You are on page 1of 21

‫محـــاور الورقة‪:‬‬

‫‪2‬‬ ‫أ‪ .‬مقدمة‪ :‬هدف الدراسة وحججها الرئيسية‬


‫ب‪ .‬بصيــرة املجاهــد املجتهــد‪ :‬اإلفــات مــن هيمنــة النمــاذج الغربيــة عبــرتقديــم‬
‫‪4‬‬ ‫مقاربة أنثروبولوجي ـ ـ ـ ــة لإلســام‬
‫‪7‬‬ ‫ج‪ .‬أبرز صفات منهجية بيجوفيتش في االستدالل والحجاج‪.‬‬
‫د‪ .‬مميــزات االســتجابة التــي قدمهــا بيجوفيتــش للمناهــج والجــدل املهيمــن‬
‫‪9‬‬ ‫علــى العالــم وقتهــا (القســم األول مــن كتــاب اإلســام بيــن الشــرق والغــرب)‬
‫ه‪ -‬أبــرز صفــات منهجيــة بيجوفيتــش فــي عرضــه وتقديمــه لإلســام (القســم‬
‫‪15‬‬ ‫الثانــي مــن كتــاب اإلســام بيــن الشــرق والغــرب)‬
‫و‪ -‬مناقشــة االنتقــادات الشــائعة ملنهجيــة بيجوفيتــش والــدرس املســتفاد مــن‬
‫‪18‬‬ ‫الخطــأ املنهجــي الــذي وقــع فيــه‬
‫ز‪ -‬من منهج ينطلق من «أصل اإلنسان» إلى خطاب فلسفي يحرك عواطف‬
‫‪21‬‬ ‫اإلنسان‪ :‬الحس األدبي الرفيع لعلي عزت‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫نظرة لإلسالم من الخارج‬


‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫تاريخ النشر‪2020 / 10 / 19 :‬م‬ ‫المؤلف‪ :‬خالد عثمان الفيل‬

‫والفكــري‪ ،‬وركــز البعــض علــى ابداعــه وتجديــده فــي الفكــر‬ ‫أ‪ .‬مقدمة‪ :‬هدف الدراسة وحججها الرئيسية‬
‫ً‬
‫اإلســامي عمومــا وفــي قضايــا الفــن والثقافــة والحضــارة‬
‫ً‬
‫خصوصــا حيــث قــدم فيهــا علــي عــزت رؤيــة مختلفــة عــن‬
‫الســائد فــي كتابــات ذلــك الجيــل مــن املهتميــن بالعمــل‬ ‫فــي تقديمــه للطبعــة السادســة مــن كتــاب «اإلســام بيــن‬
‫والفكــر اإلســامي‪.‬‬ ‫الشــرق والغــرب» والتــي صــدرت عــن دار الشــروق‪ ،‬أطلــق‬
‫الدكتــور الراحــل عبــد الوهــاب املســيري لقــب «املجاهــد‬
‫املجتهــد» علــي بيجوفيتــش بســبب األدوار السياســية‬
‫فــي هــذه الورقــة القصيــرة ســنركز تحليلنــا علــى «املنهجيــة‬ ‫والنضاليــة التــي لعبهــا فــي الحقــل السيا�ســي‪ ،‬مــع املحافظــة‬
‫واألســس» التــي اتبعهــا علــي عــزت بيجوفيتــش فــي تقديمــه‬ ‫علــى املســاهمة الفكريــة الرفيعــة فــي الحقــل املعرفــي‪.‬‬
‫لإلســام وللفكــر اإلســامي للعالــم اإلســامي وغيــر‬ ‫ً‬
‫حيــث لــم يكــن بيجوفيتــش «مجتهــدا» وحســب‪ ،‬وإنمــا‬
‫اإلســامي عبــر التركيــز علــى كتــاب « اإلســام بيــن الشــرق‬ ‫ً‬
‫هــو «مجاهــد» أيضــا‪ ،‬فهــو «مفكــر ورئيــس دولــة‪ ،‬يحلــل‬
‫ً‬ ‫الحضــارة الغربيــة ّ‬
‫والغــرب»‪ .‬ووقــع االختيــار علــى هــذا الكتــاب تحديــدا مــن‬ ‫ويبيــن النمــوذج املعرفــي املــادي العدمــي‬
‫بيــن باقــي كتــب املفكــر علــي عــزت ألنــه الكتــاب الرئي�ســي‬ ‫الكامــن فــي علومهــا وفــي نموذجهــا املهيمــن‪ ،‬ثــم يتصــدى‬
‫الــذي بــث فيــه فكــره وفلســفته بصــورة موســعه وبقالــب‬ ‫لهــا ويقــاوم محاولتهــا إبــادة شــعبه‪ .‬ولكنــه فــي ذات الوقــت‬
‫فكــري فــي األســاس لكنــه توســل فــي توضيــح أفــكاره بتعابيــر‬ ‫يســتفيد مــن اجتهــادات املفكريــن الغربييــن املدافعيــن‬
‫أدبيــه بليغــة ولــم يلتــزم بالصرامــة األكاديميــة والنهــج‬ ‫عــن اإلنســان»‪ .1‬بســبب هــذه األدوار السياســية والفكــرة‬
‫الحجاجــي فــي نفــس الوقــت‪ ،‬وهــو مــا جعــل الكتــاب‬ ‫الرائــدة‪ ،‬تنــاول الكثيــرون ســيرة العالــم واملجاهــد علــي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يســتحق فعــا وصــف «الســهل املمتنــع» وجعلــه أيضــا مــن‬ ‫عــزت بيجوفيتــش مــن عــدة نواحــي وزوايــا مهمــة‪ ،‬مثــل‬
‫أمهــات كتــب الفكــر اإلســامي فــي أواخــر القــرن العشــرين‬ ‫كيفيــة جمعــه بيــن الدعــوة والنشــاط السيا�ســي ابتـ ً‬
‫ـداء‬
‫وحتــى اليــوم‪ .‬ولــو نظرنــا فــي باقــي كتــب املفكــر علــي عــزت‬ ‫مــن مقاومتــه للواقــع السيا�ســي واعتقالــه حتــى بلــغ فيــه‬
‫لوجدناهــا فــي الغالــب ذات طابــع سيا�ســي مــع تأســيس‬ ‫أعلــى مرتبــة يمكــن أن ينالهــا مشــتغل بالسياســة حيــث‬
‫فكــري مقتضــب مثــل كتــاب « اإلعــان اإلســامي» الــذي‬ ‫ً‬
‫أصبــح رئيســا لجمهوريــة البوســنة والهرســك‪ .‬وتنــاول‬
‫هــو موجــه فــي األســاس ألبنــاء دينــه مــن املســلمين‪ ،‬أمــا باقــي‬ ‫البعــض نبوغــه فــي الفكــر والفلســفة مــع نشــاطه الدعــوي‬
‫الكتــب املترجمــة للمفكــر علــي عــزت فيغلــب عليهــا طابــع‬
‫الخواطــر الفكريــة مثــل كتــاب «هروبــي إلــى الحريــة» أو‬ ‫ب� ش‬
‫ال�ق‬ ‫المس�ي‪ ،‬مقدمة كتاب «اإلسالم ي ن‬
‫ي‬ ‫عبد الوهاب‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫ال�وق‪ ،2015 ،‬ص ‪.9‬‬ ‫والغرب»‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،‬دار ش‬
‫الســيرة الذاتيــة مثــل كتــاب « ســيرة ذاتيــة وأســئلة ال مفــر‬

‫‪2‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫يعيشــها قومــه فــي ذلــك الوقــت مــن تجريــف وتجهيــل ثقافــي‬ ‫منهــا» وكتــاب « مذك ـرات علــي عــزت بيجوفيتــش»‪.‬‬
‫ألبنــاء املســلمين فــي قومــه وغربــة تعاليــم اإلســام مــع وجــود‬
‫اســتبداد سيا�ســي وبطــش مــن مؤسســات الدولــة‪ ،‬أصبــح‬
‫كثيــر مــن املســلمين يعيشــون نفــس هــذه الظــروف فــي هــذا‬ ‫أما سبب تركيزنا على دراسة وتحليل «املنهجية واألسس»‬
‫القــرن الواحــد عشــرين عبــر التجريــف اإلعالمــي للمنصــات‬ ‫التــي اتبعهــا علــي عــزت فــي تقديــم اإلســام وعرضــه للعالــم‬
‫الحديثــة (مثــل نتفليكــس) مــع وجــود منصــات التواصــل‬ ‫فإنمــا هــو لســببين‪ .‬أولهمــا‪ ،‬أن الهــدف الــذي أراد املفكــر‬
‫االجتماعــي التــي فتــح كل أبــواب األســئلة والتســاؤالت‬ ‫علــي عــزت بيجوفيتــش تحقيقــه مــن كتــاب «اإلســام بيــن‬
‫بصــورة تســاعد علــى التشــكيك واالرتيــاب أكثــر مــن الحــوار‬ ‫الشــرق والغــرب» هــو محاولــة لتقديــم لإلســام بلغــة‬
‫ً‬ ‫الجيــل الجديــد‪ .‬يقــول علــى عــزت بيجوفيتــش فــي نهايــة‬
‫وتبــادل األفــكار‪ ،‬وأخي ـرا‪ ،‬ضعــف مؤسســات التعليــم‬
‫الرســمية أو اســتعملها مــن قبــل مؤسســات الدولــة لتبريــر‬ ‫التقديــم لكتابــه‪« :‬و أكــرر‪ ،‬مــرة أخــرى‪ ،‬أن هــذا الكتــاب‬
‫البطــش واالســتبداد‪ .‬هــذا التشــابه الكبيــر فــي الظــروف‬ ‫ليــس فــي الالهــوت وال مؤلفــه مــن رجــال الالهــوت‪ ،‬إنــه‬
‫يدفعنــا للتعلــم مــن تجربــة الرجــل ومنتوجــه الفكــري‪.‬‬ ‫علــى األرجــح محاولــة ترجمــة اإلســام إلــى اللغــة التــي‬
‫يتحــدث بهــا الجيــل الجديــد ويفهمهــا‪ .‬مــن هــذا املنطلــق‬
‫قــد يتطــرق القصــور أو الخلــل‪ ،‬فــا ترجمــة كاملــة مبــرأة‬
‫وفــي محاولــة اإلجابــة علــى الســؤال الكبيــر املتعلــق ب‬ ‫مــن العيــوب»‪ .1‬وعــاد املؤلــف مــرة أخــرى ليؤكــد هــذه‬
‫«أســس ومنهجيــة علــي عــزت»‪ ،‬تنحــو الورقــة منحــى‬ ‫الفكــرة املركزيــة مــن كتابتــه لهــذا الكتــاب فــي مالحظاتــه‬
‫تحليلــي لألفــكار واألســلوب واملنهجيــة العامــة التــي اتبعهــا‬ ‫حيــث قــال‪« :‬كتــاب اإلســام بيــن الشــرق والغــرب ليــس‬
‫علــي عــزت فــي كتابــه‪ ،‬وتحــاول رصــد وتتبــع أبــرز الصفــات‬ ‫كتــاب الهــوت‪ ،‬و إنمــا هــو كتــاب يتنــاول عقائــد اإلســام‬
‫املنهجيــة بصــورة أساســية‪ .‬قــد تتطــرق الورقــة ملناقشــة‬ ‫ومؤسســاته وتعاليمــه‪ ،‬بقصــد اكتشــاف موقــع اإلســام‬
‫نقديــة لهــذه الصفــات فــي بعــض األحيــان‪ ،‬لكــن التركيــز‬ ‫فــي إطــار الفكــر العالمــي‪ .‬إنــه ليــس نظــرة لإلســام مــن‬
‫األسا�ســي لهــذه الدراســة هــو رصــد املنهجيــة وأبــرز صفاتهــا‬ ‫الداخــل‪ ،‬و إنمــا علــى األرجــح نظــرة مــن الخــارج‪ .‬بهــذا‬
‫وهــو مــا أتمنــى أن يفتــح البــاب ملزيــد مــن النقاشــات حــول‬ ‫املعنــى‪ ،‬فــإن موضــوع الكتــاب ليــس فــي أساســه عــن‬
‫ّ‬
‫جــدوى اتبــاع نفــس هــذه املنهجيــة فــي ســياقاتنا املعاصــرة‪.‬‬ ‫اإلســام كمعلــم‪ ،‬بــل عــن اإلســام كنظــرة علــى العالم»‪.2‬‬
‫لذلــك ســتركز هــذه الورقــة علــى اإلجابــة علــى ســؤال إلــى‬
‫أي مــدي نجــح علــي عــزت بيجوفيتــش فــي تقديــم نظــرة‬
‫يرصــد الفصــل الثانــي مــن هــذه الدراســة أهــم املمي ـزات‬ ‫خارجيــة لإلســام تعرضــه كفكــر عالمــي للجيــل الجديــد؟‬
‫املنهجيــة التــي جعلــت كتــاب «اإلســام بيــن الشــرق‬ ‫الســبب الثانــي لهــذه املقاربــة هــو اعتقــادي بــأن الظــروف‬
‫والغــرب» إضافــة للفكــر اإلســامي فــي القــرن العشــرين ومــا‬ ‫التــي كتــب فيهــا علــى عــزت بيجوفيتــش كتابــه والتــي كان‬
‫بعــده‪ .‬فــي الفصــل الثالــث ترصــد الدراســة أربــع صفــات فــي‬
‫طريــق االســتدالل والحجــاج عنــد علــي عــزت بيجوفيتــش‪.‬‬ ‫ب� ش‬
‫ال�ق والغرب‪ ،‬ترجمة‬ ‫عل عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم ي ن‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫محمد يوسف يعدس‪ ،‬مؤسسة بافاريا ش‬
‫للن� واإلعالم والخدمات‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫فــي الفصــل الرابــع ترصــد الدراســة أبــرز الصفــات املنهجيــة‬
‫فــي مناقشــة بيجوفيتــش للجــدل العالمــي ونقــده للمناهــج‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫وبيــن املصالــح واالحتياجــات املاديــة فــي تفســير الســلوك‬ ‫واأليدولوجيــات املهيمنــة علــى العالــم‪ ،‬أمــا الفصــل‬
‫البشــري‪ .‬هــذا التجــاوز املبكــر مــن بيجوفيتــش للمناهــج‬ ‫الخامــس فيقــوم بنفــس الرصــد ولكــن لطريــق عــرض‬
‫التــي كانــت مهيمنــة علــى العلــوم االجتماعيــة هــو إشــارة‬ ‫بيجوفيتــش لإلســام كمنهــج بديــل وطريــق ثالــث لهــذه‬
‫ً‬
‫واضحــة علــى عبقريــة وبصيــرة هــذا الرجــل‪ ،‬خصوصــا أن‬ ‫األيدولوجيــات واملناهــج املهيمنــة‪ .‬الفصــل الســادس‬
‫املــدارس الفكريــة التــي تحتفــى بهــذا الطريــق الثالــث مثــل‬ ‫مــن الدراســة يناقــش بعــض االعتراضــات الشــائعة علــى‬
‫املدرســة الســلوكية أو املدرســة املؤسســية فــي الدراســات‬ ‫منهجيــة علــي عــزت‪ ،‬وبعــد معالجتهــا يذكــر هــذا الفصــل‬
‫السياســية‪/‬االجتماعية املقارنة بدأت بدايتها في ثمانينات‬ ‫بعــض االنتقــادات املنهجيــة التــي رصدتهــا الدراســة فــي‬
‫ً‬
‫القــرن املا�ضــي‪ ،‬وبعضهــا لــم يشــتهر ويحتــل حيــز رئي�ســي فــي‬ ‫مقاربــة بيجوفيتــش‪ .‬أخي ـرا‪ ،‬تختــم الدراســة بحديــث عــن‬
‫الجــدل العلمــي (مثــل املدرســة الســلوكية) إال فــي الســنوات‬ ‫طريقــة «الخطــاب» والتفاعــل مــع القــارئ فــي كتاب اإلســام‬
‫األخيــرة‪.‬‬ ‫بيــن الشــرق والغــرب ويربطــه بالفصــل الثانــي مــن الدراســة‪.‬‬

‫واألمــر املهــم هنــا‪ ،‬أن إضافــة علــي عــزت ال تكمــن فقــط‬ ‫ب‪ .‬بصيــرة املجاهــد املجتهــد‪ :‬اإلفــات مــن هيمنــة‬
‫فــي تجــاوز هيمنــة هــذه النمــاذج مــع ذلــك يعكــس مخيلــة‬ ‫النماذج الغربية عبرتقديم مقاربة أنثروبولوجية‬
‫متحــررة عنــد بيجوفيتــش‪ ،‬ولكــن اإلضافــة الحقيقيــة هنــا‬ ‫لإلسالم‬
‫هــي فــي «جــودة ورصانــة» هــذا التجــاوز عبــر منهــج يســتوعب‬
‫بصــورة دقيقــة مــا تحتويــه هــذه النمــوذج ثــم يحللــه‬
‫ليحــدد مكامــن الخلــل ثــم يعمــد إلــى تركيــب منهــج بديــل‬ ‫مــع أن الطبعــة العربيــة مــن كتــاب اإلســام بيــن الشــرق‬
‫لهــذه املناهــج ال يخاصمهــا بصــورة كاملــة ولكنــه يســتفيد‬ ‫والغــرب صــدرت فــي العــام ‪ ،1994‬إال أنهــا الطبعــة الثالثــة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ممــا فيهــا مــن الخيــر ويكملــه ليعالــج الخلــل‪ .‬باختصــار‪ ،‬قــد‬ ‫فــي الكتــاب‪ .‬فقــد نشــر الكتــاب أوال باللغــة البوســنية فــي‬
‫ً‬
‫نجــد بعــض املفكريــن الــذي تنبهــوا بصــورة مبكــرة لهــذا‬ ‫العــام ‪ ،1980‬ثــم ترجــم الحقــا لإلنجليزيــة فــي العــام ‪،1984‬‬
‫ً‬
‫الخــال فــي النمــاذج الغربيــة املهيمنــة‪ ،‬لكــن ميــزة علــي عــزت‬ ‫وأخي ـرا إلــى العربيــة بعــد عشــر ســنوات مــن هــذا التاريــخ‬
‫ً‬ ‫األخيــر‪ .‬وإذا أضفنــا إلــى الحقيقــة الســابقة أن كتابــة‬
‫ال تكمــن فقــط فــي قدرتــه علــى االنتبــاه فقــط وإنمــا فــي أيضــا‬
‫فــي دقــة ورصانــة النقــد الــذي قدمــه لهــذه النمــاذج وفــي‬ ‫مســودة الكتــاب الرئيســية نفســها قــد اســتغرقت مــن‬
‫ً‬
‫مقدرتــه علــى محاولــة تركيــب نمــوذج بديــل‪.‬‬ ‫علــي عــزت قرابــة ال ‪ 20‬عامــا (أي فــي الفتــرة مــن ‪-1960‬‬
‫‪ ،)1980‬فــإن أحــد أبــرز مالمــح عبقريــة بيجوفيتــش فــي‬
‫ذلــك الوقــت هــو قدرتــه علــى تجــاوز الجــدل بيــن املناهــج‬
‫كمــا ذكرنــا قبــل قليــل‪ ،‬فــإن عبقريــة علــى عــزت ال تكمــن‬ ‫االجتماعيــة التــي كانــت منقســمة بصــورة رئيســية للمناهــج‬
‫فقــط فــي تجــاوز املنهــاج الغربيــة الفلســفية وإنمــا فــي‬ ‫تعتمــد علــى الثقافــة والعقــل فــي قدرتهــا التفســيرية‬
‫منهجيــة هــذا التجــاوز حيــث كانــت حجتــه الرئيسـ ّـية‬ ‫ومناهــج أخــرى تركــز علــى املــادة واملصالــح املاديــة كأدوات‬
‫تقــوم علــى فكــرة «تعقيــد الحيــاة» ‪ Complexity‬وعجــز‬ ‫لتفســير الظاهــرة االجتماعيــة‪ ،‬ومحاولتــه لرســم معالــم‬
‫هــذه املناهــج األحاديــة عــن اســتيعاب هــذا التعقيــد علــى‬ ‫طريــق ثالــث بيــن هــذه املناهــج يجمــع بيــن الثقافة‪/‬العقــل‬

‫‪4‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلســام تســمية ملنهــج أكثــرمــن كونــه حــا جاهــزا‪ ،‬ويعنــي‪:‬‬ ‫املســتوي النظــري (وهــي فكــرة ومنهجيــة لــم تشــغل حيــز فــي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املركــب الــذي يؤلــف بيــن املبــادئ املتعارضــة»‪ ،‬ثــم يكمــل‬ ‫العلــوم االجتماعيــة الغربيــة إال مؤخ ـرا‪ ،‬ممــا يــدل أيضــا‬
‫فــي مــكان آخــر‪« :‬يشــيع بيــن بعــض النــاس الذيــن يق ـرأون‬ ‫علــى عبقريــة الرجــل ونفــاذ بصيرتــه التحليليــة)‪ ،‬ثــم اذعانها‬
‫الق ـرآن بعقليــة نقديــة تحليليــة انطبــاع‪ ،‬بــأن الق ـرآن‬ ‫لهــذا التعقيــد علــى مســتوي الحيــاة الواقعيــة‪ ،‬وهــو املنهــج‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الــذي ّ‬
‫مــن الناحيــة املوضوعيــة ال يتبــع نظامــا محــددا‪ ،‬ويبــدو‬ ‫عبــر عنــه واختصــره فــي مقولتــه املشــهورة «الحيــاة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وكأنــه مركــب مــن عناصــر متناثــرة‪ .‬ولكــن‪ ،‬البــد أن يكــون‬ ‫أســمى مــن الفكــر»‪ .‬يقــول علــي عــزت شــارحا هــذه املنهجية‪:‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫مفهومــا بــادئ ذي بــدء‪ ،‬أن القـرآن ليــس كتابــا أدبيــا وإنمــا‬ ‫« لقد رفضت املاركســية األســرة والدولة‪ ،‬أما من الناحية‬
‫هــو حيــاة‪ .‬واإلســام نفســه طريقــة حيــاة أكثــر مــن كونــه‬ ‫العمليــة‪ ،‬فقــد احتفظــت بهاتيــن املؤسســتين‪ .‬وكل ديــن‬
‫طريقــة تفكيــر‪ .‬إن التعليــق الوحيــد األصيــل علــى القــرآن‬ ‫مجــرد ينبــذ اشــتغال اإلنســان بدنيــاه‪ ،‬ولكــن ألن الديــن‬
‫هــو القــول بأنــه «حيــاة»‪ ،‬وكمــا نعلــم كانــت هــذه الحيــاة‬ ‫عقيــدة أنــاس أحيــاء فقــد قبــل النضــال مــن أجــل العدالــة‬
‫ّ‬
‫املجســد هــي حيــاة النبــي محمــد صلــي هللا‬ ‫فــي نموذجهــا‬ ‫والكفــاح فــي ســبيل عالــم أفضــل‪ .‬كان علــى املاركســية‬
‫عليــه وســلم»‪.2‬‬ ‫أن تقبــل درجــة مــن الحريــة الفرديــة وأن يتقبــل الديــن‬
‫ً‬
‫اســتعمال �شــيء مــن القــوة‪ .‬إذ يبــدو واضحــا أن اإلنســان‬
‫ً‬
‫وهــو يمــارس حياتــه الواقعيــة ال يمكــن أن يعيــش وفقــا‬
‫هذا التعريف لإلســام ك «طريقة حياة» أكثرمن كونه‬ ‫لفلســفة ثابتــة‪ .....‬وفــي كال الحالتيــن كانــت املشــكلة واحــدة‪:‬‬
‫منهــج تفكيــر‪ ،‬جعــل علــي عــزت علــى طــول الكتــاب يقــدم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫كيــف يمكــن ل�شــيء يمثــل جانبــا واحــدا مــن جوانــب الحيــاة‬
‫تحليــا ألفــكار اإلســام وشــعائره فلســفاته ليــس فقــط‬ ‫أن ُيطبــق علــى الحيــاة الواقعيــة بأســرها وهــي أكثــر منــه‬
‫مــن ناحيــة فلســفتها وجوهرهــا األخالقــي‪ ،‬بــل مــن ناحيــة‬ ‫ً‬
‫تعقيــدا؟»‪.1‬‬
‫ومالءمتهــا و أفضليتهــا علــى باقــي «الطــرق واملناهــج»‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لحيــاة اإلنســان بوصفــه كائنــا معقــدا‪ .‬لذلــك يعتبــركتاب‬
‫علــي عــزت بيجوفيتــش مــن الكتــب الرائــدة التــي قدمــت‬ ‫هــذه الفكــرة‪ ،‬فكــرة أن تعقيــد الحيــاة أصعــب مــن أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحليــا أنثرولوجيــا لإلســام ولشــعائره ومــدي مناســبتها‬ ‫تحوطــه منهجيــة فكريــة محــددة ظهــرت أيضــا فــي تعريــف‬
‫لإلنســان (أي كان ديانتــه وفكــره)‪ .‬وهــذه الفكــرة شــرحها‬ ‫علــي عــزت ملــا يقصــده باإلســام كطريقــة حيــاة أكثــر مــن‬
‫علــي عــزت ب�شــيء مــن االســتفاضة فــي القســم الثانــي مــن‬ ‫كونــه منهــج فكــري حيــث يقــول‪« :‬يمكننــا أن نقــول إن‬
‫الكتــاب والــذي يتحــدث فيــه عــن «اإلســام كوحــدة‬ ‫اإلســام يعنــى أن نفهــم وأن نعتــرف بهــذه االزدواجيــة‬
‫ثنائيــة القطــب»‪ .‬علــى ســبيل املثــال ففــي مناقشــته ألصــل‬ ‫املبدئيــة للعالــم‪ ،‬ثــم نتغلــب علــى هــذه االزدواجيــة‪.‬‬
‫التصــور املــادي والداروينــي للحيــاة يقــول علــي عــزت‪« :‬‬ ‫إن صيغــة الوصــف املتمثلــة فــي كلمــة «إســامي» كمــا‬
‫قضيــة أصــل اإلنســان هــي حجــر الزاويــة لــكل أفــكار‬ ‫نســتخدمها فــي هــذا الكتــاب‪ ،‬ليــس فقــط لكــي نصــف‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫العالــم‪ .‬فــأي مناقشــة تــدور حــول كيــف ينبغــي أن يحيــا‬ ‫القواعــد التــي تعــرف عــادة بأنهــا هــي اإلســام‪ ،‬ولكــن أيضــا‬
‫اإلنســان‪ ،‬تأخذنــا إلــى الــوراء إلــى حيــث مســألة «أصــل‬ ‫لتحديــد املبــادئ األساســية التــي تنطــوي عليهــا‪ .‬بهــذا يكــون‬

‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪34 -33‬‬ ‫ ‬


‫‪2‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.32 -31‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬

‫‪5‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫عجــز النمــوذج الداروينيــة فــي التطــور عــن تفســير ظاهــرة‬ ‫اإلنســان»‪ .‬وفــي ذلــك تتناقــض اإلجابــات التــي يقدمهــا كل‬
‫اإلنســان فــي ســياق الثنائيــة الجوهريــة (ثنائيــة اإلنســاني ‪/‬‬ ‫مــن الديــن والعلــم‪ ،‬كمــا هــو الشــأن فــي كثيــر مــن القضايــا‪.‬‬
‫الطبيعــي أو املادي‪/‬الروحــي) التــي الزمــت الوجــود اإلنســاني‬ ‫ينظــر العلــم إلــى أصــل اإلنســان كنتيجــة لعمليــة طويلــة‬
‫مــن أولــى لحظاتــه‪ .‬وفــي ســياق تدليلــه لهــذا العجــز يأخــذ‬ ‫ـداء مــن أدنــى أشــكال الحيــاة حيــث ال‬ ‫مــن التطــور ابتـ ً‬
‫علــي عــزت عــدة قضايــا لتدعيــم موقفــه مثــل مناقشــته‬ ‫تميــز واضــح بيــن اإلنســان والحيــوان‪ .‬علــى الجانــب‬ ‫يوجــد ّ‬
‫املســتفيضة ألصــل األخــاق‪ ،‬ومنبــع الحريــة واالختيــار عنــد‬ ‫اآلخــر‪ ،‬يتحــدث الديــن والفــن عــن خلــق اإلنســان‪ ،‬والخلــق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلنســان‪ ،‬وفكــرة الصدفــة‪ ،‬وســلوك اإلنســان البدائــي‪.2‬‬ ‫ليــس عمليــة وإنمــا فعــل إلهــي‪ ...‬ليــس شــيئا مســتمرا وإنمــا‬
‫فعــل مفاجــئ‪ ،‬فعــل أليــم مفجــع» إلــى أن يقــول «وهكــذا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فإنــه فيمــا يتعلــق بالســؤال عــن أصــل اإلنســان‪ ،‬يقــف‬
‫يقــول املســيري فــي إحــدى محاضراتــه واصفــا األثــر القــوي‬ ‫العلــم والفــن علــى طريــق تصــادم قطعــي‪ .‬فالعلــم ُيح�صــي‬
‫لهــذه املنهجيــة األنثروبولوجيــة املنطلقــة مــن اإلنســان‬ ‫الحقائــق التــي تــؤدي بطريقــة عنيــدة إلــى االســتنتاج بــأن‬
‫فــي الجــدل مــع املخالــف‪ « :‬إن قلــت فــي نقاشــك للغربــي‬ ‫ً‬
‫اإلنســان قــد تطــور تدريجيــا مــن الحيــوان‪ .‬أمــا الفــن‪ ،‬فإنــه‬
‫الــذي يؤمــن بالنســبية أن موقفــك وأدلتــك تصــدر عــن‬ ‫ً‬
‫يرينــا اإلنســان فــي صــورة مثيــرة قادمــا مــن عالــم مجهــول‪.‬‬
‫القـرآن والســنة ضحــك‪ ،‬وإن قلــت لــه فــي اإلنجيــل ضحــك‪،‬‬ ‫العلــم يشــير إلــى «دارويــن» وتركيبتــه الجهنميــة‪ ،‬أمــا الفــن‬
‫وإن قلــت إنــك انطلقــت مــن أي مفهــوم ثابــت ضحــك‪.‬‬ ‫فيشــير إلى «مايكل أنجلو» وشــخوصه الرائعة على ســقف‬
‫ولذلــك فــا يوجــد منــاص ألي أســلوب دعــوي إال أن يبــدأ‬ ‫كنيســة سيســكتين»‪.1‬‬
‫باإلنســان نفســه‪ ،‬وعــادة املنظومــة املاديــة العلمانيــة‬
‫مؤسســة علــى اإليمــان باإلنســان (أو اإلنســانوية)‪ ،‬فلنبــدأ‬
‫إذن بدراســة اإلنســان كمــا يفعــل علــي عــزت‪ ،‬ومــن خــال‬ ‫وبالتالــي‪ ،‬وبنـ ًـاء علــى هــذه املنهجيــة األنثرولوجيــة‪ ،‬نــري‬
‫ً‬
‫دراســة اإلنســان ّبيــن علــي عــزت أن اإلنســان مقولــة غيــر‬ ‫أن علــي عــزت بــدال مــن أن يناقــش النظريــة الداروينيــة‬
‫ماديــة‪ .‬حيــث بــدأ علــي عــزت بتتبــع اإلنســان الداروينــي‬ ‫فــي التطــور وينقضهــا بآليــات علــم البيولوجيــا والعلــوم‬
‫ً‬
‫واملارك�ســي وقــال لنــا هيــا نجــري معــه ونصنــع اآلليــات‬ ‫الطبيعيــة‪ ،‬فإنــه يلجــأ إلســتراتيجية مختلفــة تمامــا‪ .‬حيــث‬
‫وعالقــات اإلنتــاج واالقتصــاد ونعيــش حيــاة الحيوانــات‪،‬‬ ‫يعمــد إلــى التدليــل علــى عجــز النظريــات املاديــة‪ ،‬بمــا فــي‬
‫ُ‬
‫ســنجد فجــأة أن هــذا اإلنســان الكــفء بــدأ يصلــي ويرقــص‬ ‫ذلــك النظريــة الداروينيــة‪ ،‬عــن تفســير البعــد اإلنســاني فــي‬
‫ويشــوه جســده ويرســم الوشــم ويبنــى املعابــد واملقابــر‪.‬‬ ‫ظاهــرة اإلنســان‪ .‬وهــذه املنهجيــة أقــوى مــن االعتمــاد علــى‬
‫إن مــا قــام بــه علــي عــزت بهــذه املنهجيــة هــو أنــه اســترد‬ ‫الدالئــل املاديــة والنظريــات «العلميــة» فــي نقــض التصــور‬
‫مقولــة «اإلنســان» مــن املنظومــة املاديــة العلمانيــة لصالــح‬ ‫الداروينيــة للحيــاة (مــع تأكيدنــا علــى أهميتــه)‪ ،‬ألن دعــاة‬
‫ً‬
‫اإليمــان واألديــان‪ ،‬وبعــد ذلــك بــدأ علــي عــزت يصعــد إلــى‬ ‫الداروينيــة ســيأتون هــم أيضــا بأدلــة ماديــة‪ ،‬ممــا يجعــل‬
‫هللا‪ .‬أي أننــا فــي األســلوب الدعــوي الجديــد ينبغــي أن نبــدأ‬ ‫مــن املســتحيل حســم القضيــة‪ .‬أمــا علــي عــزت بيجوفيتــش‬
‫ً‬
‫مــن مقولــة وأرضيــة اإلنســان ألن هــذه املقولــة هــي األرضيــة‬ ‫فيلجــأ ألســلوب مختلــف تمامــا‪ ،‬فهــو يحــاول أن يثبــت‬

‫المس�ي عىل الطبعة السادسة من كتاب اإلسالم‬


‫ي‬ ‫راجع مقدمة‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫ال�ق والغرب‪ ،‬دار ش‬
‫ال�وق‪.‬‬ ‫ب� ش‬
‫ين‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪48 -47‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬

‫‪6‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ّ‬
‫فــي بيــان هــذه الفكــرة‪« :‬إن تعريــف اإلســام بأنــه مركــب‬ ‫األكيــدة القائمــة أمــام اإلنســان الغربــي‪ ،‬التــي ال يمكــن أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يؤلــف بيــن الديــن واملاديــة‪ ،‬وأنــه يقــف موقفــا وســطا بيــن‬ ‫يتنــازع معنــا فيهــا وإن تنــازع معنــا فيهــا وأنكــر اإلنســان (كمــا‬
‫املســيحية واالشــتراكية‪ ،‬هــو تعريــف تقريبــي يمكــن قبولــه‬ ‫تفعــل بعــض فلســفات مــا بعــد الحداثــة) فلقــد كشــف عــن‬
‫تحــت شــروط معينــة‪ .‬إنــه تعريــف صحيــح بشــكل مــا‪،‬‬ ‫وجهــه القبيــح‪ ،‬وهــذا حــد ذاتــه إنجــاز ضخــم»‪.1‬‬
‫ولكــن مــن بعــض الوجــوه وليــس جميعهــا‪ .‬فاإلســام ليــس‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وســطا حســابيا بســيطا وال قاســما مشــتركا بيــن تعاليــم‬ ‫ً‬
‫هاتيــن العقيدتيــن‪ .‬فالصــاة والــزكاة والوضــوء كينونــات‬ ‫أخي ـرا‪ ،‬فــإن هــذا التصــور لإلســام كطريقــة حيــاة (وليــس‬
‫ال تقبــل التجزئــة ألنهــا تعبيــر عــن شــعور فطــري بســيط‪،‬‬ ‫كمنهــج أو طريقــة تفكيــر)‪ ،‬حفــظ علــي عــزت مــن الوقــوع‬
‫عبــر عنــه بكلمــة واحــدة وبصــورة واحــدة فقــط‪،‬‬ ‫إنهــا يقيــن ُم ّ‬ ‫فــي الخطــأ املنهجــي الــذي وقــع فيــه عــدد مــن املفكريــن‬
‫ً‬ ‫املســلمين الذيــن فــي ســبيل نقدهــم لهــذه املناهــج املاديــة أو‬
‫ولكنهــا مــع ذلــك تظــل منطقيــا تمثــل داللــة ازدواجيــة‪.‬‬
‫والتماثل هنا مع اإلنســان واضح‪ ،‬فاإلنســان هو مقياســها‬ ‫الدينيــة املحرفــة قامــوا بامليــل ألحــد هــذه املناهــج مثلمــا مــا‬
‫ومفســرها»‪.3‬‬ ‫ُ‬ ‫فعــل مؤلــف كتــاب «اشــتراكية اإلســام»‪ 2‬أو مثلمــا فعــل‬
‫كثيــر مــن مفكــري اإلســام وقتهــا بجعــل اإلســام منهــج‬
‫توفيقــي تتجســد فيــه الصفــات الحســنة مــن االشــتراكية‬
‫إذا تأمــل القــارئ الحصيــف هــذه املقاربــات املنهجيــة‬ ‫(مثــل العدالــة االجتماعيــة واالعتنــاء بحقــوق العمــال‬
‫الفريــدة واملتجــاوزة لذلــك العصــر يــدرك بــأن املقولــة‬ ‫وغيرهــا) والصفــات الحســنة فــي الرأســمالية (مــن حريــة‬
‫املنســوبة للمســيري فــي حــق هــذا الكتــاب حيــن قــال‪« :‬لــو‬ ‫التجــارة وحريــة التملــك وغيــره)‪ ،‬وكال الطريقتيــن تعانــي‬
‫أنــي ق ـرأت هــذا الكتــاب مبك ـرا لوفــر علــى ‪ 15‬ســنة مــن‬ ‫مــن مشــاكل منهجيــة تجعــل هــذا التقديــم لإلســام أقــرب‬
‫البحــث والتفكيــر»‪ ،‬ليســت مبالغــة أو إط ـراء متجــاوز‪،‬‬ ‫إلــى تلفيــق فكــري‪ .‬لذلــك فــإن تفريــق علــي عــزت لإلســام‬
‫بــل هــو وصــف مســتحق لكاتــب يعتبــر مــن عباقــرة علمــاء‬ ‫كمنهــج وطريقــة حيــاة أكثــر مــن كونــه منهــج فكــري أو‬
‫اإلســام فــي القــرن العشــرين‪.‬‬ ‫اقتصــادي مثــل الرأســمالية واالشــتراكية‪ ،‬وكــون هــذا‬
‫املنهــج أو طريقــة الحيــاة مختلــف كليــة عــن باقــي املناهــج‬
‫ً‬
‫الثقافيــة واألديــان املحرفــة جعلــه يكــون واضحــا فــي‬
‫ج‪ .‬أبــرز صفــات منهجيــة بيجوفيتــش فــي‬ ‫فكــرة أنــه وإن قــام بتقديــم اإلســام فــي منهــج مقــارن مــع‬
‫والحجــاج‪.‬‬ ‫االســتدالل‬ ‫االشــتراكية والرأســمالية واملســيحية فإنــه قــد فعــل ذلــك‬
‫ملجــرد تقريــب الفكــرة للقــارئ وال يعنــى ذلــك أنــه يــرى بــأن‬
‫اإلســام يمثــل وســط بيــن هــذه املناهــج‪ .‬يقــول علــي عــزت‬
‫فيما‪ ‬يتعلق‪ ‬بتفاصيــل واألدوات املنهجيــة لعلــي عــزت‬
‫بيجوفيتــش فهنالك‪ ‬عدة‪ ‬صفات‪ ‬البد‪ ‬من‪ ‬ذكرهــا‪ ،‬اعتقــد‬ ‫ف‬
‫المس�ي ي� معهد إسالمية المعرفة‪،‬‬ ‫محا�ة عبد الوهاب ف ي‬ ‫ض‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫عل عزت بيجوفيتش”‪ ،‬من‬ ‫يخ‬ ‫����‬
‫ر‬ ‫تا‬ ‫�‬ ‫الفارقة‬ ‫اللحظات‬ ‫ة‬ ‫ض‬
‫«محا�‬ ‫بعنوان‬
‫أن مــن أهمهــا‪:‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الدقيقة ‪.63 -60‬‬
‫المحا�ة‪/com.youtube.www//:https :‬‬ ‫ض‬ ‫رابط‬
‫‪8037s=t&fqhM_WnGTei=v?watch‬‬
‫السباع ندم عىل عنوان الكتاب‬ ‫ف‬
‫مصط�‬ ‫قيل بأن الشيخ‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪34‬‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬ ‫ومحتواه ف ي� أواخر عمره‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ُ‬
‫الكتــاب واملؤلفيــن ال يهتمــون بهــا‪ .‬علــى ســبيل املثــال ففــي‬
‫حديثه عن عجز الدارونية عن تفســير الجوهر اإلنســاني‬ ‫ً‬
‫‪ -1‬فــي بنائــه لحججــه وأدلتــه فــي الكتــاب كان قــادرا علــى‬
‫الفريــد والــذي يحــاج علــي عــزت أنــه مــن الســماء (أي مــن‬
‫توظيــف العلــوم االجتماعيــة والتطبيقيــة املختلفــة‪.‬‬
‫هللا)‪ ،‬رد باســتفاضة علــى االعتراضــات التــي يمكــن أن‬
‫علــى ســبيل املثــال‪ ،‬فقــد وظــف بيجوفيتــش أمهــات كتــب‬
‫يذكرهــا البعــض مــن أن للحيوانــات فنــون وألعــاب‪ .4‬وفــي‬
‫األنثروبولوجيــا فــي مناقشــته ألصــل اإلنســان البدائــي‬
‫تأسيســه بــأن األخــاق ال يمكــن أن تتأســس إال علــى الديــن‬
‫وعاداتــه ونزوعــه الفطــري للديــن واملعنــي‪ ،1‬كمــا وظــف‬
‫واإليمــان‪ ،‬ناقــش باســتفاضة حجــج واعتراضــات الذيــن‬
‫كتــب علــوم اإلدارة العامــة فــي حديثــه عــن التناقــض‬
‫قالــوا بــأن األخــاق يمكــن أن تتأســس علــى غيــر الديــن‪ ،‬كمــا‬
‫الكامــن الــذي يواجــه األنظمــة الشيوعية‪/‬االشــتراكية فــي‬
‫ناقــش املدافعيــن عــن أخــاق املنفعــة‪.5‬‬
‫تعاملهــا وإدارتهــا للمجتمعــات التقليديــة‪ .2‬أمــا أدبيــات‬
‫الفلســفة واقتباســاتها فقــد كانــت حاضــرة علــى طــوال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الكتاب بصورة سلسلة غير متكلفة مما يشير إلى املعرفة‬
‫‪ -3‬مــع أن الكتــاب يعتبــر كتابــا فكريــا فلســفيا‪ ،‬إال أن علــي‬
‫املعمقــة التــي امتلكهــا املؤلــف فــي هــذا الفــرع مــن املعرفــة‪.‬‬
‫عــزت لــم يتجاهــل اســتخدام لغــة األرقــام واإلحصــاءات‬
‫ً‬ ‫ولــم يتجاهــل بيجوفيتــش العلــوم التطبيقيــة ذات الصلــة‬
‫والبيانــات متــي مــا كان هــذا االســتخدام مفيــدا وذو صلــة‬
‫ُ‬ ‫باملوضوعــات الفكرية‪/‬الفلســفية التــي يناقشــها‪ ،‬فت ـراه‬
‫باملوضــوع املنقــاش‪ .‬بالعكــس‪ ،‬كانــت هــذه اللغــة حاضــرة‬
‫يقتبــس ويناقــش وينقــل عــن مختلــف علمــاء البيولوجيــا فــي‬
‫بقــوة فــي عــدد مــن فصــول الكتــاب مثــل فصــل «التقــدم‬
‫حديثــه عــن معضلــة املاديــة وعجــز البيولوجيــا عــن تفســير‬
‫ضــد اإلنســان» الــذي ناقــش فيــه األثــار الســلبية للتقــدم‬
‫الحيــاة‪.3‬‬
‫املــادي فــي الحضــارة الغربيــة‪ ،‬واعتمــد فيــه بصــورة كليــة‬
‫علــى األرقــام واإلحصــاءات لدعــم ادعاءاتــه وحججــه ولــم‬ ‫لذلــك يمكننــا القــول بــأن كتــاب اإلســام بيــن الشــرق‬
‫ً‬
‫يطلقهــا مرســلة‪ .6‬وهنالــك فصــول كثيــرة اســتخدم فيهــا‬ ‫والغــرب يعتبــر نموذجــا مــن أرفــع النمــاذج علــى تطبيــق‬
‫علــي عــزت األرقــام بصــورة موســعة‪ ،‬بــل حتــى عندمــا أراد‬ ‫منهجيــة «تكامــل املعرفــة الفلســفية واالجتماعيــة‬
‫أن ينتقــد ضعــف روح التديــن فــي املدينــة مقارنــة بالريــف‪،‬‬ ‫والتطبيقيــة»‪ .‬وهــذا التعدديــة املنهجية‪/‬االســتداللية‬
‫مــع أن غالبيــة الكتابــات فــي هــذا الشــأن تكــون فلســفية‬ ‫ممتــدة علــى طــول الكتــاب‪ ،‬وفــي أغلــب القضايــا وامللفــات‬
‫ونثريــة‪ ،‬إال أنــه ذكــر إحصائيــة تؤيــد قولــه وادعــاءه فــي هــذه‬ ‫التــي ناقشــها الكتــاب‪.‬‬
‫ً‬
‫القضيــة‪ ،‬فقــال‪« :‬طبقــا لبعــض اإلحصائيــات ‪ 12‬إلــى ‪%13‬‬
‫مــن ســكان باريــس فقــط يذهبــون إلــى الصــاة الكاثوليكية‪،‬‬
‫وفــي «ليــون» ترتفــع النســبة إلــى ‪ %20.9‬وفــي «ســانت إتييــن»‬ ‫‪ -2‬فــي أغلــب نقاشــاته ال يتجاهــل علــى عــزت حجــج‬
‫تبلــغ النســبة ‪ .%28.5‬أمــا البيانــات اإلحصائيــة عــن‬ ‫واعتراضــات الخصــوم التــي يمكــن أن تــرد علــى طرحــه‪.‬‬
‫وهــذه الصفــة وإن كانــت بديهيــة إال أن كثيــر مــن كبــار‬
‫راجع المصدر السابق‪ ،‬ص ‪64 -60‬‬ ‫ ‬
‫‪4‬‬ ‫المصدر السابق‪65 -50 ،‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫راجع المصدر السابق‪ ،‬ص ‪208 -198‬‬ ‫ ‬
‫‪5‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪32‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪126 -115‬‬ ‫ ‬
‫‪6‬‬ ‫المصدر السابق‪71 -67 ،‬‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬

‫‪8‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املنظومــات ومــدي وصولــه إلــى أعماقهــا ومبنيتهــا املاديــة‬ ‫الجريمــة فالبــد أنهــا تعطــى تد ُّرجــا عكســيا»‪.1‬‬
‫العدميــة أو بنيتهــا اإليمانيــة رغــم إعالنهــا لإللحــاد‪ .‬ولعــي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -4‬كان‪ ‬على‪ ‬عزت‪ ‬مطلعا‪ ‬ومواكبــا لإلنتــاج املعرفــي أيــا‬
‫عــزت إحصــاءات دقيقــة عــن العالــم الرأســمالي الغربــي‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫كانــت مصــادره فــي الشــرق أم الغــرب‪ ،‬وكان قــادرا علــى‬
‫عــن مثــا عــن دور الســينما التــي تعــرض األفــام اإلباحيــة‬
‫االقتبــاس ومناقشــة أمهــات الكتــب الصــادرة عــن دور‬
‫فــي أملانيــا‪ ،‬وعــن نســبة الجريمــة وتصاعدهــا فــي الواليــات‬
‫املعرفــة الغربيــة والشــرقية كذلــك‪ .‬وبخــاف بعــض قــادة‬
‫املتحــدة األمريكيــة وعــن معــدالت االنتحــار فــي الــدول‬
‫الفكــر اإلســامي أو العربــي الذيــن لــم يكونــوا يحيلــون‬
‫املتقدمــة ومــدي ارتبــاط هــذه املعــدالت مــع تصاعــد الرفــاه‬
‫علــى مراجــع أو مصــادر كتبهــم‪ ،‬فــا تــكاد تخلــو صفحــة‬
‫والتقــدم»‪.3‬‬
‫مــن صفحــات كتــاب اإلســام بيــن الشــرق والغــرب مــن‬
‫د‪ .‬مميــزات االســتجابة‪ ‬التي قدمهــا بيجوفيتــش‬ ‫مرجــع أو اثنــان وربمــا أكثــر مــن أربعــة مراجــع فــي بعضهــا‪!2‬‬
‫للمناهــج والجــدل املهيمــن علــى العالــم وقتهــا‬ ‫كمــا امتلــك علــي عــزت معرفــة تفصيليــة ومواكبــة لــكل‬
‫(القســم األول مــن الكتــاب)‪.‬‬ ‫املســتجدات التــي تحــدث فــي الغــرب ِوفــي دولــه ومجتمعاتــه‬
‫علــى كافــة األصعــدة السياســية واالجتماعيــة والفكريــة‬
‫‪ ‬‬
‫والفلســفية‪ ،‬وهــذا يظهــر بجــاء علــى طــوال الكتــاب ِوفــي‬
‫‪ -1‬اشــتبك الكتــاب مــع املفاهيــم الكبــرى التــي أسســت‬
‫ً‬ ‫كل فصولــه‪.‬‬
‫العالــم املعاصــر وتحديــدا مفاهيــم الثقافــة والحريــة‬
‫واألخــاق والفــن التــي كان يتــوق إليهــا اإلنســان فــي ذلــك‬ ‫يقــول عبــد املســيري فــي وصــف منهجيــة االســتدالل عنــد‬
‫ً‬
‫العصــر‪ ،‬وناقــش األفــكار الرئيســية التــي شــكلت هــذا‬ ‫علــي عــزت قــوال يؤيــد بعــض الصفــات التــي ذكرنــاه هنــا‪،‬‬
‫العالــم مثــل الداروينيــة واإللحــاد واملاديــة والحضــارة‬ ‫وذلــك حيــن قــال‪ »:‬أنــا أعتقــد أن علــي عــزت قــد قــدم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(الرأسمالية) واألديان في خليط فريد مزج هذه املفاهيم‬ ‫اجتهــادا عصريــا لتقديــم اإلســام‪ ،‬والســبب ذلــك هــو‬
‫املؤسســة للعصــر باألشــواق اإلنســانية‪ ،‬وفــي هــذا الســياق‬ ‫التجربــة الفريــدة لعلــي عــزت فهــو قــد درس املنظومــات‬
‫حــاول الدفــاع عــن الحريــة وعــن أشــواق اإلنســان كامنــة‬ ‫املاديــة فــي العالــم الرأســمالي ولديــه إملــام غيــر عــادي‬
‫ً‬ ‫بالفلســفات الغربيــة وهــو إملــام ليــس مثــل إملــام أســاتذة‬
‫(مــن حريــة وثقافــة وفــن وأخــاق) منطلقــا مــن أســاس‬
‫دينــي مركــزي هــو الوحــي اإللهــي والقــرآن وليــس مجــرد‬ ‫الفلســفة وإنمــا إملــام املتفلســف الحقيقــي الــذي يقــف‬
‫ذلــك اإلحســاس الدينــي الزائــف أو القائــم علــى الفتوحــات‬ ‫علــى أرضيــة فلســفية ثــم يطــل منهــا وينفتــح علــى اآلخــر‬
‫الفرديــة والروحيــة غيــر املنضبطــة‪.‬‬ ‫فيــدرك جوهــر نمــوذج اآلخــر‪ .‬يتحــدث علــي عــزت بطالقــة‬
‫غيــر عاديــة وبتلقائيــة عــن فالســفة مثــل بيرداييــف ويســبر‬
‫و كيركجــارد فــي ســطور قليلــة تبيــن مــدي اســتيعابه لتلــك‬
‫وهــذا الســعي للدفــاع عــن أشــواق اإلنســان الكامنــة هــو‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪111‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫ت‬ ‫ف‬
‫يقول الدكتور األحمري ي� حلقة برنامج «أسمار وأفكار» ال�‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫ف‬
‫المس�ي ي� معهد إسالمية المعرفة‪،‬‬
‫محا�ة عبد الوهاب ف ي‬ ‫ض‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬ ‫ي يز‬
‫اإلنجل�ي‬ ‫ناقشت الكتاب أن من أضاف ًهذه الهوامش والمراجع هو المحرر‬
‫ض‬ ‫ف‬ ‫ف� كندا‪ ،‬لكن ذلك ال ف‬
‫عل عزت بيجوفيتش”‪ ،‬من‬ ‫بعنوان «محا�ة اللحظات الفارقة ي� تار����يخ ي‬ ‫المعر� الواسع‬
‫ي‬ ‫عل عزت واطالعه‬‫قدرت ي‬ ‫ين� أيضا‬ ‫ي‬
‫الغر�‪.‬‬ ‫ف‬
‫الدقيقة ‪.23 -18‬‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫المعر�‬
‫ي‬ ‫وإدراكه لجوهر هذا المنتج‬
‫المحا�ة‪/com.youtube.www//:https :‬‬ ‫ض‬ ‫رابط‬ ‫رابط الحلقة‪M49UK4U=v?watch/com.youtube.www//:https :‬‬
‫‪8037s=t&fqhM_WnGTei=v?watch‬‬ ‫‪6=index&JM35dfLtRJCAfJZAbY7KxkHJ2v_PLcjlUO=list&FLAI‬‬

‫‪9‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ّ‬
‫وبيــن الثقافــة مــن حيــث املبــدأ �شــيء مشــترك‪ ،‬وأن الديــن‬ ‫مــا مكــن علــي عــزت بيجوفيتــش مــن اســتخراج الصفــات‬
‫فــي حــد ذاتــه ال يــؤدي إلــى التقــدم‪ .‬والتقــدم يقصــد بــه‬ ‫املشــتركة بيــن أشــياء لــم يســبقه أحــد للنظــر إليهــا بهــذه‬
‫حســب شــرح املترجــم‪ :‬التقــدم املــادي والتقنــي‪.1‬‬ ‫الطريقــة‪ ،‬مثــل قولــه بأنــه الثقافــة‪ ،‬أي ثقافــة‪ ،‬مربوطــة‬
‫ُ‬
‫بعالــم الســماء‪ ،‬واملثــل العليــا‪ .‬وفــي املقابــل يــري بــأن‬
‫الحضــارة‪ ،‬أي حضــارة‪ ،‬مربوطــة بعالــم األرض أو الطبيعــة‬
‫وإذا ســألنا عــن الجــذور املعرفيــة التــي أوصلــت علــي عــزت‬ ‫ُ‬
‫والعناصر املادية‪ .‬فالثقافة عنده تعنى «بعالقة اإلنســان‬
‫لهــذا املوقــف نجــد أنهــا املنهجية‪/‬املقاربــة األنثروبولوجيــة‬ ‫بتلــك الســماء التــي هبــط منهــا‪ .‬وكل �شــيء فــي إطــار الثقافــة‬
‫ً‬
‫التــي أشــرنا إليهــا ســابقا والتــي تهتــم بالنظــر فــي أصــل‬ ‫إمــا تأكيــد أو رفــض أو شــك أو تأمــل فــي ذكريــات ذلــك‬
‫األشــياء وارتباطهــا بتاريــخ وطريقــة معيشــة اإلنســان‪.‬‬ ‫األصــل الســماوي لإلنســان‪ .‬فالثقافــة تتميــز بهــذا اللغــز‪،‬‬
‫علــى ســبيل املثــال‪ ،‬ففــي التفريــق بيــن الثقافــة والحضــارة‬ ‫وتســتمر هكــذا خــال الزمــن فــي نضــال مســتمر لحــل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حــدد بيجوفيتــش «لــكل منهمــا مســارا تاريخيــا ودينيــا‬ ‫هــذا اللغــز»‪ .‬وأمــا الحضــارة عنــده فهــي «اســتمرار للحيــاة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأخالقيــا متباعــدا ومتعارضــا باضط ـرار‪ ،‬حيــث يحــاول‬ ‫الحيوانيــة ذات البعــد الواحــد‪ ،‬والتبــادل املــادي بيــن‬
‫أن يرجــع بهــذه القضيــة إلــى بدايــة ظهــور اإلنســان‪ ،‬أو‬ ‫اإلنســان والطبيعة‪ .‬وهذا الجانب من الحياة يختلف عن‬
‫ً‬
‫بدايــة تشــكل النظــرة إلــى اإلنســان التــي شــهدت انقســاما‬ ‫الحيــوان فقــط فــي الدرجــة واملســتوى والتنظيــم‪ .‬ووظيفــة‬
‫وصفــه بيجوفيتــش بثنائيــة األداة والعبــادة‪ .‬وهكــذا حــاول‬ ‫اإلنســان هنــا أن يتعامــل مــع ســلع الطبيعــة ويغيــر العالــم‬
‫بيجوفيتش تصويره ومقاربته والنظر إليه من خالل هذه‬ ‫ً‬
‫بعمل��ه وفق��ا الحتياجاتــه»‪ .‬وهــذا املوقــف مــن الثقافــة‬
‫الثنائيةــ‪ .‬فحس��ب قول��ه‪> :‬هنــاك حقيقتــان متعارضتــان‬ ‫ً‬
‫والحضــارة نبعــا فــي األســاس مــن عالقتهــا بالديــن الــذي هــو‬
‫ارتبطتــا بظهــور اإلنســان‪ ،‬همــا األداة األولــى والعبــادة‬ ‫املركــز فــي تصــورات علــي عــزت‪ ،‬لذلــك يــرى بــأن للثقافــة‬
‫األولـ�ى<‪ ،‬ويــرى أن العبــادة واألداة يمثــان طبيعتيــن‬ ‫عالقــة وطيــدة بالديــن واإلنســان‪ ،‬يقــول بيجوفيتــش‪:‬‬
‫وتاريخيــن لإلنســان‪ .‬تاريــخ هــو درامــا إنســانية‪ ،‬تبــدأ مــن‬ ‫«الثقافــة هــي تأثيــر الديــن علــى اإلنســان‪ ،‬أو تأثيــر اإلنســان‬
‫املرحلــة التمهيديــة لوجــود اإلنســان فــي الجنــة‪ ،‬ثــم تتطــور‬ ‫علــى نفســه‪ .‬بينمــا الحضــارة هــي تأثيــر الــذكاء علــى الطبيعــة‬
‫خــال انتصــار فكــرة الحريــة‪ ،‬وتنتهــي بيــوم الحســاب‬ ‫أو العالــم الخارجــي‪ .‬الثقافــة معناهــا الفــن الــذي يكــون‬
‫فــي اآلخــرة‪ ،‬وهــي الــوازع األخالقــي للتاريــخ‪ .‬أمــا الثانــي فهــو‬ ‫ً‬
‫بــه اإلنســان إنســانا‪ ،‬أمــا الحضــارة فتعنــي فــن العمــل‬
‫تاريــخ األدوات أو تاريــخ األشــياء الــذي ينتهــي بالدخــول فــي‬ ‫والســيطرة وصناعــة األشــياء صناعــة دقيقــة‪ .‬والثقافــة‬
‫املجتمــع الطبقــي‪ ،‬وقصــور الطاقــة‪ ،‬شــأنه فــي ذلــك شــان‬ ‫هــي الخلــق املســتمر للــذات‪ ،‬أمــا الحضــارة فهــي التغييــر‬
‫بقيــة العالــم املــادي‪ .‬هــذان التاريخــان لهمــا العالقــة نفســها‬ ‫املســتمر للعالــم‪ .‬وهــذا هــو تضــاد اإلنســان وال�شــيء‪،‬‬
‫التــي بيــن العبــادة واألداة‪ ،‬وهــي العالقــة نفســها التــي بيــن‬ ‫اإلنســانية والشــيئية»‪ .‬بنـ ًـاء علــى املنهجيــة الســابقة فــي‬
‫الثقافــة والحضــارة»‪.2‬‬ ‫النظــر للثقافــة والحضــارة‪ ،‬ال يســتغرب اإلنســان النتيجــة‬
‫النهائيــة التــي وصــل إلــي علــي عــزت فــي كتابــه مــن أن «كل‬
‫ف‬ ‫ثقافــة هــي مؤمنــة فــي جوهرهــا‪ ،‬وكل حضــارة هــي ملحــدة»‪.‬‬
‫عل عزت‬‫زك الميالد‪ ،‬الثقافة والحضارة‪ :‬فقراءة ي� نظرية ي‬‫شي‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫بيجوفيتش‪ ،‬ن� بتاريــــخ ‪ 29‬أكتوبر ‪ ،2004‬ي� موقع الكلمة‪.‬‬ ‫وأن العلــم ال يــؤدي إلــى ‪-‬األبعــاد‪ -‬اإلنســانية‪ ،‬وليــس بينــه‬
‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬

‫‪10‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ً‬
‫انطلــق مــن التأصيــل الدينــي لهــذه الثالثــة مفاهيــم لضــرب‬ ‫ومن الثنائيات املتناقضة التي تحدث عنها علي عزت أيضا‬
‫ً‬
‫الداروينيــة واملاديــة واإللحــاد املعاصــر‪ ،‬وهــذا يعتبــر قلــب‬ ‫بالبحــث عــن تأثيرهــا علــى أصــل اإلنســان أنثروبولوجيــا‬
‫ً‬
‫لطاولــة الجــدل علــى رأســها فبعــد أن كانــت هــذه املذاهــب‬ ‫ودينيــا (ال يفصــل علــي عــزت بيــن الديــن وأصــل اإلنســان‪،‬‬
‫توظف مفاهيم الحرية واإلنســانية واملســاواة لنقد الدين‬ ‫بــل هــو يعتمــد فــي كتابــه حجــج ومقاربــات أنثروبولوجيــة‬
‫واألديــان الســماوية قــال لهــم علــي عــزت أن هــذه املفاهيــم‬ ‫إلثبــات أن الديــن هــو جــزء ال يتج ـزأ مــن اإلنســان كفــرد‬
‫التــي تتحججــون بهــا ال يمكــن أن يكــون لهــا وجــود مــن دون‬ ‫أو كمجتمــع)‪ :‬ثنائيــة «التعليــم والتأمــل»‪ ،‬وثنائيــة «الريــف‬
‫الديــن واألديــان الســماوية‪.‬‬ ‫واملدينــة»‪ ،‬وثنائيــة «الفــن والعلــم»‪ ،‬وثنائيــة «التدريــب‬
‫والتنشــئة»‪ ،‬وثنائيــة «الطوبيــا واألخــاق»‪ ،‬وثنائيــة‬
‫«الطوبيــا واألســرة»‪ ،‬وغيرهــا‪ .‬فــي املقابــل اجتهــد علــي عــزت‬
‫علــى ســبيل املثــال‪ ،‬ففــي فصــل «الفلســفة اإلنســانية» وفــي‬ ‫فــي اب ـراز الصفــات املشــتركة بيــن ثنائيــات مثــل‪« :‬الفــن‬
‫ســياق حجاجــه عــن األســاس الدينــي للمســاواة اإلنســانية‬ ‫والديــن»‪« ،‬الديــن والثقافــة»‪« ،‬العدميــة وااليمــان»‪،1‬‬
‫يقــول علــي عــزت مــا بدايتــه‪« :‬إن املســاواة واإلخــاء بيــن‬ ‫«الديــن والثــورة»‪ ،‬وغيرهــا‪.‬‬
‫ً‬
‫النــاس ممكــن‪ ،‬فقــط‪ ،‬إذا كان اإلنســان مخلوقــا هلل‪.‬‬
‫فاملســاواة اإلنســانية خصوصيــة أخالقيــة وليســت‬
‫حقيقــة طبيعيــة أو ماديــة أو عقليــة‪ .‬إن وجودهــا قائــم‬ ‫‪ -2‬من مميزات منهجية علي عزت في اشتباكه مع املذاهب‬
‫ـمو إنســاني أو‬‫باعتبارهــا صفــة أخالقيــة لإلنســان‪ ،‬كسـ ّ‬ ‫الكبــرى الروحيــة والعقليــة املؤسســة لذلــك العصــر‪ ،‬أنــه‬
‫كقيمــة مســاوية للشــخصية اإلنســانية‪ .‬وفــي مقابــل ذلــك‪،‬‬ ‫رجــع للكتابــات األصليــة التــي تمثــل الجــذور واملســلمات‬
‫إذا نظرنــا إلــى النــاس مــن الناحيــة املاديــة أو الفكريــة‪ ،‬أو‬ ‫التــي تنطلــق منهــا هــذه املذاهــب‪ ،‬وحــدد بصــورة واضحــة‬
‫ككائنــات اجتماعيــة أو أعضــاء فــي مجموعــة أو طبقــة أو‬ ‫(بنـ ًـاء علــى منهجيتــه األنثروبولوجيــة التاريخيــة) أن أصــل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تجمــع سيا�ســي أو أممــي‪ ،‬فالنــاس فــي كل هــذا دائمــا غيــر‬ ‫الخــاف مــع هــذه املذاهــب يكمــن فــي تصورنــا ألصــل‬
‫متســاوين‪ .‬ذلــك‪ ،‬ألننــا إذا تجاهلنــا القيمــة الروحيــة‪ -‬وهــي‬ ‫اإلنســان ككائــن وهــو مــا تجلــي بصــورة واضحــة فــي فصــل‬
‫حقيقــة ذات صبغــة دينيــة‪ -‬يتال�شــى األســاس الحقيقــي‬ ‫«دارويــن ومايــكل أنجلــو»‪.2‬‬
‫الوحيــد للمســاواة اإلنســانية‪ .‬وتبــدو املســاواة‪ ،‬حينئــذ‪،‬‬
‫مجــرد عبــارة بــدون أســاس وال مضمــون‪ ،‬وســرعان مــا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتراجــع وهــي تواجــه الوقائــع الدالــة علــى اللمســاواة بيــن‬
‫النــاس‪ ،‬أو الرغبــة الطبيعيــة لإلنســان أن يســيطر‪ ،‬وأن‬ ‫‪ -3‬قلــب طاولــة النقــاش علــى الخصــوم‪ :‬قــام علــي عــزت‬
‫ً‬
‫يطيــع ومــن ثــم ال يكــون مســاويا لآلخــر‪ .‬فطاملــا حذفنــا‬ ‫بربــط الحريــة واإلنســانية واملســاواة واألخــاق بجوهــر‬
‫املدخــل الدينــي مــن حســابنا‪ ،‬ســرعان مــا يمتلــئ املــكان‬ ‫الديــن وأنهــا ال يمكــن أن تتحقــق إال بالديــن‪ ،‬ومــن ثــم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بأشــكال مــن الالمســاواة‪ :‬عرقيــا وقوميــا واجتماعيــا‬
‫ً‬
‫وسياســيا»‪ .3‬ويكمــل علــي عــزت هــذه املقاربــة علــى طــوال‬ ‫العدم بقوله بأن “العدمية‬ ‫عل عزت جوهر الموقف‬
‫ي‬ ‫يحلل ي‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫ليست إنكارا لأللوهية ولكنها احتجاجا عىل غيابها”‬
‫ال�ق والغرب‪ ،‬ص ‪-47‬‬ ‫ب� ش‬
‫عل عزت بيجوفيتش‪ ،‬اإلسالم ي ن‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫ي‬
‫راجع المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪.52‬‬

‫‪11‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ً‬
‫تناقــض ال مفــر منــه‪ ،‬كمــا ترجــع إلــى االســتقالل النســبي‬ ‫الفصــل‪ ،‬ناقضــا أي أســاس آخــر مــادي أو علمــي يمكــن أن‬
‫للمنطــق الواعــي عــن العفويــة‪ ،‬وبالرغــم مــن أصالــة‬ ‫تتأســس عليــه املســاواة اإلنســانية إلــى أن يقــول‪« « :‬ملــاذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نصــادف كثــرة مــن ّ‬
‫العفويــة البالغــة‪ ،‬إال أن املوقــف العــام لإلنســان يتشــكل‬ ‫املعوقيــن حــول املســاجد والكنائــس‬
‫ملحصلــة الضغــوط التــي تتنازعــه بيــن‬ ‫ّ‬ ‫بنــوع اســتجابته‬ ‫واملعابــد التــي نذهــب إليهــا؟ ألن بيــوت هللا وحدهــا تفتــح‬
‫األرض والســماء‪ .‬فــإذا امتنــع وجــود حقيقــة دينيــة‪ ،‬امتنــع‬ ‫أبوابها ألولئك الذين ليس لديهم ما يعرضونه أو يبرهنون‬
‫بالتالــي وجــود حقيقــة فنيــة»‪ .3‬فــي املقابــل فقــد نفــى علــي‬ ‫عليــه‪ ،‬أولئــك الفق ـراء فــي املــال والصحــة‪ ،‬أولئــك الذيــن‬
‫عــزت األخــاق عــن املوقــف اإللحــادي‪ ،‬مــع تفريقــه بأننــا‬ ‫اســتبعدوا مــن موائــد االحتفــاالت فــي هــذا العالــم‪ ،‬حيــث‬
‫يمكــن أن نجــد «ملحــدون أخالقيــون» لكننــا يســتحيل أن‬ ‫ُيدعــى الشــخص الســمه أو حســبه ونســبه أو موهبتــه أو‬
‫نؤســس لألخــاق مــن اإللحــاد‪ ،‬وناقــش هــذا الفصــل بيــن‬ ‫علمــه‪ .‬إن املريــض وغيــر املتعلــم ُيغلــق أمامــه بــاب املصنــع‬
‫ً‬
‫األخــاق كممارســة وكمبــدأ ب�شــيء مــن التفصيــل فــي فصــل‬ ‫أيضــا بينمــا يدخــل املتعلــم صحيــح البــدن‪ .‬أمــا فــي بيــت هللا‬
‫ً‬
‫«األخــاق والديــن»‪.4‬‬ ‫فــإن الفقيــر واألعمــى يمكــن أن يقفــا جنبــا إلــى جنــب مــع‬
‫ملــك أو نبيــل وقــد يكونــا عنــد هللا أفضــل منهمــا‪ .‬إن أهــم‬
‫معنــى حضــاري وإنســاني ألماكــن العبــادة يكمــن فــي هــذا‬
‫يقــول املســيري فــي وصــف هــذا الطريقــة عنــد علــي عــزت‪»:‬‬ ‫البرهــان املتكــرر للمســاواة»‪.1‬‬
‫خطــاب علــي عــزت غيــر موجــه للمســلمين وإنمــا لــكل‬
‫النــاس‪ ،‬خطــاب يحقــق مقولــة «يــا أيهــا النــاس»! فهــو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اي وإنمــا خطابــا‬ ‫خطــاب عالمــي وليــس خطابــا اعتــذار ٍ‬ ‫بــل أن علــي عــزت فــي ســعيه الشــديد لربــط الديــن بالخيــر‬
‫يتوجــه للعالــم كلــه ويقــدم منهجــه اإلســامي‪ .‬ومــن هــذا‬ ‫والعــدل والجمــال واألخــاق جعــل الفــن هــو جــزء مــن‬
‫املنظــور أصبــح بمقــداره أن يأخــذ حتــى الرمــوز الوثنيــة وأن‬ ‫الديــن فــي األســاس وقــد ّ‬
‫فصــل علــي عــزت حجتــه فــي هــذا‬
‫يقــوم بتوظيفهــا فــي رؤيتــه الدعويــة‪ .‬فــي الفنــون يتحــدث‬ ‫الشــأن علــى طــوال فصــل «الفــن والنقــد» الــذي ختمــه‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مثــا علــي عــزت عــن مايــكل أنجلــو ويقــول بــأن أنجلــز‬ ‫بقولــه‪« :‬ولكــي نلخــص هــذا كلــه حــول النقــاط املشــتركة‬
‫حينمــا يتحــدث عــن اليــد اإلنســان تطــورت مــن أجــل أن‬ ‫بيــن الديــن والفــن‪ ،‬نقــول إن الفــن‪ ،‬فــي بحثــه عمــا هــو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعمــل فــي اآلالت‪ ،‬فيســأله علــي عــزت قائــا هــل يمكننــا أن‬ ‫إنســاني‪ ،‬أصبــح باحثــا عــن هللا‪ .‬وإذا كان الواقــع يشــير‬
‫ً‬
‫ـميا‪ ،‬فــإن هــذا ال ّ‬
‫نعتبــر يــد مايــكل أنجلــو مثــل أي يــد أخــرى تطــورت فقــط‬ ‫يغيــر كل‬ ‫إلــى وجــود فنانيــن ُملحديــن اسـ‬
‫لتعمــل فــي اآلالت؟ ويشــير علــي عــزت بــأن بيتهوفــن قــد ألــف‬ ‫�شــيء‪ ،‬ألن الفــن كمــا يقــول شــارتير»طريقة للعمــل وليــس‬
‫معظــم ســيمفونياته وهــو أصــم بمعنــى أن علــي عــزت يعمــل‬ ‫طريقــة للتفكيــر»‪ .2‬توجــد لوحــات ال دينيــة‪ ،‬وتماثيــل ال‬
‫ً‬
‫علــى مهاجمــة املنظومــة املاديــة بــكل شراســة موظفــا كل‬ ‫دينيــة‪ ،‬وكذلــك قصائــد مــن الشــعر‪ ،‬ولكــن ال يوجــد فــن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫�شــيء‪ .‬والســبب فــي هــذا أنــه علــي عــزت لــم يكــن مشــغوال‬ ‫الدينــي‪ .‬وظاهــرة «الفنــان امللحــد» هــي ظاهــرة نــادرة جــدا‪،‬‬
‫بالدفــاع عــن اإلســام وإنمــا بالدعــوة إليــه‪ .‬وفــي الواقــع فــإن‬ ‫ويمكــن إرجاعهــا إلــى تناقــض فــي اإلنســان نفســه‪ ،‬وهــو‬
‫علــي عــزت فــي بدايــة كتابــه يقــول بــأن اإلســام هــو الطبيعــة‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.87‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.173‬‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬ ‫ث‬
‫عل عزت هنا عىل مقاربته األن�وبولوجية لعالقة اإلسالم‬‫يؤكد ي‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪199 -193‬‬ ‫ ‬
‫‪4‬‬ ‫ال� ناقشها ف ي� الكتاب‪.‬‬
‫ت‬
‫الك�ى ي‬
‫بكل تفاصيل الحياة والمفاهيم ب‬

‫‪12‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫كنــت أقــول لهــم أن مــا هــو عظيــم فــي أمريــكا وفــي الغــرب‬ ‫البشــرية‪ .‬ولذلــك يقــول بــأن كلمــة «ديــن» بمعناهــا الغربــي‬
‫أنــا الوريــث الشــرعي لــه وليــس الغــرب الــذي تفســخ وأصبــح‬ ‫ال تنطبــق علــى اإلســام»‪.1‬‬
‫ينتهــج العدميــة واإلباحيــة والنفعيــة»‪.2‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وفــي ذات املحاضــرة يقــول املســيري توضيحــا مكمــا لهــذه‬
‫ً‬
‫‪ -4‬اســتراتيجية «نــزع الســحر عــن التقــدم والحضــارة‬ ‫االســتراتيجية قائــا‪« :‬أنــا ال أعتقــد أن اهتمــام املفكريــن‬
‫وكل الخصــوم» لتحريــر مخيلــة القــارئ‪ :‬قبــل حديثنــا‬ ‫واملســلمين بعلــي عــزت بيجوفيتــش نابــع فقــط مــن دوره‬
‫عــن منهجيــة بيجوفيتــش فــي عرضــه لإلســام‪ ،‬مــن املهــم‬ ‫السيا�ســي املهــم والكبيــر فــي قضيــة حــرب البوســنة‬
‫أن نعــرف كيــف مهــد ملنهجيتــه بتعريــة املناهــج الغربيــة‬ ‫والهرســك‪ ،‬بــل أعتقــد أنــه مفكــر عظيــم قــدم رؤيــة جيــدة‬
‫ً‬
‫املهيمنــة علــى املشــهد الحضــاري وعلــى مخيلــة غالــب‬ ‫ومتميــزة للمنظومــات املعرفيــة الغربيــة واقفــا علــى أرضيــة‬
‫القـراء فــي ذلــك الوقــت فــي اثنــاء حديثــه عــن اإلســام ليزيــد‬ ‫إســامية قــد تكــون صامتــة لكنهــا أرضيــة إســامية مئــة‬
‫ً‬
‫من تقبل القارئ لحججه ومقاربته‪ .‬وذلك أن بيجوفيتش‬ ‫باملائــة‪ .‬لــم يفصــح عنهــا تمامــا ألن هــذا جــزء مــن أســلوبه‬
‫قــد قــام بهــدم ســردية القائلــة بــأن الخــاص اإلنســاني‬ ‫الدعــوي‪ .‬وهــذه مســألة مــن الضــروري أن نتعلمهــا‪ .‬بمعنــى‬
‫يكمــن فــي الحضــارة املاديــة الرأســمالية والتقــدم‪ ،‬وعكــس‬ ‫ال يجــب فــي حديثنــا مــع اآلخــر املخالــف لنــا فــي املنظومــة‬
‫بصــورة جليــة فــي ثالثــة فصــول متتاليــة هــي‪« :‬التقــدم ضــد‬ ‫املعرفيــة أن نبــدأ حديثنــا بقــال هللا وقــال الرســول ألن‬
‫اإلنســان»‪ ،‬و «التشــاؤم املســرح»‪ ،‬و»العدميــة»‪ ،3‬وباقــي‬ ‫اآلخــر ال يؤمــن بهــذه األرضيــة اإلســامية‪ ،‬فالبــد فــي هــذه‬
‫فصــول الكتــاب بالتأكــد‪ ،‬كيــف أن الحضــارة لــم تحقــق‬ ‫الحالــة أن ندخــل فــي أرضيــة اآلخــر املعرفيــة ونســتدرجه‬
‫طموحــات اإلنســان بالحريــة واألخــاق والجمــال والفــن‬ ‫مــن أرضيتــه املعرفيــة‪ .‬فــي الواقــع أنــا أعتقــد أن أحــد‬
‫والســعادة‪ ،‬وكيــف أن عقيــدة التقــدم التــي مفادهــا بــأن‬ ‫اســتراتيجيات العلمانيــة هــي أن تجعلنــا علــى أرضيــة‬
‫البشــر يتقدمــون ويتطــورون مــع الزمــن غيــر صحيحــة‬ ‫إســامية طــوال الوقــت‪ ،‬بينمــا يجــب أن نــرد علــى ذلــك بــأن‬
‫وال تصمــد أمــام االختبــار‪ ،‬وضــرب أمثلــة تؤكــد أنــه ربمــا‬ ‫نقــول إن أرضيتنــا هــي األرضيــة اإلنســانية‪ .‬العلمانيــة فــي‬
‫يم�ضــي الزمــن والســنوات وال يــزداد اإلنســان إال شــقاء‬ ‫تكتيكاتهــا تريــد أن تجعــل مــن أي منتــج أو عمــل إســامي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وعذابــا وتعبــا‪ .‬يقــول علــي عــزت عــن هــذه االســتراتيجية‬ ‫ظاهــرة فريــدة أو خاصــة أو «انتيكــة» باللغــة املصريــة‪.‬‬
‫فــي نهايــة الثالثــة فصــول الســابقة‪« :‬هــذا النقــد للحضــارة‬ ‫أتذكــر أنــه حينمــا عــرف فــي مصــر أننــي بــدأت فــي التوجــه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليــس دعــوة لرفضهــا‪ ،‬فالحضــارة ال يمكــن رفضهــا حتــى لــو‬ ‫نحــو االتجــاه اإلســامي‪ ،‬شــيع عنــي أننــي أصبحــت درويشــا‬
‫رغبنــا فــي ذلــك‪ .‬وإنمــا ال�شــيء الوحيــد الضــروري واملمكــن‬ ‫أقيم الصالة وأحمل الســبحة للذكر طوال الليل والنهار‪،‬‬
‫ّ‬
‫هــو أن نحطــم األســطورة التــي تحيــط بهــا‪ .‬فــإن تحطيــم‬ ‫وقتهــا قلــت لهــم هــذا لــم يحــدث فأنــا ال زلــت اســتمع إلــى‬
‫هــذه األســطورة ســيؤدي إلــى مزيــد مــن أنســنة هــذا العالــم‪،‬‬ ‫املوســيقا الكالســيكية واتمتــع بهــا وأق ـرأ عنهــا‪ ،‬وهــذا‬
‫وهــي مهمــة تنتمــي بطبيعتهــا إلــى الثقافــة»‪.4‬‬ ‫يغيظهــم ألننــي بذلــك أوكــد ذاتــي كمســلم يســتوعب ت ـراث‬
‫البشــر ويبنــى عليــه‪ .‬فــي الواقــع‪ ،‬عندمــا كنــت فــي أمريــكا‬
‫المصدر السابق‪ ،‬من الدقيقة ‪.134 -130‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.130 -115‬‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬ ‫ف‬ ‫ض‬
‫المس�ي ي� معهد إسالمية المعرفة‪ ،‬من‬
‫ي‬ ‫محا�ة عبد الوهاب‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.133‬‬ ‫ ‬
‫‪4‬‬ ‫الدقيقة ‪.65 -63‬‬

‫‪13‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الجماهيريــة»‪ 2‬قــدم نقــدا دقيقــا لوســائل اإلعــام فــي عصــر‬
‫الرأســمالية مقارنــة بالثقافــة الشــعبية التــي امتلكتهــا‬ ‫وهنالــك أمــر ثانــي مرتبــط بأهميــة هــذه االســتراتيجية‬
‫املجتمعــات قبــل هــذه الوســائل‪ .‬فــي ذلــك النقــد لوســائل‬ ‫متعلــق بتحريرهــا ملخيلــة القــارئ مــن هيمنــة النمــاذج‬
‫اإلعــام نجــح علــي عــزت للخلــوص إلــى عمــق مشــكلة وأزمــة‬ ‫الســائدة‪ ،‬وذلــك أن القــارئ عندمــا يــدرك بــأن املنتــج‬
‫اإلعــام فــي النمــوذج الرأســمالي وهــذا مــا جعلــه نقــده لتلــك‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الحضــاري الــذي أمامــه ليــس كامــا وليــس منزهــا عــن‬
‫الوســائل يصلــح بصــورة كبيــرة لتحليــل منصــات التواصــل‬
‫ً‬ ‫النقائــص بــل هــو ملــيء بالعيــوب والتشــوهات وربمــا يضــر‬
‫االجتماعــي املعاصــرة (وخصوصــا تويتــر وانســتغرام)‪ .‬وفــي‬ ‫الجنس البشري أكثر مما ينفع‪ ،‬فإن هذه املعرفة ستحرر‬
‫فصــل «الريــف واملدينــة»‪ 3‬لــم ينــس علــي عــزت تحليــل‬ ‫عقــل القــارئ للبحــث عــن بدائــل لهــذا املنتــج واالنفتــاح‬
‫الشــكل الســكني الــذي أفــرزه هــذا النمــوذج أال وهــو املــدن‬ ‫علــى هــذه البدائــل املختلفــة‪ .‬وتحريــر مخيلــة األجيــال أمــر‬
‫والعواصــم‪ ،‬وآثــاره هــذا الشــكل علــى اإلنســان والثقافــة‬ ‫فــي غايــة األهميــة ألن االنه ـزام الحضــاري الــذي تعيشــه‬
‫والنفــس‪ .‬إذا تذكرنــا بــأن هــذا الكتــاب قــد بــدأت كتابتــه‬ ‫األمــة اإلســامية وحقيقــة أنــه كل األدبيــات والنظريــات‬
‫فــي ‪ 1960‬وانتهــت فــي ‪ ،1980‬نعلــم بــأن هــذا النقــد املبكــر‬
‫ً‬ ‫االقتصادية‪/‬السياســية‪/‬االجتماعية الحديثــة ولــدت‬
‫جدا للنموذج الرأســمالي بهذه الدقة املنهجية والشــمولية‬
‫ً‬ ‫وتطــورت فــي الغــرب وهيمنــة هــذه النظريــات علــى التفكيــر‬
‫يعتبــر دليــا علــى عبقريــة الرجــل وبصيرتــه النافــذة فــي نــزع‬ ‫والخيــال‪ ،‬تجعــل الكثيريــن يتجاهلــون مناقشــة أي نمــوذج‬
‫الســحر عــن النمــوذج الرأســمالي املهيمــن‪.‬‬ ‫بديــل ملــا هــو ســائد مــن مسارات‪/‬نظريات‪/‬ممارســات‬
‫بصــورة واعيــة أو غيــر واعيــة بســبب هــذا الفقــر فــي الخيــال‬
‫وعــدم االســتعداد لقبــول البديــل قبــل النظــر حتــى فــي‬
‫‪ -5‬االنحيــاز للضعفــاء واملظلوميــن واملهمشــين‪ :‬لعلــي‬
‫فاعليتــه أو فائدتــه‪.‬‬
‫عــزت روح جارفــة وانحيــاز كامــل للدفــاع عــن حقــوق‬
‫العمــال والضعفــاء والفق ـراء واملظلوميــن‪ ،‬وهــو مــا‬
‫يظهــر بجــاء علــى طــوال الكتــاب وخصوصــا فــي فصــول‪:‬‬ ‫ً‬
‫أخي ـرا‪ ،‬وفــي ســياق اســتراتيجية نــزع الســحر عــن النمــوذج‬
‫«الطبقــة العاملــة» و»الثــورة والديــن»‪ 4 ،‬وفــي تقريــره‬ ‫الرأســمالي املهيمــن مــع اســتخدامه منهــج التحليــل‬
‫ملفهــوم املســاواة اإلنســانية واالقتصاديــة‪ .5‬وال يجــاري أو‬ ‫ً‬
‫األنثروبولوجــي الــذي ينظــر دائمــا لإلنســان وتفاعالتــه‬
‫يســابق هــذا االنحيــاز للضعفــاء واملهمشــين إال شــغف علــي‬‫ويحلــل أثــر هــذه املنتجــات الحضاريــة علــى ممارســات‬
‫عــزت وثقتــه باإلنســان وســعيه فــي تحريــره مــن كل القيــود‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫البشــر وســلوكهم‪ ،‬قــدم علــي عــزت نقــدا دقيقــا ليــس فقــط‬
‫باعتبــاره خليفــة هللا فــي األرض‪.‬‬‫آلثــار هــذا النمــوذج علــى اإلنســان وإنمــا علــى باقــي األنظمــة‬
‫غيــر أن علــي عــزت لــم يكتــف باالنحيــاز للضعفــاء أو‬ ‫الحياتيــة التــي تشــكل هــذا اإلنســان بصــورة يوميــة‪.‬‬
‫املهمشــين أو يســعى لتحريــر اإلنســان مــن منطلــق إنســاني‬ ‫فناقــش‪ ،‬بصــورة تفصيليــة‪ ،‬فــي فصلــي «التعليــم والتأمــل»‬
‫المصدر السابق‪110 -105 ،‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬
‫و»التعليــم التقنــي والتعليــم الكالســيكي»‪ 1‬شــكل النمــوذج‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.112 -110‬‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬ ‫التعليمي الذي أفرزه هذا النموذج‪ .‬ثم في فصل «الثقافة‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.115 -112‬‬ ‫ ‬
‫‪4‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.90 -85‬‬ ‫ ‬
‫‪5‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪105 -98‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬

‫‪14‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫ينطلــق منهــا فــي الشــق األول مــن الكتــاب‪ ،‬عرضــه بمنهــج‬ ‫تحــرري فقــط‪ ،‬إنمــا مــن منطلــق دينــي أخالقــي‪ .‬بــل حاجــج‬
‫املقارنــة بيــن اليهوديــة والنصرانيــة (األديــان الســائدة فــي‬ ‫علــي عــزت بــأن كل محاولــة لنصــرة الضعفــاء واملظلوميــن‬
‫العالــم) وتضمــن فــي نقــده البوذيــة‪ ،‬وقبــل أن يعــرض‬ ‫وتحريــر اإلنســان‪ ،‬بصــورة واعيــة أو غيــر واعيــة‪ ،‬هــي جــزء‬
‫الوحــدة ثنائيــة القطــب فــي اإلســام قـ ّـدم نمــاذج للقصــور‬ ‫مــن الديــن والتديــن‪ ،‬وفــي هــذا الســياق يقــول علــي عــزت‬
‫املوجــود فــي فلســفة كل ديــن مــن هــذه األديــان ثــم بعــد ذلــك‬ ‫عــن الثــورة‪« :‬إن املجتمــع العاجــز عــن التديــن هــو مجتمــع‬
‫شــرح كيــف يغطــى ويتجــاوز اإلســام هــذا القصــور عبــر مــا‬ ‫عاجــز عــن الثــورة‪ .‬والبــاد التــي تمــارس الحمــاس الثــوري‬
‫أســماه «الوحــدة ثنائيــة القطــب فــي اإلســام» وهــي فكــرة‬ ‫هــي بــاد تمــارس نوعــا مــن املشــاعر الدينيــة الحيــة‪ .‬إن‬
‫تعتبــر امتــداد ملقاربتــه األنثروبولوجيــة لإلســام حيــث‬ ‫مشــاعر التضامــن واإلخــوة والعدالــة هــي مشــاعر دينيــة‬
‫يعكــس فيهــا كيــف أن اإلســام فــي تنظيمــه لحيــاة األف ـراد‬ ‫فــي صميــم جوهرهــا‪ ،‬وإنمــا موجهــة فــي شــكل ثــورة لتحقيــق‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫وسلوكهم في عباداته وأفكاره ومؤسساته كان دائما يجمع‬ ‫العدالــة والجنــة علــى األرض‪ .‬إن كال مــن الديــن والثــورة‬
‫بيــن املــادي (علــى خــاف املســيحية واألديــان الباطنيــة التــي‬ ‫ـاض مــن األلــم واملعانــاة ويحتض ـران فــي‬ ‫يولــدان فــي مخـ ٍ‬
‫كان تهمــل هــذا العنصــر) وبيــن الروحــي والثقافــي (علــى‬ ‫الرخــاء والرفاهيــة والتــرف‪ .‬حيــاة الديــن والثــورة تــدوم‬
‫خــاف اليهوديــة التــي كانــت تهمــل هــذا العنصــر)‪ .‬ولــم‬ ‫بــدوام النضــال والجهــاد‪ ،‬حتــى إذا تحققــا‪ ،‬يبــدأ املــوت‬
‫فصــل وشــرح‬ ‫يكتــف علــي عــزت بمجــرد هــذا التقريــر بــل ّ‬ ‫ُ‬
‫التحقــق فــي الواقــع العملــي‬ ‫يتســرب إليهمــا‪ .‬ففــي مرحلــة‬
‫كيــف أن كل عبــادات اإلســام وشــعائره الرئيســية «فــي‬ ‫ُينتجــان مؤسســات وأبنيــة‪ ،‬وهــذه املؤسســات نفســها هــي‬
‫طريقــة ممارســتها» تتجســد فيهــا هــذه الثنائيــة‪.‬‬ ‫التــي تق�ضــي عليهمــا فــي نهايــة األمــر‪ .‬فاملؤسســات الرســمية‬
‫ً‬
‫ال هــي ثوريــة وال هــي دينيــة‪ .‬فــإذا وجدنــا خصومــا للثــورة‬
‫فــي نطــاق الديــن‪ ،‬فهــم خصــوم ينتمــون إلــى الديــن الرســمي‬
‫علــى ســبيل املثــال ففــي حديثــه عــن الصــاة يقــول علــي‬ ‫فقــط‪ ،‬أي إلــى الكنيســة ونظامهــا اإلداري الهرمــي‪ ،‬أو‬
‫عــزت‪ « :‬الصــاة ليســت مجــرد تعبيــر عــن موقــف اإلســام‬ ‫الديــن ّ‬
‫املؤس�ســي الزائــف»‪.1‬‬
‫مــن العالــم‪ ،‬وإنمــا هــي أيضــا انعــكاس للطريقــة التــي يريــد‬
‫بهــا اإلســام تنظيــم هــذا العالــم‪ .‬فالصــاة تعلــن أمريــن‪:‬‬
‫أولهمــا‪ ،‬أنــه يوجــد هدفــان إنســانيان أساســيان‪ .‬وثانيهمــا‪،‬‬
‫أن هذيــن الهدفيــن – رغــم انفصالهمــا منطقيــا – يمكــن‬ ‫ه‪ -‬أبــرز صفــات منهجيــة بيجوفيتــش فــي عرضــه‬
‫توحيدهمــا فــي الحيــاة اإلنســانية‪ ،‬حيــث إنــه ال صــاة بــدون‬
‫وتقديمــه لإلســام (القســم الثانــي مــن الكتــاب)‬
‫طهــارة‪ ،‬وال جهــود روحيــة بــدون جهــود ماديــة واجتماعيــة‬
‫تصاحبهــا‪ .‬إن الصــاة أكمــل تصويــر ملــا نطلــق عليــه”‬
‫الوحــدة ثنائيــة القطــب” فــي اإلســام‪ ...‬الصــاة فــي االســام‬ ‫‪ -1‬فكــرة الوحــدة ثنائيــة القطــب وتجلياتهــا‪ :‬فــي الشــق‬
‫باطلــة بــدون وضــوء‪ ،‬بينمــا فــي الديــن املجــرد يمكــن‬ ‫ّ‬
‫الثانــي مــن الكتــاب والــذي ركــز فيــه علــي عــزت علــى تقديــم‬
‫أداء الصــاة مــع وجــود (القــذارة املقدســة) التــي عرفتهــا‬ ‫اإلســام للعالــم بعدمــا ّبيــن ووضــح األســس املنهجيــة التــي‬
‫بعــض نظــم الرهبنــة فــي كل مــن املســيحية والهندوســية‪.‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬

‫‪15‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫ليــس فــي العــوز فقــط‪ ،‬وإنمــا أيضــا فــي الشــر الــذي تنطــوي‬ ‫فالرهبــان الذيــن يتجنبــون النظافــة يشــعرون شــعورا‬
‫عليــه النفــوس البشــرية‪ .‬فالحرمــان هــو الجانــب الخارجــي‬ ‫دينيــا أصيــا أن إغفــال البــدن – بــل اإلهمــال املتعمــد‬
‫للفقــر‪ ،‬وأمــا جانبــه الباطنــي فهــو اإلثــم (أو الجشــع)‪ ،‬وإال‬ ‫لنظافتــه – يقــوي العنصــر الروحــي فــي الصــاة»‪ .‬ثــم‬
‫فكيــف نفســر وجــود الفقــر فــي املجتمعــات الثريــة؟ إننــا‬ ‫يتحــدث علــي عــزت كيــف أن هــذا الوضــوء والحــركات فــي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فــي النصــف الثانــي مــن القــرن العشــرين وال ي ـزال ثلــث‬ ‫الصــاة تعكــس أيضــا النظــام والصحــة وأنهــا ليســت تأمــا‬
‫ً‬
‫البشــرية يعانــي مــن نقــص مزمــن فــي التغذيــة‪ .‬فهــل يرجــع‬ ‫صوفيــا فحســب بــل فعــل عملــي‪ .‬ومــن جانــب آخــر يشــير‬
‫هــذا إلــى نقــص فــي الغــذاء‪ ،‬أم إلــى نقــص فــي الشــعور؟ إن أي‬ ‫علــي عــزت أن ذات الوضــوء الــذي يحمــل دالالت ماديــة لــه‬
‫ً‬
‫حــل ملشــكلة الفقــر ينبغــي أن يتضمــن االعت ـراف بالذنــب‪،‬‬ ‫أيضــا دالالت روحيــة إيمانيــة فيقــول‪ « :‬الوضــوء نظافــة‬
‫وإضافــة إلــى ذلــك البــد أن يصحبــه توبــة ونــدم‪ .‬فــكل حــل‬ ‫صحيــة‪ ،‬ولكــن هــذه النظافــة «ليســت فقــط معرفــة‪ ،‬وإنمــا‬
‫اجتماعــي البــد أن يتضمــن حــا إنســانيا‪ .‬بمعنــى أنــه ال‬ ‫فضيلــة كذلــك»‪ .‬فقــد أضفــى عليهــا اإلســام شــيئا باطنيــا‬
‫ينبغــي االكتفــاء بتغييــر العالقــات االقتصاديــة‪ ،‬بــل أيضــا‬ ‫حيــث إن اإلســام قــد رفــع الطهــارة إلــى مســتوى الفكــرة‬
‫العالقــات اإلنســانية‪ .‬يجــب إحــداث التوزيــع العــادل‪،‬‬ ‫وربطهــا عضويــا بالصــاة‪ .‬حيــث يقــرر الق ـرآن – خالفــا‬
‫وكذلــك التنشــئة الصحيحــة للنــاس التــي تقــوم علــى الحــب‬ ‫ملــا ق��د يتوقع�هـ أصح��اب الدي��ن املجـ�رد –(إ َّن ّ َ‬
‫للا ُي ِحـ ُّـب‬ ‫ِ‬
‫ُْ َ‬
‫والتعاطــف‪ ....‬كل مجتمــع مســتقر يدعمــه – باإلضافــة‬ ‫الت َّو ِابيـ َـن َو ُي ِحـ ُّـب ال َتط ِّه ِريـ َـن)‪.1‬‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫إلــى املعاييــر األخالقيــة واإلنســانية – مبــدأ البقــاء‪ .‬وقـ َـدر‬
‫املجتمــع اإلســامي أن يبلــغ الحــد األق�صــى مــن الناحيــة‬
‫اإلنســانية ومــن ناحيــة الكفــاءة معــا‪ ..‬لذلــك فــإن غايــة‬ ‫كمــا يشــير علــي عــزت إلــى أن فكــرة ارتبــاط هــذه العبــادات‬
‫اإلســام ليســت هــي القضــاء علــى األغنيــاء‪ ،‬وإنمــا القضــاء‬ ‫بأوقــات فلكيــة معينــة‪ ،‬تشــير إلــى تفاعــل هــذه الشــعائر‬
‫علــى الفقــر»‪.2‬‬ ‫مــع عنصــر الزمــان واملــكان والعالــم مــن حولنــا‪ ،‬وهــو مــا‬
‫انعكــس عنــد علمــاء املســلمين فــي اهتمــام كبيــر بعلــوم‬
‫الفلــك والجغرافيــا مدفوعــة بمــا غرســته هــذه الشــعائر‬
‫وبنـ ًـاء علــى هــذا التحليــل للصــاة والــزكاة يخلــص علــي‬ ‫فــي قلــوب وعقــول املســلمين مــن الســعي للفهــم الدقيــق‬
‫عــزت إلــى نتيجــة نهائيــة مهمــة‪ « :‬هــذا التحليــل التفصيلــي‬ ‫للزمــان واملــكان‪.‬‬
‫للصــاة والــزكاة – وهمــا أبــرز املمارســات اإلســامية –‬
‫يــدالن علــى ثنائيــة جوانية‪...‬نــرى الصــاة عنصـ ًـرا روحيــا‬
‫والــزكاة عنصـ ًـرا اجتماعيــا… الصــاة موجهــة لإلنســان‬ ‫وفــي الــزكاة يقــول علــي عــزت بــأن اإلســام بإعالنــه لهــذه‬
‫والــزكاة موجهــة للعالــم… فــي الصــاة صفــة شــخصية‪ ،‬وفــي‬ ‫الشــعيرة قــد « بــدأ يتخــذ وضــع الحركــة االجتماعيــة‪ ،‬فلــم‬
‫الــزكاة صفــة اجتماعيــا‪ ..‬الصــاة أداة للتنشــئة‪ ،‬والــزكاة‬ ‫يعــد يعمــل كديــن مجــرد فحســب‪ .‬وقــد أخــذت الــزكاة ثقلهــا‬
‫جــزء مــن النظــام االجتماعــي‪...‬إن التوحيــد بيــن فريضتــي‬ ‫الحقيقــي بتشــكيل املجتمــع السيا�ســي للمدينــة‪ ...‬لقــد جــاء‬
‫الصــاة والــزكاة تأكــد فــي الق ـرآن واملعادلــة القرآنيــة‬ ‫فرض الزكاة استجابة لظاهرة ليست في حد ذاتها واحدية‬
‫الجانــب‪ .‬فالفقــر ليــس قضيــة اجتماعيــة بحتــة‪ .‬فســببه‬
‫منقول بترصف من المصدر السابق‪ ،‬ص‪.300 -295‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬ ‫منقول بترصف من المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.297 -293‬‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪16‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫لعمــق التأمــل والتدبيــر»‪.2‬‬ ‫املألوفــة التــي تجمــع بيــن الصــاة والــزكاة ليســت إال صيغــة‬
‫معينــة مــن معادلــة أخــرى «ثنائيــة القطــب» والتــي يمكــن‬
‫ً‬ ‫اعتبارهــا األســاس الجوهــري لألوامــر الدينيــة واألخالقيــة‬
‫وأعتقــد عمومــا أن االهتمــام بتحقيــق هــذه الثنائيــة مهــم‬ ‫واالجتماعيــة فــي الق ـرآن‪ ...‬هــذه املعادلــة تحــدد العموديــن‬
‫ً‬
‫جــدا لنوعيــن مــن الشــباب فــي أبنــاء جيلنــا‪ :‬النــوع األول‬ ‫اللذيــن ال بديــل لهمــا‪ ،‬واللذيــن يقــوم عليهمــا اإلســام كلــه‪.‬‬
‫يضــم املتأثريــن واملعجبيــن بالحضــارة الغربيــة املاديــة‬ ‫ولعلــه مــن املناســب النظــر إلــى هــذه املعادلــة باعتبارهــا‬
‫(ســواء أن كان إعجابهــم بالنمــوذج الليبرالــي فيهــا أو‬ ‫أول صيغــة لإلســام وأرفعهــا‪ .‬فاإلســام بكاملــه يقــع تحــت‬
‫املارك�ســي أو االشــتراكي) والذيــن يغلــب عليهــم تســفيه أو‬ ‫صيغــة “الوحــدة ثنائيــة القطــب»‪.1‬‬
‫التقليــل مــن شــأن الثقافــة والعقيــدة فــي نظرتهــم ملناهــج‬
‫التغييــر واإلصــاح‪ .‬وحتــى إذا اهتمــوا بعوامــل الثقافــة أو‬
‫ً‬
‫العقائــد تجــد أن هــذا االهتمــام أو االعت ـراف يكــون غالبــا‬ ‫هــذه الوحــدة ثنائيــة القطــب لــم تنعكــس فقــط فــي عبــادات‬
‫بعــد االطــاع علــى مــدارس غربيــة نقديــة (مثــل املدرســة‬ ‫املســلمين بــل حتــى فــي منتجاتهــم الفنيــة واألدبيــة يقــول‬
‫الســلوكية وغيرهــا) ألن هــذا النــوع املعجــب بالغــرب‬ ‫علــي عــزت فــي هــذا الســياق‪« :‬إن املنطــق الــذي تنطــوي‬
‫يصعــب عليــه تقبــل أي فكــرة واعتبارهــا ســبيل حقيقــي‬ ‫عليــه األفــكار الســابقة يقودنــا إلــى فكــرة جوهريــة فــي‬
‫لإلصــاح مالــم تكــن قادمــة مــن الغــرب وفــي هــذا فقــر‬ ‫اإلســام‪ ،‬وأعنــي بهــا أن اإلســام يميــل بطبيعتــه إلــى دمــج‬
‫للخيــال واســتالب فكــري ســلبي‪ .‬أمــا النــوع الثانــي يضــم‬ ‫الفــن بالتكنولوجيــا‪ .‬هــذه النزعــة التركيبيــة تتحقــق بأكبــر‬
‫املنتميــن للحــركات واملجموعــات اإلســامية الذيــن يغلــب‬ ‫قــدر مــن الثبــات فــي فــن العمــارة‪ .‬فمــن بيــن الفنــون الكبــرى‬
‫عليهم عدم الحماس أو التفاعل إال لألفكار واألطروحات‬ ‫اســتوعب اإلســام فــن املعمــار وأواله أكبــر اهتمــام‪ .‬لعــل‬
‫التــي تــدور حــول الهويــة الفكريــة والص ـراع األيديولوجــي‬ ‫ّ‬
‫تجريديــة أو إلــى أنــه «فــن‬ ‫ذلــك يرجــع إلــى أنــه أقــل الفنــون‬
‫مــع غيــاب االهتمــام الحقيقــي بقضايــا النهــوض املــادي‬ ‫عــام»‪ .‬فالفنــون التجريديــة تؤكــد علــى فرديــة اإلنســان‬
‫والعلــم واالكتشــاف‪ .‬ولعــل غيــاب هــذه الثنائيــة عنــد هــذا‬ ‫أكثــر ممــا ينبغــي‪ ،‬والروحــي املجــرد يؤكــد علــى الجانــب‬
‫ً‬
‫النــوع الثانــي تحديــدا هــي مــا جعلهــم يتغيبــون عــن العلــوم‬ ‫اآلخــر فــي اإلنســان أكثــر ممــا ينبغــي‪ .‬وكال املوقفيــن مضــاد‬
‫ً‬
‫االجتماعية لعقود وقرون‪ ،‬وحتى عندما انتبهوا لها مؤخرا‬ ‫لنزعــة التــوازن الــذي يحــرص عليــه اإلســام‪ .‬أمــا الفــن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫كان اهتمامهــم بهــا ثقافيــا غيــر مهمومــا بتداعياتهــا املاديــة‪.‬‬ ‫املعمــاري فــا يحلــق فــي التجريــد‪ ،‬وإنمــا هــو فــن وظيفــي‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫وأعتقــد أن أحــد أســباب غيــاب النمــاذج التطبيقيــة التــي‬ ‫معنــي ومهتــم باالســتجابة لالحتياجــات اإلنســانية ُمتمي ـزا‬
‫تجمــع بيــن ثقافــة اإلســام فيهــا والفاعليــة والكفــاءة فــي‬ ‫فــي ذلــك عــن املوســيقي‪ .‬إنهــا تلــك الخاصيــة املزدوجــة للفــن‬
‫ً‬
‫نواحــي الحيــاة االقتصادية‪/‬االجتماعية‪/‬السياســية هــو‬ ‫املعمــاري (الجمــال والوظيفــة) هــي التــي جعلتــه نموذجــا‬
‫غيــاب هــذه الوحــدة ثنائيــة القطــب فــي التفكيــر‪.‬‬ ‫للفــن اإلســامي‪ ،‬ملــا بينهمــا مــن تشــابه‪ ،‬فاإلســام ينطــوي‬
‫ً‬
‫علــى العقــل والجســم معــا‪ .‬ولــم تكــن االنجــازات الباهــرة‬
‫‪ -2‬التأكيــد علــى املشــترك‪ :‬مــن طرائــق االســتدالل التــي‬
‫لفــن العمــارة اإلســامية مــن قبيــل الصدفــة‪ ،‬بــل نتيجــة‬
‫أكثــر علــي عــزت مــن اســتخدامها فــي عرضــه لإلســام هــي‬

‫المصدر السابق‪.304 -303 ،‬‬ ‫ ‬


‫‪2‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪301‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬

‫‪17‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫أو ال مباليــة أو خاليــة مــن الشــوق‪ ،‬وإنمــا هــي مزيــج مــن‬ ‫التأكيــد علــى جوانــب االشــتراك بيــن اإلســام وباقــي األديــان‬
‫ً‬
‫العلــم وحــب االســتطالع واالعجــاب الدينــي»‪ .‬إلــى أن يقــول‪:‬‬ ‫فــي املوضــوع املعيــن بمنهــج حجاجــي مــزدوج‪ .‬فــكأن مثــا‬
‫«إن الشــرط املسـ ّـبق لــكل تقــدم اقتصــادي واجتماعــي‬ ‫يؤكــد علــى جوانــب االشــتراك بيــن اإلســام واملســيحية فــي‬
‫هــو التغييــر فــي وجهــة التفكيــر‪ ،‬التحــول مــن التجريــد‬ ‫مقابــل اليهوديــة حينمــا ينتقــد الحــس املــادي فــي التديــن‬
‫إلــى التعييــن‪ ،‬مــن العقلــي إلــى التجريبــي‪ ،‬مــن الركــود إلــى‬ ‫وتجلياتــه فــي حيــاة اإلنســان‪ ،‬ثــم يؤكــد جوانــب االشــتراك‬
‫اإلبــداع‪ ..‬إنــه مــن املســتحيل تطبيــق اإلســام فــي املمارســة‬ ‫بيــن اإلســام واليهوديــة فــي مقابــل النصرانيــة والبوذيــة‬
‫ً‬
‫العمليــة انطالقــا مــن مســتوي بدائــي‪ ،‬فالصــاة ال يمكــن‬ ‫فــي معــرض انتقــاده للمناهــج الروحيــة‪ ،‬وهــو مــا يمكــن‬
‫ً‬ ‫أداؤهــا ً‬
‫أداء صحيحــا إال بضبــط الوقــت واالتجــاه فــي‬ ‫ان يكــون لــه أثــر علــى نفســية القــارئ‪ .‬وكأن علــي عــزت‬
‫املــكان‪ .‬فــإذا وضعنــا األمــر فــي أبســط صــوره‪ ،‬وإذا صرفنــا‬ ‫بهــذه املنهجيــة يقــول لــكل متديــن أن كل جوانــب الخيــر‬
‫النظــر عــن أي �شــيء آخــر فــي اإلســام‪ ،‬لوجدنــا أن املجتمــع‬ ‫التــي تراهــا فــي دينــك هــي موجــودة بالفعــل فــي اإلســام وأن‬
‫املســلم‪ ،‬بــدون أن يمــارس أي �شــيء ســوى هــذه األعمــدة‬ ‫اإلســام يمثلهــا بصــورة أفضــل حتــى مــن ديانتــك‪.‬‬
‫ً‬
‫الخمســة لإلســام‪ ،‬يجــب عليــه أن يبلــغ حــدا أدنــي مــن‬
‫الحضــارة‪ ،‬ومعنــى هــذا أن اإلنســان ال يســتطيع أن يكــون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مســلما ويبقــى متخلفــا»‪.1‬‬ ‫‪ -3‬التأكيــد علــى أن الفــن واالكتشــافات العلميــة ذات‬
‫ارتبــاط وثيــق باإلســام‪ :‬طــرح علــي عــزت اإلســام كديــن‬
‫ً‬
‫يحفز ويشــجع االكتشــافات العلمية وجعله متصالحا مع‬
‫و‪ -‬مناقشــة االنتقــادات الشــائعة ملنهجيــة‬ ‫العلــم والطبيعــة مــع التأكيــد علــى رؤيــة اإلســام املغايــرة‬
‫بيجوفيتــش والــدرس املســتفاد مــن الخطــأ املنهجــي‬ ‫وطريقتــه املبتكــرة فــي الدمــج بيــن العلــم والديــن‪ ،‬وكيــف أن‬
‫الــذي وقــع فيــه‬ ‫الديــن نفســه كان وراء كثيــر مــن االكتشــافات العلميــة فــي‬
‫‪ -1‬يعتبــر احتفــاء علــي عــزت بالتجربــة والــروح‬ ‫حضــارة املســلمين (مثــل الجبــر وعلــم الفلــك)‪ .‬ولهــذا الطرح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫«األنجلوسكســونية» مــع احتفائــه ب «الديمقراطيــة‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫ـه‬
‫ـ‬ ‫ج‬ ‫يت‬ ‫ـن‬
‫ـ‬ ‫ي‬ ‫«د‬ ‫ـوان‬
‫ـ‬ ‫ن‬ ‫بع‬ ‫ـا‬‫ـ‬ ‫م‬ ‫كا‬ ‫ـا‬‫خصــص علــي عــزت فصـ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الطبيعــة» ذكــر فيــه مالحظــات مهمــة وجديــرة بالتأمــل‪.‬‬
‫االشــتراكية» هدمــا وتناقضــا لجوهــرأطروحته الفكرية‬
‫منهــا قولــه‪« :‬ال يحتــوي القـرآن علــى حقائــق علميــة جاهــزة‪،‬‬
‫قــد يقــول البعــض بــأن مــن أهــم األخطــاء املنهجيــة التــي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ولكنــه يتضمــن موقفــا علميــا جوهريــا‪ ..‬اهتمامــا بالعالــم‬
‫وقــع فيهــا علــي عــزت فــي نهايــة الكتــاب هــي احتفائــه بالــروح‬ ‫الخارجــي وهــو أمــر غيــر مألــوف فــي األديــان‪ .‬يشــير الق ـرآن‬
‫ً‬
‫والتجربــة األنجلوسكســونية (وتحديــدا بريطانيــا)‪.‬‬ ‫إلــى حقائــق كثيــرة فــي الطبيعــة ويدعــو اإلنســان لالســتجابة‬
‫وكــون علــي عــزت قــد جعــل مــن بريطانيــا الطريــق الثالــث‬ ‫ً‬
‫إليهــا‪ .‬األمــر بالعلــم (بالق ـراءة) ال يبــدو هنــا متعارضــا مــع‬
‫الــذي يريــد الوصــول إليــه فــي فصــل األول مــن البــاب‬ ‫فكــرة األلوهيــة‪ ،‬بــل إنــه قــد صــدر باســم هللا «اق ـرأ باســم‬
‫الخامــس «الطريــق الثالــث خــارج اإلســام» وهــو «العالــم‬ ‫ربــك الــذي خلــق»‪ .‬اإلنســان بمقت�ضــي هــذا األمــر ال يالحــظ‬
‫األنجلوسكســوني»‪ 2‬مــع احتفائــه بطريقــة التفكيــر‬ ‫ويبحــث ويفهــم «طبيعــة خلقــت نفســها» ولكــن الكــون‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.319 -305‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬ ‫الــذي أبدعــه هللا‪ .‬ولذلــك فــإن املالحظــة ليســت بــا هــدف‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.386 -370‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬

‫‪18‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫وكان يقــع فــي هامــش أوروبــا) وباقــي األمــة اإلســامية نمــاذج‬ ‫والفلســفة األخالقيــة والــروح البريطانيــة وكبــار فالســفتهم‬
‫أقــرب لهــذا الطريــق الثالــث الــذي حــدده‪ .‬وقــد كان علــي‬ ‫وعباقرتهــم مــن دون تقديــم أي انتقــاد حيــث يقــول علــي‬
‫ً‬
‫عــزت مــدركا لهيمنــة نمــوذج الدولــة الحديثــة وأن هــذه‬ ‫عــزت‪« :‬إن االتجــاه إلــى الطريــق الثالــث يمكــن مشــاهدته‬
‫الهيمنة لن تنتهي في عقد أو عقدين وربما قرون‪ ،‬فحاول‬ ‫فــي أج ـزاء أخــرى مــن العالــم‪ ،‬وإن كانــت مختلفــة النزعــة‬
‫ـاال لطبيعــة االختيــارات السياســية‪ ،‬وطــرق‬ ‫ً‬
‫أن يعطــى مثـ‬ ‫عــن مثيلتهــا فــي إنجلت ـرا‪ .‬ففــي إنجلت ـرا يوجــد االتجــاه علــى‬
‫ً‬
‫التفكيــر املنهجيــة‪ ،‬والفلســفة األخالقيــة التــي يمكــن أن‬ ‫مســتوي الفكــر واملشــاعر معــا‪ ،‬بينمــا يظهــر االتجــاه فــي‬
‫تختارهــا األمــة فــي ظــل هينمــة نمــوذج الدولــة الحديثــة التــي‬ ‫أوروبــا كضــرورة عمليــة فقــط وليــس مــن بــاب االعتقــاد»‪.1‬‬
‫تــدار باألح ـزاب السياســية‪ .‬ومــع كل ذلــك‪ ،‬فقــد كان علــي‬
‫ً‬ ‫ويمكــن أن يســتطرد هــذا االعت ـراض بالقــول بــأن بعــض‬
‫عــزت مــدركا لحقيقــة أن هــذه النمــاذج ال تمثــل الطريــق‬
‫الــدول اإلســكندنافية اليــوم (فــي الســويد‪ ،‬والدنمــارك‬
‫الثالــث بنفــس القــدر الــذي يمثلــه اإلســام لذلــك لــم يكــن‬
‫وغيرهــا) قــد حققــت بنجــاح كبيــر مــا كان يدعــو إليــه‬
‫عنــوان البــاب الخامــس هــو «الطريــق الثالــث» فقــط وإنمــا‬
‫علــي عــزت فــي الفصــل الثانــي مــن بــاب «الطريــق الثالــث‬
‫«الطريــق الثالــث خــارج اإلســام»‪ .‬وفــي آخــر البــاب صــرح‬
‫ً‬ ‫خــارج اإلســام» والــذي كان بعنــوان «التســوية التاريخيــة‬
‫علــي عــزت بم ـراده مــن هــذا البــاب قائــا‪« :‬جميــع هــذه‬
‫الظواهــر التــي ناقشــناها ذات داللــة علــى ّ‬ ‫والديمقراطيــة االشــتراكية» والــذي قــال فيــه‪« :‬أمــا الطريــق‬
‫توجهاتهــا‪ .‬ولكنهــا‬
‫ً‬ ‫الوســط» فلــه شــأن آخــر‪ .‬ففــي املجتمعــات البروتســتانتية‬
‫ليــس إســاما وال تــؤدي إلــى اإلســام‪ ،‬ألنهــا قسـ ّـرية ٌومتكلفــة‬
‫يكشــف «الطريــق الثالــث» عــن نفســه فــي تنامــي أح ـزاب‬
‫غيــر متســقة مــع نفســها وقاصــرة‪ .‬أمــا اإلســام‪ ،‬فإنــه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الوســط فــي الحيــاة السياســية لهــذه املجتمعات‪...‬هــذا‬
‫يتضمــن رفضــا واعيــا للمســلمات الدينيــة واالشــتراكية‬
‫االتجــاه ينعكــس بصــورة خاصــة فــي الدعــوة املتزايــدة‬
‫األحاديــة الجانــب‪ ،‬وينطــوي علــى تســليم إرادي بمبــدأ‬
‫إلــى «الديمقراطيــة االشــتراكية»‪ .‬لقــد وجــدت البــاد‬
‫الثنائيــة‪ .‬ومهمــا يكــن األمــر‪ ،‬فــإن مــا رأينــاه مــن تأرجــح‬
‫ً‬ ‫البروتســتانتية فــي الديمقراطيــة االشــتراكية الحــل‬
‫وانحرافــات وتســويات قهريــة‪ ،‬إنمــا ُيمثــل انتصــارا للحيــاة‬
‫الــذي تحــاول البــاد الكاثوليكيــة أن تجــده فــي «التســوية‬
‫والواقع اإلنساني على جميع األيدولوجيات القاصرة على‬
‫ً‬ ‫التا ريخيــة»‪.2‬‬
‫جانــب واحــد‪ ،‬وهــذا فــي حــد ذاتــه ُي ّعــد انتصــارا للمفهــوم‬
‫ً‬ ‫تتركــز إجابتنــا علــى هــذا االعت ـراض ابتـ ً‬
‫ـداء بــأن علــي‬
‫اإلســامي»‪ .3‬لكننــا أيضــا نقــر بــأن عــرض علــى عــزت لهــذه‬
‫ً‬
‫املفاهيــم أو التجــارب «األنجلوسكســونية فــي بريطانيــا»‬ ‫عــزت بيجوفيتــش كان رجـ ًـا سياســيا فــي املقــام األول‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قبــل أن يكــون مفك ـ ًرا‪ ،‬فبعــد أن رســم ّ‬
‫وفصــل فــي مالمــح‬
‫أو «الديمقراطيــة االشــتراكية» كان عرضــا داعمــا خاليــا‬
‫ً‬ ‫«الطريــق الثالــث» الــذي هــو الديــن اإلســامي وطريقــة‬
‫تقريبــا مــن أي مالحظــات نقديــة أو اعتراضــات كافيــة‪.‬‬
‫ً‬
‫الحيــاة اإلســامية‪ ،‬وألن السيا�ســي مشــغول دائمــا بســؤال‬
‫‪ -2‬دافــع علــي عــزت عــن الرأســمالية واحتفــى بكبــار‬
‫«املمكــن» والقابــل للتطبيــق قــام علــي عــزت بإعطــاء شــعبه‬
‫مفكريهــا و اكتفــى بنقــد املاركســية‬ ‫(الشــعب البوسـ ّ‬
‫ـني الــذي كان يعنــى مــن أزمــات سياســية‬
‫ً‬
‫يقــول هــذا االدعــاء بعــض النــاس اعتمــادا علــى فكــرة‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.382‬‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪389‬‬ ‫ ‬
‫‪3‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬ص ‪386‬‬ ‫ ‬
‫‪2‬‬

‫‪19‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫للتعريــف باإلســام‪ .‬كمــا أن بعــض الشــرعيين يقولــون بــأن‬ ‫أن علــي عــزت اقبــس لبعــض كبــار مفكــري الرأســمالية‬
‫أفضــل طريقــة لتقديــم اإلســام لغيــر املســلم هــي كتــب أهــل‬ ‫مثــل آدم ســميث وغيــره‪ ،‬وأنــه فــي املقابــل أكثــر مــن انتقــاد‬
‫العلــم املعروفيــن مثــل كتــب شــيخ اإلســام ابــن تيمــة وابــن‬ ‫املاركســية وهــذا غيــر دقيــق‪ .‬فلــم يحتــف علــي عــزت‬
‫حــزن وغيرهــم‪.‬‬ ‫بالرأســمالية األنجلوسكســونية إال فــي آخــر الكتــاب فقــط‬
‫(فيمــا ال يزيــد عــن ‪ 10‬صفحــات) وإنمــا ضــرب بهــا املثــال‬
‫لبعــض النمــاذج القريبــة مــن الطريــق الثالــث وليســت هــي‬
‫وهــذا الــكالم صحيــح فــي جوهــره ملــن يفهــم الق ـرآن ويفهــم‬ ‫نفســها الطريــق الثالــث كمــا ذكرنــا فــي االقتبــاس الــذي‬
‫اللغــة العربيــة مثــل العــرب الذيــن بعــث إليهــم محمــد صلــي‬ ‫ختــم بــه البــاب الخامــس‪ِ .‬وفــي الحقيقــة هــو لــم يدافــع‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬لكن في هذا الزمان يصح لنا أن «نحدث‬ ‫عــن الرأســمالية وإنمــا دافــع عــن النمــوذج الوســط بدليــل‬
‫النــاس بمــا يفقهــون» كمــا وجهنــا الرســول صلــي هللا عليــه‬ ‫دعمــه واحتفاظــه بالديمقراطيــة االشــتراكية كتجلــي ثانــي‬
‫ً‬
‫وســلم‪ ،‬وميــزة علــي عــزت أنــه قـ ّـدم اإلســام ألهــل عصــر عبــر‬ ‫قريب من الطريق الثالث‪ .‬ثانيا‪ ،‬فإن علي عزت على طوال‬
‫مناقشــة الفلســفات واألفــكار التــي يفهمهــا ويعظمهــا أهــل‬ ‫الكتــاب انتقــد بصــورة رئيســية النمــوذج املــادي الــذي هــو‬
‫هــذا العصــر كمــا رأينــا‪ .‬وأكثــر مــن ذلــك‪ ،‬أنــه فــي تقديمــه‬ ‫األســاس الفلســفي لــكل مــن الرأســمالية واالشــتراكية علــى‬
‫لإلســام لــم يقــم بتجــاوز القـران وإنمــا اعــاد تقديــم أفــكار‬ ‫ـواء حيــث إن كالهمــا يعتبــر أن جوهــر املحــركات‬ ‫حــد سـ ً‬
‫ً‬
‫ومواعــظ الق ـرآن وعقائــده فــي قالــب مقــارن يفهمــه أهــل‬ ‫النفســية لإلنســان وحوافــزه هــي مصلحــة املاديــة‪ .‬ثالثــا‪،‬‬
‫هــذا الزمــن‪ .‬حيــث إن املعرفــة االنســانية فــي جوهرهــا‬ ‫قــد يكــون ســبب االنتقــاد املتكــرر للماركســية واالشــتراكية‬
‫معرفــة مقارنــة كمــا يقــول املســيري‪ ،‬وبالتالــي فــإن أفضــل‬ ‫فــي الكتــاب هــي حقيقــة أن الظلــم الــذي وقــع علــى الشــعب‬
‫طريقــة لتقديــم فكــرة جديــدة إلنســان مــا هــو أن تبيــن لــه‬ ‫البوســني واالضطهــاد والقتــل إنمــا حــدث تحــت االتحــاد‬
‫بالضبــط كيــف تختلــف هــذه الفكــرة عــن باقــي األفــكار‬ ‫الســوفيتي الــذي كان يرفــع شــعار االشــتراكية وقتهــا‪ ،‬لذلــك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫التــي يعرفهــا ســابقا عبــر منهجيــة املقارنــة وهــذا هــو مــا قــام‬ ‫مــن الطبيعــي أن يصــب علــي عــزت جــزءا معتبـرا مــن نقــده‬
‫بــه علــي عــزت بيجوفيتــش بالضبــط‪ .‬وعلــى حــد علمــي‪،‬‬ ‫لهــذا النمــوذج االشــتراكي‪.‬‬
‫ً‬
‫فهــذا هــو مــا كان يفعلــه أئمــة اإلســام ســابقا فــي كتبهــم‬
‫الكبيــرة‪ ،‬الذيــن كانــوا يناقشــون أفــكار عصرهــم ويبينــون‬
‫‪ -3‬ال ينبغــي التركيــز علــى كتــاب بيجوفيتــش وغيــره مــن‬
‫كيــف يختلــف أو يتفــق اإلســام وتعاليمــه مــع تلــك األفــكار‬
‫الكتــب الفكريــة لتقديــم اإلســام لغيــر املســلمين‪.‬‬
‫والفلســفات‪.‬‬

‫ً‬ ‫فــي النــدوة التــي نظمهــا معهــد إســامية املعرفــة ملناقشــة‬


‫أخيـرا‪ ،‬أعتقــد أن الخطــأ املنهجــي البــارز الــذي وقــع فيــه علــي‬
‫الكتــاب والتــي تحــدث فيهــا املســيري‪ ،‬كان أول معلــق علــى‬
‫عــزت هــو ضعفــه بالعلــوم واملعــارف اإلســامية والشــرعية‬
‫املناقشــة الشــيخ محمــد الغزالــي والــذي قــال فــي حديثــه أننــا‬
‫التــي غابــت بصــورة واضحــة عــن الكتــاب‪ ،‬بــل إن علي عزت‬
‫يجــب أن نعتمــد علــى مثــل هــذه الكتــب لتقديــم اإلســام‬
‫كان إذا أراد أن يتحــدث عــن فلســفة إســامية أو تاريــخ‬
‫للعالــم وأن القـرآن الكريــم هــو أفضــل كتــاب يقــدم للعالــم‬

‫‪20‬‬
‫نظرة لإلسالم من الخارج‬
‫أوراق تأسيس ‪12‬‬ ‫منهجية علي عزت بيجوفيتش في عرضه لإلسالم للعالم والجيل الجديد‬

‫ز‪ -‬مــن منهــج ينطلــق مــن «أصــل اإلنســان» إلــى‬ ‫إســامي معيــن يحيــل إلــى مصــادر غربيــة‪ ،‬وهــو مــا أثــر علــى‬
‫ً‬
‫خطــاب فلســفي يحــرك عواطــف اإلنســان‪ :‬الحــس‬ ‫جــودة وقيمــة نقــد بيجوفيتــش الــذي لــم يكــن مســتوعبا‬
‫األدبــي الرفيــع لعلــي عــزت‬ ‫لدقــة العلــوم والفلســفة اإلســامية بقــدر مــا كانــت نقــد‬
‫ً‬ ‫مــن داخــل الفلســفة الغربيــة‪ .‬كمــا أن األدوات التــي‬
‫ذكرنــا أن علــي عــزت كان مهمومــا باإلنســان‪ ،‬بــل إن املنهــج‬ ‫اســتعملها علــي عــزت فــي النقــد (الفلســفة الغربيــة واألدب‬
‫املركــزي للكتــاب وهــو املنهــج األنثروبولوجــي الــذي يحاكــم‬ ‫الغربــي بصــورة رئيســية) جعلــت مــن هــذه األطروحــة مهمــة‬
‫أي منهــج أو طريقــة بالرجــوع إلــى «أصــل اإلنســان» وتفاعــل‬ ‫ومركزية عند املهتمين بالفكر لكنه لم يســتطع أن يخترق‬
‫هــذا املنهــج ومنتجاتــه مــع هــذا األصــل‪ .‬هــذا االهتمــام‬ ‫الفضــاء الشــرعي ليكــون مركــزي فــي األدبيــات الشــرعية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشــديد باإلنســان انتقــل أيضــا إلــى طريقــة كتابــة علــي‬ ‫حــول الفقــه والعقيــدة ومقارنــة األديــان‪ .‬وعمومــا فهــذا أمر‬
‫عــزت التــي كانــت تخاطــب وتســتثير «الحــس اإلنســاني»‬ ‫ً‬
‫متفهــم جــدا باعتبــار حاجــز اللغــة وضعــف الترجمــة لهــذه‬
‫فــي «عقــل» القــارئ‪ ،‬بالرغــم مــن أي موضوعــات الكتــاب‬ ‫العلــوم اإلســامية للغــات األخــرى مثــل اإلنجليزيــة‪ ،‬لكــن‬
‫وأفــكاره الرئيســية هــي أفــكار فلســفية جامــدة فــي العــادة‬ ‫الفكــرة هنــا أن األطروحــة الفكريــة التــي قدمهــا علــي عــزت‬
‫ويصعــب وضعهــا فــي هــذا القالــب اإلنســاني‪ .‬إال أن علــي‬ ‫كان يمكــن أن تصــل مراحــل مختلفــة فــي العمــق واإلضافــة‬
‫عــزت كمــا قــال عنــه املســيري‪ ،‬لــم يلجــأ إلــى مجــرد الســرد‬ ‫للفلســفة اإلســامية وأن تصــل ملراحــل مختلفــة مــن‬
‫الوصفــي أو التوثيــق كمــا فعلنــا فــي هــذه الدراســة‪ ،‬وإنمــا‬ ‫القبــول واالنتشــار وســط علمــاء الديــن إذا اســتصحبت‬
‫قــدم ثمــرة وخالصــة رحلتــه الفكريــة وتجاربــه بأســلوب‬ ‫معهــا األدوات واملفاهيــم مــن العلــوم الشــرعية واملعــارف‬
‫شــاعري رائــع وبعيــد كل البعــد عــن رتابــة وملــل الكتابــات‬ ‫اإلســامية بمصادرهــا التاريخيــة‪ .‬وإذا وجدنــا العــذر لعلــي‬
‫األكاديمية أو الفلسفية‪ .‬إن قدرة علي عزت التي يصعب‬ ‫عــزت بســبب حاجــز اللغــة‪ ،‬فــإن هــذا العــذر ينتفــي فــي حــق‬
‫تجاهلهــا علــى تقديــم األفــكار والحجــاج فــي قالــب يجمــع بيــن‬ ‫مــن يجيــدون اللغــة العربيــة ويحاولــون الخروج باجتهادات‬
‫اآليــات القرآنيــة واألفــكار وتاريــخ املوســيقي واالقتباســات‬ ‫فكريــة وفلســفية متعلقــة بــدور اإلســام فــي العصــر الــذي‬
‫األدبيــة‪ 1‬كان لهــا أثــر كبيــر فــي إيصــال أفــكاره للقــارئ ال‬ ‫نعيشــه‪ ،‬كمــا أن وفــرة املعــارف اإلنجليزيــة وســهولة تعلمهــا‬
‫عبــر عقلــه فقــط بــل عبــر حواســه وعواطفــه‪ ،‬وهــذه القــدرة‬ ‫ينفــى عنهــم كذلــك عــدم االطــاع علــى أواخــر املنتجــات‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫نفســها جعلــت مــن هــذا الكتــاب الفكــري كتابــا أدبيــا رفيعــا‬ ‫املعرفيــة والفكريــة التــي توصــل إليهــا الشــرق والغــرب كمــا‬
‫يستكشــف فيــه اإلنســان نفســه وروحــه‪ ،‬مــع اســتفادته‬ ‫فعــل علــي عــزت‪.‬‬
‫مــن طــرح الكتــاب الفكــري والفلســفي لتنميــة عقلــه‬
‫وحجتــه‪.‬‬
‫منقول بترصف من مداخلة محمد عبد العزيز‪ ،‬حلقة برنامج‬ ‫ ‬
‫‪1‬‬
‫ال�ق والغرب»‪.‬‬‫ب� ش‬ ‫«أسمار وأفكار» ت‬
‫ال� ناقشت كتاب «اإلسالم ي ن‬
‫ي‬
‫رابط الحلقة‪M49UK4U=v?watch/com.youtube.www//:https :‬‬
‫‪6=index&JM35dfLtRJCAfJZAbY7KxkHJ2v_PLcjlUO=list&FLAI‬‬

‫‪21‬‬

You might also like