Professional Documents
Culture Documents
الكنز المهجور في سورة الفاتحة
الكنز المهجور في سورة الفاتحة
(ولعبدي ما سأل)
تأليف
الدكتور /حممد بن أمحد بن حممد اجلحالن
الطبعة األوىل
1441هـ 2020 /م
حممد بن أمحد بن حممد اجلحالن 1435 ،هـ ح
فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النشر
اجلحالن ،حممد بن أمحد بن حممد
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل
(الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
حممد بن أمحد بن حممد اجلحالن - .الرياض 1435 ،هـ
ط - 1الرياض 1435 ،هـ
ص96؛ 24 × 17سم
ردمك978-603-01-4494-5 :
-1القرآن -التفسري احلديث
أ .العنوان -2القرآن -سورة الفاحتة -تفسري
1435/ 2525
ديوي 227.6
الطبعة الثانية
1441هـ 2020 -م
وقد سمى اهلل سورة الفاتحة بـ«الصالة» ألهنا ال تتم إال هبا.
فهل نحن عندما نقرأ سورة الفاتحة ممن قال اهلل لهم« :ولعبدي ما سأل»؟
ألن ربنا لن يقول« :ولعبدي ما سأل» إال إذا استحضرنا ما سألناه.
فنحن قد سألنا الرب -سبحانه -العون والهداية بعد أن قدمنا له ما يستحقه
من الحمد والثناء والتمجيد والتوحيد.
ولذلك يجب علينا أن نستفيد مما يف هذه السورة العظيمة مما علمنا ربنا
فال نختم السورة ونقول« :آمين» إال وقد حصلنا على ما أعطانا اهلل
عندما يقول سبحانه« :ولعبدي ما سأل».
ولكي يقول لنا ربنا سبحانه« :ولعبدي ما سأل» فال بد أن نتدبر ونستحضر يف
قلوبنا ما سألناه من العون والهداية.
فنسأله العون على عبادة اهلل العبادة الصحيحة ،والعون على كل أمر من أمور
الدنيا ،بحيث ال يكلنا ربنا إلى أنفسنا طرفة عين ،وذلك عندما نقرأ﴿ :ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﴾.
ونسأله الهداية إلى الصراط المستقيم يف كل حركة نقوم هبا يف أمور ديننا وأمور
دنيانا ،منذ أن نستيقظ حتى وقت النوم ،نسأله سبحانه الهداية يف كل عمل نعمله
كبيرا ،فنكون بذلك ممن يمشي على الطريق الذي ُيرضي ربنا -سبحانه
صغيرا أو ً
ً
-وهو طريق الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
ال طريق المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ويجحدونه ،وال طريق الضالين
الذين ال يعرفون الحق ولم يحاولوا البحث عنه ،كل ذلك نستحضره عندما نقرأ:
﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﴾.
وقبل ذلك البد أن نتدبر ونستحضر الحمد والثناء والتمجيد الذي يرضاه منا
ربنا -سبحانه -حتى يقول لنا ربنا « :حمدني عبدي» ويقول« :أثنى علي عبدي»
ويقول« :مجدني عبدي» وذلك عندما نقرأ﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾.
من هذا نفهم أن سورة الفاتحة أمرها عظيم ،وقد أخربنا بذلك نبينا محمد
الم َع َّلى، يف الحديث الذي رواه البخاري من حديث َأبي سعيد بن ُ
أج ْبه ،فقلت :يا قال :كنت ُأ َص ِّلي يف المسجد ،فدعاين رسول اهلل فلم ِ
«أ َل ْم َي ُقلِ ال َّل ُه» ﴿ :ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ رسول اهلل ،إين كنت أصلي .فقالَ :
الس َو ِر ِفي ال ُق ْرآ ِن َق ْب َل َأنْ َ ﯣ ﯤ ﴾(((! ُثم قال لي :أَ ُ
ور ًة ِه َي أ ْع َظ ُم ُّ
«ل َع ِّل َم َّن َك ُس َ َّ
تقل ألعلمنك قلت له :ألم ْ فلما أراد أن يخرج ُ الم ْس ِج ِد» ثم أخذ بيديّ ، َت ْخ ُر َج ِم َن َ
سورة هي أعظم سورة يف القرآن! َق َال﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﴾((( ِ
«ه َي
الع ِظ ُيم ا َّل ِذي ُأوتِي ُت ُه»(((.
الم َثانِيَ ،وال ُق ْرآنُ َ
الس ْب ُع َ
َّ
ألرقِي ،ولكن واهلل لقد استضفناكم فلم تضيفونا ،فما أنا بِر ٍ
اق لكم حتى تجعلوا َ
لنا ُج ْعلاً ! فصالحوهم على قطيع من الغنم ،فانطلق يت ُفل عليه ويقرأ﴿ :ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﴾ فكأنما نشط من عقال ،فانطلق يمشي وما به َق َلبة .قال:
فأو َفوهم ُج ْع َلهم الذي صالحوهم عليه ،فقال بعضهم :اقسموا .فقال الذي رقى:
ال تفعلوا حتى نأيت النبي فنذكر له الذي كان ،فننظر ما يأمرنا .فقدموا
يك َأ َّن َها ُر ْق َي ٌة؟ َأ َص ْبت ُْم،
«و َما ُيدْ ِر َ
على رسول اهلل فذكروا له ،فقالَ :
اض ِر ُبوا لِي َم َع ُك ْم بِ َس ْه ٍم»((( .وهذا لفظ البخاري .ويف فتح الباري بشرح ا ْق ِس ُموا َو ْ
صحيح البخاريَ « :ما بِ ِه َق َل َب ٌة» بفتح الالم بعدها موحدة .أي ما به ألم ُي ْق َلب ألجله
على الفراش(((.
وإذا علمنا عظم وفضل سورة الفاتحة التي سماها اهلل بالصالة
وال تتم الصالة بدوهنا ،علمنا عظم إقامة الصالة عند اهلل .الصالة
التي عرف قيمتها الرسول فكان ُيكثر من الصالة حتى تفطرت
حزبه أمر فزع إليها يصلي مطب ًقا قول اهلل
قدماه ،وكانت قرة عينه يف الصالة ،وإذا َ
وقوله (((
﴿ :ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﴾
تعالى﴿ :ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﴾(((.
هذا ،وإن تدبر القرآن والبحث عن الحق واجب على كل مسلمٌّ ،
كل حسب
استطاعته ،حتى ال يكون من الضالين الذين لم يبحثوا عن الحق مع علمهم
بجهلهم به.
***
11 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
Jاالستعاذة L
إن أمر االستعاذة باهلل عظيم وال يعرف معناها إال العارف باهلل .
لذلك نرى أن الرسول عندما استعاذت منه المرأة ،أقر لها هذه
ِ
عذت بعظيم» وطلقها. االستعاذة فقال لها« :لقدْ
الج ْو ِن لما ُأ ْد ِخ َلت
فقد روى البخاري يف صحيحة عن عائشة أن ابنة َ
على رسول اهلل ودنا منها قالت :أعوذ باهلل منك! فقال لهاَ :
«ل َقدْ
اذ»((( أي بالذي ت بِ َم َع ٍ الح ِقي بِ َأ ْه ِل ِ
ك»((( ويف رواية قالَ « :قدْ ُع ْذ ِ ت بِ َع ِظ ٍ
يمَ ، ُع ْذ ِ
ُيستعاذ به و ُيستجار .فالرسول يعرف بمن استعاذت ،ويعرف عظم
هذه االستعاذة باهلل .وقد روى أبو داود يف سننه ،وصححه األلباين ،عن ابن عمر
يذو ُهَ ،و َم ْن َس َأ َل ُك ْم بِال َّل ِه
است ََعا َذ ُك ْم بِال َّل ِه َف َأ ِع ُ
أن الرسول قالَ « :م ِن ْ
َف َأ ْع ُطو ُه»(((.
بشرا سو ًّيا ،وهي ال تعرفه ،استعاذت
ومريم عندما تمثل لها جربيل ً
منه ،وتوقعت منه أن يمتثل الستعاذهتا؛ ألهنا رأت فيه عالمات التقوى ،وهي تعلم
أن التقي يعرف معنى االستعاذة ،وقد اختارت الستعاذهتا صيغة تحميها وال تؤثر
على الذي ترى أنه تقي ،كما أخربنا اهلل يف قوله﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
اسما من أسماء اهلل الحسنى وهو «الرحمن».
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ فاختارت ً
(((
معنى االستعاذة:
جاء يف لسان العرب :عاذ به يعوذ َعو ًذا ِ
وع َيا ًذا و َم َعا ًذا :الذ به ولجأ إليه ْ ُ
واعتصم .و َم َعاذ اهلل؛ أي ِع َيا ًذا باهلل ،قال اهلل ﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘﭙﭚ﴾ أي :نعوذ باهلل َم َعا ًذا أن نأخذ غير الجاين بجنايتهَ .
والم َعاذ: (((
صيغ االستعاذة:
االستعاذة نوع من الدعاء يلتجئ ويلوذ به العبد بربه .وقد بين
لنا ربنا وبين لنا الرسول صيغ االستعاذة بأسماء اهلل
((( (مريم.)21:
((( (يوسف.)79:
(( ( لسان العرب (باب :ع و ذ).
13 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
الحسنى (أعوذ باهلل ،أعوذ بالرحمن ،أعوذ بك ربي) وكذلك االستعاذة بصفاته
اك ِم ْن َس َخ ِط َك، (الله َّم َأ ُع ُ
وذ بِ ِر َض َ ُ ات اهللِ ال َّتا َّم ِ
ات) وذ بِ َك ِل َم ِ
(أ ُع َُ :
وذ بِ َك ِم ْن َك) وجاءت بعض هذه الصيغ مرة مطلقة َوبِ ُم َعا َفاتِ َك ِم ْن ُع ُقو َبتِ َكَ ،و َأ ُع ُ
بدون ذكر المستعاذ منه ،ومرة مقيدة بذكر المستعاذ منه ،وكل صيغة لها مناسبتها
الخاصة هبا ،وتأثيرها الخاص ،كما جاء يف القرآن والسنة.
وسوف نذكر صيغة االستعاذة باهلل من الشيطان الرجيم ،أما الصيغ األخرى
فسوف نذكرها عندما نصل لتلك اآليات من القرآن بإذن اهلل تعالى.
يقول القرطبي يف مقدمة تفسيره :أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن
وال آية منه ،وهو قول القارئ( :أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم) .وهذا اللفظ هو
الذي عليه الجمهور من العلماء يف التعوذ ألنه لفظ كتاب اهلل تعالى .وروي عن
يمَ ،ف َق َال ل ِ َي الر ِج ِ ِ يم مِ َن َّالس ِمي ِع ا ْل َعلِ ِ ِ
الش ْي َطان َّ ابن مسعود أنه قالُ :ق ْل ُتَ :أ ُعو ُذ بِاهَّلل َّ
يم ،هَ َك َذا َأ ْق َر َأنِي الر ِج ِ الش ْي َط ِ
ان َّ وذ بِال َّل ِه ِم َن َّالنَّبِي َ «:يا ا ْب َن ُأ ِّم َع ْب ٍدَ ،أ ُع ُ
ُّ
ْ َ َ ((( يل َع ِن ال َّل ْو ِح ا ْل َم ْح ُف ِ
ِج ْب ِر ُ
وظ َع ِن القل ِم» ) انتهى كالمه .
(((
(( ( أخرجه الثعلبي يف «تفسيره» ( )124 - 122/16وضعفه األلباين يف «السلسلة الضعيفة» (.)3903
(( ( تفسير القرطبي (.)87 - 86/1
(( ( البخاري ،)3282( :مسلم )6646( :وهذا لفظ البخاري.
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
16
والرسول الذي ال ينطق عن الهوى يعلم أن المسبب لغضب
اإلنسان هو الشيطان الرجيم ،ولذا أخربنا عن أفضل طريقة وأفضل صيغة لطرد
هذا الشيطان.
وكذلك بين لنا ربنا سبحانه حضور الشيطان يف بداية أي حوار بين طرفين،
والذي يحرص فيه هذا الشيطان على أن يجعل الطرفين ال يسمعان إال المعنى
بعضا ،فهو ينتظر من أحد الطرفين أي لفظة لها احتمال
السيئ من كالم بعضهما ً
تأوي ٍل سيئ فيقذف هذا التأويل السيئ يف قلب الطرف اآلخر فينزغ بينهما ،وهكذا
يتنقل بين الطرفين حتى يصال إلى مرحلة الغضب واحمرار الوجه ،وفيها يفقد كل
منهما صوابه ،وتكون النتيجة ما ال يحمد عقباه.
وقد حذرنا ربنا سبحانه من هذه البداية السيئة ،وأخربنا أن ننتقي أحسن القول
حتى ال نجعل للشيطان با ًبا لتأويل الكالم إلى معنى سيئ ،فقال تعالى﴿ :ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾((( فأمرنا
ندع فوق هذا األحسن أحسن منه ،حتى
-سبحانه -أن نختار من القول أحسنه ،وال َ
نقطع الطريق على الشيطان .أما إذا نسي اإلنسان وتكلم بكلمة أقل مما هو أحسن،
أيضا لم يرتكنا ربنا
فاستغلها الشيطان لينزغ بينه وبين من يحاوره ،ففي هذه الحالة ً
أيضا الطريقة لقطع السبيل على الشيطان ،فقال تعالى﴿ :ﭽ
للشيطان ،بل بين لنا ً
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾((( فنقول :أعوذ باهلل من
الشيطان الرجيم .وهو ما أخرب به الرسول عندما رأى الرجل المغضب
وقد احمر وجهه ،حيث قال« :إني ألعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ،لو قال:
((( (اإلسراء.)53:
(( ( (األعراف.)200:
17 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .فاالستعاذة ضمان من اهلل ومن رسوله
لذهاب ما يجد المغضب يف نفسه.
عندما يقول المستعيذ( :أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم) فإنه البد أن يستحضر
يف قلبه أنه يدعو اهلل دعاء عبادة ،ودعاء مسألة.
فدعاء العبادة :أن يتعبد المؤمن اهلل هبذا الدعاء ،ويتشرف بأنه استعاذ
بمعاذ واستعاذ بعظيم كما قال الرسول ،وأنه تخلى عن االستعاذة
َ
بالمخلوق الضعيف الذي ال يستطيع أن ينفع نفسه فكيف ينفع غيره؛ ألنه يعلم أن
هذا المخلوق المستعاذ به قد يضر المستعيذ به كما أخرب اهلل عن الذين
يستعيذون بالجن كيف زادوهم رع ًبا وخو ًفا ً
عوضا عن الطمأنينة واألمان ،قال
تعالى﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾((( فالمؤمن هبذا
وحد اهلل توحيد األلوهية وهو توحيد العبادة المتضمن توحيد
الدعاء يكون قد ّ
الربوبية وتوحيد األسماء والصفات.
(( ( (الجن.)6:
((( (يونس.)22:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
18
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﴾((( ومن ُيخلِص يف دعاء االستعاذة من
الشيطان الرجيم فإن اهلل يجيب دعاءه إلخالصه.
وقد أقر إبليس بذلك وعرف أن المخلصين ليس له سلطان عليهم ،ألن
اهلل قد أعاذهم منه ،وقد ذكر إبليس ذلك حتى ال يظهر بصورة الكاذب يف دعواه
عندما يتضح عدم قدرته على عباد اهلل المخلصين ،فاستثناهم من غوايته للناس
أجمعين ،قال تعالى﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﴾(((.
وقراءة (المخ َلصين) بفتح الالم معناها :الذين أخلصهم اهلل بالهداية واإليمان
والتوفيق والعصمة ،وهذه القراءة تدل على أن اإلخالص واإليمان ليس إال من اهلل
تعالى .وقراءة (المخلِ ِصين) بكسر الالم معناها :الذين أخ َلصوا دينهم وعبادهتم
عن كل شائب يناقض اإليمان والتوحيد.
أما دعاء المسألة فإن القارئ للقرآن ،المستعيذ باهلل من الشيطان الرجيم،
المعاذ والملجأ من الشيطان الرجيم ،ليحفظه اهلل من أمور
يسأل اهلل ويطلب منه َ
كثيرة .من هذه األمور أمران :
األمر األول :الوقاية من غواية الشيطان ،ألنه أقسم بعزة اهلل َل ُي ْغ ِو َي َّن بني آدم
أجمعين إال عباد اهلل منهم المخلصين ،وقد أخربنا اهلل بذلك يف قوله تعالى﴿ :ﰖ
ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝﰞﰟ ﴾((( وهذه الغواية يجري
هبا الشيطان من ابن آدم مجرى الدم .ومن غواية الشيطان أن يجعل القارئ يتبع
(( ( (العنكبوت.)65:
(( ( (الحجر.)40-39:
((( (ص.)83-82:
19 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل الباطل ،قال تعالى﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﴾(((.
وصور هؤالء الذين يف قلوهبم زيغ ويتبعون ما تشابه منه نراها يف مذاهب
ؤولون القرآن تب ًعا ألهوائهم ،فيشرتون به
وفرق أهل البدع والضالل الذين ُي ِّ
ثمنًا قليلاً ،وقد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم؛ وذلك ألهنم ما عرفوا عدوهم
العدو المبين وال استعاذوا منه ،حتى لو نطقوا باالستعاذة ود َعوا دعاء المسألة
فإن اهلل ال يقبل منهم ،ألهنم ما حققوا شرط دعاء العبادة بسبب إلحادهم بأسماء
طلها ومنهم من يم ِّثلها ،واهلل
اهلل وتأويلها تأويلاً باطلاً ،فمنهم من يع ِّ
ليس كمثله شيء.
وقد اشرتط اهلل للدعاء بأسمائه الحسنى أال ي ْل ِ
حدوا هبا ،فقال تعالى﴿ :ﭳﭴ ُ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﴾(((.
يقول القرطبي يف تفسيره :قوله تعالى﴿ :ﭶ ﭷ ﴾ أي :اطلبوا منه بأسمائه،
ف ُيط َلب بكل اسم ما يليق به ،تقول :يا رحيم ارحمني ،يا حكيم احكم لي ،يا رزاق
ارزقني ،يا هادي اهدين ،يا فتاح افتح لي ،يا تواب ُتب علي ،وهكذا .فإن دعوت
باسم عام قلت :يا مالك ارحمني ،يا عزيز احكم لي ،يا لطيف ارزقني .وإن دعوت
باألعم األعظم فقلت :يا اهلل ،فهو متضمن لكل اسم((( .اهـ.
ٍ
ونواه .فالشيطان حريص على أال نفهم من هذا الكتاب مافيه من أحكام وأوامر
العظيم شي ًئا ،وأول شيء نفهمه من هذا الكتاب بعد التوحيد هو ما ب َّينه لنا ربنا من
أن الشيطان لإلنسان عدو مبين واضح وليس يف عداوته شك ،بل قد اعرتف هو
بذلك ،وقد بين لنا ربنا عداوته يف مواضع كثيرة يف القرآن ،قال تعالى﴿ :ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾(((.
يقول القرطبي يف تفسير قوله تعالى ﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﴾ :أخرب تعالى بأن
الشيطان عدو ،وخربه حق وصدق ،فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا
العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم ،وبذل نفسه وعمره يف إفساد أحوال بني
آدم ،وقد أمر اهلل تعالى بالحذر منه ،فقال جل من قائل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾((( .اهـ.
فالمستعيذ يطلب اللجوء إلى اهلل لحمايته من غواية الشيطان وضالله،
ويعتصم باهلل من وسوسة الشيطان وتل ِّبيسه حتى ال يصرفه عن تدبر القرآن ،لهذا
البد أن نستحضر كل هذه المعاين عندما نقول( :أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم)
لكي يتحقق ما نرجوه من دعاء العبادة ودعاء المسألة يف هذا الدعاء الذي اختاره
اهلل لنا ،واختار لنا الصيغة المناسبة لنتسلح به ضد هذا العدو المبين.
فيعينه اهلل على كل أمر من األمور ،ويتحقق له ما سأل عندما يقرأ يف صالته وهو
خاشع﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾ ويقول اهلل ( :ولعبدي ما
سأل).
والخشوع هو معرفة العبد قدر نفسه القدر الحقيقي ،ذليلاً أمام اهلل ،ومعرفة قدر
اهلل حسب تعظيمه هلل ،ثم يوظف هذه المعرفة ليصل إلى مرحلة الخوف والرجاء
التي تتفاوت من شخص آلخر حسب معرفته وعلمه ،ومن ثم تطبيقه ،قال تعالى:
﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾((( وللوصول إلى الخشوع البد للعبد
أن يعي ويستحضر كل ما يقوله ويفعله يف صالته ،من قراءة وركوع وسجود ،وال
ُيشتت إنتباهه إلى غير ذلك ،ويستحضر عظمة اهلل أمامه ،ليكون خاش ًعا ذليلاً أمام
ربه .
والشيطان خنزب يعرف هذا كله ،لذلك يحرص كل الحرص على أن
يصرف المصلي عن الخشوع يف صالته ،وقد ذكر الرسول الشيطان
خنزب باالسم ،ثم أمر عثمان بأن يتعوذ باهلل منه ،أي من خنزب ،فتكون
االستعاذة باهلل يف هذا الموضع مقيدة على الشيطان خنزب ،وبذلك تكون صيغة
االستعاذة منه بقولنا :أعوذ باهلل من الشيطان خنزب .واهلل أعلم.
***
((( (الزمر.)67:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
24
Jﭑﭒﭓﭔﭕ L
( ﭑ ﭒ )
روى أحمد يف مسنده عن أبان بن عثمان ،عن أبيه قال :قال رسول اهلل
ال :بِس ِم ال َّل ِه ا َّل ِذي اَل َي ُضر َم َع اس ِم ِه َشي ٌء ِفي أْ َ
ض َوال ِفي
ال ْر ِ ْ ْ ُّ َ « :م ْن َق َ ْ
يمَ .ل ْم َي ُض َّر ُه َش ْي ٌء»(((.
يع ا ْل َع ِل ُ
الس ِم ُ الس َم ِ
اءَ ،و ُه َو َّ َّ
والزيادة التي وردت يف لفظ أبي داود تشرح لنا هذا الحديث الشريف ،فقد
روى أبو داود يف سننه عن أبان بن عثمان يقول :سمعت عثمان -يعني ابن عفان -
ال :بِ ْس ِم ال َّل ِه ا َّل ِذي اَل َي ُض ُّر يقول :سمعت رسول اهلل يقولَ « :م ْن َق َ
َم َع اس ِم ِه َشي ٌءِ ،في أْ َ
اتَ ،ل ْم يمَ .ث اَل َث َم َّر ٍيع ا ْل َع ِل ُ
الس ِم ُ
اءَ ،و ُه َو َّ ض َو اَل ِفي َّ
الس َم ِ ال ْر ِ ْ ْ
اتَ ،ل ْم ُت ِص ْب ُه َف ْج َأ ُة
ين ُي ْصبِ ُح َث اَل ُث َم َّر ٍ ُت ِص ْب ُه َف ْج َأ ُة َب اَل ٍء َح َّتى ُي ْصبِ َحَ ،و َم ْن َق َال َها ِح َ
الفالج ،فجعل الرجل الذي سمع ُ أبان بن عثمان َب اَل ٍء َح َّتى ُي ْم ِس َي» وقال :فأصاب َ
كذبت على عثمان وال
ُ إلي! فواهلل ما
منه الحديث ينظر إليه ،فقال له« :ما لك تنظر َّ
كذب عثمان على النبي ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني
فنسيت أن أقولها(((.
ُ غضبت
ُ
(( ( (هود.)41:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
26
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ
ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﴾(((.
وتدبرنا لهذه اآلية ،كما أمرنا اهلل أن نتدبر ،يدلنا على أن اإلنسان ال ينبغي أن
ذاكرا اسم اهلل تعالى حتى
يشرع يف أمر من األمور إال ويكون يف وقت الشروع فيه ً
تكون بركة ذلك الذكر سب ًبا لتمام ذلك المقصود.
وقراءة القرآن من أعظم األمور التي نذكر اسم اهلل فيها حتى نحصل بربكة اسم
اهلل على ما يف القرآن من منافع ،ومن هذه المنافع أن يعيننا اهلل على فهم القرآن
وتدبره ،وعلى الشفاء بالقرآن ،ونحصل على الهداية التي يف القرآن ،كما قال
تعالى﴿ :ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﴾((( وفوائد أخرى كثيرة ال تعد
(((
وال تحصى ،ألن اهلل وصف هذا القرآن بأنه قرآن كريم﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﴾
فكل من طلب من هذا القرآن شي ًئا أعطاه.
وعندما نبدأ قراءتنا باسم اهلل فإننا ندعو اهلل أن يفتح علينا مما يف هذا القرآن من
الهدى ،وينفعنا به ،ويجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجالء حزننا وذهاب همنا،
أمرا من اهلل للرسول بأن
ولذلك فإن أول آية نزلت يف القرآن كانت ً
يقرأ باسم ربه ،قال تعالى﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﴾((( وربنا سبحانه ال يأمر إال
بالخير .نسأله -سبحانه -الخير كله عاجله وآجله ،ما علمنا وما لم نعلم.
(( ( (هود.)44-42:
(( ( (البقرة.)2:
((( (الواقعة.)77:
((( (العلق.)1:
27 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
( ﭒ )
عندما نذكر (اهلل) فإننا نعني خالقنا وخالق الكون وخالق كل شيء ،قال تعالى:
﴿ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﴾((( فمشركو قريش يعلمون أن (اهلل) هو اسم لخالق السموات
واألرض ،والكل يعرف أن اسم (اهلل) يراد به هذا المسمى ،قال تعالى﴿ :ﮭ
(((
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ﴾
وال يوجد أحد ا َّدعى هذا االسم له ،وإنما هو َع َلم على ذات اهلل سبحانه الذي
ال إله إال هو ،قال تعالى﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﴾(((.
فكل مخلوق يف السموات ،من مالئكة وأفالك ونجوم وكواكب ،وكل ما يف
األرض ،من جبال وأشجار ورمال وبحار ،وكل ما على األرض من مخلوقات،
نراها أو ال نراها ،الكل يعرف اهلل ويسبح هلل لكننا ال نفقه تسبيحهم ،لذلك عندما
نقول (اهلل) فإننا نعني به رب العالمين أجمعين ،قال تعالى ﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﴾(((.
والكافر يعرف أنه ال يوجد إله آخر يدعي أنه خلق هذا الوجود ،وال يوجد
إله ينافس اهلل سبحانه يف التفرد هبذا الوجود ،وإال ل َعلاَ بعضهم على بعض ،قال
((( (المؤمنون.)91:
((( (لقمان.)32:
(( ( (األعراف.)180:
29 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
سبحانه ،وبعضها باسم (الرحمن الرحيم) وقد يأيت الدعاء بذكر صفة من صفات
اهلل مثل( :أعوذ برضاك من سخطك) ولذلك يجب علينا عندما ندعو
اهلل أن نلتزم بنفس النص حتى نحصل على بركة الدعاء؛ ألننا ال نحصي ثنا ًء على
اهلل ،فهو سبحانه كما أثنى على نفسه ،فنلتزم بما أخربنا اهلل من الثناء على نفسه
هبذه األدعية ،ومن هذه األدعية( :بسم اهلل الرحمن الرحيم) الذي ذكر فيها أسما َءه
الحسنى( :اهلل ،الرحمن ،الرحيم).
( ﭓ ﭔ )
ّ
إن من رحمة الرحمن الرحيم أن بين لنا كيف نذكره قبل القيام
ذكرا يبارك لنا فيه ،فنقول :بسم اهلل.
بأي عملً ،
فهو الرحمن الرحيم الذي ينشر علينا رحمته عندما نقول :بسم
اهلل .ونبي اهلل نوح علم ذلك من ربه عندما قال لقومه :اركبوا فيها بسم
اهلل ،حيث قال بعد ذلك :إن ربي لغفور رحيم ،كما أخربنا اهلل عنه يف قوله تعالى:
﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﴾(((.
فمن رحمته – سبحانه -أن ع ّلم أنبياءه األدعية النافعة ،وطبق األنبياء هذه
األدعية يف وقتها ومكاهنا ومناسبتها ،تعبدً ا هلل وسؤالاً له ورأينا هذا
قصها علينا ربنا الرحيم يف القرآن كي
التطبيق وثماره يف مواقف كثيرة ّ
نقتدي برسله ونتبع سبيلهم لنحصل على ثمرة الدعاء الذي يريده اهلل منا من غير
زيادة وال نقصان .ألنه هو أعلم بما يحبه ويرضاه لنفسه .
(( ( (هود.)41:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
30
( ﭓ )
ٌّ
دال على الصفة القائمة به سبحانه ،وهي أن الرحمة صفته ،فكل رحمة نراها
يف الكون والتي تشمل اإلنسان والحيوان هي من الرحمن .ورحمة (الرحمن) -
سبحانه -هي رحمة عامة منه لكل المخلوقات ،ولكل الناس ،المؤمن منهم وغير
المؤمن ،قال تعالى﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ﴾((( ﴿ﮉﮊﮋﮌﮍ﴾((( والعرش
أعلى وأوسع مخلوق ،وكل مخلوق غيره فهو تحته وأصغر منه ،وربنا سبحانه
العلي ،ال أحد فوقه ،وهو الكبير المتعالي.
وقد اختار سبحانه يف هذه اآلية من كل أسمائه الحسنى اسم الرحمن ،فقال:
﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﴾ فكل ما تحت هذا العرش ومعهم العرش داخل يف
رحمة اهلل ،رحمة عامة شاملة لكل المخلوقات ،فلم يقل :الجبار على العرش
استوى ،ولم يقل :القهار أو القاهر على العرش استوى ،بل اختار -سبحانه -
اسم (الرحمن) طمأن ًة للقلوب عن هيبة المتعالي وهيبة الكبير وهيبة الجبار
وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه ،وليبين أن الكل يف الحياة الدنيا
ً
تشمله رحمة الرحمن سبحانه.
فربحمته يغفر للناس وال يؤاخذهم بكل ما كسبوا ،ولكن يؤاخذهم ببعض ما
كسبوا ليرجعوا إليه؛ ألنه هو ﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﴾((( ولو يؤاخذهم بكل ما كسبوا
لعجل لهم العذاب ،قال تعالى﴿ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ّ
( ﭔ )
((( (الكهف.)58:
((( (فاطر.)45 :
(( ( (األعراف.)156 :
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
32
قال تعالى﴿ :ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ
ﰒ ﰓ ﰔ ﴾((( فصالة اهللِ ومالئكتِه على المؤمنين سبب يف إخراجهم
من الظلمات إلى النور ،وذلك رحمة من الرحيم خاصة بالمؤمنين ،ومن أراد أن
تشمله رحمة الرحيم فليكثر من الصالة على رسول اهلل
ليصلي عليه اهلل بكل صالة عشر صلوات ويخرجه من الظلمات إلى النور ،فيمشي
بنور اهلل ورحمته يف كل أمور حياته ،ومن يمشي بنور اهلل ورحمته فلن يتيه ولن
همه ويغفر له ذنبه.
يضل أبدً ا ،وسوف يكفيه اهلل َّ
ِ روى الرتمذي عن ُأبي بن كعب قالُ :ق ْلت :يا رس َ ِ
ول اهلل ،إِنِّي ُأكْث ُر َّ
الصالَ َة ُ َ َ ُ َ ٌّ
الر ُب َع؟ َق َالَ « :ما َع َل ْي َكَ ،ف َك ْم َأ ْج َع ُل َل َك مِ ْن َصالَتِي؟ َف َق َالَ « :ما ِشئ َ
ْت» َق َالُ :ق ْل ُتُّ :
ف؟ َق َالَ « :ما ِشئ َ
ْتَ ،فإِنْ ِز ْد َت َف ُه َو َخ ْي ٌر ْتَ ،فإِنْ ِز ْد َت َف ُه َو َخ ْي ٌر َل َك» ُق ْل ُت :الن ِّْص َِشئ َ
ْتَ ،فإِنْ ِز ْد َت َف ُه َو َخ ْي ٌر َل َك» ُق ْل ُتَ :أ ْج َع ُل َل َك» َق َالُ :ق ْل ُتَ :فال ُّث ُل َث ْي ِن؟ َق َالَ « :ما ِشئ َ
َل َك َصالَتِي ُك َّل َها؟ َق َال« :إِ ًذا ُت ْك َفى هَ َّم َكَ ،و ُيغْ َف َر َل َك َذ ْن ُب َك»(((.
(((
وقد سئل شيخ اإلسالم ابن تيمية فيما نقله ابن القيم يف «جالء األفهام»
بي بن كعب دعا ٌء يدعو به لنفسه ،قال للنبي ُ
عن تفسير هذا الحديث فقال :كان أل ّ
خير لك) هل يجعل له منه رب َعه صال ًة عليه ،فقال( :إنْ ِز ْد َت فهو ٌ
زدت فهو خير لك) إلى أن قال :أجعل لك صاليت ك َّلها، النصف؟ فقال( :إن َ َ فقال:
أجعل دعائي ك َّله صال ًة عليك ،قال( :إ ًذا ُتك َفى َّ
همك ،و ُيغ َف َر لك ذن ُبك) ألن ُ أي:
عشرا ،ومن ص َّلى اهلل
النبي صال ًة ص َّلى اهلل عليه هبا ً َّ
َمن صلى على ِّ
همه وغفر له ذنبه .انتهى كالمه ال حرمنا اهلل وإياكم صالة اهلل
عليه كفاه َّ
علينا ورحمته بنا.
وبرحمة اهلل ينال المؤمن أعظم فوز يف اآلخرة ،وهو الفوز بالجنة ،إذ ال أحد
يدخل الجنة إال برحمة اهلل ،فهي الزمة يف اآلخرة لدخول الجنة.
روى البخاري يف صحيحه عن أبي هريرة قال :قال رسول اهلل :
«و َال َأ َنا ،إِ اَّل ال َأنْت يا رس َ ِ َ َ
ول اهَّلل؟ َق َالَ : «ل ْن ُين َِّج َي أ َحدً ا ِم ْن ُك ْم َع َم ُل ُه» َقا ُلواَ :و َ َ َ َ ُ
َأنْ َيت ََغ َّم َدنِي ال َّل ُه بِ َر ْح َم ٍةَ ،س ِّد ُدوا َو َقا ِر ُبواَ ،و ْاغدُ وا َو ُر ُ
وحواَ ،و َش ْي ٌء ِم َن الدُّ ْل َج ِة،
َوال َق ْص َد ال َق ْص َد َت ْب ُل ُغوا»(((.
وال ينال هذه الرحمة إال المؤمنون ،قال تعالى﴿ :ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﴾((( وقال تعالى﴿ :ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾((( ورحمة اهلل هنا هي الجنة.
واآليات يف ذلك كثيرة.
و بما أن هذه الرحمة هي أغلى ما يتمناه كل إنسان يف اآلخرة ،يوم ال
ينفع مال وال بنون إال من أتى اهلل بقلب سليم ،فينالها المؤمن ويفوز بالجنة
أيضا ينال رحمة ربه يف الدنيا ،هذه الدنيا
وبرؤية اهلل فإن المؤمن ً
التي ال تساوي عند اهلل جناح بعوضة ،فكما أن اهلل برحمته أعطاه جنة عرضها
أيضا يرحمه يف الدنيا رحمة واسعة تجعله غير محتاج
السماوات واألرض ،فإنه ً
ألحد إال هلل.
***
Jﭖﭗﭘﭙﭚ L
إذا قال العبد ﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﴾ قال اهلل تعالى ( :حمدين
عبدي) وإذا قال اهلل ( حمدين عبدي) فهذا يعني أن العبد قد حقق
(ح َم َدنِي َع ْب ِدي).
الحمد الذي يرضاه منه سبحانه ،وشهد له سبحانه بذلك فقالَ :
وربنا حق ،وال يقول إال الحق ،فهني ًئا لمن شهد له اهلل بأنه حقق الحمد الذي
يرضاه عنه ،والحمد هلل على هذه الشهادة؛ ألنه ال أحد يستطيع أن يحمد اهلل الحمد
الكامل إال اهلل سبحانه ،فنحن ال نستطيع أن نحصي نعم اهلل علينا ،وال نستطيع أن
نحمده الحمد الكامل على نعمه كلها ،قال تعالى﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾(((.
لكن اهلل الغفور الرحيم بنا د َّلنا على الصيغة المناسبة لحمده ،عندما أمرنا
أن نقول﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﴾ الصيغة التي يستطيع قولها كل من
يستطيع الكالم ،يستوي يف ذلك المتعلم وغير المتعلم ،الكبير والصغير ،فالحمد
هلل سبحانه على ذلك كله ،ولو حاولنا أن نجد صيغة نحمد اهلل هبا فلن نجد أفضل
من هذه الصيغة العامة المختصرة التي علمنا إياها ربنا سبحانه ورضيها مِنَّا.
نأنس بن مالكقال: قال رسول اهلل وقد جاء يف الحديث الذي رواه مسلم ع
« :إِنَّ الل َه َلير َضى َع ِن ا ْل َعب ِد َأنْ َي ْأ ُك َل أْ َ
ال ْك َل َة َف َي ْح َم َد ُه َع َل ْي َهاَ ،أ ْو َي ْش َر َب ْ َْ
الش ْر َب َة َف َي ْح َم َد ُه َع َل ْي َها»((( فالحمد هلل على رضاه عنا ،ولكي نحصل على الرضا
َّ
(( ( (النحل.)18:
((( مسلم ،)6932( :أحمد.)12168( :
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
36
الكامل من اهلل وعلى الربكة الكاملة لهذا الحمد ،البد أن نتدبر معنى هذا الحمد،
ونستحضره عندما نقوله.
﴿ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﴾ تعني:
﴿ﭖ ﭗ ﴾ أنه سبحانه محمود لذاته ،فالحمد المطلق كله كائن ﴿ ﭗ ﴾.
قال القرطبي :الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان،
والشكر ثناء على المشكور بما َأ ْو َلى من اإلحسان ،وعلى هذا الحد قال علماؤنا:
الحمد أعم من الشكر((( .اهـ.
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية :الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود
بذكر محاسنه ،سواء كان اإلحسان إلى الحامد أم لم يكن .والشكر ال يكون إال
على إحسان المشكور إلى الشاكر ،فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ ألنه
يكون على المحاسن واإلحسان ،فإن اهلل تعالى ُيحمد على ما له من األسماء
الحسنى والمثل العال وما خلقه يف اآلخرة واألولى((( .اهـ
﴿ﭖ ﭗ ﴾
ُتقرأ برفع (الحمدُ ) على أهنا جملة اسمية ،وهذا هو المشهور يف قراءهتا،
وقراءة الرفع أولى من قراءة (الحمدَ ) بالنصب ،على أهنا جملة فعلية.
جاء يف (الكشاف) :والعدل هبا عن النصب إلى الرفع على االبتداء للداللة
على ثبات المعنى واستقراره ،ومنه قوله تعالى﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﴾((( رفع
ٍ
بتحية أحسن من تحيتهم، اه ْم
السالم الثاين للداللة على أن إبراهيم َ ح َّي ُ
ألن الرفع ٌّ
دال على معنى ثبات السالم لهم دون تجدده وحدوثه((( .انتهى كالمه.
وجاء يف (البحر المحيط) :وقراءة الرفع أمكن يف المعنى ،ولهذا أجمع عليها
السبعةُ؛ ألهنا تدل على ثبوت الحمد واستقراره هلل تعالى ،فيكون قد أخرب بأن
مستقر هلل تعالى .و َم ْن نصب فال بد من عامل تقديره :أحمد اهلل ،أو حمدت
ٌّ الحمدَ
ِ
فاعله ،وأش َعر بالتجدد والحدوث((( .اهـ. ِ
بتخصيص ص الحمدُ فيتخص ُ
َّ اهلل،
فالجملة االسمية أقوى وأثبت من الفعلية؛ ألن الجملة الفعلية مرتبطة بالفاعل
وبزمن الفعل ،أما الجملة االسمية فتدل على أن اهلل محمود يف القدم ويف األزل،
قبل حمد الحامدين وبعد حمدهم ،وهي دال ٌة على ثبوت الحمد واالستقرار هلل
دائما وأبدً ا.
ً
﴿ ﭖ ﭗ ﴾
إن الحمد الذي يرضاه منا ربنا سبحانه نراه مقرتنًا بلفظ الجاللة( :اهلل)
المتضمن لكل أسمائه الحسنى ،وهبذا نكون حمدنا اهلل سبحانه على جميع أسمائه
الحسنى وصفاته العليا ،ألننا لو قلنا ( :الحمد للحي) القتصر الحمد على حياته،
ولو قلنا (الحمد للسميع العليم) فكأننا حمدناه على سمعه وعلمه ،ال على قدرته
ورحمته ومغفرته وكرمه ورزقه ،لكن عندما نقول﴿ :ﭖ ﭗ ﴾ فإننا نقول:
الحمد هلل الحي ،والحمد هلل القيوم ،والحمد هلل الرحمن الرحيم القوي العزيز
اللطيف الخبير العليم الملك القدوس السالم ،وكل أسمائه التي نحصيها ،بل
حتى أسمائه التي استأثر هبا يف علم الغيب عنده التي يتضمنها كلها اسمه (اهلل).
﴿ﭖ ﭗ ﴾
﴿ﭖ ﭗ ﴾ أهي خرب أم إنشاء؟
ذهب بعضهم إلى أهنا خربٌ يدل على اإلخبار بأن الحمد ثابت ومستحق هلل.
وقال بعضهم إهنا إنشاء يفيد المدح والتعظيم هلل.
39 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
و ذهب األلوسي يف تفسيره (روح المعاين) إلى أهنا خربٌ يتضمن إنشا ًء ،حيث
يقول :إن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة واإلجالل ،والمدح إخبار
محضا(((.
ً إخبارا يتضمن إنشاء ،والمدح خربًا
ً عن المحاسن ،ولذا كان الحمد
انتهى كالمه.
﴿ﭖ ﭗ ﴾
أول كلمة افتتح البشر فيها كالمهم من بين كل المفردات اللغوية هي
﴿ﭖ ﭗ ﴾ وقد قالها أبونا آدم لما نفخ اهلل فيه الروح وعطس.
«ل َّما َخ َل َق روى الرتمذي عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل َ :
الح ْمدُ لِ َّل ِهَ .ف َح ِم َد ال َّل َه بِإِ ْذنِ ِهَ ،ف َق َ
ال َل ُه َر ُّب ُه: سَ ،ف َق َ
الَ : وحَ ،ع َط َ
الر َ ال َّل ُه آ َد َم َو َن َف َخ ِف ِ
يه ُّ
َر ِح َم َك ال َّل ُه َيا آ َد ُم »...الحديث»(((.
وهي آخر دعوى المؤمنين يوم يدخلون الجنة ،قال تعالى﴿ :ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾((( فكلنا نحيا بين هذين القولين ،ولذلك وجب
علينا أن نحيا هبما يف كل لحظة مستحضرين هذا الحمد المستحق هلل
ونسعى لرضاه ،حتى يرضى عنا سبحانه ويقول( :حمدين عبدي).
﴿ ﭘ ﭙ ﴾
عندما قال اهلل ﴿ :ﭖ ﭗ ﴾ بين سبحانه أن (اهلل) هو ﴿ ﮆ
ﮇ ﴾ ورب العالمين هو رب كل شيء ،من أصغر ذرة ال ُترى إلى أعظم
دائما ما يذكرها
أما التعريف باهلل بأثر أفعاله فنراه جل ًّيا يف آيات اهلل الكونية التي ً
اهلل يف القرآن ويحثنا على تدبرها ،ونرى ذلك يف سورة الشعراء حيث يتضح لنا
عرفه الرسل -صلوات اهلل
التعريف بالرب وذلك بذكر أثر أفعاله كما ّ
وسالمه عليهم -لقومهم ،ومن هذا التعريف نتع ّلم كيف نطبق اإليمان هبذا االسم
من أسماء اهلل الحسنى ،وكيف نعبد اهلل هبذا االسم كما طبقه الرسل صلوات اهلل
وسالمه عليهم.
وقد جاء التعريف برب العالمين يف سياق الحوار الذي دار بين
الرسل وقومهم يف سورة الشعراء ،وأول حوار ذكره اهلل يف هذه السورة حوار
موسى مع فرعون ،الذي فيه يب ّين اهلل لنا اإلجابة على األسئلة التي قد
يطرحها كل جاحد باهلل رب العالمين.
وعندما سأل (((
قال تعالى﴿ :ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾
فرعون عن المقصود برب العالمين ،كما ذكر لنا اهلل يف القرآن﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﴾((( أجابه موسى كما بين القرآن﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﴾(((.
يقول ابن كثير :أي :خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه ،ال
شريك له ،هو اهلل الذي خلق األشياء كلها ،العالم العلوي وما فيه من الكواكب
الثوابت والسيارات النيرات ،والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال
وأشجار وحيوان ونبات وثمار ،وما بين ذلك من الهواء والطيور ،وما يحتوي
((( (الشعراء.)16:
((( (الشعراء.)23:
((( (الشعراء.)24:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
42
عليه الجو ،الجميع عبيد له خاضعون ذليلون ﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾ أي :إن كانت لكم
قلوب موقنة ،وأبصار نافذة((( .انتهى كالمه.
هذا هو التعريف األول برب العالمين يف هذا الحوار .فربنا – سبحانه -لم
يجعل التعرف عليه صع ًبا ،فهو رب السماوات واألرض وما بينهما ،رب هذا
الكون العظيم الواسع أمامنا ،ومع عظم ما نراه أمامنا من هذا الكون الواسع
إال أننا ال نرى منه وال نعرف عنه إال القليلَ ،فر ُّب هذا الكون العظيم وخالقه
أيضا ربنا وخالقنا ومصلح جميع شؤوننا ﴿ ﭰ ﭱ ﴾ كما قال
ومصلحه هو ً
موسى لفرعون فيما أخربنا به اهلل﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﴾((( والذي يوقن بعظمة واتساع هذا الكون من السماوات واألرض وما
بينهما ال بد أن يستحضر عظمة رب وخالق السماوات واألرض وما بينهما،
فالموقن يعرف عظم المؤثر بعظم األثر.
وألن فرعون لم يكن من الموقنين فقد استغرب من هذا التعريف لرب
العالمين ،وكأنه كان يريد التعريف الكامل لماهية رب العالمين الذي لن يستطيع
أحد من المخلوقين استيعابه أو اإلحاطة به ،ونسي أو تناسى عظم أثر الخالق
يف خلقه السماوات واألرض وما بينهما.
وقد نظر فرعون إلى من حوله وتمتم بطريقة االستخفاف كما أخرب تعالى يف
قوله﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﴾((( فرد عليه موسى الرد المقنع كما أخربنا
– سبحانه -يف قوله﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﴾(((.
وهذا هو التعريف الثاين برب العالمين ،بذكر أفعاله ،فقد ذكّرهم بأنفسهم
وببداية خلقهم هم وآبائهم األولين ،فإن كانوا قد تجاهلوا خلق السموات
واألرض وما بينهما فلينظروا إلى خلق أنفسهم يف جميع حركاهتم وسكناهتم،
كما قال تعالى يف آية أخرى﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﴾(((.
خصهم وخص آباءهم
فبعد أن ذكر أنه رب السموات واألرض وما بينهماّ ،
بالذكر ،وهذا منتهى العدل والحجة ،فموسى لم يطلب منهم مطل ًبا صع ًبا،
وإنما طلب منهم أن يرجعوا للفطرة ،فال يعبدوا إال من أوجدهم وأوجد آباءهم
األولين ،اإلله الذي رباهم وأصلح لهم جميع أمورهم ،بد ًءا بأنفسهم وما تحتويه
من أعضاء وخاليا وسوائل وعناصر ،رتبها خالقها وأصلحها يف أحسن تقويم،
ونظم أكلها وشرهبا وتنفسها ونموها ونومها واستيقاظها ،وانتها ًء بما حولهم من
َّ
مسخ ًرا لهم هذا الكون الواسع من السموات واألرض وما بينهما ،الذي يسير
بشكل دقيق ال يحيد عن مساره.
وال يمكن أن يكون فرعون هو رهبم ألنه لم يخلقهم ،فبعض الحاضرين
لهذا الحوار جاء إلى هذه الدنيا قبل أن يولد فرعون ،فكيف يكون الرب جاء بعد
المخلوق! لذلك ذكَّرهم موسى بأن رب العالمين هو رهبم ورب آبائهم األولين،
ورب العالمين هو الذي خلق فرعون و َمن قبله من الفراعنة الذين ا َّد َعوا أهنم آلهة
كما يدعي فرعون اآلن ،ومع ادعائهم بأهنم آلهة إال أهنم رحلوا وماتوا ولم ينفعوا
أنفسهم لينفعوا غيرهم.
بعد هذا التعريف الثاين انقطع ما عند فرعون من الحجة ،وتب ّين أنه ال يود أن
يسأل موسى أكثر من ذلك حتى ال ُتفتّح عقول من حوله وأبصارهم على أشياء
((( (الذاريات.)21:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
44
مقنع لير َّد به على ما قاله
ٌ كانوا عنها غافلين ،فلم يجد فرعون جوا ًبا يعتقد أنه
موسى إال أن يتهمه بالجنون.
قال تعالى﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( يريد بذلك أال
يلتفتوا إلى ما يقوله موسى .فحاول تشويه المعلومات وتشويه سمعة
صاحب تلك المعلومات ،ومع هذا التشويه فقد أضاف إليهم صفة موسى
باعتباره رسولاً يف قوله﴿ :ﮌ ﴾ وأكدها يف قوله﴿ :ﮎ ﮏ ﴾ حتى يشعروا
لص ُق هبم لو اعرتفوا به وبرسالته إليهم ،ولكن موسى
بنفس التشويه الذي سوف ُي َ
تن ّبه لذلك.
فجاء بالتعريف الثالث لرب العالمين ،مخاط ًبا العقول ،ليقول لهم كما
أخربنا القرآن ﴿ :ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﴾((( فخاطب
موسى العقول -عندما قال :إن كنتم تعقلون – وقال :إن (رب العالمين) هو رب
المشرق والمغرب وما بينهما من البالد ،مما تشرق عليه الشمس وتغرب ،وهو
المسيطر عليها والمتحكم هبا ،وليس فقط رب هذه الطائفة أو القبيلة أو رب هذه
رب واحد ،وهو رب العالمين ،وإذا كان
األرض التي أنتم هبا ،فرب الجميع هو ٌّ
فرعون هو رب هذه البالد التي أنتم هبا ،فمن يكون رب تلك البالد البعيدة التي
تعرفوهنا وتعرفون أن فرعون ليس له سيطرة عليها مثل دولة الرومان والبابليين؟
هذا هو التعريف بـ (الرب) سبحانه ،كما بينه موسى لفرعون ،بأن
الرب هو رب العالمين ،ورب السموات واألرض وما بينهما ،ورب الناس ورب
آبائهم ،وهو سبحانه رب المشرق والمغرب وما بينهما ،رب كل شيء والمتصرف
((( (الشعراء.)27:
((( (الشعراء.)28:
45 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
(الشعراء.)50: (((
(الشعراء.)61: (((
(الشعراء.)62: (((
(الشعراء.)68: (((
(الشعراء.)44: (((
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
46
ربه سبحانه هو الرحيم ،عندما رحم موسى ومن معه فأنجاهم أجمعين ،فعزة
الرب سبحانه على الكافرين رحمة للمؤمنين ،قال تعالى﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﴾(((.
عرف اهلل عن نفسه يف سورة الشعراء يف كل قصة من قصص األنبياء
هكذا ّ
عرف عن الرب بأثر أفعاله يف اآليات التي نراها من
بأنه هو الرب الحقيقي ،فقد ّ
ف
حولنا ،ثم قال سبحانه﴿ :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾((( و َع ّر َ
عن الرب التعريف الكامل بأسمائه الحسنى ،حيث اختتم كل قصة
من قصص األنبياء يف سورة الشعراء هبذا التعريف ،قال تعالى﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﴾((( مسم ًيا نفسه بالرب ﴿ﮉ ﮊ ﴾ يا محمد ﴿ﮋ ﮌ
ﮍ ﴾ فما أسعدنا برب عزيز رحيم.
إلها ليس
ويف حوار إبراهيم مع قومه ،استغرب إبراهيم كيف أهنم يعبدون ً
ٍ
برب للعالمين ،كما بين لنا ربنا يف قوله تعالى﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾((( فهم
يعبدون من ال يسمعوهنم إذا د َعوهم وال ينفعوهنم وال يضروهنم.
(الشعراء.)68-65: (((
(الشعراء.)67: (((
(الشعراء.)68: (((
(الشعراء.)80-69: (((
47 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
واستغرابه هذا جاء بعد أن استخدم عقله ،وتدبر وقارن بين ما يعبدون من
أصنام هذا شأهنا وبين رب العالمين ،فأخربهم بقراره ،ومن َث َّم بين لهم سبب
اتخاذه لهذا القرار ،فذكر لهم أن رب العالمين هو الذي يخلق ويهدي ،والرب
سبحانه هو الذي يطعم ويسقي ،وإذا فرطنا يف زيادة األكل والشرب ِ
فمرضنا فهو
سبحانه الذي يشفي.
وقد نسب إبراهيم المرض إلى نفسه ،ونسب الشفاء لرب العالمين،
تأد ًبا منه مع ربه الذي ال يأيت منه إال الخير ،أما الشر فيأيت عندما نرتك الخير فيحل
محله الشر ،مثل النور عندما يختفي ،فإننا نسمي حالة اختفائه ظال ًما ،وكذلك
شرا .وقد ذكر إبراهيم هذه الحالة ليبين أن
الخير ،فحالة اختفاء الخير يعترب ًّ
اإلنسان هو الذي يجلب الشر لنفسه بابتعاده عن طريق الخير ،ومع ذلك فإن رب
العالمين هو الذي يحميه من ضرر هذه الشرور كلما أصاهبا وأصابته.
((( (الكهف.)13:
(( ( (البقرة.)5:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
50
Jﭛﭜﭝ L
علي عبدي) وإذا قال
إذا قال العبد﴿ :ﭛ ﭜ ﴾ قال اهلل تعالى( :أثنى ّ
علي عبدي) فهذا يعني أن العبد قد حقق الثناء الذي يرضاه
اهلل ( أثنى ّ
منه سبحانه ،وشهد له سبحانه بذلك فقال( :أثنى علي عبدي).
وربنا سبحانه حق وال يقول إال الحق ،فهني ًئا لمن شهد له سبحانه بأنه حقق
علي عبدي).
الثناء الذي يرضاه عنه عندما يقول( :أثنى ّ
فنحمده سبحانه على هذه الشهادة ،ألنه ال أحد يستطيع أن يثني على اهلل الثناء
الكامل إال اهلل سبحانه ،كما جاء يف الحديث الذي رواه مسلم يف صحيحه عن
ول اهللِ َ ل ْي َل ًة مِ َن ا ْل ِف َر ِ
اشَ ،فا ْلت ََم ْس ُت ُهَ ،ف َو َق َع ْت عائشةقالتَ :ف َقدْ ُت َر ُس َ
ج ِد ،و ُهما منْصوبت ِ ِ ِ ِ
«الله َّم
ُ ول:َانَ ،و ُه َو َي ُق ُ َيدي َع َلى َب ْط ِن َقدَ َم ْيهَ ،و ُه َو في ا ْل َم ْس ِ َ َ َ ُ َ
وذ بِ َك ِم ْن َك ،اَل ُأ ْح ِصي اك ِم ْن َس َخ ِط َكَ ،وبِ ُم َعا َفاتِ َك ِم ْن ُع ُقو َبتِ َكَ ،و َأ ُع ُ وذ بِ ِر َض ََأ ُع ُ
َاء َع َل ْي َكَ ،أن َْت َك َما َأ ْثن َْي َت َع َلى َن ْف ِس َك»(((.
َثن ً
ولكنه سبحانه الرحمن الرحيم بنا ع َّلمنا الصيغة المناسبة للثناء عليه ،عندما
أخربنا أن نقول﴿ :ﭛ ﭜ ﴾ والتي يستطيع قولها كل من يستطيع الكالم،
فيستوي بذلك المتعلم وغير المتعلم ،الكبير والصغير ،فالحمد هلل رب العالمين
الرحمن الرحيم على ما علمنا إياه من صيغة الحمد وصيغة الثناء الذي يرضاه اهلل
عنا سبحانه ،ولو حاولنا أن نجد صيغة نثني هبا على اهلل فلن نجد أفضل من هذه
الصيغة .
وربنا سبحانه رضي منا هذا الحمد وهذا الثناء وشهد لنا به حين قال سبحانه:
(حمدين عبدي) وقال( :أثنى علي عبدي) ألن صيغة هذا الحمد وهذا الثناء جاءت
من عند اهلل ،فال أحد يعلم كيفية حمد اهلل وال كيفية الثناء على اهلل إال اهلل سبحانه،
إ ْذ كيف نحمد اهلل ونثني عليه والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصى نعمه أو
يحيط برحمته! وصورة عجز المخلوق على هذا جاءت يف قول أشرف الخلق
عندما قال« :ال أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
فالحمد هلل رب العالمين الرحمن الرحيم على أن علمنا ما يرضاه منا من حمد
ٍ
وثناء حمدً ا وثنا ًء يليقان بجالله.
﴿ﭛ ﭜ ﴾
عندما قال اهلل :الحمد هلل ،أخربنا بأن اهلل هو ﴿ﭘ ﭙ ﴾ ورب
العالمين هو رب السموات واألرض ومن فيهن ،مما يعني أنه ال إله غيره ألنه هو
إلها غيره
فح َمدْ نا اهلل على أن من نعبده يستحق العبادة ،فال نعبد ً
رب كل شيءَ ،
يف هذا العالم.
أيضا
ومع أن الرب هو رب العالمين المسيطر على كل شيء ،إال أنه هو ً
الرحمن الرحيم ،وإيماننا الكامل بأنه هو الرحمن الرحيم يبعث فينا الطمأنينة
ونحن نستحضر رحمات من وسعت رحمته كل شيء التي تتجلى على هذا
الكون كله ،قال تعالى﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﴾((( فقد أخربنا عن استوائه
على العرش باسمه الرحمن ،رحمة بكل الخالئق ،من أكرب مخلوق ،وهو العرش،
إلى كل ما تحت العرش من الخلق ،ليطمئننا فنحن نحمده على أنه هو
﴿ﭘ ﭙ ﴾ وعلى أنه هو ﴿ﭛ ﭜ ﴾.
((( (طه.)5:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
52
وإيماننا بأن اهلل هو ﴿ﭛ ﭜ ﴾ وشعورنا بالطمأنينة ،وحمدنا له على
ذلك ،إنما هو ثناء عليه سبحانه المستحق لكامل الثناء ،فكأن الثناء عليه َ
هبذين
االسمين من األسماء الحسنى يتأتى بعد حمدنا له على كونه ﴿ﭛ ﭜ ﴾
بقولنا﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾.
وإذا أردنا أن نستشعر رحمة الرحمن فلنتأمل كيف ّقرب لنا الرسول
معنى رحمة اهلل بعبادة ،مقارنة بأقوى رحمة يستطيع اإلنسان
أن يراها بين الخلق وأنفسهم ،وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن عمر بن
الخطاب أنه قال :قدم على رسول اهلل بسبي ،فإذا امرأة من السبي
تبتغي ،إذا وجدت صب ًّيا يف السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ،فقال لنا رسول
«أ ُت َر ْونَ هَ ِذ ِه ا ْل َم ْر َأ َة َطا ِر َح ًة َو َل َدهَ ا ِفي ال َّنا ِر؟» قلنا :ال ،واهلل وهي
اهلل َ :
«ل َّل ُه َأ ْر َح ُم بِ ِع َب ِ
اد ِه ِم ْن هَ ِذ ِه تقدر على أال تطرحه .فقال رسول اهلل َ :
(((
بِ َو َل ِدهَ ا»
اهلل أكرب على هذه النعمة العظيمة التي قد تغيب عن كثير من الناس ،فكلما
رأينا مشاعر رحمة أ ٍّم بولدها ،أو استشعرنا نحن مشاعر الرحمة تجاه أبنائنا أو
آبائنا ،فإننا نفرح بوجود هذه الرحمة فينا ،ونفرح أكثر كلما ازدادت تلك المشاعر
عندنا ،ألننا نعلم علم اليقين أن اهلل أرحم بنا من األم بولدها ،فتكون هذه الرحمة
التي نراها بين الخلق الشيء مقارنة برحمة الرحمن الرحيم.
ورحمة األم مهما بلغت فإهنا مقيدة؛ ألهنا إذا نامت األم انقطعت هذه الرحمة
حتى تستيقظ ،أما ﴿ﭛ ﭜ ﴾ فإن رحمته ال تنقطع ،ألنه ال تأخذه سنة
وال نوم .وقد تنقطع رحمة األم انقطاع تام بموهتا ،أما ﴿ﭛ ﭜ ﴾ فرحمته
حي ال يموت .واألم مع أهنا ترحم ابنها لكنها قد ال تقدر على تحقيق
دائمة ألنه ٌّ
ما يحتاجه؛ ألن قدرهتا محدودة ،أما اهلل فإنه ﴿ﭛ ﭜ ﴾ مع القدرة ألنه
هو القادر .واألم ال تعلم ما ينفع ،أما اهلل فإنه يرحم بعلم؛ ألنه هو العليم ،يعلم ما
ينفع اإلنسان ويعطيه رحمة به ،ويعلم ما يضره فيمنع عنه الشيء رحمة به .واألم
ترحم ابنها المريض وتبكي رحمة عليه ،لكنها ال تستطيع أن تشفيه ،أما اهلل فإنه
يرحم ويشفي؛ ألنه هو الشايف ،ورحمته تكون بحكمة ألنه الحكيم ،فقد يعجل
الشفاء وقد يؤخره لحكمة يراها رحمة بالمريض .واألم رحمتها مقيدة بما تملكه،
ورحمة اهلل ليست مقيدة بشيء؛ ألنه هو رب العالمين ،الملك والمالك لكل شيء
والمسيطر عليه ،ورحمته وسعت كل شيء .فـ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﴾.
وأغلب الناس ال يشعر وال يف ّكر بتلك الرحمات إال عندما يتذكّر حاجته إليها،
وينسى أنه يف الحقيقة يحتاجها ،بل ويعيشها يف كل لحظة من لحظاته ،فمثلاً قلب
اإلنسان ينبض يف الدقيقة ما يقارب الثمانين مرة ،فيزيدها اهلل وينقصها حسب
نائما أو مستيق ًظا ،وهذه رحمة
حاجة الجسم ،وذلك مدة حياة اإلنسان ،سواء كان ً
من اهلل بخلقه كلهم ،المؤمن وغير المؤمن ،اإلنسان والحيوان.
وقِ ْس على ذلك التنفس والهضم ،وكل وظائف الجسم الداخلية والخارجية
التي تعمل بكل دقة برحمة ممن خلقها يف أحسن تقويم ،رحمة بكل الخلق
مسلمهم وكافرهم ،والسعيد هو من يستشعر هذه الرحمات ويطلبها ويطلب
دوامها من الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ،وال ينساها وال يطلبها
من مخلوق هو نفسه بحاجة لرحمة الرحمن.
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
54
وأكثر من يعرف رحمة الرحمن هم األنبياء ،ولذلك نرى أن الرسول
يخاف من فقدان هذه الرحمة طرفة عين ،لذلك فهو يطلبها من اهلل
كل يوم صباحا ومسا ًء.
ول اهَّللِ فِي يه َق َالَ :ق َال َر ُس ُ عن َعب ِد الرحم ِن ب ِن َأبِي ب ْكرةََ ،عن َأبِ ِ
ْ َ َ ْ َّ ْ َ ْ
اء ا ْل ُم ْض َط ِّر« :ال َّل ُه َّم َر ْح َمت ََك َأ ْر ُجوَ ،ف اَل َت ِك ْلنِي إِ َلى َن ْف ِسي َط ْر َف َة َع ْي ٍنَ ،و َأ ْص ِل ْح د َع ِ
ُ
لِي َش ْأنِي ُك َّل ُه ،اَل إِ َل َه إِ اَّل َأن َْت»(((.
فما أحوجنا إلى أن نستشعر معاين رحمة الرحمن الرحيم يف كل وقت ،والتي
ال نستطيع أن نحيا بدوهنا يف الدنيا ولو طرفة عين ،ولن ندخل الجنة يف اآلخرة
بدوهنا .وما أحوجنا إلى أن نستشعر حمدنا هلل رب العالمين على هذه الرحمة من
الرحمن الرحيم حتى يقول عنا ربنا( :أثنى علي عبدي).
***
Jﭞﭟﭠﭡ L
(مجدين عبدي) وقال مرة:
إذا قال العبد﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ قال اهلل تعالىَّ :
إلي عبدي)
وفوض ّ
إلي عبدي) وإذا قال اهلل ( :مجدين عبديّ ،
(فوض ّ
فهذا يعني أن العبد قد حقق التمجيد والتفويض الذي يرضاه منه اهلل وشهد له
بذلك فقال( :مجدين عبدي).
وربنا حق ،وال يقول إال الحق ،فهني ًئا لمن شهد له اهلل أنه حقق التمجيد الذي
وفوض إلى عبدي) والحمد هلل على هذه
يرضاه منه ،عندما يقول( :مجدين عبديّ ،
الشهادة ،ألنه ال أحد يستطيع أن يمجد اهلل التمجيد الكامل إال اهلل .
والحمد هلل الذي ب ّين لنا الصيغة المناسبة لحمده والثناء عليه وتمجيده ،عندما
أخربنا أن نقول﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﴾.
وكما أخربنا ربنا – سبحانه -بأن نحمده ألنه ليس له شريك يف الملك يف
الدنيا ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
أيضا بأن نحمده على أنه هو مالك يوم الدين يف اآلخرة،
ﯙﯚ ﴾((( فقد أخربنا ً
وليس أحدً ا غيره ،واعترب إيماننا بكونه مالك يوم الدين وحمدنا له على ذلك إنما
هو تمجيدٌ له وتفويض األمر إليه.
وهذه شهادة من الملك سبحانه لهذا العبد المؤمن الذي رد األمر كله هلل
سبحانه ،فأظهر اإليمان باهلل (الملك) وأظهر اإليمان باليوم اآلخر ﴿ﭟﭠ ﴾
((( (اإلسراء.)111:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
56
الذي يتضمن اإليمان بالقرآن الذي يقرأه ،واإليمان بمحمد الذي
ب ّلغ هذا القرآن الكريم ،واإليمان بجربيل الذي أوصل هذا القرآن إلى الرسول
واإليمان بالقدر خيره وشره؛ ألنه فوض األمر كله هلل ،فإن أصابته
ضرا ُء صرب فكان
خيرا له يف الدنيا ويف يوم الدين ،أو أصابته َّ
سرا ُء شكر فكان ً
َّ
خيرا له يف الدنيا ويف يوم الدين ،فوصل العبد بذلك إلى تطبيق أركان اإليمان
ً
كلها بآية واحدة ،وهي اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله وباليوم اآلخر
والقدر خيره وشره.
((( (غافر.)17-16:
57 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
ففي هذا اليوم بالذات ال يوجد أي نوع من أنواع الظلم ،فربنا
قد حرم الظلم على نفسه ،والظلم بين الخلق وأنفسهم قد اختفى ،ألنه ليس ألي
مخلوق يف ذلك اليوم أدنى نوع من أنواع الملك لكي يظلم ،والكل وهم بارزون
يبق منهم أحد يعلمون أن الملك اليوم هلل الواحد القهار ،فالكل سمع السؤال
لم َ
ولم يتجرأ أحدٌ أن يجيب أو يقول غير ذلك ،حتى إن أيسر أنواع الملك وهو
امتالك القدرة على الكالم نراه قد ُسلب من الجميع ،فالمؤمنون ال يستطيعون
الكالم إال بإذن اهلل ﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﴾((( والمجرمون قد ختم
اهلل على أفواههم ،قال تعالى﴿ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﴾(((.
وقد أخرب اهلل المؤمنين المصدقين بيوم الدين أنه هو مالك يوم
الدين ،بعد أن ذكر أنه هو ﴿ﭛ ﭜ﴾ وذلك رحمة هبم وطمأنة لهم
بإرجاع حقوقهم لهم وإلدخالهم الجنة ،فقال﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﴾(((.
الملك يف يوم الدين هلل باسم
وخاطب المجرمين المكذبين بيوم الدين بأن ُ
قهرا وإذاللاً لهم وانتقا ًما منهم ،قال تعالى﴿ :ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
﴿ﯽ ﯾ ﯿ﴾ ً
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾(((.
ونتيجة التكذيب والتصديق بيوم الدين يتحملها كل فريق ،فالمجرمون الذين
(( ( (البقرة.)255:
(( ( (يس.)65 :
((( (الفاتحة.)3-2:
((( (غافر.)16:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
58
كل ٍ
معتد أثيم، يكذبون بيوم الدين قد أخربنا ربنا عنهم بأنه ال يكذب هبذا اليوم إال ّ
ومن اعتدائهم األثيم أهنم يرون أن كل آية ُتتلى عليهم إنما هي تخ ُّلف وبق ّية من
قصص األولين ،وهذا رأيهم دائما ّ
بكل آية تأتيهم ،أو بكل تطبيق آليات القرآن
على أرض الواقع.
الر ْي ُن
وبسبب هذا االعتداء وما كسبوه من الظلم والتكذيب لبس قلو َب ُهم َّ
فحجب عنها اإليمان ورؤية الحق ،وهذا الحجب يف الدنيا تسبب بحجبهم عن
رؤية اهلل يف اآلخرة ،وتسبب بدخولهم النار وتوبيخهم بتذكيرهم بما كانوا به
ُي ّ
كذبون ،قال تعالى﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﴾(((.
فهذه هي هنايتهم ،والحسرة تبدو يف جواهبم أمام أسئلة المصدِّ قين بيوم الدين
الذين هم ﴿ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﴾ قال تعالى:
﴿ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ
ﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢﰣﰤﰥﰦﰧ
ﰨ ﰩ ﰪ ﰫ ﰬ ﰭ ﰮ ﰯ ﰰ ﰱ ﰲ ﰳ ﴾(((.
تحسرا،
ً فالمكذب بيوم الدين هذه هي صفاته يف الحياة الدنيا ،وقد اعرتف هبا
وكان ال يرى أحدً ا يخوض بظلم إال خاض معه ،إما بالعمل أو بالتأييد ،وذلك
ٍ
معتد بعدم التصديق بالبعث ويوم القيامة الذي هو يوم الدين، ٍ
معتد أثيم؛ ألنه
ومن ثم عدم إيمانه بأنه سيحاسب على كل عمل يعمله ،وهذا االعتداء جعله
أما المؤمنون المصدقون بيوم الدين ،المصدقون بأن اهلل هو المالك لهذا
ِ
سيحاسب كل نفس بما كسبت ،فإن اهلل يبعث الطمأنينة يف قلوهبم؛ اليوم ،والذي
ألهنم فوضوا أمرهم إلى اهلل الذي ال يضيع لهم عنده حق ،فيأخذ لهم حقهم ممن
ظلمهم ،يف يوم يتمنى فيه اإلنسان أن جميع حقوقه من الناس ادخرت له يف هذا
اليوم ،وحقهم على اهلل أن يدخلهم الجنة برحمته.
وقد أخربنا اهلل عن صفات هؤالء المصدقين بيوم الدين يف قوله تعالى:
﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ
***
Jﭢﭣﭤﭥﭦ L
إذا قال العبد﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾ قال اهلل ( :هذا بيني وبين
عبدي ولعبدي ما سأل) .فالذي هلل هو توحيد اهلل يف كل العبادات ،يف قوله﴿ :ﭢ
ﭣ﴾ وتوحيد اهلل يف كل توسل وكل طلب للعون يف قوله﴿ :ﭤ ﭥ﴾
تشرف العبد بعبادة اهلل ،وثانيها معرفة
والذي للعبد هو نتيجة هذا التوحيد ،أولها ّ
العبد أن له معينًا قد تك ّفل له بكل أمور الدنيا ،وطمأنته بأنه سوف يحققها له عندما
يقول﴿ :ﭤ ﭥ﴾ ألنه قد وعد بذلك يف الحديث القدسي
يف قوله« :ولعبدي ما سأل» فهنيئا لمن قال له اهلل( :ولعبدي ما سأل) .ألن اهلل حق
وقوله حق.
ولذلك يجب أن نستحضر العون والسؤال الذي نطلبه من اهلل ،عو ًنا يف
العبادات والمعامالت حتى يحقق لنا اهلل كل ما نطلبه ،وأول عون نطلبه هو العون
على تحقيق ﴿ﭢ ﭣ﴾ فنسأله العون على عبادته العبادة الصحيحة ،وأن
يجعل كل حركاتنا وسكناتنا عبادة هلل ،حتى تكون كل معامالتنا عبادة .ونسأله
العون على أال نستعين إال به ،وال نتوسل إال إليه ،من غير شرك أو بدعة .والعون
على االستمرار والثبات على ذلك يف كل العبادات .وكذلك نسأله أن يعيننا
على كل أمر من أمور الدنيا ،من رزق وذرية صالحة وتوفيق ّ
لكل أمر ،وشفاء
كل مرض ،وكشف ّ
لكل سوء ،فنستحضر هذا األمر عندما نقول﴿ :ﭤ من ّ
ﭥ﴾.
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
62
﴿ﭢ ﭣ ﴾
من عدل اهلل أنه لم يجعل لنا مجالاً لالجتهاد يف معرفة سبب
وجودنا يف هذه الحياة الدنيا ،فالسبب هو عبادته وحده ال شريك له ،وقد ب ّين
لنا ذلك بشكل واضح وصريح ،وألغى أي سبب آخر قد يفكر فيه من ّ
ضل عن
السبيل ،وأهم سبب قد يفكر فيه هؤالء هو األكل والشرب ،فبين اهلل
أنه قد تك ّفل بالرزق ،قال تعالى﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾(((.
وبين لنا الطريق الصحيح لعبادته ،بل وتكفل بأن يعيننا ويهدينا
لذلك ،فبدون العون والهدى من اهلل ال أحد يستطيع أن يؤدي العبادة التي يرضاها
اهلل منه ،قال تعالى﴿ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﴾((( وطلب منا أن نسأله ذلك عندما نقرأ قوله﴿ :ﭢ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﴾(((.
والذي يقرأ الفاتحة بتدبر ويقين يكون قد حمد اهلل رب العالمين ،خالق
كل شي والمسيطر عليه ،وأثنى على الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته ّ
كل
العالمينّ ،
فكل شيء فينا إنما يسير برحمة الرحمن الرحيم .والذي يقرأ سورة
وفوض إليه ّ
كل أموره ،الملك الذي سوف مجد مالك يوم الدينّ ،
الفاتحة يكون ّ
يحاسب كل نفس بما كسبت.
((( (الذاريات.)58-56:
(( ( (األنعام.)161 :
((( (الفاتحة.)7-5:
63 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
وهبذا الحمد والثناء والتمجيد والتفويض يكون العبد المؤمن قد ه ّيأ نفسه
لعبادة اهلل ،ف ُيشهد اهلل رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أن كل حركاته
وسكناته ،حتى نومه ،عبادة خالصة هلل وحده ال شريك له ،فصالته وصيامه وحجه
وزكاته عبادة ،وعمله عبادة ،وأكله وشربه عبادة ،واستيقاظه ونومه عبادة ،ومشيه
وجلوسه عبادة ،وبيعه وشراؤه عبادة ،وزياراته عبادة ،ورحالته عبادة ،وكل عمل
يقوم به إنما يقوم به تعبدً ا هلل .فإذا ابتسم ابتسم تعبدً ا هلل ،وإذا تك ّلم ت ّكلم هلل ،وإذا
سكت سكت هلل ،وإذا قضى حاجة أهله وأبنائه فهو يحتسبها صدقة هلل ،حتى عمله
أجرا فإنه يحتسبه ويخلص فيه هلل ،وهكذا العبد يكون يف كل الذي يأخذ عليه ً
أموره محتس ًبا عمله هلل ،مطب ًقا قوله﴿ :ﭢ ﭣ﴾.
وقد أمر اهلل نبيه محمدً ا بتبليغ ذلك ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﴾((( فكل
َ
الرسول اهلل
أموره هي هلل رب العالمين ال شريك له ،وبذلك أمر ُ
كما أمره أن يعلن ويقول بأنه أول المسلمين الذين يطبقون إسالمهم
كل أحوالهم ،حتى وصل ألن يكون ُخ ُلقه القرآن ،وشهد اهلل له بذلك ﴿ﮛ
يف ِّ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﴾(((.
ويف قوله تعالى﴿ :ﭢ ﭣ﴾ قدم ﴿ﭢ﴾ على الفعل ليدل على الحصر،
وهو حصر العبادة هلل وحده .وتقديم ﴿ﭢ﴾ على الفعل ﴿ ﭣ﴾ يجعل من غير
الممكن أن ُيعطف مع ﴿ﭢ﴾ أحدٌ ،وهبذا تكون هذه الصيغة هي أفضل صيغة
لإلقرار بتوحيد اهلل بالعبادة ،لتكون عباداتنا كلها خالصة له وحده ،وال نشرك معه
أحدً ا يف أي عمل.
(( ( البخاري ،)4777( ،)50( :مسلم ،)97( :أحمد ،)9501( :وهذا لفظ البخاري.
((( (الحج.)37:
(( ( (البقرة.)195:
(( ( (األنعام.)84:
(( ( (العنكبوت.)69 :
((( (يوسف.)22:
65 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
ومن رحمته بالمحسنين هتيئة أسباب تمكينهم يف األرض ،وذلك ألن اهلل
وعد أنه ال يضيع أجر أي محسن ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( فقد أصاب اهلل برحمته
أجر اآلخرة وخير من ِ
أجر الدنيا ُ ٌ يوسف وم ّكنه يف األرض ،فأصبح هو َ
عزيز مصر،
﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﴾(((.
((( (يوسف.)78:
((( (يوسف.)36:
(( ( (األعراف.)56:
((( (يوسف.)56:
((( (يوسف.)57 :
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
66
أيضا بالمحسنين أنه يعينهم على الثبات والصدق عند البالء،
ومن رحمته ً
كما حدث إلبراهيم يف البالء الذي سماه اهلل بالبالء المبين ،أي االمتحان
الحقيقي الواضح.
قال تعالى يمدح المحسن إبراهيم ﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ
ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ
ابراهيم
ُ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﴾((( فقد صدّ ق
ر ّبه بتصديقه للرؤيا وتطبيقه ألمر اهلل ،فأعانه اهلل على تخطي البالء بصدق وثبات،
وذلك جزا ًء من اهلل إلحسانه ﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﴾(((.
وكان من نتائج هذا التصديق والثبات أن فدى اهلل إسماعيل بذبح
عظيم ،وب ّلغ إبراهيم السالم يف قوله﴿ :ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﴾((( وكرر اهلل قوله:
﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾((( مرتين إلبراهيم ،لكثرة إحسانه .وبشره
اهلل بمولود آخر جزا ًء إلحسانه ،فبعد أن كان ينتظر َف ْقدَ ابنه ،فدى اهلل ابنه وبشره
بمولود آخر ليس كأي مولود ،وإنما كان نب ًّيا من الصالحين .كذلك يجزي اهلل
المحسنين ،أي أن هذه هي سنة اهلل يف جزائه للمحسنين على الدوام ،فمن يصل
لمرتبة المحسنين فليبشر بجزاء كجزاء المحسنين.
هذا جزاء المحسنين يف الدنيا.
وأعظم من هذا الجزاء وعد اهلل للمحسنين بالزيادة ،قال تعالى﴿ :ﭤ
ﭥ ﭦ ﴾((( فكل عطاء يعطيهم اهلل إياه يف الدنيا أو يف اآلخرة سوف يكون
فوقه زيادة ،حتى يصلوا إلى عطاء من اهلل ليس فوقه زيادة بذاته ،وإنما زيادة بتكرار
المع َطى ،وهذا العطاء هو أوسع عطاء وأغلى
هذا العطاء ،وزيادة بأثر العطاء على ُ
عطاء وأجمل وأكرم وألذ عطاء ،وهو النظر إلى رب العالمين.
وألن الجزاء من جنس العمل ،فإن هذه الزيادة ُتعدّ أعظم جزاء لمن كان يطبق
﴿ﭢ ﭣ ﴾ يف كل أموره ،فيعبد اهلل ويتقيه يف الدنيا كأنه يرى اهلل يف كل حركاته
وسكناته ،فيكون جزاؤه يف الجنة الزيادة العظمى ،وهي رؤية اهلل
الرؤية الحقيقية ،قال تعالى﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾((( وقال تعالى﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾(((.
بَ ،ع ِن النَّبِي َ ق َال« :إِ َذا َد َخ َل َأ ْه ُل ا ْل َج َّن ِة ا ْل َج َّن َةَ ،ق َ
ال: و َع ْن ُص َه ْي ٍ
ِّ
فمن يطمح لرؤية رب العالمين الرؤية الحقيقية يف الجنة فليطبق قوله﴿ :ﭢ
ﭣ ﴾ التطبيق الحقيقي يف كل حركاته وسكناته ،حتى يصل إلى درجة اإلحسان،
وهو أن تعبد اهلل كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك .نسأله سبحانه أن يعيننا على
ذلك.
﴿ﭤ ﭥ ﴾
ال بد أن نعلم أنه ليس لنا أي قدرة على فعل الطاعات وترك المعاصي،
وبالتالي االستمرار يف هذه الحياة فيما يرضي اهلل ،إال بعون من اهلل ،ومن دون
هذا العون فإن النفس بغرائزها المختلفة تسيطر على جميع تصرفات اإلنسان
فيما ُيسمى بـ(الهوى) وقد تطغى إحدى الغرائز على بعض فتكون عنوانًا لهذا
اإلنسان ،ولذلك فإن ربنا المصلح ألحوالنا ،الرحمن الرحيم بنا ،قد ب ّين لنا كيف
نستعين به االستعانة التي يرضاها منا ليقول( :ولعبدي ما سأل) وذلك يف قوله:
﴿ ﭤ ﭥ ﴾.
وجاء تقديم ﴿ﭢ﴾ على ﴿ﭥ ﴾ ليفيد الحصر ،فال نستعين بأحد
إال به وحده ال شريك له ،وكذلك جاء طلب العون بصيغة المخاطب الذي يعود
مستحضرا عظمة اهلل رب العالمين
ً إلى اهلل والعبد واقف بين يديه،
ورحمته ،الرحمن الرحيم ،فال يكون هناك وسيط بين العبد وربه.
ولذلك كانت وصية الرسول لمن يحبه ويقسم على أنه يحبه أن
يسأل اهلل العون على ذكر اهلل وشكره وحسن عبادته.
عن معاذ بن جبل أن رسول اهلل أخذ بيده وقالَ « :يا ُم َع ُاذَ ،وال َّل ِه
يك َيا ُم َع ُاذ اَل َت َد َع َّن ِفي ُد ُب ِر ُك ِّل َص اَل ٍة
وص َ إِ ِّني أَ ُل ِحب َكَ ،وال َّل ِه إِ ِّني أَ ُل ِحب َك» َف َق َالُ :
«أ ِ ُّ ُّ
ول :ال َّل ُه َّم َأ ِعنِّي َع َلى ِذ ْك ِر َك َو ُش ْك ِر َك َو ُح ْس ِن ِع َبا َدتِ َك»(((.
َت ُق ُ
وقد عرف األنبياء ذلك فسألوا اهلل العون على كل عبادة ،وأهم عبادة هي
الصالة ،قال تعالى مخبِ ًرا عن إبراهيم ﴿ :ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﴾((( وقال تعالى مخبِ ًرا عن موسى :
﴿ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾(((.
وعندما يخاطب العبد ربه ويسأله العون يف قوله﴿ :ﭤ ﭥ ﴾ فال بد
أن يستحضر ذلك العون الذي يريده من اهلل حتى يتحقق ما سأله ،ويقول له اهلل:
(( ( أبو داود ،)1522( :النسائي ،)1304( :أحمد )22119( :وإسناده صحيح ،وصححه األلباين.
(( ( (إبراهيم.)40 :
(( ( (األعراف.)128:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
70
(ولعبدي ما سأل) .وهذا ال يتحقق لمن يقرأ الفاتحة من غير تدبر ،ويختمها بقوله:
ومجد اهلل
آمين ،وهو ال يعي ما يقرأ ،فالبعض قد ال يعي أنه حمد اهلل وأثنى عليه ّ
وسأله ،وهبذا يحرم نفسه من خير كثير؛ ألنه يحرم نفسه من عون اهلل يف كل شيء،
إلهه هواه ،قال تعالى﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
فتسيطر عليه غرائزه وأهواؤه ويكون ُ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﴾(((.
وللعبد عندما يقرأ﴿ :ﭤ ﭥ ﴾ أن يستحضر يف قلبه عونًا عا ًّما من
اهلل يف كل أموره من دون تخصيص ،ليعينه اهلل يف كل عم ٍل يعمله من العبادات
خاصا ،كالعون على كثرة السجود،ًّ والمعامالت ،أو يستحضر يف قلبه عونًا
والعون على ذكر اهلل وشكره وحسن عبادته ،أو عون على صالح الذرية ،أو عون
على الزيادة يف العلم ،أو عون على الرزق ،أو العون على كشف السوء وإزالة ٍ
ظلم
حل به ،أو العون على الشفاء من مرض طرأ له ،وهكذا ،حتى يستفيد مِن استجابة
ّ
اهلل لطلبه عندما يقول اهلل( :ولعبدي ما سأل) ويتحقق ما سأله العبد .فربنا حق وال
يقول إال الحق.
وإذا قال( :ولعبدي ما سأل) فإن للعبد ما سأل من دون أدنى شك ،وذلك
بالطريقة التي يرى اهلل أهنا هي األصلح له ،فال يستعجل ،ولذلك جاء الحث على
االستعانة بالصرب والصالة م ًعا ،الصرب بأنواعه الثالثة :صرب على االستمرار يف
الطاعات ،وصرب على االبتعاد عن المعاصي ،وصرب على البالء.
وأفضل تحقيق لهذا العون يف ﴿ﭤ ﭥ ﴾ يكون عندما نقرأ الفاتحة
يف الصالة؛ ألن اهلل جعل الصالة وسيلة لالستعانة به .الصالة التي نقرأ
هبا الفاتحة يف كل ركعة ،وال تتم إال هبا.
والذكر نوعان:
ذكر هلل بعمل الطاعات ،والتي منها الصالة ،وترديد األذكار *األولٌ :
الواردة من القرآن والسنة ،وتدبر معانيها ،بالصالة وخارج الصالة ،وكذا
يف كل عبادة.
*والثاينِ :ذك ٌْر هلل يف قلب العبد قبل كل حركة وعمل يعمله ،بحيث يتذكر
العبدُ ر ّبه ويسأل نفسه؛ هل هذا العمل يرضي اهلل أم ال؟ وهل هذا الحديث
دائما ،وهبذا
يرضي اهلل أم ال؟ فيجعل الخوف من اهلل وتقوى اهلل أمامه ً
حاضرا يف كل حركاته وسكناته ،ويكون تذك ُُّره هلل أكرب يكون تذكُّره هللِ
ً ُ
وأكثر من كل تذكُّر يتذكَّر فيه أحدً ا.
وإذا تذكرنا اهلل هبذه الطريقة فإن اهلل سوف يذكرناِ ،
وذكر اهلل لنا يعني حفظه
بعضا ،وهو سبحانه يعلم
ورحمته لنا ،وهو أكرب من تذكر المخلوقين بعضهم ً
ما نصنع إن كان مما يرضيه أم ال ،ويعلم إن كنا قد تذكرناه قبل أي عمل أم ال،
***
Jﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ L
أي نقطة بداية والهدف المنشود هو الخط المستقيم ،فإذا
إن أقصر طريق بين ّ
متأخرا،
ً خرج اإلنسان عن مسار هذا الخط المستقيم فإن المسافة تطول ليصل
أو قد ينحرف بشكل ال يصل فيه للهدف السامي البتة ،فتكون هنايته الضياع
والخسارة.
فهؤالء قد شهد اهلل لهم بأن نعمته قد شملتهم ،بفض ٍل منه ،أي أهنم قد وصلوا
للهدف السامي ،وهو إنعام اهلل عليهم يف الدنيا باتباعهم الصراط المستقيم ،ويف
اآلخرة حيث يجازيهم بالجنة على هذا االتباع للصراط المستقيم.
واهلداية نوعان:
*هداية داللة وهداية توفيق ،فأما هداية الداللة فهي ما جاء به الرسل ليبينوا
للناس ويدلوهم الطريق الصحيح ،قال تعالى﴿ :ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
(((
وقال تعالى ﴿ :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾ (((
ﰄﰅ﴾
وأصل دعوهتم وبياهنم هو عبادة اهلل وحده ال شريك له ،قال تعالى:
﴿ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﴾((( فمن اهتم هبذه الداللة وحرص
على معرفة الحق ،وتخلص من حكم الهوى – الذي هنى اهلل عن اتباعه
﴿ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ﴾((( -فإن اهلل بإذنه يهديه هداية التوفيق
للصراط المستقيم ،فيكون مع الذين أنعم اهلل عليهم ،قال تعالى﴿ :ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﴾(((.
((( (الزخرف.)43:
(( ( (األنعام.)161:
((( (المؤمنون.)73:
(( ( (الشورى.)52:
(( ( (يس.)61:
((( (ص.)26:
((( (الحج.)54:
75 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
(( ( (البقرة.)213:
((( (الفاتحة.)7-6 :
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
76
وإن كان طبي ًبا هداه اهلل إلى التشخيص الصحيح ،ومن ثم العالج المناسب وبارك
اهلل يف عالجه.
علما شرع ًّيا أو
وكذلك طالب العلم ،فإن اهلل يهديه للعلم النافع ،سواء كان ً
علما دنيو ًّيا ،فيمشي بنور اهلل ،ويفتح عليه من العلم ما ينفع به الناس ويجعل فيه
ً
القبول .وهكذا يف كل عمل؛ المهندس يف هندسته ،والتاجر يف تجارته ،والفالح
يف زراعته ،والصانع يف صناعته ،والعامل يف عمله.
قال تعالى﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
فيكون َهدْ ُيه يف ذلك هو َهدْ ي الرسول (((
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ﴾
الذي يتّبعه الصديقون والشهداء والصالحون ،وإذا تحقق ذلك
فإن اهلل سوف يهديه ويوفقه التخاذ القرارات المناسبة يف كل ما يطرأ له من أمور
وحوادث ،فيتخ ّطاها بعون اهلل وهدايته ،وتكون أخالقه وتصرفاته داخلة يف إطار
أخالق وتصرفات الذين أنعم اهلل عليهم.
خروجا مخالف للذين أنعم اهلل عليهم ،فهذا يعني
ٌ تصرف
ٌ وإذا بدر من ٍ
أحد
ً
وانحرا ًفا عن مسار الصراط المستقيم ،والنزول لدرجة ّ
أقل من درجة الصالحين،
والدخول يف مسار المغضوب عليهم أو مسار الضالين ،قال تعالى﴿ :ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﴾(((.
***
(( ( (األنعام.)163-162:
(( ( (الملك.)22:
77 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
Jﭯﭰﭱﭲﭳ L
لقد حدد اهلل نوع الصراط المستقيم بصراط (ﭿﮀﮁﮂﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ) وهنى عن اتباع صراط المغضوب عليهم
الذين يعرفون الحق ويجحدونه ،والضالين الذين ال يعرفون الحق وتوقفوا عن
البحث عنه.
قال تعالى يف وصف المغضوب عليهم﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﴾((( .هذا وصف لفئة من المغضوب عليهم من
فحق عليهم غضب اهلل.
مشركي قريش ،وقد عرفوا الحق ثم جحدوه ،وكفروا بهّ ،
وهؤالء عملوا عمل ع ّباد العجل من قوم موسى الذين عرفوا الحق
غضب من اهلل وذلة يف الحياة الدنيا ،وهو مصير
ٌ ثم جحدوه وعبدوا العجل فنالهم
كل من يعرف الحق فيجحده ،قال تعالى﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﴾(((.
وقد توعد اهلل سبحانه وتعالى من اتبعوا صراط المغضوب عليهم فصاروا
مشرتكين يف نفس الجزاء ،قال تعالى مخربًا عن المنافقين الذين اتبعوا صراط
المغضوب عليهم من اليهود الذين عاصروا الرسول وعرفوا الحق
فجحدوه﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
وقد ضمن اهلل لكل مؤمن لم ُي ْلبِس إيمانه بشرك أن يجعله آمنًا مطمئنًّا ويهديه
لصراطه المستقيم ،ولذلك شهد اهلل إلبراهيم ولذريته وإلخوانه من األنبياء أهنم
كلهم قد هداهم اهلل للصراط المستقيم.
(( ( (األنعام.)89-82:
(( ( (األنعام.)90:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
80
أيضا سوف يعرف من هم المغضوب عليهم ،ومن هم
الحقيقية فيتبع طريقهم ،وهبذا ً
الضالون ،فال يتبع صراطهم المنحرف عن الصراط المستقيم.
والرفقة التي يجب أن نكون من ضمنها هي رفقة هؤالء األربعة؛ النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين ،رفقة امتدحها اهلل وقال عنها﴿ :ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﴾((( وإذا قال اهلل عنها ذلك فاعلم أهنا أحسن رفقة ،وال يرضى منا
أقل من درجة الصالحين ،إن لم نصل إلى درجة الصديقين، أن نكون ّ
فأي منزلة أعظم من هذه الرفقة! ومن يخرج عن مسار هؤالء الذين أنعم اهلل عليهم
أقل من مرتبة الصالحين. فقد خرج عن مسار الطريق المستقيم ،وصار يف مرتبة ّ
ِ
وع َظ ُ
ـم هذه المنزلة تتضح يف آثارها ،ومن آثارها أن اهلل أمرنا أن نقتدي
هبؤالء الرفقة ألهنا أحسن رفقة ،قال تعالى﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﴾ واتباع الصراط المستقيم درجات بحسب درجات اإليمان،
أعالها األنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون ،ول ِ ُع ُل ِّو هذه المنزلة فقد
أمرنا اهلل أن ندعوه ليهدينا صراطهم.
وهبذه الهداية يمشي هؤالء بنور اهلل يف كل أمورهم ،ويصاحبهم التوفيق من
اهلل يف كل قراراهتم بإذن اهلل ،وال عجب أن يكون ذلك لمن هم يف أعلى منزلة بعد
األنبياء من اتباع الطريق المستقيم ،قال تعالى﴿ :ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﴾(((.
فالمؤمنون يمشون بنور اهلل يف كل حركة من حركاهتم ،قال تعالى﴿ :ﮅ
ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ
(( ( (المائدة.)16:
(( ( (العنكبوت.)69:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
82
فهذه هي درجات الهدايةْ ،
فلنخت َْر ألنفسنا أن نكون من المحسنين لنكون يف
معية اهلل يف كل طريق نسلكه ،فنأمن الطريق من البداية حتى النهاية ،قال تعالى:
إيمان (((
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﴾
كامل ليس معه أي ظلم ،ال ظلم بالشرك ،وال ظلم للنفس يف التقصير يف اتباع ما
أمر اهلل به واالبتعاد عما هنى عنه ،وال ظلم للناس يف المعامالت.
فهذا اإليمان الكامل الخالي من الظلم يصاحبه األمن والهداية الكاملة،
ولذلك نرى أن كاملي اإليمان فراستهم تتم بلحظة؛ ألن هدايتهم كاملة ،واألقل
منهم إيمانًا قد تأخذ منهم بعض الوقت ليتزود بعالمة تعينه ،وبعضهم تكون
كل حسب درجة إيمانه.فراسته أطول من ذلك ويحتاج ألكثر من عالمةٌّ ،
ومثل هؤالء كاملو اإليمان هم الذين نقتدي هبم ونطلب منهم االستشارة
فيما يطرأ من قضايا وأحداث ،ألهنم على نور من رهبم الذي يهديهم إلى الطريق
الصحيح ،وهذا ما فعله الذين لم َي ْط َعموا المعاصي من قوم طالوت ،حينما طلب
منهم إخواهنم العون عندما واجهوا عدوهم جالوت وجنوده ،فبينوا لهم أن النصر
ليس بالكثرة ،وإنما باإليمان والصرب بإذن اهلل ،وألن هذه النصيحة جاءت من
مؤمنين هداهم اهلل إلى صراطه المستقيم ،وبينوا هذه الهداية باإليمان الصادق
والثبات والصرب واإلخالص هلل ،فقد ذكر اهلل نصيحتهم هذه يف آيات تتلى إلى يوم
القيامة ،وجعل قـَصصهم من ضمن أحسن القصص الذي اختاره اهلل لنا ،فذكره يف
كتابه الكريم ،قال تعالى﴿ :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾(((.
(( ( (األنعام.)82:
(( ( (البقرة.)249:
83 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
بعكس المكذبين الذين نجد أن قراراهتم فيها تخبط وارتباك ،ألنه ليس لديهم
هداية ونور من اهلل ،قال تعالى﴿ :ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﴾((( هم ُص ٌّم ال يستمعون لمن
يكلمهم يف الحق ،فال يرون إال رأيهم ،وال يبحثون عن الرأي الحق ،وهم ُب ْك ٌم
ال يستطيعون إقناع غيرهم بما يقولون ،ألهنم يفقدون الحجة ،وهم يف ظلمات ال
يرون الرؤية الحقيقية لما يدور حولهم ،فال يحسنون تحليل القضايا والحوادث
والتصرف على ضوئها.
***
(( ( (األنعام.)39:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
84
((( (يوسف.)36:
85 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ
ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﴾(((.
وكما أن الكافر يعرف ويتوسم المحسنين ،كذلك فإن المسلم ال يجد صعوبة
يف معرفتهم ،فقد رأى إخوة يوسف أن يوسف من المحسنين ،مع أهنم لم يعرفوه
ولم يخالطوه إال مدة قصيرة ،واستخدموا هذه المعرفة الستعطاف يوسف
وتذكيره بأنه من المحسنين كي يرد إليهم أخاه الذي أخذه عنده ،قال تعالى:
﴿ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ
ﰉ ﴾((( وقد تحقق ما رأوه من يوسف ،فقد أحسن إلى أخيه وأحسن إلى والديه
وإخوته بإحسان اهلل إليهم.
وهذه المعرفة التي يعرفها الناس عن الذين أنعم اهلل عليهم تجعل من
يريد الحق ال غيره ،من المسلمين وغير المسلمين ،يلجأ إليهم ال إلى غيرهم،
ولوضوح هذه المعرفة فإننا رأينا كيف أن الملك كان واث ًقا عندما وافق على جعل
يوسف على خزائن األرض ،ألنه رأى فيه صفات المحسنين كما رأى ذلك غيره،
والنعمة التي أنعمها اهلل على يوسف من التمكين يف األرض هي من ثمار اتباعه
الصراط المستقيم يف كل أحواله ،حتى صار من المحسنين ،فجازاه اهلل كما يجازي
المحسنين ،ألن اهلل ال يضيع أجر المحسنين ،قال تعالى﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾(((.
((( (يوسف.)40-39:
((( (يوسف.)78:
((( (يوسف.)56:
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
86
وإذا أردنا أن نضرب أمثلة تطبيقية على الهداية لصراط الذين أنعم اهلل عليهم
من الصديقين ،فال أفضل بعد األنبياء من أبي بكر الصديق ،الذي نرى فيه أن
اهلل قد هداه إلى صراط الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين ،فاهتدى هبدي الرسول .
ومن ذلك هداية اهلل له يف تصديق خرب اإلسراء والمعراج ،حينما جاءه
مشركو قريش يخربونه أن محمدً ا يقول إنه ذهب إلى بيت المقدس و ُعرج به
للسماء ورجع يف الليلة نفسها ،فقال قولته المشهورة :إِ ْن ك َ
َان َقا َل ُه َف َل َقدْ َصدَ َق(((.
فلم تكن مشكلته يف تصديق ماقاله الرسول بل كانت مشكلته يف
تصديق من جاءه بالخرب من المشركين؛ هل قال الرسول ذلك أم لم
يقله؟ فكانت إهانة لهم ،بمعنى أنه قد ال يصدقهم يف إيصالهم لمعلومة يأتون هبا
من مسافة قصيرة ال تتعدى بضع أمتار ،ويصدق الرسول يف إيصاله
لمعلومة تأيت من مسافة مليارات الكيلوات من األمتار ،من السماء إلى األرض.
وقد هدى اهلل أبا بكر لصراط النبيين عندما اعرتض الجميع على قرار الرسول
بالرجوع يف صلح الحديبية من دون عمرة ،فلم يعرتض ولم يجزع،
وكان ر ّده على سؤال عمر له هو نفس ر ّد الرسول حيث قال أبو بكر
الز ْه ِر ُّيَ :ق َال ُع َم ُرَ :ف َع ِم ْل ُت ل ِ َذل ِ َك َأ ْع َمال(((.
ف بِ ِهَ .ق َال ُّ لعمرَ :فإِن ََّك آتِ ِ
يه َو ُم َّط ِّو ٌ
فأبو بكر لم يحزن ولم يتضجر ولم يناقش الرسول يف ذلك ،ألنه
وصل إلى اليقين بأن كل ما يحدث له إنما هو خير من اهلل ولو لم َير هذا الخير
((( أخرجه البيهقي يف «دالئل النبوة» ( )360 - 359/2وصححه األلباين لشواهده يف «السلسلة الصحيحة»
(رقم .)306
(( ( البخاري ،)2732( ،)2731( :مسلم.)4834( :
87 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
اآلن ،لكنه واثق ومتيقن منه ،فهو الصدّ يق الذي يصدق كل ما يقوله اهلل ورسوله،
وهذا هو كمال الهدى.
ومن صور الهداية للصراط المستقيم وتصديقه إصراره على
إرسال جيش أسامة بن زيد بعد وفاة الرسول وكان أغلب الصحابة
معارضين لذلك ،فأصر على إنفاذ جيش أسامة ،ألن الذي أمر به هو الرسول
وهو يعلم أن الرسول يمشي على الصراط المستقيم،
صراط الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين ،وهو بذلك يتبع هذا الصراط كما أمر اهلل
الخير يف أمر الرسول
َ أن يتبعه ،فيطبق ما يأمر به الرسول ألنه يرى
غانما.
سالما ً
ً .وقد كان ذلك ،حيث ذهب الجيش ثم رجع
وقد قال قولته كما جاء يف «البداية والنهاية» البن كثير :واهلل ال أحل عقدة
عقدها رسول اهلل ،ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة ،ولو أن الكالب
جرت بأرجل أمهات المؤمنين ألجهزن جيش أسامة ،وآمر الحرس يكونون حول
المدينة .فكان خروج أسامة يف ذلك الوقت من أكرب المصالح والحالة تلك،
فساروا ال يمرون بحي من أحياء العرب إال ُأرعبوا منهم وقالوا :ما خرج هؤالء
من قوم إال وهبم منعة شديدة! فقاموا أربعين يو ًما -ويقال :سبعين يو ًما -ثم أ َتوا
سالمين غانمين ،ثم رجعوا ،فجهزهم حينئذ مع األحياء الذين أخرجهم لقتال
المرتدة ومانعي الزكاة((( .انتهى كالمه.
ومن هداية اهلل له للصراط المستقيم أن اهلل هداه التخاذ قرار صعب اعرتض
عليه جميع الصحابة وأرسلوا عمر ليراجعه يف ذلك ،عندما قرر أن
يحارب المرتدين.
***
(( ( البخاري ،)1399( ،)6925( :مسلم.)124( :
89 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
Jآمني L
ول اهَّللِ َ ق َال« :إِ َذا َق َال ا ِإل َم ُام﴿ :ﭯ َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة َأ َّن َر ُس َ
الئِ َك ِة ينَ .فإِ َّن ُه َم ْن َوا َف َق َق ْو ُل ُه َق ْو َل َ
الم َ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﴾((( َف ُقو ُلواِ :
آم َ
ُغ ِف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذ ْنبِ ِه»(((.
وإذا أ ّمنت المالئكة وأ ّمن المأمومون على دعاء اإلمام يف سورة الفاتحة،
فكأنما د َعوا بنفس الدعاء ،وهبذا يكون عدد الموقنين باإلجابة أكرب ،السيما أن
المالئكة مستجابو الدعوة ،وكذلك بعض من حضر الصالة قد يكون مستجاب
أيضا ،فيستجيب اهلل لدعائهم ليشمل الجميع.
الدعوة ً
ولقد دعا موسى وأ َّمن من خلفه هارون ،فاستجاب اهلل لهما ﴿ﭑ
يدع ،وإنما أ َّمن على دعاء موسى
ﭒ ﭓ ﭔ ﴾((( مع أن هارون لم ُ
فقط ،قال تعالى﴿ :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ
ﰄﰅﰆﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
ٍ
دعاء فهو مثل من دعا ﭜ ﴾(((وهذه اآلية فيها داللة على أن من يؤ ِّمن على
الدعاء نفسه.
ولهذا فإن دعوة المسلم ألخيه المسلم يف ظهر الغيب مستجابة ،ألنه عندما
وهذه السنة يف قولنا( :آمين) نعمة وكرم من اهلل علينا ،فعندما يؤ ِّمن اإلمام
ويؤ ِّمن المأمومون من خلفه على هذا الدعاء ،ثم تؤ ّمن المالئكة ،فقد أمـَّنوا لدعاء
يشمل الجميع ،ألن الدعاء جاء بصيغة الجمع ﴿ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﴾ فيستجيب اهلل دعا ًء يشمل به كل من حضر الصالة مع
اإلمام .وهذه فائدة عظيمة من فوائد الصالة مع الجماعة.
ولذلك عندما نقول( :آمين) بعد قراءة الفاتحة ال بد أن نستحضر الدعاء الذي
أ َّمنَّا عليه ،فقد دعونا اهلل بضمير الجمع لنا وللمسلمين أن يعيننا على كل أمورنا يف
العبادات والمعامالت ،وكذلك دعونا ربنا بضمير الجمع لنا وللمسلمين أن يهدينا
الصراط المستقيم يف جميع أمورنا الدينية والدنيوية ،صراط الذين أنعم اهلل عليهم
***
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
92
Jاخلامتة L
من قرأ سورة الفاتحة قراءة يرضاها اهلل عنه فقد حقق كمال اإليمان بأركانه
الستة .اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وبالقدر خيره وشره،
وحقق كمال العبادة بعون من اهلل وهداية منه سبحانه للصراط المستقيم ،صراط
الذين أنعم اهلل عليهم ،ولهذا سميت الفاتحة بـ(أم الكتاب) ألهنا تشمل الدين كله.
فاإليمان باهلل يتحقق بتوحيد العبودية هلل وتوحيد الربوبية وتوحيد األسماء
والصفات ،وقد تحقق توحيد العبودية يف سورة الفاتحة باعرتافنا بأن الحمد كله
كائن هلل وبقولنا﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﴾
فالعبادة كلها كائنة هلل وحده ال شريك له ،ومنها االستعانة باهلل والدعاء ،فال نستعين
إال به وال ندعو إال إياه.
يتح َّقق باعرتافنا أن اهلل هو رب العالمين ،خالق كل شيء،
وتوحيد الربوبية َ
المتصرف والمدبر لكل شيء ،وهو مالك الدنيا ومالك يوم الدين ،وهو رب الذين
أنعم اهلل عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،ورب المغضوب
عليهم ورب الضالين.
وتوحيد األسماء والصفات يتحقق باعرتافنا أن اهلل هو اإلله المحمود المعبود،
وهو رب العالمين ،وهو الرحمن الرحيم ،مالك يوم الدين ،وهو سبحانه المعين
الهادي للصراط المستقيم.
والتصديق بما جاء يف هذه السورة العظيمة يتضمن اإليمان بقائل هذه
السورة ،وهو اهلل ،ويتضمن اإليمان بكتب اهلل ،ومنها القرآن الذي يحتوي على
93 ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
هذه السورة ،ويتضمن اإليمان بالمالئكة ،ومنهم جربيل الذي نزل هبذه السورة
على قلب محمد ويتضمن اإليمان بالذين أنعم اهلل عليهم من النبيين
ومنهم الرسول الذي نزلت عليه هذه السورة وب ّلغنا إياها ،ويتضمن
اإليمان بيوم الدين ،ومن يؤمن بيوم الدين ومالك يوم الدين فقد آمن بالقدر خيره
وشره ،وهبذا يتحقق كمال اإليمان بأركانه الستة.
وأما تحقيق كمال العبادة هلل فيكون َّأولاً باالعرتاف بذلك بقولنا﴿ :ﭢﭣ﴾
وبعد ذلك بعون اهلل لنا لتحقيق هذه العبادة يف كل حركاتنا وسكناتنا عندما نسأله
العون يف قراءتنا﴿ :ﭤ ﭥ ﴾ ويكون هذا العون لهذه العبادة على هدى
الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين ،غير المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ويجحدونه ،وال الضالين
الذين ال يعرفون الحق ولم يجاهدوا أنفسهم بالبحث عنه.
وهبذا يكون العبد قد حقق كمال اإليمان وكمال العبادة هلل ،بعون وهدى من
اهلل يف كل حركاته وسكناته منذ أن يستيقظ من نومه حتى يأوي إلى فراشه ،فتكون
يسر اهلل له
كل أعماله عبادة؛ ألنه أخلصها هلل ،يمشي هبا بنور وهدى من اهلل ،وقد ّ
كل طريق ووفقه يف كل عمل ،وهداه ّ
لكل خير ،وأبعد عنه كل شر ،من حيث ال
يحتسب.
فـ (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) الذي
أعطانا هذا النور العظيم يف سورة الفاتحة ،والذي فـُتح له باب لم ُيـفتح قط إال
يوم أن نزل هذا النور ،ونزل به ملك لم ينزل قط إال يف هذا اليوم ،وال يقرأ أحدٌ
بحرف منها إال ُأ ْعطِ َيه.
نحمده سبحانه على عظيم كرمه ورحمته بنا يف هذا العطاء الواسع.
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
94
لذلك وجب علينا أن نحرص على أن نغتنم هذا العطاء من اهلل يف
كل حرف من هذه السورة ،فنقرأها بتدبر مستحضرين الحمد هلل والثناء على اهلل
وتمجيده ومستحضرين توحيده سبحانه بالعبادة ،وطالبين منه العون
والهداية ألفضل الطرق ،وهو طريق النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
ونبتعد كل البعد عن طريق المغضوب عليهم وعن طريق الضالين.
نسأل اهلل أن نكون من ضمن هذه الرفقة ،رفقة الذين أنعم اهلل عليهم ،وأال
نخرج عنها وال عن صراطهم المستقيم ،حتى نمشي على األرض بنور وهداية
من اهلل يف كل خطوة نخطوها ،وتكون كل أعمالنا وقراراتنا وخططنا مستمدّ ة من
هذا النور ،فنكون مع الذين قال اهلل عنهم﴿ :ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾((( ونكون
أسعد من يمشي على هذه األرض ،بإذن اهلل.
***
Jالفهرس L
املقدمة5.....................................................................................................................................
االستعاذة 11................................................................................................................................
معىن االستعاذة12........................................................................................................................
صيغ االستعاذة 12.......................................................................................................................
االستعاذة باسم (اهلل)13.............................................................................................................
(أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم) 13.........................................................................................
فوائد االستعاذة باهلل 17.............................................................................................................
االستعاذة من الشيطان خِنْزَب 21..............................................................................................
( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ )24..............................................................................................
( ﭑ ﭒ ) 24...........................................................................................................................
( ﭒ )27....................................................................................................................................
( ﭓ ﭔ ) 29.................................................................................................................
( ﭓ ) 30...........................................................................................................................
( ﭔ ) 31..........................................................................................................................
﴿ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﴾ 35...............................................................................
﴿ ﭖ ﭗ ﴾ 37.................................................................................................................
﴿ ﭘ ﭙ ﴾ 39....................................................................................................
﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﴾ 50....................................................................................................
﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾ 55................................................................................................
ماذا سألنا اهلل ليقول لنا :ولعبدي ما سأل (الكنـز املهجور يف سورة الفاحتة)
96
﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾ 61.................................................................................
﴿ﭢ ﭣ ﴾62.....................................................................................................................
﴿ﭤ ﭥ ﴾68...........................................................................................................
الذكر نوعان71........................................................................................................................... :
﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾ 73...........................................
اهلداية نوعان 74.........................................................................................................................
﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﴾ 77.............................................................................
مثار اهلداية لصراط الذين أنعم اهلل عليهم 84......................................................................
آمني89..........................................................................................................................................
اخلامتة 92..................................................................................................................................
الفهرس 95...................................................................................................................................
***