You are on page 1of 7

‫قصة فَرح ‪..

‬‬
‫أكانت ‪ ..‬فرح أم آسى ‪..‬؟!‬

‫بقلم ‪ :‬محمد جباره‬


‫‪1443/1/16‬‬
‫حلمت بقرية مهجورة مدفونة بين أشجار الغابات الكثيفة من السنديان والصنوبر و أشجار شاهقة‬
‫معمرة اليزال لم يعثر لها على اسم بعد ‪ ،‬تقع على سفح الجبل حيث هناك يمكن للسحاب ان يمره‬
‫مالمسا أسفل قدميك ‪ ،‬وكان في تلك القرية المهجورة كوخ صغير واحد من الخشب األحمر ال يزال‬
‫يوقد سراجة بالمساء ‪ ،‬سكان ذلك الكوخ شخصان ‪ ،‬رجل وشابة أنيقة تنحدر من أسرةٍ نبيلة لم يوافق‬
‫أخوها السكير الوصي عليها وعلى أمالك األسرة بعد وفاة والدها من أن تتزوج من هذا الخادم‬
‫الرث ‪ ،‬فقررت الهرب مع حب حياتها بعيدا إلى أعلى الجبال ‪..‬‬
‫ما الذي دفع فتاة أنيقة بهذا الجمال لوقوع في حبه ال أحد يعلم ‪..‬؟!‬
‫حتى هو نفسه كان يراوده هذا السؤال دائما في سره ‪ ،‬وال يستطيع أن يتوصل ألي جواب ‪..‬‬
‫فهو ليس لديه مال وال جمال ‪ ،‬ولكن لديه شيء مميزة حقا إال وهي قوته ‪ ،‬فمن أول ليلة قضياها‬
‫المتحابين في ذلك الكوخ النأي ‪ ،‬مطارحا إيها بين الطحالب الخضراء المنبثقة من تشققات األرضية‬
‫الخشبية ‪ ،‬والغبار الذي يكسوا أجسادهما ‪ ..‬حملت تلك الشابة األنيقة ‪ ..‬ولم يمضي وقت طويل حتى‬
‫أتى فصل الخريف وتساقطت األوراق المصفرة اليابسة من غصون األشجار الشاهقة ‪ ،‬فوضعت‬
‫الشابة األنيقة ‘‘ سارة ‘‘ طفلتها منزلقة من رحمها بين أقدامها ‪ ،‬وأذ بها طفلة شقراء جميلة تماما‬
‫كأمها ‪ ،‬لم تسرق إي شيء من مالمح والدها الرث ذاك ‪..‬‬
‫ذلك المساء كان مساء يوم من شهر أيلول ‪ ،‬حيث شعاع الشمس األحمر يداعب مدفئا وجه صغيرتها‬
‫المستلقية بصدر أمها ‪ ،‬و أمها كذلك يحتضنها أميرها بين ذراعيه في عشهم الصغير ‪..‬‬
‫في تلك الليلة عند ساعات الفجر استيقظت ‘‘ سارة ‘‘ منزعجة من البرد الذي احست به يدق عظامها‬
‫‪ ،‬فنظرت من سريها إلى النافذة مفتوحة ‪ !!..‬وحضن حبيبها الدافئ مختفي عنها ‪!!..‬‬
‫و لكنها كان التزال تحت تأثير خمولها ‪ ،‬فظنت انه قد ذهب لقضاء حاجة خارجا ‪ ..‬فنهضت مغلقة‬
‫النافذة وضمت صغيرتها إلى ربيع حضنها ‪ ،‬وخلدت إلى النوم من جديد ‪..‬‬
‫و بالصباح بعد ملئت الشمس األرجاء ‪ ..‬كان اليزال حبيبها لم يظهر بعد ‪ ،‬فبدأ الشك ينساب إلى‬
‫قلبها ‪ ..‬وما هي إال لحظات حتى تحول الشك يقينا وصدمة صعقتها ‪ ،‬بعد أن عثرة على قصاصة‬
‫ورقية تركها له حبيبها بخط يده وقد ساقطت أسفل السرير بعد أن كانت موضوعة على الطاولة‬
‫الخشبية بجانب السرير لكنها تأرجحت من طرف معطفه الصوفي األسود وهو يقفز هاربا من‬
‫النافذة ‪ ..‬ليس من الباب الخشبي فالباب يصدر صوتا ‪ ،‬ويحتاج ألن يغلق من الداخل ‪ ..‬فلم يسمح له‬
‫ضميره أن يوقظهما ‪ ،‬وأيضا لم يسمح له ان يترك الباب مفتوحا خشيت أن يأتي ذئب أو أي وحش‬
‫بري فيفترس عشقة الوحيد وصغيرتها ‪ ..‬ولكنها لم تدرك كل ذلك ‪ ،‬فكل ما أدركته هي الحقيقة‬
‫التي تقرأها بين يدها ‪..‬‬
‫‘‘ عزيزتي ‪..‬‬
‫لقد فزعت حين سمعت صوت صراخك وشاهدتك تنجبين طفلتنا الصغيرة ‪ ،‬ووجها الجميل جدا‬
‫الذي ال يمكن لشخص قبيح مثلي أن يكون والدها ‪،‬‬
‫حاولت أن أخفي هلعي عنكي لكني ال استطيع ‪ .‬أنا أسف سأترك عشنا ال تنتظريني ‪‘‘ .‬‬
‫لقد كادت كلماته أن توقف قلبها الحزين ‪ ،‬وهي تصرخ بأعلى صوتها باسمه‬
‫‘‘ طارق ‪ ..‬طارق ‪ ..‬أرجوك عد ال تتركنا ‪‘‘ ..‬‬
‫ولكن لم يكن طارق القبيح ليسمع صيحاتها أو يجيبها ‪ ..‬ولم يجبها أحد غير دمع طفلتها الذي امتزج‬
‫مع دمع أمها المنهمر على خديها ‪ ..‬لقد كان حزنها شديدا جدا بشكل ال يوصف ‪ ..‬لدرجة أنها غيرت‬
‫أسم صغيرتها التي اسمتها بأول ليلة لها ‘‘ فرح ‘‘ إلى ‘‘ آسى ‘‘ ‪ ..‬ولكن حتى هذا ما كان ليبدل‬
‫حزنها وال ليحل مشكلتها ‪ ..‬فبعد ثالثة أيام اختفى الطعام من ذلك الكوخ ‪ ،‬وحليبها بدأ يجف ما عاد‬
‫يشبع هذا الفم الصغير الذي يستمر نحيبه بال توقف ‪ ..‬و كانت هذه مشكلة عويصة ‪ ،‬فالبد االن‬
‫ألميرتنا الشابة من تنزع قفازها الحريري األبيض ‪ ،‬وإال ستضور جوعا هي وصغيرتها إلى ان‬
‫تهزل و تفنى ‪ ،‬و المدينة بعيدا جدا عنها ‪ ،‬فطريقها المحفوفة بالمخاطر عبر تلك الغابة تستغرق‬
‫ذهاب وإيابا من أول الصباح إلى أخر المساء ‪ ،‬ولكن هل هناك حل أخر ‪..‬؟!‬
‫والغريب أن رجلها الرث كان كريما جدا ‪ !..‬لقد ترك لها الفأس الكبير بجانب باب الكوخ ‪..‬فما كان‬
‫منها إال أن تبدأ عابثتا بتدمير األكواخ المجاورة لحصول على أخشابها وذهاب لمدينة لبيعها هناك‬
‫مقابل القليل من المال من أجل اسكات معدتها ‪ ..‬و بعد عدة محاوالت بتثبيت ذلك الفأس الكبير‬
‫وسيطرة عليه بذراعيها النحيفة نجح األمر ‪ ..‬وأخرجت بعض األخشاب الصغيرة ‪ ..‬قطعا ‪ ..‬قطعا‬
‫‪ ..‬حاملتا إيها على ظهرها تتهامس طوال الطريق المظلمة للمدينة ‪ ..‬تاركتا ورائها رضيعتها غارقتا‬
‫في دمعها ‪ ،‬وقد حاولت قدر اإلمكان حمايتها ‪ ،‬بأسناد ذلك الفأس الحديدي على الباب ليغلقه من‬
‫الداخل ‪ ..‬وقفزت هي كزوجها الرث تماما خارجة من النافذة ‪..‬‬
‫وما أن وصلت أميرتنا الشقراء بقدمها المتعبتان إلى المدينة ‪ ..‬لم تجد إي عناء يذكر في بيع أخشابها‬
‫في الساحة الشعبية للمدينة ‪ ..‬فلكل هناك تودد إلى جمالها ‪ ..‬رغم ما يظهر عليها من شقاءٍ وثيابها‬
‫المتسخة التي غير كثيرا في مالمحها ‪ ،‬لكن جمالها كان اليزال قائما و يكفي ألن تتودد كثير من‬
‫العيون العطشة إليها ‪ ،‬وحتى أنهم دفعوا في أخشابها أكثر مما تستحق من مال ‪ ..‬فكانت سعيدة جدا‬
‫بذلك ‪ ،‬وقد أنفقت كل ما جنته بشراء الخبز والطعام الذي لم يكن كثيرا ‪ ،‬رغم أن عيونها الخضراء‬
‫قد تألألتاه حين أوقفتها دكان بيع القماش و الفساتين الحريرية ‪ ،‬و لكن هذا البذخ لم يعد مسموحا لها‬
‫‪.‬‬
‫وعادت في المساء حاملة غنيمتها لصغيرتها التي كانت بحالة يرثى لها ‪ ..‬فهمت بتنظيفها و أعداد‬
‫الطعام بيد وصغيرتها باليد األخرى ترضعها صدرها ‪..‬‬
‫ومضت اإليام على هذا الحال إلى أن كبرت قليال طفلتها ونطقت أول كلمة لها قائال ‘‘ ببا ‘‘ فنهرتها‬
‫أمها بأصبعها الخشن تأمرها بقول ‘‘ ماما ‘‘ فما كان ذلك الوجه اللطيف الصغير إال أن يعبس ‪.‬‬
‫ويوما بعد يوم ‪ ..‬أتى اليوم الذي فيه خطى فيه مالكنا الصغير أو خطوة له ‪ ،‬وقد كان يوما مميز ‪،‬‬
‫حيث أتى رجل ملثم ضخم الجثة بمالبس معتمة إلى كوخهما الصغير ‪ ،‬ورأى صغيرتنا الشقراء‬
‫تلهوا أمام باب الكوخ بين األوراق اليابسة وقد شد وثاقها بحب ٍل طويل ربط على وسطها و بقدم‬
‫السرير بجوف الكوخ ‪ ..‬تفقد محدقا ببصره الحاد األرجاء ‪ ..‬ولم يكن هناك إي أح ٍد بالجوار ‪..‬‬
‫فحمل بإحدى يديه الضخمتين الصغيرة معلقها وملقيا إيها على السرير ‪ ..‬وضع في يدها ورقة‬
‫مطوية ‪ ،‬وبجانبها سرة كبيرة بها طعام و فخد خروف أيضا ‪ ..‬وغادر ذلك الرجل الصامت بعد أن‬
‫ثنى قضيبين حديدين ودقهما بالكوخ ‪ ،‬فأصبح يمكن أغالق باب الكوخ بلوح خشبي من الخارج ‪..‬‬
‫وما أن رجعت األم ‘‘ سارة ‘‘ مساء ذلك اليوم تتهدى إلى الكوخ ‪ ..‬صدمت حين رأت الباب مغلقا‬
‫من الخارج ‪ ،‬فأسرعت بلهفة قاذفتا اللوح الخشبي لتطمئن على صغيرتها ‪ ..‬وأذ بصغيرتها تجلس‬
‫بأمان تلعق الرسالة الورقية التي في يدها فانتزعتها منها ‪ ..‬وقرأتها و الحبر قد تداخل بعضه‬
‫ببعض من لعابها ‪ ،‬ولكن كان هناك سطر بالرسلة واضحا جليا ‪ ،‬يقول ‪..‬‬
‫‘‘ ‪ . . .‬زوجك ورفيق دربي طارق قد فارق الحياة ‪‘‘ . .‬‬
‫لم تأثر ‘‘ سارة ‘‘ بما قد قرأته توا ‪ ،‬ولم تحزن أو تأبى بمصير زوجها ‪ ..‬لقد قالت في نفسها‬
‫استحق ذلك الحقير ما حل به ‪ ..‬حتى أنها لم تكلف نفسها عناء فك طالسم باقي الرسالة ‪ ..‬وألقت‬
‫بالرسالة في النار التي أوقدتها من أجل طهي اللحم الذي مر زمن طويل دون تذوقه ‪ ،‬وهكذا خطت‬
‫مالكنا الصغير ‘‘ آسى ‘‘ أول خطواتها على األرض ودفن الحقير في باطن األرض ‪.‬‬

‫وسارت األيام ‪ ..‬و اختفت األكواخ المهجورة المحيطة لم يبقى إال كوخنا الصغير ‪ ،‬فكان البد‬
‫لسارة بأن تبدأ بقطع األشجار الغابة الشاهقة ‪ ،‬وكان هذا عمال شاقا حقا ‪ ..‬فيستغرق تقطيع الشجرة‬
‫الواحدة أسبوع كامال في سبيل اطعام معدتهما ومعدة صغيرتها الخاوية ‪ ،‬ولكنها لم تستسلم أبدا فإذا‬
‫كان هناك شيء واحد بقي من حياتها السابقة فهو مبادئ والدها النبيلة وحثه لهم بعدم االستسالم‬
‫واليأس ‪..‬‬
‫فما كان شيء يوقفها عن عملها ‪ ..‬حتى أسئلة صغيرتها واستفسارها عن والدها التي ال توقف ‪!..‬‬
‫وبعد مدة من االجتهاد والمثابرة أصبحت تستغرق الشجرة الواحدة بين يديها من أجل ان تصبح قطع‬
‫صغيرة جاهزة لبيع خمسة أيام فقط ‪ ..‬وهذا شيء ال يستطيع أعتى الرجال على القيام به ‪.‬‬
‫ولكن كل هذا كان يأتي بثمن باهظ من صحتها مع التقدم بالعمر‪ ..‬و صحيح االن ان فتاتها الصغيرة‬
‫‘‘ آسى ‘‘ لم تعد صغيرة ‪ ،‬وأصبحت تساعدها بعملها هذا ‪ ،‬و لكن يداها المشققة وظهرها المنحني‬
‫ما كان ليسعفها كثيرا ‪ ..‬وكان ذلك أمرا محتوما حين أتى هذا الشتاء القارس وارتمت األم ‘‘ سارة ‘‘‬
‫طريحة الفراش ‪ ،‬بكاد تستطيع أن تستجمع أنفاسها و الدم ال يتوقف من النزول من يداها ‪..‬‬
‫فأصبحت االن كل المسؤولية تقع على عاتق أميرتنا ‘‘ آسى ‘‘ ‪ ..‬إيام مضت على أمل أن تتحسن‬
‫األم ‘‘ سارة ‘‘ ولكن كل ما تقدم الوقت ازدادت حالتها سوءا فلم تعد تقوى على النهوض من فراشها‬
‫‪ ،‬وانتهت بقايا الطعام التي عندهم ‪..‬‬
‫فحملت ‘‘ آسى ‘‘ ما جمعته من أخشاب ‪ ،‬تماما كأمها ‪ ،‬وقالت ‪..‬‬
‫‪ -‬سأذهب االن لمدينة لبيع هذه األخشاب يا أمي‬
‫واجلب الطعام والطبيب ليعالجك ‪ ،‬انتظريني ‪..‬‬
‫وانطلقت ‘‘ آسى‘‘ وهي بمثل عمر أمها عند هروبها إلى الجبل ‪ ..‬لكن ‘‘ آسى ‘‘ كانت نازلتا من‬
‫الجبال في رحلتها إلى المجهول حيث كانت هذه هي مرتها األولى التي تدخل عميقا في الغابة‬
‫قاصدة المدينة والبشر هناك ولم يسبق لها أن عاشرت إي بشرا غير أمها ‪..‬‬
‫وطوال تلك الطريق المرعبة ‪ ..‬كانت ‘‘ آسى ‘‘ كل ما سمعت صوت حفيف أوراق األشجار خلفها‬
‫تركض كالبرق بأقصى سرعتها وال تلتف خلفها أبدا ظنن منها أن وحشا يتعقبها ‪ ..‬وظلت هكذا‬
‫تركض تارة وعلى عجل تارة أخرى بأقدامها الخفيفة إلى أن وصلت المدينة ‪ ،‬وعند وصولها‬
‫اتسعت عيناها مذهولتان مما تراه ‪ ..‬من هذه المباني الحجري الضخمة التي لم تعهدها وهذا الكم‬
‫الكبير من الناس من البائعين و المتجولين وغير ذلك ‪ ..‬و حتى الطرقات المرصوفة بحجارة كانت‬
‫شيئا جديدا كليا عليها ‪ !! ..‬دخلت المدينة ‘‘ آسى ‘‘ بالطريق الرئيسية إلى ساحة المدينة وهي تتلفت‬
‫مندهشة مما ترى حولها مشتتة بال توقف ‪ ..‬ولكن كانت هناك عينين خضراء كعينيها تتربص بها ‪..‬‬
‫تتعقبانها من مدخل المدينة إلى ان وقفت في ساحة المدينة تنادي على أخشابها ‪..‬‬
‫‪ -‬حطب لبيع ‪ ..‬حطب لبيع ‪...‬‬
‫فاقتربت تلك العينان منها ‪ ..‬وأذ به رجل خمسيني رخو البشرة ‪ ،‬بمالبس فاخرة رغم أن وجه‬
‫األصفر و لعابة المنتشر على ذقنه النحاسية ال يوحي بأي نبل فيه‪ ..‬قائال لها ‪..‬‬
‫‪ -‬هل تريدن مساعدة أيتها الصغيرة ‪.‬‬
‫فأجابته بــ‬
‫‪ -‬نعم يا عم ‪..‬‬
‫وقد شرحت له فتاتنا البريئة كل قصتها وكيف انها تبحث عن طبيب من اجل أمها ‪ ..‬فابتسم ذلك‬
‫الوجه الرخو ابتسامة ماكرة ‪ ..‬قائال لها‬
‫‪ -‬يا لمصادفة ‪ ،‬أنا طبيب أيضا ‪!..‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا عم تعال معي بعد أن أبيع أخشابي لتعالج أمي المريضة ‪..‬‬
‫فوافق ذلك الرجل الرخو ‪ ..‬وهم مجتهدا يصرخ بأعلى صوته لبيع حطبها ‪ ،‬وما ان انتهيا من‬
‫بيعهما ‪ ..‬قال لها هيها لنذهب لمنزلي ألحضر عدتي الطبية ونذهب سويا لرؤية أمك ‪..‬‬
‫فسارت معه تتبع خطواته في أزقة المدينة وقد أضحت األزقة تظلم شيئا فشيا ‪ ..‬فنتاب قلبها‬
‫الشك منه سائال إياه ‪..‬‬
‫‪ -‬يا عم هل منزلك بعيد من هنا ‪..‬؟!‬
‫حينها كشر ذلك الثعلب عن أنيابه ‪ ..‬مخرجا قنينة زجاجية من جيب معطفه كاسرا نصفها في‬
‫الجدار المظلم بجانبه وشظايا البراقة تتطاير منتشرة منها ‪..‬‬
‫صارخا عليها ‪:‬‬
‫‪ -‬هيها أعطيني كل ما لديك من نقود ‪..‬‬
‫فصاحت مذعورة أميرتنا الشقراء بأعلى صوتها ‪..‬‬
‫‪ -‬النجدة ‪ ..‬النجدة ‪..‬‬
‫وقد أمسكها من جيب فستانها والشفرات الحادة مسلطة تلمع على خدها ‪..‬‬
‫قاذفا لعابة في وجها ‪..‬‬
‫‪ -‬هاتي النقود ‪..‬‬
‫وهي تصيح مذعورة بأعلى صوتها مستغيثة بالنجدة ‪ ..‬وما أن رفع ذلك الشرير زجاجته ألعلى‬
‫يريد غرسها في رقبتها ‪ ..‬إال وسكين حق تنسل من خلفه لتسكن في ظهره بين ضلوعه فخرج‬
‫الدم من فمه ملطخا وجه أميرتنا المذعورة ‪ ..‬ففتحت عينها وهي في صدمتها تلك ‪ ،‬وأذ به شاب‬
‫فتي جميل ‪ ،‬يقف محدقا في وجها ‪ ..‬خلف ذلك الرجل الجاثي على ركبتيه يسألها ‪..‬‬
‫ت بخير ‪..‬؟‬
‫‪ -‬هل أن ِ‬
‫لم تستطع ‘‘ آسى ‘‘ أال ان تتمتم بشيء غير مفهوم ‪ ..‬فأمسك ذراعها ذلك الشاب قائال لها‬
‫‪ -‬هيا معي لنذهب إلى الزعيم ونخبره بكل ما جرى ‪.‬‬
‫وما كان منها إال أن تجر بخطواتها ذاهبتا معه إلى الزعيم ‪ ..‬وما أن وصلوا ذلك الوكر الحالك‬
‫في أقصى المدينة ‪ ..‬وأبصرت الزعيم الضخم بمالبسه سوداء يتربع فيه ‪ ..‬فأخبره ذلك الشاب‬
‫بكل ما جرى ‪ ..‬فنده الزعيم مشيرا إليها بكف يده سائال إيها بصوته الغليظ ‪..‬‬
‫ت ‪..‬؟‬
‫‪ -‬من أين أن ِ‬
‫فأجابت بصوتها الوهن الخائف ‪..‬‬
‫‪ -‬من قرية ‘‘ عشنا ‘‘ ‪..‬‬
‫فضحك الزعيم ضحكة مخيفة يتردد صداها مالئة كل األرجاء ‪ ..‬ناهضا من عرشه ‪ ،‬سائرا‬
‫بأقدامه الثقيلة نحوها ‪..‬‬
‫‪ -‬ما اسمك إيتها الفتاة ‪..‬؟‬
‫‪ -‬اسمي آسى ‪.‬‬
‫ما اسم والدك ‪..‬؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ال أعرف ‪ ،‬لقد أخبرتني أمي أنه رحل منذ الصغر عنا ‪.‬‬
‫‪ -‬ما اسم أمك ‪..‬؟‬
‫‪ -‬فرح ‪.‬‬
‫فوضع الزعيم ذراعه الكبيرة ملتفه حول كتفيها قائال لها ‪..‬‬
‫‪ -‬أتعرفين من قال لي أيضا أن من قرية عشنا ‪..‬؟!‬
‫‪ -‬ال ‪ ،‬من قال ذلك ‪ ..‬؟‬
‫والدك ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وهي حائرة مصدومة مما تسمع ‪...‬‬
‫أخبرها الزعيم متبسما بأسنانه الصفراء الكبيرة أن والدها ‘‘ طارق زهير ‘‘ كان رفيق عمره ‪،‬‬
‫وانه قد قتل في عملية سطوا على قصر ‘‘ بهجت ‘‘ وبهجت هذا هو خالها أخ أمها ‪ ،‬وهو‬
‫الرجل نفسه الذي قتله هذا الشاب الفتي ‘‘ ذياب ‘‘ ‪ ،‬وان والدها قد ترك لهما مبلغا كبير من‬
‫المال أمانة عنده ‪ ،‬وقد كتب كل ذلك في الرسالة حين اتى يخبرهما بمقتله ‪..‬‬
‫وهكذا تبدلت ‘‘ آسى ‘‘ ولم تعد آسى ابدا ‪ ..‬فهي االن ‘‘ فرح ‘‘ ‪..‬‬
‫وعادت هي و ‘‘ ذياب ‘‘ بعد ان أوصاه الزعيم أن يحسن إليها ‪ ،‬وأن يجلب أفضل األطباء‬
‫لمعالجة أمها ‪ ..‬عادت محملة بالمال الكثير الذي يكفيها لولد ولدها ‪ ،‬و بعد أن خرجت من‬
‫سكرات صدمتها أضحت عيونها الخضراء طوال الطريق تألأل على الشاب ‘‘ ذياب ‘‘ معجبة به‬
‫وبعد أيام من عالج الطبيب ونصائحه ‪ ،‬نهضت أم فرح ‘‘ سارة ‘‘ ‪ ..‬سائرة مرة أخرى على‬
‫قدميها ‪ ،‬وضع السكير العربيد تحت الترب ‪.‬‬

You might also like