Professional Documents
Culture Documents
فن الحياة
سالمة موس ى
2
املقدمة
3
َّ
ولكن هذا التراث االجتماعي الثقافي يجب أال يسوقنا وأال يضلنا
ُّ
التفت في الفصول التالية إلى عن القيم األصلية في الحياة .وقد
ثالثة أو أربعة أشياء لكل منها مكانة مركزية في البحث عن فن
الحياة.
ً
أوال — إلى أن النجاح يجب أن يكون ًّ ُّ
كليا في الحياة، التفت —
وليس في الحرفة أو الزواج أو الكسب؛ فإن كلمة النجاح في
مجتمعنا االقتنائي ً
كثيرا ما يشتبه معناها بمعنى اإلثراء ،ولكن
ً
الناجح الصادق هو الذي يجعل نجاحه شامال متواف ًيا لنشاط
حياته كلها.
ثانيا — إلى أن املجتمع الذي نعيش فيه ً
كثيرا ما والتفت — ً ُّ
يسخرنا في ً
يضلل بنا ،ويبعدنا عن القيم البشرية ،بل هو أحيانا ِّ
أهدافه التي قد تناقض ما ننشد من رقي أو سعادة؛ فهو منا بمثابة
املدينة التي تكتنفنا بمساكنها وأضوائها الصناعية ،وضوضائها
واهتماماتها الزائفة ،فنعيش فيها ونكاد ننس ى أنه على مسافة ثالثة
أميال منا ينهض الريف في طبيعته النضرة ،وأشجاره ومياهه
وحيوانه .وقد نألف عادات هذا املجتمع فال نجد النشاط إلى
تغييرها ،وال ننهض إلى الخروج إلى هذا الريف القريب ،وكذلك
4
الشأن في تلك القيم االجتماعية وأثرها في نفوسنا حين نعيش في
َ
أ ْسر هذه القيم الزائفة مدى حياتنا.
5
واشتباهات كثيرة عن حقيقة معناها .وقد احتجت إلى التنبيه عن
ذلك ،ولكن في عبارة «فن الحياة» ما يرفع القارئ عن مبتذالت
كلمة «السعادة».
سالمة موس ى
6
فن الحياة
7
وهذه الطبقات تمثل في عصرنا طالئع البشرية القادمة؛ حيث
يعيش جميع األفراد — جميعهم بال تمييز — على املستوى الفني
الكمالي؛ ألن الضروريات تتوافر إلى الحد الذي ال يحسب لها
حساب ،وال تكون ً
سببا للهموم واالهتمامات .وليس هذا العصر
ً
بعيدا ،بل هو أقرب إلينا مما نتخيل.
ً
واإلنسان في كفاحه االجتماعي ينشد الضروريات أوال ،حتى إذا
توافرت طلب الكماليات ،ثم تعود هذه الكماليات ضروريات
ً
األجيال القادمة؛ فهي ترف أوال يقتصر على أفراد معدودين ،ثم
ً
وأخيرا ضرورة لجميع أفراد رفاهية ً
ثانيا تشمل طبقة كبيرة،
الشعب املتمدن املثقف.
انظر إلى الطعام ينشد فيه اإلنسان البدائي الشبع ،ال يرجو غير
الضرورة البيولوجية ،وانظر إلى املسكن الذي كان يبنيه لالحتماء
من الوحش أو العدو أو الجو ،وانظر إلى اللباس الذي كان يتخذه
للدفء! أجل ،لقد كان الطعام واملسكن واللباس من الضروريات،
منا نحن املتمدنين يقنع من هذه الثالثة بالضروريات ولكن َمن َّ
البيولوجية في عصرنا؟!
8
صحيح أن للفاقة ضغطها املرهق بين الطبقات التي ال تزال في
أسفل الدرج من السلم االجتماعي ،وصحيح أن هذه الطبقات ال
تزال تقنع بالضروريات البيولوجية من املسكن واللباس والطعام،
ولكن في كل أمة طبقات أخرى استمتعت بقسط كبير من املال
والثقافة والحضارة ،وهي لذلك تتوخى الفن في كل ما تتناول من
مأوى فقط؛ إذ هو متحف ً
أيضا يتزين عمل؛ فاملسكن ليس ً
باألثاث الفاخر والصور الجميلة والطرف األنيقة ،وسيداتنا
ً وآنساتنا ال يطلبن من اللباس ً
دفئا قدر ما يطلبن منه زينة وجماال،
واملائدة التي تحمل ألوان الطعام تتفنن في ترتيبها وإيجاد األطباق
الثمينة واآلنية الغالية عليها .وهذا إلى ترتيب الزهور ونحو ذلك
ذهنيا ًّ ً
نشاطا ًّ حتى ُلي َّ
فنيا. عد تناول الطعام منها
9
وبالفن نرفع املش ي إلى الرقص ،ونرفع النثر إلى الشعر ،ونجعل من
الكالم بالغة ،وكذلك نستطيع أن نعيش الحياة الفنية؛ فنهدف
إلى الفن في الحياة ،والبالغة في السلوك والتصرف.
واملشكلة األولى لكل إنسان على هذا الكوكب أنه سيعيش سبعين
أو ثمانين سنة ،فكيف يقضيها؟! هل يعيش تلك الحياة التي
يصفها شكسبير بأنها «قصة يقصها أبله ،فتحفل بالضوضاء
والغضب ثم ال يكون لها ً
مغزى؟» أو يعيش تلك الحياة البقلية
يولد وينمو ويموت وكأنه بعض البقول؛ ألن قصارى ما كان يطلب
طعام وكساء ً
ومأوى؟! ٌ
10
ً
أحيانا باملعرفة. هي العمل
ً
أحيانا تجاهل املعرفة. وهي
11
ًّ ً
روحيا وننضج إلى اإليناع؛ فال تكون حياتنا مكابدة ،بل التذاذا
ًّ
وماديا.
وإنما صارت الحال كذلك؛ ألن شبح الفاقة يلوح على الدوام في
مخيلتنا؛ ولذلك صار التعليم من أجل االرتزاق يغمر كل ش يء
آخر؛ ألننا نعيش في اقتصاديات القلة في حين أن اقتصاديات
الوفرة على األبواب تنتظرنا ،بل تنادينا ،وال تحتاج إال أن نومئ
بأصبع الرض ى فيغمرنا الخير الوفير الذي ال نعرف فيه معنى
الفاقة أو الحاجة .وعندئذ؛ أي عندما نومئ هذه اإليماءة ،ونرض ى
ً
بالتعاون بدال من املباراة في اإلنتاج ،نستطيع جميعنا أن نعيش
العيشة الفنية ،ونحيا الحياة الحكيمة ،وأن نتوخى ً
مأربا ًّ
فنيا في
كل ما نتناول من معارف أو معايش.
12
وهنا ي ِّثب علينا املتشائم :لكأنك ترى الدنيا مشرقة في ألوان الورد،
وقد غمرت السعادة جميع البشر بما سوف يدبرون من تعاليم أو
أنظمة ،ولكن أين هذا التفاؤل من حقائق الدنيا؟ من األمراض
والرزايا؟ من الرجل يفقد نور عينيه ويرى الدنيا ً
ظالما؟ من األم
تفقد طفلها ،وتضم لحمه الطري ووجهه الحلو في تراب القبر؟ من
الشاب يسمع حكم اإلعدام من طبيبه الذي ينبئه بمرض ال
يعالج؟!
13
ً
وكثيرا ما نعيش سادرين ذاهلين حتى إذا كرثتنا الكارثة تنبهنا ،كأننا
قد استيقظنا من نوم ،فينبلج لنا نور ،وتنكشف لنا حقائق ما كنا
لنراها لوال هذه الكارثة .وأيام املرض في السرير ً
كثيرا ما تكون أيام
التنبيه والتجديد.
14
األنيق ،كما في األخالق السامية ،واألهداف الروحية ،والعالقات
االجتماعية.
15
نحن غريزة وعقل
كي نعيش العيشة الفنية ،ونحيا حياة الحكمة والتعقل يجب أن
ًّ
نعرف أن كال منا مركب من غريزة وعقل؛ الغريزة هي قديمنا
املوروث ،هي التقاليد البيولوجية ،هي ذاكرة النوع الجامدة،
والعقل هو جديدنا الذي يتعلم وينمو ويميزنا بالفهم عن الحيوان.
16
وهذا الوجدان هو الذي يجعلنا على دراية باملوت والفقر والكوارث
حتى قبل وقوعها ،ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك؛ ولكن هذا
الشقاء «إنساني» ،وال نرتض ي النزول عنه كي نعيش بالغرائز،
نعيش في ذهول كما يفعل الحيوان ،وعندما نربي أنفسنا أو أبناءنا
إنما نعمد إلى هذا الوجدان ،ونستنبط التعقل ومحاولة التعرف
إلى األشياء كما هي في حقيقتها ،وليس كما تصورها لنا غرائزنا.
وواضح أنه ليس هناك إنسان يعيش بوجدانه فقط يتعقل كل
ًّ
موضوعيا؛ ألن ً
كثيرا من تصرفنا يعود تفه ًما
ش يء ،ويتفهم الدنيا ُّ
ً
أحيانا اندفاع الحيوان ،أو نسلط عليها إلى الغرائز التي نندفع بها
الوجدان بالتعقلُ ،
فن ِّعين لهذا االندفاع سرعته وطريقته.
17
بها إلى الطمع والحسد والعدوان واالقتناء واالنغماس والنهم
والشر!
َّ
الخسة التي تنحدر إليها غرائزه ،وأحس وألن اإلنسان عرف
مضض النفس وصداع القلب في املواقف التي اصطدم فيها عقله
بغرائزه؛ ألنه عرف هذه املواقف ،عمد في كثير من األحيان إلى
جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك ،ومن هنا نشأت الرهبنة في
بعض األديان ً
إنكارا للغريزة الجنسية ولبعض الغرائز األخرى؛
كاالقتناء والتسلط والحسد واالنغماس … إلخ ،كأن الغاية أن
نعيش بالوجدان والعقل.
18
ونحن نعرف من السيكلوجية أن الغريزة وقت التهابها ،عندما
نسميها عاطفة ،تفور بنا كاملاء املغلي ،وتطلب املنفس واملخرج،
فإذا لم تجدهما اندست وبقيت بقوتها تبحث عن املخارج
الضعيفة ،حتى إذا وجدتها انفجرت ،فال يكون منها غير األذى
الفادح لشخصيتنا .وأولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية —
ً
مثال — لم ينجحوا قط في إلغائها ومحوها ،وقصارى ما وصلوا
إليه عربدة جنسية مختلفة األلوان واألسماء ،أو هم قد خدعوا
أنفسهم من حيث ال يدرون ،فاتجه نشاطهم الجنس ي إلى ألوان
قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي املجتمع ،وتفتت شخصياتهم.
وفي أغلب األحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز إلى االعتدال؛ فال
نسرف في االنقياد للعاطفة الجنسية ،وال نغلو في الطموح والغيرة
والحسد والتسلط .وكلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة؛ ألننا
نجهل أصلها ،هل هو طبيعي أم اجتماعي؟ ولكنا عندما نتأمل
19
نشاطنا االجتماعي كله ،ذلك النشاط الذي ينظمه العقل ،وإن
كان مرجعه غر ًّ
يزيا ،نجد أنه يعود إلى ما يشبه أن يكون غريزة
واحدة هي شهوة األمن والطمأنينة.
20
يخدمونه ،حتى ليصل إلى مكتبه أو متجره قبل دخولهم ،ويخرج
بعد خروجهم.
هذا هو شأن كثير من الناس الذين يشقون ألنهم ينساقون
مندفعين بغرائزهم دون أن يسلطوا عقولهم عليها؛ فيعتدلون
وينظمون نشاطهم كي يعيشوا الحياة الفنية املتناسقة .ومن شأن
الغرائز أنها تسرف وتغلو؛ ألن الطبيعة تحرص على بقاء النوع،
جهزتنا بهذه الغرائز قبل أن تجهزنا بالعقل؛ وذلك كي تكفل وقد َّ
لنا البقاء والتغلب في ميدان التنازع بين أنواع الحيوان وأفراده
للبقاء.
واحدا — ً رجال ًً ً
واحدا اعتبر — مثال — غريزة التناسل؛ فإن
فقط — يحمل في جسمه من الجراثيم املنوية ما يكفي لتلقيح
أناث النوع البشري كله! ونجد مثل هذا اإلسراف في سائر الغرائز؛
فإن غريزة الحيوان تحملنا على الرغبة في التسلط بامتالك هذا
الكوكب إذا قدرنا ،وقد حاول ذلك اإلسكندر وتيمورلنك ونابليون
وهتلر .وحين نشرع في االقتناء نتوهم أننا يجب أن نجمع ما يكفينا
ألف سنة!
21
َّ
وقيمة العقل أنه يتسلط على غرائزنا ،ويحملنا على االعتدال،
ُ
ولكن بال زهد أو نسك؛ أي بال إنكار للغرائز .وقد يكون لقليل من
الزهد قيمة في التذاذ العيش؛ أي في التأنق في االختيار باالمتناع
عن قبول كل ما يرد؛ كالعطش يجعل الشراب أسوغ ،ولكن
االستمرار عليه جنون قاتل.
وتقتضينا الحياة الفنية أن نعيش بالعقل والغريزة ً
معا في
مصالحة ووفاق بين االثنين ،ولكن في تحيز نحو العقل؛ ألن العقل
إنساني والغريزة حيوانية ،وألن الفرق بين اإلنسان اإلنساني
واإلنسان الحيواني هو أن األول يعتمد في األكثر على وجدانه
وعقله ،في حين يعتمد الثاني في األكثر على غرائزه.
22
كيف نسوس عواطفنا
23
وتحدث لنا عواطف أخرى إذا كنا نعيش في مجتمع تعاوني ليس
فيه سيد ومسود ،وغني وفقير ،وكانز ومحروم ،كما هي الحال في
املجتمعات االشتراكية.
وألننا نعيش في مجتمع قائم على املباراة ،فإن جميع الرذائل التي
ًّ ً
عاطفيا في نفوسنا؛ ولذلك نشقى تستتبعها املباراة تتخذ شكال
كثيرا باألنانية والحسد والرغبة في التفوق واالقتناء والطموح،ً
ذلك أن الوسط االقتصادي محدود الفرص؛ فقد يجد غيري
فرصة ال أجدها أنا ،فأبتئس لتخلفي ،وأغار من تقدمه ،وأحسده
على ذلك .وكل هذه العواطف تؤذيني ،أو هي تبعثني على اإلفراط
في الجهد حتى أموت قبل األوان؛ بزيادة الضغط للشرايين ،أو
ً
مريضا بعجز القلب ،أو باالختالل في التمثيل السكري ،أو قد أبقى
بهذه األمراض وغيرها وأشقى بها ،وهذا إلى هموم ال تنقطع تغش ى
نفس ي بالغم والكآبة ،وقد تحملني على االنتحار.
24
على اتجاهات مؤذية ،فيجب أن نجعل القناعة االقتصادية
مصباح الهداية الذي نستض يء به؛ فال نتطوح في مطامع ال نقوى
على تحقيقها ،فنكون لها ً
عبيدا نجري ونهرول طوال حياتنا كأننا
مسخرون في جمع املال واقتناء العقار.
وليس هنا مقام التحليل لعواطفنا املختلفة حتى نثبت للقارئ أنها
كلها تعود إلى مجتمعنا؛ فإن غيرة املرأة من حماتها أو العكس،
وكذلك مناكدة الرئيس ملرءوسيه ،ثم االهتمام املريض
للمستقبل ،والتضحية بالحاضر للمستقبل ،ثم الخوف من
الفقر ،والخوف على األوالد من األخطار .كل هذه العواطف تعود
إلى نظام نفس ي ينهض على أساس املجتمع االقتصادي الذي نعيش
فيه.
25
من شأن العواطف أنها ال تؤذينا إذا كانت الكارثة كبيرة فادحة،
ولكنها مع فداحتها مفردة؛ أي وقعت مرة واحدة ثم انتهت ،فنحن
نتحمل اإلفالس التام ،أو موت االبن أو األم ،أو كارثة الغرق أو
الحريق أو الطالق ،ولكننا ال نتحمل الزوجة التي تناكدنا كل
صباح على الطعام أو القهوة ،وال تتحمل الزوجة معاكسة
حماتها ،وال يتحمل الطالب توبيخ أبويه كل يوم لفشله في
االمتحان؛ أي إذا تكررت املناكدة أو املعاكسة كل يوم ،ولو كانت
ألسباب تافهة ،أدت إلى االنهيار العصبي الخطير؛ ألن العبرة
بالتكرار.
لهذا السبب يجب أال تعيش الزوجة مع حماتها ً
أبدا ،وإذا كانت
هناك ظروف تضطرهما إلى االشتراك في العيش ،فليكن هذا على
وجدان منهما؛ أي يجب على كل منهما أن تعرف أنها في حالة شاذة،
وأن تحتاط من الوقوع في املناكدة أو املعاكسة.
يجب على األب ،إذا فشل ابنه أو بنته في االمتحان ،أال يعمد إلى
تقريعه كل يوم؛ ألن هذا التقريع قد يؤدي إلى انهيار عصبي خطير؛
وخاصة إذا كان بين .٢٥–١٧
26
االهتمامات الكثيرة املتنوعة تخفف من ضغط العاطفة وتحول
دون اجترارها.
27
التربية
وتسلط العقل يجعل التربية ضرورية لكل فرد منا؛ وخاصة إذا كنا
نعيش في مجتمع راق؛ أي أرقى وأكثر ً
تركبا من املجتمع الزراعي أو ٍ
البدوي .وتتجه التربية في عصرنا إلى إيجاد عادات ومهارات نكسب
28
بهما العيش ،وليس من شك في قيمة التربية؛ وخاصة في مجتمع ال
يزال يعيش على اقتصاديات القلة وليس على اقتصاديات الوفرة
التي يلتمع فجرها اآلن في األمم املتقدمة في اإلنتاج اآللي ،ولكن
التربية يجب أن تكون للحياة قبل أن تكون للكسب.
29
لشخصيتي وترقية لذهني .ويجب أال يكون هدف التربية — كما
هو اآلن — النجاح الحرفي للكسب؛ إذ يجب أن تهدف إلى النجاح
في الحياة؛ ألن الحياة أكبر من الحرفة ،والنجاح فيها يقتض ي
النجاح في الصحة والثقافة والعالقات االجتماعية والعائلية،
واالرتقاء الفني والذهني … إلخ.
ًّ
يجب أن تهدف التربية إلى أن تحمل كال منا على االهتمام باألثاث
األنيق والرسم الفني كما نهتم للكسب في مجتمع اقتنائي يعيش
أفراده باملباراة ،ويجب أن تحرك استطالعنا إلى درس الطاقة
الذرية أو زراعة القطن كما تحركه إلى تقدير ألوان الجمال في
الطبيعة :القمر في الريف ،والشمس في البزوغ ،والبحر والقفر
والجبل والسهل؛ ألن هذا الكوكب كوكبنا ،ويجب أن نستمتع بما
فيه من روعة الطبيعة ومجدها.
30
ويجب أن نتعود قراءة الجريدة واملجلة والكتاب كما نتعود القهوة
ًّ
نفسيا والشاي ،ويجب أن نزداد رغبة في امتالك هذا الكوكب
ً
تقلصا باملخترعات الجديدة؛ حتى وذهنيا ًّ
وفنيا كلما ازداد هو ًّ
حسا ً
وذهنان فال تضيق بحدود القطر أو القارة ،بل تتسع آفاقنا ًّ
تشمل شئون العالم كله والبشر جميعهم.
ثم يجب أال يغيب عنا أن التربية البشرية تخاطب الذهن ،أي تزيد
الوجدان؛ حتى نعيش في يقظة ،ونطلب زيادة هذه اليقظة بتعلم
املعارف والفنون ،وال نعيش ذاهلين ذهول الحيوان الذي تسوقه
غرائزه .والفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل ،وهو يعود
في األغلب إلى عادة القراءة .وكذلك الفرق بين شيح هرم قد خرف
حدة وفتوة ويقظة وذكاء ،يعود أو تبلد ذهنه ،وبين شيخ ال يزال له َّ
إلى أن األول لم يتعود القراءة ،وأن الثاني قد تعودها .والقراءة
تجعل الكلمات مألوفة في الذاكرة سهلة االستحضار ،وملا كانت
ً جسمة في كلمات؛ فإن من البعيد ًّ املعاني ُم َّ
جدا أن نجد رجال يهرم
ويتبلد ذهنه ما دامت الكلمات حاضرة معدة لتنبيهه.
31
ومن هنا القيمة العظمى لصحة الشيخوخة من ُّ
تعود القراءة؛ ألن
الذهن يمرن على الفهم بالقراءة كما يمرن الجسم على الحركة
بالرياضة ،وتبقى هذه املرانة إلى الشيخوخة.
32
وهذا السؤال يعود بنا إلى النغمة التي نفتأ نعزف بها ،وهي أننا
نعلم الناس كيف يعيشون الحياة املليئة ،وكيف يجب أن ِّ
يتعمقون في حياتهم وال يقنعون منها بالعيش على سطحها أو
هامشها ،نعلمهم أن غاية التربية أن يحيوا وليس أن يحترفوا،
ونحرك فيهم العقل االستطالعي اليقظ الذي يشتهي املعارف،
أيضا أين يبحث عنها ويجدها ،ونعلمهم أن هدف الحياة ويعرف ً
أجل؛ هو الحياة في تعمق وتأنق ،وليس هو الحرفة أو املال أو
التفوق.
ً
وأخيرا نقول :إن التربية الحقيقية هي التربية الذاتية؛ فال ييئس
أحد ألنه لم يمتز بتعليم جامعي ،أو ألن ظروف حياته املاضية لم
تيهئ له الفرص للدراسة؛ ألنه يستطيع أن يشرع في أي وقت ،وأن
يضع البرنامج الدراس ي الذي تحتاج إليه تربيته ،وهو أقدر إنسان
على وضع هذا البرنامج؛ إذ هو الوحيد الذي يعرف حاجاته
وكفاءاته.
33
القيمة البشرية والقيمة االجتماعية
34
والقيم االجتماعية :التزين ،واقتناء القصور والضياع ،والتفاخر
بالوالئم وأبهة العرس أو املأتم ونحو ذلك.
ً ً
صديقا عائال مات وترك زوجته وكي نزيد اإليضاح نفرض أن
وجملة أوالد؛ فالرجل الذي تغلب عليه األوزان والقيم االجتماعية
سيحضر املأتم ،ويسير خلف الجنازة ،ويحضر الصالة ،ويعزي
َّ
أسرة املتوفى ،ثم يعد نفسه قد أنجز جميع واجباته ،وربما قد
يبالغ في هذه الواجبات فينعيه في الجرائد .ولكن الرجل الذي
تغلب عليه األوزان والقيم البشرية قد يهمل كل هذه الواجبات،
ثم يبحث عن حال األرملة وأوالدها ،فإذا وجد أنهم في حاجة إلى
املال تبرع من جيبه وجمع من غيره ما يقيتها ،ثم هو يرعى األوالد
بالنصيحة ،وييهئ لهم وسائل التعليم ،ويرعى العائلة تلك الرعاية
االقتصادية التي فقدتها بموت العائل.
35
ما — قيمة اجتماعية فقط ،والشاب الذي ينشد في الفتاة
جمالها إنما ينشد قيمة بشرية ،ولكنه عندما ينشد ثراءها إنما
ينشد قيمة اجتماعية .ومن هنا ً
أيضا نقول :إن للزواج قيمة
بشرية ،ولكن أبهة العرس وجهاز العروس ونحو ذلك تعد من
القيم االجتماعية.
ً
وكثيرا ما تستهلك القيم واألوزان االجتماعية مجهودنا وصحتنا،
تحول بيننا وبين القيم البشرية؛ كأن نندفع في جمع املالكما ُ
فنفقد صحتنا قبل الخمسين أو الستين؛ ألن املجهود في هذا
الجمع كان أكبر مما نتحمل ،وفي الوقت نفسه حال هذا الجمع
دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير ذهننا ،وهما من القيم
البشرية .وكثير من الناس يغمرهم املجتمع بقيمة وأوزانه فال
يرتفعون فوقها؛ ولذلك تجد أن كل اهتمامهم ينحصر في شراء
أتومبيل من الطراز الجديد ،أو يغمرهم الهم والنكد ألنهم فقدوا
صفقة تجارية ،مع أن زيادة ألف جنيه أو نقصها في حساب البنك
لن يضيرهم!
36
كليا يشمل العائلة واملجتمع والحرفةالنجاح يجب أن يكون ًّ
والفراغ .وكثير من األمراض النفسية الفاشية في أيامنا تعزى إلى
االندفاع في هذه القيم االجتماعية دون التفكير في القيم البشرية،
تحدث عنه الشاعر إليوت إنما هو وذلك «الرجل األجوف» الذي َّ
رجل قد غمره املجتمع بقيمه وأوزانه ،فنس ي كلمة اإلمبراطور
ماركوس أوريليوس حين قال :إن أعظم ما يشتاق إليه ويتمناه في
هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل
شجرة.
37
والحياة الفنية تقتضينا التمييز بين القيم ،وأن نجعل للقيمة
البشرية املكانة األولى في جميع اعتباراتنا؛ سواء في أنفسنا أم في
غيرنا ،والرجل الطيب هو في النهاية الرجل البشري وليس الرجل
االجتماعي؛ أي الرجل الذي يتعمق ويصل إلى الجذور.
38
االستغناء أم االقتناء
نحن نعيش في مجتمع «اقتنائي» ننشأ فيه منذ الطفولة على أن
هذا لي وهذا لك ،وعلى أن أحدنا ُي َس ُّر بأن يكون له أكثر مما لآلخر،
ً
واندفاعا نحو نش ُّب بعد ذلك فنزداد رغبة في االقتناء، ثم ِّ
اجا ،ونعيش طوال االمتالك؛ ألن العادة قد أصبحت عاطفة ومز ً
نقتن كما اقتنى فالن الذي كنا نعرفه حياتنا ونحن في تعب؛ ألننا لم ِّ
ً
أقل ثروة منا ،ونعيش بين جيراننا في مباراة؛ نرقبهم حين تخرج
إحدى بناتهم في ثوب ز ٍاه ،أو حين نقرأ في الصحف عن الترقيات
حسدا؛ ألن هذا الشخص الذي كنا على الدوام ً والعالوات فنمتلئ
نتفوق عليه ،أو على األقل نساويه ،قد ارتفع وارتقت أحواله دوننا.
39
وعقاراتهم؛ فهم في هموم دائمة وحسابات ال تنقطع ،حتى
ليتساءل اإلنسان وهم في هذه الحال :هل هم يملكون هذه
العقارات أم أن هذه العقارات هي التي تملكهم؟!
وقد أصبحت أعباؤنا الخاصة ثقيلة حتى إننا جعلنا الفرار منها
سنة؛ فنحن نصطاف ال ألننا نرغب في تغيير الجو من الحر إلى َّ
البرودة ،بل ألننا نحب أن نفر من هذه األعباء؛ فالتغيير هنا
ًّ
مناخيا .وعندما نتأمل املصطافين في رأس البر أو سيكلوجي وليس
اإلسكندرية نجد أنهم ينطلقون من القيود ،ويحاولون أن يتصلوا
بالطبيعة في بساطة من التكاليف واألعباء ،تشهد على أنهم كانوا
متعبين بما كانوا يقتنون من مالبس غالية مرهقة في املدن.
40
جميعا في حال سيئة من القلق النفس يَ ،م ُسوقين بأوهام ً أننا
مسخرين .وهذه األوهام هي في نهايتهاَّ االقتناء كما لو كنا
مصطلحات ليست لها قيمة بشرية ،وهي ال تزيدنا إال أعباء
وهموما؛ إذ نستطيع أن نستغني عنها ،فقد استغنى شبابنا مدة ً
ً
الحرب األخيرة — مثال — عن الطربوش ،ولم يجدوا سوى
الراحة والصحة عندما تخلصوا من هذا التكليف ،وسبق أن
أيضا — قبل الحرب — عن الجوارب ،ولم استغنت الفتيات ً
يشعرن إال بالراحة والزيادة في الصحة بهذا االستغناء .أجل ،ازداد
الجميع صحة ألن االستغناء عن الطربوش والجوارب قد زاد في
تعرض األعضاء ألشعة الشمس ،وألثرها الصحي في تنبيه الجسم.
وأعود فأقول :إن معظم ما نبذل من مجهودات عظيمة ،بل ً
أحيانا
مجهودات مضنية مميتة في االندفاع نحو االقتناء ،إنما هو
مصطلحات اجتماعية ال أكثر؛ أي ليس لها في نفوسنا حاجة
ً طبيعية؛ فحاجاتنا الطبيعية قليلة ًّ
جدا .وقد قنع غاندي — مثال
— بأن يعيش بنحو ثالثة جنيهات أو أربعة في العام كله؛ فهو
يكتفي من اللباس بقطعة من القماش غير مخيطة يتلفع بها ،بينا
41
يحتاج أصغرنا إلى عشر قطع كي تغطي بها جسمه كأنها ضمادات
مجروح ،أو كأنها خرق ملونة ملهرج على مسرح!
وإذا كنا نحن نستبعد أو نستغرب معيشة غاندي ،فليس ذلك ألن
َ
غاندي مخطئ ،بل ألننا نعيش في أ ْسر مصطلحات اجتماعية قد
تغلغلت في نفوسنا حتى أضحت عقائد وعواطف.
ونحن نقرأ هذه النادرة كأنها نكتة ،ولكن ملاذا؟ أليس أمامنا
ً
سعيدا ببرميله البرهان على أن ديوجينيس كان على حق ،وكان
الذي كان ينام فيه ،في حين كان اإلسكندر ًّ
شقيا بما جلب إلى
42
نفسه من هموم وأعباء؟! ألم يعمد اإلسكندر إلى االنتحار وهو في
الثالثين؟!
وقد كان جان جاك روسو أول من بصر بعبء التكاليف املرهقة
التي تفرضها علينا الحضارة ،رغم أن حضارة العصر الذي كان
يعيش فيه هي البساطة والسذاجة باملقارنة إلى ما نعيش نحن
فيه؛ فقد دعا هو دعوة الريف وتجنب املدينة ،ولكن مدينته،
حوالي سنة ،١٧٧٠كانت قرية هادئة باملقارنة إلى املدن التي نعيش
فيها اآلن؛ فلم يكن في مدينته ترام أو سيارة أو راديو ،ولم تكن
مضار املباراة وما تجلب من حسد وهزيمة وقلق ً
جزءا من مائة مما ُّ
يكابد أبناء املدن في هذه األيام ،وقد ترك بعده «ثوور» األمريكي
43
املدينة األمريكية وعاش في الغابة ،وترك إدوارد كاربنتر املدينة
اإلنجليزية وعاش في الريف ،وفعل كذلك تولستوي وغاندي.
وليس هؤالء شاذين؛ ألننا حين نقارن بين حياتنا وحياتهم من حيث
القيم البشرية ،وسالم النفس ،والفراغ للتأمل والراحة ،نجد أن
الحكمة في جانبهم ،والجنون في جانبنا؛ فقد عاشوا باالستغناء ،في
حين نعيش باالقتناء ،وامتازوا بأنهم نفضوا عن نفوسهم
ً
وأجسامهم وضمائرهم جباال من الواجبات واألثقال التي ننوء بها
ونزعم أننا بفضلها سعداء ،مع أن الحقيقة أننا مسخرون في
الجمع واالقتناء ،ثم في زيادة الجمع واالقتناء ،وسنظل على هذا
املنوال حتى نموت بالنقطة أو السكتة مجهودين مرهقين.
44
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
فيجب لهذا السبب أال نخطئ الهدف ،وهو أن نحيا ألجل الحياة،
وإذا نحن جعلنا هذا الهدف نصب عقولنا؛ فإننا لن ننحرف؛ إذ
ويقوم انحرافاتنا.
يصحح ِّ
نجد أنه على الدوام ِّ
وأعظم ما نقع فيه من انحراف ،بل اعوجاج ،هو أن املجتمع يؤثر
فينا بأوزانه وقيمه ،فيحملنا على أن ننس ى أن هدف الحياة هو
الحياة ،حتى إننا نجد كثرة الناس ،بل ربما كلهم — أي كلنا —
ننتهي إلى عادات فكرية ونفسية لو أنها ُ
امتحنت في نزاهة وذكاء
لكانت أقرب إلى الجنون والشذوذ منها إلى التعقل السوي.
45
ً
واجتماعا ومعرفة وحكمة ،ينس ى فيستمتع بحياته ً
ذكاء وصحة
كل هذا ثم يرصد وقته وجهده في الحساب ،وما هي زيادة دخله هذا
العام على دخله في العام السابق؟ وماذا يستطيع أن يشتري بما
َّادخر مما يزيد هذا الدخل؟ إلخ.
ً
وأحيانا تستحيل هذه العادة إلى جنون؛ فال يشتغل الرأس إال بها،
وال يتحرك النشاط إال ألجلها؛ حتى إننا لنرثى لصاحبها؛ إذ نجد أنه
مأسور قد استرقه الجمع واالقتناء ،فال يعرف لذة الطعام أو
الشراب أو التنزه أو االجتماع باألصدقاء .وقد يسأل أحدنا عندما
يتأمل هذه الشخصية ويقارنها بشخصية أخرى ً
كثيرا ما يحتقرها،
مثل شخصية املستهتر في الشراب أو النساء؛ أيهما أفضل؟
وليس هذا السؤال ألن االستهتار حسن ،ولكن ألن قصر الحياة
على الحساب بالجمع والطرح ،والزيادة والنقصان في االقتناء
أسوأ من أي استهتار؛ ألن أقل ما يقال في املقارنة هنا أن املستهتر
مستمتع ،ولكنه مبالغ مسرف في االستمتاع إلى حد الضرر .ولكن
بتاتا إال كما يستمتع النيوروزي؛ أي هذا الحاسب ال يستمتع ً
املريض النفس ي بعادة تملكته واستبدت به ،وهي بعيدة عن
العقل ،بل متمردة عليه.
46
ونحن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى كاتب مثل د.ﻫ .لورنس؛ كي
َّ
يبين لنا أن واجبنا في الدنيا هو أن نعيش؛ فقد ألف هذا الكاتب
قصته «عاشق الليدي شاترلي» ،وأسرف في دعوته إلى االستمتاع
الجنس ي باعتبار أنه أهم من االعتبارات االجتماعية التي تنكر
علينا ملذاتنا ،وتشغلنا بألوان أخرى من النشاط الذي ننحرف به
ونزيغ عن هدف الحياة ،وهو أن نحيا ونستمتع.
وليس شك أنه أسرف ،بل إنه وقع فيما أراد أن يحذرنا منه؛ إذ هو
ً
جعل االستهتار الجنس ي هدفا ،وكأنه اعتقد أن اللذة الجنسية هي
كل ما في الحياة ،وهذا خطأ فاضح.
47
وإسراف لورنس في اإلكبار من شأن اللذة الجنسية إنما هو
مبالغة يرمي بها إلى تأكيد الظاهرة الجنونية الحاضرة في اندفاع
الناس إلى جمع املال وقضاء العمر في الحساب؛ حتى أننا لنجد
ً
هم سوى الدفاتر رجال في الستين أو في السبعين ليس له من ٍ
يراجعها ،واالهتمام بدخله ،والتفكير في شراء عقار جديد أو نحو
ذلك ،مع أن كل ما بقي له من العمر قد ال يتجاوز سنة أو سنتين
هو أحوج فيهما إلى أن يعرف ما جهل ،أو بعض ما جهل ،قبل أن
يغادر هذه الدنيا.
فنا يجب من وقت آلخروالرجل الذي ارتفع إلى أن يجعل من حياته ًّ
أن يسأل نفسه :هل أنا أعيش للحياة أم أن قيم املجتمع وأوزانه
وسخرتني حتى صرت آلة جمع وطرح للحساب؛ أي قد غمرتني َّ
لزيادة املال والدخل فقط؟
48
ويجب على كل منا أن يذكر نصيحة املسيح لنا ،وهي أن نعيش
كاألطفال؛ أي أن ننزل على القيم البشرية الساذجة ،نحب الجمال
واالقتحام ،ونستطلع الدنيا كما يستطلعها الطفل.
49
العمل والفراغ
ً
كليا شامال وليس جز ًّئيا
كي يكون نجاحنا في الحياة ًّ
ونحل أربع مشكالت أصلية؛ َّ ًّ
خاصا يجب أن نواجه
هي:
()١ •
50
واإلهمال في واحدة من هذه املشكالت يتعسنا ويجعلنا في خصومة
يسر كأننا
دائمة إما مع غيرنا وإما مع أنفسنا؛ بحيث نعيش في غير ٍ
نكافح ً
تيارا بال هدف يقتض ي املكافحة .والقارئ لهذا الكتاب يعرف
أننا نعزف على لحن يتكرر ،هو أن النجاح يجب أال يقتصر على
نواح من الحياة ،وإنما يجب أن يكون قبل كل ش يء
ناحية أو جملة ٍ
ً
نجاحا في الحياة كلها.
ً
واضحا؛ ألن ومشكلة العمل الذي نرتزق به تبرز في عصرنا برو ًزا
العلم لم ُيستخدم في اإلنتاج إلى الحد الذي تتوافر فيه حاجات
استخدم النتقلت بؤرة االهتمام من االرتزاق بالعمل الناس ،ولو ُ
إلى االنتفاع بالفراغ ،بل كذلك كانت بؤرة االهتمام في املدارس
والجماعات تنتقل هذا االنتقال.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال التي نرجوها يجب أن نجعل االهتمام
نتدرب لهاُ ،ونثابر على ُّ
تفهم بالعمل االرتزاقي في مقدمة شئوننا التي َّ
تفاصيلها .وأعظم ما يجب أن نهتم به هنا هو اختيار العمل بحيث
الت َعس الذي يعانيه الناس معا؛ ألن معظم َّ
يالئم ميولنا وكفاءاتنا ً
من أعمالهم يعود إلى أنهم لم يختاروها ،بل قضت املصادفات
والظروف بأن «يقعوا» فيها ،وأجبرتهم حاجات العيش على
51
ممارستها كارهين أو متبرمين .وهذه الحال تجعلهم يتبرمون بالحياة
كلها؛ أي يكرهون املنزل والنادي واألصدقاء والكتب؛ ألنهم
يكرهون أعمالهم كأن حياتهم قد غشيت بغشاء من التبرم
والسخط.
وعلى هذا نقول :إن اختيار العمل املالئم الذي نحبه ونستطيعه
هو نصف االنتصار في معركة االرتزاق ،بل ربما أكثر؛ ألننا بعد
ذلك ننشط إلى الحذق واملثابرة والدرس .ونحن في العادة ال نشرع
في االختيار قبل السادسة عشرة من العمر ،ولذلك نحتاج قبل
ذلك إلى اإلرشاد؛ ألننا نجهل ميولنا وكفاءاتنا ،ونحتاج إلى من
يحللهما ويخبرنا عن حقيقتيهما.
52
وعالج هذه الحال — إذا كانت الوقاية لم تتخذ من قبل — أن
يعوض من سأم العمل ،وذلك بأن يكون باستخدام الفراغ؛ بحيث ِّ
نمارس هواية ما تشغلنا وتعوضنا من النفور من العمل ،وتعيد
إلينا اتزاننا .ويجب لهذا السبب أن يكون لكل منا هواية ،بل
هوايات تتوافر بها اهتماماتنا ،وعندي أن أعظم هذه الهوايات هو
القراءة ُّ
وتعود الدرس؛ ألنها الهواية الباقية إلى سن الشيخوخة،
وهي في ظاهرها هواية واحدة ،ولكنها في صميمها جملة هوايات؛
ً
ألن الذي يعشق الدراسة يجد نفسه مشغوال بألوان مختلفة من
االهتمامات؛ يقرأ الجريدة واملجلة ،ويناقش في السياسة ،وقد
يكافح ملذهب فيها ،كما يقرأ الكتب ويقتنيها ،ويضع املشروعات
لدراسات جديدة ،فيتجدد بذلك شباب ذهنه ،وتتسع آفاقه
العملية واألدبية .ومثل هذا الشخص لن يسأم فراغه ،ولن
ً
يقضيه ذاهال في غيبوبة نفسية على القهوات ،ولن يقع في العادات
السيئة؛ كالتهالك على التدخين أو الشراب.
53
يحمله في كثير من األحيان على ألوان من اإلنتاج الكمي ال الكيفي،
ِّ
يهدف منه إلى الكسب ال إلى الفن.
54
العائلة واملجتمع
واختيار الزوجة هو ،مثل اختيار العمل ،نصف املعركة؛ ألننا إذا
لم نحسن االختيار تعرضنا أللوان من التعس كنا نستطيع تجنبها،
وأعظم ما يتيح لنا االختيار الحسن أن نطيل مدة الخطبة؛ حتى
نعرف باالختالط شخصية الفتاة التي سنتزوجها.
55
ويجب أن يتجنب كل منهما إغراء الفتنة؛ فقد يفتتن الشاب بنغمة
تورد الوجنتين في خطيبته ،ثم الصوت ،أو زرقة العينين ،أو ُّ
ينخدع بهذه الصفات إلى االنزالق في االختيار السيئ .وخير ما يكفل
االختيار الحسن أن يسأل الشاب نفسه :كيف نكون ً
معا ،أنا
وهذه الفتاة ،في بيت وحدنا بعد خمس سنوات ،ثم بعد عشر
سنوات؟ كيف نتحدث ،وكيف يعاشر أحدنا اآلخر ،وكيف يكون
أوالدنا معنا؟
وخير للخطيب أن يختار خطيبته بوجدانه؛ أي في ُّ
تعقل ودراية،
من أن ينزلق في اإلغراء الجنس ي .والحب الضعيف مع األمل في نموه
فضل الحب العظيم الذي لن ينمو .ويجب هنا أال في املستقبل َي ُ
ننس ى أن الحب هو غير االفتتان؛ األول وجداني تعقلي ،والثاني
ً
أحيانا متناقضان؛ بحيث إذا زاد الحب غريزي شهوي ،بل هما
ضعفت الشهوة.
56
الشاب فتاة من غير طبقته االجتماعية أو دون ثقافته؛ ألن
التفاوت هنا يعني ً
تفاوتا في الذوق والعادات واالتجاهات ،وإذا كان
ً
صغيرا فإن النتائج لن تكون خطيرة ،ولكنها تفدح إذا كان االختالف
كبيرا .وفي بالدنا ،حيث تتجه العناية إلى تربية الشباناالختالف ً
ً
واضحا؛ دون الفتيات في أغلب الحاالت ،نجد هذا االختالف
ولذلك ال بد من التسامح ،ولكن مع النصح للزوج بأن ُيعنى بتربية
زوجته ،وتنبيهها إلى ترقية شخصيتها وزيادة ثقافتها.
57
متحفا ،وليس ً
مأوى ً ويجب على الزوجين أن يجعال من البيت
ً
وأوالدا ،فال فقط ،فإذا جاء األوالد صار ً
معهدا ًّ
حرا للجميع آباء
سيد وال مسود ،ويجب أن ُتقتنى التحف الفاخرةُ ،وتهيأ الغرف
بأغلى األثاث؛ حتى يجذب البيت الزوج ،ويصير مرتكز نشاطه
واهتمامه ،كما يجب أن يكون البيت مضيفة راقية يجد فيه
متعا مختلفة من الرسوم الفنية واملوسيقى العالية ،إلىالزائرون ً
الس َمر املنير واملناقشة املربية.
َّ
والنجاح في املجتمع يأتي بعد النجاح في العائلة ،وهو يحتاج إلى أن
ندرس املجتمع بتتبع السياسة العامة؛ عاملية وقطرية ،وإلى أن
نطابق بين مصالحنا ومصالحه حتى ال يكون تنافر .هذا التنافر
الذي يبلغ القمة عند املجرمين؛ ألن املجرم يتصرف وهو على غير
وفاق مع املجتمع ،ويصل إلى غايته وهو على تنافر مع األساليب
االجتماعية.
58
واملجتمع يحتاج إلى املزاج االنبساطي؛ أي مزاج ذلك الشخص
الذي يحب االختالط ،ويغشو األندية واملطاعم واملسارح
واملصايف ،ويميل إلى الزيارات.
والخالصة أنه يجب على كل شاب أو شابة أن يسأل نفسه :هل أنا
نجحت في حل هذه املشكالت األربع :الحرفة والفراغ والعائلة
واملجتمع؟ وإلي أي حد بلغ نجاحي؟
59
الرجل واملرأة والزواج
نحن نعيش في بيوتنا أكثر مما نعيش خارجها ،ولن تهنأ حياتنا لهذا
السبب إال إذا عنينا أكبر العناية بأن نجعل بيوتنا حاوية لصنوف
الراحة والرغد .وحياة العزوبة هي حياة ناقصة قليلة االختبارات
واملتع ،واملتزوج قد ال يطول عمره أكثر من األعزب ،ولكن حياته
أعرض ،وهي أعرض باملسرات واألحزان التي ال يعرفها األعزب.
60
فنطالب الزوجة بالخضوع ،ونطالبها بأن تخدم ملذاتنا ،ثم نلتذ
ملذاتنا على انفراد نفس ي ،وفي خطف ونهب كما كنا ،وال نزال
نعيش في املجتمع.
ً
جديدا ظهر في عصرنا ،إذ هو وليس هذا املجتمع الذي وصفنا
قديم قد رسخت أخالقه في سلوكنا وتصرفنا ،وهو يشقي حياتنا
ً ً
أحيانا على الناقد فضال عن عامة الزوجية ،وله عالمات تخفى
الناس ،فإن أتوقراطية الرجل ورغبته في أن تكون زوجته أداة للذة
يقابلها دالل املرأة وغيرتها الجنونية من األوهام والحقائق ،وكالهما
يسير بروح االقتناء والخطف كما لو كان كل منهما ً
تاجرا يشتري
رخيصا لكي يبيع ً
غاليا. ً
61
حتى من ناحية اللذة الجنسية؛ إذ هي في هذا النظام تتقلص إلى
الخطف والنهب ،فتجري وكأنها صرع تشنجي ،أو كأنها طرب
جنوني ،يغمر الجسم في عجل ثم ينطفئ فجأة.
62
كل هذه الصفات في حرفته ومعاملته وينساها في الزواج؟ فهو
يعامل زوجته تلك املعاملة الحميمة التي تعلمها من َ
الب ِّغي حين
كان يؤدي ثمن لذته بالقرش واملليم ،ويخطف هذه اللذة ً
خطفا.
وهذه املعاملة ترسخ فيه فال يعرف كيف يغيرها ،ولو أنه كان قد
نشأ بروح التعاون والحب واملساواة لكانت اللذة الجنسية نفسها
ال تتم إال بهذه الصفات ،وعندئذ كانت تكون متبادلة هنيئة
للزوجين.
ولهذا أصبح الزواج كأنه صفقة بيولوجية تتم بين الرجل واملرأة،
ال يسودها الحب والثقافة .أجل ،الحب والثقافة ،وكالهما ال
يعرفه الحيوان.
ولكن حتى املقارنة بيننا وبين الحيوان ال تدل على أن الكسب في
جانبنا؛ ألن أقل ما يقال في الحيوان أنه ينساق بغريزته الساذجة
الفطرية ،ولكنا نحن نفسد هذه الغريزة بوجدان املجتمع
االنفرادي القائم على الخطف والخوف والنهب والحسد
واالغتصاب .فنحن ال نتعاون في اللذة الجنسية ،بل نتخاطف في
طرب ماني وصرع وقتي ،سرعان ما نفقدهما ونعود إلى ما يقارب
اليأس والجمود والنفور.
63
ولن يتحقق الهناء الزوجي إال بعد أن يعيش النساء والرجال في
تعاون ،وما يجلبه هذا التعاون من حب وإخاء ومساواة وطمأنينة
واستبشار باملستقبل؛ ألن املجتمع الذي نعيش فيه في الوقت
الحاضر يشقينا بالقلق؛ فنحن نقلق ونخاف ،نخاف من الفقر
واملرض والهزيمة في املباراة االقتصادية واإلفالس ،وكل هذه
الصفات تنتقل إلى العالقة الجنسية ،فتعود هذه العالقة قلقة
غير مطمئنة.
64
عيشنا؛ فال يكون هناك قلق يغمر شخصيتنا ،ويحملنا على
الهرولة والخطف :هرولة وخطف في املجتمع يؤديان إلى هرولة
وخطف في التعارف الجنس ي.
65
كيف نصادق زوجاتنا
الصداقة ضرورية لكل إنسان؛ إذ إننا نجد من الصديق ً
سلوى
ً
وانحيازا نحتاج إليها في حالي الضيق والسعة على السواء ومؤانسة
… ونحن نتخير أصدقاءنا عادة بحيث يتفقون معنا في الرأي ،أو
عيد أن نصادق من يتكافئون معنا في الثقافة وأسلوب العيشَ ،وب ٌ
نختلف معه في كل هذه األشياء.
ً
وكثيرا ما نتجنب حتى أقرباءنا ،بل وإخوتنا ،إذا وجدنا أننا لسنا
وإياهم على وفاق في أسلوب العيش ،أو الرأي ،أو العقيدة ،أو
الثقافة ،أو الدرجة االجتماعية.
وفي مصر حيث ال يزال االتجاه العام يميل إلى تمييز الشاب على
الفتاة في التعليم ،نجد أن التكافؤ الثقافي بين الزوجين معدوم،
وأن ال ُه َّوة بينهما كبيرة ،ومن ثم تكاد تنقطع بينهما أسباب
الصداقة.
66
ما يتجه الرجل إلى خارج بيته ،حيث األصدقاء من الرجال
ً
يقاعدهم في القهوة ،أو في النادي ،ويجد فيهم بديال من الزوجة.
وفي أوروبا تتعلم املرأة كالرجل تقر ًيبا ،ولذلك يتكافأ الزوجان في
الثقافة ،فتصبح املرأة وإذا بها ليست زوجة فحسب ،بل صديقة
أيضا ،يشتاق كل منهما إلى رؤية اآلخر ومجالسته لزوجها ً
معا ،ويقرآن الكتب التي يشتريها أحدهما ومحادثته ،ويخرجان ً
معا ،ويناقشان موضوعاتها. ً
وإلى أن نصل إلى هذه الحال؛ أي إلى أن نسوي بين تعليم الشاب
والفتاة بال تفرقة أو تمييز ،نحتاج ،نحن األزواج أو املرشحين
مصافنا في الرأي واملعرفة
ِّ للزواج ،إلى أن نرفع زوجاتنا إلى
والثقافة .وليس هذا باألمر الشاق كما يتوهم القارئ.
ً
واملهندس — مثال — ال يحتاج إلى تعليم زوجته دقائق الهندسة
اآللية أو الكيماوية ،واملحامي ليس بحاجة إلى أن يشرح لزوجته
فقه القانون الروماني ،والطبيب ال يحتاج إلى أن ِّ
يدرس لها
ً
أزواجا ًّ
ضروريا ،وإن كنا قد رأينا الفسيولوجية … ليس هذا
استطاعوا أن يشركوا زوجاتهم حتى في هذه األشياء الفنية!
67
ولسنا في صداقتنا لزوجاتنا نحتاج إلى كل هذا ،وإنما نحتاج إلى أن
نتحدث إليهن عن شئوننا املهنية؛ حتى نثير استطالعهن ،ونبعث
فيهن الشوق إلى التعرف على أعمالنا.
68
في الهند ،وإحراق املحاصيل في أمريكا ،وأثمان البترول والطيران،
وإضراب العمال ،كل هذا وغيره قد أصبح من صميم السياسة.
69
أما األخرى فقد نسيت القراءة ً
تماما؛ ولذلك هجرها زوجها إلى
القهوة ،وأخذ يعيب عليها جهلها!
70
مجتمعنا االنفصالي الحاضر
نحن أقل مسرات ومباهج من األوربيين؛ ألن هؤالء يلقون الدنيا في
صراحة أكثر منا ،ونحن باملقارنة إليهم نوارب ونداري كأننا َّ
ملوثون
بتهمة نخش ى أن ُتفتضح؛ يعيش رجالنا منفصلين من النساء ،لهم
ومسراتهم الخاصة ،فإذا كانت هناك عالقة َّ مجتمعهم الخاص
بين الجنسين فهي ليست عالقة األنسة والرفقة والزمالة
االجتماعية كما هي الحال في األمم املتمدنة ،وإنما هي العالقة
ً
أحيانا إلى أنسة اجتماعية البيولوجية البدائية التي قد ترتقي
محدودة بالبيت ،ولكن ما أصغرها وأضيقها!
71
وإحساسات نفسية خاصة؛ كأنه مخلوق من كوكب آخر؛ ولذلك
يلتقيان بعد الزواج وهما غريبان يحتاج كل منهما إلى مجهود
جديد للتوفيق في الحياة املشتركة الجديدة.
72
ونحن الرجال نحتاج على الدوام إلى االختالط بالجنس اآلخر منذ
أن نولد إلى أن نموت؛ ألن أقل ما يقال في تبرير هذا االختالط أنه
هو الوضع الطبيعي الذي يجب أال يناقضه وضع اجتماعي.
والشاب املختلط — زيادة على أن غرائزه تبقى سليمة بعيدة عن
يرقي شخصيته باالختالط بالجنس اآلخر؛ إذ هو الشذوذات — ِّ
ُيعنى بلباسه ولغته وصحته؛ ألنه يجب أن يبدو بأحسن ما
يستطيع؛ حتى يجلب اإلعجاب والرقة من الجنس اآلخر ،بل هو
أيضا .ونحن نستطيع يرقي ذهنه ويربي حواسه لهذا الغرض ً
ِّ ِّ
ترتق
بالفراسة السيكلوجية أن نعرف الشاب املنفصل الذي لم ِّ
نفسه وحواسه وذهنه باالختالط الجنس ي.
ً ً
إعجابا وال وأول ما نجد فيه إهماال في هندامه؛ إذ هو ال ينتظر
يتكلف عناية لجلب هذا اإلعجاب من الفتاة ،وهو يؤمن بالشهوة
ال الحب؛ ألنه لم يسامر قط فتاة ،ولم يعرف قط أن للفتيات
ميزات روحية ونفسية وثقافية وذوقية ،وأنهن يمتزن ً
أيضا
بالشجاعة والتضحية والشرف.
ومثل هذه الحال التعسة تكون ً
أيضا عند الفتاة املنفصلة ،مع
االختالف الذي تقتضيه ظروفها ،بل هي أتعس من الشاب؛ ألن
73
أثرا هنا ،والشاب مع انفصاله ال ُيحبس في حبسة البيت أسوأ ً
نقص ُ
بيته؛ ولذلك تفقد الفتاة حيويتها ،ويستولي عليها جمود ي ِّ
يلغ — جاذبيتها ،مع أن مواهبها الطبيعية في الجمال — إن لم ِّ
جدا ،ثم تسودها عقلية املنع واالنكفاف؛ ألن قد تكون كبيرة ًّ
اإلحجام املادي يتشعع من بؤرته في البيت إلى ألوان من اإلحجام
الذهني والنفس ي« ،فيجب أال تنظري ،ويجب أال تقرئي ،ويجب أال
تعرفي … إلخ».
74
وعندما ينتقل مجتمعنا من حال االنفصال إلى حال االختالط
سوف نحس أننا أمة متمدنة ،وسوف يربينا االختالط ،ويحدث
بيننا زمالة واحتر ًاما ،ثم يؤدي إلى الحب .أجل ،هذا الحب
املكشوف الصريح الشريف الذي ال يحتاج إلى اختالس النظر من
خلف األبواب واألستار.
75
الحياة الفنية للمرأة
كل ما قلناه عن الرجل في الفصول السابقة ينطبق ً
أيضا على
املرأة ،وقد نبهنا عن ذلك في كالمنا عن العائلة واملجتمع ،ولكنا
نحتاج مع ذلك أن نعالج الحياة الفنية للزوجة؛ ألننا في مصر قد
ورثنا من التقاليد أخطاء كثيرة ألغت املرأة من مجتمعناَّ ،
وغيبتها
عن وجداننا ،وقد كوفحت هذه التقاليد بتعميم حرية املرأة،
وانتشار املدارس إلى حد بعيد ،ولكن ال يزال لهذه التقاليد رواسب
إذا لم ترتفع إلى وجداننا الذهني؛ فإنها ال تزال تصبغ عواطفنا،
وتؤثر في حياة املرأة.
76
يربياننا ،وهما من أكبر الدوافع الرتقائنا الذهني والنفس ي ،بل
والجسمي.
77
للبيت؛ أي يجب أن َّ
يعد البيت لراحتها ورقيها وسالمتها ،وال ُي َّ
ضحى ِّ
بها من أجل الطبخ والكنس والغسل.
والبيت في مصر كثير األعباء ،مرهق التكاليفً ،
كثيرا ما يشبه
الورشة في إرهاقه وتعدد واجباته الصغيرة ،كما ال يزال املطبخ
واملغسل ورشتين صغيرتين ال ينقطع العمل منهما طوال النهار
وبعضا من الليل .وربة البيت مضطرة إلى اإلشراف عليهما إذا لم ً
تباشر بنفسها العمل فيهما ،وهي في كلتا الحالتين تقتطع من وقتها
وفراغها ما كان أحرى أن تنفقه في ترقية شخصيتها بالدراسة
واالختالط واالنتفاع املثمر بالفراغ.
78
ولذلك ارتقت بعض املطاعم في أوروبا حتى ليصح أن يقال إنها
ليست لتزويد زائريها بالطعام فقط؛ إذ ال يخلو مطعم منها من
جوقة موسيقية ،كما أنها في ترتيب موائدها ،واختيار آنيتها،
وتزيين جدرانها ،والتأنق في الطبخ تبلغ القمة .وتناول الطعام فيها
ليس لتوخي الشبع املعدي ،ولكنه قبل ذلك متعة فنية أنيقة.
درسا ً
نافعا في طبخ وكثيرا ما تعود الزوجة من املطعم وقد درست ً ً
أحد األلوان ،أو ترتيب املائدة ،وهذا إلى فوائد أخرى في االختالط
باألصدقاء أو االستماع للموسيقى.
79
وإذا شئنا الترفيه عن املرأة املصرية في البيت حتى تجد الفراغ
ترقي شخصيتها ،وتنير ذهنها ،وتوسع آفاقها،الذي تحتاج إليه كي ِّ
فإننا يجب أن نعاونها على ذلك بغشيان املطاعم ،واالعتماد على
األطعمة املعلبة ،وإحالة الغسل إلى املغاسل ،كما نحيل الكي إلى
املكاوي .وبهذا تخف أعباء البيت التي ترهق في الوقت الحاضر
ً
آالفا من نساء الطبقة املتوسطة.
وعلى ذلك نقول :إن الحياة الفنية للمرأة إذا لم تكن تعمل
مستقلة؛ أي طبيبة أو معلمة أو ممرضة أو تاجرة ،تحتاج إلى
80
االقتصاد في عمل البيت من ناحية ،وفي عدد األوالد من ناحية
أخرى.
81
العادات
وقد كان ولنجتون يقول عن العادة :إنها ليست طبيعة ثانية كما
هو املثل الجاري؛ إذ هي تزيد على الطبيعة عشر مرات.
82
نعرف كيف نحادثه؛ ألننا نتوقع منه كل وقت ً
لوما لنا في غير ما
نستحق أن نالم عليه.
وميزة العادات — زيادة على أنها تثبت وتلصق بنا — أنها تجعل
ً ً
محببا إلى النفس .وصحيح أن عاداتنا العسير من األعمال سهال
العامة التي تحرك غرائزنا وتنشط عقولنا تأتينا ً
عفوا ،بعضها أيام ِّ
الطفولة ،وبعضها بعد ذلك ،ولكن ليس معنى هذا أننا نعجز عن
نكونها بإرادتنا ،وعلى وجدان تام
تكوين العادات الحسنة؛ أي ِّ
بمنفعتها وضرورتها لنا.
83
والهدف الذي نقصد إليه من تكوين عادة ،أن نقتصد في مجهودنا
ً
مقدارا من العمل أكبر مما كنا نؤديه قبل حتى نستطيع أن نؤدي
ُّ
تكون العادة ،ونستهلك من قوتنا أقل مما كنا نستهلك.
والرجل الحكيم ال يترك نفسه يعيش ً
عفوا كأنه مسوق بالظروف
ً
قصدا بأهدافه ،وعلى تقدير والصروف؛ إذ يجب أن يعيش
ملواهبه وكفاءته ،واستغالل لهما بما يجعل حياته مجدية إن لم
تكن سعيدة ،وهو محتاج — لهذا السبب — إلى أن َّ
يتعود
العادات الحسنة التي تعاون على رقيه وتطوره.
84
العزم كل يوم على هذه املمارسة إلى أن يؤدي التكرار إلى ثباتها ،وال
بد من املثابرة بحيث ال يفوتنا يوم إال ونحن في ممارسة لها.
مثال ذلك :نفرض أن أحدنا قد بلغ الثالثين وهو يجد أنه مقصر
في الدراسة ،وأن زمالءه قد سبقوه فصار لهم مقام ،وحققوا
ً
كسبا ،ونالوا أماني لم يحصل هو عليها لتقصيره في الدراسة ،وأنه
ينوي أن يتعود عادة الدراسة.
َ
يعين هذه الدراسة ،ويوضح األسباب التي فأول ما يعمد إليه أن ِّ
تدعوه إليها ،ويوضحها كتابة مع التفصيل واملراجعة؛ حتى يقتنع
بضرورتها ،ثم يبدأ اليوم؛ هذا اليوم ،في هذه الدراسة ،ثم يثابر.
واملثابرة هنا تعني أنه ال ينقطع.
85
وقد ذكرنا الدراسة باعتبارها إحدى العادات التي يجب على
الشباب أن يتعودها ،ولكن العادات الحسنة كثيرة؛ ألننا
محتاجون إلى عادات الرياضة البدنية ،واملحادثة بكلمات كريمة،
واالعتدال في الطعام مع التأنق الذي يقتضيه التمدن ،وأمثال
ً ً
منفردا ،ولكن تكبر ذلك مما قد تصغر قيمته عندما نتأمله عمال
قيمته عندما نتأمله عادة متكررة؛ إذ قد يسهل علينا أن نتحدث
إلى أحد الناس في لغة كريمة وكلمات أنيقة إذا قصدنا إلى ذلك
وتكلفنا ،ولكن ال يسهل أن نفعل ذلك مع جميع الناس على سبيل
ً
أحيانا إلى مثل هذه العادة عف ًوا وسماحة .وكثير من النجاح ُيعزى
العادات.
86
التخلص من العادة السيئة
ً
وكثيرا ما العادة كالنار إما خادمة حسنة وإما سيدة مؤذية،
ُ
تتسلط علينا عادات تملكنا وتستبد بنا؛ فنؤديها خاضعين ونحن
على مضض من إلحاحها ،وعلى وجدان بما تبدده من قوانا
وحيويتنا.
87
في الشارع أو التحية لصديق ،وهي ،أي هذه العادات النفسية،
تعين سلوكنا وتصرفنا.
ِّ
وبالطبع هناك عادات خطرة؛ كالتدخين أو الشراب أو حتى
املخدرات والشهوات الشاذة ،ونحن ال نعالج هنا هذه العادات؛ إذ
هي تحتاج إلى تحليل نفس ي كي نصل إلى األزمات والتوترات التي
أحدثت االلتجاء إلى هذه العادات فر ًارا من الواقع املؤلم.
وقد يكون التدخين أخفها فال يحتاج إلى تحليل؛ ألن األغلب أن
الشاب يقع في هذه العادة لرغبة ساذجة في تأكيد رجولته ،ولكن
إدمان التدخين يدل على توتر نفس ي يحتاج إلى التحليل.
88
ً
واحدا ال أكثر ،فإذا تم له هذا اليوم ،فعليه أن يقرر هذا اليوم،
ً
كتابة ً
أيضا ،ثم يجدد العزم على وعليه أن يسجل هذا االنتصار،
يوم آخر ،وكلما مض ى يوم ضعفت العادة وتراخت قبضتها على
خناقنا.
89
يغضب؛ وهذا ألنه كظم الشهوة للشراب ساعة أو أقل أو أكثر
فقط ،فكيف باإلبطال التام؟
90
ولكن املرارة للحلمة والغثيان وقت الشراب كالهما عمل سلبي؛ أي
إنه يكف ويزجر ،والحاجة تدعو هنا إلى عمل إيجابي يغري
ويجذب ،وهو عند األم تقديم طعام سائغ للطفل ،وكذلك يجب
أن نقدم ً
شيئا للسكير له قيمة نفسية ترفيهية تقوم مقام الخمر،
َ
تعين العالج؛ فقد ُيعالج أحدهم بالرفقة
ولكل إنسان ظروفه التي ِّ
املنعشة مع أحد األصدقاء ،وقد يعالج آخر باهتمامات لذيذة
تملك نشاطه وتوجهه.
91
عادة القراءة
92
وواضح أننا نقصد هنا القراءة املنيرة املنبهة ال القراءة املظلمة
املخدرة؛ فإن هناك قراء وقارئات يشترون املجلة كما يشترون
اللب أو اللبان للتسلية وقتل الوقت ،كما أن هناك مؤلفين قد
زودوا السوق «األدبية» بهذه املخدرات التي ُت ِّبنج العقل وتلغي
الوجدان.
ولكن القارئ الذي ُيعنى بحياته يأبى التخدير؛ ألنه ال يجب أن
ينس ى أنه حي .وهو يقرأ كي يزيد حياته حيوية ،وليس كي ينام
ً
وإحساسا بالنمو ،وقراءته ويتخدر ،وهو يزداد بالقراءة سرو ًرا
دراسة مقصودة مرتبة على مراحل حياته؛ كأنها البرنامج للنمو
والتطور .والقارئ الذي يحس بعد سنوات من دراسته أنه لم
يتطور يحتاج إلى املراجعة والتساؤل؛ ألن أغلب الظن أنه أساء في
اختيار الكتب ،وانغمس في دراسات جامدة ال تبعثه على الرقي أو
النمو أو التطور.
93
الذرية ،كما ال يرض ى لنفسه أن يجهل نظرية التطور؛ التطور
البيولوجي والتطور االجتماعي.
94
َ
وث َّم اعتبار آخر في قيمة القراءة أو الدراسة للحياة الفنية هي أنها
أعظم الوسائل لالحتفاظ بشباب الذهن في الشيخوخة؛
تعود قراءة الجريدة والكتاب أيام شبابه ،ثم فالشباب الذي َّ
واصل هذه العادة في كهولته وشيخوخته يحتفظ بالكلمات ماثلة
تحرك الذهن إلى التفكيرحية في ذهنه حين تتبلد العواطف فال ِّ
واالهتمام ،بل حين تأخذ خاليا املخ في التدهور ،وتعجز الشرايين
الدقيقة املتصلة عن تغذيتها وتنظيفها ،ففي هذه الحال يرافق
الشيخوخة نسيان للكلمات يؤدي إلى تعطيل للتفكير ،ولكن عادة
ُ
القراءة كل يوم تجعل الكلمات — كما قلنا — ماثلة ،ومتى َمثلت
حيا ،وتعود الكلمات َم ُثلت األفكار ،فيبقى الذهن ًّ
شابا ًّ
الشيخوخة حافلة باالهتمامات حتى ولو بلغنا التسعين أو املائة.
ً
واضحا في جميع األدباء أو العلماء الذين لم ينقطعوا ونرى هذا
عن الدراسة في شيخوختهم؛ إذ في الوقت الذي تجد فيه غيرهم
قد تبلد ذهنه وجمد ،أو حتى خرف ،نجد أنهم ال يزالون يقرءون
ويكتبون كما لو كانوا في الشباب .وقليل منهم من يمتاز بشرايين
طرية أو صحة عامة تختلف عن سائر الناس ،ولكن ميزتهم
الوحيدة هي امليزة اللغوية؛ إذ قد احتفظوا بالكلمات؛ فاحتفظوا
95
تحركهم إلى النشاط ً
باملعاني أيضا ،وبقيت األفكار حية عندهم ِّ
واالهتمام.
ولذلك نحن على حق حين نقول :إن صحة الذهن للمسنين أهم
من صحة الجسم ،ومداومة القراءة اليومية هي خير ما يؤدي إلى
َ
استبقوا صحة الذهن .ونستطيع أن نذكر عشرات من املسنين
بالقراءة شباب أذهانهم ،ولكنا نحب أن نغير كلمة القراءة فنقول:
الدراسة؛ ألننا نقصد إلى الجد والترتيب ،ووضع البرامج للتوسع
96
الذهني ،وال نقصد إلى القراءة التي تقوم مقام أكل اللب أو مضغ
اللبان.
والقيم البشرية تعد على الدوام في املرتبة العليا باملقارنة إلى القيم
االجتماعية؛ ولذلك ال يمكن أن يقارن الثراء والوجاهة واملال
وترف املنزل واملعيشة ،بالذهن الثري بالثقافة ،املتمرن على
التفكير ،اليقظ بالوجدان العاملي .وذلك الشاب الذي يهمل ُّ
تعود
97
الدراسة ،ويبخل في شراء الكتب واملجالتُ ،ويؤ ِّثر عليها الرياش
النفيسة أو اكتناز املال إنما يبخس نفسه التي هي أولى من أي ش يء
آخر باإلنفاق ،بل باإلسراف في اإلنفاق.
98
البيت متحف
99
زوجية سيئة إلى قلق اقتصادي أو حرفي أو نحو ذلك .ولفرارهم
من البيت معنى رمزي يسهل تفسيره بالتحليل النفس ي.
100
وهناك فرق بين السرور والسعادة؛ األول :مادي بشأن املواد التي
نقتنيها ونستمتع بها ،والثانية :فكرية بشأن الغايات واملثليات،
ولكن ليس شك في أن أقرب املسرات إلى السعادة هو الحياة
مأوى ومطعم العائلية السامية؛ ألن البيت مادة وفكرة؛ أي إنه ً
ومتحف ،كما هو عائلة تقوم على عالقات روحية ،وتهدف إلى
مثليات ،وتحقق أماني ً
كثيرا ما تحملنا على أسمى املجهودات.
ثم نحن نعيش في البيت نحو سبعين سنة؛ أي نعيش هذا القدر
بأجسامنا ،ولكنا نعيش بنفوسنا أكثر من هذه السنين؛ ألننا نحس
ًّ
نفسيا أن عائلتنا منا ،وأن حياتنا مندغمة في حياة أفرادها؛
ولذلك يمتد إحساسنا للبيت إلى مقدار من السنين يتجاوز حياتنا.
وهذا اإلحساس يجعلنا نستهين بأي مجهود لترقية البيت.
101
ثم للبيت خصوصية بنا كأنه البذلة التي نلبسها على قد قامتنا؛
فنعتني بتفصيلها حتى تتخذ قسمات أعضائنا مع ما قد يكون بها
من نقص ،ولذلك نحن نؤثر البذلة التي فصلها الخياط على بذلة
جاهزة قد أخذ القياس فيها بالتعميم وطراز السن ،وليس
كالتخصيص والعناية الخاصة بكل فرد.
102
َّ
املستقلة تطلب التخصيص واالنفراد .والبيت يتسع لالتجاه الفني
ً
متحفا ،وكثير من البيوت التي امتاز أصحابها حتى يعود بالتأنق
بالثراء قد صارت متاحف ،ولكنها — مع األسف — متاحف قد
أسيئ فيها االختيار؛ حيث أخذت األبهة املطهمة مكان الفن األنيق.
103
ً
سريرا رأيناه من النيكل ،له قبة كأنه أريكة جنكيز نذكر من هذا
خان أو عرش تيمورلنك ،وكل ما فيه من ميزة أنه يباع ببضع مئات
من الجنيهات.
وكم قد رأينا من مقاعد َّ
مذهبة ،وكنبيهات َّ
منجدة ،ومناضد ومرايا
متعددة ،حتى ليدخل أحدنا منظرة الضيوف فيحس كأنه في قاعة
أثاث قد ُعرضت أشياؤها للمزاد.
104
مجموعة كبيرة دفعة واحدة ،وبذلك نجمع تحف اآلنية والرسوم
ً والكتب وسائر األثاث ،ويعود البيت ً
متحفا جميال يحوي أفخر ما
أخرجته حضارة فرنسا والصين وأملانيا ومصر وغيرهن.
ولكن الش يء املهم الذي نقصد إليه أن يجد البيت منا عناية فنية
ُ
في تأثيثه ،وأن ننظر إليه كأنه متحف عائلي يجمع ط َرف الجدود
واألحفاد ،فيتخذ بذلك سمة من سمات الخلود ،فال يكون مادة
بل فكرة.
105
البيت للضيافة
ولكل فرد منا حياة سرية أو كالسرية؛ كأنها العقل الكامن في
النفس يوجهنا من حيث ال ندري ،ولكل منا ً
أيضا حياة اجتماعية
علنية كأنها الوجدان الذي ينتقد ويحاسب ويراجع.
106
ُ
ونباشر ،ويجب لذلك أن نعنى بالضيافة والزيارة؛ ألنهما وسيلة
االتصال بين البيت واملجتمع.
أجل العناية؛ حتى نجعله ً
متحفا يحوي تراث يجب أن ُنعنى بالبيت َّ
َّ
الجدود ،وطرف الحضارة ،وألوان الرفاهية ،ولكن يجب أن نتوقى
حبسة الجدران؛ ألنها تحبس النفس عن التوسع والنمو والترقي.
107
وفي مدينة مثل القاهرة؛ حيث تتعدد املطاعم وتختلف على
موائدها األلوان ال يكون من مفاخر ربة البيت أن تعد لضيوفها
مائدة يتوسطها الدندي ،وتحتشد عليها اللحوم والحلويات،
ويستطيع وجيه في الريف أن يزودنا بهذه املائدة املادية ،ولكنه
يعجز عن إمتاعنا بالضيافة املهذبة املنيرة.
ُ
وخير من العناية بالطعام أن نعنى باألثاث في إيجاد مقاعد مريحة
للضيوف ال تكون للزينة ولكن للراحة.
108
الشاي أو املثلجات مع القليل من األطعمة الخفيفة،
كالسندويتش كل ما نقدمه للضيوف .وتقديم الشاي خير من
إعداد العشاء؛ ذلك ألنه يتيح سهرة طويلة تبدأ من الساعة
الخامسة وقد تنتهي في الساعة التاسعة أو العاشرة ،ثم هو ال
يبهظنا بتكاليفه فيثبطنا عن املواظبة.
ويجب أن يكون للضيافة الحسنة بؤرة تجمع الضيوف .وقد يكون
ً
ممتازا له مكانة رب البيت أو ربة هذه البؤرة إذا كان أحدهما
اجتماعية أو أدبية ،أو اختبارات نشتاق إلى الوقوف عليها؛ كأن
ً
عضوا في جمعية لها نشاط معين ،ولكن إذا لم يكن يكون أحدهما
متيسرا؛ فإن من الحسن أن ُتدعى شخصية ممتازة ،أو ترتب
ً هذا
محاضرة في موضوع يهتم له الضيوف ،ثم يتناقش الضيوف.
ولسنا نقصد إلى أن نقول :إنه يجب إيجاد ُمحاضر فذ في كل
ُْ
ضيافة؛ فإن هذه الحال املثلى ال تتوافر على الدوام ،ولكن ربة
البيت التي تتجه هذه الوجهة تستطيع في غياب املحاضر أن تجعل
الحديث يدور حول موضوع سياس ي أو اجتماعي يشغل الضيوف
وينبههم.
109
والضيافة — كما قلنا — تهوية اجتماعية للبيت ،وهي تحرك
أعضاء العائلة والضيوف إلى ما يشبه املباراة الفنية في الزي واللغة
والشخصية ،كما أنها؛ أي الضيافة ،تربي أبناء البيت الناشئين
على املؤانسة االجتماعية ،فال ينمو الصبي ثم الشاب في حياة
خاما ،مربوك الحركة ،ثقيل اللسان، انفرادية معزولة .وقد ينشأ ً
ال يعرف كيف يتحدث إلى آنسة ،أو كيف يشترك في سمر مهذب
منير.
110
البيت معهد حر
وإذا كان هؤالء في سن صغيرة يحتاجون إلى اإلرشاد؛ فإنه يجب أن
خاليا من االستبداد والتسلط؛ ألننا يجب أن ننشد مبادئ يكون ً
الثورة الكبرى؛ أي الثورة الفرنسية ،في البيت قبل أن ننشدها في
نعمم مبادئ الحرية واإلخاء واملساواة بيناملجتمع؛ أي يجب أن ِّ
أعضاء البيت قبل أن نعممها في املجتمع.
111
ويجب أن يتمرن أعضاء العائلة على ممارسة النظام الديمقراطي
في البيت قبل أن يمارسوه في املجتمع.
112
وهناك أمام األطفال والفتيات والسيدات ،فال تجد شخصياتنا
ا لتربية التي تؤدي إلى إنضاجها وإيناعها ،فينشأ الشاب وهو في
خوف من الدنيا ال يقتحم في تفكيره أو عمله ،وتنشأ الفتاة وهي
محجمة متراجعة ،تلتزم الصمت والسكون واالستحياء والتراجع
كأنما هذه خطة حياتها؛ فال تحيى الحياة املليئة ،وال تزدان برشاقة
اإليماءة ولباقة الكلمة؛ ولذلك تخسر ً
كثيرا من جمالها الروحي.
هذا الجمال الذي ال يعوض منه جمال الجسم الذي يبدو ر ً
اكدا ِّ
جامدا ،وهو كذلك باملقارنة إلى الفتاة األوروبية التي تتذبذب ً
طربا في شخصية مغناطيسية تواجه الدنيا في شجاعة حيويتها ً
وانطالق واستطالع ،في حين تواجه فتاتنا املصرية دنياها في تقلص
وخوف من االستطالع؛ وذلك ألن األولى عاشت في حرية ،في حين
عاشت الثانية في قيود التقاليد.
113
يحضونها على أن تثقف عقلها ،وأن تتجه االتجاهات التي تزيد
ً ً
وجماال ،كما تزيد حياتها ً البيت ًّ
وإيناعا. نضجا فنا
114
وشبابنا في مصر يجهلون أشياء كثيرة عن البيوت األوروبية
واإلفرنكية ،وهم يقرءون القصص أو يرون املسرحيات
َ
السينمائية التي تعرض شذوذات الحياة أكثر مما تعرض
قواعدها ،فيتوهمون السوء والزيف في حياة املتمدنين ،وينشئون
على استمساك بالحياة الشرقية التقليدية ،ويتعصبون لها؛
فينكرون الحرية على املرأة واألوالد ،ويمارسون معهم حياة
االنكفاف واإلحجام ،تلك الحياة التي تجعلهم يعيشون في نسك
أو ما يقاربه ،ويكرهون متع الحياة العائلية ويتوقونها.
115
املجتمعات االنفصالية في األمم الشرقية؛ فالحياة هناك أمأل
وأمتع ،والشخصية أتم وأينع.
116
يجب أن نعيش في حاضرنا
117
من العمر تنادي باللعب واملرح ،وبالتجارب التي يخترعها الصبي
لفهم الدنيا ،وليس من حقنا أن نحرمه منها.
118
نفسية هي في حقيقتها أمراض يحتاج إلى املعالجة منها ،وهو حين
ُيسأل عن األسباب التي تحمله على هذا البخل يجيب بأنه يخش ى
املستقبل ،ويتهيأ لليوم األسود بالقرش األبيض ،مع أن من يتأمل
َّ َ ُ
املدخر مهما خرج هذا القرش األبيض صميم نفسه يعرف أنه لن ي ِّ
اشتدت الحلوكة في هذا اليوم األسود املنتظر؛ ألن الواقع أن
البخل نشأ عنده من الخوف من املباراة العامة التي ال تجعل ً
أحدا
مطمئنا على مستقبله ،فأسرف في التهيؤ لهذا املستقبل ،واتجهًّ
الوجهة النفسية التشاؤمية حتى صار البخل عادة .وهذه العادة
تجعله يعيش على هامش الحياة التي قد تطول ،ولكنها تطول
هزيلة بال عرض أو عمق .والعادة لثبوتها تحرمه من الترفيه عن
نفسه مهما ساءت األحوال.
ونحن جميعا نحتقر البخل ،ولكننا ننس ى أننا حين نحرم الصبي
من صباه إنما نتجه وجهة هذا البخيل في الخوف من املستقبل،
وننس ى أننا حين نرصد من وقتنا أحسن ساعاته القتناء العقارات
واإلثراء إنما نتجه هذه الوجهة ً
أيضا ،وإن كنا ال نبلغ درجة البخيل
في الحرمان.
119
وفن الحياة يقتضينا أن نعيش في حاضرنا؛ فنتمتع بمتع الطفولة
في طفولتنا ،ومتع الصبا في صبانا ،ومتع الشباب في شبابنا ،وال
تهي ًؤا للمستقبل؛ ألننا لسنا واثقين من هذا نؤجل ً
شيئا من ذلك ُّ
ِّ
املستقبل ثقتنا بالحاضر ،فإذا حرمنا الشاب من متع شبابه
بدعوى أنه يستعد للمستقبل؛ فإننا ال نثق بأنه سيعيش إلى هذا
املستقبل املنتظر.
ولسنا مع ذلك ننكر هذا املستقبل ونتعامى عنه ،ولكنا نعتقد أن
من يعيش في حاضره إنما يعيش ً
أيضا ملستقبله ،ونعني املعيشة
ً
السليمة؛ فإن هناك فرقا بين اثنين يخافان املستقبل؛ أحدهما
يبخل ويقتر ويبالغ في الحرمان ،واآلخر يؤمن بأداء قسط سنوي
ً
إلحدى شركات التأمين — مثال.
120
والرجل السو ُّي الذي تتزن أعصابه يكتسب من حاضره بصيرة
ًّ
مطمئنا؛ فال يجنح إلى ملستقبله ،ويستطيع لذلك أن ينظر إليه
التقتير ،وال يهرول في جهده القتناء املال.
121
ً
مهموما في اقتناء الثروة، يكد ً
متعبا شخصا ُّ
ً ومن املألوف أن نجد
وفي نفسه شوق إلى االستمتاع؛ فهو يحلم بالبيت الذي سوف
يبنيه ،أو ببضعة الفدادين التي سوف يزرعها ،ويجد فيها االتصال
بالطبيعة ،أو هو يحلم بالسياحة في أوروبا ،وقد يحلم ً
أيضا
باستمتاعات ثقافية مختلفة ،ويضع في برنامجه شراء مكتبة
تحوي آالف املجلدات التي تنيره وتثقفه ،ويفعل ذلك وهو في
الثالثين أو األربعين ،ويرصد كل وقته للجمع واالقتناء واإلثراء.
ومثل هذا يجب أن نقول له :أنت مخطئ؛ ألنك حين تصل إلى سن
الستين تكون العادات التي مارستها كل يوم من حياتك املاضية قد
رسخت فيك ،فلن تستطيع تغييرها.
122
متعها الخاصة ،فمتع الشباب غير متع الكهولة ،ومتع الكهولة غير
متع الشيخوخة ،ومتع الصبا غير متع الشباب.
123
النمو والتطور
124
ومعنى هذا أنهما أصيالن في أعماق سريرتنا ،وأننا لن نعيش
املعيشة السوية ،ولن نقارب السعادة ،أو على األقل السعادة
السلبية ،إال إذا كنا في نمو وتطور ال ينقطعان طوال حياتنا.
ً
أحيانا ،حين نتأمل أحالم اليقظة التي نستسلم إليها في لذة، بل
نجد أننا نطلب التطور كما لو كان شهوة في نفوسنا؛ أي إننا نحس
أننا غير راضين عن حالتنا؛ إذ ندأب في التفكير في تغييرها .وليس
اإليمان باملستقبل ،بل بالشجاعة واإلقدام ،سوى إيمان بالنمو
والتطور واالرتقاء ،وكذلك ليست املحافظة والجمود والرجعية
سوى الجبن والخوف ،وكالهما يحملنا على الركود والتقلص.
125
ً
الطفولة ،أو ألن كوارث الحياة قد تراكمت فمألت القلب شكوكا
نبين أننا لن
وشبهات بشأن املستقبل ،ولكن من السداد أن ِّ
نستطيع أن نتطور؛ أي نعيش وفق سنن الطبيعة ،ما لم نكن
متفائلين .وعلى كل قارئ — عندئذ — أن يحلل تشاؤمه وخوفه،
وأن يعرف مرجعهما ،وهو إذا هبط على هذا املرجع عاد إلى
التفاؤل والشجاعة.
126
وإذا اعتدنا الثقافة فإن األغلب أننا نخرج منها بمذهب كفاحي
للخير البشري ،وهذا املذهب يغذونا وينير بصيرتنا عن مغزى
وفر لنا اهتمامات ال تنقطع ،وما دمنا في هذه ُ
الحياة ،كما أنه ي ِّ
االهتمامات ،فإننا لن نحس هذا السأم القاتل الذي يغمر حياة
املنغمسين في امللذات حين يأجمونها متبرمين منها عازفين عنها.
وفن الحياة هو ،في معنى ما ،فن العيش في سرور ،إن لم يكن في
سعادة؛ ولذلك يجب أن نوفر ألنفسنا إحساسات السعادة بإيجاد
وسائل الرفاهية الذهنية واملادية.
ً
عميقا بلذة التطور؛ ً
إحساسا وعندما نعمد إلى دراسة نحس
ولذلك نحتاج ،كي نوفرها ،إلى برامج ثقافية متواصلة تحملنا على
مراحل الحياة ،وتكفل لنا شباب الذهن َوت ُّ
جدده.
127
مهما نكرره فإننا في حاجة إلى تأكيده؛ إذ ليس هناك ضمان
للشيخوخة السعيدة إال مع الثقافة الدائمة التي تستبقي الذاكرة
في حيويتها القديمة.
ً َ
كثيرا ما نأجمه ،فإننا عندما نندفع في وهناك ألوان من االرتقاء
اقتناء املال ،أو عندما نبذل جهودنا كي نحصل على مركز اجتماعي
كنا نطمح إليه ،نجد أن الهدف الذي وصلنا إليه دون ما َّأملنا
وتمنينا؛ من حيث قيمته في جلب السرور إلى نفوسنا ،إال الثقافة؛
فإنها تملؤنا غبطة ولذة أكبر مما كنا نحلم به.
ولعل مرجع هذا أن آفاق الثقافة واسعة متشعبة ليست لها نهاية،
في حين أن للمركز االجتماعي أو املالي نهاية؛ ولذلك لن نعرف
السأم إذا جعلنا غايتنا من النشاط والنمو ثقافية.
128
االتصال بالطبيعة
ومن وقت آلخر نرى أو نقرأ عن أولئك البشريين الثائرين على هذا
العرف االجتماعي؛ مثل تولستون الذي هجر املدن وعاش في
129
عزبته يصنع حذاءه بيديه ،أو غاندي الذي نزع عن جسمه مالبس
الحضارة ،وقنع بشملة يبسطها على عاتقيه أو يأتزر بها .وهذا إلى
قنوعه من الطعام باللبن والفواكه ،أو ثورو الكاتب األمريكي الذي
ترك املدن وبنى لنفسه ً
كوخا لم يكلف أكثر من ستة جنيهات،
عاش فيه سنتين إلى جنب الغابة ،حيث كان يحصل على طعامه
من صيد السمك وصغار الحيوان والطير ،وقد قال عن هجرته
هذه في الغابة وحياة الفطرة« :إني أردت أن أسوق الحياة وأحرجها
في زاوية كي أعرف هل هي ش يء جليل أم حقير».
وبكلمة أخرى ،أراد ثورو أن يخلو إلى نفسه ،ويستمع إلى همساتها
بعيدا عن ضوضاء املدينة وضجيج الحضارةً ،
خاليا من تكاليفها ً
الصغيرة والكبيرة؛ كي يستكنه أسرارها ،ويصل إلى أصولها،
ويتعرف إلى الطبيعة ،ويقف على عالقته منها ومراسيه فيها.
وكلنا يحس في أعماق القلب واملخ أننا في حاجة إلى مثل هذه
التجربة ،وأن العمر ال يصح أن ُيقض ى على هذا الكوكب وهو
مبعثر بين هموم واهتمامات صناعية؛ أي صنعتها لنا الحضارة.
130
ولذلك يجب على كل من ينشد الحياة الفنية أن ينظم هذه
الحياة ،بحيث ال تنقطع عن الطبيعة ،وبحيث تبقى القيم
واألوزان البشرية ماثلة في ذهنه عالقة بقلبه ،يشتهيها ويتعب لها
ويستمتع بها ،وهو عندما يفعل ذلك ،وعندما يألف الطبيعة،
سيحس أنها؛ أي الطبيعة ،تحوي ً
ألوانا من الجمال في الشفق عند ُّ
الغروب ،وفي بزوغ الشمس عقب سكينة الفجر ،وفي رهبة
الجبل ،وبسطة الصحراء ،بل في تنوع النبات والحيوان ،مما
َ
حملنا الحضارة على اقتنائه ،ونعتني في
يجعله يحتقر الكثير مما ت ِّ
جمعه والتفاخر به.
131
كسب ،أو بكلمة أصح :هو كسب من حيث القيم البشرية ،وخسر
من حيث القيم االجتماعية.
ً
وأحيانا حين أقعد في الريف وأتأمل القمر وهو يحيل كل ش يء على
األرض إلى خلق سحري ،أو حين أتأمل الشفق في رائعة جماله ،أو
حين أخرج في الفجر أنتظر بزوغ الشمس والدنيا هادئة صابحة
كأنها لم تخلق إال منذ دقائق ،أو أتأمل أسراب الغربان وهي عائدة
إلى عشاشها عند الغروب ،أو اليمام وهو يغازل على استحياء وفي
طمأنينة ،أو حين أتأمل هذه الحرب الخفية السرية بين النبات
والحيوان في َديسة أو خميلة على جدول ،أتعجب من إنسان
يرض ى بقضاء دقيقة واحدة فيما يسميه قتل الوقت على القهوة،
ً ً ً
ساعيا الهثا إلى الريف كي يختبر هذه الدنيا في بدال من أن يجري
أعماقها وصميمها.
132
ً
إنسانا «يعرف» ويفشو الجهل بالطبيعة؛ أي بالدنيا ،حتى نجد
طائفة من املعارف املكروسكوبية عن األدب أو العلم ،وهو يجهل
هذه الدنيا العظيمة؛ وطنه األول ،فال يعرف روائعها من جماد
ونبات وحيوان.
وقد َّ
جزأتنا الوطنية أجزاء على هذا الكوكب حتى صرنا ال نشتاق
إلى رؤية جبالنا الشامخة؛ مثل هماليا ،أو مساقطنا الرائعة؛ مثل
نياجرا؛ ألننا نحس كأن جبل هماليا هو ملك خاص بالهنود،
ونياجرا هو ملك خاص باألمريكيين.
بل الواقع أننا ال نشتاق إلى رؤيتهما؛ ألن القيم االجتماعية قد
ً
تغلبت علينا ،فنحن نهتم باقتناء البهارج «الجميلة» بدال من
االهتمام باالقتناء النفس ي لجمال هذا الكوكب .وكثي ًرا ما أدخل
ً
أشجارا أسأل أصحابها عن البيوت التي تمتاز بحدائق فأجد
ً
أسمائها فال يعرفون … ألنهم إنما غرسوها انسياقا وراء العرف،
ً
إحساسا بأن الشجر قريبنا نحن. ً
تقديرا لقيمة النبات ،أو وليس
وهم يعيشون في وحدة وجودية؛ ولذلك ال يهتمون بالتعرف إلى
اسمه أو أصله.
133
أحيانا أجد من الحسن أن أرد بعض الذاهلين إلى الوجدان، و ً
ُ وأعيد إليهم القيم البشرية بأن أسال أحدهمْ :
هب أنك أصبت
بمرض قاتل ،ووثقت من األطباء أنك لن تعيش على هذا الكوكب
خيرت بين أن تقتني ألف آقة من األملاس سوى عام واحد ،ثم ِّ
واللؤلؤ ،ومئة قنطار من الذهب ،أو تقض ي هذا العام الباقي من
عمرك على هذا الكوكب في زيارات رائعة إلى القطب الشمالي،
وجبال هماليا ،ومساقط نياجرا ،وغابات إفريقيا ،ترى بواسق
الشجر ،ووحوش الحيوان ،وتشترك في صيد القيطس عند
القطب الجنوبي ،وترى الفيلة في غاباتها في الهند .أجل ،وفوق ذلك
تعرف الشعوب البشرية في الهند واليابان ونروج وأستراليا ،وترى
اإلنسان البدائي واإلنسان املتوحش واإلنسان املتمدن ،ومقدار
التدمير الذي أحدثه هذا األخير بكنوز كوكبنا.
خيرت بين هذين الخترت بال شك أن تقض ي عامك في زيارة لو ِّ
األرض التي عشت فيها ماض ي عمرك وأنت محبوس محجوز في
بقعة معينة تظن أنها كل ش يء ،وتقض ي سنيك في اقتناء بهارج ليس
لها غير القيمة االجتماعية التي تعمينا عن االستمتاع بكوكبنا.
134
وال بد أن البشر في املستقبل سينفضون عن عواتقهم التكاليف
الباهظة العديدة التي يحتملونها اآلن من الحضارة ،ويفكرون في
القيم البشرية ،وسوف يجدون في اآلالت املنتجة ،بل في الطاقة
ً
الذرية ،ما يجعل العمل اإلنتاجي سهال ال يحتاج منا إلى قضاء
الوقت أو الجهد العظيمين ،وعندئذ يعود هذا الكوكب وطن
ً
جميعا ،وعندئذ تصير الجبال والبحيرات والغابات ،بما البشر
تحفل به من حيوان ونباتً ،
كنوزا يحتفظون بها وال ينقطعون عن
زيارتها.
نذكر أنفسنا على الدوام وإلى أن نصل إلى هذه الحال يجب أن ِّ
بضرورة اتصالنا بالطبيعة ،ويجب أن نحتال بالتوفيق بين
ضرورات العيش واملجتمع واللجوء إلى الريف ،ويجب أن تكون لنا
ً ً ً
يوما كامال هوايات ريفية طبيعية؛ فإن صيد السمك ينزعنا أحيانا
من الوسط الحضاري الصناعي إلى وسط طبيعي .وكثير من
املفكرين يحتاج إلى مثل هذه الهواية التي تختمر فيها الكامنة وقت
السكينة عند شاطئ النهر ،ثم يؤدي اختمارها إلى تهيئة الوجدان
لإلنتاج املثمر.
135
أجل يجب أن نتنبه على الدوام إلى القيم البشرية ،وال ننساق في
قيم اجتماعية تستعبدنا ،ويجب أن نذكر أن الطبيعة؛ أي األرض
والنهر والجبل والغابة والبحر والصحراء والنبات والحيوان ،هي
ًّ
نفسيا ،وندرس جماله كنزنا األول الذي يجب أن نقتنيه اقتناء
ونستمتع به ،وذلك باالتصال الذي ال ينقطع به.
136
االتجاه والرؤيا
137
الجسمية متحرك العاطفة بالجوع ،متحرك العقل بالتفتيش،
وأنفه يرشد عقله كما ترشد عيوننا عقولنا ،ولكن اعتبر اآلخر
الشبعان ،فإنه قاعد راكد أو نائم.
138
والرؤيا هي ثمرة التفاؤل؛ ألن املتشائم ال يرى رؤيا ،فال يمكن —
مثال — أن تكون اشتر ًّ ً
تؤمل املساواة واإلخاء بين البشر إال
اكيا ِّ
ً
إذا كنت متفائال ،والعكس صحيح؛ ألن الرجعي املحافظ يؤمن
بأن الشر غالب على الطبيعة البشرية التي ال تتغير وال يمكن
معالجتها ،فهو لذلك متشائم بال رؤيا؛ ولذلك يكافح األول ويركد
الثاني.
139
ً
أسلوبا للعيش؛ وربما كان أعظم االتجاهات اتجاه الحب باعتباره
ألن الحب يزيد الفهم؛ أي إننا نفهم أكثر عندما نحب ،ونفهم أقل،
ً
أحيانا ال نفهم ،عندما نكره .أال ترى أن األم تفهم الش يء الكثير أو
من إيماءة طفلها أو أي طفل آخر إذا كانت تتجه وجهة الحب ،في
حين غيرها الجامد أو غير املبالي أو الكاره ال يفهم ً
شيئا؟!
140
ومثل هذا الرجل يدين بدين مقدس ،وال عبرة بأنه يخالف
التقاليد؛ ألن الدين هو نقطة التبلور في اختباراتنا وثقافتنا،
والرجل الذي ُيختبر ً
كثيرا ،ويدرس ً
كثيرا ،ويتجه وجهة الحب ،ال
بد أن يصل إلى هذه النقطة ،وأن يرى رؤيا الدين .ومن هنا كفاحه
وإنسانيته؛ ألنه في جميع كفاحه املاض ي إنما كان يحاول أن يكون
ًّ
إنسانيا ،وأن يحمل البشر على أن يكونوا إنسانيين. ً
إنسانا
وإذا كان رجل التقاليد ينبذه بأنه ملحد أو كافر ألنه يضل في
اشتباكاته الثقافية ،فإن غيره من املتعمقين يعرف إيمانه .هذا
اإليمان الذي ُوصف به فولتير في كفاحه للمتعصبين واملستبدين
إزاء رجال التقاليد من كهنة رجال الدين املسيحي في فرنسا .ونحن
اآلن نعرف أن الدين ،بل القداسة كانت في قلب فولتير ،وأن الكفر
كان في قلوب أولئك الكهنة.
141
والرسوم الفنية واملدن التاريخية ،وبذلك ال نركد ،بل نبقى على
نشاط دائم مكافحين محبين للخير ،كارهين للشر.
142
الحياة مغامرة
َّ ُ
عندما نتأمل القصص السامية التي ألفها ك َّتاب خالدون ،نجد
أننا إنما نقيس هذا السمو بشيئين :إما بشخصية فذة تغمر
ً
اقتحاما ،وتجد مرح الحياة في املغامرة القصة ،وتجعل من العيش
والدخول في الغمر العباب دون القناعة بالشواطئ واملخاضات،
ً
وإما نجد ،بدال من هذه الشخصية ،مشكلة حيوية عظمى ،نصل
فيها إلى األعماق ،فنفهم أكثر ونعرف أكثر في الحياة.
ومع أننا نقرأ ً
كثيرا؛ فإنه قلما يخطر ببال أحدنا أن يعيش في هذه
ً
الدنيا كما لو كان بطال في قصة سامية؛ وذلك بأن يكون هو نفسه
شخصية فذة ،أو يكون قد اعتنق مشكلة من مشكالت البشر
الحيوية فيطابق بينها وبين نفسه ويعيش لها؛ فهي هو وهو هي.
ولكن الواقع أن كثيرين منا — على الرغم مما قلنا — يطابقون
ُّ
ينكب بين حيواتهم وبين القصص التي يقرءون؛ فالشاب الذي
على قراءة قصة ما إنما يطابق بين نفسه وبين هذه الغراميات
املتأججة في القصة ،والفتاة التي تدمن الذهاب إلى الدور
السينمائية إنما تطابق بين نفسها وبين فتيات الدراما التي
143
تشاهدها؛ وهي تعيش بجميع إحساساتها فيما ترى من اقتحامات
هؤالء الفتيات ،ولكن ،وهذا هو املهم ،هذه القصص والدرامات
ليست سامية؛ ولذلك فإن املطابقة بين قارئها أو مشاهدها وبين
أبطالها أو حوا دثها ليست مما يرفع؛ أي ليست مما يساعدنا على
أن نجعل حياتنا سامية نعيشها في فن وحذق وتأنق ومجد.
144
وتنبه وذكاء وفهم ،فتكون الدقائق عندنا بمثابة في يقظة ُّ
الساعات عند غيرنا ،والساعات بمثابة األيام.
145
ولنا مما قلنا مغزيان؛ املغزى األول :أال نلتزم الدعة والطمأنينة
فنحجم ونتقلص ونتراجع أمام األخطار ،واملغزى الثاني :أال نبالغ
في شأن الكوارث التي تصادفنا؛ ألننا ما دمنا لم نمت فيها سنعيش
فهما وحكمة. وقد كسبنا اختبارها ومعرفتها اللذين ازددنا بهما ً
ُ
وكتب األدب العالي ُتكسبنا من االختبارات ما ال نحصل عليه في
مجتمعنا .والشعر العالي هو أحسن ما في األدب؛ ألن الشاعر
يعرف أنه لن يثير في القارئ حماسة أو يلهب فيه ً
نارا ،إال إذا ارتفع
عن املبتذل املألوف من االختبارات ،سواء في املوضوع أم في
يحملنا على اقتحامات ذهنية حتى ولو كانت هذه التعبير ،فهو ِّ
االقتحامات مقصورة على التعبير ،واستخراج املعنى الخفي الفذ
من املوضوع الواضح املبتذل.
146
وقد كان املتنبي يقول:
147
الحياة املليئة
عندما نتأمل املخ ،أو باألحرى قشرته الرمادية ،نجد شبكة من
ماليين الخاليا التي تربط وتستطيع أن تؤلف ماليين األفكار
واملركبات الذهنية الجديدة ،ولكننا نقنع من حياتنا العقلية
العادية بالقليل من هذه األفكار ،حتى لنستطيع أن نقول :إن
ُعشر املخ كان يكفينا .ولو أننا عنينا منذ ميالدنا بالحياة الفكرية،
وجعلنا التربية تتجه نحو االستنباط واالختراع والتفكير البكر،
ً
بدال من التسليم بالعقائد والجري على األسلوب االجتماعي
ً ً ً الفاش ي ،لو أننا عنينا بهذا لكان ٌّ
مخترعا؛ كل منا فيلسوفا أو عاملا
ألن في القشرة املخية من ماليين الخاليا ما يتسع ملاليين املركبات
الفكرية ،ولكننا نتركها بائرة في جدب بال حرث أو غرس ،فال نعيش
ملء حياتنا الذهنية ،بل نقنع بالقليل منها.
148
اإلنجيل إلى التوسع والتعمق في الحياة حين َّنبهنا إلى قيمة «الحياة
الوفيرة» ،وما الوفرة في الحياة سوى وفرة االختبارات بالنشاط
والتجدد؛ فالحياة الراكدة أو الجامدة ليست وفيرة أو — على
طربا ً
ومرحا في األقل — ليست في وفرة تلك الحياة التي تتذبذب ً
الدنيا.
149
ً
جميعا ،وهي في وعند التأمل نجد أن لنا ثالث حيوات نمارسها
صميمها ثالث ذوات.
150
ولكن هذا حدس فقط ،وقصارى ما نستطيع أن نقوله في يقين:
إن الحياة املليئة تحتاج إلى سخاء وتفاؤل؛ ألن أعظم ما يحدد
حياتنا ويقيم حولها السدود هو البخل .وهذا البخل ينشأ من
التشاؤم الذي يحدث لنا الخوف من االقتحامات؛ فنتبلد ونجمد،
ثم نعيش في حياة ضنينة قليلة االختبارات ،وقد ننتهي إلى أسلوب
من الزهد والنسك؛ فنكاد ننكر الحياة.
151
والطبيعة واملجتمع ،ونهتم بالسياسة واالقتصاد والتطور
ً
جميعا متفرجين وعاملين ،ونعيش فيها بروح البشري ،نهتم بها
االبتكار والتساؤل واالستطالع؛ حتى نفهم ويستيقظ ذكاؤنا،
وتستفيض شبكة املركبات الذهنية في القشرة الرمادية املخية،
وإذا ذكرنا البخل فال نذكره بشأن الحرص على املال فقط ،وإن
كان هذا أفش ى مظاهره؛ ألن أسوأ ما في البخل نزوعنا فيه إلى
التبلد واالعتكاف الذهني والعاطفي وكراهة االختبارات؛ فهو ال
يعيش ملء حياته.
152
الهواية
153
وتطور اآلالت ،والزيادة في اإلنتاج ،وتوافر الضروريات لكل
ً
جميعا في شبه إنسان ،ثم توافر الكماليات في املستقبل ،ستجعلنا
تعطل؛ ألن طرق اإلنتاج العلمية التي ال مفر من استخدامها في
قريبا ستوفر لإلنسان حاجاته بأقل الجهد في أقصر العالم كله ً
َّ ً
جميعا معطلين فارغين معظم النهار الوقت؛ ولذلك سنجدنا
والليل نحتاج إلى ما يشغلنا ،فإذا لم نجد املفيد الذي يرفعنا
ويرقينا َع َمدنا إلى املضر الذي يحطنا.
بل نحن ،قبل أن نفكر في املستقبل ،نجد أن حاضرنا يوفر لنا ،أو
اغا ًَّ
يترجح بين باألحرى لبعضنا من أعضاء الطبقة املتوسطة ،فر
أربع وعشر ساعات كل يوم ،فيجب أن نمأله ،وأن نتعلم كيف
نمأله .وعند اإلنجليز كلمة «هوبي» ملا نسميه بالعربية« :الهواية»؛
أي العمل نعمله للذة فقط ال نبغي منه ً
كسبا ،وعندما نمأل فراغنا
ً
تخفيفا ،بل معالجة للتوترات التي نستجيب بهواية نجد في الفراغ
بها حانقين مرهقين ملصادفات الحياة املعاكسة املناوئة .وكلنا
يعرف أن الحركة والنشاط والعمل ،كل هذه تخفف التوترات
وتفرج عن العواطف املكظومة .فإذا كانت الحركة في عمل محبب
تتجه إليه اإلرادة في نشاط حتى تستحيل إلى حماسة ،فإن االتزان
154
النفس ي الذي ربما يتزعزع من إرهاق العمل الحرفي يعود إلينا
مستجمين.
ِّ فنستأنف هذا العمل مرتاحين
لهذا السبب يجب أن يكون لكل منا هواية ،وأن نعلم أوالدنا وهم
في الطفولة والصبا كيف يشغلون فراغهم ،وأن ننفق بسخاء على
ما يحتاجون إليه لشغله؛ وذلك ألن فراغهم في املستقبل سوف
يزيد على فراغنا نحن ،وسوف يثقل عليهم — لهذا السبب —
أكثر مما يثقل علينا.
155
وقلما يخلو بيت في أوروبا من غرفة يستأثر بها الزوج ال يجوز
لزوجته أن تتدخل في ترتيبها ،وفي أغلب األحيان تكون هذه الغرفة
منزوية قريبة إلى سطح البيت ،وهي مريحة في فوض ى األثاث
واألوراق ،وهي ملجأ أو معتكف يلجأ إليها الزوج كي ينفس عن
كظومه ،أو يفرج عن توتراته ،وهي من املرافق االجتماعية التي
تمهد العقبات ،وتسوي النتوءات التي تنشأ من العمل أو من
العائلة.
وأذكر أني زرت ذات مرة أحد األندية النسوية في القاهرة ،فوجدت
ً ً
خفيفا من الكراس ي ،عرفت حين سألت عن صانعه طر ًازا جميال
أن هذا الصانع موظف كتابي في الحكومة قد هوى هذا العمل
وأتقنه ،ال يبغي منه فائدة مادية ،ولكن الفائدة املادية جاءته
156
ً
عفوا بحيث يستطيع اآلن أن يستغني عن وظيفته الحكومية
ويقتصر على النجارة.
وتخرج تالميذها أو املدارس م تعل حين ا وربما ال يكون الزمن ً
بعيد
ِّ ِّ
طلبتها للحياة وليس للحرفة ،وحين تعنى بالفراغ والهواية أكثر مما
تعنى بالعمل والكسب .وفي هذه الدنيا الواسعة هناك ال أقل من
مليون هواية تنتظر من يبحث عنها ويهتدي إليها .وقد تكون إحدى
هذه الهوايات بذرة الختراع أو اكتشاف جديد يحتاج إليه البشر.
وهل فكرت — أيها القارئ — وذكرت أن ً
كثيرا من املخترعات
واملكتشفات إنما كان ثمرة إحدى الهوايات التي مألت فراغ أحد
الهواة؟
157
ً
وفي ظروفنا االجتماعية الحاضرة يحتاج كل منا إلى هواية؛ أوال:
ألن حياتنا حافلة بما ينغص ويبعث على توترات وكظوم مختلفة
متكررة ،والهواية هنا تخفف وتعيد لنا اتزاننا النفس ي؛ ألننا نجد
انتصارا وحماسةً ،
وثانيا :ألننا نرتقي بممارسة هواية ً فيها كل يوم
فنا أو أي مهارة أخرى تحرك ذكاءنا أو عضالتنا، ما؛ إذ نتعلم ًّ
ً َ
وثالثا :ت ُحول الهواية دون الوقوع في العادات السيئة.
158
الخلوة
ً
منفردا ،وهو يبدو اإلنسان كأنه حيوان اجتماعي ال يطيق العيش
يعد الحبس االنفرادي أقس ى أنواع الحجر والتقييد لهذا السبب؛
فإن املسجون ال يطيق انفراده بين الجدران في الزنزانة ،ولذلك
ُيعاقب املسجونون ً
أحيانا بحرمانهم من رفقة زمالئهم املسجونين،
ويوضعون في الزنزانة .وحضارتنا ولغتنا وديانتنا وأخالقنا تدل على
الحياة االجتماعية.
159
النفس ي والتأمل الفلسفي ،وكأننا بهما نبتعد عن املجتمع ،ونستقل
من جميع اعتباراته ،ونحاول أن ننحرف عن طرقه وأوضاعه كي
نرى أنفسنا.
ً
تدريبا، وإذا كانت الهواية تربينا ألنها تتيح لذكائنا أو عضالتنا
ً
وتبسط لنا آفاقا ،فإن الخلوة تتيح لنا الوقت واالنفراد كي نبحث
من وقت آلخر عن مراسينا في املجتمع ،بل في الكون؛ ألنها تنزعنا
من هذا املوكب الذي نسير فيه ،أو باألحرى ننساق فيه ذاهلين،
إلى موقف الوجدان والتردد والتأمل ،والتساؤل :هل نحن على
صواب أم خطأ؟ هل عاداتنا ومألوفاتنا قد غمرت حياتنا حتى
سنة مقدسة يجب ناموسا أز ًّليا ،والوضع القائم َّ
ً صرنا نعد العرف
أال تتغير؟
160
ًّ ً
مصريا فقط؛ إذ أنا قبل ذلك مثال — على أن أحس أني لست
بشر ٌّي أنتمي إلى ٢٢٠٠مليون إنسان ،وليس إلى ١٧مليون مصري
فقط ،وهؤالء هم عائلتي الكبيرة التي ترتفع فوق الوطنية واملذهب
والساللة واللون .هم البشرية التي توج بها التطور بعد ألف مليون
سنة من الكفاح البيولوجي هذا الكوكب ،والذين أفكر فيهم حين
أتخيل اإلنسان بعد مليون سنة.
وما أبدع غاندي حين يصر على أن يختص بيوم كل أسبوع يصوم
يختل ولم يعتكف؛ ألنه
فيه عن الكالم ،فال يخاطبه أحد ولو لم ِّ
في هذا الصمت يجد خلوه ذهنية يستطيع أن يفكر فيها دون أن
يرتطم ذهنه بسؤال أو اعتراض أو اعتبار.
وكل منا محتاج إلى مثل هذا اليوم األسبوعي ،ولكن الخلوة يجب
أن تكون مادية؛ ألننا لم نرتفع إلى مقام غاندي حتى نأمر فنطاع؛
أي نطلب أال يخاطبنا أحد فيسمع لنا ،وإذا نحن اختلينا وانفردنا
وجدنا هذه الفرصة .ويحسن أن نختلي بال كتاب أو جريدة ،ولكن
مع ورقة وقلم كي ندون ما يستحق من أفكارنا الطارئة .وقد عرفت
اللغة العربية كلمة «خلوتي» ،وهي صفة املتصوف الذي كان يخلو
منفردا دون أن يشغله شاغل بشري أو مادي.ً ويعتكف كي يتأمل
161
وفي حياتنا مشكالت كثيرة تطالبنا بأن نخلو ونفكر :ما هو الدين؟
ما هو الشرف؟ ما هو الكون؟ ماذا بقي لي من العمر؟ وماذا أنا
فاعل به؟
ومثل هذه املشكالت تحتاج إلى الخلوة؛ ألنها بشرية كونية ال
حد باالعتبارات القومية أو االجتماعية .والذهنتضيق وال ُت ُّ
الناضج ال يفتأ يفكر فيها ،ولكن ال يحسن التفكير فيها إال في
خلوة ،وقد كان جيته يقول« :بدون الوحدة التامة ال أستطيع أن
شيئا ً
بتاتا». أنتج ً
ً
والواقع أن كل مفكر يرتفع إلى مستوى ٍ
عال من املركبات الذهنية
َّ
يحتاج إلى خلوة من وقت آلخر ،وإذا نظم كل منا خلواته وجعل لها
ً ميعادا ً
معينا ،مرة في الشهر أو في األسبوعً ، ً
ويوما كامال أو بعض
يوم ،فإنه يجد أنه في مراجعته لحياته املاضية ،وفي ُّ
تبصره
162
باملستقبل قد اهتدى إلى أساليب وأهداف ما كان ليصل إليها لو
أنه استسلم وانساق في املجتمع.
163
قيمة الحب للحياة الفنية
164
ألن الذكر يلقي بجراثيمه في املاء ،وكذلك األنثى تلقي بويضاتها في
املاء مثله ،ثم يتم التالقيح في املاء دون أن يعرف الذكر األنثى.
165
َّ ُ
رفقتهم السابقة يتعاشرون ويتعاونون .وهذه األخوة بينهم هي أصل
اإلخاء البشري ،بل أصل املجتمع.
بل نستطيع أن نزيد هذا التمييز بأن نقول :إنه إذا أحب الرجل
بشريا فإن هذا الحب يحول دون الحب الجنس ي؛ حبا ً
عميقا ًّ املرأة ًّ
ً
تناقضا بين االثنين :األول كله حنان ورقة ،والثاني كأن هناك
بعضه افتراس وقسوة.
وعندما نتأمل الحب الجنس ي نجد أنه غريزة ذاهلة ،ولكن الحب
البشري عقل ووجدان؛ ولذلك نحن نزداد وننمو بالحب البشري
الذي ترتقي به شخصيتنا؛ ألن هذا الحب يستنبط منا أحسن
ً
أحيانا في الخصال في الحنان والرقة والظرف والكياسة ،بل
ًّ
إنسانيا ،وما ندعو التضحية .وهذا الحب هو الذي يجعل اإلنسان
إليه من إخاء بشري ،أو ما نقدره من خصال في صديق ،أو ما
نتعلق به من آمال نرض ى بأن نضحي لتحقيقها ،إنما كل هذا يعود
ُّ
والبنوة. إلى الحب البشري الذي كسبناه من عواطف األمومة
قلنا :إن الحب البشري عقل ووجدان ،ولذلك نحن نزداد ً
فهما
ينبه الذهن ويوقظه ،وهو هنا نقيض الحب
بالحب؛ ألن الحب ِّ
166
الجنس ي الذي ننساق فيه بالغريزة؛ ولذلك ً
أيضا ً
كثيرا ما نجد أن
بذور العبقرية ،أو على األقل النبوغ ،تعود إلى الحب؛ ألن الصبي
الذي يحب الطبيعة ويجمع األحياء أو الزهور أو األصداف
واملحار ،هذا الصبي يحدوه حب بشري قد استحال إلى حب
ينبه ذكاءه ،ويبسط آفاقه ،ويكبر شخصيته .وهو بهذا للطبيعةِّ ،
الحب أقرب ما يكون إلى النبوغ أو العبقرية؛ ألنه — بالحب —
يرى أكثر ،ويفهم أكثر ،كما ترى األم في ابنها وتفهم أكثر مما يرى
غيرها فيه؛ للحب الذي تحس به نحوه.
والحياة الفنية تطالبنا بأن نجعل الحب شعارنا؛ ألنه ،أي الحب،
ً
يملؤنا تفاؤال فنبتعد عن الخوف والقلق والشك ،ونستكثر من
األصدقاء ،أو على األقل نلتزم أصدقاءنا ،ونخدمهم في سرور .وإذا
جعلنا أساس عالقتنا بالناس والدنيا ًّ
حبا فإننا ال نسأم الحياة ،بل
نجد كل ما فيها يدعو إلى العطف والفهم.
ولكن الحب مثل الشجاعة يحتاج إلى تدريب .وصحيح أننا نكسب
ً
شيئا من الحب العائلي؛ أي من عالقتنا باألم واإلخوة واألب ،ولكن
عفوا في طفولتنا وصبانا يحتاج إلى الرعايةهذا الذي نكسبه ً
والتنمية .ونستطيع أن نتعود الحب بالصداقة والتعاون
167
والضيافة والخدمة ،حتى ولو كانت طفولتنا قد أهملت ،أو كانت
الفرص فيها قليلة لتنمية الحب.
والرجل الذي تنبعث فيه عاطفة الحب نحو املجتمع أو البشر هو
أقرب الناس إلى السعادة ،وهو أبعد الناس عن الشقاء
النيوروزي .وكلمة السعادة من الكلمات التي يجب أال نخلطها
بإحساس السرور ،ولكن الحب يبعث السعادة الحقة الدائمة
أكثر مما يبعثها السرور الزائف الزائل.
168
ألنه يعرف أكثر من غيره ،وقلبه سمح؛ ألن قلبه أعرف؛ فاتساع
املعرفة سبيل إلى اتساع الحب؛ ولهذا السبب ً
أيضا يعد األدب في
صميمه والفلسفة في صميمها دعوة إلى الحب البشري والخير
العام.
169
به دون أن ِّ
يعين اسمه بأنه دين الحب ،لقال أحسن ما يقال
وأسمى ما يقال عن الدين.
170
من التبلور إلى التجوهر
ثم ندخل املدارس ونحترف الحرف ،ويؤثر الوسط الخاص أثره في
محام ،وهذا حوذي وذاك ٍ كل منا فنختلف؛ هذا تاجر وذاك
وكل من هذه الحرف مزارع ،وهذا كاتب موظف وذاك مهندس حرٌّ ،
يطبع طابعه في تقاسيم النفس والجسم ،ثم تمض ي السنوات،
عشرون أو ثالثون سنة ،ونحن نلتزم حرفة بسلوكها وأخالقها التي
تقتضيها ،وبمرور هذه السنين نتكشف كالزهرة من التعميم إلى
التخصيص ،ومن الحال الخامة إلى حال التبلور ،وكأن هذه
171
االختبارات التي تمر بنا تصهرنا وتخرج منا الجوهر الخاص .أجل،
هو الجوهر ،ولكنه جوهر الحرفة وليس جوهر الشخصية.
لذلك عندما نتأمل أحد الناس الذين التزموا حرفة ما ثالثين أو
أربعين سنة ال نكاد نخطئ في تعيين حرفته دون أن نحتاج إلى
سؤاله عنها؛ ألنها تخبرنا وهو يتحدث؛ ألن لهجة الحرفة غالبة
عالية ،كما نجد من إيماءاته واختيار أحاديثه جميع األمارات التي
تعلن عن حرفته.
َّ
وبخالف هؤالء نجد أن ذلك الشخص الذي تقلب في حرف كثيرة،
فهو َّبقال ،ثم سمسار ،ثم كاتب ،ثم صانع ،ثم مزارع .مثل هذا
نعين حرفته؛ ذلك أن
الشخص ال يتبلور؛ فإذا قعدنا إليه لن ِّ
اهتماماته الحرفية ال تتجمع في بؤرة ،بل تتشعع هنا وهناك؛
أيضا ال يترك في أذهاننا — من حيث الحرفة — صورة ولذلك ً
معينة.
ولسنا بهذا الذي ذكرنا ُنؤ ِّثر ذلك امللتزم لحرفة ما على اآلخر الذي
ً
تجوهرا نكسبه تقلب وتغير ،وإنما نريد أن نبين أن هناك ً
تبلورا أو
172
من الحرفة التي نلتزمها سنين كثيرة ،كأن الحرفة قد استصفت
وعينته َّ
ونحت عنه الزوائد. جوهرها َّ
وهذه الرمزية وهذا املغزى هما ثمرة الحياة الحيوية؛ الحياة الفنية
نهجا ،ونكسب التي قضيناها ونحن نقصد إلى غاية ،ونتبع ً
ً
جميعا تصهرنا ،وتحيل التبر إلى املعدن االختبارات وننمو بها .وهي
الخالص.
173
وإذا كانت غايتنا أن نصل إلى الشخصية اليانعة ،وأن نتبلور إلى
الفكرة الجوهرية ،وأن يستحيل وجودنا في مجتمعنا إلى مغزى،
ً
معرقال أو ً
مبطئا؛ ألنه فإن التزام الحرفة الواحدة قد يكون عندئذ
يحد من حيويتنا واختباراتنا .أجل ،يجب أن تكون الحرفة بعض ُّ
يكون شخصيتنا وينميها ويبرز املغزى في حياتنا ،ولكن يجب أالما ِّ
تكون هي كل ش يء.
174
لنكن أدباء وشعراء
ينشأ الترف للخاصة التي يتوافر لها الفراغ واملال ،فتستطيع أن
تعيش فوق مستوى الكفاية والضرورة ،وتطلب ما نعده من
الكماليات والزيادات .وأدوات الترف في أيامنا كثيرة ،وهي تختلف
من الطبق الصيني الذي يومئ بزخرفته إلى عصر مض ى ،إلى بساط
إيراني تزدهي ألوانه ،إلى غير ذلك مما ال يزال يقتنيه األثرياء ،بل
حتى الكتب القديمة قد أصبحت ً
نوعا من الترف يشتريه األثرياء،
ورث كأنها بعض الجواهر. ويحفظونه ِّق ْنية ُت َّ
175
— وهي في األغلب محاوالت عديدة تنتهي إلى أن تكون ممارسة
مزمنة — هي نوع من الترف؛ ألن املمارس لهذه الفنون ال
يتخصص؛ إذ هو في األغلب موظف في الحكومة أو في شركة ،وقد
معلما أو ً
طبيبا أو ً
تاجرا ،ولكنه منذ فجر شبابه التفت إلى يكون ً
لون من التأنق الفكري عند أحد املؤلفين ،فاستهواه وجذبه
وحمله على االستزادة من القراءة واالطالع ،ثم بعد ذلك أخذ
التأليف يداعبه فصار يكتب املقالة أو القصة ،ويقرض البيت أو
البيتين ،بل هو ربما يعمد إلى التوسع الفني فيسأل عن املوسيقا
واملسرح ،وينتقد ويتحرى األصول ويحاول التعمق .وهو هنا ال
يبغي ً
كسبا من هذا املجهود؛ إذ هو ال يريد احتراف الفن؛ ألنه قانع
بأن يكون ً
هاويا ال أكثر.
وث ْق — أيها القارئ — أن هذا الهاوي الذي ال يكسب ً
قرشا من ِّ
هوايته ،بل لعله ينفق الكثير عليها باقتناء الكتب .هذا الهاوي ال
يضيع وقته؛ ألنه بهوايته هذه يرتفع إلى أسمى ما وصل إليه التأنق
الذهني .ذلك أن الشاعر يتخير من الكلمات واملعاني ما يسمو على
املبتذل املألوف ،واألديب يحاول أن يحيل هذه الحياة التكرارية
اآللية إلى قصيدة فنية ،وكذلك الشأن عند جميع الفنانين.
176
والهاوي الذي يغمره هذا الجو ،ويعيش في هذا املناخ ينتهي إلى أن
يتنفس هواءه ،ويأخذ بمقاييسه ،وعندئذ ينتقل التأنق في التعبير
إلى التأنق في الحياة ،ويعيش عندئذ حياة مترفة تبدو لغيره مثل
سائر الحيوات ،ولكنها في الصميم فن وترف في التفكير؛ ذلك أن
األديب يعيش من يده إلى فمه كما هو الشأن في سائر الناس من
حيث النشاط الذهني؛ ألنه بهذا النشاط قد استطاع أن يخلق
يجتر فيه أفكاره ،ويتخيل ويتأمل ،ويذكر لنفسه عاملًا آخر ُّ
املاض ي ،ويبصر باملستقبل ،ويدرس في تعب أو لذة ،ثم يقيس
حاضر املجتمع وواقعه بما ينبغي أن يكون .وهو قد وجد في األدباء
حدثوه أحاديث الكمال والشعراء القدامى والعصريين َمن َّ
والسمو والعدل والشرف واإلنسانية والرقي .فهو بهذا كله يجد في
ً
كظوما تحمله على التفريج بالكتابة ،وقد ينجح ويعود ،أو نفسه
يبدأ يصف الدواء ملساوئ عصره ،وقد ال ينجح في الوصول إلى
الجماهير ،ولكنه مع ذلك قد دخل مدينة الفن واألدب والشعر،
واستمتع بما فيها من كنوز ،وهو لن يخرج منها طوال حياته ،ولن
يهجرها إلى غيرها.
177
إني أقصد أن يبدأ كل شاب حياته الوجدانية بالتعرف إلى اآلداب
ً
محاوال ،ثم ينتهي ً متفرجا ً
متنزها ،ثم َّ ً
كاتبا، يتدرج والفنون؛ يبدأ
وأقصد ً
أيضا أن يبدأ الشاب وهو يجد الفن أو الشعر أو األدب في
الكتاب ،ولكن يجب أن ينتهي بأن يحاول إيجاد الفن والشعر
واألدب في حياته .أجل ،هذه الحياة يجب أال نتركها تجري في نثر
مبتذل ،بل نجعل منها قصيدة ،أو على األقل نجعل بعض األبيات
العالية تتخلل هذا النثر ،فنعيش ولو لحظات في حياتنا نحس فيها
املجد والقداسة والبطولة ،ونرى الجمال ُّ
يشع من قلوبنا.
ً
ساخرا ويقول :هذا خيال! إنما الحياة مجهود وهنا يضحك بعضنا
نجمع فيه ونكنز لليوم العصيب واألزمة الطارئة ،وليست الحياة
قضاء الوقت في تأليف الشعر.
178
اإلنسانية عندما تجد الثقافة الفنية؛ ثقافة الترف الفكري،
ً
مسكنا في ذهنه تأوي إليه ،بل تمرح فيه وتمتزج بخالياه ،وتعود
ويعين له التصرف ً
ويكيفه ِّ
جزءا ال ينفصل من حياته يوجهه ِّ
والسلوك؛ أي يجعله ويضطره إلى أن يعيش املعيشة الفنية.
شابا ال يبالي أن يتغذى بأي طعام يكسر حدة الجوع ،وال أعرف ًّ
يبالي أي لباس يتخذ ،ومسكنه غرفة فوق سطح أحد املنازل ،وهو
بهذه املعيشة غير متمدن؛ أي إنه ال يستمتع بمتع الحضارة في
السكنى واللباس والطعام! وهي متع ال ُتنكر قيمتها ،ولكن هذه
القيمة صغيرة ًّ
جدا إلى جنب املتع الثقافية الفنية التي يلمع بها
الذهن ،وتسمو بها النفس .واملقارنة بين الذهن املثقف وبين
حضارة السكنى والطعام واللباس هي أشبه املقارنات بنظافة
الجسم إلى نظافة اللباس .وقد كان هذا شأن هذا الشاب؛ فإنه
على الرغم من تقتيره في هذه األشياء ،أو باألحرى إهمالها ،كان ال
كتابا يستحق القراءة إال كان يقتنيه ،كما كان ال يتأخر عن يترك ً
شراء التذكرة الغالية لحضور حفلة موسيقية ،وكنت أجده زري
ً
الهيئة نحيال ،ولكن ذهنه حافل باألثاث العصري للثقافة ،ونفسه
179
فنانة لها قدرة كبيرة على التمييز الفني؛ ولذلك كان ً
فقيرا بوسطه
ًّ
غنيا بنفسه.
ً ً
وقد يكون هذا املثال متطرفا أو مسرفا ،ولكن الحياة الراقية
ً تحتاج إلى أن ُنمارس ًّ
فنا جميال ينعكس أثره في نفوسنا وعقولنا؛
فيجب أال نقرأ الشعر واألدب فقط ،بل نحاول ممارستهما .أجل،
يجب أن نكون كلنا أدباء وشعراء ،نكتب األدب ،ونقرض الشعر،
كل منا ليؤلف ٌّ
بل أكثر من هذا ،ننقل األدب والشعر إلى حياتنا ِّ
حياته؛ فنحترف املجد ،ونمارس القداسة ،وننزع إلى البطولة في
ُ
ونفكر في أسمى املعاني ،ون ِّعبر
الدفاع عن حق أو انتصار ملظلومِّ ،
بأنصع الكلمات.
180
السعادة
181
ُ
من يحوزون أكثر مما ُح ْزنا؛ فقد أسر ألني اشتريت عزبة أو
ُّ َ
ً
اقتنيت أتومبيال أو غير ذلك من املقتنيات املادية ،ولكني في هذا
السرور أحس ً
أيضا أني كنت أكون أكثر سرو ًرا لو لم … فإن العزبة
َ
كانت تكون أ َس ُّر لي لو كانت أكبر وأخصب ،وكان األتومبيل يمتعني
جرا .ولكن السعيد بفكرة ما ال أكثر لو كان من طراز آخر ،وهلم ًّ
يحسد وال يغار ،وال يحب أن يستأثر بفكرته ،بل هو يحب
العكس؛ وهو أن جميع الناس يسعدون بمثل سعادته ،كما
يحدث ألحدنا حين يطرب الستماعه إلى لحن جميل ،أو ألنه يتأمل
ُّ ً ً
عظيما ،فإنه يحث رفيقه على أن يستمع أو ينظر ويتأمل. مبنى
والسعادة ،كالشعر عند إسحاق املوصلي ،أيسر مما نظن؛ فهي ال
تحتاج إلى التكلف أو املشقة ،بل إن السرور أدعى إلى التكلف أو
املشقة من السعادة؛ وذلك ألن السعادة ذاتية ،في ذوات أنفسنا؛
إذ هي حال معينة أو اتجاه معين ،أما السرور فمادي نحتاج فيه
إلى االقتناء.
وقد يكون ً
أيضا من الحق أن نميز بين السرور والسعادة بأن نقول:
إن السرور اشتهائي غريزي يتعلق بما نأكل أو نلبس أو نسكن أو
نقتني ،ولكن السعادة وجدانية مرجعها الفكر؛ أي العقل.
182
والسعادة لهذا السبب تحتاج إلى التربية الفنية ،بل إلى املعارف
العلمية التي تكشف عن خبايا وكنوز ال تصل إلى كنهها الغرائز؛
فأنا حين أمارس الزهو االجتماعي باقتناء األثاث الفاخر ،أو
ًّ ً َّ
غريزيا املطهمة أو نحو ذلك أمارس نشاطا بالقيام بالضيافة
شهوانيا له ذيول وهوامش من الغيرة والحسد والطمع؛ أي إنه ًّ
سرور معلق ،وال أحتاج أن أتعلم كيف أمارسه ،ولكني حين أقعد
إلى جدول املاء ،وأتأمل الطبيعة وهي ترغي وتزبد في الحقول أيام
الربيع ،وأتابع فراشة في نشاطها الغذائي أو الجنس ي أحس سعادة
خية وجدانية ،وليست غريزية شهوانية .وهذه مطلقة؛ سعادة ُم َّ
السعادة تحتاج إلى تعلم.
183
أيضا بعلمه؛ ألنه يحاول كشف سر من علميا سعيد ً ً
موضوعا ًّ
أسرار الطبيعة املغلقة؛ فهو هنا كالقديس يرى رؤيا ويعتقد أنها
ستتحقق.
184
اجتماعية في األغلب؛ ألنها تنشأ من اعتبارات املجتمع؛ ألني ُأ َسرُّ
مثال — باقتناء أتومبيل؛ إذ إن مثل هذا االقتناء قد َّ ً
عده —
ً ُ ً
وتفوقا ،أو أ َس ُّر بالثراء؛ ألن املجتمع ُّ املجتمع ً
يعد الثراء تفوقا تبريزا
ً
ونجاحا.
185
أواننا ونحن ال ندري أننا كنا َمسوقين باعتبارات اجتماعية هي
أبعد ما تكون من السعادة.
قلنا في أول هذا الفصل أننا نسعد بالفكرة أو اإليمان أو الرؤيا أو
األمل إذا كان أحد هذه األربعة يحفزنا إلى الكفاح .وهنا نحتاج إلى
تفصيل موجز :ذلك أن الطاقة النفسية ال تطيق الحبس والكتم
والكفاح؛ ولذلك فإن لشأن ما ،أي شأن نعتقد أنه حسن ،يفتح
لنا قناة تنصرف إليها الطاقة .أما إذا حبست هذه الطاقة فإنها
ًّ
عاطفيا ،وفي تحدث لنا في الحاالت الخفيفة نيوروزا؛ أي ً
ضيقا
الحاالت الخطيرة تحدث سيكوزا؛ أي ً
جنونا.
ً
متشائما تسوده هموم مبهمة ً
مضطربا ولذلك ً
كثيرا ما نجد الشاب
ً
ال يعرف مأتاها ،فإذا انضوى إلى حزب سياس ي — مثال —
انطلق في تفاؤل يعمل ُوي َس ُّر بعمله ،وهو سعيد بهذا الكفاح الذي
ً
يبعث فيه نشاطا ،ويحمله على الدرس والخدمة والتعاون،
ويخرجه من أنانيته ،وهو هنا يشعر بالسعادة.
وعلى هذا نقول :إن السعادة تحتاج إلى كفاح ،وسالم النفس ال
ً ً
نشاطا َّ ً يعني ً
وإنجازا وهمة، وجمودا ،بل هو أحرى بأن يبعث ركودا
186
ً
تحقيقا لرؤيا ،بحيث يكون هذا األمل أو هذه الرؤيا عند ألمل ،أو
أحدنا أسمى وأعم من همومه الشخصية الذاتية؛ ألنها بسموها
معنى ،بل ً
مغزى .وهنا وعموميتها تكسبه كرامة ،وتجعل لحياته ً
السعادة.
187
تعقيب على السعادة
كلنا تقر ًيبا ننشد السعادة ونتحدث عنها كما لو كانت من
البديهيات التي ال تستحق مناقشة؛ ألننا نعد السعادة خير ما
ُيطلب في هذا الوجود.
ولكننا نختلف ً
كثيرا في معنى السعادة ،وإن كان املألوف أننا نعني
بهذه الكلمة األمن من الكوارث وراحة البال؛ أي سالم النفس
والصحة.
188
تنبهه قط نكبة فادحة تجعله يقف ويتساءل« :أين موقفي من هذا
العالم؟»
189
الوجدان زادت السعادة ،ولكن … زادت الكوارث والهموم
واالهتمامات ً
أيضا! ونعني بكلمة الوجدان هنا ما يسميه غيرنا
«الوعي».
وعلى هذا القياس نقول :إن السعادة نوعان؛ األول :هو سعادة
الحواس؛ أي املسرات الحسية املادية ،أما الثاني فهو سعادة
ُّ
والتصور؛ السعادة الفكرية .وهذه الوجدان؛ أي سعادة ُّ
التعقل
السعادة الفكرية ال تبالي الكوارث ،بل إن الكوارث تخصبها وتزيدها
وإيناعا ،بحيث إننا عندما تمر بنا السنين ننظر إلى ً ً
نضجا
التقلبات والنكبات التي نزلت بنا كما لو كنا قد عشنا حيوات
190
ً ً
وكثيرا ما أعود بالذكرى إلى بعض عديدة بدال من حياة واحدة.
ًّ
الصدمات والكوارث واألحزان التي مرت بي ،فأجد كال منها كان
ً
صاعدا في سلم الحياة؛ ألنها زادت بمثابة الدرجة التي ارتقيت عليها
وجداني ،فزادت تعمقي في الحياة ،وتوسعي في االختبارات،
وأكسبتني ً
هموما قد استحالت إلى اهتمامات ال أرض ى بالنزول عنها
اآلن.
191
أن ينقص هذه الحياة باالقتصار على املعيشة الحسية ،على
املسرات .هذه هي السعادة التي تستحق أن ننشدها؛ السعادة هي
الفهم بالوجدان والتعقل.
192