You are on page 1of 6

‫فقه اللغة‪ :‬الجانب التطبيقي‬

‫المحاضرة السادسة‪ :‬مناسبة الصوت للمعنى عند ابن جني‬

‫تمهيد‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫نظ ر ابن ج‪,, , ,‬ني إىل اللغ ة على أهنا أص وات حتم ل دالالت يتف اهم البش ر هبا‬
‫ويتواصلون‪ ،‬إذ عرف ابن جين اللغة بقوله‪ « :‬إهنا أصوات يعرب هبا كل قوم عن‬
‫أغراضهم»‪ 1‬وهو تعريف دقيق يربز اجلوانب املميزة للغة‪ ،‬فهو يؤكد أوال الطبيعة‬
‫الص وتية وي ذكر وظيفته ا االجتماعي ة يف التعب ري ونق ل الفك ر‪ ،‬كم ا يش ري إىل‬
‫اختالف البنية اللغوية باالختالف اجملتمعات اإلنسانية‪.‬‬

‫وال ذي يهمن ا يف ه ذا املق ام تص ور ابن ج ين الص ويت عن اللغ ة‪ ،‬إذ يؤك د ب أن‬
‫األس اس يف الظ اهرة اللغوي ة ه و النط ق وه و أس اس تق وم علي ه أك ثر الدراس ات‬
‫املعاص رة ال يت تع ىن ب املنطوق أوال‪ ،‬مث ت أيت الكتاب ة يف الدرج ة الثاني ة ال يت تعت رب‬
‫تصويرا هلذا املنطوق‪.‬‬

‫ويع د ابن ج ‪,,‬ني أول من جع ل األص وات علم ا ودل ب ه على دراس ة األص وات‬
‫والبحث يف مش كالهتا‪ .‬وق د وردت التس مية (علم األص وات) يف أهم كتب ابن‬
‫جني (سر صناعة اإلعراب) وهو أول كتاب يؤلف يف هذا العلم‪.‬‬
‫األلفاظ الدالة على أصواتها‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫يش كل الص وت اللغ وي املادة اخلام للكلم ة وه و ب ذلك األس اس يف ال درس‬


‫اللغوي‪ ،‬إذ تعد األصوات املعرب ملعرفة بالغة الكالم ملا متتلكه من طبيعة نغمية‬
‫حيص ل هبا تص ور ذه ين لطب ائع األص وات‪ ،‬فلك ل ص وت من أص وات العربي ة‬
‫ص فاته اخلاص ة‪ ،‬إذ تنب ه ابن ج ين إىل العالق ة بني األص وات وم ا ترم ز إلي ه من‬
‫معان وقسم األصوات إىل أصوات قوية يف املعىن وأصوات ضعيفة يف املعىن‪،‬‬
‫أي هن اك أص وات تناس ب املع اين القوي ة‪ ،‬وأص وات أخ رى تناس ب املع اين‬
‫الرقيق ة‪.‬و مت ه ذا التقس يم وف ق ص فات احلروف ووقعه ا يف اآلذان‪ ،‬إذ يق ف‬
‫ابن ج ‪,, ,‬ني عن د كلم ة قضم و خضم فيق ول‪ « :‬أال ت راهم ق الوا قضم يف‬
‫اليابس و خضم يف الرطب و ذلك لقوة القاف وضعف اخلاء‪ ،‬فجعلوا احلرف‬
‫األقوى للفعل األقوى‪ ،‬واحلرف األضعف للفعل األضعف»‪ 2‬ومن مث فإن داللة‬
‫الفعلني مستوحاة من خصائص الصوت إذ يرى ابن جني أن هناك صلة وثيقة‬
‫بني الق اف الش ديدة والص وت الناش ئ عن أك ل الي ابس وبني اخلاء الرخ وة‬
‫والصوت الناشئ عن أكل الرطب‪.‬‬
‫التناسق الصوتي في القرآن‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫يعد النص القرآين من أبلغ النصوص كونه يتقصد اختيار ختري األلفاظ ختريا يستند‬
‫إىل أساس من حتقيق املوسيقى املتسقة مع طبيعة اآلية و السياق و السورة مجيعا‬
‫ت ِمن لَّ ُد ْن َح ِك ٍيم َخبِ‪,,‬ير‬
‫ص‪,‬لَ ْ‬ ‫ُأح ِك َم ْ‬
‫ت آيَاتُ‪,,‬هُ ثُ َّم فُ ِّ‬ ‫‪,‬اب ْ‬
‫ِ‬
‫لقوله عز وجل‪﴿ :‬آل‪,,‬ر كتَ‪ٌ ,‬‬
‫‪ , ,ٍ﴾3‬وقد حتدث الخط ‪,,‬ابي عن بالغ ة الق رآن يف حنو قول ه‪ «:‬إن الكالم إمنا يق وم‬
‫بأشياء ثالثة‪ :‬لفظ حاصل‪ ،‬ومعىن به قائم‪ ،‬ورباط هلا ناظم‪ ،‬وإذا تأملت القرآن‬
‫وج دت ه ذه األم ور من ه يف غاي ة الش رف و الفض يلة‪ ،‬ح ىت ال ت رى ش يئا من‬
‫األلفاظ أفصح‪ ،‬وال أجزلن وال أعذب من ألفاظه»‪ 4‬وقد استعمل القرآن الكرمي‬
‫طائفة من األلفاظ مث اختار أصواهتا مبا يتناسب مع معانيها‪ ،‬و استوحى داللتها‬
‫من حس ن ص ياغتها فك انت دال ة على ذاهتا ب ذاهتا فتك ون أص وات احلروف على‬
‫مست األح داث ال يت ي راد التعب ري عنه ا‪ .‬ومن أمثل ة ذل ك قول ه تع اىل‪﴿:‬فَ ‪َ,‬أتَى اللّ‪,,‬هُ‬
‫ف ِمن َف‪,ْ ,‬وقِ ِه ْم﴾‪ 5‬وقول ه تع اىل‪َ ﴿:‬وظَ َّن‬ ‫ب ْني‪,,‬ا َنهم ِّمن الْ َقو ِ‬
‫اع‪,ِ ,‬د فَ َخ‪,َّ ,‬ر َعلَْي ِه ُم ال َّ‬
‫س ‪ْ ,‬ق ُ‬ ‫َُ ُ َ َ‬
‫ِ‬
‫‪,‬اب﴾‪ 6‬تدل لفظة خر يف جمملها‬ ‫ود َأنَّ َما َفَتنَّاهُ فَ ْ‬
‫اسَتغْ َف َر َربَّهُ َو َخ َّر َراك ًعا َوَأنَ‪َ ,‬‬ ‫َد ُاو ُ‬
‫على الس قوط مص حوب بص وت م ا وه و اخلري ر‪ ،‬واس تعمال اخلر تنبي ه على‬
‫اجتماع أمرين‪ :‬السقوط‪ ،‬وحصول الصوت‪.‬‬
‫ش‪, ,‬ي ِ‬
‫ومن أمثل ة ه ذا التناس ق قول ه ع ز وج ل‪َ﴿ :‬ألَ ْم َت‪,َ ,‬ر َأنَّا َْأر َس‪, ,‬لْنَا ال َّ َ َ‬
‫ين َعلَى‬ ‫اط‬
‫ِ‬
‫ُّه ْم َأزًّا﴾‪ 7‬أي تزعجهم و تقلقهم‪ ،‬و األز من معىن اهلز ولكنه هزا‬ ‫الْ َكاف ِر َ‬
‫ين َت‪ُ ,‬ؤ ز ُ‬
‫قوي ا يناس ب س ياق اآلي ة وه ذا املع ىن أق وى وأعظم يف النف وس من اهلز‪ ،‬إذ إن‬
‫ك بِ ِ‪,‬ج ْذ ِع‬ ‫وه ِّزي ِإلَْي ِ‬ ‫اهلمزة أقوى من اهلاء‪ .‬واهلل عز وجل قال يف شأن مرمي‪ُ ﴿ :‬‬
‫‪,‬ك ُرطَبً‪,,,‬ا َجنِيًّا﴾‪ 8‬ورد اهلز مناس با حلال م رمي ال يت جاءه ا‬ ‫النَّ ْخلَ‪,ِ ,,‬ة تُس ‪,,‬اقِ ْط َعلَْي‪ِ ,,‬‬
‫َ‬
‫املخاض‪ ،‬ومن أمثلة هذا التناسق بني اللفظ والصوت احلامل له قوله عز وجل‪:‬‬
‫ص ٍر َعاتِيَ ٍة﴾‪9‬وقوله عز وجل‪ِ ﴿:‬إنَّا َْأر َسلْنَا َعلَْي ِه ْم‬
‫ص ْر َ‬
‫يح َ‬‫﴿ َو ََّأما َعا ٌد فَ ُْأهلِ ُكوا بِ ِر ٍ‬
‫س ُّم ْس‪, ,‬تَ ِم ٍّر﴾‪10‬وردت لفظ ة صرص ‪,,‬ر وحنن نلتمس‬ ‫ص‪ً , ,‬را فِي َي ‪,ْ ,‬وِم نَ ْح ٍ‬
‫ص ْر َ‬
‫يح‪,,‬ا َ‬ ‫ِر ً‬
‫فيه ا اص طكاك األس نان‪ ،‬و تردي د اللس ان فالص اد يف وقعه ا الص ارخ و ال راء‬
‫املضعفة والتكرار للمادة صرصر قد أضفى صيغة الشدة و جسد صورة الرهبة‪،‬‬
‫فال ال دفء مبس تنزل‪ ،‬و ال الوقاي ة متيس رة‪ .‬وه ذا م ا يه د كي ان اإلنس ان عن د‬
‫التماس ه امللج أ فال جيده‪ .‬ف احلس الص ويت يعطين ا دالل ة خاص ة ت واكب س ياق‬
‫ب اللَّهُ َمثَاًل َّر ُجلَْي ِن‬
‫ض ‪َ , ,‬ر َ‬
‫احلدث‪ .‬ومن أمثل ة ذل ك أيض ا قول ه ع ز و ج ل‪َ ﴿:‬و َ‬
‫َأح‪ُ ,‬د ُهما َأبْ َكم اَل ي ْق‪,ِ ,‬در َعلَ ٰى َش‪,‬ي ٍء و ُه‪,,‬و َك‪,,‬لٌّ َعلَ ٰى م‪,,‬واَل هُ َْأينَم‪,,‬ا يو ِّجه‪,‬هُّ اَل ي ‪ِ ,‬‬
‫ْأت‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫اط ُّم ْس‪,‬تَ ِق ٍيم﴾‪11‬تنهض‬ ‫ص‪,‬ر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َخ ْي‪ٍ ,‬ر َه‪ْ ,‬‬
‫‪,‬ل يَ ْس‪,‬تَ ِوي ُه‪,َ ,‬و َو َمن يَ‪ُْ ,‬أم ُر بال َْع‪ْ ,‬دل َو ُه‪,َ ,‬و َعلَ ٰى َ‬
‫كلمة (كل) على معىن العالة‪ ،‬وقد استعملها القرآن لتوضيح معىن العالة مبا فيها‬
‫من غلظ ة وش دة وثق ل هلذا الص دى الص ويت اخلاص املتول د من احتك اك الك اف‬
‫وإطب اق الالم على الله اة‪ ،‬وم ا ينجم عن ذل ك من ش دة على الس مع‪ ،‬فص وت‬
‫الكاف يف العربية من حروف اإلطباق شديد االنفجار مهموس‪ ،‬وصوت الالم‬
‫يف العربية من حروف األسنان و اللثة‪ ،‬جمهور متوسط بني الشدة والرخاوة‪ .‬وقد‬
‫اجتمع املهموس واجملهور معا يف هذا اللفظ‪ ،‬فاملهموس هو الصوت الذي يظل‬
‫النفس عن د النط ق ب ه جاري ا ال يعوق ه ش يء‪ ،‬واجمله ور ه و الص وت ال ذي ميتن ع‬
‫النفس عن اجلريان به عند النطق‪ ،‬ومن مث أدركنا سر اجتماع الكاف املهموسة‬
‫والالم اجمله ورة يف ه ذا اللف ظ وم ا يف ذل ك من عس ر يف اللف ظ دال على املع ىن‬
‫وغلظت ه‪ .‬فالكلم ة هبذه األبع اد ت وحي ب أن العب د ش ؤم ال خ ري مع ه فه و عال ة‬
‫وزيادة‪.‬‬

‫خالصة‪:‬‬ ‫‪-4‬‬

‫لقد كان اختيار اللفظ املناسب للصوت املناسب حقال يانعا يف القرآن ال للداللة‬
‫الصوتية فحسب‪ ،‬بل جلملة من الدالالت اإلحيائية واللغوية‪ ،‬وتلك ميزة القرآن‬
‫يف ختري األلفاظ‪ ،‬فالنظام الصويت هو الذي حيقق املعىن‪.‬‬

‫هوامش المحاضرة السادسة‪:‬‬

‫ابن جين‪ ،‬اخلصائص‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.33‬‬ ‫‪-1‬‬


‫املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.158 -157‬‬ ‫‪-2‬‬
‫سورة هود‪ ،‬اآلية‪.1‬‬ ‫‪-3‬‬
‫اخلط ايب‪ ،‬بي ان إعج از الق رآن‪ ،‬ثالث رس ائل يف إعج از الق رآن‪،‬‬ ‫‪-4‬‬
‫حتقيق‪ :‬حممد خلف اهلل‪ ،‬حممد زغلول سالم‪ ،‬ط‪ ،3‬دار املعارف مبصر‪،‬‬
‫‪ ،1976‬ص‪.‬‬
‫سورة النحل‪ ،‬اآلية‪.26 :‬‬ ‫‪-5‬‬
‫سورة ص‪ ،‬اآلية‪.24 :‬‬ ‫‪-6‬‬
‫سورة مرمي‪ ،‬اآلية‪.83 :‬‬ ‫‪-7‬‬
‫سورة مرمي‪ ،‬اآلية‪.25 :‬‬ ‫‪-8‬‬
‫سورة احلاقة‪ ،‬اآلية‪.6:‬‬ ‫‪-9‬‬
‫سورة القمر‪ ،‬اآلية‪.19 :‬‬ ‫‪-10‬‬
‫سورة النحل‪ ،‬اآلية‪.76:‬‬ ‫‪-11‬‬

You might also like