Professional Documents
Culture Documents
الدولة العلمانية تموت بالسكتة الرأسمالية
الدولة العلمانية تموت بالسكتة الرأسمالية
يلمس الدكتور عبدالوهاب املسيري رحمه هللا الفرق الشاسع بين التنظير للتعريفات الوردية الخيالية
للعلمانية ،1وبين واقع العلمانية وما آلت إليه ،فقد كان تعريف العلمانية بأنها "فصل الدين عن الدولة"
صالحا في أواخر القرن التاسع عشر امليالدي ،وكان التصور أن عملية الفصل هذه ستؤدي ال محالة إلى
في حل السالم في األرض وتنتشر املحبة واألخوة والتسامح. الحرية والديمقراطية وحل مشكالت املجتمعَ ،
ولكن كلمة "دولة" كما وردت في التعريف آنف الذكر لها مضمون تاريخي وحضاري محدد ،فهي تعني بالدرجة
األولى املؤسسات واإلجراءات السياسية واالقتصادية املباشرة ،وكانت كثير من مجاالت الحياة ال تزال خارج
سيطرة الدولة ،فكانت تديرها الجماعات املحلية املختلفة ،منطلقة من منظوماتها الدينية واألخالقية
ً
املختلفة ،فالنظام التعليمي على سبيل املثال لم يكن بعد خاضعا للدولة ،كما أن ما أسميه "قطاع اللذة"
لم يكن قد ظهر بعد .واإلعالم لم يكن (السينما-وكاالت السياحة ،وأشكال الترفيه املختلفة مثل التلفزيون) َ
يتمتع بالسطوة والهيمنة التي يتمتع بهما في الوقت الحاضر .والعمليات االقتصادية لم تكن قد وصلت إلى
الضخامة والشمول الذي هي عليه اآلن .كل هذا يعني في واقع األمر أن رقعة الحياة الخاصة كانت واسعة
للغاية ،وظلت بمنأى عن عمليات العلمنة إلى حد كبير.
ويالحظ أن تعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة يلزم الصمت بخصوص حياة اإلنسان
الخاصة واألسئلة الكونية الكبرى مثل الهدف من الوجود وامليالد واملوت ،وال يتوجه إلى مشكلة املرجعية
ومنظومة القيم التي يمكن أن يحتكم إليها أعضاء مجتمع واحد.
ُّ ُ
لكن حدثت تطورات همشت التعريف الوردي القديم ،منها تعملق الدولة وتغولها وتطويرها مؤسسات "أمنية
تغول اإلعالمذات طابع أخطبوطي يمكنها أن تصل إلى كل األفراد وكل مجاالت الحياة ،ثم َّ وتربوية" مختلفة َ
وتعملق هو اآلخر وأصبح قادرا على الوصول إلى الفرد في أي مكان وزمان ،والتدخل في تعريفه لنفسه وفي
تشكيل صورته عن نفسه ،وفي التدخل في أخص خصوصيات حياته وحياة أطفاله ،وفي صياغة أحالمهم
ً
والوعيهم .والسوق هي األخرى لم تعد سوقا ،وإنما أصبحت كيانا أخطبوطيا يسيطر على اإلعالم وعلى كل
مجاالت الحياة ،وهو يوجه رؤى البشر ويعيد صياغة أحالمهم وتوقعاتهم .كل هذا نجم عنه تضييق وضمور
ً
-وأحيانا اختفاء -الحياة الخاصة .في هذا اإلطار ،كيف يمكن أن نتحدث عن فصل الدين عن الدولة؟! أليس
من األجدر أن نتحدث عن هيمنة الدولة والسوق واإلعالم ،ال على الدين وحسب ،بل على حياة اإلنسان
العامة والخاصة .لكل هذا وجدت أنه ال مناص من إعادة تعريف العلمانية انطالقا من دراسة ما تحقق في
الواقع بالفعل وليس من التعريف املعجمي ،على أن يحيط التعريف الجديد بمعظم جوانب الواقع الذي تمت
علمنته.
العلمانية التي تحققت في الواقع تعني أن ثمة انتقاال من اإلنساني إلى الطبيعي املادي ،أي من التمركز حول
اإلنسان إلى التمركز حول الطبيعة ،أي االنتقال من تأليه اإلنسان وخضوع الطبيعة ،إلى تأليه الطبيعة
وإذعان اإلنسان لها ولقوانينها ولحتمياتها ،أي أن هذه العلمانية تشكل سقوطا في الفلسفة املادية" .فالعلمانية
الشاملة" وهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجاالته ،ال تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب