You are on page 1of 5

‫حدائق األنوار ومطالع األسرار‬

‫في سيرة النبى المختار‬


‫محمد بن عمر الحضرمى‬

‫‪،‬الله ّم ص ّل على مح ّمد وعلى آله أهل الفضل والكرم‬


‫وأصحابه الموفّين! بالعهود ّ‬
‫والذمم‬

‫أ ّما بعد‪ :‬فحقيق بيوم كان فيه وجود المصطفى صلى هللا عليه وسلم أن‬
‫غرته أن يعقد طالعا سعيدا‪ ،‬فا ّتقوا‬ ‫ي ّتخذ عيدا‪ ،‬وخليق بوقت أسفرت فيه ّ‬
‫وتقربوا إلى هللا تعالى بتعظيم شأن‬ ‫ّ‬ ‫الذنوب‪،‬‬ ‫هللا عباد هللا‪ ،‬واحذروا عواقب ّ‬
‫بي المحبوب‪ ،‬واعرفوا حرمته عند عاّل م الغيوب‪ ،‬ذلِ َك َو َمنْ ُي َع ِّظ ْم‬ ‫هذا ال ّن ّ‬
‫ب _ سورة الحج ‪32 /22‬‬ ‫شعائ َِر هَّللا ِ َفإِ َّنها مِنْ َت ْق َوى ا ْلقُلُو ِ‬
‫_ َ‬
‫!واعلموا أ ّنه ما أكرم أ ّيام مولده ال ّ‬
‫شريفة عند من عرف قدرها‬
‫سرها‬
‫‪ .‬وما أعظم بركتها عند من الحظ ّ‬
‫األول انبثقت عن جوهرة الكون بيضة ال ّ‬
‫شرف‬ ‫ففي شهر ربيع ّ‬
‫الصدف‬
‫الدّرة المصونة‪ K‬من باطن ّ‬
‫وفي يوم االثنين منه ظهرت ّ‬
‫المشرفة‬
‫ّ‬ ‫السعد من كمون العدم‪ ،‬وب (م ّكة)‬ ‫وفي ثاني عشره أبرز سابق ّ‬
‫أنجز صادق الوعد بمضمون الكرم‪ .‬حملت به أ ّمه في شهر رجب األص ّم‪،‬‬
‫‪،‬ومات أبوه وحمله ما استت ّم‪ ،‬ث ّم أدّ ت ما حملته من األمانة آمنة‬
‫‪ .‬وكانت م ّما تشكوه الحوامل آمنة‬
‫شرت طالئعه بطلوع مس الهدى‪،‬‬‫السعادة وبدا‪ ،‬وب ّ‬
‫فحينئذ أسفر صبح ّ‬
‫السعود بقطب دائرة‬
‫وطوق جيد الوجود بعقود اإلفضال‪ ،‬ودارت أفالك ّ‬
‫ّ‬
‫‪،‬الكمال‪ ،‬فوضعته صلى هللا عليه وسلم واضعا يديه على األرض‬
‫الس ّرة‪ ،‬مختونا‬
‫السماء‪ ،‬مقطوع ّ‬
‫‪،‬رافعا رأسه إلى ّ‬
‫منزها عن قذر ال ّنفاس‪ّ ،‬‬
‫مكرما‬ ‫‪ّ .‬‬
‫شام‪ .‬وخمدت نار الفرس ا ّلتي‬
‫فأضاءت له قصور (بصرى) من أرض ال ّ‬
‫ّ‪K‬‬
‫وانشق لهيبته حين ولد إيوان كسرى‪.‬‬ ‫يعبدونها‪ ،‬ولم تخمد منذ ألف عام‪.‬‬
‫الرهبان والك ّهان هواتف البشرى‪ ،‬وأشرقت مطالع األنوار‬ ‫وتواصلت من ّ‬
‫‪،‬بميمون وفادته‪ ،‬وتع ّبقت أرجاء األقطار بطيب والدته‬
‫وخرت األصنام على وجوهها إذعانا لسيادته‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬
‫فأرضعته ثويبة‪ -‬موالة ع ّمه‪ -‬أ ّياما‪ ،‬ث ّم تو ّلته حليمة ّ‬
‫السعد ّية رضاعا‬
‫تتعرف منه الخيرات في‬
‫وفطاما‪ ،‬فشملتها‪ /‬البركات بحضانته‪ ،‬ولم تزل ّ‬
‫فدر ثديها عليه بعد أن كان عاطال‪ ،‬وجادت شارفها «‪ »1‬بال ّلبن بعد‬ ‫مدّ ته‪ّ ،‬‬
‫السير وقد كانت ثاقال‪،‬‬
‫أن كانت ال تروي ناهال ‪ ،‬وأسرعت أتانها في ّ‬
‫‪ .‬وأخصبت بالدها وكانت قبل ذلك ماحال‬
‫يشب شبابا «‪ »4‬ال يش ّبه الغلمان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ث ّم فصلته بعد أن ت ّم له الحوالن‪ ،‬وكان‬
‫نبوته‪ ،‬وأخذه الملكان من بين‬ ‫وظهرت لها في صغره مخائل «‪ّ »5‬‬
‫الصبيان‪ ،‬فش ّقا من تحت صدره إلى ّ‬
‫سرته‪ ،‬فاستخرجا منه علقة سوداء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫‪،‬وقاال‪ :‬هذا ّ‬
‫حظ ال ّ‬
‫شيطان‪ ،‬وغساله بماء الكوثر‬
‫‪ .‬ث ّم ختماه بالحكمة واإليمان‬
‫الصحيحة أ ّنهما ّ‬
‫غساله بماء زمزم‪ .‬فلذلك جزم‬ ‫لت‪ :‬المشهور في األحاديث ّ‬
‫ّ‬
‫المتأخرين أنّ ماء زمزم أفضل من الكوثر‬ ‫البلقيني وغيره من‬
‫ّ‪K‬‬ ‫‪.‬‬
‫ث ّم ماتت لسنّ تمييزه أ ّمه‪ ،‬وكفله جدّ ه‪ ،‬ث ّم ع ّمه‪ ،‬ولم يزل صلى هللا عليه‬
‫وسلم ينشأ وعين العناية ترعاه وتحفظه م ّما يحذره ويخشاه‪ ،‬ومنحه هللا‬
‫‪،‬تعالى منذ نشأ كل ّ خلق جميل‪ ،‬وأح ّله من القلوب بالمحل ّ الجليل‬
‫والصيانة‬
‫ّ‬ ‫‪،‬وعرف من بين أقرانه بالع ّفة‬
‫بالصدق واألمانة‬
‫ّ‬ ‫‪ .‬وتم ّيز عند أهل زمانه‬
‫نبوته أن تطلع من‬
‫سموها‪ ،‬وآن لشمس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ول ّما أخذت مطالع بعثته في أفق‬
‫ويتنعم‪K‬‬
‫ّ‬ ‫علوها؛ ح ّببت إليه الخلوة لألنس بر ّبه‪ .‬فكان يخلو في (حراء)‬
‫ّ‬
‫‪،‬بقربه‪ ،‬وكانت تظهر له األضواء واألنوار‬
‫‪ .‬وتس ّلم عليه ّ‬
‫بالرسالة األحجار واألشجار‬
‫ث ّم كان وحيه مناما‪ ،‬وتعليمه إلهاما‪ ،‬فكان ال يرى رؤيا إاّل جاءت مثل فلق‬
‫الصبح‪ ،‬وال ينوي أمرا إاّل ظفر بالفوز وال ّنجح‬
‫‪ّ .‬‬
‫فل ّما بلغ األربعين؛ جاءه جبريل األمين من ر ّبه ذي الجاللة‪ ،‬بمنشور‬
‫اس ِم َر ِّب َك ا َّلذِي َخ َل َق‪َ .‬خ َل َق اإْل ِ ْنسانَ مِنْ‬ ‫والرسالة‪ ،‬فأقرأه‪ :‬ا ْق َر ْأ ِب ْ‬ ‫بوة ّ‬ ‫ال ّن ّ‬
‫َع َل ٍق‪ .‬ا ْق َر ْأ َو َر ُّب َك اأْل َ ْك َر ُم‪ .‬ا َّلذِي َع َّل َم ِبا ْل َق َل ِم‪َ .‬ع َّل َم اإْل ِ ْنسانَ ما َل ْم َي ْع َل ْم‬
‫_سورة العلق ‪_5 -1 /96‬‬
‫فمكث صلى هللا عليه وسلم ب (م ّكة) ثالث عشرة سنة‪ ،‬يدعوهم إلى سبيل‬
‫السعادة في دار‬
‫ر ّبه بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬فامن به من سبقت له ّ‬
‫‪ .‬البقاء‪ّ ،‬‬
‫وكذب به من كتب عليه في األزل ال ّ‬
‫شقاء‬
‫خصه هللا باإلسراء العظيم‪ ،‬فسار وجبريل‬
‫ولعشر سنين من مبعثه الكريم؛ ّ‬
‫السماوات العلى‪ ،‬وجاوز سدرة المنتهى‬
‫‪،‬مصاحب له إلى أعلى ّ‬
‫‪:‬وشرف بالمناجاة في المقام‪ /‬األسنى‪ ،‬ونال من القرب ما ترجم عنه‬
‫س ْي ِن أَ ْو أَدْ نى_سورة ال ّنجم ‪9 /53‬‬
‫قاب َق ْو َ‬
‫‪َ _ .‬فكانَ َ‬
‫ّ‬
‫الحق من‬ ‫ث ّم هاجر إلى دار هجرته‪ ،‬ومأوى أنصاره وأسرته‪ ،‬فسل ّ سيف‬
‫غمده‪ ،‬وجاهد في سبيل هللا غاية جهده‪ ،‬ح ّتى فتح هللا له أقفال البالد‪،‬‬
‫‪ .‬وم ّكنه من نواصي العباد ‪ ،‬وأظهر دينه على الدّ ين ك ّله‬
‫‪،‬ث ّم تو ّفاه عند حضور أجله‪ ،‬إلى ما أع ّد هللا له في ج ّنات ال ّنعيم‬
‫من الكرامة والفوز العظيم‬
‫‪،‬فسبحان من حباه بأنواع‪ K‬اإلكرام‪ ،‬وأرسله رحمة لجميع األنام‬
‫وأولهم‪ ،‬ونسخ بشرعه‬ ‫ومعولهم‪ ،‬وخاتم ال ّنب ّيين ّ‬
‫ّ‬ ‫وجعله س ّيد ولد آدم‬
‫وشرف برسالته المنائر «‪ »2‬والمنابر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫شرائع‪ ،‬ومأل بذكره المسامع‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫‪،‬وقرن ذكره بذكره في لسان كل ّ ذاكر‪ ،‬وذ ّلل كل ّ صعب لطاّل به‬
‫‪ .‬وأمدّ ه بمالئكته الكرام تجاهد في ركابه‬
‫‪:‬نسأل هللا تعالى ا ّلذي أكرمنا بظهوره‪ ،‬وأخرجنا من ظلمات الكفر بنوره‬
‫أن يجعلنا وإ ّياكم م ّمن شملته برحمته العناية‪ ،‬وال حظته في جميع أحواله‬
‫يشرفنا في هذه الدّ نيا بطاعته‪ ،‬وا ّتباع س ّنته‬
‫الرعاية‪ .‬وأن ّ‬
‫‪،‬عين ّ‬
‫‪ .‬واغتنام‪ K‬زيارته‪ ،‬ويحشرنا يوم القيامة في شفاعته وزمرته‬
‫نتوجه إليك‪ ،‬ونتش ّفع إليك بح ّقه عليك‬
‫ّ‬ ‫‪،‬الله ّم إ ّنا‬
‫‪:‬فهو أوجه ال ّ‬
‫شفعاء لديك‪ ،‬وأكرم الخلق عليك‬
‫‪،‬أن ال تدع لنا ذنبا إاّل غفرته‪ ،‬وال ه ّما إاّل ّ‬
‫فرجته‬
‫شرا إاّل صرفته‪ ،‬وال خيرا إاّل‬
‫عدوا إاّل كفيته‪ ،‬وال ّ‬
‫ضرا إاّل كشفته‪ ،‬وال ّ‬
‫وال ّ‬
‫‪،‬يسرته‪ ،‬وال واليا إاّل أصلحته‪ ،‬وال مجاهدا في سبيلك إاّل نصرته‬
‫ّ‬
‫‪.‬وال طالبا للخير إاّل أعنته‪ ،‬وال حاجة هي لك رضى إاّل قضيتها‬
‫الراحمين‬
‫‪ .‬يا أرحم ّ‬

‫تحقيق‬
‫عبد هللا بن محمّد الحبشى‬
‫أبو ظبي‬
‫في ‪ 1418 /7 /25‬هـ ‪ 1997 /11 /25‬م‬

‫إعداد‪ :‬قدرى جاد‬


‫الهرم‪2020‬‬

You might also like