You are on page 1of 10

‫المثقف واإلعالم‪ :‬العداء الكالسيكي والمنعرج اإللكتروني‬

‫فئة ‪  :‬مقاالت‬

‫نوفمرب ‪ 2016‬بقلم نورالدين مهيسي قسم‪ :‬الدين وقضايا اجملتمع الراهنة ‪10‬‬

‫وحتديدا داخل الفضاء العام‪ ،‬بشكل غامض ومبهم جيعل من‬


‫ً‬ ‫يستخدم مفهوم الثقافة خارج النطاقات األكادميية األنثروبولوجية‪،‬‬
‫أمرا صعبًا جدًّا‪ ،‬ويضاف إىل ذلك لغط آخر حينما يضاف وصف املثقف إىل سياقات النقاش حول الفعل‬
‫فهم طبيعة الفعل الثقايف ً‬
‫‪.‬الثقايف‪ ،‬حيث يستخدم هذا الوصف بطريقة عشوائية ويتعذر‪ W‬يف الكثري من األحيان متييز املثقف من غري املثقف‬

‫أيضا داخل األوساط األكادميية‪ .‬قد يتفق‬


‫تعسفية ليس يف األوساط العامة فقط‪ ،‬وإمّن ا ً‬
‫لطاملا استخدم مفهوم املثقف والثقافة بطريقة ّ‬
‫انعكاسا للوضع العام للمجتمع يف حلظة زمنية ذات امتدادات تارخيية‪ ،‬غري أ ّن‬
‫ً‬ ‫األنثروبولوجيون إىل حد ما على مفهوم للثقافة باعتبارها‬
‫هذا املفهوم أبعد ما يكون عن املفهوم‪ W‬املتداول داخل خمتلف األوساط االجتماعية العامة‪ ،‬والشيء نفسه يقال خبصوص مفهوم املثقف‪،‬‬
‫فبالنسبة إىل األنثروبولوجيني فإ ّن كل إنسان مثقف‪ ،‬غري أ ّن االستخدام املتداول داخل حقول علم االجتماع السياسي وعلم اجتماع‬
‫املعرفة والفلسفة‪ W‬والسياسة واإلعالم يوحي بأ ّن مثة اختالفًا جوهريًّا‪ ،‬فصفة املثقف ال ميكن أن تنسب إىل كل الناس‪ ،‬أل ّن األمر ال يتعلق‬
‫‪.‬مبوروث ثقايف وإمّن ا بدور اجتماعي غري واضح املعامل ويتداخل مع عدة متغريات‬

‫يتم تناول هذا الدور من قبل الكثري من حمللي الثقافة باعتباره مكافئًا من ناحية األداء لدور اليسار السياسي‪ ،‬أي اختاذ موقف معارضة‬
‫نسف من قبل بعض املفندات نتيجة ذوبان مفهوم‪ W‬املثقف يف مفاهيم‬
‫للوضع السياسي الراهن‪ ،‬غري أ ّن وجهة النظر هذه سرعان ما تُ َ‬
‫يفسر يف احلالة الربيطانية مثالً تلك الصورة السلبية اليت تسقط على املثقف والنظرة‬
‫أخرى على غرار اخلبري ورجل السياسة‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫‪.‬املبتذلة لدوره‪ W‬كما يقول إدوارد سعيد‬

‫إنّنا حباجة ألن نؤكد بأ ّن عالقة املثقف باإلعالم وبالفضاء العمومي هي عالقة تالزم‪ ،‬فالدور‪ W‬املناط باملثقفني يقتضي بالدرجة األوىل‬
‫التورط يف الشأن العام‪ ،‬إذ ال مثقف غائب عن النقاش حول القضايا العامة‪ ،‬وهذا التورط يف الزمن احلايل سيجد منافذ أفضل وسيفتح‬
‫اجملال لربوز منط جديد يطلق عليه عزمي بشارة اسم "املثقف العمومي"‪ ،‬وهذا النمط من املثقفني له قدرة كبرية على بلوغ الفضاء العام‬
‫من خالل توسل آليات اإلعالم اجلديد اليت يصعب على األنظمة السياسية مراقبتها‪ ،‬إذا ما وقعت املقارنة حبالة اإلعالم التقليدي حيث‬
‫‪.‬تتسم العالقة بني الطرفني بنوع من اإلقصاء واملعاداة‬

‫‪:‬بعض مشكالت مفهوم الثقافة ‪1-‬‬

‫مفهوم الثقافة متعدد التشعبات ومستمد من ع ّد ة حقول معرفية‪ ،‬يرتبط بنشاط إنساين أساسي جتاه الطبيعة‪ ،‬فتأثيله الالتيين يرتبط‬
‫مفهوما‪ W‬شائع االستخدام حاليًّا ترتبط بالعلوم‪ W‬االجتماعية‪ ،‬وبالبحث األنثروبولوجي‬
‫ً‬ ‫باألساس بفكرة الزراعة‪ .‬غري أ ّن الثقافة بوصفها‬
‫على وجه التحديد‪ .‬لقد سامهت األنثروبولوجيا بشكل عميق يف التصورات والنماذج النظرية األساسية للثقافة‪ ،‬وبسبب هذا اإلسهام‪،‬‬
‫وصمود ا ومشولية إذا ما قورن باملفاهيم املستخدمة يف بقية التيارات املعرفية‬
‫ً‬ ‫‪.‬بقي املفهوم األنثروبولوجي األكثر دقة‪،‬‬

‫ومن بني التعاريف األنثروبولوجية‪ ،‬يشكل املفهوم الذي يقرتحه إدوارد تايلور‪ ،‬والذي يرى بأ ّن الثقافة "هي ذلك الكل املركب الذي‬
‫يشمل املعرفة والعقائد‪ W‬والفن واألخالق والقانون واألعراف وكل القدرات والعادات األخرى اليت يكتسبها اإلنسان من حيث هو‬
‫براديغما شامالً ميكن تسميته بالثقافوية‪ ،‬وهي اليت تنظر إىل كل‬
‫ً‬ ‫عضو يف اجملتمع"[‪ .]1‬حتت هذا التعريف‪ ،‬رسم التيار األنثروبولوجي‬
‫مسات احلياة االجتماعية باعتبارها منجزات ثقافية‪ ،‬غري أ ّن هذا املنظور الشامل سرعان ما واجه الكثري من االنتقادات‪ ،‬أل ّن إضفاء‬
‫وصف "الثقايف" على كل ممارسات اإلنسان جيعل من الصعب‪ W‬فيما بعد التعامل مع إشكالية مفهوم‪ W‬املثقف الذي ينتهي إىل توصيف‬
‫‪.‬يُس َقط على اجلميع‬

‫وخصوصا من جراء االستخدام املفرط للمصطلح ضمن خمتلف‬


‫ً‬ ‫خارج أسوار األكادمييا األنثروبولوجية‪ ،‬يفقد مفهوم‪ W‬الثقافة مشوليته‪،‬‬
‫شؤون احلياة العامة‪ ،‬ومن هنا ميكن أن نفهم رأي كلفورد غريتز‪ ،‬واحد من أبرز علماء األنثروبولوجيا املعاصرة‪ ،‬والذي يقول بأ ّن‬
‫‪".‬كلمة ثقافة تتضمن شبهات عميقة ولكن ال ميكن العمل من دوهنا"[‪]2‬‬

‫إىل ح ّد ما‪ ،‬مثة إمكانية لضبط مفهوم‪ W‬أكادميي للثقافة خارج التصور األنثروبولوجي التايلوري على الرغم من االستخدام الفضفاض‬
‫للمصطلح‪ W‬يف الكثري من جماالت احلياة من قبل العامة‪ .‬ميكن االستناد هنا إىل نظرة عاملي االجتماع الفرنسيني رميون بودون وفرانسوا‬
‫بوريكو اليت تفرق بني مستويني للمكتسبات الثقافية داخل اجملتمع‪ :‬هناك ثوابت تتدخل بوصفها حمددات للفعل وتضم البىن‪ ،‬التقنيات‪،‬‬
‫املؤسسات‪ ،‬القواعد‪ ،‬القيم‪ ،‬اإليديولوجيا‪ ،‬وهناك الكثري من املتغريات البنيوية اليت ال ميكن بأي حال من األحوال اعتبارها شأنًا ثقافيًّا[‬
‫‪ ،]3‬ومن هنا فإنّه ميكن إعادة تعريف الثقايف بوصفه كل ما يتعلق برتمجة احلقيقة إىل رمز لتصبح الثقافة بذلك أكثر ارتباطًا بالفكر‬
‫‪.‬وبالفن‬
‫التصور العامي للثقافة باعتبارها مزجيًا من التعليم واملعرفة بأمور كثرية‪،‬‬
‫هكذا نكون إزاء أمنوذج نظري حمكم ميكن االستعاضة به عن ّ‬
‫لكننا نبقى أمام إشكالية أخرى‪ :‬كيف ميكن التعامل مع هكذا تصور إذا كانت عملية إنتاج الثقافة ذات طابع سياسي؟‬

‫ميكن هنا أن نعود إىل تصورات املدرسة النقدية األملانية وكذا تصورات أتباع النقد الثقايف ما بعد احلداثي‪ .‬إ ّن هذه التيارات تعاجل‬
‫مسألة الثقافة من زاوية االقتصاد السياسي‪ ،‬إذ هي تطرح إشكاليات عميقة تتعلق بطبيعة الثقافة والثقافات املنتجة واملتداولة داخل احليز‬
‫االجتماعي وطرق استهالكها ومقاصد السلطة الكامنة ضمن سريورة إنتاجها‪ ،‬توزيعها وتطبيقها‪ ،‬وهنا ميكن العودة إىل قراءات ميشال‬
‫‪.‬فوكو العميقة حول العالقة البنيوية الكامنة بني املعرفة والسلطة‬

‫إ ّن الدرس املعياري ملسألة الثقافة كما جنده عند رواد مدرسة فرانكفورت يرتبط جبملة من املفاهيم األساسية‪ ،‬فإذا أخذنا بعني االعتبار‬
‫أ ّن الثقافة تعين كما قال بودون وبوريكو وكذا لوكلريك إنتاج األفكار والرموز‪ W،‬فإ ّن ذلك يُستَتبع جبملة من التساؤالت اجلوهرية‪ :‬من‬
‫ميلك احلق يف إنتاج الرمز وعالقة ذلك بفكريت السلطة والثروة؟ مث ما هو اهلدف السياسي غري املعلن من هذه الوظيفة الرمزية؟‪ .‬غالبًا ما‬
‫كانت خمتلف املسائل تعاجل بالنسبة إىل مدرسة فرانكفورت يف ضوء هذه الثنائية‪ :‬السلطة أو القوة من جهة‪ ،‬والعقالنية واألداتية من‬
‫‪.‬جهة ثانية‬

‫كثريا ضرورة أن يتصدى‬


‫كثريا يف تصوره ملفهوم املثقف‪ ،‬كان أنطونيو غرامشي قد أكد ً‬
‫بالنسبة إىل املسألة األوىل‪ ،‬ومن دون اخلوض ً‬
‫املثقف ملا أمساه ثقافة السلطة‪ ،‬والدفاع باملقابل عن ثقافة الطبقات والفئات اليت ينتمي إليها اجتماعيًّا أو سياسيًّا‪ .‬ويف الكثري من‬
‫نظاما‬
‫تصورا مانويًّا للثقافة‪ :‬فهناك من جهة الثقافة السائدة‪ ،‬وهناك الثقافة املضادة‪ .‬األوىل متثل ً‬
‫الدراسات املعاصرة‪ ،‬يستخدم املفكرون ً‬
‫فكريًّا يؤطر هليمنة أصحاب السلطة‪ ،‬وكل من يدافع عن هذا النظام أمساه غرامشي مثق ًفا تقليديًّا أو مثق ًفا حمافظًا كما جيري تصوره‬
‫اليوم‪ ،‬أما املثقف احلقيقي يف رأيه فهو املثقف العضوي الذي يدافع عما يسمى حاليًّا بالثقافة املضادة‪ ،‬وهي التصور الفكري املضاد‬
‫‪.‬للنظام الفكري للمهيمن واملدافع باألساس عن حق بقية الطبقات يف تكريس أفكارها ورموزها‬

‫وف ًقا هلذا التصور‪ W،‬نكون إزاء تصور جديد ومكتمل للثقافة يبتعد عن مشولية األمنوذج األنثروبولوجي ويعيد بناء املفهوم العامي املرتبط‬
‫بوصف املتعلم على أسس أكادميية‪ ،‬حيث يصبح مفهومنا للثقافة يعين استخدام خمتلف أصناف املعرفة املكتسبة واملنتجة ال يف طريقها‬
‫‪.‬األكادميي والعملي املتخصص‪ ،‬وإمّن ا يف إطار كفاح ومقاومة اجتماعية ألي مسعى الحتكار السلطة واهليمنة داخل اجملتمع‬

‫إضافة إىل إنتاج الفكر‪ ،‬مثة مكون آخر نبه إليه املفكر الفلسطيين عزمي بشارة‪ ،‬وهذا املكون يفسر لنا ملاذا ال يرتبط مفهوم‪ W‬املثقف كما‬
‫توجها سياسيًّا معينًا‪ ،‬وأفضل توصيف هلذا سيكون‬
‫سنتناوله الح ًقا بطبقة اجتماعية أو مهنية أو ثقافية بعينها‪ .‬إ ّن فكرة املقاومة تتضمن ً‬
‫وأفكارا متخصصة بقضايا السلطة داخل اجلماعة‪،‬‬
‫ً‬ ‫االستعانة مبفهوم "املوقف العمومي"[‪ ،]4‬فبعض املثقفني قد ال ينتجون معارف‪W‬‬
‫مفهوما أوسع يتضمن إنتاج األفكار وكذا‬
‫ً‬ ‫ولكنهم يتخذون مواقف معلنة عموميًّا جتاه هذه القضايا‪ ،‬وبذلك فإ ّن الوظيفة الرمزية تصبح‬
‫‪.‬املواقف‬

‫مفهوما‪ W‬وسطيًّا للثقافة يقع بني التصور األنثروبولوجي البالغ الشمول وبني املفهوم العامي‬
‫ً‬ ‫مهما لنبين‬
‫سيشكل تصورنا اجلديد مدخالً ًّ‬
‫البالغ السطحية‪ ،‬حيث سيكون باإلمكان حتديد طبيعة الوظائف املرتبطة بالثقافة كما ميكن تصورها داخل الفضاء العام ممثالً يف وسائل‬
‫‪:‬اإلعالم‪ .‬إ ّن املهن اليت تدخل ضمن هذا اإلطار ميكن تقسيمها إىل شقني‬
‫الشق األول‪ :‬حيتضن الفئات اليت تنتج األفكار العمومية حول األشكال الالزمة للحياة االجتماعية‪ ،‬وتتمثل باألساس يف األدباء‪،‬‬
‫‪...‬الشعراء‪ ،‬األكادمييني يف اجلامعات‪ ،‬الرسامني‪ ،‬الصحفيني‪ ،‬املعلمون‪ ،‬رجال الدين‬

‫الشق الثاين‪ :‬وهو اجملال املفتوح إلنتاج املواقف‪ ،‬ويتضمن خمتلف الفئات االجتماعية واملهنية اليت تنتج إضافة إىل أفكارها املستهلكة‬
‫داخل حقوهلا املهنية مواقف داخل الفضاء العام تستهدف مناقشة قضايا السلطة داخل اجلماعة‪ .‬سنناقش على كل حال يف موقع قادم‬
‫‪.‬حقيقة التزام هذه األطراف بإنتاج الثقافة على هذا النمط‪ ،‬وحقيقة توزيع األدوار بينها‬

‫دورا ووظيفةً ‪2-‬‬


‫‪:‬المثقف بوصفه ً‬
‫إحراجا من‬
‫ً‬ ‫كما أكرب وأكثر‬
‫إذا كان مفهوم‪ W‬الثقافة ضمن حقل حتليل اإلعالم اجلزائري يطرح إشكاليات عديدة فإ ّن مفهوم املثقف يثري ًّ‬
‫األسئلة‪ .‬من الناحية النظرية‪ ،‬حيظى مفهوم املثقف باهتمام واسع يف عدة حقول معرفية‪ ،‬وإن كانت الدراسات األوىل ملفهوم‪ W‬املثقف قد‬
‫ارتبطت بتحليالت علم االجتماع السياسي لفكرة النخبة واألنتلجنسيا مثلما جندها لدى فيلفريدو باريتو وغايتانو موسكا بوصفها‬
‫مفهوما إجرائيًّا ال يقدم لتحليل األدوار االجتماعية والسياسية األداء نفسه ملفهوم‬
‫ً‬ ‫طبقة اجتماعية غري واضحة املعامل‪ ،‬غري أ ّن النخبة‬
‫صوره أنطونيو غرامشي ألول مرة‪ ،‬مث التحليالت اليت تلته‬
‫‪.‬املثقف مثلما ّ‬
‫يعرف علماء االجتماع السياسي النخبة بوصفها طبقة مهيمنة داخل جمال نشاطها‪ ،‬ومن مث يتم احلديث عن خنبة عسكرية‪ ،‬خنبة علمية‬
‫‪.‬وخنبة سياسية[‪ ...]5‬وهذا التصور‪ W‬يطمس إىل حد كبري طبيعة النخبة وتقييمها من طرف ذاهتا ومن طرف اجلماهري‬

‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬فإ ّن مفهوم النخبة سرعان ما يسبب لنا سوءًا يف الفهم ألنّه ال يوضح بدقة ما إذا كان األمر يتعلق بطبقة اجتماعية أم‬
‫مبكانة اجتماعية‪ ،‬وهذا األمر يفسره بشكل جلي جريار لوكلريك يف كتابه سوسيولوجية املثقفني حني يقول بأ ّن النظرة السوسيولوجية‬
‫قمة‬
‫السيئة ملفهوم النخبة واملثقفني تربز من خالل التوجه إىل الفئات والطبقات القريبة مهنيًّا‪ ،‬ثقافيًّا واجتماعيًّا‪ ،‬واليت يكون موقعها يف ّ‬
‫‪.‬السلم االجتماعي[‪]6‬‬

‫متام ا ادعاءات مفهوم النخبة بوصفها طبقة اجتماعية تستقر يف أعلى السلم االجتماعي‪ ،‬بدليل أ ّن‬
‫إ ّن واقع اجملتمعات املعاصرة يفند ً‬
‫التحليل املرتكز على طبيعة جنوم اجملتمع احلايل يكشف بأ ّن النجومية ليست مرتبطة بالضرورة‪ W‬بطبقة اجتماعية بقدر‪ W‬ما هي مرتبطة‬
‫بالتقبل وااللتفاف االجتماعي الذي حيظى به الفرد داخل اجلماعة‪ ،‬فنجوم الرياضة يشكلون حقالً لالستقطاب االجتماعي أكثر من أي‬
‫ذريعا يف تبيان الدور الذي يراد إلباسه للمثقف يف‬
‫التصور األرستقراطي‪ W‬للنخبة قد فشل فشالً ً‬
‫فئات اجتماعية أخرى‪ .‬ميكن القول بأ ّن ّ‬
‫‪.‬اجملتمع احلديث‪ ،‬وهذا ما دفع إىل اعتماد مفهوم‪ W‬املثقف بدالً من النخبة ملا يتعلق األمر بقضايا الشأن العام‬

‫كثريا‪ ،‬فغالبًا ما ينظر إىل الطبقة املهيمنة‬


‫‪ ruling class‬وحىت مفهوم‪ W‬الطبقة املهيمنة الذي يقرتحه بيري بورديو مل يوضح الصورة ً‬
‫ضمن عدة مستويات سوسيولوجية‪ ،‬فهناك طبقة مهيمنة ضمن احلقل الديين‪ ،‬وطبقة مهيمنة يف السياسة[‪ ...]7‬وهذا التصور ال يعكس‬
‫خصوصا فيما يتعلق بآليات اهليمنة كما سنوضح‬
‫ً‬ ‫‪.‬متاما التصور احلديث لدور املثقف‪،‬‬
‫ً‬
‫من هنا يبدو مفهوم‪ W‬املثقف ذا خصوصية أخرى‪ ،‬فاألمر ال يتعلق بطبقة اجتماعية وال بامتداد اجتماعي معني للمثقف‪ W،‬يشري روبرت‬
‫وضعا اجتماعيًّا ساكنًا‪ ،‬وإمّن ا هو سريورة ‪ classless،‬برمي هنا إىل صفتني رئيسيتني للمثقف‪ :‬أوالمها بأنّه غري طبقي‬
‫وثانيهما بأنّه ليس ً‬
‫‪ rootless[8].‬قابلة للتحول ومن دون امتدادات واضحة‬
‫ميكن قراءة فكرة برمي بطريقة أخرى والقول بأ ّن املثقف ليس انتماءً اجتماعيًّا بقدر ما هو دور أو وظيفة اجتماعية ميكن ألي فرد القيام‬
‫جيدا تعريف أنطونيو غرامشي الشهري بأ ّن "كل الناس مثقفون لكن ليس كل الناس يقومون‬
‫هبا ضمن حدود معينة‪ ،‬وهذا ما يفسر ً‬
‫بدور املثقف"‪ ،‬أو تعريف جون بول سارتر الذي حتول إىل شعار‪ ،‬والذي يرى بأ ّن املثقف هو "شخص يتدخل يف الكثري ممّا ال يعنيه"[‬
‫‪]9.‬‬

‫ملتزما‪ ،‬على درجة عالية من التجريد وعدم الدقة‪،‬‬


‫قد يبدو التعريف الذي يقرتحه سارتر‪ ،‬وهو املعروف مبواقفه التارخيية بوصفه مثق ًفا ً‬
‫‪:‬ذلك أنّه يفتح الباب أمام مسألتني رئيسيتني‬

‫هل كل شخص بإمكانه أن يلعب دور املثقف؟ ‪-‬‬

‫ما هي املواضيع اليت يكون فيها التدخل مرادفًا لفاعلية املثقف؟ وما هي احلدود الفاصلة يف فعل التورط فيما ال يعين؟ ‪-‬‬

‫بالنسبة إىل املسألة األوىل‪ ،‬هناك تداخل تارخيي وإجرائي بني مفهوم املثقف ومفهوم‪ W‬املتعلم‪ .‬يوضح جريار لوكلريك بأ ّن وظيفة املثقف‬
‫داخل اجملتمع ترتبط بإنتاج اخلطابات الضامنة هلوية اجلماعة والقيم املركزية السائدة فيها وبثها يف الزمان واملكان‪ ..‬وهذا الذي يقوم به‬
‫املثقف هو ما يسميه لوكلريك الوظيفة الفكرية أو إدارة الرمزي[‪ .]10‬يتطلب هذا الدور باتفاق كل الباحثني جمهودات أكرب من‬
‫كبريا‪ ،‬وهلذا فقد ارتبط من الناحية التارخيية‬
‫املثقف باملقارنة مع بقية أفراد اجملتمع‪ ،‬فالتفرغ إلنتاج األفكار يستلزم مستوى تعليميًّا ً‬
‫بالطبقات اليت متتلك مستويات تعليمية جيدة على غرار العلوم الدينية يف العصور القدمية والعلوم‪ W‬التقنية والتطبيقية واإلنسانية يف العصر‬
‫‪.‬احلديث‬

‫من الناحية التارخيية‪ ،‬لطاملا ارتبط املثقف ضمن املخيال العام بفعل التعليم‪ ،‬ومن الناحية اإلجرائية يشكل املستوى التعليمي أحد األبعاد‬
‫الرئيسية للمثقف‪ W،‬غري أ ّن هذا االرتباط ليس متاثليًّا‪ ،‬وإمّن ا هو احتوائي‪ ،‬فالتعليم يبقى شرطًا أساسيًّا لقيام املثقف‪ ،‬إال أ ّن املثقف قد ال‬
‫حيتاج إىل معرفته تقنيًّا الختاذ املوقف‪ ،‬وإمّن ا حيتاج إليه إلضفاء الشرعية على تدخله يف القضايا املتداولة ضمن الفضاء العمومي‪ ،‬فالناس‬
‫‪.‬عادة ما تثق يف الشخص املتعلم ألنّه األدرى باألمور منها‬

‫يبدو هذا التقدمي مناسبًا للدخول يف تصنيفات املثقفني‪ ،‬فاستخدام املعرفة والتعليم املكتسبني من قبل املثقف يقوده ضمن قضايا الشأن‬
‫العام إىل اختاذ موقف من بني املوقفني‪ :‬فهو إما أن يؤيد الوضع القائم خبصوص القضية العامة أو الثقافة السائدة‪ ،‬وإما أن يعارضه‬
‫ويسعى لتغيريه‪ .‬يسمي أنطونيو غرامشي من يؤيد الوضع القائم باملثقف التقليدي أو كما يسميه بعضهم املثقف احملافظ‪ ،‬يف حني يسمي‬
‫‪...‬من يعارض هذا الوضع باملثقف العضوي‪ ،‬ويفضل الكثريون وصف املثقف الثوري‪ ،‬امللتزم وغري ذلك من التسميات‬

‫ميكن إعادة قراءة هذا التصنيف يف ضوء معطيات عديدة متشعبة التخصصات‪ ،‬ميكن تقدمي أوصاف أخرى هلذين النمطني من املثقفني‬
‫يف ظل تعقيدات اجملتمع املعاصر‪ ،‬وكذا يف ظل معطيات املشهد اإلعالمي املعاصر‪ .‬يف هذا الصدد‪ ،‬ميكن أن نتحدث عن األمنوذج الذي‬
‫والذي ميكن ‪" spin doctor،‬يقرتحه رجال العالقات العامة والصحافة واإلعالم للمثقف‪ W‬احملافظ‪ ،‬وهو ما يسمونه بـ"طبيب الدوران‬
‫تعريفه بأنّه ذلك الذي يتوىل الدفاع عن مسعة املؤسسة ووجهة نظرها‪ ،‬وعادة ما تكون له قدرات اتصال قوية[‪ ،]11‬ليس املقصود‬
‫‪.‬طبعا املؤسسة االقتصادية فحسب‪ ،‬وإمّن ا كل شكل منشآيت‬
‫ً‬
‫تصور طبيب الدوران هذا من أمنوذج املثقف احملافظ‪ .‬يف الكثري من الدول‪ ،‬يالحظ طغيان هذا الطبيب على املشهد العمومي‪،‬‬
‫يقرتب ّ‬
‫حيث يتصدى الكثري من املثقفني للدفاع بشكل شرس عن النظام القائم وتقدمي املربرات اليت قد تدفع بقية الطبقات االجتماعية لتبين‬
‫النظام الثقايف الذي تقرتحه الطبقة املهيمنة‪ .‬ميثل طبيب الدوران ما ميكن أن نسميه متحدثًا أو ناط ًقا باسم السلطة‪ ،‬وهو يفيد يف ذلك‬
‫‪.‬كثريا من تعليمه وشرعيته املعرفية والتقنية‬
‫ً‬
‫جتذر ا من الناحية النظرية لوصف املثقف‪ ،‬وهذا الرأي جنده عن الكثري من‬
‫باملقابل‪ ،‬فإ ّن أمنوذج املثقف الثوري والعضوي‪ W‬يبدو األكثر ً‬
‫املفكرين الذين يرون بأ ّن أصحاب السلطة هم من يتوىل الدفاع عن ثقافتهم ومواقفهم‪ W،‬فيما ميثل املثقف على الدوام الصوت املعارض‪.‬‬
‫تصور عامل االجتماع السياسي الربيطاين جوزيف شومبيرت الذي يؤكد أ ّن إحدى اللمسات اليت متيز املثقفني من‬
‫يف هذا الصدد‪ ،‬نذكر ّ‬
‫غريهم هي السلوك النقدي‪ ،‬وكذا الفرنسي رميون آرون‪ ،‬الذي يرى أ ّن النزوع إىل انتقاد النظام القائم هو املرض املهين للمثقفني[‬
‫‪]12.‬‬

‫مفهوما سياسيًّا شديد االرتباط مبمارسة السلطة داخل اجلماعة‪ ،‬فبقدر ما قد تضمنه الدميقراطية التمثيلية‬
‫ً‬ ‫هكذا ينكشف مفهوم‪ W‬املثقف‬
‫أو التشاركية من حقوق ملختلف الطبقات االجتماعية‪ ،‬فإ ّن مثة حاجة دائمة إلطار معريف وسياسي يضمن التوزيع العادل لإليديولوجيا‬
‫بوصفها وظيفة إلنتاج األفكار واملواقف السياسية‪ .‬إ ّن مسألة قيام املثقف ال تتطلب كما ذكرنا ساب ًقا تأشرية انتماء اجتماعي لطبقة‬
‫حمددة من أجل الدفاع عن مصاحلها‪ ،‬ويكفي أن نذكر هنا بوجهة نظر عامل االجتماع األملاين كارل ماهنامي عندما حتدث عما أمساه‬
‫حر"[‪ ،]13‬واملقصود من ذلك أ ّن طبقة املثقفني اليت تتوىل إنتاج املعرفة داخل اجملتمع هي مؤسسة ال منتمية‬
‫"األنتلجنسيا الطافية بشكل ّ‬
‫اجتماعيًّا‪ ،‬ولكنها تعرب عن كتلة سياسية موحدة تستخدم معرفتها من أجل لعب دور سياسي رئيسي هو ضبط السلطة وفرض الرقابة‬
‫‪.‬عليها‬

‫المثقفون واإلعالم التقليدي‪ :‬تفاوت السلطة‪ ،‬العداء واإلقصاء ‪3-‬‬

‫يستقر دور املثقف على هذا النحو‪ ،‬فإنّه ال مناص عن اخلوض يف مسألة الفضاء العام‪ .‬من الناحية التارخيية‪ ،‬كان لألدباء‬
‫لكي ّ‬
‫مهم يف بلورة الفضاءات العامة الربجوازية مثلما يقول جورغن هابرماس‪ ،‬إذ كانت املقاهي هي املكان األنسب حينها‬
‫والفالسفة دور ّ‬
‫أيضا خطاب مواقف يسعى لبلوغ‬
‫دورا اجتماعيًّا فحسب‪ ،‬بل هو ً‬
‫ملناقشة القضايا العامة وإيصال صوت املثقف للعامة‪ .‬إ ّن املثقف ليس ً‬
‫‪.‬العمومية ومنافسة بقية اخلطابات اليت تسعى للهيمنة‬

‫متثل وسائل اإلعالم مسل ًكا حمتمالً يأخذه خطاب املثقف لبلوغ اجلماهري‪ ،‬بل إهّن ا املسلك الوحيد هلذا العصر‪ ،‬إذ يكفي أن نراجع بعض‬
‫أفكار مارشال مالكوهان على غرار فكرة أ ّن التلفزيون‪ W‬واألقمار الصناعية وتقنيات االتصال اإللكرتوين هو ما أفرز العامل‪/‬القرية‬
‫بالشكل احلايل‪ ،‬ويضيف واحد من أهم مطوري‪ W‬أعماله‪ ،‬الفيلسوف‪ W‬الفرنسي روجيس دوبري بأ ّن عامل البشر املعاصر هو أقرب ما‬
‫خاص صنعته التقنية اليت مسحت بنقل األفراد وتناقل الرسائل يف أزمنة ‪ une mediasphère‬يكون إىل فضاء ميديائي‬
‫ذي طابع ّ‬
‫املستمر‪ ،‬ومن هنا جيب االنتباه إىل وجود‬
‫ّ‬ ‫قياسية[‪ .]14‬ويضيف دوبري بأ ّن هذا الفضاء ذو طابع تارخيي‪ ،‬أي أنّه خيضع لقانون التغرّي‬
‫أهم هذه الفاعليات‪،‬‬
‫واحدا من ّ‬
‫العديد من الفاعليات اليت حتفز هذا التغرّي الذي يرتبط على حنو أو آخر مبسألة السلطة‪ .‬ميثل املثقف ً‬
‫ويتحول تدرجييًّا إىل عنصر حمايد أو‬
‫ّ‬ ‫التحرك داخل هذا الفضاء ضمن ما هو متوافر له من سلطة‪ ،‬يفقد املثقف صفة الفاعلية‬
‫ومن دون ّ‬
‫‪.‬سليب‬
‫يبقى من اخلطأ حتميل كامل املسؤولية للمثقفني يف ضياع الفاعلية‪ ،‬إذ جيب االنتباه كما أسلفنا ساب ًقا إىل أ ّن دور املثقف سياسي‬
‫دائما هو ساحة‬
‫مفروشا بالورود‪ ،‬إذ الفضاء العام حبسب هابرماس ً‬
‫ً‬ ‫تصور أن جيد املثقفون‪ W‬الطريق إىل غايتهم‬
‫بامتياز‪ ،‬ومن الساذج ّ‬
‫ملعارك بني أطراف تبحث عن شرعية وسط صراع بني العدالة املطلوبة معياريًّا وحقيقة املصاحل اخلاصة[‪ .]15‬ميثل املثقف مشروع حالة‬
‫معيارية تسعى لتحقيق اخلري العادل‪ ،‬ولكن علينا أن نتنبّه إىل أ ّن معيارية هابرماس هي طرح أمنوذجي ال يعكس الواقع بقدر ما يدعو يف‬
‫‪.‬الغالب إىل إزاحته‬

‫الواقع أ ّن وظيفة املثقف جتد نفسها يف مواجهة حقيقة الباراديغم الصحفي‪ ،‬فاإلعالم يبقى جزءًا من منظومة السلطة اليت تتحقق من‬
‫حكرا على من ميتلك السلطة‪.‬‬
‫خالهلا املصاحل اخلاصة‪ ،‬ومن مثّ‪ ،‬فقد واجه املثقفون اإلقصاء من الظهور على وسائل اإلعالم اليت بقيت ً‬
‫لقد جنم عن ذلك حالة عداء صرحية بني املثقف ووسائل اإلعالم‪ ،‬ميكن تلمسها يف العديد من اآلراء‪ ،‬من كارل بوبر ووصفه للتلفزيون‬
‫بأنّه وسيلة فاشلة للتعليم‪ ،‬إىل بيري بورديو وهتكمه على املبالغة يف منح كامل األولوية لألودميات‪ ،‬ووصوالً إىل نقد الثقافة اجلماهريية من‬
‫‪.‬قبل عدد معترب من مفكري مدرسة‪ W‬فرانكفورت ومعهد‪ W‬برمنغهام‬

‫جسيما على عالقتها باملثقف‪ ،‬سواء على املستوى اهليكلي‬


‫ً‬ ‫ضررا‬
‫إ ّن استحكام مقاربة االقتصاد السياسي يف عمل وسائل اإلعالم خلف ً‬
‫أو على مستوى اخلطاب‪ .‬على املستوى اهليكلي‪ ،‬تبدو وظيفة املثقف حمكومة مبحددات ختتلف عن تلك اليت حتكم وظيفة الصحفي‪ ،‬إذ‬
‫عجزت الكثري من وسائل اإلعالم عن إجياد حالة انفصال ولو من طرف واحد عن مصادر املال والسلطة‪ ،‬فيما تعترب هذه املصادر الوثن‬
‫يكرس وجهات النظر‬
‫األول الذي يسعى املثقفون‪ W‬لتحطيمه‪ .‬أما على مستوى اخلطاب‪ ،‬فإ ّن ما يقدمه اإلعالم هو خطاب مؤدجل ّ‬
‫‪.‬املهيمنة ويطمس كل تلك املعارضة‬

‫على الرغم من اهرتاء هذه العالقة‪ ،‬مل يفقد املثقفون األمل يف الظهور على وسائل اإلعالم وتفعيل دورهم داخلها وض ّدها‪ ،‬إذ ينتهزون‬
‫كل فرصة لبلوغ الفضاء العام عربها من أجل رفع شعارات معادية ألحادية اخلطاب اإلعالمي املهيمن‪ ،‬ولكن هذه الفرص نادرة جدًّا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد يصل الصراع ليس جملرد اإلقصاء فحسب‪ ،‬بل إىل حد جعل املثقفني مادة دعائية من قبل اإلعالم‪ ،‬حيث يتحدث ريتشارد رووك‬
‫املضاد للمثقفني‬
‫ّ‬ ‫يسميه التيار‬
‫عما ّ‬
‫يف إجنلرتا‪ ،‬والذي حتدث عنه إدوارد سعيد كما رأينا آن ًفا‪ ،‬حيث ‪ّ anti-intellectualisme‬‬
‫تكرست فكرة ذات خلفية غامضة تقول بأ ّن وسائل اإلعالم تنقل الوقائع يف حالتها العذراء‪ ،‬اخلام واملوضوعية‪ ،‬فيما حياول املثقفون‪W‬‬
‫ّ‬
‫‪.‬تشويهها مبواقفهم وشروحاهتم[‪]16‬‬

‫مباشرا يف ذلك‪،‬‬
‫وعلى الرغم من أ ّن رووك مل يتّهم اإلعالم صراحة حبشو هذه الفكرة يف خميال اجلماهري إال أنّه ملّح ضمنيًّا لكونه سببًا ً‬
‫على األقل من خالل الشعارات اليت يرفعها على غرار املوضوعية‪ ،‬املصداقية‪ ،‬احلقيقة وفقط‪ ..‬واليت هي شعارات جوفاء يف الغالب‪،‬‬
‫ذلك أ ّن جوهر الباراديغم الصحفي مرتبط بإنتاج اخلطابات االستهوائية وتسويقها‪ ،‬وهي املنبثقة عن مراكز السلطة والساعية ملضاعفة‬
‫وبعيدا عن أي معيارية‪ ،‬فإ ّن املثقف واجه صعوبة بالغة يف حتدي وسائل اإلعالم‪ ،‬ألنّه مل‬
‫مكاسبها‪ ،‬يف غياب أي ممارسة نقدية فعلية‪ً .‬‬
‫جمرد من أي سلطة متكنه من النفاذ خبطاباته إىل العمومية‬
‫‪.‬يكن يتحداها هي بقدر ما كان يقاوم املراكز الفعلية للسلطة‪ W‬يف اجملتمع وهو ّ‬
‫المثقفون والمنعرج اإللكتروني‪ :‬تحوالت السلطة وخطر النشوة ‪4-‬‬
‫لتحول هيكلي عميق يف موازين السلطة بني الطرفني‪ .‬لقد‪ W‬ش ّكل بزوغ اإلعالم اجلديد مولد‪ W‬شكل‬
‫يف السنوات األخرية‪ ،‬هناك مالمح ّ‬
‫جديد من االتصال على النطاقات االجتماعية‪ ،‬إذ أصبح إنتاج اخلطابات املستهلكة عموميًّا ال مركزيًّا‪ ،‬وما تراجع االعتماد على‬
‫اإلعالم التقليدي وتعاظم استخدام شبكات التواصل االجتماعي وتأثريها إال نتيجة حتمية لذلك‪ .‬لقد أصبح بإمكان أي فرد أن يلج‬
‫مست الوسيط فقط‪ ،‬أي أنّه‬
‫إىل الشبكة‪/‬الفضاء العمومي اجلديد ويقدم من املواقف ما يستطيع‪ ،‬وهذا التغرّي ال يرتبط حبالة التطور اليت ّ‬
‫‪.‬ليس خاصية ميديولوجية فحسب‪ ،‬بل هو هتديد حمتمل لألشكال التقليدية للسلطة‪ W‬يف اجملتمع‬

‫حنن نعيش اآلن يف زمن جمتمع الشبكة‪ ،‬وهو جمتمع برأي مانويل كاستيلز‪ ،‬يتجاوز األمنوذج البريوقراطي العمودي للسلطة‪ W‬إىل أمنوذج‬
‫نوعا من الروح‬
‫أفقي متعدد الفاعلني ويضمن سالسة وحرية ومرونة أكرب يف نقل املعلومات واملوارد[‪ .]17‬خيلق اجملتمع الشبكي ً‬
‫ويسهل هبذا الشكل على املثقفني أن يكونوا فاعلني ذوي سلطة ولو أفقية‪ anti-institutionnalisme، ،‬املعادية للمأسسة‬
‫ّ‬
‫وبفضل شبكات التواصل االجتماعي سيكون بإمكاهنم ولوج الفضاء العام من دون أي اعتبار لكوابح اإلعالم التقليدي أو كل القوى‬
‫حتديد ا ما قصده عزمي بشارة حينما حتدث عن فضاء تواصلي عقالين بإمكانه استيعاب وظيفة‬
‫اليت تسعى لتجريده من سلطته‪ ،‬وهذا ً‬
‫‪.‬املثقف العمومي‪]18[W‬‬

‫يطرح وصف العقالين هنا مالحظتني أساسيتني‪ ،‬أوالمها هي حالة انتقام التاريخ لذاته من خالل استعادة املثقف لسلطته املصادرة بفعل‬
‫للسلطة‪ W‬يف اجملتمع التقليدي‪ ،‬فميالد هذا الفضاء التواصلي العقالين كان حبسب هنري جينكينز يف حلظة الصدام بني امليديا‬
‫النظام األفقي ّ‬
‫القدمية وتلك اجلديدة‪ ،‬وسيكون املثقفون‪ W‬قادة جيدين ملا يسميه جينكينز الذكاء اجلماعي بديالً لسلطة‪ W‬وسائل اإلعالم التقليدية[‪.]19‬‬
‫حتديدا تراث كل من ماكس فيرب وميشال فوكو‪ ،‬إذ مل يعد التنظري‬
‫إنّنا حباجة هنا إىل أن نعيد النظر يف بعض نظريات السلطة‪ ،‬ومنها ً‬
‫العمودي للسلطة ذا فائدة تفسريية يف ظل بروز هذا الشكل اجلديد من السلطة‪ ،‬ذلك الذي ميكن لكل شخص أن يستحوذ عليه بأقل‬
‫‪.‬جمهود‬

‫أما املالحظة الثانية‪ ،‬وهي األهم يف نظري‪ ،‬فهي ضرورة إخضاع وصف العقالنية ملراجعة نقدية استباقية‪ ،‬فإحقاق التاريخ للعدالة ال‬
‫جيب أن يعمينا عن حقيقة السلطة ونشوهتا‪ ،‬ويف هذا الصدد ينبغي استذكار عبارة فريديريك نيتشه الشهرية "وأنت حتارب الوحوش‬
‫وحشا"‪ .‬إذا ما حدث وأعادت شبكات التواصل للمثقف سلطته املصادرة‪ ،‬فإ ّن أول خطر يواجهه هو نفسه‬
‫احذر من أن تصبح ً‬
‫املنتشية باالنتصار وبالطرق السريعة واملفتوحة حنو السلطة‪ ،‬ما قد يوقعه يف فخ نسيان وظيفته األساسية باعتباره ضامنًا للتوزيع العادل‬
‫‪.‬لألفكار واإليديولوجيا‬

‫أمام هذا التحول العميق الذي ال يزال يد ّشن بداياته فقط‪ ،‬ال مناص من طرح العديد من األسئلة‪ :‬هل يدرك املثقف حجم السلطة اليت‬
‫تتعرض هذه السلطة‬
‫صار ميتلكها؟ هل ميتلك مناعة ضد غوايتها؟ هل ميكن أن تنحرف هذه السلطة عن غاياهتا النبيلة؟ وهل ميكن أن ّ‬
‫للتعسف‪ W‬من قبل املثقف األنثروبولوجي والعامي؟ ينبغي من اآلن إقامة حدود بيّنة بلغة رجييس دوبري لكي ال يتماهى الضحية مع‬
‫ّ‬
‫نيب للعدالة‪ W،‬ال خارج عن القانون‬
‫‪.‬اجلالد‪ ،‬فاملثقف يف النهاية هو ّ‬
‫بالنسبة إىل اخلروج عن القانون‪ ،‬مثة ما جيب مالحظته‪ .‬لقد انتبهت األنظمة التقليدية للسلطة إىل تنامي سطوة شبكات التواصل‬
‫مقتصرا على وسائل اإلعالم التقليدية فقط‪ ،‬بل هناك مؤشرات‬
‫ً‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وسارعت إىل حتيني ترسانتها القانونية‪ ،‬فلم يعد التضييق‬
‫حتو ل آخر يف طبيعة التشريع حنو اجلرائم اإللكرتونية‪ ،‬ما يستدعي من املثقف أن يكون أكثر ذكاءً وأكثر عقالنيةً لكي ال‬
‫قوية عن ّ‬
‫سدى‬
‫ستنزف سلطته ً‬
‫‪.‬تُ َ‬

‫لويس دولو‪ :‬الثقافة الفردية وثقافة اجلمهور‪ .‬ترمجة‪ :‬عادل العوا‪ .‬منشورات عويدات‪ .‬بريوت‪ .1982 .‬ص ‪[1] 15‬‬

‫طوين بينيت وآخرون‪ :‬مفاتيح اصطالحية جديدة‪ :‬معجم مصطلحات الثقافة واجملتمع‪ .‬ترمجة‪ :‬سعيد الغامني‪ .‬املنظمة العربية ]‪[2‬‬
‫للرتمجة‪ .‬بريوت‪ .2010 .‬ص ‪225‬‬

‫رميون بودون وفرانسوا بوريكو‪ .‬املعجم النقدي لعلم‪ W‬االجتماع‪ .‬ترمجة‪ :‬سليم حداد‪ .‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ .‬اجلزائر‪[3] .1986 .‬‬
‫ص ‪232-231‬‬

‫عزمي بشارة‪ :‬عن املثقف والثورة‪ .‬جملة تبني‪ .‬املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات‪ .‬الدوحة‪ .‬العدد ‪ .2013 .4‬ص ‪[4] 128‬‬

‫رميون بودون وفرانسوا بوريكو‪ :‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪[5] 553‬‬

‫جريار لوكلريك‪ :‬سوسيولوجيا املثقفني‪ .‬ترمجة‪ :‬جورج كتورة‪ .‬دار الكتاب اجلديد‪ .‬بريوت‪ .2008 .‬ص ‪[6] 14‬‬

‫‪[7] Edgar Borgata & Rhonda Montgomery: Encyclopedia of sociology. McMillan.‬‬


‫‪New York. 2000. p. 1356.‬‬

‫روبرت برمي‪ :‬املثقفون‪ W‬والسياسة‪ .‬ترمجة‪ :‬عاطف أمحد فؤاد‪ .‬دار املعارف‪ .‬بريوت‪ .1985 .‬ص ‪[8] 152‬‬

‫‪[9] Jean Paul Sartre: Plaidoyer pour les intellectuels. Gallimard. Paris. 1972. P. 12.‬‬

‫جريار لوكلريك‪ :‬مرجع سابق‪ .‬ص ص ‪[10] 18-17‬‬

‫‪[11] Robert Heath (ed): Encyclopedia of public relations. Sage. London. 2005. P. 835‬‬

‫عزمي بشارة‪ :‬املرجع السابق‪ .‬ص ‪[12] 131‬‬

‫‪[13] Iris Mendel: Mannheim’s free-floating intelligentsia: the role of closeness and‬‬
‫‪distance in the analysis of society. Studies in Social and Political Thought. No12. 2006.‬‬
‫‪P 31.‬‬

‫‪[14] Regis Debray: Media manifesto: On the Technological transmission of cultural‬‬


‫‪forms. Verso. London. 1996. P. 27.‬‬
[15] Thomas McCarthy: Practical discours: On the relations of morality to politics. In.
Craig Calhoun (ed). Habermas and the public sphere. The MIT Press. Camridge. 1996.
P. 54.

[16] Richard Rooke: The contemporary debate on the role of the intellectual and the
media. Contemporary Politics. Vol. 1. N4. 1995. P. 121.

[17] Manuel Castells (ed): The network society: A cross cultural perspective. Edward
Elgar Publishing Limited. Cheltenham. 2004. PP. 4-5.

[18] 132 ‫ ص‬.‫ مرجع سابق‬:‫عزمي بشارة‬

[19] Henry Jenkins: Convergence culture: Where old and new media collide. New
York University Press. New York. 2006. P. 4.

You might also like