You are on page 1of 2

‫الجزائر‪ :‬زيارة دولة بعد خمسين عاما ً‬

‫* عمر بن درة‬

‫‪26/12/2012‬‬

‫ً‬
‫مكانة مميزة في المشهد المد َّم ر للعالم العربي‪ .‬فالبلد الممسوك باليد الحديدية التي تفرضها أجهزته األمنية‪ ،‬ال‬ ‫ال تزال الجزائر تحتل‬
‫يتحرك‪ ،‬وال يزال مجمَّداً في اإلطار المؤقت الذي ال ينتهي لنظام عفى عليه الزمن‪ .‬العُطل واضح وهو ظاهر للجميع‪ .‬فالبلد الذي يعيش‬
‫فيه ما يقارب ‪ 35‬مليون شخص‪ ،‬نحو ‪ 70‬في المئة منهم يبلغون أقل من ‪ 30‬عاماً‪ ،‬تديره مجموعة من العجزة المتقوقعين في ملجأ‬
‫حصين مق َف ل على حركة التاريخ‪ .‬وهناك قطيعة تامة بين النخب الحاكمة والتطلعات الشعبية‪ .‬النظام الريعي‪ ،‬يرتع بين الفساد البنيوي‬
‫واالنعدام المزمن للكفاءة‪ .‬ذلك أنّ البلد‪ ،‬على الرغم من ثرواته الطبيعية الكبيرة‪ ،‬وإمكانياته الحقيقية‪ ،‬منخور بالفساد وسوء االدارة‪ ،‬ال‬
‫يتق ّد م وال يفتح أي أفق أمام شبابه‪ .‬ومستوى االستثمار االنتاجي وخلق الوظائف ضعيف إلى درجة خطيرة‪ .‬وبالنسبة لشركاء الجزائر من‬
‫‪.‬األجانب‪ ،‬فالبيع في البلد مربح أكثر من االستثمار فيه‬

‫تنعم الجزائر باحتياطات مالية ضخمة ( ما قيمته ‪ 182‬مليار دوالر‪ ،‬يحتفظ بها المصرف الوطني بالعمالت الصعبة)‪ ،‬وبقدرات عسكرية‬
‫كبيرة‪ ،‬وهي العب إقليمي أساسي‪ .‬لكنها تعيش وضعا ً داخليا ً هشا ً منذ انقالب ‪ 11‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ ،1992‬وتواجه إطاراً إقليميا ً غير‬
‫مستق ّر ‪ .‬فهي باتت معزولة عن المغرب المغربي منذ سقوط بن علي في تونس‪ ،‬وخصوصا ً منذ االطاحة بالقذافي في ليبيا‪ ،‬وهي تشهد على‬
‫حدودها الجنوبية بؤرة خطيرة ومتفاعلة من القالقل‪ .‬وتش ّك ل سيطرة مجموعات من الطوارق والفرق الجهادية المسلحة على شمال مالي‪،‬‬
‫الذريعة المثالية لعمليات االقتحام العابرة للقارات‪ ،‬كتلك التي يندرج فيها تدخل حلف شمال األطلسي في ليبيا‪ .‬ومثلما يعرف الجميع‪ ،‬فإ ّنه‬
‫ب في منطقة الساحل‪ ،‬تداعيات خطيرة على جنوب الجزائر‬ ‫‪.‬سيكون لحر ٍ‬

‫في ظل هذه المعطيات‪ ،‬قام الرئيس الفرنسي فرانسوا هوالند بزيارة رسمية للجزائر في ‪ 19‬و‪ 20‬كانون األول‪/‬ديسمبر الجاري‪ .‬والزيارة‬
‫‪.‬ممرّ إلزامي لجميع الرؤساء[ الفرنسيين‪ ،‬منذ أن افتتح هذا التقليد فاليري جيسكار ديستان في خريف العام ‪1975‬‬

‫وعلى الرغم من الجهود االعالمية الرامية إلى تحميل هذا الحدث بُعداً كبيراً‪ ،‬فإنّ زيارة هوالند‪ ،‬الواقعة بين مطرقة تاريخ مشترك لم تتم‬
‫تصفية حساباته بعد‪ ،‬وسندان المصالح االستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل‪ ،‬ال تشكل عالمة فارقة في تاريخ العالقات[ الفرنسية ــ‬
‫الجزائرية‪ .‬ولهذه المناسبة‪ ،‬قامت[ السلطات الجزائرية‪ ،‬وفية في ذلك لتقاليدها في التسويف واالكتفاء بإدارة المظاهر‪ ،‬بطالء واجهات‬
‫المباني الواقعة على طريق الموكب الرسمي‪ ،‬وعملت على التعويض عن غياب الحماسة[ الشعبية الحقيقية إزاء المناسبة‪ ،‬بنقل الناس في‬
‫‪.‬حافالت بأكملها من مناطق شتى‬

‫إال أن هذا التجميل البروتوكولي والخطابات الظرفية المشبعة[ بالمشاعر الطيبة‪ ،‬لم يعالجا أزمة الخواء السياسي الثنائي‪ .‬فعلى الصعيد‬
‫االقتصادي‪ ،‬كانت النتائج ملتبسة‪ :‬قام الرئيسان برعاية توقيع اتفاق‪ ،‬رمزي إلى ح ّد بعيد‪ ،‬يقضي بفتح وحدة متواضعة لتجميع سيارات‬
‫‪".‬رينو" في الجزائر‪ ،‬وهو أمر أدنى بكثير من حجم السوق وتوقعاته‬
‫أما على الصعيد األكثر حساسية‪ [،‬أي ذلك المتعلق بالذاكرة االستعمارية بين البلدين‪ ،‬فإنّ فرانسوا هوالند‪ ،‬شأنه في ذلك شأن جميع‬
‫الرؤساء الفرنسيين‪ ،‬عاجز عن القيام بخطوة االعتراف العلني بجرائم االستعمار‪ .‬وال يعود ذلك حصراً إلى االعتراضات الفرنسية على‬
‫األمر‪ .‬بل ان اعترافا ً مماثالً من قبل فرنسا يصطدم بعائق الشعور الدائم بالتفوُّ ق االستعماري‪ .‬لكن السلطات الفرنسية تجد ذريعة لطيفة‬
‫‪.‬لإلحجام عن مثل هذا االعتراف واالعتذار‪ ،‬باالعتداد بالطبيعة غير الديموقراطية وغير التمثيلية إلى حد بعيد للنظام الجزائري‬

‫وبغض النظر عن المصالحة من عدمها‪ ،‬فإنّ األعمال تزدهر‪ ،‬والجزائر تبقى إحدى الدول النادرة التي ال يزال ميزانها التجاري مع فرنسا‬
‫ايجابيا ً (حجم التبادل التجاري بين فرنسا والجزائر تجاوز العشرة مليار يورو عام ‪ ،2012‬بشكل يكاد يكون متساويا ً بين الصادرات‬
‫والواردات)‪ .‬ويظهر الطابع االستعماري لعالقة الجزائر مع فرنسا جليا ً في تقسيم التجارة الخارجية الجزائرية وطبيعتها فالجزائر تقتصر‬
‫‪.‬في مبيعاتها على مادتها األولية‪ ،‬النفط‬

‫لكن‪ ،‬باستثناء التنسيق األمني الممتاز بين البلدين‪ ،‬فإنّ العالقات الثنائية المتينة ليست نتاج جهود اإلدارات المتعاقبة‪ [،‬بل هي تعود بشكل‬
‫التي ‪ françafrique) )،‬أساسي إلى واقع الشبكات السياسية ــ المالية التي تنشط في إطار مب َهم مشابه إلطار الـعالقة الفرنسية بإفريقيا‬
‫هي بنية غير رسمية تجمع حول دائرة "األعمال"‪ ،‬نخب من السلطات األفريقية والفرنسية‪ .‬من جهة الجانب التاريخي ثقيل الوطأة‪ ،‬و ّفر‬
‫فرانسوا هوالند‪ ،‬وبمهارة‪" ،‬خدمة الح ّد األدنى"‪ ،‬التي ُنظر إليها على انها مرْ ضية‪ ،‬من خالل حديثه عن "العذابات التي تسبّب بها‬
‫االستعمار للشعب[ الجزائري"‪ ،‬ومن خالل تذكيره أمام الجمعية الوطنية أنه "خالل ‪ 132‬عاماً‪ُ ،‬أ ْخضِ عت[ الجزائر لنظام ظالم بشكل كبير‬
‫‪".‬وعنيف‬

‫لكنّ هذه العبارات اللطيفة لن ُت سكت هؤالء القلة من ذوي األصوات المرتفعة‪ ،‬الذين يطالبون الدولة الفرنسية بإعالن "توبتها"‪ ،‬وهو‬
‫مطلب يحمله ديماغوجيون على االغلب‪ ،‬يزايدون في الوطنية‪ .‬لن يحصل الندم وال االعتذار بطبيعة الحال‪ ،‬لكن إشارة هوالند إلى "نظام‬
‫ظالم بشكل كبير وعنيف" ت ّم التقاطها من المراقبين الذين وجدوا العبارة ناجحة وفعالة رغم أنها مواربة‪ .‬بجميع األحوال‪ ،‬فزيارة فرانسوا‬
‫هوالند التي تتزامن مع الذكرى الخمسين الستقالل الجزائر أبهت من أن ُتح َفظ في سجالت[ التاريخ‪ .‬وأما طالقة لسان الرئيس الفرنسي‬
‫نظم أي مؤتمر صحافي‪ ،‬فهما تعبير بليغ‬ ‫بمقابل الصمت المطبق لعبد العزيز بوتفليقة‪ ،‬مضيفه الجزائري‪ ،‬الذي لم يطلق أي تصريح وال ّ‬
‫عن الواقع السياسي‪ :‬لم يعد للجزائر صوت مسموع‪ ،‬ورسالتها حول التحرر وعدم االنحياز محاها نظام مشغول حصراً بتأمين‬
‫استمراريته‪ ،‬وباالستحواذ على الثروات‪ .‬وفي "معذبو األرض"‪ ،‬لفرانز فانون‪ ،‬وتحديداً في مقدمة الجزء المخصَّص لـ"الثقافة الوطنية"‪،‬‬
‫يعلن الثائر أن "كل جيل يكتشف مهمته في ظل غموض نسبي‪ ،‬فيحملها أو يخونها "‪ .‬على الجيل الحاكم في الجزائر أن يكون قادراً على‬
‫‪.‬تأمل هذه العبارة بفعالية‬

You might also like