Professional Documents
Culture Documents
أكانت ..فرح أم آسى ..؟!
وسارت األيام ..و اختفت األكواخ المهجورة المحيطة لم يبقى إال كوخنا الصغير ،فكان البد
لسارة بأن تبدأ بقطع األشجار الغابة الشاهقة ،وكان هذا عمال شاقا حقا ..فيستغرق تقطيع الشجرة
الواحدة أسبوع كامال في سبيل اطعام معدتهما ومعدة صغيرتها الخاوية ،ولكنها لم تستسلم أبدا فإذا
كان هناك شيء واحد بقي من حياتها السابقة فهو مبادئ والدها النبيلة وحثه لهم بعدم االستسالم
واليأس ..
فما كان شيء يوقفها عن عملها ..حتى أسئلة صغيرتها واستفسارها عن والدها التي ال توقف !..
وبعد مدة من االجتهاد والمثابرة أصبحت تستغرق الشجرة الواحدة بين يديها من أجل ان تصبح قطع
صغيرة جاهزة لبيع خمسة أيام فقط ..وهذا شيء ال يستطيع أعتى الرجال على القيام به .
ولكن كل هذا كان يأتي بثمن باهظ من صحتها مع التقدم بالعمر ..و صحيح االن ان فتاتها الصغيرة
‘‘ آسى ‘‘ لم تعد صغيرة ،وأصبحت تساعدها بعملها هذا ،و لكن يداها المشققة وظهرها المنحني
ما كان ليسعفها كثيرا ..وكان ذلك أمرا محتوما حين أتى هذا الشتاء القارس وارتمت األم ‘‘ سارة ‘‘
طريحة الفراش ،بكاد تستطيع أن تستجمع أنفاسها و الدم ال يتوقف من النزول من يداها ..
فأصبحت االن كل المسؤولية تقع على عاتق أميرتنا ‘‘ آسى ‘‘ ..إيام مضت على أمل أن تتحسن
األم ‘‘ سارة ‘‘ ولكن كل ما تقدم الوقت ازدادت حالتها سوءا فلم تعد تقوى على النهوض من فراشها
،وانتهت بقايا الطعام التي عندهم ..
فحملت ‘‘ آسى ‘‘ ما جمعته من أخشاب ،تماما كأمها ،وقالت ..
-سأذهب االن لمدينة لبيع هذه األخشاب يا أمي
واجلب الطعام والطبيب ليعالجك ،انتظريني ..
وانطلقت ‘‘ آسى‘‘ وهي بمثل عمر أمها عند هروبها إلى الجبل ..لكن ‘‘ آسى ‘‘ كانت نازلتا من
الجبال في رحلتها إلى المجهول حيث كانت هذه هي مرتها األولى التي تدخل عميقا في الغابة
قاصدة المدينة والبشر هناك ولم يسبق لها أن عاشرت إي بشرا غير أمها ..
وطوال تلك الطريق المرعبة ..كانت ‘‘ آسى ‘‘ كل ما سمعت صوت حفيف أوراق األشجار خلفها
تركض كالبرق بأقصى سرعتها وال تلتف خلفها أبدا ظنن منها أن وحشا يتعقبها ..وظلت هكذا
تركض تارة وعلى عجل تارة أخرى بأقدامها الخفيفة إلى أن وصلت المدينة ،وعند وصولها
اتسعت عيناها مذهولتان مما تراه ..من هذه المباني الحجري الضخمة التي لم تعهدها وهذا الكم
الكبير من الناس من البائعين و المتجولين وغير ذلك ..و حتى الطرقات المرصوفة بحجارة كانت
شيئا جديدا كليا عليها !! ..دخلت المدينة ‘‘ آسى ‘‘ بالطريق الرئيسية إلى ساحة المدينة وهي تتلفت
مندهشة مما ترى حولها مشتتة بال توقف ..ولكن كانت هناك عينين خضراء كعينيها تتربص بها ..
تتعقبانها من مدخل المدينة إلى ان وقفت في ساحة المدينة تنادي على أخشابها ..
-حطب لبيع ..حطب لبيع ...
فاقتربت تلك العينان منها ..وأذ به رجل خمسيني رخو البشرة ،بمالبس فاخرة رغم أن وجه
األصفر و لعابة المنتشر على ذقنه النحاسية ال يوحي بأي نبل فيه ..قائال لها ..
-هل تريدن مساعدة أيتها الصغيرة .
فأجابته بــ
-نعم يا عم ..
وقد شرحت له فتاتنا البريئة كل قصتها وكيف انها تبحث عن طبيب من اجل أمها ..فابتسم ذلك
الوجه الرخو ابتسامة ماكرة ..قائال لها
-يا لمصادفة ،أنا طبيب أيضا !..
-أرجوك يا عم تعال معي بعد أن أبيع أخشابي لتعالج أمي المريضة ..
فوافق ذلك الرجل الرخو ..وهم مجتهدا يصرخ بأعلى صوته لبيع حطبها ،وما ان انتهيا من
بيعهما ..قال لها هيها لنذهب لمنزلي ألحضر عدتي الطبية ونذهب سويا لرؤية أمك ..
فسارت معه تتبع خطواته في أزقة المدينة وقد أضحت األزقة تظلم شيئا فشيا ..فنتاب قلبها
الشك منه سائال إياه ..
-يا عم هل منزلك بعيد من هنا ..؟!
حينها كشر ذلك الثعلب عن أنيابه ..مخرجا قنينة زجاجية من جيب معطفه كاسرا نصفها في
الجدار المظلم بجانبه وشظايا البراقة تتطاير منتشرة منها ..
صارخا عليها :
-هيها أعطيني كل ما لديك من نقود ..
فصاحت مذعورة أميرتنا الشقراء بأعلى صوتها ..
-النجدة ..النجدة ..
وقد أمسكها من جيب فستانها والشفرات الحادة مسلطة تلمع على خدها ..
قاذفا لعابة في وجها ..
-هاتي النقود ..
وهي تصيح مذعورة بأعلى صوتها مستغيثة بالنجدة ..وما أن رفع ذلك الشرير زجاجته ألعلى
يريد غرسها في رقبتها ..إال وسكين حق تنسل من خلفه لتسكن في ظهره بين ضلوعه فخرج
الدم من فمه ملطخا وجه أميرتنا المذعورة ..ففتحت عينها وهي في صدمتها تلك ،وأذ به شاب
فتي جميل ،يقف محدقا في وجها ..خلف ذلك الرجل الجاثي على ركبتيه يسألها ..
ت بخير ..؟
-هل أن ِ
لم تستطع ‘‘ آسى ‘‘ أال ان تتمتم بشيء غير مفهوم ..فأمسك ذراعها ذلك الشاب قائال لها
-هيا معي لنذهب إلى الزعيم ونخبره بكل ما جرى .
وما كان منها إال أن تجر بخطواتها ذاهبتا معه إلى الزعيم ..وما أن وصلوا ذلك الوكر الحالك
في أقصى المدينة ..وأبصرت الزعيم الضخم بمالبسه سوداء يتربع فيه ..فأخبره ذلك الشاب
بكل ما جرى ..فنده الزعيم مشيرا إليها بكف يده سائال إيها بصوته الغليظ ..
ت ..؟
-من أين أن ِ
فأجابت بصوتها الوهن الخائف ..
-من قرية ‘‘ عشنا ‘‘ ..
فضحك الزعيم ضحكة مخيفة يتردد صداها مالئة كل األرجاء ..ناهضا من عرشه ،سائرا
بأقدامه الثقيلة نحوها ..
-ما اسمك إيتها الفتاة ..؟
-اسمي آسى .
ما اسم والدك ..؟ -
-ال أعرف ،لقد أخبرتني أمي أنه رحل منذ الصغر عنا .
-ما اسم أمك ..؟
-فرح .
فوضع الزعيم ذراعه الكبيرة ملتفه حول كتفيها قائال لها ..
-أتعرفين من قال لي أيضا أن من قرية عشنا ..؟!
-ال ،من قال ذلك ..؟
والدك . -
وهي حائرة مصدومة مما تسمع ...
أخبرها الزعيم متبسما بأسنانه الصفراء الكبيرة أن والدها ‘‘ طارق زهير ‘‘ كان رفيق عمره ،
وانه قد قتل في عملية سطوا على قصر ‘‘ بهجت ‘‘ وبهجت هذا هو خالها أخ أمها ،وهو
الرجل نفسه الذي قتله هذا الشاب الفتي ‘‘ ذياب ‘‘ ،وان والدها قد ترك لهما مبلغا كبير من
المال أمانة عنده ،وقد كتب كل ذلك في الرسالة حين اتى يخبرهما بمقتله ..
وهكذا تبدلت ‘‘ آسى ‘‘ ولم تعد آسى ابدا ..فهي االن ‘‘ فرح ‘‘ ..
وعادت هي و ‘‘ ذياب ‘‘ بعد ان أوصاه الزعيم أن يحسن إليها ،وأن يجلب أفضل األطباء
لمعالجة أمها ..عادت محملة بالمال الكثير الذي يكفيها لولد ولدها ،و بعد أن خرجت من
سكرات صدمتها أضحت عيونها الخضراء طوال الطريق تألأل على الشاب ‘‘ ذياب ‘‘ معجبة به
وبعد أيام من عالج الطبيب ونصائحه ،نهضت أم فرح ‘‘ سارة ‘‘ ..سائرة مرة أخرى على
قدميها ،وضع السكير العربيد تحت الترب .