You are on page 1of 490

‫‪ | 1‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫رجال حول الرسول صلى هللا عليه وسلم‬


‫خالد محمد خالد‬
‫نبذة ‪ :‬عرض‪  ‬لسير بعض صحابة رسول اهلل ‪ :‬أيامهم ومواقفهم في خدمة الدين ‪ ،‬بأسلوب أدبي راق ‪،‬‬
‫وسرد مشوق ‪ ،‬يثير‪ ‬النفس لعزائم األمور ويقوي روابطها‪ ‬بالصحب الكرام‪ ، ‬وينمي فيها روح العمل‬
‫‪.‬‬ ‫والتضحية لهذا الدين‬

‫مصعب بن عمري‬
‫أول سفراء االسالم‬

‫هذا رجل من أصحاب حممد ما أمجل أن نبدأ به احلديث‪.‬‬


‫غرة فتيان قريش‪ ،‬وأوفاهم مجاال‪ ،‬وشبابا‪..‬‬ ‫ّ‬
‫يصف املؤرخون والرواة شبابه فيقولون‪ ":‬كان أعطر أهل مكة"‪..‬‬
‫وشب حتت مخائلها‪.‬‬
‫وغذي هبا‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ولد يف النعمة‪،‬‬
‫ولعله مل يكن بني فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه مبثل ما ظفر به "مصعب بن عمري"‪..‬‬
‫املنعم‪ ،‬ح‪RR‬ديث حس‪RR‬ان مك‪RR‬ة‪ ،‬ولؤل‪RR‬ؤة ن‪RR‬دواهتا‪ R‬وجمالس‪RR‬ها‪ ،‬أميكن أن يتح‪Rّ R‬ول اىل‬
‫ذل‪RR‬ك الف‪RR‬رت الريّ‪RR‬ان‪ ،‬املدلل ّ‬
‫أسطورة من أساطري االميان والفداء‪..‬؟‬
‫باهلل ما أروعه من نبأ‪ ..‬نبأ "مصعب بن عمري"‪ ،‬أو "مصعب اخلري" كما كان لقبه بني املسلمني‪.‬‬
‫انه واحد من أولئك الذين صاغهم االسالم وربّاهم "حممد" عليه الصالة والسالم‪..‬‬
‫ولكن أي واحد كان‪..‬؟‬
‫ان قصة حياته لشرف لبين االنسان مجيعا‪..‬‬
‫لقد مسع الفىت ذات يوم‪ ،‬ما بدأ أهل مكة يسمعونه من حممد األمني صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫"حممد" الذي‪ R‬يقول أن اهلل أرسله بشريا ونذيرا‪ .‬وداعيا اىل عبادة اهلل الواحد األحد‪.‬‬
‫‪ | 2‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هم هلا‪ ،‬وال ح‪RR‬ديث يش‪RR‬غلها اال الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم‪R‬‬ ‫وحني ك‪RR‬انت مك‪RR‬ة متس‪RR‬ي وتص‪RR‬بح وال ّ‬
‫ودينه‪ ،‬كان فىت قريش املدلل أكثر الناس استماعا هلذا احلديث‪.‬‬
‫ذلك أنه كان على الرغم من حداث‪RR‬ة س‪R‬نه‪ ،‬زين‪RR‬ة اجملالس والن‪R‬دوات‪ ،‬حترص ك‪R‬ل ن‪RR‬دوة أن يك‪RR‬ون مص‪R‬عب‬
‫بني ش‪RR‬هودها‪ ،‬ذل‪RR‬ك أن أناق‪RR‬ة مظه‪RR‬ره ورجاح‪RR‬ة عقل‪RR‬ه كانت‪RR‬ا من خص‪RR‬ال "ابن عم‪RR‬ري ال‪RR‬يت تفتح ل‪RR‬ه القل‪RR‬وب‬
‫واألبواب‪..‬‬
‫ولق‪RR‬د مسع فيم‪RR‬ا مسع أن الرس‪RR‬ول ومن آمن مع‪RR‬ه‪ ،‬جيتمع‪RR‬ون بعي‪RR‬دا عن فض‪RR‬ول ق‪RR‬ريش وأذاه‪RR‬ا‪ ..‬هن‪RR‬اك على‬
‫الصفا يف درا "األرقم بن أيب األرقم" فلم يطل ب‪R‬ه ال‪RR‬رتدد‪ ،‬وال التلبث واالنتظ‪RR‬ار‪ ،‬ب‪RR‬ل ص‪RR‬حب نفس‪RR‬ه ذات‬
‫مساء اىل دار األرقم تسبقه أشواقه ورؤاه‪...‬‬
‫العلي‬
‫هن‪RR‬اك ك‪RR‬ان الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يلتقي بأص‪RR‬حابه فيتل‪RR‬و عليهم الق‪RR‬رآن‪ ،‬ويص‪RR‬لي معهم هلل ّ‬
‫القدير‪.‬‬
‫ومل يكد مصعب يأخذ مكانه‪ ،‬وتنساب اآلي‪RR‬ات من قلب الرس‪RR‬ول متألف‪RR‬ة على ش‪RR‬فتيه‪ ،‬مث آخ‪RR‬ذة طريقه‪RR‬ا‬
‫اىل األمساع واألفئدة‪ ،‬حىت كان فؤاد ابن عمري يف تلك األمسية هو الفؤاد املوعود‪!..‬‬
‫ولقد كادت الغبطة ختلعه من مكانه‪ ،‬وكأنه من الفرحة الغامرة يطري‪.‬‬
‫ولكن الرسول ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم بس‪R‬ط ميين‪R‬ه احلاني‪R‬ة ح‪R‬ىت المس‪R‬ت‪ R‬الص‪R‬در املت‪R‬وهج‪ ،‬والف‪R‬ؤاد املت‪R‬وثب‪،‬‬
‫فك ‪RR‬انت الس ‪RR‬كينة العميق ‪RR‬ة عم ‪RR‬ق احملي ‪RR‬ط‪ ..‬ويف ملح البص ‪RR‬ر ك ‪RR‬ان الف ‪RR‬ىت ال ‪RR‬ذي آمن وأس ‪RR‬لم يب ‪RR‬دو ومع ‪RR‬ه من‬
‫احلكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره‪ ،‬ومعه من التصميم‪ R‬ما يغرّي سري الزمان‪!!!..‬‬
‫كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة يف شخصيتها‪ ،‬وكانت هتاب اىل حد الرهبة‪..‬‬
‫ومل يكن مصعب حني أسلم ليحاذر أو خياف على ظهر األرض قوة سوى امه‪.‬‬
‫فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها‪ ،‬استحالت هوال يقارعه ويصارعه‪ ،‬الستخف به مص‪RR‬عب‬
‫اىل حني‪..‬‬
‫أما خصومة أمه‪ ،‬فهذا هو اهلول الذي ال يطاق‪!..‬‬
‫ولقد فكر سريعا‪ ،‬وقرر أن يكتم اسالمه حىت يقضي اهلل أمرا‪.‬‬
‫‪ | 3‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وظ ‪RR‬ل ي ‪RR‬رتدد على دار األرقم‪ ،‬وجيلس اىل رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم‪ ،‬وه ‪RR‬و قري ‪RR‬ر العني باميان ‪RR‬ه‪،‬‬
‫وبتفاديه غضب أمه اليت ال تعلم خرب اسالمه خربا‪..‬‬

‫ولكن مك‪RR‬ة يف تل‪RR‬ك األي‪RR‬ام بال‪RR‬ذات‪ ،‬ال خيفى فيه‪RR‬ا س‪RR‬ر‪ ،‬فعي‪RR‬ون ق‪RR‬ريش وآذاهنا على ك‪RR‬ل طري‪RR‬ق‪ ،‬ووراء‬
‫كل بصمة قدم فوق رماهلا الناعمة الالهبة‪ ،‬الواشية‪..‬‬
‫ولق‪RR‬د أبص‪RR‬ر ب‪RR‬ه "عثم‪RR‬ان بن طلح‪RR‬ة" وه‪RR‬و ي‪RR‬دخل خفي‪RR‬ة اىل دار األرقم‪ ..‬مث رآه م‪RR‬رة أخ‪RR‬رى وه‪RR‬و سص‪RR‬لي‬
‫كص‪RR‬الة حمم ‪R‬د‪ R‬ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬فس‪RR‬ابق ريح الص‪RR‬حراء وزوابعه‪RR‬ا‪ ،‬شاخص‪RR‬ا اىل أم مص‪RR‬عب‪ ،‬حيث‬
‫ألقى عليها النبأ الذي طار بصواهبا‪...‬‬
‫ووق ‪RR‬ف مص ‪RR‬عب أم ‪RR‬ام أم ‪RR‬ه‪ ،‬وعش ‪RR‬ريته‪ ،‬وأش ‪RR‬راف مك ‪RR‬ة جمتمعني حول ‪RR‬ه يتل ‪RR‬و عليهم يف يقني احلق وثبات ‪RR‬ه‪،‬‬
‫القرآن الذي‪ R‬يغسل به الرسول قلوهبم‪ ،‬وميلؤها به حكمة وشرفا‪ ،‬وعدال وتقى‪.‬‬
‫وتنحت‬‫ومهّت أم‪RR‬ه أن تس‪RR‬كته بلطم‪RR‬ة قاس‪RR‬ية‪ ،‬ولكن الي‪RR‬د ال‪RR‬يت امت‪RR‬دت كالس‪RR‬هم‪ R،‬م‪RR‬ا لبثت أم اس‪RR‬رتخت ّ‬
‫أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وهباءه جالال يفرض االحرتام‪ ،‬وهدوءا يفرض االقناع‪..‬‬
‫ولكن‪ ،‬اذا ك‪RR‬انت أم‪RR‬ه حتت ض‪RR‬غط أمومته‪RR‬ا س‪RR‬تعفيه من الض‪RR‬رب واألذى‪ ،‬ف‪RR‬ان يف مق‪RR‬درهتا‪ R‬أ‪ ،‬تث‪RR‬أر لآلهلة‬
‫اليت هجرها بأسلوب آخر‪..‬‬
‫وهكذا مض‪R‬ت ب‪R‬ه اىل ركن قص‪R‬ي من أرك‪R‬ان داره‪R‬ا‪ ،‬وحبس‪R‬ته في‪R‬ه‪ ،‬وأحكمت علي‪R‬ه اغالق‪R‬ه‪ ،‬وظ‪R‬ل رهني‬
‫حمبسه ذاك‪ ،‬حىت خرج بعض املؤمنني مهاجرين اىل أرض احلبشة‪ ،‬فاحتال لنفسه حني مسع النبأ‪ ،‬وغاف‪RR‬ل‬
‫أمه وحراسه‪ ،‬ومضى اىل احلبشة مهاجرا ّأوابا‪..‬‬
‫ولس ‪RR‬وف ميكث باحلبش ‪RR‬ة م ‪RR‬ع اخوان ‪RR‬ه امله ‪RR‬اجرين‪ ،‬مث يع ‪RR‬ود معهم اىل مك ‪RR‬ة‪ ،‬مث يه ‪RR‬اجر اىل احلبش ‪RR‬ة للم ‪RR‬رة‬
‫الثانية مع األصحاب الذين يأمرهم الرسول باهلجرة فيطيعون‪.‬‬
‫تفوقه‪RR‬ا يف ك‪RR‬ل مك‪RR‬ان وزم‪RR‬ان‪،‬‬ ‫ولكن س‪RR‬واء ك‪RR‬ان مص‪RR‬عب باحلبش‪RR‬ة أم يف مك‪RR‬ة‪ ،‬ف‪RR‬ان جترب‪RR‬ة اميان‪RR‬ه متارس ّ‬
‫ولق ‪R‬د‪ R‬ف‪RR‬رغ من اع‪RR‬داة ص‪RR‬ياغة حيات‪RR‬ه على النس‪RR‬ق اجلدي‪RR‬د ال‪RR‬ذي‪ R‬أعط‪RR‬اهم حمم‪RR‬د منوذج‪RR‬ه املخت‪RR‬ار‪ ،‬واطم‪RR‬أن‬
‫مصعب اىل أن حياته قد صارت جديرة بأن تق ّدم قربانا لبارئها األعلى‪ ،‬وخالقها العظيم‪..‬‬
‫‪ | 4‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫خ‪RR‬رج يوم‪RR‬ا على بعض املس‪RR‬لمني وهم جل‪RR‬وس ح‪RR‬ول رس‪RR‬ول اهلل‪ ،‬فم‪RR‬ا ان بص‪RR‬روا ب‪RR‬ه ح‪RR‬ىت حن‪RR‬وا رؤوس‪RR‬هم‪R‬‬
‫وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيوهنم دمعا شجيّا‪..‬‬
‫ذل‪RR‬ك أهنم رأوه‪ ..‬يرت‪RR‬دي جلباب‪RR‬ا مرقع‪RR‬ا بالي‪RR‬ا‪ ،‬وع‪RR‬اودهتم ص‪RR‬ورته األوىل قب‪RR‬ل اس‪RR‬المه‪ ،‬حني ك‪RR‬انت ثياب‪RR‬ه‬
‫كزهور احلديقة النضرة‪ ،‬وألقا وعطرا‪..‬‬
‫ومتلى رسول اهلل مشهده بنظرات حكيمة‪ ،‬شاكرة حمبة‪ ،‬وتألقت على شفتيه ابتسامته اجلليلة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" لقد رأيت مصعبا هذا‪ ،‬وما مبكة فىت أنعم عند أبويه منه‪ ،‬مث ترك ذلك كله حبا هلل ورسوله"‪!!.‬‬
‫ردت ‪RR‬ه ك ‪RR‬ل م ‪RR‬ا ك ‪RR‬انت تفيض علي ‪RR‬ه من نعم ‪RR‬ة‪ ..‬وأبت أن يأك ‪RR‬ل طعامه ‪RR‬ا‬ ‫لق ‪RR‬د منعت ‪RR‬ه أم ‪RR‬ه حني يئس ‪RR‬ت من ّ‬
‫انسان هجر اآلهلة وحاقت به لعنتها‪ ،‬حىت ولو يكون هذا االنسان ابنها‪!!..‬‬
‫مرة أخرى بعد رجوعه من احلبشة‪ .‬فآىل على نفس‪RR‬ه لئن‬ ‫ولقد كان آخر عهدها به حني حاولت‪ R‬حبسه ّ‬
‫هي فعلت ليقتلن كل من تستعني به على حبسه‪..‬‬
‫هم وعزم‪ ،‬فودعته باكية‪ ،‬وودعها باكيا‪..‬‬ ‫واهنا لتعلم صدق عزمه اذا ّ‬
‫وكش ‪RR‬فت‪ R‬حلظ ‪RR‬ة ال ‪RR‬وداع عن اص ‪RR‬رار عجيب على الكف ‪RR‬ر من ج ‪RR‬انب األم واص ‪RR‬رار أك ‪RR‬رب على االميان من‬
‫ج ‪RR‬انب االبن‪ ..‬فحني ق ‪RR‬الت‪ R‬ل ‪RR‬ه وهي خترجهمن بيته ‪RR‬ا‪ :‬اذهب لش ‪RR‬أنك‪ ،‬مل أع ‪RR‬د ل ‪RR‬ك ّأم ‪RR‬ا‪ .‬اق ‪RR‬رتب منه ‪RR‬ا‬
‫وق ‪RR R‬ال‪":‬ي ‪RR R‬ا ّأم‪RR R‬ه اين ل ‪RR R‬ك ناص ‪RR R‬ح‪ ،‬وعلي ‪RR R‬ك ش ‪RR R‬فوق‪ ،‬فاش ‪RR R‬هدي‪ R‬بأن ‪RR R‬ه ال ال ‪RR R‬ه اال اهلل‪ ،‬وأن حمم ‪RR R‬دا عب ‪RR R‬ده‬
‫ورسوله"‪...‬‬
‫أجابته غاضبة مهتاجة‪ ":‬قسما بالثواقب‪ ،‬ال أدخل يف دينك‪ ،‬فيزرى برأيي‪ ،‬ويضعف غقلي"‪!!..‬‬
‫وخ‪RR‬رج مص‪RR‬عب من العنم‪RR‬ة الوارف‪RR‬ة ال‪RR‬يت ك‪RR‬ان يعيش فيه‪RR‬ا م‪RR‬ؤثرا الش‪RR‬ظف والفاق‪RR‬ة‪ ..‬وأص‪RR‬بح الف‪RR‬ىت املت‪RR‬أنق‬
‫املعطّ‪RR R‬ر‪ ،‬ال ي‪RR R‬رى اال مرت‪RR R‬ديا أخش‪RR R‬ن الثي‪RR R‬اب‪ ،‬يأك‪RR R‬ل يوم‪RR R‬ا‪ ،‬وجيوع أيام‪RR R‬او ولكن روح‪RR R‬ه املتأنق‪RR R‬ة بس‪RR R‬مو‬
‫العقيدة‪ ،‬واملتألقة بنور اهلل‪ ،‬كانت قد جعلت منه انسانا آخر ميأل األعني جالل واألنفس روعة‪...‬‬
‫**‬
‫وآنئ‪R‬ذ‪ ،‬اخت‪R‬اره الرس‪R‬ول ألعظم مهم‪R‬ة يف حينه‪R‬ا‪ :‬أن يك‪R‬ون س‪R‬فريه اىل املدين‪R‬ة‪ ،‬يف ّق‪R‬ه األنص‪R‬ار‪ R‬ال‪R‬ذين آمن‪R‬وا‬
‫وبايعوا الرسول عند العقبة‪ ،‬ويدخل غريهم يف دين اهلل‪ ،‬ويع ّد املدينة ليوم اهلجرة العظيم‪..‬‬
‫‪ | 5‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ك‪RR‬ان يف أص‪RR‬حاب رس‪RR‬ول اهلل يومئ‪RR‬ذ من هم أك‪RR‬رب من‪RR‬ه س‪RR‬نّا وأك‪RR‬ثر جاه‪RR‬ا‪ ،‬وأق‪RR‬رب من الرس‪RR‬ول قراب‪RR‬ة‪..‬‬
‫ولكن الرس‪RR‬ول اخت‪RR‬ار مص‪RR‬عب اخلري‪ ،‬وه‪RR‬و يعلم أن‪RR‬ه يك‪RR‬ل الي‪RR‬ه ب‪RR‬أخطر قض‪RR‬ايا الس‪RR‬اعة‪ ،‬ويلقي بني يدي‪RR‬ه‬
‫مص‪RR‬ري االس‪RR‬الم يف املدين‪RR‬ة ال‪RR‬يت س‪RR‬تكون دار اهلج‪RR‬رة‪ ،‬ومنطل‪RR‬ق ال‪RR‬دعوة وال‪RR‬دعاة‪ ،‬واملبش‪RR‬رين والغ‪RR‬زاة‪ ،‬بع‪RR‬د‬
‫حني من الزمان قريب‪..‬‬
‫ومحل مصعب األمانة مس‪R‬تعينا مبا أنعم اهلل علي‪R‬ه من رجاح‪R‬ة العق‪R‬ل وك‪R‬رمي اخلل‪R‬ق‪ ،‬ولق‪R‬د غ‪R‬زا أفئ‪R‬دة املدين‪R‬ة‬
‫وأهلها بزهده وترفعه واخالصه‪ ،‬فدخلوا يف دين اهلل أفواجا‪..‬‬

‫لق‪R‬د جاءه‪R‬ا ي‪R‬وم بعث‪R‬ه الرس‪R‬ول اليه‪R‬ا وليس فيه‪R‬ا س‪R‬وى اث‪R‬ين عش‪R‬ر مس‪R‬لما هم ال‪R‬ذين ب‪R‬ايعوا الن‪R‬يب من قب‪R‬ل‬
‫بيعة العقبة‪ ،‬ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حىت استجابوا هلل وللرسول‪!!..‬‬
‫ويف موس‪RR‬م احلج الت‪RR‬ايل لبيع‪RR‬ة العقب‪RR‬ة‪ ،‬ك‪RR‬ان مس‪RR‬لمو املدين‪RR‬ة يرس‪RR‬لون اىل مك‪RR‬ة للق‪RR‬اء الرس‪RR‬ول وف‪RR‬دا ميثلهم‬
‫وين‪R‬وب عنهم‪ ..‬وك‪R‬ان ع‪R‬دد أعض‪R‬ائه س‪R‬بعني مؤمن‪R‬ا ومؤمن‪R‬ة‪ ..‬ج‪R‬اءوا حتت قي‪R‬ادة معلمهم‪ R‬ومبع‪R‬وث ن‪R‬بيهم‬
‫اليهم "مصعب ابن عمري"‪.‬‬
‫لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بالئه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عرف كيف خيتار‪..‬‬
‫فلق‪RR‬د فهم مص‪RR‬عب رس‪RR‬الته متام‪RR‬ا ووق‪RR‬ف عن‪RR‬د ح‪RR‬دودها‪.‬ز ع‪RR‬رف أن‪RR‬ه داعي‪RR‬ة اىل اهلل تع‪RR‬اىل‪ ،‬ومبش‪RR‬ر بدين‪RR‬ه‬
‫الذي يدعوا الناس اىل اهلدى‪ ،‬واىل صراط مستقيم‪ .‬وأنه كرسوله الذي آمن به‪ ،‬ليس عليه اال البالغ‪..‬‬
‫هناك هنض يف ضيافة "أسعد مب زرارة" يفشيان مع‪RR‬ا القبائ‪RR‬ل والب‪RR‬ويت‪ R‬واجملالس‪ ،‬تالي‪RR‬ا على الن‪RR‬اس م‪RR‬ا ك‪RR‬ان‬
‫معه من كتاب ربه‪ ،‬هاتفا بينهم يف رفق عظيم بكلمة اهلل (امنا اهلل اله واحد)‪..‬‬
‫تعر ض لبعض املواقف اليت كان ميكن أن تودي به ومبن معه‪ ،‬لوال فطنة عقله‪ ،‬وعظمة روحه‪..‬‬ ‫ولقد ّ‬
‫ذات ي ‪RR‬وم فاج ‪RR‬أه وه ‪RR‬و يع ‪RR‬ظ االنس "أس ‪RR‬يد بن خض ‪RR‬ري" س ‪RR‬يد ب ‪RR‬ين عب ‪RR‬د األش ‪RR‬هل باملدين ‪RR‬ة‪ ،‬فاج ‪RR‬أه ش ‪RR‬اهرا‬
‫حربته ‪RR‬و يت ‪RR‬وهج غض ‪RR‬با وحنق ‪RR‬ا على ه ‪RR‬ذا ال ‪RR‬ذي ج ‪RR‬اء يفنت قوم ‪RR‬ه عن دينهم‪ ..‬وي ‪RR‬دعوهم هلج ‪RR‬ر آهلتهم‪،‬‬
‫وحيدثهم‪ R‬عن اله واحد مل يعرفوه من قبل‪ ،‬ومل يألفوه من قبل‪!..‬‬
‫ان آهلتهم معهم رابض‪RR‬ة يف جمامثه‪RR‬او اذا حتاجه‪RR‬ا أح‪RR‬د ع‪RR‬رف مكاهنا ووىل وجه‪RR‬ه س‪RR‬اعيا اليه‪RR‬ا‪ ،‬فتكش‪RR‬ف‬
‫ضره وتليب دعاءه‪ ...‬هكذا يتصورون ويتومهون‪..‬‬ ‫ّ‬
‫‪ | 6‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أم ‪RR‬ا ال ‪RR‬ه حمم ‪RR‬د ال ‪RR‬ذي ي ‪RR‬دعوهم الي ‪RR‬ه بامسه ه ‪RR‬ذا الس ‪RR‬فري الواف ‪RR‬د اليهم‪ ،‬فم ‪RR‬ا أح ‪RR‬د يع ‪RR‬رف مكان ‪RR‬ه‪ ،‬وال أح ‪RR‬د‬
‫يستطيع أن يراه‪!!..‬‬
‫وم‪RR‬ا ان رأى املس‪RR‬لمون ال‪RR‬ذين ك‪RR‬انوا جيالس‪RR‬ون مص‪RR‬عبا مق‪RR‬دم أس‪RR‬يد ابن حض‪RR‬ري متوش‪RR‬حا غض‪RR‬به املتلظي‪،‬‬
‫وثورته املتحفزة‪ ،‬حىت وجلوا‪ ..‬ولكن مصعب اخلري ظل ثابتا وديعا‪ ،‬متهلال‪..‬‬
‫وقف اسيد أمامه مهتاجا‪ ،‬وقال خياطبه هو وأسعد بن زرارة‪:‬‬
‫"ما جاء بكما اىل حيّنا‪ ،‬تسهفان ضعفاءنا‪..‬؟ اعتزالنا‪ ،‬اذا كنتما ال تريدان اخلروج من احلياة"‪!!..‬‬
‫ويف مثل هدوء البحر وقوته‪..‬‬
‫وحترك باحلديث الطيب لس ‪RR‬انه‬ ‫ويف مث ‪RR‬ل هتل ‪RR‬ل ض ‪RR‬وء الفج ‪RR‬ر ووداعت ‪RR‬ه‪ ..‬انف ‪RR‬رجت أس ‪RR‬ارير مص ‪RR‬عب اخلري ّ‬
‫فقال‪:‬‬
‫"أوال جتلس فتستمع‪..‬؟! فان رضيت أمرنا قبلته‪ ..‬وان كرهته كففنا عنك ما تكره"‪.‬‬
‫اهلل أكرب‪ .‬ما أروعها من بداية سيسعد هبا اخلتام‪!!..‬‬
‫ك‪RR‬ان أس‪RR‬يد رجال أريب‪RR‬ا ع‪RR‬اقال‪ ..‬وه‪RR‬ا ه‪RR‬و ذا ي‪RR‬رى مص‪RR‬عبا حيتكم مع‪RR‬ه اىل ض‪RR‬مريه‪ ،‬في‪RR‬دعوه أن يس‪RR‬مع ال‬
‫غ ‪RR‬ري‪ ..‬ف ‪RR‬ان اقتن ‪RR‬ع‪ ،‬ترك ‪RR‬ه القتن ‪RR‬اعهو وان مل يقتن ‪RR‬ع ت ‪RR‬رك مص ‪RR‬عب حيّهم وعش ‪RR‬ريهتم‪ ،‬وحتول اىل حي آخ ‪RR‬ر‬
‫مضار‪..‬‬
‫ضار وال ّ‬ ‫وعشرية أخرى غري ّ‬
‫هنالك أجابه أسيد قائال‪ :‬أنصفت‪ ..‬وألقى حربته اىل األرض‪ R‬وجلس يصغي‪..‬‬
‫ومل يكد مصعب يقرأ القرآن‪ ،‬ويفسر الدعوة اليت ج‪R‬اء هبا حمم‪RR‬د بن عبداهلل علي‪R‬ه الص‪RR‬الة والس‪R‬الم‪ ،‬ح‪R‬ىت‬
‫أخذت أسارير أسيد تربق وتشرق‪ ..‬وتتغري مع مواقع‪ R‬الكلم‪ ،‬وتكتسي جبماله‪!!..‬‬
‫ومل يكد مصعب يفرغ من حديثه حىت هتف به أسيد بن حضري ومبن معه قائال‪:‬‬
‫"ما أحسن هذا القول وأصدقه‪ ..‬كيف يصنع من يريد أن يدخل يف هذا الدين"‪..‬؟؟‬
‫رجا‪ ،‬مث قال له مصعب‪:‬‬ ‫رجت األرض‪ّ R‬‬ ‫وأجابوه بتهليلة ّ‬
‫"يطهر ثوبه وبدنه‪ ،‬ويشهد أن ال اله اال اهلل"‪.‬‬
‫فع‪RR‬اب أس‪RR‬يد عنهم غ‪RR‬ري قلي‪RR‬ل مث ع‪RR‬اد يقط‪RR‬ر املاء الطه‪RR‬ور‪ R‬من ش‪RR‬عر رأس‪RR‬ه‪ ،‬ووق‪RR‬ف يعلن أن ال ال‪RR‬ه اال اهلل‪،‬‬
‫وأن حممدا رسول اهلل‪..‬‬
‫‪ | 7‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وس‪RR‬رى اخلرب كالض‪RR‬وء‪ ..‬وج‪RR‬اء س‪RR‬عد بن مع‪RR‬اذ فأص‪RR‬غى ملص‪RR‬عب واقتن‪RR‬ع‪ ،‬وأس‪RR‬لم مث تاله س‪RR‬عد بن عب‪RR‬ادة‪،‬‬
‫ومتت باس‪RR‬المهم النعم‪RR‬ة‪ ،‬وأقب‪RR‬ل أه‪RR‬ل املدين ‪RR‬ة بعض‪RR‬هم على بعض يتس ‪RR‬اءلون‪ :‬اذا ك‪RR‬ان أس‪RR‬يد بن حض‪RR‬ري‪،‬‬
‫وس ‪RR‬عد ابن مع ‪RR‬اذ‪ ،‬وس ‪RR‬عد بن عب ‪RR‬ادة ق ‪RR‬د أس ‪RR‬لموا‪ ،‬ففيم ختلفن ‪RR‬ا‪..‬؟ هي ‪RR‬ا اىل مص ‪RR‬عب‪ ،‬فلن ‪RR‬ؤمن مع ‪RR‬ه‪ ،‬ف ‪RR‬اهنم‬
‫يتحدثون أن احلق خيرج من بني ثناياه‪!!..‬‬

‫**‬

‫لق‪RR‬د جنح أول س‪RR‬فراء الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم جناح‪RR‬ا منقط‪RR‬ع النظ‪RR‬ري‪ ..‬جناه\ح‪RR‬ا ه‪RR‬و ل‪RR‬ه أه‪RR‬ل‪ ،‬وب‪RR‬ه‬
‫جدير‪..‬‬
‫ومتض‪RR‬ي األي‪RR‬ام واألع‪RR‬وام‪ ،‬ويه‪RR‬اجر الرس‪RR‬ول وص‪RR‬حبه اىل املدين‪RR‬ة‪ ،‬وتتلم‪RR‬ظ ق‪RR‬ريش بأحقاده‪RR‬ا‪ ..‬وتع ‪ّ R‬د ع ‪ّ R‬دة‬
‫باطله‪RR‬ا‪ ،‬لتواص‪RR‬ل مطاردهتا الظاملة لعب‪RR‬اد اهلل الص‪RR‬احلني‪ ..‬وتق‪RR‬وم غ‪RR‬زوة ب‪RR‬در‪ ،‬قيتلق‪RR‬ون فيه‪RR‬ا درس‪RR‬ا يفق‪RR‬دهم‬
‫بقي‪RR‬ة ص‪RR‬واهبم ويس‪RR‬عون اىل الث‪RR‬أر‪،‬و جتيء غ‪RR‬زوة أح‪RR‬د‪ ..‬ويع‪RR‬بئ املس‪RR‬لمون أنفس‪RR‬هم‪ ،‬ويق‪RR‬ف الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى‬
‫اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم وس ‪RR‬ط ص ‪RR‬فوفهم يتف ‪Rّ R‬رس الوج ‪RR‬وه املؤمن ‪RR‬ة ليخت ‪RR‬ار من بينه ‪RR‬ا من حيم ‪RR‬ل الراي ‪RR‬ة‪ ..‬وي ‪RR‬دعو‬
‫مصعب اخلري‪ ،‬فيتقدم وحيمل اللواء‪..‬‬
‫وتش‪RR‬ب املعرك‪RR‬ة الرهيب‪RR‬ة‪ ،‬وحيت‪RR‬دم القت‪RR‬ال‪ ،‬وخيالف الرم‪RR‬اة أم‪RR‬ر الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم‪ ،‬ويغ‪RR‬ادرون‬
‫حيول‬‫م‪RR‬وقعهم‪ R‬يف أعلى اجلب‪RR‬ل بع‪RR‬د أن رأوا املش‪RR‬ركني ينس‪RR‬حبون منه‪RR‬زمني‪ ،‬لكن عملهم ه‪RR‬ذا‪ ،‬س‪RR‬رعان م‪RR‬ا ّ‬
‫نصر املسلمني اىل هزمية‪ ..‬ويفاجأ املسلمون بفرسان ق‪RR‬ريش تغش‪RR‬اهم من أعلى اجلب‪RR‬ل‪ ،‬وتعم‪RR‬ل فيهم على‬
‫غرة‪ ،‬السيوف الظامئة اجملنونة‪..‬‬ ‫حني ّ‬
‫حني رأوا الفوضى والذعر يف صفوف املسلمني‪ ،‬ركزا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لينالوه‪..‬‬
‫وأدرك مص‪RR R‬عب بن عم‪RR R‬ري اخلط‪RR R‬ر الغ‪RR R‬ادر‪ ،‬فرف ‪R R‬ع‪ R‬الل‪RR R‬واء عالي‪RR R‬ا‪ ،‬وأطل‪RR R‬ق تكب‪RR R‬رية ك‪RR R‬الزئري‪ ،‬ومض‪RR R‬ى جيول‬
‫ويت‪RR‬واثب‪ ..‬وك‪RR‬ل مهه أن يلفت نظ‪RR‬ر األع‪RR‬داء الي‪RR‬ه ويش‪RR‬غلهم‪ R‬عن الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم بنفس‪RR‬ه‪،‬‬
‫وجر د من ذاته جيشا بأسره‪ ..‬أجل‪ ،‬ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش جلب غزير‪..‬‬ ‫ّ‬
‫يد حتمل الراية يف تقديس‪..‬‬
‫‪ | 8‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويد تضرب بالسيف يف عنفزان‪..‬‬


‫ولكن األعداء يتكاثرون عليه‪ ،‬يريدون أن يعربوا فوق جثته اىل حيث يلقون الرسول‪..‬‬
‫لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد اخلامت يف حياة مصعب العظيم‪!!..‬‬
‫يقول ابن سعد‪ :‬أخربنا ابراهيم بن حممد بن شرحبيل العبدري‪ ،‬عن أبيه قال‪:‬‬
‫محل مص‪RR‬عب بن عم‪RR‬ري الل‪RR‬واء ي‪RR‬وم أح‪RR‬د‪ ،‬فلم‪RR‬ا ج‪RR‬ال املس‪RR‬لمون ثبت ب‪RR‬ه مص‪RR‬عب‪ ،‬فأقب‪RR‬ل ابن قميئ‪RR‬ة وه‪RR‬و‬
‫ف ‪RR‬ارس‪ ،‬فض ‪RR‬ربه على ي ‪RR‬ده اليم ‪RR‬ىن فقطعه ‪RR‬ا‪ ،‬ومص ‪RR‬عب يق ‪RR‬ول‪ :‬وم ‪RR‬ا حمم‪R R‬د‪ R‬اال رس ‪RR‬ول ق ‪RR‬د خلت من قبل ‪RR‬ه‬
‫الرسل‪..‬‬
‫وأخ‪RR‬ذ الل‪RR‬واء بي‪RR‬ده اليس‪RR‬رى وحن‪RR‬ا علي‪RR‬ه‪ ،‬فض‪RR‬رب ي‪RR‬ده اليس‪RR‬رى فقطعه‪RR‬ا‪ ،‬فحن‪RR‬ا على الل‪RR‬واء وض‪Rّ R‬مه بعض‪RR‬ديه‬
‫اىل صدره وهو يقول‪ :‬وما حممد اال رسول قد خلت من قبله الرسل‪..‬‬
‫مث محل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح‪ ،‬ووقع مصعب‪ ،‬وسقط اللواء]‪.‬‬
‫وقع مصعب‪ ..‬وسقط اللواء‪!!..‬‬
‫وقع حلية الشهادة‪ ،‬وكوكب الشهداء‪!!..‬‬
‫وقع بعد أن خاض يف استبسال عظيم معركة الفداء واالميان‪..‬‬
‫ك‪RR‬ان يظن أن‪RR‬ه اذا س‪RR‬قط‪ ،‬فسيص‪RR‬بح طري‪RR‬ق القتل‪RR‬ة اىل رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم خالي‪RR‬ا من املدافعني‬
‫واحلماة‪..‬‬
‫ولكن‪R‬ه ك‪RR‬ان يع‪RR‬زي نفس‪R‬ه يف رس‪RR‬ول اهلل علي‪R‬ه الص‪R‬الة والس‪RR‬الم من ف‪RR‬رط حب‪R‬ه ل‪RR‬ه وخوف‪RR‬ه علي‪RR‬ه حني مض‪R‬ى‬
‫يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا‪:‬‬
‫(وما حممد اال رسول قد خلت من قبله الرسل)‬
‫هذه اآلية اليت سينزل الوحي فيما بعد يرددها‪ ،‬ويكملها‪ ،‬وجيعلها‪ ،‬قرآنا يتلى‪..‬‬
‫**‬
‫وبع‪RR‬د انته‪RR‬اء املعرك‪RR‬ة املري‪RR‬رة‪ ،‬وج‪RR‬د جثم‪RR‬ان الش‪RR‬هيد الرش‪RR‬يد راق‪RR‬دا‪ ،‬وق‪RR‬د أخفى وجه‪RR‬ه يف ت‪RR‬راب األرض‪R‬‬
‫املضمخ بدمائه الزكية‪..‬‬
‫‪ | 9‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لكأمنا خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول اهلل يصيبه السوء‪ ،‬فأخفى وجه‪RR‬ه ح‪RR‬ىت ال ي‪RR‬رى ه‪RR‬ذا ال‪RR‬ذي‪R‬‬
‫حياذره وخيشاه‪!!..‬‬
‫أو لكأن‪RR R‬ه خجالن اذ س‪RR R‬قط ش‪RR R‬هيدا قبألن يطمئن على جناة رس‪RR R‬ول اهلل‪ ،‬وقب‪RR R‬ل أن ي‪RR R‬ؤدي اىل النهاي‪RR R‬ة‬
‫واجب محايته والدفاع عنه‪!!..‬‬
‫لك اهلل يا مصعب‪ ..‬يا من ذكرك عطر احلياة‪!!..‬‬

‫**‬

‫وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض املعركة ويودعون شهداءها‪..‬‬


‫وعند جثمان مصعب‪ ،‬سالت دموع وفيّة غزيرة‪..‬‬
‫يقوا خبّاب بن األرت‪:‬‬
‫[هاجرن‪RR‬ا م‪RR‬ع رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يف س‪RR‬بيل ال‪RR‬ه‪ ،‬نبتغي وج‪RR‬ه اهلل‪ ،‬ف‪RR‬وجب أجرن‪RR‬ا على اهلل‪..‬‬
‫فمنا من مضى‪ ،‬ومل يأكل من أج‪R‬ره يف دني‪R‬اه ش‪R‬يئا‪ ،‬منهم مص‪R‬عب بن عم‪R‬ري‪ ،‬قت‪R‬ل ي‪R‬وم أح‪R‬د‪ ..‬فلم يوج‪R‬د‬
‫ل ‪RR‬ه ش‪RR‬يء يكفن في ‪RR‬ه اال منرة‪ ..‬فكن ‪RR‬ا اذا وض ‪RR‬عناها على رأس‪RR‬ه تع ‪Rّ R‬رت رجاله‪ ،‬واذا وض ‪RR‬عناها على رجلي‪RR‬ه‬
‫ب‪R‬رزت رأس‪R‬ه‪ ،‬فق‪R‬ال لن‪R‬ا رس‪R‬ول اهلل ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم‪ ":‬اجعلوه‪R‬ا مما يلي رأس‪R‬ه‪ ،‬واجعل‪R‬وا على رجلي‪R‬ه‬
‫من نبات االذخر"‪..]..‬‬
‫وعلى الرغم من األمل احلزين العميق الذي‪ R‬سببه رزء الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف عمه محزة‪ ،‬ومتثيل‬
‫املشركني جيثمانه متثيال أفاض دموع الرسول عليه السالم‪ ،‬وأوجع فؤاده‪..‬‬
‫وعلى الرغم م امتاتء أرض املعركة جبثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم ميثل لديه‬
‫عاملا من الصدق والطهر والنور‪..‬‬
‫على الرغم من كل هذا‪ ،‬فقد وقف على جثمان أول سفرائه‪ ،‬يودعه وينعاه‪..‬‬
‫أج ‪RR‬ل‪ ..‬وق ‪RR‬ف الرس ‪RR‬ول ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم عن ‪RR‬د مص ‪RR‬عب بن عم ‪RR‬ري وق ‪RR‬ال وعين ‪RR‬اه تلفان ‪RR‬ه بض ‪RR‬يائهما‬
‫وحناهنما ووفائهما‪R:‬‬
‫‪ | 10‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫(من املؤمنني رجال صدقوا ما عاهدوا اهلل عليه)‬


‫مث ألقى يف أس‪RR‬ى نظ‪RR‬رة على بردت‪RR‬ه ال‪RR‬يت مفن هبا وقاللق‪RR‬د رأيت‪RR‬ك مبك‪RR‬ة‪ ،‬وم‪RR‬ا هبا أرق حل‪RR‬ة‪ ،‬وال أحس‪RR‬ن مل ‪RR‬ة‬
‫ّ‬
‫منك‪" .‬مث هأنتذا شعث الرأس يف بردة"‪..‬؟!‬
‫وهتف الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬وقد‪ R‬وسعت نظراته احلانية أرض املعركة بكل من عليه‪RR‬ا من رف‪RR‬اق‬
‫مصعب وقال‪:‬‬
‫"ان رسول اهلل يشهد أنكم الشهداء‪ R‬عند اهلل يوم القيامة"‪.‬‬
‫مث أقبل على أصحابه األحياء حوله وقال‪:‬‬
‫"أيه ‪RR‬ا الن ‪RR‬اس زوروهم‪،‬وأت ‪RR‬وهم‪ ،‬وس ‪RR‬لموا عليهم‪ ،‬فوال ‪RR‬ذي نفس ‪RR‬ي بي ‪RR‬ده‪ ،‬ال يس ‪RR‬لم عليهم مس ‪RR‬لم اىل ي ‪RR‬وم‬
‫القيامة‪ ،‬اال ردوا عليه السالم"‪..‬‬
‫**‬
‫السالم عليك يا مصعب‪..‬‬
‫السالم عليكم يا معشر الشهداء‪..‬‬
‫السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪..‬‬

‫سلمان الفارسي ؛ الباحث عن الحقيقة‬

‫من بالد فارس‪ ،‬جييء البطل هذه املرة‪..‬‬


‫ومن بالد ف‪RR‬ارس‪ ،‬ع‪RR‬انق االس‪RR‬الم مؤمن‪RR‬ون كث‪RR‬ريون فيم‪RR‬ا بع‪RR‬د‪ ،‬فجع‪RR‬ل منهم أف‪RR‬ذادا ال يلحق‪RR‬ون يف االميان‪،‬‬
‫ويف العلم‪ ..‬يف الدين‪ ،‬ويف الدنيا‪..‬‬
‫واهنا الحدى روائع‪ R‬االسالم وعظمائه‪ ،‬أال يدخل بلدا من بالد اهلل اا ويثري يف اعجاز باهر‪ ،‬ك‪RR‬ل نبوغه‪RR‬ا‬
‫وحير‪ :‬ك‪RR R‬ل طاقاهتا‪ ،‬وحيرج خبء العبقري‪RR R‬ة املس‪RR R‬تكنّة يف أهله‪RR R‬ا وذويه‪RR R‬ا‪ ..‬ف‪RR R‬اذا الفالس‪RR R‬فة املس‪RR R‬لمون‪..‬‬
‫ّ‬
‫واألطب ‪RR‬اء املس ‪RR‬لمون‪ ..‬والفقه ‪RR‬اء‪ R‬املس ‪RR‬لمون‪ ..‬والفلكي ‪RR‬ون املس ‪RR‬لمون‪ ..‬واملخ ‪RR‬رتعون املس ‪RR‬لمون‪ ..‬وعلم ‪RR‬اء‬
‫الرياضة املسامون‪..‬‬
‫‪ | 11‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واذا هبم ي‪RR‬بزغون من ك‪RR‬ل أف‪RR‬ق‪ ،‬ويطلع‪RR‬ون من ك‪RR‬ل بل‪RR‬د‪ ،‬ح‪RR‬ىت ت‪RR‬زدحم عص‪RR‬ور االس‪RR‬الم األوىل بعبقري‪RR‬ات‬
‫هائلة يف كل جماالت العقل‪ ،‬واالرادة‪ ،‬والضمري‪ ..‬أوطاهنم شىت‪ ،‬ودينهم واحد‪!!..‬‬
‫ولق ‪R‬د‪ R‬تنب ‪RR‬أ الرس ‪RR‬ول علي ‪RR‬ه الس ‪RR‬الم هبذا املد املب ‪RR‬ارك لدين ‪RR‬ه‪ ..‬ال‪ ،‬ب ‪RR‬ل وع ‪RR‬د ب ‪RR‬ه وع ‪RR‬د ص ‪RR‬دق من رب ‪RR‬ه الكب ‪RR‬ري‬
‫العليم‪ ..‬ولق‪R R‬د‪ R‬زوي ل‪RR R‬ه الزم ‪RR‬ان واملك ‪RR‬ان ذات ي‪RR R‬وم ورأى رأي العني راي ‪RR‬ة االس ‪RR‬الم ختف ‪RR‬ق ف‪RR R‬وق م ‪RR‬دائن‬
‫األرض‪ ،‬وقصور أرباهبا‪..‬‬
‫وكان سلمان الفارسي شاهدا‪ ..‬وكان له مبا حدث عالقة وثقى‪.‬‬
‫ك ‪RR‬ان ذل ‪RR‬ك ي ‪RR‬وم اخلن ‪RR‬دق‪ .‬يف الس ‪RR‬نة اخلامس ‪RR‬ة للهج ‪RR‬رة‪ .‬اذ خ ‪RR‬رج نف ‪RR‬ر من زعم ‪RR‬اء اليه ‪RR‬ود قاص ‪RR‬دين مك ‪RR‬ة‪،‬‬
‫وحمزبني األح‪RR‬زاب على رس‪RR‬ول اهلل واملس‪RR‬لمني‪ ،‬متعاه‪RR‬دين معهم على أن يع‪RR‬اونوهم يف‬ ‫مؤل‪RR‬بني املش‪RR‬ركني ّ‬
‫حرب حامسة تستأصل شأفة هذا الدين اجلديد‪.‬‬
‫ووض ‪RR‬عت خط ‪RR‬ة احلرب الغ ‪RR‬ادرة‪ ،‬على أن يهجم جيش ق ‪RR‬ريش وغطف ‪RR‬ان "املدين ‪RR‬ة" من خارجه ‪RR‬ا‪ ،‬بينم ‪RR‬ا‬
‫يه ‪RR‬اجم بن ‪RR‬و قريظ ‪RR‬ة من ال ‪RR‬داخل‪ ،‬ومن وراء ص ‪RR‬فوف املس ‪RR‬لمني‪ ،‬ال ‪RR‬ذين س ‪RR‬يقعون آنئ ‪RR‬ذ بني ش‪ّ R R‬قى رحى‬
‫تطحنهم‪ ،‬وجتعلهم ذكرى‪!..‬‬
‫وفوجىء الرسول واملسلمون يوما جبيش جلب يقرتب من املدينة يف عدة متفوقة وعتاد مدمدم‪.‬‬
‫وسقط يف أيدي املسلمني‪ ،‬وكاد صواهبم يطري من هول املباغتة‪.‬‬
‫وصور القرآن املوقف‪ ،‬فقال اهلل تعاىل‪:‬‬ ‫ّ‬
‫(اذ ج ‪RR‬اءوكم من ف ‪RR‬وقكم‪ R‬ومن أس ‪RR‬فل منكم واذ زاغت األبص ‪RR‬ار‪ R‬وبلغت القل ‪RR‬وب احلن ‪RR‬اجر وتظن ‪RR‬ون باهلل‬
‫الظنونا)‪.‬‬
‫أربع ‪RR‬ة وعش ‪RR‬رون أل ‪RR‬ف مقات ‪RR‬ل حتت قي ‪RR‬ادة أيب س ‪RR‬فيان وعيين ‪RR‬ة بن حص ‪RR‬ن يق ‪RR‬رتبون من املدين ‪RR‬ة ليطوقوه ‪RR‬ا‬
‫وليبطشوا بطشتهم احلامسة كي ينتهوا من حممد ودينه‪ ،‬وأصحابه‪..‬‬
‫وه ‪RR‬ذا اجليش ال ميث ‪RR‬ل قريش ‪RR‬ا وح ‪RR‬دها‪ ..‬ب ‪RR‬ل ومعه ‪RR‬ا ك ‪RR‬ل القبائ ‪RR‬ل واملص ‪RR‬احل ال ‪RR‬يت رأت يف االس ‪RR‬الم خط ‪RR‬را‬
‫عليها‪.‬‬
‫اهنا حماولة أخرية وحامسة يقوم هبا مجيع أعداء الرسول‪ :‬أفرادا‪ ،‬ومجاعات‪ ،‬وقبائل‪ ،‬ومصاحل‪..‬‬
‫ورأى املسلمون أنفسهم يف موقف عصيب‪..‬‬
‫‪ | 12‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومجع الرسول أصحابه ليشاورهم يف األمر‪..‬‬


‫وطبعا‪ ،‬أمجعوا على الدفاع والقتال‪ ..‬ولكن كيف الدفاع؟؟‬
‫هنالك تقدم الرجل الطويل الساقني‪ ،‬الغزير الش‪R‬عر‪ ،‬ال‪R‬ذي ك‪R‬ان الرس‪R‬ول حيم‪R‬ل ل‪R‬ه حب‪R‬ا عظيم‪R‬ا‪ ،‬واحرتام‪R‬ا‬
‫كبريا‪.‬‬
‫تق‪ّ R‬دم س‪R‬لمان الفارس‪R‬ي وأألقى من ف‪R‬وق هض‪R‬بة عالي‪R‬ة‪ ،‬نظ‪R‬رة فاحص‪R‬ة على املدين‪R‬ة‪ ،‬فألفاه‪R‬ا حمص‪R‬نة باجلب‪R‬ال‬
‫والص‪RR‬خور‪ R‬احمليط‪RR‬ة هبا‪ ..‬بي‪RR‬د أن هن‪RR‬اك فج‪RR‬وة واس‪RR‬عة‪ ،‬ومهي‪RR‬أة‪ ،‬يس‪RR‬تطيع اجليش أن يقتحم منه‪RR‬ا احلمى يف‬
‫يسر‪.‬‬
‫وكان سلمان قد خرب يف بالد فارس الكثري من وسائل احلرب وخ‪RR‬دع القت‪RR‬ال‪ ،‬فتق‪RR‬دم للرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل‬
‫علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم مبقرتح‪RR‬ه ال‪RR‬ذي‪ R‬مل تعه‪RR‬ده الع‪RR‬رب من قب‪RR‬ل يف حروهبا‪ ..‬وك‪RR‬ان عب‪RR‬ارة عن حف‪RR‬ر خن‪RR‬دق يغطي‬
‫مجيع املنطقة املكشوفة حول املدينة‪.‬‬
‫واهلل يعلم ‪ ،‬م‪RR‬اذا ك‪RR‬ان املص‪RR‬ري ال‪RR‬ذي‪ R‬ك‪RR‬ان ينتظ‪RR‬ر املس‪RR‬لمني يف تل‪RR‬ك الغ‪RR‬زوة ل‪RR‬و مل حيف‪RR‬روا اخلن‪RR‬دق ال‪RR‬ذي مل‬
‫تك‪RR‬د ق‪RR‬ريش ت‪RR‬راه ح‪RR‬ىت دوخته‪RR‬ا املفاج‪RR‬أة‪ ،‬وظلت قواهتا جامثة يف خيامه‪RR‬ا ش‪RR‬هرا وهي ع‪RR‬اجزة عن اقتح‪RR‬ام‬
‫املدينة‪ ،‬حىت أرسل اهلل تعاىل عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها‪ ،‬وب ّددت مشلها‪..‬‬
‫ونادى أبو سفيان يف جنوده آمرا بالرحيل اىل حيث جاءوا‪ ..‬فلوال يائسة منهوكة‪!!..‬‬
‫**‬
‫خالل حفر اخلندق كان سلمان يأخذ مكانه مع املسلمني وهم حيفرون ويدأبون‪ ..‬وكان الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه‬
‫الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم حيم‪RR‬ل معول‪RR‬ه ويض‪RR‬رب معهم‪ .‬ويف الرقع‪RR‬ة ال‪RR‬يت يعم‪RR‬ل فيه‪RR‬ا س‪RR‬لمان م‪RR‬ع فريق‪RR‬ه وص‪RR‬حبه‪،‬‬
‫اعرتضت معوهلم صخور‪ R‬عاتية‪..‬‬
‫ك‪RR‬ان س‪RR‬لمان ق‪RR‬وي البني‪RR‬ة ش‪RR‬ديد األس‪RR‬ر‪ ،‬وك‪RR‬انت ض‪RR‬ربة واح‪RR‬دة من س‪RR‬اعده الوثي‪RR‬ق تفل‪RR‬ق الص‪RR‬خر‪ R‬وتنش‪RR‬ره‬
‫شظايا‪ ،‬ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا‪ ..‬وتواصى‪ R‬عليها مبن معه مجيعا فزادهتم رهقا‪!!..‬‬
‫وذهب س ‪RR‬لمان اىل رس‪RR R‬ول اهلل ص‪RR R‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس‪RR R‬لم يس‪RR R‬تأذنه يف أن يغرّي وا جمرى احلف‪RR R‬ر تفادي‪RR R‬ا لتل‪RR R‬ك‬
‫الصخرة العنيدة املتحدية‪.‬‬
‫وعاد الرسول عليه الصالة والسالم مع سلمان يعاين بنفسه املكان والصخرة‪..‬‬
‫‪ | 13‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحني رآها دعا مبعول‪ ،‬وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليالعن مرمى الشظايا‪..‬‬
‫ومسّى باهلل‪ ،‬ورف‪R‬ع‪ R‬كلت‪RR‬ا يدي‪RR‬ه الش‪RR‬ريفتني القابض‪RR‬تني على املع‪RR‬ول يف ع‪RR‬زم وق‪RR‬وة‪ ،‬وه‪RR‬وى ب‪RR‬ه على الص‪RR‬خرة‪،‬‬
‫فاذا هبا تنثلم‪ ،‬وخيرج من ثنايا صدعها الكبري وهجا عاليا مضيئا‪.‬‬
‫ويق‪RR‬ول س‪RR‬لمان لق‪RR‬د رأيت‪RR‬ه يض‪RR‬يء م‪RR‬ا بني ال بتيه‪RR‬ا‪ ،‬أي يض‪RR‬يء ج‪RR‬وانب املدين‪RR‬ة‪ ..‬وهت‪RR‬ف رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى‬
‫اهلل عليه وسلم مكربا‪:‬‬
‫"اهلل أكرب‪..‬أعطيت مفاتيح فارس‪ ،‬ولقد‪ R‬أضاء يل منها قص‪R‬ور احلرية‪ ،‬وم‪R‬دائن كس‪R‬رى‪ ،‬وان أم‪R‬يت ظ‪R‬اهرة‬
‫عليها"‪..‬‬
‫مث رف ‪RR‬ع املع ‪RR‬ول‪ ،‬وه ‪RR‬وت ض ‪RR‬ربته الثاني ‪RR‬ة‪ ،‬فتك ‪RR‬ررت لظ ‪RR‬اهرة‪ ،‬وب ‪RR‬رقت الص ‪RR‬خرة املتص ‪RR‬دعة ب ‪RR‬وهج مض ‪RR‬يء‬
‫مرتفع‪ ،‬وهلل الرسول عليه السالم مكربا‪:‬‬
‫"اهلل أكرب‪ ..‬أعطيت مفاتيح الروم‪ ،‬ولقد أضار يل منها قصورها‪ R‬احلمراء‪ ،‬وان أمتيظاهرة عليها"‪.‬‬

‫مث ض ‪RR‬ري ض ‪RR‬ربته الثالث ‪RR‬ة ف‪RR‬ألقت الص ‪RR‬خرة س‪RR‬المها واستس ‪RR‬المها‪ ،‬وأض‪RR‬اء برقه ‪RR‬ا الش ‪RR‬ديد‪ R‬الب‪RR‬اهر‪ ،‬وهل‪RR‬ل‬
‫الرسول وهلل املسلمون معه‪ ..‬وأنبأهم أنه يبصر اآلن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن األرض‪R‬‬
‫اليت ستخفق فوقها‪ R‬راية اهلل يوما‪ ،‬وصاح املسلمون يف اميان عظيم‪:‬‬
‫هذا ما وعدنا اهلل ورسوله‪.‬ز‬
‫وصدق اهلل ورسوله‪!!..‬‬
‫ك‪RR‬ان س‪RR‬لمان ص‪RR‬احب املش‪RR‬ورة حبف‪RR‬ر اخلن‪RR‬دق‪ ..‬وك‪RR‬ان ص‪RR‬احب الص‪RR‬خرة ال‪RR‬يت تفج‪RR‬رت منه‪RR‬ا بعض أس‪RR‬رار‬
‫الغيب واملص‪RR‬ري‪ ،‬حني اس‪RR‬تعان عليه‪RR‬ا برس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل عي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬وك‪RR‬ان قائم‪RR‬ا اىل ج‪RR‬وار الرس‪RR‬ول‬
‫ي‪RR‬رى الض‪RR‬وء‪ ،‬ويس‪RR‬مع‪ R‬البش‪RR‬رى‪ ..‬ولق‪RR‬د ع‪RR‬اش ح‪RR‬ىت رأى البش‪RR‬رى حقيق‪RR‬ة يعيش‪RR‬ها‪ ،‬وواقع ‪R‬ا‪ R‬حيي‪RR‬اه‪ ،‬ف‪RR‬رأى‬
‫مداءن الفرس والروم‪..‬‬
‫رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق‪..‬‬
‫رأى جنب‪RR‬ات األرض كله‪RR‬ا هتتز بال‪RR‬دوي‪ R‬املب‪RR‬ارك ال‪RR‬ذي ينطل‪RR‬ق من رب‪RR‬ا املآذن العالي‪RR‬ة يف ك‪RR‬ل مك‪RR‬ان مش‪RR‬عا‬
‫أنوار اهلدى‪ R‬واخلري‪!!..‬‬
‫‪ | 14‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬
‫وه ‪RR‬ا ه ‪RR‬و ذا‪ ،‬ج ‪RR‬الس هن ‪RR‬اك حتت ظ ‪RR‬ل الش ‪RR‬جرة الوارف‪R R‬ة‪ R‬امللتف ‪RR‬ة أم ‪RR‬ا داره "باملدائن" حيدث جلس ‪RR‬اءه عن‬
‫مغامرت ‪RR‬ه العظمى يف س ‪RR‬بيل احلقيق ‪RR‬ة‪ ،‬ويقص عليهم كي ‪RR‬ف غ ‪RR‬ادر دين قوم ‪RR‬ه الف ‪RR‬رس اىل املس ‪RR‬يحية‪ ،‬مث اىل‬
‫االسالم‪..‬‬
‫كيف غادر ثراء أبيه الباذخ‪ ،‬ورمى نفسه يف أحضان الفاقة‪ ،‬حبثا عن خالص عقله وروحه‪!!!..‬‬
‫كيف بيع يف سوق الرقيق‪ ،‬وهو يف طريق حبثه عن احلقيقة‪..‬؟؟‬
‫كيف التقى بالرسول عليه الصالة والسالم‪ ..‬وكيف آمن به‪..‬؟؟‬
‫تعالوا نقرتب من جملسه اجلليل‪ ،‬ونصغ اىل النبأ الباهر الذي‪ R‬يرويه‪..‬‬
‫**‬
‫كنت رجال من أهل أصبهان‪ ،‬من قرية يقال هلا "جي"‪..‬‬
‫وكان أيب دهقان أرضه‪.‬‬
‫وكنت من أحب عباد اهلل اليه‪..‬‬
‫وقد اجتهدت يف اجملوسية‪ ،‬حىت كنت قاطن النار اليت نوقدها‪ ،‬وال نرتكها‪ R‬خنبو‪..‬‬
‫وك ‪RR‬ان أليب ض ‪RR‬يعة‪ ،‬أرس ‪RR‬لين اليه ‪RR‬ا يوم ‪RR‬ا‪ ،‬فخ ‪RR‬رجت‪ ،‬فم ‪RR‬ررت بكنيس ‪RR‬ة للنص ‪RR‬ارى‪ ،‬فس ‪RR‬مهتهم‪ R‬يص ‪RR‬لون‪،‬‬
‫ف ‪RR‬دخلت عليهم أنظ ‪RR‬ر م ‪RR‬ا يص ‪RR‬نعون‪ ،‬ف ‪RR‬أعجبين م ‪RR‬ا رأيت من ص ‪RR‬الهتم‪ ،‬وقلت لنفس ‪RR‬ي ه ‪RR‬ذا خ ‪RR‬ري من دينن ‪RR‬ا‬
‫ال ‪RR‬ذي حنن علي ‪RR‬ه‪ ،‬فم ‪RR‬ا ب ‪RR‬رحتهم ح ‪RR‬ىت غ ‪RR‬ابت الش ‪RR‬مس‪ ،‬وال ذهبت اىل ض ‪RR‬يعة أيب‪ ،‬وال رجعت الي ‪RR‬ه ح ‪RR‬ىت‬
‫بعث يف أثري‪...‬‬
‫وسألت النصارى حني أعجبين أمرهم و صالهتم عن أصل دينهم‪ ،‬فقالوا‪ R‬يف الشام‪..‬‬
‫وقلت أليب حني ع‪RR‬دت الي‪RR‬ه‪ :‬اين م‪RR‬ررت على ق‪RR‬وم يص‪RR‬لون يف كنيس‪RR‬ة هلم ف‪RR‬أعجبتين ص‪RR‬الهتم‪ ،‬ورأيت أن‬
‫دينهم خري من ديننا‪..‬‬
‫فحازرين وحاورته‪ ..‬مث جعل يف رجلي حديدا وحبسين‪..‬‬
‫‪ | 15‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأرس ‪RR R‬لت اىل النص ‪RR R‬ارى أخ ‪RR R‬ربهم أين دخلت يف دينهم وس ‪RR R‬ألتهم اذا ق ‪RR R‬دم عليهم ركب من الش ‪RR R‬ام‪ ،‬أن‬
‫خيربوين قب‪RR‬ل ع‪RR‬ودهتم اليه‪R‬ا‪ R‬ألرح‪RR‬ل اىل الش‪RR‬ام معهم‪ ،‬وق‪RR‬د فعل‪RR‬وا‪ ،‬فحطمت احلدي‪RR‬د وخ‪RR‬رجت‪ ،‬وانطلقت‬
‫معهم اىل الشام‪..‬‬
‫وهناك سألت عن عاملهم‪ ،‬فقيل يل هو األسقف‪ ،‬صاحب الكنيسة‪ ،‬فأتيته وأخربته خ‪RR‬ربي‪ ،‬ف‪RR‬أقمت مع‪RR‬ه‬
‫أخدم‪ ،‬وأصلي وأتعلم‪..‬‬
‫وك ‪RR‬ان ه ‪RR‬ذا األس ‪RR‬قف رج ‪RR‬ل س ‪RR‬وء يف دين ‪RR‬ه‪ ،‬اذ ك ‪RR‬ان جيم‪R R‬ع‪ R‬الص ‪RR‬دقات‪ R‬من االنس ليوزعه ‪RR‬ا‪ ،‬مث يكتنزه ‪RR‬ا‬
‫لنفسه‪.‬‬
‫مث مات‪..‬‬
‫وج‪RR‬اءوا ب‪RR‬آخر فجعل‪RR‬وه مكان‪RR‬ه‪ ،‬فم‪RR‬ا رأيت رجال على دينهم خ‪RR‬ريا من‪RR‬ه‪ ،‬وال أعظم من‪RR‬ه رغب‪RR‬ة يف اآلخ‪RR‬رة‪،‬‬
‫وزهدا يف الدنيا ودأبا على العبادة‪..‬‬
‫وأحببته حب‪R‬ا م‪R‬ا علمت أين أحببت أح‪R‬دا مثل‪R‬ه قبل‪R‬ه‪ ..‬فلم‪R‬ا حض‪R‬ر ق‪R‬دره قلت ل‪R‬ه‪ :‬ان‪R‬ه ق‪R‬د حض‪R‬رك من أم‪R‬ر‬
‫اهلل تعاىل ما ترى‪ ،‬فبم تأمرين واىل من توصي يب؟؟‬
‫قال‪ :‬أي بين‪ ،‬ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه اال رجال باملوصل‪..‬‬
‫فلم‪RR‬ا ت‪RR‬ويف‪ ،‬أتيت ص‪RR‬احب املوص‪RR‬ل‪ ،‬فأخربت‪RR‬ه اخلرب‪ ،‬وأقمت مع‪RR‬ه م‪RR‬ا ش‪RR‬اء اهلل أن أقيم‪ ،‬مث حض‪RR‬رته الوف‪RR‬اة‪،‬‬
‫سألته ف‪R‬أمرين أن أحلق برج‪R‬ل يف عموري‪R‬ة يف بالد ال‪R‬روم‪ ،‬ف‪R‬رحلت الي‪R‬ه‪ ،‬وأقمت مع‪R‬ه‪ ،‬واص‪R‬طنعت ملعاش‪R‬ي‬
‫بقرات وغنمات‪..‬‬
‫مث حضرته الوفاة‪ ،‬فقلت له‪ :‬اىل من توصي يب؟ فقال يل‪ :‬يا بين ما أعرف أح‪R‬دا على مث‪R‬ل م‪R‬ا كن‪R‬ا علي‪R‬ه‪،‬‬
‫آم‪R‬رك أن تأتي‪R‬ه‪ ،‬ولكن‪R‬ه ق‪R‬د أظل‪R‬ك زم‪R‬ان ن‪R‬يب يبعث ب‪R‬دين اب‪R‬راهيم حنيف‪R‬ا‪ ..‬يه‪R‬اجر اىل أرض ذات خنل بني‬
‫جرتني‪ ،‬فان استطعت أن ختلص اليه فافعل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وان ل ‪RR‬ه آي ‪RR‬ات ال ختفى‪ ،‬فه ‪RR‬و ال يأك ‪RR‬ل الص ‪RR‬دقة‪ ..‬ويقب ‪RR‬ل اهلدي ‪RR‬ة‪ .‬وان بني كتفي ‪RR‬ه خ ‪RR‬امت النب ‪RR‬وة‪ ،‬اذا رأيت ‪RR‬ه‬
‫عرفته‪.‬‬
‫‪ | 16‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وم‪RR‬ر يب ركب ذات ي‪RR‬وم‪ ،‬فس‪RR‬ألتهم عن بالدهم‪ ،‬فعلمت‪ R‬أهنم من جزي‪RR‬رة الع‪RR‬رب‪ .‬فقلت هلم‪ :‬أعطيكم‬
‫بقرايت هذه وغنمي على أن حتملوين معكم اىل أرضكم؟‪ ..‬قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫واص ‪RR R‬طحبوين معهم ح ‪RR R‬ىت ق ‪RR R‬دموا يب وادي الق ‪RR R‬رى‪ ،‬وهن ‪RR R‬اك ظلم ‪RR R‬وين‪ ،‬وب ‪RR R‬اعوين اىل رج ‪RR R‬ل من يه ‪RR R‬ود‪..‬‬
‫وبص ‪RR‬رت بنخ ‪RR‬ل كث ‪RR‬ري‪ ،‬فطمعت أن تك ‪RR‬ون ه ‪RR‬ذه البل ‪RR‬دة ال ‪RR‬يت وص ‪RR‬فت يل‪ ،‬وال ‪RR‬يت س ‪RR‬تكون مه ‪RR‬اجر الن ‪RR‬يب‬
‫املنتظر‪ ..‬ولكنها مل تكنها‪.‬‬
‫وأقمت عن‪RR‬د الرج‪RR‬ل ال‪RR‬ذي اش‪RR‬رتاين‪ ،‬ح‪RR‬ىت ق‪RR‬دم علي‪RR‬ه يوم‪RR‬ا رج‪RR‬ل من يه‪RR‬ود ب‪RR‬ين قريظ‪RR‬ة‪ ،‬فابت‪RR‬اعين من‪RR‬ه‪ ،‬مث‬
‫خرج يب حىت قدمت املدينة!! فواهلل ما هو اال ان رأيتها حىت أيقنت أهنا البلد اليت وصفت يل‪..‬‬
‫وأقمت مع‪RR‬ه أعم‪RR‬ل ل‪RR‬ه يف خنل‪RR‬ه يف ب‪RR‬ين قريظ‪RR‬ة ح‪RR‬ىت بعث اهلل رس‪RR‬وله وح‪RR‬ىت ق‪RR‬دم املدين‪RR‬ة ون‪RR‬زل بقب‪RR‬اء يف ب‪RR‬ين‬
‫عمرو بن عوف‪.‬‬
‫واين لفي رأس خنل‪RR‬ة يوم‪RR‬ا‪ ،‬وص‪RR‬احيب ج‪RR‬الس حتته‪RR‬ا اذ أقب‪RR‬ل رج‪RR‬ل من يه‪RR‬ود‪ ،‬من ب‪RR‬ين عم‪RR‬ه‪ ،‬فق‪RR‬ال خياطب‪RR‬ه‪:‬‬
‫قاتل اهلل بين قيلة اهنم ليتقاصفون‪ R‬على رجل بقباء‪ ،‬قادم من مكة يزعم أنه نيب‪..‬‬
‫فواهلل م‪RR‬ا أن قاهلا ح ‪RR‬ىت أخ ‪RR‬ذتين الع‪RR‬رواء‪ ،‬ف‪RR‬رجفت النخل‪RR‬ة ح ‪RR‬ىت ك‪RR‬دت أس‪RR‬قط ف‪RR‬وق ص ‪RR‬احيب!! مث ن‪RR‬زلت‬
‫سريعا‪ ،‬أقول‪ :‬ماذا تقول‪.‬؟ ما اخلرب‪..‬؟‬
‫فرفع سيدي يده ولكزين لكزة شديدة‪ ،‬مث قال‪ :‬مالك وهلذا‪..‬؟‬
‫أقبل على عملك‪..‬‬
‫ف‪RR‬أقبلت على عملي‪ ..‬وملا أمس‪RR‬يت مجعت م‪RR‬ا ك‪RR‬ان عن‪RR‬دي مث خ‪RR‬رجت ح‪RR‬ىت جئت رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل‬
‫عليه وسلم بقباء‪ ..‬فدخلت عليه ومعه نفر من أص‪R‬حابه‪ ،‬فقلت ل‪R‬ه‪ :‬انكم أه‪R‬ل حاج‪R‬ة وغرب‪R‬ة‪ ،‬وق‪R‬د ك‪R‬ان‬
‫عندي طعام نذرته للصدقة‪ ،‬فلما ذكر يل مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به‪..‬‬
‫مث وضعته‪ ،‬فقال الرسول ألصحابه‪ :‬كلوا باسم اهلل‪ ..‬وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا‪..‬‬
‫فقلت يف نفسي‪ :‬هذه واهلل واحدة ‪ ..‬انه ال يأكل الصدقة‪!!..‬‬
‫مث رجعت وع‪RR‬دت اىل الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الس‪RR‬الم يف الغ‪RR‬داة‪ ،‬أمحل طعام‪RR‬ا‪ ،‬وقلت ل‪RR‬ه علي‪RR‬ه الس‪RR‬الم‪ :‬اين رأيت‪RR‬ك‬
‫ال تأك‪RR R‬ل الص‪RR R‬دقة‪ ..‬وق‪RR R‬د ك‪RR R‬ان عن‪RR R‬دي ش‪RR R‬يء أحب أن أكرم‪RR R‬ك ب‪RR R‬ه هدي‪RR R‬ة‪ ،‬ووض‪RR R‬عته بني يدي‪RR R‬ه‪ ،‬فق‪RR R‬ال‬
‫ألصحابه كلوا باسم اهلل‪..‬‬
‫‪ | 17‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأكل معهم‪..‬‬
‫قلت لنفسي‪ :‬هذه واهلل الثانية‪ ..‬انه يأكل اهلدية‪!!..‬‬
‫مث رجعت فمكثت ما شاء اهلل‪ ،‬مث أتيته‪ ،‬فوجدته يف البقيع‪ R‬قد تبع جنازة‪ ،‬وحوله أصحابه وعلي‪RR‬ه مشلتلن‬
‫م‪RR‬ؤتزرا بواح‪RR‬دة‪ ،‬مرت‪RR‬ديا األخ‪RR‬رى‪ ،‬فس‪RR‬لمت علي‪RR‬ه‪ ،‬مث ع‪RR‬دلت ألنظ‪RR‬ر أعلى ظه‪RR‬ره‪ ،‬فع‪RR‬رف أين أري‪RR‬د ذل‪RR‬ك‪،‬‬
‫فألقى بردته عن كاهله‪ ،‬فاذا العالمة بني كتفيه‪ ..‬خامت النبوة‪ ،‬كما وصفه يل صاحيب‪..‬‬
‫ف‪RR‬أكببت علي‪RR‬ه أقبل‪RR‬ه وأبكي‪ ..‬مث دع‪RR‬اين علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم فجلس‪RR‬ت بني يدي‪RR‬ه‪ ،‬وحدثت‪RR‬ه ح‪RR‬ديثي كم‪RR‬ا‬
‫أحدثكم اآلن‪..‬‬
‫مث أسلمت‪ ..‬وحال الرق بيين وبني شهود بدر وأحد‪..‬‬
‫ويف ذات ي‪RR R‬وم ق‪RR R‬ال الرس‪RR R‬ول علي‪RR R‬ه الص‪RR R‬الة والس‪RR R‬الم‪ ":‬ك‪RR R‬اتب س‪RR R‬يدك ح‪RR R‬ىت يعتق‪RR R‬ك"‪ ،‬فكاتبت‪RR R‬ه‪ ،‬وأم‪RR R‬ر‬
‫الرسوألص‪RR‬حابه كي يعون‪RR‬وين‪ .‬وح‪RR‬رر اهلل رقب‪RR‬يت‪ ،‬وعش‪RR‬ت ح‪RR‬را مس‪RR‬لما‪ ،‬وش‪RR‬هدت م‪RR‬ع رس‪RR‬ول اهلل غ‪RR‬زوة‬
‫اخلندق‪ ،‬واملشاهد كلها‪ .‬هذه القصة مذكورة يف الطبقات الكربى‪ R‬البن سعد ج‪.4‬‬

‫**‬

‫هبذه الكلمات الوضاء العذاب‪ ..‬حتدث سلمان الفارس‪RR‬ي عن مغامرت‪RR‬ه الزكي‪RR‬ة النبيل‪RR‬ة العظيم‪RR‬ة يف س‪RR‬بيل‬
‫حبثه عن احلقيقة الدينية اليت تصله باهلل‪ ،‬وترسم له دوره يف احلياة‪..‬‬
‫فأي انسان شامخ كان هذا االنسان‪..‬؟‬
‫أي تفوق عظيم أحرزت‪R‬ه روح‪R‬ه الطلع‪R‬ة‪ ،‬وفرض‪R‬ته ارادت‪R‬ه الغالب‪R‬ة على املص‪R‬اعب فقهرهتا‪ ،‬وعلى املس‪R‬تحيل‬
‫فجعلته ذلوال‪..‬؟‬
‫أي تبت‪RR‬ل للحقيق‪RR‬ة‪ ..‬وأي والء هلا ه‪RR‬ذا ال‪RR‬ذي‪ R‬أخ‪RR‬رج ص‪RR‬احبه طائع‪RR‬ا خمت‪RR‬ارا من ض‪RR‬ياع أبي‪RR‬ه وثرائ‪RR‬ه ونعمائ‪RR‬ه‬
‫اىل اجمله‪RR R‬ول بك‪RR R‬ل أعبائ‪RR R‬ه‪ ،‬ومش‪RR R‬اقه‪ ،‬ينتق‪RR R‬ل من أرض اىل أرض‪ ..‬ومن بل‪RR R‬د اىل بل‪RR R‬د‪ ..‬ناص‪RR R‬با‪ ،‬كادح‪RR R‬ا‬
‫عاب ‪RR R‬دا‪ ..‬تفحص بص ‪RR R‬ريته الناق ‪RR R‬دة الن ‪RR R‬اس‪ ،‬واملذاهب واحلي ‪RR R‬اة‪ ..‬ويظ ‪RR R‬ل يف اص ‪RR R‬راره العظيم وراء احلق‪،‬‬
‫وتض‪RR‬حياته النبيل‪RR‬ة من أج‪RR‬ل اهلدى ح‪RR‬ىت يب‪RR‬اع رقيق‪RR‬ا‪ ..‬مث يثيب‪RR‬ه اهلل ثواب‪RR‬ه األوىف‪ ،‬فيجمع‪RR‬ه ب‪RR‬احلق‪ ،‬ويالقي‪RR‬ه‬
‫‪ | 18‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫برسوله‪ ،‬مث يعطيه من طول العمر‪ R‬ما يشهد معه بكلتا عيني‪R‬ه راي‪R‬ات اهلل ختف‪R‬ق يف ك‪R‬ل مك‪R‬ان من األرض‪،‬‬
‫وعباده املسلمون ميلؤن أركاهنا وأحناءها هدى وعمرانا وعدال‪..‬؟!!‬

‫**‬

‫ماذا نتوقع أن يكون اسالم رجل هذه مهته‪ ،‬وهذا صدقه؟‬


‫لقد كان اسالم األبرار املتقني‪ ..‬وقد كان يف زهده‪ ،‬وفطنته‪ ،‬وورعه أشبه الناس بعمر بن اخلطاب‪.‬‬
‫أقام أياما مع أيب الدرداء يف دار واحدة‪ ..‬وك‪R‬ان أب‪R‬و ال‪R‬درداء‪ R‬رض‪R‬ي اهلل عن‪R‬ه يق‪R‬وم اللي‪R‬ل ويص‪R‬وم النه‪R‬ار‪..‬‬
‫وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته يف العبادة على هذا النحو‪.‬‬
‫وذات يوم حاول سلمان أن يثين عزمه على الصوم‪ ،‬وكان نافلة‪..‬‬
‫فقال له أبو الدرداء معاتبا‪ :‬أمتنعين أن أصوم لريب‪ ،‬وأصلي له‪..‬؟ّ‬
‫فأجابه سلمان قائال‪:‬‬
‫ان لعينك عليك حقا‪ ،‬وان ألهلك عليك حقا‪ ،‬صم وافطر‪ ،‬وصل ومن‪..‬‬
‫فبلغ ذلك الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫" لقد أشبع سلمان علما "‪.‬‬
‫وكان الرسول عليه السالم يرى فطنته وعلمه كثريا‪ ،‬كما كان يطري خلقه ودينه‪..‬‬
‫ويوم اخلندق‪ ،‬وقف األنصار يقولون‪ :‬سلمان منا‪ ..‬وقف املهاجرون يقولون‪ R‬بل سلمان منا‪..‬‬
‫وناداهم الرسول قائال‪ ":‬سلمان منا آل البيت"‪.‬‬

‫وانه هبذا الشرف جلدير‪..‬‬


‫وكان علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه يلقبه بلقمان احلكيم سئل عنه بعد موته فقال‪:‬‬
‫[ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت‪ ..‬من لكم مبثل لقمان احلكيم‪..‬؟‬
‫أويت العلم األول‪ ،‬والعلم اآلخر‪ ،‬وقرأ الكتاب األول والكتاب اآلخر‪ ،‬وكان حبرا ال ينزف]‪.‬‬
‫ولقد بلغ يف نفوس أصحاب الرسول عليه السالم مجيعا املنزلة الرفيعة واملكان األمسى‪.‬‬
‫‪ | 19‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ففي خالف ‪RR‬ة عم ‪RR‬ر ج ‪RR‬اء املدين ‪RR‬ة زائ ‪RR‬را‪ ،‬فص ‪RR‬نع عم ‪RR‬ر م ‪RR‬ا ال نع ‪RR‬رف أن ‪RR‬ه ص ‪RR‬نعه م ‪RR‬ع أح ‪RR‬د غ ‪RR‬ريه أب ‪RR‬دا‪ ،‬اذ مجع‬
‫أصحابه وقال هلم‪:‬‬
‫"هيا بنا خنرج الستقبال سلمان"‪!!.‬‬
‫وخرج هبم الستقباله عند مشارف املدينة‪.‬‬
‫حرا‪ ،‬وجماهدا‪ R‬وعابدا‪.‬‬ ‫لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما ّ‬
‫وعاش مع خليفته أيب بكر‪ ،‬مث أمري املؤمنني عمر‪ ،‬مث اخلليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خالفته‪.‬‬
‫ويف معظم هذه السنوات‪ ،‬كانت رايات االسالم متأل األف‪R‬ق‪ ،‬وك‪R‬انت‪ R‬الكن‪R‬وز‪ R‬واألم‪R‬وال حتم‪R‬ل اىل املدين‪R‬ة‬
‫فتورع االنس يف صورة أعطيت منتظمة‪ ،‬ومرتبات ثابتة‪.‬‬ ‫فيئا وجزية‪ّ ،‬‬
‫وكثرت مسؤوليات احلكم على كافة مستوياهتا‪ ،‬فكثرت األعمال واملناصب تبعا هلا‪..‬‬
‫فأين كان سلمان يف هذا اخلضم‪..‬؟ وأين جنده يف أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك‪..‬؟‬

‫**‬

‫افتحوا ابصاركم‪ R‬جيدا‪..‬‬


‫أترون هذا الشيخ املهيب اجلالس هناك يف الظل يضفر اخلوص وجيدله ويصنع منه أوعية ومكاتل‪..‬؟‬
‫انه سلمان‪..‬‬
‫انظروه جيدا‪..‬‬
‫انظروه جيدا يف ثوبه القصري الذي احنسر من قصره الشديد‪ R‬اىل ركبته‪..‬‬
‫انه هو‪ ،‬يف جالل مشيبه‪ ،‬وبساطة اهابه‪.‬‬
‫لق‪RR‬د ك‪RR‬ان عط‪RR‬اؤه وف‪RR‬ريا‪ ..‬ك‪RR‬ان بني أربع‪RR‬ة وس‪RR‬تة آالف يف الع‪RR‬ام‪ ،‬بي‪RR‬د أن‪RR‬ه ك‪RR‬ان يوزع‪RR‬ه مجيع‪RR‬ا‪ ،‬وي‪RR‬رفض أن‬
‫يناله منه درهم واحد‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"أش ‪RR‬رتي خوص ‪RR‬ا ب ‪RR‬درهم‪ ،‬فأعمل ‪RR‬ه‪ ،‬مث أبيع ‪RR‬ه بثالث ‪RR‬ة دراهم‪ ،‬فأعي ‪RR‬د درمها في ‪RR‬ه‪ ،‬وأنف ‪RR‬ق درمها على عي ‪RR‬ايل‪،‬‬
‫وأتص ّدق بالثالث‪ ..‬ولو أن عمر بن اخلطاب هناين عن ذلك ما انتهيت"!‬
‫‪ | 20‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫مث ماذا يا أتباع حممد‪..‬؟‬


‫مث ماذا يا شرف االنسانية يف كل عصورها وواطنها‪..‬؟؟‬
‫لق‪RR‬د ك‪RR‬ان بعض‪RR‬نا يظن حني يس‪RR‬مع عن تقش‪RR‬ف بعض الص‪RR‬حابة وورعهم‪ ،‬مث‪RR‬ل أيب بك‪RR‬ر الص‪RR‬ديق وعم‪RR‬ر‬
‫وأيب ذر واخواهنم‪ ،‬أن مرجع ذلك كله طبيعة احلي‪RR‬اة يف اجلزي‪R‬رة العربي‪R‬ة حيث جيد الع‪RR‬ريب مت‪R‬اع نفس‪R‬ه يف‬
‫البساطة‪..‬‬
‫فها حنن أمام رجل من فارس‪ ..‬بالد البذخ والرتف واملدنية‪ ،‬ومل يكن من الفقراء‪ R‬ب‪RR‬ل من ص‪RR‬فوة الن‪RR‬اس‪.‬‬
‫ما باله يرفض هذا املال والثروة والنعيم‪ ،‬ويصر أن يكتفي يف يومه بدرهم يكسبه من عمل يده‪..‬؟‬
‫ما باله يرفض اامارة ويهرب منها ويقول‪:‬‬
‫"ان استطعت أن تأكل الرتاب وال تكونن أمريا على اثنني؛ فافعل‪."..‬‬
‫ما باله يهرب من االمارة واملنصب‪ ،‬اال أن تكون امارة على سريّة ذاهبة اىل اجله‪RR‬اد‪ ..‬واال أن تك‪RR‬ون يف‬
‫ظروف ال يصلح هلا سواه‪ ،‬فيكره عليها اكراها‪ ،‬وميضي اليها باكيا وجال‪..‬؟‬
‫مث ما باله حني يلي على االمارة املفروضة عليه فرضا يأىب أنيأخذ عطاءها احلالل‪..‬؟؟‬
‫روى هشام عن حسان عن احلسن‪:‬‬
‫" ك‪RR‬ان عط‪RR‬اء س‪RR‬لمان مخس‪RR‬ة آالف‪ ،‬وك‪RR‬ان على ثالثني ألف‪RR‬ا من الن‪RR‬اس خيطب يف عب‪RR‬اءة يف‪RR‬رتش نص‪RR‬فها‪،‬‬
‫ويلبس نصفها‪"..‬‬
‫"وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه‪ ،‬ويأكل من عمل يديه‪."..‬‬
‫ما باله يصنع كل هذا الصنيع‪ R،‬ويزهد كل ذلك الزهد‪ ،‬وه الفارسي‪ ،‬ابن النعمة‪ ،‬وربيب احلضارة‪..‬؟‬
‫لنستمع اجلواب منه‪ .‬وهو على فراش املوت‪ .‬تتهيأ روحه العظيمة للقاء رهبا العلي الرحيم‪.‬‬
‫دخل عليه سعد بن أيب وقاص يعوده فبكى سلمان‪..‬‬
‫قال له سعد‪ ":‬ما يبكيك يا أبا عبد اهلل‪..‬؟ لقد تويف رسول اهلل وهو عنك راض"‪.‬‬
‫‪ | 21‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فأجابه سلمان‪:‬‬
‫" واهلل م‪RR‬ا أبكي جزع‪RR‬ا من املوت‪ ،‬والحرص‪RR‬ا على ال‪RR‬دنيا‪ ،‬ولكن رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم عه‪RR‬د‬
‫الينا عهدا‪ ،‬فقال‪ :‬ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب‪ ،‬وهأنذا حويل هذه األساود"!!‬

‫يعين باألساود األشياء الكثرية!‬


‫ق‪RR‬ال س‪RR‬عد فنظ‪RR‬رت‪ ،‬فلم أرى حول‪RR‬ه اال جفن‪RR‬ة ومطه‪RR‬رة‪ ،‬فقلت ل‪RR‬ه‪ :‬ي‪RR‬ا أب‪RR‬ا عبداهلل اعه‪RR‬د الين‪RR‬ا بعه‪RR‬د نأخ‪RR‬ذه‬
‫عنك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" يا سعد‪:‬‬
‫اذكر عند اهلل مهّتك اذا مهمت‪..‬‬
‫وعند حكمتك اذا حكمت‪..‬‬
‫وعند يدك اذا قسمت‪"..‬‬

‫ه‪RR‬ذا ه‪RR‬و اذن ال‪RR‬ذي‪ R‬مأل نفس‪RR‬ه غ‪RR‬ىن‪ ،‬بق‪RR‬در م‪RR‬ا مأله‪RR‬ا عزوف‪RR‬ا عن ال‪RR‬دنيا بأمواهلا‪ ،‬ومناص‪RR‬بها وجاهه‪RR‬ا‪..‬‬
‫عه‪RR‬د رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم الي‪RR‬ه واىل أص‪RR‬حابه مجيع‪RR‬ا‪ :‬أال ي‪RR‬دعو ال‪RR‬دنيا تتملكهم‪ ،‬وأال يأخ‪RR‬ذ‬
‫أحدهم منها اال مثل زاد الركب‪..‬‬
‫ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حني رأى روحه تتهيأ للرحيل‪ ،‬خماف‪RR‬ة أن يك‪RR‬ون‬
‫قد جاوز املدى‪.‬‬
‫ليس حوله اال جفنة يأكل فيها‪ ،‬ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا حيسب نفسه مرتفا‪..‬‬
‫أمل أقل لكم انه أشبه الناس بعمر‪..‬؟‬

‫ويف األي‪RR‬ام ال‪RR‬يت ك‪RR‬ان فيه‪RR‬ا أم‪RR‬ريا على املدائن‪ ،‬مل يتغ‪RR‬ري من حال‪RR‬ه ش‪RR‬يء‪ .‬فق‪RR‬د رفض أن ينال‪RR‬ه من مكاف‪RR‬أة‬
‫االمارة درهم‪ ..‬وظل يأكل من عمل اخلوص‪ ..‬ولباسه ليس اال عباءة تنافس ثوبه القدمي يف تواضعها‪..‬‬
‫وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه محل تني ومتر‪..‬‬
‫‪ | 22‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ك‪RR‬ان احلم‪RR‬ل ي‪RR‬ؤد الش‪RR‬امي ويتعب‪RR‬ه‪ ،‬فلم يك‪RR‬د يبص‪RR‬ر أمام‪RR‬ه رجال يب‪RR‬دو أن‪RR‬ه من عام‪RR‬ة الن‪RR‬اس وفق‪RR‬رائهم‪ R،‬ح‪RR‬ىت‬
‫بدا له أن يضع احلمل على كاهله‪ ،‬حىت اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظري محله‪..‬‬
‫وأشار للرجل فأقبل عليه‪ ،‬وقال له الشامي‪ :‬امحل عين هذا‪ ..‬فحمله ومضيا معا‪.‬‬
‫واذ مها على الطريق بلغا مجاعة من االنس‪ ،‬فسلم عليهم‪ ،‬فأجابوا واقفني‪ :‬وعلى األمري السالم‪..‬‬
‫وعلى األمري السالم‪..‬؟‬
‫أي أمري يعنون‪..‬؟!!‬
‫هكذا سأل الشامي‪ R‬نفسه‪..‬‬
‫ولقد زادت دهشته حني رأى بعض هؤالء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلني‪:‬‬
‫عنك أيها األمري‪!!..‬‬
‫فعلم الشامي‪ R‬أنه أم‪RR‬ري املدائن س‪R‬لمان الفارس‪RR‬ي‪ ،‬فس‪RR‬قط يف ي‪RR‬ده‪ ،‬وه‪RR‬ربت كلم‪RR‬ات االعت‪RR‬ذار‪ R‬واألس‪RR‬ف من‬
‫بني شفتيه‪ ،‬واقرتب ينتزع احلمل‪ .‬ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول‪:‬‬
‫" ال‪ ،‬حىت أبلغك منزلك"‪!!..‬‬

‫**‬

‫سئل يوما‪ :‬ما الذي يبغض االمارة اىل نفسك‪.‬؟‬


‫فأجاب‪ " :‬حالوة رضاعها‪ ،‬ومرارة فطامها"‪..‬‬
‫ويدخل عليه صاحبه يوما بيته‪ ،‬فاذا هو يعجن‪ ،‬فيسأله‪:‬‬
‫أين اخلادم‪..‬؟‬
‫فيجيبه قائال‪:‬‬
‫" لقد بعثناها يف حاجة‪ ،‬فكرهنا أن جنمع عليها عملني‪"..‬‬
‫‪ | 23‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هم س‪RR‬لمان ببن‪RR‬اء ه‪RR‬ذا ال‪RR‬ذي يس‪Rّ R‬مى م‪RR‬ع‬


‫وحني نق‪RR‬ول بيت‪RR‬ه فلن‪RR‬ذكر متام‪RR‬ا‪ ،‬م‪RR‬اذا ك‪RR‬ان ذاك ال‪RR‬بيت‪..‬؟ فحني ّ‬
‫التجوز‪ R‬بيتا‪ ،‬سأل البنّاء‪ :‬كيف ستبنيه‪..‬؟‬ ‫ّ‬
‫وكان البنّاء حصيفا ذكيا‪ ،‬يعرف زه‪R‬د س‪R‬لمان وورع‪R‬ه‪ ..‬فأجاب‪R‬ه ق‪R‬ائال‪ ":‬ال ختف‪ ..‬اهنا بناي‪R‬ة تس‪R‬تظل هبا‬
‫من احلر‪ ،‬وتس ‪RR R‬كن فيه‪RR R‬ا من ال ‪RR R‬ربد‪ ،‬اذا وقفت‪ R‬فيه‪RR R‬ا أص‪RR R‬ابت رأس ‪RR R‬ك‪ ،‬واذا اض‪RR R‬طجعت فيه ‪RR R‬ا أص ‪RR R‬ابت‬
‫رجلك"‪!..‬‬
‫فقال له سلمان‪" :‬نعم هكذا فاصنع"‪.‬‬

‫مل يكن هن‪RR‬اك من طيب‪RR‬ات احلي‪R‬اة ال‪R‬دنيا‪ R‬ش‪R‬يء م‪R‬ا ي‪R‬ركن الي‪RR‬ه س‪R‬لمان حلظ‪RR‬ة‪ ،‬أو تتعل‪R‬ق ب‪RR‬ه نفس‪RR‬ه اث‪R‬ارة‪ ،‬اال‬
‫ش ‪RR‬يئا ك ‪RR‬ان حيرص علي ‪RR‬ه أبل ‪RR‬غ احلرص‪ ،‬ولق ‪RR‬د ائتمن علي ‪RR‬ه زوجت ‪RR‬ه‪ ،‬وطلب اليه ‪RR‬ا أن ختفي ‪RR‬ه يف مك ‪RR‬ان بعي ‪RR‬د‬
‫وأمني‪.‬‬
‫ويف مرض موته ويف صبيحة اليوم الذي قبض فيه‪ ،‬ناداها‪:‬‬
‫"هلمي خبيّك اليت استخبأتك"‪!!..‬‬
‫فج‪RR‬اءت هبا‪ ،‬واذا هي ص‪RR‬رة مس‪RR‬ك‪ ،‬ك‪RR‬ان ق‪RR‬د أص‪RR‬اهبا ي‪RR‬وم فتح "جل‪RR‬والء" فاحتف‪RR‬ظ هبا لتك‪RR‬ون عط‪RR‬ره ي‪RR‬وم‬
‫مماته‪.‬‬
‫مث دعا بقدح ماء نثر املسك فيه‪ ،‬مث ماثه بيده‪ ،‬وقال لزوجته‪:‬‬
‫"انضجيه حويل‪ ..‬فانه حيصرين اآلن خلق من خلق اهلل‪ ،‬ال يأكلون الطعام‪ ،‬وامنا حيبون الطيب"‪.‬‬
‫فلما فعلت قال هلا‪ ":‬اجفئي علي الباب وانزيل"‪ ..‬ففعلت ما أمرها به‪..‬‬
‫وبعد حني صعدت اليه‪ ،‬فاذا روحه املباركة قد فارقت‪ R‬جسده ودنياه‪.‬‬
‫ق‪RR‬د حلقت ب‪RR‬املأل األعلى‪ ،‬وص‪RR‬عدت على أجنح‪RR‬ة الش‪RR‬وق الي‪RR‬ه‪ ،‬اذ ك‪RR‬انت على موع‪RR‬د هن‪RR‬اك م‪RR‬ع الرس‪RR‬ول‬
‫حممد‪ ،‬وصاحبيه أيب بكر وعمر‪ ..‬ومع ثلة جميدة من الشهداء‪ R‬واألبرار‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 24‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لطاملا ّبرح الشوق الظامئ بسلمان‪..‬‬


‫وآن اليوم أن يرتوي‪ ،‬وينهل‪..‬‬

‫أبو ذر الغفاري‬
‫زعيم املعارضة وعدو الثروات‬

‫أقبل على مكة نشوان مغتبطا‪..‬‬


‫صحيح أن وعثاء السفر وفيح الص‪RR‬حراء ق‪R‬د وق‪RR‬ذاه بالض‪RR‬ىن واألمل‪ ،‬بي‪R‬د أن الغاي‪R‬ة ال‪R‬يت يس‪RR‬عى اليه‪RR‬ا‪ ،‬أنس‪R‬ته‬
‫جراحه‪ ،‬وأفاضت على روحه احلبور والبشور‪.‬‬
‫ليطوف‪RR‬وا‪ R‬بآهلة الكعب‪RR‬ة العظ‪RR‬ام‪ ..‬أو كأن‪RR‬ه ع‪RR‬ابر‬
‫ودخله‪RR‬ا متنك‪RR‬را‪ ،‬كأن‪RR‬ه واح‪RR‬د من أولئ‪RR‬ك ال‪RR‬ذين يقص‪RR‬دوهنا‪ّ R‬‬
‫ويتزود‪.‬‬
‫سبيل ضل طريقه‪ ،‬أو طال به السفر‪ R‬واالرحتال فأوى اليها يسرتيح ّ‬
‫فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويستمع‪ R‬اليه لفتكوا به‪.‬‬
‫وه‪RR‬و ال ي‪RR‬رى بأس‪RR‬ا يف أن يفتك‪RR‬وا ب‪RR‬ه‪ ،‬ولكن بع‪RR‬د أن يقاب‪RR‬ل الرج‪RR‬ل ايل قط‪RR‬ع الفي‪RR‬ايف ل‪RR‬رياه‪ ،‬وبع‪RR‬د أن ي‪RR‬ؤمن‬
‫به‪ ،‬ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته‪..‬‬
‫ولق‪R‬د‪ R‬مض‪RR‬ى يتس‪Rّ R‬مع األنب‪RR‬اء من بعي‪RR‬د‪ ،‬وكلم‪RR‬ا مسع قوم‪RR‬ا يتح‪RR‬دثون عن حمم‪R‬د‪ R‬اق‪RR‬رتب منهم يف ح‪RR‬ذر‪ ،‬ح‪RR‬ىت‬
‫مجع من نثارات احلديث هنا وهناك ما دله على حممد‪ ،‬وعلى املكان الذي يستطيع أن يراه فيه‪.‬‬
‫يف صبيحة يوم ذهب اىل هناك‪ ،‬فوجد الرسول صلى اهلل عليه وسلم جاالسا وحده‪ ،‬فاقرتب منه وقال‪:‬‬
‫نعمت صباحا يا أخا العرب‪..‬‬
‫فأجاب السول عليه الصالة والسالم‪ :‬وعليك السالم يا أخاه‪.‬‬
‫قال أبو ذر‪:‬أنشدين مما تقول‪..‬‬
‫فأجاب الرسول عليه الصالة والسالم‪ :‬ما هو بشعر فأنشدك‪ ،‬ولكنه قرآن كرمي‪.‬‬
‫علي‪..‬‬
‫قال أ[و ذر‪ :‬اقرأ ّ‬
‫‪ | 25‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فقرأ عليه الرسول‪ ،‬وأ[و ذر يصغي‪ ..‬ومل ميضي من الوقت غري قليل حىت هتف أبو ذر‪:‬‬
‫"أشهد أن ال اله اال اهلل‪.‬‬
‫وأشهد أن حممدا عبده ورسوله"!‬
‫وسأله النيب‪ :‬ممن أنت يا أخا العرب‪..‬؟‬
‫فأجابه أبو ذر‪ :‬من غفار‪..‬‬
‫وتألقت ابتسامة على فم السول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واكتسى وجهه الدهشة والعجب‪..‬‬
‫وض‪RR‬حك أب‪RR‬و ذر ك‪RR‬ذلك‪ ،‬فه‪RR‬و يع‪RR‬رف س‪RR‬ر العجب ال‪RR‬ذي‪ R‬كس‪RR‬ا وج‪RR‬ه الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الس‪RR‬الم حني علم أن‬
‫هذا الذي‪ R‬جيهر باالسالم أمامه امنا هو رجل من غفار‪!!..‬‬
‫فغفار هذه قبيلة ال يدرك هلا شأو يف قطع الطريق‪!!..‬‬
‫وأهله‪RR‬ا مض‪RR‬رب األمث‪RR‬ال يف الس‪RR‬طو غ‪RR‬ري املش‪RR‬روع‪ ..‬اهنم‪ R‬حلف‪RR‬اء اللي‪RR‬ل والظالم‪ ،‬والوي‪RR‬ل ملن يس‪RR‬لمه اللي‪RR‬ل‬
‫اىل واحد من قبيلة غفار‪.‬‬
‫غصا مستخفيا‪ ،‬واحد ليسلم‪..‬؟!‬ ‫أفيجيء منهم اليوم‪ ،‬واالسالم ال يزال دينا ّ‬

‫يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه‪:‬‬


‫"‪ ..‬فجع‪RR‬ل الن‪RR‬يب ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يرف‪RR‬ع بص‪RR‬ره ويص‪Rّ R‬وبه تعجب‪RR‬ا‪ ،‬ملا ك‪RR‬ان من غف‪RR‬ار‪ ،‬مث ق‪RR‬ال‪ :‬ان اهلل‬
‫يهدي من يشاء‪.‬‬
‫ولقد كان أبو ذر رضي اهلل عنه أحد الذين شاء هلم اهلدى‪ ،‬وأراد هبم اخلري‪.‬‬
‫وانه لذو بصر باحلق‪ ،‬فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء اهلل هلم اهلدى‪ ،‬وأراد هبم اخلري‪.‬‬
‫وانه لذو بصر باحلق‪ ،‬فقد روي عنه أنه أحد ال‪RR‬ذين كلن‪RR‬وا يت‪RR‬أهلون يف اجلاهلي‪RR‬ة‪ ،‬أي يتم‪RّR‬ردون على عب‪RR‬ادة‬
‫األصنام‪ ،‬ويذهبون اىل االميان باله خالق عظيم‪ .‬وهكذا ما كاد يسمع بظه‪R‬ور ن‪R‬يب يس‪ّ R‬فه عب‪R‬ادة األص‪R‬ناك‬
‫وعبّادها‪ ،‬ويدعو اىل عبادة اهلل الواحد القهار‪ ،‬حىت حث اليه اخلطى‪ ،‬وش ّد الرحال‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 26‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أسلم أبو ذر من فوره‪..‬‬


‫وكان ترتيبه يف املسلمني اخلامس أو السادس‪..‬‬
‫اذن‪ ،‬هو قد أسلم يف األيام األوىل‪ ،‬بل الساعات األوىل لالسالم‪ ،‬وكان اسالمه مبكرا‪..‬‬
‫وحني أسلم كلن الرسول يهمس بال‪RR‬دعوة مهس‪R‬ا‪ ..‬يهمس هبا اىل نفس‪R‬ه‪ ،‬واىل اخلمس‪RR‬ة ال‪RR‬ذين آمن‪RR‬وا مع‪RR‬ه‪،‬‬
‫ومل يكن أمام أيب ذر اال أن حيمل اميانه بني جنبيه‪ ،‬ويتسلل به مغادرا مكة‪ ،‬وعائدا اىل قومه‪...‬‬
‫ولكن أبا ذر‪ ،‬جندب بن جنادة‪ ،‬حيمل طبيعة فوارة جيّاشة‪.‬‬
‫لق‪RR‬د خل‪RR‬ق ليتم‪Rّ R‬رد على الباط‪RR‬ل أىن يك‪RR‬ون‪ ..‬وه‪RR‬ا ه‪RR‬و ذا ي‪RR‬رى الباط‪RR‬ل بعيني‪RR‬ه‪ ..‬حج‪RR‬ارة مرصوص‪RR‬ة‪ ،‬ميالد‬
‫عابديها أقدم من ميالدها‪ ،‬تنحين أمامها اجلباه والعقول‪ ،‬ويناديها الناس‪ :‬لبيك‪ ..‬لبيك‪!!..‬‬
‫وص ‪RR‬حيح أن ‪RR‬ه رأى الرس ‪RR‬ول ي ‪RR‬ؤثر هلمس يف أيام ‪RR‬ه تل ‪RR‬ك‪ ..‬ولكن ال ب‪ّ R R‬د من ص ‪RR‬يحة يص ‪RR‬يحها ه ‪RR‬ذا الث ‪RR‬ائر‬
‫اجلليل قبل أن يرحل‪.‬‬
‫لقد توجه اىل الرسول عليه الصالة والسالم فور اسالمه هبذا السؤال‪:‬‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬مب تأمرين‪..‬؟‬
‫فأجابه الرسول‪ :‬ترجع اىل قومك حىت يبلغك أمري‪..‬‬
‫فقال أبو ذر‪ :‬والذي‪ R‬نفسي بيده ال أرجع حىت أصرخ باالسالم يف املسجد‪!!..‬‬
‫أمل أقل لكم‪..‬؟؟‬
‫تلك طبيعة متم ّ‪R‬ردة جيّاش‪R‬ة‪ ،‬أيف اللحظ‪RR‬ة ال‪R‬يت يكش‪RR‬ف فيه‪RR‬ا أب‪R‬و ذر عاملا جدي‪R‬دا بأس‪R‬ره يتمث‪RR‬ل يف الرس‪R‬ول‬
‫الذي آمن ب‪R‬ه‪ ،‬ويف ال‪R‬دعوة ال‪R‬يت مسع بتباش‪R‬ريها على لس‪R‬انه‪ ..‬أيف ه‪R‬ذه اللحظ‪R‬ة ي‪R‬راد ل‪R‬ه أن يرج‪R‬ع اىل أهل‪R‬ه‬
‫صامتا‪.‬؟‬
‫هذا أمر فوق طاقته‪..‬‬
‫هنالك دخل املسجد احلرام ونادى بأعلى صوته‪:‬‬
‫[أشهد أن ال اله اال اهلل‪ ..‬وأشهد أن حممدا‪ R‬رسول اهلل]‪...‬‬
‫‪ | 27‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ك ‪RR‬انت ه ‪RR‬ذه الص ‪RR‬يحة أول ص ‪RR‬يحة باالس ‪RR‬الم حت ّدت كربي ‪RR‬اء ق ‪RR‬ريش وق ‪RR‬رعت أمساعها‪ ..‬ص ‪RR‬احها رج ‪RR‬ل‬
‫غريب ليس له يف م ّكة حسب وال نسب وال محى‪..‬‬
‫ولقد لقي ما مل يكن يغيب عن فطنته أنه مالقيه‪ ..‬فقد أحاط به املشركون وضربوه حىت صرعوه‪..‬‬
‫وترامى النبأ اىل العباس عم النيب‪ ،‬فجاء يسعى‪ ،‬وما استطاع أن ينقذه من بني أني‪RR‬اهبم اال باحليل‪R‬ة لذكي‪R‬ة‪،‬‬
‫قال له‪:‬‬
‫حيرض قوم‪RR‬ه عليكم‪،‬‬ ‫"ي‪RR‬ا معش‪RR‬ر ق‪RR‬ريش‪ ،‬أنتم جتار‪ ،‬وط‪RR‬ريقكم على غف‪RR‬ار‪ ،،‬وه‪RR‬ذا رج‪RR‬ل من رجاهلا‪ ،‬ان ّ‬
‫يقطعوا على قوافلكم الطريق"‪ ..‬فثابوا اىل رشدهم وتركوه‪.‬‬
‫ولكن أب‪RR R‬ا ذر‪ ،‬وق‪RR R‬د ذاق حالوة األذى يف س‪RR R‬بيل اهلل‪ ،‬ال يري‪RR R‬د أن يغ‪RR R‬ادر مك‪RR R‬ة ح‪RR R‬ىت يظف‪RR R‬ر من طيبات‪RR R‬ه‬
‫مبزيد‪!!...‬‬
‫وهك‪RR‬ذا ال يك‪RR‬اد يف الي‪RR‬وم الث‪RR‬اين ورمبا يف نفس الي‪RR‬وم‪ ،‬يلقى ام‪RR‬رأتني تطوف‪RR‬ان بالص‪RR‬نمني (أس‪RR‬اف‪ ،‬واثل‪RR‬ة)‬
‫ودعواهنم ‪RR‬ا‪ ،‬ح ‪RR‬ىت يق ‪RR‬ف عليهم ‪RR‬ا ويس ‪RR‬فه الص ‪RR‬نمني تس ‪RR‬فيها مهين ‪RR‬ا‪ ..‬فتص ‪RR‬رخ املرأت ‪RR‬ان‪ ،‬ويه ‪RR‬رول الرج ‪RR‬ال‬
‫كاجلراد‪ ،‬مث ال يفتون يضربونه حىت يفقد وعيه‪..‬‬
‫وحني يفيق يص‪R‬رخ م‪R‬رة أخ‪R‬رى بأن‪R‬ه " يش‪R‬هد أن ال ال‪R‬ه اال اهلل وأن حمم‪R‬دا رس‪R‬ول اهلل"‪ .‬وي‪R‬درك الرس‪R‬ول‬
‫عليه الصالة والسالم طبيعة تلميذه اجلدي‪R‬د الواف‪R‬د‪ ،‬وقدرت‪R‬ه الب‪R‬اهرة على مواجه‪R‬ة الباط‪R‬ل‪ .‬بي‪R‬د أن وقت‪R‬ه مل‬
‫يأت بعد‪ ،‬فيعيد علي‪R‬ه أم‪R‬ره ب‪R‬العودة اىل قوم‪R‬ه‪ ،‬ح‪R‬ىت اذا مسع بظه‪R‬ور ال‪R‬دين ع‪R‬اد وأدىل يف جمرى األح‪R‬داث‬
‫دلوه‪..‬‬

‫**‬

‫ويعود أبو ذر اىل عشريته وقومه‪ ،‬فيح‪RR‬دثههم عن الن‪RR‬يب ال‪RR‬ذي‪ R‬ظه‪RR‬ر ي‪RR‬دعو اىل عب‪RR‬ادة اهلل وح‪RR‬ده ويه‪RR‬دي‬
‫ملك‪RR‬ارم األخالق‪ ،‬وي‪RR‬دخل قوم‪RR‬ه يف االس‪RR‬الم‪ ،‬واح‪RR‬دا اث‪RR‬ر واح‪RR‬د‪ ..‬وال ميتفي بقبيلت‪RR‬ه غف‪RR‬ار‪ ،‬ب‪RR‬ل ينتق‪RR‬ل اىل‬
‫قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه‪!!..‬‬
‫‪ | 28‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتت‪RR‬ابع األي‪RR‬ام رحلته‪RR‬ا يف م‪RR‬وكب ال‪RR‬زمن‪ ،‬ويه‪RR‬اجر الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم اىل املدين‪RR‬ة‪ ،‬ويس‪RR‬تقر هبا‬
‫واملسلمون معه‪.‬‬
‫وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا‪ R‬طويلة من املشاة والركبان‪ ،‬أثارت أقدامهم‪ R‬النقع‪ ..‬ولوال تكب‪RR‬رياهتم‬
‫الصادعة‪ ،‬حلبسهم الرائي جيشا مغريا من جيوش الشرك‪..‬‬
‫اق ‪RR‬رتب املوكب اللجب‪ ..‬ودخ ‪RR‬ل املدين ‪RR‬ة‪ ..‬وميم وجه ‪RR‬ه ش ‪RR‬طر مس ‪RR‬جد الرس ‪RR‬ول ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم‬
‫ومقامه‪..‬‬
‫لقد كان املوكب قبيليت غفار وأسلم‪ ،‬ج‪RR‬اء هبم‪RR‬ا اب‪RR‬و ذر مس‪RR‬لمني مجيع‪RR‬ا رج‪RR‬اال ونس‪RR‬اءا‪ .‬ش‪RR‬يوخا وش‪RR‬بابا‪،‬‬
‫وأطفاال‪!!..‬‬
‫وكان من حق الرسول عليه الصالة والسالم أن يزداد عجبا ودهشة‪..‬‬
‫فب‪RR‬األمس البعي ‪R‬د‪ R‬عجب كث‪RR‬ريا‪ R‬حني رأى أمام‪RR‬ه رجال واح‪RR‬دا‪ R‬من غف‪RR‬ار يعلن اس‪RR‬المه واميان‪RR‬ه‪ ،‬وق‪RR‬ال معرّب ا‪R‬‬
‫عن دهشته‪:‬‬
‫"ان اهلل يهدي من يشاء"‪!!..‬‬
‫أما اليوم‪ R‬فان قبيلة غفار بأمجعه‪R‬ا جتيئ‪R‬ه مس‪R‬لمة‪..‬وق‪R‬د قطعت يف االس‪R‬الم بض‪RR‬ع س‪RR‬نني من‪RR‬ذ ه‪RR‬داها اهلل على‬
‫يد أيب ذر‪ ،‬وجتيء معها قبيلة أسلم‪..‬‬
‫ان عمالقة السطور‪ R‬وحلفاء الشيطان‪ ،‬قد أصبحوا عمالقة يف اخلري وحلفاء للحق‪.‬‬
‫أليس اهلل يهدي من يشاء حقا‪..‬؟؟‬
‫لقد ألقى الرسول عليه الصالة والسالم على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا‪..‬‬
‫ونظر اىل قبيلة غفار وقال‪:‬‬
‫"غفار غفر اهلل هلا"‪.‬‬
‫مث اىل قبيلة أسلم فقال‪:‬‬
‫"وأسلم ساملها اهلل"‪..‬‬
‫وأبو ذر هذا الداعية الرائ‪RR‬ع‪ ..‬الق‪RR‬وي الش‪RR‬كيمة‪ ،‬العزي‪RR‬ز املن‪RR‬ال‪ ..‬أال خيتص‪RR‬ه الرس‪R‬ول علي‪R‬ه الص‪R‬الة والس‪R‬الم‬
‫بتحية‪..‬؟؟‬
‫‪ | 29‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجل‪ ..‬ولسوف يكون جزاؤه موفورا‪ ،‬وحتيته مباركة‪..‬‬


‫ولسوف حيمل صدره‪ ،‬وحيمل تارخيه‪ ،‬أرفع األومسة وأكثرها جالال وعزة‪..‬‬
‫ولسوف تفىن القرون واألجيال‪ ،‬والناس يرددون رأي الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف أيب ذر‪:‬‬
‫" ما أقلّت الغرباء‪ ،‬وال أظلّت الصحراء‪ R‬أصدق هلجة من أيب ذر"‪!!..‬‬
‫وي‪RR R‬درك الرس‪RR R‬ول علي‪RR R‬ه الص‪RR R‬الة والس‪RR R‬الم طبيع‪RR R‬ة تلمي‪RR R‬ذه اجلدي‪RR R‬د الواف‪RR R‬د‪ ،‬وقدرت‪RR R‬ه اب‪RR R‬اهرة على مواجه‪RR R‬ة‬
‫الباط‪RR‬ل‪ ..‬بي‪RR‬د أن وقت‪RR‬ه مل ي‪RR‬أت بع‪RR‬د‪ ،‬فيعي‪RR‬د علي‪RR‬ه أم‪RR‬ره ب‪RR‬العودة اىل قوم‪RR‬ه‪ ،‬ح‪RR‬ىت اذا مسع بظه‪RR‬ور ال‪RR‬دين ع‪RR‬اد‬
‫وأدىل يف جمرى األحداث دلّوه‪..‬‬

‫**‬

‫أصدق هلجة يف أيب ذر‪..‬؟‬


‫لقد قرأ الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬مستقبل صاحبه‪ ،‬وخلص حياته كلها يف هذه الكلمات‪..‬‬
‫فالصدق اجلسور‪ ،‬هو جوهر حياة أيب ذر كلها‪..‬‬
‫صدق باطمه‪ ،‬وصدق ظاهره‪..‬‬
‫صدق عقيدته وصدق هلجته‪..‬‬
‫ولسوف حييا صادقا‪ ..‬ال يغالط نفسه‪ ،‬وال يغالط غريه‪ ،‬وال يسمح ألحد أن يغالطه‪..‬‬
‫ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء‪ ..‬فالصدق الصامت ليس صدقا عند أيب ذر‪..‬‬
‫امنا الصدق جهر وعلن‪ ..‬جهر باحلق وحتد للباطل‪..‬تأييد للصواب ودحض للخطأ‪..‬‬
‫الصدق والء رشيد للحق‪ ،‬وتعبري جريء عنه‪ ،‬وسري حثيث معه‪..‬‬

‫ولق‪R R‬د‪ R‬ك ‪RR‬ان الرس ‪RR‬ول ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم ببص ‪RR‬ريته الثاقب ‪RR‬ة ع ‪RR‬رب الغيب‪ R‬القص ‪RRّ R‬ي واجمله ‪RR‬ول البعي‪R R‬د‪ R‬ك ‪RR‬ل‬
‫املت ‪RR‬اعب ال ‪RR‬يت س ‪RR‬يفيئها على أيب ذر ص ‪RR‬دقه وص ‪RR‬البته‪ ،‬فك ‪RR‬ان ي ‪RR‬أمره دائم ‪RR‬ا أن جيع ‪RR‬ل األن ‪RR‬اة والص ‪RR‬رب هنج ‪RR‬ه‬
‫وسبيله‪.‬‬
‫‪ | 30‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وألقى الرسول يوما هذا السؤال‪:‬‬


‫" يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"‪..‬؟‬
‫فأجاب قائال‪:‬‬
‫"اذن والذي بعثك باحلق‪ ،‬ألضربن بسيفي"‪!!.‬‬
‫فقال له الرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫"أفال أدلك على خري من ذلك‪..‬؟‬
‫اصرب حىت تلقاين"‪.‬‬
‫ترى ملاذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات‪..‬؟؟‬
‫األمراء‪ ..‬واملال‪..‬؟؟‬

‫تلك قضية أيب ذر اليت سيهبها حياته‪ ،‬وتلك مشكلته مع اجملتمع‪ R‬ومع املستقبل‪..‬‬
‫ولقد عرفها رسول اهلل فألقى عليه السؤال‪ ،‬ليزوده هذه النصيحة الثمينة‪":‬اصرب حىت تلقاين"‪..‬‬
‫ولس‪RR‬وف حيف‪RR‬ظ أب‪RR‬و ‪1‬ر وص‪RR‬ية معلم‪RR‬ه‪ ،‬فلن حيم‪RR‬ل الس‪RR‬يف ال‪RR‬ذي ت‪Rّ R‬ود ب‪RR‬ه األم‪RR‬راء ال‪RR‬ذين ي‪RR‬ثرون من م‪RR‬ال‬
‫األمة‪ ..‬ولكنه أيضا لن يسكت عنهم حلظة من هنار‪..‬‬
‫أجل اذا كان الرسول ق‪RR‬د هناه عن محل الس‪R‬يف يف وج‪R‬وههم‪ ،‬فان‪RR‬ه ال ينه‪R‬اه عن أن حيم‪R‬ل يف احلق لس‪R‬انه‬
‫البتار‪..‬‬
‫ولسوف يفعل‪..‬‬

‫**‬

‫ومض‪RR‬ى عه‪RR‬د الرس‪RR‬ول‪ ،‬ومن بع‪RR‬ده عص‪RR‬ر أيب بك‪RR‬ر‪ ،‬وعص‪RR‬ر عم‪RR‬ر يف تف‪RR‬وق كام‪RR‬ل على مغري‪RR‬ات احلي‪RR‬اة‬
‫ودواعي الفتنة فيها‪..‬‬
‫حىت تلك النفوس املشتهية الراغبة‪ ،‬مل تكن جتد لرغباهتا سبيال وال منفذا‪.‬‬
‫‪ | 31‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأيامئذ‪ ،‬مل تكن مثة احنرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته الالهبة‪...‬‬

‫ولقد‪ R‬طال عهد أم‪RR‬ري املؤم‪R‬نني عم‪RR‬ر‪ ،‬فارض‪RR‬ا على والة املس‪RR‬لمني وأم‪R‬رائهم وأغني‪R‬ائهم يف ك‪R‬ل مك‪RR‬ان من‬
‫األرض‪ ،‬زهدا وتقشفا‪ ،‬ودعال يكاد يكون فوق طاقة البشر‪..‬‬

‫ان واليا من والته يف العراق‪ ،‬أو يف الشام‪ ،‬أ‪ ،‬يف صنعاء‪ ..‬أو يف أي من البالد النائي‪R‬ة البعي‪R‬دة‪ ،‬ال يك‪R‬اد‬
‫يصل اليها‪ R‬نوعا من احللوى‪ ،‬ال جيد عام‪RR‬ة الن‪RR‬اس ق‪RR‬درة على ش‪RR‬رائه‪ ،‬ح‪R‬ىت يك‪RR‬ون اخلرب ق‪RR‬د وص‪RR‬ل اىل عم‪RR‬ر‬
‫بع ‪RR‬د أي ‪RR‬ام‪ .‬وح ‪RR‬ىت تك ‪RR‬ون أوام ‪RR‬ره الص ‪RR‬ارمة ق ‪RR‬د ذهبت لتس ‪RR‬تدعي ذل ‪RR‬ك ال ‪RR‬وايل اىل املدين ‪RR‬ة ليلقى حس ‪RR‬ابه‬
‫العسري‪!!..‬‬
‫ليهنأ أبو ذر اذن‪ ..‬وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أمريا للمؤمنني‪..‬‬
‫وم ‪RR‬ا دام ال يض ‪RR‬ايق أب ‪RR‬ا ذر يف حيات ‪RR‬ه ش ‪RR‬يء مثلم ‪RR‬ا يض ‪RR‬ايقع اس ‪RR‬تغالل الس ‪RR‬لطة‪ ،‬واحتك ‪RR‬ارالثروة‪ ،‬ف ‪RR‬ان ابن‬
‫اخلطاب مبراقبته الصارمة للسلطة‪ ،‬وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا‪..‬‬
‫وهكذا تفرغ لعبادة ربه‪ ،‬وللجهاد يف سبيله‪ ..‬غري الئذ بالصمت اذا رأى خمالفة هن‪RR‬ا‪ ،‬أو هن‪RR‬اك‪ ..‬وقلم‪RR‬ا‬
‫كان يرى‪..‬‬

‫بي‪RR‬د أن أعظم‪ ،‬وأع‪RR‬دل‪ ،‬وأروع حك‪RR‬ام البش‪RR‬رية قاطب‪RR‬ة يرح‪RR‬ل عن ال‪RR‬دنيا‪ R‬ذات ي‪RR‬وم‪ ،‬تارك‪RR‬ا وراءه فراغ‪RR‬ا‬
‫ه ‪RR‬ائال‪ ،‬وحمدثا رحيل ‪RR‬ه من ردود الفع ‪RR‬ل م ‪RR‬ا ال مف ‪Rّ R‬ر من ‪RR‬ه وال طاق ‪RR‬ة للن ‪RR‬اس ب ‪RR‬ه‪ .‬وتس ‪RR‬تمر القت ‪RR‬وح يف م ‪ّ R‬دها‪،‬‬
‫ويعلو معها مد الرغبات والتطلع اىل مناعم احلياة وترفها‪..‬‬
‫ويرى أبو ذر اخلطر‪..‬‬

‫ان ألوية اجملد الشخصي‪ R‬توشك أن تفنت الذين كل دورهم يف احلياة أن يرفعوا‪ R‬راية اهلل‪..‬‬
‫ان ال ‪RR‬دنيا بزخرفه ‪RR‬ا وغروره ‪RR‬ا الض ‪RR‬اري‪ R،‬توش ‪RR‬ك أن تفنت ال ‪RR‬ذين ك ‪RR‬ل رس ‪RR‬التهم أن جيعل ‪RR‬وا منه ‪RR‬ا مزرع ‪RR‬ة‬
‫لألعمال الصاحلات‪..‬‬
‫يتحول اىل سيّد مستبد‪..‬‬
‫ان املال الذي جعله اهلل خادما مطيعا لالنسان‪ ،‬يوشك أن ّ‬
‫‪ | 32‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومع من؟‬
‫مع أصحاب حممد الذي‪ R‬مات ودرعه مرهونة‪ ،‬يف حني كانت أكوام الفيء والغنائم‪ R‬عند قدميه‪!!..‬‬
‫ان خ ‪RR‬ريات األرض ال ‪RR‬يت ذرأه ‪RR‬ا اهلل للن ‪RR‬اس مجيع ‪RR‬ا‪ ..‬وجع ‪RR‬ل حقهم فيه ‪RR‬ا متكافئ ‪RR‬ا توش ‪RR‬ك أن اص ‪RR‬ري حك ‪RR‬را‬
‫ومزية‪..‬‬
‫ان الس‪RR R‬لطة ال‪RR R‬يت هي مس‪RR R‬ؤولية ترتع‪RR R‬د من ه‪RR R‬ول حس‪RR R‬اب اهلل عليه‪RR R‬ا أفئ‪RR R‬دة األب‪RR R‬رار‪ ،‬تتح‪RR R‬ول اىل س‪RR R‬بيل‬
‫للسيطرة‪ ،‬وللثراء‪ ،‬وللرتف املدمر الوبيل‪..‬‬
‫رأى أب‪RR‬و ذر ك‪RR‬ل ه‪RR‬ذا فلم يبحث عن واجب‪RR‬ه وال عن مس‪RR‬ؤوليته‪ ..‬ب‪RR‬ل راح ميد ميين‪RR‬ه اىل س‪RR‬يفه‪ ..‬وه‪RR‬ز ب‪RR‬ه‬
‫اهلواء فمزقه‪ ،‬وهنض قائما يواجه اجملتمع بسيفه الذي مل تعرف له كبوة‪ ..‬لكن س‪RR‬رعان م‪RR‬ا ر ّن يف ف‪RR‬ؤاده‬
‫صدى الوصية اليت أوصاه هبا الرسول‪ ،‬فأعاد السيف اىل غمده‪ ،‬فما ينبغي أن يرفعه يف وجه مسلم‪..‬‬
‫(وما كان ملؤمن أن يقتل مؤمنا اال خطأ)‬
‫ليس دوره اليوم أن يقتل‪ ..‬بل أن يعرتض‪..‬‬
‫وليس السيف أداة التغيري والتقومي‪ ،‬بل الكلمة الصادقة‪ ،‬األمينة املستبسلة‪..‬‬
‫الكلمة العادلة اليت ال تضل طريقها‪ ،‬وال ترهب عواقبها‪.‬‬

‫تظل أص‪RR‬دق هلج‪RR‬ة‬


‫تقل‪ ،‬وأن السماء‪ R‬مل ّ‬
‫لقد أخرب الرسول يوما وعلى مأل من أصحابه‪ ،‬أن األرض مل ّ‬
‫من أيب ذر‪..‬‬
‫ومن كان ميلك هذا القدر من صدق اللهجة‪ ،‬وصدق االقتناع‪ ،‬فما حاجته اىل السيف‪..‬؟‬
‫ان كلمة واحدة يقوهلا‪ ،‬ألمضى من ملء األرض‪ R‬سيوفا‪..‬‬

‫فليخرج بص‪R‬دقه ه‪R‬ذا‪ ،‬اىل األم‪R‬راء‪ ..‬اىل األغني‪RR‬اء‪ .‬اىل مجي‪RR‬ع ال‪RR‬ذين أص‪RR‬بحوا يش‪R‬كلون برك‪RR‬وهنم اىل ال‪RR‬دنيا‬
‫خط‪RR R‬را على ال‪RR R‬دين ال‪RR R‬ذي ج‪RR R‬اء هادي‪RR R‬ا‪ ،‬ال جابي‪RR R‬ا‪ ..‬ونب‪RR R‬وة ال ملك‪RR R‬ا‪ ..،‬ورمحة ال ع‪RR R‬ذابا‪ ..‬وتواض‪RR R‬عا ال‬
‫استعالء‪ ..‬وتكافؤ ال متايز‪ ..‬وقناعة ال جشعا‪ ..‬وكفاية ال ترفا‪ ..‬واتئادا يف أخذ احلياة‪ ،‬ال فتون‪RR‬ا هبا وال‬
‫هتالكا عليها‪..‬‬
‫‪ | 33‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فليخرج اىل هؤالء مجيعا‪ ،‬حىت حيكم اهلل بينهم وبينه باحلق‪ ،‬وهو خري احلاكمني‪.‬‬

‫**‬

‫وخرج أبو ذر اىل معاقل السلطة والثروة‪ ،‬يغزوه‪RR‬ا مبعارض‪RR‬ته معقال معقال‪ ..‬وأص‪RR‬بح يف أي‪RR‬ام مع‪RR‬دودات‬
‫الراي‪RR‬ة ال‪RR‬يت التفت‪ R‬حوهلا اجلم‪RR‬اهري والك‪RR‬ادحون‪ ..‬ح‪RR‬ىت يف األقط‪RR‬ار النائي‪RR‬ة ال‪RR‬يت مل ي‪RR‬ره أهله‪RR‬ا بع‪RR‬د‪ ..‬ط‪RR‬اره‬
‫هام‪RR‬ة هتدد مص ‪RR‬احل ذوي‬ ‫اليه ‪RR‬ا ذك ‪RR‬ره‪ .‬وأص ‪RR‬بح ال مير ب ‪RR‬أرض‪ ،‬ب ‪RR‬ل وال يبل ‪RR‬غ امسه قوم ‪RR‬ا اال أث ‪RR‬ار تس ‪RR‬ؤالت ّ‬
‫الشلطة والثراء‪.‬‬
‫ول‪RR‬و أراد ه‪RR‬ذا الث‪RR‬ائر اجللي‪RR‬ل أن يتخ‪RR‬ذ لنفس‪RR‬ه وحلركت‪RR‬ه علم‪RR‬ا خاص‪RR‬ا ملا ك‪RR‬ان الش‪RR‬عار‪ R‬املنق‪RR‬وش على العلم‬
‫س‪R‬وى مك‪R‬واة تت‪R‬وهج محرة وهلب‪R‬ا‪ ،‬فق‪R‬د جع‪R‬ل نش‪R‬يده وهتاف‪R‬ه ال‪R‬ذي ي‪R‬ردده يف ك‪R‬ل مك‪R‬ان وزم‪R‬ان‪ ..‬وي‪R‬ردده‬
‫االنس عنه كأنه نشيد‪ ..‬هذه الكلمات‪:‬‬
‫"ب ّش ‪R R‬ر الك‪RR R‬انزين ال‪RR R‬ذين يك‪RR R‬نزون ال‪RR R‬ذهب والفض‪R R‬ة‪ R‬مبك‪RR R‬او من ن‪RR R‬ار تك‪RR R‬وى هبا جب‪RR R‬اههم وجن‪RR R‬وهبم ي‪RR R‬وم‬
‫القيامة"‪!!..‬‬
‫ال يصغد جبال‪ ،‬وال ينزل سهال‪ ،‬وال يدخل مدينة‪ ،‬وال يواجه أمريا اال وهذه الكلمات على لسانه‪.‬‬
‫ومل يعد االنس يبصرونه قادما اال استقبلوه هبذه الكلمات‪:‬‬
‫بشر الكانزين مبكاو من نار"‪..‬‬ ‫" ّ‬
‫لق ‪RR‬د ص ‪RR‬ارت ه ‪RR‬ذه العب ‪RR‬ارة علم ‪RR‬ا على رس ‪RR‬الته ال ‪RR‬يت ن ‪RR‬ذر حيات‪RR‬ه هلا‪ ،‬حني رأى ال ‪RR‬ثروات ت ‪RR‬رتكز وحتتك ‪RR‬ر‪..‬‬
‫وحني رأى الس‪RR R‬لطة اس‪RR R‬تعالء واس‪RR R‬تغالل‪ ..‬وحني رأى حب ال‪RR R‬دنيا يطغى ويوش‪RR R‬ك أن يطم‪RR R‬ر ك‪RR R‬ل م‪RR R‬ا‬
‫صنعته سنوات الرسالة العظمى من مجال وورع‪ ،‬وتفان واخالص‪..‬‬

‫لقد بدأ بأكثر تلك املعاقل سيطرة ورهبة‪ ..‬هناك يف الشام حيث "معاوي‪RR‬ة بن أيب س‪RR‬فيان" حيكم أرض‪RR‬ا‬
‫من أك‪RR‬ثر بالد االس‪RR‬الم خص‪RR‬وبة وخ‪RR‬ريا وفيض‪RR‬ا‪ ،‬وان‪RR‬ه ليعطي األم‪RR‬وال ويوزعه‪RR‬ا بغ‪RR‬ري حس‪RR‬اب‪ ،‬يت‪RR‬ألف هبا‬
‫الناس الذين هلم حظ ومكانة‪ ،‬ويؤمن هبا مستقبله الذي كان يرنو اليه طموحه البعيد‪.‬‬
‫‪ | 34‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هن ‪RR‬اك الض ‪RR‬ياع والقص ‪RR‬ور‪ R‬وال ‪RR‬ثروات تفنت الباقي ‪RR‬ة من محل ‪RR‬ة اجلع ‪RR‬وة‪ ،‬فلي ‪RR‬درك أب ‪RR‬و ذر اخلط ‪RR‬ر قب ‪RR‬ل أن حيي ‪RR‬ق‬
‫ويدمر‪..‬‬
‫ّ‬
‫وحسر زعيم املعارضة رداءه املتواضع عن ساقيه‪ ،‬وسابق الريح اىل الشام‪..‬‬
‫ومل يك‪RR‬د الن‪RR‬اس الع‪RR‬اديون يس‪RR‬معون مبقدم‪RR‬ه ح‪RR‬ىت اس‪RR‬تقبلوه يف محاس‪RR‬ة وش‪RR‬وق‪ ،‬والتف‪RR‬وا‪ R‬حول‪RR‬ه أينم‪RR‬ا ذهب‬
‫وسار‪..‬‬
‫حدثنا يا أبا ذر‪..‬‬
‫حدثنا يا صاحب رسول اهلل‪..‬‬
‫ويلقي أبو ذر على اجلموع حوله نظرات فاحص‪RR‬ة‪ ،‬ف‪RR‬ريى أكثره‪RR‬ا ذوي حصاص‪RR‬ة وفق‪RR‬ر‪ ..‬مث يرن‪RR‬و ببص‪RR‬ره‬
‫حنو املشارف القريبة فريى القصور‪ R‬والضياع‪..‬‬
‫مث يصرخ يف احلافني حوله قائال‪:‬‬
‫" عجبت ملن ال جيد القوت يف بيته‪ ،‬كيف ال خيرج على االنس شاهرا سيفه"‪..‬؟؟!!‬

‫مث ي‪RR R‬ذكر من ف‪RR R‬وره وص‪RR R‬ية رس‪RR R‬ول اهلل أن يض‪RR R‬ع األن‪RR R‬اة مك‪RR R‬ان االنقالب‪ ،‬والكلم‪RR R‬ة الش‪RR R‬جاعة مك‪RR R‬ان‬
‫السيف‪ ..‬في‪R‬رتك لغ‪R‬ة احلرب ه‪R‬ذه ويع‪R‬ود اىل لغ‪RR‬ة املنط‪R‬ق واالقن‪RR‬اع‪ ،‬فيعلم الن‪R‬اس مجيع‪RR‬ا أهنم مجيع‪RR‬ا سواس‪R‬ية‬
‫كأسنان املشط‪ ..‬وأهنم مجيعا شركاء يف الرزق‪ ..‬وأنه ال فضل ألحد على أحد اال ب‪RR‬التقوى‪ ..‬وأن أم‪RR‬ري‬
‫القوم ووليهم‪ ،‬هو أول من جيوع اذا جاعوا‪ ،‬وآخر من شبع اذا شبعوا‪..‬‬
‫عام‪RR‬ا من ك ‪RR‬ل بالد االس ‪RR‬الم يك ‪RR‬ون ل ‪RR‬ه من الفطن ‪RR‬ة واملناع ‪RR‬ة‪،‬‬
‫لق ‪RR‬د ق ‪RR‬رر أن خيل ‪RR‬ق بكلمات ‪RR‬ه وش ‪RR‬جاعته رأي ‪RR‬ا ّ‬
‫والق‪RR‬وة م‪RR‬ا جيعل‪RR‬ه ش‪RR‬كيمة ألمرائ‪RR‬ه وأغنيائ‪RR‬ه‪ ،‬وم‪RR‬ا حيول دون ظه‪RR‬ور طبق‪RR‬ات مس‪RR‬تغلة للحكم‪ ،‬أو حمتك‪RR‬رة‬
‫للثروة‪.‬‬

‫ويف أي‪RR‬ام قالئ‪R‬ل‪ ،‬ك‪RR‬انت الش‪R‬ام كله‪RR‬ا كخالي‪R‬ا حنل وج‪RR‬دت ملكته‪RR‬ا املطاع‪R‬ة‪ ..‬ول‪RR‬و أعطى أب‪RR‬و ذر اش‪R‬ارة‬
‫ع ‪RR‬ابرة ب ‪RR‬الثورة الش ‪RR‬تعلت ن ‪RR‬ارا‪ ..‬ولكن ‪RR‬ه كم ‪RR‬ا قلن ‪RR‬ا‪ ،‬حص ‪RR‬ر اهتمام ‪RR‬ه يف خل ‪RR‬ق رأي ع ‪RR‬ام يف ‪RR‬رض احرتام ‪RR‬ه‪،‬‬
‫وصارت كلماته حديث اجملالس واملساجد والطريق‪.‬‬
‫‪ | 35‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولق‪RR‬د بل‪RR‬غ خط‪RR‬ره على االمتي‪RR‬ازات الناش‪RR‬ئة م‪RR‬داه‪ ،‬ي‪RR‬وم ن‪RR‬اظر معاوي‪RR‬ة على مأل من الن‪RR‬اس‪ .‬مث أبل‪RR‬غ الش‪RR‬اهد‬
‫للمناظرة‪ ،‬الغائب‪ R‬عنها‪ .‬وسارت الرياح بأخبارها‪..‬‬
‫ولقد وقف أبو ذر أصدق العاملني هلجة‪ ،‬كما وصفه نبيه وأستاذه‪..‬‬
‫وقف يسائل معاوية يف غري خوف وال مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما‪ ،‬وعن ثروته اليوم‪!!..‬‬
‫وعن البيت‪ R‬الذي‪ R‬كان يسكنه مبكة‪ ،‬وعن قصوره بالشام اليوم‪!!..‬‬
‫مث يوج‪RR‬ه الس‪RR‬ؤال للجالس‪RR‬ني حول‪RR‬ه من الص‪RR‬حابة ال‪RR‬ذين ص‪RR‬حبوا معاوي‪RR‬ة اىل الش‪RR‬ام‪ R‬وص‪RR‬ار‪ R‬لبعض‪RR‬هم‪ R‬قص‪RR‬ور‬
‫وضياع‪.‬‬
‫مث يصيح فيهم مجيعا‪ :‬أفأنت الذين نزل القرآن على الرسول وهو بني ظهرانيهم‪..‬؟؟‬
‫ويتوىل االجابة عنهم‪ :‬نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن‪ ،‬وشهدمت مع الرسول املشاهد‪..‬‬
‫مث يعود ويسأل‪ :‬أال جتدون يف كتاب اهلل هذه اآلية‪:‬‬
‫(وال‪RR‬ذين يك‪RR‬نزون ال‪RR‬ذهب والفض‪RR‬ة وال ينفقوهنا يف س‪RR‬بيل اهلل فبش‪RR‬رهم بع‪RR‬ذاب أليم‪ ..‬ي‪RR‬وم حيمى عليه‪RR‬ا يف‬
‫ن ‪RR‬ار جهنّم‪ ،‬فتك ‪RR‬وى هبا جب ‪RR‬اههم‪ ،‬وجن ‪RR‬وهبم‪ ،‬وظه ‪RR‬ورهم‪ ،‬ه ‪RR‬ذا م ‪RR‬ا ك ‪RR‬نزمت ألنفس ‪RR‬كم‪ ،‬ف ‪RR‬ذوقوا م ‪RR‬ا كنتم‬
‫تكنزون)‪..‬؟؟‬

‫وخيتالم معاوية طريق احلديث قائال‪ :‬لقد أنزلت هذه اآلية يف أهل الكتاب‪..‬‬
‫ويصيح أبو ذر‪ :‬ال بل أنزلت لنا وهلم‪..‬‬
‫ويتابع أب‪R‬و ذر الق‪R‬ول ناص‪R‬حا معاوي‪R‬ة ومن مع‪R‬ه أن خيرج‪R‬وا ك‪R‬ل م‪R‬ا بأي‪R‬ديهم من ض‪R‬ياع وقص‪R‬ور وأم‪R‬وال‪..‬‬
‫وأال ي ّدخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه‪..‬‬
‫وتتناقل احملافل واجلموع نبأ هذه املناظرة وأنباء أيب ذر‪..‬‬
‫ويتعاىل نشيد أيب ذر يف البيوت والطرقات‪:‬‬
‫(بشر الكانزين مبكاو من نار يوم القيامة)‪..‬‬
‫ّ‬
‫‪ | 36‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويستش‪RR‬عر معاوي‪RR‬ة اخلط‪RR‬ر‪ ،‬وتفزع‪RR‬ه كلم‪RR‬ات الث‪RR‬ائر اجللي‪RR‬ل‪ ،‬ولكن‪RR‬ه يع‪RR‬رف ل‪RR‬ه ق‪RR‬دره‪ ،‬فال يق‪Rّ R‬ر ب‪RR‬ه بس‪RR‬وء‪،‬‬
‫ويكتب عن فوره للخليفة عثمان رضي اهلل عنه يقول له‪ ":‬ان أبا ذر قد أفسد االنس بالشام"‪..‬‬
‫ويكتب عثمان أليب ذر يستدعيه للمدينة‪.‬‬
‫وحيس ‪RR‬ر أيب ذر ط ‪RR‬رف ردائ ‪RR‬ه عن س ‪RR‬اقيه م ‪Rّ R‬رة أخ ‪RR‬رى ويس ‪RR‬افر اىل املدين ‪RR‬ة تارك ‪RR‬ا الش ‪RR‬ام يف ي ‪RR‬وم مل تش ‪RR‬هد‬
‫دمشق مثله يوما من أيام احلفاوة والوداع‪!!..‬‬

‫**‬

‫(ال حاجة يل يف دنياكم)‪!!..‬‬


‫هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل اىل املدسنة‪ ،‬وجرى بينهما حوار طويل‪.‬‬
‫لق‪RR‬د خ‪RR‬رج عثم‪RR‬ان من ح‪RR‬واره م‪RR‬ع ص‪RR‬احبه‪ ،‬ومن األنب‪RR‬اء ال‪RR‬يت تواف‪RR‬دت علي‪RR‬ه من ك‪RR‬ل األقط‪RR‬ار عن مش‪RR‬ايعة‬
‫اجلم‪RR‬اهري آلراء أيب ذر‪ ،‬ب‪RR‬ادراك ص‪RR‬حيح خلط‪RR‬ر دعوت‪RR‬ه وقوهتا‪ ،‬وق‪RR‬رر أن حيتف‪RR‬ظ ب‪RR‬ه اىل ج‪RR‬واره يف املدين‪RR‬ة‪،‬‬
‫حمددا هبا اقامته‪.‬‬
‫ولقد عرض عثمان قراره على أيب ذر عرضا رفيقا‪ ،‬رقيقا‪ ،‬فقال له‪ ":‬ابق هنا جيانيب‪ ،‬تغدو علي‪RR‬ك الق‪RR‬اح‪R‬‬
‫وتروح"‪..‬‬
‫وأجابه أبو ذر‪:‬‬
‫(ال حاجة يل يف دنياكم)‪!.‬‬

‫أج‪RR‬ل ال حاج‪RR‬ة ل‪RR‬ه يف دني‪RR‬ا الن‪RR‬اس‪ ..‬ان‪RR‬ه من أولئ‪RR‬ك القديس‪RR‬ني ال‪RR‬ذين يبحث‪RR‬ون عن ث‪RR‬راء ال‪RR‬روح‪ ،‬وحيي‪RR‬ون‬
‫احلياة ليعطوا ال ليأخذوا‪!!..‬‬
‫الربذة فأذن له‪..‬‬
‫ولقد طلب من اخلليفة عثمان رضي اهلل عنه أن يأذن له اخلروج اىل ّ‬
‫‪ | 37‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولق‪R‬د‪ R‬ظ‪R‬ل وه‪RR‬و يف احت‪RR‬دام معارض‪RR‬ته أمين‪RR‬ا هلل ورس‪RR‬وله‪ ،‬حافظ‪RR‬ا يف اعم‪RR‬اق روح‪RR‬ه النص‪RR‬يحة ال‪RR‬يت وجهه‪RR‬ا‬
‫الي‪RR‬ه الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم أال حيم‪RR‬ل الس‪RR‬يف‪ ..‬لك‪RR‬أن الرس‪RR‬ول رأى الغيب كل‪RR‬ه‪ ..‬غيب أيب ذر‬
‫ومستقبله‪ ،‬فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية‪.‬‬
‫ومن مث مل يكن أب‪RR‬و ذر ليخفي انزعاج‪RR‬ه حني ي‪RR‬رى بعض املولعني بايق‪RR‬اد الفتن‪RR‬ة يتخ‪RR‬ذون من دعوت‪RR‬ه س‪RR‬ببا‬
‫الشباع ولعهم‪ R‬وكيدهم‪.‬‬
‫الربدة وفد من الكوفة يس‪R‬ألونه أن يرف‪R‬ع راي‪R‬ة الث‪R‬ورة ض‪R‬د اخلليف‪R‬ة‪ ،‬فزج‪R‬رهم بكلم‪R‬ات‬ ‫جاءه يوما وهو يف ّ‬
‫حامسة‪:‬‬
‫" واهلل ل‪RR R‬و أن عثم‪RR R‬ان ص‪RR R‬لبين على أط‪RR R‬ول خش‪RR R‬بة‪ ،‬أ جب‪RR R‬ل‪ ،‬لس‪RR R‬معت‪ R،‬وأطعت‪ ،‬وص‪RR R‬ربت واحتس‪RR R‬بت‪،‬‬
‫ورأيت ذلك خريا يل‪"..‬‬
‫" ولوسرّي ين ما بني األفق اىل األفق‪ ،‬لسمعت وأطعت‪ ،‬وصربت واحتسبت‪ ،‬ورأيت ذلك خريا يل‪..‬‬
‫ردين اىل منزيل‪ ،‬لسمعت وأطعت‪ ،‬وصربت واحتسبت‪ ،‬ورأيت ذلك خريا يل"‪..‬‬ ‫" ولو ّ‬

‫ذلك رجل ال يريد غرضا من أغراض ال‪RR‬دنيا‪ ،‬ومن مث أف‪RR‬اء اهلل علي‪R‬ه ن‪RR‬ور البص‪RR‬رية‪ ..‬ومن مث م‪RR‬رة أخ‪R‬رى‬
‫أدرك ما تنطوي علي‪R‬ه الفتن‪R‬ة املس‪R‬لحة من وب‪R‬ال وخط‪R‬ر فتحاش‪R‬اها‪ ..‬كم‪R‬ا أدرك م‪R‬ا ينط‪R‬وي علي‪R‬ه الص‪R‬مت‬
‫من وبال وخطر‪ ،‬فتحاش‪R‬اه أيض‪R‬ا‪ ،‬ورف‪R‬ع‪ R‬ص‪R‬وته ال س‪R‬يفه بكلم‪RR‬ة احلق وهلج‪RR‬ة الص‪R‬دق‪ ،‬ال أطم‪R‬اع تغري‪R‬ه‪..‬‬
‫وال عواقب‪ R‬تثنيه‪!..‬‬
‫تفرغ أبو ذر للمعارضة األمينة وتبتّل‪.‬‬
‫لقد ّ‬

‫وسيقضي عمره كله حي ّدق يف أخط‪R‬اء احلكم وأخط‪RR‬اء املال‪ ،‬ف‪R‬احلكم واملال ميلك‪R‬ان من االغ‪RR‬راء والفتن‪R‬ة‬
‫م‪R‬ا خياف‪R‬ه أب‪R‬و ذر على اخوان‪R‬ه ال‪R‬ذين محل‪R‬وا راي‪R‬ة االس‪R‬الم م‪R‬ع رس‪R‬وهلم ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم‪ ،‬وال‪R‬ذين‪ R‬جيب‬
‫أن يظلوا هلا حاملني‪.‬‬
‫واحلكم واملال أيضا‪ ،‬مها عصب احلي‪R‬اة لألم‪R‬ة واجلماع‪R‬ات‪ ،‬ف‪R‬اذا اعتورمها الض‪R‬الل تعرض‪R‬ت مص‪R‬اير الن‪R‬اس‬
‫للخطر األكيد‪.‬‬
‫‪ | 38‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولق ‪R‬د‪ R‬ك‪RR‬ان أب‪RR‬و ذر يتم‪RR‬ىن ألص‪RR‬حاب الرس‪RR‬ول أال يلي أح‪RR‬د منهم ام‪RR‬ارة أو جيم‪RR‬ع ث‪RR‬روة‪ ،‬وأن يظل‪RR‬وا كم‪RR‬ا‬
‫رواد للهدى‪ ،‬وعبّادا هلل‪..‬‬ ‫كانوا ّ‬
‫وق‪R‬د ك‪R‬ان يع‪R‬رف ض‪R‬راوة ال‪R‬دنيا وض‪R‬راوة املال‪ ،‬وك‪R‬ان ي‪R‬درك أن أب‪R‬ا بك‪R‬ر وعم‪R‬ر لن يتك‪R‬ررا‪ ..‬ولطاملا مسع‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم حيذر أصحابه من اغراء االمارة ويقول عنها‪:‬‬
‫وأدى الذي‪ R‬عليه فيها"‪...‬‬
‫"‪ ..‬اهنا أمانة‪ ،‬واهنا يوم القيامة خزي وندامة‪ ..‬اال من أخذها حبقها‪ّ ،‬‬

‫ولقد‪ R‬بلغ األمر بأيب ذر ىل جتنّب اخوانه ان مل يكن مقاطعتهم‪،‬ألهنم ولوا االمارات‪ ،‬وصار هلم بطبيعة‬
‫احلال ثراء وفرة‪..‬‬
‫لقيه أبو موسى األشعري يوما‪ ،‬فلم يكد يراه حىت فتح له ذراعيه وهو يص‪R‬يح من الف‪R‬رح بلقائ‪R‬ه‪ ":‬مرحب‪R‬ا‬
‫أبا ذر‪ ..‬مرحبا بأخي"‪.‬‬
‫ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول‪:‬‬
‫" لست بأخيك‪ ،‬امنا كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأمريا"‪!..‬‬
‫مرحبا‪ ،‬ولكن أبا ذر حنّاه عنه بيده وقال له‪:‬‬ ‫كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه ّ‬
‫(اليك عين‪ ..‬ألست الذي‪ R‬وليت االمارة‪ ،‬فتطاولت يف البنيان‪ ،‬واختذت لك ماشية وزرعا)‪..‬؟؟‬
‫ومضى أبو هريرة يدافع‪ R‬عن نفسه ويربئها من تلك الشائعات‪..‬‬
‫وقد يبدو أبو ذر مبالغا يف موقفه من اجلكم والثروة‪..‬‬
‫ولكن أليب ذر منطق‪RR‬ه ال‪RR‬ذي يش‪RR‬كله ص‪RR‬دقه م‪RR‬ع نفس‪RR‬ه‪ ،‬وم‪RR‬ع اميان‪RR‬ه‪ ،‬ف‪RR‬أبو ذر يق‪RR‬ف بأحالم‪RR‬ه وأعمال‪RR‬ه‪..‬‬
‫بسلوكه ورؤاه‪ ،‬عند املستوى الذي‪ R‬خلفه هلم رسول اهلل وصاحباه‪ ..‬أبو بكر وعمر‪..‬‬

‫واذا ك‪RR‬ان البعض ي‪R‬رى يف ذل‪RR‬ك املس‪R‬توى مثالي‪R‬ة ال ي‪R‬درك ش‪R‬أوها‪ ،‬ف‪RR‬ان اب‪RR‬ا ذر يراه‪R‬ا ق‪RR‬دوة ترس‪RR‬م طري‪R‬ق‬
‫احلياة والعمل‪ ،‬وال سيما ألولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السالم‪ ،‬وص‪RR‬لوا وراءه‪ ،‬وجاه‪RR‬دوا‬
‫معه‪ ،‬وبايعوه على السمع‪ R‬والطاعة‪.‬‬
‫‪ | 39‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كم‪RR‬ا أن‪RR‬ه ي‪RR‬درك بوعي‪RR‬ه املض‪RR‬يء‪ ،‬م‪RR‬ا للحكم وم‪RR‬ا لل‪RR‬ثروة من أث‪RR‬ر حاس‪RR‬م يف مص‪RR‬اير الن‪RR‬اس‪ ،‬ومن مث ف‪RR‬ان أي‬
‫خلل يصيب أمانة احلكم‪ ،‬أو عدالة الثروة‪ ،‬يشكل خطرا جيب دحضه ومعارضته‪.‬‬

‫**‬

‫ولق ‪R‬د‪ R‬ع ‪RR‬اش أب ‪RR‬و ذر م ‪RR‬ا اس ‪RR‬تطاع ح ‪RR‬امال ل ‪RR‬واء الق ‪RR‬دوة العظمى للرس ‪RR‬ول علي ‪RR‬ه الس ‪RR‬الم وص ‪RR‬احبيه‪ ،‬أمين ‪RR‬ا‬
‫عليها‪ ،‬حارسا هلا‪ ..‬وكان أستاذ يف فن التفوق على مغريات االمارة والثروة‪...،‬‬
‫عرضت عليه االمارة بالعراق فقال‪:‬‬
‫علي بدنياكم أبدا"‪..‬‬ ‫" ال واهلل‪ ..‬لن متيلوا ّ‬
‫ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قدميا فسأله‪:‬‬
‫أليس لك ثوب غري هذا‪..‬؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبني جديدين‪..‬؟‬
‫فأجابه أبو ذر‪ " :‬يا بن أخي‪ ..‬لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما‪ R‬مين"‪..‬‬
‫قال له‪ :‬واهلل انك حملتاج اليهما!!‬
‫علي ه‪RR‬ذه ال‪RR‬ربدة‪..‬؟؟ ويل أخ‪RR‬رى لص‪RR‬الة‬ ‫فأج‪RR‬اب أب ذر‪" :‬اللهم غف‪RR‬ر‪ ..‬ان‪RR‬ك ملعظّم لل‪RR‬دنيا‪ ،‬ألس‪RR‬ت ت‪RR‬رى ّ‬
‫اجلمعة‪ ،‬ويل عنزة أحلبها‪ ،‬وأتان أركبها‪ ،‬فأي نعمة أفضل ما حنن فيه"‪..‬؟؟‬

‫**‬

‫وجلس يوما حي ّدث ويقول‪:‬‬


‫[أوصاين خليلي بسبع‪..‬‬
‫أمرين حبب املساكني والدنو منهم‪..‬‬
‫وأمرين أن أنظر اىل من هو دوين‪ ،‬والأنظر اىل من هو فوقي‪..‬‬
‫وأمرين أال أسأل أحد شيئا‪..‬‬
‫وأمرين أن أصل الرحم‪..‬‬
‫‪ | 40‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مرا‪..‬‬
‫وأمرين أن أقول احلق وان كان ّ‬
‫وأمرين أن ال أخاف يف اهلل لومة الئم‪..‬‬
‫وأمرين أن أكثر من‪ :‬ال حول وال قوة اال باهلل]‪.‬‬

‫ولقد‪ R‬عاش هذه الوصية‪ ،‬وصاغ حياته وفقها‪ ،‬حىت صار "ضمريا" بني قومه وأمته‪..‬‬

‫ويقول االمام علي رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫"مل يبق اليوم أحد ال يبايل يف اهلل لومة الئم غري أيب ذر"‪!!..‬‬
‫عاش يناهض استغالل احلكم‪ ،‬واحتكار الثروة‪..‬‬
‫عاش يدحض اخلطأ‪ ،‬ويبين الصواب‪..‬‬
‫عاش متبتال ملسؤولية النصح والتحذير‪..‬‬
‫مينعونه من الفتوى‪ ،‬فيزداد صوته هبا ارتفاعا‪ ،‬ويقول ملانعيه‪:‬‬
‫" وال‪RR‬ذي‪ R‬نفس‪RR‬ي بي‪RR‬ده‪ ،‬ل‪RR‬و وض‪RR‬عتم الس‪RR‬يف ف‪RR‬وق عنقي‪ ،‬مث ظننت أين منف‪RR‬ذ كلم‪RR‬ة مسعتها من رس‪RR‬ول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قبل أن حتتزوا ألنفذهتا"‪!!..‬‬

‫ويا ليت املسلمني استمعوا‪ R‬يومئذ لقوله ونصحه‪..‬‬


‫وعرض ‪RR‬ت ت ‪RR‬ادواة‬
‫اذن ملا م ‪RR‬اتت يف مه ‪RR‬دها تل ‪RR‬ك الفنت ال ‪RR‬يت تفقم فيم ‪RR‬ا بع ‪RR‬د أمره ‪RR‬ا واس ‪RR‬تفحل خطره ‪RR‬ا‪ّ ،‬‬
‫واجملتمع واالسالم ألخطار‪ ،‬ما كان أقساها من أخطار‪.‬‬
‫واآلن يع‪RR‬اجل أب‪RR‬و ذر س‪RR‬كرات املوت يف الرب‪RR‬ذة‪ ..‬املك‪RR‬ان ال‪RR‬ذي اخت‪RR‬ار االقام ‪R‬ة‪ R‬في‪RR‬ه اث‪RR‬ر خالف‪RR‬ه م‪RR‬ع عثم‪RR‬ان‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬فتعالوا بنا اليه نؤد للراحل العظيم حتية الوداع‪ ،‬ونبصر يف حياته الباهرة مشهد اخلتام‪.‬‬
‫ان هذه السيدة السمراء الضامرة‪ ،‬اجلالسة اىل جواره تبكي‪ ،‬هي زوجته‪..‬‬
‫وانه ليسأهلا‪ :‬فيم البكاء واملوت حق‪..‬؟‬
‫فتجيبه بأهنا تبكي‪ " :‬ألنك متوت‪ ،‬وليس عندي ثوب يسعك كفنا"‪!!..‬‬
‫‪ | 41‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫"‪ ..‬ال تبكي‪ ،‬ف ‪RR‬اين مسعت رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم ذات ي ‪RR‬وم وأن ‪RR‬ا عن ‪RR‬ده يف نف ‪RR‬ر من أص ‪RR‬حابه‬
‫ليموتن رجل منكم بفالة من األرض‪ R،‬تشهده عصابة من املؤمنني‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫يقول‪:‬‬
‫وك ‪RR‬ل من ك ‪RR‬ان معي يف ذل ‪RR‬ك اجمللس م ‪RR‬ات يف مجاع ‪RR‬ة وقري ‪RR‬ة‪ ،‬ومل يب ‪RR‬ق منهم غ ‪RR‬ريي ‪ ..‬وهأن ‪RR‬ذا ب ‪RR‬الفالة‬
‫أموت‪ ،‬فراقيب الطريق‪ ،،‬فستطلع علينا عصابة من املؤمنني‪ ،‬فاين واهلل ما كذبت‪ R‬وال كذبت"‪.‬‬
‫وفاضت روحه اىل اهلل‪..‬‬
‫ولقد صدق‪..‬‬
‫فه‪RR‬ذه القافل‪RR‬ة ال‪RR‬يت تغ‪RR‬ذ الس‪RR‬ري يف الص‪RR‬حراء‪ ،‬تؤل‪RR‬ف مجاع‪RR‬ة من املؤم‪RR‬نني‪ ،‬وعلى رأس‪RR‬هم عبداهلل بن مس‪RR‬عود‬
‫صاحب رسول اهلل‪.‬‬
‫وان ابن مسعود ليبص‪R‬ر املش‪R‬هد قب‪R‬ل أن يبلغ‪R‬ه‪ ..‬مش‪R‬هد جس‪R‬د ممت‪R‬د يب‪R‬دو كأن‪R‬ه جثم‪R‬ان ميّت‪ ،‬واىل ج‪R‬واره‬
‫سيدة وغالم يبكيان‪..‬‬
‫ويلوي زمام دابته والركب‪ R‬معه صوب املشهد‪ ،‬وال يكاد يلقي نظرة على اجلثمان‪ ،‬حىت تقع عيناه على‬
‫وجه صاحبه وأخيه يف اهلل واالسالم أيب ذر‪.‬‬
‫وتفيض عين‪RR‬اه بال‪RR‬دمع‪ ،‬ويق‪RR‬ف على جثمان‪RR‬ه الط‪RR‬اهر يق‪RR‬ول‪ ":‬ص‪RR‬دق رس‪RR‬ول اهلل‪ ..‬منش‪RR‬ي وح‪RR‬دك‪ ،‬ومتوت‬
‫وحدك‪ ،‬وتبعث وحدك"‪!.‬‬
‫وجيلس ابن مس‪RR‬عود رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه لص‪RR‬حبه تفس‪RR‬ري تل‪RR‬ك العب‪RR‬ارة ال‪RR‬يت نع‪RR‬اه هبا‪ ":‬متش‪RR‬ي وح‪RR‬دك‪ ..‬ومتوت‬
‫حدك‪ ..‬وتبعث وحدك"‪...‬‬

‫**‬

‫كان ذلك يف غزوة تبوك‪ ..‬سنة تسع من اهلجرة‪ ،‬وقد أمر الرسول عليه الس‪RR‬الم ب‪RR‬التهيؤ ملالق‪RR‬اة ال‪RR‬روم‪،‬‬
‫الذين شرعوا يكيدون لالسالم ويأمترون به‪.‬‬
‫وكانت األيام اليت دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ‪..‬‬
‫وكانت الشقة بعيدة‪ ..‬والعدو‪ R‬خميفا‪..‬‬
‫‪ | 42‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد تقاعس عن اخلروج نفر من املسلمني‪ ،‬تعللوا بشىت املعاذير‪..‬‬


‫وخ ‪RR‬رج الرس ‪RR‬ول وص ‪RR‬حبه‪ ..‬وكلم ‪RR‬ا أمعن ‪RR‬وا يف الس ‪RR‬ري ازدادوا جه ‪RR‬دا ومش ‪RR‬قة‪ ،‬فجع ‪RR‬ل الرج ‪RR‬ل يتخل ‪RR‬ف‪،‬‬
‫ويقولون يا رسول اللهتخلف فالن‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫" دعوه‪.‬‬
‫فان يك فيه خري فسيلحقه اهلل بكم‪..‬‬
‫وان يك غري ذلك فقد أراحكم اهلل منه"‪!!..‬‬
‫وتلفت القوم‪ R‬ذات مرة‪ ،‬فلم جيدوا‪ R‬أبا ذر‪ ..‬وقالوا للرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫لقد ختلف أبو ذر‪ ،‬وأبطأ به بعريه‪..‬‬
‫وأعاد الرسول مقالته األوىل‪..‬‬
‫كان بعري أيب ذر قد ضعف حتت وطأة اجلوع والظمأ واحلر وتعثرت من االعياء خطاه‪..‬‬
‫وحاول أبو ذر أن يدفعه للسري احلثيث بكل حيلة وجهد‪ ،‬ولكن االعياء كان يلقي ثقله على البعري‪..‬‬
‫ورأى أب‪RR‬و ذر أن‪RR‬ه هبذا س‪RR‬يتخلف عن املس‪RR‬لمني وينقط‪RR‬ع دوهنم األث‪RR‬ر‪ ،‬ف‪RR‬نزل من ف‪RR‬وق ظه‪RR‬ر البع‪RR‬ري‪ ،‬وأخ‪RR‬ذ‬
‫متاعه ومحله على ظه‪RR‬ره ومض‪RR‬ى ماش‪RR‬يا على قدمي‪RR‬ه‪ ،‬مه‪R‬روال‪ ،‬وس‪RR‬ط ص‪RR‬حراء ملتهب‪R‬ة‪ ،‬كم‪R‬ا ي‪RR‬درك رس‪RR‬وله‬
‫عليه السالم وصحبه‪..‬‬

‫ويف الغداة‪ ،‬وقد وضع املسلمون رحاهلم ليسرتحيوا‪ ،‬بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار‪ R‬ختفي‬
‫وراءها شبح رجل يغذ السري‪..‬‬
‫وقال الذي رأى‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هذا رجل ميشي على الطريق وحده‪..‬‬
‫وقال الرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫(كن أبا ذر)‪..‬‬

‫وع‪RR‬ادوا ملا ك‪RR‬انوا في‪RR‬ه من ح‪RR‬ديث‪ ،‬ريثم‪RR‬ا يقط‪RR‬ع الق‪RR‬ادم املس‪RR‬افة ال‪RR‬يت تفص‪RR‬له عنهم‪ ،‬وعن‪RR‬دها يعرف‪RR‬ون من‬
‫هو‪..‬‬
‫‪ | 43‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأخ‪R‬ذ املس‪R‬افر اجللي‪R‬ل يق‪R‬رتب منهم روي‪R‬دا‪ ..‬يقتل‪R‬ع خط‪R‬اه من الرم‪R‬ل املتلظي اقتالع‪R‬ا‪ ،‬ومحل‪R‬ه ف‪R‬وق ظه‪R‬ره‬
‫بت‪RR R‬ؤدة‪ ..‬ولكن‪RR R‬ه مغتب‪RR R‬ط فرح‪RR R‬ان ألن‪RR R‬ه أردك القافل‪RR R‬ة املبارك‪RR R‬ة‪ ،‬ومل يتخل‪RR R‬ف عن رس‪RR R‬ول اهلل واخوان‪RR R‬ه‬
‫اجملاهدين‪..‬‬
‫وحني بلغ أول القافلة‪ ،‬صاح صائهحم‪ :‬يار سول اهلل‪ :‬انه واهلل أبا ذر‪..‬‬
‫وسار أبو ذر صوب الرسول‪.‬‬
‫ومل يكد صلى اهلل عليه وسلم يراه حىت تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫[يرحم اهلل أبا ذر‪..‬‬
‫ميشي وحده‪..‬‬
‫وميوت وحده‪..‬‬
‫ويبعث وحده‪.]..‬‬

‫وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم‪ R‬أو تزيد‪ ،‬م‪RR‬ات أب‪RR‬و ذر وحي‪RR‬دا‪ ،‬يف فالة الرب‪RR‬ذة‪ ..‬بع‪RR‬د أن س‪RR‬ار‬
‫حيات‪RR‬ه كله‪RR‬ا وحي‪RR‬دا على طري‪RR‬ق مل يت‪RR‬ألق فوق‪RR‬ه س‪RR‬واه‪ ..‬ولق‪RR‬د بعث يف الت‪RR‬اريخ وحي‪RR‬دا يف عظم‪RR‬ة زه‪RR‬ده‪،‬‬
‫وبطولة صموده‪..‬‬

‫ولس ‪RR‬وف يبعث عن ‪RR‬د اهلل وحي ‪RR‬دا ك ‪RR‬ذلك؛ ألن زح ‪RR‬ام فض ‪RR‬ائله املتع ‪RR‬ددة‪ ،‬لن ي ‪RR‬رتك جبانب ‪RR‬ه مكان ‪RR‬ا ألح ‪RR‬د‬
‫سواه‪!!!..‬‬

‫بالل بن رباح‬
‫الساخر من األهوال‬

‫كان عمر بن اخلطاب‪ ،‬اذا ذكر أبو بكر قال‪:‬‬


‫‪ | 44‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"‪..‬‬


‫يعين بالال رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫وان رجال يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم وحمظوظ‪..‬‬
‫لكن هذا الرجل الشديد‪ R‬السمرة‪ ،‬النحي‪RR‬ف الناح‪RR‬ل‪ ،‬املف‪R‬رط الط‪RR‬ول الكث الش‪R‬عر‪ ،‬اخلفي‪R‬ف العارض‪RR‬ني‪ ،‬مل‬
‫يكن يس ‪RR‬مع كلم ‪RR‬ات املدح والثن ‪RR‬اء توج ‪RR‬ه الي ‪RR‬ه‪ ،‬وتغ ‪RR‬دق علي ‪RR‬ه‪ ،‬اال وحيين رأس ‪RR‬ه ويغض طرف ‪RR‬ه‪ ،‬ويق ‪RR‬ول‬
‫وعرباته على وجنتيه تسيل‪:‬‬
‫"امنا أنا حبشي‪ ..‬كنت باألمس عبدا"‪!!..‬‬
‫فمن هذا احلبشي الذي كان باألمس عبدا‪!!..‬‬
‫انه "بالل بن رباح" مؤذن االسالم‪ ،‬ومزعج األصنام‪..‬‬
‫انه احدى معجزات االميان والصدق‪.‬‬
‫احدى معجزات االسالم العظيم‪..‬‬
‫يف كل عشرة مسلمني‪ .‬منذ بدأ االسالم اىل اليوم‪ ،‬واىل ما ش‪RR‬اء اهلل س‪RR‬نلتقي بس‪RR‬بعة على األق‪RR‬ل يعرف‪RR‬ون‬
‫بالال‪..‬‬
‫أي أن هناك مئ‪R‬ات املاليني من البش‪RR‬ر ع‪R‬رب الق‪RR‬رون واألجي‪R‬ال عرف‪RR‬وا بالال‪ ،‬وحفظ‪RR‬وا امسه‪ ،‬وعرف‪RR‬وا دوره‪.‬‬
‫متاما كما عرفوا أعظم خليفتني يف االسالم‪ :‬أيب بكر وعمر‪!!...‬‬
‫وانك لتسأل الطفل الذي ال يزال حيبو يف سنوات دراسته األوىل يف مصر‪ ،‬أ‪ ،‬باكستان‪ ،‬أ‪ ،‬الصني‪..‬‬
‫ويف األمريكيتني‪ ،‬وأوروبا وروسيا‪..‬‬
‫ويف تاعراق ‪ ،‬وسوريا‪ ،‬وايران والسودان‪..‬‬
‫يف تونس واملغرب واجلزائر‪..‬‬
‫يف أعماق أفريقيا‪ ،‬وفوق هضاب آسيا‪..‬‬
‫يف كل يقعة من األرض‪ R‬يقتنها مسلمون‪ ،‬تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم‪ :‬من بالل يا غالم؟‬
‫‪R‬ريده عن دين‪RR‬ه‪،‬‬
‫‪R‬تعرة ل‪ّ R‬‬
‫فيجيب‪RR‬ك‪ :‬ان‪RR‬ه م‪RR‬ؤذن الرس‪RR‬ول‪ ..‬وان‪RR‬ه العب‪RR‬د ال‪RR‬ذي ك‪RR‬ان س‪RR‬يّده يعذب‪RR‬ه باحلج‪RR‬ارة املس‪ّ R‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫‪ | 45‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬

‫وحينما تبصر هذا اخللود الذي منحه االسالم بالال‪ ..‬ف‪RR‬اعلم أن بالل ه‪RR‬ذا‪ ،‬مل يكن قب‪RR‬ل االس‪RR‬الم أك‪RR‬ثر‬
‫من عب‪RR‬د رقي‪RR‬ق‪ ،‬ي‪RR‬رعى اب‪RR‬ل س‪RR‬يّده على حفن‪RR‬ات من التم‪RR‬ر‪ ،‬ح‪RR‬ىت يط‪RR‬و ب‪RR‬ه املوت‪ ،‬ويط‪Rّ R‬وح ب‪RR‬ه اىل أعم‪RR‬اق‬
‫النسيان‪..‬‬
‫لكن ص‪RR‬دق اميان‪RR‬ه‪ ،‬وعظم‪RR‬ة ال‪RR‬دين ال‪RR‬ذي‪ R‬آمن ب‪RR‬ه ب‪RR‬وأه يف حيات‪RR‬ه‪ ،‬ويف تارخيه مكان‪RR‬ا عليّ‪RR‬ا يف االس‪RR‬الم بني‬
‫العظماء والشرفاء والكرماء‪...‬‬
‫ان كث‪RR‬ريا من عليّ‪RR‬ة البش‪RR‬ر‪ ،‬وذوي اجلاه والنف‪RR‬وذ وال‪RR‬ثروة فيهم‪ ،‬مل يظف‪RR‬روا مبعش‪RR‬ار اخلل‪RR‬ود ال‪RR‬ذي‪ R‬ظف‪RR‬ر ب‪RR‬ه‬
‫بالل العبد احلبشي‪!!..‬‬
‫بل ان كثريا‪ R‬من أبطال التاريخ مل ينالوا من الشهرة التارخيية بعض الذي‪ R‬ناله بالل‪..‬‬
‫ان س‪RR‬واد بش‪RR‬رته‪ ،‬وتواض ‪R‬ع‪ R‬حس‪RR‬به ونس‪RR‬به‪ ،‬وهوان‪RR‬ه على االنس كعب‪RR‬د رقي‪RR‬ق‪ ،‬مل حيرم‪RR‬ه حني آث‪RR‬ر االس‪RR‬الم‬
‫دينا‪ ،‬من أن يتبوأ املكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه‪ ،‬وطهره‪ ،‬وتفانيه‪..‬‬

‫ان ذل‪RR R‬ك كل‪RR R‬ه مل يكن ل‪RR R‬ه يف م‪RR R‬يزان تقييم‪RR R‬ه وتكرميه أي حس‪RR R‬اب‪ ،‬اال حس‪RR R‬اب الدهش‪RR R‬ة حني توج‪RR R‬د‬
‫العظمة يف غري مظاهنا‪..‬‬
‫فلق‪RR‬د ك‪RR‬ان الن‪RR‬اس يظن‪RR‬ون أن عب‪RR‬دا مث‪RR‬ل بالل‪ ،‬ينتمي اىل أص‪RR‬ول غريب‪RR‬ة‪ ..‬ليس ل‪RR‬ه أه‪RR‬ل‪ ،‬وال ح‪RR‬ول‪ ،‬وال‬
‫ميل‪R‬ك من حيات‪R‬ه ش‪RR‬يئا‪ ،‬فه‪RR‬و مل‪R‬ك لس‪RR‬يّده ال‪RR‬ذي اش‪RR‬رتاه مبال‪R‬ه‪ ..‬ي‪RR‬روح ويغ‪RR‬دو وس‪RR‬ط ش‪RR‬ويهات س‪RR‬يده وابل‪R‬ه‬
‫وماشيته‪..‬‬
‫كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن‪ ،‬ال ميكن أن يقدر على شيء وال أن يكون شيئا‪..‬‬
‫مث اذا ه ‪RR‬و خيل ‪RR‬ف الظن ‪RR‬ون مجيع ‪RR‬ا‪ ،‬فيق ‪RR‬در‪ R‬على اميان‪ ،‬هيه ‪RR‬ات أن يق ‪RR‬در على مثل ‪RR‬ه س ‪RR‬واه‪ ..‬مث يك ‪RR‬ون أول‬
‫مؤذن للرسول واالسالم العمل ال‪R‬ذي ك‪R‬ان يتمن‪R‬اه لنفس‪R‬ه ك‪R‬ل س‪R‬ادة ق‪R‬ريش وعظمائه‪R‬ا من ال‪R‬ذين أس‪R‬لموا‬
‫واتبعوا الرسول‪!!..‬‬
‫أجل‪ ..‬بالل بن رباح!‬
‫‪ | 46‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أيّة بطولة‪ ..‬وأيّة عظمة تعرب عنها هذه الكلمات الثالث بالل ابن رباح‪..‬؟!‬

‫**‬

‫انه حبشي من أمة الس‪R‬ود‪ ...‬جعلت‪R‬ه مق‪R‬اديره عب‪RR‬دا ألن‪RR‬اس من ب‪R‬ين مجح مبك‪R‬ة‪ ،‬حيث ك‪RR‬انت أم‪R‬ه اح‪RR‬دى‬
‫امائهم وجواريهم‪..‬‬
‫كان يعيش عيشة الرقيق‪ ،‬متضي أيامه متشاهبة قاحلة‪ ،‬ال حق له يف يومه‪ ،‬وال أمل له يف غده‪!!..‬‬
‫ولق ‪RR R‬د ب ‪RR R‬دأت أنب ‪RR R‬اء حمم ‪RR R‬د تن ‪RR R‬ادي مسعه‪ ،‬حني أخ ‪RR R‬ذ االنس يف مك ‪RR R‬ة يتناقلوهنا‪ ،‬وحني ك ‪RR R‬ان يص ‪RR R‬غي اىل‬
‫أح‪RR‬اديث س‪RR‬اداته وأض‪RR‬يافهم‪ ،‬س‪RR‬يما "أمي‪RR‬ة بن خل‪RR‬ف" أح‪RR‬د ش‪RR‬يوخ ب‪RR‬ين مجح القبيل‪RR‬ة ال‪RR‬يت ك‪RR‬ان بالل أح‪RR‬د‬
‫عبيدها‪..‬‬
‫لطاملا مسع أمي‪RR‬ة وه‪RR‬و يتح‪ّ R‬دث م‪RR‬ع أص‪RR‬دقائه حين‪RR‬ا‪ ،‬وأف‪RR‬راد قبيلت‪RR‬ه أحيان‪RR‬ا عن الرس‪RR‬ول ح‪RR‬ديثا يطفح غيظ‪RR‬ا‪،‬‬
‫وغما وشرا‪..‬‬‫ّ‬

‫وك‪R‬انت‪ R‬أذن بالل تلتق‪R‬ط من بني كلم‪R‬ات الغي‪R‬ظ اجملن‪R‬ون‪ ،‬الص‪R‬فات ال‪R‬يت تص‪R‬ور ل‪R‬ه ه‪R‬ذا ال‪R‬دين اجلدي‪R‬د‪..‬‬
‫وك‪RR‬ان حيس أهنا ص‪RR‬فات جدي‪RR‬دة على ه‪RR‬ذه البيئ‪RR‬ة ال‪RR‬يت يعيش فيه‪RR‬ا‪ ..‬كم‪RR‬ا ك‪RR‬انت أذن‪RR‬ه تلتق‪RR‬ط من خالل‬
‫أحاديثهم الراعدة املتوعدة اعرتافهم بشرف حممد وصدقه وأمانته‪!!..‬‬
‫أجل انه ليسمعهم يعجبون‪ ،‬وحيارون‪ ،‬يف هذا الذي جاء به حممد‪!!..‬‬
‫ويق ‪RR‬ول بعض ‪RR‬هم لبعض‪ :‬م ‪RR‬ا ك ‪RR‬ان حمم ‪RR‬د يوم ‪RR‬ا كاذب ‪RR‬ا‪ .‬وال س ‪RR‬احرا‪..‬وال جمنون ‪RR‬ا‪ ..‬وان ام يكن لن ‪RR‬ا ب ‪RR‬د من‬
‫وصمه اليوم‪ R‬بذلك كله‪ ،‬حىت نص ّد عنه الذين سيسارعون اىل دينه‪!!..‬‬
‫مسعهم يتح ّدثون عن أمانته‪..‬‬
‫عن وفائه‪..‬‬
‫عن رجولته وخلقه‪..‬‬
‫عن نزاهته ورجاحة عقله‪..‬‬
‫‪ | 47‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حتدي وعداوت‪RR‬ه‪ ،‬تل‪RR‬ك هي‪ :‬والؤهم ل‪RR‬دين آب‪RR‬ائهم أوال‪.‬‬


‫ومسعهم يتهامس‪RR‬ون باألس‪RR‬باب ال‪RR‬يت حتملهم على ّ‬
‫واخلوف على جمد ق‪R‬ريش ثاني‪R‬ا‪ ،‬ذل‪R‬ك اجملد ال‪R‬ذي‪ R‬يفيئ‪R‬ه عليه‪R‬ا مركزه‪R‬ا ال‪R‬ديين‪ ،‬كعاص‪R‬مة للعب‪R‬ادة والنس‪R‬ك‬
‫يف جزيرة العرب كلها‪ ،‬مث احلقد على بين هاشم‪ ،‬أن خيرج منهم دون غريهم نيب ورسول‪!...‬‬

‫**‬

‫وذات ي‪RR‬وم يبص‪RR‬ر بالل ب رب‪RR‬اح ن‪RR‬ور اهلل‪ ،‬ويس‪RR‬مع يف أعم‪RR‬اق روح‪RR‬ه اخلرّي ة رنين‪RR‬ه‪ ،‬في‪RR‬ذهب اىل رس‪RR‬ول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويسلم‪..‬‬
‫وال يلبث خ ‪RR‬رب اس ‪RR‬المه أن ي ‪RR‬ذيع‪ ..‬وت ‪RR‬دور األرض‪ R‬ب ‪RR‬رؤوس أس ‪RR‬ياده من ب ‪RR‬ين مجح‪ ..‬تل ‪RR‬ك ال ‪RR‬رؤوس ال ‪RR‬يت‬
‫نفخها الكرب وأثقلها الغرور‪ !!..‬وجتثم ش‪RR‬ياطني األرض‪ R‬ف‪RR‬وق ص‪RR‬در أميّ‪R‬ة بن خل‪R‬ف ال‪RR‬ذي‪ R‬رأى يف اس‪RR‬الم‬
‫عبد من عبيدهم لطمة جللتهم مجيعا باخلزي والعار‪..‬‬
‫عبدهم احلبشي يسلم ويتبع حممد‪..‬؟!‬
‫ويقول أميّة لنفسه‪ :‬ومع هذا فال بأس‪ ..‬ان مشس هذا اليوم لن تغرب اال ويغرب معها اسالم هذا العب‪RR‬د‬
‫اآلبق‪!!..‬‬
‫ولكن الش ‪RR‬مس مل تغ ‪RR‬رب ق ‪RR‬ط باس ‪RR‬الم بالل ب ‪RR‬ل غ ‪RR‬ربت ذات ي ‪RR‬وم بأص ‪RR‬نام ق ‪RR‬ريش كله ‪RR‬ا‪ ،‬ومحاة الوثني ‪RR‬ة‬
‫فيها‪!...‬‬

‫**‬

‫أم‪RR‬ا بالل فق‪RR‬د ك‪RR‬ان ل‪RR‬ه موق‪RR‬ف ليس ش‪RR‬رفا لالس‪RR‬الم وح‪RR‬ده‪ ،‬وان ك‪RR‬ان االس‪RR‬الم أح‪RR‬ق ب‪RR‬ه‪ ،‬ولكن‪RR‬ه ش‪RR‬رف‬
‫لالنسانية مجيعا‪..‬‬
‫لقد صمد ألقسى الوان التعذيب‪ R‬صمود الربار‪ R‬العظام‪.‬‬
‫ولكأمنا جعل ‪RR‬ه اهلل مثال على أن س ‪RR‬واد البش ‪RR‬رة وعبودي ‪RR‬ة الرقب ‪RR‬ة ال ين ‪RR‬االن من عظم ‪RR‬ة ال ‪RR‬روح اذا وج ‪RR‬دت‬
‫امياهنا‪ ،‬واعتصمت‪ R‬بباريها‪ ،‬وتشبثت حبقها‪..‬‬
‫‪ | 48‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لق‪RR‬د أعطى بالل درس‪RR‬ا بليغ‪RR‬ا لل‪RR‬ذين يف زمان‪RR‬ه‪ ،‬ويف ك‪RR‬ل م‪RR‬ان‪ ،‬لل‪RR‬ذين على دين‪RR‬ه وعلى ك‪RR‬ل دين‪ ..‬درس‪RR‬ا‬
‫فحواه أن حريّة الضمري وسيادته ال يباعان مبلء األرض ذهبا‪ ،‬وال مبلئها عذابا‪..‬‬
‫لقد وضع عريانا فوق اجلمر‪ ،‬على أن يزيغ عن دينه‪ ،‬أو يزيف اقتناعه فأىب‪..‬‬

‫لقد جعل الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬واالسالم‪ ،‬من هذا العبد‪ R‬احلبش‪R‬ي املستض‪R‬عف أس‪R‬تاذا للبش‪R‬رية‬
‫كلها يف فن احرتام الضمري‪ ،‬والدفاع‪ R‬عن حريته وسيادته‪..‬‬
‫لقد كانوا خيرجون ب‪RR‬ه يف الظه‪RR‬رية ال‪RR‬يت تتح‪R‬ول الص‪RR‬حراء فيه‪RR‬ا اىل جهنم قاتل‪R‬ة‪ ..‬فيطرحون‪RR‬ه على حص‪R‬اها‬
‫املاهتب وه‪RR‬و عري‪RR‬ان‪ ،‬مث ي‪RR‬أتون حبج‪RR‬ر مس‪RR‬تعر ك‪RR‬احلميم ينقل‪RR‬ه من مكان‪RR‬ه بض‪RR‬عة رج‪RR‬ال‪ ،‬ويلق‪RR‬ون ب‪RR‬ه ف‪RR‬وق‬
‫جسده وصدره‪..‬‬
‫ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل ي‪R‬وم‪ ،‬ح‪R‬ىت رقّت لبالل من ه‪R‬ول عذاب‪R‬ه بعض قل‪R‬وب جالدي‪R‬ه‪ ،‬فرض‪R‬وا‪R‬‬
‫آخ ‪RR‬ر األم ‪RR‬ر أن خيل ‪RR‬وا س ‪RR‬بيله‪ ،‬على أن ي ‪RR‬ذكر آهلتهم خبري ول ‪RR‬و بكلم ‪RR‬ة واح ‪RR‬دة حتف ‪RR‬ظ هلم كربي ‪RR‬اءهم‪ ،‬وال‬
‫تتحدث قريش أهنم اهنزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره‪..‬‬

‫ولكن ح ‪RR‬ىت ه ‪RR‬ذه الكلم ‪RR‬ة الواح ‪RR‬دة الع ‪RR‬ابرة ال ‪RR‬يت يس ‪RR‬تطيع أن يلقيه ‪RR‬ا من وراء قلب ‪RR‬ه‪ ،‬ويش ‪RR‬رتي‪ R‬هبا حيات ‪RR‬ه‬
‫نفسه‪ ،‬دون أن يفقد اميانه‪ ،‬ويتخلى عن اقتناعه‪..‬‬
‫حىت هذه الكلمة الواحدة رفض بالل أن يقوهلا‪!..‬‬
‫نعم لقد رفض أن يقوهلا‪ ،‬وصار يردد مكاهنا نشيده اخلالد‪":‬أحد أحد"‬
‫يقولون له‪ :‬قل كما نقول‪..‬‬
‫فيجيبهم يف هتكم عجيب وسخرية كاوية‪:‬‬
‫"ان لساين ال حيسنه"‪!!..‬‬
‫ويظ‪RR‬ل بالل يف ذوب احلميم وص‪RR‬خره‪ ،‬ح‪RR‬ىت اذا ح‪RR‬ان األص‪RR‬يل أق‪RR‬اموه‪ ،‬وجعل‪RR‬وا يف عنق‪RR‬ه حبال‪ ،‬مث أم‪RR‬روا‬
‫صبياهنم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها‪ .‬وبالل ال يلهج لسانه بغري نشيده املقدس‪ ":‬أحد أحد"‪.‬‬
‫‪ | 49‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫جن عليهم الليل يساومونه‪:‬‬ ‫وكأين اذا ّ‬


‫غ‪RR‬دا ق‪RR‬ل كلم‪RR‬ات خ‪RR‬ري يف آهلتن‪RR‬ا‪ ،‬ق‪RR‬ل ريب الالت والع‪RR‬زى‪ ،‬لن‪RR‬ذرك‪ R‬وش‪RR‬أتك‪ ،‬فق‪RR‬د تعبن‪RR‬ا من تع‪RR‬ذيبك‪ ،‬ح‪RR‬ىت‬
‫لكأننا حنن املعذبون!‬
‫فيهز رأسه ويقول‪ ":‬أحد‪ ..‬أحد‪."..‬‬
‫غم‪RR‬ا وغيظ ‪RR‬ا‪ ،‬ويص ‪RR‬يح‪ :‬أي ش ‪RR‬ؤم رمان ‪RR‬ا ب ‪RR‬ك ي ‪RR‬ا عب ‪RR‬د الس ‪RR‬وء‪..‬؟والالت‬‫ويلك ‪RR‬زه أمي ‪RR‬ة بن خل ‪RR‬ف وينفج ‪RR‬ر ّ‬
‫والعزى ألجعلنك للعبيد والسادة مثال‪.‬‬
‫وجييب بالل يف يقني املؤمن وعظمة القديس‪:‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬
‫ويعود للحديث واملساومة‪ ،‬من وكل اليه متثيل دور املشفق عليه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫خ‪RR‬ل عن‪RR‬ك ي‪RR‬ا أميّ‪RR‬ة‪ ..‬والالت لن يع‪RR‬ذب بع‪RR‬د الي‪RR‬وم‪ ،‬ان بالال من‪RR‬ا أم‪RR‬ه جاريتن‪RR‬ا‪ ،‬وان‪RR‬ه لن يرض‪RR‬ى أن جيعلن‪RR‬ا‬
‫باسالمه حديث قريش وسخريّتها‪..‬‬
‫وحي ّدق بالل يف الوج‪RR R‬وه الكاذب‪RR R‬ة املاكرة‪ ،‬ويف‪RR R‬رت ثغ‪RR R‬ره عن ابتس‪RR R‬امة كض‪RR R‬وء الفج‪RR R‬ر‪ ،‬ويق‪RR R‬ول يف ه‪RR R‬دوء‬
‫يزلزهلم زلزاال‪:‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬
‫وجتيء الغداة‪ R‬وتقرتب الظهرية‪ ،‬ويؤخذ بالل اىل الرمضاء‪ ،‬وهو صابر حمتسب‪ ،‬صامد ثابت‪.‬‬
‫ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه‪ ،‬ويصيح هبم‪:‬‬
‫(أتقتلون رجال أن يقول ريب اهلل)؟؟‬
‫مث يصيح يف أميّة بن خلف‪ :‬خذ أكثر من مثنه واتركه حرا‪..‬‬
‫وكأمنا كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة‪..‬‬

‫لقد طابت نفسه وسعدت حني مسع أبا بك‪R‬ر يع‪R‬رض مثن حتري‪R‬ره اذ ك‪R‬ان الي‪R‬أس من تطوي‪RR‬ع الل ق‪RR‬د بل‪RR‬غ‬
‫يف يف نفوسهم أشده‪ ،‬وألهنم‪ R‬كانوا من التجار‪ ،‬فقد أردكوا أن بيعه أربح هلم من موته‪..‬‬
‫حرره من فوره‪ ،‬وأخذ بالل مكانه بني الرجال األحرار‪...‬‬ ‫باعوه أليب بكر الذي‪ّ R‬‬
‫‪ | 50‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحني كان الص ّديق يتأبط ذراع بالل منطلقا به اىل احلرية قال له أمية‪:‬‬
‫خذه‪ ،‬فوالالت والعزى‪ ،‬لو أبيت اال أن تشرتيه بأوقية واحدة لبعتكه هبا‪..‬‬
‫وفطن أبو بكر ملا يف هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة األمل وكان حريّا بأال جييبه‪..‬‬
‫ولكن ألن فيها مساسا بكرامة هذا الذي‪ R‬قد صار أخا له‪ ،‬ون ّدا‪،‬أجاب أمية قائال‪:‬‬
‫واهلل لو أبيتم أنتم اال مائة أوقية لدفعتها‪!!..‬‬

‫وانطلق بصاحبه اىل رسول اهلل يبشره بتحريره‪ ..‬وكان عيدا عظيما!‬
‫يشرع الرسول للصالة أذاهنا‪..‬‬ ‫وبعد هجرة الرسول واملسلمني اىل املدينة‪ ،‬واستقرارهم‪ R‬هبا‪ّ ،‬‬
‫فمن يكون املؤذن للصالة مخس مرات كل يوم‪..‬؟ وتصدح عرب األفق تكبرياته وهتليالته‪..‬؟‬
‫انه بالل‪ ..‬الذي صاح منذ ثالث عشرة سنة والعذاب‪ R‬يه ّده ويشويه أن‪" :‬اهلل أحد‪..‬أحد"‪.‬‬
‫لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن لالسالم‪.‬‬
‫الشجي مضى ميأل األفئدة اميانا‪ ،‬واألمساع روعة وهو ينادى‪:‬‬
‫ّ‪R‬‬ ‫الندي‬
‫وبصوته ّ‪R‬‬
‫اهلل أكرب‪ ..‬اهلل أكرب‬
‫اهلل أكرب ‪ ..‬اهلل أكرب‬
‫أشهد أن الاله اال اهلل‬
‫أشهد أن ال اله اال اهلل‬
‫أشهد أن حممدا‪ R‬رسول اهلل‬
‫أشهد أن حممدا‪ R‬رسول اهلل‬
‫حي على الصالة‬
‫حي على الصالة‬
‫حي على الفالح‬
‫حي على الفالح‬
‫‪ | 51‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫اهلل أكرب‪ ..‬اهلل أكرب‬


‫الاله اال اهلل‪...‬‬

‫ونشب القتال بني املسلمني وجيش قريش الذي‪ R‬قدم اىل املدينة غازيا‪..‬‬
‫وت‪RR‬دور‪ R‬احلرب عنيف‪RR‬ة قاس‪RR‬ية ض‪RR‬ارية‪..‬وبالل هن‪RR‬اك يص‪RR‬ول وجيول يف أول غ‪RR‬زوة خيوض‪RR‬ها االس‪RR‬الم‪ ،‬غ‪RR‬زوة‬
‫بدر‪ ..‬تلك الغزوة اليت أمر الرسول عليه السالم أن يكون شعارها‪" :‬أحد‪..‬أحد"‪.‬‬

‫**‬

‫يف هذه الغزوة ألقت قريش بأفالذ أكبادها‪ ،‬وخرج أشرافها مجيعا ملصارعهم‪!!..‬‬
‫هم بالنكوص عن اخلروج "أمية بن خلف" ‪ ..‬هذا الذي‪ R‬كان س‪RR‬يدا لبالل‪ ،‬وال‪RR‬ذي ك‪RR‬ان يعذب‪RR‬ه يف‬
‫ولقد ّ‬
‫وحشيّة قاتلة‪..‬‬

‫هم ب ‪RR‬النكوص ل ‪RR‬وال أن ذهب الي ‪RR‬ه ص ‪RR‬ديقه "عقب ‪RR‬ة بن أيب معي ‪RR‬ط" حني علم عن نب ‪RR‬أ ختاذل ‪RR‬ه وتقاعس ‪RR‬ه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ح‪RR‬امال يف ميين‪RR‬ه جمم‪RR‬رة ح‪RR‬ىت اذا واجه‪RR‬ه وه‪RR‬و ج‪RR‬الس وس‪RR‬ط قوم‪RR‬ه‪ ،‬ألقى اجلم‪RR‬رة بني يدي‪RR‬ه وق‪RR‬ال ل‪RR‬ه‪ :‬ي‪RR‬ا أب‪RR‬ا‬
‫علي‪ ،‬استجمر هببذ‪ ،‬فامنا أنت من النساء‪!!!..‬‬
‫وصاح به أمية قائال‪ :‬قبحك اهلل‪ ،‬وقبّح ما جئت به‪..‬‬
‫مث مل جيد ب ّدا من اخلروج مع الغزاة فخرج‪..‬‬
‫أيّة أسرار للقدر‪ ،‬يطويها وينشرها‪..‬؟‬
‫لق ‪RR R‬د ك ‪RR R‬ان عقب ‪RR R‬ة بن أيب معي ‪RR R‬ط أك ‪RR R‬رب مش ‪RR R‬جع ألمي ‪RR R‬ة على تع ‪RR R‬ذيب بالل‪ ،‬وغ ‪RR R‬ري بالل من املس ‪RR R‬لمني‬
‫املستضعفني‪..‬‬
‫واليوم هو نفسه الذي‪ R‬يغريه باخلروج اىل غزوة بدر اليت سيكون فيها مصرعه‪!!..‬‬
‫كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!‬
‫‪ | 52‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لق‪RR R‬د ك‪RR R‬ان أمي‪RR R‬ة من القاع‪RR R‬دين عن احلرب‪ ..‬ول‪RR R‬وال تش‪RR R‬هري عقب‪RR R‬ة ب‪RR R‬ه على ه‪RR R‬ذا النح‪RR R‬و ال‪RR R‬ذي‪ R‬رأين‪RR R‬اه ملا‬
‫خرج‪!!..‬‬
‫ولكن اهلل ب‪RR‬الغ أم‪RR‬ره‪ ،‬فليخ‪RR‬رج أمي‪RR‬ة ف‪RR‬ان بين‪RR‬ه وبني عب‪RR‬د من عب‪RR‬اد اهلل حس‪RR‬ابا ق‪RR‬دميا‪ ،‬ج‪RR‬اء أوان تص‪RR‬فيته‪،‬‬
‫فالديّان ال ميوت‪ ،‬وكما تدينون تدانون‪!!..‬‬

‫وان القدر‪ R‬ليحلو له أن يسخر باجلبارين‪ ..‬فعقبة الذي كان أمي‪R‬ة يص‪R‬غي لتحريض‪R‬ه‪ ،‬ويس‪R‬ارع اى ه‪RR‬واه‬
‫يف تعذيب املؤمنني األبرياء‪ ،‬هو نفسه الذب سيقود أميّة اىل مصرعه‪..‬‬
‫وبيد من‪..‬؟‬
‫بيد بالل نفسه‪ ..‬وبالل وحده!!‬
‫طوقها أميّة بالسالسل‪ ،‬وأوجع صاحبها ضربا‪ ،‬وعذابا‪..‬‬ ‫نفس اليد‪ R‬اليت ّ‬
‫م‪RR‬ع ه‪RR‬ذه الي‪RR‬د ذاهتا‪ ،‬هي الي‪RR‬وم‪ ،‬ويف غ‪RR‬زوة ب‪RR‬در‪ ،‬على موع‪RR‬د أج‪RR‬اد الق‪RR‬در‪ R‬توقيت‪RR‬ه‪ ،‬م‪RR‬ع جالد ق‪RR‬ريش ال‪RR‬ذي‪R‬‬
‫أذل املؤمنني بغيا وعدوا‪..‬‬
‫ولقد حدث هذا متاما‪..‬‬

‫وحني ب ‪RR‬دأ القت ‪RR‬ال بني الف ‪RR‬ريقني‪ ،‬وارتج ج ‪RR‬انب املعرك ‪RR‬ة من قب ‪RR‬ل املس ‪RR‬لمني بش ‪RR‬عارهم‪ ":‬أح ‪RR‬د‪ ..‬أح ‪RR‬د"‬
‫اخنلع قلب أمية‪ ،‬وجاءه النذير‪..‬‬
‫ان الكلمة ال‪RR‬يت ك‪R‬ان يردده‪R‬ا ب‪RR‬األمس عب‪R‬د حتت وق‪RR‬ع الع‪RR‬ذاب واهلول ق‪R‬د ص‪R‬ارت الي‪R‬وم ش‪RR‬عار دين بأس‪R‬ره‬
‫وشعار األمة اجلديدة كلها‪!!..‬‬
‫"أحد‪..‬أحد"؟؟!!‬
‫أهكذا‪..‬؟ وهبذه السرعة‪ ..‬وهذا النمو العظيم‪..‬؟؟‬

‫**‬

‫وتالمحت السيوف ومحي القتال‪..‬‬


‫‪ | 53‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبينم ‪RR‬ا املعرك ‪RR‬ة تق ‪RR‬رتب من هنايته ‪RR‬ا‪ ،‬ملح أمي ‪RR‬ة بن خل ‪RR‬ف" عب ‪RR‬د ال ‪RR‬رمحن بن ع ‪RR‬وف" ص ‪RR‬احب رس ‪RR‬ول اهلل‪،‬‬
‫فاحتمى به‪ ،‬وطلب اليه أن يكون أسريه رجاء أن خيلص حبياته‪..‬‬
‫وقبل عبد الرمحن عرضه وأجاره‪ ،‬مث سار به وسط العمعمة اىل مكان السرى‪.‬‬
‫ويف الطريق ملح بالل فصاح قائال‪:‬‬
‫"رأس الكفر أميّة بن خلف‪ ..‬ال جنوت ان جنا"‪.‬‬
‫ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي‪ R‬لطاملا أثقله الغرور والكرب‪ ،‬فصاح به عبد الرمحن بن عوف‪:‬‬
‫"أي بالل‪ ..‬انه أسريي"‪.‬‬
‫أسري واحلرب مشبوبة دائرة‪..‬؟‬
‫أسري وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل حلظة يف أجساد املسلمني‪..‬؟‬
‫ال‪ ..‬ذلك يف رأي بالل ضحك بالعقول وسخرية‪ ..‬ولقد‪ R‬ضحك أمية وسخر مبا فيه الكفاية‪..‬‬
‫سخر حىت مل يرتك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم‪ ،‬وهذا املأزق‪ ،‬وهذا املصري‪!!..‬‬
‫ورأى بالل أن‪RR‬ه لن يق‪RR‬در وح‪RR‬ده على اقتح‪RR‬ام محى أخي‪RR‬ه يف ال‪RR‬دين عب‪RR‬د ال‪RR‬رمحن بن ع‪RR‬وف‪ ،‬فص‪RR‬اح ب‪RR‬أعلى‬
‫صوته يف املسلمني‪:‬‬
‫"يا أنصار اهلل‪ ..‬رأس الكفر أمية بن خلف‪ ،‬ال جنوت ان جنا"‪!...‬‬
‫وأقبلت كوكب‪RR‬ة من املس‪RR‬لمني تقط‪RR‬ر س‪RR‬يوفهم‪ R‬املناي‪RR‬ا‪ ،‬وأح‪RR‬اطت بأمي‪RR‬ة وابن‪RR‬ه ومل يس‪RR‬تطع عب‪RR‬د ال‪RR‬رمحن بن‬
‫عوف أن يصنع شيئا‪ ..‬بل مل يستطع أن حيمي أذراعه اليت بددها الزحتم‪.‬‬
‫وألقى بالل على جثم‪RR‬ان أمي‪RR‬ة ال‪RR‬ذي ه‪RR‬وى حتت الس‪RR‬يوف القاص‪RR‬فة نظ‪RR‬رة طويل‪RR‬ة‪ ،‬مث ه‪RR‬رول عن‪RR‬ه مس‪RR‬رعا‬
‫الندي يصيح‪:‬‬
‫وصوته ّ‪R‬‬
‫"أحد‪ ..‬أحد‪"..‬‬

‫**‬

‫ال أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بالل يف مثل هذا املقام‪..‬‬
‫‪ | 54‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فلو أن اللقاء بني بالل وأمية متّ يف ظروف أخرى‪ ،‬جلازنا أن نسال بالال حق التسامح‪ ،‬وما كان لرج‪RR‬ل‬
‫يف مثل اميانه وتقاه أن يبخل به‪.‬‬
‫لكن اللقاء الذي‪ R‬مت بينهما‪ ،‬كان يف حرب‪ ،‬جاءها كل فريق ليفين غرميه‪..‬‬

‫الس‪RR‬يوف تت‪RR‬وهج‪ ..‬والقتلى يس‪RR‬قطون‪ ..‬واملناي‪RR‬ا تت‪RR‬واثب‪ ،‬مث يبص‪RR‬ر بالل أمي‪RR‬ة ال‪RR‬ذي مل ي‪RR‬رتك يف جس‪RR‬ده‬
‫موضع أمنلة اال وحيمل آثار تعذيب‪.‬‬
‫وأين يبصره وكيف‪..‬؟‬
‫يبص‪RR‬ره يف س‪RR‬احة احلرب والقت‪RR‬ال حيص‪RR‬د بس‪RR‬يفه ك‪RR‬ل م‪RR‬ا ينال‪RR‬ه من رؤوس املس‪RR‬لمني‪ ،‬ول‪RR‬و أدرك رأس بالل‬
‫لطوح به‪..‬‬
‫ساعتئذ ّ‬
‫يف ظ ‪RR‬روف كه ‪RR‬ذه يلتقي ال ‪RR‬رجالن فيه ‪RR‬ا‪ ،‬ال يك ‪RR‬ون من املنط ‪RR‬ق الع ‪RR‬ادل يف ش ‪RR‬يء أن نس ‪RR‬أل بالال‪ :‬ملاذا مل‬
‫يصفح الصفح اجلميل‪..‬؟؟‬

‫**‬

‫ومتضي األيام وتفتح مكة‪..‬‬


‫ويدخلها الرسول شاكرا مكربا على رأس عشرة آالف من املسلمني‪..‬‬
‫ويتوجه اىل الكعبة رأسا‪ ..‬هذا املكان املقدس الذي زمحته قريش بعدد أيام السنة من األصنام‪!!..‬‬
‫لقد جاء احلق وزهق الباطل‪..‬‬
‫ومن الي‪RR‬وم ال ع‪RR‬زى‪ ..‬وال الت‪ ..‬وال هب‪RR‬ل‪ ..‬لن جيين االنس‪RR‬ان بع‪RR‬د الي‪RR‬وم هامت‪RR‬ه حلج‪RR‬ر‪ ،‬وال وثن‪ ..‬ولن‬
‫يعبد الناس ملء ضمائرهم اال اهلل ايل ليس كمثله شيء‪ ،‬الواحد‪ R‬األحد‪ ،‬الكبري املتعال‪..‬‬
‫ويدخل الرسول الكعبة‪ ،‬مصطحبا معه بالل‪!..‬‬
‫وال يكاد يدخلها حىت يواجه متثاال منحوتا‪ ،‬ميث‪R‬ل اب‪R‬راهيم علي‪R‬ه الس‪R‬الم وه‪R‬و يستقس‪R‬م ب‪RR‬األزالم‪ ،‬فيغض‪RR‬ب‬
‫الرسول ويقول‪:‬‬
‫‪ | 55‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫"قاتلهم اهلل‪..‬‬
‫م‪R‬ا ك‪RR‬ان ش‪R‬يخنا يستقس‪RR‬م ب‪RR‬األزالم‪ ..‬م‪R‬ا ك‪RR‬ان اب‪RR‬راهيم يهودي‪RR‬ا وال نص‪R‬رانيا ولكن ك‪R‬ان حنيف‪R‬ا مس‪RR‬لما وم‪RR‬ا‬
‫كان من املشركني"‪.‬‬

‫ويأمر بالل أن يعلو ظهر املسجد‪ ،‬ويؤذن‪.‬‬


‫ويؤذن بالل‪ ..‬فيالروعة الزمان‪ ،‬واملكان‪ ،‬واملناسبة‪!!..‬‬
‫كفت احلي‪R‬اة يف مك‪R‬ة عن احلرك‪R‬ة‪ ،‬ووقفت األل‪R‬وف املس‪R‬لمة كالنس‪R‬مة الس‪R‬اكنة‪ ،‬ت‪R‬ردد يف خش‪R‬وع ومهس‬
‫كلمات اآلذان ورء بالل‪.‬‬

‫واملشركون‪ R‬يف بيوهتم‪ R‬ال يكادون يصدقون‪:‬‬


‫أهذا هو حممد وفقراؤه الذين أخرجوا باألمس من هذا الديار‪..‬؟؟‬
‫أهذا هو حقا‪ ،‬ومعه عشرة آالف من املؤمنني‪..‬؟؟‬
‫أهذا هو حقا الذي‪ R‬قاتلناه‪ ،‬وطاردنبه‪ ،‬وقتلنا أحب الناس اليه‪..‬؟‬
‫أهذا هو حقا الذي‪ R‬كان خياطبنا من حلظات ورقابنا بني يديه‪ ،‬ويقول لنا‪:‬‬
‫"اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪!!..‬‬

‫ولكن ثالثة من أشراف قريش‪ ،‬كانوا جلوس‪RR‬ا بفن‪RR‬اء الكعب‪RR‬ة‪ ،‬وكأمنا يلفحهم مش‪RR‬هد بالل وه‪RR‬و ي‪RR‬دوس‬
‫أص ‪RR‬نامهم بقدمي ‪RR‬ه‪ ،‬ويرس ‪RR‬ل من ف ‪RR‬وق ركامه ‪RR‬ا املهي ‪RR‬ل ص ‪RR‬وته ب ‪RR‬األذان املنتش ‪RR‬ر يف آف ‪RR‬اق مك ‪RR‬ة كله ‪RR‬ا كعب ‪RR‬ري‬
‫الربيع‪..‬‬
‫أما هؤالء الثالثة فهم‪ ،‬أبوسفيان بن حرب‪ ،‬وك‪RR‬ان ق‪RR‬د أس‪R‬لم من‪RR‬ذ س‪RR‬اعات‪ ،‬وعتّ‪R‬اب بن أس‪RR‬يد‪ ،‬واحلارث‬
‫بن هشام‪ ،‬وكانا مل يسلما بعد‪.‬‬

‫قال عتاب وعينه على بالل وهو يصدح بأذانه‪:‬‬


‫لقد أكرم اهلل اسيدا‪ ،‬أال يكون مسع هذا فيسمع‪ R‬منه ما يغيظه‪ .‬وقال احلارث‪:‬‬
‫‪ | 56‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أما واهلل لو أعلم أن حممدا حمق التبعته‪!!..‬‬


‫وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائال‪:‬‬
‫اين ال أق ‪RR‬ول ش ‪RR‬يئا‪ ،‬فل ‪RR‬و تكلمت ألخ ‪RR‬ربت ع ‪RR‬ين ه ‪RR‬ذه احلص ‪RR‬ى!! وحني غ ‪RR‬ادر الن ‪RR‬يب الكعب ‪RR‬ة رآهم‪ ،‬وق ‪RR‬رأ‬
‫وجوههم يف حلظة‪ ،‬قال وعيناه تتألقان بنور اهلل‪ ،‬وفرحة النصر‪:‬‬
‫قد علمت الذي قلتم‪!!!..‬‬
‫ومضى حيدثهم‪ R‬مبا قالوا‪..‬‬
‫فصاح احلارث وعتاب‪:‬‬
‫نشهد أنك رسول اهلل‪ ،‬واهلل ما مسعنا أحد فنقول أخربك‪!!..‬‬
‫واستقبال بالل بقلوب جديدة‪..‬يف أفئدهتم صدى الكلمات اليت مسعوها يف خطاب الرسول أول دخ‪RR‬ول‬
‫مكة‪:‬‬
‫" يامعشر قريش‪..‬‬
‫ان اهلل قد أذهب عنكم خنوة اجلاهلية وتعظمها باآلباء‪..‬‬
‫الناس من آدم وآدم من تراب"‪..‬‬

‫**‬

‫وع‪RR‬اش بالل م‪RR‬ع رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬يش‪RR‬هد مع‪RR‬ه املش‪RR‬اهد كله‪RR‬ا‪ ،‬ي‪RR‬ؤذن للص‪RR‬الة‪ ،‬وحييي‬
‫وحيمي شعائر هذا الدين العظيم الذي‪ R‬أخرجه من الظلمات اىل النور‪ ،‬ومن الرق اىل احلريّة‪..‬‬
‫وعال ش ‪RR‬أن االس ‪RR‬الم‪ ،‬وعال مع ‪RR‬ه ش‪RR‬أن املس ‪RR‬لمني‪ ،‬وك ‪RR‬ان بالل ي ‪RR‬زداد ك ‪RR‬ل ي ‪RR‬وم قرب ‪RR‬ا من قلب رس ‪RR‬ول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم الذي‪ R‬كان يصفه بأنه‪ ":‬رجل من أهل اجلنة"‪..‬‬
‫لكن بالال بقي كما هو كرميا متواضعا‪ ،‬ال يرى نفسه اال أنه‪ ":‬احلبشي الذي‪ R‬كان باألمس عبدا"‪!!..‬‬

‫ذهب يوما خيطب لنفسه وألخيه زوجتني فقال ألبيهما‪:‬‬


‫‪ | 57‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫تزوجون‪RR‬ا‬
‫"أنا بالل‪ ،‬هذا أخي عبدان من احلبشة‪ ..‬كنا ضالني فهدانا اهلل‪ ..‬ومنا عبدين فأعتقن‪RR‬ا اهلل‪ ..‬ان ّ‬
‫فاحلمد هلل‪ ..‬وان متنعونا فاهلل أكرب‪!!"..‬‬

‫**‬

‫وذهب الرس ‪RR‬ول اىل الرفي ‪RR‬ق األعلى راض ‪RR‬يا مرض ‪RR‬يا‪ ،‬وهنض ب ‪RR‬أمر املس ‪RR‬لمني من بع ‪RR‬ده خليفت ‪RR‬ه أب ‪RR‬و بك ‪RR‬ر‬
‫الصديق‪..‬‬
‫وذهب بالل اىل خليفة رسول اهلل يقول له‪:‬‬
‫" يا خليفة رسول اهلل‪..‬‬
‫اين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬أفضل عمل لبمؤمن اجلهاد يف سبيل اهلل"‪..‬‬
‫فقال له أبو بكر‪ :‬فما تشاء يا بالل‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬أردت أن أرابط يف سبيل اهلل حتىأموت‪..‬‬
‫قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟‬
‫قال بالل وعيناه تفيضان من الدمع‪ ،‬اين ال أؤذن ألحد بعد رسول اهلل‪.‬‬
‫قال أبو بكر‪ :‬بل ابق وأذن لنا يا بالل‪..‬‬
‫ق‪R‬ال بالل‪ :‬ان كنت أعتقت‪R‬ين ألك‪R‬ون ل‪R‬ك فليكن ل‪R‬ك م‪R‬ا تري‪R‬د‪ .‬وان كنت أعتقت‪R‬ين هلل ف‪R‬دعين وم‪R‬ا أعتقت‪R‬ين‬
‫له‪..‬‬
‫قاألبو بكر‪ :‬بل أعتقتك هلل يا بالل‪..‬‬
‫وخيتلف الرواة‪ ،‬فريوي بعضهم أنه سافر اىل الشام‪ R‬حيث بقي فيها جماهدا مرابطا‪.‬‬
‫وي‪RR‬روي بعض‪RR‬هم اآلخ‪RR‬ر‪ ،‬أن‪RR‬ه قب‪RR‬ل رج‪RR‬اء أيب بك‪RR‬ر يف أن يبقى مع‪RR‬ه باملدين‪RR‬ة‪ ،‬فلم‪RR‬ا قبض وويل عم‪RR‬ر اخلالف‪RR‬ة‬
‫استأذنه وخرج اىل الشام‪.‬‬
‫‪ | 58‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫على أي ‪RR‬ة ح ‪RR‬ال‪ ،‬فق ‪RR‬د ن ‪RR‬ذر بالل بقي ‪RR‬ة حيات ‪RR‬ه وعم ‪RR‬ره للمرابط ‪RR‬ة يف ثغ ‪RR‬ور االس ‪RR‬الم‪ ،‬مص ‪RR‬مما‪ R‬أن يلقى اهلل‬
‫ورسوله وهو على خري عمل حيبانه‪.‬‬

‫احلفي املهيب‪ ،‬ذل‪RR‬ك أن‪RR‬ه مل ينط‪RR‬ق يف أذان‪RR‬ه "أش‪RR‬هد أن حمم‪RR‬دا‬‫ومل يع‪RR‬د يص‪RR‬دح ب‪RR‬األذان بص‪RR‬وته الش‪RR‬جي ّ‬
‫رسول اهلل" حىت جتيش به الذمؤيات فيختفي صوته حتت وقع أساه‪ ،‬وتصيح بالكلمات دموعه وعرباته‪.‬‬
‫وك‪R‬ان آخ‪R‬ر أذان ل‪R‬ه أي‪R‬ام زار‪ R‬أم‪R‬ري املؤم‪R‬نني عم‪R‬ر وتوس‪R‬ل املس‪R‬لمون الي‪R‬ه أن حيم‪R‬ل بالال على أن ي‪R‬ؤذن هلم‬
‫صالة واحدة‪.‬‬
‫ودعا أمري املؤمنني بالل‪ ،‬وقد حان وقت‪ R‬الصالة ورجاه أن يؤذن هلا‪.‬‬
‫وص ‪RR‬عد بالل وأذن‪ ..‬فبكى الص ‪RR‬حابة ال ‪RR‬ذين ك ‪RR‬انوا أدرك ‪RR‬وا رس ‪RR‬ول اهلل وبالل ي ‪RR‬ؤذن ل ‪RR‬ه‪ ..‬بك ‪RR‬وا كم ‪RR‬ا مل‬
‫يبكوا من قبل أبدا‪ ..‬وكان عمر أشدهم بكاء‪!!..‬‬

‫**‬

‫ومات بالل يف الشام‪ R‬مرابطا يف سبيل اهلل كما أراد‪.‬‬

‫وحتت ث ‪RR‬رى دمش ‪RR‬ق يث ‪RR‬وي الي ‪RR‬وم رف ‪RR‬ات رج ‪RR‬ل من أعظم رج ‪RR‬ال البش ‪RR‬ر ص ‪RR‬البة يف الوق ‪RR‬وف اىل ج ‪RR‬انب‬
‫العقيدة واالقتناع‪...‬‬

‫عبد اهلل بن عمر‬


‫األواب‬
‫املثابر‪ّ ،‬‬
‫حت ّدث وهو على قمة عمره الطويل فقال‪:‬‬
‫"لقد بايعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫فما نكثت وال ب ّدلت اىل يومي هذا‪..‬‬
‫‪ | 59‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وما بايعت صاحب فتنة‪..‬‬


‫وال أيقظت مؤمنا من مرقده"‪..‬‬
‫ويف ه ‪RR‬ذه الكلم ‪RR‬ات تلخيص حلي ‪RR‬اة الرج ‪RR‬ل الص ‪RR‬احل ال ‪RR‬ذي‪ R‬ع ‪RR‬اش ف ‪RR‬وق الثم ‪RR‬انني‪ ،‬وال ‪RR‬ذي‪ R‬ب ‪RR‬دأت عالقت ‪RR‬ه‬
‫باالسالم والرسول‪ ،‬وهو يف الثالثة عشر من العمر‪ ،‬حني صحب أباه يف غزوة ب‪RR‬در‪ ،‬راجي‪R‬ا أن يك‪RR‬ون ل‪R‬ه‬
‫رده الرسول عليه السالم لصغر سنه‪..‬‬ ‫بني اجملاهدين مكان‪ ،‬لوال أن ّ‬
‫من ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم‪ ..‬ب‪RR‬ل وقب‪RR‬ل ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم‪ R‬حني ص‪RR‬حب أب‪RR‬اه يف هجرت‪RR‬ه اىل املدين‪RR‬ة‪ ..‬ب‪RR‬دأت ص‪RR‬لة الغالم ذي‬
‫الرجولة املبكرة بالرسول عليه السالم واالسالم‪..‬‬

‫ومن ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم اىل الي‪RR‬وم ال‪RR‬ذي يلقى في‪RR‬ه رب‪RR‬ه‪ ،‬بالغ‪RR‬ا من العم‪RR‬ر مخس‪RR‬ة ومثانني عام‪RR‬ا‪ ،‬س‪RR‬نجد في‪RR‬ه حيثم‪RR‬ا‬
‫األواب ال‪RR‬ذي ال ينح‪RR‬رف عن هنج‪RR‬ه قي‪RR‬د أش‪RR‬عرة‪ ،‬وال ين‪RR‬د عن بيع‪RR‬ة بايعه‪RR‬ا‪ ،‬وال خييس بعه‪RR‬د‬ ‫نلق‪RR‬اه‪ ،‬املث‪RR‬ابر ّ‬
‫أعطاه‪..‬‬
‫وان املزايا اليت تأخذ األبصار اىل عبدالل بن عمر لكثرية‪.‬‬
‫فعلمه وتواضعه‪ ،‬واستقامة ض‪R‬مريه وهنج‪R‬ه‪ ،‬وج‪R‬وده‪ ،‬وورع‪R‬ه‪ ،‬ومثابرت‪R‬ه‪ ،‬على العب‪R‬ادة وص‪R‬دق استمس‪R‬اكه‬
‫بالقدوة‪..‬‬
‫كل هذه الفضائل واخلصال‪ ،‬صاغ ابن عمر عمره منها‪ ،‬وشخصيته الفذة‪ ،‬وحياته الطاهرة الصادقة‪..‬‬
‫لق ‪RR‬د تعلم من أبي ‪RR‬ه عم ‪RR‬ر بن اخلط ‪RR‬اب خ ‪RR‬ريا كث ‪RR‬ريا‪ ..‬وتعلم م ‪RR‬ع أبي ‪RR‬ه من رس ‪RR‬ول اهلل اخلري كل ‪RR‬ه والعظم ‪RR‬ة‬
‫كلها‪..‬‬
‫لقد أحسن كأبيه االميان باهلل ورسوله‪ ..‬ومن مث‪ ،‬كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر األلباب‪..‬‬
‫فهو ينظر‪ ،‬ماذا كان الرسول يفعل يف كل أمر‪ ،‬فيحاكيه يف دقة واخبات‪..‬‬
‫هنا مثال‪ ،‬كان الرسول عليه الصالة والسالم يصلي‪ ..‬فيصلي ابن عمر يف ذات املكان‪..‬‬
‫وهنا كان الرسول عليه الصالة والسالم يدعو قائما‪ ،‬فيدعو ابن عمر قائما‪...‬‬
‫وهنا كان الرسول يدعو جالسا‪ ،‬فيدعو عبداهلل جالسا‪..‬‬
‫‪ | 60‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهن‪R‬ا وعلى ه‪R‬ذا الطري‪R‬ق ن‪R‬زل الرس‪R‬ول يوم‪RR‬ا من ف‪R‬وق ظه‪RR‬ر ناقت‪R‬ه‪ ،‬وص‪R‬لى ركع‪RR‬تني‪ ،‬فص‪R‬نع‪ R‬ابن عم‪RR‬ر ذل‪R‬ك‬
‫اذا مجعه السفر‪ R‬بنفس البقعة واملكان‪..‬‬

‫ب‪RR‬ل ان‪RR‬ه لي‪RR‬ذكر أن ناق‪RR‬ة الرس‪RR‬ول دارت ب‪RR‬ه دورتني يف ه‪RR‬ذا املك‪RR‬ان مبك‪RR‬ة‪ ،‬قب‪RR‬ل أن ي‪RR‬نزل الرس‪RR‬ول من ف‪RR‬وق‬
‫ظهرها‪ ،‬ويصلي ركعتني‪ ،‬وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها‪ R‬مناخها‪.‬‬
‫لكن عب ‪RR‬دالل بن عم ‪RR‬ر ال يك‪RR‬اد يبل‪RR‬غ ه‪RR‬ا املك ‪RR‬ان يوم‪RR‬ا ح ‪RR‬ىت ي‪RR‬دور بناقت‪RR‬ه‪ ،‬مث ينيخه‪RR‬ا‪ ،‬مث يص‪RR‬لي ركع ‪RR‬تني‬
‫للله‪ ..‬متاما كما رأى املشهد من قبل مع رسول اهلل‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬أثار فرط اتباعه هذا‪ ،‬أم املؤمنني عائشة رضي اهلل عنها فقالت‪:‬‬
‫"ما كان أحد يتبع آثار النيب صلى اهلل عليه وسلم يف منازله‪ ،‬كما كان يتبعه ابن عمر"‪.‬‬
‫ولق ‪R‬د‪ R‬قض ‪RR‬ى عم ‪RR‬ره الطوي ‪RR‬ل املب ‪RR‬ارك على ه ‪RR‬ذا ال ‪RR‬والء الوثي ‪RR‬ق‪ ،‬ح ‪RR‬ىت لق ‪RR‬د ح ‪RR‬اء على املس ‪RR‬لمني زم ‪RR‬ان ك ‪RR‬ان‬
‫صاحلهم يدعو ويقول‪:‬‬
‫"اللهم أبق عبداهلل بن عمر ما أبقيتين‪ ،‬كي أقتدي به‪ ،‬فاين ال أعلم أحد على األمر األول غريه"‪.‬‬

‫وبقوة هذا التحري لشديد‪ R‬الويق خلطى لربسول وسنته‪ ،‬كان ابن عم‪RR‬ر يتهيّب احلديث عن رس‪RR‬ول اهلل‬
‫وال يروي عنه عليه السالم حديثا اال اذا كان ذاكرا كل حروفه‪ ،‬حرفا‪ ..‬حرفا‪.‬‬
‫وقد قال معاصروه‪..‬‬
‫"مل يكن من أصحاب رسول اهلل أحد أشد حذرا من أال يزيد يف ح‪R‬ديث رس‪R‬ول اهلل أو ينقص من‪R‬ه‪ ،‬من‬
‫عبداهلل بن عمر"‪!!..‬‬

‫والتحوط يف الفتيا‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وكذلك‪ R‬كان شديد احلذر‬
‫جاءه يوما رجل يستفتيه‪ ،‬فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائال‪:‬‬
‫" ال علم يل مبا تسأل عنه"‬
‫‪ | 61‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وذهب الرجل يف سبيله‪ ،‬وال يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حىت يف‪RR‬رك ابن عم‪RR‬ر كف‪RR‬ه ج‪RR‬ذالن فرح‪RR‬ا‬
‫ويقول لنفسه‪:‬‬
‫"سئل ابن عمر عما ال يعلم‪ ،‬فقال ال أعلم"‪!..‬‬
‫كان خياف أن جيتهد يف فتياه‪ ،‬فيخطئ يف اجتهاده‪ ،‬وعلى الرغم من أن‪RR‬ه حيي‪RR‬ا وف‪RR‬ق تع‪RR‬اليم ال‪RR‬دين العظيم‪،‬‬
‫للمخطئ أجر وللمصيب أجرين‪ ،‬فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه اجلسارة على الفتيا‪.‬‬
‫وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة‪..‬‬
‫لقد ك‪R‬انت وظيف‪R‬ة القض‪R‬اء من أرق‪R‬ع مناص‪R‬ب الدول‪R‬ة واجملتمه‪R‬ع‪ ،‬وك‪R‬انت تض‪R‬من لش‪R‬اغرها ث‪R‬راء‪ ،‬وجاه‪R‬ا‪،‬‬
‫وجمدا‪..‬‬
‫ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء‪ ،‬وللجاه‪ ،‬وللمجد‪..‬؟!‬

‫دعاه يوما اخلليفة عثمان رضي اهلل عنهما‪ ،‬وطلب اليه أن يشغل منص‪R‬ب القض‪R‬اة‪ ،‬فاعت‪R‬ذر‪ ..‬وأحل علي‪R‬ه‬
‫عثمان‪ ،‬فثابر على اعتذاره‪..‬‬
‫وسأله عثمان‪ :‬أتعصيين؟؟‬
‫فأجاب ابن عمر‪:‬‬
‫" كال‪ ..‬ولكن بلغين أن القضاة ثالثة‪..‬‬
‫قاض يقضي جبهل‪ ،‬فهو يف النار‪..‬‬
‫وقاض يقضي هبوى‪ ،‬فهو يف النار‪..‬‬
‫وقاض جيتهد ويصيب‪ ،‬فهو كفاف‪ ،‬ال وزر‪ ،‬وال أجر‪..‬‬
‫واين لسائلك باهلل أن تعفيين"‪..‬‬
‫وأعفاه عثمان‪ ،‬بعد أن أخذ عليه العهد‪ R‬أال خيرب أحدا هبذا‪.‬‬
‫ذلك أن عثم‪R‬ان يعلم مكان‪R‬ة ابن عم‪R‬ر يف أفئ‪R‬دة الن‪R‬اس‪ ،‬وان‪R‬ه ليخش‪R‬ى اذا ع‪R‬رف األتقي‪R‬اء الص‪R‬احلون عزوف‪R‬ه‬
‫عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا هنجه‪ ،‬وعندئذ ال جيد اخلليفة تقيا يعمل قاضيا‪..‬‬
‫‪ | 62‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وقد‪ R‬يبدو هذا املوقف لعبد اهلل بن عمر مسة من مسات السلبية‪.‬‬
‫بيد أنه ليس كذلك‪ ،‬فعب‪R‬د اهلل بن عم‪R‬ر مل ميتن‪R‬ع عن القض‪R‬اء وليس هن‪R‬اك من يص‪R‬لح ل‪R‬ه س‪R‬واه‪ ..‬ب‪R‬ل هن‪R‬اك‬
‫كثريون من أصحاب رسول اهلل الورعني الصاحلني‪ ،‬وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل‪..‬‬
‫ومل يكن يف ختلي ابن عمر عنه تعطي‪R‬ل لوظيف‪R‬ة القض‪RR‬اء‪ ،‬وال الق‪R‬اء هبا بني أي‪R‬دي ال‪R‬ذين ال يص‪R‬لحون هلا‪..‬‬
‫ينميها ويزكيها باملزيد من الطاعة‪ ،‬واملزيد من العبادة‪..‬‬
‫ومن مثّ قد آثر البقاء مع نفسه‪ّ ،‬‬

‫كم‪RR‬ا أن‪RR‬ه يف ذل‪RR‬ك احلني من حي‪RR‬اة االس‪RR‬الم‪ ،‬ك‪RR‬انت ال‪RR‬دنيا ق‪RR‬د فتحت على املس‪RR‬لمني وفاض‪RR‬ت األم‪RR‬وال‪،‬‬
‫وكثرت املناصب واالمارات‪.‬‬
‫وش‪RR R‬رع اغ‪RR R‬راء املال واملناص‪RR R‬ب يق‪RR R‬رتب من بعض القل‪RR R‬وب املؤمن‪RR R‬ة‪ ،‬مما جع‪RR R‬ل بعض أص‪RR R‬حاب الرس‪RR R‬ول‪،‬‬
‫ومنهم ابن عم‪RR‬ر‪ ،‬يرفع‪RR‬ون راي‪RR‬ة املقاوم‪RR‬ة هلذا االغ‪RR‬راء باختذهم‪ R‬من أنفس‪RR‬هم ق‪RR‬دوة ومثال يف الزه‪RR‬د وال‪RR‬ورع‬
‫والعزوف عن املانصب الكبرية‪ ،‬وقهر فتنتها واغرائها‪...‬‬

‫**‬

‫لقد كان ابن عمر‪،‬أخا الليل‪ ،‬يقومه مصليا‪ ..‬وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا‪..‬‬
‫ولق‪R‬د‪ R‬رأى يف ش‪RR‬بابه رؤي‪RR‬ا‪ ،‬فس‪RR‬رها الرس‪RR‬ول تفس‪RR‬ريا جع‪RR‬ل قي‪RR‬ام اللي‪RR‬ل منتهى آم‪RR‬ال عبداهلل‪ ،‬ومن‪RR‬اط غبطت‪RR‬ه‬
‫وحبوره‪..‬‬

‫ولنصغ‪ R‬اليه حيدثنا عن نبأ رؤياه‪:‬‬


‫"رأيت على عهد رسول اهلل ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم ك‪R‬أن بي‪R‬دي قطع‪R‬ة اس‪R‬تربق‪ ،‬وك‪R‬أنين ال أري‪R‬د مكان‪R‬ا يف‬
‫اجلنة اال طارت يب اليه‪..‬‬
‫ورأيت كأن اثنني أتياين‪ ،‬وأرادا أن يذهبا يب اىل النار‪ ،‬فتلقامها ملك فقال‪ :‬ال ترع‪ ،‬فخليّا عين‪..‬‬
‫فقص ‪RR‬ت حفص ‪RR‬ة ‪ -‬أخ ‪RR‬يت‪ -‬على الن ‪RR‬يب ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم رؤي ‪RR‬اي‪ ،‬فق ‪RR‬ال رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه‬
‫وسلم‪ :‬نعم الرجل عبداهلل‪ ،‬لو كان يصلي من الليل فيكثر"‪..‬‬
‫‪ | 63‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومن ذلك اليوم‪ R‬واىل أن لقي ربه‪ ،‬مل يدع قيام الليل يف حله‪ ،‬وال يف ترحاله‪..‬‬
‫فكان يصلي ويتلو القرآن‪ ،‬ويذكر ربه كث‪RR‬ريا‪ ..‬وك‪RR‬ان كأبي‪RR‬ه‪ ،‬هتط‪RR‬ل دموع‪R‬ه حني يس‪RR‬مع‪ R‬آي‪RR‬ات الن‪RR‬ذير يف‬
‫القرآن‪.‬‬

‫يقول عبيد بن عمري‪ :‬قرأت يوما على عبداهلل بن عمر هذه اآلية‪:‬‬
‫(فكي‪RR‬ف اذا جئن‪RR‬ا من ك‪RR‬ل أم‪RR‬ة بش‪RR‬هيد وجئن‪RR‬ا ب‪RR‬ك على ه‪RR‬ؤالء ش‪RR‬هيدا‪.‬يومئ ‪R‬ذ‪ R‬ي‪RR‬ود ال‪RR‬ذين كف‪RR‬روا وعص‪RR‬وا‬
‫تسوى هبم األرض‪ R‬وال يكتمون اهلل حديثا)‪..‬‬ ‫الرسول لو ّ‬
‫فجعل ابن عمر يبكي حىت نديت حليته من دموعه‪.‬‬
‫وجلس يوما بني اخوانه فقرا‪:‬‬
‫(وي‪RR‬ل للمطففني‪ ،‬ال‪RR‬ذين اذا اكت‪RR‬الوا على الن‪RR‬اس يس‪RR‬توفون‪ ،‬واذا ك‪RR‬الوهم أو وزن‪RR‬وهم خيس‪RR‬رون‪ ،‬أال يظن‬
‫أولئك أهنم ميعوثون‪ ،‬ليوم عظيم‪ ،‬يوم يقوم الناس لرب العاملني)‪..‬‬
‫مث مضى يردد اآلية‪:‬‬
‫(‪..‬يوم يقوم الناس لرب العاملني)‪.‬‬
‫ودموعه تسيل كاملطر‪ .‬حىت وقع من كثرة وجده وبكائه‪!!..‬‬

‫**‬

‫ولق ‪RR‬د ك ‪RR‬ان ج ‪RR‬وده‪ ،‬وزه ‪RR‬ده‪ ،‬وورع ‪RR‬ه‪ ،‬تعم ‪RR‬ل مع ‪RR‬ا يف فن عظيم‪ ،‬لتش ‪RR‬كل أروع فض ‪RR‬ائل ه ‪RR‬ذا االنس ‪RR‬ان‪R‬‬
‫العظيم‪ ..‬فهو يعطي الكثري ألنه جواد‪..‬‬
‫ويعطي احلالل الطيب ألنه ورع‪..‬‬
‫وال يبايل أن يرتكه اجلود فقريا‪ ،‬ألنه زاهد‪!!..‬‬
‫‪ | 64‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وك‪RR‬ان ابن عم‪RR‬ر رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه‪ ،‬من ذوي ال‪RR‬دخول الرغي‪RR‬دة احلس‪RR‬نة‪ ،‬اذ ك‪RR‬ان ت‪RR‬اجرا أمين‪RR‬ا ناجح‪RR‬ا ش‪RR‬طر‬
‫حياته‪ ،‬وكان راتبه من بيت املال وفريا‪ ..‬ولكن‪R‬ه مل ي‪R‬دخر ه‪RR‬ذا العط‪RR‬اء لنفس‪R‬ه ق‪R‬ط‪ ،‬امنا ك‪RR‬ان يرس‪R‬له غ‪RR‬دقا‬
‫على الفقراء‪ ،‬واملساكني والسائلنب‪..‬‬
‫حيدثنا أي ‪RR‬وب بن وائ ‪RR‬ل الراس ‪RR‬يب عن أح ‪RR‬د مكرمات ‪RR‬ه‪ ،‬فيخربن ‪RR‬ا أن ابن عم ‪RR‬ر ج ‪RR‬اءه يوم ‪RR‬ا بأربع ‪RR‬ة آالف ‪RR‬درهم‬
‫وقطيفة‪..‬‬
‫ويف اليوم التايل‪ ،‬رآه أيوب بن وائل يف السوق يشرتي لراحلته علفا نسيئة – أي دينا‪.. -‬‬
‫فذهب ابن وائل اىل أهل بيته وساهلم أليس قد أتى أليب عب‪RR‬د ال‪RR‬رمحن – يع‪RR‬ين ابن عم‪RR‬ر – ب‪RR‬األمس أربع‪RR‬ة‬
‫آالف‪،‬وقطيفة‪..‬؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فاين قد رأيته اليوم بالسوق يشرت علفا لراحلته وال جيد معه مثنه‪..‬‬
‫ق ‪RR‬الوا‪ :‬ان ‪RR‬ه مل يبت ب ‪RR‬األمس ح ‪RR‬ىت فرقه ‪RR‬ا مجيعه ‪RR‬ا‪ ،‬مث أخ ‪RR‬ذ القطيف ‪RR‬ة وألقاه ‪RR‬ا على ظه ‪RR‬ره‪ ،‬خ ‪RR‬رج‪ ..‬مث ع ‪RR‬اد‬
‫وليست معه‪ ،‬فسألناه عنهتا‪ .‬فقال‪ :‬انه وهبها لفقري‪!!..‬‬
‫فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف‪ .‬حىت أتى السوق فتوقل مكانا عاليا‪ ،‬وصاح يف الناس‪:‬‬
‫" يا معشر التجار‪..‬‬
‫ما تصنعون بالدنيا‪ ،‬وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها‪ ،‬مث يصلح فيستدين علفا لراحلته"‪..‬؟؟!!‬

‫أال ان من كان حممد‪ R‬أستاذه‪ ،‬وعمر أباه‪ ،‬لعظيم‪ ،‬كفء لكل عظيم‪!!..‬‬
‫ان وج‪RR‬ود عب‪RR‬د اهلل بن عم‪RR‬ر‪ ،‬وزه‪RR‬زد وورع‪RR‬ه‪ ،‬ه‪RR‬ذه اخلص‪RR‬ال الثالث‪RR‬ة‪ ،‬ك‪RR‬انت حتكي ل‪RR‬دى عب‪RR‬د اهلل ص‪RR‬دق‬
‫البنوة‪..‬‬
‫القدوة‪ ..‬وصدق ّ‬
‫فم ‪RR‬ا ك ‪RR‬ان ملن ميعن يف التأس ‪RR‬ي برس ‪RR‬ول اهلل‪ ،‬ح ‪RR‬ىت ان ‪RR‬ه ليق ‪RR‬ف بناقت ‪RR‬ه حيث رأى الرس ‪RR‬ول ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه‬
‫وسلم يوقف ناقته‪ .‬ويقول" لعل خفا يقع على خف"‪!.‬‬
‫والذي‪ R‬يذهب برأيه يف برأبيه وتوق‪R‬ريه واالعج‪R‬اب ب‪R‬ه اىل املدى ال‪RR‬ذي ك‪R‬انت شخص‪RR‬ية عم‪RR‬ر تفرض‪R‬ه على‬
‫األعداء‪ ،‬فضال عن األقرباء‪ .‬فضال عن األبناء‪..‬‬
‫‪ | 65‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أقول ما ينبغي ملن ينتمي هلذا الرسول‪ ،‬وهلذا‪ R‬الوالد‪ R‬أن يصبح للمال عبدا‪..‬‬
‫ولقد كانت األموال تاتيه وافرة كثرية‪ ..‬ولكنها متر به مرورا‪ ..‬وتعرب داره عبورا‪..‬‬
‫ومل يكن جوده سبيال اىل الزهو‪ ،‬واال اىل حسن األحدوثة‪.‬‬
‫ومن مث‪ .‬فقد كان خيص به احملتاجني والفقراء‪ ..‬وقلما كان يأكل الطعام وحده‪ ..‬فال بد أن يك‪RR‬ون مع‪RR‬ه‬
‫أيت‪RR R‬ام‪ ،‬أو فق‪RR R‬راء‪ ..‬وطاملا ك‪RR R‬ان يع‪RR R‬اتب بعض أبنائ‪RR R‬ه‪ ،‬حني يوملون لألغني‪RR R‬اء‪ ،‬وال ي‪RR R‬أتون معهم ب‪RR R‬الفقراء‪،‬‬
‫ويقول هلم‪:‬‬
‫"تدعون الشباع‪ .‬وتدعون اجلياع"‪!!..‬‬

‫وعرف الفقراء عطف‪RR‬ه‪ ،‬وذاق‪R‬وا حالوة ب‪R‬ره وحنان‪R‬ه‪ ،‬فك‪R‬انوا جيلس‪RR‬ون يف طريق‪R‬ه‪ ،‬كي يص‪RR‬حبهم اىل داره‬
‫حني يراهم‪ ..‬وكانوا‪ R‬حيفون به كما حتف أفواج النحل باألزاهري ترتشف منها الرحيق‪!..‬‬

‫**‬

‫لقد كان املال بني يديه خادما ال سيدا‪،،‬‬


‫وكان وسيلة لضروات العيش ال للرتف‪..‬‬
‫ومل يكن ماله وحده‪ ،‬بل كان للفقراء فيه حق معلوم‪ ،‬بل حق متكافئ ال يتميز فيه بنصيب‪..‬‬
‫ولقد أعانه على هذا اجلود الواسع زهده‪ ..‬فما كان ابن عم‪RR‬ر يتهال‪R‬ك على ال‪RR‬دنيا‪ ،‬وال يس‪RR‬عى اليه‪R‬ا‪ ،‬ب‪R‬ل‬
‫وال رجو منها اال كا يسرت اجلسد من لباس‪ ،‬ويقيم األود من الطعام‪..‬‬

‫أهداه أحد اخوانه القادمني من خراسان حلة ناعمة أنيقة‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫لقد جئتك هبذا الثوب من خراسان‪ ،‬وانه لتقر عيناي‪ ،‬اذ أراك تنزع عنك ثيابك اخلش‪R‬نة ه‪R‬ذه‪ ،‬وترت‪R‬دي‬
‫هذا الثوب اجلميل‪..‬‬
‫قال له ابن عمر‪ :‬أرنيه اذن‪..‬‬
‫مث ملسه وقال‪ :‬أحرير هذا‪.‬؟‬
‫‪ | 66‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قال صاحبه‪ :‬ال ‪ ..‬انه قطن‪.‬‬


‫ومتاله عب ‪RR‬د اهلل قليال‪ ،‬مث دفع ‪RR‬ه بيمين ‪RR‬ه وهويق ‪RR‬ول‪":‬ال‪.‬اين أخ ‪RR‬اف على نفس ‪RR‬ي‪ ..‬أخ ‪RR‬اف ان جيعل ‪RR‬ين خمت ‪RR‬اال‬
‫فخورا‪ ..‬واهلل ال حيب كل خمتال فخور"‪!!..‬‬

‫وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا‪..‬‬


‫وسأله ابن عمر‪ :‬ما هذا؟‬
‫قال‪ :‬هذا دواء عظيم جئتك به من العراق‪.‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬وماذا يطبب هذا الدواء‪..‬؟؟‬
‫قال‪ :‬يهضم الطعام‪..‬‬
‫فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه‪ ":‬يهضم الطعام‪..‬؟ اين مل أشبع من طعام قط منذ أربعني عاما"‪!!.‬‬

‫ان ه ‪RR‬ذا ال ‪RR‬ذي‪ R‬مل يش ‪RR‬بع من الطع ‪RR‬ام من ‪RR‬ذ أربعني عام ‪RR‬ا‪ ،‬مل يكني ‪RR‬رتك الش ‪RR‬بع‪ R‬خصاص ‪RR‬ة‪ ،‬بلزه ‪RR‬دا وورع ‪RR‬ا‪،‬‬
‫وحماولة للتاسي برسوله وأبيه‪..‬‬
‫كان خياف أن يقال له يوم القيامة‪:‬‬
‫(أذهبتم طيّباتكم يف حياتكم الدنيا واستمتعتم‪ R‬هبا)‪..‬‬

‫وكان يدرك انه يف الدنيا ضيف أو عابر شبيل‪..‬‬


‫ولقد حتدث عن نفسه قائال‪:‬‬
‫"ما وضعت‪ R‬لبنة على لبنة‪ ،‬وال غرست خنلة منذ تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪..‬‬
‫ويقول ميمون بن مهران‪:‬‬
‫" دخلت على ابن عم‪RR‬ر‪ ،‬فق‪Rّ R‬ومت‪ R‬ك‪RR‬ل ش‪RR‬يء يف بيت‪RR‬ه من ف‪RR‬راش‪ ،‬وحلاف وبس‪RR‬اط‪ .‬ومن ك‪RR‬ل ش‪RR‬يء في‪RR‬ه‪،‬‬
‫فما وجدته تساوي مئة ردهم"‪!!..‬‬
‫مل يكن ذلك عن فقر‪.‬ز قد كان ابن عمر ثريا‪..‬‬
‫‪ | 67‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫جودا سخيا‪..‬‬ ‫وال كان ذلك عن خبل فقد كان ّ‬


‫زامكا كان عن زهد يف الدنيا‪ ،‬وازدراء للرتف‪ ،‬والتزام‪ R‬ملنهجه يف الصدق والورع‪..‬‬
‫عم‪R‬ر ابن عم‪RR‬ر ط‪RR‬ويال‪ ،‬وع‪RR‬اش يف العص‪RR‬ر األم‪RR‬وي ال‪RR‬ذي‪ R‬فاض‪RR‬ت فيه‪RR‬ا ألم‪RR‬وال وانتش‪RR‬رت الض‪RR‬ياع‪،‬‬
‫ولق‪RR‬د ّ‪R‬‬
‫وغطى البذخ‪ R‬أكث الدور‪ ..‬بل قل أكثر القصور‪..‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬بقي ذلك الطود اجلليل شاخما ثابتا‪ ،‬ال يربح هنجه وال يتخلى عن ورعه وزهده‪.‬‬
‫واذا ذ ّكر حبظوظ الدنيا‪ R‬ومتاعها اليت يهرب منها قال‪:‬‬
‫"لقد اجتمعت وأصحايب على أمر‪ ،‬واين أخاف ان خالفتهم أال أألحق هبم"‪..‬‬
‫مث يعلم اآلخرين أنه مل يرتك دنياهم عجزا‪ ،‬فريفع يده اىل السماء ويقول‪:‬‬
‫"اللهم انك تعلم أنه لوال خمافتك لزامحنا قومنا قريشا يف هذه الدنيا"‪.‬‬

‫**‬

‫أجل‪ ..‬لوال خمافة ربه لزاحم يف الدنيا‪ ،‬ولكان من الظافرين‪..‬‬


‫بل انه مل يكن حباجة اىل أن يزاحم‪ ،‬فقد كانت الدنيا‪ R‬تسعى اليه وتطارده بطيباهتا ومغرياهتا‪..‬‬
‫وهل هناك كمنصب اخلالفة اغراء‪..‬؟‬
‫لق‪RR‬د ع‪RR‬رض على ابن عم‪RR‬ر م‪RR‬رات وه‪RR‬و يع‪RR‬رض عن‪RR‬ه‪ ..‬وه‪RR‬دد بالقت‪RR‬ل ان مل يقب‪RR‬ل‪ .‬ف‪RR‬ازداد ل‪RR‬ه رفض‪RR‬ا‪ ،‬وعن‪RR‬ه‬
‫اعراضا‪!!..‬‬

‫يقول احلسن رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫" ملا قتل عثمان بن عفان‪ ،‬قالوا‪ R‬لعبد اهلل بن عمر‪ :‬انك سيّد الناس‪ ،‬وابن سيد الناس‪ ،‬فاخرج نبايع ل‪RR‬ك‬
‫الناس‪..‬‬
‫قال‪ :‬ان واهلل لئن استطعت‪ ،‬ال يهراق بسبيب حمجمة من دم‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬لتخرجن‪ ،‬أ‪ ،‬لنقتلنكك على فراشك‪ ..‬فأعاد عليهم قوله األول‪..‬‬
‫‪ | 68‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وخوفوه‪ ..‬فما استقبلوا منه شيئا"‪!!..‬‬


‫فأطمعوه‪ّ ..‬‬

‫وفيم‪R‬ا‪ R‬بع‪RR‬د‪ ..‬وبينم‪RR‬ا الزم‪RR‬ان مير‪ ،‬والفنت تك‪RR‬ثر‪ ،‬ك‪RR‬ان ابن عم‪RR‬ر دوم‪RR‬ا ه‪RR‬و األم‪RR‬ل‪ ،‬فيلح الن‪RR‬اس علي‪RR‬ه‪ ،‬كي‬
‫يقبل منصب اخلالفة‪ ،‬وجييئوا‪ R‬له بالبيعة‪ ،‬ولكنه كان دائما يأىب‪..‬‬
‫ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه اىل ابن عمر‪..‬‬
‫بيد أن كان له منطقه وحجته‪.‬فبعد مقتل عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬ساءت األمور‪ R‬وتفاقمت على حنو ين‪RR‬ذر‬
‫بالسوء واخلطر‪..‬‬

‫وابن عم‪RR‬ر وان ي‪RR‬ك زاه‪RR‬دا‪ R‬يف ج‪RR‬اه اخلالف‪RR‬ة‪ ،‬فان‪RR‬ه يتقب‪RR‬ل مس‪RR‬ؤلياهتا وحيم‪RR‬ل أخطاره‪RR‬ا‪ ،‬ولكن ش‪RR‬ريطة أن‬
‫خيتاره مجيع املسلمني طائني‪ ،‬خمت‪R‬ارين‪ ،‬أم‪R‬ا أن حيم‪R‬ل واح‪R‬د ال غ‪R‬ري على بيعت‪R‬ه بالس‪R‬يف‪ ،‬فه‪R‬ذا م‪R‬ا يرفض‪R‬ه‪،‬‬
‫ويرفض اخلالفة معه‪..‬‬
‫وآنئ‪RR‬ذ‪ ،‬مل يكن ذل‪RR‬ك ممكن‪RR‬ا‪ ..‬فعلى ال‪RR‬رغم من فض‪RR‬له‪ ،‬وامجاع املس‪RR‬لمني على حب‪RR‬ه وتوق‪RR‬ريه‪ ،‬ف‪RR‬ان اتس‪RR‬اع‬
‫األمص‪RR‬ار‪ R،‬وتنائبه‪RR‬ا‪ ،‬واخلالف‪RR‬ات ال‪RR‬يت احت‪RR‬دمت بني املس‪RR‬لمني‪ ،‬وجعلتهم ش‪RR‬يعا تتناب‪RR‬ذ ب‪RR‬احلرب‪ ،‬وتتن‪RR‬ادى‬
‫للسيف‪ ،‬مل جيعل اجلو مهيأ هلذا االمجاع الذي يشرتطه عبداهلل بن عمر‪..‬‬

‫لقيه رجل يوما فقال له‪ :‬ما أحد شر ألمة حممد منك‪!..‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬ومل‪..‬؟ فواهلل ما سفكت دماءهم‪ ،‬وال فرقت مجاعتهم‪ ،‬وال شققت عصاهم‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان‪..‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬ما أحب أهنا أتتين‪ ،‬ورجل يقول‪ :‬ال‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬نعم‪.‬‬

‫وحىت بعد أن سارت األحداث شوطا طويال‪ ،‬واستقر األمر ملعاوية‪ ..‬مث البنه يزيد من بعده‪.‬ز مث ترك‬
‫معاوية الثاين ابن يزيد اخلالفة زاهدا‪ R‬فيها بعد أيام من توليها‪..‬‬
‫ح‪RR‬ىت يف ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم‪ ،‬وابن عم‪RR‬ر ش‪RR‬يخ مس‪RR‬ن كب‪RR‬ري‪ ،‬ك‪RR‬ان ال ي‪RR‬زال أم‪RR‬ل الن‪RR‬اس‪ ،‬وأم‪RR‬ل اخلالف‪RR‬ة‪ ..‬فق‪RR‬د ذهب‬
‫اليه مروان قال له‪:‬‬
‫‪ | 69‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هلم يدك نبايع لك‪ ،‬فانك سيد العرب وابن سيدها‪..‬‬


‫قال له ابن عمر‪ :‬كيف نصنع بأهل املشرق‪..‬؟‬
‫قال مروان‪ :‬نضرهبم حىت يبايعوا‪..‬‬
‫قال ابن عمر‪":‬واهلل ما أحب أهنا تكون يل سبعني عاما‪ ،‬ويقتل بسبيب رجل واحد"‪!!..‬‬
‫فانصرف عنه مروان وهو ينشد‪:‬‬
‫وامللك بعد أيب ليلى ملن غلبا‬ ‫اين أرى فتنة تغلي مراجلها‬
‫يعين بأيب ليلى‪ ،‬معاوية بن يزيد‪...‬‬

‫**‬

‫ه‪RR‬ذا ال‪RR‬رفض الس‪RR‬تعمال الق‪RR‬وة والس‪RR‬يف‪ ،‬ه‪RR‬و ال‪RR‬ذي جع‪RR‬ل ابن عم‪RR‬ر يتخ‪RR‬ذ من الفتن‪RR‬ة املس‪RR‬لحة بني أنص‪RR‬ار‬
‫علي وأنصار معاوية‪ ،‬موقف العزلة واحلياد جاعال شعاره وهنجه هذه الكلمات‪:‬‬
‫"من قال حي على الصالة أجبته‪..‬‬
‫ومن قال حي على الفالح أجبته‪..‬‬
‫ومن قال حي على قتل أخيك املسلم واخذ ماله قلت‪ :‬ال"‪!!.‬‬
‫ولكنه يف عزلته تلك ويف حياده‪ ،‬ال ميايلء باطال‪..‬‬
‫فلطاملا جابه معاوية وهو يف أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته‪..‬‬
‫حىت توعده بالقتل‪ ،‬وهو القائل‪ ":‬لو كان بيين وبني الناس شعرة ما انقطعت"‪!!..‬‬

‫حرف كتاب اهلل"!‬‫وذات يوم‪ ،‬وقف احلجاج خطيبا‪ ،‬فقال‪ ":‬ان ابن الزبري ّ‬
‫فصاح ابن عمر يف وجهه‪ ":‬كذبت‪ ،‬كذبت‪ ،‬كذبت"‪.‬‬
‫وس‪RR‬قط يف ي‪RR‬د احلج‪RR‬اج‪ ،‬وص‪RR‬عقته املفاج‪RR‬أة‪ ،‬وه‪RR‬و ال‪RR‬ذي‪ R‬يرهب‪RR‬ه ك‪RR‬ل ش‪RR‬يء‪ ،‬فمض‪RR‬ى يتوع‪RR‬د ابن عم‪RR‬ر بش‪Rّ R‬ر‬
‫جزاء‪..‬‬
‫‪ | 70‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولوذح ابن عمر بذراع‪RR‬ه يف وج‪R‬ه احلج‪RR‬اج‪ ،‬وأجاب‪R‬ه الن‪RR‬اس منبه‪R‬رون‪ ":‬ان تفع‪RR‬ل م‪RR‬ا تتوع‪R‬د ب‪R‬ه فال عجب‪،‬‬
‫فانك سفيه متسلط"‪!!..‬‬
‫ولكن‪RR R‬ه ب‪RR R‬رغم قوت‪RR R‬ه وجرأت‪RR R‬ه ظ‪RR R‬ل اىل آخ‪RR R‬ر أيام‪RR R‬ه‪ ،‬حريص‪RR R‬ا على أال يك‪RR R‬ون ل‪RR R‬ه يف الفتن‪RR R‬ة املس‪RR R‬لحة دور‬
‫ونصيب‪ ،‬رافضا‪ R‬أن ينحاز ألي فريق‪...‬‬
‫يقول أبو العالية الرباء‪:‬‬
‫" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر‪ ،‬وهو ال يشعر يب‪ ،‬فسمعته يقول لنفسه‪:‬‬
‫" واضعني سيوفهم على عواتقهم‪ ،‬يقتل بعضهم بعضا يقولون‪ :‬يا عبد اهلل بن عمر‪ ،‬أعط يدك"‪..‬؟!‬

‫وكان ينفجر أسى وأملا‪ ،‬حني يرى دماء املسلمني تسيل بأيديهم‪!!..‬‬
‫ولو استطاع أن مينع القتال‪ ،‬ويصون الدم لفعل‪ ،‬ولكن األحداث كانت أقوى منه فاعتزهلا‪.‬‬
‫ولقد كان قلبه مع علي رض‪R‬ي اهلل عن‪R‬ه‪ ،‬ب‪R‬ل وك‪R‬ان مع‪R‬ه يقين‪R‬ه فيم‪R‬ا يب‪R‬دو‪ ،‬ح‪R‬ىت لق‪R‬د روي عن‪R‬ه أن‪R‬ه ق‪R‬ال يف‬
‫أخريات أيامه‪:‬‬
‫علي‪ ،‬الفئة الباغية"‪!!..‬‬
‫" ما أجدين آسى على شيء فاتين من الدنيا اال أين مل أقاتل مع ّ‬

‫على أنه حني رفض أن يقاتل مع االمام علي ال‪RR‬ذي ك‪RR‬ان احلق ل‪RR‬ه‪ ،‬وك‪RR‬ان احلق مع‪RR‬ه‪ ،‬فان‪RR‬ه مل يفع‪RR‬ل ذل‪RR‬ك‬
‫هرب ‪RR‬ا‪ ،‬واال التماس ‪RR‬ا للنج ‪RR‬اة‪ ..‬ب ‪RR‬ل رفض ‪RR‬ا للخالف كل ‪RR‬ه‪ ،‬والفتن ‪RR‬ة كله ‪RR‬ا‪ ،‬وجتنب ‪RR‬ا لقت ‪RR‬ال ال ي ‪RR‬دو بني مس ‪RR‬لم‬
‫ومشرك‪ ،‬بل بني مسلمني يأكل بعضهم بعضا‪..‬‬
‫ولقد أوضح ذلك متاما حني سأله نافع قال‪ ":‬ي‪RR‬ا أب‪RR‬ا عب‪RR‬د ال‪RR‬رمحن‪ ،‬أنت ابن عم‪ ..‬وأنت ص‪RR‬احب رس‪RR‬ول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأنت وأنت‪ ،‬فما مينعك من هذا األمر_ يعين نصرة علي_؟؟‬
‫فأجابه قائال‪:‬‬
‫علي دم املس‪RR‬لم‪ ،‬لق‪RR‬د ق‪RR‬ال ع‪RR‬ز وج‪RR‬ل‪( :‬ق‪RR‬اتلوهم ح‪RR‬ىت ال تك‪RR‬ون فتن‪RR‬ة‪ ،‬ويك‪RR‬ون‬ ‫" مينع‪RR‬ين أن اهلل تع‪RR‬اىل ح‪Rّ R‬رم ّ‬
‫الدين ‪)..‬‬
‫ولقد فعلنا وقاتلنا املشركني حىت كان الدين هلل‪،‬اما اليوم‪ .‬فيم نقاتل‪..‬؟؟‬
‫‪ | 71‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لقد قاتلت األوثان متأل احلرم‪ ..‬من الركن اىل الباب‪ ،‬حىت نضاها اهلل من أرض العرب‪..‬‬
‫أفأقاتل اليوم‪ R‬من يقول ال اله اال اهلل"‪.‬؟!‬
‫هكذا كان منطقه‪ ،‬وكانت‪ R‬حجته‪ ،‬وكان اقتناعه‪..‬‬

‫فهو اذن مل يتجنب القتال ومل يشرتك فيه‪ ،‬الهروبا‪ ،‬أ‪ ،‬سلبية‪ ،‬بل رفضا الق‪R‬رار‪ R‬ح‪R‬رب أهلي‪R‬ة بني األم‪R‬ة‬
‫املؤمنة‪ ،‬واستنكافا على أن يشهر مسلم يف وجه مسلم سيفا‪..‬‬
‫ولق‪RR‬د ع‪RR‬اش عب‪RR‬د اهلل بن عم‪RR‬ر ط‪RR‬ويال‪ ..‬وعاص‪RR‬ر األي‪RR‬ام ال‪RR‬يت فتحت أب‪RR‬واب ال‪RR‬دنيا على املس‪RR‬لمني‪ ،‬وفاض‪RR‬ت‬
‫األموال‪ ،‬وكثرت املناصب‪ ،‬واستشرت املطامح والرغبات‪..‬‬

‫لكن قدرت‪RR‬ه النفس‪RR‬ية اهلائل‪RR‬ة‪ ،‬غرّي ت كيمي‪RR‬اء ال‪RR‬ومن‪ !!..‬فجعلت عص‪RR‬ر الطم‪RR‬وح‪ R‬واملال والفنت‪ ..‬جعلت‬
‫ه‪RR‬ذا العص‪RR‬ر بالنس‪RR‬بة الي‪RR‬ه‪ ،‬أي‪RR‬ام زه‪RR‬د‪ ،‬وورع ويالم‪ ،‬عاش‪RR‬ها املث‪RR‬ابر األواب بك‪RR‬ل يقين‪RR‬ه‪ ،‬ونس‪RR‬كه وترفع‪RR‬ه‪..‬‬
‫ومل يغلب قط على طبيعته الفاضلة اليت صاغها وصقلها االسالم يف أيامه األوىل العظيمة الشاهقة‪..‬‬
‫لق‪RR‬د تغرّي ت طبيع‪RR‬ة احلي‪RR‬اة‪ ،‬م‪RR‬ع ب‪RR‬دء العص‪RR‬ر األم‪RR‬وي‪ ،‬ومل يكن مثّ‪RR‬ة مف‪RR‬ر من ذل‪RR‬ك التغي‪RR‬ري‪ ..‬وأص‪RR‬بح العص‪RR‬ر‬
‫يومئ ‪RR‬ذ‪ ،‬عص ‪RR‬ر توس ‪RR‬ع يف ك ‪RR‬ل ش ‪RR‬يء‪ ..‬توس ‪RR‬ع مل تس ‪RR‬تجب الي ‪RR‬ه مط ‪RR‬امح الدول ‪RR‬ة فحس ‪RR‬ب‪ ،‬ب ‪RR‬ل ومط ‪RR‬امح‬
‫اجلماعة واألفراد أيضا‪.‬‬
‫ووس‪RR‬ط جلج االغ‪RR‬راء‪ ،‬وجيش‪RR‬ان العص‪RR‬ر املفت‪RR‬ون مبزاي‪RR‬ا التوس‪RR‬ع‪ ،‬ومبغامنه‪ ،‬ومباهج‪RR‬ه‪ ،‬ك‪RR‬ان ابن عم‪RR‬ر يعيش‬
‫مع فضائله‪ ،‬يف شغل عن ذلك كله مبواصلة تقدمه الروحي العظيم‪.‬‬
‫ولقد أحرز من أغراض حياته اجلليلة ما كان يرجو حىت لقد وصفه معاصروعه فقالوا‪:‬‬
‫( مات ابن عمر وهو مثل عمر يف الفضل)‬

‫بل لقد كان يطيب هلم حني يبهرهم ألق فضائله‪ ،‬أن يقارنوا بينه وبني والده العظيم عمر‪ ..‬فيقولون‪:‬‬
‫( كان عمر يف زمان له فيه نظراء‪ ،‬وكان ابن عمر يف زمان ليس فيه نظري)‪!!..‬‬
‫‪ | 72‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهي مبالغ‪RR‬ة يغفره‪RR‬ا اس‪RR‬تحقاق ابن عم‪RR‬ر هلا‪ ،‬أم‪RR‬ا عم‪RR‬ر فال يق‪RR‬ارن مبثل‪RR‬ه أح‪RR‬د‪ ..‬وهيه‪RR‬ات أن يك‪RR‬ون ل‪RR‬ه يف‬
‫كل عصور الزمان نظري‪..‬‬

‫**‬

‫ويف العام الث‪R‬اث والس‪R‬بعني للهج‪RR‬رة‪ ..‬م‪R‬الت الش‪RR‬مس للمغيب‪ ،‬ورفعت‪ R‬اح‪R‬دى س‪R‬فن األبدي‪R‬ة مراس‪R‬يها‪،‬‬
‫مبحرة اىل العامل اآلخر والرفيق األعلى‪ ،‬حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _يف مك‪RR‬ة واملدين‪RR‬ة_ عب‪RR‬د‬
‫اهلل بن عم‪RR‬ر بن اخلط‪RR‬اب‪ .‬ك‪RR‬ان آخ‪RR‬ر الص‪RR‬حابة رحيال عن ال‪RR‬دنيا‪ R‬كله‪RR‬ا أنس بن مال‪RR‬ك رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه‪،‬‬
‫تويف بالبصرة‪ ،‬عام واحد وتسعني‪ ،‬وقيل عام ثالث وتسعني‪.‬‬

‫سعد بن أيب وقاص‬


‫األسد يف براثنه‬

‫أقلقت األنباء أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب‪ ،‬عندما جاءته ت‪R‬رتى باهلجم‪R‬ات الغ‪R‬ادرة ال‪R‬يت تش‪R‬نها ق‪R‬وات‬
‫الفرس على املسلمني‪ ..‬ومبعركة اجلس‪R‬ر ال‪RR‬يت ذهب ض‪R‬حيتها يف ي‪R‬وم واح‪R‬د أربع‪R‬ة آالف ش‪RR‬هيد‪ ..‬وبنقض‬
‫أهل العراق عهودهم‪ ،‬واملواثيق اليت ك‪RR‬انت عليهم‪ ..‬فق‪RR‬رر أن ي‪RR‬ذهب بنفس‪RR‬ه لبق‪RR‬ود جي‪RR‬وش املس‪RR‬لمني‪ ،‬يف‬
‫معركة فاصلة ضد الفرس‪.‬‬
‫كرم اهلل وجهه‪..‬‬ ‫وركب يف نفر من أصحابه مستخلفا على املدينة علي ابن أيب طالب ّ‬
‫ولكنه مل يكد ميض‪R‬ي عن املدين‪R‬ة ح‪R‬ىت رأى بعض أص‪R‬حابه أن يع‪R‬ود‪ ،‬وينت‪R‬دب هلذه اهلم‪R‬ة واح‪R‬دا غ‪R‬ريه من‬
‫أصحابه‪..‬‬

‫وتبىّن ه‪RR R‬ذا ال‪RR R‬رأي عب‪RR R‬د ال‪RR R‬رمحن بن ع‪RR R‬وف‪ ،‬معلن‪RR R‬ا أن املخ ‪RR‬اطرة حبي‪RR R‬اة أم‪RR R‬ري املؤم‪RR R‬نني على ه‪RR R‬ذا النح ‪R R‬و‪R‬‬
‫واالسالم يعيش أيامه الفاصلة‪ ،‬عمل غري سديد‪..‬‬
‫‪ | 73‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأم‪RR‬ر عم‪RR‬ر أن جيتم ‪R‬ع‪ R‬املس‪RR‬لمون للش‪RR‬ورى ون‪RR‬ودي‪_:‬الص‪RR‬الة جامع‪RR‬ة_ واس‪RR‬تدعي علي ابن أيب ط‪RR‬الب‪،‬‬
‫فانتقل مع بعض أهل املدينة اىل حيث كان أمري املؤمنني وأصحابه‪ ..‬وانتهى ال‪RR‬رأي اىل م‪RR‬ا ن‪RR‬ادى ب‪RR‬ه عب‪RR‬د‬
‫ال ‪RR‬رمحن بن ع ‪RR‬وف‪ ،‬وق ‪RR‬رر اجملتمع ‪RR‬ون أن يع ‪RR‬ود عم ‪RR‬ر اىل املدين ‪RR‬ة‪ ،‬وأن خيت ‪RR‬ار للق ‪RR‬اء الف ‪RR‬رس قائ ‪RR‬دا آخ ‪RR‬ر من‬
‫املسلمني‪..‬‬
‫ونزل أمري املؤمنني على هذا الرأي‪ ،‬وعاد يسأل أصحابه‪:‬‬
‫فمن ترون أن نبعث اىل العراق‪..‬؟؟‬
‫وصمتوا‪ R‬قليال يفكرون‪..‬‬
‫مث صاح عبد الرمحن بن عوف‪ :‬وجدته‪!!..‬‬
‫قال عمر‪ :‬فمن هو‪..‬؟‬
‫قال عبد الرمحن‪" :‬األسد يف براثنه‪ ..‬سعد بن مالك الزهري‪"..‬‬

‫وأيّد املسلمون هذا االختي‪RR‬ار‪ ،‬وأرس‪R‬ل أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني اىل س‪RR‬عد بن مال‪RR‬ك الزه‪RR‬ري "س‪RR‬عد بن أيب وق‪RR‬اص"‬
‫وواله امارة العراق‪ ،‬وقيادة اجليش‪..‬‬
‫فمن هو األسد يف براثنه‪..‬؟‬
‫من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بني أصحابه حياه وداعبه قائال‪:‬‬
‫"هذا خايل‪ ..‬فلريين امرؤ خاله"‪!!..‬‬

‫ان‪RR R‬ه س‪RR R‬عد بن أيب وق‪RR R‬اص‪ ..‬ج‪RR R‬ده أهيب بن من‪RR R‬اف‪ ،‬عم الس‪RR R‬يدة آمن‪RR R‬ة أم رس‪RR R‬ول اهلل ص‪RR R‬لى اهلل علي‪RR R‬ه‬
‫وسلم‪..‬‬
‫لقد عانق االسالم وهو ابن سبع عشرة سنة‪ ،‬وكان اسالمه مبكرا‪ ،‬وانه ليتحدث عن نفسه فيقول‪:‬‬
‫علي يوم‪ ،‬واين لثلث االسالم"‪!!..‬‬ ‫" ‪ ..‬ولقد أتى ّ‬
‫يعين أنه كان ثالث أول ثالثة سارعوا اىل االسالم‪..‬‬
‫‪ | 74‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ففي األي ‪RR‬ام األوىل ال ‪RR‬يت ب ‪RR‬دأ الرس ‪RR‬ول يتح ‪RR‬دث فيه ‪RR‬ا عن اهلل األح ‪RR‬د‪ ،‬وعن ال ‪RR‬دين اجلدي ‪RR‬د ال ‪RR‬ذي‪ R‬ي ‪RR‬زف‬
‫الرس ‪RR‬ول بش ‪RR‬راه‪ ،‬وقب ‪RR‬ل أن يتخ ‪RR‬ذ الن ‪RR‬يب ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم من دار األرقم‪ R‬مالذا ل ‪RR‬ه وألص ‪RR‬حابه ال ‪RR‬ذين‬
‫بدءوا يؤمنون به‪ ..‬كان سعد ابن أيب وقاص قد بسط ميينه اىل رسول اهلل مبايعا‪..‬‬
‫والسري لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسالم أيب بكر وعلى يديه‪..‬‬ ‫وا ّن كتب التارييخ ّ‬
‫ولعله يومئذ أعلن اسالمه مع الذين أعلن‪R‬وه باقن‪R‬اع أيب بك‪R‬ر ايّ‪R‬اهم‪ ،‬وهم عثم‪R‬ان ابن عف‪R‬ان‪ ،‬والزب‪R‬ري ابن‬
‫العوام‪ ،‬وعبد الرمحن بن عوف‪ ،‬وطلحة بن عبيد اهلل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ومع هذا ال مينع سبقه باالسالم سرا‪..‬‬
‫وان لسعد‪ R‬بن أيب وقاص ألجماد كثرية يستطيع أن يباهي هبا ويفخر‪..‬‬
‫يتغن من مزاياه تلك‪ ،‬اال بشيئني عظيمني‪..‬‬ ‫بيد أنه مل ّ‬
‫أوهلما‪ :‬أنه أول من رمى بسهم يف سبيل اهلل‪ ،‬وأول من رمي أيضا‪..‬‬
‫وثانيهما‪ :‬أنه الوحيد الذي‪ R‬افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد‪:‬‬
‫" ارم سعد فداك‪ R‬أيب وأمي"‪..‬‬

‫أجل كان دائما يتغىن هباتني النعمتني اجلزيلتني‪ ،‬ويلهج يشكر اهلل عليهما فيقول‪:‬‬
‫ألول رجل من العرب رمى بسهم يف سبيل اهلل"‪.‬‬ ‫" واهلل اين ّ‬
‫ويقول علي ابن أيب طالب‪:‬‬
‫" م‪RR‬ا مسعت رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يف‪RR‬دي أح‪RR‬دا بأبوي‪RR‬ه اال س‪RR‬عدا‪ ،‬ف‪RR‬اين مسعته ي‪RR‬وم أح‪RR‬د يق‪RR‬ول‪:‬‬
‫ارم سعد‪ ..‬فداك أيب وأمي"‪..‬‬
‫كان سعد يع ّد من أشجع فرسان العرب واملسلمني‪ ،‬وكان له سالحان رحمه ودعاؤه‪..‬‬

‫عدوا أصابه‪ ..‬واذا دعا اهلل دعاء أجابه‪!!..‬‬


‫اذا رمى يف احلرب ّ‬
‫يردون ذلك اىل دعاء الرسول له‪ ..‬ف‪R‬ذات ي‪R‬وم وق‪RR‬د رأى الرس‪RR‬ول ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه‬ ‫وكان‪ ،‬وأصحابه معه‪ّ ،‬‬
‫وقر عينه‪ ،‬دعا له هذه الدعوة املأثورة‪..‬‬
‫سره ّ‬
‫وسلم منه ما ّ‬
‫‪ | 75‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" اللهم سدد رميته‪ ..‬وأجب دعوته"‪.‬‬

‫وهكذا عرف بني اخوانه وأصحابه بأن دعوت‪R‬ه كالس‪RR‬يف الق‪RR‬اطع‪ ،‬وع‪R‬رف ه‪R‬و ذل‪R‬ك نفس‪RR‬ه وأم‪RR‬ره‪ ،‬فلم‬
‫مفوضا اىل اهلل أمره‪.‬‬
‫يكن يدعو على أحد اال ّ‬

‫من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول‪:‬‬


‫" رأى سعد رجال يسب عليا‪ ،‬وطلحة والزبري فنهاه‪ ،‬فلم ينته‪ ،‬فقال له‪ :‬اذن أدعو عليك‪ ،‬فقال ارجل‪:‬‬
‫أراك تتهددين كأنك نيب‪!!..‬‬
‫‪R‬ب‬
‫فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتني‪ ،‬مث رفع يديه وقال‪ :‬اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد س‪ّ R‬‬
‫أقواما سبقت هلم منك احلسىن‪ ،‬وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم‪ ،‬فاجعله آية وعربة‪..‬‬
‫يرده ‪RR‬ا ش ‪RR‬يء ح ‪RR‬ىت دخلت يف‬
‫‪R‬ادة ال ّ‬
‫فلم ميض غ‪RR‬ري وقت قص ‪RR‬ري‪ ،‬ح ‪RR‬ىت خ‪RR‬رجت من اح‪RR‬دى ال‪RR‬دور ناق ‪RR‬ة ن‪ّ R‬‬
‫زحام الناس‪ ،‬كأهنا تبحث عن شيء‪ ،‬مث اقتحمت الرجل فأخذته بني قوائمها‪ ..‬وما زالت‪ R‬تتخبطه حىت‬
‫مات"‪..‬‬
‫ان هذه الظاهرة‪ ،‬تنىبء ّأول ما تنىبء عن شفافية روحه‪ ،‬وصدق يقينه‪ ،‬وعمق اخالصه‪.‬‬

‫وك‪RR‬ذلكم ك‪RR‬ان س‪RR‬عد‪ ،‬روح‪RR‬ه ح‪RR‬ر‪ ..‬ويقين‪RR‬ه ص‪RR‬لب‪ ..‬واخالص‪RR‬ه عمي‪RR‬ق‪ ..‬وك‪RR‬ان دائب االس‪RR‬تعانة على‬
‫دعم تقواه باللقمة احلالل‪ ،‬فهو يرفض يف اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة‪..‬‬
‫ولق‪RR‬د ع‪RR‬اش س‪RR‬عد ح‪RR‬ىت ص‪RR‬ار من أغني‪RR‬اء املس‪RR‬لمني وأثري‪RR‬ائهم‪ ،‬وي‪RR‬وم م‪RR‬ات خل‪RR‬ف وراءه ث‪RR‬روة غ‪RR‬ري قليل‪RR‬ة‪..‬‬
‫ومع هذا فاذا كانت وفرة املال وحالله قلما جيتمعان‪ ،‬فقد اجتمع‪RR‬ا بني ي‪RR‬دي س‪RR‬عد‪ ..‬اذ آت‪RR‬اه اهلل الكث‪RR‬ري‪،‬‬
‫احلالل‪ ،‬الطيب‪..‬‬
‫وقدرته على مجع املال من احلالل اخلالص‪ ،‬يضاهيها‪ ،‬قدرته يف انفاقه يف سبيل اهلل‪..‬‬

‫يف حج‪RR‬ة ال‪RR‬وداع‪ ،‬ك‪RR‬ان هن‪RR‬اك م‪RR‬ع رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬وأص‪RR‬ابه املرض‪ ،‬وذهب الرس‪RR‬ول‬
‫يعوده‪ ،‬فساله سعد قائال‪:‬‬
‫‪ | 76‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫"يا رسول اهلل‪ ،‬اين ذو مال وال يرثين اال ابنة‪ ،‬أفأتص ّدق بثلثي مايل‪..‬؟‬
‫قال النيب‪ :‬ال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبنصفه؟‬
‫قال النيب‪ :‬ال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبثلثه‪..‬؟‬
‫ق‪RR‬ال الن‪RR‬يب‪ :‬نعم‪ ،‬والثلث كث‪RR‬ري‪ ..‬ان‪RR‬ك ان ت‪RR‬ذر ورثت‪RR‬ك أغني‪RR‬اء‪ ،‬خ‪RR‬ري من أن ت‪RR‬ذرهم عال‪RR‬ة يتكفف‪RR‬ون الن‪RR‬اس‪،‬‬
‫وانك لن تنفق نفقة تبتغي هبا وجه اهلل اال أجرت هبا‪ ،‬حىت اللقمة تضعها يف فم امرأتك"‪..‬‬
‫ومل يظل سعد أبا لبنت واحدة‪ ..‬فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين‪..‬‬

‫**‬

‫وكان سعد كثري البكاء من خشية اهلل‪.‬‬


‫وكان اذا استمع للرسول يعظهم‪ ،‬وخيطبهم‪ ،‬فاضت‪ R‬عيناه من الدمع حىت تكاد دموعه متلؤ حجره‪..‬‬
‫وكان رجال أويت نعمة التوفيق والقبول‪..‬‬

‫ذات يوم والنيب جالس مع أصحابه‪ ،‬رنا بصره اىل األفق يف اص‪RR‬غاء من يتلقى مهس‪RR‬ا وس‪RR‬را‪ ..‬مث نظ‪RR‬ر يف‬
‫وجوه أصحابه وقال هلم‪:‬‬
‫" يطلع علينا اآلن رجل من أهل اجلنة"‪..‬‬
‫وأخذ األصحاب‪ R‬يتلفتون صوب كل اجتاه يستشرفون‪ R‬هذا السعيد‪ R‬املوفق احملظوظ‪..‬‬
‫وبعد حني قريب‪ ،‬طلع عليهم سعد بن أيب وقاص‪.‬‬
‫ولقد الذ به فيما بع‪R‬د عب‪R‬د اهلل بن عم‪R‬رو بن الع‪R‬اص س‪R‬ائال اي‪R‬اه يف احلاح أن يدل‪R‬ه على م‪R‬ا يتق ّ‪R‬رب اىل اهلل‬
‫من عمل وعبادة‪ ،‬جعله أهل هلذه املثوبة‪ ،‬وهذه البشرى‪ ..‬فقال له سعد‪:‬‬
‫" ال شيء أكثر مما نعمل مجيعا ونعبد‪..‬‬
‫‪ | 77‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫غري أين ال أمحل ألحد من املسلمني ضغنا وال سوءا"‪.‬‬

‫هذا هو األسد يف براثنه‪ ،‬كما وصفه عبد الرمحن بن عوف‪..‬‬


‫وهذا هو الرجل الذي‪ R‬اختاره عمر ليوم القادسية العظيم‪..‬‬
‫كانت كل مزاياه تتألق أما بصرية أمري املؤمنني وهو خيتاره ألصعب مهمة تواجه االسالم واملسلمني‪..‬‬
‫انه مستجاب الدعوة‪ ..‬اذا سأل اهلل النصر أعطاه اياه‪..‬‬
‫عف الطعمة‪ ..‬عف اللسان‪ ..‬عف الضمري‪..‬‬ ‫زانه ّ‬
‫وانه واحد من أهل اجلنة‪ ..‬كما تنبأ له الرسول‪..‬‬
‫وانه الفارس يوم بدر‪ .‬والفارس يوم أحد‪ ..‬والفارس يف كل مشهد شهده مع رسول اهلل صلى اهلل علي‪RR‬ه‬
‫وسلم‪..‬‬
‫وأخ‪RR‬رى‪ ،‬ال ينس‪R‬اها عم‪RR‬ر وال يغف‪R‬ل عن أمهيته‪R‬ا وقيمته‪RR‬ا وق‪R‬درها‪ R‬بني خلص‪R‬ائص ال‪RR‬يت جيب أن تت‪R‬وفر لك‪R‬ل‬
‫من يتصدى لعظائم األمور‪ ،‬تلك هي صالبة االميان‪..‬‬

‫ان عمر ال ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول‪..‬‬
‫يومئذ أخفقت مجيع حماوالت رده وصده عن سبيل اهلل‪ ..‬فلجأت أمه اىل وسيلة مل يكن أح‪RR‬د يش‪RR‬ك يف‬
‫أهنا ستهزم روح سعد وترد عزمه اىل وثنية أهله وذويه‪..‬‬

‫لق ‪RR‬د أعلنت أم ‪RR‬ه ص ‪RR‬ومها عن الطع ‪RR‬ام والش ‪RR‬راب‪ ،‬ح ‪RR‬ىت يع ‪RR‬ود س ‪RR‬عد اىل دين آبائ ‪RR‬ه وقوم ‪RR‬ه‪ ،‬ومض ‪RR‬ت يف‬
‫تصميم مستميت تواصل اضراهبا‪ R‬عن الطعام والسراب حىت أوشكت على اهلالك‪..‬‬
‫كل ذلك وسعد ال يبايل‪ ،‬وال يبيع اميانه ودينه بشيء‪ ،‬حىت ولو يكون هذا الشيء حياةأمه‪..‬‬
‫وحني ك‪RR‬انت تش‪RR‬رف على املوت‪ ،‬أخ‪R‬ذه بعض أهل‪R‬ه اليه‪R‬ا ليلقي عليه‪R‬ا نظ‪R‬رة وداع م‪RR‬ؤملني أن ي‪R‬رق قلب‪R‬ه‬
‫حني يراها يف سكرة املوت‪..‬‬

‫وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر‪..‬‬


‫‪ | 78‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫بي‪RR‬د أن اميان‪RR‬ه باهلل ورس‪RR‬وله ك‪RR‬ان ق‪RR‬د تف‪Rّ R‬وق على ك‪RR‬ل ص‪RR‬خر‪ ،‬وعلى ك‪RR‬ل الذ‪ ،‬ف‪RR‬اقرتب بوجه‪RR‬ه من وج‪RR‬ه‬
‫أمه‪ ،‬وصاح هبا لتسمعه‪:‬‬
‫" تعلمني واهلل يا ّأمه‪ ..‬لو كانت لك مائة نفس‪ ،‬فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديين هذا لشيء‪..‬‬
‫فكلي ان شئت أو ال تأكلي"‪!!..‬‬
‫وعدلت أمه عن عزمهت\ا‪ ..‬ونزل الوحي حييي موقف سعد‪ ،‬ويؤيده فيقول‪:‬‬
‫( وان جاهداك على أن تشرك يب ما ليس لك به علم فال تطعهما)‪..‬‬
‫أليس هو األسد يف براثنه حقا‪..‬؟؟‬

‫اذن فليغ‪RR‬رس أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني ل‪RR‬واء القادس‪RR‬ية يف ميين‪RR‬ه‪ .‬ول‪RR‬ريم ب‪RR‬ه الف‪RR‬رس اجملتمعني يف أك‪RR‬ثر من مائ‪RR‬ةألف من‬
‫املق‪RR‬اتلني املدربني‪ .‬املدججني ب‪RR‬أخطر م‪RR‬ا ك‪RR‬انت تعرف‪RR‬ه األرض يومئ‪RR‬ذ من عت‪RR‬اد وس‪RR‬الح‪ ..‬تق‪RR‬ودهم أذكى‬
‫عقول احلرب يومئذ‪ ،‬وأدهى دهاهتا‪..‬‬
‫أج ‪RR‬ل اىل ه ‪RR‬ؤالء يف في ‪RR‬القهم‪ R‬الرهيب ‪RR‬ة‪..‬خ ‪RR‬رج س ‪RR‬عد يف ثالثني أل ‪RR‬ف مقات ‪RR‬ل ال غ ‪RR‬ري‪ ..‬يف أي ‪RR‬ديهم رم ‪RR‬اح‪..‬‬
‫ولكن يف قل‪RR‬وهبم‪ R‬ارادة ال‪RR‬دين اجلدي‪RR‬د بك‪RR‬ل م‪RR‬ا متثل‪RR‬ه من اميان وعنف‪RR‬وان‪ ،‬وش‪RR‬وق ن‪RR‬ادر وب‪RR‬اهر اىل املوت و‬
‫اىل الشهادة‪!!..‬‬
‫والتقى اجلمعان‪.‬‬
‫ولكن ال‪ ..‬مل يلتق اجلمعان بعد‪..‬‬
‫وأن س‪RR‬عدا هن‪RR‬اك ينتظ‪RR‬ر نص‪RR‬ائح أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني عم‪RR‬ر وتوجيهات‪RR‬ه‪ ..‬وه‪RR‬ا ه‪RR‬و ذا كت‪RR‬اب عم‪RR‬ر الي‪RR‬ه ي‪RR‬أمره في‪RR‬ه‬
‫باملبادرة اىل القادسية‪ ،‬فاهنا باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى‪:‬‬
‫" يا سعد بن وهيب‪..‬‬
‫يغرنّك من اهلل‪ ،‬أن قي‪R‬ل‪ :‬خ‪RR‬ال رس‪R‬ول اهلل وص‪R‬احبه‪ ،‬ف‪R‬ان اهلل ليس بين‪R‬ه وبني أح‪R‬د نس‪RR‬ب اال بطاعت‪R‬ه‪..‬‬ ‫ال ّ‬
‫والن‪RR‬اس ش‪RR‬ريفهم ووض‪RR‬يعهم‪ R‬يف ذات اهلل س‪RR‬وء‪ ..‬اهلل رهبم‪ ،‬وهم عب‪RR‬اده‪ ..‬يتفاض‪RR‬لون بالعافي‪RR‬ة‪ ،‬وي‪RR‬دركون‪R‬‬
‫م‪RR‬ا عن‪RR‬د اهلل بالطاع‪RR‬ة‪ .‬ف‪RR‬انظر األم‪RR‬ر ال‪RR‬ذي رأيت رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم من‪RR‬ذ بعث اىل أن فارقن‪RR‬ا‬
‫عليه‪ ،‬فالزمه‪ ،‬فانه األمر‪".‬‬
‫‪ | 79‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث يقول له‪:‬‬


‫ايل جبميع أحوالكم‪ ..‬وكيف تنزلون‪..‬؟‬
‫" اكتب ّ‬
‫عدوكم منكم‪..‬‬‫وأين يكون ّ‬
‫ايل كأين أنظر اليكم"‪!!..‬‬
‫واجعلين بكتبك ّ‬

‫ويكتب س ‪RR‬عد اىل أم ‪RR‬ري املؤم ‪RR‬نني فيص ‪RR‬ف ل ‪RR‬ه ك ‪RR‬ل ش ‪RR‬يء ح ‪RR‬ىت ان ‪RR‬ه ليك ‪RR‬اد حيدد ل ‪RR‬ه موق ‪RR‬ف ك ‪RR‬ل جن ‪RR‬دي‬
‫ومكانه‪.‬‬
‫ويتجم‪ R‬ع‪ R‬الف‪RR‬رس جيش‪RR‬ا وش‪RR‬عبا‪ ،‬كم‪RR‬ا مل يتجمع‪RR‬وا من قب‪RR‬ل‪ ،‬ويت‪RR‬وىل قي‪RR‬ادة الف‪RR‬رس‬‫ّ‬ ‫وي‪RR‬نزل س‪RR‬عد القادس‪RR‬ية‪،‬‬
‫أشهر وأخطر ّقوادهم "رستم"‪..‬‬

‫ويكتب سعد اىل عمر‪ ،‬فيكتب اليه أمري املؤمنني‪:‬‬


‫" ال يكربنّ‪RR‬ك م‪RR‬ا تس‪RR‬مع منهم‪ ،‬وال م‪RR‬ا يأتون‪RR‬ك ب‪RR‬ه‪ ،‬واس‪RR‬تعن باهلل‪ ،‬وتوك‪RR‬ل علي‪RR‬ه‪ ،‬وابعث‪ R‬الي‪RR‬ه رج‪RR‬اال من‬
‫ايل يف كل يوم‪"..‬‬ ‫أهل لنظر والرأي واجللد‪ ،‬يدعونه اىل اهلل‪ ..‬واكتب ّ‬
‫ويعود سعد فيكتب ألمري املؤمنني قائال‪:‬‬
‫وجر اخليول والفيلة وزحف علينا"‪.‬‬ ‫" ان رستم قد عسكر ب ساباط ّ‬
‫وجييبه عمر مطمئنا مشريا‪..‬‬
‫ان س ‪RR‬عد الف ‪RR‬ارس ال ‪RR‬ذكي املق ‪RR‬دام‪ ،‬خ ‪RR‬ال رس ‪RR‬ول اهلل‪ ،‬والس ‪RR‬ابق اىل االس ‪RR‬الم‪ ،‬بط ‪RR‬ل املع ‪RR‬ارك والغ ‪RR‬زوات‪،‬‬
‫والذي‪ R‬ال ينبو له سيف‪ ،‬وال يزيغ منه رمح‪ ..‬يقف على رأس جيشه يف احدى معارك التاريخ الكربى‪،‬‬
‫ويق‪RR‬ف وكأن‪RR‬ه جن‪RR‬دي ع‪RR‬ادي‪ ..‬ال غ‪RR‬رور الق‪RR‬وة‪ ،‬وال ص‪RR‬لف الزعام‪RR‬ة‪ ،‬حيمالن‪RR‬ه على الرك‪RR‬ون‪ R‬املف‪RR‬رط لثقت‪RR‬ه‬
‫بنفسه‪ ..‬بل هو يلجأ اىل أمري املؤمنني يف املدينة وبينهما أبعاد وأبعاد‪ ،‬فريسل له كل يوم كتابا‪ ،‬ويتبادل‬
‫معه واملعركة الكربى على وشك النشوب‪ ،‬املشورة والرأي‪...‬‬
‫‪ | 80‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ذلك أن سعدا يعلم أن عمر يف املدينة ال يفيت وحده‪ ،‬وال يقرر وحجه‪ ..‬بل يستش‪RR‬ري ال‪RR‬ذين حول‪RR‬ه من‬
‫املس‪RR‬لمني ومن خي‪RR‬ار أص‪RR‬حاب رس‪RR‬ول اهلل‪ ..‬وس‪RR‬عد ال يري‪RR‬د ب‪RR‬رغم ك‪RR‬ل ظ‪RR‬روف احلرب‪ ،‬أن حيرم نفس‪RR‬ه‪،‬‬
‫وال أن حيرم جيشه‪ ،‬من بركة الشورى وجدواها‪ ،‬ال سيّما حني يكون بني أقطاهبا عمر امللهم العظيم‪..‬‬

‫**‬

‫وينفذ سعد وصية عمر‪ ،‬فريسل اىل رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه اىل اهلل واىل االسالم‪..‬‬
‫ويطول احلوار بينهم وبني قائد الفرس‪ ،‬وأخريا ينهون احلديث معه اذ يقول قائلهم‪:‬‬
‫" ان اهلل اختارنا ليخرج بن‪R‬ا من يش‪R‬اء من خلق‪R‬ه من الوثني‪R‬ة اىل التوحي‪RR‬د‪ ...‬ومن ض‪RR‬يق ال‪R‬دنيا اىل س‪R‬عتها‪،‬‬
‫ومن جور احلكام اىل عدل االسالم‪..‬‬
‫فمن قبل ذلك منا‪ ،‬قبلنا منه‪ ،‬ورجعنا عنه‪ ،‬ومن قاتلنا قاتلناه حىت نفضي اىل وعد اهلل‪"..‬‬
‫ويسأل رستم‪ :‬وما وعد اهلل الذي وعدكم اياه‪..‬؟؟‬
‫فيجيبه الصحايب‪:‬‬
‫" اجلنة لشهدائنا‪ ،‬والظفر ألحيائنا"‪.‬‬
‫ويعود لبوفد‪ R‬اىل قائد املسلمني سعد‪ ،‬ليخربوه أهنا احلرب‪..‬‬
‫ومتتلىء عينا سعد بالدموع‪..‬‬

‫لقد كان يود ل‪R‬و ت‪R‬أخرت املعرك‪R‬ة قليال‪ ،‬أو تق‪R‬دمت قليال‪ ..‬فيومئ‪R‬ذ ك‪R‬ان مرض‪R‬ه ق‪R‬د اش‪R‬تد علي‪R‬ه وثقلت‬
‫وطأت ‪RR‬ه‪ ..‬ومألت ال‪RR R‬دمامل جس‪RR R‬ده ح ‪RR‬ىت م‪RR R‬ا ك‪RR R‬ان يس‪RR R‬تطيع أن جيلس‪ ،‬فض‪RR R‬ال أن يعل‪RR R‬و ص‪RR R‬هوة ج‪RR R‬واده‬
‫وخيوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة‪!!..‬‬
‫فل ‪RR‬و أن املعرك ‪RR‬ة ج ‪RR‬اءت قب ‪RR‬ل أن ميرض ويس ‪RR‬قم‪ ،‬أولوأهنا اس ‪RR‬تأخرت ح ‪RR‬ىت يب ‪RR‬ل ويش ‪RR‬فى‪ ،‬اذن ألبلى فيه ‪RR‬ا‬
‫بالءه العظيم‪ ..‬أم‪RR‬ا اآلن‪ ..‬ولكن‪ ،‬ال‪ ،‬فرس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم علمهم أال يق‪RR‬ول أح‪RR‬دهم‪ :‬ل‪RR‬و‪.‬‬
‫ألن لو هذه تعين العجز‪ ،‬واملؤمن القوي‪ R‬ال يعدم احليلة‪ ،‬وال يعجز أبدا‪..‬‬
‫‪ | 81‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عنئذ هب األسد يف براثنه ووقف يف جيشه خطيبا‪ ،‬مستهال خطابه باآلية الكرمية‪:‬‬
‫(بسم اهلل الرمحن الرحيم‪..‬‬
‫ولقد كتبنا يف الزبور‪ R‬من بعد الذكر أن األرض‪ R‬يرثها عبادي الصاحلون)‪..‬‬
‫وبع ‪RR‬د فراغ ‪RR‬ه من خطبت ‪RR‬ه‪ ،‬ص ‪RR‬لى ب ‪RR‬اجليش ص ‪RR‬الة الظه ‪RR‬ر‪ ،‬مث اس ‪RR‬تقبل جن ‪RR‬وده مكرّب ا أربع ‪RR‬ا‪ :‬اهلل أك ‪RR‬رب‪ ..‬اهلل‬
‫أكرب‪ ..‬اهلل أكرب‪ ..‬اهلل أكرب‪..‬‬
‫وأوب م‪RR‬ع املك‪RR‬ربين‪ ،‬وم‪RR‬د ذراع‪RR‬ه كالس‪RR‬هم الناف‪R‬ذ‪ R‬مش‪RR‬ريا اىل الع‪RR‬دو‪ R،‬وص‪RR‬اح يف جن‪RR‬وده‪ :‬هي‪RR‬ا‬ ‫ودوى الكن ّ‬ ‫ّ‬
‫على بركة اهلل‪..‬‬

‫وص ‪RR R‬عد‪ R‬وه ‪RR R‬و متح ‪RR R‬امال على نفس ‪RR R‬ه وآالم ‪RR R‬ه اىل ش ‪RR R‬رفة ال ‪RR R‬دار ال ‪RR R‬يت ك ‪RR R‬ان ي ‪RR R‬نزل هبا ويتخ ‪RR R‬ذها مرك ‪RR R‬زا‬
‫لقيادته‪..‬ويف الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة‪ .‬باب داره مفت‪RR‬وح‪ ..‬وأق‪RR‬ل هج‪RR‬وم من الف‪RR‬رس‬
‫على الدار يسقطه يف أيديهم حيا أو ميتا‪ ..‬ولكنه ال يرهب وال خياف‪..‬‬
‫دمامل‪R‬ه تنبح وت‪RR‬نزف‪ ،‬ولكن‪RR‬ه عنه‪RR‬ا يف ش‪RR‬غل‪ ،‬فه‪RR‬و من الش‪RR‬رفة يك‪RR‬رب ويص‪RR‬يح‪ ..‬ويص‪RR‬در‪ R‬أوام‪RR‬ره هلؤالء‪ :‬أن‬
‫تق ‪ّ R‬دموا‪ R‬ص ‪RR‬وب امليمن ‪RR‬ة‪ ..‬وأللئ ‪RR‬ك‪ :‬أن س ‪RR‬دوا ثغ ‪RR‬رات امليس ‪RR‬رة‪ ..‬أمام ‪RR‬ك ي ‪RR‬ا مغ ‪RR‬رية‪ ..‬وراءهم ي ‪RR‬ا جري ‪RR‬ر‪..‬‬
‫اضرب يا نعمان‪ ..‬اهجم يا أشعث‪ ..‬وأنت يا قعقاع‪ ..‬تقدموا‪ R‬يا أصحاب حممد‪!!..‬‬
‫وكان صوته املفعم بقوة العزم واألمل‪ ،‬جيعل من كل جندي فردا‪ ،‬جيشا بأسره‪..‬‬
‫وهتاوى جنود الفرس كالذباب املرتنّح‪.‬ز وهتاوت معهم الوثنية وعبادة النار‪!!..‬‬
‫وط‪RR‬ارت فل‪RR‬وهلم املهزوم‪RR‬ة بع‪RR‬د أن رأوا مص‪RR‬رع قائ‪RR‬دهم وخ‪RR‬رية جن‪RR‬ودهم‪ ،‬وط‪RR‬اردهم ك‪RR‬اجليش املس‪RR‬لم ع‪RR‬ىت‬
‫هناوند‪ ..‬مث املدائن فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه‪ ،‬غنيمة وفيئا‪!!..‬‬

‫**‬

‫ويف موقعة املدائن أبلى سعد بالء عظيما‪..‬‬


‫‪ | 82‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت موقعة املدائن‪ ،‬بعد موقعة القادسية بقرابة عامني‪ ،‬جرت خالهلما مناوشات مستمرة بني الفرس‬
‫واملس‪RR R‬لمني‪ ،‬ح‪RR R‬ىت جتمعن ك‪RR R‬ل فل‪RR R‬ول اجليش الفارس ‪R R‬ي‪ R‬ويقاي ‪RR‬اه يف املدائن نفس‪RR R‬ها‪ ،‬متأهب‪RR R‬ة ملوق‪RR R‬ف أخ‪RR R‬ري‬
‫وفاصل‪..‬‬
‫وأدرك س‪RR‬عد أن ال‪RR‬وقت س‪RR‬يكون جبانب أعدائ‪RR‬ه‪ .‬فق‪RR‬رر أن يس‪RR‬لبهم ه‪RR‬ذه املزي‪RR‬ة‪ ..‬ولكن أىّن ل‪RR‬ه ذل‪RR‬ك وبين‪RR‬ه‬
‫وبني املدائن هنر دجلة يف موسم فيضانه وجيشانه‪..‬‬
‫هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرمحن بن عوف األسد يف براثنه‪!!..‬‬

‫ويتسوران املستحيل يف استبسال عظيم‪!!..‬‬ ‫ّ‬ ‫ان اميان سعد وتصميمه ليتألقان يف وجه اخلطر‪،‬‬
‫وهكذا أصدر سعد أمره اىل جيشه بعبور هنر دجلة‪ ..‬وأمر بالبحث عن خماضة يف النه‪RR‬ر مت ّكن من عب‪RR‬ور‬
‫هذا النهر‪ ..‬وأخريا عثروا على مكان ال خيلو عبوره من املخاطر البالغة‪..‬‬

‫وقب ‪RR‬ل أن يب ‪RR‬دأ اجليش اجليش عملي ‪RR‬ة املرور فطن القائ ‪RR‬د س ‪RR‬عد اىل وج ‪RR‬وب ت ‪RR‬أمني مك ‪RR‬ان الوص ‪RR‬ول على‬
‫الضفة األخرى اليت يرابط العطو حوهلا‪ ..‬وعندئذ جهز كتيبتني‪..‬‬
‫وأم‪RR‬ر‬
‫وأم‪RR‬ر س ‪RR‬عد عليه ‪RR‬ا عاص ‪RR‬م ابنعم ‪RR‬رو والثاني ‪RR‬ة‪ :‬امسها الكتيب ‪RR‬ة اخلرس ‪RR‬اء ّ‬
‫األوىل‪ :‬وامسها كتيب ‪RR‬ة األه ‪RR‬وال ّ‬
‫عليها القعقاع ابن عمرو‪..‬‬

‫وكان على جنود ه‪R‬اتني الكتيب‪R‬تني أن خيوض‪R‬وا‪ R‬األه‪R‬وال لكي يفس‪R‬حوا على الض‪R‬فة األخ‪R‬رى مكان‪R‬ا آمن‪R‬ا‬
‫للجيش العابر على أثرهم‪ ..‬ولقد أدوا العمل مبهارة مذهلة‪..‬‬
‫وجنحت خطة سعد يومئذ جناحا يذهل له املؤرخون‪..‬‬
‫جناحا أذهل سعد بن أيب وقاص نفسه‪..‬‬
‫وأذه ‪RR‬ل ص ‪RR‬احبه ورفيق ‪RR‬ه يف املعرك ‪RR‬ة س ‪RR‬لمان الفارس ‪RR‬ي ال ‪RR‬ذي‪ R‬أخ ‪RR‬ذ يض ‪RR‬رب كف ‪RR‬ا بك ‪RR‬ف دهش ‪RR‬ة وغبط ‪RR‬ة‪،‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫" ان االسالم جديد‪..‬‬
‫‪ | 83‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الرب‪..‬‬
‫ذلّلت واهلل هلم البحار‪ ،‬كما ذلّل هلم ّ‬
‫ليخرجن منه أفواجا‪ ،‬كما دخلوه أفواحا"‪!!..‬‬ ‫ّ‬ ‫والذي‪ R‬نفس سلمان بيده‬
‫ولق ‪R‬د‪ R‬ك‪RR‬ان ‪ ..‬وكم‪RR‬ا اقتحم‪RR‬وا هنر دجل‪RR‬ة أفواج‪RR‬ا‪ ،‬خرج‪RR‬وا من‪RR‬ه أفواج‪RR‬ا مل خيس‪RR‬روا جن‪RR‬ديا واح‪RR‬دا‪ ،‬ب‪RR‬ل مل‬
‫تضع منهم شكيمة فرس‪..‬‬

‫ولق ‪R‬د‪ R‬س‪RR‬قط من أح‪RR‬د املق‪RR‬اتلني قدح‪RR‬ه‪ ،‬فع‪RR‬ز علي‪RR‬ه أن يك‪RR‬ون الوحي‪RR‬د بني رفاق‪RR‬ه ال‪RR‬ذي‪ R‬يض‪RR‬يع من‪RR‬ه ش‪RR‬يء‪،‬‬
‫فن‪RR R‬ادى يف أص‪RR R‬حابه ليع‪RR R‬اونوه على انتش‪RR R‬اله‪ ،‬ودفعت‪RR R‬ه موج‪RR R‬ة عالي‪RR R‬ة اىل حيث اس‪RR R‬تطاع بعض الع‪RR R‬ابرين‬
‫التقاطه‪!!..‬‬

‫وتصف لنا احدى الروايات التارخيية‪ ،‬روعة املشهد وهم يعربون دجلة‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫[أمر سعد املسلمني أن يقولوا‪ :‬حسبنا اهلل ونعم الوكيل‪ ..‬مث اقتحم بفرسه دجلة‪ ،‬واقتحم‪ R‬الناس وراءه‪،‬‬
‫مل يتخل‪RR‬ف عن‪RR‬ه أح‪RR‬د‪ ،‬فس‪RR‬اروا‪ R‬فيه‪RR‬ا كأمنا يس‪RR‬ريون على وج‪R‬ه األرض‪ R‬ح‪RR‬ىت مل‪RR‬ؤا م‪RR‬ا بني اجلانبني‪ ،‬ومل يع‪RR‬د‬
‫وجه املاء يرى من أفواج الفرسان واملشاة‪ ،‬وجع‪RR‬ل الن‪RR‬اس يتح‪RR‬دثون وهم يس‪RR‬ريون على وج‪RR‬ه املاء ك‪RR‬أهنم‬
‫يتحدون على وجه األرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة واألمن‪ ،‬والوثوق‪ R‬ب‪RR‬أمر اهلل ونص‪RR‬ره‬
‫ووعيده وتأييده]‪!!..‬‬

‫ويعم‪R‬ر‪ ..‬ك‪Rّ R‬وف الكوف‪R‬ة‪ ،‬وأرس‪R‬ى قواع‪RR‬د االس‪R‬الم‬


‫ويوم وىل عمر سعدا امارة العراق‪ ،‬راح يبين للناس ّ‪R‬‬
‫يف البالد العريضة الواسعة‪..‬‬
‫وذات ي‪RR‬وم ش‪RR‬كاه أه‪RR‬ل الكوف‪RR‬ة ألم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني‪ ..‬لق‪RR‬د غلبهم طبعهم املتم‪Rّ R‬رد‪ ،‬فزعم‪RR‬وا زعمهم الض‪RR‬احك‪،‬‬
‫قالوا‪ ":‬ان سعدا ال حيسن يصلي"‪!!..‬‬
‫ويضحك سعد من ملء فاه‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫"واهلل اين ألصلي هبم صالة رسول اهلل‪ ..‬أطيل يف الركعتني األوليني‪ ،‬وأقصر يف األخريني"‪..‬‬
‫ويستدعيه عمر اىل املدينة‪ ،‬فال يغضب‪ ،‬بل يليب نداءه من فوره‪..‬‬
‫‪ | 84‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبعد حني يعتزم عمر ارجاعه اىل الكوفة‪ ،‬فيجيب سعد ضاحكا‪:‬‬
‫" اأمترين أن أعود اىل قوم يزعمون أين ال أحسن الصالة"‪..‬؟؟‬
‫ويؤثر البقاء يف املدينة‪..‬‬

‫وحني اعت‪RR‬دي على أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني عم‪RR‬ر رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه وأرض‪RR‬اه‪ ،‬اخت‪RR‬ار من بني أص‪RR‬حاب الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬ستة رجال‪ ،‬ليكون اليهم‪ R‬أمر اخلليفة اجلديد قائال انه اختار ستة مات رس‪RR‬ول اهلل وه‪RR‬و‬
‫عنهم راض‪ ..‬وكان من بينهم سعد بن أيب وقاص‪.‬‬
‫بل يبدو من كلمات عمر األخرية‪ ،‬أنه لو كان خمتارا خلالفة واحدا من الصحابة الختار سعدا‪..‬‬
‫فقد قال ألصحابه وهو يودعهم ويوصيهم‪:‬‬
‫" ان وليها سعد فذاك‪..‬‬
‫وان وليه غريه فليستعن بسعد"‪.‬‬

‫**‬

‫وميت ‪RR‬د العم ‪RR‬ر بس ‪RR‬عج‪ ..‬وجتيء الفتن ‪RR‬ة الك ‪RR‬ربى‪ ،‬فيعتزهلا ب ‪RR‬ل وي ‪RR‬أمر أهل ‪RR‬ه وأوالده أال ينقل ‪RR‬وا الي ‪RR‬ه ش ‪RR‬يئا من‬
‫أخبارها‪..‬‬
‫وذات يوم تشرئب األعناق حنوه‪ ،‬ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أيب وقاص‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫يا عم‪ ،‬ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس هبذا األمر‪.‬‬
‫فيجيبه سعد‪:‬‬
‫" أريد من مائة ألف سيف‪ ،‬سيفا واح‪RR‬دا‪ ..‬اذا ض‪RR‬ربت ب‪R‬ه املؤمن مل يص‪RR‬نع ش‪RR‬يئا‪ ،‬واذا ض‪RR‬ربت ب‪R‬ه الك‪RR‬افر‬
‫قطع"‪!!..‬‬
‫ويدرك ابن أخيه غرضه‪ ،‬ويرتكه يف عزلته وسالمه‪..‬‬
‫وحني انتهى األمر ملعاوية‪ ،‬واستقرت بيده مقاليد احلكم سأل سعدا‪:‬‬
‫‪ | 85‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مالك مل تقاتل معنا‪..‬؟؟‬


‫فأجابه‪:‬‬
‫" اين مررت بريح مظلمة‪ ،‬فقلت‪ :‬أخ ‪ ..‬أخ‪..‬‬
‫واختذت من راحليت حىت اجنلت عين‪"..‬‬
‫فقل زعاوية‪ :‬ليس يف كتاب اهلل أخ‪ ..‬أخ‪ ..‬ولكن قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫(وان طائفتان من املؤمنني اقتتل‪R‬وا‪ ،‬فأص‪R‬لحوا بينهم‪R‬ا‪ ،‬ف‪R‬ان بغت اح‪R‬دامها على األخ‪R‬رى‪ ،‬فق‪R‬اتلوا ال‪R‬يت تبغي‬
‫حىت تفيء اىل أمر اهلل)‪.‬‬
‫وأنت مل تكن مع الباغية على العادلة‪ ،‬وال مع العادلة على الباغية‪.‬‬
‫أجابه سعد قائال‪:‬‬
‫" ما كنت ألقاتل رجال قال له رسول اهلل‪ :‬أنت مين مبنزلة هرون من موسى اال أنه ال نيب بعدي"‪.‬‬

‫**‬

‫وذات ي‪RR‬وم من أي‪RR‬ام الراب‪RR‬ع واخلمس‪RR‬ني للهج‪RR‬رة‪ ،‬وق‪RR‬د ج‪RR‬اوز س‪RR‬عد الثم‪RR‬انني‪ ،‬ك‪RR‬ان هن‪RR‬اك يف داره ب‪RR‬العقيق‬
‫يتهيأ لقاء اهلل‪.‬‬
‫ويروي لنا ولده حلظاته األخرية فيقول‪:‬‬
‫بين‪..‬؟؟‬
‫[ كان رأس أيب يف حجري‪ ،‬وهو يقضي‪ ،‬فبكيت وقال‪ :‬ما يبكيك يا ّ‬
‫ان اهلل ال يعذبين أبدا وأين من أهل اجلنة]‪!!..‬‬
‫ان صالبة اميانه ال يوهنها حىت رهبة املةت وزلزاله‪.‬‬
‫ولق ‪R‬د‪ R‬بش ‪RR‬ره الرس ‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس ‪RR‬الم‪ ،‬وه ‪RR‬و م‪RR‬ؤمن بص ‪RR‬دق الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص ‪RR‬الة والس‪RR‬الم أوث‪RR‬ق‬
‫اميان‪..‬ز واذن ففيم اخلوف‪..‬؟‬
‫[ ان اهلل ال يعذبيت أبدا‪ ،‬واين من أهل اجلنة]‪.‬‬
‫‪ | 86‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫بي‪RR‬د أن‪RR‬ه يري‪RR‬د أن يلقى اهلل وه‪RR‬و حيم‪RR‬ل أروع وأمجل ت‪RR‬ذكار مجع‪RR‬ه بدين‪RR‬ه ووص‪RR‬له برس‪RR‬وله‪ ..‬ومن مثّ فق‪RR‬د‬
‫أشار اىل خزانته ففتوحها‪ ،‬مث أخرجوا منها رداء قدميا قي بلي وأخلق‪ ،‬مث أمر أهله أن يكفنوه فيه قائال‪:‬‬
‫[ لقد لقيت املشركني فيه يوم بدر‪ ،‬ولقد ادخرته هلذا اليوم]‪!!..‬‬

‫جمرد ث ‪RR‬وب‪ ..‬ان ‪RR‬ه العلم ال ‪RR‬ذي‪ R‬خيف ‪RR‬ق ف ‪RR‬وق حي ‪RR‬اة مدي ‪RR‬دة ش ‪RR‬اخمة عاش ‪RR‬ها‬
‫اج ‪RR‬ل‪ ،‬ان ذل ‪RR‬ك الث ‪RR‬وب مل يع ‪RR‬د ّ‬
‫صاحبها مؤمنا‪ ،‬صادقا شجاعا!!‬
‫وفوق أعناق الرجال محل اىل املدين‪R‬ة جثم‪R‬ان آخ‪R‬ر امله‪R‬اجرين وف‪R‬اة‪ ،‬ليأخ‪R‬ذ مكان‪R‬ه يف س‪R‬الم اىل ج‪R‬وار ثل‪R‬ة‬
‫ط‪RR‬اهرة عظيم‪RR‬ة من رفاق‪RR‬ه ال‪RR‬ذين س‪RR‬بقوه اىل اهلل‪ ،‬ووج‪RR‬دت أجس‪RR‬امهم الكادح‪RR‬ة مرف‪RR‬أ هلا يف ت‪RR‬راب البقي‪RR‬ع‬
‫وثراه‪.‬‬

‫**‬

‫وداعا يا سعد‪!!..‬‬
‫وداعا يا بطل القادسية‪ ،‬وفاتح املدائن‪ ،‬ومطفىء النار‪ R‬املعبودة يف فارس اىل األبد‪!!..‬‬

‫صهيب بن سنان‬
‫ربح البيع يا أبا حيىي!!‬

‫ولد يف أحضان النعيم‪..‬‬


‫فق ‪RR‬د اكن أب ‪RR‬وه ح ‪RR‬اكم األبلّ ‪RR‬ة وولي ‪RR‬ا عليه ‪RR‬ا لكس ‪RR‬رى‪ ..‬وك ‪RR‬ان من الع ‪RR‬رب ال ‪RR‬ذين نزح ‪RR‬وا اىل الع ‪RR‬راق قب ‪RR‬ل‬
‫االس‪RR‬الم بعه‪RR‬د طوي‪RR‬ل‪ ،‬ويف قص‪RR‬ره الق ‪RR‬ائم على ش ‪RR‬اطئ الف ‪RR‬رات‪ ،‬مما يلي اجلزي‪RR‬رة واملوص ‪RR‬ل‪ ،‬ع‪RR‬اش الطف ‪RR‬ل‬
‫ناعما سعيدا‪..‬‬
‫‪ | 87‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وذات يوم تعرضت البالد هلجوم الروم‪ ..‬وأس‪RR‬ر املغ‪RR‬ريون أع‪RR‬دادا كث‪RR‬رية وس‪RR‬بوا ذل‪RR‬ك الغالم " ص‪RR‬هيب بن‬
‫سنان"‪..‬‬
‫ويقتنص‪RR‬ه جتار الرقي‪RR‬ق‪ ،‬وينتهي طواف‪RR‬ه اىل مك‪RR‬ة‪ ،‬حيث بي‪RR‬ع لعب‪RR‬د اهلل بن ج‪RR‬دعان‪ ،‬بع‪RR‬د أن قض‪RR‬ى طفولت‪RR‬ه‬
‫وشبابه يف بالد الروم‪ ،‬حىت أخذ لساهنم‪ R‬وهلجتهم‪.‬‬
‫ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخالصه‪ ،‬فيعتقه وحيرره‪ ،‬ويهيء له فرصة االجتار‪ R‬معه‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ..‬ولندع صديقع عمار بن ياسر حيدثنا عن ذلك اليوم‪:‬‬
‫" لقيت صهيب بن سنان على باب دار األرقم‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيها‪..‬‬
‫فقلت له‪ :‬ماذا تريد‪..‬؟‬
‫فأجابين وما تريد أنت‪..‬؟‬
‫قلت له‪ :‬أريد أن أدخل على حممد‪ ،‬فأمسع ما يقول‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأنا اريد ذلك‪..‬‬
‫فدخلنا على الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فعرض علينا االسالم فأسلمنا‪.‬‬
‫مث مكثنا على ذلك حىت أمسينا‪..‬‬
‫مث خرجنا وحنن مستخفيان"‪!!.‬‬

‫عرف صهيب طريقع اذن اىل دار األرقم‪..‬‬


‫عرف طريقه اىل اهلدى والنور‪ ،‬وأيضا اىل التضحية الشاقة والفداء العظيم‪..‬‬
‫جمرد ختطي عتب‪RR‬ة‪..‬‬ ‫فعب‪RR‬ور‪ R‬الب‪RR‬اب اخلش‪RR‬يب ال‪RR‬ذي ك‪RR‬ان يفص‪RR‬ل داخ‪RR‬ل دار األرقم عن خارجه‪RR‬ا مل يكن يع‪RR‬ين ّ‬
‫بل كان يعين ختطي حدود عامل بأسره‪!..‬‬
‫عامل قدمي بكل ما ميثله من دين وخلق‪ ،‬ونظام وحياة‪..‬‬
‫وختطي عتب‪RR‬ة دار األرقم‪ ،‬ال‪RR‬يت مل يكن عرض‪RR‬ها ليزي‪RR‬د عن ق‪RR‬دم واح‪RR‬دة ك‪RR‬ان يع‪RR‬ين يف حقيق‪RR‬ة األم‪RR‬ر وواقع‪RR‬ه‬
‫خضم من األهوال‪ ،‬واسع‪ ،‬وعريض‪..‬‬ ‫عبور ّ‬
‫واقتحام تلك العتبة‪ ،‬كان ايذانا بعهد زاخر باملسؤليات اجلسام‪!..‬‬
‫‪ | 88‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبالنسبة للفقراء‪ ،‬والغرب‪RR‬اء‪ ،‬والرقي‪RR‬ق‪ ،‬ك‪R‬ان اقتح‪R‬ام عقب‪R‬ة دار األرقم‪ R‬يع‪R‬ين تض‪RR‬حية تف‪R‬وق ك‪RR‬ل م‪R‬ألوف من‬
‫طاقات البشر‪.‬‬

‫عم‪R‬ار بن ياس‪R‬ر رج‪R‬ل فق‪R‬ري‪..‬‬ ‫وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب‪ ..‬وصديقه الذي‪ R‬لقي‪R‬ه على ب‪R‬اب ال‪R‬دار‪ّ ،‬‬
‫ويشمران سواعدمها ملالقاته‪..‬؟؟‬‫فما باهلما يستقبالن اهلول ّ‬
‫انه نداء االميان الذي ال يقاوم‪..‬‬
‫واهنا مشائل حممد‪ R‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬الذي‪ R‬ميلؤ عبريها أفئدة األبرار هدى وحبا‪..‬‬
‫واهنا روعة اجلديد املشرق‪ .‬تبهر عقوال سئمت عفونة القدمي‪ ،‬وضالله وافالسه‪..‬‬
‫واهنا قبل هذا كله رمحة اهلل يصيب هبا من يشاء‪ ..‬وهداه يهدي اليه من ينيب‪...‬‬
‫أخذ صهيب مكانه يف قافلة املؤمنني‪..‬‬
‫وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بني صفوف املضطهدين واملعذبني‪!!..‬‬
‫ومكانا عاليا كذلك بني صفوف الباذلني واملفتدين‪..‬‬
‫وان ‪RR‬ه ليتح ‪RR‬دث ص ‪RR‬ادقا عن والئ ‪RR‬ه العظيم ملس ‪RR‬ؤولياته كمس ‪RR‬لم‪ R‬ب ‪RR‬ايع الرس ‪RR‬ول‪ ،‬وس ‪RR‬ار حتت راي ‪RR‬ة االس ‪RR‬الم‬
‫فيقول‪:‬‬
‫" مل يشهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مشهدا‪ R‬قط اال كنت حاضره‪..‬‬
‫ومل يبايع بيعة قط اال كنت حاضرها‪..‬‬
‫وال يسر سرية قط‪ .‬اال كنت حاضرها‪..‬‬
‫وال غزا غزاة قط‪ّ ،‬أول الزمان وآخره‪ ،‬اال منت فيها عن ميينه أ‪ ،‬مشاله‪..‬‬
‫وما خاف املسلمون أمامهم قط‪ ،‬اال كنت أمامهم‪..‬‬
‫وال خافوا وراءهم اال كنت وراءهم‪..‬‬
‫االعدو أبدا حىت لقي ربه"‪!!..‬‬ ‫وما جعلت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيين وبني ّ‬
‫هذه صورة باهرة‪ ،‬الميان فذ ووالء عظيم‪..‬‬
‫‪ | 89‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد كان صهيب رضي اهلل عنه وعن اخوانه أمجعني‪ ،‬أهال هلذا االميان املتفوق من أول يوم استقبل فيه‬
‫نور اهلل‪ ،‬ووضع‪ R‬ميينه يف يكني الرسول‪..‬‬
‫يومئذ أخذت عالقاته بالن‪R‬اس‪ ،‬وبال‪R‬دنيا‪ ،‬ب‪R‬ل وبنفس‪R‬ه‪ ،‬طابع‪R‬ا جدي‪RR‬دا‪ .‬يومئ‪RR‬ذ‪ .‬امتش‪R‬ق نفس‪R‬ا ص‪R‬لبة‪ ،‬زاه‪RR‬دة‬
‫فريوعها‪.‬‬
‫فيطوعها‪ .‬واألهوال ّ‬ ‫متفانية‪ .‬وراح‪ R‬يستقبل هبا األحداث ّ‬
‫ولق ‪RR‬د مض ‪RR‬ى يواج ‪RR‬ه تبعات ‪RR‬ه يف اق ‪RR‬دام وجس ‪RR‬ور‪.‬ز فال يتخل ‪RR‬ف عن مش ‪RR‬هد وال عن خط ‪RR‬ر‪ ..‬منص ‪RR‬رفا ولع ‪RR‬ه‬
‫وشغفه عن الغنائم اىل املغارم‪ ..‬وعن شهوة احلياة‪ ،‬اىل عشق اخلطر وحب املوت‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬افتتح أي‪R‬ام نض‪R‬اله النبي‪R‬ل ووالئ‪R‬ه اجللي‪R‬ل بي‪R‬وم هجرت‪R‬ه‪ ،‬ففي ذل‪R‬ك الي‪R‬وم‪ R‬ختلى عن ك‪R‬ل ثروت‪R‬ه ومجي‪R‬ع‬
‫ذهب‪RR‬ه ال‪RR‬ذي أفاءت‪RR‬ه علي‪RR‬ه جتارت‪RR‬ه الراحبة خالل س‪RR‬نوات كث‪RR‬رية قض‪RR‬اها يف مك‪RR‬ة‪ ..‬ختلى عن ك‪RR‬ل ه‪RR‬ذه ال‪RR‬ثروة‬
‫وهي كل ما ميلك يف حلظة مل يشب جالهلا تردد وال نكوص‪.‬‬
‫هم الرس‪RR‬ول ب‪RR‬اهلجرة‪ ،‬علم ص‪RR‬هيب هبا‪ ،‬وك‪RR‬ان املف‪RR‬روض أن يك‪RR‬ون ث‪RR‬الث ثالث‪RR‬ة‪ ،‬هم الرس‪RR‬ول‪..‬‬ ‫فعن‪RR‬دما ّ‬
‫وأبو بكر‪ ..‬وصهيب‪..‬‬
‫بيد أن القرشيني كانوا قد بيتوا أمرهم ملنع هجرة الرسول‪..‬‬
‫فعوق عن اهلجرة بعض الوقت‪ R‬بينم‪RR‬ا ك‪RR‬ان الرس‪RR‬ول وص‪RR‬احبه ق‪RR‬د اختذا‬ ‫ووقع صهيب يف بعض فخاخهم‪ّ ،‬‬
‫سبيلهما على بركة اهلل‪..‬‬
‫وح‪RR‬اور ص‪RR‬هيب وداور‪ ،‬ح‪RR‬ىت اس‪RR‬تطاع أن يفلت من ش‪RR‬انئيه‪ ،‬وامتطى ظه‪RR‬ر ناقت‪RR‬ه‪ ،‬وانطل‪RR‬ق هبا الص‪RR‬حراء‬
‫وثبا‪..‬‬
‫بيد أن قريشا أرسلت يف أثره قناصتها فأدركوهخ‪ ..‬ومل يكد صهيب يراهم وي‪RR‬واجههم‪ R‬من ق‪RR‬ريب ح‪RR‬ىت‬
‫صاح فيهم قائال‪:‬‬
‫" يا معشر قريش‪..‬‬
‫ايل ح ‪RR‬ىت ارمي كب ‪RR‬ل س ‪RR‬هم معي يف كن ‪RR‬انيت مث‬
‫لق ‪RR‬د علمتم أين من أرم ‪RR‬اكم رجال‪ ..‬وأمي واهلل ال تص ‪RR‬لون ّ‬
‫أضربكم بسيفي حىت ال يبقى يف يدي منه شيء‪ ،‬فأقدموا ان شئتم‪..‬‬
‫وان شئتم دللتكم على مايل‪ ،‬وترتكوين وشاين"‪..‬‬
‫‪ | 90‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد‪ R‬استاموا ألنفسهم‪ ،‬وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلني له‪:‬‬


‫أتيتنا صعلوكا فقريا‪ ،‬فكثر مالك عندنا‪ ،‬وبلغت بيننا ما بلغت‪ ،‬واآلن تنطلق بنفسك ومبالك‪..‬؟؟‬
‫فدهلم على املكان الذي‪ R‬خبأ فيه ثروته‪ ،‬وتركوه وشأنه‪ ،‬وقفلوا اىل مكة راجعني‪..‬‬

‫والعجب أهنم ص‪RR‬دقوا‪ R‬قول‪RR‬ه يف غ‪RR‬ري ش‪RR‬ك‪ ،‬ويف غ‪RR‬ري ح‪RR‬ذر‪ ،‬فلم يس‪RR‬ألوه بيّن‪RR‬ة‪ ..‬ب‪RR‬ل ومل يس‪RR‬تحلفوه على‬
‫صدقه‪ !!..‬وهذا موقف يضفي على صهيب كثريا‪ R‬من العظمة يستحقها كونه صادق وأمني‪!!..‬‬
‫واستأنف صهيب‪ R‬هجرته وحيدا سعيدا‪ ،‬حىت أردك الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف قباء‪..‬‬

‫كان الرسول حالسا وحوله بعض أصحابه حني أهل عليهم صهيب ومل يك‪RR‬د ي‪R‬راه الرس‪RR‬ول ح‪R‬ىت ن‪R‬اداه‬
‫متهالا‪:‬‬
‫" ربح البيع أبا حيىي‪!!..‬‬
‫ربح البيع أبا حيىي‪!!..‬‬
‫وآنئذ نزلت اآلية الكرمية‪:‬‬
‫( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اهلل‪ ،‬واهلل رؤوف بالعباد)‪..‬‬

‫أجل لق‪R‬د اش‪R‬رتى ص‪R‬هيب نفس‪R‬ه املؤمن‪R‬ة ابتغ‪R‬اء مرض‪R‬ات اهلل بك‪R‬ل ثروت‪R‬ه ال‪R‬يت أنف‪R‬ق ش‪R‬بابه يف مجعه‪R‬ا‪ ،‬ومل‬
‫حيس قط أنه املغبون‪..‬‬
‫فم ‪RR‬ال املال‪ ،‬وم ‪RR‬ا ال ‪RR‬ذهب وم ‪RR‬ا ال ‪RR‬دنيا‪ R‬كله ‪RR‬ا‪ ،‬اذا بقي ل ‪RR‬ه اميان ‪RR‬ه‪ ،‬واذا بقيت لض ‪RR‬مريه س ‪RR‬يادته‪ ..‬وملص ‪RR‬ريه‬
‫ارادته‪..‬؟؟‬
‫كان الرسول حيبه كثريا‪ ..‬وكان صهيب اىل جانب ورعه وتقواه‪ ،‬خفيف الروح‪ ،‬حاضر النكتة‪..‬‬
‫رآه الرسول يأكل رطبا‪ ،‬وكان باحدى عينيه رمد‪..‬‬
‫فقال له الرسول ضاحكا‪ ":‬أتأكل الرطب ويف عينيك رمد"‪..‬؟‬
‫فأجاب قائال‪ ":‬وأي بأس‪..‬؟ اين آكله بعيين اآلخرى"‪!!..‬‬
‫‪ | 91‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وك‪RR‬ان ج‪Rّ R‬وادا معط‪RR‬اء‪ ..‬ينف‪RR‬ق ك‪RR‬ل عطائ‪RR‬ه من بيت املال يف س‪RR‬بيل اهلل‪ ،‬يعني حمتاج‪RR‬ا‪ ..‬يغيث مكروب ‪RR‬ا‪"..‬‬
‫ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسريا"‪.‬‬
‫حىت لقد أثار سخاؤه املفرط انتباه عمر فقال له‪ :‬أراك تطعم كثريا حىت انك لتسرف‪..‬؟‬
‫فأجابه صهيب لقد مسعت رسول اهلل يقول‪:‬‬
‫" خياركم من أطعم الطعام"‪.‬‬

‫**‬

‫ولئن كانت حياة صهيب مرتعة باملزايا والعظ‪R‬ائم‪ ،‬ف‪R‬ان اختي‪R‬ار عم‪R‬ر بن اخلط‪R‬اب اي‪R‬اه لي‪R‬ؤم املس‪R‬لمني يف‬
‫الصالة مزية متأل حياته ألفة وعظمة‪..‬‬
‫فعندما اعتدي على أمري املؤمنني وهو يصلي باملسلمني صالة الفجر‪..‬‬
‫وعندما احس هناية األجل‪ ،‬فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته األخرية قال‪:‬‬
‫وليصل بالناس صهيب"‪..‬‬
‫ّ‬ ‫"‬
‫لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة‪ ،‬ووكل اليهم‪ R‬أمر اخلليفة اجلديد‪..‬‬

‫وخليف‪RR‬ة املس‪RR‬لمني ه‪RR‬و ال‪RR‬ذي ي‪RR‬ؤمهم يف الص‪RR‬الة‪ ،‬ففي األي‪RR‬ام الش‪RR‬اغرة بني وف‪RR‬اة أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني‪ ،‬واختي‪RR‬ار‬
‫اخلليفة اجلديد‪ ،‬من يؤم املسلمني يف الصالة‪..‬؟‬
‫ان عم‪RR‬ر وخاص‪RR‬ة يف تل‪RR‬ك الللحظ‪RR‬ات ال‪RR‬يت تأخ‪RR‬ذ فيه‪RR‬ا روح‪RR‬ه الط‪RR‬اهرة طريقه‪RR‬ا اىل اهلل ليس‪RR‬تأين أل‪RR‬ف م‪RR‬رة‬
‫قبل أن خيتار‪ ..‬فاذا اختار‪ ،‬فال أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه االختيار‪..‬‬
‫ولقد اختار عمر صهيبا‪..‬‬
‫اختاره ليكون امام املسلمني يف الصالة حىت ينهض اخلليفة اجلديد‪ ..‬بأعباء مهمته‪..‬‬
‫اختاره وه‪R‬و يعلم أن يف لس‪R‬انه عجم‪R‬ة‪ ،‬فك‪R‬ان ه‪R‬ذا االختي‪R‬ار من متام نعم‪R‬ة اهلل على عب‪R‬ده الص‪R‬احل ص‪R‬هيب‬
‫بن سنان‪..‬‬
‫‪ | 92‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫معاذ بن جبل‬
‫أعلمهم باحلالل واحلرام‬

‫عن‪RR‬دما ك‪RR‬ان الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم يب‪RR‬ابع األنص‪RR‬ار‪ R‬بيع‪RR‬ة العقب‪RR‬ة الثاني‪RR‬ة‪ .‬ك‪RR‬ان جيلس بني الس‪RR‬بعني‬
‫يتكون منهم وفدهم‪ ،‬شاب مشرق الوجه‪ ،‬رائع النظرة‪ّ ،‬براق الثنايا‪ ..‬يبهر األبص‪RR‬ار هبوئ‪RR‬ه ومسته‪.‬‬ ‫الذين ّ‬
‫فاذا حت ّدث ازدادت األبصار انبهارا‪!!..‬‬
‫ذلك كان معاذ بن جبل رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫هو اذن رجل من األنصار‪ ،‬بايع يوم العقبة الثانية‪ ،‬فصار من السابقني األولني‪.‬‬
‫ورج‪RR‬ل ل‪RR‬ه مث‪RR‬ل اس‪RR‬بقيته‪ ،‬ومث‪RR‬ل اميان‪RR‬ه ويقين‪RR‬ه‪ ،‬ال يتخل‪RR‬ف عن رس‪RR‬ول اهلل يف مش‪RR‬هد وال يف غ‪RR‬زاة‪ .‬وهك‪RR‬ذا‬
‫صنع معاذ‪..‬‬
‫على أن آلق مزاياه‪ ،‬وأعظم خصائصه‪ ،‬كان فقهه‪..‬‬
‫بلغ من الفقه والعلم املدى الذي جعله أهال لقول الرسول عنه‪:‬‬
‫" أعلم أميت باحلالل واحلرام معاذ بن جبل"‪..‬‬
‫وكان شبيه عمر بن اخلطاب يف استنارة عقله‪ ،‬وشجاعة ذكائه‪ .‬سأأله الرسول حني وجهه اىل اليمن‪:‬‬
‫" مبا تقضي يا معاذ؟"‬
‫فأجابه قائال‪ " :‬بكتاب اهلل"‪..‬‬
‫قال الرسول‪ " :‬فان مل جتد يف كتاب اهلل"‪..‬؟‬
‫"أقضي بسنة رسوله"‪..‬‬
‫قال الرسول‪ " :‬فان مل جتد يف سنة رسوله"‪..‬؟‬
‫قال معاذ‪ ":‬أجتهد رأيي‪ ،‬وال آلوا"‪..‬‬
‫فتهلل وجه الرسول وقال‪:‬‬
‫" احلمد هلل الذي‪ R‬وفق رسول رسول اهلل ملا يرضي رسول اهلل"‪.‬‬
‫‪ | 93‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ف ‪RR‬والء مع ‪RR‬اذ لكت ‪RR‬اب اهلل‪ ،‬ولس ‪RR‬نة رس ‪RR‬وله ال حيجب عقل ‪RR‬ه عن متابع ‪RR‬ة رؤاه‪ ،‬وال حيجب عن عقل ‪RR‬ه تل ‪RR‬ك‬
‫املتسرة‪ ،‬اليت تنتظر من يكتشفها ويواجهها‪.‬‬
‫احلقائق اهلائلة ّ‬
‫ولع‪RR‬ل ه‪RR‬ذه الق‪RR‬درة على االجته‪RR‬اد‪ ،‬والش‪RR‬جاعة يف اس‪RR‬تعمال ال‪RR‬ذكاء‪ R‬والعق‪RR‬ل‪ ،‬مها اللت‪RR‬ان مكنت‪RR‬ا مع‪RR‬اذا من‬
‫ثرائه الفقهي‪ R‬الذي فاق به أقرانه واخوانه‪ ،‬صار كما وصفه الرسول عليه الصالة والسالم " أعلم الن‪RR‬اس‬
‫باحلالل واحلرام"‪.‬‬
‫وان الروايات التارخيية لتصوره العقل املضيء احلازم الذي‪ R‬حيسن الفصل يف األمور‪..‬‬
‫فه‪RR‬ذا عائ‪RR‬ذ اهلل بن عبداهلل حيدثنا ان‪RR‬ه دخ‪RR‬ل املس‪RR‬جد يوم‪RR‬ا م‪RR‬ع أص‪RR‬حاب الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يف‬
‫أول خالفة عمر‪..‬قال‪:‬‬
‫" فجلس‪R‬ت جملس‪R‬ا في‪R‬ه بض‪R‬ع وثالث‪R‬ون‪ ،‬كلهم ي‪R‬ذكرون ح‪R‬ديثا عن رس‪R‬ول اهلل ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم‪ ،‬ويف‬
‫‪R‬ب الق‪RR‬وم‪ R‬س‪R‬نا‪ ،‬ف‪RR‬اذا اش‪RR‬تبه عليهم من احلديث‬ ‫احللقة شاب شديد األدمة‪ ،‬حلو املنطق‪ ،‬وضيء‪ ،‬وهو أش‪ّ R‬‬
‫ردوه اليه فأفتاهم‪ ،‬وال حيدثهم‪ R‬اال حني يسألونه‪ ،‬وملا قض‪RR‬ي جملس‪RR‬هم دن‪RR‬وت من‪R‬ه وس‪RR‬الته‪ :‬من أنت‬ ‫شيء ّ‬
‫يا عبد اهلل؟ قال‪ :‬أنا معاذ بن جبل"‪.‬‬

‫وهذا أبو مسلم اخلوالين يقول‪:‬‬


‫" دخلت مس‪RR‬جد محص ف‪RR‬اذا مجاع‪RR‬ة من الكه‪RR‬ول يتوس‪RR‬طهم ش‪RR‬اب ب‪RّR‬راق الثناي‪RR‬ا‪ ،‬ص‪RR‬امت ال يتكلم‪.‬ز ف‪RR‬اذا‬
‫امرتى القوم يف شيء توجهوا الي‪RR‬ه يس‪RR‬ألونه‪.‬ز فقلت جلليس يل‪ :‬من ه‪RR‬ذا‪..‬؟ ق‪RR‬ال‪ :‬مع‪RR‬اذ بن جب‪RR‬ل‪ ..‬فوق‪RR‬ع‬
‫يف نفسي حبه"‪.‬‬

‫وهذا شهر بن حوشب يقول‪:‬‬


‫" كان أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اذا حتدثوا‪ R‬وفيهم معاذ بن جبل‪ ،‬نظروا اليه هيبة له"‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬كان أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه يستثريه كثريا‪..‬‬
‫وكان يقول يف بض املواطن اليت يستعني هبا برأي معاذ وفقهه‪:‬‬
‫‪ | 94‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" لوال معاذ بن جبل هللك عكر"‪..‬‬

‫ويبدو أن معاذ كان ميتلك عقال أحسن تدريبه‪ ،‬ومنطقا آسرا مقنعا‪ ،‬ينساب يف هدوء واحاطة‪..‬‬

‫فحيثما‪ R‬نلتقي به من خالل الروايات التارخيية عنه‪ ،‬جنده كما أسلفنا واسط العقد‪..‬‬
‫فهو دائما جالس والناس حوله‪ ..‬وهو صموت‪ ،‬ال يتحدث اال على شوق اجلالسني اىل حديثه‪..‬‬
‫واذا اختلف اجلالسون يف أمر‪ ،‬أعادوه اىل معاذ لبفصل فيه‪..‬‬
‫فاذا تكلم‪ ،‬كان كما وصفه أحد معاصريه‪:‬‬
‫" كأمنا خيرج من فمه نور ولؤلؤ"‪..‬‬

‫ولق‪RR‬د بل‪RR‬غ ك‪RR‬ل ه‪RR‬ذه املنزل‪RR‬ة يف علم‪RR‬ه‪ ،‬ويف اجالل املس‪RR‬لمني ل‪RR‬ه‪ ،‬أي‪RR‬ام الرس‪RR‬ول وبع‪RR‬د ممات‪RR‬ه‪ ،‬وه‪RR‬و ش‪RR‬اب‪..‬‬
‫فلقد مات معاذ يف خالفة عمر ومل جياوز من العمر ثالثا وثالثني سنة‪!!..‬‬
‫وكان معاذ مسح اليد‪ ،‬والنفس‪ ،‬واخللق‪..‬‬
‫فال يسأل عن شيء اال أعطاه جزالن مغتبطا‪..‬ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله‪.‬‬
‫وم‪RR‬ات الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬ومع‪RR‬اذ ب‪RR‬اليمن من‪RR‬ذ وجه‪RR‬ه الن‪RR‬يب اليه‪RR‬ا يعلم املس‪RR‬لمني ويفقههم‪ R‬يف‬
‫الدين‪..‬‬

‫ويف خالف‪RR‬ة أيب بك‪RR‬ر رج‪RR‬ع مع‪RR‬اذ من اليمن‪ ،‬وك‪RR‬ان عم‪RR‬ر ق‪RR‬د علم أن مع‪RR‬اذا أث‪RR‬رى‪ ..‬ف‪RR‬اقرتح على اخلليف‪RR‬ة‬
‫أيب بكر أن يشاطره ثروته وماله‪!..‬‬
‫ومل ينتظر عمر‪ ،‬بل هنض مسرعا اىل دار معاذ وألقى عليه مقالته‪..‬‬

‫ك‪RR‬ان مع‪RR‬اذ ظ‪RR‬اهر الك‪RR‬ف‪ ،‬ط‪RR‬اهر الذم‪RR‬ة‪ ،‬ولئن ك‪RR‬ان ق‪RR‬د أث‪RR‬ري‪ ،‬فان‪RR‬ه مل يكتس‪RR‬ب امثا‪ ،‬ومل يق‪RR‬رتف ش‪RR‬بهة‪،‬‬
‫ومن مث فقد رفض عرض عمر‪ ،‬وناقشه رأيه‪..‬‬
‫وتركه عمر وانصرف‪..‬‬
‫‪ | 95‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف الغداة‪ ،‬كان معاذ يطوي األرض‪ R‬حثيثا شطر دار عمر‪..‬‬
‫وال يكاد يلقاه‪ ..‬حىت يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول‪:‬‬
‫" لقد رأيت الليلة يف من‪RR‬امي أين أخ‪R‬وض حوم‪RR‬ة م‪R‬اء‪ ،‬أخش‪R‬ى على نفس‪R‬ي الغ‪RR‬رق‪ ..‬ح‪RR‬ىت جئت وخلص‪R‬تين‬
‫يا عمر"‪..‬‬
‫وذهبا معا اىل أيب بكر‪ ..‬وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله‪ ،‬فقال أبو بكر‪ ":‬ال آخذ منك شيئا"‪..‬‬
‫حل وطاب"‪..‬‬ ‫فنظر عمر اىل معاذ وقال‪ ":‬اآلن ّ‬
‫ما كان أبو بكر الورع ليرتك ملعاذ درمها واحدا‪ ،‬لو علم أنه أخذه بغري حق‪..‬‬
‫وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن‪..‬‬
‫وامنا ه‪RR‬و عص‪R‬ر املث‪R‬ل ك‪R‬ان يزخ‪R‬ر بق‪RR‬وم يتس‪R‬ابقون اىل ذرى الكم‪R‬ال امليس‪RR‬ور‪ ،‬فمنهم‪ R‬الط‪RR‬ائر احملل‪R‬ق‪ ،‬ومنهم‬
‫املهرول‪ ،‬ومنهم املقتصد‪ ..‬ولكنهم مجيعا يف قافلة اخلري سائرون‪.‬‬

‫**‬

‫ويهاجر معاذ اىل الش‪R‬ام‪ ،‬حيث يعيش بني أهله‪R‬ا والواف‪RR‬دين عليه‪R‬ا معلم‪R‬ا وفقيه‪R‬ا‪ ،‬ف‪R‬اذا م‪R‬ات أمريه‪R‬ا أب‪R‬و‬
‫عبي‪RR‬دة ال‪RR‬ذي ك‪RR‬ان الص‪RR‬ديق احلميم ملع ‪RR‬اذ‪ ،‬اس ‪RR‬تخلفه أم ‪RR‬ري املؤم ‪RR‬نني عم‪RR‬ر على الش ‪RR‬ام‪ ،‬وال ميض‪RR‬ي علي‪RR‬ه يف‬
‫االمارة سوى بضعة أشهر حىت يلقى ربه خمبتا منيبا‪..‬‬
‫وكان عمر رضي اهلل عنه يقول‪:‬‬
‫" ل‪RR‬و اس‪RR‬تخلفت مع‪RR‬اذ بن جب‪RR‬ل‪ ،‬فس‪RR‬ألين ريب‪ :‬ملاذا اس‪RR‬تخلفته؟ لقلت‪ :‬مسعن نبي‪RR‬ك يق‪RR‬ول‪ :‬ان العلم‪RR‬اء اذا‬
‫حضروا رهبم عز وجل ‪ ،‬كان معاذ بني أيديهم"‪..‬‬
‫واالستخالف الذي يعنيه عمر هنا‪ ،‬هو االستخالف على املسلمني مجيعا‪ ،‬ال على بلد أو والية‪..‬‬
‫فلقد سئل عمر قبل موته‪ :‬لو عهدت الينا‪..‬؟ أي اخرت خليفتك بنفسك وبايعناك عليه‪..‬‬
‫إلاجاب قائال‪:‬‬
‫‪ | 96‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" لو كان معاذ بن جبل حي‪R‬ا‪ ،‬ووليت‪R‬ه مث ق‪R‬دمت على ريب ع‪R‬ز وج‪R‬ل‪ ،‬فس‪RR‬ألين‪ :‬من ولّيت على أم‪R‬ة حمم‪RR‬د‪،‬‬
‫لقلت‪ :‬ولّيت عليهم معاذ بن جبل‪ ،‬بعد أن مسعت النيب يقول‪ :‬معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة"‪.‬‬

‫**‬

‫قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم يوما‪:‬‬


‫" ي‪RR‬ا مع‪RR‬اذ‪ ..‬واهلل اين ألحب‪RR‬ك فال تنس أن تق‪RR‬ول يف عقب ك‪RR‬ل ص‪RR‬الة‪ :‬اللهم أع‪RR‬ين على ذك‪RR‬رك وش‪RR‬كرك‬
‫وحسن عبادتك"‪..‬‬
‫أجل اللهم‪ R‬أعيّن ‪ ..‬فقد كان الرسول دائب االحلاح هبذا‪ R‬املعىن العظيم الذي يدرك الن‪RR‬اس ب‪RR‬ه أن‪RR‬ه ال ح‪RR‬ول‬
‫هلم وال قوة‪ ،‬وال سند وال عون اال باهلل‪ ،‬ومن اهلل العلي العظيم‪..‬‬
‫ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه‪..‬‬
‫لقيه الرسول ذات صباح فسأله‪:‬‬
‫"كيف أصبحت يامعاذ"‪..‬؟؟‬
‫قال‪:‬‬
‫" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول اهلل"‪.‬‬
‫قال النيب‪:‬‬
‫‪:‬ان لكل حق حقيقة‪ ،‬فما حقيقة اميانك"‪..‬؟؟‬
‫قال معاذ‪:‬‬
‫" ما أصبحت قط‪ ،‬اال ظننت أين ال أمسي‪ ..‬وال أمسيت مساء اال ظننت أين ال أصبح‪..‬‬
‫وال خطوت خطوة اال ظننت أين ال أتبعها غريها‪..‬‬
‫وكأين أنظر اىل كل امة جاثية تدعى اىل كتاهبا‪..‬‬
‫وكأين أرى أهل اجلنة يف اجلنة ينعمون‪..‬‬
‫وأهل النار يف النار يعذبون‪"..‬‬
‫‪ | 97‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فقال له الرسول‪:‬‬
‫" عرفت فالزم"‪..‬‬
‫أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصريه هلل‪ ،‬فلم يعد يبصر شيئا سواه‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬أجاد ابن مسعود وصفه حني قال‪:‬‬


‫"ان معاذا كان ّأمة‪ ،‬قانتا هلل حنيفا‪ ،‬ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السالم"‪..‬‬

‫**‬

‫وكان معاذ دائب الدعوة اىل العلم‪ ،‬واىل ذكر اهلل‪..‬‬


‫وكان يدعو الناس اىل التماس العلم الصحيح النافع‪ R‬ويقول‪:‬‬
‫" احذروا‪ R‬زيغ احلكيم‪ ..‬وارفوا‪ R‬احلق باحلق‪ ،‬فان احلق نورا"‪!!..‬‬
‫وكان يرى العبادة قصدا‪ ،‬وعدال‪..‬‬
‫قال له يوما أحد املسلمني‪ :‬علمين‪.‬‬
‫قال معاذ‪ :‬وهل أنت مطيعي اذا علمتك‪..‬؟‬
‫قال الرجل‪ :‬اين على طاعتك حلريص‪..‬‬
‫فقال له معاذ‪:‬‬
‫" صم وافطر‪..‬‬
‫وصل ومن‪..‬‬
‫ّ‬
‫واكتسب‪ R‬وال تأمث‪.‬‬
‫متوتن اال مسلما‪..‬‬
‫وال ّ‬
‫واياك ودعوة املظلوم"‪..‬‬
‫وكان يرى العلم معرفة‪ ،‬وعمال فيقول‪:‬‬
‫‪ | 98‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" تعلموا ما شئتم أن تتعلموا‪ ،‬فلن ينفعكم اهلل بالعلم جىت تعملوا"‪..‬‬

‫وكان يرى االميان باهلل وذكره‪ ،‬استحضارا دائما لعظمته‪ ،‬ومراجعة دائمة لسلوك النفس‪.‬‬
‫يقول األسود بن هالل‪:‬‬
‫" كنا منشي مع معاذ‪ ،‬فقال لنا‪ :‬اجلسوا بنا نؤمن ساعة"‪..‬‬
‫ولع‪RR‬ل س‪RR‬بب ص‪RR‬مته الكث‪RR‬ري ك‪RR‬ان راجع‪RR‬ا اىل عملي‪RR‬ة التأم‪RR‬ل والتفك‪RR‬ر ال‪RR‬يت ال هتدأ وال تك‪RR‬ف داخ‪RR‬ل نفس‪RR‬ه‪..‬‬
‫ه ‪RR‬ذا ال ‪RR‬ذي‪ R‬ك ‪RR‬ان كم ‪RR‬ا ق ‪RR‬ال للرس ‪RR‬ول‪ :‬ال خيط ‪RR‬و خط ‪RR‬وة‪ ،‬ويظن أن ‪RR‬ه س ‪RR‬يتبعها ب ‪RR‬أخرى‪ ..‬وذل ‪RR‬ك من ف ‪RR‬رط‬
‫استغراقه يف ذكره ربه‪ ،‬واستغراقه يف حماسبته نفسه‪..‬‬

‫**‬

‫وحان أجل معاذ‪ ،‬ودعي للقاء اهلل‪...‬‬


‫ويف س‪RR‬كرات املوت تنطل‪RR‬ق عن الالش ‪RR‬عور حقيق ‪RR‬ة ك‪RR‬ل حي‪ ،‬وجتري على لس‪RR‬انه ‪،‬ان اس ‪RR‬تكاع احلديث‪،‬‬
‫كلمات تلخص أمره وحياته‪..‬‬
‫ويف تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم‪.‬‬
‫فقد كان حيدق يف السماء‪ R‬ويقول مناجيا ربه الرحيم‪:‬‬
‫أحب ال‪RR‬دنيا جلري األهنار‪،‬‬ ‫" اهلم اين كنت أخاف‪RR‬ك‪ ،‬لكن‪RR‬ين الي‪RR‬وم أرج‪RR‬وك‪ ،‬اللهم ان‪RR‬ك تعلم أين مل أكن ّ‬
‫وال لغ‪RR R R R‬رس األش‪RR R R R‬جار‪ ..‬ولكن لظم‪RR R R R‬أ اهلواجر ومكاب‪RR R R R‬دة الس‪RR R R R‬اعات‪ ،‬وني‪RR R R R‬ل املزي‪RR R R R‬د من العلم واالميان‬
‫والطاعة"‪..‬‬
‫وبسط ميينه كأنه يصافح املوت‪ ،‬وراح يف غيبوبته يقول‪:‬‬
‫" مرحبا باملوت‪..‬‬
‫حبيب جاء على فاقه"‪..‬‬

‫وسافر معاذ اىل اهلل‪...‬‬


‫‪ | 99‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫املقداد بن عمرو‬
‫أول فرسان االسالم‬

‫حتدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا‪:‬‬


‫" أول من عدا به فرسه يف سبيل اهلل‪ ،‬املقداد بن األسود‪..‬‬
‫واملقداد بن األسود‪ ،‬هو بطلنا هذا املقداد بن عمرو ك‪RR‬ان ق‪RR‬د ح‪RR‬الف يف اجلاهلي‪RR‬ة األس‪RR‬ود بن عب‪RR‬د يغ‪RR‬وث‬
‫فتبناه‪ ،‬فصار يدعى املقداد بن األسود‪ ،‬حىت اذا نزلت اآلية الكرمية اليت تنسخ التب‪RR‬ين‪ ،‬نس‪RR‬ب ألبي‪RR‬ه عم‪RR‬رو‬
‫بن سعد‪..‬‬
‫واملقداد من املب ّكرين باالسالم‪ ،‬وسابع س‪R‬بعة ج‪R‬اهروا باس‪R‬المهم وأعلن‪R‬وه‪ ،‬ح‪R‬امال نص‪R‬يبه من أذى ق‪R‬ريش‬
‫ونقمتها‪ ،‬فيس شجاعة الرجال وغبطة احلواريني‪!!..‬‬
‫ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا املوقف العظيم‪..‬‬
‫يقول عبداهلل بن مسعود صاحب رسول اهلل‪:‬‬
‫ايل مما يف األرض مجيعا"‪.‬‬ ‫أحب ّ‬
‫" لقد شهدت من املقداد مشهدا‪ ،‬ألن أكون صاحبه‪ّ ،‬‬

‫يف ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم ال‪RR‬ذي‪ R‬ب‪RR‬دأ عص‪RR‬يبا‪.‬ز حيث أقبلت ق‪RR‬ريش يف بأس‪RR‬ها الش‪RR‬ديد‪ R‬واص‪RR‬رارها العني‪RR‬د‪ ،‬وخيالئه‪RR‬ا‬
‫وكربيائها‪..‬‬
‫يف ذل ‪RR‬ك الي ‪RR‬وم‪ ..‬واملس ‪RR‬لمون قل ‪RR‬ة‪ ،‬مل ميتحن ‪RR‬وا من قب ‪RR‬ل يف قت ‪RR‬ال من أج ‪RR‬ل االس ‪RR‬الم‪ ،‬فه ‪RR‬ذه أول غ ‪RR‬زوة هلم‬
‫خيوضوهنا‪..‬‬
‫ووق‪RR R‬ف الرس‪RR R‬ول يعجم اميان ال‪RR R‬ذين مع‪RR R‬ه‪ ،‬ويبل‪RR R‬وا اس‪RR R‬تعدادهم‪ R‬ملالق‪RR R‬اة اجليش الزاح‪RR R‬ف عليهم يف مش‪RR R‬اته‬
‫وفرسانه‪..‬‬
‫‪ | 100‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وراح يشاورهم يف األمر‪ ،‬وأصحاب الرسول يعلمون أنه حني يطلب املش‪RR‬ورة وال‪RR‬رأي‪ ،‬فان‪RR‬ه يفع‪RR‬ل ذل‪R‬ك‬
‫حقا‪ ،‬وأنه يطلب من كل واحد حقيق‪RR‬ة اقتناع‪R‬ه وحقيق‪R‬ة رأي‪R‬ه‪ ،‬ف‪R‬ان ق‪RR‬ال ق‪R‬ائلهم رأي‪R‬ا يغ‪RR‬اير رأي اجلماع‪R‬ة‬
‫كلها‪ ،‬وخيالفها فال حرج عليه وال تثريب‪..‬‬

‫وخ‪RR R‬اف املق‪RR R‬دادا أن يك‪RR R‬ون بني املس‪RR R‬لمني من ل‪RR R‬ه بش‪RR R‬أن املعرك‪RR R‬ة حتفظ‪RR R‬ات‪ ...‬وقب‪RR R‬ل أن يس‪RR R‬بقه أح‪RR R‬د‬
‫هم هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار املعركة‪ ،‬ويسهم يف تشكيل ضمريها‪.‬‬ ‫باحلديث ّ‬
‫ولكن‪RR‬ه قب‪RR‬ل أن حيرك ش‪RR‬فتيه‪ ،‬ك‪RR‬ان أب‪RR‬و بك‪RR‬ر الص‪RR‬ديق ق‪RR‬د ش‪RR‬رع يتكلم فاطم‪RR‬أن املق‪RR‬داد كث‪RR‬ريا‪ ..‬وق‪RR‬ال أب‪RR‬و‬
‫بكر فأحسن‪ ،‬وتاله عمر بن اخلطاب فقل وأحسن‪..‬‬
‫مث تقدم املقداد وقال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫امض ملا أراك اهلل‪ ،‬فنحن معك‪..‬‬
‫واهلل ال نقول لك كما قالت بنو اسرائيل ملوسى‬
‫اذهب أنت وربك فقاتال انا هاهنا قاعدون‪..‬‬
‫بل نقول لك‪ :‬اذهب أنت وربك فقاتال انا معكما مقاتلون‪!!..‬‬
‫والذي‪ R‬بعثك باحلق‪ ،‬لو سرت بنا اىل برك العماد‪ R‬جلالدنا معك من دونه حىت تبلغ‪RR‬ه‪ .‬ولنق‪RR‬اتلن عن ميين‪RR‬ك‬
‫وعن يسارك وبني يديك ومن خلفك حىت يفتح اهلل لك"‪ ..‬انطلقت الكلم‪RR‬ات كالرص‪RR‬اص املق‪RR‬ذوف‪..‬‬
‫وتلل وجه رس‪R‬ول اهلل وأش‪R‬رق فم‪R‬ه عن دع‪R‬وة ص‪R‬احلة دعاه‪R‬ا للمق‪R‬داد‪ ..‬وس‪R‬رت يف احلش‪R‬د الص‪R‬احل املؤمن‬
‫محاس‪RR‬ة الكلم‪RR‬ات الفاض‪RR‬لة ال‪RR‬يت أطلقه‪RR‬ا املق‪RR‬داد بن عم‪RR‬رو وال‪RR‬يت ح‪RR‬ددت بقوهتا واقناعه ‪R‬ا‪ R‬ن‪RR‬وع الق‪RR‬ول ملن‬
‫أراد قوال‪ ..‬وطراز احلديث ملن يريد حديثا‪!!..‬‬

‫أجل لقد بلغت كلمات املقداد غايتها من أفئدة املؤمنني‪ ،‬فقام سعد بن معاذ زعيم األنصار‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫‪ | 101‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لق‪RR‬د آمن‪RR‬ا ب‪RR‬ك وص ‪ّ R‬دقناك‪ ،‬وش‪RR‬هدنا أ ّن م‪RR‬ا جئت ب‪RR‬ه ه‪RR‬و احلق‪ ..‬وأعطين‪RR‬اك على ذل‪RR‬ك عهودن‪RR‬ا ومواثيقن‪RR‬ا‪،‬‬
‫ف ‪RR‬امض ي ‪RR‬ا رس ‪RR‬ول اهلل ملا أردت‪ ،‬فنحن مع ‪RR‬ك‪ ..‬وال ‪RR‬ذي عث ‪RR‬ك ب ‪RR‬احلق‪ ..‬ل ‪RR‬و استعرض ‪RR‬ت بن ‪RR‬ا ه ‪RR‬ذا البح ‪RR‬ر‬
‫عدونا غدا‪..‬‬
‫فخضته خلضناه معك‪ ،‬ما ختلف منا رجل واحد‪ ،‬وما نكره أن تلقى بنا ّ‬
‫انا لصرب يف احلرب‪ ،‬صدق يف اللقاء‪ ..‬ولعل اهلل يريك منا ما تقر عينك‪ ..‬فسر على بركة اهلل"‪..‬‬
‫وامتأل قلب الرسول بشرا‪..‬‬
‫وقال ألصحابه‪ ":‬سريوا وأبشروا"‪..‬‬
‫والتقى اجلمعان‪..‬‬
‫وك ‪RR‬ان من فرس ‪RR‬ان املس ‪RR‬لمني يومئ ‪RR‬ذ ثالث ‪RR‬ة ال غ ‪RR‬ري‪ :‬املق ‪RR‬داد بن عم ‪RR‬رو‪ ،‬ومرث ‪RR‬د بن أيب مرث ‪RR‬د‪ ،‬والزب ‪RR‬ري بن‬
‫العوام‪ ،‬بينما كان بقية اجملاهدين مشاة‪ ،‬أو راكبني ابال‪..‬‬ ‫ّ‬

‫**‬

‫ان كلم‪RR R‬ات املق‪RR R‬داد ال‪RR R‬يت م‪Rّ R R‬رت بن‪RR R‬ا من قب‪RR R‬ل‪ ،‬ال تص‪RR R‬ور ش‪RR R‬جاعته فحس‪RR R‬ب‪ ،‬ب‪RR R‬ل تص‪RR R‬ور لن‪RR R‬ا حكمت‪RR R‬ه‬
‫الراجحة‪ ،‬وتفكريه العميق‪..‬‬
‫وكذلك كان املقداد‪..‬‬
‫جمرد كلم‪RR‬ات‪ ،‬ب‪RR‬ل هي تعرّب عن نفس‪RR‬ها يف مب‪RR‬ادئ‬ ‫ك‪RR‬ان حكيم‪RR‬ا أريب‪RR‬ا‪ ،‬ومل تكن محت‪RR‬ه تعرّب عن نفس‪RR‬ها يف ّ‬
‫مطرد‪ .‬وكانت جتاربه قوتا حلكته وريا لفطنته‪..‬‬ ‫نافذة‪ ،‬وسلوك قومي ّ‬

‫واله الرسول على احدى الواليات يوما‪ ،‬فلما رجع سأله النيب‪:‬‬
‫" كيف وجدت االمارة"‪..‬؟؟‬
‫فأجاب يف صدق عظيم‪:‬‬
‫" لقد جعلتين أنظر اىل نفسي كما لو كنت فوق الناس‪ ،‬وهم مجيعا دوين‪..‬‬
‫اتآمرن على اثنني بعد اليوم‪ ،‬أبدا"‪..‬‬
‫والذي‪ R‬بعثك باحلق‪ ،‬ال ّ‬
‫‪ | 102‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واذا مل تكن هذه احلكمة فماذا تكون‪..‬؟‬


‫واذا مل يكن هذا هو احلكيم فمن يكون‪..‬؟‬
‫رجل ال خيدع عن نفسه‪ ،‬وال عن ضعفه‪..‬‬
‫يلي االم‪RR‬ارة‪ ،‬فيغش‪RR‬ى نفس‪RR‬ه الزه‪RR‬و والص‪RR‬لف‪ ،‬ويكتش‪RR‬ف يف نفس‪RR‬ه ه‪RR‬ذا الض‪RR‬عف‪ ،‬فيقس‪RR‬م ليجنّبه‪RR‬ا مظان‪RR‬ه‪،‬‬
‫ولريفض االمارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها‪ ..‬مث يرب بقسمه فال يكون أمريا بعد ذلك أبدا‪!!..‬‬
‫لقد كان دائب التغين حبديث‪ R‬مسعه من رسول اهلل‪ ..‬هوذا‪:‬‬
‫" ان السعيد ملن جنّب الفنت"‪..‬‬
‫واذا كان قد رأى يف االمارة زهوا يفتنه‪ ،‬أو يكاد يفتنه‪ ،‬فان سعادته اذن يف جتنبها‪..‬‬
‫ومن مظاهر حكمته‪ ،‬طول أناته يف احلكم على الرجال‪..‬‬
‫وه‪RR‬ذه أيض‪RR‬ا تعلمه‪RR‬ا من رس‪RR‬ول اهلل‪ ..‬فق‪RR‬د علمهم علي‪RR‬ه الس‪RR‬الم أن قلب ابن آدم أس‪RR‬رع تقلب‪RR‬ا من الق‪RR‬در‪R‬‬
‫حني تغلي‪..‬‬

‫وكان املقداد يرجئ حكم‪RR‬ه األخ‪R‬ري على الن‪RR‬اس اىل حلظ‪R‬ة املوت‪ ،‬ليتأك‪RR‬د أن ه‪R‬ذا ال‪R‬ذي يري‪R‬د أن يص‪R‬در‬
‫عليه حكمه لن يتغري ولن يطرأ على حياته جديد‪ ..‬وأي تغرّي ‪ ،‬أو أي جديد بعد املوت‪..‬؟؟‬
‫وتتألق حكمته يف حنكة بالغة خالل هذا احلوار‪ R‬الذي‪ R‬ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫فمر به رجل‪..‬‬‫" جلسنا اىل املقداد يوما ّ‬


‫فقال خماطبا املقداد‪ :‬طوىب هلاتني العينني اللتني رأتا رسول اهلل صلى اله عليه وسلم‪..‬‬
‫واهلل لوددناةلو أن رأينا ما رأيت‪ ،‬وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه املقداد وقال‪:‬‬
‫ما حيمل أحدكم على أن يتمىن مشهدا غيّبه اهلل عنه‪ ،‬ال يدري لو ش‪RR‬هده كي‪RR‬ف ك‪RR‬ان يص‪RR‬ري في‪RR‬ه؟؟ واهلل‪،‬‬
‫لق‪RR‬د عاص‪RR‬ر رس‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم أق ‪RR‬وام كبّهم‪ R‬اهلل ع‪RR‬ز وج‪RR‬ل على من‪RR‬اخرهم يف جهنم‪ .‬أوال‬
‫حتمدون اهلل الذي جنّبكم مثال بالئهم‪ ،‬وأخرجكم مؤمنني بربكم ونبيكم"‪..‬‬
‫‪ | 103‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حكمة وأية حكمة‪!!..‬‬


‫انك ال تلتقي مبؤمن حيب اهلل ورسوله‪ ،‬اال وجتده يتمىن لو أنه عاش أيام الرسول ورآه‪!..‬‬
‫ولكن بصرية املقداد احلاذق احلكيم تكشف البعد املفقود يف هذه األمنية‪..‬‬
‫أمل يكن من احملتمل هلذا الذي‪ R‬يتمىن لو أنه عاش تلك األيام‪ ..‬أن يكون من أصحاب اجلحيم‪..‬‬
‫أمل يكون من احملتمل أن يكفر مع الكافرين‪.‬‬
‫‪R‬تقر فيه‪RR R‬ا االس‪RR R‬الم‪ ،‬فأخ‪RR R‬ذه ص‪RR R‬فوا‬
‫وأليس من اخلري اذن أن حيم ‪R R‬د‪ R‬اهلل ال‪RR R‬ذي رزق‪RR R‬ه احلي‪RR R‬اة يف عص‪RR R‬ور اس‪ّ R R‬‬
‫عفوا‪..‬‬
‫هذه نظرة املقداد‪ ،‬تتألق حكمة وفطنة‪ ..‬ويف كل مواقفه‪ ،‬وجتاربه‪ ،‬وكلماته‪ ،‬كان األريب‪ R‬احلكيم‪..‬‬

‫**‬

‫وكان حب املقداد لالسالم عظيما‪..‬‬


‫وكان اىل جانب ذلك‪ ،‬واعيا حكيما‪..‬‬
‫واحلب حني يك ‪RR‬ون عظيم ‪RR‬ا وحكيم ‪RR‬ا‪ ،‬فان ‪RR‬ه جيع ‪RR‬ل من ص ‪RR‬احبه انس ‪RR‬انا عليّ ‪RR‬ا‪ ،‬ال جيد غبط ‪RR‬ة ه ‪RR‬ذا احلب يف‬
‫ذاته‪ ..‬بل يف مسؤولياته‪..‬‬
‫واملقداد بن عمرو من هذا الطراز‪..‬‬
‫فحب‪RR‬ه الرس‪RR‬ول‪ .‬مأل قلب‪RR‬ه وش‪RR‬عوره مبس‪RR‬ؤولياته عن س‪RR‬المة الرس‪RR‬ول‪ ،‬ومل يكن تس‪RR‬مع يف املدين‪RR‬ة فزع‪RR‬ة‪ ،‬اال‬
‫ويك‪RR R‬ون املق‪RR R‬داد يف مث‪RR R‬ل ملح البص‪RR R‬ر واقف‪RR R‬ا على ب‪RR R‬اب رس‪RR R‬ول اهلل ممتطي‪RR R‬ا ص‪RR R‬هوة فرس ‪RR‬ه‪ ،‬ممتش‪RR R‬قا مهنّ‪RR R‬ده‬
‫وحسامه‪!!..‬‬
‫وحب‪RR‬ه لالس‪RR‬الم‪ ،‬مأل قلب‪RR‬ه مبس‪RR‬ؤولياته عن محاي‪RR‬ة االس‪RR‬الم‪ ..‬ليس فق‪RR‬ط من كي‪RR‬د أعدائ‪RR‬ه‪ ..‬ب‪RR‬ل ومن خط‪RR‬أ‬
‫أصدقائه‪..‬‬
‫‪ | 104‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫خرج يوما يف سريّة‪ ،‬متكن العدو‪ R‬فيها من حصارهم‪ ،‬فأصدر أمري السرية أمره بأال يرعى أحد دابت‪RR‬ه‪..‬‬
‫ولكن أحد املسلمني مل حيط باألمر خ‪R‬ربا‪ ،‬فخالف‪R‬ه‪ ،‬فتلقى من األم‪RR‬ري عقوب‪R‬ة أك‪RR‬ثر مما يس‪R‬تحق‪ ،‬أ‪ ،‬لعل‪R‬ه ال‬
‫يستحقها على االطالق‪..‬‬
‫فمر املقداد بالرجل يبكي ويصيح‪ ،‬فسأله‪ ،‬فأنبأه ما حدث‬
‫فأخذ املقداد بيمينه‪ ،‬ومضيا صوب األمري‪ ،‬وراح‪ R‬املقداد يناقشه حىت كشف له خطأه وقال له‪:‬‬
‫" واآلن أقده من نفسك‪..‬‬
‫وم ّكنه من القصاص"‪!!..‬‬
‫وأذعن األم‪R‬ري‪ ..‬بي‪R‬د أن اجلن‪R‬دي عف‪R‬ا وص‪RR‬فح‪ ،‬وانتش‪R‬ى املق‪R‬داد بعظم‪R‬ة املوق‪RR‬ف‪ ،‬وبعظم‪RR‬ة ال‪R‬دين ال‪RR‬ذي أف‪R‬اء‬
‫عليهم هذه العزة‪ ،‬فراح يقول وكأنه يغين‪:‬‬
‫ألموتن‪ ،‬واالسالم عزيز"‪!!..‬‬
‫ّ‬ ‫"‬

‫أج‪RR‬ل تل‪RR‬ك ك‪RR‬انت أمنيت‪RR‬ه‪ ،‬أن ميوت واالس‪RR‬الم عزي‪RR‬ز‪ ..‬ولق‪RR‬د ث‪RR‬ابر م‪RR‬ع املث‪RR‬ابرين على حتقي‪RR‬ق ه‪RR‬ذه األمني‪RR‬ة‬
‫مثابرة باهرة جعلته أهال ألن يقول له الرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫"ان اهلل أمرين حببك‪..‬‬
‫وأنبأين أنه حيبك"‪...‬‬

‫سعيد بن عامر‬
‫العظمة حتت االمسال‬

‫أيّنا مسع هذا االسم‪ ،‬وأيّنا مسع به من قبل‪..‬؟‬


‫‪ | 105‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أغلب الظن أن أكثن ‪RR‬ا‪ ،‬ان مل نكن مجيع ‪RR‬ا‪ ،‬مل نس ‪RR‬مع‪ R‬ب ‪RR‬ه ق ‪RR‬ط‪ ..‬وك ‪RR‬أين بكم اذ تطالعون ‪RR‬ه اآلن تتس ‪RR‬اءلون‪:‬‬
‫ومن يكون عامر هذا‪..‬؟؟‬
‫أجل سنعلم من هذا السعيد‪!!..‬‬

‫**‬

‫ان ‪RR‬ه واح ‪RR‬د من كب ‪RR‬ار الص ‪RR‬حابة رض ‪RR‬ي اهلل عنهم‪ ،‬وان مل يكن المسه ذل ‪RR‬ك ال ‪RR‬رنني املألوف ألمساء كب ‪RR‬ار‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫انه واحد من كبار األتقياء األخفياء‪!!..‬‬
‫ولع‪RR‬ل من نافل‪RR‬ة الق‪RR‬ول وتك‪RR‬راره‪ ،‬أن نن‪RR‬وه مبالزمت‪RR‬ه رس‪RR‬ول اهلل يف مجي‪RR‬ع مش‪RR‬اهده وغزوات‪RR‬ه‪ ..‬ف‪RR‬ذلك ك‪RR‬ان‬
‫هنج املسلمني مجيعا‪ .‬وما كان ملؤمن أن يتخلف عن رسول اهلل يف سلم أو جهاد‪.‬‬
‫أسلم سعيد قبيل فتح خيرب‪ ،‬ومنذ عانق االسالم وبايع الرسول‪ ،‬أعطامها كل حياته‪ ،‬ووجوده ومصريه‪.‬‬
‫فالطاعة‪ ،‬والزهد‪ ،‬والسمو‪ ..‬واالخبات‪ ،‬والورع‪ ،‬والرتفع‪.‬‬
‫كل الفضائل العظيمة وجدت يف هذا االنسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبريا‪..‬‬
‫وحني نسعى للقاء عظمته ورؤيتها‪ ،‬علينا أن نكون من الفطنة حبيث ال خندع عن ه‪RR‬ذه العظم‪RR‬ة ون‪RR‬دعها‬
‫تفلت منا وتتنكر‪..‬‬
‫فحني تقع العني على سعيد يف الزحام‪ ،‬لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل‪..‬‬
‫ستجد العني واحدا من أفراد الكتيبة االمني‪RR‬ة‪ ..‬أش‪RR‬عث أغ‪RR‬رب‪ . .‬ليس يف ملبس‪RR‬ه‪ ،‬وال يف ش‪RR‬كله االخ‪RR‬رجي‪،‬‬
‫ما مييزه عن فقراء املسلمني بشيء‪!!.‬‬
‫فاذا جعلنا من ملبس‪R‬ه ومن ش‪R‬كله اخلارجي دليال على حقيقت‪R‬ه‪ ،‬فلن نبص‪RR‬ر ش‪R‬يئا‪ ،‬ف‪RR‬ان عظم‪R‬ة ه‪RR‬ذا الرج‪R‬ل‬
‫أي من مظاهر البذخ والزخرف‪.‬‬ ‫أكثر أصالة من أن تتبدى يف ّ‬
‫اهنا هناك كامنة خمبوءة وراء بساطته وأمساله‪.‬‬
‫أتعرفون اللؤلؤ املخبوء يف جوف الصدف‪..‬؟ انه شيء يشبه هذا‪..‬‬
‫‪ | 106‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫عن‪RR‬دما ع‪RR‬زل أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني عم‪RR‬ر بن اخلط‪RR‬اب معاوي‪RR‬ة عن والي‪RR‬ة الش‪RR‬ام‪ ،‬تلفت حوالي‪RR‬ه يبحث عن ب‪RR‬ديل‬
‫يوليه مكانه‪.‬‬
‫وأس‪RR‬لوب عم‪RR‬ر يف اختي‪RR‬ار والت‪RR‬ه ومعاوني‪RR‬ه‪ ،‬أس‪RR‬لوب جيم‪RR‬ع أقص‪RR‬ى غاي‪RR‬ات احلذر‪ ،‬والدق‪RR‬ة‪ ،‬واألن‪RR‬اة‪ ..‬ذل‪RR‬ك‬
‫أنه كان يؤمن أن أي خط‪R‬أ يرتكب‪R‬ه وال يف أقص‪RR‬ى األرض‪ R‬سيس‪RR‬أل عن‪RR‬ه اهلل اث‪RR‬نني‪ :‬عم‪RR‬ر أوال‪ ..‬وص‪RR‬احب‬
‫اخلطأ ثانيا‪..‬‬
‫ومعايريه يف تقييم الناس واختيار الوالة مرهفة‪ ،‬وحميطة‪،‬وبصرية‪ ،‬أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا‪..‬‬
‫والشام يومئذ حاضرة كبرية‪ ،‬واحلياة فيها قبل دخول االسالم بقرون‪ ،‬تتقلب بني حض‪R‬ارات متس‪R‬اوقة‪..‬‬
‫وهي مرك ‪RR‬ز ه ‪RR‬ام لتج ‪RR‬ارة‪ .‬ومرت ‪RR‬ع رحيب للنعم ‪RR‬ة‪ ..‬وهي هبذا‪ ،‬وهلذا‪ R‬درء اغ ‪RR‬راء‪ .‬وال يص ‪RR‬لح هلا يف رأي‬
‫عمر اال قديس تفر كل شياطني االغراء أمام عزوفه‪ ..‬واال زاهد‪ ،‬عابد‪ ،‬قانت‪ ،‬أواب‪..‬‬
‫ايل بسعيد بن عامر‪!!..‬‬ ‫وصاح عمر‪ :‬قد وجدته‪ّ ،‬‬
‫وفيما بعد جييء سعيد اىل أمري املؤمنني ويعرض عليه والية محص‪..‬‬
‫ولكن سعيجا يعتذر ويقول‪ " :‬ال تفتيّن يا أمري املؤمنني"‪..‬‬
‫فيصيح به عمر‪:‬‬
‫" واهلل ال أدعك‪ ..‬أتضعون أمانتكم وخالفتكم يف عنقي‪ ..‬مث ترتكوين"‪..‬؟؟!!‬

‫واقتنع‪ R‬سعيد يف حلظة‪ ،‬فقد كانت كلمات عمر حريّة هبذا االقناع‪.‬‬
‫أجل‪ .‬ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخالفتهم‪ ،‬مث ينركوه وحيدا‪..‬واذا انفض عن مسؤولية احلكم‬
‫أمثال سعيد بن عامر‪ ،‬فأىّن لعمر من يعينه على تبعات احلكم الثقال‪..‬؟؟‬
‫خ‪RR‬رج س‪RR‬عيد اىل محص ومع‪RR‬ه زوجت‪RR‬ه‪ ،‬وكان‪RR‬ا عروس‪RR‬ني جدي‪RR‬دين‪ ،‬وك‪RR‬انت عروس‪RR‬ه من‪RR‬ذ طفولته‪RR‬ا فائق‪RR‬ة‬
‫وزوده عمر بقدر طيّب من املال‪.‬‬
‫اجلمال والنضرة‪ّ ..‬‬
‫‪ | 107‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪R‬تقرا يف محص أرادت زوجت‪RR‬ه أن تس‪RR‬تعمل حقه‪RR‬ا كزوج‪RR‬ة يف اس‪RR‬تثمار املال ال‪RR‬ذي‪ R‬زوده ب‪RR‬ه عم‪RR‬ر‪..‬‬ ‫وملا اس‪ّ R‬‬
‫وأشارت هليه بأن يشرتي ما يلزمهما من لباس الئق‪ ،‬ومتاع وأثاث‪ ..‬مث يدخر الباقي‪..‬‬
‫وق ‪RR‬ال هلا س ‪RR‬عيد‪ :‬أال أدل ‪RR‬ك على خ ‪RR‬ري من ه ‪RR‬ذا‪..‬؟؟ حنن يف بالد جتارهتا راحبة‪ ،‬وس ‪RR‬وقها رائج ‪RR‬ة‪ ،‬فلنع ‪RR‬ط‬
‫وينميه‪..‬‬
‫املال م يتجر لنا فيه ّ‬
‫قالت‪ :‬وان خسرت جتارته‪..‬؟‬
‫قال سعيد‪ :‬سأجعل ضمانا عليه‪!!..‬‬
‫قالت‪ :‬فنعم اذن‪..‬‬
‫وخرج سعيد فاشرتى بعض ضروريات غعيشه املتقشف‪ ،‬مث فرق مجيع املال يف الفقراء واحملتاجني‪..‬‬

‫ومرت األيام‪ ..‬وبني احلني واحلني تسأله زوجه عن جتارهتما وأيّان بلغت من األرباح‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وجييبها سعيد‪ :‬اهنا جتارة موفقة‪ ..‬وان الرباح تنمو وتزيد‪.‬‬
‫وذات ي‪RR‬وم س‪RR‬ألته نفس الس‪RR‬ؤال أم‪RR‬ام ق‪RR‬ريب ل‪RR‬ه ك‪RR‬ان يع‪RR‬رف حقيق‪RR‬ة األم‪RR‬ر فابتس‪RR‬م‪ .‬مث ض‪RR‬حك ض‪RR‬حكة‬
‫أوحت اىل روع الزوجة بالشك والريب‪ ،‬فأحلت عليه أن يصارحها احلديث‪ ،‬فقا هلا‪ :‬لقد تصدق مبال‪RR‬ه‬
‫جكيعه من ذلك اليوم البعيد‪.‬‬
‫فبكت زوجة سعيد‪ ،‬وآس‪R‬فها أهنا مل ت‪R‬ذهب من ه‪R‬ذا املال بطائ‪R‬ل فال هي ابت‪R‬اعت لنفس‪R‬ها‪ R‬م‪RR‬ا تري‪R‬د‪ ،‬واال‬
‫املال بقي‪..‬‬
‫ونظر اليها سعيد وقد‪ R‬زادهتا‪ R‬دموعها الوديعة اآلسية مجاال وروعة‪.‬‬
‫وقب ‪RR‬ل أن ين ‪RR‬ال املش ‪RR‬هد الف ‪RR‬اتن من نفس ‪RR‬ه ض ‪RR‬عفا‪ ،‬ألقى بص ‪RR‬ريته حنو اجلن ‪RR‬ة ف ‪RR‬رأى فيه ‪RR‬ا أص ‪RR‬حابه الس ‪RR‬ابقني‬
‫الراحلني فقال‪:‬‬
‫" لق‪RR‬د ك‪RR‬ان يل أص‪RR‬حاب س‪RR‬بقوين اىل اهلل‪ ...‬وم‪RR‬ا أحب أن أحنرف عن ط‪RR‬ريقهم ول‪RR‬و ك‪RR‬انت يل ال‪RR‬دنيا مبا‬
‫فيها"‪!!..‬‬

‫واذ خشي أن تدل عليه جبماهلا‪ ،‬وكأنه يوجه احلديث اىل نفسه معها‪:‬‬
‫‪ | 108‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" تعلمني أن يف اجلن‪RR R R R‬ة من احلور العني واخلريات احلس‪RR R R R‬ان‪ ،‬م‪RR R R R‬ا ل‪RR R R R‬و أطلت واح‪RR R R R‬دة منهن على األرض‬
‫ألضاءهتا مجيعا‪ ،‬ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا‪ ..‬فألن أض‪RR‬حي ب‪RR‬ك من أجلهن‪ ،‬أح‪RR‬رى أوىل من‬
‫أن أضحي هبن من أجلك"‪!!..‬‬
‫وأهنى حديثه كما بدأه‪ ،‬هادئا مبتسما راضيا‪..‬‬
‫وس‪RR R‬كنت زوجت‪RR R‬ه‪ ،‬وأدركت أن‪RR R‬ه ال ش‪RR R‬يء أفض‪RR R‬ل هلم‪RR R‬ا من الس‪RR R‬ري يف طري‪RR R‬ق س‪RR R‬عيد‪ ،‬ومحل النفس على‬
‫حماكاته يف زهده وتقواه‪!!..‬‬

‫**‬

‫مترد أهله‪RR‬ا واختالفهم‬


‫ك‪RR‬انت محص أيامئ‪RR‬ذ‪ ،‬توص‪RR‬ف بأهنا الكوف‪RR‬ة الثاني‪RR‬ة وس‪RR‬بب ه‪RR‬ذا الوص‪RR‬ف‪ ،‬ك‪RR‬ثرة ّ‬
‫على والهتم‪.‬‬
‫وملا كانت الكوفة يف العراق صاحبة السبق يف هذا التمرد فقد أخذت محص امسها ملا شاهبتها‪...‬‬
‫بالتمرد كما ذكرنا‪ ،‬فقد هدى اهلل قل‪RR‬وهبم لعب‪R‬ده الص‪R‬احل س‪R‬عيد‪ ،‬ف‪RR‬أحبوه‬
‫وعلى الرغم من ولع احلمصيني ّ‬
‫وأطاعوه‪.‬‬
‫ولقد سأله عمر يوما فقال‪ " :‬ان أهل الشام حيبونك"‪.‬؟‬
‫فأجابه سعيد قائال‪ ":‬ألين أعاوهنم وأواسيهم"‪!..‬‬
‫بيد أن مهما يكن أهل محص حب لسعيد‪ ،‬فال مفر من أن يكون هن‪RR‬اك بعض الت‪RR‬ذمر والش‪RR‬كوى‪ ..‬على‬
‫األقل لتثبت محص أهنا ال تزال املانفس القوي لكوفة العراق‪...‬‬
‫وتق ‪RR‬دم البعض يش ‪RR‬كون من ‪RR‬ه‪ ،‬وك ‪RR‬انت ش ‪RR‬كوى مبارك ‪RR‬ة‪ ،‬فق ‪RR‬د كش ‪RR‬فت عن ج ‪RR‬انب من عظم ‪RR‬ة الرج ‪RR‬ل‪،‬‬
‫عجيب عجيب جدا‪..‬‬
‫طلب عمر من الزمرة الشاكية‪ R‬أن تعدد نقاط شكواها‪ ،‬واحدة واحدة‪..‬‬
‫فنهض املتحدث بلسان هذه اجملموعة وقال‪ :‬نشكو منه أربعا‪:‬‬
‫" ال خيرج الينا حت يتعاىل النهار‪..‬‬
‫‪ | 109‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وا جييب أحدا بليل‪..‬‬


‫وله يف الشهر يومان ال خيرج فيهما الينا وال نراه‪،‬‬
‫وأخرى ال حيلة له فيها ولكنها تضايقنا‪ ،‬وهي أنه تأخذه الغشية بني احلني واحلني"‪..‬‬
‫وجلس الرجل‪:‬‬
‫وأطرق عمر مليا‪ ،‬وابتهل اىل اهلل مهسا قال‪:‬‬
‫" اللهم اين أعرفه من خري عبادك‪..‬‬
‫اللهم ال ختيّب فيه فراسيت"‪..‬‬
‫ودعاه للدفاع عن نفسه‪ ،‬فقال سعيد‪:‬‬
‫أما قوهلم‪ R‬اين ال أخرج اليهم‪ R‬حىت يتعاىل النهار‪..‬‬
‫" فواهلل لق‪RR‬د كنت أك‪RR‬ره ذك‪RR‬ر الس‪RR‬بب‪ ..‬ان‪RR‬ه ليس ألهلي خ‪RR‬ادم‪ ،‬فأن‪RR‬ا أعجن عجي‪RR‬ين‪ ،‬مث أدع‪RR‬ه خيتم‪RR‬ر‪ ،‬مث‬
‫اخبز خبزي‪ ،‬مث أتوضأ للضحى‪ ،‬مث أخرج اليهم"‪..‬‬
‫وهتلل وجه عمر وقال‪ :‬احلمد للله‪ ..‬والثانية‪..‬؟!‬
‫وتابع سعيد حديثه‪:‬‬
‫وأما قوهلم‪ :‬ال أجيب أحدا بليل‪..‬‬
‫فواهلل‪ ،‬لقد كنت أكره ذكر السبب‪ ..‬اين جعلت النهار هلم‪،‬والليل لريب"‪..‬‬
‫أما قوهلم‪ :‬ان يل يومني يف الشهر ال أخرج فيهما‪...‬‬
‫" فليس يل خادم يغسل ثويب‪ ،‬وليس يب ثياب أب ّدهلا‪ ،‬فأنا أغسل ثويب مث أنتظر أن جيف بع‪RR‬د حني‪ ..‬ويف‬
‫آخر النهار أخرج اليهم‪." R‬‬
‫وأما قوهلم‪ :‬ان الغشية تأخذين بني احلني واحلني‪..‬‬
‫" فق‪RR‬د ش‪RR‬هدت مص‪RR‬رع خ‪RR‬بيب األنص‪RR‬اري‪ R‬مبك‪RR‬ة‪ ،‬وق‪RR‬د بض‪RR‬عت ق‪RR‬ريش حلم‪RR‬ه‪ ،‬ومحل‪RR‬وه على جذع‪RR‬ه‪ ،‬وهم‬
‫يقول‪RR‬ون ل‪RR‬ه‪ :‬أحب أن حمم‪RR‬دا مكان‪RR‬ك‪ ،‬وأنت س‪RR‬ليم مع‪RR‬اىف‪..‬؟ فيجيبهم ق‪RR‬ائال‪ :‬واهلل م‪RR‬ا أحب أين يف أهلي‬
‫وولدي‪ ،‬معي عافية الدنيا ونعيمها‪ ،‬ويصاب رسول اهلل بشوكة‪..‬‬
‫‪ | 110‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فكلم ‪RR‬ا ذك ‪RR‬رت ذل ‪RR‬ك املش ‪RR‬هد ال ‪RR‬ذي‪ R‬رأيته ‪RR‬و أن ‪RR‬ا يومئ ‪RR‬ذ من املش ‪RR‬ركني‪ ،‬مث ت ‪RR‬ذكرت ت ‪RR‬ركي نص ‪RR‬رة خ ‪RR‬بيب‬
‫يومها‪ ،‬أرجتف خوفا من عذاب اهلل‪ ،‬ويغشاين الذي‪ R‬يغشاين"‪..‬‬
‫وانتهت كلمات سعيد اليت كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة‪..‬‬
‫ومل ميالك عمر نفسه ونشوه‪ ،‬فصاح من فرط حبوره‪.‬‬
‫" احلمد للله الذي‪ R‬مل خييّب فراسيت"‪!.‬‬
‫وعانق سعيدا‪ ،‬وقبّل جبهته املضيئة العالية‪...‬‬
‫**‬

‫أي حظ من اهلدى ناله هذا الطراز من اخلق‪..‬؟‬


‫أي معلم كان رسول اهلل‪..‬؟‬
‫اي نور نافذ‪ ،‬كان كتاب اهلل‪..‬؟؟‬
‫وأي مدرسة ملهمة ومعلمة‪ ،‬كان االسالم‪..‬؟؟‬
‫ولكن‪ ،‬هل تستطيع األرض‪ R‬أن حتمل فوق ظهرها عددا كثريا من هذا الطراز‪..‬؟؟‬
‫انه لو حدث هذا‪ ،‬ملا بقيت أرضا‪ ،‬اهنا تصري فردوسا‪..‬‬
‫أجل تصري الفردوس املوعود‪..‬‬
‫وملا ك‪RR‬ان الف‪RR‬ردوس مل ي‪RR‬أت زمان‪RR‬ه بع‪RR‬د ف‪RR‬ان ال‪RR‬ذين ميرون باحلي‪RR‬اة ويع‪RR‬ربون األرض‪ R‬من ه‪RR‬ذا الط‪RR‬راز‪ R‬اجملي‪RR‬د‬
‫اجلليل‪ ..‬قللون دائما ونادرون‪..‬‬
‫وسعيد بن عامر واحد منهم‪..‬‬
‫كان عطاؤه وراتبه حبكم عمله ووظيفته‪ ،‬ولكنه كان يأخذ منه م‪R‬ا يكفي‪R‬ه وزوج‪R‬ه‪ ..‬مث ي‪R‬وزع باقي‪R‬ه على‬
‫بيوت أخرى فقرية‪...‬‬
‫ولقد قيل له يوما‪:‬‬
‫توسع هبذا الفائض على أهلم وأصهارك"‪..‬‬ ‫" ّ‬
‫فأجاب قائال‪:‬‬
‫‪ | 111‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" وملاذا أهلي وأصهاري‪..‬؟‬


‫ال واهلل ما أنا ببائع رضا اهلل بقرابة"‪..‬‬

‫وطاملا كان يقال له‪:‬‬


‫توسع وأهل بيتك يف النفقة وخذ من طيّبات احلياة"‪..‬‬ ‫" ّ‬
‫ولكنه كان جييب دائما‪ ،‬ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه‪:‬‬
‫" م‪RR‬ا أن‪RR‬ا ب‪RR‬النتخلف عن الرعي‪RR‬ل األول‪ ،‬بع‪RR‬د أن مسعت رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يق‪RR‬ول‪ :‬جيم‪RR‬ع اهلل‬
‫عز وجل الناس للحساب‪ ،‬فيحيء فقراء املؤمنني يزفون كما ت‪R‬زف احلام‪R‬ام‪ ،‬فيق‪R‬ال هلم‪ :‬قف‪R‬وا للحس‪R‬اب‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬ما كان لنا شيء حناسب عليه‪ ..‬فيقول اهلل‪ :‬صدق عبادي‪ ..‬فيدخلون اجلنة قبل الناس"‪..‬‬

‫**‬

‫ويف العام العشرين من اهلجرة‪ ،‬لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة‪ ،‬وأتقى ما يكون قلبا‪ ،‬وأنضر ما‬
‫يكون سرية‪..‬‬
‫لقد طال شوقه اىل الرعيل األول الذي نذر حياته حلفظه وعهده‪ ،‬وتتبع خطاه‪..‬‬
‫األوابني املتطهرين‪..‬‬
‫أجل لقد طال شوقه اىل رسوله ومعلمه‪ ..‬واىل رفاقه ّ‬
‫واليوم يالقيهم قرير العني‪ ،‬مطمئن النفس‪ ،‬خفيف الظهر‪..‬‬
‫ليس معه وال وراءه من أمحال الدنيا‪ R‬ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله‪،،‬‬
‫ليس معه اال ورعه‪ ،‬وزهده‪ ،‬وتقاه‪ ،‬وعظمة نفسه وسلوكه‪..‬‬
‫وفضائل تثقل امليزان‪ ،‬ولكنها ال تثقل الظهور‪!!..‬‬
‫ومزايا هز هبا صاحبها الدنيا‪ ،‬ومل يهزها غرور‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 112‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫سالم على سعيد بن عامر‪..‬‬


‫سالم عليه يف حمياه‪ ،‬وأخراه‪..‬‬
‫وسالم‪ ..‬مث سالم على سريته وذكراه‪..‬‬
‫وسالم على الكرام الربرة‪ ..‬أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫محزة بن عبد املطلب‬


‫أسد اهلل وسيّد الشهداء‬

‫ط يف نومها‪ ،‬بعد يوم مليء بالسعي‪ ،‬وبالك ّد‪ ،‬وبالعبادة وباللهو‪..‬‬ ‫كانت مكة تغ ّ‬
‫والقرش‪RR‬يون يتقلب‪RR‬ون يف مض‪RR‬اجعهم ه‪RR‬اجعني‪ ..‬غ‪RR‬ري واح‪RR‬د هن‪RR‬اك يتج‪RR‬اىف عن املض‪RR‬جع جنب‪RR‬اه‪ ،‬ي‪RR‬أوي اىل‬
‫فراش‪RR‬ه مربك‪RR‬ا‪ ،‬ويس‪RR‬رتيح س‪RR‬اعات قليل‪RR‬ة‪ ،‬مث ينهض يف ش‪RR‬وق عظيم‪ ،‬ألن‪RR‬ه م‪RR‬ع اهلل على موع‪RR‬د‪ ،‬فيعم‪R‬د‪ R‬اىل‬
‫مص‪RR‬اله يف حجرت‪RR‬ه‪ ،‬ويظ‪RR‬ل ين‪RR‬اجي رب‪RR‬ه وي‪RR‬دعوه‪ ..‬وكلم‪RR‬ا اس‪RR‬تيقظت زوجت‪RR‬ه على أزي‪RR‬ر ص‪RR‬دره الض‪RR‬ارع‬
‫احلارو امللح‪RR‬ة‪ ،‬وأخ‪RR‬ذهتا الش‪RR‬فقة علي‪RR‬ه‪ ،‬ودعت‪RR‬ه أن يرف‪RR‬ق بنفس‪RR‬ه ويأخ‪RR‬ذ حظ‪RR‬ه من الن‪RR‬وم‪ ،‬جييبه‪RR‬ا‬ ‫وابتهاالت‪RR‬ه ّ‬
‫ودموع عينيه تسابق كلماته‪:‬‬
‫" لقد انقضى عهد النوم يا خدجية"‪!!..‬‬
‫مل يكن أم‪RR‬ره ق‪RR‬د ّأرق ق‪RR‬ريش بع‪RR‬د‪ ،‬وان ك‪RR‬ان ق‪RR‬د ب‪RR‬دأ يش‪RR‬غال انتباهه‪RR‬ا‪ ،‬فلق‪RR‬د ك‪RR‬ان ح‪RR‬ديث عه‪RR‬د بدعوت‪RR‬ه‪،‬‬
‫وكان يقول كلمته سرا ومهسا‪.‬‬
‫كان الذين آمنوا به يومئذ قليلني جدا‪..‬‬
‫وك‪RR‬ان هن‪RR‬اك من غ‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني ب‪RR‬ه من حيم‪RR‬ل ل‪RR‬ه ك‪RR‬ل احلب واالجالل‪ ،‬ويط‪RR‬وي جواحنه على ش‪RR‬وق عظيم‬
‫اىل االميان ب ‪RR‬ه والس ‪RR‬ري يف قافلت ‪RR‬ه املبارك ‪RR‬ة‪ ،‬ال مينع ‪RR‬ه س ‪RR‬وى مواض ‪RR‬عات الع ‪RR‬رف والبيئ ‪RR‬ة‪ ،‬وض ‪RR‬غوط التقالي ‪R‬د‪R‬‬
‫والوراثة‪ ،‬والرتدد بني نداء الغروب‪ ،‬ونداء الشروق‪.‬‬
‫من هؤالء كان محزة بن عبد املطلب‪ ..‬عم النيب صلى اهلل عليه وسلم وأخوه من الرضاعة‪.‬‬
‫‪ | 113‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫كان محزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله‪ ..‬وكان على بيّنة من حقيقة أمره‪ ،‬وجوهر خصاله‪..‬‬
‫فه‪RR‬و ال يع‪RR‬رف معرف‪RR‬ة العم ب‪RR‬ابن أخي‪RR‬ه فحس‪RR‬ب‪ ،‬ب‪RR‬ل معرف‪RR‬ة األخ ب‪RR‬األخ‪ ،‬والص‪RR‬ديق بالص‪RR‬ديق‪ ..‬ذل‪RR‬ك أن‬
‫رسول اهلل ومحزة من جيل واحد‪ ،‬وسن متقاربة‪ .‬نشأ معا وتآخيا معا‪ ،‬وسارا معا على الدرب من أوله‬
‫خطوة خطوة‪..‬‬

‫ولئن ك‪RR‬ان ش‪RR‬باب ك‪RR‬ل منهم‪RR‬ا ق‪RR‬د مض‪RR‬ى يف طري‪RR‬ق‪ ،‬فأخ‪RR‬ذ محزة ي‪RR‬زاحم أن‪RR‬داده يف ني‪RR‬ل طيب‪RR‬ات احلي‪RR‬اة‪،‬‬
‫وافس‪R‬اح‪ R‬مك‪R‬ان لنفس‪RR‬ه بني زعم‪R‬اء مك‪R‬ة وس‪R‬ادات ق‪R‬ريش‪ ..‬يف حني عك‪R‬ف حمم‪RR‬د على اض‪RR‬واء روح‪R‬ه ال‪RR‬يت‬
‫انطلقت تن‪RR‬ري ل‪RR‬ه الطري‪RR‬ق اىل اهلل وعلى ح‪RR‬ديث قلب‪RR‬ه ال‪RR‬ذي‪ R‬ن‪RR‬أى ب‪RR‬ه من ضوض‪RR‬اء احلي‪RR‬اة اىل التأم‪RR‬ل العمي‪RR‬ق‪،‬‬
‫واىل التهيؤ ملصافحة احلق وتلقيه‪..‬‬
‫نق‪RR‬ول لئن ك‪RR‬ان ش‪RR‬باب ك‪RR‬ل منهم‪RR‬ا ق‪RR‬د اختذ وجه‪RR‬ة مغ‪RR‬ايرة‪ ،‬ف‪RR‬ان محزة مل تغب عن وعي‪RR‬ه حلظ‪RR‬ة من هنار‬
‫حتل لص‪RR‬احبها مكان‪RR‬ا عليّ‪RR‬ا يف أفئ‪RR‬دة الن‪RR‬اس‬
‫فض‪RR‬ائل ترب‪RR‬ه وابن أخي‪RR‬ه‪ ..‬تل‪RR‬ك الفض‪RR‬ائل واملك‪RR‬ارم ال‪RR‬يت ك‪RR‬انت ّ‬
‫كافة‪ ،‬وترسم صورة واضحة ملستقبله العظيم‪.‬‬
‫يف صبيحة ذلك اليوم‪ ،‬خرج محزة كعادته‪.‬‬
‫وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداهتا فجلس معهم‪ ،‬يستمع ملا يقولون‪..‬‬
‫وكانوا يتحدثون عن حممد‪..‬‬
‫مر ة رآهم محزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه‪ ..‬وتظهر يف أحاديثهم عنه ن‪RR‬ربة احلق‪RR‬د‪،‬‬ ‫وألول ّ‬
‫والغيظ واملرارة‪.‬‬
‫لقد كانوا من قبل ال يبالون‪ ،‬أو هم يتظاهرون بعدم االكرتاث والالمباالة‪.‬‬
‫واهلم‪ ،‬والرغبة يف االفرتاس‪.‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬فوجوههم متوج موجا بالقلق‪ّ ،‬‬
‫وضحك محزة من أحاديثهم طويال‪ ..‬ورماهم باملبالغة‪ ،‬وسوء التقدير‪..‬‬
‫‪ | 114‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعقب أبو جه‪RR‬ل مؤك‪RR‬دا‪ R‬جللس‪R‬ائه أن محزة أك‪RR‬ثر االنس علم‪RR‬ا خبط‪R‬ر م‪R‬ا ي‪RR‬دعو الي‪RR‬ه حمم‪RR‬د ولكن‪R‬ه يري‪RR‬د أم‬
‫يهون األمر حىت تنام قريش‪ ،‬مث تصبح يوما وقد‪ R‬ساء صاحبها‪ ،‬وظهر أمر ابن أخيه عليها‪...‬‬ ‫ّ‬
‫‪R‬ارة‪ ،‬وميتعض أخ ‪RR‬رى‪ ،‬وحني انفض اجلمي ‪RR‬ع‬ ‫ومض ‪RR‬وا‪ R‬يف ح ‪RR‬ديثهم يزجمرون‪ ،‬ويتوع ‪RR‬دون‪ ..‬ومحزة يبتس ‪RR‬م ت ‪ّ R‬‬
‫وذهب ك‪RR‬ل اىل س‪RR‬بيله‪ ،‬ك‪RR‬ان محزة مثق‪RR‬ل ال‪RR‬رأس بأفك‪RR‬ار جدي‪RR‬دة‪ ،‬وخ‪RR‬واطر جدي‪RR‬دة‪ .‬راح يس‪RR‬تقبل هبا أم‪RR‬ر‬
‫ابن أخيه‪ ،‬ويناقشه مع نفسه من جديد‪!!!...‬‬

‫**‬

‫ومضت‪ R‬األيام‪ ،‬ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد مههمة قريش حول دعوة الرسول‪..‬‬
‫حترش‪ .‬ومحزة يرقب املوقف من بعيد‪..‬‬ ‫تتحول مههمة قريش اىل ّ‬ ‫مث ّ‬
‫ان ثبات ابن أخيه ليبهره‪ ..‬وان تفاني‪R‬ه يف س‪R‬بيل اميان‪R‬ه ودعوت‪R‬ه هلو ش‪R‬يء جدي‪R‬د على ق‪R‬ريش كله‪R‬ا‪ ،‬ب‪R‬رغم‬
‫ما عرفت من تفان وصمود‪!!..‬‬
‫ولو استطاع الشك يومئذ أن خيدع أح‪RR‬دا عن نفس‪RR‬ه يف ص‪R‬دق الرس‪R‬ول وعظم‪R‬ة س‪RR‬جاياه‪ ،‬فم‪R‬ا ك‪RR‬ان ه‪R‬ذا‬
‫الشك بقادر على أن جيد اىل وعي محزة منفا أو سبيال‪..‬‬
‫فحمزة خري من عرف حممدا‪ ،‬من طفولته الباكرة‪ ،‬اىل شباب الطاهر‪ ،‬اىل رجولته األمينة السامقة‪..‬‬
‫ان‪RR‬ه يعرف‪RR‬ه متام‪RR‬ا كم‪RR‬ا يع‪RR‬رف نغس‪RR‬ه‪ ،‬ب‪R‬ل أك‪RR‬ثر مما يع‪RR‬رف نفس‪RR‬ه‪ ،‬ومن‪RR‬ذ ج‪R‬اءا اىل احلي‪RR‬اة مع‪RR‬ا‪ ،‬وترعرع‪RR‬ا مع‪RR‬ا‪،‬‬
‫وبلغ‪R‬ا أش‪ّ R‬دمها مع‪RR‬ا‪ ،‬وحي‪RR‬اة حمم‪RR‬د كله‪R‬ا نقي‪RR‬ة كأش‪RR‬عة الش‪R‬مس‪ !!..‬ال ي‪R‬ذكر محزة ش‪RR‬بهة واح‪R‬دة أملت هبذه‬
‫ّ‬
‫احلياة‪ ،‬ال يذكر أنه رآه يوما غاضبا‪ ،‬أو قانطا‪ ،‬أو طامعا‪،‬أو الهيا‪ ،‬أو مهزوزا‪...‬‬
‫ومحزة مل يكن يتمتع بقوة اجلسم فحسب‪ ،‬بل وبرجاحة العقل‪ ،‬وقوة اارادة أيضا‪..‬‬
‫ومن مث مل يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متاهبة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل األمانة‪ ..‬وهك‪RR‬ذا‬
‫سيتكشف يف يوم قريب‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫طوى صدره اىل حني على أمر‬

‫**‬
‫‪ | 115‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وجاء اليوم املوعود‪..‬‬


‫ميمم‪RR R‬ا وجه‪RR R‬ه ش‪RR R‬طر الفالة ليم‪RR R‬ارس هوايت‪RR R‬ه احملبب‪RR R‬ة‪ ،‬ورياض‪RR R‬ته‬
‫وخ‪RR R‬رج محزة من داره‪،‬متوش‪RR R‬حا قوس‪RR R‬ه‪ّ ،‬‬
‫األثرية‪ ،‬الصيد‪ ..‬وكان صاحب مهارة فائقة فيه‪..‬‬
‫وقضى هناك بعض يومه‪ ،‬وملا عاد من قنص‪RR‬ه‪ ،‬ذهب كعادت‪RR‬ه اىل الكعب‪RR‬ة ليط‪RR‬وف هبا قب‪R‬ل أن يقف‪R‬ل راجع‪R‬ا‬
‫اىل داره‪.‬‬
‫وقريبا من الكعبة‪ ،‬لقته خادم لعبداهلل بن جدعان‪..‬‬
‫ومل تكد تبصره حىت قالت له‪:‬‬
‫" ي ‪RR‬ا أب ‪RR‬ا عم ‪RR‬ارة‪ ..‬ل ‪RR‬و رأيت م ‪RR‬ا اقي ابن أخي ‪RR‬ك حمم ‪RR‬د آنف ‪RR‬ا‪ ،‬من أيب احلكم بن هش ‪RR‬ام‪ ..‬وج ‪RR‬ده جالس ‪RR‬ا‬
‫هناك ‪ ،‬فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره"‪..‬‬
‫ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول اهلل‪..‬‬
‫واستمع محزة جيدا لقوهلا‪ ،‬مث أطرق حلظة‪ ،‬مث مد ميين‪R‬ه اىل قوس‪RR‬ه فثبته‪RR‬ا ف‪RR‬وق كتف‪RR‬ه‪ ..‬مث انطل‪R‬ق يف خطى‬
‫سريعة حازمة صوب الطعبة راجيا أن يلتقي عندها بأيب جهل‪ ..‬فان هو مل جيده هناك‪ ،‬فسيتابع البحث‬
‫عنه يف كل مكان حىت يالقيه‪..‬‬
‫ولكنه ال يكاد يبلغ الكعبة‪ ،‬حىت يبصر أبا جهل يف فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش‪..‬‬
‫‪R‬جه‬ ‫‪R‬تل قوس ‪RR‬ه وه ‪RR‬وى ب ‪RR‬ه على رأس أيب جه ‪RR‬ل فش ‪ّ R‬‬ ‫ويف ه ‪RR‬دوء رهيب‪ ،‬تق‪ّ R R‬دم محزة من أيب جه ‪RR‬ل‪ ،‬مث اس ‪ّ R‬‬
‫وأدماه‪ ،‬وقبل أن يفيق اجلالسون من الدهشة‪ ،‬صاح محزة يف أيب جهل‪:‬‬
‫علي ان استطعت"‪..‬‬ ‫فرد ذلك ّ‬ ‫" أتشتم حممدا‪ ،‬وأنا على دينه أقول ما يقول‪..‬؟! اال ّ‬

‫ويف حلظ‪RR‬ة نس‪RR‬ي اجلالس‪RR‬ون مجيع‪RR‬ا االهان‪RR‬ة ال‪RR‬يت ن‪RR‬زلت ب‪RR‬زعيمهم أيب جه‪RR‬ل وال‪RR‬دم‪ R‬ل‪RR‬ذي ي‪RR‬نزف من رأس‪RR‬ه‪،‬‬
‫وشغلتهم تلك الكلم‪R‬ة ال‪R‬يت ح‪R‬اقت هبم طالص‪R‬اعقة‪ ..‬الكلم‪R‬ة ال‪R‬يت أعلن هبا محزة أن‪R‬ه على دين حمم‪R‬د‪ R‬ي‪R‬رى‬
‫ما يراه‪ ،‬ويقول ما يقوله‪..‬‬
‫أمحزة يسلم‪..‬؟‬
‫أعز فتيان قريش وأقواهم شكيمة‪..‬؟؟‬ ‫ّ‬
‫‪ | 116‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الطامة ال‪R‬يت لن متل‪R‬ك ق‪RR‬ريش هلا دفع‪R‬ا‪ ..‬فاس‪RR‬الم محزة س‪R‬يغري كث‪RR‬ريين من الص‪RR‬فوة باالس‪R‬الم‪ ،‬وس‪R‬يجد‬‫اهنا ّ‬
‫حممد حول‪R‬ه من الق‪R‬وة والب‪R‬أس م‪R‬ا يع‪RR‬زز دعوت‪R‬ه ويش‪ّ R‬د ازره‪ ،‬وتص‪RR‬حو ق‪R‬ريش ذات ي‪R‬وم على ه‪R‬دير املع‪RR‬اول‬
‫حتطم أصنامها وآهلتها‪!!..‬‬
‫جيرت خيب‪RR‬ة‬
‫أجل أسلم محزة‪ ،‬وأعلن على املأل األمر الذي‪ R‬ك‪R‬ان يط‪R‬وي علي‪R‬ه ص‪RR‬دره‪ ،‬وت‪RR‬رك اجلم‪RR‬ع ال‪R‬ذاهل ّ‬
‫أمله‪ ،‬وأب‪RR‬ا جه‪R‬ل يلع‪R‬ق دم‪R‬اءه النازف‪R‬ة من رأس‪R‬ه املش‪R‬جوج‪ ..‬وم‪ّ R‬د محزة ميين‪R‬ه م ّ‪R‬رة أخ‪R‬رى اىل قوس‪R‬ه فثبته‪RR‬ا‬
‫فوق كتفه‪ ،‬واستقبل الطريق اىل داره يف خطواته الثابتة‪ ،‬وبأسه الشديد‪!..‬‬

‫**‬

‫كان محزة حيمل عقال نافذا‪ ،‬وضمريا‪ R‬مستقيما‪..‬‬


‫وحني عاد اىل بيته ونضا عنه متاعب يومه‪ .‬جلس يفك‪RR‬ر‪ ،‬وي‪RR‬دير خ‪RR‬واطره على ه‪RR‬ذا ال‪RR‬ذي ح‪RR‬دث ل‪RR‬ه من‬
‫قريب‪..‬‬
‫كيف أعلن اسالمه ومىت‪..‬؟‬
‫لقد أعلنه يف حلظات احلميّة‪ ،‬والغضب‪ ،‬واالنفعال‪..‬‬
‫لقد ساءه أن يساء اىل ابن اخيه‪ ،‬ويظلم دون أن جيد له ناصرا‪ ،‬فيغضب له‪ ،‬وأخذته احلميّ‪RR‬ة لش‪RR‬رف ب‪RR‬ين‬
‫فشج رأس أيب جهل وصرخ يف وجهه باسالمه‪...‬‬ ‫هاشم‪ّ ،‬‬
‫ولكن ه‪RR‬ل ه‪RR‬ذا ه‪RR‬و الطري‪RR‬ق األمث‪RR‬ل ل‪RR‬ك يغ‪RR‬دار‪ R‬االنس‪RR‬ان دين آبائ‪RR‬ه وقوم‪RR‬ه‪ ...‬دين ال‪RR‬دهور والعص‪RR‬ور‪ ..‬مث‬
‫يستقبل دينا جديدا مل خيترب بعد تعاليمه‪ ،‬وال يعرف عن حقيقته اال قليال‪..‬‬
‫صحيح أنه ال يشك حلظة يف صدق حممد ونزاهة قصده‪..‬‬
‫ولكن أميكن أن يس‪RR‬تقبل ام‪RR‬رؤ دين‪RR‬ا جدي‪RR‬دا‪ ،‬بك‪RR‬ل م‪RR‬ا يفرض‪RR‬ه من مس‪RR‬ؤوليات وتبع‪RR‬ات‪ ،‬يف حلظ‪RR‬ة غض‪RR‬ب‪،‬‬
‫مثلما صنع محزة اآلن‪..‬؟؟؟‬

‫وشرع يف ّكر‪ ..‬وقضى أياما‪ ،‬ال يهدأ له خاطر‪ ..‬وليايل ال يرقأ له فيها جفن‪..‬‬
‫‪ | 117‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحني ننشد احلقيقة بواسطة العقل‪ ،‬يفرض الشك نفسه كوسيلة اىل املعرفة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬مل يكد محزة يستعمل يف حبث قضية االسالم‪ ،‬ويوازن‪ R‬بني الدين القدمي‪ ،‬وال‪R‬دين اجلدي‪RR‬د‪ ،‬ح‪R‬ىت‬
‫ثارت يف نفسه ش‪R‬كوك أرجاه‪R‬ا احلنني الفط‪R‬ري املوروث اىل دين آبائ‪R‬ه‪ ..‬والتهيّب الفط‪R‬ري املوروث من‬
‫كل جيد‪..‬‬

‫واستيقظت كل ذكريات‪R‬ه عن الكعب‪RR‬ة‪ ،‬وآهلاه‪RR‬ا وأص‪RR‬نامها‪ ...‬وعن األجماد الديني‪RR‬ة ال‪RR‬ىت أفاءهتا ه‪RR‬ذه اآلهلة‬
‫املنحوتة على قريش كلها‪ ،‬وعلى مكة بأسرها‪.‬‬
‫لقد كان يطوي صدره على احرتام هذه الدعوة اجلديدة اليت حيمل ابن أخيه لواءها‪..‬‬
‫ولكن اذا ك‪RR‬ان مق‪RR‬دورا ل‪RR‬ه أن يك‪RR‬ون أح أتب‪R‬اع ه‪R‬ذه ال‪R‬دعوة‪ ،‬املؤم‪R‬نني هبا‪ ،‬والذائ‪RR‬دين عنه‪RR‬ا‪ ..‬فم‪RR‬ا ال‪RR‬وقت‪R‬‬
‫املناسب للدخول يف هذا الدين‪..‬؟‬
‫حلظة غضب ومحيّة‪..‬؟ أم أوقات تفكري ورويّة‪..‬؟‬
‫وهك‪RR‬ذا فرض‪RR‬ت علي‪RR‬ه اس‪RR‬تقامة ض‪RR‬مريه‪ ،‬ونزاه‪RR‬ة تفك‪RR‬ريه أن خيض‪RR‬ع املس‪RR‬أألة كله‪RR‬ا من جدي‪RR‬د لتفك‪RR‬ر ص‪RR‬ارم‬
‫ودقيق‪..‬‬

‫هوة تتعاظم جمتازها‪..‬‬ ‫وبدأ االنسالخ من هذا التاريخ م\كله‪ ..‬وهذا الدين القدمي العريق‪ّ ،‬‬
‫وعجب محزة كي ‪RR‬ف يتس ‪RR‬ىن النس ‪RR‬ان أن يغ ‪RR‬ادر دين آبائ ‪RR‬ه هبذه الس ‪RR‬هولة وه ‪RR‬ذه الس ‪RR‬رعة‪ ..‬ون ‪RR‬دم على م ‪RR‬ا‬
‫فع ‪RR‬ل‪ ..‬ولكن ‪RR‬ه واص ‪RR‬ل رحل ‪RR‬ة العق ‪RR‬ل‪ ..‬وملا رأى أن العق ‪RR‬ل وح ‪RR‬ده ال يكفي جلأ اىل الغيب‪ R‬بك ‪RR‬ل اخالص ‪RR‬ه‬
‫وصدقه‪..‬‬
‫وعند الكعب‪R‬ة‪ ،‬ك‪R‬ان يس‪R‬تقبل الس‪R‬ماء‪ R‬ض‪R‬ارعا‪ ،‬مبتهال‪ ،‬مس‪R‬تنجدا‪ R‬بك‪R‬ل م‪R‬ا يف الك‪R‬ون من ق‪R‬درة ون‪R‬ور‪ ،‬كي‬
‫يهتدي اىل احلق واىل الطريق املستقيم‪..‬‬
‫ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول‪:‬‬
‫"‪ ..‬مث أدركين الندم على فراق دين آبائي وقومي‪ ..‬وبت من الشك يف أمر عظيم‪ ،‬ال أكتحل بنوم‪..‬‬
‫‪ | 118‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث أتيت الكعب‪RR‬ة‪ ،‬وتض‪Rّ R‬رعت ت‪RR‬اة اهلل أن يش‪RR‬رح ص‪RR‬دري‪ R‬للح‪RR‬ق‪ ،‬وي‪RR‬ذهب ع‪RR‬ين ال‪RR‬ريب‪ ..‬فاس‪RR‬تجاب اهلل يل‬
‫ومأل قليب يقينا‪..‬‬
‫وغ‪RR‬دوت اىل رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى ال‪RR‬ل علي‪R‬ه وس‪RR‬لم فأخربت‪RR‬ه مبا ك‪RR‬ان من أم‪RR‬ري‪ ،‬ف‪RR‬دع اهلل أن يثبت قل‪RR‬يب على‬
‫دينه‪"..‬‬
‫وهكذا أسلم محزة اسالم اليقيم‪..‬‬

‫**‬

‫أعز اهلل االسالم حبمزة‪..‬ز ووقف شاخما قويا يذود عن رسول اهلل‪ ،‬وعن املستضعفني من أصحابه‪..‬‬
‫حيرض قريش‪R‬ا على ان‪R‬زال‬ ‫ورآه أبو جه‪R‬ل يق‪R‬ف يف ص‪R‬فوف املس‪R‬لمني‪ ،‬ف‪R‬أدرك أهنا احلرب ال حمال‪R‬ة‪ ،‬وراح ّ‬
‫األذى بالرسول وصحبه‪ ،‬ومضى يهيء حلرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده‪..‬‬
‫ومل يس ‪RR‬تطع محزة أن مين ‪RR‬ع ك ‪RR‬ل األذى ولكن اس ‪RR‬المه م ‪RR‬ع ذل ‪RR‬ك ك ‪RR‬ان وقاي ‪RR‬ة ودرع ‪RR‬ا‪ ..‬كم ‪RR‬ا ك ‪RR‬ان اغ ‪RR‬راء‬
‫ناجحا لكثري من القبائ‪R‬ل ال‪R‬يت قاده‪R‬ا اس‪R‬الم محزة أوال‪ .‬مث اس‪R‬الم عم‪R‬ر بن اخلط‪R‬اب بع‪R‬د ذل‪R‬ك اىل االس‪R‬الم‬
‫فدخلت فيه أفواجا‪!!..‬‬
‫ومنذ أسلم محزة نذر كل عافيته‪ ،‬وبأسه‪ ،‬وحياته‪ ،‬هلل ولدينه حىت خلع النيب عليه هذا اللقب العظيم‪:‬‬
‫"أسد اهلل‪ ،‬وأسد رسوله"‪..‬‬
‫وأول سرية خرج فيها املسلمون للقاء عدو‪ ،‬كان أمريها محزة‪..‬‬
‫وأول راية عقدها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألحد من املسلمني كانت حلمزة‪..‬‬
‫ويوم التقى اجلمعان يف غزوة بدر‪ ،‬كان أسد اهلل ورسوله هناك يصنع األعاجيب‪!!..‬‬

‫**‬

‫وعادت فل‪R‬ول ق‪R‬ريش من ب‪R‬در اىل مك‪R‬ة تتع‪R‬ثر يف هزميته‪R‬ا وخيبته‪R‬ا‪ ...‬ورج‪R‬ع أب‪R‬و س‪R‬فيان خمل‪R‬وع القلب‪،‬‬
‫مط‪RR‬أطئ ال{اس‪ .‬وق‪RR‬د خلّ‪RR‬ف على أرض املعرك‪RR‬ة جثث س‪RR‬ادة ق‪RR‬ريش‪ ،‬من أمث‪RR‬ال أيب جه‪RR‬ل‪ ..‬وعتب‪RR‬ة بن‬
‫‪ | 119‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬وأميّة بن خلف‪ .‬وعقبة بن أيب معيط‪ ..‬واألسود بن عبداهلل املخ‪RR‬زومي‪ ،‬والولي‪R‬د‪R‬‬
‫‪R‬دي‪ ..‬وعش ‪RR‬رات مثلهم من رج ‪RR‬ال‬ ‫بن عتب ‪RR‬ة‪ ..‬والنف ‪RR‬ر بن احلارث‪ ..‬والع ‪RR‬اص بن س ‪RR‬عيد‪ ..‬وطعم ‪RR‬ة ابن ع ‪ّ R‬‬
‫قريش وصناديدها‪.‬‬
‫وم ‪RR‬ا ك ‪RR‬انت ق ‪RR‬ريش لتتج ‪Rّ R‬رع ه ‪RR‬ذه اهلزمية املنك ‪RR‬رة يف س ‪RR‬الم‪ ...‬ف ‪RR‬راحت تع ‪ّ R‬د ع ‪ّ R‬دهتا وحتش ‪RR‬د بأس ‪RR‬ها‪ ،‬لتث ‪RR‬أر‬
‫وصممت قريش على احلرب‪..‬‬ ‫لنفسها ولشرفها ولقتالها‪ّ ..‬‬

‫**‬

‫وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها‪ ،‬ومعها حلفاؤها من قبائل العرب‪ ،‬وبقيادة‬
‫أيب سفيان مرة أخرى‪.‬‬
‫وك‪RR‬ان زعم‪RR‬اء ق‪RR‬ريش يه‪RR‬دفون‪ R‬مبع‪RR‬ركتهم اجلدي‪RR‬دة ه‪RR‬ذه اىل رجلني اث‪RR‬نني‪ :‬الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى ال‪RR‬ه علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪،‬‬
‫ومحزة رضي اهلل عنه وأرضاه‪..‬‬
‫أج ‪RR‬ل وال ‪RR‬ذي ك ‪RR‬ان يس ‪RR‬مع أح ‪RR‬اديثهم وم ‪RR‬ؤامراهتم قب ‪RR‬ل اخلروج للح ‪RR‬رب‪ ،‬ي ‪RR‬رى كي ‪RR‬ف ك ‪RR‬ان محزة بع ‪RR‬د‬
‫الرسول بيت القصيد‪ R‬وهدف املعركة‪..‬‬

‫ولق ‪R‬د‪ R‬اخت‪RR‬اروا قب‪RR‬ل اخلروج‪ ،‬الرج‪RR‬ل ال‪RR‬ذي وكل‪RR‬وا الي‪RR‬ه أم‪RR‬ر محزة‪ ،‬وه‪RR‬و عب‪RR‬د حبش‪RR‬ي‪ ،‬ك‪RR‬ان ذا مه‪RR‬ارة‬
‫ويصوب اليه ض‪RR‬ربة قاتل‪RR‬ة من رحمه‪،‬‬
‫خارقة يف قذف احلربة‪ ،‬جعلوا كل دوره يف املعركة أن يتصيّد محزة ّ‬
‫وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر‪ ،‬مهما يكن مصري املعركة واجتاه القتال‪.‬‬
‫ووع‪RR‬دوه بثمن غ‪RR‬ال وعظيم ه‪RR‬و حريّت‪RR‬ه‪ ..‬فق‪RR‬د ك‪RR‬ان الرج‪RR‬ل وامسه وحش‪RR‬ي عب‪RR‬دا جلب‪RR‬ري بن مطعم‪ ..‬وك‪RR‬ان‬
‫عم جبري قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبري"‬
‫" اخرج مع الناس وان أنت قتلت محزة فأنت عتيق"‪!!..‬‬
‫مث أحالوه اىل هند بنت عتبة زوجة أيب سفيان لتزيده حتريضا ودفعا اىل اهلدف الذي‪ R‬يريدون‪..‬‬
‫‪ | 120‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت هند قد فقدت يف معركة بدر أباها‪ ،‬وعمها‪ ،‬وأخاها‪ ،‬وابنها‪ ..‬وقيل هلا ان محزة هو الذي‪ R‬قت‪RR‬ل‬
‫بعض هؤالء‪ ،‬وأجهز على البعض اآلخر‪..‬‬
‫من أج ‪RR‬ل ه ‪RR‬ذا ك ‪RR‬انت أك ‪RR‬ثر القرش ‪RR‬يني والقرش ‪RR‬يّات حتريض ‪RR‬ا على اخلروج للح ‪RR‬رب‪ ،‬ال لش ‪RR‬يء اال لتظف ‪RR‬ر‬
‫برأس محزة مهما يكن الثمن الذي‪ R‬تتطلبه املغامرة‪!!..‬‬
‫ولق ‪R‬د‪ R‬لبثت أيام ‪RR‬ا قب ‪RR‬ل اخلروج للح ‪RR‬رب‪ ،‬وال عم ‪RR‬ل هلا اال اف ‪RR‬راغ ك ‪RR‬ل حق ‪RR‬دها يف ص ‪RR‬در وحش ‪RR‬ي ورس ‪RR‬م‬
‫الدور‪ R‬الذي عليه أن يقوم به‪..‬‬

‫ولق ‪R‬د‪ R‬وعدت‪RR‬ه ان ه‪RR‬و جنح يف ق‪RR‬ال محزة ب‪RR‬أمثن م‪RR‬ا متل‪RR‬ك املرأة من مت‪RR‬اع وزين‪RR‬ة‪ ،‬فلق‪RR‬د أمس‪RR‬كت بأنامله‪RR‬ا‬
‫احلاق‪RR‬دة قرطه‪RR‬ا اللؤل‪RR‬ؤي‪ R‬الثمني وقالئ‪RR‬دها الذهبي‪RR‬ة ال‪RR‬يت ت‪RR‬زدحم ح‪RR‬ول عنقه‪RR‬ا‪ ،‬مث ق‪RR‬الت وعيناه‪RR‬ا حت ّدقان‪ R‬يف‬
‫وحشي‪:‬‬
‫" كل هذا لك‪ ،‬ان قتلت محزة"‪!!..‬‬
‫وسال لعاب وحشي‪ ،‬وطارت خواطره ّتواقة مشتاقة اىل املعركة اليت سريبح فيها حريّته‪ ،‬فال يص‪RR‬ري بع‪RR‬د‬
‫عب ‪RR‬دا أو رقيق ‪RR‬ا‪ ،‬وال ‪RR‬يت س ‪RR‬يخرج منه ‪RR‬ا بك ‪RR‬ل ه ‪RR‬ذا احللي ال ‪RR‬ذي‪ R‬ي ‪RR‬زيّن عن ‪RR‬ق زعيم ‪RR‬ة نس ‪RR‬اء ق ‪RR‬ريش‪ ،‬وزوج ‪RR‬ة‬
‫زعيمها‪ ،‬وابنة سيّدها‪!!..‬‬
‫كانت املؤمرة اذن‪ ..‬وكانت احلرب كلها تريد محزة رضي اهلل عنه بشكل واضح وحاسم‪..‬‬

‫**‬

‫وجاءت غزوة أحد‪...‬‬


‫والتقى اجليش‪RR‬ان‪ .‬وتوس‪RR‬ط محزة أرض املوت والقت‪RR‬ال‪ ،‬مرت‪RR‬ديا لب‪RR‬اس احلرب‪ ،‬وعلى ص‪RR‬دره ريش‪RR‬ة النع‪RR‬ام‬
‫تعود أن يزيّن هبا صدره يف القتال‪..‬‬‫اليت ّ‬
‫وراح يص‪RR‬ول وجيول‪ ،‬ال يري‪RR‬د رأس‪RR‬ا اال قطع‪RR‬ه بس‪RR‬يفه‪ ،‬ومض‪RR‬ى يض‪RR‬رب يف املش‪RR‬ركني‪ ،‬وك‪RR‬أن املناي‪RR‬ا ط‪RR‬وع‬
‫أمره‪ ،‬يقف هبا من يشاء فتصيبه يف صميمه‪!!.‬‬
‫‪ | 121‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وص‪RR‬ال املس‪RR‬لمون مجيع‪RR‬ا ح‪RR‬ىت ق‪RR‬اربوا‪ R‬النص‪RR‬ر احلاس‪RR‬م‪ ..‬وح‪RR‬ىت أخ‪RR‬ذت فل‪RR‬ول ق‪RR‬ريش تنس‪RR‬حب م‪RR‬ذعورة‬
‫هارب ‪RR‬ة‪ ..‬ول ‪RR‬وال أن ت ‪RR‬رك الرم ‪RR‬اة مك ‪RR‬اهنم ف ‪RR‬وق اجلب ‪RR‬ل‪ ،‬ونزل ‪RR‬وا اىل أرض املعرك ‪RR‬ة ليجمع ‪RR‬وا‪ R‬غن ‪RR‬ائم الع ‪RR‬دو‬
‫امله‪R‬زوم‪ ..‬ل‪R‬وال ت‪RR‬ركهم مك‪RR‬اهنم وفتح‪R‬وا‪ R‬الثغ‪R‬رة الواس‪R‬عة لفرس‪RR‬ان ق‪R‬ريش لك‪R‬انت غ‪R‬زوة أح‪RR‬د مق‪R‬ربة لق‪RR‬ريش‬
‫كلها‪ ،‬رجاهلا‪ ،‬ونسائها بل وخيلها وابلها‪!!..‬‬

‫لق‪RR R‬د دهم فرس ‪RR‬اهنا املس ‪RR‬لمني من ورائهم على حني غفل‪RR R‬ة‪ ،‬واعمل‪RR R‬وا فيهم س ‪RR‬يوفهم الظامئ‪RR R‬ة اجملنون ‪RR‬ة‪..‬‬
‫وراح املس‪RR‬لمون جيمع‪RR‬ون‪ R‬أنفس‪RR‬هم من جدي‪RR‬دو وحيمل‪RR‬ون س‪RR‬الحهم ال‪RR‬ذي‪ R‬ك‪RR‬ان بعض‪RR‬هم ق‪RR‬د وض‪RR‬عه حني‬
‫رأى جيش حممد ينسحب ويويل األدبار‪ ..‬ولكن املفاجأة كانت قاسية عنيفة‪.‬‬
‫ورأى محزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبالءه‪..‬‬
‫ووحشي هناك يراقبه‪ ،‬ويتحنّي الفرص‪RR‬ة الغ‪RR‬ادرة‬ ‫ّ‬ ‫وأخذ يضرب عن ميينه ومشاله‪ ..‬وبني يديه ومن خلفه‪..‬‬
‫ليوجه حننوه ضربته‪..‬‬
‫ولندع وحشا يصف لنا املشهد بكلماته‪:‬‬
‫[‪ ..‬وكنت جال حبش‪RR R‬يا‪ ،‬أق‪RR R‬ذف باحلرب ‪RR R‬ة ق‪RR R‬ذف حلبش‪RR R‬ة‪ ،‬فقلم‪RR R‬ا أخطئ هبا ش‪RR R‬يئا‪ ..‬فلم‪RR R‬ا التقى االنس‬
‫وأتبصره حىت رأيته يف عرض الناس مثل اجلمل األورق‪ ..‬يه ّد الناس بس‪R‬يفه ه‪ّ R‬دا‪ ،‬م‪R‬ا‬ ‫خرجت أنظر محزة ّ‬
‫يقف امامه شيء‪ ،‬فواهلل اين ألهتي‪RR‬أ ل‪RR‬ه أري‪R‬ده‪ ،‬وأس‪RR‬ترت من‪R‬ه بش‪RR‬جرة ألقتحم‪RR‬ه أو لي‪RR‬دنو م‪R‬ين‪ ،‬اذ تق‪ّ R‬دمين الي‪R‬ه‬
‫ايل يا بن مقطّعة البظ‪R‬رو‪ .‬مث ض‪R‬ربه ض‪R‬ربة فم‪R‬ا أخط‪R‬أ‬ ‫هلم ّ‬‫سباع بن عبد العزى‪ .‬فلما رآه محزة صاح به‪ّ :‬‬
‫رأسه‪..‬‬
‫عندئذ هززت حربيت حىت اذا رضيت‪ R‬منها دفعتها فوقعت‪ R‬يف ثنّته حىت خرجت من بني رجليه‪ ..‬وهنض‬
‫حنوي فغلب على امره مث مات‪..‬‬
‫وأتيت‪RR R‬ه فأخ‪RR R‬ذت حرب‪RR R‬يت‪ ،‬مث رجعت اىل املعس‪RR R‬كر فقع‪RR R‬دت في‪RR R‬ه‪ ،‬اذ مل يكن يل في‪RR R‬ه حاج‪RR R‬ة‪ ،‬فق‪RR R‬د قتلت‪RR R‬ه‬
‫ألعتق‪]..‬‬

‫وال بأس يف أن ندع وحشيا يكمل حديثه‪:‬‬


‫‪ | 122‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫[فلما قدمت‪ R‬مكة أعتقت‪ ،‬مث أقمت هبا حىت دخلها رسول اهلل ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم ي‪R‬وم الفتح فه‪R‬ربت‬
‫اىل الطائف‪..‬‬
‫علي املذاهب‪ .‬وقلت ‪ :‬احلق‬ ‫فلما خرج وف‪R‬د الط‪R‬ائف اىل رس‪R‬ول اهلل ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم ليس‪R‬لم تعيّت ّ‬
‫بالشام أو اليمن أو سواها‪..‬‬
‫فواهلل اين لفي ذل ‪RR‬ك من مهي اذ ق ‪RR‬ال يل رج ‪RR‬ل‪ :‬وحيك‪ !..‬ان رس ‪RR‬ول ال ‪RR‬ه‪ ،‬واهلل ال يقت ‪RR‬ل أح ‪RR‬د من الن ‪RR‬اس‬
‫يدخل دينه‪..‬‬
‫فخ ‪RR‬رجت ح ‪RR‬ىت ق ‪RR‬دمت على رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم املدين ‪RR‬ة فلم ي ‪RR‬رين اال قائم ‪RR‬ا أمام ‪RR‬ه أش ‪RR‬هد‬
‫ش‪RR‬هادة احلق‪ .‬فلم‪RR‬ا رآين ق‪RR‬ال‪ :‬أوحش‪Rّ R‬ي أنت‪..‬؟ قلت‪ :‬نعم ي‪RR‬ا رس‪RR‬ول اهلل‪ ..‬ق‪RR‬ال‪ :‬فح ‪ّ R‬دثين كي‪RR‬ف قتلت‬
‫محزة‪ ،‬فح ّدثت‪RR R‬ه‪ ..‬فلم‪RR R‬ا ف‪RR R‬رغت من ح‪RR R‬ديثي ق‪RR R‬ال‪ :‬وحيك‪ ..‬غيّب ع‪RR R‬ين وجه‪RR R‬ك‪ ..‬فكنت أتن ّكب طري‪RR R‬ق‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث كان‪ ،‬لئال يراين حىت قبضه اهلل اليه‪..‬‬
‫فلم‪RR‬ا خ‪RR‬رج املس‪RR‬لمون اىل مس‪RR‬يلمة الك‪RR‬ذاب ص‪RR‬احب اليمام‪RR‬ة خ‪RR‬رجت معهم‪ ،‬وأخ‪RR‬ذت حرب‪RR‬يت ال‪RR‬يت قتلت‬
‫هبا محزة‪ ..‬فلم‪RR R‬ا التقى االنس رأيت مس‪RR R‬يلمة الك‪RR R‬ذاب قائم‪RR R‬ا‪ ،‬يف ي‪RR R‬ده الس‪RR R‬يف‪ ،‬فتهي‪RR R‬أت ل‪RR R‬ه‪ ،‬وه‪RR R‬ززت‬
‫حربيت‪ ،‬حىت اذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت‪ R‬فيه‪..‬‬
‫ف‪RR‬ان كنت ق‪RR‬د قتلت حبرب‪RR‬يت ه‪RR‬ذه خ‪RR‬ري الن‪RR‬اس وه‪RR‬و محزة‪ ..‬ف‪RR‬اين ألرج‪RR‬و أن يغف‪RR‬ر اهلل يل اذ قتلت هبا ش‪Rّ R‬ر‬
‫الناس مسيلمة]‪..‬‬

‫**‬

‫هكذا سقط أسد اهلل ورسوله‪ ،‬شهيدا جميدا‪!!..‬‬


‫مدوية كذلك‪..‬‬ ‫مدوية‪ ،‬كانت موتته ّ‬ ‫وكما كانت حياته ّ‬
‫فلم يكت‪RR‬ف أع‪RR‬داؤه مبقتل‪RR‬ه‪ ..‬وكي‪RR‬ف يكتف‪RR‬ون أو يقتنع‪RR‬ون‪ ،‬وهم ال‪RR‬ذين جنّ‪RR‬دوا ك‪RR‬ل أم‪RR‬وال ق‪RR‬ريش وك‪RR‬ل‬
‫وعمه محزة‪..‬‬
‫رجاهلا يف هذه املعركة اليت مل يريدوا هبا سوى الرسول ّ‬
‫‪ | 123‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أيب سفيان‪ ..‬أم‪R‬رت وحش‪R‬يا أن يأتيه‪R‬ا بكب‪R‬د محزة‪ ..‬واس‪R‬تجاب احلبش‪R‬ي‬
‫هلذه الرغب ‪RR R‬ة املس ‪RR R‬عورة‪ ..‬وعن ‪RR R‬دما ع ‪RR R‬اد هبا اىل هن ‪RR R‬د ك ‪RR R‬ان يناوهلا الكب‪R R R‬د‪ R‬بيمن ‪RR R‬اه‪ ،‬ويتلقى منه ‪RR R‬ا قرطه ‪RR R‬ا‬
‫وقالئدها بيسراه‪ ،‬مكافأة له على اجناز مهمته‪..‬‬

‫ومض‪RR R‬غت‪ R‬هن‪RR R‬د بنت عتب ‪RR‬ة ال‪RR R‬ذي‪ R‬ص‪RR R‬رعه املس‪RR R‬لمون بب‪RR R‬در‪ ،‬وزوج‪RR R‬ة أيب س‪RR R‬فيان قائ‪RR R‬د جي‪RR R‬وش الش‪RR R‬رك‬
‫الوثني‪RR‬ة‪،‬مض‪RR‬غت كب‪RR‬د محزة‪ ،‬راجي‪RR‬ة أن تش‪RR‬في تل‪RR‬ك احلماق‪RR‬ة حق‪RR‬دها وغله‪RR‬ا‪ .‬ولكن الكب‪R‬د‪ R‬استعص‪RR‬ت على‬
‫أنياهبا‪ ،‬وأعجزهتا أن تسيغها‪ ،‬فأخرجتها من فمها‪ ،‬مث علت صخرة مرتفعة‪ ،‬وراحت تصرخ قائلة‪:‬‬
‫حنن جزيناكم بيوم بدر‬
‫واحلرب بعد احلرب ذات سعر‬
‫ما كان عن عتبة يل من صرب‬
‫وعمه وبكري‬ ‫وال أخي ّ‬
‫شفيت نفسي وقضيت‪ R‬نذري‬
‫أزاح وحشي غليل صدري‪R‬‬

‫وانتهت‪ R‬املعركة‪ ،‬وامتطى املشركون ابلهم‪ ،‬وساقوا خيلهم قافلني اىل مكة‪..‬‬
‫ونزل الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه معه اىل أرض املعركة لينظر شهداءها‪..‬‬
‫وهن ‪RR‬اك يف بطن ال‪RR R‬وادي‪ .‬وا ه‪RR R‬و يتفحص وج ‪RR‬وه أص‪RR R‬حابه ال‪RR R‬ذين ب‪RR R‬اعوا هلل أنفس ‪RR‬هم‪ ،‬وق‪ّ R R‬دموها‪ R‬ق ‪RR‬رابني‬
‫مربورة لرهبم‪ R‬الكبري‪ .‬وقف فجأة‪ ..‬ونظر‪ .‬فوجم‪ ..‬وضغط على أسنانه‪ ..‬وأسبل جفنيه‪..‬‬

‫فم ‪RR‬ا ك ‪RR‬ان يتص ‪Rّ R‬ور ق ‪RR‬ط أن يهب ‪RR‬ط اخلل ‪RR‬ق الع ‪RR‬ريب على ه ‪RR‬ذه الوحش ‪RR‬ية البش ‪RR‬عة فيمث ‪RR‬ل جبثم ‪RR‬ان ميت على‬
‫الصورة اليت رأى فيها جثمان عمه الشهيد‪ R‬محزة بن عبد املطلب أسد اهلل وسيّد الشهداء‪..‬‬
‫عمه‪:‬‬ ‫وفتح الرسول عينيه اليت تألق بريقهما كومض القدر‪ R‬وقال وعيناه على جثمان ّ‬
‫" لن اصاب مبصلك أبدا‪..‬‬
‫‪ | 124‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ايل من موقفي هذا‪."..‬‬


‫وما وقفت موقفا قط أغيظ ّ‬

‫مث التفت‪ R‬اىل أصحابه وقال‪:‬‬


‫" ل ‪RR‬وال أن حتزن ص ‪RR‬فيّة _أخت محزة_ ويك ‪RR‬ون س ‪RR‬نّه من بع ‪RR‬دي‪ ،‬لرتكت ‪RR‬ه ح ‪RR‬ىت يك ‪RR‬ون يف بط ‪RR‬ون الس ‪RR‬باع‬
‫وحواصل الطري‪ ..‬ولئن أظهرين اهلل على قريش يف موطن من املواطن‪ ،‬ألمثلن بثالثني رجال منهم‪"..‬‬
‫فصاح أصحاب الرسول‪:‬‬
‫" واهلل لئن ظفرنا هبم يوما من الدهر‪ ،‬لنمثلن هبم‪ ،‬مثلة مل ميثلها أحد من العرب‪"!!..‬‬

‫يكرم‪RR‬ه م‪RR‬رة أخ‪RR‬رى ب‪RR‬أن جيع‪RR‬ل من مص‪RR‬رعه فرص‪RR‬ة ل‪RR‬درس عظيم‬


‫ولكن اهلل ال‪RR‬ذي‪ R‬أك‪RR‬رم محزة بالش‪RR‬هادة‪ّ ،‬‬
‫حيمي العدالة اىل األبد‪ ،‬وجيعل الرمحة حىت يف العقوبة والقصاص‪ R‬واجبا وفرضا‪..‬‬
‫وهكذا مل يكد الرسول صلى اهلل عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف ح‪RR‬ىت ج‪RR‬اءه ال‪R‬وحي وه‪R‬و يف‬
‫مكانه مل يربحه هبذه اآلية الكرمية‪:‬‬
‫(ادع اىل رب‪RR‬ك باحلكم‪RR‬ة واملوعظ‪RR‬ة احلس‪RR‬نة‪ ،‬وج‪RR‬ادهلم ب‪RR‬اليت هي أحس‪RR‬ن‪ ،‬ان رب‪RR‬ك ه‪RR‬و أعلم مبن ض‪RR‬ل عن‬
‫سبيله ‪ ،‬وهو أعلم باملهتدين‪.‬‬
‫وان عاقبتم فعاقبوا مبثل ما عوقبتم به‪ ،‬ولئن صربمت هلو خري للصابرين‪.‬‬
‫واصرب وما صربك اال باهلل‪ ،‬وال حتزن عليهم‪ ،‬وال تك يف ضيق مما ميكرون‪.‬‬
‫ان اهلل مع الذين اتقوا‪ ،‬والذين هم حمسنون‪)..‬‬
‫وكان نزول هذه اآليات‪ ،‬يف هذا املوظن‪ ،‬خري تكرمي حلمزة الذي‪ R‬وقع أجره على اهلل‪..‬‬

‫**‬

‫عم‪R‬ه احلبيب‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيبه أعظم احلب‪ ،‬فهو كما ذكرن‪RR‬ا من قب‪RR‬ل مل يكن ّ‪R‬‬
‫فحسب‪..‬‬
‫بل كان اخاه من الرضاعة‪..‬‬
‫‪ | 125‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتربه يف الطفولة‪..‬‬
‫وصديق العمر‪ R‬كله‪..‬‬
‫يودع‪R‬ه هبا خ‪R‬ريا من أن يص‪R‬لي علي‪R‬ه‬
‫ويف حلظات الوداع ه‪R‬ذه‪ ،‬مل جيد الرس‪R‬ول ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم حتي‪R‬ة ّ‬
‫بعدد الشهداء املعركة مجيعا‪..‬‬
‫وهك‪RR‬ذا محل جثم‪RR‬ان محزة اىل مك‪RR‬ان الص‪RR‬الة على أرض املعرك‪RR‬ة ال‪RR‬يت ش‪RR‬هدت بالءه‪ ،‬واحتض‪RR‬نت دم‪RR‬اءه‪،‬‬
‫فص‪RR‬لى علي‪RR‬ه الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم وأص‪RR‬حابه‪ ،‬مث جيء يش‪RR‬هيد آخ‪RR‬ر‪ ،‬فص‪RR‬لى علي‪RR‬ه الرس‪RR‬ول‪ ..‬مث‬
‫رفع وترك محزة مكانه‪ ،‬وجيء بشهيد ثاث فوضع‪ R‬اىل جوار محزة وصلى عليهما الرسول‪..‬‬
‫وهك‪RR‬ذا جيء بالش‪RR‬هداء‪ ..‬ش‪RR‬هيد بع‪RR‬د ش‪RR‬هيد‪ ..‬والرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم يص‪RR‬لي على ك‪RR‬ل واح‪RR‬د‬
‫عمه يومئذ سبعني صالة‪..‬‬ ‫منهم وعلى محزة معه حىت صلى على ّ‬

‫**‬

‫وينص‪RR‬رف الرس‪RR‬ول من املعرك‪RR‬ة ايل بيت‪RR‬ه‪ ،‬فيس‪RR‬مع‪ R‬يف طريق‪RR‬ه نس‪RR‬اء ب‪RR‬ين عب‪RR‬د األش‪RR‬هل يبكني ش‪RR‬هداءهن‪،‬‬
‫فيقول عليه الصالة والسالم من فرط حنانه وحبه‪:‬‬
‫لكن محزة ال بواكي له"‪!!..‬‬
‫" ّ‬
‫ويس‪RR‬معها س‪RR‬عد بن مع‪RR‬اذ فيظن أن الرس‪RR‬ول علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم يطيب نفس‪RR‬ا اذا بكت النس‪RR‬اء عم‪RR‬ه‪،‬‬
‫فيس‪RR R‬رع اىل نس‪RR R‬اء ب ‪RR R‬ين عب‪RR R‬د األش ‪RR R‬هل وي ‪RR R‬أمرهن أن يبكني محزة فيفعلن… وال يك ‪RR R‬اد الرس ‪RR R‬ول يس‪RR R‬مع‪R‬‬
‫بكاءهن حىت خيرج اليهن‪ ،‬ويقول‬
‫" ما اىل هذا قصدت‪ ،‬ارجعن يرمحكن اهلل‪ ،‬فال بكاء بعد اليوم"‬
‫ولقد ذهب أصحاب رسول اهلل يتبارون يف رثاء محزة ومتجيد مناقبه العظيمة‪.‬‬

‫فقال حسان بن ثابت‪:‬‬


‫دع عنك دارا قد عفا رمسها‬
‫‪ | 126‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وابك على محزة ذي النائل‬


‫الالبس اخليل اذا أحجمت‬
‫كالليث يف غابته الباسل‬
‫أبيض يف الذروة من بين هاشم‬
‫مل مير دون احلق بالباطل‬
‫مال شهيدا بني أسيافكم‬
‫شلت يدا وحشي من قاتل‬

‫وقال عبد اهلل بن رواحة‪:‬‬


‫بكت عيين وحق هلا بكاها‬
‫وما يغين البكاء وال العويل‬
‫على أسد االله غداة قالوا‪:‬‬
‫أمحزة ذاكم الرجل القتيل‬
‫أصيب املسلمون به مجيعا‬
‫هناك وقد أصيب به الرسول‬
‫أبا يعلى‪ ،‬لك األركان‪ R‬ه ّدت‬
‫الرب الوصول‬
‫وأنت املاجد ّ‬

‫وقالت‪ R‬صفية بنت عبد املطلب عمة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأخت محزة‪:‬‬
‫دعاه اله احلق ذو العرش دعوة‬
‫اىل جنة حييا هبا وسرور‬
‫فذاك ما كنا نرجي ونرجتي‬
‫حلمزة يوم احلشر خري مصري‬
‫‪ | 127‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فواهلل ما أنساك ما هبّت الصبا‬


‫بكاءا وحزنا حمضري وميسري‬
‫على أسد اهلل الذي‪ R‬كان مدرها‬
‫يذود عن االسالم كل كفور‬
‫أقول وقد‪ R‬أعلى النعي عشرييت‬
‫جزى اهلل خريا من أخ ونصري‬

‫على أن خ‪RR‬ري رث‪RR‬اء عطّ‪RR‬ر ذك‪RR‬راه ك‪RR‬انت كلم‪RR‬ات رس‪RR‬ول اهلل ل‪RR‬ه حني وق‪RR‬ف على جثمان‪RR‬ه س‪RR‬اعة رآه بني‬
‫شهداء املعركة وقال‪:‬‬
‫" رمحة اهلل عليك‪ ،‬فانك كنت وصوال للرحم فعوال للخريات"‪..‬‬

‫**‬

‫لق ‪RR‬د ك ‪RR‬ان مص ‪RR‬اب الن ‪RR‬يب ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم يف عم ‪RR‬ه العظيم محزة فادح ‪RR‬ا‪ .‬وك ‪RR‬ان الع ‪RR‬زاء في ‪RR‬ه مهم ‪RR‬ة‬
‫صعبة‪ ..‬بيد أن األقدر‪ R‬طكانت ت ّدخر لرسول اهلل أمجل عزاء‪.‬‬
‫ففي طريق‪RR‬ه من أح‪RR‬د اىل داره م‪Rّ R‬ر علي‪RR‬ه الص‪RR‬الة والس‪RR‬الم بس‪RR‬يّدة من ب‪RR‬ين دين‪RR‬ار استش‪RR‬هد يف املعرك‪RR‬ة أبوه‪RR‬ا‬
‫وزوجها‪ ،‬وأخوها‪..‬‬
‫وحني أبصرت املسلمني عائدين من الغزو‪ ،‬سارعت حنوهم تسأهلم عن أنباء املعركة‪..‬‬
‫فنعوا اليها الزوج‪..‬واألب ‪..‬واألخ‪..‬‬
‫واذا هبا تسأهلم يف هلفة‪:‬‬
‫" وماذا فعل رسول اهلل"‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪:‬‬
‫" خريا‪ ..‬هو حبمد اهلل كما حتبني"‪!!..‬‬
‫‪ | 128‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قالت‪:‬‬
‫" أرونيه‪ ،‬حتىأنظر اليه"‪!!..‬‬
‫ولبثوا جبوارها حىت اقرتب الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فلما رأته أقبلت حنوه تقول‪:‬‬
‫" كل مصيبة بعدك‪ ،‬أمرها يهون"‪!!..‬‬

‫**‬

‫أجل‪..‬‬
‫لقد كان هذا أمجل عزاء وأبقاه‪..‬‬
‫ولع‪RR‬ل الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم ق‪RR‬د ابتس‪RR‬م هلذا املش‪RR‬هد الف‪ّ R‬ذ الفري‪RR‬د‪ ،‬فليس يف دني‪RR‬ا الب‪RR‬ذل‪ ،‬وال‪RR‬والء‪،‬‬
‫والفداء‪ R‬هلذا نظري‪..‬‬
‫رده‪RR‬ا على الن‪RR‬اعي‬
‫س‪RR‬يدة ض‪RR‬عيفة‪ ،‬مس‪RR‬كينة‪ ،‬تفق‪RR‬د يف س‪RR‬اعة واح‪RR‬دة أباه‪RR‬ا وزوجه‪RR‬ا وأخاه‪RR‬ا‪ ..‬مث يك‪RR‬ون ّ‬
‫حلظة مسعها اخلرب الذي‪ R‬يه ّد اجلبال‪:‬‬
‫" وماذا فعل رسول اهلل"‪..‬؟؟!!‬

‫لقد ك‪R‬ان مش‪R‬هد أج‪R‬اد الق‪R‬در رمسه وتوقيت‪R‬ه ليجع‪R‬ل من‪R‬ه للرس‪R‬ول الك‪R‬رمي ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم ع‪R‬زاء أي‬
‫عزاء‪ ..‬يف أسد اهلل‪ ،‬وسيّد الشهداء‪!!..‬‬

‫عبداهلل بن مسعود‬
‫أول صادح بالقرآن‬

‫قب‪RR‬ل أن ي‪RR‬دخا رس‪R‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم دار األرقم‪ ،‬ك‪RR‬ان عبداهلل بن مس‪RR‬عود ق‪RR‬د آمن ب‪R‬ه‪ ،‬وأبح‬
‫سادس ستة أسلموا‪ R‬واتبعوا‪ R‬الرسول‪ ،‬عليه وعليهم الصالة والسالم‪..‬‬
‫هو اذن من األوائل املبكرين‪..‬‬
‫‪ | 129‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد حتدث عن أول لقائه برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫" كنت غالما يافعا‪ ،‬أرعى غنما لعقبة بن أيب معيط فجاء النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأبوبكر فقاال‪ :‬يا‬
‫غالم‪،‬هل عندك من لنب تسقينا‪..‬؟؟‬
‫فقلت‪ :‬اين مؤمتن‪ ،‬ولست ساقيكما‪..‬‬
‫فقال النيب عليه الصالة والسالم‪ :‬هل عندك من شاة حائل‪ ،‬مل ينز عليها الفحل‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪..‬‬
‫فأتيتهما هبا‪ ،‬فاعتلفها النيب ومسح الضرع‪ ..‬مث اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة‪ ،‬فاحتلب فيه‪RR‬ا‪ ،‬فش‪RR‬رب أب‪RR‬و‬
‫بكر مث شربت‪..‬مث قال للضرع‪ :‬اقلص‪ ،‬فقلص‪..‬‬
‫فأتيت النيب صلى اهلل عليه وسلم بعد لك‪ ،‬فقلت‪ :‬علمين من هذا القول‪.‬‬
‫فقال‪ :‬انك غالم معلم"‪...‬‬

‫**‬

‫لق‪RR‬د انبه‪RR‬ر عبداهلل بن مس‪RR‬عود حني رأى عبداهلل الص‪RR‬احل ورس‪RR‬وله األمني ي‪RR‬دعو رب‪RR‬ه‪ ،‬وميس‪RR‬ح ض‪RR‬رعا ال‬
‫عهد له باللنب بعد‪ ،‬فهذا هو يعطي من خري اهلل ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربني‪!!..‬‬
‫وما كان ي‪R‬دري يومه‪R‬ا‪ ،‬أن‪R‬ه امنا يش‪R‬اهد أه‪R‬ون املعج‪R‬زات وأقله‪R‬ا ش‪R‬أنا‪ ،‬وأن‪R‬ه عم‪R‬ا ق‪R‬ريب سيش‪R‬هد من ه‪R‬ذا‬
‫الرسول الكرمي معجزات هتز الدنيا‪ ،‬وتلمؤها هدى ونور‪..‬‬
‫بل ما كان يدري‪ R‬يومها‪ ،‬أنه وهو ذلك الغالم الفقري الضعيف األجري الذي يرعى غنم عقبة بن معيط‪،‬‬
‫س‪RR‬يكون اح‪RR‬دى ه‪RR‬ذه املعج‪RR‬زات ي‪RR‬وم خيل‪RR‬ق االس‪RR‬الم من‪RR‬ه من‪RR‬ه مؤمن‪RR‬ا باميان‪RR‬ه كربي‪RR‬اء ق‪RR‬ريش‪ ،‬ويقه‪RR‬ر ج‪RR‬ربوت‬
‫ساداهتا‪..‬‬
‫فيذهب وهو الذي مل يكن جيرؤ أن مير مبجلس فيه أحد أشراف مكة اال مطرق ال‪RR‬رأس ح‪RR‬ثيث اخلطى‪..‬‬
‫نق ‪RR‬ول‪ :‬ي ‪RR‬ذهب بع ‪RR‬د اس ‪RR‬المه اىل جمم ‪RR‬ع األش ‪RR‬راف عن ‪RR‬د الكعب ‪RR‬ة‪ ،‬وك ‪RR‬ل س ‪RR‬ادات ق ‪RR‬ريش وزعمائه ‪RR‬ا هنال ‪RR‬ك‬
‫جالسون فيقف على رؤوسهم‪ .‬ويرفع صوته احللو املثري بقرآن اهلل‪:‬‬
‫‪ | 130‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫(بس‪RR‬م اهلل ال‪R‬رمحن ال‪RR‬رحيم‪ ،‬ال‪R‬رمحن‪ ،‬علّم الق‪RR‬رآن‪ ،‬خل‪R‬ق االنس‪R‬ان‪ ،‬علّم‪RR‬ه البي‪R‬ان‪ ،‬الش‪RR‬مس والقم‪RR‬ر حبس‪R‬بان‪،‬‬
‫والنجم‪ R‬والشجر يسجدان)‪.‬‬
‫مث يواص‪R‬ل قراءت‪R‬ه‪ .‬وزعم‪R‬اء ق‪R‬ريش مش‪R‬دوهون‪ ،‬ال يص‪RR‬دقون أعينهم ال‪R‬يت ت‪RR‬رى‪ ..‬وال آذاهنم ال‪RR‬يت تس‪R‬مع‪..‬‬
‫وال يتص‪RR R‬ورون أن ه‪RR R‬ذا ال‪RR R‬ذي‪ R‬يتح‪RR R‬دى بأس‪RR R‬هم‪ ..‬وكربي‪RR R‬ائهم‪..‬امنا ه‪RR R‬و أج‪RR R‬ري واح‪RR R‬د منهم‪ ،‬وراعي غنم‬
‫لشريف من شرفائهم‪ ..‬عبداهلل بن مسعود الفقري املغمور‪!!..‬‬
‫ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك املشهد املثري‪..‬‬
‫انه الزبري رضي اهلل عنه يقول‪:‬‬
‫" ك‪RR‬ان أول من جه‪RR‬ر ب‪RR‬القرآن بع‪RR‬د رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم مبك‪RR‬ة‪ ،‬عبداهلل بن مس‪RR‬عود رض‪RR‬ي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬اذ اجتمع يوما أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا‪:‬‬
‫واهلل ما مسعت قريش مثل هذا القرآن جيهر هلا به قط‪ ،‬فمن رجل يسمعهموه‪..‬؟؟‬
‫فقال عبداهلل بن مسعود‪:‬أنا‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬ان خنشاهم عليك‪ ،‬امنا نريد رجال له عشريته مينعونه من القوم ان أرادوه‪..‬‬
‫قال‪ :‬دعوين‪ ،‬فان اهلل سيمنعين‪..‬‬
‫فغدا ابن مسعود حىت اتى املقام يف الضحى‪ ،‬وقريش يف أنديتها‪ ،‬فقام عند املقام مث قرأ‪ :‬بسم اهلل الرمحن‬
‫الرحيم _رافعا‪ R‬صوته_ الرمحن‪ ..‬علم القرآن‪ ،‬مث استقبلهم يقرؤها‪..‬‬
‫فتأملوه قائلني‪ :‬ما يقول ابن ام عبد‪..‬؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به حممد‪..‬‬
‫فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه‪ ،‬وهو ماض يف قراءته حىت بلغ منها ما شا اهلل أن يبلغ‪..‬‬
‫مث عاد اىل أصحابه مصابا يف وجهه وجسده‪ ،‬فقالوا له‪:‬‬
‫هذا الذي‪ R‬خشينا عليك‪..‬‬
‫علي منهم اآلن‪ ،‬ولئن شئتم ألغادينّهم مبثلها غدا‪..‬‬ ‫فقال‪ :‬ما كان أعداء اهلل أهون ّ‬
‫قالوا‪ :‬حسبك‪ ،‬فقد أمسعتهم ما يكرهون"‪!!..‬‬
‫‪ | 131‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجل ما كان ابن مسعود يوم هبره الضرع احلافل باللنب فجأة وقبل أوانه‪ ..‬ما كان يومها يعلم أنه هو‬
‫ونظ ‪RR‬راؤه من الفق ‪RR‬راء والبس ‪RR‬طاء‪ ،‬س ‪RR‬يكونون اح ‪RR‬دى معج ‪RR‬زات الرس ‪RR‬ول الك ‪RR‬ربى ي ‪RR‬وم حيمل ‪RR‬ون راي ‪RR‬ة اهلل‪،‬‬
‫ويقهرون هبا نور الشمس وضوء النهار‪!!..‬‬
‫ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب‪..‬‬
‫ولكن س ‪RR R R‬رعان م ‪RR R R‬ا ج ‪RR R R‬اء الي ‪RR R R‬وم‪ R‬ودقت الس‪RR R R‬اعة‪ ،‬وص ‪RR R R‬ار الغالم األج ‪RR R R‬ري الفق‪RR R R‬ري الض ‪RR R R‬ائع‪ R‬معج ‪RR R R‬زة من‬
‫املعجزات‪!!..‬‬

‫**‬

‫مل تكن العني لتقع عليه يف زحام احلياة‪..‬‬


‫بل وال بعيدا عن الزحام‪!!..‬‬
‫فال مك ‪RR‬ان ل ‪RR‬ه بني ال ‪RR‬ذين أوت ‪RR‬وا بس ‪RR‬طة من املال‪ ،‬وال بني ال ‪RR‬ذين أوت ‪RR‬وا بس ‪RR‬طة يف اجلس ‪RR‬م‪ ،‬وال بني ال ‪RR‬ذين‬
‫أوتوا حظا من اجلاه‪..‬‬
‫فهو من املال معدم‪ ..‬وهو يف اجلسم ناحل‪ ،‬ضامر‪ ..‬وهو يف اجلاه مغمور‪..‬‬
‫ولكن االسالم مينحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر‪!..‬‬
‫ومينحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر اجلبارين‪ ،‬وتسهم‪ R‬يف تغيري مصري التاريخ‪!..‬‬
‫ومينحه مكان انزوائه وضياعه‪ ،‬خلودا‪ ،‬وعلما وشرفا جتعله يف الصدارة بني أعالم التاريخ‪!!..‬‬
‫ولقد ص‪R‬دقت‪ R‬في‪R‬ه نب‪R‬وءة الرس‪R‬ول علي‪R‬ه الص‪R‬الة والس‪R‬الم ي‪R‬وم ق‪R‬ال ل‪R‬ه‪ " :‬ان‪R‬ك غالم معلّم" فق‪R‬د علم‪R‬ه رب‪R‬ه‪،‬‬
‫حىت صار فقيه األمة‪ ،‬وعميد حفظة القرآن مجيعا‪.‬‬
‫يقول على نفسه‪:‬‬
‫" أخذت من فم رسول اهلل صلى اهلل عليه زسلم سبعني سورة‪ ،‬ال ينازعين فيها أحد"‪..‬‬
‫‪ | 132‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولكأمنا أراد اهلل مثوبت‪RR‬ه حني خ‪RR‬اطر حبيات‪RR‬ه يف س‪RR‬بيل ان جيه‪RR‬ر ب‪RR‬القرآن ويذيع‪RR‬ه يف ك‪RR‬ل مك‪RR‬ان مبك‪RR‬ة أثن‪RR‬اء‬
‫س‪RR‬نوات االض‪RR‬طهاد والع‪RR‬ذاب فأعط‪RR‬اه س‪RR‬بحانه موهب‪RR‬ة األداء الرائ ‪R‬ع‪ R‬يف تالوت‪RR‬ه‪ ،‬والفهم الس‪RR‬ديد يف ادراك‬
‫معانيه‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬كان رسول اهلل يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول‪:‬‬
‫متسكوا بعهد ابن أم عبد"‪.‬‬ ‫" ّ‬
‫ويوصيهم بأن حياكوا قراءته‪،‬ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن‪.‬‬
‫يقول عليه السالم‪:‬‬
‫عصا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"‪..‬‬ ‫" من أحب أن يسمع القرآن ّ‬
‫" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل‪ ،‬فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"‪!!..‬‬
‫ولطاملا كان يطيب لرسول اهلل عليه السالم أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود‪..‬‬
‫دعاه يوما الرسول‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫علي يا عبد اهلل"‪..‬‬
‫" اقرأ ّ‬
‫قال عبد اهلل‪:‬‬
‫" أقرأ عليك‪ ،‬وعليك أنزل يا رسول اهلل"؟!‬
‫فقال له الرسول‪:‬‬
‫"اين أحب أن أمسعه من غريي"‪..‬‬
‫فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حىت وصل اىل قوله تعاىل‪:‬‬
‫(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤالء شهيدا‪..‬‬
‫تسوى هبم األرض‪..‬‬ ‫يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو ّ‬
‫وال يكتمون اهلل حديثا)‪..‬‬
‫فغلب البك ‪RR‬اء على رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم‪ ،‬وفاض‪R R‬ت‪ R‬عين ‪RR‬اه بال ‪RR‬دموع‪ ،‬وأش ‪RR‬ار بي ‪RR‬ده اىل ابن‬
‫مسعود‪:‬‬
‫‪ | 133‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أن" حسبك‪ ..‬حسبك يا ابن مسعود"‪..‬‬

‫وحتدث هو بنعمة اهلل فقال‪:‬‬


‫" واهلل م‪RR‬ا ن‪RR‬زل من الق‪RR‬رآن ش‪RR‬يء اال وأن‪RR‬ا أعلم يف أي ش‪RR‬يء ن‪RR‬زل‪ ،‬وم‪RR‬ا أح‪RR‬د أعلم بكت‪RR‬اب اهلل م‪RR‬ين‪ ،‬ول‪RR‬و‬
‫أعلم أحدا متتطى اليه االبل أعلم مين بكتاب اهلل ألتيته وما أنا خبريكم"!!‬

‫ولقد‪ R‬شهد له هبذا السبق أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫قال عنه أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫" لقد ملئ فقها"‪..‬‬
‫وقال أبو موسى األشعري‪:‬‬
‫" ال تسألونا عن شيء ما دام هذا احلرب فيكم"‬
‫ومل يكن سبقه يف القرآن والفقه موضع الثناء فحسب‪ ..‬بل كان كذلك أيضا سبقه يف الورع والتقى‪.‬‬
‫يقول عنه حذيفة‪:‬‬
‫" ما رأيت أحدا أشبه برسول اهلل يف هديه‪ ،‬ودلّه‪ ،‬ومسته من ابن مسعود‪...‬‬
‫ولقد علم احملفوظون من أصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم أن ابن ام عبد ألقرهبم‪ R‬اىل اهلل زلفى"‪!!..‬‬
‫كرم اهلل وجهه فقالوا‪ R‬له‪:‬‬
‫واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أيب طالب ّ‬
‫"يا أمري املؤمنني‪ ،‬ما رأينا رجال كان أحسن خلقا وال أرفق تعليما‪ ،‬وال أحس‪RR‬ن جمالس‪RR‬ة‪ ،‬وال أش‪RR‬د ورع‪RR‬ا‬
‫من عبداهلل بن مسعود‪..‬‬
‫قال علي‪:‬‬
‫نشدتكم اهلل‪ ،‬أهو صدق من قلوبكم‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪:‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ | 134‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫اللهم اين أشهدك‪ ..‬اللهم‪ R‬اين أقول مثل ما قالواو‪ R‬أو أفضل‪..‬‬
‫وحرم حرامه‪..‬فقيه يف الدين‪ ،‬عامل بالسنة"‪!..‬‬
‫فأحل حالله‪ّ ،‬‬ ‫لقد قرأ القرآن ّ‬

‫وكان أصحاب رسول اهلل عليه الصالة والسالم يتحدثون عن عبداهلل بن مسعود فيقولون‪:‬‬
‫" ان كان ليؤذن له اذا حججنا‪ ،‬ويشهد اذا غبنا"‪..‬‬
‫وهم يري‪RR‬دون هبذا‪ ،‬أن عب‪RR‬د اهلل رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه ك‪RR‬ان يظف‪RR‬ر من الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم بف‪RR‬رص مل‬
‫يظف‪RR‬ر هبا س‪RR‬واه‪ ،‬في‪RR‬دخل علي‪RR‬ه بيت‪RR‬ه أك‪RR‬ثر مما ي‪RR‬دخل غ‪RR‬ريهو وجيالس‪RR‬ه أك‪RR‬ثر مما جيالس س‪RR‬واه‪ .‬وك‪RR‬ان دون‬
‫سره وجنواه‪ ،‬حىت كان يلقب بـ صاحب السواد‪ R‬أي صاحب السر‪..‬‬ ‫الصحب‪ R‬موضع ّ‬ ‫غريه من ّ‬

‫يقول أبو موسى الشعري‪ R‬رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫"لقد رأيت النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬وما أرى اال ابن مسعود من أهله"‪..‬‬
‫ذل‪RR‬ك أن الن‪RR‬بيب ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم ك‪RR‬ان حيبّ‪RR‬ه حب‪RR‬ا عظيم‪RR‬ا‪ ،‬وك‪RR‬ان حيب في‪RR‬ه ورع‪RR‬ه وفطنت‪RR‬ه‪ ،‬وعظم‪RR‬ة‬
‫نفسه‪ ..‬حىت قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيه‪:‬‬
‫ألمرت ابن أم عبد"‪..‬‬ ‫مؤمرا أحدا دون شورى املسلمني‪ّ ،‬‬ ‫" لو كنت ّ‬
‫مرت بنا من قبل‪ ،‬وصية االرسول ألصحابه‪:‬‬ ‫وقد ّ‬
‫" متسكوا بعهد ابن أم عبد"‪...‬‬

‫وهذا احلب‪ ،‬وهذه الثقة أهاله ألن يكون شديد لبقرب من رسول اهلل ص‪R‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم‪ ،‬وأعطي‬
‫علي أن ترفع احلجاب"‪..‬‬
‫ما مل يعط أحد غريه حني قال له الرسول عليه الصالة والسالم‪ ":‬اذنك ّ‬
‫فك ‪RR‬ان ه ‪RR‬ذا اي ‪RR‬ذانا حبق ‪RR‬ه يف أن يط ‪RR‬رق ب ‪RR‬اب الرس ‪RR‬ول علي ‪RR‬ه أفض ‪RR‬ل الس ‪RR‬الم يف أي وقت يش ‪RR‬اء من لي ‪RR‬ل أو‬
‫هنار‪...‬‬
‫وهكذا قال عنه أصحابه‪:‬‬
‫" كان يؤذن له اذا حججنا‪ ،‬ويشهد اذا غبنا"‪..‬‬
‫‪ | 135‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد‪ R‬كان ابن مسعود أهال هلذه املزيّة‪ ..‬فعلى الرغم من أن اخللطة الدانية‪ R‬على ه‪RR‬ذا النح‪RR‬و‪ ،‬من ش‪RR‬أهنا‬
‫أن ترفع الكلفة‪ ،‬فان ابن مسعود مل يزدد هبا اال خشوعا‪ ،‬واجالال‪ ،‬وأدبا‪..‬‬
‫يصور هذا اخللق عنده‪ ،‬مظهره حني كان حي ّدث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وس‪R‬لم بع‪R‬د‬ ‫ولعل خري ما ّ‬
‫وفاته‪...‬‬

‫فعلى الرغم من ندرة حتدثه عن الرسول عليه الس‪R‬الم‪ ،‬جنده اذا ح ّ‪R‬رك ش‪RR‬فتيه ليق‪R‬ول‪ :‬مسعت رس‪R‬ول اهلل‬
‫الرع ‪RR‬دة الش ‪RR‬ديدة ويب ‪RR‬دو علي ‪RR‬ه االض ‪RR‬طراب‬
‫حيدث ويق ‪RR‬ول‪ :‬مسعت رس ‪RR‬ول اهلل حيدث ويق ‪RR‬ول‪ ...‬تأخ ‪RR‬ذه ّ‬
‫والقلق‪ ،‬خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف‪!!..‬‬

‫ولنستمع الخوانه يصفون هذه الظاهرة‪..‬‬


‫يقول عمرو بن ميمون‪:‬‬
‫" اختلفت اىل عبداهلل بن مس‪RR‬عود س‪RR‬نة‪ ،‬م‪RR‬ا مسعه يتح‪RR‬دث فيه‪RR‬ا عن رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬اال‬
‫أن ‪RR‬ه ح‪ّ R R‬دث ذات ي ‪RR‬وم حبديث فج ‪RR‬رى على لس ‪RR‬انه‪ :‬ق ‪RR‬ال رس ‪RR‬ول اهلل‪ ،‬فعاله الك ‪RR‬رب ح ‪RR‬ىت رأيت الع ‪RR‬رق‬
‫يتح ّدر عن جبهته‪ ،‬مث قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"‪!!..‬‬
‫ويقول علقمة بن قيس‪:‬‬
‫" كان عبداهلل بن مس‪R‬عود يق‪R‬وم عش‪R‬يّة ك‪R‬ل مخيس متح‪R‬دثا‪ ،‬فم‪R‬ا مسعته يف عش‪R‬ية منه‪R‬ا يق‪R‬ول‪ :‬ق‪R‬ال رس‪R‬ول‬
‫اهلل غري مرة واحدة‪ ..‬فنظرت اليه وهو معتمد على عصا‪ ،‬فاذا عصاه ترجتف‪ ،‬وتتزعزع"‪!!..‬‬
‫وحيدثنا مسروق عن عبداهلل‪:‬‬
‫" ح ‪ّ R‬دث ابن مس‪RR‬عود يوم‪RR‬ا ح‪RR‬ديثا فق‪RR‬ال‪ :‬مسعت رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ..‬مث أرع‪RR‬د وأرع‪RR‬دت‬
‫ثيابه‪ ..‬مث قال‪:‬أو حنو ذا‪ ..‬أو شبه ذا"‪!!..‬‬
‫اىل هذا املدى العظيم بلغ اجالله رسول اهلل صلى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم‪ ،‬وبل‪R‬غ توق‪R‬ريه اي‪R‬اه‪ ،‬وه‪R‬ذه أم‪R‬ارة فطنت‪R‬ه‬
‫قبل أن تكون امارة تقاه‪!!..‬‬
‫‪ | 136‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فالرجل ال‪RR‬ذي‪ R‬عاص‪RR‬ره رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪R‬لم أك‪RR‬ثرمن غ‪RR‬ريه‪ ،‬ك‪R‬ان ادراك‪R‬ه جلالل ه‪R‬ذا الرس‪R‬ول‬
‫العظيم ادراك‪R‬ا‪ R‬س‪RR‬ديدا‪ ..‬ومن مثّ ك‪RR‬ان أدب‪RR‬ه م‪RR‬ع الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يف حيات‪RR‬ه‪ ،‬وم‪RR‬ع ذك‪RR‬راه يف‬
‫مماته‪ ،‬أدبا فريدا‪!!..‬‬

‫**‬

‫مل يكن يف‪RR‬ارق رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم يف س‪RR‬فر‪ ،‬وال يف حض‪RR‬ر‪ ..‬ولق‪RR‬د ش‪RR‬هد املش‪RR‬اهد كله‪RR‬ا‬
‫مجيعها‪ ..‬وكان ل‪RR‬ه ي‪R‬وم ب‪RR‬در ش‪RR‬أن م‪RR‬ذكور‪ R‬م‪RR‬ع أب جه‪R‬ل ال‪RR‬ذي حص‪R‬دته س‪R‬يوف املس‪RR‬لمني يف ذل‪R‬ك الي‪R‬وم‪R‬‬
‫اجللي‪RR R‬ل‪ ..‬وع‪RR R‬رف خلف‪RR R‬اء الرس‪RR R‬ول وأص‪RR R‬حابه ل‪RR R‬ه ق‪RR R‬دره‪ ..‬ف‪RR R‬واله أم‪RR R‬ري املؤم‪RR R‬نني عم‪RR R‬ر على بيت املال يف‬
‫الكوفة‪ .‬وقال ألهلها حني أرسله اليهم‪:‬‬
‫" اين واهلل الذي ال اله اال هو‪ ،‬قد آثرتكم به على نفسي‪ ،‬فخذوا منه وتعلموا"‪.‬‬
‫ولقد أحبه أهل الكوفة حبا مجا مل يظفر مبثله أحد قبله‪ ،‬وال أحد مثله‪..‬‬
‫وامجاع أهل الكوفة على حب انسان‪ ،‬أمر يشبه املعجزات‪..‬‬
‫مترد ثورة‪ ،‬ال يصربون على طعام واحد‪ !!..‬وال يطيقون اهلدوء والسالم‪..‬‬ ‫ذلك أهنم أهل ّ‬

‫ولقد‪ R‬بل‪R‬غ من حبهم اي‪R‬اه أن أط‪R‬احوا ب‪R‬ه حني أراد اخلليف‪R‬ةعثمان رض‪R‬ي اهلل عن‪R‬ه عزل‪R‬ه عن الكوف‪R‬ة وق‪R‬الوا‬
‫له‪ ":‬أقم معنا وال خترج‪ ،‬وحنن مننعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"‪..‬‬
‫تصور عظمة نفسه وتقاه‪ ،‬اذ قال هلم‪:‬‬ ‫ولكن ابن مسعود أجاهبم بكلمات ّ‬
‫علي الطاعة‪ ،‬واهنا ستكون أمور وفنت‪ ،‬وال أحب أن يكون أول من يفتح أبواهبا"‪!!..‬‬ ‫" ان له ّ‬
‫ان ه‪RR‬ذا املوق‪RR‬ف اجللي‪RR‬ل ال‪RR‬ورع يص‪RR‬لنا مبوق‪RR‬ف ابن مس‪RR‬عود من اخللبيف‪RR‬ةعثمان‪ ..‬فلق‪RR‬د ح‪RR‬دث بينهم‪RR‬ا ح‪RR‬وار‬
‫وخالف تفاقم‪RR‬ا ح‪RR‬ىت حجب عن عبداهلل راتب‪RR‬ه ومعاش‪RR‬ه من بيت االم‪RR‬ل‪ ،،‬وم‪RR‬ع ذل‪RR‬ك مل يق‪RR‬ل يف عثم‪RR‬ان‬
‫رضي اهلل عنه كلمة سوء واحدة‪..‬‬
‫يتحول اىل ثورة‪..‬‬
‫التذمر يف عهد عثمان ّ‬ ‫بل وقف موقف املدافع واحملذر‪ R‬حني رأى ّ‬
‫‪ | 137‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحني ترامى اىل مسمعه حماوالت اغتيال عثمان‪ ،‬قال كلمته املأثورة‪:‬‬
‫" لئن قتلوه‪ ،‬ال يستخلفون بعده مثله"‪.‬‬
‫ويقولبعض أصحاب ابن مسعود‪:‬‬
‫" ما مسعت ابن مسعود يقول يف عثمان سبّة قط"‪..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬آتاه اهلل احلكمة مثلما أعطاه التقوى‪.‬‬


‫وكان ميلك القدرة على رؤية األعماق‪ ،‬والتعبري عنها يف أناقة وسداد‪..‬‬
‫لنستمع له مثال وهو يلخصحياة عمر العظيمة يف تركيزباهر فيقول‪:‬‬
‫" كان اسالمه فتحا‪ ..‬وكانت هجرته نصرا‪ ..‬وكانت امارته رمحة‪."..‬‬
‫ويتحدث عما نسميه اليوم‪ R‬نسبية الزمان فيقول‪:‬‬
‫" ان ربكم ليس عنده ليل وال هنار‪ ..‬نور السموات واألرض‪ R‬من نور وجهه"‪!!..‬‬
‫ويتح‪RR R‬دث عن العم‪RR R‬ل وأمهيت‪RR R‬ه يف رف‪RR R‬ع املس‪RR R‬توى األديب لص‪RR R‬احبه‪ ،‬فيق‪RR R‬ول‪ ":‬اين ألمقت‪ R‬الرج‪RR R‬ل‪ ،‬اذ أراه‬
‫فارغا‪ ..‬ليس يف شيء من عمل الدنيا‪ ،‬وال عمل اآلخرة"‪..‬‬
‫ومن كلماته اجلامعة‪:‬‬
‫" خري الغىن غىن النفس ‪ ،‬وخ‪R‬ري ال‪RR‬زاد التق‪R‬وى‪ ،‬وش‪RR‬ر العمى‪ R‬عمى القلب‪ ،‬وأعظم اخلطاي‪RR‬ا الك‪R‬ذب‪ ،‬وش ّ‪R‬ر‬
‫وشر املأكل مال اليتيم‪ ،‬ومن يعف اهلل عنه‪ ،‬ومن يغفر اهلل له"‪..‬‬ ‫املكاسب الربا‪ّ ،‬‬

‫**‬

‫هذا هو عبداهلل بن مسعود صاحب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة‪ ،‬عاشها صاحبها يف سبيل اهلل‪ ،‬ورسوله ودينه‪..‬‬
‫هذا هو الرجل الذي كان جسمه يف حجم العصفور‪!!..‬‬
‫‪ | 138‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حنيف‪ ،‬قصري‪ ،‬يكاد اجلالس يوازيه طوال وهو قائم‪..‬‬


‫ل‪RR‬ه س‪RR‬اقان ناحلت‪RR‬ان دقيقت‪RR‬ان‪ ..‬ص‪RR‬عد هبم‪RR‬ا يوم‪RR‬ا أعلى ش‪RR‬جرة جيت‪RR‬ين منه‪RR‬ا أراك‪RR‬ا لرس‪RR‬ول ال‪RR‬ه ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه‬
‫وسلم‪ ..‬فرأى أصحاب النيب دقتهما فضحكوا‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫ساقي ابن مسعود‪ ،‬هلما أثقل يف امليزان عند اهلل من جبل أحد"‪!!..‬‬ ‫" تضحكون من ْ‬
‫أجل هذا هو الفقري األج‪R‬ري‪ ،‬الناح‪R‬ل الوهن‪R‬ان‪ ..‬ال‪R‬ذي‪ R‬جع‪R‬ل من‪R‬ه اميان‪R‬ه ويقين‪R‬ه امام‪R‬ا من أئم‪R‬ة اخلري واهلدى‪R‬‬
‫والنور‪..‬‬
‫ولق‪RR‬د حظي من توفي‪RR‬ق اهلل ومن نعمت‪RR‬ه م‪RR‬ا جعل‪RR‬ه أح‪RR‬د العش‪RR‬رة األوائ‪RR‬ل بني أص‪RR‬حاب الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ..‬أولئك الذين بشروا وهم على ظهر األرض برضوان اهلل وجنّته‪..‬‬

‫وخاض املعارك الظافرة مع الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬مع خلفائه من بعده‪..‬‬
‫وشهد أعظم امرباطوريتني يف عامله وعصره تفتحان أبواهبما طائعة خاشعة لرايات االسالم ومشيئته‪..‬‬

‫ورأى املناص‪RR‬ب تبحث عن ش‪RR‬اغليها من املس‪RR‬لمني‪ ،‬واألم‪RR‬وال الوف‪RR‬رية تت‪RR‬دحرج بني أي‪RR‬ديهم‪ ،‬فم‪RR‬ا ش‪RR‬غله‬
‫من ذل ‪RR‬ك ش ‪RR‬يء عن العه ‪RR‬د ال ‪RR‬ذي‪ R‬عاه ‪RR‬د اهلل علي ‪RR‬ه ورس ‪RR‬وله‪ ..‬وال ص ‪RR‬رفه ص ‪RR‬ارف عن اخبات ‪RR‬ه وتواض ‪RR‬عه‬
‫ومنهج حياته‪..‬‬

‫ومل تكن ل‪R‬ه من أم‪R‬اينّ احلي‪R‬اة س‪R‬وى أمني‪R‬ة واح‪R‬دة ك‪R‬ان يأخ‪R‬ذه احلنني اليه‪R‬ا فريدده‪R‬ا‪ ،‬ويتغ‪R‬ىن هبا‪ ،‬ويتم‪R‬ىن‬
‫لو أنه أدركها‪..‬‬

‫ولنصغع‪ R‬اليه حيدثنا بكلماته عنها‪:‬‬


‫" قمت من جوف الليل وأنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة تب‪RR‬وك‪ ..‬ف‪RR‬رأيت ش‪RR‬علة من ن‪RR‬ار‬
‫يف ناحية العس‪R‬كر فأتبعته‪R‬ا أنظ‪R‬ر اليه‪R‬ا‪ ،‬ف‪R‬اذا رس‪R‬ول اهلل‪ ،‬وأب‪R‬وبكر وعم‪R‬ر‪ ،‬واذا عبداهلل ذو البج‪R‬ادين املزين‬
‫ق‪RR‬د م‪RR‬ات واذا هم ق‪RR‬د حف‪RR‬روا ل‪RR‬ه‪ ،‬ورس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪RR‬لم يف حفرت‪R‬ه‪ ،‬وأب‪RR‬و بك‪R‬ر وعم‪RR‬ر يدليان‪RR‬ه‬
‫‪ | 139‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ايل أخاكم‪RR‬ا‪ ..‬ف‪RR‬دلياه الي‪RR‬ه‪ ،‬فلم‪RR‬ا هي‪RR‬أه للح‪RR‬ده ق‪RR‬ال‪ :‬اللهم‪ R‬اين أمس‪RR‬يت عن‪RR‬ه‬
‫الي‪RR‬ه‪ ،‬والرس‪RR‬ول يق‪RR‬ول‪ :‬ادني‪RR‬ا ّ‬
‫راضيا فارض عنه‪ ..‬فيا ليتين كنت صاحب هذه احلفرة"‪!!..‬‬

‫**‬

‫تلك أمنيته الوحيد اليت كان يرجوها يف دنياه‪.‬‬


‫وهي ال متت بسبب اىل ما يتهافت الناس عليه من جمد وثراء‪ ،‬ومنصب وجاه‪..‬‬
‫ذل‪RR‬ك أهنا أمني‪RR‬ة رج‪RR‬ل كب‪RR‬ري القلب‪ ،‬عظيم النفس‪ ،‬وثي‪RR‬ق اليقني‪ ..‬رج‪RR‬ل ه‪RR‬داه اهلل‪ ،‬وربّ‪RR‬اه الرس‪RR‬ول‪ ،‬وق‪RR‬اده‬
‫القرآن‪!!..‬‬

‫حذيفة بن اليمان‪R‬‬
‫عدو النفاق وصديق الوضوح‬
‫ّ‬

‫خ ‪RR‬رج أه ‪RR‬ل املدائن أفواج ‪RR‬ا يس ‪RR‬تقبلون واليهم اجلدي ‪RR‬د ال ‪RR‬ذي اخت ‪RR‬اره هلم أم ‪RR‬ري املؤم ‪RR‬نني عم ‪RR‬ر رض ‪RR‬ي اهلل‬
‫عنه‪..‬‬
‫خرج‪RR‬وا تس‪RR‬بقهم أش‪RR‬واقهم اىل ه‪RR‬ذا الص‪RR‬حايب اجللي‪RR‬ل ال‪RR‬ذي مسعوا الكث‪RR‬ري ع‪RR‬و ورع‪RR‬ه وتق‪RR‬اه‪ ..‬ومسعوا أك‪RR‬ثر‬
‫عن بالئه العظيم يف فتوحات العراق‪..‬‬
‫واذ هم ينتظ‪RR‬رون املوكب الواف‪RR‬د‪ R،‬أبص‪RR‬روا أم‪RR‬امهم رجال مض‪RR‬يئا‪ ،‬ي‪RR‬ركب محارا على ظه‪RR‬ره اك‪RR‬اف ق‪RR‬دمي‪،‬‬
‫وقد أسدل الرجل ساقيه‪ ،‬وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا‪ ،‬وهو يأكل وميضغ طعامه‪!..‬‬
‫وحني توسط مجعهم‪ ،‬وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوايل الذي ينتظرون‪ ،‬كاد صواهبم يطري‪!!..‬‬
‫ولكن فيم العجب‪..‬؟!‬
‫وماذا كانوا يتوقعون أن جييء يف اختيار عمر‪..‬؟!‬
‫احلق أهنم معذورون‪ ،‬فما عهدت بالدهم أيام فارس‪ ،‬وال قبل فارس والة من هذا الطراز اجلليل‪!!.‬‬
‫‪ | 140‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫وسار حذيفة‪ ،‬والناس حمتشدون حوله‪ ،‬وحافون به‪..‬‬


‫وحني رآهم حي ّدقون‪ R‬فيه كأهنم ينتظرون منه حديثا‪ ،‬ألقى على وجوههم نظرة فاحصة مث قال‪:‬‬
‫" اياكم ومواقف الفنت"‪!!..‬‬
‫قالوا‪:‬‬
‫وما مواقف الفنت يا أبا عبداهلل‪!!..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫" أبواب األمراء"‪..‬‬
‫يدخل أحدكم على الوايل أو األمري‪ ،‬فيص ّدقه بالكذب‪ ،‬وميتدحه مبا ليس فيه"‪!..‬‬
‫وكان استهالال بارعا‪ ،‬بقدر ما هو عجيب‪!!..‬‬
‫واس‪RR‬تعاد االنس موف‪RR‬ورهم م‪RR‬ا مسعوه عن واليهم‪ R‬اجلدي ‪RR‬د‪ ،‬من أن‪RR‬ه ال ميقت يف ال‪RR‬دنيا‪ R‬كله ‪RR‬ا وال حيتق‪RR‬ر من‬
‫نقائصها شيئا أكثر مما ميقت النفاق وحيتقره‪.‬‬
‫وكان هذا االستهالل أصدق تعبري عن شخصية احلاكم اجلديد‪ ،‬وعن منهجه يف احلكم والوالية‪..‬‬

‫**‬

‫فـ حذيفة بن اليمان رجل ج‪R‬اء احلي‪R‬اة م‪R‬زودا بطبيع‪RR‬ة فري‪RR‬دة تتس‪R‬م ببغض النف‪RR‬اق‪ ،‬وبالق‪R‬درة اخلارق‪RR‬ة على‬
‫رؤيته يف مكامنه البعيدة‪.‬‬
‫ومن ‪RR‬ذ ج ‪RR‬اء ه ‪RR‬و أخ ‪RR‬وه ص ‪RR‬فوان يف ص ‪RR‬حبة أبيهم ‪RR‬ا اىل رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم واعن ‪RR‬ق ثالثتهم‬
‫االسالم‪ ،‬واالسالم يزيد موهبته هذه مضاء وصقال‪..‬‬
‫فلقد عانق دينا قويا‪ ،‬نظيفا‪ ،‬شجاعا قوميا‪ ..‬حيتقر اجلنب والنفاق‪ ،‬والكذب‪...‬‬
‫‪ | 141‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪R‬أدب على ي ‪RR‬دي رس ‪RR‬ول اهلل واض ‪RR‬ح كف ‪RR‬ق الص ‪RR‬بح‪ ،‬ال ختفى عليهم من حيات ‪RR‬ه‪ ،‬وال من أعم ‪RR‬اق نفس ‪RR‬ه‬
‫وت ‪ّ R‬‬
‫خافية‪ ..‬صادق وأمني‪..‬حيب األقوياء يف احلق‪ ،‬وميقت امللتوين واملرائني واملخادعني‪!!..‬‬

‫فلم يكن مثة جمال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا اجملال‪ ،‬يف رحاب هذا الدين‪ ،‬وبني ي‪R‬دي‬
‫هذا الرسول‪ ،‬ووسط هذا ّارعيل العظيم من األصحاب‪!!..‬‬
‫ولق ‪RR‬د منت موهبت ‪RR‬ه فعال أعظم مناء‪ ..‬وختص ‪RR‬ص يف ق ‪RR‬راءة الوج ‪RR‬وه والس ‪RR‬رائر‪ ..‬يق ‪RR‬رأ الوج ‪RR‬وه يف نظ ‪RR‬رة‪..‬‬
‫ويبلوكنه األعماق املسترتة‪ ،‬والدخائل املخبوءة‪ .‬يف غري عناء‪..‬‬
‫ولق‪RR‬د بل‪RR‬غ من ذل‪RR‬ك م‪RR‬ا يري‪RR‬د‪ ،‬ح‪RR‬ىت ك‪RR‬ان أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني عم‪RR‬ر رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه‪ ،‬وه‪RR‬و امللهم الفطن األريب‪،‬‬
‫يستدل برأي حذيفة‪ ،‬وببصريته يف اختيار الرجال ومعرفتهم‪.‬‬
‫ولقد أويت حذيفة من احلصافة ما جعله يدرك أن اخلري يف هذه احلياة واضح ملن يري‪R‬ده‪ ..‬وامنا الش‪R‬ر ه‪RR‬و‬
‫الذي يتنكر ويتخفى‪ ،‬ومن مث جيب على األريب أن يعىن بدراسة الشر يف مآتيه‪ ،‬ومظانه‪..‬‬
‫وهكذا عكف حذيفة رضي اهلل عنه على دراسة الشر واألشرار‪ ،‬والنفاق واملؤمنني‪..‬‬
‫يقول‪:‬‬
‫" ك ‪RR‬ان الن ‪RR‬اس يس ‪RR‬ألون رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم عن اخلري‪ ،‬وكنت أس ‪RR‬أله عن الش ‪RR‬ر خماف ‪RR‬ة أن‬
‫يدركين‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول اهلل فهل بعد هذا اخلري من شر؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل بعد هذا الشر من خري؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬وفيه دخن‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وما طخنه‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬قوم يستنون بغري سنيت‪ ..‬ويهتدون يغري هديي‪ ،‬وتعرف منهم وتنكر‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهل بعد ذلك اخلري من شر‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬نعم! دعاة على أبواب جهنم‪ ،‬من أجاهبم اليها‪ R‬قذفوه فيها‪..‬‬
‫‪ | 142‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬فما تأمرين ان أدركين ذلك‪..‬؟‬


‫قال‪ :‬تلزم مجاعة املسلمني وامامهم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فان مل يكن هلم مجاعة وال امام‪..‬؟؟‬
‫ق‪RR R‬ال‪ :‬تع‪RR R‬تزل تل‪RR R‬ك الف‪RR R‬رق كله‪RR R‬ا‪ ،‬ول‪RR R‬و أن تعض على أص‪RR R‬ل ش‪RR R‬جرة ح‪RR R‬ىت ي‪RR R‬دركك املوت وأنت على‬
‫ذلك"‪!!..‬‬
‫أرأيتم قول‪RR‬ه‪ ":‬ك‪RR‬ان الن‪RR‬اس يس‪RR‬ألون رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم عن اخلري‪ ،‬وكنت‪ R‬أس‪RR‬أله عن الش‪RR‬ر‬
‫خمافة أن يدركين"‪..‬؟؟‬

‫لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصرية على مآيت الفنت‪ ،‬مسالك الشرور‪ R‬ليتقه‪RR‬ا‪ ،‬وليح‪RR‬ذر‪R‬‬
‫الناس منها‪ .‬ولقد أفاء عليه هذا بصرا بال‪R‬دنيا‪ ،‬وخ‪R‬ربة ب‪R‬االنس‪ ،‬ومعرف‪R‬ة ب‪R‬الزمن‪ ..‬وكلن ي‪R‬دير املس‪R‬ائل يف‬
‫فكره وعقله بأسلوب فيلسوف‪ ،‬وحصانة حكيم‪...‬‬

‫ويقول رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫" ان ال ‪RR‬ه تع ‪RR‬اىل بعث حمدا‪ R‬ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم‪ ،‬ف ‪RR‬دعا االنس من الض ‪RR‬اللة اىل اهلدى‪ ،‬ومن الكف ‪RR‬ر اىل‬
‫االميان‪ ،‬فاستجاب له من استجاب‪ ،‬فحيي باحلق من كان ميتا‪...‬‬
‫ومات بالباطل من كان حيا‪..‬‬
‫مث ذهبت النبوة وجاءت اخلالفة على مناهجها‪..‬‬
‫مث يكون ملكا عضوضا‪!!..‬‬
‫فمن االنس من ينكر بقلبه‪ ،‬ويده ولسانه‪ ..‬أولئك استجابوا حلق‪..‬‬
‫ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه‪ ،‬كافا يده‪ ،‬فهذا‪ R‬ترك شعبة من احلق‪..‬‬
‫ومنهم من ينكر بقلبه‪ ،‬كافا يده ولسانه‪ ،‬فهذا‪ R‬ترك شعبتني من احلق‪..‬‬
‫ومنهم من ال ينكر بقلبه وال بيده وال بلسانه‪ ،‬فذلك ميّت األحياء"‪!...‬‬
‫‪ | 143‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويتح ّدث عن القلوب وعن حياة اهلدى والضالل فيها فيقول‪:‬‬


‫" القلوب أربعة‪:‬‬
‫قلب أغلف‪ ،‬فذلك قلب الكافر‪..‬‬
‫وقلب مصفح‪ ،‬فذلك قلب املنافق‪..‬‬
‫وقلب أجرد‪ ،‬فيه سراج يزهر‪ ،‬فذلك قلب املؤمن‪..‬‬
‫وقلب في ‪RR‬ه نف ‪RR‬اق واميان‪ ،‬فمثالالميان كمث ‪RR‬ل ش ‪RR‬جرة ميدها م ‪RR‬اء طيب‪ ..‬ومث ‪RR‬ل النف ‪RR‬اق كقرح ‪RR‬ة مي ّدها قيح‬
‫ودم‪ :‬فأيهما غلب‪ ،‬غلب"‪!!...‬‬

‫وخربة حذيفة بالشر‪ ،‬واصراره على مقاومته وحت ّديه‪ ،‬أكسبا لسانه وكلماته شيئا من احل ّدة‪ ،‬وينب‪RR‬أ ه‪RR‬و‬
‫هبذا يف شجاعة نبيلة‪:‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫" جئت الن ‪RR‬يب ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم فقلت‪ :‬ي ‪RR‬ا رس ‪RR‬ول اهلل‪ ،‬ان يل لس ‪RR‬انا ذرب ‪RR‬ا على أهلي‪ ،‬وأخش ‪RR‬ى أن‬
‫يدخلين النار‪..‬‬
‫فق‪RR R‬ال يل الن‪RR R‬يب علي‪RR R‬ه الص‪RR R‬الة والس‪RR R‬الم‪ :‬ف‪RR R‬أين أنت من االس‪RR R‬تغفار‪..‬؟؟ اين ألس‪RR R‬تغفر اهلل يف الي‪RR R‬وم مائ‪RR R‬ة‬
‫مرة"‪...‬‬

‫**‬

‫هذا هو حذيفة عدو النفاق‪ ،‬صديق الوضوح‪..‬‬


‫ورجل من هذا الطراز‪ ،‬ال يك‪RR‬ون اميان‪R‬ه اال وثيق‪R‬ا‪ ..‬وال يك‪RR‬ون والؤه اال عميق‪R‬ا‪ ..‬وك‪R‬ذلكم ك‪R‬ان حذيف‪R‬ة‬
‫يف اميانه ووالئه‪..‬‬
‫لقد رأى أباه املسلم يصرع يوم أحد‪..‬وبأيد مسلمة‪ ،‬قتلته خطأ وهي حتسبه واحدا من املشريكن‪!!..‬‬
‫وكان حذيفة يتلفت مصادفة‪ ،‬فرأى السيوف تنوشه‪ ،‬فصاح يف ضاربيه‪ :‬أيب‪ ...‬أيب‪ ..‬انه أيب‪!!..‬‬
‫‪ | 144‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لكن القضاء كان قد حم‪..‬‬


‫وحني عرف املسلمون‪ ،‬توالهم احلزن والوجوم‪ ..‬لكنه نظر اليهم‪ R‬نظرة اشفاق ومغفرة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" يغفر اهلل لكم‪ ،‬وهو أرحم الرامحني"‪..‬‬
‫مث انطلق بسيفه صوب املعركة املشبوبة يبلي فيها بالءه‪ ،‬ويؤدي واجبه‪..‬‬
‫وتنتهي املعرك‪RR‬ة‪ ،‬ويبل‪RR‬غ اخلرب رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم في‪RR‬أمر بالدي‪RR‬ة عن وال‪R‬د‪ R‬حذيف‪RR‬ة "حس‪RR‬يل بن‬
‫جابر" رضي اهلل عنه‪ ،‬ويتص ّدق هبا على املسلمني‪ ،‬فيزداد الرسول حبا له وتقديرا‪...‬‬

‫**‬

‫واميان حذيفة ووالؤه‪ ،‬ال يعرتفان‬


‫بالعجز‪ ،‬وال بالضعف‪..‬بل وال باملستحيل‪....‬‬
‫دب الفش‪R‬ل يف ص‪R‬فوف كف‪R‬ار ق‪R‬ريش وحلف‪R‬ائهم من اليه‪R‬ود‪ ،‬أراد رس‪R‬ول اهلل‬
‫يف غزوة احلن‪R‬دق‪..‬وبع‪R‬د أن ّ‬
‫تطورات املوقف هناك يف معسكر أعدائه‪.‬‬
‫عليه الصالة والسالم أن يقف على آخر ّ‬

‫ك‪R‬ان الي‪R‬ل مظلم‪R‬ا ورهيب‪R‬ا‪ ..‬وك‪R‬انت العواص‪R‬ف ت‪R‬زأر وتص‪R‬طخب‪ ،‬كأمنا تري‪R‬د أن تقتل‪R‬ع جب‪R‬ال الص‪R‬حراء‬
‫الراسيات من مكاهنا‪ ..‬وكان املوقف كله مبا فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على اخلوف واجلزع‪،‬‬
‫وكان اجلوع املضين قد بلغ مبلغا وعرا بني اصحاب الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫فمن ميل‪R‬ك آنئ‪RR‬ذ الق‪R‬وة‪،‬وأي ق‪R‬وة لي‪RR‬ذهب وس‪R‬ط خماطر حالك‪RR‬ة اىل معس‪RR‬كر األع‪R‬داء‪ R‬ويقتحم‪R‬ه‪ ،‬أو يتس‪R‬لل‬
‫داخله مث يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم‪..‬؟؟‬
‫ان الرسول هو الذي‪ R‬سيختار من أصحابه من يقوم هبذه املهمة البالغة العسر‪..‬‬
‫ترى من يكون البطل‪..‬؟‬
‫انه هو‪..‬حذيفة بن اليمان‪!..‬‬
‫‪ | 145‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫دعاه الرسول صلى اهلل عليه وسلم فلىب‪ ،‬ومن صدقه العظيم خيربنا وهو يروي النبأ أن‪RR‬ه مل يكن ميل‪RR‬ك اال‬
‫أن يل‪RR‬يب‪ ..‬مش‪RR‬ريا هبذا‪ R‬اىل أن‪RR‬ه ك‪RR‬ان ي‪RR‬رهب املهم‪RR‬ة املوكول‪RR‬ة الي‪RR‬ه‪ ،‬وخيش‪RR‬ى عواقبه‪RR‬ا‪ ،‬والقي‪RR‬ام هبا حتت وط‪RR‬أة‬
‫اجلوع‪ ،‬والصقيع‪ ،‬واالعياء اجلديد الذي خلفهم فيه حصار املشركني شهرا أو يزيد‪!..‬‬
‫وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا‪...‬‬
‫فاقد قطع املس‪R‬افة بني املعس‪R‬كرين‪ ،‬واخ‪R‬رتق احلص‪R‬ار‪ ..‬وتس‪R‬لل اىل معس‪R‬كر ق‪R‬ريش‪ ،‬وك‪R‬انت ال‪R‬ريح العاتي‪R‬ة‬
‫ق‪RR R‬د أطف‪RR R‬أت ن‪RR R‬ريان املعس‪RR R‬كر‪ ،‬فخيّم علي‪RR R‬ه الظالم‪،‬واختذ‪ R‬حذيف‪RR R‬ة رض‪RR R‬ي اهلل عن‪RR R‬ه مكان‪RR R‬ه وس‪RR R‬ط ص‪RR R‬فوف‬
‫احملاربني‪...‬‬
‫وخش ‪RR‬ي أبوس ‪RR‬فيان قائ ‪RR‬د ق ‪RR‬ؤيش‪ ،‬أن يفج ‪RR‬أهم الظالم مبتس ‪RR‬للني من املس ‪RR‬لمني‪ ،‬فق ‪RR‬ام حيذر‪ R‬جيش ‪RR‬ه‪ ،‬ومسعه‬
‫حذيفة يقول بصوته املرتفع‪:‬‬
‫" يا معشر قريش‪ ،‬لينظر كل منكم جليسه‪ ،‬وليأخذ بيده‪ ،‬وليعرف امسه"‪.‬‬
‫يقول حذيفة"‬
‫" فسارعت‪ R‬اىل يد الرجل الذي جبواري‪ ،‬وقلت هلمن أنت‪..‬؟ قال‪ :‬فالن بن فالن؟"‪...‬‬
‫وهكذا ّأمن وجوده بني اجليش يف سالم‪!..‬‬
‫واستأنف أبو سفيان نداءه اىل اجليش قائال‪ ":‬يا معشر قريش‪ ..‬انكم واهلل م‪RR‬ا أص‪R‬بحتم ب‪R‬دار‪ R‬مق‪R‬ام‪ ..‬لق‪R‬د‬
‫هلكت الك ‪RR‬راع _ أي اخلي ‪RR‬ل_ واخلف_ أي االب ‪RR‬ل_‪ ،‬وأخلفتن ‪RR‬ابنو قريظ ‪RR‬ة‪ ،‬وبلغن ‪RR‬ا عنهم ال ‪RR‬ذي نك ‪RR‬ره‪،‬‬
‫ولقين ‪RR‬ا من ش ‪ّ R‬دة ال ‪RR‬ريح‪ ،‬م ‪RR‬ا تطمئن لن ‪RR‬ا ق ‪RR‬در‪ ،‬وال تق ‪RR‬وم لن ‪RR‬ا ن ‪RR‬ار‪ ،‬وال يستمس ‪RR‬ك لن ‪RR‬ا بن ‪RR‬اء‪ ،‬ف ‪RR‬ارحتلوا ف ‪RR‬اين‬
‫مرحتل"‪..‬‬
‫مث هنض فوق مجله‪ ،‬وبدأ املسري فتبعه احملاربون‪..‬‬
‫يقول حذيفة‪:‬‬
‫ايل أال حتدث شيئا حىت تأتيين‪ ،‬لقتلته بسهم"‪..‬‬ ‫" لوال عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫وعاد حذيفة اىل الرسول عليه الصالة والسالم فأخربه اخلرب‪ ،‬وزف البشرى‪ R‬اليه‪...‬‬

‫**‬
‫‪ | 146‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومع هذا فان حذيفة خيلف يف هذا اجملال كل الظنون‪..‬‬


‫ورج‪RR‬ل الص‪RR‬ومعة العاب‪RR‬د‪ ،‬املتأم‪RR‬ل ال يك‪RR‬اد حيم‪RR‬ل ش‪RR‬يفه ويقاب‪RR‬ل جي‪RR‬وش الوثني‪RR‬ة والض‪RR‬الل ح‪RR‬ىت يكش‪RR‬ف لن‪RR‬ا‬
‫عن عبقرية تبهر األبصار‪..‬‬
‫وحسبنا أن نعلم‪ ،‬أنه كان ثالث ثالثة‪ ،‬أو خامس مخسة كانوا أص‪RR‬حاب الس‪RR‬بق العظيم يف فت‪RR‬وح الع‪RR‬راق‬
‫مجيعها‪!..‬‬

‫ويف مهدان والري والدينور مت الفتح على يديه‪..‬‬


‫ويف معركة هناوند العظىن‪ ،‬حيث احتش‪RR‬د الف‪RR‬رس يف مائ‪RR‬ة أل‪R‬ف مقات‪RR‬ل ومخس‪RR‬ني الف‪R‬ا‪ ..‬اخت‪RR‬ار عم‪RR‬ر لقي‪R‬ادة‬
‫مقرن مث كتب اىل حذيفة أن يسري اليه على رأس جيش من الكوفة‪..‬‬ ‫اجليوش املسلمة النعمان بن ّ‬
‫وأرسل عمر اىل املقاتلني كتابه يقول‪:‬‬
‫مقرن‪..‬‬
‫" اذا اجتمع املسلمون فليكن على كل أمري جيشه‪ ..‬وليكن أمري اجليوش مجيعها النعمان بن ّ‬
‫فاذا استشهد‪ R‬النعمان‪ ،‬فليأخذ الراية حذيفة‪ ،‬فاذا استشهد فجرير بن عداهلل‪..‬‬
‫وهكذا مضى أمري املؤمنني خيتار ّقواد املعركة حىت مسّى منهم سبع‪...‬‬
‫والتقى اجليشان‪..‬‬
‫الفرس يف مائة ألف ومخسني ألفا‪..‬‬
‫واملسلمون يف ثالثني ألفا الغري‪...‬‬
‫وينشب قتال يفوق كل تصور ونظري ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا‪..‬‬
‫وس‪RR‬قط قائ‪RR‬د املس‪RR‬لمني ق‪RR‬تيال‪ ،‬س‪RR‬قط النعم‪RR‬ان‪ R‬بن مق‪Rّ R‬رن‪ ،‬وقب‪RR‬ل أن هتوي الراي‪RR‬ة املس‪RR‬لمة اىل األرض‪ R‬ك‪RR‬ان‬
‫القائد اجلديد قد تس‪R‬لمها بيمين‪R‬ه‪ ،‬وس‪R‬اق هبا ري‪R‬اح النص‪R‬ر يف عنف‪R‬وان جلب واستبس‪R‬ال عظيم‪ ...‬ومل يكن‬
‫هذا القائد‪ R‬سوى حذيفة بن اليمان‪...‬‬
‫محل الراي‪RR‬ة من ف‪RR‬وره‪ ،‬وأوص‪RR‬ى ب‪RR‬أال ن‪RR‬دع نب‪RR‬أ م‪RR‬وت النعم‪RR‬ان ح‪RR‬ىت تنجلي املعرك‪RR‬ة‪ ..‬ودع‪RR‬ا نعيم بن مق‪RR‬رن‬
‫فجعله مكان أخيه النعمان‪ R‬تكرميا له‪..‬‬
‫‪ | 147‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجنزت املهم ‪RR‬ة يف حلظ ‪RR‬ات والقت ‪RR‬ال ي ‪RR‬دور‪ ،‬بديهيت ‪RR‬ه املش ‪RR‬رقة‪ ..‬مث انث ‪RR‬ىن كاالعص ‪RR‬ار املدم ‪RR‬دم على ص ‪RR‬فوف‬
‫الفرس صائحا‪:‬‬
‫" اهلل أبكر صدق وعده!!‬
‫اهلل أكرب نصر جنده!!"‬
‫مث ل ‪RR‬وى زم ‪RR‬ام فرس ‪RR‬ه ص ‪RR‬وب املق ‪RR‬اتلني يف جيوش ‪RR‬ه ون ‪RR‬ادى‪ :‬ي ‪RR‬ا أتب ‪RR‬اع حمم ‪RR‬د‪ ..‬ه ‪RR‬اهي ذي جن ‪RR‬ان اهلل تتهي ‪RR‬أ‬
‫الستقبالكم فال تطيلوا عليها االنتظار‪..‬‬
‫هيا يا رجال بدر‪..‬‬
‫تقدموا يا ابطال اخلندق وأحد وتبوك‪..‬‬
‫لقد احتفظ حذيفة بكا محاسة املعركة وأشواقها‪ ،‬ان مل يكن قد زاد منها وفيها‪..‬‬
‫وانتهى القتال هبزمية ساحقة للفرس‪ ..‬هزمية ال نكاد جند هلا نظريا‪!!..‬‬

‫**‬

‫تضمه صومعته‪..‬‬
‫هذا العبقري‪ R‬يف محته‪ ،‬حني ّ‬
‫والعبقري يف فدائيته‪ ،‬حني يقف فوق أرض القتال‪..‬‬
‫ه ‪RR‬و ك ‪RR‬ذلك العبق ‪RR‬ري‪ R‬يف ك ‪RR‬ل مهم ‪RR‬ةتوكل الي ‪RR‬ه‪ ،‬ومش ‪RR‬ورةتطلب من ‪RR‬ه‪ ..‬فحني انتق ‪RR‬ل س ‪RR‬عد بن أيب وق ‪RR‬اص‬
‫واملسلمون معه من املدائن اىل الكوفة واستوطنوها‪..‬‬
‫وذلك بعد أن أنزل مناخ املدائن بالعرب املسلمني أذى بليغا‪.‬‬
‫مما جع‪RR R‬ل عم‪RR R‬ر يكتب اىل س‪RR R‬عد كي يغادره‪RR R‬ا ف‪RR R‬ورا بع‪RR R‬د أن يبحث عن أك‪RR R‬ثر البق‪RR R‬اع مالءم‪RR R‬ة‪ ،‬فينتق‪RR R‬ل‬
‫باملسلمني اليها‪..‬‬
‫يومئذ من الذي‪ R‬وكل اليه أمر اختيار البقعة واملكان‪..‬؟‬
‫انه حذيفة بن اليمان‪ ..‬ذهب ومعه سلمان بن زياد‪ ،‬يرتادان ملسلمني املكان املالئم‪..‬‬
‫‪ | 148‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫شم حذيفة عليه‪RR‬ا أنس‪RR‬ام العافي‪RR‬ة‪ ،‬فق‪RR‬ال لص‪RR‬احبه‪:‬‬ ‫فلما بلغا أرض الكوفة‪ ،‬وكانت حصباء جرداء مرملة‪ّ .‬‬
‫هنا املنزل ان شاء اهلل‪..‬‬
‫وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمري اىل مدينة عامرة‪...‬‬
‫وما كاد املسلمون ينتقلون اليها‪ ،‬حىت شفي سقيمهم‪ .‬وقوي ضعيفهم‪ .‬ونبضت بالعافية عروقهم‪!!..‬‬
‫لقد كان حذيفة واسع الذكاء‪ ،‬متنوع اخلربة‪ ،‬وكان يقول للمسلمني دائما‪:‬‬
‫" ليس خي‪RR R‬اركم ال‪RR R‬ذين ي‪RR R‬رتكون ال‪RR R‬دنيا‪ R‬لآلخ‪RR R‬رة‪ ..‬وال ال‪RR R‬ذين ي‪RR R‬رتكون اآلخ‪RR R‬رة لل‪RR R‬دنيا‪ ..‬ولكن ال‪RR R‬ذين‬
‫يأخذون من هذه ومن هذه"‪...‬‬

‫**‬

‫وذات ي‪RR‬وم من أي‪RR‬ام الع‪RR‬ام اهلج‪RR‬ري الس‪RR‬ادس والثالثني‪..‬دعي للق‪RR‬اء اهلل‪ ..‬واذ ه‪RR‬و يتهي‪RR‬أ للرحل‪RR‬ة األخ‪RR‬رية‬
‫دخل عليه بعض أصحابه‪ ،‬فسأهلم‪:‬‬
‫أجئتم معكم بأكفان‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪..‬‬
‫قال‪ :‬أرونيها‪..‬‬
‫فلما رآها‪ ،‬وجدها جديدة فارهة‪..‬‬
‫فارتسمت‪ R‬على شفتيه آخر بسماته الساخرة‪ ،‬وقال هلم‪:‬‬
‫" ما هذا يل بكفن‪ ..‬امنا يكفيين لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص‪..‬‬
‫شر منهما"‪!!..‬‬ ‫فاين لن أترك يف القرب اال قليال‪ ،‬حىت أب ّدل خريا منهما‪ ...‬أو ّ‬
‫ومتتم بكلمات‪ ،‬ألقى اجلالسون أمساعهم فسمعوها‪:‬‬
‫" مرحبا باملوت‪..‬‬
‫حبيب جاء على شوق‪..‬‬
‫ال أفلح من ندم"‪..‬‬
‫‪ | 149‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وصعدت اىل اهلل روح من أعظم أرواح البشر‪ ،‬ومن أكثرها تقى‪ ،‬وتآلقا‪ ،‬واخباتا‪...‬‬

‫عمار بن ياسر‬
‫ّ‬
‫رجل من اجلنة‪!!..‬‬

‫لو كان هناك أناس يولدون يف اجلنة‪ ،‬مث يشيبون يف رحاهبا ويكربون‪..‬‬
‫عمار‪ ،‬وأمه مسيّة‪ ،‬وأبوه ياسر من هؤالء‪!!..‬‬
‫مث جياء هبم اىل الرض ليوكون زينة هلا‪ ،‬ونورا‪ ،‬لكان ّ‬
‫ولكن ملاذا نقول‪ :‬لو‪ ..‬ملاذا مفرتض هذا االتراض‪ ،‬وقد كان آل ياسر فعال من أهل اجلنة‪..‬؟؟‬
‫وما كان الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬مواسيا هلم فحسب‪ R‬حني قال‪:‬‬
‫" صربا آل ياسر ان موعدكم‪ R‬اجلنة"‪..‬‬
‫بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه‪..‬‬

‫**‬

‫عمار‪ ،‬من بلده يف اليمن يطلب أخا له‪ ،‬ويبحث عنه‪..‬‬ ‫خرج ياسر والد‪ّ R‬‬
‫ويف مكة طاب له املقام‪ ،‬فاستوطنها حمالفا أبا حذيفة بن املغرية‪..‬‬
‫وزوجه أبو حذيفة احدى امائه مسيّة بنت خياط‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ومن هذا الزواج‪ R‬املبارك رزق اهلل األبوين عمارا‪..‬‬
‫وكان اسالمهم مبكرا‪ ..‬شأن األبرار الذين هداهم اهلل‪..‬‬
‫وشأن األبرار‪ R‬املب ّكرين أيضا‪ ،‬أخذوا نصيبهم األوىف من عذاب قريش وأهواهلا‪!!..‬‬
‫ولقد كانت قريش ترتبّص باملؤمنني الدوائر‪..‬‬
‫ف‪RR‬ان ك‪RR‬انوا ممن هلم يف ق‪RR‬ومهم‪ R‬ش‪RR‬رف ومنع‪RR‬ة‪ ،‬تول‪RR‬وهم بالوعي‪RR‬د والتهدي‪RR‬د‪ ،‬ويلقى أب‪RR‬و جه‪RR‬ل املؤمن منهم‬
‫‪R‬عن ش ‪RR‬رفك‪ ،‬ولنكس‪RR R‬د ّن‬
‫هن حلم‪RR R‬ك‪ ،‬ولنض‪ّ R R‬‬
‫فيق‪RR R‬ول ل‪RR R‬ه‪ ":‬ت‪RR R‬ركت دين آبائ‪RR R‬ك وهم خ‪RR R‬ري من‪RR R‬ك‪ ..‬لنس ‪ّ R R‬ف ّ‬
‫ولنهلكن مالك" مث يشنون عليه حرب عصبية حامية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫جتارتك‪،‬‬
‫‪ | 150‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وان كان املؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها‪ ،‬أو عبيدها‪ ،‬أصلتهم سعريا‪.‬‬
‫ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق‪..‬‬
‫ووك‪RR‬ل أم‪RR‬ر تع‪RR‬ذيبهم اىل ب‪RR‬ين خمزوم‪ ،‬خيرج‪RR‬ون هبم مجيع‪RR‬ا‪ ..‬ياس‪RR‬ر‪ ،‬مسية وعم‪RR‬ار ك‪RR‬ل ي‪RR‬وم اىل رمض‪RR‬اء مك‪RR‬ة‬
‫امللتهبة‪ ،‬ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!‬

‫ولق‪RR‬د ك‪RR‬ان نص‪RR‬يب مسية من ذل‪RR‬ك الع‪RR‬ذاب فادح‪RR‬ا رهيب‪RR‬ا‪ .‬ولن نفيض يف احلديث عنه‪RR‬ا اآلن‪ ..‬فلن‪RR‬ا ان‬
‫ش‪RR‬اء اهلل م‪RR‬ع جالل تض‪RR‬حيتها‪ ،‬وعظم‪RR‬ة ثباهتا لق‪RR‬اء نتح‪RR‬دث عنه‪RR‬ا وعن نظرياهتا وأخواهتا يف تل‪RR‬ك األي‪RR‬ام‬
‫اخلالدات‪..‬‬
‫وليكن حس‪R‬بنا اآلن أن ن‪R‬ذكر يف غ‪R‬ري كبالغ‪R‬ة أن مسية الش‪R‬هيدة وقفت‪ R‬ي‪R‬وم ذاك موقف‪R‬ا مينح البش‪R‬رية كله‪R‬ا‬
‫من أول اىل آخرها شرفا ال ينفد‪ ،‬وكرامة ال ينصل هباؤها‪!..‬‬
‫موقفا جعل منها ّأما عظيمة للمؤمنني يف كل العصور‪ ..‬وللشرفاء يف كل األزمان‪!!..‬‬

‫**‬

‫كان الرسول عليه الصالة والسالم خيرج اىل حيث علم أن آل ياسر يعذبون‪..‬‬
‫ومل يكن ىنذاك ميلك من أسباب املقاومة ودفع األذى شيئا‪..‬‬
‫وكانت تلك مشيئة اهلل‪..‬‬
‫فال‪RR‬دين اجلدي‪RR‬د‪ ،‬مل‪RR‬ة اب‪RR‬راهيم حنيف‪RR‬ا‪ ،‬ال‪RR‬دين ال‪RR‬ذي‪ R‬يرف‪RR‬ع حمم‪RR‬د ل‪RR‬واءه ليس حرك‪RR‬ة اص‪RR‬الح عارض‪RR‬ة ع‪RR‬ابرة‪..‬‬
‫وامنا ه‪RR‬و هنج حي‪RR‬اة للبش‪RR‬رية املؤمن‪RR‬ة‪ ..‬وال ب‪RR‬د للبش‪RR‬ربة املؤمن‪RR‬ة ه‪RR‬ذه أن ت‪RR‬رث م‪RR‬ع ال‪RR‬دين تارخيه بك‪R‬ل تارخيه‬
‫بكا بطوالته‪ ،‬وتضحياته وخماطراته‪...‬‬
‫ان ه ‪RR‬ذه التض ‪RR‬حيات النبيل ‪RR‬ة اهلائل ‪RR‬ة‪ ،‬هي اخلرس ‪RR‬انة ال ‪RR‬يت هتب ال ‪RR‬دبن والعقي ‪RR‬دة‪ R‬ثبات ‪RR‬ا ال ي ‪RR‬زول‪ ،‬وخل ‪RR‬ودا ال‬
‫يبلى‪!!!..‬‬

‫اهنا العبري ميأل أفئدة املؤمنني والء‪ ،‬وغبطة وحبورا‪.‬‬


‫‪ | 151‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واهنا املنار الذي‪ R‬يهدي األجيال الوافدة اىل حقيقة الدين‪ ،‬وصدقه وعظمته‪..‬‬
‫وهك‪RR‬ذا مل يكن هن‪RR‬اك ب‪RR‬د من أن يك‪RR‬ون لالس‪RR‬الم تض‪RR‬حياته وض‪RR‬حاياه‪ ،‬ولق‪RR‬د أض‪RR‬اء الق‪RR‬رآن الك‪RR‬رمي ه‪RR‬ذا‬
‫املعىن للمسلمني يف أكثر من آية‪...‬‬
‫فهو يقول‪:‬‬
‫(أحسب الناس أن يرتكوا‪ ،‬أن يقولوا‪ R‬آمنّا‪ ،‬وهم ال يفتنون)؟!‬

‫(أم حسبتم أن تدخلوا اجلنة‪ ،‬وملا يعلم اهلل الذين جاهدوا منكم‪ ،‬ويعلم الصابرين)؟‬
‫ّ‬
‫وليعلمن الكاذبني)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فليعلمن اهلل الذين صدقوا‪R،‬‬
‫ّ‬ ‫(ولقد فتنّا الذين من قبلهم‪،‬‬

‫(أم حسبتم أن ترتكوا‪ ،‬وملا يعلم اهلل الذين جاهدوا منكم‪)..‬‬

‫(ما كان اهلل ليذر املؤمنني على ما أنتم عليه حىت مييز اخلبيث من الطيّب)‪..‬‬

‫(وما أصابكم يوم التقى اجلمعان‪ ،‬فباذن اهلل‪ ،‬وليعلم املؤمنني)‪.‬‬

‫أج ‪RR‬ل هك ‪RR‬ذا علم الق ‪RR‬رآن محلت ‪RR‬ه وأبن ‪RR‬اءه‪ ،‬أن التض ‪RR‬حية ج ‪RR‬وهر االميان‪ ،‬وأن مقاوم ‪RR‬ة التح ‪RR‬ديّات الغامشة‬
‫الظاملة بالثبات وبالصرب وباالصرار‪ ..‬امنا تش ّكل أهبى فضائل االميان وأروعها‪..‬‬
‫ومن مثّ فان دين اهلل ه‪R‬ذا وه‪R‬و يض‪R‬ع قواع‪R‬ده‪ ،‬ويرس‪R‬ي دعائم‪R‬ه‪ ،‬ويعطي مثل‪R‬ه‪ ،‬ال ب‪R‬د ل‪R‬ه أن ي‪R‬دعم وج‪R‬وده‬
‫بالتضحية‪ ،‬ويز ّكي نفسه بالفداء‪ ،‬خمتارا هلذه املهم‪R‬ة اجلليل‪R‬ة نف‪R‬را من أبنائ‪R‬ه وأوليائ‪R‬ه وأب‪R‬راره يكن‪R‬ون ق‪R‬دوة‬
‫سامقة ومثال عاليا للمؤمنني القادمني‪.‬‬
‫عم‪RR‬ار من ه ‪RR‬ذه الثل ‪RR‬ة املبارك ‪RR‬ة العظيم ‪RR‬ة ال ‪RR‬يت اهتارهتا مق ‪RR‬ادير‬
‫ولق ‪RR‬د ك ‪RR‬انت مسيّة‪ ..‬وك ‪RR‬ان ياس ‪RR‬ر‪ ..‬وك ‪RR‬ان ّ‬
‫االسالم لتصوغ من تضحياهتا وثباهتا واصراراها وثيقة عظمته وخلوده‪..‬‬
‫‪ | 152‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫قلن‪RR R‬ا ان رس‪RR R‬ول اهلل ص‪RR R‬لى اهلل علي‪RR R‬ه وس‪RR R‬لم ك‪RR R‬ان خيرج ك‪RR R‬ل ي‪RR R‬وم اىل أس‪RR R‬رة ياس‪RR R‬ر‪ ،‬حميّي‪RR R‬ا ص‪RR R‬مودها‪،‬‬
‫وبطولتها‪ ..‬وكان قلبه الكبري يذوبرمحة وحنانا ملشهدهم‪ R‬وهم يتلقون العذاب ما ال طاقة هلم به‪.‬‬
‫عمار‪:‬‬ ‫وذات يوم وهو يعودهم ناداه ّ‬
‫" يا رسول اهلل‪ ..‬لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"‪..‬‬
‫فنا داه الرسول‪ :‬صربا‪ R‬أبا اليقظان‪..‬‬
‫صربا آل ياسر‪..‬‬
‫فان موعدكم‪ R‬اجلنة"‪..‬‬
‫عمار العذاب الذي‪ R‬نزل به يف أحاديث كثرية‪.‬‬ ‫ولقد وصف أصاب ّ‬
‫فيقول عمرو بن احلكم‪:‬‬
‫عمار يعذب حىت ال يدري ما يقول"‪.‬‬ ‫" كان ّ‬
‫ويقول عمرو بن ميمون‪:‬‬
‫عم‪R‬ار بن ياس‪R‬ر بالن‪R‬ار‪ ،‬فك‪RR‬ان رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪R‬ه وس‪RR‬لم مير ب‪RR‬ه‪ ،‬ومير ي‪R‬ده على‬ ‫" أحرق املشركون ّ‪R‬‬
‫عمار‪ ،‬كما كنت بردا وسالما على ابراهيم"‪..‬‬ ‫رأسه ويقول‪ :‬يا نار كوين بردا وسالما على ّ‬
‫على أن ذلك هلول كله مل يكن ليفدح‪ R‬روح عمار‪ ،‬وان فدح ظهره ودغدغ قواه‪..‬‬
‫ومل يش‪RR‬عر عم‪RR‬ار ب‪RR‬اهلالك حق‪RR‬ا‪ ،‬اال يف ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم‪ R‬ال‪RR‬ذي اس‪RR‬تنجد في‪RR‬ه جالدوه بك‪RR‬ل عبق‪RR‬ريتهم يف اجلرمية‬
‫والبغي‪ ..‬فمن الكي بالن ‪RR‬ار‪ ،‬اىل ص ‪RR‬لبه على الرمض ‪RR‬اء املس ‪RR‬تعرة حتت احلج ‪RR‬ارة امللتهب ‪RR‬ة‪ ..‬اىل غطّ ‪RR‬ه يف املاء‬
‫حىت ختتنق أنفسه‪ ،‬وتتسلخ قروحه وجروحه‪..‬‬
‫يف ذلك اليوم اذ فقد وعيه حتت وطأة هذا العول فقالوا‪ R‬ل‪R‬ه‪ :‬أذك‪RR‬ر آهلتن‪R‬ا خبري‪ ،‬وأخ‪R‬ذوا يقول‪RR‬ون ل‪R‬ه‪ ،‬وه‪RR‬و‬
‫يردد وراءهم القول يف غري شعور‪.‬‬
‫‪ | 153‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يف لك اليوم‪ ،‬وبعد أن أفاق قليال من غيبوبة تعذيبه‪ ،‬ت‪RR‬ذ ّكر م‪RR‬ا قال‪R‬ه فط‪RR‬ار ص‪RR‬وابه‪ ،‬وجتس‪R‬مت ه‪R‬ذه اهلف‪RR‬وة‬
‫أم‪RR‬ا نفس‪RR‬ه ح‪RR‬ىت رآه‪RR‬ا خطيئ‪RR‬ة ال مغف‪RR‬رة هلا وال كف‪RR‬ارة‪ ..‬ويف حلظ‪RR‬ات مع‪RR‬دودات‪ ،‬أوق‪RR‬ع ب‪RR‬ه الش‪RR‬عور‪ R‬ب‪RR‬االمث‬
‫من العذاب ما أضحى عذاب املشركني جتاهه بلسما ونعيما‪!!..‬‬

‫عمار ملشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه ال حمالة‪..‬‬ ‫ولو ترك ّ‬
‫ص ‪R‬ب على جس ‪RR‬ده‪ ،‬ألن روح ‪RR‬ه هن ‪RR‬اك ش‪RR‬اخمة‪ ..‬أم‪RR‬ا اآلن وه‪RR‬و يظن أن اهلزمية‬ ‫لق‪RR‬د ك ‪RR‬ان حيتم‪RR‬ل اهلول املن ّ‬
‫أدركت روحه فقد أشرفت به مهومه وجزعه على املوت واهلالك‪..‬‬
‫العلي القدير أراد للمشهد املثري أن يبلغ جالل ختامه‪..‬‬ ‫لكن اهلل ّ‬
‫عم‪RR‬ارا‪ ،‬وهاتف‪RR‬ا ب‪RR‬ه‪ :‬اهنض أيه‪RR‬ا البط‪RR‬ا‪ ..‬ال ت‪RR‬ثريب علي‪RR‬ك وال‬
‫وبس‪RR‬ط ال‪RR‬وحي ميين‪RR‬ه املبارك‪RR‬ة مص‪RR‬افحا هبا ّ‬
‫حرج‪..‬‬
‫ولقي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي‪ ،‬فجعل ميسح دموعه بيده‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫" أخذك الكفار‪ ،‬فغطوك يف املاء‪ ،‬فقلت كذا‪ ..‬وكذا‪..‬؟؟"‬
‫عمار وهو ينتحب‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪...‬‬ ‫أجاب ّ‬
‫فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يبتسم‪ ":‬ان عادوا‪ ،‬فقل هلم مثل قولك هذا"‪!!..‬‬
‫مث تال عليه اآلية الكرمية‪:‬‬
‫( اال من أكره وقلبه مطمئن باالميان)‪..‬‬
‫عم ار سكينة نفسه‪ ،‬ومل يعد جيد للعذاب املنقض على جسده أملا‪ ،‬ومل يعد يلقي له وباال‪..‬‬ ‫واسرتد ّ‬
‫ّ‬
‫لقد ربح روحه‪ ،‬وربح اميانه‪ ..‬ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة املباركة‪ ،‬فليكن بعدئذ ما يكون‪!!..‬‬
‫عمار حىت حل االعياء جبالديه‪ ،‬وارت ّدوا‪ R‬أمام اصراره صاغرين‪!!..‬‬ ‫وصمد ّ‬

‫**‬
‫‪ | 154‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪R‬تقر املس ‪RR‬لمون باملدين‪RR‬ة بع ‪RR‬د هج‪RR‬رة رس‪RR‬وهلم اليه ‪RR‬ا‪ ،‬وأخ‪RR‬ذ اجملتم ‪RR‬ع االس ‪RR‬المي هن‪RR‬اك يتش ‪ّ R‬كل س‪RR‬ريعا‪،‬‬
‫اس ‪ّ R‬‬
‫ويستكمل نفسه‪..‬‬
‫ووسط هذه اجلماعة املسلمة املؤمنة‪،‬أخذ عمار مكانه عليّا‪!!..‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيبه حبا محّا‪ ،‬ويباهي أصحابه باميانه وهديه‪..‬‬
‫يقول عنه صلى اهلل عليه وسلم‪/‬‬
‫عمارا‪ R‬ملئ اميانا اىل مشاشه"‪.‬‬ ‫‪ :‬ان ّ‬

‫وحني وق‪R‬ع س‪RR‬وء تف‪R‬اهم بني عم‪R‬ار وخال‪R‬د بن الولي‪RR‬د‪ ،‬ق‪R‬ال رس‪RR‬ول اهلل‪ ":‬من ع‪R‬ادى عم‪RR‬ارا‪ ،‬ع‪RR‬اداه اهلل‪،‬‬
‫ومن أبغض عمارا أبغضه اهلل"‬
‫ومل يكن أم‪RR‬ام خال‪RR‬د بن الولي ‪R‬د‪ R‬بط‪RR‬ل االس‪RR‬الم اال أن يس‪RR‬ارع اىل عم‪RR‬ار معت‪RR‬ذرا الي‪RR‬ه‪ ،‬وطامع‪RR‬ا يف ص‪RR‬فحه‬
‫اجلميل‪!!..‬‬
‫وحني كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه يبنون املسجد باملدينة اثر نزوهلم هبا‪ ،‬ارجتز االمام‬
‫كرم اهلل وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها املسلمون معه‪ ،‬فيقولون‪:‬‬ ‫علي ّ‬
‫ال يستوي من يعمر املساجدا‬
‫يدأب فيها قائما وقاعدا‪R‬‬
‫ومن يرى عن الغبار حائدا‬

‫وكان عمار يعمل من ناحي‪R‬ة املس‪R‬جد فأخ‪R‬ذ ي‪R‬ردد األنش‪R‬ودة ويرف‪R‬ع هبا ص‪R‬وته‪ ..‬وظن أح‪R‬د أص‪R‬حابه أن‬
‫عمارا يعرض به‪ ،‬فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫ولعمار‪..‬؟‬
‫" ما هلم ّ‬
‫يدعوهم اىل اجلنة‪ ،‬ويدعونه اىل النار‪..‬‬
‫عيين وأنفي"‪...‬‬
‫عمارا جلدة ما بني ّ‬ ‫ان ّ‬
‫‪ | 155‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واذا أحب رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم مس ‪RR‬لما اىل ه ‪RR‬ذا احلد‪ ،‬فال ب ‪RR‬د أن يك ‪RR‬ون اميان ‪RR‬ه‪ ،‬وبالؤه‪،‬‬
‫ووالؤه‪ ،‬وعظم ‪RR R R‬ة نفس ‪RR R R‬ه‪ ،‬واس ‪RR R R‬تقامة ض ‪RR R R‬مريه وهنج ‪RR R R‬ه‪ ..‬ق ‪RR R R‬د بلغت املدى‪ ،‬وانتهت اىل ذروة الكم ‪RR R R‬ال‬
‫امليسور‪!!..‬‬
‫وكذلكم‪ R‬كان عمار‪..‬‬
‫لقد كال اهلل له نعمته وهداه باملكي‪R‬ال األوىف‪ ،‬وبل‪R‬ف يف درج‪RR‬ات اهلدى واليقني م‪RR‬ا جع‪R‬ل الرس‪RR‬ول ص‪R‬لى‬
‫اهلل عليه وسلم يز ّكي اميانه‪ ،‬ويرفعه بني أصحابه قدوة ومثال فيقول‪:‬‬
‫عمار"‪..‬‬
‫" اقتدوا بالذين من بعدي أيب بكر وعمر‪ ...‬واهتدوا هبدي ّ‬
‫ولقد وصفه الرواة فقالوا‪:‬‬
‫طو اال‪ ،‬أشهل‪ ،‬رحب ما بني املنكبني‪ ..‬من أطول الناس سكوتا‪ ،‬وأقلهم كالما"‪..‬‬ ‫" كان ّ‬
‫فكيف سارت حياة هذا العمالق‪ ،‬الصامت األش‪RR‬هل‪ ،‬الع‪R‬ريض الص‪R‬در‪ ،‬ال‪R‬ذي‪ R‬حيم‪R‬ل جس‪RR‬ده آث‪RR‬ار تعذيب‪RR‬ه‬
‫املروع‪ ،‬كما حيمل يف نفس الوقت وثيقة صموده اهلائل‪ ،‬واملذهل وعظمته اخلارقة‪..‬؟!‬ ‫ّ‬
‫كيف سارت حياة هذا احلواري املخلص‪ ،‬واملؤمن الصادق‪ ،‬والفدائي‪ R‬الباهر‪..‬؟؟‬
‫لقد شهد مع معلّمه ورسوله مجيع املشاهد‪ ..‬بدرا‪ ،‬وأحدا‪ ،‬واخلندق وتبوك‪ ..‬ويقيّتها مجيعل‪.‬‬
‫وملا ذهب الرسول صلى اهلل عليه وسلم اىل الرفيق األعلى‪ ،‬واصل العمالق زحفه‪..‬‬
‫اجلرراة ك‪RR‬ان‬‫‪R‬ردة ّ‬
‫ففي لق‪RR‬اء املس‪RR‬لمني م‪RR‬ع الف‪RR‬رس‪ ،‬وم‪RR‬ع ال‪RR‬روم‪ ،‬ومن قب‪RR‬ل ذل‪RR‬ك يف لق‪RR‬ائهم‪ R‬م‪RR‬ع جي‪RR‬وش ال‪ّ R‬‬
‫عمار هناكفي الصفوف األوىل دوما‪ ..‬جنديا باس‪R‬ال أمين‪RR‬ا‪ ،‬ال تنب‪RR‬و لس‪R‬يفه ض‪R‬ربة‪ ..‬ومؤمن‪RR‬ا ورع‪RR‬ا جليال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ال تأخذه عن اهلل رغبة‪..‬‬
‫وحني كان أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه خيتار والة املسلمني يف دقة وحت ّفظ من يخ\ت‪R‬ار‬
‫عمار بن ياسر"‪..‬‬ ‫مصريه‪ ،‬كانت عيناه تقعان دوما يف ثقة أكيدة على ّ‬
‫وهكذا سارع اليه وواله الكوفة‪ ،‬وجعل ابن مسعود معه على بيت املال‪..‬‬
‫وكتب اىل أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم اجلديد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫عمار بن ياسر أمريا‪ ..‬وابن مسعود معلما ووزيرا‪..‬‬ ‫" اين بعثت اليكم ّ‬
‫واهنما من النجباء‪ ،‬من أصحاب حممد‪ ،‬ومن أهل بدر"‪..‬‬
‫‪ | 156‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حتمله حىت تألبوا عليه أو كادوا‪..‬‬ ‫عمار يف واليته سريا شق على الطامعني يف الدنيا ّ‬ ‫ولقد‪ R‬سار ّ‬
‫لقد زادته الوالية تواضعا وورعا وزهدا‪..‬‬
‫يقول ابن أيب اهلذيل‪ ،‬وهو من معاصريه يف الكوفة‪:‬‬
‫عم‪RR‬ار بن ياس ‪RR‬ر وه ‪RR‬و أم ‪RR‬ري الكوف ‪RR‬ة يش ‪RR‬رتي من قثائه ‪RR‬ا‪ ،‬مث يربطه ‪RR‬ا حبب ‪RR‬ل وحيمله ‪RR‬ا ف ‪RR‬وق ظه ‪RR‬ره‪،‬‬
‫" رأيت ّ‬
‫وميضي هبا اىل داره"‪!!..‬‬

‫العام ‪RR‬ة وه ‪RR‬و ام ‪RR‬ري الكوف ‪RR‬ة‪ ":‬ي ‪RR‬ا أج ‪RR‬دع األذن يعرّي ه بأذن ‪RR‬ه ال ‪RR‬يت قطعت بس ‪RR‬يوف‬
‫ويق ‪RR‬ول ل ‪RR‬ه واح ‪RR‬د من ّ‬
‫املرتدين يف حرب اليمامة‪ ..‬فال يزيد األمري الذي بيده السلطة على أن يقول لشامته‪:‬‬
‫" خري أذينّ سببت‪ ..‬لقد أصيبت يف سبيل اهلل"‪!!..‬‬
‫عم‪R‬ار اجملي‪R‬دة‪ ..‬اذا انطل‪R‬ق العمالق يف‬ ‫أجل لقد أصيب يف سبيل اهلل يف يوم اليمامة‪ ،‬وك‪RR‬ان يوم‪RR‬ا من أي‪RR‬ام ّ‬
‫استبسال عاصف حيصد‪ R‬يف جيش مسيلمة الكذاب‪ ،‬ويهدي اليه املنايا والدمار‪..‬‬
‫واذا يرى يف املسلمني فتورا يرسل بني صفوفهم صياحه املزلزل‪ ،‬فيندفعون كالسهام‪ R‬املقذوفة‪.‬‬
‫يقول عبداهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪:‬‬
‫عم‪R‬ار بن ياس‪RR‬ر ي‪RR‬وم اليمام‪RR‬ة على ص‪RR‬خرة‪ ،‬وق‪RR‬د أش‪RR‬رف يص‪RR‬يح‪ :‬ي‪RR‬ا معش‪RR‬ر املس‪RR‬لمني‪ ..‬أمن اجلن‪RR‬ة‬ ‫" رايت ّ‪R‬‬
‫ايل‪ ..‬فنظ‪RR‬رت الي‪RR‬ه‪ ،‬ف‪RR‬اذا أذن‪RR‬ه مقطوع‪RR‬ة تت‪RR‬أرجح‪ ،‬وه‪RR‬و يقات‪RR‬ل أش‪RR‬د‬
‫عم‪R‬ار بن ياس‪RR‬ر‪ ،‬هلم‪RR‬وا ّ‬ ‫تف‪Rّ R‬رون‪..‬؟ أن‪RR‬ا ّ‪R‬‬
‫القتال"‪!!!..‬‬

‫أال من كان يف شك من عظمة حممد‪ R‬الرسول الصادق‪ ،‬واملعلم الكامل‪ ،‬فليقف أمام هذه النماذج من‬
‫أتباع‪RR‬ه وأص‪RR‬حابه‪ ،‬وليس‪RR‬أل نفس‪RR‬ه‪ :‬ه‪RR‬ل يق‪RR‬در على اجناب ه‪RR‬ذا الط‪RR‬راز الرفي‪R‬ع‪ R‬س‪RR‬وى رس‪RR‬ول ك‪RR‬رمي‪ ،‬ومعلم‬
‫عظيم؟؟‬

‫اذا خاضوا يف سبيل اهلل قتاال اندفعوا اندفاع من يبحث عن املنيّة‪ ،‬ال عن النصر‪!!..‬‬
‫‪ | 157‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واذا كانوا خلفاء وح ّك اما‪ ،‬ذهب اخلليفة حيلب شياه األيامى‪ ،‬ويعجن خبز اليتامى‪ ..‬كما فعل أبو بك‪RR‬ر‬
‫وعمر‪!!..‬‬
‫عم‪RR‬ار‪ ..‬أو تن‪RR‬ازلوا‪ R‬عن راتبهم‬
‫واذا ك‪RR‬انوا والة محل‪RR‬وا طع‪RR‬امم على ظه‪RR‬ورهم مربوط‪RR‬ا حبب‪RR‬ل‪ ..‬كم‪RR‬ا فع‪RR‬ل ّ‬
‫وجلسوا يصنعون من اخلوص اجملدول أوعية ومكاتل‪ ،‬كما صنع سلمان‪!!..‬‬
‫أال فلنحن اجلباه حتيّة واجالال لل‪R‬دين ال‪RR‬ذي أجنبهم‪ ،‬وللرس‪RR‬ول ال‪RR‬ذي‪ R‬ربّ‪RR‬اهم‪ ..‬وقب‪R‬ل ال‪RR‬دين والرس‪RR‬ول‪ ،‬اهلل‬
‫العلي الكبري الذي‪ R‬اجتباهم هلذا كله‪..‬‬
‫ّ‬
‫روادا خلري أمة أخرجت للناس‪!!..‬‬ ‫وهداهم هلذا كله‪ ..‬وجعلهم ّ‬

‫**‬

‫ك‪RR‬ان احلذيف‪RR‬ة بن اليم‪RR‬ان‪ ،‬اخلب‪RR‬ري بلغ‪RR‬ة الس‪RR‬رائر والقل‪RR‬وب يتهي‪RR‬أ للق‪RR‬اء اهلل‪ ،‬ويع‪RR‬اجل س‪RR‬كرات املوت حني‬
‫سأله أصحابه احلافون حوله قائلني له" مبن تأمرنا‪ ،‬اذا اختلف الناس"‪..‬؟‬
‫فأجاهبم حذيفة‪ ،‬وهو يلقي بآخر كلماته‪:‬‬
‫" عليكم بابن مسيّة‪ ..‬فانه لن يفارق احلق حىت ميةت"‪..‬‬
‫أج ‪RR‬ل ان عم ‪RR‬ارا لي ‪RR‬دور‪ R‬م ‪RR‬ع احلق حيث ي ‪RR‬دور‪ ..‬واآلن حنن نقف ‪RR‬و آث ‪RR‬اره املبارك ‪RR‬ة‪ ،‬ونتتب ‪RR‬ع مع ‪RR‬امل حيات ‪RR‬ه‬
‫تعلوا نقرتب من مشهد عظيم‪..‬‬ ‫العظيمة‪ْ ،‬‬
‫ولكن قب‪RR‬ل أن نواج‪RR‬ه ه‪RR‬ذا املش‪RR‬هد يف روعت‪RR‬ه وجالل‪RR‬ه‪ ،‬يف ص‪RR‬ولته وكمال‪RR‬ه‪ ،‬يف تفاني‪RR‬ه واص‪RR‬راره‪ ،‬يف تفوق‪RR‬ه‬
‫واقتداره‪ ،‬تعالْوا نبصر مشهد مشهدا‪ R‬يسبق هذا املشهد‪ ،‬ويتنبأ به‪ ،‬ويهيئ له‪...‬‬

‫ك‪R‬ان ذل‪R‬ك اث‪R‬ر اس‪R‬تقرار‪ R‬املس‪R‬لمني يف املدين‪R‬ة‪ ،‬وق‪R‬د هنض الرس‪R‬ول األمني وحول‪R‬ه الص‪R‬حابة األب‪R‬رار‪ ،‬ش‪R‬عثا‬
‫لرهبم وغربا‪ ،‬بنون بيته‪ ،‬ويقيمون مسجده‪ ..‬ق‪R‬د امتألت أفئ‪R‬دهتم املؤمن‪RR‬ة غبط‪R‬ة‪ ،‬وت‪R‬ألقت بش‪RR‬را‪ ،‬وابتهلت‬
‫محدا لرهبا وشكرا‪..‬‬
‫اجلميع يعملون يف خبور وأمل‪ ..‬حيملون احلجارة‪ ،‬أو يعجنون املالط‪ ..‬أو يقيمون البناء‪..‬‬
‫‪ | 158‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فوج هنا وفوج هناك‪..‬‬


‫واألفق السعيد يردد تغريدهم الذي‪ R‬يرفعون به أصواهتم احملبورة‪:‬‬
‫لئن قعدنا والنيب يعمل لذاك منا العمل املضلل‬
‫هكذا يغنون وينشدون‪..‬‬
‫مث تتعاىل أصواهتم الصادحة بتغريدة أخرى‪:‬‬
‫اللهم ان العيش عيش اآلخرة فارحم األنصار‪ R‬واملهاجرة‬
‫وتغريدة ثالثة‪:‬‬
‫يعمر مسجدا‬ ‫ال يستوب من ّ‬
‫يدأب فيها قائما وقاعدا‪R‬‬
‫ومن يرى الغبار عنه حائدا‬

‫اهنا خاليا هلل تعمل‪ ..‬اهنم‪ R‬جنوده‪ ،‬حيملون لواءه‪ ،‬ويرفعون بناءه‪..‬‬
‫ورس‪RR‬وله الطيّب األمني معهم‪ ،‬حيم‪RR‬ل من احلج‪RR‬ارة أعتاه‪RR‬ا‪ ،‬وميارس من العم‪RR‬ل أش‪RR‬قه‪ ..‬وأص‪RR‬واهتم‪ R‬املغ‪Rّ R‬ردة‬
‫حتكي غبطة أنفسهم الراضية املخبتة‪..‬‬
‫والسماء من فوقهم‪ R‬تغبط األرض اليت حتملهم فوق ظهرها‪ ..‬واحلياة املتهللة تشهد أهبى أعيادها‪!!..‬‬
‫مستقرها‪...‬‬
‫ّ‬ ‫وعمار بن ياسر هناك وسط املهرجان احلافل حيمل احلجارة الثقيلة من منحتها اىل‬

‫‪R‬ارة‬
‫ويبص‪RR‬ره الرمحة امله‪RR‬داة حمم ‪R‬د‪ R‬رس‪RR‬ول اهلل‪ ،‬فيأخ‪RR‬ذه الي‪RR‬ه حن‪RR‬ان عظيم‪ ،‬ويق‪RR‬رتب من‪RR‬ه وينفض بي‪RR‬ده الب‪ّ R‬‬
‫ويتأم‪RR‬ل وجه‪RR‬ه الودي‪R‬ع‪ R‬املؤمن بنظ‪RR‬رات ملؤه‪RR‬ا ن‪RR‬ور اهلل‪ ،‬مث يق‪RR‬ول على مأل من‬
‫الغب‪RR‬ار‪ R‬ال‪RR‬ذي‪ R‬كس‪RR‬ى رأس‪RR‬ه‪ّ ،‬‬
‫أصحابه مجيعا‪:‬‬
‫" ويح ابن مسيّة‪ !!..‬تقتله الفئة الباغية"‪...‬‬
‫‪ | 159‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتتك‪RR‬رر النب‪RR‬وءة م‪Rّ R‬رة أخ‪RR‬رى حني يس‪RR‬قط ج‪RR‬دار ك‪RR‬ان يعم‪RR‬ل حتت‪RR‬ه‪ ،‬فيظن بعض اخوان‪RR‬ه أن‪RR‬ه ق‪RR‬د م‪RR‬ات‪،‬‬
‫في‪RR‬ذهب ينع‪RR‬اه اىل رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬ويف‪Rّ R‬زع األص‪RR‬حاب من وق‪RR‬ع النب‪RR‬أ‪ ..‬لكن رس‪RR‬ول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يقول يف طمأنينة وثقة‪:‬‬
‫عمار تقتله الفئة الباغية"‪..‬‬ ‫" ما مات ّ‬
‫فمن تكون هذه الفئة يا ترى‪..‬؟؟‬
‫ومىت‪..‬؟ وأي‪..‬؟‬
‫عمار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصرية اليت حيملها رسوله العظيم‪..‬‬ ‫لقد أصغى ّ‬
‫مرشح للموت والشهادة يف كل حلظة من ليل أو هنار‪...‬‬ ‫يروع‪ ..‬فهو منذ أسلم‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ولكنه مل ّ‬
‫ومضت األيام‪ ..‬واألعوام‪..‬‬
‫ذهب الرس‪RR‬ول ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم اىل الرفي‪RR‬ق األعلى‪ ..‬مث حلق ب‪RR‬ه اىل رض‪RR‬وان اهلل أب‪RR‬و بك‪RR‬ر‪ ..‬مث حلق‬
‫هبما اىل رضوان‪ R‬اهلل عمر‪..‬‬
‫وويل اخلالفة ذي النورين عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫وك‪RR R‬انت املؤمرات ض ‪ّ R R‬د االس‪RR R‬الم تعم‪RR R‬ل عمله‪RR R‬ا ااملس‪RR R‬تميت‪ ،‬وحتاول أن ت‪RR R‬ربح بالغ‪RR R‬در واث‪RR R‬ارة الفنت م‪RR R‬ا‬
‫خسرته يف احلرب‪..‬‬
‫هتب على املدين‪RR‬ة ك‪RR‬ريح الس‪RR‬موم من‬ ‫وك‪RR‬ان مقت‪RR‬ل عم‪RR‬ر أول جناح أحرزت‪RR‬ه ه‪RR‬ذه املؤامرات ال‪RR‬يت أخ‪RR‬ذت ّ‬
‫دمر االسالم ملكها وعروشها‪..‬‬ ‫تلك البالد اليت ّ‬
‫وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها‪ ،‬فألّبت الفنت وأيقظتها يف معظم بالد االسالم‪..‬‬
‫ولعل عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬مل يعط األمور‪ R‬ما تس‪R‬تحقه من االهتم‪R‬ام واحلذر‪ ،‬ف‪R‬وقعت الواقع‪R‬ة واستش‪R‬هد‬
‫عثم‪RR‬ان رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه‪ ،‬وانفتحت على املس‪RR‬لمني أب‪RR‬واب الفتن‪RR‬ة‪ ..‬وق‪RR‬ام معاوي‪RR‬ة ين‪RR‬ازع اخلليف‪RR‬ة اجلدي‪RR‬د عليّ‪RR‬ا‬
‫كرم اهلل وجهه حقه يف األمر‪ ،‬ويف اخلالفة‪...‬‬ ‫ّ‬

‫وتع‪RR R‬ددت اجتاه‪RR R‬ات الص‪RR R‬حابة‪ ..‬فمنهم من نفض يدي‪RR R‬ه من اخلالف وأوى اىل بيتهخ‪ ،‬ج‪RR R‬اعال ش‪RR R‬عاره‬
‫كلمة ابن عمر‪:‬‬
‫‪ | 160‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حي على الصالة أجبته‪...‬‬ ‫" من قال ّ‬


‫حي على الفالح أجبته‪..‬‬ ‫ومن قال ّ‬
‫حي على قتل أخيك املسلم وأخذ ماله‪ ،‬قالت‪ :‬ال؟‪..‬‬ ‫ومن قال ّ‬
‫ومنهم من احناز‪ R‬اىل معاوية‪..‬‬
‫علي صاحب البيعة‪ ،‬وخليفة املسلمني‪..‬‬ ‫ومنهم من وقف اىل جوار ّ‬
‫عمار؟؟‬
‫ترى أين يقف اليوم‪ّ R‬‬
‫أين يقف الرجل الذي‪ R‬قال عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫عمار"‪..‬؟‬‫" واهتدوا‪ R‬هبدي ّ‬
‫أين يقف الرجل الذي‪ R‬قال عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫عمارا عاداه اهلل"‪..‬؟‬
‫" من عادى ّ‬
‫والذي‪ R‬كان اذا مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صوته يقرتب من منزله قال‪:‬‬
‫" مرحبا بالطيّب املقدام‪ ،‬ائذنوا‪ R‬له"‪!!..‬‬

‫علي ابن أيب طالب‪ ،‬ال متحيّزا وال متعصبا‪ ،‬بل مذعنا للحق‪ ،‬وحافظا للعهد‪..‬‬ ‫لقد وقف اىل جوار ّ‬
‫فعلي خليفة املسلمني‪ ،‬وصاحب البيعة باالمامة‪ ..‬ولقد أخذ اخلالفة وهو هلا أهل وهبا جدير‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وعلي قب ‪RR‬ل ه ‪RR‬ذا وبع ‪RR‬د ه ‪RR‬ذا‪ ،‬ص ‪RR‬احب املزاي ‪RR‬ا ال ‪RR‬يت جعلت منزلت ‪RR‬ه من رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي ‪RR‬ه وس ‪RR‬لم‬
‫ّ‬
‫كمنزلة هارون من موسى‪..‬‬
‫ان عمارا الذي‪ R‬يدور مع احلق حيث دار‪ ،‬ليهت‪RR‬دي‪ R‬بن‪RR‬ور بص‪RR‬ريته واخالص‪RR‬ه اىل ص‪RR‬احب احلق األوح‪RR‬د يف‬
‫علي‪ ،‬فأخذ مكانه اىل جواره‪..‬‬ ‫النزاع‪ ..‬ومل يكن صاحب احلق يومئذ يف يقينه سوى ّ‬
‫وفرح علي رضي اهلل عنه بنصرته فرحا لعله مل يفرح ميئذ مثله وازداد اميانا بأنه على احلق ما دام رج‪RR‬ل‬
‫عمار قد أقبل عليه وسار معه‪..‬‬ ‫احلق العظيم ّ‬
‫وجاء يوم صفني الرهيب‪.‬‬
‫متردا حيمل هو مسؤولية قمعه‪.‬‬ ‫وخرج االمام علي يواجه العمل اخلطري الذي‪ R‬اعتربه ّ‬
‫‪ | 161‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وخرج معه عمار‪..‬‬


‫كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثالثة وتسعني‪..‬‬
‫ثالث وتسعون عاما وخيرج للقتال‪..‬؟‬
‫أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه‪ ..‬ولقد قاتل أش ّد وأروع مما يقاتل أبناء الثالثني‪!!...‬‬
‫حيركهما اال هبذه الضراعة‪:‬‬ ‫حيرك شفتيه حني ّ‬ ‫كان الرجل الدائم‪ R‬الصمت‪ ،‬القليل الكالم‪ ،‬ال يكاد ّ‬
‫" عائذ باهلل من فتنة‪...‬‬
‫عائذ باهلل من فتنة‪."..‬‬
‫وبعيد وفاة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم‪..‬‬
‫حيس اخلط‪R‬ر ال‪R‬داهم‬
‫وكلما ك‪R‬انت األي‪R‬ام متر‪ ،‬ك‪R‬ان ه‪R‬و يك‪R‬ثر من هلج‪R‬ه وتع ّ‪R‬وذه‪ ..‬كأمنا ك‪R‬ان قلب‪R‬ه الص‪R‬ايف ّ‬
‫كلما اقرتبت‪ R‬أيامه‪..‬‬
‫وحني وقع اخلطر ونشبت الفتنة‪ ،‬كان ابن مسيّة‪ .‬يعرف مكانه فوقف يوم صفني حامال سيفه وه‪RR‬و ابن‬
‫الثالثة والتسعني كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته‪..‬‬
‫ولقد أعلن وجهة نظره يف هذا القتال قائال‪:‬‬

‫" ايها الناس‪:‬‬


‫سريوا بنا حنو هؤالء القوم الذين يزعمون أهنم يثأرون لعثمان‪ ،‬وواهلل م‪R‬ا قص‪R‬دهم األخ‪R‬ذ بث‪R‬أره‪ ،‬ولكنهم‬
‫يتمرغون فيه من شهواهتم‪ R‬ودنياهم‪..‬‬ ‫ذاقوا الدنيا‪ ،‬واستمرءوها‪ ،‬وعلموا‪ R‬أن احلق حيول بينهم وبني ما ّ‬
‫وم‪RR‬ا ك‪RR‬ان هلؤالء س‪RR‬ابقة يف االس‪RR‬الم يس‪RR‬تحقون هبا طاع‪RR‬ة املس‪RR‬لمني هلم‪ ،‬وال الوالي‪RR‬ة عليهم‪ ،‬وال ع‪RR‬رفت‬
‫قلوهبم من خشية اهلل ما حيملهم‪ R‬على اتباع احلق‪...‬‬
‫واهنم ليخ‪RR R R‬ادعون الن‪RR R R‬اس ب‪RR R R‬زعمهم أهنم يث‪RR R R‬أرون ل‪RR R R‬دم عثم‪RR R R‬ان‪ ..‬وم‪RR R R‬ا يري‪RR R R‬دون اال أن يكون‪RR R R‬وا جب‪RR R R‬ابرة‬
‫وملوكا؟‪...‬‬
‫مث أخذ الراية بيده‪ ،‬ورفعها‪ R‬فوق الرؤوس عالية خافقة‪ ،‬وصاح يف الناس قائال‪:‬‬
‫‪ | 162‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" وال‪RR‬ذي‪ R‬نفس‪RR‬ي بي‪RR‬ده‪ ..‬لق‪RR‬د ق‪RR‬اتلت هبذه الراي‪RR‬ة م‪RR‬ع رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬وهأن‪RR‬ذا أقات‪RR‬ل هبا‬
‫اليوم‪..‬‬
‫والذي‪ R‬نفسي بيده‪ .‬لو هزمونا حىت يبلغوا سعفات هجر‪ ،‬لعلمت أننا على احلق‪ ،‬وأهنم على الباطل"‪..‬‬
‫ولقد تبع الناس عمارا‪ ،‬وآمنوا بصدق كلماته‪..‬‬
‫يقول أبو عبدالرمحن السلمي‪:‬‬
‫علي رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه ص‪RR‬فني‪ ،‬ف‪RR‬رأيت عم‪RR‬ار ابن ياس‪RR‬ر رض‪RR‬ي ال‪RR‬ه عن‪RR‬ه ال يأخ‪RR‬ذ يف ناحي‪RR‬ة من‬ ‫" ش‪RR‬هدنا م‪RR‬ع ّ‬
‫نواحيه ‪RR R‬ا‪ ،‬وال واد من أوديته ‪RR R‬ا‪ ،‬اال رأيت أص ‪RR R‬حاب حمم ‪RR R‬د ص ‪RR R‬لى اهلل علي ‪RR R‬ه وس ‪RR R‬لم يتبعون ‪RR R‬ه كأن ‪RR R‬ه علم‬
‫هلم"‪!!..‬‬
‫عمار وهو جيول يف املعركة ويصول‪ ،‬يؤمن أنه واحد من شهدائها‪..‬‬ ‫كان ّ‬
‫وقد كانت نبوءة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تأتلق أمام عينيه حبروف كربة‪:‬‬
‫عمار الفئة الباغية"‪..‬‬
‫" تقتل ّ‬
‫من أجل هذا كان صوته جيلجل يف أفق املعركة هبذه التغريدة‪:‬‬
‫"اليوم القى األحبة حممدا‪ R‬وصحبه"‪!!..‬‬

‫مث يندفع‪ R‬كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله األمويني ويرسل صياحا عاليا مدمدما‪:‬‬
‫لقد ضربناكم على تنزيله‬
‫واليوم نضربكم على تأويله‬
‫ضربا يزيل اهلام عن مقليه‬
‫ويذهل اخلليل عن خليله‬
‫أو يرجع احلق اىل سبيله‬
‫وهو يع‪R‬ين هبذا‪ R‬أن أص‪R‬حاب الرس‪R‬ول الس‪R‬ابقني‪ ،‬وعم‪R‬ارا منهم ق‪R‬اتلوا األم‪R‬ويني ب‪R‬األمس وعلى رأس‪R‬هم أب‪R‬و‬
‫سفيان الذي كان حيمل لواء الشرك‪ ،‬ويقود جيوش املشركني‪..‬‬
‫قاتلوهم باألمس‪ ،‬وكان القرآن الكرمي يأمرهم صراحة بقتاهلم ألهنم‪ R‬مشركون‪..‬‬
‫‪ | 163‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أم‪RR‬ا الي‪RR‬وم‪ ،‬وان يكون‪RR‬وا ق‪RR‬د أس‪RR‬لموا‪ ،‬وان يكن الق‪RR‬رآن الك‪RR‬رمي ال ي‪RR‬أمرهم ص‪RR‬راحة بقت‪RR‬اهلم‪ ،‬اال أن اجته‪RR‬اد‬
‫عم‪RR‬ار رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه يف حبث‪RR‬ه عن احلق‪ ،‬وفهم‪RR‬ه لغاي‪RR‬ات الق‪RR‬رآن ومرامي‪RR‬ه يقنعان‪RR‬ه بقت‪RR‬اهلم ح‪RR‬ىت يع‪RR‬ود احلق‬
‫التمرد والفتنة‪..‬‬
‫املغتصب اىل ذويه‪ ،‬وحىت تنصفئ اىل البد نار ّ‬
‫ويعين كذلك‪ ،‬أهنم باألمس قاتلوا األمويني لكفرهم بالدين والقرآن‪..‬‬

‫والي ‪RR‬وم يق ‪RR‬اتلون األم ‪RR‬ويني الحنرافهم بال ‪RR‬دين‪ ،‬وزيغهم‪ R‬عن الق ‪RR‬رآن الك ‪RR‬رمي واس ‪RR‬اءهتم‪ R‬تأويل ‪RR‬ه وتفس ‪RR‬ريه‪،‬‬
‫وحماولتهم‪ R‬تطويع آياته ومراميه ألغراضهم‪ R‬وأطماعهم‪!!..‬‬

‫ك‪RR‬ان ابن الثالث‪RR‬ة والتس‪RR‬عني‪ ،‬خيوض آخ‪RR‬ر مع‪RR‬ارك حيات‪RR‬ه املستبس‪RR‬لة الش‪RR‬اخمة‪ ..‬ك‪RR‬ان يلقن احلي‪RR‬اة قب‪RR‬ل أن‬
‫يرحل عنها آخر دروسه يف الثبات على احلق‪ ،‬ويرتك هلا آخر مواقفه العظيمة‪ ،‬الشريفة املعلمة‪..‬‬
‫عم‪R‬ار م‪R‬ا اس‪RR‬تطاعوا‪ ،‬ح‪R‬ىت ال تقتل‪R‬ه س‪R‬يفهم فيت‪R‬بنّي للن‪RR‬اس أهنم الفئ‪R‬ة‬
‫ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا ّ‬
‫الباغية‪..‬‬
‫بيد أن شجاعة عمار الذي‪ R‬كان يقتل وكأنه جيش واحد‪ ،‬أفق‪RR‬دهتم‪ R‬ص‪RR‬واهبم‪ ،‬فأخ‪RR‬ذ بعض جن‪RR‬ود معاوي‪RR‬ة‬
‫يتحيّنون الفرصة الصابته‪ ،‬حىت اذا مت ّكنوا منه أصابوه‪...‬‬

‫**‬

‫ك ‪RR‬ان جيش معاويب ‪RR‬ة ينتظم من كث ‪RR‬ريين من املس ‪RR‬لمني اجلدد‪ ..‬ال ‪RR‬ذين أس ‪RR‬لموا على ق ‪RR‬رع طب ‪RR‬ول الفتح‬
‫االس‪RR‬المي يف البالد الكث‪RR‬رية ال‪RR‬يت حرره‪RR‬ا االس‪RR‬الم من س‪RR‬يطرة ال‪RR‬روم والف‪RR‬رس‪ ..‬وك‪RR‬ان أك‪RR‬ثر ه‪RR‬ؤالء وق‪RR‬ود‬
‫مترد معاوي‪R‬ة ونكوص‪R‬ه على بيع‪R‬ة علي‪ ..‬اخلليف‪R‬ة‪ ،‬واالم‪R‬ام‪ ،‬ك‪R‬انوا وقوده‪R‬ا وزيته‪R‬ا ال‪R‬ذي‪R‬‬ ‫احلرب اليت سببها ّ‬
‫يزيدها اشتعاال‪..‬‬
‫‪ | 164‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وه‪RR‬ذا اخلالف على خطورت‪RR‬ه‪ ،‬ك‪RR‬ان ميكن أن ينتهي بس‪RR‬الم ل‪RR‬و ظلت األم‪RR‬ور‪ R‬بأي‪RR‬دي املس‪RR‬لمني األوائ‪RR‬ل‪..‬‬
‫ولكنه مل يكد يتخذ أشكاله احلادة حىت تناولته أيد كثرية ال يهمها مصري االسالم‪ ،‬وذهبت ت‪RR‬ذكي الن‪RR‬ار‬
‫وتزيدها ضراما‪..‬‬
‫ش‪RR‬اع يف الغ‪RR‬داة‪ R‬خ‪RR‬رب مقت‪RR‬ل عم‪RR‬ار وذهب املس‪RR‬لمون يتناق‪RR‬ل بعض‪RR‬هم عن بعض نب‪RR‬وءة رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل‬
‫عليه وسلم اليت مسعها أصحابه مجيعا ذات يوم بعيد‪ ،‬وهم يبنون املسجد باملدينة‪..‬‬
‫" ويح ابن مسية‪ ،‬تقتله الفئة الباعغية"‪.‬‬
‫عمارا‪ ..‬وما قتله اال فئة معاوية‪..‬‬‫وعرف الناس اآلن من تكون الفئة الباغية‪ ..‬اهنا الفئة اليت قتلت ّ‬

‫علي هبذا‪ R‬اميانا‪..‬‬ ‫وازداد‪ R‬أصحاب ّ‬


‫علي‪..‬‬ ‫أما فريق معاوية‪ ،‬فقد بدأ الشك يغز قلوهبم‪ ،‬وهتيأ بعضهم للتمرد‪ ،‬واالنضمام اىل ّ‬
‫ومل يكد معاوية يسمع مبا حدث‪ .‬ح‪RR‬ىت خ‪R‬رج ي‪R‬ذيع يف الن‪R‬اس أن ه‪RR‬ذه النب‪RR‬وءة ح‪R‬ق ‪ ،‬وأن الرس‪R‬ول ص‪RR‬لى‬
‫عم‪R‬ارا‪...‬؟ مث ص‪RR‬اح يف‬ ‫عم‪R‬ارا س‪RR‬تقتله الفئ‪RR‬ة الباغي‪RR‬ة‪ ..‬ولكن من ال‪RR‬ذي قت‪RR‬ل ّ‪R‬‬ ‫اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم تنب‪RR‬أ حق‪RR‬ا ب‪RR‬أن ّ‪R‬‬
‫الناس الذين معه قائال‪:‬‬
‫" امنا قتله الذين خرجوا به من داره‪ ،‬وجاؤا به اىل القتال"‪..‬‬
‫واخندع بعض ال ‪RR R‬ذين يف قل ‪RR R‬وهبم‪ R‬ه ‪RR R‬وى هبذا‪ R‬التأوي‪RR R‬ل املتهال‪RR R‬ك‪ ،‬واس‪RR R‬تأنفت املعرك ‪RR R‬ة س ‪RR R‬ريها اىل ميقاهتا‬
‫املعلوم‪...‬‬

‫**‬

‫عم ار‪ ،‬فقد محله االمام علي فوق صدره اىل حيث صلى عليه واملسلمون معه‪ ..‬مث دفنه يف ثيابه‪..‬‬ ‫ّأما ّ‬
‫أج‪RR‬ل يف ثياب‪RR‬ه املض‪Rّ R‬مخة بدم‪RR‬ه ال‪RR‬زكي الطه‪RR‬ور‪ ..‬فم‪RR‬ا يف ك‪RR‬ل حري‪RR‬ر ال‪RR‬دنيا وديباجه‪RR‬ا م‪RR‬ا يص‪RR‬لح أن يك‪RR‬ون‬
‫عمار‪...‬‬ ‫كفنا لشهيد‪ R‬جليل‪ ،‬وق ّديس عظيم من طراز ّ‬

‫ووقف املسلمون على قربه يعجبون‪..‬‬


‫‪ | 165‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عم‪RR‬ار يغ‪Rّ R‬رد بينهم ف‪RR‬وق أرض املعرك‪RR‬ة‪ ..‬متل‪RR‬ؤ نفس‪RR‬ه غبط‪RR‬ة الغ‪RR‬ريب املض‪RR‬ىن ي‪RR‬زف اىل‬‫من‪RR‬ذ س‪RR‬اعات ك‪RR‬ان ّ‬
‫وطنه‪ ،‬وهو يصيح‪:‬‬
‫" اليوم ألقى األحبة‪ ،‬حممدا وصحبة"‪!!..‬‬
‫أكان معهم اليوم‪ R‬على موعد يعرفه‪ ،‬وميقات ينتظره‪...‬؟؟!!‬
‫وأقبل بعض األصحاب‪ R‬على بعضهم يتساءلون‪...‬‬
‫ق‪RR‬ال أح‪RR‬دهم لص ‪RR‬احبه‪ :‬أت‪RR‬ذكر أص‪RR‬يل ذل‪RR‬ك الي‪RR‬وم باملدين‪RR‬ةوحنن جالس ‪RR‬ون م ‪RR‬ع رس ‪RR‬ول اهلل ص ‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه‬
‫وسلم‪ ..‬وفجأة هتلل وجهه وقال‪:‬‬
‫لعمار"‪..‬؟؟‬
‫" اشتاقت اجلنة ّ‬
‫قال له صاحبه نعم‪ ،‬ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبالل‪..‬‬
‫لعمار‪..‬‬
‫اذن فاجلنة كانت مشتاقة ّ‬
‫واذن‪ ،‬فقد طال شوقها اليه‪ ،‬وهو يستمهلها حىت يؤدي كل تبعاته‪ ،‬وينجز آخر واجباته‪..‬‬
‫ذمة‪ ،‬وأجنزها يف غبطة‪..‬‬ ‫ولقد ّأداها يف ّ‬
‫أفما آن له أن يليب نداء الشوق الذي‪ R‬يهتف به من رحاب اجلنان‪..‬؟؟‬
‫بلى آن له أن يبلي النداء‪ ..‬فما جزاء االحسان اال االحسان‪ ..‬وهكذا ألقى رحمه ومضى‪..‬‬

‫يسوى بيد أصحابه فوق جثمانه‪ ،‬كانت روحه تعانق مص‪RR‬ريها الس‪RR‬عيد‪ R‬هن‪RR‬اك‪..‬‬
‫وحني كان تراب قربه ّ‬
‫لعمار‪!...‬‬
‫يف جنات اخللق‪ ،‬اليت طال شوقها ّ‬

‫عبادة بن الصامت‪R‬‬
‫نقيب يف حزب اهلل‬

‫انه واحد من األنصار‪ R‬الذين قال فيهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫‪ | 166‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" ل ‪RR‬و أن األنص ‪RR‬ار‪ R‬س ‪RR‬لكوا وادي ‪RR‬ا أو ش ‪RR‬عبا‪ ،‬لس ‪RR‬لكت وادي األنص ‪RR‬ار وش ‪RR‬عبهم‪ ،‬ول ‪RR‬وال اهلج ‪RR‬رة لكنت من‬
‫أم‪RR‬راء األنص‪RR‬ار"‪..‬طوعب‪RR‬ادة بن الص‪RR‬امت بع‪RR‬د كون‪RR‬ه من األنص‪RR‬ار‪ ،‬فه‪RR‬و واح‪RR‬د من زعم‪RR‬ائهم ال‪RR‬ذين اختذهم‬
‫نقباء على أهليهم وعشائرهم‪...‬‬
‫وحينما جاء وفد األنصار‪ R‬األول اىل مكة ليبايع الرسول عليه السالم‪ ،‬تلك البيعة املشهورة بـ بيعة العقب‪RR‬ة‬
‫األوىل‪ ،‬ك‪RR‬ان عب‪RR‬ادة بن الص‪RR‬امت‪ R‬رض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه أح‪RR‬د االث‪RR‬ين عش‪RR‬ر مؤمن‪RR‬ا‪ ،‬ال‪RR‬ذين س‪RR‬ارعوا اىل االس‪RR‬الم‪،‬‬
‫وبسطوا أمياهنم اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبايعني‪ ،‬وش ّدوا‪ R‬على ميينه مؤازرين ومسلمني‪...‬‬

‫وحينم‪R‬ا ك‪R‬ان موع‪R‬د احلج يف الع‪R‬ام الت‪R‬ايل‪ ،‬يش‪R‬هد بيع‪R‬ة العقب‪R‬ة الثاني‪R‬ة يبابعه‪R‬ا وف‪R‬د األنص‪R‬ار‪ R‬الث‪R‬اين‪ ،‬م ّكون‪R‬ا‬
‫من سبعني مؤمنا ومؤمنة‪ ،‬كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء األنصار‪..‬‬

‫وفيم‪RR‬ا بع‪R‬د واملش‪R‬اهد تت‪R‬واىل‪ ..‬ومواق‪RR‬ف التض‪R‬حية والب‪RR‬ذل‪ ،‬والف‪RR‬داء‪ R‬تت‪RR‬ابع‪ ،‬ك‪R‬ان عب‪RR‬ادة هن‪R‬اك مل يتخل‪R‬ف‬
‫عن مشهد ومل يبخل بتضحية‪...‬‬
‫ومنذ اختار اهلل ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا االختيار‪..‬‬
‫ك ‪RR‬ل والئ ‪RR‬ه هلل‪ ،‬وك ‪RR‬ل طاعت ‪RR‬ه هلل‪ ،‬وكال عالقت ‪RR‬ه بأقربائ ‪RR‬ه حبلفائ ‪RR‬ه وبأعدائ ‪RR‬ه امنا يش ‪RR‬كلها اميان ‪RR‬ه ويش ‪RR‬كلها‬
‫السلوك الذي يفرضه هذا االميان‪..‬‬
‫كانت عائلة عبادة مرتبطة حبلف قدمي مع يهود بين قينقاع باملدينة‪..‬‬

‫زمنذ هاجر الرسول وأصحابه اىل املدينة‪ ،‬ويهودها يتظاهرون مبساملته‪ ..‬حىت كانت األي‪RR‬ام ال‪RR‬يت تعقب‬
‫يتنمرون‪..‬‬
‫غزوة بدر وتسبق غزوة أحد‪ ،‬فشرع يهود املدينة ّ‬
‫وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على املسلمني‪..‬‬
‫وال يكذد عبادة يرى موقفهم هذا‪ ،‬حىت ينبذ اىل عهدهم ويفسخ حلفهم قائال‪:‬‬
‫" امنا أتوىل اهلل‪ ،‬ورسوله‪ ،‬واملؤمنني‪...‬‬
‫فيتنزل القرآن حمييا موقفه ووالءه‪ ،‬قائال يف آياته‪:‬‬
‫‪ | 167‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫( ومن يتوىل اهلل ورسوله‪ ،‬والذين آمنوا‪ ،‬فان حزب اهلل هم الغالبون)‪...‬‬

‫**‬

‫لقد أعلنت اآلية الكرمية قيام حزب اهلل‪..‬‬


‫وح‪RR‬زب اهلل‪ ،‬هم أولئ‪RR‬ك املؤمن‪RR‬ون ال‪RR‬ذين ينهض‪RR‬ون ح‪RR‬ول رس‪RR‬ول اهلل ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم ح‪RR‬املني راي‪RR‬ة‬
‫اهلدى واحلق‪ ،‬وال ‪RR‬ذين يش ‪RR‬كلون امت ‪RR‬دادا‪ R‬مبارك ‪RR‬ا لص ‪RR‬فوف املؤم ‪RR‬نني ال ‪RR‬ذين س ‪RR‬بقوهم ع ‪RR‬رب الت ‪RR‬اريخ ح ‪RR‬ول‬
‫أنبيائهم ورسلهم‪ ،‬مبلّغني يف أزماهنم وأعصارهم كلمة اهلل احلي القيّوم‪..‬‬

‫ولن يقتص‪RR‬ر ح‪RR‬زب اهلل على أص‪RR‬حاب حمم‪RR‬د ص‪RR‬لى اهلل علي‪RR‬ه وس‪RR‬لم‪ ،‬ب‪RR‬ل س‪RR‬يمتد ع‪RR‬رب األجي‪RR‬ال الواف‪RR‬دة‪،‬‬
‫ضما اىل صفوفه كل مؤمن باهلل وبرسوله‪..‬‬ ‫واألزمنة املقبلة حىت يرث اهلل األرض ومن عليها‪ّ ،‬‬

‫جمرد‬
‫وهك‪RR‬ذا ف‪RR‬ان الرج‪RR‬ل ال‪RR‬ذي‪ R‬ن‪RR‬زلت ه‪RR‬ذه اآلي‪RR‬ة الكرمية حتيي موقف‪RR‬ه وتش‪RR‬يد بوالئ‪RR‬ه واميان‪RR‬ه‪ ،‬لن يظ‪RR‬ل ّ‬
‫نقيب األنصار‪ R‬يف املدينة‪ ،‬بل سيصري نقيبا من نقباء الدين الذي‪ R‬ستزوى له أقطار األرض‪ R‬مجيعا‪.‬‬
‫رواد االس‪RR‬الم‪ ،‬وام‪RR‬ام من أئم‪RR‬ة‬
‫أجل لق‪RR‬د أص‪RR‬بحعبادة بن الص‪RR‬امت‪ R‬نقيب عش‪RR‬ريته من اخلزرج‪ ،‬رائ‪RR‬دا من ّ‬
‫املسلمني خيفق امسه كالراية يف معظم أقط‪RR‬ار األرض ال يف جب‪RR‬ل‪ ،‬وال يف جبلني‪ ،‬أو ثالث‪RR‬ة ب‪R‬ل اىل م‪RR‬ا ش‪R‬اء‬
‫اهلل من أجيال‪ ..‬ومن أزمان‪ ..‬ومن آماد‪!!..‬‬

‫**‬

‫مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية األمراء والوالة‪..‬‬
‫مسعه يتح ‪RR‬دث علي ‪RR‬ه الص ‪RR‬الة والس ‪RR‬الم‪ ،‬عن املص ‪RR‬ري ال ‪RR‬ذي‪ R‬ينتظ ‪RR‬ر من يف ‪Rّ R‬رط منهم يف احلق‪ ،‬أو تعبث ذمت‪RR‬ه‬
‫مبال‪ ،‬فزلزل زلزاال‪ ،‬وأقسم باهلل أال يكون أمريا على أثنني أبدا‪..‬‬
‫ولقد ّبر بقسمه‪..‬‬
‫‪ | 168‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف خالف‪RR‬ة أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني عم‪RR‬ر ؤض‪RR‬ي اهلل عن‪RR‬ه‪ ،‬مل يس‪RR‬تطع الف‪RR‬اروق أن حيمل‪RR‬ه على قب‪RR‬ول منص‪RR‬ب م‪RR‬ا‪ ،‬اال‬
‫تعليم االنس وتفقيههم‪ R‬يف الدين‪.‬‬
‫أج‪RR‬ل ه‪RR‬ذا ه‪RR‬و العم‪RR‬ل الوحي‪RR‬د ال‪RR‬ذي آث‪RR‬ره عب‪RR‬ادة‪ ،‬مبتع‪RR‬دا بنفس‪RR‬ه عن األعم‪RR‬ال األخ‪RR‬رى‪ ،‬احملفوف‪RR‬ة ب‪RR‬الزهو‬
‫وبالسلطان وبالثراء‪ ،‬واحملفوفة أيضا باألخطار اليت خيشاها على مصريه ودينه‬
‫وهك‪RR‬ذا س‪RR‬افر اىل الش‪RR‬ام‪ R‬ث‪RR‬الث ثالث‪RR‬ة‪ :‬ه‪RR‬و ومع‪RR‬اذ بن جب‪RR‬ل وأب‪RR‬و ال‪RR‬درداء‪ ..‬حيث مل‪RR‬ؤا البالد علم‪RR‬ا وفقه‪RR‬ا‬
‫ونورا‪...‬‬
‫وس ‪RR R‬افر عب ‪RR R‬ادة اىل فلس ‪RR R‬طني حيث ويل قض ‪RR R‬اءها بعض ال ‪RR R‬وقت‪ R‬وك ‪RR R‬ان حيكمه ‪RR R‬ا باس ‪RR R‬م اخلليف ‪RR R‬ة آن ‪RR R‬ذاك‪،‬‬
‫معاوية‪..‬‬

‫**‬

‫كان عبادة بن الصامت‪ R‬وهو ثاو يف الشام يرنو ببصره اىل ما وراء احلدود‪ ..‬اىل املدينة املنورة عاصمة‬
‫السالم ودار اخلالفة‪ ،‬فريى‪ R‬فيها عمر ابن اخلطاب‪..‬رجل مل خيلق من طرازه سواه‪!!..‬‬
‫مث يرت‪RR‬د بص‪RR‬ره اىل حيث يقيم‪ ،‬يف فلس‪RR‬طني‪ ..‬ف‪RR‬ريى‪ R‬معاوي‪RR‬ة بن أيب س‪RR‬فيان‪..‬رج‪RR‬ل حيب ال‪RR‬دنيا‪ ،‬ويعش‪RR‬ق‬
‫السلطان‪...‬‬
‫الرعي‪RR‬ل ال‪RR‬ذي‬
‫وعب‪RR‬ادة من الرعي‪RR‬ل األول ال‪RR‬ذي‪ R‬ع‪RR‬اش خ‪RR‬ري حيات‪RR‬ه وأعظمه‪RR‬ا وأثراه‪RR‬ا م‪RR‬ع الرس‪RR‬ول الك‪RR‬رمي‪ّ ..‬‬
‫صهره النضال وصقلته التضحية‪ ،‬وعانق االسالم رغبا ال رهبا‪ ..‬وباع نفسه وماله‪...‬‬
‫عبادة من الرعيل الذي‪ R‬رباه حممد بيديه‪ ،‬وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته‪..‬‬
‫واذا ك‪RR‬ان هن‪RR‬اك من األحي‪RR‬اء مث‪RR‬ل أعلى للح‪RR‬اكم ميأل نفس عب‪RR‬ادة روع‪RR‬ة‪ ،‬وقلب‪RR‬ه ثق‪RR‬ة‪ ،‬فه‪RR‬و ذل‪RR‬ك الرج‪RR‬ل‬
‫الشاهق الرابض هناك يف املدينة‪ ..‬عمر بن اخلطاب‪..‬‬
‫ف‪RR‬اذا مض‪RR‬ى عب‪RR‬ادة يقيس تص‪Rّ R‬رفات معاوي‪RR‬ة هبذا‪ R‬املقي‪RR‬اس‪ ،‬فس‪RR‬تكون الش‪RR‬قة بني االث‪RR‬نني واس‪RR‬عة‪ ،‬وس‪RR‬يكون‬
‫الصراع حمتوما‪ ..‬وقد كان‪!!..‬‬
‫‪ | 169‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫يقول عبادة رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫" بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أال خناف يف اهلل لومة الئم"‪..‬‬
‫وعبادة خري من يفي بالبيعة‪ .‬واذن فهو لن خيشى معاوية بكا سلطانه‪ ،‬وسيقف باملرصاد لكل أخطائه‪..‬‬
‫ولقد شهد أهل فلسطني يومئ‪R‬ذ عجب‪R‬ا‪ ..‬وت‪R‬رامت أنب‪R‬اء املعارض‪R‬ة اجلس‪R‬ورة ال‪R‬يت يش‪R‬نّها عب‪R‬ادة على معاوي‪R‬ة‬
‫اىل أقطار كثرية من بالد االسالم فكانت قدوة ونرباسا‪..‬‬
‫وعلى ال‪RR‬رغم من احللم الواس‪RR‬ع ال‪RR‬رحيب ال‪RR‬ذي اش‪RR‬تهر ب‪RR‬ه معاوي‪RR‬ة فق‪RR‬د ض‪RR‬اق ص‪RR‬دره مبواق‪RR‬ف عب‪RR‬ادة ورأى‬
‫فيها هتديدا مباشرا هليبة سلطانه‪..‬‬
‫ورأى عب‪RR R‬ادة من جانب ‪RR R‬ه أن مس ‪RR R‬افة اخلل ‪RR R‬ف بين‪RR R‬ه وبني معاوي ‪RR R‬ة ت ‪RR R‬زداد وتتس ‪RR R‬ع‪ ،‬فق ‪RR R‬ال ملعاوي ‪RR R‬ة‪ ":‬واهلل ال‬
‫أساكنك أرضا واحدة أبدا"‪ ..‬وغادر فلسطني اىل املدينة‪..‬‬

‫**‬

‫ك‪RR‬ان أم‪RR‬ري املؤم‪RR‬نني عم‪RR‬ر‪ ،‬عظيم الفطن‪RR‬ة‪ ،‬بعي‪RR‬د النظ‪RR‬ر‪ ..‬وك‪RR‬ان حريص‪RR‬ا على أال ي‪RR‬دع أمث‪RR‬ال معاوي‪RR‬ة من‬
‫ال‪RR R‬والة ال‪RR R‬ذين يعتم‪RR R‬دون‪ R‬على ذك‪RR R‬ائهم ويس‪RR R‬تعملونه بغ‪RR R‬ري حس‪RR R‬اب دون أن حييطهم بنف‪RR R‬ر من الص‪RR R‬حابة‬
‫الورعني الزاهدين والنصحاء املخلصني‪ ،‬كي يكبحوا مجاح الطم‪RR‬وح والرغب‪RR‬ة ل‪RR‬دى أولئ‪RR‬ك ال‪RR‬والة‪ ،‬وكي‬
‫يكونوا هلم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده‪..‬‬

‫من أجل هذا مل يكد أمري املؤمنني يبصر عبادة بن الصامت‪ R‬وق‪R‬د ع‪R‬اد اىل املدين‪R‬ة ح‪R‬ىت س‪RR‬اله‪ ":‬م‪R‬ا ال‪RR‬ذي‬
‫قص عليه ما كان بينه وبني معاوية قال له عمر‪:‬‬
‫جاء بك يا عبادة"‪...‬؟؟ وملا ّ‬
‫" ارجع اىل مكانك‪ ،‬فقبّح اهلل أرضا ليس فيها مثلك‪!!..‬‬
‫مث أرسل عمر اىل معاوية كتابا يقول فيه‪:‬‬
‫" ال امرة لك على عبادة"‪!!..‬‬
‫‪ | 170‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجل ان عبادة أمري نفسه‪..‬‬


‫يكرم عمر الفاروق رجال مثل هذا التكرمي‪ ،‬فانه يكون عظيما‪..‬‬ ‫وحني ّ‬
‫وقد كان عبادة عظيما يف اميانه‪ ،‬ويف استقامة ضمريه وحياته‪...‬‬

‫**‬
‫ويف الع‪RR R‬ام اهلج‪RR R‬ري الراب ‪R R‬ع‪ R‬والثالثني‪ ،‬ت‪RR R‬ويف بالرمل‪RR R‬ة يف أرض فلس‪RR R‬طني ه‪RR R‬ذا النقيب الراش ‪R R‬د‪ R‬من نقب‪RR R‬اء‬
‫األنصار واالسالم‪ ،‬تاركا يف احلياة عبريه وشذاه‪....‬‬

‫خباب بن األرت‬
‫فن الفداء‬
‫أستاذ ّ‬

‫خرج نفر من القرشيني‪ ،‬يغ ّدون اخلطى‪ ،‬ميممني شطر دار خبّاب ليتسلموا‪ R‬منه سيوفهم اليت تعاقدوا‪R‬‬
‫معه على صنعها‪..‬‬
‫وقد كان خباب سيّافا‪ ،‬يصنع السيوف ويبيعها ألهل مكة‪ ،‬ويرسل هبا اىل األسواق‪..‬‬
‫وعلى غري عادة خبّاب الذي ال يكاد يفارق بيته وعمله‪ ،‬مل جيده ذلك النفر من قريش فجلسوا‬
‫ينتظرونه‪..‬‬
‫وبعد حني طويل جاء خباب على وجهه عالمة استفهام مضيئة‪ ،‬ويف عينيه دموع مغتبطة‪ ..‬وحيّا‬
‫ضيوفه وجلس‪..‬‬
‫وسألوه عجلني‪ :‬هل أمتمت صنع السيوف يا خباب؟؟‬
‫وجفت دموع خباب‪ ،‬وحل مكاهنا يف عينيه سرور متألق‪ ،‬وقال وكأنه يناجي نفسه‪ :‬ان أمره‬
‫لعجب‪..‬‬
‫وعاد القوم يسألونه‪ :‬أي أمر يا رجل‪..‬؟؟ نسألك عن سيوفنا‪ ،‬هل أمتمت صنعها‪..‬؟؟‬
‫ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة احلاملة ويقول‪:‬‬
‫‪ | 171‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هل رأيتموه‪..‬؟ هل مسعتم كالمه‪..‬؟‬


‫وينظر بعضهم لبعض يف دهشة وعجب‪..‬‬
‫ويعود أحدهم فيسأله يف خبث‪:‬‬
‫هل رأيته أنت يا خبّاب‪..‬؟؟‬
‫فريد عليه السؤال‪ R‬قائال‪:‬‬
‫ويسخر خبّاب من مكر صاحبه‪ّ ،‬‬
‫من تعين‪..‬؟‬
‫وجييب الرجل يف غيظ‪ :‬أعين الذي تعنيه‪..‬؟‬
‫وجييب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد مناال من أن يستدرج‪ ،‬وأنه اعرتف باميانه اآلن أمامهم‪ ،‬فليس‬
‫ألهنم خدعوه عن نفسه‪ ،‬واستدرجوا‪ R‬لسانه‪ ،‬بل ألنه رأى احلق وعانقه‪ ،‬وقرر أن يصدع به وجيهر‪..‬‬

‫جييبهم‪ R‬قائال‪ ،‬وهو هائم يف نشوته وغبطة روحه‪:‬‬


‫أجل‪ ...‬رأيته‪ ،‬ومسعته‪ ..‬رأيت احلق يتفجر من جوانبه‪ ،‬والنور‪ R‬يتألأل بني ثناياه‪!!..‬‬
‫وبدأ عمالؤه القرشيون يفهمون‪ ،‬فصاح به أحدهم‪:‬‬
‫من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد ّأم أمنار‪..‬؟؟‬
‫وأجاب خبّاب يف هدء القديسني‪:‬‬
‫ومن سواه‪ ،‬يا أخا العرب‪ ..‬من سواه يف قومك‪ ،‬من يتفجر من جوانبه احلق‪ ،‬وخيرج النور‪ R‬بني‬
‫ثناياه‪..‬؟!‬
‫وهب مذعورا‪:‬‬
‫وصاح آخر ّ‬
‫أراك تعين حممدا‪..‬‬
‫وهز خبّاب رأسه املفعم بالغبطة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫نعم انه هو رسول اهلل الينا‪ ،‬ليخرجنا من الظلمات اىل االنور‪..‬‬
‫وال يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات‪ ،‬وال ماذا قيل له‪..‬‬
‫‪ | 172‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫زواره قد انفضوا‪ ..‬وجسمه وعظامه تعاين‬


‫كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة لريى ّ‬
‫يضمخ ثوبه وجسده‪!!..‬‬
‫رضوضا وآالما‪ ،‬ودمه النازف ّ‬

‫فتحمل‬
‫وح ّدقت‪ R‬عيناه الواسعتان فيما حوله‪ ..‬وكان املكان أضيق من أن يتسع لنظراهتما النافذة‪ّ ،‬‬
‫على آالمه‪ ،‬وهنض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها‪ ،‬وانطلقت عيناه الذكيتان‪R‬‬
‫يف رحلة طويلة حت ّدقان‪ R‬يف األفق‪ ،‬وتدوران‪ R‬ذات اليمني وذات الشمال‪..‬اهنما‪ R‬ال تقفان عند األبعاد‬
‫املألوفة للناس‪ ..‬اهنما تبحثان عن البعد‪ R‬املفقود‪...‬أجل تبحثان عن البعد املفقود يف حياته‪ ،‬ويف حياة‬
‫الناس الذين معه يف مكة‪ ،‬والناس يف كل مكان وزمان‪..‬‬
‫ترى هل يكون احلديث الذي مسعه من حممد عليه الصالة والسالم اليوم‪ ،‬هو النور‪ R‬الذي يهدي اىل‬
‫ذلك البعد‪ R‬املفقود يف حياة البشر كافة‪..‬؟؟‬
‫يضمد جراح‬
‫تأمالت سامية‪ ،‬وتفكري عميق‪ ..‬مث عاد اىل داخل داره‪ ..‬عاد ّ‬ ‫واستغرق خبّاب يف ّ‬
‫جسده‪ ،‬ويهيءه الستقبال تعذيب جديد‪،‬‬
‫وآالم جديدة‪!!..‬‬

‫ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العايل بني املعذبني واملضطهدين‪..‬‬
‫أخذ مكانه العايل بني الذين وقفوا‪ R‬برغم فقرهم‪ ،‬وضعفهم يواجهون كربياء قريش وعنفها وجنوهنا‪..‬‬
‫أخذ مكانه العايل بني الذين غرسوا يف قلوهبم سارية الراية اليت أخذت ختفق يف األفق الرحيب ناعية‬
‫عصر الوثنية‪ ،‬والقيصرية‪ ..‬مبشرة بأيام املستضعفني والكادحني‪ ،‬الذين سيقفون حتت ظل هذه الراية‬
‫سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل‪ ،‬وأذاقوهم‪ R‬احلرمان والعذاب‪..‬‬
‫ويف استبسال عظيم‪ ،‬محل خبّاب تبعاته كرائد‪..‬‬
‫يقول الشعيب‪:‬‬
‫" لقد صرب خبّاب‪ ،‬ومل تلن له أيدي الكفار قناة‪ ،‬فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حىت ذهب‬
‫حلمه"‪!!..‬‬
‫‪ | 173‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبريا‪ ،‬ولكن مقاومته وصربه كانا أكرب من العذاب‪..‬‬
‫حول كفار قريش مجيع احلديد الذي كان مبنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف‪ ..‬حولوه‬ ‫لقد ّ‬
‫يطوق هبا جسده ويداه‬ ‫كله اىل قيود وسالسل‪ ،‬كان حيمى عليها يف النار حىت تستعر وتتوهج‪ ،‬مث ّ‬
‫وقدماه‪..‬‬
‫ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه املضطهدين اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ال جوعني من‬
‫التضحية‪ ،‬بل راجني العافية‪ ،‬فقالوا‪ ":‬يا رسول اهلل‪ ..‬أال تستنصر لنا‪..‬؟؟" أي تسأل اهلل لنا النصر‬
‫والعافية‪...‬‬

‫ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته‪:‬‬


‫" شكونا اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو متوسد بربد له يف ظل الكعبة‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫أال تستنصر لنا‪..‬؟؟‬
‫امحر وجهه وقال‪:‬‬
‫فجلس صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد‪ّ R‬‬
‫قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل‪ ،‬فيحفر له يف األرض‪ ،‬مث جياء مبنشار‪ ،‬فيجعل فوق رأسه‪ ،‬ما‬
‫يصرفه ذلك عن دينه‪!!..‬‬
‫وليتم ّن اهلل هذا األمر حىت يسري الراكب من صنعاء اىل حضرموت ال خيشى اهلل اهلل عز وجل‪ ،‬والذئب‪R‬‬
‫ّ‬
‫على غنمه‪ ،‬ولكنكم تعجلون"‪!!..‬‬

‫مسع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات‪ ،‬فازداد امياهنم واصرارهم وقرروا‪ R‬أن يري كل منهم ربّه ورسوله‬
‫ما حيبّان من تصميم وصرب‪ ،‬وتضحية‪.‬‬
‫وخاض خبّاب معركة اهلول صابرا‪ ،‬صامدا‪ ،‬حمتسبا‪ ..‬واستنجد القرشيون أم أمنار سيدة خبّاب اليت‬
‫كان عبدا هلا قبل أن تعتقه‪ ،‬فأقبلت واشرتكت يف محلة تعذيبه‪..‬‬
‫وكانت تأخذ احلديد احملمى امللتهب‪ ،‬وتضعه فوق رأسه ونافوخه‪ ،‬وخبّاب يتلوى من األمل‪ ،‬لكنه‬
‫يكظم أنفاسه‪ ،‬حىت ال خترج منه زفرة ترضي غرور جالديه‪!!..‬‬
‫‪ | 174‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫احملمى فوق رأسه يلهبه ويشويه‪ ،‬فطار قلبه‬‫ومر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما‪ ،‬واحلديد ّ‬ ‫ّ‬
‫حنانا وأسى‪ ،‬ولكن ماذا ميلك عليه الصالة والسالم يومها خلبّاب‪..‬؟؟‬
‫ال شيء اال أن يثبته ويدعو له‪..‬‬
‫هنالك رفع‪ R‬الرسول صلى اهلل عليه وسلم كفيه املبسوطتني اىل السماء‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" اللهم أنصر خبّابا"‪..‬‬
‫ويشاء اهلل أال متضي سوى أيام قليلة حىت ينزل بأم أمنار قصاص عاجل‪ ،‬كأمنا جعله القدر‪ R‬نذيرا هلا‬
‫ولغربها من اجلالدين‪ ،‬ذلك أهنا أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول املؤرخون تعوي مثل‬
‫الكالب‪!!..‬‬
‫وقيل هلا يومئذ ال عالج سوى أن يكوى رأسها بالنار‪!!..‬‬
‫وميسيه‪!!..‬‬
‫احملمى يصبّحه ّ‬ ‫وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة احلديد ّ‬

‫**‬

‫كانت قريش تقاوم االميان بالعذاب‪ ..‬وكان املؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية‪ ..‬وكان خبّاب‬
‫واحدا من أولئك الذين اصطفتهم املقادير لتجعل منهم أساتذة يف فن التضحية والفداء‪..‬‬
‫ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته يف خدمة الدين الذي خفقت أعالمه‪..‬‬
‫ومل يكتف رضي اهلل عنه يف أيام الدعوة األوىل بالعبادة والصالة‪ ،‬بل استثمر قدرته على التعليم‪ ،‬فكان‬
‫يغشى بيوت بعض اخوانه من املؤمنني الذين يكتمون اسالمهم خوفا من بطش قريش‪ ،‬فيقرأ معهم‬
‫القرآن ويعلمهم اياه‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬نبغ يف دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية‪ ..‬وسورة‪ ،‬سورة حىت ان عبداهلل بن مسعود‪ ،‬وهو‬
‫غصا كما أنزل‪ ،‬فليقراه‬
‫الذي قال عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ":‬من أراد أن يقرأ القرآن ّ‬
‫بقراءة ابن أم عبد"‪..‬‬
‫‪ | 175‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫نقول‪:‬‬
‫حىت عبد اهلل بن مسعود كان يعترب خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة‪..‬‬

‫يدرس القرآن لـ فاكمة بنت اخلطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن‬ ‫وهو الذي كان ّ‬
‫اخلطاب متقلدا سيفه الذي‪ R‬خرج به ليصفي حسابه مع االسالم ورسوله‪ ،‬لكنه مل يكد يتلو القرآن‬
‫املسطور يف الصحيفة اليت كان يعلّم منها خبّاب‪ ،‬حىت صاح صيحته املباركة‪:‬‬
‫" دلوين على حممد"‪!!...‬‬

‫ومسع خبّاب كلمات عمر هذه‪ ،‬فخرج من خمبئه الذي‪ R‬كان قد توارى فيه وصاح‪:‬‬
‫" يا عمر‪..‬‬
‫خصك بدعوة نبيّه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاين مسعته باألمس يقول‪:‬‬
‫واهلل اين ألرجوا أن يكون اهلل قد ّ‬
‫بأحب الرجلني اليك‪ ..‬أيب احلكم بن هشام‪ ،‬وعمربن اخلطاب"‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫اللهم أعز االسالم‬
‫وسأله عمر من فوره‪ :‬وأين أجد الرسول اآلن يا خبّاب‪:‬‬
‫" عند الصفا‪ ،‬يف دار األرقم‪ R‬بن أيب األرقم"‪..‬‬
‫ومضى عمر اىل حظوظه الوافية‪ ،‬ومصريه العظيم‪!!..‬‬

‫**‬
‫شهد خبّاب بن األرت مجيع املشهد والغزوات مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وعاش عمره كله حفيظا‬
‫على اميانه ويقينه‪....‬‬
‫وعندما فاض بيت مال ملسلمني باملال أيام عمر وعثمان‪ ،‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬كان خبّاب صاحب راتب‪R‬‬
‫كبري بوصفه من املهاجرين لسابقني اىل االسالم‪..‬‬
‫وقد أتاح هذا الدخل الوفري خلبّاب أن يبتين له دارا بالكوفة‪ ،‬وكان يضع أمواله يف مكان ما من الدار‬
‫ورواده‪ ..‬وكل من وقعت عليه حاجة‪ ،‬يذهب فيأخذ من املال حاجته‪..‬‬ ‫يعرفه أصحابه ّ‬
‫‪ | 176‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومع هذا فقد كان خبّاب ال يرقأ له جفن‪ ،‬وال جتف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصالة والسالم‬
‫وأصحابه الذين بذلوا‪ R‬حياهم للله‪ ،‬مث ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على املسلمني‪ ،‬وتكثر يف أيديهم‬
‫األموال‪.‬‬
‫عواده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي اهلل عنه يف مرض موته‪.‬‬ ‫امسعوه وهو يتحدث ااىل ّ‬
‫قالوا له‪:‬‬
‫أبشر يا أبا عبداهلل‪ ،‬فانك مالق اخواتك غدا‪..‬‬
‫فأجاهبم وهو يبكي‪:‬‬
‫" أما انه ليس يب جزع ‪ ..‬ولكنكم ذ ّكرمتوين أقواما‪ ،‬واخوانا‪ ،‬مضوا بأجورهم كلها ام ينالوا من الدنيا‬
‫شيئا‪..‬‬
‫وانّا بقينا بعدهم حىت نلنا من الدنيا ما مل جند له موضعا اال الرتاب"‪..‬‬
‫وأشار اىل داره املتواضعة اليت بناها‪.‬‬
‫مث أشار مرة أخرى اىل املكان الذي‪ R‬فيه أمواله وقال‪:‬‬
‫" واهلل ما شددت عليها من خيط‪ ،‬وال منعتها من سائل"‪!..‬‬
‫مث التفت اىل كنفه الذي‪ R‬كان قد أع ّد له‪ ،‬وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل‪:‬‬
‫" أنظروا هذا كفين‪..‬‬
‫لكن محزة عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم مل يوجد له كفن يوم استشهد اال بردة ملحاء‪ ....‬اذا‬ ‫ّ‬
‫جعلت على رأسه قلصت عن قدميه‪ ،‬واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"‪!!..‬‬

‫**‬

‫ومات خبّاب يف السنة السابعة والثالثني للهجرة‪..‬‬


‫مات أستاذ صناعة السيوف يف اجلاهلية‪..‬‬
‫وأستاذ صناعة التضحية والفداء‪ R‬يف االسالم‪!!..‬‬
‫‪ | 177‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مات الرجل الذي كان أحد اجلماعة الذين نزل القرآن يدافع‪ R‬عنهم‪ ،‬وحيييهم‪ ،‬عندما طلب بعض‬
‫السادة من قريش أن جيعل هلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما‪ ،‬وللفراء من أمثال ‪:‬خبّاب‪،‬‬
‫وصهيب‪ ،‬وبالل يوما آخر‪.‬‬
‫فاذا القرآن العظيم خيتص رجال اهلل هؤالء يف متجيد هلم وتكرمي‪ ،‬وهتل آياته قائلة للرسول الكرمي‪:‬‬
‫والعشي يريدون وجهه‪ ،‬ما عليك من حساهبم من شيء‬ ‫ّ‬ ‫( وال تطرد الذين يدعون رهبم بالغداة‬
‫من اهلل عليهم من بيننا؟!‬
‫فتطردهم فتكون من الظاملني وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا‪ :‬أهؤالء ّ‬
‫أليس اهلل بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا‪ ،‬فقل سالم عليكم‪ ،‬كتب ربكم على‬
‫نفسه الرمحة)‪..‬‬

‫وهكذا‪ ،‬مل يكن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يراهم بعد نزول اآليات حىت يبالغ يف اكرامهم‪ R‬فيفرش‬
‫هلم رداءه‪ ،‬ويربّت على أكتافهم‪ ،‬ويقول هلم‪:‬‬
‫" أهال مبن أوصاين هبم ريب"‪..‬‬
‫أجل‪ ..‬مات واحد من األبناء الربرة أليام الوحي‪ ،‬وجيل التضحية‪...‬‬

‫كرم اهلل وجهه حني كان عائدا من معركة صفني‪،‬‬


‫نودعه به‪ ،‬كلمات االمام علي ّ‬
‫ولعل خري ما ّ‬
‫غض رطيب‪ ،‬فسأل‪ :‬قرب من هذا‪..‬؟‬
‫فوقعت عيناه على قرب ّ‬
‫فأجابوه‪ :‬انه قرب خبّاب‪..‬‬
‫فتماله خاشعا آسيا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫رحم اهلل خبّابا‪..‬‬
‫لقد أسلم راغبا‪.‬‬
‫وهاجر طاءعا‪..‬‬
‫وعاش جماهدا‪..‬‬
‫‪ | 178‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫اجلراح‬
‫أبو عبيدة بن ّ‬
‫أمني هذه األمة‬

‫من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه‪:‬‬


‫اجلراح"‪..‬؟‬
‫" ان لكل أمة أمينا وأمني هذه األمة أبو عبيدة بن ّ‬
‫من هذا الذي أرسله النيب يف غزوة ذات السالسل مددا اعمرو بن العاص‪ ،‬وجعله أمريا على جيش فيه‬
‫أبو بكر وعمر‪..‬؟؟‬
‫من هذا الصحايب الذي‪ R‬كان أول من لقب بأمري األمراء‪..‬؟؟‬
‫من هذا الطويل القامة النحيف اجلسم‪ ،‬املعروق الوجه‪ ،‬اخلفيف اللحية‪ ،‬األثرم‪ ،‬ساقط الثنيتني‪..‬؟؟‬
‫أجل من هذا القوي األمني الذي قال عنه عمر بن اخلطاب وهو جيود بأنفاسه‪:‬‬
‫اجلراح حيا الستخلفته فان سالين ريب عنه قلت‪ :‬استخافت أمني اهلل‪ ،‬وأمني‬ ‫" لو كان أبو عبيدة بن ّ‬
‫رسوله"‪..‬؟؟‬
‫اجلراح‪..‬‬
‫انه أبو عبيدة عامر بن عبد اهلل ّ‬
‫أسلم على يد أيب بكر الصديق رضي اهلل عنه يف األيام األوىل لالسالم‪ ،‬قبل أن يدخل الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم دار الرقم‪ ،‬وهاجر اىل احلبشة يف اهلجرة الثانية‪ ،‬مث عاد منها ليقف اىل جوار رسوله يف‬
‫بدر‪ ،‬وأحد‪ ،‬وبقيّة املشاهد مجيعها‪ ،‬مث ليواصل سريه القوي‪ R‬األمني بعد وفاة الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف صحبة خليفته أيب بكر‪ ،‬مث يف صحبة أمري املؤمنني عمر‪ ،‬نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبال‬
‫تبعات دينه يف زهد‪ ،‬وتقوى‪ ،‬وصمود وأمانة‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 179‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عندما بايع أبو عبيدة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬على أن ينفق حياته يف سبيل اهلل‪ ،‬كان مدركا‬
‫متام االدراك ما تعنيه هذه الكلمات الثالث‪ ،‬يف سبيل اهلل وكان على أمت استعداد ألن يعطي هذا‬
‫السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية‪..‬‬

‫ومنذ بسط ميينه مبايعا رسوله‪ ،‬وهو ال يرى يف نفسه‪ ،‬ويف ايّامه ويف حياته كلها سوى أمانة‬
‫استودعها اهلل اياها لينفقها يف سبيله ويف مرضاته‪ ،‬فال جيري وراء حظ من حظوظ نفسه‪ ..‬وال تصرفه‬
‫عن سبيل اهلل رغبة وال رهبة‪..‬‬
‫وملا وىّف أبو عبيدة بالعهد الذي‪ R‬وىف به بقية األصحاب‪ ،‬رأى الرسول يف مسلك ضمريه‪ ،‬ومسلك‬
‫حياته ما جعله أهال هلذا‪ R‬اللقب الكرمي الذي أفاءه عليه‪،‬وأهداه اليه‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫اجلراح"‪.‬‬
‫" أمني هذه األمة‪ ،‬أبو عبيدة بن ّ‬

‫**‬

‫أحس من سري املعركة‬


‫ان أمانة أيب عبيدة على مسؤولياته‪ ،‬هلي أبرز خصاله‪ ..‬فففي غزوة أحد ّ‬
‫حرص املشركني‪ ،‬ال على احراز النصر يف احلرب‪ ،‬بل قبل ذلك ودون ذلك‪ ،‬على اغتيال حياة الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه يف املعركة قريبا من مكان الرسول‪..‬‬
‫ومضى يضرب بسيفه األمني مثله‪ ،‬يف جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور اهلل‪..‬‬

‫وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف املعركة بعيدا عن رسول اهلل صلى اله عليه وسلم قاتل‬
‫وعيناه ال تسريان يف اجتاه ضرباته‪ ..‬بل مها متجهتان دوما اىل حيث يقف الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ويقاتل‪ ،‬ترقبانه يف حرص وقلق‪..‬‬
‫وكلما تراءى أليب عبيدة خطر يقرتب من النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬اخنلع من موقفه البعيد وقطع‬
‫ويردهم على أعقاهبم قبل أن ينالوا من الرسول مناال‪!!..‬‬
‫األرض وثبا حيث يدحض أعداء اهلل ّ‬
‫‪ | 180‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف احدى جوالته تلك‪ ،‬وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأيب عبيدة طائفة من املشركني‪ ،‬وكانت‬
‫عيناه كعادهتما حت ّدقان كعيين الصقر يف موقع رسول اهلل‪ ،‬وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما‬
‫ينطلق من يد مشرك فيصيب‪ R‬النيب‪ ،‬وعمل سيفه يف الذين حييطون به وكأنه مائة سيف‪ ،‬حىت ّفرقهم‪R‬‬
‫عنه‪ ،‬وطار صواب رسول اهلل فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه‪ ،‬ورأى الرسول األمني ميسح الدم‪R‬‬
‫بيمينه وهو يقول‪:‬‬
‫" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم‪ ،‬وهو يدعهم اىل رهبم"‪..‬؟‬
‫ورأى حلقتني من حلق املغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا يف وجنيت النيب‪ ،‬فلم يطق‬
‫صربا‪ ..‬واقرتب يقبض بثناياه على حلقة منهما حىت نزعها من وجنة الرسول‪ ،‬فسقطت ثنيّة‪ ،‬مث نزع‬
‫احللقة األخرى‪ ،‬فسقطت ثنيّة الثانية‪..‬‬
‫وما أمجل أن نرتك احلديث أليب بكر الصدسق يصف لنا هذا املشهد بكلماته‪:‬‬
‫" ملا كان يوم أحد‪ ،‬ورمي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت دخلت يف وجنته حلقتان من املغفر‪،‬‬
‫أقبلت أسعى اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وانسان قد أقبل من قبل املشرق يطري طريانا‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫اجلراح‬
‫اللهم اجعله طاعة‪ ،‬حىت اذا توافينا اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واذا هو أبو عبيدة بن ّ‬
‫قد سبقين‪ ،‬فقال‪ :‬أسألك باهلل يا أبا بكر أن ترتكين فأنزعها من وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫فرتكته‪ ،‬فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقيت املغفر‪ ،‬فنزعها‪ ،‬وسقط على األرض‪ R‬وسقطت ثنيته معه‪..‬‬
‫مث أخذ احللقة األخرى بثنية أخرى فسقطت‪ ..‬فكان أبو عبيدة يف الناس أثرم‪!!".‬‬

‫وأيام اتسعت‪ R‬مسؤوليات الصحابة وعظمت‪ ،‬كان أبو عبيدة يف مستواها دوما بصدقه وبأمانته‪..‬‬
‫فاذا أرسله النيب صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة اخلبط أمريا على ثالمثائة وبضعة عشر رجال من املقاتلني‬
‫وليس معهم زاد سوى جراب متر‪ ..‬واملهمة صعبة‪ ،‬والسفر بعيد‪ ،‬استقبل ابو عبيدة واجبه يف تفان‬
‫وغبطة‪ ،‬وراح هو وجنوده يقطعون األرض‪ ،‬وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة متال‪ ،‬حىت اذا‬
‫أوشك التمر أن ينتهي‪ ،‬يهبط نصيب كل واحد اىل مترة يف اليوم‪ ..‬حىت اذا فرغ التمر مجيعا راحوا‬
‫‪ | 181‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يتصيّدون اخلبط‪ ،‬أي ورق الشجر بقسيّهم‪ ،‬فيسحقونه ويشربون عليه االمء‪ ..‬ومن اجل هذا مسيت‬
‫هذه الغزوة بغزوة اخلبط‪..‬‬
‫لقد مضوا ال يبالون جبوع وال حرمان‪ ،‬وال يعنيهم اال أن ينجزوا مع أمريهم القوي‪ R‬األمني املهمة‬
‫اجلليلة اليت اختارهم رسول اهلل هلا‪!!..‬‬

‫**‬

‫لقد أحب الرسول عليه الصالة والسالم أمني األمة أبا عبيدة كثريا‪ ..‬وآثره كثريا‪...‬‬
‫ويوم جاء وفد جنالان من اليمن مسلمني‪ ،‬وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة‬
‫واالسالم‪ ،‬قال هلم رسول اهلل‪:‬‬
‫" ألبعثن معكم رجال أمينا‪ ،‬حق أمني‪ ،‬حق أمني‪ ..‬حق أمني"‪!!..‬‬
‫ومسع الصحابة هذا الثناء من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فتمىن كل منهم لو يكون هو الذي‪ R‬يقع‬
‫اختيار الرسول عليه‪ ،‬فتصري هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه‪..‬‬
‫يقول عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫مهجرا‪ ،‬فلما‬
‫" ما أحببت االمارة قط‪ ،‬حيّب اياها يومئذ‪ ،‬رجاء أن أكون صاحبها‪ ،‬فرحت اىل الظهر ّ‬
‫صلى بنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الظهر‪ ،‬سلم‪ ،‬مث نظر عن ميينه‪ ،‬وعن يساره‪ ،‬فجعلت أتطاول‬
‫له لرياين‪..‬‬
‫اجلراح‪ ،‬فدعاه‪ ،‬فقال‪ :‬أخرج معهم‪ ،‬فاقض بينهم باحلق‬ ‫فلم يزل يلتمس ببصره حىت رأى أبا عبيدة بن ّ‬
‫فيما اختلفوا فيه‪ ..‬فذهب هبا أبا عبيدة؟‪!!..‬‬
‫ان هذه الواقعة ال تعين طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية األصحاب موضع ثقة الرسول‬
‫وتقديره‪..‬‬
‫امنا تعين أنه كان واحدا من الذين ظفروا هبذه الثقة الغالية‪ ،‬وهذا التقدير الكرمي‪..‬‬
‫‪ | 182‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن املدينة‪ ،‬وخروجه يف‬
‫تلك املهمة اليت هتيئه مزاياه الجنازها‪..‬‬
‫وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمينا‪ ،‬عاش بعد وفاة الرسول أمينا‪ ..‬حبمل‬
‫مسؤولياته يف أمانة تكفي أهل األرض لو اغرتفوا‪ R‬منها مجيعا‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬سار حتت راية االسالم أنذى سارت‪ ،‬جنديّا‪ ،‬كأنه بفضله وباقدامه األمري‪ ..‬وأمريا‪ ،‬كأن‬
‫بتواضعه وباخالصه واحدا من عامة املقاتلني‪..‬‬
‫وعندما كان خالد بن الوليد‪ ..‬يقود جيوش االسالم يف احدى املعارك الفاصلة الكربى‪ ..‬واستهل أمري‬
‫املؤمنني عمر عهده بتولية أيب عبيدة مكان خالد‪..‬‬

‫مل يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر هبذا األمر اجلديد‪ ،‬حىت استكتمه اخلرب‪ ،‬وكتمه هو يف نفسه‬
‫طاويا عليه صدر زاهد‪ ،‬فطن‪ ،‬أمني‪ ..‬حىت أمتّ القائد خالد فتحه العظيم‪..‬‬
‫وآنئذ‪ ،‬تق ّدم اليه يف أدب جليل بكتاب أمري املؤمنني!!‬
‫ويسأله خالد‪:‬‬
‫" يرمحك اهلل يا أبا عبيدة‪.‬ز ما منعك أن ختربين حني جاءك الكتاب"‪..‬؟؟‬
‫فيجيبه أمني األمة‪:‬‬
‫" اين كرهت أن أكسر عليك حربك‪ ،‬وما سلطان الدنيا نريد‪ ،‬وال للدنيا نعمل‪ ،‬كلنا يف اهلل‬
‫اخوة"‪!!!.‬‬

‫**‬

‫ويصبح أبا عبيدة أمري األمراء‪ R‬يف الشام‪ ،‬ويصري حتت امرته أكثر جيوش االسالم طوال وعرضا‪..‬‬
‫عتادا وعددا‪..‬‬
‫فما كنت حتسبه حني تراه اال واحدا من املقاتلني‪ ..‬وفردا عاديا من املسلمني‪..‬‬
‫‪ | 183‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحني ترامى اىل مسعه أحاديث أهل الشام عنه‪ ،‬وانبهارهم بأمري األمراء‪ R‬هذا‪ ..‬مجعهم وقام فيهم‬
‫خطيبا‪..‬‬
‫فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته‪ ،‬وعظمته‪ ،‬وأ‪/‬انته‪..‬‬
‫" يا أيها الناس‪..‬‬
‫اين مسلم من قريش‪..‬‬
‫وما منكم من أحد‪ ،‬أمحر‪ ،‬وال أسود‪ ،‬يفضلين بتقوى اال وددت أين يف اهابه"‪ّ..‬‬
‫حيّاك اهلل يا أبا عبيدة‪..‬‬
‫وحيّا اهلل دينا أجنبك ورسوال علمك‪..‬‬
‫مسلم من قريش‪ ،‬ال أقل وال أكثر‪.‬‬
‫الدين‪ :‬االسالم‪..‬‬
‫والقبيلة‪ :‬قريش‪.‬‬
‫هذه ال غري هويته‪..‬‬
‫أما هو كأمري األمراء‪ ،‬وقائد ألكثر جيوش االسالم عددا‪ ،‬وأش ّدها بأسا‪ ،‬وأعظمها فوزا‪..‬‬
‫أما هو كحاكم‪ R‬لبالد الشام‪،‬أمره مطاع ومشيئته نافذة‪..‬‬
‫كل ذلك ومثله معه‪ ،‬ال ينال من انتباهه لفتة‪ ،‬وليس له يف تقديره حساب‪ ..‬أي حساب‪!!..‬‬

‫**‬

‫ويزور أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب الشام‪ ،‬ويسأل مستقبليه‪:‬‬


‫أين أخي‪..‬؟‬
‫فيقولون من‪..‬؟‬
‫فيجيبهم‪ :‬أبو عبيدة بن اجلراح‪.‬‬
‫‪ | 184‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويأيت أبو عبيدة‪ ،‬فيعانقه أمري املؤمنني عمر‪ ..‬مث يصحبه اىل داره‪ ،‬فال جيد فيها من األثاث شيئا‪ ..‬ال‬
‫جيد اال سيفه‪ ،‬وترسه ورحله‪..‬‬
‫ويسأله عمر وهو يبتسم‪:‬‬
‫" أال اختذت لنفسك مثلما يصنع الناس"‪..‬؟‬
‫فيجيبه أبو عبيدة‪:‬‬
‫" يا أمري املؤمنني‪ ،‬هذا يبلّغين املقيل"‪!!..‬‬

‫**‬

‫وذات يوم‪ ،‬وأمري املؤمنني عمر الفاروق يعاجل يف املدينة شؤن عامله املسلم الواسع‪ ،‬جاءه الناعي‪ ،‬أن‬
‫قد مات أبو عبيدة‪..‬‬
‫غصتا بالدموع‪..‬‬
‫وأسبل الفاروق جفنيه على عينني ّ‬
‫وغاض الدمع‪ R،‬ففتح عينيه يف استسالم‪..‬‬
‫ورحم على صاحبه‪ ،‬واستعاد ذكرياته معه رضي اهلل عنه يف حنان صابر‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وأعاد مقالته عنه‪:‬‬
‫" لو كنت متمنيّا‪ ،‬ما متنيّت اال بيتا مملوءا برجال من أمثال أيب عبيدة"‪..‬‬

‫**‬

‫ومات أمني األمة فوق األرض‪ R‬اليت طهرها من وثنية الفرس‪ ،‬واضطهاد الرومان‪..‬‬
‫زهناك اليوم حتت ثرى األردن يثوي رفات نبيل‪ ،‬كان مستقرا لروح خري‪ ،‬ونفس مطمئنة‪..‬‬
‫وسواء عليه‪ ،‬وعليك‪ ،‬أن يكون قربه اليوم معروف أو غري معروف‪..‬‬
‫فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون حباجة اىل من يقودك اليه‪..‬‬
‫ذلك أن عبري رفاته‪ ،‬سيدلك عليه‪!!..‬‬
‫‪ | 185‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عثمان بن مظعون‬
‫راهب صومعته احلياة‬

‫اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفق سبقهم الزمين اىل االسالم فاعلم اذا‬
‫بلغت الرقم الرابع‪ R‬عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون‪..‬‬
‫واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا‪ ،‬كان أول املهاجرين وفاة باملدينة‪ ..‬كما كان أول املسلمني دفنا‬
‫بالبقيع‪..‬‬
‫واعلم أخريا أن هذا الصحايب اجلليل الذي تطالع اآلن سريته كان راهبا عظيما‪ ..‬ال من رهبان‬
‫الصوامع‪ ،‬بل من رهبان احلياة‪!!...‬‬
‫أجل‪ ..‬كانت احلياة بكل جيشاهنا‪ ،‬ومسؤولياهتا‪ ،‬وفضائلها هي صومعته‪..‬‬
‫وكانت رهبانيته عمال دائبا يف سبيل احلق‪ ،‬وتفانيا مثابرا يف سبيل اخلري والصالح‪...‬‬

‫**‬

‫االندي من قلب الرسول صلى اهلل عليه عليه وسلم‪ ..‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫يتسرب ضوؤه الباكر‬‫عندما كان االسالم ّ‬
‫كلماته ‪ ،‬عليه الصالة والسالن‪ ،‬اليت يلقيها يف بعض األمساع سرا وخفية‪..‬‬
‫كان عثمان بن معظون هناك‪ ،‬وحدا من القلة اليت سارعت اىل اهلل والتفت‪ R‬حول رسوله‪..‬‬
‫ولقد نزل به من األذى والضر‪ ،‬ما كان ينزل يومئذ باملؤمنني الصابرين الصامدين‪..‬‬
‫وحني آثر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذه القلة املؤمنة املضطهدة بالعافية‪ .‬آمرا ايّاها باهلجرة اىل‬
‫احلبشة‪ .‬مؤثرا أن يبقى يف مواجهة األذى وحده‪ ،‬كان عثمان بن مظعون أمري الفوج‪ R‬األول من‬
‫املهاجرين‪ ،‬مصطحبا معه ابنه السائب‪ R‬موليّا وجهه شطر بالد بعيدة عن مكايد عدو اهلل أيب جهل‪.‬‬
‫وضراوة قريش‪ ،‬وهو عذاهبا‪....‬‬

‫**‬
‫‪ | 186‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكشأن املهاجرين اىل احلبشة يف كلتا اهلجرتني‪ ...‬األوىل والثانية‪ ،‬مل يزدد عثمان بن مظعون رضي‬
‫اهلل عنه اال استمساكا‪ R‬باالسالم‪ .‬واعتصاما به‪..‬‬
‫واحلق أن هجريت احلبشة متثالن ظاهرة فريدة‪ ،‬وجميدة يف قضية االسالم‪..‬‬
‫فالذين آمنوا بالرسول صلى اهلل وص ّدقوه‪ ،‬واتبعوا النور الذي‪ R‬أنزل معه‪ ،‬كانوا قد سئموا الوثنية بكل‬
‫ضالالهتا وجهاالهتا‪ ،‬وكانوا حيملون فطرة سديدة مل تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو‬
‫معجونة من صلصال‪!!..‬‬
‫وحني هاجروا اىل احلبشة واجهوا‪ R‬فيها دينا سائدا‪ ،‬ومنظما‪ ..‬له منائسه وأحباره ورهبانه‪..‬‬
‫وهو‪ ،‬مهما تكن نظرهتم اليه‪ ،‬بعيد عن الوثنية اليت ألفوها يف بالدهم‪ ،‬وعن عبادة األصنام بشكلها‬
‫املعروف وطقوسها اليت خلفوها وراء ظهورهم‪..‬‬
‫وال ب ّد أن رجال الكنيسة يف احلبشة قد بذلوا جهودا الستمالة هؤالء املهاجرين لدينهم‪ ،‬واقناعهم‪R‬‬
‫باملسيحية دينا‪...‬‬
‫ومع هذا كله نرى أولئك املهاجرين يبقون على والئهم العميق لالسالم وحملمد صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫مرتقبني يف شوق وقلق‪ ،‬ذلك أن اليوم‪ R‬القريب‪ R‬الذي يعودون فيه اىل بالدهم احلبيبة‪ ،‬ليعبدوا‪ R‬اهلل وحده‪،‬‬
‫وليأخذوا مكاهنم خلف رسوهلم العظيم‪ ..‬يف املسجد أيام السالم‪ ..‬ويف ميدان القتال‪ ،‬اذا اضطرهتم‪R‬‬
‫قوى الشرك للقتال‪..‬‬

‫يف احلبشة اذن عاش املهاجرون آمنني مطمئنني‪ ..‬وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي مل ينس يف‬
‫وضر‪ ،‬فراح يتسلى هبجائه‬
‫عمه أمية بن خلف‪ ،‬وما أحلقه به وبغريه من أذى ّ‬ ‫غربته مكايد ابن ّ‬
‫ويتوعده‪:‬‬
‫تريش نباال ال يواتيك ريشها‬
‫وتربي نباال‪ ،‬ريشها لك أمجع‬
‫وحاربت أقواما مراما أعزة‬
‫‪ | 187‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأهلكت أقواما هبم كنت تزغ‬


‫ملمة‬
‫ستعلم ان نابتك يوما ّ‬
‫وأسلمك األوباش ما كنت تصنع‬

‫**‬

‫وبينما املهاجرون يف دار هجرهتم يعبدون اهلل‪ ،‬ويتدارسون ما معهم من القرآن‪ ،‬وحيملون برغم‬
‫الغربة توهج روح منقطع النظري‪ ..‬اذ األنباء تواتيهم أن قريش أسلمت‪ ،‬وسجدت عم الرسول هلل‬
‫الواحد القهار‪..‬‬
‫هنالك محل النهاجرون أمتعتهم وطاروا‪ R‬اىل مكة تسبقهم أشواقهم‪ ،‬وحيدوهم‪ R‬حنينهم‪..‬‬
‫بيد أهنم ما كادوا يقرتبون من مشارفها‪ R‬حىت تبيّنوا كذب اخلرب الذي بلغهم عن اسالم قريش‪..‬‬
‫وساعتئذ سقط يف أيديهم‪ ،‬ورأوا أهنم قد عجلوا‪ ..‬ولكن أىّن يذهبون وهذه مكة على مرمى‬
‫البصر‪!!..‬‬
‫وقد مسع مشركو مكة مبقدم الصيد‪ R‬الذي طاملا ردوه ونصبوا شباكهم القتناصه‪ ..‬مث ها هو ذا اآلن‪،‬‬
‫حتنّي فرصته‪ ،‬وتأيت به مقاديره‪!!..‬‬

‫اجلوار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة واالجالل‪ ،‬فاذا دخل رجل مستضعف‬‫كان ّ‬
‫جوار سيّد قرشي‪ ،‬أصبح يف محى منيع ال يهدر له دم‪ ،‬وال يضطرب منه مأمن‪...‬‬
‫ومل يكن العائدون‪ R‬سواء يف القدرة على الظفر جبوار‪..‬‬
‫من أجل ذلك ظفر باجلوار منهم قلة‪ ،‬كان من بني أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل يف جوار‬
‫الوليد‪ R‬مب املغرية‪.‬‬
‫وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا‪ ،‬ومضى يعرب درزهبا‪ ،‬ويشهد ندواهتا‪ ،‬ال يسام خسفا وال ضيما‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 188‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولكن ابن مظعون‪ ..‬الرجل الذي‪ R‬يصقله القرآن‪ ،‬ويربيه حممد‪ R‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يتلفت حواليه‪،‬‬
‫فريى اخوانه املسلمني من الفقراء‪ R‬واملستضعفني‪ ،‬الني مل جيدوا هلم جوارا‪ R‬وال جمريا‪ ..‬يراهم واألذى‬
‫ينوشهم من كل جانب‪ ..‬والبغي يطاردهم يف كل سبيل‪ ..‬بينما هو آمن يف سربه‪ ،‬بعيد من أذى‬
‫قومه‪ ،‬فيثور روحه احلر‪ ،‬وجييش وجدانه النبيل‪ ،‬ويتفوق بنفسه على نفسه‪ ،‬وخيرج من داره مصمما‬
‫على أن خيلع جوار الوليد‪ ،‬وأن ينصو عن كاهله تلك احلماية اليت حرمته لذة حتمل األذى يف سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬وشرف الشبه باخوانه املسلمني‪ ،‬طالئع الدنيا املؤمنة‪ ،‬وبشائر العامل الذي‪ R‬ستتفجر جوانبه غدا‬
‫اميانا‪ ،‬وتوحيدا‪ ،‬ونورا‪..‬‬

‫ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث‪:‬‬


‫" ملا رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللهصلى اهلل عليه وسلم من البالء‪ .‬وهو يغدو‬
‫غدوي ورواحي آمنا جبوار‪ R‬رجل من أهل الشرك‪،‬‬ ‫ويروح يف أمان الوليد‪ R‬بن املغرية‪ ،‬قال‪ :‬واهلل ان ّ‬
‫واصحايب وأهل ديين يلقون من البالء واألذى ما اليصيبين‪ ،‬لنقص كبري يف نفسي‪..‬‬
‫فمشى اىل الوليد بن املغرية فقال له‪:‬‬
‫يا أبا عبد مشس وفت ذمتك‪ .‬وقد ردت اليك جوارك‪..‬‬
‫فقال له‪:‬‬
‫مل يا ابن أخي‪ ..‬لعله آذاك أحد من قومي‪..‬؟‬
‫قال‪ ..‬ال‪ .‬ولكين أرضى جبوار اهلل‪ ،‬وال أريد أن أستجري بغريه‪...‬‬
‫علي جواري عالنية ‪..‬‬‫فانطلق اىل املسجد فاردد ّ‬
‫فانطلقا حىت أتيا املسجد‪ ،‬فقال الوليد‪ :‬هذا عثمان‪..‬‬
‫علي جواري‪..‬‬ ‫قد جاء يردد ّ‬
‫قال عثمان‪ :‬صدق‪ ..‬ولقد وجدته وفيّا كرميا اجلوار‪ ،‬ولكنين أحببت أال أستجري بغري اهلل‪..‬‬
‫‪ | 189‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث انصرف عثمان‪ ،‬ولبيد بن ربيعة يف جملس من جمالس قريش ينشهدم‪ ،‬فجلس معهم عثمان فقال‬
‫لبيد‪:‬‬
‫أال كل شيء ما خال اهلل باطل‬
‫فقال عثمان‪ :‬صدقت‪..‬‬
‫قال لبيد‪:‬‬
‫وكل نعيم ال حمالة زائل‬
‫قال عثمان‪ :‬كذبت‪ ..‬نعيم اجلنة ال يزول‪..‬‬
‫فقال لبيد‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬واهلل ما كان يؤذي جليسكم‪ ،‬فمىت حدث هذا فيكم‪..‬؟‬
‫فقال رجل من القوم‪ :‬ان هذا سفيه فارق ديننا‪ ..‬فال جتد ّن يف نفسك من قوله‪..‬‬
‫فرد عليه عثمان بن مظعون حىت سري أمرمها‪ .‬فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابا‪ ،‬والوليد‪ R‬بن‬
‫عما أصاهبا لغنيّة‪،‬‬
‫املغرية قريب‪ ،‬يرى ما حيدث لعثمان‪ ،‬فقال‪ :‬أما واهلل يا بن أخي ان كانت عينك ّ‬
‫لقد كانت يف ذمة منيعة‪..‬‬
‫فال عثمان‪ :‬بل واهلل ان عيين الصحيحة لفقرية اىل مثل ما أصاب أختها يف اهلل‪ ..‬واين لفي جوار من‬
‫هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد مشس‪!!..‬‬
‫فقا له الوليد‪ R:‬هلم يا بن أخي‪ ،‬ا ن شئت فعد اىل جواري‪..‬‬
‫قال ابن مظعون‪ :‬ال‪...‬‬
‫تضج باألمل‪ ،‬ولكن روحه تتفجر عافية‪ ،‬وصالبة‪ ،‬وبشرا‪..‬‬ ‫وغادر ابن مظعون هذا املشهد وعينه ّ‬
‫ولقد مضى يف الطريق اىل داره يتغىن بشعره هذا‪:‬‬
‫فان تك عيين يف رضا اهلل ناهلا‬
‫يدا ملحدا يف الدين ليس مبهتدي‬
‫عوض الرمحن منها ثوابه‬ ‫فقد ّ‬
‫ومن يرضه الرمحن يا قوم يسعد‬
‫غوي مضلل‬‫فاين وان قلتم ّ‬
‫‪ | 190‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ألحيا على دين الرسول حممد‬


‫أريد بذاك اهلل‪ ،‬واحلق ديننا‬
‫على رغم من يبغي علينا ويعتدي‬

‫**‬

‫هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثال‪ ،‬هو له أهل‪ ،‬وبه جدير‪..‬‬


‫وهكذا شهدت احلياة انسانا شاخما يعطّر الوجود مبوقفه الفذ هذا‪..‬‬
‫وبكلماته الرائعة اخلالدة‪:‬‬
‫" واهلل ان عيين الصحيحة‪ ،‬لفقرية اىل مثل ما أصاب أختها يف اهلل‪ ..‬واين لفي جوار من هو أعز منك‬
‫وأقدر"‪!!..‬‬
‫رد جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها‪ ،‬وكان هبذا سعيدا ج ّد‬ ‫ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد ّ‬
‫سعيد‪ ..‬فقد كان ذلك األذىبمثابة االنر اليت تنضج االميان وتصهره وتز ّكيه‪..‬‬
‫وهكذا سار مع اخوانه املؤمنني‪ ،‬ال يروعهم زجر‪ ..‬وبل يص ّدهم اثخان‪!!..‬‬

‫**‬

‫يؤرقه أبو جهل هناك‪ ،‬وال أبو هلب‪ ....‬وال أميّة‪ ..‬وال عتبة‪،‬‬‫ويهاجر عثمان اىل املدينة‪ ،‬حيث ال ّ‬
‫وال شيء من هذه الغيالن اليت طاملا ّأرقت ليلهم‪ ،‬وأدمت هنارهم‪..‬‬
‫يذهب اىل املدينة مع أولئك األصحاب العظام الذين جنحوا بصمودهم وبثباهتم يف امتحان تناهت‬
‫عسرته ومشقته ورهبته‪ ،‬والذين مل يهاجروا اىل املدينة ليسرتحيوا ويكسروا‪ ..‬بل لينطلقوا من باهبا‬
‫الفسيح الرحب اىل كل أقطار األرض‪ R‬حاملني راية اهلل‪ ،‬مبشرين بكلماته وآياته وهداه‪..‬‬
‫يتكشف جوهر عثمان بن مظعون وتستبني حقيقته العظيمة الفريدة‪ ،‬فاذا هو‬ ‫ّ‬ ‫املنورة‪،‬‬
‫ويف دار اهلجرة ّ‬
‫األواب‪...‬‬
‫العابد‪ ،‬الزاهد‪ ،‬املتبتل‪ّ ،‬‬
‫‪ | 191‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واذا هو الراهب‪ R‬اجلليل‪ ،‬الذكي الذي ال يأوي اىل صومعة يعتزل فيها احلياة‪..‬‬
‫بل ميأل احلياة بعمله‪ ،‬وجبهاده يف سبيل اهلل‪..‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫راهب الليل فارس النهار‪ ،‬بل راهب الليل والنهار‪ R،‬وفارسهما‪ R‬معا‪..‬‬
‫ولئن كان أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ال سيّما يف تلك الفرتة من حياهتم‪ ،‬كانوا مجيعا‬
‫حيملون روح الزهد والتبتل‪ ،‬فان ابن مظعون كان له يف هذا اجملال طابعه اخلاص‪ ..‬اذ أمعن يف زهده‬
‫وتفانيه امعانا رائعا‪ ،‬أحال حياته كلها يف ليله وهناره اىل صالة دائمة مضيئة‪ ،‬وتسبيحة طويلة‬
‫عذبة‪!!..‬‬
‫هم بتقطيع كل األسباب اليت تربط الناس مبناعم‬ ‫وما ان ذاق حالوة االستغراق يف العبادة حىت ّ‬
‫احلياة‪..‬‬
‫فمضى ال يلبس اال امللبس اخلشن‪ ،‬وال يأكل اال الطعام اجلشب‪..‬‬
‫دخل يوما املسجد‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه جلوس‪ ،‬وكان يرتدي لباسا متزق‪،‬‬
‫فرقّعه بقطعة من فروة‪ ..‬فرق له قلب الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ودمعت عيون أصحابه‪ ،‬فقال هلم‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" كيف أنتم يوم يغدو أحدكم يف حلة‪ ،‬ويروح يف أخرى‪ ..‬وتوضع‪ R‬يف قصعة‪ .‬وترفع أخرى‪ ..‬وسرتمت‬
‫بيوتكم كما تسرت الكعب‪..‬؟!"‪..‬‬
‫قال األصحاب‪:‬‬
‫" وددنا أن يكون ذلك يا رسول اهلل‪ ،‬فنصيب الرخاء والعيش"‪..‬‬
‫فأجاهبم الرسول صلى اهلل عليه وسلم قائال‪:‬‬
‫" ان ذلك لكائن‪ ..‬وأنتم اليوم خري منكم يومئذ"‪..‬‬
‫وكان بديهيا‪ ،‬وابن مظعون يسمع‪ R‬هذا‪ ،‬أن يزداد اقباال على الشظف وهربا من النعيم‪!!..‬‬
‫بل حىت الرفث اىل زوجته نأى عنه وانتهى‪ ،‬لوال أن علم أن رسول اهلل عليه السالم علم عن ذلك‬
‫فناداه وقال له‪:‬‬
‫‪ | 192‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" ان ألهلك عليك حقا"‪..‬‬

‫**‬

‫وأحبّه الرسول صلوات اهلل وسالمه عليه حبّا عظيما‪..‬‬


‫وحني كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول املهاجرين وفاة باملدينة‪ ،‬وأوهلم ارتياد‬
‫لطريق اجلنة‪ ،‬كان الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬هناك اىل جواره‪..‬‬
‫فضمخت وجه عثمان‬ ‫أكب على جبينه يقبله‪ ،‬ويعطّره بدموعه اليت هطلت من عينيه الودودتني ّ‬ ‫ولقد ّ‬
‫الذي بدا ساعة املوت يف أهبى حلظات اشراقه وجالله‪..‬‬
‫يودع صاحبه احلبيب‪:‬‬ ‫وقال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫" رمحك اهلل يا أبا السائب‪ ..‬خرجت من اجلنيا وما أصبت منها‪ ،‬وال أصابت منك"‪..‬‬

‫**‬

‫ومل ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته‪ ،‬بل كان دائم الذكر له‪ ،‬والثناء عليه‪..‬‬
‫حىت لقد كانت كلمات وداعه عليه السالم البنته رقيّة‪ ،‬حني فاضت روحها‪:‬‬
‫" احلقي بسلفنا اخلرّي ‪ ،‬عثمان بن مظعون"‪!!!..‬‬

‫زيد بن حارثة‬
‫حيب حبّه أحد‬
‫مل ّ‬

‫وقف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يودع جيش االسالم الذاهب‪ R‬ملالقاة الروم يف غزوة مؤتة‬
‫ويعلن أمساء أمراء اجليش الثالثة‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫‪ | 193‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" عليكم زيد بن حارئة‪ ..‬فان أصيب زيد فجعفر بن أيب طاب‪ ..‬فان أصيب جعفر‪ ،‬فعبداهلل بن‬
‫رواحة"‪.‬‬
‫فمن هو زيد بن حارثة"‪..‬؟؟‬
‫حب رسول اهلل‪..‬؟‬ ‫احلب‪ّ ..‬‬
‫من هذا الذي محل دون سواه لقب ّ‬
‫أما مظهره وشكله‪ ،‬فكان كما وصفه املؤرخون والرواة‪:‬‬
‫" قصري‪ ،‬آدم‪ ،‬أي أمسر‪ ،‬شديد األدمة‪ ،‬يف أنفه فطس"‪..‬‬
‫ّأما نبؤه‪ ،‬فعظيم ج ّد عظيم‪!!..‬‬

‫**‬

‫أع ّد حارثة أبو زيد الراحلة واملتاع لزوجته سعدى اليت كانت تزمع زيارة أهلها يف بين معن‪.‬‬
‫هم أن‬
‫وخرج يودع زوجته اليت كانت حتمل بني يديها طفلهما الصغري زيد بن حارثة‪ ،‬وكلما ّ‬
‫خفي‬
‫يستودعهما القافلة اليت خرجت الزوجة يف صحبتها ويعود هو اىل داره وعمله‪ ،‬ودفعه حنان ّ‬
‫وعجيب ملواصلة السري مع زوجته وولده‪..‬‬
‫وأمه‪ ،‬ويعود‪..‬‬
‫يودع الوليد‪ّ R‬‬
‫لكن الش ّقة بعدت‪ ،‬والقافلة أغ ّذت سريها‪ ،‬وآن حلارثة أن ّ‬
‫ّ‬
‫وأحس كأن قلبه‬
‫ّ‬ ‫ود عهما ودموعه تسيل‪ ..‬ووقف طويال مسمرا يف مكانه حىت غابا عن بصره‪،‬‬ ‫وكذا ّ‬
‫مل يعد يف مكانه‪ ..‬كأنه رحل مع الراحلني‪!!..‬‬

‫**‬

‫ومكثت سعدى يف قومها ما شاء اهلل هلا أن متكث‪..‬‬


‫احلي ‪ ،‬حي بين معن‪ ،‬باحدى القبائل املناوئة له تغري عليه‪ ،‬وتنزل اهلزمية ببين معن‪ ،‬مث‬
‫وذات يوم فوجئ ّ‬
‫حتمل فيما محلت من األسرى ذلك الطفل اليفع‪ ،‬زيد بن حارثة‪..‬‬
‫‪ | 194‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعادت األم اىل زوجها وحيدة‪.‬‬


‫خر صعقا‪ ،‬ومحل عصاه على كاهله‪ ،‬ومضى جيوب الديار‪ ،‬ويقطع‬ ‫ومل يكد حارثة يعرف النبأ حىت ّ‬
‫الصحارى‪ ،‬ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد‪ ،‬مسايّا نفسه‪ ،‬وحاديا ناقته هبذا‪ R‬الشعر‬
‫الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه‪:‬‬
‫بكيت على زيد ومل ادر ما فعل‬
‫أحي فثرجى؟ أم أتى دونه األجل‬
‫ّ‬
‫فواهلل ما أدري‪ ،‬واين لسائل‬
‫أغالك بعدي السهل؟ أم غالك اجلبل‬

‫تذكرينه الشمس عنج طلوعها‬


‫وتعرض ذكراه اذا غربع\ها أفل‬
‫وان هبّت األرواح‪ R‬هيّجن ذكره‬
‫فيا طول حزين عليه‪ ،‬ويا وجل‬

‫**‬

‫الرق يف ذلك الزمان البعيد‪ R‬يفرض نفسه كظرف اجتماعي حياول أن يكون ضرورة‪..‬‬ ‫كان ّ‬
‫كان ذلك يف أثينا‪ ،‬حىت يف أزهى عصور حريّتها ورقيّها‪..‬‬
‫وكذلك كان يف روما‪..‬‬
‫ويف العامل القدمي كله‪ ..‬وبالتايل يف جزيرة العرب أيضا‪..‬‬
‫وعندما اختطفت القبيلة املغرية على بين معن نصرها‪ ،‬وعادت حاملة أسراها‪ ،‬ذهبت اىل سوق عكاظ‬
‫اليت كانت منعقدة أنئذ‪ ،‬وباعوا األسرى‪..‬‬

‫ووقع الطفل زيد يف يد حكيم بن حزام الذي‪ R‬وهبه بعد أن اشرتاه لعمته خدجية‪.‬‬
‫‪ | 195‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت خدجية رضي اهلل عنها‪ ،‬قد صارت زوجة حملمد بن عبداهلل‪ ،‬الذي‪ R‬مل يكن الوحي قد جاءه‬
‫بعد‪ .‬بيد أنه كان حيمل كل الصفات العظيمة اليت أهلته هبا األقدار‪ R‬ليكون غدا من املرسلني‪..‬‬

‫ووهبت خدجية بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا‪ R‬وأعتقه من فوره‪،‬وراح‪ R‬مينحه‬
‫من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبري كل عطف ورعاية‪..‬‬
‫حي حارثة بزيد يف مكة‪ ،‬ونقلوا اليه لوعة والديه‪ ،‬ومحّلهم زيد‬
‫ويف أحد مواسم احلج‪ .‬التقى تفر من ّ‬
‫للحجاج من قومه"‬
‫سالمه وحنانه وشوقه ألمه وأبيه‪ ،‬وقال ّ‬
‫" أخبوا أيب أين هنا مع أكرم والد"‪..‬‬

‫ومل يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حىت أغ ّذ السري اليه‪ ،‬ومعه أخوه‪..‬‬
‫ويف مكة مضيا يسأالن عن حممد األمني‪ ..‬وملا لقياه قاال له‪:‬‬
‫"يا بن عبداملطلب‪..‬‬
‫يا لن سيّد قومه‪ ،‬أنتم أهل حرم‪ ،‬تفكون العاين‪ ،‬وتطعمون األسري‪ ..‬جئناك يف ولدنا‪ ،‬فامنن علينا‬
‫وأحسن يف فدائه"‪..‬‬
‫كان الرسول صلى اهلل عليه وسلم يعلم تعلق زيد به‪ ،‬وكان يف نفس الوقت‪ R‬يق ّدر حق ابيه فيه‪..‬‬

‫هنالك قال حارثة‪:‬‬


‫"ادعوا زيدا‪ ،‬وخرّي وه‪ ،‬فان اختاركم‪ R‬فهو لكم بغري فداء‪ ..‬وان اختارين فواهلل ما أنا بالذي أختار على‬
‫من اختارين فداء"‪!!..‬‬
‫وهتلل وجه حارثة الذي‪ R‬لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال‪:‬‬
‫" لقد أنصفتنا‪ ،‬وزدتنا عن النصف"‪..‬‬
‫مث بعث النيب صلى اهلل عليه وسلم اىل زيد‪ ،‬وملا جاء سأله‪:‬‬
‫" هل تعرف هؤالء"‪..‬؟‬
‫‪ | 196‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عمي‪.‬‬
‫قال زيد‪ :‬نعم‪ ..‬هذا أيب‪ ..‬وهذا ّ‬
‫وأعاد عليه الرسول صلى اهلل عليه وسلم ما قاله حلارثة‪ ..‬وهنا قال زيد‪:‬‬
‫" ما أنا بالذي أختار عليك أحدا‪ ،‬أنت األب والعم"‪!!..‬‬
‫ونديت عينا رسول اهلل بدموعشاكرة وحانية‪ ،‬مث أمسك بيد زيد‪ ،‬وخرج به اىل فناء الكعبة‪ ،‬حيث‬
‫قريش جمتمعة هناك‪ ،‬ونادى الرسول‪:‬‬
‫" اشهدوا‪ R‬أن زيدا ابين‪ ..‬يرثين وأرثه"‪!!..‬‬
‫تسميه قريش‬
‫حرا فحسب‪ ،‬بل وابنا للرجل الذي ّ‬ ‫وكاد قلب حارثة يطري من الفرح‪ ..‬فابنه مل يعد ّ‬
‫الصادق األمني سليل بين هاشم وموضع حفاوة مكة كلها‪..‬‬
‫وعاد األب والعم اىل قومهما‪ ،‬مطمئنني على ولدمها والذي تركاه سيّدا يف مكة‪ ،‬آمنا معاىف‪ ،‬بعد أن‬
‫كان أبوه ال يدري‪ :‬أغاله السهل‪ ،‬أم غاله اجلبل‪!!..‬‬

‫**‬

‫تبىّن الرسول زيدا‪ ..‬وصار ال يعرف يف مكة كلها اال بامسه هذا زيد بن حممد‪..‬‬
‫ويف يوم باهر الشروق‪ ،‬نادى الوحي حممدا‪:‬‬
‫( اقرأ باسم ربك الذي‪ R‬خلق‪ ،‬خلق االنسان من علق‪ ،‬اقرأ وربك األكرم الذي علم بالقلم‪ ،‬علّم‬
‫االنسان ما لك يعلم)‪...‬‬
‫مث تتابعت جناءاته وكلماته‪:‬‬
‫( يا أيها الكدثر‪ ،‬قم فأنذر‪ ،‬وربّك فكرّب )‪...‬‬
‫(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك‪ ،‬وان مل تفعل فما بلّغت رسالته‪ ،‬واهلل يعصمك من الناس‪،‬‬
‫ان اهلل اليهدي القوم الكافرين)‪...‬‬
‫وما ان محل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تبعة الرسالة حىت كان زيد ثاين املسلمني‪ ..‬بل قيل انه‬
‫كان أول املسلمني‪!!...‬‬
‫‪ | 197‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫أحبّه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حبا عظيما‪ ،‬وكان هبذا احلب خليقا وجديرا‪ ..‬فوفاؤه الذي‪ R‬ال‬
‫نظري له‪ ،‬وعظمة روحه‪ ،‬وع ّفة ضمريه ولسانه ويده‪...‬‬
‫احلب كما كان يلقبه أصحاب‬ ‫كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد ّ‬
‫رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪..‬‬
‫تقول السيّدة عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬
‫" ما بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف جيش قط اال ّأمره عليهم‪ ،‬ولو بقي حيّا بعد رسول‬
‫اللهالستخلفه‪...‬‬
‫اىل هذا املدى كانت منزلة زيد عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫فمن كان زيد هذا‪..‬؟؟‬
‫انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سيب‪ ،‬مث بيع‪ ،‬مث حرره الرسول وأعتقه‪..‬‬
‫وانه ذلك الرجال القصري‪ ،‬األمسر‪ ،‬األفطس األنف‪ ،‬بيد أنه أيضا ذلك االنسان الذي" قلبه مجيع‬
‫وروحه حر"‪..‬‬
‫ومن مث وجد له يف االسالم‪ ،‬ويف قلب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع‪ R‬مكان‪ ،‬فال‬
‫االسالم وال رسوله من يعبأ حلظه جباه النسب‪ ،‬وال بوجاهة املظهر‪.‬‬
‫ففي رحاب هذا الدين العظيم‪ ،‬يتألق بالل‪ ،‬ويتألق صهيب‪ ،‬ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد‪...‬‬
‫يتألقون مجيعا كأبرا‪ ،‬وقادة‪..‬‬
‫لقد صحح االسالم قيم االسالم‪ ،‬قيم احلياة حني قال يف كتابه الكرمي‪:‬‬
‫( ا ّن أكرمكم عند اهلل أتقاكم)‪...‬‬
‫وفتح األبواب والرحاب للمواهب اخلرّي ة‪ ،‬وللكفايات النظيفة‪ ،‬األمينة‪ ،‬املعطية‪..‬‬
‫‪ | 198‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وزو ج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب‪ ،‬ويبدو أن زينب رضي اهلل عنها قد‬
‫ّ‬
‫قبلت هذا الزواج حتت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أو ترغب‬
‫بنفسها عن نفسه‪..‬‬
‫ولكن احلياة الزوجية أخذت تتعثر‪ ،‬وتستنفد عوامل بقائها‪ ،‬فانفصل زيد عن زينب‪.‬‬
‫ومحل الرسول صلى اهلل عليه وسلم مسؤوليته جتاه هذا الزواج الذي‪ R‬كان مسؤوال عن امضائه‪ ،‬والذي‪R‬‬
‫فضم ابنة عمته اليه واختارها زوجة له‪ ،‬مث اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم‬
‫انتهى باالنفصال‪ّ ،‬‬
‫بنت عقبة‪..‬‬

‫يتزوج حممد مطلقة ابنه زيد؟؟‬ ‫وذهب الشنئون يرجفون املدينة‪ :‬كيف ّ‬
‫مفرقا بني األدعياء واألبنياء‪ ..‬بني التبين والبنّوة‪ ،‬ومقررا الغاء عادة التبين‪ ،‬ومعلنا‪:‬‬
‫فأجاهبم القرآن ّ‬
‫( ما كان حممد‪ R‬أبا أحد من رجالكم‪ ،‬ولكن رسول اهلل‪ ،‬وخامت النبني)‪.‬‬
‫وهكذا عاد لزيد امسه األول‪ ":‬زيد بن حارثة"‪.‬‬

‫**‬

‫واآلن‪..‬‬
‫هل ترون هذه اقوات املسلمة اخلارجة اىل معارك‪ ،‬الطرف‪ ،‬أو العيص‪ ،‬وحسمي‪ ،‬وغريها‪..‬‬
‫ان أمريها مجيعا‪ ،‬هو زيد بن حارثة‪..‬‬
‫فهو كما مسعنا السيدة عائشة رضي اهلل عنها تقول‪ ":‬مل يبعثه النيب صلى اهلل عليه وسلم يف جيش قط‪،‬‬
‫اال جعله أمريا هلى هذا اجليش"‪..‬‬

‫حىت جاءت غزوة مؤتة‪..‬‬


‫‪ | 199‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كان الروم بأمرباطوريتهم اهلرمة‪ ،‬قد بدأوا يوجسون من االسالم خيفة‪..‬بل صاروا يرون فيها خطرا‬
‫يهدد وجودهم‪ ،‬وال سيما يف بالد الشام اليت يستعمروهنا‪ ،‬واليت تتاخم بالد هذا الدين اجلديد‪ ،‬املنطلق‬
‫يف عنفوان واكتساح‪..‬‬
‫وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على اجلزيرة العربية‪ ،‬وبالد االسالم‪...‬‬

‫**‬

‫وأدرك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هدف املناوشات اليت بدأها الروم ليعجموا‪ R‬هبا عود االسالم‪،‬‬
‫فقرر أن يبادرهم‪ ،‬ويقنعهم بتصميم االسالم اىل أرض البلقاء بالشام‪ ،‬حىت اذا بلغوا ختومها لقيتهم‬
‫جيوش هرقل من الروم ومن القبائل املستعربة اليت كانت تقطن احلدود‪..‬‬
‫يسمى مشارف‪..‬‬ ‫ونزل جيش الروم يف مكان ّ‬
‫تسمى مؤتة‪ ،‬حيث مسّيت الغزوة بامسها‪...‬‬‫يف حني نزل جيش االسالم جيوار بلدة ّ‬

‫**‬

‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدرك أمهية هذه الغزوة وخطرها فاختار هلا ثالثة من الرهبان يف‬
‫الليل‪ ،‬والفرسان يف النهار‪..‬‬
‫ثالثة من الذين باعوا أنفسهم هلل فلم يعد هلم مطمع وال أمنية اال يف استشهاد عظيم يصافحون‪ R‬اثره‬
‫رضوان اهلل تعاىل‪ ،‬ويطالعون وجهه الكرمي‪..‬‬
‫وكان هؤالء الثالثة وفق ترتيبهم يف امارة اجليش هم‪:‬‬
‫زيد بن حارثة‪،‬‬
‫جعفر بن أيب طالب‪،‬‬
‫عبداهلل بن رواحة‪.‬‬
‫رضي اهلل عنهم وأرضاهم‪ ،‬ورضي اهلل عن الصحابوة أمجعني‪...‬‬
‫‪ | 200‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يودع اجليش يلقي أمره السالف‪:‬‬


‫وهكذا رأينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما وقف ّ‬
‫" عليكم زيد بن حارثة‪..‬‬
‫فان أصيب زيد‪ ،‬فجعفر بن أيب طالب‪...،‬‬
‫فان أصيب جعفر‪ ،‬فعبداهلل بن رواحة"‪...‬‬
‫عمه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫وعلى الرغم من أن جعفر بن أيب طالب كان من أقرب الناس اىل قلب ابن ّ‬
‫عليه وسلم‪..‬‬
‫وعلى الرغم من شجاعته‪ ،‬وجسارته‪ ،‬وحسبه ونسبه‪ ،‬فقد جعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األمري‬
‫التايل لزيد‪ ،‬وجعل زيدا األمري األول للجيش‪...‬‬
‫ومبثل هذا‪ ،‬كان الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن االسالم دين جديد جاء يلغي‬
‫العالقات االنسانية الفاسدة‪ ،‬والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل‪ ،‬لينشئ مكاهنا عالقات‬
‫جديدة‪ ،‬رشيدة‪ ،‬قوامها انسانية االنسان‪!!...‬‬

‫**‬

‫ولكأمنا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرأ غيب املعركة املقبلة حني وضع‪ R‬امراء اجليش على‬
‫هذا الرتتيب‪ R:‬زيد فجعفر‪ ،‬فابن رواحة‪ ..‬فقد لقوا‪ R‬رهّب م‪ R‬مجيعا وفق هذا الرتتيب أيضا‪!!..‬‬

‫ومل يكد املسلمون يطالعون جيش الروم الذي‪ R‬حزروه مبائيت ألف مقاتل حىت أذهلهم العدد الذي‪ R‬مل‬
‫يكن هلم يف حساب‪..‬‬
‫ولكن مىت كانت معارك االميان معارك كثرة‪..‬؟؟‬
‫هنالك أقدموا‪ R‬ومل يبالوا‪ ..‬وأمامهم قائدهم زيد حامال راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مقتحما‬
‫رماح العدو زنباله وسيوفه‪ ،‬ال يبحث عن النصر‪ ،‬بقدر ما يبحث عن املضجع الذي ترسو عنده‬
‫صفقته مع اهلل الذي اشرتى من املؤمنني أنفسهم وأمواهلم‪ R‬بأن هلم اجلنة‪.‬‬
‫‪ | 201‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مل يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء‪ ،‬وال جيوش الروم‪ R‬بل كانت روايب اجلنة‪ ،‬ورفرفها األخضر‪،‬‬
‫ختفق أمام عينيه كاألعالم‪ ،‬تنبئه أن اليوم‪ R‬يوم زفافه‪..‬‬
‫ويفض األغالق اليت حتول‬
‫ّ‬ ‫يطوح رؤوس مقاتليه‪ ،‬امنا يفتح األبواب‪،‬‬ ‫وكان هو يضرب‪ ،‬ويقاتل‪ ،‬ال ّ‬
‫بينه وبني الباب الكبري الواسع‪ ،‬ايل سيدلف منه اىل دار السالم‪ ،‬وجنات اخللد‪ ،‬وجوار اهلل‪..‬‬

‫وعانق زيد مصريه‪...‬‬


‫وكانت روحه وهي يف طريقها اىل اجلنة تبتسم حمبورة وهي تبصر جثمان صاحبها‪ ،‬ال يلفه احلرير‬
‫يضخمه دم طهور سال يف سبيل اهلل‪..‬‬ ‫الناعم‪ ،‬بل ّ‬
‫مث تتسع ابتساماهتا‪ R‬املطمئنة اهلانئة‪ ،‬وهي تبصر ثاين األمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية‬
‫ليتسلمها‪ ،‬وليحملها‪ R‬قبل أن تغيب يف الرتاب‪....‬‬

‫جعفر بن أيب طالب‬


‫أشبهت خلقي‪ ،‬وخلقي‬

‫انظروا جالل شبابه‪..‬‬


‫انظروا نضارة اهابه‪..‬‬
‫وبره‪ ،‬تواضعه وتقاه‪..‬‬
‫انظروا أناته وحلمه‪ ،‬حدبه‪ّ ،‬‬
‫انظروا شجاعته اليت ال تعرف اخلوف‪ ..‬وجوده الذي‪ R‬الخياف الفقر‪..‬‬
‫انظروا طهره وعفته‪..‬‬
‫انظروا صدقه وأمانته‪...‬‬
‫انظروا فيه كل رائعة من روائع احلسن‪ ،‬والفضيلة‪ ،‬والعظمة‪ ،‬مث ال تعجبوا‪ ،‬فأنتم أمام أشبه الناس‬
‫بالرسول خلقا‪ ،‬وخلقا‪..‬‬
‫أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أيب املساكني‪..‬‬
‫‪ | 202‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أنت جتاه من لقبه الرسول بـ ذي اجلناحني‪..‬‬


‫أنتم تلقاء طائر اجلنة الغريد‪ ،‬جعفر بن أيب طالب‪ !!..‬عظيم من عظماء الرعيل األول الذين أسهموا‬
‫أعظم اسهام يف صوغ ضمري احلياة‪!!..‬‬

‫**‬

‫أقبل على الرسول صلى اهلل عليه وسلم مسلما‪ ،‬آخذا مكانه العايل بني املؤمنني املبكرين‪..‬‬
‫وأسلمت معه يف نفس اليوم زوجته أمساء بنت عميس‪..‬‬
‫ومحال نصيبهما من األذى ومن االضطهاد يف شجاعة وغبطة‪..‬‬
‫فلما اختار الرسول ألصحابه اهلجرة اىل احلبشة‪ ،‬خرج جعفر وزوجه حيث لبيا هبا سنني عددا‪ ،‬رزقا‬
‫خالهلا بأوالدمها الثالثة حممد‪ ،‬وعبد اهلل‪ ،‬وعوف‪...‬‬

‫**‬

‫ويف احلبشة كان جعفر بن أيب طالب املتحدث اللبق‪ ،‬املوفق باسم االسالم ورسوله‪..‬‬
‫ذلك أن اهلل أنعم عليه فيما أنعم‪ ،‬بذكاء القلب‪ ،‬واشراق العقل‪ ،‬وفطنة النفس‪ ،‬وفصاحة اللسان‪..‬‬
‫ولئن كان يوم مؤتة الذي‪ R‬سيقاتل فيه فيما بعد حىت يستشهد‪ ..‬أروع أيامه وأجماده وأخلدها‪..‬‬
‫يقل روعة وال هباء‪ ،‬وال جمدا‪..‬‬
‫فان يوم احملاورة اليت أجراها أمام النجاشي باحليشة‪ ،‬لن ّ‬
‫لقد كان يوما ف ّذا‪ ،‬ومشهدا‪ R‬عجبا‪...‬‬

‫**‬

‫وذلك أن قريشا مل يهدئ من ثورهتا‪ ،‬ومل يذهب من غيظها‪ ،‬ومل يطامن كم أحقادها‪ ،‬هجرة‬
‫املسلمني اىل احلبشة‪ ،‬بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم‪ ،‬ويتكاثر طمعهم‪ ..‬وحىت اذا مل تواهتم فرصة‬
‫‪ | 203‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫والقوة‪ ،‬فقد عز على كربيائها‪ R‬أن ينجو هؤالء من نقمتها‪ ،‬ويفلتوا من قبضتها‪ ..‬يظلوا هناك يف‬
‫التكاثر ّ‬
‫مهاجرهم أمال رحبا هتتز له نفس الرسول‪ ،‬وينشرح له صدر‪ R‬االسالم‪..‬‬

‫هنالك قرر ساداهتا ارسال مبعوثني اىل النجاشي حيمالن هدايا قريش النفيسة‪ ،‬وحيمالن رجاءمها يف‬
‫أن خيرج هؤالء الذين جاؤوا اليها الئذين ومستجريين‪...‬‬
‫وكان هذان املبعوثان‪ :‬عبداهلل بن أيب ربيعة‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وكانا مل يسلما بعد‪...‬‬

‫**‬

‫كان النجاشي الذي كان جيلس أيامئذ على عرش احلبشة‪ ،‬رجال حيمل اميانا مستنريا‪ ..‬وكان يف‬
‫قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية‪ ،‬بعيدة عن االحنراف‪ ،‬نائية عن التعصب واالنغالق‪...‬‬
‫وكان ذكره يسبقه‪ ..‬وسريته العادلة‪ ،‬تنشر غبريها يف كل مكان تبلغه‪..‬‬
‫من أجل هذا‪ ،‬اختار الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالده دار هجرة ألصحابه‪..‬‬
‫فحملت مبعوثيها هدايا ضخمة لألساقفة‪ ،‬وكبار‬ ‫ومن أجل هذا‪ ،‬خافت قريش أال تبلغ لديه ما تريد ّ‬
‫رجال الكنيسة هناك‪ ،‬وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاأال يقابال النجاشي حىت يعطيا اهلدايا للبطارقة‬
‫أوال‪ ،‬وحىت يقنعاهم بوجهة نظرمها‪ ،‬ليكونوا هلم عونا عند النجاشي‪.‬‬
‫ط الرسوالن رحاهلما باحلبشة‪ ،‬وقابال هبا الزعماء الروحانيني كافة‪ ،‬ونثرا بني أيديهم اهلدايا اليت‬
‫وح ّ‬
‫محالها اليهم‪ ..‬مث أرسال للنجاشي هداياه‪..‬‬
‫ومضيا يوغران صدور‪ R‬القسس واألساقفة ضد املسلمني املهاجرين‪ ،‬ويستنجدان‪ R‬هبم حلمل النجاشي‪،‬‬
‫ويواجهان بني يديه خصوم قريش الذين تالحقهم بكيدها وأذاها‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 204‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حتف به األساقفة ورجال‬


‫ويف وقار مهيب‪ ،‬وتواضع‪ R‬جليل‪ ،‬جلس النجاشي على كرسيه العايل‪ّ ،‬‬
‫احلاشية‪ ،‬وجلس أمامه يف البهو الفسيح‪ ،‬املسلمون املهاجرون‪ ،‬تغشاهم سكينة اهلل‪ ،‬وتظلهم رمحته‪..‬‬
‫ردداه أمام النجاشي حني أذن هلم مبقابلة خاصة قبل‬ ‫ووقف مبعوثا قريش يكرران االهتام الذي‪ R‬سبق أن ّ‬
‫هذ االجتماع احلاشد الكبري‪:‬‬
‫" أيها امللك‪ ..‬انه قد ضوى لك اىل بلدك غلمان سفهاء‪ ،‬فارقوا‪ R‬دين قومهم ومل يدخلوا يف دينك‪ ،‬بل‬
‫جاؤوا بدين ابتدعوه‪ ،‬ال نعرفه حنن وال أنت‪ ،‬وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم‪،‬‬
‫لرتدهم اليهم"‪...‬‬
‫أعمامهم‪ ،‬وعشائرهم‪ّ ،‬‬
‫ووىّل النجاشي وجهه شطر املسلمني‪ ،‬ملقيا عليهم سؤاله‪:‬‬
‫" ما هذا الدين الذي‪ R‬فارقتم فيه قومكم‪ ،‬واستغنيتم به عن ديننا"‪..‬؟؟‬
‫وهنض جعفر قائما‪ ..‬ليؤدي املهمة اليت كان املسلمون املهاجرون قد اختاروه هلا ابّان تشاورهم‪ ،‬وقبل‬
‫جميئهم اىل هذا االجتماع‪..‬‬

‫هنض جعفر يف تؤدة وجالل‪ ،‬وألقى نظرات حمبّة على امللك الذي‪ R‬أحسن جوارهم وقال‪:‬‬
‫" يا أيها امللك‪..‬‬
‫كنا قوما أهل جاهلية‪ :‬نعبد األصنام‪ ،‬ونأكل امليتة‪ ،‬ونأيت الفواحش‪ ،‬ونقطع األرحام‪ ،‬ونسيء اجلوار‪،‬‬
‫ويأكل القوي منا الضعيف‪ ،‬حىت بعث اهلل الينا رسوال منا‪ ،‬نعرف نسبه وصدقه‪ ،‬وأمانته‪ ،‬وعفافه‪،‬‬
‫لنوحده ونعبده‪ ،‬وخنلع ما كنا نعبد حنن وآباؤنا من احلجارة واألوثان‪..‬‬
‫فدعانا اىل اهلل ّ‬
‫والكف عن احملارم والدماء‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وأمرنا بصدق احلديث‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن اجلوار‪،‬‬
‫وهنانا عن الفواحش‪ ،‬وقول الزور‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وقذف احملصنات‪ ..‬فص ّدقناه وآمنّا به‪ ،‬واتبعناه‬
‫أحل‬
‫حرم علينا‪ ،‬وأحللنا ما ّ‬ ‫وحرمنا ما ّ‬
‫على ما جاءه من ربه‪ ،‬فعبدنا اهلل وحده ومل نشرك به شيئا‪ّ ،‬‬
‫لريدونا اىل عبادة األوثان‪ ،‬واىل ما كنّا عليه من‬
‫لنا‪ ،‬فغدا علينا قومنا‪ ،‬فعذبونا‪ R‬وفتنونا عن ديننا‪ّ ،‬‬
‫اخلبائث‪..‬‬
‫‪ | 205‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فلما قهرونا‪ ،‬وظلمونا‪ ،‬وضيّقوا‪ R‬علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبني ديننا‪ ،‬خرجنا اىل بالدك ورغبنا يف جوارك‪،‬‬
‫ورجونا أال نظلم عندك"‪...‬‬

‫**‬

‫ألقى جعفر هبذه الكلمات املسفرة كضوء الفجر‪ ،‬فمألت نفس النجاشي احساسا وروعة‪ ،‬والتفت‬
‫اىل جعفر وساله‪:‬‬
‫" هل معك مما أنزل على رسولكم‪ R‬شيء"‪..‬؟‬
‫قال جعفر‪ :‬نعم‪..‬‬
‫قال النجاشي‪ :‬فاقرأه علي‪..‬‬
‫ومضى حعفر يتلو آليات من سورة مرمي‪ ،‬يف أداء عذب‪ ،‬وخشوع فبكى النجاشي‪ ،‬وبكى معه‬
‫أساقفته مجيعا‪..‬‬
‫وملا كفكف دموعه اهلاطلة الغزيرة‪ ،‬التفت‪ R‬اىل مبعوثي قريش‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" ان هذا‪ ،‬والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة‪..‬‬
‫انطلقا فال واهلل‪ ،‬ال أسلمهم اليكما"‪!!..‬‬

‫**‬

‫انفض اجلميع‪ ،‬وقد نصر اهلل عباده وآرهم‪ ،‬يف حني رزئ مندوبا قريش هبزمية منكرة‪..‬‬‫ّ‬
‫يتجرع اهلزمية‪ ،‬وال يذعن لليأس‪..‬‬
‫لكن عمرو بن العاص‪ R‬كان داهية واسع احليلة‪ ،‬ال ّ‬
‫وهكذا مل يكد يعود مع صاحبه اىل نزهلما‪ ،‬حىت ذهب يف ّكر ويدبّر‪ ،‬وقال لزميله‪:‬‬
‫ألرجعن للنجاشي غدا‪ ،‬وآلتينّه عنهم مبا يستأصل خضراءهم"‪..‬‬
‫ّ‬ ‫" واهلل‬
‫وأجابه صاحبه‪ " :‬ال تفعل‪ ،‬فان هلم أرحاما‪ ،‬وان كانوا قد خالفونا"‪..‬‬
‫قال عمرو‪ " :‬واهلل ألخربنّه أهنم يزعمون أن عيسى بن مرمي عبد‪ ،‬كبقية العباد"‪..‬‬
‫‪ | 206‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هذه اذن هي املكيدة اجلديدة اجلديدة اليت دبّرها مبعوث قريش للمسلمني كي يلجئهم اىل الزاوية‬
‫حركوا ضدهم أضان امللك‬ ‫احلادة‪ ،‬ويضعهم بني ش ّقي الرحى‪ ،‬فان هم قالوا‪ R‬عيسى عبد من عباد اهلل‪ّ ،‬‬
‫واألساقفة‪ ..‬وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم‪!!...‬‬

‫**‬

‫ويف الغداة أغذا السري اىل مقابلة امللك‪ ،‬وقال له عمرو‪:‬‬


‫" أيها امللك‪ :‬اهنم ليقولون يف عيسى قوال عظيما"‪.‬‬
‫واضطرب األساقفة‪..‬‬
‫واهتاجتهم هذه العبارة القصرية‪..‬‬
‫ونادوا بدعوة املسلمني لسؤاهلم عن موقف دينهم من املسيح‪..‬‬
‫وعلم املسلمون باملؤامرة اجلديدة‪ ،‬فجلسوا يتشاورون‪..‬‬
‫مث تفقوا على أن يقولوا‪ R‬احلق الذي‪ R‬مسعون من نبيهم عليه الصالة والسالم‪ ،‬الحييدون عنه قيد شعرة‪،‬‬
‫وليكن ما يكن‪!!..‬‬
‫وانعقد االجتماع من جديد‪ ،‬وبدأ النجاشي احلديث سائال جعفر‪:‬‬
‫"ماذا تقولون يف عيسى"‪..‬؟؟‬
‫وهنض جعفر مرة أخرى كاملنار املضيء وقال‪:‬‬
‫" نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬هو عبداهلل ورسوله‪ ،‬وكلمته ألقاها اىل مرمي وروح‪R‬‬
‫منه"‪..‬‬
‫فهتف النجاشي نص ّدقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله املسيح عن نفسه‪..‬‬
‫ضجت مبا يسبه النكري‪..‬‬
‫لكن صفوف األساقفة ّ‬ ‫ّ‬
‫ومضى النجاشي املستنري املؤمن يتابع حديثه قائال للمسلمني‪:‬‬
‫" اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي‪ ،‬ومن سبّكم أو آذاكم‪ ،‬فعليه غرم ما يفعل"‪..‬‬
‫‪ | 207‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث التفت صوب حاشيته‪ ،‬وقال وسبّابته تشري اىل مبعوثي قريش‪:‬‬
‫ردوا عليهما هدايامها‪ ،‬فال حاجة يل هبا‪...‬‬
‫" ّ‬
‫علي ملكي‪ ،‬فآخذ الرشوة فيه"‪!!...‬‬ ‫رد ّ‬ ‫فواهلل ما أخذ اهلل مين الرشوة حني ّ‬
‫وخرج مبعوثا قريش خمذولني‪ ،‬حيث وليّا وجهيهما من فورمها شطر مكة عائني اليها‪...‬‬
‫وخرج املسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياهتم اآلمنة يف احلبشة‪ ،‬البثني فيها كما قالوا‪ ":‬خبري دار‪..‬‬
‫مع خري جار‪ "..‬حىت يأذن اهلل هلم بالعودة اىل رسوهلم واخواهنم وديارهم‪...‬‬

‫**‬

‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيتفل مع املسلمني بفتح خيرب حني طلع عليهم قادما من‬
‫احلبشة جعفر بن أيب طالب ومعه من كانوا ال يزالون يف احلبشة من املهاجرين‪..‬‬
‫وأفعم قلب الرسول عليه الصالة والسالم مبقدمة غبطة‪ ،‬وسعادة وبشرا‪..‬‬
‫وعانقه النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو يقول‪:‬‬
‫أسر بفتح خيرب‪ ..‬أم بقدوم جعفر‪."..‬‬
‫" ال أدري بأيهما أنا ّ‬

‫وركب‪ R‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه اىل مكة‪ ،‬حيث اعتمروا‪ R‬عمرة القضاء‪ ،‬وعادوا اىل‬
‫املدينة‪ ،‬وقد اكتألت نفس جعفر روعة مبا مسع من انباء اخوانه املؤمنني الذين خاضوا مع النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم غزوة بدر‪ ،‬وأحد‪ ..‬وغريمها من املشاهد واملغازي‪ ..‬وفاضت عيناه بالدمع‪ R‬على الذين‬
‫صدقوا‪ R‬ما عاهدوا اهلل عليه‪ ،‬وقضوا‪ R‬حنبهم شهداء أبرار‪..‬‬
‫وطار فؤداه شوقا اىل اجلنة‪ ،‬وأخذ يتحنّي فرصة الشهادة ويرتقب حلظتها اجمليدة‪!!..‬‬

‫**‬

‫تتحرك راياهتا يف األفق متأهبة للزحف‪ ،‬وللمسري‪..‬‬


‫وكانت‪ R‬غزوة مؤتة اليت أسلفنا احلديث عنها‪ّ ،‬‬
‫‪ | 208‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فاما أن حيقق فيها نصرا كبريا لدين اهلل‪ ،‬واما أن يظفر‬


‫ورأى جعفر يف هذه الغزوة فرصة العمر‪ّ ،‬‬
‫باستشهاد عظيم يف سبيل اهلل‪..‬‬
‫وتق ّد م من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يرجوه أن جيعل له يف هذه الغزوة مكانا‪..‬‬
‫كان جعفر يعلم علم اليقني أهنا ليست نزهة‪ ..‬بل وال حربا صغرية‪ ،‬امنا هي حرب مل خيض االسالم‬
‫منها من قبل‪ ..‬حرب مع جيوش امرباطورية عريضة باذخة‪ ،‬متلك من العتاد واألعداد‪ ،‬واخلربة‬
‫واألموال ما ال قبل للعرب وال للمسلمني به‪ ،‬ومع هذا طار شوقا اليها‪ ،‬وكان ثالث ثالثة جعلهم‬
‫رسول اهلل قواد اجليش وأمراءه‪..‬‬
‫وخرج اجليش وخرج جعفر معه‪..‬‬
‫والتقى اجلمعان يف يوم رهيب‪..‬‬

‫وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائيت ألف مقاتل‪،‬‬
‫احس يف أنفه املؤمن العزيز‪ ،‬واعتداد البطل املقتدر أنه‬
‫فانه على العكس‪ ،‬أخذته نشوة عارمة اذا ّ‬
‫سيقاتل أكفاء له وأندادا‪!!..‬‬
‫وما كادت الراية توشك على السقوط‪ R‬من ميني زيد بن حارثة‪ ،‬حىت تلقاها جعفر باليمني ومضى يقاتل‬
‫هبا يف اقدام خارق‪ ..‬اقدام رجل ال يبحث عن النصر‪ ،‬بل عن الشهادة‪...‬‬
‫وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم‪ ،‬و{اى فرسه تعوق حركته فاقتحم‪ R‬عنها فنزل‪ ..‬وراح‪ R‬يصوب سيفه‬
‫ويسدده اىل حنور أعدائه كنقمة القدر‪ ..‬وملح واحدا من اأألعداء يقرتب من فرسه ليعلو ظهرها‪ ،‬فعز‬
‫عليه أن ميتطي صهوهتا‪ R‬هذا الرجس‪ ،‬فبسط حنوها سيفه‪ ،‬وعقرها‪!!..‬‬
‫وانطلق وسط الصفوف املتكالبة عليه يدمدم كاالعثار‪ ،‬وصوته يتعاىل هبذا‪ R‬الزجر املتوهج‪:‬‬
‫طيّبة‪ ،‬وبارد شراهبا‬ ‫يا حبّذا اجلنة واقرتاهبا‪R‬‬
‫كافرة بعيدة أنساهبا‬ ‫والروم روم‪ ،‬قد دنا عذاهبا‬
‫علي اذا القيتها ضراهبا‬
‫ّ‬
‫وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل‪ ،‬وكانه جيش جلب‪..‬‬
‫‪ | 209‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأحاطوا به يف اصرار‪ R‬جمنون على قتله‪ ..‬وحوصر هبم حصارا ال منفذ فيه لنجاة‪..‬‬
‫وضربوا بالسيوف ميينه‪ ،‬وقبل أن تسقط الراية منها على األرض تلقاها بشماله‪ ..‬وضربوها هي‬
‫األخرى‪ ،‬فاحتضن الراية بعضديه‪..‬‬
‫يف هذه اللحظة تر ّك زت كل مسؤوليته يف أال يدع راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تالمس الرتاب‬
‫حي‪..‬‬
‫وهو ّ‬
‫وحني ت ّكومت جثته الطاهرة‪ ،‬كانت سارية الراية مغروسة بني عضدي جثمانه‪ ،‬ونادت خفقاهتا‬
‫عبداهلل بن رواحة فشق الصفوف كالسهم حنوها‪ ،‬واخذها يف قوة‪ ،‬ومضى هبا اىل مصري عظيم‪!!..‬‬

‫**‬

‫وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر‪!!..‬‬


‫مضمخا بفدائيته‪ ،‬مدثرا ببطوالته‪..‬‬
‫وهكذا لقي الكبري املتعال‪ّ ،‬‬
‫وأنبأ العليم اخلبري رسوله مبصري املعركة‪ ،‬ومبصري جعفر‪ ،‬فاستودعه اهلل‪ ،‬وبكى‪..‬‬
‫فشممهم‪ ،‬وقبّلهم‪ ،‬وذرفت عيناه‪..‬‬‫عمه‪ ،‬ودعا بأطفاله وبنيه‪ّ ،‬‬‫وقام اىل بيت ابن ّ‬
‫حسان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه‪:‬‬
‫مث عاد اىل جملسه‪ ،‬وأصحابه حافون به‪ .‬ووقف شاعراالسالم ّ‬
‫غداة مضوا باملؤمنني يقودهم‬
‫اىل املوت ميمون النقيبة أزهر‬
‫أغر كضوء البدر من آل هاشم‬ ‫ّ‬
‫أيب اذا سيم الظالمة جمسر‬
‫ّ‬
‫فطاعن حىت مال غري موسد‬
‫يتكسر‬
‫ملعرتك فيه القنا ّ‬
‫فصار مع املستشهدين ثوابه‬
‫جنان‪ ،‬ومتلف احلدائق أخضر‬
‫‪ | 210‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكنّا نرى يف جعفر من حممد‬


‫وفاء وأمرا حازما حني يأمر‬
‫فما زال يف االسالم من آل هاشم‬
‫دعائم عز ال يزلن ومفخر‬

‫حسان‪ ،‬كعب بن مالك‪ ،‬فريسل شعره اجلزل ‪:‬‬ ‫وينهض بعد ّ‬


‫وجدا على النفر الذين تتابعوا‬
‫يوما مبؤتة‪ ،‬أسندوا مل ينقلوا‬
‫صلى االله عليهم من فتية‬
‫وسقى عظامهم الغمام‪ R‬املسبل‬
‫صربوا مبؤتة لالله نفوسهم‬
‫حذر الردى‪ ،‬وخمافة أن ينكلوا‬
‫اذ يهتدون جبعفر ولواؤه‬
‫ق ّدام أوهلم‪ ،‬فنعم األول‬
‫تفرجت الصفوف وجعفر‬ ‫حىت ّ‬
‫حيث التقى وعث الصفوف جم ّدل‬
‫فتغري القمر املنري لفقده‬
‫والشمس قد كسفت‪ ،‬وكادت تأفل‬

‫وذهب املساكني مجيعهم يبكون أباهم‪ ،‬فقد كان جعفر رضي اهلل عنه أبا املساكني‪..‬‬
‫يقول أبو هريرة‪:‬‬
‫" كان خري الناس للمساكني جعفر بن أيب طالب"‪...‬‬
‫‪ | 211‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حي‪ ..‬فلما جاء أجله أىب اال أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم‬
‫أجل كان أجود الناس مباله وهو ّ‬
‫بذال لروحه وحيته‪..‬‬

‫يقول عبداهلل بن عمر‪:‬‬


‫" كنت مع جعفر يف غزوة مؤتة‪ ،‬فالتمسناه‪ ،‬فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بني رمية وطعنة"‪!!..‬‬
‫بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح‪..‬؟؟!!‬
‫ومع هذا‪ ،‬فهل نال القتلة من روحه ومن مصريه مناال‪..‬؟؟‬
‫أبدا‪ ..‬وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عرب عليه الشهيد‪ R‬اجمليد اىل جوار اهلل األعلى الرحيم‪،‬‬
‫حيث نزل يف رحابه مكانا عليّا‪..‬‬
‫انه هنالك يف جنان اخللد‪ ،‬حيمل أومسة املعركة على كل مكان من جسد أهنكته السيوف والرماح‪..‬‬
‫وان شئتم‪ ،‬فامسعوا قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫مضرجان بالدماء‪ ..‬مصبوغ القوادم"‪!!!...‬‬ ‫" لقد رأيته يف اجلنّة‪ ..‬له جناحان ّ‬

‫عبداهلل بن رواحة‬
‫يا نفس‪ ،‬اال تقتلي متويت‬

‫عندما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جيلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من‬
‫املدينة هناك عند مشرتف مكة‪ ،‬يبايع اثين عشر نقيبا من األنصار‪ R‬بيعة العقبة األوىل‪ ،‬كان هناك عبداهلل‬
‫بن رواحة واحدا من هؤالء النقباء‪ ،‬محلة االسالم اىل املدينة‪ ،‬والذين مه ّدت بيعتهم هذه للهجرة اليت‬
‫كانت بدورها منطلقا رائعا لدين اهلل‪ ،‬واالسالم‪..‬‬
‫وعندما كان الرسول عليه الصالة والسالم يبايع يف العام التايل ثالثة وسبعني من األنصار‪ R‬أهل املدينة‬
‫بيعة العقبة الثانية‪ ،‬كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء املبايعني‪...‬‬
‫‪ | 212‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبعد هجرة الرسول وأصحابه اىل املدينة واستقرارهم‪ R‬هبا‪ ،‬كان عبداهلل بن رواحة من أكثر األنصار‪R‬‬
‫أيب الذي‪ R‬كان أهل املدينة‬
‫عمال لنصرة الدين ودعم بنائه‪ ،‬وكان من أكثرهم يقظة ملكايد عبد اهلل بن ّ‬
‫يتهيئون لتتوجيه ملكا عليها قبل أن يهاجر االسالم اليها‪ ،‬والذي مل تبارح حلقومه مرارة الفرصة‬
‫الضائعة‪ ،‬فمضى يستعمل دهاءه يف الكيد‪ R‬لالسالم‪ .‬يف حني مضى عبداهلل بن رواحة يتعقب هذا‬
‫أيب أكثر مناوراته‪ ،‬وشلّت حركة دهائه‪!!..‬‬ ‫الدهاء ببصريةمنرية‪ ،‬أفسدت على ابن ّ‬
‫وكان ابن رواحة رضي اهلل عنه‪ ،‬كاتبا يف بيئة ال عهد هلا بالكتابة اال يسريا‪..‬‬
‫وكان شاعرا‪ ،‬ينطلق الشعر من بني ثناياه عذبا قويا‪..‬‬
‫ومنذ أسلم‪ ،‬وضع مقدرته الشعرية يف خدمة االسالم‪..‬‬
‫وكان الرسول حيب شعره ويستزيده منه‪..‬‬

‫جلس عليه السالم يوما مع أصحابه‪ ،‬وأقبل عبداهلل بن رواحة‪ ،‬فسأله النيب‪:‬‬
‫" كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول"‪..‬؟؟‬
‫فأجاب عبداهلل‪ ":‬أنظر يف ذاك مث أقول"‪..‬‬
‫ومضى على البديهة ينشد‪:‬‬
‫فضلكم‬
‫يا هاشم اخلري ان اهلل ّ‬
‫على الربيّة فضال ما له غري‬
‫تفرست فيك اخلري أعرفه‬‫اين ّ‬
‫فراسة خالفتهم يف الذي‪ R‬نظروا‬
‫ولو سألت أو استنصرت بعضهمو‪R‬‬
‫ردوا وال نصروا‬
‫حل أمرك ما ّ‬ ‫يف ّ‬
‫فثّبت اهلل ما آتاك من حسن‬
‫تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا‬
‫‪ | 213‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فسر الرسول ورضي وقال له‪:‬‬ ‫ّ‬


‫" واياك‪ ،‬فثّبت اهلل"‪..‬‬
‫وحني كان الرسول عليه الصالة والسالم يطوف بالبيت يف عمرة القضاء‬
‫كان ابن رواحة بني يديه ينشد من رجزه‪:‬‬
‫وال تص ّدقنا وال صلينا‬ ‫رب لوال أنت ما اهتدينا‬‫يا ّ‬
‫وثبّت األقدام‪ R‬ان القينا‬ ‫فأنزلن سكينة علينا‬
‫اذا أرادوا فتنة ألبنا‬ ‫ان الذين قد بغوا علينا‬
‫وكان املسلمون يرددون أنشودته اجلميلة‪..‬‬
‫وحزن الشار‪ R‬املكثر‪ ،‬حني تنزل اآلية الكرمية‪:‬‬
‫( والشعراء يتبعهم الغاوون)‪..‬‬
‫يسرتد غبطة نفسه حني تنزل آية أخرى‪:‬‬ ‫ولكنه ّ‬
‫( اال الذين آمنوا وعملوا الصاحلات‪ ،‬وذكروا اهلل كثريا‪ ،‬وانتصروا‪ R‬من بعد ما ظلموا‪)..‬‬

‫**‬

‫وحني يضطر االسالم خلوض القتال دفاعا عن نفسه‪ ،‬حيمل ابن رواحة سيفه يف مشاهد بدر وأحد‬
‫واخلندق واحلديبية وخيرب جاعال شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده‪:‬‬
‫" يا نفس اال تقتلي متويت"‪..‬‬
‫وصائحا يف املشركني يف كل معركة وغزاة‪:‬‬
‫خلوا بين الكفار عن سبيله‬
‫خلوا‪ ،‬فكل اخلري يف رسوله‬

‫**‬
‫‪ | 214‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وجاءت غزوة مؤتة‪..‬‬


‫وكان عبداهلل بن رواحة ثالث األمراء‪ ،‬كما أسلفنا يف احلديث عن زيد وجفعر‪..‬‬
‫ووقف ابن رواحة رضي اهلل عنه واجليش يتأهب ملغادرة املدينة‪..‬‬
‫وقف ينشد ويقول‪:‬‬
‫وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا‬ ‫لكنين أسأل الرمحن مغفرة‬
‫حبربة تنفد األحشاء والكبدا‬ ‫حران جمهرة‬
‫أو طعنة بيدي ّ‬
‫يا أرشد اهلل من غاز‪ ،‬وقد رشدا‬ ‫مروا على جدثي‬ ‫حىت يقال اذا ّ‬
‫أجل تلك كانت أمنيته وال شيء سواها‪ ..‬ضربة سيف أ‪ ،‬طعنة رمح‪ ،‬تنقله اىل عامل الشهداء‬
‫والظافرين‪!!..‬‬

‫**‬

‫عدوهم حزروا جيش الروم مبائيت ألف مقاتل‪ ،‬اذ‬


‫وحترك اجليش اىل مؤتة‪ ،‬وحني استشرف املسلمون ّ‬ ‫ّ‬
‫رأوا صفوفا‪ R‬ال آخر هلا‪ ،‬وأعداد نفوق احلصر واحلساب‪!!..‬‬
‫ونظر املسلمون اىل عددهم القليل‪ ،‬فومجوا‪ ..‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫وأما أن يأمرنا بالزحف فنطيع"‪..‬‬
‫فاما أن مي ّدنا بالرجال‪ّ ،‬‬
‫عدونا‪ّ ،‬‬‫" فلنبعث اىل رسول اهلل‪ ،‬خنربه بعدد ّ‬
‫بيد أن ابن رواحة هنض وسط صفوفهم‪ R‬كالنهار‪ ،‬وقال هلم‪:‬‬
‫" يا قوم‪..‬‬
‫انّا واهلل‪ ،‬ما نقاتل اال هبذا الدين الذي أكرمنا اهلل به‪..‬‬
‫فانطلقوا‪ ..‬فامنا هي احدى احلسنيني‪ ،‬النصر أو الشهادة"‪...‬‬
‫وهتف املسلمون األقلون عددا‪ ،‬األكثرون اميانا‪..،‬‬
‫هتفوا قائلني‪:‬‬
‫"قد واهلل صدق ابن رواحة"‪..‬‬
‫‪ | 215‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومضى اجليش اىل غايته‪ ،‬يالقي بعدده القليل مائيت ألف‪ ،‬حشدهم الروم للقال الضاري‪ R‬الرهيب‪...‬‬

‫**‬

‫والتقى‪ R‬اجليشان كما ذكرنا من قبل‪..‬‬


‫وسقط األمري األول زيد بن حارثة شهيدا جميدا‪..‬‬
‫وتاله األمري الثاين جعفر بن عبد املطلب حىت أدرك الشهادة يف غبطة وعظمة‪..‬‬
‫وتاله ثالث األمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من ميني جعفر‪ ..‬وكان القتال قد بلغ ضراوته‪،‬‬
‫وكادت القلة املسلمة تتوه يف زحام العرمرم اللجب‪ ،‬الذي‪ R‬حشده هرقل‪..‬‬
‫وحني كان ابن رواحة يقاتل كجندي‪ ،‬كان يصول وجيول يف غري تردد وال مباالة‪..‬‬
‫مرت به ملسة‬‫أما اآلن‪ ،‬وقد صار أمريا للجيش ومسؤوال عن حياته‪ ،‬فقد بدا أمام ضراوة الروم‪ ،‬وكأمنا ّ‬
‫تردد وهتيّب‪ ،‬لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى املخاطرة يف نفسه وصاح‪..‬‬

‫مايل أراك تكرهني اجلنّة؟؟‬ ‫أقسمت يا نفس لتنزلنّه‬


‫هذا محام املوت قد صليت‬ ‫يا نفس اال تقتلي متويت‬
‫ان تفعلي فعلهما هديت‬ ‫وما متنّت فقد أعطيت‬
‫يعين هبذا صاحبيه الذين سبقاه اىل الشهادة‪ :‬زيدا‪ R‬وجعفر‪..‬‬
‫"ان تفعلي فعلهما هديت‪.‬‬

‫انطلق يعصف بالروم عصفا‪..‬‬


‫لظل يضرب بسيفه حىت يفين اجلموع املقاتلة‪ ..‬لكن‬ ‫وال كتاب سبق بأن يكون موعده مع اجلنة‪ّ ،‬‬
‫ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء املسرية اىل اهلل‪ ،‬فصعد شهيدا‪..‬‬
‫هوى جسده‪ ،‬فصعدت اىل الرفيق األعلى روحه املستبسلة الطاهرة‪..‬‬
‫وحتققت أغلى أمانيه‪:‬‬
‫‪ | 216‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مروا على جدثي‬


‫حىت يقال اذا ّ‬
‫يا أرشد اهلل من غار‪ ،‬وقد رشدا‬
‫نعم يا ابن رواحة‪..‬‬
‫يا أرشد اهلل من غاز وقد رشدا‪!!..‬‬

‫**‬

‫وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام‪ ،‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جيلس مع‬
‫أصحابه يف املدينة‪ ،‬حيادثهم وحيادثونه‪..‬‬
‫وفجأة واحلديث ماض يف هتلل وطمأنينة‪ ،‬صمت‪ R‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأسدل جفنيه‬
‫قليال‪ ..‬مث رفعهما‪ R‬لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان‪!!..‬‬
‫وطوفّت نظراته اآلسية وجوه أصحابه وقال‪:‬‬
‫"أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل هبا حىت قتل شهيدا‪.‬‬
‫مث أخذها جعفر فقاتل هبا‪ ،‬حىت قتل شهيدا"‪..‬‬
‫وصمت قليال مث استأنف كلماته قائال‪:‬‬
‫" مث أخذها عبداهلل بن رواحة فقاتل هبا‪ ،‬حىت قتل شهيدا"‪..‬‬
‫مث صمت قليال وتألقت عيناه بومض متهلل‪ ،‬مطمئن‪ ،‬مشتاق‪ .‬مث قال‪:‬‬
‫" لقد رفعوا‪ R‬اىل اجلنة"‪!!..‬‬
‫أيّة رحلة جميدة كانت‪..‬‬
‫وأي اتفاق سعيد كان‪..‬‬
‫لقد خرجوا اىل الغزو معا‪..‬‬
‫توجه لذكراهم اخلالدة‪ ،‬كلمات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬ ‫وكانت خري حتيّة ّ‬
‫" لقد رفعوا‪ R‬اىل اجلنة"‪!!..‬‬
‫‪ | 217‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫خالد بن الوليد‪R‬‬
‫ال ينام وال يرتك أحدا ينام‬

‫ان أمره لعجيب‪!!..‬‬


‫هذا الفاتك باملسلمني يوم أحد والفاتك بأعداء االسالم بقية األيام‪!!..‬‬
‫أال فلنأت على قصته من البداية‪..‬‬
‫ولكن أية بداية‪..‬؟؟‬
‫انه هو نفسه‪ ،‬ال يكاد يعرف حلياته بدءا اال ذلك اليوم‪ R‬الذي‪ R‬صافح فيه الرسول مبايعا‪..‬‬
‫لنحى عمره وحياته‪ ،‬كل ماسبق ذلك اليوم من سنني‪ ،‬وأيام‪..‬‬ ‫ولو استطاع ّ‬
‫فلنبدأ معه اذمنن حيث حيب‪ ..‬من تلك اللحظة الباهرة اليت خشع فيها قلبه هلل‪ ،‬وتلقت روحه فيها‬
‫فنفجرت شوقا اىل دينه‪ ،‬واىل رسوله‪ ،‬واىل استشهاد عظيم يف‬ ‫ملسة من ميني الرمحن‪ ،‬وكلتا يديه ميي‪ّ ،‬‬
‫سبيل احلق‪ ،‬ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل يف أيامه اخلاليات‪..‬‬

‫**‬

‫لقد خال يوما اىل نفسه‪ ،‬وأدار خواطره الرشيدة على الدين اجلديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا‬
‫وارتفاعا‪ ،‬ومتىّن على اهلل عالم الغيوب أن مي ّد اليه من اهلدى بسبب‪ ..‬والتمعت‪ R‬يف فؤاده الذكي‪ R‬بشائر‬
‫اليقني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" واهلل لقد استقام املنسم‪....‬‬
‫وان الرجل لرسول‪..‬‬
‫فحىت مىت‪..‬؟؟‬
‫أذهب واهلل‪ ،‬فأسلم"‪..‬‬
‫‪ | 218‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولنصغ اليه رضي اهلل عنه وهو حيدثنا عن مسريه املبارك اىل رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪ ،‬وعن‬
‫رحلته من مكة اىل املدينة ليأخذ مكانه يف قافلة املؤمنني‪:‬‬
‫"‪ ..‬وددت لو أجد من أصاحب‪ ،‬فلقيت عثمان بن طلحة‪ ،‬فذكرت له الذي‪ R‬أريد فأسرع االجابة‪،‬‬
‫وخرجنا مجيعا فأدجلنا سحرا‪ ..‬فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص‪ ،‬فقال مرحبا يا قوم‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬وبك‪..‬‬
‫قال‪ :‬أين مسريكم؟‪ R‬فأخربناه‪ ،‬وأخربنا أيضا أنه يريد النيب ليسلم‪.‬‬
‫فاصطحبنا حىت قدمنا املدينة أول يوم من صفر سنة مثان‪..‬فلما اطّلعت على رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫فرد على السالم بوجه طلق‪ ،‬فأسلمت وشهدت شهادة احلق‪..‬‬ ‫بالنبوة ّ‬
‫وسلم سلمت عليه ّ‬
‫فقال الرسول‪ :‬قد كنت أرى لك عقال رجوت أال يسلمك اال اىل خري‪..‬‬
‫وبايعت رسول اهلل وقلت‪ :‬استغفر يل كل ما أوضعت فيه من ص ّد عن سبيل اهلل‪..‬‬
‫جيب ما كان قبله‪..‬‬
‫فقال‪ :‬ان االسالم ّ‬
‫قلت‪ :‬يا رسول اهلل على ذلك‪..‬‬
‫فقال‪ :‬اللهم‪ R‬اغفر خلالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من ص ّد عن سبيلك‪..‬‬
‫وتق ّدم عمرو بن العاص‪ ،‬وعثمان بن طلحة‪ ،‬فأسلما وبايعا رسول اهلل"‪...‬‬

‫**‬

‫أرأيتم قوله للرسول‪ ":‬استغفر يل كل ما أوضعت فيه من ص ّد عن سبيل اهلل"‪..‬؟؟‬


‫ان الذي‪ R‬يضع هذه العبارة بصره‪ ،‬وبصريته‪ ،‬سيهتدي اىل فهم صحيح لسلك املواقف اليت تشبه األلغاز‬
‫يف حياة سيف اهلل وبطل االسالم‪..‬‬
‫وعندما نبلغ تلك املواقف يف قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها‪ R‬وتفسريها‪..-‬‬
‫‪ | 219‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أما اآلن‪ ،‬فمع خالد الذي‪ R‬أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة اخليل فيها‪ ،‬لنرى داهية العرب‬
‫والفر ‪ ،‬يعطي آلهلة أبائه وأجماد قومه ظهره‪ ،‬ويستقبل مع الرسول واملسلمني عاملا‬
‫الكر ّ‬‫كافة يف دنيا ّ‬
‫جديدا‪ ،‬كتب اهلل له أن ينهض حتت راية حممد وكلمة التوحيد‪..‬‬
‫مع خالد اذن وقد أسلم‪ ،‬لنرى من أمره عجبا‪!!!!..‬‬

‫**‬

‫أتذكرون أنباء الثالثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة‪..‬؟؟‬


‫لقد كانوا زيد بن حارثة‪ ،‬وجعفر بن أيب طالب‪ ،‬وعبداهلل بن رواحة‪..‬‬
‫لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام‪ ..‬تلك الغزوة اليت حشد هلا الروم مائيت ألف مقاتل‪ ،‬واليت‬
‫أبلى املسلمون فيها بالء منقطع النظري‪..‬‬
‫وتذطرون العبارة اجلليلة اآلسية اليت نعى هبا الرسول صلى اهلل عليه وسلم قادة املعركة الثالثة حني‬
‫قال‪:‬‬
‫" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل هبا حىت قتل شهيدا‪.‬‬
‫مث أخذها جعفر فقاتل هبا‪ ،‬حىت قتل شهيدا‪..‬‬
‫مث أخذها عبداهلل بن رواحة فقاتل هبا حىت قتل شهيدا"‪.‬‬
‫كان حلديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذا بقيّة‪ّ ،‬ادخرناها ملكاهنا على هذه الصفحات‪..‬‬
‫هذه البقيّة هي‪:‬‬
‫" مث أخذ الراية سيف من سيوف اهلل‪ ،‬ففتح اهلل علي يديه"‪.‬‬
‫فمن كان هذا البطل‪..‬؟‬
‫‪ | 220‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لقد كان خالد بن الوليد‪ ..‬الذي‪ R‬سارع اىل غزوة مؤتة جنديا عاديا حتت قيادة القواد الثالثة الذين‬
‫جعلهم الرسول على اجليش‪ :‬زيد‪ ،‬وجعفر وعبداهلل ابن رواحة‪ ،‬والذين اساشهدوا بنفس الرتتيب على‬
‫ارض املعركة الضارية‪..‬‬
‫وبعد سقوط آخر القواد شهيدا‪ ،‬سارع اىل اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط‬
‫اجليش املسلم حىت ال بعثر الفوضى‪ R‬صفوفه‪..‬‬
‫ومل يكد ثابت حيمل الراية حىت توجه هبا مسرعا اىل خالد بن الوليد‪ ،‬قائال له‪:‬‬
‫" خذ اللواء يا أبا سليمان"‪...‬‬
‫ومل جيد خالد من ح ّقه وهو حديث العهد باالسالم أن يقود قوما فيهم األنصار واملهاجرون الذين‬
‫سبقوه باالسالم‪..‬‬
‫أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو هلا اهل وهبا جدير!!‬
‫هنالك قال جميبا ثابت بن أقرم‪:‬‬
‫" ال آخذ اللواء‪ ،‬أنت أحق به‪ ..‬لك سن وقد شهدت بدرا"‪..‬‬
‫وأجابه ثابت‪ ":‬خذه‪ ،‬فأنت أدرى بالقتال مين‪ ،‬وواهلل ما أخذته اال لك"‪.‬‬
‫مث نادى يف املسلمني‪ :‬اترضون امرة خالد‪..‬؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪..‬‬
‫واعتلى العبقري جواده‪ .‬ودفع الراية بيمينه اىل األمام كأمنا يقرع أبواهبا مغلقة آن هلا أن تفتح على‬
‫طريق طويل الحب سيقطعه البطل وثبا‪..‬‬
‫يف حياة الرسول وبعد مماته‪ ،‬حىت تبلغ املقادير بعبقريته اخلارقة أمرا كان مقدورا‪...‬‬
‫ويّل خالد امارة اجليش بعد أن كان مصري املعركة قد حتدد‪ .‬فضحايا املسلمني كثريون‪ ،‬وجناهم‬
‫مهيض‪ ..‬وجيش الروم‪ R‬يف كثرته الساحقة كاسح‪ ،‬ظافر مدمدم‪..‬‬
‫ومل يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغري من املصري شيئا‪ ،‬فتجعل املغلوب غالبا‪ ،‬والغالب‪ R‬مغلوبا‪..‬‬
‫وكان العمل الوحيد الذي‪ R‬ينتظر عبقريا لكي ينجزه‪ ،‬هو وقف اخلسائر يف جيش االسالم‪ ،‬واخلروج‬
‫ببقيته ساملا‪ ،‬أي االنسحاب الوقائي الذي‪ R‬حيول دون هالك بقية القوة املقاتلة على أرض املعركة‪.‬‬
‫‪ | 221‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫بيد أن انسحابا كهذا‪ R‬كان من االستحالة مبكان‪..‬‬


‫ولكن‪ ،‬اذا كان صحيحا أنه ال مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد‪ ،‬ومن أروع‬
‫عبقرية وأنفذ بصرية‪..‬؟؟!‬

‫هنالك تقدم سيف اهلل يرمق أرض القتال الواسعة بعينني كعيين الصقر‪ ،‬ويدير اخلطط يف بديهته‬
‫بسرعة الضوء‪ ..‬ويقسم‪ R‬جيشه‪ ،‬والقتال دائر‪ ،‬اىل جمموعات‪ ،‬مث يكل اىل كل جمموعة مبهامها‪ ..‬وراح‪R‬‬
‫يستعمل فنّه املعجز ودهاءه البليغ حىت فتح يف صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة‪ ،‬خرج منها جيش‬
‫املسلمني كله سليما معاىف‪ .‬بعد أن جنا بسبب من عبقرية بطل االسالم من كارثة ماحقة ما كان هلا‬
‫من زوال‪!!...‬‬
‫ويف هذه املعركة أنعم الرسول على خالد هبذا‪ R‬اللقب العظيم‪..‬‬

‫**‬

‫وتنكث قريش عهدها مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيتحرك املسلمون حتت قيادته لفتح‬
‫مكة‪..‬‬
‫وعلى اجلناح األمين من اجليش‪ ،‬جيعل الرسول خالدا أمريا‪..‬‬
‫ويدخل خالد مكة‪ ،‬واحدا من قادة اجليش املسلم‪ ،‬واألمة املسلمة بعد أن شهدته سهوهلا وجباهلا‪.‬‬
‫قائدا من ّقواد جيش الوثنية والشرك زمنا طويال‪..‬‬
‫وختطر له ذكريات الطفولة‪ ،‬حيث مراتعها احللوة‪ ..‬وذكريات الشباب‪ ،‬حيث مالهيه الصاخبة‪..‬‬
‫مث جتيشه ذكريات األيام الطويلة اليت ضاع فيها عمره قربانا خاسرا ألصنام عاجزة كاسدة‪..‬‬

‫يعض الندم فؤاده ينتفض حتت حتت روعة املشهد وجالله‪..‬‬


‫وقبل أن ّ‬
‫مشهد املستضعفني الذين ال تزال جسومهم حتمل آثار التعذيب‪ R‬واهلول‪ ،‬يعودون اىل البلد الذي‪R‬‬
‫أخرجوا منه بغيا وعدوا‪ ،‬يعودون اليه على صهوات جسادهم الصاهلة‪ ،‬وحتت رايات االسالم‬
‫‪ | 222‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حتول مهسهم الذي كانوا يتناجون به يف دار األرقم‪ R‬باألمس‪ ،‬اىل تكبريات صادعة رائعة‬
‫اخلافقة‪ ..‬وقد ّ‬
‫رجا‪ ،‬وهتليالت باهرة ظافرة‪ ،‬يبدو الكون معها‪ ،‬وكأنه كله يف عيد‪!!...‬‬
‫ترج مكة ّ‬‫ّ‬
‫كيف متّت املعجزة‪..‬؟‬
‫أي تفسري هلذا الذي‪ R‬حدث؟‬

‫ال شيء اال هذه اآلية اليت يرددها الزاحفون الظافرون وسط هتليالهتم وتكبرياهتم حىت ينظر بعضهم‬
‫اىل بعض فرحني قائلني‪:‬‬
‫(وعد اهلل‪ ..‬ال خيلف اهلل وعده)‪!!..‬‬

‫ويرفع خالد رأسه اىل أعلى‪ .‬ويرمق يف اجالل وغبطة وحبور رايات االسالم متأل األفق‪ ..‬فيقول‬
‫لنفسه‪:‬‬
‫أجل انه وعد اهلل وال خيلف اهلل وعده‪!!..‬‬
‫مث حيين رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه لالسالم وجعله يف يوم الفتح العظيم هذا‪ ،‬واحدا من الذين‬
‫حيملون راية االسالم اىل مكة‪ ..‬وليس من الذين سيحملهم الفتح على االسالم‪..‬‬

‫**‬

‫ويظل خالد اىل جانب رسول اهلل‪ ،‬واضعا‪ R‬كفاياته املتفوقة يف خدمة الدين الذي‪ R‬آمن به من كل‬
‫يقينه‪ ،‬ونذر له كل حياته‪.‬‬

‫الردة غادرة‬
‫وهتب أعاصري ّ‬
‫وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق األعلى‪ ،‬وحيمل أبو بكر مسؤولية اخلالفة‪ّ ،‬‬
‫املصم وانتفاضها املدمدم‪ ..‬يضع أبو بكر عينه ألول وهلة على‬
‫ماكرة‪ ،‬مطوقة الدين اجلديد بزئريها ّ‬
‫بطل املوقف ورجل الساعة‪ ..‬أيل سليمان‪ ،‬سيف اهلل‪ ،‬خالد بن الوليد‪!!..‬‬
‫‪ | 223‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وصحيح أن أبا بكر مل يبدأ معارك املرتدين اال جبيش قاده هو بنفسه‪ ،‬ولكن ذلك ال مينع أنه ّادخر‬
‫خالدا‪ R‬ليوم الفصل‪ ،‬وأن خالدا يف املعركة الفاصلة اليت كانت أخطر معارك الردة مجيعا‪ ،‬كان رجلها‬
‫الفذ وبطلها امللهم‪..‬‬

‫**‬

‫عندما بدأت مجوع املرتدين تتهيأ الجناز مؤامرهتا الضخمة‪ ،‬صمم اخلليفة العظيم أبو بكر على أن‬
‫يقود جيوش املسلمني بنفسه‪ ،‬ووقف زعماء الصحابة يبذلون حماوالت يائسة لصده عن هذا العزم‪.‬‬
‫ولكنه ازداد تصميما‪ ..‬ولعله أراد هبذا أن يعطي القضية اليت دعا الناس خلوض احلرب من أجلها أمهيّة‬
‫وقداسة‪ ،‬ال يؤكدها يف رأيه اال اشرتاكه الفعلي يف املعارك الضارية‪ R‬اليت ستدور رحاها بني قوى‬
‫االميان‪ ،‬وبني جيوش الضالل والردة‪ ،‬واال قيادته املباشرة لبعض أو لكل القوات املسلمة‪..‬‬
‫مترد عارض‪..‬‬‫ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة اخلطورة‪ ،‬على الرغم من أهنا بدأت وكأهنا ّ‬

‫لقد وجد فيها مجيع املوتورين من االسالم واملرتبصني به فرصتهم النادرة‪ ،‬سواء بني قبائل العرب‪ ،‬أم‬
‫حيس خطر االسالم األكرب‬
‫على احلدود‪ ،‬حيث جيثم سلطان الروم والفرس‪ ،‬هذا السلطان الذي بدأ ّ‬
‫عليه‪ ،‬فراح يدفع الفتنة يف طريقه من وراء ستار‪!!..‬‬
‫ونشبت نريان الفتننة يف قبائل‪ :‬أسد‪ ،‬وغطفان‪ ،‬وعبس‪ ،‬وطيء‪ ،‬وذبيان‪..‬‬
‫مث يف قبائل‪ :‬بين غامر‪ ،‬وهوزان‪ ،‬وسليم‪ ،‬وبين متيم‪..‬‬
‫جرارة قوامها عشرات األلوف من املقاتلني‪..‬‬
‫ومل تكد املناوشات تبدأ حىت استحالت اىل جيوش ّ‬
‫واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين‪ ،‬وعمان‪ ،‬واملهرة‪ ،‬وواجه االسالم أخطر حمنة‪ ،‬واشتعلت‬
‫األرض من حول املسلمني نارا‪ ..‬ولكن‪ ،‬كان هناك أبو بكر‪!!..‬‬

‫مرة‪ ،‬وذبيان قد خرجوا يف‬


‫عبّأ أبو بكر املسلمني وقادهم اىل حيث كانت قبائل بين عبس‪ ،‬وبين ّ‬
‫جيش جلب‪..‬‬
‫‪ | 224‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ودار القتال‪ ،‬وتطاول‪ ،‬مث كتب للمسلمني نصر مؤزر عظيم‪..‬‬


‫ومل يكد اجليش املنتصر يستقر باملدينة‪ .‬حىت ندبه اخلليفة للمعركة التالية‪..‬‬

‫وجتم عاهتم تزداد كل ساعة خطورة ‪ ..‬وخرج أبو بكر على رأس هذا اجليش‬ ‫وكانت‪ R‬أنباء املرتدين ّ‬
‫الثاين‪ ،‬ولكن كبار الصحابة يفرغ صربهم‪ ،‬وجيمعون على بقاء اخلليفة باملدينة‪ ،‬ويعرتض االمام علي‬
‫طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته اليت كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له‪:‬‬
‫" اىل أين يا خليفة رسول اهلل‪..‬؟؟‬
‫اين أقول لك ما قاله رسول اهلل يوم أحد‪:‬‬
‫ملّ سيفك يا أبا بكر ال تفجعنا بنفسك‪"...‬‬
‫وقسم‪ R‬اجليش اىل احدى عشرة‬‫وأمام امجاع مصمم من املسلمني‪ ،‬رضي اخلليفة أن يبقى باملدينة ّ‬
‫جمموعة‪ ..‬رسم لكل جمموعة دورها‪..‬‬
‫وعلى جمموعة ضخمة من تلك اجملموعات كان خالد بن الوليد أمريا‪..‬‬
‫وملا عقد اخلليفة لكل أمري لواءه‪ ،‬اجته صوب خالد وقال خياطبه‪:‬‬
‫" مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬نعم عبداهلل‪ .‬وأخو العشرية‪ ،‬خالد ابن الوليد‪ ،‬سيف‬
‫من سيوف اهلل‪ .‬سلّه اهلل على الكفار واملنافقني"‪..‬‬

‫**‬

‫ومضى خالد اىل سبيله ينتقل جبيشه من معركة اىل معركة‪ ،‬ومن نصر اىل مصر حىت كانت املعركة‬
‫الفاصلة‪..‬‬

‫فهناك باليمامة كان بنو حنيفة‪ ،‬ومن احناز‪ R‬اليهم من القبائل‪ ،‬قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة‪،‬‬
‫يقوده مسيلمة الكذاب‪.‬‬
‫جربت حظها مع جيوش مسيلمة‪ ،‬فلم تبلغ منه مناال‪..‬‬ ‫وكانت بعض القوات املسلمة قد ّ‬
‫‪ | 225‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وجاء أمر اخلليفة اىل قائده املظفر أن سر اىل بين حنيفة‪ ..‬وسار خالد‪..‬‬
‫ومل يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد يف الطريق اليه حىت أعاد تنظيم جيشه‪ ،‬وجعل منه خطرا حقيقيا‪،‬‬
‫وخصما رهيبا‪..‬‬

‫والتقى‪ R‬اجليشان‪:‬‬
‫وحني تطالع يف كتب السرية والتاريخ‪ ،‬سري تلك املعركة اهلائلة‪ ،‬تأخذك رهبة مضنية‪ ،‬اذ جتد نفسك‬
‫أمام معركة تشبه يف ضراوهتا‪ R‬زجربوهتا معارك حروبنا احلديثة‪ ،‬وان تلّفت يف نوع السالح وظروف‬
‫القتال‪..‬‬
‫ونزل خالد جبيشه على كثيب مشرف على اليمامة‪ ،‬وأقبل مسيلمة يف خيالئه وبغيه‪ ،‬صفوف جيشه‬
‫من الكثرة كأهنا ال تؤذن بانتهاء‪!!..‬‬

‫وسلم خالد األلوية والرايات لقادة جيشه‪ ،‬والتحم‪ R‬اجليشان ودار القتال الرهيب‪ ،‬وسقط شهداء‬ ‫ّ‬
‫طوحت هبا عاصفة عنيدة‪!!..‬‬ ‫املسلمني تباعا كزهور حديقة ّ‬
‫وأبصر خالد رجحان كفة األعداء‪ ،‬فاعتلى جبواده ربوة قريبة وألقى على املعركة نظرة سريعة‪ ،‬ذكية‬
‫وعميقة‪..‬‬
‫ومن فوره أدرك نقاط الضعف يف جيشه وأحصاها‪..‬‬
‫رأى الشعور‪ R‬باملسؤولية قد وهن حتت وقع املفاجأة اليت دمههم هبا جيش مسيلمة‪ ،‬فقرر يف نفس‬
‫اللحظة أن يش ّد يف أفئدة املسلمني مجيعا اىل أقصاه‪ ..‬فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته‪ ،‬وأعاد‬
‫تنسيق مواقعه على أرض املعركة‪ ،‬مث صاح بصوته املنتصر‪:‬‬
‫حي"‪.‬‬
‫" امتازوا‪ ،‬لنرى اليوم بالء كل ّ‬
‫وامتازوا‪ R‬مجيعا‪..‬‬
‫مضى املهاجرون حتت راياهتم‪ ،‬واألنصار حتت رايتهم " وكل بين أب على رايتهم"‪.‬‬
‫‪ | 226‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهكذا صار واضحا‪ R‬متاما‪ ،‬من أين جتيء اهلزمية حني جتيء واشتعلت األنفس محاسة‪ ،‬اتّقدت مضاء‪،‬‬
‫وامتألت عزما وروعة‪..‬‬
‫فتتحول سيوف جيشه اىل‬
‫وخالد بني احلني واحلني‪ ،‬يرسل تكبرية أو هتليلة أو صيحة يلقى هبا امرا‪ّ ،‬‬
‫معوق لغاياهتا‪..‬‬
‫راد ألمرها‪ ،‬وال ّ‬
‫مقادير ال ّ‬
‫حتول اجتاه املعركة وراح‪ R‬جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات‪ ،‬فاملئات فاأللوف‪،‬‬
‫ويف دقائق معدودة ّ‬
‫كذباب خنقت أنفاس احلياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد‪!!..‬‬

‫لقد نقل خالد محاسته كالكهرباء اىل جنوده‪ ،‬وحلّت روحه يف جيشه مجيعا‪ ..‬وتلك كانت احدى‬
‫خصال عبقريّته الباهرة‪..‬‬
‫وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروهبا‪ ،‬وقتل مسيلمة‪..‬‬
‫عي الكذاب‪..‬‬
‫ومألت جثث رجاله وجيشه أرض القتال‪ ،‬وطويت حتت الرتاب اىل األبد راية ال ّد ّ‬

‫**‬

‫ويف املدينة صلى اخلليفة لربه الكبري املتعال صالة الشكر‪ ،‬اذ منحهم هذا النصر‪ ،‬وهذا البطل‪..‬‬
‫وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصريته ما لقوى‪ R‬الشر اجلامثة وراء حدود بالده من دور خطري يف‬
‫هتديد مصري االسالم واهله‪ ..‬الفرس يف العراق‪ ..‬والروم يف بالد الشام‪..‬‬
‫امربطوريتان خرعتان‪ ،‬تتشبثان خبيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس يف العراق ويف‬
‫الشام سوء العذاب‪ ،‬بل وتسخرهم‪ ،‬وأكثرهم عرب‪ ،‬لقتال املسلمني العرب الذين حيملون راية الدين‬
‫اجلديدة‪ ،‬يضربون مبعاوله قالع العامل القدمي كله‪ ،‬وجيتثون عفنه وفساده‪!..‬‬
‫هنالك أرسل اخلليفة العظيم املبارك توجيهاته اىل خالد أن ميضي جبيشه صوب العراق‪..‬‬
‫وميضي البطل اىل العراق‪ ،‬وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب‪ R‬نصره‪ ،‬اذن لرأينا من‬
‫أمرها عجبا‪.‬‬
‫‪ | 227‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫استهل عمله يف العراق بكتب أرسلها اىل مجيع والة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫لقد‬
‫" بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫من خالد بن الوليد‪ ..‬اىل مرازبة فارس‪..‬‬
‫يالم على من اتبع اهلدى‬
‫ووهن كيدكم‪R‬‬‫فض خدمكم‪ ،‬وسلب ملككم‪ّ ،‬‬ ‫أما بعد‪ ،‬فاحلمد هلل الذي‪ّ R‬‬
‫من صلى صالتنا‪ ،‬واستقبل قبلتنا‪ ،‬واكل ذبيحتنا فذلكم املسلم‪ ،‬له ما لنا وعليه ما علينا‬
‫الذمة‬
‫ايل بالرهن واعتقدوا‪ R‬مين ّ‬
‫اذا جاءكم كتايب فابعثوا ّ‬
‫واال‪ ،‬فوالذي‪ R‬ال اله غريه ألبعثن اليكم قوما حيبون املوت كما حتبون احلياة"‪!!..‬‬

‫الزخوف الكثرية اليت يعدها له ّقواد الفرس يف العراق‪،‬‬ ‫وجاءته طالئعه اليت بثها يف كل مكان بأنباء ّ‬
‫فلم يضيّع وقته‪ ،‬وراح‪ R‬يقذف جبنوده على الباطل ليدمغه‪ ..‬وطويت له األرض‪ R‬طيّا عجيبا‪.‬‬
‫السدير‪ ،‬فالنّجف‪ ،‬اىل احلرية‪ ،‬فاألنبار‪ ،‬فالكاظمية‪ .‬مواكب‪ R‬نصر تتبعها مواكب‪ ...‬ويف‬ ‫يف األبلّة‪ ،‬اىل ّ‬
‫هتل به رياحه البشريات ترتفع لالسالم راية يأوي اىل فيئها الضعفاء واملستعبدون‪.‬‬ ‫كل مكان ّ‬
‫أجل‪ ،‬الضعفاء واملستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمروهنم‪ ،‬ويسوموهنم سوء العذاب‪..‬‬
‫وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره اىل مجيع ّقواته‪:‬‬
‫تتعرضوا‪ R‬للفالحني بسوء‪ ،‬دعوهم يف شغلهم آمنني‪ ،‬اال أن خيرج بعضهم لقتالكم‪ ،‬فآنئذ قاتلوا‬ ‫" ال ّ‬
‫املقاتلني"‪.‬‬
‫الطري حىت وقف على ختوم الشام‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫وسار جبيشه الظافر كالسكني يف الزبد‬
‫دوت أصوات املؤذنني‪ ،‬وتكبريات الفاحتني‪.‬‬ ‫وهناك ّ‬
‫ترى هل مسع الروم يف الشام‪..‬؟‬
‫وهل تبيّنوا يف هذه التكبريات نعي أيامهم‪ ،‬وعاملهم‪..‬؟‬
‫وقرروا‪ R‬أن خيوضوا‪ R‬يف حنون معركة اليأس والضياع‪!..‬‬ ‫وفزعوا‪ّ ..‬‬‫أجل لقد مسعوا‪ّ ..‬‬
‫‪ | 228‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫كان النصر الذي أحرزه االسالم على الفرس يف العراق بشريا‪ R‬بنصر مثله على الروم يف الشام‪..‬‬
‫فجنّد الص ّد يق أبو بكر جيوشا عديدة‪ ،‬واختار المارهتا نفرا من القادة املهرة‪ ،‬أبو عبيدة بن اجلراح‪،‬‬
‫وعمرو بن العاص‪ ،‬ويزيد بن أيب سفيان‪ ،‬مث معاوية بن أيب سفيان‪..‬‬
‫وقواده مبصاحلة املسلمني‪ ،‬وعدم‬‫وعندما منت أخبار هذه اجليوش اىل امرباطور الروم نصح وزراءه ّ‬
‫الدخول معهم يف حرب خاسرة‪..‬‬
‫أصروا على القتال وقالوا‪:‬‬
‫وقواده ّ‬ ‫بيد أن وزراءه ّ‬
‫لنشغلن أبا بكر على أن يورد خيله اىل أرضنا"‪..‬‬‫ّ‬ ‫" واهلل‬
‫وأعدوا‪ R‬للقتال جيشا بلغ قوامه مائيت ألف مقاتل‪ ،‬وأ{بعني ألفا‪.‬‬
‫وأرسل قادة املسلمني اىل اخلليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر‪:‬‬
‫ألشفني وساوسهم خبالد"‪!!!..‬‬
‫ّ‬ ‫" واهلل‬
‫التمرد والعدوان‪ R‬والشرك‪ ،‬تلقى أمر اخلليفة بالزحف اىل الشام‪،‬‬ ‫وتلقى ترياق الوساوس‪ ..‬وساوس ّ‬
‫ليكون أمريا على جيوش االسالم اليت سبقته اليها‪..‬‬
‫وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع‪ ،‬فرتك على العراق املثىّن بن احلارثة وسار مع قواته اليت اختارها حىت‬
‫وصل مواقع‪ R‬املسلمني بأرض الشام‪ ،‬وأجنز بعبقريته الباهرة تنظيم اجليش املسلم وتنسيق مواقعه يف وقت‪R‬‬
‫وجيز‪ ،‬وبني يدي املعركة واللقاء‪ ،‬وقف يف املقاتلني خطيبا فقال بعد أن محد ربه وأثىن عليه‪:‬‬
‫" ان هذا يوم من أيام اهلل‪ ،‬ال ينبغي فيه الفخر وال البغي‪..‬‬
‫أخلصوا جهادكم وأريدوا اهلل بعملكم‪ ،‬وتعالوا‪ R‬نتعاور االمارة‪ ،‬فيكون أحدنا اليوم أمريا‪ ،‬واآلخر غدا‪،‬‬
‫يتأمر كلكم"‪...‬‬
‫واآلخر بعد غد‪ ،‬حىت ّ‬
‫هذا يوم من أيام اهلل‪..‬‬
‫ما أروعها من بداية‪!!..‬‬
‫ال ينبغي فيه الفخر وال البغي‪..‬‬
‫‪ | 229‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهذه أكثر روعة وأوىف ورعا!!‬

‫ومل تنقص القائد‪ R‬العظيم الفطنة املفعمة بااليثار‪ ،‬فعلى الرغممن أن اخلليفة وضعه على رأس اجليش‬
‫بكل أمرائه‪ ،‬فانه مل يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه‪ ،‬فتنازل هلم عن حقه الدائم‪ R‬يف‬
‫االمارة وجعلها دولة بينهم‪..‬‬
‫اليوم أمري‪ ،‬ودغا أمي رثان‪ ..‬وبعد غد أمري آخر‪..‬وهكذا‪..‬‬
‫كان جيش الروم بأعداده وبعتاده‪ ،‬شيئا بالغ الرهبة‪..‬‬
‫لقد أدرك ّقو اد الروم أن الزمن يف صاحل املسلمني‪ ،‬وأن تطاول القتال وتكاثر املعارك يهيئان هلم النصر‬
‫دائما‪ ،‬من أجل ذلك قرروا أن حيشدوا كل قواهم يف معركة واحدة جيهزون خالهلا على العرب حيث‬
‫أحسوا يوم ذاك من الرهبة واخلطر ما مأل‬
‫ال يبقى هلم بعدها وجود‪ ،‬وما من شك أن املسلمني ّ‬
‫نفوسهم املقدامة قلقا وخوفا‪..‬‬
‫خيف خلدمتهم يف مثل تلك الظلمات احلالكات‪ ،‬فاذا فجر األمل والنصر يغمرهم‬ ‫ولكن امياهنم كان ّ‬
‫بسناه‪!!..‬‬

‫ومهما‪ R‬يكن بأس الروم وجيوشهم‪ ،‬فقد قال أبو بكر‪ ،‬وهو بالرجال ج ّد خبري‪:‬‬
‫" خالد هلا"‪!!.‬‬
‫ألشفني وساوسهم خبالد"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقال‪ ":‬واهلل‪،‬‬
‫فليأت الروم بكل هوهلم‪ ،‬فمع املسلمني الرتياق‪!!..‬‬
‫عبأ ابن الوليد‪ R‬جيشه‪ ،‬وقسمه اىل فيالق‪ ،‬ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة‬
‫الروم بعد أن خرب وسائل اخواهنم الفرس يف العراق‪ ..‬ورسم للمعركة كل مقاديرها‪..‬‬
‫ومن عجب أن املعركة دارت كما رسم خالد وتوقع‪ ،‬خطوة خطوة‪ ،‬وحركة حركة‪ ،‬حىت ليبدو‬
‫وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف يف املعركة‪ ،‬ملا أخطأ التقدير واحلساب‪!!..‬‬
‫كل مناورة توقعها من الروم صنعوها‪..‬‬
‫‪ | 230‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كا انسحاب تنبأ به فعلوه‪..‬‬


‫وقبل أن خيوض القتال كان يشغل باله قليال‪ ،‬احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار‪ ،‬خاصة أولئك‬
‫الذين هم حديثو العهد باالسالم‪ ،‬بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع‪..‬‬
‫وكان خالد يتمثل عبقرية النصر يف شيء واحد‪ ،‬هو الثبات‪..‬‬
‫وكان يرى أن حركة هروب يقوم هبا اثنان أو ثالثة‪ ،‬ميكن أن تشيع يف اجليش من اهللع والتمزق ما ال‬
‫يقدر عليه جيش العدو بأسره‪...‬‬
‫من أجل هذا‪ ،‬كان صارما‪ ،‬جتاه الذي يلقي سالحه ويويل هاربا‪..‬‬
‫مرة‬
‫ويف تلك املوقعة بالذات موقعة الريموك‪ ،‬وبعد أن أخذ جيشه مواقعه‪ ،‬دعا نساء املسلمني‪ ،‬وألول ّ‬
‫سلّمهن السيوف‪ ،‬وأمرهن‪ ،‬بالوقوف وراء صفوف املسلمني من كل جانب وقال هلن‪:‬‬
‫" من يويّل هاربا فاقتلنه"‪..‬‬
‫وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه‪!!..‬‬
‫وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يربز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ‪..‬‬
‫وبرز اليه خالد‪ ،‬حيث تواجها فوق جواديهما يف الفراغ الفاصل بني اجليشني‪..‬‬
‫وقال ماهان قائد الروم خياطب خالدا"‬
‫" قد علمنا أنه مل خيرجكم من بالدكم اال اجلوع واجلهد‪..‬‬
‫فان شئتم‪ ،‬أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانري‪ ،‬وكسوة‪ ،‬وطعاما‪ ،‬وترجعون اىل بالدكم‪ ،‬ويف العام‪R‬‬
‫القادم أبعث اليكم مبثلها"‪!!.‬‬
‫وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه‪ ،‬وأدرك ما يف كلمات قائد الروم من سوء األدب‪..‬‬
‫وقرر أن يردذ عليه جبواب مناسب‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫" انه مل خيرجنا من بالدنا اجلوع كما ذكرت‪ ،‬ولكننا قوم نشرب الدماء‪ ،‬وقد علمت أنه ال دم أشهى‬
‫وأطيب من دم الروم‪ ،‬فجئنا لذلك"‪!!..‬‬
‫ولوة البطل زمام جواده عائدا اىل صفوف جيشه‪ .‬ورفع‪ R‬اللواء عاليا مؤذنا بالقتال‪..‬‬
‫" اهلل أكرب"‬
‫‪ | 231‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" هيّب رياح اجلنة"‪..‬‬


‫كان جيشه يندفع‪ R‬كالقذيفة املصبوبة‪.‬‬
‫ودار قتال ليس لضراوته نظري‪..‬‬
‫وأقبل الروم‪ R‬يف فيالق كاجلبال‪..‬‬
‫وجبا هلم من املسلمني ما مل يكونوا حيتسبون‪..‬‬
‫ورسم املسلمون صورا‪ R‬تبهر األلباب من فدائيتهم وثباهتم‪..‬‬
‫اجلراح رضي اهلل عنه والقتال دائر ويقول‪:‬‬
‫فهذا أحدهم يقرتب من أيب عبيدة بن ّ‬
‫" اين قد عزمت على الشهادة‪ ،‬فهل لك من حاجة اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبلغها له حني‬
‫ألقاه"؟؟‬
‫فيجيب أبو عبيدة‪:‬‬
‫" نعم قل له‪ :‬يا رسول اهلل انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا"‪.‬‬
‫ويندفع الرجل كالسهم‪ R‬املقذوف‪ ..‬يندفع وسط اهلول مشتاقا اىل مصرعه ومضجعه‪ ..‬يضرب بسيفه‪،‬‬
‫ويضرب بآالف السيوف حىت يرتفع شهيدا‪!!..‬‬
‫وهذا عكرمة بن أيب جهل‪..‬‬
‫أجل ابن أيب جهل‪..‬‬
‫ينادي يف املسلمني حني ثقلت وطأة الروم عليهم قائال‪:‬‬
‫افأفر من أعداء اهلل اليوم"؟؟‬
‫" لطاملا قاتلت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يهدين اهلل االسالم‪ّ ،‬‬
‫مث يصيح‪ ":‬من يبايع على املوت"‪..‬‬
‫فيبايعه على املوت كوكبة من املسلمني‪ ،‬مث ينطلقون معا اىل قلب املعركة ال باحثني عن النصر‪ ،‬بل عن‬
‫الشهادة‪ ..‬ويتقبّل اهلل بيعتهم وبيعهم‪،‬‬
‫فيستشهدون‪!!..‬‬
‫‪ | 232‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهؤالء آخرون أصيبوا جبراح أليمة‪ ،‬وجيء هلم مباء يبللون به أفواههم‪ ،‬فلما قدم املاء اىل أوهلم‪ ،‬أشار‬
‫اىل الساقي‪ R‬أن أعط أخي الذي جبواري‪ R‬فجرحه أخطر‪ ،‬وظمؤه أشد‪ ..‬فلما ق ّدم اليه االمء‪ ،‬اشار بدوره‬
‫جلاره‪ .‬فال انتقل اليه أشار بدوره جلاره‪..‬‬
‫وهكذا‪ ،‬حىت‪ ..‬جادت أرواح أكثرهم ظامئة‪ ..‬ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا‪!!..‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫لقد كانت معركة الريموك جماال لفدائية يعز نظريها‪.‬‬
‫ومن بني لوحات الفداء‪ R‬الباهرة اليت رمستها عزمات مقدرة‪ ،‬تلك اللوحة الفذة‪ ..‬لوحة حتمل صورة‬
‫ينقضون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف‬ ‫خالد بن الوليد على رأس مائة ال غري من جنده‪ّ ،‬‬
‫جندي‪ ،‬وخالد يصيح يف املائة الذين معه‪:‬‬
‫" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم‪ R‬من الصرب واجللد اال ما رأيتم‪.‬‬
‫واين ألرجو أن مينحكم اهلل أكتافهم"‪.‬‬
‫مائة خيوضون‪ R‬يف أربعني ألف‪ ..‬مث ينتصرون‪!!..‬‬
‫ولكن أي عجب؟؟‬
‫أليس مالء قلوهبم اميان باهلل العلي الكبري‪..‬؟؟‬
‫واميان برسوله الصادق األمني صلى اهلل عليه وسلم؟؟‬
‫واميان بقضية هي أكثر قضايا احلياة برا‪ ،‬وهدى ونبال؟‬

‫وأليس خليفتهم الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬هذا الذي‪ R‬ترتفع راياته فوق الدنيا‪ ،‬بينما هو يف املدينة’‬
‫العاصمة اجلديدة للعامل اجلديد‪ ،‬حيلب بيده شياه األيامى‪ ،‬ويعجن بيده خبز اليتامى‪..‬؟؟‬
‫وأليس قائدهم‪ R‬خالد بن الوليد‪ R‬ترياق وساوس التجرب‪ ،‬والصفلف‪ ،‬والبغي‪ ،‬والعدوان‪ ،‬وسيف اهلل‬
‫املسلول على قوى التخلّف والتع ّفن والشرك؟؟‬
‫أليس ذلك‪ ،‬كذلك‪..‬؟‬
‫اذن‪ ،‬هيب رياح النصر‪...‬‬
‫‪ | 233‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هيّب قويّة عزيزة‪ ،‬ظافرة‪ ،‬قاهرة‪...‬‬

‫**‬

‫لقد هبرت عبقرية خالد ّقو اد الروم وأمراء جيشهم‪ ،‬مما محل أحدهم‪ ،‬وامسه جرجح على أن يدعو‬
‫خالدا‪ R‬للربوز‪ R‬اليه يف احدى فرتات الراحة بني القتال‪.‬‬
‫وحني يلتقيان‪ ،‬يوجه القائد الرومي حديثه اىل خالد قائال‪:‬‬
‫احلر ال يكذب‪..‬‬
‫" يا خالد‪ ،‬أصدقين وال تكذبين فان ّ‬
‫هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه‪ ،‬فال تسلّه على أحد اال هزمته"؟؟‬
‫قال خالد‪ :‬ال‪..‬‬
‫قال الرجل‪:‬‬
‫فبم مسيّت يبف اهلل"؟‬
‫قال خالد‪ :‬ان اهلل بعث فينا نبيه‪ ،‬فمنا من ص ّدقه ومنا من ك ّذب‪.‬ز وكنت فيمن ك ّذب حىت أخذ اهلل‬
‫قلوبنا اىل االسالم‪ ،‬وهدانا برسوله فبايعناه‪..‬‬
‫فدعا يل الرسول‪ ،‬وقال يل‪ :‬أنت سيف من سيوف اهلل‪ ،‬فهكذا‪ R‬مسيّت‪ ..‬سيف اهلل"‪.‬‬
‫قال القائد الرومي‪ :‬واالم‪ R‬تدعون‪..‬؟‬
‫قال خالد‪:‬‬
‫اىل توحيد اهلل‪ ،‬واىل االسالم‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫هل ملن يدخل يف االسالم اليوم مثل ما لكممن املثوبة واألجر؟‬
‫قال خالد‪ :‬نعم وأفضل‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬كيف وقد سبقتموه‪..‬؟‬
‫قال خالد‪:‬‬
‫‪ | 234‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لقد عشنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ورأينا آياته ومعجزاته وحق ملن رأى ما رأينا‪ ،‬ومسع ما‬
‫مسعنا أن يسلم يف يسر‪..‬‬
‫أما أنتم يا من مل تروه ومل تسمعوه‪ ،‬مث آمنتم بالغيب‪ ،‬فان أجركم أجزل وأكرب اا صدقتم‪ R‬اهلل سرائركم‬
‫ونواياكم‪.‬‬
‫وصاح القائد الرومي‪ ،‬وقد دفع جواده اىل ناحية خالد‪ ،‬ووقف جبواره‪:‬‬
‫علمين االسالم يا خالد""‪!!!.‬‬
‫يصل سوامها‪ ،‬فقد استأنف اجليشان القتال‪ ..‬وقاتل جرجه‬ ‫وأسلم وصلى ركعتني هلل عز وجل‪ ..‬مل ّ‬
‫الروماين يف صفوف املسلمني مستيتا يف طلب لبشهادة حىت ناهلا وظفر هبا‪!!..‬‬

‫وبعد‪ ،‬فها حنن أوالء نواجه العظمة االنسانية يف مشهد من أهبى مشاهدها‪ ..‬اذ كان خالد يقود‬
‫ويستل النصر من بني أنياب الروم استالال فذا‪ ،‬بقدر ما هو‬
‫ّ‬ ‫جيوش املسلمني يف هذه املعركة الضارية‪،‬‬
‫مضن ورهيب‪ ،‬واذا به يفاجأ بالربيد‪ R‬القادم من املدينة من اخلليقة اجلديد‪ ،‬أمري املؤمنني عمر بن‬
‫اخلطاب‪ ..‬وفيه حتيّة الفاروق للجيش املسلم‪ ،‬نعيه خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبا بكر‬
‫اجلراح مكانه‪..‬‬
‫الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬وتولية أيب عبيدة بن ّ‬
‫الرتحم على ايب بكر والتوفيق لعمر‪..‬‬
‫قرأ خالد الكتاب‪ ،‬ومههم بابتهاالت ّ‬
‫مث طلب من حامل الكتاب أال يبوح ألحد مبا فيه وألزمه مكانه أمره أال يغادره‪ ،‬وأال يتصل بأحد‪.‬‬
‫استأنف قيادته للمعركة خمفيا موت أيب بكر‪ ،‬وأوامر عمر حىت يتحقق النصر الذي‪ R‬بات وشيكا‬
‫وقريبا‪..‬‬
‫ودقّت ساعة الظفر‪ ،‬واندحر الروم‪..‬‬

‫وتق ّدم البطل من أيب عبيدة مؤديا اليه حتيّة اجلندي لقائده‪ ...‬وظنها أبو عبيدة يف أول األمر دعابة من‬
‫دعابات القائد الذي‪ R‬حققق نصرا مل يكن يف السحبان‪ ..‬بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وج ّدا‪ ،‬فقبّل‬
‫خالد بني عينيه‪ ،‬وراح‪ R‬يطري عظمة نفسه وسجاياه‪..‬‬
‫‪ | 235‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومثّت رواية تارخيية أخرى‪ ،‬تقول‪ :‬ان الكتاب أرسل من أمري املؤمنني عمر اىل أيب عبيدة‪ ،‬وكتم أبو‬
‫عبيدة النبأ عن خالد حىت انتهت املعركة‪..‬‬
‫وسواء كان األمر هذا أو ذاك‪ ،‬فان مسلك خالد يف كلتا احلالتني هو الذي‪ R‬يعنينا‪ ..‬ولقد كان مسلكا‬
‫بالغ الروعة والعظمة واجلالل‪..‬‬
‫وال أعرف يف حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخالصه العميق وصدقه الوثيق‪ ،‬مثل هذا املوقف‪...‬‬

‫فسواء‪ R‬عليه أن يكون أمريا‪ ،‬أو جنديا‪..‬‬


‫ان االمارة كاجلندية‪ ،‬كالمها سبب يؤدي به واجبه حنو اهلل الذي‪ R‬آمن به‪ ،‬وحنو الرسول الذي‪ R‬بايعه‪،‬‬
‫وحنو الدين الذي‪ R‬اعتنقه وسار حتت رايته‪..‬‬
‫وجهده املبذول وهو أمري مطاع‪ ..‬كجهده املبذول وهو جندي مطيع‪!..‬‬
‫ولقد هيأ له هذا االنتصار العظيم على النفس‪ ،‬كما هيأه لغريه‪ ،‬طراز اخللفاء الذين كانوا على راس‬
‫األمة املسلمة والدولة املسلمة يوم ذاك‪..‬‬
‫أبو بكر وعمر‪..‬‬
‫يتحرك هبما لسان‪ ،‬حىت خيطر على البال كل معجز من فضائل االنسان‪ ،‬وعظمة‬ ‫امسان ال يكاد ّ‬
‫االنسان‪..‬‬
‫الود الذي كان مفقودا أحيانا بني عمر وخالد‪ ،‬فان نزاهة عمر وعدله‪،‬وورعه‬ ‫وعلى الرغم من ّ‬
‫وعظمته اخلارقة‪ ،‬مل تكن قط موضع تساؤول لدى خالد‪..‬‬
‫ومن مث مل تكن قراراته موضع سك‪ ،‬ألن الضمري الذي‪ R‬ميليها‪ ،‬قد بلغ من الورع‪ ،‬ومن االستقامة‪،‬‬
‫ومن االخالص والصدق أقصى ما يبلغه ضمري منزه ورشيد‪..‬‬

‫**‬

‫التسرع‪ ،‬واحل ّدة‪..‬‬


‫مل يكن أمري املؤمنني عمر يأخذ على خالد من سوء‪ ،‬ولكنه كان يأخذ على سيفه ّ‬
‫‪ | 236‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد عرّب عن هذا حني اقرتح على أيب بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" ان يف سيف خالد رهقا"‬
‫وتسرع‪..‬‬
‫أي خفة وح ّدة ّ‬
‫فأجابه الص ّديق قائال‪:‬‬
‫" ما كنت ألشيم سيف سلّه اهلل على الكافرين"‪.‬‬
‫تنم عن أدب أمري‬
‫مل يقل عمر ان يف خالد رهقا‪ ..‬بل جعل الرهق لسيفه ال لشخصه‪ ،‬وهي كلمات ال ّ‬
‫املؤمنني فحسب‪ ،‬بل وعن تقديره خلالد أيضا‪..‬‬
‫وخالد رجل حرب من املهد اىل اللحد‪..‬‬
‫فبيئته‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وتربيته وحياه كلها‪ ،‬قبل االسالم وبعده كانت كلها وعاء لفارس‪ ،‬خماطر‪ ،‬داهية‪..‬‬

‫مث ان احلاح ماضيه قبل السالم‪ ،‬واحلروب اليت خاضها ضد الرسول وأصحابه‪ ،‬والضربات اليت أسقط‬
‫هبا سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة‪ ،‬وجباها عابدة‪ ،‬كل هذا كان له على ضمريه ثقل مبهظ‪ ،‬جعل‬
‫طوح من محلة االسالم‪..‬‬
‫يطوح من دعامات الشرك أضعاف ما ّ‬ ‫سيفه ّتواقا اىل أن ّ‬
‫وانكم لتذكرون العبارة اليت أوردناها ّأول هذا احلديث واليت جاءت يف سياق حديثه مع رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم اذ قال له‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫استغفر يل كل ما أوضعت فيه عن ص ّد عن سبيل اهلل"‪.‬‬
‫جيب ما كان قبله‪ ،‬فانه يظل‬
‫وعلى الرغم من انباء الرسول صلى اهلل عليه وسلم اياه‪ ،‬بأن االسالم ّ‬
‫يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يستغفر اهلل له فيما صنعت من قبل‬
‫يداه‪..‬‬
‫حيرك اليد القابضة عليه ضمري منوهج‬ ‫والسيف حني يكون يف يد فارس خارق كخالد‪ R‬بن الوليد‪ ،‬مث ّ‬
‫حبرارة التطهر والتعويض‪ ،‬ومفعم بوالء مطلق لدين حتيط به املؤمرات والعداوات‪ ،‬فان من الصعب‬
‫على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة‪ ،‬وح ّدته اخلاطفة‪..‬‬
‫‪ | 237‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه املتاعب‪.‬‬


‫فحني أرسله النيب عليه الصالة والسالم بعد الفتح اىل بعض قبائل العرب القريبة من مكة‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫" اين أبعثك داعيا ال مقاتال"‪.‬‬
‫غلبه سيفه على أمره ودفعه اىل دور املقاتل‪ ..‬متخليا عن دور الداعي الذي‪ R‬أوصاه به الرسول مما جعله‬
‫عليه السالم ينتفض جزعا وأملا حني بلفه صنيع خالد‪ ..‬وقام مستقبال القبلة‪ ،‬رافعا يديه‪ ،‬ومعتذرا اىل‬
‫اهلل بقوله‪:‬‬
‫" اللهم اين أبرأ اليك مما صنع خالد"‪.‬‬
‫مث أرسل عليّا فودى هلم دماءهم وأمواهلم‪.‬‬
‫وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبداهلل بن حذافة السهمي‪ R‬قال له‪:‬‬
‫ان رسول اهلل قد أمرك بقتاهلم المتناعهم عن االسالم‪..‬‬
‫كان خالد حيمل طاقة غري عادية‪ ..‬وكان يستبد به توق عارم اىل هدم عامله القدمي كله‪..‬‬
‫العزى الذي أرسله النيب هلدمه‪.‬‬
‫ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم ّ‬
‫لو أننا نبصره وهو يدمدم‪ R‬مبعوله على هذه البناية احلجرية‪ ،‬ألبصرنا رجال يبدو كأنه يقاتل جيشا‬
‫يطوح رؤوس أفرداه ويترب باملنايا صفوفه‪.‬‬ ‫بأسره‪ّ ،‬‬
‫فهو يضرب بيمينه‪ ،‬وبشماله‪ ،‬وبقدمه‪ ،‬ويصيح يف الشظايا املتناثرة‪ ،‬والرتاب املتساقط‪:‬‬
‫عزى كفرانك‪ ،‬ال سبحانك‬ ‫" يا ّ‬
‫اين رأيت اهلل قد أهانك"‪!!..‬‬
‫مث حيرقها ويشعل النريان يف تراهبا‪!..‬‬
‫كالعزى ال مكان هلا يف العامل اجلديد الذي‪ R‬وقف خالد‬‫كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه يف نظر خالد ّ‬
‫حتت أعالمه‪..‬‬
‫وال يعرف خالد أداة لتصفيتها اال سيفه‪..‬‬
‫واال‪ "..‬كفرانك ال سبحانك‪..‬‬
‫‪ | 238‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫اين رأيت اهلل قد أهانك"‪!!..‬‬

‫على أننا اذ نتمىن مع أمري املؤمنني عمر‪ ،‬لوخال سيف خالد من هذا الرهق‪ ،‬فاننا سنظل نردد مع أمري‬
‫املؤمنني قوله‪:‬‬
‫" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"‪!!..‬‬
‫لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثريا‪ ،‬وعلم االنس فيما بعد أنه مل يكن يبكي فقده وحسب‪ ،‬بل‬
‫ويبكي فرصة أضاعها املوت عن عمر اذ كان يعتزم رد االمارة اىل خالد بعد أن زال افتتان الناس به‪.‬‬
‫وحمصت أسباب عزله‪ ،‬لوال أن تداركه املوت وسارع خالد اىل لقاء ربه‪.‬‬
‫نعم سارع البطل العظيم اىل مثواه يف اجلنة‪..‬‬
‫عدوا للراحة مثله‪..‬؟؟‬
‫أما آن له أن يسرتيح‪..‬؟؟ هو الذي‪ R‬مل تشهد األرض ّ‬
‫أما آن جلسده اجملهد أن ينام قليال‪..‬؟؟ هو الذي‪ R‬كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه‪:‬‬
‫" الرجل الذي ال ينام وال يرتك أحدا ينام"‪..‬؟؟‬
‫أما هو‪ ،‬فلو خرّي الختار أن مي ّد اهلل له يف عمره مزيدا من الوقت‪ R‬يواصل فيه هدم البقايا املتعفنة القدمية‪،‬‬
‫ويتابع عمله وجهاده يف سبيل اهلل واالسالم‪..‬‬
‫ان روح هذا الرجل ورحيانه ليوجدان‪ R‬دائما وابدا‪ ،‬حيث تصهل اخليل‪ ،‬وتلتمع األسنّة‪ ،‬وختفق رايات‬
‫التوحيد فوق اجليوش املسلمة‪..‬‬
‫وأنه ليقول‪:‬‬
‫ايل من ليلة شديدة اجلليد‪ ،‬يف سريّة من‬ ‫بأحب ّ‬
‫ّ‬ ‫أبشر فيها بوليد‪،‬‬
‫ايل فيها عروس‪ ،‬أو ّ‬ ‫" ما ليلة يهدى ّ‬
‫املهاجرين‪ ،‬أصبح هبم املشركني"‪..‬‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬كانت مأساة حياته أن ميوت يف فراشه‪ ،‬وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر‬
‫جواده‪ ،‬وحتت بريق سيفه‪...‬‬
‫‪ | 239‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وسوى بالرتاب عرش فارس‬ ‫الردة‪ّ ،‬‬‫هو الذي‪ R‬غزا مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقهر أصحاب ّ‬
‫والروم‪ ،‬وقطع األرض‪ R‬وثبا‪ ،‬يف العراق خطوة خطوة‪ ،‬حىت فتحها لالسالم‪ ،‬ويف بالد الشام‪ R‬خطوة‬
‫خطوة حىت فتحها كلها لالسالم‪...‬‬
‫أمريا حيملشظف اجلندي وتواضعه‪ ..‬وجنديا حيمل مسؤولية األمري وقدوته‪..‬‬
‫كانت مأساة حياة البطل أن ميوت البطل على فراشه‪!!..‬‬
‫هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه‪:‬‬
‫" لقد شهدت كذا‪ ،‬وكذا زحفا‪ ،‬وما يف جسدي موضع‪ R‬اال وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح‪ ،‬أ‪ ،‬رمية‬
‫سهم‪..‬‬
‫مث هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما ميوت البعري‪ ،‬فال نامت أعني اجلبناء"‪!..‬‬
‫كلمات ال جييد النطق هبا يف مثل هذا املوطن‪ ،‬اال مثل هذا الرجل‪ ،‬وحني كان يستقبل حلظات‬
‫الرحيل‪ ،‬شرع ميلي وصيّته‪..‬‬
‫أجترون اىل من أوصى‪..‬؟‬
‫اىل عمر بن اخلطاب ذاته‪!!..‬‬
‫أتدرون ما تركته‪..‬؟‬
‫فرسه وسالحه‪!!..‬‬
‫مث ماذا؟؟‬
‫ال شيء قط ‪ ،‬مما يقتين الناس وميتلكون‪!!..‬‬
‫حي‪ ،‬سوى اقتناء النصر وامتالك الظفر على أعداء احلق‪.‬‬ ‫ذلك أنه مل يكن يستحزذ عليه وهو ّ‬
‫وما كان يف متاع الدنيا مجيعه ما يستحوذ على حرصه‪..‬‬
‫شيء واحد‪ ،‬كان حيرص عليه يف شغف واستماتة‪ ..‬تلك هي قلنسوته"‪..‬‬
‫سقطت منه يوم الريموك‪ .‬فأضىن نفسه والناس يف البحث عنها‪ ..‬فلما عوتب يف ذلك قال‪:‬‬
‫" ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول اهلل واين أتافاءل هبا‪ ،‬وأستنصر"‪.‬‬
‫‪ | 240‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫وأخريا‪ ،‬خرج جثمان البطل من داره حمموال على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينني‬
‫تودعه‪:‬‬
‫اختلط فيهما بريق العزم بغاشية احلزن فقالت ّ‬
‫م اذا ما كبت وجوه الرجال‬ ‫أنت خري من ألف ألف من القو‪R‬‬
‫ث غضنفر يذود عن أشبال‬ ‫أشجاع‪..‬؟ فأنت أشجع من يل‬
‫ل غامر يسيل بني اجلبال‬ ‫أجواد‪..‬؟ فأنت أجود من سي‬

‫ومسعها عمر فازداد قلبه خفقا‪ ..‬ودمعه دفقا‪ ..‬وقال‪:‬‬


‫" صدقت‪..‬‬
‫واهلل ان كان لكذلك"‪.‬‬
‫وثوى البطل يف مرقده‪..‬‬
‫ووقف أصحابه يف خشوع‪ ،‬والدنيا‪ R‬من حوهلم هاجعة‪ ،‬خاشعة‪ ،‬صامتة‪..‬‬
‫مل يقطع الصمت املهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها‪ ،‬وقطعت شوارع‬
‫املدينة وثبا وراء جثمان صاحبها‪ ،‬يقودها عبريه وأرجيه‪..‬‬

‫واذ بلغت اجلمع الصامت والقرب الرطب لوت برأسها كالراية‪ ،‬وصهيلها يصدح‪ ..‬متاما مثلما كانت‬
‫تصنع والبطل فوق ظهرها‪ ،‬يه ّد عروش فارس والروم‪ ،‬ويشفي وساوس الوثنية والبغي‪ ،‬ويزيح من‬
‫طريق االسالم كل قوى التقهقر والشرك‪...‬‬
‫ملوحة لسيدها وبطلها مؤدية له حتية‬
‫وراحت وعيناها على القرب ال تزيغان تعلو برأسها وهتبط‪ّ ،‬‬
‫الوداع‪!!..‬‬
‫مث مقفت ساكنة ورأسها مرتفع‪ ..‬وجبهتها عالية‪ ..‬ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار‪!!..‬‬
‫لقد وقفها خالد مع سالحه يف سبيل اهلل‪..‬‬
‫‪ | 241‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولكن هل سيقدر فارس على أن ميتطي صهوهتا‪ R‬بعد خالد‪..‬؟؟‬


‫وهل ستذلل ظهرها ألحد سواه‪..‬؟؟‬
‫ايه يا بطل كل نصر‪..‬‬
‫ويا فجر كل ليلة‪..‬‬
‫لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك جلندك‪:‬‬
‫" عند الصباح‪ R‬حيمد‪ R‬القوم السرى"‪..‬‬

‫حىت ذهبت عنك مثال‪..‬‬


‫وهأنتذا‪ ،‬قد أمتمت مسراك‪..‬‬
‫فلصباحك احلمد أبا سليمان‪!!..‬‬
‫ولذكراك‪ R‬اجملد‪ ،‬والعطر‪ ،‬واخللد‪ ،‬يا خالد‪!!..‬‬
‫ودعك هبا ورثاك‪:‬‬
‫ودعنا‪ ..‬نردد مع أمري املؤمنني عمر كلماته العذاب الرطاب اليت ّ‬
‫" رحم اهلل أبا سليمان‬
‫ما عند اهلل خري مما كان فيه‬
‫ولقد عاش محيدا‬
‫ومات سعيدا‬
‫قيس بن سعد بن عبادة‬
‫أدهى العرب‪ ،‬لوال االسالم‬

‫كان األنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم‪..‬‬


‫وكانوا يقولون‪ ":‬لو استطعنا أن نشرتي لقيس حلية بأموالنا لفعلنا"‪..‬‬
‫ذلك أنه كان أجرد‪ ،‬ومل يكن ينقصه من صفات الزعامة يف عرف قومه سوى اللحية اليت كان الرجال‬
‫يتوجون هبا وجوههم‪.‬‬‫ّ‬
‫‪ | 242‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ود قومه لو يتنازلون عن أمواهلم لقاء حلية تكسو وجهه‪ ،‬وتكمل الشكل‬ ‫فمن هذا الفىت الذي ّ‬
‫اخلارجي لعظمته احلقيقية‪ ،‬وزعامته املتفوقة‪..‬؟؟‬
‫انه قيس بن سعد بن عبادة‪.‬‬
‫من أجود بيوت لعرب وأعرقها‪ ..‬البيت الذي‪ R‬قال فيه الرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫" ان اجلود شيمة أهل هذا البيت"‪..‬‬
‫وانه الداهية الذي يتفجر حيلة‪ ،‬ومهارة‪ ،‬وذكاء‪ ،‬والذي قال عن نفسه وهو صادق‪:‬‬
‫" لوال االسالم‪ ،‬ملكرت مكرا ال تطيقه العرب"‪!!..‬‬
‫حاد الذكاء‪ ،‬واسع احليلة‪ ،‬متوقّد الذهن‪.‬‬
‫ذلك أنه ّ‬

‫ولقد‪ R‬كان مكانه يوم صفني مع علي ض ّد معاوية‪ ..‬وكان جيلس مع نفسه فريسم اخلدعة اليت ميكن‬
‫أن يؤدي مبعاوية ومبن معه يف يوم أو ببعض يوم‪ ،‬بيد أنه يتفحص خدعته هذه اليت تفتق عنها ذكاؤه‬
‫فيجدها من املكر السيء اخلطر‪ ،‬مث يذكر قول اهلل سبحانه‪:‬‬
‫( وال حييق املكر السوء اال بأهله)‪..‬‬
‫فيهب من فوره مستنكرا‪ ،‬ومستغفرا‪ ،‬ولسان حاله يقول‪:‬‬ ‫ّ‬
‫" واهلل لئن ق ّدر ملعاوية أن يغلبنا‪ ،‬فلن يغلبنا بذكائه‪ ،‬بل بورعنا وتقوانا"‪!!..‬‬
‫ان هذا األنصاري اخلزرجي من بيت زعامة عظيم‪ ،‬ورث املكارم كابرا عن كابر‪ ..‬فهو ابن سعد بن‬
‫عبادة‪ ،‬زعيم اخلزرج الذي‪ R‬سيكون لنا معه فيما بعد لقاء‪..‬‬
‫وحني أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وق ّدمه اىل الرسول قائال‪:‬‬
‫" هذا خادمك يا رسول اهلل"‪..‬‬
‫التفوق وأمائر الصالح‪..‬‬
‫ورأى لرسول يف قيس كل مسات ّ‬
‫وقربه اليه وظل قيس صاحب هذه املكانة دائما‪..‬‬ ‫فأدناه منه ّ‬
‫يقول أنس صاحب رسول اهلل‪:‬‬
‫" كان قيس بن سعد من النيب‪ ،‬مبكان صاحب الشرطة من األمري"‪..‬‬
‫‪ | 243‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحني كان قيس‪ ،‬قبل االسالم يعامل الناس بذكائه كانوا ال حيتملون منه ومضة ذهن‪ ،‬ومل يكن يف‬
‫املدينة وما حوهلا اال من حيسب لدهائه ألف حساب‪ ..‬فلما أسلم‪ ،‬علّمه االسالم أن يعامل الناس‬
‫بارا لالسالم‪ ،‬ومن مثّ حنّى دهاءه جانبا‪ ،‬ومل يعد ينسج به‬
‫باخالصه‪ ،‬ال بدهائه‪ ،‬ولقد كان ابنا ّ‬
‫مناوراته القاضية‪ ..‬وصار كلما واجه موقعا صعبا‪ ،‬يأخذه احلنني اىل دهائه املقيد‪ ،‬فيقول عبارته‬
‫املأثورة‪:‬‬
‫" لوال االسالم‪ ،‬ملكرت مكرا ال تطيقه العرب"‪!!...‬‬

‫**‬

‫ومل يكن بني خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده‪ ..‬ومل يكن اجلود خلقا طارئا على قيس‪ ،‬فهو من‬
‫بيت عريق يف اجلود والسخاء‪ ،‬كان ألسرة قيس‪ ،‬على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ‪ ،‬مناد يقف‬
‫فوق مرتفع هلم وينادي الضيفان اىل طعامهم هنارا‪ ...‬أو يوقد النار لتهدي الغريب‪ R‬الساري ليال‪..‬‬
‫أحب الشحم‪ ،‬واللحم‪ ،‬فليأت أطم دليم بن حارثة"‪...‬‬ ‫وكان الناس يومئذ يقولون‪ ":‬من ّ‬
‫ودليم بن حارثة‪ ،‬هو اجلد الثاين لقيس‪..‬‬
‫ففي هذا البيت العريق أرضع قيس اجلود والسماح‪..‬‬
‫حتّث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقاال‪:‬‬
‫" لو تركنا هذا الفىت لسخائه‪ ،‬ألهلك مال أبيه"‪..‬‬
‫وعلم سعد بن عبادة مبقالتهما‪ R‬عن ابنه قيس‪ ،‬فصاح قائال‪:‬‬
‫علي ابين"‪!!..‬‬
‫" من يعذرين من أيب قحافة‪ ،‬وابن اخلطّاب‪ ..‬يبخالن ّ‬
‫وأقرض أحد اخوانه املعسرين يوما قرضا كبريا‪..‬‬
‫يرد اىل قيس قرضه فأىب أن يقبله وقال‪:‬‬ ‫ويف املوعد املضروب للوفاء ذهب الرجل ّ‬
‫" انا ال نعود يف شيء أعطيناه"‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 244‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وللفطرة االنسانية هنج ال يتخلف‪ ،‬وسنّة ال تتب ّدل‪ ..‬فحيث يوجد اجلود توجد الشجاعة‪..‬‬
‫أجل ان اجلود احلقيقي والشجاعة احلقيقية توأمان‪ ،‬ال يتخلف أحدمها عن االخر أبدا‪ ..‬واذا وجدت‬
‫جودا ومل جتد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا‪ ..‬وامنا هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر‬
‫األدعاء‪ ...‬واذا وجدت شجاعة ال يصاحبها جود‪ ،‬فاعلم أهنا ليست‪ R‬شجاعة‪ ،‬امنا هي نزوة من‬‫الزهو ّ‬
‫التهور والطيش‪...‬‬
‫نزوات ّ‬

‫وملا كان قيس بن سعد ميسك أعنة اجلود بيمينه فقد كان ميسك بذات اليمني أعنّة الشجاعة‬
‫واالقدام‪..‬‬

‫املعين بقول الشاعر‪:‬‬


‫لكأنه ّ‬
‫اذا ما راية رفعت جملد تلقاها عرابة باليمني‬
‫حي‪..‬‬
‫تألقت شجاعته يف مجيع املشاهد اليت صاحب فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو ّ‬
‫وواصلت تألقها‪ ،‬يف املشاهد اليت خاضها بعد أن ذهب الرسول اىل الرفيق األعلى‪..‬‬
‫والشجاعة اليت تعتمد على الصدق بدل الدهاء‪ ..‬وتتوسل بالوضوح‪ R‬واملاوجهة‪ ،‬ال باملناورة واملراوغة‪،‬‬
‫حتمل صاحبها من املصاعب واملشاق من يؤوده ويضنيه‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ومنذ ألقى قيس وراء ظهره‪ ،‬قدرته اخلارقة على الدهاء واملناورة‪ ،‬ومحل هذا الطراز من الشجاعة‬
‫املسفرة الواضحة‪ ،‬وهو قرير العني مبا تسببه له من متاعب وما جتلبه من تبعات‪...‬‬
‫ان الشجاعة احلقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده‪..‬‬
‫يكونه الصدق مع النفس‪ ،‬واالخالص للحق‪...‬‬ ‫تكونه شهوة أو نزوة‪ ،‬امنا ّ‬‫هذا االقتناع الذي‪ R‬ال ّ‬

‫علي ومعاوية‪ ،‬نرى قيسا خيلوبنفسه‪ ،‬ويبحث عن احلق من خالل‬


‫وهكذا حني نشب اخلالف بني ّ‬
‫علي ينهض اىل جواره شاخما‪ ،‬قويا مستبسال‪..‬‬
‫اقتناعه‪ ،‬حىت اذا ما رآه مع ّ‬
‫ويف معارك ص ّفني‪ ،‬واجلمل‪ ،‬وهنروان‪ ،‬كان قيس أحد أبطاهلا املستبسلني‪..‬‬
‫‪ | 245‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كان حيمل لواء األنصار‪ R‬وهو يصيح‪:‬‬


‫خنف به‬
‫هذا اللواء الذي‪ R‬كنا ّ‬
‫مع النيب وجربيل لنا مدد‬
‫ضر من كانت األنصار‪ R‬عيبته‬
‫ما ّ‬
‫أال يكون له من غريهم أحد‬
‫علي حكم مصر‪..‬‬ ‫ولقد واله االمام ّ‬
‫درة يف تاجه املنتظر‪...‬‬
‫وكانت عني معاوية على مصر دائما‪ ...‬كان ينظر اليها كأمثن ّ‬

‫جن جنونه وخشي أن حيول قيس بينه وبني مصر‬


‫من أجل ذلك مل يكد يرى قيسا يتوىل امارهتا حىت ّ‬
‫علي انتصارا‪ R‬حامسا‪..‬‬
‫اىل األبد‪ ،‬حىت لو انتصر هو على االمام ّ‬
‫يدس عند علي ض ّد قيس‪ ،‬حىت‬
‫وهكذا راح بكل وسائله املاكرة‪ ،‬وحيله اليت ال حتجم عن أمر‪ّ ،‬‬
‫استدعاه االمام منمصر‪..‬‬

‫وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعماال مشروعا‪ ،‬فلقد أدرك بفطنته أن معاوية‬
‫لعب ض ّد ه هذه اللعبة بعد أن فشل يف استمالته اىل جانبه‪ ،‬لكي يوغر صدره ض ّد االمام علي‪ ،‬ولكي‬
‫لعلي وللحق الذي‪ R‬ميثله‬
‫يضائل من والئه له‪ ..‬واذن فخري رد على دهاء معاوية هو املزيد من الوالء ّ‬
‫علي‪ ،‬والذي‪ R‬هو يف نفس الوقت‪ R‬مناط االقتناع الرشيد واألكيد‪ R‬لقيس بن سعد بن عبادة‪..‬‬
‫ّ‬
‫وهكذا مل حيس حلظة أن عليّا عزله عن مصر‪ ..‬فما الوالية‪ ،‬وما االمارة‪ ،‬وما املناصب كلها عند قيس‬
‫اال أدوات خيدم هبا عقيدته ودينه‪ ..‬ولئن كانت امارته على مصر وسيلة خلدمة احلق‪ ،‬فان موقفه جبوار‬
‫علي فوق أرض املعركة وسيلة أخرى ال تقل أمهيّة وال روعة‪..‬‬
‫ّ‬

‫**‬

‫علي وبيعة احلسن‪..‬‬


‫وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها وهناها‪ ،‬بعد استشهاد ّ‬
‫‪ | 246‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لقد اقتنع قيس بأن احلسن رضي اهلل عنه‪ ،‬هو الوارث الشرعي لالمامة فبايعه ووقف اىل جانبه غري ملق‬
‫اىل األخطار وباال‪..‬‬
‫يضطرهم معاوية المشاق السيوف‪ ،‬ينهض قيس فيقود مخسة آالف من الذين حلقوا رؤوسهم‪R‬‬ ‫وحني ّ‬
‫حدادا على االمام علي‪..‬‬
‫يضمد جراح املسلمني اليت طال شحوهبا‪ ،‬ويضع ح ّدا للقتال املفين املبيد فيفاوض‬
‫ويؤثر احلسن أن ّ‬
‫معاوية مث يبايعه‪..‬‬

‫هنا يدير قيس خواطره على املسألة من جديد‪ ،‬فريى أنه مهما يكن يف موقف احلسن من الصواب‪،‬‬
‫ذمته حق الشورى يف اختيار املصري‪ ،‬وهكذا جيمعهم‪ R‬وخيطب فيهم قائال‪:‬‬ ‫فان جلنود قيس يف ّ‬
‫" ان شئتم جالدت بكم حىت ميوت األعجل منا‪ ،‬وان شئتم أخذت لكم أمانا‪..:‬‬
‫واختار جنوده األمر الثاين‪ ،‬فأخذ هلم االمام من معاوية الذي مأل احلبور نفسه حني رأى مقاديره ترحيه‬
‫من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة‪...‬‬
‫روض االسالم دهاءه‪..‬‬
‫املنورة‪ ،‬عام تسع ومخسني‪ ،‬مات الداهية الذي‪ّ R‬‬ ‫ويف املدينة ّ‬
‫مات الرجل الذي‪ R‬كان يقول‪:‬‬
‫لوال أين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ب\يقول‪:‬‬
‫" املكر واخلديعة يف النار‪ ،‬لكنت من أمكر هذه األمة"‪..‬‬
‫ذمة‪ ،‬وعهد وميثاق‪...‬‬‫أجل‪ ..‬ومات تاركا وراءه عبري رجل أمني على كل ما لالسالم عنده من ّ‬

‫عمري بن وهب‬
‫وحواري االسالم‬
‫ّ‬ ‫شيطان اجلاهلية‪،‬‬

‫يف يوم بدر‪ ،‬كان واحدا من قادة قريش الذين محلوا سيوفهم‪ R‬ليجهزوا‪ R‬على االسالم‪.‬‬
‫‪ | 247‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكان حديد البصر‪ ،‬حمكم التقدير‪ ،‬ومن مث ندبه قومه ليستطلع هلم عدد املسلمني الذين خرجوا مع‬
‫الرسول للقائهم‪ ،‬ولينظر ان كان هلم من وزرائهم‪ R‬كمني أو مدد‪..‬‬
‫اجلمحي وصال بفرسه حول معسكر املسلمني‪ ،‬مث رجع يقول لقومه‪ ":‬اهنم‬ ‫ّ‬ ‫وانطلق عمري بن وهب‬
‫ثالمثائة رجل‪ ،‬يزيدون قليال أ‪ ،‬ينقصون" وكان حدسه صحيحا‪.‬‬
‫وسألوه‪ :‬هل وراءهم امتداد هلم؟؟ فأجاهبم قائال‪:‬‬
‫" مل أجد وراءهم شيءا‪ ..‬ولكن يا معشر قريش‪ ،‬رأيت املطايا حتمل املوت الناقع‪ ..‬قوم ليس معهم‬
‫منعة وال ملجأ اال سيوفهم‪..‬‬
‫" واهلل ما أرى أن يقتل رجل منهم حىت يقتل رجل منكم‪ ،‬فاذا أصابوا منكم مثل عددهم‪ ،‬فما خري‬
‫العيش بعد ذلك‪..‬؟؟‬
‫" فانظروا رأيكم"‪..‬‬
‫وتأثر بقوله ورأيه نفر من زعماء قريش‪ ،‬وكادوا‪ R‬جيمعون‪ R‬رجاهلم ويعودون اىل مكة بغري قتال‪ ،‬لوال‬
‫أيب جهل الذي أفسد عليهم رأيهم‪ ،‬وأضرم يف النفوس نار احلقد‪ ،‬ونار احلربو اليت كان هو أول‬
‫قتالها‪..‬‬

‫**‬

‫كان أهل مكة يلقبونه بـ شيطان قريش‪..‬‬


‫ولقد أبلى شيطان قريش يوم بدر بالء مل يغن قومه شيئا‪ ،‬فعادت قوات قريش اىل مكة مهزومة‬
‫مدحورة‪ ،‬وخلّف عمري بن وهب يف املدينة بضعة منه‪ ..‬اذ وقع ابنه يف أيدي املسلمني أسريا‪..‬‬
‫عمه صفوان بن أميّة‪ ..‬وكان صفوان ميضغ أحقاده يف مرارة قاتلة‪ ،‬فان أباه‬ ‫ضمه جملس ابن ّ‬ ‫وذات يوم ّ‬
‫أميّة بن خلف قد لقي مصرعه يف بدر وسكنت عظامه القليب‪.‬‬
‫جيرتان‪ R‬أحقادمها‪..‬‬
‫جلس صفوان‪ R‬وعمري ّ‬
‫ولندع عروة بن الزبري ينقل الينا حديثهما الطويل‪:‬‬
‫‪ | 248‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" قال صفوان‪ ،‬وهو يذكر قتلى بدر‪ :‬واهلل ما يف العيش بعدهم من خري‪!..‬‬
‫علي ال أملك قضاءه‪ ،‬وعيال أخشى عليهم الضيعة‬
‫وقال له عمري‪ :‬صدقت‪ ،‬وواهلل لوال دين حممد ّ‬
‫أعتل هبا عليه‪ٌ :‬أقول قدمت من أجل ابين هذا‬
‫بعدي لركبت اىل حممد حىت أقتله‪ ،‬فان يل عنده علة ّ‬
‫األسري‪.‬‬
‫علي دينك‪ ..‬أنا أقضيه عنك‪ ..‬وعيالك مع عيايل أواسيهم ما بقوا‪..‬‬
‫فاغتنمها صفوان وقال‪ّ :‬‬
‫فقال له عمري‪:‬اذن فاكتم شأين وشأنك‪"...‬‬

‫وسم‪ ،‬مث انطلق حىت قدم املدينة‪.‬‬‫مث أمر عمري بسيفه فشحذ‪ R‬له ّ‬
‫وبينما عمر بن اخلطاب يف نفر من املسلمني يتحدثون عن يوم بدر‪ ،‬ويذكرون ما أكرمهم اهلل به‪ ،‬اذ‬
‫نظر عمر فرأى عمري بن وهب‪ ،‬قد أناخ راحلته على باب املسجد‪ ،‬متوشحا سيفه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لشر‪..‬‬
‫هذا الكلب عدو اهلل عمري بن وهب‪ ،‬واهلل ما جاء اال ّ‬
‫حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر‪..‬‬
‫فهو الذي ّ‬
‫مث دخل عمر على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فال‪:‬‬
‫يا نيب اهلل هذا عدو اهلل عمري بن وهب قد جاء متوشحا سيفه‪..‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫علي‪ "..‬فأقبل عمر حىت أخذ حبمالة سيفه يف عنقه فلبّبه هبا‪ ،‬وقال لرجال ممن كانوا معه من‬ ‫أدخله ّ‬
‫األنصار‪ ،‬ادخلوا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا‪ R‬عليه من هذا اخلبيث‪،‬‬
‫فانه غري مأمون‪".‬‬
‫حبمالة سيفه يف عنقه فلما رآه الرسول قال‪:‬‬
‫ودخل به عمر على النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو آخذ ّ‬
‫دعه يا عمر‪..‬‬
‫اذن يا عمري‪..‬‬
‫فدنا عمري وقال‪ :‬انعموا صباحا‪ ،‬وهي حتيّة اجلاهلية‪،‬‬
‫‪ | 249‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فقال له النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬قد أكرمنا اهلل بتحية خري من حتيتك يا عمري‪ ،‬بالسالم‪ ..‬حتية أهل‬
‫اجلنة‪.‬‬
‫فقال عمري‪ :‬أما واهلل يا حممد ان كنت هبا حلديث عهد‪.‬‬
‫قال لرسول‪ :‬فما جاء بك يا عمري‪..‬؟؟‬
‫قال‪ :‬جئت هلذا األسري الذي يف أيديكم‪.‬‬
‫قال النيب‪ :‬فما بال السيف يف عنقك‪..‬؟؟‬
‫قال عمري‪ :‬قبّحها اهلل من سيوف‪ ،‬وهل أغنت عنا شيئا‪..‬؟!‬
‫قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أصدقين يا عمري‪ ،‬ما الذي جئت له‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬ما جئت اال لذلك‪.‬‬
‫قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬بل قعدت أنت وصفوان‪ R‬بن أميّة يف احلجر فذكرمتا أصحاب‬
‫فتحمل لك‬
‫علي‪ ،‬وعيال عندي خلرجت حىت أقتل حممدا‪ّ ،‬‬ ‫القليب من قريش‪ ،‬مث قلت‪ ،‬لوال دين ّ‬
‫صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلين له‪ ،‬واهلل حائل بينك وبني ذلك‪!!!..‬‬
‫وعندئذ صاح عمري‪ :‬أشهد أن ال اله اال اهلل‪ ،‬وأشهد أنك رسول اهلل‪ ..‬هذا أمر مل حيضره اال أنا‬
‫وصفوان‪ ،‬فواهلل ما أنبأك به اال اهلل‪ ،‬فاحلمد هلل الذي‪ R‬هداين لالسالم‪..‬‬
‫فقال الرسول ألصحابه‪ :‬ف ّقهوا‪ R‬أخاكم يف الدين وأقرئه القرآن‪ ،‬وأطلقوا أسريه‪!!....‬‬

‫**‬

‫خكذا أسلم عمري بن وهب‪..‬‬


‫هكذا أسلم شيطان قريش‪ ،‬وغشيه من نور الرسول واالسالم ما غشيه فاذا هو يف حلظة يتقلب اىل‬
‫حواري االسالم‪!!..‬‬
‫ّ‬
‫يقول عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫ايل من عمري حني طلع علينا‪..‬‬
‫أحب ّ‬
‫" والذي نفسي بيده‪ ،‬خلنزير كان ّ‬
‫‪ | 250‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ايل من بعض ولدي"‪!!..‬‬


‫أحب ّ‬
‫وهلو اليوم‪ّ R‬‬

‫**‬

‫جلس عمري يف ّكر بعمق يف مساحة هذا الدين‪ ،‬ويف عظمة هذا الرسول‪:‬‬
‫مث تذكر بالءه يوم بدر وقتاله‪.‬‬
‫وتذكر أيامه اخلوايل يف مكة وهو يكيد لالسالم وحياربه قبل هجرة الرسول وصحبه اىل املدينة‪.‬‬
‫مث هاهو ذا جييء اليوم متوشحا سيفه ليقتل به الرسول‪.‬‬
‫كل ذلك ميحوه يف حلظة من الزمان قوله‪ ":‬ال اله اال اهلل‪ ،‬حممد رسول اهلل"‪!!..‬‬
‫أيّة مساحة‪ ،‬وأي صفاء‪ ،‬وأية ثقة بالنفس حيملها هذا الدين العظيم‪!!..‬‬
‫أهكذا يف حلظة ميحو االسالم كل خطاياه السالفة‪ ،‬وينسى املسلمون كل جرائره وعداواته السابقة‪،‬‬
‫ويفتحون له قلوهبم‪ ،‬ويأخذونه باألحضان‪..‬؟!‬
‫وشر جرمية‪ ،‬ال يزال يلمع أمام أبصارهم‪ ،‬ينسي‬‫شر طوية ّ‬ ‫أهكذا والسيف الذي جاء معقودا على ّ‬
‫ذلك كله‪ ،‬وال يذكر اآلن اال أن عمريا باسالمه‪ ،‬قد أصبح احدا من املسلمني ومن أصحاب الرسول‪،‬‬
‫له ما هلم‪ ..‬وعليه ما عليهم‪..‬؟!!!‬
‫ود عمر بن اخلطاب منذ حلظتني أن يقتله‪ ،‬يصبح أحب اىل عمر من ولده‬ ‫أهكذا وهو الذي‪ّ R‬‬
‫وبنيه‪..‬؟؟؟!!!‬
‫اذا كانت حلظة واحدة من الصدق‪ ،‬تلك اليت أعلن فيها عمر اسالمه‪ ،‬حتظى من االسالم بكل هذا‬
‫التقدير والتكرمي واملثوبة واالجالل‪ ،‬فان االسالم اذن هلو دين عظيم‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 251‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف حلظات عرف عمري واجبه جتاه هذا الدين‪ ..‬أن خيدمه بقدر ما حاربه‪ ،‬وان يدعو اليه‪ ،‬بقدر ما‬
‫دعا ض ّد ه‪ ..‬وأن يري اهلل ورسوله ما حيب اهلل ورسوله من صدق‪ ،‬وجهاد وطاعة‪ ..‬وهكذا أقبل على‬
‫رسول اهلل ذات يوم‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪ :‬انب كنت جاهدا على اطفاء نور اهلل‪ ،‬شديد األذى ملن كان على دين اهلل عز وجل‪،‬‬
‫لعل اهلل‬
‫واين أحب أن تأذن يل فأقدم مكة‪ ،‬فأدعوهم اىل اهلل تعاىل‪ ،‬واىل رسوله‪ ،‬واىل االسالم‪ّ ،‬‬
‫يهيدهم‪ ،‬واال آذيتهم يف دينهم كما كنت أوذي أصحابك يف دينهم"‪..‬‬

‫يف تلك األيام‪ ،‬ومنذ فارق عمري مكة متوجها اىل املدينة كان صفوان بن أمية الذي اغرى عمريا‬
‫باخلروج لقتل الرسول‪ ،‬ميشي يف شوارع مكة خمتاال‪ ،‬ويغشي جمالسها‪ R‬وندواهتا فرحا حمبورا‪!..‬‬
‫وكلما سأله قومه واخوته عن شسر فرحته ونشوته‪ ،‬وعظام أبيه ال تزال ساخنة يف حظائر بدر‪ ،‬يفرك‬
‫ك ّف يه يف غرور يقول للناس‪ ":‬أبشروا بوقعة يأتيكم نبأها بعد أيام تنسيكم وقعة بدر"‪!..‬‬
‫وكان خيرج اىل مسارف مكة كل صباح يسأل القوافل والركبان‪ ":‬أمل حيدث باملدينةأمر"‪.‬‬
‫وكانوا جييبونه مبا ال حيب ويرضى‪ ،‬فما منهم من أحد مسع أو رأى يف املدينة حدثا ذا بال‪.‬‬
‫ظل مثابرا على مساءلة الركبان‪ ،‬حىت لقي بعضهم يوما فسأله‪ ":‬أمل حيدث‬ ‫ومل ييأس صفوان‪ ..‬بل ّ‬
‫باملدينةأمر"‪..‬؟؟‬
‫فأجابه املسافر‪ :‬بلى حدث أمر عظيم‪!!..‬‬
‫وهتللت أسارير صفوان وفاضت نفسه بكل ما يف الدنيا‪ R‬من هبجة وفرح‪..‬‬
‫علي"‪ ..‬وأجابه الرجل‪ :‬لقد أسلم عمري بن‬ ‫وعاد يسأل الرجل يف عجلة املشتاق‪ ":‬ماذا حدث اقصص ّ‬
‫وهب‪ ،‬وهو هناك يتفقه يف الدين‪ ،‬ويتعلم القرآن"‪!!..‬‬
‫ودرات األرض‪ R‬بصفوان‪ ..‬والوقعة اليت كان يبشر هبا قومه‪ ،‬واليت كان ينتظهرا لتنسيه وقعة بدر جاءته‬
‫اليوم يف هذا النبأ الصاعق لتجعله حطاما‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 252‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وذات يوم بلغ املسافر داره‪ ..‬وعاد عمري اىل مكة شاهرا سيفه‪ ،‬متحفزا للقتال‪ ،‬ولقيه أول ما لقيه‬
‫صفوان بن أمية‪..‬‬
‫رده اىل صوابه‪ ،‬فاكتفى بأن ألقى‬
‫وما كاد يراه حىت هم مبهامجته‪ ،‬ولكن السيف املتحفز يف يد عمري ّ‬
‫على مسع عمري بعض شتائمه مث مضى لسبيله‪..‬‬
‫دخل عمري بن وهب مكة مسلما‪ ،‬وهو الذي فارقها‪ R‬من أيام مشركا‪ ،‬دخلها ويف روعة صورة عمر‬
‫بن اخلطاب يوم أسلم‪ ،‬مث صاح فور اسالمه قائال‪:‬‬
‫" واهلل ال أدع مكانا جلست فيه بالكفر‪ ،‬اال جلست فيه باالميان"‪.‬‬

‫ولكأمنا اختذ عمري من هذه الكلمات شعارا‪ ،‬ومن ذلك املوقف قدوة‪ ،‬فقد صمم‪ R‬على نذر حياته‬
‫للدين الذي طاملا حاربه‪ ..‬ولقد كان يف موقف يسمح له بأن ينزل األذى مبن يريد له األذى‪..‬‬
‫يعوض ما فاته‪ ..‬ويسابق الزمن اىل غايته‪ ،‬فيبشر باالسالم ليال وهنارا‪ ..‬عالنية واجهارا‪..‬‬ ‫وهكذا راح ّ‬
‫يف قلبه اميانه يفيض عليه أمنا‪ ،‬وهدى ونورا‪..‬‬
‫وعلى لسانه كلمات حق‪ ،‬يدعو هبا اىل العدل واالحسان واملعروف واخلري‪..‬‬
‫ويف ميينه سيف يرهب به قطاع الطق الذين يص ّدون عن سبيل اهلل من آمن به‪ ،‬ويبغوهنا عوجا‪.‬‬
‫ويف بضعة أسابيع كان الذين هدوا اىل االسالم على يد عمري يفوق عددهم كل تقدير ميكن أن خيطر‬
‫ببال‪.‬‬
‫وخرج عمري هبم اىل املدينة يف موكب‪ R‬طويل مشرق‪.‬‬
‫مر من‬‫وكانت الصحراء اليت جيتازوهنا يف سفرهم ال تكتم دهشتها وعجبها من هذا الرجل الذي‪ّ R‬‬
‫مرة أخرى راجعا من املدينة بغري‬ ‫قريب حامال سيفه‪ ،‬حاثّا خطاه اىل املدينة ليقتل الرسول‪ ،‬مث عربها ّ‬
‫الوجه الذي ذهب به يرتل القرآن من فوق ظهر ناقته احملبورة‪ ..‬مث ها هو ذا جيتازها مرة ثالثة على‬
‫رأس موكب‪ R‬كبري من املؤمنني ميلؤون رحاهبا هتليال وتكبريا‪..‬‬
‫‪ | 253‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫حواريي‬
‫ّ‬ ‫حواري باسل من‬
‫ّ‬ ‫أجل لنه لنبأ عظيم‪ ..‬نبأ شيطان قريش الذي‪ R‬أحالته هداية اهلل اىل‬
‫وظل والؤه لدين اهلل راسخا‬
‫ظل زاقفا اىل جوار رسول اهلل يف الغزوات‪ R‬واملشاهد‪ّ ،‬‬ ‫االسالم‪ ،‬والذي ّ‬
‫بعد رحيل الرسول عن الدنيا‪.‬‬
‫ويف يوم فتح مكة مل ينس عمري صاحبه وقريبه صفوان بن أمية فراح اليه يناشده االسالم ويدعوه اليه‬
‫بعد أن مل يبق شك يف صدق الرسول‪ ،‬وصدق الرسالة‪..‬‬
‫بيد أن صفوان‪ R‬كان قد ش ّد رحاله صوب ج ّدة ليبحر منها اىل اليمن‪..‬‬
‫يسرتده من يد الشيطان بكل وسيلة‪.‬‬ ‫واشت ّد اشفاق عمري على صفوان‪ ،‬وصمم على أن ّ‬
‫وذهب مسرعا اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال له‪:‬‬
‫فأمنه صلى‬
‫نيب اهلل ان صفوان بن أميّة سيّد قومه‪ ،‬وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه يف البحر ّ‬ ‫" يا ّ‬
‫اهلل عليك‪،‬‬
‫فقال النيب‪ :‬هو آمن‪.‬‬
‫قال رسول اهلل فأعطين آية يعرف هبا أمانك‪ ،‬فأعطاه الرسول صلى اهلل عليه وسلم عمامته اليت دخل‬
‫فيها مكة"‪..‬‬

‫ولندع عروة بن الزبري يكمل لنا احلديث‪:‬‬


‫" فخرج هبا عمري حىت أدركه وهو يريد أن يركب البحر فقال‪ :‬يا صفوان‪ ،‬فداك أيب وأمي‪ ..‬اهلل اهلل‬
‫يف نفسك أن هتلكها‪ ..‬هذا أمان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد جئتك به‪..‬‬
‫قال له صفوان‪ :‬وحيك‪ ،‬اغرب عين فال تكلمين‪ .‬قال‪ :‬أي صفوان‪..‬فداك‪ R‬أيب وأمي‪ ،‬ان رسول اهلل‬
‫عزك‪ ،‬وشرفه‬‫عزه ّ‬
‫وأبر الناس ‪ ،‬وأحلم الناس‪ ،‬وخري االنس‪ّ ..‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أفضل الناس‪ّ ،‬‬
‫شرفك‪..‬‬
‫قال‪ :‬اين أخاف على نفسي‪..‬‬
‫‪ | 254‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قال‪ :‬هوأحلم من ذاك وأكرم‪..‬‬


‫فرجع معه حىت وقف به على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫فقال صفوان للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ان هذا يزعم أنك ّأمنتين‪..‬‬
‫قال السول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬صدق‪..‬‬
‫قال صفوان‪ :‬فاجعلين فيه باخليار شهرين‪..‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنت باخليار أربعة أشهر"‪.‬‬
‫وفيما بعد أسلم صفوان‪.‬ز‪R‬‬
‫وسعد عمري باسالمه أمّي ا سعادة‪..‬‬
‫وواصل ابن وهب مسريته املباركة اىل اهلل‪ ،‬متبعا أثر الرسول العظيم الذي‪ R‬هدى اهلل به الناس من‬
‫الضاللة وأخرجهم من الظلمات اىل النور‪.‬‬
‫أبوالدرداء‬
‫أي حكيم كان‬ ‫ّ‬

‫بينما كانت جيوش االسالم تضرب يف مناكب األرض‪ ..‬هادر ظافرة‪ ..‬كان يقيم باملدينة فيلسوف‬
‫عجيب‪ ..‬وحكيم تتفجر احلكمة من جوانبه يف كلمات تناهت نضرة وهباء‪...‬وكان ال يفتأ يقول ملن‬
‫حوله‪:‬‬
‫عدوكم‪،‬‬
‫" أال أخربكم خبري أعمالكم‪ ،‬وأزكاها عند باريكم‪ ،‬وأمناها يف درجاتكم‪ ،‬وخري من أن تغزو ّ‬
‫فرتضبوا‪ R‬رقاهبم ويضربوا رقابكم‪ ،‬وخري من الدراهم‪ R‬والدنانري"‪.‬؟؟‬
‫وتشرئب أعناق الذين ينصتون له‪ ..‬ويسارعون بسؤاله‪:‬‬
‫" أي شيء هو‪ ..‬يا أبا الدرداء"‪..‬؟؟‬
‫ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق حتت أضوء االميان واحلكمة‪:‬‬
‫" ذكر اهلل‪...‬‬
‫ولذكر اهلل أكرب"‪..‬‬
‫‪ | 255‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫مل يكن هذا احلكيم العجيب‪ R‬يبشر بفلسفة انعزالية ومل يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية‪ ،‬وال‬
‫باالنسحاب من تبعات الدين اجلديد‪ ..‬تلك التبعات اليت يأخذ اجلهاد مكان الصدارة منها‪...‬‬
‫أجل‪ ..‬ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل‪ ،‬وهو الذي‪ R‬محل سيفه جماهدا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم منذ أسلم‪ ،‬حىت جاء نصر اهلل والفتح‪..‬‬
‫احلي‪ ،‬كلما خال اىل التأمل‪ ،‬وأوى‬
‫بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي جيد نفسه يف وجودها املمتلئ ّ‬
‫اىل حمراب احلكمة‪ ،‬ونذر حياته لنشدان احلقيقة واليقني‪..‬؟؟‬
‫ولقد كان حكيم تلك األيام العظيمة أبو الدرداء‪ R‬رضي اهلل عنه انسانا يتملكه شوق عارم اىل رؤية‬
‫احلقيقة واللقاء هبا‪..‬‬

‫واذ قد آمن باهلل وبرسوله اميانا وثيقا‪ ،‬فقد آمن كذلك بأن هذا االميان مبا ميليه من واجبات وفهم‪،‬‬
‫هو طريقه األمثل واألوحد اىل احلقيقة‪..‬‬
‫وهكذا عكف على اميانه مسلما اىل نفسه‪ ،‬وعلى حياته يصوغها وفق هذا االميان يف عزم‪ ،‬ورشد‪،‬‬
‫وعظمة‪..‬‬
‫ومضى على الدرب حىت وصل‪ ..‬وعلى الطريق حىت بلغ مستوى‪ R‬الصدق الوثيق‪ ..‬وحىت كان يأخذ‬
‫مكانه العايل مع الصادقني متاما حني يناجي ربه مرتال آته‪..‬‬
‫( ان صاليت ونسكي وحمياي وممايت هلل رب العلمني)‪.‬‬
‫أجل‪ ..‬لقد انتهى جهاد أيب الدرداء‪ R‬ض ّد نفسه‪ ،‬ومع نفسه اىل تلك الذروة العالية‪ ..‬اىل ذلك التفوق‬
‫البعيد‪ ..‬اىل ذلك التفاين الرهباين‪ ،‬الذي جعل حياته‪ ،‬كل حياته هلل رب العاملني‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 256‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫واآلن‪ R‬تعالوا‪ R‬نقرتب من احلكيم والق ّديس‪ ..‬أال تبصرون الضياء الذي‪ R‬يتألأل حول جبينه‪..‬؟‬
‫الفواح‪ R‬القادم من ناحيته‪..‬؟؟‬
‫تشمون العبري ّ‬‫أال ّ‬
‫انه ضياء احلكمة‪ ،‬وعبري االميان‪..‬‬
‫أي سعيد‪!!..‬‬‫األواب لقاء سعيدا‪ّ ،‬‬
‫ولقد التقى االميان واحلكمة يف هذا الرجل ّ‬
‫سئلت أمه عن أفضل ما كان حيب من عمل‪ ..‬فأجابت‪:‬‬
‫" التفكر واالعتبار"‪.‬‬
‫أجل لقد وعى قول اهلل يف أكثر من آية‪:‬‬
‫(فاعتربوا يا أويل األبصار)‪...‬‬
‫حيض اخوانه على التأمل والتف ّكر يقول هلم‪:‬‬
‫وكان هو ّ‬
‫" تف ّكر ساعة خري من عبادة ليلة"‪..‬‬
‫لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان‪ R‬احلقيقة على كل نفسه‪ ..‬وكل حياته‪..‬‬

‫ويوم اقتنع باالسالم دينا‪ ،‬وبايع الرسول صلى اهلل عليه وسلم على هذا الدين الكرمي‪ ،‬كان تاجرا‬
‫ناجحا من جتار املدينة الناهبني‪ ،‬وكان قد قضى شطر حياته يف التجارة قبل أن يسلم‪ ،‬بل وقبل أن‬
‫يأيت الرسول واملسلمون املدينة مهاجرين‪..‬‬
‫بيد أنه مل ميض على اسالمه غري وقت وجيز حىت‪..‬‬
‫ولكن لندعه هو يكمل لنا احلديث‪:‬‬
‫" أسلمت مع النيب صلى اهلل عليه وسلم وأنا تاجر‪..‬‬
‫وأردت أن جتتمع يل العبادة والتجارة فلم جيتمعا‪..‬‬
‫فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة‪.‬‬
‫يسرين اليوم‪ R‬أن أبيع وأشرتي فأربح كل يوم ثالمثائة دينار‪ ،‬حىت لو يكون حانويت على باب‬‫وما ّ‬
‫املسجد‪..‬‬
‫حرم البيع‪..‬‬
‫أال اين ال أقول لكم‪ :‬ان اهلل ّ‬
‫‪ | 257‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أحب أن أكون من الذين ال تلهيهم جتارة وال بيع عن ذكر اهلل"‪!!..‬‬


‫ولكين ّ‬

‫أرأيتم كيف يتكلّم فيويف القضيّة حقها‪ ،‬وتشرق احلكمة والصدق من خالل كلماته‪..‬؟؟‬
‫حرم اهلل التجارة يا أبا الدرداء‪...‬؟؟‬
‫انه يسارع قبل أن نسأله‪ :‬وهل ّ‬
‫يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول‪ ،‬ويشري اىل اهلدف األمسى الذي كان ينشده‪ ،‬ومن أجله‬
‫ترك التجارة‪ R‬برغم جناحه فيها‪..‬‬
‫لقد كان رجال ينشد ختصصا روحيا وتفوقا يرنو اىل أقصى درجات الكمال امليسور لبين االنسان‪..‬‬

‫لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه اىل عامل اخلري األمسى‪ ،‬ويشارف به احلق يف جالله‪ ،‬واحلقيقة يف‬
‫تؤدى‪ ،‬وحمظورات ترتك‪ ،‬الستطاع أن جيمع بينها وبني جتارته‬‫جمرد تكاليف ّ‬ ‫مشرقها‪ ،‬ولو أرادها ّ‬
‫وأعماله‪...‬‬
‫فكم من جتار صاحلني‪ ..‬وكم من صاحلني جتار‪...‬‬

‫ولقد‪ R‬كان من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من مل تلههم جتارهتم‪ R‬وال بيعهم عن ذكر‬
‫اهلل‪ ..‬بل اجتهدوا يف امناء جتارهتم‪ R‬وأمواهلم‪ R‬ليخدموا‪ R‬هبا قضية االسالم‪ ،‬ويكفوا هبا حاجات املسلمني‪..‬‬
‫ولكن منهج هؤالء األصحاب‪ ،‬ال يغمز منهج أبو الدرداء‪ ،‬كما أن منهجه ال يغمز منهجهم‪ ،‬فكل‬
‫ميسر ملا خلق له‪..‬‬
‫ّ‬

‫حيس احساسا صادقا أنه خلق ملا نذر له حياته‪..‬‬


‫وأبو الدرداء ّ‬
‫التخصص يف نشدان احلقيقة مبمارسة أقصى حاالت التبتل وفق االميان الذي‪ R‬هداه اليه ربه‪ ،‬ورسوله‬
‫واالسالم‪..‬‬
‫تصوفا‪..‬‬
‫مسّوه ان شئتم ّ‬
‫تصوف رجل توفّر له فطنة املؤمن‪ ،‬وقدرة الفيلسوف‪ ،‬وجتربة احملارب‪ ،‬وفقه الصحايب‪ ،‬ما جعل‬ ‫ولكنه ّ‬
‫جمرد ظالل صاحلة هلذا البناء‪!!..‬‬ ‫تصوفه حركة حيّة يف ل\بناء الروح‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬
‫‪ | 258‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجل‪..‬‬
‫ذلك هو أبو الدرداء‪ ،‬صاحب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتلميذه‪..‬‬
‫وذلكم هو أبو الدرداء‪ ،‬احلكيم‪ ،‬الق ّديس‪..‬‬
‫ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه‪ ،‬وزادها بصدره‪..‬‬
‫رجل عكف على نفسه وصقلها وز ّكاها‪ ،‬وحىت صارت مرآة صافية انعكس عليها من احلكمة‪،‬‬
‫والصواب‪ ،‬واخلري‪ ،‬ما جعل من أيب الدرداء معلما عظيما وحكيما قوميا‪..‬‬
‫سعداء‪ ،‬أولئك الذين يقبلون عليه‪ ،‬ويصغون اليه‪..‬‬
‫أال تعالوا نف\قرتب من حكمته يا أويل األلباب‪..‬‬
‫ولنبدأ بفلسفته جتاه الدنيا وجتاه مباهجها وزخارفها‪..‬‬
‫انه متأثر حىت أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن‪:‬‬
‫( الذي‪ R‬مجع ماال وع ّدده‪ ..‬حيسب أن ماله اخلده)‪...‬‬
‫ومتأثر حىت أعماق روحه بقول الرسول‪:‬‬
‫قل وكفى‪ ،‬خري مما كثر وأهلى"‪..‬‬ ‫" ما ّ‬
‫ويقول عليه السالم‪:‬‬
‫تفرغوا من مهوم الدنيا ما استطعتم‪ ،‬فانه من كانت الدنيا أكرب مهّه‪ّ ،‬فرق اهلل مشله‪ ،‬وجعل فقره بني‬ ‫" ّ‬
‫عينيه‪ ..‬ومن كانت اآلخرة أكرب مهّه مجع مشله‪ ،‬وجعل غناه يف قلبه‪ ،‬وكان اهلل اليه بكل خري أسرع"‪.‬‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬كان يرثي ألولئك الذين وقعوا‪ R‬أسرى طموح الثروة ويقول‪:‬‬
‫" اللهم اين أعوذ بك من شتات القلب"‪..‬‬
‫سئل‪:‬‬
‫وما شتات القلب يا أبا الدرداء‪..‬؟؟‬
‫فأجاب‪:‬‬
‫أن يكون يل يف كل واد مال"‪!!..‬‬
‫‪ | 259‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهو يدعو الناس اىل امتالك الدنيا واالستغناء عنها‪ ..‬فذلك هو االمتالك احلقيقي هلا‪ ..‬أما اجلري وراء‬
‫والرق‪.‬‬
‫أطماعها اليت ال تؤذن باالنتهاء‪ ،‬فذلك شر ألوان العبودية ّ‬
‫هنالك يقول‪:‬‬
‫" من مل يكن غنيا عن الدنيا‪ ،‬فال دنيا له"‪..‬‬
‫واملال عنده وسيلة للعيش القنوع تامعتدل ليس غري‪.‬‬
‫ومن مث فان على الناس أن يأخذوه من حالل‪ ،‬وأن يكسبوه يف رفق واعتدال‪ ،‬ال يف جشع وهتالك‪.‬‬
‫فهو يقول‪:‬‬
‫" ال تأكل اال طيّبا‪..‬‬
‫وال تكسب اال طيّبا‪..‬‬
‫وال تدخل بيتك اال طيّبا"‪.‬‬
‫ويكتب لصاحب له فيقول‪:‬‬
‫"‪ ..‬أما بعد‪ ،‬فلست يف شيء من عرض الدنيا‪ ،‬واال وقد كان لغريك قبلك‪ ..‬وهو صائر لغريك بعدك‪..‬‬
‫وليس لك منه اال ما ق ّدمت لنفسك‪ ...‬فآثرها على من جتمع‪ R‬املال له من ولدك ليكون له ارثا‪ ،‬فأنت‬
‫امنا جتمع لواحد من اثنني‪:‬‬
‫اما ولد صاحل يعمل فيه بطاعة اهلل‪ ،‬فيسعد مبا شقيت به‪..‬‬
‫واما ولد‪ R‬عاص‪ ،‬يعمل فيه مبعصية اهلل‪ ،‬فتشقى مبا مجعت له‪،‬‬
‫فثق هلم مبا عند اهلل من رزق‪ ،‬وانج بنفسك"‪!..‬‬

‫جمرد عارية‪..‬‬
‫كانت الدنيا كلها يف عني أيب الدرداء ّ‬
‫عندما فتحت قربص ومحلت غنائم احلرب اىل املدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي‪ ...‬واقرتبوا‪ R‬دهشني‬
‫يسألونه‪ ،‬وتوىل توجيه السؤال اليه‪ ":‬جبري بن نفري"‪:‬‬
‫قال له‪:‬‬
‫" يا أبا الدرداء‪ ،‬ما يبكيك يف يوم أعز اهلل فيه االسالم وأهله"‪..‬؟؟‬
‫‪ | 260‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فأجاب أبو الدرداء يف حكمة بالغة وفهم عميق‪:‬‬


‫وحيك يا جبري‪..‬‬
‫ما أهون اخللق على اهلل اذا هم تركوا أمره‪..‬‬
‫بينما هي أمة‪ ،‬ظاهرة‪ ،‬قاهرة‪ ،‬هلا امللك‪ ،‬تركت أمر اهلل‪ ،‬فصارت اىل ما ترى"‪!..‬‬
‫أجل‪..‬‬

‫وهبذا كان يعلل االهنيار السريع الذي‪ R‬تلحقه جيوش االسالم بالبالد املفتوحة‪ ،‬افالس تلك البالد من‬
‫روحانية صادقة تعصمها‪ ،‬ودين صحيح يصلها باهلل‪..‬‬
‫تنحل فيها عرى االميان‪ ،‬وتضعف روابطهم‪ R‬باهلل‪،‬‬
‫ومن هنا أيضا‪ ،‬كان خيشى على املسلمني أياما ّ‬
‫وباحلق‪ ،‬وبالصالح‪ ،‬فتنتقل العارية من أيديهم‪ ،‬بنفس السهولة اليت انتقلت هبا من قبل اليهم‪!!..‬‬

‫**‬

‫جمرد عارية يف يقينه‪ ،‬كذلك كانت جسرا اىل حياة أبقى وأروع‪..‬‬‫وكما‪ R‬كانت الدنيا بأسرها ّ‬
‫دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض‪ ،‬فوجدوه نائما على فراش من جلد‪..‬‬
‫فقالوا له‪ ":‬لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم‪"..‬‬
‫فأجاهبم وهو يشري بسبّابته‪ ،‬وبريق عينيه صوب األمام البعيد‪:‬‬
‫" ان دارنا هناك‪..‬‬
‫هلا جنمع‪ ..‬واليها نرجع‪..‬‬
‫نظعن اليها‪ .‬ونعمل هلا"‪!!..‬‬
‫وهذه النظرة اىل الدنيا ليست عند أيب الدرداء وجهة نظر فحسب‪ R‬بل ومنهج حياة كذلك‪..‬‬
‫فرده‪ ،‬ومل يقبل خطبته‪ ،‬مث خطبها واحد من فقراء املسلمني‬
‫خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء ّ‬
‫فزوجها أبو الدرداء‪ R‬منه‪.‬‬
‫وصاحليهم‪ّ ،‬‬
‫‪ | 261‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫التصرف‪ ،‬فعلّمهم أبو الدرداء قائال‪:‬‬


‫وعجب الناس هلذا ّ‬
‫" ما ظنّكم بالدرداء‪ ،‬اذا قام على رأسها اخلدم واخلصيا وهبرها زخرف القصور‪..‬‬
‫أين دينها منها يومئذ"‪..‬؟!‬
‫هذا حكيم قومي النفس‪ ،‬ذكي الفؤاد‪..‬‬
‫وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يش ّد النفس اليها‪ ،‬ويولّه القلب هبا‪..‬‬
‫وهو هبذا ال يهرب من السعادة بل اليها‪..‬‬
‫فالسعادة احلقة عتده هي أن متتلك الدنيا‪ ،‬ال أن متتلكك أنت الدنيا‪..‬‬
‫وكلما وقفت‪ R‬مطالب الناس يف احلياة عند حدود القناعة واالعتدال‪ R‬وكلما أدركوا‪ R‬حقيقة الدنيا‬
‫كجسر يعربون عليه اىل دار القرار‪ R‬واملآل واخللود‪ ،‬كلما صنعوا‪ R‬هذا‪ ،‬كان نصيبهم من السعادة احلقة‬
‫أوىف وأعظم‪..‬‬
‫وانه ليقول‪:‬‬
‫" ليس اخلري أن يكثر مالك وولدك‪ ،‬ولكن اخلري أن يعظم حلمك‪ ،‬ويكثر علمك‪ ،‬وأن تباري الناس يف‬
‫عبادة اهلل تعاىل"‪..‬‬
‫ويف خالفة عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬وكان معاوية أمريا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة اخلليفة يف‬
‫أن يلي القضاء‪..‬‬
‫أغرهتم مباهج الدنيا‪ ،‬وراح يذ ّكر مبنهج الرسول يف‬ ‫وهناك يف الشام وقف باملرصاد جلميع الذين ّ‬
‫حياته‪ ،‬وزهده‪ ،‬ومبنهج الرعيل األول من الشهداء والص ّديقني‪..‬‬
‫وكانت الشام يومئذ حاضرة متوج باملباهج والنعيم‪..‬‬
‫ينغص عليهم مبواعظه متاعهم ودنياهم‪..‬‬ ‫وكأن أهلها ضاقوا‪ R‬ذرعا هبذا‪ R‬الذي ّ‬
‫فجمعهم‪ R‬أبو الدرداء‪ ،‬وقام فيهم خطيبا‪:‬‬
‫" يا أهل الشام‪..‬‬
‫أنتم االخوان يف الدين‪ ،‬واجلريان يف الدار‪ ،‬واألنصار على األعداء‪..‬‬
‫ولكن مايل أراكم ال تستحيون‪..‬؟؟‬
‫‪ | 262‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫جتمعون ما ال تأكلون‪..‬‬
‫وتبنون ما ال تسكنون‪..‬‬
‫وترجون ما ال تبلّغون‪..‬‬
‫وقد كانت القرون من قبلكم جيمعون‪ ،‬فيوعون‪..‬‬
‫ويؤملون‪ ،‬فيطيلون‪..‬‬
‫ّ‬
‫ويبنون‪ ،‬فيوثقون‪..‬‬
‫فأصبح مجعهم بورا‪..‬‬
‫وأماهم غرورا‪..‬‬
‫وبيوهتم قبورا‪..‬‬
‫أولئك قوم عاد‪ ،‬ملؤا ما بني عدن اىل عمان أمواال وأوالدا‪."..‬‬
‫ولوح بذراعه يف اجلمع الذاهل‪ ،‬وصاح يف سخرية ال‬
‫مث ارتسمت‪ R‬على شفتيه بسمة عريضة ساخرة‪ّ ،‬‬
‫فحة‪:‬‬
‫" من يشرتي مين تركة آل عاد بدرمهني"‪..‬؟!‬

‫رجل باهر‪ ،‬رائع‪ ،‬مضيء‪ ،‬حكمته مؤمنة‪ ،‬ومشاعره ورعة‪ ،‬ومنطقه سديد ورشيد‪!!..‬‬
‫وتعرض لرمحة اهلل‪ ،‬وضراعة‬
‫العبادة عند أيب الدرداء‪ R‬ليست‪ R‬غرورا وال تأليا‪ .‬امنا هي التماس للخري‪ّ ،‬‬
‫دائمة تذ ّكر االنسان‪ R‬بضعفه‪ .‬وبفضل ربه عليه‪:‬‬
‫انه يقول‪:‬‬
‫التمسوا اخلري دهركم كله‪..‬‬
‫وتعرضوا لنفجات رمحة اهلل‪ ،‬فان للله نفحات من رمحته يصيب هبا من يشاء من عباده‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ويؤمن روعاتكم"‪...‬‬‫" وسلوا اهلل أن يسرت عوراتكم‪ّ ،‬‬
‫كان ذلك احلكيم مفتوح العينني دائما على غرور العبادة‪ ،‬حي ّذر منه الناس‪.‬‬
‫‪ | 263‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هذا الغرور‪ R‬الذي يصيب بعض الضعاف يف امياهنم حني يأخذهم الزهو بعبادهتم‪ ،‬فيتألّون هبا على‬
‫اآلخرين ويدلّون‪..‬‬
‫فلنستمع له ما يقول‪:‬‬
‫النغرتين"‪..‬‬
‫ذرة من ّبر صاحب تقوى ويقني‪ ،‬أرجح وأفضل من أمثال اجلبال من عبادة ّ‬ ‫" مثقال ّ‬
‫ويقول أيضا‪:‬‬
‫"ال تكلفوا الناس ما مل يكلفوا‪..‬‬
‫وال حتاسبوهم دون رهبم‬
‫عليكم أنفسكم‪ ،‬فان من تتبع ما يرى يف االنس يطل حزنه"‪!..‬‬
‫جيرد من نفسه ديّانا جتاه العبد‪.‬‬
‫انه ال يريد للعابد مهما يعل يف العبادة شأوه أن ّ‬
‫عليه أن حيمد اهلل على توفيقه‪ ،‬وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين مل يدركوا‪ R‬مثل‬
‫هذا التوفيق‪.‬‬
‫هل تعرفون حكمة أنضر وأهبى من حكمة هذا احلكيم‪..‬؟؟‬
‫حيدثنا صاحبه أبو قالبة فيقول‪:‬‬
‫مر أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا‪ ،‬والناس يسبّونه‪ ،‬فنهاهم وقال‪ :‬أرأيتم لو وجدمتوه يف‬ ‫" ّ‬
‫حفرة‪ ..‬أمل تكونوا خمرجيه منها‪..‬؟‬
‫قالوا بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فال تسبّوه اذن‪ ،‬ومحدوا‪ R‬اهلل الذي عافاكم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬أنبغضه‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬امنا أبغضوا عمله‪ ،‬فاذا تركه فهو أخي"‪!!..‬‬

‫**‬

‫واذاكان‪ R‬هذا أحد وجهي العبادة عند أيب الدرداء‪ ،‬فان وجهها اآلخر هو العلم واملعرفة‪..‬‬
‫‪ | 264‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ان أبا الدرداء يق ّدس العلم تقديسا بعيدا‪ ..‬يق ّدسه كحكيم‪ ،‬ويق ّدسه كعابد فيقول‪:‬‬
‫" ال يكون أحدكم تقيا جىت يكون عاملا‪..‬‬
‫ولن يكون بالعلم مجيال‪ ،‬حىت يكون به عامال"‪.‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫فالعلم عنده فهم‪ ،‬وسلوك‪ ..‬معرفة‪ ،‬ومنهج‪ ..‬فكرة حياة‪..‬‬
‫وألن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم‪ ،‬نراه ينادي بأن العلم كاملتعلم كالمها سواء يف الفضل‪،‬‬
‫واملكانة‪ ،‬واملثوبة‪..‬‬
‫ويرى أن عظمة احلياة منوطة بالعلم اخلرّي قبل أي شيء سواه‪..‬‬
‫ها هو ذا يقول‪:‬‬
‫وجهالكم ال يتعلمون؟؟ أال ان معلّم اخلري واملتعلّم يف األجر سواء‪..‬‬
‫" مايل أرى العلماء كم يذهبون‪ّ ،‬‬
‫وال خري يف سائر الناس بعدمها"‪..‬‬
‫ويقول أيضا‪:‬‬
‫" الناس ثالثة‪..‬‬
‫عامل‪..‬‬
‫ومتعلم‪..‬‬
‫والثالث‪ R‬مهج ال خري فيه"‪.‬‬

‫وكما‪ R‬رأينا من قبل‪ ،‬ال ينفصل العلم يف حكمة أيب الدرداء رضي اهلل عنه عن العمل‪.‬‬
‫يقول‪:‬‬
‫" ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال يل يوم القيامة على رؤوس اخلالئق‪ :‬يا عومير‪ ،‬هل‬
‫علمت؟؟‬
‫فأقول نعم‪..‬‬
‫فيقال يل‪ :‬فماذا‪ R‬عملت فيما علمت"‪..‬؟‬
‫‪ | 265‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫جيل العلماء العاملني ويوقرهم توقريا‪ R‬كبريا‪ ،‬بل كان يدعو ربّه ويقول‪:‬‬
‫وكان ّ‬
‫" اللهم اين أعوذ بك أن تلعنين قلوب العلماء‪"..‬‬
‫قيل له‪:‬‬
‫وكيف تلعنك قلوهبم؟‬
‫قال رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫" تكرهين"‪!..‬‬
‫أرأيتم؟؟‬
‫انه يرى يف كراهيّة العامل لعنة ال يطيقها‪ ..‬ومن مثّ فهو يضرع اىل ربه أن يعيذه منها‪..‬‬

‫وتستوصي‪ R‬حكمة أيب الدرداء باالخاء خريا‪ ،‬وتبىن عالقة االنسان‪ R‬باالنسان على أساس من واقع‬
‫الطبيعة االنسانية ذاهتا فيقول‪:‬‬
‫" معاتبة األخ خري لك من فقده‪ ،‬ومن لك بأخيك كله‪..‬؟‬
‫أعط أخاك ولن له‪..‬‬
‫وال تطع فيه حاسدا‪ ،‬فتكون مثله‪.‬‬
‫غدا يأتيك املوت‪ ،‬فيكفيك فقده‪..‬‬
‫وكيف تبكيه بعد املوت‪ ،‬ويف احلياة ما كنت أديت حقه"‪..‬؟؟‬
‫ومراقبة اهلل يف عباده قاعدة صلبة يبين عليها أبو الدرداء‪ R‬حقوق االخاء‪..‬‬
‫يقول رضي اهلل عنه وأرضاه‪:‬‬
‫العلي‬
‫علي اال باهلل ّ‬
‫" اين أبغض أن أظلم أحدا‪ ..‬ولكين أبغض أكثر وأكثر‪ ،‬أن أظلم من ال يستعني ّ‬
‫الكبري"‪!!..‬‬
‫يل لعظمة نفسك‪ ،‬واشراق روحك يا أبا الدرداء‪!!..‬‬
‫العزل أقرب مناال من أيديهم‪ ،‬ومن‬
‫انه حي ّذر الناس من خداع الوهك‪ ،‬حني يظنون أن املستضعفني ّ‬
‫بأسهم‪!..‬‬
‫‪ | 266‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويذ ّكرهم أن هؤالء يف ضعفهم‪ R‬ميلكون ّقوة ماحقة حني يتوسلون اىل اهلل عز وجل بعجزهم‪،‬‬
‫ويطرحون بني يديه قضيتهم‪ ،‬وهو أهنم على الناس‪!!..‬‬
‫هذا هو أبو الدرداء‪ R‬احلكيم‪!..‬‬
‫األواب‪..‬‬
‫هذا هو أبو الدرداء‪ R‬الزاهد‪ ،‬العابد‪ّ ،‬‬
‫هذا هو أبو الدرداء‪ R‬الذي كان اذا أطرى الناس تقاه‪ ،‬وسألوه الدعاء‪ ،‬أجاهبم يف تواضع‪ R‬وثيق قائال‪:‬‬
‫" ال أحسن السباحة‪ ..‬وأخاف الغرق"‪!!..‬‬

‫**‬

‫كل هذا‪ ،‬وال حتسن السباحة يا أبا الدرداء‪..‬؟؟‬


‫األول‬
‫ولكن أي عجب‪ ،‬وأنت تربية الرسول عليه الصالة والسالم‪ ...‬وتلميذ القرآن‪ ..‬وابن االسالم ّ‬
‫وصاحب أيب بكر وعمر‪ ،‬وبقيّة الرجال‪!..‬؟‬
‫زيد بن اخلطاب‬
‫صقر يوم اليمامة‬

‫جلس النيب صلى اهلل عليه وسلم يوما‪ ،‬وحوله مجاعة من املسلمني وبينما احلديث جيري‪ ،‬أطرق‬
‫وجه احلديث ملن حوله قائال‪:‬‬
‫الرسول حلظات‪ ،‬مث ّ‬
‫" ان فيكم لرجال ضرسه يف النار أعظم من جبل أحد"‪..‬‬
‫ويلح على مجيع الذين شهدوا هذا اجمللس مع رسول‬‫وظل اخلوف بل لرعب من الفتنة يف الدين‪ ،‬يراود ّ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ...‬كل منهم حياذر وخيشى أن يكون هو الذي يرتبّص به سوء املنقلب وسوء‬
‫اخلتام‪..‬‬
‫وجه اليهم احلديث يومئذ ختم هلم خبري‪ ،‬وقضوا حنبهم شهداء يف سبيل اهلل‪ .‬وما بقي‬
‫ولكن مجيع الذين ّ‬
‫والر ّجال لن عنفوة‪.‬‬
‫منهم حيّا سوى أيب هريرة ّ‬
‫‪ | 267‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ظل أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن تصيبه تلك النبوءة‪ .‬ومل يرقأ له جفن‪ ،‬وما هدأ له‬ ‫ولقد‪ّ R‬‬
‫الر ّجال عن االسالم وحلق مبسيلمة‬‫بال حىت دفع القدر الستار‪ R‬عن صاحب احلظ التعس‪ .‬فارت ّد ّ‬
‫بالنبوة‪.‬‬
‫الكذاب‪ ،‬وشهد له ّ‬
‫هنالك استبان الذي تنبأ له الرسول صلى اهلل عليه وسلم بسوء املنقلب وسوء املصري‪..‬‬
‫والر ّجال بن عنفوة هذا‪ ،‬ذهب ذات يوم اىل الرسول مبايعا ومسلما‪ ،‬وملا تل ّقى منه االسالم عاد اىل‬ ‫ّ‬
‫قومه‪ ..‬ومل يرجع اىل املدينة اال اثر وفاة الرسول واختيار الص ّديق‪ R‬خليفة على املسملني‪ ..‬ونقل اىل أيب‬
‫بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم‪ R‬حول مسيلمة‪ ،‬واقرتح على ال ّديق أن يكون مبعوثه اليهم يثبّتهم على‬
‫االسالم‪ ،‬فأذن له اخلليفة‪..‬‬
‫ظن أهنم الغالبون‪ ،‬فح ّدثته نفسه الغتدرة أن‬
‫الر ّجال اىل أهل اليمامة‪ ..‬وملا رأى كثرهتم اهلائلة ّ‬
‫وتوجه ّ‬
‫ّ‬
‫وانضم لصفوف‬
‫ّ‬ ‫حيتجز له من اليوم مكانا يف دولة الك ّذاب اليت ظنّها مقبلة وآتية‪ ،‬فرتك االسالم‪،‬‬
‫مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود‪.‬‬

‫الر ّجال على االسالم أش ّد من خطر مسيلمة ذاته‪.‬‬


‫وكان خطر ّ‬
‫استغل اسالمه السابق‪ ،‬والفرتة‪ R‬اليت عاشها باملدينة أيام الرسول‪ ،‬وحفظه آليات كثرية من‬
‫ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬ألنه‬
‫استغل ذلك كله استغالال خبيثا يف دعم سلطان مسيلمة‬‫ّ‬ ‫القرآن‪ ،‬وسفارته أليب بكر خليفة املسلمني‪..‬‬
‫نبوته الكاذبة‪.‬‬
‫وتوكيد ّ‬
‫لقد سار بني الناس يقول هلم‪ :‬انه مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ ":‬انه أشرك مسيلمة بن‬
‫النبوة‬
‫حبيب يف األمر"‪ ..‬وما دام الرسول صلى اهلل عليه وسلم قد مات‪ ،‬فأحق الناس حبمل راية ّ‬
‫والوحي بعده‪ ،‬هو مسيلمة‪!!..‬‬
‫الر ّجال هذا‪ .‬وبسبب استغالله‬
‫ولقد زادت أعني امللتفني حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب ّ‬
‫املاكر لعالقاته السابقة باالسالم وبالرسول‪.‬‬
‫يضل الناس‬
‫فيتحرق املسلمون غيظا من هذا املرت ّد اخلطر الذي‪ّ R‬‬
‫الر ّجال تبلغ املدينة‪ّ ،‬‬
‫وكانت أنباء ّ‬
‫يوسع بضالله دائرة احلرب اليت سيضطر املسلمون أن خيوضوها‪.‬‬ ‫ضالال بعيدا‪ ،‬والذي ّ‬
‫‪ | 268‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الر ّجال صحايب جليل تتألق ذكراه يف كتب السرية والتاريخ‬


‫وحترقا للقاء ّ‬
‫وكان أكثر املسلمني تغيّظا‪ّ ،‬‬
‫حتت هذا االسم احلبيب زيد بن اخلطّاب‪!!..‬‬
‫زيد بن اخلطّاب‪..‬؟‬
‫ال بد أنكم عرفتموه‪..‬‬
‫انه أخو عمر بن اخلطّاب‪..‬‬
‫أجل أخوه األكرب‪ ،‬واألسبق‪..‬‬
‫جاء احلياة قبل عمر‪ ،‬فكان أكرب منه سنا‪..‬‬
‫وسبقه اىل االسالم‪ ..‬كما سبقه اىل الشهادة يف سبيل اهلل‪..‬‬
‫وكان زيد بطال باهر البطولة‪ ..‬وكان العمل الصامت‪ .‬املمعن يف الصمت‪ R‬جوهر بطولته‪.‬‬
‫وكان اميانه باهلل وبرسوله وبدينه اميانا وثيقا‪ ،‬ومل يتخلّف عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫مشهد وال يف غزاة‪.‬‬
‫ويف كل مشهد مل يكن يبحث عن النصر‪ ،‬بقدر ما يبحث عن الشهادة‪!..‬‬
‫يوم أحد‪ ،‬حني محي القتال بني املسلمني واملشركني واملؤمنني‪ .‬راح زيد بن اخلطاب يضرب‬
‫ويضرب‪..‬‬
‫وأبصره أخوه عمر بن اخلطّاب‪ ،‬وقد سقط درعه عنه‪ ،‬وأصبح أدىن مناال لألعداء‪ ،‬فصاح به عمر‪.‬‬
‫" خذ درعي يا زيد فقاتل هبا"‪..‬‬
‫فأجابه زيد‪:‬‬
‫" اين أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"‪!!!..‬‬
‫وظل يقاتل بغري درع يف فدائية باهرة‪ ،‬واستبسال عظيم‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 269‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الر ّجال متمنيّا أن يكون االجهاز على حياته اخلبيثة‬


‫يتحرق شوقا للقاء ّ‬
‫قلنا انه رضي اهلل عنه‪ ،‬كان ّ‬
‫فالر ّجال يف رأي زيد‪ ،‬مل يكن مرت ّدا فحسب‪ ..‬بل كان ك ّذابا منافقا‪ ،‬وصوليا‪.‬‬‫من حظه وحده‪ّ ..‬‬
‫مل يرت ّد عن اقتناع‪ ..‬بل عن وصولية حقرية‪ ،‬ونفاق يغيض هزيل‪.‬‬
‫وزيد يف بغضه النفاق والكذب‪ ،‬كأخيه عمر متاما‪!..‬‬
‫كالمها ال يثري امشئزازه‪ ،‬وال يستجسش بغضاءه‪ ،‬مثل النفاق الذي‪ R‬تزجيه النفعيّة اهلابطة‪ ،‬واألغراض‬
‫الدنيئة‪.‬‬
‫الر ّجال دوره اآلمث‪ ،‬فأرىب عدد امللتفني حول مسيلمة ارباء‬ ‫ومن أجل تلك األغراض‪ R‬املنحطّة‪ ،‬لعب ّ‬
‫الردة‪..‬‬
‫فاحشا‪ ،‬وهو هبذا يق ّدم بيديه اىل املوت واهلالك أعدادا كثرية ستالقي حتفها يف معارك ّ‬
‫أضلّها أوال‪ ،‬وأهلكها أخريا‪ ..‬ويف سبيل ماذا‪..‬؟ يف سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه‪ ،‬وزخرفها له‬
‫هواه‪ ،‬ولقد‪ R‬أع ّد زيد نفسه ليختم حياته املؤمنة مبحق هذه الفتنة‪ ،‬ال يف شخص مسيلمة بل يف شخص‬
‫الر ّجال بن عنفوة‪.‬‬
‫من هو أكرب من خطرا‪ ،‬وأش ّد جرما ّ‬

‫**‬

‫مكهرا شاحبا‪.‬‬
‫وبدأ يوم اليمامة ّ‬
‫ومجع خالد بن الوليد جيش االسالم‪ ،‬ووزعه على مواقعه ودفع لواء اجليش اىل من‪..‬؟؟‬
‫اىل زيد بن اخلطّاب‪.‬‬
‫وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتاال مستميتا ضاريا‪..‬‬
‫ومالت املعركة يف بدايتها على املسلمني‪ ،‬وسقط منهم شهداء كثريون‪.‬‬
‫ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة املسلمني‪ ،‬فعال ربوة هناك‪ ،‬وصاح يف اخوانه‪:‬‬
‫عدوكم‪ ،‬وامضوا قدما‪ ..‬واهلل ال أتكلم حىت‬
‫" أيها الناس‪ ..‬عضوا على أضراسكم‪ ،‬واضربوا‪ R‬يف ّ‬
‫يهزمهم اهلل‪ ،‬أو ألقاه سبحانه فأكلمه حبجيت"‪!!..‬‬
‫حيرك لسانه هبمس‪.‬‬
‫زاما شفتيه ال ّ‬
‫عاضا على أضراسه‪ّ ،‬‬‫ونزل من فوق الربوة‪ّ ،‬‬
‫‪ | 270‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الر ّجال‬
‫اخلضم املقتتل كالسهم‪ ،‬باحثا عن ّ‬
‫ّ‬ ‫الر ّجال‪ ،‬فراح خيرتق‬
‫وتر ّكز مصري املعركة لديه يف مصري ّ‬
‫حىت أبصره‪..‬‬

‫وهناك راح يأتيه من ميني‪ ،‬ومن مشال‪ ،‬وكلما ابتلع طوفان املعركة غرميه وأخفاه‪ ،‬غاص زيد وراءه‬
‫حىت يدفع‪ R‬املوج اىل السطح من جديد‪ ،‬فيقرتب منه زيد ويبسط اليه سيفه‪ ،‬ولكن املوج البشري احملتدم‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي ال يفلت‪..‬‬ ‫الر ّجال ّ‬
‫يبتلع ّ‬
‫وخسة‪..‬‬
‫وأخريا ميسك خبناقه‪ ،‬ويطوح بسيفه رأسه اململوء غرورا‪ ،‬وكذبا‪ّ ،‬‬
‫فدب الرعب يف نفس مسيلمة يف روع احملكم بن‬ ‫وبسقوط األكذوبة‪ ،‬أخذ عاملها كله يتساقط‪ّ ،‬‬
‫الر ّجال فيه كالنار يف يوم عاصف‪..‬‬‫الطفيل مث يف جيش مسيلمة الذي طار مقتل ّ‬
‫والر ّجال بن عنفوة‪ ،‬واحملكم بن طفيل سيقومون‬‫لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر احملتوم‪ ،‬وبأنه هو ّ‬
‫غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم‪!!..‬‬
‫فنبوة مسيلمة كلها كاذبة‪..‬‬‫الر ّجال قد سقط صريعا‪ ..‬اذن ّ‬ ‫وها هو ذا ّ‬
‫وغدا سيقط احملكم‪ ،‬وبعد غد مسيلمة‪!!..‬‬
‫هكذا احدثت ضربة زيد بن اخلطاب كل هذا املدار يف صفوف مسيلمة‪..‬‬
‫أما املسلمون‪ ،‬فما كاد اخلرب يذيع بينهم حىت تشاخمت‪ R‬عزماهتم كاجلبال‪ ،‬وهنض جرحيهم من جديد‪،‬‬
‫حامال سيفه‪ ،‬وغري عابئ جبراحه‪..‬‬
‫مس النبأ‬
‫حىت الذين كانوا على شفا املوت‪ ،‬ال يصلهم باحلياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب‪ّ ،‬‬
‫فودوا‪ R‬لو أ ّن هبم ّقوة يعودون هبا اىل احلياة ليقاتلو‪ ،‬وليشهدوا النصر يف روعة‬
‫أمساعهم كاحللم اجلميل‪ّ ،‬‬
‫ختامه‪..‬‬
‫ولكن أىّن هلم هذا‪ ،‬وقد تفتحل أبواب اجلنّة الستقباهلم واهنم‪ R‬اآلن ليسمعون‪ R‬أمساءهم وهم ينادون‬
‫للمثول‪..‬؟؟!!‬

‫**‬
‫‪ | 271‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫رفع‪ R‬زيد بن اخلطاب ذراعيه اىل السماء‪ R‬مبتهال لربّه‪ ،‬شاكرا نعمته‪..‬‬
‫مث عاد اىل سيفه واىل صمته‪ ،‬فلقد أقسم باهلل من حلظات أال يتكلم حىت يتم النصر أو ينال الشهادة‪..‬‬
‫ولقد أخذت املعركة متضي الحل املسلمني‪ ..‬وراح نصرهم احملتوم يقرتب ويسرع‪..‬‬

‫هنالك وقد رأى زيد رياح النر مقبلة‪ ،‬مل يعرف حلياته ختاما أروع من هذا اخلتام‪ ،‬فتمىّن لو يرزقه‬
‫اهلل الشهادة يف يوم اليمامة هذا‪..‬‬
‫وهبّت رياح اجلنة فمألت نفسه شوقا‪ ،‬ومآقيه دموعا‪،‬وعزمه اصرارا‪..‬‬
‫وراح يضرب ضرب الباحث عن مصريه العظيم‪..‬‬
‫وسقط البطل شهيدا‪..‬‬
‫بل قولوا‪ R:‬صعد شهيدا‪..‬‬
‫ممجدا‪ ،‬سعيدا‪..‬‬
‫صعد عظيما‪ّ ،‬‬
‫وعاد جيش االسالم اىل املدينة ظافرا‪..‬‬
‫وبينما كان عمر‪ ،‬يستقبل مع اخلليفة أيب بكرو أولئك العائدين الظافرين‪ ،‬راح يرمق بعينني مشتاقني‬
‫أخاه العائد‪..‬‬
‫تعرف العني عليه أمرا ميسورا‪..‬‬
‫وكان زيد طويل بائن الطول‪ ،‬ومن مثّ كان ّ‬
‫عزاه يف زيد‪..‬‬
‫ولكن قبل أن جيهد بصره‪ ،‬اقرتب اليه من املسلمني العائدين من ّ‬
‫وقال عمر‪:‬‬
‫" رحم اهلل زيدا‪..‬‬
‫سبقين اىل احلسنيني‪..‬‬
‫أسلم قبلي‪..‬‬
‫واستشهد قبلي"‪.‬‬
‫‪ | 272‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫وعلى كثرة االنتصارات اليت راح االسالم يظفر هبا وينعم‪ ،‬فان زيدا‪ R‬مل يغب عن خاطر أخيه‬
‫الفاروق حلظة‪..‬‬
‫ودائما كان يقول‪:‬‬
‫" ما هبّت الصبا‪ ،‬اال وجدت منها ريح زيد"‪.‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫ان الصبا لتحمل ريح زيد‪ ،‬وعبري مشائله املتفوقة‪..‬‬
‫ولكن‪ ،‬اذا اذن أمري املؤمنني‪ ،‬أضفت لعبارته اجلليلة هذه‪ ،‬كلمات تكتمل معها جوانب االطار‪.‬‬
‫تلك هي‪:‬‬
‫" ‪ ..‬وما هبّت رياح النصر على االسالم منذ يوم اليمامة اال وجد االسالم فيها ريح زيد‪ ..‬وبالء‬
‫زيد‪ ..‬وبطولة زيد‪ ..‬وعظمة زيد‪"!!..‬‬

‫**‬

‫بورك آل اخلطّاب حتت راية رسول اهلل صلى اهلل عليهوسلم‪..‬‬


‫بوركوا‪ R‬يوم أسلموا‪ ..‬وبوركوا‪ R‬أيام جاهدوا‪ ،‬واستشهدوا‪ ..‬وبوركوا يوم يبعثون‪!!..‬‬

‫طلحة بن عبيد اهلل‬


‫صقر يوم أحد‬

‫( من املؤمنني رجال صدقوا‪ R‬ما عاهدوا اهلل عليه فمنهم من قضى حنبه ومنهم من ينتظر‪ ،‬وما ب ّدلوا‪R‬‬
‫تبديال)‪...‬‬
‫‪ | 273‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫تال الرسول صلى اهلل عليه وسلم هذه اآلية الكرمية‪ ،‬مث استقبل وجوه أصحابه‪ ،‬وقال وهو يشري اىل‬
‫طلحة‪:‬‬
‫سر ه أن ينظر اىل رجل ميشي على األرض‪ ،‬وقد قضى حنبه‪ ،‬فلينظر اىل طلحة"‪!!..‬‬ ‫" من ّ‬
‫ومل تكن مثة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول اهلل‪ ،‬وتطري قلوهبم‪ R‬شوقا اليها أكثر من هذه اليت قلّدها‬
‫النيب طلحة بن عبيد اهلل‪..‬‬
‫لقد اطمأن اذن اىل عاقبة أمره ومصري حياته‪ ..‬فسيحيا‪ ،‬وميوت‪ ،‬وهو واحد من الذين صدقوا ما‬
‫عاهدوا‪ R‬اهلل عليه ولن تناله فتنة‪ ،‬ولن يدركه لغوب‪..‬‬
‫املبشر الكرمي‪..‬؟؟‬
‫بشره الرسول باجلنة‪ ،‬فماذا كانت حياة هذا ّ‬ ‫ولقد ّ‬

‫**‬

‫لقد كان يف جتارة له بأرض بصرى حني لقي راهبا من خيار رهباهنا‪ ،‬وأنبأه أن النيب الذي‪ R‬سيخرج‬
‫أهل عصره وأشرقت أيامه‪..‬‬‫من بالد احلرم‪ ،‬والذي‪ R‬تنبأ به األنبياء الصاحلون قد ّ‬
‫وحر طلحة أن يفوته موكبه‪ ،‬فانه موكب اهلدى والرمحة واخلالص‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وحني عاد طلحة اىل بلده مكة بعد شهور قضاها يف بصرى ويف السفر‪ ،‬الفى بني أهلها ضجيجا‪..‬‬
‫ومسعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم‪ ،‬أو جبماعة منهم عن حممد األمني‪ ..‬وعن الوحي الذي يأتيه‪..‬‬
‫وعن الرسالة اليت حيملها اىل العرب خاصة‪ ،‬واىل الناس كافة‪..‬‬
‫وسأل طلحة أول ما سأل أيب بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وجتارته من زمن غري بعيد‪ ،‬وأنه يقف اىل‬
‫جوار حممد‪ R‬مؤمنا منافحا‪ّ ،‬أوابا‪..‬‬
‫وح ّدث طلحة نفسه‪ :‬حممد‪ ،‬وأبو بكر‪..‬؟؟‬
‫تاهلل ال جيتمع االثنان على ضاللة أبدا‪!!.‬‬
‫ولقد بلغ حممد األربعني من عمره‪ ،‬وما عهدنا عليه خالل هذا العمر كذبة واحدة‪ ..‬أفيكذب اليوم‬
‫ايل وحيا‪..‬؟؟‬
‫على اهلل‪ ،‬ويقول‪ :‬أنه أرسلين وأرسل ّ‬
‫‪ | 274‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهذا هو الذي‪ R‬يصعب تصديقه‪..‬‬


‫وأسرع طلحة اخلطى ميمما وجهه شطر دار أيب بكر‪..‬‬
‫ومل يطل احلديث بينهما‪ ،‬فقد كان شوقه اىل لقاء الرسول صلى اهلل عليه وسلم ومبايعته أسرع من‬
‫دقات قلبه‪..‬‬
‫فصحبه أبو بكر اىل الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬حيث أسلم وأخذ مكانه يف القافلة املباركة‪..‬‬
‫وهكذا كان طلحة من املسلمني املبكرين‪.‬‬

‫**‬

‫وعلى الرغم من جاهه يف قومه‪ ،‬وثرائه العريض‪ ،‬وجتارته الناجحة فقد محل حظه من اضطهاد‬
‫قريش‪ ،‬اذ وكل به وبأيب بكر نوفل بن خويلد‪ ،‬وكان يدعى أسد قريش‪ ،‬بيد أن اضطهادمها مل يطل‬
‫مداه‪ ،‬اذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها‪ ،‬وخافت عاقبة أمرها‪..‬‬
‫وهاجر طلحة اىل املدينة حني أمر املسلمون باهلجرة‪ ،‬مث شهد املشاهد كلها مع رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬عدا غزوة بدر‪ ،‬فان الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد ملهمة‬
‫خارج املدينة‪..‬‬
‫وملا أجنزاها ورجعا قافلني اىل املدينة‪ ،‬كان النيب وصحبه عائدين من غزوة بدر‪ ،‬فآمل نفسيهما أن‬
‫يفوهتما أجر مشاركة الرسول صلى اهلل عليه وسلم باجلهاد يف أوىل غزواته‪..‬‬
‫بيد أن الرسول أهدى اليهما طمأنينة سابغة‪ ،‬حني انبأمها أن هلما من املثوبة واألجر مثل ما للمقاتلني‬
‫متاما‪ ،‬بل وقسم هلما من غنائم املعركة مثل من شهدوها‪..‬‬
‫وتؤمن مصريها‬
‫وجتيء غزوة أحد لتشهد كل جربوت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر ّ‬
‫بانزال هزمية هنائية باملسلمني‪ ،‬هزمية حسبتها قريش أمرا ميسورا‪ ،‬وقدرا مقدورا‪!!..‬‬
‫ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت األرض‪ R‬حبصادها األليم‪ ..‬ودارت الدائرة على املشركني‪..‬‬
‫‪ | 275‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث ملا رآهم املسلمون ينسحبون وضعوا‪ R‬أسلحتهم‪ ،‬ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من‬
‫الغنائم‪..‬‬
‫وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حني بغتة‪ ،‬فامتلك ناصية احلرب زمام املعركة‪..‬‬
‫واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه‪ ،‬وكان للمفاجأة أثرها يف تشتيت صفوف املسلمني‪..‬‬
‫وأبصر طلحة جانب املعركة اليت يقف فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فألفاه قد صار هدفا‬
‫لقوى الشرك والوثنية‪ ،‬فسارع حنو الرسول‪..‬‬
‫وراح رضي اهلل عنه جيتاز طريقا ما أطوله على قصره‪ !..‬طريقا تعرتض كل شرب منه عشرات السيوف‬
‫املسعورة وعشرات من الرماح اجملنونة!!‬
‫فجن‬
‫ورأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدمو ويتحامل على نفسه‪ّ ،‬‬
‫جنونه‪ ،‬وقطع طريق اهلول يف قفزة أو قفزتني وأمام الرسول وجد ما خيشاه‪ ..‬سيوف املشركني تلهث‬
‫حنوه‪ ،‬وحتيط به تريد أن تناله بسوء‪..‬‬

‫ووقف طلحة كاجليش اللجب‪ ،‬يضرب بسيفه البتار ميينا ومشاال‪..‬‬


‫ورأى دم الروسل الكرمي ينزف‪ ،‬وآالمه تئن‪ ،‬فسانده ومحله بعيدا عن احلفرة اليت زلت‪ R‬فيها قدمه‪..‬‬
‫كان يساند الرسول عليه الصالة والسالم بيسراه وصدره‪ ،‬متأخرا به اىل مكان آمن‪ ،‬بينما بيمينه‪،‬‬
‫بارك اهلل ميينه‪ ،‬تضرب بالسيف وتقاتل املشركني الذين أحاطوا بالرسول‪ ،‬وملؤا دائرة القتال مثل‬
‫اجلراد‪!!..‬‬
‫ولندع الص ّديق أبا بكر رضي اهلل عنه يصف لنا املشهد‪..‬‬
‫تقول عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬
‫" كان أبو بكر اذا ذكر يوم أحد يقول‪ :‬ذلك كله كان يوم طلحة‪ ..‬كنت أول من جاء اىل النيب‬
‫اجلراح‪ :‬دونكم اخاكم‪..‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال يل الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأليب عبيدة بن ّ‬
‫ونظرنا واذا به بضع وسبعون بني طعنة‪ ..‬وضربة ورمية‪ ..‬واذا أصبعه مقطوع‪ .‬فأصلحنا من شانه" ‪.‬‬
‫‪ | 276‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫ويف مجيع املشاهد والغزوات‪ ،‬كان طلحة يف مق ّدمة الصفوف يبتغي وجه اهلل‪ ،‬ويفتدي راية رسوله‪.‬‬
‫ويعيش طلحة وسط اجلماعة املسلمة‪ ،‬يعبد اهلل مع العابدين‪ ،‬وجياهد يف سبيله مع اجملاهدين‪ ،‬ويرسي‬
‫بساعديه مع سواعد اخوانه قواعد الدين اجلديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات اىل النور‪..‬‬
‫منميا جتارته الراحبة‪ ،‬وأعماله‬
‫فاذا قضى حق ربه‪ ،‬راح يضرب يف األرض‪ ،‬ويبتغي من فضل اهلل ّ‬
‫الناجحة‪.‬‬
‫فقد كان طلحة رضي اهلل عته من أكثر املسلمني ثراء‪ ،‬وأمناهم ثروة‪..‬‬
‫وكانت ثروته كلها يف خدمة الدين الذي محل مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رايته‪...‬‬
‫كان ينفق منها بغري حساب‪..‬‬
‫ينميها له بغري حساب!‬
‫وكان اله ّ‬

‫لقد ل ّقبه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بـ طلحة اخلري‪ ،‬وطلحة اجلود‪ ،‬وطلحة الفيّاض اطراء جلوده‬
‫املفيض‪.‬‬
‫وما أكثر ما كان خيرج من ثروته مرة واحدة‪ ،‬فاذا اهلل الكرمي يردها اليه مضاعفة‪.‬‬

‫حت ّدثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول‪:‬‬


‫" دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما‪ ،‬فسألته ما شانك‪..‬؟‬
‫فقال املال الذي‪ R‬عندي‪ ..‬قد كثر حىت أمهّين وأكربين‪..‬‬
‫وقلت له ما عليك‪ ..‬اقسمه‪..‬‬
‫فقام ودعا الناس‪ ،‬واخذ يقسمه عليهم حىت ما بقي منه درهم"‪...‬‬
‫ومرة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع‪ ،‬ونظر اىل كومة املال ففاضت عيناه من الدمع‪ R‬مث قال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫" ان رجال تبيت هذه األموال يف بيته ال يدري ما يطرق من أمر‪ ،‬ملغرور باهلل"‪...‬‬
‫‪ | 277‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث دعا بعض أصحابه ومحل معهم أمواله هذه‪ ،‬ومضى يف شوارع املدينة وبيوهتا يوزعها‪ ،‬حىت أسحر‬
‫وما عنده منها درهم‪!!..‬‬
‫ويصف جابر بن عبداهلل جود طلحة فيقول‪:‬‬
‫" ما رأيت أحد اعطى جلزيل مال من غري مسألة‪ ،‬من طلحة بن عبيد اهلل"‪.‬وكان أكثر الناس ّبرا بأهله‬
‫وبأقربائه‪ ،‬فكان يعوهلم مجيعا على كثرهتم‪..‬‬
‫وقد قيل عنه يف ذلك‪:‬‬
‫"‪ ..‬كان ال يدع أحدا من بين تيم عائال اال كفاه مؤنته‪ ،‬ومؤنة عياله‪..‬‬
‫وكان يزوج أيامهم‪ ،‬وخيدم‪ R‬عائلهم‪ ،‬ويقضي دين غارمهم"‪..‬‬

‫ويقول السائب بن زيد‪:‬‬


‫أعم سخاء على الدرهم‪ ،‬والثوب‬
‫" صجبت طلحة بن عبيداهلل يف السفر واحلضر فما وجدت أحدا‪ّ ،‬‬
‫والطعام من طلحة"‪!!..‬‬

‫وتنشب الفتنة املعروفة يف خالفة عثمان رضي اهلل عنه‪..‬‬


‫ويؤيد طلحة حجة املعارضني لعثمان‪ ،‬ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيري واصالح‪..‬‬
‫أكان مبوقفه هذا‪ ،‬يدعو اىل قتل عثمان‪ ،‬أو يرضى به‪..‬؟؟ كال‪...‬‬
‫ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حىت تتفجر آخر األمر حقدا خمبوال‪ ،‬ينفس عن نفسه يف تلك اجلناية‬
‫البشعة اليت ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫نقول‪ :‬لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى اىل هذا املأزق واملنتهى لقاومها‪ ،‬ولقاومها معه بقية األصحاب‬
‫الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وحتذير‪ ،‬ال أكثر‪..‬‬
‫‪ | 278‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حتول اىل عقدة حياته بعد الطريقة البشعة اليت حوصر هبا عثمان وقتل‪،‬‬‫على أن موقف طلحة هذا‪ّ ،‬‬
‫علي يقبل بيعة املسلمني باملدينة ومنهم‪ R‬طلحة والزبري‪ ،‬حىت استأذن االثنان يف اخلروج‬
‫فلم يكد االمام‪ّ R‬‬
‫اىل مكة للعمرة‪..‬‬
‫تتجمع لألخذ بثأر عثمان‪..‬‬
‫ومن مكة توجها اىل البصرة‪ ،‬حيث كانت قوات كثرية ّ‬
‫وكانت وقعة اجلمل حيث التقى الفريق املطالب بدم عثمان‪ ،‬والفريق الذي يناصر عليّا‪..‬‬
‫علي كلما أدار خواطره على املوقف العسر الذي‪ R‬جيتازه االسالم واملسلمون يف هذه اخلصومة‬ ‫وكان ّ‬
‫الرهيبة‪ ،‬تنتفض مهومه‪ ،‬وهتطل دموعه‪ ،‬ويعلو نشيجه‪!!..‬‬

‫لقد اضطر اىل امأزق الوعر‪..‬‬


‫مترد على الدولة‪ ،‬أو أي‬
‫فبوصفه خليفة املسلمني ال يستطيع‪ ،‬وليس من حقه أن يتسامح جتاه أي ّ‬
‫مناهضة مسلحة للسلطة املشروعة‪..‬‬
‫متر د من هذ النوع‪ ،‬فان عليه أن يواجه اخوانه وأصحابه وأصدقاءه‪ ،‬وأتباع رسوله‬
‫وحني ينهض لقمع‪ّ R‬‬
‫ودينه‪ ،‬أولئك الذين طاملا قاتل معهم جيوش الشرك‪ ،‬وخاضوا معا حتت راية التوحيد معارك صهرهتم‪R‬‬
‫وصقلتهم‪ ،‬وجعلت منهم اخوانا بل اخوة متعاضدين‪..‬‬
‫فأي مأزق هذا‪..‬؟ وأي ابتالء عسري‪..‬؟‬
‫توسل‬
‫ويف سبيل التماس خمرج من هذا املأزق‪ ،‬وصون دماء املسلمني مل يرتك االمام علي وسيلة اال ّ‬
‫هبا‪ ،‬وال رجاء اال تعلق به‪.‬‬
‫ولكن العناصر اليت كانت تعمل ض ّد االسالم‪ ،‬وما أكثرها‪ ،‬واليت لقيت مصريها الفاجع على يد الدولة‬
‫املسلمة‪ ،‬أيام عاهلها العظيم عمر‪ ،‬هذه العناصر‪ R‬كانت قد أحكمت نسج الفتنة‪ ،‬وراحت تغذيها‬
‫وتتابع سريها وتفاقمها‪...‬‬

‫**‬
‫‪ | 279‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫علي بكاء غزيرا‪ ،‬عندما أبصر أم املؤمنني عائشة يف هودجها على رأس اجليش الذي خيرج اآلن‬ ‫بكى ّ‬
‫لقتاله‪..‬‬
‫حورايي رسول اهلل‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وعندما أبصر وسط اجليش طلحة والزبري‪،‬‬
‫فنادى طلحة والزبري ليخرجا اليه‪ ،‬فخرجا حىت اختلفت أعناق أفراسهم‪..‬‬
‫فقال لطلحة‪:‬‬
‫" يا طلحة‪ ،‬أجئت بعرس رسول اهلل تقاتل هبا‪ .‬وخبأت عرسك يف البيت"‪..‬؟؟‬
‫مث قال للزبري‪:‬‬
‫مر بك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحنن مبكان كذا‪ ،‬فقال‬ ‫" يا زبري‪ ،‬نشدتك اهلل‪ ،‬أتذكر يوم ّ‬
‫حتب عليّا‪..‬؟‬
‫لك‪ :‬يا زبري‪ ،‬أال ّ‬
‫فقلت‪ :‬أال أحب ابن خايل‪ ،‬وابن عمي‪ ،‬ومن هو على ديين‪..‬؟؟‬
‫فقال لك‪ :‬يا زبري‪ ،‬أما واهلل لتقاتلنه وأنت له ظامل"‪!!..‬‬
‫قال الزبري رضي اهلل عنه‪ :‬نعم أذكر اآلن‪ ،‬وكنت قد نسيته‪ ،‬واهلل ال أقاتلك‪..‬‬
‫وأقلع الزبري وطلحة عن االشرتاك يف هذه احلرب األهلية‪..‬‬
‫علي‪ ،‬تذكرا قول رسول اهلل‬
‫أقلعا فور‪ R‬تبيّنهما األمر‪ ،‬وعندما أبصرا عمار بن ياسر حيارب يف صف ّ‬
‫لعمار‪:‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫" تقتلك الفئة الباغية"‪..‬‬
‫عمار اذن يف هذه املعركة اليت يشرتك فيها طلحة‪ ،‬فسيكون طلحة باغيا‪...‬‬ ‫فان قتل ّ‬

‫**‬

‫انسحب‪ R‬طلحة والزبري من القتال‪ ،‬ودفعا مثن ذلك االنسحاب حياهتما‪ ،‬ولكنهما لقيا اهلل قريرة‬
‫من عليهما من بصرية وهدى‪..‬‬ ‫أعينهما مبا ّ‬
‫أما الزبري فقد تعقبه رجل امسه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي‪!!..‬‬
‫‪ | 280‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأما طلحة فقد رماه مروان بن احلكم بسهم أودى حبياته‪..‬‬

‫**‬

‫كان مقتل عثمان قد تش ّكل يف نفسية طلحة‪ ،‬حىت صار عقدة حياته‪..‬‬
‫حيرض عليه‪ ،‬وامنا ناصر املعارضة ض ّده‪ ،‬يوم مل يكن يبدو أن‬
‫كل هذا‪ ،‬مع أنه مل يشرتك بالقتل‪ ،‬ومل ّ‬
‫املعارضة ستتمادى وتتأزم حىت تتحول اىل تلك اجلرمية البشعة‪..‬‬

‫وحني أخذ مكانه يوم اجلمل مع اجليش املعادي لعلي بن أيب طالب واملطالب بدم عثمان‪ ،‬كان يرجو‬
‫أن يكون يف موقفه هذا ك ّفارة ترحيه من وطأة ضمريه‪..‬‬
‫وكان قبل بدء املعركة يدعو ويضرع بصوت ختنقه الدموع‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫" اللهم خذ مين لعثمان اليوم حىت ترضى"‪..‬‬

‫علي جوانب نفسيهما‪ ،‬فرأيا الصواب وتركا أرض‬ ‫علي هو والزبري‪ ،‬أضاءت كلمات ّ‬ ‫فلما واجهه ّ‬
‫القتال‪..‬‬
‫بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون‪..‬‬
‫أمل يقل الرسول عنه‪:‬‬
‫سره أن يرى شهيدا ميشي على األرض‪ ،‬فلينظر اىل طلحة"‪..‬؟؟‬ ‫" هذا ممن قضى حنبه‪ ،‬ومن ّ‬
‫لقي الشهيد اذن مصريه املقدور والكبري‪ ،‬وانتهت‪ R‬وقعة اجلمل‪.‬‬
‫وأدركت‪ R‬أم املؤمنني أهنا تعجلت األمور فغادرت البصرة اىل البيت احلرام فاملدينة‪ ،‬نافضة يديها من‬
‫وزودها االمام علي يف رحلتها بكل وسائل الراحة والتكرمي‪..‬‬ ‫هذا الصراع‪ّ ،‬‬
‫علي يستعرض شهداء املعركة راح يصلي عليهم مجيعا‪ ،‬الذين كانوا معه‪ ،‬والذين كانوا‪R‬‬ ‫وحني كان ّ‬
‫ض ّده‪..‬‬
‫وملا فرغ من دفن طلحة‪ ،‬والزبري‪ ،‬وقف يودعهما بكلمات جليلة‪ ،‬اختتمها قائال‪:‬‬
‫‪ | 281‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" اين ألرجو أن أكون أنا‪ ،‬وطلحة والزبري وعثمان من الذين قال اهلل فيهم‪( :‬ونزعنا ما صدورهم من‬
‫غل اخوانا على سرر متقابلني)"‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ضم قربيهما‪ R‬بنظراته احلانية الصافية‪ R‬اآلسية وقال‪:‬‬
‫مث ّ‬
‫" مسعت أذناي هاتان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫" طلحة والزبري‪ ،‬جاراي يف اجلنّة"‪...‬‬
‫العوام‬
‫الزبري بن ّ‬
‫حواري رسول اهلل‬
‫ّ‬

‫ال جييء ذكر طلحة اال ويذكر الزبري معه‪..‬‬


‫وال جييء ذكر الزبري اال ويذكر طلحة معه‪..‬‬
‫فحني كان الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬يؤاخي بني أصحابه يف مكة قبل اهلجرة‪ ،‬آخى بني طلحة‬
‫والزبري‪.‬‬
‫وطاملا كان عليه السالم يتحدث عنهما معا‪ ..‬مثل قوله‪:‬‬
‫" طلحة والزبري جاراي‪ R‬يف اجلنة"‪.‬‬
‫وكالمها جيتمع مع الرسول يف القرابة والنسب‪.‬‬
‫أما طلحة‪ ،‬فيجتمع‪ R‬يف نسبه مع الرسول يف مرة بن كعب‪.‬‬
‫قصي بن كالّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى اهلل‬ ‫وأما الزبري‪ ،‬فيلتقي يف نسبه مع الرسول يف ّ‬
‫عليه وسلم‪..‬‬
‫وكل منهما طلحة والزبري كان أكثر الناس شبها باآلخر يف مقادير احلياة‪..‬‬
‫فالتماثل بينهما كبري‪ ،‬يف النشأة‪ ،‬يف الثراء‪ ،‬يف السخاء‪ ،‬يف قوة الدين‪ ،‬يف روعة الشجاعة‪ ،‬وكالمها من‬
‫املسلمني املبكرين باسالمهم‪...‬‬
‫بشرهم الرسول باجلتة‪ .‬ومن أصحاب الشورى‪ R‬الستة الذين و ّكل اليهم عمر‬ ‫ومن العشرة الذين ّ‬
‫اختيار اخلليفة من بعده‪.‬‬
‫‪ | 282‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحىت مصريمها كان كامل التماثل‪ ..‬بل كان مصريا واحدا‪.‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬أسلم الزبري‪ ،‬اسالما مبكرا‪ ،‬اذ كان واحدا من السبعة األوائل الذين سارعوا اىل االسالم‪،‬‬
‫وأسهموا‪ R‬يف طليعته املباركة يف دار األرقم‪..‬‬
‫وكان عمره يومئذ مخس عشر سنة‪ ..‬وهكذا رزق اهلدى والنور‪ R‬واخلري صبيا‪..‬‬
‫ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه‪ .‬حىت ان املؤرخني ليذكرون أن أول سيف شهر يف االسالم كان‬
‫سيف الزبري‪.‬‬
‫ففي األيام األوىل لالسالم‪ ،‬واملسلمون يومئذ قلة يستخفون يف دار األرقم‪ ..‬سرت اشاعة ذات يوم أن‬
‫استل سيفه وامتشقه‪ ،‬وسار يف شوارع مكة‪ ،‬على حداثة سنه‬ ‫الرسول قتل‪ ..‬فما كان من الزبري اال أن ّ‬
‫كاالعصار‪!..‬‬
‫ذهب أوال يتبنّي اخلرب‪ ،‬معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه يف رقاب قريش كلها حىت يظفرهبم‬
‫أو يظفروا به‪..‬‬
‫ويف أعلى مكة لقيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فسأله ماذا به‪....‬؟ فأهنى اليه الزبري النبأ‪ ..‬فصلى‬
‫عليه الرسول‪ ،‬ودعا له باخلري‪ ،‬ولسيفه بالغلب‪.‬‬
‫وعلى الرغم من شرف الزبري يف قومه فقد محل حظه من اضطهاد قريش وعذاهبا‪.‬‬
‫وكان الذي‪ R‬توىل تعذيبع عمه‪ ..‬كان يلفه يف حصري‪ ،‬ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه‪ ،‬ويناديه‬
‫وهو حتت وطأة العذاب‪ ":‬أكفر برب حممد‪ ،‬أدرأ عنك العذاب"‪.‬‬
‫غض العظام‪ ..‬جييب عمه يف حت ّد رهب‪:‬‬ ‫فيجيبه الزبري الذي مل يكن يوم ذاك أكثر من فىت ناشئ‪ّ ،‬‬
‫" ال‪..‬‬
‫واهلل ال أعود لكفر أبدا"‪...‬‬
‫‪ | 283‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويهاجر الزبري اىل احلبشة‪ ،‬اهلجرتني األوىل والثانية‪ ،‬مث يعود ليشهد املشاهد كلها مع رسول اهلل‪ .‬ال‬
‫تفتقده غزوة وال معركة‪.‬‬

‫وما أكثر الطعنات اليت تلقاها جسده واحتفظ هبا بعد اندمال جراحاهتا‪ ،‬أومسة حتكي بطولة الزبري‬
‫وأجماده‪!!..‬‬
‫ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك األومسة اليت تزدحم على جسده‪ ،‬حيدثنا عنها فيقول‪:‬‬
‫العوام يف بعض أسفاره ورأيت جسده‪ ،‬فرأيته جم ّذعا بالسيوف‪ ،‬وان يف صدره‬ ‫" صحبت الزبري بن ّ‬
‫ألمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬واهلل لقد شهدت جبسمك ما مل أره بأحد قط‪.‬‬
‫فقال يل‪ :‬أم واهلل ما منها جراحة اال مع رسول اهلل ويف سبيل اهلل"‪..‬‬
‫ويف غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا اىل مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش‬
‫قريش ومطاردته حىت يروا أن املسلمني قوة فال يفكروا يف الرجوع اىل املدينة واستئناف القتال‪..‬‬

‫وقاد أبو بكر والزبري سبعني من املسلمني‪ ،‬وعلى الرغم من أهنم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان‬
‫اللباقة احلربية اليت استخدمها الصديق والزبري‪ ،‬جعلت قريشا تظن أهنا أساءت تقدير خسائر املسلمني‪،‬‬
‫وجعلتها حتسب أن هذه الطليعة القوية اليت أجاد الزبري مع الصديق ابراز قوهتا‪ ،‬وما هي اال مقدمة‬
‫جليش الرسول الذي‪ R‬يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغ ّذت قريش سريها‪ ،‬وأسرعت خطاها اىل‬
‫مكة‪!!..‬‬

‫ويوم الريموك‪ R‬كان الزبري جيشا وحده‪ ..‬فحني رأى أكثر املقاتلني الذين كان على رأسهم يتقهقرون‬
‫أمام جبال الروم الزاحفة‪ ،‬صاح هو" اهلل أكرب"‪ ..‬واخرتق تلك اجلبال الزاحفة وحده‪ ،‬ضاربا بسيفه‪..‬‬
‫مث قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاهتا‪ ،‬وسيف يتوهج يف ميينه ال يكبو‪ ،‬وال حيبو‪!!..‬‬
‫وكان رضي اهلل عنه شديد الولع بالشهادة‪ ،‬عظيم الغرام‪ R‬باملوت يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫‪ | 284‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكان يقول‪:‬‬
‫" ان طلحة بن عبيد اهلل يسمي بنيه بأمساء األنبياء‪ ،‬وقد علم أال نيب بعد حممد‪...‬‬
‫بين بأمساء الشهداء لعلهم يستشهدون"‪!.‬‬ ‫واين ألمسي ّ‬
‫وهكذا مسى ولده‪ ،‬عبداهلل بن الزبري تيمنا بالصحايب الشهيد‪ R‬عبداهلل بن جحش‪.‬‬
‫ومسى ولده املنذر‪ ،‬تيمنا بالشهيد‪ R‬املنذر بن عمرو‪.‬‬
‫ومسى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو‪.‬‬
‫ومسى محزة تيمنا بالشهيد‪ R‬اجلليل عم الرسول محزة بن عبداملطلب‪.‬‬
‫ومسّى جعفر‪ ،‬تيمنا بالشهيد الكبري جعفر بن أيب طالب‪.‬‬
‫ومسى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمري‪.‬‬
‫ومسى خالد تيمنا بالصحايب الشهيد خالد بن سعيد‪..‬‬
‫وهكذا راح خيتار ألبنائه أمساء الشهداء‪ .‬راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجاهلم شهداء‪.‬‬
‫ولقد قيل يف تارخيه‪:‬‬
‫" انه ما ويل امارة فط‪ ،‬وال جباية‪ ،‬وال خراجا وال شيئا اال الغزو يف سبيل اهلل"‪.‬‬
‫وكانت ميزته كمقاتل‪ ،‬تتمثل يف يف اعتماده التام على نفسه‪ ،‬ويف ثقته التامة هبا‪.‬‬
‫فلو كان يشاركه يف القتال مائة ألف‪ ،‬لرأيته يقاتل وحده يف ملعركة‪ ..‬وكأن مسؤولية‪ R‬القتال والنصر‬
‫تقع على كاهله وحده‪.‬‬
‫وكان فضيلته كمقاتل‪ ،‬تتمثل يف الثبات‪ ،‬وقوة األعصاب‪..‬‬
‫رأى مشهد خاله محزة يوم أحد وقد كثّل املشركون جبثمانه القتيل يف قسوة‪ ،‬فوقف أمامه كالطود‬
‫ضاغطا على أسنانه‪ ،‬وضاغطا على قبضة سيفه‪ ،‬ال يفكر اال يف ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي‬
‫جمرد التفكري فيه‪!!..‬‬
‫ينهى الرسول واملسلمني عن ّ‬
‫وحني طال حصار بين قريظة دون أن يستسلموا‪ R‬أرسله الرسول صلى اهلل عليه وسلم مع علي ابن أيب‬
‫طالب‪ ،‬فوقف أمام احلصن املنيع يردد مع علي قوله‪:‬‬
‫لنفتحن عليهم حصنهم"‪..‬‬
‫ّ‬ ‫لنذوقن ما ذاق محزة‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫" واهلل‬
‫‪ | 285‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل احلصن‪..‬‬


‫وبقوة أعصاب مذهلة‪ ،‬أحكما انزال الرعب يف أفئدة املتحصنني داخله وفتحا أبوابه للمسلمني‪!!..‬‬
‫ويوم حنني أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك يف تلك الغزوة‪ ..‬أبصره بعد‬
‫هزميتهم يف حنني واقفا وسط فيلق من أصحابه‪ ،‬وبقايا جيشه املنهزم‪ ،‬فاقتحم حشدهم وحده‪ ،‬وشتت‬
‫مشلهم وحده‪ ،‬وأزاحهم عن املكمن الذي‪ R‬كانوا يرتبصون فيه ببعض زعماء املسلمني‪ ،‬العائدين من‬
‫املعركة‪!!..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما‪..‬‬


‫وكان الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬يباهي به ويقول‪:‬‬
‫العوام"‪..‬‬
‫" ان لكل نيب حواريا وحواريي الزبري ن ّ‬
‫ذلك أنه مل يكن ابن عمته وحسب‪ ،‬وال زوج أمساء بنت أيب بكر ذات النطاقني‪ ،‬بل كان ذلك الويف‬
‫السخي‪ ،‬والبائع نفسه وماله هلل رب العاملني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫واجلواد‬
‫األيب‪ّ ،‬‬‫القوي‪ ،‬والشجاع ّ‬
‫ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حني قال‪:‬‬
‫أقام على عهد النيب وهديه‬
‫حواريّه والقول بالفعل يعدل‬
‫أقام على منهاجه وطريقه‬
‫ويل احلق‪ ،‬واحلق أعدل‬
‫يوايل ّ‬
‫هو الفارس املشهور والبطل الذي‬
‫حمجل‬
‫يصول‪ ،‬اذا ما كان يوم ّ‬
‫له من رسول اهلل قرىب قريبة‬
‫ومن نصرة االسالم جمد موثّل‬
‫‪ | 286‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ذب الزبري بسيفه‬


‫فكم كربة ّ‬
‫عن املصطفى‪ ،‬واهلل يعطي وجيزل‬

‫**‬

‫وكان رفيع اخلصال‪ ،‬عظيم الشمائل‪ ..‬وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان‪!!..‬‬
‫فلقد كان يدير جتارة راحبة ناجحة‪ ،‬وكان ثراؤه عريضا‪ ،‬ولكنه أنفقه يف االسالم حىت مات مدينا‪!!..‬‬
‫وكان توكله على اهلل منطلق جوده‪ ،‬ومنطلق شجاعته وفدائيته‪..‬‬
‫حىت وهو جيود بروحه‪ ،‬ويوصي ولده عبداهلل بقضاء ديونه قال له‪:‬‬
‫" اذا أعجزك دين‪ ،‬فاستعن مبوالي"‪..‬‬
‫وسال عبداهلل‪ :‬أي موىل تعين‪..‬؟‬
‫فأجابه‪ :‬اهلل‪ ،‬نعم املوىل ونعم النصري"‪..‬‬
‫يقول عبداهلل فيما بعد‪:‬‬
‫" فواهلل ما وقعت‪ R‬يف كربة من دينه اال قلت‪ :‬يا موىل الزبري اقضي دينه‪ ،‬فيقضيه"‪.‬‬
‫ويف يوم اجلمل‪ ،‬على النحو‪ R‬الذي‪ R‬ذكرنا يف حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت هناية سيدنا‬
‫الزبري ومصريه‪..‬‬
‫فبعد أن رأى احلق نفض يديه من القتال‪ ،‬وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام االشتعال‪،‬‬
‫وطعنه القاتل الغادر وهو بني يدي ربه يصلي‪..‬‬
‫وذهب القاتل اىل االمام علي يظن أنه حيمل اليه بشرى حني يسمعه نبأ عدوانه على الزبري‪ ،‬وحني‬
‫يضع بني يديه سيفه الذي‪ R‬استلبه منه‪ ،‬بعد اقرتاف جرميته‪..‬‬
‫لكن عليّا صاح حني علم أن بالباب قاتل الزبري يستأذن‪ ،‬صاح آمرا بطرده قائال‪:‬‬
‫بشر قاتل ابن صفيّة بالنار"‪..‬‬
‫" ّ‬
‫وحني أدخلوا عليه سيف الزبري‪ ،‬قبّله االمام وأمعن بالبكاء وهو يقول‪:‬‬
‫‪ | 287‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" سيف طاملا واهلل جال به صاحبه الكرب عن رسول اهلل"‪!!..‬‬

‫أهناك حتيّة نوجهها للزبري يف ختام حديثنا عنه‪ ،‬أمجل وأجزل من كلمات االمام‪..‬؟؟‬
‫سالم على الزبري يف مماته بعد حمياه‪..‬‬
‫سالم‪ ،‬مث سالم‪ ،‬على حواري رسول اهلل‪...‬‬
‫عدي‬
‫خبيب بن ّ‬
‫بطل‪ ..‬فوق الصليب‪!!..‬‬

‫واآلن‪..‬‬
‫افسحوا‪ R‬الطريق هلذا البطل يا رجال‪..‬‬
‫وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان‪..‬‬
‫تعالوا‪ ،‬خفاقا وثقاال‪..‬‬
‫تعاولوا مسرعني‪ ،‬وخاشعني‪..‬‬
‫وأقبلوا‪ ،‬لتلقنوا يف الفداء درسا ليس له نظري‪!!..‬‬
‫تقولون‪ :‬أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل مل تكن دروسا يف الفداء‪ R‬ليس هلا نظري‪..‬؟؟‬

‫أجل كانت دروسا‪..‬‬


‫جتل عن املثيل وعن النظري‪..‬‬
‫وكانت يف روعتها ّ‬
‫ولكنكم اآلن أمام أستاذ جديد يف فن التضحية‪..‬‬
‫أستاذ لوفاتكم مشهده‪ ،‬فقد فاتكم خري كثري‪ ،‬ج ّد كثري‪..‬‬
‫الينا يا أصحاب العقائد‪ R‬يف كل أمة وبلد‪..‬‬
‫السمو من كل عصر وأمد‪..‬‬‫ّ‪R‬‬ ‫الينا يا عشاق‬
‫السوء‪..‬‬
‫ظن ّ‬‫وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور‪ ،‬وظننتم باألديان واالميان ّ‬
‫‪ | 288‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫تعالوا بغروركم‪!..‬‬
‫وأي مضاء‪ ..‬وأي فداء‪ ،‬وأي والء‪..‬‬
‫تعالوا وانظروا أية عزة‪ ،‬وأية منعة‪ ،‬وأي ثبات‪ّ ،‬‬
‫وبكلمة واحدة‪ ،‬أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها االميان باحلق على ذويه املخلصني‪!!..‬‬
‫أترون هذا اجلثمان املصلوب‪..‬؟؟‬
‫كل بين االنسان‪!...‬‬
‫انه موضوع درسنا اليوم‪ ،‬يا ّ‬
‫هذا اجلثمان املصلوب أمامكم هو املوضوع‪ ،‬وهو الدرس‪ ،‬وهو االستاذ‪..‬‬
‫عدي‪.‬‬
‫امسه خبيب بن ّ‬
‫احفظوا هذا االسم اجلليل جيّدا‪.‬‬
‫واحفظوه وانشدوه‪ ،‬فانه شرف لكل انسان‪ ..‬من كل دين‪ ،‬ومن كل مذهب‪ ،‬ومن كل جنس‪ ،‬ويف‬
‫كل زمان‪!!..‬‬

‫**‬

‫انه من أوس املدينة وأنصارها‪.‬‬


‫تردد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مذ هاجر اليههم‪ ،‬وآمن باهلل رب العاملني‪.‬‬
‫كان عذب الروح‪ ،‬شفاف النفس‪ ،‬وثيق االميان‪ ،‬ريّان الضمري‪.‬‬
‫حسان بن ثابت‪:‬‬
‫كان كما وصفه ّ‬
‫توسط يف األنصار منصبه‬
‫صقرا ّ‬
‫مسح الشجيّة حمضا غري مؤتشب‪R‬‬
‫وملا رفعت‪ R‬غزوة بدر أعالمها‪ ،‬كان هناك جنديا باسال‪ ،‬ومقاتال مقداما‪.‬‬
‫وكان من بني املشركني الذين وقعوا‪ R‬يف طريقه ابّان املعركة فصرعهم بسيفه احلارث بن عمرو بن‬
‫نوفل‪.‬‬
‫‪ | 289‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبعد انتهاء املعركة‪ ،‬وعودة البقايا املهزومة من قريش اىل مكة عرف بنو احلارث مصرع أبيهم‪،‬‬
‫عدي‪!!..‬‬
‫وحفظوا جيدا اسم املسلم الذي صرعه يف املعركة‪ :‬خبيب بن ّ‬

‫**‬

‫وعاد املسلمون من بدر اىل املدينة‪ ،‬يثابرون على بناء جمتمعهم‪ R‬اجلديد‪..‬‬
‫وكان خبيب عابدا‪ ،‬وناسكا‪ ،‬حيمل بني جبينه طبيعة الناسكني‪ ،‬وشوق العابدين‪..‬‬
‫هناك أقبل على العبادة بروح عاشق‪ ..‬يقوم الليل‪ ،‬ويصوم الناهر‪ ،‬ويق ّدس هلل رب العاملني‪..‬‬

‫**‬

‫وذات يوم أراد الرسول صلوات اهلل وسالمه عليه أن يبلو سرائر قريش‪ ،‬ويتبنّي ما ترامى اليه من‬
‫حتركاهتا‪ ،‬واستعدادها‪ R‬لغزو جديد‪ ..‬فاهتار من أصحابه عشرة رجال‪ ..‬من بينهم خبيب وجعل أمريهم‬ ‫ّ‬
‫عاصم بن ثابت‪.‬‬
‫حي من هذيل يقال‬‫وانطلق الركب‪ R‬اىل غايته حىت اذا بلغوا مكانا بني عسفان ومكة‪ ،‬مني خربهم اىل ّ‬
‫هلم بنو حيّان فسارعوا اليهم‪ R‬مبائة رجل من أمهر رماهتم‪ ،‬وراحوا يتعقبوهنم‪ ،‬ويقتفون آثارهم‪..‬‬
‫وكادوا يزيغون عنهم‪ ،‬لوال أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال‪ ..‬فتناول بعض هذا‬
‫النوى وتأمله مبا كان للعرب من فراسة عجيبة‪ ،‬مث صاح يف الذين معه‪:‬‬
‫" انه نوى يثرب‪ ،‬فلنتبعه حىت يدلنا عليهم"‪..‬‬
‫وساروا مع النوى‪ R‬املبثوث على األرض‪ ،‬حىت أبصروا على البعد ضالتهم اليت ينشدون‪..‬‬
‫وأحس عاصم أمري العشرة أهنم يطاردون‪ ،‬فدعا أصحابه اىل صعود قمة عالية على رأس جبل‪..‬‬
‫واقرتب الرماة املائة‪ ،‬وأحاطوا هبم عند سفح اجلبلو وأحكموا‪ R‬حوهلم احلصار‪..‬‬
‫ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا أال يناهلم منهم سوء‪.‬‬
‫والتفت العشرة اىل أمريهم عاصم بن ثابت األنصاري‪ R‬رضي اهلل عنهم أمجعني‪.‬‬
‫‪ | 290‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وانتظروا مبا يأمر‪..‬‬


‫ذمة مشرك‪..‬‬
‫فاذا هو يقول‪ ":‬أما أنا‪ ،‬فواهلل ال أنزل يف ّ‬
‫اللهم أخرب عنا نبيك"‪..‬‬

‫وشرع الرماة املائة يرموهنم‪ R‬بالنبال‪ ..‬فأصيب أمريهم عاصم واستشهد‪ ،‬وأصيب معه سبعة‬
‫واستشهدوا‪..‬‬
‫ونادوا الباقني‪ ،‬أ ّن هلم العهد وامليثاق اذا هم نزلوا‪.‬‬
‫عدي وصاحباه‪..‬‬
‫فنزل الثالثة‪ :‬خباب بن ّ‬
‫واقرتب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن ال ّدثنّة فأطلقوا قسيّهم‪ ،‬وبرطومها هبا‪..‬‬
‫ورأى زميلهم الثالث‪ R‬بداية الغدر‪ ،‬فقرر أن ميوت حيث مات عاصم واخوانه‪..‬‬
‫واستشهد حيث أراد‪..‬‬
‫ذمة‪!!..‬‬
‫وأبرهم عهدا‪ ،‬وأوفاهم هلل ولرسوله ّ‬ ‫وهكذا قضى مثانية من أعظم املؤمنني اميانا‪ّ ،‬‬
‫وحاول خبيب وزيد أن خيلصا من وثاقهما‪ ،‬ولكنه كان شديد االحكام‪.‬‬
‫وقادمها الرماة البغاة اىل مكة‪ ،‬حيث باعومها ملشركيها‪..‬‬
‫ودوى يف اآلذان اسم خبيب‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وحرك يف صدورهم‪ R‬األحقاد‪.‬‬ ‫وتذ ّكر بنواحلارث بن عامر قتيل بدر‪ ،‬تذ ّكروا ذلك االسم جيّدا‪ّ ،‬‬
‫وسارعوا اىل شرائه‪ .‬ونافسهم‪ R‬على ذلك بغية االنتقام‪ R‬منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا يف معركة بدر‬
‫آباءهم وزعماءهم‪.‬‬
‫وأخريا تواصوا عليه مجيعا وأخذوا يع ّدون ملصري يشفي أحقادهم‪ ،‬ليس منه وحده‪ ،‬بل ومن مجيع‬
‫املسلمني‪!!..‬‬
‫وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن ال ّدثنّة وراحوا‪ R‬يصلونه هو اآلخر عذابا‪..‬‬
‫‪ | 291‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫أسلم خبيب قلبه‪ ،‬وأمره‪،‬ومصريه هلل رب العاملني‪.‬‬


‫وأقبل على نسكه ثابت النفس‪ ،‬رابط اجلأش‪ ،‬معه من سكينة اهلل اليت افاءها عليه ما يذيب الصخر‪،‬‬
‫ويالشي اهلول‪.‬‬
‫كان اهلل معه‪ ..‬وكان هو مع اهلل‪..‬‬
‫كانت يد اهلل عليه‪ ،‬يكاد جيد برد أناملها يف صدره‪!..‬‬
‫دخلت عليه يوما احدى بنات احلارث الذي‪ R‬كان أسريا يف داره‪ ،‬فغادرت مكانه مسرعة اىل الناس‬
‫تناديهم لكييبصروا عجبا‪..‬‬
‫" واهلل لقد رأيته حيمل قطفا كبريا‪ R‬من عنب يأكل منه‪..‬‬
‫وانه ملوثق يف احلديد‪ ..‬وما مبكة كلها مثرة عنب واحدة‪..‬‬
‫ما أظنه اال رزقا‪ R‬رزقه اهلل خبيبا"‪!!..‬‬

‫أجل آتاه اهلل عبده الصاحل‪ ،‬كما آتى من قبل مرمي بنت عمران‪ ،‬يوم كانت‪:‬‬
‫( كلما دخل عليها زكريا احملراب وجد عندها رزقا‪..‬‬
‫قال يا مرمي أىّن لك هذا‬
‫قالت هو من عند اهلل ان اهلل يرزق من يشاء بغري حساب)‪..‬‬

‫**‬

‫ومحل املشركون اىل خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ظانني أهنم هبذا يسحقون أعصابه‪ ،‬ويذيقونه ضعف املمات وما كانوا يعلمون أن اهلل الرحيم قد‬
‫استضافه‪ ،‬وأنزل عليه سكينته ورمحته‪.‬‬
‫‪ | 292‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وراحوا يساومونه على اميانه‪ ،‬ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر حملمد‪ ،‬ومن قبل بربه الذي آمن به‪..‬‬
‫لكنهم كانوا كمن حياول اقتناص الشمس برمية نبل‪!!..‬‬
‫أجل‪ ،‬كان اميا خبيب كالشمس قوة‪ ،‬وبعدا‪ ،‬ونارا‪ R‬ونورا‪..‬‬
‫كان يضيء كل من التمس منه الضوء‪ ،‬ويدفئ كل من التمس منه الدفء‪ ،‬أم الذي يقرتب منه‬
‫ويتح ّداه فانه حيرقه ويسحقه‪..‬‬
‫واذا يئسوا مما يرجون‪ ،‬قادوا البطل اىل مصريه‪ ،‬وخرجوا به اىل مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك‬
‫مصرعه‪..‬‬
‫وما ان بلغوه حىت استأذهنم خبيب يف أن يصلي ركعتني‪ ،‬وأذنوا له ظانني أنه قد جيري مع نفسه حديثا‬
‫ينتهي باستسالمه واعالن الكفران باهلل وبرسوله وبدينه‪..‬‬
‫وصلى خبيب ركعتني يف خشوع وسالم واخبات‪...‬‬

‫فود لو يظل يصلي‪ ،‬ويصلي ويصلي‪..‬‬


‫وتدفقت يف روحه حالوة االميان‪ّ ،‬‬
‫ولكنه التفت صوب قاتليه وقال هلم‪:‬‬
‫" واهلل الحتسبوا‪ R‬أن يب جزعا من املوت‪ ،‬الزددت صالة"‪!!..‬‬
‫مث شهر ذراعه حنو السماء وقال‪:‬‬
‫" اللهم احصهم عددا‪ ..‬واقتلهم‪ R‬بددا"‪..‬‬
‫مث تصفح وجوههم يف عزم وراح‪ R‬ينشد‪:‬‬
‫على أي جنب كان يف اهلل مصرعي‬ ‫ولست أبايل حني أقتل مسلما‬
‫ممزع‬
‫يبارك على أوصال شلو ّ‬ ‫وذلك يف ذات االله وان يشأ‬

‫ولعله ألول مرة يف تاريخ العرب يصلبون رجال مث يقتلونه فوق الصليب‪..‬‬
‫ولقد أع ّدوا من جذوع النخل صليبا كبريا أثبتوافوقه خبيبا‪ ..‬وش ّدوا فوق أطرافه وثاقه‪ ..‬واحتشد‬
‫املشركون يف مشاتة ظاهرة‪ ..‬ووقف الرماة يشحذون رماحهم‪.‬‬
‫‪ | 293‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وجرت هذه الوحشية كلها يف بطء مقصود امام البطل املصلوب‪!!..‬‬


‫مل يغمض عينيه‪ ،‬ومل تزايل السكينة العجيبة املضيئة وجهه‪.‬‬
‫وبدأت الرماح‪ R‬تنوشه‪ ،‬والسيوف تنهش حلمه‪.‬‬
‫وهنا اقرتب منه أحد زعماء قريش وقال له‪:‬‬
‫" أحتب أن حممدا‪ R‬مكانك‪ ،‬وأنت سليم معاىف يف أهلك"‪..‬؟؟‬
‫وهنا ال غري انتفض خبيب كاالعصار‪ R‬وصاح‪ ،‬يف قاتليه‪:‬‬
‫أحب أين يف اهلي وولدي‪ ،‬معي عافية الدنيا ونعيمها‪ ،‬ويصاب رسول اهلل بشوكة"‪..‬‬
‫" واهلل ما ّ‬

‫يهمون بقتله‪ !..‬نفس الكلمات الباهرة الصادعة‬


‫نفس الكلمات العظيمة اليت قاهلا صاحبه زيد وهم ّ‬
‫اليت قاهلا زيد باألمس‪ ..‬ويقوهلا خبيب اليوم‪ ..‬مما جعل أبا سفيان‪ ،‬وكان مل يسلم بعد‪ ،‬يضرب كفا‬
‫بكف ويقول مشدوها‪ ":‬واهلل ما رأيت أحدا حيب أحدا كما حيب أصحاب حممد حممدا"‪!!..‬‬

‫**‬

‫كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها‪ ،‬فتناوشه يف‬
‫جنون ووحشية‪..‬‬
‫وقريبا من املشهد كانت حتومطيور وصقور‪ .‬كأهنا تنتظر فراغ اجلزارين وانصرافهم حىت تقرتب هي‬
‫فتنال من اجلثمان وجبة شهيّة‪..‬‬
‫وجتمعت‪ ،‬وتدانت‪ R‬مناقريها كأهنا تتهامس وتتبادل احلديث والنجوى‪.‬‬
‫ولكنها سرعان ما تنادت ّ‬
‫وفجأة طارت تشق الفضاء‪ ،‬ومتضي بعيدا‪ ..‬بعيدا‪..‬‬

‫لكأهنا مشّت حباستها وبغريزهتا عبري رجل صاحل ّأواب يفوح من اجلثمان املصلوب‪ ،‬فخدلت‪ R‬أن‬
‫تقرتب منه أو تناله بسوء‪!!..‬‬
‫مضت مجاعة الطري اىل رحاب الفضاء متعففة منصفة‪.‬‬
‫‪ | 294‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعادت مجاعة املشركني اىل أوكارها احلاقدة يف مكة باغية عادية‪..‬‬


‫وبقي اجلثمان الشهيد حترسه فرقة من القرشيني محلة الرماح والسويف‪!!..‬‬

‫كان خبيب عندما رفعوه اىل جذوع النخل اليت صنعوا منها صليبا‪ ،‬قد ميّم وجهه شطر السماء‪R‬‬
‫وابتهل اىل ربه العظيم قائال‪:‬‬
‫" اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"‪..‬‬
‫واستجاب اهلل دعاءه‪..‬‬
‫فبينما الرسول يف املدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه يف حمنة‪..‬‬
‫وتراءى له جثمان أحدهم معلقا‪..‬‬
‫العوام‪..‬‬
‫ومن فوره دعا املقداد بن عمرو‪ ،‬والزبري بن ّ‬
‫فركبا فرسيهما‪ ،‬ومضيا يقطعان األرض وثبا‪.‬‬
‫ومجعهما اهلل باملكان املنشود‪ ،‬وأنزال جثمان صاحبهما خبيب‪ ،‬حيث كانت بقعة طاهرة من األرض‬
‫لتضمه حتت ثراها الرطيب‪.‬‬ ‫يف انتظاره ّ‬

‫وال يعرف أحد حىت اليوم‪ R‬أين قرب خبيب‪.‬‬


‫ولعل ذلك أحرى به وأجدر‪ ،‬حىت يظل مكانه يف ذاكرة التاريخ‪ ،‬ويف ضمري احلياة‪ ،‬بطال‪ ..‬فوق‬
‫الصليب‪!!!..‬‬

‫عمري بن سعد‬
‫نسيج وحده‬

‫أتذكرون سعيد بن عامر‪..‬؟؟‬


‫‪ | 295‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫األواب الذي محله أمري املؤمنني عمر على قبول امارة الشام وواليتها‪..‬‬
‫ذلك الزاهد‪ R‬العابد ّ‬
‫لقد حتدثنا عنه يف كتابنا هذا‪ ،‬ورأينا من زهده وترفعه‪ ،‬ومن ورعه العجب‪ R‬كله‪..‬‬
‫وها حنن أوالء‪ ،‬نلتقي على هذه الصفات بأخ له‪ ،‬بل توأم‪ ،‬يف الورع ويف الزهد‪ ،‬ويف الرتفع‪ ..‬ويف‬
‫عظمة النفس اليت جتل عن النظري‪!!..‬‬
‫انه عمري بن سعد‪..‬‬
‫كان املسلمون يلقبونه نشيج وحده!!‬
‫وناهيك برجل جيمع على تلقيبه هبذا اللقب أصحاب رسول اهلل‪ ،‬ومبا معهم من فضل وفهم ونور‪!!..‬‬

‫**‬

‫وظل أمينا على العهد‬


‫أبوه سعد القارئ رضي اهلل عنه‪ ..‬شهد بدرا مع رسول اهلل واملشاهد بعدها‪ّ ..‬‬
‫حىت لقي اهلل شهيدا يف موقعة القادسية‪.‬‬
‫ولقد اصطحب ابنه اىل الرسول‪ ،‬فبايع النيب وأسلم‪..‬‬
‫ومنذ أسلم عمري وهو عابد مقيم يف حمراب اهلل‪.‬‬
‫يهرب من األضواء‪ ،‬ويفيئ اىل سكينة الظالل‪.‬‬
‫هيهات أن تعثر عليه يف الصفوف األوىل‪ ،‬اال أن تكون صالة‪ ،‬فهو يرابط يف صفها األول ليأخذ ثواب‬
‫السابقني‪ ..‬واال أن يكون جهاد‪ ،‬فهو يهرول اىل الصفوف األوىل‪ ،‬راجيا أن يكون من املستشهدين‪!..‬‬
‫وفيما عدا هذا‪ ،‬فهو هناك عاكف على نفسه ينمي ّبرها‪ ،‬وخريها وصالحها وتقاها‪!!..‬‬
‫متبتل‪ ،‬ينشد أوبه‪!!..‬‬
‫ّأواب‪ ،‬يبكي ذنبه‪!!..‬‬
‫مسافر اىل اهلل يف كل ظعن‪ ،‬ويف كل مقام‪...‬‬

‫**‬
‫‪ | 296‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ودا‪ ،‬فكان ّقرة أعينهم ومهوى أفئدهتم‪..‬‬ ‫ولقد‪ R‬جعل اهلل له يف قلوب األصحاب ّ‬
‫ذمل أن قوة اميانه‪ ،‬وصفاء نفسه‪ ،‬وهدوء مسته‪ ،‬وعبري خصاله‪ ،‬واشراق طلعته‪ ،‬كان جيعله فرحة وهبجة‬
‫لكل من جيالسه‪ ،‬أ‪ ،‬يراه‪.‬‬
‫ومل يكن يؤثر على دينه أحدا‪ ،‬وال شيئا‪.‬‬
‫مسع يوما جالس بن سويد بن الصامت‪ ،‬وكان قريبا له‪ ..‬مسعه يوما وهو يف دارهم يقول‪ ":‬لئن كان‬
‫شر من احلمر"‪!!..‬‬ ‫الرجل صادقا‪ ،‬لنحن ّ‬
‫وكان يعين بالرجل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وكان جالس من الذين دخلوا االسالم رهبا‪.‬‬
‫مسع عمري بن سعد هذه العبارات‪ R‬ففجرت يف نفسه الوديعة اهلادئة الغيظ واحلرية‪..‬‬
‫الغيظ‪ ،‬ألن واحدا يزعم أنه من املسلمني يتناول الرسول هبذه اللهجة الرديئة‪..‬‬
‫واحلرية‪ ،‬ألن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته جتاه هذا الذي مسع وأنكر‪..‬‬
‫ينقل ما مسع اىل رسول اهلل؟؟‬
‫كيف‪ ،‬واجملالس باألمانة‪..‬؟؟‬
‫أيسكت ويطوي صدره ما مسع؟‬
‫كيف؟؟‬
‫وأين والؤه ووفاؤه للرسول الذي‪ R‬هداهم اهلل به من ضاللة‪ ،‬وأخرجهم من ظلمة‪..‬؟‬
‫لكن حريته مل تطل‪ ،‬فصدق النفس جيددائما لصاحبه خمرجا‪..‬‬
‫تصرف عمري كرجل قوي‪ ،‬وكمؤمن تقي‪..‬‬ ‫وعلى الفور ّ‬
‫فوجه حديثه اىل جالس بن سويد‪..‬‬
‫علي أن يصيبه شيء يكرهه‪..‬‬‫" واهلل يا جال‪ ،‬انك ملن أحب الناس ايل‪ ،‬وأحسنهم عندي يدا‪ ،‬وأعزهم ّ‬
‫صمت عليها‪ ،‬ليهلكن ديين‪ ،‬وان حق الدين ألوىل‬ ‫ّ‬ ‫ولقد قلت اآلن مقالة لو أذعتها عنك آلذتك‪ ..‬وان‬
‫بالوفاء‪ ،‬واين مبلغ رسول اهلل ما قلت"‪!..‬‬
‫وأرضى عمري ضمريه الورع‪ R‬متاما‪..‬‬
‫‪ | 297‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫املتسمع الواشي‪..‬‬
‫فهو أوال ّأدى أمانة اجمللس حقها‪ ،‬وارتفع بنفسه الكبرية عن ان يقوم بدور ّ‬
‫وهو ثانيا أدى لدينه حقه‪ ،‬فكشف عن نفاق مريب‪..‬‬
‫وهو ثالثا أعطى جالس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار اهلل منه حني صارحه بأنه سيبلغ الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولو أنه فعل آنئذ‪ ،‬السرتاح ضمري عمري ومل تعد به حاجة البالغ الرسول عليه‬
‫السالم‪..‬‬
‫بيد أن جالسا أخذته العزة باالمث‪ ،‬ومل تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار‪ R،‬وغادرهم عمري وهو‬
‫يقول‪:‬‬
‫ألبلغن رسول اهلل قبل أن ينزل وحي يشركين يف امثك"‪...‬‬
‫ّ‬ ‫"‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف طلب جالس فأنكر أنه قال‪ ،‬بل حلف باهلل كاذبا‪!!..‬‬
‫لكن آية القرآن جاءت تفصل بني احلق والباطل‪:‬‬
‫( حيلفون باهلل ما قالوا‪ ..‬ولقد قالوا‪ R‬كلمة الكفر‪ ،‬وكفروا بعد اسالمهم‪ ،‬ومهّوا مبا مل ينالوا‪ ..‬وما نقموا‪R‬‬
‫اال أن أغناهم اهلل ورسوله من فضله‪ ..‬فان يتوبوا خريا هلم‪ ،‬وان يتولوا يعذهبم اهلل عذابا أليما يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪،‬وما هلم يف األرض‪ R‬من ويل وال نصري)‪..‬‬

‫واضطر جالس أن يعرتف مبقاله‪ ،‬وأن يعتذر عن خطيئته‪ ،‬ال سيما حني رأى اآلية الكرمية اليت تقرر‬
‫ادانته‪ ،‬تعده يف نفس اللحظة برمحة اله ان تاب هو وأقلع‪:‬‬
‫" فان يتوبوا‪ ،‬يك خريا هلم"‪..‬‬
‫تصرف عمري هذا خريا وبركة على جالس فقد تاب وحسن اسالمه‪..‬‬ ‫وكان ّ‬
‫وأخذ النيب بأذن عمري وقال له وهو يغمره بسناه‪:‬‬
‫" يا غالم‪..‬‬
‫وفت اذنك‪..‬‬
‫وص ّدقك ربك"‪!!..‬‬
‫‪ | 298‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫لقد سعدت بلقاء عمري ألول مرة‪ ،‬وأنا أكتب كتايب بني يدي عمر‪.‬‬
‫وهبرين‪ ،‬كما مل يبهرين شيء‪ ،‬نبأه مع أمري املؤمنني‪ ..‬هذا النبأ الذي‪ R‬سأرويه اآلن لكم‪ ،‬لتشهدوا من‬
‫خالله العظمة يف أهبى مشارقها‪..‬‬

‫**‬

‫تعلمون أن أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه كان خيتار والته وكأنه خيتار قدره‪!!..‬‬
‫كان خيتارهم من الزاهدين الورعني‪ ،‬واألمناء الصادقني‪ ..‬الذين يهربون من االمارة والوالية‪ ،‬وال‬
‫يقبلوهنا اال حني يكرههم عليها أمري املؤمنني‪..‬‬
‫وكان برغم بصريته النافذة‪ R‬وخربته احمليطة يستأين طويال‪ ،‬ويدقق كثريا‪ R‬يف اختيار والته ومعاونيه‪..‬‬
‫وكان ال يفتأ يردد عبارته املأثورة‪:‬‬
‫" أريد رجال اذا كان يف القوم‪ ،‬وليس أمريا عليهم بدا وكأنه أمريهم‪ ..‬واذا كان فيهم وهو عليهم‬
‫امري‪ ،‬بدا وكأنه واحد منهم‪!!..‬‬
‫أريد واليا‪ ،‬ال مييز نفسه على الناس يف ملبس‪ ،‬وال يف مطعم‪ ،‬وال يف مسكن‪..‬‬
‫يقيم فيهم الصالة‪ ..‬ويقسم‪ R‬بينهم باحلق‪ ..‬وحيكم فيهم بالعدل‪ ..‬وال يغلق بابه دون حوائجهم"‪..‬‬
‫ويف ضوء هذه املعايري الصارمة‪ ،‬اختار ذات يوم عمري بن سعد واليا على محص‪..‬‬
‫وحاول عمري أن خيلص منها وينجو‪ ،‬ولكن أمري املؤمنني ألزمه هبا الزاما‪ ،‬وفرضها عليه فرضا‪..‬‬
‫واستخار اهلل ‪،‬ومضى اىل واجبخ ومهله‪..‬‬
‫ويف محص مضى عليه عام كامل‪ ،‬مل يصل اىل املدينة منه خراج‪..‬‬
‫بل ومل يبلغ أمري املؤمنني رضي اهلل عنه منه كتاب‪..‬‬
‫ونادى أمري املؤمنني كاتبه وقال له‪:‬‬
‫‪ | 299‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" اكتب اىل عمري ليأيت الينا"‪..‬‬


‫وهنا أستأذنكم يف أن أنقل صورة اللقاء بني عمر وعمري‪ ،‬كما هي يف كتايب بني يدي عمر‪.‬‬
‫" ذات يوم شهدت شوارع املدينة رجال أشعث أغرب‪ ،‬تغشاه وعثاء السفر‪ ،‬يكاذ يقتلع خطاه من‬
‫األرض اقتالعا‪ ،‬من طول ما القى من عناء‪ ،‬وما بذل من جهد‪..‬‬
‫على كتفه اليمىن جراب وقصعة‪..‬‬
‫وعلى كتفه اليسرى‪ R‬قربة صغرية فيها ماء‪!..‬‬
‫وانه ليتوكأ على عصا‪ ،‬ال يؤدها محله الضامر الوهنان‪!!..‬‬
‫ودلف اىل جملس عمر ىف خطى وئيدة‪..‬‬
‫السالم عليك يا امري املؤمنني‪..‬‬
‫ويرد عمر السالم‪ ،‬مث يسأله‪ ،‬وقد آمله ما رآه عليه من جهد واعياء‪:‬‬
‫ما شأنك يا عمري‪..‬؟؟‬
‫أجرها بقرنيها‪..‬؟؟!!‬
‫شأين ما ترى‪ ..‬ألست تراين صحيح البدن‪ ،‬طاهر الدم‪ ،‬معي الدنيا ّ‬
‫قال عمر‪ :‬وما معك‪..‬؟‬
‫قال عمري‪ :‬معي جرايب أمحل فيه زادي‪..‬‬
‫عدوا ان‬
‫وقصعيت آكل فيها‪ ..‬واداويت أمحل فيها وضوئي وشرايب‪ ..‬وعصاي أتوكأ عليها‪ ،‬وأجاهد هبا ّ‬
‫عرض‪ ..‬فواهلل ما الدنيا اال تبع ملتاعي‪!!..‬‬
‫قال عمر‪ :‬أجئت ماشيا‪..‬‬
‫عمري‪ :‬نعم‪..‬‬
‫عمر‪ :‬أومل جتد من يعطيك دابة تركبها‪..‬؟‬
‫عمري‪ :‬اهنم مل يفعلوا‪ ..‬واين مل أسأهلم‪..‬‬
‫عمر‪ :‬فماذا عملت فيما عهدنا اليك به‪...‬؟‬
‫عمري‪ :‬أتيت البلد الذي يعثتين اليه‪ ،‬فجمعت‪ R‬صلحاء أهله‪ ،‬ووليتهم جباية فيئهم وأمواهلم‪ ،‬حىت اذا‬
‫مجعوها وضعوها يف مواضعها‪ ..‬ولو بقي لك منها شيء ألتيتك به‪!!..‬‬
‫‪ | 300‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عمر‪ :‬فما جئتنا بشيء‪..‬؟‬


‫عمري‪ :‬ال‪..‬‬
‫فصاح عمر وهو منبهر سعيد‪:‬‬
‫ج ّددوا لعمري عهدا‪..‬‬
‫وأجابه عمري يف استغناء عظيم‪:‬‬
‫تلك أيام قد خلت‪ ..‬ال عملت لك‪ ،‬وال ألحد بعدك"‪!!..‬‬
‫هذه لصورة ليست سيناريو نرمسه‪ ،‬وليست حوارا نبتدعه‪ ..‬امنا هي واقعة تارخيية‪ ،‬شهدهتا ذات يوم‬
‫أرض املدينة عاصمة االسالم يف أيام خلده وعظمته‪.‬‬
‫فأي طراز من الرجال كان أولئك األفذاذ‪ R‬الشاهقون‪..‬؟!!‬

‫**‬

‫وكان عمر رضي اهلل عنه يتمىن ويقول‪:‬‬


‫" وددت لو أن يل رجاال مثل عمري أستعني هبم على أعمال املسلمني"‪..‬‬
‫تفوق على كل ضعف انساين‬ ‫ذلك أن عمريا الذي وصفه أصحابه حبق بأنه نسيج وحده كان قد ّ‬
‫يسببه وجودنا املادي‪ ،‬وحياتنا الشائكة‪..‬‬
‫ويوم كتب على هذا الق ّديس العظيم أن جيتاز جتربة الوالية واحلكم‪ ،‬مل يزدد ورعه هبا اا مضاء ومناء‬
‫وتألقا‪..‬‬
‫ولقد رسم وهو أمري على محص واجبات احلاكم املسلم يف كلمات طاملا كان يصدح هبا يف حشود‬
‫املسلمني من فوق املنرب‪.‬‬
‫وها هي ذي‪:‬‬
‫" أال ان االسالم حائط منيع‪ ،‬وباب وثيق‬
‫فحائط االسالم العدل‪ ..‬وبابه احلق‪..‬‬
‫‪ | 301‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فاذا نقض احلائط‪ ،‬وحطّم الباب‪ ،‬استفتح االسالم‪.‬‬


‫وال يزال االسالم منيعا ما اشت ّد السلطان‬
‫وليست ش ّدة السلطان قتال بالسيف‪ ،‬وال ضربا بالسوط‪..‬‬
‫ولكن قضاء باحلق‪ ،‬وأخذا بالعدل"‪!!..‬‬

‫نودع عمريا‪ ..‬وجنييه يف اجالل وخشوع‪ ،‬تعالوا‪ R‬حنن رؤوسنا وجباهنا‪:‬‬


‫واآلن‪ R‬حنن ّ‬
‫خلري املعلمني‪ :‬حممد‪..‬‬
‫المام املتقني‪ :‬حممد‪..‬‬
‫لرمحة اهلل املهداة اىل الناس يف قيظ احلياة‬
‫عليه من اهلل صالته‪ .‬وسالمه‪..‬‬
‫وحتياته وبركاته‪..‬‬
‫وسالم على آله اآلطهار‪..‬‬
‫وسالم على أصحابه األبرار‪...‬‬
‫زيد بن ثابت‬
‫جامع القرآن‬

‫اذا محلت املصحف بيمينك‪ ،‬واستقبلته بوجهك‪ ،‬ومضيت تتأنق يف روضاته اليانعات‪ ،‬سورة سورة‪،‬‬
‫وآية آية‪ ،‬فاعلم أن من بني الذين يدينونك بالشكر والعرفان‪ R‬على هذا الصنع‪ R‬العظيم‪ ،‬رجل كبري امسه‪:‬‬
‫زيد بن ثابت‪!!...‬‬
‫وان وقائع مجع القرآن يف مصحف‪ ،‬ال تذكر اال ويذكر معها هذا الصحايب اجلليل‪..‬‬
‫وحني تنثر زهور التكرمي على ذكرى املباركني الذين يرجع اليهم‪ R‬فضل مجع القرآن وترتيبه وحفظه‪،‬‬
‫فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور‪ ،‬حلظ عظيم‪..‬‬
‫‪ | 302‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫هو أنصاري من الدينة‪..‬‬


‫وكان سنّه يوم قدمها النيب صلى اهلل عليه وسلم مهاجرا‪ ،‬احدى عشرة سنة‪ ،‬وأسلم الصيب الصغري مع‬
‫املسلمني من أهله‪ ،‬وبورك بدعوة من الرسول له‪..‬‬
‫رده لصغر سنه وحجمه‪ ،‬ويف غوزوة أحد ذهب‬ ‫وصحبه آباؤه معهم اىل غزوة بدر‪ ،‬لكن رسول اهلل ّ‬
‫مع مجاعة من اترابه اىل الرسول حيملون اليه ضراعتهم كي يقبلهم يف أي مكان من صفوف‬
‫اجملاهدين‪..‬‬
‫وكان أهلوهم أكثر ضراعة واحلاحا ورجاء‪..‬‬
‫ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة‪ ،‬وبدا كأنه سيعتذر عن جتنيدهم يف هذه الغزوة‬
‫أيضا‪..‬‬
‫لكن أحدهم وهو رافع بن خديج‪ ،‬تقدم بني يدي رسول اهلل‪ ،‬حيمل حربة‪ ،‬وحيركها بيمينه حركات‬
‫بارعة‪،‬وقال للرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫" اين كما ترى رام‪ ،‬أجيد الرمي فأذن يل"‪..‬‬
‫وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة‪ ،‬النضرة‪ ،‬بابتسامة راضية‪ ،‬مث أذن له‪..‬‬
‫وانتفضت عروق أتالتبه‪..‬‬
‫يلوح يف أدب بذراعيه املفتولني‪ ،‬وقال بعض اهله للرسول‪:‬‬ ‫وتقد ثانيهم وهو مسرة بن جندب‪ ،‬وراح ّ‬
‫" ان مسرة يصرع رافعا"‪..‬‬
‫وحيّاه الرسول بابتسامته احلانية‪ ،‬وأذن له‪..‬‬

‫كانت سن كل من رافع ومسرة قد بلغت اخلامسة عشرة‪ ،‬اىل جانب منومها اجلسماين القوي‪..‬‬
‫وبقي من األتراب ستة أشبال‪ ،‬منهم زيد بن ثابت‪ ،‬وعبداهلل بن عمر‪..‬‬
‫ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة‪ ،‬وبالدمع‪ R‬تارة‪ ،‬وباستعراض عضالهتم تارة‪..‬‬
‫‪ | 303‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لكن أعمارهم كانت باكرة‪ ،‬وأجسامهم غضة‪ ،‬فوعدهم‪ R‬الرسول بالغزوة املقبلة‪..‬‬
‫بدأ زيد مع اخزانه دوره كمقاتل يف سيب الهلل بدءا من غزوة اخلندق‪ ،‬سنة مخس من اهلجرة‪.‬‬

‫منوا سريعا وباهرا‪ ،‬فهو مل يربع كمجاهد فحسب‪ ،‬بل‬ ‫كانت شخصيته املسلمة املؤمنة تنمو ّ‬
‫كمثقف متنوع املزايا أيضا‪ ،‬فهو يتابع القرآن حفظا‪ ،‬ويكتب الوحي لرسوله‪ ،‬ويتفوق يف العلم‪R‬‬
‫واحلكمة‪ ،‬وحني يبدأ رسول اهلل يف ابالغ دعوته للعامل اخلارجي كله‪ ،‬وارسال كتبه مللوك األرض‪R‬‬
‫وقياصرهتا‪ ،‬يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاهتم فيتعلمها يف وقت وجيز‪..‬‬
‫وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ يف اجملتمع‪ R‬مكانا عليّا‪ ،‬وصار موضع احرتام املسلمني‬
‫وتوقريهم‪..‬‬
‫يقول الشعيب‪:‬‬
‫بالركاب‪.‬‬
‫" ذهب زيد بن ثابت لريكب‪ ،‬فأمسك ابن عباس ّ‬
‫تنح يا ابن عم رسول اهلل‪ ..‬فأجابه ابن عباس‪ :‬ال‪ ،‬هكذا نصنع بعلمائنا"‪..‬‬‫فقال له زيد‪ّ :‬‬
‫ويقول قبيصة‪:‬‬
‫" كان زيدا‪ R‬رأسا باملدينة يف القضاء‪ ،‬والفتوى والقراءة‪ ،‬والفرائض"‪..‬‬
‫ويقول ثابت بن عبيد‪:‬‬
‫" ما رأيت رجال أفكه يف بيته‪ ،‬وال أوقر يف جملسه من زيد"‪.‬‬
‫ويقول ابن عباس‪:‬‬
‫" لقد علم احملفوظن من أصحاب حممد‪ R‬أن زيد بن ثابت كان من الراسخني يف العلم"‪..‬‬
‫ان هذه النعوت اليت يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي‪ R‬ت ّدخر له املقادير شرف مهمة من‬
‫أنبل املهام يف تاريخ االسالم كله‪..‬‬
‫مهمة مجع القرآن‪..‬‬

‫**‬
‫‪ | 304‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه اىل رسول اهلل ليكون من املنذرين‪ ،‬مستهال موكب القرآن والدعوة هبذه‬
‫اآليات الرائعة‪..‬‬
‫( اقرأ باسم ربك الذي‪ R‬خلق‪ ،‬خلق االنسان من علق‪ ،‬اقرأ وربك األكرم‪ ،‬الذي علم بالقلم‪ ،‬علم‬
‫االنسان ما مل يعلم)‪..‬‬
‫منذ تلك البداية‪ ،‬والوحي يصاحب رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪ ،‬وخيف اليه كلما وىّل وجهه شطر‬
‫اهلل راجيا نوره وهداه‪..‬‬
‫وخالل سنوات الرسالة كلها‪ ،‬حيث يفرغ النيب من غزوة ليبدأ بأخرى‪ ،‬وحيث حيبط مكيدة وحربا‪،‬‬
‫ليواجه خصومة بأخرى‪ ،‬وأخرى‪ .‬وحيث يبين عاملا جديدا بكل ما حتمله من اجل ّدة من معىن‪..‬‬

‫حترك حرصها على القرآن من‬ ‫كان الوحي يتنزل‪ ،‬والرسول يتلو‪ ،‬ويبلّغ‪ ،‬وكان هناك ثلة مباركة ّ‬
‫أول يوم‪ ،‬فراح بعضهم حيفظ منه ما استطاع‪ ،‬وراح البعض اآلخر ممن جييدون‪ R‬الكتابة‪ ،‬حيتفظون‬
‫باآليات مسطورة‪.‬‬
‫وخالل احدى وعشرين سنة تقريبا‪ ،‬نزل القرآن خالهلا آية آية‪ ،‬أو آيات‪ ،‬تلو آيات‪ ،‬ملبيا مناسبات‬
‫النزول وأسباهبا‪ ،‬كان أولئك احلفظة‪ ،‬واملسجلون‪ ،‬يوالون عملهم يف توفيق من اهلل كبري‪..‬‬
‫ومل جييء القرآن مرة واحدة وجكلة واحدة‪ ،‬ألنه ليس كتابا مؤلفا‪ ،‬وال موضوعا‪.‬‬
‫امنا هو دليل أمة جديدة تبين على الطبيعة‪ ،‬لبنة لبنة‪ ،‬ويوما يوما‪ ،‬تنهض عقيدهتا‪ ،‬ويتشكل قلبها‪،‬‬
‫وفكرها‪ ،‬وارادهتا وفق مشيئة اهلية‪ ،‬ال تفرض نفسها من عل‪ ،‬وامنا تقود التجربة البشرية هلذه األمة يف‬
‫طريق االقتناع الكامل هبذه املشيئة‪..‬‬
‫منجما‪ ،‬وجمرأ‪ ،‬ليتابع التجربة يف سريها النامي‪ ،‬ومواقفها‬
‫ومن مثّ‪ ،‬كان ال بد للقرآن أن جييء ّ‬
‫املتجددة‪ .‬وأزماهتا املتصديّة‪.‬‬
‫‪ | 305‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫توافر احلفاظ‪ ،‬والكتبة‪ ،‬كما ذكرنا من قبل‪ ،‬على حفظ القرآن وتسجيله‪،‬وكان على رأسهم علي ابن‬
‫وأيب بن كعب‪ ،‬وعبداهلل ابن مسعود‪ ،‬وعبداهلل بن عباس‪ ،‬وصاحب الشخصية‪ R‬اجلليلة اليت‬
‫ايب طالب‪ّ ،‬‬
‫نتحدث عنها اآلن زيد بن ثابت رضي اهلل عنهم أمجعني‪..‬‬

‫**‬

‫وبعد أن متّ نزوال‪ ،‬وخالل الفرتة األخرية من فرتات تنزيله‪ ،‬كان الرسول يقرؤه على املسلمني‪..‬‬
‫مرتبا سوره وآياته‪.‬‬
‫الردة‪..‬‬
‫وبعد وفاته عليه الصالة والسالم شغل املسلمون من فورهم حبروب ّ‬
‫ويف معركة اليمامة‪ ..‬اليت حتدثنا عنها من قبل خالل حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن اخلطاب‬
‫الردة ختبو وتنطفئ حىت فزع عمر‬ ‫كان عدد الشهدا من ّقراء القرآن وحفظته كبريا‪ ..‬فما كادت نار ّ‬
‫اىل اخلليفة أيب بكر رضي اهلل عنهما راغبا اليه يف احلاح أن يسارعوا اىل مجع القرآن قبلما يدرك املوت‬
‫القراء واحلفاظ‪.‬‬
‫والشهادة بقية ّ‬
‫واستخار اخلليفة ربه‪ ..‬وشاور صحبه‪ ..‬مث دعا زيد بن ثابت وقال له‪:‬‬
‫" انك شاب عاقل ال نتهمك"‪.‬‬
‫وأمره أن يبدأ جبمع‪ R‬القرآن الكرمي‪ ،‬مستعينا بذوي اخلربة يف هذا املوضوع‪..‬‬
‫وهنض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصري االسالم كله كدين‪!..‬‬
‫وأبلى بالء عظيما يف اجناز أشق املهام وأعظمها‪ ،‬فمضى جيمع اآليات والسور‪ R‬من صدور‪ R‬احلفاظ‪،‬‬
‫ويتحرى‪ ،‬حىت مجع القرآن مرتبا ومنسقا‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ومن مواطنها املكتوبة‪ ،‬ويقبابل‪ ،‬ويعارض‪،‬‬
‫ولقد ز ّك ى عمله امجاع الصحابة رضي اهلل عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسوهلم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم خالل سنوات الرسالة مجيعها‪ ،‬ال سيّما العلماء منهم واحلفاظ والكتبة‪..‬‬
‫يصور الصعوبة‪ R‬الكربى اليت شكلتها قداسة املهمة وجالهلا‪..‬‬
‫وقال زيد وهو ّ‬
‫علي مما أمروين به من مجع القرآن"‪!!..‬‬
‫" واهلل لو كلفوين نقل جبل من مكانه‪ ،‬لكان أهون ّ‬
‫‪ | 306‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أجل‪..‬‬
‫فألن حيمل زيد فوق كاهله جبال‪ ،‬أو جباال‪ ،‬أرضى لنفسه من أن خيطئ أدىن خطأ‪ ،‬يف نقل آية أو امتام‬
‫سورة‪..‬‬
‫كل هول يصمد له ضمريه ودينه‪ ..‬اال خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغري مقصزد‪..‬‬
‫ولكن توفيق اهلل كان معه‪ ،‬كان معه كذلك وعده القائل‪:‬‬
‫( انا حنن نزلنا الذكر وان له حلافظون)‪..‬‬
‫فنجح يف مهمته‪ ،‬وأجنز على خري وجه مسؤوليته وواجبه‪.‬‬

‫**‬

‫كانت هذه هي املرحلة األوىل يف مجع القرآن‪..‬‬


‫بيد أنه مجع هذه املرة مكتوبا يف أكثر من مصحف‪..‬‬

‫وعلى لرغم من أن مظاهر التفاوت واالختالف بني هذه املصاحف كانت شكلية‪ ،‬فان التجربة‬
‫أ ّكدت ألصحاب الرسول عليه الصالة والسالم وجوب توحيدها مجيعها يف مصحف واحد‪.‬‬
‫ففي خالفة عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬واملسلمون يواصلون فتوحاهتم وزحوفهم‪ ،‬مبتعدين عن املدين‪،‬‬
‫مغرتبني عنها‪..‬‬
‫يف تلك األيام‪ ،‬واالسالم يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلني فيه‪ ،‬املبايعني اياه‪ ،‬ظهر جليّا‬
‫ما ميكن أن يفضي اليه تعدد املصاحف من خطر حني بدأت األلسنة ختتلف على القرآن حىت بني‬
‫الصحابة األقدمني واألولني‪..‬‬
‫هنالك تقدم اىل اخلليفة عثمان فريق من األصحاب رضي اهلل عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان‪R‬‬
‫مفسرين الضرورة اليت حتتم توحيد املصحف‪..‬‬

‫واستخار‪ R‬اخلليفة ربه وشاور صحبه‪..‬‬


‫‪ | 307‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت‪ ،‬استنجد به عثمان أيضا‪..‬‬
‫فجمع زيد أصحابه وأعوانه‪ ،‬وجاؤوا باملصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي اهلل عنها‪ ،‬وكانت‬
‫حمفوظة لديها‪ ،‬وباشر ويد وصحبه مهمتهم‪ R‬العظيمة اجلليلة‪..‬‬
‫كان كل الذين يعونون زيدا من كتاب الوحي‪ ،‬ومن حفظة القرآن‪..‬‬
‫ومع هذا فما كانوا خيتلفون ‪ ،‬وقلما كانوا خيتلفون‪ ،‬اال جعلوا رأي زيد وكلمته هي احلجة والفيصل‪.‬‬

‫**‬

‫ميسرا‪ ،‬أو نسمعه مرتال‪ ،‬فان الصعوبات اهلائلة اليت عاناها الذين‬
‫واآلن‪ R‬حنن نقرأ القرآن العظيم ّ‬
‫اصطنعهم اهلل جلمعه وحفظه ال ختطر لنا على بال‪!!..‬‬
‫ليقروا فوق‬
‫متاما مثل األهوال اليت كابدوها‪ ،‬واألرواح‪ R‬اليت بذلوها‪ ،‬وهم جياهدون يف سبيل اهلل‪ّ ،‬‬
‫األرض دينا قيّما‪ ،‬وليبددوا‪ R‬ظالمها بنوره املبني‪..‬‬
‫خالد بن سعيد‬
‫فدائي‪ ،‬من الرعيل األول‬
‫ّ‬

‫يف بيت وارف النعمة‪ ،‬مزهو بالسيادة‪ ،‬وألب له يف قريش صدارة وزعامة‪ ،‬ولد خالد بن سعيد بن‬
‫العاص‪ ،‬وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا‪ :‬ابن اميّة بن عبد مشس بن عبد مناف‪..‬‬
‫ويوم بدأت خيوط النور‪ R‬تسري يف أحناء مكة على استحياء‪ ،‬هامسة بأن حممدا األمني يتحدث عن‬
‫وحي جاءه يف غار حراء‪ ،‬وعن رسالة تلقاها من اهلل ليبلغها اىل عباده‪ ،‬كان قلب خالد يلقي للنور‬
‫اهلامس سنعه وهو شهيد‪!!..‬‬
‫وطارت نفسه فرحا‪ ،‬كأمنا كان وهذه الرسالة على موعد‪ ..‬وأخذ يتابع خيوط النور يف سريها‬
‫ومسراها‪ ..‬وكلما مسع مأل من قومه يتحدثون عن الدين اجلديد‪ ،‬جلس اليهم وأصغى يف حبور‬
‫‪ | 308‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يطعم احلديث بكلمة منه‪ ،‬أو كلمات تدفعه يف طريق الذيوع‪ ،‬والتأثري‪،‬‬ ‫مكتوم‪ ،‬وبني احلني واحلني ّ‬
‫واالحياء‪!..‬‬
‫ذكي الصمت‪ ،‬بينما هو يف باطنه وداخله‪ ،‬مهرجان‬ ‫كان الذي‪ R‬يراه أنئذ‪ ،‬يبصر شابا هادئ السمت‪ّ R،‬‬
‫تدوي‪ ..‬وأناشيد تصلي‪ ..‬وأغاريد‬ ‫حافل بلحركة والفرح‪ ..‬فيه طبول تدق‪ ..‬ورايات ترتفع‪ ..‬وأبواق ّ‬
‫تسبّح‪..‬‬
‫عيد بكل مجال العيد‪ ،‬وهبجة العيد ومحاسة العيد‪ ،‬وضجة العيد‪!!!..‬‬
‫سره‪ ،‬فان أباه لو علم أنه حيمل يف سريرته كل‬ ‫وكان الفىن يطوي علىهذا العيد الكبري صدره‪ ،‬ويكتم ّ‬
‫هذه احلفاوة بدعوة حممد‪ ،‬ألزهق حياته قربانا آلهلة عبد مناف‪!!..‬‬
‫ولكن أنفسنا الباطنة حني تفعم بأمر‪ ،‬ويبلغ منها ح ّد االمتالء فاهنا ال متبك الفاضته دفعا‪..‬‬
‫وذات يوم‪..‬‬
‫ولكن ال‪ ..‬فان انالهر مل يطلع بعد‪ ،‬وخالد ما زال يف نومه اليقظان‪ ،‬يعاجل رؤيا شديدة الوطأة‪ ،‬حادة‬
‫التأثري‪ ،‬نفاذة العبري‪..‬‬

‫نقول اذن‪ :‬ذات ليلة‪ ،‬رأى خالد بن سعيد يف نومه أنه واقف على شفري نار عظيمة‪ ،‬وأبوه من ورائه‬
‫يدفعه بكلتا يديه‪ ،‬ويريد أن يطرحه فيها‪ ،‬مث رأى رسول اهلل يقبل عليه‪ ،‬وجيذبه بيمينه املباركة من‬
‫ازاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب‪..‬‬
‫ويقص عليه‬
‫ّ‬ ‫مزودا خبطة العمل يف يومه اجلديد‪ ،‬فيسارع من فوره اىل دار أيب بكر‪،‬‬ ‫ويصحو من نومه ّ‬
‫الرؤيا‪ ..‬وما كانت الرؤيا حباجة اىل تعبري‪..‬د‬
‫وقال له أبو بكر‪:‬‬
‫" انه اخلري أريد لك‪ ..‬وهذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فاتبعه‪ ،‬فان االاسالم حاجزك عن النار"‪.‬‬
‫وينطلق خالد باحثا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت يهتدي اىل مكانه فيلقاه‪ ،‬ويسأل النيب عن‬
‫دعوته‪ ،‬فيجيبه عليه السالم‪:‬‬
‫" تؤمن باهلل وحده‪ ،‬وال تشرك به شيئا‪..‬‬
‫‪ | 309‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتؤمن مبحمد عبده ورسوله‪ ..‬وختلع عبادة األوثان اليت ال يسمع وال تبصر‪ ،‬وال تضر وال تنفع"‪..‬‬
‫ويبسط خالد ميينه‪ ،‬فتلقاها ميني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حفاوة‪ ،‬ويقول خالد‪:‬‬
‫" اين أشهد أن ال اله اال اهلل‪...‬‬
‫وأشهد أن حممدا رسول اهلل"‪!!..‬‬
‫وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها‪..‬‬
‫ينطلق ملهرجان كله الذي‪ R‬كان يف باطنه‪ ..‬ويبلغ النبأ أباه‪.‬‬

‫**‬

‫يوم أسلم سعيد‪ ،‬مل يكن قد سبقه اىل االسالم سور اربعة أو مخسة‪،‬فهو اذن من اخلمسة األوائل‬
‫املبكرين اىل االسالم‪.‬‬
‫يعرضه للسخرية‬‫وحني يباكر باالسالم واحد من ولد سعيد بن العاص‪ ،‬فان ذلك يف رأي سعيد‪ ،‬عمل ّ‬
‫واهلوان من قريش‪ ،‬ويهز األرض‪ R‬حتت زعامته‪.‬‬
‫وهكذا دعا اليه خالد‪ ،‬وقال له‪ ":‬أصحيح أنك اتبعت حممدا وأنت تسمعه يهيب آهلتنا"‪..‬؟؟‬
‫قال خالد‪ " :‬انه واهلل لصادق‪..‬‬
‫ولقد آمنت به واتبعته"‪..‬‬
‫زج به يف غرفة مظلمة من داره‪ ،‬حيث صار حبيسها‪ ،‬مث راح يضنيه‬ ‫هنالك اهنال عليه أبوه ضربا‪ ،‬مث ّ‬
‫ويرهقه جوعا وظكأ‪..‬‬
‫وخالد يصرخ فيهم‪ R‬من وراء الباب املغلق عليه‪:‬‬
‫" واهلل انه لصادق‪ ،‬واين به ملؤمن"‪.‬‬
‫دسه بني حجارهتا‬‫وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر ال يكفي‪ ،‬فخرج به اىل رمضاء مكة‪ ،‬حيث ّ‬
‫الثقيلة الفادحة امللتهبة ثالثة أيام ال يواريه فيها ظل‪!!..‬‬
‫وال يبلل شفتيه قطرة ماء‪!!..‬‬
‫‪ | 310‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويتوعده‪ ..‬وخالد صامد‬


‫ويئس الوالد‪ R‬من ولده‪ ،‬فعاد به اىل داره‪ ،‬وراح يغريه‪ ،‬ويرهبه‪ ..‬يعده‪ّ ،‬‬
‫كاحلق‪ ،‬يقول ألبيه‪:‬‬
‫" لن أدع االسالم لشيء‪ ،‬وسأحيا به وأموت عليه"‪..‬‬
‫وصاح سعيد‪:‬‬
‫" اذن فاذهب عين يا لكع‪ ،‬فوالالت ألمنعنّك القوت"‪..‬‬
‫وأجابه خالد‪:‬‬
‫"‪ ..‬واهلل خري الرازقني"‪!!..‬‬
‫تعج بالرغد‪ ،‬من مطعم وملبس وراحة‪..‬‬ ‫وغادر الدار اليت ّ‬
‫غادرها اىل اخلصاصة واحلرمان‪..‬‬
‫ولكن أي بأس‪..‬؟؟‬
‫أليس اميانه معه‪..‬؟؟‬
‫أمل حيتفظ بكل سيادة ضمريه‪ ،‬وبكل حقه يف مصريه‪..‬؟؟‬
‫ما اجلوع اذن‪ ،‬وما احلرمان‪ ،‬وما العذاب‪..‬؟؟‬

‫واذا وجد انسان نفسه مع حق عظيم كهذا احلق الذي يدعو اليه حممد رسول اهلل‪ ،‬فهل بقي يف‬
‫العامل كله شيء مثني مل ميتلكه من ربح نفسه يف صفقة‪ ،‬اهلل صاحبها وواهبها‪...‬؟؟‬
‫وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية‪ ،‬ويتفوق على احلرمان باالميان‪..‬‬
‫وحني أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه املؤمنني باهلجرة الثانية اىل احلبشة‪ ،‬كان خالد بن‬
‫سعيد‪ ،‬ممن ش ّدوا رحاهلم اليها‪..‬‬

‫وميكث خالد هناك اىل ما شاء اهلل ان ميكث‪ ،‬مث يعود مع اخوانه راجعني اىل بالدهم‪ ،‬سنة سبع‪،‬‬
‫فيجدون املسلمني قد فرغوا لتوهم من فتح خيرب‪..‬‬
‫‪ | 311‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويقيم خالد باملدينة وسط اجملتمع‪ R‬املسلم اجلديد الذي كان أحد اخلمسة األوائل الذين شهدوا ميالده‪،‬‬
‫وأسسوا بناءه‪ ،‬وال يغزو النيب غزوة‪ ،‬وال يشهد مشهدا‪ ،‬اال وخالد بن سعيد من السابقني‪..‬‬
‫وكان خالد بسبقه اىل االسالم‪ ،‬وباستقامة ضمريه وهنجه موضع احلب والتكرمي‪..‬‬
‫كان حيرتم اقتناعه فال يزيفه وال يضعه موضع املساومة‪.‬‬
‫قبل وفاة الرسول جعله عليه السالم واليا على اليمن‪..‬‬
‫وملا ترامت اليه أنباء استخالف أيب بكر‪ ،‬ومبايعته غادر عمله قادما اىل املدينة‪..‬‬
‫وكانه يعرف أليب بكر الفضل الذي‪ R‬ال يطاول‪..‬‬
‫بيد أنه كان يرى أن أحق املسلمني باخلالفة واحد من بني هاشم‪:‬‬
‫علي ابن أيب طالب‪..‬‬‫العباس مثال‪ ،‬أو ّ‬
‫ووقف اىل جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر‪..‬‬
‫وظل أبو بكر على حبه له‪ ،‬وتقديره اياه ال يكرهه على أن يبايع‪ ،‬وال يكرهه ألنه مل يبايع‪ ،‬وال يأيت‬
‫ذكره بني املسلمني اال أطراه اخلليفة العظيم‪ ،‬وأثىن عليه مبا هو أهله‪..‬‬
‫مث تغرّي اقتناع خالد بن سعيد‪ ،‬فاذا هو يشق الصفوف يف املسجد يوما وأبو بكر فوق املنرب‪ ،‬فيبايعه‬
‫بيعة صادقة وثقى‪..‬‬

‫**‬

‫ويسرّي أبا بكر جيوشه اىل الشام‪ ،‬ويعقد خلالد بن سعيد لواء‪ ،‬فيصري أحد أمراء اجليش‪..‬‬
‫ولكن حيدث قبل أن تتحرك القوات‪ R‬من املدينة أن يعارض عمر يف امارة خالد بن سعيد‪ ،‬ويظل يلح‬
‫على اخلليفة أن يغرّي قراره بشأن امارة خالد‪..‬‬
‫ويبلغ النبأ خالد‪ ،‬فال يزيد على قول‪:‬‬
‫سرتنا واليتكم‪ ،‬وال ساءنا عزلكم"‪!!..‬‬‫" واهلل ما ّ‬
‫‪ | 312‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وخيف الص ّد يق رضي اهلل عنه اىل دار خالد معتذرا له‪ ،‬ومفسرا له موقفه اجلديد‪ ،‬ويسأله مع من من‬
‫ّ‬
‫القو اد واألمراء جيب أن يكون‪ :‬مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه‪ ،‬أ‪ /‬مع شرحبيل بن حسنة؟‬ ‫ّ‬
‫تنم على عظمة نفسه وتقاها‪:‬‬‫فيجيب خالد اجابة ّ‬
‫ايل يف دينه"‪..‬‬
‫أحب ّ‬
‫أحب يف ّ‬ ‫ايل يف قرابته‪ ،‬وشرحبيل ّ‬ ‫أحب ّ‬
‫عمي ّ‬ ‫" ابن ّ‬
‫مث اختار أن يكون جنديا يف كتيبة شرحبيل بن حسنة‪..‬‬

‫ستحرك اجليش‪ ،‬وقال له‪:‬‬


‫ودعا ابو بكر شرحبيل اليه قبل أ‪ّ ،‬‬
‫حتب أن يعرف من احلق لك‪ ،‬لو‬
‫" انظر خالد بن سعيد‪ ،‬فاعرف له من احلق عليك‪ ،‬مثل مل كنت ّ‬
‫كنت مكانه‪ ،‬وكلن مكانك‪..‬‬
‫انك لتعرف مكانته يف االسالم‪..‬‬
‫وتعلم أن رسول اهلل توىف وهو له وال‪..‬‬
‫ولقد كنت وليته مث رأيت غري ذلك‪..‬‬
‫وعسى أن يكون ذلك خريا له يف دينه‪ ،‬فما أغبط أحد باالمارة‪!!..‬‬
‫عمه‪..‬‬
‫وقد خرّي ته يف أمراء اجلند فاختارك على ابن ّ‬
‫اجلراح‪،‬‬
‫فاذا نزل بك أمر حتتاج فيه اىل رأي التقي الناصح‪ ،‬فليكن أول من تبدأ به‪ :‬أبو عبيدة بن ّ‬
‫ومعاذ بن جبل‪ ..‬وليك خالد بن سعيد ثالثا‪ ،‬فانك واجد عندهم نصحا وخريا‪..‬‬
‫واياك واستبداد الرأي دوهنم‪ ،‬أو اخفاءه عنهم"‪..‬‬

‫ويف موقعه مرج الصفر‪ R‬بأرض الشام‪ ،‬حيث كانت املعارك تدور‪ R‬بني املسلمني والروم‪ ،‬رهيبة ضارية‪،‬‬
‫كان يف مقدمة الذين وقع أجرهم على اله‪ ،‬شهيد جليل‪ ،‬قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حىت حلظة‬
‫استشهاده يف مسرية صادقة مؤمنة شجاعة‪..‬‬
‫ورآه املسلمون وهم يفحصون شهداء املعركة‪ ،‬كما كان دائما‪ ،‬هادئ الّمت‪ ،‬ذكي الصمت‪ ،‬قوي‬
‫التصميم‪ ،‬فقاول‪:‬‬
‫‪ | 313‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" اللهم ارض عن خالد بن سعيد"‪!!..‬‬

‫أبو أيوب األنصاري‪R‬‬


‫انفروا خفافا وثقاال‬

‫كان الرسول عليه السالم يدخل املدينة خمتتما مبدخله هذا رحلة هجرته الظافرة‪ ،‬ومستهال أيامه‬
‫املباركة يف دار اهلجرة اليت ّادخر هلا القدر ما مل يدخره ملثلها يف دنيا الناس‪..‬‬
‫وسار الرسول وسط اجلموع اليت اضطرمت صفوفها‪ R‬وأفئدهتا‪ R‬محاسة‪ ،‬وحمبة وشوقا‪ ...‬ممتطيا ظهر ناقته‬
‫اليت تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول اهلل‪..‬‬
‫وبلغ املوكب دور بين سامل بن عوف‪ ،‬فاعرتضوا‪ R‬طريق الناقة قائلني‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪ ،‬أقم عندنا‪ ،‬فلدينا العدد‪ R‬والعدة واملنعة"‪..‬‬
‫وجييبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة‪:‬‬
‫" خلوا سبيلها فاهنا مأمورة"‪.‬‬
‫فحي بين ساعدة‪ ،‬فحي بين احلارث بن اخلزرج‪ ،‬فحي عدي بن‬ ‫ويبلغ املوكب دور بين بياضة‪ّ ،‬‬
‫النجار‪ ..‬وكل بين قبيل من هؤالء يعرتض سبيل الناقة‪ ،‬وملحني أن يسعدهم النيب عليه الصالة والسالم‬
‫بالنزول يف دورهم‪ ..‬والنيب جييبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة‪:‬‬
‫" خلوا سبيلها فاهنا مأمورة‪..‬‬

‫لقد ترك النيب للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون هلا املنزل خطره وجالله‪ ..‬ففوق أرضه‬
‫سينهض املسجد الذي تنطلق منه اىل الدنيا بأسرها كلمات اهلل ونوره‪ ..‬واىل جواره ستقوم حجرة أو‬
‫حدرات من طني وطوب‪ ..‬ليس هبا من متاع الدنيا سوى كفاف‪ ،‬أو أطياف كفاف!! سيسكنها‬
‫معلم‪ ،‬ورسول جاء لينفخ احلياة يف روحها اهلامد‪ .‬وليمنح كل شرفها وسالمها للذين قالوا ربنا اهلل مث‬
‫‪ | 314‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫استقاموا‪ ..‬للذين آمنوا ومل يلبسوا امياهنم بظلم‪ ..‬وللذين أخلصوا دينهم للله‪ ..‬للذين يصلحون يف‬
‫األرض وال يفسجون‪.‬‬
‫أجل كان الرسول عليه الصالة والسالم ممعنا يف ترك هذا االختيار للقدر الذي يقود خطاه‪..‬‬
‫من اجل هذا‪ ،‬ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله‪ ،‬فال هو يثين به عنقها وال يستوقف خطاها‪ ..‬وتوجه‬
‫اىل اهلل بقلبه‪ ،‬وابتهل اليه بلسانه‪:‬‬
‫" اللهم خر يل‪ ،‬واخرت يل"‪..‬‬
‫وطوفت‪ R‬باملكان‪ ،‬مث عادت اىل مربكها األول‪،‬‬ ‫وأمام دار بين مالك بن النجار بركت الناقة‪ ..‬مث هنضت‪ّ R‬‬
‫وأألقت جراهنا‪ .‬واستقرت يف مكاهنا ونزل الرسول للدخول‪ ..‬وتبعه رسول اهلل خيف به اليمن‬
‫والربكة‪..‬‬
‫أتدرون من كان هذا السعيداملوعود‪ R‬الذي‪ R‬بركت الناقة أمام داره‪ ،‬وصار‪ R‬الرسول ضيفه‪ ،‬ووقف أهل‬
‫املدينة مجيعا يغبطونه على حظوظه الوافية‪..‬؟؟‬
‫انه بطل حديثنا هذا‪ ..‬أبو أيوب األنصاري‪ R‬خالد بن زيد‪ ،‬حفيد مالك بن النجار‪..‬‬
‫مل يكن هذا أول لقاء أليب أيوب مع رسول اهلل‪..‬‬
‫فمن قبل‪ ،‬وحني خرج وفد املدينة ملبايعة الرسول يف مكة تلك البيعة املباركة املعروفة بـ بيعة العقبة‬
‫الثانية‪ ..‬كان أبو أيوب األنصاري بني السبعني مؤمنا الذين ش ّدوا أمياهنم على ميني الرسول مبايعني‪،‬‬
‫مناصرين‪.‬‬

‫واآلن‪ R‬رسول اهلل يشرف املدينة‪ ،‬ويتخذها عاصكة لدين اهلل‪ ،‬فان احلظوظ الوافية أليب أيوب جعلت‬
‫من داره أول دار يسكنها املهاجر العظيم‪ ،‬والرسول الكرمي‪.‬‬
‫ولقد آثر الرسول أن ينزل يف دورها األول‪ ..‬ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد اىل غرفته يف الدور‪R‬‬
‫يتصور نفسه قائما أو نائما‪ ،‬ويف مكان أعلى من املكان‬
‫العلوي حىت أخذته الرجفة‪ ،‬ومل يستطع أن ّ‬
‫الذي يقوم فيه رسول اهلل وينام‪!!..‬‬
‫وراح يلح على النيب ويرجوه ان ينتقل اىل طابق الدور األعلى فاستجاب النيب لرجائه‪..‬‬
‫‪ | 315‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يتم املسجد‪ ،‬وبناء حجرة له جبواره‪..‬‬


‫ولسوف ميكث النيب هبا حىت ّ‬
‫تتنمر لالسالم وتشن اغاراهتا‪ R‬على دار اهلجرة باملدينة‪ ،‬وتؤلب القبائل‪ ،‬وجتيش‬
‫ومنذ بدأت قريش ّ‬
‫اجليوش لتطفئ نور اهلل‪..‬‬
‫منذ تلك البداية‪ ،‬واحرتف أبو أيوب صناعة اجلهاد يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫ففي بدر‪ ،‬وأحد واخلندق‪ ،‬ويف كل املشاهد واملغازي‪ ،‬كان البطل هناك بائعا نفسه وماله هلل ربو‬
‫العاملني‪..‬‬
‫وبعد وفاة الرسول‪ ،‬مل يتخلف عن معركة كتب على املسلمني أن خيوضوها‪ ،‬مهما يكن بعد الشقة‪،‬‬
‫وفداحة املشقة‪!..‬‬
‫وكان شعاره الذي‪ R‬يردده دائما‪ ،‬يف ليله وهناره‪ ..‬يف جهره واسراره‪ ..‬قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫( انفروا خفافا وثقاال)‪..‬‬
‫مرة واحدة‪ ..‬ختلف عن جيش جعل اخلليفة أمريه واحدا من شباب املسلمني‪ ،‬ومل يقتنع أبو أ]وب‬
‫بامارته‪.‬‬
‫مرة واحدة ال غري‪ ..‬مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫علي"‪..‬؟؟‬
‫علي من استعمل ّ‬ ‫" ما ّ‬
‫مث مل يفته بعد ذلك قتال!!‬

‫كان حسبه أن يعيش جنديا يف جيش االسالم‪ ،‬يقاتل حتت رايته‪ ،‬ويذود عن حرمته‪..‬‬
‫وملا وقع‪ R‬اخلالف بني علي ومعاوية‪ ،‬وقف مع علي يف غري تردد‪ ،‬ألنه االمام الذي‪ R‬أعطي بيعة‬
‫املسلمني‪ ..‬وملا استشهد وانتهت اخلالفة خعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة‪ ،‬الصامدة التقية ال‬
‫يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى‪ ،‬وبني صفوف اجملاهدين‪..‬‬
‫وهكذا‪ ،‬مل يكد يبصر جيش االسالم يتحرك صوب القسطنطينية حىت ركب فرسه‪ ،‬ومحل سيفه‪،‬‬
‫حن اليه واشتاق‪!!..‬‬
‫وراح يبحث عن استشهاد عظيم طاملا ّ‬
‫‪ | 316‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف هذه املعركة أصيب‪.‬‬


‫وذهب قائد جيشه ليعوده‪ ،‬وكانت أنفاسه تسابق أشواقه اىل لقاء اهلل‪..‬‬
‫فسأله القائد‪ ،‬وكان يزيد بن معاوية‪:‬‬
‫" ما حاجتك أبا أيوب"؟‬
‫يتصور أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب‪..‬؟‬‫ترى‪ ،‬هل فينا من يستطيع أن ّ‬
‫تصور‪ ،‬وكل ختيّل لبين االنسان‪!!..‬‬
‫كال‪ ..‬فقد كانت حاجته وهو جيود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل ّ‬
‫لقد طلب من يزيد‪ ،‬اذا هو مات أن حيمل جثمانه فوق فرسه‪ ،‬وميضي به اىل أبعد مسافة ممكنة يف‬
‫أرض العدو‪ ،‬وهنالك يدفنه‪ ،‬مث يزحف جبيشه على طول هذا الطريق‪ ،‬حىت يسمع وقع حوافر خيل‬
‫املسلمني فوق قربه‪ ،‬فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا‪ R‬ما يبتغون من نصر وفوز‪!!..‬‬
‫أحتسبون هذا شعرا‪..‬؟‬
‫ال‪ ..‬وال هو خبيال‪ ،‬بل واقع‪ R،‬وحق شهدته الدنيا ذات يوم‪ ،‬ووقفت‪ R‬حتدق بعينيها‪ ،‬وبأذنيها‪ ،‬ال تكاد‬
‫تصدق ما تسمع وترى‪!!..‬‬
‫ولقد أجنز يزيد وصيّة أيب أيوب‪..‬‬
‫ويف قلب القسطنطينية‪ ،‬وهي اليوم استامبول‪ ،‬ثوى جثمان رجل عظيم‪ ،‬ج ّد عظيم‪!!..‬‬

‫وحىت قبل أن يغمر االسالم تلك البقاع‪ ،‬كان أهل القسطنطينية من الروم‪ ،‬ينظرون اىل أيب أيوب يف‬
‫قربه نظرهتم اىل ق ّديس‪...‬‬
‫وانك لتعجب اذ ترى مجيع املؤرخني الذين يسجلون تلك الوقائع‪ R‬ويقولون‪:‬‬
‫" وكان الروم يتعاهدون قربه‪ ،‬ويزورونه‪ ..‬ويستسقون به اذا قحطوا"‪!!..‬‬

‫وعلى الرغم من املعارك اليت انتظمت حياة أيب أيول‪ ،‬واليت مل تكن متهله ليضع سيفه ويسرتيح‪ ،‬على‬
‫الرغم من ذلك‪ ،‬فان حياته كانت هادئة‪ ،‬نديّة كنسيم الفجر‪..‬‬
‫‪ | 317‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ذلك انه مسع من الرسول صلى اهلل عليه وسلم حديثا فوعاه‪:‬‬
‫مودع‪..‬‬
‫" واذا صليت فصل صالة ّ‬
‫وال تكلمن الناس بكالم تعتذر منه‪..‬‬
‫والزم اليأس مما يف أيدي الناس"‪...‬‬
‫وهكذا مل خيض يف لسانه فتنة‪..‬‬
‫ومل هتف نفسه اىل مطمع‪..‬‬
‫مودع‪..‬‬
‫وقضى حياته يف أشواق عابد‪ ،‬وعزوف ّ‬
‫فلما جاء أجله‪ ،‬مل يكن له يف طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك األمنية ليت تشبه حياته يف‬
‫بطولتها وعظمتها‪:‬‬
‫" اذهبوا جبثماين بعيدا‪ ..‬بعيدا‪ ..‬يف ارض الروم مث ادفنوين هناك"‪...‬‬
‫كان يؤمن بالنصر‪ ،‬وكان يرى بنور بصريته هذه البقاع‪ ،‬وقد أخذت مكاهنا بني واحات االسالم‪،‬‬
‫ودخلت جمال نوره وضيائه‪..‬‬
‫ومن مثّ أراد أن يكون مثواه األخري هناك‪ ،‬يف عاصمة تلك البالد‪ ،‬حيث ستكون املعركة األخرية‬
‫الفاصلة‪ ،‬وحيث يستطيع حتت ثراه الطيّب‪ ،‬أن يتابع جيوش االسالم يف زحفها‪ ،‬فيسمع‪ R‬خفق‬
‫أعالمها‪ ،‬وصهيل خيلها‪ ،‬ووقع أقدامها‪ ،‬وصصلة سيوفها‪!!..‬‬
‫وانه اليوم لثاو هناك‪..‬‬
‫ال يسمع صلصلة السيوف‪ ،‬وال صهيل اخليول‪..‬‬
‫اجلودي من أمد بعيد‪..‬‬
‫ّ‬ ‫قد قضي األمر‪ ،‬واستوت على‬
‫املشرعة يف األفق‪..‬‬
‫لكنه يسمع كل يوم من صبحه اىل مسائه‪ ،‬روعة األذان املنطلق من املآذن ّ‬
‫أن‪:‬‬
‫اهلل أكرب‪..‬‬
‫اهلل أكرب‪..‬‬
‫وجتيب روحه املغتبطة يف دار خلدها‪ ،‬وسنا جمدها‪:‬‬
‫‪ | 318‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هذا ما وعدنا اهلل ورسوله‬


‫وصدق اهلل ورسوله‪....‬‬
‫العباس بن عبد املطلب‬
‫ساقي احلرمني‬

‫يف عام الرمادة‪ ،‬وحيث أصاب العباد والبالد قحط وبيل‪ ،‬خرج أمري املؤمنني عمر واملسلمون معه اىل‬
‫الفضاء الرحب يصلون صالة االستسقاء‪ ،‬ويضرعون اىل اهلل الرحيم أن يرسل اليهم‪ R‬الغيث واملطر‪..‬‬
‫ووقف عمر وقد أمسك ميني العباس بيمينه‪ ،‬ورفعها صوب السماء‪ R‬وقال‪:‬‬
‫" اللهم انا كنا نسقى بنبيك وهو بيننا‪..‬‬
‫بعم نبيّك فاسقنا"‪..‬‬
‫اللهم وانا اليوم‪ R‬نستسقي ّ‬
‫الري‪ ،‬وخيصب‬‫يزف البشرى‪ ،‬ومينح ّ‬ ‫ومل يغادر املسلميون مكاهنم حىت حاءهم الغيث‪ ،‬وهطل املطر‪ّ ،‬‬
‫األرض‪..‬‬
‫وأقبل األصحاب‪ R‬على العباس يعانقونه‪ ،‬ويقبّلونه‪ ،‬ويتربكون‪ R‬به وهم يقولون‪:‬‬
‫" هنئا لك‪..‬‬
‫ساقي احلرمني"‪..‬‬
‫فمن كان ساقي احلرمني هذا‪..‬؟؟‬
‫ومن ذا الذي توسل به به عمر اىل اهلل‪ ..‬ومعر من نعرف تقى وسبقا ومكانة عند اهلل ورسوله ولدى‬
‫املؤمنني‪..‬؟؟‬
‫عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬ ‫انه العباس ّ‬
‫كان الرسول جيلّه بقدر ما كان حيبه‪ ،‬وكان ميتدحه ويطري سجاياه قائال‪:‬‬
‫" هذه بقيّة آبائي"‪..‬‬

‫**‬
‫‪ | 319‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هذا العباس بن عبد املطلب أجود قريش كفا وأوصلها"‪!!..‬‬


‫عم الرسول وتربه‪ ،‬كذلك كان العباس رضي اهلل عنه فلم يكن يفصل بينهما يف‬ ‫وكما كان محزة ّ‬
‫سنوات العمر سوى سنتني أو ثالث‪ ،‬تزيد يف عمر العباس عن عمر الروسل‪..‬‬
‫وهكذا كان حممد‪ ،‬والعباس عمه‪ ،‬طفلني من سن واحدة‪ ،‬وشابني من جيل واحد‪..‬‬
‫السن‪،‬وصداقة‬
‫ود‪ ،‬بل كانت كذلك زمالة ّ‬ ‫فلم تكن القرابةالقريبة وحدها‪ ،‬آصرة ما بينهما من ّ‬
‫العمر‪..‬‬
‫وشيء آخر نضعه معايري النيب يف املكان األول دوما‪ ..‬ذلك هو خلق العباس وسجاياه‪..‬‬
‫عمها أو خاهلا‪!!..‬‬
‫جوادا‪ ،‬مفرط اجلود‪ ،‬حىت كأنه للمكلرم ّ‬ ‫فلقد كان العباس ّ‬
‫يضن عليهما جبهد وال جباه‪ ،‬وال مبال‪...‬‬
‫وكان وصوال للرحم واألهل‪ ،‬ال ّ‬
‫وكان اىل هذه وتلك‪ ،‬فطنا اىل ح ّد الدهاء‪ ،‬وبفطنته هذه اليت تعززها مكانته الرفيعة يف قريش‪،‬‬
‫استطاع أن يدرأ عن الرسول عليه الصالة والسالم حني جيهر بدعوته الكثري من األذى والسوء‪..‬‬

‫**‬

‫كان محزة كما رأينا يف حديثنا عنه من قبل يعاجل بغي قريش‪ ،‬وصلف أيب جها بسيفه املاحق‪..‬‬
‫أما العباس فكان يعاجلها بفطنة ودهاء ّأديا لالسالم من لنفع مثلما ّأدت السيوف املدافعة عن حقه‬
‫ومحاه‪!!..‬‬

‫فالعباس مل يعلن اسالمه اال عام فتح مكة‪ ،‬مما جعل بعض املؤرخني يعدونه مع الذين تأخر اسالمه‪..‬‬
‫بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من املسلمني املب ّكرين‪ ،‬غري أنه كان يكتم اسالمه‪..‬‬
‫يقول أبو رافع‪ R‬خادم الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" كنت غالما للعباس بن عبد املطلب‪ ،‬وكان االسالم قد دخلنا أهل البيت‪ ،‬فأسلم العباس‪ ،‬وأسلمت‬
‫أم الفضل‪ ،‬وأسلمت‪ ...‬وكان العباس يكتم اسالمه"‪..‬‬
‫‪ | 320‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هذه رواية أبو رافع يتحدث هبا عن حال العباس واسالمه قبل غزوة بدر‪..‬‬
‫كان العباس اذن مسلما‪..‬‬
‫وكان مقامه مبكة بعد هجرة النيب صلى اهلل عليه وسلم وصحبه خطة أدت غايتها على خري نسق‪..‬‬
‫حملادته‪ ،‬ال سيما وهو‬
‫ومل تكن قريش ختفي شكوكها يف نوايا العباسو ولكنها أيضا مل تكن جتد سبيال ّ‬
‫يف ظاهر أمره على ما يرضون من منهج ودين‪..‬‬
‫حىت اذا جاءت غزوة بدر رأهتا قريش فرصة تبلو هبا سريرة العباس وحقيقته‪..‬‬
‫والعباس أدهى من أن يغفل عن اجتاهات ذلك املكر السيء الذي‪ R‬تعاجل به قريش حسراهتا‪ ،‬وتنسج به‬
‫مؤامراهتا‪..‬‬
‫وحتركاهتا‪ ،‬فان قريشا‬
‫ولئن كان قد جنح يف ابالغ النيب صلى اهلل عليه وسلم باملدينة أنباء قريش ّ‬
‫ستنجح يف دفعه اىل معركة ال يؤمن هبا وال يريدها‪ ..‬بيد أنه جناح موقوت لن يلبث حىت ينقلب على‬
‫القرشيني خسارا وبوارا‪..‬‬

‫**‬

‫ويلتقي اجلمعان يف غزوة بدر‪..‬‬


‫وتصطك السيوف يف عنفوان رهيب‪ ،‬مقررة مصري كل مجع‪ ،‬وكل فريق‪..‬‬
‫وينادي الرسول يف أصحابه قائال‪:‬‬
‫" ان رجاال من بين هاشم‪ ،‬ومن غري بين هاشم‪ ،‬قد أخرجوا كرها‪ ،‬ال حاجة هلم بقتالنا‪ ..‬فمن لقي‬
‫منكم أحدهم فال يقتله‪..‬‬
‫البخرتي بن هشام بن احلارث بن أسد فال يقتله‪..‬‬
‫ّ‪R‬‬ ‫ومن لقي‬
‫ومن لقي العباس بن عبد املطلب فال يقتله‪ ،‬فانه امنا أخرج مستكرها"‪..‬‬
‫عمه العباس مبيّزة‪ ،‬فما تلك مناسبة املزايا‪ ،‬وال هذا وقتها‪..‬‬
‫خيص ّ‬
‫مل يكن الرسول بأمره هذا ّ‬
‫‪ | 321‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وليس حممد عليه الصالة والسالم من يرى رؤوس أصحابه تتهاوى يف معرة احلق‪ ،‬مث يشفع والقتال‬
‫دائر لعمه‪ ،‬لو كان يعلم أن عمه من املشركني‪..‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫ان الرسول الذي‪ R‬هنى عن أن يستغفر لعمه أيب طالب على كثرة ما أسدى أبو طالب له ولالسالم من‬
‫أياد وتضحيات‪..‬‬
‫ليس هو منطقا وبداهة من جييء يف غزوة بدر ليقول ملن يقتلون آباءهم واخواهنم من املشركني‪:‬‬
‫استثنوا عمي وال تقتلوه‪!!..‬‬
‫أما اذا كان الرسول يعلم حقيقة عمه‪ ،‬ويعلم أنه يطوي على االسالم صدره‪ ،‬كما يعلم أكثر من‬
‫غريه‪ ،‬اخلدمات غري املنظورة اليت ّأداها لالسالم‪ ..‬كما يعلم أخريا أنه خرج مكرها وحمرجا فآنئذ يصري‬
‫من واجبه أن ينقذ من هذا شأنه‪ ،‬وأن يعصم من القتل دمه ما استطاع هلذا سبيال‪..‬‬

‫واذا كان أبو البخرتي‪ R‬بن حارث وهذا شأنه‪ ،‬قد ظفر بشفاعة الرسول لدمه حىت ال يهدر‪ ،‬وحلياته‬
‫كي ال تزهق‪..‬‬
‫أفال يكون جديرا هبذه الشفاعة‪ ،‬مسلم يكتم اسالمه‪ ...‬ورجل له يف نصرة االسالم مواقف مشهودة‪،‬‬
‫وأخرى طوي عليها سرت اخلفاء‪..‬؟؟‬
‫بلى‪..‬ولقد كان العباس ذلك املسلم‪ ،‬وذلك النصري‪.‬‬
‫ولنعد اىل الوراء قليال لنرى‪..‬‬

‫**‬

‫يف بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة يف موسم احلاج وفد األنصار‪ R،‬ثالثة وسبعون رجال وسيدتان‪،‬‬
‫ليعطوا اهلل ورسوله بيعتهم‪ ،‬وليتفقوا مع النيب عليه الصالة والسالم على اهلجرة اىل املدينة‪ ،‬أهنى‬
‫‪ | 322‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الرسول اىل عمه العباس نبأ هذا الوفد‪ ،‬وهذه البيعة‪ ..‬وكان الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬يثق بعمه يف‬
‫رأيه كله‪..‬‬
‫وملا جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية‪ ،‬خرج الرسول وعمه العباس اىل حيث األنصار‪R‬‬
‫ينتظرون‪..‬‬
‫وأراد العباس ان يعجم عود القوم‪ R‬ويتوثق للنيب منهم‪..‬‬
‫ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ‪ ،‬كما مسع ورأى‪ ..‬ذلكم هو كعب بن مالك رضي اهلل‬
‫عنه‪:‬‬
‫"‪ ..‬وجلسنا يف الشعب‪ R‬ننتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت جاءنا ومعه العباس بن عبد‬
‫املطلب‪ ..‬وتكلم العباس فقال‪ :‬يا معشر اخلزرج‪ ،‬ان حممدا‪ R‬منا حيث قد علمتم‪ ،‬وقد منعناه من قومنا‬
‫فهو يف عز من قومه ومنعة يف بلده‪ ،‬وانه أىب اال النحياز اليكم واللحوق بكم‪..‬‬
‫فان كنتم ترون أنكم وافون‪ R‬له مبا دعومتوه اليه‪ ،‬ومانعوه ممن خالفه‪ ،‬فأنتم وما حتملتم من ذلك‪..‬‬
‫وان كنتم ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم‪ ،‬فمن اآلن فدعوه"‪..‬‬

‫كان العباس يلقي بكلماته احلازمة هذه‪ ،‬وعيناه حتدقان‪ R‬كعيين الصقر يف وجوه النصار‪ ..‬يتتبع وقع‬
‫الكالم وردود فعله العاجلة‪..‬‬
‫يتقصى احلقيقة يف جماهلا املادي‪ ،‬ويواجه كل‬
‫ومل يكتف العباس هبذا‪ ،‬فذكاؤه العظيم ذكاء عملي ّ‬
‫أبعادها مواجهة احلاسب اخلبري‪..‬‬

‫هناك استأنف حديثه مع األصار بسؤال ذكي ألقاه‪ ،‬ذلك هو‪:‬‬


‫عدوكم"!!؟؟‬
‫" صفوا يل احلرب‪ ،‬كيف تقاتلون ّ‬
‫ان العباس بفطنته وجتربته مع قريش يدرك أن احلرب ال حمالة قادمة بني االسالم والشرك‪ ،‬فقريش لن‬
‫تتنازل عن دينها وجمدها وعنادها‪.‬‬
‫واالسالم ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه املشروعة‪..‬‬
‫‪ | 323‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فهل األنصار‪ ،‬أهل املدينة صامدون للحرب حني تقوم‪..‬؟؟‬


‫والفر والقتال‪..‬؟؟‬
‫الكر ّ‪R‬‬
‫فن ّ‬ ‫وهل هم من الناحية الفنية‪ ،‬أكفاء لقريش‪ ،‬جييدون ّ‬
‫من اجل هذا ألقى سؤاله السالف‪:‬‬
‫عدوكم"‪..‬؟؟‬
‫" صفوا يل احلرب‪ ،‬كيف تقاتلون ّ‬
‫كان األنصار‪ R‬الذين يصغون للعباس رجاال كاألطواد‪...‬‬
‫ومل يكد العباس يفرغ من حديثه‪ ،‬ال سيما ذلك السؤال املثري احلافز حىت شرع األنصار يتكلمون‪..‬‬
‫وبدأ عبداهلل بن عمرو بن حرام جميبا على السؤال‪:‬‬
‫هبا‪،‬ومرنا عليها‪ ،‬وورثناها عن آبائنا كابرا فكابر‪..‬‬
‫ّ‬ ‫" حنن‪ ،‬واهلل‪ ،‬أهل احلرب‪ ..‬غذينا‬
‫نرمي بالنبل حىت تفىن‪..‬‬
‫مث نطاعن بالرماح حىت تنكسر‪..‬‬
‫مث منشي بالسيوف‪ ،‬فنضارب هبا حىت ميوت األعجل منا أو من عدونا"‪!!..‬‬
‫وأجاب العباس متهلال‪:‬‬
‫" أنتم أصحاب حرب اذن‪ ،‬فهل فيكم دروع"‪..‬؟؟‬
‫قالوا‪:‬‬
‫" نعم‪ ..‬لدينا دروع شاملة"‪..‬‬
‫مث دار حديث رائع‪ R‬وعظيم بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم وبني األنصار‪ ..‬حديث سنعرض‬
‫له ان شاء اهلل فيما بعد‪.‬‬

‫**‬

‫هذا موقف العباس يف بيعة العقبة‪..‬‬


‫وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق االسالم سرا‪ ،‬أم كان ال يزال يف ّكر‪ ،‬فان موقفه العظيم هذا حيدد مكانه‬
‫بني قوى الظالم الغارب‪ ،‬والشروق املقبل‪،‬‬
‫‪ | 324‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويصور أبعاد رجولته ورسوخه‪!!..‬‬


‫ّ‬

‫ويوم جييء حنني ليؤكد‪ R‬فداءية هذا اهلادئ السمت‪ ،‬اللني اجلانب‪ ،‬حينما تدعو احلاجة اليها‪ ،‬ويهيب‬
‫امللح‪ ،‬مستكنّة حتت األضالع‪ ،‬متوارية عن األضواء‪!!..‬‬
‫املواقف هبا‪ ،‬بينما هي يف غري ذلك الظرف ّ‬

‫**‬

‫يف السنة الثامنة للهجرة‪ ،‬وبعد ان فتح اهلل مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة يف اجلزيرة‬
‫العربية أن حيقق الدين اجلديد كل هذا النصر هبذه السرعة‪..‬‬
‫شن حرب حامسة ض ّد الرسول‬ ‫فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ونصر وجشم وآخرون‪ .‬وققروا ّ‬
‫واملسلمني‪..‬‬
‫ان كلمة قبائل ال ينبغي أن ختدعنا عن طبيعة تلك احلروب اليت كان خيوضها الرسول طوال حياته‪.‬‬
‫جمرد مناوشات جبلية صغرية‪ ،‬فليس هناك حروب أش ّد ضراوة من حروب تلك‬ ‫فنظن اهنا كانت ّ‬
‫القبائل يف معاقلها‪!!..‬‬
‫وادراك هذه احلقيقة ال يعطينا تقديرا سديدا للجهد اخلارق الذي بذله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وأصحابه فحسب‪ ،‬بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه االسالم‬
‫واملؤمنون‪ ،‬ورؤية واضحة لتوفيق اهلل املاثل يف هذا النجاح‪ R‬وذلك االنتصار‪..‬‬

‫احتشدت تلك القبائل يف صفوف جلبة من املقاتلني األش ّداء‪..‬‬


‫وخرج اليهم املسلمون يف اثين عشر ألفا‪..‬‬
‫اثنا عشر ألفا‪..‬؟؟‬
‫وممن‪..‬؟؟‬
‫من الذين فتحوا مكة باألمس القريب‪ ،‬وشيعوا الشرك واألصنام‪ R‬اىل هاويتها األخرية والسحيقة‪،‬‬
‫وارتفعت‪ R‬راياهتم متأل األفق دون مشاغب عليها أو مزاحم هلا‪!!..‬‬
‫‪ | 325‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هذا شيء يبعث الزهو‪..‬‬


‫واملسلمون يف آخر املطاف بشر‪ ،‬ومن مث‪ ،‬فقد ضعفوا‪ R‬امام الزهو الذي ابتعثته كثرهتم ونظامهم‪،‬‬
‫وانتصارهم مبكة‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫" لن نغلب اليوم عن قلة"‪.‬‬
‫أجل من احلرب وأمسى‪ ،‬فان ركوهنم اىل قوهتم العسكرية‪ ،‬وزهزهم‬ ‫وملا كانت السماء‪ R‬تع ّدهم لغاية ّ‬
‫بانتصارهم احلريب‪ ،‬عمل غري صاحل ينبغي أن يربؤا منه سريعا‪ ،‬ولو بصدمة شافية‪..‬‬
‫وكانت الصدمة الشافية هزمية كربى مباغتة يف أول القتال‪ ،‬حىت اذا ضرعوا اىل اهلل‪ ،‬وبرؤا من حوهلم‬
‫اىل حوله‪ ،‬ومن قوهتم‪ R‬اىل قوته‪ ،‬انقلبت اهلزمية نصرا‪ ،‬ونزل القرآن الكرمي يقول للمسلمني‪:‬‬
‫(‪ ..‬ويوم حنني اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا‪ ،‬وضاقت األرض‪ R‬مبا رحبت‪ ،‬مث وليتم‬
‫مدبرين‪ .‬مث أنزل اهلل سكينته على رسوله وعلى املؤمنني‪ ،‬وأنزل جنودا مل تروها‪ ،‬وعذب الذين كفروا‪،‬‬
‫وذلك جزاء الكافرين)‪..‬‬

‫كان صوت العباس يومئذ وثباته من أملع مظاهر السكينة واالستبسال‪..‬‬


‫عدوهم‪ ،‬كان املشركون قد سبقوهم‬ ‫فبينما كان املسلمون جمتمعني يف أحد أودية هتامة ينتظرون جميء ّ‬
‫اىل الوادي‪ R‬وكمنوا‪ R‬هلم يف شعابه وأحنائه‪ ،‬شاحذين أسلحتهم‪ ،‬ممسكني زمام املبادرة بأيديهم‪..‬‬
‫انقضوا‪ R‬على املسلمني يف مفاجأة مذهلة‪ ،‬جعلتهم يهرعون بعيدا‪ ،‬ال يلوي أحد على‬
‫وعلى حني غفلة‪ّ ،‬‬
‫أحد‪..‬‬
‫ورأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما أحدثه اهلجوم املفاجئ اخلاطف على املسلمني‪ ،‬فعال صهوة‬
‫بغلته البيضاء‪ ،‬وصاح‪:‬‬
‫" اىل أين أيها الناس‪..‬؟؟‬
‫ايل‪..‬‬
‫هلموا ّ‬
‫أنا النيب ال كذب‪..‬‬
‫انا ابن عبد املطلب"‪..‬‬
‫‪ | 326‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مل يكن حول النيب ساعتئذ سوى أيب بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعلي بن أيب طالب‪ ،‬والعباس بن عبد املطلب‪،‬‬
‫وولده الفضل بن العباس‪ ،‬وجعفر بن احلارث‪ ،‬وربيعة بن احلارث‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وأمين بن عبيد‪،‬‬
‫وقلة أخرى من األصحاب‪..‬‬
‫وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بني الرجال واألبطال‪..‬‬
‫تلك هي أم سليم بنت ملحان‪..‬‬
‫رأت ذهول املسلمني وارتباكهم‪ ،‬فركبت مجل زوجها أيب طلحة رضي اهلل عنهما‪ ،‬وهرولت هبا حنو‬
‫الرسول‪..‬‬
‫وملا حترك جنينها يف بطنها‪ ،‬وكانت حامال‪ ،‬خلعت بردهتا وش ّدت هبا على بطنها يف حزام وثيق‪ ،‬وملا‬
‫انتهت اىل النيب صلى اهلل عليه وسلم شاهرة خنجرا يف ميينها ابتسم هلا الرسول وقال‪:‬‬
‫" أم سليم؟؟"‪..‬‬
‫قالت‪ " :‬نعم بأيب أنت وأمي يا رسول اهلل‪..‬‬
‫اقتل هؤالء الذين ينهزمون عنك‪ ،‬كما تقتل الذين يقاتلونك‪ ،‬فاهنم لذلك أهل"‪..‬‬
‫وازدادت البسمة‪ R‬ألقا على وجه الرسول الواشق بوعد ربه وقال هلا‪:‬‬
‫" ان اهلل قد كفى وأحسن يا أم سليم"‪!!..‬‬

‫هناك ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف هذا املوقف‪ ،‬كان العباس اىل جواره‪ ،‬بل كان بني قدميه‬
‫خبطام بغلته يتحدى املوت واخلطر‪..‬‬
‫وأمره النيب صلى اهلل عليه وسلم أن يصرخ يف الناس‪ ،‬وكان العباس جسيما جهوري الصوت‪ ،‬فراح‬
‫ينادي‪:‬‬
‫" يا معشر األنصار‪..‬‬
‫يا أصحاب البيعة"‪...‬‬
‫وكامنا كان صوته داعي القدر ونذيره‪..‬‬
‫‪ | 327‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فما كاد يقرع أمساع املرتاعني من هول املفاجأة‪ ،‬املشتتني يف جنبات الوادي‪ ،‬حىت أجابوا يف صوت‬
‫واحد‪:‬‬
‫" لبّيك‪ ..‬لبّيك"‪..‬‬
‫وانقلبوا راجعني كاالعصار‪ ،‬حىت ان أحدهم ليحرن بعريه أو فرسه‪ ،‬فيقتحم‪ R‬عنها ويرتجل‪ ،‬حامال‬
‫ميمما صوب موت العباس‪..‬‬‫درعه وسيفه وقوسه‪ّ ،‬‬
‫ودارت املعركة من جديد‪ ..‬ضارية‪ ،‬عاتية‪..‬‬
‫وصاح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" اآلن محي الوطيس"‪..‬‬
‫ومحي الوطيس حقا‪..‬‬
‫وتدحرج قتلى هوزان وثقيف‪ ،‬وغلبت خيل اهلل خيل الالت‪ ،‬وأنزل اهلل سكينته على رسوله وعلى‬
‫املؤمنني‪!!!..‬‬

‫**‬

‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيب العباس عمه حبا كبريا‪ ،‬حىت انه مل ينم يوم انتهت غزوة‬
‫بدر‪ ،‬وقضى عمه ليله يف األسر‪..‬‬
‫ومل خيف النيب عليه السالم عاطفته هذه‪ ،‬فحني سئل عن سبب أرقه‪ ،‬وقد نصره اهلل نصرا مؤزرا‪R‬‬
‫أجاب‪:‬‬
‫" مسعت أنني العباس يف وثاقه"‪..‬‬
‫وحل وثاق العباس‪ ،‬وعاد فأخرب‬
‫ومسع بعض املسلمني كلمات الرسول‪ ،‬فأسرع اىل مكان األسرى‪ّ ،‬‬
‫الرسول قائال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫اين أرخيت من وثاق العباس شيئا"‪..‬‬
‫‪ | 328‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولكن ملاذا وثاق العباس وحده‪..‬؟‬


‫هنالك قال الرسول لصاحبه‪:‬‬
‫" اذهب‪ ،‬فافعل ذلك باألسرى مجيعا"‪.‬‬
‫أجل فحب النيب صلى اهلل عليه وسلم لعمه ال يعين أن مييزه عن الناس الذين جتمعهم‪ R‬معه ظروف‬
‫مماثلة‪..‬‬
‫وعندما تقرر أخذ الفدية من األسرى‪ ،‬قال الرسول لعمه‪:‬‬
‫" يا عباس‪..‬‬
‫افد نفسك‪ ،‬وابن اخيك عقيل بن أيب طالب‪ ،‬ونوفل بن احلارث‪ ،‬وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بين‬
‫احلارث بن فهر‪ ،‬فانك ذومال"‪..‬‬
‫وأردا العباس أن يغادر أسره با فدية‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪ ،‬اين كنت مسلما‪ ،‬ولكن القوم‪ R‬استكرهوين"‪..‬‬
‫أصر على الفدية‪ ،‬ونزل لقرآن الكرمي يف هذه املناسبة يقول‪:‬‬‫ولكن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫" يا ايها النيب قل ملن يف أيديكم من األسرى ان يعلم اهلل يف قلوبكم خريا يؤتكم خريا مما أخذ منكم‬
‫ويغفر لكم‪ ،‬واهلل غفور رحيم"‪.‬‬
‫وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه‪ ،‬وقفل راجعا اىل مكة‪ ..‬ومل ختدعه قريش بعد ذلك عن عقله‬
‫وهداه‪ ،‬فبعد حني مجع ماله ومحل متاعه‪ ،‬وأدرك الرسول خبيرب‪ ،‬ليأخذ مكانه يف موكب االسالم‪،‬‬
‫وقافلة املؤمنني‪ ..‬وصار موضع حب املسلمني واجالهلم العظيم‪ ،‬ال سيما وهم يرون تكرمي الرسول له‬
‫وحبه اياه وقوله عنه‪:‬‬
‫" امنا العباس صنو أيب‪..‬‬
‫فمن آذى العباس فقد آذاين"‪.‬‬
‫وأجنب العباس ذريّة مباركة‪.‬‬
‫وكان حرب األمة عبداهلل بن عباس واحدا من هؤالء األبناء املباركني‪.‬‬
‫‪ | 329‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫ويف يوم اجلمعة ألربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتني وثالثني مسع اهل العوايل باملدينة مناديا‬
‫ينادي‪:‬‬
‫" رحم اهلل من شهد العباس بن عبد املطلب"‪.‬‬
‫فأدركوا أن العباس قد مات‪..‬‬
‫وخرج الناس لتشييعه يف أعداد هائلة مل تعهد املدينة مثلها‪..‬‬
‫وصلى عليه خليفة املسلمني يومئذ عثمان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وحتت ثرى البقيع هدأ جثمان أيب الفضل واسرتاح‪..‬‬
‫ونام قرير العني‪ ،‬بني األبرار الذين صدقوا‪ R‬ما عاهدوا اهلل عليه!!‬
‫أبو هريرة‬
‫ذاكرة عصر الوحي‬

‫صحيح أن ذكاء املرء حمسوب عليه‪..‬‬


‫وأصحاب املواهب اخلارقة كثريا ما يدفعون الثمن يف نفس الوقت الذي‪ R‬كان ينبغي أن يتلقوا فيه اجلزاء‬
‫والشكران‪!!..‬‬
‫والصحايب اجلليل أبو هريرة واحد من هؤالء‪..‬‬
‫فقد كان ذا موهبة خارقة يف سعة الذاكرة وقوهتا‪..‬‬
‫فن االصغاء‪ ،‬وكانت ذاكرته جتيد فن احلفظ واالختزان‪..‬‬‫كان رضي اهلل عنه جييد ّ‬
‫يسمع فيعي‪ ،‬فيحفظ‪ ،‬مث ال يكاد ينسى مما وعى كلمة وال حرفا مهما تطاول العمر‪ ،‬وتعاقبت‬
‫األيام‪!!..‬‬
‫من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى اهلل عليه وسلم حفظا ألحاديثه‪،‬‬
‫وبالتايل أكثرهم رواية هلا‪.‬‬
‫‪ | 330‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الوضاعني الذين ختصصوا‪ R‬يف الكذب على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬اختذوا أبا‬ ‫فلما جاء عصر ّ‬
‫هريرة غرضا مستغلني أسوأ استغالل مسعته العريضة يف الرواية عن رسول اهلل عليه السالم موضع‬
‫وكرسوها‬
‫االرتياب والتساؤول‪ .‬لوال تلك اجلهود البارة واخلارقة اليت بذهلا أبرار كبار نذور حياهتم ّ‬
‫خلدمة احلديث النبوي‪ R‬ونفي كل زيف ودخيل عنه‪.‬‬
‫هنالك جنا أبو هريرة رضي اهلل عنه من أخطبوط األكاذيب والتلفيقات اليت أراد املفسدون أن يتسللوا‬
‫حيملوه وزرها وأذاها‪!!..‬‬
‫هبا اىل االسالم عن طريقه‪ ،‬وأن ّ‬

‫**‬

‫واآلن‪ ..‬عندما نسمع واعظا‪ ،‬أو حماضرا‪ ،‬أو خطيب مجعة يقول تلك العبارة املأثورة‪ ":‬عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪."..‬‬
‫أقول‪ :‬عندما تسمع هذا االسم على هذه الصورة‪ ،‬أ‪ ،‬عندما تلقاه كثريا‪ ،‬وكثريا ج ّدا يف كتب‬
‫احلديث‪ ،‬والسرية‪ R‬والفقه والدين بصفة عامة‪ ،‬فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة‬
‫اغراء بالصحبة واالصغاء‪..‬‬
‫قل أن‬
‫ذلك أن ثروته من األحاديث الرائعة‪ ،‬والتوجيهات احلكيمة اليت حفظها عن النيب عليه السالم‪ّ ،‬‬
‫يوجد هلا نظري‪..‬‬
‫وانه رضي اهلل عنه مبا ميلك من هذه املوهبة‪ ،‬وهذه الثروة‪ ،‬ملن أكثر األصحاب مقدرة على نقلك اىل‬
‫تلك األيام اليت عاشها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه رضي اهلل عنهم‪ ،‬واىل التحليق بك‪،‬‬
‫اذا كنت وثيق االميان مرهف النفس‪ ،‬يف تاك اآلفاق اليت شهدت روائع حممد وأصحابه‪ ،‬تعطي احلياة‬
‫معناها‪ ،‬وهتدي‪ R‬اليها رشدها وهناها‪.‬‬
‫تتعرف أليب هريرة وتسمع من أنبائه نبأ‪ ،‬فدونك‬ ‫حركت أشواقك ألن ّ‬ ‫واذا كانت هذه السطور قد ّ‬
‫اآلن وما تريد‪..‬‬
‫‪ | 331‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة االسالم بكل ما أحدثته من تغريات هائلة‪.‬‬
‫فمن أجري اىل سيّد‪..‬‬
‫ومن تائه يف الزحام‪ ،‬اىل علم وامام‪!!..‬‬
‫ومن ساجد أمام حجارة مركومة‪ ،‬اىل مؤمن باهلل الواحد‪ R‬القهار‪..‬‬
‫وهاهو ذا يتح ّدث ويقول‪:‬‬
‫" نشأت يتيما‪ ،‬وهاجرت مسكينا‪ ..‬وكنت أجريا لبسرة بنت غزوان بطعام بطين‪!!..‬‬
‫كنت أخدمهم اذا نزلوا‪ ،‬وأحدو هلم اذا ركبوا‪..‬‬
‫زوجنيها اهلل‪ ،‬فاحلمد هلل الذي جعل الدين قواما‪ ،‬وجعل أبا هريرة اماما"‪!..‬‬ ‫وهأنذا وقد ّ‬
‫قدم على النيب عليه الصالة والسالم سنة سبع وهو خبيرب‪ ،‬فأسلم راغبا مشتاقا‪..‬‬
‫ومنذ رأى النيب عليه الصالة والسالم وبايعه مل يكد يفارقه قط اال يف ساعات النوم‪..‬‬
‫وهكذا كانت السنوات األربع اليت عاشها مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منذ أسلم اىل أن ذهب‬
‫النيب اىل الرفيق األعلى‪.‬‬
‫نقول‪ :‬كانت تلك السنوات األربع‪ R‬عمرا وحدها‪ ..‬كانت طويلة عريضة‪ ،‬ممتلئة بكل صاحل من القول‪،‬‬
‫والعمل‪ ،‬واالصغاء‪.‬‬

‫**‬

‫أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبري الذي‪ R‬يستطيع أن خيدم به دين اهلل‪.‬‬
‫ان أبطال احلرب يف الصحابة كثريون‪..‬‬
‫والفقهاء والدعاة واملعلمون كثريون‪.‬‬
‫ولكن البيئة واجلماعة تفتقد الكتابة والكتّاب‪.‬‬
‫ففي تلك العصور‪ ،‬وكانت اجلماعة االنسانية كلها‪ ،‬ال العرب وحدهم‪ ،‬ال يهتمون بالكتابة‪ ،‬ومل تكن‬
‫الكتابة من عالمات التقدم يف جمتمع ما‪..‬‬
‫‪ | 332‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫بل ا ّن أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غري بعيد‪.‬‬


‫وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارملان أميّني ال يقرءون وال يكتبون‪ ،‬مع أهنم يف نفس الوقت‬
‫كانوا على حظ كبري من الذكاء‪ R‬واملقدرة‪..‬‬

‫**‬

‫نعود اىل حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة اجملتمع اجلديد الذي يبنيه االسالم اىل من‬
‫حيفظن تراثه وتعاليمه‪ ،‬كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم‪ R‬قليلون‪ ،‬مث ان بعضهم ال‬
‫ميلك من الفراغ ما مي ّكنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث‪.‬‬
‫مل يكن أبا هريرة كاتبا‪ ،‬ولكنه كان حافظا‪ ،‬وكان ميلك هذا الفراغ‪ ،‬أو هذا الفراغ املنشود‪ ،‬فليس له‬
‫أرض يزرعها وال جتارة يتبعها!!‬
‫يعوض ما فاته‪ ،‬وذلك بأن يواظب على متابعة‬ ‫وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا‪ ،‬عزم على أن ّ‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم وعلى جمالسته‪..‬‬
‫مث انه يعرف من نفسه هذه املوهبة اليت أنعم اهلل هبا عليه‪ ،‬وهي ذاكرته الرحبة القوية‪ ،‬واليت زادت‬
‫مضاء ورحابة وقوة‪ ،‬بدعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم لصاحبها أن يبارك اهلل له فيها‪..‬‬
‫فلماذا اذن ال يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا الرتاث ونقله للألجيال‪..‬؟؟‬
‫أجل‪ ..‬هذا دوره الذي‪ R‬هتيئه للقيام به مواهبه‪ ،‬وعليه أن يقوم به يف غري توان‪..‬‬

‫**‬

‫ومل يكن أبو هريرة ممن يكتبون‪ ،‬ولكنه كان كما ذكرنا سريع احلفظ قوي الذاكرة‪..‬‬
‫ومل تكن له أرض يزرعها‪ ،‬وال جتارة تشغله‪ ،‬ومن مثّ مل يكن يفارق الرسول يف سفر وال يف حضر‪..‬‬
‫يكرس نفسه ودقة ذاكرته حلفظ أحاديث رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪ R‬وتوجيهاته‪..‬‬
‫وهكذا راح ّ‬
‫‪ | 333‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فلما انتقل النيب صلى اهلل عليه وسلم اىل الرفيق األعلى‪ ،‬راح أبو هريرة حيدث‪ ،‬مما جعل بعض أصحابه‬
‫يعجبون‪ :‬أىّن له كل هذه احلاديث‪ ،‬ومىت مسعها ووعاها‪..‬‬
‫ولقد ألقى أبوهريرة رضي اهلل عنه الضوء على هذه الظاهرة‪ ،‬وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك‪R‬‬
‫اليت ساورت بعض أصحابه فقال‪:‬‬
‫" انكم لتقولون أكثر أبو هريرة يف حديثه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫وتقولون‪ :‬ان املهاجرين الذين سبقوه اىل االسالم ال حيدثون هذه األحاديث‪..‬؟؟‬
‫أال ان أصحايب من املهاجرين‪ ،‬كانت تشغلهم صفقاهتم بالسوق‪ ،‬وان أصحايب من األنصار كانت‬
‫تشغلهم أرضهم‪..‬‬
‫واين كنت أمريا مسكينا‪ ،‬أكثر جمالسة رسول اهلل‪ ،‬فأحضر اذا غابوا‪ ،‬وأحفظ اذا نسوا‪..‬‬
‫وان النيب صلى اهلل عليه وسلم حدثنا يوما فقال‪ :‬من يبسط رداءه حىت يفرغ من حديثي مث يقبضه اليه‬
‫ايل فواهلل ما كنت نسيت شيئا‬‫فال ينسى شيئا كان قد مسعه مين‪ !..‬فبسطت ثزيب فحدثين مث ضممته ّ‬
‫مسعته منه‪..‬‬
‫وأمي واهلل‪ ،‬لوال آية يف كتاب اهلل ما حدثتكم بشيء أبدا‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات واهلدى‪ R‬من بعد ما بيّناه للناس يف الكتاب‪ ،‬أولئك يلعنهم اهلل‬
‫ويلعنهم الالعنون)‪."..‬‬

‫تفرده بكثرة الرواية عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬


‫هكذا يفسر أبو هريرة سر ّ‬
‫فهو أوال كان متفرغا لصحبة النيب أكثر من غريه‪..‬‬
‫وهو ثانيا كان حيمل ذاكرة قوية‪ ،‬باركها الرسول فزادت قوة‪..‬‬
‫وهو ثالثا ال حي ّدث رغبة يف أن حي ّدث‪ ،‬بل ألن افشاء هذه األحاديث مسؤولية‪ R‬دينه وحياته‪ ،‬واال كان‬
‫املفرطني‪..‬‬
‫كامتا للخري واحلق‪ ،‬وكان مفرطا ينتظره جزاء ّ‬
‫‪ | 334‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫صاد‪ ،‬وال يعتاقه عائق‪ ..‬حىت قال له عمر‬


‫من أجل هذا راح‪ R‬حي ّدث وحي ّدث‪ ،‬ال يص ّده عن احلديث ّ‬
‫يوما وهو أمري املؤمنني‪:‬‬
‫لترتكن احلديث عن رسول اهلل‪،‬أو ألحلقنك بأرض دوس"‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫"‬
‫أي أرض قومه وأهله‪..‬‬
‫على أن هذا النهي من أمري املؤمنني ال يشكل اهتاما أليب هريرة‪ ،‬بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها‬
‫ويؤكدها‪ ،‬تلك هي‪ :‬أن على املسلمني يف تلك الفرتة بالذات أال يقرؤوا‪ ،‬وأال حيفظوا شيئا سوى‬
‫يقر وثبت يف األفئدة‪ R‬والعقول‪..‬‬‫القرآن حىت ّ‬
‫فالقرآن كتاب اهلل‪ ،‬ودستور االسالم‪ ،‬وقاموس الدين‪ ،‬وكثرة احلديث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ال سيما يف تلك اليت أعقبت وفاته عليه الصالة والسالم‪ ،‬واليت جيمع‪ R‬القرآن خالهلا قد تسبب‬
‫بلبلة ال داعي هلا وال جدوى منها‪..‬‬
‫من أجل هذا كان عمر يقول‪:‬‬
‫" اشتغلوا بالقرآن‪ ،‬فان القرآن كالم اهلل"‪..‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫" أقلوا الرواية عن رسول اهلل اال فيما يعمل به"‪..‬‬
‫وحني أرسل أبو موسى األشعري اىل العراق قال له‪:‬‬
‫كدوي النحل‪ ،‬فدعهم على ما هم عليه‪ ،‬وال تشغلهم‬ ‫ّ‪R‬‬ ‫دوي القرآن‬
‫" انك تأيت قوما هلم يف مساجدهم ّ‬
‫باحلديث‪ ،‬وأنا شريكك يف ذلك"‪..‬‬
‫كان القرآن قد مجع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه‪..‬‬
‫تزور‪ ،‬أو ختذ سبيل للكذب على رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫حترف أو ّ‬ ‫اما األحاديث فليس يضمن عمر أن ّ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬والنيل من االسالم‪..‬‬
‫وكان أبو هريرة يق ّدر وجهة نظر عمر‪ ،‬ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته‪ ،‬وكان ال يريد‬
‫أن يكتم من احلديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه امث وبوار‪.‬‬
‫وهكذا‪ ..‬مل يكن جيد فرصة الفراغ ما يف صدره من حديث سنعه ووعاه اال ح ّدث وقال‪..‬‬
‫‪ | 335‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫هاما‪ ،‬كان له دور يف اثارة املتاعب حول أيب هريرة لكثرة حتدثه وحديثه‪.‬‬
‫على أن هناك سببا ّ‬
‫ذلك أنه كان هناك يومئذ حم ّدث آخر حي ّدث عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ويكثر ويسرف‪ ،‬ومل‬
‫يكن املسلمون األصحاب يطمئنون كثريا ألحاديثه ذلكم هو كعب األحبار الذي‪ R‬كان يهوديا وأسلم‪.‬‬

‫**‬

‫أراد مروان بن احلكم يوما أن يبلو مقدرة أيب هريرة على احلفظ‪ ،‬فدعاه اليه وأجلسه معه‪ ،‬وطلب‬
‫منه أن حيدثه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يف حني أجلس كاتبه وراء حجاب‪ ،‬وأمره أن‬
‫يكتب كل ما يقول أبو هريرة‪..‬‬
‫وبعد مرور عام‪ ،‬دعاه مروان بن احلكم مرة أخرى‪ ،‬أخذ يستقرئه نفس األحاديث اليت كان كاتبه قد‬
‫سطرها‪ ،‬فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!‬
‫وكان يقول عن نفسه‪:‬‬
‫" ما من أحد من أصحاب رسول اهلل أكثر حديثا عنه مين‪ ،‬اال ما كان من عبداهلل بن عمرو بن‬
‫العاص‪ ،‬فانه كان يكتب‪ ،‬وال أكتب"‪..‬‬
‫وقال عنه االمام الشافعي‪ R‬أيضا‪:‬‬
‫" أبو هريرة أحفظ من روى احلديث يف دهره"‪.‬‬
‫وقال البخاري‪ R‬رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫" روي عن أبو هريرة مدرسة كبرية يكتب هلا البقاء واخللود‪..‬‬
‫األوابني‪ ،‬يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله‪ ..‬فيقوم‬
‫وكان أبو هريرة رضي اهلل عنه من العابدين ّ‬
‫هو ثلثه‪ ،‬وتقوم زوجته ثلثه‪ ،‬وتقوم ابنته ثلثله‪ .‬وهكذا ال متر من الليل ساعة اال ويف بيت أيب هريرة‬
‫عبادة وذكر وصالة!!‬
‫‪ | 336‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يتفرغ لصحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عاىن من قسوة اجلوع ما مل يعاين مثله‬‫ويف سبيل أن ّ‬
‫أحد‪..‬‬
‫وانه ليحدثنا‪ :‬كيف كان اجلوع يعض أمعاءه فيش ّ‪R‬د على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه‪ ،‬ويسقط يف‬
‫املسجد وهو يتلوى حىت يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو مبصروع‪!..‬‬
‫وملا أسلم مل يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة مل يكن رقأ له بسببها جفن‪..‬‬
‫كانت هذه املشكلة أمه‪ :‬فاهنا يومئذ رفضت أن تسلم‪..‬‬
‫ليس ذلك وحسب‪ ،‬بل كلنت تؤذي ابنها يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتذكره بسوء‪..‬‬
‫فانفض عنها باكيا حمزونا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وذات يوم أمسعت أبا هريرة يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يكره‪،‬‬
‫وذهب اىل مسجد‪ R‬الرسول‪..‬‬

‫ولنصغ‪ R‬اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ‪:‬‬


‫"‪ ..‬فجئت اىل رسول اهلل وأنا أبكي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬كنت أدعو أم أيب هريرة اىل االسالم فتأىب‬
‫علي‪ ،‬واين دعوهتا اليوم فأمسعتين فيك ما أكره‪ ،‬فادع اهلل أن يهدي أم أبا هريرةاىل االسالم‪..‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اللهم اهد أم أيب هريرة‪..‬‬
‫فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول اهلل‪ ،‬فلما أتيت الباب اذا هو جماف‪ ،‬أي مغلق‪ ،‬ومسعت‬
‫خضخضة ماء‪ ،‬ونادتين يا أبا هريرة مكانك‪..‬‬
‫مث لبست درعها‪ ،‬وعجلت عن مخارها وخرجت وهي تقول‪ :‬أشهد أن ال اله اال اهلل‪ ،‬وِأهد أن حممدا‪R‬‬
‫عبده ورسوله‪..‬‬
‫فجئت أسعى اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبكي من الفرح‪ ،‬كما بكيت من احلزن‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫أبشر يا رسول اهلل‪ ،‬فقد أجاب اهلل دعوتك‪..‬‬
‫قد هدى أم أيب هريرة اىل االسالم‪..‬‬
‫مث قلت يا رسول اهلل‪ :‬ادع اهلل أن حيبّبين وأمي اىل املؤمنني واملؤمنات‪..‬‬
‫فقال‪ :‬اللهم‪ R‬حبّب عبيدك هذا وأمه اىل كل مؤمن ومؤمنة"‪..‬‬
‫‪ | 337‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫وعاش أبو هريرة عابدا‪ ،‬وجماهدا‪ ..‬ال يتخلف عن غزوة وال عن طاعة‪.‬‬
‫ويف خالفة عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه واله امارة البحرين‪.‬‬
‫وعمر كما نعلم شديد احملاسبة لوالته‪.‬‬
‫اذا وىّل أحدهم وهو ميلك ثوبني‪ ،‬فيجب أن يرتك الوالية‪ R‬وهو ال ميلك من دنياه سوى ثوبيه‪ ..‬ويكون‬
‫من األفضل أن يرتكها وله ثوب واحد‪!!!..‬‬
‫أما اذا خرج من الوالية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء‪ ،‬فآنئذ ال يفلت من حساب عمر‪ ،‬مهما يكن‬
‫مصدر ثرائه حالال مشروعا!‬

‫دنيا أخرى‪ ..‬مالءها مهر روعة واعجازا‪!!..‬‬


‫ويل أبو هريرة البحرين ّادخر ماال‪ ،‬من مصادره احلالل‪ ،‬وعلم عمر فدعاه اىل املدينة‪..‬‬
‫وحني ّ‬

‫ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع‪:‬‬


‫" قال يل عمر‪:‬‬
‫يا عدو اهلل وعدو كتابه‪ ،‬أسرقت مال اهلل‪..‬؟؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ما أنا بعدو هلل وال عدو لكتابه‪ ..،‬لكين عدو من عادامها‪..‬‬
‫وال أنا من يسرق مال اهلل‪!..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫فمن أين اجتمعت لك عشرة آالف‪..‬؟؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫خيل يل تناسلت‪ ،‬وعطايا تالحقت‪..‬‬
‫‪ | 338‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قال عمر‪ :‬فادفعها اىل بيت مال املسلمني"‪!!..‬‬


‫ودفع أبو هريرة املال اىل عمر مث رفع يديه اىل السماء‪ R‬وقال‪:‬‬
‫اللهم اغفر ألمري املؤمنني"‪..‬‬

‫وبعد حني دعا عمر أبا هريرة‪ ،‬وعرض عليه الوالية من حديد‪ ،‬فأباها واعتذر عنها‪..‬‬
‫قال له عمر‪ :‬وملاذا؟‬
‫قال أبو هريرة‪:‬‬
‫حىت ال يشتم عرضي‪ ،‬ويؤخذ مايل‪ ،‬ويضرب ظهري‪..‬‬
‫مث قال‪:‬‬
‫وأخاف أن أقضي بغري علم‬
‫وأقول بغري حلم‪..‬‬

‫**‬

‫وذات يوم اشتد شوقه اىل لقاء اهلل‪..‬‬


‫يلح على اهلل قائال‪:‬‬
‫عواده يدعون له بالشفاء من مرضه‪ ،‬كان هو ّ‬ ‫وبينما كان ّ‬
‫" اللهم اين أحب لقاءك‪ ،‬فأحب لقائي"‪..‬‬
‫وعن مثاين وسبعني سنة مات يف العام التاسع واخلمسني للهجرة‪.‬‬
‫ولنب ساكين البقيع‪ R‬األبرار ب\تبوأ جثمانه الوديع‪ R‬مكانا مباركا‪..‬‬
‫وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته‪ ،‬كانت ألسنتهم ترتل الكثري من األحاديث اليت حفظها هلم‬
‫عن رسوهلم الكرمي‪.‬‬
‫ولعل واحدا من املسلمني اجلدد كان مييل على صاحبه ويسأله‪:‬‬
‫ملاذا كىّن شيخنا الراحل بأيب هريرة‪..‬؟؟‬
‫‪ | 339‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فيجيبه صاحبه وهو اخلبري باألمر‪:‬‬


‫لقد كان امسه يف اجلاهلية عبد مشس‪ ،‬وملا أسلك مسّاه الرسول عبدالرمحن‪ ..‬ولقد‪ R‬كان عطوفا على‬
‫احليوان‪ ،‬واكنت له هرة‪ ،‬يطعمها‪ ،‬وحيملها‪ ،‬وينظفها‪ ،‬ويؤويها‪ ..‬وكانت تالزمه كظله‪..‬‬
‫وهكذا دعي‪ :‬أبا هريرة رضي اهلل عنه وأرضاه‪..‬‬

‫الرباء بن مالك‬
‫اهلل‪ ،‬واجلنة‬

‫هو ثاين أخوين عاشا يف اهلل‪ ،‬وأعطيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عهدا نكا وأزهر مع األيام‪..‬‬
‫أما أوهلما فهو أنس بن مالك خادم رسول اهلل عليه السالم‪.‬‬
‫أخذته أمه أم سليم اىل الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنني وقالت‪:‬‬
‫"يا رسول اهلل‪..‬‬
‫هذا أنس غالمك خيدمك‪ ،‬فادع اهلل له"‪..‬‬
‫فقبّله رسول اهلل بني عينيه ودعا له دعوة ظلت حتدو عمره الطويل حنو اخلري والربكة‪..‬‬
‫دعا له لرسول فقال‪:‬‬
‫" اللهم أكثر ماله‪ ،‬وولده‪ ،‬وبارك له‪ ،‬وأدخله اجلنة"‪..‬‬
‫فعاش تسعا وتسعني سنة‪ ،‬ورزق من البنني واحلفدة كثريين‪ ،‬كما أعطاه اهلل فيما أعطاه من رزق‪،‬‬
‫بستانا رحبا ممرعا‪ ،‬كان حيمل الفاكهة يف العام مرتني‪!!..‬‬

‫**‬

‫وثاين األخوين‪ ،‬هو الرباء بن مالك‪..‬‬


‫عاش حياته العظيمة املقدامة‪ ،‬وشعاره‪:‬‬
‫" اهلل‪ ،‬واجلنة"‪..‬‬
‫‪ | 340‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومن كان يراه‪ ،‬وهو يقاتل يف سبيل اهلل‪ ،‬كان يرى عجبا يفوق العجب‪..‬‬
‫أجل غاية‪..‬‬
‫فلم يكن الرباء حني جياهد املشركني بسيفه ممن يبحثون عن النصر‪ ،‬وان يكن النصر آنئذ ّ‬
‫امنا كان يبحث عن الشهادة‪..‬‬
‫كانت كل أمانيه‪ ،‬أن ميوت شهيدا‪ ،‬ويقضي حنبه فوق أرض معركة جميدة من معارك االسالم واحلق‪..‬‬
‫من أجل هذا‪ ،‬مل يتخلف عن مشهد وال غزوة‪..‬‬
‫وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه‪ ،‬فقرأ وجوههم مث قال‪:‬‬
‫" لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي‪..‬‬
‫ال واهلل‪ ،‬لن حيرمين ريب الشهادة"‪!!..‬‬
‫ولقد ص ّد ق اهلل ظنه فيه‪ ،‬فلم ميت الرباء على فراشه‪ ،‬بل مات شهيدا يف معركة من أروع معارك‬
‫االسالم‪!!..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬كانت بطولة الرباء يوم اليمامة خليقة به‪ ..‬خليقة بالبطل الذي‪ R‬كان عمر بن اخلطاب يوصي‬
‫أال يكون قائدا أبدا‪ ،‬ألن جسارته واقدامه‪ ،‬وحبثه عن املوت‪ ..‬كل هذا جيعل قيادته لغريه من املقاتلني‬
‫خماطرة تشبه اهلالك‪!!..‬‬
‫وقف الرباء يوم اليمامة‪ R‬وجيوش االسالم حتت امرة خالد تتهيأ للنزال‪ ،‬وقف يتلمظ مستبطئا تلك‬
‫متر كأهنا السنني‪ ،‬قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف‪..‬‬ ‫اللحظات اليت ّ‬
‫وعيناه الثاقبتان‪ R‬تتحركان يف سرعة ونفاذ فوق أرض املعركة كلها‪ ،‬كأهنما تبحثان عن أصلح مكان‬
‫ملصرع البطل‪!!..‬‬
‫أجل فما كان يشغله يف دنياه كلها غري هذه الغاية‪..‬‬
‫حصاد كثري يتساقط من املشركني دعاة الظالم والباطل حب ّد سيفه املاحق‪..‬‬
‫‪ | 341‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث ضربة تواتيه يف هناية املعركة من يد مشركة‪ ،‬مييل على أثرها جسده اىل الرض‪ ،‬على حني تأخذ‬
‫روحه طريقها اىل املأل األعلى يف عرس الشهداء‪ ،‬وأعياد املباركني‪!!..‬‬

‫**‬

‫ونادى خالد‪ :‬اهلل أكرب‪ ،‬فانطلقت الصفوف املرصوصة اىل مقاديرها‪ ،‬وانطلق معها عاشق املوت‬
‫الرباء بن مالك‪..‬‬
‫وراح جيندل أتباع مسيلمة الكذاب‪ R‬بسيفه‪ ..‬وهم يتساقطون كأوراق اخلريف حتت وميض بأسه‪..‬‬
‫مل يكن جيش مسيلمة هزيال‪ ،‬وال قليال‪ ..‬بل كان أخطر جيوش الردة مجيعا‪..‬‬
‫وكان بأعداده‪ ،‬وعتاده‪ ،‬واستماتة مقاتليه‪ ،‬خطرا يفوق كل خطر‪..‬‬
‫ولقد أجابوا على هجوم املسلمني شيء من اجلزع‪ .‬وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق‬
‫صهوات جيادهم كلمات التثبيت‪ .‬ويذكرون بوعد اهلل‪..‬‬
‫وكان الرباء‪ R‬بن مالك مجيل الصوت عاليه‪..‬‬
‫وناداه القائد خالد تكلم يا براء‪..‬‬
‫فصاح الرباء بكلمات تناهت يف اجلزالة‪ ،‬وال ّداللة‪ ،‬القوة‪..‬‬
‫تلك هي‪:‬‬
‫" يا أهل املدينة‪..‬‬
‫ال مدينة لكم اليوم‪..‬‬
‫امنا هو اهلل واجلنة"‪..‬‬
‫كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ خبصاله‪.‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫امنا هو اهلل‪ ،‬واجلنة‪!!..‬‬
‫ويف هذا املوطن‪ ،‬ال ينبغي أن تدور اخلواطر حول شيء آخر‪..‬‬
‫‪ | 342‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حىت املدينة‪ ،‬عاصمة االسالم‪ ،‬والبلد الذي‪ R‬خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأوالدهم‪ ،‬ال ينبغي أن يفكروا‬
‫فيها‪ ،‬ألهنم اذا هزموا اليوم‪ ،‬فلن تكون هنلك مدينة‪..‬‬
‫وسرت كلمات الرباء‪ R‬مثل‪ ..‬مثل ماذا‪..‬؟‬
‫ان أي تشبيه سيكون ظلما حلقيقة أثرها وتأثريها‪..‬‬
‫فلنقل‪ :‬سرت كلمات الرباء‪ R‬وكفى‪..‬‬
‫ومضى وقت وجيز عادت بعده املعركة اىل هنجها األول‪..‬‬
‫املسلمون يتقدمون‪ ،‬يسبقهم نصر مؤزر‪.‬‬
‫واملشركون يتسلقطون يف حضيض هزمية منكرة‪..‬‬
‫والرباء‪ R‬هناك مع اخوانه يسريون لراية حممد صلى اهلل عليه وسلم اىل موعدها العظيم‪..‬‬
‫واندفع‪ R‬املشركون اىل وراء هاربني‪ ،‬واحتموا حبديقة كبرية دخلوها والذوا هبا‪..‬‬
‫وبردت املعركة يف دماء املسلمني‪ ،‬وبدا أن يف االمان تغري مصريها هبذه احليلة اليت جلأ اليها أتباع‬
‫مسيلمة وجيشه‪..‬‬
‫وهنا عال الرباء ربوة عالية وصاح‪:‬‬
‫" يا معشر املسلمني‪..‬‬
‫امحلوين وألقوين عليهم يف احلديقة"‪..‬‬
‫أمل أقل لكم انه ال يبحث عن النصر بل عن الشهادة‪!!..‬‬
‫تصور يف هذه اخلطة خري ختام حلياته‪ ،‬وخري صورة ملماته‪!!..‬‬ ‫ولقد ّ‬
‫فهو حني يقذف به اىل احلديقة‪ ،‬يفتح املسلمني باهبا‪ ،‬ويف نفس الوقت‪ R‬كذلك تكون أبواب اجلنة تأخذ‬
‫زينتها وتتفتح الستقبال عرس جديد وجميد‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 343‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومل ينتظر الرباء أن حيمله قومه ويقذفوا به‪ ،‬فاعتلى هو اجلدار‪ ،‬وألقى بنفسه داخل احلديقة وفتح‬
‫الباب‪ ،‬واقتحمته جيوش االسالم‪..‬‬
‫ولكن حلم الرباء مل يتحقق‪ ،‬فال سيوف املشركني اغتالته‪ ،‬وال هو لقي املصرع الذي‪ R‬كان ميين به‬
‫نفسه‪..‬‬
‫وصدق أبو بكر رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫" احرص على املوت‪..‬‬
‫توهب لك احلياة"‪!!..‬‬

‫صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف املشركني بضعا ومثانني ضربة‪ ،‬أثخنته ببضع ومثانني‬
‫جراحة‪ ،‬حىت لقد ظل بعد املعركة شهرا كامال‪ ،‬يشرف خالد بن الوليد نفسه على متريضه‪..‬‬
‫ولكن كل هذا الذي‪ R‬أصابه كان دون غايته وما يتمىن‪..‬‬
‫بيد أن ذلك ال حيمل الرباء على اليأس‪ ..‬فغدا جتيء معركة‪ ،‬ومعركة‪ ،‬ومعركة‪..‬‬
‫ولقد تنبأ له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة‪..‬‬
‫فليس عليه اال أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة‪ ،‬مث عليه أال يعجل‪ ،‬فلكل أجل كتاب‪!!..‬‬

‫ويربأ الرباء من جراحات يوم اليمامة‪..‬‬


‫وينطلق مع جيوش االسالم اليت ذهبت تشيّع قوى الظالم اىل مصارعها‪ ..‬هناك حيث تقوم‬
‫امرباطوريتان‪ R‬خرعتان فانيتان‪ ،‬الروم والفرس‪ ،‬حتتالن جبيوشهما الباغية بالد اهلل‪ ،‬وتستعبدان‪ R‬عباده‪..‬‬
‫ويضرب الرباء بسيفه‪ ،‬ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق يف بناء العامل اجلديد الذي‪ R‬ينمو حتت راية‬
‫منوا سريعا كالنهار‪ R‬املشرق‪..‬‬
‫االسالم ّ‬

‫**‬

‫ويف احدى حروب العراق جلأ الفرس يف قتاهلم اىل كل وحشية دنيئة يستطيعوهنا‪..‬‬
‫‪ | 344‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فاستعملوا كالليب مثبتة يف أطراف سالسل حممأة بالنار‪ ،‬يلقوهنا من حصوهنم‪ ،‬فتخطف من تناله من‬
‫املسلمني الذين ال يستطيعون منها فكاكا‪..‬‬
‫وكان الرباء‪ R‬وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع مجاعة من املسلمني أمر واحد من تلك‬
‫احلصون‪..‬‬
‫ولكن أحد هذه الكالليب سقط فجأة‪ ،‬فتعلق بأنس ومل يستطع أنس أن السلسلة ليخلص نفسه‪ ،‬اذ‬
‫كانت تتوهج هلبا ونارا‪..‬‬
‫وأبصرالرباء املشهد إلاسرع حنو أخيه الذي كانت السلسلة احملمأة تصعد به على سطح جدار‬
‫احلصن‪ ..‬وقبض على السلسلة بيديه وراح يعاجلها يف بأس شديد حىت قصمها‪ R‬وقطعها‪ ..‬وجنا أنس‬
‫وألقى الرباء‪ R‬ومن معه نظرة على كفيه فلم جيدومها مكاهنما‪!!..‬‬
‫مسمرا‪ R‬حمرتقا‪!!..‬‬
‫لقد ذهب كل ما فيهما من حلم‪ ،‬وبقي هيكلهما العظمي ّ‬
‫وقضى البطل فرتة أخرى يف عالج بطيء حىت بريء‪..‬‬

‫**‬

‫أما آن لعاشق املوت أن يبلغ غايته‪..‬؟؟‬


‫بلى آن‪!!..‬‬
‫وهاهي ذي موقعة تسرت جتيء ليالقي املسلمون فيها جيوش فارس‬
‫ولتكون لـ الرباء عيدا أي عيد‪..‬‬

‫**‬

‫احتشد أهل األهواز‪ ،‬والفرس يف جيش كثيف ليناجزوا املسلمني‪..‬‬


‫وكتب امري املؤمنني عمر بن اخلطاب اىل سعد بن أيب وقاص بالكوفة لريسل اىل األهواز‪ R‬جيشا‪..‬‬
‫وكتب اىل أيب موسى األشعري بالبصرة لريسل اىل األهواز جيشا‪ ،‬قائال له يف رسالته‪:‬‬
‫‪ | 345‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عدي‪..‬‬
‫" اجعل امري اجلند سهيل بن ّ‬
‫وليكن معه الرباء بن مالك"‪..‬‬

‫والتقى‪ R‬القادمون من الكوفة بالقادمني من البصرة ليواجهوا‪ R‬جيش األهواز وجيش الفرس يف معركة‬
‫ضارية‪..‬‬
‫كان االخوان العظيمان بني احلنود املؤمنني‪ ..‬أنس بن مالك‪ ،‬والرباء بن مالك‪..‬‬
‫وبدأت احلرب باملبارزة‪ ،‬فصرع الرباء‪ R‬وحده مائة مبارز من الفرس‪..‬‬
‫مث التحمت‪ R‬اجليوش‪ ،‬وراح القتلى يتساقطون من الفرقني كليهما يف كثرة كاثرة‪..‬‬
‫واقرتب بعض الصحابة من الرباء‪ ،‬والقتال دائر‪ ،‬ونادوه قائلني‪:‬‬
‫ألبره‪،‬‬
‫رب أشعث أغرب ذي طمرين ال يؤبه له‪ ،‬لو أقسم على اهلل ّ‬ ‫" أتذكر يا براء قول الرسول عنك‪ّ :‬‬
‫منهم الرباء بن مالك‪..‬؟‬
‫يا براء أقسم على ربك‪ ،‬ليهزمهم وينصرنا"‪..‬‬
‫ورفع الرباء‪ R‬ذراعيه اىل السماء ضارعا داعيا‪:‬‬
‫" اللهم امنحنا أكنافهم‪..‬‬
‫اللهم اهزمهم‪..‬‬
‫وانصرنا عليهم‪..‬‬
‫وأحلقين اليوم بنبيّك"‪..‬‬
‫يودعه‪..‬‬
‫ألقى على جبني أخيه أنس الذي كان يقاتل قريب امنه‪ ..‬نظرة طويلة‪ ،‬كأنه ّ‬
‫وانقذف املسلمون يف استبسال مل تألفه الدنيا من سواهم‪..‬‬
‫ونصروا نصرا مبينا‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 346‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ووسط شهداء املعركة‪ ،‬كان هناك الرباء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر‪ ..‬وتقبض ميناه على‬
‫مضمخة بدمه الطهور‪..‬‬
‫حثيّة من تراب ّ‬
‫لقد بلغ املسافر داره‪..‬‬
‫وأهنى مع اخوانه الشهداء‪ R‬رحلة عمر جليل وعظيم‪ ،‬ونودوا‪:‬‬
‫( أن تلكم اجلنة‪ ،‬أورثتموها مبا كنتم تعملون)‪....‬‬

‫عتبة بن غزوان‬
‫غدا ترون األمراء من بعدي‬

‫من بني املسلمني السابقني‪ ،‬واملهاجرين األولني اىل احلبشة‪ ،‬فاملدينة‪..‬‬


‫ومن بني الرماة األفذاذ الذين أبلوا يف سبيل اهلل بالء حسنا‪ ،‬هذا الرجل الفارع الطول‪ ،‬املشرق الوجه‪،‬‬
‫املخبت القلب عتبة بن غزوان‪...‬‬

‫**‬

‫كان سابع سبعة سبقوا اىل االسالم‪ ،‬وبيطوا أمياهنم اىل ميني الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مبايعني‬
‫ومتح ّدين قريش بكل ما معها من بأس وقدرة على االنتقام‪..‬‬
‫ويف األيام األوىل للدعوة‪.‬ز أيام العسرة واهلول‪ ،‬صمد‪ R‬عتبة بن غزوان‪ ،‬مع اخوانه ذلك الصمود‪ R‬اجلليل‬
‫الذي صار فيما بعد زادا للضمري االنساين يتغذى به وينمو على مر األزمان‪..‬‬
‫وملا أمر رسول اهلل عليه الصالة والسالم أصحابه باهلجرة اىل احلبشة‪ ،‬خرج عتبة مع املهاجرين‪..‬‬
‫‪ | 347‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الرب والبحر عائدا‬


‫بيد أن شوقه اىل النيب صلى اهلل عليه وسلم مل يدعه يستقر هناك‪ ،‬فسرعان ما طوى ّ‬
‫اىل مكة‪ ،‬حيث لبث فيها جبوار الرسول حىت جاء ميقات اهلجرة اىل املدينة‪ ،‬فهاجر عتبة مع‬
‫املسلمني‪..‬‬
‫ومنذ بدأت قريش حترشاهتا فحروهبا‪ ،‬وعتبة حامل رماحه ونباله‪ ،‬يرمي هبا يف أستاذية خارقة‪ ،‬ويسهم‬
‫مع اخوانه املؤمنني يف هدم العامل القدمي بكل أوثانه وهبتانه‪..‬‬
‫ومل يضع سالحه يوم رحل عنهم الرسول الكرمي اىل الرفيق األعلى‪ ،‬بل ظل يضرب يف األرض‪ ،‬وكان‬
‫له مع جيوش الفرس جهاد عظيم‪..‬‬

‫**‬

‫أرسله أمري املؤمنني عمر اىل األبلّة ليفتحها‪ ،‬وليطهر أرضها من الفرس الذين كانوا يتخذوهنا نقطة‬
‫وثوب خطرة على قوات االسالم الزاحفة عرب بالد االمرباطورية الفارسية‪ ،‬تستخلص منها بالد اهلل‬
‫وعباده‪..‬‬
‫يودعه وجيشه‪:‬‬‫وقال له عمر وهو ّ‬
‫" انطلق أنت ومن معك‪ ،‬حىت تأتوا أقصى بالد العرب‪ ،‬وأدىن بالد العجم‪..‬‬
‫وسر على بركة اهلل ومينه‪..‬‬
‫وادع اىل اهلل من أجابك‪.‬‬
‫ومن أىب‪ ،‬فاجلزية‪..‬‬
‫واال فالسيف يف غري هوادة‪..‬‬
‫كابد العدو‪ ،‬واتق اهلل ربك"‪..‬‬

‫**‬

‫ومضى عتبة على رأس جيشه الذي مل يكن كبريا‪ ،‬حىت قدم األبلّة‪..‬‬
‫‪ | 348‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكان الفرس حيشدون هبا جيشا من أقوى جيوشهم‪..‬‬


‫ونظم عتبة قواته‪ ،‬ووقف يف مقدمتها‪ ،‬حامال رحمه بيده اليت مل يعرف الناس هلا زلة منذ عرفت‬
‫الرمي‪!!..‬‬
‫وصاح يف جنده‪:‬‬
‫" اهلل أكرب‪ ،‬صدق وعده"‪..‬‬
‫وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا‪ ،‬فما هي اال جوالت ميمونة استسلمت بعدها األبلّة وطهرت أرضها من‬
‫جنود الفرس‪ ،‬وحترر أهلها من طغيان طاملا أصالهم سعريا‪ ..‬وصدق اهلل العظيم وعده‪!!..‬‬

‫**‬

‫وعمرها وبىن مسجدها العظيم‪..‬‬ ‫ط عتبة مكان األبلّة مدينة البصرة‪ّ ،‬‬ ‫احت ّ‬
‫وأراد أن يغادر البالد عائدا اىل املدينة‪ ،‬هاربا من االمارة‪ ،‬لكن أمري املؤمنني أمره بالبقاء‪..‬‬
‫ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس‪ ،‬ويفقههم يف دينهم‪ ،‬وحيكم بينهم بالعدل‪ ،‬ويضرب هلم أروع املثل‬
‫يف الزهد والورع والبساطة‪...‬‬
‫ووقف حيارب الرتف والسرف بكل قواه حىت ضجره الذين كانوا تستهويهم املناعم والشهوات‪..‬‬
‫هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال‪:‬‬
‫" واهلل‪ ،‬لقد رأيتين مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام اال ورق الشجر حىت‬
‫قرحت أشداقنا‪..‬‬
‫ولقد رزقت‪ R‬يوما بردة‪ ،‬فشققتها‪ R‬نصفني‪ ،‬أعطيت نصفها سعد بن مالك‪ ،‬ولبست نصفها اآلخر"‪..‬‬

‫**‬

‫كان عتبة خياف الدنيا على دينه أشد اخلوف‪ ،‬وكان خيافها على املسلمني‪ ،‬فراح حيملهم على القناعة‬
‫والشظف‪.‬‬
‫‪ | 349‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حيولوه عن هنجه‪ ،‬ويثريوا يف نفسه الشعور‪ R‬باالمارة‪ ،‬ومبا لالمارة من حق‪ ،‬ال‬ ‫وحاول الكثريون‪ R‬أن ّ‬
‫سيما يف تلك البالد اليت مل تتعود من قبل أمراء من هذا اطراز املتقشف الزاهد‪ ،‬واليت تعود أهلها‬
‫املزهوة‪ ..‬فكان عتبة جييبهم قائال‪:‬‬
‫احرتام املظاهر املتعالية ّ‬
‫" اين أعوذ باهلل أن أكون يف دنياكم عظيما‪ ،‬وعند اهلل صغريا"‪!..‬‬
‫اجلادة والقناعة قال هلم‪:‬‬
‫وملا رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته يف محلهم على ّ‬
‫" غدا ترون األمراء من بعدي"‪..‬‬
‫وجاء موسم احلج‪ ،‬فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاجا‪ .‬وملا قضى حجه‪ ،‬سافر اىل‬
‫املدينة‪ ،‬وهناك سأل أمري املؤمنني أن يعفيه االمارة‪..‬‬
‫يفرط يف هذا الطراز اجلليل من الزاهدين اهلاربني مما يسيل له لعاب البشر مجيعا‪.‬‬ ‫لكن عمر مل يكن ّ‬
‫وكان يقول هلم‪:‬‬
‫" تضعون أماناتكم فوق عنقي‪..‬‬
‫مث ترتكوين وحدي‪..‬؟‬
‫ال واهلل ال أعفكيم أبدا"‪!!..‬‬
‫وهكذا قال لـ عتبة لغزوان‪..‬‬
‫وملا مل يكن يف وسع عتبة اال الطاعة‪ ،‬فقد استقبل راحلته لريكبها‪ R‬راجعا اىل البصرة‪.‬‬
‫لكنه قبل أن يعلو ظهرها‪ ،‬استقبل القبلة‪ ،‬ورفع ك ّفيه الضارعتني اىل السماء ودعا ربه عز وجل أال‬
‫يرده اىل البصرة‪ ،‬وال اىل االمارة أبدا‪..‬‬
‫ّ‬
‫واستجيب دعاؤه‪..‬‬
‫فبينما هو يف طريقه اىل واليته أدركه املوت‪..‬‬
‫وفاضت روحه اىل بارئها‪ ،‬مغتبطة مبا بذلت‪ R‬وأعطت‪..‬‬
‫ومبا زهدت وعفت‪..‬‬
‫ومبا أمت اهلل عليها من نعمة‪..‬‬
‫ومبا هيأ هلا من ثواب‪...‬‬
‫‪ | 350‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ثابت بن قيس‬
‫خطيب رسول اهلل‬

‫حسان بن ثابت شاعر رسول اهلل واالسالم‪..‬‬ ‫كان ّ‬


‫وكان ثابت خطيب خطيب رسول اهلل واالسالم‪..‬‬
‫وكانت الكلمات خترج من فمه قوية‪ ،‬صادعة‪ ،‬جامعة رائعة‪..‬‬
‫ويف عام الوفود‪ ،‬وفد على ملدينة وفد بين متيم وقال لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" جئنا نفاخرك‪ ،‬فأذن لشاعرنا وخطيبنا"‪..‬‬
‫فابتسم الرسول صلى اهلل عليه وسلم وقال هلم‪:‬‬
‫" قد أذنت خلطيبكم‪ ،‬فليقل"‪..‬‬
‫وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو مبفاخر قومه‪..‬‬
‫وملا آذن بانتهاء‪ ،‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم لثابت بن قيس‪ :‬قم فأجبه‪..‬‬
‫وهنض ثابت فقال‪:‬‬
‫فيهن أمره‪ ،‬ووسع كرسيّه علمه‪ ،‬ومل يك شيء‬ ‫" احلمد هلل‪ ،‬الذي يف السموات واألرض‪ R‬خلقه‪ ،‬قضى ّ‬
‫قط اال من فضله‪..‬‬
‫مث كان من قدرته أن جعلنا أئمة‪ .‬واصطفى من خري خلقه رسوال‪ ..‬أكرمهم نسبا‪ .‬وأصدقهم‪ R‬حديثا‪.‬‬
‫وأفضلهم حسبا‪ ،‬فأنزل عليه كتابه‪ ،‬وائتمنه على خلقه‪ ،‬فكان خرية اهلل من العاملني‪..‬‬
‫مث دعا الناس اىل االميان به‪ ،‬فآمن به املهاجرون من قومه وذوي رمحه‪ ..‬أكرم الناس أحسابا‪ ،‬وخريهم‬
‫فعاال‪..‬‬
‫مث كنا حنن األنصار أول اخللق اجابة‪..‬‬
‫فنحن أنصار اهلل‪ ،‬ووزراء‪ R‬رسوله"‪..‬‬

‫**‬
‫‪ | 351‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫شهد ثابت بن قيس مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم غزوة أحد‪ ،‬واملشاهد بعدها‪.‬‬
‫وكانت فدائيته من طراز عجيب‪ ..‬جد عجيب‪!!..‬‬
‫الرد ة‪ ،‬كان يف الطليعة دائما‪ ،‬حيمل راية األنصار‪ ،‬ويضرب بسيف ال يكبو‪ ،‬وال ينبو‪..‬‬ ‫يف حروب ّ‬
‫ويف موقعة اليمامة‪ ،‬اليت سبق احلديث عنها أكثر من مرة‪ ،‬رأى ثابت وقع اهلجوم اخلاطف لذي شنّه‬
‫جيش مسيلمة الكذاب على املسلمني أول املعركة‪ ،‬فصاح بصوته النذير اجلهري‪:‬‬
‫" واهلل‪ ،‬ما هذا كنا نقاتل مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪..‬‬
‫مث ذهب بغري بعيد‪ ،‬وعاد وقد حتنّط‪ ،‬ولبس اكفانه‪ ،‬وصاح مرة أخرى‪:‬‬
‫" اين أبرأ اليك مما جاء به هؤالء‪..‬‬
‫يعين جيش مسيلمة‪..‬‬
‫وأعتذر اليك مما صاع هؤالء‪..‬‬
‫يعين تراخي املسلمني يف القتال"‪..‬‬
‫وانضم اليه سامل موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان حيمل راية املهاجرين‪..‬‬
‫وحفر االثنان لنفسيهما‪ R‬حفرة عميقة مث نزال فيها قائمني‪ ،‬وأهاال الرمال عليهما حىت غطت وسط كل‬
‫منهما‪..‬‬
‫وهكذا وقفا‪..‬طودين شاخمني‪ ،‬نصف كل منهما غائص يف الرمال مثبت يف أعماق احلفرة‪ ..‬يف حني‬
‫نصفهما األعلى‪ ،‬صدرمها وجبهتهما وذراعهما يستقبالن جيوش الوثنية والكذب‪..‬‬
‫وراحا يضربان بسيفهما كل من يقرتب منهما من جيش مسيلمة حىت استشهدا يف مكاهنما‪ ،‬ومالت‬
‫مشس كل منهما للغروب‪!!..‬‬
‫رد املسلمني اىل مواقعهم‪ ،‬حيث جعلوا‬ ‫وكان مشهدمها رضي اهلل عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت يف ّ‬
‫من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه األقدام‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 352‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتفوق حماربا كان حيمل نفسا أوابة‪ ،‬وقلبا خاشعا خمبتا‪،‬‬


‫تفوق خطيبا‪ّ ،‬‬ ‫وثابت بن قيس‪ ..‬هذا الذي‪ّ R‬‬
‫وكان من أكثر املسلمني وجال من اهلل‪ ،‬وحياء منه‪..‬‬

‫**‬

‫ملا نزلت اآلية الكرمية‪:‬‬


‫( ان اهلل ال حيب كل خمتال فخور)‪..‬‬
‫أغلق ثابت باب داره‪ ،‬وجلس يبكي‪..‬وطال مكثه على هذه احلال‪ ،‬حىت منى اىل رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أمره‪ ،‬فدعاه وسأله‪.‬‬
‫فقال ثابت‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪ ،‬اين أحب الثوب اجلميل‪ ،‬والنعل اجلميل‪ ،‬وقد خشيت أن أكون هبذا من املختالني"‪..‬‬
‫فأجابه النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو يضحك راضيا‪:‬‬
‫" انك لست منهم‪..‬‬
‫بل تعيش خبري‪..‬‬
‫ومتوت خبري‪..‬‬
‫وتدخل اجلنة"‪.‬‬
‫وملا نزل قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫( يا أيها الذين آمنوا ال ترفعوا أصواتكم فوق صوت النيب‪..‬‬
‫وال جتهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض‪ ،‬أن حتبط أعمالكم وأنتم ال تشعرون)‪..‬‬
‫أغلق ثابت عليه داره‪ ،‬وطفق يبكي‪..‬‬
‫وافتقده الرسول فسأل عنه‪ ،‬مث أرسل من يدعوه‪...‬‬
‫وجاء ثابت‪..‬‬
‫‪ | 353‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وسأله الرسول عن سببب غيابه‪ ،‬فأجابه‪:‬‬


‫" اين امرؤ جهري الصوت‪..‬‬
‫وقد كنت أرفع صويت فوق صوتك يا رسول اهلل‪..‬‬
‫واذن فقد حبط عملي‪ ،‬وأنا من أهل النار"‪!!..‬‬
‫وأجابه الرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫" انك لست منهم‪..‬‬
‫بل تعيش محيدا‪..‬‬
‫وتقتل شهيدا‪..‬‬
‫ويدخلك اهلل اجلنة"‪.‬‬

‫**‬

‫بقي يف قصة ثابت واقعة‪ ،‬قد ال يسرتيح اليها أولئك الذين حصروا تفكريهم وشعورهم ورؤاهم‪R‬‬
‫يشمونه‪!..‬‬
‫املادي الضيّق الذي‪ R‬يلمسونه‪ ،‬أو يبصرونه‪ ،‬أو ّ‬
‫داخل عاملهم ّ‬
‫ومع هذا‪ ،‬فالواقعة صحيحة‪ ،‬وتفسريها مبني وميّسر لكل من يستخدم مع البصر‪ ،‬البصرية‪..‬‬
‫مر به واحد من املسلمني الذين كانوا حديثي عهد باالسالم ورأى‬‫بعد أن استشهد ثابت يف املعركة‪ّ ،‬‬
‫على جثمان ثابت دعه الثمينة‪ ،‬فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه‪ ،‬فأخذها‪..‬‬
‫ولندع راوي‪ R‬الواقعة يرويها بنفسه‪:‬‬
‫"‪ ..‬وبينما رجل من املسلمني نائم أتاه ثابت يف منامه‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬اين أوصيك بوصية‪ ،‬فاياك أن تقول‪ :‬هذا حلم فتضيعه‪.‬‬
‫مر يب رجل من املسلمني‪.‬‬ ‫اين ملا استشهدت باألمس‪ّ ،‬‬
‫فأخذ درعي‪..‬‬
‫يسنت يف طوله‪ ،‬أي يف جلامه وشكيمته‪.‬‬
‫وان منزله يف أقصى الناس‪ ،‬وفرسه ّ‬
‫‪ | 354‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وقد كفأ على الدرع برمة‪ ،‬وفوق االبرمة رحل‪..‬‬


‫فأت خالدا‪ ،‬فمره أن يبعث فيأخذها‪..‬‬
‫فاذا قدمت‪ R‬املدينة على خليفة رسول اهلل أيب بكر‪ ،‬فقل له‪ :‬ان‬
‫علي من الدين كذا‪ R‬كذا‪..‬‬
‫ّ‬
‫فليقم بسداده‪..‬‬
‫فقص عليه رؤياه‪..‬‬
‫فلما استيقظ الرجل من نومه‪ ،‬أتى خالد بن الوليد‪ّ ،‬‬
‫فأرسل خالد من يأيت بالدرع‪ ،‬فوجدها كما وصف ثابت متاما‪..‬‬
‫قص املسلم على اخلليفة الرؤيا‪ ،‬فأجنز وصيّة ثابت‪..‬‬
‫وملا رجع املسلمون اىل املدينة‪ّ ،‬‬
‫وليس يف االسالم وصيّة ميّت أجنزت بعد موته على هذا النحو‪ ،‬سوى وصيّة ثابت بن قيس‪..‬‬

‫لسر كبري‪..‬‬
‫حقا ان االنسان ّ‬
‫حتسنب الذين قتلوا يف سبيل اهلل أمواتا بل أحياء عند رهبم يرزقون)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫( وال‬

‫أسيد بن خضري‬
‫بطل يوم السقيفة‬

‫ورث املكارم كابرا عن كابر‪..‬‬


‫فأبوه خضري الكتائب كان زعيم األوس‪ ،‬وكان واحدا من كبار أشراف العرب يف اجلاهلية‪ ،‬ومقاتليهم‬
‫األشداء‪..‬‬
‫وفيه يقول الشاعر‪:‬‬
‫لو أن املنايا حدن عن ذي مهابة‬
‫هلنب خضريا يوم غلّق واقما‪R‬‬
‫يطوف به‪ ،‬حىت اذا الليل جنّه‬
‫‪ | 355‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫تبوأ منه مقعدا متناغما‬

‫وورث أسيد عن أبيه مكانته‪ ،‬وشجاعته وجوده‪ ،‬فكان قبل أن يسلم‪ ،‬واحدا من زعماء املدينة‬
‫وأشراف العرب‪ ،‬ورماهتا األفذاذ‪..‬‬
‫فلما اصطفاه االسالم‪ ،‬وهدي اىل صراط العزيز احلميد‪ ،‬تناهى عزه‪.‬‬
‫وتسامى شرفه‪ ،‬يوم أخذ مكانه‪ ،‬وأخذ واحدا من انصار‪ R‬اهلل وأنصار رسوله‪ ،‬ومن السابقني اىل‬
‫االسالم العظيم‪..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬كان اسالمه يوم أسلم سريعا‪ ،‬وحامسا وشريفا‪..‬‬


‫فعندما أرسل الرسول عليه السالم مصعب بن عمري اىل املدينة ليعلم ويفقه املسلمني من األنصار‪ R‬الذين‬
‫بايعوا النيب عليه السالم عل االسالم بيعة العقبة األوىل‪ ،‬وليدعو غريهم اىل دين اهلل‪.‬‬
‫يومئذ‪ ،‬جلس أسيد بن خضري‪ ،‬وسعد بن معاذ‪ ،‬وكانا زعيمي قومما‪ ،‬يتشاوران‪ R‬يف أمر هذا الغريب‬
‫الذي جاء من مكة يس ّفه دينهما‪ ،‬ويدعو اى دين جديد ال يعرفونه‪..‬‬
‫وقال سعد ألسيد‪ ":‬انطلق اىل هذا الرجل فازجره"‪..‬‬
‫ومحل أسيد حربته‪ ،‬وأغذ السري اىل حيث كان مصعب يف ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء املدينة‬
‫الذين سبقوا اىل االسالم‪.‬‬
‫وعند جملس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد مجهرة من الناس تصغي يف اهتمام للكلمات الرشيدة‬
‫اليت يدعوهم هبا اىل اهلل‪ ،‬مصعب بن عمري‪..‬‬
‫وفجأهم أسيد بغضبه وثورته‪..‬‬
‫وقال له مصعب‪:‬‬
‫" هل لك يف أن جتلس فتسمع‪ ..‬فان رضيت أمرنا قبلته‪ ،‬ون كرهته‪ ،‬كففنا عنك ما تكره"‪..‬؟؟‬
‫‪ | 356‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫ذكي القلب حىت لقبه أهل املدينة بالكامل‪ ..‬وهو لقب كان‬‫كان أسيد رجال‪ ..‬وكان مستنري العقل ّ‬
‫حيمله أبوه من قبله‪..‬‬
‫فلما رأى مصعبا حيتكم به اىل املنطق والعقل‪ ،‬غرس حربته يف األرض‪ ،‬وقال ملصعب‪:‬‬
‫لقد أنصفت‪ :‬هات ما عندك‪..‬‬
‫ويفسر له دعوة الدين اجلديد‪ .‬الدين احلق الذي أمر حممد‪ R‬عليه‬
‫وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن‪ّ ،‬‬
‫الصالة والسالم بتبليغه ونشر رايته‪.‬‬
‫ويقول الذين حضروا هذا اجمللس‪:‬‬
‫" واهلل لقد عرفنا يف وجه أسيد االسالم قبل أن يتكلم‪..‬‬
‫وتسهله"‪!!..‬‬
‫عرفناه يف اشراقه ّ‬

‫**‬

‫مل يكد مصعب ينتهي من حديثه حىت صاح أسيد مبهورا‪:‬‬


‫" ما أحسن هذا الكالم وأمجله‪..‬‬
‫كيف تصنعون اذا أردمت أن تدخلوا يف هذا الدين"‪.‬؟‬
‫قال له مصعب‪:‬‬
‫" تطهر بدنك‪ ،‬وثوبك‪ ،‬وتشهد شهادة احلق‪ ،‬مث تصلي"‪..‬‬
‫ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة‪ ،‬وهي اذ تعرف طريقها ‪ ،‬ال ترتدد حلظة‬
‫أمام ارادهتا احلازمة‪..‬‬
‫ومن مثّ‪ ،‬قام أسيد يف غري ارجاء وال ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه‪ ،‬وأشرقت به روحه‪،‬‬
‫مودعا أيام وثنيّته‪ ،‬وجاهليته‪!!..‬‬
‫فاغتسل وتطهر‪ ،‬مث سجد هلل رب العاملني‪ ،‬معلنا اسالمه‪ّ ،‬‬
‫‪ | 357‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ‪ ،‬لينقل اليه أخبار املهمة اليت كلفه هبا‪ ..‬مهمة زجر مصعب بن‬
‫عمري واخراجه‪..‬‬
‫وعاد اىل سعد‪..‬‬
‫وما كاد يقرتب من جملسه‪ ،‬حىت قال سعد ملن حوله‪:‬‬
‫" أقسم لقد جاءكم أسيد بغري الوجه الذي ذهب به"‪!!.‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫لقد ذهب بوجه طافح باملرارة‪ ،‬والغضب‪ R‬والتحدي‪..‬‬
‫وعاد بوجه تغشاه السكينة والرمحة والنور‪!!..‬‬

‫**‬

‫وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليال‪..‬‬


‫انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله متاما يف صفاء جوهره ومضاء عزمه‪ ،‬وسالمة تفكريه وتقديره‪..‬‬
‫ويعلم أنه ليس بينه وبني االسالم سوى أن يسمع ما مسع هو من كالم اهلل‪ ،‬الذي‪ R‬حيسن ترتيله‬
‫وتفسريه سفري الرسول اليهم مصعب بن عمري‪..‬‬
‫لكنه لو قال لسعد‪ :‬اين أسلمت‪ ،‬فقم وأسلم‪ ،‬لكانت جماهبة غري مأمونة العاقبة‪..‬‬
‫اذن فعليه أن يثري محيّة سعد بطريقة تدفعه اىل جملس مصعب حىت يسمع‪ R‬ويرى‪..‬‬
‫فكيف السبيل هلذا‪..‬؟‬
‫كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة‪..‬‬
‫وأسعد بن زرارة‪ R‬هو ابن خالة سعد بن معاذ‪..‬‬
‫هنالك قال أسيد لسعد‪:‬‬
‫" لقد ح ّد ثت أن بني احلارثة قد خرجوا اىل أسعد بن زرارة ليقتلوه‪ ،‬وهم يعلمون أنه ابن خالتك"‪..‬‬
‫‪ | 358‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وقام سعد‪ ،‬تقوده احلميّة والغضب‪ ،‬وأخذ احلربة‪ ،‬وسار مسرعا اىل حيث أسعد ومصعب‪ ،‬ومن معهما‬
‫من املسلمني‪..‬‬
‫وملا اقرتب من اجمللس لو جيد ضوضاء وال لغطا‪ ،‬وامنا هي السكينة تغشى مجاعة يتوسطهم مصعب بن‬
‫عمري‪ ،‬يتلو آيات اهلل يف خشوع‪ ،‬وهم يصغون اليه يف اهتمام عظيم‪..‬‬
‫هنالك أدرك احليلة اليت نسجها له أسيد لكي حيمله على السعي اىل هذا اجمللس‪ ،‬والقاء السمع ملا يقوله‬
‫سفري االسالم مصعب بن عمري‪.‬‬
‫ولقد صدقت‪ R‬فراسة أسيد يف صاحبه‪ ،‬فما كاد سعد يسمع حىت شرح اهلل صدره لالسالم‪ ،‬وأخذ‬
‫مكانه يف سرعة الضوء‪ R‬بني املؤمنني السابقني‪!!..‬‬

‫**‬

‫كان أسيد حيمل يف قلبه اميانا وثيقا ومضيئا‪..‬‬


‫وكان اميانه بفيء عليه من األناة واحللم وسالمة التقدير ما جيعله أهال للثقة دوما‪..‬‬
‫أيب فقال ملن حوله من أهل املدينة‪:‬‬
‫ويف غزوة بين املصطلق حتركت‪ R‬مغايظ عبداهلل بن ّ‬
‫" لقد أحللتمومهم بالدكم‪ ،‬وقامستموهم أموالكم‪..‬‬
‫لتحولوا‪ R‬اىل غري دياركم‪..‬‬
‫أما واهلل لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم ّ‬
‫ليخرجن األعز منها األذل"‪..‬‬
‫ّ‬ ‫أما واهلل لئن رجعنا اىل املدينة‬
‫مسع الصحايب اجلليل زيد بن األرقم هذه الكلمات‪ ،‬بل هذه السموم‪ R‬املنافقة املسعورة‪ ،‬فكان حقا عليه‬
‫أن خيرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫وتأمل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كثريا‪ ،‬وقابله أسيد فقال له النيب عليه السالم‪:‬‬
‫أوما بلغك ما قال صاحبكم‪..‬؟؟‬
‫قال أسيد‪:‬‬
‫وأي صاحب يا رسول اهلل‪..‬؟؟‬ ‫ّ‬
‫‪ | 359‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قال الرسول‪:‬‬
‫أيب!!‬
‫عبداهلل بن ّ‬
‫قال أسيد‪:‬‬
‫وماذا قال‪..‬؟؟‬
‫قال الرسول‪:‬‬
‫خلرجن األعز منها األذل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫زعم انه ان رجع اىل املدينة‬
‫قال أسيد‪:‬‬
‫فأنت واهلل‪ ،‬يا رسول اهلل‪ ،‬خترجه منها ان شاء اهلل‪ ..‬هو واهلل الذليل‪ ،‬وأنت العزيز‪..‬‬
‫مث قال أسيد‪:‬‬
‫ليتوجوه على املدينة‬
‫" يا رسول اهلل ارفق به‪ ،‬فواهلل لقد جاءنا اهلل بك وان قومه لينظمون له اخلرز ّ‬
‫ملكا‪ ،‬فهو يرى أن االسالم قد سلبه ملكا"‪..‬‬
‫هبذا التفكري اهلادئ اعميق املتزن الواضح‪ ،‬كان أسيد دائما يعاجل القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة‪..‬‬

‫ويف يوم السقيفة‪ ،‬اثر وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث أعلن فريق من األنصار‪ ،‬وعلى‬
‫رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم باخلالفة‪ ،‬وطال احلوار‪ ،‬واحتدمت املناقشة‪ ،‬كان موقف أسيد‪ ،‬وهو‬
‫كما عرفنا زعيم أنصاري كبري‪ ،‬كان موقفه فعاال يف حسم املوقف‪ ،‬وكانت كلماته كفلق الصبح يف‬
‫حتديد االجتاهه‪..‬‬
‫وقف أسيد فقال خماطبا فريق األنصار‪ R‬من قومه‪:‬‬
‫" تعلمون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان من املهاجرين‪..‬‬
‫فخليفته اذن ينبغي أن يكون من املهاجرين‪..‬‬
‫ولقد كنا أنصار رسول اهلل‪..‬‬
‫وعلينا اليوم‪ R‬أن نكون أنصار خليفته"‪..‬‬
‫‪ | 360‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت كلماته‪ ،‬بردا‪ ،‬وسالما‪..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬عاش أسيد بن خضري رضي اهلل عنه عابدا‪ ،‬قانتا‪ ،‬باذال روحه وماله يف سبيل اخلري‪ ،‬جاعال‬
‫وصية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لألنصار نصب عينيه‪:‬‬
‫" اصربوا‪ ..‬حىت تلقوين على احلوض"‪..‬‬
‫ولقد كان لدينه وخلقه موضع‪ R‬تكرمي الص ّديق حبّه‪ ،‬كذلك كانت له نفس املكانة واملنزلة يف قلب أمري‬
‫املؤمنني عمر‪ ،‬ويف أفئدة الصحابة مجيعا‪.‬‬
‫وكان االستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى املغامن الكربى اليت حيرص األصحاب عليها‪..‬‬
‫ذلك الصوت اخلاشع الباهر املنري الذي‪ R‬أخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وصحبه وسلم أن املالئكة‬
‫دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه‪..‬‬
‫ويف شهر شعبان عام عشرين للهجرة‪ ،‬مات أسيد‪..‬‬
‫وأىب أمري املؤمنني عمر اال أن حيمل نعشه فوق كتفه‪..‬‬
‫وحتت ثرى البقيع وارى األصحاب جثمان مؤمن عظيم‪..‬‬
‫وعادوا اىل املدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكرمي عنه‪:‬‬
‫" نعم الرجل‪ ..‬أسيد بن خضري"‪..‬‬
‫عبد الرمحن بن عوف‬
‫ما يبكيك يا أبا حممد‪R‬‬

‫ذات يوم‪ ،‬واملدينة ساكنة هادئة‪ ،‬أخذ يقرتب من مشارفها‪ R‬نقع كثيف‪ ،‬راح يتعاىل ويرتاكم حىت كاد‬
‫يغطي األفق‪.‬‬
‫ودفعت الريح هذه األمواج من الغبار املتصاعد من رمال الصحراء الناعمة‪ ،‬فاندفعت تقرتب من‬
‫وهتب هبوبا قويا على مسالكها‪.‬‬
‫أبواب املدينة‪ّ ،‬‬
‫‪ | 361‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها‪ ،‬لكنهم سرعان ما مسعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ‬
‫عن قافلة كبرية مديدة‪.‬‬
‫وترجها‬
‫ومل ميض وقت غري وجيز‪ ،‬حىت كانت سبعمائة راحلة موقرة األمحال تزحم شوارع املدينة ّ‬
‫رجا‪ ،‬ونادى الناس بعضهم بعضا لريوا‪ R‬مشهدها احلافل‪ ،‬وليستبشروا‪ R‬ويفرحوا مبا حتمله من خري‬
‫ّ‬
‫ورزق‪..‬‬

‫**‬

‫وسألت أم املؤمنني عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬وقد ترمتت اىل مسعها أصداء القافلة الزاحفة‪..‬‬
‫سألت‪ :‬ما هذا الذي‪ R‬حيدث يف املدينة‪..‬؟‬
‫وأجيبت‪ :‬اهنا قافلة لعبدالرمحن بن عوف جاءت من الشام حتمل جتارة له‪..‬‬
‫قالت أم املؤمنني‪:‬‬
‫الر ّجة‪..‬؟!‬
‫قافلة حتدث كل هذه ّ‬
‫أجل يا ام املؤمنني‪ ..‬اهنا سبعمائة راحلة‪!!..‬‬
‫وهزت أم املؤمنني رأسها‪ ،‬وأرسلت نظراهتا الثاقبة بعيدا‪ ،‬كأهنا تبحث عن ذكرى مشهد رأته‪ ،‬أو‬
‫حديث مسعته‪..‬‬
‫"أما اين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫رأيت عبدالرمحن بن عوف يدخل اجلنة حبوا"‪..‬‬

‫**‬

‫عبدالرمحن بن عوف يدخل اجلنة حبوا‪..‬؟‬


‫وملاذا ال يدخلها وثبا هرولة مع السابقني من أصحاب رسول اهلل‪..‬؟‬
‫‪ | 362‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه‪ ،‬فتذكر أنه مسع من النيب صلى اهلل عليه وسلم هذا احلديث أكثر‬
‫من مرة‪ ،‬وبأكثر من صيغة‪.‬‬
‫تفض مغاليق األمحال من جتارته‪ ،‬حث خطاه اىل بيت عائشة وقال هلا‪ :‬لقد ذ ّكرتيين حبديث‬
‫وقبل أن ّ‬
‫مل أنسه‪..‬‬

‫مث قال‪:‬‬
‫" أما اين أشهدك أن هذه القافلة بأمحاهلا‪ ،‬وأقتاهبا‪ ،‬وأحالسها‪ ،‬يف سبيل اهلل عز وجل"‪..‬‬
‫ووزعت محولة سبعمائة راحلة على أهل املدينة وما حوهلا يف هنرجان ّبر عظيم‪!!..‬‬
‫هذه الواقعة وحدها‪ ،‬متثل الصورة الكاملة حلياة صاحب رسول اهلل عبدالرمحن بن عوف"‪.‬‬
‫فهو التاجر الناجح‪ ،‬أكثر ما يكون النجاح وأوفاه‪..‬‬
‫وهو الثري‪ ،‬أكثر ما يكون الثراء وفرة وافراطا‪..‬‬
‫وهو املؤمن األريب‪ ،‬الذي يأىب أن تذهب حظوظه من الدين‪ ،‬ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة‬
‫االميان ومثوبة اجلنة‪ ..‬فهو رضي اهلل عنه جيود بثروته يف سخاء وغبطة ضمري‪!!..‬‬

‫**‬

‫مىت وكيف دخل هذا العظيم االسالم‪..‬؟‬


‫لقد أسلم يف وقت مبكر جدا‪..‬‬
‫بل أسلم يف الساعات األوىل للدعوة‪ ،‬وقبل أن يدخل رسول اهلل دار األرقم‪ R‬ويتخذها مقرا اللتقائه‬
‫بأصحابه املؤمنني‪..‬‬
‫فهو أحد الثمانية الذن سبقوا اىل االسالم‪..‬‬
‫‪ | 363‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عرض عليه أبوبكر االسالم هو وعثمان بن عفان والزبري بن العوام وطلحة بن عبيد اهلل وسعد بن أيب‬
‫غم عليهم األمر وال أبطأ هبم الشك‪ ،‬بل سارعوا مع الص ّديق اىل رسول اهلل يبايعونه‬
‫وقاص‪ ،‬فما ّ‬
‫وحيملون لواءه‪.‬‬
‫ومنذ أسلم اىل أن لقي ربه يف اخلامسة والسبعني من عمره‪ ،‬وهو منوذج باهر للمؤمن العظيم‪ ،‬مما جعل‬
‫بشرهم باجلنة‪ ..‬وجعل عمر رضي اهلل عنه يضعه‬ ‫النيب صلى اهلل عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين ّ‬
‫مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل اخلالفة فيهم من بعده قائال‪ ":‬لقد تويف رسول اهلل وهو عنهم‬
‫راض"‪.‬‬
‫وفور اسالم عبدالرمحن بن عوف محل حظه املناسب‪ ،‬ومن اضطهاد قريش وحت ّدياهتا‪..‬‬
‫وحني أمر النيب صلى اهلل عليه وسلم أصحابه باهلجرة اىل احلبشة هاجر ابن عوف مث عاد اىل مكة‪ ،‬مث‬
‫هاجر اىل احلبشة يف اهلجرة الثانية مث هاجر اىل املدينة‪ ..‬وشهد بدرا‪ ،‬وأحدا‪ ،‬واملشاهد كلها‪..‬‬

‫**‬

‫وكان حمظوظا يف التجارة اىل ح ّد أثار عجبه ودهشه فقال‪:‬‬


‫" لقد رأيتين‪ ،‬لو رفعت‪ R‬حجرا‪ ،‬لوجدت حتت فضة وذهبا"‪!!..‬‬
‫ومل تكن التجارة عند عبدالرمحن بن عوف رضي اهلل عنه شرها وال احتكارا‪..‬‬
‫بل مل تكن حرصا على مجع املال شغفا بالثراء‪..‬‬
‫كال‪..‬‬
‫امنا كانت عمال‪ ،‬وواجبا يزيدمها النجاح قربا من النفس‪ ،‬ومزيدا من السعي‪..‬‬
‫وكان ابن عوف حيمل طبيعة جيّاشة‪ ،‬جتد راحتها يف العمل الشريف حيث يكون‪..‬‬
‫فهو اذا مل يكن يف املسجد يصلي‪ ،‬وال يف الغزو جياهد فهو يف جتارته اليت منت منوا هائال‪ ،‬حىت أخذت‬
‫قوافله تفد على املدينة من مصر‪ ،‬ومن الشام‪ ،‬حمملة بكل ما حتتاج اليه جزيرة العرب من كساء‬
‫وطعام‪..‬‬
‫‪ | 364‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويدلّنا على طبيعته اجليّاشة هذه‪ ،‬مسلكه غداة هجر املسلمني اىل املدينة‪..‬‬
‫لقد جرى هنج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بني كل اثنني من أصحابه‪ ،‬أحدمها مهاجر من مكة‪،‬‬
‫واآلخر أنصاري من املدينة‪.‬‬
‫وكانت هذه املؤاخات مت على نسق يبهر األلباب‪ ،‬فاألنصاري‪ R‬من أهل املدينة يقاسم أخاه املهاجر كل‬
‫ما ميلك‪ ..‬حىت فراشه‪ ،‬فاذا كان تزوجا باثنني طلق احدامها‪ ،‬ليتزوجها أخوه‪!!..‬‬
‫ويومئذ آخى الرسول الكرمي بني عبدالرمحن بن عوف‪ ،‬وسعد بن الربيع‪..‬‬
‫ولنصغ للصحايب اجلليل أنس بن مالك رضي اهلل عنه يروي لنا ما حدث‪:‬‬
‫" ‪ ..‬وقال سعد لعبدالرمحن‪ :‬أخي‪ ،‬أنا أكثر أهل املدينة ماال‪ ،‬فانظر شطر مايل فخذه!!‬
‫وحتيت امرأتان‪ ،‬فانظر أيتهما أعجب لك حىت أطلقها‪ ،‬وتتزوجها‪!..‬‬
‫فقال له عبدالرمحن بن عوف‪:‬‬
‫بارك اهلل لك يف أهلك ومال‪..‬‬
‫دلوين على السوق‪..‬‬
‫وخرج اىل السوق‪ ،‬فاشرتى‪ ..‬وباع‪ ..‬وربح"‪!!..‬‬
‫وهكذا سارت حياته يف املدينة‪ ،‬على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبعد وفاته‪ ،‬أداء كامل حلق‬
‫الدين‪ ،‬وعمل الدنيا‪ ..‬وجتارة راحبة ناجحة‪ ،‬لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد‬
‫حتته فضة وذهبا‪!!..‬‬
‫حتريه احلالل‪ ،‬ونأيه الشديد‪ R‬عن احلرام‪ ،‬بل عن الشبهات‪..‬‬
‫ومما جعل جتارته ناجحة مباركة‪ّ ،‬‬
‫كذلك مما زادها جناخا وبركة أهنا مل تكن لعبدالرمحن وحده‪ ..‬بل كان هلل فيها نصيب أوىف‪ ،‬يصل به‬
‫وجيهز به جيوش االسالم‪..‬‬
‫أهله‪ ،‬واخوانه‪ّ ،‬‬

‫واذا كانت اجلارة والثروات‪ ،‬امنا حتصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرمحن بن عوف امنا‬
‫تعرف مقاديرها وأعدادها مبا كان ينفق منها يف سبيل اهلل رب العاملني‪!!..‬‬
‫لقد مسع رسول اهلل يقول له يوما‪:‬‬
‫‪ | 365‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" يا بن عوف انك من األغنياء‪..‬‬


‫وانك ستدخل اجلنة حبوا‪..‬‬
‫فأقرض اهلل يطلق لك قدميك"‪..‬‬
‫ومن مسع هذا النصح من رسول اهلل‪ ،‬وهو يقرض ربه قرضا حسنا‪ ،‬فيضاعفه له أضعافا كثرية‪.‬‬
‫باع يف يوم أرضا بأربعني ألف دينار‪ ،‬مث ّفرقها يف أهله من بين زهرة‪ ،‬وعلى أمهات املؤمنني‪ ،‬وفقراء‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫وق ّدم يوما جليوش االسالم مخسمائة فرس‪ ،‬ويوما آخر الفا ومخسمائة راحلة‪.‬‬
‫وعند موته‪ ،‬أوصى خبمسن ألف دينار يف سبيل اهلل‪ ،‬وأ‪،‬صى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة‬
‫دينار‪ ،‬حىت ان عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬أخذ نصيبه من الوصية‪ R‬برغم ثرائه وقال‪ ":‬ان مال‬
‫عبدالرمحن حالل صفو‪ ،‬وان الطعمة منه عافية وبركة"‪.‬‬

‫**‬

‫كان ابن عوف سيّد ماله ومل يكن عبده‪..‬‬


‫وآية ذلك أنه مل يكن يشقى جبمعه وال باكتنازه‪..‬‬
‫بل هو جيمعه هونا‪ ،‬ومن حالل‪ ..‬مث ال ينعم به وحده‪ ..‬بل ينعم به معه أهله ورمحه واخوانه وجمتمعه‬
‫كله‪.‬‬
‫ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال‪:‬‬
‫" أهل املدينة مجيعا شركاء البن عوف يف ماله‪.‬‬
‫" ثلث يقرضهم‪..‬‬
‫وثلث يقضي عنهم ديوهنم‪..‬‬
‫وثلث يصلهم ويعطيهم‪"..‬‬
‫‪ | 366‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومل كن ثراؤه هذا ليبعث االرتياح لديه والغبطة يف نفسه‪ ،‬لو مل مي ّكنه من مناصرة دينه‪ ،‬ومعاونة‬
‫اخوانه‪.‬‬
‫أما بعد هذا‪ ،‬فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء‪..‬‬
‫جيء له يوما بطعام االفطار‪ ،‬وكان صائما‪..‬‬
‫فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال‪:‬‬
‫" استشهد مصعب بن عمري وهو خري مين‪ ،‬فك ّفن يف بردة ان غطت رأسه‪ ،‬بدت رجاله‪ ،‬وان غطت‬
‫رجاله بدا رأسه‪.‬‬
‫واستشهد محزة وهو خري مين‪ ،‬فلم يوجد له ما ميفن فيه اال بردة‪.‬‬
‫عجلت لنا‬
‫مث بسط لنا من الدنيا ما بسط‪ ،‬وأعطينا منها ما أعطينا واين ألخشى أن نكون قد ّ‬
‫حسناتنا"‪!!..‬‬
‫واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام عنده‪.‬‬
‫وما كاد الطعام يوضع أمامهم حىت بكى وسألوه‪:‬‬
‫ما يبكيك يا أبا حممد‪..‬؟؟‬
‫قال‪:‬‬
‫" لقد مات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعري‪..‬‬
‫ما أرانا أخرنا مل هو خري لنا"‪!!..‬‬
‫كذلك مل يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكرب يف نفسه‪..‬‬
‫حىت لقد قيل عنه‪ :‬انه لو رآه غريب ال يعرفه وهو جالس مع خدمه‪ ،‬ما استطاع أ‪ ،‬مييزه من بينهم‪!!..‬‬
‫لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبالئه‪ ،‬فيعرف مثال أنه أصيب يوم أحد‬
‫بعشرين جراحة‪ ،‬وان احدى هذه االصابات تركت عرجا دائما يف احدى ساقيه‪ ..‬كما سقطت يوم‬
‫أحد بعض ثناياه‪ .‬فرتكت‪ R‬مهّا واضحا‪ R‬يف نطقه وحديثه‪..‬‬
‫عندئذ ال غري‪ ،‬يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة‪ ،‬املضيء الوجه‪ ،‬الرقيق‬
‫البشرة‪ ،‬األعرج‪ ،‬األهتم من جراء اصابته يوم أحد هو عبدالرمحن بن عوف‪!!..‬‬
‫‪ | 367‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫رضي اهلل عنه وأرضاه‪..‬‬

‫**‬

‫عودتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة‪...‬‬ ‫لقد ّ‬


‫أي أن األثرياء حيبون دائما أن يكون هلم نفوذ حيمي ثراءهم ويضاعفه‪ ،‬ويشبع شهوة الصلف‬
‫واالستعالء واألنانية اليت يثريها الثراء عادة‪..‬‬
‫فاذا رأينا عبدالرمحن بن عوف يف ثرائه العريض هذا‪ ،‬رأينا انسانا عجبا يقهر طبائع البشر يف هذا اجملال‬
‫مسو فريد‪!..‬‬
‫ويتخطاها اىل ّ‬
‫حدث ذلك عندما كان عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه جيود بروحه الطاهرة‪ ،‬وخيتار ستة رجال من‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ليختاروا‪ R‬من بينهم اخلليفة اجلديد‪..‬‬
‫كانت األصابع تومئ حنو ابن عوف وتشري‪..‬‬
‫ولقد فاحته بعض الصحابة يف أنه أحق الستة باخلالفة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ايل من ذلك"‪!!..‬‬
‫" واهلل‪ ،‬ألن تؤخذ مدية‪ ،‬فتوضع يف حلقي‪ ،‬مث ينفذ هبا اىل اجلانب اآلخر أحب ّ‬

‫وهكذا مل يكد الستة املختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا‪ R‬أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حىت‬
‫أنبأ اخوانه اخلمسة اآلخرين أنه متنازل عن احلق الذي أضفاه عمر عليه حني جعله أحد الستة الذين‬
‫خيتار اخلليفة منهم‪ ..‬وأ ّن عليهم أن جيروا عملية االختيار بينهم وحدهم أي بني اخلمسة اآلخرين‪..‬‬
‫وسرعان ما أحله هذا الزهد يف املنصب مكان احلكم بني اخلمسة األجالء‪ ،‬فرضوا أن خيتار هو اخلليفة‬
‫من بينهم‪ ،‬وقال االمام علي‪:‬‬
‫" لقد مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصفك بأنك أمني يف أهل السماء‪ ،‬وأمني يف أهل‬
‫األرض"‪..‬‬
‫واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخالفة‪ ،‬فأمضى الباقون اختياره‪.‬‬
‫‪ | 368‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫هذه حقيقة رجل ثري يف االسالم‪..‬‬


‫فهل رأيتم ما صنع االسالم به حىت رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضالته‪ ،‬وكيف صاغه يف أحسن‬
‫تقومي‪..‬؟؟‬
‫وها هو ذا يف العام الثاين والثالثني للهجرة‪ ،‬جيود بأنفاسه‪..‬‬
‫ختتص به سواه‪ ،‬فتعرض عليه وهو على فراش املوت أن‬
‫ختصه بشرف مل ّ‬ ‫وتريد أم املؤمنني عائشة أن ّ‬
‫يدفن يف حجرهتا اىل جوار الرسول وأيب بكر وعمر‪..‬‬
‫ولكنه مسلم أحسن االسالم تأديبه‪ ،‬فيستحي أن يرفع نفسه اىل هذا اجلوار‪!!...‬‬
‫مث انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون‪ ،‬اذ تواثقا ذات يوم‪ :‬أيهما مات بعد اآلخر‬
‫يدفن اىل جوار صاحبه‪..‬‬

‫**‬

‫وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها اجلديدة كانت عيناه تفيضان من الدمعو‪ R‬ولسانه يتمتم ويقول‪:‬‬
‫" اين أخاف أن أحبس عن أصحايب لكثرة ما كان يل من مال"‪..‬‬
‫ولكن سكينة اهلل سرعان ما تغشته‪ ،‬فكست وجهه غاللة رقيقة من الغبطة املشرقة املتهللة املطمئنة‪..‬‬
‫وأرهفت أذناه للسمع‪ ..‬كما لو كان هناك صوت عذب يقرتب منهما‪..‬‬
‫لعله آنئذ‪ ،‬كان يسمع صدق قول الرسول صلى اهلل عليه وسلم له منذ عهد بعيد‪:‬‬
‫" عبدالرمحن بن عوف يف اجلنة"‪..‬‬
‫ولعله كان يسمع أيضا وعد اهلل يف كتابه‪..‬‬
‫( الذين ينفقون أمواهلم يف سبيل اهلل‪ ،‬مث ال يتبعون ما أنفقوا منّا وال أذى‪ ،‬هلم أجرهم عند رهبم وال‬
‫خوف عليهم وال هم حيزنون)‪..‬‬
‫‪ | 369‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أبو جابر عبداهلل بن عمرو بن حرام‬


‫ظليل املالئكة‬

‫عندما كان األنصار السبعون‪ R‬يبايعون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيعة العقبة الثانية‪ ،‬كان عبداهلل‬
‫بن عمرو بن حرام‪ ،‬أبو جابر بن عبداهلل أحد هؤالء األنصار‪..‬‬
‫وملا اختار الرسول صلى اهلل عليه وسلم منهم نقباء‪ ،‬كان عبداهلل بن عمرو أحد هؤالء النقباء‪ ..‬جعله‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نقيبا على قومه من بين سلمة‪..‬‬
‫وملا عاد اىل املدينة وضع نفسه‪ ،‬وماله‪ ،‬وأهله يف خدمة االسالم‪..‬‬
‫وبعد هجرة الرسول اىل املدينة‪ ،‬كان أبو جابر قد وجد كل حظوظه السعيدة يف مصاحبة النيب عليه‬
‫السالم ليله وهناره‪..‬‬

‫**‬

‫ويف غزوة بدر خرج جماهدا‪ ،‬وقاتل قتال األبطال‪..‬‬


‫ويف غزوة أحد تراءى له مصرعه قبل أن خيرج املسلمون للغزو‪..‬‬
‫وغمره احساس صادق بأنه لن يعود‪ ،‬فكاد قلبه يطري من الفرح!!‬
‫ودعا اليه ولد جابر بن عبداهلل الصحايب اجلليل‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫" اين ال أراي اال مقتوال يف هذه الغزوة‪..‬‬
‫بل لعلي سأكون أول شهدائها من املسلمني‪..‬‬
‫ايل منك بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬‫أحب ّ‬
‫واين واهلل‪ ،‬ال أدع أحدا بعدي ّ‬
‫علي دبنا‪ ،‬فاقض عين ديين‪ ،‬واستوص باخوتك خريا"‪..‬‬ ‫وان ّ‬

‫**‬
‫‪ | 370‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف صبيحة اليوم التايل‪ ،‬خرج املسلمون للقاء قريش‪..‬‬


‫قريش اليت جاءت يف جيش جلب تغزو مدينتهم‪ R‬اآلمنة‪..‬‬
‫ودارت معركة رهيبة‪ ،‬أدرك املسلمون يف بدايتها نصرا سريعا‪ ،‬كان ميكن أن يكون نصرا حامسا‪ ،‬لوال‬
‫أن الرماة الذين امرهم الرسول عليه السالم بالبقاء يف مواقعهم‪ R‬وعدم مغادرهتا أبدا أغراهم هذا النصر‬
‫اخلاطف على القرشيني‪ ،‬فرتكوا مواقعهم فوق اجلبل‪ ،‬وشغلوا جبمع غنائم اجليش املنهزم‪..‬‬
‫هذا اجليش الذي مجع فلوله شريعا حني رأى ظهر املسلمني قد انكشف متاما‪ ،‬مث فاجأهم هبجوم‬
‫فتحول نصر املسلمني اىل هزمية‪..‬‬
‫خاطف من وراء‪ّ ،‬‬

‫**‬

‫مودع شهيد‪..‬‬
‫يف هذا القتال املرير‪ ،‬قاتل عبداهلل بن عمرو قتال ّ‬
‫وملا ذهب املسلمون بعد هناية القتال ينظرون شهدائهم‪ ..‬ذهب جابر ابن عبداله يبحث عن أبيه‪ ،‬حىت‬
‫ألفاه بني الشهداء‪ ،‬وقد‪ R‬مثّل به املشركون‪ ،‬كما مثلوا يغريه من األبطال‪..‬‬
‫ومر هبم رسول اهلل صلى‬
‫ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد االسالم عبداهلل بن عمرو مب جرام‪ّ ،‬‬
‫اهلل عليه وسلم وهم يبكونه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" ابكوه‪..‬‬
‫أ‪،‬ال تبكوه‪..‬‬
‫فان املالئكة لتظلله بأجنحتها"‪!!..‬‬

‫**‬

‫كان اميان أبو جابر متألقا ووثيقا‪..‬‬


‫وكان حبّه باملوت يف سبيل اهلل منتهى أطماحه وأمانيه‪..‬‬
‫‪ | 371‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يصور شغفه بالشهادة‪..‬‬


‫ولقد أنبأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيم‪ّ ،‬‬
‫قال عليه السالم لولده جابر يوما‪:‬‬
‫" يا جابر‪..‬‬
‫ما كلم اهلل أحدا قط اال من وراء حجاب‪..‬‬
‫ولقد كلّم كفاحا _أي مواجهة_‬
‫فقالفقال له‪ :‬يا عبدي‪ ،‬سلين أعطك‪..‬‬
‫تردين اىل الدنيا‪ ،‬ألقتل يف سبيلك ثانية‪..‬‬
‫فقال‪ :‬يا رب‪ ،‬أسألك أن ّ‬
‫قال له اهلل‪:‬‬
‫انه قد سبق القول مين‪ :‬أهنم اليها ال يرجعون‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا رب فأبلغ من ورائي مبا أعطيتنا من نعمة‪..‬‬
‫فأنزل اهلل تعاىل‪:‬‬
‫حتسنب الذين قتلوا يف سبيل اهلل أمواتا‪ ،‬بل أحياء عند رهبم‪ R‬يرزقون‪ ،‬فرحني مبا أتاهم اهلل من‬
‫ّ‬ ‫(وال‬
‫فضله‪ ،‬ويستبشرون بالذين مل يلحقوا هبم من خلفهم‪ .‬أال خوف عليهم وال هم حيزنون)"‪.‬‬

‫**‬

‫وعندما كان املسلمون يتعرفون على شهدائهم األبرار‪ ،‬بعد فراغ القتال يف أحد‪..‬‬
‫وعندما تعرف أهل عبداهلل بن عمرو على جثمانه‪ ،‬محلته زوجته على ناقتها ومحلت معه أخاها الذي‬
‫استشهد أيضا‪ ،‬ومهّت هبما راجعة اىل املدينة لتدفنهما هناك‪ ،‬وكذلك فعل بعض املسلمني بشهدائهم‪..‬‬
‫بيد أن منادي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلق هبم وناداهم بأمر رسول اهلل أن‪:‬‬
‫" أن ادفنوا القتلى يف مصارعهم"‪..‬‬
‫فعاد كل منهم بشهيده‪..‬‬
‫‪ | 372‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ووقف النيب الكرمي صلى اهلل عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء‪ ،‬الذين صدقوا ما عاهدوا‬
‫اهلل عليه‪ ،‬وبذلوا‪ R‬أرواحهم الغالية قربانا متواضعا‪ R‬هلل ولرسوله‪.‬‬
‫وملا جاء دور عبداهلل بن حرام ليدفن‪ ،‬نادى رسول اهلل صلى اله عليه وسلم‪:‬‬
‫" ادفنوا‪ R‬عبداهلل بن عمرو‪ ،‬وعمرو بن اجلموح يف قرب واحد‪ ،‬فاهنما كانا يف الدنيا‪ R‬متحابني‪،‬‬
‫متصافني"‪..‬‬

‫**‬

‫واآلن‪..‬‬
‫يف خالل اللحظات اليت يع ّد فيها القرب السعيد الستقبال الشهيدين الكرميني‪ ،‬تعالوا نلقي نظرة حمبّة‬
‫على الشهيد‪ R‬الثاين عمرو بن اجلموح‪...‬‬

‫عمرو بن اجلموح‬
‫أريد أن أخطر بعرجيت يف اجلنة‬

‫انه صهر عبداهلل بن حرام‪ ،‬اذ كان زوجا ألخته هند بن عمرو‪..‬‬
‫وكان ابن اجلموح واحدا من زعماء املدينة‪ ،‬وسيدا من سادات بين سلمة‪..‬‬
‫سبقه اىل االسالم ابنه معاذ بن عمرو الذي‪ R‬كان أحد األنصار‪ R‬السبعني‪ ،‬أصحاب البيعة الثانية‪..‬‬
‫وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان لالسالم بني أهل املدينة يف محاسة الشباب املؤمن‬
‫اجلريء‪..‬‬
‫وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ األشراف من بيوهتم أصناما رمزية غري تلك األصنام الكبرية‬
‫تؤمها مجوع الناس‪..‬‬
‫املنصوبة يف حمافلها‪ ،‬واليت ّ‬
‫‪ | 373‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعمرو بن اجلموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن جيعال من صنم عمرو بن مجوح سخرية ولعبا‪..‬‬
‫فكانا يدجلان عليه ليال‪ ،‬مث حيمالنه ويطرحانه يف حفرة يطرح الناس فيه فضالهتم‪..‬‬
‫ويصيح عمرو فال جيد منافا يف مكانه‪ ،‬ويبحث عنه حىت جيده طريح تلك احلفرة‪ ..‬فيثور ويقول‪:‬‬
‫ويلكم من عدا على آهلتنا الليلة‪!..‬؟‬
‫مث يغسله ويطهره ويطيّبه‪..‬‬
‫فاذا جاء ليل جديد‪ ،‬صنع املعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعالن به كل ليلة‪.‬‬
‫حىت اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه يف عنق مناف وقال له‪ :‬ان كان فيك خري فدافع‪ R‬عن‬
‫نفسك‪!!..‬‬
‫فلما اصبح فلم جيده مكانه‪ ..‬بل وجده يف احلفرة ذاهتا طرحيا‪ ،‬بيد أن هذه املرة مل يكن يف حفرته‬
‫وحيدا‪ ،‬بل كان مشدودا مع كلب ميت يف حبل وثيق‪.‬‬
‫واذا هو يف غضبه‪ ،‬وأسفه ودهشه‪ ،‬اقرتب منه بعض أشراف املدينة الذين كانوا قد سبقوا اىل‬
‫االسالم‪ ..‬وراحوا‪ ،‬وهم يشريون بأصابعهم اىل الصنم‪ R‬املن ّكس املقرون بكلب ميت‪ ،‬خياطبون يف عمرو‬
‫بن اجلموح عقله وقلبه ورشده‪ ،‬حمدثينه عن االله احلق‪ ،‬العلي األعلى‪ ،‬الذي‪ R‬ليس كمثله شيء‪.‬‬
‫وعن حممد‪ R‬الصادق األمني‪ ،‬الذي جاء احلياة ليعطي ال ليأخذ‪ ..‬ليهدي‪ ،‬ال ليضل‪..‬‬
‫وعن االسالم‪ ،‬الذي‪ R‬جاء حيرر البشر من األعالل‪ ،‬مجيع األغلل‪ ،‬وجاء حيىي فيهم روح اهلل وينشر يف‬
‫قلوهبم نوره‪.‬‬
‫ويف حلظات وجد عمرو نفسه ومصريه‪..‬‬
‫ويف حلظات ذهب فطهر ثوبه‪ ،‬وبدنه‪ ..‬مث تطيّب وتأنق‪ ،‬وتألق‪ ،‬وذهب عايل اجلبهة مشرق النفس‪،‬‬
‫ليبايع خامت املرسلني‪ ،‬وليأخذ مكانه مع املؤمنني‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 374‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قد يسأل سائل نفسه‪ ،‬كيف كان رجال من أمثال عمرو بن اجلموح‪ ..‬وهم زعماء قومهم‬
‫وأشراف‪ ..‬كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا االميان‪..‬؟‬
‫وكيف مل تعصمهم‪ R‬عقوهلم عن مثل هذا اهلراء‪ ..‬وكيف نع ّدهم اليوم‪ ،‬حىت مع اسالمهم وتضحياهتم‪،‬‬
‫من عظماء الرجال‪..‬؟‬
‫ومثل هذا السؤال‪ R‬يبدو ايراده سهال يف أيامنا هذه حيث ال جند طفال يسيغ عقله أن ينصب يف بيته‬
‫خشبة مث يعبدها‪..‬‬
‫لكن يف أيام خلت‪ ،‬كانت عواطف البشر تتسع ملثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم‪ R‬ونبوغهم‬
‫حيلة جتاه تلك التقاليد‪!!..‬‬
‫وحسبنا هلذا مثال أثينا‪..‬‬
‫أثينا يف عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط‪..‬‬
‫أثينا اليت كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر األباب‪ ،‬كان أهلها مجيعا‪ :‬فالسفة‪ ،‬وحكاما‪ ،‬ومجاهري‬
‫يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي يف البالهة والسخرية!!‬
‫ذلك أن الوجدان الديين يف تلك العصور‪ R‬البعيدة‪ ،‬مل يكن يسري يف خط مواز للتفوق العقلي‪...‬‬

‫**‬

‫أسلم عمرو بن اجلموح قلبه‪ ،‬وحياته هلل رب العاملني‪ ،‬وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على اجلود‬
‫والسخاء‪ ،‬فان االسالم زاد جوده مضاء‪ ،‬فوضع‪ R‬كل ماله يف خدمة دينه واخوانه‪..‬‬
‫سأل الرسول عليه الصالة والسالم مجاعة من بين سلمة قبيلة عمرو بن اجلموح فقال‪:‬‬
‫من سيّدكم يا بين سلمة‪..‬؟‬
‫قالوا‪ :‬اجل ّد بن قيس‪ ،‬على خبل فيه‪..‬‬
‫فقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫وأي داء أدوى من البخل!!‬
‫‪ | 375‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫بل سيّدكم اجلعد األبيض‪ ،‬عمرو بن اجلموح‪..‬‬


‫فكانت هذه الشهادة من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تكرميا البن اجلموح‪ ،‬أي تكرمي‪!..‬‬
‫ويف هذا قال شاعر األنصار‪:‬‬
‫فسود عمرو بن اجلموح جلوده‬ ‫ّ‬
‫يسودا‬
‫وحق لعمرو بالنّدى أن ّ‬
‫اذا جاءه السؤال‪ R‬أذهب ماله‬
‫وقال‪ :‬خذوه‪ ،‬انه عائد غدا‬
‫ومبثل ما كان عمرو بن اجلموح جيود مباله يف سبيل اهلل‪ ،‬أراد أن جيود بروحه وحبياته‪..‬‬
‫ولكن كيف السبيل؟؟‬
‫ان يف ساقه عرجا جيعله غري صاحل لالشرتاك يف قتال‪.‬‬
‫وانه له أربعة أوالد‪ ،‬كلهم مسلمون‪ ،‬وكلهم رجال كاألسود‪ ،‬كانوا خيرجون مع الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يف الغزو‪ ،‬ويثابرون على فريضة اجلهاد‪..‬‬
‫فتوسل أبناؤه اىل النيب صلى اهلل عليه وسلم كي يقنعه بعدم‬‫ولقد حاول عمرو أن خيرج يف غزوة بدر ّ‬
‫اخلروج‪ ،‬أ‪ ،‬يأمره به اذا هو مل يقتنع‪..‬‬
‫وفعال‪ ،‬أخربه النيب صلى اهلل عليه وسلم أن االسالم يعفيه من اجلهاد كفريضة‪ ،‬وذلك لعجزه املاثل يف‬
‫عرجه الشديد‪..‬‬
‫يلح ويرجو‪ ..‬فأمره الرسول بالبقاء يف املدينة‪.‬‬‫بيد أنه راح ّ‬

‫**‬

‫وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو اىل النيب صلى اهلل عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له‪:‬‬
‫بين يريدون أن حيبسوين عن اخلروج معك اىل اجلهاد‪..‬‬
‫" يا رسول اهلل ا ّن ّ‬
‫وواهلل اين ألرجو أن‪ ،‬أخطر‪ ،‬بعرجيت هذه يف اجلنة"‪..‬‬
‫‪ | 376‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأمام اصراره العظيم أذن له النيب عليه السالم باخلروج‪ ،‬فأخذ سالحه‪ ،‬وانطلق خيطر يف حبور وغبطة‪،‬‬
‫ودعا ربه بصوت ضارع‪:‬‬
‫تردين اىل أهلي"‪.‬‬
‫" اللهم ارزقين الشهادة وال ّ‬
‫والتقى اجلمعان يوم أحد‪..‬‬
‫وانطلق عمرو بن اجلموح وأبناؤه األربعة يضربون بسيوفهم‪ R‬جيوش الشرك والظالم‪..‬‬
‫كان عمرو بن اجلموح خيطر وسط املعمعة الصاحبة‪ ،‬ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس‬
‫الوثنية‪..‬‬
‫كان يضرب الضربة بيمينه‪ ،‬مث يلتفت حواليه يف األفق األعلى‪ ،‬كأنه يتعجل قدوم‪ R‬املالك الذي سيقبض‬
‫روحه‪ ،‬مث يصحبها اىل اجلنة‪..‬‬
‫أجل‪ ..‬فلقد سأل ربه الشهادة‪ ،‬وهو واثق أن اهلل سبحانه وتعاىل قد استجاب له‪..‬‬
‫وهو مغرم بأن خيطر بساقه العرجاء يف اجلنة ليعلم أهلها أن حممدا رسول اله صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫يعرف كيف خيتار األصحاب‪ ،‬وكيف يريّب الرجال‪!!..‬‬

‫**‬

‫وجاء ما كان ينتظر‪.‬‬


‫ضربةسيف أومضت‪ ،‬معلنة ساعة الزفاف‪..‬‬
‫زفاف شهيد جميد اىل جنات اخللد‪ ،‬وفردوس الرمحن‪!!..‬‬

‫**‬

‫واذ كان املسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصالة والسالم أمره الذي‪ R‬مسعناه من قبل‪:‬‬
‫" انظروا‪ ،‬فاجعلوا عبداهلل بن عمرو بن حرام وعمرو بن اجلموح يف قرب واحد‪ ،‬فاهنما كانا يف الدنيا‬
‫متحابني متصافيني"‪!!..‬‬
‫‪ | 377‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫ودفن احلبيبان الشهيدان‪ R‬الصديقان يف قرب واحد‪ ،‬حتت ثرى األرض اليت تلقت جثمانيهما‪ R‬الطاهرين‪،‬‬
‫بعد أن شهدت بطولتهما اخلارقة‪.‬‬
‫وبعد مضي ست وأربعني سنة على دفنهما‪ ،‬نزل سيل شديد غطّى أرض القبور‪ R،‬بسبب عني من املاء‬
‫أجراها هناك معاوية‪ ،‬فسارع املسلمون اىل نقل رفات الشهداء‪ ،‬فاذا هم كما وصفهم‪ R‬الذين اشرتكوا‬
‫يف نقل رفاهتم‪:‬‬
‫" ليّنة أجسادهم‪..‬‬
‫تتثىن أطرافهم"‪!..‬‬

‫وكان جابر بن عبداهلل ال يزال حيا‪ ،‬فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبداهلل بن عمرو بن حرام‪،‬‬
‫ورفات زوج عمته عمرو بن اجلموح‪..‬‬
‫فوجدمها يف قربمها‪ ،‬كأهنما نائمان‪ ..‬مل تأكل األرض‪ R‬منهما شيئا‪ ،‬ومل تفارق شفاههما بسمة الرضا‬
‫والغبطة اليت كانت يوم دعيا للقاء اهلل‪..‬‬
‫أتعجبون‪..‬؟‬
‫كال‪ ،‬ال تعجبوا‪..‬‬
‫فان األرواح الكبرية‪ ،‬التقية‪ ،‬النقية‪ ،‬اليت سيطرت على مصريها‪ ..‬ترتك يف األجساد اليت كانت موئال‬
‫هلا‪ ،‬قدرا من املناعة يدرأ عنها عوامل التحلل‪ ،‬وسطوة الرتاب‪..‬‬

‫حبيب بن زيد‬
‫أسطورة فداء وحب‬
‫‪ | 378‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يف بيعة العقبة الثانية اليت مر بنا ذكرها كثريا‪ ،‬واليت بايع الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيها سبعون‬
‫رجال وسيدتان من أهل املدينة‪ ،‬كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي اهلل عنهما من السبعني‬
‫املباركني‪..‬‬
‫وكانت أمه نسيبة بنت كعب أوىل السيدتان اللتني بايعتا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫أم السيدة‪ R‬الثانية فكانت خالته‪!!..‬‬
‫هو اذن مؤمن عريق جرى االميان يف أصالبه وترائبه‪..‬‬
‫ولقد عاش اىل جوار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد هجرته اىل املدينة ال يتخلف عن غزوة‪ ،‬وال‬
‫يقعد عن واجب‪..‬‬

‫**‬

‫وذات يوم شهد جنوب اجلزيرة العربية كذابني عاتيني ي ّدعيان النبوة ويسوقان الناس اىل الضالل‪..‬‬
‫خرج أحدمها بصنعاء‪ ،‬وهو األسود بن كعب العنسي‪..‬‬
‫وخرج الثاين باليمامة‪ ،‬وهو مسيلمة الكذاب‪..‬‬
‫وحيرضان على‬
‫حيرضان الناس على املؤمنني الذين استجابوا‪ R‬هلل‪ ،‬وللرسول يف قبائلهما‪ّ ،‬‬ ‫وراح الكذابان‪ّ R‬‬
‫مبعوثي رسول اهلل اىل تلك الديار‪..‬‬
‫يشوشان على النبوة نفسها‪ ،‬ويعيثان يف األرض‪ R‬فسادا وضالال‪..‬‬ ‫وأكثر من هذا‪ ،‬راحا ّ‬

‫**‬

‫وفوجئ الرسول يوما مببعوث بعثه مسيلمة حيمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول اهلل‪ ،‬اىل‬
‫حممد رسول اهلل‪ ..‬سالم عليك‪ ..‬أم بعد‪ ،‬فاين قد أشركت يف األمر معك‪ ،‬وان لنا نصف األرض‪،‬‬
‫ولكن قريشا قوم يعتدون"‪!!!..‬‬
‫ولقريش نصفها‪ّ ،‬‬
‫رده على مسيلمة‪:‬‬‫ودعا رسول اهلل أحد أصحابه الكاتبني‪ ،‬وأملى عليه ّ‬
‫‪ | 379‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" بسم اهلل الرمحن الرحيم‪..‬‬


‫من حممد‪ R‬رسول اهلل‪ ،‬اىل مسيلمة الكذاب‪.‬‬
‫السالم على من اتبع اهلدى‪..‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فان األرض هلل يورثها من يشاء من عباده‪ ،‬والعاقبة للمتقني"‪!!..‬‬
‫النبوة ملكا‪ ،‬فراح‬
‫ظن ّ‬ ‫وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح‪ .‬ففضحت‪ R‬كذاب بين حنيفة الذي ّ‬
‫يطالب بنصف األرض ونصف العباد‪!..‬‬
‫ومحل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السالم اىل مسيلمة الذي ازداد ضالال واضالال‪..‬‬

‫**‬

‫ومضى الكذب ينشر افكه وهبتانه‪ ،‬وازداد أذاه للمؤمنني وحتريضه عليهم‪ ،‬فرأى الرسول أن يبعث‬
‫اليه رسالة ينهاه فيها عن محاقاته‪..‬‬
‫ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة‪..‬‬
‫وسافر حبيب يغ ّذ اخلطى‪ ،‬مغتبطا باملهمة اجلليلة اليت ندبه اليها‪ R‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ممنّيا‬
‫نفسه بأن يهتدي اىل احلق‪ ،‬قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم األجر واملثوبة‪.‬‬

‫**‬

‫وبلغ املسافر غايته‪..‬‬


‫وفض مسيلمة الكذاب الرسالة اليت أعشاه نورها‪ ،‬فازداد امعانا يف ضالله وغروره‪..‬‬ ‫ّ‬
‫دعي‪ ،‬فقد حتلى بكل صفات األفّاقني األدعياء‪!!..‬‬‫وملا مل يكن مسيلمة أكثر من أفّاق ّ‬
‫يرده عن سفك دم رسول حيمل رسالة‬ ‫وهكذا مل يكن معه من املروءة وال من العروبة والرجولة ما ّ‬
‫مكتوبة‪ ..‬األمر الذي كانت العرب حترتمه وتق ّدسه‪!!..‬‬
‫‪ | 380‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأراد قدر هذا الدين العظيم‪ ،‬االسالم‪ ،‬أن يضيف اىل دروس العظمة والبطولة اليت يلقيها على البشرية‬
‫بأسرها‪ ،‬درسا جديدا موضوعه هذه املرة‪ ،‬وأستاذه أيضا‪ ،‬حبيب بن زيد‪!!..‬‬

‫**‬

‫مجع الكذاب مسيلمة قومه‪ ،‬وناداهم اىل يوم من أيامه املشهودة‪..‬‬


‫وجيء مببعوث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حبيب بن زيد‪ ،‬حيمل آثار تعذيب شديد أنزله به‬
‫اجملرمون‪ ،‬مؤملني أن يسلبوا شجاعة روحه‪ ،‬فيبدو امام اجلميع متخاذال مستسلما‪ ،‬مسارعا اىل االميان‬
‫مبسيلمة حني يدعى اىل هذا االميان أمام الناس‪ ..‬وهبذا حيقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام‬
‫املخدوعني به‪..‬‬

‫**‬

‫قال مسيلمة لـ حبيب‪:‬‬


‫" أتشهد أن حممدا‪ R‬رسول اهلل‪..‬؟‬
‫وقال حيب‪:‬‬
‫نعم أشهد أن حممدا رسول اهلل‪.‬‬
‫وكست صفرة اخلزي وجه مسيلمة وعاد يسأأل‪:‬‬
‫وتشهد أين رسول اهلل‪..‬؟؟‬
‫وأجاب حبيب يف سخرية قاتلة‪:‬‬
‫اين ال أمسع شيئا‪!!..‬‬
‫وحتولت‪ R‬صفرة اخلزي على وجه مسيلمة اىل سواد حاقد خمبول‪..‬‬ ‫ّ‬
‫لقد فشلت خطته‪ ،‬ومل جيده تعذيبه‪ ،‬وتلقى أمام الذين مجعهم ليشهدوا‪ R‬معجزته‪ ..‬تلقى لطمة قوية‬
‫أشقطت هيبته الكاذبة يف الوحل‪..‬‬
‫‪ | 381‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫بسن سيفه‪..‬‬
‫هنالك هاج كالثور‪ R‬املذبوح‪ ،‬ونادى جالده الذي أقبل ينخس جسد حبيب ّ‬
‫مث راح يقطع جسده قطعة قطعة‪ ،‬وبضعة بضعة‪ ،‬وعضوا عضوا‪..‬‬
‫والبطل العظيم ال يزيد على مههمة يردد هبا نشيد اسالمه‪:‬‬
‫" ال اله اال اهلل حممد رسول اهلل"‪..‬‬

‫**‬

‫لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من املسايرة الظاهرة ملسيلمة‪ ،‬طاويا على االميان صدره‪ ،‬ملا‬
‫نقض اميانه شيئا‪ ،‬وال أصاب اسالمه سوء‪..‬‬
‫ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه‪ ،‬وأمه‪ ،‬وخالته‪ ،‬وأخيه بيعة العقبة‪ ،‬والذي محل منذ تلك اللحظات‬
‫احلامسة املباركة مسؤولية بيعته واميانه كاملة غري منقوصة‪ ،‬ما كان له أن يوازن حلظة من هنار بني حياته‬
‫ومبدئه‪..‬‬
‫ومن مثّ مل يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة اليت متثلت فيها قصة اميانه‬
‫كلها‪ ..‬ثبات‪ ،‬وعظمة‪ ،‬وبطولة‪ ،‬وتضحية‪ ،‬واستشهاد يف سبيل اهلدى واحلق يكاد يفوق يف حالوته‪،‬‬
‫ويف روعته كل ظفر وكل انتصار‪!!..‬‬

‫**‬

‫وبلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكرمي‪ ،‬واصطرب حلكم ربه‪ ،‬غهو يرى بنور‬
‫اهلل مصري هذا الكذاب مسيلمة‪ ،‬ويكاد يرى مصرعه رأي العني‪..‬‬
‫أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسناهنا طويال‪ ،‬مث أطلقت ميينا مربرا‪ R‬لتثأرن لولدها‬
‫ولتغوصن يف حلمه اخلبيث برحمها وسيفها‪..‬‬
‫ّ‬ ‫من مسيلمة ذاته‪،‬‬
‫وكان القدر الذي‪ R‬يرمق آنئذ جزعها وصربها وجلدها‪ ،‬يبدي اعجابا كبريا هبا‪ ،‬ويقرر يف نفس الوقت‬
‫ترب بيمينها‪!!..‬‬
‫أن يقف جبوارها حىت ّ‬
‫‪ | 382‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ودارت من الزمان دورة قصرية‪ ..‬جاءت على أثرها املوقعة اخلالدة‪ ،‬موقعة اليمامة‪..‬‬
‫وجهز أبو بكر الص ّديق خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جيش االسالم الذاهب‪ R‬اىل اليمامة‬ ‫ّ‬
‫حيث أع ّد مسيلمة أضخم جيش‪..‬‬
‫وخرجت نسيبة مع اجليش‪..‬‬
‫يكف عن الصياح‪:‬‬‫خضم املعركة‪ ،‬يف ميناها سيف‪ ،‬ويف يسراها رمح‪ ،‬ولساهنا‪ R‬ال ّ‬ ‫وألقت بنفسها يف ّ‬
‫عدو اهلل مسيلمة"‪.‬؟؟‬
‫" أين ّ‬
‫وملا قتل مسيلمة‪ ،‬وسقط أتباعه كالعهن املنفوش‪ ،‬وارتفعت‪ R‬رايات االسالم عزيزة ظافرة‪ ..‬وقفت‬
‫نسيبة وقد ملىء جسدها اجلليل‪ ،‬القوي باجلراح وطعنات الرمح‪..‬‬
‫وقفت تستجلي وجه ولدها احلبيب‪ ،‬الشهيد‪ R‬حبيب فوجدته ميأل الزمان واملكان‪!!..‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫صو بت نسيبة بصرها حنو راية من الرايات اخلفاقة املنتصرة الضاحكة اال رأت عليها وجه ابنها‬ ‫ما ّ‬
‫حبيب خفاقا‪ ..‬منتصرا‪ ..‬ضاحكا‪..‬‬

‫أيب بن كعب‬ ‫ّ‬


‫ليهنك العلم‪ ،‬أبا املنذر‬

‫سأله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذات يوم‪:‬‬


‫" يا أبا املنذر‪..‬؟‬
‫أي آية من كتاب اهلل أعظم‪..‬؟؟‬
‫فأجاب قائال‪:‬‬
‫اهلل ورسوله أعلم‪..‬‬
‫وأعاد النيب صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم سؤاله‪:‬‬
‫أبا املنذر‪..‬؟؟‬
‫‪ | 383‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أي أية من كتاب اهلل أعظم‪..‬؟؟‬ ‫ّ‬


‫أيب‪:‬‬
‫وأجاب ّ‬
‫احلي القيّوم‪..‬‬
‫اهلل ال اله اال هو ّ‬
‫فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صدره بيده‪ ،‬وقال له والغبطة تتألق على حميّاه‪:‬‬
‫ليهنك العلم أبا املنذر"‪...‬‬

‫**‬

‫أيب بن كعب الصحايب‬


‫ان أبا املنذر الذي هنأه الرسول الكرمي مبا أنعم اهلل عليه من علم وفهم‪ R‬هو ّ‬
‫اجلليل‪..‬‬
‫هو أنصاري من اخلزرج‪ ،‬شهد العقبة‪ ،‬وبدرا‪ ،‬وبقية املشاهد‪..‬‬
‫وبلغ من املسلمني األوائل منزلة رفيعة‪ ،‬ومكانا عاليا‪ ،‬حىت لقد قال عنه أمري املؤمنني عمر رضي اهلل‬
‫عنهما‪:‬‬
‫أيب سيّد املسلمني"‪..‬‬
‫" ّ‬
‫أيب بن كعب يف مقدمة الذين يكتبون الوحي‪ ،‬ويكتبون الرسائل‪..‬‬ ‫وكان ّ‬
‫وكان يف حفظه القرآن الكرمي‪ ،‬وترتيله اياه‪ ،‬وفهمه آياته‪،‬من املتفوقني‪..‬‬
‫قال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما‪:‬‬
‫أيب بن كعب‪..‬‬ ‫" يا ّ‬
‫اين أمرت أن أعرض عليك القرآن"‪..‬‬
‫وأيب يعلم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم امنا يتلقى أوامره من الوحي‪..‬‬ ‫ّ‬
‫هنالك سأل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف نشوة غامرة‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل بأيب أنت وأمي‪ ..‬وهل ذكرت لك بأمسي"‪..‬؟؟‬
‫فأجاب الرسزل‪:‬‬
‫‪ | 384‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" نعم‪..‬‬
‫بامسك‪ ،‬ونسبك‪ ،‬يف املأل األعلى"‪!!..‬‬
‫وان مسلما يبلغ من قلب النيب صلى اهلل عليه وسلم هذه املنزلة هلو مسلم عظيم جد عظيم‪..‬‬
‫وأيب بن كعب قريب من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينهل من معينه‬ ‫وطوال سنوات الصحبة‪ّ ،‬‬
‫العذب املعطاء‪..‬‬
‫أيب على عهده الوثيق‪ ..‬يف عبادته‪،‬‬
‫ظل ّ‬ ‫وبعد انتقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اىل الرفيق األعلى‪ّ ،‬‬
‫ويف قوة دينه‪ ،‬وخلقه‪..‬‬
‫وكان دائما نذيرا يف قومه‪..‬‬
‫يذكرهم بأيام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وماكانوا عليه من عهد‪ ،‬وسلوك وزهد‪..‬‬
‫ومن كلماته الباهرة اليت كان يهتف هبا يف أصحابه‪:‬‬
‫" لقد كنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووجوهنا واحدة‪..‬‬
‫فلما فارقنا‪ ،‬اختلفت جوهنا ميينا ومشاال"‪..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬ظل مستمسكا بالتقوى‪ ،‬معتصما بالزهد‪ ،‬فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو ختدعه‪..‬‬
‫ذلك أنه كان يرى حقيقتها يف هنايتها‪..‬‬
‫فمهما يعيش املرء‪ ،‬ومهما يتقلب يف املناعم والطيبات‪ ،‬فانه مالق يوما يتحول فيه كل ذلك اىل هباء‪،‬‬
‫وال جيد بني يديه اال ما عمل من خري‪ ،‬أو ما عمل من سوء‪..‬‬
‫أيب فيقول‪:‬‬
‫وعن عمل الدنيا يتح ّدث ّ‬
‫" ان طعام ين آدم‪ ،‬قد ضرب للدنيا مثال‪..‬‬
‫فان ملّحه‪ ،‬وقذحه‪ ،‬فانظر اىل ماذا يصري"‪..‬؟؟‬
‫‪ | 385‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫أيب اذا حت ّدث للناس استشرفته األعناق واألمساع يف شوق واصغاء‪..‬‬ ‫وكان ّ‬
‫ذلك أنه من الذين مل خيافوا‪ R‬يف اهلل أحدا‪ ..‬ومل يطلبوا من الدنيا غرضا‪..‬‬
‫وحني اتسعت‪ R‬بالد االسالم‪ ،‬ورأى املسلمني جياملون والهتم‪ R‬يف غري حق‪ ،‬وقف يرسل كلماته املنذرة‪:‬‬
‫" هلكوا ورب الكعبة‪..‬‬
‫هلكوا وأهلكوا‪..‬‬
‫أما اين ال آسى عليهم‪ ،‬ولكن آسى على من يهلكون من املسلمني"‪.‬‬

‫**‬

‫وكان على كثرة ورعه وتقاه‪ ،‬يبكي كلما ذكر اهلل واليوم اآلخر‪.‬‬
‫وكانت آيات القرآن الكرمي وهو يرتلها‪ ،‬أ‪ ،‬يسنعها‪ ،‬هته وهتز كل كيانه‪..‬‬
‫وعلىأن آية من تلك اآليات الكرمية‪ ،‬كان اذا مسعها أو تالها تغشاه من األسى ما ال يوصف‪..‬‬
‫تلك هي‪:‬‬
‫( قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم‪ ،‬أو من حتت أرجلكم‪ ،‬أو يلبسكم شيعا‪..‬‬
‫ويذيق بعضكم بأس بعض)‪..‬‬
‫أيب على األمة املسلمو أن يأيت عليها اليوم الذي يصري بأس أبنائها بينهم شديدا‪..‬‬
‫كان أكثر ما خيشاه ّ‬
‫وكان يسأل اهلل العافية دوما‪ ..‬ولقد‪ R‬أدركها بفضل من اهلل ونعمة‪..‬‬
‫ولقي ربه مؤمنا‪ ،‬وآمنا ومثابا‪..‬‬
‫‪ | 386‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫سعد بن معاذ‬
‫هنيئا لك يا أبا عمرو‬

‫يف العام الواحد والثالثني من عمره‪ ،‬أسلم‪..‬‬


‫ويف السابع‪ R‬والثالثني مات شهيدا‪..‬‬
‫وبني يوم اسالمه‪ ،‬ويوم وفاته‪ ،‬قضى سعد بن معاذ رضي اهلل عنه أياما شاهقة يف خدمة اهلل ورسوله‪..‬‬

‫**‬

‫انظروا‪..‬‬
‫أترون هذا الرجل الوسيم‪ ،‬اجلليل‪ ،‬الفارع الطول‪ ،‬املشرق الوجه‪ ،‬اجلسيم‪ ،‬اجلزل‪.‬؟؟‬
‫انه هو‪..‬‬
‫يقطع األرض وثبا وركضا‪ R‬اىل دار أسعد بن زرارة بريى هذا الرجل الوافد‪ R‬من مكة مصعب بن عمري‬
‫يبشر فيها بالتوحيد واالسالم‪..‬‬
‫الذي بعث به حممدا‪ R‬عليه الصالة والسالم اىل املدينة ّ‬
‫أجل‪ ..‬هو ذاهب اىل هناك ليدفع‪ R‬هبذا‪ R‬الغريب خارج حدود املدينة‪ ،‬حامال معه دينه‪ ..‬وتاركا للمدينة‬
‫دينها‪!!..‬‬

‫**‬

‫ولكنه ال يكاد يقرتب من جملس مصعب يف دار ابن خالته أسيد بن زرارة‪ ،‬حىت ينتعش فؤاده‬
‫بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية‪..‬‬
‫وال يكاد يبلغ اجلالسني‪ ،‬ويأخذ مكانه بينهم‪ ،‬ملقيا مسعه لكلمات مصعب حىت تكون هداية اهلل قد‬
‫أضاءت نفسه وروحه‪..‬‬
‫‪ | 387‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف احدى مفاجآت القدر الباهرة املذهلة‪ ،‬يلقي زعيم األنصار‪ R‬حبته بعيدا‪ ،‬ويبسط ميينه مبايعا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫وباسالم سعد بن معاذ تشرق يف املدينة مشس جديدة‪ ،‬ستدور يف فلكها قلوب كثرية تسلم مع محد هلل‬
‫رب العاملني‪!!..‬‬
‫أسلم سعد‪ ..‬ومحل تبعات اسالمه يف بطولة وعظمة‪..‬‬
‫وعندما هاجر رسول اهلل وصحبه اىل املدينة كانت دور بين عبد األشهل قبيلة سعد مفتحة األبواب‬
‫من‪ ،‬وال أذى‪ ..‬وال حساب‪!!..‬‬ ‫تصرفهم يف غري ّ‬
‫للمهاجرين‪ ،‬وكانت أمواهلم كلها حتت ّ‬

‫**‬

‫وجتيء غزوة بدر‪..‬‬


‫وجيمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه من املهاجرين واألنصار‪ R،‬ليشاورهم يف األمر‪.‬‬
‫وييمم وجهه الكرمي شطر األنصار ويقول‪:‬‬ ‫ّ‬
‫علي أيها الناس‪"..‬‬
‫" أشريوا ّ‬
‫وهنض سعد بن معاذ قائما كالعلم‪ ..‬يقول‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫لقد آمنا بك‪ ،‬وص ّد قناك‪ ،‬وشهدنا أن ما جئت به هو احلق‪ ،‬وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا‪..‬‬
‫فامض يا رسول اهلل ملا أردت‪ ،‬فنحن معك‪..‬‬
‫ووالذي‪ R‬بعثك باحلق‪ ،‬لو استعرضت‪ R‬بنا هذا البحر فخضته خلضناه معك‪ ،‬وما ختلف منا رجل واحد‪،‬‬
‫وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا‪..‬‬
‫انا لصرب يف احلرب‪ ،‬صدق يف اللقاء‪..‬‬
‫تقر به عينك‪...‬‬
‫ولعل اهلل يريك ما ّ‬
‫ّ‬
‫فسر بنا على بركة اهلل"‪...‬‬
‫‪ | 388‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫أهلت كلمات سعد كالبشريات‪ ،‬وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة‪ ،‬فقال للمسلمني‪:‬‬
‫" سريوا وأبشروا‪ ،‬فان اهلل وعدين احدى الطائفتني‪ ..‬واهلل لكأين أنظر اىل مصرع القوم"‪..‬‬
‫ويف غزوة أحد‪ ،‬وعندما تشتت املسلمون حتت وقع الباغتة الدامهة اليت فاجأهم هبا جيش املشركني‪ ،‬مل‬
‫تكن العني لتخطئ مكان سعد بن معاذ‪..‬‬
‫لقد مسّر قدميه يف األرض‪ R‬جبوار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يذود عنه ويدافع‪ R‬يف استبسال هو له‬
‫أهل وبه جدير‪..‬‬

‫**‬

‫وجاءت غزوة اخلندق‪ ،‬لتتجلى رجولة سعد وبطولته جتليا باهرا وجميدا‪..‬‬
‫وغزوة اخلندق هذه‪ ،‬آية بينة على املكايدة املريرة الغادرة اليت كان املسلمون يطاردون هبا يف غري‬
‫ذمة‪..‬‬
‫هوادة‪ ،‬من خصوم ال يعرفون يف خصومتهم‪ R‬عدال وال ّ‬
‫فبينما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه حييون باملدينة يف سالم يعبدون رهبم‪ ،‬ويتواصون‪R‬‬
‫بطاعته‪ ،‬ويرجون أن تكف قريش عن اغارهتا وحروهبا‪ ،‬اذا فريق من زعماء اليهود خيرجون خلسة اىل‬
‫حمر ضني قريشا على رسول اهلل‪ ،‬وباذلني هلا الوعود والعهود أن يقفوا جبانب القرشيني اذا هم‬ ‫مكة ّ‬
‫خرجوا لقتال املسلمني‪..‬‬
‫واتفقوا مع املشركني فعال‪ ،‬ووضعوا معا خطة القتال والغزو‪..‬‬
‫حرضوا‪ R‬قبيلة من أكرب قبائل العرب‪ ،‬هي قبيلة غطفان واتفقوا‪ R‬مع‬ ‫ويف طريقهم وهم راجعون اىل املدينة ّ‬
‫زعمائها على االنضمام‪ R‬جليش قريش‪..‬‬
‫وضعت خطة احلرب‪ ،‬ووظعت‪ R‬أدوارها‪ ..‬فقريش وغطفان يهامجان املدينة جبيش عرمرم كبري‪..‬‬
‫واليهود يقومون بدور خترييب داخل املدينة وحوهلا يف الوقت الذي‪ R‬يباغتها فيه اجليش املهاجم‪..‬‬
‫‪ | 389‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وملا علم النيب عليه الصالة والسالم باملؤامرة الغادرة راح‪ R‬يع ّد هلا الع ّدة‪ ..‬فأمر حبفر خندق حول املدينة‬
‫ليعوق زحف املهامجني‪.‬‬
‫وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة اىل كعب بن أسد زعيم يهود بين قريظة‪ ،‬ليتبيّنا حقيقة موقف‬
‫هؤالء من احلرب املرتقبة‪ ،‬وكان بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني يهود بين قريظة عهود‬
‫ومواثيق‪..‬‬
‫فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بين قريظة فوجئا يقول لكم‪:‬‬
‫" ليس بيننا وبني حممد عهد وال عقد"‪!!..‬‬

‫**‬

‫عز على الرسول عليه الصالة والسالم‪ R‬أن يتعرض أهل املدينة هلذا الغزو املدمدم واحلصار املنهك‪،‬‬
‫ففكر يف أن يعزل غطفان عن قريش‪ ،‬فينقض اجليش املهاجم بنصف عدده‪ ،‬ونصف قوته‪ ،‬وراح‪R‬‬
‫بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه احلرب‪ ،‬وهلم لقاء ذلك ثلث مثار‬
‫املدينة‪ ،‬ورضي قادة غطفان‪ ،‬ومل يبق اال أن يسجل االتفاق يف وثيقة ممهورة‪..‬‬
‫وعند هذا املدى من احملاولة‪ ،‬وقف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اذ مل ير من حقه أن ينفرد باألمر‪،‬‬
‫فدعا اليه أصحابه رضي اهلل عنهم ليشاورهم‪..‬‬
‫واهتم عليه الصالة والسالم اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ‪ ،‬وسعد بن عبادة‪ ..‬فهما زعيما املدينة‪،‬‬
‫ومها هبذا أصحاب حق أول يف مناقشة هذا األمر‪ ،‬واختيار موقف جتاهه‪..‬‬

‫**‬

‫قص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي‪ R‬جرى بينه وبني زعماء غطفان‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وأنبأمها أنه امنا جلأ اىل هذه احملاولة‪ ،‬رغبة منه يف أن يبعد عن املدينة وأهلها هذا اهلجوم اخلطري‪،‬‬
‫واحلصار الرهيب‪..‬‬
‫‪ | 390‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتقدم السعدان‪ R‬اىل رسول اهلل هبذا السؤال‪:‬‬


‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫أهذا رأي ختتاره‪ ،‬أم وحي أمرك اهلل به"؟؟‬
‫قال الرسول‪:‬‬
‫" بل أمر أختاره لكم‪..‬‬
‫واهلل ما أصنع ذلك اال ألنين رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة‪ ،‬وكالبوكم‪ R‬من كل جانب‪،‬‬
‫فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم اىل أمر ما"‪..‬‬
‫وأحس سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنني تواجه امتحانا‪ ،‬أي امتحان‪..‬‬ ‫ّ‬
‫هنالك قال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫قد كنا وهؤالء على الشرك وعبادة األوثان ال نعبد اهلل وال نعرفه‪ ،‬وهم ال يطمعون أن يأكلوا من‬
‫مدينتنا مترة‪ ،‬اال قرى‪ ،‬أي كرما وضيفة‪ ،‬أ‪ ،‬بيعا‪..‬‬
‫أفحني أكرمنا اهلل باالسالم‪ ،‬وهدانا له‪ ،‬وأعزنا بك وبه‪ ،‬نعطيهم أموالنا‪..‬؟؟‬
‫واهلل ما لنا هبذا من حاجة‪..‬‬
‫وواهلل ال نعطيهم اال السيف‪ ..‬حىت حيكم اهلل بيننا وبينهم"‪!!..‬‬
‫وعلى الفور عدل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن رأيه‪ ،‬وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا‪R‬‬
‫أقر رأيهم والتزم به‪..‬‬
‫مشروع املفاوضة‪ ،‬وأنه ّ‬

‫**‬

‫وبعد أيام شهدت املدينة حصارا رهيبا‪..‬‬


‫واحلق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها‪ ،‬وذلك بسبب اخلندق الذي‪ R‬حفر‬
‫حوهلا ليكون جنّة هلا ووقاية‪..‬‬
‫‪ | 391‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولبس املسلمون لباس احلرب‪.‬‬


‫وخرج سعد بن معاذ حامال سيفه ورحمه وهو ينشد ويقول‪:‬‬
‫لبث قليال يشهد اهليجا اجلمل ما أمجل املوت اذا حان األجل‬
‫ويف احدى اجلوالت تلقت ذراع سعد سهما وبيال‪ ،‬قذفه به أحد املشركني‪..‬‬
‫وتفجر الدم‪ R‬من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه‪ ،‬وأمر النيب صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫ّ‬
‫حيمل اىل املسجد‪ ،‬وأن تنصب له به خيمة حىت يكون على قرب منه دائما أثناء متريضه‪..‬‬
‫ومحل املسلمون فتاهم العظيم اىل مكانه يف مسجد الرسول‪..‬‬
‫ورفع سعد بصره اىل السماء‪ R‬وقال‪:‬‬
‫ايل أن أجاهدهم من قوم‬‫" اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقين هلا‪ ...‬فانه ال قوم أحب ّ‬
‫آذوا رسولك‪ ،‬وكذبوه‪ ،‬وأخرجوه‪..‬‬
‫وان كنت قد وضعت احلرب بيننا وبينهم‪ ،‬فاجعل ما أصابين اليوم طريقا للشهادة‪..‬‬
‫تقر عيين من بين قريظة"‪!..‬‬
‫وال متتين حىت ّ‬

‫**‬

‫لك اهلل يا سعد بن معاذ‪!..‬‬


‫فمن ذا الذي‪ R‬يستطيع أن يقول مثل هذا القول‪ ،‬يف مثل هذا املوقف سواك‪..‬؟؟‬
‫ولقد استجاب اهلل دعاءه‪..‬‬
‫فكانت اصابته هذه طريقه اىل الشهادة‪ ،‬اذ لقي ربه بعد شهر‪ ،‬متأثرا جبراحه‪..‬‬
‫ولكنه مل ميت حىت شفي صدرا‪ R‬من بين قريظة‪..‬‬
‫ودب يف صفوف جيشها اهللع‪ ،‬محل اجلميع متاعهم‬‫ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام املدينة‪ّ ،‬‬
‫وسالحهم‪ ،‬وعادوا خمذولني اىل مكة‪..‬‬
‫‪ | 392‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ورأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ترك بين قريظة‪ ،‬يفرضون على املدينة غدرهم كما شاؤوا‪،‬‬
‫أمر مل يعد من حقه أن يتسامح جتاهه‪..‬‬
‫هنالك أمر أصحابه بالسري اىل بين قريظة‪.‬‬
‫وهناك حاصروهم مخسة وعشرين يوما‪..‬‬
‫وملا رأى هؤالء أال منجى هلم من املسلمني‪ ،‬استسلموا‪ ،‬وتقدموا‪ R‬اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫برجاء أجاهبم اليه‪ ،‬وهو أن حيكم فيهم سعد بن معاذ‪ ..‬وكان سعد حليفهم يف اجلاهلية‪..‬‬

‫**‬

‫أرسل النيب صلى اهلل عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ‬
‫ميرض فيه باملسجد‪..‬‬‫من خميمه الذي كان ّ‬
‫جاء حمموال على دابة‪ ،‬وقد نال منه االعياء واملرض‪..‬‬
‫وقال له الرسول‪:‬‬
‫" يا سعد احكم يف بين قريظة"‪.‬‬
‫وراح سعد يستعيد حماوالت الغدر اليت كان آخرها غزوة اخلندق واليت كادت لبمدينة هتلك فيها‬
‫بأهلها‪..‬‬
‫وقال سعد‪:‬‬
‫" اين أرى أن يقتل مقاتلوهم‪..‬‬
‫وتسىب ذراريهم‪..‬‬
‫وتقسم أمواهلم‪"..‬‬
‫ّ‬
‫وهكذا مل ميت سعد حىت شفي صدره من بين قريظة‪..‬‬

‫**‬
‫‪ | 393‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم‪ ،‬بل كل ساعة‪..‬‬


‫وذات يوم ذهب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لعيادته‪ ،‬فألفاه يعيش يف حلظات الوداع فأخذ عليه‬
‫الصالة والسالم رأسه ووضعه يف حجره‪ ،‬وابتهل اىل اهلل قائال‪:‬‬
‫" اللهم ان سعدا قد جاهد يف سبيلك‪ ،‬وص ّدق رسولك وقضى الذي عليه‪ ،‬فتقبّل روحه خبري ما تقبّلت‬
‫به روحا"‪!..‬‬
‫املودعة بردا وسالما‪..‬‬
‫وهطلت كلمات النيب صلى اهلل عليه وسلم على الروح ّ‬
‫فحاول يف جهد‪ ،‬وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول اهلل آخر ما تبصرانه يف احلياة وقال‪:‬‬
‫" السالم عليك يا رسول اهلل‪..‬‬
‫أما اين ألشهد أنك رسول اهلل"‪..‬‬
‫ومتلى وجه النيب وجه سعد آن ذاك وقال‪:‬‬
‫" هنيئا لك يا أبا عمرو"‪.‬‬

‫**‬

‫يقول أبو سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‪:‬‬


‫" كنت ممن حفروا لسعد قربه‪..‬‬
‫وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب‪ ،‬مشمنا ريح املسك‪ ..‬حىت انتهينا اىل اللحد"‪..‬‬
‫وكان مصاب املسلمني يف سعد عظيما‪..‬‬
‫ولكن عزاءهم كان جليال‪ ،‬حني مسعوا رسوهلم‪ R‬الكرمي يقول‪:‬‬
‫" لقد اهتز عرش الرمحن ملوت يعد بن معاذ"‪..‬‬
‫سعد بن عبادة‬
‫حامل راية األنصار‪R‬‬
‫‪ | 394‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ال يذكر سعد بن معاذ اال ويذكر معه سعد بن عبادة‪..‬‬


‫فاالثنان زعيما أهل املدينة‪..‬‬
‫سعد بن معاذ زعيم األوس‪..‬‬
‫وسعد بن عبادة زعيم اخلزرج‪..‬‬
‫وكالمها أسلم مبكرا‪ ،‬وشهد بيعة العقبة‪ ،‬وعاش اىل جوار رسول اهلل صلى اله عليه وسلم جنديا‬
‫مطيعا‪ ،‬ومؤمنا صدوقا‪..‬‬
‫ولعل سعد بن عبادة ينفرد بني األنصار‪ R‬مجيعا بأنه محل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله‬ ‫ّ‬
‫باملسلمني يف مكة‪!!..‬‬
‫لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذاهبا‪ R‬أولئك الذين يعيشون بني ظهرانيها‪ ،‬ويقطنون مكة‪..‬‬
‫أما أن يتعرض هلذا العذاب رجل من املدينة‪ ..‬وهو ليس مبجرد رجل‪ ..‬بل زعيم كبري من زعمائها‬
‫وساداهتا‪ ،‬فتلك ميّزة ق ّدر البن عبادة أن ينفرد هبا‪..‬‬
‫وذلك بعد أن متت بيعة العقبة سرا‪ ،‬وأصبح األنصار‪ R‬يتهيئون للسفر‪ ،‬علمت قريش مبا كان من مبايعة‬
‫األنصار واتفاقهم مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم اىل اهلجرة اىل املدينة حيث يقفون معه ومن ورائه‬
‫ضد قوى الشرك والظالم‪..‬‬
‫وجن جنون قريش فراحت تطارد الركب املسافر حىت أدركت‪ R‬من رجاله سعد بن عبادة فأخذه‬ ‫ّ‬
‫املشركون‪ ،‬وربطوا يديه اىل عنقه بشراك رحله وعادوا به اىل مكة‪ ،‬حيث احتشدوا‪ R‬حوله يضربونه‬
‫وينزلون به ما شاءوا من العذاب‪!!..‬‬
‫أسعد بن عبادة يصنع به هذا‪!..‬؟‬
‫زعيم املدينة‪ ،‬الذي طاملا أجار مستجريهم‪ ،‬ومحى جتارهتم‪ ،‬وأكرم وفادهتم حني يذهب منهم اىل املدينة‬
‫ذاهب‪..‬؟؟‬
‫لقد كان الذين اعتقلوه‪ ،‬والذين ضربوه ال يعرفونه وال يعرفون مكانته يف قومه‪..‬‬
‫ولكن‪ ،‬أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه‪..‬؟‬
‫أمل ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا‪..‬؟؟‬
‫‪ | 395‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ان قريشا يف تلك األيام كانت جمنونة‪ ،‬ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط حتت معاول احلق‪،‬‬
‫فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها هنجا وسبيال‪..‬‬
‫أحاط املشركون بسعد بن عبادة ضاربني ومعتدين‪..‬‬
‫ولندع سعدا حيكي لنا بقيّة النبأ‪:‬‬
‫علي نفر من قريش‪ ،‬فيهم رجل وضيء‪ ،‬أبيض‪ ،‬شعشاع من‬ ‫"‪ ..‬فواهلل اين لفي أيديهم اذ طلع ّ‬
‫اجلرال‪..‬‬
‫فقلت يف نفسي‪ :‬ان يك عند أحد من القوم خري‪ ،‬فعند هذا‪.‬‬
‫فلما دنا مين رفع يده فلكمين لكمة شديدة‪..‬‬
‫فقلت يف نفسي‪ :‬ال واهلل‪ ،‬ما عندهم بعد هذا من خري‪!!..‬‬
‫ايل رجل ممن كان معهم فقال‪ :‬وحيك‪ ،‬اما بينك وبني أحد‬ ‫فواهلل اين لفي أيديهم‪ R‬يسحبونين اذ أوى ّ‬
‫من قريش جوار‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬كنت أجري جلبري بن مطعم جتارة‪ ،‬وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببالدي‪ ،‬وكنت أجري‬
‫للحارث بن حرب بن أميّة‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فاهتف باسم الرجلني‪ ،‬واذكر ما بينك وبينهما من جوار‪ ،‬ففعات‪..‬‬
‫وخرج الرجل اليهما‪ ،‬فأنبأمها أن رجال من اخلزرج يضرب باألبطح‪ ،‬وهو يهتف بامسيهما‪ ،‬ويذكر أن‬
‫بينه وبينهما جوارا‪..‬‬
‫فسأاله عن امسي‪ ..‬فقال سعد بن عبادة‪..‬‬
‫فقاال‪ :‬صدقا واهلل‪ ،‬وجاءا فخلصاين من أيديهم"‪.‬‬

‫غادر سعد بعد هذا العدوان‪ R‬الذي صادفه يف أوانه ليعلم كم تتسلح قريش باجلرمية ض ّد قوم عزل‪،‬‬
‫يدعون اىل اخلري‪ ،‬واحلق والسالم‪..‬‬
‫ولقد شحذ هذا العدوان‪ ،‬وقرر أن يتفاىن يف نصرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واألصحاب‬
‫واالسالم‪..‬‬
‫‪ | 396‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫ويهاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اىل املدينة‪ ..‬ويهاجر قبله أصحابه‪..‬‬
‫سخر سعد أمواله خلدمة املهاجرين‪..‬‬‫وهناك ّ‬
‫كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة‪..‬‬
‫فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي‪ R‬كانت شهرة جوده يف اجلاهلية أوسع من كل شهرة‪..‬‬
‫ولقد صار جود سعد يف االسالم آية من آيات اميانه القوي‪ R‬الوثيق‪..‬‬
‫قال الرواة عن جوده هذا‪:‬‬
‫" كانت جفنة سعد تدور مع النيب صلى اله عليه وسلم يف بيوته مجيعا"‪..‬‬
‫وقالوا‪:‬‬
‫" كان الرجل من األنصار ينطلق اىل داره‪ ،‬بالواحد من املهاجرين‪ ،‬أو باالثنني‪ ،‬أو بالثالثة‪.‬‬
‫وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانني"‪!!..‬‬
‫من أجل هذا‪ ،‬كان سعد يسأل ربه دائما املزيد من خره ورزقه‪..‬‬
‫وكان يقول‪:‬‬
‫" اللهم انه ال يصلحين القليل‪ ،‬وال أصلح عليه"‪!!..‬‬
‫ون\من أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم له‪:‬‬
‫" اللهم اجعل صلواتك ورمحتك على آل سعد بن عبادة"‪..‬‬

‫**‬

‫ومل يضع سعد ثروته وحدها يف خدمة االسالم احلنيف‪ ،‬بل وضع قوته ومهارته‪..‬‬
‫فقد كان جييد الرمي اجادة فائقة‪ ..‬ويف غزواته مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كانت فدائيته‬
‫حازمة وحامسة‪.‬‬
‫‪ | 397‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يقول ابن عباس رضي اهلل عنهما‪:‬‬


‫" كان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املواطن كلها رايتان‪..‬‬
‫مع علي ابن أيب طالب راية املهاجرين‪..‬‬
‫ومع سعد بن عبادة‪ ،‬راية األنصار"‪..‬‬

‫**‬

‫ويبدو أن الش ّدة كانت طابع هذه الشخصية‪ R‬القوية‪..‬‬


‫فهو شديد يف احلق‪..‬‬
‫وشديد يف تشبثه مبا يرى لنفسه من حق‪..‬‬
‫واذا اقتنع بأمر هنض العالنه يف صراحة ال تعرف املداراة‪ ،‬وتصميم ال يعرف املسايرة‪..‬‬
‫التطرف‪ ،‬هو الذي‪ R‬دفع زعيم األنصار‪ R‬الكبري اىل مواقف كانت عليه أكثر مما‬
‫وهذه الشدة‪ ،‬أ‪ ،‬هذا ّ‬
‫كانت له‪..‬‬

‫**‬

‫فيوم فتح مكة‪ ،‬جعله الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمريا على فيلق من جيوش املسلمني‪..‬‬
‫ومل يكد يشارف أبواب البلد احلرام حىت صاح‪:‬‬
‫" اليوم يوم امللحمة‪..‬‬
‫اليوم تستحل احلرمة"‪..‬‬
‫ومسعها عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه فسارع اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قائال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫امسع ما قال سعد بن عبادة‪..‬‬
‫ما نأمن أن يكون له يف قريش صولة"‪..‬‬
‫‪ | 398‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويتأمر مكانه‪..‬‬
‫فأمر النيب صلى اهلل عليه وسلم عليّا أن يدركه‪ ،‬ويأخذ الراية منه‪ّ ،‬‬
‫ان سعدا حني رأى مكة مذعنة مستسلمة جليش االسالم الفاتح‪ ..‬تذ ّكر كل صور العذاب الذي صبّته‬
‫على املؤمنني‪ ،‬وعليه هو ذات يوم‪..‬‬
‫وتذكر احلروب اليت سنتها على قوم ودعاة‪ ..‬كل ذنبهم أهنم يقولون‪ :‬ال اله اال اهلل‪ ،‬فدفعته ش ّدته اىل‬
‫الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم‪..‬‬

‫**‬
‫التطرف الذي‪ R‬كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله‬ ‫وهذه الشدة‪ R‬نفسها‪،‬أو قل هذا ّ‬
‫يقف يوم السقيفة موقفه املعروف‪..‬‬
‫فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬التف حوله ح\مجاعة من األنصار‪ R‬يف سقيفة بين ساعدة‬
‫منادين بأن يكون خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من األنصار‪..‬‬
‫كانت خالفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شرفا لذويه يف الدنيا واآلخرة‪..‬‬
‫ومن مث أراد هذا الفريق من األنصار أن ينالوه ويظفروا به‪..‬‬
‫ولكن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصالة أثناء مرضه‪ ،‬وفهم الثحابة من‬
‫هذا االستخالف الذي‪ R‬كان مؤيدا مبظاهر أخرى أضفاها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اىل أيب‬
‫بكر‪ ..‬ثاين اثنني اذ مها يف الغار‪..‬‬
‫نقول‪ :‬فهموا‪ R‬أن أبا بكر أحق باخلالفة من سواه‪..‬‬
‫تزعم عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه هذا الرأي واستمسك به يف حني تزعم سعد بن عبادة‬ ‫وهكذا ّ‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬الرأي اآلخر واستمسك به‪ ،‬مما جعل كثريين من الصحابة رضي اهلل عنهم يأخذون‬
‫عليه هذا املوقف الذي‪ R‬كان موضع رفضهم‪ R‬واستنكارهم‪..‬‬

‫**‬
‫‪ | 399‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولكن سعد بن عبادة مبوقفه هذا‪ ،‬كان يستجيب يف صدق لطبيعته وسجاياه‪..‬‬
‫فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه‪ ،‬وممعن يف االصرار على صراحته ووضوحه‪..‬‬
‫ويدلنا على هذه السجيّة فيه‪ ،‬موقفه بني يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعيد غزوة حنني‪..‬‬
‫فحني انتهى املسلمون من تلك الغزوة ظافرين‪ ،‬راح‪ R‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوزع غنائمها‬
‫على املسلمني‪ ..‬واهتم يومئذ اهتماما خاصا باملؤلفة قلوهبم‪ ،‬وهم أولئك األشراف الذين دخلوا‬
‫االسالم من قريب‪ ،‬ورأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم هبذا التألف‪،‬‬
‫كما أعطى ذوي احلاجة من املقاتلني‪.‬‬
‫وأما أولو االسالم املكني‪ ،‬فقد وكلهم اىل اسالمهم‪ ،‬ومل يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا‪..‬‬
‫جمرد عطائه‪ ،‬شرفا حيرص عليه مجيع الناس‪..‬‬ ‫كان عطاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ّ ،‬‬
‫وكانت غنائم احلرب قد أصبحت تش ّكل دخال هاما تقوم عليه معايش املسلمني‪..‬‬
‫وهكذا تساءل األنصار‪ R‬يف مرارة‪ :‬ملاذا مل يعطهم رسول اهلل حظهم من الفيء والغنيمة‪..‬؟؟‬
‫وقال شاعرهم حسان بن ثابت‪:‬‬
‫وأت الرسول فقل يا خري مؤمتن‬
‫للمؤمنني اذا ما ع ّدد البشر‬
‫عالم تدعى سليم‪ ،‬وهي نازحة‬
‫ق ّدام قوم‪ ،‬مهوا آووا وهم نصروا‬
‫مسّاهم اهلل األنصار بنصرهم‬
‫دين اهلدى‪ ،‬وعوان احلرب تستعري‬
‫وسارعوا يف سبيل اهلل واعرتفوا‬
‫للنائبات‪ ،‬وما جاموا وما ضجروا‬
‫أحسه األنصار‪ ،‬اذ أعطى النيب صلى‬
‫ففي هذه األبيات عرّب شاعر الرسول واألنصار عن احلرج الذي ّ‬
‫اهلل عليه وسلم من الصحابة‪ ،‬ومل يعطهم شيئا‪.‬‬
‫‪ | 400‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ورأى زعيم األنصار سعد بن عبادة‪ ..‬ومسع قومه يتهامس بعضهم هبذا األمر‪ ،‬فلم يرضه هذا املوقف‪،‬‬
‫واستجاب لطبيعته الواضحة املسفرة الصرحية‪ ،‬وذهب من فوره اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وقال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫احلي من األنصار‪ R‬قد وجدوا عليك يف أنفسهم‪ ،‬ملا صنعت يف هذا الفيء الذي أصبت‪..‬‬ ‫ان هذا ّ‬
‫قسمت يف قومك‪ ،‬وأعطيت عطايا عظاما يف قبائل العرب‪ ،‬ومل يك يف هذا احلي من األنصار‪ R‬منها‬
‫شيء"‪..‬‬
‫هكذا قال الرجل الواضح كل ما يف نفسه‪ ،‬وكل ما يف أنفس قومه‪ ..‬وأعطى الرسول صورة أمينة عن‬
‫املوقف‪..‬‬
‫وسأله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫" وأين أنت من ذلك يا سعد"‪..‬؟؟‬
‫أي اذا كان هذا رأي قومك‪ ،‬فما رايك أنت‪..‬؟؟‬
‫فأجاب سعد بنفس الصراحة قائال‪:‬‬
‫" ما أنا اال من قومي"‪..‬‬
‫هنالك قال له النيب‪ ":‬اذن فامجع يل قومك"‪..‬‬
‫وال ب ّد لنا من أن نتابع القصة اىل هنايتها‪ ،‬فان هلا روعة ال تقاوم‪!..‬‬
‫مجع سعد قومه من األنصار‪..‬‬
‫وجاءهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فتملّى وجوههم اآلسية‪ .‬وابتسم‪ R‬ابتسامة متألقة بعرفان‬
‫مجيلهم وتقدير صنيعهم‪..‬‬
‫مث قال‪:‬‬
‫" يا معشر األنصار‪..‬‬
‫علي يف أنفسكم‪..‬؟؟‬
‫مقالة بلغتين عنكم‪ ،‬وجدة وجدمتوها ّ‬
‫أمل آتكم ضالال فهداكم اهلل‪..‬؟؟‬
‫‪ | 401‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعالة‪ ،‬فأغناكم اهلل‪..‬؟‬


‫وأعداء‪ ،‬فألف اهلل بني قلوبكم‪..‬؟؟"‬
‫قالوا‪:‬‬
‫أمن وأفضل‪..‬‬
‫" بلى اهلل ورسوله ّ‬
‫قال الرسول‪:‬‬
‫أال جتيبونين يا معشر األنصار‪..‬؟‬
‫قالوا‪:‬‬
‫مب جنيبك يا رسول اهلل‪..‬؟؟‬
‫هلل ولرسوله املن والفضل‪..‬‬
‫قال الرسول‪:‬‬
‫أما واهلل لو شئتم لقلتم‪ ،‬فلصدقتم وص ّدقتم‪:‬‬
‫أتيتنا مكذوبا‪ ،‬فص ّدقناك‪..‬‬
‫وخمذوال‪ ،‬فنصرناك‪...‬‬
‫وعائال‪ ،‬فآسيناك‪..‬‬
‫وطريدا‪ ،‬فآويناك‪..‬‬
‫أوجدمت يا معشر األنصار يف أنفسكم يف لعاعة من الدنيا تألفت هبا قوما ليسلموا‪ ،‬ووكلتم اىل‬
‫اسالمكم‪..‬؟؟‬
‫أال ترضون يا معشر األنصار‪ R‬أن يذهب الناس بالشاة والبعري‪ ،‬وترجعوا أنتم برسول اهلل اىل‬
‫رحالكم‪..‬؟؟‬
‫فوالذي نفسي بيده‪ ،‬لوال اهلجرة لكنت امرءا من األنصار‪..‬‬
‫ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب األنصار‪..‬‬
‫اللهم ارحم األنصار‪..‬‬
‫وأبناء األنصار‪..‬‬
‫‪ | 402‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأبناء أبناء األنصار"‪!!...‬‬


‫هنالك بكى األنصار‪ R‬حىت أخضلوا حلاهم‪.‬‬
‫فقد مألت كلمات الرسول اجلليل العظيم أفئدهتم سالما‪ ،‬وأرواحهم ثراء‪ ،‬وأنفسهم‪ R‬عافية‪..‬‬
‫وصاحوا مجيعا وسعد بن عبادة معهم‪:‬‬
‫" رضينا برسول اهلل قسما وحظا"‪..‬‬

‫**‬

‫ويف األيام األوىل من خالفة عمر ذهب سعد اىل أمري املؤمنني‪ ،‬وبنفس صراحته املتطرفة قال له‪:‬‬
‫" كان صاحبك أبو بكر‪،‬واهلل‪ ،‬أحب الينا منك‪..‬‬
‫وقد ‪،‬واهلل‪ ،‬أصبحت كارها جلوارك"‪!!..‬‬
‫ويف هدوء أجابه عمر‪:‬‬
‫حتول عنه"‪..‬‬
‫" ان من كره جوار جاره‪ّ ،‬‬
‫وعاد سعد فقال‪:‬‬
‫متحول اىل جوار من هو خري منك"‪!!..‬‬‫" اين ّ‬

‫**‬

‫ما كان سعد رضي اهلل عنه بكلماته هذه ألمري املؤمنني عمر ين ّفس عن غيظ‪ ،‬أو يعرّب عن كراهية‪..‬‬
‫فان من رضي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قسما وحظا‪ ،‬ال يرفض الوالء‪ R‬لرجل مثل عمر‪ ،‬طاملا‬
‫رآه موضع‪ R‬تكرمي الرسول وحبّه‪..‬‬
‫امنا أراد سعد وهو واحد من األصحاب‪ R‬الذين نعتهم القرآن بأهنم رمحاء بينهم‪..‬‬
‫أال ينتظر ظروفا‪ ،‬قد تطرأ خبالف بينه وبني أمري املؤمنني‪ ،‬خالف ال يريده‪ ،‬وال يرضاه‪..‬‬
‫‪ | 403‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫وش ّد رحاله اىل الشام‪..‬‬


‫وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حىت دعاه أجله‪ ،‬وأفضى اىل جوار ربه الرحيم‪..‬‬

‫أسامة بن زيد‬
‫احلب‬
‫احلب بن ّ‬
‫ّ‬

‫يقسم أموال بيت املال على املسلمني‪..‬‬


‫جلس أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ّ‬
‫وجاء دور عبداهلل بن عمر‪ ،‬فأعطاه عمر نصيبه‪.‬‬
‫مث جاء دور أسامة بن زيد‪ ،‬فأعطاه عمر ضعف ما أعطى ولده عبداهلل‪..‬‬
‫وذا كان عمر يعطي الناس وفق فضلهم‪ ،‬وبالئهم يف االسالم‪ ،‬فقد خشي عبداهلل بن عمر أن يكون‬
‫مكانه يف االسالم آخرا‪ ،‬وهو الذي يرجو بطاعته‪ ،‬وجبهاده‪ ،‬وبزهده‪ ،‬وبورعه‪،‬أن يكون عند اهلل من‬
‫السابقني‪..‬‬
‫علي أسامة‪ ،‬وقد شهدت مع رسول اهلل ما مل يشهد"‪..‬؟‬ ‫فضلت ّ‬ ‫هنالك سأل أباه قائال‪ ":‬لقد ّ‬
‫فأجابه عمر‪:‬‬
‫أحب اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منك‪..‬‬
‫" ان أسامة كان ّ‬
‫وأبوه كان أحب اىل رسول اهلل من أبيك"‪!..‬‬
‫فمن هذا الذي بلغ هو وأبوه من قلب الرسول وحبه ما مل يبلغه ابن عمر‪ ،‬وما مل يبلغه عمر بذاته‪..‬؟؟‬
‫انه أسامة بن زيد‪.‬‬
‫احلب‪..‬‬
‫احلب بن ّ‬‫كان لقبه بني الصحابة‪ّ :‬‬
‫أبوه زيد بن حارثة خادم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي آثر الرسول على أبيه وأمه وأهله‪،‬‬
‫والذي‪ R‬وقف به النيب على مجوع أصحابه يقول‪:‬‬
‫‪ | 404‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" أشهدكم أن زيدا‪ R‬هذا ابين‪ ،‬يرثين وأرثه"‪..‬‬


‫وظل امسه بني املسلمني زيد بن حممد حىت أبطل القرآن الكرمي عادة التبيّن ‪..‬‬
‫أسامة هذا ابنه‪..‬‬
‫وأمه هي أم أمين‪ ،‬موالة رسول اهلل وحاضنته‪،‬‬
‫مل يكن شكله اخلارجي يؤهله لشيء‪ ..‬أي شيء‪..‬‬
‫فهو كما يصفه الرواة واملؤرخون‪ :‬أسود‪ ،‬أفطس‪..‬‬
‫أجل‪ ..‬هباتني الكلمتني‪ ،‬ال أكثر يلخص التاريخ حديثه عن شكل أسامة‪!!..‬‬
‫ولكن‪ ،‬مىت كان االسالم يعبأ باألشكال الظاهرة للناس‪..‬؟‬
‫مىت‪ ..‬ورسوله هو الذي يقول‪:‬‬
‫ألبره"‪..‬‬
‫رب أشعث‪ ،‬أعرب‪ ،‬ذي طمرين ال يؤبه له‪ ،‬لو أقسم على اهلل ّ‬ ‫" أال ّ‬
‫فلندع الشكل اخلارجي ألسامة اذن‪..‬‬
‫لندع بشرته السوداء‪ ،‬وأنفه األفطس‪ ،‬فما هذا كله يف ميزان االسالم مكان‪..‬‬
‫ولننظر ماذا كان يف والئه‪..‬؟ ماذا كان يف افتدائه‪..‬؟ يف عظمة نفسه‪ ،‬وامتالء حياته‪..‬؟!‬
‫لقد بلغ من ذلك كله املدى الذي هيأه هلذا الفيض من حب رسول اهلل عليه الصالة والسالم وتقديره‪:‬‬
‫ايل‪ ،‬واين ألرجو أن يكون من صاحليكم‪ ،‬فاستوصوا به خريا"‪.‬‬ ‫أحب الناس ّ‬‫" ان أسامة بن زيد ملن ّ‬

‫**‬

‫كان أسامة رضي اهلل عنه مالكا لكل الصفات العظيمة اليت جتعله قريبا من قلب الرسول‪ ..‬وكبريا يف‬
‫عينيه‪..‬‬
‫فهو ابن مسلمني كرميني من أوائل املسلمني سبقا اىل االسالم‪ ،‬ومن أكثرهم والء للرسول وقربا منه‪.‬‬
‫وهو من أبناء االسالم احلنفاء الذين ولدوا فيه‪ ،‬وتلقوا رضعاهتم األوىل من فطرته النقية‪ ،‬دون أن‬
‫يدركهم‪ R‬من غبار اجلاهلية املظلمة شيء‪..‬‬
‫‪ | 405‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهو رضي اهلل عنه على حداثة سنه‪ ،‬مؤمن‪ ،‬صلب‪ ،‬ومسلم قوي‪ ،‬حيمل كل تبعات اميانه ودينه‪ ،‬يف‬
‫والء مكني‪ ،‬وعزمية قاهرة‪..‬‬
‫وهو مفرط يف ذكائه‪ ،‬مفرط يف تواضعه‪ ،‬ليس لتفانيه يف سبيل اهلل ورسوله حدود‪..‬‬
‫مث هو بعد هذا‪ ،‬ميثل يف الدين اجلديد‪ ،‬ضحايا األلوان‪ R‬الذين جاء االسالم ليضع عنهم أوزار التفرقة‬
‫وأوضارها‪..‬‬
‫فهذا األسود األفطس يأخذ يف قلب النيب‪ ،‬ويف صفوف املسلمني مكانا عليّا‪ ،‬ألن الدين الذي ارتضاه‬
‫اهلل لعباده قد صحح معايري اآلدمية واألفضلية بني الناس فقال‪:‬‬
‫( ان أكرمكم عند اهلل أتقاكم)‪..‬‬
‫وهكذا رأينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدخل مكة يوم الفتح العظيم ورديفه هذا األسود‬
‫األفطس أسامة بن زيد‪..‬‬
‫مث رأيناه يدخل الكعبة يف أكثر ساعات االسالم روعة‪ ،‬وفوزا‪ ،‬وعن ميينه ويساره بالل‪ ،‬وأسامة‪..‬‬
‫رجالن تكسومها البشرة السوداء الداكنة‪ ،‬ولكن كلمة اهلل اليت حيمالهنا يف قلبيهما الكبريين قد أسبغت‬
‫عليهما كل الشرف وكل الرفعة‪..‬‬

‫**‬

‫ويف سن مبكرة‪ ،‬مل جتاوز‪ R‬العشرين‪ ،‬أمر رسول اهلل أسامة بن زيد على جيش‪ ،‬بني أفراده وجنوده أبو‬
‫بكر وعمر‪!!..‬‬
‫وسرت مههمة بني نفر من املسلمني تعاظمهم األمر‪ ،‬واستكثروا على الفىت الشاب‪ ،‬أسامة بن زيد‪،‬‬
‫امارة جيش فيه شيوخ األنصار‪ R‬وكبار املهاجرين‪..‬‬
‫وبلغ مهسهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فصعد املنرب‪ ،‬ومحد اهلل وأثىن عليه‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫" ان بعض الناس يطعنون يف امارة أسامة بن زيد‪..‬‬
‫‪ | 406‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد طعنوا يف امارة أبيه من قبل‪..‬‬


‫وان كان أبوه خلليقا لالمارة‪..‬‬
‫وان أسامة خلليق هلا‪..‬‬
‫ايل بعد أبيه‪..‬‬
‫أحب الناس ّ‬‫وانه ملن ّ‬
‫واين ألرجو أن يكون من صاحليكم‪..‬‬
‫فاستوصوا به خريا"‪..‬‬
‫يتحرك اجليش اىل غايته ولكنه كان قد ترك وصيته‬
‫وتوىف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن ّ‬
‫احلكيمة ألصحابه‪:‬‬
‫" أنفذوا بعث أسامة‪..‬‬
‫أنفذوا‪ R‬بعث أسامة‪"..‬‬

‫وهكذا ق ّد س اخلليفة أبو بكر هذه الوصاة‪ ،‬وعلى الرغم من الظروف اجلديدة اليت خلفتها وفاة‬
‫فتحرك جيش أسامة اىل غايته‪ ،‬بعد أن استأذنه‬
‫أصر على اجناز وصيته وأمره‪ّ ،‬‬ ‫الرسول‪ ،‬فان الص ّديق ّ‬
‫اخلليفة يف أن يدع عمر ليبقى اىل جواره يف املدينة‪.‬‬
‫وبينما كان امرباطور‪ R‬الروم‪ R‬هرقل‪ ،‬يتلقى خرب وفاة الرسول‪ ،‬تلقى يف نفس الوقت خرب اجليش الذي‪R‬‬
‫يغري على ختوم الشام‪ R‬بقيادة أسامة بن زيد‪ ،‬فحرّي ه أن يكون املسلمون من القوة حبيث ال يؤثر موت‬
‫رسوهلم يف خططهم ومقدرهتم‪.‬‬
‫وهكذا انكمش الروم‪ ،‬ومل يعودوا يتخذون من حدود الشام نقط وثوب على مهد االسالم يف اجلزيرة‬
‫العربية‪.‬‬
‫وعاد اجليش بال ضحايا‪ ..‬وقال عنه املسلمون يومئذ‪:‬‬
‫" ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة"‪!!..‬‬
‫‪ | 407‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫وذات يوم تلقى أسامة من رسول اهلل درس حياته‪ ..‬درسا بليغا‪ ،‬عاشه أسامة‪ ،‬وعاشته حياته كلها‬
‫منذ غادرهم الرسول اىل الرفيق األعلى اىل أن لقي أسامة ربه يف أواخر خالفة معاوية‪.‬‬

‫قبل وفاة الرسول بعامني بعثه عليه السالم أمريا على سريّة خرجت للقاء بعض املشركني الذين‬
‫يناوئون االسالم واملسلمني‪.‬‬
‫وكانت تلك أول امارة يتوالها أسامة‪..‬‬
‫ولقد أحرز يف مهمته النجاح‪ R‬والفوز‪ ،‬وسبقته أنباء فوزه اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفرح هبا‬
‫وسر‪.‬‬

‫ولنستمع اىل أسامة يروي لنا بقية النبأ‪:‬‬


‫"‪ ..‬فاتيت النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد اتاه البشري بالفتح‪ ،‬فاذا هو متهلل وجهه‪ ..‬فأدناين منه مث‬
‫قال‪:‬‬
‫ح ّدثين‪..‬‬
‫فجعلت أح ّدثه‪ ..‬وذكرت أنه ملا اهنزم القوم أدركت‪ R‬رجال وأهويت اليه بالرمح‪ ،‬فقال ال اله اال اهلل‬
‫فطعنته وقتلته‪.‬‬
‫فتغرّي وجه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وقال‪:‬‬
‫وحيك يا أسامة‪!..‬‬
‫فكيف لك بال اله اال اهلل‪..‬؟‬
‫وحيك يا أسامة‪..‬‬
‫فكيف لك بال اله اال اهلل‪..‬؟‬
‫‪ | 408‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫علي حىت لوددت أين انسلخت من كل عمل عملته‪ .‬واستقبلت االسالم يومئذ من‬ ‫فلم يزل يرددها ّ‬
‫جديد‪.‬‬
‫فال واهلل ال أقاتل أحدا قال ال اله اال اهلل بعدما مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬

‫**‬

‫وجه جياة أسامة احلبيب بن احلبيب منذ مسعه من رسول اهلل اىل أن‬ ‫هذا هو الدرس العظيم الذي‪ّ R‬‬
‫رحل عن الدينا‪ R‬راضيا مرضيّا‪.‬‬
‫وانه لدرس بليغ‪.‬‬
‫ومسو مبادئه‪ ،‬وعظمة دينه وخلقه‪..‬‬
‫درس يكشف عن انسانية الرسول‪ ،‬وعدله‪ّ ،‬‬
‫فهذا الرجل الذي أسف النيب ملقتله‪ ،‬وأنكر على أسامة قتله‪ ،‬كان مشركا وحماربا‪..‬‬
‫وهو حني قال‪ :‬ال اله اال اهلل‪ ..‬قاهلا والسيف يف ميينه‪ ،‬تتعلق به مزغ اللحم اليت هنشها من أجساد‬
‫املسلمني‪ ..‬قاهلا لينجو هبا من ضربة قاتلة‪ ،‬أو ليهيء لنفسه فرصة يغري فيها اجتاهه مث يعاود القتال من‬
‫جديد‪..‬‬
‫وحترك هبا لسانه‪ ،‬يصري دمه حراما وحياته آمنة‪ ،‬يف نفس اللحظة‪ ،‬ولنفس‬ ‫ومع هذا‪ ،‬فألنه قاهلا‪ّ ،‬‬
‫السبب‪!..‬‬
‫ووعى أسامة الدرس اىل منتهاه‪..‬‬
‫جملرد أنه قل‪ :‬ال اله اال اهلل‪ ..‬فكيف‬
‫فاذا كان هذا الرجل‪ ،‬يف هذا املوقف‪ ،‬ينهى الرسول عن قتله ّ‬
‫بالذين هم مؤمنون حقا‪ ،‬ومسلمون حقا‪..‬؟‬
‫وهكذا رأيناه عندما نشبت الفتنة الكربى‪ R‬بني االمام علي وأنصاره من جانب‪ ،‬ومعاوية وأنصاره من‬
‫جانب آخر‪ ،‬يلتزم حيادا مطلقا‪.‬‬
‫‪ | 409‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حيب عليّا أكثر احلب‪ ،‬وكان يبصر احلق اىل جانبه‪ ..‬ولكن كيف يقتل بسيفه مسلما يؤمن باهلل‬ ‫كان ّ‬
‫وبرسله‪ ،‬وهو لذي المه الرسول لقتله مشركا حماربا قال يف حلظة انكساره وهروبه‪ :‬ال اله اال‬
‫اهلل‪..‬؟؟!!‬
‫هنالك أرسل اىل االمام علي رسالة قال فيها‪:‬‬
‫" انك لو كنت يف شدق األسد‪،‬‬
‫ألحببت أن أدخل معك فيه‪.‬‬
‫ولكن هذا أمر مل أره"‪!!..‬‬
‫ولزم داره طوال هذا النزاع وتلك احلروب‪..‬‬
‫وحني حاءه بعض أصحابه يناقشونه يف موقفه قال هلم‪:‬‬
‫" ال أقاتل أحدا يقول ال اله اال اهلل أبدا"‪.‬‬
‫قال أحدهم له‪ :‬أمل بقل اهلل‪ ( :‬وقاتلوهم حىت ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل)‪..‬؟؟‬
‫فأجاهبم أسامة قائال‪:‬‬
‫" أولئك هم املشركون‪ ،‬ولقد قاتلناهم حىت مل تكن فتنة وكان الدين كله هلل"‪..‬‬

‫ويف العام الرابع واخلمسني من اهلجرة‪ ..‬اشتاق أسامة للقاء اهلل‪ ،‬وتلملمت روحه بني جواحنه‪ ،‬تريد‬
‫أن ترجع اىل وطنها األول‪..‬‬
‫وتفتحت أبواب اجلنان‪ ،‬لتستقبل واحدا من األبرار املتقني‪.‬‬

‫عبدالرمحن بن أيب بكر‬


‫بطل حىت النهاية‬

‫هو صورة مبيّنة للخلق العريب بكل أعماقه‪ ،‬وأبعاده‪..‬‬


‫‪ | 410‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فبينما كان أبوه أول املؤمنني‪ ..‬والص ّديق الذي آمن برسوله اميانا ليس من طراز سواه‪ ..‬وثاين اثنني اذ‬
‫مها يف الغار‪..‬كان هو صامدا‪ R‬كالصخر‪ R‬مع دين قومه‪ ،‬وأصنام قريش‪!!.‬‬
‫ويف غزوة بدر‪ ،‬خرج مقاتال مع جيش املشركني‪..‬‬
‫ويف غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدهتم‪ R‬قريش ملعركتها مع املسلمني‪..‬‬
‫وقبل أن يلتحم اجليشان‪ ،‬بدأت كالعادة جولة املبارزة‪..‬‬
‫ووقف عبدالرمحن يدعو اليه من املسلمني من يبارزه‪..‬‬
‫وهنض أبو أبو بكر الص ّديق رضي اهلل عنه مندفعا حنوه ليبارزه‪ ،‬ولكن الرسول أمسك به وحال بينه‬
‫وبني مبارزة ولده‪.‬‬

‫**‬

‫ان العريب األصيل ال مييزه شيء مثلما مييزه والؤه املطلق القتناعه‪..‬‬
‫اللهم اال اذا ازاحه عن مكانه‬
‫اذا اقتنع‪ R‬بدين أو فكرة استبعده اقتناعه‪ ،‬ومل يعد للفكاك منه سبيل‪ّ ،‬‬
‫اقتناع جديد ميأل عقله ونفسه بال زيف‪ ،‬وبال خداع‪.‬‬
‫فعلى الرغم من اجالل عبدالرمحن أباه‪ ،‬وثقته الكاملة برجاحة عقله‪ ،‬وعظمة نفسه وخلقه‪ ،‬فان والءه‬
‫القتناعه بقي فارضا سيادته عليه‪.‬‬
‫ومل يغره اسالم أبيه باتباعه‪.‬‬
‫وهكذا بقي واقفا مكانه‪ ،‬حامال مسؤولية اقتناعه وعقيدته‪ ،‬يذود عن آهلة قريش‪ ،‬ويقاتل حتت لوائها‪R‬‬
‫قتال املؤمنني املستميتني‪..‬‬
‫واألقوياء األصالء من هذا الطراز‪ ،‬ال خيفى عليهم احلق وان طال املدى‪..‬‬
‫فأصالة جوهرهم‪ ،‬ونور وضوحهم‪ ،‬يهدياهنم اىل الصواب آخر األمر‪ ،‬وجيمعاهنم على اهلدى‪ R‬واخلري‪.‬‬
‫ولقد دقت ساعة األقدار يوما‪ ،‬معلنة ميالدا جديدا لعبدالرمحن بن أيب بكر الص ّديق‪..‬‬
‫‪ | 411‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫لقد أضاءت مصابيح اهلدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته اجلاهلية من ظالم وزيف‪ .‬ورأى اهلل‬
‫الواحد األحد يف كل ما حوله من كائنات وأشياء‪ ،‬وغرست هداية اهلل ظلها يف نفسه وروعه‪ ،‬فاذا هو‬
‫من املسلمني‪!..‬‬
‫ومن فوره هنض مسافرا‪ R‬اىل رسول اهلل‪ّ ،‬أوأبا اىل دينه احلق‪.‬‬
‫وتألق وجه أيب بكر حتت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول اهلل‪.‬‬
‫لقد كان يف كفره رجال‪ ..‬وها هو ذا يسلم اليوم اسالم الرجال‪ .‬فال طمع يدفعه‪ ،‬وال خوف يسوقه‪.‬‬
‫وامنا هو اقتناع رشيج سديد أفاءته عليه هداية اهلل وتوفيقه‪.‬‬
‫يعوض ما فاته ببذل أقصى اجلهد يف سبيل اهلل‪ ،‬ورسوله واملؤمنني‪...‬‬ ‫وانطلق عبدالرمحن ّ‬

‫**‬

‫يف أيام الرسول عليه صالة اهلل وسالمه‪ ،‬ويف أيام خلفائه من بعده‪ ،‬مل يتخلف عبدالرمحن عن غزو‪،‬‬
‫ومل يقعد عن جهاد مشروع‪..‬‬
‫ولقد كان له يوم اليمامة بالء عظيم‪ ،‬وكان لثياته واستبساله دور كبري يف كسب املعركة من جيش‬
‫مسيلمة واملرتدين‪ ..‬بل انه هو الذي‪ R‬أجهز على حياة حمكم بن الطفيل‪ ،‬والذي كان العقل املدبر‬
‫الردة بداخله‪ ،‬فلما سقط حمكم‬ ‫حتصن جيش ّ‬ ‫ملسيلمة‪ ،‬كما كان حيمي بقوته أهم مواطن احلصن الذي‪ّ R‬‬
‫بضربة من عبدالرمحن‪ ،‬وتشتت الذين حوله‪ ،‬انفتح يف احلصن مدخل واسع كبري تدفقت منه مقاتلة‬
‫املسلمني‪..‬‬
‫وازدادت خصال عبدالرمحن يف ظل االسالم مضاء وصقال‪..‬‬
‫فوالؤه القتناعه‪ ،‬وتصميمه املطلق على اتباع ما يراه صوابا‪ R‬وحقا‪ ،‬ورفضه املداجاة واملداهنة‪...‬‬
‫كل هذا اخللق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته‪ ،‬مل يتخل عنه قط حتت اغراء رغبة‪ ،‬أو تأثري رهبة‪،‬‬
‫حىت يف ذلك اليوم الرهيب‪ ،‬يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد حبد الشيف‪ ..‬فكتب اىل مروان‬
‫عامله باملدينة كتاب البيعة‪ ،‬وأمره ان يقرأه على املسلمني يف املسجد‪..‬‬
‫‪ | 412‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وفعل مروان‪ ،‬ومل يكد يفرغ من قراءته حىت هنض عبدالرمحن بن أيب بكر ليحول الوجوم الذي ساد‬
‫املسجد اىل احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال‪:‬‬
‫" واهلل ما االخيار أردمت ألمة حممد‪ ،‬ولكنكم تريدون أن جتعلوها هرقلية‪ ..‬كلما مات هرقل قام‬
‫هرقل"‪!!..‬‬
‫وحول احلكم‬ ‫لقد رأى عبدالرمحن ساعتئذ كل األخطار اليت تنتظر االسالم لو أجنز معاوية أمره هذا‪ّ ،‬‬
‫يف االسالم من شورى ختتار هبا األمة حاكمها‪ ،‬اىل قيصرية أو كسروية تفرض على األمة حبكم امليالد‬
‫واملصادفة قيصرا وراء قيصر‪!!..‬‬

‫**‬

‫مل يكد عبدالرمحن يصرخ يف وجه مروان هبذه الكلمات القوارع‪ ،‬حىت أيّده فريق من املسلمني على‬
‫رأسهم احلسني بن علي‪ ،‬وعبداهلل بن الزبري‪ ،‬وعبداهلل بن عمر‪..‬‬
‫ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت احلسني وابن الزبري وابن عمر رضي اهلل عنهم اىل‬
‫الصمت‪ R‬جتاه هذه البيعة اليت قرر معاوية أن يأخذها بالسيف‪..‬‬
‫لكن عبدالرمحن بن أيب بكر ظل جيهر ببطالن هذه البيعة‪ ،‬وبعث اليه معاوية من حيمل مائة ألف‬
‫درهم‪ ،‬يريد أن يتألفه هبا‪ ،‬فألقاها ابن الص ّديق بعيدا وقال لرسول معاوية‪:‬‬
‫" ارجع اليه وقل له‪ :‬ان عبدالرمحن ال يبيع دينه بدنياه"‪..‬‬
‫وملا علم بعد ذلك أن معاوية يش ّد رحاله قادما اىل املدينة غادرها من فوره اىل مكة‪..‬‬
‫وأراد اهلل أن يكفيه فتنة هذا املوقف وسوء عقباه‪..‬‬
‫فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر هبا حىت فاضت اىل اهلل روحه‪ ،،‬ومحله الرجال على األعناق اىل‬
‫أعايل مكة حيث دفن هناك‪ ،‬حتت ثرى األرض اليت شهدت جاهليته‪..‬‬
‫وشهدت اسالمه‪!!..‬‬
‫حر شجاع‪...‬‬ ‫وكان اسالم رجل صادق‪ّ ،‬‬
‫‪ | 413‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عبداهلل بن عمرو بن العاص‬


‫األواب‬
‫القانت‪ّ R‬‬

‫القانت‪ ،‬التائب‪ ،‬العابد‪ ،‬األواب‪ ،‬الذي‪ R‬نستها احلديث عنه اآلن هو‪ :‬عبداهلل بن عمرو بن العاص‪..‬‬
‫بقجر ما كان أبوه أستاذا يف الدكاء والدهاء وسعة احليلة‪ ..‬كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بني‬
‫العابدين الزاهدين‪ ،‬الواضحني‪..‬‬
‫لقد أعطى العبادة وقته كله‪ ،‬وحياته ملها‪..‬‬
‫ومثل حبالوة االميان‪ ،‬فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه‪..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬سبق أباه اىل االسالم‪ ،‬ومنذ وضع ميينه يف ميني الرسول صلى اهلل عليه وسلم مبايعا‪ ،‬وقلبه‬
‫مضاء كالصبح النضري بنور اهلل ونور طاعته‪..‬‬
‫منجما‪ ،‬فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها‪ ،‬حىت‬ ‫عكف أوال على القرآن الذي كان يتنزل ّ‬
‫اذا متّ واكتمل‪ ،‬كان جلميعه حافظا‪..‬‬
‫تضم بني دفتيها كتابا حمفوظا‪..‬‬
‫جمرد ذاكرة قوية‪ّ ،‬‬ ‫ومل يكن حيفظه ليكون ّ‬
‫حيرم‪ ،‬ويتجيب له‬‫وحيرم ما ّ‬
‫أحل‪ّ ،‬‬‫حيل ما ّ‬ ‫بل كان حيفظه ليعمر به قلبه‪ ،‬وليكون بعد هذا عبده املطيع‪ّ ،‬‬
‫يف كل ما يدعو اليه مث يعكف على قراءته‪ ،‬وتدبّره وترتيله‪ ،‬متأنقا يف روضاته اليانعات‪ ،‬حمبور النفس‬
‫مبا تفيئه آياته الكرمية من غبطة‪ ،‬باكي العني مبا تثريه من خشية‪!!..‬‬
‫كان عبداهلل قد خلق ليكون قد‬
‫ق ّديسا عابدا‪ ،‬وال شيء يف الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي‪ R‬خلق له‪ ،‬وهدي اليه‪..‬‬
‫اذا خرج جيش االسالم اىل جهاد يالقي فيه املشركني الذين يشنون عليه حلروب والعداوة‪ ،‬وجدناه يف‬
‫مقدمة الصفوف يتمىن الشهادة بروح حمب‪ ،‬واحلاح عاشق‪!!..‬‬
‫‪ | 414‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فاذا وضعت احلرب أوزارها‪ ،‬فأين نراه‪..‬؟؟‬


‫هناك يف املسجد اجلامع‪ ،‬أو يف مسجد داره‪ ،‬صائم هناره‪ ،‬قائم ليله‪ ،‬ال يعرف لسانه حديثا من‬
‫أحاديث الدنيا مهما يكن حالال‪ ،‬امنا هو رطب دائما بذكر اهلل‪ ،‬تاليا قرآنه‪ ،‬أو مسبّحا حبمده‪ ،‬أو‬
‫مستغفرا لذنبه‪..‬‬
‫وحسبنا ادراكا ألبعاد عبادته ونسكه‪ ،‬أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس اىل عبادة اهلل‪ .‬جيد‬
‫نفسه مضطرا للتدخل كما حيد من ايغال عبداهلل يف العبادة‪!!..‬‬
‫وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة يف حياة عبداهلل بن عمرو‪ ،‬الكشف عما تزخر به النفس االنسانية‬
‫والتجرد والصالح‪ ،‬فان وجهها اآلخر هو حرص‬ ‫ّ‬ ‫من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد‪R‬‬
‫تفوق واكتمال‪ ،‬حىت يبقى للنفس محاستها وأشواقها‪..‬‬ ‫الدين على القصد واالعتدال يف نشدان كل ّ‬
‫وحىت تبقى للجسد عافيته وسالمته‪!!..‬‬
‫لقد علم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن عبداهلل بن عمرو بن العاص‪ R‬يقضي حياته على وترية‬
‫واحدة‪..‬‬
‫وما مل يكن هناك خروج يف غزوة فان أيامه كلها تتلخص يف أنه من الفجر اىل الفجر يف عبادة‬
‫موصولة‪ ،‬صيام وصالة‪ ،‬وتالوة قرآن‪..‬‬
‫فاستدعاه النيب اليه‪ ،‬وراح‪ R‬يدعوه اىل القصد‪ R‬يف عبادته‪..‬‬
‫قال له الرسول عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫" أمل اخرب أنك تصوم الناهر‪ ،‬وال تفطر‪ ،‬وتصلي الليل ال تنام‪..‬؟؟‬
‫فحسبك أن تصوم من كل شهر ثالثة أيام‪..‬‬
‫قال عبداهلل‪:‬‬
‫اين أطيق أكثر من ذلك‪..‬‬
‫قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫فحسبك ان تصوم من كل مجعة يومني‪..‬‬
‫‪ | 415‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قال عبداهلل‪:‬‬
‫فاين أطيق أكثر من ذلك‪..‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫فهل لك اذن يف خري الصيام‪ ،‬صيام داود‪ ،‬كان يصوم يوما ويفطر يوما‪..‬‬
‫وعاد الرسول عليه الصالة والسالم يسأله قائال‪:‬‬
‫وعلمت أنك جتمع القرآن يف ليلة‬
‫واين أخشى أن يطول بك العمر‬
‫متل قراءته‪!!..‬‬
‫وأن ّ‬
‫مرة‪..‬‬
‫اقرأه يف كل شهر ّ‬
‫مرة‪..‬‬
‫اقرأه يف كل عشرة أيام ّ‬
‫مرة‪..‬‬
‫اقرأه يف كل ثالث ّ‬
‫مث قال له‪:‬‬
‫اين أصوم وأفطر‪..‬‬
‫وأصلي وأنام‪.‬‬
‫وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنيت‬
‫فليس مين"‪.‬‬
‫عم ر عبداهلل بن عمرو طويال‪ ..‬وملا تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح‬ ‫ولقد ّ‬
‫الرسول فيقول‪:‬‬
‫" يا ليتين قبلت رخصة رسول اهلل"‪..‬‬

‫**‬

‫ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور‪ R‬عليه يف معركة تدور رحاها بني مجاعتني من املسلمني‪.‬‬
‫‪ | 416‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فكيف محلته ساقاه اذن من املدينة اىل صفني حيث أخذ مكانا يف جيش معاوية يف صراعه مع االمام‬
‫علي‪..‬؟‬
‫احلق أن موقف عبداهلل هذا‪ ،‬جدير بالتدبّر‪ ،‬بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقري واالجالل‪..‬‬

‫رأينا كيف كان عبداهلل بن عمرو مقبال على العبادة اقباال كاد يش ّكل خطرا حقيقيا على حياته‪،‬‬
‫األمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما‪ ،‬فيشكوه اىل رسول اهلل كثريا‪.‬‬
‫ويف املرة األخرية اليت امره الرسول فيها بالقصد يف العبادة وحدد له مواقيتها‪ R‬كان عمرو حاضرا‪ ،‬فأخذ‬
‫الرسول يد عبداهلل‪ ،‬ووضعها يف يد عمرو ابن العاص أبيه‪ ..‬وقال له‪:‬‬
‫" افعل ما أمرتك‪ ،‬وأطع أباك"‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن عبداهلل‪ ،‬كان بدينه وخبلق‪ ،‬مطيعا ألبويه فقد كان أمر الرسول له هبذه الطريقة ويف‬
‫هذه املناسبة ذا تأثري خاص على نفسه‪.‬‬
‫وعاش عبداهلل بن عمرو عمره الطويل ال ينسى حلظة من هنار تلك العبارة املوجزة‪.‬‬
‫" افعل ما أمرتك‪ ،‬وأطع أباك"‪.‬‬

‫**‬

‫وتتابعت يف موكب الزمن أعوام وأيام‬


‫ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا‪..‬‬
‫لتمرد غري مشروع‪.‬‬‫ورفض علي أن يذعن ّ‬
‫وقامت احلرب بني طائفتني من املسلمني‪ ..‬ومضت موقعة اجلمل‪ ..‬وجاءت موقعة صفني‪.‬‬
‫كان عمر بن العاص‪ R‬قد اختار طريقه اىل جوار معاوية وكان يدرك مدى اجالل املسلمني البنه عبداهلل‬
‫ومدى ثقتهم يف دينه‪ ،‬فأراد أن حيمله على اخلروج ليكسب جانب معاوية بذلك اخلروجكثريا‪..‬‬
‫‪ | 417‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كذلك كان عمرو يتفاءل كثريا‪ R‬بوجود عبداهلل اىل جواره يف قتا‪ ،‬وهو ال ينسى بالءه معه يف فتوح‬
‫الشام‪ ،‬ويوم الريموك‪.‬‬
‫هم باخلروج اىل صفني دعاه اليه وقال له‪:‬‬ ‫فحني ّ‬
‫يا عبداهلل هتيأ للخروج‪ ،‬فانك ستقاتل معنا‪..‬‬
‫وأجابه عبداهلل‪:‬‬
‫ايل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أال أضع سيفا يف عنق مسلم أبدا‪..‬؟؟‬ ‫" كيف وقد عهد ّ‬
‫وحاول عمرو بدهائه اقناعه بأهنم امنا يريدون خبروجهم هذا أن يصلوا اىل قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه‬
‫الزكي‪.‬‬
‫ّ‬
‫مث ألقى مفاجأته احلامسة قائال لولده‪:‬‬
‫" أتذكر يا عبداهلل‪ ،‬آخر عهد عهده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني أخذ بيدك فوضعها‪ R‬يف يدي‬
‫وقال لك‪ :‬أطع أباك؟‪..‬‬
‫فاين أعزم عليك اآلن أن خترج معنا وتقاتل"‪.‬‬
‫وخرج عبداهلل بن عمرو طاعة ألبيه‪ ،‬ويف عزمه اال حيمل سيفا وال يقا مسلما‪..‬‬
‫ولكن كيف يتم له هذا‪..‬؟؟‬
‫حسبه اآلن أن خيرج مع أبيه‪ ..‬أما حني تكون املعركة فلله ساعتئذ امر يقضيه‪!..‬‬
‫ونشب القتال حاميا ضاريا‪..‬‬

‫وخيتاف املؤرخون فيما اذا كان عبداهلل قد اشرتك يف بدايته أم ال‪..‬‬


‫ونقول‪ :‬بدايته‪ ..‬ألن القتال مل يلبث اال قليال‪ ،‬حىت وقعت‪ R‬واقعة جعلت عبداهلل بن عمرو يأخذ مكانه‬
‫جهارا ض ّد احلرب‪ ،‬وض ّد معاوية‪..‬‬
‫عمار موضع اجالل مطلق من أصحاب الرسول‪..‬‬ ‫علي وكان ّ‬ ‫عمار بن ياسر كان يقاتل مع ّ‬ ‫وذلك ان ّ‬
‫وأكثر من هذا‪ ،‬فقد تنبأ يف يوم بعيد مبصرعه ومقتله‪.‬‬
‫كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم‪ R‬باملدينة اثر هجرهتم اليها‪..‬‬
‫‪ | 418‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت األحجار عاتية ضخمة ال يطيق أشد الناس قوة أن حيمل منها أكثر من حجر واحد‪ ..‬لكن‬
‫عمارا من فرط غبطته وتشوته‪ ،‬راح حيمل حجرين حجرين‪ ،‬وبصر به الرسول فتماله بعينني دامعتني‬
‫وقال‪:‬‬
‫" ويح ابن مسيّة‪ ،‬تقتله الفئة الباغية"‪.‬‬
‫مسع كل اصحاب رسول اهلل املشرتكني يف البناء يومئذ هذه النبوءة‪ ،‬وال يزالون هلا ذاكرين‪.‬‬
‫وكان عبداهلل بن عمر أحد الذين مسعوا‪.‬‬
‫وحيرض بأعلى صوته‬ ‫عمار يصعد الروايب ّ‬ ‫علي ومجاعة معاوية‪ ،‬كان ّ‬‫وفد بدء القتال بني مجاعة ّ‬
‫ويصيح‪.‬‬
‫" اليوم نلقى األحبة‪ ،‬حممدا وصحبه"‪.‬‬
‫وتواصى بقتله مجاعة من جيش معاوية‪ ،‬فسددوا‪ R‬حنوه رمية آمثة‪ ،‬نقلته اىل عامل الشهداء‪ R‬األبرار‪.‬‬
‫عمار قد قتل‪..‬‬
‫وسرى النبأ كالريح أن ّ‬
‫وانقض عبداهلل بن عمرو ثائرا مهتاجا‪:‬‬
‫ّ‬
‫أوقد قتل عمار‪..‬؟‬
‫وأنتم قاتلوه‪..‬؟‬
‫اذن انتم الفئة الباغية‪.‬‬
‫أنتم املقاتلون على ضاللة‪!!..‬‬
‫وانطلق يف جيش معاوية كالنذير‪ ،‬يثبط عزائمهم‪ ،‬ويهتف فيهم‪ R‬أهنم بغاة‪ ،‬ألهنم قتلوا عمارا وقد تنبأ له‬
‫الرسول منذ سبع وعشرين سنة على مأل من املسلمني بأنه ستقتله الفئة الباغية‪..‬‬

‫ومحلت مقالة عبداهلل اىل معاوية‪ ،‬ودعا عمرا وولده عبداهلل‪ ،‬وقال لعمرو‪:‬‬
‫" أال تكف عنا جمنونك هذا‪..‬؟‬
‫قال عبداهلل‪:‬‬
‫ما أنا مبجنون ولكين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول لعمار‪ :‬تقتلك الفئة الباغية‪.‬‬
‫‪ | 419‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فقال له معاوية‪:‬‬
‫فلم خرجت معنا‪:‬؟‬
‫قال عبداهلل‪:‬‬
‫ألن رسول اهلل أمرين أن أطيع أيب‪ ،‬وقد أطعته يف اخلروج‪ ،‬ولكين ال أقاتل معكم‪.‬‬
‫واذ مها يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار يف الدخول‪ ،‬فصاح عبداهلل بن عمرو‪:‬‬
‫ائذن له وبشره بالنار‪.‬‬
‫وأفلتت مغايظ معوية على الرغم من طول أناته‪ ،‬وسعة حلمه‪ ،‬وصاح بعمرو‪ :‬أو ما تسمع‪ R‬ما يقول‪..‬‬
‫وعاد عبداهلل يف هدوء املتقني واطمئناهنم‪ ،‬يؤكد ملعاوية أنه ما قال اال احلق‪ ،‬وأن الذين قتلوا عمارا‬
‫ليسوا اال بغاة‪..‬‬
‫والتفت صوب أبيه وقال‪:‬‬
‫لوال أن رسول اهلل أمرين بطاعتك ما سرت معكم هذا املسري‪.‬‬
‫فروعا حني مسعوا الناس مجيعا يتحدثون عن نبوءة الرسول‬ ‫وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما‪ّ ،‬‬
‫لعمار‪:‬‬
‫تقتلك الفئة الباغية‪.‬‬
‫ومترد عليه‪ ..‬ففكرا‬
‫وأحس عمرو ومعاوية أن هذه املهمة توشك أن تتحول اىل نكوص عن معاوية ّ‬
‫حىت وجدا حيلتهما اليت مضيا يبثاهنا يف الناس‪..‬‬
‫قاال‪:‬‬
‫نعم ان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لعمار ذات يوم‪:‬‬
‫تقتلك الفئة الباغية‪..‬‬
‫ونبوءة الرسول حق‪..‬‬
‫وها هو ذا عمار قد قتل‪..‬‬
‫فمن قتله‪..‬؟؟‬
‫امنا قتله الذين خرجوا به‪ ،‬ومحلوه معهم اىل القتال"‪!!..‬‬
‫‪ | 420‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يروج‪ ،‬وهكذا راج منطق معاوية وعمرو‪..‬‬


‫ويف مثل هذا اهلرج ميكن ألي منطق أن ّ‬
‫واستأنف الفريقان القتال‪..‬‬
‫وعاد عبداهلل بن عمرو اىل مسجده‪ ،‬وعبادته‪..‬‬

‫**‬

‫وعاش حياته ال ميلؤها بغري مناسكه وتعبّده‪..‬‬


‫جمر د خروجه‪ ،‬ظل مبعوث قلق له على الدوام‪ ..‬فكان ال تلم به الذكرى‬
‫غري أن خروجه اىل صفني ّ‬
‫حىت يبكي ويقول‪:‬‬
‫" مايل ولصفني‪..‬؟؟‬
‫مايل ولقتال املسلمني"‪..‬؟‬

‫**‬

‫مر هبم احلسني بن علي رضي اهلل‬


‫وذات يوم وهو جالس يف مسجد الرسول مع بعض أصحابه ّ‬
‫عنهما‪ ،‬وتبادال السالم‪..‬‬
‫وملا مضى عنهم قال عبداهلل ملن معه‪:‬‬
‫" أحتبون أن أخربكم بأحب أهل األرض اىل أهل السماء‪..‬؟‬
‫مر بنا اآلن‪.‬ز احلسني بن علي‪..‬‬ ‫انه هذا الذي‪ّ R‬‬
‫وانه ما كلمين منذ صفني‪..‬‬
‫ايل من محر النعم"‪!!..‬‬
‫وألن يرضى عين أحب ّ‬
‫واتفق مع أيب سعيد اخلدري‪ R‬على زيارة احلسني‪..‬‬
‫وهناك يف دار احلسني مت لقاء األكرمني‪..‬‬
‫وبدأ عبداهلل بن عمرو احلديث‪ ،‬فأتى على ذكر صفني فسأله احلسني معاتبا‪:‬‬
‫‪ | 421‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" ما الذي‪ R‬محلك على اخلروج مع معاوية"‪..‬؟؟‬


‫قال عبداهلل‪:‬‬
‫" ذات يوم شكاين عمرو بن العاص اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال له‪:‬‬
‫" ان عبداهلل يصوم النهار كله‪ ،‬ويقوم الليل كله‪.‬‬
‫فقال يل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫يا عبداهلل صل ومن‪ ..‬وصم‪ R‬وافطر‪ ..‬وأطع أباك‪..‬‬
‫علي أيب أن أخرج معهم‪ ،‬فخرجت‪..‬‬ ‫وملا كان يوم صفني أقسم ّ‬
‫ولكن واهلل ما اخرتطت سيفا‪ ،‬وال طعنت برمح‪ ،‬وال رميت بسهم"‪!!..‬‬
‫وبينما هو يتوقل الثانية والسبعني من عمره املبارك‪..‬‬
‫يتضرع اىل ربه‪ ،‬ويسبّح حبمده دعي اىل رحلة األبد‪ ،‬فلىب الدعاء يف شوق عظيم‪..‬‬
‫واذ هو يف مصاله‪ّ ،‬‬
‫واىل اخوانه الذين سبقوه باحلسىن‪ ،‬ذهبت روحه تسعى وتطري‪..‬‬
‫والبشري يدعوها من الرفيق األعلى‪:‬‬
‫( يا أيتها النفس املطمئنة‪..‬‬
‫ارجعي اىل ربك راضية مرضية‬
‫فادخلي يف عبادي وادخلي جنيت)‪..‬‬

‫أبو سفيان بن احلارث‬


‫من الظلمات اىل النور‬

‫انه أبو سفيان آخر‪ ،‬غري أبو سفيان بن حرب‪..‬‬


‫وان قصته‪ ،‬هي قصة اهلدى بعد الضالل‪ ..‬واحلب بعد الكراهية‪..‬‬
‫والسعادة بعد الشقوة‪..‬‬
‫‪ | 422‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هي قصة رمحة اهلل الواسعة حني تفتح أبواهبا الالجئ ألقى نفسه بني يدي اهلل بعد أن أضناه طول‬
‫اللغوب‪!!..‬‬
‫تصوروا بعد عشرين عاما قضاها ابن احلارث يف عداوة موصولة‪ R‬لالسالم‪!!..‬‬ ‫ّ‬
‫عشرون عاما منذ بعث النيب عليه السالم‪ ،‬حىت اقرتب يوم الفتح العظيم‪ ،‬وأبو سفيان بن احلارث يش ّد‬
‫أزر قريش وحلفائها‪ ،‬ويهجو الرسول بشعره‪ ،‬وال يكاد يتخلف عن حشد حتشده قريش لقتال‪!!..‬‬
‫وكان اخوته الثالثة‪ :‬نوفل‪ ،‬وربيعة‪ ،‬وعبداهلل قد سبقوه اىل االسالم‪..‬‬
‫وأبو سفيان هذا‪ ،‬ابن عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬اذ هو ابن احلارث بن عبداملطلب‪..‬‬
‫مث هو أخو النيب صلى اهلل عليه وسلم من الرضاعة‪ ،‬اذ أرضعته حليمة السعدية مرضعة الرسول بضعة‬
‫أيام‪..‬‬
‫وذات يوم نادته األقدار‪ R‬ملصريه السعيد‪ R،‬فنادى ولده جعفرا‪ ،‬وقال ألهله‪ :‬انا مسافران‪..‬‬
‫اىل أين يا بن احلارث‪..‬‬
‫اىل رسول اهلل لنسلم معه هلل رب العاملني‪..‬‬
‫طي التائبني‪..‬‬
‫ومضى يقطع األرض‪ R‬بفرسه ويطويها ّ‬
‫وعند األبواء أبصر مقدمة جيش جلب‪ .‬وأدرك أنه الرسول قاصدا مكة لفتحها‪.‬‬
‫وف ّكر ماذا يصنع‪..‬؟‬
‫ان الرسول قد أهدر دمه من طول ما محل سيفه ولسانه ضد االسالم‪ ،‬مقاتال وهاجيا‪..‬‬
‫فاذا رآه أحد من اجليش‪ ،‬فسيسارع اىل القصاص منه‪..‬‬
‫وان عليه أن حيتال لألمر حىت يلقي نفسه بني يدي رسول اهلل أوال‪ ،‬وقبل أن تقع عليه عني أحد من‬
‫املسلمني‪..‬‬
‫وتن ّك ر أبو سفيان بن احلارث حىت أخفى معامله‪ ،‬وأخذ بيد ابنه جعفر‪ ،‬وسار مشيا على األقدام شوطا‬
‫فتنحى حىت نزل الركب‪..‬‬
‫طويال‪ ،‬حىت أبصر رسول اهلل قادما يف كوكبة من أصحابه‪ّ ،‬‬
‫وفجأة ألقى بنفسه أمام رسول اهلل مزحيا قناعه فعرفه الرسول‪ ،‬وحو ل وجهه عنه‪ ،‬فأتاه أبو سفيان من‬
‫الناحية أخرى‪ ،‬فأعرض النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ | 423‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وصاح أبو سفيانوولده جعفر‪:‬‬


‫" نشهد أن ال اله اال اهلل‬
‫ونشهد أن حممدا‪ R‬رسول اهلل"‪.‬‬
‫واقرتب من النيب صلى اهلل عليه وسلم قائال‪:‬‬
‫" ال تثريب يا رسول اهلل"‪..‬‬
‫وأجابه الرسول‪:‬‬
‫" ال تثريب يا أبا سفيان‪.‬‬
‫مث أسلمه اىل علي بن أيب طالب وقال له‪:‬‬
‫ايل"‪..‬‬
‫عمك الوضوء والسنة ورح به ّ‬ ‫" علم ابن ّ‬
‫وذهب به علي مث رجع فقال له الرسول‪:‬‬
‫" ناد يف الناس أن رسول اهلل قد رضي عن أيب سفيان فارضوا عنه"‪..‬‬
‫حلظة زمن‪ ،‬يقول اهلل هلا‪ :‬كوين مباركة‪ ،‬فتطوي آمادا وأبعادا من الشقوة والضالل‪ ،‬وتفتح أبواب‬
‫رمحة ما هلا حدود‪!!..‬‬
‫لقد كاد أبو سفيان يسلم‪ ،‬بعد أن رأى يف بدر وهو يقاتل مع قريش ما حرّي لبّه‪..‬‬
‫ففي تلك الغزوة ختلّف أبو هلب وأرسل مكانه العاص بن هشام‪..‬‬
‫وانتظر أبو هلب أخبار املعركة بفارغ الصرب وبدأت األنباء تأيت حاملة هزمية قريش املنكرة‪..‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬أ[و هلب مع تفر من القرشيني حيلسون عند زمزم‪ ،‬اذ أبصروا فارسا مقبال فلما دنا منهم‬
‫ايل يا بن أخي‪ .‬فعندك لعمري‬ ‫هلم ّ‬
‫اذا هو‪ :‬أبو سفيان بن احلارث‪ ..‬ومل ميهله أبو هلب‪ ،‬فناداه‪ّ ":‬‬
‫اخلرب‪ ..‬حدثنا كيف كان أمر الناس"؟؟‬
‫قال أبو سفيان بن احلارث‪:‬‬
‫" واهلل نا هو اال أن أن لقينا القوم حىت منحناهم أكتافنا‪ ،‬يقتلوننا كيف شاءوا‪ ،‬ويأسروننا كيف‬
‫شاءوا‪..‬‬
‫‪ | 424‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأمي اهلل ما ملت قريشا‪ ..‬فلقد لقينا رجاال بيضا على خيل بلق‪ ،‬بني السماء‪ R‬واألرض‪ ،‬ما يشبهها شيء‪،‬‬
‫وال يقف أمامها شيء"‪!!..‬‬
‫وأبو سفيان يريد هبذا أن املالئكة كانت تقاتل مع الرسول واملسلمني‪..‬‬
‫فما باله مل يسلم يومئذ وقد رأى ما رأى‪..‬؟؟‬
‫ان الشك طريق اليقني‪ ،‬وبقدر ما كانت شكوك أيب احلارث عنيدة وقوية‪ ،‬فان يقينه يوم جييء سيكون‬
‫صلبا قويا‪..‬‬
‫ولقد جاء يوم يقينه وهداه‪ ..‬وأسلم هلل رب العاملني‪..‬‬

‫**‬

‫وليعوض‬
‫ومن أوىل حلظات اسالمه‪ ،‬راح يسابق الزمان عابدا‪ ،‬وجماهدا‪ ،‬ليمحو آثار ما ضيه‪ّ ،‬‬
‫خسائره فيه‪..‬‬
‫خرج مع الرسول فيما تال فتح مكة من غزوات‪..‬‬
‫ويوم حنني‪ ،‬حيث نصب املشركون للمسلمني كمينا خطريا‪ ،‬وانقضوا عليهم فجأة من حيث ال‬
‫حيتسبون انقضاضا وبيال أطار صواب اجليش املسلم‪ ،‬فوىّل أكثر أجناده األدبار وثبت الرسول مكانه‬
‫ينادي‪:‬‬
‫ايل أيها الناس‪..‬‬
‫" ّ‬
‫أنا النيب ال كذب‪..‬‬
‫انا ابن عبداملطلب‪"..‬‬
‫يف تلك اللحظة الرهيبة‪ ،‬كانت هناك قلة مل تذهب بصواهبا‪ R‬املفاجأة‬
‫وكان منهم أبو سفيان بن احلارث وولده جعفر‪..‬‬
‫ولقد كانأبو سفيان يأخذ بلجام فرس الرسول‪ ،‬وحني رأى ما رأى أدرك أن فرصته اليت حبث عنها قد‬
‫أهلت‪ ..‬تلك أن يقضي حنبه شهيدا يف سبيل اهلل‪ ،‬وبني يدي الرسول‪..‬‬
‫‪ | 425‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وراح يتشبث مبقود الفرس بيسراه‪ ،‬ويرسل السيف يف حنور‪ R‬املشركني بيمناه‪.‬‬
‫وعاد املسلمون اىل مكان املعركة حىت انتهت‪ ،‬ومتاله الرسول مث قال‪:‬‬
‫" أخي أبو سفيان بن احلارث‪..‬؟؟"‬
‫ما كاد أبو سفيان يسمع‪ R‬قو الرسول " أخي"‪..‬‬
‫فأكب على قدمي الرسول يقبلهما‪ ،‬ويغسلهما بدموعه‪.‬‬‫ّ‬ ‫حىت طار فؤاده من الفرح والشرف‪.‬‬
‫وحتركت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم اهلل عليه من شجاعة وتوفيق‪:‬‬ ‫ّ‬
‫عم التضعضع‪R‬‬‫غداة حنني حني ّ‬ ‫لقد علمت أفناء كعب وعامر‬
‫أمام رسول اهلل ال أتتعتع‬ ‫بأين أخو اهليجاء‪ ،‬أركب ح ّدها‬
‫اليه تعاىل كل أمر سريجع‬ ‫رجاء ثواب اللهواهلل راحم‬

‫**‬

‫وأقبل ألبو سفيان بن احلارث على العبادة اقبالل عظيما‪ ،‬وبعد رحيل الرسول عن الدنيا‪ ،‬تعلقت‬
‫روحه باملوت ليلحق برسول اهلل يف الدار اآلخرة‪ ،‬وعاش ما عاش واملوت أمنية حياته‪..‬‬
‫وذات يوم شاهده الناس يف البقيع حيفر حلدا‪ ،‬ويسويّه ويهيّئه‪ ..‬فلما أبدوا دهشتهم مما يصنع قال هلم‪:‬‬
‫" اين أع ّد قربي"‪..‬‬
‫وبعد ثالثة أيام ال غري‪ ،‬كان راقدا يف بيته‪ ،‬وأهله من حوله يبكون‪..‬‬
‫وفتح عينيه عليهم يف طمأنينة سابغة وقال هلم‪:‬‬
‫علي‪ ،‬فاين مل أتنظف خبطيئة منذ أسلمت"‪!!..‬‬‫" ال تبكوا ّ‬
‫وقبل أن حيين رأسه على صدره‪ّ ،‬لوح به اىل أعلى‪ ،‬ملقيا على الدنيا حتيّة الوداع‪!!..‬‬
‫عمران بن حصني‬
‫شبيه املالئكة‬
‫‪ | 426‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عام خيرب‪ ،‬أقبل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبايعا‪..‬‬
‫ومنذ وضع‪ R‬ميينه يف ميني الرسول أصبحت يده اليمىن موضع تكرمي كبري‪ ،‬فآىل على نفسه أال‬
‫يستخدمها اال يف كل عمل طيّب‪ ،‬وكرمي‪..‬‬
‫حس دقيق‪.‬‬
‫هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من ّ‬

‫**‬

‫وعمران بن حصني رضي اهلل عنه صورة رضيّة من صور الصدق‪ ،‬والزهد‪ ،‬والورع‪ ،‬والتفاين وحب‬
‫اهلل وطاعته‪...‬‬
‫وان معه من توفيق اهلل ونعمة اهلدى لشيئا كثريا‪ ،‬ومع ذلك فهو ال يفتأ يبكي‪ ،‬ويبكي‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫" يا ليتين كنت رمادا‪ ،‬تذروه الرياح"‪!!..‬‬
‫ذلك أن هؤالء الرجال مل يكونوا خيافون اهلل بسبب ما يدركون من ذنب‪ ،‬فقلما كانت هلم بعد‬
‫اسالمهم ذنوب‪..‬‬
‫امنا كانوا خيافونه وخيشونه بقدر ادراكهم‪ R‬لعظمته وجالله‪،‬وبقدر ادراكهم حلقيقة عجزهم عن شكره‬
‫وعبادته‪ ،‬فمهما يضرعوا‪ ،‬ويركعوا‪ ،‬ومهما يسجدوا‪ ،‬ويعبدوا‪..‬‬
‫ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪ ،‬مالنا اذا كنا عندك رقت‪ R‬قلوبنا‪ ،‬وزهدنا دنيانا‪ ،‬وكأننا نرى اآلخرة رأي العني‪ ..‬حىت‬
‫اذا خرجنا من عندك‪ ،‬ولقينا أهلنا‪ ،‬وأوالدنا‪ ،‬ودنيانا‪ ،‬أنكرنا أنفسنا‪..‬؟؟"‬
‫فأجاهبم عليه السالم‪:‬‬
‫" والذي نفسي بيده‪ ،‬لو تدومون على حالكم عندي‪ ،‬لصافحتكم املالئكة عيانا‪ ،‬ولكن ساعة‪..‬‬
‫وساعة‪.‬‬
‫‪ | 427‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومسع عمران بن حصني هذا احلديث‪ .‬فاشتعلت أشواقه‪ ..‬وكأمنا آىل على نفسه أال يقعد دون تلك‬
‫الغاية اجلليلة ولو كلفته حياته‪ ،‬وكأمنا مل تقنع مهّته بأن حييا حياته ساعة‪ ..‬وساعة‪ ..‬فأراد أن تكون‬
‫كلها ساعة واحدة موصولة النجوى‪ R‬والتبتل هلل رب العاملني‪!!..‬‬

‫**‬

‫ويف خالفة أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب أرسله اخلليفة اىل البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم‪ ..‬ويف‬
‫ط رحاله‪ ،‬وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتربكون به‪ ،‬ويستضيؤن بتقواه‪.‬‬ ‫البصرة ح ّ‬
‫قال احلسن البصري‪ ،‬وابن سريين‪:‬‬
‫" ما قدم البصرة من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصني"‬
‫كان عمران يرفض أن يشغله عن اهلل وعبادته شاغل‪ ،‬استغرق يف العبادة‪ ،‬واستوعبته العبادة حىت صار‬
‫كأنه ال ينتمي اىل عامل الدنيا اليت يعيش فوق أرضها وبني ناسها‪..‬‬
‫أجل‪..‬‬
‫صار كأنه ملك حييا بني املالئكة‪ ،‬حيادثونه وحيادثهم‪ ..‬ويصافحونه ويصافحهم‪..‬‬

‫**‬

‫وملا وقع النزاع الكبري بني املسلمني‪ ،‬بني فريق علي وفريق معاوية‪ ،‬مل يقف عمران موقف احليدة‬
‫وحسب‪ ،‬بل راح يرفع صوته بني الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن االشرتاك‪ R‬يف تلك احلرب‪ ،‬حاضنا‬
‫قضية االسالم خري حمتضن‪ ..‬وراح‪ R‬يقول للناس‪:‬‬
‫ايل من أن أرمي يف أحد‬
‫أحب ّ‬
‫" ألن أرعى أعنزا حضنيات يف رأس جبل حىت يدركين املوت‪ّ ،‬‬
‫الفريقني بسهم‪ ،‬أخطأ أم أصاب"‪..‬‬
‫وكان يوصي من يلقاه من املسلمني قائال‪:‬‬
‫" الزم مسجدك‪..‬‬
‫‪ | 428‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فان دخل عليك‪ ،‬فالزم بيتك‪..‬‬


‫فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"‪..‬‬

‫**‬

‫وحقق اميان عمران بن حصني أعظم جناح‪ ،‬حني أصابه مرض موجع لبث معه ثالثني عاما‪ ،‬ما ضجر‬
‫أف‪..‬‬
‫منه وال قال‪ّ :‬‬
‫بل كان مثابرا على عبادته قائما‪ ،‬وقاعدا‪ R‬وراقدا‪..‬‬
‫وعواده أمر علته بكلمات مشجعة‪ ،‬ابتسم هلا وقال‪:‬‬
‫هون عليه اخوانه ّ‬ ‫وكان اذا ّ‬
‫أحب األشياء اىل نفسي‪ ،‬أحبها اىل اهلل"‪!!..‬‬
‫" ان ّ‬
‫وكانت وصيته ألهله واخوانه حني أدركه املوت‪:‬‬
‫" اذا رجعتم من دفين‪ ،‬فاحنروا وأطعموا"‪..‬‬

‫أجل لينحروا ويطعموا‪ ،‬فموت مؤمن مثل عمران بن حصني ليس موتا‪ ،‬امنا هو حف زفاف عظيم‪،‬‬
‫وجميد‪ ،‬تزف فيه روح عالية راضية اىل جنّة عرضها السموات واألرض‪ R‬أع ّدت للمتقني‪...‬‬

‫سلمة بن األكوع‬
‫بطل املشاة‬

‫أراد ابنه أيّاس أن يلخص فضائله يف عبارة واحدة‪.‬‬


‫فقال‪:‬‬
‫" ماكذب أيب قط"‪!!..‬‬
‫وحسب انسان أن حيرز هذه الفضيلة‪ ،‬ليأخذ مكانه العايل بني األبرار والصاحلني‪.‬‬
‫ولقد أحرزها سلمة بن األكوع وهو جدير هبا‪..‬‬
‫‪ | 429‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كان سلمة من رماة العرب املعدودين‪ ،‬وكان كذلك من املربزين يف الشجاعة والكرم وفعل اخلريات‪.‬‬
‫وحني أسلم نفسه لالسالم‪ ،‬أسلمها صادقا منيبا‪ ،‬فصاغها االسالم على نسقه العظيم‪.‬‬
‫وسلمة بن األكوع من أصحاب بيعة الرضوان‪.‬‬

‫**‬

‫حني خرج الرسول وأصحابه عام ست من اهلجرة‪ ،‬قاصدين زيارة البيت‪ R‬احلرام‪ ،‬وتص ّدت هلم‬
‫قلريش متنعهم‪.‬‬
‫أرسل النيب اليهم عثمان بن عفان ليخربهم أن النيب جاء زائرا ال مقاتال‪..‬‬
‫ويف انتظار عودة عثمان‪ ،‬سرت اشاعة بأن قريشا قد قتلته‪،‬وجلس الرسول يف ظل الشجرة يتلقى بيهة‬
‫أصحابه واحدا‪ R‬واحدا على املوت‪..‬‬
‫يقول سلمة‪:‬‬
‫" بايعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املوت حتت الشجرة‪ .،‬مث تنحيّت‪ ،‬فلما خف الناس قال يا‬
‫سلمة مالك ال تبايع‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬قد بايعت ي رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬وأبضا‪ ..‬فبايعته"‪.‬‬
‫ولقد وىف بالبعة خري وفاء‪.‬‬
‫بل وىف هبا قبل أن يعطيها‪ ،‬منذ شهد أن ال اله اال اهلل‪ ،‬وأن حممدا رسول اهلل‪..‬‬
‫يقول‪:‬‬
‫" غزوت مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومع زيد بن حارثة تسع غزوات"‪.‬‬

‫**‬

‫كان سلمة من أمهر الذين يقاتلون مشاة‪ ،‬ويرمون بالنبال والرماح‪،‬‬


‫‪ | 430‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت طريقته تشبه طريقة بعض حروب العصابات الكبرية اليت تتبع اليوم‪ ..‬فكان اذا هامجه عدوه‬
‫تقهقر دونه‪ ،‬فاذا أدبر العدو أو وقف يسرتيح هامجه يف غري هوادة‪..‬‬
‫وهبذه الطريقة استطاع أن يطارد وحده‪ ،‬القوة اليت أغارت على مشارف املدينة بقيادة عيينة بن حصن‬
‫الفزاري‪ R‬يف الغزوة املعروفة بغزو ذي قرد‪..‬‬
‫خرج يف أثرهم وحده‪ ،‬وظل يقاتلهم ويراوغهم‪ ،‬ويبعدهم عن املدينة حىت أدركه الرسول يف قوة وافرة‬
‫من أصحابه‪..‬‬
‫ويف هذا اليوم قال الرسول ألصحابه‪:‬‬
‫رجالتنا ‪ ،‬أي مشاتنا‪ ،‬سلمة بن األكوع"!!‬‫" خري ّ‬

‫**‬

‫ومل يعرف سلمة األسى واجلزع اال عند مصرع أخيه عامر بن األكوع يف حرب خيرب‪..‬‬
‫وكان عامر يرجتز أمام جيش املسلمني هاتفا‪:‬‬
‫هم لوال أنت ما اهتدينا‬ ‫ال ّ‬
‫وال تص ّدقنا وال صلّينا‬
‫فأنزلن سكينة علينا‬
‫وثبت األقدام‪ R‬ان القينا‬
‫ذوابته منه‬
‫يف تلك املعركة ذهب عامر يضرب بسيفه أحد املشركني فانثىن السيف يف يده وأصابت ّ‬
‫مقتال‪ ..‬فقال بعض املسلمني‪:‬‬
‫" مسكني عامر حرم الشهادة"‬
‫ظن كما ظن غريه أن أخاه وقد قتل نفسه خطأ قد حرم‬ ‫عندئذ ال غري جزع سلمة جزعا شديدا‪ ،‬حني ّ‬
‫أجر اجلهاد‪ ،‬وثواب الشهادة‪.‬‬
‫لكن الرسول الرحيم سرعان ما وضع األمرو يف نصاهبا حني ذهب اليه سلمة وقال له‪:‬‬
‫‪ | 431‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أصحيح يا رسول اهلل أن عامرا حبط عمله‪..‬؟‬


‫فأجابه الرسول عليه السالم‪:‬‬
‫" انه قتل جماهدا‬
‫وأن له ألجرين‬
‫وانه اآلن ليسبح‬
‫يف أهنار اجلنة"‪!!..‬‬
‫وكان سلمة على جوده املفيض أكثر ما يكون جوادا اذا سئل بوجه اهلل‪..‬‬
‫فلو أن انسانا سأله بوجه اهلل أن مينحه حياته‪ ،‬ملا تردد يف بذهلا‪.‬‬
‫ولقد عرف الناس منه ذلك‪ ،‬فكان أحدهم اذا أراد أن يظفر منه بشيء قال له‪:‬‬
‫" من مل يعط بوجه اهلل‪ ،‬فبم يعطي"‪..‬؟؟‬

‫**‬

‫ويوم قتل عثمان‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ ،‬أدرك اجملاهد الشجاع أن أبواب الفتنة قد فتحت على املسلمني‪.‬‬
‫وما كان له وهو الذي‪ R‬قضى عمره يقاتل بني اخوانه أن يتحول اىل مقاتل ضد اخوانه‪..‬‬
‫أجل ان الرجل الذي‪ R‬حيّا الرسول مهارته يف قتال املشركني‪ ،‬ليس من حقه أن يقاتل هبذه املهارة‬
‫مسلما‪..‬‬
‫ومن مثّ‪ ،‬فقد محل متاعه وغادر املدينة اىل الربدة‪ ..‬نفس املكان الذي اختاره أبو ذر من قبل مهاجرا له‬
‫ومصريا‪.‬‬
‫الر بدة عاش سلمة بقية حياته‪ ،‬حىت كان يوم عام أربعة وسبعني من اهلجرة‪ ،‬فأخذه السوق اىل‬ ‫ويف ّ‬
‫املدينة فسافر اليها زائرا‪ ،‬وقضى هبا يوما‪ ،‬وثانيا‪..‬‬
‫ويف اليوم الثالث‪ R‬مات‪.‬‬
‫‪ | 432‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ليضمه حتت جواحنه ويؤويه مع من آوى قبله من الرفاق املباركني‪،‬‬


‫وهكذا ناداه ثراها احلبيب الرطيب‪ّ R‬‬
‫والشهداء الصاحلني‪.‬‬

‫عبداهلل بن الزبري‬
‫أي رجل وأي شهيد‬

‫كان جنينا مباركا يف بطن أمه‪ ،‬وهي تقطع الصحراء الالهبة مغادرة مكة اىل املدينة على طريق‬
‫اهلجرة العظيم‪.‬‬
‫هكذا ق ّدر‪ R‬لعبداهلل بن الزبري أن يهاجر مع املهاجرين وهو مل خيرج اىل الدنيا بعد‪ ،‬ومل تشقق عنه‬
‫األرحام‪!!..‬‬
‫وما كادت أمه أمساء رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬تبلغ قباء عند مشارف املدينة‪ ،‬حىت جاءها املخاض‬
‫ونزل املهاجر اجلنني اىل أرض املدينة يف نفس الوقت‪ R‬الذي كان ينزهلا املهلجرون من أصحاب رسول‬
‫اهلل‪!!..‬‬
‫ومحل أول مولود يف اهلجرة اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف داره باملدينة مقبّله وحنّكه‪ ،‬وكان‬
‫أول شيء دخل جوف عبداهلل بن الزبري ريق النيب الكرمي‪.‬‬
‫طوفوا به يف شوارع املدينة كلها مهللني‬
‫واحتشد املسلمون يف املدينة‪ ،‬ومحلوا الوليد‪ R‬يف مهده‪ ،‬مث ّ‬
‫مكرّب ين‪.‬‬
‫ذلك أن اليهود حني نزل الرسول وأصحابه املدينة كبتوا واشتعلت أحقادهم‪ ،‬وبدؤا حرب األعصاب‬
‫ضد املسلمني‪ ،‬فأشاعوا أن كهنتهم قد سحروا املسلمني وسلطوا عليهم العقم‪ ،‬فلن تشهد املدينة منهم‬
‫وليدا جديدا‪..‬‬
‫‪ | 433‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أهل عبداهلل بن الزبري عليهم من عامل الغيب‪ ،‬كان وثيقة دمغ هبا القدر افك يهود املدينة وأبطل‬
‫فلما ّ‬
‫كيدهم وما يفرتون‪!!..‬‬
‫ان عبداهلل مل يبلغ مبلغ الرجال يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬ولكنه تلقى من ذلك العهد‪،‬‬
‫ومن الرسول نفسه حبكم اتصاله الوثيق به‪ ،‬كل خامات رجولته ومبادئ حياته اليت سنراها فيما بعد‬
‫ملء الدنيا وحديث الناس‪..‬‬
‫منوا سريعا‪ ،‬وكان خارقا يف حيويته‪ ،‬وفطنته وصالبته‪..‬‬
‫لقد راح الطفل ينمو ّ‬
‫وارتدى‪ R‬مرحلة الشباب‪ ،‬فكان شبابه طهرا‪ ،‬وعفة ونسكا‪ ،‬وبطولة تفوق اخليال‪..‬‬
‫ومضى مع أيامه وقدره‪ ،‬ال تتغرّي خالئقه وال تنبوبه رغائبه‪ ..‬امنا هو رجل يعرف طريقه‪ ،‬ويقطعه‬
‫بعزمية جبارة‪ ،‬واميان وثيق وعجيب‪..‬‬

‫**‬

‫ويف فتح افريقية واألندلس‪ ،‬والقسطنطينية‪ .‬كان وهو مل جياوز السابعة والعشرين بطال من أبطال‬
‫الفتوح اخلالدين‪..‬‬
‫ويف معركة افريقية بالذات وقف املسلمون يف عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة‬
‫وعشرون ألفا‪..‬‬
‫ودار القتال‪ ،‬وغشي املسلمني خطر عظيم‪..‬‬
‫وألقى عبد اهلل بن الزبري نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوهتم‪ .‬وما كان هذا املصدر سوى‬
‫ملك الرببر وقائد اجليش‪ ،‬يصيح يف جنوده وحيرضهم بطريقة تدفعهم‪ R‬اىل املوت دفعا عجيبا‪..‬‬
‫وأدرك عبداهلل أن املعركة الضارية لن حيسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد‪..‬‬
‫ولكن أين السبيل اليه‪ ،‬ودون بلوغه جيش جلب‪ ،‬يقاتل كاالعصار‪..‬؟؟‬
‫بيد أن جسارة ابن الزبري واقدامه مل يكونا موضع تساؤول قط‪!!..‬‬
‫هنالك نادى بعض اخوانه‪ ،‬وقال هلم‪:‬‬
‫‪ | 434‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" امحوا ظهري‪ ،‬واهجموا معي"‪...‬‬


‫كرة واحدة فهوى‪ ،‬مث‬ ‫وشق الصفوف املتالمحة كالسهم‪ R‬صامدا‪ R‬حنو القائد‪ ،‬حىت اذا بلغه‪ ،‬هو عليه يف ّ‬
‫استدار مبن معه اىل اجلنود الذين كانوا حييطون مبلكهم وقائدهم‪ R‬فصرعوهم‪ ..‬مث صاحوا اهلل أكرب‪..‬‬
‫وحيرض جيشه‪ ،‬فأدركوا‪ R‬أنه‬ ‫ورأى املسلمون رايتهم ترتفع‪ ،‬حيث كان يقف قائد الرببر يصدر أوامره ّ‬
‫النصر‪ ،‬فش ّدوا‪ R‬ش ّدة رجل واحدة‪ ،‬وانتهى كل شيء لصاحل املسلمني‪..‬‬
‫وعلم قائد اجليش املسلم عبداهلل بن أيب سرح بالدور العظيم الذي‪ R‬قام به ابن الزبري فجعل مكافأته أن‬
‫حيمل بنفسه بشرة النصر اىل املدينة واىل خليفة املسلمني عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪..‬‬

‫**‬

‫على أن بطولته يف القتال كانت برغم تفوقها واعجازها تتوارى أمام بطولته يف العبادة‪.‬‬
‫فهذا الذي‪ R‬ميكن أن يبتعث فيه الزهو‪ ،‬وثين األعطاف‪ ،‬أكثر من سبب‪ ،‬يذهلنا مبكانه الدائم والعايل‬
‫بني الناسكني العابدين‪..‬‬
‫فال حسبه‪ ،‬وال شبابه‪ ،‬وال مكانته ورفعته‪ ،‬وال أمواله وال قوته‪..‬‬
‫ال شيء من ذلك كله‪ ،‬استطاع أن حيول بني عبداهلل بن الزبري وبني أن يكون العابد الذي يصوم يومه‪،‬‬
‫ويقوم ليله‪ ،‬وخيشع هلل خشوعا يبهر األلباب‪.‬‬
‫قال عمر بن عبدالعزيز يوما البن أيب مليكة‪:‬صف لنا عبداهلل بن الزبري‪..‬فقال‪:‬‬
‫" واهلل ما رأيت نفسا ركبت بني جنبني مثل نفسه‪..‬‬
‫ولقد كات يدخل يف الصالة فيخرج من كل شيء اليها‪..‬‬
‫وكان يركع أو يسجد‪ ،‬فتقف العصافري فوق ظهره وكاهله‪،‬‬
‫ال حتسبه من طول ركوعه وسجوده اال جدارا‪ ،‬أو ثوبا مطروحا‪..‬‬
‫أحس هبا وال اهتز هلا‪ ،‬وال قطع من‬
‫مرت قذيفة منجنيق بني حليته وصدره وهو يصلي‪ ،‬فواهلل ما ّ‬ ‫ولقد ّ‬
‫أجلها قراءته‪ ،‬وال تعجل ركوعه"‪!!..‬‬
‫‪ | 435‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ان األنباء الصادقة اليت يرويها التاريخ عن عبادة ابن الزبري لشيء يشبه األساطري‪..‬‬
‫علو مهّته‪ ،‬وشرف نفسه‪..‬‬‫فهو يف صيامه‪ ،‬ويف صالته‪ ،‬ويف حجه‪ ،‬ويف ّ‬
‫يف سهره طوال العمر‪ R‬قانتا وعبدا‪..‬‬
‫ويف ظمأ اهلواجر طوال عمره صائما جماهدا‪..‬‬
‫ويف اميانه الوثيق باهلل‪ ،‬ويف خشيته الدامشة له‪..‬‬
‫هو يف كل هذا نسيج وحده‪!..‬‬
‫سئل عنه ابن عباس فقال على الرغم مما كان بينهما من خالف‪:‬‬
‫حواري‬
‫ّ‬ ‫" كان قارئا لكتاب اهلل‪ ،‬متبعا سنة رسوله‪ ..‬قانتا هلل‪ ،‬صائما يف اهلواجر من خمافة اهلل‪ ..‬ابن‬
‫رسول اهلل‪ ..‬وأمه أمساء بنت الصديق‪ ..‬وخالته عائشة زوجة رسول اهلل‪ ..‬فال جيهل حقه اال من أعماه‬
‫اهلل"‪!!..‬‬

‫**‬

‫وهو يف قوة خلقه وثبات سجاياه‪ ،‬يزري بثبات اجلبال‪..‬‬


‫واضح شريف قوي‪ ،‬على استعداد دائم ألن يدفع حياته مثنا لصراحته واستقامة هنجه‪..‬‬
‫أثناء نزاعه مع األمويني زاره احلصني بن منري قائد اجليش الذي‪ R‬أرسله يزيد المخاد ثورة بن الزبري‪..‬‬
‫زاره اثر وصول األنباء اىل مكة مبوت يزيد‪..‬‬
‫وعرض عليه أن يذهب معه اىل الشام‪ ،‬ويستخدم احلصني نفوذه العظيم هناك يف أخذ البيعة البن‬
‫الزبري‪..‬‬
‫فرفض عبداهلل هذه الفرصة الذهبية‪،‬ألنه كان مقتنعا بضرورة القصاص من جيش الشام‪ R‬جزاء اجلرائم‬
‫البشعة اليت ارتكبها رجاله من خالل غزوهم الفاجر للمدينة‪ ،‬خدمة ألطماع األمويني‪..‬‬
‫‪ | 436‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قد خنتلف مع عبداهلل يف موقفه هذا‪ ،‬وقد نتمىن لو أنه آثر السالم والصفح‪ ،‬واستجاب للفرصة النادرة‬
‫اليت عرضها عليه احلصني قائد يزيد‪..‬‬
‫ولكن وقفة الرجل أي رجل‪ ،‬اىل جانب اقتناعه واعتقاده‪ ..‬ونبذه اخلداع والكذب‪ ،‬أمر يستحق‬‫ّ‬
‫االعجاب واالحرتام‪..‬‬

‫وعندما هامجه احلجاج جبيشه‪ ،‬وفرض عليه ومن معه حصارا رهيبا‪ ،‬كان من بني جنده فرقة كبرية‬
‫من األحباش‪ ،‬كانوا من أمهر الرماة واملقاتلني‪..‬‬
‫ولقد مسعهم يتحدثون عن اخلليفة الراحل عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬حديثا ال ورع فيه وال انصاف‪،‬‬
‫أحب أن أستظهر على عدوي مبن يبغض عثمان"‪!!..‬‬ ‫فعنّفهم وقال هلم‪ ":‬واهلل ما ّ‬
‫مث صرفهم عنه يف حمنة هو فيها حمتاج للعون‪ ،‬حاجة الغريق اىل أمل‪!!..‬‬
‫ان وضوحه مع نفسه‪ ،‬وصدقه مع عقيدته ومبادئه‪ ،‬جعاله ال يبايل بأن خيسر مائتني من أكفأ الرماة‪ ،‬مل‬
‫يعد دينهم موضع ثقته واطمئنانه‪ ،‬مع أنه يف معركة مصري طاحنة‪ ،‬وكان من احملتمل كثريا أن يغري‬
‫اجتاهها بقاء هؤالء الرماة األكفاء اىل جانبه‪!!..‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬كان صموده يف وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة حقا‪..‬‬
‫فقد كا يرى أن يزيد بن معاوية بن أيب سفيان آخر رجل يصلح خلالفة املسلمني‪ ،‬ان كان يصلح على‬
‫االطالق‪ ..‬هو حمق يف رأيه‪ ،‬فـ يزيد هذا كان فاسدا‪ R‬يف كل شيء‪ ..‬مل تكن له فضيلة واحدة تشفع‬
‫جلرائمه وآثامه اليت رواها النا التاريخ‪..‬‬
‫فكيف يبايعه ابن الزبري؟؟‬
‫لقد قال كلمة الرفض‪ R‬قوية صادعة ملعاوية وهو حي‪..‬‬
‫بشر مصري‪..‬‬
‫وها هو ذا يقوهلا ليزيد بعد أن صار خليفة‪ ،‬وأرسل اىل ابن الزبري يتوعده ّ‬
‫‪ | 437‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هناك قال ابن لزبر‪:‬‬


‫" ال أبايع الس ّكري أبدا"‪.‬‬
‫مث أنشد‪:‬‬
‫حىت يلني لضرس املاضغ احلجر‬ ‫وال الني لغري احلق أساله‬

‫**‬

‫املكرمةعاصمة خالفته‪ ،‬باسطا حكمه على احلجاز‪،‬‬ ‫وظل ابن الزبري أمريا للمؤمنني‪ ،‬متخذا‪ R‬من مكة ّ‬
‫واليمن والبصرة الكوفة وخراسان والشام‪ R‬كلها ما عدا دمشق بعد أن بايعه أهل األمصار‪ R‬مجيعا‪..‬‬
‫يقر قرارهم‪ ،‬وال يهدأ باهلم‪ ،‬فيشنون عليه حروبا موصولة‪ ،‬يبوءون يف أكثرها‬
‫ولكن األمويني ال ّ‬
‫باهلزمية واخلذالن‪..‬‬
‫حىت جاء عهد عبدامللك بن مروان حني ندب ملهامجة عبداهلل يف مكة واحدا من أشقى بين آدم‬
‫وأكثرهم ايغاال يف القسوة واالجرام‪..‬‬
‫ذلكم هو احلجاج الثقفي الذي قال عنه االمام العادل عمر بن عبدالعزيز‪:‬‬
‫" لو جاءت كل أمة خبطاياها‪ ،‬وجئنا حنن باحلجاج وحده‪ ،‬لرجحناهم مجيعا"‪!!..‬‬

‫**‬

‫ذهب احلجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزومكة عاصمة ابن الزبري‪ ،‬وحاصرها وأهلها قرابة ستة‬
‫أشهر مانعا عن الناس املاء والطعام‪ ،‬كي حيملهم على ترك عبداهلل بن الزبري وحيدا‪ ،‬بال جيش وال‬
‫أعوان‪.‬‬
‫وحتت وطأة اجلوع القاتل استسلم األكثرون‪ ،‬ووجد عبداهلل نفسه‪ ،‬وحيدا أو يكاد‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫أن فرص النجاة بنفسه وحبياته كانت ال تزال مهيأة له‪ ،‬فقد قرر أن حيمل مسؤوليته اىل النهاية‪ ،‬وراح‪R‬‬
‫يقاتل جيش احلجاج يف شجاعة أسطورية‪ ،‬وهو يومئذ يف السبعني من عمره‪!!..‬‬
‫‪ | 438‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولن نبصر صورة أمينةلذلك املوقف الفذ‪ R‬اال اذا اصغينا للحوار الذي‪ R‬دار بني عبداهلل وأمه‪ .‬العظيمة‬
‫اجمليدة أمساء بنت أيب بكر يف تلك الساعات األخرية من حياته‪.‬‬
‫لقد ذهب اليها‪ ،‬ووضع أمامها صورة دقيقة ملوقفه‪ ،‬وللمصري الذي‪ R‬بدأ واضحا أنه ينتظره‪..‬‬
‫قالت له أمساء‪:‬‬
‫بين ‪ :‬أنت أعلم بنفسك‪ ،‬ان كنت تعلم أنك على حق‪ ،‬وتدعو اىل حق‪ ،‬فاصرب عليه حىت متوت يف‬ ‫" يا ّ‬
‫سبيله‪ ،‬وال مت ّكن من رقبتك غلمان بين أميّة‪..‬‬
‫وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا‪ ،‬فلبئس العبد‪ R‬أنت‪ ،‬أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك‪.‬‬
‫قل عبد اهلل‪:‬‬
‫" واهلل يا ّأماهىما أردت الدنيا‪ ،‬وال ركنت اليها‪.‬‬
‫وما جرت يف حكم اهلل أبدا‪ ،‬وال ظلمت وال غدرت"‪..‬‬
‫قالت أمه أمساء‪:‬‬
‫" اين ألرجو أن يكون عزائي فيك حسنا ان سبقتين اىل اهلل أو سبقتك‪.‬‬
‫وبره بأبيه ويب‪..‬‬
‫اللهم ارحم طول قيامه يف الليل‪ ،‬وظمأه يف اهلواجر‪ّ ،‬‬
‫اللهم اين اسلمته ألمرك فيه‪ ،‬ورضيت مبا قضيت‪ ،‬فأثبين يف عبداهلل بن الزبري ثواب الصابرين‬
‫الشاكرين‪"!.‬‬
‫وتبادال معا عناق الوداع وحتيته‪.‬‬
‫وبعد ساعة من الزمان انقضت يف قتال مرير غري متكافئ‪ ،‬تلقى الشهيد العظيم ضربة املوت‪ ،‬يف وقت‬
‫استأثر احلجاج فيه بكل ما يف األرض‪ R‬من حقارة ولؤم‪ ،‬فأىب اال أن يصلب اجلثمان اهلامد‪ ،‬تشفيا‬
‫وخسة‪!!..‬‬
‫ّ‬

‫**‬

‫وقامت‪ R‬أمه‪ ،‬وعمره يومئذ سبع وتسعون سنة‪ ،‬قامت لرتى‪ R‬ولدها املصلوب‪.‬‬
‫‪ | 439‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكالطود الشامخ وقفت جتاهه ال ترمي‪ ..‬واقرتب احلجاج منها يف هوان وذلة قائال هلا‪:‬‬
‫يا أماه‪ ،‬ان أمري املؤمنني عبدامللك بن مروان قد أوصاين بك خريا‪ ،‬فهل لك من حاجة‪..‬؟‬
‫فصاحت به قائلة‪:‬‬
‫" لست لك بأم‪..‬‬
‫امنا أنا أم هذا املصلوب على الثنيّة‪..‬‬
‫وما يب اليكم حاجة‪..‬‬
‫ولكين أحدثك حديثا مسعته من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ ":‬خيرج من ثقيف كذاب‬
‫ومبري"‪..‬‬
‫فأما الكذاب فقد رأيناه‪ ،‬وأما املبري‪ ،‬فال أراه اال أنت"!!‬
‫واقدم منها عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنه معزيا‪ ،‬وداعيا اياها اىل الصرب‪ ،‬قأجابته قائلة‪:‬‬
‫بغي من بغايا بين اسرائيل"‪!!..‬‬
‫" وماذا مينعين من الصرب‪ ،‬وقد أهدي رأس حيىي بن زكريا اىل ّ‬
‫يا لعظمتك يا ابنة الص ّديق‪!!..‬‬
‫أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبداهلل بن الزبري عن رأسه قبل أن يصلبوه‪..‬؟؟‬
‫أجل‪ ..‬ان يكن رأس ابن الزبري قد ق ّدم هديّة للحجاج وعبدامللك‪ ..‬فان رأس نيب كرمي هو حيىي عليه‬
‫بغي حقرية من بين اسرائيل!!‬‫السالم قد قدم من قبل هدية لـ سالومي‪ّ ..‬‬
‫ما أروع التشبيه‪ ،‬وما أصدق الكلمات‪.‬‬

‫**‬

‫التفوق‪ ،‬والبطولة‬
‫وبعد‪ ،‬فهل كان ميكن لعبداهلل بن الزبري أن حييا حياته دون هذا املستوى البعيد من ّ‬
‫والصالح‪ ،‬وقد رضع‪ R‬لبان أم من هذا الطراز‪..‬؟؟‬
‫سالم على عبداهلل‪..‬‬
‫‪ | 440‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وسالم على أمساء‪..‬‬


‫سالم عليهما يف الشهداء اخلالدين‪..‬‬
‫وسالم عليهما يف األبرار املتقني‪.‬‬

‫عبداهلل بن عباس‬
‫حرب هذه األمة‬

‫يشبه ابن عباس‪ ،‬عبداهلل بن الزبري يف أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غالم‪ ،‬ومات الرسول قبل أن‬
‫سن الرجولة‪.‬‬
‫يبلغ ابن عباس ّ‬
‫لكنه هو اآلخر تلقى يف حداثته كل خامات الرجولة‪ ،‬ومبادئ حياته من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم الذي كان يؤثره‪ ،‬ويزكيه‪ ،‬ويعلّمه احلكمة اخلالصة‪.‬‬
‫وبقوة اميانه‪ ،‬وقوة خلقه‪ ،‬وغزارة علمه‪ ،‬اقتعد ابن عباس رضي اهلل عنه مكانا عاليا بني الرجال حول‬
‫الرسول‪.‬‬

‫**‬

‫هو ابن العباس بن عبد املطلب بن هاشم‪ ،‬عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ولقبه احلرب‪ ..‬حرب هذه األمة‪ ،‬هيأه هلذا اللقب‪ ،‬وهلذه املنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه‪ ،‬واتساع معارفه‪.‬‬
‫لقد عرف ابن عباس طريق حياته يف أوليات أيامه وازداد هبا معرفة عندما رأى الرسول عليه الصالة‬
‫والسالم يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول‪:‬‬
‫" اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل"‪.‬‬
‫مث توالت املناسبات والفرص‪ R‬اليت يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته البن عمه عبداهلل بن عباس‪..‬‬
‫وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم‪ ،‬واملعرفة‪.‬‬
‫وكان استعداده العقلي يدفعه يف هذا الطريق دفعا قويا‪.‬‬
‫‪ | 441‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فعلى الرغم من أنه مل يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول اهلل‪ ،‬فانه مل يصنع من‬
‫طفولته الواعية يوما دون أن يشهدجمالس الرسول وحيفظ عنه ما يقول‪..‬‬
‫وبعد ذهاب الرسول اىل الرفيق األعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقني‬
‫ما فاته مساعه وتعلمه من الرسول نفسه‪..‬‬
‫هنالك‪ ،‬جعل من نفسه عالمة استفهام دائمة‪ ..‬فال يسمع أن فالنا يعرف حكمة‪ ،‬أو حيفظ حديثا‪ ،‬اال‬
‫سارع اليه وتعلم منه‪..‬‬
‫وكان عقله املضيء الطموح‪ R‬يدفعه لفحص كل ما يسمع‪ ..‬فهو ال يغىن جبمع املعرفة فحسب‪ ،‬بل‬
‫ويغىن مع مجعها بفحصها وفحص مصادرها‪..‬‬
‫يقول عن نفسه‪:‬‬
‫" ان كنت ألسأل عن األمر الواحد‪ R،‬ثالثني من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬
‫ويعطينا صورة حلرصه على ادراكه احلقيقة واملعرفة فيقول‪:‬‬
‫" ملا قبض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قلت لفىت من األنصار‪:‬‬
‫هلم فلنسأل أصحاب رسول اهلل‪ ،‬فاهنم اليوم كثري‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فقال‪ :‬يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك‪ ،‬وفيهم من أصحاب رسول اهلل من‬
‫ترى‪..‬؟؟‬
‫فرتك ذلك‪ ،‬وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول اهلل‪ ..‬فان كان ليبلغين احلديث عن الرجل‪ ،‬فآيت اليه‬
‫علي من الرتاب‪ ،‬حىت ينتهي من مقيله‪،‬‬ ‫فأتوسد ردائي على بابه‪ ،‬يسفي الريح ّ‬ ‫وهو قائل يف الظهرية‪ّ ،‬‬
‫ايل فآتيك‪..‬؟؟ فأقول ال‪،‬‬
‫وخيرج فرياين‪ ،‬فيقول‪ :‬يا ابن عم رسول اهلل ما جاء بك‪..‬؟؟ هال أرسلت ّ‬
‫أنت أحق بأن أسعى اليك‪ ،‬فأسأله عنه احلديث وأتعلم منه"‪!!..‬‬
‫هكذا راح فتانا العظيم يسأل‪ ،‬ويسأل‪ ،‬ويسأل‪ ..‬مث يفحص االجابة مع نفسه‪ ،‬ويناقشها بعقل جريء‪.‬‬
‫‪ | 442‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الغض حكمة الشيوخ‪R‬‬


‫وهو يف كل يوم‪ ،‬تنمو معارفه‪ ،‬وتنمو حكمته‪ ،‬حىت توفرت له يف شبابه ّ‬
‫وأناهتم‪ ،‬وحصافتهم‪ ،‬وحىت كان أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه حيرص على مشورته يف كل أمر‬
‫كبري‪ ..‬وكان يلقبه بفىت الكهول‪!!..‬‬
‫سئل ابن عباس يوما‪ ":‬أىّن أصبت هذا العلم"‪..‬؟‬
‫فأجاب‪:‬‬
‫" بلسام سؤل‪..‬‬
‫وقلب عقول"‪..‬‬
‫فبلسانه املتسائل دوما‪ ،‬وبعقله الفاحص أبدا‪ ،‬مث بتواضعه ودماثة خلقه‪ ،‬صار ابن عباس" حرب هذه‬
‫األمة‪..‬‬
‫ويصفه سعد بن أيب وقاص هبذه الكلمات‪:‬‬
‫" ما رأيت أحدا أحضر فهما‪ ،‬وال أكرب لبّا‪ ،‬وال أكثر علما‪ ،‬وال أوسع حلما من ابن عباس‪..‬‬
‫ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضالت‪ ،‬وحوله أهل بدر من املهاجرين واألنصار فيتحدث ابن عباس‪،‬‬
‫وال جياوز عمر قوله"‪..‬‬
‫وحتدث عنه عبيد بن عتبة فقال‪:‬‬
‫" ما رأيت أحدا كان أعلم مبا سبقه من حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من ابن عباس‪..‬‬
‫وال رأيت أحدا‪ ،‬أعلم بقضاء أيب بكر وعمر وعثمان منه‪..‬‬
‫وال أفقه يف رأي منه‪..‬‬
‫وال أعلم بشعر وال عربية‪ ،‬وال تفسري للقرآن‪ ،‬وال حبساب وفريضة منه‪..‬‬
‫ولقد كان جيلس يوما للفقه‪ ..‬ويوما للتأويل‪ ..‬يوما للمغازي‪ ..‬ويوما للشعر‪ ..‬ويوم أليام العرب‬
‫وأخبارها‪..‬‬
‫وما رأيت عاملا جلس اليه اال خضع له‪ ،‬وال سائال اال وجد عنده علما"‪!!..‬‬

‫**‬
‫‪ | 443‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫علي ابن أيب طالب‪،‬‬


‫ووصفه مسلم من أهل البصرة‪ ،‬وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها لالمام ّ‬
‫فقال‪:‬‬
‫" انه آخذ بثالث‪ ،‬تارك لثالث‪..‬‬
‫آخذ بقلوب الرجال اذا ح ّدث‪..‬‬
‫وحبسن االستماع اذا ح ّدث‪..‬‬
‫وبأيسر األمرين اذا خولف‪..‬‬
‫وتارك املراء‪..‬‬
‫ومصادقة اللئام‪..‬‬
‫وما يعتذر منه"‪!!..‬‬

‫**‬

‫تنو ع ثقافته‪ ،‬ومشول معرفته ما يبهر األلباب‪ ..‬فهو احلرب احلاذق الفطن يف كل علم‪ ..‬يف تفسري‬‫وكان ّ‬
‫القرآن وتأويله ويف الفقه‪ ..‬ويف التاريخ‪ ..‬ويف لغة العرب وآداهبم‪ ،‬ومن مثّ فقد كان مقصد الباحثني‬
‫عن املعرفة‪ ،‬يأتيه الناس أفواجا من أقطار االسالم‪ ،‬ليسمعوا منه‪ ،‬وليتفقهوا عليه‪..‬‬
‫ح ّدث أحد أصحابه ومعاصريه فقال‪:‬‬
‫" لقد رأيت من ابن عباس جملسا‪ ،‬لو أن مجيع قريش فخرت به‪ ،‬لكان هلا به الفخر‪..‬‬
‫رأيت الناس اجتمعوا‪ R‬على بابه حىت ضاق هبم الطريق‪ ،‬فما كان أحد يقدر أن جييء وال أن يذهب‪..‬‬
‫فدخلت عليه فأخربته مبكاهنم على بابه‪ ،‬فقال يل‪ :‬ضع يل وضوءا‪ ،‬فتوضأ وجلس وقال‪ :‬أخرج اليهم‪،‬‬
‫فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله‪..‬فخرجت فآذنتهم‪ :‬فدخلوا حىت ملؤا البيت‪ ،‬فما سالوا‬
‫عن شيء اال اخربهم وزاد‪..‬‬
‫مث قال هلم‪ :‬اخوانكم‪ ..‬فخرجوا ليفسحوا لغريهم‪.‬‬
‫‪ | 444‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث قال يل‪ :‬أخرج فادع من يريد أن يسأل عن احلالل واحلرام‪..‬‬


‫فخرجت فآذنتهم‪ :‬فدخلوا حىت ملؤا البيت‪ ،‬فما سألوا عن شيء اال أخربهم وزادهم‪..‬‬
‫مث قال‪ :‬اخوانكم‪ ..‬فخرجوا‪..‬‬
‫مث قال يل‪ :‬ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض‪ ،‬فآذنتهم‪ ،‬فدخلوا حىت ملؤا البيت‪ ،‬فما سألوه عن‬
‫شيء اال أخربهم وزادهم‪..‬‬
‫مث قال يل‪ :‬ادع من يريد أن يسال عن العربية‪ ،‬والشعر‪..‬‬
‫فآذنتهم فدخلوا حىت ملؤا البيت‪ ،‬فما سألوه عن شيء اال أخربهم وزادهم"!!‬

‫وكان ابن عباس ميتلك اىل جانب ذاكرته القوية‪ ،‬بل اخلارقة‪ ،‬ذكاء نافذا‪ ،‬وفطنة بالغة‪..‬‬
‫كانت حجته كضوء الشمس ألقا‪ ،‬ووضوحا‪ ،‬وهبجة‪ ..‬وهو يف حواره ومنطقه‪ ،‬ال يرتك خصمه‬
‫مفعما باالقتناع وحسب‪ ،‬بل ومفعما بالغبطة من روعة املنطق وفطنة احلوار‪..‬‬
‫ومع غزارة علمه‪ ،‬ونفاذ حجته‪ ،‬مل يكن يرى يف احلوار واملناقشة معركة ذكاء‪ ،‬يزهو فيها بعلمه‪ ،‬مث‬
‫بانتصاره على خصمه‪ ..‬بل كان يراها سبيال قوميا لرؤية الصواب‪ R‬ومعرفته‪..‬‬
‫روع اخلوارج مبنطقه الصارم العادل‪..‬‬ ‫ولطاملا ّ‬
‫وجه‬
‫كرم اهلل وجهه ذات يوم اىل طائفة كبرية منهم فدار‪ R‬بينه وبينهم حوار رائع‪ّ R‬‬ ‫علي ّ‬
‫بعث به االمام ّ‬
‫فيه احلديث وساق احلجة بشكل يبهر األلباب‪..‬‬
‫ومن ذلك احلوار الطويل نكتفي هبذه الفقرة‪..‬‬
‫سأهلم ابن عباس‪:‬‬
‫علي‪..‬؟"‬
‫" ماذا تنقمون من ّ‬
‫قالوا‪:‬‬
‫" ننتقم منه ثالثا‪:‬‬
‫أوالهن‪ :‬أنه ح ّكم الرجال يف دين اهلل‪ ،‬واهلل يقول ان احلكم اال هلل‪..‬‬
‫ّ‬
‫‪ | 445‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫والثانية‪ :‬أنه قاتل‪ ،‬مث مل يأخذ من مقاتليه سبيا وال غنائم‪ ،‬فلئن كانوا كفارا‪ ،‬فقد حلّت أمواهلم‪ ،‬وان‬
‫حرمت عليه دماؤهم‪!!..‬‬ ‫كانوا مؤمنني فقد ّ‬
‫والثالثة‪ :‬رضي عند التحكيم‪ R‬أن خيلع عن نفسه صفة أمري املؤمنني‪ ،‬استجابة ألعدائه‪ ،‬فان مل يكن امري‬
‫املؤمنني‪ ،‬فهو أمري الكافرين‪"..‬‬
‫وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال‪:‬‬
‫فأي بأس‪..‬؟‬
‫" أما قولكم‪ :‬انه ح ّكم الرجال يف دين اهلل‪ّ ،‬‬
‫ان اهلل يقول‪ :‬يا أيها الذين آمنوا‪ ،‬ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم‪ ،‬ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما‬
‫قتل من النعم‪ R‬حيكم به ذوا عدل منكم‪..‬‬
‫فنبؤين باهلل‪ :‬أحتكيم الرجال يف حقن دماء املسلمني أحق وأوىل‪ ،‬أم حتكيمهم يف أرنب مثنها‬
‫درهم‪..‬؟؟!!‬
‫وتلعثم زعماؤهم حتت وطأة هذا املنطق الساخر واحلاسم‪ ..‬واستأنف حرب األمة حديثه‪:‬‬
‫" وأما قولكم‪ :‬انه قاتل فلم يسب ومل يغنم‪ ،‬فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم‬
‫املؤمنني سبيا‪ ،‬ويأخذ أسالهبا غنائم‪..‬؟؟‬
‫وهنا كست وجوههم صفرة اخلحل‪ ،‬وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم‪..‬‬
‫وانتقل ابن عباس اىل الثالثة‪:‬‬
‫" وأما قولكم‪ :‬انه رضي أن خيلع عن نفسه صفة أمري املؤمنني‪ ،‬حىت يتم التحكيم‪ ،‬فامسعوا ما فعله‬
‫الرسول يوم احلديبية‪ ،‬اذ راح ميلي الكتاب الذي‪ R‬يقوم بينه وبني قريش‪ ،‬فقال للكاتب‪ :‬اكتب‪ .‬هذا ما‬
‫قاضى عليه حممد‪ R‬رسول اهلل‪ .‬فقال مبعوث قريش‪ :‬واهلل لو كنا نعلم أنك رسول اهلل ما صددناك عن‬
‫البيت وال قاتلناك‪..‬‬
‫فاكتب‪ :‬هذا ما قاضى عليه حممد بن عبداهلل‪ ..‬فقال هلم الرسول‪ :‬واهلل اين لرسول اهلل وان كذبتم‪ ..‬مث‬
‫قال لكاتب الصحيفة‪ :‬أكتب ما يشاءون‪ :‬اكتب‪ :‬هذا ما قاضى عليه حممد بن عبداهلل"‪!!..‬‬
‫واستمر احلوار‪ R‬بني ابن عباس واخلوارج‪ R‬على هذا النسق الباهر املعجز‪ ..‬وما كاد ينتهي النقاش بينهم‬
‫ّ‬
‫علي‪!!..‬‬
‫حىت هنض منهم عشرون ألفا‪ ،‬معلنني اقتناعهم‪ ،‬ومعلنني خروجهم من خصومة االمام‪ّ R‬‬
‫‪ | 446‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫ومل يكن ابن عباس ميتلك هذه الثروة الكربى من العلم فحسب‪ .‬بل كان ميتلك معها ثروة أكرب‪ ،‬من‬
‫أخالق العلم وأخالق العلماء‪.‬‬
‫فهو يف جوده وسخائه امام وعلم‪..‬‬
‫انه ليفيض على الناس من ماله‪ ..‬بنفس السماح‪ R‬الذي يفيض به عليهم من علمه‪!!..‬‬
‫ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون‪:‬‬
‫" ما رأينا بيتا أكثر طعاما‪ ،‬وال شرابا‪ ،‬وال فاكهة‪ ،‬وال علما من بيت ابن عباس"‪!!..‬‬
‫نقي النفس‪ ،‬ال حيمل ألحد ضغنا وال غال‪.‬‬ ‫وهو طاهر القلب‪ّ ،‬‬
‫وهوايته اليت ال يشبع منها‪ ،‬هي متنّيه اخلري لكل من يعرف ومن ال يعرف من الناس‪..‬‬
‫يقول عن نفسه‪:‬‬
‫" اين آليت على اآلية من كتاب اهلل فأود لو أن الناس مجيعا علموا مثل الذي أعلم‪..‬‬
‫واين ألمسع باحلاكم من حكام املسلمني يقضي بالعدل‪ ،‬وحيكم بالقسط‪ ،‬فأفرح به وأدعو له‪ ..‬ومايل‬
‫عنده قضيّة‪!!..‬‬
‫واين ألمسع بالغيث يصيب للمسلمني أرضا فأفرح به‪ ،‬ومايل بتلك األرض سائمة‪"!!..‬‬

‫**‬

‫وهو عابد قانت ّأواب‪ ..‬يقوم من الليل‪ ،‬ويصوم من األيام‪ ،‬وال ختطئ العني جمرى الدموع حتت‬
‫خديّه‪ ،‬اذ كان كثري البكاء كلما صلى‪ ..‬وكلما قرأ القرآن‪..‬‬
‫فاذا بلغ يف قراءته بعض آيات الزجر والوعيد‪ ،‬وذكر املوت‪ ،‬والبعث عال نشيجه وحنيبه‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 447‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫تدل‬
‫علي ومعاوية آراء ّ‬
‫وهو اىل جانب هذا شجاع‪ ،‬أمني‪ ،‬حصيف‪ ..‬ولقد كان له يف اخلالف بني ّ‬
‫على امتداد فطنته‪ ،‬وسعة حيلته‪.‬‬
‫وهو يؤثر السالم على احلرب‪ ..‬والرفق على العنف‪ ..‬واملنطق على القسر‪..‬‬
‫هم احلسني رضي اهلل عنه باخلروج اىل العراق ليقاتل زيادا‪ ،‬ويزيد‪ ،‬تعلق ابن عباس به واستمات‬
‫عندما ّ‬
‫أقضه احلزن عليه‪ ،‬ولزم داره‪.‬‬
‫يف حماولة منعه‪ ..‬فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده‪ّ ،‬‬
‫ويف كل خالف ينشب بني مسلم ومسلم‪ ،‬مل تكن جتد ابن عباس اال حامال راية السلم‪ ،‬والتفاهم‬
‫واللني‪..‬‬
‫علي ضد معاوية‪ .‬ولكنه فعل ذلك ألن املعركة يف بدايتها كانت‬‫صحيح أنه خاض املعركة مع االمام ّ‬
‫متثل ردعا الزما حلركة انشقاق رهيبة‪ ،‬هتدد وحدة الدين ووحدة املسلمني‪.‬‬

‫**‬

‫وعاش ابن عباس ميأ دنباه علما وحكمة‪ ،‬وينشر بني الناس عبريه وتقواه‪..‬‬
‫ويف عامه احلادي والسبعني‪ ،‬دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا‪ R‬حافال ملؤمن‬
‫يزف اىل اجلنان‪.‬‬
‫وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره اآلمن يف قربه‪ ،‬كانت جنبات األفق هتتز بأصداء وعد اهلل احلق‪:‬‬
‫( يا أيتها النفس املطمئنة‬
‫ارجعي اىل ربك راضية مرضية‬
‫فادخلي يف عبادي‬
‫وادخلي جنيت)‬
‫عباد بن بشر‬
‫معه من اهلل نور‬
‫‪ | 448‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عندما نزل مصعب بن عمري املدينة موفدا من لدن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ليعلم األنصار‪R‬‬
‫الذين بايعوا الرسول على االسالم‪ ،‬وليقيم‪ R‬هبم الصالة‪ ،‬كان عباد بن بشر رضي اهلل عنه واحدا من‬
‫األبرار الذين فتح اهلل قلوهبم للخري‪ ،‬فأقبل على جملس مصعب وأصغى اليه مث بسط ميينه يبايعه على‬
‫االسالم‪ ،‬ومن يومئذ أخذ مكانه بني األنصار الذين رضي اهلل عنهم ورضوا‪ R‬عنه‪..‬‬
‫وانتقل النيب اىل املدينة مهاجرا‪ ،‬بعد أن سبقه اليها املؤمنون مبكة‪.‬‬
‫وبدأت الغزوات‪ R‬اليت اصطدمت‪ R‬فيها قوى اخلري والنور‪ R‬مع قوى الظالم والشر‪.‬‬
‫ويف تلك املغازي كان عباد بن بشر يف الصفوف األوىل جياهد يف سبيل اهلل متفانيا بشكل يبهر‬
‫األلباب‪.‬‬

‫**‬

‫ولعل هذه الواقعة اليت نرويها اآلن تكشف عن شيء من بطولة هذا املؤمن العظيم‪..‬‬
‫بعد أن فرغ رسول اهلل واملسلمني من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه‪ ،‬واختار الرسول‬
‫للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبوهنا وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر يف نوبة واحدة‪.‬‬
‫ورأى عباد صاحبه عمار جمهدا‪ ،‬فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو باحلراسة حىت يأخذ‬
‫صاحبه من الراحة حظا ميكنه من استئناف احلراسة بعد أن يصحو‪.‬‬
‫ورأى عباد أن املكان من حوله آمن‪ ،‬فلم ال ميأل وقته اذن بالصالة‪ ،‬فيذهب مبثوبتها مع مثوبة‬
‫احلراسة‪..‬؟!‬
‫وقام يصلي‪..‬‬
‫واذ هو قائم يقرأ بعد فاحتة الكتاب سور من القرآن‪ ،‬احرتم عضده سهم فنزعه واستمر يف صالته‪!..‬‬
‫مث رماه املهاجم يف ظالم الليل بسهم ثان نزعه وأهنى تالوته‪..‬‬
‫مث ركع‪ ،‬وسجد‪ ..‬وكانت قواه قد بددها االعياء واألمل‪ ،‬فم ّ‪R‬د ميينه وهو ساجد اىل صاحبه النائم‬
‫جواره‪ ،‬وظل يهزه حىت استيقظ‪..‬‬
‫‪ | 449‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫مث قام من سجوده وتال التشهد‪ ..‬وأمت صالته‪.‬‬


‫وصحا عمار على كلماته املتهدجة املتعبة تقول له‪:‬‬
‫" قم للحراسة مكاين فقد أصبت"‪.‬‬
‫ففروا‪ R‬مث التفت‪ R‬اىل عباد وقال له‪:‬‬
‫ووثب عمار حمدثا ضجة وهرولة أخافت املتسللني‪ّ ،‬‬
‫" سبحان اهلل‪..‬‬
‫هال أيقظتين ّأول ما رميت"؟؟‬
‫فأجابه عباد‪:‬‬
‫" كنت أتلو يف صاليت آيات من القرآن مألت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها‪.‬‬
‫وواهلل‪ ،‬لوال أن أضيع ثغرا أمرين الرسول حبفظه‪ ،‬آلثرت املوت على أن أقطع تلك اآليات اليت كنت‬
‫أتلوها"‪!!..‬‬

‫**‬

‫كان عباد شديد الوالء واحلب هلل‪ ،‬ولرسوله ولدينه‪..‬‬


‫وكان هذا الوالء يستغرق حياته كلها وحسه كله‪.‬‬
‫ومنذ مسع النيب عليه الصالة والسالم يقول خماطبا األنصار الذين هو منهم‪:‬‬
‫" يا معشر األنصار‪..‬‬
‫أنتم الشعار‪ ،‬والناس الدثار‪..‬‬
‫فال أوتنّي من قبلكم"‪.‬‬

‫نقول منذ مسع عباد هذه الكلمات من رسوله‪ ،‬ومعلمه‪ ،‬وهاديه اىل اهلل‪ ،‬وهو يبذل روحه وماله‬
‫وحياته يف سبيل اهلل ويف سبيل رسوله‪..‬‬
‫يف مواطن التضحية واملوت‪ ،‬جييء دوما أوال‪..‬‬
‫‪ | 450‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف مواطن الغنيمة واألخذ‪ ،‬يبحث عنه أصحابه يف جهد ومشقة حىت جيدوه‪!..‬‬
‫وهو دائما‪ :‬عابد‪ ،‬تستغرقه العبادة‪..‬‬
‫بطل‪ ،‬تستغرقه البطولة‪..‬‬
‫جواد‪ ،‬يستغرقه اجلود‪..‬‬
‫مؤمن قوي نذر حياته لقضية االميان‪!!..‬‬
‫وقالت أم املؤمنني عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬
‫" ثالثة من األنصار مل جياوزهم يف الفضل أحد‪:‬‬
‫" سعد بن معاذ‪..‬‬
‫وأسيد بن خضري‪..‬‬
‫وعبّاد بن بشر‪...‬‬

‫**‬

‫وعرف املسلمون األوائل عبادا بأنه الرجل الذي‪ R‬معه نور من اهلل‪..‬‬
‫اجمللوة املضاءة هتتدي اىل مواطن اخلري واليقني يف غري حبث أو عناء‪..‬‬
‫فقد كانت بصريته ّ‬
‫بل ذهب اميان اخوانه بنوره اىل احلد الذي‪ R‬أسبغوا عليه يف صورة احلس واملادة‪ ،‬فأمجعوا على ان عبادا‬
‫كان اذا مشى يف الظالم انبعثت منه أطياف نور وضوء‪ ،‬تضيء له الطريق‪..‬‬

‫**‬

‫ويف حروب الردة‪ ،‬بعد وفاة الرسول عليه السالم‪ ،‬محل عباد مسؤولياته يف استبسال منقطع النظري‪..‬‬
‫ويف موقعة اليمامة اليت واجه املسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر اجليوش حتت قيادة مسيلمة الكذاب‬
‫أحس عبّاد باخلطر الذي يتهدد االسالم‪..‬‬
‫ّ‬
‫‪ | 451‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكالن وفق املهام اليت يلقيها عليه اميانه‪ ،‬ويرتفعان اىل مستوى احساسه‬
‫باخلطر ارتفاعا جيعل منه فدائيا ال حيرص على غري املوت والشهادة‪..‬‬

‫**‬

‫وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم‪ ،‬رأى يف منامه رؤيا مل تلبث أن فسرت مع مشس النهار‪ ،‬وفوق‬
‫أرض املعركة اهلائلة الضارية اليت خاضها املسلمون‪..‬‬
‫ولندع صحابيا جليال هو أبو سعيد اخلدري‪ R‬رضي اهلل عنه يقص علينا الرؤيا اليت رآها عبّاد وتفسريه‬
‫هلا‪ ،‬مث موقفه الباهر يف القتال الذي انتهى باستشهاده‪..‬‬
‫يقول أبو سعيد‪:‬‬
‫علي‪..‬‬
‫" قال يل عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة‪ ،‬كأن السماء قد فرجت يل‪ ،‬مث أطبقت ّ‬
‫واين ألراها ان شاء اهلل الشهادة‪!!..‬‬
‫فقلت له‪ :‬خريا واهلل رأيت‪..‬‬
‫واين ألنظر اليه يوم اليمامة‪ ،‬وانه ليصيح باألنصار‪:‬‬
‫احطموا جفون السيوف‪ ،‬ومتيزوا من الناس‪..‬‬
‫فسارع اليه أربعمائة رجل‪ ،‬كلهم من األنصار‪ ،‬حىت انتهوا‪ R‬اىل باب احلديقة‪ ،‬فقاتلوا أشد القتال‪..‬‬
‫واستشهد عباد بن بشر رمحه اهلل‪..‬‬
‫ورأيت يف وجهه ضربا كثريا‪ ،‬وما عرفته اال بعالمة كانت يف جسده‪..‬‬

‫**‬

‫هكذا ارتفع عباد اىل مستوى واجباته كؤمن من األنصار‪ ،‬بايع رسول اهلل على احلياة هلل‪ ،‬واملوت يف‬
‫سبيله‪..‬‬
‫‪ | 452‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعندما رأى املعركة الضارية‪ R‬تتجه يف بدايتها لصاحل األعداء‪ ،‬تذكر كلمات رسول اهلل لقومه األنصار‪:‬‬
‫" أنتم الشعار‪..‬‬
‫فال أوتنّي من قبلكم"‪..‬‬
‫ومأل الصوت روعه وضمريه‪..‬‬
‫حىت لكأن الرسول عليه الصالة والسالم قائم اآلن يردده كلماته هذه‪..‬‬
‫وأحس عباد أن مسؤولية املعركة كلها امنا تقع على كاهل األنصار‪ R‬وحدهم‪ ..‬أو على كاهلهم قبل‬
‫سواهم‪..‬‬
‫هنالك اعتلى ربوة وراح‪ R‬يصيح‪:‬‬
‫" يا معشر األنصار‪..‬‬
‫احطموا جفون السيوف‪..‬‬
‫ومتيزوا من الناس‪..‬‬
‫وحني لىّب نداءه أربعمائة منهم قادهم هو وأبو دجانة والرباء ابن مالك اىل حديقة املوت حيث كان‬
‫يتحصن‪ ..‬وقاتل البطل القتال الالئق به كرجل‪ ..‬وكمؤمن‪ ..‬وكأنصاري‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫جيش مسيلمة‬

‫**‬

‫ويف ذلك اليوم‪ R‬اجمليد استشهد عباد‪..‬‬


‫لقد صدقت رؤياه اليت رآها يف منامه باألمس‪..‬‬
‫أمل يكن قد رأى السماء تفتح‪ ،‬حىت اذا دخل من تلك الفرجة املفتوحة‪ ،‬عادت السماء‪ R‬فطويت عليه‪،‬‬
‫وأغلقت؟؟‬
‫وفسرها هو بأن روحه ستصعد يف املعركة املنتظرة اىل بارئها وخالقها‪..‬؟؟‬‫ّ‬
‫لقد صدقت الرؤيا‪ ،‬وصدق تعبريه هلا‪.‬‬
‫ولقد تفتحت أبواب السماء‪ R‬لتستقبل يف حبور‪ ،‬روح عبّاد بن بشر‪..‬‬
‫‪ | 453‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الرجل الذي كان معه من اهلل نور‪!!..‬‬

‫سهيل بن عمرو‬
‫من الطلقاء اىل الشهداء‬

‫عندما وقع أسريا بأيدي املسلمني يف غزوة بدر اقرتب عمر بن اخلطاب من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وقال‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪ ..‬دعين أنزع ثنيّيت سهيل بن عمرو حىت ال يقوم عليك خطيبا بعد اليوم"‪..‬‬
‫فأجابه الرسول العظيم‪:‬‬
‫" كال يا عمر‪..‬‬
‫ال أمثل بأحد‪ ،‬فيمثل اهلل يب‪ ،‬وان كنت نبيا"‪!..‬‬
‫مث أدىن عمر منه وقال عليه السالم‪:‬‬
‫" يا عمر‪..‬‬
‫يسرك"‪!!..‬‬
‫لعل سهيال غدا يقف موقفا ّ‬

‫**‬

‫ودارت نبوءة الرسول‪..‬‬


‫وحتو ل أعظم خطباء قريش سهيل بن عمرو اىل خطيب باهرمن خطباء االسالم‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وحتول املشرك اللدود‪ ..‬اىل مؤمن ّأواب‪ ،‬ال تكف عيناه من البكاء من خشية اهلل‪!!..‬‬
‫ّ‬
‫وحتو ل واحد من كبار زعماء قرسش وقادة جيوشها اىل مقاتل صلب يف سبيل االسالم‪ ..‬مقاتل عاهد‬ ‫ّ‬
‫نفسه أن يظل يف رباط وجهاد حىت يدركه املوت على ذلك‪ ،‬عسى اهلل أن يغفر ما تقدم من ذنبه‪!!..‬‬
‫فمن كان ذلك املشرك العنيد‪ ،‬واملؤمن التقي الشهيد‪..‬؟؟‬
‫‪ | 454‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫انه سهيل بن عمرو‪..‬‬


‫املربرين‪ ،‬ومن حكمائها وذوي الفطنة والرأي فيها‪..‬‬‫واحد من زعماء قريش ّ‬
‫وهو الذي‪ R‬انتدبته قريش ليقنع الرسول بالعدول عن دخول مكة عام احلديبية‪..‬‬
‫ففي أخريات العام اهلجري السادس خرج الرسول وأصحابه اىل مكة ليزوروا البيت‪ R‬احلرام‪ ،‬وينشؤا‪R‬‬
‫عمرة‪ ،‬ال يريدون حربا‪ ،‬وليسوا‪ R‬مستعدين لقتال‪..‬‬
‫وعلمت قريش مبسريهم اىل مكة‪ ،‬فخرجت لتقطععليهم الطريق‪ ،‬وتص ّدهم عن وجهتهم‪..‬‬
‫وتأزم املوقف‪ ،‬وتوترت األنفس‪..‬‬
‫وقال الرسول ألصحابه‪:‬‬
‫" ال تدعوين قريش اليوم اىل خطة يسألونين فيها صلة الرحم اال أعطيتهم اياها"‪..‬‬
‫وراحت قريش ترسل رسلها ومندوبيها‪ R‬اىل النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬فيخربهم مجيعا أنه مل يأت‬
‫لقتال‪ ،‬امنا جاء يزور البيت احلرام‪ ،‬ويعظم حرماته‪:‬‬
‫وكلما عاد اىل قريش أحد مندوبيها‪ ،‬أرسلوا من بعده آخر أقوى شكيمة‪ ،‬وأشد اقناعا حىت اختاروا‬
‫عروة بن مسعود الثقفي وكان من أقواهم وأفطنهم‪ ..‬وظنت قريش أن عروة قادر على اقناع الرسول‬
‫بالعودة‪.‬‬
‫ولكنه سرعان ما رجع اليهم‪ R‬يقول هلم‪:‬‬
‫" يا معشر قريش‪..‬‬
‫اين قد جئت كسرى يف ملكه‪ ،‬وقيصر يف ملكه‪ ،‬والنجاشي يف ملكه‪..‬‬
‫واين واهلل ما رأيت ملكا قط يعظمه قومه‪ ،‬كما يعظم أصحاب حممد حممدا‪!!..‬‬
‫ولقد رأيت حوله قوما لن يسلموه لسوء أبدا‪..‬‬
‫فانظروا رأيكم"‪!!..‬‬
‫‪ | 455‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫عندئذ آمنت قريش أنه ال جدوى من حماوالهتا‪ R‬وقررت أن تلجأ اىل املفاوضة والصلح‪ ..‬واختارت‬
‫هلذه املهمة أصلح زعمائها هلا‪ ..‬وكان سهيل بن عمرو‪..‬‬
‫رأى املسلمون سهيال وهو مقبل عليهم فعرفوه‪ ،‬وأدركوا أن قريشا آثرت طريق التفاهم واملصاحلة‪ ،‬ما‬
‫دامت قد بعثت آخر األمر سهيال‪..‬‬
‫وجلس سهيل بني يدي الرسول‪ ،‬ودار حوار طويل انتهى بالصلح‪..‬‬
‫وحاول سهيل أن يكسب لقريش الكثري‪ ..‬وساعده على ذلك‪ ،‬التسامح النبيل واجمليد الذي‪ R‬كان‬
‫الرسول عليه الصالة والسالم يديره يف التفاوض والصلح‪..‬‬
‫ومضت األيام‪ ،‬ينادي بعضها بعضا‪ ،‬جىت جاءت السنة الثامنة من اهلجرة‪ ..‬وخرج الرسول واملسلمون‬
‫لفتح مكة بعد أن نفضت قريش عهدها وميثاقها مع رسول اهلل‪.‬‬
‫وعاد املهاجرون اىل وطنهم الذين أخرجهم باألمس كارهني‪..‬‬
‫عادوا‪ ،‬ومعهم األنصار الذين آووهم يف مينتهم وآثروهم على أنفسهم‪..‬‬
‫وعاد االسالم كله‪ ،‬ختفق يف جو السماء راياته الظافرة‪..‬‬
‫وفتحت مكة مجيع أبواهبا‪..‬‬
‫ووقف املشركون يف ذهول‪ ..‬ترى ماذا سيكون اليوم مصريهم‪ ،‬وهم الذين أعملوا بأسهم يف املسلمني‬
‫من قبل قتال‪ ،‬وحرقا‪ ،‬وتعذيبا‪ ،‬وجتويعا‪..‬؟!‬
‫ومل يشأ الرسول الرحيم أن يرتكهم‪ R‬طويال حتت وطأة هذه املشاعر املذلة املنهكة‪.‬‬
‫فاستقبل وجوههم يف تسامح وأناة‪ ،‬وقال هلم ونربات صوته الرحيم تقطر حنانا ورفقا‪:‬‬
‫" يا معشر قريش‪..‬‬
‫ما تظنون أين فاعل بكم"‪..‬؟؟‬
‫هنالك تقدم خصم االسالم باألمس سهيل بن عمرو وقال جميبا‪:‬‬
‫‪ | 456‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" نظن خريا‪ ،‬أخ كرمي‪ ،‬وابن أخ كرمي"‪.‬‬


‫وتألقت ابتسامة من نور على شفيت حبيب اهلل وناداهم‪:‬‬
‫" اذهبوا‪...‬‬
‫فأنتم الطلقاء"‪!!..‬‬
‫حي املشاعر اال أحالته ذوبا من طاعة وخجل‪،‬‬
‫مل تكن هذه الكلمات من الرسول املنتصر لتدع انسانا ّ‬
‫بل وندم‪..‬‬
‫ويف نفس اللحظة استجاش هذا املوقف املمتلئ نبال وعظمة‪ ،‬كل مشاعر سهيل بن عمرو فأسلم هلل‬
‫رب العاملني‪.‬‬
‫ومل يكن اسالمه ساعتئذ‪ ،‬اسالم رجل منهزم مستسلم للمقادير‪.‬‬
‫بل كان كما سيكشف عنه مستقبله فيما بعد اسالم رجل هبرته وأسرته عظمة حممد وعظمة الدين‬
‫يتصرف حممد وفق تعاليمه‪ ،‬وحيمل يف والء هائل رايته ولواءه‪!!..‬‬
‫الذي ّ‬

‫**‬

‫أطلق على الذين أسلموا يوم الفتح اسم الطلقاء‪ ..‬أي الذين نقلهم عفو الرسول من الشرك اىل‬
‫االسالم حني قال هلم‪:‬‬
‫" اذهبوا فأنتم الطلقاء"‬
‫بيد أن نفرا من أولئك الطلقاء جاوزوا‪ R‬هذا اخلط باخالصهم الوثيق‪ ،‬ومسوا اىل آفاق بعيدة من‬
‫التضحية والعبادة والطهر‪ ،‬وضعتهم‪ R‬يف الصفوف األوىل بني أصحاب النيب األبرار ومن هؤالء سهيل‬
‫بن عمرو‪.‬‬

‫**‬

‫لقد صاغه االسالم من جديد‪.‬‬


‫‪ | 457‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وصقل كل مواهبه األوىل‪ ،‬وأضاف اليها‪ ،‬مث وضعها مجيعا يف خدمة احلق‪ ،‬واخلري‪ ،‬واالميان‪..‬‬
‫ولقد نعتوه يف كلمات فقالوا‪:‬‬
‫السمح‪ ،‬اجلواد‪..‬‬
‫" ّ‬
‫كثري الصالة‪ ،‬والصوم‪ ،‬والصدقة‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬والبكاء من خشية اهلل"‪!!..‬‬
‫وتلك هي عظمة سهيل‪.‬‬
‫يتفوق‬
‫فعلى الرغم من أنه أسلم يوم الفتح‪ ،‬ال قبله‪ ،‬نراه يصدق يف اسالمه ويف يقينه‪ ،‬اىل مدى الذي‪ّ R‬‬
‫ويتحول اىل عابد‪ ،‬زاهد واىل فدائي‪ R‬جماهد يف سبيل اهلل واالسالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيه على كل نفسه‪،‬‬
‫وملا انتقل الرسول اىل الرفيق األعلى‪ ،‬مل يكد النبأ يبلغ مكة‪ ،‬وكان سهيل يومئذ مقيما هبا‪ ،‬حىت غشي‬
‫املسلمني هناك من اهلرج والذهول ما غشي املسلمني باملدينة‪.‬‬
‫واذا كان ذهول املدينة‪ ،‬قد ب ّدده أبو بكر رضي اهلل عنه ساعتئذ بكلماته احلامسة‪:‬‬
‫" من كان يعبد حممد‪ ،‬فان حممدا قد مات‪..‬‬
‫حي ال ميوت"‪..‬‬
‫ومن كان يعبد اهلل‪ ،‬فان اهلل ّ‬

‫فسيأخذنا العجب حني نرى سهيال رضي اهلل عنه هو الذي‪ R‬وقف مبكة‪ ،‬نفس موقف أيب بكر‬
‫باملدينة‪.‬‬
‫فقد مجع املسلمني كلهم هناك‪ ،‬ووقف يبهرهم بكلماته الناجعة‪ ،‬خيربهم أن حممدا‪ R‬كان رسول اهلل‬
‫حقا‪ ..‬وأنه مل ميت حىت ّأدى األمانة‪ ،‬وبلّغ الرسالة‪ .‬وأنه واجب املؤمنني به أن ميعنوا من بعده السري‬
‫على منهجه‪.‬‬
‫ومبوقف سهيل هذا‪ ،‬وبكلماته الرشيدة واميانه الوثيق‪ ،‬درأ الفتنة اليت كادت تقلع اميان بعض الناس‬
‫مبكة حني بلغهم نبأ وفاة الرسول‪!!..‬‬
‫ويف هذا اليوم أكثر من سواه تألقت نبوءة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أمل يكن لعمر يوم استأذنه يف نزع ثنييت سهيل أثناء أسره ببدر‪:‬‬
‫" دعها فلعلها تسرك يوما"‪..‬؟!‬
‫‪ | 458‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ففي هذا اليوم‪ ..‬وحني بلغ املسلمني باملدينة موقف سهيل مبكة وخطابه الباهر الذي‪ R‬ثبت االميان يف‬
‫األفئدة‪ ،‬تذكر عمر بن اخلطاب نبوءة الرسول‪ ..‬وضحك طويال‪ ،‬اذ جاء اليوم الذي‪ R‬انتفع فيه االسالم‬
‫بثنييت سهيل اللتني كان عمر يريد هتشيمهما‪ R‬واقتالعهما‪!!..‬‬

‫**‬

‫عندما أسلم سهيل يوم الفتح‪.‬‬


‫وبعد أن ذاق حالوة االميان‪ ،‬أخذ على نفسه عهدا خلصه يف هذه الكلمات‪:‬‬
‫" واهلل ال أدع موقفا من املشركني‪ ،‬اال وقفت مع املسلمني مثله‪ ...‬وال نفقة أنفقتها مع املشركني اال‬
‫أنفقت مع املسلمني مثلها‪ ،‬لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا"‪!!..‬‬
‫ولقد وقف مع املشركني طويال أمام أصنامهم‪..‬‬
‫فليقف اآلن طويال وطويال مع املؤمنني بني يدي اهلل الواحد األحد‪.‬‬
‫وهكذا راح يصلي‪ ..‬ويصلي‪..‬‬
‫ويصوم‪ ..‬ويصوم‪..‬‬
‫وال يدع عبادة جتلو روحه‪ ،‬وتقربه من ربه األعلى اال أخذ منها حظا وافيا‪..‬‬
‫وكذلك كان يف أمسه يقف مع املشركني يف مواطن العدوان واحلرب ضد االسالم‪.‬‬
‫فليأخذ اآلن مكانه يف جيش االسالم‪ ،‬مقاتال شجاعا‪ ،‬يطفئ مع كتائب احلق نار فارس اليت يعبدوهنا‪R‬‬
‫من دون اهلل‪ ،‬وحيرقون‪ R‬فيها مصاير الشعوب اليت يستعبدوهنا‪ .‬ويدمدم مع كتائب احلق أيضا على‬
‫ظلمات الرومان وظلمهم‪..‬‬
‫وينشر كلمة التوحيد والتقوى‪ R‬يف كل مكان‪.‬‬

‫وهكذا خرج اىل الشام‪ R‬مع جيوش املسلمني‪ ،‬مشاركا يف حروهبا‪.‬‬


‫ويوم الريموك‪ R‬حيث خاض املسلمون موقعة تناهت يف الضراوة والعنف واملخاطرة‪..‬‬
‫‪ | 459‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫كان سهيل بن عمرو يكاد يطري من الفرح‪ ،‬اذ وجد هذه الفرصة الدمسة لكي يبذل من ذات نفسه يف‬
‫هذا اليوم‪ R‬العصيب ما ميحق به خطايا جاهليته وشركه‪..‬‬

‫**‬

‫وكان حيب وطنه مكة حبا ينسيه نفسه‪..‬‬


‫ومع ذلك‪ ،‬فقد أىب أن يرجع اليها بعد انتصار املسلمني بالشام وقال‪:‬‬
‫" مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬مقام أحدكم يف سبيل اهلل ساعة‪ ،‬خري له من عمله‬
‫طوال عمره‪..‬‬
‫واين ملرابط يف سبيل اهلل حىت أموت‪ ،‬ولن أرجع اىل مكة"‪!!..‬‬

‫**‬

‫ووىف سهيل عهده‪..‬‬


‫وظل بقيّة حياته مرابطا‪ ،‬حىت جاء موعد رحيله‪ ،‬فطارت روحه مسرعة اىل رمحة من اهلل ورضوان‪..‬‬

‫أبو موسى األشعري‬


‫االخالص‪ ..‬وليكن ما يكون‬

‫عندما بعثه أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب اىل البصرة‪ ،‬ليكون أمريها وواليها‪ ،‬مجع أهلها وقام فيهم‬
‫خطيبا فقال‪:‬‬
‫" ان أمري املؤمنني عمر بعثين اليكم‪ ،‬أعلمكم كتار بكم‪ ،‬وسنة نبيكم‪ ،‬وأنظف لكم طرقكم"‪!!..‬‬
‫‪ | 460‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وغشي االنس من الدهش والعجب ما غشيهم‪ ،‬فاهنم‪ R‬ليفهمون‪ R‬كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم‬
‫يف دينهم من واجبات احلاكم واألمري‪ ،‬أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاهتم‪ ،‬فذاك شيء جديد‬
‫عليهم بل مثري وعجيب‪..‬‬
‫فمن هذا الوايل الذي‪ R‬قال عنه احلسن رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫" ما أتى البصرة راكب‪ R‬خري ألهلها منه"‪..‬؟‬

‫**‬

‫انه عبداهلل بن قيس املكىّن بـ أيب موسى األشعري‪..‬‬


‫غادر اليمن بلده ووطنه اىل مكة فور مساعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو اىل اهلل على‬
‫بصرية‪ ،‬ويأمر مبكارم األخالق‪..‬‬
‫ويف مكة‪ ،‬جلس بني يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتلقى منه اهلدى‪ R‬واليقني‪..‬‬
‫وعاد اىل بالده حيمل كلمة اهلل‪ ،‬مث رجع اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتلقى منه اهلدى‬
‫واليقني‪..‬‬
‫وعاد اىل بالده حيمل كلمة اهلل‪ ،‬مث رجع اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيرب‪..‬‬
‫ووافق قدومه قدوم جعفر بن أيب طالب مقبال مع أصحابه من احلبشة فأسهم الرسول هلم مجيعا‪..‬‬
‫املر ة مل يأت أبو موسى األشعري وحده‪ ،‬بل جاء معه بضعة ومخسون رجال من أهل اليمن‬ ‫ويف هذه ّ‬
‫الذين لقنهم‪ R‬االسالم‪ ،‬وأخوان شقيقان له‪ ،‬هم‪ ،‬أبو رهم‪ ،‬وأبو بردة‪..‬‬
‫ومسّى الرسول هذا الوفد‪ ..‬بل مسّى قومهم‪ R‬مجيعا باألشعريني‪..‬‬
‫ونعتهم الرسول بأهنم أرق الناس أفئدة‪..‬‬
‫وكثريا ما كان يضرب املثل األعلى ألصحابه‪ ،‬فيقول فيهم وعنهم‪:‬‬
‫قل يف أيديهم الطعام‪ ،‬مجعوا ما عندهم يف ثوب واحد‪ ،‬مث‬ ‫" ان األشغريني اذا أرملوا يف غزو‪ ،‬أو ّ‬
‫اقتسموا بالسويّة‪.‬‬
‫‪ | 461‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" فهم مين‪ ..‬وانا منهم"‪!!..‬‬


‫ومن ذلك اليوم‪ R‬أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعايل بني املسلمني واملؤمنني‪ ،‬الذين ق ّدر‪ R‬هلم أن يكونوا‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتالمذته‪ ،‬وأن يكونوا محلة االسالم اىل الدنيا‪ R‬يف كل‬
‫عصورها ودهورها‪..‬‬

‫**‬

‫أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة‪..‬‬


‫فهو مقاتل جسور‪ ،‬ومناضل صلب اذا اضطر لقتال‪..‬‬
‫وهو مسامل طيب‪ ،‬وديع اىل أقصى غايات الطيبة والوداعة‪!!..‬‬
‫وهو فقيه‪ ،‬حصيف‪ ،‬ذكي جييد تصويب فهمه اىل مغاليق األمور‪ ،‬ويتألق يف االفتاء والقضاء‪ ،‬حىت قيل‪:‬‬
‫" قضاة هذه األمة أربعة‪:‬‬
‫" عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"‪!!..‬‬
‫مث هو مع هذا‪ ،‬صاحب فطرة بريئة‪ ،‬من خدعه يف اهلل‪ ،‬اخندع له‪!!..‬‬
‫وهو عظيم الوالء واملسؤولية‪..‬‬
‫وكبري الثقة بالناس‪..‬‬
‫لو أردنا أن خنتار من واقع حياته شعارا‪ ،‬لكانت هذه العبارة‪:‬‬
‫" االخالص وليكن ما يكون"‪..‬‬
‫يف مواطن اجلهاد‪ ،‬كان األشعري حيمل مسؤولياته يف استبسال جميد مما جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلمي يقول عنه‪:‬‬
‫" سيّد الفوارس‪ ،‬أبو موسى"‪!!..‬‬
‫وانه لريينا صورة من حياته كمقاتل فيقول‪:‬‬
‫‪ | 462‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" خرجنا مع رسول اهلل يف غزاة‪ ،‬نقبت فيها أقدامنا‪ ،‬ون ّقبت قدماي‪ ،‬وتساقطت أظفاري‪ ،‬حىت لففنا‬
‫أقدامنا باخلرق"‪!!..‬‬
‫عدوا يف قتال‪..‬‬
‫وما كانت طيبته وسالمة طويته ليغريا به ّ‬
‫فهو يف موطن كهذا‪ R‬يرى األمور يف وضوح‪ R‬كامل‪ ،‬وحيسمها‪ R‬يف عزم أكيد‪..‬‬

‫ولقد‪ R‬حدث واملسلمون يفتحون بالد فارس أن هبط األشعري جييشه على أهل أصبهان الذين‬
‫صاحلوه على اجلزية فصاحلهم‪..‬‬
‫بيد أهنم يف صلحهم ذاك مل يكونوا صادقني‪ ..‬امنا ارادوا‪ R‬أن يهيئوا ألنفسهم االعداد لضربة غادرة‪..‬‬
‫ولكن فطنة أيب موسى اليت ال تغيب يف مواطن احلاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون‪..‬‬
‫غرة‪ ،‬وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حىت كان قد‬ ‫فلما مهّوا بضربتهم مل يؤخذ القائد‪ R‬على ّ‬
‫انتصر انتصارا‪ R‬باهرا‪!!..‬‬

‫**‬

‫ويف املعارك اليت خاضها املسلمون ض ّد امرباطورية الفرس‪ ،‬كان أليب موسى األشعري رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫بالؤه العظيم وجهاده الكرمي‪..‬‬
‫وحتصن هبا‪ ،‬ومجع فيها جيوشا هائلة‪،‬‬
‫ويف موقعة تسرت بالذات‪ ،‬حيث انسحب‪ R‬اهلرزمان جبيشه اليها ّ‬
‫كان أبو موسى بطل هذه املوقعة‪..‬‬
‫ولقد أم ّد ه أمري املؤمنني عمر يومئذ بأعداد هائلة من املسلمني‪ ،‬على رأسهم عمار بن ياسر‪ ،‬والرباء‪ R‬بن‬
‫مالك‪ ،‬وأنس بن مالك‪ ،‬وجمزأة البكري وسلمة بن رجاء‪..‬‬
‫واتقى اجليشان‪..‬‬
‫جيش املسلمني بقيادة أبو موسى‪ ..‬وجيش الفرس بقيادة اهلرزمان يف معركة من أشد املعارك ضراوة‬
‫وبأسا‪..‬‬
‫‪ | 463‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وانسحب الفرس اىل داخل مدينة تسرت احملصنة‪..‬‬


‫وحاصرها املسلمون أياما طويلة‪ ،‬حىت أعمل أبو موسى عقله وحيلته‪..‬‬
‫وأرسل مائيت فارس مع عميل فارسي‪ ،‬أغراه أبو موسى بأن حيتال حىت يفتح باب املدينة‪ ،‬أمام الطليعة‬
‫اليت اختارها هلذه املهمة‪.‬‬
‫ومل تكد األبواب تفتح‪ ،‬وجنود الطليعة يقتحمون احلصن حىت انقض أبو موسى جبيشه انقضاضا‬
‫مدمدما‪.‬‬
‫واستوىل على املعقل اخلطري يف ساعات‪ .‬واستسلم قادة الفرس‪ ،‬حيث بعث هبم أبو موسى اىل املدينة‬
‫لريى أمري املؤمنني فيهم رأيه‪..‬‬

‫**‬

‫يتحول اىل ّأواب‪ ،‬ب ّكاء‬


‫على أن هذا املقاتل ذا املراس الشديد‪ ،‬مل يكن يغادر أرض املعركة حىت ّ‬
‫وديع كالعصفور‪...‬‬
‫يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من مسعه‪ ..‬حىت لقد قال عنه الرسول‪:‬‬
‫" لقد أويت أبو موسى مزمارا من مزامري آل داود"‪!..‬‬
‫كان عمر رضي اهلل عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب اهلل‪ ..‬قائال له‪:‬‬
‫شوقنا اىل ربنا يا أبا موسى"‪..‬‬
‫" ّ‬
‫كذلك مل يكن يشرتك يف قتال اال أن يكون ضد جيوش مشركة‪ ،‬جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ‬
‫نور اهلل‪..‬‬
‫أما حني يكون القتال بني مسلم ومسلم‪ ،‬فانه يهرب منه وال يكون له دور أبدا‪.‬‬
‫علي ومعاوية‪ ،‬ويف احلرب اليت استعر بني املسلمني يومئذ‬ ‫ولقد كان موقفه هذا واضحا يف نزاع ّ‬
‫أوراها‪.‬‬
‫‪ | 464‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولعل هذه النقطة من احلديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة‪ ،‬وهو موقفه من التحكيم‪ R‬بني االمام‪R‬‬
‫علي ومعاوية‪.‬‬
‫هذا املوقف الذي‪ R‬كثريا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أيب موسى يف الطيبة اىل حد يسهل خداعه‪.‬‬
‫تسرع أو خطأ‪ ،‬امنا يكشف عن عطمة هذا‬ ‫بيد أن املوقف كما سنراه‪ ،‬وبرغم ما عسى أن يكون فيه ّ‬
‫الصحايب اجلليل‪ ،‬عظمة نفسه‪ ،‬وعظمة اميانه باحلق‪ ،‬وبالناس‪ ،‬ان راي أيب موسى يف قضية التحكيم‬
‫يتلخص يف أنه وقد رأى املسلمني يقتل بعضهم بعضا‪ ،‬كل فريق يتعصب المام وحاكم‪ ..‬كما رأى‬
‫املوقف بني املقاتلني قد بلغ يف تأزمه واستحالة تصفيته املدى الذي‪ R‬يضع مصري األمة املسلمة كلها على‬
‫حافة اهلاوية‪.‬‬
‫نقول‪ :‬ان رأيه وقد بلغت احلال من السوء هذا املبلغ‪ ،‬كان يتلخص يف تغيري املوقف كله والبدء من‬
‫جديد‪.‬‬
‫ان احلرب األهلية القائمة يوم ذاك امنا تدور بني طائفتني من املسلمني تتنازعان حول شخص احلاكم‪،‬‬
‫فليتنازل االمام علي عن اخلالفة مؤقتا‪ ،‬وليتنازل عنها معاوية‪ ،‬على أن يرد األمر كله من جديد اىل‬
‫املسلمني خيتارون بطريق الشورى‪ R‬اخلليفة الذي‪ R‬يريدون‪.‬‬
‫هكذا ناقش أبو موسى القضية‪ ،‬وهكذا كان حله‪.‬‬
‫صحيح أن عليّا بويع باخلالفة بيعة صحيحة‪.‬‬
‫وصحيح أن كل مترد غري مشروع ال ينبغي أن مي ّكن من غرضه يف اسقاط احلق املشروع‪ .‬بيد أن‬
‫األمور يف النزاع بني االمام ومعاوية وبني أهل العراق وأهل الشام‪ ،‬يف رأي أيب موسى‪ ،‬قد بلغت‬
‫ومترد‬
‫جمرد عصيان‪ّ ..‬‬ ‫املدى الذي‪ R‬يفرض نوعا جديدا من التفكري واحللول‪ ..‬فعصيان معاوية‪ ،‬مل يعد ّ‬
‫أهل الشام مل يعد جمرد مترد‪ ..‬واخلالف كله يعود جمرد خالف يف الرأي وال يف االختيار‪..‬‬
‫تطور اىل حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آالف القتلى من الفريقني‪ ..‬وال تزال‬ ‫بل ان ذلك كله ّ‬
‫هتدد االسالم واملسلمني بأسوأ العواقب‪.‬‬
‫فازاحة أسباب النزاع واحلرب‪ ،‬وتنحية أطرافه‪ ،‬مثّال يف تفكري أيب موسى نقطة البدء يف طريق‬
‫اخلالص‪..‬‬
‫‪ | 465‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ولقد كان من رأي االمام علي حينما قبل مبدأ التحكيم‪ ،‬أن ميثل جبهته يف التحكيم عبداهلل بن عباس‪،‬‬
‫أو غريه من الصحابة‪ .‬لكن فريقا كبريا من ذوي البأس يف مجاعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى‬
‫األشعري فرضا‪.‬‬
‫وكانت حجتهم يف اختيار أبا موسى أنه مل يشرتك قط يف النزاع بني علي ومعاوية‪ ،‬بل اعتزل كال‬
‫الفريقني بعد أن يئس من محلهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال‪ .‬فهو هبذه املثابة أحق الناس‬
‫بالتحكيم‪..‬‬
‫ومل يكن يف دين أيب موسى‪ ،‬وال يف اخالصه وصدقه ما يريب االمام‪ ..‬لكنه كان يدرك موايا اجلانب‬
‫اآلخر ويعرف مدى اعتمادهم على املناورة واخلدعة‪ .‬وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره اخلداع‬
‫واملناورة‪ ،‬وحيب أن يتعامل مع الناس بصدقه ال بذكائه‪ .‬ومن مث خشي االمام علي أن ينخدع أبو‬
‫موسى لآلخرين‪ ،‬ويتحول التحكيم‪ R‬اىل مناورة من جانب واحد‪ ،‬تزيد األمور‪ R‬سوءا‪...‬‬

‫**‬

‫بدأ التحيكم‪ R‬بني الفريقني‪..‬‬


‫أبو موسى األشعري ميثل جبهة االمام علي‪..‬‬
‫وعمرو بن العاص‪ ،‬ميثل جانب معاوية‪.‬‬
‫واحلق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه احلاد وحيلته الواسعة‪ R‬يف أخذ الراية ملعاوية‪.‬‬
‫ولقد بدأ االجتماع بني الرجلني‪ ،‬األشعري‪ ،‬وعمرو باقرتاح‪ R‬طرحه أبو موسى وهو أن يتفق احلكمان‬
‫على ترشيح عبداهلل بن عمر بل وعلى اعالنه خليفة للمسلمني‪ ،‬وذلك ملا كان ينعم به عبداهلل بن عمر‬
‫من امجاع رائع على حبه وتوقريه واجالله‪.‬‬
‫ورأى عمرو بن العاص يف هذا االجتاه من أيب موسى فرصة هائلة فانتهزها‪..‬‬
‫ان مغزى اقرتاح أيب موسى‪ ،‬أنه مل يعد مرتبطا بالطرف الذي‪ R‬ميثله وهو االمام‪ R‬علي‪..‬‬
‫‪ | 466‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ومعناه أيضا أنه مستعد‪ R‬السناد اخلالفة اىل آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقرتح عبداهلل بن‬
‫عم‪..‬‬
‫وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح اىل غايته‪ ،‬فراح يقرتح معاوية‪ ..‬مث اقرتح ابنه عبداهلل بن‬
‫عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بني أصحاب رسول اهلل‪.‬‬
‫ولك يغب ذكاء أيب موسى أمام دهاء عمرو‪ ..‬فانه مل يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الرتشيح قاعدة‬
‫الرتشيح للحديث والتحكيم حىت لوى الزمام اىل وجهة أسلم‪ ،‬فجابه عمرا بأن اختيار اخلليفة حق‬
‫للمسلمني مجيعا‪ ،‬وقد جعل اهلل أمرهم شورى بينهم‪ ،‬فيجب أن يرتك األمر هلم وحدهم ومجيعهم هلم‬
‫احلق يف هذا االختيار‪..‬‬
‫وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا املبدأ اجلليا لصاحل معاوية‪..‬‬
‫ولكن قبل ذلك لنقرأ نص احلوار التارخيي‪ R‬الذي دار بني أيب موسى وعمرو بن العاص يف بدء‬
‫اجتماعهما‪:‬‬
‫أبو موسى‪ :‬يا عمرو‪ ،‬هل لك يف صالح األمة ورضا‪ R‬اهلل‪..‬؟‬
‫عمرو‪ :‬وما هو‪..‬؟‬
‫أبو موسى‪ :‬نويل عبداهلل بن عمر‪ ،‬فانه مل يدخل نفسه يف شيء من هذه احلرب‪.‬‬
‫عمرو‪ :‬وأين أنت من معاوية‪..‬؟‬
‫أبو موسى‪ :‬ما معاوية مبوضع هلا وال يستحقها‪.‬‬
‫عمرو‪ :‬ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا‪..‬؟‬
‫أبو موسى‪ :‬بلى‪..‬‬
‫ويل دم عثمان‪ ،‬وبيته يف قريش ما قد علمت‪ .‬فان قال الناس مل أويل األمر ولست‬ ‫عمرو‪ :‬فان معاوية ّ‬
‫سابقة؟ فان لك يف ذلك عذرا‪ .‬تقول‪ :‬اين وجدته ويل عثمان‪ ،‬واهلل تعاىل يقول‪ ( :‬ومن قتل مظلوما‬
‫فقد جعلنا لوليه سلطانا)‪ ..‬وهو مع هذا‪ ،‬اخو أم حبيبة زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو أحد‬
‫أصحابه‪..‬‬
‫أبو موسى‪ :‬اتق اهلل يا عمرو‪..‬‬
‫‪ | 467‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ّأم ا ما ذكرت من شرف معاوية‪ ،‬فلو كانت اخلالفة تستحق بالشرف لكان أحق الناس هبا أبرهة بن‬
‫الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق األرض ومغرهبا‪ ..‬مث أي شرف ملعاوية مع‬
‫علي بن أيب طالب‪..‬؟؟‬
‫وأما قولك‪ :‬ان معاوية ويل عثمان‪ ،‬فأوىل منه عمرو بن عثمان‪..‬‬
‫ولكن ان طاوعتين أحيينا سنة عمر بن اخلطاب وذكره‪ ،‬بتوليتنا ابنه عبداهلل احلرب‪..‬‬
‫عمرو‪ :‬فما مينعك من ابين عبداهلل مع فضله وصالحه وقدمي هجرته وصحبته‪..‬؟‬
‫أبو موسى‪ :‬ان ابنك رجل صدق‪ ،‬ولكنك قد غمسته يف هذه احلروب غمسا‪ ،‬فهلم جنعلها للطيّب بن‬
‫الطيّب‪ ..‬عبداهلل بن عمر‪..‬‬
‫عمرو‪ :‬يا أبا موسى‪ ،‬انه ال يصلح هلذا األمر اال رجل له ضرسان يأكل بأحدمها‪ ،‬ويطعم باآلخر‪!!..‬‬
‫أبو موسى‪ :‬وحيك يا عمرو‪ ..‬ان املسلمني قد أسندوا الينا األمر بعد أن تقارعوا السيوف‪ ،‬وتشاكوا‪R‬‬
‫بالرماح‪ ،‬فال نردهم يف فتنة‪.‬‬
‫عمرو‪ :‬فماذا ترى‪..‬؟أبو موسى‪ :‬أرى أن خنلع الرجلني‪ ،‬عليّا ومعاوية‪ ،‬مث جنعلها شورى بني املسلمني‪،‬‬
‫خيتارون ألنفسهم من حيبوا‪..‬‬
‫عمرو‪ :‬رضيت هبذا الرأي فان صالح النفوس فيه‪..‬‬
‫تعودنا أن نرى هبا أبا موسى األشعري كلما ذكرنا واقعة‬ ‫ان هذا احلوار يغري متاما وجه الصورة اليت ّ‬
‫التحكيم هذه‪..‬‬
‫ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة‪..‬‬
‫بل انه يف حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص املشهور بالذكاء والدهاء‪..‬‬
‫جير ع أبا موسى خالفة معاوية حبجة حسبه يف قريش‪ ،‬وواليته لدم عثمان‪ ،‬جاء‬ ‫فعندما أراد عمرو أن ّ‬
‫رد أيب موسى حامسا المعا كحد السيف‪..‬‬
‫اذا كانت اخلالفة بالشرف‪ ،‬فأبرهة بن الصباح سليل امللوك أوىل هبا من معاوية‪..‬‬
‫واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه‪ ،‬فابن عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬اوىل هبذه الوالية من معاوية‪..‬‬
‫‪ | 468‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫يتحمل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده‪..‬‬ ‫لقد سارت قضية التحيكم‪ R‬بعد هذا احلوار‪ R‬يف طريق ّ‬
‫برد األمر اىل األمة‪ ،‬تقول كلمتها وختنار خليفتها‪..‬‬‫فقد أبرأ أبو موسى ذمته ّ‬
‫ووافق عمرو والتزم هبذا الرأي‪..‬‬
‫ومل يكن خيطر ببال أيب موسى أن عمرو يف هذا املوقف الذي يهدد االسالم واملسلمني بشر بكارثة‪،‬‬
‫سيلجأ اىل املناورة‪ ،‬مها يكن اقتناعه مبعاوية‪..‬‬
‫ولقد حذره ابن عباس حني رجع اليهم‪ R‬خيربهم مبا مت االتفاق عليه‪..‬‬
‫حذره من مناورات عمرو وقال له‪:‬‬
‫" أخشى واهلل أن يكون عمرو قد خدعك‪ ،‬فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم‪ ،‬مث‬
‫تكلم أنت بعده"‪!..‬‬
‫لكن أبا موسى كان يرى املوقف أكرب وأجل من أن يناور فيه عمرو‪ ،‬ومن مث مل خياجله أي ريب‬
‫أوشك يف التزام عمرو مبا اتفقنا عليه‪..‬‬
‫واجتمعا يف اليوم التايل‪ ..‬أبو موسى ممثال جلبهة االمام علي‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ R‬ممثال جلبهة معاوية‪..‬‬
‫ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث‪ ..‬فأىب عمرو وقال له‪:‬‬

‫" ما كنت ألتقدمك وأنت أكثر مين فضال‪ ..‬وأقدم هجرة‪ ..‬وأكرب سنا"‪!!..‬‬
‫وتقد أبو موسى واستقبل احلشود الرابضة من كال الفريقني‪.‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫" أيها الناس‪ ..‬انا قد نظنا فيما جيمع‪ R‬اهلل به ألفة هذه األمة‪ ،‬ويصلح أمرها‪ ،‬فلم نر شيئا أبلغ من خلع‬
‫الرجلني علي ومعاوية‪ ،‬وجعلها شورى خيتار الناس ألنفسهم‪ R‬من يرونه هلا‪..‬‬
‫واين قد خلعت عليا ومعاوية‪..‬‬
‫فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"‪...‬‬
‫‪ | 469‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وجاء دور عمرو بن العاص‪ R‬ليعلن خلع معاوية‪ ،‬كما خلع أبو موسى عليا‪ ،‬تنفيذا لالتفاق املربم‬
‫باألمس‪...‬‬
‫وصعد عمرو املنرب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫" أيها الناس‪ ،‬ان أبا موسى قد قال كما مسعتم وخلع صاحبه‪،‬‬
‫أال واين قد خلعت صاحبه كما خلعه‪ ،‬وأثبت صاحيب معاوية‪ ،‬فانه ويل أمري املؤمنني عثمان واملطالب‬
‫بدمه‪ ،‬وأحق الناس مبقامه‪!!"..‬‬
‫ومل حيتمل أبو موسى وقع‪ R‬املفاجأة‪ ،‬فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة‪..‬‬
‫وعاد من جديد اىل عزلته‪ ،‬وأغ ّذ خطاه اىل مكة‪ ..‬اىل جوار البيت احلرام‪ ،‬يقضي هناك ما بقي له من‬
‫عمر وأيام‪..‬‬
‫كان أبو موسى رضي اهلل عنه موضع ثقة الرسول وحبه‪ ،‬وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم‪...‬‬
‫ففيحياته عليه الصالة والسالم واله مع معاذ بن جبل أمر اليمن‪..‬‬
‫وبعد وفاة الرسول عاد اىل املدينة ليجمل مسؤولياته يف اجلهاد الكبري الذي‪ R‬خاضته جيوش االسالم‬
‫ضد فارس والروم‪..‬‬
‫ويف عهد عمر واله أمري املؤمنني البصرة‪..‬‬
‫وواله اخلليفة عثمان الكوفة‪..‬‬

‫**‬

‫وكان من أهل القرآن‪ ،‬حفظا‪ ،‬وفقها‪ ،‬وعمال‪..‬‬


‫ومن كلماته املضيئة عن القرآن‪:‬‬
‫" اتبعوا القرآن‪..‬‬
‫وال تطمعوا يف أن يتبعكم القرآن"‪!!..‬‬
‫وكان من اهل العبادة املثابرين‪..‬‬
‫‪ | 470‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حرها يزهق األنفاس‪ ،‬كنت جتد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها‪R‬‬ ‫ويف األيام القائظة اليت يكاد ّ‬
‫ويقول‪:‬‬
‫" لعل ظمأ اهلواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"‪..‬‬

‫**‬

‫وذات يوم رطيب جاءه أجله‪..‬‬


‫وكست حميّاه اشراقة من يرجو رمحة اهلل وحسن ثوابه‪.‬ز‬
‫والكلمات اليت كان يرددها دائما طوال حياته املؤمنة‪ ،‬راح لسانه اآلن وهو يف حلظات الرحيل‬
‫يرددها‪.‬ز‬
‫تلك هي‪:‬‬
‫" اللهم أنت السالم‪..‬ومنك السالم"‪...‬‬
‫الطفيل بن عمرو الدوسري‪R‬‬
‫الفطرة الراشدة‬

‫يف أرض دوس نشأ بني أسرة شريفة كرمية‪..‬‬


‫وأويت موهبة الشعر‪ ،‬فطار بني القبائل صيته ونبوغه‪..‬‬
‫ويف مواسم عكاظ حيث يأيت الشعراء‪ R‬العرب من كل فج وحيتشدون‪ R‬ويتباهون بشعرائهم‪ ،‬كان‬
‫الطفيل يأخذ مكانه يف املقدمة‪..‬‬

‫كما كان يرتدد على مكة كثريا‪ R‬يف غري مواسم عكاظ‪..‬‬
‫وذات مرة كان يزورها‪ ،‬وقد شرع الرسول جيهر بدعوته‪..‬‬
‫وخشيت قريش أن يلقاه الطفيل ويسلم‪ ،‬مث يضع موهبته الشعرية يف خدمة االسالم‪ ،‬فتكون الطامة‬
‫على قريش وأصنامها‪..‬‬
‫‪ | 471‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫من أجل ذلك أحاطوا به‪ ..‬وهيئوا له من الضيافة كل أسباب الرتف والبهجة والنعيم‪ R،‬مث راحوا‬
‫حيذرونه لقاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويقولون‪ R‬له‪:‬‬
‫يفرق بني الرجل وابيه‪ ..‬والرجل وأخيه‪ ..‬والرجل وزوجته‪ ..‬ونا خنشى عليك‬ ‫" ان له قوال كالسحر‪ّ ،‬‬
‫وعلى قومك منه‪ ،‬فال تكلمه وال تسمع منه حديثا"‪!!..‬‬
‫ولنصغ للطفيل ذاته يروي لنا بقية النبأ فيقول‪:‬‬
‫" فواهلل ما زالوا يب حىت عزمت أال أمسع منه شيئا وال ألقاه‪..‬‬
‫وحني غدوت اىل الكعبة حشوت أذينّ كرسفا كي ال أمسع شيئا من قوله اذا هو حتدث‪..‬‬
‫وهناك وجدته قائما يصلي عند الكعبة‪ ،‬فقمت قريبا منه‪ ،‬فأيب اهلل اال أن يسمعين بعض ما يقرأ‪،‬‬
‫فسمعت‪ R‬كالما حسنا‪..‬‬
‫علي احلسن من القبيح‪ ،‬فما مينعين‬
‫وقلت لنفسي‪ :‬واثكل أمي‪ ..‬واهلل اين لرجل لبيب شاعر‪ ،‬ال خيفى ّ‬
‫أن أمسع من الرجل ما يقول‪ ،‬فان كان الذي يأيت به حسن قبلته‪ ،‬وان كان قبيحارفضته‪.‬‬
‫ومكثت حىت انصرف اىل بيته‪ ،‬فاتبعته حىت دخل بيته‪ ،‬فدخلت وراءه‪ ،‬وقلت له‪ :‬يا حممد‪ ،‬ان قومك‬
‫خيوفوين أمرك حىت سددت أذينّ بكرسف لئال أمسع‬ ‫قد حدثوين عنك كذا وكذا‪ ..‬فواهلل ما برحوا ّ‬
‫قولك‪..‬‬
‫علي أمرك‪..‬‬
‫ولكن اهلل شاء أن أمسع‪ ،‬فسمعت‪ R‬قوال حسنا‪ ،‬فاعرض ّ‬
‫علي من القرآن‪..‬‬
‫علي االسالم‪ ،‬وتال ّ‬ ‫فعرض الرسول ّ‬
‫فأسلمت‪ ،‬وشهدت شهادة احلق‪ ،‬وقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬اين امرؤ مطاع يف قومي واين راجع اليهم‪،‬‬
‫وداعيهم اىل االسالم‪ ،‬فادع اهلل أن جيعل يل آية تكون عونا يل فيما أدعهوهم اليه‪ ،‬فقال عليه السالم‪:‬‬
‫اللهم اجعل له آية"‪..‬‬

‫**‬

‫لقد أثىن اهلل تعاىل يف كتابه على " الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه"‪..‬‬
‫‪ | 472‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وها حنن أوالء نلتقي بواحد من هؤالء‪..‬‬


‫انه صورة صادقة من صور الفطرة الرشيدة‪..‬‬
‫فما كاد مسعه يلتقط بعض آيات الرشد واخلري اليت أنزهلا اهلل على فؤاد رسوله‪ ،‬حىت تفتح كل مسعه‪،‬‬
‫وكل قلبه‪ .‬وحىت بسط ميينه مبايعا‪ ..‬ليس ذلك فحسب‪ ..‬بل محّل نفسه من فوره مسؤولية دعوة قومه‬
‫وأهله اىل هذا الدين احلق‪ ،‬والصراط‪ R‬املستقيم‪!..‬‬

‫من أجل هذا‪ ،‬نراه ال يكاد يبلغ بلده وداره يف أرض دوس حىت يواجه أباه بالذي‪ R‬من قلبه من عقيدة‬
‫واصرار‪ ،‬ويدعو أباه اىل االسالم بعد أن ح ّدثه عن الرسول الذي‪ R‬يدعو اىل اهلل‪ ..‬حدثه عن عظمته‪..‬‬
‫وعن طهره وأمانته‪ ..‬عن اخالصه واخباته هلل رب العاملني‪..‬‬
‫وأسلم أبوه يف احلال‪..‬‬
‫مث انتقل اىل أمه‪ ،‬فأسلمت‬
‫مث اىل زوجه‪ ،‬فأسلمت‪..‬‬
‫وملا اطمأن اىل أن االسالم قد غمر بيته‪ ،‬انتقل اىل عشريته‪ ،‬واىل أهل دوس مجيعا‪ ..‬فلم يسلم منهم‬
‫أحد سوى أيب هريرة رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫ولقد راحوا خيذلونه‪ ،‬وينأون عنه‪ ،‬حىت نفذ صربه معهم وعليهم‪ .‬فركب راحلته‪ ،‬وقطع الفيايف عائدا‬
‫ويتزود منه بتعاليمه‪..‬‬
‫اىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يشكو اليه ّ‬
‫وحني نزل مكة‪ ،‬سارع اىل دار الرسول حتدوه أشواقه‪..‬‬
‫وقال للنيب‪:‬‬
‫" يا رسول اهلل‪..‬‬
‫انه ق غلبين على دوس الزىن‪ ،‬والربا‪ ،‬فادع اهلل أن يهلك دوسا"‪!!..‬‬
‫وكانت مفاجأة أذهلت الطفيل حني رأى الرسول يرفع كفيه اىل السماء وهو يقول‪:‬‬
‫" اللهم اهد دوسا وأت هبم مسلمني"‪!!..‬‬
‫مث التفت اىل الطفيل وقال له‪:‬‬
‫‪ | 473‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" ارجع اىل قومك فادعهم وارفق هبم"‪.‬‬

‫مأل هذا املشهد نفس الطفيل روعة‪ ،‬ومأل روحه سالما‪ ،‬ومحد اله أبلغ احلمد أن جعل هذا الرسول‬
‫االنسان الرحيم معلمه وأستاذه‪ .‬وأن جعل االسالم دينه ومالذه‪.‬‬
‫وهنض عائدا اىل أرضه وقومه وهناك راح يدعوهم اىل االسالم يف أناة ورفق‪ ،‬كما أوصاه الرسول عليه‬
‫السالم‪.‬‬
‫وخالل الفرتة اليت قضاها بني قومه‪ ،‬كان الرسول قد هاجر اىل املدينة وكانت قد وقعت‪ R‬غزوة بدر‪،‬‬
‫أحد واخلندق‪.‬‬
‫وبينما رسول اهلل يف خيرب بعد أن فتحها اهلل على املسلمني اذا موكب حافل ينتظم مثانني اسرة من‬
‫دوس أقبلوا على الرسول مهللني مكرّب ين ‪..‬‬
‫وبينما جلسوا يبايعون تباعا‪..‬‬
‫وملا فرغوا من مشهدهم احلافل‪ ،‬وبيعتهم املباركة جلس الطفيل بن عمرو مع نفسه يسرتجع ذكرياته‬
‫ويتأمل خطاه على الطريق‪!!..‬‬
‫تذكر يوم قدوم الرسول يسأله أن يرفع كفيه اىل السماء‪ R‬ويقول‪:‬‬
‫اللهم اهلك دوسا‪ ،‬فاذا هو يبتهل بدعاء آخر أثار يومئذ عجبه‪..‬‬
‫ذلك هو‪:‬‬
‫" اللهم اهد دوسا وأت هبم مسلمني"‪!!..‬‬
‫ولقد هدى اهلل دوسا‪..‬‬
‫وجاء هبم مسلمني‪..‬‬
‫وها هم أوالء‪ ..‬مثانون بيتا‪ ،‬وعائلة منهم‪ ،‬يشكلون أكثرية أهلها‪ ،‬يأخذون مكاهنم يف الصفوف‬
‫الطاهرة خلف رسول اهلل األمني‪.‬‬

‫**‬
‫‪ | 474‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويواصل الطفيل عمله مع اجلماعة املؤمنة‪..‬‬


‫ويوم فتح مكة‪ ،‬كان يدخلها مع عشرة آالف مسلم ال يثنون أعطافهم زهوا وصلفا‪ ،‬بل حينون‬
‫جباههم يف خشوع واذالل‪ ،‬شكرا هلل الذي‪ R‬أثاهبم فتحا قريبا‪ ،‬ونصرا مبينا‪..‬‬
‫ورأى الطفيل رسول اهلل وهو يهدم أصنام الكعبة‪ ،‬ويطهرها بيده من ذلك الرجس الذي طال مداه‪..‬‬
‫وتذكر الدوسي من فوره صنما كان لعمرو بن محمة‪ .‬طاملا كان عمرو هذا يصطحبه اليه حني ينزل‬
‫ويتضرع اليه‪!!..‬‬
‫ّ‬ ‫فيتخشع بني يديه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ضيافته‪،‬‬
‫اآلن حانت الفرصة ليمحو الطفيل عن نفسه امث تلك األيام‪ ..‬هنالك تقدم من الرسول عليه الصالة‬
‫والسالم يستأذنه يف أن يذهب ليحرق صنم عمرو بن محمة وكان هذا الصنم يدعى‪ ،‬ذا الكفني‪ ،‬وأذن‬
‫له النيب عليه السالم‪..‬‬
‫ويذهب الطفيل ويوقد عليه النار‪ ..‬وكلما خبت زادها ضراما وهو ينشد ويقول‪:‬‬
‫يا ذا الكفني لست من عبّادكا‬
‫ميالدنا أقدم من ميالدكا!!‬
‫اين حشوت النار يف فؤادكا‬

‫وهكذا عاش مع النيب يصلي وراءه‪ ،‬ويتعلم منه‪ ،‬ويغزو معه‪.‬‬


‫وينتقل الرسول اىل الرفيق األعلى‪ ،‬فريى الطفيل أن مسؤوليته كمسلم مل تنته مبوت الرسول‪ ،‬بل اهنا‬
‫لتكاد تبدأ‪..‬‬
‫يشمر هلا عن ساعد وساق‪ ،‬وحىت كان خيوض‬ ‫وهكذا مل تكد حروب الردة تنشب حىت كان الطفيل ّ‬
‫غمراهتا وأهواهلا يف حنان مشتاق اىل الشهادة‪..‬‬
‫اشرتك يف حروب الردة حربا‪ ..‬حربا‪..‬‬
‫ويف موقعة اليمامة خرج مع املسلمني مصطحبا معه ابنه عمرو بن الطفيل"‪.‬‬
‫ومع بدء املعركة راح‪ R‬يوضي ابنه أن يقاتل جيش مسيلمة الكذاب قتال من يريد املوت والشهادة‪..‬‬
‫‪ | 475‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وأنبأه أنه حيس أنه سيموت يف هذه املعركة‪.‬‬


‫وهكذا محل سيفه وخاض القتال يف تفان جميد‪..‬‬
‫مل يكن يدافع بسيفه عن حياته‪.‬‬
‫بل كان يدافع حبياته عن سيفه‪.‬‬
‫حىت اذا مات وسقط جسده‪ ،‬بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى مل يسقط صاحبها‬
‫بعد‪!!..‬‬
‫ويف تلك املوقعة استشهد الطفيل الدوسي رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫يلوح البنه الذي‪ R‬مل يكن يراه وسط الزحام‪!!..‬‬
‫وهو جسده حتت وقع الطعان‪ ،‬وهو ّ‬
‫يلوح له وكأنه يهيب به ليتبعه ويلحق به‪..‬‬
‫ّ‬
‫ولقد حلق به فعال‪ ..‬ولكن بعد حني‪..‬‬
‫ففي موقعة الريموك بالشام خرج عمرو بن الطفيل جماهدا وقضى حنبه شهيدا‪..‬‬
‫وكان وهو جيود بأنفاسه‪ ،‬يبسط ذراعه اليمىن ويفتح كفه‪ ،‬كما لو كان سيصافح هبا أحدا‪ ..‬ومن‬
‫يدري‪..‬؟؟‬
‫لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه‪!!..‬‬

‫عمرو بن العاص‪R‬‬
‫حمرر مصر من الرومان‬
‫ّ‬

‫كانوا‪ R‬ثالثة يف قريش‪ ،‬اتبعوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعنف مقاومتهم‪ R‬دعوته وايذائهم‪R‬‬
‫أصحابه‪..‬‬
‫وراح الرسول يدعو عليهم‪ ،‬ويبتهل اىل ربه الكرمي أن ينزل هبم عقابه‪..‬‬
‫واذ هو يدعو ويدعو‪ ،‬تنزل الوحي على قلبه هبذه اآلية الكرمية‪..‬‬
‫( ليس لك من األمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذهبم‪ ،‬فاهنم ظاملون)‪..‬‬
‫‪ | 476‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وفهم الرسول من اآلية أهنا أمر له بالكف عن الدعاء عليهم‪ ،‬وترك أمرهم اىل اهلل وحده‪..‬‬
‫فيحل هبم عذابه‪..‬‬
‫فاما أن يظلوا على ظلمهم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أو يتوب عليهم فيتوبوا‪ ،‬وتدركهم رمحته‪..‬‬
‫كان عمرو بن العاص أحد هؤالء الثالثة‪..‬‬
‫ولقد اختار اهلل هلم طريق التوبة والرمحة وهداهم اىل االسالم‪..‬‬
‫وحتول عمرو بن العاص اىل مسلم مناضل‪ .‬واىل قائد من قادة االسالم البواسل‪..‬‬
‫كصحايب‬
‫ّ‪R‬‬ ‫وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو اليت ال نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها‪ ،‬فان دوره‬
‫جليل بذل وأعطى‪ ،‬ونافح وكافح‪ ،‬سيظل يفتح على حميّاه أعيننا وقلوبنا‪..‬‬
‫وهنا يف مصر بالذات‪ ،‬سيظل الذين يرون االسالم دينا قيما جميدا‪..‬‬
‫ويرون يف رسوله رمحة مهداة‪ ،‬ونعمة موجاة‪ ،‬ورسول صدق عظيم‪ ،‬دعا اىل اهلل على بصرية‪ ،‬وأهلم‬
‫احلياة كثريا‪ R‬من رشدها وتقاها‪..‬‬
‫سيظل الذين حيملون هذا االميان مشحوذي الوالء للرجل الذي‪ R‬جعلته األقدار‪ R‬سببا‪ ،‬وأي سبب‪،‬‬
‫الهداء االسالم اىل مصر‪ ،‬واهداء مصر اىل االسالم‪ ..‬فنعمت اهلداية ونعم مهديها‪..‬‬
‫ذلكم هو‪ :‬عمرو بن العاص‪ R‬رضي اهلل عنه‪..‬‬
‫تعود املؤرخون أن ينعتوا عمرا بـ فاتح مصر‪..‬‬
‫ولقد ّ‬
‫بيد أنا نرى يف هذا الوصف جتوزا وجتاوزا‪ ،‬ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـ حمرر مصر‪..‬‬
‫فاالسالم مل يكن يفتح البالد باملفهوم احلديث للفتح‪ ،‬امنا كان حيررها من تسلط امرباطوريتني سامتا‬
‫العباد والبالد سوء العذاب‪ ،‬تانك مها‪:‬‬
‫امرباطورية الفرس‪.‬ز وامرباطورية‪ R‬الروم‪..‬‬
‫ومصر بالذات‪ ،‬يوم أهلت عليها طالئع االسالم كانت هنبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون‬
‫جدوى‪..‬‬
‫دوت فوق مشارف بالدهم صيحات الكتائب املؤمنة أن‪:‬‬ ‫وملا ّ‬
‫" اهلل أكرب‪..‬‬
‫‪ | 477‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫اهلل أكرب"‪..‬‬
‫سارعوا مجيعا يف زحام جميد صوب الفجر الوافد‪ R‬وعانقوه‪ ،‬واجدين فيه خالصهم من قيصر ومن‬
‫الرومان‪..‬‬
‫فعمرو بن العاص‪ R‬ورجاله‪ ،‬مل يفتحوا‪ R‬مصر اذن‪ ..‬امنا فتحوا الطريق أمام مصر لتصل باحلق مصايرها‪..‬‬
‫وتربط بالعدل مقاديرها‪ ..‬وجتد نفسها وحقيقتها يف ضوء كلمات اهلل‪ ،‬ومبادئ االسالم‪..‬‬
‫ولقد كان رضي اهلل عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن املعركة‪ ،‬ليظل القتال حمصورا‬
‫بينه وبني جنود الرومان الني حيتلون البالد ويسرقون أرزاق أهلها‪..‬‬
‫من أجل ذلك جنده يتحدث اىل زعماء النصارى‪ R‬يومئذ وكبار أشاقفتهم‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫"‪ ...‬ان اهلل بعث حممدا‪ R‬باحلق وأمره به‪..‬‬
‫وانه عليه الصالة والسالم‪ ،‬قد ّأدى رسالته‪ ،‬ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح‬
‫املستقيم‪..‬‬
‫وكان مما أمرنا به االعذار اىل الناس‪ ،‬فنحن ندعوكم اىل االسالم‪..‬‬
‫فمن أجابنا‪ ،‬فهو منا‪ ،‬له ما لنا وعليه ما علينا‪..‬‬
‫ومن مل جيبنا اىل االسالم‪ ،‬عرضنا عليه اجلزية أي الضرائب وبذلنا له احلماية واملنعة‪..‬‬
‫ولقد أخربنا نبينا أن مصر ستفتح علينا‪ ،‬وأوصانا بأهلها خريا فقال‪ ":‬ستفتح عليكم بعدي مصر‪،‬‬
‫ذمة ورمحا"‪..‬‬‫فاستوصوا بقبطها خريا‪ ،‬فان هلم ّ‬
‫فان أجبتمونا اىل ما ندعوكم‪ R‬اليه كانت لكم ذمة اىل ذمة"‪...‬‬
‫وفرغ عمرو من كلماته‪ ،‬فصاح بعض األساقفة والرهبان قائال‪:‬‬
‫" ان الرحم اليت أوصاكم هبا نبيّكم‪ ،‬هلي قرابة بعيدة‪ ،‬ال يصل مثلها اال األنبياء"‪!!..‬‬
‫وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم املرجو بني عمرو أقباط مصر‪ ..‬وان يكن قادة الرومان قد حاولوا‪R‬‬
‫العمل الحباطها‪..‬‬

‫**‬
‫‪ | 478‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وعمرو بن العاص‪ R‬مل يكن من السابقني اىل االسالم‪ ،‬فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة‬
‫بقليل‪..‬‬
‫ومن عجب أن اسالمه بدأ على يد النجاشي باحلبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا وحيرتمه بسبب‬
‫تردده الكثري على احلبشة واهلدايا‪ R‬اجلزيلة اليت كان حيملها للنجاشي‪ ،‬ويف زيارته األخرية لتلك البالد‬
‫جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد ومبكارم األخالق يف جزيرة العرب‪..‬‬
‫وسأل عاهل احلبشة عمرا‪ ،‬كيف مل يؤمن به ويتبعه‪ ،‬وهو رسول من اهلل حقا‪..‬؟؟‬
‫وسأل عمرو النجاشي قائال‪:‬‬
‫" أهو كذلك؟؟"‬
‫وأجابه النجاشي‪:‬‬
‫" نعم‪ ،‬فأطعين يا عمرو واتبعه‪ ،‬فانه واهلل لعلى احلق‪ ،‬وليظهر ّن على من خالفه"‪..‬؟!‬
‫وميمما وجهه شطر املدينة ليسلم هلل رب‬
‫وركب عمرو ثبج البحر من فوره‪ ،‬عائدا اىل بالده‪ّ ،‬‬
‫العاملني‪..‬‬
‫ويف الطريق املقضية اىل املدينة التقى خبالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا اىل الرسول ليبايعه على‬
‫االسالم‪..‬‬
‫ولك يكد الرسول يرامها قادمني حىت هتلل وجهه وقال ألصحابه‪:‬‬
‫" لقد رمتكم مكة بأفالذ أكبادها"‪..‬‬
‫وتقدم خالد فبايع‪..‬‬
‫مث تقدم عمرو فقال‪:‬‬
‫" اين أبايعك على أن يغفر اهلل يل ما تق ّدم من ذنيب"‪..‬‬
‫فأجابه الرسول عليه السالم قائال‪:‬‬
‫" يا عمرو‪..‬‬
‫جيب ما كان قبله"‪..‬‬‫بايع‪ ،‬فان االسالم ّ‬
‫‪ | 479‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبايع عمرو ووضع‪ R‬دهاءه وشجاعته يف خدمة الدين اجلديد‪.‬‬


‫وعندما انتقل الرسول اىل الرفيق األعلى‪ ،‬كان عمرو واليا على عمان‪..‬‬
‫ويف خالفة عمر أبلى بالءه املشهود يف حروب الشام‪ ،‬مث يف حترير مصر من حكم الرومان‪.‬‬

‫**‬

‫وياليت‪ R‬عمرو بن العاص كان قد قاوم نفسه يف حب االمارة‪..‬‬


‫ورطه فيها احلب‪.‬‬‫تفوق كثريا على بعض املواقف اليت ّ‬ ‫اذن لكان قد ّ‬
‫على أن حب عمرو االمارة‪ ،‬كان اىل حد ما‪ ،‬تعبريا تلقائيا عن طبيعته اجلياشة باملواهب‪..‬‬
‫بل ان شكله اخلارجي‪ ،‬وطريقته يف املشي ويف احلديث‪ ،‬كانت تومي اىل أنه خلق لالمارة‪ !!..‬حىت‬
‫لقد روي أن أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رآه ذات يوم مقبال‪ ،‬فابتسم ملشيته وقال‪:‬‬
‫" ما ينبغي أليب عبداهلل أن ميشي على األرض‪ R‬اال أمريا"‪!..‬‬
‫واحلق أن أبا عبداهلل مل يبخس نفسه هذا احلق‪..‬‬
‫وحىت حني كانت األحداث اخلطرية جتتاح املسلمني‪ ..‬كان عمرو يتعامل مع هذه األحداث بأسلوب‬
‫أمري‪ ،‬أمري معه من الذكاء والدهاء‪ ،‬واملقدرة ما جيعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه‪!!..‬‬
‫ولكن معه كذلك من األمانة ما جعل عمر بن اخلطاب وهو الصارم‪ R‬يف اختيار والته‪ ،‬واليا على‬
‫فلسطني واألردن‪ ،‬مث على مصر طوال حياة أمري املؤمنني عمر‪...‬‬
‫حني علم أمري املؤمنني عمر أن عمرا قد جاوز يف رخاء معيشته احلد الذي‪ R‬كان أمري املؤمنني يطلب‬
‫من والته أن يقفوا عنده‪ ،‬ليظلوا دائما يف مستوى‪ ،‬أو على األقل قريبني من مستوى عامة الناس‪..‬‬
‫نقول‪ :‬لو علم اخلليفة عن عمرو كثرة رخائه‪ ،‬مل يعزله‪ ،‬امنا أرسل اليه حممد‪ R‬بن مسلمة وأمره أن‬
‫يقاسم عمرا مجيع أمواله وأشيائه‪ ،‬فيبقي له نصفها وحيمل معه اىل بيت املال باملدينة نصفها اآلخر‪.‬‬
‫ولو قد علم أمري املؤمنني أن حب عمرو لالمارة‪ ،‬حيمله على التفريط يف مسؤولياته‪ ،‬ملا احتمل ضمريه‬
‫الرشيد ابقاءه يف الوالية‪ R‬حلظة‪.‬‬
‫‪ | 480‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫**‬

‫حاد الذكاء‪ ،‬قوي البديهة عميق الرؤية‪..‬‬


‫وكان عمرو رضي اهلل عنه ّ‬
‫صك كفيّه عجبا‬
‫حىت لقد كان أمري املؤمنني عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬كلما رأى انسانا عاجز احليلة‪ّ ،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫" سبحان اهلل‪!!..‬‬
‫ان خالق هذا‪ ،‬وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!‬
‫كما كان بالغ اجلرأة مقداما‪R‬‬
‫ولقد كان ميزج جرأته بدهائه يف بعض املواطن‪ ،‬فيظن به اجلنب أو اهللع‪ ..‬بيد أهنا سعة احليلة‪ ،‬كان‬
‫عمرو جييد استعماهلا يف حذق هائل ليخرج نفسه من املآزق املهلكة‪!!..‬‬
‫ولقد كام أمري املؤمنني عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها‪ ،‬من أجل ذلك عندما أرسله اىل الشام‪R‬‬
‫قبل جميئه اىل مصر‪ ،‬قيل ألمري املؤمنني‪ :‬ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأمريا من‬
‫الشجعان الدهاة‪ ،‬فكان جواب عمر‪:‬‬
‫عم تنفرج األمور"‪!!..‬‬ ‫" لقد رمينا أرطبون الروم‪ ،‬بأرطبون العرب‪ ،‬فلننظر ّ‬
‫ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة ألرطبون‪ R‬العرب‪ ،‬وداهيتهم اخلطري عمرو ابن العاص‪ ،‬على أرطبون‬
‫الروم الذي ترك جيشه للهزمية ووىل هاربا اىل مصر‪ ،‬اليت سيلحقه هبا عمرو بعد قليل‪ ،‬لريفع فوق‬
‫ربوعها اآلمنة راية االسالم‪.‬‬

‫**‬

‫وما أكثر املواقف اليت تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه‪.‬‬


‫‪ | 481‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وان كنا ال حنسب منها حبال موقفه من أيب موسى األشعري يف واقعة التحكيم‪ R‬حني اتفقا على أن خيلع‬
‫كل منهما عليا ومعاوية‪ ،‬لريجع األمر شورى بني املسلمني‪ ،‬فأنفذ أبو موسى االتفاق‪ ،‬وقعد عن انفاذه‬
‫عمرو‪.‬‬
‫واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه‪ ،‬وحذق بديهته‪ ،‬ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع‬
‫الرومان يف مصر ويف رواية تارخيية أخرى أهنا الواقعة اليت سنذكرها وقعت يف الريموك‪ R‬مع أرطبون‬
‫الروم‪..‬‬
‫اذ دعاه األرطبون والقائد‪ R‬ليحادثه‪ ،‬وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه‬
‫من احلصن‪ ،‬وأع ّد كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا حمتوما‪..‬‬
‫ودخل عمرو على القائد‪ ،‬ال يريبه شيء‪ ،‬وانفض لقاؤمها‪ ،‬وبينما هو يف الطريق اىل خارج احلصن‪ ،‬ملح‬
‫فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة احلذر بش ّدة‪.‬‬
‫تصرف بشكل باهر‪.‬‬ ‫وعلى الفور ّ‬
‫يفرعه شيء‬
‫لقد عاد اىل قائد احلصن يف خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة‪ ،‬كأن مل ّ‬
‫قط‪ ،‬ومل يثر شكوكه أمر!!‬
‫ودخل على القائد‪ R‬وقال له‪:‬‬
‫لقد بادرين خاطر أردت أن أطلعك عليه‪ ..‬ان معي حيث يقيم أصحايب مجاعة من أصحاب الرسول‬
‫السابقني اىل االسالم‪ ،‬ال يقطع أمري املؤمنني أمرا دومنشورهتم‪ R،‬وال يرسل جيشا من جيوش االسالم اال‬
‫جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده‪ ،‬وقد رأيت أن آتيك هبم‪ ،‬حىت يسمعوا منك مثل الذي‪ R‬مسعت‪،‬‬
‫ويكونوا من األمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة‪..‬‬
‫وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر‪!!..‬‬
‫فليوافقه اذن على رأيه‪ ،‬حىت اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء املسلمني وخرية رجاهلم وقوادهم‪،‬‬
‫أجهز عليهم مجيعا‪ ،‬بدال من أن جيهز على عمرو وحده‪..‬‬
‫وبطريقة غري منظورة أعطى أمره بارجاء اخلطة اليت كانت مع ّدة الغتيال عمرو‪..‬‬
‫ودع عمرو حبفاوة‪ ،‬وصافحه حبرارة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫‪ | 482‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وابتسم داهية العرب‪ ،‬وهو يغادر احلصن‪..‬‬

‫ويف الصباح عاد عمرو على رأس جيشه اىل احلصن‪ ،‬ممتطيا صهوة فرسه‪ ،‬اليت راحت تقهقه يف‬
‫صهيل شامت وساخر‪.‬‬
‫أجل فهي األخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثري‪!!..‬‬

‫**‬

‫ويف السنة الثالثة واألربعني من اهلجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص‪ R‬مبصر‪ ،‬حيث كان واليا‬
‫عليها‪..‬‬
‫وراح يستعرض حياته يف حلظات الرحيل فقال‪:‬‬
‫"‪ ..‬كنت أول أمري كافرا‪ ..‬وكنت أشد الناس على رسول اهلل‪ ،‬فلو مت يومئذ لوجبت يل النار‪..‬‬
‫أجل يف عيين منه‪ ..‬ولو سئلت أن‬
‫ايل منه‪ ،‬وال ّ‬
‫مث بايعت رسول اهلل‪ ،‬فما كان يف الناس أحد أحب ّ‬
‫مت يومئذ لرجوت أن أكون‬ ‫أنعته ما استطعت‪ ،‬ألين مل أكن أقدر أن أمأل عيين منه اجالال له‪ ..‬فلو ّ‬
‫من أهل اجلنة‪..‬‬
‫علي"‪..‬‬
‫مث بليت بعد ذلك بالسلطان‪ ،‬وبأشياء الأدري أهي يل أم ّ‬

‫**‬

‫مث رفع‪ R‬بصره اىل السماء‪ R‬يف ضراعة‪ ،‬مناجيا ربه الرحيم العظيم قائال‪:‬‬
‫" اللهم ال بريء فأعتذر‪ ،‬وال عزيز فأنتصر‪،‬‬
‫واال تدركين رمحتك أكن من اهلالكني"!!‬
‫وظل يف ضراعاته‪ ،‬وابتهاالته حىت صعدت اىل اهلل روحه‪ .‬وكانت آخر كلماته ال اله اال اهلل‪..‬‬
‫‪ | 483‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عرفها عمرو طريق االسالم‪ ،‬ثوى رفاته‪..‬‬ ‫وحتت‪ R‬ثرى مصر‪ ،‬اليت ّ‬
‫وفوق أرضها الصلبة‪ ،‬ال يزال جملسه حيث كان يعلم‪ ،‬ويقضي وحيكم‪ ..‬قائما عرب القرون حتت سقف‬
‫مسجده العتيق جامع عمرو‪ ،‬أول ميجد يف مصر يذكر فيه اسم اهلل الواحد األحد‪ ،‬وأعلنت بني‬
‫أرجائه ومن فوق منربه كلمات اهلل‪ ،‬ومبادئ االسالم‪.‬‬

‫سامل موىل أي حذيفة‬


‫بل نعم حامل القرآن‬

‫أوصى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه يوما‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" خذوا القرآن من أربعة‪:‬‬
‫عبداهلل بن مسعود‪..‬‬
‫وسامل موىل أيب حذيفة‪..‬‬
‫وأيب بن كعب‪..‬‬
‫ّ‬
‫ومعاذ بن جبل‪"..‬‬
‫وأيب‪،‬ومعاذ‪..‬‬
‫ولقد التقينا من قبل بابن مسعود‪ّ ،‬‬
‫حجة يف تعليم القرآن ومرجعا‪..‬؟؟‬
‫فمن هذا الصحايب الرابع الذي‪ R‬جعله الرسول ّ‬
‫انه سامل‪ ،‬موىل أيب حذيفة‪..‬‬
‫كان عبدا رقيقا‪ ،‬رفع االسالم من شأنه حىت جعل منه ابنا لواحد من كبار املسلمني كان قبل اسالمه‬
‫شريفا من أشراف قريش‪ ،‬وزعيما من زعمائها‪..‬‬
‫وملا أبطل االسالم عادة التبين‪ ،‬صار أخا ورفيقا‪ ،‬وموىل للذي كان يتبناه وهو الصحايب اجلليل‪ :‬أبو‬
‫حذيفة بن عتبة‪..‬‬
‫‪ | 484‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وبفضل من اهلل ونعمة على سامل بلغ بني املسلمني شأوا رفيعا وعاليا‪ّ ،‬أهلته له فضائل روحه‪ ،‬وسلوكه‬
‫وتقواه‪ ..‬وعرف الصحايب اجلليل هبذه التسمية‪ :‬سامل موىل أيب حذيفة‪.‬‬
‫ذلك أنه كان رقيقا وأعتق‪..‬‬
‫وآمن باله اميانا مبكرا‪..‬‬
‫وأخذ مكانه بني السابقني األولني‪..‬‬
‫وكان حذيفة بن عتبة‪ ،‬قد باكر هو اآلخر وسارع اىل االسالم تاركا أباه عتبة بن ربيعة جيرت مغايظه‬
‫ومهوهه اليت ع ّكرت صفو حياته‪ ،‬بسبب اسالم ابنه الذي كان وجيها يف قومه‪ ،‬وكان أبوه يع ّده‬
‫للزعامة يف قريش‪..‬‬
‫وتبىن أبو حذيفة ساملا بعد عتقه‪ ،‬وصار يدعى بسامل بن أيب حذيفة‪..‬‬
‫وراح االثنان يعبدان رهبما‪ R‬يف اخبات‪ ،‬وخشوع‪ ..‬ويصربان أعظم الصرب على أذى قريش وكيدها‪..‬‬
‫وذات يوم نزلت آية القرآن اليت تبطل عادة التبين‪..‬‬
‫وعاد كل متبين ليحمل اسم أبيه احلقيقي الذي ولده وأجنبه‪..‬‬

‫فـ زيد بن حارثة مثل‪ ،‬الذي‪ R‬كان النيب عليه الصالة والسالم قد تبناه‪ ،‬وعرف بني املسلمني بزيد بن‬
‫ولكن ساملا مل يكن يعرف له أب‪ ،‬فواىل أبا‬ ‫حممد‪ ،‬عاد حيمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ّ‬
‫حذيفة‪ ،‬وصار يدعى سامل موىل أيب حذيفة‪..‬‬
‫ولعل االسالم حني أبطل عادة التبين‪ ،‬امنا أراد أن يقول للمسلمني ال تلتمسوا‪ R‬رمحا‪ ،‬وال قرىب‪ ،‬وال‬
‫صلة توكدون‪ R‬هبا اخاءكم‪ ،‬أكرب وال أقوى من االسالم نفسه‪ ..‬والعقيدة اليت جيعلكم هبا اخوانا‪!!..‬‬
‫ولقد فهم املسلمون األوائل هذا جيدا‪..‬‬
‫فلم يكن شيء أحب اىل أحدهم بعد اهلل ورسوله‪ ،‬من اخزواهنم‪ R‬يف اهلل ويف االسالم‪..‬‬
‫ولقد رأينا كيف استقبل األنصار‪ R‬اخواهنم املهاجرين‪ ،‬فشاطروهم أمواهلم‪ ،‬ومساكنهم‪ ،‬وكل ما‬
‫ميلكون‪!!..‬‬
‫‪ | 485‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وهذا هو الذي رأينا حيدث بني أيب حذيفة الشريف يف قريش‪ ،‬مع سامل الذي‪ R‬كان عبدا رقسقا‪ ،‬ال‬
‫يعرف أبوه‪..‬‬
‫لقد ظال اىل آخر حلظة من حياهتما أكثر من اخوين شقيقني حىت عند املوت ماتا معا‪ ..‬الروح مع‬
‫الروح‪ ..‬واجلسد اىل جوار اجلسد‪!!..‬‬
‫تلك عظمة االسالم الفريدة‪..‬‬
‫بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه‪!!..‬‬

‫**‬

‫لقد آمن سامل اميان الصادقني‪..‬‬


‫وسلك طريقه اىل اهلل سلوك األبرار املتقني‪..‬‬
‫فلم يعد حلسبه‪ ،‬وال ملوضعه من اجملتمع‪ R‬أي اعتبار‪..‬‬
‫لقد ارتفع بتقواه واخالصه اىل أعلى مراتب اجملتمع اجلديد الذي جاء االسالم يقيمه وينهضه على‬
‫أساس جديد عادل عظيم‪...‬‬
‫أساس تلخصه اآلية اجلليلة‪:‬‬
‫" ان أكرمكم عند اهلل أتقاكم"‪!!..‬‬
‫واحلديث الشريف‪:‬‬
‫" ليس لعريب على عجمي فضل اال بالتقوى"‪..‬‬
‫و" ليس البن البضاء على ابن السوداء‪ R‬فضل اال بالتقوى"‪..‬‬

‫**‬

‫يف هذا اجملتمع اجلديد الراشد‪ ،‬وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوايل من كان باألمس عبدا‪..‬‬
‫بل ووجد شرفا ألسرته‪ ،‬أن يزوج ساملا ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة‪!!..‬‬
‫‪ | 486‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ويف هذا اجملتمع اجلديد‪ ،‬والرشيد‪ ،‬الذي ه ّدم الطبقية الظاملة‪ ،‬وأبطل التمايز الكاذب‪ ،‬وجد سامل‬
‫بسبب صدقه‪ ،‬واميانه‪ ،‬وبالئه‪ ،‬وجد نفسه يف الصف األول دائما‪!!..‬‬
‫أجل‪ ..‬لقد كان امام للمهاجرين من مكة اىل املدينة طوال صالهتم يف مسجد‪ R‬قباء‪..‬‬
‫وكان حجة يف كتاب اهلل‪ ،‬حىت أمر النيب املسلمني أن يتعلموا منه‪!!..‬‬
‫وكان معه من اخلري والتفوق ما جعل الرسول عليه السالم يقول له‪:‬‬
‫" احلمد هلل‪ ،‬الذي جعل يف أميت مثلك"‪!!..‬‬
‫وحىت كان اخوانه املؤمنني يسمونه‪:‬‬
‫" سامل من الصاحلني"‪!!..‬‬
‫ان قصة سامل كقصة بالل وكقصة عشرات العبيد‪ ،‬والفقراء‪ R‬الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف‪،‬‬
‫وجعلهم يف جمتمع اهلدى‪ R‬والرشاد أئمة‪ ،‬وزعماء وقادة‪..‬‬
‫كان سامل ملتقى لكل فضائل االسالم الرشيد‪..‬‬
‫كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله‪ ..‬وكان اميانه العميق الصادق ينسقها أمجل تنسيق‪.‬‬
‫وكان من أبرز مزاياه اجلهر مبا يراه حقا‪..‬‬
‫انه ال يعرف الصمت جتاه كلمة يرى من واجبه أن يقوهلا‪..‬‬
‫وال خيون احلياة بالسكوت عن خطأ يؤدها‪..‬‬

‫**‬

‫بعد أن فتحت مكة للمسلمني‪ ،‬بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعض السرايا‪ R‬اىل ما حول مكة‬
‫من قرى وقبائل‪ ،‬وأخربهم أنه عليه السالم‪ ،‬امنا يبعث هبم دعاة ال مقاتلني‪..‬‬
‫وكان على رأس احدى هذه السرايا‪ R‬خالد بن الوليد‪..‬‬
‫وحني بلغ خالد وجهته‪ ،‬حدث ما جعله يستعمل السيوف‪ ،‬ويرق الدماء‪..‬‬
‫هذه الواقعة اليت عندما مسع النيب صلى اهلل عليه وسلم نبأها‪ ،‬اعتذر اىل ربه طويال‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪ | 487‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫" اللهم اين أبرأ اليك مما صنع خالد"‪!!..‬‬


‫واليت ظل أمري املؤمنني عمر يذكرها له ويأخذها عليه‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫" ان يف سيف خالد رهقا"‪..‬‬
‫وكان يصحب خالد يف هذه السرية سامل موىل أيب حذيفة مع غريه من األصحاب‪..‬‬
‫ومل يكد سامل يرى صنيع خالد حىت واجهه مبناقشة حامية‪ ،‬وراح‪ R‬يع ّدد له األخطاء اليت ارتكبت‪..‬‬

‫وخالد البطل القائد‪ ،‬والبطل العظيم يف اجلاهلية‪ ،‬واالسالم‪ ،‬ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية‬
‫ويشتد يف القول مرة ثالثة وسامل مستمسك برأيه يعلنه يف غري هتيّب أو مداراة‪..‬‬
‫مل يكن سامل آنئذ ينظر اىل خالد كشريف من أشراف مكة‪ ..‬بينما هو من كان باألمس القريب‪R‬‬
‫رقيقا‪.‬‬
‫سوى االسالم بينهما‪!!..‬‬
‫ال‪ ..‬فقد ّ‬
‫ومل يكن ينظر اليه كقائد تق ّدس أخطاؤه‪ ..‬بل كشريك يف املسؤولية والواجب‪..‬‬
‫ومل يكن يصدر يف معارضته خالدا عن غرض‪ ،‬أو سهوه‪ ،‬بل هي النصيحة اليت ق ّدس االسالم حقها‪،‬‬
‫واليت طاملا مسع نبيه عليه الصالة والسالم جيعلها قوام الدين كله حني يقول‪:‬‬
‫" الدين النصيحة‪..‬‬
‫الدين النصيحة‪..‬‬
‫الدين النصيحة"‪.‬‬

‫**‬

‫ولقد‪ R‬سأل الرسول عليه السالم‪ ،‬عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد‪..‬‬
‫سأل عليه السالم قائال‪:‬‬
‫" هل أنكر عليه أحد"‪..‬؟؟‬
‫‪ | 488‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫ما أجله سؤاال‪ ،‬وما أروعه‪..‬؟؟!!‬


‫وسكن غضبه عليه السالم حني قالوا له‪:‬‬
‫" نعم‪ ..‬راجعه سامل وعارضه"‪..‬‬
‫وعاش سامل مع رسوله واملؤمنني‪..‬‬
‫ال يتخلف عن غزوة وال يقعد عن عبادة‪..‬‬
‫وكان اخاؤه مع أيب حذيفة يزداد مع األيام تفانيا ومتاسكا‪..‬‬

‫**‬
‫وانتقل الرسول اىل الرفيق األعلى‪..‬‬
‫وواجهت خالفة أيب كرب رضي اهلل عنه مؤامرات املرت ّدين‪..‬‬
‫وجاء يوم اليمامة‪..‬‬
‫وكانت حربا رهبة‪ ،‬مل يبتل االسالم مبثلها‪..‬‬
‫وخرج املسلمون للقتال‪..‬‬
‫وخرج سامل وأخوه يف اهلل أبو حذيفة‪..‬‬
‫وأحس كل مؤمن أن املعركة معركته‪ ،‬واملسؤولية‬
‫ّ‬ ‫ويف بدء املعركة مل يصمد املسلمون للهجوم‪..‬‬
‫مسؤوليته‪..‬‬
‫ومجعهم خالد بن الوليد‪ R‬من جديد‪..‬‬
‫وأعاد تنسيق اجليش بعبقرية مذهلة‪..‬‬
‫وتعانق األخوان أبو حذيفة وسامل وتعاهدا على الشهادة يف سبيل الدين احلق الذي وهبهما سعادة‬
‫الدنيا واآلخرة‪..‬‬
‫الرهيب‪!!..‬‬‫اخلضم ّ‬
‫ّ‬ ‫وقذفا نفسيهما يف‬
‫كان أبو حذيفة ينادي‪:‬‬
‫" يا أهل القرآن‪..‬‬
‫‪ | 489‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫زينوا القرآن بأعمالكم"‪.‬‬


‫وسيفه يضرب كالعاصفة يف جيش مسيلمة الكذاب‪.‬‬
‫وكان سامل يصيح‪:‬‬
‫" بئس حامل القرآن أنا‪..‬‬
‫لو هوجم املسلمون من قبلي"‪!!..‬‬
‫حاشاك يا سامل‪ ..‬بل نعم حامل القرآن أنت‪!!..‬‬
‫جوال يف أعناق املرتدين‪ ،‬الذين هبوا ليعيدوا‪ R‬جاهلية قريش‪ ..‬ويطفؤا نور‬‫صوال ّ‬ ‫وكان سيفه ّ‬
‫االسالم‪..‬‬
‫وهوى سيف من سيوف الردة على ميناه فبرتها‪ ..‬وكان حيمل هبا راية املهاجرين بعد أن سقط حاملها‬
‫زيد بن اخلطاب‪...‬‬
‫يلوح هبا اىل أعلى وهو يصيح تاليا اآلية الكرمية‪:‬‬
‫وملا رأى ميناه تبرت‪ ،‬التقط الراية بيسراه وراح‪ّ R‬‬

‫وكأي من نيب قاتل معه ربيّون كثري‪ ،‬فما وهنوا ملا أصاهبم يف سبيل اهلل وما ضعفوا‪ R‬وما استكانوا‬
‫ّ‬ ‫(‬
‫واهلل حيب الصابرين)‪...‬‬
‫أال أعظم به من شعار‪ ..‬ذلك الذي‪ R‬اختاره يوم املوت شعارا له‪!!..‬‬

‫**‬

‫وأحاطت به غاشية من املرتدين فسقط البطل‪ ..‬ولكن روحه ظلت ترتدد يف جسده الطاهر‪ ،‬حىت‬
‫انتهت املعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار‪ R‬املسلمني‪..‬‬
‫وبينما املسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم‪ R‬وجدوا ساملا يف النزع األخري‪..‬‬
‫وسأهلم‪:‬‬
‫ما فعل أبو حذيفة‪..‬؟؟‬
‫‪ | 490‬رجال حول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫قالوا‪ :‬استشهد‪..‬‬
‫قال‪ :‬فأضجعوين اىل جواره‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬انه اىل جوارك يا سامل‪ ..‬لقد استشهد يف نفس املكان‪!!..‬‬
‫وابتسم ابتسامته األخرية‪..‬‬
‫ومل يعد يتكلم‪!!..‬‬
‫لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان‪!!..‬‬
‫معا أسلما‪..‬‬
‫ومعا عاشا‪..‬‬
‫ومعا استشهدا‪..‬‬
‫يا لروعة احلظوظ‪ ،‬ومجال املقادير‪!!..‬‬
‫وذهب اىل اهلل‪ ،‬املؤمن الكبري الذي قال عنه عمر بن اخلطاب وهو ميوت‪:‬‬
‫" لو كان سامل حيّا‪ ،‬لوليته األمر من بعدي"‪!!..‬‬

‫‪62-1‬‬

You might also like