You are on page 1of 8

‫ملاذا العداء لليبرالية والعلمانية؟ ‪ 1‬من ‪3‬‬

‫نشر شمالن العيسى على الشرق األوسط مقالة بعنوان‪ :‬ملاذا العداء لليبرالية والعلمانية‪ ،‬يمكننا تلخيص أهم ما فيها‪:‬‬

‫إن سبب تأخر دخول الدول العربية عالم الحضارة والحداثة واالنفتاح الديمقراطي هو القنوات الدينية‬ ‫‪)1‬‬
‫واألحزاب الدينية التي تحض على معاداة اآلخر وتثير النزعة الطائفية‪.‬‬
‫العلمانية والليبرالية ليست دينا‪ ،‬وهي حركة فكرية نشأت نتيجة إقحام الدين فيما ال عالقة له به من سياسة‬ ‫‪)2‬‬
‫وثقافة واقتصاد وعلم واجتماع!‬
‫تدعو الليبرالية إلى الحرية الفردية والسياسية واالقتصادية وعلى املواطن أن يخضع لسلطة القانون واعتماد‬ ‫‪)3‬‬
‫حرية العقيدة واالقتصاد الحر‪ ،‬وهذه األفكار تدعو لتحرير اإلنسان!‬

‫أقول وباهلل التوفيق‪ :‬من الواضح أن الكاتب يحرص على زج مصطلحات متناقضة ومفاهيم متضاربة ليخرج من بين‬
‫ّ‬
‫فرثها ودمها لبنا‪ ،‬وأن ى له ذلك‪ ،‬وسأنقض مقالته في ثالث حلقات‪ ،‬مبينا أن مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية‬
‫متناقضة‪ ،‬تتناقض مع نفسها ومع بعضها البعض‪ ،‬وأنها دين‪ ،‬إذ تتناول شئون الحياة من اقتصاد واجتماع وغيرها‪،‬‬
‫وأنها سبب دمار البشرية‪ ،‬وأنها ال تقبل باآلخر بأي شكل من األشكال! وسأبين سبب وجوب معاداتها‪.‬‬

‫فاملفكرون الغربيون حين بحثوا في النظريات القديمة واهتدوا إلى اإليزونوميا (أي املساواة في الحقوق القانونية) وهي‬
‫الفكرة األب الشرعي ملا يسمى اليوم بالديمقراطية‪ ،‬واإليزيجوريا (أي حرية التعبير) و اإليزوبسيفيا (الحق في‬
‫التصويت)‪ ،‬خلطوا هذه االتجاهات الفكرية السياسية التي نشأت في أثينا‪ ،‬تحت مسمى الديمقراطية ‪-‬تلك الفكرة التي‬
‫كانت منبوذة في أثينا‪ -‬وروجوا لفكرة أن أثينا ترمز لفكرة نظام األكثرية ‪-‬وما كانت كذلك‪ -‬مقابل أسبارطة التي تمثل‬
‫األوليغارخية‪ ،‬أي حكم القلة‪ ،‬فتبنى الغربيون نظام األكثرية‪ ،‬أي الديمقراطية‪ ،‬ولكنهم وقعوا في أول مأزق‪،‬‬
‫فالديمقراطية تقوم على أساس إخضاع األقلية لحكم األكثرية ال على أساس ضمان حقوق األقلية وال أن يمثل‬
‫القانون الذي يجري التصويت عليه ما يرى فيه األقلية حقوقا لهم‪ ،‬فلو رأوا فيه ضمانة لحقوقهم لصوتوا له‪،‬‬
‫وبتصويتهم للرأي النقيض فإن ما رأوه من حق لهم في الرأي النقيض ال يحققه الرأي الذي تم التصويت له‪ ،‬وبالتالي‬
‫فالديمقراطية ال يمكن أن تضمن حقوق األقلية وال أن ترعى مصالحهم‪ ،‬بل عليهم الخضوع ملا رأته األكثرية بغض‬
‫النظر عن صوابية الرأي الذي رأته األكثرية أو خطئه‪ ،‬ألن املعيار الوحيد املراعى هو أن يمثل رأي األكثرية‪ ،‬لذلك‬
‫احتيج في الغرب إلى الليبرالية‪ ،‬التي تقوم على حماية حقوق األفراد واألقليات‪ ،‬لذلك يفرق بين الديمقراطية الليبرالية‪،‬‬
‫والديمقراطية الالليبرالية‪.‬‬

‫الحظ أيها القارئ الكريم أن الديمقراطية تحارب ديكتاتورية القلة‪ ،‬وأن الليبرالية تحارب ديكتاتورية الكثرة‪ ،‬لذا‬
‫والفوا بينهما هذه املوالفة العجيبة ببدعة‪ :‬الديمقراطية الليبرالية! وهذا من فذلكات اللعب باأللفاظ حين يظهر عوار‬
‫َ َّ‬
‫نظام ما‪ ،‬فتجد أنهم يسندونه بنقيضه كي ال يظهر بمظهر النظام املجحف‪ ،‬فمن السماجة بعد أن نظ َر املنظرون للفكر‬
‫َّ‬
‫الديمقراطي ما نظ روه أن يتبين لهم أن هذا النظام ديكتاتوري في حكمه على األقليات‪ ،‬وأنه ال يضمن لهم أي حق‪،‬‬
‫ويخضعهم لرأي األغلبية‪ ،‬وإن كان فيه تعديا على حرياتهم‪ ،‬أو على رغبتهم بتشريع آخر‪ ،‬أو رئيس آخر ينتخبونه‪،‬‬
‫ً‬
‫لذلك لم يجدوا ُب َّدا من ترقيعه بنقيضه‪ ،‬وهو مذهب الفردية‪ ،‬أي الليبرالية‪ ،‬فكيف سيتم التزاوج بين مذهب يحارب‬
‫الفردية ويحارب تحكم القلة‪ ،‬مع مذهب يمنع الكثرة من االستئثار بمقاليد تشريعات أو نظم تمنع األقليات أو األفراد‬
‫حقوقهم وتجبرهم على الخضوع لألكثرية!!‬

‫ثم إن العلمانية‪ ،‬قامت على أساس فصل الدين عن الدولة‪ ،‬ثم تطورت لتصبح فصل الدين والقيم واألخالق عن‬
‫الحياة‪ ،‬فال بد للمشرع مثال‪ ،‬أو للفكر الذي يراد له أن يسود العالقات املجتمعية‪ ،‬أن يكون مبنيا على أساس أن يزيل‬
‫من فكره وهو يحكم على قضية ما‪ :‬أي تأثر بقيم مصدرها الدين أو األخالق أو العادات‪ ،‬او النظرة اإلنسانية أو ما‬
‫شابه‪ ،‬ليصل إلى ما يسمى الخلو من القيم‪ ،value free ،‬فهذا الخلو من القيم ضمانة ألن تكون العلمانية محايدة‪،‬‬
‫فالتشريعات محايدة‪ ،‬والعلم محايد‪ ،‬والعالقات التي تسود املجتمع قائمة على أساس محايد‪ ،‬وذلك ألن نظرتهم إلى‬
‫الدين أنه هو السبب في التأخر وفي لجم العقل وكبح جماحه‪ ،‬فال بد من تنحيته حال الحكم على الشيء‪ ،‬حتى ينطلق‬
‫العقل ويسمو وال يتأثر بما يكبحه‪.‬‬

‫والواقع أن هذا مما يستحيل وجوده في الواقع‪ ،‬فخذ مثال مسألة الحكم على الزنا أي العالقة خارج إطار األسرة‬
‫والزواج‪ ،‬لو أراد متشرع أن يحكم عليها ليسن قانونا يحرمها أو يبيحها‪ ،‬فإنه سينظر إلى أنها مشكلة معينة بحاجة‬
‫لرأي‪ ،‬فإذا نحى جانبا نظرة الدين إليها على أساس أنها محرمة‪ ،‬ونحى جانبا األخالق على أساس أن هذه العالقة ال‬
‫أخالقية‪ ،‬ونحى جانبا القيم اإلنسانية‪ ،‬على أساس أن القيم اإلنسانية قد تعتبر أن هذه العالقة فيها هدر لكرامة‬
‫االسرة‪ ،‬أو كرامة املرأة‪ ،‬أو الرجل‪ ،‬أو من جانب آخر القيم التحررية الليبرالية التي ترى أن هذه العالقة تكرس‬
‫الحرية والحق في ممارسة ما يحقق الحرية‪ ... ،‬الخ‪ ،‬فهو عليه أن ينحي كل هذه القيم سواء تعارضت أو تشاركت في‬
‫النتيجة‪ ،‬وإن اختلفت في املنطلقات‪ ،‬أقول‪ ،‬حين ينحي كل هذه القيم جانبا‪ ،‬فإنه لن يستطيع إصدار أي حكم على‬
‫املسألة‪ ،‬ألن أساس الحكم على مسألة ما هو تحقيقها لقيم معينة‪ ،‬أو منعها ألنها تعارض تحقيق قيم معينة‪ ،‬فكيف به‬
‫وهو ينحي كل القيم جانبا؟‬

‫هذه اإلشكالية تجعل إصدار الحكم على أي قضية أمرا مستحيال‪ ،‬فإن هو منع القيم التي أساسها الدين‪ ،‬وسمح بالقيم‬
‫التي أساسها الليبرالية‪ ،‬فإنه وال شك سيقع في التناقض‪ ،‬كما قال الشاعر‪ :‬حرام على بالبله الدوح‪ ،‬حالل على الطير‬
‫من كل جنس؟ ‪...‬يتبع‬

‫كتبه ثائر سالمة‪ ،‬أبو مالك‬


‫ملاذا العداء لليبرالية والعلمانية؟ ‪ 2‬من ‪3‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫القيم إبان الحكم على قضية ما فإنها تدخل اإلنسان في العبثية‪ ،‬فاملرء العاقل إذ يقوم بفعل ما‪،‬‬ ‫حين تنحي العلمانية‬
‫فال بد له من "قصد" من وراء قيامه بهذا الفعل‪ ،‬وهذا القصد هو "القيمة" التي يريد تحقيقها حين قيامه بهذا الفعل‪،‬‬
‫ً‬
‫ولذلك كان حتما أن تكون لكل عمل قيمة يراعي اإلنسان تحقيقها حين القيام بالعمل‪ ،‬وإال كان مجرد عبث‪ .‬وال بد‬
‫لإلنسان الناهض أن يصدر عن وجهة نظر في الحياة تحدد له قيما تسوس حياته‪ ،‬وإال سادت العشوائية املجتمعات‬
‫(هذه العشوائية التي تمثل أساس الليبرالية)‪ ،‬فتضاربت قيم زيد مع قيم عبيد‪ ،‬ونشأ في املجتمع الخصومات واستحال‬
‫القضاء‪ ،‬وسادت الفوضى‪.‬‬

‫هذه العلمانية‪ ،‬تشكل الوجه الثقافي أو الحضاري للحداثة الغربية‪ ،‬أو بمعنى أدق‪ :‬تعبيرها الحضاري فالديمقراطية‬
‫وجهها أو تعبيرها السياسي‪ ،‬واقتصاد السوق والراسمالية وجهها االقتصادي‪ ،‬والليبرالية نزعتها الفردية‪،‬‬

‫وأما الليبرالية‪ ،‬فإنها وقعت في تناقض آخر‪ ،‬فهي ال تعترف بمرجعية ليبرالية مقدسة؛ ألنها لو قدست أحد رموزها إلى‬
‫درجة أن يتحدث بلسانها‪ ،‬أو قدست أحد كتبها إلى درجة أن تعتبره املعبر الوحيد أو األساسي عنها‪ ،‬لم تصبح ليبرالية‪،‬‬
‫وألصبحت مذهبا من املذاهب املنغلقة على نفسها‪ ،‬مع اتفاق الليبراليين على أهمية حرية الفرد‪.‬‬

‫مرجعية الليبرالية هي في هذا الفضاء الواسع من القيم التي تتمحور حول اإلنسان‪ ،‬وحرية اإلنسان‪ ،‬وكرامة اإلنسان‪،‬‬
‫وفردانية اإلنسان‪ .‬وتتعدد الليبرالية بتعدد الليبراليين‪ .‬وكل ليبرالي فهو مرجع ليبراليته‪ .‬وتاريخ الليبرالية مشحون‬
‫بالتجارب الليبرالية املتنوعة‪ ،‬ومن حاول اإللزام سقط من سجل التراث الليبرالي‪ ،‬فهي فوضى فكرية ال أكثر!‬

‫فالليبرالية إذن تتناقض مع العلمانية‪ ،‬في أنها تكرس قيما إنسانية‪ ،‬مع أن العلمانية ال تقف في وجه الليبرالية‪ ،‬إال إن‬
‫كان مصدر هذه القيم دينيا أو أخالقيا‪ ،‬لعداء العلمانية للدين ولألخالق‪ ،‬فهي تغض الطرف عن القيم التي تقدس‬
‫حرية االنسان‪ ،‬والعلمانية إذ تأخذ من الليبرالية فإنها تناقض نفسها بإخضاع املفاهيم العلمانية للقيم الليبرالية‪ ،‬وهي‬
‫التي آلت على نفسها أن ال تتخذ أيا من القيم أساسا للحكم على األشياء أو األفعال‪ ،‬أو األفكار!‬

‫والليبرالية ال تمنع في فلسفتها الذاتية أن يكون مصدر القيمة التي تحقق الحرية والكرامة والحقوق القانونية‬
‫لالنسان‪ ،‬أن يكون مصدرها دينيا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬طاملا أنها تحقق هذه القيم‪ ،‬لذلك ال ترى بأسا في أن يكون الليبرالي‬
‫مسلما أو نصرانيا‪ ،‬طاملا هو يحقق هذه القيم‪.‬‬

‫وهي في هذا ال تؤطر لفلسفة تبين كيفية تحقيق هذه القيم‪ ،‬فمن رآى تحقيقها من خالل قيم أساسها ديني فله ذلك‪،‬‬
‫وهذا فيه تناقض بغيض‪ ،‬وإشكالية ومازق آخر للعلمانية ال تستطيع أن تحله! فالليبرالية إذ منعت انغالق نفسها على‬
‫نفسها‪ ،‬ومنعت نفسها من أن تكون مذهبا منغلقا منضبطا‪ ،‬منعت نفسها من أن تشكل منظومة فكرية متجانسة تسعى‬
‫إلى إيجاد نمط معين من العيش له مفاهيمه وآلياته وعقيدته ذلك الكل القائم على أسس مترابطة تحقق لالنسان نمطا‬
‫معينا من العيش‪ ،‬فما هو شكل االنسان الذي يعيش تناقضات في قيمه‪ ،‬فمن قيمة أساسها العلمانية ‪-‬وهي التي تحارب‬
‫القيم أساسا‪ ،-‬إلى قيمة أساسها االنسانية ‪ -‬على أساس الحرية املطلقة وما تراه اليوم محققا للحرية قد تكفر به غدا‬
‫وعليك أن ال تتقيد به وإال لم تكن حرا! ‪ -‬إلى قيمة أساسها االسالم‪ ،‬كيف له أن يحقق سعادة وأسس هذه القيم‬
‫متناقضة‪ ،‬فهو إذ ال يسرق ألن السرقة حرام‪ ،‬يزني ألن الزنا يحقق له الحرية‪ ،‬ويرى منع تدخل االسالم في نظام‬
‫حياته إال أنه ال يسرق ألن السرقة حرام! فيرى منع االسالم من أن يصوغ قيمة إال أن بعض قيمة قائمة على أساس‬
‫االسالم‪ ،‬كيف سيتجانس تفكير هذا االنسان ويفضي به إلى السعادة والطمأنينة‪ ،‬بل كيف سيكون انسانا يحترم‬
‫عقله!‬

‫صحيح إذن أن الليبرالية ليست بدين‪ ،‬ألنها لوث فكري‪ ،‬وتفضي حتما إلى فساد املجتمعات‪ ،‬وفساد النظم القانونية‪،‬‬
‫فكيف لقاض أن يحكم على ليبرالي بجريمة وهذا الليبرالي قام بتلك الجريمة ألن منطلقاته الفكرية لم تر فيها جريمة!‬

‫إال أن العلمانية دين‪ ،‬ولبيان ذلك‪ ،‬فإن العلمانية أيديولوجيا‪ ،‬أي مبدأ‪ ،‬فاملبدأ عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام‪،‬‬
‫واأليديولوجيا رؤية متماسكة شاملة تنظر للقضايا االجتماعية واالقتصادية والسياسية ملجتمع ما بشكل خاص‪،‬‬
‫ويدخل فيها املعتقدات واألخالق‪ ،‬ومن هنا فالعلمانية أيديولوجيا‪ ،‬وتعريف األيديولوجيا بهذا الشكل يتقاطع مع‬
‫مفهوم الدين الشامل‪ ،‬إذ أن بعض األديان حصرت نفسها بجزئيات من هذا التعريف‪ ،‬وبعضها كان شامال‪ ،‬وتعريف‬
‫األيديولوجيا أيضا ليس محل إجماع مما يجعل توصيف العلمانية بالدين أمرا مقبوال‪ ،‬وتفسير الدين باأليديولوجيا‬
‫أمرا مقبوال‪.‬‬
‫والد َّي ُ‬
‫ان السايس‪ ،‬والسياسة رعاية الشئون ‪ -‬االقتصادية واالجتماعية والقانونية ‪ - ...‬وفقا‬ ‫فالدين لغة هو السياسة‪َّ ،‬‬

‫ملنظومة فكرية معينة‪ ،‬فحين تسوس العلمانية املجتمع‪ ،‬وتعطي أفكارا عن السياسة واالجتماع واالقتصاد‪ ،‬فإنها دين‬
‫يحكم ويقضي‪ ،‬والدين منظومة األفكار عن الكون واالنسان والحياة‪ ،‬وعن عالقتها بخالقها سواء إيجابا أو سلبا لهذه‬
‫العالقة‪ ،‬وال يجوز قصر الدين على العبادة والغيبيات‪ ،‬فحين تقضي العلمانية بأفكار معينة تجعل لإلنسان إصدار‬
‫األحكام‪ ،‬وتمنع الخالق هذا الحق‪ ،‬فإنها دين‪ ،‬فهي وجهة نظر عن الحياة ونمط معين في العيش‪ ،‬فهي ثقافة معينة‪ ،‬أي‬
‫أساس لحضارة معينة‪ ،‬وكذلك الدين نمط معين في العيش وثقافة معينة‪ ،‬وحين تقضي العلمانية بأحكام تتناول شئون‬
‫الحياة فإنها تضع هذه األحكام مكان نظائرها من األحكام الصادرة عن الدين‪ ،‬فهي تلغيه وتصادر حقه في إصدار‬
‫األحكام وتضع نفسها مكانه مشرعا‪ ،‬فهي دين! إال أنها تصادر ما تسميه الرأي اآلخر‪ ،‬وتمنع الدين من أن يوجد إال في‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الدين بتهمة منع التعددية‪،‬‬ ‫زوايا املعابد والتكايا وتمنعه من الخروج إلى الشارع والعقول واألفكار‪ ،‬ثم ترمي العلمانية‬
‫ومصادرة حق الغير في التفكير‪ ،‬وتنسل من هذا وهو دينها وديدنها وتتخذ ألجله الحروب وتجتاح الدول! يتبع‬

‫كتبه ثائر سالمة‪ ،‬أبو مالك‬


‫ملاذا العداء لليبرالية والعلمانية؟ ‪ 3‬من ‪3‬‬

‫فلماذا العداء لليبرالية وللعلمانية إذن؟ لقد تبين لنا في املقالتين السابقتين أن الليبرالية لوثة فكرية‪ ،‬وأنها تناقض‬
‫نفسها وتناقض العلمانية‪ ،‬وتناقض الديمقراطية‪ ،‬وأنه ال يجتمع من هذه النقائض نظام يرقى باإلنسان‪ .‬وبالنظرة‬
‫املتفحصة للعلمانية نجد أيضا أنها تؤطر لنظام حياة على أساس حرب الدين‪ ،‬وتترك التفاصيل للقانونيين والقضاة‪،‬‬
‫يسنون التشريعات كما يحلو لهم‪ ،‬فليس في العلمانية معالجات تفصيلية ملشاكل اإلنسان‪ ،‬ليس فيها قوانين عاملية‪،‬‬
‫فلكل بلد علماني خصوصيته‪ ،‬بل في كل بلد قوانين األمس وقوانين اليوم التي تناقضها‪ ،‬مما يدل على أن العلمانية لم‬
‫ترق إلى مستوى أن تضع الحلول ملشاكل اإلنسان‪ ،‬وهي تخلو أصال من أصول كلية تعد مرجعا لألحكام التفصيلية على‬
‫األفعال‪ ،‬فباألمس كان الشذوذ جريمة يعاقب عليها القانون العلماني‪ ،‬واليوم يقدسه‪ ،‬وذلك الختالف وجهة نظر‬
‫القانونيين وسياسات الدول‪ ،‬ال لنظام حياة منبثق عن العقيدة العلمانية يضع حلوال تفصيلية للمشاكل املتعلقة‬
‫بالسياسة واالقتصاد واالجتماع‪ ،‬وال لقياس هذه األفعال بأصول معينة تستنبط من العقيدة العلمانية‪ ،‬وهذه مثلبة‬
‫عظيمة‪ ،‬إذ أن العلمانية جعلت كل همها محاربة القيم الدينية‪ ،‬واألخالقية‪ ،‬ولم تهتم بوضع البديل لها‪ ،‬فلسان حالها‬
‫لسان حال البلطجي الذي يفتش في األفكار فإن كان أصلها الدين أو األخالق حاربها‪ ،‬وإن لم يكن غض الطرف‪ ،‬ولم‬
‫يهتم بنوع البديل!‬

‫ولم ترق العلمانية ألن تكون مذهبا اقتصاديا‪ ،‬فاستعارت املذهب الرأسمالي بعجره وبجره‪ ،‬وجعلت اقتصاد السوق‬
‫غايتها‪ ،‬ذلك السوق الحر الذي تمثل أمريكا صمام األمان والنموذج الذي يحتذى فيه بحسب توماس فريدمان‪ ،‬وفكرة‬
‫حقوق اإلنسان لديهم ليست هي الحقوق اإلجتماعية‪ ،‬وال توفير الحاجات االجتماعية أو الضرورية للرعية‪ ،‬بل‬
‫تتمحور في إطار ضرورات اإلمبريالية الليبرالية والتجارة العاملية الحرة وتشريع القوانين التي تخدمها كما قال كولن‬
‫مويرز في كتابه اإلمبرياليون الجدد أيديولوجيات اإلمبراطورية ص‪ ،138‬فمن وقف في وجه اجتياح الشركات العابرة‬
‫للقارات والبنوك فتسحقه الحكومة العلمانية الديمقراطية لتفتح أسواقه أمام شركاتها وتغرق بالده بالديون‬
‫والحروب والويالت‪.‬‬

‫كتب “توماس فريدمان”‪ ،‬الصحفي في النيويورك تايمز‪ ،‬املقرب من وزارة الخارجية األمريكية‪ ،‬أثناء التحضير لحرب‬
‫الخليج الثانية في ‪" 1991‬أن األيادي الخفية في السوق ال تستطيع العمل بدون قبضة خفية"‪" ،‬فعلى سبيل املثال ال‬
‫تستطيع املاكدونالد ‪ McDonald‬العمل بدون مكدونيل دوجالس ‪ ،McDonnell Douglas‬وهو صانع لطائرة ‪ .F-15‬أما‬
‫القبضة الخفية التي ال تزال تحافظ على تكنولوجيا وادي السيلكون‪ ،‬فهي الجيش‪ ،‬وسالح الجو والبحرية وقوات‬
‫املارينز االمريكية‪"،‬‬

‫وفي سياق توضيحه للعالقة االستراتيجية القائمة بين الشركات العمالقة واملهتمين بالشؤون والتصنيع العسكري‪،‬‬
‫يقول فريدمان "أن العوملة تساهم وبشكل فعال في زيادة مساحة الفوائد التي تجنيها الشركات في العالم‪ ،‬وبالتالي فإنه‬
‫ال سبيل إال لوجود آلية عسكرية لحماية هذه املصالح‪ ،‬ولهذا السبب فقط عملت املؤسسة العسكرية في الواليات‬
‫املتحدة على االحتفاظ بالقدرة على شن الحروب في منطقتين مختلفين من هذا العالم”‪ .‬إن القوى الرأسمالية العاملية‬
‫كل الوسائل‪ ،‬بما في ذلك شن الحرب‪ ،‬في سعيها لتحقيق مصالحها وتعظيم أرباحها‪ ،‬تستخدم هذه الدول‬ ‫تستخدم ّ‬
‫“اليد الخفية” لالقتصاد و”القبضة الخفية” للجيوش لضمان األجواء املالئمة لتعزيز مصالح الشركات‬
‫الرأسمالية العمالقة‪.‬‬

‫والواقع أن املنظرين العلمانيين والليبراليين والديمقراطيين لم يتنبهوا لحقيقة أن الرأسمالية هي املحرك الوحيد‬
‫للدول الغربية االستعمارية‪ ،‬وأنها تسمح بمذاهبهم وأفكارهم العلمانية والديمقراطية والليبرالية بالوجود طاملا هي‬
‫تخدم الرأسمالية‪ ،‬وحين تتعارض معها‪ ،‬فإنها ال تلقي لها باال‪ ،‬فأمريكا ال تحفل كثيرا بنشر الديمقراطية‪ ،‬أو العلمانية‪،‬‬
‫إال إن كانت وسيلة لبسط هيمنتها السياسية أو العسكرية أو االقتصادية‪ ،‬فها هي مصر مثال حي‪ ،‬ضربت فيه أمريكا‬
‫عرض الحائط بالديمقراطية وقيمها‪ ،‬وبالعلمانيين ومن لف لفهم ودعمت العسكر ودعمت من يحقق لها مصالحها‪،‬‬
‫وما زال العلمانيون املغفلون يسبحون بحمدها وحمد حضارتها وقيمها صباح مساء‪ ،‬لكل داء دواء يستطب به إال‬
‫الحماقة أعيت من يداويها! وهي هي من تضرب بقيم الليبرالية وحقوق األقليات في أمريكا نفسها إذ تسودها القيم‬
‫العنصرية‪ ،‬على كافة الصعد‪ ،‬من معاملة الشرطة للسود‪ ،‬إلى سلم الرواتب الذي يفاضل بين الرجل واملرأة‪ ،‬وبين‬
‫األبيض والالتيني واألسود ‪ ...‬الخ‪ ،‬فهذه املذاهب لديهم إنما صممت لخدمة القلة‪ ،‬ولتغليف استعمارهم العالمي بغالف‬
‫أنظمة يحاربون بها األديان والحضارات األخرى‪ ،‬فيستعملونها وقت شاءوا ويغضون الطرف عنها وقتما تعارضت مع‬
‫قيمهم الرأسمالية‪ ،‬فالواقع أن الغرب ليس فيه علمانية‪ ،‬وال ليبرالية‪ ،‬وال ديمقراطية‪ ،‬إنما فيه رأسمالية وحسب‪.‬‬

‫كتبه ثائر سالمة‪ ،‬أبو مالك‬

You might also like