You are on page 1of 10

‫كتاب الجاللة‬

‫و هو‬
‫كلمة هللا‬
‫من مجموعة رسائل‬
‫الشيخ محيى الدين بن عربي‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫وبه الحول والقوة‬

‫الحمد هلل حمدا ال تعلمه األسرار وال تعرفه األرواح وال تدركه العقول وال‬
‫تضمره القلوب وال تستشرف عليه النفوس وال تنطق به األفواه‪ ،‬الجامع للمحامد‬
‫األزلية والممد للمحامد األبدية بالتقديس للحامدين عن النظراء واألشباه‪ ،‬والصالة‬
‫على السيد الم ُْو َتى جوامع الكلم محم ٍد الذي عنت لِ َقيُّو ِم َّي ِة َم ْش ِر ِف ِه الوجوه و َس َج ْ‬
‫دَت‬
‫وتحركت بالصال ِة عليه الشفاهُ‬‫ْ‬ ‫ت بمجد ِه ْ‬
‫األلسِ َن ُة‬ ‫ً‬
‫قائمة ما َن َط َق ْ‬ ‫ً‬
‫دائمة‬ ‫له ال ِجباه صال ًة‬
‫حليم أوا ٍه‬‫ٍ‬ ‫وسلم تسليما عليه وعلى الذين اصْ َط َفى من ك ِّل‬
‫أما بعد‪ :‬فإني ذاك ٌر في هذا الكتاب بعض ما تحوي عليه الجاللة من األسرار‬
‫واإلشارات فأقول إن هللا لألسماء بمنزلة الذات لما تحمله من الصفات‪ G‬فكل اسم‬
‫فيه يندرج ومنه يخرج وإليه يعرج وهو عند المحققين للتعلق ال للتخلق وحقيقته‬
‫أنه دليل الذات ال غير ثم انه يظهر في مواطن كثيرة ومراتب جمة إذ ال فائدة‬
‫لتصور الذات في تلك المواطن لما تطلبه تلك المراتب من المعاني واألحكام‬
‫فتكون الجاللة في ذلك الموطن تعطي بما تحتوي عليه من معاني األسماء ما‬
‫يعطيه ذلك اإلسم من جهة ذلك المعنى الذي يختص به وفيه شرف ذلك اإلسم من‬
‫حيث أن الجاللة قامت مقامه في ذلك الموطن ِب ُم َه ْي ِم ِن َّي ِت َها على جميع األسماء‬
‫وخصوصيِّتها باإلحاطِ َّي ِة فيها كالمذنب إذا قال يا هللا اغفر لي‪ ،‬فالجاللة ههنا نائبة‬
‫مناب الغفار فال يجيبه منها إال معنى االسم الغفار وتبقى الجاللة مقدسة عن‬
‫التقييد‪ ،‬ثم إنها غيب كلُّها ما فيها من عالم الشهادة شي ٌء إال استرواح ما في وقت‬
‫تحريكها بالضم في قولك هللا ال غير فإن الهو يظهر هناك وما عدا هذا فغيب‬
‫مجرَّ ٌد أعني في اللفظ وأما في الخط والرقم فغيب مطلق ال غير‬
‫واعلموا أنها تحوي من الحروف على ستة أحرف وهي‪ :‬ا ل ل ا ه و‪ ،‬أربعة منها‬
‫ظاهرة في الرقم وهي األلف األولية والم بدء الغيب وهي المدغمة والم بدء‬
‫الشهادة وهي المنطوق بها مشددة وهاء الهوية‬
‫وأربعة منها ظاهرة في اللفظ وهي ألف القدرة والم بدء الشهادة وألف الذات‬
‫وهاء الهو وحرف واحد منها ال ظاهر في اللفظ وال في الرقم لكنه مدلول عليه‬
‫وهو واو الهو في اللفظ وواو الهوية في الرقم وانحصرت حروفه‪ ،‬والالم للعالم‬
‫األوسط وهو البرزخ وهو معقول والهاء للغيب والواو لعالم الشهادة ولما كان هللا‬
‫هو الغيب المطلق وكان فيه واو عالم الشهادة ألنها شفهية وال يتمكن ظهورها في‬
‫هللا‪ ،‬لهذا لم تظهر في الرقم وال في اللفظ فكانت غيبا في الغيب وهذا هو الغيب‬
‫ومن هنا صح شرف الحس على العقل فإن الحس اليوم غيب في العقل والعقل هو‬
‫الظاهر فإذا كان غدا في الدار اآلخرة كانت الدولة في الحظيرة اإللهية وكثيب‬
‫الرؤية للحس فنظرت إليه األبصار وكانت الغايات لألبصار والبدايات للعقول‬
‫ولوال الغايات ما التفت أحد إلى البدايات‪ G‬فإنظر ما هنا من األسرار وهو أن‬
‫ض ال ُّد ْن َيا َوهّللا ُ ي ُِري ُد اآلخ َِر َة)‬ ‫اآلخرة أشرف من الدنيا قال هللا تعالى ( ُت ِري ُد َ‬
‫ون َع َر َ‬
‫(واآْل خ َِرةُ َخ ْي ٌر َوأَ ْب َقى) ‪ 17‬سورة األعلى‬ ‫‪ 67‬سورة األنفال‪ G،‬وقال تعالى َ‬
‫ثم أن اآلخرة لها البقاء والدنيا لها الزوال والفناء‪ G،‬والبقاء والديمومية أحسن‬
‫‪.‬وأشرف من الذهاب والفناء‬
‫ثم أن المعرفة باهلل ابتداء علم وغايتها عين‪ ،‬وعين اليقين أشرف من علم اليقين‪،‬‬
‫والعلم للعقل والعين والبصر‪ ،‬فالحس أشرف من العقل‪ ،‬فإن العقل إليه يُسعى ومن‬
‫أجل العين َينظر‪ ،‬فصار عالم الشهادة غيب الغيب‪ ،‬ولهذا ظهر في الدنيا من أجل‬
‫الدائرة فإنه ينعطف آخرها على أولها فصار عالم الشهادة أوال وهو مقيد عما‬
‫يجب له من اإلطالق فال يبصر البصر إال في جهة وال تسمع األذن إال في قرب‪،‬‬
‫فخالفه إذا مشى حقيقة‪ ،‬وانطلق من هذا التقييد كسماع سارية ونظر عمر رضي‬
‫هللا عنه إليه من المدينة وبلوغ الصوت وما أشبه ذلك وصار عالم الغيب وسطا‬
‫وهو عالم العقل فإنه يأخذ عن الحس براهينه لما يريد العلم به وصار عالم‬
‫‪ :‬الشهادة المطلق غيبا في الغيب وله يسعى العقل ويخدم وصورته في الدائرة هكذا‬

‫لكل شيء ظل وظل هللا العرش‪ ،‬غير أنه ليس كل ظل يمتد والعرش في األلوهية‬
‫ظل غير ممتد لكنه غيب‪ ،‬أال ترى األجسام ذوات الظل المحسوس إذا أحاطت بها‬
‫األنوار كان ظلها فيها‪ ،‬والنور ظله فيه والظلمة ضياؤها فيها‪ ،‬ولما استوى هللا‬
‫على قلب عبده المؤمن فقال سبحانه‪(:‬ما وسعني أرضي وال سمائي ووسعني قلب‬
‫عبدي) حين استوى االسم الرحمن على العرش المعروف الظاهر‪ ،‬فالعرش‬
‫الظاهر ظل الرحمن والعرش اإلنساني ظل هللا وبين العرشين في المرتبة ما بين‬
‫ـن أَ ّيا ً‬
‫االسم هللا والرحمن وان كان قد قال سبحانه‪(:‬قُ ِل ْادعُو ْا هّللا َ أَ ِو ْادعُو ْا الرَّ حْ َم َ‬
‫مَّا َت ْدعُو ْا َف َل ُه األَسْ َماء ْالحُسْ َنى) فال يخفى من كل وجه على كل عاقل تفاوت‬
‫المراتب بين االسمين ولهذا قال ال ُم َكلَّفون‪( :‬وما الرحمن) حين قال لهم (اسْ ُج ُدوا‬
‫من ) ولم يقولوا‪ :‬وما هللا‪ ،‬ولما كان العرش سريرا صار غيبا في الرحمانية‪،‬‬ ‫لِلرَّ حْ ِ‬
‫ولما كان االستواء اإللهي على القلب‪ G‬من باب وسعني صارت األلوهية غيبا في‬
‫اإلنسان فشهادته إنسان وغيبه إله ولسريان األلوهية الغيبية في هذا الشخص‬
‫ْت َل ُكم مِّنْ إِ َل ٍه َغي ِْري)‬ ‫اإلنساني ا َّدعى األلوهية باإلسم اإلله فقال فرعون‪َ (:‬ما َعلِم ُ‬
‫ولم يتحر من أجل أن قالها عن المشيئة ال عن الحال‪ G‬ال من طريق األمر أن يقول‬
‫فتفطن وصرح بالربوبية لكونها ال‬ ‫َّ‬ ‫(أنا هللا) وال قال إله وإنما قالها بلفظة غيري‬
‫تقوى قوة األلوهية فقال (أَ َنا ر ُّب ُك ُم األعْ َلى) بخالف من قالها عن الحال‪ G‬من طريق‬
‫األمر بمساعدة المشيئة فكان جمعا مثل أبي يزيد حين قال‪ :‬إنني أنا هللاُ الَ إله إال‬
‫أنا فاعْ ُب ُدوني وقال مرة‪ :‬أنا هللا فلم يكن لأللوهية فيه موضع فراغ ترمي سهامها‬
‫فيه لكمال سعة السريان‪ ،‬فعزة األلوهية على سائر المراتب األسمائية ظاهرة‬
‫وغالبة فال مقاومة إلسم معها البتة‬
‫هللا كلمة نفي شدت في العالم العلوي فارتفع بها الترجمان ومن عاد نفيا بعد‬
‫اإلثبات فال عين له ولو ظهر في اللفظ كما نفي الشريك بقوله ال شريك له فال‬
‫عين له في الحكم واللفظ به موجود وما بقي بعد نفي ال إال األلفان وهو األول‬
‫واآلخر فاضرب أحدهما في اآلخر يخرج الهاء بينهما وينتفيان وهو الهو فإن‬
‫األول له تعالى اسم إضافي ال حقيقة له فيه فإنه بوجودنا وحدوث عيننا كان له‬
‫حكم األولية وبتقدير فناء أعيننا كان حكم اآلخرية ونحن من جانب الحقيقة في‬
‫ك َشيْئاً) وقال تعالى‪َ ((:‬ل ْم َي ُكن َشيْئا ً‬ ‫تعالى‪(:‬و َق ْد َخ َل ْق ُت َ‬
‫ك مِن َق ْب ُل َو َل ْم َت ُ‬ ‫َ‬ ‫عين قال هللا‬
‫م َّْذ ُكوراً)) فكأنا لم نكن فال أولية إذن وال آخرية إذ ال نحن فبقي هو خاصة وهو‬
‫المطلوب‬
‫الم هذا االسم األولى الم المعرفة‪ ،‬فإن األلف والالم للتعريف كما جاء‪ ،‬واأللف‬
‫األولى لكان هللا وال شيء معه فبقيت الالم الثانية والهاء وكالمنا على صورة‬
‫الرقم فهي الم الملك فإن بزوال األلف والالم األولى تبقى صورة له فهي الم‬
‫الملك والهاء كناية عن غيب الذات المطلقة فإن الهاء أول الحروف ولها المبدأ‬
‫وهي غيب في اإلنسان ولكن أقصي الغيب فصار هذا االسم بهذه اإلشارات يحوي‬
‫على كان هللا وال شيء معه من حيث األلف ويحوي على مقام المعرفة من حيث‬
‫الالم األولى ويحوي على مقام الملك وفيه ظهور كل ما سواه من حيث الالم‬
‫الثانية ويحوي على ذكر العالم له من حيث الهاء ألنها دليل الغيب وهو غيب‬
‫عنهم فال يطلقون عليه تعالى إال هو فباأللف يذكر نفسه وبالهاء يذكره خلقه‬
‫وبالوجه الذي يلي األلف من الم المعرفة يعرف نفسه أزال وبالوجه اآلخر منها‬
‫الذي هي الم الملك يعرفه خلقه أبداً بالمعرفة المحدثة ومن حيث الالم نفسها التي‬
‫هي الم المعرفة تعرفه المعرفة فقد كمل في هذا االسم الوجود المُحدث والقديم‬
‫‪.‬صفته حقيقة وموصوفه‪ ،‬فانظر ما أتم هذا االسم وما أكمله‬
‫وأما األلف الظاهرة في اللفظ بعد الم الملك المتصلة بالهاء في الخط والواو‬
‫الغيبية في الهاء إذا نطق بالهاء الروح فإن نطق بها الجسم عادت الواو ياء فإن‬
‫نطقت بها النفس المثلية عادت ألفا فحكم هذه األلف النطقية والواو المتحولة من‬
‫صورة إلى صورة بحسب الناطق حكم آخر وذلك أن الهاء لما كانت تنظر إلى‬
‫األلف األولى ومقام األلف هناك أ‪ ،‬ال يتصل به شيء ظهرت األلف بعد الالم‬
‫فاتصلت‪ G‬بها الالم في النطق فبقيت الهاء وال شيء معها ما دام الكون ال يذكرها‬
‫فهي ساكنة سكون حياة ال سكون موت فإن نطق بها الكون أو ذكرها فال بد أن‬
‫يكون الذاكر كما قدمنا فيظهر بعدها من الحروف كما ذكرنا‬
‫ثم تحقق ما ذكرناه في الهو والها والهي من التحام الهويات إليجاد الكائنات إذا‬
‫وهللا بفتح الهاء وهللاُ بضم الهاء تجد الهو في الضم‬
‫َ‬ ‫هلل بكسر الهاء‬
‫نطقت بقولك با ِ‬
‫والهاء في الفتح والهي في الخفض وبقي في السكون لهذا الباب كما ذكرناه وهو‬
‫الثبوت‬
‫لما كانت له المهيمنية على سائر األسماء سرت فيه األسماء إذا ظهر وسرى فيها‬
‫إذا ظهرت سريان الماء في الماء وكان التعيين عن واحد من هذه األسماء فيها أو‬
‫تعيينها فيه للحكم واألثر وما توجهت عليه‪ ،‬فالقصص تبدي األسماء واأللوهية في‬
‫العلم واألسماء‪ ،‬و األلوهية توجد القصص فكأن األمر دوري‬
‫حكم هذا اإلسم في العالم الذي يخصه الزائد له على مقام الجمعية والمهيمنية هو‬
‫الحيرة السارية في كل شيء عندما يريد المعرفة به والمشاهدة وحضرته الفعل‬
‫وهو المشهد الذي ال يشهده منه سواه‪ ،‬وكل من تكلم فيه قد فقد جهل ما يتكلم فيه‬
‫ويتخيل أنه قد أصاب وهو مخطىء‪ ،‬وبهذا المشهد الكوني والحضرة الفعلية‬
‫صحَّ ت األلوهية ال غير حتى أن العقالء وأصحاب القياس من أصحابنا‪ G‬مثل أبي‬
‫حامد وغيره تخيل أن المعرفة به تقدم على المعرفة بنا عند األكابر وهو غلط نعم‬
‫يعرفونه من حيث التقسيم العقلي أن الموجودات تنقسم قسمين إلى ما له أول وإلى‬
‫ما ال أول له وغير ذلك‪ ،‬وهذا كله صحيح ولكن ال يعرفون أبدا كونه إلها ابتداء‬
‫قبل معرفتهم بهم وكونه ذاتا معلوم صحيح غير كونه إلها‪ ،‬وكالمنا في األلوهية ال‬
‫في أنه ثم ذات قديمة يستحيل عليها العدم فالقائلون بهذا القول ال تثبت لهم المعرفة‬
‫باأللوهية واسمه هللا إال بعد معرفتهم به ولهذا صرح الشرع بالربوبية على حد ما‬
‫ذكرنا فقال (من عرف نفسه عرف ربه) ولم يقل من عرف الرب عرف نفسه‪،‬‬
‫فإنه ال يصح فإذا كانت الربوبية التي هي الباب األقرب إلينا لم تمكن معرفتنا بها‬
‫إال بنا فأين أنت واأللوهية‪ ،‬وقد كنى الشرع عن هذا المقام اإللهي أن حضرته‬
‫الحيرة في قوله حين قيل له أين كان ربنا قبل أن يخلق السماء واألرض فقال‬
‫صلى هللا عليه وعلى آله وصحبه وسلم (في عما) بالقصر‪ G‬والمد‪( ،‬ما فوقه هواء‬
‫وما تحته هواء)‪ ،‬كلمة نفي‪ ،‬فالقصر للحيرة وجعلها لالسم هللا‪ ،‬فلهذا حارت‬
‫البصائر واأللباب في إدراكه من أي وجه طلبته‪ ،‬ألنه ال يتقيد باألين‪ ،‬والمد‬
‫للسحاب وهو الجو الحامل‪ G‬للماء الذي هو الحياة ومنه كل شيء فهو في ذاته ال‬
‫يقال فيه أين ودل عليه بموجود برزخي بين السماء واألرض وفي البرازخ حارت‬
‫الحيرات‪ G‬فكيف المتحيرون كالخط بين والظل والشمس والمتوهم بين النقطتين‬
‫والخطين وبين السطحين وبين كل شيئين فعادت الكلمة البرزخية إلى الحيرة‬
‫صل أحد منه إال ما عنده‪ ،‬لم يحصل غريبا وال‬ ‫بعينها فما ثم إال الحيرة فما ح َّ‬
‫ينبغي أن يحصل‪ ،‬فإن قلت هو هو فهو هو وإن قلت ليس هو هو فليس هو هو‬
‫وحارت الحيرة‬
‫ولما أراد هللا تعالى تحيير بعض المخلوق من باب بعيد خلق القدرة الحادثة في‬
‫القادر الحادث وأحال التأثير وخلق التوجه من القادر الحادث‪ G‬على الفعل وهو‬
‫الكسب فظهر ما لم يكن فقال القادر الحادث فهو فعلي فقال القادر الحادث اآلخر‬
‫هو كسبي فقال القادر الحادث الثالث‪ G‬ليس فعلي وال كسبي وقال القادر القديم هو‬
‫فعلي وقال الحق ولم يستحل عند السليم العقل أن يكون مقدور بين قادرين وإنما‬
‫الذي يستحيل مؤثر بين مؤثرين فتفهم هذا الفصل‪ G‬ترشد إن شاء هللا‪ .‬فاهلل تعالى ال‬
‫يعلم وال ينعلم وال يجهل وال ينجهل وال يشهد وال يكشف وال يرى بطريق‬
‫اإلحاطة وال يعقل وال يدرك وإنما تتعلق هذه اإلدراكات كلها بأسماء األلوهية‬
‫وبأحكام األسماء التي تستحق كالرب والمالك والمؤمن ولهذا أثبت الكتاب والسنة‬
‫ظرْ‬‫(ربِّ أَرني أَ ْن ُ‬
‫الرؤية في الدار اآلخرة للربوبية وفي هذه الدار فقال موسى‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ك) وقال سبحانه‪َ ( :‬ف َلمَّا َت َجلَّى َر ُّب ُه ْلل َج َب ِل) فلم يجعل لأللوهية مدخال بل قد نفى‬ ‫إِ َل ْي َ‬
‫ْصار)) فأتى بالهو وأثبت أنه ال‬ ‫ك األَب َ‬ ‫صا ُر َوه َُو ي ُْد ِر ُ‬ ‫فقال سبحانه‪(( :‬ال ُت ْد ِر ُك ُه األَ ْب َ‬
‫يدرك وهو الصحيح وقال تعالى‪( :‬وُ جوهٌ َي ْو َم ِئ ٍذ َناضِ رةٌ إِلى َر ِّب َها َناظِ َرةٌ) وبها علق‬
‫ُون) وقال عليه الصالة‬ ‫الحجاب فقال سبحانه‪َ ( :‬كالَّ إِ َّن ُه ْم َعنْ َرب ِِّه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ َل َمحْ جُوب َ‬
‫والسالم (ترون ربكم كما ترون القمر) وفي حديث (كما ترون الشمس) ذكره‬
‫مسلم في صحيحه جاء في الحديث الصحيح في كتاب مسلم‪( :‬إن الرب يتجلى‬
‫على طائفة في الحشر فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ باهلل منك هذا مكاننا حتى ربنا‬
‫فإذا جاءنا ربنا عرفناه فيأتيهم هللا تبارك وتعالى في صورته التي يعرفونها فيقول‪:‬‬
‫(أَ َنا َر ُّب ُك ْم) فيقولون أنت ربنا فما ظهر لهم إال الرب وما عرفوا إال الرب وال‬
‫وال َم َلكُ) ولو جاء هللا فإنما معناه‬ ‫ُّك ْ‬ ‫(وجا َء َرب َ‬ ‫خاطبهم إال الرب وقال سبحانه‪َ :‬‬
‫الرب كما قدمناه فإن األحوال والقرائن تطلب بحقائقها من هللا األسماء الخاصة‬
‫بها‪ ،‬وهللا هو الجامع المحيط‬

‫ما أحسن ما نبه هللا تعالى حين أمر نبيه وأدرجنا معه في ذلك األمر فقال عز من‬
‫قائل‪( :‬فاعلم أنه ال إله إال هللا) فهذه كلمة تدل على أن النفي هو عين اإلثبات هو‬
‫عين النافي هو عين الم ُْث ِبت هو عين الم ُْث َبت هو عين ال َم ْنفِيُّ فإنه ما نفى إال‬
‫األلوهية وما أثبت إال األلوهية وما كان الثابت والمثبت إال األلوهية والمثبت‪ ،‬فإنه‬
‫ت ما ليس بثاب ٍ‬
‫ت‬ ‫لو لم تثبُت هي في عينها لم يصح أن يثبت سواها‪ ،‬ولو أثبت م ُْث ِب ٌ‬
‫لكان كذبا ً فهي الم ُْث ِب َت ُة نفسها حقيقة وكالمنا من مقام الحقائق فهذه ستة أحكام‪ ،‬هي‬
‫واحدة في الحقيقة‪ ،‬وهكذا الوجود كله هو واحد في الحقيقة ال شيء معه‪ ،‬ولهذا ما‬
‫ان َل ُه َق ْلبٌ ْأو أَ ْل َقى السَّمْ َع َوه َُو َش ِهي ٌد)‬
‫الطف إشارة الشرع قال هللا تعالى ‪( :‬لِ َمنْ َك َ‬
‫فالشهيد هو الهو والقلب والسمع فقال كان هللا وال شيء معه وتممها العلماء باهلل‬
‫وهو اآلن على ما هو عليه كان فاآلن هو الهو وكان هو الهو فما ثم إال هو ونحن‬
‫موجودون وقد أثبت أن الحال‪ G‬الحال والعين العين فما ثم إال غيب ظهر وظهور‬
‫غاب ثم ظهر ثم غاب ثم ظهر ثم غاب‪ ،‬هكذا ما شئت فلو تتبعت الكتاب والسنة‬
‫ما وجدت سوى واحد أبداً وهو الهو فلم يزل الهو غائبا ً أبداً‬

‫وقد أجمع المحققون أن هللا ال يتجلى قط في صورة واحدة لشخص مرتين وال في‬
‫صورة واحدة لشخصين وهذا هو توسع الهو‪ ،‬وقال أبو طالب‪ :‬ال يرى من ليس‬
‫كمثله شيء إال من ليس كمثله شيء فالرائي عين المرئي‪ ،‬وقد قال‪ :‬ليس كمثله‬
‫شيء فإن كان كما زعم زاعم ليس كهو شيء فالشيء هو الهو‪ ،‬وإن كانت الكاف‬
‫تبال‪ ،‬فإن كان صفة كان ل َماماً‪ ،‬قال أبو طالب‪:‬‬
‫صفة أو زائدة كيف ما كانت فال ِ‬
‫وإن لم تكن صفة كان ليس هو الهو وكان الشيء هو الهو والهو هو فال هو إال‬
‫هو‬
‫ومما يؤيد ما ذكرناه في هللا قوله صلى هللا عليه وعلى آله وصحبه وسلم‪( :‬إن هلل‬
‫سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها ألحرقت سبحات وجهه ما أدركه من‬
‫بصره خلقه) فهذا هو هللا وهو الهو كما ذكرناه‪ ،‬فما أعلمه صلى هللا عليه وعلى‬
‫آله وصحبه وسلم بالمقامات وما أكشفه لألشياء وليس المراد العدد وإنما المراد أن‬
‫هللا ال يمكن أن يظهر‪ ،‬وأيد الكالم بالبصر‪ ،‬وهذا من شرف البصر أنه وصف هلل‪،‬‬
‫والعقل ليس كذلك ألن العقل متعلقة بالغيب وما في حق البارىء غيب‪ ،‬فالكل له‬
‫شهادة‪ ،‬فلهذا كان البصر ولم يكن العقل‬

‫من هذا الباب على ما قدمناه أن حضرة الحيرة ما دخل من الحيرة على ال ُّن َّظار‬
‫وأرباب األفكار و اإلستبصار في الصفات‪ G،‬أعني في إثبات أعيانها هلل أو نفيها‬
‫وأما أحكامها فال خالف بين العقالء في ذلك‪ ،‬وصورة الحيرة في ذلك أن من‬
‫أثبت أعيانها زائدة على الذات الموصوفة فقد أثبت العدد والكثرة واإلفتقار في هللا‬
‫وهو واحد من جميع الوجوه غني بالذات كامل بالذات فكيف يكون هذا وإن قلنا ال‬
‫يلزم مثالً من هذا إثبات العدد على وج ٍه ما َف َث َّم ما هو علينا أشد من العدد وهو أن‬
‫كامل بغيره ناقصٌ بذاته‪ ،‬ومن نفى أعيانها وفرَّ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫كاملة بغيرها وك ُّل‬ ‫تكون الذات‬
‫من مثل هذين المقامين إما الكثرة وإما النقص تل َّقاه أمر آخر وهو أن الحكم ال‬
‫يقدر من جهة ال َّدليل الذي قد نصبتموه على معرفة هللا إن ثبتت هذه األحكام للذات‬
‫مجردة فإنه إذا أثبت كونه قادراً لنفسه وقع الفعل أزالً‪ ،‬وهذا محال‪ ،‬فإثباته قادراً‬
‫لنفسه محال‬
‫ثم إن القلب ال يجد ذلك الجالء‪ G‬بقياس الشاهد على الغائب‪ ،‬وال سيما وقد عرف‬
‫مأخذ العقول من أين هو ومن أين يُر َّكبُ براهينها وأدلتها فالقصور منوط واإلقدام‬
‫على هذه األمور غير حسن‪ ،‬وكل ما ال يمكن حصوله إال بالمشاهدة والرؤية أو‬
‫التعريف فحصوله من غير هذه الطرق افتيات على المقام وجرأة‬
‫فاألولى باصحاب العقول الوقوف واإلقرار بالوجود وإحكام الصفات‪ ،‬وال سبيل‬
‫للتعرض ال لنفيها وال إلثباتها‪ ،‬فإن العقل أعجز من أن يقف على مثل هذا‪ ،‬بل‬
‫على أقل شيء‪ ،‬فانظر تسلط هذا اإلسم العجيب والكلمة العجيبة على جميع العوالم‬
‫بالحيرة والعمى فيه‪ ،‬فأصحاب‪ G‬العقول انظر ما أشد حيرتهم‪ ،‬ما اجتمعوا على‬
‫شيء ال الم ُْث ِبت َِن وال غيرهم من ال ُّنفاة وأصحاب‪ G‬المشاهدات قد ظهر إليهم ووقع‬
‫اإلنكار والعياذ منه حين لم يوافق صورة معرفتهم به‪ ،‬فمعرفتهم به رأوا وهو‬
‫الظاهر لم يزل‪ ،‬لكن إذا كان مطلوبك في المرآة أن ترى فيه وجهك فلم تأتها على‬
‫التقابل بل جئتها على جانب فرأيت صورة غيرك فيها فلم تعرفها وقلت هذا ما‬
‫أردت‪ ،‬فقابلتك المرآة فرأيت صورتك فقلت هذا صحيح فالعيب منك ال من المرآة‬
‫ت الطلب بصورة معقولة فاتك خير كثير فقد صار أهل المشاهدة في‬ ‫ولما َقي َّْد َ‬
‫حيرة أشد من حيرة أصحاب العقول مع المشاهدة‪ ،‬وكذلك أصحاب الرؤية أول‬
‫رؤية تقع لهم‪ ،‬فإن الرؤية خالف المشاهدة‪ ،‬ولهذا الخبر بالرؤية غداً ال‬
‫بالمشاهدة‪ ،‬وقد ذكرنا هذا الفصل في كتاب العين فلينظر هناك‪ ،‬فيمسكون‬
‫أصحاب‪ G‬الرؤية على ما وقع لهم فيها فإذا رأوه مرة أخرى َرأَ ْوا خالف ذلك‪،‬‬
‫وكذلك في كل رؤية‪ ،‬فحاروا كما حار أهل المشاهدة هنا‪ ،‬فما ثم إال حيرة في‬
‫حيرة‪ ،‬فلو كان الهو ظاهرا لما صح هذا الخالف‪ ،‬ولو الهو ظاهراً ما كان الهو‬
‫‪ :‬ولكان األنا وال بد من الهو فال بد الخالف‪ ،‬ولنا فيه قصيدة‬
‫َق َّسم َ‬
‫ْت ما عندي على الغرماء‬ ‫وإذا أردت تمتعـا ً بـوجـوده‬
‫فظهوره وقفٌ علـى إخفـاء‪G‬‬ ‫َو َعد َ‬
‫ِمْت من عيني مكان وجوده‬
‫فصار ظهور الهو الذي هو هللا إذا لم يكن أنا حتى ال يكون هو الهو هو ولو بقيت‬
‫أنا عند ظهور الهو لكان األنت والهو ال بد منه وال بقاء لي‪ ،‬وما ينتفي الهو إال‬
‫في الهو‪ ،‬فإن الهو ليس من نفسه في الهو وال في غيره‪ ،‬ومن هذا الباب‬
‫هللا َر َمى) وافعل ياعبدي ما لست‬ ‫ْت إِ ْذ َر َمي َ‬
‫ْت َو َلكِنَّ َ‬ ‫(و َما َر َمي َ‬
‫باب الحيرة اإللهية‪َ :‬‬
‫بفاعل بل أنا فاعله وال أفعله إال بك ألن ال يتمكن أن أفعله بي فأنت ال بد منك وأنا‬
‫ك الالزم فال ُب َّد مني‪ ،‬فصارت األمور موقوفة عليّ وعليه فحرت وحارت‬ ‫ُب ُّد َ‬
‫‪ :‬الحيرة وحار كل شيء وما ثم إال حيرة في حيرة‪ ،‬وكم قلت‬
‫ْت شِ عْ ِري َمن ْال ُم َكلَّفْ‬
‫َيا َلي َ‬ ‫والعبْـ ُد َح ٌّ‬
‫ـق‬ ‫الرَّ بُ َح ٌّق َ‬
‫أو قُ ْلت َربٌّ َف َمـا ُي َكلَّ ْ‬
‫ـف‬ ‫إِنْ قُ ْل َ‬
‫ت َع ْب ٌد َفـ َذا َ‬
‫ك َن ْفـ ٌي‬
‫وكم قلت‬
‫ْت شِ عْ ري َث َّم َمنْ ال َي َحارْ‬
‫َلي َ‬ ‫َحي َْرةٌ ِمنْ َحي َْر ٍة َ‬
‫صـدَ َر ْ‬
‫ت‬
‫َفالَّذِي أ ْف َعلُـ ُه ِباضْ طِ َ‬
‫ـرارْ‬ ‫أنا َمجْ بو ٌر َوال ِفعْ ـ َل لِـي‬
‫ْس في أ ْفعالِـ ِه بال ِخيـارْ‬
‫َلي َ‬ ‫والذي أسْ َنـدَ ِفعْ لـي َلـ ُه‬
‫وه َُو إن قا َل انا لم يغـارْ‬ ‫أنا إن قُ ْل ُ‬
‫ـت أنـا َقـا َل ال‬
‫ثبتت ليس لها من قـرارْ‬ ‫فأنا َوهْ َـو َع َلـى ن ْق َطـ ٍة‬
‫وكم قلت‬
‫َل ُه َوأنا ال ِفعْ ـ َل لـي َف َ‬
‫ـأراهُ‬ ‫ْت ِمنْ َت ْكلِيفِ َما ه َُو َخال ٌِق‬
‫َت َعجَّ ب ُ‬
‫َو َما َثـ َّم إال هللاُ َليْـسً سِ َـواهُ‬ ‫ْت شِ عْ ِري َمنْ َي ُكونُ ُم َكلَّفا ً‬
‫َف َيا َلي َ‬
‫ومع قولي هذا كله قيل لي افعل‪ ،‬ومن باب الحيرة اإللهية قوله سبحانه‪َ ( :‬ما ُي َب َّد ُل‬
‫ْال َق ْو ُل َلدَ يَّ ) فالعاقل يأخذه على إمضاء الحكم وإنفاذه وال َم َر َّد له بقوته‪ ،‬والمحقق‬
‫ت الخمسون إلى‬ ‫ص َل ْ‬
‫يأخذه من باب الحيرة‪ ،‬وإنه ال يتمكن إال هذا وإال فكما َو َ‬
‫ص منها‪ ،‬كذلك لم يتمكن أن تبقى الخمسين أصالً‪ ،‬لما‬ ‫خمسة ولم ُي َت َم َّكنْ أن ُي ْن َق َ‬
‫سبق بها القول‪ ،‬فهذا بعض ما في الجاللة وقد نجز الغرض الذي أعطاه الوقت‪،‬‬
‫والحمد هلل‬

You might also like