You are on page 1of 32

Journal of Humanities and Social Sciences ‫مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬

Volume (6), Issue (5): 30 May 2022 ‫م‬2022 ‫ مايو‬30 :)5( ‫ العدد‬،)6( ‫املجلد‬
P: 1 - 32 32 - 1 :‫ص‬
ISSN: 2522- 3380

Critical Theory of Herbert Marcuse (An Attempt to Criticize the Practices of


Technological Rationality in the Advanced Industrial Society): Analytical-
Critical Study
Hossam Aldin Mahmoud Fayad
Faculty of Arts || Mardin Artuklu University || Turkey
Abstract: The aim of the research is to clarify the mechanism of technological rationality practices in containing the
opposition and consolidating the manifestations of cultural alienation and controlling all human dimensions in the
advanced industrial society, in addition to identifying the negative effects of it on the human and social reality in the
advanced industrial society, based on the theoretical and methodological foundations of critical theory when Herbert
Marcuse. The research relied on the analytical- critical method in the study, analysis, interpretation and criticism of the
research topic. The research also reached a set of results, the most important of which is that the advanced industrial society
was able to master and master, through the practices of technological rationality (instrumental), to control and control the
joints of all social life by establishing a certain pattern of human relations characterized as one- dimensional, but Marcuse
did not present to us Realistic solutions to get out of the net of those practices rooted in the nature of the social construction
of an advanced industrial society. In the end, the research recommended the necessity of rational rationalization with a
human dimension for the use of technological means in social life as auxiliary tools to make social life simpler and easier
away from control, control and oppression and reducing social reality to the instrumental dimension of technological
rationality, in addition to calling on those working in the fields of social sciences to do more There are studies and research
on the danger of technology controlling all aspects of social life through the excessive use of it without awareness
commensurate with its continuously growing capabilities.
Keywords: theory, practices, technological rationality, industrial society.

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات العقالنية التكنولوجية‬
‫ نقدية‬-‫في املجتمع الصناعي املتقدم) دراسة تحليلية‬
‫حسام الدين محمود فياض‬
‫كلية اآلداب || جامعة ماردين ارتوقلو || تركيا‬
‫ هدف البحث إلى توضيح آلية ممارسات العقالنية التكنولوجية في احتواء املعارضة وترسيخ مظاهر االغتراب الثقافي‬:‫املستخلص‬
‫ باإلضافة إلى التعرف على اآلثار السلبية املترتبة عليها في الواقع‬،‫والسيطرة على جميع األبعاد اإلنسانية في املجتمع الصناعي املتقدم‬
‫ وقد‬.‫ باالستناد إلى أسس النظرية واملنهجية للنظرية النقدية عند هربرت ماركيوز‬،‫اإلنساني واالجتماعي في املجتمع الصناعي املتقدم‬
‫ كما توصل البحث إلى مجموعة من النتائج‬.‫ النقدي في دراسة وتحليل وتفسير ونقد موضوع البحث‬-‫اعتمد البحث على املنهج التحليلي‬
‫أهمها أن املجتمع الصناعي املتقدم استطاع وبكل براعة من خالل ممارسات العقالنية التكنولوجية (األداتية) التحكم والسيطرة على‬
‫ إال أن ماركيوز لم‬،‫مفاصل كل الحياة االجتماعية من خالل ترسيخ نمط معين من العالقات اإلنسانية تتصف بأنها ذات البعد الواحد‬

DOI: https://doi.org/10.26389/AJSRP.C111221 ) 1( Available at: https://www.ajsrp.com


‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫يقدم لنا الحلول الواقعية للخروج من شباك تلك املمارسات املتجذرة في طبيعة البناء االجتماعي للمجتمع الصناعي املتقدم‪ .‬وفي النهاية‬
‫أوص ى البحث إلى ضرورة الترشيد العقالني ذو البعد اإلنساني الستخدام الوسائل التكنولوجية في الحياة االجتماعية باعتبارها أدوات‬
‫ً‬
‫مساعدة لجعل الحياة االجتماعية أبسط وأسهل بعيدا عن السيطرة والتحكم والقمع واختزال الواقع االجتماعي في البعد األداتي‬
‫للعقالنية التكنولوجية‪ ،‬باإلضافة إلى دعوة املشتغلين في حقول العلوم االجتماعية إلى إجراء املزيد من الدراسات واألبحاث حول خطورة‬
‫سيطرة التكنولوجيا على كل مفاصل الحياة االجتماعية من خالل االستخدام املفرط لها دون وعي يتناسب مع قدراتها املتنامية بشكل‬
‫مستمر‪.‬‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬النظرية‪ ،‬املمارسات‪ ،‬العقالنية التكنولوجية‪ ،‬املجتمع الصناعي‪.‬‬

‫املقدمة‪.‬‬
‫يعتبر هربرت ماركيوز ‪ )1979 -1898( Herbert Marcuse‬من أبرز وأشهر علماء االجتماع النقديين‬
‫واملعاصرين‪ .‬انتشرت أفكاره في الكثير من الدوائر الفكرية والسياسية في العالم الغربي‪ .‬له العديد من الكتب واملقاالت‬
‫في االجتماع النقدي‪ ،‬تم تقديمه في وسائل اإلعالم الغربية على أنه األب الروحي لليسار الجديد (ملزيد من القراءة‬
‫واالطالع انظر‪ :‬فياض‪.)149 :2020 ،‬‬
‫أنتج ماركيوز نظرية نقدية سوسيولوجية بالغة األهمية‪ ،‬سعى من خاللها إلى الكشف عن ممارسات‬
‫ومفرزات العقالنية التكنولوجية في املجتمعات الصناعية املتقدم والنتائج السلبية املترتبة عليها‪ .‬ناقش ماركيوز‬
‫مفهوم اإلنسان ذو البعد الواحد الذي نقد فيه ممارسات العقل األداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية عبر التطورات‬
‫مرت بها املجتمعات الرأسمالية (فياض‪.)122 :2020 ،‬‬ ‫االقتصادية والتكنولوجية التي ّ‬
‫ً‬
‫يعتبر ماركيوز العقالنية التكنولوجية (األداتية) نوعا من التفكير في املجتمع الصناعي الحديث ويصفه‬
‫ماركيوز بالتفكير ذي البعد الواحد‪ ،‬ويتضح ذلك من خالل التفكير العلمي والتقني املستند إلى أسس الفلسفة‬
‫الوضعية والبراغماتية في رؤية العالم الطبيعي واالجتماعي‪ ،‬فالعقل األداتي عنده هو منطق في التفكير وأسلوب في رؤية‬
‫العالم‪.‬‬
‫يرى ماركيوز أن املستوى االقتصادي في املجتمع الرأسمالي جعل العالقات بين البشر تبدو كما لو أنها‬
‫عالقات بين أشياء‪ ،‬وأن نظرة البشر ألنفسهم ولغيرهم تغدو كنظرتهم لألشياء املادية‪ ،‬وأن العالم االجتماعي أصبح‬
‫ً‬
‫يبدو كما لو أنه (طبيعة ثانية) إلى جانب العالم الطبيعي األصلي‪ ،‬وأصبح كالطبيعة نفسها غير قابل للتغيير ومستقال‬
‫عن أفعالنا‪.‬‬
‫بناء على ما تقدم حاول ماركيوز من خالل نظريته النقدية تحليل ونقد بنية املجتمع الصناعي املتقدم‬ ‫ً‬
‫للكشف عن وسائل السيطرة والهيمنة الجديدة داخل املجتمعات الغربية‪ ،‬بالتركيز على آليات وممارسات العقالنية‬
‫التكنولوجية‪ ،‬التي تستخدم التطور التكنولوجي والقمع التقني كوسيلة الحتواء املعارضة وتفريغ املجتمع من كل‬
‫أشكال النقد فيه‪ ،‬ولتقنين حرية الفرد واملجتمع والسيطرة عليهما‪ ،‬مما يؤدي بطبيعة الحال إلى تعميق مظاهر‬
‫االغتراب اإلنساني وشقائه في الواقع االجتماعي‪.‬‬
‫إن املجتمع الصناعي املعاصر يشتغل كمنظمة مترابطة العناصر‪ ،‬ذات قاعدة إنتاجية تقنية تجعل البحث‬
‫عن املردودية املقصد املوجه للفعل واملؤسسات‪ ،‬فما له قيمة حسب هذا املجتمع هو ما له مردودية (براهمة‪-2010 ،‬‬
‫‪ :2011‬أ)‪ ،‬بذلك يحمل هذا املجتمع في بنيته الكثير من اإلخفاقات‪ ،‬كاغتراب اإلنسان وفقدان الحرية باسم الحرية‬
‫وطابع التشيؤ الذي انتقل إلى العالقات االجتماعية‪ ،‬كلها دالالت على فشل عقالنية هذا النظام وأن النزعة العقالنية‬
‫التي تتوهم أنها تسود الحضارة الصناعية سوف تفض ي في نهاية املطاف إلى نوع من الالعقالنية الشاملة واملدمرة‬
‫(عباس‪.)551 :2005 ،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 2‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫وفي هذا السياق سنحاول تحديد اإلطار التحليلي واملنهجي لدراسة النظرية النقدية عند ماركيوز من خالل‬
‫سعيها إلى تحليل ونقد ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬من خالل ما يلي‪:‬‬

‫مبررات اختيار موضوع البحث‪ :‬وتنقسم بطبيعة الحال إلى‪:‬‬


‫أ‪ -‬مبررات ذاتية‪ :‬تنحصر فيما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬الرغبة في معرفة األسس املنهجية لطبيعة الحياة االجتماعية في املجتمعات الغربية ذات الطابع الديمقراطي‬
‫والليبرالي‪.‬‬
‫‪ ‬امليل إلى التعرف على األفكار النقدية ملاركيوز حول ممارسات العقالنية التكنولوجية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬تطوير أدوات املمارسة النقدية للباحث من خالل االطالع على الدراسات والبحوث النقدية خاصة التي قدمها‬
‫رواد مدرسة فرانكفورت وعلى رأسهم ماركيوز وهابرماس‪.‬‬
‫ب‪ -‬مبررات موضوعية‪ :‬تنحصر فيما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬أهمية الدور املحوري واملتزايد الذي تلعبه الوسائل التكنولوجية في السيطرة على كل مفاصل الحياة اليومية‬
‫للمجتمعات املعاصرة (التعليم‪ ،‬والصحة‪ ،‬والتسويق‪ ،‬ومجاالت العمل‪ ،‬الترفيه) من خالل الذكاء االصطناعي‪،‬‬
‫حيث بات اإلنسان املعاصر غير قادر على االستغناء عنها فهي لغة الحاضر واملستقبل‪ ،‬وبالتالي عليه ترشيد‬
‫استخدامها وتجنب آثارها السلبية إذا تم إساءة توظيفها حتى ال يقع في قبضة العقالنية التكنولوجية وهذا ما‬
‫أشار إليه ماركيوز‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬أهمية املقوالت النظرية النقدية ملاركيوز بالنسبة للواقع املعاصر‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بسيطرة العقالنية‬
‫التكنولوجية على كافة مفاصل الحياة االجتماعية في معظم املجتمعات البشرية‪.‬‬
‫‪ ‬إبراز موقف ماركيوز النقدي من املجتمع الصناعي املتقدم الذي يقوم على أسس النقد الثقافي والتنويري‪،‬‬
‫الهادف إلى النقد اإلصالحي للمجتمع التقني وليس التغيير الراديكالي الشامل‪ ،‬ويظهر هذا النوع من النقد عندما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يكون الواقع االجتماعي قويا قادرا على استيعاب تناقضاته مؤكدا على وحدته وتكامله وهذا حال املجتمعات‬
‫الصناعية املعاصرة‪.‬‬
‫‪ ‬إبراز قدرة النسق الفكري ماركيوز على تسليط الضوء على ممارسات العقالنية التكنولوجية وما يترتب عليها من‬
‫نتائج كارثة على االجتماع اإلنساني‪.‬‬

‫مشكلة البحث‪:‬‬
‫ّ‬
‫صحيح أن التكنولوجيا يسرت الرفاهية الفائقة لإلنسان‪ ،‬وحققت له التقدم والرقي في كافة مجاالت الحياة‪،‬‬
‫فأضحت الوسيلة الرئيسية للتطور الحضاري والثقافي‪ ،‬حيث إنها وفرت الوقت‪ ،‬والجهد‪ ،‬وزادت من سيطرة اإلنسان‬
‫على الطبيعة واملجتمع‪ .‬إال أن ملاركيوز رؤية مختلفة فيما يتعلق بموضوع التكنولوجيا وآثارها السلبية على اإلنسان‬
‫املعاصر‪.‬‬
‫سعى ماركيوز من خالل أفكاره النقدية إلى الكشف عن ممارسات ومفرزات العقل األداتي (العقالنية‬
‫التكنولوجية) في املجتمع الصناعي املتقدم وانعكاساتها السلبية على اإلنسان داخل ذلك املجتمع من خالل كتابه‬
‫الشهير " اإلنسان ذو البعد الواحد‪ -‬دراسة عن إيديولوجية املجتمع املتقدم " الذي نقد فيه العقل األداتي وما آلت‬
‫إليه الحداثة الغربية عبر التطورات االقتصادية والتكنولوجية التي شيئت كل ش يء حتى اإلنسان‪ ،‬لذلك يعتبر مفهوم‬
‫اإلنسان ذو البعد الواحد من أهم املفاهيم التي حللها وناقشها ماركيوز‪ ،‬وتعني " اإلنسان البسيط غير املركب "‪،‬‬
‫فاإلنسان ذو البعـد الواحد هو نتاج املجتمع الحديث‪ ،‬وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد يسيطر عليه العقل األداتي‬
‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬
‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 3‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫والعقالنية التكنولوجية والواحدية املادية‪ ،‬وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي واملادي وتعظيم اإلنتاجية‬
‫املادية وتحقيق معدالت متزايدة من الوفرة والرفاهية واالستهالك‪ ،‬بحيث تهيمن على هذا املجتمع الفلسفة الوضعية‬
‫التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على اإلنسان‪ ،‬وتدرك الواقع االجتماعي من خالل نماذج " كمية – رياضية " وتظهر‬
‫وتنمطه وت ّ‬ ‫ّ‬
‫وترشده ّ‬
‫شيئه وتوظفه لتحقيق األهداف التي حددتها‪.‬‬ ‫فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه‬
‫بذلك يمثل االتجاه النظري واملنهجي عند ماركيوز في رفضه السلبي للمجتمع القمعي القائم‪ ،‬من خالل التأكيد على‬
‫الدور اإليجابي والحاسم للعقل في حياة اإلنسان االجتماعية‪ ،‬ولتجنب النظر إلى املجتمع اإلنساني نظرة ذات بعد‬
‫ً‬
‫واحد‪ .‬كما قام ماركيوز بتوضيح وسائل السيطرة والهيمنة الجديدة داخل املجتمعات الصناعية املتقدمة‪ ،‬كاشفا عن‬
‫ً‬
‫العقالنية التي تجسدها هذه املجتمعات باعتبارها وهما يخفي عقالنية مستشرية تستخدم القمع التكنولوجي كوسيلة‬
‫لتقنين حرية اإلنسان واملجتمع‪.‬‬
‫وفي النهاية نعتقد أن االتجاهات النقدية املعاصرة تنطلق في رؤيتها ملشروع الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬من‬
‫مقولة أساسية أن التكنولوجيا بكل مفرزاتها هي التي تشكيل عاملنا االجتماعي‪ ،‬أو كما يقال‪ :‬التكنولوجيا أصبحت‬
‫محرك التغير‪ ،‬واملعرفة وقودها‪ .‬وهكذا أصبحت معظم النظريات واملقاربات السوسيولوجية في مرحلة ما بعد الدولة‬
‫القومية تركز على التكنولوجيا أكثر من اإلنسان‪ ،‬إذ يجري الحديث عن سوسيولوجيا املعلومات واملعرفة ومجتمع‬
‫الشبكة وثورة التكنولوجيا‪ ،‬فهي بهذا مشغولة ببنية هذه الثورة وطبيعتها‪ ،‬أكثر مما هي مشغولة بعالم اإلنسان‪،‬‬
‫ً‬
‫ولعلها لن تكون قادرة على قراءته تماما‪ ،‬بالنظر إلى أن ثورة املعلومات جعلت املجتمع في حالة من التغير الال مستقر‬
‫والثورة الدائمة‪ .‬هذه هي إحدى التحديات املعرفية التي تواجه علم االجتماع الجديد‪ ،‬وهي سرعة تغير املعرفة‬
‫السوسيولوجية وتقادمها‪ ،‬من جهة‪ ،‬وفقدان القدرة على التنبؤ االجتماعي‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬ودخول املجتمع في مرحلة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من التغيير أشبه ما تكون بالثورة التكنولوجية الدائمة‪ ،‬التي ال تخدم النظام‪ ،‬بل تدمره تدميرا خالقا‪ ،‬وتبعث عن‬
‫ً‬
‫هذا التدمير الخالق مجتمعا‪ ،‬تصبح فيه ثورة املعرفة هي النظام واإلبداع‪ ،‬والثبات هو الفناء‪ .‬إن جنون التكنولوجيا‬
‫هو عنوان هذا التغيير‪ ،‬ودراسة أثرها على تشكيل السلوك اإلنساني وإعادة إنتاج اغترابه الثقافي بأنماط مختلفة هو‬
‫موضوع العلوم االجتماعية في الوقت الراهن (فياض‪ ،‬حضارة القيود‪.)28 -27 :2021،‬‬
‫بناء على ما سبق ترتكز قضية البحث على دراسة وتحليل ونقد ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع‬ ‫ً‬
‫الصناعي املتقدم في ضوء األسس النظرية واملنهجية للنظرية النقدية عند هربرت ماركيوز باعتبارها محاولة جادة‬
‫لنقد وفضح تلك املمارسات‪ ،‬ولتوضيح النتائج السلبية املترتبة على اإلنسان املعاصر‪ ،‬الذي بات ينظر إليه كأحد‬
‫األشياء في بنية املجتمع الصناعي املتقدم بعد تجريده من نزعته اإلنسانية‪.‬‬

‫تساؤالت البحث‪:‬‬
‫تتحدد مشكلة البحث في التساؤل الرئيس ي التالي‪ :‬ما هي النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز لنقد‬
‫ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم؟ وهذا التساؤل بطبيعة الحال يتفرع إلى التساؤالت‬
‫الفرعية التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬ما طبيعة ممارسات العقالنية التكنولوجية في احتواء املعارضة في املجتمع الصناعي املتقدم؟‬
‫‪ .2‬كيف توثر ممارسات العقالنية التكنولوجية على األبعاد اإلنسانية في املجتمع الصناعي املتقدم؟‬
‫‪ .3‬هل تؤدي ممارسات العقالنية التكنولوجية إلى تكريس مفهوم االغتراب الثقافي في املجتمع الصناعي املتقدم؟‬
‫‪ .4‬ما رؤية ماركيوز للخالص من ممارسات العقالنية التكنولوجية السلبية في املجتمع الصناعي املتقدم؟‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 4‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫أهداف البحث‪:‬‬
‫يهدف البحث إلى تحقيق مجموعة من األهداف التي تشكل بحد ذاتها منطلق الدراسة وجوهرها‪ ،‬وهي كاآلتي‪:‬‬
‫‪ .1‬توضيح آلية ممارسات العقالنية التكنولوجية في احتواء املعارضة في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ .2‬التعرف على اآلثار املترتبة عن ممارسات العقالنية التكنولوجية على األبعاد اإلنسانية في املجتمع الصناعي‬
‫املتقدم‪.‬‬
‫‪ .3‬توضيح ممارسات العقالنية التكنولوجية في تكريس مفهوم االغتراب الثقافي في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ .4‬شرح رؤية ماركيوز للخالص من ممارسات العقالنية التكنولوجية السلبية في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬

‫أهمية البحث‪:‬‬
‫باالستناد إلى قضية البحث‪ ،‬تنقسم أهمية الدراسة إلى أهمية علمية وعملية (مجتمعية)‪:‬‬
‫‪ -‬األهمية العلمية‪:‬‬
‫‪ .1‬تسليط الضوء على األسلوب الذي وظف فيه ماركيوز نظريته النقدية وأدواتها التحليلية في دراسة وتحليل‬
‫ونقد األوضاع املعاصرة في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ .2‬توضيح الوسائل والطرق واآلليات واملمارسات القمعية التي وظفتها العقالنية التكنولوجية لبسط سيطرتها‬
‫الكلية على اإلنسان واملجتمع‪.‬‬
‫‪ .3‬الكشف عن منابع ومظاهر االغتراب اإلنساني والثقافي في املجتمع الصناعي املتقدم الذي يعتبر نتيجة مباشرة‬
‫للضغوط والتوجهات التكيفية التي تفرضها العقالنية التكنولوجية عليه‪.‬‬
‫‪ -‬األهمية العملية‪:‬‬
‫‪ .1‬التنبيه إلى ضرورة تنمية البعد اإلنساني للعقل من أجل كبح جماح سيطرة العقالنية التكنولوجية إلعادة النزعة‬
‫اإلنسانية للعالقات االجتماعية التي افتقدتها في ظل ممارسات العقل التقني‪.‬‬
‫‪ .2‬لفت أنظار القائمين على املجتمع إلى ضرورة االنتباه إلى اآلثار السلبية املترتبة عن إساءة استخدام الوسائل‬
‫التكنولوجية على كل أفراد املجتمع‪ ،‬وباألخص األطفال منهم في ظل اضمحالل قدرة املؤسسات التنشئة‬
‫االجتماعية التقليدية (األسرة‪ ،‬املدرسة) القيام بدورها في التربية والتوجيه في ظل مشاركة مواقع التواصل‬
‫االجتماعي لها في العلمية التنشئة املعاصرة‪.‬‬

‫‪ -2‬الدراسات السابقة‪.‬‬
‫إن استعراض الباحث للتراث العلمي في مجال الدراسات األكاديمية والبحوث اإلنسانية والسوسيولوجية‬
‫بصفة خاصة له أهمية كبرى في زيادة نمو املعرفة وإلقاء املزيد من الضوء على قضية البحث املدروسة‪ ،‬وفي هذا‬
‫السياق يستعرض الباحث مجموعة من الدراسات السابقة املشابهة ذات الصلة املباشرة في موضوع البحث‪ ،‬وهي‬
‫كاآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬دراسة بوجنوي‪ ،‬خولة‪ -‬حجام‪ ،‬العربي‪ " .)2020( .‬مدرسة فرانكفورت واالغتراب ماركيوز نموذجا "‪ .‬مجلة‬
‫املستقبل العربي‪ .‬العدد‪ .491 :‬بيروت‪ .‬ركز البحث بشكل أساس ي على التحليل املاركيوزي لقضية االغتراب‬
‫اإلنساني الذي أفرزته الحضارة الصناعية‪ ،‬كما هدفت الدراسة إلى الكشف عن النقائض الكامنة في طبيعة‬
‫تكوين املجتمع الصناعي املتقدم بسبب سيطرة العقالنية التكنولوجية عليه‪ ،‬وما هي طبيعة القيم التي توجه‬
‫تحركاته وتؤطر رؤيته للواقع واملجتمع‪ .‬وخلصت الدراسة إلى أن ما يعانيه اإلنسان في املجتمعات املتقدمة بسبب‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 5‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫أنه أصبح ذا بعد واحد‪ ،‬أال وهو البعد املادي‪ ،‬فال ننتظر منه أن يقوم بعملية تغيير لوضعه القائم للقضاء على‬
‫االغتراب والتشيؤ‪ ،‬ألنه حسب عقلية هذا اإلنسان لديه ما يخسره من امتيازات ومكاسب مادية‪ ،‬كما توصلت‬
‫الدراسة إلى أن حال املجتمع الصناعي املعاصر يحمل الكثير من اإلخفاقات والتناقضات أهمها مشكلة االغتراب‬
‫اإلنساني والثقافي وفقدان الحرية باسم الحرية وطابع التشيؤ الذي انتقل إلى العالقات االجتماعية وهذه كلها‬
‫دالالت على فشل العقالنية التكنولوجية في بناء اإلنسان املعاصر على الصعيد اإلنساني‪ ،‬والقيمي‪ ،‬والروحي‪،‬‬
‫واألخالقي‪ .‬وفي هذا السياق نجد أن الدراسة املذكورة أعاله تتفق مع موضوع البحث في أحد جوانبه أال وهو‬
‫تحليل ونقد مفهوم االغتراب اإلنساني والثقافي فقط‪ ،‬مما يعني أن البحث الحالي يختلف عنها بشكل كبير في‬
‫مقاربة الطرح والتحليل لقضية البحث املتمثلة في رصد املمارسات السلبية للعقالنية التكنولوجية على الصعيد‬
‫اإلنساني‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬والثقافي‪ ،‬والسياس ي‪ .‬ونعلل وجود هذا االختالف لتباين طبيعة األهداف املوجهة للدراسة‬
‫الحالية التي أسست إلطار تحليلي متكامل يتناول موضوع البحث من كل جوانبه‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة كريمة‪ ،‬مسعودي‪ " .)2017( .‬االغتراب في املجتمع الصناعي – هربرت ماركيوز نموذجا "‪ .‬رسالة‬
‫ماجستير‪ .‬قسم الفلسفة‪ .‬كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ .‬جامعة موالي الطاهر‪ .‬الجزائر‪ .‬انطلقت الدراسة‬
‫من البحث في ماهية االغتراب وتجلياته وأشكاله املعاصرة‪ ،‬وباألخص اغتراب اإلنسان الثقافي داخل املجتمعات‬
‫الرأسمالية املتقدمة‪ ،‬حيث هدفت الدراسة إلى توضيح أن السبب الرئيس ي لالغتراب في املجتمعات التقنية‬
‫املعاصرة هو سيطرة العقل األداتي الذي يسعى إلى تشيئ كل ما يقع تحت قبضته حتى اإلنسان بحد ذاته‪ ،‬ويرى‬
‫ماركيوز بأن التطور الذي حققته البشرية لم يتم إال من خالل القمع املستمر للدوافع والحاجات‪ ،‬فالتطور‬
‫التكنولوجي عمل على إلغاء كل حاجات اإلنسان وقام وبتوحيدها (مجتمع البعد الواحد)‪ ،‬واعتبرت الدراسة أن‬
‫املجتمع الصناعي يعني سيطرة اإلنسان على الطبيعة التي امتدت مع إرساء أسس العقالنية التكنولوجية‬
‫للسيطرة على كل مفاصل الحياة اإلنسانية‪ .‬وختمت الدراسة بأنه رغم النجاحات الهائلة التي حققتها املجتمعات‬
‫الصناعية املتقدمة في سيطرة اإلنسان على الطبيعة في ظل التقدم التكنولوجي‪ ،‬إال هذا األخير جعل اإلنسانية ال‬
‫قيمة لها‪ ،‬ومن هنا أخذ اإلنسان يشعر باالغتراب والبعد عن الذات‪ ،‬ألن قيمته أصبحت تقاس بما ينتجه من‬
‫سلع ومنتجات‪ ،‬وتحول اإلنسان إلى ش يء‪ .‬كما أنه لم يعد يعيش كمركز لعامله وخالق ألفعاله‪ ،‬واستغنى عن‬
‫الحرية بوهم الحرية والروح بالجسد‪ ،‬وغاص داخل بوتقة البعد الواحد‪ ،‬بحيث أخذت التكنولوجيا املعاصرة‬
‫تعمق من اغترابه وتستبعد كل أشكال الصراع الكامنة فيه‪ .‬وفي النهاية يمكننا القول إن هذه الدراسة تالقت مع‬
‫البحث في الحالي في كثير من النقاط‪ ،‬وباألخص فيما يتعلق بموضوع االغتراب الثقافي ومظاهره‪ ،‬إال أنها اختلف‬
‫عنه في تكوين اإلطار التحليلي املوجه لكل خطوات البحث من حيث األسس النظرية واملنهجية وباألخص القدرة‬
‫على التحليل والنقد باستخدام أدوات التحليل النقدي لهربرت ماركيوز ولكن بطريقة الباحث‪.‬‬

‫تعليق على الدراسات السابقة‪:‬‬


‫استفاد الباحث من الدراستين السابقتين في تعميق رؤيته وفهمه لبعض النقاط األولية في النظرية النقدية‬
‫ملاركيوز‪ ،‬وباألخص فيما يتعلق بممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمعات الصناعية املتقدمة‪ ،‬وفي تحليله‬
‫ملوضوع البحث الحالي‪ .‬كما ساهمت تلك الدراسات في إثراء وتدعيم اإلطار النظري‪ ،‬واملنهجي‪ ،‬والتحليلي‪ ،‬للبحث من‬
‫خالل مضامينها ومناقشاتها ملوضوعاتها‪ ،‬كما ساعدت الباحث في تجسيد اإلجراءات النظرية واملنهجية للبحث الحالي‪،‬‬
‫فالهدف املحوري من ذلك هو البدء من حيث انتهى الباحثون السابقون حتى ال يكون هناك تكرار لدراسة ما سبق‪،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 6‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫وإلثراء املكتبة العربية بمزيد من الدراسات حول موضوع البحث برؤية جديدة الذي يعتبر الشغل الشاغل لكل‬
‫اإلنسانية في ظل التطورات التكنولوجية الهائلة واملتسارعة وعدم قدرة اإلنسان االستغناء عنها‪.‬‬

‫‪ -3‬منهجية البحث وخطته‪.‬‬


‫تمثل منهجية الدراسة ألي دراسة من الدراسات أهمية خاصة‪ ،‬حيث يمكن التوصل من خاللها إلى النتائج‬
‫وبناء على موضوع البحث تم‬ ‫العلمية واملوضوعية‪ .‬وتقتض ي منهجية البحث تحديد املنهج الذي سيتبع في البحث‪ً .‬‬
‫تحديد عناصر اإلطار املنهجي‪ ،‬بما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬نوع الدراسة‪ :‬يندرج نوع البحث الحالي تحت أنواع البحوث الكيفية (بحث نظري‪ -‬كيفي)‪ ،‬التي تسعى إلى جمع‬
‫وتحليل وتفسير ونقد املعلومات بشكل سردي ومنطقي من أجل فهم قضية الدراسة موضوع البحث والتحليل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ب‪ -‬منهج الدراسة‪ً :‬‬
‫بناء على قضية البحث املطروحة وتحقيقا ألهدافه‪ ،‬اعتمد الباحث على املنهج التحليلي‪-‬‬
‫النقدي في دراسة موضوع البحث " النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز – محاولة لنقد ممارسات العقالنية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم "‪ ،‬لتوضيح تلك املمارسات والنتائج املترتبة عليها تحليال ونقدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يعتبر املنهج التحليلي عملية من عمليات العقل األساسية‪ ،‬فعندما نريد فهم وتفسير قضية ما‪ ،‬فإننا غالبا ما‬
‫نجزئها إلى مكوناتها األساسية ونحاول أن نعيدها إلى جذورها التي نشأت منها‪ ،‬وذلك لنبين أسسها التي أوجدتها‪،‬‬
‫لتصبح أسبابها واضحة‪ .‬بمعنى آخر إرجاع القضية البحثية إلى العوامل التي أدت إلى وجودها لتوضيح دورها في الواقع‬
‫االجتماعي‪ ،‬حتى يسهل فهمها (حسن‪ .)190 :2012 ،‬أما املنهج النقدي هو مجمل اإلجراءات والعمليات الذهنية التي‬
‫يقوم بها الباحث إلظهار حقيقة األشياء والظواهر التي يدرسها‪ ،‬وهو بذلك طريقة في التفكير يتم من خاللها بناء تصور‬
‫حول القضية موضوع الدراسة بغية الوصول إلى حلول لها‪ ،‬كما أن املنهج النقدي يسعى إلى اختبار توافق نظرية ما‬
‫مع مبادئها" (فضل‪ ،)11 :2002 ،‬ألن النقد ضرورة الزدهار الحقل املعرفي من حيث طبيعته التأسيسية والتأصيلية‬
‫ً‬
‫معا‪ .‬ليتمكن الناقد من التزود باألصول واملعايير واألدوات التي تساعده على وضع األسس املنهجية التي يمكن أن يتخذ‬
‫ً‬
‫منها سبيال يسلكه في نقده لقضية معينة (مرتض ى‪.)54 -53 :2007 ،‬‬

‫اإلطار التحليلي للبحث‪:‬‬


‫يتطلب أي بحث جاد من الباحث وضع إطار تحليلي يساعد على فهم وتحليل املتغيرات والتفاعالت املتعلقة‬
‫بقضية البحث‪ ،‬ألن هذا اإلطار هو السبيل الذي يحدد لنا كيفية الوصول إلى تحقيق الهدف العام للبحث‪" .‬وألنه‬
‫يعمل بمثابة املصباح الذي ينير الطريق للباحث في استكشاف املفاهيم األساسية التي سيبنى في ضوئها البحث‪،‬‬
‫وتحديد العالقات بين تلك املفاهيم (السعدي وآخرون‪.)197 :2010 ،‬‬
‫بذلك يعتبر اإلطار التحليلي بمثابة البوصلة املعرفية واملنهجية لتوجيه سير مراحل البحث‪ ،‬فالهدف املنشود‬
‫من تطوير إطار تحليلي نظري هو رصد وتحليل ونقد ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم‬
‫باالستناد إلى املقوالت والقضايا النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (فياض‪.)57 :2020 ،‬‬
‫يتأخذ ماركيوز النقد االجتماعي كمدخل منهجي‪( ‬انظر‪ :‬فياض‪ ،‬املدخل إلى علم االجتماع‪-359 ،2021 ،‬‬
‫‪ )360‬وأداة تحليلية لنقد ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬حيث تتصف ممارسة‬

‫ً‬
‫‪ ‬تمثل املداخل املنهجية زاوية االقتراب من قضية البحث موضوع الدراسة‪ ،‬وعليه يمكن القول إن املدخل املنهجي أكثر ارتباطا ببناء‬
‫النظرية ألن املقوالت النظرية هي التي تفرض هذا املدخل أو ذاك‪ .‬وباملقابل فإن املدخل املنهجي بدوره هو الذي يحدد مناهج وطرائق‬
‫البحث املناسبة في هذا البحث أو تلك القضية‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 7‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫ً‬
‫العملية النقدية عنده بأنها أقل راديكالية وشموال‪ ،‬ألنه يتبنى النقد الثقافي والتنويري فقط‪ ،‬أي أنه يهدف إلى عملية‬
‫التغيير الثقافي والتنويري لتشكيل توجهات ثقافية وقيمية جديدة تحكم التفاعل الكائن في الواقع االجتماعي‬
‫والحضاري‪ ،‬ويظهر هذا املستوى من النقد االجتماعي حينما تنحدر الحركات السياسية الراديكالية وتقتصر بأهدافها‬
‫ً‬
‫على النقد الذاتي والثقافي للمجتمع‪ ،‬أو عندما ال يكون الفاعل الثوري للمجتمع مهيأ لتنفيذ مهام النقد ومتطلباته‪.‬‬
‫هذا النقد قد يصبح هو املستوى املسموح به حينما يثبت الواقع ويؤكد صالبته أمام االنتقادات املوجه إليه‪ ،‬حيث‬
‫يسعى هذا الواقع إلى استيعاب مضمون النقد بما يدعم بنائه وصالبته ويفقد النقد مبرره ومشروعيته‪ .‬ويبرز هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املستوى النقدي في املراحل التاريخية التي يكون فيها الواقع االجتماعي قويا‪ ،‬قادرا على استيعاب تناقضاته مؤكدا على‬
‫وحدته وتكامله‪ ،‬أو حينما يقتصر النقد االجتماعي على فضح وتفنيد ما هو قائم‪ ،‬وامتالك القدرة على االنطالق إلى ما‬
‫ينبغي أن يكون عن طريق امتالك نموذج مثالي ومستقبلي يتحرك نحوه املجتمع‪ ،‬أو حينما ال يمتلك التيار النقدي‬
‫قوى التحول االجتماعي أو الفاعل الثوري (ليلة‪.)11 :2004 ،‬‬
‫وتشكل مقوالت النظرية النقدية املدخل الرئيس ي لنقد ممارسات العقالنية التكنولوجية‪ ،‬حيث ترفض‬
‫النظرية النقدية النظر إلى الوقائع االجتماعية على أنها أشياء‪ ،‬ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية‪،‬‬
‫ً‬
‫وتحاول في املقابل أن تطرح فكرا ال يفصل بين النظرية واملمارسة‪ .‬باعتبارها العلم النقدي للمجتمع‪ ،‬وأن مهمة‬
‫الفلسفة بالتالي متابعة العملية النقدية والتحري عن أشكال االغتراب الجديدة‪ .‬وقد أخذت مقوالتها شكل تحليل‬
‫نقدي للعقل‪ .‬فلئن يكن العقل قد صاغ في املاض ي مثل العدالة والحرية والديمقراطية‪ ،‬فإن هذه املثل حل بها الفساد‬
‫في هيمنة البرجوازية التي أدت إلى تحلل حقيقي للعقل‪ .‬ومن هنا بدت الحاجة إلى نظرية نقدية جدلية تستطيع أن‬
‫تتعقل اغتراب العقل بالذات (بوتومور‪.)206 :2004 ،‬‬
‫ترمي النظرية النقدية إلى تحقيق ثالث مهام‪ :‬أولها الكشف في كل نظرية عن املصلحة االجتماعية التي ولدتها‬
‫وحددتها‪ ،‬وهنا يتوجه هوركهايمر‪ ،‬كما فعل ماركس‪ ،‬إلى تحقيق االنفصال عن املثالية األملانية ومناقشتها على ضوء‬
‫املصالح االجتماعية التي أنتجتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتنحصر املهمة الثانية للنظرية النقدية في أن تظل هذه النظرية على وعي بكونها ال تمثل مذهبا خارجا عن‬
‫ً‬
‫التطور االجتماعي التاريخي‪ .‬فهي ال تطرح نفسها باعتبارها مبدأ أخالقيا‪ ،‬أو أنها تعكس أي مبدأ أخالقي خارج صيرورة‬
‫الواقع‪ .‬واملقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة األغلبية االجتماعية في تنظيم عالقات اإلنتاج بما‬
‫يحقق تطابق العقل مع الواقع‪ ،‬وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة‪.‬‬
‫أما املهمة الثالثة‪ ،‬فهي التصدي ملختلف األشكال الال معقولة التي حاولت املصالح الطبقية السائدة أن‬
‫تلبسها للعقل وأن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها ليست سوى أدوات الستخدام العقل في تدعيم النظم‬
‫االجتماعية القائمة‪ ،‬وهو ما دعاه هوركهايمر بالعقل األداتي (بوتومور‪.)207 -206 :2004 ،‬‬
‫وفي النهاية يمكننا القول إن حالة العداء والسيطرة التي تهمين على الحياة العامة في وقتنا املعاصر‪ ،‬ولكل ما‬
‫يمت إلى النظرية (وباألخص النظرية النقدية)‪ ،‬موجه في حقيقة األمر ضد النشاط الراديكالي املرتبط بالفكر النقدي‬
‫لتحليل ونقد الواقع (هوركهايمر‪ ،)61 :2010 ،‬الذي يحاول من خالله ماركيوز أن يوظف مقوالت النظرية النقدية‬
‫وأدواتها لفضح ممارسات وسيطرة العقالنية التكنولوجية‪ ،‬والكشف عن اآلثار السلبية املترتبة عليها بالنسبة لإلنسان‬
‫واملجتمع في محاولة جادة إلعادة النزعة اإلنسانية إليهما‪.‬‬
‫لذا فقد تكون البحث من مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة‪ ،‬وعلى النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪ ‬املقدمة‪ :‬وتضمنت ما سبق‪.‬‬
‫‪ ‬املبحث األول‪ :‬آلية ممارسات العقالنية التكنولوجية في احتواء املعارضة في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 8‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫‪ ‬املبحث الثاني‪ :‬أثر ممارسات العقالنية التكنولوجية على األبعاد اإلنسانية في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ ‬املبحث الثالث‪ :‬تكريس ممارسات العقالنية التكنولوجية ملفهوم االغتراب في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ ‬املبحث الرابع‪ :‬السبيل للخالص من ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ ‬الخاتمة‪ :‬خالصة بأهم االستنتاجات‪ ،‬التوصيات واملقترحات‪.‬‬

‫املبحث األول‪ -‬آلية ممارسات العقالنية التكنولوجية في احتواء املعارضة في املجتمع الصناعي‬
‫املتقدم‪.‬‬
‫ً‬
‫يرى ماركيوز أن املجتمع الصناعي املتقدم قد استطاع " أن يكسب كثيرا من األرض التي كان على الحرية‬
‫ً‬
‫الجديدة أن تزدهر عليها‪ .‬لقد امتلك هذا املجتمع أبعاد الوعي والطبيعة التي لم تتلوث في املاض ي إال نسبيا‪ .‬لقد صاغ‬
‫ولين من التناقض الذي أصبح يتحمله بهذه الصورة‪ .‬وخالل هذا الغزو الديمقراطي‪-‬‬ ‫بدائل تاريخية في صورته‪ّ ،‬‬
‫الشمولي لإلنسان والطبيعة‪ ،‬أمكن غزو املسافة الذاتية واملوضوعية املتاحة لعالم الحرية " (ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪،‬‬
‫‪.)11 :1971‬‬
‫ً‬
‫سعى املجتمع الصناعي املتقدم جاهدا بكل قواه‪ ،‬إلى تفريغ املجتمع من كل أشكال النقد‪ ،‬بهدف السيطرة‬
‫عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته املتمثلة بالسيطرة والتسلط على اإلنسان والطبيعة‪ .‬فوسائل‬
‫االتصال الجماهيري املحصنة بالتكنولوجيا التي يمتلكها هذا املجتمع على سبيل املثال‪ ،‬ال تجد أي عناء يذكر في‬
‫تحويل املصالح الخاصة إلى مصالح تهم كل أفراد املجتمع من ذوي الحس السليم‪ .‬حيث يبدو أن كل ش يء عقالني وال‬
‫يشوبه أي التناقض أو الخلل‪.‬‬
‫ويشرح ماركيوز سبب هذه السيطرة أن طاقات املجتمع املعاصر (الفكرية واملادية) الحالية أعظم بكثير مما‬
‫كانت عليه في السابق‪ ،‬وهذا معناه أن هيمنة املجتمع على الفرد أكثر بكثير من السنوات املاضية‪ ،‬لقدرة هذا املجتمع‬
‫على استخدام التكنولوجيا وترشيدها في سبيل السيطرة على أفراده من خالل تحسين مستوى معيشتهم وجعلهم‬
‫أسيرين لها بكل ممارستهم اليومية (ماركيوز‪.)26 :1988 ،‬‬
‫وقد اعتمد املجتمع الصناعي ترسيخ هذه السيطرة على العقالنية األداتية وهي نمط من املعرفة تقوم‬
‫بتوظيف وتوجيه العقل نحو املالحظة والتجريب والتكميم الحسابي – الرياض ي‪ ،‬وهذا النمط املعرفي تقني في أساسه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وذلك ألن املعرفة العلمية التي تبلورت منذ العصر الحديث قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالتقنية كونها أداة لتحقيق‬
‫النجاعة والفاعلية ولهذا كانت العقالنية األداتية نتيجة حتمية لفكرة الصراع من السيطرة على الطبيعة التي امتدت‬
‫فيما للسيطرة الطبيعة واإلنسان مما جعلها عاجزة عن إدراك العمليات االجتماعية واإلنسانية في سياقها الشامل‬
‫(بومنير‪.)29 -28 :2010 ،‬‬
‫باملقابل قدم املجتمع الصناعي املتقدم ألفراده مبررات منطقية للقضاء على كل أشكاله النقد‪ ،‬من خالل‬
‫التقدم التقني الذي يرسخ دعائم كاملة من السيطرة والتنسيق‪ ،‬فالنظام يقوم بدوره بتوجيه التقدم من خالل خلق‬
‫أشكال للحياة والسلطة التي تبدو وكأنها منسجمة مع نظام القوى املعارضة‪ ،‬حيث يتم إبطال كل محاولة لالحتجاج‬
‫ً‬
‫باسم اآلفاق املستقبلية أو باسم تحرر اإلنسان‪ .‬لذا يصبح املجتمع املعاصر قادرا على الصمود دون أي تبدل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اجتماعي‪ ،‬أي دون التحول باملعنى الكيفي الذي يؤدي إلى قيام مؤسسات تختلف اختالفا جوهريا عن الحالية تساعد‬
‫على قيام طراز جديد للحياة االجتماعية‪ .‬مما يضع عراقيل حقيقية أمام عملية التغيير االجتماعي (ماركيوز‪.)28 :1988 ،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪) 9‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫ألن الرأسمالية املتقدمة‪ ،‬قد استطاعت اليوم أن تجدد نفسها من خالل تطوير نظام وأسلوب االستغالل‪،‬‬
‫فلم يعد االستغالل والسيطرة يرتبطان على نحو ما كان عليه في املاض ي (أي الشعور باملعاناة)‪ ،‬ألن مثل هذا الشعور‬
‫يمكن تعويضه اآلن عن طريق مستوى الرفاهية الذي لم يسبق له مثيل )‪.(Marcuse, 1969: 13‬‬
‫فعلى سبيل املثال‪ ،‬تستخدم األنظمة الرأسمالية مقدار مقنن من التسامح الذي يتطلبه النظام الديمقراطي‬
‫مع القوى املعارضة‪ ،‬الذي يؤدي إلى تورط هذه القوى في اللعبة البرملانية‪ ،‬وبهذا تصبح املعارضة مندمجة داخل‬
‫ً‬
‫منظومة املجتمع القائم‪ ،‬وبالتالي يجردها تماما من سالحها الوحيد‪ ،‬أال وهي القدرة على رفض النظام القائم‪ .‬وبنفس‬
‫ً‬
‫هذا السياق يساعد هذا التسامح أيضا على الترويج لسائر البرامج اإلصالحية السلمية التي تتوهم إمكانية الوصول إلى‬
‫تغيرات جذرية دون اللجوء للعنف الثوري‪ ،‬لذا نجد أن هذا التسامح الحذر الذي تمنحه املجتمعات الرأسمالية‪،‬‬
‫يصبح أداة ناجحة لتحديد القوى الراديكالية املعارضة للنظام‪ ،‬فالشعب يتسامح مع الحكومة‪ ،‬والحكومة تتسامح مع‬
‫ً‬
‫املعارضة داخل إطار شمولي يتخذ من الديمقراطية ستارا ملمارساته القمعية (‪.)Marcuse, 1965: 83‬‬
‫والدليل على ذلك‪ ،‬أن النظم السياسية الراهنة التي تتخذ الشكل الديمقراطي‪ ،‬فإن هذا ال يؤخر وال يقدم‬
‫ً‬
‫شيئا ملوقفها األساس ي‪ ،‬فما الديمقراطية إال واجهة تحكم من ورائها صفوة ما لحساب مصالح معينة‪ ،‬أو ما هي في‬
‫الحقيقة إال نوع من الطغيان الذي يرتدي الرداء الديمقراطي من خالل األغلبية‪ .‬وما االلتزام بالقرار الديمقراطي إال‬
‫نوع من االلتزام الزائف‪ ،‬ذلك أن االلتزام الحقيقي ال يمكن أن ينبع من إرادة تم تخريبها والسيطرة عليها (كرسبني‪-‬‬
‫مينوج‪.)31 -30 :1988 ،‬‬
‫هذا ما دعا ماركيوز إلى توضيح مدى التزييف الذي أصاحب مفهوم النقد في هذا املجتمع من خالل إقامة‬
‫املقارنة بين نقد املجتمع الصناعي في مرحلة تكوينه‪ ،‬وبين وضعه الراهن للداللة على الوضع الذي ترد إليه‪ .‬ففي‬
‫ً‬
‫النصف األول من القرن التاسع عشر على سبيل املثال كان النقد يمارس عمله بصورة جلية متوسطا بين النظرية‬
‫واملمارسة‪ ،‬بين القيم والوقائع‪ ،‬بين الحاجات واألهداف‪ .‬فالبرجوازية والبروليتاريا كطبقتين كبيرتين متعارضتين‬
‫باملجتمع قد وعتا الدور التاريخي للنظرية وراحتا تستخدمانه في عملهما السياس ي‪ .‬أما في الوضع الحالي نجد أن‬
‫البرجوازية والبروليتاريا على الرغم من أنهما الطبقتين الرئيستين في العالم الرأسمالي‪ ،‬إال أن العالم قد شوه بنيتهما‬
‫ووظيفتهما إلى حد عدم القدرة على النظر إليهما كعامل للتحول التاريخي‪ .‬ففي القطاعات من املجتمع املعاصر توجد‬
‫مصلحة قوية لتوحيد خصوم األمس بهدف الحفاظ على مؤسسات املجتمع الصناعي املتقدم من جهة وتدعيمها من‬
‫جهة أخرى (ماركيوز‪.)29 :1988 ،‬‬
‫إن البنية الطبقة للمجتمع الصناعي والصراع الطبقي بين الطبقات‪ ،‬كما صورها ماركس لم تعد تعتبر‬
‫قسمات هامة للمجتمعات الغربية الحديثة‪ ،‬ألن هذه املجتمعات سعت إلى توحيد الخصمين السابقين في املجاالت‬
‫ً‬
‫األكثر تقدما للمجتمع املعاصر‪ ،‬ألن من مصلحتها اإلبقاء على مقاليد السيطرة والهيمنة التي تستحوذها باسم التقدم‬
‫واالرتقاء (ماركيوز‪ .)76 :1988 ،‬أي أن الطبقة املعارضة‪ ،‬واملتمثلة بالطبقة العاملة لم تعد موجودة ألنه تم استيعابها‬
‫ً‬
‫واسترضائها‪ ،‬ليس من خالل االستهالك فقط‪ ،‬وإنما أيضا من خالل عملية اإلنتاج املرشدة ذاتها (ماركيوز‪.)82 :1988 ،‬‬
‫ً‬
‫ونتيجة لغياب عوامل التغير االجتماعي في هذا املجتمع تم القضاء على أي محاولة بناءة للنقد مما أدى به‬
‫إلى تقوقعه في مجال التجريد فقط‪ .‬األمر الذي أدى إلى تحطيم حقيقي لألرض املشتركة بين النظرية واملمارسة‪ .‬لكن‬
‫السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة‪ .‬إذا كانت عوامل التحول غائبة (أي التغيير االجتماعي)‪ ،‬فهل هذا نقد حاد للنظرية؟‬
‫يشرح ماركيوز هذا الطرح من خالل إصراره على أن التحليل النقدي‪ ،‬املواجه لوقائع متناقضة على أرض‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الواقع االجتماعي‪ ،‬ما يزال يعتبر أن التغير االجتماعي ضروريا وملحا أكثر من أي وقت من األوقات‪ ،‬فهو ضروري‬
‫للمجتمع برمته أي لكل عضو من أعضائه‪ .‬بسبب أن اإلنتاجية الصناعية ووسائل التدمير (املوجهة لحماية املجتمع‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)10‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫من األخطار الخارجية) تنمو بوتيرة واحدة‪ ،‬مما جعل البشرية مهددة بدمار شامل‪ ،‬والفكر واألمل والخوف رهن بإدارة‬
‫السلطات القائمة‪ ،‬فهذا الوضع يعتبر ناتج عن عقالنية املجتمع املعاصر التي توجه تقدمه وتطوره‪ ،‬إال أن هذه‬
‫العقالنية تبدو في مبدئها ال عقالنية (ماركيوز‪.)30 :1988 ،‬‬
‫فإذا كان أفراد املجتمع يقبلون أن يكون مجتمعهم على هذا الحال خال من أي حركة نقدية‪ ،‬فهذا الوضع ال‬
‫ً‬
‫يزيد من عقالنية املجتمع وال تقلل من قابليته للنقد‪ .‬ألن التمييز بين الوعي الحقيقي والزائف‪ ،‬لم يفقد شيئا من‬
‫داللته‪ .‬لكن هذا التمييز بحاجة إلى اإلثبات والبرهان‪ .‬وعلى كل إنسان أن يكتشفه وأن يبحث عن الطرق التي ستقوده‬
‫من الوعي الزائف إلى الوعي الحقيقي‪ .‬واإلنسان ال يستطيع فعل ذلك إال إذا شعر بالحاجة إلى تبديل نمط حياته‪ ،‬أي‬
‫إلى نفي اإليجابي الذي يؤدي إلى الرفض‪ .‬فسعى املجتمع الصناعي بكل ما يملك من قوة إلى قمع هذه الحاجة‪ ،‬بتناسب‬
‫مطرد مع قدرته على إنتاج الخيرات وتوزيعها‪ ،‬ومع قدرته على استخدام اإلنجازات العلمية التي تم التوصل إليها في‬
‫مجال الطبيعة في غزو اإلنسان من خاللها (ماركيوز‪.)30 :1988 ،‬‬
‫من خالل هذا العرض السريع لقدرة اإلنجازات العلمية في السيطرة على املجتمع الصناعي وجعله مجتمع بال‬
‫ً‬
‫معارضة‪ ،‬نجد أن النظرية النقدية فقدت كل السيطرة على أن تبرر عقالنيا ضرورة تجاوز هذا املجتمع‪ .‬وهذه نتيجة‬
‫طبيعية ألن الفراغ قد أصاب بنية النظرية بالذات‪ ،‬وكما نعلم أن تطور املقوالت النظرية في عصر ما يأتي كرد فعل‬
‫تتالحم فيه حاجة الرفض والنقض والهدم مع قوى اجتماعية حقيقة وفعالة‪ ،‬لذا نجد أن املجتمع الصناعي الحديث‬
‫سعى إلى إفراغ املجتمع من كل عناصر القوى االجتماعية الرافضة لسياساته وتوجهاته من خالل التقدم والتطور‬
‫الذي بلغه بأساليب عقالنية‪.‬‬
‫يدلل ماركيوز على هذا الوضع من خالل الرجوع إلى املاض ي لرصد وضع املقوالت النظرية في املجتمع‬
‫األوروبي في القرن التاسع عشر‪ ،‬ليبين كيف كانت هذه املقوالت النظرية في جوهرها مفاهيم سالبة ومعارضة تحدد‬
‫التناقضات الحية للمجتمع األوروبي‪ .‬فمقولة "املجتمع" بالذات تعبر عن الصراع الحاد بين الدائرة االجتماعية‬
‫والدائرة السياسية‪ ،‬وتشير إلى املجتمع بوصفه نقيض للدولة‪ .‬وهذا األمر ينطبق على مقوالت كثيرة في هذا املجتمع‬
‫مثل‪( :‬الفرد‪ ،‬األسرة‪ ،‬الطبقة) (ماركيوز‪ .)31 -30 :1988 ،‬أما املجتمع الصناعي املتقدم فقد سعى إلى تجريد هذه‬
‫املقولة من أي محتوى نقدي لتصبح مصطلحات وصفية‪ ،‬عاملية‪ ،‬مخيبة لألمل‪ .‬من خالل ما يلي (ماركيوز‪:1988 ،‬‬
‫‪:)32‬‬
‫أ‪ -‬رفض كل فكرة تحاول النظر إلى جهاز اإلنتاج والتوزيع التقني (التكنولوجيا) في املجتمع الصناعي على أنه مجرد‬
‫حشد جمعي من األدوات التي يمكن عزلها عن مقتضياتها االجتماعية والسياسية‪ .‬وتسويقه على أنه نظام يحدد‬
‫ً‬
‫قبليا ما ينبغي له أن ينتجه باإلضافة إلى ذلك وسائل صيانته وتوسيع سلطته‪ .‬بمعنى أن األهداف واملصالح‬
‫دسها على هذا املفهوم من بعيد ومن الخارج‪ ،‬إنما تكمن في تصميم بناء‬ ‫املحددة لتسلط التكنولوجيا ال يتم ّ‬
‫الجهاز التقني (‪.)Marcuse, 1968: 179‬‬
‫ً‬
‫ب‪ -‬ميل جهاز اإلنتاج في املجتمع الصناعي املتقدم إلى أن يصبح كليا‪ ،‬بمعنى أنه يحدد ألفراد املجتمع الصبوات‬
‫والحاجات الفردية في الوقت نفسه الذي يحدد فيه النشاطات واملواقف والقابليات التي تستلزمها الحياة‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫وهكذا لم تعد هناك أي معارضة بين الحياة الخاصة والحياة العامة‪ ،‬بين الحاجات الفردية والحاجات‬
‫االجتماعية‪ .‬فالتقنية تفسح املجال لتأسيس أشكال من الرقابة والتالحم االجتماعي أكثر نعومة وفاعلية في آن واحد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ويمكن بذلك وصف املجتمع الصناعي املتقدم باعتباره عاملا تكنولوجيا وعاملا سياسيا أيضا‪ ،‬فهو املرحلة‬
‫األخيرة من مشروع تاريخي نوعي في سبيله إلى التحقيق واإلنجاز‪ ،‬ويعني بذلك ماركيوز أن تجربة الطبيعة وتحويلها‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)11‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫كيف وحدد عالم الكالم والعمل‪ ،‬عالم الثقافة على‬ ‫وتنظيمها باعتبارها مجرد دعائم للسيطرة‪ .‬فاملشروع كلما تطور ّ‬
‫الصعيد املادي وعلى الصعيد الفكري‪ .‬فعن طريق التكنولوجيا تلتغم الثقافة والسياسية واالقتصاد في نظام كلي‬
‫الحضور يفترس أو ينبذ كل الحلول البديلة‪ ،‬ألن هذا النظام يمتلك إنتاجية وطاقة متعاظمتان تقودان املجتمع إلى‬
‫االستقرار وتحسبان التقدم التقني في مخطط السيطرة‪ ،‬وبهذا غدت العقالنية التكنولوجية عقالنية سياسية بامتياز‬
‫(ماركيوز‪ .)33 :1988 ،‬فاألنظمة الليبرالية الراهنة ما هي في جوهرها إال أنظمة شمولية من نوع جديد وأن زعم‬
‫ّ‬
‫أنصارها غير ذلك‪ ،‬فالفرد في ظلها يجد نفسه مشدود الوثاق إلى عجلة هائلة من التنظيمات اإلنتاجية ال يستطيع‬
‫الفكاك منها (كرسبني‪ -‬مينوج‪.)23 :1988 ،‬‬
‫والدليل على ذلك‪ ،‬أن الحضارة الليبرالية زعمت أنها قد كشفت عن مدى إمكانات العقل في السيطرة على‬
‫الظروف املحيطة‪ ،‬لكنها عجزت في الحقيقة عن االلتزام بالخط العقالني األصيل‪ ،‬ويرى ماركيوز في إخفاقات الحضارة‬
‫املعاصرة عدم االلتزام باملسار األصيل للعقل‪ ،‬ومنه فإن ماركيوز يهاجم العقالنية بمفهومها التكنوقراطي‪ ،‬األمر الذي‬
‫ً‬
‫يؤدي إلى تخريب سائر األبعاد اإلنسانية وقد يصبح في نهاية املطاف مجتمعا ذا بعد وفكر واحد (عباس‪.)603 :2005 ،‬‬
‫بهذا يكون املجتمع الصناعي قد أحكم إغالق كل أبواب النقد االجتماعي التي يمكن أن يتعرض لها‬
‫للمحافظة على السوية التي يراه أنها مناسبة لتطوره والتقدم بغض النظر عن االعتبارات األخرى‪ ،‬حتى لو كان هذا‬
‫ّ‬
‫على حساب حرية الفرد واملجتمع‪ .‬فتطبيق العقل التقني‪ ،‬أحادي البعد مكن املجتمعات الرأسمالية‪ -‬الصناعية من‬
‫ً‬
‫إنتاج واستهالك السلع على مستويات متزايدة أبدا‪ ،‬مع أن الثمن الذي ينبغي دفعه لقاء ذلك هو مستويات متزايدة‬
‫من االمتثال‪ ،‬واالستيعاب‪ ،‬وغياب الحرية‪ ،...‬وهذا ما يناقض ما تدعيه هذه املجتمعات عن نفسها بأنها مجتمعات‬
‫ديمقراطية (هاو‪.)26 :2010 ،‬‬

‫املبحث الثاني‪ -‬أثر ممارسات العقالنية التكنولوجية على األبعاد اإلنسانية في املجتمع الصناعي‬
‫املتقدم‪.‬‬
‫يسرت التكنولوجيا الرفاهية الفائقة لإلنسان‪ ،‬وحققت له التقدم والرقي بكافة مجاالت الحياة‪ ،‬فأضحت‬
‫ً‬
‫التكنولوجيا بهذا املعنى وسيلة اإلنسان األساسية للتطور الحضاري والثقافي‪ ،‬وكثيرا ما تحدث املفكرون املعاصرون‬
‫عن فضل التكنولوجيا وآثارها اإليجابية على املجتمع ككل‪ ،‬من حيث إنها وفرت الوقت والجهد وزادت من سيطرة‬
‫اإلنسان على الطبيعة واملجتمع‪ .‬إال أن ماركيوز كان له نظرة مختلفة عن موضوع التكنولوجيا وآثارها السلبية على‬
‫اإلنسان املعاصر فيقول‪" :‬إن التكنولوجيا هي الناقل األكبر للتشيؤ‪ ،‬ذلك التشيؤ الذي بلغ أكمل أشكاله وأنجحها‪.‬‬
‫فالوضع االجتماعي للفرد وعالقاته مع سائر األفراد تتحدد على ما يبدو بصفات وقوانين موضوعية‪ ،‬لكن هذه‬
‫القوانين وهذه الصفات كفت عن أن تكون غامضة‪ ،‬وباتت مراقبتها ممكنة‪ ،‬إذ ال تعدو أن تكون أكثر من ظاهرات‬
‫يمكن للعقالنية العلمية أن تقيسها وتحسبها" (ماركيوز‪.)193 :1988 ،‬‬
‫أصبحت التكنولوجيا – حسب ماركيوز‪ -‬من أهم أدوات السيطرة على اإلنسان وسبب من أسباب قمعه‬
‫واستالبه‪ ،‬فهي ال تنفصل بأي حال من األحوال عن استخداماتها وآثارها والدوافع الكامنة ورائها‪ .‬لذا يصر ماركيوز‬
‫على رفض مبدأ حيادية التكنولوجيا من خالل تأكيده على مظاهر الكلية (الشمولية) للمجتمع التكنولوجي‪ ،‬الذي‬
‫ً‬
‫أصبح فيه من غير املمكن الحديث عن "حياد" التكنولوجيا‪ ،‬وال عاد ممكنا عزل التكنولوجيا عن االستعمال املكرس‬
‫له‪ ،‬فاملجتمع التكنولوجي نظام سيطرة يعمل على نفس مستوى تصورات التقنية وإنشائها‪ ...‬فعن طريق التكنولوجيا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تلتغم الثقافة والسياسة واالقتصاد (ماركيوز‪ .)33 -32 :1988 ،‬وتجعل من العقل البشر عقال خاضعا لوقائع الحياة‬
‫وتزيد من قدرته على تجديد عناصر هذا النوع من الحياة بصورة ديناميكية (ماركيوز‪.)47 :1988 ،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)12‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫كونها عن التكنولوجيا باعتبارها عامل أساس ي ومهم في‬ ‫استند ماركيوز للبرهنة على صحة آرائه وأفكاره التي ّ‬
‫توطين وإحكام السيطرة على اإلنسان املعاصر وقمعه‪ ،‬من خالل رصده ملفرزات التكنولوجيا وتأثيرها على كل األبعاد‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فمن نتائجها ما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬تعاظم القدرة اإلنتاجية (السلعية) للمجتمع الصناعي املتقدم‪ :‬أدت التكنولوجيا كما نعلم إلى زيادة اإلنتاج‬
‫املادي‪ ،‬إال أن ذلك اإلنتاج الوفير حسب رأي ماركيوز لم يستغل للقضاء قمع اإلنسان املعاصر‪ ،‬بل لزيادته‪ ،‬وال‬
‫إلشباع حاجات اإلنسان الحقيقية‪ ،‬بل إلشباع جشع املنتجين إلى الربح وإلى زيادة اإلنتاج‪ ،‬فيترتب على ذلك‬
‫فائض من العمل املغترب غير الضروري‪ ،‬كذلك يترتب عليه قمع متزايد للغرائز‪ .‬ويزداد هذا القمع كلما تقدمت‬
‫الحضارة في العلم والتكنولوجيا‪ .‬ومن هنا يأتي التناقض الهائل الذي يمزق حضارتنا (زكريا‪.)72 :1978 ،‬‬
‫ويوضح لنا ماركيوز أن زيادة اإلنتاج املادي وتحقيق الوفرة املادية‪ ،‬يؤدي بالضرورة إلى استيعاب أشكال‬
‫التفكير املعارض والنافي‪ ،‬وانتشار نمط التفكير "ذو البعد الواحد" (ملزيد من القراءة واالطالع انظر‪ :‬ماكنتير‪:1969 ،‬‬
‫‪ ،)104‬حيث إن " تكنولوجيا املجتمعات الصناعية املتقدمة‪ ،‬قد جعلت في وسع هذه املجتمعات أن تحتوي‬
‫التناقضات املوجودة فيها‪ ،‬وذلك من خالل إخماد طاقة الرفض لدى من عرف عنهم املعارضة في األنظمة االجتماعية‬
‫السابقة‪ ،‬وتصل التكنولوجيا إلى ذلك من خالل خلق الكفاية والوفرة املادية‪ ،‬فيتحول التحرر من الحاجات املادية‬
‫الذي اعتبره ماركس شرط مسبق للحصول على الحريات األخرى إلى سبب للعبودية‪ ،‬عن طريق انحصار التحرر في‬
‫املجال املادي فقط " (‪ .)MacIntyre, 1970: 63‬ليستمر التقدم الكمي في معارضة كل تغيير كيفي‪ ،‬فتكف األنظمة‬
‫اليسارية عن إعاقة التكوين الحيوي التطوري للمجتمع الصناعي املتقدم عبر خلق حلقة مفرغة ينزع بها الطلب على‬
‫الحاجات املادية إلى التخليد (ماركيوز‪ ،‬نحو ثورة جديدة‪.)40 :1971 ،‬‬
‫وهكذا يصبح تعاظم القدرة اإلنتاجية (السلعية) للمجتمع الصناعي املتقدم نتيجة التطورات التكنولوجية‬
‫املذهلة‪ ،‬وسيلة ناجعة للخضوع إلى املنظومة االجتماعية القائمة برضاء وسعادة وهمية رغم ما ينتج عنها من سيطرة‬
‫وقمع لإلنسان املعاصر الذي يحيى تجلياتها‪.‬‬
‫ً‬
‫ب‪ -‬تأثير التكنولوجيا بشكل مباشر على كل مجاالت املجتمع الصناعي املتقدم‪ :‬يرى ماركيوز أن هناك تأثيرا‬
‫ً‬
‫مباشرا بين التكنولوجيا من جهة‪ ،‬واملجاالت السياسية والثقافية من جهة أخرى‪ ،‬حيث تؤثر التكنولوجيا في‬
‫ً‬
‫توجهات املجاالت السابقة‪ ،‬وتسعى إلى خلق تداخال فيما بينهم ينتج عنه بالضرورة قوة مسيطرة على اإلنسان‬
‫ً‬
‫املعاصر واملجتمع بشكل كلي‪ .‬باملقابل نجد أن املجاالت السابقة تؤثر أيضا على التكنولوجيا واستخداماتها‬
‫وإنتاجها ومؤثراتها‪ ،‬لتحقيق استمرارية الوضع الراهن فكالهما ال ينفصالن عن اآلخر في ظل املجتمع القهري‬
‫الذي عبر عنه ماركيوز‪.‬‬
‫فعبر التكنولوجيا تتشابك الثقافة والسياسة في نظام كلي شمولي‪ ،‬يسعى إلى القضاء على االختيارات‬
‫والحلول البديلة‪ ،‬ألن لهذا النظام إنتاجية وطاقة متزايدتان تقودان إلى استقرار املجتمع‪ ،‬وتجعل من التقدم التقني‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عنصرا أساسيا في مخطط السيطرة على اإلنسان واملجتمع‪ ،‬بهذا تصبح العقالنية التكنولوجية عقالنية سياسية‬
‫(ماركيوز‪.)33 :1988 ،‬‬
‫يؤكد ماركيوز على ارتباط التكنولوجيا بالسياسة من خالل صيرورة التقدم القائمة على السيطرة‬
‫ً‬
‫واالستبداد في املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬ليشكال معا وسيلة ناجعة من وسائل قمع اإلنسان املعاصر وتدجينه بهدف‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إحكام السيطرة عليه تماما‪ .‬ويرى ماركيوز أن دينامية التقدم التقني قد اتخذت دائما طابعا سياسيا‪ ،‬فأصبح‬
‫لوغوس التقنية هو لوغوس العبودية املستديمة‪ .‬حيث كان من املمكن أن تكون التكنولوجيا قوة محررة عن طريق‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)13‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫تحويل األشياء إلى أدوات‪ ،‬ولكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر عن طريق تحويل اإلنسان إلى أدوات (ماركيوز‪:1988 ،‬‬
‫‪.)191‬‬
‫كما أن السلطة السياسية تتحكم في املنظومة التكنولوجية وعميلة اإلنتاج وتطورها‪ ،‬حيث أصبح للسلطة‬
‫السياسية مطلق السيطرة على العملية امليكانيكية وعلى تنظيم الجهاز التقني‪ .‬فحكومات املجتمعات املتقدمة‪،‬‬
‫واملجتمعات التي في سبيلها أن تصبح كذلك‪ ،‬تحافظ على بقائها وتحمي وجودها بشرط تعبئتها وتنظيمها واستغاللها‬
‫لإلنتاجية التقنية والعلمية وامليكانيكية الضرورية للمجتمع الصناعي‪ .‬كما تعبئ هذه اإلنتاجية املجتمع كما لو أنه‬
‫كتلة واحدة وتضع نفسها فوق كل مصلحتها فوق كل مصلحة سواء كانت مصلحة أفراد أو مصلحة جماعات‪ ،‬ففي‬
‫ذلك املجتمع املنظم والقائم على آلية السيطرة التكنولوجية‪ ،‬تصبح القوة الفيزيائية لآللة أكبر من القوة الفيزيائية‬
‫للفرد أو مجموعة من األفراد‪ ،‬وهذه الحقيقة القاسية هي التي تفسر أن اآللة أصبحت أنجح أداة سياسية (ماركيوز‪،‬‬
‫‪.)39 :1988‬‬
‫أما على الصعيد الثقافي‪ ،‬فيجد ماركيوز أن تأثير التكنولوجيا على املستوى الثقافي واإليديولوجي ال يقل‬
‫أهمية عن املستوى السياس ي‪ .‬حيث يرى ماركيوز أن التقنية عندما تصبح الشكل العالمي لإلنتاج املادي تحدد وجه‬
‫الثقافة العام‪ ،‬وتولد كلية تاريخية لعالم كامل (ماركيوز‪.)187 :1988 ،‬‬
‫يذهب ماركيوز إلى أن التكنولوجيا املعاصرة تسهم في إنتاج نوع خاص من الثقافة‪ ،‬تعمل بدورها على‬
‫توطيد أركان النظام القائم‪ ،‬إذ ينتشر بين الطبقة العاملة على سبيل املثال قيم الرضوخ واالستسالم‪ ،‬ويقدم إليهم في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أوقات فراغهم ترويحا سطحيا تتغلغل فيه املعاني التخديرية التي يريد النظام أن يبثها في نقوس العمال‪ ،‬مما يترتب‬
‫ً‬
‫عليه إضعاف موقف الرفض والسلب لدى العامل‪ ،‬بحيث يختفي كليا عن الطبقة العاملة مظهرها الذي كانت تعد‬
‫فيه النقيض الحي للمجتمع (زكريا‪ .)54 :1978 ،‬إن طبقة العاملة لم يبدل دورها املفترض بل َت ّ‬
‫بد َل دورها السياس ي‬
‫املباشر فأصبحت طبقة بذاتها وليس لذاتها (ماركيوز‪ ،‬نحو ثورة جديدة‪ ،)92 :1971 ،‬بسبب خلق نوع من االنقسامات‬
‫الداخلية بين صفوف الطبقة العاملة من خالل إيجاد فئة من املثقفين الذين يوكل إليهم مهمة اإلشراف على عملية‬
‫اإلنتاجية إلى جانب العمال العادين الذين يوكل إليهم مهمات أقل من فئة املثقفين‪ ،‬على اعتبار أن فئة املثقفين فئة‬
‫ذات نزعة أداتية في العملية اإلنتاجية (ماركيوز‪ ،‬نحو ثورة جديدة‪.)94 :1971 ،‬‬
‫ففي الوقت الذي يرى فيه البعض موت اإليديولوجيا أو ما يسمى بنهاية اإليديولوجيا‪ ،‬يذهب ماركيوز إلى أن‬
‫الواقع التكنولوجي إذا امتص اإليديولوجيا املعارضة فهذا ال يعني أنه لم تعد هناك إيديولوجية‪ ،‬بل يمكننا القول على‬
‫العكس أن الثقافة الصناعية املتقدمة أكثر إيديولوجية من الثقافة التي سبقتها‪ ،‬ألن اإليديولوجية تحتل مكانتها اليوم‬
‫في صيرورة اإلنتاج بالذات (ماركيوز‪.)47 :1988 ،‬‬
‫ً‬
‫وإذا كانت اإليديولوجية في رأي الكثيرين بدءا من ماركس تعبر عن الوعي الزائف والوهم الجمعي والحقيقة‬
‫املعكوسة‪ ،‬كما كانت لفترات طويلة وسيلة لتحقيق السيطرة على ألفراد املجتمعات‪ ،‬فإن ماركيوز يرى "أن‬
‫إيديولوجية املجتمعات الصناعية املتقدمة تشكلها السلع والخدمات التي تفرض النظام االجتماعي من حيث إنه‬
‫مجموع‪ ،‬وعن طريق وسائل االتصال والتسهيالت التي تمنح لتوفير السكن والطعام واملالبس‪ ،‬وكذلك صناعة أوقات‬
‫الفراغ‪ ،‬تتمكن هذه اإليديولوجية من خلق مواقف وعادات مفروضة‪ ،‬وردود أفعال فكرية وانفعالية معينة تربط‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املستهلكين باملنتجين ربطا مستحبا بهذا القدر أو ذاك‪ ،‬ومن ثم تربطهم باملجموع‪ ،‬لقد أصبحت املنتجات توجه الناس‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫مذهبيا وتصنع وعيا زائفا عديم اإلحساس بما فيه من زيف" (ماركيوز‪.)48 :1988 ،‬‬
‫نستنتج مما سبق كيف رصد ماركيوز وبكل براعة التداخل الحاصل بين التكنولوجيا والسياسة والثقافة‪،‬‬
‫وكذلك عالقات اإلنتاج التي تعبر عن البعد االقتصادي في املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬بحيث فسر كيف ساهم كل‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)14‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫واحد منهم في تشكيل آلية السيطرة على اإلنسان وواقعه االجتماعي بكل تجلياته‪ .‬ليشكلوا معا نسقا إليديولوجية‬
‫ً ً‬
‫تقوم على ربط الفكر والسلوك ربطا آليا بالواقع املعطى‪ ،‬ويصبح فيه الوضع القائم املبرر بمنجزات العلم والتقنية‬
‫ً‬
‫وبمنتجاته املتزايدة دوما يتحدى أي تجاوز أو تعال‪ .‬باملقابل نجد أن املجتمع الصناعي الذي أدرك سن النضج‬
‫ً‬
‫يستطيع من خالل منجزاته التقنية والفكرية (إذا أراد) أن يحقق التهدئة أيضا على أرض الواقع فيما لو لزم األمر‬
‫لذلك (ماركيوز‪.)52 :1988 ،‬‬
‫وعلى العموم يعتقد ماركيوز أنه بقدر ما تنمو املعرفة العلمية بقدر ما يجد اإلنسان أن آفاق حريته‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وسعادته تتقلص وكذلك استقالله الذاتي باعتباره فردا‪ ،‬بل إن قدرته على التخيل والحكم املستقل يتناقص أيضا‪،‬‬
‫ولهذا استطاعت الدولة أن تتحول إلى نظام شامل للقمع والقوة والسيطرة‪ ،‬فعرضت اإلنسان ألشكال مختلفة من‬
‫القهر الظاهر والباطن‪ ،‬والقمع الواعي وغير الواعي‪ ،‬الذي ينطلق من أجهزة اإلنتاج الضخمة‪ ،‬واملؤسسات اإلدارية‬
‫والبيروقراطية واالستهالكية واإلعالمية‪ ،‬التي تشبه آالت هائلة يحاول الناس أن يكيفوا أنفسهم مع ضغوطها ومطالبها‬
‫(بومنير‪.)30 :2010 ،‬‬
‫ج‪ -‬ازدياد النزعة الشمولية االستبدادية للتكنولوجيا‪ :‬عرف عن النظم السياسية الشمولية االستبدادية‪ ،‬كبت‬
‫الحريات وقمع املعارضة ورفض التعددية الحزبية ومحاربة الديمقراطية وإبداع الرأي اآلخر‪ ،‬ومنح السيادة‬
‫املطلق للحاكم وغيرها من اإلجراءات القمعية‪ .‬إال أن ماركيوز يرى للشمولية مظاهر جديدة ومختلفة في املجتمع‬
‫الصناعي املتقدم‪ ،‬بفضل ما تفرزه التكنولوجيا من سياسات إنتاجية وتوزيعية واستهالكية نوعية‪ ،‬تسلب كثير‬
‫من الحريات رغم بقاء مظاهرها الفارغة‪ .‬حيث إن املجتمع الصناعي املعاصر‪ ،‬يميل بحكم أسلوبه التنظيمي‬
‫لقاعدته التكنولوجية‪ ،‬إلى النزعة الشمولية‪ ،‬وهي ليست مجرد تنميط سياس ي إرهابي‪ ،‬بل هي تنميط اقتصادي‪-‬‬
‫تقني غير إرهابي‪ ،‬يؤدي دوره عن طريق تحكمه في الحاجات باسم املصلحة العامة الزائفة‪ ،‬األمر الذي يستحيل‬
‫معه قيام معارضة حقيقية فعالة للنظام القائم‪ ،‬فهذه النزعة الشمولية ليست مجرد شكل حكومي أو حزبي‬
‫نوعي‪ ،‬وإنما هي نزعة منبثقة عن نظام نوعي لإلنتاج والتوزيع متوافق تمام التوافق مع تعدد األحزاب‪،‬‬
‫والصحف‪ ،‬وانفصال السلطات‪ .‬بهذا يصبح للسلطة السياسية اليوم مطلق السلطة على الصيرورة امليكانيكية‬
‫وعلى التنظيم التقني للجهاز‪ .‬فحكومات املجتمعات الصناعية املتقدمة واملجتمعات التي في طريقها إلى أن‬
‫تصبح كذلك تحافظ على بقائها وتحمي وجودها عن طريق تعبئة وتنظم واستغالل اإلنتاجية التقنية لصالحها‪،‬‬
‫بمعنى أنها تعبئ املجتمع كما لو كان كتلة واحدة‪ ،‬فتضع نفسها فوق كل مصلحة خاصة سواء كانت تلك‬
‫املصلحة مصلحة أفراد أو جماعات (ماركيوز‪.)39 :1988 ،‬‬
‫إن الشمولية االستبدادية في تلك املجتمعات تتخذ قدرة أكبر على التوغل بحياة األفراد بواسطة الوسائل‬
‫التقنية والعلمية واإلدارية فتسلب حريتهم وذواتهم وتميزهم الشخص ي‪ ،‬دون أي مواجهة مع هؤالء األفراد‪ .‬فهو استالب‬
‫يلبس أقنعة الرفاهية والتسلية والراحة والسعادة الزائفة‪ ،‬فيقبله األفراد دون مقاومة برضاء كامل‪ ،‬وبذلك فهي‬
‫ليست شمولية باملعنى املتعارف عليه‪ ،‬إنما هي شمولية جديدة تؤدي إلى نفس نتائج السيطرة‪ ،‬ولكن بإجراءات‬
‫مختلفة‪ ،‬فيقول ماركيوز بهذا الصدد "أن ما يميز املجتمع الصناعي املتقدم الطريقة التي يخنق بها تلك الحاجات التي‬
‫تتطلب التحرر (بما فيها التحرر مما هو محتمل‪ ،‬مريح‪ ،‬مفيد) وتأييده في الوقت نفسه وتبريره قوة التدمير والوظيفة‬
‫ّ‬
‫االضطهادية ملجتمع الوفرة‪ .‬والرقابات االجتماعية التي تولد في ذلك املجتمع حاجة ال تقاوم إلى إنتاج استهالك ما هو‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫زائد عن الحاجة‪ ،‬حاجة إلى عمل مبلد لم يعد اليوم ضروريا‪ ،‬حاجة إلى أشكال من وقت الفراغ تتملق ذلك التبلد‬
‫ً‬
‫وتخلده‪ ،‬حاجة إلى الحفاظ على الحريات املخيبة كحرية املزاحمة في أسعار مقررة سلفا وحرية صحافة تراقب نفسها‬
‫ً‬
‫بنفسها وأخيرا حرية االختيار بين أجناس واحدة من السلع واملنتجات املخصصة لالستهالك في أوقات الفراغ‪ .‬بذلك‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)15‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫تصبح الحرية املنظمة من قبل مجموع اضطهادي‪ ،‬يمكن أن تصبح أداة سيطرة قوية‪ .‬فالحرية اإلنسانية في هذا‬
‫ً‬
‫املجتمع ال تقاس تبعا لالختيار املتاح للفرد‪ ،‬وإنما العامل الحاسم الوحيد في تحديدها هو ما يستطيع الفرد اختياره‬
‫وما يختاره" (ماركيوز‪.)43 :1988 ،‬‬
‫ويرفض ماركيوز عزل العملية اإلنتاجية والتوزيعية واالستهالكية التي تتم في إطار تقني عن النتائج املترتبة‬
‫عليها‪ ،‬والتي تتمثل في أوجه السيطرة على الحاجات الفردية والنشاطات واملواقف االجتماعية‪ ،‬حيث يرى أنه "في هذا‬
‫املجتمع يميل جهاز اإلنتاج إلى الشمولية بمعنى أنه يحدد الصبوات والحاجات الفردية والنشاطات واملواقف التي‬
‫تستلزمها الحياة االجتماعية‪ ،‬فلم يعد هناك اليوم تعارض بين الحياة الخاصة والحياة العامة‪ ،‬بين الحاجات الفردية‬
‫والحاجات االجتماعية‪ ،‬بل يرى ماركيوز أن التقنية ساعدت على قيام أشكال جديدة من الرقابة والتالحم االجتماعي‬
‫ً‬
‫أكثر فاعلية ونضوجا في آن واحد"‪ .‬وفي جانب آخر يشير ماركيوز إلى مظهر آخر من مظاهر الشمولية التكنولوجية‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫امتداد عملية التنميط‪ ،‬وتوحيد الحاجات اإلنسانية‪ ،‬توجيه النشاطات الفردية والجماعية إلى املناطق األقل تطورا‬
‫من العالم‪ ،‬أي إلى البلدان التي لم تدخل املرحلة الصناعية بعد‪ ...‬فاملجتمع التكنولوجي يصبح نظام سيطرة يعمل‬
‫على نفس مستوى تصورات التقنيات وإنشاءاتها (ماركيوز‪ .)32 :1988 ،‬بهذا أصبحت الشمولية التي خلقتها‬
‫التكنولوجيا مبدأ يشمل الدول الغنية والفقيرة على حد السواء‪ ،‬فالحاجات أصبحت واحدة في إطار العوملة التي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تجاوز الحدود الجغرافية ودخلت تلك البلدان بدون استئذان لتسيطر على أفراد املجتمع نفسيا وثقافيا واجتماعيا‪.‬‬
‫نستنتج مما سبق أن السيطرة التي تمارسها العقالنية التكنولوجية على اإلنسان أصبحت اليوم أخطر‬
‫وأشمل من السيطرة التي عرفها في املاض ي‪ ،‬ألنها شملت عقله وعواطفه ورغباته وغرائزه وجسده‪ ،‬وهذا عند أصبح‬
‫ً‬
‫خاضعا لوسائل الدعاية واإلشهار واإلعالم التي تعمل على ترويضه واختزاله في البعد االستهالكي‪ ،‬فأصبح اإلنسان‬
‫ً‬
‫فاقدا ألبعاده ولم يعد ّ‬
‫يتقوم إال ببعد واحد هو البعد االستهالكي‪ ،‬وذلك ألن العقالنية األداتية أو‬ ‫بتصور ماركيوز‬
‫ً‬
‫التكنولوجية كما يسميها ماركيوز أصبحت تفرز أشكاال جديدة من الوسائل والطرق واآلليات القمعية التي تسحق‬
‫ً‬
‫اإلنسان كليا وتحرمه من حريته واستقالله الذاتي‪ ،‬وتحاول إقناعه بالحرية املزيفة‪ ،‬وهي بذلك تختزله في البعد‬
‫يحول الوجود اإلنساني برمته إلى وضع بائس‪ ،‬وهذا أكد عليه ماركيوز في كتابه النظرية النقدية‬ ‫االستهالكي الذي ّ‬
‫للمجتمع (بومنير‪.)31 :2010 ،‬‬

‫املبحث الثالث‪ -‬تكريس ممارسات العقالنية التكنولوجية ملفهوم االغتراب في املجتمع الصناعي‬
‫املتقدم‪:‬‬
‫يرى ماركيوز أن اغتراب اإلنسان املعاصر نابع من ضغوط والتوجهات التكيفية التي يفرضها املجتمع‬
‫الصناعي املتقدم عليه‪ ،‬والتي تؤدي على كبت رغباته واحتياجاته الذاتية والحقيقية‪ ،‬وطاقاته الغريزية الطبيعية‪،‬‬
‫وقدرته على الرفض والسلب (بوجنوي‪ -‬حجام‪ ،)118 :2020 ،‬لذا يتعذر إدراك مفهوم االغتراب عند هربرت ماركيوز‬
‫بمنعزل عن رؤيته النقدية للمجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬والتي تعرضنا إليها في املقوالت املنهجية والنظرية على حد‬
‫السواء‪ ،‬حيث وجدنا عالقات القوة والسيطرة وآليات االستالب في املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬فهذا املجتمع عند‬
‫ماركيوز يتصف بعدة خصائص منها على سبيل املثال ما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬املجتمع الصناعي املتقدم مجتمع التعبئة الشاملة‪.‬‬
‫ب‪ -‬املجتمع الصناعي املتقدم هو تركيب إنتاجي ملجتمع الرفاهية والحرب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ج‪ -‬إذا قورن هذا املجتمع باملجتمعات التي سبقته فإنه يبدو حقا مجتمعا جديدا‪ ،‬اختفت فيه عناصر االضطراب‬
‫والخلخلة التقليدية‪ ،‬وتمت السيطرة فيه على العناصر املهددة (املعارضة) داخل املجتمع‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)16‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫إن نقد ماركيوز للمجتمع الصناعي في ضوء مجمل االنتقادات التي وجهها إليه يعطيه نوع من االختالف‬
‫ً‬
‫الواضح في توضيح وتفسير مفهوم االغتراب في هذا املجتمع‪ ،‬فمن الطبيعي أن نجد تفسيره يختلف اختالفا عن تفسير‬
‫هيجل وماركس ولوكاتش ملفهوم االغتراب‪ ،‬مثلما كان األمر عند هيجل (جدل العبد والسيد)‪ ،‬وعند ماركس ولوكاتش‬
‫الذين ذهبوا إلى اغتراب وتشيؤ طبقة البروليتارية في املجتمع الصناعي نتيجة العوامل االقتصادية السائدة فيه‪.‬‬
‫أما ماركيوز فكان تفسيره ملفهوم االغتراب أعم وأشمل من الذين سبقوه‪ ،‬حيث تتجلى رؤيته لهذا املفهوم في‬
‫إطار العوامل الثقافية التي يتصف بها املجتمع التكنولوجي املتطور على أنها أوسع العوامل بسبب اشتمالها على كل‬
‫جوانب الحياة (االقتصادية واالجتماعية والفكرية) باملجتمع‪ .‬بهذا يكون مفهوم االغتراب عند ماركيوز مفهوم ذو بعد‬
‫ثقافي يشتمل على كل أبعاد املجتمع الصناعي املتقدم ذو الطابع التكنولوجي‪ .‬ومن جانب آخر نجد ماركيوز يذهب إلى‬
‫أن اإلنسان في مختلف الطبقات والفئات والوظائف‪ ،‬بل في مختلف املجتمعات املعاصرة‪ ،‬يعيش حياة االغتراب‬
‫والتشيؤ واالستالب‪ ،‬فهو طابع الحضارة الصناعية املتقدمة في أي مكان‪.‬‬
‫ً‬
‫فالتناقض الذي يحيى به اإلنسان املعاصر بين األوضاع الخارجية التي يعيشها وبين ما يكونه اإلنسان حقا‪،‬‬
‫هي التي توطد حالة اغترابه الشامل الذي يعيش تجلياته اإلنسان املعاصر‪ .‬بمعنى آخر أي هناك تناقض بين حياة‬
‫اإلنسان املعاشة وطبيعته الحقيقية‪ ،‬على اعتبار أن حياة اإلنسان املعاصر في ظل هذا املجتمع غير عقلية‪ ،‬وعليه أن‬
‫ً‬
‫يغيرها كي يخلق توافقا بين الواقع املزيف وحقيقتها اإلنسانية‪ ،‬لكي تصبح حياته معقلنة متوافقة مع معطيات‬
‫ً‬
‫املجتمع التكنولوجي املسيطر على كل مناحي الحياة اإلنسانية‪ .‬فاإلنسان بهذا الوضع يحيا بوصفه موجودا آلخر ال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫موجودا لذاته اإلنسانية‪ ،‬فالتناقض الذي يحيا به يجعله قلقا غير مستقر فيناضل من أجل التغلب على حالته‬
‫الراهنة (ماركيوز‪.)144 :1970 ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فاغتراب اإلنسان املعاصر بهذا التفسير عند ماركيوز نابع في املقام األول من كونه موجودا آلخر‪ ،‬ال موجودا‬
‫لذاته‪ ،‬هذا اآلخر الذي يرسم معالم شخصيته‪ ،‬ويحدد وجوده واحتياجاته وفق مصالح القوى املسيطر في املجتمع‪،‬‬
‫ً‬
‫وهذه العملية تعرف باسم عملية تشكيل الفرد وتطويعه كي يتفق مع التصميم املطلوب حضاريا‪.‬‬
‫ويرى ماركيوز أن هذه العملية تتم في بطء تكتيكي من خالل الكثير من عمليات الشد والجذب التي تتجه‬
‫بالفرد إلى تنميطه في نهاية املطاف أفكار وسياسات محددة‪ ،‬وأن التحليل الذي قام به ماركيوز يكشف لنا بوضوح‬
‫ً‬
‫عن طبيعة االتجاه الذي تسير فيه هذه العمليات‪ ،‬حتى لو لم يكن هذا واضحا في ذهن صانعي القرارات في هذا‬
‫املجتمع‪ .‬فعلى سبيل املثال نجد تشكيل اإلنسان يتحقق من خالل االتجاه الذي يتجه إليه االقتصاد‪ ،‬أو التغيير‬
‫التكنولوجي‪ ،‬أو السياسة الداخلية‪ ،‬أو الخارجية لدولة من الدول‪ ،‬بما يخلقه ذلك كله من أنماط االحتياجات لدى‬
‫الطبقات االجتماعية‪ ،‬وبما يترتب من ظهور قوى الضغط وأحزاب متنوعة تتفاعل جميعها في اتجاه تشكيل اإلنسان‬
‫وقولبته بقالب معين (كرسبني‪ -‬مينوج‪.)31 :1988 ،‬‬
‫فتعدد الوسائل واألساليب التي ترسم معالم الوجود اآلخر الذي من خالله يفقد اإلنسان ذاته لصالح‬
‫تحقيق ما يتناسب مع التوجهات السياسية واالقتصادية في املجتمع‪ .‬ورغم قيم الحرية والعدالة واملساواة التي يروج‬
‫لها‪ ،‬إال أنها ال تعدو أن تكون في النهاية وسائل جديدة لعبودية متطورة‪ ،‬لذا نجد ماركيوز يقرر أن العبودية ال تتحدد‬
‫بالطاعة وال بقوة الكدح‪ ،‬وإنما باإلنسان املحول إلى أداة وإلى ش يء‪ .‬تلك هي العبودية الحقيقية‪ ،‬أن يوجد اإلنسان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كأداة أو ش يء حتى وإن دبت فيه الحياة‪ ،‬وقام باختيار قوته املادية والفكرية بنفسه‪ ،‬أو اتخذ لنفسه مظهرا جميال‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ونظيفا ومتحركا‪ ،‬ولم يعد يشعر بوجوده املتشيئ‪ ،‬فإن عبوديته لن تقل أو تتغير‪ ،‬ويتخذ التشيؤ شكال كليا بفعل‬
‫التكنولوجيا‪ ،‬كما تشتد بالوقت نفسه تبعية اإلداريون واملنظمون للجهاز الذي يقومون هم بتنظيمه وإدارته‪ ،‬وهذه‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)17‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫هي التبعية املتبادلة له حيث لم تعد اليوم هي نفس العالقة الجدلية بين السيد والعبد التي تحدث عندها هيجل‬
‫عنهما أصبحت عالقة مفرغة فيها السيد والعبد محبوسان على حد السواء (ماركيوز‪.)68 :1988 ،‬‬
‫ويستعبد اإلنسان في الحياة املعاصرة في سبيل حصوله على بضعة سلع‪ ،‬تحقق له نوع من الرفاهية‬
‫والسعادة الزائفة‪ ،‬وال تعبر عن مكنون نفسه وذاتيته‪ ،‬وفي املقابل هذه السلع نجد هذا اإلنسان يضحي بنتاج عمله‬
‫الذي هو جزء من ذاته‪ ،‬وبوقته ومجهوده‪ ،‬وإبداعاته‪ ،‬بل حياته‪ ،‬ليتحرك في منظومة املجتمع الصناعي والتقني الذي‬
‫ً‬
‫يسير عليه‪ .‬بهذا نجد الفرد الذي يضع أسمى هدف له وهو سعادته يضعه في السلع املادية‪ ،‬ويجعل نفسه عبدا‬
‫للناس‪ ،‬واألشياء إنه يسلم حريته‪ ،‬وال يحصل اإلنسان على الثروة والرفاهية بناء على قراره الذاتي‪ ،‬وإنما من خالل‬
‫الظروف املتعينة واملبهمة املحيطة به‪ ،‬وهكذا يخضع وجود اإلنسان لغرض خارجه‪ .‬ومثل هذا الغرض الخارجي يمكن‬
‫أن يفسد الناس ويستعبدهم إذا ما نظمت الظروف املادية للحياة بشكل س يء وتعيس أي إذا نظم إنتاجهم من خالل‬
‫فوض ى املصالح االجتماعية املعارضة‪ ،‬وفي النظام يتعارض الحفاظ على الوجود العام مع السعادة والحرية الفرديتين‬
‫(ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪.)100 :1971 ،‬‬
‫بذلك نجد أن اإلنسان املعاصر هو نتاج املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬وتجسيد كامل لتوجهاته‪ ،‬وحامل‬
‫إيديولوجيته‪ ،‬فاملجتمع الصناعي املتقدم هو مبتكر وسائل رفاهية اإلنسان‪ ،‬وهي نفس الوسائل التي تسيطر على‬
‫اإلنسان وتزيد من ظاهرة اغترابه الثقافي (بوجنوي‪ -‬حجام‪ .)112 :2020 ،‬لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا‪ ...‬ما‬
‫هي مظاهر االغتراب الثقافي في املجتمع الصناعي املتقدم؟‬
‫في واقع األمر يتطرق ماركيوز للحديث عن مفهوم االغتراب (ملزيد من القراءة واالطالع‪ :‬عباس‪-235 :2008 ،‬‬
‫‪ )254‬في معظم كتاباته باعتباره من أهم مفرزات املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬إال أن في كتابه اإلنسان ذو البعد الواحد‬
‫عمد إلى إجراء توصيف حقيقي لهذا املفهوم‪ ،‬ويعتبر هذا التوصيف من أهم ما قدمه ماركيوز على هذا الصعيد‪ .‬من‬
‫أهم هذه املظاهر‪ ،‬التي تكرس مفهوم االغتراب الثقافي ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬سيادة وسيطرة نمط التفكير اإليجابي‪ :‬يعتبر ماركيوز هذا النوع من التفكير من أهم الداللة الواضحة على‬
‫اغتراب اإلنسان الصارخ في هذا املجتمع والذي سوف نقوم بتحليله من خالل األفكار التي عالجها ماركيوز حول‬
‫هذه املشكلة‪ .‬لذا يؤكد ماركيوز في هذا الصدد‪ -‬وقبل الخوض بتحليل نمط التفكير اإليجابي‪ -‬على أهمية النقد‬
‫والتفكير السلبي واملناهض للوضع القائم التفكير املعاكس للتفكير السلبي‪ ،‬فيعتبر املعارضة الوسيلة األولى لتغيير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ذلك الوضع والثورة عليه‪ ،‬حيث يحملها عبء التعبير عن اإلمكانات الجديدة لوجود مختلف نوعا (كيفا)‪،‬‬
‫ليتجاوز القهر التكنولوجي‪ ،‬ويجسد عناصر الحرية والسعادة التي فقدت تحت هذا القهر‪ ،‬لذا يعتقد ماركيوز أن‬
‫التفكير السلبي هو الخطوة األولى لليوتوبيا املتحررة من الوضع القائم لألشياء (ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪:1971 ،‬‬
‫‪.)13‬‬
‫يؤمن ماركيوز بأن املجتمع الصناعي املتقدم يحرم النقد من أساسه الحقيقي‪ ،‬فالتقدم يدعم نظام كامل‬
‫ً‬
‫من السيطرة والتنسيق‪ ،‬ويوجه هذا النظام املتقدم‪ ،‬ويخلق أشكاال للحياة والسلطة تبدو أنها منسجمة مع نظام‬
‫ً‬
‫املعارضة‪ ،‬وتعوق كل احتجاج باسم اآلفاق التاريخية أو تحرر اإلنسان‪ ،‬وعلى ذلك فإن املجتمع املعاصر يبدو قادرا‬
‫على منع أي تبدل اجتماعي أو أي تحول في باملعنى الكيفي‪ ،‬يمكن أن تؤدي إلى قيام مؤسسات مختلفة‪ ،‬وإلى ظهور‬
‫اتجاه جديد لعملية اإلنتاج‪ ،‬وأنماط جديدة للحياة‪ ،‬ولعل أغرب مهارات املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬تكمن في العوائق‬
‫ّ‬
‫التي يضعها أمام التغير االجتماعي‪ ،‬ويعد اندماج قوى املعارضة نتيجة لهذه الظاهرة و علة أولى لها (ماركيوز‪:1988 ،‬‬
‫‪ .)28‬بذلك يصبح املجتمع الذي تندمج فيه القوى االجتماعية التي كانت في املاض ي سلبية ومتعالية بالنظام القائم‬
‫وتبدو وكأنها تخلق بنية اجتماعية جديدة‪ ...‬أي أن املعارضة قد تحولت إلى معارضة إيجابية (ماركيوز‪.)182 :1988 ،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)18‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫أي عندما تنطفئ جذور النقد واملعارضة يصبح العالم املعاش عالم أحادي البعد‪ ،‬والتفكير السائد فيه هو‬
‫أيضا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ويحمل ماركيوز الفلسفة والعلم والتكنولوجيا والسياسة واالقتصاد مسؤولية إنماء ذلك‬ ‫التفكير أحادي البعد‬
‫النمط من التفكير‪ ،‬ففي العالم األحادي يقاد فيه اإلنسان إلى النسيان‪ ،‬إلى ترجمة السلبي إلى إيجابي‪ ،‬بحيث يتاح له‬
‫هو نفسه أن يؤدي وظيفته في شروط حسنة بما فيه الكفاية‪ ،‬ولكن بعد أن يكون قد تكيف وتضاءلت أبعاده‪ .‬بذلك‬
‫تصبح قوانين حرية التعبير وحرية التفكير ال تمنع العقل من التكيف مع الواقع القائم‪ ،‬والحقيقة أننا نواجه اليوم‬
‫إعادة شاملة لتعريف الفكر ووظيفته ومضمونه‪ .‬فانسجام الفرد مع مجتمعه واقعة لها تأثيرها على تلك الطبقات من‬
‫الفكر التي تنشأ فيها املفاهيم الهادفة إلى عقلنة الواقع القائم (ماركيوز‪.)142 :1988 ،‬‬
‫يسير اإلنسان ذو االتجاه الواحد في اتجاه النظام السائد‪ ،‬ويتفاعل مع منظومته االقتصادية وإيديولوجيته‬
‫السياسية بموافقته ورضاه التام‪ ،‬مما يسلبه أبسط حقوقه في االعتراض والسلب والتحرر والسعادة والبحث عن‬
‫عالم أفضل‪ .‬بذلك يصبح القبول بالفكر اإليجابي قبول قسري‪ ،‬فهو قسري ليس بحكم اإلرهاب‪ ،‬إنما بفعل سلطة‬
‫املجتمع التكنولوجي وفعاليته الساحقة املغفلة‪ .‬فالفكر اإليجابي يؤثر من هذه الزاوية املحددة على الوعي العام‪،‬‬
‫وبالتالي على الوعي النقدي (ماركيوز‪.)238 :1988 ،‬‬
‫لذا ينبغي على اإلنسان عند ماركيوز أن يبحث عن الطريق الذي سيقوده من الوعي الزائف إلى الوعي‬
‫الحقيقي ومن مصلحته الفورية إلى مصلحته الواقعية‪ .‬واإلنسان ال يستطيع أن يفعل ذلك إال إذا شعر بالحاجة إلى‬
‫تغير نمط حياته‪ ،‬وإلى نفي اإليجابي إلى الرفض‪ .‬لذا نجد أن املجتمع القائم في سعي دائم إلى قمع هذه الحاجة وغزو‬
‫ً‬
‫اإلنسان علميا‪ ،‬من خالل استخدام الفتح العلمي للطبيعة‪ ،‬والزيادة املطردة إلنتاج الخيرات وتوزيعها (ماركيوز‪،‬‬
‫‪.)30 :1988‬‬
‫إن التفكير اإليجابي عند هربرت ماركيوز هو مظهر من مظاهر اغتراب اإلنسان‪ ،‬وتفريغ قوى املعارضة‬
‫والسلب لديه‪ ،‬وتقبله للوضع القائم الذي يؤكد بدوره على اغتراب واستالب ذلك اإلنسان‪ ،‬بمعنى آخر "ينكمش البعد‬
‫ً‬
‫الخالق الداخلي لهذا اإلنسان‪ ،‬البعد القادر على النقد واالحتجاج واملعارضة والتمرد‪ ،‬ويصبح اإلنسان إنسانا ذا بعد‬
‫واحد يفقد الوعي بالتناقض بين العقالنية السائدة والحرية املفقودة" (العالم‪ ،)67 :1972 ،‬بواسطة آليات السيطرة‬
‫التي يتمتع بها املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -2‬فقدان الحرية في إطار من الديمقراطية الوهمية‪ :‬خلق اإلنسان حرا منفتحا على عالم متعدد البدائل‬
‫ً‬
‫والتباينات‪ ،‬ومنح عقال يمكنه من االختيار والتمييز‪ ،‬وإذا تنازل اإلنسان بإرادته عن بعض هذه البدائل‪،‬‬
‫وانحصرت اختياراته في عدد محدود منها‪ ،‬بهذا يكون فقد جزء من حريته الشخصية ولكن بإرادته‪ ،‬أما إذا كانت‬
‫تلك االختيارات املحدودة هي فقط االختيارات املتاحة له واملفروضة عليه من الوجود الخارجي متمثل في الواقع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫املسيطر عليه‪ ،‬يفقد اإلنسان ً‬
‫بناء على ذلك حريته كاملة فيصبح مغتربا أي يعيش حالة االغتراب كونه إنسان‬
‫مسلوب اإلرادة في االختيار‪.‬‬
‫ويؤكد ماركيوز على أن انحصار حرية اإلنسان في دولة الرفاهية فيقول في هذا الصدد‪ :‬بيد أن دولة الرفاهية‬
‫بالرغم من كل عقالنيتها‪ ،‬ليست دولة تسود فيها الحرية ألنها تقلصها على نحو منهجي من خالل ما يلي‪:‬‬
‫ً‬
‫أ‪ -‬الوقت الحر القابل لالستعمال تقنيا‪.‬‬
‫ً‬
‫ب‪ -‬كمية ونوعية البضائع والخدمات امللبية تقنيا لحاجات األفراد الحيوية‪.‬‬
‫ج‪ -‬الذكاء الواعي والالوعي الذي يمكنه تصور وتحقيق إمكانيات التقرير الذاتي (ماركيوز‪.)84 :1988 ،‬‬
‫ويرى ماركيوز أن اإلنسان في املجتمع الصناعي املتقدم يفقد حريته‪ ،‬رغم أنه يعيش في إطار ديمقراطي‪ .‬ففي‬
‫املراحل األولى لهذا املجتمع كانت الحقوق والحريات من أهم مقوماته‪ ،‬بينما في املراحل املتقدمة منه‪ ،‬فقدت تلك‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)19‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫املقومات أهميتها وفرغت من مضمونها‪ ،‬فقد كانت حرية الفكر والكالم ال تقل أهمية عن حرية االقتصاد الحر‪ ،‬الذي‬
‫يعتبر الدعامة األولى لذلك املجتمع‪ .‬ولكن حينما اكتسبت تلك الحريات والحقوق صفة املؤسسات وشاركت املجتمع‬
‫ً‬
‫القمعي وأصبحت جزءا ال يتجزأ منه‪ ،‬ولم يعد للفكر املستقل‪ ،‬أو للذات املتحررة‪ ،‬وللمعارضة السياسية‪ ،‬أي وظيفة‬
‫تقبل مبادئه ومؤسساته‪ ،‬فينحصر دور‬ ‫نقدية في ظل مجتمع يلبي الحاجات الفردية بقدرة فائقة‪ ،‬ويتطلب في املقابل ّ‬
‫املعارضة في بحث االختيارات والحلول السياسية البديلة‪ ،‬واالكتفاء بالبحث عنها داخل الوضع القائم‪ ،‬فلم يعد من‬
‫األهمية كون النظام استبدادي أو غير استبدادي‪ ،‬طاملا أنه يعمل على تلبية الحاجات بصورة تدريجية‪ ،‬كما يعمل‬
‫باستمرار على رفع مستوى الحياة‪ ،‬فلم يعد هناك أي نفع اجتماعي واضح من املعارضة السياسية للنظام وعدم‬
‫االمتثال له (ماركيوز‪.)38 -37 :1988 ،‬‬
‫وفي هذا الجانب يطرح ماركيوز تساؤل في غاية األهمية‪ ،‬ما هو املقابل الذي يحصل عليه اإلنسان مقابل‬
‫فقدانه لحريته واستقالليته وذاتيته‪ ،‬وما هو املردود املادي الذي يجعله يقبل هذا التنازل عن الحرية؟‬
‫يرى ماركيوز في ذلك األمر أن اإلنسان في املجتمع املعاصر يفقد حريته السياسية واالقتصادية التي تنم عن‬
‫خالصة تجارب القرنين املاضين‪ .‬ولكنه ال يستشعر في ذلك خسارة حقيقية‪ ،‬خسارة يمكن التغاض ي عنها‪ ،‬وال سيما في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دولة تكون قادرة على تنظيم الحياة تنظيما إداريا‪ ،‬وتجعلها مضمونة ورغيدة‪ ،‬بل يشعر األفراد بالقناعة والرضا‬
‫والسعادة بفضل ما توفره لهم اإلدارة من بضائع وخدمات فلم يعد لديهم الدافع لتغيير املؤسسات القائمة‪ ،‬وأساليب‬
‫اإلنتاج‪ ،‬والبضائع‪ ،‬والخدمات‪ .‬فهؤالء األفراد املوجهين يبحثون بين البضائع املتاحة عن األفكار واملشاعر والصبوات‪،‬‬
‫فقد فقدوا الحافز الذي يجعلهم يفكرون ويشعرون ويتخيلون بأنفسهم‪ .‬حتى وإن كان هذه البضائع املادية والفكرية‬
‫املقدمة لهم رديئة وفارغة وغير ذات قيمة (ماركيوز‪.)85 :1988 ،‬‬
‫يرى ماركيوز أن تعريف املجتمع الحر باملصطلحات التقليدية للحرية االقتصادية والسياسية والفكرية‪ ،‬لم‬
‫ً‬
‫تعد ممكنا‪ ،‬حيث تخطت الحرية في ذلك املجتمع داللة تلك املصطلحات التقليدية‪ .‬لهذا يقترح ماركيوز تعريف‬
‫املجتمع الحر باملصطلحات السالبة النافية للوضع القائم (ماركيوز‪ .)40 :1988 ،‬إال أن اقتراح ماركيوز هذا يعتبر نوع‬
‫من اليوتوبيا ألن الفرد في هذا املجتمع ال يستطيع أن يتحرر من تلك السيطرة التي أفقدته حريته بكل املجاالت عن‬
‫رضا تام من قبله‪ ،‬فقد ربطت تلك السيطرة نفسها بحاجاته البيولوجية والنفسية واالقتصادية‪.‬‬
‫على ذلك النحو‪ ،‬ال يرى ماركيوز أي حرية في الحريات املمارسة في املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬رغم ما يشاع‬
‫حول قيمة الحريات الغربية وأساليب ممارستها‪ ،‬ورغم ما يردده الزعماء من شعارات الحرية واملساواة واإلخاء فيقول‬
‫ماركيوز في هذا الجانب‪ :‬عن كلمات الحرية واالمتالء الكبيرة التي يلفظها السياسيون في حمالتهم‪ ،‬على شاشات‬
‫واملوجات وفوق املنابر ال معنى لها إال في سياق الدعاية واألعمال واالنضباط والترويح عن النفس‪ ،‬وخارج هذا السياق‬
‫ً‬
‫تصبح أصواتا ال داللة لها (ماركيوز‪.)93 :1988 ،‬‬
‫أما عن دور العلم والتكنولوجيا في فقدان الحرية في هذا املجتمع يفسر ماركيوز أن املنهج العلمي فتح الباب‬
‫على مصراعيه للسيطرة على الطبيعة املادية‪ ،‬لكنه باملقابل قدم مجموعة من األدوات املتمثلة بالتصورات‬
‫التكنولوجية التي سهلت سيطرة اإلنسان على اإلنسان على نحو مطرد الفاعلية من خالل السيطرة على الطبيعة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بهذا أصبح العقل النظري‪ ،‬بمحافظته على بقائه وحياده‪ ،‬خادما للعقل العملي‪ .‬فأخذت السيطرة القائمة طابعا أكثر‬
‫ً‬
‫شموال بفضل التكنولوجيا التي امتدت إلى كل الدوائر الثقافية‪ .‬فالتكنولوجيا املعاصرة تضفي صيغة عقالنية على ما‬
‫ً‬
‫يعانيه اإلنسان من نقص في الحرية‪ ،‬وتقييم البرهان على أنه يستحيل تقنيا أن يكون اإلنسان سيد نفسه وأن يختار‬
‫أسلوب حياته‪ .‬بهذا ال يطرح نقص الحرية نفسه اليوم على أنه واقعة ال عقالنية أو واقعة ذات صيغة سياسية‪ .‬ألنه‬
‫ً‬
‫يبرر لنفسه موقفه هذا عن طريق االعتقاد أن اإلنسان الذي بات خاضعا للجهاز التقني يزيد من رغد حياته‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)20‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫ورفاهيتها‪ ،‬كما يزيد من إنتاجية العمل‪ .‬فالعقالنية التكنولوجية ال تضع شرعية السيطرة موضع اتهام‪ ،‬وإنما هي‬
‫تقدم لها الحماية واالستمرار (ماركيوز‪.)191 -190 :1988 ،‬‬
‫لذا يجد ماركيوز أن لوغوس‪ ‬التقنية قد أصبح لوغوس العبودية املستديمة‪ ،‬فقد كان باإلمكان أن تكون‬
‫التكنولوجيا قوة محررة عن طريق تحويل األشياء إلى أدوات‪ ،‬لكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر عن طريق تحويل‬
‫البشر إلى أدوات (ماركيوز‪ .)191 :1988 ،‬بهذا يعتبر ماركيوز أن التكنولوجيا في املجتمع الصناعي املتقدم أصبحت أكبر‬
‫ناقل للتشيؤ واالغتراب‪ ،‬ذلك التشيؤ واالغتراب اللذان بلغا أكمل أشكالهما في عهد سيطرتها عبر فقدان أفراد املجتمع‬
‫لحريتهم (ماركيوز‪.)193 :1988 ،‬‬
‫‪ -3‬توحد أفراد املجتمع الصناعي املتقدم مع الوجود املفروض عليهم‪ :‬يعد وجود نوع من التوافق بين الفرد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ومجتمعه أمرا طبيعيا‪ ،‬ومرغوبا فيه من الناحية االجتماعية والنفسية‪ ،‬ويخلق نوعا من االنتماء القومي‬
‫ً‬
‫واالجتماعي‪ ،‬ويمنح الفرد هوية تميزه‪ ،‬ويعتبر دافعا لرقي املجتمع وتقدمه‪ .‬إال أن ماركيوز يرى أن ما يحدث في‬
‫املجتمع الصناعي املتقدم تجاوز نطاق التكيف والتالؤم‪ ،‬حتى وصل إلى حد التوحد املباشر بين الفرد ومجتمعه‪،‬‬
‫ومن ثم بين الفرد واملجتمع كمجموع (ماركيوز‪.)46 :1988 ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ويتوحد الفرد املعاصر مع مجتمعه‪ ،‬إيمانا وعرفانا بإنجازات ذلك املجتمع وتقدمه‪ ،‬وما يوفره لألفراد من‬
‫ً‬
‫سبل الرفاهية ووسائل الحياة املسيرة والرغيدة‪ ،‬فيجد اإلنسان فيه تلبيه الحتياجاته وتحقيقا لدوافعه ورغباته‬
‫فترتبط مصالحه باملصالح االقتصادية والسياسية فيه‪ ،‬ومن ثم تتوحد األهداف واالحتياجات والتوجهات بين‬
‫اإلنسان ومجتمعه‪ ،‬فتنحصر املعارضة‪ ،‬ويستمر الوضع القائم‪.‬‬
‫ً‬
‫يذهب ماركيوز إلى أن مفهوم االغتراب واالستالب يصبح إشكاليا عندما يتوحد األفراد مع الوجود املفروض‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عليهم‪ ،‬ويجدون فيه تحقيقا وتلبية‪ .‬هذا التوحد ليس وهما‪ ،‬وإنما هو واقع يمثل مرحلة أكثر تقدما من االستالب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فلقد أصبح ذلك الواقع موضوعيا تماما‪ ،‬وباتت الذات املستلبة مبتلعة من قبل وجودها املستلب‪ ،‬ولم يعد هناك‬
‫ً‬
‫بعد واحد ماثل في كل مكان وتحت شتى األشكال‪ ،‬ومنجزات الذات تحول دون طرحها على بساط البحث إيديولوجيا‪،‬‬
‫كما تحول دون تبريرها‪ ،‬والوعي الزائف لعقالنيتها قد أصبح أمام محكمته الذاتية هو الوعي الصحيح (ماركيوز‪،‬‬
‫‪.)47 :1988‬‬
‫ً‬
‫وفي ظل هذه األوضاع تصبح االمتثالية والخضوع والتبعية للمجتمع أمورا محببة من قبل املجموع‪ ،‬وال‬
‫ً‬
‫تحتاج إلى أي ضغوط قمعية إرهابية‪ ،‬كما كانت من قبل‪ .‬ألن هذه االمتثالية تبدو كأنها حفاظا على املصلحة العامة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والتبعة في املجتمع الصناعي أخذت شكال جديدا يختلف كليا عن التبعية التي كانت موجودة في العصور السابقة‪،‬‬
‫حيث تنحصر التبعية في هذا املجتمع من خالل تبعية الفرد لنظام األشياء املوضوعي مثل (القوانين االقتصادية‬
‫والسوق‪...‬إلخ) وإن كان نظام األشياء املوضوعي من صنع السيطرة ونتائجها هو اآلخر‪ ،‬فإن السيطرة تعتمد اآلن على‬
‫درجة أكبر من العقالنية‪ ،‬عقالنية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحو مطرد النجاح‬
‫واملوارد الطبيعية والفكرية‪ ،‬ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا االستغالل‪ ،‬وإذا كان اإلنسان يجد نفسه‬
‫ً‬
‫مقيدا بشدة إلى جهاز اإلنتاج‪ ،‬فإن هذا يوضح حدود العقالنية وقوتها (ماركيوز‪.)181 :1988 ،‬‬
‫ً‬
‫فالفرد هنا يساق ليدور ال إراديا في ساقية جهاز اإلنتاج والتوزيع واالستهالك ومتطلباته وتوجهاته‪ ،‬فاإلنسان‬
‫الذي هو ينتج السلع ويستهلكها يلهث وراء إنتاجها ليحصل على أجره‪ ،‬ويلهث وراء شرائها ليحقق الرفاهية ويفقد‬

‫‪ ‬يعني اللوغوس العقل باملعنى اليوناني‪ ،‬الذي يبرز باعتباره منطق السيطرة أو باعتباره ماهية الوجود‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)21‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫أجره ومن ثم نتاج عمله‪ .‬لذا نجد ماركيوز يقرر أن الفرد مأخوذ بجماع شخصه في عملية اإلنتاج والتوزيع الكبيرتان‬
‫(ماركيوز‪.)46 :1988 ،‬‬
‫ً‬
‫ويفرض الجهاز اإلنتاجي بما ينتجه من سلع وخدمات‪ ،‬النظام االجتماعي على الجميع‪ ،‬مستخدما في ذلك‬
‫وسائل النقل واالتصال الجماهيري‪ ،‬وتقديم التسهيالت للحصول على السكن والطعام وامللبس‪ ،‬وصناعة أوقات‬
‫الفراغ واإلعالم‪ ،‬ليشكل كل ذلك بالنهاية مواقف وعادات تفرض على األفراد‪ ،‬وتخلق لديهم ردود فعل فكرية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وانفعالية معينة تربط املستهلكين باملنتجين ربطا مستحبا ومرغوبا فيه‪ ،‬ومن ثم تربطهم باملجموع‪ .‬وبذلك تصبح‬
‫ً‬
‫املنتجات وسيلة لتكيف الناس مذهبيا‪ ،‬وبلورة وعي زائف ال يستشعر ما فيه من زيف (ماركيوز‪.)48 -47 :1988 ،‬‬
‫ويعتقد ماركيوز أن الغرض املوضوعي العام هو الذي يسيطر على اإلنسان املعاصر‪ ،‬ذلك الغرض الذي‬
‫يفوق املصالح االقتصادية والسياسية‪ ،‬فهو الذي يوفق بين الفرد ونمط الوجود الذي يفرضه مجتمعه عليه‪ .‬وذلك‬
‫باستخدام فائض القمع وتكثيف الطاقات النفسية الليبيدية الخاصة باملشتريات التي يريد الفرد شرائها أو بيعها‪،‬‬
‫وكذلك الخدمات التي يحصل عليها أو يقوم بها‪ ،‬والفكاهة التي عليه أن يتمتع بها‪ ،‬ونسق الرموز التي يؤديها‪ ،‬ويعد‬
‫ذلك من الضروريات التي يتوقف على إنتاجها واستهالكها وجود املجتمع نفسه‪ ،‬وبتعبير آخر تصبح الحاجات‬
‫االجتماعية فردية‪ ،‬بل غريزية (ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪.)262 :1971 ،‬‬
‫وفي املقابل‪ ،‬يرى ماركيوز أن هذه السيطرة املتعددة األبعاد ال تشكل مؤامرة ألنها ليست متمركزة في أية‬
‫وكالة أو جماعة‪ ،‬بل هي متوغلة في املجتمع ككل يمارسها الجيران والجماعة واملجموعات املمتازة‪ ،‬والدعاية‬
‫واالتحادات‪ ،‬بل الحكومات‪ ،‬ويساندها تطور العلم وخاصة علم االجتماع وعلم النفس‪ ،‬وما يتفرع عنهما من علم‬
‫اجتماع صناعي‪ ،‬وعلم نفس صناعي‪ ،‬وعلم العالقات اإلنسانية‪ ،‬تلك العلوم التي أصبحت أداة ضرورية وقوية ملن‬
‫يمتلكها (ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪.)263 -262 :1971 ،‬‬
‫ويتضح مما سبق أن توحد األفراد مع الوجود املفروض عليهم‪ ،‬يحقق مطالب النظام القائم‪ ،‬ويؤمن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫استمرار‪ ،‬وقبوله لدى األفراد من جهة‪ .‬بحيث يخلق لألفراد وعيا كاذبا يؤدي إلى تعميق اغترابهم باملجتمع الذي‬
‫يحيون به من جهة أخرى‪ ،‬على اعتبارهم أدوات طيعة للحفاظ على مكاسب النظام القائم‪ ،‬بهدف اإلعالء من قيمة‬
‫انتصاراته على كافة األصعدة‪ ،‬حتى لو كان هذه على حساب إنسانية اإلنسان‪.‬‬
‫‪ -4‬ترويج فكرة الضمير السعيد لإلنسان املعاصر في املجتمع الصناعي املتقدم‪ :‬الضمير السعيد عند ماركيوز هو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضمير اإلنسان الخامد الذي ال يشعر بالذنب أو باإلثم‪ ،‬والذي يجد مبررا دائما لكل مظاهرة الدمار والفساد‪،‬‬
‫ً‬
‫ويخلق توافقا بين املتناقضات التي يصعب التوفيق بينها‪ .‬هو الضمير الذي يعتقد أن الواقع عقالني‪ ،‬وأن النظام‬
‫السائد يلبي الحاجات‪ ،‬وهو خير مثال على االمتثالية الجديدة‪ ،‬التي هي السلوك االجتماعي املتأثر بالعقالنية‬
‫التكنولوجية‪ ،‬وهي جديدة ألنها عقالنية إلى درجة ال سابق لها‪ ،‬وهي دعامة مجتمع حد من ال عقالنية العصور‬
‫ً‬
‫السابقة البدائية نسبيا (ماركيوز‪.)121 :1988 ،‬‬
‫وال يستشعر الضمير السعيد إال إيجابيات ومميزات املجتمع‪ ،‬أما سلبياته فهو يتجاهلها أو يبرزها‪ .‬ويرى ذلك‬
‫الضمير السعيد حسب ماركيوز أن املجتمع املعاصر يطيل الحياة ويعمل على تحسينها بصورة منتظمة أكثر من ذي‬
‫قبل‪ ،‬مجتمع لم يقع فيه الحرب الذرية بعد‪ ،‬واملتروبوالت تحقق االزدهار‪ ،‬وانتهت املعسكرات النازية‪ ،‬وأصبحت‬
‫ً‬
‫التعذيب مسألة عادية‪ ،‬ولكن في الحروب االستعمارية الدائرة على هامش العالم املتمدين‪ ،‬فالحرب أيضا تمارس‬
‫بضمير سعيد ألنها ال تخرب إال البلدان املتخلفة (ماركيوز‪.)121 :1988 ،‬‬
‫بعد ذلك يتعرض ماركيوز إلى أشد التناقضات التي يتقبلها اإلنسان املعاصر بضمير سعيد فالرجل الذي‬
‫ً‬
‫يعطى اإلشارة التي ستبيد املئات واآلالف من الناس‪ ،‬يمكنه أن يعلن أن ضميره ال يؤنبه‪ ،‬وأنه يعيش سعيدا‪ ،‬وكذلك‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)22‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫استخدام القوى املناهضة للفاشية العلماء والجنراالت‪ ،‬واملهندسين النازيين واالستفادة منهم أكبر إفادة‪ ،‬باعتبارها‬
‫الوريثة التاريخية للفاشية‪ .‬ومثلما عانى اإلنسان في املاض ي داخل املعسكرات االعتقال‪ ،‬فإنه يعاني اليوم كي يتدرب‬
‫على الحياة في شروط غير سوية‪ ،‬مثل العيش تحت سطح األرض وفي باطنها‪ ،‬وعلى أكل الطعام املشبع باإلشعاع الذري‬
‫(ماركيوز‪.)116 :1988 ،‬‬
‫ً‬
‫وإذا جاءت األفعال شديدة التدمير والبشاعة‪ ،‬فإنها ال تشكل خطرا على املجتمع أو على أهدافه العملية‪،‬‬
‫رغم أنها قد تسبب اضطرابات وظيفية لدى الفرد القائم بالفعل‪ ،‬مثلما حدث للطيار الذي ألقى القنبلة الذرية على‬
‫هيروشيما وناكازاكي‪ ،‬ولكن املستشفيات النفسية بإمكانها العناية بهؤالء األفراد الذين وقعوا ضحية ذلك االضطراب‪.‬‬
‫ً‬
‫بمعنى آخر فالضمير السعيد ليس له من حدود‪ ،‬وفي وسعه أن ينظم ألعابا يلعب فيها اإلنسان مع املوت والتشويه‪،‬‬
‫ويتحد فيها العمل الجماعي مع التسلية (ماركيوز‪.)117 :1988 ،‬‬
‫ويذهب ماركيوز أن الضمير السعيد يغفر سلطة املجتمع على اإلنسان املعاصر‪ ،‬ويبررها بفاعلية املجتمع‬
‫وإنتاجيته‪ ،‬وإذا كان املجتمع يتمثل كل ما يمسه‪ ،‬ويمتص التناقض واملعارضة‪ ،‬فعن الضمير السعيد يرى أن ذلك‬
‫دليل على التفوق الثقافي لذلك املجتمع‪ ،‬أما إذا دمر املوارد وأسرف وبذر‪ ،‬فهذا دليل على وفرته ورفاهيته العالية‬
‫(ماركيوز‪.)122 :1988 ،‬‬
‫يقرر ماركيوز أن الضمير السعيد بذلك "يسلم زمام أمره للتشيؤ‪ ،‬إلكراه األشياء الكوني" (ماركيوز‪:1988 ،‬‬
‫ً‬
‫‪ .)116‬فلقد كان ينبغي على الضمير اإلنساني أن يكون معيارا للصواب والخطأ‪ ،‬للحقيقة والزيف‪ ،‬للمفيد والضار‪ ،‬بما‬
‫ً‬
‫يرتقي باإلنسانية ويحقق لها الخير والسعادة‪ .‬إال أنه قد تأثر هو أيضا‪ ،‬بما توفره الحياة املعاصرة من احتياجات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومتطلبات لألفراد‪ ،‬األمر الذي يغفر لها سلبياتها وميولها التدميرية تجاه الطبيعة واإلنسان‪ .‬وهو ما يمثل مظهرا بارزا‬
‫الغتراب اإلنسان وضميره في املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫‪ -5‬توحد الحاجات اإلنسانية الزائفة ألفراد املجتمع الصناعي املتقدم‪ :‬لكل إنسان احتياجاته الخاصة‪ ،‬وتشعره‬
‫بالرضا والسعادة‪ .‬فليست كل سلعة هامة وحيوية لكل فرد‪ ،‬وليس كل سلوك مالئم ألي شخص‪ ،‬وليس كل فكر‬
‫ً‬
‫مالئم لتوجهات أي إنسان‪ .‬ولكن ماركيوز يرى أن املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬يخلق توحيدا للحاجات اإلنسانية‬
‫بصورة شمولية‪ ،‬ولكنها تكون في أغلبها حاجات زائفة‪ ،‬غير معبرة عن االحتياجات الحقيقية لكل إنسان مستقل‬
‫بذاته‪ ،‬ولكن نتيجة تعرض ذلك اإلنسان لوسائل الدعاية واإلعالن‪ ،‬وتوحده مع الوجود املفروض عليه‪ ،‬تتوحد‬
‫حاجاته مع الحاجات التي تفرضها املؤسسات واملصالح السائد في املجتمع‪.‬‬
‫يؤكد ماركيوز على أن الحاجات اإلنسانية أصبحت مشروطة من حيث كثافتها وتلبيتها وطابعها‪ ،‬ففعل‬
‫الش يء أو عدم فعله‪ ،‬استخدامه أو تدميره‪ ،‬امتالكه أو إطراحه‪ ،‬يعتبر من الحاجات اإلنسانية منذ اللحظة التي يصبح‬
‫فيها ضرورة للمؤسسات واملصالح السائدة‪ .‬وبهذا املعنى تصبح الحاجات اإلنسانية حاجات تاريخية (ماركيوز‪:1988 ،‬‬
‫‪.)40‬‬
‫لقد أصبح األشخاص غير مشاركين في تحديد احتياجاتهم الحقيقية‪ ،‬بل تفرض عليهم بما يتوافق مع‬
‫متطلبات العملية اإلنتاجية‪ ،‬وحسب التوجيه الذهني الذي يتعرضون له عن طريق وسائل اإلعالم (‪.)Mark, 1970: 14‬‬
‫وإذا كان اإلنسان يعيش في مجتمع يسيطر عليه‪ ،‬ينبغي أن نميز الحاجات الحقيقية لألفراد‪ ،‬وإمكانية تلبيتها‬
‫بطرق تتجاوز الوضع الراهن‪ ،‬وتكون متوافقة مع الواقع اإلنساني‪ .‬لذا يرى ماركيوز أن تحديد الحاجات اإلنسانية‬
‫الحقيقية‪ ،‬وتميزها عن الحاجات الزائفة التي تفرضها املؤسسات السائدة في املجتمع‪ ،‬أمر بالغ الصعوبة في ظل آليات‬
‫السيطرة التي يفرضها املجتمع الصناعي املتقدم‪ .‬فاألفراد هم الذين يجب عليهم اإلجابة عن السؤال املتعلق‬
‫بالحاجات الحقيقة والكاذبة‪ ،‬ولكن ذلك مشروط بكونهم أحرار‪ ،‬وألنهم ال زالوا محرومين من استقاللهم الذاتي‪،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)23‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫وخاضعين للتكيف املذهبي حتى مستوى غرائزهم فإن الجواب الذي سيقدمونه لذلك السؤال ال يمكن أن يعبر عن‬
‫جوابهم الحقيقي (ماركيوز‪.)42 :1988 ،‬‬
‫إال أن ماركيوز رغم الصعوبة التي يفرضها في املوضوع‪ ،‬يحاول أن يميز بين الحاجات الحقيقة والكاذبة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فالحاجات اإلنسانية الكاذبة هي تلك التي تفرضها مصالح اجتماعية خاصة على الفرد مثل الحاجات التي عمال شاقا‬
‫أو تبرر العدوانية والبؤس والظلم‪ ،‬إال أن تلبية هذه الحاجات الزائفة تحقق إلى جنب ذلك يسر للفرد (ماركيوز‪،‬‬
‫‪.)41 :1988‬‬
‫وحقيقة األمر أن غالبية معارفنا نتوصل إليها عن طريق وسائل االتصال واإلعالم‪ ،‬كما أن معظم السلع التي‬
‫نقتنيها نتعرف عليها عن طريق وسائل الدعاية واإلعالم‪ ،‬فلن نعرف إال ما يقال لنا ولن نقتني إال ما يعرض علينا‪ ،‬لذا‬
‫تأتي معارفنا وسلعنا متشابهة ومتوحدة مع ما يفرض علينا الجهاز اإلنتاجي والسلعي والجهاز اإلعالمي ليس فقط على‬
‫ً‬
‫املستوى املحلي‪ ،‬ولكن على املستوى العالمي أيضا بعد ما تحقق من تطور في وسائل االتصال واإلعالم‪ .‬بهذا يمكن‬
‫اعتبار توحد الحاجات اإلنسانية شكل هام من أشكال االغتراب الصارخ ضمن تجليات املجتمع الصناعي املتقدم الذي‬
‫اعتبر نفسه الراعي الرئيس ي إلنسانية اإلنسان بفضل التطور والوفرة التي حققها على كافة األصعدة‪.‬‬
‫‪ -6‬الخيال اإلنساني املعاصر أسير الواقع في املجتمع الصناعي املتقدم‪ :‬يعتبر مفهوم الخيال عند هربرت ماركيوز‬
‫من املفاهيم األساسية في فلسفته حول قضية التحرر والخالص من أسر الواقع‪ ،‬ومن اغتراب واستالب اإلنسان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقمعه لتشكيل عالم جديد مناهضا ملا هو قائم‪ ،‬ومتحررا من وسائل وآليات السيطرة التي يقوم عليها املجتمع‬
‫املعاصر‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن يرى ماركيوز أن املجتمع الصناعي املتقدم لم يترك للخيال مجاال يسبح فيه دون معوقات‪ ،‬حتى ال يبتعد‬
‫عن واقع السيطرة أو يحاول تغيير الوضع القائم‪ ،‬لذا سعى هذا املجتمع إلى دمج الخيال في الواقع‪ ،‬أسره في نطاقه‪،‬‬
‫وإبعاده عن أي طموحات ثورية أو تغييرية‪ .‬لذا يذهب ماركيوز أن املجتمع الصناعي املتقدم قد حد من النطاق‬
‫الرومانس ي للخيال‪ ،‬بل سعى في بعض األحيان إلى إلغائه‪ ،‬وإرغامه على العمل على أسس جديدة‪ ،‬بحيث تترجم الصور‬
‫إلى إمكانيات ومشاريع تاريخية لكن هذه الترجمة تأتي رديئة ومشوهة على شاكلة املجتمع الذي يمارسها‪ .‬فعندما كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الخيال يعمل متحررا خارج نطاق اإلنتاج املادي والحاجات املادية‪ ،‬كان مجرد لعب ال يؤثر إطالقا نظام الضرورة‪ ،‬وال‬
‫يخدم غير منطق وهمي وحقيقة وهمية‪ ،‬ولكن عندما سيطر التقدم التقني على الخيال‪ ،‬طبع صوره بمنطقه الخاص‬
‫ً‬
‫وحقيقته الخاصة‪ ،‬مقلصا ملكة الفكر الحر‪ .‬بيد أنه قلص من الوقت نفسه املسافة بين الخيال والعقل‪ .‬وبذلك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أصبحت امللكتان املتناحرتان مرتبطتين إحداهما باألخرى ارتباطا مصيريا‪ ،‬وأصبح الخيال ال ينشط إال تبعا لالحتماالت‬
‫التقنية التي يمكن أن تتحقق في املستقبل بفضل قدرات الحضارة الصناعية املتقدمة (ماركيوز‪.)259 :1988 ،‬‬
‫بذلك تم تسخير ملكة الخيال لخدمة الواقع وتبرير تناقضاته وتجميلها‪ ،‬على عكس ما تمناه ماركيوز في أن‬
‫تكون هذه امللكة هي القادرة على االنطالق باإلنسان نحو مفاهيم الحب والجمال والفن‪ ،‬بحيث تكون متحررة من‬
‫قيود الواقع‪.‬‬
‫وفي مجال السياسة‪ ،‬تستخدم ملكة التخيل لدى األفراد بصورة منظمة ومدروسة‪ ،‬فتأتي وعود السياسيين‬
‫بحياة أفضل وأكثر رفاهية‪ ،‬وعود متخيلة قد تتحقق وقد ال تتحقق‪ ،‬وعود تعبث بأحالم األفراد ومخيلتهم‪ ،‬وتجعلهم‬
‫يتقبلون الواقع على أمل تحقيق الخيال‪ .‬كما أن هناك دور آخر للمخيلة في مجال السياسة‪ ،‬حيث رأى ماركيوز أن‬
‫قدرة الخيال عبر األسلوب السياس ي تتجاوز في غرابته روايات أدب األطفال منها " آليس في بالد العجائب" لكاتب "‬
‫لويس كارول" عبر التالعب بالكلمات‪ ،‬وتحيل املعنى إلى ال معنى‪ ،‬والال معنى إلى معنى‪ .‬فيرى ماركيوز أن السياسة حينما‬
‫ً‬
‫تمتلك أدوات التقنية والخيال معا‪ ،‬تؤدي إلى حدوث تداخالت بين مجاالت شديدة التنافر‪ ،‬مثل السحر والعلم‪،‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)24‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫والحياة واملوت‪ ،‬الفرح والبؤس‪ ،‬فيختلط الجمال بالرهبة في شكل معامل ومختبرات ذرية تستتر في أماكن سرية‪ ،‬تبدو‬
‫لعبن الناظر كأنها حدائق صناعية‪ ،‬وكذلك في شكل مخابئ فخمة ضد القنابل مجهزة بأفخر أنواع السجاد واألرائك‪،‬‬
‫وأجهزة التلفزيون ووسائل التسلية وكأنه منزل في زمن السلم‪ ،‬وملجأها ضد اإلشعاعات الذرية في زمن الحرب في آن‬
‫واحد (ماركيوز‪.)258 :1988 ،‬‬
‫وهكذا تتداخل املتناقضات في تجسيد الخيال على أرض الواقع‪ ،‬فتبدو سمة للتطور‪ ،‬لتمهد الطريق للضمير‬
‫السعيد الذي يسعد لرؤية الدمار واملؤسسات التي ترعاه‪ ،‬فتجده يهنأ بالحروب مادامت ال تدمره‪.‬‬
‫لذا يرى ماركيوز أن "صيرورة التشيؤ واالغتراب امتدت شملت الخيال‪ ،‬فصورنا تتسلط علينا‪ ،‬ونحن نتألم‬
‫عن طريقها" (ماركيوز‪.)260 :1988 ،‬‬
‫ويذهب ماركيوز إلى أن تقبل الوجدان اإلنساني لتلك التناقضات والفظاعات التي تتسم بها هذه املنجزات‬
‫الخيالية‪ ،‬يرجع إلى سببين هما أن هذه املنجزات‪:‬‬
‫ً‬
‫أ‪ -‬عقالنية جزئيا في حدود النظام القائم‪.‬‬
‫ب‪ -‬إنها تدل على عبقرية اإلنسان وقدرته على تجاوز الحدود التقليدية للخيال (ماركيوز‪ .)259 :1988 ،‬بذلك‬
‫ً‬
‫يسير التقدم التكنولوجي جنبا إلى جنب مع عقلنة الخيال‪ ،‬ولتحرير الخيال يرى ماركيوز ضرورة تطوير‬
‫املوارد املتاحة في ذلك املجتمع‪ ،‬واستعمالها بطريقة مختلفة تقوم أساسها على تلبية الحاجات الحيوية‬
‫ً ً‬
‫والحقيقة لإلنسان بصورة عامة‪ .‬فالخيال لن يكون عقالنيا حقا إال إذا كان مقدمة إلعادة بناء جهاز اإلنتاج‬
‫ولتوجيه نحو وجود مهدئ وحياة بال قلق (ماركيوز‪.)260 :1988 ،‬‬
‫وفي النهاية يمكن القول إن ماركيوز بنظريته النقدية قد رصد العديد من مظاهر استخدام الخيال للتستر‬
‫على سلبيات الواقع من عنف وتدمير وفساد‪ ،‬والسعي إلى تغريب اإلنسان املعاصر (زيادة اغترابه) بكافة الوسائل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بغض النظر عن النتائج املترتبة عن ذلك من جهة‪ .‬والسعي من جهة أخرى إلى إظهار الواقع بصورة أكثر جماال وسالما‬
‫ً‬
‫وأمنا‪ ،‬لتبدو التناقضات السابقة مقبولة ومعتاد عليها في كنف املجتمع الصناعي املتقدم‪.‬‬
‫من خالل ما تقدم نجد أن ماركيوز قد سخر كل طاقاته املعرفية على صعيد (االجتماع والفلسفة والسياسة‬
‫ً‬
‫والنفس) لتوضيح أسباب ومظاهر االغتراب والتشيؤ التي يعاني منها اإلنسان املعاصر‪ .‬حيث يسعى جاهدا إلى لفت‬
‫ً‬
‫األنظار ودق نواقيس الخطر تحذيرا من خطورة الدعاية واإلعالم وانتشار السلوك االستهالكي‪ ،‬وتوحد األفراد مع‬
‫الوجود املفروض عليهم‪ ،‬وتشابههم مع بعضهم البعض من حيث املتطلبات واالحتياجات التي تزداد نحو مطرد مما‬
‫يؤدي بالجانب اآلخر إلى أحكام السيطرة على اإلنسان لزيادة اغترابه وتشيئه بكل ما تحمل هذه املفاهيم من معاني‬
‫ضد اإلنسانية‪.‬‬

‫املبحث الرابع‪ -‬السبيل للخالص من ممارسات العقالنية التكنولوجية في املجتمع الصناعي املتقدم‪:‬‬
‫لقد سعى ماركيوز إلى أن يعطي ملفهومه عن السلب أو (النفي) دالالت إيجابية‪ ،‬فالسلب عنده سلب عدمي‬
‫ً‬
‫يرفض ما هو قائم دون أن يطرح البديل عن الذي رفضه‪ ،‬ولقد كان ماركيوز نفسه منتبها لذلك األمر عندما قرر أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يضفي على نظريته النقدية بعدا مستقبليا وهذا ما يشير إليه بقوله إن مفاهيم النظرية النقدية "مفاهيم بناءة ال‬
‫تتضمن الواقع املعطى فحسب‪ ،‬بل تتضمن في الوقت نفسه إلغاءه والواقع الجديد الذي يأتي بعده‪ .‬فإعادة البناء‬
‫النظري للعملية االجتماعية‪ ،‬ونقد الظروف القائمة وتحليل اتجاهاتها يتضمن بالضرورة املكونات املستقبلية االتجاه"‬
‫(ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪ .)157 :1971 ،‬ويظهر بوضوح الطابع املستقبلي للنظرية النقدية من خالل اهتمام ماركيوز‬
‫بالدور النقدي للخيال‪ ،‬وقوله بإمكان تحقق اليوتوبيا أو نهاية اليوتوبيا‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)25‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫أ‪ -‬الدور النقدي للخيال‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫تحتل مقولة الخيال أهمية بالغة في نظرية ماركيوز النقدية‪ ،‬فهي ال تشغل في نظريته النقدية دورا معرفيا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فحسب‪ ،‬بل دورا سياسيا وإيديولوجيا‪ .‬فالخيال يكتسب لدى ماركيوز أهمية خاصة من حيث إنه يأخذ بأيدينا خارج‬
‫املحصنة املحرمة التي لم يستطيع مبدأ الواقع انتهاك حرماتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حدود الواقع القائم‪ ،‬ويمثل رمز املنطقة‬
‫ويؤكد ماركيوز على أن هناك صلة وثيقة بين الفلسفة والخيال‪ ،‬ولقد أشار الفالسفة السابقون – أرسطو‪،‬‬
‫كانط – إلى أهمية التخيل في تجاوز الهوة بين الواقع القائم والواقع العقالني‪ ،‬فبدون الخيال تظل كل املعرفة‬
‫الفلسفية في قبضة الحاضر أو املاض ي‪ ،‬وتكون مقطوعة الصلة باملستقبل الذي هو الرابطة الوحيدة بين الفلسفة‬
‫والتاريخ الحقيقي للنوع البشري (ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪.)167 :1971 ،‬‬
‫وهنا يجب أن نشير إلى أن الخيال عند هربرت ماركيوز له قوة نافية وخالقة في نفس الوقت من حيث إنه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬لديه القدرة على إدراك (حدس) موضوع ما‪ ،‬برغم أن هذا املوضوع ليس قائما‪.‬‬
‫‪ -2‬لديه القدرة على خلق أشكال جديدة من املادة املعرفية املعطاة‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه يتمتع بدرجة عالية من االستقالل عما هو معطى‪ ،‬ويشير إلى درجة عالية من الحرية وسط عالم من الال‬
‫حرية (ماركيوز‪.)166 -165 :1971 ،‬‬
‫ً‬
‫ووفقا للنظرية الفرويدية فإن الخيال هو القيمة العقلية الوحيدة التي ال تزال إلى حد بعيد تحتفظ ببراءتها‬
‫األولى‪ ،‬وتحتفظ بحريتها واستقاللها تجاه مبدأ الواقع (ماركيوز‪.)158 :2007 ،‬‬
‫يعيد التخيل التوازن املفقود بين منطق السيطرة ومنطق االرتواء‪ ،‬أو بين لوغوس وإيروس‪ ،‬والتخيل من‬
‫ً‬
‫وجهة نظر مبدأ الواقع ليس نافعا وغير حقيقي‪ ،‬أنه مجرد لعب‪ ،‬حلم يقظة‪ .‬ومن حيث هو كذلك‪ ،‬فإنه يداوم‬
‫الحديث بلغة مبدأ السعادة‪ ،‬بلغة الحرية مقابل القمع‪ ،‬ولغة الرغبة واالرتواء غير املحبط‪ .‬في حين أن الواقع يسير‬
‫ً‬
‫وفق قوانين العقل‪ ،‬وال عالقة له مطلقا بلغة الحلم (ماركيوز‪.)160 :2007 ،‬‬
‫ويرى ماركيوز أن الخيال كعملية عقلية مستقلة إنما يتمتع بقدرة عالية على تحقيق ضرب من االنسجام‬
‫والتوحد‪ ،‬وخلق عالم مثالي حر يتجاوز الواقع اإلنساني املتناحر‪ ،‬فالتخيل يستهدف إعادة التوافق بين الفرد والكل‪،‬‬
‫وبين الرغبة وتحقيقها‪ ،‬بين السعادة والعقل‪ .‬وبينما يتحول هذا التناغم إلى مجال اليوتوبيا بفعل مبدأ الواقع القائم‪،‬‬
‫فإن التخيل يلح على أنه ينبغي ويمكن أن يتحول إلى واقع (ماركيوز‪.)161 :2007 ،‬‬
‫ً‬
‫وال يكتفي ماركيوز بإظهار الدور الخالق للخيال في قدرته على تصور عالم مثالي متكامل‪ ،‬بل يلح أيضا على‬
‫ضرورة أن يدخل الخيال إلى قلب املمارسة السياسية‪ ،‬وأن تمتزج املقوالت الفنية الجمالية باملقوالت السياسية‪ .‬وهذا‬
‫ما يشير إليه ماركيوز عندما يتحدث عن حركات التمرد واالحتجاج التي يقودها الشباب والطلبة في أوروبا فيقول‪ :‬إذا‬
‫أصبحت قيمة وحقيقة الخيال من متطلبات الفعل السياس ي لتمرد شباب املثقفين اليوم‪ ،‬وإذا ما انتشرت األشكال‬
‫ً‬
‫السريالية لالحتجاج والرفض بين الحركة‪ ،‬فإن هذا التطور الذي يبدو ظاهريا بال معنى يمكن أن يشير إلى تغير أساس ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعد مازال بوصفه بعدا جماليا ال سياسيا في‬ ‫في املوقف‪ .‬إن االحتجاج السياس ي إذ يكتسب صفة شاملة يصل إلى ٍ‬
‫جوهره‪ .‬واالحتجاج السياس ي يقوم بتنشيط العناصر األساسية والعضوية بدقة من خالل هذا البعد‪ :‬أي الحساسية‬
‫تتمرد على وصايا العقل القمعي‪ ،‬وهي بفعلها هذا إنما تبعث القوة الحسية للخيال ( ‪Marcuse, 1969:‬‬ ‫اإلنسانية التي َّ‬
‫‪.)30‬‬
‫وعلى الرغم من إعطاء ماركيوز أهمية كبيرة للدور النقدي للخيال‪ ،‬إال أنه يعود فيؤكد على أن النظرية‬
‫النقدية تسعى إلى استنتاج مقوالتها من الواقع العيني لإلنسان‪ ،‬وليس من العالم السحري للخيال فقط‪ ،‬لذلك فهو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقرر أن النظرية النقدية ال تتصور أفقا ال نهائيا لإلمكانات‪ ،‬ومن حيث هي كذلك " فإن حرية التخيل تحتفي إلى الحد‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)26‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫الذي تصبح عنده الحرية الواقعية إمكانية حقيقية‪ .‬وحدود الخيال ال تعود هكذا قوانين للماهية‪ ...‬ولكنها حدود‬
‫تقنية بأدق معنى" (ماركيوز‪ ،‬فلسفة النفي‪.)166 :1971 ،‬‬
‫ب‪ -‬نهاية اليوتوبيا‪:‬‬
‫يستخدم ماركيوز مفهوم اليوتوبيا بطريقة ال تخلو من الغموض وااللتباس‪ ،‬فنجد اليوتوبيا في كتابات‬
‫ً‬
‫ماركيوز أحيانا ما تشير إلى معنى الرفض أو السلب ملا هو قائم مع التطلع إلى خلق حضارة ذات معالم جديدة‪ ،‬وهذا‬
‫املعنى يختلف عن املعنى التقليدي لليوتوبيا‪ ،‬من حيث إن ماركيوز ال يقصد باليوتوبيا هنا الال مكان‪ ،‬وإنما إمكانية‬
‫ً‬
‫واقعية قابلة للتحقق‪ ،‬وفي هذا يقول ماركيوز‪ :‬يجب أن يكون التفكير بالتناقض قادرا على الفهم والتعبير عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلمكانات الجديدة لوجود مختلف كيفا‪ .‬إنه يجب أن يكون قادرا على تجاوز قوة القمع التكنولوجي وأن يدرج في‬
‫مفاهيمه عناصر االرتواء التي تكون مقهورة ومعاقة من خالل هذا القمع‪ .‬بعبارة أخرى فإن التفكير بالتناقض يجب أن‬
‫يكون في تعارضه مع الواقع القائم أكثر قدرة على النفي واليوتوبيا (‪.)Marcuse, 1958: xx‬‬
‫غير أن ماركيوز في أماكن أخرى يشير إلى أن هناك بعض االتجاهات السياسية والتيارات الفكرية‪ ،‬التي من‬
‫صالحها بقاء الوضع الراهن القائم دون تغيير تستخدم مفهوم اليوتوبيا لوصف أي محاولة لنقد أو تجاوز الوضع‬
‫ً‬
‫القائم باعتبارها محاولة غير واقعية‪ ،‬وتعارض قوانين الواقع والتاريخ‪ .‬ووفقا لهذا املعنى األخير فإن "ما يوصف‬
‫باعتباره يوتوبيا لم يعد ذلك الذي يشار إليه بالال مكان‪ ،‬وما ال يمكن أن يكون في العالم التاريخي‪ ،‬بل ذلك الذي‬
‫تحول دون ظهوره املجتمعات القائمة " (‪.)Marcuse, 1969: 3- 4‬‬
‫يرفض ماركيوز املعنى األخير لليوتوبيا ألنه يسعى إلى إعاقة إمكانات تاريخية معينة عن الظهور‪ ،‬ويقمع‬
‫الطموح البشري‪ ،‬ويجمد إمكاناته الغنية‪ .‬وفي مقابل ذلك يرى ماركيوز أن اليوتوبيا بهذا املعنى املشار إليه ليست في‬
‫حقيقة األمر إمكانية مستحيلة أو تقع خارج نطاق التاريخ كما يصورونها‪ ،‬بل هي إمكانية تاريخية وإنسانية باملعنى‬
‫الدقيق للكلمة‪ .‬وفي هذا النطاق يذهب ماركيوز إلى أن أي شكل للعالم املتجسد من الحياة اإلنسانية وأي تحول‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للبنية التقنية والطبيعية أصبح اليوم أمرا ممكنا‪ .‬وأساس هذه اإلمكانية هو األساس التاريخي‪ .‬فاليوم لدنيا القدرة‬
‫ً‬
‫على تحويل العالم إلى جحيم‪ ،‬وقد تقدمنا على الطريق لفعل ذلك‪ .‬إال أننا نمتلك أيضا القدرة على تحويله إلى ما هو‬
‫عكس الجحيم (‪ .)Marcuse, 1970: 62‬وينتهي ماركيوز من هذه اآلراء املتفائلة واملعبرة عن إيمان عميق بقدرة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلنسان على صنع الفردوس األرض ي‪ ،‬إلى القول بأن نهاية اليوتوبيا أصبحت أمرا ممكنا‪ ،‬ويعني بذلك أن ما تطرحه‬
‫قوى الثورة املضادة على أنه يوتوبيا أو نوع من الوهم هو في الحقيقة إمكانية واقعية وقابلية للتحقق‪.‬‬
‫فالروح الطوباوية ال تقتصر على تصور األشياء مختلفة وأفضل‪ ،‬بل تطرح هذه اإلمكانية بمصطلحات كونية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫امتالء وأشد إشباعا (هاو‪.)252 :2010 ،‬‬ ‫فهي تسعى ألن تبين أن الكائنات البشرية عموما يمكنها أن تعيش حياة أكثر‬
‫وبهذا املعنى نجد أن ماركيوز سعى إلى أن يضع الحدود الفاصلة بين املمكن واملستحيل‪ ،‬أو بين غير اليوتوبي‬
‫ً‬
‫واليوتوبي فإنه يتساءل عن األسباب والعوامل التي تجعل اليوتوبيا إمكانية مستحيلة وفقا للمعنى التقليدي للكلمة‪.‬‬
‫وفي اإلجابة عن هذا التساؤل يميز ماركيوز بين نوعين من استحالة تحقيق اليوتوبيا (‪ :)Marcuse, 1970: 63- 64‬األول‪:‬‬
‫ً‬
‫عندما تقف الظروف الذاتية واملوضوعية في مجتمع ما حائال دون تحقيق التحول التاريخي‪ ،‬وهذا ما يطلق عليه عدم‬
‫وضوح املوقف االجتماعي‪ ،‬واألمثلة على ذلك كثيرة منها املشروع الشيوعي خالل فترة الثورة الفرنسية كان يبدو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشروعا مستحيال لعدم توافر الشرط الذاتي‪ -‬املوضوعي إلمكان تحقيق ذلك‪ .‬وبذلك يمكن النظر إلى عدم تحقق‬
‫ً‬
‫التجربة االشتراكية في البلدان الرأسمالية األعلى تقدما‪ ،‬على أنه الغياب الواقعي املزعوم للعوامل الذاتية واملوضوعية‬
‫ً‬
‫التي تجعل هذا التحقق مستحيال اآلن‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)27‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫وال شك في أن االستحالة هنا استحالة مؤقتة وليست دائمة‪ ،‬لذلك فإن ماركيوز ينفي عن هذا املستوى من‬
‫االستحالة صفة اليوتوبيا باملعنى التقليدي الذي يعني اإلمكانية املستحيلة ويؤكد على أن االشتراكية إذا كانت غير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ممكنة اآلن في البلدان الرأسمالية األكثر تقدما نظرا لغياب الطبقة الثورية الفعالة‪ ،‬فإنه ال يعني أن االشتراكية‬
‫مشروع يوتوبي‪.‬‬
‫أما املستوى الثاني من االستحالة‪ ،‬فيتمثل في تعارض املشروع اليوتوبي مع القوانين العلمية البيولوجية‬
‫والفيزيائية مثل فكرة إعادة مرحلة الشباب للمسنين أو عودة العصر الذهبي‪...‬إلخ‪ ،‬وينظر ماركيوز إلى هذا املستوى‬
‫األخير من االستحالة على أنه اليوتوبيا بمعناها الدقيق‪ ،‬أي الذي يقف خارج نطاق التاريخ ويتجاوز حدود التجربة‬
‫اإلنسانية‪.‬‬
‫ويبقى السؤال‪ :‬هل نجح ماركيوز في تحديد الخط الفاصل بين ما هو يوتوبي وما هو غير يوتوبي‪ ،‬أي بين‬
‫املمكن واملستحيل؟‬
‫في حقيقة األمر‪ ،‬رغم تعاطفنا مع نزعة ماركيوز املتفائلة بإيمانه بالقضاء على الفقر والبؤس والعمل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املغترب‪ ،‬والقضاء على القهر السياس ي والجنس ي أصبحت أمرا ممكنا‪ ،‬وأن تحقيق الحرية والسعادة لإلنسان ليس أمرا‬
‫ً‬
‫مستحيال طاملا أنه إمكانية واقعية تخضع للحركة التاريخ (‪ ،)Marcuse, 1970: 64- 65‬إال أننا سنتعرض بعض‬
‫املالحظات النقدية حول مفهومه عن نهاية اليوتوبيا‪:‬‬
‫‪ .1‬إن ماركيوز عندما حصر مفهوم اليوتوبيا باملعنى التقليدي في إطار تعارضه مع القوانين العلمية التي تحكم‬
‫الظواهر البيولوجية والفيزيائية قد وقع في خطيين‪:‬‬
‫ً‬
‫أ‪ -‬أنه تجاهل وفقا للمفهوم املاركس ي أن هناك قوانين تحكم الواقع التاريخي واالجتماعي ال تقل أهمية عن‬
‫القوانين العلمية األخرى‪ ،‬وعند هذه النقطة تتسع املساحة بين ماركيوز واملاركسية‪.‬‬
‫ب‪ -‬تخيل ماركيوز أن القوانين العلمية قوانين مطلقة وال تخضع للتطور التاريخي‪ ،‬في حين أن قوانين العلم هي جزء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من التجربة اإلنسانية الشاملة‪ ،‬وما يبدو اليوم ضربا من ضروب اليوتوبيا في مجال العلم قد يصبح يوما ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واقعا معاشا‪ ،‬واألمثلة العلمية خير دليل على ذلك‪.‬‬
‫‪ .2‬إن النظرية النقدية إذا كانت تعلي من شأن الدور النقدي للخيال‪ ،‬ومن قيمة البعد الجمالي فهذا في حد ذاته‬
‫ً‬
‫ليس مبررا للقول بأن ماركيوز قد انشق عن صفوف املاركسيين فماركس نفسه قد ّبين أن اإلنسان يشكل‬
‫ً‬
‫األشياء وفقا لقوانين الجمال‪ .‬وكان لينين يخاطب الجماهير بقوله ينبغي أن نحلم (باتالوف‪ ،)199 :1981 ،‬وقد‬
‫قال انجلز في كتابه (الثورة والثورة املضادة في أملانيا)‪ :‬إن االنتفاضة فن‪ ،‬بالقدر نفسه الذي تكون به الحرب أو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أي ش يء آخر فنا‪ .‬لكن برغم ذلك لم يكن الحلم والخيال في التراث املاركس ي حلما مطلقا أو خياال جامحا بال‬
‫ً‬
‫حدود‪ ،‬بل كان محكوما بإمكانات الواقع واملمارسة الثورية‪ ،‬وهذا الفرق بينهم وبين ماركيوز من حيث إن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ماركيوز لم يكن مهتما بالرجوع إلى الواقع كما كان يفعل ماركس وانجلز‪ ،‬فقد كان مهتما بسلب هذا الواقع‪،‬‬
‫وممارسة دور الرفض العظيم‪ ،‬والقطيعة التامة مع ما هو قائم‪ .‬وهذا النقد قد أثبت أن ماركيوز كان يغير من‬
‫ً‬
‫مواقفه الفكرية وفقا الختالف الظرف التاريخي‪ ،‬ألننا نعتقد بأن شخصية ماركيوز تتميز بجانبين في غاية‬
‫األهمية‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬األول‪ :‬هو الفيلسوف الرومانتيكي الحالم والحاد املزاج معا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬الثاني‪ :‬هو املفكر السياس ي‪ ،‬إال أنه يبدو أن ماركيوز الفيلسوف الرومانتيكي الحالم كان دائما يتفوق على‬
‫ماركيوز السياس ي امللتزم بقضايا وإمكانات الواقع االجتماعي‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)28‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫‪ .3‬إذا نظرنا إلى موقف ماركيوز اليوتوبي سنجد أنه عندما حاول أن يرسم معالم حضارة جديدة تخلو من القمع‬
‫السياس ي والجنس ي وتسودها قيم الحرية والجمال والسعادة‪ ،‬ويتحول فيها العمل إلى لعب‪ ،‬ويصبح اإلنسان‬
‫سيد نفسه‪ .‬نقول إن ماركيوز لم يراع أي معايير واقعية أو تاريخية تؤكد وجود مثل هذه الحضارة‪ ،‬وحتى إذا‬
‫كان ماركيوز يستطيع أن يبرهن على استحالة وجود قوانين تحكم الظاهرة االجتماعية‪ ،‬فإنه ال يستطيع أن‬
‫يتجاهل التاريخ‪ .‬وأي مشروع للتغيير االجتماعي فإنه ال بد من أن يستمد تصوراته من التجربة اإلنسانية‬
‫ً‬
‫السابقة‪ ،‬وقد رفض ماركس وانجلز املشروعات اليوتوبية التي تقفز فوق قوانين التاريخ‪ ،‬وتحلق بعيدا عن أرض‬
‫ً‬
‫اإلنسان‪ ،‬ورفضوا أيضا وضع مثل عليا ينبغي للواقع أن يتطابق معها‪.‬‬
‫ً‬
‫إن الثورة ال تقوم على مخططات مثالية‪ ،‬ويوتوبيا مقرر سلفا‪ ،‬وإنما من خالل التحليل الجدلي للواقع القائم‬
‫والسعي إلى تغييره‪ .‬أما نزعة ماركيوز الجمالية الحاملة‪ ،‬واملتفائلة إلى أقص ى حد‪ ،‬فإنها تتحول في النهاية األمر إلى ضرب‬
‫من اليوتوبيا املستحيلة التي رفضها ماركيوز نفسه‪.‬‬

‫الخاتمة‪.‬‬

‫أهم االستنتاجات من البحث‪:‬‬


‫‪ .1‬توصل البحث إلى نتيجة مفادها أن املجتمع الصناعي املتقدم استطاع وبكل براعة احتواء كل أشكال املعارضة‬
‫وتفريغ املجتمع من كل أشكال النقد‪ ،‬بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته املتمثلة‬
‫ً‬
‫بالسيطرة والتسلط املتزايد طردا على اإلنسان والطبيعة بآن واحد‪.‬‬
‫‪ .2‬أثبت البحث أن ما يعانيه اإلنساني من مظاهر االغتراب الثقافي بغض النظر عن انتمائه الطبقي واالجتماعي‬
‫ً‬
‫سببه سيطرة العقالنية التكنولوجية التي تنظر لكل ش يء باعتباره قابال لالختزال‪ ،‬فاإلنسان املعاصر هو نتاج‬
‫املجتمع الصناعي املتقدم‪ ،‬وتجسيد كامل لتوجهاته‪ ،‬وحامل إليديولوجيته‪ ،‬باملقابل نجد أن هذا املجتمع هو‬
‫مبتكر وسائل رفاهية اإلنسان‪ ،‬وهي نفس الوسائل التي تسيطر على اإلنسان وتزيد من ظاهرة اغترابه وشقائه‬
‫اإلنساني‪ ،‬صحيح أن ماركيوز كشف لنا عن مكامن النقائض في هذا املجتمع التي تولد الشعور باالغتراب‪ ،‬إال أنه‬
‫لم يقدم لنا الحلول الواقعية للخروج من شباك االغتراب الثقافي املتجذر في البنية االجتماعية للمجتمع الصناعي‬
‫املتقدم‪.‬‬
‫‪ّ .3‬بي َن البحث املنهجية التي تطبقها الفلسفة الوضعية على الجوانب االجتماعية التي حاولت من خاللها أن تضفي‬
‫مالمح القانون الوضعي عليه متجاهلة التنوع الفريد الذي يتمتع به املجتمع البشري‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ .4‬توصل البحث إلى أن ماركيوز ّ‬
‫قدم تصورا في غاية األهمية بتصويره للمجتمع التكنولوجي كمظهر من مظاهر قمع‬
‫ّ‬
‫اإلنسان والسيطرة عليه‪ ،‬إال أنه لم يعطنا الحلول العملية والواقعية التي تمكن أفراد املجتمع املعاصر الخروج‬
‫من هذا املأزق للتخلص من املظاهر السابقة‪.‬‬
‫‪ .5‬استنتج البحث أن ماركيوز اعتمد على مفهوم الخيال إللغاء التقابل التقليدي بين اللوغوس واإليروس للقضاء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على سيطرة العقل األداتي الذي يتحكم بالغرائز اإلنسانية‪ ،‬فالخيال عند ماركيوز يلعب دروا حاسما لالنفالت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من قبضة الواقع والهروب من سيطرته‪ ،‬إال أن ماركيوز بإعطائه هذا الدور للخيال أضحى مفكرا مثاليا نقديا من‬
‫الطراز الرفيع‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ .6‬وفي النهاية‪ ،‬توصل البحث إلى مسلمة مفادها أن ماركيوز كان وبكل براعة منظر للمجتمع الصناعي املعاصر‪ ،‬ألنه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قدم رؤية كلية شاملة عن أبعاد ومكونات هذا املجتمع‪ ،‬فقد جاء نقده لهذا املجتمع نقدا حرفيا يطرح الكثير من‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)29‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫التساؤالت حول ممارساته ضد أفراده‪ ،‬إال أن ماركيوز كان باملقابل االبن البار لهذا املجتمع‪ ،‬فالنقد الذي تم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫توجيه له كان نقدا إصالحيا أكثر من أن يكون نقدا راديكاليا ثوريا‪ ،‬لكنه وبكل تأكيد يحمل نزعة مثالية مفرطة‬
‫تجاه تحقيق إنسانية اإلنسان‪.‬‬

‫التوصيات واملقترحات‪.‬‬
‫البناءة في الحياة االجتماعية بغية خلق البدائل اإلنسانية املمكنة إلعادة بسط إرادة‬ ‫تفعيل دور املمارسة النقدية ّ‬ ‫‪.1‬‬
‫الفرد على ممارساته وعالقاته االجتماعية‪ ،‬باإلضافة إلى القضاء على مفهوم اإلنسان ذو البعد الواحد الذي‬
‫ً‬
‫صاغته العقالنية التكنولوجية تحقيقا ملصالحها وأهدافها وغاياتها الال إنسانية‪.‬‬
‫ً‬
‫ضرورة تفنيد كل مظاهر االغتراب اإلنساني في املجتمع الصناعي املتقدم تمهيدا للقضاء عليها من خالل رفع‬ ‫‪.2‬‬
‫مستوى الوعي االجتماعي ألفراد املجتمع باألساليب واملمارسات التي تتبعها العقالنية التكنولوجية في ترسيخ تلك‬
‫املظاهر واآلثار والنتائج السلبية املترتبة عليها‪.‬‬
‫الترشيد العقالني ذو البعد اإلنساني الستخدام الوسائل التكنولوجية في الحياة االجتماعية باعتبارها أدوات‬ ‫‪.3‬‬
‫ً‬
‫مساعدة لجعل الحياة االجتماعية أبسط وأسهل بعيدا عن السيطرة والتحكم والقمع واختزال الواقع االجتماعي‬
‫في البعد األداتي للعقالنية التكنولوجية‪.‬‬
‫الدعوة إلى كبح جماح الفلسفية الوضعية في العلوم االجتماعية لبسط سيطرتها ومنهجيتها على العلوم التي‬ ‫‪.4‬‬
‫تدرس املشكالت االجتماعية التي يعاني الفرد في الواقع االجتماعي من خالل إعادة النزعة اإلنسانية للعلوم‬
‫ً‬
‫االجتماعية فهي من اإلنسان وإليه بعيدا عن ممارسات العقالنية التكنولوجية‪.‬‬
‫والبناء عبر خلق املمكنات اإلنسانية لترسيخ الطاقات‬ ‫ّ‬ ‫تنمية قدرة اإلنسان املعاصر على التخيل اإليجابي‬ ‫‪.5‬‬
‫ً‬
‫اإلبداعية واإلنمائية باعتبار اإلنسان قادرا على إدارة واقعه االجتماعي وعالقاته اإلنسانية‪.‬‬
‫دعوة املشتغلين في حقول العلوم االجتماعية إلى إجراء املزيد من الدراسات واألبحاث حول خطورة سيطرة‬ ‫‪.6‬‬
‫التكنولوجيا على كل مفاصل الحياة االجتماعية‪ ،‬باإلضافة إلى عقد الندوات البرامج التوعوية حول اآلثار السلبية‬
‫الناتجة عن االستخدام املفرط للوسائل التكنولوجية‪.‬‬

‫املصادر واملراجع‪.‬‬

‫أوال‪ -‬املراجع باللغة العربية‪:‬‬


‫‪ -‬باتالوف‪ ،‬إدوارد‪ .)1981( .‬فلسفة التمرد‪( .‬ترجمة‪ ،‬سامي الرزاز)‪ .‬دار الثقافة الجديدة‪ .‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬براهمة‪ ،‬جمال‪ .)2011 -2010( .‬اإلنسان والوعي في فلسفة هربرت ماركيوز‪ .‬رسالة ماجستير‪ .‬كلية العلوم‬
‫اإلنسانية والعلوم االجتماعية‪ .‬جامعة منتوري قسنطينة‪ .‬الجزائر‪.‬‬
‫‪ -‬بوتومور‪ ،‬توم‪ .)2004( .‬مدرسة فرانكفـورت‪( .‬ترجمة‪ ،‬سعد هجرس)‪ .‬دار أويا‪ .‬بنغازي‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬بوجنوي‪ ،‬خولة‪ -‬حجام‪ ،‬العربي‪ .)2020( .‬مدرسة فرانكفورت واالغتراب ماركيوز نموذجا‪ .‬مجلة املستقبل العربي‪.‬‬
‫العدد‪ .491 :‬كانون الثاني‪ /‬يناير‪ .‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -‬بومنير‪ ،‬كمال‪ .)2010( .‬النظرية النقدية ملدرسة فرانكفورت – من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث‪ .‬ط‪.1‬‬
‫الدار العربية للعلوم ناشرون وآخرون‪ .‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -‬حسن‪ ،‬سمير إبراهيم‪ .)2012( .‬تمهيد في علم االجتماع‪ .‬ط‪ .1‬دار املسيرة‪ .‬عمان‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)30‬‬ ‫فياض‬
‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو ‪2022‬م‬

‫زكريا‪ ،‬فؤاد‪ .)1978( .‬هربرت ماركيوز‪ .‬دار الفكر املعاصر‪ .‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫السعدني وآخرون‪ ،‬عبد الرحمن‪ .)2010( .‬مدخل إلى البحث العلمي (املفاهيم‪ ،‬األسس‪ ،‬اإلجراءات‪ ،‬التقويم)‪ .‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الكتاب الحديث‪ .‬القاهرة‪.‬‬
‫العالم‪ ،‬محمود أمين‪ .)1972( .‬ماركيوز أو فلسفة الطريق املسدود‪ .‬دار اآلداب‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عباس‪ ،‬فيصل‪ .)2005( .‬الفرويدية ونقد الحضارة املعاصرة‪ .‬ط‪ .1‬دار املنهل اللبناني‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عباس‪ ،‬فيصل‪ .)2008( .‬االغتراب‪ -‬اإلنسان املعاصر وشقاء الوعي‪ .‬ط‪ .1‬دار املنهل اللبناني‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فضل‪ ،‬صالح‪ .)2002( .‬مناهج النقد املعاصر‪ .‬إفريقيا الشرق‪ .‬الدار البيضاء‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فياض‪ ،‬حسام الدين‪ .)2020( .‬تطور االتجاهات النقدية في علم االجتماع املعاصر‪ -‬دراسة تحليلية نقدية في‬ ‫‪-‬‬
‫النظرية السوسيولوجية املعاصرة‪ .‬دار كريتار‪ .‬اسطنبول‪.‬‬
‫فياض‪ ،‬حسام الدين‪ .)2021( .‬املدخل إلى علم االجتماع – من مرحلة تأصيل املفاهيم إلى مرحلة التأسيس‪ .‬ط‪.1‬‬ ‫‪-‬‬
‫مكتبة األسرة العربية‪ .‬اسطنبول‪.‬‬
‫فياض‪ ،‬حسام الدين‪ .)2021( .‬حضارة القيود‪ -‬نقد ماركيوز ملفهوم الحضارة في املجتمع الصناعي املتقدم‪ .‬مجلة‬ ‫‪-‬‬
‫الجديد‪ .‬العدد‪ .72 :‬يناير‪ /‬كانون الثاني‪ .‬لندن‪.‬‬
‫كرسبني‪ ،‬أنطوني دي – مينوج‪ ،‬كينيث‪ .)1988( .‬أعالم الفلسفة السياسية املعاصرة‪( .‬ترجمة‪ ،‬نصار عبد هللا)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ .‬القاهرة‪.‬‬
‫ً‬
‫كريمة‪ ،‬مسعودي‪ .)2017( .‬االغتراب في املجتمع الصناعي – هربرت ماركيوز نموذجا‪ .‬رسالة ماجستير غير‬ ‫‪-‬‬
‫منشورة‪ .‬قسم الفلسفة‪ .‬كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ .‬جامعة موالي الطاهر‪ .‬الجزائر‪.‬‬
‫ليلة‪ ،‬علي‪ .)2004( .‬الفكر النقدي في علم االجتماع‪ -‬جماعاته وتياراته‪ .‬من مقدمة كتاب‪ :‬النظرية االجتماعية‬ ‫‪-‬‬
‫ونقد املجتمع (اآلراء الفلسفية واالجتماعية للمدرسة النقدية)‪ ،‬تأليف‪ :‬تارد‪ ،‬زولتان‪( .‬ترجمة‪ ،‬علي ليلة)‪ .‬املكتبة‬
‫املصرية‪ .‬القاهرة‪.‬‬
‫ماركيوز‪ ،‬هربرت‪ .)1970( .‬العقل والثورة (هيجل ونشأة النظرية االجتماعية)‪( .‬ترجمة‪ ،‬فؤاد زكريا)‪ .‬الهيئة‬ ‫‪-‬‬
‫املصرية للعامة للتأليف والنشر‪ .‬القاهرة‪.‬‬
‫ماركيوز‪ ،‬هربرت‪ .)1971( .‬فلسفة النفي (دراسات في النظرية النقدية)‪ .‬ط‪( .1‬ترجمة‪ ،‬مجاهد عبد املنعم‬ ‫‪-‬‬
‫مجاهد)‪ .‬منشورات دار اآلداب‪ .‬بيروت‪.‬‬
‫ماركيوز‪ ،‬هربرت‪ .)1971( .‬نحو ثورة جديدة‪ .‬ط‪( .1‬ترجمة‪ ،‬عبد اللطيف)‪ .‬دار العودة‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ماركيوز‪ ،‬هربرت‪ .)1988( .‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ .‬ط‪( .3‬ترجمة‪ ،‬جورج طرابيش ي)‪ .‬دار اآلداب‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ماركيوز‪ ،‬هربرت‪ .)2007( .‬الحب والحضارة‪ .‬ط‪( .2‬ترجمة‪ ،‬مطاع صفدي)‪ .‬دار اآلداب‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مرتض ى‪ ،‬عبد امللك‪ .)2007( .‬في نظرية النقد‪ .‬ط‪ .1‬املجلس األعلى للثقافة‪ .‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مكانتي‪ ،‬السيدر‪ .)1969( .‬ماركيوز‪( .‬ترجمة‪ ،‬عدنان كيالي)‪ .‬املؤسسة العربية‪ .‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هاو‪ ،‬آلن‪ .)2010( .‬النظرية النقدية‪ -‬مدرسة فرانكفورت‪ .‬ط‪ .1‬العدد‪( .1584 :‬ترجمة‪ ،‬ثائر ديب)‪ .‬املركز القومي‬ ‫‪-‬‬
‫للترجمة‪ .‬القاهرة‪.‬‬
‫هوركهايمر‪ ،‬ماكس‪ .‬النظرية التقليدية والنظرية النقدية‪ .‬ط‪( .1‬ترجمة‪ ،‬مصطفى الناوي)‪( .‬مراجعة‪ ،‬مصطفى‬ ‫‪-‬‬
‫خياطي)‪ .‬عيون املقاالت‪ .‬باندونغ البيضاء‪.‬‬

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم)‬
‫(‪)31‬‬ ‫فياض‬
‫م‬2022 ‫المجلة العربية للعلوم ونشر األبحاث ــ مجلة العلوم اإلنسانية واالجتماعية ــ المجلد السادس ــ العدد الخامس ــ مايو‬

:‫املراجع باللغة اإلنجليزية‬


- Maclntyre, Alasdair. (1970). Marcuse (Fontana Modern masters). (Edited, frank Kermode) Fontana.
Collins.
- Marcuse, Herbert. (1958). Negations- Essays in Critical Theory. penguin Press. London.
- Marcuse, Herbert. (1965). A Critique of pure Tolerance. Beacon Press. Boston.
- Marcuse, Herbert. (1968). Industrialization and capitalism. Boston. Beacon Press.
- Marcuse, Herbert. (1969). An Essay on Liberation. Beacon Press. Boston.
- Marcuse, Herbert. (1969). An Essay on Liberation. Beacon Press. Boston.
- Marcuse, Herbert. (1970). Five Lectures- Psychoanalysis, Politics and Utopia. Beacon Press. Boston
- Mark, Robert W. (1970). The Meaning of Marcuse. Ballantine Books. New York.

‫النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز (محاولة لنقد ممارسات‬


)‫العقالنية التكنولوجية في المجتمع الصناعي المتقدم‬
)32( ‫فياض‬

You might also like