Professional Documents
Culture Documents
1فكم من أبحاث أثبتت ضرر القهوة ،وكم من غيرها أفادت فوائدها الجمة ،وكم من بحث تبين بعد حين خطؤه ،أو انطباقه على زيد
وعدم انطباق نتائجه على عبيد ،وهكذا!
ً
أهدافا ً
مرادة من بدراسة املراجع الشرعية اإلسالمية ،والقانونية الوضعية ،نجد أن املشرع يضع للقوانين
َ
وحكما باعثة عليها ،وأسبابا 2ومقاصد دافعة اليها ،3أي سيضع مقاييس للقوانين والتشريعات، ورائهاِ ،
وتشكل اإلطار الذي تتحرك في نطاقه كافة القوانين في مختلف مجاالت الحياة ،واألصل أن تتكامل القوانين
4
فيشد بعضها أزر بعض ،فنظام العقوبات Hمثال مبني على حسن أداء النظام االقتصادي والتكافل االجتماعي
ومسئوليات الدولة الرعوية ، 5وهكذا ،فالقوانين -شرعية كانت أم وضعية -إنما وضعت لتكون خادمة للقيم
التي يراد لها أن تسود في حياة الناس( ،6أي املفاهيم والقناعات التي يقوم عليها السلطان Hأي الدولة) ،كقيمة
العدالة( ،قيل :العدل أساس امللك) ،وهذه القيم نفسها قد تختلف باختالف العقائد التي تقوم عليها
ُ ََّ
ض ِللة ،ال تعدو أن تكون شعارات ال واقع لها ،إذا ما فرس ،فقد تكون القيم هذه م
املجتمعات ،وهنا مربط ٍ
وزنت بميزان األيديولوجيات التي تحكم املجتمع ،فقد تجد تلك القيم سرابا مضلال ال أثر له في الواقع! فكانH
األصل أن تقوم الدول على عقائد صحيحة قبل النظر في صحة تشريعاتها وقوانينها ،لذلك فإن قيام الدولة
ّ
املشرعين في تلك على عقائد منقوضة فكريا كالعلمانية ،7أو مستحيلة الوجود عمليا ،كالديمقراطية ،8يضع
ُ َ
الدول أمام عقبة كأداء ،وهي استحالة قيام القيم التي ت َّد ِعي الدولة تحقيقها ،ومن ثم فالقانون الذي ال يخدم
القيم وال يساعد على حمايتها Hفي املجتمع ،يصبح بال فاعلية وال فعالية،
فإن كانت القيم نفسها خطأ أو مستحيلة التحقيق كانت القوانين خطأ لبنائها على الخطأ ،فكان Hال بد من
وجود معايير قابلة للتحقيق ،وقيم يرجع إليها املجتمع لتنظيم السلوك االجتماعي ،والحفاظ على الحقوق
2بالنسبة للشريعة اإلسالمية نعني باملقاصد واألسباب هنا :النتيجة التي تترتب على الشريعة ،أي الحكمة الناتجة عن تطبيقها ،وليس
الباعث على تشريعها ،أي غاية الشارع التي يهدف إليها من تشريع الشريعة ،ال العلة بمفهومها األصولي ،وال تلتمس العلة الباعثة على
التشريع ،وال الحكمة إال إذا ذكرهما الشارع ،وقد جاءت آيات تبين غايات كلية وحكما تنتج عن تطبيق الشريعة مثل كونها رحمة ،ومثل
قيام الناس بالقسط ،وما شابه ،وقد استنبط الفقهاء Hمقاصد للشريعة كما هو مقرر في كتب األصول ،وليس البحث هنا في كل حكم
شرعي ،إنما في مقاصد الشريعة ككل ،وأثر تلك املقاصد على القوانين الضابطة Hللعالقات في املجتمع.
3من العلوم القانونية املوازية لعلم مقاصد الشريعة اإلسالمية علم فلسفة القانون الذي صار يحتل مكانة رائدة في الدراسات القانونية
الغربية تحت مسمى ،Legal philosophy :نظرا لطبيعة موضوعاته Hالتي تركز على االهتمام بدراسة الغايات والحكم التي تكمن وراء النظم
القانونية والكشف عن العالقة بين القانون واملجتمع ،وهي عموما تدور حول :حماية "حقوق اإلنسان" ،وتحقيق العدالة والصالح العام؛
واالستقرار القانوني واألمن القانوني وكل هدف له أسس يقوم عليها ووسائل تؤدي إلى تحقيقه .أنظر :مقاصد القانون الوضعي في ضــوء
مقاصد الشريعة اإلسالمية ،بقلم د .عليان بوزيان منشور في العدد 150من مجلة املسلم املعاصر.
4أنظر فصل :إقامة الخالفة من مقاصد الشريعة الكبرى
5مثال ذلك أن النظام Hاالقتصادي ،والتكافل االجتماعي ،ومسئوليات الدولة الرعوية في اإلسالم تكفي الفرد حاجاته ،فإذا ما سرق بعد
ذلك يكون قد اعتدى واستحق العقوبة ،وحين يسرق الجائع في يوم مسغبة فإنه ال يقطع ألن الحدود تدرؤ بالشبهات ،وهكذا فاألنظمة
تتكامل ويأخذ بعضها Hبرقاب بعض ألداء وظائف كلية في املجتمع!
6من أهم وأجل القيم اإلسالمية قيمة تحقيق العبودية هلل وحده دون غيره ،بمفهوم Hالعبودية الواسع ،وبمفهومها Hالخاص بموضوع
التشريع ،واعتبار التشريع حقا له وحده ،وأن اتباع الناس بعضهم بعضا في التشريع هو بمثابة اتخاذهم أربابا من دون هللا!
7وقد قمنا بإلقاء إضاءات كبيرة على مفهوم العلمانية في هذا الكتاب تمحقه محقا.
8من ضمن القيم التي تقوم عليها الديمقراطية وتتوقف الديمقراطية عليها وجودا وعدما :أولها :تحكيم رأي األغلبية في املجتمع ،ومنع تركز
السلطات بيد األقلية ،أو استغاللها ،وتمثيل السلطات لرأي الشعب ،وهذه القيم الثالث يستحيل تحقيقها Hفي الواقع ،والنظام الغربي كله
قائم على تمازج وتداخل السلطات وتركيزها بيد األحزاب الحاكمة ،والتشريعات يقوم بها قلة من فقهاء القانون Hوالقضاة ،وال يرجع إلى
الشعب إال في أقل القليل منها ،وللموضوع تفاصيل كثيرة جدا أفردنا لها فصال خاصا فراجعه ،ولكن الديمقراطية فلسفة خيالية مضللة،
يستحيل أن توجد في أرض الواقع!
املشروعة لكل فرد ،وفك التصادمات بين املقاصد حين تصادمها (كأن يفضي التشريع Hإلى تحقيق مقصد على
حساب مقصد آخر ،مثل الخصوصية واألمن حين يتعارضان ،فتتجسس الدولة على األفراد وتنتهك
خصوصيتهم وحريته بحجة الحفاظ على األمن.
أو أن تحقق بعض القوانين قيما معينة وتناقضها قوانين أخرى تهدم هذه القيم ،مثل تحقيق حرية التعبير
وحماية حقوق املرء باملحاكمة العادلة تتصادمان مع قانون األدلة السرية في أميريكا والذي يحرم املتهم من
معرفة جريمته ومن الدفاع عن نفسه بحجة أن عرض أدلة جريمته يهدد األمن القومي ،فال هو يعرفها وال
القاضي وال يحق له الدفاع عن نفسه ،فالقوانين تناقض املقاصد وتناقض بعضها بعضا ،وهذا التناقض
جذري 9ينسف أوله آخره ،10وليس بالتناقض العرضي الذي يحل إشكاله)
يمكننا أن نلخص بعض املقاصد والغايات Hالتي يقوم التشريع بمراعاة تحقيقها بغية تنظيم عالقات اإلنسان
بنفسه وبغيره وباملجتمع وبالدولة ،وفق قواعد معيارية ملزمة تحقق التوازن والتناسق بين املصالح املختلفة
ألفراد املجتمع ،إذ أن غاية التشريع Hأو التقنين العامة في جميع القوانين وفي كل زمان ومكان :إيجاد تنظيم
ملختلف العالقات التشريعية أو القانونية بصفة دائمة ومستمرة ،بغية حصول العدالة بين أفراد املجتمع
اّل
الذين ما جاء ذلك القانون ِإ لتنظيم حياتهم وضبط سلوكهم بسلطة الدولة لضمان Eاستقرار اجتماعهم،
ويقوم الفقيه أو املجتهد أو القاضي أو القانوني بدراسة الواقع Hاملراد الحكم عليه ،ومن ثم يدرس النصوص
الشرعية أو القانونية (الدستورية) املتعلقة بذلك الواقع ،وينزل الحكم على الواقع ،وخالل ذلك يقوم
َ
وحكمها حين استنباط الحكم!
باستحضار تلك املقاصد وتذكر عللها ومناطاتها ِ
فالغاية من هذا التشريع Hهو تحقيق مقاصد معينة 11من جملتها H:وضع معالجات صحيحة للمشاكل ،وإحقاق
الحق ،والعدل واإلنصاف ،ومنع الظلم ،والقيام بالفعل األصلح الذي يشبع الغريزة والحاجة العضوية
صل ُح ُه ْم ،ويطيقونه ،ويرفع عنهم الحرج ،ويقيم املجتمع على أسس
للناس ُوي ِ
ِ
إشباعا صحيحا ،والذي َي ُ
صلح
معينة تتكامل فيها أنظمة الحياة والدولة ،ويراعي املقاصد الثمانية 12الضرورية لإلنسان وهي :حفظ النفس
واملال والدين والعقل والنسل ،وحفظ الدولة ،وحفظ األمن ،وحفظ الكرامة اإلنسانية ،وقد يضاف إليهاH
9حين أراد حزب املحافظين Hفي كندا تمرير قانون األدلة السرية ،كان يواجه مقاومة شديدة في البرملان لفظاعة شكل القانون H،فقام الحزب
بزراعة عميل وسط شباب مسلمين ،حاول إقناعهم بالقيام Hبأعمال إرهابية ،ولفق لهم تهما إرهابية بأنهم كانوا يريدون تفجير البرملانH
ومقرات الدولة ،وثارت ضجة إعالمية كبيرة األصداء ،فلما جاء يوم التصويت لم يجرؤ على معارضة القانون أحد ،ومر القانون ،ثم دارت
ً ً األيام ولم تثبت التهم والقضايا Hعلى أي من املتهمين ،ولم يراجع ٌ
أحد أحدا بتسلسل األحداث ،وأضحى القانون قانونا!
10فحين تتجسس الدولة على قلة يهددون األمن -بزعمهم -ثم تستمرئ األمر فتسحب التجسس ليعم الناس كلهم بالتجسس االلكتروني
الذي يحصي على الجميع أنفاسهم Hوخطواتهم Hوتفكيرهم ورغائبهم وطبائعهم ،الستعمال هذا كله لتباع املعلومات لألحزاب السياسية،
وللمسو قين للسلع ،وأصحاب رأس املال ،ولألجهزة األمنية ،فإن الخصوصية قد ذهبت بغير رجعة ،فالقانون Hالثاني نسف األول بال رحمة! ّ
ِ
11يراجع فصل مقاصد الشريعة في كتاب الشخصية اإلسالمية الجزء الثالث أصول الفقه للعالمة تقي الدين النبهاني رحمه هللا ،ففيه
تفصيالت لفهم Hما نعنيه بمقاصد الشريعة وضوابط يصعب حصرها هنا حتى يفهم سياق كالمنا في ضوء تلك الضوابط.
12استنبط اإلمام الجويني وتلميذه اإلمام Hالغزالي من الشافعية مقاصد الشريعة ،وتابعهما اإلمام Hالشاطبي فتحددت خمسة مقاصد
ضرورية :هي حفظ النفس واملال والدين والعقل والنسل ،وأضاف لها اإلمام تقي الدين النبهاني مقصد حفظ األمن ،ومقصد حفظ الدولة،
ومقصد حفظ الكرامة اإلنسانية ،باستنباطها Hمن خالل تشديد العقوبة على مقترف جريمة تمس بها شرعا ،فالخارج على الدولة بالسالح
يقاتل ،ومن يشق عصا الطاعة ويبايع خليفة ثانيا يقتل ،وغيرها من األحكام والتفصيالت يراجع فيها كتاب الشخصية اإلسالمية الجزء
الثالث ،فأضحت املقاصد الضرورية ثمانية.
(على خالف )13جلب املصالح ،ودرء املفاسد ،14وقد يضيف أصحاب القوانين الوضعية 15إلى هذه تحقيق ما
يسمى بحقوق اإلنسان ،والحق في املساواة وغيرها من املقاصد.
وحين ننظر إلى التشريعات الجنائية ،فإننا سنجد أن األصل فيها تحقيق عقوبات وفاقا للجرائم ،رادعة عن
ارتكابها ،وجابرة للذنب (ديات ،تعويضات ،أرش ...،الخ) ،لتزجر املجتمع عن ارتكاب Hالجريمة ،ولتجبر ذنب
املذنب ،وتعوض املجني عليه بما يكافئ خسارته ،وتحفظ الحق العام!
وحين ننظر إلى مجموعة القوانين الناظمة لعالقات Hاملجتمع ،ال بد أن نجد التكامل فيها ،وأن يظهر فيها ُ
البعد
املجتمعي ،Eفمثال في اإلسالم تجد قوانين وتشريعات Hتفضي إلىى تحقيق التكافل االجتماعي ،فقد أحاطت
القوانين واألحكام األمر من جميع جوانبه للتأسيس لنظام مجتمعي قائم على التكافل Hاالجتماعي! على صعيد
الفرد واألسرة والحي واملجتمع والدولة ،وأسست ذلك على أساس من املسئولية في الدنيا واملحاسبة في
اآلخرة ،من ذلك مسؤوليات الفرد عن رعاية الوالدين واملسنين ،ومسؤولية الحي عن إطعام الجائع ،وكفالة
األيتام ،ورعاية حق الجار ،والضيف وعابر السبيل ،ومسئولية الدولة الرعوية لضمانة الحاجات األساسية
للرعية حين عدم قدرتهم على تحقيقها ،وما إلى ذلك ،ورفدته بالقوانين الالزمة لتحقيقة كنظام الزكاة،
والكفارات ،والصدقات ،وإسعاف املحتاج ،وإغاثة امللهوف ،والوقف ،والوصية ،والعارية ،وغيره ،فأين تجد
هذا في التشريعات Hالغربية؟ نعم أبدعوا في التشريعات Hاملتعلقة باملال ،واألنظمة الضريبية ،وما شابه ،إال أنهم
13يراجع في كتاب الشخصية اإلسالمية الجزء الثالث أصول الفقه للعالمة تقي الدين النبهاني رحمه هللا ،فصل :جلب املصالح ودرء املفاسد
ً
ليسا علة للشريعة بوصفها كال وال علة ألي حكم بعينه ،ففيه تفصيل Hممتع مهم.
ً 14وذلك ّ
ألن جلب املصالح ودرء املفاسد ليسا علة لألحكام الشرعية مطلقا H،فإنه لم يرد أي نص يدل على أن جلب املصالح ودرء املفاسد
علة لألحكام الشرعية ،وال ورد أي نص يدل على ّأنها علة لحكم معين ،فال تكون علة شرعية.خصوصا وأن املصالح واملفاسد على الحقيقة
مجهوالن لإلنسان ،فيظن في أمر مصلحة وفيه ضرر والعكس ،وبالتالي فالحكم على تقدير املصالح عقال يتفاوت ،مما يجعل املصلحة بحد
ذاتها تابعة للحكم الشرعي وال ُي جعل الحكم الشرعي تابعا لها .وقولنا هذا ال يعني أن الشرع جاء ليضر بالخلق ،ولكن املصلحة الحقيقية
والصالح الذي هو مدار الشرع ،ال يكون بما تقدره العقول مصلحة ،ولكن بترك تقدير املصلحة إلى هللا وحيثما شرعه فثم الصالح
واملصلحة.
َ ً ً ً ً
وحكما باعثة عليه ،وأسبابا ومقاصد دافعة 15ومن املعلوم أن الشارع لم يضع القانون عبثا واعتباطا ،وإنما ابتغى هدفا مرادا من ورائهِ ،
اليه ،غير أن عناية فقهاء Hالقانون الوضعي بمقاصد نصوصهم التشريعية أقل بكثير مما هو عند أهل الشريعة اإلسالمية؛ وذلك ألن
الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون ،وبيان ذلك أن التشريع الوضعي ٌ
قابل للتعديل والتغيير Eباستمرار ،فليس
َ بحاجة َّ
الحكم والغايات املصلحية املقصودة Hمنه ،بل هذه الحكم والغايات Eنفسها عندهم تتغير ماسة إلى نظرة مقاصدية ،تستخرج منه ِ
من آن آلن ،فما بالك بالتفصيالت القانونية؟ أنظر :مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة اإلسالمية ،بقلم د .عليان بوزيان
منشور في العدد 150من مجلة املسلم املعاصر .نقال عن :د .محمد سليم العوا ،فكرة املقاصد في التشريع الوضعي -مقاصد الشريعة
وقضايا العصر ،-منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الثقافي ،ط ،2011 ،1ص .271
حين أتى األمر على التشريعات Hاملجتمعية التي تؤسس لبناء مجتمعات متكافلة متضامنة متعاونة لم تنبس
قوانينهم ببنت شفة! وما ذلك إال ألن طبيعة نظامهم رأسمالي بحت! فردي 16محض!17
واالهتمام بمقاصد القانون وفهمها ،وتجانسها مع عقيدة األمة ،واإلحساس بقدرتها على بسط العدالة Hفي
املجتمع ،وإحقاق الحقوق تساهم في احترامها طواعية انطالقا من قوة الوازع وليس خوفا من الرادع!
لقد قامت الواليات املتحدة في مطلع ثالثينات القرن املنصرم بإصدار قانون صارم يحرم الخمر ،وفرضت
العقوبات الصارمة عليها ،ولم يزدد املجتمع األمريكي في الخمر إال ولوعا ،مع كل الدراسات Hالتي قدمت والتي
تبين مضارها ،وكذا حصل في االتحاد السوفياتي أيام غورباتشوف ،فكانت Hتجربته أشد فشال ،ولم تتغير
قناعات الناس حول الخمر ،بينما Hترى أن 1.6مليار مسلم يمتنعون عن الخمر طواعية جراء وجود مفاهيم
تحر ُم ها مع بعض الشواذ القليلين عن القاعدة ،مما ينبيك أن أكبر مؤثر على السلوك هوّ
العقيدة لديهم والتي ِ
الوازع والدافع املنبثق عن املفاهيم عن الحياة.
فكما ترى ،سنجد أول عقبة تواجه البشر حين التشريع أن الغايات التي يراد تحقيقها من سن القوانين
مختلف فيها ،وفي طبيعتها ،وفي تفسيرها وفي كيفية تحقيقها ،وفي التعامل Eمع الترجيح بين تلك القيم حين
اصطدام القوانين بها فتخدم بعضها وتتعارض مع بعض( ،!18مثال :الخصوصية -األمن) وإمكانية مراعاتها
16إذ أن الديمقراطية تستمد نظرتها Hللمجتمع من أفكار املدرسة الليبرالية لتحقيق الحريات ،تلك املدرسة التي يعد جون لوك ،وجون
ستيورات مل ،وآدم سميث وديفيد هوم من أبرز مفكريها H،رغم اختالف وجهات النظر بينهم ،فإن عددا من األمور Hاملشتركة بينهم مثل
النظرة الفردية لإلنسان ،والتي تجعل الفرد وحدة مستقلة قائمة بذاتها ،تتصل بغيرها لتحقيق مصالحها الذاتية ،ومن ثم فالفرد يمثل
غاية البناء االجتماعي ....كما أن اإلنسان وفقا لهذه النظرية يمتلك حقوقا طبيعية منحت له لطبيعته اإلنسانية ،بمعزل عن الدولة أو
املجتمع ،أضف إلى ذلك أن النظرة الليبرالية لإلنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم املشتركة ،فال توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم
االجتماعية أو السلوك املقبول اجتماعيا من قبل األفراد ،فالنظرة إلى املجتمع غائبة في الفكر الليبرالي( Eديفيد أنجرسول الشيوعية،
الفاشية والديمقراطية ص )129-128
17ال يعرف الجار اسم جاره وال ُيعنى عابر الطريق بخالف شب بين اثنين فتصارعا!
18تهدف التشريعات والقوانين الناظمة لعالقات املجتمع لتحقيق قيم معينة يضعها املفكرون أو املشرعون ،وقد تصطدم هذه القيم
ْ
برغائب السياسيين وأصحاب رأس املال ،فتظهر فورا لديهم مشاكل تظهر قصور نظرتهم ال ِق َي ِم َّي ِة ،ونظرتهم التشريعية فتضرب
القيم ،وتضرب وقائع حياة الناس تلك القيم املثالية الهالمية ،فتستحدث الدولة من الثنائيات حول إشكاليات تناقض القيم مع َ ُ
التشريعات
التشريعات مع واقع الحياة في تلك املجتمعات! لتضرب بها تلك القيم أو لتجعل الدولة لنفسها ذريعة في الحد من تلك القيم وتحجيمها
ومحاكمة من يؤمن بها! من ذلك مثال :اصطدمت Hالدول الغربية الحديثة بهذه الثنائيات التي أجهزت على البقية الباقية من مقاصد التشريع
لديهم ومع قيم حضارتهم :ثنائية :الحرية – األمن ،ثنائية E:الخصوصية – األمن ،فتتدخل الدولة وأجهزتها األمنية في خصوصيات الناس
وتتجسس عليهم بكل السبل اإللكترونية بحجة الحفاظ على األمن! فأخذت األنظمة الغربية تشرع قوانين تزيد من سلطة الدولة في مراقبة
األفراد والحد من حرياتهم وخصوصياتهم ،مظنة إفسادهم في املجتمعات وتعديهم على األمن العام والصالح العام ،واحتج الناس على
الدولة بأنها تتجسس عليهم ،ثنائية E:تدخل الدولة في السوق – منع تدخلها ،ثنائية E:حرية التعبير – Eالقذف! فإن لم يرق لهم التعبير
قالوا عنه أنه تجاوز حرية التعبير إلى القذف ،ثنائية :حرية التعبير -خطاب الكراهية ،فما أسهل أن يحاكم الرأي الذي ظن صاحبه أنه
من باب حرية الرأي املكفولة إلى خانة الحض على الكراهية ،فيكون سببا في سجنه ،ومعلوم أن تعريفات الكراهية والقذف وما أشبه
تعريفات هالمية يسهل تغييرها ووضع أي رأي تحتها ليسهل محاكمة قائله وهكذا ،بل زادوا على ذلك ،فبعد عقد اتفاقيات حرية التبادل
التجاري ،أرادت أميريكا التضييق على صناعات الصلب واأللومنيوم ففرضت عليها رسوما باهظة حين تستوردها من الغير ،بحجة تعارضها
مع األمن القومي ،ثنائية :حرية التبادل التجاري – األمن القومي ! وهكذا تتعارض القيم التي يراد لها أن تكون مرجعية للقانون Hمع
القوانين ومع أنظمة املجتمع! وتستعمل القيم وتأويالتها من قبل الدولة بشكل يسمح لها أن تحاكم األفراد والهيئات على ما ال يروق لها من
تصرفاتهم!!H
َْ
حين سن قوانين كثيرة ينقض أعالها أسفلها ،وأولها آخرها ،فهذه أول عقبة كأ َداء تكرس عدم قدرة
اإلنسان على التشريع الصحيح! فاحفظها!
وكما ترى ،فإن املشرع الغربي Eاصطدم بواقع دوام تطور املجتمع وتغير نظرته ،وتغير ما يسمى باملصالح
العامة وفقا لذلك ،ودور اإلعالم في تكريس قيم معينة كانت ممنوعة زمنا ثم شاء من شاء من املتنفذين
تغيير نظر ة املجتمع لها (كمثال :نظرة املجتمع لحقوق الشواذ ،وكمثال :نظرة املجتمع للمخدرات
واستعمال القنب الهندي كانت محرمة قانونا ،واآلن أضحت قانونية) ،وهذا جعلهم ال يلقون باال كثيرا
إلى تكريس النظرة املقاصدية ،وإلى وضع التعريفات الدقيقة لكل مقصد بعينه ،وكيفية مراعاته،
فاملقاصد نفسها عندهم قابلة للتغيير( ،وأغلب مقاصدهم أخذوها من الشريعة اإلسالمية )19فكيف
بالقوانين التي تخدم تلك املقاصد!
إن عدم وضوح الغاية األساسية Eلوضع القوانين عند الغربيين ،سيؤدي حتما إلى استغالل القانون
استغالال سيئا يفقده مصداقيته وحياده في كثير من األحيان ،ولذلك فإن وضوح الغاية Eمن القانون
ومعرفة أبعادها يسلب الفرصة من الذين يمتلكون النفوذ والقوة في ترجمة القانون حسب منافعهم
الذاتية ،20فإذا كانت الغايات Eنفسها ملساء متقلبة متغيرة ،والتعريفات هالمية غير منضبطة ،فإن الخرق
في استغالل القوانين سيتسع على الراتق حتما!
وإذا لم يقم املجتمع على أساس من التكافل والتراحم والتواد واملسؤولية عن الغير ،فإن هذا كله لن
فكر وقيامه على مبدأ ،ولكن املبدأ العلماني ال يعنيه شيء من هذا!
يتحقق بتشريع قوانين ،بل بتأسيس ٍ
فأين ستجد االلتفات لتشريع مثل هذه القوانين من قبل املشرعين إذا كان املبدأ نفسه يغفلها؟ قطعا لن
يلتفتوا لشيء منها! فأي خسارة لإلنسان أعظم وأفدح! وأية فجوة عظيمة وفرق شاسع بين اإلسالم
وصالحيته وحسن معالجاته ،وبين العلمانية وقصورها وفرديتها وفشلها التشريعي والفكري!
مقاييس ال بد منها قبل اإلجابة على السؤال :ملن الحق بالتشريع؟
فما هي املقاييس التي ينبغي توفرها ُ
للحكم على نتيجة التشريع Hبالصحة أو الخطأ؟ بالصالح أو الفساد؟
لعل أكثر قيمة يمكن االتفاق عليها أساسا للملك( Eأي الحكم) هي العدل ،فال بد للقوانين أن تضمن تحقيق
العدل واملساواة أي أن يكون الناس سواسية أمام القانون ،لذلك سنناقش أمثلة تبحث في قدرة القوانين
على تحقيق قيمة العدل أو عدم قدرتها كمقياس أساس (وسنختار من القوانين ما يتعلق بقيمة العدل ونرى
انطباق القيمة على القانون ،وسننظر أيضا حيث نحتاج إلى قيم أخرى متعلقة بالقانون وننظر في مراعاتها
وتحقيقها):
أوال :قدرة املشرع على ضمان تحقيق الغايات من التشريع صالحة لكل إنسان في كل زمان ومكان (الثبات
ً
في القوانين واملعالجات وقدرتها على حل املشاكل حال صحيحا دقيقا منطبقا على الواقع محققا املناط).
19أنظر :مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة اإلسالمية ،بقلم د .عليان بوزيان العدد 150من مجلة املسلم املعاصر.
20أنظر :مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة اإلسالمية ،بقلم د .عليان بوزيان العدد 150من مجلة املسلم املعاصر.
تشريع ينظم العالقة بين الذكر واألنثى ،وقدٍ وحين نقول :صالحة لكل زمان ومكان ،فلو أخذنا مثال أننا أمام
سبق وقلنا أن إشباع هذا املظهر Hمن غريزة حفظ النوع قد يكون بإحدى أربع طرق :إما باإلشباع الطبيعي
(الزواج) ،أو اإلشباع الخطأ (الزنى) أو اإلشباع الشاذ (الشذوذ الجنسي) أو عدم اإلشباع باملرة.
وقد كانت الدول الغربية تحرم العالقة املثلية وتنبذها حتى سنوات قليلة جدا مضت ،وجل الشرائع
والقوانين البشرية Hحاربت هذه العالقة حربا ال هوادة فيها ،واآلن تراجعت كثير من تلك القوانين عن تجريم
هذه العالقة ومنع "الزواج" بناء عليها ،فلنضع الفرض التالي :لو كان هذا اإلشباع صحيحا ،يحقق القيم
واملقاصد القانونية املذكورة أعاله ،فيكون فقهاء القانون قد حرموا شطرا من الناس من ممارسة حقوقهم
زمنا طويال ،ثم تبين لهم خطؤهم ،وال سبيل لتدارك خطئهم في حق من مات أو قاسى أو عاش ردحا من
حياته منبوذا بسبب نظرة القوانين إليه كمجرم واملجتمع إليه كمنبوذ!
ثم لو تبين بعد حين من قوننته أنه سبب األمراض الجنسية الخطيرة ،وأن دوافعهم لتحليله كانت قائمة على
أسس خاطئة علميا 21ومزيفة ،وآثاره على املجتمع مدمرة ،وأنها عالقة مذمومة قبيحة بهيمية ،فإنهم لن
يستطيعوا إصالح نتائج خطأ قوانينهم Hفي الفترة التي أباحوا هذه العالقة فيها ،وهكذا ،فإن القوانين يجب أن
تكون صحيحة في كل زمان ومكان ،وأن ال يكون اإلنسان واملجتمع ساحة للتجارب! فهذا أبعد ما يكون عن
ُ َ
تحقيق قيم :العدل وفعل األصلح! أين املساواة بين من ُم ِن َع َها ومن ق ِّنن ْت له؟
فالسؤال هو :ما هي الضوابط التي على أساسها ندرك أن هذا الفعل صالح أو غير صالح؟ سنجيب على
هذه األسئلة Eفي الفصل التالي ،وسنبين بأن العقل عاجز عن وضع قانون تشريعي يضمن تحقق األصلح
لإلنسان ،بدراسة عالقة املوضوع بالخير والشر ،بالحسن والقبح ،باملدح والذم ،وبالثواب والعقاب،
ومن ثم محاكمة قدرة العقل البشري على التحقيق Eفيها ،وهللا املوفق!
أما الثبات في القوانين املسنونة ،فآت من الزاوية التي تنظر فيها للمشاكل ،ففي حين أن الزاوية التي ينظر
فيها املشرع الغربي للمشاكل هي زاوية تحقيق الحرية ،أو زاوية املصلحة واملنفعة ،نجد أن اإلسالم جاء
بسلوك يشبع فيه غريزة أو حاجة عضوية ،فيضع له ٍ بمعالجات لألفعال ،على اعتبار أن اإلنسان يقوم
الضوابط لذلك اإلشباع ،ويضع له الحكم لذلك الفعل ،فاإلنسان هو اإلنسان في كل زمان ومكان ،سيشبع
غريزة النوع بإحدى الطرق األربع املذكورة ،فيضع اإلسالم له التصور الصحيح Hلإلشباع صالحا لكل زمان
ومكان ،ثابتا ال يتغير ،صحيحا منطبقا على املشكلة ،أما املشرع الغربي ،فإن الزوايا التي ينظر من خاللها
للمشكلة متعددة ،ومتغيرة ،فمثال :قد ينظر من زاوية تحقيق الحريات ،فمن أراد أن يزني له ذلك ،ومن أراد
أن يشذ له ذلك طاملا يفعله باجتماع إرادة الطرفين ،وهذه الزاوية شديدة الخطورة ،إذ أن اإلحصائيات في
بريطانيا مثال تفيد أن 42باملائة من البريطانيين Hيقيمون عالقات مع أكثر من شخص في الوقت ذاته ،وأكثر
من نصف األميريكان يفعلون الشيء ذاته ،22وغالبية املواليد في بريطانيا (أكثر من خمسين باملائة) غير
شرعيين في عام ،2016بحسب التيليغراف Hالبريطانية ،وهناك يوميا ما معدله حوالي 83ألف طفل لقطاء ،أو
تخلى عنهم آباؤهم أو سحبتهم الدولة من آبائهم ويعيشون مع عائالت ترعاهم غير والديهم في بريطانياH
(إحصائيات ،)2016ونسبة الخيانة الزوجية في املانيا 46 Hباملائة من الرجال و 43باملائة من النساء ،وفي فرنسا
ً
21أنظر على اليوتيوب :الدكتور إياد قنيبي ،رحلة اليقين ،الحلقة 11تزييف العلم -الشذوذ الجنسي مثاال.
22بي بي سي
55باملائة من الرجال و 32باملائة من النساء ،وهناك 19.7حالة حمل من قاصر لكل ألف حالة حمل في
بريطانيا بحسب الجارديان( ،يعني تقريبا 2باملائة) ،أي أن هذه العالقات التي قامت على تحقيق الحرية
ُ
املجتمعات واأل َس َر أيما إفساد!
ِH أفسدت
كذلك لو أنك طبقت الزاوية نفسها (أي تحقيق الحرية) على مشكلة املخدرات ،ستقع في إشكال ضخم! ،ولو
طبقتها على القتل لوقعت في نتائج كارثية ،وحين تطبقها على مراعاة الحرية الشخصية في اقتناء األسلحة نتج
عنها سبعة آالف وسبعمائة وستة جرحى وألفين وخمسمائة وأربعة وتسعين قتيال بإطالق النار في الواليات
املتحدة ما بين يناير 2013ومارس ،23 2018فأين الضوابط متى تستعمل تلك الزاوية Hومتى ال تستعمل؟ ال
شيء غير األهواء!
فاألبحاث العلمية -إن قيل أنها تستعمل ضابطا لالستعمال واملنع -يمكن أن يتم تزويرها
تزوير العلم ،أو إسكات صوته كمثال
َّ
(كأمثلة :تقديس الغرب لنظرية دارون مع خطئها ،الذي أصبح من ال ُـم َسل َمات عند املحققين ،24وحربهم لفكرة
التصميم الذكي للكون ،واملجتمع العلمي في أميريكا يطرد وينبذ أي عالم ال يسلم بصحة الدارونية ،25وبالتالي
تقديس الغرب لنظريات Hالصدفة في تفسير نشوء الكون واستمراريته ،بديال عن االعتراف بأن الكون Hمخلوق
لخالق ،26مع دقة األرقام التي توصل العلماء إليها Hوالتي تحيل احتمالية الصدفة ،وذلك عبر ما يعرف بالتعيير
الدقيق ،27 ))Fine-Tuning
توجيه اإلعالم للرأي العام لقلب النظرة إلى مشاكل مثل الشذوذ وما يسمى كذبا" :تغيير الجنس ،"28مع العلمH
بخطئها وتضليلها للناس علميا،
https://www.massshootingtracker.org/data/all 23واإلحصائيات تفيد بأن الشرطة األمريكية قتلت وجرحت أكثر من خمسة وخمسين
ألف شخص في عام واحد في العام ،2012وهذا نتاج الثقافة العنصرية املوجهة ضد السود ،ونتاج التمزق في املجتمع األمريكي.
24أنظر مثال :هدم نظرية التطور في عشرين سؤاال لهارون يحيى
25أنظر فيلم املطرودون )Expelled: No Intelligence Allowed (full movie
26استفضنا في بيان وشرح ذلك األمر بدقة في كتابنا :موقف العقل والعلم من وجود من بيده ملكوت السموات واألرض الطبعة الثالثة
27من ذلك مثال أن ثابت التوسع الكوني املسمى مضاد الجاذبية Anti-Gravitational cosmological Constantمضبوط ومعير تعييرا دقيقا
بنسبة 120 10 :1بحيث لو اختلف الرقم الذي بعد الخانة العشرية 120على يسار الصفر تغيرا بسيطا الضمحل الكون .ونسبة اإللكترون
للبروتون معيرة بنسبة 37 10 :1والنسبة بين القوة الكهرومغناطيسية إلى الجاذبية معيرة بنسبة ،40 10 :1وتوسع الكون معير بنسبة 10 :1
،55والكثافة الكتلية للكون معيرة بنسبة ،59 10 :1والثابت الكوني معير بنسبة ،120 10 :1فهذه األرقام Hاملذهلة وغيرها الكثير يتم تجاوزها
باللجوء للصدفة في تفسير نشأة الكون ،وهي أكبر عملية نصب واحتيال على العقل البشري في التاريخ وقادتها هم أساطين Hالعلم الغربيين
الذين تسلطوا على نتائج العلم بسفسطائيتهم التي نتجت عن كراهيتهم للدين!
28أنظر جواب سؤال للدكتور حاتم الحاج حول عمليات تغيير الجنس وأحكام الخنثى
على الشعب أو على الصحة العامة29تدخل الدولة في نتائج األبحاث املخبرية التي تثبت خطر بعض املنتجات
فتتدخل الدولة،30 مما يضر بمصالح الطبقة الرأسمالية التي تنتج تلك السلع،أو على البيئة أو على املناخ
بل وتحرم على العلماء الحديث، أو تسكت العلماء،!لتغيير نتائج األبحاث املخبرية لتحكم بصالحية تلك املواد
!للصحافة
قيام شركات دواء بتمويل أبحاث وعدم اختبار نتيجة األبحاث، املخبرية بضغط املمولين لألبحاثHتأثر النتائج
منع العلماء والباحثين من التكلم عالنية عن نتائج أبحاثهم وإال حرمتهم الدولة من،31من قبل طرف محايد
في كندا املنشور على قناة سي بي سيH أنظر تقرير تكميم أفواه الباحثين العلميين،32وظائفهم وتقاعدهم
وغيرها يثبت بأن منطلقات الغرب الرأسمالي، وكل هذه القضايا وغيرها مثبتة ومعروفة،الكندية في الهامش
.) الخ... رأسمالية، بل هي سياسية انتخابية،براغماتية ليست علمية صرفة
:وقد يتبين خطؤها
لعقود في أرقى الدول الغربية وأفضت لنتائج ٌ
وأحكام ٌ
قوانين أخطاء علمية قاتلة قامت عليها
ٍ
!كارثية
ومن، أو البصمة، مثل فحص الدي أن إيهHومن ذلك مثال األخطاء العلمية في استعمال بينات على الجرائم
أخطاء قاتلة في نتائج االعتماد على فحوص من الطب:األمثلة على ذلك ما جاء في موقع بي بي سي اإلنجليزي
:الشرعي بنيت عليها أحكام خاطئة مثل االعتماد على البصمة والشعر والدي أن إيه وغيرها من البينات كمثال
29
If you discover something important that requires an industry or industries to rethink their practices and products، you are
guaranteed to invite a deluge of unwanted attention، and you will not have the resources to defend yourself.
The (Un)scientific method: Silencing scientists
media policies at the Occupational Safety and Health Administration and the Consumer Product Safety Commission focus on
message control rather than openness، and scientists in those agencies feel intimidated and unable to speak freely.
https://www.ucsusa.org/sites/default/files/legacy/assets/documents/scientific_integrity/Freedom-to-Speak.pdf
فيH أنظر على سبيل املثال صفحة أنشاها مدرسة كولومبيا للقانون تراقب مهاجمة الدولة في أميريكا لنتائج األبحاث العلمية بغية إسكاتها30
: متعقب إسكات العلم في الصفحات التالية:األبحاث املتعلقة بالصحة العامة وبالتغير املناخي وبالبيئة تحت اسم
New Tracker Keeps Tabs on Government Attacks on Science
أي بمعدل حالة، أي قرابة السنة،2018 فبراير27 إلى2016 حالة إسكات للعلماء منذ ديسمبر113 متعقب إسكات العلم وقد رصد
!إسكات كل خمسة أيام
31
One wonders why JAMA sets these astonishing rigid demands and what are the consequences? When an accredited journal
(where articles about diabetes are published rarely…) implements such limitations، it can only be interpreted that، in the opinion
of the editor and his/her team، the study results coming from an author bound to industry are “manipulated،” that is، show a
(massive) risk of bias. In fact، it is well known that in publications of companies their own products appear more favorably than
studies on those products that had been conducted by independent sites (“publication bias”). Concurrently، not necessarily all
results of a study will be published، but only the results that appear to be opportune، which furthermore will be accordingly
interpreted positively (“report bias”).
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2769827/
32
The issues around muzzling government scientists http://www.cbc.ca/news/technology/faq-the-issues-around-muzzling-
government-scientists-1.3079537
في حادثة اتهم فيها كيري روبنسون بجريمة نتيجة فحص دي أن إيه صرح اثنان من مكتب التحقيقات في
جورجيا أن كيري ال يمكن استثناؤه من أن تلصق به الجريمة ،وعرضت نفس األدلة على سبعة عشر محلال
غيرهم فتوصلوا لنتائج مختلفة :فقط واحد منهم وصل لنفس النتيجة ،في حين أن أربعة قالوا أن النتائج
غير كافية ،وصرح اثنا عشر منهم أنه يمكن استثناؤه من أن يكون مجرما 33وفي كندا أيضا برزت قضية
خطيرة وهي استعمال عينات من الشعر للتحقق من استعمال اآلباء أو األمهات للمخدرات واإلدمان على
الكحول ،وبالتالي عدم أهليتهم لرعاية أبنائهم ،وتم استعمال هذا الفحص على ما يزيد عن 35000شخص
وم ِن َع
حتى عام ، 2010وتم سحب خمسين طفال من بين يدي والديهم وإعطاؤهم لعائالت Hأخرى ترعاهمُ ،
الوالدان Hمن االتصال باألبناء ليتبين بعد سنوات طويلة جدا من اعتماد الفحص أن نتائجه خاطئة ،وال تصلح
أساسا ملا وضعت له ،تم التوصل لهذه الحقيقة في أواخر سنة .2017كان هذا الفحص يتم في مستشفى
لألطفال في تورونتو وغايته هو حماية األطفال من خطر إدمان الوالدين! 34فأفضى لتحطيم األسر ،وإلصاق
تهم باآلباء بعضهم منها براء ،وتشوهت سمعتهم ،وتحطمت نفسياتهم ،وانتقل األطفال لعائالت غريبة.
واألمثلة املشابهة ألخطاء الطب الشرعي أكثر من أن تجمع في كتاب واحد ،وهذه أمثلة على االعتماد على
أبحاث علمية غاية في التطور والتقدم أفضت ملثل هذه الكوارث ،فكيف باالعتماد على نظرة املحامي أو
القاضي حين يشرع ويتحرى املصلحة أو صالحية التشريع للمجتمع؟ ال شك أن النتائج Hستكون أكثر
كارثية ،وسيتبين خطأ الحكم عشرات املرات فيتغير مرة بعد مرة ،واملجتمع لديهم حقل تجارب! فأين العدل
واملساواة؟ وأين تحقيق مصالح الناس على الحقيقة؟
استعمال القوانين لجني األرباح مثاال
باملثل وجدنا املجتمعات Hالغربية عانت من مشكلة املخدرات بأشكالها زمنا طويال ،وأرادت وضع الحلول
فسمح بعضها بإقامة مراكز لحقن املخدرات تقلل من إمكانية انتقال األمراض الناتج عن تعاطي نفس اإلبر
ألكثر من شخص ،وإليجاد عالجات للجرع الزائدة Hالتي قد تقتل املتعاطي ،فالقانون تغير إلعطاء حلول
"ألعراض أمراض املجتمع" بدال من معالجة املشكلة من أساسها ،ومن ثم بدأت كثير من املجتمعات بالسماح
بتعاطي عشبة القنب الهندي( ،الحشيش ،املاريجوانا) ،بعد أن كانت محرمة قانونا ،فأضحى استعمالهاH:
قانونيا ،رغم التقارير الطبية الخطيرة ألثرها طويل األمد وقصير األمد على الناشئة والناس ،ونشأ عن هذا
التقنين سوق بمليارات الدوالرات انتفعت به فئة الرأسماليين Hأصحاب الدول املتحكمين فيها! وهكذا نطرح
السؤال نفسه :لو كان تعاطيها صحيحا متالئما مع تحقيق املقاصد املبينة أعاله ،فلماذا Hحرمتموه زمنا ،وإذا
تبين لكم حجم أخطاره وأضراره على املجتمع بعد حين ،فكيف تتداركون خطأكم؟ أين العدل؟ أين املساواة
ُ َ
بين من ُم ِن َع َها ومن ق ِّنن ْت له؟ هذا ،وال بد من ذكر أن املشرع كان يعتمد على نفس الضوابط والقواعد حين
شرع تحريم استعمال تلك املادة ،وحين شرع قانونية استعمالها ،لم يتغير واقع املادة ،ولم تتغير التقارير
الطبية التي تبين مخاطرها ،وال األخطار على املجتمع والصحة ،وال الغايات واملقاصد التشريعية Hالتي تتعلق
بخالف الشريعة اإلسالمية ،فقد عالجت مشاكل اإلنسان بصفته إنسانا ،ال باعتباره زيدا أو عمرو ،عالجا ال
يتغير مع تغير الزمان واملكان ،وسنبين هذه الكيفية الثابتة الصحيحة بعد قليل إن شاء هللا تعالى!
فهذا هو املقياس األول الذي يجب مراعاته حين سن القوانين!
ثانيا :أن يحقق القانون مصالح كل فرد بعينه ،فال يراعي مصلحة فئة من املجتمع على حساب فئة ،فيضمن
العدالة والنزاهة.
املشرع بأي مصالح شخصية ،أو مصالح فئة دون فئة من املجتمع يراعيها حين سن ُ ّ ثالثا :أن ال يتأثر
ِ
ُ َ َ ّ َ ُ
القوانين ،فيجب أن ين ِحي أهواءه (والتي سينتج عن تدخلها في القانون :اإلفساد ،والعبثية ،والظلم) وأهواء
35تاريخ الدولة اإلسالمية وتشريعها ،املستشرقة البولونية :بوجينا غيانه ستشيجفسكا ،ص.6
الرقابة على دستورية القوانين – الدكتور أحمد كمال أبو املجد ص 365مكتبة النهضة بمصر 1960م. 41
السياسة والحكم – الدكتور العمري ،ص 130ط مكتبة األنحلو املصرية. 42
45لرب قائل يقول :فما بال األحكام الشرعية ظنية في أغلبها على العالج الرباني في املسألة؟ ومن هنا كان اختالف الفقهاء Hفي تحديد حكم
هللا في املسألة الواحدة على رأيين غالبا؟ أوليس هذا فرارا من أمر إليه؟
نقول :الفرق بين ما يشرعه هللا تعالى وما يشرعه البشر حيث أن الظن يدخل في التشريع أحيانا ثالثة أمور:
أوال :مرجعية البشر ال تستند إلى مرجح بأنها قريبة من املصلحة أو أنها في غاية البعد عنها ،بينما املرجعية في التشريع االلهي يغلب الظن أنها
تفضي إليها وطاملا أن النص يحتمل فالشارع يقرر فيه أن املصلحة متحققة في كلتا الحالتين ،إذ ليس بالضرورة أن تكون املصلحة في
أحدهما دون اآلخر قطعا ،وقد قررنا سابقا أن املصلحة كل املصلحة في اتباع أمر هللا ،وليس ما يظنه البشر مصلحة إذ أننا أثبتنا من قليل
َ َ ُ َّ ُ َ ُ أْل َ ْ َ َ َ
ض َعلى أن ما يراه البشر مصلحة في وقت قد يتبين لهم أنه مفسدة ،وتذكروا هنا حديث َرا ِف ِع ْب ِن خ ِد ٍيج رضي هللا عنه قال «كنا نح ِاقل ا ر
َ َ َ ََ َ ُ ْ َ ُّ ُ َ ُّ ُ َ َّ َ مْل ُ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ٌ َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ َّ
ول الل ِه ﷺ َع ْن أ ْم ٍر كان لنا ول الل ِه ﷺ فنك ِريها ِبالثل ِث والرب ِع والطع ِام ا سمى فجاءنا ذات يو ٍم رجل من عموم ِتي فقال نهانا رس َْ َ ُ
عه ِد رس ِ
َ ُ ْ َ َ َ َ ُّ ُ َ ُّ ُ َ َّ َ مْل ُ َ َّ َ َ َ َ َ َّ أْل َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ أْل َْ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َ ً َ
ض أن يزرعها أو ض فنك ِريها على الثل ِث والرب ِع والطع ِام ا سمى وأمر رب ا ر ِ ول ِه أنفع لنا نهانا أن نح ِاقل ِبا ر ِ اعية الل ِه ورس ِ ن ِافعا وطو ِ
َ َ
ُي ْز ِر َع َها َوك ِر َه ِك َر َاء َها َو َما ِس َوى ذ ِل َك» .رواه مسلم.
ومن ثم فإن أغلب التشريع جاء في صورة املحكم فالسرقة والزنا والخمر وكل ما ثبت بالقطع أحكام تؤلف القسم الكبير من التشريع ،وقد
أطلق على قسم كبير منها مسمى :ما علم من الدين بالضرورة.
ثانيا :ثم إن التحسين من جانب البشر ال يعني أن تحسينهم قد اصاب الصواب ،فالقتل هو القتل قد يكون مستحسنا في حاالت كقتل
القاتل أو قتل العدو وقد يكون غير مستحسن إن كان بغير حق ،وقد يعتبر البعض بعقولهم Hقتل القاتل أمرا مستنكرا ،فأين القدرة على
بلوغ الصواب؟
ثالثا :الشرع ال ينظر للتشريعات من زاوية املنفعة واملضرة ،فليست املصلحة علة لألحكام تدور معها وجودا وعدما ،فال بد إذن من تحكيم
األدلة واألمارات Hالشرعية لتحقيق العبودية هلل تعالى باتباع أوامره سواء تبين لنا وجه املنفعة فيها أم لم يتبين ،فاملنفعة في اتباع الشرع ال
ون﴾ 216البقرة 232 ،البقرة 66 ،آل عمران 19 ،النور. الل ُه َي ْع َل ُم َو َأ ُنت ْم َال َت ْع َل ُم َ
ُ َ ّ
فيما تخرصه العقول القاصرة ﴿و
فزاوية التحسين والتقبيح هي من باب الكمال والجمال ،وأما زاوية الخير والشر فهي من باب النظرة
العقائدية ،أو األخالقية ،أي تسليط قيم اإلنسان على الفعل والشيء لوصفه بالخير والشر ،وأما املدح
والذم والثواب Hوالعقاب فبتسليط نتيجة القيام بالفعل والغاية املرجوة من القيام به عليه.
أ -نظرته للشيء أو للفعل( ،ما هو واقعهما؟) ،هل يظهر في واقع الفعل أو الشيء الكمال والنقص؟
ب -ومن زاوية :الحسن والقبح ،أي من خالل االعتبارات التالية:
االعتبار األول :املالءمة لطبع اإلنسان ،وللميول الفطرية لدى اإلنسان ،وألغراضه أو املنافرة لها،
والق ْبح قيل :هو منافرته كقولنا :إنقاذ الغريق حسن ،وإتهام البريء فالح ْسن قيل :هو مالءمة الطبعُ ،
ُ
ً ً
قبيح! ،وما وافق الغرض كان حسنا وما لم يوافق الغرض Hكان قبيحا ،كقتل زيد بالنسبة ألعدائه
وأوليائه فإنه باالعتبار األول حسن أى مالئم للغرض Hوباالعتبار الثاني قبيح أي غير موافق لغرضهم.
والق ْبح هو النقص كقولنا :العلم حسن ،والجهل قبيح، الح ْسن هو الكمالُ ،االعتبار الثاني :أن ُ
توجب ارتفاع شأن صاحبها والقبح كون الشيء صفة نقصان بمعنى أنها ُ كمال
بمعنى أنها صفة ٍ
توجب انحطاط شأن صاحبها املتصف بها.
الح ْسن هو استحقاق الثواب واملدحُ ،
والق ْبح استحقاق العقاب والذم. االعتبار الثالث :أن ُ
قيل بأن االعتبارين األول والثاني للعقل! ،لكن هذا وإن انطبق على بعض األفعال وبعض األشياء،
فإنه ال ينطبق على الكل ،فالعبرة كما اتضح لك من النقاش في البابين السابقين ليست ملجرد إصدار
الحكم ،أي حكم ،وإنما لصوابية الحكم ،ومقدرته على معالجة املشكلة Hمعالجة صحيحة!
أما وصف األفعال بالحسن والقبح فإنه من حيث الحكم عليها من قبل اإلنسان ،ومن حيث العقاب
ً
والثواب عليها ،فاإلنسان أعطى نفسه صالحية الحكم على الفعل بأنه حسن أو قبيح قياسا على
األشياء ،فإنه ملا وجد أنه استطاع أن يحكم على الشيء املر بأنه قبيح وعلى الشيء الحلو بأنه حسن،
وعلى الشكل البشع بأنه قبيح وعلى الشكل الجميل بأنه حسن ،رأى أنه يستطيع الحكم على الصدق
بأنه حسن وعلى الكذب بأنه قبيح ،وعلى الوفاء بأنه حسن وعلى الغدر بأنه قبيح ،فأعطى نفسه
صالحية الحكم على األفعال بأنها حسنة أو قبيحة بغض النظر عن موضوع الخير والشر فإنه ليس
ً
واردا عنده في هذه الحالة( ،أي أن البحث هنا من زاوية الحسن والقبح ال الخير والشر) ،وبناء على
حكمه هذا وضع العقوبات على الفعل القبيح ووضع املكافآت على الفعل الحسن.
فجاء التصحيح Hلهذا الحكم بأن الفعل ال يقاس على الشيء ،فإن الشيء يدرك الحس فيه املرارةH
وجد فيه شيء يحسه والحالوة والبشاعة والجمال فيمكنه أن يحكم عليه ،بخالف الفعل فإنه ال ُي َ
ً
اإلنسان حتى يحكم عليه هو بالقبح أو الحسن ،فال يتأتى أن يحكم عليه بالحسن أو القبح مطلقا من
ً
نفس الفعل (وكون الظلم مما يمدح أو يذم ليس مما يحسه اإلنسان؛ ألنه ليس شيئا يحس ،فال
َ
يمكن أن ُيعقل ،أي ال يمكن للعقل إصدار حكم عليه).
ويتم الحكم على الفعل أو الشيء باإلحساس به ،وينقل هذا اإلحساس للدماغ ليصدر الحكم عليه،
فما لم يكن الفعل أو الشيء محسوسا ،فال يمكن إصدار الحكم عليه ،فال يكفي إلصدار الحكم
على الفعل أن يشعر اإلنسان بفطرته بالنفور منه ،أو امليل له( ،فبعض العقول تميل للزنى،
ولشرب الخمر فهل يكفي ميلها دليال على صحة القيام بالفعل أو تحسينه؟ أين املقياس وأين
امليزان؟!! والفطرة قد تتأثر بعوامل خارجية مثل الثقافة ،فالغربي ال يرى "بفطرته" Hما يراه املسلم
"بفطرته" وذلك جراء تغير املوازين واألحكام جراء الثقافة الخارجية! ،وتأثير الفطرة يتفاوت في
العقول قوة وضعفا ،دقة في الفهم وضبابية! ،ثم لو سلمنا جدال بصالحية الفطرة ألن تكون مقياسا
ومصدرا لوصف الفعل بالحسن والقبح ،كما هو قولهم :العلم حسن ،والجهل قبيح ،فهاتوا بينوا لنا
كيف ستحكم الفطرة على تقبيح أو تحسين تعلم الفلسفة اإللحادية؟ أو على تقبيح أو تحسين حكم
أو قانون يتعلق بالشركات املساهمة؟) فال يتأتى للعقل الحكم عليه بالحسن أو القبح ،وبالتالي فال
يصح له الحكم على الفعل باملدح أو الذم ،فال بد أن يأخذ هذا الحكم من غيره وهو هللا تعالى .فهنا
البحث من حيث الحكم على الفعل وليس من حيث مقياسه وهنا البحث من حيث العقوبات Hعلى
األفعال واإلثابة عليها وليس من حيث اإلقدام عليها واإلحجام عنها ،ولذلك كان هناك فرق بين الخير
ً
والشر وبين الحسن والقبح ،وكانا بحثين منفصلين تماما.
ألن العقل عرضة للتفاوت واالختالف والتناقض واتباع أما وصفها من ناحية العقل وحده فباطل؛ ّ
األهواء ومراعاة مصالح جزئية أو عرضية ال يلبث أن يتبين أنها مفاسد ،إذ قياسات العقل للحسن
والقبح قد تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها بل تتفاوت وتختلف بالعصور على تعاقبها ،فإذا ترك قياس
ً قبيحا عند فئة من ّ ً
الناس وحسنا عند آخرين ،بل قد يكون الشيء القبح والحسن للعقل كان الشيء
ً ً
الواحد حسنا في عصر ،قبيحا في عصر آخر.
ً ً
دليال على ما ّ
دل عليه العقل فهو يقضي بجعل العقل حكما في الحسن والقبح ،وقد أما جعل الشرع
ً ً
بينا بطالنه ،وأما جعل العقل دليال على ما ّ ّ
دل عليه الشرع فهو يقضي بجعل العقل دليال على الحكم
الشرعي مع أن الحكم الشرعي دليله النص وليس العقل ،ومهمة العقل هي فهم الحكم الشرعي ال
ً
جعله دليال عليه .ومن هنا كان الحسن والقبح شرعيين فقط وليسا عقليين ،ليس فقط من زاوية
االعتبار الثالث بل أيضا باالعتبارين األول والثاني!.
ً
ّأوال :أن العقل قد يدرك حسن وقبح بعض األفعال أو األخالق بالضرورة والبداهة .مثال :حسن
العدل وشكر املنعم والصدق النافع ،وقبح الظلم Hوكفران املنعم والكذب الضار.
ّ ّ ً
والتأمل .مثل :حسن الصدق الضار وقبح ثانيا :أنه قد يدرك حسن وقبح بعض األفعال بالتفكر
الكذب النافعH.
ّ ّ ً
والتأمل ،وبالتالي فال ثالثا :والعقل ال يدرك حسن وقبح جملة من األفعال ال ضرورة وال بالتفكر
ّ
يكون للعقل سبيل ملعرفة حسن و قبح هذه األفعال إال عن طريق تحسين وتقبيح الشارع
كالعبادات .مثال :تحسين الشارع صوم شهر رمضان ،وتقبيحه صوم يوم عيد الفطرـ تحسين
الشارع لقتال الكفار دفاعا أو نشرا للدين وبسطا لسلطان اإلسالم ،وتقبيحه عدم إجابة النفير ،مع
وجود ما يحتج به اإلنسان للقعود مثل حر الصيف الشديد ،ووعورة مسالك الطريق كما حدث في
تبوك!
فلننظر في فعل الصدقة على الفقراء مثال ،لنرى أن الكافر إذا تصدق فإن جزاءه على أفعاله 46في
َ ً
اءه ل ْم َي ِج ْد ُه ش ْيئا
َ َ ْ َ ُ ُ َّ ْ ُ َ َ َّ َ َ ُ َ
آن ماء حتى ِإذا ج اب ِب ِقيع ٍة يحسبه الظم H َ َّ َ َ َ ُ َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َ
اآلخرة هو ﴿وال ِذين كفروا أعماله Hم كسر ٍ
اب ﴾ ( )39النور ،بينما نفس هذا الفعل من َ َ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َّ ُ َ َ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ
ووجد الله ِعنده فوفاه ِحسابه والله س ِريع ال ِحس ِ
املؤمنين يتقبله هللا تعالى ،ويجزي عليه خير الجزاء ،فما الذي جعل نفس الفعل مقبوال عند هللا من
َ ُ َ َّ َ ُ َّ َ َ ْ
ين ك َف ُروا ِب َر ِّب ِه ْم أ ْع َمال ُه ْHم ك َر َم ٍاد وعده هباء باملقابل للكفار ،وهو نفس التصرف؟ ﴿مثل ال ِذ املؤمنَّ ،
يد﴾18 الض َال ُل ْال َبع ُ وا َع َلى َش ْيء َذل َك ُه َو َّ
َّ َ ْ ُ َ َّ َ َ ُ ْ
ف ال يق ِدرون ِمما كسب اش َت َّد ْت به ّ ُ َ ْ َ ْ
ِ ٍ ِ اص ٍ الريح ِفي يو ٍم ع ِ
ِِ ِ
إبراهيم.
ال شك أن تقويم الفعل ال يكون بمجرد أنه حسن أو قبيح من منظور البشر ،بل ال بد أن يكون
حسنا أو قبيحا بمنظور الشارع ،فما حسنه الشارع فهو الحسن ،وما قبحه الشارع فهو القبيح ،وإال
كان من املفروض أن يتساوى جزاء من قام بنفس الفعل ،مسلما كان أم كافرا لوال أن الشارع
حسن الفعل بناء على إثابته عليه ،وجعل فعل الكافر بال ثواب عليه في اآلخرة.
ّإن الكذب كفعل قبيح عقال ،قد يحسن فيما لو اشتمل على مصلحة عامة ،من قبيل إنقاذ نبي من يد
وإن الصدق كفعل حسن عقال ،قد يقبح فيما لو اشتمل على مفسدة عامة من قبيل هالك نبي ظالمّ .
على يد ظالم .فلو كان الحسن و القبح ذاتيين ،ملا زال هذا الحسن والقبح ،و بالتالي فما حسن
ً
الكذب وقبح الصدق أبدا ،وملا كان املوضوع ملن الحكم في كل األفعال واألشياء ،فإننا سنجد العقل
عاجزا عن تحسين وتقبيح جل األشياء واألفعال ،فاالعتبارات الخارجية التي تكتنف الفعل تجعل
الزوايا التي يجب مراعاتها عند الحكم بالحسن أو القبح كثيرة قد ال يحيط العقل بأكثرها ،فيصدر
حكما ثم يتبين له نقص ذلك الحكم العتبارات أخرى لم يحسب لها حسابا ،فيعيد النظر وهكذا!
ثم إننا وجدنا أن الحكم ال يقتصر على فعل واحد أو شيء واحد ،بل إنه يقوم في إطار تحقيق
"مقاصد كلية" مثل كرامة اإلنسان ،ويقوم في إطار تحقيق "قيم مجتمعية" مثل بر الوالدين،
وحقوق الجار ،أو يكون جزءا من منظومة تهدف لخلق "أنظمة Hمجتمعية" مثل التكافل االجتماعي،
وهذه لها أثر كبير ،وهي كلها خارجية عن الفعل أو الشيء ،مما يعني عدم قدرة العقل على الحكم
بالحسن والقبح بمجرد "مقومات ذاتية في الفعل أو الشيء تجعل الحكم عليه واضحا ال لبس فيه"!.
ومن زاوية الخير والشر ،أي من زاوية أثرها في نظر اإلنسان ،ومن حيث اإلقدام عليها واإلحجام ت-
عنها،
فزاوية التحسين والتقبيح هي من باب الكمال والجمال ،وأما زاوية الخير والشر فهي من باب
النظرة العقائدية ،أو األخالقية ،أي تسليط قيم اإلنسان على الفعل والشيء لوصفه بالخير
والشر،
فاإلنسان أطلق على ما يضره أو ما يكرهه من األفعال بأنه شر ،وأطلق على ما ينفعه وما يحبه من
ً
األفعال بأنه خير من أثر ذلك عليه ،بغض النظر عن الحسن والقبح ،فإنه ليس واردا عنده في هذه
الحالة( ،أي الزاوية التي ينظر من خاللها هنا هي زاوية أثر قيمه في وصف الفعل ،ال زاوية كمال
46يعطيه هللا في الدنيا ذكرا حسنا وشهرة ،ورزقا واسعا ،وصحة وغير ذلك ،ولكنه ال ينال من أجر اآلخرة شيء ألنه كافر ،فعطاؤه في
الدنيا يكافؤ ويزيد على فعله ،وال يظلم ربك أحدا!
الفعل أو نقيض كماله) وبناء على هذه النظرة ُي ْق ِد ُم على الفعل ُوي ْح ِج ُم عنه ،فجاء التصحيح لهذه
ّ
النظرة بأن الفعل ال يقال إنه خير أو شر حسب الكراهية والحب أو النفع والضر ،وإنما قياس كونه
ً ً
خيرا أو شرا هو مرضاة هللا تعالى ،وتسليط القيم على ذلك الفعل لوصفه بالخير أو الشر ،وهذه
القيم تتفاوت ،وهي خارجية عن الفعل لذلك فالفعل بنفسه ال يحمل صفات الخير أو الشر ،فالقتل
هو القتل يوصف بالخير أو بالشر بما يكتنفه من عوامل خارجية ،كقتل العدو والصديق ،وبما
تسلط القيم على ذلك الفعل مثل التفريق بين قتل الذمي واملعاهد ،وبين قتل الحربي ،وبين قتل من
يسمون اليوم باملدنيين في دار الحرب وبين قتل املقاتلين في ساحة القتال ،فهذه كلها تتسلط عليها
قيم أتت من الخارج لوصف بعضها بالخير واآلخر بالشر ،وليست من ذات الفعل فتأمل!.
لذلك فالقيم هي التي يوصف من خاللها الفعل بالخيرية أو الشرية ،وهذه القيم هي عين قولنا:
الشرع هو من يحكم بالخير أو الشر ،أما القيم البشرية ،فإن جعلها أساسا للحكم بالخير أو الشر
هو دور ،وهو باطل ،ألنها هي نفسها بحاجة لتوصف بالخير أو الشر ،يعني لو فرضنا أن القيم
الرأسمالية هي التي ستسلط على الفعل لوصفه بالخير أو الشر ،وهذه القيم نتاج العقل ،وقد اتفقنا
على أن العقل ال يستطيع الحكم على الفعل بالخير أو الشر إال بتسليط قيم خارجية ،فهذه القيم
الخارجية إن أتت من العقل نفسه فهي بحاجة ملا يصفها بالخير أو الشر أو يجعلها صالحة لوصف
الفعل بالخير أو الشر ،وهذا دور والدور باطل ومستحيل! فوجب أن يؤخذ الحكم بالخير أو الشر
من الشرع ال من العقل!
ّ
فهنا البحث من حيث مقياس الخير والشر الذي تعارف الناس عليه وليس من حيث الفعل نفسه.
ألنها مجرد أفعال والحقيقة أن األعمال التي تقع من اإلنسان ،ال توصف بأنها خير أو شر لذاتهاّ ،
ً ً ّ
فقط ليس لها وصف الخير أو الشر باعتبار ذاتها ،وإنما جاء كونها خيرا أو شرا بناء على اعتبارات
ً ً ً
خارجة عن ذات األعمال ،فقتل النفس اإلنسانية ال يسمى خيرا وال شرا ،وإنما يسمى قتال فقط.
ً ً ّ ً
وكونه خيرا أو شرا إنما جاء من وصف خارج عن ،ولذلك كان قتل املحارب خيرا ،وقتل املواطن أو
ً
املعاهد أو املستأمن شرا ،فيكافأ القاتل األول ،ويعاقب القاتل الثاني ،مع أنهما عمل واحد ليس فيه
ّ
تمييز ،وإنما الخير والشر آت من العوامل Hالتي تسير اإلنسان للقيام بالعمل والغاية التي يهدف إليهاH
عينا وصف من القيام به .فالعوامل التي سيرت اإلنسان للعمل ،والغاية التي يهدف إليها Hهما اللذان ّ
العمل بالخير والشر ،سواء أحب اإلنسان أو كره ،وسواء أصابه منه نفع أو ضرر.
ََ
إذن ،فوصف الفعل بالخير أو بالشر للشرع ال للبشر ،ويصدق ذلك قول هللا تبارك وتعالى﴿ :فمن
َ َ َ َْ ْ َْ َ َ َ ََْ ْ َْ َ َ َ
ال ذ َّر ٍة ش ًّرا َي َر ُه﴾ الزلزلة ،فالحق سبحانه سيحاسب ال ذ َّر ٍة خ ْي ًرا َي َر ُه ومن يعمل ِمثق يعمل ِمثق
الناس يوم القيامة على مثقال الذر من أعمالهم بوصفها خيرا أو شر ،وهو من قرر لهم ابتداء خيرها
من شرها ،وسيحاسبهم على اتباع ما أمر واالنتهاء عما نهى ،فالوصف والحكم بالخير والشر إذن
للشرع ال للعقل.
ومن زاوية املدح على الفعل أو الذم عليه ،في الدنيا ،ومن زاوية الثواب والعقاب عليه في اآلخرة. ث-
ً
وأيضا ،فإنه لو ترك لإلنسان أن يحكم على األفعال واألشياء باملدح والذم ،الختلف الحكم باختالف
ً ً
األشخاص واألزمان ،إذ ليس في مقدور اإلنسان أن يحكم عليها حكما ثابتا ،ومن أجل ذلك يحكم
فيها هللا وليس اإلنسان ،يحكم فيها الشرع وليس العقل ،إذ ال دخل للعقل بهذا الحكم من هذه
الجهة .على أن املشاهد املحسوس ،أن اإلنسان يحكم على أشياء أنها حسنة اليوم ،ثم يحكم عليها
ً
غدا أنها قبيحة ،ويحكم على أشياء أنها قبيحة أمس ،ويحكم عليها نفسها اليوم أنها حسنة ،وبذلك
ً ً
يختلف الحكم على الشيء الواحد ،وال يكون حكما ثابتا ،فيحصل الخطأ في الحكم؛ ولذلك ال يجوز
أن يجعل الحكم باملدح والذم للعقل ،وال لإلنسان.
وال يجوز أن يجعل إصدار الحكم باملدح والذم مليول اإلنسان الفطرية؛ ألن هذه امليول تصدر
الحكم باملدح على ما يوافقها ،وبالذم على ما يخالفها ،وقد يكون ما يوافقها مما يذم ،كالزنا،
واللواط ،واستعباد الناس ،وقد يكون ما يخالفها مما يمدح ،كقتال األعداء ،والصبر على املكاره،
ً
وقول الحق في حاالت تحقق األذى البليغ .فجعل الحكم للميول واألهواء يعني جعلها مقياسا للمدح
ً ً ً ً
والذم ،وهي مقياس خاطئ قطعا؛ ولذلك كان جعل الحكم لها خطأ محضا؛ ألنه يجعل الحكم خاطئا
ً
مخالفا للواقع ،عالوة على أنه يكون الحكم باملدح والذم حسب الهوى والشهوات ،ال حسب ما يجب
أن يكون عليه؛ ولهذا ال يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها باملدح والذم .وما دام ال يجوز
للعقل أن يصدر حكمه باملدح والذم ،وال يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها باملدح والذم؛ فال
يجوز أن يجعل لإلنسان إصدار الحكم باملدح والذم ،فيكون الذي يصدر حكمه باملدح والذم هو هللا
وليس اإلنسان ،وهو الشرع وليس العقل.
وعليه فالتشريع وسن القوانين ال بد أن يكون هلل تعالى Eال لإلنسان وال للعقل! ثبت ذلك بدليل
الشرع ،وثبت ذلك بالحجة العقلية،
كيف يعالج االسالم مشاكل االنسان عالجا ال يتغير عبر الزمان واملكان
سنؤصل هنا لطريقة االسالم في معالجة املشاكل التي تعترض االنسان في الحياة عالجا جذريا وواسعا لجميع
مشاكله.
خلق هللا تعالى اإلنسان ،وخلق في كل إنسان ،نتيجة لوجود سر الحياة فيه ،خاصيات معينة ال يمكن محوها
نهائيا من هذا الكائن Hالحي ،تدفعه إلى امليل للقيام بأفعال أو امليل لإلحجام عن أفعال ،منها ما ال يمكنه إال أن
يشبعها( ،الحاجات العضوية ،كالنوم واألكل) ومنها ما لو لم يشبعها بقي قلقا( ،كالغرائز ،والتي من مظاهرها
الخوف وامليل الجنسي) فما كان جزءا من املاهية ،وال يمكن محوه وال كبته وصفناه بأنه خاصية ،ويتمثل
بالغرائز Hوالحاجات العضوية ،وما أمكن محوه أو كبته أسميناه مظهرا من مظاهر هذه الطاقة Hالحيوية.
وبالنظر إلى هذه الخاصيات واملظاهر رأينا أنها تفترق إلى طائفتين بحسب عالقتها باإلشباع ،واملؤثر الذي
يثيرها ،فالحاجات Hالعضوية تثار من الداخل عند جوعة االنسان إلى النوم أو إلى الطعام والشراب Hوما إلى
ذلك مما لو لم يقم به وصل به الحال إلى املوت ،فكان إشباعها حتميا ،وإثارتها من الداخل.
ومنها ما كان إشباعها ككل (الغريزة) وإن كان حتميا ،بمعنى أن االنسان ال بد وأن يشبع مظهرا من مظاهرها
على حساب مظهر آخر( ،الشجاعة على حساب الخوف مثال) إال أنها توجد على هيئة مظاهر يمكن تجميعها في
مجموعات ثالث ،وإشباع هذه املظاهر ليس بحتمي وال يفضي عدم إشباعها إلى املوت ،بل يمكن كبت بعض
هذه املظاهر كلية ،وهذه املجموعات الثالث Hهي:
- 1غريزة البقاء ،وهي مظاهر الخوف ،والشجاعة ،وحب التملك وحب االستطالع ،وحب الوطن ،وحب
القوم ،وحب السيادة ،وحب السيطرة وغيرها ،ترجع كلها إلى غريزة البقاء ألن هذه املظاهر Hتؤدي إلى أعمال
تخدم بقاء اإلنسان كفرد.
-2والنوع الثاني Eمن هذه املظاهر ،كامليل الجنسي ،واألمومة ،واألبوة ،وحب األبناء ،والعطف Hعلى اإلنسان،
وامليل ملساعدة املحتاجين ،وغيرها ،ترجع إلى غريزة النوع ،ألن هذه املظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء
النوع اإلنساني كنوع وليس كفرد.
-3والنوع الثالث من هذه املظاهر Hكامليل لعبادة هللا ،وامليل الحترام األبطال ،والشعور بالنقص والعجز
واالحتياج وغيرها ،ترجع إلى غريزة التدين ،ألن هذه املظاهر تدفع اإلنسان إلى البحث عن خالق قادر كامل،
ال يستند في وجوده إلى شيء ،وتستند املخلوقات في وجودها إليه ،أو إلى تقديس واحترام ما يجبر عجز
اإلنسان باحترام األبطال واملتفوقين.
والغرائز Hالثالث Hموجودة في اإلنسان ،وال يمكن القضاء عليها ،وال أن يسلبها اإلنسان من اإلنسان ،وتختلف
مظاهر الغرائز وجودا وعدما ،قوة وضعفا من شخص آلخر ،ولكن بعض مظاهر الغريزة Hالواحدة يمكن
كبتها أو محوها وإحالل أحدها محل اآلخر ،فيمكن أن يحل حب الزوجة محل حب األم ،وحب السيادة محل
حب التملك وتقديس البشر واألصنام محل عبادة هللا ،ولكن ال يمكن محو الغريزة كلها واستئصالها Hمن
ً
اإلنسان ،ألن الغريزة جزء من ماهية اإلنسان ،بينما املظهر الغريزي Hليس جزءا من ماهية اإلنسان.
وهذه كلها ال تتغير في االنسان كإنسان بين زمان ومكان ،فاالنسان في الصين يحتاج للطعام وللنوم ويقلق إن
لم يشبع غريزة النوع سواء من خالل الزواج أو العالقات غير املشروعة ،أو حنان األم ،وال يختلف هذا عن
االنسان الذي عاش في الصين أو في أميريكا منذ ألف عام أو سيأتي على الدنيا بعد ألف عام.
ويقوم اإلنسان في هذه الحياة بأفعال وسلوك تجاه األشياء التي سخرها هللا تعالى له في الكون ،بدافع من
مظهر غريزي أو دافع من حاجة عضوية لإلشباع ،وال يمكن أن يوجد أي تصرف يتصرفه أي إنسان إال
ُ ٌ ٌ ٌ
تدفع ه إلشباعها ،فعندما يأكل إنما يأكل ليشبع جوعة البطن ،وعندما يكون ووراؤه حاجة عضوية أو غريزة
متخما ويأكل املزيد فإنما يلبي رغبته في التملك النابعة من مظهر التملك في غريزة البقاء ،وعندما يتزوج فإنه
يشبع غريزة النوع ،وعندما يزني الزاني أيضا فإنه يشبع غريزة النوع إشباعا خاطئا ،بالحكم عليه من خالل
العقيدة االسالمية ،وعند لجوئه إلى هللا تعالى ليفرج كربه فإنه يشبع غريزة التدين والتقديس،
يتميز االنسان عن الحيوان في إشباعه لغرائزه وحاجاته العضوية بالعقل ،فالبهائم يهمها أن تشبع جوعاتها
ُ
شبع،
بأية طريقة كانت ،بينما يتميز االنسان عنها بأنه يعقل ،فتراه إزاء جوعة البطن مثال ينظر لالشياء التي ت ِ
فيتفكر فيها ليصل إلى مفاهيم عن هذه األشياء ،هل تشبع أم ال تشبع؟ ما هو مذاقها؟ ما الفوائد التي أرتجيها
من أكلها؟ كيف أطهوها بشكل أفضل لتحسين مذاقها Hأو تسهيل هضمها؟ وما إلى ذلك ،فتتكون لديه مفاهيم
عن األشياء إذن ،ولكنه ال يقوم باالشباع بناء على هذه املفاهيم فقط ،بل كإنسان متحضر راق ،ال بد له من
مجموعة أخرى من املفاهيم ال عالقة لها باألشياء بحد ذاتها وكونها تشبع أو ال تشبع ،هذه املفاهيم هي
مفاهيمه عن الحياة ،أي أفكاره التي وصل إليها بحل العقدة الكبرى ،والتي فسرت له الكون واالنسان والحياة
تفسيرا يجعل له وجهة نظر معينة عن الحياة ،تضبط أفكاره Hتجاه األشياء التي يريد التعامل معها ،أو أفكاره
التي ورثها من مجتمعه ،بغض النظر أكانت عقيدة بمعنى كلمة العقيدة أم لم تكن ،لكنها تتضمن قطعا Hمقياسا
ألفعاله يمنعه من أمور ويفرض عليه أمورا أخرى ،فاملسلم مثال أفضت به هذه األفكار العقدية ،إلى جعل
الحالل والحرام مقياسا ألفعاله وتصرفاته ،فيدرك أن الخنزير يشبع جوعة املعدة ولكن أفكاره عن الحياة
النابعة عن عقيدته والتي لم يصل إليها Hبالتفكر في الخنزير وال خطر له الخنزير ببال وهو يصل لهذه األفكار،
أقول هذه األفكار منعته من إشباع جوعته بهذه الطريقة ،بينما Hترى شخصا آخر يضع نصب عينيه آخر ما
توصلت إليه األبحاث العلمية ،يسمح لنفسه بأن يتناول القليل من الخمر طاملا أنها فيها منافع معينة بغض
النظر عن الضر الذي فيها ألن الزاوية التي نظر منها ال تراعي هكذا نوع من األضرار ،إذ أن نظرته إلى الحياة
مادية بحتة ،وبذا اختلف السلوك الذي سلكه املسلم عن سلوك هذا األخير تبعا ملفاهيمهما Hعن الحياة مع
أنهما يريان Hأن الخمر فيها منافع ومضار.
فالسلوك إذن يبنى على مفاهيم االنسان عن األشياء مضافا إليها مفاهيمه عن الحياة ،أي عقيدته.
مؤثرات ظنية وضرورية تؤثر على السلوك
وهناك مؤثرات Hحقيقية أو مظنونة ومقاصد تؤثر على السلوك ،ال بد من معرفة أيها يجب مراعاته ،وأيها ال
يؤثر في السلوك ،فالزمان واملكان والتقاليد واألعراف ،والعلم Hالتجريبي والتقنيات الحديثة والعمران كلها
تقوم انحراف األفكار الناتج عنّ
مؤثرات Hمتفاوتة األثر على السلوك ،لكن العقيدة التي تضبط السلوك ِ
األعراف والتقاليد ،فهي مؤثرة فيها ال تتأثر بها ،وأما املكان ،فالسهول والهضاب والجبال والتالل ال تؤثر في
األفكار التي على أساسها يتم اإلشباع ،وأما الزمان ،فإن اإلنسان هو اإلنسان ،تدفعه حاجته العضوية للنوم،
ولألكل ،فال أثر للزمان في القواعد التي يبني عليها سلوكه ،وإنما الذي يسير سلوكه هو فكره عن األشياء
وفكره عن الحياة الذي يحدد له الصواب Hمن الخطأ ،وأما العلوم التجريبية ،فإنها تخدم ضبط السلوك في
بعض األحيان ،مثل تحليل مركب كيميائي ملعرفة أثره Hعلى الشخص حين يتناوله ،فإن تحقق فيه الضرر
عليه طبقت قواعد تشريعية تمنع الضرر مثل قوله ﷺ :ال ضرر وال ضرار ،وإن تبين أن املادة التي تم تحليلهاH
مخبريا تجعل السائل خمرا يخامر العقل ،طبقت عليه قواعد الخمر ،وهكذا ،وأما التكنولوجيا فال أثر لها في
تحديد الصواب من الخطأ ،وإنما هي وسائل تسهل حياة اإلنسان ،فاملسافرة بالطائرة مسافة يوم وليلة
ستخضع بعد ذلك لضوابط املسافة الزمنية التي يسمح لها بالسفر من خاللها بدون محرم ،وإنما استفادت
بأن زادت املسافة التي يمكنها قطعها Hبالطائرة Hعن تلك التي كانت لتقطعها على الدواب ،فبدال من سفر
خمسين كيلومترا في اليوم والليلة ،ستسافر من آخر الدنيا آلخرها ،فيتلقاها في الطرف الثاني محرمها،
وهكذا ،واملسافر بالطائرة سيأكل الطعام ،تماما كما سيأكله املسافر على الجمل ،فحرام األطعمة حرام
عليهما ،ومباحها مباح عليهما ،وهكذا فاألثر إذن غير مباشر على مناط األحكام املطبقة.
فما هو أثر البيئة على السلوك؟ فوجود اإلنسان في بيئة قامت على مفاهيم معينة كالتحرر والنفعية ،تجعل
سلوك االنسان مبنيا دوما على هذه النفعية ،من هنا ترى أن االنسان املولود في البيئة املسلمة يأخذ مفاهيمه
من بيئته ،وباملثل يأخذ الغربي من مجتمعه مفاهيمه النفعية ،وعلى أساسها يسلك ،وهذا من املشاهد
املحسوس ،ويتميز الناس في مصر مثال ببعض الضوابط املختصة بسلوكهم توارثوها ال يوجد لها نظير في
الشام مثال ،وهكذا يتأثر سلوك من يعيش هنا عمن يعيش هناك!
إال أن تقنين القوانين التي تسعد االنسان وترقى به ،ووضع التشريعات التي تحل مشاكله في الحياة حال
صحيحا ينآى بسعيه في الحياة عن درك االفساد في األرض ،تجعل مثل هذه األفكار النابعة Hمن البيئة آخر ما
يمكن اللجوء إليه ،لتأثرها الشديد بالعادات Hوالتقاليد التي غالبا ما تكون بالية ويتحكم الجهل والتخلف فيها،
توارثها األبناء عن األجداد ،ولم يراعوا في ذلك صالحية حلولها ملشاكلهم ،وال كونها األصلح Hلهم في سعيهم في
الدنيا ،وعالوة على ذلك فهي من نتاج العقول التي تتناقض فيما بينها في تحديد الصالح من الفاسد ،وفي
تحديد املصلحة الحقيقية لالنسان ،وفي تحقيق العدل وإحقاق الحق ،مما يجعل التشريع املبني عليها موغال في
البعد عن الصالحية لالنسان في الدنيا ،ويجعل املفكر يتخذ من هذه األفكار أول مرمى لسهام تغييره ،وترى
باملقابل أن الغرق في وحل هذا الواقع Hالفاسد أشد مؤخر لرقي االنسان ونهضته ألن الواقع الفاسد يغير
باألفكار الجذرية االنقالبية عن الكون Hواالنسان والحياة وال مكان في هذه املجموعة من األفكار ملتوارث
أجداد األجداد مما وجدهم األبناء عليه من عادات وتقاليد.
صحيح أن البيئة تملك التأثير على السلوك إال أن التشريع Hالذي يراد به صالح البشر يجب أن ال يتأثر بالبيئة
ال من قريب وال من بعيد ،وهو املراد بحثه في هذا البحث ،مع مالحظة أن املكان Hليس هو املؤثر Hوإنما هي
األفكار املوجودة في تلك البيئة ،وهذه شأنها شأن العقيدة التي يتخذها االنسان مقياسا لسلوكه ،ولو أردنا
اتخاذها مصدرا للتشريع ،لكان علينا ونحن نعلم عاملية االسالم أن نراعي كل البيئات Hالتي على وجه األرض،
وبالتالي ال يكون أخذنا لالسالم من الوحي ولكن من البيئة وهذا دمار لإلسالم.
وأما املؤثر الحقيقي على السلوك ،فهو النظام املنبثق عن العقيدة ،أو وجهة النظر في الحياة ،فهذا يضبط
السلوك ،سواء أكانت العقيدة اإلسالمية بما تضمنه النظام املبني عليها ،أو املنبثق عنها من منظومة تشريعية
تحل وتحرم ،وتبيح وتندب وتكره ،أو كانت العقيدة النفعية عند الرأسمالي ،بمقاييسها Hوقناعاتها التي تشكل
سلوك اإلنسان تجاه األشياء والكون فيتصرف بناء عليها! وهكذا فاألثر الحقيقي على الحكم على األشياء
والضابط للسلوك هو لهذه املنظومة الفكرية!
لقد قامت الواليات املتحدة في مطلع ثالثينات القرن املنصرم بإصدار قانون صارم يحرم الخمر ،وفرضت
العقوبات الصارمة عليها ،ولم يزدد املجتمع األمريكي في الخمر إال ولوعا ،مع كل الدراسات Hالتي قدمت والتي
تبين مضارها ،وكذا حصل في االتحاد السوفياتي أيام غورباتشوف ،بينما ترى أن مليارا ونصف املليار مسلم
تحر ُمها مع بعض الشواذ القليلين عن ّ
يمتنعون عن الخمر طواعية جراء وجود مفاهيم العقيدة لديهم والتي ِ
القاعدة ،مما ينبيك أن أكبر مؤثر على السلوك هو املفاهيم عن الحياة.
غايات ومقاصد تشريعية تؤثر على الحكم الضابط للسلوك:
فإذا انتهينا من دراسة املؤثرات التي تؤثر على السوك حقيقة وظنا ،ننتقل لدراسة الغايات واملقاصد التي
يمكن أن تؤثر على سلوك اإلنسان ،ونذكر منها :جلب املصالح ،ودرء املفاسد ،ودفع الضر ،وإقامة العدل،
ومنع الظلم ،وضمانة تحقيق حقوق أساسية مثل الحفاظ على النسل والعقل والدين واملال والنفس
والكرامة اإلنسانية وحفظ األمن وحفظ الدولة ،أو تحقيق عبودية للخالق ،أو ضمانة سد حاجات ،أو تنظيم
عالقات وما شابه هذه املقاصد والغايات ،وكلها تصلح مؤثرات على الفكر التشريعي الضابط للسلوك ،وإن
تفاوتت التشريعات Hاإلسالمية والوضعية في نظرتها وتحقيقها لبعض تلك املقاصد! وقد تناولنا جانبا منها في
باب مقاصد وغايات للتشريع Hوسن القوانين ال بد من بيانها قبل اإلجابة على السؤال :ملن الحق بالتشريع؟
فراجعها.
إال أن املهم في بحثنا هذا ،هو أن اإلسالم راعى تحقيق مقاصد وغايات معينة حين شرع أحكاما معينة ،ومن
طبيعة تلك املقاصد والغايات Hأن منها ما هو مرحلي ،مثل تضييق الفجوة بين الفقراء واألغنياء في املجتمع،
فاألحكام املشروعة لذلك األمر توجد بوجود الباعث الدافع على ذلك التشريع ،فإن اغتنى املجتمع كله تعطلH
ُْ ُ َّ ُ َ ُ ُ ُ َ َّ َ
ول وتنتفي بانتفائه، الحكم إلى أن تعود الفجوة ،وهذه األحكام هي التي علل َها الشارع ِب ِعل ٍة توجد ِبوج ِ
ود املعل ِ
والنوع الثاني دائمي ،يقصد لتحقيق املقاصد والغايات Hأينما وجدت املشاكل التي نظمت Hاألحكام التشريعات
التي تسير السلوك لحلها ،فدائما Hيسعى اإلسالم إلحقاق العدل ،ومنع الظلم ،وتحقيق األمن ،وهكذا،
فالتشريع اإلسالمي إذن دائمي! منضبط بطريقة التوصل إلى القوانين من خالل استنباطها من األدلة وفقا
لقواعد أصول الفقه ،ومتكامل ،بحيث يأخذ بعضه بركاب بعض ،ليحقق املقاصد والغايات Hالتشريعية
املنضبطة!
حاالت طبيعية وحاالت استثنائية:
فإذا انتهينا من دراسة املؤثرات واملقاصد التي تؤثر على السوك حقيقة وظنا ،ننتقل لدراسة الحاالت التي
تصاحب إشباع الطاقة الحيوية ،لتضمن املعالجات Hمراعاة تلك الحاالت لتكون صالحة لكل زمان ومكان!
وإشباع هذه الطاقة الحيوية يكون في حالة طبيعية ،وفي حاالت استثنائية،
فمثال :املسافر يرخص له أن يفطر ،وأن يجمع ويقصر في الصالة ،واملريض يصلي بحسب استطاعته ،قياما
أو جلوسا أو متكئا أو حتى إيماء بالعينين ،وعند فقد املاء يلجؤ للتيمم ،واملضطر يأكل من امليتة ويشرب
الخمر ليحافظ على حياته التي شارفت على الهالك ،وهكذا ،فإن اإلسالم شرع أحكاما للحاالت الطبيعية
(عزيمة) ،وشرع أحكاما للحاالت Hاالستثنائية (رخصة) ،وهكذا.
ثبات الحكم الشرعي:
أما ما يتجدد من مطالب متعددة لإلنسان فهو ناجم عن تلك الغرائز Hوالحاجات العضوية ،وقد جاءت
الشريعة واسعة ملعالجة هذه املطالب املتجددة واملتعددة مهما تنوعت ومهما تغيرت أشكالها؛ وقد كان ذلك
ً
سببا من أسباب نمو الفقه.
لذلك فالحكم الذي سيعالج السلوك املتعلق باإلشباع سيكون حكما أو عالجا ثابتا ،ال يتغير من إنسان
إلنسان وال من زمان لزمان ،إذا ما عالج السلوك عالجا صحيحا!
وقد وضعت الشريعة Hاإلسالمية الحلول ملشاكل الناس باعتبارهم أناسا تدفعهم الطاقة الحيوية ،املتمثلة
بالغرائز Hوالحاجات العضوية ،إلشباع هذه الحاجات والغرائز ،على نحو يضمن حسن اإلشباع ،فاإلنسان إما
أن يشبع الغريزة أو الحاجة العضوية إشباعا صحيحا أو خاطئا أو شاذا أو ال يشبعها ،وكل فرد من أفراد
هذه الحاجات العضوية أو مظاهر الغريزة Hيمكن أن يشبع بأحد هذه الطرائق األربع لإلشباع ،ال يتعداها
لغيرها،
والذي يحدد أن االشباع صحيح أو خطأ هو القاعدة الفكرية التي يحكم من خاللها االنسان ،وإال فلو كان
الحكم فقط للمفاهيم عن األشياء بمعزل عن املفاهيم عن الحياة الستوى أمر الزواج Hوالزنى.
أما االشباع الشاذ ،فيرجع ألن االشباع يتم في جهة ليست محال لالشباع ،وهو ما يصرف عن النتيجة املرجوةH
في نهاية املطاف من مظهر الجنس في غريزة النوع ،وهو الحفاظ على استمرار النوع ،فهو شاذ ألنه ال يفضي
إلى استمرار النوع عادة ،فقد يحصل أن ال يفضي الزواج إلى أوالد ،ولكن العادة أنه يفضي ،لكن هذا ال
يحصل في اإلشباع الشاذ فتدبر.
نعم قد تستجد مشاكل نتيجة لسير اإلنسان في هذه الحياة ،كاالستنساخ وأطفال األنابيب ،ونقل األعضاء،
وعقود التأمين ،والشركات املساهمة ،واستعمال األسلحة النووية ،واستعمال أجهزة Hاإلنعاش الطبي ،وتنظيم
السير ،ولكن اإلسالم ّ
قع د القواعد ،ولم يترك مسألة إال ولها أمارة تدل عليها ،وقد اجتهد املجتهدون في هذه
املسائل كلها ووجدوا أدلة وأمارات عليها في الشريعة أفضت للوصول للحكم الشرعي فيها ،وهو خارج نطاق
هذا البحث!
كيف يعالج االسالم مشاكل االنسان عالجا ال يتغير عبر الزمان واملكان ،من خالل استنباط
ستة منطلقات تحليلية
الجنس ،يمكن إشباع هذا املظهر Hإما بالزواج ،أو بالزنا Hأو بالشذوذ ،أو أن ال ُ النوع غريزة
ِ مظاهر فمثال :من
ِ ِ
يشبع إطالقا بأن يعزف املرء عنه إلى مظهر آخر من مظاهر غريزة النوع ،كاالنصراف عن الزوجة إلى حنان
األم أو االنصراف عن اإلشباع الجنسي باإلخصاء أو األدوية ،هذه هي اإلمكانيات Hالتي يمكن أن يشبع هذا
املظهر لغريزة Hالنوع من خاللها ،وال يوجد أبدا غيرها ،وهنا جاءت الشريعة وبينت أن االشباع الصحيح Hال
يكون إال من خالل الزواج ،والزواج عالقة الرجل باملرأة Hاألجنبية عنه ،فيمنع زواج املحارم ،ويمنع إشباع
الغريزة Hعن طريق الشذوذ مع ذات الجنس أو مع البهائم ،ويمنع االشباع من خالل الزنا ،ويفصل االسالم
أحكام هذا كله ،فيضع عقوبة للزنا أكان الزاني متزوجا أم غير متزوج ،ويضع العقوبات على من يقوم
بالشذوذ ،ويحرم االختصاء ،وبذا يكون التشريع Hمتناوال للمشكلة من جذورها بغض النظر Hأتعلقت بزيد أم
بعبيد ،وبالتالي فكل إنسان في الدنيا يواجه دوافع تدفعه لحل مشكلة الجنس فهذه املشكلة وهذا عالجها،
ومثل هذا العالج Hال يتبدل بتبدل الزمان أو املكان Hوهو وحده الصحيح ألنه من لدن عليم خبير ،قال تعالى
﴿أال يعلم Hمن خلق؟ وهو اللطيف Hالخبير﴾!!
وباملثل ،فاالنسان دائما بحاجة إلشباع جوعة البطن ،فجاء االسالم وأباح كل األشياء التي في الكون ،واستثنى
فصل ما حرم علينا فص لها ،منها امليتة والدم ولحم الخنزير ،وما إلى ذلكَّ ، من هذه االباحة أصنافا معينة َّ
َ َ َ ُ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ ْ َّ ُ َ ْ ُ ّ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ ُ َّ َ َّ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ ُ ُ
اضط ِر ْرت ْم تفصيال شامال﴿ ،وما لكم أال تأكلوا ِمما ذ ِكر اسم الل ِه علي ِه وقد فصل لكم ما حرم عليكم ِإال ما
ين﴾ ( ،)119فحيثما حل االنسان أو ون ب َأ ْه َوائهم ب َغ ْير ع ْلم إ َّن َر َّب َك ُه َو َأ ْع َل ُم بامْل ُ ْع َتد َ
َ ْ َ َّ َ ً َّ ُ ُّ َ
ِ ِ ِإلي ِه و ِإن ك ِثيرا لي ِضل ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
ارتحل يكون الخنزير حراما عليه ويكون الخمر Hحراما عليه ،ال يتبدل وال يتأثر بزمان أو مكان.
هذا وقد راعى االسالم األحوال غير الطبيعية Hالتي يمر بها الناس ،كاملجاعات واإلشراف على الهالك ،فأباح ما
حرم علينا في حالة االضطرار إن ظن االنسان الهالك Hإن لم يأكل املحرم ،أما إن غلب على ظنه الهالك
وأشرف عليه ففرض عليه أن يأكل من املحرم ،عمال بالقاعدة الشرعية الوسيلة إلى الحرام محرمة ،وهكذا
فقد سد االسالم كل ثغرة وعالج كل وضع مصاحب لإلنسان في سيره في الحياة ،سواء أشارف على الهالك تيها
في الصحراء أم شارف عليه وهو في بيته أو في عصر الصحابة أم في قابل الزمان فالحكم ال يتغير.
وعلى الصعيد االقتصادي مثال ،بينما Hنرى املفكرين الرأسماليين ال يفرقون بين النظام االقتصادي وبين علم
االقتصاد ،فاالقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات اإلنسان ووسائل إشباعها ،فيجعلون إنتاج السلع
ً ً
والخدمات التي هي وسائل إشباع الحاجات مع توزيع هذه السلع Hوالخدمات على الحاجات Hبحثا واحدا؛ وبالتالي
يندرج لديهم توزيع السلع والخدمات في بحث إنتاج هذه السلع والخدمات.
وبناء على ذلك ينظرون إلى االقتصاد نظرة Hواحدة تشمل املادة االقتصادية وكيفية حيازتها ،دون فصل بينهما
ودون تمييز أحدهما عن اآلخر؛ أي ينظرون إلى علم االقتصاد والنظام االقتصادي نظرة Hواحدة دون فرق
ً
بينهما ،مع أن هنالك فرقا بين النظام االقتصادي وعلم االقتصاد.
ّ
فالنظام االقتصادي هو الذي يبين توزيع الثروة وتمل كها والتصرف بها وما شاكل ذلك ،وهو في بيانه هذا يسير
وفق وجهة نظر معينة في الحياة.
بخالف علم االقتصاد ،فإنه َي بحث في اإلنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها ،وهذا عالمي عند جميع
ص َل بين النظام األمم ال يختص به مبدأ دون آخر ،كسائر العلوم ،فاالسالم عند معالجته لالقتصادَ ،ف َ
االقتصادي وبين علم االقتصاد ،وبالتالي فلم يحجر على تفكير البشر في إبداعاتهم في علم االقتصاد وطريقة
تحسين االنتاج مثال ،فاختراع خط االنتاج الكمي مثال من قبل األمريكي فورد ،سرع في عملية إنتاج السيارات
وسهلها كثيرا ،فهذا األمر عالمي وليس نابعا Hمن وجهة النظر في الحياة ،وبالتالي فاالسالم يأخذه كما يأخذ
نظرية فيثاغوروس في الرياضيات Hألنها غير نابعة من وجهة النظر في الحياة فهي ليست خاصة باليونانيين.
بخالف النظام االقتصادي ،فامللكيات Hالعامة مثال ،والتعامل بالربا ،أو املعامالت Hالتي يترتب عليها حقوق مالية
ال بد من ضبطها بناء على وجهة النظر في الحياة أي على العقيدة االسالمية ،من هنا فالنظام االقتصادي
االسالمي قام بوضع قواعد تناول فيها توزيع الثروة وتملكها والتصرف بها وما شاكل بنظام ثابت ال يأتيه
الباطل من بين يديه وال من خلفه من لدن عليم خبير.
من هنا تزول الشبهة التي تدور في أذهان بعض املسلمين من موقف االسالم إزاء تقدم البشرية في األرض
علميا وصناعيا ،فاالسالم ال يحجر العقول وال يمنع االبداع في مجال األشكال املادية والصناعية والعلمية.
أما الواقع الفاسد ،فقد جاءت الشريعة لتغيره تغييرا جذريا انقالبيا ،فتعاملت مع الواقع Hال على أساس جعله
مصدر التفكير ولكن على أساس جعله محل التفكير ،فاملجتمع الغارق في الفساد ،لم تأت الشريعة لتلتقي
ون اَل َأ ْع ُب ُد َما َت ْع ُب ُدونَ ﴿ق ْل َيا َأ ُّي َها ْال َكاف ُر َ
ُ
معه في منطقة الوسط ،بل فاصلت الجاهلية مفاصلة تامة ،منطقها:
ِ
َّ َ َ ُ َ أْل َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ُّ َ ْ َ ُ ْ َ َ اَل َ ُ ْ َ ُ َ َ
ون َما أ ْع ُب ُد ﴾ ،الكافرون ،ومنطقها﴿ :ول ِو اتبع الحق أهواءهم لفسد ِت السماوات وا رض ومن
َ َ ُ ْ َ و أنتم ع ِابد
َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ ْ ْ َُ ْ َ ْ ََ
ِف ِيه َّن َب ْل أت ْي َناهمِ Hب ِذك ِر ِهم فهم عن ِذك ِر ِهم مع ِرضون﴾ ،املؤمنون ،ومنطقها﴿ :و ِإن كادوا ليف ِتنونك ع ِن ال ِذي
َ ُ ْ ُّ ُ
َ ً َ ً َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ً َّ َّ َ ُ َ َ ً َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َ َ
دت ت ْرك ُن ِإل ْي ِه ْم ش ْيئا ق ِليال﴾، اك لق ْد ِك أوحينا ِإليك ِلتفت ِري علينا غيره و ِإذا التخذوك خ ِليال ولوال أن ثبتن
اس َتط ْع ُت﴾ 88هود.
َ صال َح َما ْ َ ﴿و َما ُأر ُيد َأ ْن ُأ َخال َف ُك ْم إ َلى َما َأ ْن َه ُاك ْم َع ْن ُه إ ْن ُأر ُيد إال اإل ْ
َّ االسراء ،ومنطقهاَ :
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
وهنا نجد أن االسالم ليس بمسؤول عن كل املشاكل التي نتجت عن تطبيق غيره سواء االشتراكية أو
الرأسمالية ،فاالسالم ليس بمسؤول عن إيجاد حل مرحلي ملشكلة فرض التأمين على املسلمين إجباريا مع أنه
يتناقض مع شريعتهم ،وليس بمسئول عن إيجاد حل مرحلي ملشكلة الفقر التي ألجأت بعض املسلمين Hإلى
الربا ،فلو كان االسالم مطبقا ملنع التأمين وملنع الربا Hوملحا الفقر ،فهو ال يتخذ الواقع Hمصدرا للتفكير بل
َ
الواقع بمفاهيمه الجذرية االنقالبية فيمحو الكفر ويضع االسالم موضع التطبيق فورا. َH ُيغ ِّي ُر
كذلك فإن االسالم راعى في تشريعه تحقيق العبودية هلل وحده ،فاالنسان الذي يقنن لغيره إنما Hينصب نفسه
إلها من دون هللا ،وبالتالي فاالسالم هو إخراج للعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العاملين ،وهنا تجد بعض
التشريعات Hإنما جاءت لتختبر طاعة العباد لربهم بغض النظر Hأصطدمت مع مصالحهم اآلنية ونظرتهم
الضيقة لألمور أم توافقت معها ،فالغربي يبحث عن علة لتحريم الخنزير ،فال يجد ،ومقياسه النفعية وبالتالي
ال يقف على حقيقة تحقيق العبودية لرب العاملين ،وهي من أهم مطالب الشرع ،فالتزام ما أمر هللا ورسوله
ُ
فيه تحقيق العبودية هلل وحده وفيه تسليم له تعالى بأنه أحق بالحاكمية ،وأنه وحده العليم بما يصلح للبشر
وما ُيصلحهم.
وأخيرا فقد منح الشريعة ما ال يوجد في غيرها من التشريعات ،فقد جعلها مقاييس مبنية على االعتقاد،
فكانت وازعا عقديا يزع االنسان لاللتزام بها مخافة هللا ،ومحبة في هللا ،ورجاء في جنب هللا ،مما يجعل
االنسان ليس بحاجة إلى قوة مسلطة عليه لتردعه ليلتزم القانون ،بل تجعله يخضع لسلطان هللا في السر
والعلن ،فال يرى االفالت من عقوبة الحاكم في الدنيا غنيمة وال مكسبا ،فهو يعلم أن هللا يراقبه ،ولكنها أيضا
وضعت العقوبة الحكيمة املناسبة للمخالفة لهذه األوامر ،فكانت Hالعقوبات Hزواجر جوابر ،تردع من تسول
له نفسه التهاون في تنفيذ أوامر هللا تعالى.
فهذه أمثلة ستة تضع خطوطا عريضة لطريقة االسالم في عالج املشاكل ،وهي :أن االسالم عالج املشاكل
عالجا جذريا متعلقا بجنس االنسان ،وثانيها أنه راعى الظروف غير االعتيادية والتي يظهر فيها اضطرار املسلم
ملا حرم عليه من مأكل ومشرب ،وثالثها :تعلق نظام االسالم بأمور معينة هي ما نبع من وجهة النظر Hفي الحياة،
وما يدخل في مفهوم الحضارة ،وأما الجانب املتعلق باملدنية فقد تركه لالنسان يبدع فيه كيف شاء ،ورابعها
أنه لم يجعل الواقع مصدر تفكيره ولكن محل تفكير من أجل تغييره باملفاهيم الصحيحة ال االلتقاء معه في
منتصف الطريق ،وخامسها تحقيق العبودية هلل وحده سبحانه ألنه الحاكم وحده ،وسادسها أنه وضع آلية
لتطبيقها وتنفيذها تضمن التنفيذ الذاتي لها في غياب السلطان ،ولكنها أيضا وضعت العقوبات الزواجر
الجوابر للخارجين عليها لتضمن حسن تطبيقها.
لقد اختلف االسالم في طريقته في حل املشاكل كليا عن القوانين الوضعية ،فقد كان حال مخالفا للتشريع
الذي يحل مشاكل الناس باعتبارهم فالنا أو عالنا ،يريد هذا تقنينا يبيح له الزنا وذاك يبيح له الخمر،
التشريع على كيف الشارعين أو املحسوبين عليهم من أرباب الصناعات ورأس املال ،أو على أساس ُH َّ
فيفص ُل
املحسوبيات والنفعيات واألهواء مما يجعل التشريع قاصرا عن الصمود أياما عالوة على أن يصلح للبشرية
في رحلة الحياة الدنيا.
ولقد تناولت الشريعة االسالمية مشاكل االنسان لتنظم سلوكه ،فراعت التحقق من أن يكون الحل هو
الحسن وما سواه هو القبيح على الحقيقة ،ولقد راعت إحقاق الحق والعدل ،وضمنت أن يؤدي السلوك إلى
إعمار األرض بالعمل الصالح ال العيث في األرض فسادا ،فكان الشرع متجنبا األهواء واملصالح اآلنية
الضيقة ،راقيا باالنسان عن درجة البهيمية Hفي إشباع غرائزه Hوحاجاته العضوية ،مراعيا إنسانيته وعقله،
ً
محققا مصلحته على الحقيقة ال على التخريص ،رحمة لسائر الناس ،مبنيا على نظرة صحيحة للكون
متوافقة مع الفطرة.
ٍ مبنية على العقل
ٍ صحيح للعقدة الكبرى
ٍH حل
قائمة على ٍ
ٍ واالنسان والحياة
وعلى صعيد آخر في البحث ،فإن الشريعة Hاالسالمية جاءت باللغة العربية ،فوسعت عالج املشاكل التي كانت
في زمن املصطفى ﷺ ،والتي ستطرأ إلى يوم الدين ،فقد أكمل هللا الدين ،وهذا محور له بحثه الطويل ،وقد
تناولنا بالبحث والتأصيل لهذه املوضوعات في كتابنا :ال يصلح اإلنسان في أي زمان أو مكان إال باإلسالم،
فراجعه ففيه تكملة واستقصاء لألبحاث املتعلقة بهذا املوضوع.
من خصائص التشريع اإلسالمي ومقوماته:
وبالنظر املتفحص نجد للتشريع اإلسالمي الخصائص واملقومات التالية:
وا َما ُأنزلَ َّ ُ ْ
يتميز التشريع اإلسالمي وأنظمة اإلسالم بالربانية( Eالربانية من حيث مصدره﴿ ،ات ِبع )1
ِ ُ َ
ْ ُ ُ َّ َ َ ً َ
وا من ُدونه أ ْول َياء قليال َّما تذك ُر َ ْ َّ َ َ ُ ُ َ
ون﴾ ( )3األعراف﴿ ،ق ْل ِإ َّن َما أ ِنذ ُركم ِبال َو ْح ِي ِ ِِ ِ
ُ ْ ّ ّ ْ َ
ِإليكم ِمن َّر ِبكم وال تت ِبع ِ H
ُ نذ ُر ََ اَل َ ْ َ ُ ُّ ُّ ُّ َ َ َ ُ َ
ون﴾ ()45األنبياء ،وربانية الغاية والوجهة والقصد ﴿ق ْل ِإ َّن و يسمع الصم الدعاء ِإذا ما ي
َ ّ َ ّ ْ َ مَل ص َال ِتي َو ُن ُس ِكي َو َم ْح َي َ
اي َو َم َما ِتي ِلل ِه ر ِب العا ِ ين﴾ 162األنعام) .وهذا يفضي إلى َ
أ) صحة التشريع ،فهو صادر عن حكيم عليم لطيف خبير،
ب) وللعصمة من التناقض واالختالفات والنقص والخلل والعبثية وامتناع وجود الخطأ التي
نجدها في التشريعات Hالبشرية،
ت) ولضمانة أن يؤدي السلوك إلى إعمار األرض بالعمل الصالح ال العيث في األرض فسادا،
فكان الشرع متجنبا األهواء واملصالح اآلنية الضيقة ،راقيا باالنسان عن درجة البهيمية Hفي
إشباع غرائزه وحاجاته العضوية ،مراعيا إنسانيته وعقله ،محققا مصلحته على الحقيقة
ً
ال على التخريص ،رحمة لسائر الناس ،مبنيا على نظرة صحيحة للكون Hواالنسان والحياة
متوافقة مع الفطرة.
ٍ مبنية على العقل ٍ صحيح للعقدة الكبرى ٍ حلقائمة على ٍ ٍ
ث) واملوضوعية املتمثلة في البراءة من التحيز والهوى وامليل مع األهواء واملصالح فال يحابي
47
أحدا على أحد ،فالناس سواسية كأسنان املشط ،ال فضل لعربي على أعجمي وال أبيض
ألسود إال بالتقوى ،وللمرأة Hأحكام تناسب أنوثتها ،وللرجل أحكام تناسب أصل خلقته،
47ومن األمثلة الرائعة على ذلك في التاريخ اإلسالمي فتوى اإلمام Hاألوزاعي للخليفة األموي بعدم جواز قتل الرهائن وهم أشخاص أخذهم
ً
املسلمون من الروم ضمانا لعدم غدر قومهم - Hوكانت العادة العامة املتبعة أن تقتل الرهائن إذا غدر قومهم -فلما غدر الروم وهم
الخليفة بقتل الرهائن عارضه اإلمام Hاألوزاعي ونادى به أنه اليحل قتلهم في شريعة اإلسالم وقانونه ،ألن هللا تعالى قد منع أن يؤاخذ أحد
من الناس بجريرة غيره ،وقرر أالتزر وازرة وزر أخرى ،فإذا غدر الروم فإن ذنبهم اليسري إلى رهائنهم التي أخذناها منهم ،وقد نزل الخليفة
على فتوى اإلمام Hاألوزاعي هذه.
ً
ومن األمثلة الرائعة أيضا التي دوى بها التاريخ حادثة محمد بن عمرو بن العاص فاتح مصر وأميرها عندما سبقه قبطي نصراني في حلبة
سباق فضربه محمد بن عمرو بقضيب وقال أتسبق ابن األكرمين؟! Hفلما اشتكى القبطي إلى عمر بن الخطاب أمير املؤمنين في املدينة أحضر
ً ً ً
محمدا وأباه عمرا من مصر بعد أن حقق وثبت لديه الحادثة وقال ملحمد :متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! ثم أمر
ً
القبطي النصراني أن يضرب محمد بن عمرو في املجلس ثم أمره أن يضرب أيضا أباه عمرو أمير مصر فلما امتنع القبطي عن ضربه قال:
إنما ضربك بسلطان أبيه ،أنظر :الدكتور مصطفى الزرقا ،خصائص التشريع اإلسالمي.
ولهما معا أحكام خوطبا فيها ال أثر فيها للجنس ،وأنها شريعة ممكنة التطبيق وليست
خيالية!
ج) وللتشريع الرباني بعد آخر وهو النفاذ إلى أعماق املشكالت املختلفة ،وما يؤثر فيها ،وما
يتأثر بها ،والنظر إليها Hنظرة محيطة مستوعبة ،مبنية على معرفة النفس اإلنسانية،
وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وأشواقها ،ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها،
ح) وربط التشريع بالقيم الدينية واألخالقية ،بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها ،وال
يكون معوال لهدمها.
والشمول والسعة والثبات والتجدد وعدم املرونة وعدم التطور (سعة التشريع اإلسالمي )2
واستيعابه ملشاكل اإلنسان ،فقد عالج اإلسالم املشاكل عالجا جذريا متعلقا بجنس اإلنسان ،ال
عالجا متعلقا بزيد أو عبيد ،وراعى في العالج Hزاوية تعلق العالج باألفعال ،وأنزل األحكام على
الوقائع ،وتميز التشريع اإلسالمي "بالغنى بالنظريات Hالقانونية في تنظيم الحقوق وااللتزامات
ُ
ومصالح املجتمع بصورة شملت كل ش َع ِب القانون املعروفة Hإلى اليوم مبتدئة من عالقة اإلنسان
بأسرته من أحكام الزواج إلى امليراث Hومابينهما ،وتنتهي بأحكام القانون الدولي املنظم لعالقة الدولة
ً ً
اإلسالمية بغيرها من األمم والدول سلما وحربا .كل ذلك نظمه النظام القانوني في الشريعة
اإلسالمية بأعدل القواعد ،وأحكم األحكام ،وأسمى املبادئ وأخلدها وأكثرها رعاية للمثل اإلنسانية
48 ً
العليا ،وتطعيما للعنصر القانوني بالعنصر الخلقي"
ولهذا فالتشريع Hاإلسالمي هو أدلة إجمالية ،وقواعد عامة ،وتعاريف شرعية ،وأحكام كلية أو
ّ
جزئية ،ينطبق على كل أفعال اإلنسان املتجددة واملتعددة مهما تنوعت واختلفت ،إال أن هذه السعة
في الشريعة ال تعني أنها مرنة بحيث تكون منطبقة على كل شيء ولو ناقضها ،وال تعني ّأنها متطورة
بحيث تتبدل مع الزمن ،بل يعني اتساع النصوص الستنباط أحكام متعددة ،ويعني اتساع األحكام
النطباقها Hعلى مسائل كثيرة.
َ
صحيح أن اإلسالم جاء بخطوط عريضة أي معان عامة وترك للعقل البشري أن يستنبط من هذه
املعاني العامة األحكام الشرعية للمشاكل املتجددة كل يوم واملتعددة بتعدد الوقائع ،ولكن ذلك ال
ّ
يعني أن هذا مرونة وتطور فيمكن املرء أن يأخذ أي حكم يريده منها ،ألنها ال تعطي إال ما فيها مما
دل عليه اللفظ أو املعنى الذي دل عليه معنى اللفظ وال يعطي ما ال ُيفهم داللة في إحدى الدالالت
املعتب رة ،فاالستنباط من األدلة ،أي االجتهاد ،يكون باستنباط ما في النص من منطوق أو مفهوم ،أو َ
48الدكتور مصطفى Hالزرقا ،خصائص التشريع اإلسالمي ،شر في العدد الرابع عشر من مجلة الوعي اإلسالمي السنة الثانية صفر 1386هـ
21مايو 1966
من داللة النص ،وفق الدالالت الثالث املعروفة ،49أو بمعقول النص أي العلة الشرعية الواردة فيه
ال غير.
وكذلك ال يعني أن هذه املعاني العامة تساير كل عصر وكل زمن بل يعني أن كل عصر وكل زمن يجد
حلول املشاكل التي تحصل فيه في هذه الخطوط العريضة حسب وجهة النظر التي فيها وحسب ما
يدل عليه منطوق ُج ملها أو مفهومها أو دالالتها أو عللها ،ال حسب العصر والزمن من وجهة نظر أو
حسب ما يسود في العصر من معالجات وأحكام.
فهذا االتساع بالنصوص الستنباط أحكام متعددة ،واالتساع باألحكام النطباقها Hعلى مسائل كثيرة،
هو الذي جعل الشريعة اإلسالمية وافية بمعالجة كافة مشاكل الحياة في كل زمان ومكان وكل ّأمة
ً
وجيل وهو ليس مرونة وال تطورا.
وكون املعالجات قد ارتبطت بأفعال اإلنسان ،وكونها تتعلق بالوقائع ،فلكل واقعة حكم ثابت ،فواقع
الزنا غير واقع التقبيل ،وغير واقع اللمس وغير واقع النظر فلكل حكم وعقوبة ،فاألحكام تتميز
بالثبات)
والعاملية (فهو منهج لإلنسان في كل زمان ومكان ،ليس خاصا بأمة بعينها ،فهو منهج هداية ورحمة )3
للعاملين)،
والتوازن "التوازن بين الحقوق الفردية واملصلحة العامة والحق العام ،ويتجلى ذلك مثال في منع )4
التعسف في استعمال الحق الخاص ،وفي منع االحتكار في التجارة " و"الدقة املتناهية في بناء األحكام
حتى لكأن الدارس الباحث في مسائل الفقه اإلسالمي وآراء الفقهاء ونظرياتهم يشعر كأنما هو أمام
ميزان حساس يوزن به األملاس ،وتظهر به الفروق بين املتشابهات Hمهما دقت وغمضت"،50
والعدل واإلنصاف ،ومن أمثلته قاعدة لهم ما لنا من اإلنصاف وعليهم ما علينا من االنتصاف ،أي )5
أهل الذمة ورعايا الدولة من غير املسلمين ،ومن أمثلته أنه وضع العقوبة الحكيمة املناسبة
للمخالفة ألوامره وتشريعاته ،فقطع يد السارق مناسب لحجم جريمته ،فكانت Hالعقوبات Hزواجر
جوابر ،تردع وتزجر من تسول له نفسه التهاون Hفي تنفيذ أوامر هللا تعالى ،وتجبر ذنب املذنب
بالعقوبة الدنيوية.
التيسير ورفع الحرج ،ال ريب أن الدين بطبيعته وأحكامه يسر ،وأنه لم يأت ليجعل على املسلمينH )6
حرج ،وهذا في ذات الدين ،أي في ذات األحكام الشرعية ،فمثال الصالة يسر ،فهي خمسة أوقات ال
َ
خمسين ،والحج مرة في العمر ،وكفارة َمن َواق َع في رمضان على الترتيب منوطة باالستطاعة :تحرير
رقبة فصيام شهرين متتابعين ،فإطعام ستين مسكينا ،وهذا كله من رحمة هللا ومن تيسيره على
عباده ،أما لو جاء مفت ورأى أن الناس يستثقلون من الصالة وأفتى بقصرها على ثالث من باب رفع
49دالالت األلفاظ ثالثة أنواع :داللة املطابقة ،وداللة التضمن ،وداللة االلتزام ،وداللة املطابقة Hوداللة التضمن تتعلقان بالصيغ والصور
التركيبية للجمل ،أما داللة االلتزام فتتعلق بالخطاب وإشارته واشتماله على العلل ،وبفحوى الخطاب أو لحن الخطاب وهو مفهومH
املوافقة ،أو دليل الخطاب وهو مفهوم املخالفة H،وداللة االلتزام على خمسة أضرب :أولها داللة االقتضاء H،وثانيها :إشارة اللفظ ،وثالثها:
التنبيه واإليماء ،ورابعها فهم غير املنطوق من املنطوق بداللة سياق الكالم ومقصوده ،وخامسها :املفهوم ويسمى دليل الخطاب ،راجع:
االستدالل بالظني في العقيدة لألستاذ فتحي سليم ،فصل :الدالالت وأنواعها.
50الدكتور مصطفى Hالزرقا ،خصائص التشريع اإلسالمي
الحرج أو التيسير ،أو أفتى بأن ينتقل املرء في كفارته من صيام الشهرين املتتابعين إلى اإلطعام وهو
قادر ،بحجة التيسير ،فإنه يكون قد حرف الدين واتخذ نفسه مشرعا من دون هللا ،ويكون في
الوقت نفسه قد أقر بأن الحكم الشرعي املستنبط من األدلة التفصيلية يسبب الحرج ،فيناقض
نص القرآن بأن هللا ما جعل علينا في الدين من حرج ،فيقع فيما يفر منه .يقول رب العزة Hسبحانه:
َ َ ّ ُ َّ َ ً َّ ُ ْ َ َّ ُ ْ
﴿ ُي ِر ُيد ٱلل ُه ِبك ُم ٱل ُي ْس َر َوال ُي ِر ُيد ِبك ُم ٱل ُع ْس َر ﴾ البقرة ،185وقال ﴿ال ُيك ِلف ٱلل ُه ن ْفسا ِإال ُو ْس َع َها﴾
َ ْ َ ْ َ ََ ْ َ َ َ َ َ ََ
﴿مآ أن َزل َنا َعل ْي َك ٱل ُق ْر َء َان ِلتشق ٰى﴾ أي تنهك ٱلد ِين ِم ْن َح َر ٍج﴾ الحج ،78وقالكم فى ّ
﴿ وما جع َل عل ْي ْ ِ ِ
نفسك بالعبادة وتذيقها املشقة الفادحة.
تميزت الشريعة بما ال يوجد في غيرها من التشريعات ،فقد جعلها اإلسالم مقاييس مبنية على )7
االعتقاد ،فكانت وازعا عقديا يزع االنسان لاللتزام بها مخافة هللا ،ومحبة في هللا ،ورجاء في جنب
هللا ،مما يجعل االنسان ليس بحاجة إلى قوة مصلتة عليه لتردعه ليلتزم القانون ،بل تجعله يخضع
لسلطان هللا في السر والعلن ،فال يرى االفالت من عقوبة الحاكم في الدنيا غنيمة وال مكسبا ،فهو
يعلم أن هللا يراقبه ،وعقوباتها دنيوية وأخروية.
تميزت الشريعة اإلسالمية بوضع معالجات تناسب الوضع Hالطبيعي لإلنسان ووضعت املعالجات )8
للظروف االستثنائية واألحوال غير الطبيعية Eالتي يمر بها اإلنسان ،كاملجاعات واالشراف على
الهالك ،فأباح ما حرم علينا في حالة االضطرار إن ظن االنسان الهالك Hإن لم يأكل املحرم ،أما إن
غلب على ظنه الهالك وأشرف عليه ففرض عليه أن يأكل من املحرم ،عمال بالقاعدة الشرعية
الوسيلة إلى الحرام محرمة ،ويصلي القادر املستطيع قائما ،فإذا مرض فيصلي حسب استطاعته،
حتى يصل إلى إمكانية الصالة باإليماء باألعين! ،وهكذا فقد سد االسالم كل ثغرة وعالج كل وضع
مصاحب لالنسان في سيره في الحياة ،سواء أشارف على الهالك تيها في الصحراء أم شارف عليه وهو
في بيته أو في عصر الصحابة Hأم في قابل الزمان فالحكم ال يتغير.
وإفضائها لتحقيق مقاصد وغايات معينة، )9
التكافل االجتماعي مثاال لشمولية وتكامل األحكام لبناء نظام مجتمعي صالح
وحين ننظر إلى مجموعة القوانين الناظمة لعالقات Hاملجتمع ،ال بد أن نجد التكامل فيها ،وأن يظهر فيها ُ
البعد
املجتمعي ،فمثال في اإلسالم تجد قوانين وتشريعات تفضي إلىى تحقيق نظام التكافل االجتماعي ،فعلى صعيد
األسرة يتحمل الزوجان املسئولية املشتركة في القيام بالواجبات Hكل بحسب ما فطر عليه ،وما يستطيع،
«والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ،واملرأة Hراعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها» وحفظ لكل
َ َ َّ مْل َ ْ َ َّ ْ َّ
وف﴾ [البقرة ،]228 :وللرجل مسئوليات اإلنفاق حتى من الزوجين حقوقهما﴿ :ل ُهن ِمث ُل ال ِذي عل ْي ِهن ِبا ع ُر ِ
على املطلقة طوال فترة العدة ،ولألطفال حق الرعاية Hوالتربية ،وعليهم واجب البر للوالدين ،إلى غير ذلك من
التكافل داخل األسرة ،ثم التكافل Hداخل الجماعة فاألفراد مسئولون عن النصح واألمر باملعروف والنهي عن
املنكر للحفاظ على قيم املجتمع ،ومازج بين املصلحة الفردية واملصلحة العامة ،بحيث يكون تحقيق املصلحة
ً ً
الخاصة مكمال للمصلحة العامة ،وتحقيق املصلحة العامة متضمنا ملصلحة الفرد ،فالفرد في املجتمع املسلم
ً
مسئول تضامنيا عن حفظ النظام العام ،وعن التصرف الذي يمكن أن يسيء إلى املجتمع ،أو يعطل بعض
مْل ُ َ
وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا نك ِر ض ُه ْم َأ ْول َي ُاء َب ْع َ ْ ُ َ مْل َ ْ ون َوامْل ُ ْؤم َن ُ
ات َب ْع ُ ﴿وامْل ُ ْؤم ُن َ
مصالحه ،قال هللا تعالىَ :
ض يأم ُرون ِبا ع ُر ِ ٍ ِ ِ ِ
َ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َ َّ َ َ َ ُ ُ َ ّ َ َ َ ُ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ ُ ُ ّ ُ َّ ّ
الل َه َعز ٌيز َح ِك ٌ
يم﴾ [التوبة: ِ وي ِقيمون الصالة ويؤتون الزكاة وي ِطيعون الله ورسوله أولـ ِئك سيرحمهم الله ِإن
ً ً
،]71كما أن الفرد مأمور بإجادة أدائه االجتماعي بأن يكون وجوده فعاال ومؤثرا في املجتمع الذي يعيش فيه
ّ َ ْ ّ ْ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ ّ َ َّ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ
اإلث ِم َوال ُع ْد َو ِان َو َّات ُقوا الل َه ِإ َّن الل َه ش ِد ُيد وا على ال ِبر والتقوى وال تعاونوا على ِ قال هللا تعالى﴿ :وتعاون H
ً ْ َ
اب﴾ [املائدة .]2 :وقال رسول هللا ﷺ« :املؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ،وقد بين الرسول ﷺ ال ِعق ِ
حال أفراد املجتمع في تماسكهم وتكافلهم Hبصورة تمثيلية رائعة حيث قال ﷺ« :مثل املؤمنين في توادهم
وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» من جانب آخر
َ َ
﴿يا أ ُّي َها فإن الجماعة أيضا مسئولة عن حفظ حرمات الفرد وكفالة حقوقه وحرياته الخاصة ،قال هللا تعالى:
َّ َ َ ُ اَل َ ْ َ ْ َ ٌ ّ َ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ ْ ً ّ ْ ُ ْ َ اَل َ ٌ ّ ّ َ َ َ َ َ ُ َّ َ ْ ً ّ ْ ُ َّ َ اَل
ال ِذين آمنوا يسخر قوم ِمن قو ٍم عسى أن يكونوا Hخيرا ِمنهم و ِنساء ِمن ِنس ٍاء عسى أن يكن خيرا ِمنهن و
الظا ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ُ ُ َ ْ َ إْل َ َ َ َّ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َّ َ ْ ُ َ ُ َ ُ ْ َ اَل َ َ َ ُ أْل َ ْ َ
ون * َيا االسم الفسوق بعد ا ِ يم ِان ومن لم يتب فأول ِئك هم َ مِل اب ِبئس ِ َتل ِمزوا أنفسكم و تنابزوا ِبا لق ِ
ً ُّ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َ ً ّ َ َّ ّ َّ َ ْ َ َّ ّ ْ ٌ َ اَل َ َ َّ ُ َ اَل َ ْ َ َّ ْ ُ ُ
ضكم َب ْعضا أ ُي ِح ُّب أيها ال ِذين آمنوا اجت ِنبوا ك ِثيرا ِمن الظ ِن ِإن بعض الظ ِن ِإثم و تجسسوا و يغتب بع
يم﴾ [الحجرات .]12 -11 :وقد صور اب َّر ِح ٌ َّ َ َّ َّ
الل َه َت َّو ٌ وه َو َّات ُقوا الله ِإنَأ َح ُد ُك ْم َأن َي ْأ ُك َل َل ْح َم َأخيه َم ْي ًتا َف َكر ْه ُت ُم ُ
ِ ِ ِ
الرسول ﷺ هذه الصورة التكافلية في مثال رائع بقوله ﷺ« :مثل القائم على حدود هللا والواقع Hفيها كمثل
قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها ،فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من املاء
ً
مروا على من فوقهم ،فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ،فإن يتركوهم وما أرادوا
ً ً
هلكوا جميعا ،وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» ومن أحكام التكافل Hاالجتماعي األحكام املتعلقة
بكفالة كبار السن ،وكفالة األيتام والصغار ،وكفالة الفقراء واملساكين ،والشيوخ واملطلقات Hواألرامل،
ورعاية اللقيط ،واملنكوبين واملكروبين ،ورعاية حق الجار ،وحقوق الضيف والغريب ،وابن السبيل ،وغيرها،
وألجل تحقيق ذلك قام اإلسالم بفرض الزكاة ،والكفارات ،والصدقات ،وإسعاف املحتاج ،وإغاثة امللهوف،
والوقف ،والوصية ،والعارية ،وعلى الدولة مسؤوليات رعوية ،فهذه نبذة سريعة غير جامعة لكل أحكام
التكافل االجتماعي في اإلسالم ،ولكنها تعطيك ملحة عن هذا النظام وكيف أن األحكام الجزئية تصب في إقامة
نظام شامل ،وكيف يقوم اإلسالم بعالج املشاكل في إطار تحقيق مظومات قيمية مجتمعية تسعد اإلنسان
وتقيم املجتمعات Hعلى أسس من التكافل والتراحم واملسئوليات املفضية لرقي تلك املجتمعات Hونهضتها!
وباملقابل :كيف تخبطت العلمانية Eفي عالج مشاكل اإلنسان؟
ثم إن العلمانية ،قامت على أساس فصل الدين عن الدولة ،ثم تطورت لتصبح فصل الدين والقيم واألخالق
عن الحياة ،فال بد للمشرع مثال ،أو للفكر الذي يراد له أن يسود العالقات املجتمعية ،أن يكون مبنيا على
أساس أن يزيل من فكره وهو يحكم على قضية ما أي تأثر بقيم مصدرها الدين أو األخالق أو العادات ،أو
ما شابه ،ليصل إلى ما يسمى الخلو من القيم ،value free ،51فهذا الخلو من القيم ضمانة ألن تكون العلمانية
محايدة ،فالتشريعات محايدة ،والعلم محايد ،والعالقات التي تسود املجتمع قائمة على أساس محايد ،وذلك
51الدكتور عبد الوهاب املسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة املجلد األول :يقول" :فعلى سبيل املثال تقوم هذه العلوم على وجوب
فصل الواقع (الحياة الدنيا) عن كل القيم الدينية واألخالقية واإلنسانية حتى تصبح العلوم محايدة ،خالية من القيمة (باإلنجليزية :فاليو
فري ") value freeأنظر كذلك :املسيري :مناظرة بين القمني واملسيري حول العلمانية ،حوارات مع الدكتور املسيري العلمانية والحداثة
والعوملة ،وتاريخ الفكر الصهيوني ،وغيرها من املراجع.
ألن نظرتهم إلى الدين أنه هو السبب في التأخر وفي لجم العقل وكبح جماحه ،فال بد من تنحيته حال الحكم
على الشيء ،حتى ينطلق العقل ويسمو وال يتأثر بما يكبحه ،وكذلك أي قيمة لها مصدر من أخالق أو عادات
أو إنسانية ،أو أعراف ،أو ما شابه.
والواقع أن هذا في حد ذاته مما يستحيل وجوده في الواقع ،فخذ مثال مسألة الحكم على الزنا أي العالقة
خارج إطار األسرة والزواج ،لو أراد مشرع أن يحكم عليها ليسن قانونا يحرمها أو يبيحها ،فإنه سينظر إلى
أنها مشكلة معينة بحاجة لرأي ،فإذا نحى جانبا نظرة الدين إليها Hعلى أساس أنها محرمة ،ونحى جانبا األخالق
على أساس أن هذه العالقة ال أخالقية ،ونحى جانبا القيم اإلنسانية ،على أساس أن القيم اإلنسانية قد تعتبر
أن هذه العالقة Hفيها هدر لكرامة االسرة ،أو كرامة املرأة ،أو كرامة الرجل ،أو من جانب آخر القيم
التحررية الليبرالية التي ترى أن هذه العالقة Hتكرس الحرية والحق في ممارسة ما يحقق الحرية ...،الخ ،فهو
عليه أن ينحي كل هذه القيم سواء تعارضت أو تشاركت في النتيجة ،وإن اختلفت في املنطلقات ،أقول ،حين
ينحي كل هذه القيم جانبا ،فإنه لن يستطيع إصدار أي حكم على املسألة ،ألن أساس الحكم على مسألة ما
هو تحقيقها لقيم معينة ،أو منعها ألنها تعارض تحقيق قيم معينة ،فكيف به وهو ينحي كل القيم جانبا؟
هذه اإلشكالية تجعل إصدار الحكم على أي قضية أمرا مستحيال ،فإن هو منع القيم التي أساسها Hالدين،
وسمح بالقيم التي أساسها Hالليبرالية ،فإنه وال شك سيقع في التناقض ،كما قال الشاعر:
حرام على بالبله Hالدوح ،حالل على الطير من كل جنس؟
ً
أما موضوع هذا الحكم ،أي الشيء الذي يصدر حكما على األفعال واألشياء ،فهو الحسن والقبح؛ ألن
املقصود من إصدار الحكم هو تعيين موقف اإلنسان تجاه الفعل ،هل يفعله ،أو يتركه ،أو يخير بين فعله
وتركه؟ وتعيين موقفه تجاه األشياء املتعلقة بها أفعاله ،هل يأخذها ،أو يتركها ،أو يخير بين األخذ والترك؟
وتعيين موقفه هذا متوقف على نظرته للشيء ،هل هو حسن ،أو قبيح ،أو ليس بالحسن ،وال بالقبيح؟
فالحكم على األفعال واألشياء ،إما أن يكون من ناحية واقعها ما هو ،ومن ناحية مالءمتها لطبع اإلنسان
وميوله الفطرية ،ومنافرتها لها ،وإما من ناحية املدح على فعلها Hوالذم على تركها ،أو عدم املدح وعدم الذم،
أي من ناحية الثواب Hوالعقاب عليها ،أو عدم الثواب Hوعدم العقاب H.فهذه ثالث جهات للحكم على األشياء:
أحدها من حيث واقعها ما هو ،والثاني من حيث مالءمتها لطبع اإلنسان أو منافرتها له ،والثالث من حيث
الثواب والعقاب أو املدح أو الذم.
ثم إن الحاكم إذ يحكم على قضية ما ،ولنضرب مثاال مسألة القتل ،إلصدار حكم على هذه املسألة يعطي
حكما فيها ،فإن هذا الحاكم سيجد أن فعل القتل بذاته يمكن الحكم عليه أي إصدار حكم أنه "صواب" أو
"خطأ" ،أو "حسن" أو "قبيح" ،من خالل واقع الشيء أو الفعل ،ومن خالل املالءمة للطبع Hأو العقل أو الفطرة
أو أي قيم معينة يتخذها أساسا للمحاكمة ،أو منافرته لهذه القيم ،ومن خالل الثواب والعقاب عليه ،وال
زاوية رابعة لهذه الزوايا Hالثالث Hللحكم على أي قضية أو أي فعل.
فال بد إذن من "مقياس" يرجع إليه لوصف الفعل بأنه حسن أو قبيح ،والتخاذ موقف إزاءه ،هذا املقياس
تمنع العلمانية Hأن يكون دينيا ،أو أخالقيا ،أو إنسانيا ،بل ال بد أن يكون عقليا صرفا ،فالعقل املجرد من
تص ُم فعال معينا بأنه خسيس ،كأن يتسكع سابح ماهر في "القيم" هو الذي سيصدر حكمه ،فاألخالق قد ِ
الطريق وهو يرى غريقا يوشك على الهالك ،فال يسعى إلنقاذه ،وقد تصم القيم الدينية فعل قتل النفس
البريئة بأنه حرام ،والكذب على األعداء في الحرب بأنه فرض ،فال بد من ناحية "علمانية" Hأن يتبرأ الشارع أو
املفكر أو العلماني من كل هذه القيم حين نظرته Hإلى الفعل وتحديده للموقف إزاءه،
إن املرء العاقل إذ يقوم بفعل ما ،فال بد له من "قصد" من وراء قيامه بهذا الفعل ،وهذا القصد هو "القيمة"
ً
التي يريد تحقيقها حين قيامه بهذا الفعل ،ولذلك كان حتما أن تكون لكل عمل قيمة يراعي اإلنسان تحقيقها
ً
حين القيام بالعمل ،وإال كان مجرد عبث .وال ينبغي لإلنسان أن يقوم بأعماله عبثا من غير قصد ،بل ال بد
أن يراعي تحقيق قيم األعمال التي قصد القيام بالعمل من أجلها.
وقيمة العمل 52إما أن تكون قيمة مادية ،كاألعمال التجارية والزراعية والصناعية ونحوها ،فإن املقصود
من القيام بهذه األعمال هو إيجاد فوائد مادية منها ،وهي الربح ،وهي قيمة لها شأنها في الحياة ،وإما أن تكون
قيمة العمل Hإنسانية كإنقاذ الغرقى وإغاثة امللهوفين ،فإن املقصود منها إنقاذ اإلنسان بغض النظر Hعن لونه
وجنسه ودينه أو أي اعتبار آخر غير اإلنسانية ،وإما أن تكون قيمة العمل أخالقية ،كالصدق واألمانة
والرحمة ،فإن املقصود منها الناحية الخلقية بغض النظر عن الفوائد وبغض النظر عن اإلنسانية ،إذ قد
ُُ
يكون الخل ُق مع غير اإلنسان ،كالرفق بالحيوان والطير ،وقد تحصل من العمل الخلقي خسارة مادية ،ولكن
تحقيق قيمته واجبة ،أال وهي الناحية الخلقية .وإما أن تكون قيمة العمل روحية كالعبادات ،فإنه ليس
املقصود منها الفوائد املادية ،وال النواحي اإلنسانية وال املسائل الخلقية ،بل املقصود منها مجرد العبادة،
ولذلك يجب أن يراعى Hتحقيق قيمتها Hالروحية فحسب بغض النظر Hعن سائر القيم.
هذه هي القيم لألعمال جميعها ،وهي التي يعمل لتحقيقها اإلنسان عند القيام بكل عمل من أعماله.
ّ
وقياس املجتمعات اإلنسانية في حياتها الدنيوية إنما يكون حسب هذه القيم ،ويكون بقدر ما يتحقق منها في
املجتمع ،وما يضمن تحقيقها من رفاهية وطمأنينة.
فالعقل حين حكمه على الفعل ال بد له من أن يربطه بالقصد الذي يراد حين القيام به ،ومن أن يرى أثره
في املجتمع والعالقات ،حتى يحقق نهوضا وحضارة لإلنسان ال ارتكاسا وإسفافا وعبثية تنعكس على
الفرد واملجتمعE.
فحين تقول العلمانية بأن الحكم على الفعل ينبغي أن ال يتأثر بالقيم ،فإنها بهذا تفصل بين العمل Hوبين القيم
التي يراد تحقيقها على صعيد الفرد ،فتلغي مثال أشواقه الروحية ،وحاجاته الغرائزية ،وتلغي القيمة
اإلنسانية في إنقاذ الغرقى ،فال تجعلها أساسا للنظرة إلى فعل إنقاذ الغريق ،وهكذا ،فما الذي سيتبقى بعض
فصل العمل عن قيمته وقصده وغايته؟
ثم إن االنسان حين يقوم بكثير من األعمال ،فإنه يجد نفسه "مفطورا" على القيم التي تحققها هذه األفعال،
فمثال قد ال يخطر في باله أنه يحقق قيمة إنسانية حين ينقذ الغريق ،لكنها وال شك جزء من غريزة حفظ
النوع املغروسة فيه ،فكيف تريد العلمانية فصل االنسان عن غرائزه وما فطر في أعماق نفسه مما جعله
إنسانا!
والعقل حتى يحكم على أمر بأنه حسن أو قبيح ،وبالتالي يحكم بصوابية القيام به أو بخطأ ذلك ،فإما أن
الحسن والقبح ذاتيان في الفعل ،كالعلم والجهل ،والصدق والكذب ،وإما أن هذه القيمة خارجية عن الفعل،