You are on page 1of 9

‫احملور الثاين) الفكر اإلجتماعي يف القرون الوسطى‪.

‬‬

‫‪ /1‬الفكر االجتماعي عند املسيحيني يف العصور االوربية الوسطى‪:‬‬


‫ــ العصور االوربية وظهور املسيحية‪:‬‬
‫عرفت أوربا أكثر املدارس الفلسفية اليونانية يف القرون الثالثة السابقة على ظهور املسيحية‬
‫هي مدرسة أتباع أفالطون ومدرسة أتباع أرسطو واملدرسة االبيقورية واملدرسة الرواقية‪ ،‬وبدال‬
‫من أن يغزو التفكري الفلسفي اليوناين العقلية الشرقية انتهى بانتصار هذا األخري ممثال يف‬
‫العقيدة املسيحية اليت انتشرت يف مجيع أرجاء اإلمرباطورية وهكذا حتقق االمتزاج بني الشرق‬
‫والغرب‪.‬‬
‫وكانت ثورات العبيد والطبقات املستغلة تتواىل ضد روما بدون جدوى‪ ،‬إىل أن جنحت املسيحية‬
‫فيما فشلت فيه الثورات‪ ،‬فإن مجيع الطبقات املغلوبة على أمرها اعتنقت املسيحية اليت تنهى عن‬
‫عبادة االمرباطور وتنادي باملساواة أمام اهلل وتبشر حبياة أخرى ينال فيها املظلومون ما‬
‫يستحقون من إنصاف فسهل بذلك على الكثريين من رعايا اإلمرباطورية ترك دياناهتم الوثنية‬
‫وهجر أهلتهم القدمية اليت مل حتميهم من ظلم الرومان‪.‬‬
‫أثر الديانة املسيحية يف احلياة االجتماعية‪:‬‬
‫لقد أثرت الديانة املسيحية يف االجتاهات الفكرية والسياسية اليت سادت اإلمرباطورية‬
‫الرومانية‪ ،‬حقا إن املسيحية مل حتمل يف بدايتها نظاما أو فكرا سياسيا حمددا‪ ،‬وإمنا حصرت‬
‫نطاق اهتمامها يف املسائل الدينية وحسب‪ ،‬ولكنها اجتذبت الطبقات الدنيا من الشعب الروماين‬
‫خصوصا وأهنا نادت بأن اخللق متساوون يف نظر اخلالق‪ ،‬وأنه ال فرق بني فرد وأخر بسبب‬
‫الطبقة أو الفقر أو املزنلة االجتماعية‪...‬أخل‪ ،‬ولقد وقع املسيحيون حتت االضطهاد الروماين‬
‫فترة طويلة من الزمان‪ ،‬ولكن عندما اعترف االمرباطور قسطنطني باملسيحية كدين رمسي‬
‫لالمرباطورية يف القرن الرابع امليالدي‪ ،‬تغريت األوضاع فسادت الديانة املسيحية وسادت على‬
‫غريها من العقائد وأصبحت هي الدين الوحيد املسموح به يف اإلمرباطورية الرومانية‪.‬‬
‫ولعل السبب الذي جعل اإلمرباطور "قسطنطني" يعترف بالديانة املسيحية هو سبب سياسي يف‬
‫احملل األ ول‪ ،‬للك أنه كان تحتاج اىل تأييد الكنيسة‪ ،‬وبالتا ي إميان رجال الكنيسة ورجال الدين‬
‫املسيحيني برمتهم وتأييدهم للدولة‪.‬‬
‫ولكن سلطة الكنيسة املتقدمة حنو االزدهار‪ ،‬ما لبثت أن قامت يف مواجهة سلطة الدولة أو‬
‫إمرباطور الدولة‪ ،‬خصوصا إلا حاول االمرباطور التدخل يف شؤون الكنيسة وتعاليمها‪ ،‬فوجد‬
‫املسيحيون أنفسهم أمام طريقني‪ ،‬أما أن يطيعوا اهلل أو أن يطيعوا احلاكم‪ ،‬وهم كانوا يفضلون‬
‫الطريق األول ومن مث فلقد نشأت سلطتان سلطة دنيوية يرأسها االمرباطور وأخرى دينية‬
‫‪61‬‬
‫يرأسها البابا‪ ،‬كما لاعت العبارة القائلة (اعط ما لقيصر لقيصر وما هلل هلل) وبذلك كان‬
‫املسيحي خاضعا لنوع من االلتزام الثنائي بني اهلل واحلاكم‪ ،‬ولقد كان من تأثري املسيحية أن ظهر‬
‫مذهب الغايتني‪ ،‬غاية دنيوية متصلة بالدولة‪ ،‬وغاية أبدية متصلة بالكنيسة‪.‬‬
‫ولقد ازداد الصراع بالتدريج بني الكنيسة ورجال الدولة ابتداء من القرن العاشر حىت هناية‬
‫القرن الثالث عشر‪ ،‬ومل تعد النظرية اليت تقرر نوعا من املساواة بني السلطتني الدنيوية‬
‫والدينية قائمة فادعت الكنيسة أهنا متلك السلطة القصوى دينية ودنيوية وتدخلت يف تعيني‬
‫احلكام‪ ،‬وتسيري دفة الشؤون السياسية مستندة اىل القضية القائلة بأن سلطة الكنيسة تستمد‬
‫مباشرة من اهلل بينما سلطة الدولة تنبثق من رجاهلا وليس من رجال الكنيسة‪.‬‬
‫ولعل هناك عوامل عديدة أسهمت يف ازدياد نفول رجال الكنيسة وبالتا ي ازدياد الصراع بينهم‬
‫وبني رجال الدولة أمهها أن رجال الكنيسة استطاعوا أن ميتلكوا اقطاعيات شاسعة تقترب‬
‫مساحة من ممتلكات احلاكم األمر الذي مكنهم من زيادة نفولهم وضغطهم على احلكام‪.‬‬
‫وظهر صراع عنيف بني أنصار البابوية وأعدائها‪ ،‬األولون يرون أن الكنيسة هلا السلطة القصوى‪،‬‬
‫واألخرون يؤون أن رجال الدولة هم وحدهم أصحاب السلطة الكربى يف اجملتمع‪.‬‬
‫منالج من مفكري املسيحيني القدامى‪:‬‬
‫القديس أوغسطني ( ‪ 453‬ــ ‪)344‬م‪:‬‬
‫يف كتابه مدينة اهلل الذي كتب بني ‪214‬ــ ‪244‬م يدافع أوغسطني عن املسيحية ضد الوثنية‬
‫ويضع مقياسا أو معيارا لسمو النظم االجتماعية واحنطاطها وامناط السلوك اليت حتقق للفرد‬
‫الغفران اإلهلي أو تبعده عن هذا الغفران‪ ،‬ولقد سار اوغسطني مسرية أستاله الروحي افالطون‬
‫يف تصويره ملدينة اهلل ويف نقده للملكية الفردية ومناداته بامللكية اجلماعية‪ ،‬مؤيدا املبدأ‬
‫القائل بأن ثروات األر قد أعطيت لفأفراد على السواء‪.‬‬
‫انتقد فكرة امللكية الفردية ألن اهلل أعطى ثروات األر لكل األفراد على السواء ولكن لهب‬
‫أوغسطني اىل أن للك ال يعين الغاء امللكية الفردية متاما‪ ،‬فيمكن لفأفراد أن يتمكلوا ‪ ،‬ولكن‬
‫شريطة أن يعطوا للفقراء جانبا من ثرواهتم على اعتبار أن للك ميثل جزءا من النظام اإلهلي‬
‫االجتماعي‪ ،‬وهي مسؤولية األغنياء يف كفالة احلياة الكرمية للفقراء‪.‬‬
‫الشريان الرئيسي الذي وصلت عن طريقة فلسفة أفالطون إىل الغرب املسيحي يف العصور‬
‫الوسطى كان يتمثل يف شخصية القديس أوغسطني‪ ،‬للك أن أوغسطني كان قد تأثر قبل اعتقاله‬
‫املسيحية ــ باملبادئ األفالطونية اليت اطلع عليها يف بعض كتابات شيشرون وأفالطون‪ ،‬ومن مث‬
‫اختذ هذه املبادئ نقطة البدء عندما شرع يفكر يف وضع فلسفة دينية‪.‬‬
‫ويرى أوغسطني أن العامل منذ سقوط أدم اىل اليوم انقسم اىل مدينتني أما إحدامها ستحكم مع‬
‫اهلل حكما سرمديا ‪ ،‬وأما األخرى فستظل مع الشيطان‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫وأن املدينتني األرضية والسماوية متتزجان إحدامها باألخرى يف هذه الدنيا‪ ،‬أما يف احلياة‬
‫األخرى فسيتميز الرشد من الغي‪ ،‬إنه ليس يف مستطاعنا أن نعرف يف هذه احلياة من لا يكون يف‬
‫هناية األمر من زمرة األخبار ‪ ،‬ليس يف استطاعتنا معرفة للك حىت عن أعدائنا الظاهرين‪،‬‬
‫ومدينة اهلل قوامها مجاعة األخيار‪ ،‬والعلم باهلل ال وسيلة له إال عن طريق املسيح‪ ،‬فهناك‬
‫أشياء ميكن معرفتها بالعقل‪ ،‬أما عن سائر املعرفة الدينية فاحلصول عليها يكون بالكتاب‬
‫املقدس‪.‬‬
‫ولقد تصور أوغسطني أن االنسان يتكون من عنصرين رئيسني مها الروح واجلسد ولذلك فإنه‬
‫ينتمي اىل مملكتني أو عاملني مها عامل املادة وعامل الروح‪ ،‬والثاين أمسى من األول‪ ،‬ومع أنه مل‬
‫يذهب اىل حد املناداة بإفناء اجلسد أو تعذيبه كوسيلة للخالص إال أن على االنسان دائما أن‬
‫يسعى اىل السيطرة على قوى الشر اليت تنتج عن غرائز االنسان وعن العنصر املادي الذي‬
‫ميتلكه ‪ ،‬وهو يف هذا الصراع مع قوى الشر إمنا يرنو دائما اىل خلود الروح حيث احلقيقة‬
‫األبدية‪.‬‬
‫ويقوم منهج أوغسطني على أن الدين ال الفلسفة هو سبيل السعادة والنماء‪ ،‬ألن الفلسفة ال‬
‫تتعدى مرحلة املعرفة النظرية يف حماولتها التوصل اىل اهلل وبلوغ السعادة‪ ،‬بينما اإلميان‬
‫الديين ميكن املؤمن من التوصل اىل اهلل بالتجربة الوجدانية القائمة على االعتقاد والشعور‬
‫والعاطفة واإلرادة والشوق وبذلك تحقق لنفسه الطمأنينة والسعادة‪.‬‬
‫ويقوم منهجه ثانيا على أن االميان شرط للفهم‪ ،‬كما أن الفهم شرط لإلميان‪.‬‬
‫ويوضح أوغسطني أن وجود العامل وقوته ونظامه الدقيق ال ميكن أن يكون من لاته بل من موجد‬
‫حكيم هو اهلل‪ ،‬وله دليل أخر يستند اىل احلقائق العقلية‪ ،‬فيقول بأن العقل يصل اىل احلقائق‬
‫بان يكتشفها ال بأن خيترعها‪.‬‬
‫وتطرق ملشكلة وجود الشر يف العامل وأن الوجود هو اخلري‪ ،‬واخلري هو الوجود وهو فيض صادر‬
‫عن اهلل مصدر الوجود واخلري ‪ ،‬وأن الشر ليس له وجود إجيايب بل سليب فهو عدم اخلري‪ ،‬أي هو‬
‫نقص اخلري ومادام الشر نقصا فيكون مصدره املخلوق ال اخلالق ومنشأه اإلرادة‪ ،‬فاهلل خلق‬
‫الكائنات العاقلة حيث خريه وأعطاه اإلرادة‪ ،‬وقد نتج الشر عن عدم اختيار املخلوق للخري ‪.‬‬
‫توما االكويين ( ‪ 5225‬ــ ‪5223‬م )‪:‬‬
‫امتازت فلسفة بالتفرقة الواضحة بني العلم والالهوت فقال أن الفلسفة ال ميكن أن تقدم ادلة‬
‫واضحة إلثبات مبادئ املسيحية‪ ،‬ألن العقل البشري يتقبل هذه املبادئ‪ ،‬واالعتقاد فقط أهنا من‬
‫لدن اهلل‪ ،‬وأقصى ما ميكن أن تقوم به الفلسفة هو تنفيذ مزاعم ضعاف العقيدة واملتشككني يف‬
‫الدين ‪ ،‬على أنه مثة عنصرا مشتركا بني الفلسفة والالهوت هو اننا ال ننتظر من العامل أن يؤمن‬

‫‪61‬‬
‫بعقائد الالهوت اليت تسندها السلطة املقدسة دون أن يقدم األدلة الفلسفية على وجود اهلل‬
‫وماهيته‪.‬‬
‫وتقوم فلسفة توما األخالقية على أساس أن الشر غري مقصود ألن الكائنات كلها ترمي اىل‬
‫التشبه باهلل يف اخلري كذلك يقول أن سعادة البشر الكاملة تقوم على التأمل يف اهلل ألعلى‬
‫اللذائذ الدنيوية ‪ ،‬ألن اهلل هو الغاية القصوى والعقل الطبيعي هو جمموع الفوائد اليت تقر‬
‫اخلري وتنبذ الشر‪.‬‬
‫وكان توما االكويين أرسطي الزنعة وأكد ما لهب اليه ارسطو من أن باإلنسان غريزة حب‬
‫االجتماع‪ ،‬مث لهب اىل أن اجملتمع املدين يشمل ثالثة أفكار‪:‬‬
‫ــ االنسان اجتماعي بالطبيعة وأن اجملتمع هو الوسيلة الطبيعية لإلنسان لكي تحقق أغراضه‪.‬‬
‫ــ اجملتمع يقوم على وحدة الغر وحتقيق األمال املشتركة اليت يستهدفها األفراد الذين يتكون‬
‫منهم‪.‬‬
‫ــ البد من وجود سلطة عليا توجه اجملتمع حنو الصاحل العام تساعد احلكام على اصطناع‬
‫الوسائل للوصول اىل حتقيق األهداف االجتماعية‪ ،‬وللك ال يتحقق اال بتنظيم سياسي واسع‬
‫يقوم على اتفاق بني احلاكم واحملكومني‪ ،‬والقانون الذي خيضع األفراد له ال ميثل رغبة احلاكم‬
‫بل ميثل رغبة اجملموع أو رغبة األمري احلاكم كممثل للجماعة‪.‬‬
‫ويف اعتقاد توما االكويين أن االنسان اجتماعي بالغريزة أو بالطبع كما لهب أرسطو‪ ،‬وبناء عليه‬
‫فإن االنسان ال يستطيع أن يعيش بال جمتمع ألن اجملتمع هو الوسط الذي تحقق فيه االنسان‬
‫إنسانيته‪.‬‬
‫ويرى كذلك أن اجملتمع إمنا ينبين على اخلدمات املتبادلة أو على تبادل اخلدمات اليت تؤدي اىل‬
‫اجملتمع األفضل ‪ ،‬ورتب على للك ضرورة أن يكون هناك نوع من التخصص يف األعمال يقوم بني‬
‫الطبقات والفئات واجلماعات االجتماعية املختلفة لتنتج كل منها ما تحتاج األخرون إليه من‬
‫سلع وخدمات‪.‬‬
‫كما حبث االكويين يف تأثري الظروف املناخية على العادات والتقاليد والعقلية السائدة يف‬
‫اجملتمع على غرار ما صنع أرسطو ‪ ،‬مؤكدا مسو املناطق املعتدلة ومستغال هذه الفكرة للتدليل على‬
‫تفوق الشعوب املسيحية على غريها من الشعوب األخرى‪.‬‬
‫وتكلم عن مسألة وظائف الدولة اليت حصرها يف أمور أربعة وماعدا هذا من أمور أبدية فهو‬
‫خيص الكنيسة‪:‬‬
‫‪1‬ــ حتقيق األمن والطمأنينة يف احلياة وتأمني األفراد من اجلوع واألخطار‪.‬‬
‫‪4‬ــ ضمان العدالة بواسطة التشريعات القانونية‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫‪3‬ــ ترويج احلد األدىن من األخالق مبساعدة الكنيسة‪ ،‬اليت تعمل أساسا للحفاظ على احلياة‬
‫األخالقية ونقول احلد األدىن من األخالق‪ ،‬ألن الدولة يف اهتمامها باألمور الدنيوية الفانية‬
‫تتجه حنو األفعال الفأخالقية‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ محاية الدين ويف محاية الدولة للدين حمافظة ومساعدة الكنيسة ومن هذا املنطلق األخري‬
‫جند أن الدولة ترتبط ارتباطا وثيقا بالغاية األبدية وللك لكي توفر ألعضائها الظروف‬
‫املالئمة اليت متكنهم من ممارسة سلطة التأمل فيما هو أبدي حتت إرشاد الكنيسة‪.‬‬
‫وقد أوىل القديس توما األكويين جل اهتمامه للبحث عن القانون أصله ونشأته وأركانه وأفا‬
‫فيه‪ ،‬وللقانون عند توما األكويين أربعة أنواع‪:‬‬
‫ــ القانون األز ي‪ :‬يطابق التدبري اإلهلي للعامل أو هو القانون الذي تحكم به العامل‪ ،‬وهو احلكمة‬
‫اإلهلية املنظمة للخليقة‪ ،‬ومن مث فهذا القانون يسمو على الطبيعة البشرية ويعلو فوق فهم‬
‫االنسان‪ ،‬ومع للك فهو ليس غريبا عن االدراك اإلنساين أو مضادا لقواه العقلية‬
‫ــ القانون الطبيعي‪ :‬هو مبثابة انعكاس للكلمة اإلهلية على املخلوقات وهي تتجلى يف رغبات‬
‫اإلنسان الطبيعية التلقائية يف فعل اخلري‪ ،‬ومعىن هذا أن القانون الطبيعي هو القانون الذي‬
‫تحكم به العقل أو النفس الفاضلة اليت تتأثر بالقانون األز ي‪.‬‬
‫ــ القانون االهلي أو املقدس‪ :‬ويتمثل يف الشرائع واألحكام اليت أتت عن طريق الوحي أو التبليغ‬
‫كالشريعة اخلاصة اليت أنزهلا اهلل على اليهود وتشريعات املسيحية‪.‬‬
‫ــ القانون اإلنساين‪ :‬وملا كان من املتعذر تطبيق األنواع الثالثة السابقة للقانون على بين البشر‬
‫تطبيقا كليا وعاما‪ ،‬فلقد قام القانون اإلنساين الذي وضع خصيصا ليالئم اجلنس البشري‪ ،‬وهو‬
‫قانون إنساين خالص‪ ،‬وإن كان مل يأت مببادئ جديدة إل هو جمرد تطبيق للمبادئ العظمى اليت‬
‫سادت من قبل العامل‪.‬‬
‫والقانون االز ي والقانون اإلهلي جيسمان الغاية من الالهوت املسيحي‪ ،‬فالقانون األز ي هو‬
‫ختطيط العامل باعتباره الغاية العظمى لالله اخلالق‪ ،‬والقانون اإلهلي هو إرادة اهلل اليت جتلت‬
‫يف العهدين القدمي واجلديد‪.‬‬
‫ويرى توما االكويين أن طاعة القانون واجبة طاملا كان عادال أما القانون الظامل إلا كان‬
‫معارضا للقانون الطبيعي وللقانون اإلهلي وللقانون األز ي فال جتوز له الطاعة بأي حال من‬
‫األحوال أما إلا كان معارضا حلق ثانوي فرعي فيطاع مىت كانت خمالفته أشد على اجملتمع‪.‬‬

‫‪02‬‬
‫‪ /2‬الفكر االجتماعي عند املسلمني القدامى يف القرون الوسطى‪:‬‬
‫جاء اإلسالم كدين وشريعة اجتماعية وفكرية ومعرفية واقتصادية وسياسية وثقافية مميزا‪،‬‬
‫وهذه السمة هدفت إىل تغيري منط الفكر البشري إىل ما فيه اخلري والصالح‪ ،‬فركز اإلسالم على‬
‫ضرورة تغيري العادات والتقاليد والنظم اجلاهلية املختلفة والسلبية‪ ،‬وطرح للعقل البشري‬
‫البدائل املمهدة للتخلص من الشرور واآلثام‪ ،‬وهو ما ظهر بوضوح يف طبيعة الدين اإلسالمي‬
‫وتر كيزه على املساواة على املساواة والتكافل والعدالة‪ ،‬حتديد حقوق اإلنسان وواجباته ووضع‬
‫نظم حمددة ألساليب اجلزاء والعقاب‪ ،‬كما ناقش قضايا هامة تشغل اهتمامات العقل البشري‬
‫مثل العلم‪ ،‬الفقر‪ ،‬املساواة‪ ،‬العدالة‪ ،‬اإلنتاج‪ ،‬العمل‪ ،‬توزيع الثروة‪ ،‬احلرية‪...‬اخل‪.‬‬
‫لذلك ميكن القول أن املبادئ واملفاهيم والقيم اليت تضمنتها الشريعة اإلسالمية أسهمت يف ظهور‬
‫علماء ومفكرين وفالسفة ومصلحني مسلمني استمدوا أفكارهم وأرائهم من هذه الشريعة‪ ،‬أو على‬
‫األقل حماولة تكييف ماهنلوه من الفلسفات األخرى مع ما يتوافق ما تضمنه الدين االسالمي‪،‬‬
‫فجاءت طروحاهتم متميزة حيث كتب هلا االستمرار واالمتداد نظرا خلصوصيتها‪ ،‬مما ساهم بال‬
‫شك اىل حد كبري يف ازدهار ورواج احلضارة اإلسالمية يف العصور الوسطى‪.‬‬
‫تعريف الفكر اإلسالمي هو كل ما أنتجه العقل اإلسالمي يف كل اجملاالت وخبصوص كل‬
‫اإلشكاليات والقضايا املرتبطة بالوجود والطبيعة والعالقات واحلياة ولكن من وجهة نظر‬
‫إسالمية‪ ،‬أي خاضعة للمنهجية اإلسالمية اليت حددتاه الشريعة اإلسالمية ابتداءا‪ ،‬وبذلك يتم‬
‫إخراج كل الفلسفات واألفكار واملفاهيم اليت تعتمد خلفية عقدية أو فلسفية غري إسالمية‪.‬‬
‫ــ خصائص منهج التفكري عند املسلمني‪:‬‬
‫‪5‬ــ التعدد والتنوع والشمولية‪ :‬وهو ما يقتضيه مضمون شريعة اإلسالم للدنيا واالخرة‪ ،‬للنقل‬
‫والعقل‪ ،‬فيحث اإلنسان على بذل جهده للوصول اىل اليقني‪ ،‬ويعيب على أهل الظن‪ ،‬قال تعاىل "‬
‫‪...‬إن الظن ال يغين من احلق شيئا"‪.‬‬
‫‪4‬ــ وحدة املعرفة‪ :‬اليت تربط بني أجزاء الوجود الكوين رغم اختالفها يف كل واحد‪.‬‬
‫‪3‬ــ تكامل عاملي الغيب والشهادة‪ :‬فالعقل والنقل يف منهج التفكري اإلسالمي متجاوران‪ ،‬وكل واحد‬
‫يف جماله‪ ،‬فالعقل جماله العلم الظاهر‪ ،‬والوحي جماله العلم الباطن‪ ،‬والغيب هلل وحده‪.‬‬ ‫خيو‬
‫‪2‬ــ العقالنية‪ :‬قيمة العقل يف اإلسالم تقوم على أسس وهي قدرة اكتشاف العامل اخلارجي مع‬
‫الواقع وقدرة الربط والتحليل واالستنتاج للوصول ملعرفة اهلل‪.‬‬
‫‪5‬ــ الوسطية واالعتدال‪ :‬فاحلضارة اإلسالمية عرب تارخيها مل تعرف تناقضا بني الروح‬
‫واجلسد أو بني الدنيا واالخرة وبني الدين والواقع‪ ،‬كما حصل يف بعض احلضارات األخرى‪.‬‬

‫‪06‬‬
‫‪4‬ــ التجديد‪ :‬ويعترب سبيال الستمرار الدين وامتدادا لتأثريه‪ ،‬وللك بتجديد األصول بإزالة‬
‫ماعلق هبا من شوائب‪ ،‬والفروع والنوازل املستجدة النامجة عن تغري األحوال عرب الزمان‬
‫واملكان‪.‬‬
‫‪7‬ــ اإلنفتاح‪ :‬كما حدث يف القرن ‪ 33‬و‪ 32‬حيث ترجم املسلمون كثريا من املؤلفات األجنبية‬
‫املختلفة لإلستفادة من منافعها‪ ،‬واستبعاد ما فيها من ضرر‪.‬‬
‫‪8‬ــ اإلستناد إىل القيم واملعايري األخالقية‪ :‬حيث جند أن الشرع اشترط االستقامة والتزام‬
‫املسؤولية لسالمة العقل ويقظته‪ ،‬ليتوجه إىل النفع ودفع الضرر لتحقيق الناس يف دينهم‬
‫وحياهتم‪.‬‬
‫ــ مضامني الفكر االجتماعي عند املسلمني‪:‬‬
‫جاءت املبادئ اليت نادى هبا اإلسالم واليت وردت يف القرأن والسنة واألحاديث النبوية الشريفة‬
‫حتمل الكثري من املفاهيم والقيم اليت تصلح ألن تكون منظومة حياة‪ ،‬واليت ميكن أن نذكر منها‪:‬‬
‫ــ تضمنت اآليات القرأنية تنظيما اجتماعيا شامال يف نواحي عديدة (األخالق‪ ،‬األسرة‪،‬‬
‫االقتصاد‪ ،‬السياسة‪ ،‬القانون‪ ،‬العلم‪ ،‬املعرفة‪ )...،‬فكانت سببا يف خلق نشاط فكري تناول العديد‬
‫من النواحي‪.‬‬
‫ـــ اهتم القرأن الكرمي بإبراز القصص وما صاحب للك من وصف اجملتمعات مشريا إىل‬
‫االختالفات بينها يف العادات والتقاليد وكذا ألخذ العرب‪.‬‬
‫ــ ركز القرأن الكرمي على الناحية العلمية الوضعية والدعوة للبحث العلمي عن طريق العقل‬
‫واملعرفة‪ ،‬تأكيدا على الربط بني الظواهر االجتماعية أو بني السبب والعلة‪ ،‬كأن يكون فساد‬
‫احلال نتيجة لفساد األخالق‪.‬‬
‫ــ أن هناك دعوة الستخدام االستدالل واالستقراء مثل قوله تعاىل‪" :‬قل هاتوا برهانكم إن‬
‫كنتم صادقني"‪.‬‬
‫ــ يف النظام السياسي أخذ اإلسالم بنظام الشورى‪.‬‬
‫ــ يف اجملال االقتصادي مسح بامللكية الفردية ولكنها مقيدة ولات وظيفة اجتماعية عامة‪.‬‬
‫ــنمالج من مفكري املسلمني القدامى‪:‬‬
‫ــ أبو نصر الفارابـي ( ‪024‬ــ ‪) 054‬م‬
‫ولد الفارايب يف (وسيج) من مدن فاراب بأسيا الوسطى (التركستان) عام ‪873‬م ولقب باملعلم‬
‫الثاين بعد أرسطو وله مؤلفات عديدة يف الفلسفة واملنطق والعلوم والسياسة‪ ،‬ولقد تأثر‬
‫الفارايب كثريا بالفلسفة اليونانية وخاصة كتابات افالطون اليت ساقها يف مجهوريته‪ ،‬ولكنه‬
‫ارتكز على اإلسالم وأحكامه وأضاف اىل هذا كله جتاربه‪.‬‬
‫‪00‬‬
‫ويهتم الفارايب بتحديد مكانة االنسان يف اجملتمع وهو يصف األمة باجلسم الواحد الذي ال‬
‫يستقيم أمره إال بالتضامن والتعاون وبتوزيع األعمال وتنسيقها على أساس االستعداد واملوهبة‬
‫والقدرة‪ ،‬وهي مماثلة عضوية حيث يرى الفارايب انه كما يف البدن أعضاء خيدم بعضها بعضا‬
‫فكذلك يف املدينة أفراد خيدم بعضهم بعضا حيث تكون "املدينة حينئذ خيدم بعضهم ببعض‬
‫مؤتلفة بعضها ببعض أو مرتبة بتقدمي بعض وتأخري بعض‪ ،‬كترتيب املوجودات الطبيعية‬
‫وائتالفها"‪.‬‬
‫أما بالنسبة إىل الدولة وبالنسبة على أرائه يف السياسة واحلكم فقد لهب اىل أن الدولة ال‬
‫تتقدم إال إلا كان على رأسها احلكماء والفالسفة املعروفون بكمال العقل وقوة اإلدراك وقوة‬
‫اخليال وهو هنا قريب من الفلسفة األفالطونية اليت أعطت أصحاب الالزمة لتحقيق الفضيلة‬
‫اليت اعتربها أفالطون غاية اجملتمع السياسي‪.‬‬
‫ــ املدينة الفاضلة‪:‬‬
‫ومع أن املدينة الفاضلة ظلت أمرا مثاليا (مثل مجهورية أفالطون) صعب التحقيق فقد رأى أن‬
‫هناك صفات فطرية الزمة يف احلاكم واليت بلغت اثين عشر صفة‪.‬‬
‫وقد لهب الفارايب إىل أن بين اإلنسان يف حاجة إىل االجتماع للتعاون فيما بينهم إل يقول إن‬
‫كل واحد من الناس مفطور على أنه حمتاج يف قوامه ويف أن يبلغ كماالته إىل اتباع أشياء كثرية‬
‫ال ميكن أن يقوم هبا وحده‪ ،‬بل تحتاج إىل قوم يقوم له كل واحد منهم بشئ مما تحتاج إليه‬
‫وفكرته هنا إمنا تشبه فكرة أفالطون الذي يرجع أساس االجتماع اىل احلاجات املادية لفأفراد‪.‬‬
‫يقسم الفارايب اجملتمعات اإلنسانية اىل فئتني كبريتني‪ ،‬جمتمعات كاملة وجمتمعات غري كاملة‪.‬‬
‫ــ اجملتمعات الكاملة‪ :‬وهي ثالثة أوهلا وأكملها اجتماع اجلماعة كلها يف املعمورة أو اجملتمع العاملي‬
‫مث اجملتمع األوسط وهو اجملتمع الذي يشمل أمة‪ ،‬مث اجملتمع األصغر وهو الذي يشمل مدينة‪،‬‬
‫ويالحظ هنا أن الفارايب يتأثر بالفكر اإلسالمي وهي فكرة العاملية‪ ،‬فاإلسالم خاصة واألديان‬
‫عامة تدعو اىل حتقيق فكرة العاملية ومتقت القوميات وجتزئة العامل إىل دول متطاحنة‪.‬‬
‫اجملتمعات غري الكاملة‪ :‬فهي على ثالث أنواع‪ ،‬اجملتمع الفردي الذي يشمل قرية‪ ،‬واجملتمع الذي‬
‫يشمل سكان حي أو جزء من مدينة وأخريا اجملتمع املزن ي الذي يشمل أفراد أسرة واحدة‪،‬‬
‫وتقسم األعمال يف املدينة حسب الطبقات املختلفة حبيث تشكل أعالها وأمهها أقرب الطبقات‬
‫من الرئيس وبالعكس كل األعمال الدنيئة ألبعد الطبقات من الرئيس ‪ ،‬وتقاس دناءة األعمال‬
‫إما بالنسبة ملوضوعها أو ما تشتمل عليه ‪ ،‬وإما بالنسبة لعدم أمهيتها وأخريا بالنسبة لسهولة‬
‫القيام هبا وعدم تعقدها‪.‬‬

‫‪02‬‬
‫ــ أبو حامد الغزا ي ( ‪5450‬ــ ‪ ) 5555‬م‬
‫ولد يف منتصف القرن اخلامس اهلجري يف مدينة طوس خبراسان ‪ ،‬ويعترب حجة يف علمه وقد‬
‫أقام نظريته يف االجتماع والسياسة على تصور عضوي سبق به هربرت سبنسر حيث قارن بني‬
‫الدولة أو املدينة وبني اجلسم اإلنساين ‪ ،‬ويف اعتقاده أن موضوع السلطة التنفيذية من أخطر‬
‫املوضوعات ولذا فقد لهب إىل أن احلكم الصاحل ال يتأتى إال عن طريق األمري الصاحل ومن مث‬
‫كان اهتمامه بالنصائح العملية اليت توصل اليها عن طريق البحث ومشاهدة أحوال الدولة‬
‫واليت قدمها إىل حكام عصره وأمرائهم‪.‬‬
‫ويعترب الغزا ي رائدا يف الفكر االجتماعي بسبب اهتمامه بالتنشئة االجتماعية‪ ،‬وقد أوضح أن‬
‫التنشئة األوىل للطفل جيب أن تكون على أساس من التربية الدينية اليت تعمل على غرس‬
‫مبادئ العقيدة يف نفس الصيب منذ الصغر‪ ،‬حىت تثبت يف عقله وتصبح واجهة لسلوكه‪.‬‬
‫ويبني الغزا ي كيفية تزويد الفرد بالتربية اخللقية ويرى أن تربية الطفل تبدأ بتعليم القرأن‬
‫وأحاديث األخبار وحكايات األبرار وأحواهلم لينغرس يف نفسه حب الصاحلني وأن تبعد عنه‬
‫أشعار العشق ألن للك يف قلوب الصبيان بذور الفساد‪.‬‬
‫وبني أثر اجلزاء يف تثبيت السلوك احلسن وتعديل السلوك الردئ فيقول‪" :‬مهما ظهر من الصيب‬
‫خلق مجيل وفعل حممود‪ ،‬فينبغي أن يكرمعليه وجيازى عليه مبا يفرح به وميدح بني أظهر‬
‫الناس"‪.‬‬
‫وينبغي أن يعلم الصيب طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه‪ ،‬وكل من هو أكرب منه سنا‪ ،‬وجيب ان يعود‬
‫الصيب أداب اجملالسة واالستماع والكالم‪ ،‬وأن مينع من لغو الكالم وفحشه‪ ،‬ومن اللعب والسفه‪،‬‬
‫فإن القاعدة األساسية عند الغزا ي يف تأديب الصبيان هي حفظهم من رفاق السوء‪.‬‬
‫ويتحدث الغزا ي عن الطبقات يف اجملتمع فيقول هناك ثالث طوائف‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬الفالحون والرعاة واحملترفون‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬طائفة اجلندية واحلماة بالسيف‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬املترددون بني الطائفتني يف األخذ والعطاء ‪ ،‬وهم العمال واجلباة وأمثاهلم‪.‬‬
‫ويوضح تشابك العالقات االجتماعية فيقول‪ :‬فانظر كيف ابتدء األمر من حاجة القوت وامللبس‬
‫واملسكن‪ ،‬وإىل مالا انتهى‪ ،‬وهكذا أمور الدنيا ال يفتح منها باب إال ويفتح بسببه أبواب أخرى‬
‫وهكذا تتناهى إىل غري حد حمدود ‪...‬‬

‫‪02‬‬

You might also like