Professional Documents
Culture Documents
كانت النية أن أكتب لبيان تلبيس الغربيين على املسلمين بدس مشكل األقليات ،وكيف انطلى على كثيرين هذا املفهوم
فمنهم من اتخذه ذريعة لقبول سيادة العلمانية للحفاظ بزعمهم على أن ال تستبد األكثرية املسلمة باألقليات في بالد
املسلمين ،ومنهم من انبرى للتأصيل ملا يسمى فقه األقليات ليوطن الندماج املسلمين الذين يمثلون أقليات Yفي املجتمعات
الغربية في تلك املجتمعات Yفيذيبوا شخصياتهم اإلسالمية وينسلوا من أحكام دينهم حكما فحكما ،ولكني عدلت عن
ذلك واخترت أن أكتب كيف أن الغرب اخترع مفهوم األقليات Yفخا لألمة االسالمية ليوغل من خالله في مشاريعه
االستعمارية ،ولكنه فخ كان الغرب نفسه أول ضحاياه،
قام الفكري الديمقراطي على مبدأ األكثرية ،فما رأته األكثرية صوابا كان صوابا ،ولكن املنظرين للديمقراطية
اصطدموا داخليا بتسلط رأي األكثرية على ما يسمى األقلية ،األمر الذي تناقض مع ركيزة الحريات Yالتي هي أصل الفقه
التشريعي الغربي ،لذلك احتاجوا لترقيع نظامهم الديمقراطي Yبمسحة ليبرالية ،والليبرالية تقوم على حماية
حقوق األفراد واألقليات ،فمجتمعهم إذ يرى غالبيته أن الشذوذ أمر مقيت ،فإنهم لحماية األقلية
الشاذة ال بد من تشريعه والترويج له (الليبرالية نقيض الديمقراطية) ،فما رأته األكثرية لم يعد
مقدسا ،بل يجب أن يعاد النظر فيه ليتماشى مع حقوق األقليات ،فماذا بقي من الديمقراطية إذن؟
واصطدموا داخليا وخارجيا بواقع Yعجز مبدئهم عن صهر الشعوب Yفي بوتقة واحدة ،خصوصا في ظل تدفق موجات
الهجرة ملجتمعاتهم من مجموعات بشرية تحمل معتقدات ال توافق معتقداتهم ،واتفق أنهم كانوا في حاجة لتثبيت
غاياتهم االستعمارية ،فكرسوا مفهوم األقليات ،ونقضوا مبدأهم العلماني ثانية بجعلهم أساس الصراع
بين األقليات واألكثريات في خارج مجتمعاتهم على أنه هو حق األقليات الديني والعرقي والتراثي في
الوجود والعيش على أساسه ،وهي تناقض األساس العلماني للنظام الغربي القائم على التجرد املطلق
والتحرر التام من القيم الناشئة عن الدين والتراث واألخالق ،فكونهم لجأوا لهذه املنطلقات ركيزة
لتثبيت مبدئهم من خالل استعمالها فجوات للتدخل االستعماري ،فإنهم نقضوا أساس عقيدتهم للمرة
الثانية بسبب فكرة األقليات ،وأما في مجتمعاتهم فكان العكس تماما ،فعلى األقليات أن تندمج أو تذوب
في املجتمعات الغربية وتنصهر فيه وإال فال يحق لها أن تمارس أيا من شعائر دينها حتى ولو كان غطاء
رأس! مما نقض أسسا كثيرة ملبدئهم مثل حرية االعتقاد ،والحريات الشخصية ،فكانت مشكلة األقليات
مقتال ملبدئهم،
وكانت الفاجعة الكبرى في فكرة األقليات كونها تركز على إيجاد التناقضات في مجتمعات لم تكن تلتفت
لتلك التناقضات Y،فتشحنها بالقالقل والحروب والنزاعات ،ومثال ذلك إشعالهم فتنة الشيعة والسنة،
واألكراد والعرب ،ال سيما وهم يبحثون عن مداخل ومبررات يلجون باستعمارهم Yمنها ،ليفرضوا
علمانيتهم الديمقراطية بديال عن اإلسالم ،فطرحوا مشكال لم يكن قائما أبدا ،وهو ما مصير األقليات
النصرانية ،وأقل األقليات ممن ال يبلغون أصابع اليد من العلمانيين والليبراليين وامللحدين في بالد
املسلمين ،وأمدوا تلك املجموعات البشرية التي سموها باألقليات أحيانا باملناصب وأخرى بالسالح
والسلطان ،وكانوا يهيئونها ألن تسمى أقلية وأوجدوا لها األحزاب القومية والوطنية ،وصنعوا لها القادة
العظام امللهمين! وأحيوا لها لغاتها التي ربما تكون ميتة وطورها Yوخطوا خطوطها وأحرفها Yوقعدوا
ً ً ً ً ً
قواعدها Y،واختلقوا لها تراثا ثقافيا وفلكلورا أو رقصا شعبيا كما يسمونه ،وأبرزوا عاداتها وتقاليدها
ً ً
حافال باألمجاد القومية! ومن ثم
Y كأنها أعمال مقدسة ،وأحيوا طقوسها الدينية ،وكتبوا لها تاريخا
يقولون إن هذا الشعب شعب آخر يجب أن يأخذ استقالله وهويته ،فلزم أن تعطوه حق تقرير مصيره.
لتبقى القالئل سيدة املوقف فيسهل عليهم التدخل واالستعمار Y،والتسلط واالستحمار Y.فمن أقليات
دينية ،كالنصارى واألزيديين ،والصابئة ،إلى أقليات قومية كاألمازيغ واألكراد ،إلى غير ذلك من التجزئة
التي يجعلونها مدخال لغاياتهم الدنيئة وأغراضهم االستعمارية الحقيرة ،مما يثبت أن الحضارة الغربية
إنما تقوم في أساسها على غاية االستعمار وإثارة القالقل وبث الحروب والنزاعات كي تجد لها موطئ
قدم لنهب الخيرات وفرض السيطرة.
إن هذه النقائض للديمقراطية الغربية :الليبرالية داخليا ،واألقليات داخليا وخارجيا ،تكفي لبيان كيف
أنهم نقضوا غزل مبدئهم بأنفسهم،
فالغرب إذن يبحث عن فوارق خاصة لدى مجموعات من الناس تكون مندمجة ومنسجمة مع غيرها في
ً
النظام العام في داخل مجتمع وفي ظل دولة واحدة ،ولكنها أقل عددا من غيرها ،وفي كثير من األحيان ال
تكون لها أية مشاكل مع املجموعات البشرية األخرى كما كانت الحال في ظل الدولة اإلسالمية .وكل
املجموعات البشرية كانت منصهرة في بوتقة اإلسالم ،ومندمجة في املجتمع اإلسالمي بدون تمييز .وحتى
بعد زوال الدولة اإلسالمية وإيجاد هذه الدويالت الكرتونية الهزيلة بقيت هذه املجموعات البشرية
ً
منسجمة مع بعضها البعض؛ بسبب وجود آثار ألفكار اإلسالم في قلوبهم وفي حياتهم .فمثال في تركيا حتى
أعوام الثمانينات من القرن املنصرم لم يكن هناك مشكلة أقلية كردية ولم يكن يحس األكراد بأنهم
شعب آخر ،بل كانوا منسجمين مع إخوانهم األتراك ويعانون نفس املشاكل التي يعاني منها األتراك؛
بسبب وجود نظام كفر فاسد يطبق عليهم يخالف دينهم .وكانوا يثورون ألجل نظام اإلسالم كما حدث
بثورة الشيخ سعيد الكردي من أجل إعادة الخالفة عام 1926م .ولكن في عام 1984م أسس االستعمار
عن طريق عمالئه حزب العمال الكردستاني الذي بدأ بإثارة النعرة القومية عند األكراد ،وحدث ما
حدث ،وما زالت هذه املشكلة تتفاعل ودول االستعمار الغربي تغذيها حتى تؤتي أكلها املر بفصل األكراد
ً
عن األتراك ،وإيجاد كيان علماني آخر كما هو موجود في تركيا Y،فتزيد املشكلة تعقيدا،
من هنا فإن مفهوم األقليات مفهوم مدمر مضلل لألمة ،وهو مدخل استعماري خطير ينبغي محاربته
فكرا وممارسة والعودة للعملية الصهرية التي صهر بها اإلسالم كل الشعوب واألعراق في بوتقة قامت
على أساس :لهم ما لنا من اإلنصاف وعليهم ما علينا من االنتصاف.