Professional Documents
Culture Documents
فئة :مقاالت
نوفمرب 2016بقلم نورالدين مهيسي قسم :الدين وقضايا اجملتمع الراهنة 10
يتم تناول هذا الدور من قبل الكثري من حمللي الثقافة باعتباره مكافئًا من ناحية األداء لدور اليسار السياسي ،أي اختاذ موقف معارضة
نسف من قبل بعض املفندات نتيجة ذوبان مفهوم Wاملثقف يف مفاهيم
للوضع السياسي الراهن ،غري أ ّن وجهة النظر هذه سرعان ما تُ َ
يفسر يف احلالة الربيطانية مثالً تلك الصورة السلبية اليت تسقط على املثقف والنظرة
أخرى على غرار اخلبري ورجل السياسة ،وهذا ما ّ
.املبتذلة لدوره Wكما يقول إدوارد سعيد
إنّنا حباجة ألن نؤكد بأ ّن عالقة املثقف باإلعالم وبالفضاء العمومي هي عالقة تالزم ،فالدور Wاملناط باملثقفني يقتضي بالدرجة األوىل
التورط يف الشأن العام ،إذ ال مثقف غائب عن النقاش حول القضايا العامة ،وهذا التورط يف الزمن احلايل سيجد منافذ أفضل وسيفتح
اجملال لربوز منط جديد يطلق عليه عزمي بشارة اسم "املثقف العمومي" ،وهذا النمط من املثقفني له قدرة كبرية على بلوغ الفضاء العام
من خالل توسل آليات اإلعالم اجلديد اليت يصعب على األنظمة السياسية مراقبتها ،إذا ما وقعت املقارنة حبالة اإلعالم التقليدي حيث
.تتسم العالقة بني الطرفني بنوع من اإلقصاء واملعاداة
مفهوم الثقافة متعدد التشعبات ومستمد من ع ّد ة حقول معرفية ،يرتبط بنشاط إنساين أساسي جتاه الطبيعة ،فتأثيله الالتيين يرتبط
مفهوما Wشائع االستخدام حاليًّا ترتبط بالعلوم Wاالجتماعية ،وبالبحث األنثروبولوجي
ً باألساس بفكرة الزراعة .غري أ ّن الثقافة بوصفها
على وجه التحديد .لقد سامهت األنثروبولوجيا بشكل عميق يف التصورات والنماذج النظرية األساسية للثقافة ،وبسبب هذا اإلسهام،
وصمود ا ومشولية إذا ما قورن باملفاهيم املستخدمة يف بقية التيارات املعرفية
ً .بقي املفهوم األنثروبولوجي األكثر دقة،
ومن بني التعاريف األنثروبولوجية ،يشكل املفهوم الذي يقرتحه إدوارد تايلور ،والذي يرى بأ ّن الثقافة "هي ذلك الكل املركب الذي
يشمل املعرفة والعقائد Wوالفن واألخالق والقانون واألعراف وكل القدرات والعادات األخرى اليت يكتسبها اإلنسان من حيث هو
براديغما شامالً ميكن تسميته بالثقافوية ،وهي اليت تنظر إىل كل
ً عضو يف اجملتمع"[ .]1حتت هذا التعريف ،رسم التيار األنثروبولوجي
مسات احلياة االجتماعية باعتبارها منجزات ثقافية ،غري أ ّن هذا املنظور الشامل سرعان ما واجه الكثري من االنتقادات ،أل ّن إضفاء
وصف "الثقايف" على كل ممارسات اإلنسان جيعل من الصعب Wفيما بعد التعامل مع إشكالية مفهوم Wاملثقف الذي ينتهي إىل توصيف
.يُس َقط على اجلميع
إىل ح ّد ما ،مثة إمكانية لضبط مفهوم Wأكادميي للثقافة خارج التصور األنثروبولوجي التايلوري على الرغم من االستخدام الفضفاض
للمصطلح Wيف الكثري من جماالت احلياة من قبل العامة .ميكن االستناد هنا إىل نظرة عاملي االجتماع الفرنسيني رميون بودون وفرانسوا
بوريكو اليت تفرق بني مستويني للمكتسبات الثقافية داخل اجملتمع :هناك ثوابت تتدخل بوصفها حمددات للفعل وتضم البىن ،التقنيات،
املؤسسات ،القواعد ،القيم ،اإليديولوجيا ،وهناك الكثري من املتغريات البنيوية اليت ال ميكن بأي حال من األحوال اعتبارها شأنًا ثقافيًّا[
،]3ومن هنا فإنّه ميكن إعادة تعريف الثقايف بوصفه كل ما يتعلق برتمجة احلقيقة إىل رمز لتصبح الثقافة بذلك أكثر ارتباطًا بالفكر
.وبالفن
التصور العامي للثقافة باعتبارها مزجيًا من التعليم واملعرفة بأمور كثرية،
هكذا نكون إزاء أمنوذج نظري حمكم ميكن االستعاضة به عن ّ
لكننا نبقى أمام إشكالية أخرى :كيف ميكن التعامل مع هكذا تصور إذا كانت عملية إنتاج الثقافة ذات طابع سياسي؟
ميكن هنا أن نعود إىل تصورات املدرسة النقدية األملانية وكذا تصورات أتباع النقد الثقايف ما بعد احلداثي .إ ّن هذه التيارات تعاجل
مسألة الثقافة من زاوية االقتصاد السياسي ،إذ هي تطرح إشكاليات عميقة تتعلق بطبيعة الثقافة والثقافات املنتجة واملتداولة داخل احليز
االجتماعي وطرق استهالكها ومقاصد السلطة الكامنة ضمن سريورة إنتاجها ،توزيعها وتطبيقها ،وهنا ميكن العودة إىل قراءات ميشال
.فوكو العميقة حول العالقة البنيوية الكامنة بني املعرفة والسلطة
إ ّن الدرس املعياري ملسألة الثقافة كما جنده عند رواد مدرسة فرانكفورت يرتبط جبملة من املفاهيم األساسية ،فإذا أخذنا بعني االعتبار
أ ّن الثقافة تعين كما قال بودون وبوريكو وكذا لوكلريك إنتاج األفكار والرموز W،فإ ّن ذلك يُستَتبع جبملة من التساؤالت اجلوهرية :من
ميلك احلق يف إنتاج الرمز وعالقة ذلك بفكريت السلطة والثروة؟ مث ما هو اهلدف السياسي غري املعلن من هذه الوظيفة الرمزية؟ .غالبًا ما
كانت خمتلف املسائل تعاجل بالنسبة إىل مدرسة فرانكفورت يف ضوء هذه الثنائية :السلطة أو القوة من جهة ،والعقالنية واألداتية من
.جهة ثانية
وف ًقا هلذا التصور W،نكون إزاء تصور جديد ومكتمل للثقافة يبتعد عن مشولية األمنوذج األنثروبولوجي ويعيد بناء املفهوم العامي املرتبط
بوصف املتعلم على أسس أكادميية ،حيث يصبح مفهومنا للثقافة يعين استخدام خمتلف أصناف املعرفة املكتسبة واملنتجة ال يف طريقها
.األكادميي والعملي املتخصص ،وإمّن ا يف إطار كفاح ومقاومة اجتماعية ألي مسعى الحتكار السلطة واهليمنة داخل اجملتمع
إضافة إىل إنتاج الفكر ،مثة مكون آخر نبه إليه املفكر الفلسطيين عزمي بشارة ،وهذا املكون يفسر لنا ملاذا ال يرتبط مفهوم Wاملثقف كما
توجها سياسيًّا معينًا ،وأفضل توصيف هلذا سيكون
سنتناوله الح ًقا بطبقة اجتماعية أو مهنية أو ثقافية بعينها .إ ّن فكرة املقاومة تتضمن ً
وأفكارا متخصصة بقضايا السلطة داخل اجلماعة،
ً االستعانة مبفهوم "املوقف العمومي"[ ،]4فبعض املثقفني قد ال ينتجون معارفW
مفهوما أوسع يتضمن إنتاج األفكار وكذا
ً ولكنهم يتخذون مواقف معلنة عموميًّا جتاه هذه القضايا ،وبذلك فإ ّن الوظيفة الرمزية تصبح
.املواقف
مفهوما Wوسطيًّا للثقافة يقع بني التصور األنثروبولوجي البالغ الشمول وبني املفهوم العامي
ً مهما لنبين
سيشكل تصورنا اجلديد مدخالً ًّ
البالغ السطحية ،حيث سيكون باإلمكان حتديد طبيعة الوظائف املرتبطة بالثقافة كما ميكن تصورها داخل الفضاء العام ممثالً يف وسائل
:اإلعالم .إ ّن املهن اليت تدخل ضمن هذا اإلطار ميكن تقسيمها إىل شقني
الشق األول :حيتضن الفئات اليت تنتج األفكار العمومية حول األشكال الالزمة للحياة االجتماعية ،وتتمثل باألساس يف األدباء،
...الشعراء ،األكادمييني يف اجلامعات ،الرسامني ،الصحفيني ،املعلمون ،رجال الدين
الشق الثاين :وهو اجملال املفتوح إلنتاج املواقف ،ويتضمن خمتلف الفئات االجتماعية واملهنية اليت تنتج إضافة إىل أفكارها املستهلكة
داخل حقوهلا املهنية مواقف داخل الفضاء العام تستهدف مناقشة قضايا السلطة داخل اجلماعة .سنناقش على كل حال يف موقع قادم
.حقيقة التزام هذه األطراف بإنتاج الثقافة على هذا النمط ،وحقيقة توزيع األدوار بينها
إضافة إىل ذلك ،فإ ّن مفهوم النخبة سرعان ما يسبب لنا سوءًا يف الفهم ألنّه ال يوضح بدقة ما إذا كان األمر يتعلق بطبقة اجتماعية أم
مبكانة اجتماعية ،وهذا األمر يفسره بشكل جلي جريار لوكلريك يف كتابه سوسيولوجية املثقفني حني يقول بأ ّن النظرة السوسيولوجية
قمة
السيئة ملفهوم النخبة واملثقفني تربز من خالل التوجه إىل الفئات والطبقات القريبة مهنيًّا ،ثقافيًّا واجتماعيًّا ،واليت يكون موقعها يف ّ
.السلم االجتماعي[]6
متام ا ادعاءات مفهوم النخبة بوصفها طبقة اجتماعية تستقر يف أعلى السلم االجتماعي ،بدليل أ ّن
إ ّن واقع اجملتمعات املعاصرة يفند ً
التحليل املرتكز على طبيعة جنوم اجملتمع احلايل يكشف بأ ّن النجومية ليست مرتبطة بالضرورة Wبطبقة اجتماعية بقدر Wما هي مرتبطة
بالتقبل وااللتفاف االجتماعي الذي حيظى به الفرد داخل اجلماعة ،فنجوم الرياضة يشكلون حقالً لالستقطاب االجتماعي أكثر من أي
ذريعا يف تبيان الدور الذي يراد إلباسه للمثقف يف
التصور األرستقراطي Wللنخبة قد فشل فشالً ً
فئات اجتماعية أخرى .ميكن القول بأ ّن ّ
.اجملتمع احلديث ،وهذا ما دفع إىل اعتماد مفهوم Wاملثقف بدالً من النخبة ملا يتعلق األمر بقضايا الشأن العام
ما هي املواضيع اليت يكون فيها التدخل مرادفًا لفاعلية املثقف؟ وما هي احلدود الفاصلة يف فعل التورط فيما ال يعين؟ -
بالنسبة إىل املسألة األوىل ،هناك تداخل تارخيي وإجرائي بني مفهوم املثقف ومفهوم Wاملتعلم .يوضح جريار لوكلريك بأ ّن وظيفة املثقف
داخل اجملتمع ترتبط بإنتاج اخلطابات الضامنة هلوية اجلماعة والقيم املركزية السائدة فيها وبثها يف الزمان واملكان ..وهذا الذي يقوم به
املثقف هو ما يسميه لوكلريك الوظيفة الفكرية أو إدارة الرمزي[ .]10يتطلب هذا الدور باتفاق كل الباحثني جمهودات أكرب من
كبريا ،وهلذا فقد ارتبط من الناحية التارخيية
املثقف باملقارنة مع بقية أفراد اجملتمع ،فالتفرغ إلنتاج األفكار يستلزم مستوى تعليميًّا ً
بالطبقات اليت متتلك مستويات تعليمية جيدة على غرار العلوم الدينية يف العصور القدمية والعلوم Wالتقنية والتطبيقية واإلنسانية يف العصر
.احلديث
من الناحية التارخيية ،لطاملا ارتبط املثقف ضمن املخيال العام بفعل التعليم ،ومن الناحية اإلجرائية يشكل املستوى التعليمي أحد األبعاد
الرئيسية للمثقف W،غري أ ّن هذا االرتباط ليس متاثليًّا ،وإمّن ا هو احتوائي ،فالتعليم يبقى شرطًا أساسيًّا لقيام املثقف ،إال أ ّن املثقف قد ال
حيتاج إىل معرفته تقنيًّا الختاذ املوقف ،وإمّن ا حيتاج إليه إلضفاء الشرعية على تدخله يف القضايا املتداولة ضمن الفضاء العمومي ،فالناس
.عادة ما تثق يف الشخص املتعلم ألنّه األدرى باألمور منها
يبدو هذا التقدمي مناسبًا للدخول يف تصنيفات املثقفني ،فاستخدام املعرفة والتعليم املكتسبني من قبل املثقف يقوده ضمن قضايا الشأن
العام إىل اختاذ موقف من بني املوقفني :فهو إما أن يؤيد الوضع القائم خبصوص القضية العامة أو الثقافة السائدة ،وإما أن يعارضه
ويسعى لتغيريه .يسمي أنطونيو غرامشي من يؤيد الوضع القائم باملثقف التقليدي أو كما يسميه بعضهم املثقف احملافظ ،يف حني يسمي
...من يعارض هذا الوضع باملثقف العضوي ،ويفضل الكثريون وصف املثقف الثوري ،امللتزم وغري ذلك من التسميات
ميكن إعادة قراءة هذا التصنيف يف ضوء معطيات عديدة متشعبة التخصصات ،ميكن تقدمي أوصاف أخرى هلذين النمطني من املثقفني
يف ظل تعقيدات اجملتمع املعاصر ،وكذا يف ظل معطيات املشهد اإلعالمي املعاصر .يف هذا الصدد ،ميكن أن نتحدث عن األمنوذج الذي
والذي ميكن " spin doctor،يقرتحه رجال العالقات العامة والصحافة واإلعالم للمثقف Wاحملافظ ،وهو ما يسمونه بـ"طبيب الدوران
تعريفه بأنّه ذلك الذي يتوىل الدفاع عن مسعة املؤسسة ووجهة نظرها ،وعادة ما تكون له قدرات اتصال قوية[ ،]11ليس املقصود
.طبعا املؤسسة االقتصادية فحسب ،وإمّن ا كل شكل منشآيت
ً
تصور طبيب الدوران هذا من أمنوذج املثقف احملافظ .يف الكثري من الدول ،يالحظ طغيان هذا الطبيب على املشهد العمومي،
يقرتب ّ
حيث يتصدى الكثري من املثقفني للدفاع بشكل شرس عن النظام القائم وتقدمي املربرات اليت قد تدفع بقية الطبقات االجتماعية لتبين
النظام الثقايف الذي تقرتحه الطبقة املهيمنة .ميثل طبيب الدوران ما ميكن أن نسميه متحدثًا أو ناط ًقا باسم السلطة ،وهو يفيد يف ذلك
.كثريا من تعليمه وشرعيته املعرفية والتقنية
ً
جتذر ا من الناحية النظرية لوصف املثقف ،وهذا الرأي جنده عن الكثري من
باملقابل ،فإ ّن أمنوذج املثقف الثوري والعضوي Wيبدو األكثر ً
املفكرين الذين يرون بأ ّن أصحاب السلطة هم من يتوىل الدفاع عن ثقافتهم ومواقفهم W،فيما ميثل املثقف على الدوام الصوت املعارض.
تصور عامل االجتماع السياسي الربيطاين جوزيف شومبيرت الذي يؤكد أ ّن إحدى اللمسات اليت متيز املثقفني من
يف هذا الصدد ،نذكر ّ
غريهم هي السلوك النقدي ،وكذا الفرنسي رميون آرون ،الذي يرى أ ّن النزوع إىل انتقاد النظام القائم هو املرض املهين للمثقفني[
]12.
مفهوما سياسيًّا شديد االرتباط مبمارسة السلطة داخل اجلماعة ،فبقدر ما قد تضمنه الدميقراطية التمثيلية
ً هكذا ينكشف مفهوم Wاملثقف
أو التشاركية من حقوق ملختلف الطبقات االجتماعية ،فإ ّن مثة حاجة دائمة إلطار معريف وسياسي يضمن التوزيع العادل لإليديولوجيا
بوصفها وظيفة إلنتاج األفكار واملواقف السياسية .إ ّن مسألة قيام املثقف ال تتطلب كما ذكرنا ساب ًقا تأشرية انتماء اجتماعي لطبقة
حمددة من أجل الدفاع عن مصاحلها ،ويكفي أن نذكر هنا بوجهة نظر عامل االجتماع األملاين كارل ماهنامي عندما حتدث عما أمساه
حر"[ ،]13واملقصود من ذلك أ ّن طبقة املثقفني اليت تتوىل إنتاج املعرفة داخل اجملتمع هي مؤسسة ال منتمية
"األنتلجنسيا الطافية بشكل ّ
اجتماعيًّا ،ولكنها تعرب عن كتلة سياسية موحدة تستخدم معرفتها من أجل لعب دور سياسي رئيسي هو ضبط السلطة وفرض الرقابة
.عليها
يستقر دور املثقف على هذا النحو ،فإنّه ال مناص عن اخلوض يف مسألة الفضاء العام .من الناحية التارخيية ،كان لألدباء
لكي ّ
مهم يف بلورة الفضاءات العامة الربجوازية مثلما يقول جورغن هابرماس ،إذ كانت املقاهي هي املكان األنسب حينها
والفالسفة دور ّ
أيضا خطاب مواقف يسعى لبلوغ
دورا اجتماعيًّا فحسب ،بل هو ً
ملناقشة القضايا العامة وإيصال صوت املثقف للعامة .إ ّن املثقف ليس ً
.العمومية ومنافسة بقية اخلطابات اليت تسعى للهيمنة
متثل وسائل اإلعالم مسل ًكا حمتمالً يأخذه خطاب املثقف لبلوغ اجلماهري ،بل إهّن ا املسلك الوحيد هلذا العصر ،إذ يكفي أن نراجع بعض
أفكار مارشال مالكوهان على غرار فكرة أ ّن التلفزيون Wواألقمار الصناعية وتقنيات االتصال اإللكرتوين هو ما أفرز العامل/القرية
بالشكل احلايل ،ويضيف واحد من أهم مطوري Wأعماله ،الفيلسوف Wالفرنسي روجيس دوبري بأ ّن عامل البشر املعاصر هو أقرب ما
خاص صنعته التقنية اليت مسحت بنقل األفراد وتناقل الرسائل يف أزمنة une mediasphèreيكون إىل فضاء ميديائي
ذي طابع ّ
املستمر ،ومن هنا جيب االنتباه إىل وجود
ّ قياسية[ .]14ويضيف دوبري بأ ّن هذا الفضاء ذو طابع تارخيي ،أي أنّه خيضع لقانون التغرّي
أهم هذه الفاعليات،
واحدا من ّ
العديد من الفاعليات اليت حتفز هذا التغرّي الذي يرتبط على حنو أو آخر مبسألة السلطة .ميثل املثقف ً
ويتحول تدرجييًّا إىل عنصر حمايد أو
ّ التحرك داخل هذا الفضاء ضمن ما هو متوافر له من سلطة ،يفقد املثقف صفة الفاعلية
ومن دون ّ
.سليب
يبقى من اخلطأ حتميل كامل املسؤولية للمثقفني يف ضياع الفاعلية ،إذ جيب االنتباه كما أسلفنا ساب ًقا إىل أ ّن دور املثقف سياسي
دائما هو ساحة
مفروشا بالورود ،إذ الفضاء العام حبسب هابرماس ً
ً تصور أن جيد املثقفون Wالطريق إىل غايتهم
بامتياز ،ومن الساذج ّ
ملعارك بني أطراف تبحث عن شرعية وسط صراع بني العدالة املطلوبة معياريًّا وحقيقة املصاحل اخلاصة[ .]15ميثل املثقف مشروع حالة
معيارية تسعى لتحقيق اخلري العادل ،ولكن علينا أن نتنبّه إىل أ ّن معيارية هابرماس هي طرح أمنوذجي ال يعكس الواقع بقدر ما يدعو يف
.الغالب إىل إزاحته
الواقع أ ّن وظيفة املثقف جتد نفسها يف مواجهة حقيقة الباراديغم الصحفي ،فاإلعالم يبقى جزءًا من منظومة السلطة اليت تتحقق من
حكرا على من ميتلك السلطة.
خالهلا املصاحل اخلاصة ،ومن مثّ ،فقد واجه املثقفون اإلقصاء من الظهور على وسائل اإلعالم اليت بقيت ً
لقد جنم عن ذلك حالة عداء صرحية بني املثقف ووسائل اإلعالم ،ميكن تلمسها يف العديد من اآلراء ،من كارل بوبر ووصفه للتلفزيون
بأنّه وسيلة فاشلة للتعليم ،إىل بيري بورديو وهتكمه على املبالغة يف منح كامل األولوية لألودميات ،ووصوالً إىل نقد الثقافة اجلماهريية من
.قبل عدد معترب من مفكري مدرسة Wفرانكفورت ومعهد Wبرمنغهام
على الرغم من اهرتاء هذه العالقة ،مل يفقد املثقفون األمل يف الظهور على وسائل اإلعالم وتفعيل دورهم داخلها وض ّدها ،إذ ينتهزون
كل فرصة لبلوغ الفضاء العام عربها من أجل رفع شعارات معادية ألحادية اخلطاب اإلعالمي املهيمن ،ولكن هذه الفرص نادرة جدًّا.
ّ
وقد يصل الصراع ليس جملرد اإلقصاء فحسب ،بل إىل حد جعل املثقفني مادة دعائية من قبل اإلعالم ،حيث يتحدث ريتشارد رووك
املضاد للمثقفني
ّ يسميه التيار
عما ّ
يف إجنلرتا ،والذي حتدث عنه إدوارد سعيد كما رأينا آن ًفا ،حيث ّ anti-intellectualisme
تكرست فكرة ذات خلفية غامضة تقول بأ ّن وسائل اإلعالم تنقل الوقائع يف حالتها العذراء ،اخلام واملوضوعية ،فيما حياول املثقفونW
ّ
.تشويهها مبواقفهم وشروحاهتم[]16
مباشرا يف ذلك،
وعلى الرغم من أ ّن رووك مل يتّهم اإلعالم صراحة حبشو هذه الفكرة يف خميال اجلماهري إال أنّه ملّح ضمنيًّا لكونه سببًا ً
على األقل من خالل الشعارات اليت يرفعها على غرار املوضوعية ،املصداقية ،احلقيقة وفقط ..واليت هي شعارات جوفاء يف الغالب،
ذلك أ ّن جوهر الباراديغم الصحفي مرتبط بإنتاج اخلطابات االستهوائية وتسويقها ،وهي املنبثقة عن مراكز السلطة والساعية ملضاعفة
وبعيدا عن أي معيارية ،فإ ّن املثقف واجه صعوبة بالغة يف حتدي وسائل اإلعالم ،ألنّه مل
مكاسبها ،يف غياب أي ممارسة نقدية فعليةً .
جمرد من أي سلطة متكنه من النفاذ خبطاباته إىل العمومية
.يكن يتحداها هي بقدر ما كان يقاوم املراكز الفعلية للسلطة Wيف اجملتمع وهو ّ
المثقفون والمنعرج اإللكتروني :تحوالت السلطة وخطر النشوة 4-
لتحول هيكلي عميق يف موازين السلطة بني الطرفني .لقد Wش ّكل بزوغ اإلعالم اجلديد مولد Wشكل
يف السنوات األخرية ،هناك مالمح ّ
جديد من االتصال على النطاقات االجتماعية ،إذ أصبح إنتاج اخلطابات املستهلكة عموميًّا ال مركزيًّا ،وما تراجع االعتماد على
اإلعالم التقليدي وتعاظم استخدام شبكات التواصل االجتماعي وتأثريها إال نتيجة حتمية لذلك .لقد أصبح بإمكان أي فرد أن يلج
مست الوسيط فقط ،أي أنّه
إىل الشبكة/الفضاء العمومي اجلديد ويقدم من املواقف ما يستطيع ،وهذا التغرّي ال يرتبط حبالة التطور اليت ّ
.ليس خاصية ميديولوجية فحسب ،بل هو هتديد حمتمل لألشكال التقليدية للسلطة Wيف اجملتمع
حنن نعيش اآلن يف زمن جمتمع الشبكة ،وهو جمتمع برأي مانويل كاستيلز ،يتجاوز األمنوذج البريوقراطي العمودي للسلطة Wإىل أمنوذج
نوعا من الروح
أفقي متعدد الفاعلني ويضمن سالسة وحرية ومرونة أكرب يف نقل املعلومات واملوارد[ .]17خيلق اجملتمع الشبكي ً
ويسهل هبذا الشكل على املثقفني أن يكونوا فاعلني ذوي سلطة ولو أفقية anti-institutionnalisme، ،املعادية للمأسسة
ّ
وبفضل شبكات التواصل االجتماعي سيكون بإمكاهنم ولوج الفضاء العام من دون أي اعتبار لكوابح اإلعالم التقليدي أو كل القوى
حتديد ا ما قصده عزمي بشارة حينما حتدث عن فضاء تواصلي عقالين بإمكانه استيعاب وظيفة
اليت تسعى لتجريده من سلطته ،وهذا ً
.املثقف العمومي]18[W
يطرح وصف العقالين هنا مالحظتني أساسيتني ،أوالمها هي حالة انتقام التاريخ لذاته من خالل استعادة املثقف لسلطته املصادرة بفعل
للسلطة Wيف اجملتمع التقليدي ،فميالد هذا الفضاء التواصلي العقالين كان حبسب هنري جينكينز يف حلظة الصدام بني امليديا
النظام األفقي ّ
القدمية وتلك اجلديدة ،وسيكون املثقفون Wقادة جيدين ملا يسميه جينكينز الذكاء اجلماعي بديالً لسلطة Wوسائل اإلعالم التقليدية[.]19
حتديدا تراث كل من ماكس فيرب وميشال فوكو ،إذ مل يعد التنظري
إنّنا حباجة هنا إىل أن نعيد النظر يف بعض نظريات السلطة ،ومنها ً
العمودي للسلطة ذا فائدة تفسريية يف ظل بروز هذا الشكل اجلديد من السلطة ،ذلك الذي ميكن لكل شخص أن يستحوذ عليه بأقل
.جمهود
أما املالحظة الثانية ،وهي األهم يف نظري ،فهي ضرورة إخضاع وصف العقالنية ملراجعة نقدية استباقية ،فإحقاق التاريخ للعدالة ال
جيب أن يعمينا عن حقيقة السلطة ونشوهتا ،ويف هذا الصدد ينبغي استذكار عبارة فريديريك نيتشه الشهرية "وأنت حتارب الوحوش
وحشا" .إذا ما حدث وأعادت شبكات التواصل للمثقف سلطته املصادرة ،فإ ّن أول خطر يواجهه هو نفسه
احذر من أن تصبح ً
املنتشية باالنتصار وبالطرق السريعة واملفتوحة حنو السلطة ،ما قد يوقعه يف فخ نسيان وظيفته األساسية باعتباره ضامنًا للتوزيع العادل
.لألفكار واإليديولوجيا
أمام هذا التحول العميق الذي ال يزال يد ّشن بداياته فقط ،ال مناص من طرح العديد من األسئلة :هل يدرك املثقف حجم السلطة اليت
تتعرض هذه السلطة
صار ميتلكها؟ هل ميتلك مناعة ضد غوايتها؟ هل ميكن أن تنحرف هذه السلطة عن غاياهتا النبيلة؟ وهل ميكن أن ّ
للتعسف Wمن قبل املثقف األنثروبولوجي والعامي؟ ينبغي من اآلن إقامة حدود بيّنة بلغة رجييس دوبري لكي ال يتماهى الضحية مع
ّ
نيب للعدالة W،ال خارج عن القانون
.اجلالد ،فاملثقف يف النهاية هو ّ
بالنسبة إىل اخلروج عن القانون ،مثة ما جيب مالحظته .لقد انتبهت األنظمة التقليدية للسلطة إىل تنامي سطوة شبكات التواصل
مقتصرا على وسائل اإلعالم التقليدية فقط ،بل هناك مؤشرات
ً االجتماعي ،وسارعت إىل حتيني ترسانتها القانونية ،فلم يعد التضييق
حتو ل آخر يف طبيعة التشريع حنو اجلرائم اإللكرتونية ،ما يستدعي من املثقف أن يكون أكثر ذكاءً وأكثر عقالنيةً لكي ال
قوية عن ّ
سدى
ستنزف سلطته ً
.تُ َ
لويس دولو :الثقافة الفردية وثقافة اجلمهور .ترمجة :عادل العوا .منشورات عويدات .بريوت .1982 .ص [1] 15
طوين بينيت وآخرون :مفاتيح اصطالحية جديدة :معجم مصطلحات الثقافة واجملتمع .ترمجة :سعيد الغامني .املنظمة العربية ][2
للرتمجة .بريوت .2010 .ص 225
رميون بودون وفرانسوا بوريكو .املعجم النقدي لعلم Wاالجتماع .ترمجة :سليم حداد .ديوان املطبوعات اجلامعية .اجلزائر[3] .1986 .
ص 232-231
عزمي بشارة :عن املثقف والثورة .جملة تبني .املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات .الدوحة .العدد .2013 .4ص [4] 128
جريار لوكلريك :سوسيولوجيا املثقفني .ترمجة :جورج كتورة .دار الكتاب اجلديد .بريوت .2008 .ص [6] 14
روبرت برمي :املثقفون Wوالسياسة .ترمجة :عاطف أمحد فؤاد .دار املعارف .بريوت .1985 .ص [8] 152
[9] Jean Paul Sartre: Plaidoyer pour les intellectuels. Gallimard. Paris. 1972. P. 12.
[11] Robert Heath (ed): Encyclopedia of public relations. Sage. London. 2005. P. 835
[13] Iris Mendel: Mannheim’s free-floating intelligentsia: the role of closeness and
distance in the analysis of society. Studies in Social and Political Thought. No12. 2006.
P 31.
[16] Richard Rooke: The contemporary debate on the role of the intellectual and the
media. Contemporary Politics. Vol. 1. N4. 1995. P. 121.
[17] Manuel Castells (ed): The network society: A cross cultural perspective. Edward
Elgar Publishing Limited. Cheltenham. 2004. PP. 4-5.
[19] Henry Jenkins: Convergence culture: Where old and new media collide. New
York University Press. New York. 2006. P. 4.