You are on page 1of 128

‫بين القاع والقاع‬

‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪1‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪:‬‬
‫شكر‬
‫أتوجه بخالص الشكر " ملكتبة كتوباتي ‪ "kotobati /‬اإللكترونية كونها‬
‫أول داعم لي أوال في أولى بداياتي و ثانيا على تصميم غالف روايتي ‪ ،‬سأترك‬
‫لكم دعائي عند هللا‪.‬‬

‫@ جميع الحقوق محفوظة ‪2021/2020‬‬

‫‪2‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إهدإء ‪:‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬


‫ِإلـى أولـئـک ال ِـذيـن أنـقـذناهم يـومـا مِـن حـاف ِة الـضـيـاع‬
‫ْ ْ‬
‫وأم َـسـكـنا بِـهـم جـي ًـدا ح َّـتـى ال يـق ُـعـوا فـي ال َـقـاع ثـم َدف ُـعـونـا إلـى األسـف ِـل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بـك ِـل مـا َيـمـلِـكون مِـن ُحـب ‪ ،‬عـف ًـوا ! بـك ِـل مـا يـمـلـكـون مـن ق َّـوة !‬
‫"تـخـطـيـنا يـا أعـزائـي لـم تـعـد الـحـافة ُتـخـيـفـنـا"‬

‫‪3‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إلفهرس‪:‬‬
‫شكر‪2.........................................................................................:‬‬
‫مقدمة‪5........................................................................................:‬‬

‫مخس س نوإت‪8.....................................................‬‬ ‫إلفصل إ ألول ‪ :‬بعدَ ِ‬


‫كت أأخيت‪54..............................................................‬‬ ‫إلفصل إلثاين ‪ :‬تر ُ‬
‫إلفصل إلثالث‪ :‬سأأ ى‬
‫ختّل أأان أأيضا ‪69........................................... ............‬‬
‫إلفصل إلرإبع‪ :‬يف إلقاع ‪90..................................................................‬‬
‫إلفصل إخلامس‪ُ :‬‬
‫وجدت قليب‪114..........................................................‬‬

‫‪4‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫ُ‬
‫دائما ضدنا ُتحاربنا وتدفعنا إلى‬ ‫مطلقا ‪،‬كانت ً‬ ‫ً‬ ‫الحياة معنا ً‬
‫يوما ما‬ ‫لم تكن‬
‫شيئا إال أنها كانت جد قاسية معنا لم‬ ‫قاعها بشدة ‪ ،‬ورغم أننا لم نفعل لها ً‬
‫قوة َّ‬‫ُ‬
‫فعة من األعلى إلى ظالم املجهول ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الد‬ ‫ترحمنا و بقدر حبنا لها صدمتنا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يفضل‬ ‫سور التي نذبتها له ومنا من‬ ‫ِ‬ ‫الك‬ ‫ويواصل رغم‬ ‫ينهض ويتحدى‬ ‫منا من‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الركام ينتظر أن ُتهب عليه رحمة هللا وتر ِقد جثته تحت التراب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تحت‬ ‫البقاء‬
‫ُ‬
‫في َفقد لألبد ‪ . .‬لم نكن نتوقع أن‬ ‫يحدث أن ْيف ِقد اإلنسان نفسه ُ‬ ‫و‬
‫دائما تنزف أملًا ً‬
‫حادا ‪..‬‬ ‫يمكن أن ُتشفى لقد ظلت ً‬ ‫ُ‬ ‫التخلي جروحه ال‬
‫ُ‬ ‫ز‬‫ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫تعبر أشواكا بين الشرايين ‪ ،‬وتمسك القلب وتغ ِر سمها هناك ‪ ،‬لقد تدرب‬
‫ُ‬
‫يرقص على‬ ‫اقصا جيدا ‪ ،‬علمته تلك الخيبات كيف‬ ‫القلب وأصبح ر ً‬ ‫ُ‬
‫معلنا رقصاته للفرح أو الحب‬ ‫ً‬ ‫يخونها يوما‬ ‫ُ‬ ‫موسيقاها ‪ ،‬علمته كيف ال‬
‫ً‬
‫أيضا‪...‬‬
‫نحن الذين ُت ِركنا نتخبط‬
‫سيجدنا نحن ؟! ُ‬
‫ِ‬
‫وج ْدنا الجميع ولكن من َ‬ ‫لقد َ‬
‫ُ‬
‫سيعثر علينا في‬ ‫وحدنا في املنتصف ‪ ،‬فال العودة تنفع وال التقدم أيضا من‬
‫ضياعنا ! في ْتوهنا ! نحن الذين استصعبنا أن َن َ‬
‫ترك ًيدا أمسكت بنا هي أوال ‪..‬‬ ‫ِ‬

‫‪5‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫نحن الذين عالجنا ِجراح كل من التجأوا إلينا ‪ ..‬نحن الذين تمسكنا وكان من‬
‫السهل التخلي عنا !‬
‫ِ‬ ‫الصعب علينا أن نتخلى‪ ...‬هل حقا كان من‬
‫الحياة بقدر ما أردنا أن نكون بخير فقط ‪ ،‬ولكنها بالغت في‬ ‫لم ُنرد ً‬
‫شيئا من‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحروف وقرأت ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫فهمها واتجهت إلى ما تحت‬
‫بخيباتك و آوابدک‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أهديک قلبي فاقتليه‬
‫ِ‬
‫نحن نكبر بمرور الناس في حياتنا ‪ ..‬بمرور خيانتهم‬ ‫فال عالقة لأليام بنضجنا‪ُ ،‬‬
‫هواء خبثهم في ر َئت ْينا ‪ ..‬نحن لسنا‬
‫في دمنا ‪ ،‬بمرور كذبهم في عروقنا ‪ ..‬بمرور ِ‬
‫مزيج من أشخاص انكسرت في كل أرض ٌ‬
‫روح منهم‬ ‫واحدا ‪ ،‬بل ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شخصا‬
‫ِ‬
‫فاجتمعوا في جسد واحد ‪.‬‬
‫تثق ً‬
‫روح تخش ى أن َ‬ ‫ُ‬
‫وتسقط ٌ‬
‫أبدا وتبقى !‬ ‫خيانة ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫تصدق مجددا وتبقى !‬
‫كذب ‪ :‬وتسقط روح تخش ى أن ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتسقط ٌ‬
‫مجددا وتبقى!‬ ‫روح تخش ى أن تعيش‬ ‫استهزاء ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وتسقط ٌ‬
‫تواجه من جديد وتبقى!‬ ‫روح تخش ى أن‬ ‫خيبة ‪:‬‬
‫ُ ُ‬
‫تشتعل ف َت ْيالت قلبها من‬ ‫األرواح بعد انطفائها وال‬
‫ِ‬ ‫بين‬ ‫روح ‪ :‬وتسقط ٌ‬
‫روح‬
‫جديد وتبقى !‬
‫املنكسرة في جسد تحكمه كل هذه‬ ‫األرواح‬ ‫ُ‬
‫عوالق‬ ‫َ‬
‫تجتمع‬ ‫وهكذا حتى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫االنكسارات التي تسمى في عاملي شخصية !!‬
‫األلف‬ ‫حبا كهذا في‬ ‫َ‬
‫سيحبك وأنت منطفئ ‪ ،‬تذكر هذا وإن صادفت ً‬ ‫ال أحد‬
‫ِ‬
‫كره فال ُت مسك بيده جيدا حتى تتأكد من أنه لن يفلتك عندما تصل إلى‬
‫‪6‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫فالحب الحقيقي ذاك الذي يطر ُق‬


‫ُ‬ ‫وليس كل حب ٌ‬
‫حب ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫منتصف الهاوية ‪.‬‬
‫والسالم ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫خبث َ‬ ‫أبواب ُقلوبنا حالال وما ُ‬
‫غير ذلك فهو‬ ‫َ‬

‫معزة في قلوبهم‪ ،‬أن ُن ْحترم أيضا ‪ ،‬أن‬ ‫أن ال نهون ‪ ،‬أن ُن ْحترم ‪ ،‬أن تكون لنا َّ‬
‫نحن أنفسنا ‪ ،‬أن ُن َح َّب كما أحببنا نحن عيوبنا ‪،‬أن نكون‬‫ُن َت َّق َبل كما َتقبلنا ُ‬
‫ً‬
‫فتسكن أرواحنا ألنفسنا وفقط و دائما‪ ،‬أن ُنكمل معا‬ ‫ُ‬ ‫بيتا لبعضنا البعض‬
‫حلة حب جميلة تبدأ على األرض وتكتمل في الجنة واألهم أن ُن َحتَـرم ‪ ،‬كلماتٌ‬ ‫َ‬
‫ر‬
‫َس ِط ْر عليها يا من تقرأ فهي مبادئ الحب الحالل الذي لم تعرفه بعد ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إلفصل إ ألول‪:‬‬

‫بـعدَ ِ‬
‫مخس س نوإت ‪. . .‬‬

‫‪8‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫الخيبات على قلبي واحدة تلو األخرى ‪ ،‬لم تترك الدنيا ش يء إال و‬ ‫توالت‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫أذكر ً‬ ‫أصابتني به ‪ُ ،‬‬
‫جيدا أنه هنالك عبارة قرأتها في مكان ما ر ِسخت في ذهني‬
‫كنت ُج َّل ما أتوقف على‬ ‫ُ‬ ‫الصخر بش يء حاد ‪،‬‬ ‫على‬ ‫ش‬ ‫كما ُي ْن َق ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ق‬
‫شاطئها والخوف يصرخ داخلي من أن أغر ذات يوم فيها وفيما ما تحمله من‬
‫يخسر ما يحبه إلى أن يخسره‬ ‫َ‬ ‫خائفا من أن‬ ‫دائما ً‬ ‫اإلنسان ً‬ ‫ُ‬ ‫معان "سيبقى‬
‫كنت دائما أفكر فيها أعل ُق حبال على هذه العبارة و أجلس‬ ‫َويفقد خوفه " ُ‬
‫ُ‬
‫فقدت أمي !‬ ‫ديدان األسئلة‪ ،‬ماذا لو‬‫ُ‬ ‫تحت شجرة الشك ‪ُ ،‬آك ُل ً‬
‫تفاحا شنقته‬ ‫ِ‬
‫صباحا ولم أجد أبي ؟ ماذا لو تركني كل من‬ ‫ً‬ ‫استيقظت ذات يوم‬ ‫ُ‬ ‫ماذا لو‬
‫كنت‬ ‫أحب و بقيت وحدي ! ماذا لو لم أجد من يحبني من أعماق فؤاده!! ‪ُ . .‬‬
‫أنشر ُس ًما في عقلي بأفكاري الغريبة ثم في لحظة ما ُ‬ ‫غبية عندما كنت ُ‬ ‫ً‬
‫أفيق‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫من تفكيري وأل ُ‬
‫أتذكر أن عبارة هي األخرى وقفت ضد‬ ‫ـعن نفس ي عندما‬
‫ُ‬
‫أمسح‬ ‫محكمة الحياة وفازت هي بالحكم " كل متوقع آت "‬ ‫العبار ِة األولى في‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫سحابة تفكيري وأنا غاضبة من نفس ي ثم ال ألبث أن أصب غضبي إال و‬
‫ُ‬
‫أغضب اآلن ‪..‬نعم ولم أعد‬ ‫حربا على كل من أجده في طريقي ‪ ،‬لم أعد‬ ‫أعلنته ً‬
‫ُ‬ ‫أخاف ً‬ ‫ُ‬
‫خسرت گ َّـل ما أحبه ‪.‬‬ ‫أيضا ‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫وضـعت نقطة النهاية وأغلقت دفترها األسود و املاض ي يرسم لها صورته التي‬
‫نهاية‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الجرس ويعلن عن ِ‬ ‫الواقع لحظات قبل أن ينبهها‬ ‫ِ‬ ‫عن‬ ‫تغيب‬ ‫جعلتها‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫االستراحة ‪ ،‬أخفته ُ‬
‫تنفض‬ ‫األسود في حقيبتها ونهضت مسرعة‬
‫ِ‬ ‫الحبر‬
‫وقلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غبار أفكارها وتعدل ياقة مئزرها ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الركض‬
‫ِ‬ ‫أصوات‬ ‫جاءت‬ ‫عندما‬ ‫دقائق‬ ‫وعشرة‬
‫ِ‬ ‫التاسعة‬
‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫تشير‬ ‫الساعة‬ ‫كانت‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫واحدة و كأنها ٌ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫أطفال ال‬ ‫حرب بريئة أبطالها‬ ‫والضحك كلها دفعة‬
‫ِ‬ ‫والصر ِاخ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تسخر من‬ ‫خيبات الدنيا ش يء سوى قد سرق محمد قلمي و نهى‬ ‫ِ‬ ‫عن‬ ‫ن‬ ‫يعرفو‬
‫نكبر وال َت ُ‬
‫كبر طيبتنا معنا وال حتى‬ ‫رسمتي ‪ ...‬من الجميل أن نبقى أطفاال ‪ ،‬ال ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الجميل أن نبقى أطفاال ال نحزن وال ُيحزننا من نحب ‪..‬‬‫ِ‬ ‫براءتنا‪ ،‬من‬
‫‪ -‬بهدوء يا أطفال ‪ ،‬ال تركضوا ‪ ..،‬أحمد ‪ ،‬لجين قلت لكم ال تركضوا ‪..‬‬
‫أحمد ‪ :‬حسنا معلمتي ‪..‬‬
‫معا اآلن أخرجوا دفاتركم وألوانكم‬ ‫سنرسم ً‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬اجلسوا أماكنكم يا أطفالي ‪،‬‬
‫هيا يا أطفالي ‪..‬‬ ‫هيا ‪َّ ..‬‬
‫معا سآتي لتفقدكم اآلن َّ‬ ‫جميعا ً‬
‫ً‬ ‫ودعونا نبدأ‬
‫الطاوالت وقد‬ ‫دفاتر رسمهم وعرضوا ألوانهم على‬ ‫َ‬ ‫الصف‬ ‫أخرج جميع من في َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫واحدا ً‬
‫واحدا‬ ‫أصوات حماسهم تصل إلى آخر الرواق ‪ ،‬بدأت تتفحصهم ً‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬
‫وجسدها ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫يهتز بشكل‬ ‫طاولة ليان التي كانت نائمة عليها‬ ‫ِ‬ ‫ولكنها توقفت عند‬
‫غريب ‪ ،‬انحنت بشكل لطيف ومسحت على رأسها بحنو و بصوت رقيق‬
‫ُ‬
‫الخطب يا عزيزتي!‬ ‫دافئ قالت ‪ :‬ما بها صغيرتي ليان؟! ما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫حمرتين‬
‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ِ ِ‬‫اللتين‬ ‫خديها‬ ‫على‬ ‫تتسابق‬ ‫الدمع‬
‫ِ‬ ‫حبات‬ ‫و‬ ‫قليال‬ ‫رفعت ليان رأسها‬
‫االنكسار ُيمليهما ً‬
‫حزنا ‪ ،‬لم‬ ‫ُ‬ ‫نظرت إلى ُمعلمتها بعيونها الخضراء و‬ ‫ْ‬ ‫البكاء ‪،‬‬ ‫من‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫تستطع أن َت ْن َ‬
‫طق بحرف واحد كلما حاولت أن تتكلم زادت حدة بكائها ‪،‬‬
‫أمسكت يد ليان الصغيرة بود ومسحت على رأسها ‪ ،‬وقالت لها تعالي معي يا‬ ‫ْ‬
‫باب الصف استدارت‬ ‫إلى‬ ‫تصل‬ ‫أن‬ ‫وقبل‬ ‫خطوات‬ ‫وتقدمت َ‬
‫بضع‬ ‫ْ‬ ‫عزيزتي‬
‫ِ‬

‫‪10‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫بتاتا ‪،‬‬ ‫جاءا هدوء ‪ ،‬ال ُت ْس ُ‬


‫مع أصواتكم ً‬ ‫نحو تالميذها وقالت بنبرة صارمة‪ :‬ر ً‬
‫ُ ً‬
‫سأعود حاال‪..‬‬
‫تهدئة ليان ‪ ،‬وبعد أن‬
‫ِ‬ ‫املغاسل وهي تحاو ُل‬
‫ِ‬ ‫أغلقت الباب واتجهت نحو‬
‫بك يا ليان ‪ ،‬ما‬
‫أصحبت أفضل مما كانت عليه أعادت طرح سؤالها ‪ :‬ما ِ‬
‫األمر؟!‬
‫أنزلت ليان رأسها بخجل نحو األرض وشبكت أصابعها وأخرجت الحروف من‬
‫فمها بتأتأة توحي بترددها في الكالم ‪ :‬اا اا اا انا ااا انا ‪ ،‬أمسكت كفيها‬
‫الصغيرتين ورفعت رأسها وحركته نحو األمام كإشارة لتكمل كالمها ُوتخرج‬
‫أملك دفتر الرسم خاصتي ‪،‬‬ ‫تلك الكلمات العالقة داخلها ‪ :‬معلمتي أنا ال ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أخبرت أمي ولكنها لم تفعل شيئا فقط ُ‬
‫أيت حزنا كبيرا على‬ ‫ُ‬ ‫وألواني انتهت ‪..‬‬
‫ر‬
‫وجهها يا معلمتي ‪ ،‬سيسخر مني الجميع اآلن ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مجددا محاولة إبعاد نظرها عن ِعيني معلمتها التي‬ ‫ض‬ ‫نظرت ليان إلى األر ِ‬
‫ً‬
‫تجمدت للحظة وكأنها تعثرت في املاض ي متذكرة كيف كان يسخر منها زمالؤها‬
‫على مالبسها وحقيبتها البالية و كيف كانت تبكي كل يوم من كالم أقرانها‬
‫ُ‬
‫ستحل األمر ‪:‬‬ ‫فقط ألنها ولدت فقيرة ‪ ،‬ابتسمت لها وأخبرتها بإنها‬
‫ْ‬
‫سأل ُ‬
‫بك حاال ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حق‬ ‫صفك اآلن‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ليان يا صغيرتي عودي إلى‬
‫عادت ليان إلى الصف فيما نهضت معلمتها واتجهت نحو الحارس و أخرجت‬
‫ٌ‬
‫وغصة ُ‬ ‫ً‬
‫تذبح حلقها كانت‬ ‫نقودا من جيب مئزرها ‪ ،‬تاهت وهي تنظر إلى يدها‬
‫هذه هي آخر النقود التي تبقت بصحبتها و سيكون من الصعب العثور على‬
‫مبلغ صغير لتكمل به بقية الشهر حتى موعد الدفع ‪ ،‬ابتلعت ريقها و‬
‫‪11‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬
‫وأقالم تلوين ‪،‬‬ ‫استجمعت كلماتها وطلبت من الحارس أن يشتري َ‬
‫دفتر رسم‬
‫ُ‬
‫فوضع والدي ليان ال يسمح لهما حتى بشراء خبز اليوم ‪ .‬هكذا هو القدر لم‬
‫يمنحنا كل ما نريد ولكن الرضا بما نملك كاف لنواصل حياتنا على نحو ما ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ً ْ‬ ‫ُ‬
‫ى‬
‫النهار في االنقضاء ساعة ِتلو األخر ‪ ..‬الساعة تشير إلى‬ ‫ِ‬ ‫ساعات‬ ‫تواصلت‬
‫وقت االنصراف ‪ ،‬أخرجت هاتفها تفحصته فوجدت‬ ‫مساءا ‪..‬إنه ُ‬ ‫ً‬ ‫ابعة‬
‫الر ِ‬
‫تضع‬‫وص َلتاها بينما كانت في الدرس ولكنها لم تالحظهما ألنها ُ‬ ‫رسالتين َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫احة اإلنسان بعدما ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصامت ً‬‫َ‬ ‫َ‬
‫األشياء‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫الكثير‬ ‫يفقد‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫ف‬ ‫لهاتفها‬ ‫ا‬ ‫دائم‬ ‫الوضع‬
‫ُ‬
‫تعتقد هي ‪ .‬بوجه بارد ال‬ ‫األشياء التي تبقت ‪ ،‬هكذا كانت‬ ‫َأهم بكثير من كل‬
‫ِ‬
‫باسمه دون أن تدري‬ ‫دة فعل نظرت إلى االسم ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫تفوهت‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫جيد‬ ‫ِ‬ ‫يبدي أي ر‬
‫"سيمان" فتحتهما‪:‬‬
‫ألخذك ‪ ،‬أنا مشغول»‬
‫ِ‬ ‫وحدك ‪ ،‬لن آتي‬
‫ِ‬ ‫«عودي للبيت‬
‫ي‬ ‫سالة أخرى من سيمان ً‬ ‫ٌ‬
‫نفسك ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وجهز‬ ‫بي‬ ‫تتصلي‬ ‫ال‬ ‫تذكرت‬ ‫آه‬ ‫«‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫ور‬
‫ُ‬
‫سأمر على الساعة ‪» 19:00‬‬ ‫نحن مدعون للعشاء عند أهلي ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وأحمق أيضا‪..‬‬ ‫أغلقت الهاتف قائلة في داخلها ‪ :‬يا له من متعجرف و مغرور‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يمنح نفسه مرة‬ ‫ولكنها لم تغضب قط ‪،‬ألن اإلنسان قد يصادف و‬
‫ضحكاتنا ‪ ..‬سعادتنا ‪..‬‬‫ألشخاص خطأ ينتزعو َن منه ومنا كل ش يء ‪..‬أحالمنا‪َ ..‬‬
‫ً‬ ‫اإلنسان غضبه يعني أنه َخسر ً‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫حربا كبيرة‬ ‫ِ‬ ‫فقد‬
‫خوفنا وغضبنا أيضا و أن ي ِ‬
‫لم ْيفقد فيها شيئا بقدر فقدانه لنفسه‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫منهكة ً‬‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بعد ساعة إال ُ‬


‫التعب وقد آكل‬‫ِ‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫جد‬ ‫البيت‬ ‫وصلت‬
‫ِ‬ ‫دقائق‬ ‫عشر‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الحال الذي وصلت‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫متذمرة‬ ‫وهي‬ ‫خلعته‬ ‫الصغير ذاك ‪،‬‬ ‫الحذاء قدمها‬
‫ً‬
‫ض في‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫األ‬ ‫على‬ ‫جلست‬ ‫‪،‬‬ ‫نهاية‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫ذاك‬ ‫أخاها‬ ‫ولعنت‬ ‫ألفا‬ ‫إليه‪ ،‬لعنت نفسها‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬
‫البيت واتخذت من ركبتيها وسادة لرأسها ‪ ،‬تكورت على نفسها وذابت‬ ‫مدخل ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُح َب ْي َب ُ‬
‫ات قلبها من عينها ‪ ،‬بكت طويال حتى انقطع نفسها ذاك‪ ،‬لم تستطع‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫موجة الحز ِن تلك غ ِرقت منذ زمن بعيد ‪ ..‬المست روحها القاع‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫السباحة‬
‫وبقيت هناك في الظالم ‪ ،‬ولم ُتمسكها ٌيد ولم تبحث عنها ٌ‬
‫روح ‪. . .‬‬
‫فعلت أنت!‬ ‫َ‬ ‫بك رجاله؟ ماذا‬ ‫يمسك َ‬‫ُ‬ ‫‪-‬من هذا الرجل وملاذا‬
‫أنت معي‪.‬‬
‫‪-‬ال تسألي كثيرا ‪ ،‬لم أتورط وحدي ‪ِ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تورطت أنا ‪ ،‬وأنا التي تخاف أن تدوس على األرض‬ ‫‪-‬كيف ذلك ‪ ،‬بما‬
‫فتوجعها؟!‬
‫‪-‬تورطنا وانتهى والحل عند هذا ‪...‬‬
‫قال ذلك الرجل ‪ :‬ال يوجد أي حل عندي سوى أنني سأتصل بالشرطة وتعفنا‬
‫أنت وهو ‪...‬‬
‫في السجن ِ‬
‫ً‬
‫كانت هذه الذكرى محفورة في أعماق قلبها ‪ ،‬فال انمحت أو حتى زالت ‪ ،‬ففي‬
‫الغريب أن يضحي بنا من ضحينا ألجله‪ ..‬من‬ ‫ُ‬
‫الحفار أخوها ‪ ...‬من‬ ‫النهاية كان‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫األوجاع التي ال ُتنس ى و‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫صاصة‬ ‫ر‬ ‫يهدينا‬ ‫أن‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫قريب‬ ‫ضرنا‬ ‫الغريب أن ُ‬
‫ي‬
‫تكونان تنتميان إلى رحم واحد‪.‬‬ ‫ُ‬
‫األغرب من ذلك أن‬
‫ِ‬

‫‪13‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫يريد أن ينتزع ً‬
‫شيئا بقوة ونهضت‬ ‫مسحت دمعها ووضعت يدها على قلبها كمن ُ‬
‫ً‬
‫متجهة إلى غرفتها الجديدة‪ ،‬فتحت الخزانة لم تبحث طويال أخرجت أول‬
‫بحقيبة يدها‬
‫ِ‬ ‫فستان وقعت عيناها عليه ‪ ،‬وضعته على السرير و أفرغت ما‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ى‬
‫تاركة أشيائها األخر على الطاولة وأخذت علبة الدواء التي تخفيها جيدا بين‬
‫ً‬
‫أشيائها ثم اتجهت نحو املطبخ فوجدته كما ُت ِرك صباحا رتبته ثم حضرت‬
‫جائعة جدا لم يمر من حلقها سوى املاء ِط َ‬ ‫ً‬
‫وال‬ ‫لنفسها ما يؤكل ‪ ،‬كانت‬
‫ساعات العمل ‪ ،‬انشغل تفكيرها في النقود التي انتهت من أين ستأتي بهم‬ ‫ِ‬
‫لتواصل يومياتها حتى موعد الدفع ‪ . .‬تعكر مزاجها كثيرا ‪ ..‬كيف ستدفع ذلك‬
‫الدين الكبير مع مصاريفها ومصاريف العالج التي بدأت تتراكم عليها !‬
‫ارتشفت دواءها وعادت إلى الغرفة ‪ ،‬ارتدت فستانها الذي ينتهي بربطة‬
‫أنيقة على ظهره تمتد إلى أسفل ِخصرها ‪،‬مزين بقفيالت في آخر الذراع على‬
‫شكل ريشة رقيقة ذات لون ذهبي‪ ،‬عدلت خمارها األسود ‪ ..‬لم تضع الكثير‬
‫من مساحيق التجميل ‪ ،‬اكتفت فقط بكحل العين وأحمر شفاه بلون وردي‬
‫فاتح جدا يناسب بشرتها البيضاء ‪،‬وضعت إسوارا رقيقا على معصمها‬
‫ولبست خاتم‬ ‫وساعتها التي أهدتها لها صديقتها ياسمين وباتت ال تفارقها ‪ِ ،‬‬
‫بساطة تزينها إال أنها‬
‫ِ‬ ‫موتها ذاك وارتدت كعبا أسود ليس بعال كثيرا ‪ ،‬ورغم‬
‫ً‬
‫أصبحت فاتنة بشكل ال يوصف ‪..‬هي ال تحب كل هذا التزين رغم بساطته‬
‫ولكن كيف سيقو ُل أهله عن عروسهم التي ُ‬
‫تهمل مظهرها منذ يومها األول ! في‬
‫ٌ‬
‫الحقيقة ال ُيهمها أيضا ما سيقولون عنها ولكنها مجبرة على تحمل أخطاء‬
‫أخيها الذي ترك يدها في الوحل وغادر‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫الجميع بنفس الحظوظ ‪ ..‬فالبعض تمنحه الحياة كل ما يريد دون أن‬ ‫يولد‬
‫لم ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تبصق في‬ ‫والبعض‬ ‫جميل‬ ‫يشقى و دون أن يكون للتعب نصيب فقط حظ‬
‫وجهه واقعا مريرا تخجل حتى من أن تسميه واقع‪.‬‬
‫ً‬
‫صباحا على العاشرة وتسع دقائق على رنين هاتفه ‪ ،‬أطفأه ثم تقلب‬ ‫استيقظ‬
‫أي آخر إذ يبدو أن‬ ‫ٌ‬
‫منزعج جدا و لكن كان للهاتف ر ٌ‬ ‫الجهة األخرى وهو‬ ‫على‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫صوت صديقه‬ ‫ٌ‬
‫ومزعج أيضا‪ ،‬رد على االتصال فآتاه‬ ‫املتصل شخص ٌ‬
‫عنيد‬ ‫َ‬
‫معتز مهلال فرحا ‪..‬‬
‫‪ -‬أحلى صباح ألحلى عريس ‪..‬‬
‫ً‬
‫مستلقيا على ظهره فاركا لشعره بأصابعه ‪ :‬وهل من‬ ‫ُ‬
‫يتثاءب‬ ‫رد عليه وهو‬
‫ُ‬
‫سيجد صباحا جميال !‬ ‫يستيقظ على صوتك‬
‫وكردة فعل أبعد الهاتف عنه‬ ‫فأصمت أذنه‬‫جاءت قهقهات معتز مدوية َ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضحكة رفيقه ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫ضحكة‬ ‫مكشرا‪ ،‬رادا‬
‫‪ -‬معتز سنلتقي بعد ساعة هيا اآلن مع السالمة ‪..‬‬
‫َ‬
‫وعروسك يا أحمق؟‬ ‫‪ -‬هااي انتظر‪ ...‬انتظر نلتقي ماذا!‬
‫‪ -‬أنت تعلم جدا سبب هذا الزفاف الغير مرغوب فيه‪ ،‬وهللا لوال خوفي من‬
‫لم كان سيصيبها سوآءا هي أو حتى أخوها‬ ‫خسارة عائلتي فلن أكترث حتى َ‬
‫ِ‬
‫املغفل فال تناقشني رجاءا ‪ ..‬لم أخترها بنفس ي أجبرت عليها ‪..‬‬

‫‪15‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫وضع الهاتف جانبا و غاص تفكيره في زفافه السريع الذي حدث بين ليلة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يستحضر له صورتها البارحة وكم كانت جميلة جدا بثوب‬ ‫ونهارها وبدأ عقله‬
‫الش ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫املتمردة‬
‫ِ‬ ‫عيرات‬ ‫األبيض وقصة الشعر املنفوخة من الوراء وبعض‬
‫ِ‬ ‫الزفاف‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫على وجهها‪ ،‬فقط كانت تنقصها ملعة الفرح في عينيها رغم محاوالتها في رسم‬
‫ابتسامة مزيفة‪ ..‬تأفف من نفسه ومن تفكيره املفاجئ فيها ونهض يجر أقدامه‬
‫نحو الباب ‪ ،‬توقف للحظة متذكرا بأنه لم يرتدي قميصه محدثا نفسه ‪:‬‬
‫كيف لي أن أعتاد على عادات جديدة اآلن‪ ، ..‬ثم أعدل عن فكرته‬
‫ُ‬
‫وخرج بدون قميصه قائال في نفسه ‪ :‬لن أغير نفس ي من أجل أحد ‪ ،‬الجميع‬
‫مجبرون على التأقلم رغم أنفهم املنزل منزلي كان يقصدها بالجميع فال أحد‬
‫سواهما سيقطن في هذا البيت ‪..‬‬
‫ُ‬
‫بباب‬
‫ِ‬ ‫مر‬ ‫هناك‬ ‫هنا‬ ‫عنها‬ ‫تبحث‬ ‫كان البيت هادئا جدا و كانت نظراته خائنة‬
‫ً‬
‫خفيفا وعندما لم‬ ‫أسه على الباب لعله يسمع صوتها ‪ ،‬طر َق‬
‫غرفتها فوضع ر ُ‬
‫يأته صوتها فتحه ودخل ؛ كان فضوليا جدا ال يحترم خصوصيات الغير كل‬
‫َ‬
‫ما يهمه هو نفسه ‪ ..‬وجد الغرفة مرتبة وحقائبها الفارغة موضوعة على األرض‬
‫جانبا‪ ،‬اتجه نحو املطبخ وجد الطاولة جاهزة ‪ ،‬أو باألحرى كما جهزتها والدته‬
‫ً‬
‫يوم العرس ‪ ،‬رأى مالحظة ما معلقة على الثالجة أمسكها وقال‪ :‬مغفلة من ذا‬
‫الذي مازال يترك مالحظاته على الثالجة‪ ،‬تمعن مع خطها الرقيق الجميل‬
‫وكلماتها املصطفة بإتقان ثم قرأ بدهشة ‪ ":‬أعلم أننا اتفقنا على زواجنا‬
‫التمثيلي وبأنك أنت من ستأخذني إلى املدرسة صباحا وتعيدني مساءا لبعد‬
‫املسافة بينها وبين البيت مقابل واجباتي املنزلية ولكن لم أرد إزعاجك‬
‫صباحا‪ ،‬شكرا نفذ اتفاقك ابتداءا من املساء" ‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ضحك من أعماق قلبه على رسالتها و السخرية مرسومة على وجهه وهو يردد‬
‫عليك حتى‬ ‫حمقاء‪ ..‬حمقاء ‪ ،‬سأريك ماذا سأفعل ‪..‬مغفلة ‪ ،‬وكأنني ٌ‬
‫ميت‬
‫ِ‬
‫أصبح سائقك الخاص ‪ ،‬تعلمي كيف تعودي للبيت وحدك إذا‪.‬‬
‫في هذا القفص الصغير الذي نعيش فيه ‪ ،‬في هذه الحياة بالضبط قد ال‬
‫يدرك املرء ما يعيشه غيره من آالم و من أحزان وحتى تلك التقلبات التي‬
‫َ‬
‫تعيش بداخلنا ال أحد يستطيع معرفة شعورها فخلفنا تماما شخص ال‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫إنسان آخر ال أحد يعرفه‪.‬‬ ‫أحد يعرف عنه ذرة خرذل فوراء كل إنسان‬
‫جهز نفسه بعناية ‪ ،‬رش عطره وأمسك مفاتيح سيارته وخرج للقاء معتز‬
‫الذي كان ينتظره في أحد املقاهي‪ ،‬تعانقا خفيفا ثم جلسا يتحدثان ‪..‬‬
‫‪ -‬لقد أصبحت متزوجا يا صاح مرفقا إياها بابتسامة عذبة‪.‬‬
‫‪ -‬العاقبة لك يا معتز ولكن مع من تحب ومن تختارها أنت (قالها بانكسار‬
‫وهو يعبث بمفاتيح السيارة )‬
‫‪ -‬أال تالحظ بأنك ُ‬
‫تكابر كثيرا ‪ ،‬ما بها الفتاة ؟ جميلة‪ ،‬مثقفة ‪ ،‬محجبة وتبدو‬
‫هادئة أيضا ناهيك عن ما ال تعرفه عنها من صفات ‪.‬‬
‫زوجة‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬تغيرت نبرته إلى الغضب نوعا ما وقال ‪ :‬أال وال تدري أنك تتحدث عن‬
‫َرجل ما !‬
‫‪ -‬ضحك معتز وقال ها قد بدأت الغيرة فماذا بعد هذا !‬

‫‪17‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪-‬أمزح وفقط يا معتز أعلم أنك أخي وأنك آخر شخص يحاول أن يطعنني‬
‫حتى وإن كنت ال أعرفها وال أحبها فهي تحمل إسمي اآلن إلى أن‬
‫نتطلق ويذهب كل في طريقه‪.‬‬
‫معتز ‪ :‬أنا أسأل نفس ي اآلن ‪ ،‬منذ جلوسك هنا وأنا أنتظر منك تفسيرا ولكن‬
‫سنسأل إذا ‪َ ،‬‬
‫لم تركتها وحدها منذ أول يوم ؟‬ ‫ُ‬ ‫عقلك ال يشتغل ماذا نفعل‬
‫ضحك كثيرا حتى دمعت عيناه وقال ممثال الحزن على وجهه ‪ :‬يا حبيبي لقد‬
‫وجدت نفس ي وحدي في البيت خرجت وأخذت‬ ‫ُ‬ ‫تركتني هي ‪ ..‬عندما استيقظت‬
‫مفتاحا احتياطيا ‪..‬حتى وتركت لي مالحظة على الثالجة ‪.‬‬
‫غاص في تفكير عميق بينما كان معتز يتحدث عن العرس وكيف مض ى وفي‬
‫ً‬
‫منتصف رحلته التفكيرية صاح عقله محدثا إياه ‪ :‬ملاذا تفكر فيها هي مجرد‬ ‫ِ‬
‫غبية محتالة ؟! سأريها ماذا يعني أن تتأمر على " سيمان صبراوي" ‪. . .‬‬
‫ً‬
‫حك رأسه بخفة وأمسك هاتفه وبحث عن اسمها وكتب لها رسالة ما وأطلق‬
‫ً‬
‫ضحكة خبيثة و في تلك األثناء اتصلت والدته و دعته للعشاء ليال هو‬
‫َ‬
‫وزوجته‪ ،‬ق ِبل دعوتها وبعث برسالة أخرى لها يخبرها بأن تجهز نفسها مساءا‪.‬‬
‫ثم نهض مع معتز بعدما تناوال الغداء واتجها يتجوالن في األطراف‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫قادر على كل ش يء كأن يجمع شخصين من العالم لم َيكونان يعلمان‬ ‫ُ‬


‫القدر ٌ‬
‫بوجود بعضهما من قبل‪ ،‬تحت سقف واحد بين ليلة وضحاها و دون أن‬
‫ٌ ً‬
‫عجيب جدا!‬ ‫ندري كيف حدث ذلك ‪ . .‬القدر عجيب ‪،‬‬
‫دخل إلى املنزل متسلال دون أن يصدر صوتا ‪ ،‬كانت عاداته الغريبة تنمو‬
‫يوما بعد يوم سمع صوتها يأتي من بعيد ربما تتحدث على الهاتف ‪ ،‬تقدم‬
‫خطوتين ووقف قريبا من غرفتها حتى يسمع ما تسنى له ‪..‬‬
‫كانت هي جالسة على طرف السرير تنظر إلى ساعة يدها وتحدث صديقتها‬
‫على الهاتف ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫زت لم ْ‬‫‪ -‬حقا آسفة جدا يا ياسمين ولكن لم أجد حال ‪َ ،‬عج ْ‬
‫تعد لدي القدرة‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫سيصبح جميال ذات يوم ولكنني‬ ‫أخبرت نفس ي بأن كل ش يء‬‫ُ‬ ‫على التفكير‬
‫ُ‬
‫وقطير ُ‬
‫ات ندى نزلت من‬ ‫خدعت فقط نفس ي (رافقت كلماتها األخيرة بحة بكاء‬
‫عينيها)‬
‫معك‬
‫‪ -‬مياسين عزيزتي ال تبكي أنا دائما بجانبك حتى وإن كنا بعيدتين فقلبي ِ‬
‫دوما وال تقلقي َسيكون كل ش يء على ما يرام صحيح أننا نحزن ‪ ،‬نتعب وحتى‬
‫ُ‬
‫يعيش حيا بقلوبنا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫نستسلم أحيانا ولكن يجب علينا دائما أن نترك األمل‬ ‫أننا‬
‫َ‬
‫ألننا إذا فقدنا األمل فقدنا الحياة بأكملها‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ -‬أخرجت حروف اسم صديقتها بصعوبة وقالت ال يمكن سئمت ‪ ،‬كأنني أدفع‬
‫َ‬
‫ثمن ذنب لم أقترفه ولم أعرف ما هو ‪ ،‬تقطعت في حديثها بسبب تلك الغصة‬
‫التي نمت أشواكا في حلقها وأضافت ‪:‬ليس من السهل أن تتراكم كل األحزان‬
‫على قلبي في مدة واحدة قدرت بخمس سنوات ‪ ،‬انهزامات متتالية واألكثر أملا‬
‫َ‬
‫أن نفس ي خسرت كثيرا حتى نفسها ‪ .‬تداركت نفسها وتوقفت عما تفعل وعما‬
‫تحكي بعدما أقنعها عقلها أن الشكوى لغير هللا مذلة استجمعت نفسها‬
‫سريعا ثم شكرت ياسمين على السلفية وسألتها عن موعد لقائهم ‪ ،‬لقد‬
‫طال الشوق بينهما كثيرا ‪.‬‬
‫سمع كل ما قالت وكل ما روته لها عن يومها كيف مض ى وكيف عادت للبيت‬
‫مشيا ملدة خمسين دقيقة وللحظة ما شعر بأنه السبب فيما هي اآلن ألنه لم‬
‫أشياء كثيرة مسجونة‬‫ٌ‬ ‫يذهب ليأخذها من املدرسة وبدت له أن هنالك‬
‫داخلها‪ ،‬تنحنح خفيفا كي يعطيها إشارة على أنه قد جاء ‪ ،‬أغلقت املكاملة مع‬
‫طرف‬
‫صديقتها سريعا ‪ ،‬دق خفيفا على باب غرفتها املفتوح رآها جالسة على ِ‬
‫ً‬
‫السرير والهاتف في يدها ‪ ،‬نظر بإعجاب لها ‪ ،‬لقد كانت فاتنة جدا باألسود‬
‫عسل عيناها املمزوج بالنعناع ولكنها أيقظته‬ ‫في‬ ‫تاهت‬ ‫عيناه‬ ‫لدرجة َّأن َغ ُ‬
‫اب‬
‫ِ‬
‫من غفلته تلك عندما تحركت‪ ،‬فارتبك كثيرا وبانت على وجهه عالمات‬
‫اإلحراج ولينقذ املوقف خرج مسرعا تاركا صوته الرخم خلفه‪ :‬هيا بنا‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ -‬ال تنس ي أننا سنمثل السعادة أمام عائلتي وأتمنى أن ال تحرجيني بتصرفاتك‬
‫أمامهم ‪ ،‬كذلك ال تتحدثي كثيرا وال تكوني صداقات معهم ‪ ،‬فأيامنا معدودة‬
‫كما تعلمين (قالها بغرور ناظرا بطرف عينه لها)‬
‫لم ترد عليه ‪،‬كانت تفضل الصمت على أن تحادث غريبا عنها‪ ،‬أعاد تكرار‬
‫الجملة عليها مرة أخرى فهزت رأسها باإليجاب دون أن تتكلم أو حتى تنظر‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫صماء أم ماذا؟‬ ‫أنت‬
‫ِ‬ ‫هل‬ ‫‪:‬‬ ‫عليها‬ ‫الغضب‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫ية‬
‫ر‬ ‫نا‬ ‫موجة‬ ‫باتجاهه ولكنه أطلق‬
‫مرة أخرى فزاد غضبه عن ذي قبل وزاد في السرعة دون أن يدري‬ ‫ً‬
‫لم تجب‬
‫كتعبير ال إرادي عن غضبه الشديد وكلما داس على الفرامل َّ‬
‫أحست بأن‬
‫الدنيا تدور بها أكثر لدرجة أنها لم تستطع إخراج كلماتها لتخبره بأن يقلل من‬
‫سرعته ‪ ،‬ودخلت في نوبة هيستيرية تحاول نزع حزام اآلمن وهي ال تدري‬
‫وتضرب قلبها بشدة كمن يريد التخلص من ش يء يؤمله فيما زادت سرعة‬
‫تنفسها ‪ ،‬ومطر عينيها ينزل غزيرا ‪ ،‬تفاجئ من ر ِ‬
‫دة فعلها فقلل سرعته وهو‬
‫ينادي عليها وهي ال تستجيب لم يعرف ما يفعل ‪ ،‬فلم يصادف شيئا من هذا‬
‫القبيل من قبل ‪..‬‬
‫ُ‬
‫فحاولت أن أخلق‬ ‫املتكهرب بيننا‬ ‫يقول ‪ :‬كنا في السيارة أردت أن أكسر الجو‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫حديثا ما خصوصا بعدما سمعت مكاملتها تلك ‪ ،‬لكنها لم ترد علي واكتفت‬
‫ً‬
‫ناقصا وأني ال‬ ‫بالصمت ‪ ،‬لو كانت تعرفني جيدا ألدركت أن كالمي ال يبقى‬
‫أحد ما ‪ ،‬كررت سؤالي مرة أخرى ولكن صمتها استفزني‬‫أحب أن يتجاهلني ٌ‬ ‫ُ‬
‫فزدت من سرعة السيارة دون أن أعي ذلك ‪ ،‬وفي كل مرة أدوس أكثر ‪ ،‬لم‬
‫أدري ما فعلت إال عندما جاءني صوت شهيقها وزفيرها املتقطع ‪ ،‬نظرت إليها‬

‫‪21‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫فوجدتها تضرب صدرها جهة قلبها بيد ‪ ،‬واليد اآلخر كانت تحاول أن تنزع به‬
‫حزام األمان ‪ ،‬كانت في حالة يرثى لها ‪ ،‬وجهها شاحب ودموعها تنزل بال‬
‫توقف‪ ،‬ناديتها باسمها لكنها لم تستجب لم أدري ما أفعل فهذه هي املرة األولى‬
‫التي أشهد فيها حادثة كهذه ‪ ..‬أوقفت السيارة جانبا ونزلت أتفقدها من الجهة‬
‫األخرى ‪ ،‬فتحت الباب وأزلت حزام األمان وأنا أنادي عليها مياسين ‪،‬‬
‫مياسين‪ ..‬لكنها لم تستجب وظلت على حالها تبكي وتضرب قلبها ‪ ،‬أمسكت‬
‫يديها حتى أهدئها فهي تؤذي نفسها أكثر بضرباتها القوية تلك على قلبها ‪،‬‬
‫أسندتها علي وحاولت وضعها في موضع يمكنها أن تستنشق الهواء جيدا منه ‪،‬‬
‫أيت أنها بدأت تهدأ‪ ،‬فقر ُ‬
‫ووضعت القليل على وجهها ‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أت عليها‬ ‫ر‬ ‫جلبت ماءا‬
‫آيات من القرآن لعلـها تسكن وتستكين ‪.‬‬
‫هي تحكي‪:‬‬
‫َ‬
‫صوت دوي السيارة‬ ‫ُ‬
‫نسمع فقط‬ ‫كنا في السيا ة و كان ُ‬
‫صمتنا يتكلم ‪ ،‬كنا‬ ‫ر‬
‫وصوت أنفاسنا املضطرب إلى أن كسر هو هذا الصمت وحاول أن يتحدث‬
‫معي أو باألحرى إهانتي بكلماته لكنني اكتفيت بالصمت ‪ ،‬غادرتني رغبتي في‬
‫الحديث منذ زمن ‪ ،‬أجهضتني هي ال أنا ‪ ،‬لم أعد أطيق أي حديث ما وال حتى‬
‫الدفاع عن نفس ي فقط األطفال من ُ‬
‫أجد راحتي عندما أحادثهم ‪ ،‬ربما عدم‬
‫إجابتي له جعلته ُ‬
‫يزيد في السرعة تدريجا ‪ ،‬وكانت تلك (السرعة) من بين ما‬
‫بقي عا ًلقا بداخلي ولم أستطع أن أتجاوزه وأصبحت حالتي النفسية تتغير‬
‫شعور قاس ‪ُ ،‬‬
‫كنت أريد أن أنتزع‬ ‫ٌ‬ ‫دون أن أدري ما يحدث ‪ ،‬ليس خوفا ولكنه‬
‫من قلبي صورة ذلك الحادث الذي لم أقدر على تجاوز ش يء منه ِ‬
‫وهللا كأنهم‬

‫‪22‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫حملوا جسدي وتركوا روحي جريحة على األرض ‪ ..‬كنت أشعر بدوار مميت ‪،‬‬
‫ُ‬
‫فقدت السيطرة على التحكم في تنفس ي فصار الهواء يخنقني‪،‬‬ ‫ودون أن أدري‬
‫أحاول أن أستنشقه فال أجده ‪ ،‬فأزيد من محاولتي ‪ ..‬لم أعي ما حدث بعد‬
‫ذلك فلم أسمعه ولم أدري كيف أوقف السيارة ولكني فقط شعرت عندما‬
‫رش وجهي باملاء ثم جاءت إلى أنفي رائحة عطره ثم سمعت صوته ربما قرأ‬
‫ً‬
‫بعضا من آيات القرآن علي حتى بدأت روحي ترجع وترجع قليال ‪.‬‬

‫بعدما انتهى من قراءة القرآن ناداها مرة أخرى فحركت رأسها دليال على‬
‫أنت بخير ؟!‬
‫استجابتها ‪ :‬مياسين هل ِ‬
‫أومأت برأسها وحاولت أن تنهض لتمش ي قليال فأمسك بها حتى ال تقع ‪،‬‬
‫أبعدته عنه وقالت ‪ :‬أريد أن أمش ي قليال إن كان ممكنا !‬
‫لست‬
‫أمسكها من ذراعها برفق وقال رافضا ‪ :‬ال سنذهب إلى املستشفى حاال ِ‬
‫بخير مطلقا وجهك أصفر وأطرافك ترتعش ‪.‬‬
‫شعرت بدوار شديد في رأسها ولوال أنه كان ممسكا بها لوقعت أرضا ‪،‬‬
‫شربت‬
‫تمسكت به وقالت بأنها تريد القليل من املاء وستتحسن حاال ‪ ،‬بعدما ِ‬
‫املاء تركها في السيارة وذهب إلى البقالة واشترى لها بعض الحلويات‬
‫والشكوالتة حتى ترفع سكرياتها ‪ ،‬أما هي فضمت نفسها بيديها وجلست تبكي‬
‫ٌ‬
‫بصمت ‪ ..‬ملاذا لم أستطع تجاوز ذلك الحادث ؟ هل ضعيفة أنا لهذه الدرجة !‬
‫والكثير من التساؤالت التي تطرح نفسها بنفسها ‪ ..‬رأته عائدا من بعيد وبيده‬
‫ٌ‬
‫كيس ما فمسحت دموعها بسرعة حتى ال يرى أنها الزلت في حالة هلعها تلك‪..‬‬
‫‪23‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ -‬تفضلي كلي بعض السكريات حتى تتحسن حالتك‪.‬‬


‫‪ -‬ال أريد اآلن شكرا ‪ ،‬فقط أريد أن أمش ي قليال‪.‬‬
‫ٌ‬
‫منخفض في دمك ! ال تغضبيني رجاءا‬ ‫‪ -‬كيف ستمشين والسكر‬
‫‪..‬وفتح لها علبة الشكوالتة ‪..‬كادت ال تمسكها ولكن نظرته الصارمة جعلتها‬
‫تغير رأيها ‪ ،‬قسمتها إلى النصف ومدت له بنصف ‪ ،‬أعادها لها قائال‪:‬‬
‫اشتريتها لك وليس لي ‪..‬‬
‫لم تكترث لرده بل وضعت النصف في يديه وأولته ظهرها حتى ال يعترض ‪..‬‬
‫ابتسم خفيفا على فعلتها هذه ثم قال ‪ :‬حسنا اجلس ي هنا حتى تكملي ذلك‬
‫النصف ‪..‬‬
‫ُ‬
‫أتنفس هواءا ينعش قلبي‪..‬‬ ‫قالت‪ :‬رجاءا أريد أن أمش ي قليال ‪ ،‬لعلني‬
‫‪ -‬حاول أن يعترض ولكن إصرارها جعله يوافق على ذلك‪.‬‬

‫حزنا على قلب احترقت أرضه‬ ‫مشت قبله بخطوات متباطئة وعيناها تروي ً‬

‫قطرات الفرح قط ‪ ،‬تركها تمش ي أمامه وأثقل من خطواته ‪،‬‬‫ُ‬ ‫ولم تمطر عليه‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫يترقبها بشدة خوفا عليها من ْأن تسقط من جديد‬ ‫كان يسير وراءها وهو ُ‬
‫وفكره ينبش عن هذه الغريبة وطباعها األغرب منها‪ .‬الحظ نظرات املار َ‬
‫ين لها ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تسمع تغزالتهم بها فأسرع في خطاه وأمسك يدها ‪ ،‬نظرت إليه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وبدأت أذنه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تسكن مالمح وجهها أجابها مرتبكا وقبل أن تستفسر‪ :‬لكي ال يتغزل‬ ‫والدهشة‬
‫بك أحد وصمت ‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪24‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫املقاعد جلست وكتفت يديها حول‬ ‫أحد‬ ‫ْ‬


‫ِ‬ ‫أبعدت يدها سريعا عنه واتجهت إلى ِ‬
‫بعضهما البعض ‪ ،‬جر قدميه ً‬
‫جرا وجلس قريبا منها تفصله عنها مسافة‬
‫أنت بخير ؟!‬
‫معينة وقال ‪ :‬هل ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ردت بانكسار ‪ِ :‬صدقا لست بخير ولكنني سأحتفظ بالسبب لنفس ي وفقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أحرفه ضاعت في داخله وتفرقت‬ ‫حاول أن يجد كلمات يتحدث بها لكن‬
‫يستمع إلى صمتها ولكن َ‬
‫عاد سريعا وطرح سؤاله‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فصمت‬ ‫وعقدت لسانه ‪،‬‬
‫عليها ‪:‬‬
‫‪-‬هل أتصل بأخيك ؟ ربما أنت بحاجة إليه !‬
‫أجابته ‪ :‬ال تتصل ‪ ،‬لو كان سيفكر بي ملا خدعني ‪ ،‬ملا زوجني من رجل ال‬
‫يعرفه حتى ‪ ،‬ملا تركني كل ذلك الوقت ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫رد عليها بتفهم ‪ :‬غريبة الدنيا حقا !‬
‫ً‬
‫غريبة ً‬
‫يوما وإنما من عرفناهم‬ ‫كادت تصمت ولكنها قالت ‪ :‬لم تكن الدنيا‬
‫وعشنا معهم ومن أحببناهم صدقا هم الغرباء‪.‬‬
‫ُ‬
‫تصرخ بين رموشها فقال‬ ‫حاول أن يغير مجرى الحديث بعدما رأى ملعة الحزن‬
‫ُ‬
‫أيت! (ومد لها هاتفه لتنظر إلى‬
‫لك كل مكياجك هل ر ِ‬ ‫ُممازحا ‪ :‬لقد خربت ِ‬
‫الكاميرا)‬
‫األشياء تخربت تبقى هو فقط‬
‫ِ‬ ‫نظرت جيدا مع نفسها ثم ضحكت وقالت ‪ :‬كل‬
‫فل يتخرب إذا ‪..‬‬

‫‪25‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫ضحكا معا واعتلت قلبه فرحة غريبة بعدما رأى ضحكتها ألول مرة ‪ ..‬كانت‬
‫تشبه إشراقة الشمس بعد شتاء طويل‪ ..‬بل فرحة قلب بعد حزن عميق‪..‬‬

‫دت وعدلت حزام األمان ‪،‬‬‫بعد بع ساعة عادا إلى مكان السيا ة ‪ ،‬صع ْ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ووضعت رأسها على النافذة كانت يداها متشابكتان ببعضها البعض ‪ ،‬أما هو‬
‫فكان يبحث بداخله عن إجابة ملا حدث قبل قليل ‪ ،‬ليس من حده أن يسألها‬
‫وال يدري كيف يعرف السبب وراء انفعالها ذاك ‪ ،‬شغل السيارة‬
‫ليواصل طريقه وهو غارق في بحر أفكاره ‪ ،‬فأنقذه صوتها الرقيق بنبرة حزينة‬
‫انة حنجرتها ‪ :‬أرجوك ال تسرع ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كثيرا ألنني ‪ ..‬وصمتت ولم تزد‬ ‫ِ‬ ‫ز‬‫ن‬‫ز‬ ‫من‬ ‫جت‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫السبب حقا‬ ‫حرفا على آخر حرف فأوقعته في بحيرة الشك ‪ ،‬حاول أن يعرف‬
‫فقال بنبرة جادة ‪ :‬ألن َماذا !يمكنك مشاركتي بما تخفينه داخلك ‪ ،‬اعتبريني‬
‫َ‬
‫صديقا لك قبل أن أكون عدوك ! لم ُترد عليه ولم ُي ِرد أن َي ْح ُدث ما حدث‬
‫ً‬ ‫قبل بسبب غضبه فصمت وواصل طريقه تارة ُ‬ ‫ُ‬
‫ينظر أمامه وتارة إليها ‪ ..‬بعدما‬ ‫ِ‬
‫تملكه شعور غريب يشبه الخوف ولكنه ليس الخوف ‪ ،‬يشبه الشفقة ولكنها‬
‫شعور ليس له اسم سوى أنه يجعله ينظر باستمرار إليها ظانا‬ ‫ٌ‬ ‫ليست هي ‪..‬‬
‫أنها قد تدخل في نوبة أخرى ‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬ ‫العش الوحيد الذي َت ْج ُ‬


‫ُ‬
‫تمع فيه املحبة واألمان ‪ ،‬الدفء والحنان هو العائلة ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تمسك بنا حين نقع ‪ ،‬هي مدرستنا األولى ‪...‬‬ ‫غطاء أرواحنا‪ ..‬هي من‬ ‫العائلة‬
‫العائلة هي كل ش يء‪.‬‬

‫قصر كبير‬ ‫ٌ‬ ‫عد خمس منازل يوجد‬ ‫في شارع تملؤه الحركة والضجيج وعلى ُ‬
‫ب‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫يعود لعائلة صبراوي ‪ٌ ،‬‬
‫باب كبير عال مزخرف برشامات محفورة‬
‫ممر يمتد من الباب إلى ممرات فرعية ‪ ،‬في جانب كل ممر ُز ِر َعت‬ ‫بإتقان‪ٌ ،‬‬
‫الزينة في صف واحد في نهايتها‬ ‫العبقة ‪ ،‬أشجار‬ ‫الرائحة‬ ‫هار ذات‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كثير من األز ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫نافورة كبيرة ‪ ،‬املكان هنا ٌ‬
‫متواجد‬ ‫بشكله ‪ ،‬وكل ش يء‬
‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫ائحته‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫‪،‬‬ ‫جدا‬ ‫مميز‬
‫فيه‪.‬‬
‫ست غرف عدا‬ ‫كان هذا القصر يحتوي على خمسة طوابق في كل طابق ُ‬
‫الطابق األ ض ي كان يضم صالونا كبيرا ُ ت ْ‬
‫بت أثاثه بعناية تامة ‪ ،‬كان اللون‬ ‫ِر‬ ‫ُ ر‬
‫الفض ي هو ما يطغى عليه فقد ُم ِزج بعناية مع اللو ِن األسود حيث ُو ِضعت‬
‫ٌ‬
‫كنبات ذات اللونين وسط الغرف مع زربية فاخرة سوداء ‪ ،‬مزهريات ِ‬
‫مألت‬
‫ولوحات قرآن مكتوبة بخط فخم علقت على أغلب الحائط ُوي ْف ُ‬
‫صل‬ ‫ُ‬ ‫املكان ‪،‬‬
‫هذا الصالون بستار مصنوع من حبات السمسم إلى جهتين وثالث درجات‬
‫توصل للجهة السفلى ‪ ،‬الجهة العليا للجلوس والجهة األخرى لتناول الطعام‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وأطباق مرفوفة بشكل أنيق‬ ‫طاولة كبيرة تدور بها كراس ي فخمة الشكل‬
‫ُ‬
‫ومرتب على الطاولة و كانت السيدة رتيبة هي من أشرفت على إعداد الطعام‬
‫مع خادمتيها( آسيا وجميلة)‪ ،‬حيث جهزت طبق الشخشوخة (أكلة شعبية‬

‫‪27‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫تقليدية جزائرية تشتهر بها املناطق الشرقية خصوصا قسنطينة) كطبق‬


‫الشهية ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫املتنوعة‬
‫ِ‬ ‫رئيس ي باإلضافة إلى العديد من األطباق‬
‫بطيبة قلبها‬ ‫رهم‬ ‫ح‬‫الجميع بهيبتها و َت ْس َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫أس‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ِ‬ ‫كانت والدته ذات وقار عظيم ‪ِ ،‬‬
‫ت‬
‫ن ٌ‬
‫وأنف ر ٌ‬ ‫تداوي جراح من لجأ إليها ‪َ ،‬ت ُ‬
‫قيق و‬ ‫متلك عينين كبيرتين بنيتا اللو‬ ‫ِ‬
‫بهاء الدين ‪ ،‬أنور ‪ ،‬نرجس ‪ ،‬سيمان ‪.‬‬ ‫وجه دائري ‪ ،‬أنجبت أربعة أطفال ‪ُ :‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫خمسينية العمر كانت بيطرية في شبابها ‪ ،‬تعرفت على زوجها سعيد عندما‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫تعمل طبيبة لحيوانات مزرعة والده ‪ ،‬ف ُفتن بها وأقسم أن تكون هي‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬
‫حربا على أهله حتى قبلوا أخيرا بهذه‬ ‫زوجته وإال لن يتزوج غيرها ‪ ،‬وأقام ً‬
‫الزيجة‪..‬‬
‫ِ‬
‫سواد شعره على مشارف الستين كان يمتاز‬ ‫َ‬ ‫جل خالط الشيب‬ ‫سعيد ‪ :‬ر ٌ‬
‫بخفة دمه تزوج من رتيبة بعدما أقام حربا على كل من وقف في طريقه ‪،‬‬
‫عيناه خضرواتان ‪ ،‬طويل نوعا ما ‪ ،‬نحيل الجسد ‪ ،‬أبيض البشرة يمتلك‬
‫شركات وأراض ي ورثها عن والده و طور من أعماله وزاد في رزقه ‪ ،‬تقاعد عن‬
‫العمل وترك املجال ألوالده ‪.‬‬
‫بهاء الدين‪ :‬أكبر أبنائهما متزوج من فدوى يعمل في شركة من شركات والده‬
‫لديه برعمين التوأم (إياد و عماد) يبلغ من العمر خمسة وثالثين سنة ‪ ،‬أخد‬
‫الطول من والده وعيناه من والدته‪ ،‬ذو حضور قوي يهابه الجميع ‪ ،‬عصبي‬
‫بطبعه ولكنه حنون إلى أقص ى درجة ‪ ،‬تزوج من فدوى تقليديا ثم أحبها بعد‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫فدوى‪ُ :‬‬


‫تغلق الثالثين في الشهر القادم قصيرة جدا ممتلئة الجسم غيورة و‬
‫حقودة تريد أن تملك قصر العائلة وحدها ‪..‬شجعة جدا و صريحة إلى درجة‬
‫الوقاحة‪.‬‬
‫أنور ‪ :‬االبن الثاني ‪ ،‬متكبر ومغرور متباهي إلى أبعد حد أخذ من عيني والده‬
‫النصف والنصف اآلخر من أمه ‪ ،‬ورث الطول من والده شعره يمتزج بين‬
‫اللون البني واألصفر تزوج من أسماء العام املاض ي يبلغ من العمر اثنين‬
‫وثالثون عاما ‪ ،‬يشتغل في معرض سيارات(ملك للعائلة) لم يرزق باألطفال‬
‫رغم تردده وزوجته إلى الطبيب املختص ‪ ،‬وربما هذا هو سبب عدم تفاهمه‬
‫معها ‪.‬‬
‫أسماء ‪ :‬شقراء ‪ ،‬ذات عيون زرقاء بيضاء البشرة ‪ ،‬طيبة ‪..‬خفيفة الروح ‪،‬‬
‫جميلة تحب أنور جدا تمنت أن تنجب طفال منه لكن تجري الرياح بما ال‬
‫تشتهي السفن ‪ .‬كان متفهما في البداية وغير مهتم بمسألة اإلنجاب ولكن‬
‫مؤخرا كثرت بينهم حدة النقاشات وعدم التفاهم في هذا املوضوع‪.‬‬
‫ُ‬
‫نرجس ‪ :‬متخرجة من الجامعة ‪ ،‬مدللة أبويها أخذت من أنور تكبره ومن بهاء‬
‫عصبيته ومن أمها قصر القامة ومن جدها زرقة العين أخدت منهم جميعهم‬
‫شيئا ما عدا شخصيتها النرجسية تحب أن تمتلك كل ش يء لها ولوحدها‬
‫ولكن ما يميزها أنها طيبة نوعا ما رغم سذاجتها تحب أن تعيش مثل ما تريد‬
‫وال تحب من أحد أن يتدخل فيها تبلغ من العمر ثمانية وعشرون سنة ‪ ،‬لم‬
‫يأت بعد نصيبها من الزواج ‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫سيمان ‪ :‬صغير عائلة صبراوي يصغر نرجس بعام‪ ،‬أخذ منهم جميعهم‬
‫صفاتهم ‪ :‬الهيبة من بهاء والغرور من أنور من نرجس األنانية و من أمه‬
‫طيبتها وعطفها ‪ ،‬وأخذ من والده الحب والتسامح ‪.‬‬
‫طويل ‪ ،‬أخضر العينين ‪ ،‬شعر أسود قصير محلوق بطريقة جذابة ‪ ،‬بدأ‬
‫يشتغل مؤخرا في شركة والده ‪.‬‬

‫حالة حماس غير معهودة كانت‬ ‫ُ‬


‫دق جرس القصر في حين كان من داخله في ِ‬
‫نرجس تعدل ياقة ثوبها وتسأل أمها إن كانت تبدو جميلة ‪ ،‬فيما كان بهاء‬
‫ُ‬
‫يتراكض نحو الباب‬ ‫الدين وأنور يقهقهان على حالة أختهما وهكذا ‪..‬الجميع‬
‫في هلع وفضول عن عروستهم الجديدة التي لم تسنح لهم فرصة لقائها عن‬
‫قرب فيما قبل‪.‬‬
‫وتبعته وهي ُت ُ‬
‫مسك‬ ‫ُ‬ ‫فتحت آسيا (الخادمة) الباب ورحبت بهما ‪ ،‬دخل هو‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫وتفرك يديها من التوتر تارة ‪ ،‬وجدا الجميع واقفا في‬ ‫طرف ثوبها تارة‬
‫حضن أمه فيما بقيت مياسين واقفة‬ ‫ِ‬ ‫انتظارهما أمام الباب ‪ ،‬ارتمى سيمان في‬
‫ال تدري ما تفعل وكأنها تأثرت بهما وهما يعانقان بعضهما البعض ‪ ،‬شقت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ابتسامة حزينة وجهها عندما تذكرت أن أمها لم تعانقها ولو ملرة في حياتها ‪،‬‬
‫الجميع على بعضهم ثم‬ ‫ُ‬ ‫أيقظتها أسماء من سرحانها عندما َحيتها سلم‬
‫الضيوف تحت ترحيباتهم الحارة ‪ ..‬كان الجو يفرقع سعادة‬
‫ِ‬ ‫غرفة‬
‫انتقلوا إلى ِ‬
‫أجواء الحاضرين إال هي كانت هذه األجواء ال تناسبها تخنقها حد انقطاع‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫الهواء كانت تشعر كأن أحدهم َي ْن ُقش على قلبها بإبرة حادة ورغم ذلك إال أنها‬

‫‪30‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ ْ‬
‫لم تظ ِهر ما تشعر به كانت ترد على أهله بطالقة وكانتا الرقة واللطافة هما‬
‫من تطغوان عليها وكان الجميع معجبا بها خصوصا أسلوب حديثها كان‬
‫يجذبهم إليها عدا فدوى ونرجس اللتين كانتا تتهامسان عليها ثم تطلقان‬
‫ضحكات سخرية واستهزاء ولكنهما لو رأتا ما يوجد خلف هذا الجسد ألعدلتا‬
‫ِ‬
‫عن غيرتهما تلك ‪.‬‬
‫الحظ "سيمان" طريقتهم الغير الئقة وتصرفاتهم اتجاهها فحاول إسكاتهم‬
‫ً‬
‫بضمها نحوه أكثر ملمحا‪ :‬في الحقيقة كل من يؤذيها سيجدني أمامه ‪ ،‬وال‬
‫أسمح ألي كان أن يتعدى خطوطي الحمراء وهي كل خطوطي الحمراء لذلك‬
‫انتبهوا جمعيكم ‪( .‬مرفقا كلماته بضحكة) سحبت نفسها بلطف دون أن‬
‫تحرجه أو تلفت االنتباه إليها وفجأة ارتسمت على وجهها وردتين من الخجل‬
‫وأطرقت رأسها أرضا بعدما جاءت التصفيرات والتصفيقات دفعة واحدة‪.‬‬
‫قاطعهم "الس ي السعيد" مبرزا إعجابه بكنته الجديدة ‪ :‬وهللا يا بني َأل َّنكَ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اخترت بنتا رائعة وحياؤها هو أكثر ما يزينها رغم أنها جميلة جدا خلقا‬
‫ُ‬
‫وخلقا‪.‬‬
‫خجلت "مياسين" أكثر وابتسم "سيمان" لها متمعنا في كلمات والده وتغنجت‬
‫نرجس ملتصقة بوالدها أكثر وهي تقول ‪:‬‬
‫‪ -‬أبي هل نسيت أنني أنا ابنتك َ‬
‫فلم ال تمدحني هكذا ؟‬
‫لم تعلق مياسين واكتفت بضحكة رقيقة مثلها فيما رد الس ي السعيد على‬
‫ابنته ‪ :‬أو ينس ى أحد قلبه ؟ هل يعقل هذا ! تعالي يا حلوتي‪ ،‬تعالي ‪..‬‬

‫‪31‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كانت السيدة رتيبة تجلس وسط سيمان ومياسين وتدلل ولدها مرة و‬
‫تحدث مياسين مرة ‪ ،‬أما سيمان فكان مدهوشا منها لم يعتقد أن أسلوبها‬
‫في الحوار رائع إلى هذه الدرجة ‪ ،‬ربما بدأت أعجب بها حقا قالها في خفائه‬
‫وعيناه تلمع عندما يسرق نظراته إليها‪.‬‬
‫بدأت عملية التقديم فور ما اجتمع الكل حول الطاولة وكان عماد وتوأمه‬
‫يركضان حول الطاولة بشكل دائري وفجأة ارتطم عماد في الخادمة (جميلة)‬
‫فوقعت كل األطباق من يدها ووقع هو أيضا ومن خوفه أطلق صرخات عالية‬
‫من البكاء ثم بكى توأمه أيضا لبكاء أخيه ‪ ،‬أما جميلة فمن هلعها لم تدري ما‬
‫تفعل فأسرعت تلتقط األطباق وهي مذعورة ‪ ،‬فيما أسماء أمسكت إياد‬
‫ً‬
‫وعماد تولت فدوى أمره محاولة إسكاته‪. .‬‬
‫في املواقف العصيبة و التي تترك توترا بالغا بين األفراد يجب على املرء أن‬
‫وصل إلى‬ ‫ي‬ ‫ٌ‬
‫شائك وال ُ‬ ‫يتصرف بحكمة ولكن فدوى اختارت طريقا آخر ‪ٌ ،‬‬
‫طريق‬
‫ِ‬
‫تصرخ على جميلة وتهينها أمام الجميع وكادت تصفعها‬‫ُ‬ ‫نهاية الطريق ‪ ،‬راحت‬
‫ً‬
‫صدمة الجميع متجاهلة نداءات زوجها وصوت حماها ‪ ..‬وقبل أن‬ ‫ِ‬ ‫تحت‬
‫السيدة جميلة أمسكت يدها مياسين بشكل متحد‬ ‫ِ‬ ‫يصل الكف إلى وجه‬
‫ُ‬
‫وقالت ُموجهة نظرة صارمة لفدوى ‪ :‬ال تتقاوي عمن هم أضعف منك فهم ال‬
‫َ‬
‫يملكون القوة وال حتى املال ولكن يملكون هللا ‪ .‬ختمت كلمتها بعدما أنزلت‬
‫يدها والغيض يخرج شرا من أعين فدوى ‪ ..‬أضافت ووجنتيها قد احمرتا‪:‬‬
‫أعتذر ولكن هذه ليست الطريقة الصحيحة ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ -‬ال أحد سيعلمني الطريقة الصحيحة في تعاملي مع الناس (ردت فدوى وهي‬
‫تنظر باستعالء ونظراتها ُ‬
‫تكاد ترتكب جريمة هناك)‪.‬‬
‫َ‬
‫لم ترد مياسين واتجهت بكل برود تجلس مكانها بعدما الحظت أن الوضع ال‬
‫ْ‬
‫سعال الس ي السعيد كإنذار لفدوى وقال ‪ :‬أحم أحم‬ ‫ُ‬ ‫ُيشكر وال ُيعجب‪ ،‬جاء‬
‫لنتابع لم يحدث ش يء ‪ ،‬ال بأس يا فدوى هكذا هم األطفال ( مختتما كالمه‬
‫ْ‬
‫بنظرة حادة تعني الكثير من الكلمات التي لم ُيقلها)‪.‬‬
‫فيما أمسك سـيمان يد مياسين من تحت الطاولة وضغط عليه بشكل قاس‬
‫ُ‬
‫عالمات االنزعاج من ش يء ما ‪ ،‬كانت كلما‬ ‫ورهيب حتى بدت على وجهها‬
‫سحب يدها َ‬
‫ضغط أكثر فكانت تتألم أكثر اقترب منها وهمس في أذنها‬ ‫َ‬ ‫حاولت‬
‫استأذني حاال بالخروج وإال ستندمين أشد الندم ‪ ،‬لم تدرك حتى كيف طلبت‬
‫بالخروج قليال ثم العودة إلى الداخل ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫اإلذن‬
‫خرجت الى الحديقة وهي تفرك يدها من األلم وقد احمرت حتى أنه ترك آثار‬
‫أظافره على يدها التي كانت تنبع دما ‪.‬جلست على إحدى الحافات تنتظره‪،‬‬
‫طالت مدة انتظارها قليال وأخيرا أتى وهو غاضب جدا ‪.‬‬
‫سيمان‪ :‬أخبرتك أن ال تحرجيني ولكن أنت ماذا فعلت! ما شأنك ؟! اه ما‬
‫تأقلمت في الدور جيدا على أنك زوجتي أم ماذا ! ( قالها‬
‫ِ‬ ‫دخلك أنت ‪ ،‬هل‬
‫غاضبا مهددا والشرارة تكاد تخرج من عينيه)‬
‫أطرقت مياسين رأسها أرضا صامتة وهي تحاول كتم دموعها وهذا ما شجعه‬
‫على أن يواصل توبيخه لها‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫منذ أن عرفتك وأيامي سوداء ‪ ،‬لم أفهم ما شأنك بزوجة أخي وما تلك‬
‫الحماقات التي قلتها ‪ ،‬سندخل حاال وستعتذرين من فدوى وإال ‪..‬‬
‫قاطعته قائلة وهي تنظر إلى عينيه مباشرة ‪ :‬وإال ماذا !‬
‫أربكته نظراتها فضاعت الكلمات من لسانه وتبخر غضبه وتحدث قلبه‬
‫ْ‬
‫نظرت إلي هذه الجنة شعرت بالعجز أمامها ‪ ،‬كأن ال أريد أن‬ ‫داخال ‪ :‬كلما‬
‫ً‬
‫أحزنها كأن أنظر فقط لها ‪ُ ،‬ترى هل تملك طاقة خارقة تمنعني عن الصراخ‬
‫عليها عندما تنظر لي بهذا الشكل ؟‬
‫مياسين ‪ :‬وإال ماذا ! لم صمتت أجب‪ ..‬أكمل !‬
‫سيمان ‪ :‬ال ش يء هيا بنا إلى الداخل واصمتي وال تتحدثي كثيرا ‪ ،‬جاوبي بقدر‬
‫فهمت؟‬
‫ِ‬ ‫السؤال وإال اصمتي‬
‫كاد يذهب لوال أنه تذكر شيئا فقال ‪ :‬اه وستعتذرين أيضا‪..‬‬
‫نظرت إلى يدها الذي بدأت قطرات الدم تتساقط منه على األرض ثم نظرة‬
‫خاطفة إليه ثم قائلة ‪ :‬سأعود إلى الداخل و لست مضطرة على تنفيذ‬
‫أوامرك‪.‬‬
‫استدار بغضب فلمح يدها املحمر من آثار ما فعل وقد بدأت قطير ٌ‬
‫ات تغزو‬
‫األرض ‪ ،‬أكمل طريقه إلى الداخل ثم ما لبث خمس دقائق حتى عاد وفي يده‬
‫علبة اإلسعافات األولية فرآها تمسح دموعها التي غلبتها‪.‬‬
‫سيمان ‪:‬تعالي إلى هنا سأضمده أنا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫تخطت أمره وفتحت أحد صنابير الحديقة‪ ،‬غسلت يدها ثم توجهت نحوه‬
‫ً‬
‫وأخرجت ضمادة وضعتها على يدها قائلة ببرود ‪ :‬جمعيكم تتشابهون في‬
‫النذالة ‪ ،‬تنزفون الجروح ثم تدعون بتضميدها ‪.‬‬
‫سيمان ‪ :‬ماذا تقصدين بجميعكم ؟ (وقد كان الغضب أكل منه كل ش يء)‬
‫مياسين ‪ :‬لن أفسر لك افهم ما شئت ‪ ،‬كن بارعا أيضا في هذا ليس في‬
‫الغضب والغرور فقط ‪.‬‬
‫ً‬
‫تركته يغلي غضبا وعادت إلى الداخل ُمخبئة يدها خلفها ‪ ...‬ثم اعتذرت من‬
‫فدوى وجلست تتناول عشاءها ‪ ،‬كادت تلدغها برد مؤلم ولكنها زمت شفتيها‬
‫عندما رأت نظرة زوجها الصارمة بأن تصمت وال تنطق بأي حرف واحد‪..‬‬
‫بدافع الفضول ما لم يحكوها لك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ال تسأل ‪ ،‬وال تستفسر عن قصص الناس‬
‫ُ‬
‫والهدم‬ ‫ُ‬
‫الكسر‬ ‫ألنك قد تعيد َتهديم ما حاولوا ترميمه بعد ُمدة طويلة كان‬
‫فيها هو حاكم القلعة‪ .‬ففي اللحظة التي ُ‬
‫تريد فيها أن تصمت على كل ش يء يلح‬ ‫ِ‬
‫الناس بأسئلتهم على معرفة ما ال يهمهم فيفتحون ً‬
‫شرخا عميقا ونعود نحن‬
‫إلى البداية ‪ ،‬أينما وقعنا بالذات‪..‬‬
‫هكذا مياسين سمعت كل ما لم ترد أن تسمعه وكل ما كانت تحاول أن تنساه‬
‫شبعوا جوع فضولهم ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ذكروها به بأسئلتهم املزعجة حتى ي ِ‬
‫أنور‪ :‬حسنا يا زوجة أخي حدثينا عنك قليال ماذا تعملين ؟ عمرك ؟! عائلتك !‬
‫ٌ‬
‫مياسين‪ :‬معلمة ‪ ،‬خمسة وعشرون سنة وصمتت ولم تزد على ما قالت‬
‫وبدأت تلعب بالشوكة ‪ ..‬كانت أجوبتها القصيرة تبين أنها كتومة ال تحب أن‬

‫‪35‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫تتحدث عن نفسها وال تريد أن تكون األضواء متجهة نحوها رغم أنها كانت‬
‫مثيرة للغموض ‪.‬‬
‫جاء رد نرجس الالذع ‪ :‬ربما ال تملك عائلة فنحن لم نتعرف عليهم ولم‬
‫يظهروا حتى اآلن خصوصا وأن زواجكم تم بلمح البصر وضحكت هي‬
‫وفدوى وانضم أنور وحتى سيمان عندما تذكر أخوها وكيف هانت عليه‬
‫أخته بكل بساطة ‪ ..‬تنحنح الس ي سعيد ليصمتهم و وجه نظرته الصارمة‬
‫نحوهم ابتلعت ريقها و بهدوء تام وعينين دامعتين ورأس مطأطأ قالت ‪:‬‬
‫محقة نرجس ليست لدي عائلة ‪ ،‬عن أمي وأبي فرحمهما هللا ‪ .‬و كأنها فجرت‬
‫ً‬
‫قنبلة من الندم فيهم بجملة واحدة ولكنها أصابت سيمان أكثر منهم ألنه بالغ‬
‫في ضحكته وبعد الصمت الذي حل عليهم فجأة واصلت كالمها ‪ :‬و لدي أخ‬
‫ً‬
‫يدعى سامي ثم سكتت عن بقية الحديث عندما توالت عبارات العزاء واحدة‬
‫تلو األخرى‪.‬‬
‫ردت عليها السيدة رتيبة حتى تبتلع أجواء الحزن التي غاصت فيها ‪ :‬نحن‬
‫أبوك ‪..‬‬
‫أمك وهذا ِ‬
‫عائلتك يا ابنتي ‪ ،‬ال تنس ي هذا ‪ ..‬هؤالء إخوتك وأنا ِ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫لم تواصل السيدة رتيبة كالمها ْ‬
‫بعد حتى انفجرت مياسين باكية وكأنها تذرف‬
‫من عينيها شالال ال دموعا ‪ ،‬لم تعلم حتى أين تخفي وجهها حتى ال يرى ٌ‬
‫أحد‬
‫بكائها ‪ ،‬ولكن الجميع رآها ‪ ..‬أشفق سيمان عليها فرب َت على ظهرها لكي يخفف‬
‫عنها ولكن لم ُيجدي ذلك بش يء ‪ ..‬نهضت والدته وضمتها إلى صدرها محاولة‬
‫تهدئتها‪ ،‬ثم أخذتها إلى الحمام حتى تغسل لها أطرافها ووجهها‪ ،‬لحق سيمان‬

‫‪36‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫بهم سريعا خشية من أن تخبرها مياسين عن زواجهم التمثيلي ولكنها كانت في‬
‫هما وغمها تحاو ُل إعادة ضبط نفسها التي تبعثرت للحظة‪..‬‬
‫سيمان‪ :‬أمي ‪ ،‬سأتولى أنا أمرها ال تقلقي‪..‬‬
‫ً‬
‫السيدة رتيبة‪ :‬ال يا بني ‪ ،‬دعني معها أنا امرأة و سأفهمها جيدا ‪..‬عد لطاولة‬
‫العشاء‪...‬‬
‫سيمان ‪ :‬ال ‪ ..‬أنا أيضا سأفهمها ‪ ،‬هي زوجتي ال تنس ي ذلك يا أمي ‪.‬‬
‫حاولت السيدة رتيبة أن ال تترك مياسين بمفردها ولكن رفض وتصميم‬
‫سيمان جعلها تعود أدراجها إلى تحت ‪ ..‬أما هو فجلس ينتظرها أمام الباب‬
‫حتى تنتهي من غسل وجهها وأطرافها‪..‬‬
‫ُ‬
‫خمس دقائق لم تصدر فيها صوتا ولم تخرج ‪ ،‬فثار قلقه عليها فما كان‬ ‫مرت‬
‫أمامه سوى أن فتح الباب ً‬
‫هلعا ‪..‬خائفا من أن يكون قد حدث لها ش ٌيء ما ‪..‬‬
‫وجدها جالسة على األرض تبكي وهي متكورة على نفسها ‪ ،‬نزل على ركبتيه‬
‫ووضع يديه على كتفيها وبنبرة حانية قال‪ :‬هيا انهض ي من األرض ‪ ..‬كفا ِك‬
‫بكاءا‪..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كفكف دموعها ثم قالت بنبرة شجنة ‪ :‬أريد‬
‫أبعدت نفسها عنه ومدت يدها ت ِ‬
‫أن أعود إلى البيت ‪..‬‬
‫وجهك ‪ ،‬ستتحسنين‬
‫ِ‬ ‫رد عليها محاوال أن ال يبين غضبه من طلبها هذا‪ :‬اغسلي‬
‫ُ‬
‫الوقت مبكرا على عودتنا ال تتأملي‪.‬‬ ‫بعد ذلك ‪ ،‬الزال‬

‫‪37‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫دفعته بغضب حتى سقط نوعا ما ونهضت تغسل وجهها ثم خرجت وتركته‬
‫ُ‬
‫ينفض مالبسه متقززا ‪ ،‬ساخطا على فعلتها هذه‪..‬‬ ‫خلفها‬
‫ترد على أحد ‪ ،‬رغم أن‬‫طيلة السهرة لم تتحدث بل قررت أن تصمت وال َّ‬
‫بعض املواضيع كانت تمس قلبها أحيانا وكرامتها أحيانا أخرى ‪ ،‬لم تجد سوى‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ضحية لتوترها وقلقها فصا ت ُ‬‫ً‬
‫تغرز أظافرها تارة وتارة تعبث‬ ‫ر‬ ‫يدها ليكون‬
‫بثوبها ‪ ..‬الحظ سيمان ذلك فوضع يده على كفتي يديها وأحكم عليهما حتى‬
‫تتوقف عن تصرفاتها الالإرادية التي بدأت تبدو له غريبة نوعا ما ولكنها‬
‫سحبت يديها وأبعدتهما عنه ‪ ..‬ولكنه سريعا ما أنهى جلستهم هذه وقرر‬
‫املغادرة بعدما بدأت تحرك قدمها من القلق وامللل فعرف أنها باتت ال تطيق‬
‫ً‬
‫البقاء هناك ولو دقيقة أخرى ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫الناس من مشاعر فأنا وأنت وأنتم‬ ‫فصدقا نحن ال نعرف عن ما يخفيه‬
‫ٌ‬
‫تكتب ُوتحكى ‪ ،‬قد َيجرح‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫حكايات ال‬ ‫بداخل كل منا‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫مغلق‬ ‫ق‬ ‫وهم صندو‬
‫جرحون أيضا ألن يملكون من السوء ما‬ ‫الناس بعضهم ألنهم ُجر ُحوا وقد َي َ‬
‫ِ‬
‫يعادل حجم املجرات في الفضاء ‪ .‬انتهت أمسية الشؤم تلك بعدما استهلكوا‬
‫خمس سنوات مضت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مياسين وأخذوا منها ما تبقى من قوة جمعتها على مدار‬
‫لم تتحدث معه طول الطريق رغم محاوالته كذا مرة في خلق األحاديث ولكنها‬
‫ردت عليه بالصمت وفقط ‪ ..‬أما هو فتحكم في غضبه كثيرا حتى ال يزيد من‬
‫ً‬
‫فور‬
‫سرعة السيارة لكي ال يحدث ما حدث معها سابقا‪ ..‬و وصولهما دخلت‬ ‫ِ‬
‫إلى غرفتها مكسورة الجناح أغلقت الباب باملفتاح وانهارت على فراشها كجثة‬

‫‪38‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫هامدة ولكنها تتنفس ‪ ..‬أزعجها طرقه للباب ومحاولة فتحه فصرخت عليه ‪:‬‬
‫اوه ‪ ..‬اتركني وشأني يا أيها األحمق ‪..‬‬
‫أنت وأخوك ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الحمقاء ِ‬ ‫غضب من ردها العدواني فلكم الباب بيده قائال‪:‬‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫جحيمك وحدك يا مغفلة‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ابق ْي في‬
‫تغاضت عن قوله و أمسكت دفترها وكتبت‪:‬‬

‫ُيحكى أنه في ليلة ما أخذوا العصفورة من القفص ووضعوها وسط وحوش‬


‫ً‬
‫جائعة لالستهزاء فأفرغوا ما بجعبتهم من كره وصبوه ِبنزينا على جناحيها‬
‫وألقوا بعود الثقاب وأشعلوا نارا وجعلوا من ضحكاتهم موسيقى لعزائها ‪ ..‬لم‬
‫تروقني عائلته قط ولم يروقني هو أيضا وال أحد يروقني عما قريب سأجن‬
‫حقا ولن يبقى ش يء حتى جسدي هذا سيصبح ملك فتاة مجنونة ذهب‬
‫عقلها‪ُ ،‬‬
‫كنت بخير لوال اآلخرون كنت بخير ولكنهم رموا بي ذات خميس من‬
‫ُ‬
‫فكنت أقع أكثر‬ ‫أعلى الحافة ووقعت في القاع ‪ ،‬حاولت أن أنهض مرة أخرى‬
‫إلى أن استسلمت وجلست أنتظر شفاء ندبات الزمن تلك ولكنها بقيت تنزف ‪،‬‬
‫كل من ضحيت ألجلهم ضحوا بي وتركوني أجلس وسط خيباتي ‪ ..‬ماذا يفعل‬
‫من ال يملك كتفا يسنده؟ ماذا يفعل من تاه وسط األنقاض؟ ماذا يفعل من‬
‫ال يملك أحد ! خلقنا هللا في دنيا مليئة بالناس حتى نجد من يسندنا من يقف‬
‫معنا عندما يجلس اآلخرون‪ ،‬من يمسح على أوجاعنا ‪ ..‬من يشعرنا بأننا حقا‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫لسنا وحدنا ولكنني لم أجد‪ ..‬فقط هللا كان في عوني ولواله ملا كنت أجتاز‬
‫امتحاني هذا بصبر إال أنني دوما أفكر في أولئك الذين يعيشون بعيدا عن هللا‬

‫‪39‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كيف يتنفسون على أرضه وهم ال يطيعونه ؟ ‪ ..‬كيف لهم أن يناموا ولم يذكر‬
‫قلبهم اسم هللا مطلقا؟ أي قلب قاس ملكوه ! ‪..‬‬
‫أطفأت ضوء غرفتها واستلقت ُ‬
‫تنام بعد مجزرة العشاء تلك‬ ‫ْ‬ ‫أغلقت الدفتر و‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫يشعر بالذنب مما فعله لها‬ ‫فيما جلس هو في الغرفة املجاورة ُ‬
‫يفكر فيها بدأ‬
‫وحتى عن ضحكاته قبل أن تصفعه أجوبتها بأن والديها أخدتهما طيارة املوت‬
‫قبل ثالثة سنوات ورق قلبه ملا تذكر جلستها في الحمام بعد انهيارها ‪ ،‬حقا‬
‫لقد بدأ يشعر بالغموض نحوها أكثر‪ ..‬تخفي الكثير والبد له أن يعرف ‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫ز‬
‫سريعا ومضت أربعة أشهر كمض ي الثانية و ادت حدة‬ ‫األيام‬ ‫توالت‬
‫ِ‬
‫األحداث التي نبتت سريعا وامتدت كأوراق نبات اللبالب ‪،‬صارت مياسين تهتم‬
‫بواجباتها املنزلية وأصبح هو يأخذها إلى املدرسة صباحا ويعيدها مساءا ‪،‬‬
‫األشياء التي كانت تخفيها شخصيتها ‪ ،‬عرف أنها تستيقظ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫تعرف على كثير من‬
‫ً‬
‫فجرا لتصلي وتقرأ ما تيسر من القرآن ثم ال تنام بعد ذلك حتى مشرق‬
‫الشمس فتخرج من غرفتها لتحضر فطور الصباح‪ .‬وكان يسمع كل ليلة‬
‫ابتهالها إلى هللا بأن يغفر لوالديها ويهدي أخاها ويلين قلب عمتها ويرزق‬
‫صديقتها ما تتمنى ‪ ،‬اكتشف أنها تعد الطعام بإتقان لدرجة أنه يتشابه‬
‫بدرجة ما مع طعام أمه ‪ ،‬كان كل يوم يستيقظ على رائحة الحلويات التي‬
‫كانت تعدها صباحا وباملقابل تعرفت هي على حنانه الغريب الذي يأتي بعدما‬
‫‪40‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫يلقي رماحا من الكلمات الجارحة ‪ ،‬أو حتى التصرفات الطائشة ‪ .‬فقد كان‬
‫يتركها في البيت ليال وحدها ويخرج هو رفقة أصدقائه ‪ ،‬ذات مرة سمعت‬
‫ً‬
‫أصواتا غريبة تأتي من شرفة غرفتها فتملكها الرعب خشية أن يكون أحد‬
‫املتسكعين الذي رأى زوجها يخرج للسهر رفقة أصدقائه ‪ ،‬اتصلت به كثيرا‬
‫فكان ُ‬
‫يغلق الهاتف في كي مرة تتصل به ‪ ..‬تضاعفت شدة الصوت ‪ ،‬هناك من‬
‫يحاول فتح النافذة أو ربما كسرها ‪ ،‬أرسلت له رسالة تخبره بأن هناك لصا‬
‫يحاول الدخول من شرفة غرفتها وال تدري ما تفعل كانت صدمته كبيرة‬
‫عندما قرأ ما كتبت له ‪ ،‬ترك كل ش يء خلفه وركض للبيت خائفا على‬
‫ً‬
‫الجوهرة التي تركها هناك ‪ ،‬اتصل بها ليطمئن عليها ولكن هاتفها كان مغلقا ‪،‬‬
‫خاف كثيرا من أن يحدث ش يء لها فهو السبب في األخير‪ ،‬وصل إلى البيت‬
‫بعد خرقه للكثير من الحواجز واإلشارات الضوئية فوجد الجيران مجتمعون‬
‫ٌّ‬
‫ثالثيني ذو بنية قوية‬ ‫الباب املكسور وفي قبضة شابين منهم شاب‬ ‫حول‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫مشدود اليدين مطروح األرض ‪،‬‬ ‫يحاول اإلفالت ولكنه لم يستطع ألنه كان‬
‫ٌ‬
‫ملطخ ببقع من الدم‪،‬‬ ‫ورقبته ملتوية بشكل ال يستطيع الحراك وقمصيه‬
‫جال ببصره بين جاراته عله يراها بينهم ولكن خابت آماله ‪..‬‬
‫سيمان ‪:‬أين هي يا خالة فاطمة ؟! ( قالها بهلع والدم هار ٌب من وجهه)‬
‫خالة فاطمة ‪ :‬ال تقلق في الداخل رفقة خالتك مؤنسة‪ ،‬اذهب يا بني هي‬
‫بحاجتك ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫املقبوض عليه ولكمه عدة لكمات وركالت‬


‫ِ‬ ‫كاد يدخل لوال أنه عاد إلى ذلك‬
‫على مستوى البطن جعلته يصرخ أملا من تلك الضربات القاسية ‪ ،‬ثم طلب‬
‫من "أمين وفاتح " بأن ينتظراه هناك وأن ال يتركاه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مكسور على األرض وحتى هاتفها‬ ‫دخل مسرعا إلى غرفتها فوجد كل ش يء‬
‫وبعض من بقع الدم على األرض ‪ ،‬آمله منظر الغرفة ُمتخيال أن هذا الخبيث‬
‫ٌ‬
‫حاول أن يتقرب منها ‪ ،‬صرخ مناديا الخالة مؤنسة فاستجابت له من غرفته ‪،‬‬
‫تضمد ذراع مياسين وهي تبكي في صمت و شعرها‬ ‫ُ‬ ‫أسرع إلى هناك فوجدها‬
‫ٌ‬
‫منسدل عليها وثيابها شبه ممزقة ‪ ،‬حاول أن يقترب منها فدفعته خائفة وكأنها‬
‫الزلت تحت تأثر الصدمة ‪ ،‬مسحت الخالة مؤنسة على شعرها وقالت لها ‪:‬‬
‫ال تخافي يا ابنتي هذا زوجك ‪..‬ال تخافي ‪ ..‬اطمئني ‪ ،‬كل ش يء انتهى ‪.‬‬
‫كان سيمان خائفا جدا على مياسين والندم ُ‬
‫ينهش قلبه ألنه تركها بمفردها‬
‫ليال ‪ ،‬فقط ليرض ي عناده كان يسهر رفقة أصدقائه ألنه كان يعلم أنها‬
‫تخش ى الوحدة كثيرا فقد علقت إحدى املرات على سهره الغير املناسب بتاتا‬
‫شكر الخالة مؤنسة وطلب منها أن تتركه معها ‪،‬تفهمت وخرجت مغلقة الباب‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وراءها ‪ ..‬كانت أول مرة يرى شعرها األسود الطويل لقد ش ِبهت طفلة بريئة‬
‫ً‬
‫مطمئنا إياها ‪ :‬ال‬ ‫سرقوا منها لعبتها ‪ ،‬اقترب قليال منها ‪،‬هامسا بكلمات خفيفة‬
‫تخافي هذا أنا ‪ ،‬سيمان ‪ ،‬ال تخافي ‪ ،‬اقتربي ‪..‬‬
‫ً‬
‫ما كاد يقترب حتى نهضت هاربة منه وهي تبكي ممسكة بقطعة زجاج في يدها‬
‫اآلخر ‪..‬حاول تهدئتها لكن باتت ال تسمع كجدار أصم‪ ،‬فقط تردد ال تقترب‬
‫سأقتلك ‪ ،‬ال تقترب سأقتلك ‪ ،‬حاولت طعنه بالزجاج فور ما اقترب ولكن‬

‫‪42‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫بقوته وفطنته أمسك يدها وبحركة مفاجئة أدارها وأمسك بها جيدا ‪ ،‬زادت‬
‫َ‬
‫في نحيبها ونزع هو قطعة الزجاج من يدها وألقى بها بعيدا ‪ ،‬ثم بدأ يهمس في‬
‫أذنها علها تهدأ ‪ :‬ال تخافي أنا هنا ‪ ،‬سيمان أنا ‪ ،‬هيا مياسين ال تخافي ‪..‬‬
‫بدأت تهدأ وتهدأ إلى أن هدأت من هذيانها ثم استدارت نحوه وضمته بقوة‬
‫وكأنه هو ملجأها الوحيد الذي تختبأ فيه من مر العالم وشد هو عليها بقوة‬
‫حتى كادت تخترق قفصه الصدري‪ .‬انتهى هذا العناق الذي جمعهم به‬
‫الخوف ‪ ،‬أمسك وجهها الصغير بين يديه اللتين بدتا كبيرتين بالنسبة له‬
‫وأخبرها بأن تنتظره هنا سيعود حاال ‪ ،‬ولكنها تشبثت بقميصه خوفا من أن‬
‫يتركها مرة أخرى ويذهب مع رفاقه ‪ ،‬أقنعها أخيرا بأنه لن يخرج مرة أخرى‬
‫فقط أمام الباب ويعود ‪ ..‬ترك الخالتين فاطمة ومؤنسة معها وطلب من‬
‫باقي الجارات أن تذهب كل واحدة إلى بيتها ‪ ،‬أما ذلك املتسلل فقد تم تسلميه‬
‫للشرطة في انتظار تعافي مياسين نفسيا للدالء بشهادتها ‪ .‬باتت ليلتها تهلوس‬
‫بما حدث وبات هو ساهرا طوال الليل على رأسها واأللم يعتصر قلبه كلما‬
‫استيقظت فزعة من الكوابيس التي تالحقها في نومها‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الكثير من املواقف بينهما ‪ ،‬مواقف امتزجت‬ ‫نعم مضت األيام كثيرا ‪،‬وحدثت‬
‫غيبات قلبيهما حتى‬
‫ِ‬ ‫بين الحز ِن والغضب والفرح و "الحب " الذي أخفياه في‬
‫بعض من تصرفاته الحمقاء ‪ ..‬فقد كان سابقا يتجول في‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وتغيرت في سيمان‬
‫كل أنحاء البيت بدون قميصه ولكنه غير من عادته هذه عندما رأى خجلها‬
‫وهروبها املفاجئ كلما رأته هكذا ‪ ،‬وقرر بأن يحترم مبادئها و يجعل هذا املكان‬
‫آمنا لها أيضا ‪ ،‬كما يجد هو راحته‪ ..‬يجب أن تجد هي أيضا راحتها ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫حادثة محاولة االعتداء تلك تقربت أسماء من مياسين و صارت تزورها‬


‫ِ‬ ‫بعد‬
‫بين حين وآخر وفي أحاديثهما حكت لها عن زواجها الذي على وشك االحتراق‬
‫بسبب تأخر إنجابها كما ُ‬
‫يزعم املجتمع و انكشف لها أيضا خالل زياراتهم‬
‫لقصر عائلته كثير من األسرار التي يحيكها كل منهم خلف ظهر اآلخر ‪ ،‬وألنها‬
‫ال تحب أن تتكلم كثيرا لم تفضح أحدا ولم تشأ أن تتدخل في عائلته كانت‬
‫تثق دوما أن ما تفعله سيعود إليك يوما ما فسترت ما سترت وحاولت ستر ما‬
‫ُ‬
‫سيكشف على طاولة عائلة صبراوي و يهدمها وأدركت أخيرا أن العائلة‬
‫وبكبرها وعظم دفئها قد يوقدها حطب الخيانة والكذب أكثر من حطب‬
‫الصدق والحب ‪ ..‬سمعت كذا مرات نرجس تواعد شابا وتغازله على الهاتف‬
‫و ضربت معه مواعيد كثيرة للمالقاة والخروج معا ليتفسحا بكل خبث ‪..‬اه‬
‫أعتذر بكل حب مثل ما كانت تعتقد ‪ ،‬كانت مياسين ُ‬
‫تعلم في قرارة نفسها بأن‬
‫ُ‬ ‫ما تفعله ُ‬
‫أخت زوجها خطأ وأن من اختار الطريق الحرام سيحترق فيها قبل‬
‫أن يصل إلى ما يريد ولكنها لم تتجرأ أن تتحدث معها بعدما حذرها سيمان‬
‫يوم دافعت على الخادمة أمام فدوى وكيف كان رده قاسيا عليها وبأن عائلته‬
‫ال تعنيها ولم َت ُ‬
‫جرأ أيضا على اخباره ألنها ال تثق في تصرفاته بتاتا فهو من تلك‬
‫الشخصيات التي ال يمكنك معرفة ردة فعله ‪ ..‬و قد عرفت أيضا‬
‫مدى طمع فدوى ورغبتها في االستالء على أغلب ممتلكات والد زوجها‬
‫وتخطيطاتها وأمها وحتى افتراءاتها الكاذبة بشأن حماتها ‪..‬‬
‫فذات مرة أخبرت زوجها أن السيدة رتيبة أي حماتها أهانتها أمام العمال‬
‫سمع زوجته تحادث‬ ‫ُ‬
‫واحتقرتها لسبب تافه ‪ ،‬كاد بهاء يشاجر والدته لوال أنه ِ‬
‫والدتها وتخبرها أنها نجحت في تخريب عالقته بأمه الشمطاء‪ ..‬وستبدأ في حثه‬
‫‪44‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أكثر على أن يشاجرها كل ما سنحت الفرصة ‪..‬ولكن السحر انقلب على‬


‫ً‬
‫الساحر فغضب عليها زوجها ولم يعد يصدق وال حرفا تنطق به من فاهها‪.‬‬
‫ُ‬
‫فزالت‬ ‫كل هذه األشياء التي عرفتها مياسين كان صدفة دون رغبة منها ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫اللسان أحيانا هوة ما بين عاملين تبصق حروفها سهوا في لحظة ثقة عمياء ‪.‬‬
‫كل هذا ولم تفصح عن ماضيها ألحد ولم تكشف عن نفسها وال تريد أن‬
‫تكشف ‪ ،‬اعتبرتها من خصوصياتها أي ال يجب على أحد أن يتخطى خطوطها‬
‫الحمراء التي رسمتها بريشة مبادئ لم ُي َعلمها ٌ‬
‫أحد إياها سواها ‪.‬‬
‫تظن أنها أذكى من أن تبوح بأسرارها ألحد ما وكان هو أذكى منها فبدأ‬ ‫كانت ُ‬
‫خيبات ما عاشت ‪ .‬تطفل‬‫ُ‬ ‫بفأس شك على أرض مألتها‬ ‫ينبش في شخصيتها‬
‫ِ‬
‫على دفترها وكان يقرأ ما تكتب سرا ‪ ،‬وكلما قرأ شيئا زادة الفضول فضوال‬
‫وباتت معرفة ما حدث قبل أن تعرفه هو أقص ى همومه ‪ ،‬كتبت عنه أيضا‬
‫وصفته بأنه أحمق ال غير ‪ ،‬تحدثت عن كل مواقفها معه ‪ ،‬عن يومياتها في‬
‫املدرسة مع تالميذها وعن اشتياقها للماض ي ‪ ،‬وتحدثت أيضا عن الحادث‬
‫الذي فقدت نفسها فيه ولكنه لم يكمل قراءة بقية التفاصيل بعدما‬
‫ً‬
‫أمسكت به متلبسا في إحدى املرات وأقامت حربا عليه جعلته يلعن تطفله‬
‫ألفا ‪..‬أما سامي فالتقه إحدى املرات أمام املدرسة بعينين تستغيثان نورا منها‬
‫ً‬
‫بعدما وطأت قدماه عاملا مظلما تورط فيه بحفر أنفاق من الكذب والخداع؛‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يتمسك بجدع شجرة في نهر يجرف تياره كل ش يء‬ ‫وهناك عانقها بقوة كمن‬
‫وقع داخل مائه ‪ ..‬لم تدري أن ذلك لقائها األخير به تعلقت عيناها على وجهه‬
‫ً‬
‫الذي ارتدى حلة صفراء ممزوجة بسواد قاتم يشبه وجوه األموات بعد‬

‫‪45‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫احتضارهم ‪ ،‬استغربت منه تكراره لطلب عفوها عن ما فعل بها ومد‬


‫لها بظرف مألته نقود ورقية كثيرة ‪ :‬مياسين هذا لك ‪ ،‬قليل ولكن سيكفر‬
‫عن ذنبي و سأكون بذلك قد سددت الجزء األكبر من ديني لزوجك ومع‬
‫دفعاتك السابقة سيصبح كل ش يء مدفوع فكما تعلمين لقد اقتصصنا املهر‬
‫منه وتبقى ما تبقى ‪ ..‬ولكن ليس بعد اليوم‪.‬‬
‫لم تشأ يداها أن تمسك الظرف ولكنها استفسرت وهي تدعو داخلها أن ال‬
‫يكون الجواب هو ما شعرت به داخلها ‪ :‬من أين أتيت بهذا املال يا سامي ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫أموال أبي باتت ترابا؟!‬ ‫عاطل عن العمل وكل‬ ‫أعلم أنك‬
‫تناثرت نظراته املرتبكة هنا وهناك بعيدا عن عينيها محاوال التهرب من اإلجابة‬
‫ولكنها أمسكت به من ساعده تحثه على االعتراف فصعقتها إجابته التي طأطأ‬
‫رأسه لها وغاص في تفاصيل األرض وهو يقول ‪ :‬أعتذر كثيرا كثيرا ولكنني بعت‬
‫ُ‬
‫وقعت في ديون كثيرة وال خالص منها الى‬ ‫منزلنا واألرض املقابلة له ‪ ،‬لقد ‪ ..‬لقد‬
‫ُ‬
‫فكرت بها حتى ال يقال أخوها ليس برجل ‪.‬‬ ‫وكنت أن ِت أول من‬
‫بهذا الحل ِ‬
‫ً‬
‫قالت غاضبة من أخيها ‪ :‬ولكنك لست برجل ؟ هل بعد كل ما فعلت جئت‬
‫عت كل ذكرياتي التي كانت جميلة؟؟‬ ‫تخبرني بأنك ب َ‬
‫ِ‬
‫رد مدافعا بعد أن مست كرامته ‪:‬أي ذكريات تلك ‪ ..‬أتقصدين جنونك ؟! أم‬
‫َ‬
‫تحطمين فيها كل ش يء ‪ ..‬أم صراخك املزعج‬ ‫كنت‬
‫تقصدين أيامك تلك التي ِ‬
‫أحيانا ‪..‬؟‬
‫ُ‬
‫وصل سيمان بسيارته فرآها ُتحدث شابا في سنه ‪ ،‬ممسكا بظرف في يده وهو‬
‫س عينيه في األرض وكانت هي تمسكه من ذراعه واصفرار وجهها بار ٌز من‬ ‫غار ٌ‬

‫‪46‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫بعيد ‪ ،‬لم يعرف مع من كانت تتكلم فلقد كان ً‬


‫موليا ظهره باتجاه الطريق ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫يشاهد من بعيد وفي قلبه غصة تخبره بأنها بدأ‬ ‫ركن السيارة جانبا وظل‬
‫يحبها‪ ،‬وعلى صفعتها لذلك الشاب نزل مهروال نحوها ظانا أنه حبيبها السابق‬
‫ولكنه تفاجأ عندما وجده سامي أخوها ‪ ..‬تركتهما واتجهت نحو السيارة‬
‫ورجالها ال تكادان تحمالنها ‪ ،‬كيف تجرأ وباع منزل عائلتها؟ ‪ ،‬كيف له أن‬
‫يبيع ذكرياتها؟ ‪ ،‬كيف له أن يقول لها كالما ساما ال ُيبلع كذاك‪..‬‬

‫خذلني الجميع واليوم خذلتني َ‬


‫أنت ً‬
‫أيضا ‪..‬‬

‫ُ‬
‫عبرات‬ ‫كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي استطاعت أن تكتبها قبل أن تنهمر‬
‫عينيها ‪ .‬وضعت رأسها في حضن دفترها الجالس على طاولة غرفتها وتركت‬
‫ُ‬
‫تنزف ً‬
‫حزنا على قدر لم يكتب قلمه موعد فرحها بعد ‪ ،‬سمعت طرقات‬ ‫نفسها‬
‫خفيفة على الباب فلم تكترث به ولم تتكلم‪ ..‬فقط كانت قد ذهب عقلها إلى‬
‫ذكرياتها التي اغتالها أخوها اليوم ‪ ..‬فتح الباب وأطل برأسه؛ كان سعيدا‬
‫تبرق ضحكا منذ أن التقى بسامي وتصرفاته‬ ‫اليوم على غير العادة ‪ ،‬عيناه ِ‬
‫تبدو غريبة ‪ ،‬غيره هذا اللقاء نوعا ما ولكن شكلها املنكسر ذاك أخذ من‬

‫‪47‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫قلبه النصف وألقى به في إحدى الشوارع املهجورة والنصف اآلخر هوى به‬
‫إليها ‪.‬‬
‫ُ‬
‫لم تهتم لدخوله فقط قالت بنبرة عصفتها دوامة الحزن جيدا ‪:‬رجاءا أخرج‬
‫عني ‪ ،‬أريد البقاء وحدي!‬
‫سيمان بعناد مقلدا لهجتها ‪:‬لن أخرج سأبقى هنا ‪ ،‬بإمكانك أن تخبريني عن ما‬
‫جعلك تذرفين الحزن دمعا وتنزفين االنكسار انكسارا ‪.‬‬
‫مياسين‪ :‬ما شأنك ‪ ،‬أخرج ! استغرقت ثواني حتى أكملت ردها هذا ‪.‬‬
‫سيمان‪ :‬يا بنت ال تتآمري علي س‪..‬‬
‫قبل أن يواصل كلماته خرجت هي وركضت إلى إحدى الغرف وأغلقت عليها‬
‫وجلست أرضا تروح وتجيء بجسدها الذي كورته ثم تقضم أضافرها تارة‬
‫نوبة بكاء تارة ‪ ،‬أمسك الدفتر الذي بللته بعينيها وقرأ عبارتها‬
‫وتدخل في ِ‬
‫األخيرة فأدرك أنها حزنت على ما فعل سامي وتذكر اتفاقه معه اليوم عندما‬
‫ذهبت هي للسيارة ‪.‬‬
‫سامي ‪ :‬سيمان هذا الظرف لك ‪ ،‬ديني املتبقي ‪.‬‬
‫سيمان ‪ :‬من أين لك بهذا يا هذا وأنت الذي َ‬
‫كنت البارحة ال تملك ثمن‬
‫سيجارة !‬
‫سامي باستهزاء وفي لة لسان ‪ُ :‬‬
‫بعت منزلنا ‪ ،‬ثم أدرك ما قال فأضاف سريعا‬ ‫ز‬
‫يمحو ما قال ‪ :‬ما شأنك عادت لك نقودك وانتهى ولكن لي طلب فربما ال‬
‫خاطر األيام التي كانت بيننا ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫نلتقي بعد يومنا هذا ‪ ..‬أختي أمانة عندك ‪ ،‬في‬

‫‪48‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬ ‫سيمان ‪ :‬لم تكن بيننا ٌ‬


‫أيام أصال ال سبب يبقيني وإياها تحت سقف واحد‬
‫بعد اآلن ‪ ،‬اليوم عيدي قالها وهو ينظر باتجاه السيارة حيث هي ‪.‬‬
‫سامي ‪ :‬ال تتركها على األقل اآلن ‪ ..‬ال يوجد مكان تذهب إليه لقد بعت كل‬
‫ش يء‪.‬‬
‫دقات خفيفة على باب الغرفة التي هربت إليه ‪..‬‬
‫‪-‬يا بنت الناس افتحي الباب وإال كسرته (قالها بقلق)‬
‫لم يأته صوتها ولم ترد عليه مما زاد في حدة الطرق وبلهجة تشبه الصراخ ‪:‬‬
‫افتحي !!‬
‫فتحت الباب لتنهي مهزلته هذه ‪ ،‬كادت تتجاوزه لوال أنه أمسك بيدها وصبره‬
‫بدأ ينفذ ‪:‬‬
‫‪ -‬دموعك هذه امسحيها ال أريد أن أراها وبنظرة ثاقبة اخترقت عينيها أضاف‪:‬‬
‫وإياك أن تكرري حركاتك املستفزة تلك ‪.‬‬‫ومرة أخرى إياك ِ‬
‫حاولت التخلص من قبضة يده التي أحكمت على يدها وبنظرات منكسرة‬
‫حاولت الهروب بعيدا عن عينيه ‪ ،‬كانت كل ما تقابلت عيناه بعينيه شعرت‬
‫بكهرباء تصعق جسمها وبشعور لم تستطع أن تسمه بعد وأخيرا قالت ‪:‬‬
‫اليوم انتهى اتفاقنا لألبد ‪ ،‬غدا ستفترق خطانا التي لم تكن يوما معا ‪،‬‬
‫سنلتقي في املحكمة وأفلتت يدها منه ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫شك للحظة أنها علمت باتفاقه مع أخيها وأنه قبل تسديد الدين وأنه لم يعد‬
‫هناك أي دين و ألول مرة خاف حقا أن أحدهم سيتركه وليقطع الشك‬
‫باليقين قال ‪ :‬ودينك ذاك من سيسدده !‬
‫قالت ‪ :‬الدين ليس ديني بعد اآلن ‪.‬‬
‫قة شيك تحمل اسم "مياسين‬ ‫سيمان ‪ :‬ليس دينك ولكن املبلغ كتب في ور ِ‬
‫وقعت على ورقة تفيد بأن‬
‫ِ‬ ‫الهاشم " وتحته التوقيع ‪ ،‬وليس هذا و فقط بل‬
‫هذه األموال ستعاد ل " سيمان صبراوي" في ظرف شهرين ‪ ،‬مض ى الكثير ولم‬
‫يكتمل املبلغ بعد وبلمعة خبث واصل كالمه بعدما رآها جامدة تنصت دون‬
‫قمت بالنصب واالحتيال علي‬
‫بأنك ِ‬‫ردة فعل ‪ :‬إذا سأقدم بالغا عنك ِ‬
‫وستدخلين السجن ‪ ،‬لم يكن يقصد حقا ما يقول فهو يخاف من أن تسمع‬
‫عائلته بقصة النصب هذه وتحدث مشكلة بسبب طيشه وقلة مسؤوليته‬
‫ولكن أرادها أن تعدل عن فكرة الطالق ‪ ،‬أراد أن يتمسك بها بطريقة أخرى‬
‫لم تعلم عنها هي بأنها نفسها " أحبك " ولم يعلم هو عنها أيضا بأنها تعني "‬
‫ُ‬
‫وقعت في حبك "‬
‫ُ‬
‫سأدخل السجن لم يبقى ش يء لي ألخسره وال تقصر فيما ستفعله‬ ‫مياسين ‪:‬‬
‫ُ‬
‫وال داعي أن تحاول إثبات التهمة ‪ ،‬سأعترف أنا ‪..‬‬
‫تفاجأ من ردها وأجابها في سره ‪ :‬بقيت أنا وستبقين أنت أيضا و لن يتطلق‬
‫لست أنت من تتحدثين وجعك اآلخر هو من يتحدث صباحا ستعدلين‬
‫أحد ‪ِ ،‬‬
‫عن ما قلته اآلن ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ألول مرة منذ أربعة أشهر استيقظ هو قبلها على صوت النافذة التي صفقها‬
‫الهواء بقوة ‪.‬لم تخترق أنفه اليوم رائحة حلوياتها ‪ ،‬نظر إلى ساعة هاتفه كانت‬
‫تقفز سريعا بعقارب الساعة تذكر أنها في كل وقت‬ ‫َ‬
‫دقائق ُ‬ ‫قد تجاوزت الثامنة‬
‫من هذا تكون في املدرسة ‪ ..‬خرج سريعا من غرفته ليتفقد إن ذهبت‬
‫ُ‬
‫للمدرسة أم أنه أخرها أيضا ‪ ،‬وجد غرفتها موصدة فتحها سريعا فرآها تغط‬
‫في نوم عميق ناداها بقوة لكي تنهض لكنها لم تنهض ولم تصدر وال ردة فعل‬
‫تبين أنها تمثل النوم‪ ،‬الحت عينيه إلى علبة الدواء املوضوعة على دفترها‬
‫األسود ‪ ،‬اقترب منها وقرأ اسم الدواء" نيترازيبام‪ " Netrazépam /‬فتح‬
‫محرك البحث سريعا ”‪“Google‬وكتب اسمه منتظرا اإلجابة بفارغ الصبر‬
‫و عيناه تسرقان نظرة منها ونظرة إلى الهاتف ‪..‬أشارت نتائج البحث إلى أنه‬
‫دواء لعالج حاالت األرق والقلق الحاد وال يوصف إال بوصفة طبية فقط ‪،‬‬
‫استنتج أن قلقها الليلة املاضية كان كثيرا عليها وكان هو أحد األسباب في ذلك‬
‫فتش في األدراج فوجد دواءا آخر ‪ ،‬أثارت هذه األدوية استفهامات في رأسه‬
‫من أين أتت ؟ وهل هي مدمنة أدوية أم ماذا ! ولكنها توصف فقط بوصفة‬
‫طبية مصادق عليها من طرف الطبيب! لم تطل فترة استفساراته فقد عثر‬
‫على وصفة طبية لها ‪ ،‬جحضت عيناه عندما رأى طابع األمراض العقلية‬
‫والنفسية لم يكن يعلم أنها تأخذ عالجات ما ‪ ،‬رغم رؤيته لها كذا مرات‬
‫تشرب دواءا ما ولكنه لم يستفسر كان يعتقد أنه دواء خاص بالنساء من‬
‫املخجل لو يسأل عنه ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أغلق باب غرفتها بعدما أخد املفتاح االحتياطي للبيت وجرد كل الغرف من‬
‫املفاتيح وأخفاها في مكان ما في غرفته واتجه إلى عيادة الدكتورة التي كتبت‬
‫الوصفة ليستفسر عن أسئلته التي صارت مزعجة حقا‪...‬‬
‫بين الحين واآلخر يجب أن يدرك الناس أن وراء كل انسان حكاية من قسوتها‬
‫ال تحكى ‪ ..‬وراء كل شخص جر ٌ‬
‫اح عميقة استغرق في شفائها و أن من ينجح في‬
‫ُ‬
‫سيصبح كائنا غريبا بعض‬ ‫ترميم نفسه ولو قليال ال يعود كسابق عهده ‪،‬‬
‫الش يء و كثيرا ‪.‬‬
‫ً‬
‫هناك ضريبة لكل ش يء ‪ ،‬وضريبة العودة إلى الحياة أحيانا أن تصبح أحدا‬
‫آخر ‪ ..‬شخصا ال يكترث ‪..‬ال يهتم وال يبالي ‪..‬ال يشعر ال يقترب من أحد ‪ ..‬هذا‬
‫ما كان عليه معرفته عندما التقى بها ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪53‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إلفصل إلثاين‪:‬‬

‫ترك ُت أأخيت ‪. . .‬‬

‫‪54‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫قطار املوت ‪ ،‬سأحكي لكم يا‬ ‫سأحكي لكم عن شاب متهور قبل أن يأخذني ُ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫أصدقاء السوء الذين عاش َرْت ُهم روحي قبل أن‬ ‫ُ‬ ‫من تقرؤون حكاية رسمها‬
‫الشعبية‬ ‫األحياء‬ ‫وقعت اآلن ‪ ،‬أحكي لكم اآلن وأنا ُملقى في أحد‬ ‫ُ‬ ‫تقعوا في ما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسرعة تدفقها ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ثانيا ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أوال‬ ‫شعرت بدفئها‬ ‫املهجورة ‪ ،‬وأنا غارق في دمائي التي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولكن َ‬‫كبش األضحية َّ‬ ‫يشعر ُ‬‫ُ‬ ‫ً‬
‫اليوم‬ ‫الذبح مختلف ‪ ،‬ما ذ ِبح‬‫ِ‬ ‫مكان‬ ‫ِ‬ ‫بما‬ ‫ا‬ ‫وثالث‬
‫واختلطت أنا في دمائي ال أقدر على الحراك وال‬ ‫ُ‬ ‫قلبي ‪..‬اختلط التر ُ‬
‫اب بلعابي‬
‫كغدر‬
‫ِ‬ ‫حتى على إخر ِاج صوتي من حنجرتي خانني كل ش يء في لحظة ‪،‬‬
‫ُ‬
‫أشعر بآالم ُت َق ِطع مختلف أنحاء جسمي مازالت‬ ‫ُ‬ ‫أصدقائي لي منذ لحظات ‪،‬‬
‫أملك من جسد‬ ‫ضربا بركالت ولكمات على كامل ُق ْطر ما ُ‬ ‫إلى اآلن أتلقى ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫أغ ِمض عيني لوهلة ‪ ،‬أفتحهما أرى أصدقائي من بعيد مشكلين حلقة حولي ‪،‬‬
‫معا وتقاطعت طرقنا في املد سة ‪ ،‬هه وهذا أحمد الذي ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كنت‬ ‫ر‬ ‫رنا‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫هذا فؤاد‬
‫أدعوه أخي ‪ ،‬وهذا صديقي أيوب لطاملا تقاسمنا الطعام معا ‪ ..‬هؤالء من‬
‫ً‬
‫خيانة ال ُ‬ ‫ً‬
‫القبر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫غيبات‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫حتى‬ ‫ى‬ ‫نس‬ ‫ت‬ ‫ومنحوني‬ ‫ثقة‬ ‫منحتهم‬
‫عمرا ولم أفعل شيئا فيه‪ .‬اليوم أنا أعتذر لك قبل أن‬ ‫العمر ً‬‫بلغت من ُ‬ ‫أبي ‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫فعلت كل ما أمرتني ْأن ال أفعله ون ِد ْم ُت كثيرا‬ ‫ُ‬ ‫ألتقي بك ‪ ،‬أعتذر منك ألني‬
‫العودة إلى‬ ‫تنفع وال تمكنني من‬ ‫على ذلك ولكن في لحظاتي األخيرة التي ال ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫وأنزف ً‬ ‫الوراء ولو بثانية ‪ ،‬أبكي اآلن ً‬
‫دمعا ‪ ،‬أبي أنا لم أعتني بأختي أبدا‬ ‫دما‬ ‫ِ‬

‫‪55‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫تخليت عنها كما تخليتم‬‫ُ‬ ‫ُ‬


‫ظننت أنني إذا ما‬ ‫لقد تركتها كما تركتنا أنت وأمي ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫هذه بأنني‬
‫أنتم ‪ ،‬سأسعد ولن أحمل هما على هم ‪ ،‬أعترف في لحظاتي األخيرة ِ‬
‫ُ‬
‫وصلت‬ ‫غبي ولم أكن رجال كما كنت دائما توصيني ‪ .‬أعلم جيدا لو أنك حي ملا‬
‫شعرت أنت أيضا قبل أن تتركنا وأختي بما‬ ‫َ‬ ‫إلى ما وصلت إليه اآلن ‪ ،‬أبي هل‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫أشعر اآلن! ‪ ..‬مؤملة جدا لحظات االحتضار هذه ال أريد أن أموت اآلن ‪ ،‬أريد‬
‫ُْ‬
‫أن أصحح كل أخطائي التي ال تغتفر ‪ ،‬أريد أن ال أفلت يد أختي أريد كل ش يء‬
‫وتغاضيت عن بعضها ‪ ،‬أريد أن‬‫ُ‬ ‫كأن أصلي كل صالتي التي صليت بعضها‬
‫أكون صالحا كما أردتني ‪ ..‬أريدك يا أبي اآلن ‪ ،‬لو أنك موجود لوضعت يدك‬
‫َ‬
‫لغضبت أكثر ‪.‬‬ ‫َ‬
‫لصرخت علي كثيرا و‬ ‫على جراحي و أنقذتني قبل أن أغرق ‪،‬‬
‫اشتقت إلى صراخك أتدري! و كنت غبيا عندما كنت أكره صوتك الذي كان‬
‫منتصف الشارع ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يصل إلى‬
‫ً‬ ‫يوم ُ‬
‫أتذكر َ‬
‫كنت صغيرا جدا ‪ ،‬و خرجنا أنا وأنت أبا وابنه ورأت عيني على‬
‫واجهة إحدى املحالت دراجة جميلة وعلقت كثيرا بأنني أريدها ولكن لم يكن‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫بكيت كثيرا ليلتها والحظت بعدها أنك تخرج ليال وتعود‬ ‫بحوزتك نقودا‬
‫صباحا ثم تعود لتخرج أيضا ‪ ،‬لم أكن أعلم أنك تشتغل من أجل ثمنها ‪..‬‬
‫ُ‬
‫فرحت كثيرا بها وفرحت أكثر عندما علمتني ركوبها ‪ ،‬اليوم فقط عرفت أنني‬
‫سأبقى مدينا لك لألبد ولن أقدر على أن أوافيك حقها أبدا ‪ ،‬علمت هذا من‬
‫أمي عندما كانت تضع لك مرهما على ظهرك في إحدى األمسيات ‪ ،‬عندما‬
‫ُ‬
‫أيت أن يديك تحولتا لصبار مألته الجلود املتقشرة واملتقرحة ‪ ..‬أعتذر يا أبي‬
‫ر‬
‫أدفع اآلن ثمن سوء اختياري ‪ ،‬ال‪ ..‬سأعترف ثمن‬ ‫لم أدفع ثمن الدراجة ولكني ُ‬

‫‪56‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫عنادي ألنك أخبرتني بأن رفقتهم ال تجلب الخير لي ‪ ،‬يتحدث إليك اآلن الطفل‬
‫سامي الذي يستغر ُق ُ‬
‫عمر الضربات التي يتلقاها قرنا من األلم و األلم املؤلم‪.‬‬
‫وألننا كنا فقراء ال نملك سوى رحمة هللا لم يكن لي ش يء ألفتخر به أمام‬
‫أصدقائي وزمالئي في املدرسة سوى إسمي ‪ ،‬كنت أخبرهم أنه مزيج من اسمك‬
‫لت سامي وكل‬‫كنت سامي البريء الذي ال يعص ي لوالده أمرا وال ُ‬
‫واسم أمي ‪ُ ،‬‬
‫ز‬
‫ما لم يتغير وبقي كما هو‪ ..‬اسمي "سامي" وكنت أنت ياسين الرجل العطوف ‪،‬‬
‫الطيب الذي ملك سعادة كبيرة بولدين جاءا جنة عليه وكانت أمي ‪ :‬ميساء‬
‫املرأة التي تحبها ‪ ،‬املرأة التي شاركتك فقرا رغم أنها ملكت من الخيارات ما لم‬
‫تملك أنثى ولكنها تغيرت أيضا عندما ماتت توأم مياسين ‪ ،‬أصبحت أمي أكثر‬
‫عدائية ربما كان الفقد مؤملا لدرجة أن تدفع مياسين ثمنه وحدها رغم‬
‫براءتها‪.‬‬
‫ليتنا بقينا فقراء ‪ ،‬نأكل خبزا وماءا وننام سكينة وهدوءا ‪ ،‬أنت أيضا تغيرت يا‬
‫أبي عندما آتاك إرث من عمتك الوحيدة ‪ ،‬لم تعد ترانا أنا وأمي وأختي أعماك‬
‫الطمع كما أعماني بعدما تركتنا ‪ ،‬حتى أختي ونسيت أنها أختي وغدرتها ‪ ،‬ربما‬
‫لهذا يغدرون بي اليوم ‪.‬‬
‫اآلن فقط أنا أشعر بندم ثقيل يسد حنجرتي ‪ ،‬يمنع الهواء عنها ‪ ،‬أنا أختنق‬
‫شعرت هكذا يا أمي أنت وأبي ؟!‬
‫ِ‬ ‫وال أحد يدري ُأتراك‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫أنت ‪ ،‬تعبر دموعي اآلن‬
‫دت ِ‬ ‫لك أحفاد بعد ألنني لم أتزوج كما أر ِ‬‫أمي ‪ ...‬ليس ِ‬
‫أهلكت عمري في عالم مظلم زينته شهوات الدنيا لم أكن‬‫ُ‬ ‫عن مدى ندمي ألني‬
‫صالحا ً‬
‫أبدا ولن أكون ‪ ،‬اآلن ال أريد أن أالقي ربي بما أحمله من جبال أشجارها‬

‫‪57‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫مت قبل هذا ‪ ،‬قبل أن أغرق في سواد سيئاتي ظلمت كثيرا ‪،‬‬ ‫ذنوبي ‪ ،‬يا ليتني ُ‬
‫ً‬
‫خنت ‪ ،‬سرقت ‪ ،‬نهبت ‪ ،‬وفعلت من الحر ِام قائمة طويلة ال تنتهي بعدي لها ‪،‬‬
‫ً‬
‫فقط أتمنى اآلن في وسط أوجاعي أن يمنحني هللا فرصة أخرى و أعد بأن‬
‫ُ‬
‫تبقى كل ذنوبي على األرض ‪.‬‬
‫لت أطرح أسئلة عن سبب ذلك الحادث الذي سرقكما مني ‪ ،‬سألت أختي‬ ‫ال ُ‬
‫ز‬
‫التي لم تستجمع نفسها أبدا بعد ذلك اليوم ولكنها لم تجبني لآلن ‪ ،‬كل ما‬
‫لسان شرطي املرور حينما قال أن السيارة كانت تمش ي‬ ‫ِ‬ ‫عرفته كان على‬
‫بسرعة فائقة قبل أن تقع الكارثة ‪ ،‬لم أرى الحادث بعيني ولكن بعد يوم‬
‫فقط انتشرت الصور على الجرائد كخبر رسمي وغزت مواقع التواصل‬
‫االجتماعي ‪ ،‬كانت تلك الصور مؤملة لدرجة أنني كدت أقع أرضا عندما رأيتها‬
‫وكما لم أبكي ً‬
‫أبدا بكيت يومها عندما تلقيت نبأ الوفاة ‪ ،‬كيف للمرء أن يفقد‬
‫أهله بين عشية وضحاها ‪ .‬أبي عندما رأيت وجهك الذي غرزه الزجاج وأصبح‬
‫املمزوج‬
‫ِ‬ ‫أكثر ضخامة عن ذي قبل وبشرتك التي تحولت إلى البنفسجي‬
‫بالدماء املقتحنة لم أعرفك للحظة ورفضت أنك أبي صرخت على كل من‬
‫وأنت يا أمي لم أرد‬ ‫ُ‬
‫كان هناك وانهرت كطفل صغير فقد األمان والحنان معا ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تضررت‬
‫ِ‬ ‫قد‬ ‫أنت‬
‫ِ‬ ‫تكوني‬ ‫أن‬ ‫فخفت‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫كثي‬ ‫والدي‬ ‫شكل‬ ‫‪..‬حطمني‬ ‫أبدا‬ ‫اك‬
‫أن أر ِ‬
‫أكثر منه ‪ ،‬لم أجد يدا تطبطب على كتفي حتى أختي كان الحادث ثقيال‬
‫عليها‪ ،‬دخلت في غيبوبة طويلة ملدة شهرين ‪ ،‬كانت نظرتي لها من الزجاج أكثر‬
‫أملا ‪ ،‬كانت الكدمات والكسور التي تعرضت لها هي ما ُ‬
‫تلبس جسدها الصغير ‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫شعرت ألول مرة أنني‬ ‫حافة القبر وعندما ألقيت آخر ذرة من ترابيكما‬ ‫على‬
‫ِ‬
‫بقيت وحدي في عالم غريب تسكنه الوحوش ‪ ،‬مض ى الكثير على ذلك ولكنني‬
‫ُ‬
‫وأصبحت‬ ‫ُ‬
‫الشيطان قلبه في قلبي‬ ‫أبكي على بشاعة ذلك اليوم إلى اآلن ‪ ..‬غرز‬
‫ُ‬
‫صبرت واحتسبت ‪ ،‬لكن ال‬ ‫أنا وهو واحد ‪ ،‬لو أنني لجأت لربي وصليت لو أنني‬
‫وساوس الشيطان جسدي ربما ألنني كنت في أشد‬ ‫ُ‬ ‫أدري كيف حتى اخترقت‬
‫ُ‬
‫عالجت نفس ي كما كنت أعتقد بسهرات الليل و األدوية التي‬ ‫لحظات ضعفي ‪،‬‬
‫ُ‬
‫كنت أتعاطاها كنت أشعر بالسعادة ليال ‪ ،‬ونهارا أمض ي كل ساعته نائما ‪ ،‬ال‬
‫ُ‬
‫تكفلت‬ ‫أدري عن مياسين شيئا سوى أنها في املستشفى لآلن ‪ ،‬فقط‬
‫أسكت ضميري الذي كان يصحو كلما تذكرت صورتها وهي‬ ‫َ‬ ‫بمصاريفها كي‬
‫مستلقية في تلك الغرفة البيضاء واألجهزة تحيط بها من كل جهة ‪.‬‬
‫مضت شهرين على الحادثة زرت فيها املستشفى مرة واحدة ‪ ،‬فقد كانت‬
‫ُ‬
‫أوصيت إحدى املمرضات عليها وأعطيتها‬ ‫تخنقني رائحته جدا بعد وفاتكما ‪..‬‬
‫رقمي لتخبرني عن حالها إن تطورت ‪ ،‬في شهرين فقط تغيرت تفاصيل‬
‫جسدي‪ ،‬انغرس السواد تحت عيني‪ ،‬وحل الظالم في بؤبيهما وصرت مظلما ‪،‬‬
‫أشفق على أحد وحتى نفس ي ‪ ،‬مات قلبي للحد الذي ابتعدت فيه‬‫ُ‬ ‫قاسيا ال‬
‫ُ‬
‫اقتربت أكثر ممن قلت لي إياك وإياك أن تصاحبهم ‪ . .‬وصاحبتهم ‪،‬‬ ‫عن هللا ‪،‬‬
‫تركت لنا من املال ما يكفي ألشتري حبوب السعادة االفتراضية ‪.‬‬
‫أخبرتني املمرضة أن مياسين استفاقت من غيبوبتها والحظ الطبيب أنها‬
‫فقدت جزءا من ذاكرتها أطلق عليه ربما اسم "فقدان الذاكرة الرجعي "‪،‬‬
‫يصبح الشخص غير قادر على تذكر األحداث التي وقعت قبل‬ ‫ُ‬ ‫بحيث‬

‫‪59‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫الصدمة لكن يمكنه تذكر ما حدث بعدها وهي فقدت فقط األشهر األخيرة‬
‫من الحادث ‪ ،‬كانت تعتقد أنها الزلت طالبة جامعية وأنها تحض ُر لتخرجها‬
‫عما قريب ‪ ،‬زرتها وألنني لم أكن في وعيي كاألحمق ُ‬
‫حت أخبرتها بما أخبرني‬‫ِ ر‬
‫الطبيب أن ال أفعله و أنه يجب إجراء بعض التحاليل قبل اإلقدام على أي‬
‫خطوة ما ويجب اختيار الوقت املناسب ألخبارها بما حدث ألن التعرض‬
‫ُ‬
‫يئست من حالها قلت كل‬ ‫لصدمة جديدة قد تكون خطرا ُ‬
‫يهدد ذاكرتها‪ ،‬وألنني‬
‫ش يء دفعة واحدة ‪ ،‬لم أشعر بخطئي إال عندما رأيتها تصرخ وتمسك برأسها‬
‫ً‬
‫رافضة أن تسمعني ‪ ،‬أرعبتني حالتها تلك وطردني الطبيب املسؤول عن حالتها‬
‫لت في األمر كانت صدمتها أكبر ولم تستطع تقبل أنها فقدت أهلها‬ ‫وألني عج ُ‬
‫وحتى ذاكرتها و ما أملني أنها ظلت قرابة العام تحاول التذكر ‪ ،‬تحاول إعادة‬
‫األشياء املفقودة من حياتها ‪ ،‬تذكرت في األشهر األولى الحادث وكيف انقلبت‬
‫السيارة فجأة ‪ ،‬هذا ما أخبرني به طبيبها ولكنها لم تتذكر إلى أين كنتم‬
‫ذاهبين‪ ،‬وما تعجبت له أنها لم تتذكر صديقتها وابنة عمتها في نفس الوقت‬
‫وحتى خطيبها الذي فسخ الخطبة فور سماعه بالحادثة ‪ ،‬أخبرني الطبيب أن‬
‫صدمتها متعلقة بهؤالء األشخاص الذين لم تتذكرهم ‪ ،‬ألن العقل يرفض ما‬
‫عاش في اآلونة األخيرة فحارب األمر بفقدان الذاكرة ‪ ،‬ذلك أن وظيفة‬
‫الذاكرة الطبيعية تتضمن أجزاء كثيرة من الدماغ لذلك فإن أي مرض أو‬
‫إصابة تؤثر على الدماغ مثل ضربة رأس أو صدمة عاطفية قد تتداخل مع‬
‫الذاكرة وينتج فقدان الذاكرة الجزئي أو الكلي عن تلف هياكل الدماغ التي‬
‫تشكل الجهاز الحوفي الذي يتحكم في العواطف والذكريات‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫وعمتي يا أبتاه ‪ ،‬تلك التي كنت دائما توصينا بها لم تهتم لنا يا أبي وحتى في‬
‫جناز َ‬
‫تك وأمي لم تبقى طويال ‪ ،‬أملني كثيرا أنها تخلت عنا ‪ ،‬لم تزر مياسين أبدا‬
‫ً‬
‫فيقة ً‬ ‫ً‬
‫وأختا ألختي ‪ ،‬أزعجني األمر كثيرا لم‬ ‫ال هي وال ابنتها التي كانت صديقة ور‬
‫أجد تفسيرا َ‬
‫لم حدث إال بعد مدة وكان ما عرفته قاسيا جدا ‪ .‬اهتمت جارتنا‬
‫ُ‬
‫وكنت أنا أمر أحيانا فقط‬ ‫بمياسين طيلة العام الذي كانت تحاول أن تتذكر‬
‫كنت حريصا على أن ال‬‫للبيت أترك لها مبالغ من املال وأغيب بعد ذلك ‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫فكنت يا أبي أترك لها مما تركت وعن نفس ي كنت أدبر‬ ‫أعطيها ماال حراما‬
‫بطرق ما‪ ،‬أخجل من أن أذكرها لك حتى وإن كنت ال تسمعني ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عدت في إحدى املرات التي غبت عنها ثالث أشهر وجدت‬ ‫أتذكر عندما‬
‫ٌ‬
‫مياسين تحضر نفسها للخروج وكانت برفقتها فتاة جميلة عرفت أنها صديقة‬
‫جديدة لها في ذلك اليوم صادفت أختي خطيبها السابق فتذكرت كل ش يء‬
‫ودون أن نفهم شيئا استعادت يوم الحادث بشكل كامل وصارت حبيسة‬
‫انهيارات عصبية ولم تكن بيدي حيلة سوى أني قررت وضعها في مصحة‬
‫لتجاوز االكتئاب الذي دخلت فيه ‪ ،‬أعتذر حقا كانت تحتاج فقط ًيدا‬
‫ُت مسكها وتشعرها باآلمان وبأنها ليست وحدها في خيبتها لكنني فشلت ‪،‬‬
‫وضاع عام آخر من حياتها لم تشفى نهائيا ما زالت تحاو ُل أن ترمم بقاياها ‪،‬‬
‫مازالت إلى اآلن تحاول أن تنهض من جديد ‪ ،‬في هذه املرة رأت طبيبتها‬
‫النفسية أنها تتجاوب مع األطفال ‪ ،‬فاقترحت على صديقتها ياسمين أن‬
‫العثور على روضة لألطفال حتى تتعافى قليل من روحها التي‬
‫ِ‬ ‫تساعدها في‬
‫جفت في املصحة وفقدت بريقها بأدوية التخفيف من نوبات االنهيار تلك‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كان من السهل على صديقتها إيجاد مكان لها في إحدى الروضات عن طريق‬
‫وسج ْ‬
‫لت‬ ‫َّ‬ ‫أحد املعارف وبدأت روح أختي ُ‬
‫تعود قليال ‪ ..‬تمسكت باألطفال ‪،‬‬
‫لتعلم الحلويات و فعلت الكثير من األشياء الجديدة التي‬
‫ِ‬ ‫نفسها في دورة‬
‫حسنت من نفسها و أشرق ذلك على وجهها ‪.‬‬
‫كنت أعلم كل ش يء من‬‫تركت أختي بأتم معنى الكلمة ولكنني ُ‬
‫ُ‬ ‫صحيح أنني‬
‫تشفق على حالها وحتى على حالي التي تسممت‪ ..‬ال أدري َ‬
‫لم‬ ‫ُ‬ ‫جارتنا التي كانت‬
‫لصديقة أختي الحاسة السادسة ‪ ،‬كانت ال تتركني معها أبدا‬
‫ِ‬ ‫ولكن ربما كان‬
‫ُ‬
‫جلست مع أختي‬ ‫كانت تخاف عليها مني ‪ ،‬وفي إحدى املرات التي غابت عنها ‪،‬‬
‫التي أصبحت ال تبالي بش يء وال يسعدها ش يء ‪ ،‬لم أرى فيها ً‬
‫شيئا سوى آثار‬
‫جراح عميقة لم يستطع أن يشفيها أحد وكنت قد بدأت ألعب بعقلها بعدما‬
‫لم أعد أملك ماال يكفيني ألشتري ذلك السم الهاري ‪ ..‬أوهمتها بأنني أريد أن‬
‫أنشأ لها مشروعا يحمل اسمها وعلى نياتها صدقتني ‪ ،‬ورطتها في قرض باسمها‬
‫استدنته من شخص استعطفته بقصة كاذبة ونسيت قصة القرض ذاك‬
‫عندما انغمست أكثر في ظالمي ‪ ،‬بحث عني ذلك الرجل عندما عرف أنني‬
‫خدعته وطال األمر كثيرا ‪ ،‬كنت أجيد الهرب من كل ش يء إال من نفس ي‪،‬‬
‫ُ‬
‫نسيت أني‬ ‫ُ‬
‫اختفيت عاما كامال عن مدينتي وغادرتها لكي ال يجدني ولكنني‬
‫ورطت مياسين املسكينة التي انقطعت كل أخبارها عني ‪.‬‬
‫عند ما عدت وجدت مياسين تغيرت كثيرا ‪ ،‬بدا لي أنها استعادت قليال من‬
‫نفسها ولكن بهيئة أخرى وتغيرت الكثير من األشياء في مدينتي ‪ ،‬لقد أصبحت‬
‫ً‬
‫معلمة في إحدى املدارس ‪ ،‬غرست وردا وأزهارا من كل نوع في حديقة املنزل‬

‫‪62‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫فضت أن ُت ْز َرع َّأية نباتات هناك ‪ ،‬توفيت جارتنا‬ ‫َ‬
‫التي حو ِلتها يا أمي ملجلس ور ِ‬
‫املبهم‬ ‫الصديقة‬ ‫تلك‬ ‫ى‬‫سو‬ ‫أنيسها‬ ‫ُأم الوليد وصارت أختي ال ُ‬
‫تجد‬
‫ِ‬
‫كيفية تعارفهما ‪ ،‬أغلقت كل الغرف في املنزل وتركت غرفتها فقط وما أثار‬
‫ُ‬
‫علمت‬ ‫دهشتي أنها غيرت لونها البنفسجي الذي كانت تذوب فيه إلى األسود ‪،‬‬
‫أي آخر وتم‬ ‫ُ‬
‫مياسين أخرى ‪ ..‬كان للقدر ر ٌّ‬ ‫حينها أنها لم تعد مياسين نفسها بل‬
‫اإلمساك بي في بيتنا من طرف رجال "سيمان صبراوي " الذي نصبت عليه‬
‫باسم أختي ‪ ،‬خفت من ردة فعل مياسين خصوصا بعدما عاشت من أشياء‬
‫رهيبة ولكني لو أردت أن ال يحدث هذا لفكرت حينها فيها ‪ ،‬كادت أختي تدخل‬
‫السجن لوال أن الرجل أدرك أنني نصبت عليها فتزوجها على أن تسدد دينه‬
‫ذاك ثم يذهب كل منهما في طريق آخر ‪ ،‬لم ترد مياسين الزواج ولكني أجبرتها‬
‫وهددتها كثيرا حتى قبلت رغما عنها ‪.‬‬
‫تغف َر لي أختي بقدر ما لن تغفر لكما يا‬ ‫ولن‬ ‫الرواية‬ ‫هذه‬ ‫في‬ ‫ُ‬
‫الخائن‬ ‫اليوم أنا‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫ستسامح من مروا وضروا‬ ‫أبي وأمي ‪ ،‬لن تسامحنا أبدا فأنا ال أعتقد أنها‬
‫وتركوا فيها ندوبا شوهت كل ش يء جميل في داخلها فمياسين التي كنا‬
‫ً‬
‫نعرفها جيدا باتت مياسينا أخرى وكما لم تحمل يوما صفات اسمها أصبحت‬
‫تشبهها حقا ‪ ،‬لقد صارت نجمة بعيدة في سماء كل من يعرفها ‪ ،‬ال أحد يقترب‬
‫ُ‬
‫وكنت‬ ‫وال هي تقترب ‪ ،‬واختارت عزلة بينها وبين نفسها واكتفت بكتبها فقط‬
‫كنت أتركها لوحدها في البيت ُ‬
‫كنت‬ ‫السبب في ابتعادها عني كثيرا وغير أنني ُ‬
‫بحطام فتاة عالقة بين األنقاض تبحث عن‬ ‫ِ‬ ‫عندما أعود كانت تستقبلني‬
‫ُ‬
‫حضن يلم جراحها قليال ‪ ،‬كانت تخبرني عيناها أنها تبحث عن كلمة تواسيها‬
‫ُ‬
‫وكنت أنا أقابل كل مشاعرها ببرود تام‪ ،‬لم أرد أن أقترب منها كثيرا ألني كنت‬
‫‪63‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أعلم أنني سأجد ذاتي التي ضاعت في مالمحها ‪ ،‬كنت سأتألم أكثر مما أتألم‪.‬‬
‫أفزعتها بصرختي وأوجعتها بدفعي لها ولم أعلم بأنني دفعتها مرة أخرى إلى‬
‫ذلك الظالم الذي لم تستيقظ منه بعد الحادث ‪.‬‬
‫في األيام التي ُ‬
‫كنت أبقى فيها في منزلنا كنت أسمع مناجاتها ليال و حزنها بكاءا‬
‫ً‬
‫وانكسارها صمتا ‪ ،‬كل ما كنت أراه فيها في تلك األيام فتاة كسرتها عواصف‬
‫الدنيا وبقيت متمسكة بغصن قلبها ‪ ،‬تدعو هللا أن يجبر انكسارها ‪ ،‬أن يعيد‬
‫ُ‬
‫حدثت بيننا‬ ‫ُ‬
‫تخليت عنها وأ‬ ‫بهجتها وكانت تدعو لي أيضا حتى وإن كنت قد‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫أوطان من الالش يء ‪،‬والجميل أيضا أن بيتنا كان يستيقظ‬ ‫غربة مقدراها‬
‫ً‬
‫القرآن مرتال من طرف شيوخ كانت مياسين تستمع لهم‬ ‫ِ‬ ‫صوت‬
‫ِ‬ ‫صباحا على‬
‫ً‬
‫دوما ‪..‬‬
‫ُ‬
‫الكثير من الفتيات على أخ لم يكن لهن ‪ ،‬وتبكي مياسين على أخ كان‬ ‫تبكي‬
‫ً‬
‫حام العابرين ترك يدها واختلط بين الناس فلم تعد تميزه‬
‫ِ‬ ‫ز‬ ‫في‬ ‫وفجأة‬ ‫أخاها‬
‫ولم تقدر على الحراك وظلت عالقة في املنتصف ‪.‬‬
‫انتشلتك من انكسار ِك ولكنني أنا أيضا‬
‫ِ‬ ‫ضياعك ‪ ،‬ليتني‬
‫ِ‬ ‫سندتك في‬
‫ِ‬ ‫ليتني‬
‫أخاك‬
‫ِ‬ ‫انكسرت ولم أقدر على ْأن أصلح نفس ي ‪ ،‬هل يكفي دمعي اآلن ألكون‬
‫ً‬ ‫من جديد قبل أن َ‬
‫أموت بعد قليل؟ هل يكفي ندمي الذي لم تعلمي عنه شيئا‬
‫لك ؟!‬
‫ليكفر عن تركي ِ‬
‫وسأتركك اليوم أيضا ولكن آلخر مرة ‪ ،‬أختاه ال‬
‫ِ‬ ‫تركتك ألفا من قبل‬
‫ِ‬ ‫مياسين!‬
‫جاءا اسمعي صوتي ‪ ،‬ال تتركني وإحتفظي بي كما‬ ‫أنت بعد موتي ‪ ..‬ر ً‬
‫تتركيني ِ‬
‫غرست‬
‫ِ‬ ‫أنك تزورين قبريهما كل خميس وأعلم أن ِك‬
‫احتفظت بوالدينا ‪ ،‬أعلم ِ‬
‫ِ‬

‫‪64‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫شجرة ُ‬
‫لك أن تفعلي لي أيضا؟!‬‫يأكل الطير من ثمرها واحتسبتها لهما ‪ ،‬هل ِ‬
‫يعفو هللا عني‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عتبات السماء ‪ ،‬فقط أتمنى أن َ‬ ‫فذنوبي بلغت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مؤخرا‬ ‫اكتشفت‬ ‫مرت أربعة أشهر على زواجها لم أزرها ولم أسأل عنها ولكنني‬
‫مصاب بسرطان الدم ولن يطول األمر كثيرا حتى أغادر ‪ُ ،‬‬
‫بعت منزلنا يا‬ ‫ٌ‬ ‫أنني‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وأخذت ماله ألختي كي ال تبقى مدينة لذلك الرجل بعدما أكل الندم قلبي ‪،‬‬ ‫أبي‬
‫لكنها رفضته وصفعتني كرجل جمع من القوة سنينا طويلة ‪ .‬ال تقلق يا أبي‬
‫ٌ‬
‫متأكد من أنه لن يتركها ‪ ،‬هو ال‬ ‫ُ‬
‫ووصيت زوجها عليها ألني‬ ‫سددت الدين‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫متأكد أنه هو كتفها اآلخر لقد جربته مرارا ‪،‬‬ ‫يعرف كل ما مرت به ولكنني‬
‫يترصد ألختي ويخيفها فكان سيمان دائما يقف أمامها وال يترك يدا‬ ‫ُ‬ ‫جعلت من‬
‫تلمسها ‪ ،‬عرفت حينها أن القدر اختار لها جدا ًرا ال ينقض ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وعرفت‬ ‫ُ‬
‫وعرفت أن خطيبها السابق خانها مع ابنة عمتي ‪،‬‬ ‫مر أسبوع يا أبي‬
‫ُ‬
‫تمنيت لو أنني لم أعرف غدركم أنتم أيضا لها ‪،‬‬ ‫أنكم السبب في الحادث ‪،‬‬
‫اآلن أنا أبكي على ما عاشته مياسين بسببكم ‪ ،‬عرفت كل ش يء منها ومن دون‬
‫أن تخبرني بش يء ‪ . .‬كيف ذلك؟! أبي قلت َ‬
‫لك أن مياسين تغيرت كثيرا ‪ ،‬صارت‬
‫تكتب كل ما تعيشه في دفاتر وجدتها في أحد الصناديق في غرفتها قبل أن‬ ‫ُ‬
‫أبيع املنزل ‪ُ ،‬‬
‫لست سيئا إلى الدرجة التي ال أعيد لها ما تبقى وحتى أزهارها ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أصبح قاتال ولكنني‬ ‫أخذت انتقامي من خطيبها السابق الخائن لم أرد أن‬
‫يوما َ‬‫بصمة تذكره دوما بأنه خان ً‬‫ً‬ ‫ُ‬
‫أخت "سامي الهاشم " شوهت له‬ ‫تركت فيه‬
‫وجهه بسكين حاد من أعلى إلى أسفل ‪ ،‬كلما نظر إلى املرآة تذكر خيانته تلك‪،‬‬‫ُ‬
‫كنت اليوم سأذهب ألوافيها حقها ‪ .‬ولكن يا أبي فاجئني أن‬ ‫تبقت ابنة عمتي ُ‬

‫‪65‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫ويجب أن أكون ظهرا له في الحقيقة كانت‬ ‫صديقي فؤاد ٌ‬
‫عالق بمشكلة ما‬
‫ظهري مقر غدرهم لي فقط وألن أصدقاء السوء ٌ‬
‫توأم للبعوض ال نعرف ذلك‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫فكنت قد أوليتهم ظهري فأولوني غدرا والسبب زينة من‬ ‫إال بعد اللسعة‬
‫األشياء قذارة التي لوثت حياتي‬
‫ِ‬ ‫الحياة الدنيا ‪ ،‬نعم كانت النقود هي أكثر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أحد األحياء املهجورة وأصدقائي‬
‫ِ‬ ‫وسط‬ ‫ي‬ ‫نفس‬ ‫وجدت‬ ‫وبين دقيقة وأخرى‬
‫حولي يعانقوني ُك ً‬
‫رها ويقبلونني ضربا ‪ ،‬وألن جبني بلغ جبال ومرض ي الذي لم‬
‫ُ‬
‫واستسلمت لهم ‪ ،‬لقد طعنوني‬ ‫أعلمهم به بلغ سماءا لم أقدر على املواجهة‬
‫منتصف قلبي ‪ ،‬ال ُ‬
‫أقدر على إخراج نفس ي وال حتى إدخاله وال حتى على‬ ‫َ‬
‫اآلن في‬
‫ِ‬
‫مواصلة حديثي لنفس ي ‪ ،‬بدأ الظالم يحل على عيناي وبت ال أشعر بجسدي‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫وصوت جسد يتخبط ثم ال ش يء‪..‬‬ ‫وال بش يء وفجأة شهقة خرجت من األعماق‬
‫في صبيحة اليوم التالي كتبت كل جرائد املدينة ‪ :‬العثور على أحد الشباب‬
‫مقتوال في أحد األحياء الشعبية املهجورة ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وكتب تحت العنوان الرئيس ي بخط صغير ‪ :‬تعرض إلى ضرب شديد في مختلف‬
‫أنحاء الجسم وكذا عدة طعنات خنجر ‪.‬‬

‫يمكن ألي شخص أن يتخلى عن عائلته مهما كان األمر إال أن‬ ‫ُ‬ ‫و ُرغم أنه ال‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫غرباء عن بعضنا‬ ‫ونصبح‬ ‫أشياء ثقيلة قد تبني جدارا قويا بين أفرادها‬ ‫هناك‬
‫ُ‬
‫البعض ‪ ،‬كل ما نعرفه عن اآلخر منا أنه يتنفس وما دون ذلك يقف الجدار‬
‫ُ‬
‫فنضيع‬ ‫الذي بنته الخيانة والكذب والجروح العميقة حائال بين ُحبنا وكرهنا‬
‫أحيانا وتطفو الحزينة أكثر على‬‫ً‬ ‫فيما بينهما من الالش يء‪ .‬تزورنا ذكرياتنا‬

‫‪66‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫سطح قلوبنا وتحرق جروحنا بأمالحها ‪ ،‬صحيح أن العائلة وطن واألوطان ال‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الخيبات فتشفى كل جراحنا‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫برماح‬ ‫تصيبنا‬ ‫ما‬ ‫دائما‬ ‫العائلة‬ ‫ولكن‬ ‫خان‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الحينة واألخرى فصدق من قال أن‬‫ِ‬ ‫بين‬ ‫تنزف‬ ‫حية‬ ‫عدا جراحها هي تبقى‬
‫املجروح من عائلته ال ُيشفى ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪68‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إلفص ُل إلثالث‪:‬‬

‫سأ أ ى‬
‫ختّل أأان أأيضا‪. . .‬‬

‫‪69‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫دواء النوم من جديد وألن‬ ‫استيقظت اليوم متأخرة جدا بعدما عدت لتناول ِ‬
‫األرق أصابني ليال من قلقي الذي سيطر علي ومن أفكاري التي خنقتني ومن‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سيذهب ً‬ ‫ُ‬
‫الصالة خشية من‬‫ِ‬ ‫أسدال‬ ‫تديت‬ ‫قريبا بال عودة ‪ِ ،‬ار‬ ‫عقلي الذي‬
‫ُ‬
‫أن أجده في طريقي رغم أن رغبتي في ْأن ال أراه كانت تفوق جميع رغباتي ‪،‬‬
‫نعم يخطر ببالكم كيف لزوجة أن تستر نفسها عن أعين زوجها! ولكن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حقيقيا ً‬
‫ً‬
‫تزوجت به كي ال ينهار ما تبقى مني ‪ ،‬كي أنقذ‬ ‫أبدا‬ ‫زواجنا لم يكن‬
‫ً‬
‫نفس ي من ضياع بال عودة مرة أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫طيلة هذه األربعة األشهر التي كانت أعواما طويلة على قلبي لم نكن مثل أي‬
‫كنت‬ ‫زوجين عادين ‪ ،‬كنا عدوين في بيت واحد كان شعورنا موحدا جدا ‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أكرهه وكان هو أيضا غلبت تصرفاته العدوانية نحوي أكثر‪ ،‬أنا لم أ ِرد قربه‬
‫دت أن ال يؤذيني و أن ال يؤذي قلبي ‪.‬‬ ‫مني بقدر ما أ ُ‬
‫ر‬
‫ً‬
‫سأكون كاذبة إن قلت لكم أني ال أفكر فيه ؟! في الحقيقة ال أدري هناك‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫األشياء تغيرت فيه طيلة‬
‫ِ‬ ‫بعض من صفاته أع ِجبت بها دون أشعر ‪..‬كثير من‬
‫هذه املدة التي عشناها تحت سقف واحد ‪ ،‬أنا أكره شعوري هذا الذي‬
‫اب يفكر فيه عقلي وإن تواجدنا‬ ‫شعور ال أقدر على تسميته إن َغ َ‬ ‫ٌ‬ ‫يتملكني ‪،‬‬
‫يرفض قلبي البقاء معه ال أدري في أي حفرة قد وقعت ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫معا‬‫بمكان ً‬
‫فقدت فيه قدرتي على التعبير عن نفس ي ‪ ،‬مر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وقت‬ ‫حزينة أنا ِج ًدا للحد الذي‬
‫لت في كل ش يء حتي في‬ ‫حت ألحد ما كيف أن قلبي يتألم فش ُ‬ ‫طويل منذ أن ُب ُ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫التعبير عن حزني و ُيحزنني أنني حزينة وما يحزنني أكثر أنني ِب ُت وحيدة‬

‫‪70‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كورقة سقطت في خريف األيام وظلت األحزان تعصفها هنا وهناك ‪ُ ،‬‬
‫بت‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أشتاق أن ُيش َعر بي‪ ..‬أن أحكي عن الجبال التي َبنتها الجروح‬ ‫وحيدة جدا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ً‬
‫داخلي ‪ ،‬أحتاج أحدا ما يمسك يدي ويقول لي ِ‬
‫معك أنا ولكن ألهذه الدرجة ال‬
‫أحد ُ‬
‫يريد أن يكون معي!‬ ‫َ‬

‫مسحت عبراتي التي كانت تنزل أكثر كلما قاومتها ‪ ،‬مزجتها بماء الوضوء وتركتها‬‫ُ‬
‫فض هذا لدمعة ال ذنب لها سوى‬ ‫كثيرا هل أر ُ‬ ‫ُ‬
‫تعرضت للخيانة ً‬ ‫على هواها ‪..‬‬
‫أن قلبي آملها ؟! ال َف ْل َت َت َطفل ما شاءت ُ‬
‫أعلم أن ربي َس ُيلقي الن َ‬
‫ور في طريقي‬
‫َ‬
‫ذات يوم ‪.‬‬
‫جلست أجمع حقائبي و أوظب أغراض ي سأبحث عن مكان ما لنفس ي لن‬ ‫ُ‬
‫أبقى هنا ‪ ،‬إن كان أخي من نفس األم واألب قد تركني وباع منزلنا فماذا سيقول‬
‫دفع الد ْين حقا ؟! ال سامحك هللا وال عفى عنك‬‫لي ابن الناس بعدما ينتهي ُ‬
‫أسحب دعائي يا هللا ‪ ،‬يا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪.‬أستغفر هللا‬ ‫ُ‬
‫أستغفر هللا ‪.‬‬ ‫عما فعلت يا سامي ‪(..‬‬
‫أعتد عليه فقد‬ ‫فت من دعائي الذي لم ْ‬ ‫اصلحه ‪ . .‬يا ب إني عفوت) ‪ ،‬خ ُ‬ ‫ُ‬ ‫رب‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫كنت أخش ى أن أدعي على من ظلموني فأرى َثأر هللا فيهم ُ‬ ‫ُ‬
‫فيؤملني قلبي أكثر ‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ َ‬
‫ُربما ألنني أخش ى أن أؤ ِذي يؤ ِذ ِيني كل من يتعرف علي ‪.‬‬
‫ألهل‬ ‫ُ‬
‫الدفاتر ِ‬
‫ِ‬ ‫تسليم‬ ‫وألن املوسم الدراس ي كان في أواخره ‪ ،‬تبقى فقط‬
‫ُ‬
‫أعتقد‬ ‫اتصلت باملدير أخبره بأنني أعتذر على عدم مجيئي اليوم ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تالميذي ‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ى‬
‫املدينة مرة أخر ألن هوائها‬‫ِ‬ ‫أنني سأترك هذه املدرسة أيضا ‪ ،‬سأغير هذه‬
‫ٌ‬
‫طرقات‬ ‫كثيرا ‪ ..‬وبينما أفكاري ُت َفكر مع بعضها البعض جاءت‬ ‫بات َي ْخ ُن ُقني ً‬
‫َ‬
‫حت ألتفقد من الطارق ولكن الباب ُمغلق وال ُيفتح حاولت‬ ‫من باب املنزل ‪ُ ،‬‬
‫ِ ر‬

‫‪71‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كثيرا ولم أستطع كأن هناك من أغلقه بقفلة أتوماتيكية ‪ ،‬تضاربت األفكار في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شعرت بأنني ُمحتجزة وأن سيمان من‬ ‫رأس ي بعدما مل الطارق وذهب ولوهلة‬
‫أغلق الباب ‪ . .‬تفقدت مكان املفاتيح ‪ ،‬لم أجد أي مفتاح بحثت في حقيبتي‬
‫عن مفتاحي االحتياطي فلم أجده ‪ ،‬تذكرت شجارانا البارحة وتأكدت من‬
‫ذلك‪ ،‬إنه ذلك األحمق حتى يمنع خروجي‪.‬‬
‫ُ ُ‬
‫النوم هناك ليال ‪،‬‬
‫دواء ِ‬‫وقع بصري على دفتري ‪ ،‬على ما أذكر تركت علبة ِ‬
‫ص ِع ْق ُت ملا جال ببالي ولكن لألسف لم تكن مجرد أفكار بل حقيقة ‪ ،‬اختفت‬
‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شعور أنه سيعرف بأنني أنني كنت أتعالج‬ ‫وصفة الدواء أيضا ‪ ..‬حسنا تملكني‬
‫و سأصبح مسخرة في أعينه وأعين عائلته وهذا ما لن أستطيع تحمله ‪ ،‬أعرف‬
‫يدك‬‫ساعدك على أن تنهض ‪ ،‬بالعكس ستكو ُن َ‬ ‫َ‬ ‫جيدا مجتمعي‪ ..‬ال َ‬
‫أحد ُي‬
‫ً‬
‫حينا‬‫ِ‬ ‫في‬ ‫من‬ ‫كل‬ ‫كان‬ ‫‪،‬‬ ‫حمة‬ ‫ر‬ ‫ن‬‫دو‬ ‫عليها‬ ‫وطأت‬ ‫التي‬ ‫حذيتهم‬ ‫أ‬ ‫ببصمات‬
‫ِ‬ ‫مليئة‬
‫السابق ينعتني باملجنونة عندما زجني سامي في املصحة العقلية ورغم أنني‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أدر ما أفعل‬
‫ِ‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬‫جرحا‬ ‫تخطيت األمر ولكن هذه الكلمة ُو ِشمت على قلبي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ووضعت ما أحتاجه في‬ ‫تديت مالبس ي‬ ‫والزلت ال أدري سأذهب قبل أن يأتي ‪ ،‬ار‬
‫ُ‬
‫وفتحت‬ ‫حقيبة ظهر صغيرة على أن أرسل أحدا ليأتي بأغراض ي املتبقية‬
‫النافذة نظرت إلى األسفل ‪ ،‬كانت املسافة عالية أكثر مما توقعت وكانت‬
‫بالشرفة‬ ‫ُ‬
‫تحدق‬ ‫ُ‬
‫‪،‬ملحت إحدى الجارات‬ ‫تنتهي بجدار سميك متوسط الطول‬
‫ِ‬
‫كنت أقف فيها وهي تتحدث على الهاتف ‪ ..‬بقيت أفكر للحظات كيف‬‫التي ُ‬
‫سأنزل بأقل أضرار ودون أن يراني أحد و في هذه األثناء سافر عقلي‬
‫بعيدا إلى ‪ :‬عندما ُ‬
‫كنت أخرج من نافذة غرفتي وأمر عبر طابقين ألنزل تحت‬
‫ُ‬
‫ابتسمت لهذه الذكرى‬ ‫وأذهب إلى معارض الكتب التي كانت أمي تمنعني عنها ‪،‬‬
‫‪72‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫تحديق الجارة‬ ‫سبب‬ ‫ُ‬


‫عرفت‬ ‫وفرح ُت كثيرا أن شيئا ما بقي مني ولو قليال ‪َ .‬‬
‫اآلن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بي‪ ،‬سيمان يتصل البد أنه أوصاها ولكني لن أرد ‪ ،‬وألنه عنيد أرسل لي رسالة‪:‬‬
‫ردي حاال ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أغلقت الخط في وجهه لم ت ِطل ُمدة عرفاني‬ ‫وألنني أعند منه عندما اتصل‬
‫بغضبه فقد أمطرني برسائله اآلمرة و ألول مرة منذ خمس سنوات جاءتني‬
‫ٌ‬
‫رغبة شديدة في الضحك من قلبي ألن تهديداته لم تكن ُتجدي نفعا ‪ ،‬أخيرا‬
‫ٌ‬
‫وهللا إن لم تردي اآلن على‬
‫ِ‬ ‫‪:‬‬ ‫عروقي‬ ‫في‬ ‫يقف‬ ‫الدم‬ ‫جعلت‬ ‫منه‬ ‫سالة‬ ‫وصلتني ر‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫نس أن من تغضب زوجها تلعنها‬ ‫اتصالي لن أسامحك وهللا و وهللا ‪ ،‬ال ِ‬
‫ت‬
‫املالئكة‪.‬‬
‫وفتحت ويدي ترتعشان هل صحيح ذلك! ولكننا لسنا زوجين‬ ‫ُ‬ ‫اتصل مجددا‬
‫حقيقين ‪ ،‬جاءني صوته الغاضب‪:‬‬
‫َ‬
‫تفكرين في االنتحار ؟‬ ‫ماذا تفعلين في الشرفة هل‬
‫َ‬
‫أخبرتك البارحة أننا سنتطلق ‪..‬‬ ‫‪:‬‬
‫أخبرتك بأنني لن أطلق أال تفهمين ؟!‬
‫ِ‬ ‫قبل أن أكمل قاطعني ‪ :‬و‬
‫بدأت تحشر نفسك فيما ال يعنيك؟‬ ‫‪ :‬ما شأني ؟! ملاذا َ‬

‫سيمان ‪ :‬ألنك تعنيني ‪..‬‬


‫سكتت أستمع إلى الطبول التي تقرع داخل قلبي ثم ُ‬
‫قلت ‪:‬إن كنت تمانع‬ ‫ُ‬
‫ذهابي من أجل الدين فهو لم يعد ديني ‪ ،‬لن أهتم وإن كنت تريد أن تزج بي في‬
‫السجن فافعل ما تشاء فقط اتركني ‪..‬‬

‫‪73‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫سيمان ‪ :‬يا بنت الناس ال تزيدي حرفا على ما قلتي ‪ ،‬لن أسمع وقد شرحت لي‬
‫أنت أكثر ‪.‬‬
‫طبيبتك بعض األشياء وسآتي حاال لتشرحي ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مشاعر ممتزجة بالخوف والحزن ‪ ،‬لم أتحدث عما أصابني مطلقا‬ ‫تملكتني‬
‫لشخص ما إال لياسمين التي تعلم كل ما عشت بالتفصيل اململ أتذكر‬
‫ً‬
‫جيدا لقائي بها في املستشفى عندما استيقظت من غيبوبتي وزارني سامي‬
‫ُ‬
‫فقدت الذاكرة وأن والداي أيضا قد مض ى شهرين على دفنهما ‪،‬‬ ‫وأخبرني أنني‬
‫ً‬
‫على ال ما أعتقد أن صدمة كبيرة أصابتني وبقيت أتخبط مع نفس ي إلى أن‬
‫اجتمع الجميع حولي وأمسكتني املمرضات كي ال أؤذي نفس ي أما سامي ال‬
‫أدري عنه كيف خرج من بين املوجودين ‪ ،‬التقيت بها في املصعد كانت مع‬
‫جدتها املريضة تجرها من يدها وكنت أنا أحاول أن أهرب من املستشفى‬
‫بعدما استفقت من املخدر والزلت آثاره بعد والدموع تنساب من عيني‬
‫ُ‬
‫والهاالت السوداء تغطي تحتهما و الصفرة تكتس ي وجهي ‪ ،‬ساعدتني حتى ال‬
‫أقع وتركت جدتها عند إحدى املمرضات وتبعتني ‪ ،‬وفجأة أمسكتني من يدي‬
‫واحتضنتني دون كلمة ‪ ،‬بكيت على كتفها وال أدري كيف أخبرتها عن الحادث‬
‫وعن أنهم يعتقدون أنني مجنونة ألنني لم أصدق أنني فقدت ذاكرتي ‪،‬‬
‫ساعدتني كثيرا وصارت تالزمني بشدة إلى أن أصبحت صديقتي ‪ ..‬بعد صمتي‬
‫هذا الذي ذهب بي إلى لقائي بياسمين أفاقتني مناداته لي من غفوتي‬
‫‪ :‬يا بنت ‪ ،‬هل تسمعين ؟! مياسين ‪. .‬‬
‫لست مضطرة ألن أخبرك بأي ش يء ‪ ،‬رجاءا ال‬‫ُ‬ ‫‪ :‬نعم نعم أسمع ‪ ،‬ولكنني‬
‫تضغط أكثر على نفسيتي ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫سيمان ‪ :‬رجاءا ال تقدمي على خطوة دون علمي أنا في الطريق ولن أجبرك على‬
‫ش يء ‪.‬‬
‫مياسين ‪ :‬حسنا ‪..‬‬
‫سيمان ‪ :‬وعد ؟!‬
‫صمتت ال أر ُيد أن أعده ألنني حقا أريد أن أذهب قبل أن ألتقي به وتصبح‬
‫ات شفقته تأكلني ‪.‬‬‫نظر ُ‬

‫سيمان ‪ :‬عديني أرجوك !؟‬


‫ُ‬
‫أطفأت الهاتف ولم أرد عليه ‪ ،‬لن أعده ما يفيده معرفة ما حدث لي ‪ ،‬ال أريد‬
‫ُ‬
‫وقررت‬ ‫ُ‬
‫وأخفيت هاتفي‬ ‫ُ‬
‫توكلت على هللا‬ ‫أن أواجهه فما حدث لي يؤملني كثيرا ‪.‬‬
‫ُ‬
‫صوت تلك الجارة التي‬ ‫أن أغامر وأنزل إلى تحت عبر الشرفة ولكن أزعجني‬
‫ُ‬
‫مررت بالكثير من األشياء املؤملة ولم أنتحر ولن‬ ‫ظنت أنني سأنتحر ‪ :‬ال تخافي‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫‪..‬الزلت رحمة هللا بقلبي ‪ ،‬قلتها وأنا ألوح لها وابتسامة َما ال أدري من أين‬
‫جاءت ُ‬
‫تشق وجهي ‪.‬‬
‫واحد ‪ ،‬اثنان ‪ ،‬ثالثة بسم هللا ‪ ،‬يا رب ساعدني قبل أن يصل ودون أن يحدث‬
‫ودقات قلبي تدق طبوال وتعزف‬ ‫ُ‬ ‫الحافة األولى‬ ‫ُ‬
‫وضعت قدمي على‬ ‫لي ش يء ‪،‬‬
‫ِ‬
‫ْ‬
‫صياح الجارة أهلكني عندما قالت ‪ِ :‬ال َح ْق يا‬‫ُ‬ ‫على َ‬
‫أوتار مشاعري توترا ‪،‬‬
‫أملك حجرا هناك أرميه على فمها ذاك ‪،‬‬ ‫كنت ُ‬‫تمنيت لو ُ‬
‫ُ‬ ‫سيمان ِالحق ‪،‬‬
‫بكامل جسده من الشرفة وهو‬ ‫علي‬ ‫أطل‬ ‫ُ‬
‫ظننت أنها تخيفني باسمه إلى أن َّ‬
‫ِ‬
‫يصرخ ‪ :‬يا مجنونة قفي مكانك ستقعين من هناك ‪ ،‬يا رب ‪..‬‬

‫‪75‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أربكني صوته كثيرا فانزلقت قدمي عن الحافة وجرحت يدي اليسار قليال‬
‫ُ‬
‫أحكمت اإلمساك قبل أن أقع و كل هذا تحت صرخاته ‪ :‬يا مجنونة‬ ‫ولكنني‬
‫صرت‬‫ُ‬ ‫توقفي سأساعدك ‪..‬كنت أسمعه وهو يصرخ ويدعي هللا أن يحفظني ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ي‬
‫مرتبكة أكثر بدأت أصوات الجيران تعلو وتصرخ في أذني وتشوش تركيز ‪،‬‬
‫خطوة ُخطوة ‪ ،‬ثم أنز ُ‬
‫ل‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العمود اإلسمنتي الصغير ‪ ..‬أخيرا‬‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫أتقدم‬ ‫كنت‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مسافة قصيرة َ‬
‫فعت رأس ي‬ ‫تحل بقفزة ر‬ ‫الحائط املتوسط‬
‫ِ‬ ‫باتت تفصلني عن‬
‫باتجاهه أنظر إليه ال أدري ِل َم ولكن ربما أردت أن أطمئنه حتى يهدأ ‪ ،‬عاد‬
‫صرخة تلك الجارة املزعجة ‪ ،‬لم أعرف‬ ‫ُ‬
‫قفزت أنا على‬ ‫سريعا إلى الداخل ثم‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫كيف أضع قدمي على الحائط عندما قفزت ُفج ْ‬
‫توقفت ُممسكة‬ ‫رحت قليال ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املسافة املتبقية بين الحائط‬
‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫نظرت‬ ‫‪،‬‬ ‫قليال‬ ‫النزيف‬ ‫إياه بقوة حتى يتوقف‬
‫ً‬
‫واألرض ‪ ،‬ال شك أن قفزة أخرى لن تنفع يجب أن أكون أكثر حذرا ‪ .‬وقفت ثم‬
‫أمسكت بيدي جيدا حتى صارت قدماي تتعلقان في‬ ‫ُ‬ ‫جلست على الحائط و‬‫ُ‬
‫الهواء وأنا أجهز عقلي للقفز ‪ ،‬واحد ‪ ،‬اثنان ‪ ،‬ثالثة ‪ :‬ال شك ًرا وال ً‬
‫عفوا فيما‬
‫فعلتي ! آتاني صوته الغاضب ممسكا بي جيدا تحت تصفيقات جيرانه‬
‫املجانين ‪ ،‬تركني على األرض وأخذ حقيبتي مني وأمسك يدي وجرني ‪ ،‬ولكني‬
‫سحبتها بكل ما أملك من قوة ‪:‬‬
‫لك أتركني لن آتي حقا ‪ُ ،‬‬
‫كنت أبعد نظراتي عنه حتى ال تقع عيني في‬ ‫ُ‬
‫قلت َ‬
‫عينيه وتنهزم نفس ي ‪ .‬صك على أسنانه بغضب وقال ‪ :‬لن أعيد كالمي إلى‬
‫البيت حاال ‪ ..‬ال أدري ما الذي دفعني إلى االنصياع إلى كالمه ‪ ،‬هل خفت ؟! ال‬
‫أيت أنه بدأ يعيد لي مشاعري التي ضاعت مني ‪ ،‬ضحكت ‪..‬‬ ‫أدري ولكنني ُ‬
‫ر‬
‫ُ‬
‫وأحتاج أن أتأكد لذلك تبعته إلى‬ ‫يد نفس ي‬ ‫ُ‬
‫بدأت أستع ُ‬ ‫خفت ‪ ..‬غضبت ‪..‬‬
‫‪76‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫املنزل وأنا أعرج بقدمي تلك وأمسك يدي التي أحسست اآلن بها بعدما برد‬
‫الدم في جسدي ‪ ،‬ونحن في الدرج الحظ تأخري عليه في الصعود فأمسك‬
‫بساعدي يعينني على تسلق الدرجات ولكن مسكته تلك آملتني كثيرا ربما‬
‫ُ‬
‫نزعت يدي منه وفركته ثم قلت بنبرة غاضبة أيضا‪ :‬ال تدع‬ ‫اليزال غاضبا مني‪،‬‬
‫ً‬
‫يدك تلمسني مرة أخرى ‪ ،‬لقد حذرتك‪..‬‬
‫ُ‬
‫دخلت وأنا شبه خائفة‬ ‫لم َي ُرد فقط انتظرني حتى صعدت ثم فتح لي الباب ‪،‬‬
‫مما سيحدث إذ يقال أن الرجال الذين يكون غضبهم قويا لو استعملوا كل‬
‫طاقتهم وقتئذ لتمكنوا من تدمير العالم بأكمله وسيمان ينتمي إلى هؤالء‬
‫الغاضبون الذين ال يمكنك تحديد ردة فعلهم ‪ ،‬صفع الباب بقوة وألقى‬
‫بحقيبتي أرضا وأمسكني من عنقي ساندا أياي على الحائط ‪ ،‬أحرقني بنظرته‬
‫وفرحت أكثر أ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫دت أن ال ينتهي‬ ‫ر‬ ‫خفت كثيرا‬ ‫التي كانت تشيط غضبا ‪..‬حقيقة‬
‫ُ‬
‫شعرت‬ ‫هذا الشعور الذي اشتقته منذ مدة ‪ ،‬وفي عز غضبه ابتسمت ألني‬
‫ُ‬
‫بركان غضبه علي وزاد‬ ‫َ‬
‫أغضبته ابتسامتي فثار‬ ‫بأن شعورا قد عاد ملكانه ‪،‬‬
‫من الضغط على عنقي ‪ ،‬شعرت بأن جسمي ِاخترق الجدار من هو األلم ‪،‬‬
‫حاولت أن أتخلص من يده التي تخنقني ولكن قوته أكبر وما كان مني إال أن‬
‫ُ‬
‫وأغلقت‬ ‫عضضته ثم ركلته بقوة وهربت إلى أول غرفة والتي كانت غرفته هو‬
‫أدر أين أختبئ‬
‫الباب التي لم أجد مفتاحها وتذكرت أن كل املفاتيح معه لم ِ‬
‫هل أتجه إلى الشرفة ؟ ال الجيران ‪ ،‬لم أقدر على أن أفكر كثيرا عندما سمعت‬
‫خطواته تتجه إلى نفس املكان الذي أنا به ‪ ،‬فقط فتحت باب الشرفة و‬
‫ُ‬
‫اختبأت وراء باب الغرفة ‪ .‬فتحه بغضب وهو يصرخ يا بنت نحن ال نلعب‬
‫ً‬ ‫سأ يك اليوم ف ْع ُ‬
‫محقا سامي عندما زج بك في‬ ‫الت ِك هذه ‪ ،‬كان‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫‪77‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫مصحة األمراض النفسية والعقلية‪ ،‬جال بصره في الغرفة وهو يلقي على‬
‫ُ‬
‫أتواجد أنا بكالمه القاس ي ‪..‬‬ ‫قلبي صخورا من أعلى القمة الى األسفل أينما‬
‫ً‬
‫يتركك الناس عبثا ‪ ...‬تركته حتى‬
‫ِ‬ ‫مجنونة تستحقين كل ما أصابك حقا لم‬
‫ُ‬
‫أخذت حقيبتي‬ ‫ُ‬
‫وخرجت من الغرفة ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أمسكت بقايا كرامتي‬ ‫ِاتجه للشرفة و‬
‫ُ‬
‫ووديان من الحزن‬ ‫لت الدرج أجري بقدمي العرجاء التي أعاقت تقدمي ‪،‬‬ ‫ونز ُ‬
‫ُ‬
‫نفضت مالبس ي من غبار‬ ‫ُ‬
‫بتعدت عن املنزل قليال و‬ ‫ُ‬
‫تضرب بمائها على قلبي ‪ِ ،‬ا‬
‫سقوطي قبل قليل ومشيت إلى وجهة مجهولة ‪ ،‬أعدت ِاشعال هاتفي وفورا‬
‫ُ‬
‫تصلت بياسمين ‪:‬‬‫ِا‬
‫ياسمين ليس لدي الوقت كثيرا هل لي بسؤال !‬
‫ردت ياسمين مرتعبة ‪ :‬مياسين ما األمر ما به صوتك !!‬
‫‪ :‬ال ش يء هل يمكنني أن آتي إلى عندك؟‬
‫بك ! قالتها بهلع ‪..‬‬
‫ياسمين ‪:‬طبعا حبيبتي في أي وقت ولكن ما ِ‬
‫ُ‬
‫سأتواصل‬ ‫‪ :‬سأشتري التذاكر اليوم بإذن هللا وسأخبرك في أمان هللا اآلن ‪،‬‬
‫معك ‪.‬‬
‫ِ‬
‫فور ما ِانتهيت من محادثتي مع ياسمين رن الهاتف مجددا ِباسمه ‪،‬فأغلقته‬
‫أقرب‬ ‫إلى‬ ‫لت حتى البطا ية من غضبي وا ُ‬
‫تجهت‬ ‫مرة أخرى و أ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ز‬
‫ُ‬
‫مشيت ربع ساعة ثم‬ ‫ُ‬
‫وعقمت جراحي هناك بمساعدة الصيدالنية‪،‬‬ ‫صيدلية‬
‫ُ‬
‫جلست أفكر في إحدى األماكن العامة التي تطل كراسيها على البحر والطريق‬
‫معا ‪ ،‬وفجأة ملحته يمر بسيارته من هناك وهو يبحث عن ش يء ما " إنه يبحث‬
‫عني"‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫وجمعت أشيائي بسرعة و بهلع ُ ُ‬


‫حت أغطي وجهي وأمش ي في االتجاه‬ ‫ُ‬ ‫ِارتبكت‬
‫ر‬
‫ً‬
‫املعاكس له وفجأة دون أن أدري ِارتطم كتفي بفتاة شابة كانت تحمل في يدها‬
‫علبة كعك ‪ ،‬وسقط كل ش يء على األرض وتخربت الكعكة وتلطخت‬
‫ُ‬
‫مالبس ي‪ ،‬هكذا أنا كل األشياء التي أملسها أفسدها ‪ ..‬فاجئني أكثر أنها لم‬
‫تصرخ علي فقط احمر وجهها األبيض و بكل رقة وعينين دامعتين نظرت إلى‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫الكعك املرمى على األرض و إلى ثيابي التي غطتها الكريمة ‪ِ ،‬اتجهت‬ ‫ِ‬ ‫بقايا‬
‫نظراتي في كافة األرجاء فتوترت عندما رأيته في سيارته يقود في نفس االتجاه‬
‫ُ‬
‫تميت أعانق تلك الفتاة وأنا أردد خبئيني رجاءا ‪،‬‬‫الذي أنا فيه ‪ ،‬لم أفكر و ِار‬
‫طبعا فاجأتها بردة فعلي ‪ ،‬عندما رأيته يبتعد طلبت العفو منها فقالت ‪:‬لي ال‬
‫بأس ال تهتمي وعالمات االستفهام تجول في عينيها ممن أختبئ ‪ ..‬و منذ مدة‬
‫قلت لها بال سؤال منها أختبئ من زوجي ‪ ..‬جمعت‬ ‫أحدا عن نفس ي ُ‬ ‫لم أحدث ً‬
‫بقايا الكعك وأعطيتها العلبة فضحكت برقة على ردة فعلي البلهاء وقالت‪ :‬هل‬
‫أساعدك ؟‬
‫ِ‬ ‫يمكنني أن‬
‫جوك أريد أن أجد مكانا أغير فيه مالبس ي هذه‪ ،‬كنت‬ ‫‪ :‬نعم ساعديني أر ِ‬
‫متسرعة في كالمي و كأن الوحوش تجري خلفي ولكن كان هو الوحش‪.‬‬
‫متربع على عرش ُر َ‬
‫وح ْينا‬ ‫ُ‬
‫والصمت ٌ‬ ‫ُ‬
‫تمشيت معها قليال وأنا أفكر فيما سأفعل‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫كانت رقيقة ‪..‬هادئة‪ ..‬خجولة ‪ ..‬تخاف أن تقتل األرض خطأ وهي تمش ي عليها ‪،‬‬
‫جدا ككعكة قبل أن تقطع إلى أجزاء ‪ ،‬كانت بيضاء كما‬ ‫لقد كانت جميلة ً‬
‫ُ‬
‫أنصع من الثلج ‪..‬هكذا أخبرت نفس ي بعد موقفنا هذا‬ ‫النرجس ‪ ،‬وكان قلبها‬
‫الذي لم تغضب منه ‪ .‬وصلنا إلى إحدى املحالت الكبيرة وسط املدينة والذي‬

‫‪79‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ٌ‬
‫مشهور‬ ‫الفتة كبيرة ُك ِت َب عليها ‪ ، Mina Cake‬إنه ٌ‬
‫محل‬
‫ٌ‬
‫كانت تعلوه‬
‫اعة صنع الكعك والحلويات إذ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫يقال أن مذاقها يبقى عالقا في‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫بب‬ ‫يعرف‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫كثي‬
‫ُ‬
‫الكثير من الزوار إليه من‬ ‫الذاكرة لألبد وقد ذاع صيته في مدة قصيرة إذ يأتي‬
‫ُ‬
‫سمعت عنه بأنه يقدم ألذ‬ ‫مختلف املدن‪ ،‬لم آت إلى هنا من قبل ولكنني‬
‫ُ‬
‫ظننت أنها ستشتري كعكة جديدة بعدما تخربت األولى‪،‬‬ ‫الكعك على اإلطالق‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫دخلت وقالت لي تفضلي ‪ ..‬تفضلت وراءها وأنا مستغربة من ترحيب الجميع‬
‫لها وهي ترد عليهم بكل حياء ‪. .‬حتى قالت إحدى الفتيات التي كانت جالسة‬
‫بك يا جعفر َ‬
‫وضحكت ‪.‬‬ ‫تبيع الكعك للزبائن ‪ :‬أهال َ‬
‫ُ‬
‫صطدمت بها‬ ‫ستغربت ِواستدر ُت أبحث عن رجل ما ولكن رد الفتاة التي ِا‬
‫ُ‬ ‫ِا‬
‫لك آالف املرات أن ِاسمي هو‬ ‫ُ‬
‫أزال استغرابي ‪ِ ،‬احمر وجهها وقالت ‪ :‬قلت ِ‬
‫أمينة وليس جعفر ‪.‬‬
‫ضحكت كثيرا على ما سمعت منهم حتى ُ‬
‫كدت أختنق‪ ..‬تناديها جعفر يا إالهي‬ ‫ُ‬
‫ضح ْ‬
‫كت الصديقتين وتعرفنا على بعض ‪:‬‬ ‫َ‬
‫وعلى ضحكاتي ِ‬
‫مرحبا أنا مياسين ‪..‬‬
‫ردت بابتسامة عريضة ‪ :‬وأنا صوصو ‪..‬‬
‫قلت مستغربة ‪ :‬صوصو؟!‬
‫فض ِحكت أمينة وقالت ‪ِ :‬اسمها صورية ولكن صديقتنا سلمى تناديها هكذا و‬ ‫َ‬
‫بعد مرور الكثير من األعوام صارت ترفض ِاسمها ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ابتسمت لهما و قلت‪ :‬و أين هي سلمى هذه!‬

‫‪80‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ْ‬
‫وضحكت وما أضحكني ضحكتها تلك مع‬ ‫ردت صورية باندفاع ‪ :‬في املالديف‬
‫حركات الركوع والسجود ‪..‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫وقعت في أناس أغنياء ما شاء هللا ‪ ،‬فضحكتا‬ ‫استغربت وقلت ال إراديا ‪ :‬ربما‬
‫ُ‬
‫خجلت أكثر وأنا متعجبة ‪ ،‬رفعت أمينة أحد حاجبيها‬ ‫على قولي هذا مما‬
‫وقالت‪ :‬صورية تمزح ليست في املالديف ‪ ،‬إنها مشغولة منذ ثالثة أشهر ‪..‬‬
‫تلتزم البيت ‪ ،‬ضحكت صورية وقالت ‪ :‬ربما تحفر في أنفاق األملاس هناك‪.‬‬
‫ضحكنا ثالثتنا وأنا مسرورة من صحبتهما ً‬
‫معا ‪ ،‬كان الجلوس معهما قليال‬
‫عن الناس لفترة‬
‫يجعلني أضحك كثيرا ‪..‬إنهما رائعتين جدا ‪ ،‬ربما ِانغالقي ِ‬
‫طويلة جعلني أنس ى أن هناك ً‬
‫قلوبا طيبة ترتاح لها األنفس ‪..‬‬
‫ً‬
‫قالت صورية وهي تنظر إلى ثياب أمينة مستفهمة‪ :‬ما بها مالبسك ؟!‬
‫أمسكت طرف حجابي وأنا أنظر بخجل نحوها من فعلتي فأنا السبب في‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫اصطدام عنيف‪.‬‬ ‫اصطدامنا‪ ،‬وقبل أن تنطق ُ‬
‫قلت بنبرة غلب عليها اإلحراج ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ردت أمينة مزيلة عني حرجي ‪ :‬ال عليك ‪ ..‬أنا املخطئة ‪ ،‬تعالي معي إلى هناك كي‬
‫أدلك على مكان تغيرين فيه مالبسك و قبل أن تتقدم أمسكتها وهمست في‬
‫ِ‬
‫أذنها‪ :‬أال ُ‬
‫يجب أن نسأل صاحبة املحل قبل أن ندخل إلى هناك ؟‬
‫ابتسمت في خجل وقالت ‪:‬املحل لي ‪ ،‬أنا صاحبته وصديقاتي تساعدنني هنا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫جميل جدا أن‬ ‫نظرت لها في خجل وقلت تبارك الرحمن‪...‬أعانك هللا يا أمينة ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪..‬دمت ناجحة‬
‫ِ‬ ‫ترى ِانسانا صغيرا في السن وقد بلغ السماء نجاحا في أي ش يء‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫اليوم وغدا بل و أبدا‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫غيرت مالبس ي وخرجت أشكرهما كي أواصل طريقي لكنهما أصرتا على‬ ‫ُ‬
‫كنت أنا ُ‬
‫جد‬ ‫استضافتي وقدمتا لي كعكا وعصيرا وجلستا معي تتحدثان و ُ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫سؤال ظريف أحيانا‬ ‫فصمتت أستمع إلى صمتيهما الذي يقطعه‬ ‫خجلة منهما‬
‫ٌ‬
‫وتعليقات مضحكة أحيانا ‪.‬‬
‫ُ‬
‫دخل أحدهم إلى املحل لعله أحد الزبائن ‪ ،‬كان متوسط الطول ‪،‬أسمر‬
‫البشرة ُ‬
‫تزين وجهه لحية سوداء ‪ ..‬ال أدري َ‬
‫لم وجه نظراته لي فور أن رآني ثم‬
‫أشار للعاملة بأن تناديني وهذا ما فهمته عندما تقدمت نحوي تخبرني باألمر‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فضت لقاء هذا الغريب فعادت إليه مرسلة له رفض ي ‪ ،‬فشاط‬ ‫ولكنني ر‬
‫صراخا على العاملة ‪ ،‬نهضت أمينة وصديقتها صورية‬ ‫غضبا ومأل املكان ُ‬
‫ً ُ‬ ‫ُ‬ ‫تريان َ‬
‫وبقيت أنا مكاني محاولة تذكر أين رأيته من قبل ‪.‬‬ ‫أمر هذا املتطفل‬
‫الحظت أن أمينة كانت تخجل أن تتحدث فكانت صورية هي من تتحدث وما‬ ‫ُ‬
‫لبثت يداها أن تقف مكانهما تذهب هنا وهناك وكانت عيناه تذهب معهما ‪،‬‬
‫ُ‬
‫زادت حدة النقاش إلى أن ِارتفع صوت صورية قليال ‪ :‬ااااه الباب هناك‬
‫تفضل وإال تفضلتك رغما عنك‪..‬‬
‫و قبل أن يخرج نظر لي بنظرة لم أفهم معناها ‪ ،‬عاداتا ِواعتذرتا عما حدث ‪.‬‬
‫وقت ذهابي بعدما خفت أن يعود هذا الغبي ويفتعل‬ ‫أخبرتهما أنه حان ُ‬
‫مشكلة ما ‪ ،‬عانقتهما خفيفا ووعدتها بلقاء آخر في يوم آخر‪ ،‬أعطتني أمينة‬
‫ً‬
‫بطاقة تحمل رقم الهاتف وعنوان املحل وأخبرتني أنها بانتظاري وقت ما‬
‫شئت ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كدت أخرج حتى وقع بصري على سيمان وهو يدخل املحل ووراءه ذلك‬ ‫ما ُ‬
‫ُ‬
‫وتذكرت أنه صديقه معتز ‪ ..‬لقد رأيته في العرس ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تبكت كثيرا‬
‫الشاب ‪ ،‬ار‬
‫َ‬
‫أحضرت رفيقك إذا ‪.‬‬ ‫صرخت صورية مجددا ‪:‬‬
‫يعجبك ذلك فاختاري جدارا و اضربي‬
‫ِ‬ ‫رد غاضبا ‪ :‬نعم أحضرته وإذا لم‬
‫أسك عليه ‪..‬‬
‫بر ِ‬
‫كادت ترد بعدما أصبح وجهها أحمرا من الغضب ولكنني أمسكت يدها وقلت‬
‫لها ‪ ،‬ال تقلقي يبحثان عني ‪.‬‬
‫صورية ‪ :‬من هذان هل أتصل بالشرطة؟!‬
‫أنت ؟‬
‫أكثرت ‪ ،‬هل تبحثين عن املشاكل ِ‬
‫ِ‬ ‫رد معتز ً‬
‫مقلبا عينيه نحو السماء ‪ :‬أوه‬
‫ً‬
‫سحبت أمينة صورية من يدها محاولة تهدئيها بعدما أدركت أن حربا كبيرة‬
‫على وشك أن تحدث ولكن صورية قالت غاضبة محاولة اإلفالت من رفيقتها‬
‫ُ‬
‫وينتظر أن‬ ‫يك كيف تكون املشاكل‪ ..‬أما سيمان فكان يراقب تصرفاتي‬‫‪:‬سأر َ‬
‫ُ‬
‫تجاهلت ذلك‪..‬‬ ‫يقع نظري عليه ولكنني‬
‫ً‬
‫قلت لصورية محاولة فك هذا النقاش الذي لن ينتهي ‪ :‬ال تقلقي يا صورية‬
‫ُ‬
‫وصديقه معتز ‪.‬‬ ‫إنه زوجي‬
‫قالت صورية بنبرة مشمئزة ‪ِ :‬ا ُ‬
‫سم هذا الغبي معتز إذا ‪..‬‬
‫كاد معتز يرد لوال أن سيمان أشار له بكفه حتى ينهي هذا النقاش ثم تقدم‬
‫نحوي وقال ‪ :‬بال مشاكل ‪ ،‬بال صراخ ‪ ،‬بال أي فضيحة تفضلي خارجا ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ودعتهما وخرجت قبله وجدت صديقه املتطفل ينتظرنا ‪ ،‬نظرت له باستهزاء‬


‫أحد املحالت ليقتني بعض‬ ‫إلى‬ ‫دخل‬ ‫الذي‬ ‫سيمان‬ ‫أنتظر‬ ‫عنه‬ ‫بعيدا‬ ‫ُ‬
‫ووقفت‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫تنساب على خدي سريعا‬ ‫ُ‬
‫التوتر قد نهش عقلي كليا ودموعي‬ ‫األشياء وكان‬
‫ً‬
‫وقبل أن تصل للمنتصف أمسحها خفية ‪ .‬جلسنا في إحدى املقاهي لكال‬
‫الجنسين ولكن ليس ُ‬
‫نحن اإلثنين فقط ‪ ،‬هذه املرة رافقنا صديقه وهذا ما‬
‫منك‬
‫ِاستغربته أنا لكن لم يطل ِاستغرابي طويال عندما تحدث ‪ :‬أوال أعتذر ِ‬
‫ُ‬
‫أخبرت زوجك بمكانك ولكن ‪..‬‬ ‫ألنني‬
‫قاطعه سيمان ‪ :‬ال أفهم َ‬
‫لم تعتذر ؟!ستخبرني طبعا ‪.‬‬
‫أما أنا فلم أرفع رأس ي ً‬
‫أبدا كنت أستمع وألعب بالكأس املوضوع أمامي ولكن‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أدركت أن معتز‬ ‫غيمة من الدموع بدأت تتشكل مجددا داخل أعيني عندما‬
‫يعرف بزواجنا املزيف ‪ ،‬حتما أخبره أنني دخلت إلى املصحة‪ . ..‬تزعزعت ثقتي‬
‫ُ‬
‫حادثة الخيانة األولى‪ ،‬لذلك كنت أرفض أن‬
‫ِ‬ ‫منذ‬ ‫بنفس ي قليال أو ربما كثيرا‬
‫يعرفوا عني كنت أريد أن أبقى صندوقا مغلقا ال يفتح ‪.‬‬
‫عندما أدرك معتز أنني ال أرفع رأس ي كي ال ُترى دموعي تركنا لوحدنا قليال ‪.‬‬
‫ساد الصمت بيننا إلى أن سمعته يخرج تنهيدة من أعماقه ثم قال وهو يحاول‬
‫أن يختار كلماته بعناية ‪ :‬ال تبكي ‪ ،‬لم أعد غاضب ا منك نعم بالغت وبالغت‬
‫كثيرا ولكن تهون علي عيناك الجميلتان تلك أن تبكي‪.‬‬
‫لم أرد عليه ‪ ،‬ألني خجلت من كلماته األخيرة فقط حاولت أن أمسحها بكف‬
‫يدي وأنا أحدث نفس ي داخال " كوني قوية‪ ...‬كوني قوية "‪. ..‬‬

‫‪84‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أضاف عندما رآني صامتة ‪ :‬لم يكن لقائنا جميال حقا‪ ،‬ولم يكن زواجنا‬
‫جميال أيضا ولم نتفاهم حقا وجمعتنا شجاراتنا أكثر‪ ..‬أعلم ولكن قرار ِك‬
‫املفاجئ بأن تتركي كل ش يء دفعة واحدة لم أستطع أن أتقبله ‪.‬‬
‫رفعت رأس ي وتالقت عيناي بخضرة عينه وتراقصت مشاعرنا حولنا لوهلة ‪،‬‬
‫ثم قلت ‪ :‬أن ننفصل أفضل وهذا ما تريده أنت من البداية ‪..‬‬
‫سيمان ‪ :‬كيف ذلك ؟ لم ال تردين أن نفتح صفحة جديدة بيننا ! ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أنت ال تعرف عني شيئا وحتى أن ما عرفته ٌ‬ ‫قلت بنبرة حزينة‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫جزء بسيط‬
‫ً‬
‫فقط ‪ ،‬ال أريد أن أعيش خيبة أخرى ألنني حقا لم أستطع أن أتجاوز األولى‪،‬‬
‫كذلك تصرفاتك تحزنني كثيرا في بعض األحيان فال أعتقد أننا بإمكان بدء‬
‫صفحة جديدة معا ‪..‬ربما تكمن الراحة في التخلي ‪ ،‬ال تتمسك‪.‬‬
‫أعدك سأتخلى‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أعتذر كثيرا عن غبائي ‪،‬‬ ‫وضع سيمان يده على قلبه وقال ‪:‬‬
‫لم سأجعلك تعيشين خيبة ما ؟! أخبريني‬ ‫ملك ولكن َ‬‫عن كل طباعي التي تؤ ِ‬
‫عنك وسأخبرك حقا إن كنت سأتخلى‪..‬‬
‫َ‬
‫قلت بعد تنهيدة طويلة ‪ :‬ال تتخلى عن أي ش يء من أجل شخص ما ‪ ،‬لست‬
‫َ‬
‫أجعلك تقع موقع خيارين‬ ‫مضطرا لذلك ولكن ال أريدك أن تعرف حتى ال‬
‫لذلك أنا ِاخترت الجواب "ال" بدال منك‪.‬‬
‫أنت ال تعرفينني جيدا ‪..‬ولم تسنح لنا الفرص أيضا لنتعرف على‬
‫سيمان ‪ِ :‬‬
‫بعض بعمق‪..‬‬

‫‪85‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫قلت بحزم‪ :‬وال أريد أن أعرف ‪،‬أن نبقى غرباء أفضل ش يء بالنسبة لي من أن‬
‫نفتح صفحة جديدة وننهيها بعودتنا غرباء مجددا‪.‬‬
‫َ‬
‫تستمتعين كثيرا‬ ‫قال سيمان مازحا بعدما رأى شرودي بعيدا عنه ‪ :‬هل‬
‫ُ‬
‫يرتطم كل الكالم به؟‬ ‫ٌ‬
‫سميك‬ ‫عندما تعانديني ؟! أم يوجد في عقلك ُ‬
‫جدار‬
‫عنادك َ‬
‫أنت ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ابتسمت وقلت ‪ :‬ال أحد يضاهي‬
‫ً‬
‫أنت‪..‬‬
‫ِ‬ ‫بل‬ ‫‪..‬‬ ‫كذلك‬ ‫ليس‬ ‫ال‬ ‫‪:‬‬ ‫معاندا‬ ‫قال‬
‫أيك أن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ضحكت هذه املرة وضحك هو معي ثم أمسك يدي بلطف وقال‪ :‬ما ر ِ‬
‫ً‬
‫ُنصبح أصدقاء إذا؟! ثم إذا لم تتوافق صداقتنا نتطلق برضا من كالينا ؟؟‬
‫مرتبكة منه ثم ُ‬‫ً‬ ‫ُ‬
‫قلت داخلي في الحقيقة أنا أحتاج أن يكون لي‬ ‫سحبت يدي‬
‫ً‬
‫أيضا فقد قر ُ‬
‫أت‬ ‫تاح بصحبتهم فأنا أر ُيد أن أتعافى ويتعافى قلبي‬ ‫أصدقاء أر ُ‬
‫ٌ‬
‫َذات مرة أن املرء ال يتعافى إال بقرب أصدقاءه ‪.‬لم أعطه ً‬
‫جوابا مباشرا بأنني‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫وفرحت أنا لفرحه بذلك ولو كان‬ ‫فرح كثيرا‬ ‫قبلت صداقته ولكني ملحت ‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫األمر بسيطا فقد راق لي كثيرا أن أر ُاه س ِعيدا ‪.‬‬
‫ُ‬

‫نهاية األسبوع وسيأتي ليعيدني إلى البيت بعدما رجوته أن‬ ‫ُ‬
‫نحن اليوم في ِ‬
‫أقض ي ً‬
‫أياما رفقة ياسمين ‪ ،‬أفادني كثيرا تواجدها معي ولو أليام قليلة ‪ ،‬أما‬
‫عم صداقتي معه فقد أخذت منحنى آخر ‪ ،‬في األول كنت أخجل أن أناقشه‬
‫ُ‬
‫انغمست أيضا وشعرت‬ ‫أو أتحدث معه ولكنه فك عقدتي بمزاحه معي ‪ ،‬ثم‬
‫التقيت به من قبل وكأننا نعرف بعضنا البعض جيدا من قبل ‪،‬‬‫ُ‬ ‫كأنني‬
‫ُ‬
‫تخطاه ‪ ..‬لقد ِازداد‬ ‫أسعدني أنه لم يفتح موضوع املصحة مرة أخرى ربما‬

‫‪86‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫نبضات قلبي نحوه ‪ ،‬فطيلة األيام التي قضيتها رفقة‬ ‫اهتمامه بي أكثر وز ْ‬
‫ادت‬
‫صديقتي كان يتصل بي ليطمئن علي في كل وقت‪..‬‬
‫ُ‬
‫بعد أحاديث طويلة وضحكات كثيرة صمتنا قليال نحفظ جمال شعورنا هذا‬
‫قلت له‪ :‬سيمان هال توقفت قليال ‪ ..‬رجاءا أريد أن أشتري مناديال ورقية‬
‫وقارورة ماء ‪. .‬‬
‫ً‬
‫سيمان ‪ :‬سنأخذ استراحة إذا ونتجول هنا قليال ما رأيك؟!‬
‫ٌ‬
‫جميل هو التغيير‪.‬‬ ‫قلت له وأنا مبتسمة ‪ :‬نعم ُ‬
‫األمر يناسبني ‪،‬‬
‫نتجاذب أطراف الحديث حول موضوع ما ثم توقفنا عند‬ ‫ُ‬ ‫كنا نتجول ونحن‬
‫وبقيت أنا خارجا أجول ببصري نحو‬ ‫ُ‬ ‫إحدى املكتبات ‪ ..‬دخل سيمان يشتري‬
‫القابع على أول جريدة ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫املجالت و الجرائد فلفت ِانتباهي أحد العناوين‬
‫العثور على أحد الشباب مقتوال في أحد األحياء الشعبية املهجورة ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شعور مؤلم لم أدري سببه ربما‬ ‫بحثت عن الصفحة ثم بدأت أقرأ و في قلبي‬ ‫ُ‬
‫فوجدت صورة سامي موضوعة بجانب الخبر‬ ‫ُ‬ ‫من تأثير الخبر ‪ .‬فتحتها‬
‫دقات قلبي أكثر ‪ ..‬وارتعشت يداي راقصة خوفا‪:‬‬ ‫فتزايدت ُ‬

‫"عثرت مصالح األمن لوالية " جيجل" أمس على ٍ‬


‫شاب في مقتبل العمر ملقى بأحد‬
‫األحياء الشعبية املهجورة وتعود هوية الضحية إلى ابن أحد العائالت املعروفة‬
‫سابقا "سامي الهاشم" و التي لقيت حتفها في حادث مرور أليم قبل ثالث سنوات‬
‫حيث تعرض للضرب في مختلف أنحاء جسمه من قبل أشخاص لم تحدد هويتهم‬
‫بعد ‪ ،‬فيما ُع ِثر على آثار أربع طعنات خنجر على مستوى الصدر وكذا الحوض وقد‬
‫فارق الحياة في عين املكان ‪ ،‬في انتظار تقدم أقاربه إلى مصلحة الشرطة ألخذ‬

‫‪87‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫الفادات وكذا التوقيع على تسليم الجثة في حين فتحت مصالح األمن تحقيقا في‬
‫مالبسات القضية ‪{ .‬إنا هلل و إنا إليه راجعون}"‬

‫ُ‬
‫شعرت بضبابة تمر فوق بؤبؤي عيني ولم أعد قادرة على‬ ‫بردت روحي و‬
‫ِاستيعاب أي ش يء حتى قدماي ما عادت تسطيع حمل جسدي ‪ ،‬فقط‬
‫ٌ‬
‫وصور مشوهة ألشخاص لم‬ ‫أصوات ضجيج غير مفهوم التقطتها أذني‬
‫أميزهم‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأصبحت شجرة بال عروق ‪ ،‬فراشة بال‬ ‫اليوم فقط ‪ ،‬تخلى عني الجميع‬
‫مؤلم و قاس هو ر ُ‬ ‫دة بال رائحة ‪ ،‬إنسانا بال أحد‪ٌ ..‬‬ ‫ر ً‬
‫حيل األحبة‬ ‫جناحين ‪ ،‬و‬
‫ُ‬
‫حتى إن كانوا آملونا يوما ‪ ،‬قد كنا نعلم أنهم بخير وكان هذا يكفينا ‪ ،‬ولكن اآلن‬
‫ً‬
‫ال أحد أعلم عنه بأنه يتنفس في الجانب اآلخر من العالم و مرة أخرى تركوني‬
‫لم ال أترك يدي أنا أيضا ‪..‬وألني تعبت من‬ ‫تعبت من أن ُأترک دوما َ‬ ‫ُ‬ ‫أيضا ‪،‬‬
‫نفس ي هذه املرة سأتركها أيضا ربما ُح ِكم علي بالقاع مؤبدا ‪ ..‬سأتخلى أنا‬
‫أيضا ‪ . .‬سأتخلى‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪89‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إلفصل إلرإبع‪:‬‬

‫يف إلقاع ‪. . .‬‬

‫‪90‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫حكايات كثيرة ألشخاص تفرقت أرواحهم مع كل قصة مؤملة تلتها‬ ‫ٌ‬ ‫القاع‬
‫في ِ‬
‫ُ‬
‫يخنق سعادتك دوما و‬ ‫شرف من يحبون ‪ ،‬في القاع ٌ‬
‫ظالم‬ ‫عليهم الدنيا على‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫القاع مدينة كبيرة من األوجاع اجتمع فيها كل‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫‪..‬‬ ‫دوما‬ ‫أسفله‬ ‫نحو‬ ‫يسحبك‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫والكثير من كل‪ ..‬ولكل منا حكاية‬ ‫من َحزنوا ‪ ،‬كل من تركوا ‪ ،‬كل من تأملوا‪..‬‬
‫ُ ْ َ‬
‫تؤلم أكثر من أخراها‪ ،‬أصعب ما هناك أنك لن تعرف املكان كيف‬
‫ُ‬
‫القدر صوته ‪ ،‬ستبقى في‬ ‫فقد سمعه واغتال‬ ‫يبدو! ستكون كاألعمى الذي َ‬
‫مكانك مربطا بحبال قاسية تسمى ‪ :‬عقدة ‪.‬‬
‫بعمق‬ ‫مجددا‬ ‫تنهض‬ ‫لن‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫ما‬ ‫يوما‬ ‫تقع‬ ‫ال‬ ‫حتى‬ ‫كثيرا‬ ‫ال تثق كثيرا وال ُت َ‬
‫حب‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫نفسك فأنت خاسر‪،‬‬ ‫حرب‬
‫الخيبة التي أصابتك فحتى وإن انتصرت على ِ‬
‫كنت تحملها داخلك قبل أن تقع أنت وتنكسر‬‫خاسر لكثير من األشياء التي َ‬ ‫ٌ‬
‫هي ‪..‬‬

‫خمس سنوات‪...‬‬
‫ِ‬ ‫قبل‬

‫‪91‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫املرء طفولة قاسية ُي ْجهل سببها‪ ،‬كأن يظل يبحث دوما‬
‫يحدث وأن يعيش ُ‬ ‫قد‬
‫عن السبب وال أحد يجيبه ‪ ،‬أتعرفون ما هو أكبر عقاب يحصل عليه من‬
‫جرحونا؟! أن ال نسألهم هذا السؤال أبدا "ملاذا ؟" ال تسأل هذا السؤال في‬
‫حياتك مطلقا فهو أكبر عقاب لهم ‪ ،‬بسؤالك لهم ستفتح بينك وبين القاع‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫شرخا ال ُ‬
‫يعاد اصالحه ‪ ،‬لذا أترك الشرخ مفتوحا بينهم وبين أنفسهم فقط ‪،‬‬
‫ال تجعلهم يتخلصون من عذاب ضميرهم ‪ ،‬ال ِترحهم عندما تسألهم بِـ" ملاذا"‪،‬‬
‫أما أنت ً‬
‫فيوما ما ستجيبك األيام عن سؤالك " ملاذا" فتمهل ‪...‬‬
‫لم تطرح مياسين هذا السؤال أبدا على أمها التي كانت تكرهها ‪ ،‬خافت أن‬
‫تعرف السبب فتكره نفسها حقا‪ ..‬خافت ونجت ألن "من يخاف دائما‬
‫والدة مياسين يمأل البيت كثيرا كانت‬ ‫اخ ميساء‬‫من ينجو" ‪.‬وقد كان صر ُ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ل‬
‫كثيرة التذمر على ِابنتها ‪ ،‬كانت دوما تهتم بسامي وتضعه في املقام األو أما‬
‫هامش املحبة وكانت تكره أن تراها تضحك‬
‫ِ‬ ‫مياسين فكانت تقف دوما خلف‬
‫ولكن ابنتها عنادا فيها تضحك وتضحك رغم أن شعور االستبعاد و الالحب‬
‫ُيؤملها كثيرا لكنها كانت تهدي أمها حبا مقابل كرهها لها الذي نمى فجأة عندما‬
‫منذ أن ْ‬‫ُ‬
‫ولدت "ميساء" توأمين‬ ‫فقدت توأم مياسين ‪ ،‬كانت قد مضت شهرين‬
‫نسخة عن بعض فقط شامة صغيرة في وجه "ميس" ‪ .‬تعرضت ُ‬ ‫ً‬
‫لح َّمى شديدة‬
‫ولم تنتبه لها أمها ألنها كانت تحمم "مياسين " وعندما ِانتهت من ذلك كانت‬
‫ً‬
‫أكال ‪ ،‬أخبر الطبيب زوجها ياسين أن ُ‬ ‫ُ‬
‫الحمى‬ ‫الحمى قد أكلت جسدها الصغير‬
‫تمض‬
‫كانت كبيرة على جسم الطفلة ويخش ى أنها أهلكت عضوا داخليا ‪ ،‬لم ِ‬
‫ً‬
‫سوى يومين حتى توفت الصغيرة تاركة ُحرقة بجحم مجرة في قلب أمها ‪ ،‬ومن‬
‫يومها اعتزلت "ميساء" تربية التوأم املتبقي ووقعت املسؤولية على عاتق‬
‫‪92‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫"ياسين" ‪ ..‬وحملت مياسين ذنبا لم ترتكبه سوى أن "ميس" لم يكن لها قدر‬
‫أن تعيش فيه سوى شهرين ‪.‬‬
‫مضت طفولتها بشكل قاس ممتزج بالفقر والكره ممن أنجبتها ‪ ،‬كانت تحار ُب‬
‫ظهر قلب " ذات يوم ستشر ُق‬‫ِ‬ ‫عن‬ ‫حفظتها‬ ‫ملة‬ ‫كل ش يء بابتسامة ساحرة و ُ‬
‫ج‬
‫لنا ُ‬
‫األيام الجميلة فال تكترث "‪ ،‬تغلبت على كثير من املشاكل والسخريات التي‬
‫مضت الكثير من األعوام وهي تتحدى الدنيا و‬‫ِ‬ ‫كانت تتعرض لها من أقرانها ‪،‬‬
‫هذا هو عامها الثاني في الجامعة كانت رفيقتها وصديقتها الوحيدة هي ِابنة‬
‫قان بعض أبدا في الجامعة ‪ ،‬في املنزل وفي كل ش يء‬
‫عمتها رقية ‪ ،‬كانتا ال تفار ِ‬
‫حتى في القلب لم تكونا تفترقان ‪ ،‬امتزجت حياتهما الجامعية بنكهة من‬
‫ُ‬
‫البهجة والسرور ‪ ،‬لقد كانتا أختين بالقلب والروح ‪ ،‬ما يحزن األولى يبكي‬
‫الثانية ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تعيش لحظاتها بعمق متيقنة أن ال ش يء يستحق الحزن ‪..‬‬ ‫كانت مياسين‬
‫ً‬
‫تحتفظ بداخلها على روح جميلة نسجتها من الكتب التي كانت تقرأها ِخفية‬
‫على أمها والتي كانت كلما وجدت كتابا في غرفتها أحرقته ألنها تعلم أن ذلك‬
‫يسعدها وكانت هي ترفض سعادتها مطلقا ‪ ..‬هل تعرفون أولئك األشخاص‬
‫الذين أينما حلوا ‪ ،‬حلوا سالما على أهلها ! وتركوا فيهم من طيبة املشاعر ما‬
‫تركوا ! كانت هكذا مياسين أينما حلت أزهرت ُحبا وعطرا على قلوبهم ‪ ،‬كانت‬
‫جميلة جدا للحد الذي ُيسعى إليها بكل قوة ولكن لألسف يأتي وأن يمر‬
‫ٌ‬
‫أشخاص ملوثون بالسواد ‪ ،‬فينفثون غبارهم على أعيننا فال نرى من بعد‬
‫ذلك نورا و هذا ما فعله بها ذلك الدنيء الوضيع "ادريس" كان يظهر في كل‬

‫‪93‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫مكان كانت تذهب إليه وقد كان ملحا على أن تكون معه ‪ ،‬كان يمثل الحب‬
‫ببراعة حتى كاد يحصل على جائزة نوبل إلتقان الدور جيدا‪ ،‬وكانت ترفضه‬
‫دوما إلى أن أخبرته يوما وهي تشيط غضبا " إن كنت تريدني حقا فتفضل من‬
‫الباب ال تعترض طريقي في الشوارع كل مرة و تس يء بسمعتي أكثر" ‪ ،‬اختفى‬
‫ملدة قليلة ثم تقدم لخطبتها فوافق أهلها وكانت فرحتها فرحتين ‪ ،‬فقد وقعت‬
‫هي أيضا في حبه كانت تراه كل ش يء فعين املحب ال ترى إال محبوبها ‪ ،‬أينما‬
‫كانت تذهب تأخذه معها في قلبها ‪ ،‬كان يغنيها عن كل الحاضرين‪ ،‬تعلقت‬
‫روحها به كثيرا للحد الذي أصبح التخلي عنه ً‬
‫يوما مؤملا جدا و يا ليتها ما‬
‫تعلقت‪ ..‬ومض ى ٌ‬
‫عام على خطبتهما هذه ‪ ،‬كانت قد شكلت حدودا بينه وبينها‬
‫وحذرته من أن يتعداها ‪ ،‬كانت تلتقي معه بوجود رقية دوما ‪ ..‬الحظت تغيره‬
‫التدريجي ‪ ،‬لم يعد يتصل كما قبل حتى اللقاءات بينهم بدأت تقل شيئا‬
‫فشيئا ‪ ،‬فقط حبها هو من ظل على ما هو ‪ .‬اليوم ستتخرج من كلية اآلداب ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫سعيدة جدا هي بيومها هذا ‪ ،‬تخطت كل أشواك الطريق واليوم ستصل إلى‬
‫ً‬
‫نهايته ‪ ،‬كانت طريقا زاخرة باملعيقات‪ . .‬صعبة جدا ولكنها تخطت وحاربت ‪.‬‬
‫لتحضر الشهادة التي تحصلت عليها ولكنها أحضرت معها‬ ‫ذهبت وحدها ْ‬
‫ُ‬
‫خيبة بعمق املحبة وعادت ‪ ،‬كانت قد خرجت من املكتب الذي تسلم فيه‬
‫الشهادات ‪ ،‬اتصلت برقية حتى تلقي بها ولكنها لم ترد‪ .‬اتصلت به أيضا فكان‬
‫هاتفه مغلقا‪ ،‬كانت تشعر بانقباض شديد في قلبها ‪ ،‬قررت أن تتجول آخر‬
‫مرة في الجامعة و تودع زميالتها ثم تذهب لتجهز حفلتها‪ .‬اتجهت إلى املكان‬
‫ُ‬
‫يمسك بيد رقية‬ ‫الذي جمعها أول مرة بإدريس و يا ليتها لم تتجه ‪ ،‬رأته‬
‫ُ‬
‫واملسافة بينهما متقاربة جيدا للحد الذي يجعلك تشمئز والضحك غارق‬

‫‪94‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬
‫بينهما ‪ ،‬وقع ما بيدها من أوراق ووقع قلبها ق ْبلهم فانكسر ‪ ،‬توقف الزمن بها‬
‫وظلت فقط صورتهم معا ُ‬
‫تلعب على أعصاب قلبها ‪ ،‬كان األمر مؤملا جدا للحد‬
‫الذي تصبح كل طيات عقلك تخبرك أنك مجنون ‪..‬للحد الذي ترى بعينك أن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يطحن قلبك دون رحمة‪ ،‬مؤملا جدا يشبه كثيرا الوقوع من فو إلى‬
‫ق‬ ‫أحدهم‬
‫بعمق املحبة تأتي الخيبة فال تحب كثيرا حتى‬ ‫تحت فتتهشم ولكن ال تموت‪ِ ..‬‬
‫عمق الطعنة ‪،‬‬‫ال تقع في القاع مثلما وقعوا من قبلك وبعمق حبها له جاءتها ُ‬
‫ِ‬
‫حافة الحب ترك "إدريس" يد مياسين ودفعتها لألسفل من تكون‬ ‫من هنا وعلى ِ‬
‫َ‬
‫ِابنة عمتها قبل أن تكون صديقتها " رقية" ‪.‬‬
‫ذات يوم من غبائنا ‪:‬أصدقاء ‪..‬‬ ‫بيننا وبين ومن ُنحب ‪ ،‬بين من أسميناهم َ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ‬ ‫على‬ ‫ما‬ ‫طرف‬ ‫ويقع‬ ‫فجأة‬ ‫ينقطع‬ ‫‪،‬‬ ‫قلوبنا‬ ‫بين‬ ‫يصل‬ ‫فيع‬ ‫ر‬ ‫‪..‬خيط‬ ‫أحباء‬
‫ات أبدا و لو‬ ‫وينكسر ‪ ،‬ولوال مقص الخيانة لبقى متصال ثابتا ال تهزه العثر ُ‬
‫ِ‬
‫ِاجتمعت كل املشاعر السيئة ملا كانت مقززة مثل شعور الخيانة ‪.‬‬
‫هل تدري معنى أن تؤمن قلبك لدى أحدهم و يخونه؟! ويهديك هذا األحدهم‬
‫أنك تتمنى أن تتقيأ قلبك ‪ ،‬هل تدري معنى أن تجد نفسك‬ ‫أملا كبيرا لدرجة َ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫منكسر ومهشم في مكان‬ ‫بين ليلة وضحاها ً‬
‫ملقا على األرض وكل جزء منك‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ما؟! الخيانة مؤملة جدا للحد الذي تشعر بها تنهش عظامك بسكين حاف ‪،‬‬
‫ُ‬
‫شدة احتكاكه بالعظم كلما زادت حدة األلم ‪ ،‬فال هو ٌ‬
‫قادر على أن‬ ‫كلما زادت‬
‫بشاعة هذا األمر‬
‫ِ‬ ‫يسرع وينهي األمر وال هو ٌ‬
‫قادر على أن يقطع بلطف‪ ،‬بحجم‬
‫ُ‬
‫الثمن ً‬ ‫ُ‬
‫بشاعة الخيانة ‪ ،‬كل ْ‬
‫غاليا‬ ‫من أحب من قلبه دفع الثمن وكان‬ ‫تبلغ‬
‫جدا‪ ،‬البعض دفعوا أرواحهم حتى ‪ . .‬و ألن املشاعر الحقيقية هي املشاعر‬ ‫ً‬

‫‪95‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬ ‫التي ال ُ‬
‫نقدر على أن نصفها ‪ ،‬فقط نحترق بصمت و نعيشها ونحن نعلم بكل‬
‫َ‬
‫ليخرج عبر‬ ‫جوارحنا املؤملة أن ذلك الشعور ال ُ‬
‫يجد الكلمات املناسبة‬
‫ٌ‬
‫بكماء ال تستطيع وصف العالم الكبير الذي يعيش‬ ‫أفواهنا‪ ،‬فالكلمات‬
‫داخلنا‪.‬‬
‫صفعتين بحجم املحبة ألقت بها مياسين في ُحضن وجهيهما وغادرت املكان‬
‫تحت تنديه ادريس ورقية لها ‪،‬حاوال اللحاق بها لكنها لم تمنح لهم أية فرصة‬
‫ُ‬
‫فماذا تبقى لتبقى؟ ال ش يء يقال بعد الخيانة ‪ ..‬ما ورائها نقطة نهاية كبيرة في‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫يصمت‬ ‫أجمل ما قدمته لهم مياسين هو كلمة واحدة‬ ‫دفتر ِانتهت أوراقه ‪،‬‬
‫الجميع خوفا من نطقها "حسبي هللا ونعم الوكيل" وأرفقتها بنظرة السخرية‬
‫ُ‬
‫التي قابلتها في أعينهم لوعة خوف وخسارة حارقة‪ ،‬كانت أعينهم تلتهب خسارة‬
‫ُ‬
‫وتشتعل ندما على فعلة حمقاء قادتها الشهوة في لحظة ضعف ما ‪ .‬وكطفل‬
‫باك هرول يبكي نحو أمه فصدمته بصفعة ‪ ،‬صفعت ميساء ابنتها برفضها‬
‫فسخ الخطوبة تحت عنوان ‪:‬كرامتي وسمعتي بين النساء ستنهار كجدار بناه‬
‫ٌ‬
‫شخص قطع يده ‪ ،‬لم ترغب ميساء في محاولة فهم مشاعر ابنتها قط رغم‬
‫علمها بخيانة ادريس إلبنتها ‪ ،‬وجاءت الصفعة الثانية من والدها بأن كلمته ال‬
‫ترد وسط الرجال وحاول إقناعها بأنها مجرد خطأ ولن يعيده فهذا هو طيش‬
‫الشباب ‪ ...‬تبا للعائلة التي تغرق أوالدها بيدها من أجل فقط قواعد بناها‬
‫مجتمع جاهل‪ ،‬ماذا لو خسرا كبريائهما مقابل سعادة ابنتهما ‪ ،‬هل كانت‬‫ٌ‬
‫السماء ستنهار على األرض ؟! انهارت ذلك اليوم أرواحهما ِوانتقلت الى جوار‬
‫جسد مياسين بينما بقيت روحها تحت ركام‬ ‫ُ‬ ‫ربي في حادث جد مؤلم ‪ ،‬ونجا‬
‫السيارة ‪ ،‬بين الزجاج املنكسر والدماء الباردة‪ ،‬واآلمال املدفونة هناك ‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ِاستمر ظالمها شهرين ال تعرف عن نفسها شيئا سوى حلم واحد كان يتكرر‬
‫كل مرة ‪ ":‬في مكان مجهور من البشر كانت الطيور تملكه ‪ ،‬تسقط إحدى‬
‫العصفورات جريحة من فوق والدماء تغطي ريشها األبيض ‪ ،‬وقبل أن ترتطم‬
‫باألرض يلتقطها ٌ‬
‫طائر ضخم ويهوى بها إلى األعلى ‪ ..‬ثم يغزو الظالم ما تبقى" ‪.‬‬
‫قد يأتي ِاختبار هللا لعبده دفعة واحدة ‪ ،‬يختبر فيه صبره وإيمانه وحتى قلبه‬
‫ثم بعد الشدة يرزقه فرحا ينسيه حدة اآلالم التي مضت ‪ ..‬فقدت مياسين‬
‫الذاكرة بشكل جزئي لم تعد تتذكر فقط األشهر األخيرة قبل الحادث ‪،‬‬
‫قد أنها الزلت طالبة وتحضر ليوم تخرجها ‪ ،‬لم تتذكر ِادريس وال حتى‬ ‫تعت ُ‬
‫رقية فبعمق خيبتها رمت بهم هي أيضا ليس فقط خارج قلبها بل تعدى األمر‬
‫إلى عقلها ‪ ،‬ففي الوقت الذي نعتقد بأنها النهاية تكون هنالك بداية مختلفة‬
‫جدا عما سبق ‪ ،‬حياة جديدة ملياسين ُزينت باالكتئاب والصدمات ‪. .‬‬
‫ً‬
‫النسيان والخيبات ‪ِ . .‬استغرق عقلها عاما في ِاسترجاع جراحها التي غابت مدة‬
‫ٌ‬ ‫من الزمن وصا ت تطفو على السطح ً‬
‫شيئا فشيئا ‪ ..‬وثم خيبة أخرى تفقد‬ ‫ر‬
‫فيها ما تبقى من نفسها عادت لها ذاكرتها فجأة بعدما التقت بإدريس في أحد‬
‫األعين مع بعض ولكن قلبها ال ‪ ،‬توقف أمامها محاوال‬‫ُ‬ ‫الشوارع ‪..‬تالقت‬
‫ُ‬
‫الكثير من الصور‬ ‫االعتذار عن خيانته ولكن رأسها آملها بشدة عندما بدأت‬
‫ً‬
‫ترقص داخل مخها وأخيرا تذكرت كل املشهد ‪ ،‬نزلت دموعها من هول تلك‬
‫الذكريات السيئة فحاول أن يتقدم نحوها ليعتذر مرة أخرى ولكنها ألقت‬
‫ِ‬
‫عليه كيسا مليئا بالبرتقال وأمسكت يد صديقتها واختلطت بين الناس ‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫قد يشكل عدم التقبل أحيانا أملا حادا يغير فيه الشخص إلى جدار صلب ال‬
‫يشعر بش يء فمن الجيد أنها وجدت رفيقة تعينها على خيباتها "ياسمين"‬
‫بعدما ابتعد عنها أخوها سامي وتركها تتخبط وحدها بين أروقة الحياة‪.‬‬
‫ً‬
‫أصبحت باردة جدا ‪ ،‬ليست لها أدنى ردة فعل ‪ ،‬جسد ًبال روح فقط يتنفس‬
‫وباتت مرفقة بانهيارات عصبية و كسر كل األشياء التي تجدها في طريقها بعد‬
‫ً‬
‫لقائها بإدريس واستعادتها لذاكرتها دفعة واحدة و تر َّسخ مشهد الخيانة في‬
‫عقلها ‪ ،‬ال ترى شيئا سوى تلك اللحظات املؤملة التي كانت سببا في فقدانها‬
‫ٌ‬
‫لوالديها ‪ ..‬وباتت فتاة من صراخ ‪ ،‬كسر ‪ ،‬بكاء ‪ ،‬حزن‪..‬‬
‫أبرياء من كل ش يء عدا من ذنب واحد أنهم ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫أشخاص‬ ‫في املصحة يوجد‬
‫ُ‬
‫أحبوا من األعماق ‪ ..‬وثقوا ثقة عمياء ‪ ،‬منحوا قلوبهم ‪...‬كانت رائحة املهدئات‬
‫ُ‬
‫وستسكن أعصابي ‪ ،‬فهل يهدأ قلبي‬ ‫حزنا وقسوة ‪ ،‬ستهدأ روحي‬ ‫تمأل املكان ً‬
‫بهذا الدواء؟! لو دخلتم قلوبنا بعد خرابها لوضعتهم أيديكم على رؤوسكم‬
‫ً‬
‫دهشة و لسقطت قلوبكم موتا من هول ما أيتم ‪ً ،‬‬
‫فرفقا‬ ‫ر‬ ‫ولفتحتهم أفواهكم‬
‫بالقلوب فخرابها ليس بهين‪.‬‬
‫بقرب أطفال أبرياء بدأت روحها تتعافى قليال ‪ ،‬أعادت فرحتهم وبهجتهم‬
‫القليل من قلبها معهم بدأت تبتسم ‪ ..‬معهم بدأت تشعر بأنها الزلت حية ‪،‬‬
‫الحمد والشكر لياسمين ‪ ،‬وجدت روضة لألطفال عن طريق معارفها ‪..‬‬
‫عندما ظنت أنها ستتعافى أخيرا حتى ولو لم تعد كما كانت فقد تغيرت كثيرا في‬
‫َ‬
‫أشياء جديدة تفيدها وأضافت لوقتها أشغاال تنسيها وما‬ ‫عام آخر ‪ ،‬تعلمت‬
‫سيئات سامي الذي خدعها في لحظة ِانكسار غاب‬‫ُ‬ ‫برحت إال و وقفت أمامها‬

‫‪98‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫وعيها فيها ‪ ،‬أرغمها على الزواج من شاب ال تعرف عنه شيئا سوى أنها وقعت‬
‫على صك باسمها ُسحب من عنده ‪ ،‬كيف ذلك!؟ " بعدما تعرف سامي على‬
‫سيمان أقنعه بجديته في أنه يريد أن يرسم البهجة على شخص عزيز عليه ‪،‬‬
‫ويريد ماال حتى يقام هذا املشروع ‪ ،‬ثم يكون الربح مشتركا بينهم ‪ ،‬فقط‬
‫ُ‬
‫يحتاج إلى ِانطالقة وبقية األمور سهلة ‪ ،‬وألن سيمان ظن أنه ال يمكن ألي‬
‫ٌ‬
‫مستعد ألن يضر روحا تحمل دمه‬ ‫شخص أن يلعب بمصير أخته فال أحد‬
‫ُ‬
‫سحب القرض من الشركة التي بدأ العمل حديثا‬ ‫وكل ش يء ‪ ،‬قبل الفكرة وتم‬
‫فيها و فر سامي إلى وجهة مجهولة وظل "سيمان صبرواي" يبحث عنه طويال‬
‫إلى أن ألقى رجاله القبض عليه في املنزل وهناك تم التفاوض و تم اإلعالن عن‬
‫ً‬
‫مياسين ضحية تدفع الثمن بال ذنب ‪.‬وكان سبب عدم ِايصال القصة إلى‬
‫طاولة الشرطة هو خوف سيمان من معرفة عائلته بأمر املبلغ الذي نصبه‬
‫سامي وبالتالي يحرم من كل حقوقه في إدارة شركة والده وهذا ما لم يتقبله ‪.‬‬
‫خاليا من الفرح ‪ً . .‬‬
‫خاليا من الحب ‪ً . .‬‬ ‫ُ‬
‫الزفاف ً‬
‫خاليا من كل ش يء سوى‬ ‫كان‬
‫ش يء واحد يتكرر في أفواه الجيران ‪ :‬مياسين كسرت ثقة أخيها من أجل شاب‬
‫أعمتها أمواله ‪ ،‬شكرا لعمتها التي لم تسكت أفواه الحاضرين ولم تبارك حتى‬
‫البنة أخيها املرحوم ‪ ،‬كان حضورها ِاجباريا من زوجها الذي كان يعتبرها ابنته‬
‫الثانية‪.‬‬
‫في حين أن كل فتاة تحلم بيومها ذاك كانت هي تلعنه ‪ ،‬تمنت لو لبست‬
‫ً‬
‫األبيض ورآها والدها وأوصاه عليها ‪ . .‬تمنت لو كان شخصا تحبه من أعماقها‬
‫ً‬
‫لو أن رقية كانت معها ‪ ،‬لو أن تلك الخيانة لم تحدث أبدا‪ ،‬تمنت وتمنت‬

‫‪99‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫مجرد أصوات ُنسكت بها صر َ‬‫ُ‬


‫اخ قلوبنا و بقية القصة‬ ‫ولكن األمنيات‬
‫تعرفونها ‪ ،‬فدون أن نعود مجددا للبداية أخبركم اآلن أن الذين يتسببون في‬
‫اب القلب ليسوا هم املسؤولون عن التعافي ‪ ،‬يتعافى املرء بقرب ربه‬
‫األلم وخر ِ‬
‫‪ ..‬فقط نحتاج ملن يرشدنا وبقية الطريق علينا ‪ ،‬إن أحببت يوما أو جمعتك‬
‫عالقة طيبة بين أناس آخرين‪ :‬ال تخذلهم أبدا ‪ ،‬ال تلقي بهم أسفل الهاوية‬
‫فلعلك تكون أنت األمل الوحيد الذي يتمسكون به و ألني أعتقد أن اآلالم‬
‫ُ‬
‫تصيب املرء فيبقى التشوه محفورا في الذاكرة‬ ‫النفسية من أكبر اآلالم التي‬
‫حتى وإن شفيت الجروح تبقى تلك اآلثار شاهدة على الجريمة التي ارتكبت في‬
‫ُ‬
‫حقك سابقا و ستكون رحلة التعافي قاسية جدا ‪ ،‬ال تعبث ! ‪ ،‬ال تخذل !‬ ‫ِ‬
‫ستجد ما َ‬
‫ميت به غيرك‪.‬‬‫ُ ر‬ ‫فنحن في دائرة ‪ ،‬وذات يوم‬
‫ً‬ ‫آيات من القرآن ُتتلى ‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬
‫نساء يرتوون نميمة في عزاء كان من املفروض أن‬
‫ُ‬ ‫يكون ً‬
‫حزينا ‪ ،‬أحاديث كثيرة عن فالن وفالنة ‪ ،‬عن كل السيئات التي سترها‬
‫هللا فهتك بها عباده ‪ ..‬في مجتمعي ال ُيعطى للميت حقه إال من رحم‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ومكان لتجمع كما‬ ‫أصبحت الجنازات نقطة التقاء وترويح عن النفس‬ ‫ربي‪،‬‬
‫هائال من السيئات‪.‬‬
‫حادثة الخيانة تلك ولوال‬
‫ِ‬ ‫دخلت مياسين إلى بيت عمتها التي لم تطأ قدمها منذ‬
‫أن لها خاطر لزوج عمتها ملا أقيمت حتى الجنازة هناك ‪ ،‬الجميع يهرول نحوها‬
‫تكره أن تراه في أعينهم ‪ ،‬سمعت عبارات تعظيم‬‫بداعي الشفقة األمر الذي ُ‬
‫روح أخيها‬
‫األجر ومواساتهم املزيفة ثم جلست في زاوية ما ‪ ،‬تقرأ القرآن على ِ‬
‫وتمسح عبرات ِانسابت سريعا على وجنتيها ‪ ..‬وقعت عينها في عين رقية التي‬

‫‪100‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫كانت متجهة نحوها ونظرة الندم مازالت تكتسيها ‪ ،‬تشجعت رقية عندما رأتها‬
‫تنظر إليها فتقدمت أكثر ‪:‬‬
‫رقية ‪ :‬عظم هللا أجرك وغفر له ربي وأسكنه فسيح الجنان ‪.‬‬
‫مياسين ‪ :‬شكر هللا سعيكم وصمتت تحوقل وتذكر هللا‪.‬‬
‫رقية ‪ :‬عندما رأيتك تنظرين لي عرفت أنك سامحتني وهذا ‪...‬‬
‫ُ‬
‫وضعت عيني في عينيك لكني لم أر ِك ‪.‬‬ ‫سامحتك !!‬ ‫قاطعتها مياسين ببرود ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ارتبكت رقية وقالت‪ :‬أنا آسفة جدا على ذلك اليوم ‪..‬‬
‫مياسين ‪ :‬يا بنت "أنا آسفة" تقال ملن وطأ على قدمك دون قصد وليس ملن‬
‫ُ‬
‫تكسر قلبه عنوة مع سابق اإلصرار و التنفيذ‪.‬‬
‫أرادت رقية أن تواصل الحديث ولكن سيمان أنقذها باتصاله نهضت وتبعتها‬
‫رقية ‪:‬‬
‫مياسين ‪ :‬وعليكم السالم ‪..‬‬
‫أنت بخير ؟ بقي قلبي معك حقا ‪.‬‬
‫سيمان ‪ :‬هل ِ‬
‫مياسين ‪ :‬بخير ‪ ،‬ال تقلق‪..‬‬
‫أتيت أمام الباب‬
‫سيمان ‪ :‬هال ِ‬
‫مياسين ‪ :‬حسنا آتية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وكلمات من هنا وهناك تلقى‬ ‫خرجت مياسين أمام الباب تحت أنظار النساء‬
‫على قلبها ‪ ،‬هي تعلم ومدركة أنها أصبحت يتيمة ِلم يريدون تذكيرها وجدته‬
‫‪101‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ينتظرها ‪ ،‬ارتمت إلى حضنه ألول مرة دون أن تدري وهي تبكي وتشتكي له أنها‬
‫أصبحت يتيمة وأكثر من اليتم‪ ،‬بال أحد ‪.‬‬
‫مسح دمعها وشد على يدها وأخبرها أنه معها ال يجب أن تقلق ‪ ،‬بقيت عيناه‬
‫ً‬
‫أكلت شيئا؟ أخاف أن يغمى‬
‫على وجهها الشاحب ثم قال بنبرة حزينة ‪ :‬هل ِ‬
‫عليك من جديد ‪..‬‬
‫ردت عليها ‪ :‬ال تقلق ‪ ،‬لن يحدث ش يء ‪..‬‬
‫وهللا قلبي ٌ‬
‫حائر عليك‪..‬‬ ‫قال وهو غير مقتنع بإجابتها‪ :‬ال تعاندي اآلن ‪ِ ،‬‬
‫لم ترد عليه بل اكتفت بالصمت والنظر بعيدا عنه ‪ ،‬كاد يضع يده على كتفها‬
‫ً‬
‫ولكنه الحظ فتاة تحدق بهم من وراء الباب فسألها‪ :‬من تلك التي تنظر إلينا !‬
‫عينا مياسين على رقية التي كانت تنظر بنظرات ندم َما نحوهم وقالت‬
‫وقعت ْ‬
‫بزلة لسان ‪ :‬هذه التي أسميتها ذات يوم أختي وخانتني مع من أحببت ‪.‬‬
‫أحببت؟! هل تقصدين أنك ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫بنظرة متفحصة لها قال ‪ :‬من‬
‫قطعته مبررة كأنها قرأت ما كان يريد أن يقول‪ :‬ال ال ليس كما تقصد ‪ ،‬كان‬
‫خطيبي ‪..‬‬
‫رد بتفهم ‪ :‬حسنا ال علينا ولكن رجاءا أريد أن أسمع منك كل ش يء عندما‬
‫تنتهي هذه الجنازة ‪ ،‬لقد صرنا أصدقاء ال تنس ي‪ ،‬وأرفقها بابتسامة جميلة‬
‫تدر عنها ثم واصل حديثه‪ :‬ستأتي أمي بعد‬‫تحمل الكثير من الحب لكنها لم ِ‬
‫قليل رفقة أختي وزوجات أخوي ‪ ،‬سأتصل بك عندما يأتون ‪.‬‬
‫كادت تعود إلى الداخل لوال أنه تذكر شيئا ‪:‬‬
‫‪102‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫اه مياسين نسيت أن أخبرك !‬


‫َ‬
‫نسيت أن تخبرني ماذا !‬ ‫مياسين ‪ :‬نعم ‪..‬‬
‫التقيت بهما عندما‬
‫ِ‬ ‫سيمان ‪ِ :‬اتصل بي معتز يبحث عن رقم هاتفك لفتاتين‬
‫قفزت من الشرفة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫قفزت من هناك ؟!‬ ‫غطت وجهها بخجل وقالت ‪ :‬هل ستذكرني كل مرة بأني‬
‫ضح ك على خجلها وقال لها ‪ :‬حسنا عودي إلى الداخل‪ ،‬ليس من الجيد أن‬
‫األشياء التي كانت تتجاهلها فوجدت‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الكثير من‬ ‫نضحك اآلن ‪ .‬عادت وفي قلبها‬
‫"رقية" تنتظرها أمام الباب تخطتها قائلة ‪ :‬ال تالحقيني هنا وهناك مضت‬
‫أنك‬
‫معرفتك بما مررت به إال ِ‬
‫ِ‬ ‫خمس سنوات عشتها جحيما بسببكما ورغم‬‫ُ‬
‫لم تبيني لي ندمك ذاك مطلقا ‪..‬حتى عندما ُ‬
‫كنت أترامي في املصحات لذلك ال‬
‫حصلت‬ ‫ُ‬
‫أسامح عليها ‪،‬‬ ‫تريني وجهك ‪ ،‬كل ش يء ينس ى إال الخيانة ال أنساها وال‬
‫ِ‬
‫حلة الجحيم التي سيغوص فيها ضميرك ‪..‬هذا‬ ‫على جوابك إذا بالتوفيق في ر ِ‬
‫إن كان لك ضمير ‪ ،‬وجلست مكانها ‪..‬‬
‫ُ‬
‫جاءت والدة سيمان رفقة ِابنتها وكنتيها وكانت قد تغيرت الكثير من األشياء ‪،‬‬
‫قد كانت أسماء على عتبة الطالق بسبب مشكلة اإلنجاب ‪ ...‬اآلن هي حامل ‪.‬‬
‫وكانت فدوى تعيش على عرش الحب الذي زينته أطماعها كثيرا ‪ ،‬اآلن هي على‬
‫عتبة الطالق بعدما كثرت املشاكل بينها وبين بهاء الدين ‪.‬‬
‫القليل من الوقت كفيل بتغير الكثير حقا‪ ،‬أما نرجس فكانت قد فقدت‬
‫نورها وبهجتها لسبب ما وحل االصفرار مكانهما في وجهها إذ أنها جاءت مرغمة‬
‫من أجل والدتها فقط ‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫رحبت بهم مياسين وجلست معهم ‪ ..‬تقدمت سيدة الدار "عمة مياسين"‬
‫نحوهم تدعي وتنوح أنها أهل مياسين أمامهم ولكن ما خفي في القلوب أعظم‬
‫بدموع تماسيح ال أحد يدري من أين أتت صارت تند ُب حظ مياسين في‬ ‫ِ‬ ‫و‬
‫مجلس العزاء ‪ ،‬وهذا ما أزعج أم سيمان كثيرا ‪ ،‬حاولت أن ُت ِقيمها وهي تخبرها‬
‫بأنه قضاء وقدر وأخيرا نجحت في ذلك فتشجعت وأضافت وهي تنظر نحو‬
‫كنتها الصغيرة بحزن ‪ :‬نحن أهلها أيضا ولن نتركها أبدا ال تقلقي عليها ليست‬
‫وحدها مطلقا ‪ ،‬هللا ونحن وزوجها دائما معها‪.‬‬
‫تفاجأت مياسين من كالم حماتها وظلت تفكر فيه هل حقا ‪..‬؟! كما يقولون !‬
‫ولكن سنتطلق بعد فترة فقط أجلنا األمر قليال ‪ ..‬والكثير من األفكار‬
‫املشابهة ولكن ِاتصاال في الهاتف أعادها إلى الواقع كان رقما بال اسم ردت‬
‫صوت أنثوي‪ ،‬كانت أمينة وصورية هما من ِاتصلتا للتعزية ‪ ،‬وطلبتا‬ ‫ٌ‬ ‫فباغتها‬
‫منها اللقاء بعد ِانتهاء أيام العزاء ‪.‬‬
‫أما عن معتز منذ يوم شجاره مع تلك الفتاة وهو يفكر فيها كثيرا ‪ ،‬التقى بها‬
‫صدفة في إحدى الشوارع مرة أخرى وتجاهلته ‪ ،‬كانت تضحك رفقة صديقتها‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫تارة وتارة تغضب ‪ ،‬لقد كانت جميلة جدا ‪ ،‬عيناها تصرخ بندقا قصيرة‬
‫ٌ‬
‫للحد الذي تجعلك تنحني لها حبا واحتراما ‪ ،‬كتلة من املزاح تمش ي على األرض‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تسرع كنملة تبحث عن قمحها ‪ ،‬عصبية كثيرا وما أجملها أنداك‪..‬‬ ‫كانت‬
‫حاول إلقاء السالم ولكنهما لم تردا عليه‪ ،‬فقال لها مقاطعا طريقهما ‪:‬‬
‫غاضبة مني يا بنت ؟! توقفت مستغربة وقالت‪ :‬مجنون أنت؟! َ‬‫ً‬
‫لم‬ ‫لت‬
‫هل ما ز ِ‬
‫أغضب منك ربي يهديك؟! ثم تخطته وواصلت طريقها أما هو فغاص تفكيره‬

‫‪104‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫نفسه بأن تكون له في الحالل ‪ ،‬فصار يذهب كل ما سنحت له‬ ‫ُ‬ ‫فيها ووعد‬
‫ُ‬
‫عبره مطلقا‬
‫الفرصة إلى محل ‪ Mina cake‬أينما ِالتقوا أوال وكانت ال ِ‬
‫ت‬
‫وأحيانا ال يجدها هناك وعندما يسأل صديقتها أمينة عنها ال تجيبه ‪ ،‬وألنه‬
‫لم يجد فرصة للحديث ِاتخذ حجة موت أخا مياسين فطلبتا منه رقمها ‪،‬‬
‫ُ‬
‫وسعد هو بأول إنجاز له‪.‬‬

‫لم تشأ مياسين أن تبقى في بيت عمتها وذهبت رفقة سيمان وعائلته إلى‬
‫القصر حتى تكون املسافة قريبة‪ ،‬و ألول مرة ستتشار ُك معه غرفة واحدة‬
‫ألنه ال أحد من عائلته يعرف األمور بينهما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كانت منهكة ‪ ..‬متعبة و حزينة جدا على فقدانها ألخيها فزاد التوتر من نصيبه‬
‫أيضا وقض ى عليها‬
‫جهز لنفسه فراشا على األرض و احتراما ترك السرير لها وقبل أن يضع رأسه‬
‫ً‬
‫على الوسادة نظر إليها يتفحصها فوجدها متكورة على ركبتيها فقال ‪:‬نامي‬
‫ألست متعبة ؟‬
‫ِ‬ ‫قليال وتخافي ‪،‬‬
‫ردت عليه قائلها ‪ :‬لكن التعب داخلي وليس في جسدي ‪..‬‬
‫أطرقت رأسها تخفيه عنه فنهض وجلس أسفل السرير محاوال أن يخفف‬
‫ُ‬
‫سنلبس كفنا أبيض ‪ ،‬وما هذه‬ ‫قضاء ٌ‬
‫وقدر وكلنا ذات يوم‬ ‫ٌ‬ ‫عنها ‪ :‬إنما ُ‬
‫املوت‬
‫اس ُت ِض ْف َنا فيها لعدة أعوام ‪ ،‬فال تحزني فقط تذكريه بالدعاء‬
‫دار ْ‬
‫الدنيا إلى ٌ‬
‫والصدقات ‪ ،‬وهللا ٌ‬
‫غفور رحيم ‪..‬‬

‫‪105‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫كادت تقول ‪ :‬إن شاء هللا سأت‪ ..‬ولكن طرقات خفيفة على الباب قاطعتها ‪،‬‬
‫ً‬
‫نرجسا‬ ‫فارتبكا وقاما سريعا يخفيان ما وضع سيمان على األرض لقد كانت‬
‫ً‬
‫نرجسا أخرى بوجه وردة ذبل فجأة ‪.‬‬ ‫بجسمها ‪ ،‬و‬
‫نرجس‪ :‬أر ُيد أن أفضفض معك قليال إن كنت تريد ‪.‬‬
‫سيمان ‪ :‬تفضلي يا عزيزتي ‪.‬‬
‫شعرت مياسين بأن عليها أن تخرج فاستأذنت ونزلت تحت‪.‬‬
‫وضعت نرجس رأسها على كتف أخيها وبكت فقط ولم تتحدث ‪ ،‬سألها خائفا‬
‫عليها ولكنها أخبرته أنها فقط تريد أن تبكي و ال ش يء بها ‪ ،‬سوى الرغبة في‬
‫البكاء ‪ ،‬ضحك وظن أنها عادت إلى عاداتها الطفولية بعد صمت طويل قالت ‪:‬‬
‫ُ ً‬
‫أخطأت يوما ما هل ستسامحني!‬ ‫سيمان ماذا لو‬
‫َ‬
‫تخطئين في ماذا ‪..‬؟ لم أفهم ‪..‬‬ ‫رد مستغربا‪:‬‬
‫عندما رأت جدية وجهه خافت كثيرا وغيرت مجرى الحديث إلى أيام طفولتهم‪،‬‬
‫أما مياسين فالتقت بفدوى وهي تتحدث على الهاتف ربما مع أمها وعيونها‬
‫ً‬
‫تروي قصة أخرى عن الندم ‪ ،‬أغلقت سريعا وندهت على مياسين ‪ ،‬التفت‬
‫ً‬ ‫إليها حائرة ‪ ..‬هل تراها ُ‬
‫تريد أن تسبب مشكلة أخرى ولكن فدوى نهضت‬
‫املرة املاضية ‪ ،‬بل‬
‫بيد مياسين ثم قالت‪ :‬سامحيني على حماقتي في ِ‬ ‫وأمسكت ِ‬
‫وحتى على كل كلمة جرحتك بها ‪ُ ،‬‬
‫كنت غبية والزلت ‪..‬سامحيني ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫عنك ‪ ،‬بل أنت من يجب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ربتت على يدها وقالت بحنو‪ :‬يشهد هللا أنني عفوت ِ‬
‫عليها أن تسامحني على تطفلي ذاك‪..‬‬
‫‪106‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ردت فدوى ِباندفاع ‪ :‬ال ‪..‬ال تقلقي سامحتك أيضا‪..‬‬


‫قاطعهما صوت توأميها يتشاجران فهرعت نحوهما تاركة مياسين مكانها‬
‫ً‬
‫فوجدت السيدة رتيبة تجلس‬
‫ِ‬ ‫الدرج‬ ‫لت‬
‫ِ‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫ى‬‫فدو‬ ‫هرولة‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫مبتسمة‬
‫رفقة زوجها في الصالون فندهت عليها بأن تنضم إليهما ولكنها خجلت أن‬
‫ُ‬
‫تقاطعهما فاعتذرت وراحت تبحث لنفسها عن مكان تجلس فيه ريثما تنتهي‬
‫نرجس من محادثتها ‪ ..‬ولم تجد إال الحديقة فجلست بين أشجارها وِاتخذت‬
‫للسماء الصافية التي تألألت‬
‫ِ‬ ‫جذع أحد األشجار سندا لها‪ ،‬رفعت رأسها‬
‫بأضوائها وطارت بين النجوم‪.‬‬
‫مضت ساعة ونصف من الزمن ِوانتهت محادثته مع أخته التي سافرت معه‬
‫إلى ذكرياتهم حتى لم يشعروا بمرور الوقت ونسوا أن هناك كائنا متعبا جدا‬
‫يحتاج إلى النوم بشدة "مياسين" تذكرها فجأة فنهض سريعا مخبرا أخته أن‬
‫السهرة ِانتهت ‪ ،‬علقت عليه بنكاتها رغم انطفائها قائلة‪ :‬يا لك من أحمق ‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أجل فتاة تعرفت‬‫ِ‬ ‫من‬ ‫سنة‬ ‫رين‬ ‫وعش‬ ‫سبعا‬ ‫معها‬ ‫عشت‬ ‫التي‬ ‫أختك‬ ‫في‬ ‫تفرط‬
‫عليها البارحة ؟‬
‫غرفتك حاال ‪ ،‬أخرتني عن زوجتي!‬ ‫ُ‬
‫فرطت‪ ..‬هيا إلى‬ ‫قال ممازحا إياها ‪ :‬نعم‬
‫ِ‬
‫ضحكت له ثم ِاتجهت إلى غرفتها وهي تحاو ُل حبس دموعها بعدما رأت حب‬ ‫ْ‬
‫أخيها لزوجته واهتمامه بها وفي قلبها ٌ‬
‫نيران من ندم على عالقتها املحرمة التي‬ ‫ِ‬
‫أخذت بها بعيدا نحو جهنم الدنيا ‪..‬وربما اآلخرة ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بحث عنها في كل أرجاء املنزل فلم يجدها ‪ ،‬أخبرته فدوى أنها ربما تكون قد‬
‫ذهبت عند أسماء ‪ ..‬عاد إلى غرفته وخرج إلى الشرفة فرآها تسند جذع‬
‫‪107‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫شجرة في الحديقة ‪ ،‬جالسة كمالك نزل من السماء في هيئة بشر ركض‬
‫سريعا إلى هناك كانت قد نامت نوعا ما ‪ ،‬أيقضها خفيفا ففجعت وكادت‬
‫تهرب لوال أنه أمسك بها وطمأنها ‪.‬‬
‫ُ‬
‫فنرجس‬ ‫أعتذر منك أطلنا الحديث قليال‬‫ُ‬ ‫سيمان ‪ :‬هيا فلتنامي على السرير ‪..‬‬
‫ُ‬
‫شعرت بأن ِانطفاءا غريبا حل بها‪..‬‬ ‫ذهبت بنا بعيدا بأحاديثها ‪ ،‬ال أدري‬
‫مياسين بتفهم‪ :‬ال عليك ‪ ،‬أر ُيد البقاء هنا إن كنت ال تمانع ولكن ما بها‬
‫نرجس؟‬
‫ٌ‬
‫غريب يخبرني بأنها ليست بخير ؟!‬ ‫ٌ‬
‫شعور‬ ‫سيمان ‪ :‬ال أدري ِ‬
‫وهللا في داخلي‬
‫ردت مياسين وكأنها تذكرت شيئا‪ :‬هل سألتها ؟ أو حاولت االستفسار!‬
‫رد مزفرا بقلق ‪ :‬سألت ولم تجب ‪ ..‬أوف !‬
‫ٌ‬
‫اكتئاب بسيط ويمر ‪ ،‬تعال اجلس‬ ‫ردت مياسين تزيل قلقه عنه‪ :‬ال تقلق ربما‬
‫هنا ال ْ‬
‫تبق واقفا ‪.‬‬
‫قلت لي اآلن اجلس بجانبي ؟ أم أنني توهمت!‬
‫سيمان مبتسما ‪ :‬هل ِ‬
‫ردت مياسين خجلة ‪ :‬ال لم أقل ‪ ،‬تهيأ لك فقط‪..‬‬
‫جلس سيمان و ِاتكأ إلى جذع الشجرة مبتسما على خجلها وكتفه يالمس‬
‫كتفها فشعر برعشتها من ذلك التالمس فابتسم أكثر لألمر وقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫لت تخجلين مني؟!‬‫ِ‬ ‫ز‬ ‫ما‬ ‫لم‬‫ف‬ ‫واحد‬ ‫سقف‬ ‫تحت‬ ‫فيها‬ ‫عشنا‬ ‫أشهر‬ ‫بعة‬
‫مضت أر‬

‫‪108‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫ستفصح عما في قلبها قريبا وبدأت‬ ‫صمتت مياسين وأدركت أن أسئلته‬
‫وجنتيها تحمران تدريجيا ‪.‬‬
‫أكرهك‬ ‫عندما لم ترد عليه تشجع بصمتها ليتحدث فقال ‪ :‬أتد ين ُك ُ‬
‫نت‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ُ‬
‫تمنيت ذات يوم أن ال نلتقي أبدا ‪ ،‬برودك كان‬ ‫ظلك في البيت ‪،‬‬
‫كثيرا و أكره ِ‬
‫يقتلني ‪..‬‬
‫ُ‬
‫قاطعته ونبرة الحزن قد بدت في صوتها ‪ :‬ال عليك سينتهي كل هذا ‪ ،‬ومن‬
‫األفضل أن ننهيه ‪ ،‬لن أكون حمال عليك ال تقلق‪..‬‬
‫أمسك يدها ودار بجسده نحوها وثبت عينيه في عينيها وقال ‪ :‬ولكنني اآلن‬
‫أريدك ‪ ،‬دعيني أفصح عما في قلبي ‪ ،‬ألم تدرس ي األدب في الجامعة ؟ لقد قلت‬
‫"كنت" وليس "ما ُ‬
‫لت"‬ ‫لك ُ‬
‫ز‬
‫مياسين ‪ :‬ال تفصح أرجوك ! ساحبة يدها منه وهي تعلم في قرارة نفسها أنه‬
‫ً‬ ‫أصبح ُ‬
‫القاع مرة أخرى‪،‬‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫تقع‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫خائفة‬ ‫‪،‬‬ ‫الحب‬ ‫من‬ ‫خائفة‬ ‫كانت‬ ‫‪..‬‬ ‫حبها‬ ‫ي‬
‫وأعدك‬
‫ِ‬ ‫قرأ عينيها وأدرك أن ماضيها هو السبب ‪ :‬ال تخافي مني ‪ ،‬أخبريني فقط‬
‫بأن ال أتركك مهما عرفت‪.‬‬
‫ً‬
‫نظرت له بخوف وقالت ‪ :‬خائفة أن أغوص مرة أخرى في القاع‪.‬‬
‫ُ‬
‫أقسمت لك باسم هللا ‪...‬‬ ‫سيمان ‪ :‬لن تغوص ي‪..‬‬
‫ً‬
‫ردت خائفة مترددة ‪ :‬ال دعها تبقى داخلي‪..‬‬
‫قلت لك فضفض ي ‪ ..‬وال تخافي لقد أقسمت باهلل ‪ ،‬وهللا غال ال‬ ‫قال بحزم ‪ُ :‬‬
‫َ‬ ‫ُي ُ‬
‫لعب باسمه أبدا‪..‬‬

‫‪109‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫بتنهيدة أخرجتها من األعماق وهي تحفظ مالمح النجوم وتحفر يدها من‬
‫توترها قصت عليه ما عاشته على مدار الخمس سنوات وكيف تعرضت‬
‫للخيانة وكيف كانت أيامها في املستشفى واملصحة ‪ ،‬حكت كل ش يء ألن كل‬
‫ً‬
‫تلك الحكايات كانت زائدا على قلبها وكان هو دوائها‪ ،‬بكى معها عندما بكت ‪،‬‬
‫شعر أنه ليس من العدل ما عاشت ‪ ،‬صعب على رجل كل هذه الهموم فما‬
‫بالك بأنثى و أدرك أنه لو عرفها قبال لعرف انسانا آخر ‪ ،‬فهي اآلن ٌ‬
‫مزيج من‬
‫ٌ‬
‫الخيبات التي عاشت والتجارب التي غاصت فيها ‪ ..‬ولكن مع كل ذلك "جميلة‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫جدا هي روحها"‬
‫بكى ومسحت هي دمعه وقالت له ‪ :‬ال تبكي ما ُ‬
‫عدت أبكي أنا ‪.‬‬
‫حضنها بشدة واعترف قلبه لها بأنه يحبها ‪ ،‬سمعت دقات قلبه وهي تنبض‬
‫وتريد أن تقفز من قفصه الصدري ‪.‬‬
‫يحمل حبا كبيرا لم يعرفاه بعد ولم يتوج على‬‫ُ‬ ‫انتهى هذا العناق الذي‬
‫َ‬
‫أخبرتك فقط ليس لتشفق علي أو ش يء‬ ‫لسانهما بعد ‪ ،‬كسرت الحزن وقالت ‪:‬‬
‫َ‬
‫أخبرك حتى ال تتركني‪.‬‬ ‫ُ‬
‫احتجت ألن أتحدث ولم‬ ‫من هذا القبيل‪ ،‬فقط‬
‫سيمان ‪:‬لم أشفق عليك ‪ ،‬بل تأملت ملا عشت ويؤملني كثيرا أنني لم أكن معك‬
‫كنت أعلم بكل ش يء فقط أردت أن أسمع‬ ‫في ذلك ‪ ،‬ولن أتركك أصال ألني ُ‬
‫منك ‪.‬‬
‫ً‬
‫مياسين بدهشة‪ :‬كيف ذلك من أخبرك بهذا ال أحد يعلم بالقصة كاملة‬
‫سواي ؟!‬

‫‪110‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫سيمان بحذر خائفا من دة فعلها ‪ :‬قر ُ‬


‫أت مذكراتك التي بعث بها املرحوم‬ ‫ر‬
‫سامي مع أزهارك إلى البيت في اليوم الذي قفزت من الشرفة عندما أخدتك‬
‫إلى عند ياسمين ‪ِ ،‬استغربت ما في الصناديق فأخفيتها في غرفتي وفي كل ليلة‬
‫ُ‬
‫أغوص فيها ‪.‬‬ ‫كنت‬
‫ابتسمت وخجلت مجددا لفعلها ِوامتزجت مشاعرها بخليط غير مفهوم‬
‫وراحت تفكر في ما قال وفي تصرفه هذا ‪.‬‬
‫يدك‬ ‫ُ‬
‫أتركك ليس من أجل الدين دفع الدين منذ مدة ‪ ،‬بل ألنني أر ِ‬
‫ِ‬ ‫أضاف ‪ :‬لن‬
‫وقلبي أيضا‪..‬‬
‫مياسين وقد احمرت أكثر وهربت كلماتها و اقتطعت الصدمة حبالها‬
‫الصوتية ‪ :‬كيف ذلك ؟‬
‫أخبرها بالقصة كاملة تحت دهشتها و طبول دقات قلبها وتز َ‬
‫ايد حبها أيضا وفي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األخير قال لها ‪ :‬هل تقبلين أن تكوني زوجتي على سنة هللا ورسوله من‬
‫جديد؟! هل تقبلين أن تجلس ي ملكة على عرش ي قلبي وأتوجك بحبي ؟!‬
‫غطت وجهها بيديها وضحكت هي وفهم هو أنها قبلت‪...‬وهنا بالذات كانت‬
‫ً‬
‫بداية أخرى‪..‬‬
‫ُ‬
‫عانيناه طوال طريق كثرت أوراق‬ ‫من الجميل أن نجد نهاية نستحقها بعد ما‬
‫النهايات حزينة وليست كلها سعيدة أيضا‬
‫ِ‬ ‫الكره والخيانة فيها فليست كل‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫ونحن لم نصل بعد للنهاية‪..‬‬

‫‪111‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬
‫وقعت فيه ‪،‬أن تجد‬ ‫القاع الذي‬ ‫من‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ينق‬ ‫أن‬ ‫بإمكانه‬ ‫الحالل‬ ‫في‬ ‫ُ‬
‫طريقك‬
‫ِ‬
‫بحسنك وبعيوبك أيضا‪ ،‬هنا فقط أنتَ‬ ‫بحلوك ُومرك ‪ُ ،‬‬‫من يتقبلك كما أنت ‪ُ ،‬‬
‫الروح قبل القلوب‬ ‫في‬ ‫ُ‬
‫الروح‬ ‫فيه‬ ‫وقعت‬ ‫حب ٌّ‬
‫نقي‬ ‫أيضا تمسك به ‪ ،‬فذاك ٌ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫فحصنه باسم الذي وضعه في قلبك أن ال يضره ش يء و ِاجعله كل‬
‫القصص‪...‬بل القصة التي ال تريد أن تكون لها نهاية كهذه مثال‪...‬‬

‫‪112‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪113‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫إلفص ُل إخلامس‪:‬‬

‫ُ‬
‫وجدت قليب ‪. . .‬‬

‫‪114‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬
‫الكثير من األشياء‬ ‫ُ‬
‫وجدت‬ ‫حلة بحث عن قلبي الذي سقط في القاع‬ ‫في ر ِ‬
‫ُ‬
‫وجلست هناك أبحث عنه‬ ‫الرهيبة التي ال ُتحكى ‪ ،‬تعبت ‪ ..‬حزنت ‪ ..‬تأملت ‪..‬‬
‫برفقة طير ضخم أنقذه قبل أن يسقط ‪،‬‬‫ِ‬ ‫بين كومات القلوب و أخيرا وجدته‬
‫ُ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫ُ‬
‫توهمت أني وقعت ‪ . .‬لم أقع بعد‪ ،‬أن ِقذت في منتصف وقوعي ‪ ،‬أمسك‬ ‫فقط‬
‫ً‬ ‫بي حبه ِوانتشلني من ضياعي واألجمل من ذلك عادت َّ‬
‫إلي مشاعري ساملة‬
‫ً‬
‫غانمة بصحة وعافية أكثر مما كانت وألنه أنقذني سيبقى قلبي له ومعه ً‬
‫دوما‪..‬‬
‫خانني الجميع ولكنه لن يخونني متأكدة من ذلك أكثر من ِاسمي ‪ ..‬أنا ال‬
‫حب في الشرفات وحب‬ ‫حب في الطرقات ‪ٌ ،‬‬ ‫أقصد بالحب ما تفهمون أنتم ‪ٌ :‬‬
‫طيبا يبدأ تحت سقف واحد وال‬ ‫مزركش بالحرام‪ ،‬ما أقصده ُح ًبا حالال ً‬
‫ٌ‬
‫ُ‬
‫عفيفا تبار ُك له مالئكة الرحمن ‪،‬‬
‫حبا طاهرا ‪ً ،‬‬
‫الجنة أيضا ‪ً ..‬‬
‫ِ‬ ‫ينتهي ويستمر في‬
‫ً‬
‫حبا نقيا جدا ‪ . .‬نبدأ يومنا فيه بفنجان من إيمان ونحن نصلي الفجر معا ‪،‬‬
‫ُ‬
‫تحكم‬ ‫وننهيه بكأس من تقوى ونحن نقوم الليل ‪ ..‬معا أيضا ‪. .‬الحب الذي‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ولدت أنا بجناح واحد‬ ‫الرحمة رحلة إيمانية معا ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫املودة‬
‫ِ‬ ‫محكمة‬ ‫عليك به‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وبقيت ناقصة حتى التقيتك وصرنا بجناحين ف ِطرنا معا في‬ ‫أطر‬‫لم أستطع أن ِ‬
‫مجرة الحب والعشق ‪.‬‬
‫ِ‬
‫كتبت هذه األسطر عن الحب ‪ ،‬نعم أنا من‬ ‫ُ‬ ‫يتساءلون اآلن هل حقا أنا من‬
‫بك أن ِت لذلك الذي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحالل تحدثت ‪ .‬وما ح ِ‬
‫ِ‬ ‫الطاهر‬
‫ِ‬ ‫كتبت ولكن‪ ..‬عن الحب‬
‫ُ‬
‫تعتقدين أنه سيكون زوجك ليس بحب ‪ ،‬بل مجرد إعجاب زينته خطوات‬
‫ُ‬
‫تعتقد أنه مجرد قضاء للوقت والتسلية سوى‬ ‫الشيطان‪ ،‬وما حبك َ‬
‫أنت الذي‬

‫‪115‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ذنوب كثيرة عظيمة عند هللا وال تعتقد أيضا أنك رجل ‪ ..‬ال فقد سقط هذا‬
‫االسم َ‬
‫عنك فابحث عن اسم آخر يناسبك ‪..‬ربما "زان" أكرمكم هللا لذلك يا‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫ويستمر في الجنة ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الحب ش ٌيء آخر يبدأ من طر ِق باب البيت‬ ‫أنتم وأنتما ‪:‬‬
‫كانت هذه األسطر األخيرة التي ضمتها مياسين إلى الدفتر األسود و هنا ِانتهت‬
‫السعيدة‬
‫ِ‬ ‫الحزينة و‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الكثير من القصص والحكايات‬ ‫كل صفحاته التي مألتها‬
‫ً‬
‫معا‪.‬‬
‫اليوم تحديدا ستلتقي مياسين بصورية لتخبرها أن معتز يريد أن يتقدم لها ‪،‬‬
‫َ‬
‫فقد ألح على سيمان كثيرا حتى يبعث بمياسين لتخبرها بطلبه هذا حتى‬
‫ً‬
‫مجنونا بصورية تلك ال يعرف شيئا‬ ‫يتقدم إلى بيتهم بصفة رسمية إذ أصبح‬
‫ُ‬
‫سواها وال يتحدث إال عنها ‪ ،‬ستمر باملدرسة قبال وتمض ي على آخر ورقة‬
‫ً‬
‫لتأخذ عطلتها األبدية وتبدأ قصة أخرى‪.‬‬
‫التقت بصورية ومعها أمينة في محلها واليوم كانت معهما فتاة أخرى ‪ ،‬كانت‬
‫ُ‬
‫صديقتهم األخرى "سلمى" ولكن لم تسنح لهم فرصة التعارف جيدا بسبب‬
‫ٌ‬
‫ضيق الوقت ‪ ..‬ولكنها بدت لها أنها نظراتها غريبة جدا نحوها ‪..‬‬
‫أما العصفورة صورية فطارت ً‬
‫فرح ا بالخبر الذي تلقته ألنها هي أيضا وقعت‬
‫بحبه ولكنها تعففت وأعرضت عن الحب الحرام ولم تبح ألحد عما اختلج‬
‫ً‬
‫مشاعرها ‪ِ ،‬اتصلت مياسين تزف هذا النبأ الحلو لسيمان لكن فتاة ما ردت‬
‫على الهاتف ‪ ،‬في البداية خافت أن تكون أخرى في حياته ولكنها عرفت بأنها‬
‫إحدى املمرضات ‪ ..‬سيمان في املستشفى تعرض لحادث ما‪ ،‬خرجت مسرعة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تسمع صوتا فقط الخوف يعتريها من أن تخسره هو أيضا ‪.‬‬ ‫ال ترى أحدا وال‬

‫‪116‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬ ‫ُ ً‬
‫مرة ما شيئا َ‬
‫يصعب عليك‬ ‫كنت تحسبه غاليا على قلبك‪،‬‬ ‫فعندما تخسر‬
‫كثيرا أن تفقد مرة أخرى ‪ ،‬فقط ألنك ال ُ‬
‫تحب شعور الفقدان املمتزج باأللم و‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫دقات القلب التي تصبح ثقيلة عليك حتى ‪ ،‬تخاف من أن تعيش ذلك الشعور‬
‫الذي ال يطاق مرة أخرى ‪ . .‬ال تخف كل من يخافون يخسرون أحيانا وال‬
‫ٌ‬
‫خذالن جميل ‪ ..‬عفوا أقصد أليم‪. .‬‬ ‫تتعلق بشدة أيضا حتى ال يقابلك‬
‫ٌ‬
‫تضاض في يده وباقي جسمه على ما يرام ‪،‬سألته‬ ‫ٌ‬
‫خدش في الجبين ِوار‬ ‫فقط‬
‫يشعر بآالم أخرى واتخذ من ذلك فرصة لدلعه‬‫ُ‬ ‫مئة مرة عما يؤمله أو هل‬
‫فقد أعجبه خوفها عليه رغم أن عيناه روت حزنا فور ما رآها ‪ ،‬بعد ردهة‬
‫أخبرها كطفل صغير يشكو ألم قلبه ‪ :‬يؤملني هنا كثيرا يا مياسين وأشار نحو‬
‫أعماق األعماق غدرت قلبي نرجس ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫قلبه ‪ ..‬ثم واصل بعد تنهيدة خرجت من‬
‫غدرته ‪ ،‬وبكى على كتفها ‪ ،‬مسحت دمعه وربتت على قلبه وقالت ‪:‬‬
‫ْ‬
‫واصبر ِل ُحك ِم رِب َك‬
‫بعد بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ :‬قال تعالى في إحدى سوره" ْ‬
‫إنك بأعيننا" ‪ ..‬ال تحزن يا سيمان فقط صبرا جميال ‪ ،‬سيفرجها هللا وال‬ ‫َ‬
‫تتسرع في قرارك نحوها فقط ضعوها بينكم وحاولوا فهمها وما ُ‬
‫سبب لجوئها‬
‫لعالقة محرمة فهي ليست وحدها مخطئة ‪ ،‬كلنا مخطئون معها ‪ ،‬ربما عدم‬
‫سؤالك عنها ‪ ،‬وعدم اهتمامكم بها ‪ ،‬غياب والديك عن املنزل أحيانا ‪،‬‬
‫أصدقائها التي اختارت ‪ ..‬كلنا صنعنا شيطانا بداخلها دفعها إلى ما دفعها ‪،‬‬
‫صعب جدا ‪ ،‬وال يحل إال باملناقشة‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫األمر‬ ‫فال تخسر أختك مجددا ‪..‬‬
‫واملفاهمة وهللا ال ينفع غضبكم عليها في ش يء سوى زيادة نفورها منكم‬
‫التفكير في االنتحار حتى تتخلص من شعور الندم الذي يحيط بها ‪..‬‬

‫‪117‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫كان صامتا يفكر في أقوالها ‪ ،‬ثم قبلها من رأسها قبلة تعني الكثير والكثير‬
‫وذهب ليتم إجراءا ِت خروجه وتركها تنتظره على أحد املقاعد هناك و بينما‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تنتظر عودته التقت عيناها بعيني ِ"ادريس" فجأة الذي تفاجأ عندما‬ ‫هي‬
‫رآها و ِاتجه نحوها مسرعا أما هي فلم تتحرك قط فقط نظرت إلى وجهه‬
‫ُ‬
‫الذي ُر ِسمت عليه طعنة سكين شوهت جهته اليمنى‪ ،‬ألقى السالم منتظرا‬
‫ردة فعلها‪ ،‬لم تتحدث معه وظلت تبحث عن سيمان بعينيها فأضاف ‪ :‬أعتذر‬
‫أذيتك كثيرا ‪!..‬‬
‫ِ‬ ‫جدا عما فعلت ‪،‬أدركت مؤخرا أنني‬
‫قالت ببرد متحاشية النظر إليه ‪ :‬من تكون أنت‪ ..‬لم أعرفك ؟!‬
‫أنسيت حبنا يا مياسين؟!‬
‫ِ‬ ‫قال مندهشا ‪ :‬هل نسيتني ‪،‬‬
‫ُ‬
‫اكتشفت أنني لم أحبك أبدا لقد‬ ‫قالت مبتسمة بسخرية ‪ :‬في الحقيقة‬
‫لت أتذكر‬‫نسيتك منذ مدة و هذا ال يعني أنني نسيت ما عشته معك بل ما ُ‬‫َ‬
‫ز‬
‫ُ‬
‫تأملت كثيرا‬ ‫كل ش يء ولكنني ال أشعر بأي ش يء هكذا مسحتك حتى أنني‬
‫ٌ‬
‫عندما ولدت هذه املرأة األقل سذاجة سابقا ؛امرأة لم يعد قلبها ينبض‬
‫باسمك ولم يعد لشخصك مكان في حياتها ‪.‬‬
‫على وقع هذا الكالم ِالتحق سيمان الذي أدرك أنه إدريس ‪ ،‬أمسك بيد‬
‫مياسين تحت أنظاره املستغربة كيف لها أن تمسك رجال آخر ‪ :‬هل أصبح من‬
‫السهل أن تمسكي بيد أي رجل ؟!‬
‫صفعه سيمان قائال ‪ :‬ال تتحدث عن زوجة الناس مرة أخرى وكاد يضربه لوال‬
‫ُ‬
‫يستحق أن تلطخ يدك فيه فهو‬ ‫أنها أوقفته وقالت ‪ :‬توقف يا سيمان ‪ ،‬ال‬
‫ً‬
‫ليس برجل ولن يكون أيضا‪ ،‬ال تضرب أشباهه يا سيمان و شكرا جزيال يا‬
‫‪118‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬
‫عرفت من هو أفضل منك ألف مرة وأمسكت يد زوجها‬ ‫َ‬
‫بفضلك‬ ‫إدريس ألنني‬
‫وجرته نحو الخارج تحت صدمة إدريس والندم الذي إكتس ى عينيه وأدرك أن‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫وخسر قلبها أيضا وليست هي ‪.‬‬ ‫هو من خسر‬
‫ويترك كل خيباته تعيش‬ ‫إن أفضل من قد يفعله املرء هو أن يتجاو َز و يتجاو َز َ‬
‫َ‬
‫نتقامك منهم ‪ِ ،‬اجعلهم‬ ‫في املاض ي ‪ْ .‬‬
‫‪.‬أن ال تلتفت هنا تكمن قوتك وهنا يكمن ِا‬
‫ض التي أوقعوك‬ ‫األ‬ ‫من‬ ‫نهض‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫منهم‬ ‫أفضل‬ ‫هم‬ ‫من‬ ‫ُ‬
‫تستحق‬ ‫ال ش يء َ‬
‫فأنت‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫بها وأنفضهم عنك وعندما تجدهم مرة أخرى ِارمهم أنت على األرض ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫تمطر حزنا على‬ ‫سوداء‬ ‫خيبت نرجس ظن والديها فيها وجعلت في منزلهم غيمة‬
‫نق إخوتها بحملها من رجل في الحرام ‪ ،‬لو أنها‬ ‫كل من يحبها ‪ ،‬وكسرت ُع َ‬
‫صبرت واحتسبت لرزقها هللا بزوج طاهر تقي يحبها ولكنها ِاستعجلت ‪ ،‬أقيم‬
‫ٌ‬
‫عرس مستعجل من هذا الذي حطمها في الحرام ‪،‬ولوال ِابنها الذي تحمله في‬
‫أحشائها ملا تزوجها ‪ ،‬ولوال أن لها إخوة رجاال رغم تهاونهم كثيرا في توجيه‬
‫أختهم سابقا و عدم ِاهتمامهم وبعدهم عنها ملا تزوجه ال هي وحدها وال هي‬
‫بطفلها ‪.‬‬
‫العالقة إلى‬ ‫بعمق‬ ‫ن‬‫ويغص َ‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ام‬‫ات هن نرجس في العالم ‪ُ . .‬يحبنن حر ً‬ ‫كثير ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تكمن في أن تتمسك بمن تحب حتى يأتي‬ ‫يعتقدن أن الحياة‬ ‫املجهول ‪. .‬‬
‫ُ‬
‫ويخطبها وال يفكرن قط أن من يذوق شيئا في الحرام يصعب عليه الحالل ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال تكوني مثل نرجس يا صديقتي كوني عفيفة طاهرة وال تقبلي بحب يأتيك‬
‫تب على جبينك لن‬ ‫لك وتيقني أن هللا ال ينس ى أحد فما ُك َ‬ ‫باب منز ِ‬
‫من غير ِ‬
‫َ ُ َّ َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫يمحوه أحد ‪ ،‬فقط تخلص ي منه ِواتبعي قوله تعالى ‪ " :‬والمت ِخذات أخذان" وال‬

‫‪119‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ً‬
‫تتخذي خليال في السر وتعتبري نفسك ملكة على قلبه ال ‪ِ ..‬‬
‫أنت مجرد مغفلة‬
‫كل قلبه سيشقى ليصل إليك وذلك‬ ‫يريدك من ِ‬
‫ِ‬ ‫ِانجرت وراء شهواتها فمن‬
‫ً‬
‫والدك‬
‫ِ‬ ‫مع‬ ‫قهوة‬ ‫باب هللا الواسع ويشرب‬‫الذي يستحق ‪ . .‬أن يأتي من ِ‬
‫ُ‬
‫فالقلب‬ ‫"أنت"‪ ،‬ال تقولي لي أحبه من قلبي ‪،‬‬
‫ويتحدثان في موضوع جميل هو ِ‬
‫وضعت حب شهواتك في قلبك تحت ِاسم الحب ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫متقلب يا صغيرتي كما‬
‫ِانزعيه وأتركيه هلل فمن ترك َشيئا هلل عوضه به أو بما هو ٌ‬
‫خير منه ‪.‬‬
‫عن أمينة ‪ ،‬صارت تشارك في معارض مختلفة للكعك والحلويات‬
‫ً‬
‫شخصا آخر ناجحا بقوته‬ ‫مختلف دول العالم ‪ ،‬صنعت من نفسها‬ ‫بين‬
‫ِ‬
‫وإرادته وقد ساعدها تمكنها من اللغات األجنبية من التسجيل في دورات‬
‫َ‬
‫جديدة أكسبتها أشياء جديدة لم تكن تحلم بها مطلقا‪.‬‬
‫ُ‬
‫تكمن القوة في أن نحقق كل أحالمنا وأن ال نستمع ملن يهدمونا ويسعون إلى‬
‫إسقاطنا في القاع ‪ِ ،‬انتقم بنجاحك وال تترك لهم حق الوصول إليك حتى ‪ ،‬ال‬
‫تتردد فيما يريد قلبك ‪ ،‬أكرمه بما تحب كأن تحقق له أحالمك وتضعها على‬
‫‪.‬سيسعد َ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بك قلبك إن فعلت هذا ‪ ،‬كن قويا من‬ ‫الطاولة وتشربان شايا معا ‪.‬‬
‫َ‬
‫لحظاتك الجميلة وأنت تصعد على ُسلم النجاح وال تخبر‬ ‫أجلك ‪ . .‬من أجل‬
‫منك أشياؤك ‪ . .‬فرحتك‪..‬‬ ‫َ‬ ‫يستطيع الناس أن يسرقوا‬ ‫ُ‬ ‫عنها ً‬
‫أحدا فقد‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ضحكتك ‪ ..‬و َ‬
‫قلبك ً‬
‫حياتك حتى ‪ ...‬ولكن ليس بإمكانهم سرقة شعور‬ ‫أيضا ‪،‬‬
‫َ‬
‫حك عنها ألحد‪.‬‬
‫ما عشت من لحظات مميزة لم ت ِ‬

‫‪120‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫بفارغ الصبر ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الحالل‬ ‫ان‬
‫ر‬ ‫ينتظ‬ ‫قلبين‬
‫ِ‬ ‫عرس‬
‫ِ‬ ‫موعد‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫وق‬ ‫ملعتز‬ ‫صورية‬ ‫بت‬‫ط‬‫ِ‬ ‫خ‬
‫ُ‬
‫رغم تخرجها من الجامعة إال أنها فضلت أن تساعد صديقتها أمينة في محلها‬
‫ً‬
‫لقاء قدرها ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫سببا‬ ‫ذاك الذي كان‬
‫ُ‬
‫الكثير من السنين ‪ . .‬فال تستعجلوا الحب ‪،‬‬ ‫مضت‬ ‫ُ‬
‫األعمار و‬ ‫ْ‬
‫طالت بكم‬ ‫لو‬
‫ِ‬
‫قلب ُ‬
‫يليق به ‪ ،‬سيلتقي هذين القلبين ذات يوم في‬ ‫تمهلوا فقط ‪ ...‬فلكل قلب ٌ‬
‫عالم ما‪.‬‬
‫ُ‬
‫جه ض طفلها عندما وقعت من الدرج‬ ‫تمسك أنور بأسماء كثيرا بعدما ِ‬
‫أ‬
‫حادثة نرجس التي زعزعت عمود القصر بخيانتها ‪،‬وأدرك أن من مثلها ال‬
‫ِ‬ ‫بعد‬
‫األطفال فهم رز ٌق على‬
‫ُ‬ ‫يتكررون فأصبح يريدها ألنها صبرت معه وعليه أما‬
‫هللا‪.‬‬
‫ً‬
‫شخصا يحبك ‪ ،‬يراك بقلبه قبل عينيه من أجل ش يء‬ ‫َ‬
‫تخسر‬ ‫ليس َ‬
‫عليك أن‬
‫َ‬ ‫ُ ىُ‬ ‫َ‬
‫سندك من أجل غبائك ‪ ..‬فكل األشياء األخر تعوض يا‬ ‫تخسر‬
‫آخر ‪ ،‬ال ِ‬
‫أعزائي‪.‬‬
‫تمسك والديهما بزواجهما الذي كادت تهدمه‬
‫ِ‬ ‫"إياد وعماد " هما السبب في‬
‫فدوى فقد ندمت وتخلت عن طباعها و أطماعها مقابل عائلة وزوج وقعوا في‬
‫ً‬
‫حظها مرة واحدة‪.‬‬
‫ِاقتربت النجمة البعيدة من النهر الجاري أخيرا وأبحرا ً‬
‫معا في هدوء الحب ‪،‬‬
‫وعادت ملياسين روحها التي فقدتها وعثر سيمان على جوهرته املصونة‬
‫وتمسك بها كثيرا ولكن في عز ِانطفائها و علمها كيف تض ُيء من جديد‪. .‬معه‬
‫هو فقط ‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أخيرا وصل يوم زفاف صورية فأخذها معتز تحت زغاريد والدتها وبكاء‬ ‫و ً‬
‫ً‬
‫أخواتها وحزن صديقاتها و تركت مكانها فارغا و مألت مكانا آخر رفقة زوج‬
‫الجنة ً‬ ‫ُ‬
‫معا ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫نحو‬ ‫وان‬ ‫يخط‬ ‫صالح‬
‫ملعرض الكتاب والذي ستطلق فيهم‬ ‫ً‬
‫جميعا‬ ‫بعد مدة ليست بطويلة حضروا‬
‫ِ‬
‫رفيقتهم أولى روايتها ‪ ،‬تعرفت مياسين على "سلمى" التي لم تسمح لها كل‬
‫بالتعرف عن قرب مسبقا وفي لقائهما شعرت بش يء غريب يسري‬
‫ِ‬ ‫الفرص‬
‫داخلها وقشعريرة غريبة ِاجتاحت جسدها عندما سألتها سلمى ‪ :‬هل تعرفنا‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وجهك مألوف لي‪!..‬‬
‫ِ‬ ‫أعتقد أن‬ ‫ذات يوم من قبل!؟‬
‫ولكن مياسين أنكرت ذلك فهما حقا لم يلتقيا من قبل سوى في محل أمينة‬
‫ً‬
‫ولم يتعرفا يومها ‪ ،‬وأهدتها كما كل الحاضرين نسخة من روايتها األولى" بين‬
‫القاع والقاع" ‪.‬‬
‫ِ‬
‫عندما أمسكت الرواية بيديها شعرت بهواء غريب سد رئتيها وبردت روحها‬
‫قليال ولكنها تجاهلت األمر ِاعتقدت أنه بفعل الجو الذي تغير‪.‬‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫صعبة جدا يمألها الخوف من املجهو ِل واملجهول‬ ‫خطوات البداية‬ ‫كانت أولى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يحك من قبل ‪ ،‬حكاية‬ ‫القاع والقاع عشت حكاية قلب لم ِ‬ ‫أيضا فما بين ِ‬
‫ٌ‬
‫أسطر أخرى لم‬ ‫واألسطر‬ ‫األسطر‬ ‫ِانسان ال أحد يعرفه وال حتى أنا ‪ . .‬بين‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شيئا ‪ُ ،‬‬ ‫ً‬
‫خبأتها جيدا بين الكلمات ومزجتها بحروف‬ ‫تقرؤها ولم تعرفوا عنها‬
‫حزينة سعيدة ‪.‬‬
‫إن أحببتم ‪ :‬تمسكوا وال تأذوا ً‬
‫أحدا و ِاجعلوا الحالل طريقكم األول واألخير‪. .‬‬
‫فإن كرهتم ‪ :‬فاحتفظوا بمشاعركم ألنفسكم و ال تذبحوا بها قلوبا تحبكم‬
‫‪122‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬
‫القاع و نجت‪.‬‬‫و تحدوا كما تحدت تلك التي أوقعوها في ِ‬
‫بت كل ُركام األشياء املنكسرة ولم‬ ‫كثيرا ‪ . .‬قل ُ‬
‫بحثت عن قلبي ً‬ ‫ُ‬ ‫والقاع‬ ‫القاع‬ ‫َ‬
‫بين‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ألنه لم يسقط بل ظل في قلبي ‪ ،‬فقط تزعزعت قليال وبقرب هللا و‬ ‫أجده ‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫وجدت قلبي‪..‬‬ ‫ً‬
‫وأخيرا‬ ‫بفضل ذلك الطير وجدتها ‪. .‬‬
‫َ‬
‫كانت هذه األسطر حديث مياسين مع نفسها وهي تبتسم لنفسها وتستعد‬
‫طفل حب ‪ ،‬فقط كانت تنتظر عودته من‬ ‫لتخبر زوجها بأنها حامل بأول ِ‬
‫تقتل لوعة االنتظار املميتة‬‫العمل‪ ،‬فحاولت إشغال نفسها بش يء ما حتى ُ‬
‫ً‬
‫فقررت أن تقرأ كتابا أو رواية ما عس ى أن يمض ي الوقت قليال ‪..‬‬
‫أمسكت الرواية التي أهدتها لها سلمى فشعرت بنفس الشعور الذي أحست‬ ‫ِ‬
‫به أول مرة عندما ملست يديها ألول مرة ولكنها طمأنت نفسها بأنها من أعراض‬
‫ُ‬
‫الحمل و بدأت تقرأ وتتفحص ما كتب على الغالف‪:‬‬
‫القاع والقاع ‪ " . .‬سلمى بوهالي"‬
‫بين ِ‬
‫قلبت الصفحات وقرأت ‪:‬إهداء ‪:‬‬
‫ْ ْ‬
‫وأم َـسـكـنا بِـهـم جـي ًـدا‬ ‫ـومـا مـن ح َـافة ال َ‬
‫ـض َـيـاع‬ ‫ً‬ ‫ـک الـذي َـن َأ ْن َـق ْـذناهم َ‬
‫ي‬ ‫إلَـى ُأولَـئ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫حـ َّتـى ال يـق ُـعـوا فـي ال َـقـاع ثـم َدف ُـعـونـا إلـى األسـف ِـل بـك ِـل مـا َيـمـلِـكون مِـن ُحـب ‪،‬‬
‫َ‬
‫عـف ًـوا بـك ِـل مـا يـمـلـكـون مـن ق َّـوة !‬
‫"تـخـطـيـنا يـا أعـزائـي لـم تـعـد الـحـافة ُتـخـيـفـنـا"‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫غاصت بين صفحات الرواية والدهشة والرعب يتملك جسدها ‪ ..‬ش يء ما‬
‫ً‬ ‫غريب يحدث في هذه الرواية ‪ ،‬كيف ُ‬
‫ٌ‬
‫تجد نفسها بطلة لقصة لم يعلم بها أحد‬

‫‪123‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ٌ‬
‫شخص ما ال تعرفه من قبل! ‪ ،‬قرأت‬ ‫ُ‬
‫يكتب عنها‬ ‫بين ليلة ونهارها وكيف‬
‫وقرأت حتى وصلت إلى الجزء الذي أرعبها كثيرا وألقت بالكتاب أرضا ‪:‬‬
‫كانت أولى خطوات البداية صعبة يمألها الخوف من املجهو ِل واملجهول‬
‫َ‬
‫يحك من قبل‪ ،‬حكاية‬ ‫القاع والقاع قرأتم حكاية قلب لم ِ‬ ‫ِ‬ ‫أيضا‪ ،‬فما بين‬
‫ٌ‬
‫أسطر أخرى لم‬ ‫واألسطر‬ ‫األسطر‬ ‫انسان ال أحد يعرفه وال حتى أنا ‪ ،‬بين‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫تقرؤها ولم تعرفوا عنها شيئا‪ ،‬خبأتها جيدا بين الكلمات ومزجتها بحروف‬
‫حزينة سعيدة ‪.‬‬
‫ً‬
‫فإن أحببتم ‪ :‬تمسكوا وال تأذوا أحدا و اجعلوا الحالل طريقكم األول واألخير‪.‬‬
‫و إن كرهتم ‪ :‬فاحتفظوا بمشاعركم ألنفسكم و تذبحوا بها قلوبا تحيكم ‪.‬‬
‫تحدوا كما تحدت تلك التي أوقعوها في القاع ونجت‪.‬‬
‫بين القاع والقاع بحثت عن قلبي كثيرا ‪ ،‬قلبت كل ركام األشياء املنكسرة ولم‬
‫أجده ‪ ،‬ألن لم يسقط ظل في قلبي ‪ ،‬فقط تزعزعت قليال وبقرب هللا و بفضل‬
‫ُ‬
‫وجدت قلبي‪..‬‬ ‫ً‬
‫وأخيرا‬ ‫ذلك الطير وجدتها ‪. .‬‬
‫َ‬
‫كانت هذه األسطر حديث مياسين مع نفسها وهي تبتسم لنفسها وتستعد‬
‫لتخبر زوجها بأنها حامل بأول ِ‬
‫طفل حب حالل ‪.‬‬
‫ً‬
‫أمسكت الرواية التي أهدتها لها "سلمى " متفحصة وقرأت في أول صفحة ‪:‬‬
‫القاع و القاع "سلمى بوهالي"‬
‫بين ِ‬

‫‪124‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬


‫قلبت الصفحات وقرأت ِ‪:‬إلـى أولـئـک ال ِـذيـن أنـقـذناهم يـومـا مِـن حـاف ِة الـضـيـاع‬ ‫ِ‬
‫ْ ْ‬
‫وأم َـسـكـنا بِـهـم جـي ًـدا ح َّـتـى ال يـق ُـعـوا فـي ال َـقـاع ثـم َدف ُـعـونـا إلـى األسـف ِـل بـك ِـل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مـا َيـمـلِـكون مِـن ُحـب ‪ ،‬عـف ًـوا بـك ِـل مـا يـمـلـكـون مـن ق َّـوة !‬
‫"تـخـطـيـنا يـا أعـزائـي لـم تـعـد الـحـافة ُتـخـيـفـنـا"‬
‫غاصت بين صفحات الرواية والدهشة والرعب يتملك جسدها ش ٌيء ما‬
‫ُ‬
‫يحدث في هذه الرواية كيف ُ‬ ‫ٌ‬
‫تجد نفسها بطلة قصة لم يعلم بها ‪. .‬‬ ‫غريب‬
‫قرأت وقرأت حتى وصلت إلى الجزء الذي أرعبها كثيرا وألقت بالكتاب أرضا ‪....‬‬

‫‪125‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يوجد فقط ثالث أشخاص حقيقين ‪ :‬سلمى ‪ ،‬صورية‬ ‫في هذه الرواية‬
‫ٌ‬
‫شخصيات ال تتواجد على أرض الواقع ‪.‬‬ ‫وأمينة ‪ ،‬وما دون ذلك فهي كلها‬

‫متت حبمد هللا ‪...‬‬

‫‪126‬‬
‫بين القاع والقاع‬
‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫‪127‬‬

You might also like