You are on page 1of 192

1

‫فن الحياة‬

‫سالمة موس ى‬

‫كتاب يجيبك عن سؤال‪ :‬هل أنت سعيد؟‬

‫‪2‬‬
‫املقدمة‬

‫كتبت هذا الكتاب في ضوء اختباراتي للوسط املصري‪ ،‬وقد‬


‫عالجت موضوعه من جملة وجهات فلسفية وسيكلوجية‬
‫واجتماعية‪.‬‬
‫ونحن نعيش في حضارتنا القائمة ً‬
‫مكي ًفا بعادات املجتمع‪،‬‬
‫عيشا َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫مدرًبا على أساليبه؛ ولذلك ننساق انسياقا‬
‫موج ًها إلى أهدافه‪َّ ،‬‬
‫كأننا ذاهلون‪ ،‬ال نقف ونسائل عن القيم البشرية في هذه العادات‬
‫واألهداف واألساليب‪.‬‬

‫شك أن غاية الحياة أن نحيا الحياة على مستواها السامي‪،‬‬‫وليس ٌّ‬


‫ومعنى هذا الكالم هو أن نعيش بما لدينا من كفاءات بشرية تسمو‬
‫على كفاءات الحيوان؛ أي يجب أن نعيش بالوجدان والتعقل‪،‬‬
‫وليس بالغريزة والعاطفة‪ .‬وفن الحياة هو في النهاية االرتفاع‬
‫بكفاءاتنا املوروثة إلى ما كسبناه واقتنيناه من التراث االجتماعي‬
‫الثقافي‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫َّ‬
‫ولكن هذا التراث االجتماعي الثقافي يجب أال يسوقنا وأال يضلنا‬
‫ُّ‬
‫التفت في الفصول التالية إلى‬ ‫عن القيم األصلية في الحياة‪ .‬وقد‬
‫ثالثة أو أربعة أشياء لكل منها مكانة مركزية في البحث عن فن‬
‫الحياة‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال — إلى أن النجاح يجب أن يكون ًّ‬ ‫ُّ‬
‫كليا في الحياة‪،‬‬ ‫التفت —‬
‫وليس في الحرفة أو الزواج أو الكسب؛ فإن كلمة النجاح في‬
‫مجتمعنا االقتنائي ً‬
‫كثيرا ما يشتبه معناها بمعنى اإلثراء‪ ،‬ولكن‬
‫ً‬
‫الناجح الصادق هو الذي يجعل نجاحه شامال متواف ًيا لنشاط‬
‫حياته كلها‪.‬‬
‫ثانيا — إلى أن املجتمع الذي نعيش فيه ً‬
‫كثيرا ما‬ ‫والتفت — ً‬ ‫ُّ‬
‫يسخرنا في‬ ‫ً‬
‫يضلل بنا‪ ،‬ويبعدنا عن القيم البشرية‪ ،‬بل هو أحيانا ِّ‬
‫أهدافه التي قد تناقض ما ننشد من رقي أو سعادة؛ فهو منا بمثابة‬
‫املدينة التي تكتنفنا بمساكنها وأضوائها الصناعية‪ ،‬وضوضائها‬
‫واهتماماتها الزائفة‪ ،‬فنعيش فيها ونكاد ننس ى أنه على مسافة ثالثة‬
‫أميال منا ينهض الريف في طبيعته النضرة‪ ،‬وأشجاره ومياهه‬
‫وحيوانه‪ .‬وقد نألف عادات هذا املجتمع فال نجد النشاط إلى‬
‫تغييرها‪ ،‬وال ننهض إلى الخروج إلى هذا الريف القريب‪ ،‬وكذلك‬

‫‪4‬‬
‫الشأن في تلك القيم االجتماعية وأثرها في نفوسنا حين نعيش في‬
‫َ‬
‫أ ْسر هذه القيم الزائفة مدى حياتنا‪.‬‬

‫وقد احتجت إلى أن أوضح أن السعادة‪ ،‬كما ينشدها الجمهور‪،‬‬


‫إنما هي في أغلب األحيان ذهول وتبلد‪ ،‬أو استرسال في العواطف‬
‫الحيوانية التي تحركها غرائزنا السفلى‪ ،‬وإن هذه السعادة ليست‬
‫جديرة بإنسان راق يرتفع إلى أن يجعل من حياته ًّ‬
‫فنا‪ .‬وعندي أن‬ ‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫الوجدان — أي التعقل — هو صميم السعادة‪ ،‬وأنه مهما‬
‫وتحد وفهم‪.‬‬
‫فدحت الكوارث فإن الوجدان يواجهها في شجاعة ٍ‬
‫توس ًعا‬ ‫ُّ‬
‫التفت إلى قيمة الثقافة من حيث إنها تكفل لنا ُّ‬ ‫كذلك‬
‫حيويا؛ ألنها — أي الثقافة —‬ ‫توس ًعا ًّ‬
‫ذهنيا ينتهي إلى أن يكون ُّ‬
‫ًّ‬
‫وتعودنا عادات إيجابية عندما نصل إلى‬ ‫ِّ‬ ‫تزيد اهتماماتنا‪،‬‬
‫الشيخوخة‪ .‬وعلى القارئ أن يقرأ كتابي اآلخر «كيف نسوس‬
‫ُّ‬
‫أكدت النبرة في هذا املعنى؛ أي‬ ‫حياتنا بعد الخمسين»؛ فإني هناك‬
‫القيمة من الدراسة والثقافة للشيخوخة السعيدة‪.‬‬

‫أسمي هذا الكتاب «الحياة السعيدة» لوال أن كلمة‬


‫وكان يمكن أن ِّ‬
‫معان سفلية‪ ،‬كما أن هناك التباسات‬ ‫ُ‬
‫السعادة قد ابتذلت في ٍ‬

‫‪5‬‬
‫واشتباهات كثيرة عن حقيقة معناها‪ .‬وقد احتجت إلى التنبيه عن‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن في عبارة «فن الحياة» ما يرفع القارئ عن مبتذالت‬
‫كلمة «السعادة»‪.‬‬

‫وأرجو أن يكون في الفصول التالية توجيه لقرائها من الشباب‬


‫والكهول‪.‬‬

‫سالمة موس ى‬

‫‪6‬‬
‫فن الحياة‬

‫يعيش الحيوان على املستوى البيولوجي يأكل ويشرب ويتناسل‪،‬‬


‫ولكنا نحن البشر نعيش على املستوى املدني الفني الثقافي‪ ،‬وقد ال‬ ‫َّ‬
‫يصدق هذا على جميع البشر‪ ،‬أو بتعبير أصح‪ :‬قد ال ُ‬
‫يصدق هذا‬ ‫ُ‬
‫القول من حيث الدرجة التي يبلغها البشر في املدنية والفنون‬
‫يصدق على جميع الطبقات حتى في األمة‬ ‫والثقافة‪ ،‬ثم هو ال ُ‬
‫املتمدنة؛ فإننا ما زلنا نجد الطبقات الفقيرة في مصر والهند تعيش‬
‫أيضا في الطبقات‬ ‫على املستوى البيولوجي‪ ،‬بل الحال كذلك ً‬
‫الفقيرة في أمم أوروبا الجنوبية؛ حيث يقنع أفرادها بالحياة‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫السلبية؛ أي باتقاء املوت والجوع واملرض والفاقة‪ .‬وهؤالء‬
‫ُّ‬
‫ال يلتذون الحياة وإنما يكابدونها‪.‬‬

‫ولكن جميع األمم املتمدنة تحتوي طبقات من الشعب تعيش‬


‫الحياة اإليجابية؛ إذ هي قد اطمأنت من ناحيتي الجوع واملرض‪ ،‬بل‬
‫هي قد استبعدت املوت إلى ما بعد السبعين أو الثمانين من العمر‪،‬‬
‫وهي تجد في كفاية العيش ما يتيح لها االستمتاع الروحي واملادي‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وهذه الطبقات تمثل في عصرنا طالئع البشرية القادمة؛ حيث‬
‫يعيش جميع األفراد — جميعهم بال تمييز — على املستوى الفني‬
‫الكمالي؛ ألن الضروريات تتوافر إلى الحد الذي ال يحسب لها‬
‫حساب‪ ،‬وال تكون ً‬
‫سببا للهموم واالهتمامات‪ .‬وليس هذا العصر‬
‫ً‬
‫بعيدا‪ ،‬بل هو أقرب إلينا مما نتخيل‪.‬‬
‫ً‬
‫واإلنسان في كفاحه االجتماعي ينشد الضروريات أوال‪ ،‬حتى إذا‬
‫توافرت طلب الكماليات‪ ،‬ثم تعود هذه الكماليات ضروريات‬
‫ً‬
‫األجيال القادمة؛ فهي ترف أوال يقتصر على أفراد معدودين‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫وأخيرا ضرورة لجميع أفراد‬ ‫رفاهية ً‬
‫ثانيا تشمل طبقة كبيرة‪،‬‬
‫الشعب املتمدن املثقف‪.‬‬

‫انظر إلى الطعام ينشد فيه اإلنسان البدائي الشبع‪ ،‬ال يرجو غير‬
‫الضرورة البيولوجية‪ ،‬وانظر إلى املسكن الذي كان يبنيه لالحتماء‬
‫من الوحش أو العدو أو الجو‪ ،‬وانظر إلى اللباس الذي كان يتخذه‬
‫للدفء! أجل‪ ،‬لقد كان الطعام واملسكن واللباس من الضروريات‪،‬‬
‫منا نحن املتمدنين يقنع من هذه الثالثة بالضروريات‬ ‫ولكن َمن َّ‬
‫البيولوجية في عصرنا؟!‬

‫‪8‬‬
‫صحيح أن للفاقة ضغطها املرهق بين الطبقات التي ال تزال في‬
‫أسفل الدرج من السلم االجتماعي‪ ،‬وصحيح أن هذه الطبقات ال‬
‫تزال تقنع بالضروريات البيولوجية من املسكن واللباس والطعام‪،‬‬
‫ولكن في كل أمة طبقات أخرى استمتعت بقسط كبير من املال‬
‫والثقافة والحضارة‪ ،‬وهي لذلك تتوخى الفن في كل ما تتناول من‬
‫مأوى فقط؛ إذ هو متحف ً‬
‫أيضا يتزين‬ ‫عمل؛ فاملسكن ليس ً‬
‫باألثاث الفاخر والصور الجميلة والطرف األنيقة‪ ،‬وسيداتنا‬
‫ً‬ ‫وآنساتنا ال يطلبن من اللباس ً‬
‫دفئا قدر ما يطلبن منه زينة وجماال‪،‬‬
‫واملائدة التي تحمل ألوان الطعام تتفنن في ترتيبها وإيجاد األطباق‬
‫الثمينة واآلنية الغالية عليها‪ .‬وهذا إلى ترتيب الزهور ونحو ذلك‬
‫ذهنيا ًّ‬ ‫ً‬
‫نشاطا ًّ‬ ‫حتى ُلي َّ‬
‫فنيا‪.‬‬ ‫عد تناول الطعام منها‬

‫فهنا فنون في البناء واألثاث واللباس واملائدة‪ ،‬نرتاح إليها‪ ،‬وال‬


‫نرض ى بأن نعيش بدونها تلك املعيشة الفطرية التي كان يقنع بها‬
‫اإلنسان البدائي‪ ،‬وما زال يضطر إلى أن يقنع بها أو بما يقاربها‬
‫مستوى من‬‫ً‬ ‫الفقير املغبون‪ .‬وقيمة الفن أنه يرفع مألوفنا إلى‬
‫ً‬
‫ووجدانا‪.‬‬ ‫فهما‬ ‫ً‬
‫واستمتاعا‪ ،‬بل نزداد به ً‬ ‫الجمال نزداد به لذة‬

‫‪9‬‬
‫وبالفن نرفع املش ي إلى الرقص‪ ،‬ونرفع النثر إلى الشعر‪ ،‬ونجعل من‬
‫الكالم بالغة‪ ،‬وكذلك نستطيع أن نعيش الحياة الفنية؛ فنهدف‬
‫إلى الفن في الحياة‪ ،‬والبالغة في السلوك والتصرف‪.‬‬

‫ويجب أن يكون فن الحياة أخطر من فنون الحضارة؛ ألنه إذا كان‬


‫من الحسن أن نتخذ الزي الفني للباسنا؛ فإن من األحسن أن‬
‫نتخذ الزي الفني لحياتنا وتصرفنا وسلوكنا‪.‬‬

‫واملشكلة األولى لكل إنسان على هذا الكوكب أنه سيعيش سبعين‬
‫أو ثمانين سنة‪ ،‬فكيف يقضيها؟! هل يعيش تلك الحياة التي‬
‫يصفها شكسبير بأنها «قصة يقصها أبله‪ ،‬فتحفل بالضوضاء‬
‫والغضب ثم ال يكون لها ً‬
‫مغزى؟» أو يعيش تلك الحياة البقلية‬
‫يولد وينمو ويموت وكأنه بعض البقول؛ ألن قصارى ما كان يطلب‬
‫طعام وكساء ً‬
‫ومأوى؟!‬ ‫ٌ‬

‫قد يخطر بذهن القارئ عندما نذكر الحياة الفنية أو الحياة‬


‫البليغة أننا إنما نقصد إلى زخارف وبهارج‪ ،‬ولكن الفن الخالص‬
‫ً‬
‫وسدادا؛ ألن كلمات‬ ‫والبالغة الحقيقية يعنيان في لبابهما حكمة‬
‫الحكمة هي أسمى أنواع البالغة والفن‪ .‬ولكن ما هي الحكمة؟‬

‫‪10‬‬
‫ً‬
‫أحيانا باملعرفة‪.‬‬ ‫هي العمل‬
‫ً‬
‫أحيانا تجاهل املعرفة‪.‬‬ ‫وهي‬

‫وهي التمييز في القيم واألوزان‪.‬‬

‫واإلنسان يختلف عن الحيوان من حيث أنه وجداني يتعقل‪ ،‬في‬


‫حين أن الحيوان غريزي يندفع‪ ،‬ونحن نهدف إلى قصد في حياتنا في‬
‫ً‬
‫حين هو يعيش جزافا‪ ،‬ونحن نقرر مصيرنا بأيدينا في حين هو‬
‫ً‬
‫خاضعا للقدر‪ .‬وقد يخالف قولنا هذا ذلك املنطق اآللي‬ ‫ينساق‬
‫الذي يرتب النتائج على األسباب‪ ،‬ولكنه يطابق املنطق العملي‬
‫الذي نحيا به في مجتمعنا املتمدن‪.‬‬
‫ً‬
‫أحيانا تلتغز‪ ،‬وقد‬ ‫وحياتنا في عصرنا هذا تضطرب وترتبك‪ ،‬بل‬
‫كان آلبائنا أعالم قديمة يسترشدون بها في طريق الحياة الساذجة‬
‫التي كانوا يحيونها‪ ،‬ولكن هذه األعالم لم تعد تكفي إلرشادنا في‬
‫طريق الحياة الجديدة؛ ولذلك نحن في حاجة إلى تعاليم جديدة‬
‫نتعلم بها كيف نعيش الحياة الفنية؛ أي الحياة الحكيمة‪ ،‬وكيف‬
‫نقض ي سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب ونحن ننمو‬

‫‪11‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫روحيا‬ ‫وننضج إلى اإليناع؛ فال تكون حياتنا مكابدة‪ ،‬بل التذاذا‬
‫ًّ‬
‫وماديا‪.‬‬

‫ونحن في مجتمعنا إنما نحصل من التعليم — في األغلب — على‬


‫أسلوب االرتزاق الناجح‪ ،‬وليس على أسلوب الحياة الناجعة؛ ألننا‬
‫ننس ى أن الحياة أعم وأهم من الكسب‪ ،‬وأننا نكسب كي نعيش‪،‬‬
‫وال نعيش كي نكسب كما هو الحال اآلن‪.‬‬

‫وإنما صارت الحال كذلك؛ ألن شبح الفاقة يلوح على الدوام في‬
‫مخيلتنا؛ ولذلك صار التعليم من أجل االرتزاق يغمر كل ش يء‬
‫آخر؛ ألننا نعيش في اقتصاديات القلة في حين أن اقتصاديات‬
‫الوفرة على األبواب تنتظرنا‪ ،‬بل تنادينا‪ ،‬وال تحتاج إال أن نومئ‬
‫بأصبع الرض ى فيغمرنا الخير الوفير الذي ال نعرف فيه معنى‬
‫الفاقة أو الحاجة‪ .‬وعندئذ؛ أي عندما نومئ هذه اإليماءة‪ ،‬ونرض ى‬
‫ً‬
‫بالتعاون بدال من املباراة في اإلنتاج‪ ،‬نستطيع جميعنا أن نعيش‬
‫العيشة الفنية‪ ،‬ونحيا الحياة الحكيمة‪ ،‬وأن نتوخى ً‬
‫مأربا ًّ‬
‫فنيا في‬
‫كل ما نتناول من معارف أو معايش‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وهنا ي ِّثب علينا املتشائم‪ :‬لكأنك ترى الدنيا مشرقة في ألوان الورد‪،‬‬
‫وقد غمرت السعادة جميع البشر بما سوف يدبرون من تعاليم أو‬
‫أنظمة‪ ،‬ولكن أين هذا التفاؤل من حقائق الدنيا؟ من األمراض‬
‫والرزايا؟ من الرجل يفقد نور عينيه ويرى الدنيا ً‬
‫ظالما؟ من األم‬
‫تفقد طفلها‪ ،‬وتضم لحمه الطري ووجهه الحلو في تراب القبر؟ من‬
‫الشاب يسمع حكم اإلعدام من طبيبه الذي ينبئه بمرض ال‬
‫يعالج؟!‬

‫ولكن هذا التشاؤم قد بولغ فيه؛ ألن الكوارث نفسها من فن الحياة‬


‫تكرثه كارثة تصل إلى مخ‬ ‫وحكمتها‪ ،‬وذلك اإلنسان الذي لم ُ‬
‫جمد من‬‫ص بأملها‪َ ،‬وي ُ‬‫عظامه‪ ،‬ذلك الذي لم يحس اللوعة ُي َغ ُّ‬
‫هولها‪ ،‬ذلك اإلنسان لم يعش الحياة الفنية‪ ،‬ولم يعرف حكمتها‪،‬‬
‫وأقل ما يقال عنه أنه لم يعش الحياة الكاملة‪ .‬ومع ذلك نحن‬
‫ًّ‬
‫نبالغ؛ فإن كال منا يعرف أن أعظم املصائب التي كان قد توقعها‬
‫لم تقع له‪ ،‬وأن بعض هذه املصائب كان ً‬
‫مفيدا قد انتفع به‪ .‬انظر‬
‫ضا إلى حد عظيم ملا أتممت كل‬ ‫إلى قول داروين‪« :‬لو لم أكن متمر ً‬
‫ِّ‬
‫هذه القدر الكبير من األعمال»!‬

‫‪13‬‬
‫ً‬
‫وكثيرا ما نعيش سادرين ذاهلين حتى إذا كرثتنا الكارثة تنبهنا‪ ،‬كأننا‬
‫قد استيقظنا من نوم‪ ،‬فينبلج لنا نور‪ ،‬وتنكشف لنا حقائق ما كنا‬
‫لنراها لوال هذه الكارثة‪ .‬وأيام املرض في السرير ً‬
‫كثيرا ما تكون أيام‬
‫التنبيه والتجديد‪.‬‬

‫ونحن في حاجة دائمة إلى استعمال ذكائنا؛ كي نميز بين لذة‬


‫العاطفة ولذة الوجدان‪ ،‬وبين السرور الزائل والسعادة الباقية‪،‬‬
‫وبين االمتياز الذاتي في النفس وبين االمتياز املادي في العقار؛ أي‬
‫بين ما نكونه وما نملكه‪.‬‬

‫والحياة الفنية هى الحياة الجميلة‪ ،‬ومع جميع التعاريف للفن‬


‫والجمال ال نزال عاجزين عن تعريفهما الصحيح‪ ،‬ولكن من منا ال‬
‫يعرف الفن والجمال؟!‬

‫إن هناك أشياء نعرفها باإلحساس النفس ي‪ ،‬وأشياء أخرى نعرفها‬


‫باالختبارات الذهنية‪ ،‬وليست األولى دون الثانية وإن تكن في مرتبة‬
‫أخرى‪ .‬وإ ذا كنا ننشد الفن والجمال في األثاث والبناء والرسم؛‬
‫وهمة — أن ننشد الجمال‬ ‫فإننا يجب ً‬
‫أيضا — بل بأكثر عناية َّ‬
‫في الحياة‪ ،‬في الشخصية الرشيقة‪ ،‬والذهن اللبق‪ ،‬والجسم‬

‫‪14‬‬
‫األنيق‪ ،‬كما في األخالق السامية‪ ،‬واألهداف الروحية‪ ،‬والعالقات‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫نحن غريزة وعقل‬

‫كي نعيش العيشة الفنية‪ ،‬ونحيا حياة الحكمة والتعقل يجب أن‬
‫ًّ‬
‫نعرف أن كال منا مركب من غريزة وعقل؛ الغريزة هي قديمنا‬
‫املوروث‪ ،‬هي التقاليد البيولوجية‪ ،‬هي ذاكرة النوع الجامدة‪،‬‬
‫والعقل هو جديدنا الذي يتعلم وينمو ويميزنا بالفهم عن الحيوان‪.‬‬

‫ذلك أن الحيوان يعيش بالغرائز‪ ،‬أو أن ‪ ٩٩‬في املائة من حياته‬


‫كذلك‪ ،‬وفهمه للدنيا ذاتي على مستوى منخفض ليس له وجدان‬
‫موضوعي‪ ،‬ولكن اإلنسان بعقله ووجدانه يستطيع أن يجعل فهمه‬
‫ًّ‬
‫موضوعيا‪ ،‬وأن يصل إلى حقائق الدنيا كما هي في حقيقتها أو ما‬
‫يقرب من ذلك‪ .‬وعلومنا وآدابنا وثقافتنا وحضارتنا إنما هي ثمرات‬
‫العقل وليست ثمرات الغرائز‪.‬‬

‫الحيوان في ذهول بغرائزه؛ يحيا وكأنه في حلم‪ ،‬واإلنسان باملقارنة‬


‫به في تنبه ويقظة بعقله ووجدانه‪ ،‬هذا الوجدان الذي يجعله‬
‫يتصرف وهو يدري أنه يتصرف‪ ،‬ولكن الحيوان ال يدري‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وهذا الوجدان هو الذي يجعلنا على دراية باملوت والفقر والكوارث‬
‫حتى قبل وقوعها‪ ،‬ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك؛ ولكن هذا‬
‫الشقاء «إنساني»‪ ،‬وال نرتض ي النزول عنه كي نعيش بالغرائز‪،‬‬
‫نعيش في ذهول كما يفعل الحيوان‪ ،‬وعندما نربي أنفسنا أو أبناءنا‬
‫إنما نعمد إلى هذا الوجدان‪ ،‬ونستنبط التعقل ومحاولة التعرف‬
‫إلى األشياء كما هي في حقيقتها‪ ،‬وليس كما تصورها لنا غرائزنا‪.‬‬

‫وواضح أنه ليس هناك إنسان يعيش بوجدانه فقط يتعقل كل‬
‫ًّ‬
‫موضوعيا؛ ألن ً‬
‫كثيرا من تصرفنا يعود‬ ‫تفه ًما‬
‫ش يء‪ ،‬ويتفهم الدنيا ُّ‬
‫ً‬
‫أحيانا اندفاع الحيوان‪ ،‬أو نسلط عليها‬ ‫إلى الغرائز التي نندفع بها‬
‫الوجدان بالتعقل‪ُ ،‬‬
‫فن ِّعين لهذا االندفاع سرعته وطريقته‪.‬‬

‫ومهما َح ُقر اإلنسان وهان وانحط؛ فإنه يستطيع‪ ،‬عندما يتأمل‬


‫عقله‪ ،‬أن يقول‪ :‬ما أعظمني! أي ما أعظم عقلي الذي يتجرد من‬
‫غرائزي‪ ،‬ويبحث النجوم واألخالق والشرف والسياسة ومستقبل‬
‫البشر‪ ،‬وفلسفة الكون‪ ،‬وتطور األحياء‪.‬‬

‫ومهما عظم اإلنسان وسما ونضج؛ فإنه يستطيع‪ ،‬عندما يتأمل‬


‫غرائزه‪ ،‬أن يقول‪ :‬ما أحقرني! أي ما أحقر هذه الغرائز التي اندفع‬

‫‪17‬‬
‫بها إلى الطمع والحسد والعدوان واالقتناء واالنغماس والنهم‬
‫والشر!‬
‫َّ‬
‫الخسة التي تنحدر إليها غرائزه‪ ،‬وأحس‬ ‫وألن اإلنسان عرف‬
‫مضض النفس وصداع القلب في املواقف التي اصطدم فيها عقله‬
‫بغرائزه؛ ألنه عرف هذه املواقف‪ ،‬عمد في كثير من األحيان إلى‬
‫جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك‪ ،‬ومن هنا نشأت الرهبنة في‬
‫بعض األديان ً‬
‫إنكارا للغريزة الجنسية ولبعض الغرائز األخرى؛‬
‫كاالقتناء والتسلط والحسد واالنغماس … إلخ‪ ،‬كأن الغاية أن‬
‫نعيش بالوجدان والعقل‪.‬‬

‫ولكن هذا االنحياز نحو التعقل وإنكار الغرائز ال يطيقه إال‬


‫ُّ‬
‫«األقلين»‪ ،‬وهل‬
‫ِّ‬ ‫هؤالء‬ ‫في‬ ‫حتى‬ ‫نشك‬ ‫أن‬ ‫لنا‬ ‫يجوز‬ ‫بل‬ ‫‪،‬‬‫ن‬ ‫و‬ ‫األقل‬
‫أطاقوا نسكهم؟ وهل استطاعوا إنكار غرائزهم أم بقيت هذه‬
‫الغرائز كامنة مختبئة في أغوار نفوسهم تتحين الفرص‪ ،‬ال للثورة‬
‫على العقل فقط‪ ،‬بل ً‬
‫أيضا للتسلل ملتوية منحرفة عن طريقها‪،‬‬
‫حتى حملتهم على أن يسلكوا السلوك الشاذ‪ ،‬ويتصرفوا التصرف‬
‫السيئ؟!‬

‫‪18‬‬
‫ونحن نعرف من السيكلوجية أن الغريزة وقت التهابها‪ ،‬عندما‬
‫نسميها عاطفة‪ ،‬تفور بنا كاملاء املغلي‪ ،‬وتطلب املنفس واملخرج‪،‬‬
‫فإذا لم تجدهما اندست وبقيت بقوتها تبحث عن املخارج‬
‫الضعيفة‪ ،‬حتى إذا وجدتها انفجرت‪ ،‬فال يكون منها غير األذى‬
‫الفادح لشخصيتنا‪ .‬وأولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية —‬
‫ً‬
‫مثال — لم ينجحوا قط في إلغائها ومحوها‪ ،‬وقصارى ما وصلوا‬
‫إليه عربدة جنسية مختلفة األلوان واألسماء‪ ،‬أو هم قد خدعوا‬
‫أنفسهم من حيث ال يدرون‪ ،‬فاتجه نشاطهم الجنس ي إلى ألوان‬
‫قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي املجتمع‪ ،‬وتفتت شخصياتهم‪.‬‬

‫وال يطالبنا فن الحياة بكظم العواطف‪ ،‬وقمع الغرائز؛ ألننا ال‬


‫نستطيع أن ننكر طبيعتنا؛ إذ إننا غرائز وعقل‪ ،‬فيجب أن نصالح‬
‫بينهما؛ أي أن نهذب غرائزنا‪ ،‬ونجعلها مالئمة لقواعد املجتمع الذي‬
‫نعيش فيه دون قمع أو جحد‪.‬‬

‫وفي أغلب األحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز إلى االعتدال؛ فال‬
‫نسرف في االنقياد للعاطفة الجنسية‪ ،‬وال نغلو في الطموح والغيرة‬
‫والحسد والتسلط‪ .‬وكلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة؛ ألننا‬
‫نجهل أصلها‪ ،‬هل هو طبيعي أم اجتماعي؟ ولكنا عندما نتأمل‬

‫‪19‬‬
‫نشاطنا االجتماعي كله‪ ،‬ذلك النشاط الذي ينظمه العقل‪ ،‬وإن‬
‫كان مرجعه غر ًّ‬
‫يزيا‪ ،‬نجد أنه يعود إلى ما يشبه أن يكون غريزة‬
‫واحدة هي شهوة األمن والطمأنينة‪.‬‬

‫وهذه الشهوة أصيلة في الطبيعة البشرية‪ ،‬وهي التي تدفعنا إلى‬


‫جمع املال واقتناء العقارات واملنقوالت‪ ،‬واالنغماس في الكسب‪،‬‬
‫كما أنها هي األصل في الغيرة والحسد والطموح والطمع‪ .‬ونحن‬
‫نمارس كل هذه األشياء مدفوعين بالخوف؛ أي الرغبة في‬
‫الطمأنينة‪ ،‬ثم ننساق في عادات هذا النشاط التي تتملكنا فال‬
‫نعرف أين نقف؛ كتلك البهيمة التي نشدها إلى الساقية فتدور‬
‫وتجرها مكرهة‪ ،‬حتى إذا جئنا كي نحل رباطها ونطلقها رفضت‬
‫واستمرت في دورتها بقوة االندفاع األول‪.‬‬
‫ً‬
‫فهناك — مثال — من ينساق لغريزة الخوف ويطلب الطمأنينة‬
‫بجمع املال‪ .‬وهذا حسن إذا عرف أين يقف‪ ،‬ومتى يقنع بمقدار من‬
‫املال يحقق هذه الطمأنينة‪ ،‬ولكن بعيد ًّ‬
‫جدا أن يعرف هذا؛ ألنه‬
‫حتى بعد أن يحقق هذه الطمأنينة‪ ،‬ويجمع من املال ما يكفيه هو‬
‫وعائلته ينساق في عادة الجمع‪ ،‬فال يكون املال خادمه‪ ،‬بل سيده‬
‫الذي يستبد به‪ ،‬ويحمله على الجهد أكثر من َّ‬
‫عماله الذين‬

‫‪20‬‬
‫يخدمونه‪ ،‬حتى ليصل إلى مكتبه أو متجره قبل دخولهم‪ ،‬ويخرج‬
‫بعد خروجهم‪.‬‬
‫هذا هو شأن كثير من الناس الذين يشقون ألنهم ينساقون‬
‫مندفعين بغرائزهم دون أن يسلطوا عقولهم عليها؛ فيعتدلون‬
‫وينظمون نشاطهم كي يعيشوا الحياة الفنية املتناسقة‪ .‬ومن شأن‬
‫الغرائز أنها تسرف وتغلو؛ ألن الطبيعة تحرص على بقاء النوع‪،‬‬
‫جهزتنا بهذه الغرائز قبل أن تجهزنا بالعقل؛ وذلك كي تكفل‬ ‫وقد َّ‬
‫لنا البقاء والتغلب في ميدان التنازع بين أنواع الحيوان وأفراده‬
‫للبقاء‪.‬‬
‫واحدا — ً‬ ‫رجال ً‬‫ً‬ ‫ً‬
‫واحدا‬ ‫اعتبر — مثال — غريزة التناسل؛ فإن‬
‫فقط — يحمل في جسمه من الجراثيم املنوية ما يكفي لتلقيح‬
‫أناث النوع البشري كله! ونجد مثل هذا اإلسراف في سائر الغرائز؛‬
‫فإن غريزة الحيوان تحملنا على الرغبة في التسلط بامتالك هذا‬
‫الكوكب إذا قدرنا‪ ،‬وقد حاول ذلك اإلسكندر وتيمورلنك ونابليون‬
‫وهتلر‪ .‬وحين نشرع في االقتناء نتوهم أننا يجب أن نجمع ما يكفينا‬
‫ألف سنة!‬

‫‪21‬‬
‫َّ‬
‫وقيمة العقل أنه يتسلط على غرائزنا‪ ،‬ويحملنا على االعتدال‪،‬‬
‫ُ‬
‫ولكن بال زهد أو نسك؛ أي بال إنكار للغرائز‪ .‬وقد يكون لقليل من‬
‫الزهد قيمة في التذاذ العيش؛ أي في التأنق في االختيار باالمتناع‬
‫عن قبول كل ما يرد؛ كالعطش يجعل الشراب أسوغ‪ ،‬ولكن‬
‫االستمرار عليه جنون قاتل‪.‬‬
‫وتقتضينا الحياة الفنية أن نعيش بالعقل والغريزة ً‬
‫معا في‬
‫مصالحة ووفاق بين االثنين‪ ،‬ولكن في تحيز نحو العقل؛ ألن العقل‬
‫إنساني والغريزة حيوانية‪ ،‬وألن الفرق بين اإلنسان اإلنساني‬
‫واإلنسان الحيواني هو أن األول يعتمد في األكثر على وجدانه‬
‫وعقله‪ ،‬في حين يعتمد الثاني في األكثر على غرائزه‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫كيف نسوس عواطفنا‬

‫العواطف قوات موطرية أو انفجارية‪ ،‬وهي في حال األولى تكسبنا‬


‫الطاقة التي ننبعث بها إلى النشاط الذهني أو الجسمي‪ ،‬ولوال هذه‬
‫القوة املوطرية ملا تحركنا إلى الطموح أو الدراسة أو الكسب‪ ،‬وهي‬
‫لذلك جهاز نافع أيام الصحة‪ ،‬ولكنها تستحيل إلى قوة انفجارية‬
‫معربدة أيام املرض؛ نتطوح بها إلى الجنون أو الشذوذ أو اإلجرام‪.‬‬

‫والعواطف في مجموعها اجتماعية؛ أي إننا نكسبها من املجتمع‬


‫وليس من الطبيعة‪ .‬وصحيح أن هناك عواطف نرثها وراثة‬
‫طبيعية؛ كالعاطفة الجنسية أو عاطفة الجوع إلى الطعام‪ ،‬ولكن‬
‫ًّ‬
‫اجتماعيا‪.‬‬ ‫حتى هذه العاطفة «الطبيعية» تتخذ ً‬
‫لونا‬

‫واملجتمع الذي نعيش فيه‪ ،‬بما له من طرق في كسب العيش‬


‫وأساليب اإلنتاج‪ ،‬يعين العواطف الشخصية لكل شخص منا؛‬
‫فإذا كنا نعيش في نظام اقتصادي يقوم على املباراة‪ ،‬فإن صفات‬
‫األنانية والغيرة والرغبة في التفوق واالقتناء والطموح تصير‬
‫ً‬
‫وأحيانا تستحيل‬ ‫عواطف شخصية تحفزنا إلى العمل والكسب‪،‬‬
‫هذه الصفات إلى عواطف سيئة؛ كالحسد والتسلط والخوف‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وتحدث لنا عواطف أخرى إذا كنا نعيش في مجتمع تعاوني ليس‬
‫فيه سيد ومسود‪ ،‬وغني وفقير‪ ،‬وكانز ومحروم‪ ،‬كما هي الحال في‬
‫املجتمعات االشتراكية‪.‬‬

‫وألننا نعيش في مجتمع قائم على املباراة‪ ،‬فإن جميع الرذائل التي‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫عاطفيا في نفوسنا؛ ولذلك نشقى‬ ‫تستتبعها املباراة تتخذ شكال‬
‫كثيرا باألنانية والحسد والرغبة في التفوق واالقتناء والطموح‪،‬‬‫ً‬
‫ذلك أن الوسط االقتصادي محدود الفرص؛ فقد يجد غيري‬
‫فرصة ال أجدها أنا‪ ،‬فأبتئس لتخلفي‪ ،‬وأغار من تقدمه‪ ،‬وأحسده‬
‫على ذلك‪ .‬وكل هذه العواطف تؤذيني‪ ،‬أو هي تبعثني على اإلفراط‬
‫في الجهد حتى أموت قبل األوان؛ بزيادة الضغط للشرايين‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫مريضا‬ ‫بعجز القلب‪ ،‬أو باالختالل في التمثيل السكري‪ ،‬أو قد أبقى‬
‫بهذه األمراض وغيرها وأشقى بها‪ ،‬وهذا إلى هموم ال تنقطع تغش ى‬
‫نفس ي بالغم والكآبة‪ ،‬وقد تحملني على االنتحار‪.‬‬

‫ولذلك نحتاج‪ ،‬كي نعيش الحياة الفنية في هناء‪ ،‬أن نسوس‬


‫عواطفنا حتى تبقى موطرية تدفعنا إلى السير ُم َّت ِّئدين‪ ،‬وال تكون‬
‫انفجارية تثور بنا وتبددنا‪ .‬وأول ذلك أن نعرف بوجدان يقظ‬
‫وتعقل متزن أننا نعيش في مجتمع قائم على املباراة‪ ،‬وأنه يحملنا‬

‫‪24‬‬
‫على اتجاهات مؤذية‪ ،‬فيجب أن نجعل القناعة االقتصادية‬
‫مصباح الهداية الذي نستض يء به؛ فال نتطوح في مطامع ال نقوى‬
‫على تحقيقها‪ ،‬فنكون لها ً‬
‫عبيدا نجري ونهرول طوال حياتنا كأننا‬
‫مسخرون في جمع املال واقتناء العقار‪.‬‬

‫وليس هنا مقام التحليل لعواطفنا املختلفة حتى نثبت للقارئ أنها‬
‫كلها تعود إلى مجتمعنا؛ فإن غيرة املرأة من حماتها أو العكس‪،‬‬
‫وكذلك مناكدة الرئيس ملرءوسيه‪ ،‬ثم االهتمام املريض‬
‫للمستقبل‪ ،‬والتضحية بالحاضر للمستقبل‪ ،‬ثم الخوف من‬
‫الفقر‪ ،‬والخوف على األوالد من األخطار‪ .‬كل هذه العواطف تعود‬
‫إلى نظام نفس ي ينهض على أساس املجتمع االقتصادي الذي نعيش‬
‫فيه‪.‬‬

‫وقصارى ما نستطيع أن نبسطه في هذا الفصل هو نصائح موجزة‬


‫نبغي بها عالج املجتمع االقتنائي الذي نعيش فيه؛ أي عالج الفرد‬
‫غرسها فيه املجتمع‪ .‬أما العالج‬‫مما تجلبه عليه العواطف التي َ‬
‫الحاسم فهو تغيير املجتمع من املباراة إلى التعاون‪ ،‬ومن االقتناء‬
‫الفردي إلى االقتناء العام‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫من شأن العواطف أنها ال تؤذينا إذا كانت الكارثة كبيرة فادحة‪،‬‬
‫ولكنها مع فداحتها مفردة؛ أي وقعت مرة واحدة ثم انتهت‪ ،‬فنحن‬
‫نتحمل اإلفالس التام‪ ،‬أو موت االبن أو األم‪ ،‬أو كارثة الغرق أو‬
‫الحريق أو الطالق‪ ،‬ولكننا ال نتحمل الزوجة التي تناكدنا كل‬
‫صباح على الطعام أو القهوة‪ ،‬وال تتحمل الزوجة معاكسة‬
‫حماتها‪ ،‬وال يتحمل الطالب توبيخ أبويه كل يوم لفشله في‬
‫االمتحان؛ أي إذا تكررت املناكدة أو املعاكسة كل يوم‪ ،‬ولو كانت‬
‫ألسباب تافهة‪ ،‬أدت إلى االنهيار العصبي الخطير؛ ألن العبرة‬
‫بالتكرار‪.‬‬
‫لهذا السبب يجب أال تعيش الزوجة مع حماتها ً‬
‫أبدا‪ ،‬وإذا كانت‬
‫هناك ظروف تضطرهما إلى االشتراك في العيش‪ ،‬فليكن هذا على‬
‫وجدان منهما؛ أي يجب على كل منهما أن تعرف أنها في حالة شاذة‪،‬‬
‫وأن تحتاط من الوقوع في املناكدة أو املعاكسة‪.‬‬

‫يجب على األب‪ ،‬إذا فشل ابنه أو بنته في االمتحان‪ ،‬أال يعمد إلى‬
‫تقريعه كل يوم؛ ألن هذا التقريع قد يؤدي إلى انهيار عصبي خطير؛‬
‫وخاصة إذا كان بين ‪.٢٥–١٧‬‬

‫‪26‬‬
‫االهتمامات الكثيرة املتنوعة تخفف من ضغط العاطفة وتحول‬
‫دون اجترارها‪.‬‬

‫إذا ثقلت العاطفة فإن النشاط الجسمي يخفف من ثقلها؛ حتى‬


‫املش ي والجري يخففان من ثقلها‪.‬‬

‫من الواجب أن ننبه الرؤساء في املصانع واملكاتب إلى أن يكفوا عن‬


‫معاكسة مرءوسيهم؛ حتى ال يكون أحدهم كالحماة التي تبعث‬
‫بزوجة ابنها إلى املارستان؛ ألنها ال تفتأ توبخها وتبخسها‪.‬‬
‫َّ‬
‫يجب أن نقلل من مظاهر الحزن؛ مثل احتفال األربعين للمتوفى‪،‬‬
‫أو التفجع في الجرائد على املتوفين؛ ألن هذه املظاهر تحيي الحزن‬
‫القديم عند الغير‪.‬‬

‫وهذا أحسن ما نستطيع أن نقول في مجتمع املباراة الذي نعيش‬


‫فيه‪ ،‬وهو مجتمع سيئ في أساسه‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫التربية‬

‫ال تقل طفولتنا البيولوجية عن ‪ ١٧‬سنة‪ ،‬وال تقل طفولتنا‬


‫االجتماعية عن ‪ ٣٠‬سنة‪ ،‬ومعنى هذا أن مدة التربية عندنا طويلة؛‬
‫وذلك أننا ال نولد بأجهزة من الغرائز التامة التي نعمل بها بال‬
‫تعليم‪ ،‬كما تفعل صغار السمك التي تسبح عندما تخرج من‬
‫بيضها‪ ،‬وال بأجهزة ناقصة كما تفعل صغار الطيور التي تحتاج إلى‬
‫ش يء من التعليم كي تطير وتجرؤ على اقتحام الجو‪.‬‬

‫ذلك أننا نحن البشر قد استغنينا عن الكثير من غرائزنا‪ ،‬أو قد‬


‫وضعناها في الصفوف الخلفية من كياننا النفس ي‪ ،‬وأقمنا العقل‬
‫ًّ‬
‫وصيا عليها يديرها ويوجهها؛ حتى إننا ال نأكل وال نتناسل في‬
‫استسالم كامل للغرائز؛ إذ إننا نسلط العقل هنا ً‬
‫أيضا‪ ،‬ونجعل له‬
‫التصرف األعلى‪ .‬وصحيح أننا ال نستطيع أن نخمد هذه الغرائز‪،‬‬
‫ولكننا نستطيع التصرف بها وتوجيهها‪.‬‬

‫وتسلط العقل يجعل التربية ضرورية لكل فرد منا؛ وخاصة إذا كنا‬
‫نعيش في مجتمع راق؛ أي أرقى وأكثر ً‬
‫تركبا من املجتمع الزراعي أو‬ ‫ٍ‬
‫البدوي‪ .‬وتتجه التربية في عصرنا إلى إيجاد عادات ومهارات نكسب‬

‫‪28‬‬
‫بهما العيش‪ ،‬وليس من شك في قيمة التربية؛ وخاصة في مجتمع ال‬
‫يزال يعيش على اقتصاديات القلة وليس على اقتصاديات الوفرة‬
‫التي يلتمع فجرها اآلن في األمم املتقدمة في اإلنتاج اآللي‪ ،‬ولكن‬
‫التربية يجب أن تكون للحياة قبل أن تكون للكسب‪.‬‬

‫وكذلك يجب أال ترمي التربية إلى تعليمنا املعارف والثقافة‬


‫فحسب‪ ،‬وإنما يجب أن توجهنا الوجهة التي نتعلم بها وحدنا‪ .‬وكي‬
‫نوضح قصدنا نطلب إلى القارئ أن يقارن بين أرسطوطاليس وبين‬
‫تلميذ في السنة الثالثة أو الرابعة من مدارسنا الثانوية؛ فليس من‬
‫فضل هذا الفيلسوف في كثير من معارفه‬ ‫شك أن التلميذ َي ُ‬
‫الكيماوية والبيولوجية والطبيعية والجغرافية‪ ،‬ولكن‬
‫أرسطوطاليس يمتاز باتجاه معين نحو البشر والكون واملعارف‪.‬‬
‫وهذا االتجاه يحتاج تلميذنا إلى خمسين أو ستين سنة حتى يصل‬
‫إليه‪ ،‬بل قد ال يصل إليه ألنه ال يجد من يرشده‪.‬‬

‫ليست التربية السديدة أن أعرف‪ ،‬وإنما هي أن أعرف كيف أعرف؛‬


‫أي كيف أعلم نفس ي‪ ،‬وأزيد معارفي‪ ،‬وأكون ً‬
‫طالبا مدى حياتي‪.‬‬
‫وليست التربية أني أعرف كيف أكسب العيش‪ ،‬بل هي أن أعرف‬
‫كيف أعيش سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب في نمو‬

‫‪29‬‬
‫لشخصيتي وترقية لذهني‪ .‬ويجب أال يكون هدف التربية — كما‬
‫هو اآلن — النجاح الحرفي للكسب؛ إذ يجب أن تهدف إلى النجاح‬
‫في الحياة؛ ألن الحياة أكبر من الحرفة‪ ،‬والنجاح فيها يقتض ي‬
‫النجاح في الصحة والثقافة والعالقات االجتماعية والعائلية‪،‬‬
‫واالرتقاء الفني والذهني … إلخ‪.‬‬
‫ًّ‬
‫يجب أن تهدف التربية إلى أن تحمل كال منا على االهتمام باألثاث‬
‫األنيق والرسم الفني كما نهتم للكسب في مجتمع اقتنائي يعيش‬
‫أفراده باملباراة‪ ،‬ويجب أن تحرك استطالعنا إلى درس الطاقة‬
‫الذرية أو زراعة القطن كما تحركه إلى تقدير ألوان الجمال في‬
‫الطبيعة‪ :‬القمر في الريف‪ ،‬والشمس في البزوغ‪ ،‬والبحر والقفر‬
‫والجبل والسهل؛ ألن هذا الكوكب كوكبنا‪ ،‬ويجب أن نستمتع بما‬
‫فيه من روعة الطبيعة ومجدها‪.‬‬

‫والحياة الفنية تحتاج قبل كل ش يء إلى درس الفنون‪ ،‬وإلى ترقية‬


‫اإلحساس الفني‪ ،‬بحيث نسلك ونتصرف ولنا في كل ذلك مأرب‬
‫فني‪ ،‬حتى إذا سرنا في حديقة استمتعنا بالزهور وهي على شجرتها‬
‫في إشراقها وإيناعها دون أن يبعثنا روح االقتناء على بترها وقطفها‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ويجب أن نتعود قراءة الجريدة واملجلة والكتاب كما نتعود القهوة‬
‫ًّ‬
‫نفسيا‬ ‫والشاي‪ ،‬ويجب أن نزداد رغبة في امتالك هذا الكوكب‬
‫ً‬
‫تقلصا باملخترعات الجديدة؛ حتى‬ ‫وذهنيا ًّ‬
‫وفنيا كلما ازداد هو‬ ‫ًّ‬
‫حسا ً‬
‫وذهنان فال تضيق بحدود القطر أو القارة‪ ،‬بل‬ ‫تتسع آفاقنا ًّ‬
‫تشمل شئون العالم كله والبشر جميعهم‪.‬‬

‫ثم يجب أال يغيب عنا أن التربية البشرية تخاطب الذهن‪ ،‬أي تزيد‬
‫الوجدان؛ حتى نعيش في يقظة‪ ،‬ونطلب زيادة هذه اليقظة بتعلم‬
‫املعارف والفنون‪ ،‬وال نعيش ذاهلين ذهول الحيوان الذي تسوقه‬
‫غرائزه‪ .‬والفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل‪ ،‬وهو يعود‬
‫في األغلب إلى عادة القراءة‪ .‬وكذلك الفرق بين شيح هرم قد خرف‬
‫حدة وفتوة ويقظة وذكاء‪ ،‬يعود‬ ‫أو تبلد ذهنه‪ ،‬وبين شيخ ال يزال له َّ‬
‫إلى أن األول لم يتعود القراءة‪ ،‬وأن الثاني قد تعودها‪ .‬والقراءة‬
‫تجعل الكلمات مألوفة في الذاكرة سهلة االستحضار‪ ،‬وملا كانت‬
‫ً‬ ‫جسمة في كلمات؛ فإن من البعيد ًّ‬ ‫املعاني ُم َّ‬
‫جدا أن نجد رجال يهرم‬
‫ويتبلد ذهنه ما دامت الكلمات حاضرة معدة لتنبيهه‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ومن هنا القيمة العظمى لصحة الشيخوخة من ُّ‬
‫تعود القراءة؛ ألن‬
‫الذهن يمرن على الفهم بالقراءة كما يمرن الجسم على الحركة‬
‫بالرياضة‪ ،‬وتبقى هذه املرانة إلى الشيخوخة‪.‬‬

‫كذلك يجب أن تكون تربيتنا موسوعية؛ أي يجب أن نلم بجميع‬


‫ً‬
‫وجدانا بهذا‬ ‫املعارف البشرية‪ ،‬وقد أحدثت لنا القنبلة الذرية‬
‫اإلحساس‪ .‬وصحيح أنه يجب أن تكون لنا بؤرة؛ أي نقطة للتعمق‬
‫والتخصص في املعارف‪ ،‬ولكن يجب أن نتشعع من هذه البؤرة‬
‫العميقة إلى التوسع في اآلفاق الذهنية الرحبة‪ ،‬كما يجب أن يكون‬
‫كل منا سقر ًّ‬
‫اطيا؛ أي يعرف أنه ال يعرف فيدرس العلوم والفنون‬
‫واآلداب والفلسفات‪ ،‬ويبقى على هذا حتى يموت «وعلى صدره‬
‫كتاب»‪ ،‬كما قيل عن الجاحظ‪.‬‬
‫وفي املستقبل القريب‪ ،‬بل القريب ًّ‬
‫جدا‪ ،‬ستتغير التربية من‬
‫التعليم للحرفة إلى التعليم للحياة‪ ،‬وعندئذ نتجه نحو استخدام‬
‫فراغنا الذي سيزيد عا ًما بعد آخر‪ ،‬وكثير منا — حتى في عصرنا‬
‫هذا — يستمتعون بفراغ يبلغ أربع أو خمس ساعات كل يوم‪،‬‬
‫وعندئذ ستكون مشكلة التربية‪ :‬كيف يتصرف الشاب أو الفتاة‬
‫بهذا الفراغ؟ وكيف ينتفع به ويستمتع؟‬

‫‪32‬‬
‫وهذا السؤال يعود بنا إلى النغمة التي نفتأ نعزف بها‪ ،‬وهي أننا‬
‫نعلم الناس كيف يعيشون الحياة املليئة‪ ،‬وكيف‬ ‫يجب أن ِّ‬
‫يتعمقون في حياتهم وال يقنعون منها بالعيش على سطحها أو‬
‫هامشها‪ ،‬نعلمهم أن غاية التربية أن يحيوا وليس أن يحترفوا‪،‬‬
‫ونحرك فيهم العقل االستطالعي اليقظ الذي يشتهي املعارف‪،‬‬
‫أيضا أين يبحث عنها ويجدها‪ ،‬ونعلمهم أن هدف الحياة‬ ‫ويعرف ً‬
‫أجل؛ هو الحياة في تعمق وتأنق‪ ،‬وليس هو الحرفة أو املال أو‬
‫التفوق‪.‬‬
‫ً‬
‫وأخيرا نقول‪ :‬إن التربية الحقيقية هي التربية الذاتية؛ فال ييئس‬
‫أحد ألنه لم يمتز بتعليم جامعي‪ ،‬أو ألن ظروف حياته املاضية لم‬
‫تيهئ له الفرص للدراسة؛ ألنه يستطيع أن يشرع في أي وقت‪ ،‬وأن‬
‫يضع البرنامج الدراس ي الذي تحتاج إليه تربيته‪ ،‬وهو أقدر إنسان‬
‫على وضع هذا البرنامج؛ إذ هو الوحيد الذي يعرف حاجاته‬
‫وكفاءاته‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫القيمة البشرية والقيمة االجتماعية‬

‫نحن نعيش في املجتمع املتمدن بدستور أخالقي نأخذه كله أو ‪٩٩‬‬


‫في املائة من العائلة التي نشأنا فيها‪ ،‬والشارع الذي مارسنا فيه‬
‫اختبارات الطفولة‪ ،‬ومن زمالء املدرسة والحرفة‪ ،‬ومن غير هؤالء‬
‫تحملنا حياتنا الحرفية أو االجتماعية أو السياسية على‬ ‫ممن ِّ‬
‫االحتكاك بهم‪ .‬ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا املجتمع‪،‬‬
‫يعينها لنا‪.‬‬
‫ونأخذ بالقيم التي ِّ‬
‫ً‬
‫وكثيرا ما نأخذ بقيم وأوزان فاسدة؛ ألن املجتمع الذي نعيش فيه‬
‫فاسد‪ً ،‬‬
‫وكثيرا ما يخفى علينا هذا الفساد فنندفع في التيار ال نقف‬
‫أحيانا نقف ونتردد‪ ،‬وعندئذ يكون التقلقل‬ ‫ً‬ ‫وال نتردد‪ ،‬ولكن‬
‫والبحث والتجديد‪ ،‬ثم تكون قيم وأوزان جديدة‪.‬‬

‫والقيم واألوزان إما أن تكون اجتماعية‪ ،‬وإما أن تكون بشرية‪ ،‬وإذا‬


‫كان املجتمع ر ً‬
‫اقيا كانت كل أو معظم أوزانه بشرية‪ .‬ومثال األوزان‬
‫البشرية‪ :‬استنكار القتل والفقر واملرض والجهل‪ ،‬وصيانة‬
‫الصحة‪ ،‬ومكافحة املرض‪ ،‬وتنوير الذهن باملعارف‪ ،‬وتوزيع‬
‫الثروة؛ بحيث ال يكون فقر ٍ‬
‫مؤذ وال ثراء مبطر‪ .‬ومثال األوزان‬

‫‪34‬‬
‫والقيم االجتماعية‪ :‬التزين‪ ،‬واقتناء القصور والضياع‪ ،‬والتفاخر‬
‫بالوالئم وأبهة العرس أو املأتم ونحو ذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صديقا عائال مات وترك زوجته‬ ‫وكي نزيد اإليضاح نفرض أن‬
‫وجملة أوالد؛ فالرجل الذي تغلب عليه األوزان والقيم االجتماعية‬
‫سيحضر املأتم‪ ،‬ويسير خلف الجنازة‪ ،‬ويحضر الصالة‪ ،‬ويعزي‬
‫َّ‬
‫أسرة املتوفى‪ ،‬ثم يعد نفسه قد أنجز جميع واجباته‪ ،‬وربما قد‬
‫يبالغ في هذه الواجبات فينعيه في الجرائد‪ .‬ولكن الرجل الذي‬
‫تغلب عليه األوزان والقيم البشرية قد يهمل كل هذه الواجبات‪،‬‬
‫ثم يبحث عن حال األرملة وأوالدها‪ ،‬فإذا وجد أنهم في حاجة إلى‬
‫املال تبرع من جيبه وجمع من غيره ما يقيتها‪ ،‬ثم هو يرعى األوالد‬
‫بالنصيحة‪ ،‬وييهئ لهم وسائل التعليم‪ ،‬ويرعى العائلة تلك الرعاية‬
‫االقتصادية التي فقدتها بموت العائل‪.‬‬

‫ومن هنا نعرف أن الضمير الحسن هو الضمير البشري‪ ،‬وليس هو‬


‫الضمير االجتماعي‪.‬‬

‫ومن هذا املثال الذي ذكرناه نستطيع أن نتوسع فنقول‪ :‬إن‬


‫للصحة قيمة بشرية مطلقة‪ ،‬ولكن للمال — بعد أن يتجاوز ًّ‬
‫حدا‬

‫‪35‬‬
‫ما — قيمة اجتماعية فقط‪ ،‬والشاب الذي ينشد في الفتاة‬
‫جمالها إنما ينشد قيمة بشرية‪ ،‬ولكنه عندما ينشد ثراءها إنما‬
‫ينشد قيمة اجتماعية‪ .‬ومن هنا ً‬
‫أيضا نقول‪ :‬إن للزواج قيمة‬
‫بشرية‪ ،‬ولكن أبهة العرس وجهاز العروس ونحو ذلك تعد من‬
‫القيم االجتماعية‪.‬‬
‫ً‬
‫وكثيرا ما تستهلك القيم واألوزان االجتماعية مجهودنا وصحتنا‪،‬‬
‫تحول بيننا وبين القيم البشرية؛ كأن نندفع في جمع املال‬‫كما ُ‬
‫فنفقد صحتنا قبل الخمسين أو الستين؛ ألن املجهود في هذا‬
‫الجمع كان أكبر مما نتحمل‪ ،‬وفي الوقت نفسه حال هذا الجمع‬
‫دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير ذهننا‪ ،‬وهما من القيم‬
‫البشرية‪ .‬وكثير من الناس يغمرهم املجتمع بقيمة وأوزانه فال‬
‫يرتفعون فوقها؛ ولذلك تجد أن كل اهتمامهم ينحصر في شراء‬
‫أتومبيل من الطراز الجديد‪ ،‬أو يغمرهم الهم والنكد ألنهم فقدوا‬
‫صفقة تجارية‪ ،‬مع أن زيادة ألف جنيه أو نقصها في حساب البنك‬
‫لن يضيرهم!‬

‫ومن هنا‪ ،‬ذلك الرجل املحموم بالنجاح ينفق كل مصادره الحيوية‬


‫في التفوق في حرفته‪ ،‬ثم يفشل في عائلته أو مجتمعه‪ ،‬وال يدري أن‬

‫‪36‬‬
‫كليا يشمل العائلة واملجتمع والحرفة‬‫النجاح يجب أن يكون ًّ‬
‫والفراغ‪ .‬وكثير من األمراض النفسية الفاشية في أيامنا تعزى إلى‬
‫االندفاع في هذه القيم االجتماعية دون التفكير في القيم البشرية‪،‬‬
‫تحدث عنه الشاعر إليوت إنما هو‬ ‫وذلك «الرجل األجوف» الذي َّ‬
‫رجل قد غمره املجتمع بقيمه وأوزانه‪ ،‬فنس ي كلمة اإلمبراطور‬
‫ماركوس أوريليوس حين قال‪ :‬إن أعظم ما يشتاق إليه ويتمناه في‬
‫هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل‬
‫شجرة‪.‬‬

‫واملحك الذي يفصل بين القيمتين والوزنين أن نسأل عندما نسأل‬


‫عن شخص ما‪ :‬ما هو؟‬

‫فإننا هنا نسأل عن قيمته البشرية‪ :‬هل هو جميل‪ ،‬سليم‪ ،‬مثقف‪،‬‬


‫صادق‪ ،‬أمين‪ ،‬سعيد؟‬

‫وحين نسأل عن قيمته االجتماعية نقول‪ :‬ما عنده؟‬


‫ً‬
‫فنجيب بأن عنده منزال به أثاث فاخر‪ ،‬أو عنده ضيعة وأتومبيل‬
‫وعشرة آالف جنيه في البنك‪ ،‬ولقب بك … إلخ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫والحياة الفنية تقتضينا التمييز بين القيم‪ ،‬وأن نجعل للقيمة‬
‫البشرية املكانة األولى في جميع اعتباراتنا؛ سواء في أنفسنا أم في‬
‫غيرنا‪ ،‬والرجل الطيب هو في النهاية الرجل البشري وليس الرجل‬
‫االجتماعي؛ أي الرجل الذي يتعمق ويصل إلى الجذور‪.‬‬

‫وعندما نتأمل األنبياء‪ ،‬بل كذلك الفالسفة واألدباء‪ ،‬نجد أن كل‬


‫ً‬
‫اهتمامهم كان منصرفا إلى تغيير املجتمع بوضع القيم البشرية‬
‫مكان القيم االجتماعية‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫االستغناء أم االقتناء‬

‫نحن نعيش في مجتمع «اقتنائي» ننشأ فيه منذ الطفولة على أن‬
‫هذا لي وهذا لك‪ ،‬وعلى أن أحدنا ُي َس ُّر بأن يكون له أكثر مما لآلخر‪،‬‬
‫ً‬
‫واندفاعا نحو‬ ‫نش ُّب بعد ذلك فنزداد رغبة في االقتناء‪،‬‬ ‫ثم ِّ‬
‫اجا‪ ،‬ونعيش طوال‬ ‫االمتالك؛ ألن العادة قد أصبحت عاطفة ومز ً‬
‫نقتن كما اقتنى فالن الذي كنا نعرفه‬ ‫حياتنا ونحن في تعب؛ ألننا لم ِّ‬
‫ً‬
‫أقل ثروة منا‪ ،‬ونعيش بين جيراننا في مباراة؛ نرقبهم حين تخرج‬
‫إحدى بناتهم في ثوب ز ٍاه‪ ،‬أو حين نقرأ في الصحف عن الترقيات‬
‫حسدا؛ ألن هذا الشخص الذي كنا على الدوام‬ ‫ً‬ ‫والعالوات فنمتلئ‬
‫نتفوق عليه‪ ،‬أو على األقل نساويه‪ ،‬قد ارتفع وارتقت أحواله دوننا‪.‬‬

‫ونحن ننشد االقتناء واالمتالك ال ألننا في حاجة إلى زيادة‪ ،‬ولكن‬


‫ألن املجتمع «االقتنائي» الذي نعيش فيه قد غرس فينا هذه‬
‫هموما شخصية تنزع بنا إلى الجهد‪ُّ ،‬‬
‫وتحمل‬ ‫ً‬ ‫العواطف‪ ،‬فأكسبنا‬
‫املتاعب؛ كي نتفوق في الجمع‪ ،‬ونستمر في الزيادة‪ ،‬ونبقى على ذلك‬
‫ناسا قد تقدمت بهم السن وأثقلتهم‬ ‫طوال حياتنا‪ ،‬حتى إننا نرى ً‬
‫الشيخوخة ومع ذلك يتعبون ويقلقون بشأن مقتنياتهم‬

‫‪39‬‬
‫وعقاراتهم؛ فهم في هموم دائمة وحسابات ال تنقطع‪ ،‬حتى‬
‫ليتساءل اإلنسان وهم في هذه الحال‪ :‬هل هم يملكون هذه‬
‫العقارات أم أن هذه العقارات هي التي تملكهم؟!‬

‫وأعظم ما يعود من الضرر على هؤالء أن هذه الهموم الشخصية‬


‫تحول دون االهتمامات العامة‪ ،‬حتى ليقول لك أحدهم‪ :‬إنه ال‬
‫يملك الوقت كي يقرأ الجريدة ألنه مشغول بأعماله التي ال تترك له‬
‫ً‬
‫فراغا‪.‬‬

‫وقد أصبحت أعباؤنا الخاصة ثقيلة حتى إننا جعلنا الفرار منها‬
‫سنة؛ فنحن نصطاف ال ألننا نرغب في تغيير الجو من الحر إلى‬ ‫َّ‬
‫البرودة‪ ،‬بل ألننا نحب أن نفر من هذه األعباء؛ فالتغيير هنا‬
‫ًّ‬
‫مناخيا‪ .‬وعندما نتأمل املصطافين في رأس البر أو‬ ‫سيكلوجي وليس‬
‫اإلسكندرية نجد أنهم ينطلقون من القيود‪ ،‬ويحاولون أن يتصلوا‬
‫بالطبيعة في بساطة من التكاليف واألعباء‪ ،‬تشهد على أنهم كانوا‬
‫متعبين بما كانوا يقتنون من مالبس غالية مرهقة في املدن‪.‬‬

‫والحق أننا عندما نتأمل معيشتنا في وسط متمدن‪ ،‬وما يجلبه‬


‫علينا هذا الوسط من تكاليف‪ ،‬وما يطالبنا به من مطامع‪ ،‬نجد‬

‫‪40‬‬
‫جميعا في حال سيئة من القلق النفس ي‪َ ،‬م ُسوقين بأوهام‬ ‫ً‬ ‫أننا‬
‫مسخرين‪ .‬وهذه األوهام هي في نهايتها‬‫َّ‬ ‫االقتناء كما لو كنا‬
‫مصطلحات ليست لها قيمة بشرية‪ ،‬وهي ال تزيدنا إال أعباء‬
‫وهموما؛ إذ نستطيع أن نستغني عنها‪ ،‬فقد استغنى شبابنا مدة‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫الحرب األخيرة — مثال — عن الطربوش‪ ،‬ولم يجدوا سوى‬
‫الراحة والصحة عندما تخلصوا من هذا التكليف‪ ،‬وسبق أن‬
‫أيضا — قبل الحرب — عن الجوارب‪ ،‬ولم‬ ‫استغنت الفتيات ً‬
‫يشعرن إال بالراحة والزيادة في الصحة بهذا االستغناء‪ .‬أجل‪ ،‬ازداد‬
‫الجميع صحة ألن االستغناء عن الطربوش والجوارب قد زاد في‬
‫تعرض األعضاء ألشعة الشمس‪ ،‬وألثرها الصحي في تنبيه الجسم‪.‬‬
‫وأعود فأقول‪ :‬إن معظم ما نبذل من مجهودات عظيمة‪ ،‬بل ً‬
‫أحيانا‬
‫مجهودات مضنية مميتة في االندفاع نحو االقتناء‪ ،‬إنما هو‬
‫مصطلحات اجتماعية ال أكثر؛ أي ليس لها في نفوسنا حاجة‬
‫ً‬ ‫طبيعية؛ فحاجاتنا الطبيعية قليلة ًّ‬
‫جدا‪ .‬وقد قنع غاندي — مثال‬
‫— بأن يعيش بنحو ثالثة جنيهات أو أربعة في العام كله؛ فهو‬
‫يكتفي من اللباس بقطعة من القماش غير مخيطة يتلفع بها‪ ،‬بينا‬

‫‪41‬‬
‫يحتاج أصغرنا إلى عشر قطع كي تغطي بها جسمه كأنها ضمادات‬
‫مجروح‪ ،‬أو كأنها خرق ملونة ملهرج على مسرح!‬

‫وإذا كنا نحن نستبعد أو نستغرب معيشة غاندي‪ ،‬فليس ذلك ألن‬
‫َ‬
‫غاندي مخطئ‪ ،‬بل ألننا نعيش في أ ْسر مصطلحات اجتماعية قد‬
‫تغلغلت في نفوسنا حتى أضحت عقائد وعواطف‪.‬‬

‫والرجل الحكيم هو الذي يعرف كيف يستغني دون أن تنقص‬


‫حاجاته الضرورية‪ ،‬ومن هنا قيمة الدعوة إلى الحياة البسيطة؛ أي‬
‫إلى بساطة العيش‪ .‬وهذه الدعوة هي نداء قديم يتردد صداه عبر‬
‫التاريخ منذ آالف السنين‪ .‬وكلنا نذكر «ديوجينيس» اإلغريقي‬
‫الذي لقيه اإلسكندر املقدوني وسأله عما يستطيع أن يؤديه له‬
‫من مساعدة‪ ،‬فأجاب بأن كل ما يطلبه إنما هو أن يتنحى عنه حتى‬
‫ال يمنع أشعة الشمس عن جسمه!‬

‫ونحن نقرأ هذه النادرة كأنها نكتة‪ ،‬ولكن ملاذا؟ أليس أمامنا‬
‫ً‬
‫سعيدا ببرميله‬ ‫البرهان على أن ديوجينيس كان على حق‪ ،‬وكان‬
‫الذي كان ينام فيه‪ ،‬في حين كان اإلسكندر ًّ‬
‫شقيا بما جلب إلى‬

‫‪42‬‬
‫نفسه من هموم وأعباء؟! ألم يعمد اإلسكندر إلى االنتحار وهو في‬
‫الثالثين؟!‬

‫كان اإلسكندر يندفع بروح االقتناء إلى الفتح والحرب‪ ،‬وكان‬


‫ديوجينيس يندفع بروح االستغناء إلى العيش في برميل‪ .‬وكالهما‬
‫مسرف‪ ،‬ولكن إسراف ديوجينيس أقرب إلى الحكمة من إسراف‬
‫اإلسكندر‪.‬‬

‫وغاندي في عصرنا يجري على مذهب الفيلسوف اإلغريقي‪،‬‬


‫ويجحد مذهب الفاتح املقدوني‪ ،‬وهو حكيم في هذا السلوك‪.‬‬

‫وقد كان جان جاك روسو أول من بصر بعبء التكاليف املرهقة‬
‫التي تفرضها علينا الحضارة‪ ،‬رغم أن حضارة العصر الذي كان‬
‫يعيش فيه هي البساطة والسذاجة باملقارنة إلى ما نعيش نحن‬
‫فيه؛ فقد دعا هو دعوة الريف وتجنب املدينة‪ ،‬ولكن مدينته‪،‬‬
‫حوالي سنة ‪ ،١٧٧٠‬كانت قرية هادئة باملقارنة إلى املدن التي نعيش‬
‫فيها اآلن؛ فلم يكن في مدينته ترام أو سيارة أو راديو‪ ،‬ولم تكن‬
‫مضار املباراة وما تجلب من حسد وهزيمة وقلق ً‬
‫جزءا من مائة مما‬ ‫ُّ‬
‫يكابد أبناء املدن في هذه األيام‪ ،‬وقد ترك بعده «ثوور» األمريكي‬

‫‪43‬‬
‫املدينة األمريكية وعاش في الغابة‪ ،‬وترك إدوارد كاربنتر املدينة‬
‫اإلنجليزية وعاش في الريف‪ ،‬وفعل كذلك تولستوي وغاندي‪.‬‬

‫وليس هؤالء شاذين؛ ألننا حين نقارن بين حياتنا وحياتهم من حيث‬
‫القيم البشرية‪ ،‬وسالم النفس‪ ،‬والفراغ للتأمل والراحة‪ ،‬نجد أن‬
‫الحكمة في جانبهم‪ ،‬والجنون في جانبنا؛ فقد عاشوا باالستغناء‪ ،‬في‬
‫حين نعيش باالقتناء‪ ،‬وامتازوا بأنهم نفضوا عن نفوسهم‬
‫ً‬
‫وأجسامهم وضمائرهم جباال من الواجبات واألثقال التي ننوء بها‬
‫ونزعم أننا بفضلها سعداء‪ ،‬مع أن الحقيقة أننا مسخرون في‬
‫الجمع واالقتناء‪ ،‬ثم في زيادة الجمع واالقتناء‪ ،‬وسنظل على هذا‬
‫املنوال حتى نموت بالنقطة أو السكتة مجهودين مرهقين‪.‬‬

‫وأسوأ ما في الحياة التي نعيشها ونحن نعدو وراء املطامع وكأننا‬


‫الع ْدو‬
‫نجري في سباق أننا ال نعرف ماذا نقتني وملن نقتني‪ ،‬ثم هذا َ‬
‫في هذا السباق ال يتيح لنا فرصة الوقوف كي نتأمل ونفكر‪ .‬والواقع‬
‫أن غريزة االقتناء تدفعنا مسخرين؛ فال يلتمع لنا ذكاء‪ ،‬وال يتردد‬
‫في رءوسنا خاطر‪ ،‬وال نتساءل‪ :‬ملاذا كل هذا؟!‬

‫‪44‬‬
‫نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟‬

‫غاية الحياة هي الحياة‪ .‬وليست غايتها أن نكون أثرياء أو أصحاء أو‬


‫علماء أو سعداء؛ ألننا إذا كنا نطلب الثراء أو الصحة أو العلم أو‬
‫السعادة؛ فإنما ألن كل واحد من هذه األشياء يؤدي في النهاية إلى‬
‫الحياة املثلى التي نتمناها‪.‬‬

‫فيجب لهذا السبب أال نخطئ الهدف‪ ،‬وهو أن نحيا ألجل الحياة‪،‬‬
‫وإذا نحن جعلنا هذا الهدف نصب عقولنا؛ فإننا لن ننحرف؛ إذ‬
‫ويقوم انحرافاتنا‪.‬‬
‫يصحح ِّ‬
‫نجد أنه على الدوام ِّ‬
‫وأعظم ما نقع فيه من انحراف‪ ،‬بل اعوجاج‪ ،‬هو أن املجتمع يؤثر‬
‫فينا بأوزانه وقيمه‪ ،‬فيحملنا على أن ننس ى أن هدف الحياة هو‬
‫الحياة‪ ،‬حتى إننا نجد كثرة الناس‪ ،‬بل ربما كلهم — أي كلنا —‬
‫ننتهي إلى عادات فكرية ونفسية لو أنها ُ‬
‫امتحنت في نزاهة وذكاء‬
‫لكانت أقرب إلى الجنون والشذوذ منها إلى التعقل السوي‪.‬‬

‫وأسوأ هذه العادات عند الطبقة املتوسطة والثرية هي أن نحيل‬


‫الحياة إلى حساب؛ ذلك أن أحدنا ينس ى أنه يجب أن يعيش‬

‫‪45‬‬
‫ً‬
‫واجتماعا ومعرفة وحكمة‪ ،‬ينس ى‬ ‫فيستمتع بحياته ً‬
‫ذكاء وصحة‬
‫كل هذا ثم يرصد وقته وجهده في الحساب‪ ،‬وما هي زيادة دخله هذا‬
‫العام على دخله في العام السابق؟ وماذا يستطيع أن يشتري بما‬
‫َّادخر مما يزيد هذا الدخل؟ إلخ‪.‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا تستحيل هذه العادة إلى جنون؛ فال يشتغل الرأس إال بها‪،‬‬
‫وال يتحرك النشاط إال ألجلها؛ حتى إننا لنرثى لصاحبها؛ إذ نجد أنه‬
‫مأسور قد استرقه الجمع واالقتناء‪ ،‬فال يعرف لذة الطعام أو‬
‫الشراب أو التنزه أو االجتماع باألصدقاء‪ .‬وقد يسأل أحدنا عندما‬
‫يتأمل هذه الشخصية ويقارنها بشخصية أخرى ً‬
‫كثيرا ما يحتقرها‪،‬‬
‫مثل شخصية املستهتر في الشراب أو النساء؛ أيهما أفضل؟‬

‫وليس هذا السؤال ألن االستهتار حسن‪ ،‬ولكن ألن قصر الحياة‬
‫على الحساب بالجمع والطرح‪ ،‬والزيادة والنقصان في االقتناء‬
‫أسوأ من أي استهتار؛ ألن أقل ما يقال في املقارنة هنا أن املستهتر‬
‫مستمتع‪ ،‬ولكنه مبالغ مسرف في االستمتاع إلى حد الضرر‪ .‬ولكن‬
‫بتاتا إال كما يستمتع النيوروزي؛ أي‬ ‫هذا الحاسب ال يستمتع ً‬
‫املريض النفس ي بعادة تملكته واستبدت به‪ ،‬وهي بعيدة عن‬
‫العقل‪ ،‬بل متمردة عليه‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ونحن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى كاتب مثل د‪.‬ﻫ‪ .‬لورنس؛ كي‬
‫َّ‬
‫يبين لنا أن واجبنا في الدنيا هو أن نعيش؛ فقد ألف هذا الكاتب‬
‫قصته «عاشق الليدي شاترلي»‪ ،‬وأسرف في دعوته إلى االستمتاع‬
‫الجنس ي باعتبار أنه أهم من االعتبارات االجتماعية التي تنكر‬
‫علينا ملذاتنا‪ ،‬وتشغلنا بألوان أخرى من النشاط الذي ننحرف به‬
‫ونزيغ عن هدف الحياة‪ ،‬وهو أن نحيا ونستمتع‪.‬‬

‫وليس شك أنه أسرف‪ ،‬بل إنه وقع فيما أراد أن يحذرنا منه؛ إذ هو‬
‫ً‬
‫جعل االستهتار الجنس ي هدفا‪ ،‬وكأنه اعتقد أن اللذة الجنسية هي‬
‫كل ما في الحياة‪ ،‬وهذا خطأ فاضح‪.‬‬

‫وصحيح أن االستهتار الجنس ي‪ ،‬في القيم واألوزان الصحيحة‪ ،‬خير‬


‫من قضاء العمر في الحساب القتناء املال وزيادته‪ ،‬ولكن االستهتار‬
‫على كل حال إسراف‪ ،‬ثم إن اللذة الجنسية جزء من الحياة‪،‬‬
‫جزءا من اللذة الجنسية‪ ،‬فإذا نحن َّ‬
‫تحرينا الحياة‬ ‫وليست الحياة ً‬
‫املثلى؛ فإننا بال شك ال نهمل امللذات الجنسية‪ ،‬ولكننا ً‬
‫أيضا نضع‬
‫هذه امللذات في مكانها‪ ،‬فال تتجاوزه وتطغى على حياتنا كلها؛ إذ إن‬
‫هناك ملذات أخرى تحتاج إليها الحياة املليئة الحافلة السامية؛‬
‫مثل الصحة واملعرفة والصداقة والذكاء والحكمة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫وإسراف لورنس في اإلكبار من شأن اللذة الجنسية إنما هو‬
‫مبالغة يرمي بها إلى تأكيد الظاهرة الجنونية الحاضرة في اندفاع‬
‫الناس إلى جمع املال وقضاء العمر في الحساب؛ حتى أننا لنجد‬
‫ً‬
‫هم سوى الدفاتر‬ ‫رجال في الستين أو في السبعين ليس له من ٍ‬
‫يراجعها‪ ،‬واالهتمام بدخله‪ ،‬والتفكير في شراء عقار جديد أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬مع أن كل ما بقي له من العمر قد ال يتجاوز سنة أو سنتين‬
‫هو أحوج فيهما إلى أن يعرف ما جهل‪ ،‬أو بعض ما جهل‪ ،‬قبل أن‬
‫يغادر هذه الدنيا‪.‬‬

‫ووطأة املجتمع علينا هي التي تسوقنا إلى أن نستبدل الحساب‬


‫نسخر أنفسنا للجمع واالقتناء دون االستمتاع‬ ‫بالحياة‪ ،‬وإلى أن ِّ‬
‫رسخ في نفوسنا بحيث نعيش في‬ ‫بالعيش‪ .‬وعادات املجتمع هذه َت َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هذا الحساب كما لو كنا نمال أو جر ًادا ننشط نشاطا غريزًّيا ال‬
‫نعرف غايته‪.‬‬

‫فنا يجب من وقت آلخر‬‫والرجل الذي ارتفع إلى أن يجعل من حياته ًّ‬
‫أن يسأل نفسه‪ :‬هل أنا أعيش للحياة أم أن قيم املجتمع وأوزانه‬
‫وسخرتني حتى صرت آلة جمع وطرح للحساب؛ أي‬ ‫قد غمرتني َّ‬
‫لزيادة املال والدخل فقط؟‬

‫‪48‬‬
‫ويجب على كل منا أن يذكر نصيحة املسيح لنا‪ ،‬وهي أن نعيش‬
‫كاألطفال؛ أي أن ننزل على القيم البشرية الساذجة‪ ،‬نحب الجمال‬
‫واالقتحام‪ ،‬ونستطلع الدنيا كما يستطلعها الطفل‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫العمل والفراغ‬
‫ً‬
‫كليا شامال وليس جز ًّئيا‬
‫كي يكون نجاحنا في الحياة ًّ‬
‫ونحل أربع مشكالت أصلية؛‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬
‫خاصا يجب أن نواجه‬
‫هي‪:‬‬

‫(‪)١‬‬ ‫•‬

‫مشكلة العمل الذي نرتزق به‪.‬‬


‫(‪)٢‬‬ ‫•‬

‫مشكلة الفراغ الذي نقضيه مختارين‪.‬‬


‫(‪)٣‬‬ ‫•‬

‫مشكلة الزواج والعائلة واألوالد‪.‬‬


‫(‪)٤‬‬ ‫•‬

‫مشكلة املجتمع الذي نعيش فيه‪ ،‬وتنظيم عالقاتنا‬


‫املختلفة به‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫واإلهمال في واحدة من هذه املشكالت يتعسنا ويجعلنا في خصومة‬
‫يسر كأننا‬
‫دائمة إما مع غيرنا وإما مع أنفسنا؛ بحيث نعيش في غير ٍ‬
‫نكافح ً‬
‫تيارا بال هدف يقتض ي املكافحة‪ .‬والقارئ لهذا الكتاب يعرف‬
‫أننا نعزف على لحن يتكرر‪ ،‬هو أن النجاح يجب أال يقتصر على‬
‫نواح من الحياة‪ ،‬وإنما يجب أن يكون قبل كل ش يء‬
‫ناحية أو جملة ٍ‬
‫ً‬
‫نجاحا في الحياة كلها‪.‬‬
‫ً‬
‫واضحا؛ ألن‬ ‫ومشكلة العمل الذي نرتزق به تبرز في عصرنا برو ًزا‬
‫العلم لم ُيستخدم في اإلنتاج إلى الحد الذي تتوافر فيه حاجات‬
‫استخدم النتقلت بؤرة االهتمام من االرتزاق بالعمل‬ ‫الناس‪ ،‬ولو ُ‬
‫إلى االنتفاع بالفراغ‪ ،‬بل كذلك كانت بؤرة االهتمام في املدارس‬
‫والجماعات تنتقل هذا االنتقال‪.‬‬

‫وإلى أن نصل إلى هذه الحال التي نرجوها يجب أن نجعل االهتمام‬
‫نتدرب لها‪ُ ،‬ونثابر على ُّ‬
‫تفهم‬ ‫بالعمل االرتزاقي في مقدمة شئوننا التي َّ‬
‫تفاصيلها‪ .‬وأعظم ما يجب أن نهتم به هنا هو اختيار العمل بحيث‬
‫الت َعس الذي يعانيه الناس‬ ‫معا؛ ألن معظم َّ‬
‫يالئم ميولنا وكفاءاتنا ً‬
‫من أعمالهم يعود إلى أنهم لم يختاروها‪ ،‬بل قضت املصادفات‬
‫والظروف بأن «يقعوا» فيها‪ ،‬وأجبرتهم حاجات العيش على‬

‫‪51‬‬
‫ممارستها كارهين أو متبرمين‪ .‬وهذه الحال تجعلهم يتبرمون بالحياة‬
‫كلها؛ أي يكرهون املنزل والنادي واألصدقاء والكتب؛ ألنهم‬
‫يكرهون أعمالهم كأن حياتهم قد غشيت بغشاء من التبرم‬
‫والسخط‪.‬‬

‫وعلى هذا نقول‪ :‬إن اختيار العمل املالئم الذي نحبه ونستطيعه‬
‫هو نصف االنتصار في معركة االرتزاق‪ ،‬بل ربما أكثر؛ ألننا بعد‬
‫ذلك ننشط إلى الحذق واملثابرة والدرس‪ .‬ونحن في العادة ال نشرع‬
‫في االختيار قبل السادسة عشرة من العمر‪ ،‬ولذلك نحتاج قبل‬
‫ذلك إلى اإلرشاد؛ ألننا نجهل ميولنا وكفاءاتنا‪ ،‬ونحتاج إلى من‬
‫يحللهما ويخبرنا عن حقيقتيهما‪.‬‬

‫وكثير من التخلف الذي يصيب املوظف يعود إلى كراهته لعمله؛‬


‫ألنه أساء في اختياره؛ فهو يتهاون ويتثاءب ويكره رئيسه‪ ،‬أو يعتقد‬
‫صداعا بسبب هذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانا يحس‬ ‫أنه يرهقه بالواجبات‪ ،‬بل‬
‫الكراهة‪ ،‬وهو يتعلل بهذا الصداع لطلب اإلجازات‪ ،‬أو للزيادة في‬
‫التهاون والتكاسل حتى تسوء العالقات بينه وبين رؤسائه‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وعالج هذه الحال — إذا كانت الوقاية لم تتخذ من قبل — أن‬
‫يعوض من سأم العمل‪ ،‬وذلك بأن‬ ‫يكون باستخدام الفراغ؛ بحيث ِّ‬
‫نمارس هواية ما تشغلنا وتعوضنا من النفور من العمل‪ ،‬وتعيد‬
‫إلينا اتزاننا‪ .‬ويجب لهذا السبب أن يكون لكل منا هواية‪ ،‬بل‬
‫هوايات تتوافر بها اهتماماتنا‪ ،‬وعندي أن أعظم هذه الهوايات هو‬
‫القراءة ُّ‬
‫وتعود الدرس؛ ألنها الهواية الباقية إلى سن الشيخوخة‪،‬‬
‫وهي في ظاهرها هواية واحدة‪ ،‬ولكنها في صميمها جملة هوايات؛‬
‫ً‬
‫ألن الذي يعشق الدراسة يجد نفسه مشغوال بألوان مختلفة من‬
‫االهتمامات؛ يقرأ الجريدة واملجلة‪ ،‬ويناقش في السياسة‪ ،‬وقد‬
‫يكافح ملذهب فيها‪ ،‬كما يقرأ الكتب ويقتنيها‪ ،‬ويضع املشروعات‬
‫لدراسات جديدة‪ ،‬فيتجدد بذلك شباب ذهنه‪ ،‬وتتسع آفاقه‬
‫العملية واألدبية‪ .‬ومثل هذا الشخص لن يسأم فراغه‪ ،‬ولن‬
‫ً‬
‫يقضيه ذاهال في غيبوبة نفسية على القهوات‪ ،‬ولن يقع في العادات‬
‫السيئة؛ كالتهالك على التدخين أو الشراب‪.‬‬

‫والرجل املوفق هو الذي يجعل هوايته مرتزقة‪ ،‬ولكن يجب أن‬


‫نعترف أن هؤالء قليلون في مجتمعنا‪ ،‬حتى األديب الذي يرتزق‬
‫بقلمه ال يكتب على الدوام ما يهوى؛ ألن الضغط االقتصادي‬

‫‪53‬‬
‫يحمله في كثير من األحيان على ألوان من اإلنتاج الكمي ال الكيفي‪،‬‬
‫ِّ‬
‫يهدف منه إلى الكسب ال إلى الفن‪.‬‬

‫ولهذا نحتاج جميعنا إلى أن يمارس كل منا هواية ما ُت َحل بها‬


‫مشكلة الفراغ‪ ،‬ومتى حللنا هذه املشكلة فإن العمل االرتزاقي يسهل‬
‫علينا‪ ،‬فال يكون ذلك املضض الذي نراه في كثير من املوظفين وهم‬
‫إلى مكاتبهم يتجهمون ألوراقهم ورؤسائهم‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫العائلة واملجتمع‬

‫الحرفي‪ ،‬ويجب أن يكون كذلك؛‬‫النجاح العائلي أكبر من النجاح ِّ‬


‫ألن القيم العائلية بشرية في حين أن القيم الحرفية اجتماعية‪.‬‬
‫وفق إلى اختيار‬
‫والعائلة هي زوجة وأوالد وبيت‪ ،‬والرجل الذي ِّ‬
‫زوجته واستمتع بحبه لها وعنايتها به‪ ،‬وأعقب ً‬
‫أوالدا وتعب لهم‬
‫حتى نموا وأينعوا أمام عينيه‪ ،‬مثل هذا الرجل قد حظي بنصيب‬
‫عظيم من متع الحياة‪.‬‬

‫واختيار الزوجة هو‪ ،‬مثل اختيار العمل‪ ،‬نصف املعركة؛ ألننا إذا‬
‫لم نحسن االختيار تعرضنا أللوان من التعس كنا نستطيع تجنبها‪،‬‬
‫وأعظم ما يتيح لنا االختيار الحسن أن نطيل مدة الخطبة؛ حتى‬
‫نعرف باالختالط شخصية الفتاة التي سنتزوجها‪.‬‬

‫وواضح أن الخطيبين يحرصان مدة الخطبة على أن يظهر كل‬


‫منهما لآلخر بأحسن مظاهره‪ ،‬ولكن حتى مع هذا الحرص يستطيع‬
‫كل منهما أن يفطن إلى االتجاهات وامليول في اآلخر‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ويجب أن يتجنب كل منهما إغراء الفتنة؛ فقد يفتتن الشاب بنغمة‬
‫تورد الوجنتين في خطيبته‪ ،‬ثم‬ ‫الصوت‪ ،‬أو زرقة العينين‪ ،‬أو ُّ‬
‫ينخدع بهذه الصفات إلى االنزالق في االختيار السيئ‪ .‬وخير ما يكفل‬
‫االختيار الحسن أن يسأل الشاب نفسه‪ :‬كيف نكون ً‬
‫معا‪ ،‬أنا‬
‫وهذه الفتاة‪ ،‬في بيت وحدنا بعد خمس سنوات‪ ،‬ثم بعد عشر‬
‫سنوات؟ كيف نتحدث‪ ،‬وكيف يعاشر أحدنا اآلخر‪ ،‬وكيف يكون‬
‫أوالدنا معنا؟‬
‫وخير للخطيب أن يختار خطيبته بوجدانه؛ أي في ُّ‬
‫تعقل ودراية‪،‬‬
‫من أن ينزلق في اإلغراء الجنس ي‪ .‬والحب الضعيف مع األمل في نموه‬
‫فضل الحب العظيم الذي لن ينمو‪ .‬ويجب هنا أال‬ ‫في املستقبل َي ُ‬
‫ننس ى أن الحب هو غير االفتتان؛ األول وجداني تعقلي‪ ،‬والثاني‬
‫ً‬
‫أحيانا متناقضان؛ بحيث إذا زاد الحب‬ ‫غريزي شهوي‪ ،‬بل هما‬
‫ضعفت الشهوة‪.‬‬

‫ويجب أن يكون للقيم واألوزان البشرية التفضيل على القيم‬


‫واألوزان االجتماعية في اختيار الزوجة؛ فالجمال والصحة‬
‫والذكاء قيم بشرية‪ ،‬ويجب أن ُ‬
‫تفضل لذلك على الثراء واملكانة‬
‫والثقافة؛ ألن هذه قيم اجتماعية‪ .‬ولكن من الحسن أال يختار‬

‫‪56‬‬
‫الشاب فتاة من غير طبقته االجتماعية أو دون ثقافته؛ ألن‬
‫التفاوت هنا يعني ً‬
‫تفاوتا في الذوق والعادات واالتجاهات‪ ،‬وإذا كان‬
‫ً‬
‫صغيرا فإن النتائج لن تكون خطيرة‪ ،‬ولكنها تفدح إذا كان‬ ‫االختالف‬
‫كبيرا‪ .‬وفي بالدنا‪ ،‬حيث تتجه العناية إلى تربية الشبان‬‫االختالف ً‬
‫ً‬
‫واضحا؛‬ ‫دون الفتيات في أغلب الحاالت‪ ،‬نجد هذا االختالف‬
‫ولذلك ال بد من التسامح‪ ،‬ولكن مع النصح للزوج بأن ُيعنى بتربية‬
‫زوجته‪ ،‬وتنبيهها إلى ترقية شخصيتها وزيادة ثقافتها‪.‬‬

‫والتوفيق بين الزوجين ال يتأتى مع الحماة أو الحمى من أية‬


‫الناحيتين؛ ولذلك يجب أن يعيش الزوجان مستقلين في بيت‬
‫ً‬
‫ممكنا للظروف‬ ‫منفصل عن اآلباء واألمهات‪ ،‬فإذا لم يكن هذا‬
‫ً‬
‫االقتصادية — مثال — فيجب على األقل أن تعرف هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬وأن يؤسس البيت مع اعتبار هذه «الضرورة» التي‬
‫تواجه كما لو كانت صعوبة قهرية ال مفر منها‪ ،‬وبهذا االعتبار‬
‫يمكن أن تواجه املواجهة السليمة‪ ،‬وأن توزن الوزن الصحيح‪.‬‬
‫وكل ما قلناه عن الشاب ينطبق ً‬
‫أيضا على الفتاة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫متحفا‪ ،‬وليس ً‬
‫مأوى‬ ‫ً‬ ‫ويجب على الزوجين أن يجعال من البيت‬
‫ً‬
‫وأوالدا‪ ،‬فال‬ ‫فقط‪ ،‬فإذا جاء األوالد صار ً‬
‫معهدا ًّ‬
‫حرا للجميع آباء‬
‫سيد وال مسود‪ ،‬ويجب أن ُتقتنى التحف الفاخرة‪ُ ،‬وتهيأ الغرف‬
‫بأغلى األثاث؛ حتى يجذب البيت الزوج‪ ،‬ويصير مرتكز نشاطه‬
‫واهتمامه‪ ،‬كما يجب أن يكون البيت مضيفة راقية يجد فيه‬
‫متعا مختلفة من الرسوم الفنية واملوسيقى العالية‪ ،‬إلى‬‫الزائرون ً‬
‫الس َمر املنير واملناقشة املربية‪.‬‬
‫َّ‬

‫والنجاح في املجتمع يأتي بعد النجاح في العائلة‪ ،‬وهو يحتاج إلى أن‬
‫ندرس املجتمع بتتبع السياسة العامة؛ عاملية وقطرية‪ ،‬وإلى أن‬
‫نطابق بين مصالحنا ومصالحه حتى ال يكون تنافر‪ .‬هذا التنافر‬
‫الذي يبلغ القمة عند املجرمين؛ ألن املجرم يتصرف وهو على غير‬
‫وفاق مع املجتمع‪ ،‬ويصل إلى غايته وهو على تنافر مع األساليب‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫والنجاح االجتماعي يقتض ي العناية باألصدقاء ورعايتهم‪ ،‬وتجنب‬


‫التفريط في صداقتهم‪ ،‬وقد يكون االهتداء إلى صديق ومالزمته‬
‫أمتع متعة في الحياة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫واملجتمع يحتاج إلى املزاج االنبساطي؛ أي مزاج ذلك الشخص‬
‫الذي يحب االختالط‪ ،‬ويغشو األندية واملطاعم واملسارح‬
‫واملصايف‪ ،‬ويميل إلى الزيارات‪.‬‬

‫وصاحب املزاج االنطوائي ينفر من هذه االنبساطية‪ ،‬ولكن عليه‬


‫أن يتمرن على ممارستها إلى حد ما‪ ،‬كما يجب على صاحب املزاج‬
‫االنبساطي أن يتمرن على ممارسة الخلوة والقراءة والدراسة‬
‫والتفكير إلى حد ما‪.‬‬

‫والخالصة أنه يجب على كل شاب أو شابة أن يسأل نفسه‪ :‬هل أنا‬
‫نجحت في حل هذه املشكالت األربع‪ :‬الحرفة والفراغ والعائلة‬
‫واملجتمع؟ وإلي أي حد بلغ نجاحي؟‬

‫‪59‬‬
‫الرجل واملرأة والزواج‬

‫نحن نعيش في بيوتنا أكثر مما نعيش خارجها‪ ،‬ولن تهنأ حياتنا لهذا‬
‫السبب إال إذا عنينا أكبر العناية بأن نجعل بيوتنا حاوية لصنوف‬
‫الراحة والرغد‪ .‬وحياة العزوبة هي حياة ناقصة قليلة االختبارات‬
‫واملتع‪ ،‬واملتزوج قد ال يطول عمره أكثر من األعزب‪ ،‬ولكن حياته‬
‫أعرض‪ ،‬وهي أعرض باملسرات واألحزان التي ال يعرفها األعزب‪.‬‬

‫ومعظم العمر نقضيه مع زوجة قد عرفناها في األغلب بعد سن‬


‫ً‬
‫العشرين أو الثالثين‪ ،‬وقد عاش كل منا قبال في بيئة تختلف عن‬
‫البيئة التي عاش فيها اآلخر؛ ولذلك ليس ً‬
‫بعيدا أن نصطدم وأن‬
‫تحفل الحياة الزوجية باملتاعب‪.‬‬

‫ولكن هناك ما هو أخطر من هذا‪ ،‬ذلك أننا نعيش في مجتمع‬


‫اقتنائي تحاسدي‪ ،‬يجعل األنانية فضيلة‪ ،‬ويحملنا على املباراة‬
‫واقتناء املال‪ ،‬ثم يشملنا هذا الروح ُ‬
‫فن َع َّود األنانية والرغبة في‬
‫الخطف واالقتناء والحسد والحقد والبعد عن الحب والتعاون‪،‬‬
‫كل هذا يعود كما لو كان هو الطبيعة البشرية األصلية؛ فإذا‬
‫تزوجنا عاملنا الزوجة وفق ما تعلمنا وتدربنا عليه في املجتمع‪،‬‬

‫‪60‬‬
‫فنطالب الزوجة بالخضوع‪ ،‬ونطالبها بأن تخدم ملذاتنا‪ ،‬ثم نلتذ‬
‫ملذاتنا على انفراد نفس ي‪ ،‬وفي خطف ونهب كما كنا‪ ،‬وال نزال‬
‫نعيش في املجتمع‪.‬‬
‫ً‬
‫جديدا ظهر في عصرنا‪ ،‬إذ هو‬ ‫وليس هذا املجتمع الذي وصفنا‬
‫قديم قد رسخت أخالقه في سلوكنا وتصرفنا‪ ،‬وهو يشقي حياتنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانا على الناقد فضال عن عامة‬ ‫الزوجية‪ ،‬وله عالمات تخفى‬
‫الناس‪ ،‬فإن أتوقراطية الرجل ورغبته في أن تكون زوجته أداة للذة‬
‫يقابلها دالل املرأة وغيرتها الجنونية من األوهام والحقائق‪ ،‬وكالهما‬
‫يسير بروح االقتناء والخطف كما لو كان كل منهما ً‬
‫تاجرا يشتري‬
‫رخيصا لكي يبيع ً‬
‫غاليا‪.‬‬ ‫ً‬

‫وأسوأ ما تعلمناه من هذا املجتمع األناني التحاسدي االقتنائي‬


‫ًّ ً‬
‫جنسيا بدال من أن ننظر إليها‬ ‫الذي نعيش فيه أننا ننظر إلى املرأة‬
‫ً‬
‫إنسانا؛ نعني أننا نقتنيها كي‬ ‫إنسانيا؛ فهي امرأة فقط وليست‬ ‫ًّ‬
‫تخدم ملذاتنا وتغسل أوالدنا‪ ،‬فهي ليست اإلنسان املتعاون‬
‫الصديق الزميل الذي نرافقه ونصادقه؛ ولذلك ً‬
‫كثيرا ما تستحيل‬
‫البيوت إلى مطاعم أو فنادق لألكل أو النوم فقط‪ ،‬وهذا املنظر‬
‫يوهم الكسب للرجل‪ ،‬ولكنه في صميمه يعود عليه بالخسار ً‬
‫أيضا‬

‫‪61‬‬
‫حتى من ناحية اللذة الجنسية؛ إذ هي في هذا النظام تتقلص إلى‬
‫الخطف والنهب‪ ،‬فتجري وكأنها صرع تشنجي‪ ،‬أو كأنها طرب‬
‫جنوني‪ ،‬يغمر الجسم في عجل ثم ينطفئ فجأة‪.‬‬

‫لذة عابرة خاطفة ال نذكرها بالحنان والحب والصداقة‪ ،‬ولكن‬


‫وأحيانا بالقسوة واالغتصاب‪ .‬وكثير من الشذوذات‬‫ً‬ ‫بالخطف‪،‬‬
‫الجنسية لهذا السبب يعود إلى املبالغة في االنسياق في الصفات‬
‫االجتماعية التي يطالبنا بها النجاح في الكسب والوجاهة والتفوق؛‬
‫إذ إن هذه جميعها تحتاج إلى الخطف والنهب والقسوة والحسد‬
‫أحيانا إلى الغش‪ ،‬والشذوذات الجنسية هي في‬ ‫ً‬ ‫واألنانية‪ ،‬بل‬
‫صميمها غش‪ ،‬واللذة الجنسية هي في صميمها وفي أسلوبها نقطة‬
‫التبلور التجاهنا االجتماعي وأخالقنا االجتماعية‪ ،‬فليذكر هذا كل‬
‫شاب وكل فتاة‪.‬‬

‫ومن هنا الكثير من الرذائل التي تحسب في ظاهرها رذائل روحية‪،‬‬


‫ولكنها في باطنها رذائل اجتماعية؛ فإن الشاب الذي يخش ى أن‬
‫يتزوج الفتاة املتعلمة إنما هو في صميمه يخش ى املساواة التي لم‬
‫يتدرب عليها في املجتمع؛ إذ هو نشأ في مجتمع قد غرس فيه الرغبة‬
‫في التفوق والتسلط واألنانية والخطف والخوف‪ ،‬فكيف يمارس‬

‫‪62‬‬
‫كل هذه الصفات في حرفته ومعاملته وينساها في الزواج؟ فهو‬
‫يعامل زوجته تلك املعاملة الحميمة التي تعلمها من َ‬
‫الب ِّغي حين‬
‫كان يؤدي ثمن لذته بالقرش واملليم‪ ،‬ويخطف هذه اللذة ً‬
‫خطفا‪.‬‬
‫وهذه املعاملة ترسخ فيه فال يعرف كيف يغيرها‪ ،‬ولو أنه كان قد‬
‫نشأ بروح التعاون والحب واملساواة لكانت اللذة الجنسية نفسها‬
‫ال تتم إال بهذه الصفات‪ ،‬وعندئذ كانت تكون متبادلة هنيئة‬
‫للزوجين‪.‬‬

‫ولهذا أصبح الزواج كأنه صفقة بيولوجية تتم بين الرجل واملرأة‪،‬‬
‫ال يسودها الحب والثقافة‪ .‬أجل‪ ،‬الحب والثقافة‪ ،‬وكالهما ال‬
‫يعرفه الحيوان‪.‬‬

‫ولكن حتى املقارنة بيننا وبين الحيوان ال تدل على أن الكسب في‬
‫جانبنا؛ ألن أقل ما يقال في الحيوان أنه ينساق بغريزته الساذجة‬
‫الفطرية‪ ،‬ولكنا نحن نفسد هذه الغريزة بوجدان املجتمع‬
‫االنفرادي القائم على الخطف والخوف والنهب والحسد‬
‫واالغتصاب‪ .‬فنحن ال نتعاون في اللذة الجنسية‪ ،‬بل نتخاطف في‬
‫طرب ماني وصرع وقتي‪ ،‬سرعان ما نفقدهما ونعود إلى ما يقارب‬
‫اليأس والجمود والنفور‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ولن يتحقق الهناء الزوجي إال بعد أن يعيش النساء والرجال في‬
‫تعاون‪ ،‬وما يجلبه هذا التعاون من حب وإخاء ومساواة وطمأنينة‬
‫واستبشار باملستقبل؛ ألن املجتمع الذي نعيش فيه في الوقت‬
‫الحاضر يشقينا بالقلق؛ فنحن نقلق ونخاف‪ ،‬نخاف من الفقر‬
‫واملرض والهزيمة في املباراة االقتصادية واإلفالس‪ ،‬وكل هذه‬
‫الصفات تنتقل إلى العالقة الجنسية‪ ،‬فتعود هذه العالقة قلقة‬
‫غير مطمئنة‪.‬‬

‫أي إن نظامنا االجتماعي ينتقل بأساليبه إلى نظامنا الجنس ي؛ فإذا‬


‫كنا نخاف من الدنيا ونهرول ونخطف ونقلق ونحسد‪ ،‬ونؤثر‬
‫أنانيتنا على مصلحة إخواننا في املكتب واملتجر والسوق واملصنع‪،‬‬
‫فإننا ننقل كل هذه الصفات إلى العالقة الجنسية‪ ،‬فال نستمتع‬
‫بالغريزة الفطرية التي يستمتع بها الحيوان‪ ،‬بل نفسدها بوجدان‬
‫سيئ من حياتنا االجتماعية السيئة‪.‬‬

‫ولذلك نحتاج كي تهنأ الحياة الزوجية وتزول الشذوذات الجنسية‬


‫إلى مجتمع تعاوني سوائي يقوم على الحب وليس على املباراة؛ أي‬
‫يجب أن نعيش في نظام اشتراكي‪ ،‬وأن يتعلم الرجال والنساء منذ‬
‫والدتهم إلى وفاتهم االختالط والتعاون واملساواة‪ ،‬وأن نطمئن على‬

‫‪64‬‬
‫عيشنا؛ فال يكون هناك قلق يغمر شخصيتنا‪ ،‬ويحملنا على‬
‫الهرولة والخطف‪ :‬هرولة وخطف في املجتمع يؤديان إلى هرولة‬
‫وخطف في التعارف الجنس ي‪.‬‬

‫فإذا تم هذا؛ أي إذا تغيرت «الطبيعة» البشرية‪ ،‬وهي في صميمها‬


‫عمت الطمأنينة‪،‬‬‫طبيعة اجتماعية‪ ،‬وإذا تساوى الرجال والنساء َّ‬
‫ُّ‬
‫وزالت الرغبة في التسلط‪ ،‬وعندئذ تهنأ الحياة الزوجية‪ ،‬وترقى على‬
‫أسس من التعاون والحب والثقافة‪ ،‬فال تكون غريزية كالحيوان‪،‬‬
‫وال شقية بالوجدان االجتماعي السيئ الحاضر‪ ،‬وتخرج املرأة من‬
‫أنثويتها الضيقة إلى ميدان اإلنسانية الواسع‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫كيف نصادق زوجاتنا‬
‫الصداقة ضرورية لكل إنسان؛ إذ إننا نجد من الصديق ً‬
‫سلوى‬
‫ً‬
‫وانحيازا نحتاج إليها في حالي الضيق والسعة على السواء‬ ‫ومؤانسة‬
‫… ونحن نتخير أصدقاءنا عادة بحيث يتفقون معنا في الرأي‪ ،‬أو‬
‫عيد أن نصادق من‬ ‫يتكافئون معنا في الثقافة وأسلوب العيش‪َ ،‬وب ٌ‬
‫نختلف معه في كل هذه األشياء‪.‬‬
‫ً‬
‫وكثيرا ما نتجنب حتى أقرباءنا‪ ،‬بل وإخوتنا‪ ،‬إذا وجدنا أننا لسنا‬
‫وإياهم على وفاق في أسلوب العيش‪ ،‬أو الرأي‪ ،‬أو العقيدة‪ ،‬أو‬
‫الثقافة‪ ،‬أو الدرجة االجتماعية‪.‬‬

‫وفي مصر حيث ال يزال االتجاه العام يميل إلى تمييز الشاب على‬
‫الفتاة في التعليم‪ ،‬نجد أن التكافؤ الثقافي بين الزوجين معدوم‪،‬‬
‫وأن ال ُه َّوة بينهما كبيرة‪ ،‬ومن ثم تكاد تنقطع بينهما أسباب‬
‫الصداقة‪.‬‬

‫والرجل قد يعيش مع زوجته نحو أربعين أو خمسين سنة‪ ،‬وليس‬


‫ً‬
‫سهال إذا لم تكن هناك صداقة تربطهما؛ ولذلك ً‬
‫غالبا‬ ‫هذا العيش‬

‫‪66‬‬
‫ما يتجه الرجل إلى خارج بيته‪ ،‬حيث األصدقاء من الرجال‬
‫ً‬
‫يقاعدهم في القهوة‪ ،‬أو في النادي‪ ،‬ويجد فيهم بديال من الزوجة‪.‬‬

‫وفي أوروبا تتعلم املرأة كالرجل تقر ًيبا‪ ،‬ولذلك يتكافأ الزوجان في‬
‫الثقافة‪ ،‬فتصبح املرأة وإذا بها ليست زوجة فحسب‪ ،‬بل صديقة‬
‫أيضا‪ ،‬يشتاق كل منهما إلى رؤية اآلخر ومجالسته‬ ‫لزوجها ً‬
‫معا‪ ،‬ويقرآن الكتب التي يشتريها أحدهما‬ ‫ومحادثته‪ ،‬ويخرجان ً‬
‫معا‪ ،‬ويناقشان موضوعاتها‪.‬‬ ‫ً‬

‫وإلى أن نصل إلى هذه الحال؛ أي إلى أن نسوي بين تعليم الشاب‬
‫والفتاة بال تفرقة أو تمييز‪ ،‬نحتاج‪ ،‬نحن األزواج أو املرشحين‬
‫مصافنا في الرأي واملعرفة‬
‫ِّ‬ ‫للزواج‪ ،‬إلى أن نرفع زوجاتنا إلى‬
‫والثقافة‪ .‬وليس هذا باألمر الشاق كما يتوهم القارئ‪.‬‬
‫ً‬
‫واملهندس — مثال — ال يحتاج إلى تعليم زوجته دقائق الهندسة‬
‫اآللية أو الكيماوية‪ ،‬واملحامي ليس بحاجة إلى أن يشرح لزوجته‬
‫فقه القانون الروماني‪ ،‬والطبيب ال يحتاج إلى أن ِّ‬
‫يدرس لها‬
‫ً‬
‫أزواجا‬ ‫ًّ‬
‫ضروريا‪ ،‬وإن كنا قد رأينا‬ ‫الفسيولوجية … ليس هذا‬
‫استطاعوا أن يشركوا زوجاتهم حتى في هذه األشياء الفنية!‬

‫‪67‬‬
‫ولسنا في صداقتنا لزوجاتنا نحتاج إلى كل هذا‪ ،‬وإنما نحتاج إلى أن‬
‫نتحدث إليهن عن شئوننا املهنية؛ حتى نثير استطالعهن‪ ،‬ونبعث‬
‫فيهن الشوق إلى التعرف على أعمالنا‪.‬‬

‫وأولى من هذا وأسهل أن نجعل الجريدة واملجلة والكتاب بعض‬


‫أثاث البيت‪ ،‬نشتريها في عناية‪ ،‬ونختار منها األحسن واألنفع‪،‬‬
‫ونقرؤها مع زوجاتنا‪ ،‬ونناقش ما فيها من شئون سياسية أو‬
‫اجتماعية‪ .‬وبهذه الوسيلة يتقارب الزوجان ً‬
‫تقاربا ًّ‬
‫ذهنيا‪ ،‬ويتفقان‬
‫على مبدأ في الرأي والعقيدة‪.‬‬

‫وقد يقول القارئ‪ :‬إن الحديث عن السياسة أو قراءة الجريدة‬


‫ليس كل ش يء في التكافؤ الثقافي الذي يؤدي إلى الصداقة‪ .‬ولكن‬
‫هل هذا القول صحيح؟‬

‫أليست السياسة كل ش يء في أيامنا هذه؟ أليست هي التي تسيطر‬


‫على حديثنا وتثير اهتمامنا؟‬

‫والكالم في السياسة هو في عصرنا هذا حديث في العلوم واالجتماع‬


‫واالقتصاد ً‬
‫معا؛ فالقنبلة الذرية‪ ،‬والغالء‪ ،‬واالستعمار واالنقسام‬

‫‪68‬‬
‫في الهند‪ ،‬وإحراق املحاصيل في أمريكا‪ ،‬وأثمان البترول والطيران‪،‬‬
‫وإضراب العمال‪ ،‬كل هذا وغيره قد أصبح من صميم السياسة‪.‬‬

‫تلق عناية كبيرة قبل الزواج‬‫ومتى شرعت الزوجة‪ ،‬التي لم َ‬


‫املفسر‬
‫ِّ‬ ‫بتعليمها‪ ،‬في قراءة الجريدة مع زوجها‪ ،‬ووجدت منه‬
‫واملوضح الذي يستخلص لها املغزى‪ ،‬فلن تمض ي سنوات حتى‬ ‫ِّ‬
‫ورأيا‬ ‫ً‬
‫وعرفانا ً‬ ‫تاما مع زوجها ً‬
‫نورا‬ ‫تكون على تكافؤ يكاد يكون ًّ‬
‫واط ً‬
‫العا‪ ،‬وعندئذ تسعد هي بصداقته كما يسعد هو بصداقتها‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫أعرف رجلين يختلفان في املهنة وأسلوب العيش تزوجا أختين على‬
‫متساو من التعليم‪ ،‬وهو تعليم ابتدائي قليل النفع سريع‬
‫ٍ‬ ‫قدر‬
‫الزوال‪ ،‬ولكن أحد الزوجين جعل زوجته شريكته في املجلة‬
‫يبال هذا االشتراك‪ ،‬وقد مضت عليهما إلى‬‫والجريدة‪ ،‬واآلخر لم ِّ‬
‫اآلن نحو ‪ ١٥‬سنة‪ ،‬فماذا كانت النتيجة؟ األولى تقرأ وتناقش وهي‬
‫صديقة زوجها‪ ،‬عندما يقعد إليها يجد أن الحديث يرتفع من القيل‬
‫والقال إلى موقف ترومان وواالس‪ ،‬واتجاه الوفد في املعاهدة‪،‬‬
‫وموقف روسيا والقنبلة الذرية‪ ،‬والفرق بين حزب العمال وحزب‬
‫املحافظين … إلخ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫أما األخرى فقد نسيت القراءة ً‬
‫تماما؛ ولذلك هجرها زوجها إلى‬
‫القهوة‪ ،‬وأخذ يعيب عليها جهلها!‬

‫وال شك أن املدارس في املستقبل‪ ،‬ستغنينا عن هذا الجهد عندما‬


‫ُ‬
‫تعنى برفع مستوى الزوجة إلى مستوى الزوج‪ ،‬بمحو الفروق‬
‫التعليمية بين الجنسين‪ ،‬ولكنا اآلن في حاجة ألن ُيعنى كل زوج منا‬
‫بزوجته حتى يعلمها‪ ،‬ويثير اهتمامها‪ ،‬ويوقظ ذهنها‪ .‬وخير الوسائل‬
‫املؤقتة لذلك هي الجريدة واملجلة … واملجهود الذي يبذله الزوج‬
‫ضائعا‪ ،‬وحسبه أنه بذلك يكسب‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مجهودا‬ ‫في هذا السبيل ليس‬
‫صداقة زوجته‪ ،‬تلك الصداقة التي تفسح له آفاق السعادة‬
‫الزوجية والهناء العائلي‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫مجتمعنا االنفصالي الحاضر‬

‫نحن أقل مسرات ومباهج من األوربيين؛ ألن هؤالء يلقون الدنيا في‬
‫صراحة أكثر منا‪ ،‬ونحن باملقارنة إليهم نوارب ونداري كأننا َّ‬
‫ملوثون‬
‫بتهمة نخش ى أن ُتفتضح؛ يعيش رجالنا منفصلين من النساء‪ ،‬لهم‬
‫ومسراتهم الخاصة‪ ،‬فإذا كانت هناك عالقة‬ ‫َّ‬ ‫مجتمعهم الخاص‬
‫بين الجنسين فهي ليست عالقة األنسة والرفقة والزمالة‬
‫االجتماعية كما هي الحال في األمم املتمدنة‪ ،‬وإنما هي العالقة‬
‫ً‬
‫أحيانا إلى أنسة اجتماعية‬ ‫البيولوجية البدائية التي قد ترتقي‬
‫محدودة بالبيت‪ ،‬ولكن ما أصغرها وأضيقها!‬

‫كل هذا ألننا نعيش في مجتمع انفصالي؛ الرجال ينفصلون من‬


‫النساء‪.‬‬
‫واآلثار التي يخلفها هذا االنفصال ال َّ‬
‫تقدر؛ فإن الزمالة الزوجية‬ ‫ِّ‬
‫ً‬
‫التي تعد شرطا ضرور ًّيا للحياة السعيدة بين الزوجين ليست من‬
‫املعجزات التي تباغتهما منذ العرس؛ ألن هذه الزمالة تحتاج إلى‬
‫مرانة قد حرم منها شبابنا وفتياتنا؛ ألننا َّ‬
‫حرمنا االختالط بينهما‬
‫ً‬
‫منكفئا على نفسه‪ ،‬له عقلية خاصة‪،‬‬ ‫قبل الزواج‪ ،‬فأصبح كل منها‬

‫‪71‬‬
‫وإحساسات نفسية خاصة؛ كأنه مخلوق من كوكب آخر؛ ولذلك‬
‫يلتقيان بعد الزواج وهما غريبان يحتاج كل منهما إلى مجهود‬
‫جديد للتوفيق في الحياة املشتركة الجديدة‪.‬‬

‫واألوربيون يختلطون؛ يتعلمون وهم صبيان في مدرسة واحدة‪،‬‬


‫معا ً‬
‫أيضا في املدارس الثانوية‪ .‬أما الجامعات‬ ‫ً‬
‫وأحيانا يتعلمون ً‬
‫فالتعليم على الدوام مشترك ال ينفصل فيه جنس من آخر‪ ،‬وهذا‬
‫إلى االختالط بالضيافة التي ال تنقطع؛ ولذلك ينشأ الشبان‬
‫والفتيات على دراية ومعرفة‪ ،‬فإذا دخلوا في بيت الزوجية كان‬
‫وهدى‪ ،‬وليس بمثابة الكشف عن أرض مجهولة‬ ‫دخولهم على نور ً‬
‫كما هي الحالة األسيفة عندنا‪.‬‬

‫آثارا من األمراض‬‫ومنع االختالط بين الشبان والفتيات يعقب ً‬


‫النفسية يعرفها الدارسون لهذا املوضوع؛ ألن هذا الفصل يجنح‬
‫ترده وال ُّ‬
‫تحده‬ ‫بالشاب أيام املراهقة إلى االستسالم للخيال الذي ال ُّ‬
‫حقائق االختالط وملس الواقع؛ فهو ينتقل من خيال إلى خيال‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويشطح ويتطوح إلى أن يجد نفسه ً‬
‫يوما وقد بعد إلى منأى تخصب‬
‫ً‬
‫وأحيانا يستحيل‪ ،‬أن‬ ‫فيه الشذوذات الجنسية التي يشق عليه‪،‬‬
‫يتخلص منها حتى بعد الزواج‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ونحن الرجال نحتاج على الدوام إلى االختالط بالجنس اآلخر منذ‬
‫أن نولد إلى أن نموت؛ ألن أقل ما يقال في تبرير هذا االختالط أنه‬
‫هو الوضع الطبيعي الذي يجب أال يناقضه وضع اجتماعي‪.‬‬
‫والشاب املختلط — زيادة على أن غرائزه تبقى سليمة بعيدة عن‬
‫يرقي شخصيته باالختالط بالجنس اآلخر؛ إذ هو‬ ‫الشذوذات — ِّ‬
‫ُيعنى بلباسه ولغته وصحته؛ ألنه يجب أن يبدو بأحسن ما‬
‫يستطيع؛ حتى يجلب اإلعجاب والرقة من الجنس اآلخر‪ ،‬بل هو‬
‫أيضا‪ .‬ونحن نستطيع‬ ‫يرقي ذهنه ويربي حواسه لهذا الغرض ً‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ترتق‬
‫بالفراسة السيكلوجية أن نعرف الشاب املنفصل الذي لم ِّ‬
‫نفسه وحواسه وذهنه باالختالط الجنس ي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إعجابا وال‬ ‫وأول ما نجد فيه إهماال في هندامه؛ إذ هو ال ينتظر‬
‫يتكلف عناية لجلب هذا اإلعجاب من الفتاة‪ ،‬وهو يؤمن بالشهوة‬
‫ال الحب؛ ألنه لم يسامر قط فتاة‪ ،‬ولم يعرف قط أن للفتيات‬
‫ميزات روحية ونفسية وثقافية وذوقية‪ ،‬وأنهن يمتزن ً‬
‫أيضا‬
‫بالشجاعة والتضحية والشرف‪.‬‬
‫ومثل هذه الحال التعسة تكون ً‬
‫أيضا عند الفتاة املنفصلة‪ ،‬مع‬
‫االختالف الذي تقتضيه ظروفها‪ ،‬بل هي أتعس من الشاب؛ ألن‬

‫‪73‬‬
‫أثرا هنا‪ ،‬والشاب مع انفصاله ال ُيحبس في‬ ‫حبسة البيت أسوأ ً‬
‫نقص‬ ‫ُ‬
‫بيته؛ ولذلك تفقد الفتاة حيويتها‪ ،‬ويستولي عليها جمود ي ِّ‬
‫يلغ — جاذبيتها‪ ،‬مع أن مواهبها الطبيعية في الجمال‬ ‫— إن لم ِّ‬
‫جدا‪ ،‬ثم تسودها عقلية املنع واالنكفاف؛ ألن‬ ‫قد تكون كبيرة ًّ‬
‫اإلحجام املادي يتشعع من بؤرته في البيت إلى ألوان من اإلحجام‬
‫الذهني والنفس ي‪« ،‬فيجب أال تنظري‪ ،‬ويجب أال تقرئي‪ ،‬ويجب أال‬
‫تعرفي … إلخ»‪.‬‬

‫وقد أكون قد بالغت في وصف املساوئ التي تعود من االنفصال‬


‫بين الجنسين؛ ألن الحدود والسدود قد تحطمت إلى حد ما‪ ،‬ولكن‬
‫نسلم أنها — مع األسف — ال تزال قائمة في كثيرة من‬ ‫يجب أن ِّ‬
‫ً‬
‫أحيانا‪ ،‬مع تحطمها في الواقع املادي‪ ،‬ال تزال قائمة‬ ‫أوساطنا‪ ،‬وهي‬
‫في بعض األذهان والنفوس‪.‬‬
‫يجب أن َّ‬
‫نعد االختالط ً‬
‫جزءا من تربيتنا العامة‪ ،‬وأن ندعو إلى‬
‫التعليم املختلط في املدارس االبتدائية‪ ،‬وإلى تشجيع الضيافة‬
‫الراقية‪ ،‬بل ً‬
‫أيضا إلى غشيان املطاعم والقهوات العامة مختلطين‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫وعندما ينتقل مجتمعنا من حال االنفصال إلى حال االختالط‬
‫سوف نحس أننا أمة متمدنة‪ ،‬وسوف يربينا االختالط‪ ،‬ويحدث‬
‫بيننا زمالة واحتر ًاما‪ ،‬ثم يؤدي إلى الحب‪ .‬أجل‪ ،‬هذا الحب‬
‫املكشوف الصريح الشريف الذي ال يحتاج إلى اختالس النظر من‬
‫خلف األبواب واألستار‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫الحياة الفنية للمرأة‬
‫كل ما قلناه عن الرجل في الفصول السابقة ينطبق ً‬
‫أيضا على‬
‫املرأة‪ ،‬وقد نبهنا عن ذلك في كالمنا عن العائلة واملجتمع‪ ،‬ولكنا‬
‫نحتاج مع ذلك أن نعالج الحياة الفنية للزوجة؛ ألننا في مصر قد‬
‫ورثنا من التقاليد أخطاء كثيرة ألغت املرأة من مجتمعنا‪َّ ،‬‬
‫وغيبتها‬
‫عن وجداننا‪ ،‬وقد كوفحت هذه التقاليد بتعميم حرية املرأة‪،‬‬
‫وانتشار املدارس إلى حد بعيد‪ ،‬ولكن ال يزال لهذه التقاليد رواسب‬
‫إذا لم ترتفع إلى وجداننا الذهني؛ فإنها ال تزال تصبغ عواطفنا‪،‬‬
‫وتؤثر في حياة املرأة‪.‬‬

‫والحياة الفنية للمرأة تقتض ي أن تعمل كالرجل؛ فتحترف حرفة ما‬


‫ترفعها من األنثوية إلى اإلنسانية‪ ،‬وتربيها طوال العمر‪ ،‬وتحملها‬
‫على النمو واإليناع النفس ي‪ ،‬كما تقتضيها االتصال بالرجال‪ .‬ونحن‬
‫الرجال ال نستطيع أن نتخيل أنفسنا منفصلين عن املجتمع‪،‬‬
‫ومحرومين من الحرفة؛ ألننا نعرف أننا في هذه الحال نسقط‬
‫سقوط اليأس الذي ال ننهض منه؛ ذلك ألن الحرفة واملجتمع‬

‫‪76‬‬
‫يربياننا‪ ،‬وهما من أكبر الدوافع الرتقائنا الذهني والنفس ي‪ ،‬بل‬
‫والجسمي‪.‬‬

‫وقليل من املقارنة بين امرأة لزمت البيت وحرمت من املجتمع‪،‬‬


‫وأخرى عملت في حرفة واختلطت باملجتمع مدة عشر سنوات —‬
‫ً‬
‫مثال — يوضح لنا مقدار الفرق العظيم بينهما؛ فإن قيم الحياة‬
‫إلى حد عظيم قد ألغيت عند األولى‪ ،‬بينما هي قد روعيت عند‬
‫الثانية؛ ولذلك بينما تركد األولى وتسمن وتترهل لقلة حركتها‪،‬‬
‫وتضيق آفاقها الذهنية والنفسية‪ ،‬تنشط الثانية في عملها‪،‬‬
‫وتستبقي نحافتها وعضليتها‪ ،‬وتتسع آفاقها الذهنية والنفسية‪.‬‬

‫ؤمل في القريب أن تستوي املرأة بالرجل‪ ،‬فإنها‬ ‫ُ‬


‫وليس ألحد منا أن ي ِّ‬
‫لم تصل إلى هذه الحال في أوروبا وأمريكا إلى اآلن‪ ،‬ومع أن قوانين‬
‫الدول هناك تنص على املساواة؛ فإن قواعد املجتمع تأبى هذه‬
‫املساواة‪ .‬وفي مصر ال تزال الحرفة مكروهة عند املرأة‪ً ،‬‬
‫وكثيرا ما‬
‫تخرج منها عندما تلوح لها الفرصة‪ ،‬كما نرى في بعض املعلمات —‬
‫ً‬
‫مثال‪ .‬ولذلك فإننا عندما نعالج مركز املرأة في مصر نتجه إلى البيت‬
‫كأنه كل ش يء‪ ،‬وهو‪ ،‬في وضعها االجتماعي القائم عندنا‪ ،‬يكاد يكون‬
‫كذلك‪ ،‬وإنما الذي ننساه هو أن البيت للمرأة‪ ،‬وليست املرأة‬

‫‪77‬‬
‫للبيت؛ أي يجب أن َّ‬
‫يعد البيت لراحتها ورقيها وسالمتها‪ ،‬وال ُي َّ‬
‫ضحى‬ ‫ِّ‬
‫بها من أجل الطبخ والكنس والغسل‪.‬‬
‫والبيت في مصر كثير األعباء‪ ،‬مرهق التكاليف‪ً ،‬‬
‫كثيرا ما يشبه‬
‫الورشة في إرهاقه وتعدد واجباته الصغيرة‪ ،‬كما ال يزال املطبخ‬
‫واملغسل ورشتين صغيرتين ال ينقطع العمل منهما طوال النهار‬
‫وبعضا من الليل‪ .‬وربة البيت مضطرة إلى اإلشراف عليهما إذا لم‬ ‫ً‬
‫تباشر بنفسها العمل فيهما‪ ،‬وهي في كلتا الحالتين تقتطع من وقتها‬
‫وفراغها ما كان أحرى أن تنفقه في ترقية شخصيتها بالدراسة‬
‫واالختالط واالنتفاع املثمر بالفراغ‪.‬‬

‫وتستطيع املرأة املصرية أن تنتفع باختبارات املرأة األوروبية هنا؛‬


‫يوما أو يومين للخروج مع زوجها وأوالدها‪،‬‬ ‫فإن هذه تخص ً‬
‫والغداء أو العشاء في املطاعم‪ ،‬كما أنها تخص ً‬
‫يوما أو يومين في‬
‫األسبوع لتناول األطعمة املعلبة التي تستغني بها عن الطبخ!‬
‫والخروج إلى املطاعم يتيح االختالط‪ ،‬كما أن اقتناء العلب‬
‫العديدة الوفيرة لألطعمة يتيح الفراغ الذي تستخدمه ربة البيت‬
‫في تثقيف ذهنها‪ ،‬أو في أي استمتاع آخر‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ولذلك ارتقت بعض املطاعم في أوروبا حتى ليصح أن يقال إنها‬
‫ليست لتزويد زائريها بالطعام فقط؛ إذ ال يخلو مطعم منها من‬
‫جوقة موسيقية‪ ،‬كما أنها في ترتيب موائدها‪ ،‬واختيار آنيتها‪،‬‬
‫وتزيين جدرانها‪ ،‬والتأنق في الطبخ تبلغ القمة‪ .‬وتناول الطعام فيها‬
‫ليس لتوخي الشبع املعدي‪ ،‬ولكنه قبل ذلك متعة فنية أنيقة‪.‬‬
‫درسا ً‬
‫نافعا في طبخ‬ ‫وكثيرا ما تعود الزوجة من املطعم وقد درست ً‬ ‫ً‬
‫أحد األلوان‪ ،‬أو ترتيب املائدة‪ ،‬وهذا إلى فوائد أخرى في االختالط‬
‫باألصدقاء أو االستماع للموسيقى‪.‬‬

‫حد ال نتخيله في مصر؛‬ ‫كما أن األطعمة املعلبة تتنوع وتتعدد إلى ٍ‬


‫حيث نكاد نقتصر من هذه األطعمة على السردين؛ فإنهم في أوروبا‬
‫يعلبون جميع اللحوم والخضراوات واألسماك‪ ،‬فتستطيع‬ ‫وأمريكا ِّ‬
‫ربة البيت أن تحضر طعام اليوم كله دون أن تحتاج إلى طبخ‪ ،‬بل‬
‫إن كيزان الذرة نفسها توضع في علب‪ .‬وزيادة على هذا تباع الفراخ‬
‫منظفة‪ ،‬فال تحتاج إلى عناء الذبح والتنظيف في البيوت كما هي‬
‫الحال عندنا؛ حيث نشتري الفراخ حية ونذبحها‪ ،‬ونحيل املطبخ‬
‫بريشها وأحشائها إلى مزبلة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫وإذا شئنا الترفيه عن املرأة املصرية في البيت حتى تجد الفراغ‬
‫ترقي شخصيتها‪ ،‬وتنير ذهنها‪ ،‬وتوسع آفاقها‪،‬‬‫الذي تحتاج إليه كي ِّ‬
‫فإننا يجب أن نعاونها على ذلك بغشيان املطاعم‪ ،‬واالعتماد على‬
‫األطعمة املعلبة‪ ،‬وإحالة الغسل إلى املغاسل‪ ،‬كما نحيل الكي إلى‬
‫املكاوي‪ .‬وبهذا تخف أعباء البيت التي ترهق في الوقت الحاضر‬
‫ً‬
‫آالفا من نساء الطبقة املتوسطة‪.‬‬

‫وبالطبع ال ننس ى هنا كثرة األوالد؛ أي اإلسراف في التناسل الذي‬


‫يرهق األمهات‪ ،‬ويستنفد كل مجهودهن‪ ،‬بحيث ال يبقى لهن من‬
‫القوة ما يتوفرن به على عمل آخر‪ .‬وقد توافرت وسائل الضبط‬
‫للتناسل‪ ،‬كما أصبحت مأمونة‪ ،‬وال عذر للزوجين في إهمالها؛ ألن‬
‫هذا اإلهمال سينعكس أثره في الزوجين اللذين سوف تصدمهما‬
‫حقائق الحاجات االقتصادية‪ ،‬فيعجزان عن توفير الصحة‬
‫أيضا لهما؛ ألنهما هما ً‬
‫أيضا في حاجة إلى صحة‬ ‫والتربية لألوالد‪ ،‬بل ً‬
‫وتربية‪.‬‬

‫وعلى ذلك نقول‪ :‬إن الحياة الفنية للمرأة إذا لم تكن تعمل‬
‫مستقلة؛ أي طبيبة أو معلمة أو ممرضة أو تاجرة‪ ،‬تحتاج إلى‬

‫‪80‬‬
‫االقتصاد في عمل البيت من ناحية‪ ،‬وفي عدد األوالد من ناحية‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫العادات‬

‫نحن نعيش بالعادات‪ :‬عادات العمل‪ ،‬وعادات الفكر‪ ،‬ولكل منا‬


‫عاداته الخاصة؛ الحسنة أم السيئة؛ في املش ي والحديث واألكل‬
‫ً‬
‫أسلوبا أو أساليب في كل ما يعمل‪ ،‬وهذه‬ ‫والتفكير؛ أي إنه يتخذ‬
‫األساليب تلصق به طوال عمره‪.‬‬

‫وقد كان ولنجتون يقول عن العادة‪ :‬إنها ليست طبيعة ثانية كما‬
‫هو املثل الجاري؛ إذ هي تزيد على الطبيعة عشر مرات‪.‬‬

‫وعادات التفكير ال تقل خطورة عن عادات العمل؛ فإن الناس‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫تشاؤما بالدنيا وصروفها لعادات فكرية‬ ‫يختلفون تفاؤال أو‬
‫تعودوها‪ ،‬وال يطيقون التخلص منها‪ .‬وكلنا يعرف ذلك الشاب‬
‫الذي يتسم بالتهكم أو املزاح‪ ،‬فيثقل علينا باستصغاره لكل ما‬
‫نفعل‪ ،‬أو يملؤنا ً‬
‫طربا بنكاته ونوادره‪ ،‬وهناك بالطبع ذلك اآلخر‬
‫تعود الوقار فيكاد يجهل الضحك‪ ،‬ثم هناك آخرون قد‬ ‫الذي َّ‬
‫تعودوا االنتقاد‪ ،‬أو حتى املنافرة؛ فهم على الدوام في موقف‬
‫املعارضة واملناقضة‪ ،‬ثم هناك ذلك الذي َّ‬
‫تعود املخاصمة فال‬

‫‪82‬‬
‫نعرف كيف نحادثه؛ ألننا نتوقع منه كل وقت ً‬
‫لوما لنا في غير ما‬
‫نستحق أن نالم عليه‪.‬‬

‫وجميع هذه األخالق عادات ذهنية يتعودها أحدنا في الغالب أيام‬


‫طفولته‪ ،‬فتثبت وال تتركه طوال حياته‪.‬‬

‫ولكن كما تثبت العادة السيئة كذلك تثبت العادة الحسنة؛‬


‫ولذلك يحتاج كل منا كي يعيش في اقتصاد ذهني وجسمي‪ ،‬وفي‬
‫مالءمة بينه وبين الوسط االجتماعي أو املادي‪ ،‬أن يتعود العادات‬
‫الحسنة؛ أي عادات األكل الصحي‪ ،‬والدراسة الدائمة‪ ،‬والعمل‬
‫ُ‬
‫رقية‪ ،‬واملعاملة أو املعاشرة االجتماعية التي‬
‫املجدي‪ ،‬والتسلية امل ِّ‬
‫تنأى عن الشر‪.‬‬

‫وميزة العادات — زيادة على أنها تثبت وتلصق بنا — أنها تجعل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫محببا إلى النفس‪ .‬وصحيح أن عاداتنا‬ ‫العسير من األعمال سهال‬
‫العامة التي تحرك غرائزنا وتنشط عقولنا تأتينا ً‬
‫عفوا‪ ،‬بعضها أيام‬ ‫ِّ‬
‫الطفولة‪ ،‬وبعضها بعد ذلك‪ ،‬ولكن ليس معنى هذا أننا نعجز عن‬
‫نكونها بإرادتنا‪ ،‬وعلى وجدان تام‬
‫تكوين العادات الحسنة؛ أي ِّ‬
‫بمنفعتها وضرورتها لنا‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫والهدف الذي نقصد إليه من تكوين عادة‪ ،‬أن نقتصد في مجهودنا‬
‫ً‬
‫مقدارا من العمل أكبر مما كنا نؤديه قبل‬ ‫حتى نستطيع أن نؤدي‬
‫ُّ‬
‫تكون العادة‪ ،‬ونستهلك من قوتنا أقل مما كنا نستهلك‪.‬‬
‫والرجل الحكيم ال يترك نفسه يعيش ً‬
‫عفوا كأنه مسوق بالظروف‬
‫ً‬
‫قصدا بأهدافه‪ ،‬وعلى تقدير‬ ‫والصروف؛ إذ يجب أن يعيش‬
‫ملواهبه وكفاءته‪ ،‬واستغالل لهما بما يجعل حياته مجدية إن لم‬
‫تكن سعيدة‪ ،‬وهو محتاج — لهذا السبب — إلى أن َّ‬
‫يتعود‬
‫العادات الحسنة التي تعاون على رقيه وتطوره‪.‬‬

‫وأول ما نحتاج إليه في تكوين ٍ‬


‫عادة ما أن نقتنع بفائدتها وضرورتها‬
‫نعين‬
‫لنا‪ ،‬وهذا االقتناع ليس محض امليل واالتجاه؛ إذ يجب أن ِّ‬
‫ً‬
‫الفوائد التي تعود علينا كتابة مع التفصيل الذي ربما يحتاج إلى‬
‫مراجعة وتفكير وتنقيح؛ أي إننا يجب أن نحس أننا لم نأخذ بهذه‬
‫العادة إال بعد حكم قد وصلنا إليه عن وجدان ويقظة‪ ،‬وأننا بنينا‬
‫هذا الحكم على أسباب قوية قد اقتضاها «تصميم» حياتنا‪.‬‬

‫وح ْس ُبنا من هذا الشروع‬


‫فإذا اقتنعنا بفائدة العادة شرعنا فيها‪َ ،‬‬
‫عمد إلى يومنا؛ أي هذا اليوم‪ ،‬إلى ممارسة العادة‪ ،‬ثم نجدد‬‫أن َن َ‬

‫‪84‬‬
‫العزم كل يوم على هذه املمارسة إلى أن يؤدي التكرار إلى ثباتها‪ ،‬وال‬
‫بد من املثابرة بحيث ال يفوتنا يوم إال ونحن في ممارسة لها‪.‬‬

‫وواضح أننا عندما نختار عادة يجب أن تكون في مستطاعنا حتى‬


‫ال تتجاوز طاقتنا‪ ،‬ثم يؤدي عجزنا إلى تركها‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬نفرض أن أحدنا قد بلغ الثالثين وهو يجد أنه مقصر‬
‫في الدراسة‪ ،‬وأن زمالءه قد سبقوه فصار لهم مقام‪ ،‬وحققوا‬
‫ً‬
‫كسبا‪ ،‬ونالوا أماني لم يحصل هو عليها لتقصيره في الدراسة‪ ،‬وأنه‬
‫ينوي أن يتعود عادة الدراسة‪.‬‬
‫َ‬
‫يعين هذه الدراسة‪ ،‬ويوضح األسباب التي‬ ‫فأول ما يعمد إليه أن ِّ‬
‫تدعوه إليها‪ ،‬ويوضحها كتابة مع التفصيل واملراجعة؛ حتى يقتنع‬
‫بضرورتها‪ ،‬ثم يبدأ اليوم؛ هذا اليوم‪ ،‬في هذه الدراسة‪ ،‬ثم يثابر‪.‬‬
‫واملثابرة هنا تعني أنه ال ينقطع‪.‬‬

‫وهو محتاج إلى تشجيع‪ ،‬وقد ال يجد هذا التشجيع من إخوانه‪،‬‬


‫وعليه — عندئذ — أن يسجل نجاحه ً‬
‫يوما بعد يوم؛ ألن هذا‬
‫التسجيل يوضح له الخطوات التي خطاها نحو تحقيق أهدافه؛‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فهو يزيده حماسة ونشاطا وإقباال‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫وقد ذكرنا الدراسة باعتبارها إحدى العادات التي يجب على‬
‫الشباب أن يتعودها‪ ،‬ولكن العادات الحسنة كثيرة؛ ألننا‬
‫محتاجون إلى عادات الرياضة البدنية‪ ،‬واملحادثة بكلمات كريمة‪،‬‬
‫واالعتدال في الطعام مع التأنق الذي يقتضيه التمدن‪ ،‬وأمثال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منفردا‪ ،‬ولكن تكبر‬ ‫ذلك مما قد تصغر قيمته عندما نتأمله عمال‬
‫قيمته عندما نتأمله عادة متكررة؛ إذ قد يسهل علينا أن نتحدث‬
‫إلى أحد الناس في لغة كريمة وكلمات أنيقة إذا قصدنا إلى ذلك‬
‫وتكلفنا‪ ،‬ولكن ال يسهل أن نفعل ذلك مع جميع الناس على سبيل‬
‫ً‬
‫أحيانا إلى مثل هذه‬ ‫العادة عف ًوا وسماحة‪ .‬وكثير من النجاح ُيعزى‬
‫العادات‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫التخلص من العادة السيئة‬
‫ً‬
‫وكثيرا ما‬ ‫العادة كالنار إما خادمة حسنة وإما سيدة مؤذية‪،‬‬
‫ُ‬
‫تتسلط علينا عادات تملكنا وتستبد بنا؛ فنؤديها خاضعين ونحن‬
‫على مضض من إلحاحها‪ ،‬وعلى وجدان بما تبدده من قوانا‬
‫وحيويتنا‪.‬‬

‫وكثير من عاداتنا السيئة يعود إلى إهمال أبوينا في تربيتنا حين‬


‫عودونا التدلل وكراهة االستقالل‪ ،‬أو الخوف واإلحجام‪ ،‬أو حتى‬
‫ً‬
‫كراهة بعض األطعمة؛ فإني أعرف رجال بلغ الستين ولم يذق‬
‫الجبن في حياته‪ ،‬وكراهته لهذا البروتين الثمين ترجع إلى أيام‬
‫طفولته حين أهمل أبواه تعويده تناول هذا الغذاء‪ ،‬وقد خسر‬
‫كثيرا في صحته وماله بهذا الحرمان‪ ،‬كما أن هناك ً‬
‫ناسا قد بلغوا‬ ‫ً‬
‫األربعين أو الخمسين إذا رأيناهم يأكلون اشمأززنا من األسلوب‬
‫الذي يتبعونه في تناول الطعام ومضغه‪.‬‬

‫واتجاهاتنا وميولنا هي عادات كامنة توجهنا نحو الجد أو املزاح‪،‬‬


‫ونحو التشاؤم أو التفاؤل‪ ،‬ونحو اإلقدام أو اإلحجام‪ ،‬وهي عادات‬
‫نفسية ال تختلف عن عاداتنا الجسمية في غسل الوجه أو السير‬

‫‪87‬‬
‫في الشارع أو التحية لصديق‪ ،‬وهي‪ ،‬أي هذه العادات النفسية‪،‬‬
‫تعين سلوكنا وتصرفنا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وبالطبع هناك عادات خطرة؛ كالتدخين أو الشراب أو حتى‬
‫املخدرات والشهوات الشاذة‪ ،‬ونحن ال نعالج هنا هذه العادات؛ إذ‬
‫هي تحتاج إلى تحليل نفس ي كي نصل إلى األزمات والتوترات التي‬
‫أحدثت االلتجاء إلى هذه العادات فر ًارا من الواقع املؤلم‪.‬‬

‫وقد يكون التدخين أخفها فال يحتاج إلى تحليل؛ ألن األغلب أن‬
‫الشاب يقع في هذه العادة لرغبة ساذجة في تأكيد رجولته‪ ،‬ولكن‬
‫إدمان التدخين يدل على توتر نفس ي يحتاج إلى التحليل‪.‬‬

‫وفي إبطال العادة — كما في تكوينها — نحتاج قبل كل ش يء إلى‬


‫االقتناع‪ ،‬وهذا االقتناع يحتاج إلى توضيح العناصر‪ ،‬كما لو كنا‬
‫ندافع عن متهم ونوضح عناصر البراءة؛ وذلك كي ينبني االقتناع‬
‫على أسباب وجيهة‪ ،‬فإذا تم لنا ذلك فلنشرع في التنفيذ‪ ،‬ونقنع منه‬
‫بيوم واحد‪.‬‬

‫فاملدخن الذي ينوي إبطال التدخين يحتاج إلى إيضاح األسباب‬


‫ً‬
‫كتابة لهذا اإلبطال‪ ،‬ثم عليه أن يقرر العزم على االمتناع ً‬
‫يوما‬

‫‪88‬‬
‫ً‬
‫واحدا ال أكثر‪ ،‬فإذا تم له هذا اليوم‪ ،‬فعليه أن يقرر هذا اليوم‪،‬‬
‫ً‬
‫كتابة ً‬
‫أيضا‪ ،‬ثم يجدد العزم على‬ ‫وعليه أن يسجل هذا االنتصار‪،‬‬
‫يوم آخر‪ ،‬وكلما مض ى يوم ضعفت العادة وتراخت قبضتها على‬
‫خناقنا‪.‬‬

‫أيضا أن يستعين بالوسط؛ أي يغير الشارع‬‫ويجب على املدخن ً‬


‫الذي تعود أن يشتري منه‪ ،‬أو ال يأخذ مئونته إذا كان على قصد‬
‫االبتعاد عنه أو نحو ذلك‪ ،‬ثم يجب املثابرة فال يخرم ً‬
‫يوما يعود‬ ‫ِّ‬
‫فيه إلى عادته؛ ألن هذا اليوم وحده يفسد جميع أيام الحرمان‬
‫السابقة أو يلغيها‪.‬‬

‫وإذا وجد الشاب أنه مع ذلك عاجز عن إبطال العادة السيئة‪،‬‬


‫فعليه بالتحليل النفس ي حتى يصل إلى األصول الثابتة في كامنته‬
‫«عقله الكامن»‪ ،‬فيكشفها وينفضها في الهواء‪ ،‬وعندئذ يسهل‬
‫اإلبطال‪.‬‬

‫ولكن العادة تحدث في النفس شهوة‪ ،‬وإبطالها كظم قد ال يطاق‪،‬‬


‫ً‬
‫وكثيرا ما رأينا آثار هذا الكظم في مدمن الخمر حين يتأخر عن‬
‫ميعاد شرابه؛ فإنه يقلق في مكانه‪ ،‬وقد يرتعش أو يعرق أو‬

‫‪89‬‬
‫يغضب؛ وهذا ألنه كظم الشهوة للشراب ساعة أو أقل أو أكثر‬
‫فقط‪ ،‬فكيف باإلبطال التام؟‬

‫يجب على املدمن أن يأخذ بعادة أخرى قريبة أو مناسبة للعادة‬


‫السابقة التي أبطلها؛ حتى تجد شهوته املكظومة املنفس واملخرج؛‬
‫ً‬
‫كالقهوة بدل التدخين‪ ،‬أو األلعاب الرياضية بدال من القمار‪ ،‬أو‬
‫الطعام قبل ميعاد الشراب؛ حتى تمتلئ املعدة فال يساغ الشراب‪.‬‬
‫وإذا لم تنجع هذه الوسائل لإلقالع عن عادة سيئة؛ فيجب —‬
‫كما قلنا — االلتجاء إلى التحليل النفس ي‪ ،‬وإذا لم يكن هذا‬
‫ً‬
‫متيسرا فال بأس من االعتماد على ما يسمى‪« :‬االنعكاس املعدول»؛‬
‫شريب الخمر بحقنة‬ ‫أي إيجاد مركب نفس ي سيئ‪ ،‬كأن نحقن ِّ‬
‫مقيئة قبل الشراب‪ ،‬ثم نأذن له بكل ما يهوى من شراب؛ ًّ‬
‫كما‬
‫ً‬
‫وكيفا‪ ،‬حتى إذا جرع كأسين أو ثالثة ألفى نفسه في غثيان وقيء‪،‬‬
‫فإذا صحا صار ال يشتهي الخمر إال وفي نفسه هذا الجزع من‬
‫الغثيان‪ ،‬فيكره الخمر‪.‬‬

‫وهذا هو ما تفعله األم مع طفلها الرضيع حين تحتاج إلى فطامه؛‬


‫فإنها تطلي الحلمة بسائل مر فيكره الطفل الرضاع؛ ألنه يقرن‬
‫املرارة إلى الحلمة‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ولكن املرارة للحلمة والغثيان وقت الشراب كالهما عمل سلبي؛ أي‬
‫إنه يكف ويزجر‪ ،‬والحاجة تدعو هنا إلى عمل إيجابي يغري‬
‫ويجذب‪ ،‬وهو عند األم تقديم طعام سائغ للطفل‪ ،‬وكذلك يجب‬
‫أن نقدم ً‬
‫شيئا للسكير له قيمة نفسية ترفيهية تقوم مقام الخمر‪،‬‬
‫َ‬
‫تعين العالج؛ فقد ُيعالج أحدهم بالرفقة‬
‫ولكل إنسان ظروفه التي ِّ‬
‫املنعشة مع أحد األصدقاء‪ ،‬وقد يعالج آخر باهتمامات لذيذة‬
‫تملك نشاطه وتوجهه‪.‬‬

‫وحياتنا كلها سلسلة من العادات الجسمية والذهنية والنفسية‪،‬‬


‫ً‬
‫جميال؛ فإننا نحتاج إلى ُّ‬ ‫فإذا قصدنا إلى أن نجعل حياتنا ًّ‬
‫تعود‬ ‫فنا‬
‫العادات التي تؤدي إلى االقتصاد في مجهوداتنا‪ ،‬كما نحتاج إلى‬
‫عادات التأنق‪ :‬نتألق في لباسنا وطعامنا وتصرفنا؛ حتى نجعل‬
‫الكيف يأخذ مكان الكم‪ ،‬فنطلب الكمال فوق الضرورة‪ ،‬ونقصد‬
‫إلى الجمال في كل ما نتوخى من وسائل أو غايات‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫عادة القراءة‬

‫تحدثنا في بعض الفصول السابقة عن القيمة العظمى لعادة‬


‫القراءة‪ ،‬ولكنا مع ذلك نحتاج إلى التوسع في إيضاح هذه القيمة‪.‬‬
‫وهذا الكتاب الذي نتوخى فيه جعل الحياة فنية يجب أن يحوي‬
‫ً‬
‫فصال عن القراءة؛ ألن القراءة وحدها تجعل الحياة فنية في الكثير‬
‫من معانيها؛ إذ هي ترفع القارئ من االعتبارات املحلية ومن‬
‫الضروريات املعيشية إلى قيم بشرية سامية‪ ،‬وإلى كماليات‬
‫وتأنقات ذهنية ال يحصل عليها األمي أو ذلك القارئ الذي يحيل‬
‫نفسه إلى أمي ألنه يكره القراءة‪.‬‬

‫وفي أيامنا يعد توافر الكتب واملجالت والجرائد من أعظم‬


‫انتصارات الحضارة العصرية؛ ألنه قد جعلنا بالقراءة املثابرة على‬
‫وجدان دائم بعصرنا ودنيانا؛ فاتسعت آفاقنا الفكرية‬
‫والعاطفية‪ ،‬وحفلت حياة القارئين باهتمامات جديدة ومتجددة‪،‬‬
‫شيئا منها‪ .‬فإذا لم تكن حياتنا أطول من‬ ‫ولم يكن آباؤنا يعرفون ً‬
‫حياتهم فإنها على األقل — بالقراءة — أعرض وأعمق منها‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وواضح أننا نقصد هنا القراءة املنيرة املنبهة ال القراءة املظلمة‬
‫املخدرة؛ فإن هناك قراء وقارئات يشترون املجلة كما يشترون‬
‫اللب أو اللبان للتسلية وقتل الوقت‪ ،‬كما أن هناك مؤلفين قد‬
‫زودوا السوق «األدبية» بهذه املخدرات التي ُت ِّبنج العقل وتلغي‬
‫الوجدان‪.‬‬

‫ولكن القارئ الذي ُيعنى بحياته يأبى التخدير؛ ألنه ال يجب أن‬
‫ينس ى أنه حي‪ .‬وهو يقرأ كي يزيد حياته حيوية‪ ،‬وليس كي ينام‬
‫ً‬
‫وإحساسا بالنمو‪ ،‬وقراءته‬ ‫ويتخدر‪ ،‬وهو يزداد بالقراءة سرو ًرا‬
‫دراسة مقصودة مرتبة على مراحل حياته؛ كأنها البرنامج للنمو‬
‫والتطور‪ .‬والقارئ الذي يحس بعد سنوات من دراسته أنه لم‬
‫يتطور يحتاج إلى املراجعة والتساؤل؛ ألن أغلب الظن أنه أساء في‬
‫اختيار الكتب‪ ،‬وانغمس في دراسات جامدة ال تبعثه على الرقي أو‬
‫النمو أو التطور‪.‬‬

‫والقراءة الجزافية سيئة‪ ،‬وهي كاألكل الجزافي؛ ألننا نحتاج في‬


‫الحياة الفنية إلى التنظيم والترتيب‪ ،‬ووضع البرامج كي تفتح‬
‫امليادين الجديدة؛ فالرجل املستنير ال يرض ى لنفسه هذه األيام أن‬
‫يعيش على هذا الكوكب دون أن يحاول الوقوف على الطاقة‬

‫‪93‬‬
‫الذرية‪ ،‬كما ال يرض ى لنفسه أن يجهل نظرية التطور؛ التطور‬
‫البيولوجي والتطور االجتماعي‪.‬‬

‫وهناك عشرات من املوضوعات الحيوية التي ال يجوز ملستنير أن‬


‫يهملها‪ ،‬وهي تستغرق الحياة كلها‪ ،‬بل إن املتعودين للدراسة‬
‫يجدون أنهم في شكوى دائمة من قلة الوقت؛ ولذلك ال يعرفون‬
‫السأم‪ ،‬واهتماماتهم متعددة متجددة‪.‬‬

‫والحياة الفنية تتجه نحو العناية بالفنون الجميلة قبل كل ش يء؛‬


‫أي باألدب والشعر واملوسيقا والرسم وما إلى ذلك؛ ألن هذه‬
‫تأنقا‪ ،‬فنتوخى الجمال في تصرفنا كما نتوخاه في‬ ‫الفنون تزيدنا ً‬
‫بيئتنا‪ ،‬ولكن التعمق يقتض ي أال يقف أحدنا من الدراسة موقف‬
‫أيضا أن يشترك‬‫القارئ املطالع القانع بزيادة معارفه؛ إذ يجب ً‬
‫ًّ‬
‫ايجابيا في ثقافة معينة تكون عنده كالبؤرة األصلية التي تتشعع إلى‬
‫ثقافات فرعية عديدة‪ .‬وهو يحسن إذا مارس الكتابة عما يقرأ؛‬
‫ً‬
‫يشرع أوال بمراسلة بعض املجالت‪ ،‬ثم يرتقي إلى كتابة املقاالت‪ ،‬ثم‬
‫إلى التأليف إذا استطاع ذلك‪ .‬ولكن يجب على كل حال أن يحاول‬
‫ً‬
‫الكتابة التي تزيده ارتباطا بالثقافة‪ ،‬وتحمله على زيادة البحث‬
‫واالستقصاء ملا يدرس‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫َ‬
‫وث َّم اعتبار آخر في قيمة القراءة أو الدراسة للحياة الفنية هي أنها‬
‫أعظم الوسائل لالحتفاظ بشباب الذهن في الشيخوخة؛‬
‫تعود قراءة الجريدة والكتاب أيام شبابه‪ ،‬ثم‬ ‫فالشباب الذي َّ‬
‫واصل هذه العادة في كهولته وشيخوخته يحتفظ بالكلمات ماثلة‬
‫تحرك الذهن إلى التفكير‬‫حية في ذهنه حين تتبلد العواطف فال ِّ‬
‫واالهتمام‪ ،‬بل حين تأخذ خاليا املخ في التدهور‪ ،‬وتعجز الشرايين‬
‫الدقيقة املتصلة عن تغذيتها وتنظيفها‪ ،‬ففي هذه الحال يرافق‬
‫الشيخوخة نسيان للكلمات يؤدي إلى تعطيل للتفكير‪ ،‬ولكن عادة‬
‫ُ‬
‫القراءة كل يوم تجعل الكلمات — كما قلنا — ماثلة‪ ،‬ومتى َمثلت‬
‫حيا‪ ،‬وتعود‬ ‫الكلمات َم ُثلت األفكار‪ ،‬فيبقى الذهن ًّ‬
‫شابا ًّ‬
‫الشيخوخة حافلة باالهتمامات حتى ولو بلغنا التسعين أو املائة‪.‬‬
‫ً‬
‫واضحا في جميع األدباء أو العلماء الذين لم ينقطعوا‬ ‫ونرى هذا‬
‫عن الدراسة في شيخوختهم؛ إذ في الوقت الذي تجد فيه غيرهم‬
‫قد تبلد ذهنه وجمد‪ ،‬أو حتى خرف‪ ،‬نجد أنهم ال يزالون يقرءون‬
‫ويكتبون كما لو كانوا في الشباب‪ .‬وقليل منهم من يمتاز بشرايين‬
‫طرية أو صحة عامة تختلف عن سائر الناس‪ ،‬ولكن ميزتهم‬
‫الوحيدة هي امليزة اللغوية؛ إذ قد احتفظوا بالكلمات؛ فاحتفظوا‬

‫‪95‬‬
‫تحركهم إلى النشاط‬ ‫ً‬
‫باملعاني أيضا‪ ،‬وبقيت األفكار حية عندهم ِّ‬
‫واالهتمام‪.‬‬

‫ولذلك تعد القراءة خير ما نيهئ للشيخوخة‪ ،‬ويجب أال يقل‬


‫االهتمام بها عن االهتمام بالصحة الجسمية‪ ،‬بل ربما كانت هي‬
‫أهم وأنجع الستبقاء الحيوية عند املسنين‪ .‬وعندنا من األمثلة في‬
‫مصر ما يبرهن على صحة قولنا؛ ففي هذا الوقت الذي أكتب فيه‬
‫هذه الكلمات (‪ )١٩٤٦‬يعيش عبد العزيز فهمي باشا في السادسة‬
‫والسبعين وهو محطم الصحة الجسمية‪ ،‬ولكن ذهنه في شباب‬
‫يوما عن القراءة الجدية‪ ،‬فالكلمات (أي‬‫عجيب؛ ألنه لم ينقطع ً‬
‫األفكار) ماثلة في ذهنه تبعثه على اهتمامات ثقافية مختلفة‪ ،‬وقد‬
‫زرته قبل شهرين فوجدته ينقل ك ً‬
‫تابا عن القانون الروماني إلى‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وهو يقرؤه في حماسة‪ ،‬ويراجعه في نقد وتغيير‪.‬‬

‫ولذلك نحن على حق حين نقول‪ :‬إن صحة الذهن للمسنين أهم‬
‫من صحة الجسم‪ ،‬ومداومة القراءة اليومية هي خير ما يؤدي إلى‬
‫َ‬
‫استبقوا‬ ‫صحة الذهن‪ .‬ونستطيع أن نذكر عشرات من املسنين‬
‫بالقراءة شباب أذهانهم‪ ،‬ولكنا نحب أن نغير كلمة القراءة فنقول‪:‬‬
‫الدراسة؛ ألننا نقصد إلى الجد والترتيب‪ ،‬ووضع البرامج للتوسع‬

‫‪96‬‬
‫الذهني‪ ،‬وال نقصد إلى القراءة التي تقوم مقام أكل اللب أو مضغ‬
‫اللبان‪.‬‬

‫والبيت املتمدن في عصرنا هو البيت الذي يعرف أن أفخر ما فيه‬


‫من أثاث إنما هو الكتب؛ ألنها غذاء نفوسنا وعقولنا التي هي أحق‬
‫ً‬
‫متمتعا‬ ‫بالعناية من بطوننا‪ .‬ومن عجب أن هناك من يعد نفسه‬
‫بحياته ألنه يأكل أفخر األطعمة‪ ،‬ويلبس أجود املالبس‪ ،‬وال يدري‬
‫أن املتع البشرية السامية تتجاوز هذه الحاجات البيولوجية إلى‬
‫الوقوف على ذلك التراث البشري العظيم؛ من مؤلفات أفالطون‪،‬‬
‫إلى صلوات إخناتون‪ ،‬إلى فلسفة بوذا‪ ،‬إلى دراسة الكتب املقدسة‪،‬‬
‫إلى تواريخ األديان وحياة القديسين‪ ،‬إلى حقائق العلوم وتطورات‬
‫األمم‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وأي ش يء من أثاث املنازل عند املليونيين يعادل‬
‫َّ‬
‫الذهن املؤثث باالختبارات والنظريات واألفكار التي تبسط تاريخ‬
‫ً‬
‫املستقبل فضال عن تاريخ املاض ي؟!‬

‫والقيم البشرية تعد على الدوام في املرتبة العليا باملقارنة إلى القيم‬
‫االجتماعية؛ ولذلك ال يمكن أن يقارن الثراء والوجاهة واملال‬
‫وترف املنزل واملعيشة‪ ،‬بالذهن الثري بالثقافة‪ ،‬املتمرن على‬
‫التفكير‪ ،‬اليقظ بالوجدان العاملي‪ .‬وذلك الشاب الذي يهمل ُّ‬
‫تعود‬

‫‪97‬‬
‫الدراسة‪ ،‬ويبخل في شراء الكتب واملجالت‪ُ ،‬ويؤ ِّثر عليها الرياش‬
‫النفيسة أو اكتناز املال إنما يبخس نفسه التي هي أولى من أي ش يء‬
‫آخر باإلنفاق‪ ،‬بل باإلسراف في اإلنفاق‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫البيت متحف‬

‫البيت من أخص األشياء التي نملكها؛ فقد نقتني أسهم الشركات‪،‬‬


‫أو مئات أو آالف الجنيهات‪ ،‬أو قد نشتري عزبة نستغلها ونعيش في‬
‫إحدى املدن من غلتها‪ ،‬ولكن ليس لواحد من هذه املقتنيات تلك‬
‫العالقة الحميمة التي تربطنا بالبيت؛ ألن له خصوصية بنا ليست‬
‫لغيره‪ ،‬ونحن نقض ي فيه معظم نهارنا‪ ،‬وجميع ليلنا‪ ،‬ونعاشر فيه‬
‫أوالدنا وزوجتنا‪ ،‬ونجد فيه الراحة بعد كد النهار‪ ،‬كما أننا نطبع‬
‫عليه شخصيتنا؛ ألننا َّ‬
‫نتخير له األثاث ونتأنق في ترتيبه‪ .‬ومن هنا‬
‫هذا الحنين الذي نحس به عقب اغتراب عنه بضعة أسابيع أو‬
‫أشهر‪ ،‬ولو كان هذا االغتراب في مصيف أو مشتى للراحة‬
‫واالستجمام‪.‬‬
‫ً‬
‫مطعما؛ ولذلك سرعان ما‬ ‫وعند بعض الناس يعد البيت ً‬
‫مأوى أو‬
‫يتركونه إلى القهوة أو النادي أو الحانة؛ حيث يجدون رفاهيتهم مع‬
‫األصدقاء‪ ،‬أو في لذة الشراب‪ ،‬ولكن هؤالء البعض ليسوا في‬
‫الغالب على حال سوية نفسية؛ إذ هم يكظمون أشياء من عالقة‬

‫‪99‬‬
‫زوجية سيئة إلى قلق اقتصادي أو حرفي أو نحو ذلك‪ .‬ولفرارهم‬
‫من البيت معنى رمزي يسهل تفسيره بالتحليل النفس ي‪.‬‬

‫والبيت مشتق لغة من فعل «بات» أي أمض ى الليل‪ ،‬وهو بهذا‬


‫االشتقاق يدلنا على الضرورة األولى التي اقتضته‪ ،‬ولكن اإلنسان‬
‫في طورنا الحضاري ال يقنع بالضرورات؛ إذ هو قد سما إلى كثير‬
‫من الكماليات‪ ،‬وهو يطلب من البيت أكثر من املأوى واملطعم‪ .‬وقد‬
‫نصحنا في فصل سابق بأن يجنح الزوجان من وقت آلخر إلى‬
‫ُ‬
‫املطاعم العامة‪ ،‬وبأن ُيحال غسل املالبس إلى حيث تغسل باألجر‬
‫ً‬
‫بدال من إحالة البيت إلى ورشة للغسل والطبخ طوال اليوم‪.‬‬

‫والوضع االجتماعي القائم يجعل البيت املكان الطبيعي للمرأة‪،‬‬


‫وليست الحال كذلك للرجل‪ ،‬ولكنا نبالغ في تأكيد هذا الوضع حتى‬
‫لكأن املرأة قد خلقت للبيت‪ ،‬وليس العكس‪ .‬وهذه املبالغة تنتهي‬
‫محبسا لها‪ ،‬يفصل بينها وبين النشاط‬ ‫ً‬ ‫بأن تجعل من البيت‬
‫االجتماعي الذي يجب أن تدخل في غماره‪ ،‬وتتأثر به وتؤثر فيه؛ إذ‬
‫هي — قبل أن تكون «ربة بيت» — إنسان له مركزه األكبر في هذا‬
‫الكون قبل مركزه األصغر في البيت‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وهناك فرق بين السرور والسعادة؛ األول‪ :‬مادي بشأن املواد التي‬
‫نقتنيها ونستمتع بها‪ ،‬والثانية‪ :‬فكرية بشأن الغايات واملثليات‪،‬‬
‫ولكن ليس شك في أن أقرب املسرات إلى السعادة هو الحياة‬
‫مأوى ومطعم‬ ‫العائلية السامية؛ ألن البيت مادة وفكرة؛ أي إنه ً‬
‫ومتحف‪ ،‬كما هو عائلة تقوم على عالقات روحية‪ ،‬وتهدف إلى‬
‫مثليات‪ ،‬وتحقق أماني ً‬
‫كثيرا ما تحملنا على أسمى املجهودات‪.‬‬

‫والبيت السامي العصري هو معهد حر يجد فيه أعضاؤه حرية‬


‫الفكر تسود جميع املناقشات النيرة في ديمقراطية اجتماعية‪،‬‬
‫وتربية ذهنية وأخالقية‪ ،‬وهو وحدة املجتمع الذي تتألف منه‬
‫األمة‪ ،‬وكل عناية بالبيت إنما هي في النهاية عناية باألخالق الحسنة‬
‫عاملون أفراد املجتمع‬ ‫والسلوك البار؛ ألن األطفال عندما ُّ ُ‬
‫يشبون ي ِّ‬
‫بالقيم واألوزان التي تلقوها في البيت أيام طفولتهم‪.‬‬

‫ثم نحن نعيش في البيت نحو سبعين سنة؛ أي نعيش هذا القدر‬
‫بأجسامنا‪ ،‬ولكنا نعيش بنفوسنا أكثر من هذه السنين؛ ألننا نحس‬
‫ًّ‬
‫نفسيا أن عائلتنا منا‪ ،‬وأن حياتنا مندغمة في حياة أفرادها؛‬
‫ولذلك يمتد إحساسنا للبيت إلى مقدار من السنين يتجاوز حياتنا‪.‬‬
‫وهذا اإلحساس يجعلنا نستهين بأي مجهود لترقية البيت‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ثم للبيت خصوصية بنا كأنه البذلة التي نلبسها على قد قامتنا؛‬
‫فنعتني بتفصيلها حتى تتخذ قسمات أعضائنا مع ما قد يكون بها‬
‫من نقص‪ ،‬ولذلك نحن نؤثر البذلة التي فصلها الخياط على بذلة‬
‫جاهزة قد أخذ القياس فيها بالتعميم وطراز السن‪ ،‬وليس‬
‫كالتخصيص والعناية الخاصة بكل فرد‪.‬‬

‫نفسيا‪ ،‬والحنين إليه أحد‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬


‫«مركبا»‬ ‫ويعد البيت لهذا السبب‬
‫مظاهره‪ ،‬وقد وجد البيت لذلك حرمة في كثير من األمم املتمدنة؛‬
‫فال يجوز للدائن بيعه أو بيع أثاثه مهما بلغ الدين الذي يحمله‬
‫صاحبه‪ ،‬كما قد أجازت األمم امتالك املسكن الخاص في املبنى‬
‫ً‬
‫تشجيعا‬ ‫العظيم الذي قد يحوي عشرين أو ثالثين شقة؛ وذلك‬
‫لهذه الخصوصية التي تحمل صاحب البيت على االرتباط والعناية‬
‫ًّ‬
‫تقويميا لألخالق؛ فكما أن املتزوج‬ ‫به؛ ألنها لحظت أن للبيت ً‬
‫أثرا‬
‫ً‬
‫واستهتارا من األعزب الرتباط األول بزوجته‪ ،‬كذلك‬ ‫أقل جرائم‬
‫ً‬
‫أخالقا ممن ال يملك ً‬
‫بيتا ملثل هذا االرتباط‪.‬‬ ‫صاحب البيت أقوم‬

‫وفن الحياة يقتضينا أن ننظر إلى الحياة نظرة فنية‪ ،‬فنختار‬


‫األثاث في دراية وعناية مع االستقالل‪ ،‬حتى ولو خالفنا العرف في‬
‫هذا االختيار؛ ألن العرف بطبيعته طراز تعميمي‪ ،‬ولكن الشخصية‬

‫‪102‬‬
‫َّ‬
‫املستقلة تطلب التخصيص واالنفراد‪ .‬والبيت يتسع لالتجاه الفني‬
‫ً‬
‫متحفا‪ ،‬وكثير من البيوت التي امتاز أصحابها‬ ‫حتى يعود بالتأنق‬
‫بالثراء قد صارت متاحف‪ ،‬ولكنها — مع األسف — متاحف قد‬
‫أسيئ فيها االختيار؛ حيث أخذت األبهة املطهمة مكان الفن األنيق‪.‬‬

‫ولكن مع ذلك يجب أن نعترف أن الثراء في أيامنا يستطيع أن‬


‫يجذب إلى البيت أفخر األثاث الذي يضع تصميمه‪ ،‬ويرسم‬
‫مواصفاته فنانون فقراء؛ ولذلك يشق على غير املتيسرين أن‬
‫ً‬ ‫يجعلوا الفن ً‬
‫سائدا في بيوتهم‪ ،‬فضال عن إحالتها إلى متاحف‪.‬‬

‫عجبة تزدان بها املوائد عند األغنياء‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬


‫فهناك آنية فنية م ِّ‬
‫ُ‬
‫وق ْل مثل هذا في سائر األثاث‪ ،‬أو باألحرى‬ ‫يستطيع غيرهم شراءها‪،‬‬
‫معظمه‪ ،‬ونقول في «معظمه» ألن ً‬
‫كثيرا من األثاث الغالي في الثمن‬
‫ال نجد فيه غير األبهة السخيفة مع القبح العظيم؛ ألن الذين‬
‫صنعوه قصدوا إلى كثرة التكاليف التي تبرز وفرة املال عند املقتنين‬
‫لهذا األثاث دون االلتفات إلى التأنق الفني‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ً‬
‫سريرا رأيناه من النيكل‪ ،‬له قبة كأنه أريكة جنكيز‬ ‫نذكر من هذا‬
‫خان أو عرش تيمورلنك‪ ،‬وكل ما فيه من ميزة أنه يباع ببضع مئات‬
‫من الجنيهات‪.‬‬
‫وكم قد رأينا من مقاعد َّ‬
‫مذهبة‪ ،‬وكنبيهات َّ‬
‫منجدة‪ ،‬ومناضد ومرايا‬
‫متعددة‪ ،‬حتى ليدخل أحدنا منظرة الضيوف فيحس كأنه في قاعة‬
‫أثاث قد ُعرضت أشياؤها للمزاد‪.‬‬

‫والفن أيسر من هذا‪ ،‬ولكنه مع ذلك ال يتوافر لغير املتوسطين‬


‫ًّ‬
‫املدبرين الذين يختارون عن دراية وفهم‪ ،‬وليس هذا شاقا إذا‬
‫ممتدا على سني العمر؛ أي ال نشتري‬‫همنا في جمع األثاث ًّ‬ ‫جعلنا َّ‬
‫أثاث البيت دفعة واحدة كما هو املألوف في بالدنا بتجهيز العروس‬
‫بأثاث بيتها؛ ألننا حين نفعل هذا نجمع األثاث في عجلة ً‬
‫وفقا لطراز‬
‫العصر أو السنة‪ ،‬وقد يكون طر ً ا ً‬
‫سيئا أملته نزوة وقتية زائلة‪،‬‬ ‫از‬
‫وإنما يحسن أن نختار األثاث قطعة بعد أخرى مع التغيير الذي‬
‫يقتضيه ارتقاؤنا الفني على مدى السنين‪.‬‬

‫ويجب أن نقتني أجود األثاث‪ ،‬فال نتسامح في الجودة والقيمة‬


‫الفنية‪ ،‬وهذا ميسور ما دمنا ال نزحم نفسنا‪ ،‬ونرهق جيبنا في شراء‬

‫‪104‬‬
‫مجموعة كبيرة دفعة واحدة‪ ،‬وبذلك نجمع تحف اآلنية والرسوم‬
‫ً‬ ‫والكتب وسائر األثاث‪ ،‬ويعود البيت ً‬
‫متحفا جميال يحوي أفخر ما‬
‫أخرجته حضارة فرنسا والصين وأملانيا ومصر وغيرهن‪.‬‬

‫وإذا كان رب البيت أو ربته على ش يء من ثقافة معينة استطاعت‬


‫وكثيرا ما يدخل أحدنا ً‬
‫بيتا ألحد‬ ‫ً‬
‫متحفا لثقافتها‪ً .‬‬ ‫أن تجعل البيت‬
‫املثقفين فيجد فيه الطرف العجيبة التي اكتشفها من أحجار أو‬
‫محار أو معادن أو أحياء أو غير ذلك‪ .‬وهذا بالطبع ال يتفق لكل‬
‫منا‪.‬‬

‫ولكن الش يء املهم الذي نقصد إليه أن يجد البيت منا عناية فنية‬
‫ُ‬
‫في تأثيثه‪ ،‬وأن ننظر إليه كأنه متحف عائلي يجمع ط َرف الجدود‬
‫واألحفاد‪ ،‬فيتخذ بذلك سمة من سمات الخلود‪ ،‬فال يكون مادة‬
‫بل فكرة‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫البيت للضيافة‬

‫للبيت خصوصية عائلية يحس بها أعضاؤه فيما يشبه املؤامرة؛‬


‫ً‬
‫وذلك أن لهم أسر ًارا وأهدافا وأساليب يتفقون عليها في مجتمعهم‬
‫الصغير وال يفشونها لغيرهم‪ .‬وهذه الخصوصية تربطهم وتزيد‬
‫إحساسهم العائلي‪.‬‬

‫ولكن البيت يجب أال يستأثر بعالقاتنا االجتماعية‪ ،‬ومهما نمتدح‬


‫ارتباط األبناء باآلباء‪ ،‬والزوج بزوجته‪ ،‬ومهما يكن الجو العائلي من‬
‫حيث التعلق الحميم بين أعضاء البيت؛ فإن البيوت تحتاج إلى‬
‫تهوية اجتماعية بالضيافة والزيارة‪ ،‬واملبالغة في االرتباط العائلي‬
‫هي شطط الفضيلة؛ فضيلة التعلق العائلي‪.‬‬

‫ولكل فرد منا حياة سرية أو كالسرية؛ كأنها العقل الكامن في‬
‫النفس يوجهنا من حيث ال ندري‪ ،‬ولكل منا ً‬
‫أيضا حياة اجتماعية‬
‫علنية كأنها الوجدان الذي ينتقد ويحاسب ويراجع‪.‬‬

‫والحياة السوية هي تلك التي تصالح بين الكامنة والوجدان وتوفق‬


‫بينهما؛ ففي البيت نحن نختمر ونتهيأ‪ ،‬وفي املجتمع نحن نتكشف‬

‫‪106‬‬
‫ُ‬
‫ونباشر‪ ،‬ويجب لذلك أن نعنى بالضيافة والزيارة؛ ألنهما وسيلة‬
‫االتصال بين البيت واملجتمع‪.‬‬
‫أجل العناية؛ حتى نجعله ً‬
‫متحفا يحوي تراث‬ ‫يجب أن ُنعنى بالبيت َّ‬
‫َّ‬
‫الجدود‪ ،‬وطرف الحضارة‪ ،‬وألوان الرفاهية‪ ،‬ولكن يجب أن نتوقى‬
‫حبسة الجدران؛ ألنها تحبس النفس عن التوسع والنمو والترقي‪.‬‬

‫ولذلك نصحنا بضرورة الخروج من وقت آلخر إلى املطاعم العامة‬


‫أيضا بضرورة التخفيف من‬ ‫أو املتنزهات الخلوية‪ ،‬ولذلك نصحنا ً‬
‫أعباء البيت حتى ال يستحيل إلى ورشة ال ينقطع العمل فيها للطبخ‬
‫والغسل‪.‬‬

‫والضيافة من الفنون الراقية التي يجب أن نفصلها من فضيلة‬


‫الكرم؛ ذلك ألننا نقرن الكرم إلى املوائد املطهمة وألوان الطعام‬
‫السخية‪.‬‬

‫والضيافة العصرية بعيدة كل البعد عن هذا الشره املادي‪ ،‬وقد‬


‫أنارتنا السيدة نظلة الحكيم في محاضرات مختلفة عن الضيافة‬
‫العصرية التي يجب أن يكون هدفها ترقية العائالت بالتعارف‬
‫والتنوير‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫وفي مدينة مثل القاهرة؛ حيث تتعدد املطاعم وتختلف على‬
‫موائدها األلوان ال يكون من مفاخر ربة البيت أن تعد لضيوفها‬
‫مائدة يتوسطها الدندي‪ ،‬وتحتشد عليها اللحوم والحلويات‪،‬‬
‫ويستطيع وجيه في الريف أن يزودنا بهذه املائدة املادية‪ ،‬ولكنه‬
‫يعجز عن إمتاعنا بالضيافة املهذبة املنيرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وخير من العناية بالطعام أن نعنى باألثاث في إيجاد مقاعد مريحة‬
‫للضيوف ال تكون للزينة ولكن للراحة‪.‬‬

‫ولذلك يجب أن نستبعد من أذهاننا فكرة الكرم الشرقي حين‬


‫نفكر في الضيافة الراقية‪ .‬وصحيح أنه ال بد للضيافة من ش يء أو‬
‫أشياء من الطعام والشراب‪ ،‬ولكن يكون ذلك في حدود التعقل‬
‫ُ‬
‫واالعتدال؛ ألننا حين نستضيف أو نستضاف ُن ْؤ ِّثر غذاء النفوس‬
‫على غذاء البطون‪ ،‬ونهوى االستماع إلى حديث يعلمنا وينيرنا‪ ،‬كما‬
‫نحب لقاء الشخصيات الفذة التي ال يتيسر لنا لقاؤها إال في مثل‬
‫هذه الفرص‪.‬‬
‫ًّ‬
‫خاصا من‬ ‫ولذلك يجب أن ندرس فن الضيافة باعتباره ً‬
‫جزءا‬
‫الحياة العامة؛ فنعين للعائلة ً‬
‫يوما كل أسبوع للضيافة‪ ،‬ونجعل‬ ‫ِّ‬

‫‪108‬‬
‫الشاي أو املثلجات مع القليل من األطعمة الخفيفة‪،‬‬
‫كالسندويتش كل ما نقدمه للضيوف‪ .‬وتقديم الشاي خير من‬
‫إعداد العشاء؛ ذلك ألنه يتيح سهرة طويلة تبدأ من الساعة‬
‫الخامسة وقد تنتهي في الساعة التاسعة أو العاشرة‪ ،‬ثم هو ال‬
‫يبهظنا بتكاليفه فيثبطنا عن املواظبة‪.‬‬
‫ويجب أن يكون للضيافة الحسنة بؤرة تجمع الضيوف‪ .‬وقد يكون‬
‫ً‬
‫ممتازا له مكانة‬ ‫رب البيت أو ربة هذه البؤرة إذا كان أحدهما‬
‫اجتماعية أو أدبية‪ ،‬أو اختبارات نشتاق إلى الوقوف عليها؛ كأن‬
‫ً‬
‫عضوا في جمعية لها نشاط معين‪ ،‬ولكن إذا لم يكن‬ ‫يكون أحدهما‬
‫متيسرا؛ فإن من الحسن أن ُتدعى شخصية ممتازة‪ ،‬أو ترتب‬
‫ً‬ ‫هذا‬
‫محاضرة في موضوع يهتم له الضيوف‪ ،‬ثم يتناقش الضيوف‪.‬‬
‫ولسنا نقصد إلى أن نقول‪ :‬إنه يجب إيجاد ُمحاضر فذ في كل‬
‫ُْ‬
‫ضيافة؛ فإن هذه الحال املثلى ال تتوافر على الدوام‪ ،‬ولكن ربة‬
‫البيت التي تتجه هذه الوجهة تستطيع في غياب املحاضر أن تجعل‬
‫الحديث يدور حول موضوع سياس ي أو اجتماعي يشغل الضيوف‬
‫وينبههم‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫والضيافة — كما قلنا — تهوية اجتماعية للبيت‪ ،‬وهي تحرك‬
‫أعضاء العائلة والضيوف إلى ما يشبه املباراة الفنية في الزي واللغة‬
‫والشخصية‪ ،‬كما أنها؛ أي الضيافة‪ ،‬تربي أبناء البيت الناشئين‬
‫على املؤانسة االجتماعية‪ ،‬فال ينمو الصبي ثم الشاب في حياة‬
‫خاما‪ ،‬مربوك الحركة‪ ،‬ثقيل اللسان‪،‬‬ ‫انفرادية معزولة‪ .‬وقد ينشأ ً‬
‫ال يعرف كيف يتحدث إلى آنسة‪ ،‬أو كيف يشترك في سمر مهذب‬
‫منير‪.‬‬

‫وهناك كتب كثيرة في اللغات األجنبية تصف فن الضيافة؛ سواء‬


‫من ناحيته املادية بتهيئة الطعام والشراب الخفيفين‪ ،‬أو ناحيته‬
‫االجتماعية بإيجاد ألوان من السمر املسلي‪.‬‬

‫وفن الضيافة يقتض ي العناية باختيار األصدقاء‪ ،‬واملحافظة على‬


‫صداقتهم؛ فإن االهتداء إلى صديق‪ ،‬واالستمتاع بصداقته طوال‬
‫العمر أو معظمه هما حظ عظيم ومتعة سامية ملن يوفق إليهما‪.‬‬
‫والصداقة ال تنهض وال تعيش إال على أسس من العالقات‬
‫الروحية التي أثمرها اشتراك في الثقافة أو األهداف واملثليات‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫البيت معهد حر‬

‫البيت في األقطار املتمدنة في أوروبا وأمريكا معهد حر ال تسوده‬


‫سلطة األب األتوقراطية‪ ،‬ينشأ فيه األوالد في مجتمع ر ٍاق يختلطون‬
‫ً‬
‫وتدريبا على املعاملة‬ ‫بالضيوف‪ ،‬ويجدون في هذا االختالط ً‬
‫تنويرا‬
‫واإليناس والحديث والكلمة العذبة‪ ،‬والعبارة املهذبة‪ ،‬كما تجد‬
‫ً‬
‫الزوجة فيه مجاال لترقية شخصيتها بما تتحمل من تبعات نحو‬
‫زوجها وأوالدها‪.‬‬
‫وكلمتا البيت والعائلة تندمجان في َ‬
‫معن ْيهما‪ ،‬والبيت األمثل هو‬
‫الذي تسود املساواة فيه أعضاء العائلة؛ ليس بين الزوج وزوجته‬
‫فقط‪ ،‬بل بينهما وبين األوالد‪.‬‬

‫وإذا كان هؤالء في سن صغيرة يحتاجون إلى اإلرشاد؛ فإنه يجب أن‬
‫خاليا من االستبداد والتسلط؛ ألننا يجب أن ننشد مبادئ‬ ‫يكون ً‬
‫الثورة الكبرى؛ أي الثورة الفرنسية‪ ،‬في البيت قبل أن ننشدها في‬
‫نعمم مبادئ الحرية واإلخاء واملساواة بين‬‫املجتمع؛ أي يجب أن ِّ‬
‫أعضاء البيت قبل أن نعممها في املجتمع‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ويجب أن يتمرن أعضاء العائلة على ممارسة النظام الديمقراطي‬
‫في البيت قبل أن يمارسوه في املجتمع‪.‬‬

‫يكون الشخصية في الرجال والنساء هو الحرية؛ أي‬‫وأعظم ما ِّ‬


‫الحرية التي ُتلقي على عواتقهم تبعات وواجبات يتحملونها‪ ،‬فيؤدي‬
‫تحملها إلى نموهم‪ .‬وإذا انعدمت الحرية من البيت استحال إلى‬ ‫ُّ‬
‫سجن‪ ،‬وبعيد بل محال أن تتكون الشخصية في السجن؛ حيث ال‬
‫مجال للحرية؛ أي لالختيار والتفكير وإحساس التبعة والواجب‪.‬‬
‫هذا اإلحساس الذي ينشط الذهن والجسم‪ ،‬ويحمل على التفكير‬
‫والعمل‪.‬‬

‫وفن الحياة هو في النهاية فن تكوين الشخصية؛ إذ ليس ش يء‬


‫أجمل في هذا الكون من الشخصية اليانعة التي عاش صاحبها في‬
‫حرية الفكر والعمل‪ ،‬وفي تحمل التبعات والواجبات‪ ،‬حتى َّ‬
‫تدرب‬
‫تعين اتجاهاته وغاياته‪ ،‬فهو يسير في‬ ‫و َّ‬
‫تمهر وصارت له فلسفة ِّ‬
‫الدنيا وهو على نور ً‬
‫وهدى‪.‬‬

‫ونحن في مصر‪ ،‬للعبء الباهظ الذي نحمله من تقاليدنا املاضية‪،‬‬


‫نتوجس من الحرية‪ ،‬ونخش ى االختالط‪ ،‬ونضع القيود والحدود هنا‬

‫‪112‬‬
‫وهناك أمام األطفال والفتيات والسيدات‪ ،‬فال تجد شخصياتنا‬
‫ا لتربية التي تؤدي إلى إنضاجها وإيناعها‪ ،‬فينشأ الشاب وهو في‬
‫خوف من الدنيا ال يقتحم في تفكيره أو عمله‪ ،‬وتنشأ الفتاة وهي‬
‫محجمة متراجعة‪ ،‬تلتزم الصمت والسكون واالستحياء والتراجع‬
‫كأنما هذه خطة حياتها؛ فال تحيى الحياة املليئة‪ ،‬وال تزدان برشاقة‬
‫اإليماءة ولباقة الكلمة؛ ولذلك تخسر ً‬
‫كثيرا من جمالها الروحي‪.‬‬
‫هذا الجمال الذي ال يعوض منه جمال الجسم الذي يبدو ر ً‬
‫اكدا‬ ‫ِّ‬
‫جامدا‪ ،‬وهو كذلك باملقارنة إلى الفتاة األوروبية التي تتذبذب‬ ‫ً‬
‫طربا في شخصية مغناطيسية تواجه الدنيا في شجاعة‬ ‫حيويتها ً‬
‫وانطالق واستطالع‪ ،‬في حين تواجه فتاتنا املصرية دنياها في تقلص‬
‫وخوف من االستطالع؛ وذلك ألن األولى عاشت في حرية‪ ،‬في حين‬
‫عاشت الثانية في قيود التقاليد‪.‬‬

‫ولذلك يقتضينا فن الحياة أن نجعل الحرية تستفيض في البيت‪،‬‬


‫وإذا قض ى الحظ أن يتزوج الشاب فتاة دونه في الثقافة؛ فيجب‬
‫أن يدأب في رفعها إلى مستواه‪ ،‬وأن يجعل من وسطه االجتماعي ما‬
‫يحملها على االرتقاء؛ نعني بذلك أن نختار من الضيوف والزائرين‬
‫الذين نتبادل وإياهم الزيارة أولئك األحرار املتعلمين الذين‬

‫‪113‬‬
‫يحضونها على أن تثقف عقلها‪ ،‬وأن تتجه االتجاهات التي تزيد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وجماال‪ ،‬كما تزيد حياتها ً‬ ‫البيت ًّ‬
‫وإيناعا‪.‬‬ ‫نضجا‬ ‫فنا‬

‫يوجه زوجته هذا‬


‫وقد يتعب الشاب في سنيه األولى من الزواج وهو ِّ‬
‫التوجيه‪ ،‬ولكنه يجد املكافأة بعد ذلك على هذا التعب في سنوات‬
‫عديدة من الهناء الذي تثمره مزاملة قائمة على املساواة الحقة في‬
‫امليزات والتأنقات الذهنية‪.‬‬

‫أما إذا أهمل تثقيفها؛ فإنه سرعان ما يجد االنفصال الروحي‬


‫قائما بينه وبينها؛ بحيث يعيشان وكأنهما جاران يشتركان في ً‬
‫مأوى‪.‬‬ ‫ً‬

‫وكما نخش ى نحن حرية املرأة كذلك نخش ى حرية الصبيان‪،‬‬


‫فنحرمهم مما ال نحرم منه حتى الحيوانات التي يتمتع أطفالها‬
‫بالطفولة والصبا‪ ،‬فنرهقهم بالدرس في الوقت الذي تصرخ فيه‬
‫طبيعتهم بالرغبة في اللعب واملرح‪ ،‬بل ً‬
‫أحيانا‪ ،‬وحين يزورنا ضيوف‪،‬‬
‫نحاول أن نمنعهم من االختالط بهم‪ ،‬وبذلك نحرمهم من التربية‬
‫االجتماعية الحسنة التي يستعيضون منها تربية اجتماعية فاسدة‬
‫باختالطهم بزمالء لهم قد نشئوا في بيئة غير حسنة‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫وشبابنا في مصر يجهلون أشياء كثيرة عن البيوت األوروبية‬
‫واإلفرنكية‪ ،‬وهم يقرءون القصص أو يرون املسرحيات‬
‫َ‬
‫السينمائية التي تعرض شذوذات الحياة أكثر مما تعرض‬
‫قواعدها‪ ،‬فيتوهمون السوء والزيف في حياة املتمدنين‪ ،‬وينشئون‬
‫على استمساك بالحياة الشرقية التقليدية‪ ،‬ويتعصبون لها؛‬
‫فينكرون الحرية على املرأة واألوالد‪ ،‬ويمارسون معهم حياة‬
‫االنكفاف واإلحجام‪ ،‬تلك الحياة التي تجعلهم يعيشون في نسك‬
‫أو ما يقاربه‪ ،‬ويكرهون متع الحياة العائلية ويتوقونها‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬إن شبابنا يجهلون أن الخادمة األوروبية تقتني مكتبة في‬


‫غرفتها ال تقل مجلداتها عن مائتي أو ثالثمائة مجلد‪ ،‬وهي ُّ‬
‫تصر على‬
‫أن تكون لها ساعات فراغ للقراءة والدرس‪ ،‬ويجهلون أن الضيافة‬
‫ال تنقطع في البيت األوروبي الراقي‪ ،‬وأن األوالد يدعون أصدقاءهم‬
‫إلى والئم في البيت‪ ،‬فيجدون التشجيع من آبائهم عن هذا النشاط‬
‫الذي يكسبهم املرانة االجتماعية‪ ،‬والضيافة الراقية‪ ،‬وأن‬
‫االختالط بين الجنسين ال ينقطع منذ الطفولة إلى الشيخوخة‪.‬‬
‫وهذا االختالط يدرب الفتى والفتاة على الرشاقة‪ ،‬ويوجه الغرائز‬
‫الجنسية وجهتها السوية‪ ،‬ويمنع الشذوذات البشعة التي تفشو في‬

‫‪115‬‬
‫املجتمعات االنفصالية في األمم الشرقية؛ فالحياة هناك أمأل‬
‫وأمتع‪ ،‬والشخصية أتم وأينع‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫يجب أن نعيش في حاضرنا‬

‫نحن ال نعيش حياة واحدة؛ ألن لنا حيوات مختلفة‪ :‬حياة‬


‫الطفولة‪ ،‬ثم الصبا‪ ،‬ثم الشباب‪ ،‬ثم الكهولة‪ ،‬ثم الشيخوخة‪،‬‬
‫ولكل من هذه الحيوات أفراحها وأتراحها واختباراتها‪ ،‬وليس من‬ ‫ٍ‬
‫حق أحد؛ كالوالدين أو املربين‪ ،‬أن يحرمنا من إحدى هذه‬
‫الحيوات‪ .‬وإذا فاتتنا حياة الصبا بال تمتع‪ ،‬وإذا عوملنا في أثنائها‬
‫شبانا‪ ،‬فإننا — عندئذ — نكون بمثابة من لم يحيا‬ ‫كما لو كنا ً‬
‫حياة معينة كان من حقه أن يحياها؛ إذ هي لن تعود‪.‬‬
‫ولكن هذا هو ما نرى في عصرنا؛ فإن ً‬
‫كثيرا من اآلباء يحرمون‬
‫ً‬
‫إعدادا‬ ‫أبناءهم من صباهم‪ ،‬ويكلفونهم واجبات الشباب‬
‫ضحى به من‬‫للمستقبل؛ كأن الحاضر ال قيمة له‪ ،‬وكأنه يجب أن ُي َّ‬
‫أجل املستقبل‪ ،‬كما يضحى بالصبا من أجل الشباب‪ً .‬‬
‫وكثيرا ما نرى‬
‫ً‬
‫صبيانا بين الثامنة والخامسة عشرة يقضون فراغهم بعد املدرسة‬
‫في الدراسة؛ إما بضغط آبائهم‪ ،‬وإما بترتيبات جهنمية حين يحضر‬
‫املعلمون إليهم في البيت ويقهرونهم على الدرس‪ ،‬مع أن هذه الفترة‬

‫‪117‬‬
‫من العمر تنادي باللعب واملرح‪ ،‬وبالتجارب التي يخترعها الصبي‬
‫لفهم الدنيا‪ ،‬وليس من حقنا أن نحرمه منها‪.‬‬

‫وهنا نعود إلى القيمة البشرية والقيمة االجتماعية؛ فإن األولى‬


‫تطالبنا بمعاملة الصبي باعتبار أنه صبي فقط يعيش ويستمتع‬
‫بحاضره؛ ألن هذا هو حقه الطبيعي‪ ،‬ولكن القيم االجتماعية‬
‫تتغلب علينا فنفكر في مستقبله‪ ،‬وألننا نخش ى هذا املستقبل‬
‫للمباراة العامة التي نتوهم أنها تسوده‪ ،‬نبالغ في تفكيرنا إلى حد‬
‫القلق‪ ،‬فال نفكر في منطق وتعقل‪ ،‬ولكن في خوف وفزع‪ ،‬ونسرف‬
‫في تأكيد الدراسة وحرمان الصبي من صباه؛ أي حرمانه من إحدى‬
‫حيواته التي لن تعود إليه‪ ،‬ولو عقلنا ألحسسنا اإلجرام في هذا‬
‫العمل‪.‬‬

‫وليس من شك في أن نظام املباراة الذي نعيش فيه‪ ،‬والذي يسود‬


‫ً‬
‫جميعا في خوف دائم من املستقبل؛ ولذلك نكاد‬ ‫مجتمعنا‪ ،‬يجعلنا‬
‫نقض ي عمرنا كله في التهيؤ لهذا املستقبل‪ .‬وهذا الخوف يستحيل‬
‫أ ً‬
‫حيانا إلى قلق نيوروزي؛ أي إرهاق نفس ي نعجز عن تحمله‪ ،‬وهو‬
‫يبدو في خوف أو فزع؛ فإن البخيل الذي يحرم نفسه من املتع‬
‫الصغيرة وهو يجمع ً‬
‫قرشا على قرش‪ ،‬إنما يفعل ذلك ملركبات‬

‫‪118‬‬
‫نفسية هي في حقيقتها أمراض يحتاج إلى املعالجة منها‪ ،‬وهو حين‬
‫ُيسأل عن األسباب التي تحمله على هذا البخل يجيب بأنه يخش ى‬
‫املستقبل‪ ،‬ويتهيأ لليوم األسود بالقرش األبيض‪ ،‬مع أن من يتأمل‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫املدخر مهما‬ ‫خرج هذا القرش األبيض‬ ‫صميم نفسه يعرف أنه لن ي ِّ‬
‫اشتدت الحلوكة في هذا اليوم األسود املنتظر؛ ألن الواقع أن‬
‫البخل نشأ عنده من الخوف من املباراة العامة التي ال تجعل ً‬
‫أحدا‬
‫مطمئنا على مستقبله‪ ،‬فأسرف في التهيؤ لهذا املستقبل‪ ،‬واتجه‬‫ًّ‬
‫الوجهة النفسية التشاؤمية حتى صار البخل عادة‪ .‬وهذه العادة‬
‫تجعله يعيش على هامش الحياة التي قد تطول‪ ،‬ولكنها تطول‬
‫هزيلة بال عرض أو عمق‪ .‬والعادة لثبوتها تحرمه من الترفيه عن‬
‫نفسه مهما ساءت األحوال‪.‬‬

‫ونحن جميعا نحتقر البخل‪ ،‬ولكننا ننس ى أننا حين نحرم الصبي‬
‫من صباه إنما نتجه وجهة هذا البخيل في الخوف من املستقبل‪،‬‬
‫وننس ى أننا حين نرصد من وقتنا أحسن ساعاته القتناء العقارات‬
‫واإلثراء إنما نتجه هذه الوجهة ً‬
‫أيضا‪ ،‬وإن كنا ال نبلغ درجة البخيل‬
‫في الحرمان‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫وفن الحياة يقتضينا أن نعيش في حاضرنا؛ فنتمتع بمتع الطفولة‬
‫في طفولتنا‪ ،‬ومتع الصبا في صبانا‪ ،‬ومتع الشباب في شبابنا‪ ،‬وال‬
‫تهي ًؤا للمستقبل؛ ألننا لسنا واثقين من هذا‬ ‫نؤجل ً‬
‫شيئا من ذلك ُّ‬
‫ِّ‬
‫املستقبل ثقتنا بالحاضر‪ ،‬فإذا حرمنا الشاب من متع شبابه‬
‫بدعوى أنه يستعد للمستقبل؛ فإننا ال نثق بأنه سيعيش إلى هذا‬
‫املستقبل املنتظر‪.‬‬

‫ولسنا مع ذلك ننكر هذا املستقبل ونتعامى عنه‪ ،‬ولكنا نعتقد أن‬
‫من يعيش في حاضره إنما يعيش ً‬
‫أيضا ملستقبله‪ ،‬ونعني املعيشة‬
‫ً‬
‫السليمة؛ فإن هناك فرقا بين اثنين يخافان املستقبل؛ أحدهما‬
‫يبخل ويقتر ويبالغ في الحرمان‪ ،‬واآلخر يؤمن بأداء قسط سنوي‬
‫ً‬
‫إلحدى شركات التأمين — مثال‪.‬‬

‫أيضا فرق بين تلميذ يدرس في املدرسة ويلعب خارجها‪ ،‬أو‬‫وهناك ً‬


‫رهق بتكاليف مدرسية أخرى‬ ‫يستمتع بصباه أو شبابه‪ ،‬وبين آخر ُي َ‬
‫بعيدا عن والديه وإخوته‪ ،‬وسهر‬‫في بيته‪ ،‬تراه قد حبس نفسه ً‬
‫الليالي‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫والرجل السو ُّي الذي تتزن أعصابه يكتسب من حاضره بصيرة‬
‫ًّ‬
‫مطمئنا؛ فال يجنح إلى‬ ‫ملستقبله‪ ،‬ويستطيع لذلك أن ينظر إليه‬
‫التقتير‪ ،‬وال يهرول في جهده القتناء املال‪.‬‬

‫وإذا عشنا في حاضرنا‪ ،‬ومارسنا اهتماماته وهمومه‪ ،‬وتمتعنا‬


‫بمتعه‪ ،‬فإننا بهذا السلوك نفسه نجدنا قد استعددنا للمستقبل؛‬
‫ً‬ ‫فالرجل الذي َّ‬
‫تعود — مثال — القراءة واقتناء الكتب‪ ،‬ومداومة‬
‫القراءة للجريدة واملجلة‪ ،‬إنما يتمتع بكل هذه املمارسات‪ ،‬ولكنه‬
‫زيادة على ذلك يتهيأ بها لشيخوخة يقظة بعيدة عن السأم والتبلد‪.‬‬
‫عمال ً‬‫ً‬
‫كاسبا‪ ،‬وانتفع بالتأمينات املألوفة‬ ‫وكذلك الرجل الذي مارس‬
‫يسير نحو املستقبل في طمأنينة‪.‬‬

‫أما إذا كانت األيام حبلى بمفاجآت — كما رأينا في األزمات‬


‫االقتصادية املاضية — فإن بصيرة العاقل وفزع املجنون وتقتير‬
‫البخيل‪ ،‬كل هذا يستوي أمام تلك املفاجآت؛ أي جميعنا —‬
‫عندئذ — سواء‪ ،‬وعندئذ ينتقل االهتمام باملستقبل من يد الفرد‬
‫إلى يد الدولة‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ً‬
‫مهموما في اقتناء الثروة‪،‬‬ ‫يكد ً‬
‫متعبا‬ ‫شخصا ُّ‬
‫ً‬ ‫ومن املألوف أن نجد‬
‫وفي نفسه شوق إلى االستمتاع؛ فهو يحلم بالبيت الذي سوف‬
‫يبنيه‪ ،‬أو ببضعة الفدادين التي سوف يزرعها‪ ،‬ويجد فيها االتصال‬
‫بالطبيعة‪ ،‬أو هو يحلم بالسياحة في أوروبا‪ ،‬وقد يحلم ً‬
‫أيضا‬
‫باستمتاعات ثقافية مختلفة‪ ،‬ويضع في برنامجه شراء مكتبة‬
‫تحوي آالف املجلدات التي تنيره وتثقفه‪ ،‬ويفعل ذلك وهو في‬
‫الثالثين أو األربعين‪ ،‬ويرصد كل وقته للجمع واالقتناء واإلثراء‪.‬‬

‫ومثل هذا يجب أن نقول له‪ :‬أنت مخطئ؛ ألنك حين تصل إلى سن‬
‫الستين تكون العادات التي مارستها كل يوم من حياتك املاضية قد‬
‫رسخت فيك‪ ،‬فلن تستطيع تغييرها‪.‬‬

‫ثم وأنت في الستين سوف تكون لك أذواق تختلف عما لك اآلن‬


‫وأنت في الثالثين أو األربعين‪.‬‬

‫ولذلك يجب أن تعيش في حاضرك‪ ،‬وتبدأ اآلن في استمتاعاتك‬


‫وتحقيق أحالمك‪ ،‬وال تؤجل متعك إلى سنين قادمة ربما تموت أنت‬
‫قبل بلوغها‪ ،‬أو ربما تموت كفاءتك لالستمتاع بها؛ إذ إن لكل سن‬

‫‪122‬‬
‫متعها الخاصة‪ ،‬فمتع الشباب غير متع الكهولة‪ ،‬ومتع الكهولة غير‬
‫متع الشيخوخة‪ ،‬ومتع الصبا غير متع الشباب‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫النمو والتطور‬

‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫جامدا ًّ‬ ‫ً‬
‫ارتقائيا‪ ،‬نجد أن‬ ‫متطورا‬ ‫رجعيا‪ ،‬وآخر‬ ‫عندما نتأمل رجال‬
‫خاصا؛ فاألول في صميمه متشائم‬ ‫اجا ًّ‬ ‫ً‬
‫اتجاها قد عين مز ً‬ ‫لكل منهما‬
‫خيرا من أي تغيير‪ ،‬وهو‬ ‫يخش ى الدنيا‪ ،‬ويتوقع الكوارث‪ ،‬وال ينتظر ً‬
‫لذلك متبلد ُيؤ ِّثر السكون على الحركة‪ ،‬في حين أن الثاني‪ ،‬ذلك‬
‫املتطور الذي ال يبالي التغيير‪ ،‬متفائل بالدنيا‪ ،‬يؤمن باالرتقاء كأنه‬
‫ديانته السياسية‪ ،‬وهو يدعو إلى نهضة ما في السياسة أو‬
‫االقتصاد‪ ،‬أو إلى تغيير في األدب أو االجتماع؛ ولذلك نستطيع‪ ،‬في‬
‫معنى ما‪ ،‬أن نعد الجمود والرجعية مرضين ينشآن من الخوف‪.‬‬ ‫ً‬

‫وقد يكون املرجع واألساس لهذا الخوف‪ ،‬أن الرجعي قد أسيئت‬


‫وضرب‪ ،‬أو عومل بالكراهة والقسوة‬ ‫معاملته أيام طفولته‪ ،‬فأهين ُ‬
‫حتى صار بعد ذلك يجد أن السالمة والطمأنينة ال تكونان إال في‬
‫استبقاء حالته؛ إذ هو على الدوام يتوقع أسوأ منها‪ ،‬وفي تجنب أي‬
‫تغيير؛ إذ هو يوجس ًّ‬
‫شرا مما هو فيه‪.‬‬

‫والجامد الرجعي ال يحيا الحياة الطبيعية؛ ألن النمو والتطور من‬


‫سنن الطبيعة التي تشهد بهما ألف مليون سنة من تاريخ األحياء‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫ومعنى هذا أنهما أصيالن في أعماق سريرتنا‪ ،‬وأننا لن نعيش‬
‫املعيشة السوية‪ ،‬ولن نقارب السعادة‪ ،‬أو على األقل السعادة‬
‫السلبية‪ ،‬إال إذا كنا في نمو وتطور ال ينقطعان طوال حياتنا‪.‬‬
‫ً‬
‫أحيانا‪ ،‬حين نتأمل أحالم اليقظة التي نستسلم إليها في لذة‪،‬‬ ‫بل‬
‫نجد أننا نطلب التطور كما لو كان شهوة في نفوسنا؛ أي إننا نحس‬
‫أننا غير راضين عن حالتنا؛ إذ ندأب في التفكير في تغييرها‪ .‬وليس‬
‫اإليمان باملستقبل‪ ،‬بل بالشجاعة واإلقدام‪ ،‬سوى إيمان بالنمو‬
‫والتطور واالرتقاء‪ ،‬وكذلك ليست املحافظة والجمود والرجعية‬
‫سوى الجبن والخوف‪ ،‬وكالهما يحملنا على الركود والتقلص‪.‬‬

‫واألمم «الشرقية» لفرط ما عانت من مظالم ملوكها وأمرائها‬


‫وحاكميها يغلب عليها الجمود؛ إذ هي على الدوام متشائمة‬
‫باملستقبل تخشاه وتتراجع عنه كأنها تريد أن تعيش في املاض ي‪ .‬أما‬
‫األمم األوربية فتكاد ترقص للمستقبل‪ ،‬وهي ترض ى بالتغيير‬
‫ً‬
‫مذهبا‪.‬‬ ‫والتطور‪ ،‬وقد جعلت االرتقاء‬
‫ً‬
‫وليس من السداد هنا أن ننصح للقارئ أن يكون متفائال‪ ،‬وأن‬
‫يتجنب التشاؤم؛ ألن هاتين الحالتين قد َّ‬
‫تكونتا في األغلب منذ‬

‫‪125‬‬
‫ً‬
‫الطفولة‪ ،‬أو ألن كوارث الحياة قد تراكمت فمألت القلب شكوكا‬
‫نبين أننا لن‬
‫وشبهات بشأن املستقبل‪ ،‬ولكن من السداد أن ِّ‬
‫نستطيع أن نتطور؛ أي نعيش وفق سنن الطبيعة‪ ،‬ما لم نكن‬
‫متفائلين‪ .‬وعلى كل قارئ — عندئذ — أن يحلل تشاؤمه وخوفه‪،‬‬
‫وأن يعرف مرجعهما‪ ،‬وهو إذا هبط على هذا املرجع عاد إلى‬
‫التفاؤل والشجاعة‪.‬‬

‫وأوضح املظاهر لالرتقاء والتطور والنمو هو الثقافة‪ .‬وصحيح أن‬


‫هناك من يتجه ارتقاؤهم وجهة مالية أو اجتماعية أو سياسية‪،‬‬
‫فيبرزون في هذه الجهات‪ ،‬ويجنون منها ثمرات السرور‪ ،‬ولكنها‬ ‫ُ‬
‫باملقارنة إلى الثقافة تعد ثمرات زائلة متقلبة ليست لقيمتها ثبات‬
‫نفسيا ًّ‬
‫ذاتيا‬ ‫ًّ‬ ‫القيم الثقافية؛ ذلك أننا عندما نرقى بالثقافة ارتقاء‬
‫ال يستطيع أحد أو ظرف أن ينتزعه منا‪ ،‬والنفس تتطور بالتغير‬
‫الثقافي‪ ،‬فتتجدد وكأنها تستعيد الصبا أو الشباب‪ ،‬وتهبط على‬
‫عوالم جديدة لم يكن لها بها معرفة من قبل‪.‬‬

‫والذي نحب أن نثبته ونؤكده أنه ما دمنا في تطور ثقافي فإننا‬


‫نتجنب السأم والجمود والتبلد‪ ،‬فتمتلئ الدنيا حولنا مباهج‪ ،‬فال‬
‫َي ُ‬
‫كربنا اليأس‪ ،‬بل نتحمل حتى الكوارث املرهقة‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫وإذا اعتدنا الثقافة فإن األغلب أننا نخرج منها بمذهب كفاحي‬
‫للخير البشري‪ ،‬وهذا املذهب يغذونا وينير بصيرتنا عن مغزى‬
‫وفر لنا اهتمامات ال تنقطع‪ ،‬وما دمنا في هذه‬ ‫ُ‬
‫الحياة‪ ،‬كما أنه ي ِّ‬
‫االهتمامات‪ ،‬فإننا لن نحس هذا السأم القاتل الذي يغمر حياة‬
‫املنغمسين في امللذات حين يأجمونها متبرمين منها عازفين عنها‪.‬‬

‫وفن الحياة هو‪ ،‬في معنى ما‪ ،‬فن العيش في سرور‪ ،‬إن لم يكن في‬
‫سعادة؛ ولذلك يجب أن نوفر ألنفسنا إحساسات السعادة بإيجاد‬
‫وسائل الرفاهية الذهنية واملادية‪.‬‬
‫ً‬
‫عميقا بلذة التطور؛‬ ‫ً‬
‫إحساسا‬ ‫وعندما نعمد إلى دراسة نحس‬
‫ولذلك نحتاج‪ ،‬كي نوفرها‪ ،‬إلى برامج ثقافية متواصلة تحملنا على‬
‫مراحل الحياة‪ ،‬وتكفل لنا شباب الذهن َوت ُّ‬
‫جدده‪.‬‬

‫وكلما تقدمنا في السن‪ ،‬وخاصة عندما نتجاوز الستين‪ ،‬يتوانى‬


‫نشاطنا‪ ،‬وقد نتبلد أو نجمد‪ ،‬ولكن إذا كنا قد تعودنا الدراسة‪،‬‬
‫منهجا للحياة‪ ،‬فإننا ندخل في دور الكهولة‬ ‫ً‬ ‫وجعلنا منها‬
‫والشيخوخة‪ ،‬ونحن مستبقين لشبابنا‪ ،‬مبتهجين بالدنيا‪ ،‬قد‬
‫احتفظنا بكلمات اللغة؛ أي باألفكار‪ .‬وقد كررنا هذا الكالم‪ ،‬ولكن‬

‫‪127‬‬
‫مهما نكرره فإننا في حاجة إلى تأكيده؛ إذ ليس هناك ضمان‬
‫للشيخوخة السعيدة إال مع الثقافة الدائمة التي تستبقي الذاكرة‬
‫في حيويتها القديمة‪.‬‬
‫ً َ‬
‫كثيرا ما نأجمه‪ ،‬فإننا عندما نندفع في‬ ‫وهناك ألوان من االرتقاء‬
‫اقتناء املال‪ ،‬أو عندما نبذل جهودنا كي نحصل على مركز اجتماعي‬
‫كنا نطمح إليه‪ ،‬نجد أن الهدف الذي وصلنا إليه دون ما َّأملنا‬
‫وتمنينا؛ من حيث قيمته في جلب السرور إلى نفوسنا‪ ،‬إال الثقافة؛‬
‫فإنها تملؤنا غبطة ولذة أكبر مما كنا نحلم به‪.‬‬

‫ولعل مرجع هذا أن آفاق الثقافة واسعة متشعبة ليست لها نهاية‪،‬‬
‫في حين أن للمركز االجتماعي أو املالي نهاية؛ ولذلك لن نعرف‬
‫السأم إذا جعلنا غايتنا من النشاط والنمو ثقافية‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫االتصال بالطبيعة‬

‫ال يسهل على أي إنسان أن يتجرد من القيم االجتماعية‪ ،‬أو حتى‬


‫شاق يضنيه‪ُ ،‬وي ِّقيم من‬
‫يتسامح في الكثير منها إال بمجهود ٍ‬
‫خصما له‪ ،‬ولكن يجب أن‬‫ً‬ ‫املجتمع‪ ،‬الذي يرتض ي هذه القيم‪،‬‬
‫نتنبه من وقت إلى آخر إلى هذه القيم االجتماعية حتى ال ننساق‬
‫فيها ذاهلين‪ ،‬وحتى ال ننس ى أننا بشر قبل أن نكون مصريين أو‬
‫فرنسيين أو ً‬
‫عربا‪ ،‬واتصالنا بالطبيعة جدير بأن يحدث لنا هذا‬
‫الوجدان‪.‬‬

‫ذلك أن حياة الحضارة تغمرنا وتسومنا أوزانها وقيمها؛ فالنجاح‬


‫فيها يقاس بالقدرة على اقتناء املال‪ ،‬والجمال فيها أثاث فاخر أو‬
‫مطهم أو رسم على جدران‪ ،‬أو نحو ذلك‬ ‫جواهر غالية أو أتومبيل َّ‬
‫مما ننساق فيه فنتوهم أننا سادة نختار ونقرر‪ ،‬مع أن الواقع أننا‬
‫— في األكثر — عبيد العرف االجتماعي الذي يأبى علينا‬
‫االستقالل‪.‬‬

‫ومن وقت آلخر نرى أو نقرأ عن أولئك البشريين الثائرين على هذا‬
‫العرف االجتماعي؛ مثل تولستون الذي هجر املدن وعاش في‬

‫‪129‬‬
‫عزبته يصنع حذاءه بيديه‪ ،‬أو غاندي الذي نزع عن جسمه مالبس‬
‫الحضارة‪ ،‬وقنع بشملة يبسطها على عاتقيه أو يأتزر بها‪ .‬وهذا إلى‬
‫قنوعه من الطعام باللبن والفواكه‪ ،‬أو ثورو الكاتب األمريكي الذي‬
‫ترك املدن وبنى لنفسه ً‬
‫كوخا لم يكلف أكثر من ستة جنيهات‪،‬‬
‫عاش فيه سنتين إلى جنب الغابة‪ ،‬حيث كان يحصل على طعامه‬
‫من صيد السمك وصغار الحيوان والطير‪ ،‬وقد قال عن هجرته‬
‫هذه في الغابة وحياة الفطرة‪« :‬إني أردت أن أسوق الحياة وأحرجها‬
‫في زاوية كي أعرف هل هي ش يء جليل أم حقير‪».‬‬

‫وبكلمة أخرى‪ ،‬أراد ثورو أن يخلو إلى نفسه‪ ،‬ويستمع إلى همساتها‬
‫بعيدا عن ضوضاء املدينة وضجيج الحضارة‪ً ،‬‬
‫خاليا من تكاليفها‬ ‫ً‬
‫الصغيرة والكبيرة؛ كي يستكنه أسرارها‪ ،‬ويصل إلى أصولها‪،‬‬
‫ويتعرف إلى الطبيعة‪ ،‬ويقف على عالقته منها ومراسيه فيها‪.‬‬

‫وكلنا يحس في أعماق القلب واملخ أننا في حاجة إلى مثل هذه‬
‫التجربة‪ ،‬وأن العمر ال يصح أن ُيقض ى على هذا الكوكب وهو‬
‫مبعثر بين هموم واهتمامات صناعية؛ أي صنعتها لنا الحضارة‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫ولذلك يجب على كل من ينشد الحياة الفنية أن ينظم هذه‬
‫الحياة‪ ،‬بحيث ال تنقطع عن الطبيعة‪ ،‬وبحيث تبقى القيم‬
‫واألوزان البشرية ماثلة في ذهنه عالقة بقلبه‪ ،‬يشتهيها ويتعب لها‬
‫ويستمتع بها‪ ،‬وهو عندما يفعل ذلك‪ ،‬وعندما يألف الطبيعة‪،‬‬
‫سيحس أنها؛ أي الطبيعة‪ ،‬تحوي ً‬
‫ألوانا من الجمال في الشفق عند‬ ‫ُّ‬
‫الغروب‪ ،‬وفي بزوغ الشمس عقب سكينة الفجر‪ ،‬وفي رهبة‬
‫الجبل‪ ،‬وبسطة الصحراء‪ ،‬بل في تنوع النبات والحيوان‪ ،‬مما‬
‫َ‬
‫حملنا الحضارة على اقتنائه‪ ،‬ونعتني في‬
‫يجعله يحتقر الكثير مما ت ِّ‬
‫جمعه والتفاخر به‪.‬‬

‫وليس من الضروري أن نسلك سلوك ثورو في الهجرة إلى مكان‬


‫قص ٍي‪ ،‬نعيش مستوحدين سنتين أو أكثر كي نصل إلى جمال‬
‫الطبيعة‪ ،‬وكي نهتدي إلى مراسينا منها؛ فإن اللجوء إلى الريف من‬
‫ً‬
‫أحيانا الساعات فيه‪ ،‬يض يء بصيرتنا‪،‬‬ ‫وقت آلخر وقضاء أيام‪ ،‬بل‬
‫ويقرب ما بيننا وبين الطبيعة‪ ،‬ويحملنا على التخلص من الزيادات‬
‫والنوامي التي تنمو حولنا كما تنمو األعشاب والطفيليات حول‬
‫السفينة فتعطلها عن املالحة؛ فإن غاندي لم يخسر حين نزع ‪١٥‬‬
‫قطعة من املالبس الحضارية واكتفى بقطعة واحدة؛ إذ الواقع أنه‬

‫‪131‬‬
‫كسب‪ ،‬أو بكلمة أصح‪ :‬هو كسب من حيث القيم البشرية‪ ،‬وخسر‬
‫من حيث القيم االجتماعية‪.‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا حين أقعد في الريف وأتأمل القمر وهو يحيل كل ش يء على‬
‫األرض إلى خلق سحري‪ ،‬أو حين أتأمل الشفق في رائعة جماله‪ ،‬أو‬
‫حين أخرج في الفجر أنتظر بزوغ الشمس والدنيا هادئة صابحة‬
‫كأنها لم تخلق إال منذ دقائق‪ ،‬أو أتأمل أسراب الغربان وهي عائدة‬
‫إلى عشاشها عند الغروب‪ ،‬أو اليمام وهو يغازل على استحياء وفي‬
‫طمأنينة‪ ،‬أو حين أتأمل هذه الحرب الخفية السرية بين النبات‬
‫والحيوان في َديسة أو خميلة على جدول‪ ،‬أتعجب من إنسان‬
‫يرض ى بقضاء دقيقة واحدة فيما يسميه قتل الوقت على القهوة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ساعيا الهثا إلى الريف كي يختبر هذه الدنيا في‬ ‫بدال من أن يجري‬
‫أعماقها وصميمها‪.‬‬

‫وأتعجب من إنسان‪ ،‬أو باألحرى إنسانة‪ ،‬تعتقد الجمال في عقد‬


‫ً‬
‫من اللؤلؤ أو قالدة من األملاس‪ ،‬مع أن جبال من هذه الجواهر ال‬
‫يساوي في جماله جمال الشفق أو القمر‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫ً‬
‫إنسانا «يعرف»‬ ‫ويفشو الجهل بالطبيعة؛ أي بالدنيا‪ ،‬حتى نجد‬
‫طائفة من املعارف املكروسكوبية عن األدب أو العلم‪ ،‬وهو يجهل‬
‫هذه الدنيا العظيمة؛ وطنه األول‪ ،‬فال يعرف روائعها من جماد‬
‫ونبات وحيوان‪.‬‬
‫وقد َّ‬
‫جزأتنا الوطنية أجزاء على هذا الكوكب حتى صرنا ال نشتاق‬
‫إلى رؤية جبالنا الشامخة؛ مثل هماليا‪ ،‬أو مساقطنا الرائعة؛ مثل‬
‫نياجرا؛ ألننا نحس كأن جبل هماليا هو ملك خاص بالهنود‪،‬‬
‫ونياجرا هو ملك خاص باألمريكيين‪.‬‬

‫بل الواقع أننا ال نشتاق إلى رؤيتهما؛ ألن القيم االجتماعية قد‬
‫ً‬
‫تغلبت علينا‪ ،‬فنحن نهتم باقتناء البهارج «الجميلة» بدال من‬
‫االهتمام باالقتناء النفس ي لجمال هذا الكوكب‪ .‬وكثي ًرا ما أدخل‬
‫ً‬
‫أشجارا أسأل أصحابها عن‬ ‫البيوت التي تمتاز بحدائق فأجد‬
‫ً‬
‫أسمائها فال يعرفون … ألنهم إنما غرسوها انسياقا وراء العرف‪،‬‬
‫ً‬
‫إحساسا بأن الشجر قريبنا نحن‪.‬‬ ‫ً‬
‫تقديرا لقيمة النبات‪ ،‬أو‬ ‫وليس‬
‫وهم يعيشون في وحدة وجودية؛ ولذلك ال يهتمون بالتعرف إلى‬
‫اسمه أو أصله‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫أحيانا أجد من الحسن أن أرد بعض الذاهلين إلى الوجدان‪،‬‬ ‫و ً‬
‫ُ‬ ‫وأعيد إليهم القيم البشرية بأن أسال أحدهم‪ْ :‬‬
‫هب أنك أصبت‬
‫بمرض قاتل‪ ،‬ووثقت من األطباء أنك لن تعيش على هذا الكوكب‬
‫خيرت بين أن تقتني ألف آقة من األملاس‬ ‫سوى عام واحد‪ ،‬ثم ِّ‬
‫واللؤلؤ‪ ،‬ومئة قنطار من الذهب‪ ،‬أو تقض ي هذا العام الباقي من‬
‫عمرك على هذا الكوكب في زيارات رائعة إلى القطب الشمالي‪،‬‬
‫وجبال هماليا‪ ،‬ومساقط نياجرا‪ ،‬وغابات إفريقيا‪ ،‬ترى بواسق‬
‫الشجر‪ ،‬ووحوش الحيوان‪ ،‬وتشترك في صيد القيطس عند‬
‫القطب الجنوبي‪ ،‬وترى الفيلة في غاباتها في الهند‪ .‬أجل‪ ،‬وفوق ذلك‬
‫تعرف الشعوب البشرية في الهند واليابان ونروج وأستراليا‪ ،‬وترى‬
‫اإلنسان البدائي واإلنسان املتوحش واإلنسان املتمدن‪ ،‬ومقدار‬
‫التدمير الذي أحدثه هذا األخير بكنوز كوكبنا‪.‬‬

‫خيرت بين هذين الخترت بال شك أن تقض ي عامك في زيارة‬ ‫لو ِّ‬
‫األرض التي عشت فيها ماض ي عمرك وأنت محبوس محجوز في‬
‫بقعة معينة تظن أنها كل ش يء‪ ،‬وتقض ي سنيك في اقتناء بهارج ليس‬
‫لها غير القيمة االجتماعية التي تعمينا عن االستمتاع بكوكبنا‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫وال بد أن البشر في املستقبل سينفضون عن عواتقهم التكاليف‬
‫الباهظة العديدة التي يحتملونها اآلن من الحضارة‪ ،‬ويفكرون في‬
‫القيم البشرية‪ ،‬وسوف يجدون في اآلالت املنتجة‪ ،‬بل في الطاقة‬
‫ً‬
‫الذرية‪ ،‬ما يجعل العمل اإلنتاجي سهال ال يحتاج منا إلى قضاء‬
‫الوقت أو الجهد العظيمين‪ ،‬وعندئذ يعود هذا الكوكب وطن‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬وعندئذ تصير الجبال والبحيرات والغابات‪ ،‬بما‬ ‫البشر‬
‫تحفل به من حيوان ونبات‪ً ،‬‬
‫كنوزا يحتفظون بها وال ينقطعون عن‬
‫زيارتها‪.‬‬

‫نذكر أنفسنا على الدوام‬ ‫وإلى أن نصل إلى هذه الحال يجب أن ِّ‬
‫بضرورة اتصالنا بالطبيعة‪ ،‬ويجب أن نحتال بالتوفيق بين‬
‫ضرورات العيش واملجتمع واللجوء إلى الريف‪ ،‬ويجب أن تكون لنا‬
‫ً ً ً‬
‫يوما كامال‬ ‫هوايات ريفية طبيعية؛ فإن صيد السمك ينزعنا أحيانا‬
‫من الوسط الحضاري الصناعي إلى وسط طبيعي‪ .‬وكثير من‬
‫املفكرين يحتاج إلى مثل هذه الهواية التي تختمر فيها الكامنة وقت‬
‫السكينة عند شاطئ النهر‪ ،‬ثم يؤدي اختمارها إلى تهيئة الوجدان‬
‫لإلنتاج املثمر‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫أجل يجب أن نتنبه على الدوام إلى القيم البشرية‪ ،‬وال ننساق في‬
‫قيم اجتماعية تستعبدنا‪ ،‬ويجب أن نذكر أن الطبيعة؛ أي األرض‬
‫والنهر والجبل والغابة والبحر والصحراء والنبات والحيوان‪ ،‬هي‬
‫ًّ‬
‫نفسيا‪ ،‬وندرس جماله‬ ‫كنزنا األول الذي يجب أن نقتنيه اقتناء‬
‫ونستمتع به‪ ،‬وذلك باالتصال الذي ال ينقطع به‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫االتجاه والرؤيا‬

‫تكيف عواطفنا‪،‬‬‫االتجاهات وامليول والغايات هي عادات كامنة ِّ‬


‫وتوجه نشاطنا‪ ،‬وتثير اهتماماتنا‪ ،‬وكثير من النجاح أو الخيبة‬
‫ُيعزى إلى االتجاه والغاية؛ ألن النفس تبقى راكدة ليس لها اهتمام‪،‬‬
‫تعينت لها غاية‪ ،‬يهدف إليها النشاط‪ ،‬نشطت‪ ،‬كذلك االتجاه‬ ‫فإذا َّ‬
‫يعين األسلوب الذي نعيش فيه‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وينصبها غاية‪،‬‬ ‫صبيا أو ً‬
‫اعتبر ًّ‬
‫طالبا يتجه نحو األولوية في املدرسة‪ِّ ،‬‬
‫فهو يكد ويتعب ويثابر كي يحقق هذه الغاية‪ ،‬ويعود هذا االتجاه‬
‫كثيرا إذا زحزحه آخر عن‬ ‫أسلوبه في الدراسة؛ بحيث إنه يبتئس ً‬
‫ُ‬
‫كيف العاطفة‪،‬‬ ‫مركزه األول‪ .‬فهنا اتجاه قد صار عادة كامنة ت ِّ‬
‫وتوجه النشاط‪ ،‬وتثير االهتمام‪ ،‬وليس من الضروري أن يكون هذا‬
‫التلميذ أذكى من غيره من املتخلفين عنه‪ ،‬وإنما هو يمتاز منهم‬
‫باالتجاه والغاية‪ ،‬وامتيازه هذا عليهم عاطفي وليس ذكا ًّئيا؛ ألن‬
‫االتجاه يحرك العاطفة‪ ،‬وهذه تحرك النشاط الجسمي أو الذهني‪.‬‬
‫كلبا ً‬
‫جائعا‪ ،‬وآخر شبعان؛ فاألول يتحرك بعاطفة الجوع‪،‬‬ ‫اعتبر ً‬
‫ويمش ي وأنفه لألرض يبحث عن الطعام‪ ،‬وهو في هذه الحركة‬

‫‪137‬‬
‫الجسمية متحرك العاطفة بالجوع‪ ،‬متحرك العقل بالتفتيش‪،‬‬
‫وأنفه يرشد عقله كما ترشد عيوننا عقولنا‪ ،‬ولكن اعتبر اآلخر‬
‫الشبعان‪ ،‬فإنه قاعد راكد أو نائم‪.‬‬

‫فالعواطف هي املواطر التي تحركنا‪ ،‬واالتجاهات وامليول والغايات‬


‫إنما هي عواطفنا التي نتحرك بها إلى الدراسة والجد وغير ذلك‪،‬‬
‫وهي كما تحرك أجسامنا تحرك ً‬
‫أيضا أذهاننا‪ ،‬فننتبه بعد الغفلة‪،‬‬
‫وننشط بعد الفتور‪.‬‬

‫والتفاؤل والتشاؤم‪ ،‬وكذلك الطموح والركود اتجاهات‪ ،‬ولكل منها‬


‫خارطة روحية أو ذهنية أو نفسية يرتسم بها العالم‪ ،‬ويحدد ما‬
‫ً‬
‫جميعا يتجه نحو‬ ‫فيه من قيم وأوزان اجتماعية أو بشرية‪ ،‬وبهذا‬
‫ً‬
‫أسلوبا؛ فاملتفائل يتحمس ويتحرك ويجد‬ ‫غاية‪ ،‬أو يرى رؤيا ويتخذ‬
‫لذة العيش‪ ،‬واملتشائم يتبلد ويركد ويجد الحياة ماسخة ال‬
‫ً‬
‫يتطعمها‪ .‬ومن هنا — مثال — قيمة الدين عند املؤمن؛ فإنه يجد‬
‫فيه الرؤيا كما يجد األسلوب‪ ،‬فيكون الدين له بمثابة الصابورة‬
‫التي تتزن بها حياته‪ ،‬وال تتقلقل إذا ضربتها الزعازع والكوارث‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫والرؤيا هي ثمرة التفاؤل؛ ألن املتشائم ال يرى رؤيا‪ ،‬فال يمكن —‬
‫مثال — أن تكون اشتر ًّ‬ ‫ً‬
‫تؤمل املساواة واإلخاء بين البشر إال‬
‫اكيا ِّ‬
‫ً‬
‫إذا كنت متفائال‪ ،‬والعكس صحيح؛ ألن الرجعي املحافظ يؤمن‬
‫بأن الشر غالب على الطبيعة البشرية التي ال تتغير وال يمكن‬
‫معالجتها‪ ،‬فهو لذلك متشائم بال رؤيا؛ ولذلك يكافح األول ويركد‬
‫الثاني‪.‬‬

‫وقس على هذا‪ ،‬فإن الرؤى واملثليات‪ ،‬كلتاهما ُتكسبنا روح‬


‫يحملنا على الدراسة والرقي؛ فنجد لذة‬
‫الكفاح‪ ،‬وهذا الروح ِّ‬
‫الحياة في الكفاح كما نرتقي به‪.‬‬

‫الكفاح ضد االستعمار واإلمبريالية‪ ،‬والكفاح ضد التعصب الديني‬


‫واللوني‪ ،‬والكفاح ضد املرض والجهل والفقر والظلم‪ ،‬كل هذا‬
‫تتحرك به عواطفنا وتنشط‪ ،‬بل كدت أقول‪ :‬تتذكى عقولنا‪ .‬ونحن‬
‫بهذه األنواع من الكفاح ال نخدم أمتنا فقط‪ ،‬بل نخدم أنفسنا‬
‫بترقية شخصيتنا‪ ،‬ونجعل حياتنا حافلة بشئون ومشكالت‬
‫اجتماعية وبشرية تجعلنا نتعمق ونتوسع في الحياة‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ً‬
‫أسلوبا للعيش؛‬ ‫وربما كان أعظم االتجاهات اتجاه الحب باعتباره‬
‫ألن الحب يزيد الفهم؛ أي إننا نفهم أكثر عندما نحب‪ ،‬ونفهم أقل‪،‬‬
‫ً‬
‫أحيانا ال نفهم‪ ،‬عندما نكره‪ .‬أال ترى أن األم تفهم الش يء الكثير‬ ‫أو‬
‫من إيماءة طفلها أو أي طفل آخر إذا كانت تتجه وجهة الحب‪ ،‬في‬
‫حين غيرها الجامد أو غير املبالي أو الكاره ال يفهم ً‬
‫شيئا؟!‬

‫وهناك من يقول‪ :‬إن الحب ُيعمي‪ ،‬ولكن الحقيقة أن الحب ُيبصر‬


‫ويفتق الذهن للفهم واملعرفة‪ ،‬ولكن الكراهة والحقد والبغض‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والنفور‪ ،‬كل هذه تعمي وتغش ي على عيوننا وعقولنا‪ ،‬فال نبصر وال‬
‫نفهم‪.‬‬

‫والرجل الذي يحب الحياة الفنية‪ ،‬ويحب اإلنسان والطبيعة‪،‬‬


‫ويحب الثقافة‪ ،‬يجد أنه بقدر السعة في حبه يزداد فهمه وتعمقه‬
‫ورغبته التي ال تنقطع في االستزادة من الفهم والدرس واالستطالع‪،‬‬
‫ثم هو بهذا الحب يجد الرؤيا التي يهدف إليها في إصالح منشود‪ ،‬أو‬
‫ُّ‬
‫ويشع‬ ‫ً‬
‫سعيدا بهذه األفكار‪،‬‬ ‫ظلم ُيرفع‪ ،‬أو اختراع َّ‬
‫يحقق‪ ،‬فيعيش‬
‫ضياء على كل ما يمسه؛ كأن ذهنه مفسفر يض يء على ما حوله‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫ومثل هذا الرجل يدين بدين مقدس‪ ،‬وال عبرة بأنه يخالف‬
‫التقاليد؛ ألن الدين هو نقطة التبلور في اختباراتنا وثقافتنا‪،‬‬
‫والرجل الذي ُيختبر ً‬
‫كثيرا‪ ،‬ويدرس ً‬
‫كثيرا‪ ،‬ويتجه وجهة الحب‪ ،‬ال‬
‫بد أن يصل إلى هذه النقطة‪ ،‬وأن يرى رؤيا الدين‪ .‬ومن هنا كفاحه‬
‫وإنسانيته؛ ألنه في جميع كفاحه املاض ي إنما كان يحاول أن يكون‬
‫ًّ‬
‫إنسانيا‪ ،‬وأن يحمل البشر على أن يكونوا إنسانيين‪.‬‬ ‫ً‬
‫إنسانا‬

‫وإذا كان رجل التقاليد ينبذه بأنه ملحد أو كافر ألنه يضل في‬
‫اشتباكاته الثقافية‪ ،‬فإن غيره من املتعمقين يعرف إيمانه‪ .‬هذا‬
‫اإليمان الذي ُوصف به فولتير في كفاحه للمتعصبين واملستبدين‬
‫إزاء رجال التقاليد من كهنة رجال الدين املسيحي في فرنسا‪ .‬ونحن‬
‫اآلن نعرف أن الدين‪ ،‬بل القداسة كانت في قلب فولتير‪ ،‬وأن الكفر‬
‫كان في قلوب أولئك الكهنة‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ :‬إن فن الحياة يقتضينا أن تكون لنا اتجاهات‬


‫وميول تنتهي إلى رؤيا‪ ،‬فنكسب منها املذهب البشري‪ ،‬بل الدين‪،‬‬
‫ونجهد ونخدم في تفاؤل وحب؛ نحب اإلنسان والشرف واملجد‬
‫والصحة والخير‪ ،‬ونحب الحيوان والنبات والجبال واألنهار‬

‫‪141‬‬
‫والرسوم الفنية واملدن التاريخية‪ ،‬وبذلك ال نركد‪ ،‬بل نبقى على‬
‫نشاط دائم مكافحين محبين للخير‪ ،‬كارهين للشر‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫الحياة مغامرة‬
‫َّ ُ‬
‫عندما نتأمل القصص السامية التي ألفها ك َّتاب خالدون‪ ،‬نجد‬
‫أننا إنما نقيس هذا السمو بشيئين‪ :‬إما بشخصية فذة تغمر‬
‫ً‬
‫اقتحاما‪ ،‬وتجد مرح الحياة في املغامرة‬ ‫القصة‪ ،‬وتجعل من العيش‬
‫والدخول في الغمر العباب دون القناعة بالشواطئ واملخاضات‪،‬‬
‫ً‬
‫وإما نجد‪ ،‬بدال من هذه الشخصية‪ ،‬مشكلة حيوية عظمى‪ ،‬نصل‬
‫فيها إلى األعماق‪ ،‬فنفهم أكثر ونعرف أكثر في الحياة‪.‬‬
‫ومع أننا نقرأ ً‬
‫كثيرا؛ فإنه قلما يخطر ببال أحدنا أن يعيش في هذه‬
‫ً‬
‫الدنيا كما لو كان بطال في قصة سامية؛ وذلك بأن يكون هو نفسه‬
‫شخصية فذة‪ ،‬أو يكون قد اعتنق مشكلة من مشكالت البشر‬
‫الحيوية فيطابق بينها وبين نفسه ويعيش لها؛ فهي هو وهو هي‪.‬‬
‫ولكن الواقع أن كثيرين منا — على الرغم مما قلنا — يطابقون‬
‫ُّ‬
‫ينكب‬ ‫بين حيواتهم وبين القصص التي يقرءون؛ فالشاب الذي‬
‫على قراءة قصة ما إنما يطابق بين نفسه وبين هذه الغراميات‬
‫املتأججة في القصة‪ ،‬والفتاة التي تدمن الذهاب إلى الدور‬
‫السينمائية إنما تطابق بين نفسها وبين فتيات الدراما التي‬

‫‪143‬‬
‫تشاهدها؛ وهي تعيش بجميع إحساساتها فيما ترى من اقتحامات‬
‫هؤالء الفتيات‪ ،‬ولكن‪ ،‬وهذا هو املهم‪ ،‬هذه القصص والدرامات‬
‫ليست سامية؛ ولذلك فإن املطابقة بين قارئها أو مشاهدها وبين‬
‫أبطالها أو حوا دثها ليست مما يرفع؛ أي ليست مما يساعدنا على‬
‫أن نجعل حياتنا سامية نعيشها في فن وحذق وتأنق ومجد‪.‬‬

‫ويجب أن نجعل حياتنا مغامرة‪ ،‬بل هي كذلك من أول ساعة نخرج‬


‫فيها من الرحم إلى هذا العالم؛ فإن املوتى الذين ال يطيقون هذا‬
‫جدا‪ .‬فإذا كانت بداية حياتنا مغامرة فيجب أال‬ ‫الخروج كثيرون ًّ‬
‫يغيب عنا هذا الرمز‪ ،‬ويجب أن نستبقي هذا الشعار سائر عمرنا‪،‬‬
‫أبدا أن الطمأنينة التي نتوخاها هي على الدوام‬ ‫ويجب أال ننس ى ً‬
‫جزئية ونسبية وظرفية؛ ألن الطمأنينة التامة هي املوت‪.‬‬
‫َّ‬
‫ومن أجمل أو أحكم الكلمات التي خلفها لنا نيتشه قوله‪« :‬كل ما‬
‫وأيضا قوله‪« :‬عش في خطر»‪ .‬وذلك أن الحياة‬ ‫ال يقتلني يقويني»‪ً ،‬‬
‫ِّ‬
‫خطرا وخرجنا منه دون أن يقتلنا فقد‬ ‫ً‬ ‫اختبارات‪ ،‬فإذا واجهنا‬
‫ً‬
‫عرفانا بالدنيا‪ ،‬وحكمة في الحياة‪.‬‬ ‫كسبنا االختبار‪ ،‬وازددنا بذلك‬
‫وإذا عشنا في خطر زال عنا الذهول الذي تتسم به العامة‪ ،‬وصرنا‬

‫‪144‬‬
‫وتنبه وذكاء وفهم‪ ،‬فتكون الدقائق عندنا بمثابة‬ ‫في يقظة ُّ‬
‫الساعات عند غيرنا‪ ،‬والساعات بمثابة األيام‪.‬‬

‫والحياة القصيرة الحافلة باملغامرات واالقتحامات خير من حياة‬


‫طويلة هزيلة يعيشها اإلنسان في ذهول كأنه بال وجدان‪ .‬واملخترع‬
‫ً‬
‫مغامرا ألنه يسير في أرض مجهولة ال‬ ‫واملكتشف كالهما يعيش‬
‫يعرف نهايتها‪ ،‬وهو في هذا االكتشاف أو االختراع يحس من لذة‬
‫الحياة ما يجعله ينس ى جميع املشقات واملصاعب‪ .‬ومن منا ال‬
‫يحب مغامرة كولومبية يعيش فيها شهرين أو ثالثة أشهر فقط‬
‫ً‬
‫وهو يتطلع إلى قارة جديدة‪ ،‬ويكاد يهبط عليها‪ ،‬بدال من قضاء مائة‬
‫منزو في شارع ال تضيق حدوده الجغرافية فقط‪ ،‬بل‬ ‫سنة وهو ٍ‬
‫تضيق فيه ً‬
‫أيضا حدوده الذهنية والنفسية؟!‬

‫ونحن نعجب بحياة نابليون أو غاندي؛ القتحامات األول الحربية‪،‬‬


‫واقتحامات الثاني الروحية‪ ،‬ونقرأ سير القديسين واملصلحين‬
‫واملخترعين في شوق؛ ألننا نطابق بينها وبين أنفسنا في رغبة حارة‬
‫لالقتحامات التي امتحنت حياتهم فخرجوا منها أوفر حكمة‬
‫وأعمق ً‬
‫فهما‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫ولنا مما قلنا مغزيان؛ املغزى األول‪ :‬أال نلتزم الدعة والطمأنينة‬
‫فنحجم ونتقلص ونتراجع أمام األخطار‪ ،‬واملغزى الثاني‪ :‬أال نبالغ‬
‫في شأن الكوارث التي تصادفنا؛ ألننا ما دمنا لم نمت فيها سنعيش‬
‫فهما وحكمة‪.‬‬ ‫وقد كسبنا اختبارها ومعرفتها اللذين ازددنا بهما ً‬
‫ُ‬
‫وكتب األدب العالي ُتكسبنا من االختبارات ما ال نحصل عليه في‬
‫مجتمعنا‪ .‬والشعر العالي هو أحسن ما في األدب؛ ألن الشاعر‬
‫يعرف أنه لن يثير في القارئ حماسة أو يلهب فيه ً‬
‫نارا‪ ،‬إال إذا ارتفع‬
‫عن املبتذل املألوف من االختبارات‪ ،‬سواء في املوضوع أم في‬
‫يحملنا على اقتحامات ذهنية حتى ولو كانت هذه‬ ‫التعبير‪ ،‬فهو ِّ‬
‫االقتحامات مقصورة على التعبير‪ ،‬واستخراج املعنى الخفي الفذ‬
‫من املوضوع الواضح املبتذل‪.‬‬

‫واسأل — أيها القارئ — أي إنسان متقدم في السن؛ فإنه ال بد‬


‫ٌ‬
‫آسف على تلك الفرص التي عرضت له ولم يغامر فيها‪ ،‬بل آثر‬
‫الدعة والطمأنينة‪ .‬وهو ال يأسف ألن الفرصة كانت تلوح له من‬
‫الفرص الكاسبة؛ بل ألنه يحس أنه كان يكون أسعد لو أنه اختبرها‬
‫وعاش فيها‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫وقد كان املتنبي يقول‪:‬‬

‫وكل شجاعة في املرء تغني‬

‫وال مثل الشجاعة في الحكيم‬

‫الشجاعة مع الحكمة تغني في النهاية‪ ،‬العاطفة مع الوجدان أي‬


‫يوجه‪.‬‬
‫الشراع مع الدفة؛ العاطفة تدفع والوجدان ِّ‬
‫والخوف من االقتحامات هو في صميمه خوف من الحياة‪ ،‬أو هو‬
‫أسف على الخروج من الرحم‪ ،‬وحنين إلى العودة إليه‪ .‬والرجل‬
‫الذي يخاف ال يعيش غير تلك الحياة النباتية البقلية؛ يعيش ً‬
‫آمنا‬
‫في مكانه يخش ى أن يتزحزح لئال يسقط‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الحياة املليئة‬

‫عندما نتأمل املخ‪ ،‬أو باألحرى قشرته الرمادية‪ ،‬نجد شبكة من‬
‫ماليين الخاليا التي تربط وتستطيع أن تؤلف ماليين األفكار‬
‫واملركبات الذهنية الجديدة‪ ،‬ولكننا نقنع من حياتنا العقلية‬
‫العادية بالقليل من هذه األفكار‪ ،‬حتى لنستطيع أن نقول‪ :‬إن‬
‫ُعشر املخ كان يكفينا‪ .‬ولو أننا عنينا منذ ميالدنا بالحياة الفكرية‪،‬‬
‫وجعلنا التربية تتجه نحو االستنباط واالختراع والتفكير البكر‪،‬‬
‫ً‬
‫بدال من التسليم بالعقائد والجري على األسلوب االجتماعي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الفاش ي‪ ،‬لو أننا عنينا بهذا لكان ٌّ‬
‫مخترعا؛‬ ‫كل منا فيلسوفا أو عاملا‬
‫ألن في القشرة املخية من ماليين الخاليا ما يتسع ملاليين املركبات‬
‫الفكرية‪ ،‬ولكننا نتركها بائرة في جدب بال حرث أو غرس‪ ،‬فال نعيش‬
‫ملء حياتنا الذهنية‪ ،‬بل نقنع بالقليل منها‪.‬‬

‫وحياتنا الفكرية هي بعض حياتنا البشرية‪ ،‬وإن يكن هذا البعض‬


‫أفضل ما نملك‪ .‬ونحن — لألسف — ال نعيش ملء حياتنا‬
‫البشرية؛ فقد تطول حياتنا‪ ،‬ولكنها ال يكاد يكون لها عرض‪ ،‬أو هي‬
‫تمتلئ بالسنين ولكن هذه السنين ال تمتلئ بالحياة‪ .‬وقد دعانا‬

‫‪148‬‬
‫اإلنجيل إلى التوسع والتعمق في الحياة حين َّنبهنا إلى قيمة «الحياة‬
‫الوفيرة»‪ ،‬وما الوفرة في الحياة سوى وفرة االختبارات بالنشاط‬
‫والتجدد؛ فالحياة الراكدة أو الجامدة ليست وفيرة أو — على‬
‫طربا ً‬
‫ومرحا في‬ ‫األقل — ليست في وفرة تلك الحياة التي تتذبذب ً‬
‫الدنيا‪.‬‬

‫وهنا تخطر بالذهن كلمة «الحماسة» التي اختارها أبو تمام‬


‫ملجموعة األشعار التي جمعها من الشعراء الذين سبقوه؛ فإن‬
‫البيت الخالد من أبيات الشعراء هو العدسة التي تجمع املتشتت‬
‫من النور في بؤرة مركزة‪ ،‬فنحس العاطفة الذهنية في حماسة‬
‫ً‬
‫تفكيرا‪ .‬ومن الحسن أن ننقل هذا املعنى‬ ‫ً‬
‫إعجابا أو‬ ‫تثيرنا ً‬
‫طربا أو‬
‫إلى الحياة؛ إذ يجب أن نعيش في حماسة بال ركود أو جمود أو تبلد‪،‬‬
‫يجب أن يكون لكل منا «بيت قصيد»؛ أي هدف ٍ‬
‫سام يتبلور فيه‬
‫النشاط‪ ،‬وتتجه إليه الحياة‪.‬‬

‫وهذه كلها من املعاني الفنية‪ ،‬معاني الشعر التي يجب أن ننقلها‬


‫إلى الحياة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬وهي في‬ ‫وعند التأمل نجد أن لنا ثالث حيوات نمارسها‬
‫صميمها ثالث ذوات‪.‬‬

‫فإن لنا الذات الصغرى األميبية‪ ،‬ذات الرجع االنعكاس ي التي‬


‫نشاهدها في األميبة واإلسفنج وأحط األحياء‪ .‬ولنا الذات الصغيرة‬
‫الحيوانية‪ ،‬ذات الشهوات والغرائز لألكل والتناسل والتسلط‪،‬‬
‫والعليا‪ ،‬ثم هناك الذات‬ ‫التي نشاهدها في الحيوانات الدنيا ُ‬
‫البشرية ذات الوجدان؛ أي التعقل والقدرة على أن نرى الدنيا بما‬
‫يقارب حقيقتها عندما نتجرد من غرائزنا‪ ،‬وننظر النظر املوضوعي‪.‬‬

‫والحياة املليئة هي الحياة الوجدانية التي تحملنا على التخلص من‬


‫األنانية اآلسنة إلى الغيرية الحية؛ فنتوسع ونتعمق بما يشبه البر‬
‫الذهني‪ ،‬كأن حياتنا ليست مقصورة على أبعادنا الجسمية‬
‫الشخصية‪ ،‬بل تشمل غيرنا من البشر‪ .‬وقد تكون هناك حياة‬
‫أمأل‪ ،‬هي تلك التي يقول بها أو يبصر بها فرويد ويسميها «الحاسة‬
‫األوقيانوسية»؛ أي زيادة في الوجدان تجعلنا نحس االندغام‬
‫الشخص ي في الكون كله‪ ،‬بحيث نحيا في ذراته وجزيئاته وكواكبه‬
‫ونجومه ونباته وحيوانه‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫ولكن هذا حدس فقط‪ ،‬وقصارى ما نستطيع أن نقوله في يقين‪:‬‬
‫إن الحياة املليئة تحتاج إلى سخاء وتفاؤل؛ ألن أعظم ما يحدد‬
‫حياتنا ويقيم حولها السدود هو البخل‪ .‬وهذا البخل ينشأ من‬
‫التشاؤم الذي يحدث لنا الخوف من االقتحامات؛ فنتبلد ونجمد‪،‬‬
‫ثم نعيش في حياة ضنينة قليلة االختبارات‪ ،‬وقد ننتهي إلى أسلوب‬
‫من الزهد والنسك؛ فنكاد ننكر الحياة‪.‬‬

‫ولست مع ذلك أنكر قيمة النسك والزهد‪ ،‬ولكنهما يجب أن يكونا‬


‫نستج َّم‬
‫ِّ‬ ‫وسيلة وليسا غاية؛ أي إننا ننسك ونزهد ونعتكف كي‬
‫ونعود إلى االختبارات الفنية والذهنية والعاطفية؛ أي نعود بقوة‬
‫متجددة‪ .‬وكذلك يجب أن نمارس العفة؛ حتى نسمو بالتعارف‬
‫الجنس ي إلى مستوى من التأنق والفن يرفعنا عن التبذل الرخيص‬
‫للعاطفة‪ ،‬فنضع الوجدان والتعقل مكان الغريزة الغشيمة؛ فال‬
‫ً‬
‫تأمال ًّ‬ ‫ً‬ ‫تكون العالقة الجنسية ً‬
‫وحبا‪ ،‬فنتحدى‬ ‫وخطفا‪ ،‬بل‬ ‫نهبا‬
‫الجمال بوجداننا في فن وتفكير إذا تحدى غرائزنا هو في إغراء‬
‫وإغواء‪.‬‬

‫والحياة املليئة تحتاج — كما يجب أن نكرر — إلى وفرة‬


‫االختبارات‪ ،‬ومعنى هذه الوفرة أن نعيش لنتعلم وندرس الكتب‬

‫‪151‬‬
‫والطبيعة واملجتمع‪ ،‬ونهتم بالسياسة واالقتصاد والتطور‬
‫ً‬
‫جميعا متفرجين وعاملين‪ ،‬ونعيش فيها بروح‬ ‫البشري‪ ،‬نهتم بها‬
‫االبتكار والتساؤل واالستطالع؛ حتى نفهم ويستيقظ ذكاؤنا‪،‬‬
‫وتستفيض شبكة املركبات الذهنية في القشرة الرمادية املخية‪،‬‬
‫وإذا ذكرنا البخل فال نذكره بشأن الحرص على املال فقط‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا أفش ى مظاهره؛ ألن أسوأ ما في البخل نزوعنا فيه إلى‬
‫التبلد واالعتكاف الذهني والعاطفي وكراهة االختبارات؛ فهو ال‬
‫يعيش ملء حياته‪.‬‬

‫والحياة املليئة تحتاج إلى التفاؤل بالدنيا واملستقبل‪ ،‬وإلى السخاء‪،‬‬


‫وإلى دوام االستطالع والنمو‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫الهواية‬

‫فراغنا يزداد‪ ،‬وسيزداد في املستقبل أكثر فأكثر‪ ،‬وسيكون ملؤه أو‬


‫االنتفاع به من أعظم املشكالت في التعليم والتربية‪ ،‬بل سوف‬
‫تكون الغاية الوحيدة من التربية هي االنتفاع بالفراغ؛ أي كيف‬
‫نعيش ‪ ١٢‬أو ‪ ١٥‬ساعة كل يوم بال عمل كاسب‪ .‬أما التعليم الحرفي‬
‫فلن تكون له هذه األهمية‪.‬‬

‫وفي عاملنا الحاضر طبقة من األثرياء تعيش في فراغ كامل أو تكاد؛‬


‫ألن وسائل العيش املمتاز موفرة لها؛ إذ إن أفرادها يستغلون أفراد‬
‫الطبقات األخرى‪ .‬ولكن عندما نتأمل الطرق التي تتبعها هذه‬
‫الطبقة املمتازة في قضاء فراغها أو استغالله‪ ،‬نجد أنها ليست مما‬
‫يغري؛ فإن سباق الخيل‪ ،‬وصيد الحمام‪ ،‬والصيد بالقنص في‬
‫مطاردة الثعالب أو األرانب‪ ،‬وقضاء الليل في املقامرة أو العربدة‬
‫الجنسية أو الكئولية‪ .‬كل هذا أو أشباهه ال يدل على أن هذه‬
‫شيئا يمكن أن يوصف بأنه «فن‬ ‫الطبقة املترفة املمتازة قد عرفت ً‬
‫الفراغ»‪ ،‬بل هو يدل على أن هذه الطبقة ال تطيق فراغها‪ ،‬وال‬
‫تستخدمه إال على سبيل الفرار من الوقت بقتل الوقت‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫وتطور اآلالت‪ ،‬والزيادة في اإلنتاج‪ ،‬وتوافر الضروريات لكل‬
‫ً‬
‫جميعا في شبه‬ ‫إنسان‪ ،‬ثم توافر الكماليات في املستقبل‪ ،‬ستجعلنا‬
‫تعطل؛ ألن طرق اإلنتاج العلمية التي ال مفر من استخدامها في‬
‫قريبا ستوفر لإلنسان حاجاته بأقل الجهد في أقصر‬ ‫العالم كله ً‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫جميعا معطلين فارغين معظم النهار‬ ‫الوقت؛ ولذلك سنجدنا‬
‫والليل نحتاج إلى ما يشغلنا‪ ،‬فإذا لم نجد املفيد الذي يرفعنا‬
‫ويرقينا َع َمدنا إلى املضر الذي يحطنا‪.‬‬

‫بل نحن‪ ،‬قبل أن نفكر في املستقبل‪ ،‬نجد أن حاضرنا يوفر لنا‪ ،‬أو‬
‫اغا َّ‬‫ً‬
‫يترجح بين‬ ‫باألحرى لبعضنا من أعضاء الطبقة املتوسطة‪ ،‬فر‬
‫أربع وعشر ساعات كل يوم‪ ،‬فيجب أن نمأله‪ ،‬وأن نتعلم كيف‬
‫نمأله‪ .‬وعند اإلنجليز كلمة «هوبي» ملا نسميه بالعربية‪« :‬الهواية»؛‬
‫أي العمل نعمله للذة فقط ال نبغي منه ً‬
‫كسبا‪ ،‬وعندما نمأل فراغنا‬
‫ً‬
‫تخفيفا‪ ،‬بل معالجة للتوترات التي نستجيب‬ ‫بهواية نجد في الفراغ‬
‫بها حانقين مرهقين ملصادفات الحياة املعاكسة املناوئة‪ .‬وكلنا‬
‫يعرف أن الحركة والنشاط والعمل‪ ،‬كل هذه تخفف التوترات‬
‫وتفرج عن العواطف املكظومة‪ .‬فإذا كانت الحركة في عمل محبب‬
‫تتجه إليه اإلرادة في نشاط حتى تستحيل إلى حماسة‪ ،‬فإن االتزان‬

‫‪154‬‬
‫النفس ي الذي ربما يتزعزع من إرهاق العمل الحرفي يعود إلينا‬
‫مستجمين‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فنستأنف هذا العمل مرتاحين‬

‫لهذا السبب يجب أن يكون لكل منا هواية‪ ،‬وأن نعلم أوالدنا وهم‬
‫في الطفولة والصبا كيف يشغلون فراغهم‪ ،‬وأن ننفق بسخاء على‬
‫ما يحتاجون إليه لشغله؛ وذلك ألن فراغهم في املستقبل سوف‬
‫يزيد على فراغنا نحن‪ ،‬وسوف يثقل عليهم — لهذا السبب —‬
‫أكثر مما يثقل علينا‪.‬‬

‫وعلى القارئ أن يقصد إلى إحدى املكتبات في القاهرة‪ ،‬ويطلب‬


‫إحدى املجالت التي تعالج الهوايات‪ ،‬واسمها «هوبيس»‪ ،‬وهي في‬
‫األغلب إنجليزية‪ .‬ومن هذه املجالت يستطيع أن يستنير‪ ،‬وأن ينتفع‬
‫أو ينفع أوالده‪.‬‬

‫وأقرب الوسائل إلى االنتفاع بفراغنا أن تتعدد اهتماماتنا‬


‫ً‬
‫منفردا‬ ‫ودراساتنا وأعمالنا‪ ،‬أو بكلمة أخرى‪ :‬يجب أال يكون طريقنا‬
‫في الحياة‪ ،‬ال نعرف غير وسيلة واحدة للكسب والعيش‪ ،‬وال غير‬
‫ً‬
‫مزدوجا‪،‬‬ ‫وسيلة واحدة للترفيه والترويح؛ إذ يجب أن يكون طريقنا‬
‫بل خير لنا أن تتعدد الطرق‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وقلما يخلو بيت في أوروبا من غرفة يستأثر بها الزوج ال يجوز‬
‫لزوجته أن تتدخل في ترتيبها‪ ،‬وفي أغلب األحيان تكون هذه الغرفة‬
‫منزوية قريبة إلى سطح البيت‪ ،‬وهي مريحة في فوض ى األثاث‬
‫واألوراق‪ ،‬وهي ملجأ أو معتكف يلجأ إليها الزوج كي ينفس عن‬
‫كظومه‪ ،‬أو يفرج عن توتراته‪ ،‬وهي من املرافق االجتماعية التي‬
‫تمهد العقبات‪ ،‬وتسوي النتوءات التي تنشأ من العمل أو من‬
‫العائلة‪.‬‬

‫وقد تكون الهواية دراسة أو دراسات معينة‪ .‬ومعظم الذين‬


‫يسعدون بشيوختهم‪ ،‬حين يحيلهم املجتمع على التقاعد‪ ،‬يكونون‬
‫— في األغلب — قد هووا الدراسة فالزمتهم هوايتها إلى‬
‫الشيخوخة‪ ،‬وهناك هوايات أخرى عملية؛ كالنجارة‪ ،‬أو تجليد‬
‫الكتب‪ ،‬أو — للمرأة — أنواع من التطريز والوش ي والنسيج‪.‬‬

‫وأذكر أني زرت ذات مرة أحد األندية النسوية في القاهرة‪ ،‬فوجدت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خفيفا من الكراس ي‪ ،‬عرفت حين سألت عن صانعه‬ ‫طر ًازا جميال‬
‫أن هذا الصانع موظف كتابي في الحكومة قد هوى هذا العمل‬
‫وأتقنه‪ ،‬ال يبغي منه فائدة مادية‪ ،‬ولكن الفائدة املادية جاءته‬

‫‪156‬‬
‫ً‬
‫عفوا بحيث يستطيع اآلن أن يستغني عن وظيفته الحكومية‬
‫ويقتصر على النجارة‪.‬‬

‫والرجل أو املرأة الذي تشغله هواية ما يسعد بفراغه‪ ،‬ويستطيع‬


‫أن َّ‬
‫يفتن بهوايته ويتأنق في أدائها؛ ألنه ال يعجل وال يهرول؛ إذ هو في‬
‫فراغ ينبسط أمامه‪ ،‬فهو يتقن ويتأنق‪ .‬وحبذا املرأة تشغل فراغها‬
‫إنسانيا‪ ،‬وتجد فيها ً‬
‫أيضا ما‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫اجتماعيا أو‬ ‫بهواية مفيدة ترتقي بها‬
‫يغنيها عن االستماع للفارغات من النساء الالتي يمألن فراغهن‬
‫بالقيل والقال‪.‬‬

‫وتخرج تالميذها أو‬ ‫املدارس‬ ‫م‬ ‫تعل‬ ‫حين‬ ‫ا‬ ‫وربما ال يكون الزمن ً‬
‫بعيد‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫طلبتها للحياة وليس للحرفة‪ ،‬وحين تعنى بالفراغ والهواية أكثر مما‬
‫تعنى بالعمل والكسب‪ .‬وفي هذه الدنيا الواسعة هناك ال أقل من‬
‫مليون هواية تنتظر من يبحث عنها ويهتدي إليها‪ .‬وقد تكون إحدى‬
‫هذه الهوايات بذرة الختراع أو اكتشاف جديد يحتاج إليه البشر‪.‬‬
‫وهل فكرت — أيها القارئ — وذكرت أن ً‬
‫كثيرا من املخترعات‬
‫واملكتشفات إنما كان ثمرة إحدى الهوايات التي مألت فراغ أحد‬
‫الهواة؟‬

‫‪157‬‬
‫ً‬
‫وفي ظروفنا االجتماعية الحاضرة يحتاج كل منا إلى هواية؛ أوال‪:‬‬
‫ألن حياتنا حافلة بما ينغص ويبعث على توترات وكظوم مختلفة‬
‫متكررة‪ ،‬والهواية هنا تخفف وتعيد لنا اتزاننا النفس ي؛ ألننا نجد‬
‫انتصارا وحماسة‪ً ،‬‬
‫وثانيا‪ :‬ألننا نرتقي بممارسة هواية‬ ‫ً‬ ‫فيها كل يوم‬
‫فنا أو أي مهارة أخرى تحرك ذكاءنا أو عضالتنا‪،‬‬ ‫ما؛ إذ نتعلم ًّ‬
‫ً َ‬
‫وثالثا‪ :‬ت ُحول الهواية دون الوقوع في العادات السيئة‪.‬‬

‫وأنت — أيها القارئ — عندما تجول في شوارع القاهرة‪ ،‬وتجد‬


‫املئات من الشباب السادرين الذين يقعدون على القهوات‪،‬‬
‫ويدخنون في ذهول كأنهم نائمون‪ ،‬أو يكرعون الخمر في غير مباالة‪،‬‬
‫أو تجد النساء في شجار سافر أو مستتر‪ ،‬فإنك ال بد عند التأمل‬
‫ً‬
‫وكظوما قد جهلوا طرق التخلص‬ ‫واجد ً‬
‫أيضا أنهم يكابدون توترات‬ ‫ٌ‬
‫منها‪ ،‬وخير الطرق في ظروفنا الحاضرة هو هواية لذيذة تمأل‬
‫فراغهم‪.‬‬
‫وكثير مما ذكرنا في هذا الفصل قد سبق أن أشرنا إليه في فصول‬
‫سابقة‪ ،‬ولكنا احتجنا إلى جمع بعض املالحظات هنا ملا لها من‬
‫الداللة على قيمة الهواية‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الخلوة‬
‫ً‬
‫منفردا‪ ،‬وهو‬ ‫يبدو اإلنسان كأنه حيوان اجتماعي ال يطيق العيش‬
‫يعد الحبس االنفرادي أقس ى أنواع الحجر والتقييد لهذا السبب؛‬
‫فإن املسجون ال يطيق انفراده بين الجدران في الزنزانة‪ ،‬ولذلك‬
‫ُيعاقب املسجونون ً‬
‫أحيانا بحرمانهم من رفقة زمالئهم املسجونين‪،‬‬
‫ويوضعون في الزنزانة‪ .‬وحضارتنا ولغتنا وديانتنا وأخالقنا تدل على‬
‫الحياة االجتماعية‪.‬‬

‫ولكنا‪ ،‬ألننا نعيش في مجتمع‪ ،‬نجدنا منساقين في تياراته‪ ،‬آخذين‬


‫بأساليبه‪ ،‬معتمدين على قيمه وأوزانه‪ ،‬فتبرز في وجداننا حقائق‬
‫العيش والكسب والوجاهة واألبهة‪ ،‬ونعمى عن حقائق أخرى أكبر‬
‫وزنا؛ أي إن الحقائق االجتماعية التافهة ً‬
‫كثيرا ما‬ ‫قيمة وأعظم ً‬
‫تغطي على الحقائق البشرية الجليلة‪.‬‬

‫ومن هنا قيمة الخلوة؛ فإن التفكير بطبيعته اجتماعي؛ أي إننا‬


‫نفكر بالقيم واألوزان االجتماعية‪ ،‬بل بكلمات اجتماعية‪ ،‬ولكنا ال‬
‫نحسن التفكير إال في الخلوة بعيدين عن صخب املجتمع‬
‫وضوضائه‪ .‬والخلوة والهواية كلتاهما ضرورية لنا كي نجد االتزان‬

‫‪159‬‬
‫النفس ي والتأمل الفلسفي‪ ،‬وكأننا بهما نبتعد عن املجتمع‪ ،‬ونستقل‬
‫من جميع اعتباراته‪ ،‬ونحاول أن ننحرف عن طرقه وأوضاعه كي‬
‫نرى أنفسنا‪.‬‬
‫ً‬
‫تدريبا‪،‬‬ ‫وإذا كانت الهواية تربينا ألنها تتيح لذكائنا أو عضالتنا‬
‫ً‬
‫وتبسط لنا آفاقا‪ ،‬فإن الخلوة تتيح لنا الوقت واالنفراد كي نبحث‬
‫من وقت آلخر عن مراسينا في املجتمع‪ ،‬بل في الكون؛ ألنها تنزعنا‬
‫من هذا املوكب الذي نسير فيه‪ ،‬أو باألحرى ننساق فيه ذاهلين‪،‬‬
‫إلى موقف الوجدان والتردد والتأمل‪ ،‬والتساؤل‪ :‬هل نحن على‬
‫صواب أم خطأ؟ هل عاداتنا ومألوفاتنا قد غمرت حياتنا حتى‬
‫سنة مقدسة يجب‬ ‫ناموسا أز ًّليا‪ ،‬والوضع القائم َّ‬
‫ً‬ ‫صرنا نعد العرف‬
‫أال تتغير؟‬

‫والتأمل في الخلوة يرفعنا فوق هذه االعتبارات؛ ألننا نحاول أن‬


‫ً‬
‫نفهم الفهم املوضوعي‪ ،‬فهم الوجدان والتعقل‪ ،‬بدال من الفهم‬
‫االنسياقي االجتماعي‪ ،‬كأننا بهذه الخلوة نأخذ من املجتمع «إجازة»‬
‫كي نفكر وحدنا بال تدخل منه‪ ،‬فنعتكف ونقارن بين القيم‬
‫القديمة والقيم الجديدة‪ ،‬وبين ما يجري وما يجب أن يجري‪ ،‬وبين‬
‫القيمة االجتماعية والقيمة البشرية‪ .‬والخلوة هي التي تحملني —‬

‫‪160‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫مصريا فقط؛ إذ أنا قبل ذلك‬ ‫مثال — على أن أحس أني لست‬
‫بشر ٌّي أنتمي إلى ‪ ٢٢٠٠‬مليون إنسان‪ ،‬وليس إلى ‪ ١٧‬مليون مصري‬
‫فقط‪ ،‬وهؤالء هم عائلتي الكبيرة التي ترتفع فوق الوطنية واملذهب‬
‫والساللة واللون‪ .‬هم البشرية التي توج بها التطور بعد ألف مليون‬
‫سنة من الكفاح البيولوجي هذا الكوكب‪ ،‬والذين أفكر فيهم حين‬
‫أتخيل اإلنسان بعد مليون سنة‪.‬‬

‫وما أبدع غاندي حين يصر على أن يختص بيوم كل أسبوع يصوم‬
‫يختل ولم يعتكف؛ ألنه‬
‫فيه عن الكالم‪ ،‬فال يخاطبه أحد ولو لم ِّ‬
‫في هذا الصمت يجد خلوه ذهنية يستطيع أن يفكر فيها دون أن‬
‫يرتطم ذهنه بسؤال أو اعتراض أو اعتبار‪.‬‬

‫وكل منا محتاج إلى مثل هذا اليوم األسبوعي‪ ،‬ولكن الخلوة يجب‬
‫أن تكون مادية؛ ألننا لم نرتفع إلى مقام غاندي حتى نأمر فنطاع؛‬
‫أي نطلب أال يخاطبنا أحد فيسمع لنا‪ ،‬وإذا نحن اختلينا وانفردنا‬
‫وجدنا هذه الفرصة‪ .‬ويحسن أن نختلي بال كتاب أو جريدة‪ ،‬ولكن‬
‫مع ورقة وقلم كي ندون ما يستحق من أفكارنا الطارئة‪ .‬وقد عرفت‬
‫اللغة العربية كلمة «خلوتي»‪ ،‬وهي صفة املتصوف الذي كان يخلو‬
‫منفردا دون أن يشغله شاغل بشري أو مادي‪.‬‬‫ً‬ ‫ويعتكف كي يتأمل‬

‫‪161‬‬
‫وفي حياتنا مشكالت كثيرة تطالبنا بأن نخلو ونفكر‪ :‬ما هو الدين؟‬
‫ما هو الشرف؟ ما هو الكون؟ ماذا بقي لي من العمر؟ وماذا أنا‬
‫فاعل به؟‬

‫وما هو برنامجي — برنامج الحياة — في السنوات الخمس‬


‫القادمة؟ هل درست ديانتي؟ هل درست الفلك وهو أقرب العلوم‬
‫إلى الديانة؟ هل حياتي املاضية أو الحاضرة يصح أن تستمر كما‬
‫هي في املستقبل؟ أو هل يجب أن أتغير؟‬

‫ومثل هذه املشكالت تحتاج إلى الخلوة؛ ألنها بشرية كونية ال‬
‫حد باالعتبارات القومية أو االجتماعية‪ .‬والذهن‬‫تضيق وال ُت ُّ‬
‫الناضج ال يفتأ يفكر فيها‪ ،‬ولكن ال يحسن التفكير فيها إال في‬
‫خلوة‪ ،‬وقد كان جيته يقول‪« :‬بدون الوحدة التامة ال أستطيع أن‬
‫شيئا ً‬
‫بتاتا‪».‬‬ ‫أنتج ً‬

‫ً‬
‫والواقع أن كل مفكر يرتفع إلى مستوى ٍ‬
‫عال من املركبات الذهنية‬
‫َّ‬
‫يحتاج إلى خلوة من وقت آلخر‪ ،‬وإذا نظم كل منا خلواته وجعل لها‬
‫ً‬ ‫ميعادا ً‬
‫معينا‪ ،‬مرة في الشهر أو في األسبوع‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫ويوما كامال أو بعض‬
‫يوم‪ ،‬فإنه يجد أنه في مراجعته لحياته املاضية‪ ،‬وفي ُّ‬
‫تبصره‬

‫‪162‬‬
‫باملستقبل قد اهتدى إلى أساليب وأهداف ما كان ليصل إليها لو‬
‫أنه استسلم وانساق في املجتمع‪.‬‬

‫وهذه الحياة االجتماعية التي تالبسنا في البيت والقهوة والنادي‬


‫واملكتبة‪ ،‬بل حتى في الجريدة والكتاب تحول دون التفكير املثمر‪،‬‬
‫وتشغلنا بتوافه وصغائر تتبدد بها حياتنا‪ ،‬ولكن الخلوة تجمع‬
‫تفكيرنا في بؤرة‪ ،‬وتفتح لنا نوافذ على فضاء آخر قد نجد فيه ما‬
‫نتغير به إلى أحسن‪.‬‬
‫ًّ‬
‫وليست الخلوة التي نقترح بالش يء الجديد؛ ألن الواقع أن كال منا‬
‫يخلو ويعتكف من وقت آلخر؛ فإن أحدنا يخرج إلى قهوة نائية كي‬
‫يخلو ويفكر‪ ،‬وعقب الغداء قد ننسطح في الفراش ال لننام بل‬
‫متنح كي‬
‫لنفكر في موضوع معين‪ ،‬بل ربما قصد أحدنا إلى طريق ٍ‬
‫جرا‪ .‬فنحن نحس الحاجة إلى‬ ‫ً‬
‫منفردا للتفكير‪ ،‬وهلم ًّ‬ ‫يمش ي فيه‬
‫االنفراد والخلوة‪ ،‬ونمارسهما دون أن نحتاج إلى إرشاد‪ ،‬ولكن إذا‬
‫جعلنا خلوتنا معينة بمواعيد كان ذلك أنجع لتفكيرنا‪ ،‬وأنظم‬
‫لحياتنا‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫قيمة الحب للحياة الفنية‬

‫كلمة «الحب» من الكلمات التي تتعدد معانيها وتختلف؛ ولذلك‬


‫احتاج مترجم اإلنجيل إلى أن يستعمل كلمة «املحبة» للمعنى‬
‫املسيحي الخاص‪ .‬وهذا التعدد يتضح عندما يقول أحدنا‪ :‬إنه‬
‫يحب البرتقال‪ ،‬أو يحب زوجته‪ ،‬أو يحب النظام‪ ،‬أو يحب هللا؛‬
‫فإننا هنا إزاء طائفة من املعاني املختلفة التي كان يجب أن يكون‬
‫لكل منها كلمة خاصة‪.‬‬

‫ونحن نقتصر هنا على معنيين؛ هما‪ :‬الحب الجنس ي‪ ،‬والحب‬


‫البشري؛ فإن كثيرين من املفكرين يرجعون حب البشر؛ اإلخاء‬
‫والصداقة والتعاون‪ ،‬إلى الحب الجنس ي‪ ،‬كأن هذا هو الجذر الذي‬
‫ًّ‬
‫إليه ترجع عواطفنا البشرية السخية‪ ،‬ولكن الحقيقة أن كال منهما‬
‫يرجع إلى أصل منفصل عن اآلخر؛ فغاية الحب الجنس ي هي‬
‫التناسل‪ ،‬وغاية الحب البشري هي تكبير الشخصية‪ ،‬والتعاون‬
‫االجتماعي‪ ،‬والرقي العائلي‪ ،‬والنمو الذهني‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ضروريا للتناسل؛ فإن‬ ‫ًّ‬
‫جنسيا»‬ ‫وليس هذا الذي نسميه ًّ‬
‫«حبا‬
‫ً‬
‫السمك — مثال — يتناسل باملاليين‪ ،‬ومع ذلك ال يعرف الحب؛‬

‫‪164‬‬
‫ألن الذكر يلقي بجراثيمه في املاء‪ ،‬وكذلك األنثى تلقي بويضاتها في‬
‫املاء مثله‪ ،‬ثم يتم التالقيح في املاء دون أن يعرف الذكر األنثى‪.‬‬

‫وعندما نتأمل الحيوان وقت التالقح نجد أن العاطفة الغالبة‪،‬‬


‫والتي تتضح من سلوكه‪ ،‬هي عاطفة االفتراس واألكل وااللتهام؛‬
‫ً‬
‫وأحيانا ينقلب‬ ‫فإن الذكر يفترس األنثى‪ ،‬وليس بين االثنين حنان‪،‬‬
‫التالقح إلى شجار وقسوة وافتراس‪ .‬وإذا كان الحب الجنس ي بين‬
‫البشر قد خالطته رقة وحنان أو عطف‪ ،‬فإنما مرجع ذلك إلى‬
‫الثقافة االجتماعية التي ارتقت بها عواطفنا‪.‬‬

‫أما الحب البشري فمرجعه إلى ينبوع آخر هو حب األم ألوالدها‪،‬‬


‫جدا عن الحب الجنس ي؛ إذ‬ ‫وحب هؤالء لها‪ ،‬وهذه العاطفة بعيده ًّ‬
‫هي تنضح ً‬
‫حنانا ورقة‪ ،‬وهي تحمل األم واألبناء على أن يترافقوا‬
‫ويتعاشروا ويتعاونوا‪.‬‬

‫واإلنسان البدائي كان دائم االرتحال‪ ،‬فكانت األم مع أوالدها‬


‫تعلقهم بها يحملهم ً‬‫ُّ‬
‫أيضا على أن يتعلق‬ ‫ترعاهم وتربيهم‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫أحدهم باآلخر؛ فإذا ماتت األم — مثال — بقي األبناء على قواعد‬

‫‪165‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫رفقتهم السابقة يتعاشرون ويتعاونون‪ .‬وهذه األخوة بينهم هي أصل‬
‫اإلخاء البشري‪ ،‬بل أصل املجتمع‪.‬‬

‫بل نستطيع أن نزيد هذا التمييز بأن نقول‪ :‬إنه إذا أحب الرجل‬
‫بشريا فإن هذا الحب يحول دون الحب الجنس ي؛‬ ‫حبا ً‬
‫عميقا ًّ‬ ‫املرأة ًّ‬
‫ً‬
‫تناقضا بين االثنين‪ :‬األول كله حنان ورقة‪ ،‬والثاني‬ ‫كأن هناك‬
‫بعضه افتراس وقسوة‪.‬‬

‫وعندما نتأمل الحب الجنس ي نجد أنه غريزة ذاهلة‪ ،‬ولكن الحب‬
‫البشري عقل ووجدان؛ ولذلك نحن نزداد وننمو بالحب البشري‬
‫الذي ترتقي به شخصيتنا؛ ألن هذا الحب يستنبط منا أحسن‬
‫ً‬
‫أحيانا في‬ ‫الخصال في الحنان والرقة والظرف والكياسة‪ ،‬بل‬
‫ًّ‬
‫إنسانيا‪ ،‬وما ندعو‬ ‫التضحية‪ .‬وهذا الحب هو الذي يجعل اإلنسان‬
‫إليه من إخاء بشري‪ ،‬أو ما نقدره من خصال في صديق‪ ،‬أو ما‬
‫نتعلق به من آمال نرض ى بأن نضحي لتحقيقها‪ ،‬إنما كل هذا يعود‬
‫ُّ‬
‫والبنوة‪.‬‬ ‫إلى الحب البشري الذي كسبناه من عواطف األمومة‬
‫قلنا‪ :‬إن الحب البشري عقل ووجدان‪ ،‬ولذلك نحن نزداد ً‬
‫فهما‬
‫ينبه الذهن ويوقظه‪ ،‬وهو هنا نقيض الحب‬
‫بالحب؛ ألن الحب ِّ‬

‫‪166‬‬
‫الجنس ي الذي ننساق فيه بالغريزة؛ ولذلك ً‬
‫أيضا ً‬
‫كثيرا ما نجد أن‬
‫بذور العبقرية‪ ،‬أو على األقل النبوغ‪ ،‬تعود إلى الحب؛ ألن الصبي‬
‫الذي يحب الطبيعة ويجمع األحياء أو الزهور أو األصداف‬
‫واملحار‪ ،‬هذا الصبي يحدوه حب بشري قد استحال إلى حب‬
‫ينبه ذكاءه‪ ،‬ويبسط آفاقه‪ ،‬ويكبر شخصيته‪ .‬وهو بهذا‬ ‫للطبيعة‪ِّ ،‬‬
‫الحب أقرب ما يكون إلى النبوغ أو العبقرية؛ ألنه — بالحب —‬
‫يرى أكثر‪ ،‬ويفهم أكثر‪ ،‬كما ترى األم في ابنها وتفهم أكثر مما يرى‬
‫غيرها فيه؛ للحب الذي تحس به نحوه‪.‬‬

‫والحياة الفنية تطالبنا بأن نجعل الحب شعارنا؛ ألنه‪ ،‬أي الحب‪،‬‬
‫ً‬
‫يملؤنا تفاؤال فنبتعد عن الخوف والقلق والشك‪ ،‬ونستكثر من‬
‫األصدقاء‪ ،‬أو على األقل نلتزم أصدقاءنا‪ ،‬ونخدمهم في سرور‪ .‬وإذا‬
‫جعلنا أساس عالقتنا بالناس والدنيا ًّ‬
‫حبا فإننا ال نسأم الحياة‪ ،‬بل‬
‫نجد كل ما فيها يدعو إلى العطف والفهم‪.‬‬

‫ولكن الحب مثل الشجاعة يحتاج إلى تدريب‪ .‬وصحيح أننا نكسب‬
‫ً‬
‫شيئا من الحب العائلي؛ أي من عالقتنا باألم واإلخوة واألب‪ ،‬ولكن‬
‫عفوا في طفولتنا وصبانا يحتاج إلى الرعاية‬‫هذا الذي نكسبه ً‬
‫والتنمية‪ .‬ونستطيع أن نتعود الحب بالصداقة والتعاون‬

‫‪167‬‬
‫والضيافة والخدمة‪ ،‬حتى ولو كانت طفولتنا قد أهملت‪ ،‬أو كانت‬
‫الفرص فيها قليلة لتنمية الحب‪.‬‬

‫والرجل الذي تنبعث فيه عاطفة الحب نحو املجتمع أو البشر هو‬
‫أقرب الناس إلى السعادة‪ ،‬وهو أبعد الناس عن الشقاء‬
‫النيوروزي‪ .‬وكلمة السعادة من الكلمات التي يجب أال نخلطها‬
‫بإحساس السرور‪ ،‬ولكن الحب يبعث السعادة الحقة الدائمة‬
‫أكثر مما يبعثها السرور الزائف الزائل‪.‬‬

‫ومن هنا تأكيد األديان جميعها للحب؛ إذ ال يمكن أن يتأسس دين‬


‫على غير الحب؛ ألن الدين ينشد السعادة‪ ،‬والحب بجميع مركباته‬
‫الذهنية والعاطفية هو أعظم األسس للسعادة‪ .‬وعبارة «املركبات‬
‫توضيحيا للحب؛ ذلك أن الحب‬‫ًّ‬ ‫الذهنية والعاطفية» تحمل معنى‬
‫يحتاج إلى تربية كما يحتاج إلى مرانة‪ ،‬ويجب لذلك أن يكون ً‬
‫مثقفا‬
‫ًّ‬
‫وعمليا من ناحية أخرى باملرانة‪.‬‬ ‫من ناحية بالتربية‪،‬‬

‫فنحن نعرف أن الرجل املثقف الذي يتجه الوجهة العاملية‪،‬‬


‫ويدرك املغزى للتطورات البيولوجية والتاريخية‪ ،‬ويدأب طوال‬
‫عمره في درس الشئون البشرية‪ ،‬مثل هذا الرجل املثقف يحب؛‬

‫‪168‬‬
‫ألنه يعرف أكثر من غيره‪ ،‬وقلبه سمح؛ ألن قلبه أعرف؛ فاتساع‬
‫املعرفة سبيل إلى اتساع الحب؛ ولهذا السبب ً‬
‫أيضا يعد األدب في‬
‫صميمه والفلسفة في صميمها دعوة إلى الحب البشري والخير‬
‫العام‪.‬‬

‫ولكننا نحتاج كي نجعل الحب مزاجنا النفس ي واتجاهنا األخالقي‪،‬‬


‫ً‬
‫إلى املرانة؛ أي يجب أن نؤدي عمال ما يحمل معنى الحب‪ ،‬وكل منا‬
‫يستض يء هنا بمعارفه السابقة؛ ألنه على قدر هذه املعارف يكون‬
‫يعين الهدف والسلوك‪ .‬وقد يقنع أحدنا‬ ‫الضوء املنير الذي ِّ‬
‫باإلحسان ملعاونة الفقراء‪ ،‬أو االنضواء إلى جمعية ملنع القسوة‬
‫على الحيوان‪ ،‬أو معاونة الصبيان املشردين‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫ُ‬
‫هناك من يعرف أكثر ألن ثقافته أوسع وأعمق‪ ،‬وهو لذلك أنفذ‬
‫ً‬
‫بصيرة في األسباب التي تجر البؤس واملرض والرجعية والجهل‪ .‬وقد‬
‫يجد — لهذا السبب — أن الدعوة االشتراكية والكفاح لنشرها‬
‫خير األعمال التي يجب أن يقوم بها؛ ألنها جماع اإلصالحات التي‬
‫ً‬
‫ينشدها غيره متقطعة مجزأة‪ .‬وقد يجد عمال آخر‪ ،‬ولكن املهم أننا‬
‫نحب بممارسة الحب‪ ،‬وأن هذه املمارسة تزيد حبنا للبشر كما‬
‫فهما وسعادة‪ ،‬ولو شاء أحدنا أن يصف الدين الذي يؤمن‬ ‫تزيدنا ً‬

‫‪169‬‬
‫به دون أن ِّ‬
‫يعين اسمه بأنه دين الحب‪ ،‬لقال أحسن ما يقال‬
‫وأسمى ما يقال عن الدين‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫من التبلور إلى التجوهر‬

‫عندما يأخذ الكيماوي في تحليالته إلحدى املواد التي يقصد إلى‬


‫عزلها يكون منتهى ما ينشد من نجاح أن يبلورها؛ أي ُيخرجها نقية‬
‫خالصة من األخالط التي كانت تشوبها وهي خامة‪ .‬وهذا التبلور هو‬
‫محاولة للوصول إلى الجوهر؛ أي هو تجوهر‪.‬‬

‫ونحن البشر في حياتنا املدنية نولد وننشأ في وسط املدينة أو‬


‫ً‬
‫الريف‪ ،‬فإذا كنا أطفاال تشابهت تقاسيمنا ومالمح وجوهنا كما‬
‫تشابه سلوكنا إال القليل ًّ‬
‫جدا‪ ،‬والذي تبرزه فروق الوراثة؛ فنحن‬
‫في الطفولة مواد بشرية خامة لم تتبلور أو تتجوهر‪.‬‬

‫ثم ندخل املدارس ونحترف الحرف‪ ،‬ويؤثر الوسط الخاص أثره في‬
‫محام‪ ،‬وهذا حوذي وذاك‬ ‫ٍ‬ ‫كل منا فنختلف؛ هذا تاجر وذاك‬
‫وكل من هذه الحرف‬ ‫مزارع‪ ،‬وهذا كاتب موظف وذاك مهندس حر‪ٌّ ،‬‬
‫يطبع طابعه في تقاسيم النفس والجسم‪ ،‬ثم تمض ي السنوات‪،‬‬
‫عشرون أو ثالثون سنة‪ ،‬ونحن نلتزم حرفة بسلوكها وأخالقها التي‬
‫تقتضيها‪ ،‬وبمرور هذه السنين نتكشف كالزهرة من التعميم إلى‬
‫التخصيص‪ ،‬ومن الحال الخامة إلى حال التبلور‪ ،‬وكأن هذه‬

‫‪171‬‬
‫االختبارات التي تمر بنا تصهرنا وتخرج منا الجوهر الخاص‪ .‬أجل‪،‬‬
‫هو الجوهر‪ ،‬ولكنه جوهر الحرفة وليس جوهر الشخصية‪.‬‬

‫لذلك عندما نتأمل أحد الناس الذين التزموا حرفة ما ثالثين أو‬
‫أربعين سنة ال نكاد نخطئ في تعيين حرفته دون أن نحتاج إلى‬
‫سؤاله عنها؛ ألنها تخبرنا وهو يتحدث؛ ألن لهجة الحرفة غالبة‬
‫عالية‪ ،‬كما نجد من إيماءاته واختيار أحاديثه جميع األمارات التي‬
‫تعلن عن حرفته‪.‬‬
‫َّ‬
‫وبخالف هؤالء نجد أن ذلك الشخص الذي تقلب في حرف كثيرة‪،‬‬
‫فهو َّبقال‪ ،‬ثم سمسار‪ ،‬ثم كاتب‪ ،‬ثم صانع‪ ،‬ثم مزارع‪ .‬مثل هذا‬
‫نعين حرفته؛ ذلك أن‬
‫الشخص ال يتبلور؛ فإذا قعدنا إليه لن ِّ‬
‫اهتماماته الحرفية ال تتجمع في بؤرة‪ ،‬بل تتشعع هنا وهناك؛‬
‫أيضا ال يترك في أذهاننا — من حيث الحرفة — صورة‬ ‫ولذلك ً‬
‫معينة‪.‬‬

‫ولسنا بهذا الذي ذكرنا ُنؤ ِّثر ذلك امللتزم لحرفة ما على اآلخر الذي‬
‫ً‬
‫تجوهرا نكسبه‬ ‫تقلب وتغير‪ ،‬وإنما نريد أن نبين أن هناك ً‬
‫تبلورا أو‬

‫‪172‬‬
‫من الحرفة التي نلتزمها سنين كثيرة‪ ،‬كأن الحرفة قد استصفت‬
‫وعينته َّ‬
‫ونحت عنه الزوائد‪.‬‬ ‫جوهرها َّ‬

‫وعندما نتقدم في السن‪ ،‬ونكون قد عنينا بتربية أنفسنا وتنمية‬


‫أيضا نتبلور ونتجوهر‪ ،‬ولكن ليس من حيث‬ ‫شخصيتنا‪ ،‬نجد أننا ً‬
‫الحرفة فقط‪ ،‬بل من حيث الشخصية‪ .‬وصحيح أن الحرفة هي‬
‫بعض املؤثرات في الشخصية‪ ،‬ولكن هناك مؤثرات أخرى عديدة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جوهرنا‪.‬‬
‫بلورنا وت ِّ‬
‫إلى جانب الحرفة‪ ،‬هي ت ِّ‬
‫ً ً‬ ‫فجا ً‬‫شابا ًّ‬
‫اعتبر ًّ‬
‫أيضا رجال في الخمسين قد نضجت‬ ‫خاما‪ ،‬واعتبر‬
‫أخالقه وأينعت شخصيته‪ ،‬وقارن بين االثنين‪ ،‬تجد أن األول ال‬
‫يزال في التعميم؛ فهو «أحد الشبان»‪ ،‬أما الثاني فقد تخصص وله‬
‫مغزى‪ ،‬وهو رمز إلى أشياء عدة لها قيمتها االجتماعية أو الثقافية‪.‬‬

‫وهذه الرمزية وهذا املغزى هما ثمرة الحياة الحيوية؛ الحياة الفنية‬
‫نهجا‪ ،‬ونكسب‬ ‫التي قضيناها ونحن نقصد إلى غاية‪ ،‬ونتبع ً‬
‫ً‬
‫جميعا تصهرنا‪ ،‬وتحيل التبر إلى املعدن‬ ‫االختبارات وننمو بها‪ .‬وهي‬
‫الخالص‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫وإذا كانت غايتنا أن نصل إلى الشخصية اليانعة‪ ،‬وأن نتبلور إلى‬
‫الفكرة الجوهرية‪ ،‬وأن يستحيل وجودنا في مجتمعنا إلى مغزى‪،‬‬
‫ً‬
‫معرقال أو ً‬
‫مبطئا؛ ألنه‬ ‫فإن التزام الحرفة الواحدة قد يكون عندئذ‬
‫يحد من حيويتنا واختباراتنا‪ .‬أجل‪ ،‬يجب أن تكون الحرفة بعض‬ ‫ُّ‬
‫يكون شخصيتنا وينميها ويبرز املغزى في حياتنا‪ ،‬ولكن يجب أال‬‫ما ِّ‬
‫تكون هي كل ش يء‪.‬‬

‫وفن الحياة يقتضينا أن نرقى إلى السنين‪ ،‬ونسير في التعمير ونحن‬


‫على الدوام في ازدياد التبلور والتجوهر‪ ،‬ننفي الزيادات ونطلب‬
‫الخالصة‪ .‬وفي حياتنا أشياء كثيرة من هذه الزيادات التي تنمو‬
‫علينا كما تنمو صغار املحار والودع على السرطان في البحر؛‬
‫ً‬
‫فتعوق سباحته‪ ،‬وتتطفل على جسمه؛ فهناك — مثال —‬
‫التزامات «اجتماعية» تبعثر وقتنا‪ ،‬وهناك «مشاغل» مالية‬
‫تستهلك طاقتنا الحيوية‪ ،‬بل هناك مطامع نشأت ونمت معنا‪،‬‬
‫بقوة التكرار وحكم العرف االجتماعي‪ ،‬إذا تأملناها بعد الخمسين‬
‫ألفيناها عقيمة تشغلنا عن الجوهر والخالصة‪ ،‬وتمنعنا من أن‬
‫اليقظة فيما بقي لنا من عشرين أو‬‫نعيش املعيشة الوجدانية ِّ‬
‫ثالثين سنة‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫لنكن أدباء وشعراء‬

‫ينشأ الترف للخاصة التي يتوافر لها الفراغ واملال‪ ،‬فتستطيع أن‬
‫تعيش فوق مستوى الكفاية والضرورة‪ ،‬وتطلب ما نعده من‬
‫الكماليات والزيادات‪ .‬وأدوات الترف في أيامنا كثيرة‪ ،‬وهي تختلف‬
‫من الطبق الصيني الذي يومئ بزخرفته إلى عصر مض ى‪ ،‬إلى بساط‬
‫إيراني تزدهي ألوانه‪ ،‬إلى غير ذلك مما ال يزال يقتنيه األثرياء‪ ،‬بل‬
‫حتى الكتب القديمة قد أصبحت ً‬
‫نوعا من الترف يشتريه األثرياء‪،‬‬
‫ورث كأنها بعض الجواهر‪.‬‬ ‫ويحفظونه ِّق ْنية ُت َّ‬

‫ألوانا من الترف ُتمارس؛‬


‫وأدوات الترف هذه ُتقتنى‪ ،‬ولكن هناك ً‬
‫كاألدب والشعر وسائر الفنون الجميلة‪ .‬وصحيح أن هناك من‬
‫يحترفونها‪ ،‬ويجدون فيها ضرورة العيش ووسيلته‪ ،‬بل يجدون فيها‬
‫ينفسون بها عن كظوم نفسية‪.‬‬ ‫ً‬
‫أيضا ضرورة الحياة؛ ألنهم ِّ‬
‫ً‬
‫وعلى ذلك ليست الفنون الجميلة عند من يحترفونها ترفا‪ ،‬ولكنها‬
‫كذلك عند من يهوونها؛ أي يجعلون منها هواية ينفقون عليها من‬
‫وقتهم ومالهم؛ يشترون الكتب األدبية كي يقرءوها‪ ،‬ثم ال يكتفون‬
‫بهذا‪ ،‬بل يحاولون أن يكونوا أدباء وشعراء وفنانين‪ .‬وهذه املحاولة‬

‫‪175‬‬
‫— وهي في األغلب محاوالت عديدة تنتهي إلى أن تكون ممارسة‬
‫مزمنة — هي نوع من الترف؛ ألن املمارس لهذه الفنون ال‬
‫يتخصص؛ إذ هو في األغلب موظف في الحكومة أو في شركة‪ ،‬وقد‬
‫معلما أو ً‬
‫طبيبا أو ً‬
‫تاجرا‪ ،‬ولكنه منذ فجر شبابه التفت إلى‬ ‫يكون ً‬
‫لون من التأنق الفكري عند أحد املؤلفين‪ ،‬فاستهواه وجذبه‬
‫وحمله على االستزادة من القراءة واالطالع‪ ،‬ثم بعد ذلك أخذ‬
‫التأليف يداعبه فصار يكتب املقالة أو القصة‪ ،‬ويقرض البيت أو‬
‫البيتين‪ ،‬بل هو ربما يعمد إلى التوسع الفني فيسأل عن املوسيقا‬
‫واملسرح‪ ،‬وينتقد ويتحرى األصول ويحاول التعمق‪ .‬وهو هنا ال‬
‫يبغي ً‬
‫كسبا من هذا املجهود؛ إذ هو ال يريد احتراف الفن؛ ألنه قانع‬
‫بأن يكون ً‬
‫هاويا ال أكثر‪.‬‬
‫وث ْق — أيها القارئ — أن هذا الهاوي الذي ال يكسب ً‬
‫قرشا من‬ ‫ِّ‬
‫هوايته‪ ،‬بل لعله ينفق الكثير عليها باقتناء الكتب‪ .‬هذا الهاوي ال‬
‫يضيع وقته؛ ألنه بهوايته هذه يرتفع إلى أسمى ما وصل إليه التأنق‬
‫الذهني‪ .‬ذلك أن الشاعر يتخير من الكلمات واملعاني ما يسمو على‬
‫املبتذل املألوف‪ ،‬واألديب يحاول أن يحيل هذه الحياة التكرارية‬
‫اآللية إلى قصيدة فنية‪ ،‬وكذلك الشأن عند جميع الفنانين‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫والهاوي الذي يغمره هذا الجو‪ ،‬ويعيش في هذا املناخ ينتهي إلى أن‬
‫يتنفس هواءه‪ ،‬ويأخذ بمقاييسه‪ ،‬وعندئذ ينتقل التأنق في التعبير‬
‫إلى التأنق في الحياة‪ ،‬ويعيش عندئذ حياة مترفة تبدو لغيره مثل‬
‫سائر الحيوات‪ ،‬ولكنها في الصميم فن وترف في التفكير؛ ذلك أن‬
‫األديب يعيش من يده إلى فمه كما هو الشأن في سائر الناس من‬
‫حيث النشاط الذهني؛ ألنه بهذا النشاط قد استطاع أن يخلق‬
‫يجتر فيه أفكاره‪ ،‬ويتخيل ويتأمل‪ ،‬ويذكر‬ ‫لنفسه عاملًا آخر ُّ‬
‫املاض ي‪ ،‬ويبصر باملستقبل‪ ،‬ويدرس في تعب أو لذة‪ ،‬ثم يقيس‬
‫حاضر املجتمع وواقعه بما ينبغي أن يكون‪ .‬وهو قد وجد في األدباء‬
‫حدثوه أحاديث الكمال‬ ‫والشعراء القدامى والعصريين َمن َّ‬
‫والسمو والعدل والشرف واإلنسانية والرقي‪ .‬فهو بهذا كله يجد في‬
‫ً‬
‫كظوما تحمله على التفريج بالكتابة‪ ،‬وقد ينجح ويعود‪ ،‬أو‬ ‫نفسه‬
‫يبدأ يصف الدواء ملساوئ عصره‪ ،‬وقد ال ينجح في الوصول إلى‬
‫الجماهير‪ ،‬ولكنه مع ذلك قد دخل مدينة الفن واألدب والشعر‪،‬‬
‫واستمتع بما فيها من كنوز‪ ،‬وهو لن يخرج منها طوال حياته‪ ،‬ولن‬
‫يهجرها إلى غيرها‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫إني أقصد أن يبدأ كل شاب حياته الوجدانية بالتعرف إلى اآلداب‬
‫ً‬
‫محاوال‪ ،‬ثم ينتهي ً‬ ‫متفرجا ً‬
‫متنزها‪ ،‬ثم َّ‬ ‫ً‬
‫كاتبا‪،‬‬ ‫يتدرج‬ ‫والفنون؛ يبدأ‬
‫وأقصد ً‬
‫أيضا أن يبدأ الشاب وهو يجد الفن أو الشعر أو األدب في‬
‫الكتاب‪ ،‬ولكن يجب أن ينتهي بأن يحاول إيجاد الفن والشعر‬
‫واألدب في حياته‪ .‬أجل‪ ،‬هذه الحياة يجب أال نتركها تجري في نثر‬
‫مبتذل‪ ،‬بل نجعل منها قصيدة‪ ،‬أو على األقل نجعل بعض األبيات‬
‫العالية تتخلل هذا النثر‪ ،‬فنعيش ولو لحظات في حياتنا نحس فيها‬
‫املجد والقداسة والبطولة‪ ،‬ونرى الجمال ُّ‬
‫يشع من قلوبنا‪.‬‬
‫ً‬
‫ساخرا ويقول‪ :‬هذا خيال! إنما الحياة مجهود‬ ‫وهنا يضحك بعضنا‬
‫نجمع فيه ونكنز لليوم العصيب واألزمة الطارئة‪ ،‬وليست الحياة‬
‫قضاء الوقت في تأليف الشعر‪.‬‬

‫وجوابي أني ال أنكر قيمة املجهود نبذله كي نكفل الطعام واللباس‬


‫والسكنى‪ ،‬ولكن هل معنى هذا أن نقض ي العمر كله في االهتمام‬
‫بالطعام واللباس والسكنى؟!‬
‫ًّ‬
‫إنسانيا إذا اقتصرت اهتماماته‬ ‫إن اإلنسان ال يمكن أن يكون‬
‫وهمومه على الطعام واللباس والسكنى‪ ،‬وإنما هو يرتفع إلى‬

‫‪178‬‬
‫اإلنسانية عندما تجد الثقافة الفنية؛ ثقافة الترف الفكري‪،‬‬
‫ً‬
‫مسكنا في ذهنه تأوي إليه‪ ،‬بل تمرح فيه وتمتزج بخالياه‪ ،‬وتعود‬
‫ويعين له التصرف‬ ‫ً‬
‫ويكيفه ِّ‬
‫جزءا ال ينفصل من حياته يوجهه ِّ‬
‫والسلوك؛ أي يجعله ويضطره إلى أن يعيش املعيشة الفنية‪.‬‬

‫شابا ال يبالي أن يتغذى بأي طعام يكسر حدة الجوع‪ ،‬وال‬ ‫أعرف ًّ‬
‫يبالي أي لباس يتخذ‪ ،‬ومسكنه غرفة فوق سطح أحد املنازل‪ ،‬وهو‬
‫بهذه املعيشة غير متمدن؛ أي إنه ال يستمتع بمتع الحضارة في‬
‫السكنى واللباس والطعام! وهي متع ال ُتنكر قيمتها‪ ،‬ولكن هذه‬
‫القيمة صغيرة ًّ‬
‫جدا إلى جنب املتع الثقافية الفنية التي يلمع بها‬
‫الذهن‪ ،‬وتسمو بها النفس‪ .‬واملقارنة بين الذهن املثقف وبين‬
‫حضارة السكنى والطعام واللباس هي أشبه املقارنات بنظافة‬
‫الجسم إلى نظافة اللباس‪ .‬وقد كان هذا شأن هذا الشاب؛ فإنه‬
‫على الرغم من تقتيره في هذه األشياء‪ ،‬أو باألحرى إهمالها‪ ،‬كان ال‬
‫كتابا يستحق القراءة إال كان يقتنيه‪ ،‬كما كان ال يتأخر عن‬ ‫يترك ً‬
‫شراء التذكرة الغالية لحضور حفلة موسيقية‪ ،‬وكنت أجده زري‬
‫ً‬
‫الهيئة نحيال‪ ،‬ولكن ذهنه حافل باألثاث العصري للثقافة‪ ،‬ونفسه‬

‫‪179‬‬
‫فنانة لها قدرة كبيرة على التمييز الفني؛ ولذلك كان ً‬
‫فقيرا بوسطه‬
‫ًّ‬
‫غنيا بنفسه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقد يكون هذا املثال متطرفا أو مسرفا‪ ،‬ولكن الحياة الراقية‬
‫ً‬ ‫تحتاج إلى أن ُنمارس ًّ‬
‫فنا جميال ينعكس أثره في نفوسنا وعقولنا؛‬
‫فيجب أال نقرأ الشعر واألدب فقط‪ ،‬بل نحاول ممارستهما‪ .‬أجل‪،‬‬
‫يجب أن نكون كلنا أدباء وشعراء‪ ،‬نكتب األدب‪ ،‬ونقرض الشعر‪،‬‬
‫كل منا‬ ‫ليؤلف ٌّ‬
‫بل أكثر من هذا‪ ،‬ننقل األدب والشعر إلى حياتنا ِّ‬
‫حياته؛ فنحترف املجد‪ ،‬ونمارس القداسة‪ ،‬وننزع إلى البطولة في‬
‫ُ‬
‫ونفكر في أسمى املعاني‪ ،‬ون ِّعبر‬
‫الدفاع عن حق أو انتصار ملظلوم‪ِّ ،‬‬
‫بأنصع الكلمات‪.‬‬

‫وأولئك الذين ينشدون السعادة وال يعرفون ما هي قد يجدونها في‬


‫ممارسة اآلداب والفنون من حيث ال يدرون؛ وخاصة إذا انتقلت‬
‫هذه املمارسة من اللهو والتسلية إلى الكفاح والدعوة لعالم أسمى؛‬
‫أي عالم يعيش فيه الناس على مرتبة سامية من الحضارة الفنية‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫السعادة‬

‫السعادة هي سالم النفس‪ ،‬وأول ما يجب أن نعرفه عنها أنها ليست‬


‫مادية‪ ،‬ويجب أن نميز هنا بين السعادة والسرور؛ ألنهما ك ً‬
‫ثيرا ما‬
‫يشتبهان؛ ذلك أن السرور أو اللذة‪ ،‬مادية‪ ،‬أما السعادة ففكرية‪.‬‬
‫فنحن نسعد بالفكر أو باإليمان أو الرؤيا أو األمل‪ ،‬بحيث يحفزنا‬
‫ُ‬
‫واحد من هذه األشياء األربعة إلى كفاح‪ ،‬ولكنا ن َس ُّر ونلتذ بالطعام‬
‫أو اللباس أو املال أو الشهوات الجسمية‪.‬‬

‫شبع أو طمع‬‫واملسرات واللذات ألنها مادية تتوقف على جوع ُي َ‬


‫حقق‪ ،‬ثم تؤجم في النهاية‪ ،‬أو تؤدي إلى السأم‪ ،‬ولكن السعادة‪،‬‬‫ُي َّ‬
‫ألنها فكرية تنهض على إيمان أو كفاح أو اتجاه‪ ،‬ال تؤجم وال تؤدي‬
‫ً‬
‫إلى سأم؛ فالقديس — مثال — سعيد بإيمانه‪ ،‬وهو يستشهد في‬
‫فرح وطرب‪ ،‬وسعادته هنا فكرية‪ ،‬ولكن لذة الطعام تنتهي عند‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫صدودا‪.‬‬ ‫حدث‬
‫الشبع‪ ،‬وقد ت ِّ‬
‫وهناك اعتبارات أخرى تجعل السعادة دائمة باقية‪ ،‬والسرور‬
‫ًّ ً‬
‫ائال؛ ذلك أننا حين نسعد بالفكرة ال يعيق سعادتنا ٌّ‬
‫حد‪ ،‬أو‬ ‫وقتيا ز‬
‫غيرة‪ ،‬أو مقارنة مهينة لنا بغيرنا‪ ،‬أو إحساس النقص بأن هناك‬

‫‪181‬‬
‫ُ‬
‫من يحوزون أكثر مما ُح ْزنا؛ فقد أسر ألني اشتريت عزبة أو‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫اقتنيت أتومبيال أو غير ذلك من املقتنيات املادية‪ ،‬ولكني في هذا‬
‫السرور أحس ً‬
‫أيضا أني كنت أكون أكثر سرو ًرا لو لم … فإن العزبة‬
‫َ‬
‫كانت تكون أ َس ُّر لي لو كانت أكبر وأخصب‪ ،‬وكان األتومبيل يمتعني‬
‫جرا‪ .‬ولكن السعيد بفكرة ما ال‬ ‫أكثر لو كان من طراز آخر‪ ،‬وهلم ًّ‬
‫يحسد وال يغار‪ ،‬وال يحب أن يستأثر بفكرته‪ ،‬بل هو يحب‬
‫العكس؛ وهو أن جميع الناس يسعدون بمثل سعادته‪ ،‬كما‬
‫يحدث ألحدنا حين يطرب الستماعه إلى لحن جميل‪ ،‬أو ألنه يتأمل‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عظيما‪ ،‬فإنه يحث رفيقه على أن يستمع أو ينظر ويتأمل‪.‬‬ ‫مبنى‬

‫والسعادة‪ ،‬كالشعر عند إسحاق املوصلي‪ ،‬أيسر مما نظن؛ فهي ال‬
‫تحتاج إلى التكلف أو املشقة‪ ،‬بل إن السرور أدعى إلى التكلف أو‬
‫املشقة من السعادة؛ وذلك ألن السعادة ذاتية‪ ،‬في ذوات أنفسنا؛‬
‫إذ هي حال معينة أو اتجاه معين‪ ،‬أما السرور فمادي نحتاج فيه‬
‫إلى االقتناء‪.‬‬
‫وقد يكون ً‬
‫أيضا من الحق أن نميز بين السرور والسعادة بأن نقول‪:‬‬
‫إن السرور اشتهائي غريزي يتعلق بما نأكل أو نلبس أو نسكن أو‬
‫نقتني‪ ،‬ولكن السعادة وجدانية مرجعها الفكر؛ أي العقل‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫والسعادة لهذا السبب تحتاج إلى التربية الفنية‪ ،‬بل إلى املعارف‬
‫العلمية التي تكشف عن خبايا وكنوز ال تصل إلى كنهها الغرائز؛‬
‫فأنا حين أمارس الزهو االجتماعي باقتناء األثاث الفاخر‪ ،‬أو‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫غريزيا‬ ‫املطهمة أو نحو ذلك أمارس نشاطا‬ ‫بالقيام بالضيافة‬
‫شهوانيا له ذيول وهوامش من الغيرة والحسد والطمع؛ أي إنه‬ ‫ًّ‬
‫سرور معلق‪ ،‬وال أحتاج أن أتعلم كيف أمارسه‪ ،‬ولكني حين أقعد‬
‫إلى جدول املاء‪ ،‬وأتأمل الطبيعة وهي ترغي وتزبد في الحقول أيام‬
‫الربيع‪ ،‬وأتابع فراشة في نشاطها الغذائي أو الجنس ي أحس سعادة‬
‫خية وجدانية‪ ،‬وليست غريزية شهوانية‪ .‬وهذه‬ ‫مطلقة؛ سعادة ُم َّ‬
‫السعادة تحتاج إلى تعلم‪.‬‬

‫وإذا كان القارئ قد تابعنا من منطقنا‪ ،‬فإنه يستطيع أن يعرف‬


‫ملاذا نكون سعداء عندما نتأمل مقطوعة فنية من الشعر أو‬
‫الرسم أو البناء‪ ،‬أو نستمع إلى مقطوعة فنية من الغناء أو‬
‫املوسيقى‪ ،‬فنحن هنا إزاء سعادة مطلقة هي فوق الشهوات‬
‫الغريزية‪ .‬ونحن ال نأجم هذه السعادة وال نملها‪ ،‬كما أنها ال تبعث‬
‫طمعا‪ ،‬ومن هنا سعادة الفنان وسعادة‬ ‫ً‬
‫حسدا أو ً‬ ‫فينا غيرة أو‬
‫العالم الذي يبحث‬
‫الفيلسوف؛ كالهما سعيد بفكرته‪ ،‬بل إن ِّ‬

‫‪183‬‬
‫أيضا بعلمه؛ ألنه يحاول كشف سر من‬ ‫علميا سعيد ً‬ ‫ً‬
‫موضوعا ًّ‬
‫أسرار الطبيعة املغلقة؛ فهو هنا كالقديس يرى رؤيا ويعتقد أنها‬
‫ستتحقق‪.‬‬

‫وليس شك أن السعادة هي سالم النفس‪ ،‬وهل شك أحد في أن‬


‫سالم النفس هو فكري وليس ًّ‬
‫ماديا؟‬

‫والعجب أن املتع الحقيقية في هذا العالم‪ ،‬تلك املتع التي نسعد‬


‫ً‬
‫بها‪ ،‬أسهل حصوال وأرخص قيمة من املتع الزائفة التي قصارى ما‬
‫ًّ ً‬ ‫ُ‬
‫وقتيا زائال‪ ،‬وهي يجب أن تكون كذلك؛‬ ‫تؤدي أننا ن َس ُّر بها سرو ًرا‬
‫ً‬
‫ألن السعادة فكرية‪ ،‬والفكر ال يكلفنا ماال‪ ،‬ولكن السرور مادي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأحيانا تفوتنا فرصة السعادة‪ ،‬فرصة الحياة‬ ‫وجهدا‪،‬‬ ‫يكلفنا ماال‬
‫الفنية؛ ألننا استغرقنا حياتنا في السرور واللذة‪.‬‬

‫ونستطيع أن نعود هنا إلى املقارنة بين القيمة البشرية والقيمة‬


‫االجتماعية؛ ذلك أن قيمة السعادة بشرية‪ :‬في الفكر‪ ،‬واالتجاه‪،‬‬
‫والتأنق الفني‪ ،‬والتأمل الفلسفي‪ ،‬والرؤيا للمستقبل واملثليات‪،‬‬
‫والكفاح لهذه األشياء جميعها‪ .‬وجميع هذه الصفات ذاتية في ذات‬
‫أنفسنا‪ ،‬وهي بشرية لها قيمة اجتماعية‪ ،‬ولكن قيمة السرور‬

‫‪184‬‬
‫اجتماعية في األغلب؛ ألنها تنشأ من اعتبارات املجتمع؛ ألني ُأ َسرُّ‬
‫مثال — باقتناء أتومبيل؛ إذ إن مثل هذا االقتناء قد َّ‬ ‫ً‬
‫عده‬ ‫—‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫وتفوقا‪ ،‬أو أ َس ُّر بالثراء؛ ألن املجتمع ُّ‬ ‫املجتمع ً‬
‫يعد الثراء تفوقا‬ ‫تبريزا‬
‫ً‬
‫ونجاحا‪.‬‬

‫وهل نستطيع أن نتعلم كيف نكون سعداء؟‬

‫أجل‪ ،‬نستطيع ذلك بأن نجعل وجداننا فوق غرائزنا؛ أي نجعل‬


‫التعقل فوق الشهوات‪ ،‬وكذلك بأن نتعلم ونهتم بما هو أسمى من‬
‫همومنا الشخصية؛ نهتم بالناس والسياسة‪ ،‬والهند‪ ،‬واإلمبريالية‪،‬‬
‫والنجوم والكواكب‪ ،‬والحيوان والنبات‪ ،‬ومستقبل الصحة‬
‫والحيوان والنبات‪ ،‬ومستقبل البشر وماض ي األحياء‪ ،‬والتطور‬
‫املاض ي والقادم‪ ،‬واملرض والصحة‪ ،‬والدين واألدب والفلسفة‪.‬‬
‫ً‬
‫وهذه االهتمامات املتعددة تبسط لنا آفاقا رحبة للتفكير‪ ،‬فال‬
‫تحدنا حدود الشهوة‪ ،‬وال تستعبدنا الغرائز في اهتمامات مادية‬ ‫ُّ‬
‫غايتها لذة الطعام‪ ،‬ومتعة اللباس واملسكن‪ ،‬واقتناء مواد ال‬
‫تحص ى‪ ،‬بل ال تفتأ تبعث فينا الرغبة في الزيادة‪ .‬هذه الرغبة التي‬
‫أحيانا نسير فيها سادرين ذاهلين‪ ،‬وقد نموت قبل‬ ‫ً‬ ‫تجهدنا‪ ،‬بل‬

‫‪185‬‬
‫أواننا ونحن ال ندري أننا كنا َمسوقين باعتبارات اجتماعية هي‬
‫أبعد ما تكون من السعادة‪.‬‬

‫قلنا في أول هذا الفصل أننا نسعد بالفكرة أو اإليمان أو الرؤيا أو‬
‫األمل إذا كان أحد هذه األربعة يحفزنا إلى الكفاح‪ .‬وهنا نحتاج إلى‬
‫تفصيل موجز‪ :‬ذلك أن الطاقة النفسية ال تطيق الحبس والكتم‬
‫والكفاح؛ ولذلك فإن لشأن ما‪ ،‬أي شأن نعتقد أنه حسن‪ ،‬يفتح‬
‫لنا قناة تنصرف إليها الطاقة‪ .‬أما إذا حبست هذه الطاقة فإنها‬
‫ًّ‬
‫عاطفيا‪ ،‬وفي‬ ‫تحدث لنا في الحاالت الخفيفة نيوروزا؛ أي ً‬
‫ضيقا‬
‫الحاالت الخطيرة تحدث سيكوزا؛ أي ً‬
‫جنونا‪.‬‬
‫ً‬
‫متشائما تسوده هموم مبهمة‬ ‫ً‬
‫مضطربا‬ ‫ولذلك ً‬
‫كثيرا ما نجد الشاب‬
‫ً‬
‫ال يعرف مأتاها‪ ،‬فإذا انضوى إلى حزب سياس ي — مثال —‬
‫انطلق في تفاؤل يعمل ُوي َس ُّر بعمله‪ ،‬وهو سعيد بهذا الكفاح الذي‬
‫ً‬
‫يبعث فيه نشاطا‪ ،‬ويحمله على الدرس والخدمة والتعاون‪،‬‬
‫ويخرجه من أنانيته‪ ،‬وهو هنا يشعر بالسعادة‪.‬‬

‫وعلى هذا نقول‪ :‬إن السعادة تحتاج إلى كفاح‪ ،‬وسالم النفس ال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نشاطا َّ‬ ‫ً‬ ‫يعني ً‬
‫وإنجازا‬ ‫وهمة‪،‬‬ ‫وجمودا‪ ،‬بل هو أحرى بأن يبعث‬ ‫ركودا‬

‫‪186‬‬
‫ً‬
‫تحقيقا لرؤيا‪ ،‬بحيث يكون هذا األمل أو هذه الرؤيا عند‬ ‫ألمل‪ ،‬أو‬
‫أحدنا أسمى وأعم من همومه الشخصية الذاتية؛ ألنها بسموها‬
‫معنى‪ ،‬بل ً‬
‫مغزى‪ .‬وهنا‬ ‫وعموميتها تكسبه كرامة‪ ،‬وتجعل لحياته ً‬
‫السعادة‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫تعقيب على السعادة‬

‫كلنا تقر ًيبا ننشد السعادة ونتحدث عنها كما لو كانت من‬
‫البديهيات التي ال تستحق مناقشة؛ ألننا نعد السعادة خير ما‬
‫ُيطلب في هذا الوجود‪.‬‬
‫ولكننا نختلف ً‬
‫كثيرا في معنى السعادة‪ ،‬وإن كان املألوف أننا نعني‬
‫بهذه الكلمة األمن من الكوارث وراحة البال؛ أي سالم النفس‬
‫والصحة‪.‬‬

‫ولكن إذا كان هذا هو كل ما نعني بالسعادة‪ ،‬فإن كثيرين‪ ،‬بل‬


‫كثيرين ًّ‬
‫جدا يحققونها‪ ،‬ومع ذلك ال يجدون منا غير االحتقار؛ ألننا‬
‫ال نحسدهم على حالهم هذه؛ إذ هي تشبه الركود والذهول‪ ،‬بحيث‬
‫ُّ‬
‫والتنبه‪ ،‬ثم ما يعقب هذا‬ ‫تستحيل حياتهم نباتية خالية من ُّ‬
‫التفزز‬
‫ُّ‬
‫من تبلد ذهني يشبه الجمود‪.‬‬

‫والرجل الذي تنزل به الكوارث املتعددة هو — في القيم اإلنسانية‬


‫كالذكاء واالختبار والتعلم — خير من السعيد الذاهل الذي لم‬

‫‪188‬‬
‫تنبهه قط نكبة فادحة تجعله يقف ويتساءل‪« :‬أين موقفي من هذا‬
‫العالم؟»‬

‫جدا‪ ،‬وهم يستغرقون في املسرات‪،‬‬ ‫والسعداء الذاهلون كثيرون ًّ‬


‫وينشدون الثراء ويبلغونه ويحققونه … وقد يعيشون في القصر‬
‫الفخم‪ ،‬ويأكلون أطيب الطعام‪ ،‬ويتنقلون في الفصول من‬
‫الصيف إلى املشتى‪ ،‬ويجدون حاشية من الخدم‪ ،‬كما أن شهواتهم‬
‫تجد اإلشباع الدائم‪ ،‬وراحتهم رفاهية‪ ،‬ورفاهيتهم ترف وبذخ‪.‬‬
‫ً‬
‫ولكن قليال من الحديث مع أحدهم يوضح أن سعادتهم إنما هي‬
‫ذهول وخمود وتبلد‪ ،‬وأنهم لو كانت األقدار قد رفقت بهم لكانت‬
‫كرثتهم بنكبة فادحة توقظهم من ُسباتهم‪.‬‬
‫قد َ‬

‫وهؤالء السعداء الذاهلون يجدون في الكائنات الدنيا ما هو أسعد‬


‫ً‬
‫منهم؛ فإن الديدان والحشرات — مثال — أسعد؛ ألنها أكثر‬
‫ً‬
‫ذهوال منهم‪ ،‬وهي ً‬
‫أيضا أبعد عن الكوارث؛ إذ أقل ما يقال فيها إنها‬
‫ال تعرف الكوارث حتى وقت وقوعها بها‪.‬‬

‫وعندي أن مثل هذه السعادة يجب أال ننشدها؛ ألن السعادة‬


‫العليا التي هي صفة اإلنسان العالي هي الوجدان‪ ،‬وكلما زاد‬

‫‪189‬‬
‫الوجدان زادت السعادة‪ ،‬ولكن … زادت الكوارث والهموم‬
‫واالهتمامات ً‬
‫أيضا! ونعني بكلمة الوجدان هنا ما يسميه غيرنا‬
‫«الوعي»‪.‬‬

‫والناس في أغلب أحوالهم يعيشون بالتصوير الحس ي؛ ألنه هو‬


‫التصوير البدائي بل الحيواني الذي ال يحتاج إلى مجهود‪ ،‬ولكن‬
‫ً‬
‫الرجل الراقي يدرب نفسه على التصوير الوجداني؛ فنحن — مثال‬
‫ً‬
‫— نتأثر عندما نرى طفال قد وقع من الترام فقطعت ساقه‪،‬‬
‫ولكننا حين نقرأ أن ثالثة ماليين هندي ماتوا بالقحط ال نكاد نقف‬
‫عند سطور هذا الخبر كي نتصور هول هذه الكارثة! فالحادث‬
‫األول سريع إلى حواسنا؛ ألننا قريبون منه‪ ،‬وتأثرنا لذلك سريع‪،‬‬
‫ولكن الحادث الثاني يحتاج إلى مجهود عقلي حتى نتأثر به‪.‬‬

‫وعلى هذا القياس نقول‪ :‬إن السعادة نوعان؛ األول‪ :‬هو سعادة‬
‫الحواس؛ أي املسرات الحسية املادية‪ ،‬أما الثاني فهو سعادة‬
‫ُّ‬
‫والتصور؛ السعادة الفكرية‪ .‬وهذه‬ ‫الوجدان؛ أي سعادة ُّ‬
‫التعقل‬
‫السعادة الفكرية ال تبالي الكوارث‪ ،‬بل إن الكوارث تخصبها وتزيدها‬
‫وإيناعا‪ ،‬بحيث إننا عندما تمر بنا السنين ننظر إلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نضجا‬
‫التقلبات والنكبات التي نزلت بنا كما لو كنا قد عشنا حيوات‬

‫‪190‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وكثيرا ما أعود بالذكرى إلى بعض‬ ‫عديدة بدال من حياة واحدة‪.‬‬
‫ًّ‬
‫الصدمات والكوارث واألحزان التي مرت بي‪ ،‬فأجد كال منها كان‬
‫ً‬
‫صاعدا في سلم الحياة؛ ألنها زادت‬ ‫بمثابة الدرجة التي ارتقيت عليها‬
‫وجداني‪ ،‬فزادت تعمقي في الحياة‪ ،‬وتوسعي في االختبارات‪،‬‬
‫وأكسبتني ً‬
‫هموما قد استحالت إلى اهتمامات ال أرض ى بالنزول عنها‬
‫اآلن‪.‬‬

‫ولذلك أستطيع أن أقول‪ :‬إن الحياة السعيدة هي الحياة الحيوية‬


‫ً‬
‫وجدانا‪ ،‬والهموم‬ ‫التي تزيد فيها درجة الحياة حدة ويقظة ً‬
‫وتنبها؛ أي‬
‫واألزمات والكوارث تجعل حياتنا لذلك حيوية‪ ،‬وهي تزيدنا سعادة‪،‬‬
‫أما األمن من الكوارث واملعيشة الحسية واملسرات‪ ،‬فتجعلنا‬
‫نعيش فيما يقارب الذهول‪ ،‬فال ننتبه وال نحتد؛ أي ال نتعقل في‬
‫حدة ودقة وإمعان‪ ،‬ولو كانت هذه السعادة هي ما يجب أن نطلب‬
‫لكان أدنأ الحيوانات أسعد منا‪ ،‬بل عندئذ كنا نكون أسعد بالنوم‬
‫منا باليقظة‪ ،‬وباملوت منا بالنوم‪.‬‬

‫ولذة الدنيا هي في النهاية اختباراتها ومشاكلها ومآزقها وأزماتها‪ ،‬ثم‬


‫تحدي كل هذه األشياء بالوجدان والتعقل؛ وذلك الذي يبغي‬
‫السعادة في معناها اإلنساني العالي يجب أن يزيد حياته حيوية‪ ،‬ال‬

‫‪191‬‬
‫أن ينقص هذه الحياة باالقتصار على املعيشة الحسية‪ ،‬على‬
‫املسرات‪ .‬هذه هي السعادة التي تستحق أن ننشدها؛ السعادة هي‬
‫الفهم بالوجدان والتعقل‪.‬‬

‫‪192‬‬

You might also like