‬لكنه الزتم ابلوفاء بعهده‪ ،‬مل‬
‫حياول المتلص منه‪ ،‬ألن وعد احلر دين عليه‪.‬‬
‫وخرج الاثنان وحدهام إىل السوق‪ ،‬فذهب لها احلداد أوال‪،‬‬
‫يسألها عن أسعار أمقش هتا نوعا نوعا‪ .‬حىت أصاهبا السأم‪ ،‬لكهنا مل‬

‫‪588‬‬
‫ترض أن تزنل يف سعرها‪ ،‬وملا بلغ إحلاحه مداه‪ ،‬اثرت فيه‪ ،‬لرتده‬
‫خمذوال‪.‬‬
‫فتقدم األمري‪ ،‬ففعل مثهل قليال‪ ،‬مث طلب مهنا وشاحا رخيصا‪،‬‬
‫فلام أحرضته‪ ،‬أحل علهيا أن تلفه هل‪ ،‬فلام فعلت‪ ،‬تعرث يف كومة من‬
‫األوحشة الغالية‪ ،‬فأسقطها‪ ،‬فأخذ يعتذر‪ ،‬ويرفع األوحشة‪ ،‬يردها‬
‫ماكاهنا‪ ،‬ويف غفةل من الس يدة‪ ،‬استبدل وشاحه اذلي يف‬
‫اللفافة‪ ،‬بأحد األوحشة الغالية‪ ،‬واهنض أماهما حامال اللفافة‪،‬‬
‫فسألها عن مثهنا الرخيص‪ ،‬ونقدها إايه‪.‬‬
‫ذهب األمري للحداد فرحا‪ ،‬وقال ها هو الوشاح‪ ،‬وها أان‬
‫غلبتك بذراعي‪ ،‬وقديم‪ ،‬وبطين‪ ،‬وصدري‪ ،‬ورأيس أاها الفىت‬
‫األمحق‪ ،‬فابتعد عن وهجىي أاها املهزوم‪.‬‬
‫فقال هل احلداد‪:‬‬
‫"حق كل اي موالي أن تفرح ابنتصار رأسك‪ ،‬وس يذكر الناس‬
‫عيل بأشد من أي نرص آخر‪ ،‬همام طال العمر‪".‬‬ ‫حامت نرصك ّ‬
‫قال األمري متعجبا‪ ،‬وخفورا‪:‬‬
‫"وما ميزيه عن غريه من انتصارايت‪ ،‬وأجمادي؟"‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"ألن الناس س تذكر أن األمري جرى يف طرقات قرصه كام‬
‫يفعل األطفال‪ ،‬واستبدل طعامه الفاخر بطعام خشن‪ ،‬واقتلع‬

‫‪589‬‬
‫زهوره الغالية‪ ،‬ليحبس نفسه يف السجن معها‪ ،‬ويشعل النار يف‬
‫احلجرة‪ ،‬اليت جيلس فهيا‪ ،‬مث ارتدى مالبس الشحاذين‪ ،‬وذهب‬
‫ليحتال عىل جعوز مسكينة‪ ،‬فرسق وشاهحا كام يفعل أدنأ‬
‫اللصوص!‬
‫مصت األمري مهبوات‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"إليك عين‪ .‬خذ الكأس اذلهيب‪ ،‬وارحل‪ .‬فمل يغلبين‪ ،‬ولن‬
‫يغلبين من هو رش منك"‪.‬‬
‫فأخذ احلداد الكأس‪ ،‬وذهب به لكبري قلعة الغيالن امحلر‪،‬‬
‫فتعجب هو ومن معه‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫"لكنك مل ترصع األمري؟"‬
‫قال احلداد‪:‬‬
‫"صارعته دون خش ية‪ ،‬وفزت لمك ابلكأس‪ ،‬مفاذا تريدون؟"‬
‫نظر كبريمه بإجعاب إىل الكأس امجليةل‪ ،‬وقد تراقصت نفسه‬
‫قليال مع تأللؤها‪ ،‬فقال لنفسه‪:‬‬
‫"وملاذا أرد الكأس؟ مازال أمامه هممتني لن ينجزهام‪".‬‬
‫فقال بصوت عال‪:‬‬

‫‪590‬‬
‫"قبلنا الكأس اي أغا غول (ساخرا من سؤاهل عن أغا القلعة‪،‬‬
‫أول ما أىت هلم‪ ،‬فصار احلداد معروفا هبذا الامس الغريب‪:‬‬
‫أغاغول)‬

‫‪591‬‬
‫‪( 3 -60‬الوادي )‬
‫وأصبح عىل احلداد‪ ،‬أو أغاغول‪ ،‬أن يعرب وادي األش باح يف‬
‫ليةل‪ ،‬وزاد من اخلوف أن اكنت تكل الليةل غري مقمرة‪.‬‬
‫لكن أغاغول أعد عدته قدر اس تطاعته‪ .‬اكنت املشلكة إنه ال‬
‫يوجد من عرب الوادي‪ ،‬من قبل‪ ،‬سلامي ل ي يسأهل عن األخطار‬
‫اليت س تواهجه فيه‪ ،‬ذلا قرر إنه جيب أن يتأخر خلف خشص‬
‫ما‪ ،‬حىت يرى ما يناهل‪ ،‬قبل أن يتقدم هو‪.‬‬
‫أعد مج ًال كبريا‪ ،‬ووضع عليه حشوة من قش‪ ،‬عىل شلك‬
‫إنسان‪ ،‬كام لو اكنت الراكب‪ ،‬وأطلق امجلل أمامه‪ ،‬ومىض‬
‫متسلال خلفه‪.‬‬
‫مل ميض وقت طويل‪ ،‬حىت بدأت أخطار الوادي تتواىل‪ .‬اكن‬
‫أول ما صادفه أصوات جعيبة تدوي حوهل‪ .‬تبدو كام لو اكنت‬
‫تنطلق من لك جحر ونبتة أمامه‪ .‬رصخات شنيعة مرعبة يف‬
‫البداية‪ ،‬لكنه تشبث بشهاعته‪ ،‬وبذكرى عيين عروسه املرتقبة‪،‬‬
‫ومىض‪ .‬مث أتت حضاكت قوية‪ ،‬أشعرته بنشوة غريبة‪ ،‬ورغبة يف‬
‫أن يضحك حىت املوت‬
‫فأخذ يذكر لك أحزان حياته‪ ،‬ووفاة وادله‪ ،‬وأمه‪ ،‬وأحزن‬
‫القصص واألشعار‪ ،‬واجتاز تكل املنطقة مبشقة كبرية‪.‬‬

‫‪592‬‬
‫وهنا بدأت أصوات أسوأ من سابقهتا‪ .‬أصوات مغرية فاتنة‪،‬‬
‫تذيب القلوب‪ ،‬وتؤجج األهواء‪ ،‬تدعوه لفنت ومذلات ال حد‬
‫لها‪ ،‬وتصور هل إاهنا موجودة عىل جانب الطريق‪ ،‬لكنه إذ اكد‬
‫يضعف‪ ،‬سد أذنيه وتقدم حنو مجهل املضطرب‪ ،‬فغطى أذنيه هو‬
‫اآلخر‪ ،‬ليمكل املسري يف مصم‪.‬‬
‫وقطع ثلث الوادي آمنا‪،‬‬
‫لكن الثلث الثاين بدأ بداية أكرث إفزاعا‪ .‬مل تكن هناك أصوات‪،‬‬
‫بل رؤى شنيعة‪.‬‬
‫اكن مييش مطمئنا‪ ،‬بعد أن جحب عن أذنيه تكل األصوات‬
‫املدمرة‪ ،‬فإذا به يرى حمبوبته ساقطة عىل األرض‪ ،‬ومجهل يتقدم‬
‫بإرصار‪ ،‬فيدهسها‪.‬‬
‫وأصابه الهلع‪ ،‬إذ رأى ادلماء تتدفق مهنا‪ ،‬وجسدها الغض‬
‫يتشوه‪ ،‬واندفع مرسعا حنوها‪ ،‬لوال أن ساعده احلظ‪ ،‬فتعرث يف‬
‫جلام مجهل‪ ،‬وسقط أرضا‪ ،‬وحني اهنض‪ ،‬وجد إن اجلسد احملبوب‬
‫تالىش‪.‬‬
‫ونظر حوهل‪ ،‬ليهدها يف لك ماكن‪ .‬أش باح‪ ،‬وهوام تطري‪،‬‬
‫وتسري‪ ،‬ترصخ‪ ،‬وترضب‪ ،‬وتطلب رؤوس أانس ال يعرفهم‪ ،‬لكنه‬
‫أحس برغبة عارمة يف قتلهم‪ ،‬ومتزيقهم‪ .‬اكنت ترصخ بـأصوات ال‬
‫تسمع عرب اآلذان‪ ،‬بل عرب القلوب‪ ،‬فال ينفعه مهنا حامية‪ ،‬واكنت‬

‫‪593‬‬
‫تتحدث وتتحدث بإحلاح‪ ،‬حىت جتذب ذهنه‪ ،‬فترشده عن‬
‫الطريق‪.‬‬
‫أحس أنه يسقط يف برئ معيقة بال قرار‪ ،‬وأنه ال يرغب إال يف‬
‫الرحيل عن هذا املاكن بأي مثن‪ ،‬وحيامن فكر يف هذا‪ ،‬وجد من‬
‫اهمس يف أذنه‪ ،‬أو عىل األحص لقلبه بإغراء‪ :‬ولو اكن المثن أيب‪،‬‬
‫وأيم‪ ،‬وعيين حمبوبيت‪.‬‬
‫لكن هذا اكن خطأ تكل الهوام اجلس مي‪ .‬فقد أطلقت يف عروقه‬
‫دفقات غضب انرية‪ ،‬أنقذته من احلال اذلي اكن غارقا فهيا‪،‬‬
‫فثبت أقدامه‪ ،‬وتشبث حببل ربطه يف مجهل‪ ،‬وخفض أذنه‬
‫يبعدها عن رؤى املوت‪ ،‬والرعب‪ ،‬والفنت‪ ،‬واملذلات‪ ،‬اليت‬
‫أخذت تتكرر أمامه‪ ،‬إما تدعوه جلانب الطريق‪ ،‬أو ختوفه من‬
‫الاس مترار فيه‪.‬‬
‫وبعد زمن مىض عليه كدهر‪ ،‬انهتت تكل الرؤى الشنيعة‪ ،‬لكن‬
‫بعدها وجد يف نفسه وساوس أخرى تلح عليه‪.‬‬
‫يرغب يف أن يرصخ‪ ،‬أو يرقص‪ ،‬أو يقفز‪ .‬أحياان يشعر خبفة‪،‬‬
‫جتعهل يظن أنه قادر عىل الطريان‪ ،‬أو أنه لو قفز وسط الرمال‪،‬‬
‫فسيس بح فهيا كام لو اكنت حبرا‪ .‬لكنه حتمك يف نفسه‪ ،‬وظل اكمنا‬
‫يف اختبائه‪ ،‬مييض متسلال خلف مجهل ذو احلشوة‪ ،‬وأخذ يكرر‬
‫لنفسه آية الكريس‪ ،‬واملعوذتني ليقوه تكل الوساوس‪.‬‬
‫وأخريا قطع الثلث الثاين من الطريق بسالم‪.‬‬

‫‪594‬‬
‫بدا هل أن املاكن قد أصبح آمنا‪ ،‬وأن مجهل مييش يف ثقة‪.‬‬
‫وأحس براحة كبرية‪ ،‬وبدا هل هذا اجلزء من الوادي متسعا رحبا‪،‬‬
‫بال خماطر‪.‬‬
‫مث جفأة‪ ،‬تفتت الصخور‪ ،‬وتشققت األرض حول مجهل‪ ،‬وانطلق‬
‫جضيج ورعب‪ ،‬لتلفظ األرض لهبا حارا السعا‪ ،‬لكنه أسود ال‬
‫ضياء فيه‪ ،‬ونفثت دخاان مقبضا قامتا‪ ،‬خانقا بأشد من أي دخان‬
‫رآه احلداد‪.‬‬
‫ومكن أغاغول مرتعبا خلف خصرة‪ ،‬يرقب فإذا ابألرض تلفظ‬
‫ش ياطينا كثرية مرعبة‪ ،‬لها قرون كقرون الثريان‪ ،‬وأذانب كذيول‬
‫اذلئاب‪ ،‬وأقداهما كأقدام البغال‪ ،‬وأس نااهنا حادة المعة كأس نان‬
‫األسود‪ ،‬لوال إن أنياهبا طويةل‪ ،‬كام لو اكنت مسامري من‬
‫الصلب‪ ،‬وتشهر خمالهبا اليت تش به خناجر قاطعة‪.‬‬
‫رصخت تكل الش ياطني بأصوات قبيحة‪ ،‬وهللت فرحة ويه‬
‫تدور حول امجلل‪ ،‬وترصخ وتعوي قبل أن تنقض عليه‪ ،‬فهجمت‬
‫أوال عىل احلشوة القش‪ .‬فلام وجدهتا ليست برشا‪ ،‬أشاروا لها‬
‫بأصابعهم‪ ،‬فإذا هبا تش تعل بلسان من لهب أمحر‪ ،‬مث أسقطوا‬
‫امجلل املسكني‪ ،‬وااهنالوا عليه متزيقا مبخالهبم وأنياهبم‪ ،‬وأغاغول‬
‫يراقهبم يف رعب‪ .‬مث الحظ إاهنم ينزتعون جز ًء من أطيب‬
‫األماكن يف امجلل‪ ،‬فال يقربوه‪ ،‬وإمنا جيمعوه يف قدر كبري‪ ،‬كام أتوا‬
‫بكأس خضم من احلجر‪ ،‬عليه نقش يش به امحلار‪ ،‬مفلئوه بدماء‬

‫‪595‬‬
‫امجلل‪ ،‬مث محلوه حنو ش يطان كبري‪ ،‬جيلس منتظرا ال يشاركهم‬
‫عبهثم‪ ،‬فأمسك الش يطان الكبري بقطعة من اللحم الين‪ ،‬مفضغها‪،‬‬
‫مث بصقها وقال‪:‬‬
‫"ما هذا؟"‬
‫قالت ابيق الش ياطني بصوهتا القبيح‪ ،‬اذلي يش به مزجيا من‬
‫حفيح الثعبان‪ ،‬وعواء اذلئب‪:‬‬
‫"أطيب حلم امجلل اي موالان‪".‬‬
‫قال الش يطان الكبري‪:‬‬
‫"تبا لهذا أال يوجد يشء من حلم البرش الذليذ؟"‬
‫بدت الش ياطني مرجتفة‪ ،‬ويه تقول‪:‬‬
‫"مل جند مع امجلل برشا اي موالن‪ ،‬اكنت عليه حشوة من قش‪".‬‬
‫نظر هلم ملكهم املريع هذا بعني غاضبة‪ ،‬فأضاءت بضوء أمحر‬
‫قوي‪ ،‬سطع عىل رمال الصحراء‪ ،‬فذابت لتتحول إىل زجاج‪.‬‬
‫ومر به عىل أجساد أتباعه‪ ،‬فأطلقوا رصخات أمل‪ ،‬قبل أن‬
‫خيفض عينيه إىل الكأس اململوء ابدلم‪ ،‬فريتشف منه رشفة‬
‫ويقول‪:‬‬
‫"وما هذا ادلم؟"‬
‫قالوا مرتعبني بصوت يش به صوت البوم‪:‬‬

‫‪596‬‬
‫"دم من دم امجلل! طازج اي ملكنا مل يذقه أحد قبكل!"‬
‫مط ملكهم شفتيه وقال‪:‬‬
‫"ال بأس اذهبوا وامرحوا!"‬
‫هرعت ابيق الش ياطني عائدة للجمل‪ ،‬تلهتم من محله‪ ،‬وترشب‬
‫من دمه‪ ،‬ويه تغين غنا ًء بشعا‪ ،‬فتسلل أغاغول مقرتاب‪،‬‬
‫مس تغال انشغاهلم هذا‪.‬‬
‫وهنا‪ ،‬التفت هل املكل‪ ،‬ورصخ رصخة شنيعة‪ ،‬اهزتت لها‬
‫خصور الوادي ورماهل‪ ،‬فشهر أغاغول س يفه‪ ،‬واندفع ميزق ثالثة‪،‬‬
‫أو أربعة ش ياطني من طريقه‪ ،‬متجها حنو املكل‪.‬‬
‫الش ياطني خملوقة من انر ‪ -‬كام تعرف ‪ -‬فال تؤذاها الس يوف‪،‬‬
‫لكهنا إذا جتسدت‪ ،‬وخرجت يف صورة البرش‪ ،‬لتؤذاهم أو‬
‫تقتلهم‪ ،‬فإاهنا متتكل ابملقابل اجلسد‪ ،‬اذلي تؤذيه الس يوف‬
‫والرماح‪ ،‬فتفقد حاميهتا النارية‪ .‬وهكذا اندفع أغاغول ابلس يف‪،‬‬
‫اذلي أعطاه هل كبري القلعة‪ ،‬ليسقط ثالثة آخرين من حرس‬
‫املكل‪ ،‬مث أمسك املكل نفسه‪ ،‬فقبض عىل عنقه األسود‪،‬‬
‫املغطى ابلشعر اخلشن‪ ،‬ووضع س يفه عىل حلقومه‪.‬‬
‫اثرت الش ياطني وهاجت‪ ،‬وشهرت خمالهبا‪ ،‬اليت تش به‬
‫اخلناجر‪ ،‬تبغي متزيق أغاغول‪ ،‬فضغط بنصل س يفه عىل مكل‬
‫الش ياطني‪ ،‬حىت جرحه‪ ،‬خفاف األخري عىل حياته‪ ،‬فرفع يده‬
‫حنو أتباعه يأمرمه ابلسكون‪ ،‬فصمتوا‪.‬‬

‫‪597‬‬
‫مث قال املكل‪:‬‬
‫"اي ابن آدم‪ .‬قد قطعت علينا مجعنا‪ ،‬وهتكت سرتان‪ ،‬وقتلت‬
‫من رجالنا‪ .‬لكنك إذ ارتكبت هذا اجلرم‪ ،‬فقد أبليت بال ًء‬
‫فعيل كل إنك إن متنيت أي‬ ‫حس نا‪ ،‬وأثبت جشاعة محمودة‪ ،‬وذلا ّ‬
‫عيل‪ ،‬وسأحقق‬ ‫أمنية‪ ،‬أجبهتا بلمح البرص‪ .‬أطلقين‪ ،‬مث متىن ّ‬
‫بقويت وحسري ما تشاء‪ ،‬وسأجعكل أغىن أهل األرض‪".‬‬
‫لكن أغاغول رجل حصيف‪ ،‬يعمل أن الش ياطني ال تفي‬
‫بوعودها‪ ،‬ولو أوفت فهذا رش من أالّ تفي‪ ،‬ألن أمرمه ال يأيت‬
‫منه خري قط‪ .‬حىت لو أعطوه ماال‪ ،‬فس يكون ماال ملعوان‪ ،‬يزيد‬
‫مهومه وال ينقصها‪.‬‬
‫ذلا فقد قال‪:‬‬
‫" الك! لن أتركك أاها املكل‪ ،‬حىت أخرج من الوادي آمنا‪ ،‬أو‬
‫أهكل معك!"‬
‫فأخرج الش يطان من معطفه جحرا أصفرا المعا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"تعجبين رابطة جأشك‪ ،‬وذلا سأزيد املاكفأة‪ ،‬خذ هذا احلجر‬
‫السحري‪ ،‬اي ابن آدم وحدق فيه‪ .‬لو حدقت فيه بقوة‪ ،‬فسرتى‬
‫لك كنوز األرض يف أماكهنا‪ ،‬لتنال مهنا ما تشاء‪ .‬لو ألقيته حنو‬
‫عدو كل‪ ،‬فس يقتهل هو ومن معه‪ ،‬ويعود كل ساملا‪ ،‬ولو وضعته‬
‫عىل رأس صديق كل‪ ،‬فسيشفى من أي مرض‪ .‬لو أمسكت‬
‫فيه‪ ،‬ونفخت فسرتى نوااي من أمامك‪ ،‬وتعرف إن اكن يضمر‬

‫‪598‬‬
‫كل خريا أو رشا‪ .‬هذه هدية مثينة جدا‪ ،‬وكزن من كنوزان‬
‫األعظم‪ .‬خذه وجربه‪ ،‬فإين صادق معك‪ ،‬ألين أفتدي به حيايت‪.‬‬
‫أقذفه عىل أي واحد من هؤالء‪ ،‬فس هيكل‪ ،‬ويعود كل احلجر‬
‫ساملا‪ ،‬امسحه عىل رأسك‪ ،‬فستشفى جروحك‪.‬‬
‫تعلقت عينا أغاغول ابحلجر مرتددا‪ ،‬وهو يفكر‪ ،‬حىت إنه وجد‬
‫يده متتد هل‪ ،‬ومتسك به دون أن ينتبه‪ .‬وأثناء حتديقه فيه‪ ،‬تراءت‬
‫لعينيه ألوان وبريق المع‪ ،‬راودته نفسه إنه لو دقق فهيا أكرث‪،‬‬
‫فسريى جواهر مجيةل‪.‬‬
‫لكنه انتقل برشوده إىل جامل عيين حبيبته‪ ،‬وبدت هل أمجل‬
‫من لك اجلواهر‪ ،‬فإذا به يراهام يف احلجر‬
‫وهنا أفاق من السكرة‪ ،‬وأدرك إن األمر ال يعدو جمرد حسر‬
‫وفتنة‪ ،‬مث تذكر اآلية الكرمية (اَّلل اذلي مخلمقم ْمك مث مر مزقم ْمك مث يميت ْمك‬
‫يشء) فقال‬ ‫رش ماكئمك من ي م ْف معل من مذلمك من م ْ‬ ‫يمك ه ْمل من م‬ ‫مث ْحيي ْ‬
‫لنفسه‪ :‬ومل الطمع؟ املرض والشفاء واملوت واحلياة والرزق لكها‬
‫عيل أن أجلأ‬
‫عيل أن أسعى‪ ،‬ولكن ليس ّ‬ ‫بأمر هللا‪ .‬نعم ّ‬
‫للش ياطني‪ ،‬فأكون مكن قال هللا فهيم (أملم ْم تم مر إ مىل اذل مين يم ْزمع م‬
‫ون‬
‫ون أم ْن يمتم مح مامكوا‬
‫كل يريد م‬ ‫أماهن ْم آممنوا ب مما أنز مل إلم ْي مك مو مما أنز مل م ْن قم ْب م‬
‫إ مىل الطاغوت موقمدْ أمروا أم ْن يم ْكفروا به مويريد الش ْي مطان أم ْن‬
‫يضله ْم ضم مال ًال بمعيداً ا)؟‬

‫‪599‬‬
‫لو أصابين أان أو أحصايب قضاء‪ ،‬فلن ينفعنا جحر الش ياطني‪،‬‬
‫ولو طمعت‪ ،‬فس هيلكين اذلهب‪ ،‬فضحاايه كرث قبيل‪.‬‬
‫ورمغ إن يف نفسه بقية من تردد‪ ،‬وإحساس أنه قد يندم عىل‬
‫هذا يف املس تقبل‪ ،‬لكنه تشبث بعزمية اإلميان‪ ،‬وألقى ابحلجر حنو‬
‫واحد من الش ياطني‪ ،‬بدا هل هزيال عن غريه‪ ،‬وقال هل‪:‬‬
‫"خذ هذا احلجر كل‪ ،‬فلو اكن كام قال‪ ،‬جلعكل ملاك عىل هذا‬
‫الوادي!"‬
‫نظر الش يطان الهزيل فرحا للحجر‪ ،‬وأخذ حيدق فيه‪ ،‬وقد‬
‫جذبته األلوان والتأللؤ‪ ،‬اذلي جذب أنظار أغاغول من قبل‪،‬‬
‫فإذا به ينظر حوهل‪ ،‬كأمنا هو ابلفعل يف اذلهب واجلوهر‪ ،‬وأخذ‬
‫يبعرث الرمال‪ ،‬كام لو اكنت لؤلؤا‪ ،‬وبدا عليه اخلبال‪ ،‬قبل أن‬
‫ينقض عليه ش يطان آخر‪ ،‬قتهل لينزتع احلجر منه‪ ،‬مث اندفع عدد‬
‫كبري مهنم يتصارعون عليه‪.‬‬
‫قال أغاغول‪:‬‬
‫"إ ًذا‪ ،‬فهكذا أصبمت ابجلنون من ينجو منمك‪ ،‬ويعرب الوادي؟‬
‫وهللا لن أتركك اي مكل الش ياطني‪ ،‬حىت أخرج من هنا ساملا‬
‫بإذن هللا‪".‬‬
‫وأخذ يدفع املكل أمامه خطوة خبطوة‪ ،‬والش ياطني األخرى‬
‫تتبعه عاجزة‪ ،‬حىت وصل لهناية الوادي‪ ،‬فوقفت مجيعا عاجزة‪،‬‬
‫وبدا اذلعر يف وجه وصوت املكل املذعور‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬

‫‪600‬‬
‫" أال يكفي هذا؟"‬
‫قال أغاغول برصامة‪:‬‬
‫"تقدم‪".‬‬
‫قال املكل‪:‬‬
‫"أتوسل إليك‪ .‬لو إنين تقدمت‪ ،‬فسأهكل معك‪ .‬أنت تريد‬
‫الاس مترار‪ ،‬هذا شأنك‪ ،‬لكن يوجد يف اهناية الوادي وحش‬
‫رشير مريع‪ ،‬ال ينجو منه إنس‪ ،‬أو جن‪ ،‬أو ش يطان‪ .‬حاول أن‬
‫تقتهل أنت‪ ،‬أو هترب منه كام تشاء‪ ،‬لكننا حنن الش ياطني ال نقدر‬
‫عىل ذكل‪".‬‬
‫فكر أغاغول قليال‪ ،‬مث قال للش ياطني األخرى‪ ،‬اليت تتبعه‪:‬‬
‫ارجعوا أنمت وابتعدوا‪.‬‬
‫فأرسعوا اهربون‪ ،‬كأمنا انر اجلحمي تطاردمه‪ ،‬وملا غابوا عن‬
‫نظره‪ ،‬أطلق مكل الش ياطني‪ ،‬اذلي أرسع يعدو هاراب هو‬
‫اآلخر‪ ،‬مث توقف وهتف‪:‬‬
‫"أاها األنيس الشهاع! ارضب الوحش يف عينيه‪ ،‬إذا اقرتب‬
‫منك وهجه‪ ،‬فهذا سبيل جناتك‪".‬‬
‫مث أرسع يمكل عدوه حنو اجلهة األخرى من الوادي‪ ،‬فاندفع‬
‫أغاغول بدوره يعدو حنو الهناية‪.‬‬

‫‪601‬‬
‫وهنا وجد جشرة كبرية جدا‪ ،‬تسد الطريق‪ .‬فتقدم زاحفا‪ ،‬حياول‬
‫أن مير من أسفلها‪ ،‬فإذا به جيد إاهنا ليست جشرة‪.‬‬
‫اكنت حلية مارد همول‪ ،‬انمئ عىل مف الوادي‪.‬‬
‫اهنض املارد العمالق‪ ،‬لرتتفع رأسه لعنان السامء‪ ،‬قدمه يف جحم‬
‫أخضم األجشار‪ ،‬اليت رآها أغاغول يف حياته‪ ،‬أو أكرب‪ .‬وميسك‬
‫بعصا غليظة‪ ،‬بدت ألغاغول يف طول سارية مركب‪ ،‬من أخضم‬
‫سفن أسطول املكل‪.‬‬
‫مث أحىن العمالق رأسه‪ ،‬لينظر بوهجه القبيح ألغاغول‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"من هنا؟"‬
‫قال أغاغول‪ ،‬وجسده اهزت من دوي صوت املارد‪:‬‬
‫"السالم عليمك‪ .‬أان حداد بس يط‪ ،‬كنت أعرب الوادي‪،‬‬
‫فطاردتين الش ياطني‪ ،‬وهربت مهنم‪ .‬أرجو أن تسمح يل اي‬
‫س يدي ابلعبور‪".‬‬
‫هنا احنىن املارد‪ ،‬حىت أصبحت أنفه مالصقة لألرض‪ ،‬ليحدق‬
‫بعينيه يف أغاغول‪ ،‬اذلي فكر إنه لو أطلق س يفه اآلن‪،‬‬
‫فس يعمي عيين العمالق‪ ،‬كام نصحه مكل الش ياطني‪ ،‬مث‬
‫يس تطيع التسلل من بني يديه‪ ،‬وينجو مبتعدا‪.‬‬
‫لكنه عاد‪ ،‬وفكر مك يف هذا من ظمل‪ .‬لقد انتظر العمالق حىت‬
‫يتثبت من أمره‪ ،‬ويعرف من هو‪ .‬وتذكر اآلية الكرمية (إ ْن مجا مء ْمك‬

‫‪602‬‬
‫فماسقٌ بنمبمإ فمتم مبينوا) وعيب عليه إن ابتدر ابلهجوم‪ ،‬قبل أن يتبني‬
‫أمر العمالق‪ ،‬حىت لو اكن مثن اخملاطرة شديدا‪.‬‬
‫تشمم املارد راحئة أغاغول بقوة‪ ،‬حىت إن األخري أحس أن‬
‫شهيقه س يهذبه ألعامق صدر املارد‪.‬‬
‫مث قال املارد‪:‬‬
‫"راحئتك اكلبرش‪ ،‬لكن البرش ال حياولون عبور هذا الوادي‬
‫ليال!"‬
‫قال أغاغول‪:‬‬
‫"اضطررت لهذا‪ .‬اكن وعد قطعته عىل نفيس‪ ،‬وأنت اي‬
‫س يدي الكرمي خري من يعرف إن وعد احلر دين عليه‪".‬‬
‫هز املارد رأسه موافقا‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"لكن القةل اليت رأيهتا من البرش‪ ،‬تعرب الوادي يف الهنار‪ ،‬اكنوا‬
‫إيل إال جمانني مساكني‪ ،‬وأنت حتتفظ بعقكل‪".‬‬ ‫ال يصلون ّ‬
‫قال أغاغول وهو يتحفز بس يفه ‪ -‬ألنه حىت وإن بدا املارد‬
‫ودودا فإن احلذر ينفع وال يرض‪: -‬‬
‫"أغروين ابذلهب ليذهب عقيل‪ ،‬لكين فطنت أنه ال نفع يف‬
‫يشء يأيت من الش ياطني‪".‬‬

‫‪603‬‬
‫فضحك املارد حضكة شنيعة‪ ،‬دفع زفريها أغاغول للخلف‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫"هذا حصيح‪ .‬ليتين كنت يف فطنتك‪ .‬أول مرة أتيت فهيا لهذا‬
‫الوادي منذ ثالمثائة عام‪ ،‬تقربوا يل وتوددوا‪ ،‬وأهدوين حذا ًء‪.‬‬
‫لعكل تدرك مدى عظم تكل الهدية عندان معرش املردة‪ .‬فليس‬
‫من السهل عىل من يف مثل جحمي أن جيد حذا ًء يناس به‪ ،‬وال‬
‫عىل من ميكل يدين غليظتني كيد ّي أن يصنع واحدا‪ .‬لكن ما أن‬
‫ارتديت احلذاء‪ ،‬حىت اكتشفت إنه مسحور ملعون‪ .‬لو خطوت‬
‫به خطوة‪ ،‬فإنه ال يتوقف أبدا‪ ،‬حىت أبتعد عن أرضهم‪ ،‬ولو‬
‫وقفت به خارج حدودها‪ ،‬فإنه يتوقف أبدا‪ ،‬وال يتحرك‪،‬‬
‫ويتشبث بقديم ال يريد أن خيلع‪ .‬أخذ األمر مين مخسني عاما‪،‬‬
‫ل ي أس تطيع العودة للوادي‪ ،‬سائرا مقلواب عىل يد ّي‪ ،‬ألقف‬
‫عىل مفه‪ ،‬فأحبسهم فيه‪ ،‬وأدفع أذامه عن ابيق الناس‪ ،‬رمغ إن‬
‫حسر احلذاء اللعني مينعين من أن أقتحم أرضهم‪".‬‬
‫مث اهنض العمالق مرة أخرى‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"حس نا اي ابن آدم‪ .‬أنت ضيفي اليوم‪ .‬سأطعمك غذا ًء مل تذق‬
‫مثهل أبدا‪ ،‬فأان خري من يطهو جذور الاكفور‪ .‬ليس لك يوم‬
‫أقابل جشاعا من األنس‪ ،‬غلب الش ياطني‪".‬‬
‫قال أغاغول‪:‬‬

‫‪604‬‬
‫"أشكرك س يدي دلعوتك الكرمية‪ ،‬ولكين ملزم بعهدي أن‬
‫أخرج من هذا الوادي قبل طلوع الفجر‪ .‬ميكنين أن آيت كل‬
‫وأزورك‪ ،‬وأحاول أن أفك عنك قيدك املسحور يف وقت‬
‫الحق‪".‬‬
‫ابتسم العمالق قائال‪:‬‬
‫"ال أظن أنك س تعود يل اي عزيزي"‪.‬‬
‫قال أغاغول‪:‬‬
‫"ومل ال اي س يدي؟ سآيت من هذه الهناية للوادي‪ ،‬ألزورك‬
‫مبارشة دون املرور ببايق أخطاره‪".‬‬
‫قال العمالق‪ :‬لن ينفعك هذا‪ .‬أان دوما يف اهناية الوادي‪ .‬لو‬
‫أتيت من تكل اجلهة‪ ،‬فس متر بلك ما مررت به اآلن‪ ،‬بنفس‬
‫الرتتيب‪ ،‬فهذا ليس واداي عاداي‪ .‬الفارق بني هذا املدخل‪ ،‬أو‬
‫ذاك‪ .‬ولهذا فائدة‪ ،‬فهكذا اس تطعت حبس الش ياطني فيه ال‬
‫خيرجون منه‪.‬‬
‫شعر أغاغول ابحلرج‪ ،‬مث قال لنفسه‪" :‬لو أردت أن أنضم‬
‫للغيالن امحلر اذلين يرفعون الشهاعة فوق أي يشء آخر فلن‬
‫أفلح إن جبنت عن زايرة هذا املارد الطيب‪".‬‬
‫فقال للامرد‪:‬‬

‫‪605‬‬
‫"أعدك اي س يدي إنين إن جنحت يف همميت‪ ،‬وجنوت من ثعبان‬
‫السموم‪ ،‬فسآيت لزايرتك مرة أخرى‪".‬‬
‫ابتسم العمالق ابتسامته الشنيعة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"تفضل ابلعبور آمنا بإذن هللا‪ ،‬وأان يف انتظار عودتك‪ ،‬أدعو‬
‫كل ابلنهاح يف هممتك‪".‬‬
‫وهكذا عرب أغاغول الوادي قبل الفجر بقليل‪ ،‬ليقابل جامعة‬
‫الغيالن تنتظره يف ملل‪ ،‬لكهنم ذهلوا‪ ،‬ورصخوا مهبورين إذ‬
‫وجدوه قد خرج منه آمنا‪.‬‬
‫حيهنا قال كبري الغيالن‪:‬‬
‫"ال حاجة لنا ابملزيد من الاختبارات‪ .‬أنت اي بين من خري‬
‫الغيالن امحلر‪".‬‬
‫فقال أغاغول‪:‬‬
‫"وعدتك بقتل ثعبان السموم‪ ،‬وسأيف بوعدي‪".‬‬
‫قال كبري القلعة‪:‬‬
‫"أنت يف حل من وعدك‪".‬‬
‫قال أغاغول‪:‬‬
‫"وعد احلر دين عليه‪ ،‬ووعد الغول األمحر س يف مسلط عىل‬
‫رقبته‪ ،‬ال جيب أن يرجعه عنه أسوأ األخطار‪.‬‬

‫‪606‬‬
‫كام ترى فإن أغاغول قد تغري بعد هذه التجربة‪ ،‬وأصبح حمبا‬
‫ملواهجة األخطار‪ ،‬وأكرث عزما يف مواهجهتا‪ .‬اكن يشعر أن مواهجة‬
‫ثعبان السموم أمر واجب‪ ،‬عليه أال يتخاذل فيه‪ ،‬كام لو اكن‬
‫بيهنام ثأر خشيص‪.‬‬
‫فرحل حنو الصحراء‪ ،‬اليت يعيش فهيا الثعبان‪ ،‬وكبري القلعة‬
‫يتأسف عليه‪ ،‬ويتحرس عىل ضياع مثل هذا الغول املمتاز‪ ،‬وإن‬
‫اكن ما اهون األمر‪ ،‬إنه قد حقق هدفه‪ ،‬وأصبح فعال من‬
‫الغيالن امحلر‪ ،‬قبل أن ميوت‪".‬‬

‫‪607‬‬
‫‪ ( 4 -60‬ثعبان السموم )‬
‫وارتدى أغاغول ثياب الغيالن‪ ،‬ودروعهم امحلراء املنقوشة‪،‬‬
‫ومحل س يفه الفتاك‪ ،‬حنو تكل الصحراء‪ ،‬ابحثا عنه‪.‬‬
‫يف البداية وجد درواب ومدقات عريضة‪ ،‬يسهل امليش فهيا‪،‬‬
‫فاختذها هل طريقا أثناء حبثه‪ .‬مث عرث عىل بركة من ماء وسط‬
‫الطريق‪ ،‬فاحنىن ليرشب مهنا‪ ،‬مث تراجع‪ ،‬إذ أدرك أن هذا املاء‬
‫يلمع حتت ضوء الشمس‪ ،‬بأشد من املاء العادي‪ .‬ونظر حوهل‬
‫متحريا‪ ،‬وجفأة قفزت احلقيقة ذلهنه‪ ..‬هو ليس يف طريق معبد‪،‬‬
‫بل هذه آاثر زحف الثعبان العمالق‪ ،‬وهذه ليست بركة مياه‪،‬‬
‫بل يه بركة من لعاب الثعبان املسموم‪ ،‬ولو اكن مسه بيده‬
‫لقتهل‪.‬‬
‫إ ًذا‪ ،‬فهذا الثعبان املاكر يعد كامئنا لفرائسه‪.‬‬
‫مغس أغاغول س يفه يف بركة السم‪ ،‬لزييد فتكه‪ ،‬مث تقدم زاحفا‬
‫حبذر‪ ،‬متتبعا اآلاثر لريى الثعبان‪.‬‬
‫وليته مل يره! اكن خضام حقا‪ ،‬بأضعاف ما تتناقهل األساطري‪ .‬مل‬
‫يتصور وجود يشء يف العامل هبذا احلجم اخمليف! وأخذ يفكر من‬
‫أي هجة اهجم‪ ،‬لينال منه؟‬

‫‪608‬‬
‫لو إنه تسلل من اخللف‪ ،‬فس ميزقه اذليل العظمي إراب‪ ،‬ولو‬
‫التف من أحد اجلانبني‪ ،‬فس يعترصه اجلسد اجلبار اعتصارا‪ ،‬ولو‬
‫حاول الزحف من أسفل‪ ،‬فس يقتهل الثقل اخمليف‪.‬‬
‫وطبعا من األمام‪ ،‬هناك الرأس الفتاك‪ ،‬بأنيابه القاتةل‪ ،‬اليت‬
‫تفيض سام!‬
‫أينتظر نومه؟ لكن كام تعمل‪ ،‬فإن نوم الثعابني خمادع‪ ،‬وابذلات‬
‫تكل العامليق‪ ،‬اليت تدرك أاهنا لن تفاجئ فرائسها أبدا‪ ،‬فتبدو لها‬
‫خامةل‪ ،‬علها ختدعها‪ ..‬نوم الثعبان مساو لغدر الثعبان‪.‬‬
‫اكن أمامه الرأس العظمي مبارشة‪ ،‬ابلفكني الضخمني‪ ،‬اذلين لو‬
‫فتحا‪ ،‬لبد موا كباب كهف كبري‪ ،‬والنابني الالمعني ينذران ابدلمار‬
‫للك من يواهجهام‪ ،‬والعينان الرباقتان‪ ،‬اللتان يقال إاهنام تصيبان‬
‫من يتأملهام بنوم غامش‪.‬‬
‫وأدرك أغاغول أنه لو أراد أن يصل ملقتل الثعبان‪ ،‬فلن ينفعه‬
‫مراوغة أو مناورة‪ .‬الهجوم املبارش هو احلل الوحيد‪ ،‬اذلي به‬
‫نفع‪ ،‬رمغ إنه األشد خطرا بني ابيق احللول‪ .‬ولكن منذ مىت اكنت‬
‫الغيالن امحلر تلقي ابال لألخطار‪ ،‬وأنت طبعا خري من يعمل‬
‫هذا؟‬
‫اندفع صارخا حنو الثعبان‪ ،‬اذلي جتمد للحظة مدهوشا من أمر‬
‫مل ير هل مثيال من قبل‪ .‬مث فتح فكيه ممنيا نفسه بلحم البرش‪،‬‬
‫واندفع بدوره اكلطوفان‪ ،‬حنو هذه الفريسة السائغة‬

‫‪609‬‬
‫وجهم أغاغول مرسعا‪ ،‬فقفز بني ف ي الثعبان إىل قلب مفه!‬
‫وحاذر أن ختدشه األنياب السامة‪ ،‬وجتاوز األس نان القاطعة‪،‬‬
‫حممتيا بدروعه امحلراء‪ ،‬حىت ال ميسه اللعاب املسموم‪ .‬وما أن‬
‫أصبح مس تقرا يف مف الوحش‪ ،‬أرسع مسابقا الوقت‪ ،‬قبل أن‬
‫يبتلعه‪ ،‬بطعنه بلك قوة‪.‬‬
‫طعنة تلو الطعنة‪ ،‬يشق الطريق دلماء الثعبان‬
‫وتدفقت ادلماء تغمر املاكن اكلفيضان‪ ،‬وتدفق مس الثعبان‬
‫ليرسي يف دمائه‪ ،‬فرصخ الثعبان متأملا‪ ،‬وقذف مبا يف مفه‪ ،‬ملقيا‬
‫أغاغول الغارق يف دماء الثعبان‪ ،‬مث ارتفع اجلسد املهول ألعىل‬
‫وهو يرجتف‪ ،‬قبل أن اهوي خاشعا فوق أغاغول‪ ،‬اذلي قفز‬
‫متجنبا الثقل العظمي يف آخر حلظة‪ ،‬وارتعش جسد الوحش‬
‫رعشة أخرية‪ ،‬وانتفض انتفاضة عظمية‪ ،‬قذفت بأغاغول وأكوام‬
‫من الرمال بعيدا‪ ،‬قبل أن اهمد لألبد‪.‬‬

‫‪610‬‬
‫‪ ( 5 -60‬املنهتىى )‬
‫وأخريا اهنض أغاغول حامال س يفه‪ ،‬فنظف جسده مما علق به‬
‫برسعة‪ ،‬حىت ال يصيبه السم‪ .‬مث اندفع بس يفه‪ ،‬وفأس قوي‪،‬‬
‫فكرس مف الثعبان‪ ،‬وانزتع أحد النابني‪ ،‬ونظفه من السم‪ ،‬وذهب‬
‫به إىل الغيالن دليال عىل جناحه‪.‬‬
‫فرح به الغيالن كثريا‪ ،‬وفرح أهل املدينة وما حولها من القرى‬
‫هبالك الثعبان الرشير‪ ،‬وأاته ش يخ بدلته فرحا‪ ،‬مقبال ابلعروس‪.‬‬
‫ففرح أغاغول كثريا‪ ،‬لكنه طلب تأجيل الزفاف شهرين اكملني‪،‬‬
‫ألن عنده وعد قطعه عىل نفسه يف وادي األش باح‪ ،‬وعليه أن‬
‫يفي به‪.‬‬
‫وتركهم ورحل حنو الوادي‪ .‬ال أحد يعمل ماذا فعل يف هذين‬
‫الشهرين‪ ،‬لكن يقال إنه شق طريقه بس يفه الفتاك بني‬
‫الش ياطني‪ ،‬فأش بعهم قتال وعاش لفرتة مع املارد الطيب‪ ،‬وأهداه‬
‫الناب الثاين للثعبان‪ ،‬ففرح بتكل الهدية كثرية‪ ،‬وقاده يف زايرة‬
‫لعدة بدلان وأماكن جعيبة‪ ،‬ومرا مبغامرات يشيب لها الودلان‪،‬‬
‫قبل أن يعود ظافرا للمدينة‪ ،‬فنصبه الغيالن كبريا عىل قلعهتم‪،‬‬
‫وتزوج من حمبوبة قلبه‪ ،‬وعاش معها يف سعادة آلخر ادلهر‪.‬‬

‫‪611‬‬
‫(‪)61‬‬

‫أمت ويل العهد حاكيته‪ ،‬اليت يبدو أنه أطال فهيا تلكؤا عن اختاذ‬
‫قرار خميف‪ .‬لكن أعرتف إاهنا اكنت مسلية‪ ،‬أزالت بعض التوتر‬
‫اذلي كنا حنسه‪ ،‬ومن انحية أخرى‪ ،‬فلكام بقى اجلنود مدة‬
‫أطول عىل مشارف جيش األسود‪ ،‬فرمبا اعتادوا مشهده‪ ،‬وبدا‬
‫أقل وحشة يف عيواهنم!‬
‫أخذ يرشح لنا خطته‪ .‬مل يكن يرى أمامنا إال اجملازفة ابالندفاع‬
‫يف خط مس تقمي حنو القلعة‪ ،‬حماولني شق طريقنا ابلقوة‪،‬‬
‫واملفاجأة‪ ،‬وسط معسكر األسود‪ .‬علينا أن خنرتق الصفوف‬
‫األوىل للفرسان برسعة‪ ،‬وبعدها س منيض اكإلعصار وسط حبر‬
‫املشاة هذا‪ ،‬لنصل إىل كتائب السور العيل‪ ،‬وجمانيقها‪،‬‬
‫فندمرها‪ ،‬ونعتصم ابلقلعة مع من فهيا‪ ،‬إن بقى منا انجون!‬
‫كنا ندرك أن اخلطة ستبوء ابلفشل‪ .‬حفامت س يصمد أمامنا املشاة‬
‫مبا يكفي إلطباق حصار الفرسان علينا‪ .‬وحىت لو جنحنا‪ ،‬فإننا ال‬

‫‪612‬‬
‫ندري هل يف القلعة من مؤن تكفينا مع احملارصين مدة طويةل؟‬
‫وهل أسوارها تس تطيع الصمود بعد ما أصاهبا؟‬
‫قلنا خماوفنا برصاحة‪ ،‬لكن اكن البديالن الوحيدان‪ ،‬إما أن‬
‫نقف متفرجني عىل إعدام املكل تميور‪ ،‬أو أن نزنل جليش‬
‫عادي‪ ،‬اهنكل فيه عن آخران بسهوةل‬ ‫األسود املس تعد يف قتال ّ‬
‫اتمة!‬
‫وقال وكيع‪ ،‬مؤيدا تكل اخلطة اجملنونة‪:‬‬
‫"أفضل لنا أن نلقي بأنفس نا وسط مشاهتم‪ ،‬عن أن حناول‬
‫الالتفاف حوهلم‪ ،‬فيحارصان فرسااهنم‪ .‬يكفينا ما ذقناه من أهوال‬
‫من أولئك الفرسان يف واحة ساوة‪ ،‬فهم اكلش ياطني حقا!"‬
‫هنا تدخل جابر معرتضا ألول مرة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"حيامث تذهبون فإان ذاهبون‪ .‬ولكن أقنعوا اجلنود إنمك ال تلقون‬
‫هبم إىل الهتلكة‪".‬‬
‫قال ويل العهد‪ ،‬مس تعيدا رابطة جأشه وفطنته‪:‬‬
‫"علينا أن نأخذ فقط صفوة جنودان‪ ،‬وأشدمه فنجعلهم يف‬
‫املقدمة‪ .‬وس نأخذ الفرسان وأرسع الهجن حفسب‪ ،‬ونرتك املشاة‬
‫والبقية خلفنا فالرسعة أمه ما يف املعركة‪ .‬من ال جييد القتال فوق‬
‫دابته‪ ،‬عليه أن يرتكها لغريه‪ ،‬جلبنا معنا عددا ال بأس به من‬
‫اخليول من ساوة‪ ،‬محلل األثقال فعلينا أن حنررها‪ ،‬وحنولها خليول‬

‫‪613‬‬
‫قتال مجيعا‪ .‬من جييدون الريم أفضل من غريمه‪ ،‬س نرتكهم هنا‬
‫فوق التبة‪ ،‬حيمون ظهوران‪ ،‬حىت يشتتوا جهامت الفرسان املضادة‬
‫علينا‪ .‬أمه يشء هو أن نتهاوز صفوف الفرسان رسيعا‪ ،‬لنندفع‬
‫بأقىص رسعة وسط املشاة‪ ،‬قبل أن تلحقنا بقية فرسااهنم‪.‬‬
‫األسود ال يتصور أننا س هنامجه‪ ،‬عىل األقل مبارشة‪ ،‬فقد ترك‬
‫معسكره كام هو‪ ،‬مل ينظم صفوف مشاته‪ .‬ذلا فالهجمة س تكون‬
‫مباغتة‪ ،‬دون إعداد أو تنظمي صفوفنا‪ ،‬حىت ال ينتهبوا‬
‫الس تعدادان للهجوم‪ ،‬فتنتظم صفوفهم يف مواهجتنا‪ .‬أملنا الوحيد‬
‫هو الرسعة العاتية‪ ،‬واملباغتة الاكمةل‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لكن قوتنا الضاربة حقا يه الغيالن امحلر‪ ،‬وجلهم من املشاة‬
‫اذلين يقاتلون ابلرماح الطويةل‪".‬‬
‫قال ويل العهد‪:‬‬
‫"أقوى ما يف الغيالن يه الرهبة‪ ،‬اليت يقذفواهنا يف قلوب‬
‫العدو‪ .‬وابلطبع إىل جوار مصيب الفويل خاصتك! س نلهأ حليةل‬
‫قدمية‪ ،‬كام فعل املامليك قدميا ابألهبال‪ .‬اليوم حنتاج أن نكون‬
‫مجيعا يف جشاعة الغيالن امحلر‪ ،‬اذلين ال خيافون شيئا‪ ،‬وال‬
‫اهابون أحدا‪ .‬سيتخىل الغيالن عن دروعهم امحلراء لفرساننا‪،‬‬
‫ومن يس تطيع مهنم القتال من فوق فرس أو انقة فهبا ونعمت‪.‬‬
‫قد حيمل امجلل القوي اثنني‪ ،‬أو ثالثة مقاتلني‪ ،‬ولو إن هذا‬

‫‪614‬‬
‫سيبطئه‪ .‬ذلا فس نأخذ مهنم قدر ما نس تطيع‪ ،‬والبقية يتخلون‬
‫عن ادلروع امحلراء لزمالهئم‪".‬‬
‫قال وكيع‪:‬‬
‫"وماذا عن املشاة؟"‬
‫قال ويل العهد‪:‬‬
‫"يتحصنون هنا يف التبة حيمون ظهوران ورماتنا‪ ،‬حىت إذا ما‬
‫أصبحنا بعيدا عن حامية سهام الرماة‪ ،‬ينسحبون إىل واحة‬
‫ساوة‪ .‬وس تكون أنت عىل رأسهم اي وكيع‪".‬‬
‫نظر وكيع هل بغضب الش باب املتحمس‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"لن أتأخر عن احلرب معمك أبدا‪ .‬فهذا يوم ثأري الكبري‪".‬‬
‫قال ويل العهد برصامة‪:‬‬
‫"أنت أخرب قاديت‪ ،‬وأقدرمه عىل إبعاد هؤالء املساكني عن‬
‫بطش األسود‪ ،‬وكل سلطان عىل الثغر الكبري‪ ،‬فميكنك أن‬
‫تتحصن هبا معهم إن سارت األمور عىل غري ما حنب‪ ،‬فنحفظها‬
‫عىل األقل من غارة أخرى للفرجنة‪ .‬ولرمبا اس تطعت أن جتمع‬
‫بعض احللفاء من أمراء املامليك‪ ،‬ليشفعوا للمقهورين عند‬
‫األسود!"‬
‫نظر وكيع بعناد‪ ،‬حىت ظننت أنه سريد بقسوة‪ ،‬لكنه تراجع‬
‫جفأة‪ ،‬وقبل أمر ويل العهد‪.‬‬

‫‪615‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫"وماذا عنك اي موالي؟ أال ترجع أنت إىل ساوة؟ فلو أصابك‬
‫مكروه‪ ،‬ال قدر هللا‪ ،‬فقد ‪"......‬‬
‫قاطعين برصامة‪:‬‬
‫"أعمل أنمك ابيعمتوين وليا للعهد‪ ،‬لكن لو قتل املكل ومعه أيم‬
‫اليوم‪ ،‬خفري يل وللبالد أن أحلق هبام‪ .‬ليحسم األمر اآلن يف‬
‫معركتنا هذه‪ ،‬سواء ابلظفر أو اخلرسان‪ ،‬لكين لن أشعل حراب‬
‫طويةل ضد األسود‪ ،‬مطالبا مبكل خرب مزعوم‪ .‬إما أن تتوحد‬
‫بالدمك اليوم عىل يدان‪ ،‬أو عىل يد األسود‪ ،‬ويكفينا أننا رددان‬
‫الفرجنة واألهبال‪ ،‬عىس األسود ‪ -‬وقد امتكل هذا اجليش‬
‫العظمي ‪ -‬أال حيتاج هلم مرة أخرى‪".‬‬
‫اكنت خطة معقدة‪ ،‬ومربكة‪ ،‬وحتتاج إىل رسعة إعداد للجنود‪.‬‬
‫خفرجنا نأمر العسكر جبمع اخليول‪ ،‬وأرسع الهجن والغيالن خبلع‬
‫دروعهم‪ .‬نظرت بقلق‪ ،‬بيامن الاضطراب يعم صفوفنا‪ ،‬حنو البحر‬
‫األسود من أسفلنا‪ ،‬فطمأنين ويل العهد‪:‬‬
‫"س يظنون أننا نعد لالنسحاب‪ .‬األسود سيتصور أنين سأعلن‬
‫نفيس ملاك‪ ،‬وأخوض ضده جوةل أخرى ايئسة يف ماكن آخر‬
‫‪،‬حيامن يلمح صفوفنا ترتبك وترتاجع‪ .‬اطمنئ‪ ،‬فبإذن هللا لن يفهم‬
‫أننا نعد للهجوم‪".‬‬

‫‪616‬‬
‫يف احلقيقة حىت جندان تصوروا أننا نعد للرحيل‪ ،‬خاصة حيامن‬
‫ّمحلنا لك فارس وههان ابلقليل من املؤن‪ ،‬ننوي أن ندمع هبا‬
‫القلعة احملارصة‪ ،‬لكهنا بدت كام لو اكنت تعد للرحيل! وقد‬
‫ساعدان هطول املطر عىل هذا التضليل‪ ،‬وبدا أنه أاثر ضيقا يف‬
‫صفوف مشاة األسود‪ .‬وعندما اكمتل أغلب اإلعداد‪ ،‬وجتهز‬
‫الفرسان يف اخللف‪ ،‬والرماة عىل مقة التبة كام أمر ويل العهد‪،‬‬
‫ليبدو األمر انسحااب ال جهوما‪ ،‬قال ويل العهد يل‪:‬‬
‫"خاطب اجلنود‪ ،‬وأثر حامسهم قليال‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أنت القائد وهذا واجبك‪".‬‬
‫ابتسم ابتسامة شاحبة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أان غريب من طرابل! مه يعرفون أنك مهنم‪ ،‬وأنت أخرب‬
‫بأحواهلم مين‪ ،‬كام إنين أكره أن أقف حتت املطر ألخطب!"‬
‫خرجت للناس ال أدري ما أقول‪ ،‬أخذت أفكر فمي أدعومه‬
‫إليه؟ أأهتف هبم قائال‪" :‬اليوم يوم احلسم إما النرص والرخاء أو‬
‫الهزمية وادلمار؟" وما أدراين ابملس تقبل؟ النرص حيتاج بعده‬
‫لكفاح‪ ،‬كام س يعرفون ومه ينصتون يل‪.‬‬

‫‪617‬‬
‫وقفت عىل مقة التبة بني الرماة مشغول اذلهن يف خطبيت‬
‫القادمة‪ ،‬فانتهبت جفأة إن اجلنود قد تعلقت يب عيواهنم‪ ،‬وقد‬
‫أدركوا أنين سأخربمه مبا انتوينا عليه‪.‬‬
‫وجدت نفيس أهتف‪:‬‬
‫"اللهم انرصان عىل القوم الظاملني‪".‬‬
‫رددوا ورايئ‪:‬‬
‫"آمني‪".‬‬
‫أمكلت ادلعاء وقد وجدت فيه جنايت‪:‬‬
‫"اللهم إان عىل احلق‪ ،‬أتينا لنرصة املظلوم‪ ،‬فاللهم نرصك اذلي‬
‫وعدت‪".‬‬
‫"آمني‪".‬‬
‫"اللهم إن اكن األسود أعد جيشا كبريا‪ ،‬فاهلل أكرب"‬
‫"هللا أكرب"‬
‫أدركتين جالةل ما‪ ،‬فهفت نفيس للمزيد من ادلعاء والتوبة‪.‬‬
‫اللجوء للمغيث‪ ،‬اذلي قال ( ادْعوين أم ْستمج ْب لم ْمك ) فهو القريب‬
‫مسيع ادلعاء‪.‬‬
‫"أقوة األسود كبرية؟ أوليس هللا أكرب؟ هل ختشون جنده؟‬
‫فاهلل أحق أن ختشوه إن كنمت مؤمنني‪ .‬ووهللا إاهنم ليخشونمك‪.‬‬

‫‪618‬‬
‫أما تدرون أن ما عندمك ينفد‪ ،‬وما عند هللا ابق؟ أما تعلمون أن‬
‫النرص بيد هللا‪ ،‬ومك من فئة قليةل غلبة فئة كثرية بأمر هللا؟‬
‫مادممت عىل احلق فال ختشوا شيئا‪ .‬ادعوا هللا أن ينرصمك‪ .‬اليوم‬
‫يوم الفصل‪ ،‬إما أن حيمك علينا ابلقهر واذلةل واخلراب عىل يد‬
‫األسود‪ ،‬أو ندفع الظمل‪ .‬فاهلل ال يغري ما بقوم‪ ،‬حىت يغريوا ما‬
‫بأنفسهم‪ .‬وجيب أن يدفع الناس بعضهم بعضا طلبا للعدل‪ ،‬ل ي‬
‫تزنل رمحة السامء‪ .‬فادعوا هللا أن ينرصمك‪ ،‬ويثبت أقداممك‪".‬‬
‫"آمني‪".‬‬
‫أحسست بسكينة غريبة أش به ابخلدر‪ .‬خدر جعيب مل خيدر‬
‫قليب وأحاسييس مجيعا‪ ،‬وإمنا انتقى برباعة اخلوف‪ ،‬والغضب‪،‬‬
‫واحلقد‪ ،‬والقلق‪ ،‬والندم‪ ،‬والظمأ‪ ،‬والتعب فأطفأ هذا لكه‪ ،‬بيامن‬
‫زاد من العزمية‪ ،‬واإلرصار‪ ،‬وصفاء اذلهن‪ ،‬حىت أحسست أنين‬
‫أرى لك يشء بوضوح‪ ،‬كأمنا أرى ما أمايم‪ ،‬وما خيفى عين‬
‫أيضا! أتكون هذه أعراض تصيب من يوقنون ابلشهادة؟‬
‫قلت للرجال‪:‬‬
‫"هالكمك آت ال حماةل‪ .‬مفاذا بعده؟ وماذا أعددمت ليوم الرحيل؟‬
‫إما جنة‪ ،‬أو انر موقدة تطلع عىل األفئدة‪ .‬س تحاس بون عىل‬
‫حربمك هذه‪ ،‬ولن تسألوا أهزممت أم انترصمت‪ ،‬وإمنا س يكون‬
‫احلساب‪ :‬ملاذا قاتلمت؟ وكيف قاتلمت؟ وهل أخلصمت؟ جنود‬
‫األسود س تكون إجابهتم‪ :‬إان أطعنا سادتنا وكرباءان فأضلوان‬

‫‪619‬‬
‫السبيل‪ .‬تبعومه طمعا يف مال وسلطان‪ ،‬وقاتلوا حبمية اجلاهلية‪،‬‬
‫مغلقني قلوهبم عن احلق واإلميان‪.‬‬
‫مفاذا س تكون إجابتمك أنمت اي من جتاهدون يف سبيل هللا‬
‫والوطن؟ وهللا إنمك لغالبون حىت لو هزممت! إن هللا وعد‬
‫املؤمنني ابلنرص‪ ،‬ولو اكن أمام لك مائة مهنم ألفا "إ ْن يمك ْن منْ ْمك‬
‫ون يمغْلبوا مائمتم ْني موإ ْن يمك ْن منْ ْمك مائ م ٌة يمغْلبوا أملْفًا‬
‫ون مصابر م‬ ‫ع ْرش م‬
‫م من اذل مين كمفمروا‪".‬‬
‫قد نقتل عن آخران اليوم‪ .‬دعوين أكون صادقا يف ساعايت‬
‫األخرية! لكن يف الانتظار‪ ،‬وراء املوت‪ ،‬جنة‪ .‬وألوالدان خفر‬
‫وعزة‪ ،‬حىت لو هزمنا س يعمل الطغاة أن محلنا مر‪ ،‬فس يخشون‬
‫أبناءان من بعدان‪ ،‬ويكفوا عهنم أيداهم‪ .‬فلنطلب املوت‪ ،‬لتوهب‬
‫لنا وملن خلفنا احلياة‪ .‬وليطلبوا مه احلياة‪ ،‬جفهمن ال تش بع حطبا!‬
‫أوس هنكل؟ أقول لمك عىل األرحج نعم! ولكن العدل سيبقى‪،‬‬
‫طاملا بقيت هناك س يوف مرفوعة يف سبيهل‪،‬‬
‫اَّلل ال يغمري مما بقم ْوم محىت يغمريوا مما ب مأن ْفسه ْم)‬‫(إن م‬
‫هذا الكم العيل العظمي وقد أكرمنا بقوهل تعاىل‬
‫( مولم ْوال مدفْع اَّلل الن ماس ب م ْعضم ه ْم ب مب ْعض لمفم مسدم ت ماألرض)‬
‫قال س بحانه (بعضهم ببعض)‪ .‬جيب أن ندفع الظمل بأيدينا‪،‬‬
‫ليدفعه هللا عنا‪ ،‬ولو ختاذلنا فلن يرفع الظمل والطغيان عنمك‪،‬‬

‫‪620‬‬
‫وعن أبنائمك وأبناء أبنائمك! لو جاهدمت اليوم‪ ،‬فالنرص آت سواء‬
‫اليوم‪ ،‬أو الغد فهذه س نة هللا يف خلقه‪ ،‬أما لو ختاذلمت‪ ،‬فلن ترفع‬
‫عنمك س يوف األهبال والفرجنة‪ ،‬حىت ترتوي‪ .‬ويه ال ترتوي من‬
‫دمنا أبدا!‬
‫ادعوا هللا أن ينجيمك ويغيثمك"‬
‫قالوا بصوت عال‪:‬‬
‫"آمني"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وهللا إاهنا دعوة ال تنفع أبدا! فدعوة املتخاذل ال تنفع! إال لو‬
‫أتت من قلب جماهد‪ ،‬فإاهنا تشق الساموات الس بع‪ ،‬ال حيجزها‬
‫عن هللا جحاب‪ .‬حساب هللا لمك‪ ،‬ورضاه عنمك س يكون عن‬
‫قتالمك‪ ،‬وليس عن نرصمك‪ ،‬فال تيأسوا من رمحة هللا إن رأيمت حبرا‬
‫أسودا يفيض ظلامت عىل سفينتمك‪ ،‬فإاهنا منجيتمك بأمر هللا‪،‬‬
‫اللهم هل بلغت اللهم فاشهد‪".‬‬
‫تركهتم حبثا عن جوادي‪ ،‬فقابلت ويل العهد محمر الوجه‪ ،‬وهو‬
‫يقول يل‪:‬‬
‫"أهذه يه اللكمة اليت حتمسهم هبا!"‬
‫مل أرد‪ ،‬وتركته خيطب يف اجلند‪ ،‬يثري محيهتم‪ ،‬ويوقد صدورمه‪.‬‬

‫‪621‬‬
‫ال أعمل ملاذا غشيين هذا السكون‪ ،‬كأمنا لك غضيب وحنقي‬
‫وحاميس وخويف وفزعي و‪ ..‬و‪ ..‬و‪ ..‬ولك مشاعري غرقت يف‬
‫حبر معيق‪ .‬ال مل تغرق‪ ،‬وإمنا تس بح يف بركة هادئة تغسلها‬
‫وهتذهبا‪.‬‬
‫مل أفهم ما حيدث ّيف‪ ،‬لكين مل أهمت إال بإلقاء نفيس وسط‬
‫الس يوف‪ ،‬لنيل احلق! مك بدت الغاليات رخيصة يل اآلن‪ ،‬ومك‬
‫مثنت دلي رخائص! بدا أن تمثيين للحياة وما فهيا قد تغري متاما‪،‬‬
‫بل قلب رأسا عىل عقب‪.‬‬
‫رمبا اكنت السكينة اليت يزنلها هللا عىل املؤمنني‪ ،‬أو إن نفيس‪،‬‬
‫اليت تصبو إلهيا‪ ،‬أومهتين بذكل؟ ورمبا اكن الاستسالم للمصري‬
‫احملتوم‪ ،‬رفضا لالستسالم للحمك البغيض‪ ،‬بعد طول رصاع‬
‫أرهقين‪ ،‬ومزق عقيل؟‬
‫اليوم حيسم الرصاع‪ ،‬اذلي أمهين طويال‪ ،‬فمل هتمين نتيجته!‬
‫هل حقا مل أعد أخىش شيئا؟ بل أخىش فقط أال أظل عىل‬
‫نفس القدم الواثقة‪ ،‬اليت كنت علهيا‪ ،‬أخىش أن أهرب‪ ،‬أو‬
‫أخذل نفيس‪ ،‬فأضيع لك ما فعلت‪ ،‬أخىش أن أكون كذبت عىل‬
‫نفيس‪ ،‬خفدعهتا ابلشهاعة واملرؤة والسعي للجهاد‪ ،‬بيامن احلقيقة‬
‫جنب‪ ،‬س يظهر عندما جتيل الس يوف احلقائق!‬

‫‪622‬‬
‫حامت يه الهناية‪ ،‬فهل أستسمل لها استسالما رشيفا بال مراوغة‬
‫ال جتدي؟ اهنامج بقةل كرثة كثرية متحصنة‪ ،‬فهل أثبت يف املعركة‪،‬‬
‫أم تراودين نفيس؟‬
‫مل أكن أشعر ابخلوف من القتال إطالقا‪.‬‬
‫لكين واي للعجب‪ ،‬كنت مرتعبا من اخلوف ذاته! مرجتفا من أن‬
‫يأتيين عند الهناية‪ ،‬فتكون اخلامتة عىل غري ما أش هتىي‪ ،‬خائفا من‬
‫أن أكتشف يف نفيس غري ما كنت أظن‪ ،‬ويتضح يل زيف‬
‫إخاليص ومعيل‪.‬‬
‫مسعت أن املوت إذا أىت الصاحلني‪ ،‬اكن ضيفا خفيفا‪،‬‬
‫يس تقبلوه بقلوب مطمئنة‪.‬‬
‫أترى قليب مطمنئ؟ أأكون من الصاحلني حقا؟‬
‫مث تالشت تكل األفاكر من ذهين بغري اهامتم‪ ،‬يبدو أنه قبل‬
‫املوت ال اهمت املرء بيشء‪ ،‬وال حىت املوت ذاته أو ما بعده‪.‬‬
‫حيامن ركبت فريس‪ ،‬واندفعنا وسط املطر الغزير‪ ،‬أحسست‬
‫أنين ال أعرف يف هذا العامل إال حقيقتني‪ ،‬أنين أريد من س يفي‬
‫قوة الرضبة‪ ،‬ومن قليب ثبات يف املاكن!‬

‫‪623‬‬
‫(‪)62‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫مل نس تغرق الكثري من الوقت يف تنظمي الصفوف‪ ،‬اكن أغلب‬
‫من جييد الركوب عىل دابته ابلفعل‪ ،‬وأغلب الرماة قد اعتلوا مقة‬
‫التبة منذ اس تولينا علهيا‪ .‬وضعنا قدر ما نس تطيع من الغيالن‪،‬‬
‫إما رديفا خلف اإلبل‪ ،‬أو عىل اخليول اليت جتر املؤن‪ ،‬والباقون‬
‫خلعوا دروعهم للفرسان‪ ،‬وقسمنا اجليش ثالثة أقسام‪.‬‬
‫اجلزء األول بقيادة ويل العهد‪ ،‬ومعه األبطال والفرسان والهجن‬
‫األرسع‪ ،‬س مييض حىت يصل للقلعة‪ .‬والثاين هو املشاة والرماة‪،‬‬
‫بقيادة وكيع‪ ،‬سيبقون فوق التةل‪ ،‬والثالث مه ابيق الههانة‪ ،‬مع من‬
‫أركبنامه ادلواب البطيئة اكلبغال‪ ،‬سيشاركون الهجوم يف بدايته‬
‫مع بعض املشاة‪ ،‬لشق صفوف الفرسان اخلارجية‪ ،‬وحامية ظهر‬
‫املهامجني‪ ،‬مث ينسحبون‪ ،‬بقيادة وكيع‪ ،‬إىل التبة‪.‬‬

‫‪624‬‬
‫جتمعنا خلف الصفوف‪ ،‬وإذا بأحد الرجال اهتف أن هناك‬
‫حركة وقلقا بني فرسان األسود‪ .‬فأشار ويل العهد بس يفه‬
‫للهجوم‪ ،‬وحصنا معا صيحة مزلزةل‪:‬‬
‫"هللا أكرب"‬
‫نزلنا مع املطر س يال عرما‪ ،‬منحدرين ومطيحني بلك ما اعرتض‬
‫طريقنا‪ ،‬انطلقت السهام واحلراب والرماح مفسحة لنا ثغرة‬
‫وسط فرسان األسود‪ ،‬اذلين أثقلهتم اجلراح واألمطار‪ .‬إاهنار‬
‫سدمه األول‪ ،‬من مخسة صفوف أو س تة‪ ،‬أمام س يوفنا وجهومنا‬
‫املباغت‪ ،‬واشتبكنا فورا مع سدمه الثاين‪ ،‬نريد تفتيته‪ .‬فشاغلهتم‬
‫الكتيبة الثالثة من جيش نا من الراكب املثقلني‪ ،‬لنندفع أخريا حنو‬
‫املشاة‪.‬‬
‫بدا جهومنا مباغتا متاما لفرسان األسود‪ ،‬لعلهم توقعوا أن ننتظر‬
‫توقف املطر‪ ،‬أو أن اهنامج جوانهبم ال قلهبم‪ ،‬فاكن هذا الهجوم‬
‫الانتحاري‪ ،‬بدايته‪ ،‬لصاحلنا‪.‬‬
‫سقط فرسان األسود رسيعا يف الاشتباك‪ .‬كنا يف ماكن‬
‫الالتحام أكرثية تمتتع بغطاء من رماة السهام واحلراب‪ ،‬فاختلت‬
‫صفوف السد الثاين‪ ،‬وتشتتوا متقهقرين ميينا ويسارا‪ ،‬منحازين‬
‫لبايق فرسااهنم‪ ،‬اذلين يتكتلون حماولني الانقضاض عىل جانبنا‪،‬‬
‫رمغ دعوات ضباطهم اليائسني ابلثبات‪.‬‬
‫أدرك ويل العهد خطورة املوقف‪ ،‬فهتف اثنية‪:‬‬

‫‪625‬‬
‫"هللا أكرب‪ .‬إىل القلعة‪".‬‬
‫تركنا مؤخرتنا تشغل الفرسان واملشاة عن فتحة الثغرة‪،‬‬
‫واندفعنا نلقي بأنفس نا يف حبر ميوج من مشاة األسود‪.‬‬
‫واكنت املفاجأة ساحقة!‬
‫ما أن جتاوزان فرقيت الفرسان‪ ،‬وجدان طريقا ممهدا سهال! املشاة‬
‫املصفوفة هترب من وجوهنا‪ ،‬ومه ألوف مؤلفة! يرصخون‬
‫فزعني‪ ،‬ملقني بأسلحهتم أرضا‪ ،‬يف مشهد مل أمسع هل مثيال يف‬
‫حاكايت احلروب! لو وقف يف وهجنا عرشمه‪ ،‬ألهلكوان لكهنم‬
‫ينطلقون‪ ،‬ال يبغون إال الفرار من املاكن لكه!‬
‫وهنا حاول املشاة الهاربني يف فزعة عظمية‪ ،‬واضطراب‪،‬‬
‫وفوىض‪ ،‬بال مثيل أن خيرتقوا حلقة الفرسان احمليطة هبم‪ ،‬لهيربوا‬
‫مفسحني لنا امليدان حىت القلعة! وإذا بفرسان األسود يرتكوننا‪،‬‬
‫ليهنالوا عىل مشاهتم قتال وتذبيحا‪ ،‬ليعيدومه للصفوف دون‬
‫جدوى!‬
‫مل يعرتضنا إال الرصاخ والعويل‪ ،‬حىت إن وكيع انهتزها فرصة‪،‬‬
‫فأخذ ابيق اجليش والرماة‪ ،‬ونزل خمرتقا الصفوف‪ ،‬يلحق بنا‪ ،‬بيامن‬
‫القتال حتول إىل صيد من فرسان األسود ملشاته‪ ،‬اتركينا يف‬
‫حالنا!!!!‬

‫‪626‬‬
‫ليست هذه مبعركة‪ ،‬إذا ما نسينا قتال صفوف الفرسان‬
‫األوىل‪ ،‬كأمنا ألقى هللا رعبا أمعى يف قلوب مشاة العدو منا‪،‬‬
‫فانقلب احلال خلطا يف خليط!‬
‫أخريا وصلنا للقلعة‪ ،‬فاعرتضنا يف البداية بعضا من كتائب‬
‫األسود األقدم اخمللصة هل‪ ،‬لكنه‪ ،‬عىل ما يبدو‪ ،‬أمرها‬
‫ابالنسحاب‪ ،‬بعد اشتباك قصري‪ .‬وال ألومه‪ ،‬فرتتيب صفوفه‬
‫أصبح شغهل األعظم‪.‬‬
‫وصلنا نهنب األرض اهنبا جلنود السور العيل‪ ،‬وسالهحم‬
‫وجمانيقهم‪ ،‬فهامجنامه بأقىص قوة‪ ،‬نريد تدمريمه قبل أن ينقلب‬
‫علينا األسود‪ .‬لكهنم اصطفوا يف صفوف منتظمة‪ ،‬كأمنا يه بنيان‬
‫جحر ال فرق برش‪ ،‬وتراجعوا منتظمني‪ ،‬ال تناهلم أسلحتنا رمغ إن‬
‫عددمه أقل منا‪ ،‬واس تطاعوا حبامية بعضهم بعضا الانسحاب‬
‫بأمان بعيدا عنا‪ ،‬دون أن يفقدوا الكثري‪ ،‬بل حىت دون أن‬
‫حنطم ربع جمانيقهم‪ ،‬اليت اكنت هدفنا األصيل!‬
‫وأخريا بدأت الغشاوة تنقشع‪ ،‬وأرسع األسود ينظم فرسانه‪،‬‬
‫بعد أن أجربمه عىل التخيل عن املشاة‪ ،‬وذحبهم‪ ،‬أشهد هل‬
‫ابحلنكة وقوة الشكمية‪ ،‬مفن يرى الفوىض اليت اكن علهيا جيشه‪،‬‬
‫ال يصدق أنه اس تعاد نظامه هبذه الرسعة‪.‬‬

‫‪627‬‬
‫اكن معه قرابة الامثنني ألف فارسا ابرعا‪ ،‬بيامن لك جيش نا ابملشاة‬
‫رمبا ال يزيد عن ثالثني أو أربعني ألفا‪ ،‬مبن فهيم من حتصنوا‬
‫ابلقلعة‪.‬‬
‫وهنا أخذت املبادرة‪ ،‬فهتفت للغيالن أن يتقدموا الصفوف‪.‬‬
‫وقلت لويل العهد‪:‬‬
‫"ادخل برجاكل إىل القلعة فورا‪".‬‬
‫قال يل بقلق‪:‬‬
‫"لو فعلنا وفتحت القلعة أبواهبا لنا‪ ،‬فس تكون فرصة ذهبية‬
‫ليدمهوها وراءان‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لهذا يرتبص حميطا بنا‪ ،‬ومل يبادران ابلهجوم فاملاكر يريد منحنا‬
‫فرصة دلخول القلعة‪ ،‬لكين مع الغيالن سنبقى أماهما نصدمه‬
‫عهنا‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"هذا معناه إابدتمك حىت آخر رجل؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"هذا معناه إننا نشرتي بأرواحنا جناة ابيق اجليش‪ ،‬بدال من‬
‫هالكنا مجيعا‪".‬‬

‫‪628‬‬
‫بدا عليه الرتدد‪ ،‬لكنين كنت مصمام‪ .‬ال أعمل ما رأي غيالن‬
‫الغاربة يف هذا األمر‪ ،‬فهم ليسوا غيالان محرا حقا‪ ،‬لكهنا بدت‬
‫يل الفرصة الوحيدة‪.‬‬
‫لكن ظنوين‪ ،‬وخماوف ويل العهد‪ ،‬مل تغن شيئا‪ .‬إذ انطلقت‬
‫األبواق صاخبة! ونظران فوجدان لك األبواب تفتح‪ .‬وارتفعت‬
‫أعالم املكل مرفرفة من خلف اجلدران املهدمة‪.‬‬
‫وظهر املكل تميور خارجا من حاميهتا‪.‬‬
‫خرج مع لك جنده فامي يظهر‪ ،‬جفريت حنوه فزعا أقول‪:‬‬
‫"ارجع! ارجع‪ 1‬احمت!"‬
‫لكنه أشار يل بثبات‪ ،‬أن أبقى يف موقعي‪ .‬نظرت هل‪ ،‬فألول‬
‫مرة مل أر تميور الساوايت‪ ،‬الشاب العنيد اخمللص‪ ،‬وإمنا املكل‬
‫تميور القائد‪ ،‬اذلي يتقدم جنوده يف أحكل املواقف‪.‬‬
‫اكن اتجه خوذة من حديد‪ ،‬مزخرفة بشعار املكل‪ ،‬لكهنا بدت‬
‫ذات هيبة يف العيون‪ ،‬مل يكن زيه حريرا‪ ،‬وإمنا هو من سائر‬
‫أزايء الناس‪ ،‬ورمغ ذكل بدا عليه شاخما‪ .‬ال أزمع إنين رأيت‬
‫ملواك من قبل‪ ،‬لكن من يراه حامت س يعرف يف عينه نظرة‬
‫امللوك!‬
‫نظرة األب‪ ،‬اذلي خيىش عىل أبنائه اجلنود‪ ،‬ويريد مشاركهتم‬
‫املصري‪.‬‬

‫‪629‬‬
‫نظرة من حيمل عبئا‪ ،‬يعرف ثقهل‪ ،‬لكنه يعرف أنه جيب أن‬
‫يكون قادرا عىل محهل‪.‬‬
‫وصل عىل جواده لنا‪ ،‬وقال مبتسام‪:‬‬
‫"هتدمت القلعة كام ترون‪ ،‬ولو احمتينا خلفها‪ ،‬بعد جناة عدد‬
‫السور العيل‪ ،‬فس هنزم يف قلهبا! لنواجه اليوم‪ ،‬وحنسم األمر‬
‫ابلنرص بإذن هللا‪".‬‬
‫انتظمت صفوفنا مع القوة اجلديدة‪ ،‬وأخذ جنودان يكربون"هللا‬
‫أكرب‪ ".‬اكألسود املزجمرة‪.‬‬
‫لكن األسود أثبت مرة أخرى أنه قائد أريب‪ .‬مل يكتف بأن‬
‫اس تعاد انتظام جيشه‪ ،‬أو ما بقى منه‪ ،‬هبذه الرسعة اخلارقة‪،‬‬
‫وإمنا بدل خطته‪ ،‬وصفوفه يف دقائق معدودة‪ ،‬كأمنا بفعل‬
‫السحر‪ .‬وبدال من تقس مي جيشه جامعات‪ ،‬تطارد من حياولون‬
‫دخول القلعة‪ ،‬أصبحوا جفأة فرقا منتظمة من الفرسان‪ ،‬حتارصان‬
‫من ثالثة جوانب! ووسطها قلب قوي عسري الاخرتاق‪ ،‬وعىل‬
‫جانبيه جناحني خفيفني قويني‪ ،‬يس تطيعان حصاران‪ ،‬والالتفاف‬
‫عىل جوانبنا برسعة الربق‪.‬‬
‫أخذ املكل ينادي اجلنود محمسا‪:‬‬
‫"جتمعوا معا‪ ،‬ابقوا صفوفمك منتظمة اكلبنيان املرصوص‪ .‬امجعوا‬
‫العيل يفعلون‪".‬‬
‫بعضمك وامحوا بعضمك بعضا كام رأيمت أبناء السور ّ‬

‫‪630‬‬
‫العيل هلم خربة‬
‫اكنت توجهيات طيبة‪ ،‬ولو إن رجال السور ّ‬
‫مائة عام من احلروب مع الصيادية‪ ،‬أما جنودان خفربهتم يف القتال‬
‫ضد لصوص ومغريين‪ ،‬فال يس تطيعون أن يتحولوا لقطع‬
‫شطرجن حيركها القائد بإحاكم‪ ،‬كام يفعل القائد األسود يف‬
‫جنوده‪ ،‬أو يعملون معا يف تنامغ‪ ،‬كام يفعل أبناء السور العيل!‬
‫اكن أخربان ابحلروب هو ويل العهد‪ ،‬ملا شارك فيه من معارك‬
‫يف طرابل‪ ،‬ذلا رسعان ما أخذ زمام األمر‪ ،‬ونظم الصفوف ملحا‬
‫عىل اجلنود‪:‬‬
‫"ابقوا دوما كتةل واحدة صامدة جوار بعضمك‪ ،‬تشدون أزر‬
‫بعض‪ .‬كتةل صلبة حتطم من اهامجها‪".‬‬
‫وأمر الرماة ابعتالء ا ألماكن العالية يف القلعة‪ ،‬لتعزيزان‪،‬‬
‫وليهددوا ذخريهتم من السهام من خمزون القلعة‪.‬‬
‫ولكن قبل أن يدخلوا األبواب‪ ،‬اكن األسود قد ابدر ابلهجوم‪.‬‬
‫انقض علينا اكلكامشة‪ .‬يتقدم املمينة وامليرسة عىل خيول خفيفة‬
‫رسيعة‪ ،‬حتيد عنا قليال‪ ،‬تبغي رضب جنبينا‪ ،‬بيامن يف القلب‬
‫وضع الههانة الثقيةل الواثقة‪.‬‬
‫اخليول الرسيعة ستبيل بال ًء حس نا يف حصارن‪،‬ا ورمبا تلتف‬
‫حولنا للمدينة‪ ،‬لكن الههانة الثابتة األقدام فوق األرض املبتةل‬
‫ابملطر‪ ،‬س تكون قوة عاتية بطيئة‪ ،‬يصعب صدها أو اخرتاقها!‬

‫‪631‬‬
‫تكتلنا يف فرقة واحدة كام أمران ويل العهد‪ ،‬ممتسكني مبوقعنا‪،‬‬
‫حناول حامية أبواب القلعة‪ ،‬وبدأان يف ريم فرسانه وههانته‬
‫ببعض النبال‪ ،‬واس تعددان لالشتباك العايت‪.‬‬
‫لكن األسود أظهر مكره!‬
‫اكنت ميرسته أخضم من ممينته مبقدار الضعف‪ ،‬وما أن وصلت‬
‫جلانب جيش نا األمين‪ ،‬حىت انشطرت نصفني‪ ،‬نصف يشاغلنا‬
‫وميطران ابلسهام‪ ،‬ونصف أمكل اندفاعه الرسيع مسابقا الرحي‬
‫للخلف‪ .‬مل نس توعب يف البداية غرضه‪ ،‬سوى وكيع اذلي أدرك‬
‫برسعة بداهته خطة األسود‪.‬‬
‫وهنا ظهر لنا عيب كون اجليش كتةل واحدة‪ ،‬بدال من تقس ميه‬
‫ممينة وميرسة وقلب‪.‬‬
‫لقد هامجنا األسود مبيرستني‪ ،‬أحدهام حتارب والثانية تمكل‬
‫طريقها اكلربق‪ ،‬تكبس عىل جنودان أمام القلعة‪ ،‬تريد أن تعتلهيا‬
‫فتس تويل علهيا‪ ،‬ومتطران حنن ابلسهام مهنا! ولوال وكيع‪ ،‬لهزمنا‬
‫هزمية فورية‪ ،‬فقد انسلخ عنا برسعة مع رجاهل‪ ،‬يف س باق مريع‬
‫ضد رجال األسود‪ .‬ورمغ إنه اكن األقرب للقلعة‪ ،‬لكنه مل يلحق‬
‫هبم إال ومه ينقضون عىل رماتنا‪ ،‬اذلين اكنوا مازالوا يدخلون عرب‬
‫األبواب‪ ،‬فأخذ يبارزمه مبن معه‪.‬‬
‫لو اكن جيش نا مقسم لفرق‪ ،‬لسهل علينا أن حنرك إحداها‬
‫للتصدي هلم‪ ،‬وأخرى دلمعه! لكن حركة وكيع اجملنونة‪ ،‬اكنت بال‬

‫‪632‬‬
‫أمل‪ ،‬إال كسب الوقت‪ ،‬وقد اشرتى الوقت المثني بروحه‪،‬‬
‫وأرواح جنوده‪ ،‬إذ سهل عىل فرسان األسود حمارصة مجموعته‪،‬‬
‫ومتزيقها‪ ،‬ليسقط البطل أمام عيوننا شهيدا‪.‬‬
‫ظل حىت آخر نفس يقاتل‪ ،‬حىت مزقته الس يوف‪ ،‬وتلونت‬
‫مالبسه خبضاب ادلم‪ ،‬ومازال واقفا يناجز‪ ،‬حىت أتته النهالء‪.‬‬
‫ولكن الوقت المثني‪ ،‬اذلي اشرتاه‪ ،‬مكن رماتنا من اعتالء‬
‫أماكهنم‪ ،‬وأمطروا امليرسة األخرى بسهاهمم‪ ،‬يطلبون الثأر‬
‫للبطل الرشيف‪.‬‬
‫انسحبت امليرسة األخرى‪ ،‬بعد فشل جهوهما مرسعة‪ ،‬لتلحق‬
‫ببايق امليرسة يف انقضاضها عىل جانبنا األمين‪ ،‬اذلي اكن قد‬
‫اختل‪ ،‬بعد ترسب صفوفه مع وكيع‪.‬‬
‫وهنا اهزت جانبنا األمين بقوة وختلخل‪ .‬فكثري من جنده اكنوا من‬
‫أتباع وكيع‪ ،‬شاهدوا قائدمه ميوت‪ ،‬كام أن الضغط عليه قد‬
‫تضاعف‪ .‬فاضطر املكل تميور أن يرسع بنفسه لهذا اجلانب‬
‫مقاتال‪ ،‬حماوال تنظميه اثنية‪ .‬وملا رأى الرجال ملكهم حيارب‬
‫جوارمه‪ ،‬نفخت فهيم روح اجلهاد من جديد‪.‬‬
‫لكن ظل اجلانب األمين خمتال بشدة‪ ،‬حىت إن ويل العهد‪،‬‬
‫وابن العبديل من ماكاهنام يف مؤخرة اجليش‪ ،‬أخذا يرسالن‬
‫اجلنود لتدعميه‪.‬‬

‫‪633‬‬
‫اكن جابر مع غيالنه الرائعني يف اجلانب األيرس‪ ،‬خصرة صلبة‬
‫ال تتحطم‪ ،‬وجند األسود يقاتلون يف كر عنيف‪ ،‬مث يرتاجعون‬
‫رسيعا مبتدعني عن السهام والرماح‪ ،‬قبل أن يعاودوا الكر‪.‬‬
‫ومىض القتال رشسا‪ ،‬وأشده رشاسة عند اجلانبني خاصة‬
‫األمين‪.‬‬
‫بقيت القائد الوحيد يف الوسط‪ ،‬أحاول احلفاظ عىل ثبات‬
‫صفوفه‪ ،‬وتدعمي اجلانبني‪ ،‬شاهدت املكل تميور يقاتل برشاسة‪،‬‬
‫وحراسه يفتدونه حبياهتم‪ ،‬ينقذونه من قةل خربته‪ ،‬واندفاعه‬
‫وجواره ابن العبديل‪ ،‬قد استيقظت فيه روح الغيالن امحلر‬
‫القدمية‪ ،‬يقاتل بيرساه رمغ جرح رهيب‪ ،‬اكد أن يفصل ميناه عن‬
‫جسده‪ ،‬كأمنا هو أسد يطيح بذئاب غادرة‪.‬‬
‫وإذا بكتائب جديدة من فرسان األسود تنقض عىل اليسار‪،‬‬
‫حيث جابر والغيالن‪ ،‬لكن صفوفهم املنتظمة امتصت الهجوم‪،‬‬
‫ومصدت عصية عىل الكرس‪ ،‬ولكام فقدوا جنداي‪ ،‬تقدم غريه من‬
‫خلفه‪ ،‬يسد الثغرة بأرسع من الربق‪.‬‬
‫وأشار ويل العهد للرماة أن يزيدوا محيهتم عىل الميني اخملتل‪،‬‬
‫اذلي حيوي املكل‪ ،‬حىت تركزت لك رضابهتم عليه‪ ،‬ولوال أوامر‬
‫ويل العهد‪ ،‬ذلهبت لهناك بنفيس‪ ،‬أحاول تدعمي الصفوف أمام‬
‫هذا الهجوم العيت‪.‬‬
‫وهنا ألقى األسود بداهيته اجلديدة!‬

‫‪634‬‬
‫أثبت يل إنه مل يأخذ شهرته من فراغ‪ ،‬وأنه قادر عىل قلب‬
‫املائدة فوق اخلصوم يف حلظات!‬
‫حتركت فرقة السور العيل جمددا مبهانيقها حنو القلعة!‬
‫وأدرك ويل العهد الفزع‪ ،‬فاندفع بشطر من جنوده‪ ،‬حياول‬
‫التصدي هلم‪ ،‬وهنا‪ .‬هنا فقط جهم قلب اجليش األسود بلك‬
‫قوته! تربص املاكر بأقوى جزء يف جيشه‪ ،‬حىت أخذت جنودان‬
‫تنهذب رويدا حنو اجلانبني‪ ،‬حيث أمحى القتال‪ ،‬وانشغل الرماة‬
‫واملؤخرة خبطر اجملانيق‪ ،‬اليت لو تركناها فستسقط رماتنا‬
‫مبواقعهم‪ .‬وسهل عليه اآلن أن يشق قلبنا جبنوده‪ ،‬كام يشق‬
‫الس يف مقاشا ابليا همرتئا!‬
‫اآلن ذقنا الهزمية‪ ،‬وعرفنا طعم العجز! تشتت جنودان رمغ‬
‫حماوليت دفعهم للصمود‪ ،‬وانقسموا لرشاذم يسهل حمارصهتا‬
‫وتصفيهتا! نظرت حويل‪ ،‬فمل أجد إال الفزع‪ ،‬والتفكري يف‬
‫التسلمي‪ ،‬وعلمت أن املوت قد أاتين أخريا‪ ،‬وذكرت نفيس أن‬
‫النتيهة ال هتم‪ ،‬وإمنا العمل! فأخذت لواء املكل‪ ،‬اذلي سقط‬
‫فرفعته عاليا فوق رحمي‪ ،‬وهتفت‪:‬‬
‫"هللا أكرب‪ ،‬هللا أكرب‪ .‬هلموا اي رفاق‪ ،‬هلموا اي طالب‬
‫الشهادة‪ ،‬ال خوف بعد اليوم‪ ،‬إىل ثرى اجلنة!"‬
‫أيه هزمية؟ ومن اهمت‬
‫رصخت‪:‬‬

‫‪635‬‬
‫"إىل ثرى اجلنة‪".‬‬
‫وتقدمت مندفعا حنو الس يوف الظمأة‪ ،‬يتبعين من يتبعين‬
‫وصويت جيلجل‪:‬‬
‫"ال خوف بعد اليوم‪ ،‬هلموا إىل ثرى اجلنة‪".‬‬
‫واهزت املاكن بصوت من ورايئ‪:‬‬
‫"إىل ثرى اجلنة‪".‬‬
‫نعم فقد حانت حلظة احتضان ثراها! ال أدري من أو مك تبعين‪،‬‬
‫ومل أر من مه‪ ،‬جفنود األسود يقفون حائال بيين وبني اجلنة!‬
‫اقرتبت مهنم بأشد مما اقرتبوا مين‪ ،‬وكررت بصوت همول‪ ،‬مل‬
‫أظنه ليخرج مين أبدا‪ ،‬كأمنا هللا أرسل عىل الرايح أن تبلغ لك‬
‫الوطن بآخر ماكن يف رحليت‪:‬‬
‫"إىل ثرى اجلنة!"‬
‫جتلجل صويت يف الصحراء‪ ،‬حىت أين مل أعرفه‪ ،‬وحيامن غرقت‬
‫يف حبور الس يوف‪ ،‬ظل صداه يعلو فوق صليلها‪ ،‬أحسست‬
‫بوخزات خفيفة‪ ،‬مل أدر ما يه‪ ،‬لكن من مه أمايم مل يروا إال‬
‫الرعب والقتل‪.‬‬
‫أخذت أدفع صفوفهم للخلف قتال وجرحا‪ .‬حاربت كام مل‬
‫أحارب يف حيايت‪ ،‬حىت يف أحاليم أو ابألحرى كوابييس‪ .‬رمغ‬
‫إاهنا اكنت يدا واحدة‪ ،‬واألخرى ترفع فوق رحمي اللواء عاليا‪.‬‬

‫‪636‬‬
‫إىل ثرى اجلنة مساري‪ ،‬وإلهيا بإذن هللا معادي‪ .‬إىل ثرى اجلنة‬
‫تنهتىي رحليت الطويةل‪ .‬عىل ثرى اجلنة‪.‬‬
‫وأخذ صناديد السود يرتصدونين‪ ،‬يريدون إسقاط اللواء‬
‫الرشيف‪ ،‬فأبيت وأسقطهتم‪ ،‬وصدمه عين الرفاق ليعلمومه من‬
‫مه الصناديد‪ ،‬ومن األبطال احلقة‪ ،‬مزقت رؤوسهم بقوة الرضبة‬
‫اليت حترث األرض‪ ،‬فتفجرت دماءمه تسقهيا!‬
‫وعال صدى الهتاف جملهال‪:‬‬
‫"هللا أكرب‪ ..‬هلموا اي طالب الشهادة‪".‬‬
‫"هللا أكرب‪ ..‬ال خوف بعد اليوم‪".‬‬
‫"هللا أكرب‪ ..‬إىل ثرى اجلنة‪".‬‬
‫"هللا أكرب من الطغاة واملتهربين‪ ،‬هللا أكرب‪ ..‬إىل ثرى اجلنة‪".‬‬
‫دى خيفت كام يه الطبيعة‪ ،‬وإمنا يعلو ويزأر‪.‬‬ ‫مل يكن ص ً‬
‫ودب اذلعر يف صفوف العدو‪ ،‬إذ تفجرت من أرض الصحراء‬
‫أمواج سوداء تكرر الهتاف‪ ،‬أمواج تلو األمواج‪ ،‬تليب نداء‬
‫الشهادة‪ ،‬أمواج تقصد اللواء املرفوع‪ ،‬تبغي نرصته‪.‬‬
‫وتردد بني اجلنود إن املالئكة أتت تنرصان‪ ،‬بيامن ردد األساودة‬
‫إن الصحراء خترج ش ياطيهنا‪ ،‬لتبتلعهم‪.‬‬

‫‪637‬‬
‫وإذا بصفوفنا تلتمئ مرة أخرى‪ ،‬كأمنا جرهحا أاته البلسم الشايف‪،‬‬
‫وتقهقر جنود السور العيل إىل غري رجعة‪ ،‬معلنني الانسحاب‬
‫لبالدمه‪ ،‬وأتت املوجات السوداء‪ ،‬جتتاح جيش اخلصوم‪.‬‬
‫مل يكونوا مالئكة أو ش ياطني! بل اكنوا مشاة األسود‪ ،‬اليت‬
‫هربت من امليدان جناة منا!‬
‫ليسوا مجيعا‪ ،‬وإمنا الكثري مهنم‪ .‬ألوف مؤلفة أتت تباعا‪ ،‬حتمل‬
‫فؤوسا وساككينا‪ ،‬وال جتد عندمه الس يوف إال قليال‪ ،‬بل رأيت‬
‫بيهنم من ال حيمل إال احلهارة‪ ،‬يقذفها عىل الفرسان! انقضوا عىل‬
‫جيش األسود انقضاض املنتقم‪ ،‬وبدا يل أاهنم مساكني ال جييدون‬
‫من أمر القتال شيئا! لكهنم اكنوا كرثة خملصة‪ ،‬نرصتنا يف وقت‬
‫العرسة‪ ،‬ويتوافد املزيد مهنم من لك اجتاه‪.‬‬
‫واصطبغ لك يشء بلون ادلم‪ .‬األرض والهواء واألجساد‪ .‬يف‬
‫لك حلظة مئات الرقاب تقطع‪ ،‬وفرسان األسود اهيجون هنا‬
‫وهناك‪ ،‬مثريين القتل يف لك ما تصل إليه أيداهم‪ ،‬وقد اس تعاد‬
‫زعميهم اجلبار زماهمم‪ ،‬وأعاد هلم رابطة جأشهم‪.‬‬
‫ويف املقابل‪ ،‬زادت قوة رجالنا وعزميهتم‪ ،‬فتقدموا بثبات‬
‫خيرتقون قلب جيش األسود‪ ،‬وميزقون جناحيه‪ .‬أما رماتنا فقد‬
‫انقطعت سهاهمم‪ ،‬ال أدري لنفاد اذلخرية‪ ،‬أم الضطراب املواقف‪.‬‬
‫فقد اختلط احلابل ابلنابل مع قدوم املزيد من املشاة‪ .‬وتشتت‬
‫من لك فريق جنود يف لك اجتاه‪ ،‬وال أحد يعرف إال إنه يرضب‬

‫‪638‬‬
‫فمين حوهل‪ ،‬ال ياكد ميزي من هو‪ ،‬ومن يتبع! ادلم عليك يغرقك‪،‬‬
‫ال تعرف منك أم من عدوك‪ ،‬ورمبا اكن حليفك! األرض محراء‬
‫قانية‪ ،‬تفيض بدم فاق ماء املطر‪ ،‬والسامء ذحب ليلها مشسها‪،‬‬
‫وأريقت دماءها تروي األفق‪ ،‬فوق الفرق املتحاربة‪ ،‬وفقدان‬
‫اإلحساس ابلزمن والوجود‪ ،‬ومل نعرف أين الطعن والطعان‪،‬‬
‫وبدأ الظالم يعم‪ ،‬بعد احتضار الشمس اجلرحية‪ ،‬فإذا ابألسود‬
‫اهتف برجاهل أن انسحبوا‪.‬‬
‫وانهتت املعركة أخريا‪.‬‬
‫سالت دماء كثرية جدا اليوم يف قتال ما بني الرشوق للغروب‪.‬‬
‫مل يكن أمامنا حنن أيضا إال التقهقر حبذر حنو القلعة‪ ،‬نراقب‬
‫تقهقر األسود بدوره هجة الشامل الرشيق‪.‬‬
‫وأتت ليةل فضت بني اذلاحبني وحضاايمه‪.‬‬

‫‪639‬‬
‫(‪)63‬‬

‫جلس نا بعض الوقت‪ ،‬عقب انقشاع ظلمة احلرب بظلمة‬


‫الليل‪ ،‬نلتقط أنفاس نا‪ ،‬إىل أن هب أحد اجلنود مكربا‪:‬‬
‫"هللا أكرب‪".‬‬
‫كرب اجلنود وراءه‪ ،‬ومه يرفعون الس يوف عاليا همللني‪ ،‬لعلهم‬
‫ظنوه نرصا‪.‬‬
‫وإذا به اهتف ابلناس أن‪:‬‬
‫" هلموا إىل الصالة‪".‬‬
‫اهنضنا حنمد هللا عىل جناتنا‪ ،‬وأدينا ما فاتنا من صلوات الظهر‬
‫والعرص واملغرب‪ ،‬وجسدان هلل شاكرين‪.‬‬
‫اكنت روح اجلنود املعنوية مرتفعة‪ ،‬فقد أجربوا األسود عىل‬
‫التقهقر‪ ،‬وهو أمر مل حيدث هل من قبل‪ .‬غري إنين ومن معي من‬
‫القادة‪ ،‬كنا نعي أنه انسحب فقط‪ ،‬ألن الفوىض اش تدت‪،‬‬

‫‪640‬‬
‫وفاقت قدرته عىل الس يطرة مع دخول الليل‪ ،‬فرتاجع مؤقتا‬
‫وس هيامجنا برضاوة مع أول ضوء للشمس‪.‬‬
‫فاكنت علينا ليةل ليالء‪ .‬نرتقب يف الفجر جهوما مروعا‪ ،‬وليس‬
‫أمامنا إال وقت ضئيل‪ ،‬إلصالح بعض شأن القلعة‪ ،‬وقد‬
‫خرسان نصف جنودان‪ ،‬ومن تبقى جرحي أو مهنك القوى‪،‬‬
‫وخيولنا وجاملنا وحىت بغالنا قد أرهقت‪ ،‬واس تزنفت‪ ،‬دون أن‬
‫اهمت أحد بسقياها أو إطعاهما‪ ،‬ألن اللك مشغول مبداواة جرحه‬
‫هو أو زميهل‪ ،‬غري من يبحثون عن أقرابهئم بني أكوام اجلثث‪.‬‬
‫وبيامن أحاول البحث معن يرعى اخليول الليةل‪ ،‬لشدة حاجتنا لها‬
‫غدا‪ ،‬أاتين من يطلبين‪ ،‬ألن جابر حيترض‪ ،‬ويريد رؤييت‪.‬‬
‫اي هللا! هذا الشاب امجليل الثائر؟ هذا اذلي فتنته بأساطري‬
‫وأاكذيب‪ ،‬فقلهبا حقائق قلبت احلرب لصاحلنا؟ أهذا البطل‬
‫امجليل ميوت؟‬
‫اي هللا‪.‬‬
‫مل أبك يف حيايت قدر ما بكيت وأان أهرول حنوه‪ .‬مل يعترصين‬
‫األمل القارس‪ ،‬اذلي يذحبين إال اليوم‪ ،‬ويوم مات غول احلق‪ .‬أان‬
‫من فعل بك هذا اي مسكني‪ ،‬أان من فتنك‪ ،‬وحرضك‬
‫وأخرجك من أسوار مدينتك اآلمنة‪ .‬اكن مرأى جسده املمزق‬
‫وقد فقد ذراعيه‪ ،‬وادلم اكلطوفان‪ ،‬ال يسد جرح‪ ،‬إال تدفق‬
‫ليغرقين ابألمل‪ ،‬اهزمين‪ .‬آه اي غاليم املسكني‪ .‬مل تر يف احلياة إال‬

‫‪641‬‬
‫اهلم‪ ،‬وملا حاولت التصدي للهموم‪ ،‬مغرتا بلكامت ش ياطيين‪،‬‬
‫غادرتك احلياة لكها‪.‬‬
‫آه اي جابر‪ ،‬أاها البطل العظمي‪ ،‬اذلي مل أر مثاال إلرصاره وقوة‬
‫عزميته إال يف األساطري‪.‬‬
‫مل تكن برشا اكلبرش‪ ،‬بل كنت بطال من عامل آخر‪ ،‬مثايل‪،‬‬
‫يقوم الناس فيه بعمل احلق‪ ،‬ونرصة املظلوم‪ .‬عامل ليس عاملنا‪ ،‬ذلا‬
‫فقد غادرتنا‪ .‬اليوم متوت قبل أن جيتاحنا األسود‪ ،‬ويف مفك حملة‬
‫من نرص‪ ،‬آه اي جابر‪.‬‬
‫أخذت ألقنه الشهادة من بني دموعي املتدفقة‪ ،‬وحويل ش باب‬
‫الغاربة اليافع‪ ،‬اذلين امسوا أنفسهم ابلغيالن‪ ،‬يتحدثون مهبورين‬
‫عنه‪ ،‬وكيف قتل هذا البطل أو ذاك‪ ،‬وكيف حارب كأمنا هو‬
‫األسد وسط النعام‪ ،‬ومل توقفه رضبة أو طعنة‪ ،‬وبرتت ذراعه‪،‬‬
‫فمل يبال‪ ،‬وقاتل مرصا‪ ،‬متذكرا سرية مصعب ابن معي‪،‬ر وأتته‬
‫الرضبة الثانية تبرت اليد اليرسى‪ ،‬فبقى صامدا متذكرا الصحايب‬
‫اجلليل‪ ،‬اذلي بقى يف امليدان حامال اللواء بعضديه‪ .‬ولوال أن‬
‫حسبه ابيق الغيالن قرسا من املعركة‪ ،‬لبقى هناك حىت تدهسه‬
‫اخليول‪.‬‬
‫مل أابل بتكل األوصاف‪ ،‬لست مس متعا لسرية أصفق لها اآلن‪،‬‬
‫بل أشعر أنين أب ينظر لودله الرصيع‪ ،‬كأمنا ودلته وربيته‬

‫‪642‬‬
‫وفقدته لك هذا يف يوم واحد‪ .‬احننيت أزحي ادلم عن وهجه‬
‫امليضء‪ ،‬فأتت منه إفاقة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"امحلد هلل إنك أتيت اي س يدي القبيل‪ ،‬فقد كنت أرجو أن‬
‫تزفين أنت إىل اجلنة‪".‬‬
‫غسلت دموعي وهجه وأان أقول‪:‬‬
‫"اندين بعبد الشهيد‪ ،‬امسي عبد الشهيد اي جابر‪".‬‬
‫قال مبتسام‪:‬‬
‫"أتؤثر األسامء يف مصائران حقا؟ ‪ ........‬أتب ي اي س يدي؟‬
‫كنت أظنك س تكون سعيدا خفورا يب‪".‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"أان برش‪ ،‬ال غول اي بين‪ .‬فراقك ليس سهال‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"لس نا غيالان اي عبد الشهيد‪ ،‬بل طالب شهادة‪ .‬لقد مسعت‬
‫نداءك‪ ،‬فلبيته فمل احلزن؟ مسعتك تقول هلموا اي طالب‬
‫الشهادة إىل ثرى اجلنة‪ ،‬فأحسست أنك تقصدين ال غريي‪،‬‬
‫وأشهد حيهنا إنين مشمت حقا عبري اجلنة‪ ،‬فأقبلت حنوها ال‬
‫أابيل‪ .‬أحسست برفقة نورانية‪ ،‬ال تعرفها أرضنا هذه‪ ،‬فغش يتين‬
‫السكينة حىت بدت طعناهتم يل راحة ال عذااب‪.‬‬

‫‪643‬‬
‫ال تبك اي س يدي أرجوك‪ ،‬بل ابهتج وأنت تزفين للجنة‪".‬‬
‫مل أس تطع أن أقاوم‪ ،‬فأخذت أزحي املزيد من ادلم عن وهجه‬
‫بدموعي‪ ،‬توقف يلتقط أنفاسه بصعوبة‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"رمبا لو كنت يف مقتل آخر‪ ،‬أو لو كنت جرحيا يف غري‬
‫سكرات املوت‪ ،‬لبكيت معك‪ .‬أتعمل إنين كنت أب ي إذا أصابين‬
‫أقل جرح‪ ،‬حىت اكن أيب يهتمين أنين أضعف من شقيقايت‬
‫الفتيات؟ لكين اآلن يف خري حال‪ .‬حال أدهش هل أان نفيس‪ ،‬فمل‬
‫أصدق من قبل زمعهم أن الشهداء ميوتون مبتسمني‪ ،‬أريد أن‬
‫أموت مبتسام مثلهم‪ ،‬فأرجوك اي س يدي ال تب ي‪".‬‬
‫ليس الباكء ابألمر الهني وقفه‪ ،‬حيامن ميزقك احلزن والتخبط‪.‬‬
‫عيل طاعته‪ ،‬فهو الس يد حقا بني‬ ‫لكن لكامته بدت يل أمرا‪ّ ،‬‬
‫الغيالن امحلر‪.‬‬
‫أتته رجفة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"قولوا أليم إن ابهنا شهيد مع أبيه وخاهل‪".‬‬
‫وظل يكرر الشهادة‪ ،‬وأان أمسح شعره بيدي‪ ،‬وغارق إىل‬
‫جواره يف حزين‪ ،‬حىت أتت اللحظة‪ ،‬وحولوه لتهاه القبةل‪.‬‬
‫ووجدت لساين ينطق عن غري وعي‪:‬‬
‫"إان هلل وإان إليه راجعون‪".‬‬

‫‪644‬‬
‫فأفاقت عقيل من ضبابه‪ ،‬ولكن مل تنقذ قليب من حزنه‪.‬‬
‫وجلست يف صالة صامتة لهذا الشهيد‪ ،‬اذلي أهدته األرض‬
‫أمسى هدية ألمسى جنان‪.‬‬
‫هذا هو حامت ممن خصهم الرسول حبديثه‪ ،‬إن معلهم كعمل‬
‫مخسني من الصحابة‪ ،‬ألاهنم ال جيدون من يعيهنم عىل اخلري‪ .‬فقد‬
‫عاىن جابر وحده‪ ،‬وسط السلبية واخلوف‪ ،‬وأرص عىل الصمود‬
‫والعمل‪ ،‬ففعل ما مل يقدر أحد‪ ،‬أو جيرؤ أحد عىل فعهل‪.‬‬
‫اس تغاث بقشة الغيالن الواهية‪ ،‬اليت ألقيت هبا هل‪ ،‬فصنع مهنا‬
‫س يفا مسلوال جياهد يف سبيل هللا‪ ،‬ويرفع به الظمل‪.‬‬
‫حيامن محلوه من فراشه‪ ،‬مل أحمتل‪ ،‬وسقطت مهنارا‪ ،‬ال أقوى‬
‫عىل رفع جسدي‪.‬‬
‫وحيهنا أقبل بعضهم فزعا‪:‬‬
‫"القبيل زعمينا قد سقط‪".‬‬
‫أخذوا يقلبونين‪ ،‬ويزنعون عين ادلروع امحلراء‪ ،‬ومن وسط‬
‫غشيهتم مسعهتم يقولون‪:‬‬
‫"اي هللا! كيف بقى حيا مييش! أمل يرتكوا شربا يف جسده دون‬
‫طعنة؟ س بحان هللا! كيف ظل مييش‪ ،‬ويتحدث لك هذا‬
‫الوقت‪".‬‬

‫‪645‬‬
‫مل أدرك أاهنم يتحدثون عين‪ ،‬إال بعد أن اندوا حبثا عن طبيب‬
‫ألجل القبيل زعمي الغيالن امحلر‪ ،‬وأىن هلم العثور عىل طبيب‬
‫هنا؟‬
‫اآلن فقط فهمت ما تكل الوخزات اخلفيفة‪ ،‬اليت أصابتين يف‬
‫املعركة‪ ..‬اآلن فقط اطمأننت عىل جابر‪ ،‬وأدركت أنه مل يتأمل‪..‬‬
‫واآلن فقط استسلمت لظالم‪ ،‬أعمل أن وراءه بإذن هللا نور‪.‬‬

‫‪646‬‬
‫(‪)64‬‬

‫مل أدر مىت أفقت‪ ،‬وال كيف أفقت‪ .‬اكنت هذه اثين مرة أرافق‬
‫فهيا موات رفيقا‪ ،‬مث أرجع عن املوت صفر اليدين‪ .‬لكين هذه املرة‬
‫كنت مدراك ملا حويل‪ ،‬إذ أن سطوع الشمس يف عيين‪ ،‬جعلين‬
‫أدرك أن الهنار طلع‪ ،‬وأن حامت معركة األسود‪ ،‬قد بدأت فقفزت‬
‫من فرايش مفزوعا‪ ،‬أحبث عن ادلرع والسالح‪.‬‬
‫عيل احلجرة رجالن يرتداين السواد‪،‬‬
‫وإذ أصدرت جضة‪ ،‬دخل ّ‬
‫ففزعت‪ ،‬وأيقنت أنين أسري عند جنود األسود‪.‬‬
‫قال أحدهام‪:‬‬
‫"س يدي القبيل ماذا تفعل؟"‬
‫وقال اآلخر‪:‬‬
‫"ارحت هنا اي س يدي‪ ،‬مفوالي املكل أمران أن جنعكل تراتح‪،‬‬
‫وإن أفقت فس يأيت هو كل‪".‬‬
‫قلت مرتقبا‪:‬‬

‫‪647‬‬
‫"من أنامت؟"‬
‫قال األول‪:‬‬
‫"أان طعمية وهذا أيخ مكرم‪ .‬أمران موالان املكل تميور برعايتك‪،‬‬
‫حىت تشفى من جروحك العديدة‪".‬‬
‫إذ مسعت امس تميور تهندت يف ارتياح‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫"أبدأت املعركة؟"‬
‫قال طعمية برتدد‪:‬‬
‫"أنت جرحت فهيا اي موالي‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أعين جهوم األسود‪ .‬أمل اهامجنا مع الفجر؟"‬
‫قال مكرم‪:‬‬
‫"ال اي موالي‪ ،‬بعد أن هزم منذ يومني‪ .....‬فأنت جروحك‬
‫اكنت شديدة‪ ،‬ولوال قوة بنيانك لهلكت‪ ،‬لكنك غبت عنا يومني‬
‫اكملني‪ .‬بعد هزميته‪ ،‬مل يعد للحرب‪ ،‬بل تقهقر للوادي اخمليف‬
‫ذاك‪".‬‬
‫نظرت هل بدهشة‪ ،‬أحاول فهم مقولته‪ ،‬مث سألته‪:‬‬
‫"ومل ترتدي السواد‪ ،‬وهو زي القائد األسود؟"‬
‫قال مكرم‪:‬‬

‫‪648‬‬
‫"كنت يف جيشه اي س يدي‪ .‬كنت واحدا ممن مسعوا نداء‬
‫املكل‪ ،‬ورأى رايته خترق صفوف امللعون‪ ،‬فهببنا لنرصته‪".‬‬
‫أدركين الفضول‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"أنت من مشاة األسود؟ مل هربمت مث انقلبمت عليه؟"‬
‫حفكيا يل حاكيهتم‪ .‬واتضح يل أن األسود اكن يريد اجتياح‬
‫الغرب وتدمريه عن آخره‪ ،‬فال يبقي يف رؤوسه رأسا واحد‬
‫سلامي‪ ،‬حىت بني من اهادنوه‪.‬‬
‫لكنه بعد أن ترك اجليوش يف اجلنوب‪ ،‬لتس يطر عليه‪ ،‬وحامية‬
‫يف الشامل تسد عيون األهبال اجلشعة‪ ،‬غري من تركهم قرب‬
‫الزرقاء من بين األسود‪ ،‬ليأمن رش الفرجنة مل يبق هل إال مثانني‬
‫ألفا من الفرسان‪ ،‬أغلهبم من بين األسود‪ ،‬وليسوا من جنوده‬
‫اذلين أنشأمه بيده‪.‬‬
‫أدرك أن هذا العدد قد يكفي لهزمية املكل‪ ،‬واملمتردين معه لكن‬
‫لن ينفع‪ ،‬حيامن يكرش عن أنيابه ويدمر قالع املامليك‪ .‬فطلب‬
‫معونة الفرجنة واألهبال والسور العيل‪ ،‬متصورا أاهنم س ميدونه‬
‫بامثنني ألف أخرى‪.‬‬
‫لكنه فزع من حامسهم الشديد! مخسني ألفا من الفرجنة‪،‬‬
‫وس تني من األهبال‪ ،‬وعرشين من السور العيل؟ فوق املائة‬
‫والثالثني ألف جندي لن يرحلوا يف سالم!‬

‫‪649‬‬
‫خيش مهنم الغدر‪ ،‬وقرر إاهنم قد يسحقونه بعد املكل‪ ،‬لو خرج‬
‫بامثنني ألفا فقط‪.‬‬
‫فكيف يضاعف عدد جنوده؟‬
‫مجع لك ساكن العامصة‪ ،‬وما حولها من قرى ومدن! رجال‬
‫وأطفال وش يوخ‪ ،‬وحىت بعض الفتيات الاليت جز جنوده‬
‫شعورهن! وألبسهم السواد‪ ،‬فاجمتع هل مجع عظمي كيوم احلرش!‬
‫فقادمه بقسوة‪ ،‬وهو اهددمه بفرسانه‪ ،‬اذلين ساروا حوهلم يف‬
‫حلقة حممكة‪ .‬ترك الفرجنة واألهبال يسريون للشامل‪ ،‬مواهجني‬
‫املقاومة العنيفة‪ ،‬وخدع امجليع فعرب جبيشه‪ ،‬أو من أساممه جيشه‬
‫وادي الضياع مبارشة حنو ساوة‪ ،‬من أقرص الطرق وأفزعها‪.‬‬
‫قال يل مكرم‪:‬‬
‫"ال أفهم كيف اكن يعرف طريقه يف هذا املاكن املفزع‪ ،‬هناك‬
‫فرقة تأخرت عنا مسرية نصف ساعة فقط‪ ،‬فإذا هبا تضل‬
‫الطريق‪ ،‬لوال أن عاد هلم األسود بنفسه‪ ،‬فأنقذمه من الهالك‪.‬‬
‫حامت كنا ولك هذا احلشد املهول سنباد عن آخران‪ ،‬لو بقينا يف‬
‫هذا الوادي وحدان دون األسود‪ ،‬اذلي اكن يشق طريقه فيه‬
‫بثقة‪ ،‬وجينبنا السري يف أماكنه اخلطرة املهلكة‪".‬‬
‫حىت رجال األسود املقربني مل يفهموا كيف جنح يف عبور هذا‬
‫الوادي الرهيب‪ ،‬لكن املشاة املسكينة مل تأت للحرب‪ ،‬فبقوا‬

‫‪650‬‬
‫كأرسى أو مساجني يف أماكهنم‪ ،‬بيامن أعدادمه اخمليفة تلقي الرعب‬
‫يف قلوب امجليع‪ ،‬حىت األهبال والفرجنة‪.‬‬
‫لقد حارب األسود ابخلوف أكرث من الس يف!‬
‫وحيامن أزاح جيش املكل فرسان األسود‪ ،‬واجته حنو املشاة‬
‫املساكني‪ ،‬هربوا يف لك اجتاه‪ ،‬وتشتتوا‪ .‬ولكن أوامر الفرسان‬
‫السابقة‪ ،‬بقتل لك من حياول الهرب مهنم أصابت جيش األسود‬
‫ابجلنون! وأخريا هربوا من الساحة للصحراء‪ ،‬ليقفوا متحريين‪.‬‬
‫ال يس تطيعون العودة عرب الطريق اجلنويب للعامصة‪ ،‬فاملعركة‬
‫تقطع طريقهم وال البقاء يف الصحراء‪ ،‬لهيلكهم اجلوع والعطش‪.‬‬
‫فارحتل بعضهم للشامل يتخبط طريقه حبثا عن أي بدلة‪ ،‬وتربص‬
‫الباقون ينتظرون انهتاء املعركة‪ ،‬للتسلل عرب الطريق اجلنويب‪.‬‬
‫وحني مسعوا الهتاف اجمللجل‪ ،‬أدركهتم امحلاسة‪ ،‬وظنوا أن‬
‫األسود يهنزم‪ ،‬وأن الفرصة حانت لالنتقام منه‪ ،‬ومن جنوده‪،‬‬
‫فأرسع بعضهم يلبون نداء املكل ابجلهاد‪.‬‬
‫وحيامن انهتت املعركة مع قدوم الليل‪ ،‬نزلت جامعات خضمة‬
‫مهنم تبايع املكل‪ ،‬وتطلب منه الغوث واملؤونة‪.‬‬
‫أاهنيا احلاكية العجيبة‪ ،‬مث ساعداين عىل ارتداء مالبيس‪،‬‬
‫واهنضت فاغتسلت‪ ،‬وتوضأت‪ ،‬وصليت ما فاتين يف يويم‬
‫الغيبوبة‪ .‬وجلست التقط أنفايس‪ ،‬مث اهنضت خارجا‪ ،‬أحبث عن‬
‫املكل‪ ،‬وابيق قادته‪.‬‬

‫‪651‬‬
‫كنت داخال إحدى جحرات قرص الرشكيس‪ ،‬يف قلب مدينة‬
‫ساوة‪ ،‬فتجولت حىت عرثت عىل املكل‪ ،‬جممتعا مبن بقى من‬
‫القادة‪ ،‬ومه ليسوا بكثري‪ .‬املكل‪ ،‬وويل العهد أصابهتام خدوش‬
‫وطعنات خفيفة‪ ،‬بيامن حتول جسدي للحم مفري كام يزمعون!‬
‫وفقد ابن العبديل إحدى ذراعيه‪.‬‬
‫مض املكل لنا ش يخ واحات ساوة‪ ،‬وأمري مملويك خضم امسه‬
‫بريك‪ ،‬يقولون أنه أبىل بال ًء حس نا‪ ،‬دفاعا عن املكل واس تعاد‬
‫صفوف جانبنا المين‪ ،‬بعدما تراخت‪.‬‬
‫سألت املكل‪:‬‬
‫"موالي تميور‪ ،‬أمل اهامجنا األسود؟"‬
‫قال املكل "مرحبا بك أوال اي س يد الغيالن! جنوت من املوت‬
‫مرة أخرى؟ حقا ما يقال عنك‪ ،‬إنه ليس من السهل قتل غول‬
‫أمحر!"‬
‫تذكرت موت غول احلق‪ ،‬وجابر بيامن أرى نظرة رهبة وإجعاب‬
‫يف عني بريك‪ ،‬فرددت برصامة‪:‬‬
‫"خري الغيالن مه من ماتوا دفاعا عن احلق‪ ،‬ومل يشأ هللا أن‬
‫يكرمين تكل املكرمة بعد‪".‬‬
‫قال بريك‪:‬‬

‫‪652‬‬
‫"لقد أرسلت بعض جنود الاس تطالع‪ ،‬بعد أن تعجبت من‬
‫تأخر األسود عن همامجتنا‪ ،‬وحنن فريسة سهةل هل‪ ،‬اتراك لنا‬
‫فرصة مداواة اجلرىح‪ ،‬وإصالح القلعة‪ .‬لكين فوجئت إنه أخىل‬
‫معسكره اجلديد‪ ،‬وانسحب لوادي الضياع‪ ،‬متحصنا فيه‬
‫مرتبصا‪ .‬ال هو عاد للعامصة‪ ،‬وال خرج لرضبنا كأنه ينتظران أن‬
‫نتبعه لهناك؟"‬
‫يبدو أنين سأجعب بربيك أان اآلخر‪ ،‬فهو حامس معيل‪ ،‬أرسع‬
‫يتهاهل احلديث عن الغيالن‪ ،‬ورد عىل سؤايل مبارشة‪ ،‬ورده‬
‫يظهر إنه يرسع بإجناز الواجب واملهام فورا‪ .‬لو اكن قلبه كام‬
‫أرجو رقيقا‪ ،‬عىل عكس غلظة جسده‪ ،‬فس يكون بإذن هللا خري‬
‫معاون للمكل‪ .‬لكن لو اكنت األخرى‪ ،‬فوقاان هللا رش بطانة‬
‫السوء‪ ،‬اليت إن رأيهتم تعجبك أجساهمم‪ ،‬وإن يقولوا تسمع‬
‫لقوهلم كأاهنم خشب مس ندة‪ .‬أال فهم العدو فاحذرمه‪.‬‬
‫مل نكن ابلطبع نفكر يف تتبع األسود يف وادي الضياع‪ ،‬لهذا‬
‫أخذان ننظم الرجال‪ ،‬وحناول أن نقوي أنفس نا مبن يقدر من مشاة‬
‫األسود‪ ،‬وننتظر خطوته املقبةل‪.‬‬
‫وظللنا هكذا‪ ،‬حىت أتتنا الطبول بعد صرب ثالثة أايم‪.‬‬
‫طبول عظمية مدوية‪ ،‬طبول نعرفها مجيعا يف الغرب فهىي طبول‬
‫بين الطارق‪.‬‬

‫‪653‬‬
‫واثر الفزع فينا‪ .‬أترى األسود اس تطاع التحالف مع جرياننا يف‬
‫البالد غربنا‪ ،‬كام حتالف مع أعدائنا يف الرشق؟‬
‫اكن بنو الطارق قبائل شهرية‪ ،‬متأل لك ما غربنا بعشائرها‪ ،‬وهلم‬
‫بنا عالقة طيبة‪ ،‬وجتارة هادئة‪ ،‬وعرفنا عهنم قوة احلرب والقتال‪،‬‬
‫وكرثة اجلنود كعدد الرمال‪ ،‬لكهنم ال حيبون الغزو والسلب‪ ،‬وإال‬
‫اجتاحوا العامل كام فعل األهبال‪.‬‬
‫مه حمبون لبالدمه‪ ،‬يعيشون حياة بس يطة‪ ،‬ال تفرق فهيا بني‬
‫أمري ووضيع‪ .‬لكن لعل األسود ّغري فهيم شيئا‪ ،‬جعلهم جيتازون‬
‫حدودا مل يعربوها لغري التهارة؟‬
‫أرسعنا نطلق األبواق‪ ،‬ونعد اجلنود‪ ،‬ونغلق أبواب القلعة تأهبا‬
‫لهجوم غريب مل نتصوره‪.‬‬
‫لكن احلال غري احلال‪.‬‬
‫أىت لنا مهنم رسوال ليس كأي مرسال!‬
‫اكن الش يخ وهدان!‬
‫كدت أنىس هذا احلكمي العجوز‪ ،‬اذلي غادران عقب معركة‬
‫الثغر الكبري‪ ،‬ليجمع لنا كام زمع جنودا! وأي جنود مجع!‬
‫أاتان هملال‪ ،‬حي ي لنا ما حدث"‪.‬‬

‫‪654‬‬
‫(‪)65‬‬

‫‪ ( 1 -65‬لقاء عند العني اخلفية )‬


‫يقول الش يخ وهدان‪:‬‬
‫"حيامن علمت أن األسود قد جتاوز ما يظنه العقل ممكنا‪ ،‬ومجع‬
‫جيشا يفوق األساطري‪ ،‬عابرا به ما ليس ابملعرب‪ ،‬أدركت حبلول‬
‫الهزمية‪ ،‬ما مل جند جندا كثيفا بعدد الرمال‪.‬‬
‫ولكن من أين؟ إن ما حشدانه اكن يفوق أحالمنا‪ ،‬ظن عبد‬
‫الشهيد ابن مسعان أنه إن أىت ابلوريث‪ ،‬فس يصطف خلفه‬
‫األمراء‪ ،‬ظنا ساذجا‪ .‬فقد انفضوا‪ ،‬مغلبني العاجل عىل اآلخر!‬
‫ما حشدانه اكن أقىص ما تس تطيع األرض أن جتلبه لنا من‬
‫فالحهيا‪.‬‬
‫وهنا تذكرت فالحني آخرين! آالف املهاجرين‪ ،‬اذلين رحلوا‬
‫فرارا من األسود‪ ،‬وقبهل األمراء والفرجنة وغريمه‪ .‬كثريا ما‬
‫اس تقبل الغرب الالجئني‪ ،‬قبل أن يمكلوا الفرار إىل ما غربنا من‬

‫‪655‬‬
‫بالد بين الطارق‪ .‬فاجلنوب شديد احلر‪ ،‬والرشق أشد الهتااب‪،‬‬
‫ومل يبق للفرار إال تكل البالد الصحراوية‪.‬‬
‫لو اس تطعت إقناع أولئك القوم ابلعودة لبالدان‪ ،‬مقاتلني حتت‬
‫لواء املكل؟ لرمبا مجعت ثالثني ألفا دفعة واحدة‪ ،‬فهم ليسوا‬
‫ابلقةل حمت‪،‬ا مع أصهارمه وحلفاهئم من بين الطارق‪.‬‬
‫مل يرتك يل األسود خيارا‪ ،‬كنت أكره أن استبدل غزو الفرجنة‬
‫بغزو بين الطارق‪ ،‬رمغ طيب معرش هؤالء القوم‪ ،‬لكن حيامن‬
‫تكون الس يادة والقوة يف أيداهم‪ ،‬فكيف سريضون ابلرحيل؟‬
‫لكن اآلن اخليار بني اثنني أحالهام مر‪ ،‬ولرمبا إن ثبتنا يف حرب‬
‫األسود‪ ،‬اكنت لنا شوكة جياملها بين الطارق‪ ،‬ومه عامة ال‬
‫حيبون الغزو والقتال‪.‬‬
‫وهكذا عدت ألاييم اخلوايل‪ ،‬تكل اليت كنت أجول فهيا وحيدا‬
‫يف الصحاري‪ ،‬أخرتق اجلبال واألودية‪ ،‬متحسسا ادلروب‪،‬‬
‫ومزيغا عن املرتبصني‪ ،‬وهازما األعداء الكرث ابملكر وحده! آه! مك‬
‫اكنت مجيةل أايم الش باب! ومك أخذت فهيا من أجماد! لكهنا ولت‪،‬‬
‫دون أن ترتك يل سوى ندوب اجلسد‪ ،‬واحلمكة‪.‬‬
‫مضيت يف تكل ادلروب‪ ،‬اليت أحفظها وحتفظين‪ ،‬حىت أتيت‬
‫ألول واحة من البالد الغربية‪ .‬اكنت واحة صغرية همجورة‪ ،‬ال‬
‫يعرفها سواي لكن اليوم غري أايم الش باب‪.‬‬

‫‪656‬‬
‫اجتهت مبارشة للعني اخملتفية بني الصخور شامل الواحة‪ .‬ليست‬
‫بعني أو برئ؛ بل يه نضخ ماء‪ ،‬وسط الرمال‪ ،‬لكهنا أعذب ما ًء‬
‫من تكل الكبرية يف وسطها‪ .‬وإذ احننيت علهيا‪ ،‬أحاول عب‬
‫املاء‪ ،‬وملء قربيت‪ ،‬مسعت وقع أقدام خلفي‪ ،‬فالتفت مرسعا‪،‬‬
‫شاهرا س يفي‪ ،‬ألجده مشريا لامثنية من الرجال‪ ،‬يبدو أاهنم اكنوا‬
‫يف صيد‪ ،‬وقد تتبعوا آاثر دابيت حىت هنا‪ ،‬خففضت س يفي‬
‫وقلت‪:‬‬
‫"السالم عليمك اي إخوة العرب‪ ،‬إمنا أان مسافر جعوز‪ ،‬يقصد‬
‫مدينتمك العابرة‪ ،‬وقد كنت أسقي من ماء العني ادلافئة‪".‬‬
‫قال أحدمه بصوت أجش‪:‬‬
‫"أيوجد عني أخرى هنا؟ يبدو أنه يعرف الواحة خري منا!"‬
‫ابتسمت وقلت‪:‬‬
‫"اكنت يل أسفاري يف مثل معرمك اي أبنايئ! هال أعنمت رجال‬
‫جعوزا اي ش باب؟"‬
‫لكن أحدمه‪ ،‬اذلي بدا يل رجال همااب‪ ،‬وس يدا مطاعا من‬
‫البقية‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"وما أدراان أي خطر حتمهل معك اي رجل؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"وأي خطر يأيت من رجل جعوز مثيل؟"‬

‫‪657‬‬
‫رد برصامة‪:‬‬
‫"جعوز شهر س يفه برسعة الربق! ال أس هتني بك‪ ،‬كام اس هتان‬
‫بنو عزام ابلعراف‪.‬‬

‫‪658‬‬
‫‪ ( 2 -65‬حاكية العراف وبين عزام )‬
‫أما مسعت أاها العجوز خبرب العراف الهرم‪ ،‬اذلي امتأل قلبه‬
‫حقدا عىل عزام التاجر لغناه وماهل وكرثة أوالده وجامل زوجته؟‬
‫وملا مات عزام‪ ،‬أراد العراف اهنب املال‪.‬‬
‫ذهب مستندا إىل عصاه القدمية‪ ،‬وقال ألوالده "اي أوالدي إن‬
‫بييت مهتدم‪ ،‬وأرغب يف أن أؤجر من مزنلمك جحرة‪ ،‬أعيش فهيا‪.‬‬
‫سرتحبون مين‪ ،‬ليس فقط األجرة‪ ،‬فأانس كرث يأتونين طلبا‬
‫لعلمي‪ ،‬فسريوجون بضائعمك‪ ،‬وجيلبون القدم اجلارية ملتجرمك‪".‬‬
‫بدا الاقرتاح مقبوال من الفتيان‪ ،‬لكن زوجة أبهيم حملت يف عني‬
‫العراف نظرة‪ ،‬عرفهتا وفهمهتا‪ ،‬فهىي ال تغفل عن فهمها النساء‪،‬‬
‫فرصخت يف الفتيان‪:‬‬
‫"هذا جعوز حقود ماكر‪ ،‬يكره أبيمك‪ ،‬فاحذروه‪ ،‬وابتعدوا عن‬
‫رشه‪".‬‬
‫وافقها الفتيان عىل ما وصفت‪ ،‬لكهنم اس هتزءوا بتحذيرها‪،‬‬
‫وقالوا‪:‬‬
‫"حنن فتيان وفتوة‪ ،‬وهو جعوز مييض حنو الهالك اي محقاء! أي‬
‫خطر يقدر عليه!"‬

‫‪659‬‬
‫وأقام العجوز يف املزنل‪ ،‬يرتدد عليه الناس‪ ،‬يطلبون منه أمور‬
‫الكهانة‪ ،‬حىت أاته شاب‪ ،‬يطلب أن يعرف إن اكنت فتاته حتبه‬
‫حقا‪ ،‬أم تظهر غري ما تبطن‪ ،‬لوجود خشص آخر؟ فإاهنا كثرية‬
‫ادلالل عليه‪ ،‬حىت لتذهب بعقهل!‬
‫قال هل األعراف‪:‬‬
‫"ال أقرأ املكتوب يف الصدور‪ ،‬دون النظر يف العيون! ائت‬
‫بفتاتك إىل هنا‪".‬‬
‫مث ذهب العراف ألحد األبناء الثالثة‪ ،‬واكن قد ختصص يف‬
‫جتارة العطور‪ ،‬ويعرف عنه اهنمه للامل فقال هل‪:‬‬
‫"قد رأيت كل بني ثنااي الرمال ومهس الودع ثروة عظمية‪،‬‬
‫فاغتمنها‪ ،‬عىل أن تذكرين خبري عند زوجة أبيك‪ ،‬فهىي تثقل يل‬
‫يف القول‪".‬‬
‫قال الفىت‪:‬‬
‫"وأي ثروة تكل؟"‬
‫قال العراف‪:‬‬
‫"ال تفصح الغيوب مرصحة دوما‪ ،‬لكن ما رأيته أنه س يزنل‬
‫عليك من أعىل وقت الظهرية لؤلؤة بال مثيل‪ ،‬إن أتيهتا‪ ،‬فعليك‬
‫أن تردها بعطر بال مثيل‪ ،‬فأراك ملاك متوجا بذهب بال مثيل!"‬

‫‪660‬‬
‫مل يفهم الشاب شيئا‪ ،‬لكن يف اليوم التايل‪ ،‬أىت العراف الشاب‬
‫العاشق مع حمبوبته درة‪ ،‬اكن امسها كام عرف العراف درة‪.‬‬
‫قال لها العراف‪:‬‬
‫"ال تكذيب‪ ،‬فأان أعرف من قبل أن تعريف‪ ،‬ولكن الصدق‬
‫مطهرة لنفسك‪ ،‬فينفعين لنفعك! أحتبني عاشقك هذا؟"‬
‫قالت هل بتربم‪:‬‬
‫"نعم‪ ،‬لكنه كثري الغرية اكملهووس حىت خينقين‪ ،‬ال أدري‬
‫أحيبين‪ ،‬أم هو همووس يب هوس قد يشفى منه! لو إنك‬
‫تس تطيع مساعديت؟"‬
‫قال العراف‪:‬‬
‫"ابلطبع مفا أسهل هذا‪ .‬ال تكشف الغيوب‪ ،‬وال يسمعين‬
‫الودع الفرق بني الهوس واحلب! لكن األمر حيتاج حلهاب جيد‬
‫الصنع‪ ،‬فقط قةل من العرافني جييدونه! خذي هذا احلهاب‪ ،‬قد‬
‫يبدو كل أنه ال حيمل إال الرتاب‪ .‬ولكن لكام أخذت ذرات من‬
‫الرتاب هذا‪ ،‬وحبيبك مييش معك‪ ،‬فإذا لقيت رجال فابتسمي‪،‬‬
‫وألقي ابلرتاب عليه! فإذا نفد الرتاب من الكيس‪ ،‬والفىت عىل‬
‫حاهل من احلب دون الغرية‪ ،‬فهو يعشقك عشقا حقيقيا‪ ،‬فمتس ي‬
‫به‪ ،‬وإن نفد الرتاب‪ ،‬فظل عىل غريته‪ ،‬فإمنا هو يظنك بضاعة‬
‫مثينة يش هتهيا طمعا‪ ،‬ويضن هبا عىل غريه حشا‪ ،‬فدعيه فدعيه‬
‫فدعيه واجني بنفسك!"‬

‫‪661‬‬
‫أخذت الفتاة احلهاب‪ ،‬ووقفت منتظرة‪ ،‬جفاءه حبيهبا فقال هل‬
‫العراف‪:‬‬
‫"حتبك حبا بال اهناية‪ ،‬لكهنا واقعة حتت حسر معيق جلين‬
‫أريب! وقد رشاه ساحر جبار‪ ،‬مل يس تطع إخواين من اجلن‬
‫املؤمنني معرفته‪ ،‬لعظم حيلته‪ ،‬حىت إنه ليتنكر يف شلك رجل‬
‫بس يط! وهو رشير خطري‪ ،‬يطمع يف التفريق بينك وبني‬
‫حمبوبتك‪ ،‬ألنه يطمع يف جاملها أن يكون هدية‪ ،‬وحضية‪ ،‬ملكل‬
‫الش ياطني السفلية‪ ،‬مينحه مقابلها الفدية الكربى‪ ،‬اليت ال يعرف‬
‫بعظم خطرها إال السحرة!"‬
‫صاح الشاب يف فزع‪:‬‬
‫"وكيف أنقذها؟"‬
‫قال العراف‪:‬‬
‫"عليك ابلفرار هبا بعيدا عن هذا الرش! منحهتا جحااب واقيا‬
‫س يقوى لكام انديهتا ابمسها بعشق‪ ،‬ومحيهتا بإخالص‪ ،‬وأمسكت‬
‫نفسك عن إيذاهئا بإرصار‪ .‬لكن السحر سيتهدد‪ ،‬وس يغلب‬
‫جحايب إن سقاها الساحر املاكر حسره مرة أخرى‪ ،‬فكن عىل‬
‫حذر‪ ،‬فأخوه من اجلن السفيل ذو سلطان جبار!"‬
‫حشب وجه الفىت‪ ،‬وخرج مرتعبا‪ ،‬ميسك بيد حمبوبته‪ ،‬ويتلطف‬
‫لها‪ .‬فلام نزلت لصحن ادلار‪ ،‬مقابةل اخلدم نرثت علهيم بعض‬
‫الرتاب مبتسمة‪ ،‬فانرصفوا متأففني! فتعجب الشاب‪ ،‬لكنه صرب‬

‫‪662‬‬
‫ملا رآه من جحاب العراف الوايق! ‪0‬ولكم حبيبته بلطف متذكرا‬
‫لكمة العراف‪:‬‬
‫"اي درة اي دريت هيا بنا إىل بيتك‪".‬‬
‫ونزلت الفتاة مع الفىت من دار ابن عزام إىل األسفل‪ ،‬حيث‬
‫يقع متجر األبناء الثالثة‪ ،‬ابئع العطور‪ ،‬وابئع احلىل‪ ،‬وابئع‬
‫األمقشة‪.‬‬
‫مسع ابئع العطور لكمة درة فانتبه‪ ،‬ادلرة يه اللؤلؤة‪ ،‬ويه تزنل‬
‫عليه من أعىل وقت الظهرية؟ لعلها أمرية‪ ،‬إن أهداها عطرا‬
‫جيدا هتديه ثروة!‬
‫أرسع البائع خيطف قنينة من أمثن العطور‪ ،‬وتقدم حنو الفتاة‬
‫مبتسام‪ ،‬فألقت عليه قبضة الرتاب‪ ،‬لكنه مل يرحل‪ ،‬ومل ينتبه ملا‬
‫تلقيه عليه‪.‬‬
‫نظر العاشق للرجل املتقدم جبنون‪ ،‬وإىل الزجاجة يف شك‪،‬‬
‫فلام قال البائع بألطف صوت ميلكه‪:‬‬
‫"اي مواليت‪ ،‬لو تقبلني هدية متواضعة مين؟"‬
‫اش تعل الغضب يف قلب العاشق! حامت هذا هو الساحر املاكر‬
‫يدس حسره يف العطر‪ ،‬فانزتع القنينة بقسوة من الفتاة‪ ،‬اليت‬
‫هبتت‪ ،‬ونظرت إىل جحاب الساحر قد فرغ‪ ،‬وعاشقها غاضب‪،‬‬
‫وتذكرت لكامته أن تنجو منه‪ ،‬فانفلتت منه صارخة‪:‬‬

‫‪663‬‬
‫"أنت جمنون همووس‪ ،‬دعين وال تأتيين أبدا!"‬
‫جن جنون العاشق‪ ،‬وظن أن السحر ‪ -‬ال املكر ‪ -‬نزل عىل‬
‫حمبوبته‪ .‬فاس تل خنجره‪ ،‬وطعن الفىت‪ ،‬وانطلق جير الفتاة‬
‫هاراب!‬
‫مل ميت ابئع العطور‪ ،‬لكنه تدمر متاما‪ ،‬فقد تناقلت لك العهائز‬
‫األريبات قصة الفىت‪ ،‬اذلي يغوي النساء بعطر مسحور‪ ،‬حىت‬
‫فرق بني عاشقني اكان مرضب األمثال‪ ،‬فاضطر اجلرحي للرحيل‬
‫بعد بوار جتارته‪.‬‬
‫وهنا أتت زوجة األب‪ ،‬تلح عىل الشقيقني الباقيني أن يطردا‬
‫العراف‪ ،‬فهو حامت وراء ما حدث‪.‬‬
‫قال لها اتجر األمقشة‪:‬‬
‫"أبعد خسارتنا لتهارة العطور‪ ،‬خنرس أجرة العراف وزابئنه؟‬
‫هذا فىت أخرق‪ ،‬هبته جامل امرأة غريه‪ ،‬فدفع المثن!"‬
‫لكن العراف أدرك خطر تكل املرأة امجليةل عليه‪ ،‬بإحلاهحا عىل‬
‫أبناء زوهجا‪ .‬اكن يش هتهيا‪ ،‬ويعمل أنه لن ينالها‪ ،‬فوضعها هدفا هل‪.‬‬
‫ذهب للشقيق األصغر‪ ،‬اتجر احلىل واكن يعرف فيه نقيصة‬
‫الفضول املميت‪ ،‬فقال هل‪:‬‬

‫‪664‬‬
‫"قل يل اي فىت‪ ،‬وأنت اتجر شهري‪ ،‬ترتدد عليك نساء من لك‬
‫صنف ولون‪ ،‬فمل مل تزتوج؟ الزواج لشاب مثكل حصن‪،‬‬
‫ولتهارتك رواج‪".‬‬
‫قال الفىت‪:‬‬
‫"وكيف يكون الرواج يف الزواج؟"‬
‫قال العراف‪:‬‬
‫"أما تدري أن الرجال حيبسون عنك نساءمه‪ ،‬خش ية علهيم‬
‫منك؟"‬
‫قال الفىت‪:‬‬
‫"لكن شقيقي األكرب مل يزتوج هو اآلخر‪ ،‬وأغلب زابئنه مثيل‬
‫من النساء‪".‬‬
‫رد العراف‪:‬‬
‫"رمبا حىت اآلن‪ .‬لكن النجوم تؤكد يل أن يف قلب أخيك فتاة‬
‫ما تشغهل‪".‬‬
‫ومصت ومل يمكل‪ ،‬وتركه لصومعة كهانته‪ ،‬فظن الفىت أنه عرف‬
‫رسا جديدا عن أخيه‪.‬‬

‫‪665‬‬
‫اش تعل الفضول يف ذهن الفىت‪ ،‬وأراد أن يعرف من يه اليت‬
‫تشغل ذهن أخيه‪ ،‬فأخذ يراقب من ترتدد عليه من النساء‪،‬‬
‫دون أن جيد ميال ألاهن‪.‬‬
‫وأحل يف السؤال عىل العراف‪ ،‬حىت أجضره‪ ،‬فاكن يرد‬
‫بغموض‪:‬‬
‫"مل جتبين النجوم عن سؤاكل‪ ،‬فهىي تتكمته وال أدري السبب‪،‬‬
‫هذه اي بين رضيبة العراف الصادق‪ ،‬فإما أن يعرتف جبههل‬
‫فيضيع رواجه‪ ،‬أو يتخىل عن الصدق وهو ما ال أرضاه لنفيس!"‬
‫وملا اش تد فضول اتجر احليل‪ ،‬ذهب ألخيه مبارشة يسأهل‪،‬‬
‫فأنكر وملا أحل الفضويل بقوهل إن اهلم ابد عىل وجه أخيه‪ ،‬فرد‬
‫بغضب‪:‬‬
‫"أوليست املصيبة اليت نزلت عىل رأس شقيقك األوسط‬
‫اكفية؟"‬
‫مل يقنع الفضويل برد شقيقه‪ ،‬فعاد للعراف يسأهل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"قد اس تغلق ّ‬
‫عيل أبواب الكهانة‪ ،‬لكن عمل العقول وفهم‬
‫النفوس ال يغلق أبدا‪ ،‬انظر حوكل‪ .‬من من النساء يربد لرؤيهتن‬
‫وجه أخيك‪ ،‬أاهن يسمع لالكهما أكرث من غريها؟ من مهنن اهمت‬
‫ألمرها وقرهبا منه؟ لو اكن حيتفظ بيشء من أثرها لاكن هذا‬
‫دليال حاسام‪ ،‬وتوقع أغرب النتاجئ‪ ،‬ما دامت النجوم قد‬
‫اس تكمتت أمرها عين!"‬

‫‪666‬‬
‫فعاد الفضويل لتتبع أخيه بنصاحئ العراف‪ ،‬فأظهرت هل نفثات‬
‫الاكهن شكواك مفزعة! ذهب بعقهل األمحق إىل حيث أراد عدوه!‬
‫فزوجة أبيه مازالت شابة‪ ،‬ويه مجيةل‪ ،‬وأخوه يوقرها كثريا‪،‬‬
‫بزمع إاهنا كأمه‪ ،‬ويقيض معها وقتا طويال بزمع إنه يهنىي لها‬
‫حساابهتا‪ ،‬وأرابهحا من مرياث أبهيم يف التهارات الثالث! رمغ‬
‫إاهنا ال جتلس معه‪ ،‬ومل جتلس أبدا مع اتجر العطور! كام إاهنا‬
‫تأخذ حاجهتا من الثياب منه دوما‪ ،‬وهو اذلي يذهب هبا‬
‫للحائك‪.‬‬
‫اكنت الفكرة البشعة‪ ،‬اليت أوىح هل هبا العراف احلقري‪ ،‬أش نع‬
‫من أن يصدقها‪ .‬لكهنا اكنت كذاببة حلوح‪ ،‬ال ترتك ذهنه إال‬
‫وتعود هل‪ .‬وملا ملح العراف مثار حصاده يف عيون األخ املراتبة‪،‬‬
‫اش تكت جفأة زوجة األب من اختفاء أحد أزايهئا‪ ،‬فذهب األخ‬
‫الفضويل مبارشة يبحث بني حاجات أخيه‪ ،‬فوجدها!‬
‫وظن أن ظنونه قد صدقت! ودار بني األخوين جشار رهيب‪،‬‬
‫ارجتت هل املدينة‪ ،‬حىت اكدا أن يقتال بعضهام‪ .‬وإذ حاولت زوجة‬
‫أبهيم الفض بيهنم‪ ،‬ااهنال علهيا األصغر ابلس باب‪ ،‬فباراه األكرب يف‬
‫س هبا‪ ،‬يريد إظهار أنه يبغضها‪ .‬ودون أن تفهم ما أصاهبام‪ ،‬غادرت‬
‫ادلار مقهورة‪ ،‬مفسحة جماال أوسع للعراف‪ ،‬مل يبق من خصومه‬
‫إال شقيقني متحاربني!‬

‫‪667‬‬
‫انتظر العراف قليال‪ ،‬لتربد النار اليت أشعلها عىل الشقيق‬
‫األكرب‪ ،‬اتجر األمقشة‪ ،‬مث أصبح هو معركته التالية! فقد اكن‬
‫أكرثمه ماال‪ ،‬خاصة بعد أن أرشف عىل ما تركه اتجر العطور‪،‬‬
‫وتركته زوجة األب من أموال خلفهام‪ ،‬يديرها هلام‪.‬‬
‫اكن هذا األخ جريئا مقداما‪ ،‬ذلا مل يكن خياف من مواهجة‬
‫العراف‪ ،‬واكن أول من اس هتزأ خبطره‪ ،‬رمغ علمه عمل اليقني‬
‫ببغضه لوادله‪ ،‬واكن يف قلبه حب لذلة املغامرة‪ ،‬وعشق للتعرض‬
‫للمخاطر‪ ،‬لوال أن أقعدته املواريث يف ماكنه‪ .‬ظن العراف أنه قد‬
‫يتلف املال إذا أذاق الفىت ذلة املغامرة اليت جهرها‪.‬‬
‫ذهب العراف لتاجر األمقشة قائال‪:‬‬
‫"إن براعيت يف اس تكشاف الغيب قد بلغت شأان مل أكن‬
‫ألتصوره‪ ،‬ورمغ كريه للزينة والشهرة كام ترى ‪ -‬فأان أكتفي‬
‫حبجرة صغرية يف مزنلمك‪ ،‬ولوال إنين أخىش أن أكمت علمي عن‬
‫الناس‪ ،‬ملا أخربهتم وأعلمهتم مبا ينتظرمه – فإن شهريت جتاوزت‬
‫اآلفاق‪ ،‬ووصلت إىل أمري املدينة نفسه‪ ،‬وقد أرسل يل يطلبين‬
‫يف قرصه‪ ،‬لتفسري حمل أاته‪ ،‬لكين كام ترى رجل جعوز‪ ،‬وال‬
‫أعرف دروب املدينة جيدا‪ ،‬فأحببت أن أتس ند عىل شاب‬
‫قوي مثكل يف تكل الرحةل املهمة‪".‬‬
‫مل يكن األمري طلب‪ ،‬أو حىت مسع ابلعراف اخلبيث‪ ،‬لكن‬
‫جوار قرص األمري يف هذا الوقت من الس نة‪ ،‬يمت معل مودل كبري‬

‫‪668‬‬
‫ألحد األولياء‪ ،‬مودل جتري فيه اآلاثم واملعايص‪ ،‬كام جيري املاء‬
‫يف المي!‬
‫وصل الاثنني للقرص‪ ،‬فقال العراف‪:‬‬
‫"آهه‪ ،‬يبدو أن املودل هنا! اذهب وتسىل فيه قليال اي بين‪،‬‬
‫فقد أتأخر عند األمري‪".‬‬
‫قال التاجر‪:‬‬
‫"وكيف تس تدل عىل ماكين أاها العجوز إن افرتقنا؟"‬
‫حضك العراف وقال‪:‬‬
‫"ال أكون عرافا إ ًذ إن اته عين غالم يف العقد الثالث من‬
‫معره!"‬
‫دلف الفىت لينظر بني الناس لعهائب املدينة‪ ،‬اليت ال يعرفها‬
‫يف أطرافها‪ .‬ورسعان ما رأى أحد األفاقني يتحدى الناس‬
‫بثالث علب‪ ،‬ترى أاها خيفي حتهتا اذلهب وهل اجلائزة؟‬
‫تفرج الفىت قليال يشاهد الراحب واخلارس‪ ،‬مث انضم للمراهنني‬
‫متحمسا‪.‬‬
‫وأخذته فتنة املقامرة! وجلس العراف بعد قليل جواره‪ ،‬يراقب‬
‫راضيا عاقبة معهل‪ ،‬مث مهس للفىت مباكن العلبة الصحيحة‪ ،‬فراهن‬
‫علهيا وفاز‪.‬‬

‫‪669‬‬
‫يف ش بابه اكن العراف هو من يلعب ابلعلب يف هذا املودل!‬
‫اكن خبريا‪ ،‬حىت إن حيل األفاق الغش مي بدت هل ساذجة! ولكام‬
‫أخرب اتجر األمقشة ابلعلبة الصحيحة‪ ،‬فزع األفاق‪ ،‬وحتداه يف‬
‫لعبة جديدة‪ ،‬مع مضاعفة الرهان‪ .‬وإلتذ الفىت برحبه املغامرة‪،‬‬
‫فقبل التحدي‪ ،‬وأخذ الرهان يتضخم ويتضخم‪ ،‬والفىت يرحب‬
‫ويرحب‪ ،‬حىت التف حوهل الناس واألثرايء واألمراء‪ ،‬يراقبون هذا‬
‫الفىت البارع احملظوظ!‬
‫وأصابت بعضهم محى التحدي‪ ،‬فأخذوا يراهنون الفىت‪،‬‬
‫ويزيدون يف الرهان عىل خسارته‪ ،‬فريحبهم! حىت أصبح الرهان‬
‫أضعافا كثرية‪ ،‬وأخذ البعض يسههل يف أوراق‪ ،‬ويف حلظة أخرب‬
‫العراف الفىت بعلبة خارسة‪ ،‬ليخرس لك ما رحبه وفوقه جتارته‬
‫وجتارة أخوته!‬
‫وفرح العراف بنرصه فرحا كبريا‪ ،‬واشرتى من الفىت املغلوب‬
‫بيت عزام بمثن خبس‪ ،‬زاعام إنه يساعده‪ ،‬كام ساعدوه برتكه‬
‫يعيش فيه‪ ،‬فسيبقى الوضع كام هو‪ ،‬غري إنه لن يدفع إجيارا‪ ،‬ولن‬
‫يطالهبم بأجرة‪.‬‬
‫ولكن ما أن امتكل صك البيت يف يده‪ ،‬حىت طردمه رش‬
‫طردة! وانترص عىل أبناء الرجل‪ ،‬اذلي حقد عليه وظفر ببيهتم‪،‬‬
‫وفرق مشلهم!‬

‫‪670‬‬
‫ولكن األايم مرت عىل الزوجة املظلومة‪ ،‬إذ رآها أمري املدينة‬
‫ذات يوم‪ ،‬فوقع يف حهبا‪ ،‬فزتوهجا‪ ،‬فاكن همرها رأس اخلبيث!‬

‫‪671‬‬
‫‪ ( 3 - 65‬حاكية العجوز املس تهرية )‬
‫قال الش يخ وهدان‪:‬‬
‫"وملا مسعت احلاكية من هذا الس يد‪ ،‬قلت هل‪:‬‬
‫"اي س يدي‪ ،‬اكن هذا خبيثا‪ ،‬يس تغل نقائص الطمع والفضول‬
‫واملقامرة‪ ،‬وال أظن كرميا مثكل يوجد به نقائص تقتل غري أعدائه!‬
‫إمنا أان جعوز مس تهري بمك‪ ،‬فأجريوين وال تكونوا مكن خزل‬
‫العجوز املس تهرية يف وادي اللصوص‪،‬‬
‫أما مسعت حباكيهتا؟‬
‫اكن هناك واد‪ ،‬يعيش فيه لصوص الصحراء‪ ،‬فبه خيتبئون‪،‬‬
‫وهل أرسامه يسوقون‪ ،‬وفيه كنوزمه يدفنون‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬ساقوا أماهمم قافةل من العبيد للوادي‪ ،‬يوزعواهنا‬
‫بيهنم‪ .‬وإذ اقتنصوا البنات والش باب‪ ،‬وجدوا بني األرسى امرأة‬
‫جعوز‪ ،‬احنىن ظهرها‪ ،‬فألقوها خارج الوادي‪ ،‬ليرتكوها لذلئاب‬
‫تألكها‪ ،‬أو العطش يفنهيا‪.‬‬
‫مل تكن العجوز قادرة عىل أن تسري يف الصحراء هاربة‪،‬‬
‫وأخذت تس تعطف اللصوص‪ ،‬فآذوها فمل متكل إال أن تطوف‬
‫حول الوادي‪ ،‬حتاول أن ختتلس جيفة تألكها‪ ،‬أو رشبة تسقهيا‪.‬‬

‫‪672‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬أتت جامعة من الفرسان املغامرين‪ ،‬فأغاروا عىل‬
‫وادي اللصوص‪ ،‬فقتلوا مهنم من قتلوا‪ ،‬مث أخذوا ما اس تطاعوا‬
‫من كنوزمه غنمية‪ .‬فأرسعت هلم العجوز مس تهرية‪ ،‬تطلب مهنم‬
‫الغوث‪ ،‬فقالوا ألنفسهم‪:‬‬
‫"وماذا اكنت تفعل تكل العجوز بني اللصوص‪ ،‬وما شأننا‬
‫وشأاهنا؟"‬
‫فردوها ردا غري مجيل‪ ،‬مث رحلوا عائدين‪.‬‬
‫ومل يقطعوا مسافة طويةل‪ ،‬إال وأمسكهم جنود املكل‪ ،‬يظنواهنم‬
‫لصوص الصحراء‪ ،‬فقبضوا علهيم‪ ،‬مث جهم اجلند عىل الوادي ال‬
‫يبحثون إال عن جعوز مس تهرية‪ ،‬فلام وجدوها قالوا لها‪:‬‬
‫"ادعي هللا ملوالان املكل‪ ،‬فقد مرض مرضا شديدا‪ ،‬فاس تهار‬
‫ابهلل فأاته حمل رهيب‪ ،‬به انر وحجمي أسود‪ ،‬وهاتف اهتف به‬
‫(كيف جيريك هللا‪ ،‬وتكل العجوز تس تهري يف وادي اللصوص‪،‬‬
‫فال يسمعها أحد؟) فأدرك املكل أنه هاكل‪ ،‬ما مل ينقذك‪".‬‬
‫وهنا نظر لها الفرسان املغامرون مس تعطفني‪ ،‬واس تحلفوها أن‬
‫تشفع هلم عند املكل‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫"وما شأين وشأنمك؟"‬
‫فساقومه للموت‪ ،‬ال جيدون جمريا!‬

‫‪673‬‬
‫‪ ( 4 - 65‬حاكية زندي وشاهر )‬
‫قال هذا الس يد للش يخ وهدان‪:‬‬
‫"أما وقد مسعت مقولتك‪ ،‬فإين ألكره أن أكون جمريا ملس تهري‬
‫غادر‪ ،‬كام أجار الزندي شاهر!‬
‫أما مسعت حباكيته؟‬
‫حيىك أنه اكن زندي فارسا هامما‪ ،‬عطوفا عىل الناس‪ .‬إن مىض‬
‫يف طريق‪ ،‬أقام فيه العدل‪ ،‬وأغاث امللهوف‪ .‬وذات يوم مسع‬
‫اس تغاثة لصيب صغري‪ ،‬فاندفع لنهدته‪ ،‬فوجد رجاال ميسكون‬
‫الس يوف‪ ،‬يبغون قتل الصيب‪ ،‬فردمه بس يفه‪ ،‬وقتلهم‪ .‬واكن‬
‫س يفه بتارا ال يقهر‪ ،‬رحبه من حرب مع وحش‪ ،‬نصف جين‬
‫ونصف إنسان‪ ،‬اكن يرعب الناس يف الطرقات‪ ،‬حىت هزمه‪.‬‬
‫وأخذ زندي الصيب شاهر‪ ،‬فأجاره‪ ،‬وجعهل يقمي عنده‪ ،‬حىت‬
‫يس تعيد قوته‪ .‬وملا أفاق الصيب من غيبوبته‪ ،‬اطمأن زندي‪،‬‬
‫وأراد أن يهنض ويمكل رحلته‪ ،‬لكنه وجد الفىت امللعون ينقض‬
‫عىل عنقه‪ ،‬ويهنشه بأس نانه‪ .‬فشاهر مل يكن إال ابن غول من‬
‫غيالن اجلن‪ ،‬ألك بعض الصبية‪ ،‬فطارده أهلهم يريدون الثأر‪،‬‬
‫وملا أنقذه زندي دون أن يتبني حقيقة األمر‪ ،‬ترك الغول يس تعيد‬
‫عافيته‪ ،‬ليألك منقذه!‬

‫‪674‬‬
‫‪ ( 5 - 65‬الغــوث )‬
‫قال الش يخ وهدان‪:‬‬
‫"مسعت حاكية زندي وشاهر‪ ،‬فرددت علهيا حباكية البحار‬
‫عيل هذا األمري حباكية وأخرى‪ ،‬فأرده بأخرى!‬ ‫سامر‪ ،‬لريد ّ‬
‫وأخذت أابرز هذا الس يد‪ ،‬حاكية حباكية‪ ،‬حىت أتت الظهرية‪،‬‬
‫وحرها يؤملنا‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"تبدو متعبا اي موالي‪ ،‬فهال أمكلنا حديثنا يف قرصك؟"‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"وما أدراك أن يل قرصا؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"إمنا عيين لكيةل‪ ،‬لكهنا تعي إنك س يد بني قبائل بين الطارق‪".‬‬
‫وحملت يف عيون رجاهل نظرة اس تخفاف‪ ،‬فأدركت احلقيقة‪،‬‬
‫فأمكلت مرسعا‪:‬‬
‫"حىت ألاكد أظنك أمريا عظامي بيهنم‪".‬‬
‫قال يل مبتسام‪:‬‬
‫"أجعبتين فراس تك‪ ،‬كام أمتعتين حاكايتك‪ ،‬أان حرب بن سالم‪،‬‬
‫مكل بين الطارق‪ ،‬وصاحب العامرة وس يد مملكة ابرق‪ ،‬مفن‬
‫أنت؟"‬

‫‪675‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"ال يعرفونين خارج بدليت‪ ،‬لكهنم يدعونين ابلش يخ وهدان‪".‬‬
‫قال يل‪:‬‬
‫"ظننتك هو! الصويف العامل اجلليل! ما هو شهري عندمك نعرفه‬
‫عندان‪ .‬فالتهار تتناقل األنباء‪ ،‬ونبأك مع ملكك اجلديد‪ ،‬نرصه‬
‫هللا‪ ،‬فوق لك نبأ!"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"مل أعمل أن جاللتمك هتمتون مبا حيدث يف بالدان مبثل هذا‬
‫العطف‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أنمت إخوتنا يف اإلسالم‪ ،‬واقرتاب األهبال والفرجنة من حدودان‬
‫أمر غري محمود‪ ،‬ال يغفل عنه امللوك‪ .‬غري ما بني بالدان وبالدمك‬
‫من جتارة ابرت‪ ،‬بعد أن سلط هللا بعضمك عىل بعض‪".‬‬
‫قال أحد رجاهل‪:‬‬
‫"اي موالان الش يخ وهدان‪ ،‬مل نأت لهذه الواحة البعيدة إال‬
‫لنتسمع أخبار بالدمك‪ ،‬فقد علمنا بأن موقعة عظمية جرت‪ ،‬أو‬
‫س تجري عند الثغر الكبري‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪676‬‬
‫"فامحلد هلل من قبل ومن بعد‪ .‬قد هزمنا الفرجنة‪ ،‬لكهنم‬
‫س يعودون‪ ،‬فاألسود أىت لنا جبيش ال أول هل وال آخر‪ ،‬فأردان‬
‫نرصتمك لنا‪".‬‬
‫قال حرب بن سالم‪:‬‬
‫"ما شأننا واألسود؟ إمنا خنىش الفرجنة واألهبال عىل حدودان‬
‫حفسب‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"لكن األسود وعدمه ابلثغر الكبري‪".‬‬
‫حضك وقال‪:‬‬
‫"حىت األسود لن يفرط يف ثغوره لكها هبذه البساطة‪".‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫"أظننت أنه لو مل يدعهم ليشء يف الغرب‪ ،‬اكنوا سزيحفون‬
‫معه؟ ملم حيارب الفرجنة واألهبال معه بعد أن قبضوا المثن من‬
‫ثغوران الرشقية اكمال؟"‬
‫فاقتنع مكل بين الطارق فورا! مل أتصور أن أحقق هذا النهاح‬
‫أبدا‪ ،‬وهبذه السهوةل‪ ،‬لكهنا األقدار ساقتين إىل حيث مرضبه‪،‬‬
‫ألقنع رأس البالد فورا دون هجد‪ ،‬فإذا به يعد العدة‪ ،‬ويطلب‬
‫اجلند عىل وجه الرسعة للسري رشقا‪.‬‬

‫‪677‬‬
‫(‪)66‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬


‫"أمت الش يخ وهدان حاكيته‪ ،‬وأرسع ليقدم لنا مكل بين‬
‫الطارق‪ ،‬احلرب بن سالم‪ ،‬وقد أىت عىل رأس س تني ألفا من‬
‫جنوده وعشائره‪ ،‬ومعهم مجوع ممن هاجروا عن بالدان‪ ،‬يريدون‬
‫العودة لها عودة ظافرين‪.‬‬
‫اكن متعجبا ملا حققناه من نرص عىل األسود‪ ،‬جبموعنا القليةل‪.‬‬
‫وأخذ يقول للش يخ وهدان مازحا‪:‬‬
‫"جلبتنا من بالدان بال طائل‪ ،‬أاكن جيب أن تتلكأ حىت تنهتىي‬
‫احلرب!"‬
‫لكننا كنا ندرك‪ ،‬كام قال ويل العهد‪ ،‬أمنا تأخر األسود‪،‬‬
‫وانسحب مقهورا‪ ،‬ألنه عرف أن وجود هذا اجليش ضده يعين‬
‫هزميته‪.‬‬
‫وقد حتصن يف وادي الضياع‪ ،‬مرصا همددا‪ ،‬لو بقينا حيث‬
‫حنن‪ ،‬فلن حنمك شربا خارج الغرب‪ ،‬ولو زحفنا للعامصة فسينقض‬

‫‪678‬‬
‫عىل ظهوران! كنا مضطرين لتقبل التحدي الصعب‪ ،‬والسري يف‬
‫وادي الضياع الرهيب ملالقاته!‬
‫أعددان للرحةل والزحف‪ ،‬ومجعنا لك ما اس تطعناه من جند‪،‬‬
‫واس تعنا بأخرب األدالء‪ ،‬وأعرفهم ابلنجوم والرايح‪ ،‬خفطر الضياع‬
‫يف الوادي ألعن من خطر حرب األسود!‬
‫رسان ببطء شديد‪ ،‬تس بقنا دوما طالئع‪ ،‬تتقدم ملسافة قصرية‬
‫طاملا يه أمام عيوننا ظاهرة! فإذا ما بدأت ختتفي عن األنظار‬
‫توقفت‪ ،‬وغرست يف األرض عالمة‪ ،‬وبيارق‪ ،‬وانر موقدة تبقى‬
‫جامعة من اجلند حريصة علهيا‪ ،‬حىت إذا ما وصلنا لها أطلقنا‬
‫جامعة أخرى‪ ،‬تفعل مثلام فعلت‪ ،‬لنتقدم اتركني خلفنا طريقا‬
‫مضيئا!‬
‫اكن اخلوف مازال اكمنا من عاصفة رملية تذهب‪ ،‬بلك ما‬
‫صنعنا لكن األدالء يؤكدون أن عواصف الصحراء ساكنة هذه‬
‫األايم‪ ،‬وأاهنا ستنال من األسود بأشد منا‪ ،‬لكن األسود يعرف‬
‫طريقه يف هذا الوادي (هللا أعمل كيف) بيامن حنن ال نعرف!‬
‫مل نتوغل كثريا يف هذا الوادي الرهيب‪ ،‬ومل نتعرض للكثري من‬
‫أخطاره‪ ،‬وااهنيار الرمال علينا‪ ،‬وقرصات الثعابني والعقارب‪.‬‬
‫ألننا عرثان رسيعا عىل معسكر األسود!‬
‫معسكر خضم ميتد عىل مرىم البرص‪.‬‬

‫‪679‬‬
‫به جيش أخضم من جيش نا اكمل العدد والعدة‪.‬‬
‫من املوىت!‬
‫مثانون ألف فارس وهاجن خبيوهلم وإبلهم موىت!‬
‫كأمنا نزلت صاعقة من السامء أهلكهتم عن آخرمه‪ ،‬فأخذهتم يف‬
‫حلظة واحدة!‬
‫دب الفزع يف قلوبنا‪ ،‬وأخذ اجلنود يرددون يف رهبة‪:‬‬
‫"وادي املوت! وادي املوت! لنخرج منه اآلن!"‬
‫لكننا بقينا مرصين عىل البحث عن يح واحد بني أكوام‬
‫اجلثث‪،‬‬
‫أو عىل األقل عىل جثة األسود امللعون!‬
‫مل نعرث إال عىل األمري اململويك الشهاع‪ ،‬اكيدمه ابن ابرم ديهل‪.‬‬
‫األسري املسكني‪ ،‬اكن محموما هالاك من اجلوع والعطش‪ ،‬والبد‬
‫أن األساودة ظنوه مات‪ ،‬فألقوه خارج معسكرمه‪ ،‬قبل أن حتل‬
‫هبم لعنة الوادي‪ ،‬حاولنا سقايته املاء‪ ،‬فرفض حىت أجربانه‬
‫ابلقوة‪.‬‬
‫تشاوران ماذا نفعل‪ .‬اكنت الرهبة متأل قلوبنا‪ ،‬فبدت فكرة‬
‫إرسال اجلنود للبحث عن القائد األسود خسيفة‪ ،‬غري جمدية‪ ،‬مع‬

‫‪680‬‬
‫ما دب يف قلوب جنودان من رهبة‪ ،‬خاصة إنه حيامن استنطق‬
‫بعضنا اكيدمه ابن ابرم ديهل‪ ،‬مل يقل إال لكمة واحدة مفزعة‪.‬‬
‫"األسود قتل لك هؤالء وحده!"‬
‫أشعل هذا رعبا ما بعده رعب من القائد األسود يف قلوب‬
‫رجالنا‪ .‬يبدو أنه‪ ،‬رمغ لك يشء‪ ،‬متحالف ابلفعل مع الش ياطني‪،‬‬
‫حىت يقهر وحده مثانني ألفا من الفرسان! فانسحبنا عائدين ملدينة‬
‫ساوة‪ ،‬اتركني الوادي امللعون خالصا هل! عىل أي حال قد‬
‫انترصان‪ ،‬وانهتىى أمر املكل‪ ،‬ال يرضان وال ينقصنا غياب سلطاننا‬
‫عن هذا الوادي امللعون‪.‬‬
‫زمع البعض إن الهزمية أهلكت األسود‪ ،‬فأصبح ش بحا منتقام‬
‫انمقا عىل رجاهل‪ ،‬وأنه بعدما أنقذمه من الهالك يف املعركة‪ ،‬انقلب‬
‫علهيم وأهلكهم عن آخرمه‪.‬‬
‫وزمع البعض إمنا ش ياطني الوادي أتته‪ ،‬وعرضت عليه ‪ -‬ملا‬
‫رأته فيه من قوة وجربوت ‪ -‬أن يصبح ملاك علهيا‪ ،‬عىل أن يفعل‬
‫من الرش فعال بال مثيل‪ ،‬فقتل لك رجاهل‪ ،‬ليصبح ملاك خمدلا يف‬
‫لعنات هذا الوادي! لكنه أصبح بال سلوى‪ ،‬وال ترف مما اعتاده‬
‫يف حياته البرشية‪ ،‬فأصبحت تسليته الوحيدة يه أن خيدع من‬
‫يقوده سوء حظه للوادي‪ ،‬فيتسىل بإنقاذه من الضياع‪ ،‬حىت إذا‬
‫مش راحئة النهاة قتهل!‬
‫عىل أي حال فلهينأ مبملكته‪ ،‬ال نريد مهنا شيئا!"‬

‫‪681‬‬
‫(‪)67‬‬

‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬آخر الغيالن‪:‬‬


‫"زحفنا منترصين إىل احلارضة‪ ،‬فاستسمل لنا من بقى فهيا من‬
‫عامل األسود‪ ،‬وهرعوا ملبايعة املكل‪ .‬واتبعهم جند األسود‬
‫وأعداؤه يف لك البالد‪ ،‬حىت البقااي القليةل اليت تبقت من بين‬
‫األسود‪ ،‬وقد اكدوا أن يبادوا يف هذه احلرب‪ .‬دخلنا يف معركة‬
‫مريرة ضد الفرجنة يف الزرقاء‪ ،‬حىت طردانمه بعد مثن ابهظ من‬
‫ادلماء‪ ،‬اش تعل قتال‪ ،‬ونزاع بني خاانت األهبال يف الثغر‬
‫الصغري‪ ،‬فباغتهتم جيوش نا‪ ،‬حفطمنامه‪ .‬وقد أبىل بقية بين األسود‬
‫يف تكل املعركة بال ًء حس نا‪ ،‬تكفريا عن ذنوهبم يف العهد اذلي‬
‫انقىض‪.‬‬
‫اكنت ال تزال أمامنا معارك عنيفة‪ ،‬لطرد بقية األهبال والفرجنة‪،‬‬
‫وإمتام الس يطرة عىل البالد بقبضة عادةل قوية‪ ،‬لكين أدركت أن‬
‫دوري قد انهتىى‪ ،‬فاليوم املكل تنرصه جيوش كبرية منظمة‪،‬‬

‫‪682‬‬
‫ويتحالف مع مكل بين الطارق‪ ،‬وقد اجمتعت الناس عىل لكمته‬
‫ابلرضا‪ ،‬كام مل جتمتع من قبل‪.‬‬
‫وذلا‪ ،‬اكن جيب أن ينهتىي أمر الغيالن امحلر‪ ،‬فأمرت رجال‬
‫الغاربة خبلع ادلروع امحلراء‪ ،‬وتدمريها وأعلنت للك الناس اهناية‬
‫الغيالن امحلر برضامه‪ ،‬ألنه جيب أال ترتفع راية أخرى سوى راية‬
‫املكل‪ ،‬مادام قد متكل!‬
‫وذهبت لتميور يف احلارضة‪ ،‬ألول مرة أدخلها‪ ،‬بعد أن خرجت‬
‫مهنا مع أيب لنجيب دعوة الوريث الاكذب‪ .‬فوجدت تميور‬
‫يرتدي اتجا من اذلهب والفضة‪ ،‬فتقدمت منه‪ ،‬وخلعته عنه‪،‬‬
‫وقلت‪:‬‬
‫"ما هذا اي موالي؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"أهدته يل اخلاتون‪ ،‬عالمة املكل‪ ،‬وشعار األرسة املالكة‬
‫القدمي‪".‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"إذن فأنت تريد أن تنهتىي مقتوال مثلهم! ثبت ملكك بأن تطعم‬
‫بمثنه الناس! وإايك أن تس متع لبطانة السوء أبدا‪".‬‬
‫بدا عىل وهجه اخلجل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"امحلد هلل اذلي أكرمين بك إىل جواري‪".‬‬

‫‪683‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"لن أبقى جلوارك‪ ،‬فقد خلعت زي الغيالن‪ ،‬وإين راحل‬
‫لبدليت!"‬
‫نظر يل مهبوات‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أتغادرين وأان حباجة إليك؟"‬
‫قلت‪:‬‬
‫"بإذن هللا ما عادت كل يب حاجة! بإذن هللا س تنترص عىل‬
‫األهبال والفرجنة واألعراب‪ ،‬وس تعيد جمد البالد القدمي‪ ،‬وتؤمن‬
‫ما حولها من ختوم وطرقات‪ .‬فبفضل هللا‪ ،‬قد فقد الفرجنة أعدادا‬
‫خضمة‪ ،‬وسفنا كثرية‪ ،‬ودب الشقاق والرعب يف قلوب األهبال‪،‬‬
‫فسينرصك هللا علهيم‪".‬‬
‫قال‪:‬‬
‫"أحتاج لشهاعتك وفطنتك أاها القبيل عىل جواري‪ .‬حس نا‪،‬‬
‫أعمل أنك لست ابلقبيل‪ ،‬فقد أخربتين حباكيتك الغريبة‪ ،‬رمغ إنين‬
‫ال أاكد أصدقها‪ ،‬لكنك كنت خري معني‪ ،‬وس تكون خري وزير‪".‬‬
‫قلت هل‪:‬‬
‫"جيب أن أرحل اآلن اي موالي‪ ،‬مفومس الزراعة قارب عىل‬
‫الانهتاء‪ ،‬وس تصاب البالد ابجملاعة لو مل ندرك بعضه‪ .‬كام قلت‬
‫سابقا كل ‪ -‬لو تذكر‪ -‬حرب األسود تنهتىي‪ ،‬لكن حرب اجلوع ال‬

‫‪684‬‬
‫تنهتىي! لقد قارب نرصك عىل الاكامتل‪ ،‬بفضل جند فالحني‪ .‬وملا‬
‫أصبح دليك ما يكفي من اجلند احملرتفني‪ ،‬فعليك برتك البعض‬
‫لزراعة األرض حىت ال تبور‪ .‬صدقين فأنت اآلن يف حاجة‬
‫لرضابت الفؤوس‪ ،‬أكرب من حاجتك لطعنات الس يوف‪".‬‬
‫هنا ملعت عيناه ابدلموع‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"أبعد لك هذا ترتكين؟ أبعد الرحةل الطويةل‪ ،‬والرفقة املريرة اي‬
‫قبيل‪ ،‬أو اي عبد الشهيد؟ أنت خري الرفاق‪ ،‬فاثبت معي يف أايم‬
‫البالط‪".‬‬
‫قلت مبتسام‪:‬‬
‫"يه حرب أكرب من طاقيت تكل اليت يف البالط! لو بقيت‪،‬‬
‫فلن يرىض ملكك يب! اليوم اي موالي جيب أن أرحل‪ ،‬وأان‬
‫واثق يف عدكل وفطنتك‪ ،‬وأن مملكتك لن تبىن عىل اجلور‪ ،‬مثل‬
‫من هلكوا قبكل‪ ،‬وأهلكوا! أنك س تتبع نصيحة معر ابن عبد‬
‫العزيز أن حصهنا ابلعدل‪ .‬لو بقيت‪ ،‬فسأذوق من املشاحنات‪،‬‬
‫واملنافسات‪ ،‬وأجواء القصور ما ال أرضاه لنفيس من عنت‪ ،‬قد‬
‫يضلين‪ ،‬فأضكل معي! وإاهنا لنصيحة مثينة‪ ،‬أن تبعد بنفسك‬
‫عهنا‪".‬‬
‫نظر يل صامتا حلظات اكدلهور‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"أعمل أنك عنيد‪ ،‬ولن أغري رأيك حىت تنال ما تريد‪ ،‬لو مل تكن‬
‫كذكل‪ ،‬ملا كنت أان ملاك اآلن‪ ،‬لن أكرهك عىل البقاء كام فعل‬

‫‪685‬‬
‫األسود بأهل العامصة‪ ،‬فاكنوا سبب هزميته‪ .‬لكن عىل األقل‬
‫دلي كل هدية‪ ،‬فاقبلها‪".‬‬
‫قلت قلقا‪:‬‬
‫"وما يه؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"مثكل ال يزتوج إال أمرية! وكنت أبغي كل خري النسب‪".‬‬
‫قلت مرصا‪:‬‬
‫"أرامل قرييت ويامتها أوىل يب من أمريات طرابل‪ .‬خذل وادلي‬
‫أهل القرية‪ ،‬ولن أخذلها بعدما حضت مبا اس تطاعت يف حربنا‪".‬‬
‫قال مرتباك‪:‬‬
‫"ليست أمرية من طرابل‪ ،‬وإمنا من احلارضة! امرأة مل تعرف‬
‫لنفسها من الرجال كفئا سواك‪ .‬اخلاتون املرصفية حدثتين‬
‫ألخطبك لها‪ ،‬أو أخطهبا كل‪ ،‬أاهام أحص!"‬
‫آه! الفكرة القدمية وقلق نساء القرص من اخلاتون! لن أسقط‬
‫نفيس يف هذا الفخ مرة أخرى‪ .‬يكفيين ما انلين منه املرة‬
‫السابقة!‬
‫قلت مفزوعا‪:‬‬

‫‪686‬‬
‫"وأين أان من اخلاتون؟ دعين ألرامل قرييت اي موالي‪ .‬أىن يل‬
‫مبناطحة ذاكءها‪ ،‬ومكرها‪ ،‬وثروهتا؟ امحلد هلل إين عائد لقرييت‪،‬‬
‫مبتعدا عن أثر فتنهتا‪ .‬وهللا مل يغلبين أحد بأمر مما غلبتين يه!"‬
‫قال وعىل شفتيه ابتسامة حزينة‪:‬‬
‫"وهللا مل أكن ألقبل هبذا األمر‪ ،‬لوال أنك عائد إىل قريتك‪ ،‬تعمل‬
‫أن بقاء اخلاتون هنا‪ ،‬قرب قرص املكل‪ ،‬يثري قلقةل يف القرص‪.‬‬
‫وغرية النساء وكيدهن هلام خطر عىل أي مكل! أرغب يف غول‬
‫أمحر ينقذين بشهاعته من هذا اخلوف! ويأخذها معه لقريته!‬
‫وقد قالت يل إاهنا لن متانع يف هذا‪".‬‬
‫ال أنكر‪ ،‬رمغ رهبيت من اخلاتون‪ ،‬إن يف القلب ميال لها‪،‬‬
‫ومثلها لمييل القلب إال من عصم ربك‪ .‬ال يفتنين جاملها قدر ما‬
‫يفتنين إخالصها ومثابرهتا وفطنهتا‪ .‬لكين مازلت أخشاها كثريا‪.‬‬
‫وهنا أاتين من خلفي صوهتا العذب‪ ،‬المئا‪ ،‬كأمنا قرأ أفاكري‪:‬‬
‫"أحقا أان مفزعة لهذه ادلرجة؟ يزمعون إن الغول األمحر هو‬
‫املفزع!"‬
‫من أين تأيت تكل املرأة دوما يف الوقت املناسب‪ ،‬عاملة حبقائق‬
‫األمور! نظرت لها مرتباك‪ ،‬وقد تتدفق ادلم لوهجىي‪ .‬لقد شهدت‬
‫املوت‪ ،‬وذقت احلرب‪ ،‬وقابلت الطعن‪ ،‬فمل أرتبك مثلام ارتبكت‬
‫أماهما!‬

‫‪687‬‬
‫قلت لها معاندا‪:‬‬
‫"ال أصلح كل اي س يديت‪ .‬قد علمت حبقيقة أمري‪ ،‬ولعهل األمر‬
‫الوحيد اذلي خدعك أحدمه فيه‪ ،‬مفا أان بغول أمحر‪ ،‬وإمنا فالح‬
‫بس يط فقري‪ ،‬متزق جسده بطعنات الس يوف‪".‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫"وما أدراك أين أبغي ماال‪ ،‬فدلي منه الكثري‪ ،‬أو جاها‪ ،‬فهو ال‬
‫ينقصين؟ أنت من أمت ثأري‪ ،‬وأثبت شهامتك‪ ،‬واحلياة يف‬
‫قريتك عندي أفضل من القصور مع غريك‪ .‬أنت متكل من‬
‫الشهامة ما افتقدته حيامن كنت أسرية مغلوبة‪ ،‬مطرودة‪ ،‬مطاردة‬
‫من هذه املدينة اليت نقف فهيا اآلن! أبعد أن ابعين أيب لألسود‬
‫مقابل رأس خصمه‪ ،‬وترك إخويت الكبار حامييت جراي وراء‬
‫الكنوز‪ ،‬وابع شقيقي األصغر دم أيب ورشيف نفاقا للمغوار‬
‫األسود‪ ،‬أبعد لك هذه املعادن اخلسيسة‪ ،‬اليت أظهرها أقرب‬
‫الرجال يل‪ ،‬ترى يف نفيس طمعا لها؟"‬
‫يف احلقيقة كنت ألراها تطمع‪ ،‬فقد شبت عىل اجلاه‬
‫والسلطان‪ ،‬وأرصت عىل اس تعادهتام‪ ،‬حيامن سلبا مهنا! ولكن‬
‫قليب رق عن أن يغلظ لها الرد املكذب‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫"اي ذات النسب الرشيف عن أمك‪ ،‬وسليةل األمراء والقادة‬
‫عن أبيك‪ ،‬واملال عن زوجك الشهبندر‪ ،‬واخلربة عن لطامت‬

‫‪688‬‬
‫احلياة! أىن لصيب غرير فقري مثيل‪ ،‬شوهته الس يوف‪ ،‬بأن ينظر‬
‫إليك؟"‬
‫قالت‪:‬‬
‫"يه أومسة اجلهاد عىل صدرك‪ ،‬فهبا رشفت!"‬
‫اكن زوايج هبا مصلحة للمكل ‪ -‬كام أظن ‪ -‬وحامت سعت‬
‫الشهابية وابنهتا هل‪ ،‬وتطلبه اخلاتون بنفسها‪ ،‬ال أدري مل؟ رمبا‬
‫تظن ابلفعل إنين خشص يليق مبقاهما السايم‪ ،‬ملا أجراه هللا‬
‫بفضهل عىل يدي؟ أو ألنين أخذت ثأر أبهيا كام تقول؟‬
‫لكن ما اكن بيننا أشد من أن أجتاوزه‪ ،‬مشهد الش يخ غالب‬
‫رمحه هللا شهيدا يف سبيل القرية‪ ،‬وحديثه يل عن إننا ننجو بأن‬
‫يعني بعضنا بعضا‪ .‬ذلا قلت‪:‬‬
‫"لو اتبعت الهوى لتبعتك! ولو اتبع الناس الهوى لفسدت‬
‫األرض! يف قرييت يتاىم وأرامل أوىل يب‪ ،‬واملكل خري من يعرف‬
‫أن هناك أمورا أوجب من احلب‪ ،‬عليه أن يفسح لها الطريق‪،‬‬
‫حىت لو رصخ من األمل‪".‬‬
‫حشبت ابتسامة املكل‪ ،‬متذكرا ما اكن من شأن حبه‪ ،‬بيامن‬
‫أمكلت أان‪:‬‬
‫"ذلا‪ ،‬فرغام عام حتبه نفيس وتمتناه‪ ،‬أرجع لبدليت‪ ،‬أتوىل من أمر‬
‫أهلها اي مواليت اخلاتون‪ ،‬فاعذريين‪".‬‬

‫‪689‬‬
‫جتمد وجه اخلاتون‪ ،‬وقالت للمكل‪:‬‬
‫"رمبا اتبعه فامي بعد مطاردة‪ ،‬ورمبا ال أغفر هل ردي عنه! لكن‬
‫اآلن اي موالي ائذن يل ابملغادرة‪".‬‬
‫واحننت‪ ،‬واجتهت مغادرة‪ ،‬فناداها املكل تميور قائال‪:‬‬
‫"أيهتا اخلاتون!"‬
‫التفتت هل ويه تقول‪:‬‬
‫"أمر موالي؟"‬
‫قال‪:‬‬
‫"ال تنحين‪ ،‬وال ينحين أحد يف جمليس أبدا‪ .‬فاإلحنناء ال يكون‬
‫إال هلل‪ .‬خذي اتجك هذا‪ ،‬فأطعمي به الفقراء‪ ،‬أثبت ملل ي‬
‫منه‪".‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫"لعل الغول األمحر يعرف من فقراء ساوة خريا مين‪ ،‬فقد‬
‫اغرتبت عن البدل طويال!"‬
‫وتركتنا مغادرة‪ .‬ونظرت للمكل مودعا‪ ،‬مث تبعهتا خلارج القرص‪،‬‬
‫فقلت لها‪:‬‬
‫"هللا يشهد مك أحرتمك‪ ،‬وأكن كل اي خاتون‪ ،‬ولكن‪"........‬‬
‫قاطعتين بقولها‪:‬‬

‫‪690‬‬
‫"يه أمور أوجب‪ ،‬ال بأس اي غول‪ ،‬ارحل اآلن عين‪ ،‬ال تأمن‬
‫نقميت!"‬
‫يقول عبد الشهيد ابن مسعان‪:‬‬
‫"وهكذا عدت إىل قرييت‪ ،‬أحاول أن أصلح فهيا ما أحرقته‬
‫احلروب‪ ،‬واس تغرقتين فصول الزرع املتتابعة‪ ،‬كام اس تغرقت‬
‫أحوال املكل املتقلبة ملي ي"‪.‬‬

‫‪691‬‬
‫(‪)68‬‬

‫أاهنىى سائقنا األمسر حاكيته اخلرافية الطويةل‪ ،‬عند الفجر تقريبا‪،‬‬


‫واختمتها ألبناء ملياء‪ ،‬اذلين رسحت عقوهلم يف الش ياطني واجلن املنتقم‬
‫قائال‪:‬‬
‫" وهكذا اي أطفايل أحرق عبد الشهيد ابن مسعان‪ ،‬بفضل رمح‬
‫الفويل‪ ،‬درع األسود السحري‪ ،‬فكرس لعنته‪ ،‬وهزم رشه‪ ،‬وحبسه لألبد‬
‫منبوذا همزوما يف هذا الوادي‪ ،‬ودخل مع املكل تميور الشهاع العامصة‪،‬‬
‫حفررها‪ ،‬وحمكها بعدهل زمنا طويال جميدا‪ .‬وظل هو ومكل بين الطارق‬
‫متحالفني‪ ،‬حيارابن الفرجنة واألهبال‪ ،‬حىت أزاحا خطرهام عن البالد‪ .‬أما‬
‫عبد الشهيد فقد أصبح وزيره‪ ،‬وتزوج من احلس ناء اخلاتون املرصفية‪،‬‬
‫وعاشا معا يف قرص كبري يف العامصة‪ ،‬جياورهام الغول األمحر احلقيقي‪ ،‬ابن‬
‫العبديل‪ ،‬وأجنبا بنينا وبنات‪ ،‬وعاشا يف سعادة وهناء‪ ،‬حىت فرق بيهنام‬
‫املوت بعد معر طويل سعيد‪".‬‬

‫‪692‬‬
‫وأخريا ظهرت لنا أضواء بعيدة‪ .‬فزع األطفال يف البداية‪ ،‬يظنواهنا انر‬
‫األسود السحرية‪ ،‬اليت ذكرها يف احلاكية‪ ،‬لكهنا اكنت أضواء العرابت‬
‫املرسعة عىل الطريق الرئييس!‬
‫لقد جنوان أخريا! تبا لهذا ادلليل اذلي أضاعنا! لو كنت أصدق‬
‫األساطري‪ ،‬لظننت أنه ش بح القائد األسود هذا!‬
‫عىل أي حال‪ ،‬جلس نا عىل جانب الطريق‪ ،‬ننتظر العربة الرحمية‬
‫القادمة‪ ،‬لتقلنا إىل وهجتنا‪.‬‬

‫‪693‬‬
‫(‪)69‬‬

‫األساودي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول القائد األسود املغوار بن احلازم‬
‫عظم املطالب يأيت بعظم البذل‪ ،‬أدركت حلول الهزمية‪ ،‬وأن‬
‫األمر لن خيلص يل‪ ،‬لكين عرفت أنه مادام جندي وبين األسود‬
‫حافظني لشوكهتم‪ ،‬فلن خيلص األمر لتميور الساوايت هذا أبدا‪.‬‬
‫فاكن عيل أن أبذل جييش النفيس مثنا لوحدة الوطن!‬

‫!‬

‫‪694‬‬
‫الاكتب‪:‬‬
‫محمد أمحد ادلواخيل‪ ،‬من مواليد ‪ 1981‬خترج من لكية‬
‫الصيدةل جامعة القاهرة عام ‪.2003‬‬
‫عضو يف جامعة التكية األدبية‪ ،‬وحمرر سابق يف جمةل حتت‬
‫الكوبري اإللكرتونية‬
‫فاز جبائزة س ند راشد لعام ‪ 2008‬للمركز األول يف مسابقة‬
‫قصة اخليال العلمي بتحكمي د‪ .‬نبيل فاروق‪.‬‬
‫صدر هل‪:‬‬
‫القصة القصرية‪:‬‬
‫‪ -‬شارك يف مجموعة "اعذريين وخماوف أخرى" عن دار اكتب‪،‬‬
‫مع عدد من كتاب الرعب الش باب‪.‬‬
‫‪ -‬شارك يف عدد من إصدارات التكية امجلاعية (حىت القهوة‬
‫أصاهبا الربود‪ -‬فأر يف املصيدة)‬
‫كوميكس‪" :‬بيت التاهئني" رواية مصورة ابلتعاون مع فريق‬
‫معل اجلنويب للنرش‪.‬‬
‫الرتمجة‪" :‬طةل عىل بالد برة" (خمتارات من األدب العاملي)‪.‬‬

‫‪695‬‬
696

You might also like