You are on page 1of 358

‫ـﻢ‬

‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ﺎﺳ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـﻞﺑ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﺘ‬‫ـ‬
‫ـ‬‫ﻘ‬
‫ﻟ‬‫ا‬
‫ﺔ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻳ‬‫ﻮ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻬ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻟ‬‫ا‬
‫ﺔ‬
‫ﻳ‬‫ﻮ‬‫ـ‬
‫ﺪﻣ‬‫ﻟ‬
‫ا‬‫ﺎت‬
‫اﻋ‬
‫ﺮ‬‫ـ‬
‫ﻟﺼ‬‫ﺔ ا‬
‫ـ‬‫اﺳ‬
‫ر‬‫د‬

‫ﺎن‬
‫ﻟﻜ‬‫ﻮ‬
‫ﻴﻚﻓ‬
‫ﺎﻣ‬‫ﻓ‬
‫القتل باسم الهوية‬
‫دراسة يف الرصاعات الدموية‬

‫تأليف‬
‫فاميك فولكان‬

‫ترجمة‬
‫حبيب زريق‬ ‫مريا جندي‬ ‫عبد املعني السباعي‬

‫حسام شبل‬ ‫رزان حميدة‬ ‫زينب أحمد‬ ‫حازم موس‬

‫مراجعة‬
‫أحمد رضا‬
‫قامئة املحتويات‬

‫مقدمة ‪3........................................................................................................................‬‬
‫الجزء األول‪ :‬جورجيا يف بال‬
‫‪ 1‬صدمة نفسية كبرية يف جمهورية جورجيا ‪11......................................................................‬‬
‫‪ 2‬ثالثة أجيال يف الصوف الذهبي ‪28....................................................................................‬‬
‫‪ 3‬االنتظار عرش سنوات للحداد أم ال ‪44.................................................................................‬‬
‫‪ 4‬املزيد عن الالجئني وأجسامهم الرابطة ‪70...........................................................................‬‬
‫‪« 5‬هل قرأت اختيار صويف؟»‪90........................................................................................‬‬
‫الجزء الثان‪ :‬الصدمة املجتمعية والنقل عرب األجيال‬

‫‪ 6‬من الكوارث الطبيعية إىل التطهري اإلثني ‪114.....................................................................‬‬

‫‪ 7‬شبكة أيتام الحرب العاملية الثانية األمريكية وألف نجمة ذهبية‪136..........................................‬‬

‫‪« 8‬أماكن ساخنة»‪ ،‬نصب تذكارية‪ ،‬اعتذارات‪ ،‬ومغفرة‪153........................................................‬‬

‫‪ 9‬مسرية موت باتان ورحالت قتل الحيوانات‪178...................................................................‬‬

‫‪ 10‬األيديولوجية السياسية لالستحقاق وصدمات «مختارة»‪ ،‬و«حادة»‪ ،‬و«ساخنة»‪206...................‬‬

‫الجزء الثالث‪ :‬الهويات جنبًا إىل جنب‪ :‬هل التعايش أمر ممكن؟‬

‫‪ 11‬من الدبلوماسية الرسمية إىل غري الرسمية‪ :‬نظرة عامة‪225..................................................‬‬

‫‪ 12‬من النظرية إىل التطبيق‪ :‬منوذج الشجرة‪237...................................................................‬‬

‫‪ 13‬حفل الرابع من متوز مع نريان مدفعية ثقيلة‪264..............................................................‬‬

‫مالحظات‪298................................................................................................................‬‬
‫متهيد للنسخة الورقية‬

‫لقد أصبح مفهوم الهوية –الهوية الجامعية الكبرية‪ ،‬تحدي ًدا– يف املشهد االجتامعي‬
‫السيايس الراهن أهم مام كان يف السنني التي تلت انهيار االتحاد السوفييتي أو أحداث ‪11‬‬
‫سبتمرب ‪ ،2001‬عندما كتبت القتل باسم الهوية‪ .‬نشهد يف زمننا الحارض انقسامات‬
‫اجتامعية سياسية عىل أساس الهوية يف أرجاء الكوكب‪ ،‬حتى يف الدميقراطيات التي طال‬
‫استقرارها ويف الدول املرتسخة يف املذاهب الليربالية‪ .‬تشهد بلدان أوروبا الرشقية والغربية‬
‫صعو ًدا حا ًّدا يف دعم األحزاب اليمينية الوطنية املعادية لالجئني‪ .‬يف تركيا‪ ،‬مل يزل الحزب‬
‫الحاكم مستم ًّرا يف جهوده املعلنة لتطهري البلد بجعله أشد تدينًا‪ .‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬أظهر‬
‫رئيسا للبالد بروز هوية الجامعة‬
‫ً‬ ‫صعود ما يدعى باليمني البديل وانتخاب دونالد ترامب‬
‫الكبرية وقوتها‪ .‬شهدت مدينتي التي اتخذتها موطنًا‪ ،‬تشارلوتسفيل‪ ،‬فرجينيا‪ ،‬حال ًة مأساوية‬
‫من «القتل باسم الهوية» يف أغسطس ‪ 2017‬نُرشت يف عناوين الصحف العاملية‪.‬‬
‫يف الوقت نفسه‪ ،‬مل تزل الحروب األهلية واألزمات السياسية الشديدة تظهر يف أرجاء‬
‫العامل األخرى‪ ،‬كام يف سوريا وجمهورية إفريقيا الوسطى واليمن وميامنار ورسيالنكا‪ .‬قد‬
‫تختلف السياقات االجتامعية والثقافية والدينية والتاريخية واالقتصادية والسياسية بني‬
‫املخفي الذي يشعل كل النزاعات بني الجامعات‬
‫ّ‬ ‫النزاعات عرب الزمان واملكان‪ ،‬لكن الجوهر‬
‫الكبرية –محل ًّيا أو عامل ًّيا– يبقى واح ًدا‪ :‬الهوية‪ .‬ليك نفهم جذور االنقسامات املجتمعية‬
‫واألزمات السياسية ال بد من أن ندرس الهوية دراسة جادة تشمل تك ّونها وآثارها يف‬
‫الجامعات وبني الجامعات‪.‬‬
‫يف كتايب القتل باسم الهوية‪ ،‬الذي نُرش أول مرة يف ‪ ،2006‬أصف بالتفصيل بحثي‬
‫يف النزاعات بني الجامعات الكبرية وأقدم دراساات لحاالت تظهر مفاهيم أسااساية يف علم‬
‫نفس الجامعات الكبرية‪ .‬ال يحتوي كتاب القتل باسام الهويةإشاارة لبعض أعاميل الحديثة‪،‬‬
‫املفصالة يف كتايب اخخر أعداء عىل األريكة‪ :‬رحلة نفساية يف الحرب والساالم‪ ،‬املنشاور عام‬

‫‪1‬‬
‫‪ .2013‬يف ذلك الكتاب‪ ،‬ناقشات عم يف مرشاويف يف تركيا كان يحاول إيجاد حل للمساألة‬
‫الرتكياة الكردية‪ .‬كتبات فياه أي ً ااا عن مباادرة الحوار العااملية‪ ،‬التي مل تزل منذ أكرث من عقد‬
‫تجمع محللني نفساايني وعلامء سااياساايني ودبلوماساايني وخرباء من مجاالت أخرى من‬
‫مثاانياة بلادان مختلفاة –الوالياات املتحادة‪،‬و بريطاانياا الكربى‪ ،‬وأملاانياا‪ ،‬وروسااياا‪ ،‬وتركياا‪،‬‬
‫وإرسائيل‪ ،‬وفلسااطني‪ ،‬وإيران– السااتخدام وجهات نظر نفسااية علمية لدراسااة النزعات‬
‫املجتمعياة الحاالياة ومحااولاة تخفيفهاا‪ .‬تادير مباادرة الحوار العااملياة أي ً ااا ورشااات تادرياب‬
‫يدرس فيها املشااركون تشاابك النزاعات املجتمعية والساياساية والدينية والتنظيمية مع علم‬
‫الانافاس الافاردي وعالام نافاس الاجاامعاات الاكابارية‪ .‬لالامازياد‪ ،‬اناظار‬
‫‪)./https://www.internationaldialogueinitiative.com‬‬
‫يف الوقت نفسه‪ ،‬استمرت دراستي ملسائل هوية الجامعات الكبرية خارج عم يف‬
‫مبادرة الحوار العاملية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬سافرت عام ‪ 2015‬إىل ماليزيا ألشارك يف اجتاميف‬
‫رئيسا للوزراء‪ ،‬أراد الدكتور محمد التامس‬
‫ً‬ ‫مع الدكتور مهاتري محمد‪ ،‬قبل فرتة حكمه الثاين‬
‫أفكار تساعد عىل منع النزايف بني الجامعات العرقية املتنوعة يف بلده‪ ،‬وعىل حامية ماليزيا‬
‫من الحركات اإلسالمية األصولية املتطرفة‪ .‬أعجبتني رغبة الدكتور محمد ودائرته السياسية‬
‫القريبة يف فهم وجهة النظر النفسية السياسية والنظر فيها‪.‬‬
‫زرت كذلك بوغوتا‪ ،‬كولومبيا‪ ،‬مرتني يف السنوات األخرية–مرة قبيل وصول الحكومة‬
‫الكولومبية والقوات الثورية الكولومبية املسلحة إىل اتفاق سالم يف صيف ‪ ،2016‬ومرة‬
‫بعيد ذلك‪ .‬كان هديف هنالك أن أرى كيف ميكن ملجتمع تطورت فيه هويات جامعية كبرية‬
‫مختلفة أن يتعلم التعايش والتعاون عمل ًّيا ونفس ًّيا‪.‬‬
‫يف عم املستمر يف دراسة النزاعات بني الجامعات الكبرية‪ ،‬أومن أن املالحظات‬
‫واملفاهيم والدروس التي شاركتها يف هذا الكتاب عام ‪ 2006‬مل تزل اليوم مهمة كام كانت‬
‫من قبل– بل رمبا هي اليوم أهم‪ ،‬كام تشهد األحداث الحالية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫مقدمة‬

‫يف التاسع عرش من نوفمرب ‪ ،1977‬ويف حركة جريئة‪ ،‬سافر رئيس مرص حينئذ أنور‬
‫السادات ليلقي خطابًا يف الكنيست‪ ،‬تكلم فيه عن «حاجز نفيس» بني مرص وإرسائيل‪ .‬يف‬
‫رصح السادات أن هذا الحاجز يشكل ‪ 70‬باملئة من املشكلة بني البلدين‪ .‬مل‬
‫هذا الخطاب‪ّ ،‬‬
‫أشعر باألمر يف ذلك الوقت‪ ،‬لكن هذا الخطاب غري حيايت‪ .‬كنت حينها ع ًوا يف لجنة الطب‬
‫النفيس والشؤون األجنبية التابعة لجمعية الطب النفيس األمريكية‪ .‬بعد خطاب السادات‪،‬‬
‫كُلّفت هذه اللجنة بتمويل من الواليات املتحدة بالتحقيق يف الحاجز النفيس الذي ذكره‬
‫السادات وبالنظر يف إمكانية خف ه‪ .‬عملنا مع مؤثرين إرسائيليني ومرصيني وفلسطينيني‬
‫وغريهم من ‪ 1979‬إىل ‪ ،1986‬وهكذا أصبحت محتكًّا بالجوانب النفسية السياسية والنفسية‬
‫االجتامعية يف نزاعات الجامعات الكبرية‪ .‬منذ ذلك الوقت ق يت معظم حيايت العملية أنظر‬
‫إىل كثري من املناطق امل طربة بعدسة نفسية وأنا أعمل يف املجال‪.‬‬
‫يف أثناء عم الذي دام ست سنوات يف النزايف العريب اإلرسائي ‪ ،‬التقيت جوزيف‬
‫مونتفيل‪ ،‬دبلومايس كان لبعض السنوات رئيس الدبلوماسية الوقائية يف مركز الدراسات‬
‫االسرتاتيجية والدولية يف واشنطن‪ .‬مل نزل صديقني منذ ذلك الوقت‪ .‬يف عام ‪،1983‬‬
‫وبف ل جهود مونتفيل‪ ،‬ض ّمتني مجموعة من أبرز املحللني النفسيني وعلامء السياسة‬
‫واألنرثوبولوجيني والفالسفة والدبلوماسيني السابقني ألشارك يف نشاط محفز وممتع وغري‬
‫معتاد‪ .‬بدأنا‪ ،‬نحن ورشكاؤنا نقيض أسبو ًعا واح ًدا كل عام مع محلل نفيس مسن‪ ،‬هو إريك‬
‫إريكسون‪ ،‬وزوجته جوان‪ ،‬يف معهد إيسالن يف بيغ سور‪ ،‬كاليفورنيا‪ .‬استمر هذا املرشويف‬
‫أربع سنوات‪ ،‬مل تسمح بعدها صحة إريكسون باستمراره‪ .‬تويف إريكسون يف ‪ 12‬مايو‬
‫‪ ،1994‬عن واحد وتسعني عاما‪.‬‬
‫اشتهر معهد إيسالن بدعمه مشاريع يف الستينيات تشجع وجهات نظر جديدة لفهم‬
‫الطبيعة البرشية‪ .‬لكن كثريا من الذين يعرفون املعهد ال يعلمون أنه ابتدأ دبلوماسية مواطنية‬

‫‪3‬‬
‫مع االتحاد السوفييتي يف الثامنينيات‪ .‬بيغ سور مكان جميل فيه ينابيع حارة وحدائق تقدم‬
‫الطعام لزوارها‪ُ .‬منحنا بيتًا جرت فيه بيننا نقاشات كثرية غري منظمة مع إريكسون وبني‬
‫أنفسنا‪.‬‬
‫أنا محلل نفيس‪ ،‬وقد التقيت إريكسون قبل ذلك يف بعض االجتامعات العملية‪ ،‬لكنني‬
‫ريا‪ .‬من‬
‫رجال شه ً‬
‫مل أخالطه مخالطة قريبة حتى بدأ مرشويف بيغ سور‪ .‬كان إريكسون طب ًعا ً‬
‫إنجازاته أنه استكشف اخثار االجتامعية والثقافية عىل تطور األطفال وقسم نفسية اإلنسان‬
‫إىل مثاين مراحل من الطفولة إىل الشيخوخة‪ .‬جعل إريكسون كذلك مفهوم «الهوية» –وهو‬
‫مجاال للبحث النفيس التحلي ‪ .‬أعتقد أن سيغموند فرويد مل‬
‫ً‬ ‫شعور ذايت مستمر بالتشابه–‬
‫يستعمل كلمة «الهوية» إال خمس مرات يف كتاباته‪ .‬مل يكن املصطلح مصطل ًحا تحليل ًّيا نفس ًّيا‬
‫إىل أن جعله إريكسون كذلك‪.‬‬
‫يف بداية خمسينيات القرن العرشين‪ ،‬عندما أذايف السيناتور جوزف مكاريث وأتباعه‬
‫ج ًّوا شكوكيًّا يف الواليات املتحدة‪ ،‬كان األمريكيون مشغولني «بالشيوعيني» وكانوا‬
‫يخافونهم‪ .‬عندما طُلب من األساتذة يف بريك أن يوقعوا «عهد والء»‪ ،‬غادر إريكسون‪ ،‬الذي‬
‫حينئذ‪ ،‬الساحل الغريب وعاد إىل الساحل الرشقي‪ .‬من مايو ‪ 1951‬إىل‬ ‫كان يف بريك‬
‫سبتمرب ‪ 1960‬بإجازة من أكتوبر ‪ 1965‬إىل فرباير ‪ ،)1958‬كان إريكسون يف مركز‬
‫أوسنت ريغز‪ ،‬وهو مشفى نفيس صغري غري ربحي يف ستوكربيدج‪ ،‬ماستشوستس‪ .‬يف‬
‫البهو الرئيس ملبنى مركز أوسنت ريغز اليوم‪ ،‬لوحة ُرسم فيها إريك إريكسون‪ ،‬للفنان نورمن‬
‫مقيام يف ستوكربيدج كذلك‪ ،‬إىل جانب لوحات أخرى ألطباء نفسيني‬
‫ً‬ ‫روكويل‪ ،‬الذي كان‬
‫بارزين عملوا يف املركز من قبل‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1944‬أسس مركز أوسنت ريغز معه ًدا متعدد املجاالت للبحث والتعليم باسم‬
‫إريك إتش إريكسون‪ .‬كان من جهود معهد إريك إتش إريكسون التابع ملركز أوسنت ريغز‬
‫نقل تجربة أوسنت ريغز –تجربة األطباء وهم يعملون مع مرضاهم النفسيني يف سياق‬

‫‪4‬‬
‫مجتمع مفتوح– إىل التحديات األكرب يف املجتمع املعارص‪ .‬أدرك إريكسون أن الفرد ال ميكن‬
‫أن يُف َهم مبعزل عن سياقه النفيس االجتامعي والتاريخي‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،2004‬أتاح إدوارد شابريو‪ ،‬املدير الطبي والتنفيذي ملركز أوسنت ريغز‪،‬‬
‫وجريارد فروم‪ ،‬رئيس معهد إريك إتش إريكسون‪ ،‬منص ًبا أكادمي ًّيا يف معهد إريكسون يل‪.‬‬
‫أتاح يل هذا‪ ،‬ومل يزل‪ ،‬أن أقيض عدة شهور كل عام يف ستوكربيدج‪ .‬يف آخر عامني‪ ،‬ق يت‬
‫يف ريغز عرشة أشهر وأتاح يل هذا فرصة كتابة هذا الكتاب‪ .‬هذا الكتاب قائم عىل مفهوم‬
‫الهوية الذي‪ ،‬كام ذكرت سابقًا‪ ،‬أدخله إريكسون إىل عامل التحليل النفيس‪.‬‬
‫إىل جانب تركيزه عىل الهوية الفردية‪ ،‬أظهر إريكسون اهتام ًما بهوية الجامعة‬
‫الكبرية‪ .‬ع ّرف إريكسون عملية سامها االنتوايف الزائف‪ ،‬طورت فيها‪ ،‬يف مطلع التاريخ‬
‫خاصا بالهوية‪ ،‬فارتدت جلودها وريشها كالدريف‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫البرشي‪ ،‬كل مجموعة برشية شعو ًرا‬
‫تحتمي بها من املجموعات األخرى التي ترتدي جلو ًدا وريشً ا مختلفة‪ .‬افرتض إريكسون أن‬
‫كل مجموعة كانت مقتنعة بأنها الحامل الوحيد للهوية اإلنسانية الصحيحة‪ .‬لذا‪ ،‬أصبحت‬
‫كل مجموعة نو ًعا زائفًا‪ ،‬واتخذت موقفًا فوقيًّا من املجموعات األخرى‪ .‬يف هذا الكتاب‪،‬‬
‫سأتعامل مع الهويات العرقية والوطنية والدينية وبعض الهويات األيديولوجية للجامعات‬
‫الكبرية‪ ،‬التي تنشأ كلها يف الطفولة‪.‬‬
‫تع ّرفت من خالل مشاركتي يف سلسلة املفاوضات «غري الرسمية» بني العرب‬
‫واإلرسائيليني‪ ،‬عىل أهمية مفهوم مجرد‪ ،‬هو مفهوم «هوية الجامعة الكبرية»‪ ،‬وأهميته يف‬
‫العالقات الدولية‪ .‬تد ّعمت فكريت القائلة بوجوب دراسة هوية الجامعة الكبرية بحذر من أجل‬
‫فهم الشؤون الدولية من زاوية مختلفة‪ ،‬مبالحظات أخرى يل‪ ،‬جمعتها من حوارات استمرت‬
‫سنني طويلة بني ممثلني عايل املستوى لجامعات كبرية متنازعة غري العرب واإلرسائيليني‪،‬‬
‫من هذه الجامعات‪ :‬الروس واإلستونيون‪ ،‬الرصب والكروات‪ ،‬الجورجيون واألوسيتيون‬
‫طويال مع قادة سياسيني متنوعني كانوا يحاولون حامية‬
‫ً‬ ‫الجنوبيون‪ .‬ق يت كذلك وق ًتا‬
‫هوياتهم الجامعية الكبرية وإصالح األذى الذي لحق بشعورهم املشرتك بالا«نحن ّية» يف‬

‫‪5‬‬
‫الجامعة التي كانوا ينتمون لها‪ .‬كذلك زرت مخيامت لالجئني ومجتمعات مصدومة نفس ًّيا‬
‫أصبح فيها مفهوم هوية الجامعة الكبرية واض ًحا‪.‬‬
‫متابع ًة لوصف إريك إريكسون للهوية الفردية‪ ،‬أصف هوية الجامعة الكبرية بأنها أن‬
‫يتشارك عرشات آالف‪ ،‬أو ماليني الناس –من الذين لن يلتقي أحدهم اخخر يف حياته– شعو ًرا‬
‫دامئًا بالتشابه‪ .‬يف كتايب ثقة عمياء‪ :‬الجامعات الكبرية وقادتها يف زمن األزمة والرعب‪،‬‬
‫وضعت نظرية لتطور هويات الجامعات الكبرية نحن عرب‪ ،‬نحن كاثوليك)‪ ،‬وب ّينت املكونات‬
‫املختلفة للهوية‪ ،‬ونظرت يف قدرة القادة السياسيني عىل التالعب باملشاعر املشرتكة‬
‫ملجتمعاتهم‪ .‬يف هذا الكتاب‪ ،‬سأركز عىل العالقة بني هوية الجامعة الكبرية والصدمات‬
‫الكربى التي تأيت من األعداء‪ ،‬كام جرى يف الواليات املتحدة يف ‪ 11‬سبتمرب ‪.2001‬‬
‫لقد غريت أحداث ‪ 11‬سبتمرب ‪ 2001‬العامل‪ .‬بعد ‪ 11‬سبتمرب وابتداء ما يُع َرف‬
‫با«الحرب عىل اإلرهاب»‪ ،‬وبعد التفجريات الالحقة يف مدريد وكازابالنكا وإسطنبول‬
‫ومومباسا ومنتجع طابا عىل البحر األحمر يف مرص‪ ،‬ولندن‪ ،‬ميكننا مرة أخرى أن نالحظ‬
‫ص ًدى لنظرية االنتوايف الزائف إلريكسون‪ .‬اليوم‪ ،‬يف كثري من أجزاء العامل انقسامات شديدة‬
‫بني «نحن» و«هم» وأحاديث عن رصايف بني األديان أو الح ارات‪ .‬نشطت من جديد‬
‫التمثيالت الذهنية املشرتكة الخيالية أو الواقعية للرصاعات القدمية‪ ،‬كالرصايف بني املسيحيني‬
‫واملسلمني يف الحمالت الصليبية‪ ،‬وصار من العادي أن تشعر جامعة بفوقيتها عىل‬
‫«اخخرين»‪.‬‬
‫ليس هذا الكتاب عن ‪ 11‬سبتمرب وال عن «الحرب عىل اإلرهاب»‪ .‬سأركز عىل العنارص‬
‫العامة املشرتكة املرتبطة مبشكالت الهوية الجامعية‪ ،‬التي عندما تجتمع‪ ،‬تخلق ج ًّوا من‬
‫املأساة اإلنسانية‪ .‬يف بعض الظروف‪ ،‬يقتل اإلنسان «اخخرين» دون أن ترف له عني‪ .‬باسم‬
‫الهوية‪ ،‬يبتدئون إرهابًا مشرتكًا وصدمة ضخمة تؤدي إىل عقود أو قرون من العواقب‪ .‬قد‬
‫يؤدي إذالل اخخرين أو قتلهم إىل تطور أيديولوجيات سياسية جديدة يف املجتمعات املتأثرة‪،‬‬
‫ويغري هوية الجامعة الكبرية‪ ،‬وباختصار‪ ،‬يؤسس ملآس ضخمة جديدة بعد عقود أو حتى‬

‫‪6‬‬
‫قرون من الزمان‪ .‬أرجو أن متكننا دراستنا لهذه العمليات‪ ،‬والروابط الطويلة األمد بني‬
‫الصدمات ال خمة والأيديولوجيات السياسية واملآيس الجديدة‪ ،‬من خلق فرصة للنظر إىل‬
‫عامل ما بعد ‪ 11‬سبتمرب من زاوية جديدة‪ ،‬ومن إيجاد اسرتاتيجيات جديدة وحلول سلمية‬
‫لبعض مشكالتنا العاملية‪ .‬آمل أن تنفع بعض املفاهيم املطروحة يف هذ الكتاب يف محاوالت‬
‫محاربة الجوانب الخبيثة من االنتوايف الزائف‪.‬‬
‫يف هذا الكتاب‪ ،‬يتحدث أناس من مختلف بقايف العامل‪ ،‬من جورجيا وأوسيتا الجنوبية‬
‫وقربص الشاملية وإرسائيل وأملانيا والكويت وإستونيا والواليات املتحدة‪ ،‬عن تجاربهم‬
‫ويصفون ما يستطيع الناس فعله باسم هوية الجامعة الكبرية‪ ،‬ويعرفوننا عىل الرصايف‬
‫اإلنساين للحفاظ عىل الكرامة يف ظروف ال تصدق‪ .‬هذا الكتاب مقسم إىل ثالثة أجزاء‪ .‬يركز‬
‫أول جزء‪« ،‬جورجيا يف بايل» عىل قصص مؤثرة ألفراد وأرس مصدومة من القوقاز‪ .‬سأتيح‬
‫لهؤالء األفراد واألرس‪ ،‬أن يعربوا بكلامتهم عن مفاهيم «الصدمة ال خمة»‪ ،‬و«الحداد»‪،‬‬
‫و«التكيف»‪ .‬عندما تأيت صدمة ضخمة من «اخخرين»‪ ،‬ميكن توقع استجابة املجتمع املتأثر‬
‫لها‪ ،‬فهي مطابقة الستجابة األفراد‪ .‬يبحث الجزء الثاين يف هذه االستجابات املجتمعية‪ ،‬التي‬
‫قد يؤدي بع ها‪ ،‬إذا مل يُكبَح إىل نتائج ضارة‪ .‬بعض االستجابات األخرى‪ ،‬باملقابل‪ ،‬مثل‬
‫بناء النصب التذكاري لحرب فيتنام يف واشنطن‪ ،‬يساعد عىل شفاء الجروح املجتمعية‬
‫والفردية كذلك‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬بروايتي لقصص الناس والجامعات الكبرية التي عملت معها‪،‬‬
‫أبني مفهوم «النقل عرب األجيال» للصدمات النفسية‪ .‬إن الصورة الذهنية املشرتكة ملأساة‬
‫ّ‬
‫كربى عاشتها جامعة كبرية تؤدي إىل عار وذل وعجز وصعوبة وحزن عىل الخسائر قد‬
‫يصبح بعد عقود أو قرون وقو ًدا لجحيم جديد يشعله بعض الناس عم ًدا باسم الهوية‪.‬‬
‫كان سيغموند فرويد متشامئًا بشأن إسهام التحليل النفيس يف فهم نزاعات‬
‫الجامعات الكبرية‪ ،‬ناهيك عن حلها‪ .‬كان وجود العدوان يف الطبيعة البرشية أهم أسباب هذا‬
‫التشاؤم‪ .‬عىل مر األعوام الثالثني السابقة‪ ،‬انتقلت ببطء من دراسة نزاعات الجامعات الكبرية‬
‫بتطبيق ما نعرفه عن العوامل الداخلية لألفراد‪ ،‬إىل دراستها من حيث العمليات يف الجامعات‬

‫‪7‬‬
‫الكبرية‪ .‬ألن املجتمعات تتكون من أناس‪ ،‬نستطيع أن نرى مشتقات من علم النفس الفردي‬
‫يف أنشطة الجامعات الكبرية‪ ،‬لكن هذه األنشطة‪ ،‬كام تعلّمت‪ ،‬لها أمناطها الخاصة‪ .‬لقد‬
‫حاولت أن أفهم طبيعة هوية الجامعة الكبرية وعالقتها بالجامعات األخرى يف السلم أو‬
‫الحرب‪ .‬لقد أصبحت متشامئًا بشأن إيجاد أو تأسيس عامل مسامل‪ ،‬ألن العدوان موجود يف‬
‫الطبيعة البرشية‪ ،‬وألن نفسية الجامعات الكبرية بحد ذاتها توجب البحث عن أعداء وحلفاء‪،‬‬
‫كام ب ّينت يف أحد كتبي السابقة‪ ،‬الحاجة إىل األعداء والحلفاء‪ .‬كث ً‬
‫ريا ما ترافق هذه الضورة‬
‫ترصفات مدمرة شديدة‪.‬‬
‫رغم محاوالت إحالل الدميقراطية يف األماكن املصدومة صدمة ضخمة كالعراق‪ ،‬فإن‬
‫وجود دولة دميقراطية يف املجتمعات التي تسمى متخلفة –أو حتى يف املجتمعات التي‬
‫تسمى متقدمة– ال ي من أن النزايف لن «يُ َح ّل» بالحرب أو غريها من األساليب العنيفة‪ .‬أتت‬
‫خصوصا عندما‬
‫ً‬ ‫وذهبت أنظمة سياسية متنوعة‪ ،‬ومل تزل مشكالت الهوية تعقّد األمور‪،‬‬
‫تعيش جامعة كبرية قرب جامعة كبرية أخرى‪ .‬أعتقد أن الجامعات الكبرية ستستمر يف إذالل‬
‫وتشويه وقتل الناس الذين ينتمون إىل هويات جامعية أخرى‪.‬‬
‫متفائال بشأن‬
‫ً‬ ‫باملقابل‪ ،‬منذ انخراطي يف سلسلة الحوار العريب اإلرسائي ‪ ،‬أصبحت‬
‫استعامل وجهات النظر واألساليب النفسية التحليلية العلمية للتعامل مع بعض املشكالت‬
‫الدولية املحدودة وتعديلها‪ ،‬والتأسيس لتعايش سلمي بني جامعات ذات هويات مختلفة‪.‬‬
‫ليك يحدث هذا‪ ،‬يجب أن يكون املحللون النفسيون مستعدين للعمل عىل فرتات طويلة من‬
‫الزمن مع مؤرخني وعلامء سياسة ودبلوماسيني‪ ،‬وذوي اختصاصات أخرى يف فريق واحد‪،‬‬
‫وأن يعملوا كذلك يف شتى املناطق امل طربة من العامل‪ .‬يصف الجزء الثالث من هذا الكتاب‬
‫طريقة‪ ،‬سميتها «منوذج الشجرة»‪ ،‬وهي سعي دبلومايس غري رسمي يدوم أعوا ًما من‬
‫جا لخفض الحواجز النفسية التي نراها‪،‬‬
‫الزمان‪ ،‬ويقوم عىل التحليل النفيس‪ ،‬قد يكون منوذ ً‬
‫كالحاجز الذي تكلم عنه السادات يف خطابه يف الكنيست‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أود أن أشكر إدوارد شابريو وجريارد فروم ملا قدماه يل من جو داعم يف مركز أوسنت‬
‫ريغز حني كنت أكتب هذا الكتاب‪ .‬أشكر كلك ريتشل فيغنريون‪ ،‬أمينة مكتبة ريغز الرائعة‪،‬‬
‫وليز تومسون ملساعدتهام التقنية‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1987‬أسست مركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين يف كلية الطب يف‬
‫جامعة فرجينيا‪ ،‬وأدرته إىل أن استقلت عام ‪ .2002‬من سوء الحظ‪ ،‬أغلق املركز بعد ثالثة‬
‫أعوام‪ ،‬يف سبتمرب ‪ .2005‬كان املركز مؤل ًفا من أطباء نفسيني ودبلوماسيني سابقني‬
‫ريا‬
‫ومؤرخني وأصحاب اختصاصات أخرى‪ .‬يف تح ريي لهذا الكتاب اعتمدت اعتام ًدا كب ً‬
‫مؤسسا ومدي ًرا لهذا املركز يف عدة مناطق حول العامل‪ .‬أشكر‬
‫ً‬ ‫عىل مالحظايت من عم‬
‫مديرة الربامج السابقة يف مركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين‪ ،‬جوي بواسيفيان‪،‬‬
‫ملساعدتها القيمة يل يف تح ري هذ املالحظات‪ .‬لقد ساعدين زماليئ يف مركز دراسة العقل‬
‫والتفاعل اإلنساين عىل مالحظة كثري من األحداث املوصوفة يف هذا الكتاب‪ .‬ليس يل إال أن‬
‫أشكر دعمهم هذا‪.‬‬
‫مل يكن يل أن أنهي هذا املرشويف لوال املساعدة املستمرة والذكية التي قدمتها يل‬
‫محرريت يف السنتني املاضيتني‪ ،‬ديانا داوننغ من مونتريي‪ ،‬ماستشوستس‪ ،‬واملحرر السابق‬
‫ملجلة مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬بروس إدواردز من إل كاخون‪ ،‬كاليفورنيا‪.‬‬
‫أود أن أعرب عن شكري لكل الناس من مختلف بقايف العامل‪ ،‬ومنها الواليات املتحدة‪،‬‬
‫ريا‪ ،‬أشكر زوجتي‬
‫الذين كانت قصصهم العمود الفقري ملفهاميت النظرية يف هذا الكتاب‪ .‬أخ ً‬
‫إليزابيث بالونن فولكان‪ ،‬يتيمة الحرب العاملية الثانية‪ ،‬لسامحها يل أن أروي قصتها يف‬
‫بحثها عن أبيها‪ ،‬الذي قُتل يف إيطاليا وهو يحارب القوات النازية عندما كان عمرها شهو ًرا‬
‫معدودة‪ ،‬وأن أستعمل قصتها ألظهر داللة الرصوح التذكارية‪ ،‬كرصح الحرب العاملية الثانية‬
‫يف واشنطن‪ ،‬بشأن علم نفس الجامعات الكبرية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الجزء األول‬

‫جورجيا يف بايل‬

‫‪10‬‬
‫صدمة نفسية كبرية يف جمهورية جورجيا‬ ‫‪1‬‬

‫يف نوفمرب ‪ ،1991‬قبل شهر ونصف من انهيار االتحاد السوفييتي وزوال سلطة ميخائيل‬
‫غورباتشوف‪ُ ،‬دعيت إىل موسكو ألكون ضيفًا يف األكادميية الدبلوماسية التابعة لوزارة‬
‫الخارجية يف االتحاد السوفييتي‪ .‬ركبت أنا وزوجتي طيارة إيروفلوت يف مطار دولس يف‬
‫واشنطن‪ ،‬ووصلنا إىل مطار رشمييتيفو يف موسكو يف اليوم التايل‪ .‬التقينا هنالك يوري‬
‫أوربانوفيتش‪ ،‬وهو رجل قوي ولكن لطيف‪ ،‬يف أوائل أربعينياته‪ ،‬كنت قد التقيته يف زيارة‬
‫سابقة‪ .‬كان هذا الرجل حينئذ ع ًوا يف هيئة التدريس يف األكادميية الدبلوماسية‪ ،‬وكان‬
‫اختصاصه نظريات التفاوض وأساليبه‪ .‬عندما ذهبنا إىل صالة كبار الشخصيات‪ ،‬الحظت‬
‫رجال مهذبًا أصغر منه كان يرافقه‪ .‬ع ّرف يوري الرجل باسم يالتشن نارصوف‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫أن‬
‫طالب متخرج يف األكادميية الدبلوماسية‪ .‬كان يالتشن من الرتك األذريني‪ ،‬وكان قد قيل له‬
‫من قبل أنني تريك أمرييك من قربص‪ ،‬لذا حيّاين بالرتكية األذرية‪ ،‬التي كنت أستطيع فهمها‬
‫جيّ ًدا تقريبًا‪ .‬ذهبنا بعد ذلك يف سيارة سوداء مرسعة تابعة لوزارة الخارجية إىل شقة يف‬
‫مبنى ضخم تابع للتمثيل الدائم لجمهرية أذربيجان يف موسكو‪.‬‬
‫يف السيارة‪ ،‬همس يالتشن يف أذين‪ ،‬بالرتكية األذرية‪ ،‬أن شقتنا آمنة وأنها مجاورة‬
‫لشقة بطل العامل يف الشطرنج‪ ،‬غاري كيموفتش كاسباروف‪ .‬أضاف أن التمثيل األذربيجاين‬
‫الدائم يف االتحاد السوفييتي خصص ‪« 3‬ح ّراس» –هو واثنان من أصدقائه– يل ولزوجتي‪،‬‬
‫ليحمونا إذا خرجنا من الشقة من دون م يفينا السوفييتيني‪ .‬لقد زرت هذه املدينة من قبل‪،‬‬
‫لكنني مل ألبث أن أدركت أن موسكو التي كنت أعرفها تغريت‪ .‬كان يف الجو قلق واضطراب‪.‬‬
‫ذهب شعوري باألمن الشخيص الذي كنت أشعر به يف زيارايت السابقة ملوسكو يف عهد‬
‫غورباتشوف‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫كان هدف رحلتي إىل موسكو‪ ،‬ان أتحدث –أربعة أيام متتالية يف الصاالت الكبرية‬
‫الجمهوريات السوفييتية واألقاليم السياسية‬ ‫لألكادميية الدبلوماسية– عن اإلثنية ملمث‬
‫املستقلة‪ .‬كانت دعويت إىل املشاركة والتحدث من السفري أوليغ برييسبكني‪ ،‬الذي كان حينئذ‬
‫فهام أف ل لقوى اإلثنية ال منية‪ ،‬قد يكون ترياقًا للقلق‬
‫رئيس األكادميية‪ .‬كان يُعتقَد أن ً‬
‫السوفييتي املتزايد‪ .‬كان كثريون يف االتحاد السوفييتي يرون أن سلطة غورباتشوف عىل‬
‫البالد ت عف‪ ،‬وكانوا يخشون أن بعض الجامعات سيصبح تركيزها أكرث وأكرث عىل شعورها‬
‫الخاص باإلثنية‪ ،‬ال عىل الوحدة األكرب‪.‬‬
‫كيف انتهى يب األمر يف وسط هذه الظروف الغريبة يف واحدة من أشد الفرتات تقل ًبا‬
‫محلال نفس ًّيا ف ول ًّيا‬
‫ً‬ ‫يف التاريخ الحديث؟ بدأ األمر ببطء وبراءة‪ ،‬وخطوات مرتددة ش ّدت‬
‫ومدير جامعة إىل كثري من األماكن البعيدة بل والخطرية‪ ،‬التي مل يزرها قبله إال أطباء‬
‫نفسيون معدودون‪ .‬بدأ عم فعليًّا يف االتحاد السوفييتي قبل عامني من رحلتي يف نوفمرب‬
‫‪ 1991‬إىل موسكو‪ُ .‬عقد عقد عمل بني مجلس الدوما السوفييتي ومركز جامعة فرجينيا‬
‫لدراسة العقل والتفاعل اإلنساين‪ ،‬وهو مركز متعدد التخصصات كنت قد أسسته عام ‪.1987‬‬
‫كان هدف تعاوننا إنشاء فهم أف ل للعالقات األمريكية السوفييتية‪ ،‬وشمل هذا التعاون‬
‫زيارات من االتحاد السوفييتي وإليه‪ .‬يف هذه االجتامعات تعرفت عىل عدة أع اء يف وزارة‬
‫الخارجية السوفييتية واملعهد السوفييتي لعلم النفس‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1990‬أُ ِخذ أربعة أع اء من فريقي‪ ،‬منهم أنا ومساعد وزير الخارجية‬
‫السابق هارولد سوندرز‪ ،‬إىل مقر الحزب الشيوعي يف موسكو‪ ،‬الذي التقينا فيه بعض‬
‫مساعدي ميخائيل غورباتشوف‪ .‬كانوا يريدون أن يعرفوا إذا كنا نستطيع إلقاء بعض ال وء‬
‫عىل األحداث املؤخرة يف جمهوريات البلطيق السوفييتية وسألونا كيف يجب أن يردوا عىل‬
‫التطورات هناك‪ .‬كان واض ًحا أن السلطات السوفييتية رغم شكوكها األوىل‪ ،‬مل تعتربنا‬
‫عمالء للحكومة األمريكية وال جواسيس لوكالة االستخبارات املركزية‪ ).‬اعتقد غورباتشوف‪،‬‬
‫يف رأيي‪ ،‬أن االنفتاح «غالسنوت») وإعادة البناء «برييسرتويكا») سيساعدان عىل جمع‬

‫‪12‬‬
‫الجامعات املختلفة يف االتحاد السوفييتي‪ .‬لكن عكس هذا كان يحصل يف جمهوريات‬
‫ليتوانيا والتفيا وإستونيا يف البلطيق‪ .‬كان رد هذه الجمهوريات عىل تأسيس اتجاه جديد‬
‫من الشيوعية السوفييتية دعوة أعىل وأكرب إىل االستقالل التام عن االتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫ظهرت يف مناطق وجمهوريات أخرى توترات مشابهة‪ .‬عندما كنت يف ذلك املقر الشيوعي‪،‬‬
‫الحظت أن الذين يعملون تحت أمر غورباتشوف كانوا مصدومني حقًّا بهذه التطورات‪.‬‬
‫يف وقت زياريت يف نوفمرب‪ ،1991‬كان خطر حركات االستقالل قد انترش وتصاعد‬
‫يف غري جمهوريات البلطيق كذلك‪ .‬كانت هذه الحركات الكبرية يف أرجاء االتحاد السوفييتي‬
‫تهز أركان وحدة سياسية كانت كبرية راسخة‪ ،‬وحدة كان رونالد ريغان قد وصفها‬
‫«باإلمرباطورية الرشيرة»‪ .‬كانت األكادميية الدبلوماسية تأمل أن تجد إجابات ملسائلها‬
‫املحرية بشأن الوطنية اإلثنية التي كانت تهدد بالتفكك‪ .‬ولكن حتى أنا شعرت بأن هذه اخمال‬
‫خائبة‪.‬‬
‫ميرسا‪ ،‬يف‬
‫ًّ‬ ‫كانت أول ملحايت عن قوة الهوية الجامعية عندما كنت مشاركًا‪ ،‬ثم‬
‫املناقشات غري الرسمية بني بعض املؤثرين من العرب واإلرسائيليني‪ 1.‬يف هذه الحوارات‪،‬‬
‫التي دارت بني ‪ 1979‬و‪ ،1986‬فهمت العوامل التاريخية والسياسية والنفسية التي تؤثر يف‬
‫سلوك الجامعات الكبرية من الناس‪ ،‬التي تع ّرف نفسها عىل أسس إثنية أو دينية أو وطنية‬
‫أو أيديولوجية‪ .‬يشمل علم نفس الجامعات الكبرية هذا –املبني عىل هويات الجامعات‬
‫الكبرية– عرشات آالف الناس أو ماليني الناس‪ ،‬الذين يتشاركون بعض املشاعر العاطفية‬
‫‪2‬‬
‫والفكرية التي تع ّرفهم وتجعلهم مختلفني عن الجامعات الكبرية األخرى‪.‬‬
‫بني عم يف الرشق األوسط متا ًما كيف أن القوى التي تع ّرف «نحن» و«هم» إذا‬
‫لقد ّ‬
‫وقعت تحت ظروف معينة‪ ،‬تقهقرت نحو إهانة «اخخرين» وقتلهم‪ ،‬وأن الجامعات الكبرية‬
‫تستجيب أحيانًا بالعنف لتزيل ما يهدد شعورها «بالنحن ّية»‪ ،‬سواء أكان هذا التهديد حقيق ًّيا‬
‫رسا‬
‫أم متخ ّي ًال‪ .‬أو‪ ،‬قد تصبح الجامعة قاتلة ملجرد الحفاظ عىل وهم تفوقها عىل الذين تراهم ًّ‬
‫أو عل ًنا أدىن منها أو أقل من البرش‪ .‬لقد كان القرن العرشون واح ًدا من أكرث القرون دموية‬

‫‪13‬‬
‫يف التاريخ‪ .‬كان االضطراب املتزايد يف االتحاد السوفييتي نذي ًرا ببداية أشد فظاعة للعقد‬
‫األخري يف حياة االتحاد‪.‬‬
‫ولكن يف الوقت نفسه‪ ،‬كان فهمي للعمليات النفسية يف األفراد والجامعات يدفعني‬
‫إىل اإلميان بأن قوى العدوان اإلنسانية‪ ،‬املدمرة والعامة‪ ،‬ليس قدرها دامئًا أن تنحدر يف‬
‫زوبعة تنتهي باملأساة‪ .‬هذا التفاؤل املتحفظ‪ ،‬املبني جزئ ًّيا عىل نجاحي يف معالجة مرضاي‬
‫وأنا محلل نفيس‪ ،‬قادين يف ‪ 1987‬إىل تأسيس مركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين يف‬
‫كلية الطب يف جامعة فرجينيا يف تشارلوتسفيل‪ .‬كان هذا املركز الوحيد من نوعه يف كليات‬
‫الطب يف العامل‪ .‬كانت الهيئة التدريسية يف املركز مكونة من أطباء معظمهم أطباء‬
‫نفسيون) وعلامء نفس‪ ،‬ومن مؤرخني ودبلوماسيني أمريكيني متقاعدين‪ .‬كانت مهمتنا‬
‫خصوصا من وجهة نظر نفسية تحليلية‪ .‬كنت أعتقد أن‬
‫ً‬ ‫دراسة العالقات الدولية وفهمها‪،‬‬
‫سيوسع من مفهوم «الطب‬
‫ّ‬ ‫جمع فريق متعدد االختصاصات وإرشاكه يف الرشون الدولية‪،‬‬
‫الوقايئ»‪ .‬كنت آمل أن هذا املفهوم سيشمل إيجاد طرق جديدة وفعالة لالستجابة للعدوان‬
‫اإلنساين الكبري وتطوير أساليب جديدة لتخفيف آثاره املدمرة عىل العمليات االجتامعية‬
‫والسياسية‪.‬‬
‫عىل رغم بعض التشاؤم بشأن الطبيعة البرشية‪ ،‬ال سيام عندما تتجىل يف الجامعات‬
‫الكبرية‪ ،‬أعتقد أننا قد ننجح يف بعض ساحات النزايف الدولية إذا ق ينا فرتات مطولة من‬
‫الزمن –كام يقيض املحلل النفيس سنني وهو يعالج مري ه– ونحن نفتح حوارات بني‬
‫األعداء ونقدم أمثلة واقعية عن التعايش عىل األرض‪ .‬كنت أعرف أننا لن نستطيع تغيري‬
‫الطبيعة اإلنسانية بالعموم‪ ،‬ولكن رمبا نستطيع أن نهذّب بعض العدوان الهائل يف بعض‬
‫يغري‬
‫النواحي‪ .‬كنت أومن أنه عىل املدى الطويل‪ ،‬سيستطيع علم نفس الجامعات الكبرية أن ّ‬
‫ويؤثّر يف كل جانب من جوانب العالقات الدولية‪ ،‬من ذلك التعامالت القانونية واالقتصادية‬
‫والعسكرية‪ .‬كنت أرى أن مهمة مركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين هي تقديم لقاح يقي‬
‫من التطورات املجتمعية والسياسية الخبيثة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫مل يُنشَ أ مركزنا لينافس الدبلوماسية الرسمية‪ ،‬بل أنشئ عىل أمل تقديم رؤى جديدة‬
‫قد تستفيد منها الدبلوماسية الرسمية‪ .‬مع الرسعة التي كان يتطور بها العامل‪ ،‬ال سيام يف‬
‫خالت‬
‫التقانة وقوة وسائل التواصل‪ ،‬كانت الدبلوماسية التقليدية بال شك يف حاجة إىل مد َ‬
‫جديدة‪ .‬كانت الدبلوماسية التقليدية يف ذلك الوقت تتأثر بوسائل اإلعالم وعوملة املصالح‬
‫االقتصادية‪ ،‬لكنها كانت متأثرة أي ً ا بانتشار املنظامت غري الحكومية‪ .‬يف ذلك الوقت كانت‬
‫بعض املنظامت غري الحكومية قد جمعت بعض األمريكيني والسوفييتيني م ًعا لتحسني‬
‫العالقات‪ .‬مل يرد طاقم مركزي إال أن ي يف أضواء جديدة بشأن الطبيعة البرشية‪ ،‬أضوا ًء‬
‫قد تنفع العملية الدبلوماسية‪ ،‬ال سيام بشأن تعامل الناس عندما يتج ّمعون تحت مظلة هوية‬
‫مشرتكة‪.‬‬
‫إذا مل تُستكشَ ف األساليب الدبلوماسية الجديدة‪ ،‬سيسهل أن نتخيل أن القوى التي‬
‫تعمل يف االتحاد السوفييتي ستتصاعد حتى تصبح احتجاجات عنيفة‪ ،‬ومحاوالت مميتة‬
‫إلسكات املعارضة‪ ،‬وحروبًا أهلية يف جمهوريات عديدة وبني أعداد من الجامعات اإلثنية‪.‬‬
‫لكن زياريت ملوسكو عام ‪ 1991‬دلت عىل عىل الصعوبة التي واجهتها اإلدارة السوفييتية‬
‫يف فهم نشأة هذا األمر أو أسبابه‪ .‬ففي أيام عز الشيوعية‪ ،‬كان يعتقَد أن األيديولوجية‬
‫املشرتكة قد جمعت أهل الجامعات اإلثنية املختلفة وجعلتهم «إخوة وأخوات»‪ .‬كانت الهويات‬
‫اإلثنية ملواطني االتحاد السوفييتي مذكورة بوضوح يف جوازات سفرهم الداخلية‪ .‬ميكن أن‬
‫يكون الفرد أرمين ًّيا أو التف ًّيا أو أوزبك ًّيا‪ ،‬وهكذا‪ ،‬لكن هذه الهويات كانت تعترب ثانوية‬
‫بالنسبة إىل الهوية الشيوعية األولية‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬عندما بدأت خيمة االتحاد السوفييتي تهتز‪ ،‬أصبحت كل جامعة إثنية تحتها‬
‫مهتمة بخيمتها األصغر‪ ،‬وأصبحت الهوية اإلثنية هي موضع االهتامم‪ .‬كان األمل أن تساعد‬
‫مؤمترايت املاراثونية التي امتدت أربعة أيام‪ ،‬عن مفهوم اإلثنية وعلم نفس الجامعات الكبرية‪،‬‬
‫الجمهوريات السوفييتي وغريها من الكيانات السياسية السوفييتية املستقلة‪ ،‬عىل‬ ‫ممث‬
‫التفاهم وتقدير االجتاميف واجتناب التحارب فيام بينها‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫يف اليوم الذي تال وصويل إىل موسكو‪ ،‬أخذين يوري إىل مبنى األكادميية‬
‫الدبلوماسية‪ ،‬الواقع قرب جرس كرميسيك املعلق فوق نهر موسكو يف شاريف أوستوزنكا‪.‬‬
‫التقاين هنالك السفري برييسبكني‪ ،‬والجرنال فالدميري إالريونوف‪ ،‬وغريهام‪ .‬مشيت املشية‬
‫اإللزامية عىل البساط األحمر الذي غطى الرواق الطويل يف الطابق األول‪ .‬قبل عامني ملئت‬
‫رشقًا‪ .‬مل تزل معلّقة يف‬
‫رسام ُم ِ‬
‫جدران جانبي الرواق بصور ترسم تاريخ االتحاد السوفييتي ً‬
‫ريا من الصور الشيوعية التقليدية أزيلت‪.‬‬
‫وسط أحد الجدران صورة منسوجة للينني‪ ،‬لكن كث ً‬
‫اختريت الصور املوجودة عىل الجدران اليوم لتعرب عن التغريات التي جرت يف موسكو‪ ،‬التي‬
‫ترمز لالنفتاح وإعادة البناء ورغبة السوفييت يف أن يكونوا ودودين مع «اخخرين»‪ ،‬حتى‬
‫األمريكيني‪ .‬يف بعض الصور كانت بعض الشخصيات املرموقة األمريكية والسوفييتية‬
‫تتصافح‪.‬‬
‫تحدثت أربعة أيام كاملة‪ ،‬تخللتها «اسرتاحات كونياك»‪ ،‬وكان يوري يرتجم كلاميت‬
‫إىل الروسية للح ور‪ .‬كان يف الح ور مندوبون روس وليتوانيون وكازاخيون وأذريون‬
‫وأرمن وداغستانيون‪ ،‬وممثلون من مناطق االتحاد السوفييتي املختلفة‪ .‬كان اهتاممهم مبا‬
‫يف جعبتي واض ًحا‪ .‬لكن املواضيع التي ناقشتها اشتملت عادة عىل رصاعات لفظية بني‬
‫ممث الجمهوريات املتجاورة التي كان النزايف فيها موشكًا‪ .‬جرت بني األرمنيني واألذريني‬
‫مثال‪ ،‬عدة نزاعات محتدمة‪ .‬يف اليوم الرابع رفع مس ّن رويس يده وخاطبني بإنكليزية‬ ‫ً‬
‫ممتازة ذات لكنة روسية ثقيلة‪ .‬قال‪« :‬أيها الدكتور‪ ،‬نحن نقدر جهودك‪ .‬لقد كان حديثك غن ًّيا‬
‫باملعلومات‪ .‬لكن‪ ،‬أنت وأنا‪ ،‬والجميع يف هذه الغرفة‪ ،‬عىل ما أعتقد‪ ،‬نعلم أن الكعكة‬
‫ستتفتت»‪ .‬مل تكن هذه الكعكة إال االتحاد السوفييتي‪ .‬مل أعرب رصاحة عن اتفاقي معه‪ ،‬لكنني‬
‫علمت أن املهمة التي أوكلتها إيل األكادميية الدبلوماسية قد انتهت هنا‪.‬‬

‫مل تلبث الكعكة أن تفتتت‪ 3.‬طالبت جمهوريات سوفييتية كثرية‪ ،‬وأقاليم مستقلة أخرى‪،‬‬
‫باستقاللها‪ .‬انترشت الفوىض والدماء‪ .‬تبخر حلم اإلخاء السوفييتي– تفسخ رسي ًعا «صمغه»‬

‫‪16‬‬
‫الذي هو األيديولوجية املشرتكة واألهداف املشرتكة‪ ،‬وكشف عن صدويف كثرية عىل الخطوط‬
‫اإلثنية والدينية والثقافية‪ .‬ظهر العداء نحو «الرتويس» يف الفرتة السوفييتية وصعدت إىل‬
‫السطح توترات عمرها مئات السنني بني جامعات عرقية متجاورة‪ .‬أصبحت الخطابات‬
‫التحري ية السياسية التي تح ّرض «نحن» عىل «هم» شائعة‪ ،‬وأدت أحيانًا إىل عنف مفتوح‪،‬‬
‫أو «تطهري عرقي» أو مآس أخرى‪.‬‬
‫ريا من‬
‫ما الذي حدث؟ كل جمهورية سوفييتية سابقة لها قصة مختلفة‪ ،‬لكن كث ً‬
‫القصص اتفقت عىل مسألة واحدة‪ :‬كيف ميكن أن تؤسس أمة جديدة من مجتمع متعدد‬
‫اإلثنيات‪ ،‬كان اجتامعه السابق معتم ًدا إىل ح ٍّد ما عىل السلطة السوفييتية املركزية‪ .‬كان‬
‫مصري كل أمة ناشئة مرتبطًا بعوامل سياسية وتجارية واقتصادية وعسكرية واجتامعية‬
‫ودينية معقدة‪ .‬كانت العمليات النفسية يف الجامعات الكبرية متشابكة مع هذه العوامل‪.‬‬
‫لتوضيح بعض هذه العمليات‪ ،‬سأركز عىل جورجيا‪ ،‬الدولة الصغرية يف القوقاز بني تركيا‬
‫وروسيا‪ ،‬التي سنحت يل فيها فرصة للمراقبة واملعاينة مبارش ًة عىل م ّر أكرث من خمس‬
‫سنوات‪ .‬سيكون اهتاممي األسايس توضيح تجليات وآثار العوامل النفسية‪ ،‬لكن ال بد أوالً‬
‫من وصف موجز للعوامل التاريخية والسياسية يف جورجيا‪.‬‬
‫ربا للح ارات‪.‬‬
‫كغريها من الدول عىل الحدود بني أوروبا وآسيا‪ ،‬مل تزل جورجيا مع ً‬
‫حسب آخر إحصاء سوفييتي يف ‪ ،1989‬وصف نحو ‪ 70‬باملئة من سكان جورجيا أنفسهم‬
‫بأنهم جورجيون باإلثنية‪ ،‬وأنهم شعب قوقازي جنويب يعود تاريخه وثقافته إىل األزمنة‬
‫الغابرة‪ .‬أما األقليات اإلثنية‪ ،‬ذات الثقافات التي ال تقل غ ًنى وال قد ًما عن الثقافة الجورجية‪،‬‬
‫فشكلت ‪ 30‬باملئة من سكان جورجيا‪ ،‬الذين بلغ تعدادهم ‪ 5.4‬مليون نسمة‪ .‬من هذه األقليات‬
‫عدد كبري من األرمنيني والروس واألذريني واألوسيتيني واليونانيني واألبخازييني‪ ،‬ومنهم‬
‫الكرد واليهود واملسخيتيون وغريهم‪.‬‬
‫عاشت كل هذه الجامعات اإلثنية يف حدود جورجيا السياسية الحديثة قرونًا من‬
‫الزمان‪ ،‬وكانت العالقات بينها بالعموم سلمية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يف أحد األحياء القدمية‬

‫‪17‬‬
‫يف تبلييس‪ ،‬عاصمة جورجيا‪ ،‬تشرتك الكنائس والجوامع ودور العبادة اليهودية الشواريف‬
‫نفسها‪ ،‬ومل يكن الزواج املختلط بني الجامعات املختلفة ناد ًرا‪ .‬كانت الهوية املحافظية‬
‫أساسا العتبار صاحبها‬
‫ً‬ ‫الخاصة متعايشة مع الهوية الوطنية العامة‪ ،‬ومل تكن بالضورة‬
‫قليال مستغربًا‪ ،‬كانت التوترات‬
‫«أقل جورج ّية»‪ .‬مع هذا‪ ،‬ومع أن العنف بني الجامعات كان ً‬
‫موجودة‪ .‬عىل هذه الخلفية‪ ،‬أدى مفهوما إعادة البناء واالنفتاح إىل أن تصبح مفاهيم‬
‫الوطنية مقابل اإلثنية الوطنية‪ ،‬واالستقالل مقابل الدميقراطية‪ ،‬مفاهيم إشكالية يف‬
‫جورجيا‪.‬‬
‫من حيث االستقالل‪ ،‬كانت جورجيا تنظر إىل أزمنة السيادة السابقة‪ ،‬التي كان أحدثها‬
‫من ‪ 1918‬إىل ‪ ،1921‬وإىل شعور عتيق بالهوية الجورجية الفريدة‪ .‬كان تراث املعارضة‬
‫السياسية والتظاهرات ضد السيادة األجنبية قدميًا عمره قرون‪ ،‬واستمر يف أيام‬
‫اإلمرباطورية الروسية واالتحاد السوفييتي‪ .‬كانت جورجيا‪ ،‬كدول البلطيق‪ ،‬تُرى عىل أنها‬
‫أُدخلت باإلكراه يف االتحاد السوفييتي‪ ،‬وهو ما يعني أن االتحاد خنق تطلعاتها املنارصة‬
‫للغرب والدميقراطية‪ ،‬وهدد هويتها الجورجية‪ .‬مع أن االستقالل السيايس السوفييتي كان‬
‫مبدئيًّا أكرث منه واقعيًّا‪ ،‬فإن تاريخها الحديث يقول إن الدميقراطية والتعددية والشعور‬
‫الجامع بالهوية الوطنية كان موجو ًدا يف جورجيا‪ ،‬وهو األساس الذي ستقوم عليه جورجيا‬
‫«الجديدة»‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬كان الخطاب السيايس االسقاليل يف جورجيا بعد إصالحات غورباتشوف‬
‫شامال‬
‫ً‬ ‫مصطبغًا بالشعار القائل بأن «جورجيا للجورجيني»‪ .‬قد يبدو هذا الشعار أول األمر‬
‫لغري الجورجيني اإلثنيني‪ ،‬لكن العنرص اإلقصايئ فيه أصبح أوضح وأوضح‪ .‬أدى هذا‬
‫الصعود يف اإلثنية الوطنية إىل قلق بني األقليات اإلثنية يف جورجيا‪ ،‬التي كانت جاهزة لذكر‬
‫أمثلة تاريخية عن الظلم وقلة التسامح الذي تعرضت له‪ ،‬مثل ترحيل ستالني خالف‬
‫املسخيتيني من أراضيهم عىل طول الحدود الجورجية الرتكية‪ ،‬واملآيس الطويلة ضد‬
‫سياسات «الجورجة»‪ ،‬ال سيام يف األقاليم شبه املستقلة‪ ،‬مثل أوسيتا الجنوبية وأبخازيا‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مع هذا‪ ،‬عربت أغلبية متزايدة يف جورجيا عن رغبتها يف االنفصال عن االتحاد‬
‫السوفييتي والشيوعية يف أواخر الثامنينيات‪ .‬ترسخ هذا اإلجاميف أكرث يف ‪ 9‬أبريل ‪،1989‬‬
‫عندما اجتمعت مجموعة من املضبني عن الطعام يف تبلييس عىل عتبات مبنى كان يعرف‬
‫باسم املجلس السوفييتي األعىل‪ ،‬ليعربوا عن رغبتهم يف االستقالل عن االتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫مع اجتاميف حشود من املؤيدين إىل جانب املضبني‪ ،‬أرسلت موسكو وحدات من القوى‬
‫املسلحة لحفظ النظام‪ .‬لكن القائد السوفييتي‪ ،‬الجرنال راديونوف‪ ،‬تجاهل املفاوضات التي‬
‫تهدف إىل حل اإلرضاب وأمر وحداته املسلحة بأن تفرق بني املحتجني وحشود املت امنني‬
‫‪4‬‬
‫املتزايدة‪ ،‬وأن تغلق الطرق الجانبية وتبعد املضبني عن املبنى السوفييتي‪.‬‬
‫رسي ًعا ما تصاعد الوضع‪ ،‬وهاجم الجنود السوفييت املضبني بأسلحة كيميائية‬
‫وأدوات حادة‪ ،‬وهو ما أدى إىل مقتل ستة عرش إىل عرشين فر ًدا‪ .‬كان ذلك اليوم مثار حرية‬
‫بني كثري من الجورجيني‪ ،‬ألن حكومة غورباتشوف بدت ملتزمة باإلصالح‪ 5.‬هل كانت األمور‬
‫فعال‪ ،‬أم إن االتحاد السوفييتي مل يزل عىل قمعيته املعهودة؟ رأى الجورجيون هذه‬
‫تتغري ً‬
‫الحادثة خيان ًة وخسارة مأساوية‪ ،‬تركت فيهم أث ًرا عاطفيًّا عميقًا‪ .‬بعد إلقاء هذا الوقود‬
‫النفيس عىل النار‪ ،‬أصبح من الصعب إيقاف حركة االستقالل‪.‬‬
‫لكن جورجيا مل تكن متوحدة كلها يف هذا الصعود الوطني–يف الحقيقة‪ ،‬كان‬
‫العكس هو الصحيح‪ .‬كان إقليم أوسيتا الجنوبية شبه املستقل‪ ،‬وجمهورية أبخازيا املستقلة‪،‬‬
‫وهام قسامن من جورجيا أنشأهام االتحاد السوفييتي‪ ،‬غارقني يف موجة خاصة من اإلثنية‬
‫الوطنية والرغبة يف االستقالل–ليس االستقالل عن االتحاد السوفييتي‪ ،‬بل عن جورجيا‬
‫نفسها‪ .‬يف حني كان الجورجيون يشعرون أنهم ضحايا «الرتويس» والهيمنة الروسية أثناء‬
‫ان وائهم تحت لواء االتحاد السوفييتي‪ ،‬كان كثري من األوسيتيني الجنوبيني واألبخازيني‬
‫حب به‪ .‬كانت هاتان األقليتان‪ ،‬اللتان تتكلامن‬
‫يرون يف جورجيا األخ األكرب املستبد غري املر َّ‬
‫–تقليديًّا– لغة غري لغة الجورجيني اإلثنيني‪ ،‬تريان جورجيا تهدي ًدا عىل ثقافتهام وأرضهام‬
‫–عىل هوية جامعتيهام الكبرييتني–‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫اشتدت الرغبة يف االستقالل يف أوسيتا الجنوبية وأبخازيا مع صعود القائد‬
‫ريا‬
‫الجورجي زفياد جامساخورديا‪ ،‬وهو رئيس بارز ذو خطاب وطني حاميس ال يعرف كث ً‬
‫من الحدود‪ .‬ككثري من السياسيني‪ ،‬جمع جامساخورديا دعمه الشعبي بالتأكيد عىل «نحنية»‬
‫جامعته اإلثنية‪ ،‬التي كانت تشعر شعو ًرا جامع ًّيا بالحاجة إىل قائد قوي‪ ،‬يف الوقت التي‬
‫كانت فيه تخط طريقها يف املستقبل املجهول‪ .‬لكن هذا الطريق‪ ،‬بقيادة املهارات السياسية‬
‫املشكوك فيها التي امتلكها جامساخورديا‪ ،‬مل يلبث أن اتجه نحو املصائب – التي ظهرت يف‬
‫سياسات منها تعيني اللغة الجورجية لغة رسمية يف الدولة‪ .‬تزايد القلق بشأن هويات‬
‫الجامعات الكبرية يف إقليم القوقاز وبدأ يخ ّرب العالقات عىل كل املستويات‪ ،‬إىل أن أدى يف‬
‫النهاية إىل تراجع مجتمعي‪.‬‬
‫يف ‪ 9‬مارس ‪ ،1990‬انفصلت جورجيا عن االتحاد السوفييتي‪ .‬نتيجة التوترات‬
‫املتزايدة‪ ،‬أعلن الوطنيون يف أوسيتا الجنوبية عام ‪ 1990‬استقاللهم عن جورجيا‪ ،‬ورف وا‬
‫املشاركة يف أول انتخابات وطنية حرة – االنتخابات التي جعلت جامساخورديا أول رئيس‬
‫لجورجيا‪ .‬يف خريف عام ‪ ،1990‬كانت نزعات جامساخورديا االستبدادية‪ ،‬وعداؤه الشديد‬
‫للشيوعية‪ ،‬ورف ه ألي نويف من املعارضة‪ ،‬إىل نزيف صفة اإلقليم املستقل عن أوسيتا‬
‫الجنوبية‪ ،‬وفرض القانون العسكري يف عاصمتها تسخينفايل‪ .‬أصبحت الهوية الجامعية‬
‫وحاميتها مسألة مسيسة‪ ،‬ومل يلبث النزايف املسلح العنيف أن اشتعل وتصاعد يف أوسيتا‬
‫الجنوبية‪ .‬احتدمت معارك الشواريف يف تسخينفايل‪ .‬هرب آالف األوسيتيني الجنوبيني عرب‬
‫الحدود الروسية إىل أوسيتا الشاملية‪ ،‬وهرب كثري من الجورجيني اإلثنيني يف أوسيتا‬
‫الجنوبية إىل األرايض الجورجية‪.‬‬
‫أدت سياسات جامساخورديا الوطنية ورغبته الحامسية باستعادة وحدة األرايض‬
‫الجورجية‪ ،‬أو الحفاظ عليها‪ ،‬إىل صعود توترات مامثلة يف أبخازيا‪ .‬ح ّول املثقفون‬
‫األبخازيون وقادة الحزب الشيوعي القلق املتزايد يف أبخازيا‪ ،‬والنسبة املتناقصة من‬
‫األبخازيني يف دولتهم‪ ،‬إىل حركة وطنية لهم‪ .‬يف عام ‪ ،1989‬طلب األبخازيون من‬

‫‪20‬‬
‫غورباتشوف إعادة إنشاء جمهورية أبخازية سوفييتية كالتي كانت بني عامي ‪1921‬‬
‫و‪ 1931‬عندما كانت أبخازيا مستقلة عن جورجيا‪ .‬كان هذا الطلب إشكال ًّيا يف نظر‬
‫جامساخورديا ألن عدد الجورجيني اإلثنيني يف أبخازيا كان أكرث من ضعفي عدد‬
‫األبخازيني‪ .‬اشتعل العنف يف عاصمة أبخازيا‪ ،‬سوخومي‪ ،‬عىل تأسيس قسم خاص‬
‫للجورجيني يف جامعة سوخومي‪ .‬تزايدت التوترات السياسية أكرث‪ ،‬فدفعت املجلس‬
‫السوفييتي األعىل يف أبخازيا إىل العودة إىل دستور ‪ ،1925‬الذي مينح أبخازيا استقالالً‬
‫تا ًّما عن جورجيا‪ .‬دخلت القوات العسكرية الجورجية العاصمة وتال ذلك نزايف مسلح عنيف‬
‫وطويل‪ .‬هرب عرشات آالف الجورجيني‪ ،‬الذين كان كثري منهم قد استقر يف أبخازيا منذ‬
‫أجيال‪ ،‬بحفنة من أمالكهم عندما اشتعلت حرب أهلية كاملة‪.‬‬
‫يف الوقت الذي كانت فيه النزاعات مع األوسيتيني الجنوبيني واألبخازيني تختمر‪،‬‬
‫تلقى مركزي يف تشارلوتسفيل‪ ،‬مركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين‪ ،‬زيارة من جورجي‬
‫خوشتاريا‪ ،‬وزير خارجية جورجيا يف حكومة جامساخورديا‪ ،‬وتيدو جاباريدز‪ ،‬وهو‬
‫ريا طويل‬
‫مسؤول كبري يف وزارة الخارجية الجورجية‪ .‬أصبح تيدو جاباريدز بعد ذلك سف ً‬
‫األمد لجورجيا يف واشنطن‪ ،‬التي بقي فيها حتى مارس ‪ ،2002‬عندما أصبح مستشا ًرا أمنيًّا‬
‫وطنيًّا للرئيس إدوارد شيفردنادزه)‪ .‬كان خوشتاريا وجاباريدز قد سمعا عن عمل مركزنا‬
‫مع السوفييت يف آخر أيام االتحاد السوفييتي‪ ،‬وعن عملنا يف جمهوريات البلطيق‪ ،‬ال سيام‬
‫إستونيا‪ ،‬بعد انهيار االتحاد السوفييتي‪ ،‬إذ ساعدنا هذه الجمهوريات عىل تطوير مؤسسات‬
‫دميقراطية وعالقات سلمية مع روسيا‪ 6.‬أىت خوشتاريا ليطلب مساعدتنا بشأن النزاعات‬
‫اإلثنية يف بلده‪ ،‬لكننا مل منلك التمويل الكايف لنبدأ العمل يف جورجيا‪ .‬شعرت حينها بالعجز‬
‫لكنني وعدت بالحفاظ عىل قنوات االتصال مفتوحة‪.‬‬
‫يف الوقت نفسه‪ ،‬كنت سعي ًدا بوجود خبري بالشؤون الجورجية يف طاقم مركزي –‬
‫هو يوري أوربانوفيتش‪ ،‬الذي كان الشخصية الرئيسة يف تنظيم مؤمتري عن اإلثنية يف‬
‫األكادميية الدبلوماسية‪ .‬يف عام ‪ُ ،1992‬ع ّني أوربانوفيتش باحثًا دول ًّيا يف املركز‪ ،‬واكتشفت‬

‫‪21‬‬
‫بعيد ذلك أنه مولود يف جورجيا ألب ليتواين اإلثنية وأم أرمنية‪ .‬عندما أصبح أوربانوفيتش‬
‫الباحث الدويل يف املركز‪ ،‬كانت أمه مل تزل يف تبلييس‪ ،‬واستطعنا بف له أن نواكب األحداث‬
‫يف جورجيا عن كثب‪.‬‬
‫مل يكن يف أيدينا أن نفعل شيئًا سوى املشاهدة‪ ،‬يف الوقت الذي كان فيه الحلم‬
‫الجورجي باالستقالل والدميقراطية يتقهقر حتى أصبح فوىض كاملة‪ ،‬تغذيها قرارات‬
‫جامساخورديا السياسية الحارقة‪ ،‬وحكمه األوتوقراطي املتزايد واملتهور‪ .‬سقطت السلطة‬
‫خارج العاصمة الجورجية تبلييس يف أيدي أمراء حرب محليني وقادة ليسوا يف الجيش‬
‫رشد مئات آالف الالجئني‪ ،‬ونشأت نزاعات ن ّدية يف الحكومة املركزية‪ ،‬وانهار‬
‫النظامي‪ ،‬ت ّ‬
‫ريا‪ ،‬يف أوائل ‪ ،1992‬اشتعل القتال يف شواريف تبلييس‪ ،‬عندما أجرب تحالف‬
‫االقتصاد‪ .‬أخ ً‬
‫بني الجيش وقادة يف الحكومة الرئيس عىل التخ عن السلطة–ولو أنه حافظ عىل أتبايف‬
‫كثريين يقدسونه تقريبًا من الجورجيني‪.‬‬
‫دعا مجلس عسكري مؤقت حاكم وزير الخارجية السوفييتي السابق إدوارد‬
‫شيفردنادزه‪ ،‬وهو جورجي اإلثنية‪ ،‬إىل قيادة البلد الذي ينازيف‪ .‬يف العام نفسه اختري الرجل‬
‫رسميًّا ليكون قائد الربملان الجورجي يف االنتخابات الدميقراطية‪ ،‬ولو أن جامساخورديا‬
‫متسك بأنه الرئيس الرشعي الوحيد وسيطر عىل مناطق من جورجيا الغربية بف ل داعميه‬
‫املسلحني‪ .‬استمر حكم شيفردنادزه حتى ‪ 30‬نوفمرب ‪ ،2003‬عندما استقال عقب‬
‫احتجاجات كبرية ضد االنتخابات الربملانية التي جرت يف نوفمرب؛ ليحل محله يف رئاسة‬
‫رئيسا‪ ،‬أكّد‬
‫ً‬ ‫جورجيا رجل أصغر بكثري‪ ،‬هو ميخائيل ساكاشفي )‪ .‬عندما أصبح شيفردنادزه‬
‫عىل أن «الجورجية» مسألة مواطنة ال مسألة إثنية‪ ،‬لكن الفوىض والحرب استمرت يف يف‬
‫جورجيا سنني كثرية بعد ذلك‪ .‬ومع أن تح ّرش جامساخورديا املمتد انتهى بانتحاره الظاهري‬
‫تحل إال نزاعات قليلة وبقيت العالقات‬
‫عام ‪ ،1993‬وبدأت بعده مفاوضات بشأن الهدنة‪ ،‬مل ّ‬
‫متوترة بشأن عودة الالجئني وغريها من املشكالت‪ .‬بقي وضع أوسيتا الجنوبية وأبخازيا‬

‫‪22‬‬
‫غري واضح يف تلك السنني‪ ،‬وكان القتال يشتعل بني الحني واخخر‪ ،‬ولكن التوترات استقرت‬
‫مبا يكفي ألنظر أنا وزماليئ نظرة أقرب‪.‬‬
‫يف صيف عام ‪ ،1995‬سافرت جويس نيو‪ ،‬التي كانت مساعدة مدير برنامج حل‬
‫النزاعات التابع ملركز كارتر يف أطلنطا وهي اليوم رئيسة معهد جون يب‪ .‬كروك للسالم‬
‫والعدل يف جامعة سان دييغو) مع يوري إىل جورجيا وأبخازيا «ليش ّخصا» الوضع‪ .‬ابتدأ‬
‫اتصايل مبركز كارتر يف أوائل تسعينيات القرن العرشين‪ ،‬عندما أصبحت ع ًوا يف شبكة‬
‫التفاوض الدولية‪ ،‬تحت إدارة الرئيس األمرييك السابق جيمي كارتر‪ .‬يف ذلك الوقت‪ ،‬كان‬
‫الرئيس كارتر يبني عالقة بني «جورجيا وجورجيا» الوالية األمريكية والجمهورية) مع‬
‫ثال من املنظامت‬
‫الرئيس شيفردنادزه‪ .‬يف خريف عام ‪ ،1995‬جمع مركزانا اثني عرش مم ً‬
‫األمريكية غري الحكومية يف تشارلوتسفيل‪ ،‬فرجينيا‪ ،‬ملناقشة املبادرات القامئة لحل النزايف‬
‫يف جورجيا‪ ،‬بهدف تجنب تكرار الجهود يف املركزين‪ .‬وعندما الحظنا أن معظم املنظامت‬
‫غري الحكومية كانت حينئذ تعالج النزاعات الجورجية األبخازية‪ ،‬قرر مركز دراسة العقل‬
‫والتفاعل اإلنساين تركيز اهتاممه عىل املشكالت بني جورجيا وأوسيتا الجنوبية‪ .‬سافرت أوالً‬
‫إىل جورجيا يف مايو ‪ 1998‬ومل أزل أسافر إىل هناك مرتني يف العام ملدة خمسة أعوام‪.‬‬

‫صادف وصويل إىل جورجيا يف مايو ‪ 1998‬تجدد العداوات بني الجورجيني واألبخازيني‪.‬‬
‫قبل عامني تقري ًبا‪ ،‬كان الطرفان قد وصال إىل اتفاق يسمح ألربعة آالف جورجي نازح داخل ًّيا‬
‫وهو املصطلح الصوايب السيايس البديل ملصطلح «الجئ») أن يعود إىل إقليم غايل‪ .‬يعتقد‬
‫ريا من الجورجيني كانوا يقطنون‬
‫األبخازيون أن هذا اإلقليم لهم‪ ،‬وهو تحت حكمهم‪ .‬لكن كث ً‬
‫هناك‪ .‬مبوجب االتفاق أُتيح لهؤالء الجورجيني أن يعودوا إىل بيوتهم – بشارة باألمل بسالم‬
‫ممتد‪ .‬لكن عندما وصلت يف ‪ ،1998‬كان النزايف املتجدد بني القوات األبخازية والجورجية قد‬
‫أزال عرشات آالف الالجئني من اإلقليم‪ ،‬واضمحل أي أمل بالعودة واالستقرار‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ألقى بعض الجورجيني الذين حادثتهم اللوم عىل األبخازيني والروس‪ .‬كانوا‬
‫يشعرون أن روسيا‪ ،‬التي مل ترد أن تخرس نفوذها يف جورجيا‪ ،‬كانت تحافظ عىل النزايف‬
‫بتجنيدها لقوة حفظ سالم يف املنطقة‪ .‬مل تنظر روسيا يف إمكانية سحب قواتها من‬
‫جورجيا إال بعد زيارة الرئيس األمرييك جورج دبليو بوش لجورجيا عام ‪ – 2005‬غال ًبا‬
‫بسبب ضغط من الواليات املتحدة)‪ .‬مل تكن وظيفة وحدة حفظ السالم الروسية حفظ السالم‪،‬‬
‫يف رأي بعض الجورجيني‪ ،‬بل كانت التدخل يف الشؤون الجورجية وإبقاء جورجيا معتمدة‬
‫عىل روسيا‪.‬‬
‫ريا ملوكب عسكري يف تبلييس –التي كنت أسكن‬
‫تجدد النزايف يف إقليم غايل تح ً‬
‫فيها– لالحتفال بالذكرى السنوية الثامنة عرش لتأسيس أول جمهورية جورجية عام ‪.1918‬‬
‫بسبب استئناف العداوات‪ ،‬ألغي املوكب واالستقبال الذي كان مخططًا له للرئيس‬
‫شيفردنادزه‪ .‬مع هذا‪ ،‬حضت اجتام ًعا «أكادمييًّا» بدعوة من رجب جوردانيا‪ ،‬حفيد نوح‬
‫جوردانيا‪ ،‬الذي كان رئيس جورجيا يف أول فرتة حكم دميقراطي لها يف أوائل القرن التاسع‬
‫عرش‪.‬‬
‫ولكن كان من الصعب أن أشارك يف ذكرى لنوح جوردانيا دون أن أتأمل أوالً يف‬
‫التغريات املأساوية التي جرت يف العقود التي تلت حكمه‪ .‬يف عرشينيات القرن العرشين‪،‬‬
‫كانت تبلييس‪ ،‬املدينة التي يرجع تاريخها إىل أكرث من ألف وخمسمئة عام‪ ،‬والتي متتد عىل‬
‫ضفتي نهر متكفاري‪ ،‬تع َرف باسم «باريس القوقاز»‪ .‬كانت مليئة باملثقفني والفنانني‬
‫والشعراء‪ .‬أما يف عام ‪ ،1998‬فقد أُحرج منظمو اجتاميف الذىك السنوية من عدم وجود‬
‫مناديل يف مراحيض البناء الذي نُظّم فيه االجتاميف‪ .‬هذا البناء الذي يعود إىل القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬الذي احت ن بعض انتصارات القيارصة الروسيني يف القوقاز‪ ،‬مل يكن بعي ًدا عن‬
‫املكان الذي قتل فيه جنود الجرنال راديونوف املحتجني الجورجيني يف التاسع من أبريل‬
‫‪ .1989‬أشار بعض الجورجيني يف االجتاميف رصاحة إىل إىل جرائم القتل هذه وعربوا عن‬
‫رأيت بوضوح كيف أن الجروح التي حدثت قبل عرش سنوات‬
‫ُ‬ ‫فخرهم بأنهم جورجيون‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫تقري ًبا مل تزل جديدة‪ ،‬يف الوقت الذي كان فيه غياب املناديل وغريها من الحاجات البسيطة‬
‫يعكس استمرار آثار الصدمة النفسية املجتمعية‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬ذهبت يف‬
‫لقد رأيت هذه اخثار يف أماكن أخرى‪ ،‬مهام كانت صغرية ودقيقة‪ً .‬‬
‫أحد األيام مع زميل يل لنلتقي بروفسو ًرا يف جامعة تبلييس‪ .‬كان يف حدائق الجامعة مئات‬
‫الطالب‪ ،‬وكانوا جمي ًعا تقري ًبا يلبسون ثيابًا سو ًدا أو زرقاء داكنة‪ .‬قيل يل إن الثياب السود‬
‫هنا عادة وليست عالمة عىل الحزن‪ ،‬ويف أثناء إحدى زيارايت الالحقة إىل تبلييس‪ ،‬حيث‬
‫حدث اختطاف األجانب‪ ،‬نصحني بعض األصدقاء الجورجيني بارتداء ثياب سود أو زرقاء‬
‫داكنة لئال أمتيز من بني الجمويف‪ .‬تساءلت عن سبب خروج الطالب وعدم وجودهم يف قاعات‬
‫الدراسة‪ .‬وجدت اإلجابة عندما دخلت املبنى الرئيس للجامعة‪ .‬كانت خطوط الرصف الصحي‬
‫قد انفجرت وأصبح الطابق األول من املبنى ال خم مستنق ًعا من الف الت اإلنسانية السائلة‪.‬‬
‫جب علينا أن نعرب هذا املستنقع حتى نصل إىل الدرج الذي سيوصلنا إىل مكتب‬
‫تو ّ‬
‫الربوفسور‪.‬‬
‫يف أيام النزايف املسلح بني أتبايف جامساخورديا واملعارضة يف ‪،1992–1991‬‬
‫ريا‪ .‬استطعت‬
‫تضرت تبلييس‪ ،‬ال سيام املباين الحكومية يف شاريف روستافي ‪ ،‬تض ًرا كب ً‬
‫رأي العني ما الذي فعله النزايف املسلح واالنهيار االقتصادي والتح ّول الصعب من‬
‫أن أرى َ‬
‫الشيوعية إىل الدميقراطية باملظهر املادي للمدينة‪ .‬عمليًّا‪ ،‬كانت البنية التحتية للمدينة يف‬
‫فوىض تامة‪ .‬كانت الشواريف مليئة بالحفر‪ ،‬وكانت الكهرباء تنقطع يف الليل يف بعض‬
‫املناطق ساعات طويلة بسبب نقص الوقود‪ .‬بدا يل أن كل مبنى يف تبلييس يحتاج إىل‬
‫إصالح‪ .‬قيل يل إنه يف شتاء عام ما‪ ،‬مل يكن عند املواطنني وسائل تدفئة نظامية‪ ،‬وهو ما‬
‫دفع الناس إىل تكسري األبواب أو النوافذ الخشبية لجريانهم‪ ،‬وأحيانا إىل تقطيع األشجار‪،‬‬
‫ليتدفؤوا‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬من أجل تثبيط الهجوم عىل أمالكهم‪ ،‬مل يصلح معظم الناس املظهر‬
‫الخارجي لبيوتهم‪ .‬كان منظ ًرا مفاج ًئا يل عندما دخلت ما بدا يل بي ًتا مخروبًا متا ًما‪ ،‬فوجدت‬
‫أن داخله م ء باألثاث العتيق الجميل‪ ،‬واللوحات القيمة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫عندما خ ّيم ظالم الليل عىل املدينة‪ ،‬بدت تبلييس جميلة ببساطة‪ .‬لكن يف الصباح‬
‫التايل‪ ،‬عندما عادت الشمس‪ ،‬بدا يل من جديد مقدار الضر الذي لحق بها‪ .‬مل يكن يف‬
‫املدينة محال ذات شبابيك م يئة‪ ،‬وال إشارات م يئة‪ .‬كان يف املدينة كلها إعالن واحد يف‬
‫دليال عىل أن الرأساملية كانت قد بدأت ببطء ملء‬
‫مركزها‪ :‬الفتة كوكا كوال كبرية‪ .‬كان هذا ً‬
‫الفراغ الذي تركته الشيوعية‪ .‬استغرق األمر عدة سنوات بعد هذه الرحلة األوىل‪ ،‬حتى أالحظ‬
‫ربا يف مظهر تبلييس‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬ظهرت عرشات اإلشارات امل يئة يف‬
‫ريا معت ً‬
‫تغ ً‬
‫الشواريف عندما نشأت بعض املشاريع الرتفيهية للكبار)‪ .‬لكن الناس كانوا مشغولني‬
‫بأعاملهم‪ .‬من املذهل كيف يتأقلم الناس مع املأساة‪ ،‬عىل األقل ظاهريًّا‪.‬‬
‫كانت عالمات النزايف حارضة يف أماكن أخرى‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬جذب انتباهي‬
‫مبارشة فندق إيفرييا‪ ،‬وهو مبنى عال يف مركز تبلييس يرشف عىل ساحة نُصب فيها متثال‬
‫القائد ابن القرن الثامن عرش امللك هرقل‪ .‬عىل الجهة األخرى من الساحة بناء أراه من أبشع‬
‫املباين املنصوبة يف العرص السوفييتي‪ .‬كان أهل تبلييس يسمونه «أذنا أندروبوف» ألن‬
‫املبنى يظهر كام لو أن له أذنني مينيني ضخمتني وأذنني يرسيني ضخمتني من اإلسمنت‪،‬‬
‫وألن القائد السوفييتي املتأخر يوري أندروبوف كان صاحب أذنني كبريتني حسب ما يقال)‪.‬‬
‫كان عىل كل نافذة من نوافذ الفندق أعداد كبرية من الكنزات والبناطيل والرشاشف ذات‬
‫فخام أصبح ممتلئًا إىل‬
‫ً‬ ‫األلوان املختلفة‪ ،‬معلقة لتته ّوى أو تنشف‪ .‬هذا الفندق الذي كان‬
‫ريا من ثالمثئة‬
‫سقفه بالنازحني الداخليني من أبخازيا–لكنه مع هذا مل يحت ن إال جز ًءا صغ ً‬
‫ألف الجئ يف جورجيا‪ .‬كان املبنى عالم ًة ضخمة عىل الفقر والعجز‪ ،‬ومذكّ ًرا مبا فعل الناس‬
‫بغريهم باسم الهوية‪ .‬تخيل أن تذهب إىل ساحة التاميز يف نيويورك‪ ،‬وتنظر إىل أحد مبانيها‬
‫ضخام يف علم يجسد إهانة شعبك‪ ،‬علم فيه ألوان ال ميكن أن تتجاهلها‬
‫ً‬ ‫الطويلة لرتى إطا ًرا‬
‫لشدة بريقها‪.‬‬
‫كنا مهتمني بفهم مشكلة الالجئني من وجهة نظر النازحني الداخليني الجورجيني‬
‫أنفسهم‪ .‬كنت قد رأيت عدة الفتات وإشارات تقول «فليعد الالجئون أدراجهم» يف عدة أماكن‬

‫‪26‬‬
‫ريا من مواطني املدينة كانوا يخافون أن‬
‫يف املدينة‪ .‬أزيلت هذه الالفتات يف النهاية‪ ،‬ولكن كث ً‬
‫يرسق الالجئون الجورجيون من أبخازيا فرص عملهم املحلية وأن يدمروا عاداتهم املوجودة‪.‬‬
‫مل نستطع أن نقابل أي الجئ يف فندق إيفرييا‪ ،‬ولكننا سمعنا عن مخيم الجئني آخر م ء‬
‫بالالجئني الجورجيني من أبخازيا‪ .‬كان هذا املخيم‪ ،‬حسب ما قيل لنا‪ ،‬يف منطقة منتجع‬
‫سابق يسمى «بحر تبلييس» عىل بعد نصف ساعة بالسيارة من مركز املدينة‪ .‬تذكر يوري‬
‫طفال»‪ .‬كان‬
‫املكان‪ .‬قال يل‪« :‬أعرف هناك بحرية صناعية جميلة‪ ،‬كنت أسبح فيها عندما كنت ً‬
‫بعض م يفينا الجورجيني قد عملوا سابقًا مع أطفال الجئني من بحر تبلييس‪ .‬أخذونا إىل‬
‫هنالك يف أحد األيام‪ ،‬والتقيت أرسة سأروي قصتها املش ّوقة يف الفصل‬
‫التايل‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ثالثة أجيال يف الصوف الذهبي‬ ‫‪2‬‬

‫يف الظهرية الصافية ليوم األحد ‪ 21‬مايو ‪ ،1998‬قادنا م يفونا الجورجيون‪ ،‬أنا ويوري‬
‫أوربانوفيتش واملدير املساعد ملركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين جاي أندرسون‬
‫طومسون‪ ،‬إىل بحر تبلييس‪ ،‬وهو خزان صناعي ضخم يف شامل تبلييس‪ .‬قيل لنا إن عىل‬
‫ساحل هذا الخزان ثالثة فنادق فارهة‪ ،‬تعود أيامها إىل أيام عز االتحاد السوفييتي حني كانت‬
‫ريا‪ .‬قيل لنا إن ثالثة آالف من الجورجيني النازحني داخل ًّيا‪ ،‬من أصل ثالمثئة ألف‪،‬‬
‫منتج ًعا شه ً‬
‫حضتنا للظروف املزدحمة الشديدة التي‬
‫ّ‬ ‫كانوا يقطنون هذه الفنادق‪ ،‬وهي معلومات‬
‫واجهناها هناك‪ .‬سنزور واح ًدا فقط من هذه الفنادق‪ ،‬هو أوكروس ساتسمييس‪ ،‬الذي يعني‬
‫بالعربية الصوف الذهبي‪ .‬من جهة‪ ،‬كان االسم مناسبًا ألن الباحثني يعتقدون أن البطل‬
‫اإلغريقي امليثولوجي جاسون وبحاروه وجدوا الصوف الذهبي األسطوري يف األرايض التي‬
‫تسمى اليوم جورجيا‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬كانت األساطري اإلغريقية تصف جورجيا بأنها بلد‬
‫هائال‪ ،‬لكن جورجيا الحديثة‪،‬‬
‫ثري ج ًّدا تفوق يف مهارته يف العمل باملعادن عىل أوروبا تف ّوقًا ً‬
‫وال سيام يف فنادق بحر تبلييس‪ ،‬كانت مكانًا مختلفًا متا ًما‪.‬‬
‫بعد أن قدنا إىل مركز تبلييس ثالثني دقيقة تقريبًا‪ ،‬انعطفت السيارة عند زاوية وبدأت‬
‫تنحدر من ه بة‪ .‬عندها رأيت بحر تبلييس‪ .‬بدت مياه الخزان زرقاء وهادئة‪ ،‬وتفهمت‬
‫طفال بالسباحة فيها‪ .‬ثم رأيت بنا ًء بدا من بعيد فندقًا يف املنتجع‪.‬‬
‫استمتايف يوري عندما كان ً‬
‫عندما اقرتبنا منه‪ ،‬تبني أنه مكان مهدوم‪ ،‬ال يظهر إال الفقر واإلهامل‪ .‬رأينا هنالك إشارة‬
‫معدنية دائرية عىل الحائط الرشقي للبناء‪ ،‬كُتب عليها «أوكروس ساتسمييس» باألبجدية‬
‫الجورجية‪ .‬بدت اإلشارة كأنها مأخوذة من مكان آخر يف هذا البناء ذي الطوابق الثامنية‪،‬‬
‫بدت كأنها رمز للرثاء والرفاهية يف بناء ذهب مجده‪ .‬عربنا الحائط الرشقي ورك ّنا السيارة‬
‫زائال‪ ،‬مل يرتك خلفه إال فرجة ضخمة يف‬
‫يف ساحة السيارات أمام املبنى‪ .‬كان الباب األمامي ً‬
‫الحائط‪ .‬كانت النوافذ مكرسة‪ ،‬وكان البناء كله خال ًيا من الطالء‪ .‬أما البهو الكبري الذي كان‬

‫‪28‬‬
‫بعد املدخل فكان خال ًيا إال من ب عة أطفال يلعبون‪ .‬عىل الجانب األيرس من البهو كان درج‬
‫يؤدي إىل الطوابق العليا‪ .‬كانت الدرجات متضرة وكان الدرابزين غري ثابت‪.‬‬
‫بني ‪ 1989‬و‪ 1994‬يف جمهورية جورجيا‪ ،‬انحدر اإلنتاج املادي الصايف بني ‪70‬‬
‫و‪ 80‬باملئة‪ ،‬وهو واحد من أشد االنهيارات يف الجمهوريات السوفييتية السابقة‪ .‬يف أوائل‬
‫تسعينيات القرن العرشين‪ ،‬انحدرت العاملة قرابة ‪ 30‬باملئة‪ ،‬ويف ربيع عام ‪ 1993‬بلغت‬
‫نسبة البطالة املعلنة ‪ 8.4‬باملئة‪ .‬أما األسعار فاستمر صعودها‪ .‬يف عام ‪ 1992‬ارتفعت‬
‫األسعار باملتوسط ‪ 900‬باملئة‪ .‬يف عام ‪ 1994‬بلغ الت خم الشهري ‪ 60‬باملئة‪ .‬يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬كان األستاذ الجامعي يف الجامعة الحكومية يجني ما يساوي ‪ 5‬دوالرات كل شهر‪،‬‬
‫مع أن أمني رس يف رشكة خاصة كان يجني أكرث – نحو ‪ 30‬دوال ًرا يف الشهر‪ .‬يف الوقت‬
‫الذي كانت فيه األغلبية العظمى من الشعب تناضل من أجل البقاء‪ ،‬رأى الجورجيون الالجئني‬
‫عبئًا عىل االقتصاد‪ .‬أما الالجئون فكانوا يتوهمون أنهم سيعودون إىل حياتهم األف ل بكثري‬
‫يف أبخازيا‪.‬‬
‫بعد هدنة عام ‪ 1994‬يف أبخازيا‪ ،‬بدأ اقتصاد جورجيا يتحسن‪ .‬قلل برنامج استقرار‬
‫اقتصادي عجز امليزانية من ‪ 26‬باملئة من الناتج اإلجاميل املح يف ‪ 1993‬إىل أربعة باملئة‬
‫فقط يف عام ‪ .1997‬هكذا‪ ،‬اختفت تقريبًا الفتات «عودوا أدراجكم أيها الالجئون»‪ ،‬لكن‬
‫االقتصاد كان مل يزل هشًّ ا‪ ،‬وكانت بعض االشتباكات تجري عىل الحدود بني جورجيا‬
‫وأبخازيا‪ .‬تخىل بعض الناس عن أملهم بالعودة إىل غايل‪ .‬نظم الالجئون األبخازيون‬
‫أنفسهم‪ ،‬مبوافقة حكومة شيفردنادزه يف قوة عسكرية رديفة‪ .‬عندما كانت االشتباكات‬
‫تندلع كانوا يحاربون األبخازيني عدة أيام أو أسابيع‪ ،‬وتنتج عن كل حرب إصابات‪ .‬مل تذكر‬
‫نيويورك تاميز أو واشنطن بوست هذه االشتباكات‪ ،‬لكنها كانت ً‬
‫حتام متنع من تعايف جراح‬
‫الجورجيني –ال سيام النازحني داخل ًّيا منهم– واألبخازيني‪ .‬يف عام ‪ 1998‬كان القتال‬
‫املتجدد قد أعاد الصدمة إىل النازحني داخل ًّيا مرة أخرى‪ ،‬ويف األحد ‪ 21‬مايو من ذلك العام‪،‬‬

‫‪29‬‬
‫كانت األنشطة التي شهدناها يف ساحة سيارات الصوف الذهبي تعكس هذه الجراح‬
‫املفتوحة‪.‬‬
‫كان أمام املدخل املهدوم للفندق عربتان عسكريتان‪ .‬وكان إىل جانب السيارتني نحو‬
‫رجال جا ًّدا يبلغ‬
‫مثانية رجال يف أزيائهم العسكرية الرديفة‪ .‬كان قائد مجموعة القتال هذه ً‬
‫طوله خمسة أقدام‪ ،‬وكان حسن البنية قويًّا‪ .‬كان وجهه املتجعد يبدي شيئًا من الحكمة‬
‫والتصميم‪ُ .‬ع ّرف إلينا الرجل باسم ماموكا كاشافارا‪ .‬مبساعدة املرتجمني قال لنا إنه كان‬
‫ريا‪ ،‬لكنه أخذ بع ً ا من وقته ليتحدث إلينا‪ ،‬لذا ذهبنا إىل غرفة صغرية عىل‬
‫مشغوال كث ً‬
‫ً‬
‫الجانب األمين من البهو الذي خلف املدخل‪ .‬قال لنا ماموكا إنه ابن خمسة وأربعني عا ًما‪ ،‬من‬
‫مدينة غاغرا يف أبخازيا قرب الحدود الروسية‪ ،‬شاميل إقليم غايل‪ .‬كان ماموكا العب كرة‬
‫قدم معروفًا‪ ،‬وكان إىل جانب ذلك رائ ًدا يف «الرشطة» األبخازية‪ ،‬وهي قوة أمن داخلية يف‬
‫أبخازيا كانت يف العهد السوفييتي‪ .‬كان الرجل مع بعض الشباب يف ساحة السيارات‪ ،‬ومع‬
‫كثري من النازحني الداخليني من الفنادق األخرى يف بحر تبلييس وغريه‪ ،‬يجهزون للذهاب‬
‫إىل الحدود والقتال‪ ،‬كام فعلوا يف السابق كلام اندلع قتال عند الحدود‪ .‬مل يعرف ماموكا‬
‫جم يف غايل –وهو إقليم يبعد ‪ 7‬أو ‪ 8‬ساعات بالسيارة–‪ ،‬لكن هذا‬
‫شخصيًّا أي جورجي مها َ‬
‫مل يهم‪ .‬كان ماموكا جاه ًزا ليفتدي الق ية بحياته‪.‬‬
‫حا داخليًّا كان له ولعائلته بيت يف غاغرا التي‬
‫قال لنا ماموكا أنه قبل أن يصبح ناز ً‬
‫يعيش فيها جورجيون إثنيون وأرمنيون إثنيون‪ .‬كان له كثري من األصدقاء األبخازيني يف‬
‫غاغرا وكان ال ميانع األبخازيني اإلثنيني‪ .‬تذكر الرجل بحنني كيف فاز فريق تبلييس عام‬
‫‪ 1981‬كأس الكؤوس األوروبية‪ .‬كان يشاهد املباراة يف منزل صديق أبخازي وكانا يرشبان‬
‫الجعة م ًعا ويغنيان أغاين جورجية‪ .‬لكن األمور اختلفت اخن‪ .‬لقد أخرجه األبخازيون وأهله‬
‫من منزلهم ليك مينحوا أبخازيا هوية أبخازية صافية‪ .‬كان يعلم أن األبخازيني مستعدون‬
‫لقتله باسم الهوية‪ ،‬وأنه هو مستعد لقتلهم باسم الهوية أي ً ا‪ ،‬وإن كان ال يرجو ذلك‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫رشح لنا ماموكا أنه يف أيام االتحاد السوفييتي‪ ،‬كان يف أبخازيا ثالث لغات‪ :‬الروسية‬
‫واألبخازية والجورجية‪ .‬عندما كان ماموكا شابًّا ذهب إىل مدرسة جورجية روسية‪ ،‬ثم عندما‬
‫بلغ الرشد الحظ التمييز الذي ميارسه األبخازيون يف غاغرا بحق الجورجيني الذين يعملون‬
‫يف قسم الرشطة‪ .‬قال لنا إنه كان من الصعب الرتقي يف العمل إذا مل يكن املرء أبخازيًّا‪ .‬مع‬
‫اقرتاب نهاية االتحاد السوفييتي وتصاعد التوترات اإلثنية‪ ،‬سمع بعض األبخازيني يقولون‪،‬‬
‫«سيأيت اليوم الذي نخرجكم فيه من هذه األرض»‪ .‬لقد «اشت ّم» الحرب قبل وقوعها‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1992‬بعد انداليف النزايف اإلثني‪ ،‬أحرق األبخازيون البيت الذي استغرق بناؤه‬
‫من ماموكا عرشين عا ًما‪ .‬كان البيت مبن ًّيا يف غاغرا يف الحي نفسه الذي كان فيه بيت أبيه‪.‬‬
‫كان أبوه ضابط رشطة وكان قد تويف عندما كان ماموكا ابن تسع سنوات‪ .‬أما أمه‪ ،‬التي مل‬
‫يبق عندها كثري من املال‪ ،‬فكانت تعمل وتجتهد يف طفولة ماموكا حتى توفر له املأكل‬
‫واملرشب‪ .‬بعد أن خرج من غاغرا‪ ،‬كان أشد ما يؤمل ماموكا أن أمه بقيت هناك‪ .‬يف النهاية‪،‬‬
‫أصبحت أمه أي ً ا نازحة وتوفيت يف تبلييس‪ .‬فهمت أن ماموكا يعتقد أن األبخازيني هم‬
‫املسؤولون عن وفاة أمه‪ .‬لقد طلب إليهم أن يحموها وخانوه‪.‬‬
‫أخربنا ماموكا أن أرسته –زوجته دايل وأبناءهم الثالثة ووالدي زوجته– كغريهم من‬
‫الناس يف فنادق بحر تبلييس الثالثة‪ ،‬كانوا نازحني داخليني قبل أن تندلع الحرب يف إقليم‬
‫دايل‪ .‬لذا‪ ،‬كان بعض الناس يراهم أقل صدمة من الالجئني الذين غادروا أبخازيا وسط‬
‫الحرب الحقيقية‪ .‬مع هذا‪ ،‬شارك ماموكا يف الحرب ورأى أشياء ال تتصور‪ ،‬منها تقطيع‬
‫األعداء للجثث‪ .‬قال‪« :‬سبعون عا ًما من الحكم السوفييتي قطعتني عن أي إميان عميق‬
‫بالدين»‪ ،‬ثم أضاف‪« ،‬ال أستطيع أن أجد إجابات يف الدين‪ .‬ال أرى كوابيس‪ ،‬لكني متفاجئ‬
‫من أين ال أرى كوابيس‪ .‬أنا ال أتكلم عن الفظائع التي رأيتها»‪ .‬يف عام ‪ 1993‬عاىن ماموكا‬
‫من جرح شديد يف الصدر ومن إصابة يف الرأس‪ ،‬ليتعاىف بعد ذلك‪ .‬ثم ان م إىل أرسته يف‬
‫فندق الصوف الذهبي‪ .‬كان ملاموكا وظيفة يف رشطة تبلييس‪ ،‬جعلته يرى نفسه أكرث حظًّا‬

‫‪31‬‬
‫من بقية الالجئني الذين كان معظمهم بال عمل‪ .‬فهمت أن املعونة التي تقدمها الحكومة‬
‫لالجئني تبلغ باإلجامل ‪ 5‬دوالرات للفرد يف الشهر‪.‬‬
‫كان ماموكا مرتد ًدا يف أن يبوح لنا باملزيد‪ ،‬لكن حركات يديه كانت دالّة عىل أنه ممتلئ‬
‫باملشاعر‪ .‬ما الذي كنت أتوقعه غري هذا من رجل يتحض للذهاب للحرب؟ كان الحفاظ عىل‬
‫سيطرته عىل نفسه وعىل الذين سيقودهم أم ًرا أساس ًّيا‪ .‬ال يغادرين الذهول كل مرة أتذكر‬
‫هذا اللقاء‪ ،‬لقد وافق ماموكا أن يتحدث إىل غرباء وهو يف طريقه إىل «حامية الجورجيني‬
‫مستعجال يريد املغادرة‪ ،‬وباعتبار الظروف املحيطة‪ ،‬مل نكن نتوقع من‬
‫ً‬ ‫يف إقليم غايل»‪ .‬كان‬
‫هذا الرجل املهيب أن يتيح لنا نظ ًرا أعمق يف عامله الداخ ‪ .‬شكرنا الرجل‪ ،‬ليعود وين م إىل‬
‫الرجال الذين اجتمعوا أمام فندق الصوف الذهبي عىل طريقهم إىل إقليم غايل‪ .‬كان الرجال‬
‫–وكلهم أصغر من ماموكا– ينظرون إليه وينتظرون منه اإلرشاد والتوجيه‪ .‬كان ماموكا هو‬
‫القائد‪.‬‬
‫شاهدت بعض النسوة يف ساحة السيارات مغادرة ماموكا ورجاله‪ .‬الحظت من بني‬
‫النساء امرأة نحيلة ذات برشة جميلة وشعر أصهب قصري‪ .‬عرفت بعد ذلك أنها مرغالنية‪،‬‬
‫من قبيلة املرغالنيني‪ ،‬وهي قبلية جورجية من منطقة غاغرا يتمتع أع اؤها عادة بشعر‬
‫أحمر)‪ .‬كانت املرأة جميلة‪ ،‬لكنها بدت كأنها تحمل عبئًا خفيًّا‪ .‬قيل يل إنها دايل‪ ،‬زوجة‬
‫ماموكا‪ .‬عندما ُع ّرفت املرأة إلينا استطاعت أن تبتسم وتحافظ عىل لطف املعاملة‪ .‬لكنني‬
‫شعرت بقلق كبري فيها‪ .‬كانت ال تنفك تقول‪« ،‬ماذا أستطيع أن أفعل؟ ابني األكرب يريد كذلك‬
‫أن يذهب ويحارب!»‪ .‬ثم أضافت أنها هي أي ً ا تود أن تذهب إىل إقليم غايل وأنها ترجو لو‬
‫كانوا يسمحون لها‪ .‬مل يت ح يل سبب إرادتها للذهاب إىل منطقة حرب‪ .‬هل ألنها وطنية‪،‬‬
‫أم خوفًا من إصابة زوجها وابنها عىل الطريق؟ أم لقلق الفراق‪ ،‬أم اجتمعت عليها كل هذه‬
‫األسباب؟ رافقتنا دايل إىل الغرفة التي تكلمنا فيها إىل زوجها من قبل وأخربتنا قصتها‪.‬‬
‫ولدت دايل مثل زوجها يف غاغرا ألرسة مثقفة‪ .‬كانت أكرب إخوتها الثالثة‪ ،‬وكان أبوها‬
‫نودار خندادزه صحف ًّيا معروفًا نرش كت ًبا كثرية‪ .‬ولدت دايل يف حي جورجي يف غاغرا‬

‫‪32‬‬
‫ودرست يف مدرسة جورجية هناك‪ 8.‬كان أبواها صارمني‪ ،‬فلم تكن تتجول خارج الحي‪ ،‬لذلك‬
‫مل تجمعها باألبخازيني اإلثنيني أي تجربة مهمة نفس ًّيا يف طفولتها‪ .‬أصبحت دايل بعد ذلك‬
‫مدرسة‪ ،‬ثم بعد زواج أول قصري‪ ،‬تزوجت بطل كرة القدم املشهور ماموكا‪ .‬كانت دايل واعية‬
‫ج ًّدا باالستثامر العاطفي الذي ك ّرسه ماموكا لبناء بيتهم يف غاغرا‪ ،‬بيتهم الذي تحبه‪.‬‬
‫يف سبعينيات القرن العرشين‪ ،‬شعرت دايل بوجود التوترات اإلثنية‪ .‬لقد جاء‬
‫مسؤوال سوفييت ًّيا إىل أبخازيا لتهدئة األمور‪ ،‬ووعد‬
‫ً‬ ‫شيفردنادزه نفسه‪ ،‬الذي كان حينها‬
‫مبعاقبة الذين ي طهدون اخخرين‪ .‬استمرت التوترات رغم هذا‪ .‬انقسم اتحاد الكتاب‪ ،‬الذي‬
‫كان أبو دايل ع ًوا فيه‪ ،‬إىل مجموعة جورجية ومجموعة أبخازية‪ ،‬وافتُتحت جامعة أبخازية‬
‫جديدة ومحطة تلفزيون‪ .‬استطايف األبخازيون أن يظهروا والءهم لهوية جامعتهم الكبرية‬
‫برصاحة أكرب يف االتحاد السوفييتي‪ .‬يف عام ‪ ،1979‬كانت دايل مد ّرسة يف مدرسة كان‬
‫مديرها أبخازيًّا‪ .‬أمر املدير بجمع كل الكتب املكتوبة باللغة الجورجية وحرقها‪ ،‬حسب حديث‬
‫دايل‪ .‬قالت دايل إن املدير كان يفعل هذا تطبيقًا إلرادة األبخازيني اإلثنيني أصحاب املناصب‬
‫الحكومية العليا يف ذلك الجزء من االتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫تذكرت دايل اليوم الذي أصبحت فيه هي وأبناؤها نازحني داخليني‪ .‬كان ‪ 20‬سبتمرب‬
‫‪ ،1992‬قبل خمس سنوات وتسعة أشهر من لقايئ بها أول مرة‪ .‬سقطت غاغرا يف أكتوبر‬
‫‪ .1992‬دفع ماموكا‪ ،‬الذي كان قد ذهب إىل الحرب‪ ،‬دايل واألطفال إىل الهرب من غاغرا قبل‬
‫أن تسوء الحرب أكرث‪ .‬كانت مروحية جورجية يقودها طيار أوكراين تنقل الجورجيني من‬
‫املدينة‪ .‬كان الطيار يعرف ماموكا لذا وافق عىل نقل دايل واألطفال إىل بر األمان‪ .‬تذكر دايل‬
‫أنه مل يكن أمامها إال خمسة عرش دقيقة لتجهز للمغادرة‪ .‬مل يكف الوقت لتجمع حليها حتى‪.‬‬
‫بقي رك ها مع أبنائها –الذين كان أصغرهم ابن أحد عرش عا ًما– إىل ملعب كرة القدم الذي‬
‫حطّت فيه املروحية‪ ،‬ورحلتهم إىل سوخومي‪ ،‬واض ًحا يف ذاكرة دايل‪ .‬عندما كانوا يرك ون‬
‫إىل ملعب كرة القدم رأوا سيارات تحرتق وجثثًا‪ .‬قالت دايل‪« :‬قُتل ناس كثريون ج ًّدا‪ ،‬الحمد‬
‫لله أن استطعنا النجاة»‪ .‬يف سوخومي‪ ،‬عاصمة أبخازيا‪ ،‬كان املساعدة متاحة ألخذ‬

‫‪33‬‬
‫الجورجيني الهاربني إىل بحر تبلييس اخمن‪ .‬أما ماموكا‪ ،‬الذي بقي يف غاغرا فظل يحارب‬
‫مع إخوته الجورجيني إىل أن عاد ليجتمع بأرسته‪.‬‬
‫بعد أن نقلت املروحية دايل وأطفالها إىل بر األمان‪ ،‬وهي يف طريقها إيابًا إىل غاغرا‪،‬‬
‫أصيبت الطائرة وقُتل الطيار األوكراين‪ .‬عرفت بعد ذلك األثر النفيس لهذا الحادث عىل نفسية‬
‫دايل‪ ،‬الذي سأصفه يف الفصل التايل‪ .‬يف حديثي األول مع دايل‪ ،‬أشارت إىل أن أهم أحداث‬
‫هروبهم كانت قرارها الواعي بعدم أخذ جواز سفرها الداخ معها‪ .‬كام ذكرت من قبل‪ ،‬كان‬
‫يف أيام االتحاد السوفييتي لكل فرد جواز سفر داخ تكتَب عليه إثنيته‪ .‬خافت دايل أن‬
‫يعتقلها األبخازيون ويعرفوا من جوازها أنها بنت نودار خندادزه‪ .‬كان أبو دايل منخرطًا يف‬
‫االحتجاج عىل معاملة الجورجيني يف أبخازيا ويف تعزيز املشاعر الوطنية بني الجورجيني‬
‫فيها‪ .‬كان خندادزه يف الحقيقة مختبئًا وكانت دايل تعتقد أن األبخازيني كانوا يبحثون عنه‬
‫رجال جورجيًّا مسنًّا ظنوا أنه أبوها‪ ،‬لكنهم أطلقوا رساحه‬
‫قبل أن تهرب‪ .‬وجد األبخازيون مرة ً‬
‫عندما اكتشفوا خطأهم‪ .‬ومع أن اسم زواج دايل كاشافارا كان هو املذكور يف جواز سفرها‪،‬‬
‫فقد قالت إن جميع الناس يف غاغرا يعرفون أن زوجة ماموكا العب الكرة الشهري هي بنت‬
‫خندادزه‪.‬‬
‫ريا عن جواز سفرها‬ ‫سؤاال يف لقايئ األول مع دايل‪ :‬ملاذا تحدثت كث ً‬
‫ً‬ ‫كنت أضمر‬
‫الداخ الذي تركته وراءها؟ ثم أدركت فجأة أن ترك جوازها كان يعني رمزيًّا ترك هويتها –‬
‫ريا‬
‫هويتها هي املرأة الجورجية التي تربت يف غاغرا مع أرستها وتزوجت نجم كرة قدم شه ً‬
‫وعاشت يف بيت قىض زوجها نصف حياته وهو يبنيه فوق أرض ورثها من أبيه‪ .‬قالت دايل‬
‫إنها شعرت بانعدام هويتها عندما أصبحت الجئة‪ ،‬وأن هذا الشعور أورثها شعو ًرا بالعار‪.‬‬
‫أضافت‪« ،‬عندما أذهب إىل مرصف يف تبلييس‪ ،‬يسألونني عن هويتي‪ .‬أقول لهم اسمي فال‬
‫يصدقونني»‪ .‬قالت يل إنها لو كان عندها «هوية» لكانت مستحقة للمعونة املالية من صناديق‬
‫النازحني الداخليني‪ .‬حتى تثبت دايل هويتها وتحصل عىل بطاقة تعريف مؤقتة‪ ،‬كان عليها‬
‫أن تذهب إىل محكمة يف تبلييس‪ ،‬لكنها ال تزال ترفض أن تفعل هذا‪ .‬قالت إنها تشعر بالعار‬

‫‪34‬‬
‫من إخبار الناس أنها بال هوية‪ .‬شعرت فجأة أن شيئًا نفس ًّيا داخل ًّيا فيها هو الذي منعها من‬
‫حتام تحتاج إىل أي مال ميكنها أن تحصل‬
‫الذهاب إىل املحكمة‪ .‬هي نازحة داخلية‪ ،‬لذلك فهي ً‬
‫عليه‪ ،‬لكن الربح االقتصادي ثانوي أمام رغبتها يف التمسك بهويتها ال ائعة‪ .‬إن هذه الهوية‬
‫هي التي كانت سبب طردها وأرستها من غاغرا عىل يد األبخازيني‪.‬‬
‫مل تُهن دايل «هويتها الغاغرية»‪ ،‬التي سببت لها كل هذه الصعاب‪ ،‬بل متسكت بها‬
‫متسكًا قويًّا‪ .‬لقد رأيت هذه الظاهرة من قبل يف العامل‪ ،‬كام يف فلسطني‪ ،‬حيث أُذلّت‬
‫مجموعات عرقية ووضعت تحت ال غط‪ .‬من املفارقة أن هذا اإلذالل وغريه من الصعوبات‬
‫يزيد من استثامر ال حايا يف هويات جامعاتهم الكبرية ‪ .‬عرفت من دايل أن كثريين غريها‬
‫يف منطقة بحر تبلييس ال ميلكون جوا ًزا داخل ًّيا وال هوية‪ .‬كلهم‪ ،‬بعبارة دايل‪ ،‬وجدوا الذهاب‬
‫‪9‬‬
‫«مذال ج ًّدا»‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫إىل املحكمة للحصول عىل هويات «جديدة»‬
‫عندما التقيت ماموكا ودايل‪ ،‬كان أكرب أبنائهم يف البيت فالريي ابن اثنني وعرشين‬
‫عا ًما‪ .‬وكان عندهم ابن آخر هو أليكو‪ ،‬عمره مثانية عرش‪ ،‬وابنتهم تامونا عمرها سبعة عرش‪.‬‬
‫مل أر األطفال يف ساحة السيارات أو يف داخل الفندق‪ ،‬لكن دايل قالت إنها تقيض بع ً ا من‬
‫وقتها تشاهد األطفال وهم يتحاربون لعبًا‪ .‬مل يفاجئني هذا ألنني شاهدت هذه الظاهرة من‬
‫مثال‪ ،‬حيث كان الوضع أشبه‬
‫قبل يف مكان آخر–يف الجيب الرتيك يف قربص‪ ،‬نيكوسيا‪ً ،‬‬
‫بالحرب عام ‪ 10 .1968‬يف أيام الحرب وبعيدها‪ ،‬يصنع األطفال أسلحتهم الرمزية وميثلون‬
‫الحرب لع ًبا‪ .‬هكذا يحاولون أن يتحكموا بشعورهم بالعجز؛ بصبحون «جنو ًدا» ليحاولوا قلب‬
‫السلبية إىل قوة والتحكم بقلقهم‪ .‬قالت دايل إنها مل تكن تحب أن تشاهد األطفال وهم‬
‫يتحاربون‪ .‬مل تكن تحب أن تتذكر كيف يقتل الناس الناس‪ .‬وكاملعروف يف كثري من‬
‫الراشدين املصدومني‪ ،‬مل تتكلم دايل وال ماموكا عن مشاعرهام بشأن أحداث أبخازيا وكانا‬
‫صامتني بشأن صدمتهام النفسية أمام أطفالهام‪ .‬لكن يف أحد األيام كانت دايل تشاهد محطة‬
‫روسية يف التلفزيون ورأت منزل عائلتها يف غاغرا يحرتق عىل يد األبخازيني‪ .‬عندما رأت‬
‫كلب األرسة األسود تشاريل‪ ،‬يتجول بني األنقاض‪ ،‬انهارت وبكت حتى أنهكها البكاء‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫خالفًا لزوجها‪ ،‬قالت دايل إنها شاهدت كوابيس كثرية بشأن ما حدث ألرستها يف‬
‫أبخازيا‪ .‬ثم أخربتنا بحلم واضح كانت قد رأته قبل ليلتني‪ ،‬عندما قال لها ماموكا إنه سيذهب‬
‫مرة أخرى إىل الحرب‪ .‬يف الحلم كانت دايل يف غاغرا تزور امرأة تقطن حيهم القديم‪ ،‬يف‬
‫جزء من املدينة تعايش فيه الجورجيون اإلثنيون واألرمن اإلثنيون‪ .‬كانت املرأة يف الحلم‬
‫أرمنية‪ .‬كانت السيدة تبيك ألن زوجها –وهو طبيب أسنان أرمني– قُتل رم ًيا بالرصاص‪.‬‬
‫ثم أخربتني دايل بقصة هذا الطبيب‪ .‬كان واح ًدا من أعز أصدقاء ماموكا‪ .‬بعد اشتداد‬
‫التوترات يف غاغرا‪ ،‬اختطف األبخازيون يف أحد األيام طبيب األسنان األرمني وهو مييش‬
‫يف الحي‪ ،‬وأجربوه أن يركب يف سيارة‪ ،‬وأخذوه‪ .‬شهد هذا الحدث كثري من الناس‪ .‬عرفت‬
‫دايل وزوجها بعد ذلك أن األبخازيني أجربوا الطبيب أن يقاتل معهم ويقتل جورجيني‪ .‬يف‬
‫منامها‪ ،‬مل تعرف دايل كيف تشعر بشأن موت الطبيب‪ .‬كانت حزينة ملوت صديق قديم‬
‫لزوجها‪ ،‬لكنها كانت تظن أي ً ا أنها يجب أال تعبأ ملوته‪ ،‬ألنه كان يقتل الجورجيني يف‬
‫النهاية‪ .‬أفاقت دايل يف تلك الليلة متحرية‪.‬‬
‫بحكم عم يف التحليل النفيس‪ ،‬اعتدت ساميف أحالم الذين أحللهم‪ .‬لكن الناس عىل‬
‫رسير عياديت كانوا يكسبون أحالمهم «معاين حرة» تساعدين عىل فهم املعاين الخفية التي‬
‫تعرب عنها األحالم‪ .‬أنا حذر من االهتامم الكبري باملحتوى السطحي –الذي يسميه املحللون‬
‫النفسيون «الظاهر»– للحلم‪ .‬لكن املحلل النفيس الخبري يستطيع أحيانًا أن يخمن معنى‬
‫املحتوى الظاهر للحلم‪ .‬عندما أخربتني دايل بحلمها‪ ،‬اعتقدت أنها كانت تفرض مأزقها‬
‫املتوقع عىل اخخرين‪ .‬حلمت دايل بأن امرأة غريها تبيك مقتل زوجها‪ ،‬لكنها يف الحقيقة‬
‫هي التي تخاف أن ميوت ماموكا قري ًبا يف الحرب‪ .‬كانت دايل يف الوقت نفسه غاضبة من‬
‫ماموكا عىل مستوى غري وايف‪ ،‬ألنه جعلها قلقة بسبب انخراطه يف الحرب‪ .‬مل أرد أن أقول ما‬
‫فرست حلمها بنفسها وأخربتني أشياء‬
‫خطر ببايل لدايل‪ ،‬لكنني تفاجأت وسعدت عندما ّ‬
‫مشابهة ألفكاري‪ .‬كنت أتعامل مع امرأة ذكية ج ًّدا وذات عقل سايكولوجي‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫بعد يومني عدنا إىل فندق الصوف الذهبي‪ .‬التقتنا دايل عند املدخل وأدخلتنا إىل‬
‫شقتها يف الطابق السادس عىل الجانب الغريب من البناء‪ .‬صعدنا بحذر عىل الدرج املعطل‪.‬‬
‫من الداخل‪ ،‬كان مخطط الطوابق يف الفندق كأي فندق آخر – ممرات طويلة تصطف فيها‬
‫األبواب عىل الجهتني‪ .‬لكن التشابه ينتهي هنا‪ .‬كانت املمرات يف كل طابق مليئة بأشياء ال‬
‫تحىص –آنية قدمية ومقال ومواقد وجرار ذات أحجام مختلفة وعوارض خشبية وحاويات‬
‫معدنية‪ ،‬وهلم ج ًّرا‪.‬‬
‫مل يفاجئني املنظر‪ ،‬فقد زرت من قبل أماكن لالجئني‪ .‬يتقهقر الالجئون ويصنعون ما‬
‫يسميه املحللون النفسيون عامل ًا «شفه ًّيا أو رشج ًّيا أو كليهام»‪ .‬يجمع الالجئون األشياء كام‬
‫لو أنهم يريدون التأكد من أن عندهم ما يكفي من «الحليب» ليوم ماطر يف املستقبل‪،‬‬
‫ويكومون هذه األشياء كام لو كانوا يكومون ف الت برشية ليعربوا عن غ بهم العاجز‬
‫ويراه العامل‪ .‬قد يكون لهذه األشياء استعامل معني‪ ،‬لكن سكان فندق الصوف الذهبي مل‬
‫يكن عندهم طب ًعا ما يكفي من املال لتنظيف املكان‪ .‬اعتقدت أنهم كانوا غاضبني وأنهم‬
‫أفسدوا املكان الذي يعيشون فيه كام لو أنهم يرسلون إشارة إىل «األ ّم األرض»‪ ،‬التي مل تعد‬
‫‪11‬‬
‫تعتني بهم‪.‬‬
‫حا عاديًّا يف الفندق فيه مطبخ‬
‫كانت الشقة التي تقطنها دايل وزوجها وأطفالها جنا ً‬
‫صغري وحامم وبعض األثاث الفندقي‪ .‬مساحة صغرية هي غرفة املعيشة والطعام‪ .‬فيها‬
‫طاولة خشبية قدمية‪ ،‬وخزانة‪ ،‬وثالثة كرايس‪ ،‬تبدو خالية إال من هذه األشياء‪ .‬عىل الجدار‬
‫صورة مثبتة ليسويف‪ .‬تفصل هذه الغرفة عن غرفة نوم الزوجني بطانية معلقة متدلية من‬
‫السقف‪ .‬يف غرفة نوم الزوجني رسير واحد‪ ،‬هو يف الحقيقة رسير نقال‪ .‬عىل الجانب اخخر‬
‫من غرفة املعيشة باب يُفتح عىل مطبخ صغري ورشفة كانت تتبعرث فيها أشياء متعددة‪ .‬من‬
‫النافذة الكبرية يف غرفة املعيشة‪ ،‬خلف أغراض الرشفة‪ ،‬استطعت أن أرى بحر تبلييس‪ .‬لعل‬
‫حتام ال يكفي لخمسة أشخاص‬
‫حا مف ًال يف أيام عمل الفندق‪ ،‬لكنه ً‬
‫أن هذا الجناح كان جنا ً‬

‫‪37‬‬
‫أن يناموا فيه براحتهم‪ .‬عرفت بعد ذلك أن والدي دايل يسكنان يف شقة يف الطابق السابع‬
‫فوق التي كنا نزورها‪ ،‬وفهمت أن األطفال ينامون عادة يف شقة الجدين‪.‬‬
‫الفريد يف هذه الشقة كان وجود يشء مثني ج ًّدا‪ :‬هاتف قديم أصفر باهت عىل‬
‫الطاولة الخشبية واحده‪.‬قالت دايل إن هذا الهاتف هو الوحيد للنازحني الثالثة آالف الذين‬
‫يقطنون يف فنادق بحر تبلييس‪ .‬عرفت مبارشة حينها أن ماموكا ودايل هام قائدا مجتمع‬
‫الالجئني هذا‪ .‬كانت غرفة معيشتهم أشبه بغرفة عمليات‪ .‬عندما كان ماموكا وغريه من‬
‫املقاتلني يحاربون يف حروبهم الصغرية‪ ،‬كانت زوجاتهم يأتني إىل شقة ماموكا ودايل‬
‫ليتصلن ويعرفن أخبار أزواجهن‪ .‬قالت دايل إنها كانت مشغولة ج ًّدا مع بقية الزوجات منذ‬
‫أن رأيناها آخر مرة وأنها مل تنم البارحة‪ .‬كان التعب ظاه ًرا عليها‪ ،‬لكنها أرصت أن تقدم لنا‬
‫شايًا تركيًّا‪ ،‬مع بعض البسكويت‪ .‬من تراث األرس الجورجية تقديم القهوة والطعام‬
‫لل يوف‪ .‬حتى تحت هذه الظروف املتوترة‪ ،‬مل تتخل دايل عن هذه العادة‪ ،‬لكننا جعلنا‬
‫زيارتنا قصرية‪.‬‬
‫استمرت الحرب أقل من أسبويف‪ ،‬لكنها عواقبها كانت وخيمة عىل الجورجيني‪ .‬عرفنا‬
‫هذه العواقب من زوجني من م يفينا الجورجيني‪ ،‬كالهام عامل نفس‪ ،‬كانا قد ذهبا إىل‬
‫زوغديدي‪ ،‬عىل الجانب الجورجي من إقليم غايل‪ ،‬ليقدما املعونة ملوجة جديدة من الالجئني‪.‬‬
‫كانت هذه الصدمة الثانية لكثري منهم‪ .‬لقد أجربوا من قبل عىل مغادرة إقليم غايل‪ ،‬لكن‬
‫ُسمح لهم بعد ذلك أن يعودوا إىل بيوتهم‪ ،‬واليوم عادوا الجئني مرة أخرى‪ .‬كان احتامل‬
‫رأسا عىل عقب‪ .‬أُسكن‬
‫ضئيال‪ ،‬وقلبت مدينة زوغديدي مرة أخرى ً‬ ‫ً‬ ‫عودتهم مرة ثانية‬
‫الالجئون العائدون يف مبنى املدرسة الرئيسة يف املدينة يف الوقت الذي كان ينبغي أن يقدم‬
‫الطالب فيه امتحاناتهم‪ .‬عىل رغم خسائرهم الكثرية‪ ،‬تجدد شعور الذنب عند الالجئني‬
‫لكونهم عب ًئا عىل أهل زوغديدي‪ .‬كانت الحكومة الجورجية عاجزة‪ .‬مل ترد الحكومة أن تبدأ‪،‬‬
‫أو مل تستطعع باألحرى أن تبدأ حربًا جديدة كاملة‪ ،‬ألسباب سياسية أو عسكرية‪ .‬أمرت‬

‫‪38‬‬
‫حكومة شيفردنادزه القوات الرديفة‪ ،‬ومنها ماموكا ورجاله‪ ،‬بالعودة إىل بيوتهم يف مخيامت‬
‫الالجئني أو أماكنهم كالتي عىل شاطئ بحر تبلييس‪.‬‬
‫عدت إىل فندق الصوف الذهبي مرة أخرى يف زياريت األوىل لتبلييس عام ‪.1998‬‬
‫دخلت مع مرتجمتي عاملة النفس الجورجية مانانا غاباشفي ‪ ،‬إىل شقة كاشافارا لنجد هنالك‬
‫وجالسا يف غرفة املعيشة‪ .‬صدمتني رؤية مالمح الحزن‬ ‫ً‬ ‫ماموكا‪ ،‬مرتديًا ثيابًا مدنية‪،‬‬
‫واالكتئاب عىل وجهه‪ .‬كانت وضعية جسده تدل عىل رجل استسلم لقدر مل يكن يريده‪ .‬قال‬
‫إنه أراد أن يستعيد إقليم غايل لكنه أُمر بالعودة إىل تبلييس دون قتال‪ .‬قال‪« :‬مل أرد أن أقتل‬
‫األبخازيني‪ ،‬لكننا نستطيع أن نستعيد غايل إىل الحكم الجورجي مرة أخرى‪ ،‬وكان يجب أن‬
‫نفعل ذلك»‪ .‬كان ماموكا يشعر بالخيانة‪ .‬أثّر يفّ يأسه واكتئابه‪.‬‬
‫ذكر ماموكا أنه كان يتجهز للقيادة سبع ساعات ليحض جنازة لنازح داخ شاب‬
‫كان األبخازيون قد قتلوه يف آخر حرب صغرية‪ .‬أخربنا ماموكا باسم الشاب وقال إنه مل يكن‬
‫يعرفه شخصيًّا‪ .‬لكن ماموكا شعر بوجوب ح ور الجنازة‪ .‬كانت دايل يف الغرفة أي ً ا‪،‬‬
‫صامتة تنظر إىل ماموكا وهو يتحدث إلينا‪ .‬عندما انق ت أحاديث ماموكا‪ ،‬بدأت دايل‬
‫تتحدث عن العار واملهانة التي يشعر بها النازحون الداخليون يف فنادق بحر تبلييس‪ .‬قالت‬
‫دايل‪« :‬نعم‪ ،‬أنا سعيدة بعودة زوجي‪ ،‬لكن عدم استعادة إقليم غايل إىل الحكم الجورجي‬
‫أورثني شعو ًرا باليأس ال أستطيع احتامله»‪ .‬كان واض ًحا أن دايل وماموكا‪ ،‬كاملوجة الثانية‬
‫من الالجئني يف زوغديدي‪ ،‬تعرضا إلعادة الصدمة‪ .‬عربت دايل عن األمر هكذا‪« ،‬هذا الجرح‬
‫حا إىل األبد»‪.‬‬
‫سيبقى مفتو ً‬
‫بعد أن ودعنا ماموكا وذهب إىل الجنازة‪ ،‬دخل الشقة رجل مبجل يف سبعينياته‪،‬‬
‫ساموي العينني‪ .‬كان أنيق امللبس منتصب القامة يظهر عليه الفخر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أبيض الشعر والشارب‪،‬‬
‫أخربتنا دايل أنه أبوها‪ ،‬نودار خندادزه‪ ،‬الذي كان يسكن يف الشقة التي فوقهم يف الطابق‬
‫السابق‪ .‬كان واض ًحا لنا أن دايل كانت فخورة ج ًّدا بأبيها‪ .‬أخربتنا دايل أن خندادزه كان كات ًبا‬
‫مشهو ًرا‪ .‬كتب خندادزه خمسة وثالثني كتابًا‪ ،‬منها ست روايات‪ ،‬وبعد أن أصبح الج ًئا هو‬

‫‪39‬‬
‫وزوجته‪ ،‬صار شاع ًرا‪ .‬أراد خندادزه أن يعرف هويتنا أنا ومانانا وسبب زيارتنا البنته‬
‫وصهره‪ .‬بدا عليه الرضا عندما رشحنا له أننا مهتامن مبعرفة حياة النازحني داخل ًّيا‪ ،‬لكن‬
‫كان صع ًبا عليه أن يتحدث إلينا يف بيئة مدمرة هكذا‪ .‬شعرت بجرح يف كربيائه‪ .‬باملقابل‬
‫شعرت باالنزعاج ألين سببت هذا الشعور فيه‪ .‬كنت أفكر يف يشء أقوله ألحسن الجو‪ ،‬حني‬
‫قال خندادزه‪« ،‬أشعر بالخزي من ثقافة املتس ّولني الجديدة»‪ .‬عرفت أنه كان يتحدث عن‬
‫األطفال الالجئني يف تبلييس الذين أصبحوا متسولني‪ ،‬وتوقعت أن هؤالء األطفال كانوا‬
‫بدال من أن يعرض نفسه ملزيد من هذا الشعور‬
‫حال لشعوره هو نفسه باملهانة‪ً .‬‬
‫ميثلون ًّ‬
‫الفظيع‪ ،‬رمى الرجل الشعور عىل املتسولني‪ .‬ثم شاهدت كيف كان رمي الشعور هذا يحرك‬
‫عقله اإلبداعي‪ .‬بدأ خندادزه ينشد قصيدة كان قد كتبها من قريب عن املتسولني األطفال‪.‬‬
‫ترجمتها مانانا سط ًرا سط ًرا‪:‬‬
‫عندما أرى يدك تتسول‬
‫تُعاين كرامتي‪.‬‬
‫ال أستطيع أن أعطيك روحي‬
‫إذ من املستحيل أن يعطي املرء روحه‪.‬‬
‫لكنني مل أعد أملك شيئًا سوى روحي‪.‬‬
‫إنني أنازيف ق بان السجن‪.‬‬
‫إذا كنت تحتاج حيايت‬
‫أستطيع أن أعطيك إياها‪.‬‬
‫عندما أبديت أنا ومانانا اهتام ًما صادقًا بقصيدته‪ ،‬تغري مزاج خندادزه‪ .‬بدا أن الرجل‬
‫رس‪ .‬أخربنا أنه بعيد أن أصبح الج ًئا بدأ يكتب الشعر كل يوم عن حياته وحياة الالجئني‪ .‬بدا‬
‫ُّ‬
‫أن كتابته للشعر كانت هي رشيان حياة كرامته التي خرسها عندما أصبح الج ًئا‪ .‬طلب الرجل‬
‫من دايل أن تذهب إىل شقته وتأيت بقصائده‪ .‬عادت دايل مبجلد سميك وأنيق كانت متسكه‬
‫كام لو كانت متسك إرثًا مثي ًنا تخاف عليه‪ .‬شعرت أن قصائد أبيها كانت تتحدث باسم العائلة‬

‫‪40‬‬
‫كلها‪ .‬أخذ خندادزه املجلد من يدي ابنته وأخربنا بصوت حزين عن مكتبته الغنية التي تركها‬
‫يف أبخازيا‪ .‬كان يعتقد أنها تدمرت مثل حياته‪.‬‬
‫فتح خندادزه املجلد وأخذ أول ورقة‪ .‬كانت قصيدة كان قد ألفها وكتبها بخط أنيق‬
‫الليلة السابقة‪ .‬طلب الرجل أال ترتجمها مانانا سط ًرا سط ًرا‪ .‬أراد أن يقرأ القصيدة كلها‪ .‬فهمت‬
‫سبب هذه الرغبة؛ أراد خندادزه أن يعرب عن مشاعره كاملة‪ .‬إذا تُرجمت القصيدة سط ًرا‬
‫سط ًرا‪ ،‬ستُقاطع قراءته‪ ،‬وسيدمر أثرها العاطفي‪ .‬ترجمتها مانانا بعد ذلك‪:‬‬
‫أشعر بخيانة يف وطني‬
‫انترص الكذب‬
‫اخن أترك كل ما أملك هنا‬
‫وآيت إليك أيها الشمس‪.‬‬
‫كل يشء حويل مظلم‬
‫ال أرى شيئًا‬
‫تلدغني أفعى مبرارة‬
‫وتحقق هدف خيانتها‬
‫مل نستطع أن ندرك ما يجري‬
‫ريا‬
‫كان كل يشء مح ً‬
‫لكنني أعرف أن العدو يف تبلييس‬
‫ريا‬
‫آه! آه! فليكن عمر عد ّوي قص ً‬
‫أرى وطني يعاين من الخيانة‬
‫آه! انترص الشيطان‬
‫االكتئاب يغزو روحي‬
‫أص ّ لك أيها الشمس‪ ،‬ساعدينا‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫أحيت قصيدة خندادزه وطريقة إلقائه الحزينة لها ما شعر به ماموكا ودايل بشأن‬
‫سقوط إقليم غايل وعجزهم عن استعادته يف آخر حرب قصرية‪ .‬ساد الصمت يف الغرفة بعد‬
‫قراءة القصيدة‪ .‬شعرت أين ومانانا مل نعد غرباء يف نظر خندادزه‪ .‬ضيفتنا دايل قهوة تركية‬
‫وبدأ خندادزه‪ ،‬الجالس اخن عىل كرسيه‪ ،‬يروي لنا أحداث أبخازيا من وجهة نظره‪ .‬كان‬
‫خندادزه يعتقد أن الحكومة الجورجية الحالية خانتهم عندما أعادت املقاتلني من الحدود‪.‬‬
‫ان مت دايل‪ ،‬التي كانت قد شاركت يف حملة شيفردنادزه الرئاسية‪ ،‬إىل أبيها وعربت عن‬
‫إحباطها وعجزها وشعورها بالخيانة‪.‬‬
‫عرفت مزي ًدا عن األرسة كذلك‪ .‬كان خندادزه أبًا لثالثة أبناء وج ًّدا لثامنية‪ .‬غادرت أرسة‬
‫ابنه أبخازيا منذ زمن طويل ومل يكونوا الجئني‪ ،‬لكن ابنته الصغرى وأرستها كانوا الجئني‬
‫داخليني يف الفندق نفسه‪ .‬يف ذلك اليوم التقيت ثالثة من أحفاده لقا ًء وجي ًزا‪ .‬كان عىل‬
‫فالريي وأليكو‪ ،‬الشابني الوسيمني‪ ،‬أن يذهبا إىل الجامعة من أجل نشاط جامعي‪ .‬أخرباين‬
‫أنهام يف جامعة يف تبلييس يتخصصان يف إدارة األعامل‪ .‬التقيت ابنة دايل أي ً ا‪ ،‬تامونا‪،‬‬
‫التي أمتت عامها السادس عرش مؤخ ًرا‪.‬‬
‫كانت تامونا زائدة الوزن وبدا عليها االكتئاب‪ .‬سألت إن كنت أستطيع الحديث معها‬
‫أنا ومانانا عىل انفراد‪ .‬بعد أن غادر اخخرون الشقة‪ ،‬قالت لنا تامونا إنها تذهب إىل مدرسة‬
‫ثانوية قريبة‪ .‬كان يف صفها أطفال الجئون وسكان أصليون كذلك‪ .‬رشحت تامونا بوضوح‬
‫الشعور بني الفئتني من الطالب‪ ،‬وهو شعور واضح بني «نحن» و«هم»‪ .‬كانت تامونا واعية‬
‫متا ًما بأنها الجئة وبشعور العار الذي يرافق هذا الوضع‪ .‬عندما كانت تتحدث‪ ،‬أدركت أن‬
‫طريقتها للتعامل مع الوضع كانت االجتهاد يف الدراسة‪.‬‬
‫أخربتنا تامونا بصوت منخفض أن زيارة أبيها األخرية ملنطقة الحرب أثارت فيها‬
‫«مشاعر مألوفة»‪ .‬مل تزل أحداث املايض واضحة يف ذاكرة تامونا‪ .‬حدثتنا تامونا عن هروبها‬
‫وأرستها باملروحية من غاغرا‪ .‬كانت هلعة‪ .‬تذكرت بكاءها وسامعها لصوت بكاء الجئ آخر‬

‫‪42‬‬
‫باملروحية‪ ،‬كان قد قتل ابنه قبيل ذلك‪ .‬بعد أن انتهى حديثنا مع تامونا‪ ،‬ان مت دايل إلينا‪.‬‬
‫شكرتها وشكرت تامونا ملا شاركتاه من قصصهام معنا‪.‬‬
‫كان هدف زيارتنا إىل تبلييس تطوير مرشويف لفتح قنوات التواصل املنتج بني‬
‫الجورجيني واألوسيتيني الجنوبيني‪ ،‬لكن انداليف الحرب يف إقليم غايل جعل الوصول إىل‬
‫ومهتام باألحداث األخرية واملشاعر التي‬
‫ًّ‬ ‫مشغوال‬
‫ً‬ ‫املسؤولني يف الحكومة صع ًبا‪ .‬كان الجميع‬
‫رافقتها‪ .‬لكننا يف مجيئنا إىل بحر تبلييس للتعرف عىل مشكالت النازحني الداخليني‪ ،‬التقينا‬
‫أرسة الفتة‪ .‬تبني يل أن فريقي لن يستطيع تقديم أي مساعدة لالجئني يف بحر تبلييس إذا‬
‫أردنا أن نستجيب الحتياجاتهم ورغباتهم بطرق عامة‪ .‬لكني فكرت أننا إذا استمررنا يف‬
‫تطوير عالقتنا مع أرسة كاشافارا‪ ،‬ومع نودار خندادزه‪ ،‬فقد نستطيع تقديم بعض الدعم‬
‫النفيس لهم‪ .‬أخربت دايل وتامونا أين عىل األغلب سأزور جورجيا مرتني أو ثالثا كل عام‬
‫يف السنني القادمة‪ .‬سألتهام‪« ،‬أتسمحان يل أن آيت وألتقيكم يف زيارايت املستقبلية وأقيض‬
‫رجال لطيفًا‪.‬‬
‫بعض الساعات معكم كل مرة؟»‪ .‬كانت اإلجابة أن هذا سيسعدهام وأنهام رأتاين ً‬
‫ففي الحقيقة‪ ،‬حسب قولهام‪ ،‬مل يأت أحد من العامل الخارجي‪ ،‬من مكان بعيد ج ًّدا كالواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬ليلتقيهام من قبل‪.‬‬
‫كان يف ذهني فكرة ضبابية يف ذلك الوقت أنني إذا استطعت اإلسهام يف تحسني‬
‫جا للتغيري اإليجايب لبقية األرس النازحة داخليًّا يف‬
‫حياة هذه األرسة‪ ،‬فإنها ستكون منوذ ً‬
‫بحر تبلييس‪ .‬فأرسة كاشافارا يف النهاية هي القائدة يف هذا املجتمع‪ .‬أكرب دليل هو الهاتف‬
‫األصفر الباهت الذي كان عىل طاولتهم الخشبية القدمية يف غرفة معيشتهم‬
‫الخالية‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫االنتظار عرش سنوات للحداد أم ال‬ ‫‪3‬‬

‫بعد مايو ‪ ،1998‬كنت أزور عائلة كاتشافارا مرة كل خمسة أشهر تقري ًبا حتى عام ‪.2002‬‬
‫وعادة ما كانت مانانا غاباشفي ترافقني كزميلة مهنية يف العمل ومرتجمة شفوية‪ .‬ويف‬
‫املناسبات التي مل تتمكن فيها مانانا من املجيء‪ ،‬رافقتني جانا جافاخيشفي ‪ ،‬وهي‬
‫اختصاصية نفسية جورجية أخرى‪ .‬يف كل مرة كنا نقيض نصف يوم عىل األقل يف شقة‬
‫كاتشافارا‪ ،‬نتحدث بشكل رئييس مع دايل‪ .‬وإذا كان ماموكا أو األوالد أو نودار يف الجوار‪،‬‬
‫كنا نتحدث معهم أي ً ا‪ .‬كنت أجري «مقابالت عالجية» منفصلة مع أفراد األرسة أو أتحدث‬
‫معهم بشكل جامعي‪ .‬كام كنا نجلس فحسب ك يوف ونراقب تفاعل أفراد األرسة مع‬
‫بع هم‪ .‬أما تامونا‪ ،‬التي تعلمت اللغة اإلنجليزية حني التحقت بالكلية‪ ،‬فظلت تتواصل معي‬
‫بعد عام ‪ 2002‬عرب الربيد اإللكرتوين‪.‬‬
‫مهام آخر يف عائلة كاتشافارا‪،‬‬
‫خالل زياريت الثانية إىل فندق غولدن فليس‪ ،‬قابلت فر ًدا ً‬
‫إنه الكلب األسود تشاريل‪ .‬رمبا من األف ل مناداته «تشاريل الثاين»‪ ،‬مبا أنه كان «كلبًا‬
‫بديال»‪ 12،‬فتشاريل اخخر تُرك يف غاغرا حني هرعت دايل وأطفالها إىل املروحية التي نقلتهم‬
‫ً‬
‫إىل بر األمان‪ .‬كان تشاريل األول الكلب الذي ملحته دايل حني شاهدت النريان تأكل منزلهم‬
‫عىل التلفزيون الرويس‪ .‬أخربتني دايل كيف باتت مستغرقة يف التفكري مبصري تشاريل‬
‫األول‪ .‬وعىل الرغم من صعوبة إرسال رسالة إىل أحد الجريان السابقني يف غاغرا لالطمئنان‬
‫عن الكلب‪ ،‬متكن ماموكا من القيام بذلك بعد لحاقه بالعائلة يف بحر تبلييس‪ .‬إذ أبلغت هذه‬
‫الجارة التي أعتقد أنها‪ ،‬كطبيب األسنان وزوجته‪ ،‬من أصل أرمني‪ ،‬عائلة كاتشافارا أن‬
‫تشاريل قد صدمته سيارة وقُتل‪.‬‬
‫كان موت تشاريل األول رضبة موجعة لدايل‪ ،‬كام أوضحت يل‪ .‬وخالل األشهر األوىل‬
‫كنازحني داخل ًيا‪ ،‬اعتاد ماموكا ودايل الحديث عن «خطة العام الواحد»‪ .‬إذ اعتقدا أن املشاكل‬
‫اإلثنية يف أبخازيا س ُتحل يف غ ون عام‪ ،‬فيعودان إىل الديار‪ ،‬ويبدأ ماموكا بإعادة إعامر‬

‫‪44‬‬
‫منزلهام‪ .‬يف الليل كانا يستلقيان يف الفراش ويتهامسان حول مخططات العودة إىل غاغرا‪.‬‬
‫فام دام كلب عائلتهام موجو ًدا يف غاغرا‪ ،‬كان بإمكانهام إبقاء ارتباطهام بالديار ح ًيا‪ ،‬عىل‬
‫الرغم من احرتاق منزلهام‪ .‬كان موت تشاريل األول رضبة لا«خطة العام الواحد»‪ .‬وقد‬
‫أخربتني دايل كيف أنها وماموكا بقيا مكتئبني حتى رأت ذات يوم‪ ،‬يف بداية عامهام الثاين‬
‫ضاال أسود بدا كأنه تشاريل بال بط‪ ،‬يتجول حول غولدن فليس‪.‬‬
‫ً‬ ‫كنازحني داخل ًيا‪ ،‬كل ًبا‬
‫فأدركت عىل الفور أن عليها اقتناء هذا الكلب كحيوان أليف جديد للعائلة‪ .‬وقد أيدها جميع‬
‫أفراد األرسة‪ ،‬فجلبوا الكلب إىل شقتهم‪ ،‬وأطلقوا عليه اسم تشاريل‪.‬‬
‫أنا أحب الكالب‪ .‬وحني التقيت تشاريل الثاين ألول مرة‪ ،‬قمت مبداعبته‪ ،‬لكنني الحظت أن‬
‫اقتناءه يف شقة عائلة كاتشافارا سيكون غري مألوف‪ .‬فقد كان كل ًبا متوسط الحجم ولن‬
‫تتوفر مساحة كافية يف غرفة الجلوس عند اجتاميف أفراد العائلة وال يوف مثل مانانا أو‬
‫جانا وأنا‪ .‬كان تشاريل نظيفًا وأحب االستلقاء عند قدمي دايل‪ .‬كام بدا تعلق دايل العاطفي‬
‫أدركت أن وجود تشاريل يف شقة عائلة كاتشافارا والطريقة التي‬
‫ُ‬ ‫بالكلب واض ًحا ج ًدا‪ .‬وقد‬
‫عاملته بها األرسة دليالن مهامن عىل أن دايل وعائلتها كانوا مفجوعني دامئني وأن الكلب‬
‫جسام رابطًا حيًّا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ذاته كان‬
‫لفهم العمليات النفسية الداخلية ألفراد عائلة كاتشافارا‪ ،‬عىل املرء أوالً أن يفهم ما يقصده‬
‫اختصاصيو الصحة العقلية باملصطلحات‪ :‬الصدمة واملفجوعون الدامئون واألجسام الرابطة‪.‬‬
‫تحدث الصدمة الفردية عندما ينثال عىل عقل الفرد ويثقله حدث خارجي أو سلسلة مرتاكمة‬
‫من األحداث‪ .‬فعل ًيا‪ ،‬تكون شدة املنبه التي تلقاها الفرد أكرب من أن يتم التعامل معها أو‬
‫ثقال بقلق‬
‫استيعابها بالطرق املعتادة‪ .‬وخالل هذه الصدمة أو الصدمات)‪ ،‬يكون عقل الفرد ُم ً‬
‫شديد؛ أو يحدث العكس‪ ،‬فيشعر الشخص بأن عقله مشلول‪ .‬ومع أنه قد يواصل أداء مهام‬
‫مثال‪ ،‬عىل الرغم من أن دايل وأطفالها متكنوا‬
‫معينة‪ ،‬فهو يعاين العجز يف كلتا الحالتني‪ً 13.‬‬
‫من الوصول إىل املروحية‪ ،‬أصيبت دايل بصدمة من التجربة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬كانت قادرة عىل‬
‫بطاقتها الشخصية)‪ .‬بعد انتهاء الحدث‬ ‫التفكري منطق ًيا بشأن جواز سفرها الداخ‬

‫‪45‬‬
‫الصادم‪ ،‬غال ًبا ما يسرتجع املصدومون األحداث الصادمة باستح ار املايض‪ ،‬ويف األحالم‪،‬‬
‫ويف تصورات تجارب الحياة الحالية‪ .‬أو يعيدون الحدث الصادم بأفعال رمزية‪ .‬إنهم‬
‫يعيشونه مرا ًرا وتكرا ًرا برغبة مفرتضة –لكن غري واعية– يف أنهم يو ًما ما سيتغلبون عىل‬
‫املنبهات األصلية الساحقة ويستوعبونها‪ .‬إال أنهم ال ينجحون يف ذلك عادة‪ .‬قالت يل كل من‬
‫دايل وتامونا كيف أنهام غال ًبا ما تستحضان ذكريات ركوب املروحية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬إن مفهوم الصدمة يف الواقع أعقد من الوصف املوجز املذكور آنفًا‪ .‬ومجرد‬
‫تصنيف األشخاص عىل أنهم يعانون اضطراب الكرب التايل للصدمة ‪ )PTSD‬يرصف‬
‫انتباهنا عن فحص لالستجابات املنفردة واملحددة تجاه األحداث الصادمة‪ .‬اقرأ الفصل‬
‫تفصيال الضطراب الكرب التايل للصدمة)‪ .‬إن كل فرد‬
‫ً‬ ‫السادس لالطاليف عىل فحص أكرث‬
‫يتمتع بقدرات فطرية وخربات سابقة تهيئه أو تو ّعيه‪ ،‬وبالتايل يكون كل رد فعل تجاه‬
‫األحداث العنيفة مختلفًا‪ .‬أي ً ا‪ ،‬إن ذكريات األفراد عن األحداث األخرى وتخيالتهم وأمنياتهم‬
‫ودفاعاتهم العقلية ضد هذه األمنيات التي أصبحت مرتبطة بالصدمة الفعلية‪ ،‬تتفاوت من‬
‫فرد إىل آخر‪ .‬وعىل املدى الطويل‪ ،‬يُظهر بعض األشخاص مرونة‪ 14‬أكرب من غريهم‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يتعامل بعض األشخاص مع الصدمة من خالل اإلبدايف‪ 15،‬بينام يتحتم عىل‬
‫آخرين تكرارها بأساليب رمزية أو تطوير أعراض أو سامت شخصية جديدة‪ .‬رغم ذلك‪،‬‬
‫يفصل آخرون ذواتهم املصدومة وي عونها‪ ،‬جزئيًا‪ ،‬يف غالف يسمى هذا بالتفارق)‬
‫ويترصفون كأن شي ًئا مل يحدث‪ .‬لكن الذات املصدومة‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬تنسل من غالفها‬
‫وتهيمن عىل ما تبقى من شخصية الفرد‪ ،‬فارضة نفسها كام لو أن للفرد شخصية جديدة‪.‬‬
‫ينشأ ما يسمى بالشخصيات املزدوجة أو املتعددة من تجارب الطفولة الصادمة التي ظلت‬
‫‪16‬‬
‫نشطة عىل الرغم من محاوالت تغليفها نفس ًيا‪.‬‬
‫تندرج األحداث الصادمة التي مير بها النازحون داخل ًيا‪ ،‬مثل دايل‪ ،‬تحت مظلة الصدمات‬
‫املشرتكة التي ترتبط باملشاعر اإلثنية وتنشّ ط ق ايا هوية املجموعات الكبرية‪ .‬مل تتعرض‬
‫دايل وأفراد أرستها لصدمات نفسية بسبب ما كانوا عليه كأفراد؛ لقد أصيبوا بصدمة بسبب‬

‫‪46‬‬
‫انتامئهم إىل مجموعة إثنية معينة‪ .‬ودامئًا ما تكون األحداث الصادمة املشرتكة‪ ،‬املرتبطة‬
‫بق ايا هوية املجموعات الكبرية‪ ،‬ملطخة بالخزي واإلذالل‪ 17.‬فعندما يتعرض الناس لهجوم‬
‫من عصابة معادية ويشعرون باملعاناة‪ ،‬تنتابهم أي ً ا مشاعر الخزي واإلذالل‪ .‬وترتافق هذه‬
‫الصدمات أي ً ا مبزيج من الخسائر العاطفية املجردة) العظيمة وامللموسة‪ .‬يف بعض‬
‫األحيان‪ ،‬يفقد هؤالء األشخاص إحساسهم باألمن والكرامة فقط‪ ،‬ويف أحيان أخرى ترتافق‬
‫هذه الخسائر العاطفية بخسائر ملموسة‪ ،‬كفقد األقارب أو األصدقاء واملنازل والكالب وحتى‬
‫الحدائق‪ .‬يف حالة الصدمة املشرتكة‪ ،‬تنترش ردود الفعل عىل األذية التي أقدم عليها العدو‬
‫عىل املستويات الفردية والعائلية واإلقليمية عرب املجموعة الكبرية بأكملها‪ .‬وإذا تسببت‬
‫الصدمة املشرتكة يف مشكلة الالجئني‪ ،‬فإن الذين مل يتأثروا بشكل مبارش يتعاطفون مع‬
‫مثال‪ ،‬عبئًا أو‬
‫الالجئني من ناحيتهم‪ .‬ولكن عندما يصبح الالجئون‪ ،‬كالنازحني الجورجيني ً‬
‫يُنظر إليهم عىل أنهم عبء عىل أشخاص آخرين من نفس املجموعة‪ ،‬فقد نشهد انقسامات‬
‫يف املجموعة الكبرية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ميكن لتجدد األعامل العدائية مع العدو الخارجي أن يزيل‬
‫بسهولة مثل هذه االنقسامات‪ .‬كام يشعر الالجئون الذين يُجربون عىل ترك بيئاتهم املألوفة‬
‫بعجز شديد ويف ذات الوقت بغ ب عارم حيال الحداد عىل ما فقدوه ألن صدمتهم تعقد‬
‫عملية الحداد املعتادة‪.‬‬
‫إن فقدان شخص أو يشء مهم من الناحية النفسية يستهل الفجيعة والحداد‪ .‬ونحن عىل‬
‫علم مبراحل شفاء الجرح الجسدي يف حال مل يصب بالتهاب‪ .‬وباملثل‪ ،‬إننا نعرف مراحل‬
‫تعايف الجرح النفيس الناجم عن خسارة كبرية إذا مل يصبح معق ًدا‪ .‬يف مؤلفات علم النفس‪،‬‬
‫ال فرق بني الفجيعة والحداد يف كثري من األحيان‪ .‬وتعترب ردود الفعل األولية عىل الفقد‬
‫فجيعة‪ .‬فاملفجويف‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬يستمر بضب رأسه بجدار – ال ينفتح أب ًدا ليسمح للميت أو‬
‫اليشء املفقود بالعودة‪ .‬ويشمل رد فعل الفجيعة‪ ،‬من وقت خخر‪ ،‬بعض العالمات التالية أو‬
‫‪ ،‬وفقدان‬ ‫كلها‪ :‬ضيق التنفس‪ ،‬وضيق يف الحلق‪ ،‬والحاجة إىل التنهد‪ ،‬والوهن الع‬
‫الشهية‪ ،‬والشعور بالصدمة أو األمل‪ ،‬ونوبات البكاء‪ ،‬وإنكار الفقدان‪ ،‬واملساومة مع الله أو‬

‫‪47‬‬
‫القدر إلعادة ما فُقد‪ ،‬وتقسيم وظيفة األنا بحيث ميكن أن تحدث تصورات وتجارب متعارضة‬
‫مثال‪ ،‬كيف أن امرأة عىل الرغم من أنها تعرف أن‬
‫يف وقت واحد‪ .‬توضح العالمة األخرية‪ً ،‬‬
‫زوجها امليت متمدد يف النعش يف دار الدفن‪ ،‬فإنها «تسمع» جلبة سيارته وهي تسحق‬
‫الحىص يف ممر السيارات‪ .‬يف النهاية‪ ،‬تفيض الفجيعة إىل الغ ب‪ ،‬وهو مؤرش «صحي»‬
‫عىل أن املفجويف يرشيف يف قبول الحقيقة بأن ما فقده لن يعود‪ .‬يستغرق رد فعل الفجيعة‬
‫النموذجي ب عة أشهر حتى يزول‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬ال يوجد رد فعل فجيعة منوذجي‪ ،‬ألن‬
‫ظروف الخسارة متنوعة‪ ،‬وألن كل فرد يتمتع بدرجة مختلفة من التأهب الداخ ملواجهة‬
‫الخسائر الفادحة‪.‬‬
‫للمساعدة يف رشح قصة دايل وعائلتها عن كونهم الجئني يقاسون العديد من الخسائر‬
‫بدال من استقصاء التعبريات املختلفة لرد‬
‫العاطفية وامللموسة‪ ،‬سأركز أكرث عىل عملية الحداد ً‬
‫فعل الفجيعة بالتفصيل‪ .‬فالحداد ظاهرة أقرب إىل كونها داخلية وصامتة‪ .‬تبدأ بينام ما يزال‬
‫الفرد يعاين الفجيعة‪ ،‬ثم تستمر لسنوات‪ .‬وخسارة الشخص أو اليشء املادية يشء ملموس‬
‫مثال أو يشء عاطفي ككرامة املرء) ال توازي «الدفن» الذهني للتمثيل الذهني‬
‫كاملنزل ً‬
‫مجموعة من العديد من الصور) ملا فقده املرء‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إن الخسارة املادية أو حتى‬
‫التهديد بالخسارة املادية) تحول انتباه املفجويف البالغ إىل الصور الذهنية للشخص أو اليشء‬
‫املفقود‪ 18.‬إذ تشري عملية الحداد لدى البالغ إىل مجمويف األنشطة الذهنية التي يؤديها‬
‫املفجويف يف مراجعة التمثيل الذهني للشخص أو اليشء املفقود والتعامل معه‪ .‬وهذا يت من‬
‫اختبار الغ ب خالل عملية الحداد‪ .‬ويكون هذا الغ ب مختلفًا عن غ ب عملية الفجيعة‬
‫الحادة‪ .‬فخالل الثاين‪ ،‬يكون املفجويف غاض ًبا ألن الخسارة التي يرغب املفجويف بشدة يف‬
‫عكسها‪ ،‬ال ميكن عكسها‪ .‬يف أثناء عملية الحداد‪ ،‬مع ازدياد قبول الفقدان أكرث فأكرث‪ ،‬يعيش‬
‫حا نرجس ًيا يحدثه الشخص أو اليشء املفقود‪ .‬فباملوت أو االختفاء‪ ،‬يتسبب‬
‫املفجويف جر ً‬
‫الشخص أو اليشء املفقود بعملية مؤملة يجب عىل املفجويف أن يخوضها‪ .‬عادةً‪ ،‬ال يكون‬
‫املفجويف مدركًا هذا الغ ب املوجه نحو الشخص أو اليشء املفقود؛ فغ به موجه نحو‬

‫‪48‬‬
‫شخص أو يشء آخر‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬شعر أفراد عائلة كاتشافارا وغريهم من النازحني‬
‫داخل ًيا بالغ ب من شيفردنادزه يف كل مرة أصابتهم حرب صغرية جديدة بالصدمة وأحسوا‬
‫بخساراتهم مجد ًدا‪.‬‬
‫ما دمنا عىل قيد الحياة‪ ،‬إننا ال نفقد التمثيل الذهني لألشخاص أو األشياء املهمة أب ًدا‪ ،‬حتى‬
‫عندما نفقدهم يف العامل املادي‪ .‬إذا اكتملت عملية الحداد‪ ،‬فمن الناحية العملية‪ ،‬إننا نجعل‬
‫التمثيل الذهني للشخص أو اليشء املفقود «بال مستقبل»‪ 19.‬ومثل هذا التمثيل الذهني ال‬
‫يُستخدم بعد اخن لتلبية رغباتنا؛ فال مستقبل له‪ ،‬وال تأثري مستمر أو دائم‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫يقلع الشاب عن تخيل أن زوجته‪ ،‬التي فارقت الحياة منذ فرتة‪ ،‬ستمنحه املتعة الجنسية‪ .‬أو‬
‫تتخىل املرأة عن رغبتها يف إدارة املرؤوسني لها يف الوظيفة التي طُردت منها قبل سنوات‪.‬‬
‫نحن «ندفن» الصور الذهنية للشخص أو اليشء املفقود عندما ننجح يف جعلها بال مستقبل‪.‬‬
‫فخالل عملية الحداد‪ ،‬يراجع املفجويف بطريقة مجزأة صور ما فقده‪ ،‬وبذلك يكون قاد ًرا عىل‬
‫االحتفاظ بجوانب من صور الشخص أو اليشء املفقود داخل ذاته‪ .‬يف التحليل النفيس‪،‬‬
‫نشري إىل هذا عىل أنه متاهي املفجويف مع سامت أو وظائف الشخص أو اليشء املفقود‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬بعد عام أو ما شابه عىل وفاة والده‪ ،‬يصبح الشاب الطليق صناعيًا جا ًدا كام‬
‫متثيال رمزيًا لوطنه يف لوحة‬
‫ً‬ ‫كان والده املتوىف‪ .‬وباملثل‪ ،‬قد يخلق املهاجر الذي خرس بلده‬
‫أو أغنية‪ ،‬ما يشري إىل أن هذا املفجويف قد استدخل صو ًرا معينة لألرض التي فقدها وحافظ‬
‫عليها‪.‬‬
‫إال أنه قد تحدث تعقيدات يف أثناء عملية الحداد‪ .‬وأحد األسباب الشائعة للتعقيدات هو‬
‫تلوث عملية الحداد بردود الفعل عىل الصدمة‪ .‬فعندما ترتبط الخسارة بتجارب العجز‪،‬‬
‫والغ ب السلبي وبالتايل غري الفعال‪ ،‬والعار‪ ،‬واإلذالل‪ ،‬فإن عملية الحداد تكون مصحوبة‬
‫مبهام نفسية أخرى‪ ،‬كقلب العجز إىل نشاط‪ ،‬وتحويل الغ ب السلبي إىل توكيد‪ ،‬وعكس‬
‫العار واإلذالل‪ ،‬وحتى إضفاء املثالية عىل ال حية إذا كانت الظروف ال تسمح للشخص‬
‫بتنفيذ املهام األخرى‪ .‬قد تكون الخسارة نفسها صادمة يف حد ذاتها‪ ،‬ال سيام حني تكون‬

‫‪49‬‬
‫مثال‪ .‬وباإلضافة إىل‬
‫مفاجئة أو غري متوقعة أو مرتبطة بالعنف‪ ،‬كجرمية القتل أو االنتحار ً‬
‫الخسارة نفسها‪ ،‬إن الجمع بني خسارة فادحة وصدمة فعلية مصحوبة بتجارب العجز‬
‫سيعقد عملية الحداد بطريقة خطرة‪.‬‬
‫تفيض التعقيدات يف عملية الحداد إىل نتائج مختلفة‪ .‬فقد يصاب املفجوعون باالكتئاب‬
‫‪20‬‬

‫أو قد يصبحون مفجوعني دامئني‪ ،‬محتوم عليهم االستغراق يف الصور الذهنية ملا فقدوه‬
‫لعقود قادمة وحتى نهاية حياتهم‪ 21.‬يخترب املفجوعون الدامئون حدادهم دون أن يصلوا به‬
‫إىل خالصة عملية‪ .‬ومثة درجات من الخطورة يف مثل هذه الحالة‪ .‬فبعض املفجوعني‬
‫الدامئني يعيشون حياة بائسة‪ .‬ويعرب آخرون عن حدادهم الالمنتهي بطرق أكرث إبدا ًعا‪ ،‬لكن‬
‫حتى هؤالء األشخاص‪ ،‬عندما ال يكونون مهووسني باإلبدايف‪ ،‬يشعرون عاد ًة بعدم االرتياح‬
‫ألنهم يستنزفون طاقاتهم عىل األشياء التي رحلت ولديهم طاقة أقل ألنشطة الحياة الفعلية‬
‫والحالية‪ .‬ففي كل يوم‪ ،‬يُعنى املفجويف الدائم «بإحياء» الشخص أو اليشء املفقود أو‬
‫«التخلص منه نهائيًا»‪ .‬يف إحدى طرق التعامل مع هذا االستغراق الالمنتهي وتجنب املشاعر‬
‫غري املريحة املرتبطة به‪ ،‬يستخدم املفجويف الدائم جامدات أو كائنات حية معينة لريمز إىل‬
‫أرضية مشرتكة بني الصورة الذهنية ملا فقده وصورة الذات املقابلة للمفجويف‪ .‬إنني أسمي‬
‫‪22‬‬
‫هذه الجامدات باألجسام الرابطة وهذه الكائنات الحية باألجسام الرابطة الحية‪.‬‬
‫قد يكون الجسم الرابط من مقتنيات املتوىف الشخصية‪ ،‬عىل األغلب شيئًا كان املتوىف‬
‫مثال‪ .‬فالرسالة التي خطها جندي يف أرض‬
‫يرتديه أو يستخدمه بشكل روتيني‪ ،‬كالساعة ً‬
‫املعركة قبل مرصعه قد تتطور إىل جسم رابط‪ .‬أو‪ ،‬كام حدث يف عائلة كاتشافارا‪ ،‬قد يصبح‬
‫جسام رابطًا ح ًيا‪ .‬وحاملا يتطور يشء أو حيوان أليف إىل جسم رابط أو‬
‫ً‬ ‫الحيوان األليف‬
‫جسم رابط حي‪ ،‬يشعر املفجويف الدائم تجاهه بأنه «سحري»‪ 23.‬يتجسد عمل الحداد يف‬
‫فحص عالقة املفجويف‪ ،‬مرا ًرا وتكرا ًرا‪ ،‬مع الشخص أو اليشء املفقود إىل أن تتوقف مثل هذه‬
‫الفحوصات عن كونها ملحة ومصحوبة مبشاعر متأججة‪ .‬إنه عملية داخلية‪ .‬واملفجويف‬
‫الدائم‪ ،‬بامتالك جسم رابط‪ ،‬ينقل عملية الحداد‪ ،‬بدرجة أو بأخرى‪ ،‬من عملية داخلية وي عها‬

‫‪50‬‬
‫جا»‪،‬‬
‫جا»‪ .‬ومن خالل التحكم يف الجسم الرابط أو الجسم الرابط الحي‪ ،‬املوجود «خار ً‬
‫«خار ً‬
‫يخ ّرج املفجوعون الدامئون حدادهم املعقد‪ .‬ودون أن يكونوا مدركني ذلك متا ًما‪ ،‬فإنهم‬
‫يؤجلون عملية الحداد من خالل إعطاء صورة ما فقدوه حياة جديدة يف الجسم الرابط‪ .‬ولكن‬
‫كام أرشت‪ ،‬يف حني أن وجود جسم رابط يؤجل العمل الداخ لعملية الحداد‪ ،‬فإنه أي ً ا‬
‫يبقي األمل ح ًيا الستئناف عملية الحداد وإمتامها يف وقت الحق‪ 24.‬يخفي بعض املفجوعني‬
‫أجسامهم الرابطة يف األدراج أو الخزانات املقفلة‪ .‬واليشء املهم هو حاجة املفجويف الدائم‬
‫إىل معرفة مكان وجود الجسم الرابط؛ إذ يجب حاميته والسيطرة عليه‪ .‬يجب أن أضيف هنا‪،‬‬
‫ليس كل تذكار يربطنا عاطف ًيا باألشخاص أو األشياء هو جسم رابط‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬إن اقتناء‬
‫إحساسا باالستمرارية ويساعدنا يف الحفاظ عىل‬
‫ً‬ ‫مثل هذه التذكارات مينح تجاربنا الحياتية‬
‫إحساسنا بالذات‪.‬‬
‫جسام رابطًا حيًا لعائلة كاتشافارا‪ ،‬وال سيام‬
‫ً‬ ‫كام ذكرت‪ ،‬شعرت أن تشاريل الثاين كان‬
‫دايل‪ .‬كام سأرشح الحقًا يف هذا الفصل‪ ،‬ظهر اإلثبات الحقيقي عىل أن تشاريل الثاين قد‬
‫فعال كجسم رابط حي ملا شاهدتُ رد فعل دايل عىل موت هذا الكلب)‪ .‬مثة أجسام‬
‫استُخدم ً‬
‫رابطة مرئية أخرى تشاركتها عائلة كاتشافارا هي قصائد والد دايل‪ ،‬التي تُكتب كل يوم‪،‬‬
‫والتي كانت أجسا ًما رابطة يبدعها أحد املفجوعني‪ .‬يف كل صباح‪ ،‬كان أفراد العائلة يجتمعون‬
‫يف شقة دايل وماموكا حتى يتمكن نودار من إلقاء القصيدة التي كتبها يف اليوم السابق‪.‬‬
‫يف أثناء قراءة قصيدته‪ ،‬يصغي الجميع دون مقاطعة‪ .‬وبعد انتهائه‪ ،‬كان أفراد األرسة‬
‫اخخرون يدلون بتعليقاتهم حول القصيدة‪ ،‬التي ربط محتواها‪ ،‬بشكل مبارش أو غري مبارش‪،‬‬
‫العائلة مباضيهم يف أبخازيا وبرصاعهم العاطفي للتخ عام فقدوه ماديًا أو للحفاظ عىل‬
‫الرغبة يف استعادة ما فقدوه حية‪.‬‬
‫لقد الحظت ظواهر أخرى ظواهر رابطة) ربطت أفراد عائلة كاتشافارا بصور حياتهم‬
‫يف أبخازيا باستمرار‪ .‬والظاهرة الرابطة‪ ،‬بخالف الجسم الرابط الحي أو غري الحي‪ ،‬ليست‬
‫مرئية كام كان الكلب تشاريل‪ ،‬لكنها تعمل بالطريقة نفسها‪ .‬وقد لفتت تامونا انتباهي ملثال‬

‫‪51‬‬
‫عن ظاهرة رابطة يف أثناء زياريت لجورجيا خريف عام ‪ .1998‬فحني زرت عائلة كاتشافارا‪،‬‬
‫أخذتني دايل أنا ومانانا عىل انفراد وطلبت مني‪ ،‬كطبيب نفيس‪ ،‬مساعدة ابنتها عىل خسارة‬
‫بعض الوزن‪ .‬أشارت إىل الخزان املايئ‪ ،‬وهو بحر تبلييس‪ ،‬عرب النافذة فوق رشفتهم املليئة‬
‫باألغراض املبعرثة‪ ،‬وقالت‪« :‬يسبح العديد من الناس هناك خالل الصيف وحتى اخن‪ .‬إين‬
‫أحث تامونا عىل الذهاب والسباحة هناك أي ً ا‪ .‬وهي دامئًا ما ترفض‪ .‬لو أنها تسبح بانتظام‪،‬‬
‫ستحافظ عىل انخفاض وزنها‪ .‬ما الذي ينبغي أن أفعله؟»‪ .‬الحقًا‪ ،‬حني كنت أنا ومانانا وحدنا‬
‫مع تامونا‪ ،‬أخربتُ تامونا عام يشغل بال والدتها‪ .‬فرمقتني بنظرة كأنها كانت متفاجئة من‬
‫أنني مل أمتكن مسبقًا من تكهن سبب عدم سباحتها يف بحر تبلييس‪ .‬إذ قالت‪« :‬حني كنا يف‬
‫غاغرا‪ ،‬وددت الذهاب إىل البحر األسود والسباحة فيه‪ .‬فإذا سبحت يف بحر تبلييس‬
‫سأضعف ذاكريت عن البحر األسود‪ .‬وبعدم السباحة يف بحر تبلييس‪ ،‬أحافظ عىل فكريت‬
‫حية بأنني سأعود يو ًما ما إىل غاغرا»‪.‬‬
‫لقد وجدت تامونا فتاة شابة الفتة للنظر‪ .‬فهي كوالدتها‪ ،‬ذكية ولديها فهم خارق‬
‫لت أن تلتزم الصمت معظم الوقت‪ ،‬وبدت‬
‫لسيكولوجيتها‪ .‬إال أنها‪ ،‬عىل عكس والدتها‪ ،‬ف ْ‬
‫كأنها منطوية عىل نفسها ومكتئبة إىل حد ما‪ .‬مع ذلك‪ ،‬كانت يف كل مرة أتحدث معها عىل‬
‫انفراد بح ور مانانا أو جانا طب ًعا) تعود إىل الحياة‪ .‬وقد أخربتني أن رف ها السباحة يف‬
‫بحر تبلييس وتجنبها يف الواقع التمرينات البدنية األخرى له تفسري آخر‪ .‬فكلام نامت يف‬
‫سمعت ماموكا‬
‫ْ‬ ‫غرفة الجلوس‪ ،‬التي كانت مفصولة عن «غرفة نوم» والديها بستارة فقط‪،‬‬
‫ودايل يتهامسان حول عدم توفر مال كاف لرشاء الطعام‪ .‬إذ كانا يخشيان عدم قدرتهام عىل‬
‫إطعام أطفالهام كام ينبغي‪ .‬ومل يفصحا عن همومهام عالنية‪ .‬لكن تامونا كانت تعرف‬
‫قليال‪ ،‬أخرب أمي كل يوم‪’ ،‬انظري يا أماه!‬
‫مخاوفهام الرسية‪ .‬قالت يل‪« :‬ببقايئ زائدة الوزن ً‬
‫أنا لست جائعة؛ يف الواقع‪ ،‬أنا متخمة!‘»‪ .‬لقد تأثرت بساميف هذا‪ .‬فتامونا كانت تتواصل مع‬
‫والدتها من خالل مظهر جسمها ال بالتلفّظ برغبتها يف تخفيف حرقة والديها‪ .‬مبوافقة‬
‫واقرتحت أنه من‬
‫ُ‬ ‫قليال‪.‬‬
‫تامونا‪ ،‬أخربتُ دايل عن سبب إرصار تامونا عىل بقائها زائدة الوزن ً‬

‫‪52‬‬
‫األف ل أن يتحدثوا عن مخاوف أرستهم عالنية‪ .‬ما تزال دايل تنظر إىل تامونا عىل أنها تلك‬
‫الفتاة الصغرية املذعورة التي تهريف إىل املروحية هربًا من موت محدق‪ .‬أخربتُ دايل أن‬
‫تامونا قد بلغت اخن السابعة عرشة من عمرها‪ ،‬وأنها تود أن يُنظر إليها عىل أنها بالغة راشدة‪،‬‬
‫وأن بإمكانها أن تتقبل ساميف األمور املالية‪.‬‬
‫بعد ب عة أشهر عدت إىل جورجيا‪ .‬وأراد جزء مني إح ار الهدايا لعائلة كاتشافارا‪،‬‬
‫كاألصناف الغذائية التي ليس يف وسعهم رشاؤها‪ .‬لكنني قررت عدم القيام بذلك‪ ،‬إذ اعتقدت‬
‫أن مثل تلك الهدايا ستحرجهم‪ .‬وأردت أن أراعي توقعهم الثقايف بأن الزائر يجلب الهدايا‪،‬‬
‫ريا‪،‬‬
‫لكنني يف نفس الوقت مل أرغب يف الظهور كشخص أثرى منهم أو مستعل عليهم‪ .‬أخ ً‬
‫توصلت إىل حل وسط‪ :‬سأحض لهم هدايا ميكنهم تقدميها لألطفال النازحني داخل ًيا يف‬
‫قدمت بحقيبة مليئة باألقالم‪ ،‬وأقالم الرصاص‪ ،‬ودفاتر‬ ‫الفنادق الثالثة السابقة‪ .‬وهكذا‪ِ ،‬‬
‫الكتابة‪ ،‬وأدوات مدرسية أخرى ألعطيها لدايل‪ .‬وهي بدورها ميكنها أن توزيف هذه األغراض‬
‫عىل األطفال‪ .‬خالل هذه الزيارة‪ ،‬أخربتني دايل كيف كانت تتواصل مع تامونا شفويًا‬
‫وتتشاركان شواغل العائلة‪ .‬وكانت تامونا قد خرست مسبقًا بعض الوزن واالبتسامة ال تفارق‬
‫وجهها‪ .‬حني تحدثتا إيل‪ ،‬خاطبتاين باسم «فاميكنا»‪.‬‬
‫دامئًا ما كانت مانانا أو جانا عىل علم مبوعد وصويل أنا وفريقي إىل جورجيا وكانتا‬
‫تتصالن بدايل وتبلغانها باملوعد‪ .‬وهكذا‪ ،‬كانت دايل وأفراد عائلتها ينتظرونني لزيارتهم‪.‬‬
‫حني ذهبت إىل شقتهم وبدأت مقاباليت العالجية الفردية‪ ،‬عاد ًة ما افتتحت الحديث بقول‬
‫يشء من هذا القبيل‪« :‬حس ًنا‪ ،‬لقد كنتم عىل علم بأنني سأزوركم اليوم‪ .‬فام األحالم التي‬
‫لتقصوها ع ّ اليوم؟»‪ .‬كنت أرمي إىل تذكريهم بأنني مهتم دامئًا‬
‫ّ‬ ‫راودتكم الليلة املاضية‬
‫بعواملهم الداخلية‪ .‬ودامئًا ما كان يف جعبتهم حلم أو حلامن لنقله‪ .‬خالل العام األول أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬كان املحتوى «الج ّ » ألحالمهم مشاب ًها ملحتوى قصائد خوندادزه عن املتسولني‬
‫والشعب يف تبلييس أي شخصية األب شيفردنادزه)‪ ،‬ما يبقيهم عاجزين ويستفزهم ليظلوا‬
‫انعكاسا الهتاممات الالجئني النمطيني الفموية‬
‫ً‬ ‫محلال نفس ًيا‪ ،‬كنت أسمع‬
‫ً‬ ‫غاضبني‪ .‬بصفتي‬

‫‪53‬‬
‫والرشجية‪ .‬أشري بالفموية إىل الرموز واإلشارات يف أحالمهم التي عكست خوفًا من البقاء‬
‫جيا ًعا‪ ،‬ورغب ًة يف التغذي‪ ،‬وإزاحة عوزهم إىل اخخرين‪ ،‬و«م غ» العدو‪ .‬وبالرشجية أنا أشري‬
‫إىل الرموز واإلشارات يف أحالمهم التي عكست رغبة يف جمع العديد من األغراض من‬
‫زاوية تحليلية نفسية‪ ،‬إنها تعكس الصورة الذهنية لإلمساك) وعمل كومة فوضوية أو تفجري‬
‫األشياء تعكس حركة عنيفة يف األمعاء)‪ .‬يف األحالم التي «راودتهم من أج » يف الليلة‬
‫السابقة لزياريت لهم‪ ،‬ظهرتُ أحيانًا بطريقة رصيحة وأحيانًا كزائر من خارج عامل َيهم‬
‫الفموي والرشجي‪ ،‬زائر يغذيهم أو يساعدهم يف تفجري األشياء دون الشعور بالذنب‪ .‬ليس‬
‫عجي ًبا‪ ،‬يف اعتقادي‪ ،‬أنني أصبحت «فاميكنا» بالنسبة لهم‪.‬‬
‫قيص يظهر اهتام ًما حقيق ًيا بهم مه ٌم يف‬
‫ّ‬ ‫كنت أدرك أن وجود شخص قادم من مكان‬
‫تحريك التوجه الداخ ألفراد عائلة كاتشافارا ويف تغيري عالقاتهم الشخصية‪ .‬لقد أبلغتني‬
‫دايل أن مجموعة من السيدات النازحات داخليًا يف بحر تبلييس ي ُز ْرنَها اخن بانتظام‪ .‬من‬
‫خالل التامهي معي‪ ،‬كانت تجري محادثات «عالجية» معهن‪ ،‬وتخربهن بعدم التكتم عىل‬
‫مخاوفهن وعدم إخفاء األرسار عن أطفالهن البالغني‪ .‬وقد شعرت بالسعادة ملعرفة أن دايل‬
‫كانت تسأل هؤالء السيدات أي ً ا عن أحالمهن!‬
‫بعد مرور عام أو نحو ذلك عىل مقابلتي عائلة كاتشافارا ألول مرة‪ ،‬حدث تغري كبري يف‬
‫األحالم التي راودت دايل وتامونا يف الليلة السابقة لزياريت لهم‪ .‬كام كان ساميف أحالم‬
‫ماموكا ممت ًعا ج ًدا‪ .‬لكن‪ ،‬لسوء الحظ‪ ،‬أبقاه جدول عمله يف هذا الوقت بعي ًدا عن بحر تبلييس‬
‫ومل يكن بإمكاين التحدث معه‪ .‬يف النويف الجديد من أحالم دايل وتامونا‪ ،‬مل أعد أحض‬
‫السلع إلشبايف رغباتهم الفموية والرشجية‪ ،‬املعوزة والعدوانية‪ .‬وقد أوحت األحالم الجديدة ما‬
‫أسميته إعادة عقدة أوديب لعواملهم الداخلية‪ .‬تت من اهتاممات الفتيات األوديبية شخصية‬
‫األب التي متنحهن الحب واألطفال يف الخيال طب ًعا) وتساعدهن عىل الشعور بالرضا عن‬
‫تطور أنوثتهن‪ .‬فقد تغريت أحالم تامونا بشكل واضح من قيامي بجلب أو متثي الرمزي‬
‫له) الطعام لها إىل قيامي بجلب طفل لها‪ .‬يف أحد األحالم كانت تُلبس طفلة ثوبًا جدي ًدا‬

‫‪54‬‬
‫وتلعب معها وتُ حكها‪ .‬وبدأت دايل تحلم بأنني سأنام يف شقتهم‪ .‬إننا‪ ،‬كأطفال‪ ،‬منر عاد ًة‬
‫مبراحل تطورية يف أثناء منونا‪ .‬إذ يشري التصنيف الكالسييك لهذه املراحل يف التحليل‬
‫النفيس إىل انتقال الطفل من االهتاممات الفموية إىل الرشجية ثم التناسلية واألوديبية التي‬
‫تعرب عن الرصاعات والحلول للمسائل الداخلية‪ .‬تدفع الصدمة املالجئ إىل التثبيتات السابقة‬
‫للمرحلة التناسلية‪ .‬فقد استشعرتُ أن قدومي من الخارج واهتاممي بهم‪ ،‬حشد محاوالت‬
‫دايل وتامونا للتقدم وإعادة الرغبة لعواملهام الداخلية‪ .‬فهام ستحبان نفسيهام وستشعران‬
‫مبزيد من تقدير الذات‪ .‬وهذا سيستهل‪ ،‬كام اعتقدت‪ ،‬تكيفًا جدي ًدا وأقل إحباطًا لظروفهم‬
‫الخارجية التي ما تزال بائسة‪.‬‬
‫حلمت دايل ورغبت يف أن أنام يف شقتهم حني أزور جورجيا‪ ،‬وأخربتني أنه ينبغي عليهم‬
‫إيجاد حل حتى يتوفر يل مكان مناسب للنوم مبا أن نومي بجانبها وجانب ماموكا لن يكون‬
‫مالمئًا‪ .‬لذلك‪ ،‬بدأت عائلة كاتشافارا‪ ،‬يف أواخر عام ‪ ،1999‬ببناء غرفة يل‪ .‬وأسموها «غرفة‬
‫فاميكنا»‪ .‬مل أقل شيئًا ملنع هذا ألنني‪ ،‬من الناحية النفسية‪ ،‬أدركت أن بناء هذه الغرفة كان‬
‫ريا خارجيًا عن رغبتهم يف جعل البؤساء‬
‫مرتبطًا بتوليد الرغبة لعاملهم الداخ – إذ كان تعب ً‬
‫محبوبني أكرث‪ .‬وألن شقة عائلة كاتشافارا كانت أقىص الجانب الغريب من أوكروس‬
‫ساتسمييس‪ ،‬كان بإمكانهم فصل جزء من الرواق وتحويله إىل مكان للسكن بطول عرشة‬
‫أقدام وعرض عرشة أقدام‪.‬‬
‫استغرق بناء «غرفة فاميكنا» عا ًما‪ .‬وقد الحظت خالل زيارايت أن العائلة كانت تشارك يف‬
‫شكل من أشكال «اللعب العالجي» إلصالح عاملهم الخارجي وعواملهم الداخلية املقابلة‪ .‬وأفراد‬
‫عائلة كاتشافارا مثل تامونا التي كانت يف أحد أحالمها تُلبس ثوبًا جدي ًدا للطفلة التي‬
‫«جلب ُتها» لها من أمريكا‪ ،‬إذ كانت «غرفة فاميكنا» الطفل الجديد املشرتك لعائلة كاتشافارا‪،‬‬
‫الذي يجسد إحساسهم بأنهم «يولدون من جديد» من اكتئاب وحداد معقدين‪ .‬اقرتح املحللون‬
‫النفسيون‪ ،‬ال سيام الذين يعملون مع األطفال‪ ،‬أن أف ل وصف «للّعب» يكون من خالل‬
‫وظائفه‪ ،‬وهم يعتربون الطرق العديدة التي يلعب بها األطفال محاوالت إليجاد حلول‬

‫‪55‬‬
‫للنزاعات‪ ،‬أي إرساء التغلب عىل األنا واإلبدايف‪ 25.‬بتسمية الغرفة باسمي‪ ،‬احتفظوا بصوريت‬
‫«العالجية» معهم بينام يشاركون يف لعبة العام الواحد‪ .‬وحني كنت يف أوكروس‬
‫ساتسمييس مل يسمحوا يل برؤية عملهم عىل الغرفة‪ ،‬إذ طلبوا مني أن أنتظر وأرى النتيجة‬
‫النهائية‪ .‬كان باب الغرفة التي يبنونها مغطى بقطعة قامش معلقة‪ .‬أخربوين أنهم‬
‫سي يفون موق ًدا إىل الغرفة‪ ،‬وتحدث ماموكا عن انتهائه من تركيب الخشب عىل األرضيات‪.‬‬
‫حلمت دايل بحلم جديد رأتني فيه نامئًا يف هذه الغرفة‪ .‬بدأت أتخيل أن «غرفة فاميكنا»‬
‫ستكون كجوهرة يف وسط كومة من القاممة – وهو تعبري خارجي عن إعادة الرغبة لعواملهم‬
‫ريا بساميف وصفهم للغرفة املستقبلية ورؤية حامستهم‪.‬‬
‫الداخلية‪ .‬لقد استمتعت كث ً‬
‫تساءلت أي ً ا مل استثمرتُ الكثري يف هذه العائلة‪ .‬هل كنت أميض الوقت معهم من أجل‬
‫ُ‬
‫اهتاممايت األكادميية وجمع البيانات عن التكيف الداخ الطويل للنفي القرسي فحسب؟‬
‫لقد أدركت منذ البداية أن رغبتي تجاوزت مجرد الشعور بالسعادة لكوين عونًا لعائلة‬
‫كاتشافارا‪ .‬فثمة قصتان أخربوين بهام ربطتاين بهم عاطفيًا وجعلتاين أمتاهى معهم‪.‬‬
‫لكنني مل أخربهم مبدى تشابه هاتني القصتني مع تجارب عشتها يف حيايت‪ ،‬إذ اعتقدت أن‬
‫مايض قد يكون عبئًا‪ ،‬فهم سريغبون بال شك يف مساعديت يف جراحي القدمية‬
‫َّ‬ ‫مشاركة‬
‫وهذا قد يستلزم املزيد من العمل النفيس عليهم‪.‬‬
‫لقد ولدت يف جزيرة قربص يف البحر املتوسط وتركت تلك البقعة من العامل مع تصاعد‬
‫الرصايف اإلثني بني اليونانيني واألتراك يف الجزيرة‪ .‬قبل مجيئي إىل الواليات املتحدة يف عام‬
‫‪ ،1957‬تشاركت شقة يف أنقرة برتكيا ألكرث من عامني مع تريك قربيص آخر‪ .‬وكالنا كان‬
‫يدرس يف كلية الطب هناك‪ .‬بعد ثالثة أشهر من وصويل بأمان إىل الواليات املتحدة‪ ،‬قُتل‬
‫رفيقي السابق يف السكن برصاص إرهابيني يونانيني قربصيني يف أثناء زيارة عائلته يف‬
‫قربص‪ .‬مل يُقتل بسبب ثأر شخيص‪ ،‬وإمنا قُتل باسم الهوية‪ .‬لقد كان شابًا صاع ًدا يف الجالية‬
‫الرتكية يف قربص‪ ،‬وقد قُتل ألنه ينتمي إىل تلك الجالية‪ ،‬وألن العدو أراد إيذاء املجموعة‬
‫الكبرية املعارضة وإذاللها والتسبب يف جرح جامعي – أي باسم مجموعتهم الكبرية‪ .‬ملا‬

‫‪56‬‬
‫مقيام يف مستشفى الشامسة اللوثرية يف شيكاغو‪،‬‬
‫ً‬ ‫علمت مبوت صديقي‪ ،‬بينام كنت طبي ًبا‬
‫شعرت بذنب الناجي‪ 26.‬كام مل أمتكن‪ ،‬يف مرات عديدة ولشهور يف كل مرة عىل مدار‬
‫سنوات‪ ،‬من االتصال بأفراد عائلتي الذين أجربوا عىل العيش يف جيب تريك يف قربص‬
‫ريا‪ ،‬يف عام ‪ ،1968‬متكنت من العودة إىل قربص بعد تحسن الوضع‬
‫محاط بأعدائهم‪ .‬أخ ً‬
‫السيايس والعسكري‪ .‬ويف أثناء وجودي هناك‪ ،‬زرت صديقي الشاعر أوزكر ياشن‪.‬‬
‫يف ‪ 25‬ديسمرب ‪ ،1963‬وهو اليوم الذي أصبح األتراك القبارصة يطلقون عليه اسم «عيد‬
‫امليالد الدامي»‪ ،‬قبض اليونانيون القبارصة عىل زوجة أوزكر ووالدته‪ ،‬كام حصل ملعظم‬
‫األتراك اخخرين الذين يعيشون يف قريتهم املختلطة بالقرب من العاصمة نيقوسيا‪ .‬نجا‬
‫أوزكر من األرس ألنه ذهب يف يوم االعتقال إىل القسم الرتيك من العاصمة‪ .‬يف الليلة التي‬
‫أُرست فيها زوجته‪ ،‬أنجبت طفلها يف مستشفى نيقوسيا العام‪ ،‬الذي كان آنذاك تحت‬
‫السيطرة اليونانية القربصية‪ .‬تُرك الطفل حديث الوالدة يف رسير مع أطفال أتراك آخرين‬
‫صادف وجودهم هناك يف ذلك الوقت‪ ،‬و ُوضعوا يف غرفة كانت تُستخدم أي ً ا كمستوديف‬
‫صدمت ممرضة بريطانية لدى رؤيتها هذا املشهد‪،‬‬
‫لجثث ال حايا األتراك‪ .‬يف نهاية املطاف‪ُ ،‬‬
‫ومتكنت من فصل األطفال األحياء عن األتراك القتىل‪ .‬ظل أوزكر لبعض الوقت ال يعلم شيئًا‬
‫عن نجاة زوجته ووالدته من األرس‪ ،‬لكن شملهم التم يف ‪ 10‬يناير‪ ،‬مع الطفل الوليد‪ ،‬الذي‬
‫ُس ِّمي «سافاش» يعني «الحرب») بسبب ظروف والدته‪.‬‬
‫يف ‪ 13‬يناير‪ ،‬كتب صديقي الشاعر قصيدة يخاطب بها ابنه‪:‬‬
‫برصاصة من شخص وضيع‬
‫كان من املمكن أن متوت‪ ،‬يا سافاش‪،‬‬
‫قبل أن تولد‪:‬‬
‫كنت ستموت يف بطن أمك‬
‫دون أن تعرف‬
‫املعجزة التي تسمى حياة‬

‫‪57‬‬
‫فلها جزيل الشكر عىل خالصك‬
‫لقد ُولدتَ …‬
‫‪27‬‬
‫وقد كان من املحتمل أال تولد‪.‬‬
‫بني ‪ 13‬يناير و‪ 10‬مارس من عام ‪ ،1963‬كتب الشاعر سلسلة من القصائد األخرى املوجهة‬
‫البنه‪ .‬ونُرشت تحت عنوان رسائل إىل ابني سافاش‪ .‬باإلضافة إىل مجل َدي أوزكر املنشورين‬
‫سابقًا‪ 28،‬شكلت هذه الرسائل تاري ًخا شعريًا للرصايف القربيص من وجهة نظر تريك‬
‫قربيص‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لقد كتب صديقي قصيدة يوم ًيا عىل مدى ب ع سنوات‪ .‬وحني زرته‬
‫أعطاين نس ًخا من املجلدات الثالثة التي قرأتها بعد عدة أيام وشعرت بالتأثر‪.‬‬
‫بعد أحد عرش عا ًما‪ ،‬يف ربيع عام ‪ ،1975‬ق يت بعض الوقت مع سافاش الصغري حني‬
‫زرت قربص مرة أخرى‪ .‬يف إثر رؤيته جثة يف بستان قريب‪ ،‬وهي ضحية أخرى للرصايف‬
‫الرتيك القربيص واليوناين القربيص املتقطع‪ ،‬أصيب سافاش البالغ من العمر أحد عرش‬
‫عا ًما بإحساس غريب يف جلد وجهه‪ .‬إذ بدت برشته جافة‪ ،‬واعتقد أنه إذا حكّها‪ ،‬فإن أجزا ًء‬
‫من وجهه ستتهشم كأنه وجه لتمثال حجري‪ .‬بعد حديثي معه‪ ،‬أدركت أنه يحمل عبء أن‬
‫خاصا للرصايف القربيص منذ نعومة أظفاره‪ .‬يف هذا الوقت‪ ،‬اعتقدت أنه تحول‬
‫ً‬ ‫يكون رم ًزا‬
‫إىل «متثال حي»‪ ،‬أشبه بجسم رابط حي‪ .‬وقد متكنت من مساعدة سافاش واختفت أعراضه‪.‬‬
‫علمت أن نودار كان يكتب قصيدة كل يوم كصديقي أوزكر متا ًما‪ ،‬ربطت يف الحال‬
‫ُ‬ ‫حني‬
‫عامل النازحني الجورجيني بعامل «شعبي» يف قربص يف ستينيات وسبعينيات القرن‬
‫العرشين‪ .‬وقد كان هذا أول رابط عاطفي أحسه نحو عائلة كاتشافارا‪ .‬أما القصة األخرى‬
‫التي ربطتني بقوة بعائلة كاتشافارا وجعلتني أمتاهى معهم أكرث‪ ،‬فوردت من دايل حني‬
‫أخربتني عن رؤيتها‪ ،‬بالصدفة‪ ،‬احرتاق منزلهم وتشاريل األول يف بث تلفزيوين رويس‪ .‬يف‬
‫مجهوال عىل أيدي اليونانيني‬
‫ً‬ ‫ريا‬
‫صيف عام ‪ ،1974‬واجه األتراك القبارصة مرة أخرى مص ً‬
‫يف الجزيرة‪ .‬إال أن الجيش الرتيك يف هذه املرة قد تدخل وسيطر عىل الجزء الشاميل من‬
‫الجزيرة‪ ،‬وقسمه بحكم األمر الواقع إىل قسم شاميل تريك وقسم جنويب يوناين‪ .‬ال شك أن‬

‫‪58‬‬
‫هذه الحرب أسفرت عن مآيس جديدة وهلك كثريون من كال الطرفني‪ .‬لكنني يف أثناء إقامتي‬
‫يف الواليات املتحدة‪ ،‬مل أمتكن من التواصل مع عائلتي يف الجزيرة‪ ،‬ومل يكن لدي أدىن فكرة‬
‫عام قد يصيبهم وخشيت أن يُقتلوا خالل الحرب‪.‬‬
‫يف وقت متأخر ذات ليلة‪ ،‬كنت أشاهد التلفاز يف منزيل يف شارلوتسفيل بفريجينيا‪،‬‬
‫وفجأة‪ ،‬ظهر عىل الشاشة وجه أمي يغزوه الخوف‪ ،‬ثم رأيت إحدى أخوايت وبعض جريانها‪.‬‬
‫تحدث أحد املراسلني وقال إن الصور املتلفزة تظهر األتراك القبارصة وهم يخلون منازلهم‬
‫ألنهم يتوقعون هجوم اليونانيني القبارصة عليهم‪ .‬كان منزل أختي وما يزال) عىل الحد‬
‫الفاصل بني القسمني الرتيك واليوناين يف نيقوسيا‪ .‬مل أصدق ما كنت أراه وأسمعه‪ .‬لقد‬
‫أُصبت بالصدمة وشعرت بالذنب لوجودي يف مكان آمن‪ ،‬ولعجزي عن مساعدة أمي وأختي‬
‫و«شعبي»‪ .‬كنت مذعو ًرا أي ً ا‪ .‬مبرور بعض الوقت‪ ،‬ظننت أنني كنت أهلوس كل ذلك‪ .‬يف‬
‫صباح اليوم التايل‪ ،‬أعادت املحطة التلفزيونية نفسها خرب الليلة السابقة وعرضت ذات‬
‫الصور‪ ،‬وهذه املرة شاهدتها زوجتي أي ً ا‪ .‬فانهار دفاعي –اعتقادي بأنني كنت أهلوس–‬
‫ضد أفكاري ومشاعري املر ِهقة‪ ،‬وتُركت تحت رحمة مخاويف‪ .‬حني أخربتني دايل أنها رأت‬
‫عىل شاشة التلفاز منزلها يشتعل وتشاريل األول يركض يف األرجاء‪ ،‬شعرت بأنني قريب‬
‫منها ج ًدا‪ .‬من الواضح أن رغبتي يف مساعدة دايل وعائلتها انطوت عىل جوانب من رغبتي‬
‫مايض‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يف العمل عىل مسائ غري املنتهية التي كانت مرتبطة بصدمات من‬
‫يف املرة التالية التي ذهبت فيها إىل جورجيا‪ ،‬توقعت أن أرى «غرفة فاميكنا» الجاهزة‪.‬‬
‫قابلت جانا التي أعلمتني باألخبار السيئة‪ .‬فقبل‬
‫ُ‬ ‫يف صباح اليوم التايل لوصويل إىل تبلييس‪،‬‬
‫أسابيع من قدومي إىل جورجيا‪ ،‬أصيبت دايل بسكتة دماغية وهي يف حالة صحية مزرية‪.‬‬
‫أضافت جانا‪« :‬أنا آسفة!»‪ .‬لقد حدث ذلك بعد انتهاء عائلة كاتشافارا من بناء «غرفة فاميكنا»‬
‫هيكل ًيا‪ .‬قابلت جانا دايل‪ .‬ومن الواضح أنها خرست الوزن ومل تب ُد يف حال جيدة‪ .‬أخربتني‬
‫أي ً ا أنهم استدعوا طبي ًبا جورج ًيا يدعى أوكروس ساتسمييس لفحص دايل وأنه هو من‬
‫ش ّخص حالتها عىل أنها من مظاهر السكتة الدماغية‪ .‬ذُهلت مام سمعته وأرصيت عىل تغيري‬

‫‪59‬‬
‫جدول أعاميل للذهاب إىل أوكروس ساتسمييس عىل الفور‪ .‬أخربتني جانا وأصدقايئ‬
‫الجورجيون اخخرون أنه ما من يشء ميكنني فعله ما دامت دايل تواجه صعوبة يف الكالم‪.‬‬
‫إال أنهم استسلموا أمام إرصاري الدؤوب وقادوين إىل بحر تبلييس‪.‬‬
‫كانت دايل مستلقية عىل رسير نقال موضويف يف غرفة الجلوس‪ .‬بدت شاحبة ومري ة‪،‬‬
‫كشبح ي وي جسمه‪ .‬سحبت كرس ًيا وجلست بجوارها فرمقتني بابتسامة خافتة وأخربتني‬
‫أنه منذ ب عة أسابيع مات تشاريل الثاين ألسباب طبيعية‪ .‬عىل حد علمي‪ ،‬كان عقلها عىل‬
‫ما يرام‪ .‬عىل الرغم من أنني مل أج ِر أي فحوصات عصبية خالل مامرستي للتحليل النفيس‬
‫منذ عقود‪ ،‬فقد أدركت يف الحال أن دايل ال تعاين سكتة دماغية‪ ،‬وإمنا مصابة باكتئاب‬
‫شديد‪ .‬تذكرت أنه يف كل زيارة تقري ًبا من زيارايت إىل بحر تبلييس‪ ،‬أُقيمت مراسم جنازة‬
‫أمام أحد الفنادق الثالثة السابقة‪ .‬وقد قيل يل إنه يف هذا املجتمع من النازحني‪ ،‬ميوت بعض‬
‫الرجال والنساء فجأة «دون سبب واضح»‪ .‬فاستنتجت أن كون املرء الجئًا ومصابًا باالكتئاب‬
‫مزيج مميت‪ .‬لكنني مل أعرف ما التغيريات الفزيولوجية أو البيولوجية التي بدأت يف هذا‬
‫املكان أو كيف تطورت لتصبح قاتلة لسكانه‪ .‬بدت دايل اخن كأنها ستكون قريبًا يف عداد‬
‫أدركت عدم إصابتها بسكتة دماغية وأنها متكنت من‬
‫ُ‬ ‫املوىت أي ً ا‪ .‬إال أنني كنت راضيًا أن‬
‫إخباري سبب اكتئابها الشديد – أال وهو موت تشاريل‪.‬‬
‫طلبت من اخخرين جميعهم تريك أنا وجانا وح َديْنا مع دايل‪ .‬فغادر الجميع وق يت أنا‬
‫ُ‬
‫ودايل ساعات طويلة نتحدث مبساعدة جانا طب ًعا) دون إضاعة الوقت يف فعل يشء آخر‪.‬‬
‫قائال إنه بفقدانها الجسم الرابط الحي‪ ،‬مل يعد‬
‫لقد «فرست» معنى موت تشاريل لدايل‪ً ،‬‬
‫بإمكانها تأجيل حدادها أو التحكم فيه‪ .‬وقد أُجربت عىل مواجهة حزنها وشعورها بالذنب‬
‫تجاه فقدان منزلها املف ل يف غاغرا‪ ،‬وموت الطيار الذي أنقذها وأطفالها‪ ،‬وفقدان تشاريل‬
‫األول والثاين – باختصار‪ ،‬حياتها السابقة وهويتها‪ .‬أخربتني دايل برتو عن األحداث األخرية‬
‫أصبحت هي‪ ،‬ال الحيوان األليف‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫استبدلت تشاريل وكيف‬ ‫وكان بإمكان كالنا أن يفهم كيف‬

‫‪60‬‬
‫جسام رابطًا ح ًيا كاد يقصم‬
‫ً‬ ‫جسام رابطًا ح ًيا لبقية أفراد عائلة كاتشافارا‪ .‬إن عبء كونها‬
‫ً‬
‫ظهرها‪ ،‬إذ كانت تؤدي مبفردها املهمة التي يقوم بها الجسم الرابط أو الظاهرة الرابطة‪.‬‬
‫انتهى بناء «غرفة فاميكنا» بالصدفة قبل موت تشاريل الثاين‪ .‬ويف هذه األثناء أي ً ا‪ ،‬كان‬
‫أصغر أوالد دايل يفسح املكان مبغادرة املستوطنة يف النهار للدراسة يف الجامعة‪ .‬قبل موت‬
‫تشاريل‪ ،‬تزوج فالريي صديقته من منطقة بحر تبلييس وكان أليكو مغر ًما بفتاة أخرى كانت‬
‫هي أي ً ا نازحة‪ .‬شعرت دايل أنها تُركت خارج هذه التغيريات‪ .‬فقد «كلفتها» العائلة بحمل‬
‫عبء هويتهم كالجئني‪ .‬يف هذا الوقت‪ ،‬غريت العائلة خطة العام الواحد للعودة إىل أبخازيا‬
‫إىل خطة الخمس أعوام‪.‬‬
‫أصبح إمتام بناء الغرفة وموت الكلب مرتبطني بأحداث أخرى تتعلق بالهوية‪ .‬فالعملية‬
‫التي أسميها «التحقق» من هويات الالجئني الجديدة‪ ،‬باعتبارها استمرا ًرا لهوياتهم السابقة‪،‬‬
‫من خالل آخرين مهمني من الناحية النفسية رضوري ٌة لتكيف الالجئ مع بيئته الجديدة‪ .‬وقد‬
‫مهام كان يقوم بعملية التحقق هذه‪ .‬سيقول املحللون‬
‫اعتربين أفراد عائلة كاتشافارا آخر ً‬
‫النفسيون إن أفراد عائلة كاتشافارا قد طوروا «انتقاالً إيجابيًا» نحوي‪ .‬فثمة حدثان مؤخران‬
‫آخران «تحققا» من هويتي نودار وماموكا باعتبارهام استمرا ًرا لهويتهام يف أبخازيا‪.‬‬
‫تلقى نودار‪ ،‬وهو كاتب وصحفي بارز يف أبخازيا قبل الحرب‪ ،‬تحققًا عندما نُرشت‬
‫القصائد التي بدأ بكتابتها يف بحر تبلييس يف صيغة كتاب ونالت اعرتافًا بأنها قطعة أدبية‬
‫غريته‪ .‬فدايل‬
‫رائعة‪ .‬أخربتني دايل أي ً ا أن نودار حصل عىل جائزة عن كتابه وأن التجربة ّ‬
‫رجال حنقًا‪ ،‬أما اخن فالبسمة ال تفارق شفتيه‪.‬‬
‫تعرف أن والدها كان يف السابق ً‬
‫كام أخربتني دايل عن حدث بالغ األهمية يف حياة زوجها‪ .‬فبعد موت تشاريل الثاين‪،‬‬
‫نظمت وزارة الشؤون الداخلية الجورجية مباراة كرة قدم بني العبي كرة القدم املحليني من‬
‫تبلييس والعبي كرة القدم الجورجيني النازحني داخل ًيا من أبخازيا تخلي ًدا لذكرى العب‬
‫جورجي من أبخازيا تعرض للتعذيب والقتل عىل يد أبخازيني‪ .‬أوضحت دايل كيف شارك‬

‫‪61‬‬
‫ماموكا يف هذه املباراة وسجل هدفني‪ ،‬فأثبت أنه بطل بني املتفرجني‪ .‬وأهم من ذلك أ ْن منحته‬
‫كأسا منقوشً ا عليه اسمه وتاريخ املباراة‪.‬‬
‫السلطات ً‬
‫يف هذه اللحظة‪ ،‬متكنت دايل من النهوض واصطحبتني أنا وجانا إىل «غرفة فاميكنا»‪،‬‬
‫التي من الواضح أنها بنيت بحب وعناية‪ .‬كانت األرضية الخشبية مصقولة؛ وضمت الغرفة‬
‫موق ًدا ونافذة‪ .‬إال أنها مل تحت ِو إال عىل كأس ماموكا‪ ،‬الذي نُصب عىل رف املوقد الخشبي‬
‫وأرادت دايل أن نراه‪ .‬ملا عدنا إىل غرفة الجلوس‪ ،‬جلسنا جمي ًعا عىل الكرايس وتحدثت دايل‬
‫عن عمل ماموكا‪ .‬كان ماموكا ما يزال رشط ًيا يف تبلييس‪ ،‬ويتوىل قيادة رجال رشطة من‬
‫الرتب الدنيا‪ ،‬جميعهم من النازحني الذين يعيشون يف بحر تبلييس‪ .‬كانت دايل تعرف أن‬
‫رئيس ماموكا املح رجل صالح يعامل ماموكا باحرتام‪ .‬وقد أخربتني دايل أن ماموكا بدأ‬
‫مؤخ ًرا الحديث عن تغيري خطتهم من خمسية إىل عرشية‪ .‬شعرت أن دايل مل تكن جاهزة‬
‫الحظت إثباتًا عىل أنها أصبحت‬
‫ْ‬ ‫بعد ملثل هذا التغيري‪ .‬وخالل حديثنا بعد ظهر ذلك اليوم‪،‬‬
‫قديم‬ ‫الجسم الرابط الحي لكل فرد يف العائلة منذ موت تشاريل‪ .‬فثمة طقس عائ‬
‫ميارسونه مجد ًدا‪.‬‬
‫أخربتني دايل أنه حتى بعد حصول والدها عىل الجائزة‪ ،‬واصل كتابة قصيدة يف اليوم‪.‬‬
‫حض قصائده بشكل شعائري إىل مائدة اإلفطار كل صباح‪ ،‬ولكن اخن ال‬ ‫فهو ما يزال يُ ِ‬
‫تجلس سوى دايل وتستمع إليه وهو يلقيها‪ .‬ووفقًا لها‪ ،‬ما تزال قصائده تنطوي عىل إشارات‬
‫إىل أوضايف الالجئني البائسة‪ .‬بعد أن يلقيها‪ ،‬يعطيها لدايل ويبتسم ثم يغادر الغرفة‪ .‬بات‬
‫واض ًحا لنا أن دايل قد أصبحت الشخص الوحيد الذي يؤدي دور «الخزان» لحزنه وإحباطه‬
‫وشعوره بالذنب بشكل يومي‪ .‬أخربتها أن استبدالها بتشاريل قد يرمي عىل عاتقها مسؤولية‬
‫قطع روابط األرسة باملايض أو الحفاظ عليها‪ .‬وما دامت تنظر إىل هذه املهام عىل أنها‬
‫التزامات‪ ،‬فإنها ت ع نفسها تحت ال غط‪ .‬وكانت «قدرتها» عىل قطع هذه الرابطة –بعبارة‬
‫أخرى «قتل» هوية العائلة ما قبل الهجرة– تسبب لها الشعور بالذنب‪ .‬قالت يل دايل إنها‬
‫فهمت رشحي‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ومثة عامل آخر يقتحم عامل دايل الداخ ويسبب لها االكتئاب الشديد‪ .‬أخربتني أن «غرفة‬
‫فاميكنا»‪ ،‬كام رأيت‪ ،‬باتت مكتملة من الناحية الهيكلية‪ .‬وسيرشعون قري ًبا يف تزيينها‪ .‬قالت‬
‫أدركت أنني لن أنام هناك‪ .‬وكان عليها أن تتخىل‬
‫ْ‬ ‫يل دايل إنه ملا أوشكت الغرفة عىل االكتامل‪،‬‬
‫عن وهمها السابق‪ .‬قالت إنها بدأت تواجه الحقيقة بأنني لست فر ًدا من أفراد األرسة‪ .‬عند‬
‫محلال نفس ًيا‪ ،‬سمعت كيف كانت تستعد للتخ عني كشخصية‬
‫ً‬ ‫اإلصغاء إىل دايل بصفتي‬
‫انتقال) مثالية «مولدة للرغبة»‪ ،‬رمبا متثل أبًا أوديب ًيا‪ .‬أخربتها بعبارات غري اصطالحية أنه‬
‫عليها أن تتخىل عني وتفجع عىل هذه «الخسارة» بنفس الطريقة التي «تفجع» بها الفتاة‬
‫األوديبية عىل خسارة والدها األوديبي وهي تحل عقدة أوديب‪ .‬أصغت إيل بعناية‪ .‬فأخربتها‬
‫أي ً ا أنه ما يزال بإمكاين االعتناء بها حتى لو مل أنم يف «غرفة فاميكنا» وأن هذه الغرفة‬
‫تخصها هي وعائلتها‪ .‬مع اقرتاب محادثتنا الطويلة يف ذلك اليوم من نهايتها‪ ،‬ذكّرت دايل‬
‫أناسا يف سنها وحتى أصغر‪ ،‬كانوا ميوتون يف بحر تبلييس‪ ،‬غالبًا بدون أسباب‬
‫بأن ً‬
‫علمت مبشاعرها اإليجابية تجاهي االنتقال)‪ ،‬رفعت صويت وأخربتها‬
‫ُ‬ ‫واضحة‪ .‬وبعد أن‬
‫جا للنازحني‬
‫بأنني لن أمنحها اإلذن باملوت وأضفت أنها إذا مل متت‪ ،‬فيمكن أن تصبح أمنوذ ً‬
‫شخصا متكن من البقاء عىل قيد الحياة والتكيف‪.‬‬
‫ً‬ ‫اخخرين املكتئبني‪،‬‬
‫حني عدت بعد نحو خمسة أشهر‪ ،‬الحظت شيئًا عىل الجانب الغريب من أوكروس‬
‫ساتسمييس‪ ،‬فعىل الجدار املواجه ملوقف السيارات أنبوب مدخنة طويل ج ًدا بدأ من الطابق‬
‫السادس ووصل إىل السطح تقري ًبا‪ .‬وألنه الهيكل الوحيد من هذه الشاكلة عىل الجدار‬
‫الخارجي‪ ،‬فقد بدا يف غري محله‪ ،‬لكنني عرفت يف الحال أن املوقد يف «غرفة فاميكنا» أصبح‬
‫اخن جاه ًزا للتشغيل‪ .‬بينام كنت أصعد الدرج املؤدي إىل منزل عائلة كاتشافارا‪ ،‬الحظت كم‬
‫كانت املمرات نظيفة‪ .‬أخربين رفاقي الجورجيون أن بعض األموال قد جاءت مؤخ ًرا من‬
‫الرنويج وأن النازحني داخل ًيا يف بحر تبلييس أصبحوا اخن أقدر عىل االعتناء مبحيطهم‬
‫املادي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫حني قابلت دايل بالكاد عرفتها‪ .‬فقد اكتسبت بعض الوزن وكانت تبتسم وألول مرة أراها‬
‫ت ع مستحضات التجميل‪ .‬وقفت إىل جانبها كلبة متوسطة الحجم بلون ذهبي وبقعة‬
‫سوداء‪ .‬وبحامسة تغلب صوتها‪ ،‬قالت دايل لجانا التي كانت ترافقني لرتجمة كلامتها عىل‬
‫الفور‪ ،‬مشرية إىل الكلبة‪« :‬هذه ليندا»‪« .‬إنها كلبة وليست سوداء‪ .‬وهي ليست استمرا ًرا‬
‫لتشاريل األول والثاين‪ .‬إنها مجرد كلبة‪ .‬إىل جانب ذلك‪ ،‬أصلحنا منطقة مسيجة خارج‬
‫أوكروس ساتسمييس لها وهي تقيض الكثري من الوقت يف الهواء الطلق‪ .‬وأنا ال أعتمد عىل‬
‫صحبتها طوال الوقت‪ .‬وال أسخرها للرصايف بشأن العودة إىل غاغرا أو البقاء هنا يف بحر‬
‫تبلييس»‪.‬‬
‫وأدركت‬
‫ُ‬ ‫خالل هذه الزيارة‪ ،‬كان ماموكا الذي ارتدى أف ل مالبسه املدنية يف انتظارنا‪.‬‬
‫يف الحال أن هذا سيكون يو ًما ممي ًزا‪ .‬فعائلة كاتشافارا ستصطحبنا إىل «غرفة فاميكنا»‬
‫بطريقة «رسمية» إىل حد ما‪ .‬إذ طلب ماموكا من دايل تقديم البسكويت والقهوة لنا عىل‬
‫طاولة يف الغرفة الجديدة بينام كان يعلِمنا أنها اخن باتت جاهزة ومؤثثة بالكامل‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫قالت دايل إنها ليست ترغب يف خرق تقاليدنا يف االجتاميف يف غرفة الجلوس األصلية للشقة‬
‫التي تم تجديدها أي ً ا‪ .‬سارعت دايل بإبالغي أن الغرفة الجديدة مل تعد تسمى «غرفة‬
‫فاميكنا»؛ فقد أصبحت لهم‪ .‬وبينام كنا نحتيس قهوتنا‪ ،‬تكلم ماموكا عن تغري حياتهم بعد‬
‫قائال‪« :‬ليس لدينا اخن خطط لعام واحد أو عرشة أعوام»‪.‬‬
‫تعايف دايل من مرضها‪ .‬وأضاف ً‬
‫«كم كان غب ًيا أن أذهب أنا ورجايل إىل الحدود ونقاتل‪ .‬لقد خرسنا أبخازيا‪ .‬وسنحتاج إىل‬
‫االنتظار فرتة طويلة لرنى كيف ستسري األمور عىل الصعيد السيايس‪ .‬يف غ ون ذلك‪ ،‬نحن‬
‫منزال لنا‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬لن يكون مثل منزلنا يف‬
‫هنا يف بحر تبلييس‪ ،‬وعلينا أن نجعل هذا املكان ً‬
‫غاغرا‪ .‬لكننا يف الوقت الحايل ليس يف وسعنا رشاء مكان أف ل يف تبلييس»‪ .‬واصل ماموكا‬
‫تقييم وضعه‪ .‬وقد كان أكرث هدو ًءا اخن‪ ،‬لكنه كان يعاين صدا ًعا عرض ًيا وغري قادر عىل‬
‫قائال‪« :‬أعتقد أن هذا أف ل تكيف ميكنني القيام به‪ .‬أنا‬
‫اإلقاليف عن التدخني برشاهة‪ .‬متتم ً‬
‫بخري خالل النهار‪ ،‬لكنني أجد صعوبة يف النوم»‪ .‬نزل نودار‪ ،‬متأنقًا أي ً ا من أجل املناسبة‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫وحامال نسخة موقَّعة من مجموعته الشعرية‪ .‬بطريقة رسمية نو ًعا ما ق ّدم النسخة يل‬
‫ً‬
‫وغادر‪ .‬مل أره يو ًما بهذه السعادة‪ .‬ثم اصطحبتني دايل وماموكا مع جانا إىل غرفتهام‬
‫الجديدة‪.‬‬
‫كانت الغرفة مؤثثة بعناية‪ .‬فإىل جانب بقعة للجلوس فيها عثامنية‪ ،‬خزان ُة عرض‬
‫تواجهها‪ .‬ويف الخزانة ُعرضت صور مؤطرة التقطتُها لهم خالل زيارايت السابقة وتذكارات‬
‫شارلوتسفيل التي أحضتها لهم‪ ،‬كفنجان قهوة عليه شعار جامعة فريجينيا‪ .‬إىل جانب‬
‫الخزانة‪ُ ،‬علِّقت عىل الجدار لوحة زيتية ملبنى فاخر محفوف باألشجار‪ .‬وكان كأس كرة القدم‬
‫ما يزال عىل رف املوقد الخشبي‪ .‬طلب مني ماموكا أن أحمله ألشعر مبدى ثقله وصالبته‪.‬‬
‫اعتقدتُ أنه كان مبثابة نصب تذكاري لهويته‪ ،‬التي تم التحقق منها باعتبارها استمرا ًرا‬
‫لهويته كالعب كرة قدم مشهور من غاغرا‪ .‬ثم أخربين ماموكا قصة اللوحة الزيتية‪.‬‬
‫ملا حصل عىل كأس كرة القدم‪ُ ،‬منح العب آخر من النازحني داخليًا لوحة لفندق غاغريبش‪.‬‬
‫ووفقًا ملاموكا‪ ،‬كان فندق غاغريبش أشهر موقع يف غاغرا حني عاشت عائلة كاتشافارا هناك‪.‬‬
‫بعد املباراة‪ ،‬شعر ماموكا أنه يرغب أي ً ا يف اقتناء لوحة لفندق غاغريبش‪ .‬لكنه مل يخربنا‬
‫بنفسه أتربطه ذكرى شخصية بهذا الفندق أم ال‪ ،‬وأنا مل أسأله‪ .‬عرف َمن رسم اللوحة التي‬
‫ُمنحت لالعب كرة القدم اخخر وأجرى الرتتيبات الالزمة للرسام لرسم لوحة أخرى لعائلة‬
‫طلبت منهم أن يخربوين أكرث عام تعنيه اللوحة لهم‪ ،‬أخربين ماموكا ودايل‬
‫ُ‬ ‫كاتشافارا‪ .‬وحني‬
‫أنهام كانا عىل دراية تامة بأن اللوحة كانت تذكا ًرا لهويتيهام ما قبل اللجوء‪ .‬إنها اخن يف‬
‫«غرفة فاميكنا» سابقًا‪ ،‬كشاهدة القرب التي تساعد املفجوعني عىل إكامل حدادهم‪ .‬وألن دايل‬
‫تعرف الكثري عن األجسام الرابطة بف ل محادثاتنا السابقة‪ ،‬كانت مستعدة إلخباري بأن‬
‫جسام رابطًا ألنها‪ ،‬كام أخربتني هي وماموكا‪ ،‬ترمز إىل أنه لن يكون هناك‬
‫ً‬ ‫اللوحة ليست‬
‫أدركت أن اللوحة كانت «ذكرى ال‬
‫ُ‬ ‫عودة إىل غاغرا‪ .‬فاخن ال خطط يف جعبتهم للعودة‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫مستقبل لها»‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫رسعان ما حضت تامونا وأليكو وفالريي وزوجتاهام‪ .‬شعرتُ أن زوجة فالريي تشبه‬
‫دايل الشابة‪ .‬كان حفل زفاف أليكو قد أُقيم قبل مجيئي بأسبويف لرؤية «غرفة فاميكنا»‬
‫السابقة‪ .‬ساد جو احتفايل يف منزل العائلة‪ .‬كان عىل ماموكا الذهاب إىل العمل وكان عىل‬
‫األوالد أي ً ا املغادرة‪ ،‬إال أنهم قبل أن يغادروا‪ ،‬قدموا يل هدية باسم عائلة كاتشافارا‪ .‬كان‬
‫سيفًا جورج ًيا منوذج ًيا بغمد مزخرف‪ .‬بعد مغادرة أفراد عائلتها‪ ،‬طلبت دايل مني ومن جانا‬
‫االن امم إليها يف غرفة الجلوس األصلية‪ ،‬إذ أرادت إجراء محادثة معي كالتي أجريناها‬
‫خالل مرضها قبل نحو خمسة أشهر‪ .‬قالت‪« :‬لقد الحظت وجود مشكلة‪ ،‬وأود أن أفهمها‪ .‬فأنا‬
‫جلست عىل كريس أمامها وبدأتْ هي الكالم‪ .‬رشحت يل‬
‫ُ‬ ‫مل أتشاركها مع ماموكا واخخرين»‪.‬‬
‫مدى سعادتها بزواج ابنها األصغر‪ .‬إال أنها تعرضت لنوبة قلق يف اليوم التايل لزواج ابنها‪،‬‬
‫وهي تريد اخن أن تفهم السبب‪ .‬كام ذكرتُ سابقًا‪ ،‬قامت دايل وماموكا بفصل الغرفة الرئيسية‬
‫يف شقتهام إىل قسمني بواسطة ستارة؛ وكانت املساحة خلف الستارة مبثابة غرفة نوم لهام‪.‬‬
‫نام أليكو يف الليلة السابقة لزواجه عىل رسير نقال يف القسم اخخر‪ ،‬حيث كنت أجري عاد ًة‬
‫مقاباليت معهم‪ .‬وقد كان عىل االبن وزوجته الجديدة االنتقال إىل مكان آخر يف بحر تبلييس‬
‫بعد زواجهام‪.‬‬
‫استيقظت دايل يف اليوم التايل لزواج ابنها وخرجت من غرفة نومها لتجد رسير ابنها‬
‫فارغًا‪ .‬يبدو أن أليكو قد نهض مبك ًرا وغادر الشقة‪ .‬عند رؤية الرسير الفارغ‪ ،‬شعرت دايل‬
‫بالقلق عىل الفور‪ .‬قالت إنها توقعت أن يكون االنفصال عن ابنها صع ًبا‪ ،‬لكنها شعرت أن‬
‫قلقها مرتبط بيشء آخر‪ .‬لقد راودها أي ً ا شعور بأن أح ًدا ما عىل وشك املوت‪ .‬وكانت يف‬
‫حرية شديدة‪ .‬مل تتعرض دايل لنوبة القلق مجد ًدا‪ ،‬لكنها اعتقدت‪ ،‬مبا أنني هناك‪ ،‬أن‬
‫محاولتها فهم سبب حدوث ذلك ستكون فكرة معقولة‪ .‬لقد تذكرتْ خوفها من أن أطفالها قد‬
‫ميوتون خالل هروبهم من غاغرا‪ .‬قالت إنها كانت ترى بعني عقلها أطفالها متجمعني حولها‬
‫ِ‬
‫اسرتجعت الحادثة بتفصيل كبري وتصورت‬ ‫يف املروحية التي طارت بهم إىل بر األمان‪ .‬ثم‬
‫وأدركت أن رؤية رسير‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫تذكرت الشعور بأنها ستموت لو فقدت أحد أطفالها‪.‬‬ ‫نفسها تبيك‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫أليكو الفارغ قد أحيا الخوف القديم الذي غمرها يف تلك الرحلة‪ ،‬إذ كان االنفصال والشعور‬
‫باملوت الفع مرتبطني يف عقلها‪.‬‬
‫يف هذه اللحظة‪ ،‬أخربتني دايل شيئًا ما عرفته قط‪ :‬يحمل طيار املروحية األوكراين الذي‬
‫لقي حتفه نفس اسم ابنها األكرب‪ .‬بدأتْ بوصف الخصائص البدنية لهذا الطيار بالتفصيل‪.‬‬
‫أدركت أن عدم رؤية ابنها األصغر ممد ًدا يف رسيره‬
‫ْ‬ ‫ووسيام‪ ،‬كابنيها اخن‪ .‬لقد‬
‫ً‬ ‫كان شابًا‬
‫يرمز إىل شعورها بالذنب عىل «مقتل» الطيار الشاب‪ .‬قالت يل دايل إنها حني تجتمع مع‬
‫السيدات النازحات األخريات يف بحر تبلييس‪ ،‬أحيانًا ما يُذكر اسم الطيار‪ ،‬لكن السيدات‬
‫علمت أن الطيار الشاب‪ ،‬قبل أن يلقى مرصعه‪ ،‬قد نجح يف إنقاذ‬
‫ُ‬ ‫حاال‪.‬‬
‫يغرين املوضويف ً‬
‫العديد من األشخاص الذين يعيشون اخن يف بحر تبلييس‪ .‬فالرحلة التي أخذت بدايل‬
‫وأطفالها والرجل الذي ثكل ابنه وآخرين إىل بر األمان كانت رحلته األخرية‪ .‬يف طريق عودته‬
‫إىل غاغرا إلنقاذ آخرين‪ ،‬أُسقطت مروحيته وفارق الحياة‪ .‬أخربتني دايل‪ ،‬وعيناها‬
‫مغرورقتان‪ ،‬أنه مل يُقام حفل تأبيني أو حداد عام عىل الطيار القتيل‪ .‬وأضافت‪« :‬بينام نحن‬
‫[عائلة كاتشافارا] نكمل حدادنا بعد عرش سنوات من مغادرة غاغرا وتوجيه حياتنا يف مسار‬
‫أف ل‪ ،‬وبينام أرى أبنايئ مع زوجاتهم‪ ،‬إنني اخن أكرث وعيًا بالشعور بالذنب عىل مقتل‬
‫الطيار‪ .‬مثة آخرون هنا يشعرون بالذنب أي ً ا‪ ،‬فنحن ال نتحدث عنه حتى‪ ،‬وال نعرتف عالنية‬
‫كم نحن مدينون له»‪.‬‬
‫اقرتحت أنه لرمبا بإمكانها زيارة الكنيسة وأداء طقوس جنائزية للطيار امليت‪ ،‬وأن القيام‬
‫ُ‬
‫بذلك قد يقلل من شعورها بالذنب ويساعدها عىل فصل ابنها أبنائها) عاطف ًيا عن صورة‬
‫فوافقت‪ .‬بعد أسبويف‪ ،‬حني عدت إىل الواليات املتحدة‪ ،‬أرسلت يل دايل رسالة‬
‫ْ‬ ‫الطيار امليت‪.‬‬
‫عرب جانا‪ .‬أرادت أن أعرف أنها ذهبت بالفعل إىل الكنيسة‪ ،‬وأشعلت الشمويف للطيار‪ ،‬وصلّت‬
‫من أجل روحه‪ ،‬وكانت تشعر بتحسن كبري‪.‬‬
‫بعد «االحتفال» يف «غرفة فاميكنا» السابقة وبعد قبول هديتهم التي كانت سيفًا جورج ًيا‬
‫عرفت أن زيارايت‬
‫ُ‬ ‫تقليديًا هدية لرمبا كانت يف نظرهم تدعم رجولتي بشكل رمزي)‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫«العالجية» لعائلة كاتشافارا قد بلغت النهاية‪ .‬فبعد عرش سنوات من تحولهم إىل الجئني‪،‬‬
‫فجعوا عىل خساراتهم بقدر ما استطاعوا ورشعوا اخن يف إعطاء استجابات تكيفية‬
‫لصدمتهم املشرتكة‪ .‬كام انتهت برامج فريقي األخرى يف جورجيا‪ ،‬وبعد هذه الزيارة األخرية‬
‫مل تسنح يل الفرصة للعودة إىل جورجيا‪ .‬لقد واصلت العمل مع زمالء من جورجيا وأوسيتيا‬
‫الجنوبية لعام آخر‪ ،‬لكنهم جاؤوا خالل هذا الوقت إىل تركيا لح ور اجتامعاتنا‪ .‬بعد عام أو‬
‫نحو ذلك‪ ،‬شعرت بالسعادة لتلقي رسالة بالربيد اإللكرتوين من تامونا‪ .‬أخربتني أنها كانت‬
‫تنتظر أن تتحسن لغتها اإلنجليزية حتى تكتب إيل‪ .‬وفقًا لها‪ ،‬كانت العائلة بخري‪ .‬وقالت إن‬
‫ريا؛ فقد أنجب فالريي وزوجته صب ًيا وأصبحت جدة‪ .‬أرسلت يل‬
‫حياة دايل قد تغريت كث ً‬
‫تامونا أي ً ا نس ًخا من قصائد نودار الجديدة‪ ،‬لكنها كانت باألبجدية الجورجية ومل أمتكن‬
‫من قراءتها‪ .‬كتبت تامونا أن قصائده ما تزال تركز يف املقام األول عىل الرصايف الجورجي‬
‫نت تامونا قصيدة كتبها نودار البنته دايل‪ ،‬وترجمتْها سط ًرا بسطر‪.‬‬‫األبخازي‪ .‬كام ض ّم ْ‬
‫تساءلت أكانت دايل من طلب منها أن‬
‫ُ‬ ‫تساءلت عن سبب إرسال تامونا هذه القصيدة يل‪ .‬كام‬
‫ُ‬
‫تفعل ذلك‪ .‬فكرتُ يف أن قصيدة والدها «تحققت» من هوية دايل‪ ،‬متا ًما كام تحقق الكأس‬
‫من هوية ماموكا‪ .‬تقول القصيدة التي تحمل عنوان «فتاة صغرية»‪:‬‬
‫إىل ابنتي الكربى دايل‬
‫كنت يف تلك األيام الخوايل‪،‬‬
‫لست كام ُ‬
‫ُ‬
‫لكنني ما زلت أتلعثم بلغة األطفال‪.‬‬
‫فطفولتك ما تزال جز ًءا مني‪،‬‬
‫وتدفعني إىل القيام مبا تريد‪.‬‬
‫لقد منح ُتك الدفء يف الشتاء‪،‬‬
‫حتى عندما كنت أعاين‪.‬‬
‫ِ‬
‫فأنت طفلتي املدللة‪،‬‬
‫حينام ِ‬
‫كنت فتاة صغرية‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ِ‬
‫أنت أ ٌّم مسبقًا‪،‬‬
‫ِ‬
‫ولديك ابنة وولدان‪.‬‬
‫ال ميكنني أن أكذب –فأنا أؤمن بالله–‬
‫ِ‬
‫دونك ولو للحظة‪.‬‬ ‫أنا ال أستطيع العيش من‬

‫‪69‬‬
‫املزيد عن الالجئني وأجسامهم الرابطة‬ ‫‪4‬‬

‫بعد انهيار االتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة‪ ،‬طرح الرئيس األمرييك جورج إتش‬
‫دبليو بوش فكرة «النظام العاملي الجديد» التي تتصور أيا ًما «ألطف وأجمل»‪ .‬لكن هذه‬
‫الرؤية‪ ،‬كام نعرفها جميعنا جي ًدا‪ ،‬مل تتحقق بأي حال من األحوال‪ .‬فقد حدثت مآيس إنسانية‬
‫كبرية تسبب بها عم ًدا «اخخرون» –وهم أشخاص يُعرفون عادة باسم «األعداء»– يف بقايف‬
‫مختلفة من العامل خالل رئاسته وبعدها‪ ،‬ونتج عنها‪ ،‬باإلضافة إىل كوارث أخرى‪ ،‬عدد ال‬
‫يحىص من الالجئني وطالبي اللجوء‪ .‬الحقًا‪ ،‬غدا ابن الرئيس السابق‪ ،‬جورج دبليو بوش –‬
‫وجميعنا بال شك– أكرث وع ًيا من أي وقت مىض بنويف جديد من العدوان الدويل يف شكل‬
‫اإلرهاب اإلسالمي املتطرف‪ ،‬ف ًال عن نويف جديد من الرد القايس عليه‪ ،‬يدعمه نويف جديد‬
‫من العقيدة السياسية األمريكية التي تبيح رضب العدو املحتمل أوالً ثم طرح األسئلة‪.‬‬
‫ملاذا ظلت األيام األلطف واألجمل والنظام العاملي الجديد بعيدة املنال؟ تكمن الحقيقة يف‬
‫أن علم النفس البرشي‪ ،‬سواء الذي يتعلق باألفراد أو املجموعات الكبرية‪ ،‬مل يتغري‪ .‬من جانب‪،‬‬
‫نحن نتبنى مظاهر التكنولوجيا الحديثة ونثني عىل رقينا «املتحض»‪ .‬لكنه من جانب آخر‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬ما زلنا نتبع هذا‬
‫بصفتنا أفرا ًدا يف مجموعات كبرية‪ ،‬كالجامعات اإلثنية أو الدينية ً‬
‫القائد أو ذاك ومختلف األيديولوجيات وأنظمة املعتقدات‪ ،‬وحني تتعرض هويتنا املشرتكة‬
‫للتهديد‪ ،‬إننا نجنح إىل إذالل «اخخرين» وشلّهم وحرقهم وقتلهم من أجل تعزيز هويتنا‬
‫الجامعية الكبرية أو حاميتها أو بقائها‪ ،‬حتى يف الحاالت التي ال يتعرض فيها بقاؤنا‬
‫الجسدي للتهديد‪.‬‬
‫يف كتايب الثقة العمياء‪ :‬القادة وأتباعهم يف أوقات األزمات واإلرهاب‪ ،‬تحدثت عن‬
‫اإلمكانات العنيفة للمجموعات الكبرية باستخدام تشبيه الخيمة‪ 30.‬نحن جميعنا نرتدي منذ‬
‫الطفولة فصاع ًدا طبقتني من املالبس‪ .‬يكون الثوب األول‪ ،‬الذي يخص الفرد الذي يرتديه‬
‫فقط‪ ،‬مناس ًبا بشكل مريح وميثل الهوية الشخصية‪ .‬أما املجموعة الثانية من املالبس‬

‫‪70‬‬
‫الخارجية األوسع‪ ،‬فتكون مصنوعة من نسيج الخيمة اإلثنية أو الدينية أو األيديولوجية)‬
‫للمجموعة الكبرية‪ .‬تكسو قطع ٌة من القامش نفسه َّ‬
‫كل فرد يف املجموعة الكبرية‪ ،‬وهي تحمي‬
‫الشخص كالوالدين أو أي مقدم رعاية آخر‪ .‬تحمي قامشة الخيمة بذلك آالف أو ماليني األفراد‬
‫تحتها كأنها قطعة واحدة هائلة‪ ،‬ومتثل هوية املجموعة الكبرية‪.‬‬
‫ما دامت الخيمة مستقرة ومتينة‪ ،‬ميكن ألفراد املجموعة الكبرية مامرسة حياتهم دون أن‬
‫يكونوا مهووسني بطبيعة قامش خيمتهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا تزعزيف قامش الخيمة أو تخلخل‪،‬‬
‫كام يحصل يف حاالت العجز واإلذالل املشرتك التي يسببها «اخخرون»‪ ،‬فإن العواطف‬
‫املشرتكة كالقلق والغ ب تبلغ الذروة‪ ،‬وينهمك عمل ًيا جميع األفراد املوجودين تحت الخيمة‬
‫يف محاولة إعادة الخيمة إىل وضع االستقرار‪ .‬كام أنهم يسعون إىل دعم القادة الذين‬
‫يعتربونهم مخلِّصني‪ ،‬وبالتايل يصبحون بسهولة رسيعي االستجابة للدعاية السياسية‬
‫والتالعب‪ .‬يف مثل هذه األوقات‪ ،‬يصبح ارتداء املرء لثوبه الشخيص أقل أهمية من اكتسائه‬
‫بشكل جامعي بالثوب القاميش الثاين‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف مخيامت الالجئني‪ ،‬يُعنى الناس‬
‫بطبيعة الحال ببقائهم أو بقاء أفراد أرستهم وتكيفاتهم‪ .‬لكن اإلحساس «بحالة نحن» رسعان‬
‫ما ينترش من األرسة والعشرية ويت من استثام ًرا متجد ًدا يف املجموعة الكبرية اإلثنية أو‬
‫القومية أو الدينية بأكملها‪ .‬يحدث هذا ألن الناس يقعون ضحية ليس نتيجة لهجوم‬
‫«اخخرين» عليهم فحسب‪ ،‬وإمنا نتيجة لتامهيهم املتبادل كأفراد يف مجموعة كبرية مشرتكة‬
‫أي ً ا‪.‬‬
‫يف ما يتعلق باإلثنية أو الجنسية أو الدين‪ ،‬يتشارك جميع األفراد تحت هذه الخيمة‬
‫بإحساس شخيص بالتامثل‪ ،‬عىل الرغم من أن معظمهم لن يتقابل أب ًدا خالل حياتهم‪.‬‬
‫ويشعر اخالف أو حتى املاليني من الناس باملساواة يف ما يتعلق بهذا اإلحساس املشرتك‬
‫مثال‪ ،‬فإن‬
‫رجاال أم نساء‪ ،‬أغنياء أم فقراء‪ .‬إذا كان األفراد جورجيني‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫بالتامثل‪ ،‬سواء أكانوا‬
‫إحساسهم بأنهم جورجيون ال يتأثر بعوامل كالوضع االجتامعي أو درجة الرثاء‪ .‬ويف‬
‫األوقات العصيبة عىل وجه الخصوص‪ ،‬يتامهى جميع أفراد املجموعة مع هويتهم اإلثنية‬

‫‪71‬‬
‫املشرتكة‪ ،‬عىل الرغم من أن الجورجيني ينتمون أي ً ا انتام ًء راس ًخا إىل مناطق مختلفة من‬
‫جورجيا‪ ،‬مثل كاخيتي وإميرييتي ومتوليتي وغوريا وغريها‪ ،‬وبع هم يتحدث لغة خاصة‬
‫بشكل رئييس‪ ،‬كام يف مينغريليا‪ ،‬وقد يكونون مسلمني‪ ،‬كام يف أجاريا‪.‬‬
‫يجب أن أوضح أنه حني أتحدث عن مجموعة كبرية‪ ،‬فأنا أركز عىل عملياتها النفسية‬
‫العامة املشرتكة‪ .‬أما هؤالء األفراد يف املجموعة الذين ال يتامشون‪ ،‬بدرجة أو بأخرى‪ ،‬مع هذه‬
‫العمليات‪ ،‬فأنا ال أركز عليهم‪ .‬فداخل كل مجموعة كبرية‪ ،‬مثة دامئًا منشقون‪ .‬بعد فرتة من‬
‫الصدمة‪ ،‬إذا مل يتمكن الزعيم السيايس من البقاء «كمخلِّص» يف نظر األتبايف‪ ،‬فقد يحدث‬
‫انقسام خطري يف املجموعة الكبرية بني الذين ما زالوا يتبعون الزعيم والذين يعارضونه‪.‬‬
‫هنا أركز عىل الحاالت التي يهيمن فيها إحساس قوي بأن خيمة املجموعة الكبرية قد‬
‫أشخاص قد ينتمي أحد والديهم أو‬
‫ٌ‬ ‫تزعزعت‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬يف كل مجموعة كبرية‪ ،‬مثة‬
‫أحد جديهم إىل إثنية أو جنسية أو دين آخر‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من املرجح أن يواجه أبناء‬
‫الثنايئ الجورجي واألوسيتي الجنويب الذين يعيشون يف تبلييس صعوبة يف االختيار بني‬
‫املجموعتني اإلثنيتني حني يكتشفون أنهم منخرطون يف نزايف ساخن‪ .‬أما يف مستوطنة‬
‫الالجئني‪ ،‬فيصبح تآزر املجموعة الكبرية املعمم ملحوظًا‪ .‬وأنا بسبب هذا االرتباط الوثيق بني‬
‫الالجئني‪ ،‬اعتقدت أن العمل مع عائلة كاتشافارا قد يساعد يف الواقع العديد من األشخاص‬
‫اخخرين يف بحر تبلييس‪ ،‬حتى لو مل أقابلهم أب ًدا‪.‬‬
‫حني قابلت ماموكا ودايل ألول مرة‪ ،‬الحظت أنهام كانا شخصني مؤث َرين يف مجتمع‬
‫النازحني‪ .‬وبالتعرف عليهام وعىل أفراد عائلة كاتشافارا اخخرين والتعامل بطريقة عالجية‬
‫مع عمليات حدادهم وتكيفهم‪ ،‬كنت آمل يف تطوير منهجية للوصول إىل العديد من العائالت‬
‫النازحة دون العمل معهم فعل ًيا‪ .‬يف اليوم الذي أقمنا فيه أنا وعائلة كاتشافارا‪ ،‬وجانا‪،‬‬
‫علمت أن ما ال يقل عن‬
‫ُ‬ ‫احتفاال مبناسبة إكامل ما كانوا يسمونها ذات مرة «غرفة فاميكنا»‪،‬‬
‫ً‬
‫اثنتي عرشة عائلة نازحة أخرى يف بحر تبلييس قد أكملت بناء غرفها أو بدأت يف إضافة‬
‫علمت أن عائلة كاتشافارا قد بنت مرآبًا للسيارات وأن نحو أربعني مرآبًا‬
‫ُ‬ ‫غرف لشققها‪ .‬كام‬

‫‪72‬‬
‫ذهبت لرؤية املنطقة املسيجة املخصصة لليندا بالقرب من‬
‫ُ‬ ‫إضاف ًيا قد بات موجو ًدا اخن‪ .‬ومل ّا‬
‫موقف السيارات أمام أوكروس ساتسمييس‪ ،‬الحظت وجود مناطق مسيجة أخرى لحيوانات‬
‫العائالت األخرى األليفة‪ .‬وقد شعرت بالسعادة ألن «املنهجية» التي تصورتها للوصول إىل‬
‫الالجئني اخخرين من خالل العمل املكثف مع قادة مستوطنتهم بدت ناجعة‪.‬‬
‫عرفت أي ً ا أنني كنت وافر الحظ للعثور عىل شخص مثل دايل‪ .‬فلام بدأتْ مبالحظة وفهم‬
‫ُ‬
‫مشاكلها النفسية كالجئة‪ ،‬أصبحت أشبه مبستشارة لآلخرين يف هذا املجتمع‪ .‬وأعتقد أن‬
‫أدركت أن الكثريين يف بحر تبلييس تابعوا من‬
‫ُ‬ ‫دايل حني نجت من «السكتة الدماغية» –‬
‫كثب مرضها وتعافيها الالفت للنظر– برزت كأمنوذج لهزمية االكتئاب‪ .‬أنا مل أج ِر دراسة‬
‫علمية يف بحر تبلييس –وال ميكنني تقديم أي نتائج إحصائية‪ ،‬ألن إجراء دراسة علمية هناك‬
‫توقفت عن الذهاب إىل أوكروس ساتسمييس‪ ،‬أبلغتني جانا‬
‫ُ‬ ‫أمر بالغ الصعوبة– إال أنني حني‬
‫بوجود إجاميف عىل أن عدد األشخاص الذين ماتوا هناك فجأة «دون سبب واضح» قد انخفض‬
‫ريا بعد تعايف دايل من «السكتة الدماغية»‪.‬‬
‫انخفاضً ا كب ً‬
‫قبل أن تطأ أقدامنا هذه املنطقة ألول مرة‪ ،‬عملت جانا وآخرون‪ ،‬بتمويل من الرنويج‪ ،‬مع‬
‫األطفال النازحني داخليًا يف الفنادق الثالثة السابقة‪ ،‬وتعاملوا مع مشاكل التعلق لدى‬
‫ريا من قدرتهم‬
‫األطفال‪ .‬بعد الصدمات الهائلة املشرتكة‪ ،‬يفقد معظم األطفال الالجئني قد ًرا كب ً‬
‫عىل «التعلق» بشكل صحيح ببع هم وكذلك بالبالغني‪ .‬وقد تسبب مثل هذه الصعوبات‬
‫مشاكل كبرية لهؤالء األطفال مع تقدمهم يف السن‪ .‬حتى بعد ن وب متويل هذا املرشويف‪،‬‬
‫واصل أصدقاؤنا الجورجيون االهتامم برفاه األطفال والبالغني يف بحر تبلييس‪ .‬وقد كان‬
‫انتهيت من العمل يف‬
‫ُ‬ ‫مهام يف نجاح «منهجيتنا» الواضح‪ .‬وملا‬
‫عامال ً‬
‫ً‬ ‫هذا‪ ،‬عىل ما أعتقد‪،‬‬
‫أوكروس ساتسمييس‪ ،‬أصبح املكان أنظف إىل حد كبري‪ .‬كانت األموال التي جاءت من‬
‫الرنويج مفيدة بال شك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال ميكنني أن أكف عن التفكري يف أنه لوال التكيف املحسن‬
‫مع بيئتهم الجديدة‪ ،‬ولوال الحاجة إىل التعبري عن «ساديتهم الرشجية» املشرتكة ضد «األرض‬

‫‪73‬‬
‫حا‬
‫صح التعبري‪ ،‬ولوال العمل عىل عمليات حدادهم‪ ،‬لكان هؤالء الالجئون أقل نجا ً‬
‫األم»‪ ،‬إذا ّ‬
‫يف رعاية بيئتهم‪.‬‬
‫عندما انتهت عائلة كاتشافارا من إضافة امللحق إىل شقتهم‪ ،‬قاموا أي ً ا بإنشاء رواق‬
‫صغري ج ًدا خلف مدخلهم‪ ،‬حيث وضعوا الهاتف األصفر عىل من دة‪ ،‬بعد أن نقلوه من‬
‫فيال محش ًوا بطول ‪ 10‬بوصات مصنو ًعا من‬
‫مكانه األص ‪ .‬وعلقوا فوق الهاتف كزينة ً‬
‫قامش رمادي ويرتدي معطفًا أخض‪ .‬راودتني التساؤالت حول هذا الحيوان املحشو‪ ،‬لكن‬
‫محلال نفس ًيا‪ ،‬لقد درست دالالت دمى‬
‫ً‬ ‫الفرصة مل تسنح يل للتحقق من مصدره‪ .‬بصفتي‬
‫الحيوانات املحشوة لدى األطفال‪ ،‬تحدي ًدا دمى الدببة‪ .‬يف عام ‪ ،1953‬أطلق دونالد‬
‫محلال نفس ًيا ذائع الصيت‪ ،‬عىل هذه‬
‫ً‬ ‫وينيكوت‪ ،‬طبيب األطفال الربيطاين الذي أصبح الحقًا‬
‫األلعاب وأشياء مثل بطانية الشخصية الكرتونية لينوس‪ ،‬اسم «األجسام االنتقالية»‪ .‬يصبح‬
‫الجسم االنتقايل‪ ،‬يف عقل الطفل‪ ،‬أول يشء يقتنيه «ليس‪-‬أنا»‪ ،‬وهو يشء موجود فعليًا يف‬
‫العامل الخارجي‪ .‬لكن الجسم االنتقايل ال يكون عنرص «ليس‪-‬أنا» متا ًما‪ ،‬ألنه ميثل أي ً ا‬
‫صورة الطفل عن األم التي تخ ع لسيطرة الطفل املطلقة هذا وهم بالتأكيد)‪ 31.‬يف وقت‬
‫الحق‪ ،‬درس محللون نفسيون آخرون ما يسمى «الصلة االنتقالية»‪ :‬بوضع الدبدوب أو أي‬
‫حيوان محشو آخر بني ذاته والبالغني يف البيئة‪ ،‬يبدأ الطفل التعرف عىل العامل املحيط‪.‬‬
‫ويتصل الطفل بالبيئة باستخدام الجسم االنتقايل كأنه ال وء الذي ينري دهاليز الواقع‪ .‬فإذا‬
‫أصبحت البيئة محبطة‪ ،‬يتصل الطفل فقط بالدمية ذاتها‪ ،‬ويزيل بطريقة ما ما هو أبعد منها‪.‬‬
‫نحن نعلم من عملنا الرسيري أن بعض البالغني الذين يكونون يف حالة نكوص يواصلون‬
‫استخدام نسخ البالغني من األجسام االنتقالية و‪/‬أو الصلة االنتقالية‪.‬‬
‫لطاملا اعتقدت أن الهاتف األصفر أدى دور الجسم االنتقايل لعائلة كاتشافارا‪ ،‬ولثالثة‬
‫آالف نازح آخر يف بحر تبلييس‪ .‬فباستخدامه كان بإمكانهم «معرفة» ما هو أبعد من‬
‫مستوطنتهم‪ ،‬وبفصله متكنوا من إزالة العامل الخارجي املحبط‪ .‬وخطر يف بايل أنه بتعليق‬
‫فيل محشو فوق هذا الهاتف‪ ،‬أخربت عائلة كاتشافارا الزوار بطريقة رمزية بوظيفة هذا‬

‫‪74‬‬
‫الهاتف‪ .‬ومع أنه ما يزال أحد أهم األغراض يف بحر تبلييس‪ ،‬ملا أنهيت عم هناك‪ ،‬قيل يل‬
‫إن أربعة هواتف أخرى قد نُصبت يف منطقة الفنادق الثالثة الفخمة سابقًا‪.‬‬
‫قد ال يرى بعض املراقبني عائلة كاتشافارا مثاالً جي ًدا لعائلة الجئة مصابة بصدمة شديدة‪.‬‬
‫ففي نهاية املطاف‪ ،‬مل يفارق الحياة أي فرد من العائلة خالل محنتهم‪ ،‬و ُه ِّجروا إىل مكان‬
‫قصصا‬
‫ً‬ ‫ضمن جورجيا نفسها حيث ال خوف عىل حياتهم‪ .‬أنا عىل يقني بأن معظمنا قد قرأ‬
‫أكرث تروي ًعا عن الالجئني حول العامل‪ .‬لكن عائلة كاتشافارا‪ ،‬باست افتها يل ملدة خمس‬
‫سنوات‪ ،‬منحتني الفرصة لالطاليف عىل عملياتهم الداخلية يف أثناء تكيفهم عىل مدى سنوات‬
‫مع تهجريهم من منازلهم‪ .‬ومبعرفة ما مروا به داخل ًيا‪ ،‬أعتقد أنه يف وسعنا تكوين صورة‬
‫واضحة عن سيكولوجية ال حايا النازحني بسبب رصاعات الهوية‪.‬‬
‫قدم املحللون النفسيون إسهامات جليلة يف فهمنا للعوامل الداخلية للناجني من‬
‫الهولوكوست‪ ،‬الذين ُه ِّجروا يف معظمهم وأُجربوا عىل االستقرار يف أماكن أخرى غري‬
‫مواطنهم األصلية‪ .‬لكن أوىل الدراسات الجادة للعمليات الداخلية والتكيفات الداخلية‬
‫املختلفة لدى الناجني من الهولوكوست مل تُج َر إال بعد عقود من نهاية الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ 32.‬عمو ًما‪ ،‬خارج الدراسات املتعلقة بالهولوكوست‪ ،‬ال يوجد الكثري من الدراسات‬
‫املتعمقة وطويلة املدى لتكيفات الالجئني الداخلية‪ .‬وعندما تكون الكارثة يف طور تأزمها‪،‬‬
‫فإن قدرة املنظامت الدولية‪ ،‬كاملفوضية السامية لألمم املتحدة لشؤون الالجئني ‪)UNHCR‬‬
‫ومنظمة الصحة العاملية ‪ )WHO‬والصليب األحمر والهالل األحمر‪ ،‬عىل مساعدة هؤالء‬
‫املتضرين تعتمد بالتأكيد عىل الظروف عىل أرض الواقع‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد يكون الوضع‬
‫شديد الخطورة عىل العاملني األجانب يف مجال الصحة العقلية وغريهم للدخول يف البداية‪.‬‬
‫إال أنه فور تحقيق مستوى معني من األمن ووصول العامل األجانب إىل املوقع‪ ،‬فإن الطريقة‬
‫التي يتعاملون بها مع األشخاص املصدومني موثقة جي ًدا‪.‬‬
‫يف أثناء زيارة جمهورية جورجيا من أجل مشاريعنا يف مركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي ‪ ،)CSMHI‬كنت أي ً ا مستشا ًرا مؤق ًتا ملنظمة الصحة العاملية لفرتة قصرية وزرت‬

‫‪75‬‬
‫ألبانيا ومقدونيا‪ ،‬حيث أجريت ندوات للعاملني املحليني يف مجال الصحة الذين يعملون مع‬
‫الالجئني األلبان من كوسوفو‪ .‬وأصبحت عىل اطاليف بالدليل املشرتك الرسمي ملنظمة الصحة‬
‫العاملية واملفوضية السامية لألمم املتحدة لشؤون الالجئني طبعة ‪ )1996‬حول الصحة‬
‫العقلية لالجئني‪ .‬مل يذكر هذا الدليل سوى أشياء مثل طرق التدخل يف األزمات‪ ،‬وتقنيات‬
‫االسرتخاء‪ ،‬ومشاكل الكحول واملخدرات‪ ،‬والسلوك املهني تجاه ضحايا االغتصاب‪ .‬بعد وقويف‬
‫كارثة‪ ،‬تنال حالة األزمة األسبقية عىل االعتبارات األخرى‪ ،‬إال أنه حني تنتهي األزمة‪ ،‬تستمر‬
‫عمليات الحداد والتكيف الحاسمة بكامل قوتها‪ .‬مثة‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬منظامت غري حكومية أخرى‬
‫مهتمة أي ً ا بالالجئني وغريهم من ضحايا الحروب أو الحاالت الشبيهة بالحرب‪ 33.‬عمو ًما‪،‬‬
‫ال تسعى جهودهم‪ ،‬مع أنها مجدية يف أغلب األحيان‪ ،‬إىل فهم العمل الداخ الذي يكون‬
‫الالجئون بحاجة إىل القيام به‪ ،‬وتحديد املدة الزمنية الالزمة للقيام بهذا العمل‪ ،‬وتقدير‬
‫صعوبة أو حتى استحالة الوصول بهذا العمل إىل نتيجة مرضية‪.‬‬
‫مثة‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬أنوايف مختلفة من التهجري ال توازي تجارب عائلة كاتشافارا‪ ،‬إذ تُق َّدم قصص‬
‫تجارب التهجري عرب تاريخ البرشية عىل طيف يرتاوح من «الهجرة القرسية» وهو مصطلح‬
‫جلب األفارقة إىل األمريكتني كعبيد) إىل «الهجرة‬
‫ال ينصف املآيس التي ارتُكبت حني ُ‬
‫الطوعية»‪ ،‬حني يرتك الفرد منطقة ويذهب إىل أخرى بحثًا عن حياة أف ل‪ .‬ميكننا بسهولة‬
‫أن نتخيل العديد من األنوايف األخرى «للهجرة الطوعية»‪ ،‬لذا لن أدرسها بتعمق هنا‪ ،‬إذ‬
‫سأواصل الرتكيز عىل الحاالت التي أُجرب فيها األشخاص‪ ،‬كأفراد عائلة كاتشافارا‪ ،‬عىل‬
‫النزوح وشعروا بالعجز بسبب رصاعات هوية املجموعة الكبرية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬مثة بعض‬
‫العنارص املشرتكة التي تكمن وراء سيكولوجية املهاجر «الطبيعي» الطوعي) واملهاجر‬
‫القرسي املصدوم‪ ،‬كطالب اللجوء والالجئ والنازح داخل ًيا‪ .‬إذ يتعني عليهم جمي ًعا الحداد‬
‫عىل فقدان جزء من ذواتهم وأحبائهم أو أشيائهم‪ ،‬كام يتعني عليهم التعامل مع مشاعر الذنب‬
‫عىل البقاء عىل قيد الحياة يف حني قد تُرك آخرون يف الديار أو قُتلوا‪ .‬وجميعهم‪ ،‬بسبب‬
‫تكوينهم النفيس الشخيص أو الظروف الخارجية‪ ،‬قد يواجهون تعقيدات يف الحداد‬

‫‪76‬‬
‫ملخصا لبعض نظريات التحليل النفيس التي‬
‫ً‬ ‫والتكيف مع مواقعهم الجديدة‪ .‬وعليه‪ ،‬سأقدم‬
‫تتعلق بسيكولوجية األشخاص امله َّجرين‪.‬‬
‫لفرتة طويلة مل يدرس املحللون النفسيون سيكولوجية املهاجرين والالجئني عىل نطاق‬
‫واسع‪ .‬وهذا مفاجئ نظ ًرا إىل أنه يوجد‪ ،‬وكان يوجد‪ ،‬العديد من املحللني النفسيني يف‬
‫الواليات املتحدة ويف بلدان أخرى‪ ،‬هم أنفسهم مهاجرون‪ .‬بال شك‪ ،‬مثة استثناءات لهذا‬
‫الغياب يف االهتامم‪ 34.‬إال أنه عىل حد علمي‪ ،‬كان ليون وريبيكا غرينربغ أول من نرش دراسة‬
‫تحليلية نفسية شاملة عن كل من الهجرة والنفي بصيغة كتاب يف عام ‪ 1984‬باللغة‬
‫اإلسبانية وتُرجمت يف عام ‪ 1989‬إىل اإلنجليزية‪ 35.‬وبعد أن «تنقّل» الثنايئ يف مناسبات‬
‫عديدة وعمال يف ثالثة بلدان‪ ،‬اعتُربا «مراق َبني مشاركَني» باملعنى الحقيقي‪.‬‬
‫يف مشاهداتهام التحليلية النفسية ألنوايف مختلفة من الهجرة والنفي‪ ،‬الحظ ليون وريبيكا‬
‫غرينربغ أن أولئك الذين تُركوا يف الديار‪ ،‬كالذين غادروا‪ ،‬يستخدمون آليات دفاعية‬
‫الشعورية مختلفة للتعامل مع أمل خسارتهم‪ .‬كام الحظوا أن الكلمة اإلسبانية املقابلة لكلمة‬
‫‪36‬‬
‫«حداد» –‪ –duello‬مشتقة «من كلمة األمل واملبارزة‪ ،‬أو التحدي أو القتال من جانبني»‪.‬‬
‫وهي تشري بالتساوي إىل آالم املهاجرين باإلضافة إىل آالم الذين تُركوا يف الديار‪.‬‬
‫من املجاالت التي ركز عليها ليون وريبيكا غرينربغ كانت مهمة تعلم لغة جديدة‪ ،‬وهي‬
‫مشكلة رئيسية يواجهها جميع املهاجرين‪ .‬يجب التذكري بأن عائلة كاتشافارا قد تفادوا هذه‬
‫الصعوبة ألنهم كانوا نازحني داخل ًيا)‪ .‬درس الثنايئ نظرية تطور اللغة وتأثري العالقة بني‬
‫األم والطفل عليها‪ ،‬ال سيام يف حاالت االنفصال‪ .‬وقد وصفا مقاومة القادم الجديد النفسية‬
‫عامال مؤث ًرا‪ .‬فاألطفال قادرون عىل التامهي مع‬
‫ً‬ ‫لتغيري لغته األم وخلصا إىل أن العمر كان‬
‫بيئة ثقافية جديدة برسعة نسبية وقادرون عىل استيعاب اللغة الجديدة‪ .‬أما املهاجرون‬
‫البالغون‪ ،‬فيكونون أمام مهمة أصعب بسبب سنهم؛ وبالتايل قد ال ينجحون أب ًدا يف اكتساب‬
‫«موسيقى» لكنة وإيقايف) اللغة الجديدة‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫يف كتايب الحاجة إىل اتخاذ أعداء وحلفاء‪ ،37‬تحدثت عن استحالة تغيري هوية املرء اإلثنية‬
‫بعد املراهقة‪ .‬فحني يواجه القادمون الجدد مشاعر إثنية جديدة واستثامرات يف موقع جديد‪،‬‬
‫إنهم يواجهون مصاعب ترتاوح من الهينة إىل العسرية يف تطوير توليفة إلثنيتني‪ .‬قد يطور‬
‫البعض‪ ،‬ال سيام الذين هاجروا طواعية‪ ،‬إذا ظلوا مقبولني يف البلد الذي رحلوا عنه‪ ،‬تكيفًا‬
‫ثنايئ الثقافة فور االنتهاء من عمل الحداد‪ ،‬كام قال دمييرتيوس يوليوس‪ ،‬الطبيب النفيس‬
‫رصح يوليوس‪ ،‬الذي عمل معي من كثب‬
‫من أصل يوناين أمرييك‪ .‬هذا سيرثيهم داخل ًيا‪ّ .‬‬
‫لعقود عديدة كع و زميل يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪« :‬لقد توصلت بأناة إىل‬
‫تقدير ألهمية التكامل الثقايف داخل النفس‪ ،‬وأهم من ذلك‪ ،‬إىل قبول لالختالفات الثقافية‬
‫الواسعة بني البلدين [اليونان والواليات املتحدة]‪ .‬ورشعت يف قبول بعض املفارقات النفسية‬
‫‪38‬‬
‫والشعور بأنني ثنايئ الثقافة»‪.‬‬
‫قد يطور اليافع الذي مل يخض مرحلة املراهقة بعد وأصبح مهاج ًرا‪ ،‬استثام ًرا حقيقيًا يف‬
‫إثنية املوقع الجديد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬عادة ما يصبح هذا معق ًدا بسبب «تدخالت» الوالدين‬
‫املهاجرين أو املب َعدين أو غريهم من القادمني الجدد البالغني وعدم قبول البلد امل يف‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يف حني أن معظم اليهود الذين فروا من النازيني وانتقلوا إىل أمريكا أو غريها‬
‫خصوصا حني قبل الناس يف‬
‫ً‬ ‫من البلدان غري الفاشية قد نجحوا نسبيًا يف تكيّفاتهم‪،‬‬
‫مواقعهم الجديدة إثنيتهم اليهودية‪ ،‬مثة بالتأكيد العديد من األمثلة عىل مهاجرين يهود‬
‫شعروا بعدم الرتحيب يف هذا البلد‪ .‬كتب مارتن وانغ‪ ،‬وهو محلل نفيس شهري ومهاجر‬
‫يهودي أملاين املولد‪ ،‬أنه بعد فرتة وجيزة من وصوله إىل الواليات املتحدة‪ ،‬تلقى ر ًدا عىل‬
‫طلبه للحصول عىل تدريب من مستشفى يف الجنوب جاء فيه‪« :‬لقد الحظنا أن األشخاص‬
‫«تلقيت وزوجتي‬
‫ُ‬ ‫غري املنتمني إىل طائفتنا ال يشعرون باالرتياح يف العمل هنا»‪ .‬وأضاف‬
‫رسالة مامثلة من منتجع يف جبال آديرونداك‪ .‬بعدها‪ ،‬حني اشرتينا منزالً لق اء العطلة يف‬
‫والية كونيتيكت‪ ،‬أُبلغنا عىل الفور أن النادي الريفي املجاور الذي مل نعقد النية الرتياده)‬
‫ال يقبل باليهود»‪ 39.‬لقد الحظت شخص ًيا حالة مشابهة يف شارلوتسفيل بوالية فريجينيا‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫حيث استقريت يف عام ‪ 1963‬ويوجد‪ ،‬حتى عهد قريب‪ ،‬ناد ريفي ال يقبل اليهود أو السود‬
‫ريا يف الواليات املتحدة يف ما‬
‫أو املسلمني أع ا ًء فيه‪ .‬إال أن األمور عىل األغلب قد تغريت كث ً‬
‫يتعلق برهاب األجانب والعنرصية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ما تزال مثل هذه املواقف موجودة هنا كام هي‬
‫موجودة يف أي بقعة أخرى يف العامل؛ فكونك «متفوقًا» تقن ًيا واقتصاديًا ال يغري الطبيعة‬
‫البرشية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬بعد ‪ 11‬سبتمرب ‪ ،2001‬اشتدت كراهية األجانب والعنرصية يف‬
‫الواليات املتحدة تجاه املسلمني‪ ،‬حتى تجاه الذين لطاملا اعتربوا البالد وطنهم‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫لقد استند ليون وريبيكا غرينربغ إىل نظريات ميالين كالين يف التحليل النفيس‬
‫وأوضحا كيف أن الشعور بالذنب عىل خسارة أجزاء من الذات –أي‪ ،‬هوية املهاجر أو الالجئ‬
‫السابقة واستثامره يف األرض واألشخاص الذين رحل عنهم– قد يعقّد عملية الحداد عىل‬
‫القادم الجديد‪ .‬فحني يكون الشعور بالذنب «اضطهاديًا» ويكون املرء منساقًا بالشعور‬
‫بالذنب لتوقع عقاب اخخرين‪ ،‬يصبح القادم الجديد عرضة للحداد املعقد‪ .‬وإذا اعرتف الفرد‬
‫داخليًا بخسارة الحياة السابقة وكان قاد ًرا عىل قبول األمل –يسمي الكالينيون هذا «الشعور‬
‫بالذنب االكتئايب»– فقد يُظهر الفرد األىس ولكنه سيظل قاد ًرا عىل االحتفاظ بامليول‬
‫اإلصالحية‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن املهاجر أو الالجئ الذي يعاين الشعور بالذنب االكتئايب مجه ٌز بشكل‬
‫أف ل للتكيف مع حياة جديدة‪.‬‬
‫لتوضيح ما يقصده الكالينيون بهذين النوعني من الشعور بالذنب‪ ،‬أقدم امللخص التايل‬
‫الذي كتبه ليون غرينربغ‪:‬‬
‫غال ًبا ما يكون مفهوم الوقت‪ ،‬لدى املرىض الذين يعانون الشعور بالذنب االضطهادي‪،‬‬
‫مرهونًا بخصائص العملية األولية الالوعية)‪ .‬ويف مثل هذه الحاالت‪ ،‬غال ًبا ما نجد‬
‫فرتة زمنية يختلط فيها املايض والحارض‪ .‬تشمل العواطف الرئيسية التي ينطوي‬
‫عليها الشعور بالذنب االضطهادي االستياء‪ ،‬واألمل‪ ،‬واليأس‪ ،‬والخوف‪ ،‬وتوبيخ الذات‪،‬‬
‫وغريها‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬يف الشعور بالذنب االكتئايب‪ ،‬يتشكل الوقت متش ًيا مع‬
‫قوانني العملية الثانوية الواعية)‪ .‬مثة متييز بني املايض والحارض‪ ،‬ومثة أي ً ا‬

‫‪79‬‬
‫منظور ومستقبل‪ .‬وأهم مشاعر الشعور بالذنب االكتئايب‪ :‬القلق عىل اليشء واألنا‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫والحزن‪ ،‬والتوق إىل املايض‪ ،‬واملسؤولية‪.‬‬
‫يف حالة الالجئ‪ ،‬يولد التنظيم النفيس الخاص بالفرد شعو ًرا بذنب االضطهاد أقوى مام‬
‫ميكن أن يشعر به الفرد الذي يصبح مهاج ًرا باختياره‪ .‬ففي نهاية املطاف‪ ،‬يُع َّزز شعور‬
‫الالجئ بالذنب ألنه نجا بينام قُتل أقاربه وأصدقاؤه أو ما يزالون يف خطر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا‬
‫واجه املهاجر أو الالجئ متيي ًزا داخل املجتمع امل يف‪ ،‬فإن مخاوف االضطهاد تظل قامئة‪.‬‬
‫وردت دراسة تحليلية نفسية رئيسية حديثة لعوامل املهاجرين والالجئني الداخلية يف‬
‫كتاب من تأليف املحلل النفيس يف فيالدلفيا‪ ،‬سلامن أخرت‪ ،‬الذي ينحدر من عائلة مسلمة‬
‫وهاجر طواعية إىل الواليات املتحدة‪ 42.‬بينام اعتمدت عائلة غرينربغ عىل التصورات‬
‫الكالينية للتحليل النفيس‪ ،‬ركز أخرت عىل تكيف املهاجرين مع البلد الجديد وفقًا ملفهوم‬
‫مارغريت مالر االنفصال والتفرد‪ .‬كانت مالر محللة نفسية بارزة أجرت دراسات حول كيفية‬
‫إمتام األطفال تفردهم املنفصل عن أمهاتهم وكيفية تطوير إحساسهم املستقل بالذات‪.‬‬
‫‪43‬‬

‫ناقش أخرت أن تكيف املهاجر يشكل «تفر ًدا ثالثًا»‪ ،‬فاألول حصل يف مرحلة الطفولة والثاين‬
‫خالقة عىل صعوبة الحداد‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫خالل مرحلة املراهقة‪ .‬تت من دراسته استجابات ّ‬
‫دور التوق إىل املايض وتسميم التوق إىل املايض يف عقل املهاجر أو الالجئ‪.‬‬
‫عمو ًما‪ ،‬يصعب ورمبا يستحيل عىل الالجئني واملنفيني إمتام الحداد‪ .‬وهذا ينطبق‬
‫خصوصا عىل الذين تعرضوا للعجز واإلذالل واالغتصاب والتطهري اإلثني والتعذيب والعار‬
‫ً‬
‫حلوا إىل أماكن ال يرحب بهم أناسها‪ ،‬وال‬
‫قبل فرارهم إىل بر األمان أو يف أثنائه والذين ُر ِّ‬
‫يتحدثون لغتهم‪ ،‬وال يأكلون طعامهم‪ ،‬وال يغنون أغانيهم‪ .‬وتتداخل الصدمة الشديدة‬
‫املرتبطة بالخسارة مع عملية الحداد‪ .‬تت من عملية الحداد «الطبيعية» شعور املفجويف بآالم‬
‫حا نفس ًيا من جراء‬
‫نرجسية وما يصاحبها من إحساس بغ ب «طبيعي» عىل كونه مجرو ً‬
‫الخسارة‪ .‬أما الذين يتعرضون لصدمة شديدة‪ ،‬فيتجنبون الشعور بغ بهم‪ ،‬ألنه يصبح بال‬
‫وعي مشوبًا بالقتل واإلبادة وما يصاحب ذلك من مشاعر العجز والعار واإلذالل والتامهي‬

‫‪80‬‬
‫مع غ ب امل طهِد‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إنهم يتجنبون تجربة الغ ب «الطبيعي» وال يستطيعون‬
‫الحداد بشكل صحيح‪ .‬مثل هؤالء األشخاص يجب أن يصبحوا أوالً مهاجرين عاديني‬
‫«طبيعيني» يك يبدؤوا عمل الحداد بطريقة حقيقية‪ .‬أعتقد أن وجودي إىل جانب أفراد عائلة‬
‫كاتشافارا عىل نحو متقطع لسنوات عديدة قد ساعدهم عىل أن يصبحوا مهاجرين عاديني‪.‬‬
‫يف رسد قصة عائلة كاتشافارا باعتبارهم نازحني داخل ًيا‪ ،‬ركزتُ عىل دور األجسام الرابطة‬
‫والظواهر الرابطة كنقطة دخول‪ ،‬إذا صح التعبري‪ ،‬إىل رصاعات النازحني الداخلية‪ .‬والطريقة‬
‫التي يستخدمون بها أجسامهم وظواهرهم الرابطة تخربنا بالكثري عن الشوط الذي قطعوه‬
‫يف حدادهم عىل خسائرهم وتكيفهم مع بيئتهم الجديدة‪ .‬بالنسبة لعائلة كاتشافارا‪ ،‬كان‬
‫تشاريل األول ثم تشاريل الثاين أجسا ًما رابطة‪ .‬بعد موت تشاريل الثاين‪ ،‬مثلت دايل بنفسها‬
‫الجسم الرابط لدى العائلة‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬أدت «غرفة فاميكنا» ولوحة فندق غاغريبش‬
‫بشكل جزيئ دور نصب تذكاري خاص لدى العائلة ملا تركوه وراءهم‪ .‬الحقًا يف هذا الكتاب‪،‬‬
‫سأوضح كيف تؤدي النصب التذكارية للخسائر وظائف مختلفة)‪ .‬يعد النصب التذكاري‪،‬‬
‫كالذي شيدته عائلة كاتشافارا‪ ،‬نو ًعا مختلفًا من الجسم الرابط‪ :‬فهو ميتص ما تبقى من‬
‫أعامل حداد املفجويف غري املكتملة ويحبسها داخله‪ .‬ينشغل املفجويف الدائم بجسم رابط‬
‫منتظم ويستهلك طاقة للتحكم فيه والتحكم أي ً ا يف الرصايف بني إعادة أو «قتل» ما تركوه‬
‫وراءهم‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬يحرر النصب التذكاري الثابت‪« ،‬كغرفة فاميكنا»‪ ،‬املفجويف‬
‫بدال من استنزاف الطاقة عىل املايض‪.‬‬
‫ليستثمر يف أشياء جديدة يف البيئة الجديدة ً‬
‫مثة أي ً ا «نصب تذكارية» تؤدي وظيفة معاكسة‪ :‬أال وهي بَلْورة الحداد الدائم‪ .‬يضب‬
‫أنطونيوس روبن‪ ،‬وهو أنرثوبولوجي من جامعة أترخت‪ ،‬مثاالً جي ًدا عىل هذا يف تقصيه عن‬
‫«الحرب القذرة» يف األرجنتني التي اندلعت من عام ‪ 1976‬إىل عام ‪ .1983‬خالل هذه الفرتة‬
‫من العنف والفوىض‪« ،‬اختفى» العديد من األفراد‪ ،‬أي أنهم اخ ُتطفوا من منازلهم وقُتلوا ألنهم‬
‫ريا عن حدادهم الدائم‪ ،‬عىل‬
‫اع ُتربوا «أعدا ًء» للحكومة الشمولية‪ .‬وقد حافظ بعض اخباء‪ ،‬تعب ً‬
‫غرفة الشخص املفقود ومقتنياته‪ .‬أصبحت هذه النصب التذكارية «فريدة» من نوعها بعد‬

‫‪81‬‬
‫عام ‪ 1984‬ملا ات ح أن املختفني كانوا أمواتًا ال مسجونني‪ .‬زار روبن «بني عامي ‪1989‬‬
‫يحضون‬
‫ّ‬ ‫و‪ 1991‬األشخاص الذين ما زالوا يغريون املالءات عىل رسير ابنتهم املختفية أو‬
‫كل ب عة أيام حلوى البودينغ املف لة عند ابنهم حتى يتذوقها فور ظهوره عند عتبة الباب»‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،2002‬أجرت سالفيكا جورسيفيتش وإيفان أورليك دراسة مع عائالت األبناء‬
‫املختفني من حرب ‪ 1995-1991‬يف كرواتيا‪ .‬وكانت النتائج التي توصلوا إليها مشابهة‬
‫ملالحظات روبن يف األرجنتني‪ .‬يف كرواتيا‪ ،‬ش ّيدت العديد من العائالت «األرضحة التذكارية»‬
‫شكال من أشكال املذابح التي توضع عليها صورة الشخص املفقود محاطة‬
‫ً‬ ‫التي تشبه‬
‫بالرموز األيقونية الكاثوليكية والزهور والشمويف‪ .‬ودامئًا ما توجد مثل هذه األرضحة‬
‫‪44‬‬
‫التذكارية يف الغرفة حيث تقيض العائلة معظم وقتها و‪/‬أو حيث تستقبل ال يوف‪.‬‬
‫دامئًا ما ترافق الرصاعاتُ بشأن الحداد أو ال‪ ،‬وبشأن االرتباط مبا تركوه وراءهم أو‬
‫مختلف أنوايف مشاعر الذنب لدى الالجئني ومحاوالتهم الداخلية للتكيف‪ .‬يف‬
‫َ‬ ‫االنفصال عنه‪،‬‬
‫ظل ظروف معينة‪ ،‬قد يتأىت عن هذا الرصايف أعراض فردية وجامعية فريدة‪ .‬ولقد درست‬
‫رصاعات الالجئني الداخلية ألول مرة يف عام ‪ 1975‬يف القسم الشاميل من جزيرة قربص‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬إن ما استهل دراستي هذه هو سلوك جامعي غريب‪ .‬فخالل صيف عام ‪،1974‬‬
‫حطّ الجيش الرتيك عىل الجزيرة بعد أن واجه القبارصة األتراك مص ً‬
‫ريا كارثيًا عىل أيدي‬
‫القبارصة اليونانيني‪ .‬وقد أفىض هذا إىل تقسيم الجزيرة إىل قسمني شاميل تريك وجنويب‬
‫يوناين‪ .‬يف السابق‪ ،‬كان القبارصة اليونانيون والقبارصة األتراك يعيشون يف كل أرجاء‬
‫الجزيرة‪ ،‬يف القرى اليونانية بالكامل‪ ،‬أو يف القرى الرتكية بالكامل‪ ،‬أو يف القرى املختلطة‪،‬‬
‫بينام ضمت املدن القربصية كلتا الجامعتني اإلثنيتني‪ .‬بعد أن اقتحم الجيش الرتيك شامل‬
‫الجزيرة‪ ،‬ف ّر القبارصة اليونانيون يف الشامل إىل الجنوب‪ ،‬بينام هرب القبارصة األتراك‬
‫الذين يعيشون يف الجنوب إىل الشامل‪ .‬وقد عملت حكومة قربص الشاملية املشكَّلة حديثًا‬
‫عىل إيواء هؤالء األتراك الذين جاءوا إىل الشامل يف منازل القبارصة اليونانيني الراحلني‬
‫وقراهم وبلداتهم‪ ،‬ما خلق حالة استثنائية‪ .‬ففي حني أن عائلة كاتشافارا وثالثة آالف نازح‬

‫‪82‬‬
‫جورجي آخر من أبخازيا أقاموا يف بحر تبلييس الذي مل يحمل أي صورة ذهنية مرتبطة‬
‫حل القبارصة األتراك يف مساكن كان قد أخالها أعداؤهم ت ًّوا‪ .‬وبشكل ج ‪ ،‬ترتبط‬
‫بالعدو‪ّ ،‬‬
‫رشا بالعدو‪.‬‬
‫الصور الذهنية لهذه املواقع ارتباطًا مبا ً‬

‫وصلت إىل قربص الشاملية بعد نحو ستة أشهر من انتهاء حرب صيف ‪ .1974‬وكان أحد‬
‫ُ‬
‫زماليئ يف املدرسة الثانوية‪ ،‬وهو أحمد سافاالش‪ ،‬قد تحصل عىل عمل يف املكتب اإلداري‬
‫املركزي لقربص الشاملية‪ .‬ومن مهامه مساعدة الشباب الحاصلني عىل تعليم جامعي‬
‫املفروزين إىل أحد املجتمعات اليونانية سابقًا حيث يستقر الالجئون القبارصة األتراك‪ .‬وقد‬
‫ُمنح كل من هؤالء الرجال‪ ،‬أُطلق عىل الواحد منهم اسم كيالفوز ‪ ،kılavuz‬أي املرشد‪ ،‬منزالً‬
‫خ ِّزنت أغراض صالحة‬
‫مسؤوال عن مبنى يُستخدم كمستوديف‪ .‬يف هذه املباين‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫خاصا به و ُع ِّني‬
‫ً‬
‫رسة وآالت الخياطة والطعام‬
‫لالستخدام كان قد تركها القبارصة اليونانيون عند فرارهم‪ ،‬كاأل ّ‬
‫وأجهزة التلفاز‪ .‬يف غ ون ذلك‪ ،‬أقام الالجئون القبارصة األتراك يف منازل اليونانيني‬
‫‪45‬‬
‫الخالية يف معظمها الشبيهة مبنازلهم التي كانوا يعيشون فيها يف الجنوب‪.‬‬
‫يف أثناء زياريت ألحمد يف مكتبه‪ ،‬اتصل به كيالفوز يشتيك من املستوطنني الجدد يف‬
‫القرية املفروزين عنده بأنهم يحرقون البطانيات التي ز ّودهم بها من مستودعه‪ .‬بات يف‬
‫حرية من هذا السلوك الغريب‪ .‬نحن يف فصل الشتاء‪ ،‬واملستوطنون بحاجة إىل بطانيات‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫فلامذا يحرقونها؟ قال أحمد إنه تلقى مؤخ ًرا تقارير مامثلة من مرشدين آخرين‪ ،‬لذا قررنا‬
‫التحري يف األمر وتوجهنا إىل القرية التي تقع قبالة الطريق الرئييس الذي يربط العاصمة‬
‫نيقوسيا بفاماغوستا‪ ،‬ثاين أكرب مدينة يف قربص الشاملية‪ .‬يقيض الرجال القرويون يف‬
‫طويال يف املقاهي‪ .‬لذلك قررنا االطاليف عىل موضويف حرق‬
‫ً‬ ‫قربص‪ ،‬حني ال يعملون‪ ،‬وقتًا‬
‫البطانيات بزيارة مقهى القرية ومقابلة الناس هناك ومراقبة التفاعالت بينهم‪.‬‬
‫حلَل ُْت تدريج ًيا لغز السلوك الجامعي‬
‫يف املقهى يف ذلك اليوم –ويف األيام القادمة– َ‬
‫الفريد لهؤالء املستوطنني الجدد‪ ،‬إذ علمت أنه بعد انتهاء الحرب‪ ،‬مل يكن لدى اإلدارة‬
‫رسة الجديدة لتلبية احتياجات الالجئني‪ .‬فصدر أمر‬
‫القربصية الرتكية ما يكفي من أغطية األ ّ‬
‫لصنع األلحفة من أي قامش مناسب خلّفه القبارصة اليونانيون وراءهم‪ .‬وقد عرف القادمون‬
‫الجدد آنذاك أن األلحفة والبطانيات التي قُ ِّدمت لهم كانت مصنوعة من الفساتني ومالبس‬
‫النوم واملالبس الداخلية اليونانية‪ .‬فإذا استخدموا أغطية الرسير التي ُوزِّعت عليهم‪،‬‬
‫سيكونون فعليًا عىل اتصال «جسدي» مع القبارصة اليونانيني‪ .‬بناء عىل ذلك‪ ،‬كانت‬
‫البطانيات بالنسبة للمستوطنني أجسا ًما رابطة لصور العدو‪ .‬ليس الحب وحده ما يربطنا‬
‫بعمق مع اخخرين؛ الكراهية تربطنا كذلك‪ .‬ومثلام يجب أن نفجع عىل رحيل من نحبهم‪،‬‬
‫نحتاج أي ً ا إىل الحداد حني نفقد األشخاص أو األشياء املكروهة بشكل وثيق‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من أننا نحاول عاد ًة إنكار ذلك‪ .‬ومع أن القبارصة اليونانيني أصيبوا بصدمة من جراء فرارهم‬
‫إىل الجنوب‪ ،‬فإن القبارصة األتراك الذين يحرقون البطانيات‪ ،‬كام هو معتاد يف مثل هذه‬
‫الحاالت‪ ،‬مل يتعاطفوا مع مأساتهم‪ .‬إال أنهم يف خ م فجيعتهم وصدمتهم‪ ،‬كان رضوريًا‬
‫من الناحية النفسية أن يحرق القبارصة األتراك هذه األجسام الرابطة ويخلقوا الوهم يف‬
‫‪46‬‬
‫أذهانهم بانفصال فوري وج عن العدو دون املرور بعملية الحداد املطلوبة‪.‬‬
‫كان هؤالء القبارصة األتراك‪ ،‬كعائلة كاتشافارا‪ ،‬نازحني ألن موقعهم الجديد أصبح تحت‬
‫الحكم القربيص الرتيك‪ .‬وكانوا بني أفراد من اإلثنية نفسها ومل يحتاجوا إىل تعلم لغة‬
‫جديدة‪ .‬إال أن منازلهم وأراضيهم األصلية يف جنوب الجزيرة سكنها اخن القبارصة‬

‫‪84‬‬
‫اليونانيون‪ ،‬فت منت عملية حدادهم استغراقًا يف اليونانيني ألنهم يعيشون اخن يف‬
‫منازلهم‪ .‬بعد عام‪ ،‬زرت القرية مجد ًدا برفقة أحمد لجمع املزيد من البيانات حول تكيفهم‪.‬‬
‫وعىل الرغم من أن حرق البطانيات مل يعد مشكلة هناك‪ ،‬تعاظمت يف الحجم كومة من‬
‫القاممة كنت قد ملحتها يف وسط القرية العام الفائت‪ ،‬كأنها متثال مصنويف من القاممة‪.‬‬
‫تكونت الكومة من األغراض التي تركها القرويون القبارصة اليونانيون‪ ،‬من نعال ممزقة‪،‬‬
‫وأوان ومقال مهشمة‪ ،‬وأثواب من القامش‪ ،‬وأهم من ذلك‪ ،‬صور باهتة لبعض القبارصة‬
‫اليونانيني وأطفالهم الذين فروا خالل الحرب‪ .‬أثارت رؤية هذه الصور عواطفي‪ ،‬مع أنني‬
‫يف ذلك الوقت كنت ساخطًا عىل القبارصة اليونانيني بشكل عام بسبب األعامل الشنيعة‬
‫التي ارتكبوها بحق أقاريب وأصدقايئ وغريهم من القبارصة األتراك‪.‬‬
‫لقد أدركت أن هذه الكومة الهائلة من النفايات كانت تربط ذوات املستوطنني الجدد بصور‬
‫جسد‬
‫اليونانيني املم َُّالك األصليني للمنازل واألرايض التي يشغلونها اخن‪ .‬فبالنسبة لهم‪ّ ،‬‬
‫القرويون اليونانيون الراحلون بشكل رمزي كل القبارصة اليونانيني الذين سببوا لهم‬
‫املعاناة يف املايض‪ .‬لكن القادمني الجدد مل يتمكنوا من نزيف املم َُّالك اليونانيني السابقني من‬
‫أذهانهم لشعورهم بالذنب أنهم حلوا محلهم يف هذا املكان‪ .‬وكانت كومة القاممة الهائلة‬
‫جسام رابطًا مشرتكًا بوضوح يوحي مبشاعر عدوانية قوية‪ .‬كانت الكومة «يف الخارج»‬
‫ً‬
‫وسط ساحة القرية مقابل املقهى‪ .‬وعىل الرغم من أن كومة القاممة مل تكن قريبة‬
‫كالبطانيات التي كانت ستالمس أجساد األشخاص الذين استخدموها‪ ،‬فإنها أتاحت استخراج‬
‫عملية الحداد‪ .‬وكام أرشت سابقًا‪ ،‬من املعتاد أن ينكص الالجئون إىل حالة ذهنية فموية‬
‫ورشجية ويفسدوا بيئتهم‪ .‬لكن هذه الكومة من القاممة لها أي ً ا معنى محدد آخر كجسم‬
‫رابط مشرتك‪.‬‬
‫بينام كنا جالسني يف املقهى نشري إىل كومة القاممة‪ ،‬أعرب أحمد عن إحباطه وإحباط‬
‫قائال‪« :‬لقد أخربناهم إن كل ما يحتاجون‬
‫الحكومة القربصية الرتكية من املستوطنني الجدد‪ً ،‬‬
‫إليه هو علبة بنزين وعود ثقاب للتخلص من هذه الفوىض‪ ،‬لكنهم ال يصغون إلينا‪ .‬كام‬

‫‪85‬‬
‫أشخاصا مثقفني طب ًيا إلعالمهم بأن وجود كومة القاممة هذه قد يسبب مشاكل‬
‫ً‬ ‫أرسلنا لهم‬
‫نلق آذانًا صاغية»‪ .‬وقد ن ّوهت بأن الحكومة لو كانت قلقة‪ ،‬فبإمكانها بسهولة‬
‫صحية‪ ،‬لكننا مل َ‬
‫إرسال شخص من خارج القرية للتخلص من هذه الفوىض‪ .‬لكنها عىل ما يبدو مل تفعل ذلك‪.‬‬
‫فتساءلت إن كان األفراد يف الحكومة قد شعروا دون وعي باألهمية النفسية لهذا الجسم‬
‫الرابط املشرتك وعىل هذا مل يحركوا ساكنًا‪.‬‬
‫ريا جذريًا‪ .‬أوالً ‪ ،‬ظهرت‬
‫بعد سبع سنوات من زياريت األوىل لهذه القرية تغري مظهرها تغي ً‬
‫الفتة إعالنية ضخمة المرأة نصف عارية تر ّوج لنوعية معينة من البنزين مقابل الطريق‬
‫الرئييس بني نيقوسيا وفاماغوستا‪ ،‬يف محاولة لجذب املسافرين العابرين لرشاء البنزين‬
‫لسياراتهم‪ .‬وأُزيلت كومة القاممة من وسط القرية‪ .‬يف وقت الحق‪ ،‬افتُتحت مطاعم صغرية‬
‫وملهى لي أي ً ا بالقرب من الالفتة‪ .‬زرت هذه القرية مرة أخرى العام املايض‪ ،‬بعد ثالثني‬
‫عا ًما عىل إمتام دراستي هناك‪ .‬وعىل نحو غريب‪ ،‬مل يتذكر أحد ممن تحدثت معهم حرق‬
‫البطانيات أو «التمثال» ال خم املصنويف من القاممة‪ .‬رمبا كَبَ َت البعض ذكرى حدادهم‬
‫الصعب‪ ،‬بينام تورط آخرون يف تطورات أحدث يف العالقة بني القبارصة األتراك والقبارصة‬
‫اليونانيني‪.‬‬
‫لقد ُه ِّجر الالجئون يف كل من بحر تبلييس وقربص الشاملية‪ .‬لكنني الحظت خالل العقود‬
‫العديدة التي أم يتها يف مراقبة املجتمعات التي أصيبت بصدمة بسبب «اخخرين»‪ ،‬أنه يف‬
‫بعض األحيان ليس من الضوري أن يتعرض الناس للتهجري جسديًا يك يصبحوا الجئني‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬حني يتغري‬
‫ً‬ ‫إنهم ما زالوا يعيشون يف نفس املكان؛ و«امله َّجر» هو املحيط املألوف‪.‬‬
‫ريا جذريًا‪ ،‬وتد َّمر املنازل‪ ،‬وتُقتلع األشجار‪ ،‬وتُحرق الحقول عىل‬
‫املحيط املادي للجامعة تغي ً‬
‫يد العدو‪ ،‬فإن األشخاص الذين يتخبطون من صور الراحلني واألشياء املفقودة قد يصبحون‬
‫مفجوعني دامئني؛ فهم يختربون الشعور بالذنب والعار واإلذالل‪ ،‬وباختصار‪ ،‬يطورون‬
‫مثاال قرية جاكوفا يف كوسوفو‪ ،‬التي يسكنها ‪ 740‬عائلة‬
‫سيكولوجية الالجئني‪ .‬لنضب ً‬
‫ألبانية بالقرب من الحدود األلبانية‪ .‬حني هاجم الرصب بقيادة سلوبودان ميلوسيفيتش‬

‫‪86‬‬
‫القرية‪ ،‬قتلوا أكرث من مائتي شخص‪ ،‬تاركني ‪ 138‬أرملة وأربعامئة يتيم‪ .‬كام أُصيب العديد‬
‫من القرويني بالتشوهات واإلعاقات‪ .‬وقيل آنذاك إن معظم جثث ضحايا املذبحة قد أُحرقت‬
‫يف محارق جاكوفا‪ .‬هذا يعني أن األرامل واأليتام وغريهم من القرويني املصدومني كانوا‬
‫يستيقظون كل صباح عىل مشهد املباين التي تحولت فيها جثث األزواج واخباء واألقارب‬
‫املقتولني إىل رماد‪ .‬وبذلك‪ُ « ،‬ه ِّجرت» بيئة القرويني املادية املألوفة سابقًا‪ ،‬وترصفوا كأنهم‬
‫الجئون حقيقيون‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬خالل خريف عام ‪ ،2004‬تحركت القوات التي تقودها الواليات املتحدة الجتثاث‬
‫املتمردين العراقيني من الفلوجة‪ ،‬املدينة التاريخية عىل نهر الفرات‪ .‬فأحالت مئات املنازل إىل‬
‫وصريت املدينة بأكملها غري صالحة للسكن‪ .‬بعد عدة أسابيع من «تطهري» املدينة‬
‫ّ‬ ‫أنقاض‬
‫من املتمردين‪ ،‬سمح األمريكيون لبعض العراقيني يف البداية سمحوا أللف وأربعامئة منهم‬
‫فقط) بالعودة‪ .‬وقد وجد هؤالء األفراد أن مدينتهم قد تم «تهجريها»‪ ،‬فأعربوا عن غ بهم‬
‫وسخطهم وإحباطهم البائس‪ .‬كام يف جاكوفا‪ ،‬أعتقد أنهم أصبحوا الجئني وهم يف منازلهم‪،‬‬
‫‪47‬‬
‫وأظن أن سكان الفلوجة سيجدون صعوبة يف الحداد عىل مدينتهم «املفقودة»‪.‬‬
‫وكام هو الحال مع الالجئني‪ ،‬فإن األشخاص الذين ُسلبت منهم بيئتهم املادية املألوفة‬
‫ج ِّسد مثل هذا الجسم الرابط بطريقة درامية عىل‬
‫يستخدمون أي ً ا أجسا ًما رابطة‪ .‬وقد ُ‬
‫لوحة للمهندس املعامري والرسام النمساوي‪ ،‬وولف ويرديجري‪ 48.‬ويرديجري يهودي يعيش‬
‫يف فيينا‪ .‬خالل الحرب العاملية الثانية‪ ،‬أُرسل والده وزوجة والده األوىل وابنهام الصغري‪،‬‬
‫الذي يُدعى أي ً ا وولف‪ ،‬إىل معسكرات االعتقال‪ .‬وهناك‪ ،‬قُتل الصبي وأمه عىل يد النازيني‪،‬‬
‫لكن والد ويرديجري نجا‪ .‬ويف عام ‪ ،1945‬ملا حطت الحرب أوزارها‪ ،‬التقى ممرضة مسيحية‬
‫وتزوجها وأنجب منها اب ًنا ثان ًيا‪ ،‬هو وولف ويرديجري‪ .‬نشأ ويرديجري كيهودي‪ ،‬إال أن أخواته‬
‫ترعرعن كمسيحيات‪.‬‬
‫إن ويرديجري ضلي ٌع مبفاهيم التحليل النفيس ويعتقد أن رسم مفاهيم التحليل النفيس‬
‫التي تتعلق بالرصاعات القومية أو اإلثنية أو الدينية ميكن أن يقدم وجهات نظر جديدة لفهم‬

‫‪87‬‬
‫سيكولوجية مثل هذه الرصاعات‪ ،‬ويستهل طرائق جديدة للتفكري بها‪ ،‬ويفتح أي ً ا األبواب‬
‫للنظر يف حلول سلمية‪ُ .‬عرضت لوحاته يف القدس وتل أبيب ورام الله وفيينا ونيويورك‪.‬‬
‫تُظهر إحدى لوحاته التي تحمل عنوان قوة األرض الوجه املعذَّب لرجل مغمض العينني فاغر‬
‫الفم‪ .‬يتوارى جسده أسفل عنقه يف األرض‪ .‬وحول عنقه خمسة مفاتيح كبرية عتيقة تربز‬
‫من األرض‪ .‬رشح يل ويرديجري أن الفلسطينيني الذين هدمت الجرافات اإلرسائيلية بيوتهم‬
‫يحتفظون عىل األغلب مبفاتيح منازلهم كأجسام رابطة‪ .‬إن لوحة ويرديجري تنطق بال وء‬
‫الذي تلقيه عىل العذابات التي يقاسيها البرش باسم هوية املجموعة الكبرية ما هو أبلغ وأبني‬
‫من الكالم‪.‬‬
‫يف الفصل التايل‪ ،‬سأشارك بعض املالحظات عن عاصمة أوسيتيا الجنوبية‪ ،‬املعروفة‬
‫باسم تسخينفايل للجورجيني وتسخينفال لألوسيتيني الجنوبيني‪ 49.‬هذه املدينة الواقعة‬
‫شامل غوري هي املكان الذي ولد فيه جوزيف ستالني وما يزال الكثريون هناك يجلّونه‬
‫كشخصية تاريخية مثالية عظيمة‪ .‬بعد حرب ‪ 1992-1991‬بني الجورجيني واألوسيتيني‬
‫تحدثت عنها بإيجاز يف الفصل األول‪ ،‬كانت تسخينفايل‪ ،‬إىل حد ما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الجنوبيني‪ ،‬التي‬
‫«مه َّجرة»‪ .‬لقد ط ّور األوسيتيون الجنوبيون الذين يعيشون يف هذه املدينة سيكولوجية‬
‫الالجئني التي سأستكشفها يف الفصل التايل‪ .‬واملناقشة يف الفصل التايل مهمة لسبب آخر‪.‬‬
‫ففي الحديث عن الصدمة التي يشعر بها األوسيتيون الجنوبيون‪ ،‬أود أن أذكر القارئ أنه يف‬
‫النزاعات بني الجامعات اإلثنية املجاورة‪ ،‬يعاين الطرفان كالهام عادة‪ .‬أرجو أي ً ا تذكري‬
‫أشخاصا أكرث «مناعة» ضد التأثريات‬
‫ً‬ ‫القراء أنه يف الجامعات الكبرية املنتكصة دامئًا ما نجد‬
‫النفسية التي متارسها مجموعتهم الكبرية بشكل جامعي‪ .‬وبدراسة فرد مثل هذا‪ ،‬سأحاول‬
‫توضيح االختالفات بني سيكولوجية الفرد وسيكولوجية املجموعة الكبرية‪.‬‬
‫عندما أتحدث عن سيكولوجية املجموعة الكبرية‪ ،‬أشري إىل الظواهر النفسية املشرتكة‬
‫العامة‪ .‬بشكل واضح‪ ،‬ليست املجموعة الكبرية كائ ًنا ح ًيا واح ًدا بدماغ واحد أو عقل واحد‪،‬‬
‫وال تعمل بالطريقة نفسها التي يعمل بها الفرد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مثة بعض أوجه الشبه‪ .‬ونظ ًرا‬

‫‪88‬‬
‫لعدم وجود مفردات منفصلة‪ ،‬إنني أطبق املصطلحات املستخدمة يف سيكولوجية الفرد عىل‬
‫سيكولوجية املجموعة الكبرية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكننا أن ندرس من كثب عملية حداد الفرد‬
‫ونكوصه يف بيئة رسيرية‪ .‬لكن املجموعات الكبرية أي ً ا «تفجع» و«تنكص»‪ 50.‬وبينام‬
‫نالحظ بعض انعكاسات عملية حداد الفرد ونكوصه يف حداد املجموعة الكبرية ونكوصها‪،‬‬
‫فإن عملية حداد املجموعة الكبرية ونكوصها ميكن مالحظتهام فقط يف االتجاهات املشرتكة‬
‫العامة املجتمعية والسياسية والعسكرية‪ ،‬ويف التغريات املادية والبيئية أي ً ا‪ .‬وحني نلقي‬
‫نظرة عىل مجموعة كبرية تعيش تحت قب ة نظام شمويل‪ ،‬أو تتكون من الجئني‪ ،‬مثة الكثري‬
‫من السلوكيات الفردية والجامعية التي تساعد يف تعريفها بأنها منتكصة‪ .‬يف حاالت نكوص‬
‫املجموعة الكبرية هذه‪ ،‬يفقد األفراد املوجودون ضمن املجموعة فرديتهم إىل درجة ما‪،‬‬
‫ويتبعون القائد القادة) اتبا ًعا أعمى‪ ،‬ويصبحون عرضة الستيعاب استدخال) الدعاية‬
‫السياسية دون التشكيك يف صحتها‪ .‬يحدد وصف سيغموند فرويد األص لسيكولوجية‬
‫الحشود هذه الظاهرة‪ ،‬عىل الرغم من أنه مل يسميها عىل وجه التحديد نكوص املجموعة‬
‫‪51‬‬
‫الكبرية‪ ،‬كام أنه مل يحاول تفسري نكوص بعض األفراد وعدم نكوص البعض اخخر‪.‬‬
‫ال يعرض كل شخص يف املجموعة الكبرية املنتكصة النكوص الفردي بالطريقة نفسها‪،‬‬
‫لكنني ال أعتقد أن املالحظات والنظريات املتعلقة بالسلوك النفيس الجمعي تكون بذلك غري‬
‫صالحة‪ .‬ففي ظروف معينة‪ ،‬ال ينكص بعض األفراد ضمن املجموعات الكبرية املنتكصة‪،‬‬
‫كاملنشقني‪ ،‬أو ينكصون بطرق مختلفة عن عامة الناس‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كان نودار‬
‫شارفيالدزه‪ ،‬وهو رجل جورجي قابلته خالل عم ‪ ،‬قاد ًرا عىل التمسك بعقله الفردي يف‬
‫سأبني‪ ،‬فقد أدى‬
‫ّ‬ ‫أثناء العيش يف ظل االتحاد السوفيتي وبعد عودة استقالل جورجيا‪ .‬وكام‬
‫دو ًرا مفصل ًيا يف مساعديت يف مراقبة الحركات املجتمعية املختلفة يف تسخينفايل وعرفني‬
‫عىل بعض األوسيتيني الجنوبيني الرائعني وبعض األوسيتيني الجنوبيني املخيفني أي ً ا)‪،‬‬
‫من بينهم شابة حسناء تدعى إيرين بيكوفا‪ .‬الحقًا‪ ،‬كان من دواعي رسوري أن أصبح «الجد»‬
‫الفخري ألول مولود إليرين‪ ،‬ساشا ألكسندر)‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫«هل قرأت اختيار صويف؟»‬ ‫‪5‬‬

‫نودار شارفيالدزه‪ ،‬هو أستاذ يف علم النفس‪ ،‬ذو وجه مستدير‪ ،‬يحمل يف أغلب األحيان‬
‫ابتسامة عري ة‪ ،‬ويعلوه شعر رمادي وحواجب داكنة‪ .‬أما إكسسواراته املميزة‪ ،‬فهي وشاح‬
‫بدال من ربطة العنق وسلسلتي أمان تتدليان من جانبي نظارته‪ ،‬وتختفيان تحت‬
‫يرتديه عاد ًة ً‬
‫إجامال‪ ،‬ميثل نودار الشكل الكالسييك لألستاذ الشارد الذهن‪ .‬إنه ليس رجل ضخم‬
‫ً‬ ‫وشاحه‪.‬‬
‫جسديًا عىل نحو خاص‪ ،‬لكن عمله فيام يسميه «إعادة التأهيل االجتامعي» لجورجيا جعله‪،‬‬
‫يف رأيي‪ ،‬شخصي ًة عمالقة‪ .‬يجسد نودار‪ ،‬الذي يتمتع بقدرات قوية يف مراقبة الذات‪ ،‬رجالً‬
‫«عاديًا» بال طموح سيايس تطور ليصبح مواطن دبلومايس ومعالج‪.‬‬
‫ولد نودار عام ‪ 1945‬يف باتومي‪ ،‬قرب الحدود الجورجية–الرتكية‪ ،‬وكان الطفل‬
‫األكرب يف أرسة مكونة من أربعة أفراد‪ .‬كان والده‪ ،‬الذي تعرفت عليه قبل وفاته يف عام‬
‫‪ ،2000‬سائق شاحنة غري مهتم بتاتًا باملساعي الفكرية‪ .‬أما والدة نودار‪ ،‬التي مل ألتقِ بها‪،‬‬
‫فقد كانت ممرضة جمعت الكتب وأحبت القراءة يف أوقات فراغها‪ .‬اتبع نودار خطى والدته‪،‬‬
‫فهو أي ً ا قارئ وجامع كتب عظيم‪ .‬عندما كان شابًا‪ ،‬كان معجبًا ج ًدا بزميله الجورجي‬
‫يوسف ستالني‪ .‬يتذكر أنه ملا كان يف الحادية عرشة من عمره‪ ،‬عندما احتج املتظاهرون عىل‬
‫الحكومة يف تبلييس‪ ،‬ذهب إىل متثال ستالني‪ ،‬راغبًا يف الدفايف عنه ضد املهاجمني املحتملني‪.‬‬
‫تلت إدانة نيكيتا خروتشوف البن جورجيا األص يف املؤمتر العرشين للحزب الشيوعي يف‬
‫فرباير ‪ ،1956‬حملة مناه ة لستالني يف جميع أنحاء االتحاد السوفيتي‪ ،‬أدت إىل نفور‬
‫العديد من الطالب يف تبلييس‪ ،‬مبن فيهم نودار‪ .‬وعندما نظموا مظاهرات ملنع إزالة متثال‬
‫ستالني‪ ،‬أرسلت السلطات السوفيتية دبابات قتلت العرشات وجرحت املئات يف الشاريف‬
‫الرئييس يف تبلييس‪.‬‬
‫يعتقد نودار أنه بدأ يشكك يف ارتباطه بصورة ستالني ويحرر نفسه من تأثري دعاية‬
‫الدولة يف عام ‪ .1963‬بدأ‪ ،‬متأث ًرا بوالدته‪ ،‬يف دراسة الفلسفة بشكل مستقل‪ ،‬وقراءة أعامل‬

‫‪90‬‬
‫أفالطون‪ ،‬وأرسطو‪ ،‬وشوبنهاور ونيتشه‪ .‬اكتشف سيغموند فرويد وكارل يونغ يف نفس‬
‫الوقت تقري ًبا‪ ،‬وجد كت ًبا «يف الشواريف» تحتوي عىل أعامل فرويد؛ فقد ترجمت معظم أعامل‬
‫فرويد املبكرة إىل اللغة الروسية منذ مدة طويلة‪ ،‬رغم حظرها يف جورجيا‪ ،‬ويف أماكن أخرى‬
‫يف االتحاد السوفيتي أي ً ا‪ .‬فتنت هذه الكتب نودار‪ ،‬وبدأ يتفكر يف الطبيعة البرشية‪ ،‬ويف‬
‫العمليات املجتمعية لالستبداد والقومية أي ً ا‪ .‬قصد نودار يف النهاية موسكو ليصبح طال ًبا‬
‫يف علم النفس‪ .‬كان عاز ًما ج ًدا عىل مقابلة علامء النفس األجانب لدرجة أنه متكن من‬
‫الدخول‪ ،‬دون دعوة‪ ،‬إىل حفل استقبال يف الكرملني عام ‪ 1966‬إللقاء نظرة عىل الشهري‬
‫جان بياجيه‪ ،‬الذي كان يحض مؤمت ًرا يف املدينة‪.‬‬
‫شعر أن عقله بحاجة إىل تدريب‪ ،‬ال يختلف عن التدريب الذي تلقاه ليصبح العب‬
‫شطرنج محرتف ومتسلق جبال جسور‪ .‬ومتا ًما كام يجب عىل املرء أن يفكر يف كل خطوة‬
‫يخطوها عند لعب الشطرنج أو تسلق الجبال‪ ،‬بدأ نودار يف اتخاذ خطوات استثنائية يف‬
‫حياته‪ .‬درس اللغة الفرنسية‪ ،‬ما مكنه من مغادرة االتحاد السوفيتي بعد وصول ليونيد‬
‫بريجنيف إىل السلطة‪ .‬وأمىض عا ًما يف فرنسا يدرس علم النفس االجتامعي وبعض من‬
‫خاصا للعالج النفيس يف تبلييس يف عام ‪،1980‬‬
‫ً‬ ‫نظرية التحليل النفيس‪ .‬افتتح أي ً ا مكتبًا‬
‫عىل الرغم من أنه كان غري قانوين‪ .‬وإلرصاره عىل معرفة املزيد عن الطبيعة البرشية‬
‫ومساعدة اخخرين‪ ،‬أظهر اهتام ًما متزاي ًدا مبفهومي الحرية واملسؤولية‪ .‬عندما قدم ميخائيل‬
‫غورباتشوف برنامج الغالسنوست والبرييسرتويكا‪ ،‬تبنى نودار اإلصالحات التي وعدت‬
‫بحريات جديدة يف التعبري واإلعالم‪ .‬ونتيج ًة لذلك‪ ،‬مع أنه مل يشارك شخص ًيا يف حركة‬
‫االستقالل‪ ،‬صدم بشدة عندما نفى غورباتشوف مسؤولية االتحاد السوفييتي عن مذبحة‬
‫تبلييس يف ‪ 9‬أبريل ‪ ،1989‬املوصوفة يف بداية هذا الكتاب‪.‬‬
‫بعد ب عة أشهر فقط من ذلك اليوم املأساوي‪ ،‬وجد نودار نفسه يف أرمينيا املجاورة‬
‫يحاول مساعدة املتضرين من زلزال ضخم أودى بحياة أكرث من خمسة وعرشين ألف‬
‫قائال‪« :‬لقد كانت تجربة شافية يل»‪ .‬لقد تبلور تحوله من محب ستالني‬
‫شخص‪ .‬يتذكر ً‬

‫‪91‬‬
‫الشاب‪ :‬فقد بدأ يشعر بااللتزام بفعل كل ما يف وسعه ملساعدة األشخاص املصدومني‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من ازدواجيته املستمرة حول رد الزعيم السوفيتي عىل مذبحة تبلييس‪ ،‬أصبح نودار‬
‫مؤي ًدا لا«التفكري الجديد» لغورباتشوف‪ ،‬حتى أنه ظهر عىل شاشات التلفزيون لتقديم‬
‫أفكار الزعيم إىل مواطنيه‪ .‬ولكن‪ ،‬مع انهيار االتحاد السوفيتي‪ ،‬رأى نودار أن االختالفات‬
‫اإلثنية والدينية ستتفاقم يف جميع أنحاء «اإلمرباطورية» السابقة‪ ،‬ما قد يؤدي إىل رصاعات‬
‫عنيفة خطرية‪ .‬راقب بقلق تصاعد القومية الجورجية وتوقع انداليف رصاعات إثنية كربى يف‬
‫جورجيا‪.‬‬
‫يف أوائل التسعينيات «غلب ثاناتوس إيروس»‪ ،‬عىل حد تعبري نودار‪ ،‬يف جورجيا‪،‬‬
‫وأصبح يشعر مبسؤوليته كمواطن ملواجهة الدمار واملوت‪ .‬بدأ سعيه لفهم سيكولوجية‬
‫التنويف االجتامعي والرصايف‪ .‬وعند عودته إىل جورجيا من رحلة أكادميية مطولة إىل إرسائيل‪،‬‬
‫وجد أن بعض أصدقائه قد تضروا نفسيًا خالل الحروب اإلثنية‪ ،‬ما أثر به بشدة‪ .‬كان‬
‫النازحون الداخليون يف كل مكان‪ .‬لذا ذهب لزيارة مكتب املجلس الرنويجي لالجئني إن آر‬
‫حا لهم يف يوم واحد فقط‪ .‬جمع نحو خمسة‬
‫يس) يف تبلييس وعرض خدماته وأعد مقرت ً‬
‫عرش من أصدقائه‪ ،‬مبن فيهم عاملة النفس جانا جافاخيشفي ومانيانا غاباشفي ‪ ،‬اللتان‬
‫ساعدتاين يف مالحظايت يف بحر تبلييس‪ ،‬وابنته ناتو شارفيالدزه‪ .‬ضمت مجموعته أي ً ا‬
‫األطباء النفسيني نينو مخاشفي ‪ ،‬وزوراب بربراشفي ‪ ،‬وريزو جوربنادزه‪ .‬وان م إليه‬
‫أي ً ا صديقه‪ ،‬كاتب السيناريو الشهري‪ ،‬أمريان دولدزه‪ .‬وشكلوا مؤسسة التنمية البرشية‬
‫إف دي إتش آر)‪ .‬خدمت جهود مؤسسة التنمية البرشية األوىل النازحني الداخليني‬
‫الجورجيني يف مواقع مختلفة يف جميع أنحاء البالد‪ ،‬مبا فيها بحر تبلييس‪ ،‬حيث استقرت‬
‫عائلة كاتشافارا‪ ،‬وغوري حيث ما يزال يوجد متثال ضخم لستالني قائم يف وسط املدينة‬
‫وحيث يوجد متحف ستالني أي ً ا‪.‬‬
‫رجال عجوز سأله‪« ،‬أتدري‬
‫يف أثناء عمله مع النازحني داخل ًيا يف غوري‪ ،‬التقى نودار ً‬
‫أن األوسيتيني الجنوبيني يحتاجون أي ً ا إىل نويف الخدمة الذي تقدموه لنا؟ إنهم مصدومون‬

‫‪92‬‬
‫أي ً ا»‪ .‬لذا رتب نودار‪ ،‬مفتونًا به‪ ،‬لقا ًء مع جرنال رويس مسؤول عن مفاوضات معينة بني‬
‫صدم نودار لساميف الجرنال‬
‫جورجيا وأوسيتيا الجنوبية‪ .‬يف أثناء جلوسه يف غرفة االنتظار‪ُ ،‬‬
‫مهتام باتخاذ ترتيبات للتجارة‬
‫ً‬ ‫وهو يحاول االستفادة من بؤس الشعب‪ :‬فقد كان الجرنال‬
‫غري املرشوعة بني املجموعتني املتحاربتني أكرث من اهتاممه بصنع السالم‪ .‬وفور استدعائه‬
‫للتحدث مع الجرنال‪ ،‬عرض نودار إح ار أشخاص من تبلييس للتعاون مع األوسيتيني‬
‫الجنوبيني يف بعض برامج إعادة التأهيل االجتامعي‪ .‬وعد الجرنال بالتحدث مع رئيس برملان‬
‫أوسيتيا الجنوبية آنذاك‪ ،‬لكن نودار مل يتلق ر ًدا من الجرنال أو سلطات أوسيتيا الجنوبية‬
‫وقرر الترصف‪ .‬يف صباح أحد األيام‪ ،‬استعار سيارة تابعة للمجلس الرنويجي لالجئني‪،‬‬
‫عاز ًما عىل القيادة إىل تسخينفايل مبفرده‪ .‬ورغم خطورة هذه الخطوة يف حد ذاتها‪ ،‬لكنه‬
‫شعر أنها كانت رضورية‪ .‬التقى يف تسخينفايل‪ ،‬بواسطة اتصاالت املجلس الرنويجي‬
‫لالجئني‪ ،‬ببعض املعلمني وعلامء النفس األوسيتيني الجنوبيني‪ .‬وخططوا م ًعا –يف أول‬
‫مرشويف مشرتك لحل النزايف بني جورجيا وأوسيتيا الجنوبية– إلح ار مجموعة من املراهقني‬
‫الجورجيني واألوسيتيني الجنوبيني –مع مقدمي رعايتهم البالغني– إىل مخيم صيفي ملدة‬
‫أسبوعني‪ 52.‬وبعد فرتة وجيزة‪ ،‬وافق املجلس الرنويجي لالجئني يف جورجيا عىل متويل‬
‫الربنامج‪.‬‬
‫كانت مشاعر نودار حول هذا املرشويف القصري مختلطة؛ مل يكن لدى مؤسسة التنمية‬
‫البرشية ورشكائه األوسيتيني الجنوبيني خرب ًة يف توجيه هذه العملية الحساسة‪ .‬لكنه كان‬
‫عاز ًما عىل البدء من مكان ما‪ .‬يف الطريق إىل موقع املخيم يف كوبوليتي‪ ،‬وهو منتجع عىل‬
‫البحر األسود بالقرب من باتومي‪ ،‬جلس نودار بجوار مراهق وسيم ريايض من أوسيتيا‬
‫الجنوبية‪ .‬يعتنق معظم األوسيتيني الجنوبيني املسيحية األرثوذكسية‪ ،‬ويعترب األوسيتيون‬
‫اإلثنيون أنفسهم منحدرين من األالن‪ ،‬وهم شعب دفع من السهول نحو سفوح القوقاز يف‬
‫القرن الرابع بعد امليالد‪ .‬متتعوا بسالم نسبي مع الجورجيني‪ ،‬حتى رصايف ‪1992-1990‬‬
‫الدموي‪ .‬كان الصبية األوسيتيون الجنوبيون متحمسني للغاية عندما توقفت املجموعة عىل‬

‫‪93‬‬
‫الطريق‪ ،‬إذ مل تسبق لهم رؤية البحر أو بساتني الحم يات الوارفة واملشذبة‪ .‬وجد نودار‬
‫نفسه يقول لزميله يف املقعد‪« ،‬اخن ترون مدى جامل بالدنا جورجيا!» لقد أدرك عىل الفور‬
‫إحساسا باملنافسة مع هذا الصبي‪ ،‬شعو ًرا بأنه كان يريد إحباط الفتى‪ .‬الحظ أنه حتى عندما‬
‫ً‬
‫يريد املرء بوعي أن يكون مفي ًدا لا«العدو»‪ ،‬قد ميلك دون وعي مشاعر معاكسة – ويترصف‬
‫بنا ًء عليها‪ .‬دهش نودار عندما فطن كيف يالحظ الناس بحرص االختالفات بني هوية‬
‫جامعتهم الكبرية وهوية املجموعة املعادية يف أوقات الرصايف اإلثني‪ .‬وأدرك أنه يريد أن‬
‫يُظهر للصبي‪ ،‬الذي دافع بالطبع عن شعبه ومثل هوية شعبه املشرتكة‪ ،‬أن الجورجيني أف ل‬
‫من األوسيتيني الجنوبيني‪.‬‬
‫يف كوبوليتي‪ ،‬أدرك نودار أنه لن تحدث معجزات فورية وبدأ يف تقدير الدور الذي‬
‫تلعبه ق ايا الهوية يف تأجيج رصاعات الجامعات الكبرية‪ .‬أدىل مقدم الرعاية الرئييس‬
‫األوسيتي الجنويب‪ ،‬وهو رجل يدعى فيليب‪ ،‬بترصيحات عدائية حول الجورجيني مرا ًرا‬
‫وتكرا ًرا أمام األطفال‪ ،‬الذين كان من املفرتض بالطبع أن يكونوا هناك لحل الرصايف‪ ،‬وليس‬
‫إلشعاله‪ .‬شعر نودار وزميلتاه يف مؤسسة التنمية البرشية‪ ،‬جانا وناتو‪ ،‬اللتان رافقتاه إىل‬
‫كوبوليتي‪ ،‬أن فيليب قد جاء إىل كوبوليتي للشجار فحسب‪ ،‬ومل يكن هناك طرف ثالث‬
‫للتدخل‪ .‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬نفد صرب نودار فقاطع أحد خطابات فيليب العنيفة املسهبة‬
‫طالبًا منه بحدة أن يهدأ ويديف األطفال يتكلمون‪ .‬خرج فيليب غاضبًا‪ ،‬ليعود الحقًا ويلتزم‬
‫الصمت‪ .‬ال شك يف أن فيليب قد عرب عن غ به بصمته‪ ،‬لكن نودار شعر بالذنب ألنه «قتل»‬
‫روح فيليب‪ .‬بعد فرتة وجيزة من جولة كوبوليتي‪ ،‬تويف فيليب يف حادث سيارة‪ .‬لقد كان‬
‫جهة االتصال الرئيسية لنودار يف أوسيتيا الجنوبية‪ ،‬لذا استغرق الربنامج بعض الوقت‬
‫ريا فينريا‬
‫للنهوض مجد ًدا‪ .‬ثم‪ ،‬خالل رحلة أخرى إىل تسخينفايل‪ ،‬التقى نودار أخ ً‬
‫باسيشفي ‪ ،‬التي أطلق عليها الجورجيون الحقًا «نودار أوسيتيا الجنوبية»‪ ،‬وأُسست صلة‬
‫إنسانية بني جورجيا وأوسيتيا الجنوبية‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫عندما وصلت إىل جورجيا يف مايو ‪ ،1998‬استقبلني نودار شارفيالدزه ويوري‬
‫حا‪ .‬كان يوري قد ذهب إىل جورجيا‬
‫أوربانوفيتش يف مطار تبلييس يف الساعة الثالثة صبا ً‬
‫قبل أسبوعني للتح ري الجتاميف بني ممث مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي –أنا وآندي‬
‫تومسون ويوري– وأع اء مؤسسة التنمية البرشية‪ ،‬مبن فيهم نودار‪ ،‬وجانا‪ ،‬ومانيانا‪،‬‬
‫وناتو‪ ،‬ونينو‪ ،‬وزوراب وغريهم‪ .‬عندما التقينا نودار للمرة األوىل‪ ،‬مع ابتسامته العري ة‬
‫املعهودة‪ ،‬عانقني وأخربين أنني أبدو جورج ًيا وأنني بالتأكيد جيغاري كاتيس‪« ،‬رجل‬
‫حقيقي»‪ .‬يف وقت الحق من ذلك اليوم‪ ،‬التقينا جمي ًعا يف مكتب مؤسسة التنمية البرشية‬
‫وأصبح مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي رشيكًا –بشكل غري رسمي‪ -‬باعتباره «طرفًا‬
‫محاي ًدا ثالثًا» يف أعامل مؤسسة التنمية البرشية الجارية مع األوسيتيني الجنوبيني ملساعدة‬
‫كال الجانبني عىل ترويض املشاعر وتنفيذ أعامل سالم أكرث فاعلية‪.‬‬
‫بتطبيق خربيت الطبية عند االستاميف إىل نودار وزمالئه خالل أحد االجتامعات املبكرة‬
‫ملركز دراسة العقل والتفاعل البرشي ومؤسسة التنمية البرشية‪ ،‬شعرت أنهم ربطوا وفاة‬
‫فيليب دون وعي بعدائهم له‪ .‬وإن كان تقييمي دقيقًا‪ ،‬فإن عملهم املستمر مع األوسيتيني‬
‫الجنوبيني كان‪ ،‬جزئيًا عىل األقل‪ ،‬مدفو ًعا بالذنب‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن كان نودار قد تخيل أنه‬
‫«قتل» فيليب بإسكاته‪ ،‬وإن كان هذا الخيال «تحقق» بحادث فيليب املميت‪ ،‬فقد شعروا أنه‬
‫يجب أن يكفروا عن ذنبهم من خالل مساعدة األوسيتيني الجنوبيني‪ ،‬وخاص ًة األطفال الذين‬
‫كانوا محور مرشوعهم التعاوين‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يحتمل أن يؤدي فعل الخري بدافع الشعور الال‬
‫واعي بالذنب إىل عواقب نفسية فوضوية محتملة‪ :‬فقد يترصف الذين يشعرون بالذنب‪ ،‬دون‬
‫إدراك‪ ،‬بطريقة معينة ملعاقبة أنفسهم‪ ،‬ما يجعل من املستحيل عليهم التواصل مع «اخخرين»‬
‫كأنداد‪ .‬ومن دون حرية االقرتاب من بع هم البعض كأنداد‪ ،‬ال ميكن ألع اء الجامعات‬
‫املتعارضة أن يولدوا مفاوضات واقعية أو تعاونات عملية‪ .‬فاإليثار الحقيقي ال يت من هذا‬
‫العنرص املازوخي‪ ،‬وبالتايل ال يؤدي إىل تدمري الذات‪ :‬ال ميكن للشخص االنخراط يف أنشطة‬
‫إيثارية حقيقية إال عند االعرتاف مبشاعر الذنب – استيعاب حاجته املتصورة إىل بذل جهد‬

‫‪95‬‬
‫من أجل «اخخر» أكرث مام هو رضوري أو رمبا ممكن حتى)‪ .‬لحسن الحظ‪ ،‬يف هذه الحالة‪،‬‬
‫متكنت أنا وآندي ويوري يف النهاية من املساعدة يف الكشف عن العواقب النفسية ملوت‬
‫فيليب‪ ،‬وعززنا شعور أع اء مؤسسة التنمية البرشية باإليثار مبجرد تطهريه من عنارص‬
‫‪53‬‬
‫الذنب‪.‬‬
‫عندما بدأت زيارايت إىل جورجيا‪ ،‬مل تكن املحادثات الرسمية والرسية بني السلطات‬
‫الجورجية واألوسيتية الجنوبية تصل إىل نتيجة‪ .‬أخربين مسؤول رفيع املستوى يف السفارة‬
‫األمريكية يف تبلييس الحقًا أن الحكومتني األمريكية والروسية اتفقتا عىل عدم التدخل يف‬
‫الوضع األوسيتي الجنويب‪ ،‬إذ مل يعد هناك ضحايا للرصايف‪ .‬ال يهم ما إذا كانت معلومات‬
‫املسؤول دقيقة أم ال‪ .‬فلم يذهب أي مسؤول أمرييك إىل أوسيتيا الجنوبية‪ ،‬وقد فوجئ‬
‫األمريكيون الذين التقينا بهم يف تبلييس والذين كانوا مرتبطني بشكل أو بآخر بالحكومة‬
‫األمريكية بتخطيط أع اء هيئة التدريس يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي للذهاب‬
‫ريا بالنسبة لهم‪.‬‬
‫إىل تسخينفايل‪ ،‬العتباره مكانًا خط ً‬
‫أُبلغت أنا وآندي ويوري أنه يوجد ممثلون لبعض املنظامت الدولية لالجئني يف‬
‫تسخينفايل وقد بُذلت بعض املحاوالت لبناء منازل ومنشآت دامئة للنازحني الداخليني‬
‫األوسيتيني الجنوبيني هناك‪ .‬لكن عانت هذه املحاوالت من عمليات االحتيال‪ ،‬إذ استخدم‬
‫بعض البنائني مواد رديئة يف بنائها‪ ،‬ليختلسوا التوفريات‪ .‬ونتيج ًة لذلك‪ ،‬كانت املنازل غري‬
‫مالمئة إطالقًا للحامية من فصول الشتاء القارسة يف تسخينفايل‪ .‬مل تكن هناك –ومل توجد‬
‫بعد– أي تحقيقات عامة أو لجان لتقيص الحقائق املتعلقة بأي من النزاعات األهلية يف‬
‫جورجيا‪ .‬وبالتأكيد مل تكن هناك جهود جادة لبناء تفاعالت شخصية مستمرة بني‬
‫الجورجيني واألوسيتيني الجنوبيني قبل جهود نودار الشجاعة لبناء رشاكة بني مؤسسة‬
‫التنمية البرشية وفينريا باسيشفي ‪ ،‬مديرة قرص إبدايف األطفال يف تسخينفايل‪ ،‬وهو مركز‬
‫ترفيهي وتعليمي لشباب أوسيتيا الجنوبية أسس يف الحقبة السوفيتية‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫عندما ذهبت أول مرة إىل تسخينفايل‪ ،‬سافرنا إليها يف سيارتني‪ ،‬مررنا بغوري‬
‫وشعرنا بظل ستالني يسقط علينا‪ .‬كانت السيارة التي ركبت فيها مع يوري وجانا ملكًا‬
‫ألمريان‪ ،‬كاتب السيناريو‪ ،‬الذي عمل كسائق لنا‪ .‬كان أمريان قد أخربين سابقًا عن «املدرسة‬
‫الجورجية» لصناعة األفالم التي وجدت خالل الحقبة السوفيتية عندما وجبت املوافقة عىل‬
‫كل سيناريو بواسطة لجنة حكومية‪ .‬مل يستطع الكاتب التعبري عالني ًة عن رأي ضد‬
‫الشيوعية أو الوضع يف االتحاد السوفيتي‪ .‬لذا‪ ،‬سعت «املدرسة الجورجية» دامئًا إىل التعبري‬
‫الرمزي‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬استعاروا غال ًبا أشكاالً من التعبري الرمزي من الكتاب املقدس أو‬
‫األساطري لخدايف أع اء اللجنة‪ .‬حثت اللجنة كتاب السيناريو عىل متجيد النظام السوفيتي‬
‫والطبقة العاملة‪ .‬كانوا يقولون ألمريان‪« :‬أنتم الجورجيون شعب سعيد»‪ ،‬م يفني‪« :‬اجعلوا‬
‫الناس يبدون سعداء يف األفالم»‪ .‬كان أمريان ملز ًما بجعل الناس يبدون سعداء ظاهريًا يف‬
‫فمثال قد تحمل إحدى‬
‫ً‬ ‫نصوصه‪ ،‬لكنه عرب عن مشاعر شخصيته الحقيقية بطرق أخرى‪.‬‬
‫الشخصيات سلة مليئة بالبيض املكسور‪ ،‬الذي يرمز إىل روحها املكسورة‪.‬‬
‫نصوصا لخمسة أفالم جورجية بني عامي ‪ 1980‬و‪ 1985‬وكان معروفًا‬
‫ً‬ ‫كتب أمريان‬
‫ريا إلعجاب املثقفني هناك‪.‬‬
‫ومث ً‬
‫ولكن‪ ،‬بعد إعادة استقالل جورجيا‪ ،‬مل يتوفر املال كايف إلنتاج األفالم‪ .‬كان‬
‫فيلام سنويًا خالل الحقبة السوفيتية؛ يف عام‬
‫الجورجيون ينتجون ما يصل إىل عرشين ً‬
‫‪ 1998‬أنتجوا مثانية فقط‪ .‬مل يكن أمريان يعرف اإلنجليزية‪ ،‬وبالطبع مل أكن أعرف اللغة‬
‫الجورجية أو الروسية‪ ،‬لكن يوري‪ ،‬كالعادة‪ ،‬كان جاه ًزا للمساعدة‪.‬‬
‫كنا قد ذهبنا أنا ويوري وأمريان سابقًا إىل املبنى الذي ي م الرشكة املساهمة لألفالم‬
‫الجورجية يف تبلييس‪ .‬نصبت يف حديقتها متاثيل لكبار مخرجي األفالم الجورجيني‪ .‬ويف‬
‫الداخل‪ ،‬رغم وجود سجاد أحمر وغرفة عرض ذات كرايس حمراء مريحة‪ ،‬كان كل يشء‬
‫يتداعى وكان الجو كئيب نو ًعا ما‪ .‬جلسنا يف غرفة العرض وشاهدنا فيلم نايلون كريسامس‬
‫تري الذي كتبه أمريان عام ‪ .1987‬وأخرجه املخرج الجورجي الشهري ريزو إسادزه‪ .‬ترجم‬

‫‪97‬‬
‫يوري الحوار يل‪ .‬استطعت مشاهدة أكرث رموز أمريان ذكا ًء للحياة يف ظل النظام القمعي‪.‬‬
‫ومثل نودار‪ ،‬استطايف أمريان الحفاظ عىل فرديته رغم العيش يف ظل نظام سيايس قمعي‬
‫بف ل الكتابة‪.‬‬
‫ركز الفيلم عىل حافلة مليئة باألشخاص الذاهبني إىل منازلهم لالحتفال بعيد امليالد‪.‬‬
‫الجميع «سعداء»‪ ،‬لكن الحافلة املزدحمة‪ ،‬التي متثل جامعة كبرية مرتاجعة‪ ،‬ال تصل إىل أي‬
‫مكان‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬فإن سائق الحافلة‪ ،‬الذي ميثل القيادة السوفيتية‪ ،‬ال يكرتث‬
‫بالركاب‪ .‬ويف مرحلة ما‪ ،‬توقف الرشطة الحافلة‪ ،‬ورسعان ما تتحول الرثثرة التي كانت عىل‬
‫منت الحافلة إىل صمت مطبق‪ .‬وطوال الوقت‪ ،‬يحمل أحد الركاب شجرة عيد ميالد مصنوعة‬
‫من النايلون‪ ،‬والتي ترمز إىل أن «الحياة السعيدة» للجورجيني كانت مجرد محاكاة‬
‫اصطناعية‪.‬‬
‫قبل أمريان يف جورجيا الجديدة‪ ،‬التي بات فيها من دون دخل‪ ،‬عرض صديقه نودار‬
‫لالن امم إىل مؤسسة التنمية البرشية‪ .‬يف أثناء قيادتنا إىل أوسيتيا الجنوبية‪ ،‬أخربنا أمريان‬
‫أنه كان يعمل عىل سيناريو فيلم جديد يسمى ذا سيلنغ‪ .‬وأوضح‪« :‬إن كان لديك سقف‪ ،‬فهذا‬
‫يعني أن لديك منزل؛ لست تائ ًها‪ .‬نبحث نحن الجورجيون عن سقف جديد منذ عرش سنوات»‪.‬‬
‫تذكرت تشبيهي لهوية الجامعة الكبرية بالخيمة‪ .‬أندهش دامئًا من مقدار «معرفة» الرسامني‬
‫والشعراء والروائيني وغريهم من املبدعني الذين مل يتلقوا تدريبًا رسميًا يف التحليل النفيس‬
‫مبفاهيم التحليل النفيس املتعلقة بالطبيعة البرشية‪.‬‬
‫لن أنىس أب ًدا أول مرة رأيت الحدود الجورجية–األوسيتية الجنوبية‪ .‬لقد حددت‬
‫بحواجز خشبية عىل طول الطريق‪ ،‬أشبه بتلك املوجودة عند معابر السكك الحديدية يف‬
‫الواليات املتحدة‪ .‬أُسكن حرس الحدود يف برج مراقبة بجوار املرتاس‪ .‬وكانت مئات الشاحنات‬
‫قد توقفت يف الحقول حول املرتاس وتجول سائقوها املتجهمون يف الوحل‪ .‬كان لدي انطبايف‬
‫قوي بأن هذا املعرب كان حرف ًيا بوابة يتدفق عربها الناس‪ ،‬واملال‪ ،‬والطعام واألسلحة إىل آسيا‬
‫ا لوسطى‪ .‬ساد إحساس بالخروج عىل القانون‪ ،‬وشعور بأن هؤالء الناس كانوا يحاولون‬

‫‪98‬‬
‫معرفة من يكونون‪ ،‬وأي ق ية إثنية أو دينية يريدون أن ينارصوها‪ .‬مل نواجه أي مشكلة‬
‫يف عبور الحدود‪ .‬وعندما رأيت مباين املدينة ألول مرة‪ ،‬تذكرت مجد ًدا بعض األماكن يف‬
‫القطايف الرتيك من نيقوسيا‪ ،‬قربص‪ ،‬كام كانت بعد عام ‪ ،1974‬حيث متيزت جدران العديد‬
‫من املباين بثقوب الرصاص‪ .‬لقد دمرت البنية التحتية للمدينة بشكل أسايس‪ .‬ومل يكن هناك‬
‫سوى ب عة أشخاص يف الشواريف املليئة بالحفر‪.‬‬
‫ريا إىل قرص إبدايف األطفال‪ ،‬الذي كان متهد ًما أي ً ا لألسف‪ .‬عندما يسمع‬
‫وصلنا أخ ً‬
‫املرء كلمة «قرص»‪ ،‬يفكر عمو ًما يف رصح مهيب بني إليواء امللوك‪ ،‬لكن قرص إبدايف األطفال‬
‫مل يكن مكانًا كهذا‪ .‬حولت ساحة فنائه إىل موقف سيارات‪ .‬ويف الداخل‪ ،‬تحطمت األرضية‬
‫الرخامية الجميلة سابقًا إىل قطع عديدة‪ ،‬واحتوت غرف املوظفني عىل أثاث قليل قديم‪ .‬بينام‬
‫احتوت قاعة الدخول عىل متثال نصفي للشاعر األوسيتي الجنويب والرسام والثوري كوستا‬
‫خيتاغوروف ‪)1906-1859‬؛ ألصقت صور وقصاصات صحفية للعديد من الشخصيات‬
‫األدبية األوسيتية الجنوبية واألمريكية‪ ،‬بشكل مدهش‪ ،‬عىل الجدران‪ .‬افتخرت املديرة فينريا‬
‫وبعض مساعديها ج ًدا مبعرفتهم العميقة باألدب األمرييك‪ ،‬وكان إرنست‬ ‫باسيشفي‬
‫همنغواي‪ ،‬وويليام فوكرن‪ ،‬وإدغار آالن بو من الكتاب املف لني لديهم‪ .‬وقد بدت فينريا‬
‫سعيدة للغاية عندما أخربتها بواسطة مرتجم) أنني أتيت من جامعة فريجينيا‪ ،‬حيث درس‬
‫بو وحارض فوكرن‪.‬‬
‫كانت فينريا أرملة محلية من إثنية جورجية يف الستينيات من عمرها وكان زوجها‬
‫أوسيتي جنويب‪ ،‬وقد خلصت إىل تعريف نفسها عىل أنها أوسيتية جنوبية‪ .‬يف خ م الدمار‬
‫العاطفي والجسدي‪ ،‬كانت تحاول جعل قرص إبدايف األطفال مكانًا للشفاء ألطفال أوسيتيا‬
‫الجنوبية املصدومني بسبب الحرب وحصار تسخينفايل‪ .‬عندما كانت امرأة شابة‪ ،‬كانت‬
‫باسيشفي معلمة معروفة ومحرتمة؛ حتى أنها علمت بعض األوسيتيني الجنوبيني الذين‬
‫يشغلون اخن مناصب سياسية نافذة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬كام خمنت ورسعان ما تأكدت‪ ،‬كانت‬
‫شخصية ذات نفوذ سيايس يف املنطقة االنفصالية‪ .‬لذا كان ترصفها شجا ًعا عندما وافقت‬

‫‪99‬‬
‫عىل العمل مع «العدو» – أي عند قبولها اقرتاح نودار شارفيالدزه بالعمل م ًعا لتقديم خدمات‬
‫نفسية ملجموعة من األطفال األوسيتيني الجنوبيني‪ .‬ومبا أن األطباء النفسيني وعلامء النفس‬
‫الجورجيني الذين عملوا مع مؤسسة التنمية البرشية كانوا مدربني بشكل أف ل وذوو خربة‬
‫أكرث من زمالئهم يف تسخينفايل‪ ،‬جرى االتفاق عىل أن يتناوب نودار وزمالؤه يف مؤسسة‬
‫التنمية البرشية من تبلييس‪ ،‬مدعومني بتمويل املجلس الرنويجي لالجئني‪ ،‬عىل القدوم إىل‬
‫قرص إبدايف األطفال مرة واحدة يف الشهر لإلرشاف عىل عمل املعلمني وعلامء النفس‬
‫األوسيتيني الجنوبيني‪ .‬وأن يبدأ مقدمو الرعاية األوسيتيني الجنوبيني‪ ،‬بعد تعلم التقنيات‬
‫يف جلساتهم الشهرية مع الجورجيني‪ ،‬يف عقد جلسات أسبوعية مع األطفال‪.‬‬
‫يف تلك الزيارة األوىل لقرص إبدايف األطفال يف مايو ‪ ،1998‬تحدثنا أنا وآندي ويوري‬
‫مع املوظفني فقط ومل نراقب عملهم أو عمل الجورجيني مع األطفال‪ .‬أوضحنا لهم سبب‬
‫رغبة فريق مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي يف مراقبة جهودهم‪ :‬أردنا املساعدة يف‬
‫تدريب مقدمي الرعاية األوسيتيني الجنوبيني عىل أمل أن يوفر عملهم مع األطفال نو ًعا من‬
‫«التطعيم» ضد تأثري األحداث الصادمة التي مروا بها و حتى ضد العنف يف حال حدوث‬
‫أزمة شديدة أخرى يف املستقبل‪ .‬فوافقوا عىل أن يكونوا رشكاءنا‪ .‬لقد أربكني التجاور بني‬
‫الحدود الجورجية–األوسيتية الجنوبية املرعبة واألوسيتيني الجنوبيني الودودين مع‬
‫قصاصاتهم املجموعة مبحبة للشخصيات األدبية األمريكية عىل جدران قرص إبدايف األطفال‪.‬‬
‫شعرت أنني أرى الطبيعة البرشية تتجسد أمامي – العداء والحب‪ ،‬القبح والجامل‪ ،‬يقفان‬
‫بجانب بع هام البعض‪ .‬لقد استغرقت بعض الوقت لدمج هذه األضداد يف ذهني‪ .‬فعند‬
‫زيارة مكان مثل تسخينفايل يف يوم ربيعي بارد ألول مرة‪ ،‬يحتاج األجنبي إىل إنجاز عمل‬
‫نفيس داخ ليكامل هذه األقطاب من أجل إجراء محادثة واقعية مع السكان املحليني الذين‬
‫تكيفوا للتعايش مع تناق ات املجتمع املصدوم‪.‬‬
‫عندما ركنا سياراتنا ألول مرة أمام قرص إبدايف األطفال‪ ،‬رأينا أربعة موظفني –‬
‫جميعهن سيدات– أمام مدخل املبنى‪ .‬كانت إحداهن طويلة القامة وجميلة‪ ،‬وكانت تقف عىل‬

‫‪100‬‬
‫عكازين بسبب إصابتها يف ساقها‪ .‬كانت هذه مادينا غازايفا‪ ،‬أخصائية نفسية من أوستيتا‬
‫الجنوبية ستعمل معنا من كثب لسنوات قادمة‪ .‬أخربتنا مادينا بالروسية) أنها كانت العبة‬
‫كرة سلة وأنها قبل أيام قليلة كرست ساقها أثناء اللعب‪ .‬امرأة شابة تلعب كرة السلة يف‬
‫مدينة متهدمة –فكل مبنى رأيناه يحتاج إىل إصالح– تجرب أجنب ًيا مث عىل إجراء مزيد‬
‫من العمل الداخ التكام ‪ :‬لفهم كيف ميكن المرأة شابة أن تستمتع مبامرسة الرياضة‬
‫وهي محاطة ببيئة مادية تذكرها باستمرار بأهوال العدوان البرشي‪.‬‬
‫قررت أن االستاميف إىل القصص الشخصية املتعلقة بالحرب لفينريا ومادينا وغريهام‬
‫من األوسيتيني الجنوبيني سيشعرهم بالراحة مع أع اء مركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي‪ .‬تحدثوا لساعات عن مالحظاتهم املبارشة ملختلف األحداث املأساوية‪ .‬استمع إليهم‬
‫أصدقاؤنا الجورجيون أي ً ا وأظهروا بعض التعاطف‪ .‬لكنني علمت أن بع هم أراد‬
‫«منافسة» العدو ورواية قصصه املرعبة‪.‬‬
‫خالل هذه الفرتة الزمنية‪ ،‬كان متوسط الراتب الشهري للمعلم يف تسخينفايل أقل‬
‫من دوالرين‪ .‬وطور الكثري من الناس نظام مقاي ة للنجاة‪ .‬كان إيجاد التدفئة خالل فصل‬
‫الشتاء مشكلة كبرية بشكل خاص‪ .‬قيل لنا إن مجموعة من املسنني‪ ،‬املدركني أن الشتاء القادم‬
‫فعال يف وقت الحق‪ .‬علمنا أي ً ا أن البغايا‪،‬‬
‫سيقتلهم‪ ،‬حفروا قبورهم التي دفنوا فيها ً‬
‫ومعظمهن من الشابات واألطفال‪ ،‬كسبوا دوال ًرا أو اثنني مقابل كل خدمة‪ .‬كانت املدينة‬
‫ملموسا عىل تراجع وفوىض الجامعة الكبرية‪.‬‬
‫ً‬ ‫نفسها مثاالً‬
‫بعد ق اء ساعات طويلة يف قرص إبدايف األطفال‪ ،‬ذهبنا لرؤية وزير خارجية أوسيتيا‬
‫الجنوبية الذي كان‪ ،‬عىل ما أعتقد‪ ،‬من طالب فينريا السابقني‪ .‬اكتشفت خالل سنوايت‬
‫الطوال التي أم يتها يف العمل الدبلومايس غري الرسمي يف العديد من األماكن امل طربة‬
‫يف العامل‪ ،‬أن تقديم احرتامنا ملسؤول مسؤولني) يف الحكومة عن طريق زيارة قصرية‬
‫مفيد دامئًا‪ .‬مينحنا هذا –الهيئة التدريسية يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي–‬
‫املصداقية ويحفظنا من أن يُنظر إلينا عىل أننا نفعل شي ًئا يف الخفاء ونخفي شي ًئا عن‬

‫‪101‬‬
‫السلطات املحلية‪ .‬يف أثناء زيارة مكتب وزير الخارجية يف أوسيتيا الجنوبية‪ ،‬وجدنا غرفة‬
‫صغرية بها مكتب وكرسيان‪ .‬كان الوزير نفسه‪ ،‬الذي ارتدى معطفًا سميكًا يف الداخل‪،‬‬
‫وحي ًدا متا ًما يف املكان باستثناء سكرترية واحدة توقد نا ًرا صغرية‪ .‬شكر يوري وزير‬
‫الخارجية باللغة الروسية‪ ،‬اللغة املشرتكة بني الجورجيني واألوسيتيني الجنوبيني‪ ،‬الستقبالنا‬
‫خالل «جدوله اليومي املزدحم!» ابتسم وزير الخارجية ابتسامة عري ة‪ .‬أعتقد أنه كان يتمتع‬
‫بروح الدعابة‪.‬‬
‫عدت أنا ويوري إىل تسخينفايل يف نوفمرب ‪ ،1998‬مع نودار وجانا ونينو وأمريان‪.‬‬
‫و أتيحت يل الفرصة هذه املرة ملراقبة العمل التعاوين الجورجي–األوسيتي الجنويب الجاري‬
‫طفال من سن التاسعة حتى الثانية‬
‫ً‬ ‫مع أطفال أوسيتيا الجنوبية‪ .‬يف البداية شارك ستون‬
‫عرشة يف املرشويف‪ .‬ثم أضيف الحقًا ثالثون آخرون‪ .‬كانوا يجتمعون مرة واحدة أسبوعيًا مع‬
‫شخصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫معلمني وعلامء نفس من أوسيتيا الجنوبية يف مجموعات مؤلفة من ‪ 20‬حتى ‪25‬‬
‫يأيت الجورجيون مرة واحدة يف الشهر‪ ،‬ويلتقي األطفال‪ ،‬يف مجموعاتهم الخاصة‪ ،‬جانا‬
‫ونينو‪ .‬يسمح لهم الربنامج بالتحدث عن تجاربهم أثناء الحرب والتعبري عن مشاعرهم‪ .‬كان‬
‫الهدف هو إزالة االستجابات املرضية للصدمات من نفسية هؤالء األطفال ومنعهم من البقاء‬
‫كحاملني أحياء للكراهية اإلثنية‪.‬‬
‫طفال يف قرص‬
‫يف صباح يوم ‪ 3‬نوفمرب ‪ 1998‬الجليدي‪ ،‬كان هناك خمسة وعرشون ً‬
‫إبدايف األطفال للمشاركة يف لقاء ملدة ساعتني مع جانا ونينو‪ .‬كانت الغرف التي اجتمع فيها‬
‫األطفال لجلساتهم عىل الجانب األمين من قاعة املدخل‪ ،‬بعد املراحيض املتداعية واملغمورة‬
‫دامئًا – مل يتوافر املال حتى إلصالحات السباكة األساسية‪ .‬عندما دخلت إحدى هذه الغرف‬
‫رأيت األطفال األوسيتيني الجنوبيني جالسني عىل مقاعد خشبية يف ثالث دوائر متحدة‬
‫املركز‪ .‬كان بع هم محليني‪ ،‬وجاء آخرون من مأوى لألطفال من الريف الذي دمرته الحرب‪،‬‬
‫حيث انهارت بنية األرسة وغادر العديد من اخباء إىل روسيا بحثًا عن عمل‪ .‬كان هناك موقد‬
‫معدين متوضع يف إحدى الزوايا‪ ،‬ينفث الدخان يف الفناء املغطى بالثلوج من خالل أنبوب‬

‫‪102‬‬
‫مؤقت‪ .‬حض اثنان من املستشارين الجورجيني لقيادة الجلسة مع األطفال‪ .‬وجلست مع‬
‫خمسة مدرسني وعلامء نفس أوسيتيني جنوبيني‪ ،‬ونودار وأمريان من مؤسسة التنمية‬
‫البرشية‪ ،‬ويوري عىل مقاعد أعىل وخارج الدوائر وراقبنا‪ .‬جرت كل املحادثات باللغة‬
‫الروسية‪ .‬كانت إيرين بيكويفا مرتجمتي يف ذلك اليوم‪ ،‬وهي امرأة أوسيتية جنوبية‪ ،‬رمبا‬
‫كانت يف أوائل العرشينيات من عمرها‪ ،‬والتي تحدثت اإلنجليزية بلهجة أمريكية‪ .‬مل أقابل‬
‫ريا بإجادتها للغة اإلنجليزية‪ ،‬فاستفرست عن املكان الذي‬
‫إيرين من قبل‪ ،‬وقد تأثرت كث ً‬
‫تعلمت فيه التحدث بها‪ .‬أخربتني أنها مل تغادر أوسيتيا الجنوبية قط إال لدراسة األدب‬
‫اإلنجليزي واألمرييك يف جامعة نالتشيك يف جمهورية قربدينو –بلقاريا يف شامل القوقاز‬
‫يف االتحاد الرويس‪ .‬كانت إيرين جميلة‪ ،‬لكنني شعرت أنها كانت كطائر صغري مجروح‪ .‬مل‬
‫أعلم ملاذا خطرت يل هذه الفكرة‪.‬‬
‫بدأت جانا االجتاميف بتقديم نفسها وتوضيح أنها وزمالئها جاءوا إىل قرص إبدايف‬
‫األطفال للتحدث إىل األطفال‪ .‬مشري ًة إىل أنها تعرف بالفعل معظم األطفال‪ ،‬وحثتهم عىل‬
‫عدم الخجل وطلبت منهم تقديم أنفسهم وهي تلقي كرة صفراء لينة تجاه املجموعة‪ .‬كان‬
‫من املفرتض أن يقدم األطفال أنفسهم ويذكروا هواياتهم املف لة عند اإلمساك بالكرة‪.‬‬
‫تحدثوا عن حب كرة القدم‪ ،‬واملوسيقى‪ ،‬واملصارعة والرقص‪ .‬بعد أن أتيحت الفرصة لكل‬
‫طفل تقريبًا للتحدث‪ ،‬قدمت جانا ملسة جديدة للعبة‪ .‬كان من املفرتض أن يسمي كل طفل‪،‬‬
‫بعد التقاط الكرة‪« ،‬قاعدة» واحدة للسلوك االجتامعي تعرتف بها املجموعة‪ .‬قال أحدهم‪:‬‬
‫«االبتسام»‪ .‬وأضاف آخر «كن ودو ًدا»‪ .‬وتابعوا «استمع أكرث وتحدث أقل‪ ....‬أن نتقبل مظهر‬
‫بع نا البعض‪ ....‬كن مهذبًا»‪.‬‬
‫بعد نحو ساعة‪ ،‬طُلب من األطفال اختالق قصة وروايتها كمجموعة‪ ،‬وهي تقنية عمل‬
‫مع األطفال املصدومني علمها بعض املعلمني الزائرين برعاية نرويجية للمدربني‪ .‬من وجهة‬
‫نظر مقدمي الرعاية‪ ،‬فإن نشاط رسد القصص يشكل نو ًعا من قامش الرسم املشرتك الذي‬
‫ميكن لألطفال أن يخرجوا ويسقطوا عليه جوانب من عواملهم الداخلية‪ .‬ومبجرد نرشها يف‬

‫‪103‬‬
‫العلن‪ ،‬ميكن مناقشة هذه اإلسقاطات بطريقة ميكن أن تكون عالجية‪ .‬بدأ األطفال‪« :‬كان‬
‫هناك رجل‪ ...‬أبحر إىل جزيرة‪ ...‬وبحث هناك عن الطعام»‪.‬‬
‫لقد تأثرت فوريًا بإشارات األطفال الوفرية إىل املاء‪ .‬عىل الرب‪ ،‬كانوا ي حكون هم‬
‫واملدربون ويدردشون حول مدى متعة اإلبحار يف البحرية أو البحر إىل جزيرة وق اء عطلة‬
‫عىل الشاطئ‪ .‬لكنني أتذكر‪ ،‬أن أوسيتيا الجنوبية غري ساحلية متا ًما‪ ،‬وال يوجد فيها أي‬
‫بحريات كبرية أو محيطات أو بحار داخلية‪ .‬ونظ ًرا ألن اإلبحار ليس خيا ًرا واقع ًيا يف أوسيتيا‬
‫الجنوبية‪ ،‬فإن استغراق األطفال يف االصطياف عىل الشاطئ يبدو أنه ميثل خياالً للتواجد‬
‫يف مكان آخر‪ .‬يف ذهني املحلل النفيس –واستنا ًدا إىل تجربتي مع األطفال املصدومني‬
‫بسبب الحرب يف أماكن أخرى– شعرت أن األطفال يحاولون‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬إرسال رسالة‬
‫إىل البالغني يف الغرفة‪ ،‬كام لو كانوا يرصخون‪« ،‬املاء‪ ،‬املاء يف كل مكان»‪ .‬تساءلت إن كان‬
‫املاء الذي أشاروا إليه بقلق شديد يعكس أي ً ا أعراض التبول الال إرادي؛ غالبًا ما يكون املاء‬
‫بارزًا يف أحالم األطفال املصدومني الذين يبللون أرستهم‪ ،‬ويرتبط التبول الال إرادي غالبًا‬
‫مبشاعر الغ ب اليائس‪ 54.‬اعتقدت أن األطفال قد سعوا رمبا‪ ،‬عن طريق رسدهم القصص‪،‬‬
‫إىل عكس البلل املزعج‪ ،‬أي إعادة صياغته كتجربة ممتعة‪ .‬حني قدمت هذه الفكرة إىل مقدمي‬
‫فعال‬
‫الرعاية يف أوسيتيا الجنوبية بعد الجلسة‪ ،‬أكدت فينريا أن التبول الال إرادي كان شائ ًعا ً‬
‫مذال ج ًدا‪ ،‬خاص ًة لألطفال‬
‫بني األطفال‪ ،‬ولكن ناد ًرا ما جرى التحدث عنه عالني ًة ألنه كان ً‬
‫األكرب س ًنا‪ .‬والجدير بالذكر‪ ،‬أن أمهات األطفال كن يهمسن أحيانًا بهذا األمر للمديرة املوقرة‪.‬‬
‫مل تناقش فينريا األمر حتى مع مقدمي الرعاية األوسيتيني الجنوبيني األصغر س ًنا أو زمالئهم‬
‫الجورجيني حتى ذلك اليوم بالذات‪ .‬فبالنسبة لألطفال والبالغني يف تسخينفايل املصدومة‪،‬‬
‫رسا‪ ،‬رم ًزا إلذالل املجتمع‪.‬‬
‫كان التبول الال إرادي لألطفال ً‬
‫لكن األهم من ذلك أنني شعرت أن الجزيرة يف قصة األطفال متثل أوسيتيا الجنوبية‬
‫املحاطة با«األعداء»‪ ،‬رغم أن أيًا من األطفال مل يرش إىل الجورجيني أو إىل أنفسهم‬
‫كأوسيتيني جنوبيني‪ .‬يف إحدى مراحل قصة األطفال‪ ،‬يرى الرجل زورقًا إيران ًيا معاديًا‬

‫‪104‬‬
‫ويريد محاربة األشخاص املوجودين عىل متنه‪ .‬تجنب األطفال بجدية االختالفات داخل‬
‫الغرفة‪ ،‬وحولوا أي مشاعر عدائية تجاه اإليرانيني «اخخرين»‪ .‬وملا بان العداء‪ ،‬قال أحد‬
‫األطفال بطريقة آلية‪« :‬رغم صعوبة تكوين صداقات بعد الحرب‪ ،‬لكننا نريد السالم!» مع‬
‫ابتسامة باردة عىل وجهه‪ ،‬رسم طفل آخر شخصية عصا عىل الجزيرة مرفوعة اليدين‪ ،‬كأنها‬
‫تستسلم لعدو غري مريئ؛ وإىل جانب الشخصية‪ ،‬رسم مربع يشبه بالون كرتوين وكتب فيه‬
‫ريا بن اله‬
‫باإلنجليزية‪ ،‬كام لو كان ذلك من أج أنا ويوري‪« ،‬النجدة! النجدة!» لقد تأثرت كث ً‬
‫ليعلن مبارش ًة أنه يحتاج هو واألطفال اخخرون إىل مساعدتنا‪ ،‬رغم أنه أراد إخفاء ذلك‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫كام لو أنها ال تستطيع رؤية رسالة «النجدة»‪ ،‬قالت إحدى املدربات للصبي‪« :‬أليس جي ًدا أنك‬
‫حا صعو ًدا وهبوطًا؟»‬
‫اخن يف إجازة عىل هذه الجزيرة‪ ،‬تقفز مر ً‬
‫مع تقدم الجلسة التي استمرت ساعتان‪ ،‬شعرت باإلحباط‪ .‬وبدالً من التعبري عن‬
‫مخاوف األطفال وعداءاتهم‪ ،‬بدت جانا ونينو تتامشيان مع –بل تشجعان– إنكار األطفال‬
‫ألي مشاعر سلبية‪ .‬كنت متلهفًا ملناقشة كل ما فاتهام يف الجلسة – فرغم كل يشء‪ ،‬كنت‬
‫هناك كمستشار وشعرت أن لدي الكثري ألعلمه لهاتني الزميلتني! نفد صربي ملناقشة ما رأيته‪،‬‬
‫فالتفت إىل إيرين‪ ،‬مرتجمتي الشابة‪ ،‬وسألتها‪« ،‬أليس مدهشً ا أن هاتني املدربتني قد فوتتا‬
‫مناشدات األطفال ملناقشة مشاعرهم املؤملة‪ ،‬وقمعتا بدالً من ذلك بفعالية تعابري األطفال!»‬
‫استدارت إيرين ونظرت إيل بدهشة‪ .‬قالت‪« :‬جانا ونينو‪ ،‬مثل املعلمني وعلامء النفس‬
‫األوسيتيني الجنوبيني هنا‪ ،‬تدركان ما يريد األطفال التحدث عنه»‪ ،‬م يف ًة يف همس‪« ،‬لسنا‬
‫أغبياء!» واستطردت تقول –وهي محقة متا ًما يف رأيي– إن مقدمي الرعاية أنفسهم‪،‬‬
‫الجورجيني واألوسيتيني الجنوبيني عىل حد سواء‪ ،‬مصدومني‪ ،‬لذا فهم غري قادرين بعد عىل‬
‫تحمل آالم األطفال وخوفهم‪ ،‬ألن هذا قد يفتح جروح مقدمي رعايتهم‪ .‬سكتت للحظة‪ ،‬ثم‬
‫سألتني‪« :‬هل قرأتَ اختيار صويف؟»‬
‫يف ذلك اليوم الكئيب يف تسخينفايل‪ ،‬ويف أثناء مشاهدة جانا ونينو تواصالن العمل‬
‫مع األطفال‪ ،‬ومحاولة تدفئة أيدينا بني الحني واخخر فوق موقد مدخن يف تلك الغرفة‬

‫‪105‬‬
‫القامتة‪ ،‬أخربتني إيرين قصتها هامس ًة وبكل كرامة‪ .‬كانت يف منتصف مراهقتها عندما‬
‫هاجم الجورجيون تسخينفايل‪ .‬كان والدها قد تويف قبل الحرب مبارشةً‪ ،‬وكانت تعيش مع‬
‫والدتها وأختها‪ ،‬وجميعهن يف حالة حزن حاد‪ ،‬عندما اندلعت الحرب‪ .‬وصلت منظمة دولية‬
‫إىل تسخينفايل يف أثناء العدوان لنقل املراهقني األوسيتيني الجنوبيني بعي ًدا عن األذى طوال‬
‫فرتة الرصايف‪ ،‬لكن كان بإمكانهم أخذ أربعني مراهقًا فقط‪ .‬طلب ممثلو املنظمة من والدة‬
‫إيرين اختيار إحدى ابنتيها للمشاركة يف الربنامج‪ .‬ومبجرد اختيار إيرين‪ ،‬نقلت برسعة‬
‫خلف الجبال إىل االتحاد الرويس إىل مدينة نالتشيك‪ ،‬حيث عاشت يف مهجع ألربعة أشهر‬
‫بينام بقيت والدتها وأختها يف تسخينفايل‪ .‬كانت أكرب األطفال األربعني املنقولني إىل بر‬
‫األمان‪ .‬وهذا بحد ذاته فصلها عن الشباب األوسيتيني الجنوبيني اخخرين يف املهجع‪ .‬ومبجرد‬
‫صدمت إيرين‪ ،‬القارئة الشغوفة‪ ،‬بالتشابه بني قصتها ورواية اختيار‬‫استقرارها بأمان‪ُ ،‬‬
‫صويف لويليام ستايرون‪ .‬كانت هي املختارة‪.‬‬
‫بينام كانت إيرين بعيدة‪ ،‬مل يكن لديها أي فكرة عام كان يحدث ألمها وأختها‪ ،‬مل يكن‬
‫لديها أصدقاء يف مهجعها‪ ،‬وكان عقلها مليئًا بتخيالت حدوث أشياء سيئة لعائلتها بينام هي‬
‫يف آمان‪ .‬ابتليت بالكوابيس‪ ،‬وانتهى بها األمر بكره نفسها لكونها «املختارة»‪ .‬لحسن الحظ‪،‬‬
‫وجدت إيرين عائلتها عىل قيد الحياة وبصحة جيدة عند عودتها‪ ،‬لكنها استوعبت هذه‬
‫شخصا سيئًا‪ .‬شعرت بأنها غري قادرة‬
‫ً‬ ‫املشاعر الشديدة بالذنب لدرجة أنها تعترب نفسها اخن‬
‫عىل مناقشة هذه املشاعر مع العائلة أو األصدقاء‪ .‬أخربتني أنها‪ ،‬مثل املدربني الجورجيني‪،‬‬
‫ال ترغب أو ال تستطيع السامح لألطفال يف قرص إبدايف األطفال بالتحدث عن صدماتهم أو‬
‫ذكريات األحداث املروعة‪ .‬لكونها قد نجت من صدمة كهذه‪ ،‬فإن ساميف اخخرين يتحدثون‬
‫عنها يعيد إحساسها الشديد بالذنب‪ .‬شعرتُ أن ذنبها الداخ يكاد يلمس‪ .‬واصلنا التحدث‬
‫يف همس شديد‪ .‬أخربتني أن والدها‪ ،‬الذي تويف قبل ترحيلها مبارشةً‪ ،‬كان من إثنية‬
‫جورجية‪ .‬بعد رحيله‪ ،‬طلبت والدة إيرين األوسيتية الجنوبية من ابنتيها التوقف عن استخدام‬
‫بدال منه‪ .‬وافقت الفتاتان عىل ذلك‪ .‬فقد كان استخدام اسم‬
‫لقب والدهام واعتامد لقب األم ً‬

‫‪106‬‬
‫أوسيتي يف أوسيتيا الجنوبية بعد الحرب مع جورجيا أكرث أمانًا وتكيفًا‪ .‬شعرت أن ذلك خلق‬
‫مشكلة داخلية إليرين‪ .‬فإن كونها «املختارة» و«خيانتها» ألختها فريا قد كثف با«خيانتها»‬
‫لوالدها‪ .‬لقد شعرت بالذنب أي ً ا لا«قتل» صلتها بوالدها‪.‬‬
‫نظرت إيل إيرين فجأ ًة وقالت‪« :‬عندما رأيتك ألول مرة حسبتك جورج ًيا»‪ .‬أدركت أنها‬
‫قد شبهتني بوالدها املتوىف؛ لقد «أعادت خلقه» وأرادت التوجيه منه‪/‬مني‪ .‬أخربت إيرين أنه‬
‫مبا أنها منحتني امتياز أن أكون مثل والدها الجورجي‪ ،‬ولو مؤقتًا‪ ،‬ميكنني إخبارها‪ ،‬بصفتي‬
‫أب‪ ،‬أن استمرار عيشها مع الذنب سيكون أشبه بالجرمية‪ .‬ميكنها نسيانه‪ .‬بدأت تبيك بصمت‬
‫وحاولت إخفاء ذلك عن اخخرين يف الغرفة‪ ،‬لكن ليس عني‪ .‬ثم أخربتني أنه بعد عودتها إىل‬
‫تسخينفايل وإيجاد والدتها وأختها عىل قيد الحياة‪ ،‬تركتهام مر ًة أخرى لعدة سنوات‪ ،‬إىل‬
‫نالتشيك أي ً ا‪ ،‬ملتابعة تعليمها‪ .‬ووصفت كيف أن تجربة الذهاب إىل نالتشيك ملدة أربعة‬
‫أشهر بصفتها «املختارة» قد أفسدت تجربتها كطالبة يف نالتشيك‪.‬‬
‫بعد انتهاء جلسة جانا ونينو مع األطفال‪ ،‬أخذتُ إيرين جانبًا ووضعنا خطة ملشاركة‬
‫مشاعرها‪ ،‬تدريجيًا‪ ،‬مع والدتها وأختها‪ .‬أخربتها أن تتمىش مع أختها‪ ،‬فريا‪ ،‬مرة واحدة عىل‬
‫األقل شهريًا وتشاركها كيفية شعورها لكونها «املختارة»‪ .‬تحدثنا أي ً ا عن كيف ميكنها‬
‫التحدث مع والدتها عن شعورها بالذنب املتعلق بنفس املوضويف‪ .‬وكيف ميكنها إخبار والدتها‬
‫بأنها ممتنة لكونها الشخص الذي اختارته إلرساله إىل بر األمان‪ ،‬ولكن يجب أن تعرف‬
‫والدتها أي ً ا كيف كان هذا عب ًئا عليها‪ ،‬كعبء التخ عن لقب والدها بسبب مخاوف واقعية‬
‫تتعلق بالسالمة‪.‬‬
‫اجتمعنا يف غرفة فينريا لساعة اجتامعية بعد الجلسات يف قرص إبدايف األطفال‪ .‬رغم‬
‫معاناتهم‪ ،‬كان األوسيتيني الجنوبيني قد أعدوا الطعام والرشاب‪ :‬كانت رغبتهم يف إظهار‬
‫العزة والكرامة مؤثرة للغاية‪ .‬ويف أثناء تناول وجبتنا‪ ،‬كام يحدث عاد ًة يف تجمعات‬
‫األشخاص من مجموعات «العدو»‪ ،‬كانت االختالفات الطفيفة بني الجورجيني واألوسيتيني‬
‫الجنوبيني موضو ًعا للمحادثات االجتامعية – مثل طرق إعداد الخاتشبوري‪ ،‬وهي نويف من‬

‫‪107‬‬
‫البيتزا التقليدية لكال املجموعتني‪ .‬أصبح واض ًحا يل أن مقدمي الرعاية األوسيتيني الجنوبيني‬
‫والجورجيني‪ ،‬كام أشارت إيرين‪ ،‬كانوا عىل دراية بقصورهم بالنسبة ملحاوالت األطفال‬
‫للتعبري علنًا عن مشاعرهم بشأن الصدمة وحقبة الحرب‪ .‬وكان نودار‪ ،‬بقدرته غري العادية‬
‫عىل مراقبة الذات‪ ،‬قاد ًرا عىل اإلدالء بعدة تعليقات لبقة حاولت معالجة الصدمات ومشاعر‬
‫الذنب لدى مقدمي الرعاية‪.‬‬
‫ولكن مل يتمكن زمالؤنا الجورجيون من مؤسسة التنمية البرشية من التحدث عن‬
‫مدى صعوبة سفرهم إىل أوسيتيا الجنوبية إال يف اليوم التايل لعودتنا إىل تبلييس‪ .‬تحدثوا‬
‫عن خوفهم من أن يُنظر إليهم عىل أنهم خونة داخل مجتمعاتهم يف تبلييس ألنهم كانوا‬
‫يتعاونون مع األوسيتيني الجنوبيني ملحاولة مساعدة أطفال «العدو»‪.‬تذكرت جانا حادثة‬
‫وقعت خالل الساعة االجتامعية بعد اجتامعاتنا ومناقشاتنا يف قرص إبدايف األطفال‪ .‬كانت‬
‫تجلس عىل طاولة مع اخخرين عندما دخل رجل طويل بعض اليشء الغرفة‪ .‬كان رد فعلها‬
‫الفوري هو الخوف الشديد؛ لقد شعرت أن الوافد الجديد كان أوسيتيي جنويب جاء ألخذها‬
‫كرهينة‪ .‬تتذكر قائلة‪« :‬اعتقدت أنني مل أره من قبل ومل أعرف من هو»‪« .‬ثم طلب منه أحدهم‬
‫الجلوس معنا‪ ،‬فأدركت أنه السائق الجورجي للسيارة التي ركبتها من تبلييس‪ ،‬وتحدثنا م ًعا‬
‫ملدة ثالث ساعات يف السيارة يف طريقنا إىل تسخينفايل»‪ .‬لقد أدى مستوى قلقها من‬
‫التواجد يف منطقة «العدو» إىل تشويش قدراتها العادية عىل املالحظة‪ .‬وحدث يشء مشابه‬
‫ألمريان يف قرص إبدايف األطفال يف اليوم السابق‪ .‬يف وقت ما خالل الجلسة مع األطفال‪،‬‬
‫كان قد غادر الغرفة لفرتة وجيزة لتدخني سيجارة‪ ،‬لكنه أوضح أن السبب الرئييس ملغادرته‬
‫الغرفة مل يكن التدخني‪ ،‬وإمنا للتحقق من مجموعة من الرجال األوسيتيني الجنوبيني الذين‬
‫الحظهم من خالل النافذة‪ .‬كانوا يتسكعون حول سيارته‪ ،‬وكان يخىش أن يتلفوا أو يهاجموا‬
‫السيارة بسبب لوحات ترخيصها الجورجية‪ .‬ال يهم تحديد مدى عقالنية خوفه‪ :‬فقد عكس‬
‫قلقه مشاعر الخطر املتزايدة التي تتداخل أحيانًا مع املهام األساسية ملقدمي الرعاية يف‬

‫‪108‬‬
‫مؤسسة التنمية البرشية‪ .‬أعجبت بشجاعتهم واستعدادهم ملحاولة التغلب عىل العقبات‬
‫العاطفية والواقعية ملساعدة اخخرين‪.‬‬
‫عدت إىل تسخينفايل مر ًة أخرى يف ربيع عام ‪ ،1999‬مع يوري مجد ًدا‪ .‬كان آندي‬
‫معنا يف هذه الرحلة أي ً ا‪ ،‬باإلضافة إىل الطبيب النفيس غريغوري ساثوف‪ ،‬وهو ع و آخر‬
‫يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ .‬انشغلت خالل هذه الرحلة بذكرى ما اعتقدت أنه‬
‫«ساعة كاملة من العمل التحلي » مع إيرين خالل زياريت السابقة‪ .‬كنت أعلم أنها شعرت‬
‫بتعاطفي معها يف الغرفة املليئة بالدخان يف قرص إبدايف األطفال؛ فقد أخذت مكان األب‬
‫املهتم‪ ،‬عىل ما أعتقد‪ ،‬يف عقلها‪ .‬ومتكنت من مساعدتها‪ ،‬مستخد ًما هذا الدور‪ ،‬عىل التحدث‬
‫عن شعورها الرهيب بالذنب‪.‬‬
‫ريا‬
‫عندما وصلنا إىل قرص إبدايف األطفال‪ ،‬كانت إيرين تنتظرين‪ .‬مل تعد طائ ًرا صغ ً‬
‫حا‪ .‬أخربتني أنها أبقت محادثتنا حي ًة يف ذهنها واتبعت تعلياميت من كثب‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫مجرو ً‬
‫لقد ازدهرت كمحرتفة ووقعت يف حب شاب تقدم لخطبتها‪ .‬علمت إيرين أنها ال تستطيع‬
‫املوافقة عىل الزواج منه حتى تحصل عىل «إذين»‪ .‬لذلك انتظرت عوديت بفارغ الصرب‪.‬‬
‫فأعطيتها «إذين»‪.‬‬
‫أساسا إىل أن وضع‬
‫ً‬ ‫مل أعد أب ًدا إىل تسخينفايل بعد هذه الزيارة‪ ،‬ويرجع ذلك‬
‫تسخينفايل قد ساء وإىل أن السفارة األمريكية يف تبلييس أخربتنا مبارش ًة بعدم السفر إىل‬
‫أوسيتيا الجنوبية‪ .‬لكنني واصلت العمل مع مادينا ورشكائها فاطمة تورمانوفا‪ ،‬وإنغا‬
‫كوشييفا‪ ،‬وإرينا يانوفسكايا‪ .‬عندما كنت يف تبلييس‪ ،‬ان موا إىل مركز دراسة العقل‬
‫والتفاعل البرشي ومؤسسة التنمية البرشية لعمل إضايف‪ .‬استمر الربنامج مع األطفال‬
‫األوسيتيني الجنوبيني نحو ثالث سنوات‪ .‬يف أواخر عام ‪ 2002‬أبلغتنا مادينا وآخرون يف‬
‫اجتاميف يف إسطنبول برتكيا‪ ،‬كان الجورجيون واألوسيتيون الجنوبيون حارضين فيه‪ ،‬أن‬
‫اإلجرام والبغاء أصبحا متفشيني يف تسخينفايل‪ ،‬حتى بني املراهقني الصغار‪ .‬لكن مادينا‬
‫وزمالؤها أخربونا أن أيًا من األطفال التسعني الذين خاضوا برنامج قرص إبدايف األطفال مل‬

‫‪109‬‬
‫يصبحوا مجرمني أو عاهرات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن أكرث نتائجهم إثار ًة للدهشة تتعلق مبأوى‬
‫األطفال يف الريف‪ .‬من بني مئتي طفل يف املأوى‪ ،‬شارك عرشون فقط يف برنامج قرص‬
‫إبدايف األطفال‪ .‬الحظت مادينا وزمالؤها أن هؤالء الشباب العرشين قد تكيفوا جي ًدا‬
‫كمراهقني‪ ،‬بينام أصبح البقية مجرمني أو عاهرات‪.‬‬
‫إن مثل هذه النتائج حول فعالية برنامج قرص إبدايف األطفال –مهام كانت سابقة‬
‫مهام من السياق‬
‫ألوانها– ليست شاذة‪ .‬لكن ال غوط املالية والسياسية دامئًا ما تكون جز ًءا ً‬
‫الذي تحدث فيه الجهود املدروسة نفس ًيا ملداواة الجروح املجتمعية‪ ،‬ولسوء الحظ‪ ،‬ال تستجيب‬
‫الدبلوماسية التقليدية عاد ًة إال إن احتدم الرصايف العسكري–السيايس «الساخن»‪ .‬كام ذكرت‪،‬‬
‫أخربت سفارة الواليات املتحدة يف تبلييس مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي يف عام‬
‫‪ 2001‬أن سياسة الواليات املتحدة وروسيا تجاه التفاعالت الجورجية–األوسيتية الجنوبية‬
‫كانت «عدم التدخل» متا ًما‪ :‬مل يكن ألي من البلدين أي مصلحة يف التورط يف الرصايف‪ .‬حتى‬
‫الرنويج نقلت معظم مساعداتها من املبادرات الجورجية–األوسيتية الجنوبية مبجرد انداليف‬
‫الحرب الشيشانية ووصول آالف الالجئني إىل جورجيا‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬مييل املجتمع الدويل‬
‫إىل االبتعاد عندما «يربد» الرصايف السيايس العسكري املميت إىل رصايف مجتمعي مميت‪.‬‬
‫قد يكون لهذا اإلهامل عواقب وخيمة بالفعل‪ ،‬ليس فقط من ناحية العلل املجتمعية‬
‫من إجرام وبغاء وتفكك أرسي وما شابه ذلك‪ .‬يف أثناء عملنا هناك‪ ،‬اعتقد الجورجيون أن‬
‫روسيا تعتزم إبقاء جورجيا ضعيفة ويف حالة توقف التنمية‪ ،‬بحيث تظل بشكل غري مبارش‬
‫تحت سيطرة الدولة األقوى‪ .‬أمكن لألوسيتيني الجنوبيني السفر إىل روسيا من دون تأشرية‪،‬‬
‫لكن الجورجيني احتاجوا إليها؛ عاملتهم روسيا كدولتني منفصلتني‪ ،‬رغم أن أوسيتيا‬
‫الجنوبية ليست دولة معرتف بها دول ًيا‪ .‬جعلت أحداث ‪ 11‬سبتمرب ‪ 2001‬عالقة جورجيا مع‬
‫روسيا أكرث توت ًرا‪ ،‬إذ اعتقد الجورجيون أن الحرب الدولية عىل اإلرهاب وسعت حقوق الحرب‬
‫لتشمل روسيا‪ ،‬التي قصفت بني الحني واخخر أجزاء من جورجيا اشتبهت بأنها ت م نشاط‬
‫إرهايب – أي املتمردين الشيشان‪ .‬من الواضح أن جداول األعامل الدولية للدول القوية مثل‬

‫‪110‬‬
‫روسيا والواليات املتحدة‪ ،‬عندما يتعلق األمر بجورجيا‪ ،‬مل تت من الحاجة إىل تخفيف‬
‫املعاناة وتقليل التوترات اإلثنية هناك‪ ،‬وقد الحظت ذلك يف تبلييس بعد أيام قليلة من وصول‬
‫الجيش األمرييك يف أوائل مارس ‪ .2002‬رغم أن الجيش األمرييك جاء بسبب نشاط مشتبه‬
‫به للقاعدة يف جورجيا‪ ،‬فقد طور النازحون الداخليون الجورجيون خياالً مشرتكًا بأن‬
‫األمريكيني كانوا هناك ملساعدتهم يف محاربة األبخاز‪ .‬ظننت بشدة أنه بعد فرتة‪ ،‬عندما‬
‫تتجىل الحقيقة وال يساعدهم األمريكيون يف نزاعهم املتواصل‪ ،‬س ُيرتك النازحون الداخليون‬
‫الجورجيون محبطني ويصدمون مر ًة أخرى‪.‬‬
‫عندما زرت تبلييس للمرة األخرية يف مارس ‪ ،2002‬قيل يل إن إيرين بيكويفا سرتافق‬
‫األوسيتيني الجنوبيني اخخرين إىل العاصمة الجورجية حيث سيجتمعون مر ًة أخرى مع‬
‫نظرائهم الجورجيني وفريق مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ .‬ولكنها أرسلت يل رسالة‬
‫بدال من ذلك عن طريق األوسيتيني الجنوبيني اخخرين الذين جاءوا إىل تبلييس‪ ،‬والتي أثرت‬
‫ً‬
‫يب للغاية‪ .‬احتوى الظرف عىل صورتني أللكسندر ساشا)‪ ،‬ابن إيرين البالغ من العمر سبعة‬
‫أشهر‪ ،‬الذي مل تتمكن من تركه للح ور إىل تبلييس‪ .‬كتبت‪« :‬أنت ال تعرف حتى كم تعني‬
‫يل‪ .‬يا له من دور عظيم لعبته يف حيايت‪ .‬حياة بال خوف‪ ،‬بال ضغوط‪ ،‬ومن دون شعور‬
‫بالذنب‪ .‬لقد علمتني أن أكون حكيمة وأن أتقبل مصريي وكل يشء كام هو‪ .‬لقد أعطيتني‬
‫عظيام عن كيف أكون قوية»‪ .‬وتابعت إيرين للحديث عن سعادتها الحالية واختتمت‬
‫ً‬ ‫درسا‬
‫ً‬
‫رسالتها قائلةً‪« :‬مبا أن ابني ليس لديه أجداد تويف والد زوجي قبل عام)‪ ،‬هل تعرتض عىل‬
‫أن يكون لديك حفيد يف أوسيتيا الجنوبية؟ هل ميكننا أن نسميك جدنا؟»‬
‫مثة مناسبات أسأل فيها نفيس ملاذا أضع نفيس طواعي ًة يف مواقف غري مريحة‬
‫وخطرية يف كثري من األحيان حول العامل‪ .‬إىل جانب الرضا الفكري لفهم سلوك األفراد‬
‫والجامعات الكبرية تحت ال غط‪ ،‬يرشفني للغاية أنني أثرت يف حياة أشخاص مثل إيرين‪.‬‬
‫ربا منها كانت‬
‫رغم أنني مل أرها منذ عام ‪ ،1998‬لكن مراسالتها وحدها آخر مرة سمعت خ ً‬

‫‪111‬‬
‫يف يونيو ‪ ،2005‬عندما أخربتني أنها وزوجها وساشا يف حالة جيدة) جعلت كل املجهود‬
‫الذي بذلته لفهم الوضع يف منطقتها من العامل يستحق العناء شخص ًيا‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫الجزء الثاين‬

‫الصدمة املجتمعية‬
‫والنقل عرب األجيال‬

‫‪113‬‬
‫من الكوارث الطبيعية إىل التطهري اإلثني‬ ‫‪6‬‬

‫عندما تحدث كارثة ضخمة‪ ،‬مثل كارثة تسخينفايل التي وصفتها يف الفصل السابق‪ ،‬قد‬
‫يعاين املتضرون من تأثريها النفيس بطرق عديدة‪ .‬أوالً ‪ ،‬سيعاين العديد من األفراد مام‬
‫يب يت إس‬
‫يُعرف يف األدبيات النفسية والطب النفيس باضطراب الكرب التايل للصدمة ّ‬
‫دي)‪ .‬يعد اضطراب الكرب التايل للصدمة فئة تشخيصية جديدة نسب ًيا يف مجال الصحة‬
‫العقلية‪ ،‬إذ مل يُعرتف به رسم ًيا حتى عام ‪ 1980‬من قبل جمعية التحليل النفيس األمريكية‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬إنه يشري إىل اختبار حاالت عقلية غري متوقعة تتجىل فيها تجارب املرىض‬
‫الصادمة بوضوح‪ .‬قد يعانون من أحالم متكررة‪ ،‬واسرتجايف لألحداث‪ ،‬وصعوبة يف الرتكيز‬
‫والنوم‪ .‬ويتغري تنظيم املشاعر‪ ،‬والوعي‪ ،‬وإدراك الذات‪ ،‬وإدراك مرتكب الصدمة‪ ،‬والعالقات‬
‫مع اخخرين ومعنى األحداث‪ .‬بدأت التطورات يف علوم األعصاب يف العقود األخرية تعلمنا‬
‫كيف تشكل التجارب الدماغ وكيف يؤدي املرور بتجارب صادمة إىل تغيري بيولوجيته‪ 55.‬يف‬
‫أثناء تأليفي لهذا الكتاب‪ ،‬تعمم مذكرات بني أع اء مجموعة النهوض بالطب النفيس جي‬
‫يب) وغريها من املنظامت املتعلقة بالصحة العقلية‪ ،‬تنبه األطباء الرسيريني إىل االستعداد‬
‫إيه ّ‬
‫لتهافت العسكريني العائدين من العراق الذين يعانون من أعراض اضطراب الكرب التايل‬
‫للصدمة‪.‬‬
‫ال تخربنا عالمات وأعراض اضطراب الكرب التايل للصدمة عن القصص الوجدانية‬
‫لألشخاص املصدومني‪ ،‬مثل تشابك صور الكارثة الخارجية مع الصور الداخلية لتجاربهم‬
‫السابقة‪ ،‬ورصاعهم مع الحداد عىل الخسائر ومعاين ما فقد‪ ،‬ومحاوالتهم للتكيف‪ .‬يف‬
‫األساس‪ ،‬تخربنا أعراض اضطراب الكرب التايل للصدمة بوجود كابوس ولكنها ال تخربنا‬
‫بقصة الكابوس ومعناه‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬ال ميلك مقدمو الرعاية الوقت للتعامل بشكل فردي مع‬
‫آالف األشخاص املصدومني عند العمل يف منطقة حرب أو مخيم الجئني منشأ حديثًا‪ .‬ولكن‬
‫عندما يسمح الوقت والظروف‪ ،‬يلزم إجراء مزيد من العمل الدقيق للرتكيز عىل ما وراء‬

‫‪114‬‬
‫اضطراب الكرب التايل للصدمة وفهم الرصاعات الداخلية للفرد املتضر‪ .‬قدمت يف الجزء‬
‫األول من هذا الكتاب منظو ًرا ميكننا من خالله التعرف عىل ردود الفعل الشخصية عىل‬
‫الصدمات ال خمة الناتجة عن رصاعات الهوية اإلثنية‪ .‬عندما عملت مع أفراد عائلة‬
‫كاتشافارا وإيرين بيكويفا‪ ،‬م يت أبعد من التفكري يف اضطراب الكرب التايل للصدمة‬
‫وتعرفت عليهم‪ ،‬بقدر ما استطعت‪ ،‬كأفراد يف حد ذاتهم‪ ،‬أفراد أثرت يب قصصهم الداخلية‪.‬‬
‫باإلضافة إىل وجود اضطراب الكرب التايل للصدمة لدى األفراد‪ ،‬ميكن أن تؤدي‬
‫الصدمات والكوارث ال خمة أي ً ا إىل أربعة أنوايف من ردود الفعل لدى املجتمع ككل‪ .‬وهي‬
‫تشمل‪ )1 :‬شواغل مجتمعية جديدة؛ ‪ )2‬تعديل العادات الثقافية املوجودة؛ ‪ )3‬بناء املعامل‬
‫التذكارية ككائنات ربط مشرتكة؛ و ‪ )4‬نقل الصدمة عرب األجيال‪ .‬ال نستطيع فهم كيف‬
‫ميكن أن ترتبط املشاكل الطبية والنفسية التي يعاين منها املصابون بعد صدمة مشرتكة أو‬
‫كيف ميكن أن تتطور إىل حركات اجتامعية وسياسية وتاريخية إال بدراسة هذه االستجابات‬
‫املجتمعية‪.‬‬
‫رشا بالتمثيل العق‬
‫ترتبط االستجابة األوىل‪ ،‬الشواغل املجتمعية الجديدة‪ ،‬ارتباطًا مبا ً‬
‫املشرتك للحدث الصادم‪ .‬أحد األمثلة عىل ذلك هو االنشغال بالبطانيات الذي وصفته لدى‬
‫بعض الالجئني القبارصة األتراك – وعىل وجه التحديد‪ ،‬كان انشغالهم بالبطانيات مرتبطًا‬
‫بشكل مبارش برصاعهم اإلثني‪ .‬يف هذا الفصل‪ ،‬سأنظر من كثب يف الشواغل املامثلة التي‬
‫أطلقت عمليات مجتمعية جديدة بعد الكوارث ال خمة األخرية‪.‬‬
‫تت من االستجابة املجتمعية الثانية تعديل العادات الثقافية املوجودة مسبقًا بعد‬
‫تجربة كارثة‪ .‬إن العادات الثقافية أشبه بالتصاميم املرسومة عىل قامش خيمة الجامعة‬
‫الكبرية‪ .‬عندما تهتز الخيمة أو متزق‪ ،‬يتعني عىل الجامعة الكبرية استعادة أو إعادة رسم‬
‫التصاميم للحفاظ عىل الرموز األولية ورموز هويتها‪ .‬سأقدم يف هذا الفصل مثاالً عىل هذه‬
‫الظاهرة‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫وسأخصص الحقًا فصلني لالستجابة املجتمعية الثالثة‪ :‬بناء املعامل التذكارية ككائنات‬
‫ربط مشرتكة انظر الفصلني ‪ 7‬و‪.)8‬‬
‫تتناول االستجابة املجتمعية الرابعة مفهوم النقل عرب األجيال‪ .‬باختصار‪ ،‬قد ال يتمكن‬
‫أفراد املجتمع املصدوم من أداء بعض املهام النفسية الضورية بشكل كامل‪ ،‬مثل الحداد عىل‬
‫خسائرهم‪ .‬لذا «ينقلون» هذه املهام غري املكتملة إىل الجيل األجيال) التايل حتى يتمكن‬
‫نسلهم من أداء هذه املهام غري املكتملة نياب ًة عنهم انظر الفصل ‪ .)9‬سأوضح الحقًا كيف‬
‫حاسام يف تشكيل العمليات‬
‫ً‬ ‫ميكن أن تلعب مشاركة املهام املنقولة عرب األجيال دو ًرا‬
‫املجتمعية والسياسية والتاريخية‪ ،‬ويف إلهام انداليف العنف الجامعي‪ ،‬ويف التأثري عىل هوية‬
‫الجامعة الكبرية انظر الفصل ‪.)10‬‬
‫قبل أن أوجه انتباهي إىل هذه االستجابات األربعة املحددة للكوارث ال خمة‪ ،‬يجب‬
‫أن نعرتف بوجود أنوايف مختلفة من الكوارث املشرتكة‪ .‬إذ تنجم بعض الكوارث ال خمة عن‬
‫أسباب طبيعية‪ ،‬مثل العواصف االستوائية‪ ،‬والفي انات‪ ،‬والثورانات الربكانية‪ ،‬وحرائق‬
‫الغابات‪ ،‬واالنهيارات الثلجية‪ ،‬واالنزالقات الطينية‪ ،‬والزالزل وأمواج تسونامي‪ .‬وبع ها‬
‫كوارث عرضية من صنع اإلنسان‪ ،‬مثل حادث ترشنوبيل الذي وقع يف ‪ 26‬أبريل ‪1986‬‬
‫والذي أطلق عرشة أطنان من الغبار املشع يف الغالف الجوي‪ .‬تعزى الكوارث ال خمة‬
‫األخرى إىل فقدان شخص يتشاركه آالف أو ماليني األشخاص كشخصية ذات أهمية رمزية‪.‬‬
‫تثري هذه الخسارة استجابات فردية ومجتمعية عىل حد سواء‪ ،‬كام فعل اغتيال جون ف‪.‬‬
‫كينيدي يف الواليات املتحدة وإتسحاك رابني يف إرسائيل‪ 56،‬وموت رواد الف اء األمريكيني‬
‫واملعلمة كريستا ماكوليف يف انفجار مكوك الف اء تشالنجر يف يناير ‪ 57 .1986‬تنجم‬
‫الصدمات األخرى عن الدعاية السياسية‪ ،‬والقومية‪ ،‬والدينية واأليديولوجية عىل شكل حروب‬
‫ثورية أو أهلية تؤدي إىل خسائر كبرية يف األرواح واملمتلكات‪ ،‬وتغريات اجتامعية جذرية‬
‫رأسا عىل عقب‪ ،‬ما يخلق قلقًا مشرتكًا شدي ًدا‪ .‬تحدث مثل هذه‬
‫تقلب حياة العديد من األفراد ً‬
‫الصدمات عاد ًة بني املجموعات الفرعية التي تنتمي إىل نفس اإلثنية أو الجنسية‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫نعلم من التاريخ أن الناس يذلون أحيانًا أبناء جلدتهم ويقتلونهم ويخلقون الرعب‬
‫من األعىل‪ .‬فتحت حكم الدكتاتور أنور خوجة ‪ ،)1985-1908‬أذل األلبان وعذبوا ونفوا‬
‫ِ‬
‫«معذبني» و«معذَبني»‪ .‬استوعب‬ ‫وقتلوا ألبان آخرين‪ .‬يف الواقع‪ ،‬انقسم السكان األلبان بني‬
‫املواطنون هذا االنقسام‪ ،‬وظل التأثري املجتمعي لهذا االنقسام ح ًيا لسنوات عديدة بعد وفاة‬
‫الديكتاتور داخل املجتمع وأمكن الشعور بتأثريه يف اهتاممات ألبانيا السياسية واالقتصادية‬
‫والقانونية‪ 58.‬ونفذت الديكتاتوريات القمعية التي هيمنت عىل قارة أمريكا الالتينية منذ‬
‫منتصف الستينيات وحتى التسعينيات ما أصبح يعرف باسم «الحروب القذرة» ضد‬
‫مواطنيها‪ ،‬التي ق ت فيها عىل مئات اخالف من األفراد والعائالت وحتى مجتمعات كاملة‪.‬‬
‫‪59‬‬

‫رشا‬
‫ولكن كيف تختلف الكوارث التي يتسبب بها «اخخرون»‪ ،‬والتي ترتبط ارتباطًا مبا ً‬
‫بق ايا هوية الجامعة الكبرية‪ ،‬عن أنوايف الكوارث املذكورة أعاله؟ سأبحث هذه املسألة يف‬
‫نهاية هذا الفصل وسأشري إىل بعض مجاالت االختالف املحددة‪ .‬قد يكون من الصعب أحيانًا‬
‫مثال‪ ،‬مع الرصاعات‬
‫التمييز بني جميع فئات الكوارث ال خمة‪ .‬فقد تتشابك كارثة طبيعية‪ً ،‬‬
‫السياسية واإلثنية‪ .‬ففي أعقاب كارثة تسونامي التي رضبت يف ‪ 26‬ديسمرب ‪ ،2004‬أمر‬
‫املتمردون االنفصاليون يف إقليم آتشيه عىل الطرف الشاميل من سومطرة بوقف إطالق‬
‫النار‪ ،‬بينام استجابت الحكومة اإلندونيسية بتخفيف قيود السفر إىل املنطقة والسامح‬
‫لوكاالت اإلغاثة والصحفيني بزيارتها‪ 60.‬يف املقابل‪ ،‬خلق هذا ج ًوا سمح للحكومة واملتمردين‬
‫ريا نهاية لحربهم التي استمرت لعقود‪.‬‬
‫بتوقيع اتفاقية سالم يف أغسطس ‪ 2005‬وضعت أخ ً‬
‫بينام مل تساهم التسونامي يف رسيالنكا يف أي شكل من أشكال املصالحة بني الحكومة‬
‫التي يهيمن عليها السنهاليون ومتمردو منور التاميل‪ .‬ويرجع ذلك جزئ ًيا عىل األقل إىل‬
‫الخالفات حول مساعدات التسونامي‪ .‬وإن كان قد حدث يشء‪ ،‬فهو أن الوضع هناك أصبح‬
‫أكرث عنفًا من أي وقت مىض‪ 61.‬ومع ذلك‪ ،‬نظ ًرا لحدوث كارثة التسونامي يف املايض القريب‪،‬‬
‫مستحيال تحديد العواقب طويلة املدى للكارثة عىل الرصاعات السياسية واإلثنية يف‬
‫ً‬ ‫ما يزال‬
‫املنطقة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫لكن الزلزال الذي وقع يف تركيا عام ‪ 1999‬والذي قتل ما يقدر بعرشين ألف شخص‬
‫حدث منذ فرتة بعيدة كفاي ًة لرنى كيف أحدثت هذه الكارثة الطبيعية تغي ً‬
‫ريا يف املشاعر‬
‫اإلثنية التي ظلت جامدة حتى ذلك الحني‪ .‬قبل سنوات قليلة من الزلزال‪ ،‬كانت التوترات بني‬
‫تركيا واليونان شديدة للغاية‪ .‬لقد كادا أن يخوضا حربًا بسبب نزايف عىل جزر صغرية من‬
‫الصخور يف بحر إيجه قبالة الساحل الرتيك مبارشةً‪ ،‬واملعروفة باسم كارداك لدى األتراك‬
‫وإمييا لدى اليونانيني‪ 62.‬أججت هذه الحادثة املشاعر الرتكية واليونانية‪ .‬ولكن بعد الزلزال‬
‫الرتيك‪ ،‬رحب األتراك بعرض املساعدة اليوناين‪ .‬وبنرشها صور وقصص عامل اإلنقاذ‬
‫مهام يف «إضفاء الطابع‬‫ً‬ ‫اليونانيني عىل األرايض الرتكية‪ ،‬لعبت الصحف الرتكية دو ًرا‬
‫اإلنساين» عىل اليونانيني كجامعة كبرية‪ .‬عندما رضب زلزال أصغر اليونان يف الشهر التايل‪،‬‬
‫ردت تركيا باملثل بإرسال عامل اإلنقاذ برسعة إىل اليونان‪ .‬نتيج ًة لذلك‪ ،‬برشت الزالزل ببدء‬
‫عهد جديد من العالقات بني البلدين‪ .‬يف الواقع‪ ،‬عزا العديد من الدبلوماسيني التطورات‬
‫‪63‬‬
‫السياسية اإليجابية إىل ما يسمونه «دبلوماسية الزلزال»‪.‬‬
‫سافرت إىل تركيا بعد يومني من الزلزال وقدمت بعض االستشارات للعاملني األتراك‬
‫يف مجال الصحة العقلية من إسطنبول الذين زاروا املنطقة املتضرة‪ .‬وأجريت أي ً ا مقابالت‬
‫مع العديد من األشخاص حول مشاعرهم فيام يتعلق مبساعدة اليونانيني‪ ،‬ومنهم صنايف قرار‬
‫مؤثرون‪ .‬وشاركت‪ ،‬قبل الزلزال الرتيك وبعده‪ ،‬يف سلسلة من االجتامعات التي هدفت إىل‬
‫فتح حوار غري رسمي بني األتراك واليونانيني املؤثرين‪ .‬حض هذه االجتامعات قادة‬
‫عسكريون وسفراء يونانيون وأتراك متقاعدون معروفون‪ ،‬باإلضافة إىل علامء من كال‬
‫البلدين‪ .‬وباستخدام املشاركني كممثلني لبلدانهم‪ ،‬متكنت من إلقاء نظرة تفصيلية عىل‬
‫تخفيف حدة التوترات بني تركيا واليونان بعد الزالزل‪ .‬استنتجت أن هذا التخفيف كان‬
‫مدفو ًعا‪ ،‬متجاوزًا االعتبارات السياسية الواقعية‪ ،‬بديناميكيات نفسية عميقة‪ ،‬غري ملحوظة‬
‫ِ‬
‫تختف التخيالت العدوانية املشرتكة التي ترافق ق ايا الهوية أو العداوة أو‬ ‫غال ًبا‪ .‬مل‬
‫املعارضة‪ .‬وإمنا متت تغطيتها بتكوين عكيس مشرتك واضح‪ .‬إن مصطلح «تكوين عكيس»‬

‫‪118‬‬
‫هو مصطلح خاص بالتحليل النفيس يشري إىل االستجابة لشعور أو فكرة غري مرغوب فيها‬
‫من خالل إظهار الشعور أو الفكر املعاكس عالنيةً‪ .‬فقد لعبت الرغبة الال واعية املشرتكة يف‬
‫حدوث يشء سيئ «للعدو» دو ًرا يف كرم اليونانيني‪ .‬رد األتراك عىل ذلك من خالل تكوين‬
‫عن غ بهم وشكاواهم من اليونانيني برسعة‬ ‫عكيس مشرتك خاص بهم متثل بالتخ‬
‫و«نسيان» العداء قبل الزلزال بني البلدين‪.‬‬
‫مل تنتزيف هذه الدوافع السلبية الال واعية التي الحظتها خالل مراقبتي من واقع‬
‫التقارب الجديد بني األتراك واليونانيني‪ .‬وكانت الق ية الحاسمة هي ما إذا كان ميكن لهذا‬
‫التقارب أن يتسامى‪ .‬يكون للمبادرات اإليجابية يف العالقات اإلنسانية أحيانًا‪ ،‬ويف العالقات‬
‫الدولية أي ً ا‪ ،‬دوافع سلبية غري واعية‪ ،‬ولكن عندما تصبح راسخة داخل املجتمع وت في‬
‫مهام‪.‬‬
‫عليها االتفاقات الدبلوماسية طاب ًعا مؤسسيًا‪ ،‬فإن ما بدأها يف الال وعي قد ال يكون ً‬
‫بعد الزلزال الرتيك‪ ،‬عاد نويف من الحنني إىل التعايش القديم بني األتراك واليونانيني الذين‬
‫يعيشون جنبًا إىل جنب يف إسطنبول‪ .‬أصبح عزف وغناء األغاين اليونانية شائ ًعا يف‬
‫امليحانات الحانات) والنوادي الليلية يف إسطنبول‪ .‬وجد السم العاطفي يف العالقة الرتكية–‬
‫اليونانية ترياقًا‪ .‬ال يعني هذا أنه لن تكون هناك تقلبات يف األنشطة الدبلوماسية والقانونية‬
‫والعسكرية بني تركيا واليونان‪ ،‬لكن السم العاطفي مل يعد مميتًا‪.‬‬
‫تثري جميع أنوايف الكوارث ال خمة استجابات مجتمعية‪ .‬بينام أدت الزالزل يف تركيا‬
‫واليونان إىل تحسني العالقات بني البلدين‪ ،‬مل يؤ ِد الزلزال الهائل الذي رضب أرمينيا يف عام‬
‫‪ 1988‬إىل تقارب بني أرمينيا وأذربيجان‪ ،‬عدوتها املجاورة‪ .‬ورغم أن الزلزال دمر البالد‪،‬‬
‫عندما عرض األذربيجانيون املساعدة عن طريق التربيف بالدم‪ ،‬غلبت ق ايا الهوية اإلثنية‬
‫عىل الحاجة امللحة للمساعدة الطبية‪ .‬رفض األرمن قبول الدم الذي تربيف به األذربيجانيون؛‬
‫قاوموا «خلط الدم» الذي ميثل يف الواقع «خلط الهويات» رمزيًا‪ 64.‬لكن تعتمد درجة تعميم‬
‫هذه االستجابات داخل الجامعة الكبرية ومدى بقائها «إقليمية» أي داخل حدود املوقع‬
‫الجغرايف املتضر أو القبيلة املتضرة أو حتى الحزب السيايس املتضر) عىل العديد من‬

‫‪119‬‬
‫العوامل‪ .‬فقد عممت االستجابة ملأساة تشالنجر‪ً ،‬‬
‫مثال‪ ،‬برسعة كبرية يف جميع أنحاء الواليات‬
‫املتحدة ليس فقط بسبب الضبة التي لحقت مبكانة أمريكا وبرنامجها الف ايئ الجبار‪،‬‬
‫ولكن أي ً ا لوجود كريستا ماكوليف عىل متنه‪ ،‬املعلمة املدنية التي مثلت جميع األمريكيني‬
‫رمزيًا‪.‬‬
‫يبق حادث تشرينوبيل صدمة إقليمية أي ً ا‪ .‬فرسعان ما عمم الحادث وأصبح‬ ‫مل َ‬
‫متعدد الجنسيات يف نطاقه‪ ،‬عندما حملت الرياح املادة املشعة إىل أماكن بعيدة‪ .‬أدى الحدث‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬إىل انشغال مجتمعي جديد يف بيالروسيا املجاورة‪ ،‬حيث اعترب آالف اخالف أنفسهم‪،‬‬
‫ً‬
‫محقني ومتوهمني‪ ،‬ملوثني باإلشعايف‪ .‬اختار الكثري عدم اإلنجاب خوفًا من العيوب الخلقية‪.‬‬
‫ونتيج ًة لذلك‪ ،‬تعطلت إىل حد كبري املعايري القامئة إليجاد رشيك والزواج والتخطيط إلنشاء‬
‫عائلة‪ .‬وغالبًا ما ظل أولئك الذين لديهم أطفال قلقون باستمرار من أن يؤثر يشء «سيئ»‬
‫عىل صحة أطفالهم‪ .‬حتى أن كارثة تشرينوبيل أصابتني بصدمة‪ .‬عندما وقع الحادث‪ ،‬كانت‬
‫إحدى أقربايئ الشباب املف لني من شامل قربص تدرس يف كلية الطب يف كييف‪ ،‬عاصمة‬
‫أوكرانيا‪ .‬وبعد تخرجها‪ ،‬عادت إىل قربص كطبيبة وتزوجت‪ ،‬لكنها رسعان ما أصيبت‬
‫برسطان الدم‪ .‬كنت متأك ًدا من أنها أصيب به بسبب تعرضها لإلشعايف‪ .‬توفيت بعد أشهر‪،‬‬
‫وما زلت أشعر بالحزن عىل هذه الخسارة املأساوية‪.‬‬
‫مثاال آخ ًرا‬
‫تعد كارثة بوفالو كريك التي حدثت عام ‪ 1972‬يف والية فرجينيا الغربية ً‬
‫خبث هائل‪ ،‬وأطلق العنان خالف‬ ‫عىل مأساة مشرتكة‪ .‬يف ‪ 26‬فرباير ‪ ،1972‬انهار سد َ‬
‫األطنان من املاء والطني عىل وادي بوفالو كريك‪ .‬خالل خمس عرشة دقيقة‪ ،‬قُتل ‪125‬‬
‫شخصا‪ ،‬وترشد أربعة آالف‪ ،‬ومحيت أربع عرشة قرية تعدين‪ 65.‬ويف مأساة مشرتكة مامثلة‪،‬‬
‫ً‬
‫يف ‪ 21‬أكتوبر ‪ ،1966‬اجتاح سيل من طني الفحم يف ويلز مدرسة ابتدائية وعدة منازل يف‬
‫شخصا‪ .‬تت من‬
‫ً‬ ‫طفال ومثانية عرشين‬‫ً‬ ‫قريتي أبرفان ومرثري فيل‪ ،‬وأدى إىل مقتل ‪116‬‬
‫دراسات كلتا املأساتني بيانات تتجاوز بكثري أوصاف ردود الفعل الفردية‪ ،‬وما ميكن تسميته‬
‫حا عند إجراء دراسات‬
‫اليوم باضطراب الكرب التايل للصدمة مل يكن هذا املصطلح متا ً‬
‫‪120‬‬
‫بوفالو كريك والقريتني الويلزيتني)‪ ،‬وتدرس طول ًيا بعض العمليات املجتمعية التالية‬
‫للكوارث‪.‬‬
‫رغم أن كلتا املأساتني ظلتا «إقليميتني»‪ ،‬لكنني أذكر هذين الحدثني ألن دراستهام‬
‫توفر لنا مفهومني ميكن تطبيقهام عىل استجابات أكرث عمومية للصدمات ال خمة‪ ،‬مبا‬
‫فيها تلك التي يسببها األعداء‪ .‬يأيت املفهوم األول‪« ،‬متزيق نسيج الحياة االجتامعية»‪ ،‬من كاي‬
‫إريكسون‪ ،‬عامل االجتاميف بجامعة ييل املشهور‪ 66،‬بينام صاغ املفهوم الثاين‪« ،‬التجديد‬
‫البيولوجي االجتامعي»‪ ،‬الطبيب النفيس الربيطاين ك‪ .‬موري باركس‪ ،‬الخبري يف‬
‫سيكولوجية الحداد‪ ،‬الذي ارتبط مبعهد تافيستوك للعالقات اإلنسانية يف لندن‪ 67.‬فقد كل‬
‫يشء يف بوفالو كريك‪ ،‬من العائلة واألصدقاء إىل املمتلكات والتذكارات‪ .‬وإىل جانب هذه‬
‫األشياء‪ ،‬فقد الشعور باملجتمع أي ً ا‪ .‬بالنسبة إلريكسون‪ ،‬يحدث متزق نسيج املجتمع عندما‬
‫تختفي الروابط التي تربط الناس م ًعا‪ .‬أجد صدى لتصور إريكسون لفقدان نسيج املجتمع‬
‫يف عمل املحلل النفيس اإلرسائي الراحل رافاييل موزس‪ ،‬صديق عزيز وصف فقدان األمن‬
‫يف العوامل الشخصية للذين عانوا من التعرض لالضطهاد النازي لفرتات طويلة أو‬
‫قصرية‪ 68.‬وأعترب أي ً ا ما حدث يف بيالروسيا بعد تشرينوبيل مثاالً عىل األنسجة املجتمعية‬
‫املقطوعة‪.‬‬
‫عمل ك‪ .‬موري باركس مع ر‪ .‬م‪ .‬ويليامز‪ ،‬طبيب نفيس مح يف أبرفان ومريثري‬
‫حامسا شدي ًدا ليس إلصالح‬
‫ً‬ ‫فيل‪ ،‬للبحث يف ما حدث للمجتمعني بعد الكارثة‪ .‬أبدى الناجون‬
‫الضر فحسب بل إلخراج يشء إيجايب من األنقاض أي ً ا‪ .‬كشفت أبحاث ويليامز وباركس‬
‫أنه يف السنوات الخمس التالية للأمساة‪ ،‬ارتفع معدل املواليد يف أبرفان ومريثري فيل بشكل‬
‫ملحوظ‪ ،‬كام لو كان ذلك لتعويض األطفال املفقودين‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬مل تقترص زيادة‬
‫املواليد عىل اخباء املفجوعني‪ ،‬بل انترشت بني جميع السكان‪ .‬يف الواقع‪ ،‬تُعزى نسبة صغرية‬
‫فقط من معدل املواليد املرتفع إىل اخباء املفجوعني‪ .‬خلص هذان املحققان إىل أن «معدل‬
‫املواليد املتزايد يف أبرفان ومريثري فيل املالحظ خالل السنوات الخمس األوىل بعد الكارثة‬

‫‪121‬‬
‫طفال»‪.‬‬
‫كان يف األساس نتيجة لعملية تجديد بيولوجي اجتامعي بواسطة أزواج مل يفقدوا ً‬
‫عندما ال يتمزق نسيج املجتمع متا ًما‪ ،‬فإن التحوالت النفسية واالجتامعية بعد الكوارث «ال‬
‫‪69‬‬
‫تكون مدمرة متا ًما يف آثارها عندما ينظر إليها من منظور املجتمع الك الذي تحدث فيه»‪.‬‬
‫اقتدا ًء باستخدام باركس وويليامز ملصطلح التجديد البيولوجي االجتامعي‪ ،‬أستخدم‬
‫مصطلح االنتكاس البيولوجي االجتامعي لإلشارة إىل الحاالت التالية للصدمة ال خمة التي‬
‫‪70‬‬
‫تتضر فيها األنسجة املجتمعية‪.‬‬
‫ميكن أي ً ا مالحظة التجديد واالنتكاس البيولوجي االجتامعي بعد الكوارث الناتجة‬
‫عن األعامل العدائية اإلثنية أو غريها من األعامل العدائية املتعلقة بهوية الجامعة الكبرية‪،‬‬
‫مثل الحروب‪ .‬حدث تجديد بيولوجي اجتامعي غري مبارش إىل حد ما بني القبارصة األتراك‬
‫خالل فرتة الست سنوات ‪ )1968-1963‬عندما أجربهم القبارصة اليونانيون عىل العيش‬
‫يف جيوب معزولة يف ظل ظروف ال إنسانية‪ .‬عىل الرغم من تعرضهم لصدمة ضخمة‪ ،‬مل‬
‫ينكرس «ظهرهم» بسبب أملهم يف أن يأيت وطنهم األم‪ ،‬تركيا‪ ،‬ملساعدتهم‪ .‬وبدالً من إنجاب‬
‫أعداد متزايدة من األطفال مثل سكان أبرفان ومرثري فيل‪ ،‬ربوا املئات واملئات من الببغاوات‬
‫يف أقفاص الببغاوات ليست أصلية يف قربص)‪ ،‬ليمثلوا ذواتهم «املسجونة»‪ .‬وطاملا غنت‬
‫الطيور وتكاثرت‪ ،‬ظل القلق املشرتك بني األتراك القبارصة تحت السيطرة‪ 71.‬ميكن أي ً ا‬
‫شكال من أشكال التجديد البيولوجي‬
‫ً‬ ‫اعتبار الفن واألدب الناجمني عن مأساة هريوشيام‬
‫انتكاسا بيولوج ًيا اجتامع ًيا‬
‫ً‬ ‫االجتامعي الرمزي‪ .‬لكن يف حالة هريوشيام‪ ،‬أبدى املجتمع أي ً ا‬
‫وأظهر «بصامت املوت»‪ 72‬لعقود بعد الكارثة؛ فقد متزق النسيج االجتامعي للمجتمع يف‬
‫الواقع‪ ،‬والتجديد البيولوجي االجتامعي ال ميكن إال أن يكون محدو ًدا ومتفرقًا‪.‬‬
‫ومن املثري لالهتامم‪ ،‬أنه يف حال عدم متزق النسيج املجتمعي‪ ،‬يبدأ أولئك الذين مل‬
‫يتأثروا مبارش ًة بالصدمة ال خمة‪ ،‬سواء بقيت «إقليمية» أو عممت يف الجامعة الكبرية‬
‫الكلية‪ ،‬يف إلقاء النكات عن املأساة وضحاياها‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬أعترب ظهور النكات وقولها‬
‫رشا عىل أن نسيج املجتمع ليس متض ًرا لدرجة تعذر إصالحه‪ .‬الحظت ذلك‬
‫داخل املجتمع مؤ ً‬
‫‪122‬‬
‫يف مدينة مكسيكو بعد زلزال سبتمرب ‪ 1985‬الذي أودى بحياة عرشة آالف شخص وجرح‬
‫ثالثني ألفًا وترك مئة ألف بال مأوى‪ .‬سافرت إىل هناك بعد شهرين من الكارثة‪ .‬قادتني‬
‫م يفتي‪ ،‬التي قابلتني يف املطار‪ ،‬إىل املدينة وأشارت إىل بعض املناطق املدمرة أثناء مرورنا‬
‫من أمامها‪ .‬فجأةً‪ ،‬ابتسمت يل هذه املرأة الواعية اجتامع ًيا وسألتني‪« ،‬ما الشبه بني مدينة‬
‫مكسيكو والدونات؟» وألنني مل أستطع اإلجابة‪ ،‬أجابت‪« :‬األجزاء الوسطى منهام مفقودة»‪،‬‬
‫يف إشارة إىل الثقب يف الدونات واملباين املنهارة يف وسط مدينتها‪ .‬ثم رشعت يف إخباري‬
‫وتعرب عن العداء تجاه ضحايا الكارثة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بنكات الزلزال األخرى التي كانت تنترش يف املدينة‬
‫وباملثل‪ ،‬رغم أن الصدمة الناجمة عن كارثة تشالنجر كانت معممة‪ ،‬لكنها مل تكرس‬
‫ظهر أمريكا‪ ،‬إذ نتج عن هذه املأساة العديد من النكات أي ً ا‪ .‬صبغت هذه النكات أي ً ا‬
‫مثال إىل غسل الجثث‬
‫مبشاعر وترصفات عدوانية ضد الذين ماتوا‪ .‬فقد أشارت إحدى النكات ً‬
‫املشوهة عىل الشاطئ‪ .‬وألن هذه النكات تافهة‪ ،‬ال أرغب يف تكرارها هنا‪ ،‬لكن من املثري‬
‫لالهتامم أن معظم الناس ال يردعون محتوى مثل هذه النكات‪ .‬إن ظهورها بعد الكوارث‬
‫ظاهرة غريبة‪ .‬ملاذا نصبح قساة ج ًدا؟ ملاذا ن حك؟ إن األسباب النفسية لهذه الظاهرة‬
‫االجتامعية متعددة العوامل‪ :‬فهي تساهم يف عكس التأثري مبعنى إنكار الشعور بالحزن)؛‬
‫وتفرغ التوتر من خالل ال حك؛ وتحتفل بنجاة الباقني؛ وتعرب عن الغ ب عىل من جرحنا‬
‫موتهم؛ وتسمح لنا بتقليل شعورنا بالذنب للعيش من خالل تصوير املأساة كام لو أنها حدثت‬
‫يف رسم كاريكاتوري‪ .‬نرى يف هذه النكات أي ً ا مشتقات ردود الفعل الفردية األولية‬
‫للحزن‪ ،‬مثل محاوالت اختبار الواقع بأن الخسائر قد حدثت بالفعل‪ ،‬ومحاوالت إنكار‬
‫الخسائر‪ ،‬ومحاوالت التامهي مع ال حايا والعثور عىل رابط معهم أو‪ ،‬عىل العكس من ذلك‪،‬‬
‫كرس هذه الروابط‪.‬‬
‫قد تبدو بعض االنشغاالت املجتمعية األولية‪ ،‬إىل جانب ظهور النكات‪ ،‬غريبة‪ .‬لقد‬
‫ذكرت بالفعل واحدة‪ :‬البطانيات التي أحرقها القبارصة األتراك بعد حرب ‪ .1974‬ومثة عملية‬
‫مجتمعية غريبة أخرى حدثت يف شامل قربص يف الوقت نفسه‪ ،‬وهي تطوير حالة بدنية‬

‫‪123‬‬
‫غري مألوفة‪ .‬بدأ العديد من القبارصة األتراك زيارة مكاتب األطباء يشكون من الحكة‪ .‬مل يجد‬
‫األطباء الذين تحدثت معهم أي تفسري لهذا الوباء املصغر من الحكة بني املواطنني‪ .‬بدأت‬
‫أفهم هذا االنشغال االجتامعي الجديد عندما سمعت نظرية الناس بأن أوىل حاالت الحكة‬
‫بدأت بني الذين ذهبوا للسباحة يف الشواطئ الشاملية بعد أن نزل الجيش الرتيك هناك يف‬
‫بداية الحرب‪ .‬نظ ًرا لوجود جثث يف املاء وعىل الشواطئ خالل األيام األوىل من الحرب‪ ،‬بدا‬
‫يل أن ظاهرة الحكة كانت بسبب الجري الحي الذي تناثر عىل الجثث‪ .‬إن المست يدك الجري‬
‫الحي‪ ،‬ستحرتق برشتك وستشعر بالحكة‪ .‬بقيت آثار الجري األبيض عىل األرض لشهور يف‬
‫مناطق معينة‪ .‬لكن بعد فرتة طويلة من جرف الجري الحي‪ ،‬استمرت ظاهرة الحكة‪ ،‬رمبا‬
‫كعالقة رمزية مع املوىت؛ مل متثل الحكة شعو ًرا بالذنب للنجاة وطرد العدو من منازلهم‬
‫دليال عىل كون املرء حيًا بالفعل‪ ،‬وقد أوضح ذلك إحساس املرء بجلده‪.‬‬
‫فحسب‪ ،‬بل مثلت أي ً ا ً‬
‫ميكن أن يؤثر اغتيال زعيم سيايس أي ً ا عىل نسيج الجامعة الكبرية‪ .‬عندما تحدث‬
‫صدمة مجتمعية بعد اغتيال زعيم‪ ،‬فإن انتامء القاتل إىل الجامعة الكبرية املصدومة نفسها‬
‫ريا يف النسيج‬ ‫فمثال‪ ،‬كان ميكن أن يحدث فرقًا كب ً‬
‫ً‬ ‫ريا‪.‬‬
‫أو إىل «اخخرين» يحدث فرقًا كب ً‬
‫املجتمعي ألمريكا لو قُتل جون ف‪ .‬كينيدي عىل يد عميل سوفيتي وليس أمريكيًا‪ .‬ورغم أننا‬
‫علمنا الحقًا بالتزام يل هاريف أوزوالد املفرتض باملاركسية‪ ،‬لكن قتله للرئيس‪ ،‬الذي أصبح‬
‫صدمة ضخمة‪ ،‬مل يثري ق ايا تتعلق بهوية الجامعة الكبرية‪ .‬وباملثل‪ ،‬إن اغتيال إتسحاك‬
‫رابني يف ‪ 4‬نوفمرب ‪ ،1995‬أحدث صدمة شديدة ومتزق يف نسيج املجتمع اإلرسائي ‪ ،‬كام‬
‫وصفته املحللة اإلرسائيلية رينا موزس هروشوفسيك يف كتابها الحزن والشكوى‪ :‬اغتيال‬
‫إتسحاك رابني‪ 73،‬ولكن عىل املدى الطويل‪ ،‬وملواجهة عدو خارجي‪ ،‬مل يصبح التمزق يف‬
‫ريا كفاي ًة إللحاق الضر الدائم بالدولة‪ .‬لتوضيح كيفية‬
‫نسيج الجامعة اإلرسائيلية الكبرية كب ً‬
‫تقارب العمليات الشخصية واملجتمعية يف كثري من األحيان‪ ،‬سأقدم وصفًا موج ًزا لبعض‬
‫األحداث التي أدت إىل اغتيال رابني ومتزق املجتمع اإلرسائي ‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫من ‪ 1‬فرباير حتى ‪ 30‬مايو ‪ ،2000‬ترشفت بكوين زميل رابني افتتاحي يف مركز‬
‫فيلام وثائق ًيا من إنتاج طاقم‬
‫إتسحاك رابني للدراسات اإلرسائيلية يف تل أبيب‪ .‬شاهدت هناك ً‬
‫تلفزيون فرانس ‪ .2‬أصبح الفيلم اخن جز ًءا من األرشيف الدائم ملركز رابني‪ ،‬يظهر الفيلم‬
‫الدعاية والتحريض عىل العنف من قبل متطرفني يهود متدينني قبل اغتيال رابني‪ .‬بالنسبة‬
‫يل‪ ،‬مل تكن مشاهدة هذا الفيلم سوى تجربة مرعبة‪ .‬رغم أن الدعاة تحدثوا بالعربية‪ ،‬وهي‬
‫لغة ال أفهمها‪ ،‬لكن إمياءاتهم وحدتهم العاطفية أصابتني كالرصاص‪ .‬أجربت نفيس عىل‬
‫تذكر أنه رغم تفاعل معظم اإلرسائيليني مع هذا الفيلم الوثائقي ومع املتطرفني أنفسهم)‬
‫بنفس الطريقة السلبية القوية التي شعرت بها‪ ،‬كان هناك آخرون ممن سمعوا كلامت الدعاة‬
‫واملحرضني كمصدر إلهام‪ .‬توجد أدلة واضحة تشري إىل أن مثل هذه الدعاية اليمينية‬
‫املتطرفة‪ ،‬والقومية الدينية‪ ،‬والتي وصفت إتسحاك رابني بالخائن وطالبت بطرده من‬
‫إرسائيل لتوقيعه عىل اتفاقيات أوسلو ومصافحة يارس عرفات‪ ،‬أثرت بصورة حاسمة عىل‬
‫إيغال أمري‪ ،‬قاتل رابني البالغ من العمر ‪ 25‬عا ًما‪.‬‬
‫كان إيهود شربينزاك‪ ،‬أستاذ العلوم السياسية يف الجامعة العربية يف القدس واملعلق‬
‫الشهري يف اإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬يدرك متا ًما التطرف الداخ الذي اشتدت حدته بعد توقيع‬
‫اتفاقيات أوسلو‪ .‬يف ربيع عام ‪ ،2000‬رشح يل كيف أرسل عدة مذكرات إىل رابني يرجوه‬
‫أن يستثمر املزيد من األفكار واملوارد يف التحقيق يف التطرف الداخ قبل تصاعد األحداث‪.‬‬
‫لقد كتب يف كتابه األخ ضد األخ عام ‪« ،1999‬بكل األىس‪ ،‬اكتشفت أن األحداث الدرامية فاقت‬
‫بكثري قدريت املحدودة عىل إحداث فرق»‪ 74.‬وفقًا لشربينزاك‪ ،‬بدأ العد التنازيل لعملية‬
‫االغتيال مع مجزرة الخليل يف ‪ 25‬شباط ‪ .1994‬يف ذلك اليوم‪ ،‬خالل شهر رم ان املبارك‪،‬‬
‫دخل باروخ غولدشتاين‪ ،‬طبيب غرفة الطوارئ أمرييك املولد ويهودي أرثوذكيس متدين‪،‬‬
‫القاعة اإلسحاقية يف الحرم اإلبراهيمي يف مدينة الخليل التي تحتلها إرسائيل وأطلق النار‬
‫عىل املسلمني الفلسطينيني أثناء صالتهم‪ ،‬فقتل تسعة وعرشين وأصاب مئة مص ‪ .‬أراد‬
‫رابني إجالء املستوطنني اإلرسائيليني من الخليل وتل رميدة املجاور لتجنب املزيد من إراقة‬

‫‪125‬‬
‫الدماء‪ ،‬لكن املستشارين أبلغوه أن القيام بذلك سيثري يف الواقع مزي ًدا من العنف‪ ،‬لذلك تخىل‬
‫عن هذه الخطة‪ .‬بدأ ذلك فرتة من املواجهة الحادة بني رابني والحاخامات القوميني‬
‫املتطرفني‪ .‬أدت سلسلة التفجريات االنتحارية التي نفذتها حامس والجهاد اإلسالمي –‬
‫هجامت انتقامية ملجزرة الخليل– التي أودت بحياة سبعة ومثانني إرسائي وإصابة أكرث‬
‫من مئتني إىل زيادة حدة هذا الرصايف‪ .‬بدأ بعض الحاخامات يف اإلشارة إىل مفاهيم دين‬
‫موزير ودين روديف الدينية القانونية‪[« :‬أ] موزير هو يهودي مشتبه يف أنه يزود غري‬
‫اليهود مبعلومات عن اليهود أو مينحهم ممتلكات يهودية بشكل غري قانوين‪[ ....‬أ] روديف‬
‫هو شخص عىل وشك ارتكاب جرمية قتل أو تسهيل ارتكابها‪ .‬الغرض من إعدامه الفوري‬
‫هو إنقاذ حياة اليهود‪ .‬ال تنطبق هذه القاعدة عىل القاتل‪ ،‬الذي يُقبض عليه بعد القتل‪ ،‬والذي‬
‫يتعني عليه تقدميه إىل املحاكمة‪ .‬دين روديف هي الحالة الوحيدة التي تسمح فيها الهاالخاه‬
‫‪75‬‬
‫لليهود بقتل يهودي آخر دون محاكمة»‪.‬‬
‫يوضح شربينزاك أن أساليب املواجهة والعنف اللفظي للقوميني املتطرفني خلقت ج ًوا‬
‫سمح إليغال أمري بإقنايف نفسه أنه كان ينقذ حياة اليهود بقتل رابني‪ .‬عند استجوابه بعد‬
‫االغتيال‪ ،‬اعرتف بأنه ناقش مفاهيم دين روديف ودين موزير مع عدة حاخامات‪ .‬رغم أن أيًا‬
‫منهم مل مينحه «اإلذن» باغتيال رابني تحدي ًدا‪ ،‬لكنه أضاف‪« :‬لوال إصدار بعض الحاخامات‬
‫الذين أعرفهم حكم هاالخاه بدين روديف ضد رابني‪ ،‬لكان القتل صعبًا ج ًدا ع ‪ .‬هذا القتل‬
‫يجب أن يكون مدعو ًما‪ .‬لو مل أحصل عىل الدعم ومل أمثل العديد من األشخاص‪ ،‬مل أكن‬
‫ألترصف»‪ 76.‬ومع ذلك‪ ،‬وجد عامل النفس اإلرسائي أفنري فيلك أن سيكولوجية عمل االغتيال‬
‫الذي نفذه أمري كانت مبالغة يف التحديد؛ إذ تتداخل دوافعه النفسية الشخصية بشكل قاتل‬
‫‪77‬‬
‫مع أعامل القادة الدينيني الراديكاليني التحري ية‪.‬‬
‫جاء والدا أمري إىل إرسائيل من اليمن يف أواخر األربعينيات وأوائل الخمسينيات وربيا‬
‫مثانية أطفال يف ظروف صعبة‪ .‬ولد ابنهام األول‪ ،‬حغاي‪ ،‬عام ‪1968‬؛ وولد إيغال‪ ،‬القاتل‬
‫املستقب ‪ ،‬بعد عامني‪ .‬يركز تحقيق فيلك بشكل خاص عىل عالقة أمري ووالدته غيوال‪ ،‬معلمة‬

‫‪126‬‬
‫روضة أطفال‪ .‬حسب رواية فيلك‪ ،‬لقد كانت امرأة تعيسة وحادة املزاج‪ ،‬والشخصية املهيمنة‬
‫يف املنزل‪ ،‬وكانت متزوجة من رجل مل تحبه عىل األرجح‪ ،‬شلومو أمري‪ ،‬كاتب مخطوطات‬
‫يهودي أرثوذكيس وجزار شعائر ورجل سلبي و ُمعال‪ .‬ظاهريًا‪ ،‬بدا أمري طفل غيوال املف ل‪.‬‬
‫وفقًا لفيلك‪ ،‬دعته غيوال «غايل»‪ ،‬وهو اختصار لا«يغايل»‪ ،‬وهو يعني كالً من «إيغال الخاص‬
‫يتلق الحب من والدته إال ملا كان ذك ًيا‬
‫يب» و«مخليص»‪ 78.‬ولكن يبدو أن «غايل» الصغري مل َ‬
‫وموهوبًا ومسل ًيا – عندما «خلصها» من تعاستها فقط؛ ورف ته يف الحاالت األخرى‪.‬‬
‫مع تقدمه يف السن‪ ،‬أثبت أمري أنه غري قادر عىل االنفصال عن ارتباطه العاطفي‬
‫اإلشكايل بوالدته‪ .‬يصف فيلك كيف بحث أمري‪ ،‬متناقض املشاعر تجاه والديه‪ ،‬دون وعي عن‬
‫والدين أف ل يف العامل الديني الستعادة احرتام الذات الذي حطمته غيوال‪« ،‬والدته السيئة»‪:‬‬
‫«أصبح إله إرسائيل والد إيغال الصالح‪ ،‬وأرض إرسائيل والدته‪ .‬وكام هو الحال بالنسبة‬
‫للعديد من القوميني اليمينيني املتطرفني‪ ،‬إن أرض إرسائيل ليست الدولة الفعلية بل هي فكرة‬
‫مجردة‪ ،‬كائن عاطفي مقدس ي م جميع أرايض إرسائيل وفلسطني‪ .‬يف أثناء محاكمته‪ ،‬قبل‬
‫قراءة الحكم‪ ،‬يف ‪ 27‬مارس ‪ ،1996‬قال إيغال‪« :‬كل ما فعلته‪ ،‬فعلته من أجل إرسائيل‪ ،‬وتوراة‬
‫‪79‬‬
‫إرسائيل‪ ،‬وشعب إرسائيل‪ ،‬وأرض إرسائيل – إنها عقدة لن تنفك أب ًدا»‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬أقنع أمري نفسه أنه بقتله لرابني مل يكن ينقذ أرواح اليهود فحسب‪ ،‬بل‬
‫إرسائيل نفسها‪ .‬فرغ غ به من والده ووالدته كام يشري فيلك‪« ،‬كانت األم‪ ،‬وليس األب‪،‬‬
‫رئيسة الوزراء يف املنزل») عىل رابني‪ 80،‬قصد أمري دون وعي الهروب من منزل «والدته‬
‫السيئة» بالدفايف عن «األم الصالحة»‪ ،‬إرسائيل‪ ،‬و«األب الصالح»‪ ،‬الله‪ ،‬ضد اخباء «السيئني»‬
‫«ال عفاء» الذين تصورهم يف منزله ويف مكتب رئيس الوزراء‪ .‬وقد نجح بالفعل‪ :‬إذ ذكرت‬
‫والدته بعد االغتيال‪ ،‬دون أن تدرك عىل ما يبدو املعنى األعمق ملا كانت تقوله‪« ،‬لقد ترك هذا‬
‫املنزل بفعله»‪ 81.‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬يالحظ فيلك أن رفض حبيبته ساهم أي ً ا يف قرار القاتل‬
‫الكاريث‪ ،‬ورمبا أعاد إحياء مشاعر التنافس بني األشقاء والغ ب ضد «والدته السيئة»‪« :‬لقد‬
‫متنى استعادة حبيبته بعمل بطويل يجعله ممي ًزا وعزي ًزا ج ًدا بالنسبة لها‪ ...‬نافا هولتزمان‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫حبيبة أمري الوحيدة‪ ،‬يف عالقة استمرت خمسة أشهر‪ ،‬تركته يف يناير ‪ 1995‬وتزوجت أحد‬
‫‪82‬‬
‫أصدقائه‪ ،‬فأذل ذلك أمري وأصابه باكتئاب رصيح»‪.‬‬
‫رغم أن أمري ترصف مبفرده نو ًعا ما‪ ،‬لكن الدعاية من الجامعات الدينية الفرعية‬
‫األصولية القومية قد خلقت ج ًوا ذا عواقب مميتة‪ .‬أعتقد أن اغتيال رابني ما يزال ميثل ق ية‬
‫حساسة تبقي عىل رشخ يف نسيج الجامعة اإلرسائيلية الكبرية‪ ،‬لكن تُنحى املخاوف املتعلقة‬
‫بهذه الق ية جان ًبا بسبب رصاعات الهوية اإلرسائيلية املستمرة مع جريانهم وق اياهم‬
‫األمنية يف العامل الحقيقي‪.‬‬
‫قد تخلق أشكال املأساة األخرى أي ً ا انقسا ًما داخل الجامعات الكبرية‪ .‬إن استمر‬
‫مثال‪ ،‬فقد ال يُصلح‬
‫الرصايف بني املجموعات الفرعية األيديولوجية أو الدينية لفرتة طويلة‪ً ،‬‬
‫التمزق يف نسيج الجامعة الكبرية الشاملة بسهولة أو قد ال يُصلح إطالقًا‪ .‬إذا استمر هذا‬
‫الرصايف لعقود من الزمان‪ ،‬فقد تتطور الجامهري املتعارضة ببطء كمجموعات إثنية منفصلة‪،‬‬
‫خاص ًة عندما تعيد أي ً ا تنشيط ذكريات الخالفات القدمية واملآيس األخرى بينهم – أي إذا‬
‫طوروا ارتباطات قوية بالتصورات الذهنية لألحداث املجيدة والصادمة من تاريخهم‬
‫وانشغلوا بق ايا الهوية‪ .‬سنعرف مع الوقت كيف ستتطور ق ايا هوية الجامعات الكبرية‬
‫أساسا عىل أسس أيديولوجية‪ .‬هل ستوحد الكوريتني يف املستقبل‬
‫ً‬ ‫يف كوريا‪ ،‬التي تنقسم‬
‫أم ستظالن دولتني مختلفتني بهويتني جامعيتني متميزتني؟ ومن وجهة نظري‪ ،‬فإن املشاكل‬
‫يف أيرلندا الشاملية قد تحولت أو إنها عىل األقل تتحول إىل مشاكل هوية «إثنية»‪.‬‬
‫أذكر هذين املثالني بإيجاز‪ ،‬لكنني أعرف أكرث عن االنقسام بني أملانيا الرشقية وأملانيا‬
‫الغربية السابقتني وإعادة توحيدهام الالحقة‪ .‬أدت الصدمات املشرتكة للنظام النازي‬
‫والحرب العاملية الثانية عىل األملان أنفسهم والعمليات السياسية واأليديولوجية والعسكرية‬
‫التي قسمت أملانيا إىل رشقية وغربية إىل تعقيدات يف هوية الجامعة الكبرية‪ .‬بدأ األملان‬
‫املنقسمون أيديولوج ًيا يف التجمع بعد سقوط جدار برلني يف ‪ 9‬نوفمرب ‪ .1989‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فإن االندماج بني األملان الرشقيني والغربيني السابقني مل يحدث فوريًا بعد انهيار الجدار‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫بعد ب عة أشهر من إعادة توحيد أملانيا‪ ،‬زرت صديقًا يعيش يف غوتينغن‪ ،‬وهي بلدة‬
‫تقع عىل الجانب الغريب من الحدود األملانية الرشقية–األملانية الغربية السابقة‪ .‬قادين إىل‬
‫منطقة عشبية كانت قد حددت ذات مرة الحدود بني الدولتني األملانيتني‪ .‬أخربين صديقي أن‬
‫األشجار يف املنطقة قد قطعت ليتمكن حرس الحدود األملانيني الرشقيني من الحامية بسهولة‬
‫أكرب ضد االنشقاقات‪ .‬مل ّا كنت هناك مل يكن هناك جنود‪ ،‬بالطبع‪ ،‬وكانت أبراج املراقبة فارغة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬أدهشني الصمت الرهيب للمكان وأي ً ا الطريقة التي كان صديقي يهمس بها‪.‬‬
‫كان األمر كام لو أنه ما يزال هناك خطر عىل طول هذه الحدود السابقة‪ .‬ثم قدنا عرب الحدود‬
‫القدمية إىل أملانيا الرشقية السابقة‪ ،‬وهذا ما مل يفعله صديقي منذ قبل تقسيم أملانيا‪ .‬رغم‬
‫إعادة توحيد الجانبني رسم ًيا‪ ،‬لكن ات حت التفاوتات املادية بينهام فوريًا‪ .‬إىل الرشق‪ ،‬كانت‬
‫الطرق سيئة الصيانة والتصميم‪ ،‬وحتى شكل األعمدة الكهربائية كان مختلفًا عن تلك‬
‫املوجودة يف الغرب‪ .‬ال جدال يف أننا كنا قد رصنا يف «بلد» مختلف‪.‬‬
‫نفسا عميقًا‬
‫بينام كنا نسري عرب الريف‪ ،‬تاركني االزدحام املروري خلفنا‪ ،‬أخذ صديقي ً‬
‫ثم سألني إن كنت أشم رائحة كريهة‪ .‬مل أستطع اكتشاف أي يشء خارج عن املألوف وأخربته‬
‫بذلك‪ ،‬لكنه مل يقبل إجابتي‪ .‬أشار إىل سيارة تسبقنا مسافة كبرية وقال‪« ،‬أترى تلك السيارة؟‬
‫إنها شيوعية الصنع‪ .‬تفوح رائحة تلك السيارات»‪ .‬كنت متأك ًدا من أنه ال يستطيع أن يشعر‬
‫حقًا بأي يشء ينبعث من السيارة ألنها كانت بعيدة ج ًدا‪ .‬بدا أن حواسه قد خدعته‪ ،‬ألنه‬
‫«عرف» أن السيارات الشيوعية لها رائحة كريهة‪ .‬لقد حفزت رؤية السيارة شمه رائحة‬
‫محلال نفس ًيا‪ ،‬توصلت أي ً ا إىل استنتاج آخر‪ :‬كان صديقي يخرج بعض‬
‫ً‬ ‫السيارة‪ .‬ولكوين‬
‫العنارص غري املقبولة الخاصة به ويسقطها عىل األملان الرشقيني‪ .‬كان «طاه ًرا» واألملان‬
‫الرشقيون «نتنون»‪ .‬مل أعرب عن استنتاجي لكنني شعرت أن صديقي‪ ،‬وهو أي ً ا محلل‬
‫جا ورسعان ما غري موضويف‬
‫نفيس‪ ،‬قد توصل إىل نتيجة مامثلة بشأن تجربته‪ .‬فقد بدا محر ً‬
‫املحادثة‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫بسبب الصدمة املجتمعية املرتبطة بوجود أيديولوجيات وتاريخ منفصلني‪ ،‬تطورت‬
‫املجموعتان األملانيتان‪ ،‬أو عىل األقل كانتا تتطوران‪ ،‬إىل مجموعتي هوية مختلفتني‪ .‬ومن‬
‫املثري لالهتامم‪ ،‬أن امتالك «هويتني»‪ ،‬ساعد األملان‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬يف التعامل مع الصورة‬
‫أفعاال صادمة للغاية ضد اخخرين‪ ،‬وخاص ًة اليهود‪ .‬وطاملا‬
‫ً‬ ‫النازية للاميض‪ ،‬صورة ت منت‬
‫كانت هناك دولتان أملانيتان‪ ،‬أمكن ألحد الطرفني دون وعي) أن يتخيل أن أملانيا «األخرى»‬
‫هي الوريث الحقيقي للنازيني‪ .‬لذا‪ ،‬مل ميكن ممكنًا إعادة توحيد الدولتني األملانيتني فوريًا‪،‬‬
‫من الناحية النفسية‪ .‬كانت رحلتي إىل الحدود األملانية الرشقية–األملانية الغربية السابقة‬
‫عامال يف مشاركتي يف مرشويف مع غابرييل أست‪ ،‬وهو محلل نفيس مارس عمله يف‬
‫ً‬
‫ميونيخ‪ ،‬لدراسة كيفية اختبار األملان من كال الجانبني إعادة التوحيد هذه داخل ًيا دون وعي)‬
‫خالل السنة األوىل‪ .‬مل يكتمل هذا املرشويف بسبب نقص التمويل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬جمعنا بيانات‬
‫كافية القرتاح أن كل جانب قد أسقط املايض النازي عىل الجانب اخخر قبل إعادة التوحيد‪.‬‬
‫لفتت انتباهي فرصة ملواصلة دراسة آثار الصدمة التاريخية التي فصلت األملان بعد‬
‫الحرب العاملية الثانية وطوال عرص الحرب الباردة يف مايو ‪ 2002‬يف اجتاميف يف اليبزيغ‬
‫لجمعية التحليل النفيس األملانية‪ .‬لقد كان هذا أول اجتاميف سنوي تعقده املنظمة يف أملانيا‬
‫الرشقية السابقة‪ .‬كنت ضيفًا عىل الجمعية يف هذا االجتاميف وشاهدت من كثب التفاعالت‬
‫بني الزمالء األملان الذين جاءوا من أملانيا الغربية السابقة والزمالء من أملانيا الرشقية السابقة‪.‬‬
‫حتام منشغلني ومدافعني عن هويات جامعاتهم‬
‫أعتقد أن هذا «االجتاميف القرسي» جعلهم ً‬
‫الكبرية‪ .‬عندما جمع فريق مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي ممث العدو م ًعا ليتحاوروا‪،‬‬
‫فعل املشاركون من كل جانب اليشء نفسه يف البداية‪ ،‬لذا كان هذا النويف من التفاعل مألوفًا‬
‫يل ومل أتفاجأ برؤيته بني األملان الرشقيني والغربيني السابقني‪ .‬ما الحظته يف اليبزيغ‬
‫سيصبح واض ًحا بشكل خاص خالل املناقشة «األكادميية» لعلم نفس إعادة التوحيد‪ .‬رغم‬
‫أنني ال أتحدث األملانية‪ ،‬فقد فهمت ما قيل بواسطة مرتجم ومتكنت من مالحظة التعابري‬
‫الوجهية حتى أن بعض الزمالء األملان الرشقيني بكوا عندما شعروا‪ ،‬محقني أو مخطئني‪،‬‬

‫‪130‬‬
‫أن األملان الغربيني ال يعتربونهم مساوين لهم يف التدريب واملعرفة فيام يتعلق بالطبيعة‬
‫البرشية)‪ .‬يف أثناء وجودي هناك‪ ،‬قابلت إيرين ميسيلفيتز‪ ،‬محللة نفسية من أملانيا الرشقية‬
‫كان اهتاممها البحثي الرئييس هو تأثري عمليات التحول االجتامعي والسيايس عىل النفس‬
‫البرشية‪ .‬كتبت ورقة بحثية ملجلة مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي بعنوان العقل‬
‫والتفاعل البرشي‪ ،‬ووصفت تجربتها الشخصية يف تطوير هوية أملانية رشقية‪:‬‬
‫خالل ‪ 40‬عا ًما من االنفصال‪ ،‬تطورت هويات جامعات كبرية مميزة ج ًدا يف أملانيا‬
‫الرشقية وأملانيا الغربية‪ .‬وباستخدام استعارة الخيمة لفولكان‪ ،‬يبدو أننا عشنا يف‬
‫خيام إثنية منفصلة أو «خيام فرعية» أصغر‪ .‬يف أثناء االنفصال‪ ،‬أخفي هذا واخترب‬
‫دون وعي إىل حد كبري‪ .‬مل تت ح الخالفات حتى عام ‪ 1990‬مبجرد فتح الحدود‬
‫وبدء املواجهات اليومية بني املجموعتني‪ ...‬لقد أزعج اللقاء األملاين–األملاين كال‬
‫الجانبني بشدة‪ .‬وإال لكان من الصعب تفسري سبب محاولة كال الجانبني باستمرار‬
‫االختباء تحت خيمتهام األملانية الرشقية أو الغربية ومقاومتهام مرا ًرا وتكرا ًرا السكن‬
‫‪83‬‬
‫يف الخيمة املشرتكة حديثًا ألملانيا املوحدة‪.‬‬
‫ميكن أحيانًا‪ ،‬إذا مرت قرون‪ ،‬لألشخاص املنتمني إىل نفس األصل اإلثني فصل‬
‫مثال‪ ،‬بني السالف‬
‫هوياتهم واعتبار أنفسهم مجموعات إثنية متميزة متا ًما‪ .‬حدث هذا‪ً ،‬‬
‫الجنوبيني‪ .‬باتبايف ديانات مختلفة والتمسك بالتمثيالت الذهنية للتجارب التاريخية املختلفة‪،‬‬
‫وخاص ًة الصدمات ال خمة التي تسبب بها الجانب اخخر‪ ،‬برز السالف الجنوبيون‪ ،‬بني‬
‫اخخرين‪ ،‬كرصب وكروات وبوشناق‪ .‬إذا انخرطت مجموعتان من نفس أصل الهوية يف رصايف‬
‫طويل كفايةً‪ ،‬فإن الصدمات املرتبطة بهذه الرصاعات سيكون لها ديناميكيات مامثلة لتلك‬
‫املالحظة بني األعداء «األجانب»‪.‬‬
‫مع وضع هذا يف االعتبار‪ ،‬دعونا ننظر بإيجاز يف العالمات النفسية الخاصة‬
‫بالصدمات التي يسببها عدو ذو هوية جامعية كبرية منفصلة‪ ،‬كام حدث يف جمهورية‬
‫جورجيا وجزيرة قربص‪ .‬يف حاالت الرصايف اإلثني‪ ،‬أو القومي‪ ،‬أو الديني أو األيديولوجي‬

‫‪131‬‬
‫بني مجموعات متعادية متميزة‪ ،‬يوجد تصميم متعمد إلذالل «اخخر» وجعله عاج ًزا وقتله‬
‫عندما يجرد‬ ‫‪84‬‬
‫باسم هوية الجامعة الكبرية‪ .‬يجرد العدو أحيانًا من إنسانيته قبل قتله‪.‬‬
‫اخخرون من إنسانيتهم‪ ،‬يصدر «ترخيص» لقتل العدو دون ذنب‪ .‬هناك نوعان من التجريد‬
‫أوال أع اء جامعة كبرية غري مرغوب فيهم ثم‬
‫من اإلنسانية‪ .‬يف النويف األول‪ ،‬يعترب العدو ً‬
‫يجردهم من إنسانيتهم‪ ،‬كام حدث يف أملانيا النازية‪ .‬حدث اليشء نفسه يف عام ‪ 1994‬يف‬
‫رواندا عندما اندلع التنافس اإلثني الذي دام قرونًا‪ ،‬إذ اعترب الهوتو التوتيس رصاصري‬
‫خطرية‪ ،‬وأدى هذا إىل مقتل مليون شخص‪ .‬يؤكد العديد من العلامء أي ً ا أن االنتحاريني‬
‫يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم قبل تفجري متفجراتهم‪ .‬ولكن‪ ،‬هذا النويف من التجريد من‬
‫اإلنسانية مختلف‪ .‬فصحيح أن االنتحاريني يتجاوزون حامية هوياتهم الفردية وهويات‬
‫ضحاياهم وبالتايل يرتكبون االنتحار والقتل‪ .‬لكنهم «يعيدون إضفاء الطابع اإلنساين» عىل‬
‫أنفسهم كمتحدثني باسم جامعتهم الكبرية قبل أن يتحولوا إىل قنابل حية‪ .‬و«يعيدون إضفاء‬
‫الطابع اإلنساين» عىل ضحاياهم كممثلني عن املجموعة املعارضة‪ .‬إنهم يقتلون هؤالء‬
‫املمثلني من أجل إيذاء الجامعة املعارضة وإرسال رسالة إليها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن الكوارث الطبيعية أو العرضية التي يسببها اإلنسان ال تُخجل‪ ،‬أو تذل‪،‬‬
‫أو تجرد اخخرين من إنسانيتهم‪ ،‬أو تقتل أو تدمر البيئات املادية باسم هوية الجامعة الكبرية‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬مل يكن للتسونامي الذي وقع يف ديسمرب ‪« 2004‬عقل»؛ ومل مييز ضد أي جامعة‬
‫ً‬
‫كبرية‪ .‬رغم من أن التسونامي تسبب يف موت جامعي‪ ،‬لكنه مل يرتكب التطهري اإلثني أو‬
‫اإلبادة الجامعية عم ًدا كام حدث يف رواندا أو يف أي مكان آخر‪ .‬قد يعترب األفراد الذين‬
‫يعيشون يف مناطق الكوارث الطبيعية أنفسهم «غري محظوظني»‪ .‬لكن عندما تحدث املآيس‪،‬‬
‫ال يشعرون بالخزي أو اإلذالل أو التجرد من اإلنسانية بسبب الطبيعة لتعمدها انتقاءهم‪،‬‬
‫وجعلهم عاجزين‪ ،‬وقتل أحبائهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هذا ال يعني أن بعض الناس لن «ي في الطابع‬
‫اإلنساين» عىل الطبيعة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يتحدث الكثري كام لو أن كارثة معينة كانت عن قصد‬
‫مثال إن املياه قد غمرت منطقة ما كعقاب عىل‬
‫الطبيعة – أو قوة أعىل‪ .‬فقد يقول البعض ً‬

‫‪132‬‬
‫قبول شعبها للمثلية الجنسية‪ .‬يعتقد بعض املسيحيني «األلفيني» أن الكوارث الطبيعية هي‬
‫عالمة عىل العودة الوشيكة ليسويف املسيح إىل األرض‪ .‬ويف أمثلة أخرى‪ ،‬يرتبط ما هو‬
‫مخصص للطبيعة أو للحادث مبارش ًة بق ايا هوية الجامعات الكبرية أو النزاعات‪ .‬قد يعتقد‬
‫مثال‪ ،‬أن األرض تهتز ملعاقبتهم بسبب التأثري الغريب املتزايد عىل هوية‬
‫بعض املسلمني‪ً ،‬‬
‫جامعتهم الكبرية‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬بعد وقويف كارثة طبيعية أو حادث‪ ،‬فإن تخصيص دماغ أو عقل‬
‫للظاهرة ال يعمم عاد ًة وال يؤدي إىل الخزي واإلذالل املشرتكني‪ .‬إذ يقبل هؤالء الناس عىل‬
‫املدى الطويل أفعال «الله» أو «القدر» دون الخزي أو إذالل‪.‬‬
‫مثة مالحظة أخرى متيز بني الصدمة ال خمة التي يسببها العدو والصدمات‬
‫ال خمة األخرى التي ال تشمل ق ايا هوية الجامعة الكبرية تتمثل يف أن األوىل ال ميكن أن‬
‫تظل أب ًدا صدمة «إقليمية»‪ .‬إن شعور بعجز الناس يف القطايف املتضر الناجم عن كارثة‬
‫طبيعية ليس عرضة للتعميم يف قطاعات أخرى من املجتمع‪ ،‬رغم أن الناس يف مناطق أخرى‬
‫قد يشعرون بالحزن أو األىس عىل ال حايا‪ .‬لكن خزي الناس وإذاللهم عىل أيدي «اخخرين»‬
‫يف املنطقة املتضرة يشعر به تلقائيًا كل من ينتمي إىل نفس هوية الجامعة الكبرية‪ .‬يحدث‬
‫هذا كلام هددت هوية الجامعة الكبرية‪ .‬إن الشعور بالخزي واإلذالل والغ ب العاجز هي‬
‫عوامل حاسمة يف نرش مشاعر الجامعة الكبرية وبدء حركات مجتمعية للتعامل مع تأثري‬
‫الحدث الصادم ولتعزيز أو تعديل املعايري الثقافية القامئة‪ .‬تهدف هذه األنشطة املشرتكة‬
‫إىل إصالح إهرتاء قامش خيمة الجامعة الكبرية‪.‬‬
‫إحدى الطرق الرسيعة إلصالح اهرتاء قامش الخيمة وإزالة الشعور املشرتك باإلذالل‬
‫والخزي هي االنتقام‪ ،‬خاص ًة إذا سمح الوضع الخارجي بذلك‪ .‬لهذا الفعل عواقبه الخاصة‬
‫وعاد ًة ما يؤجج الرصايف أكرث‪ .‬يف حاالت الكوارث الطبيعية‪ ،‬ال توجد رغبة مشرتكة يف‬
‫االنتقام من الطبيعة أو الله أو القدر‪ .‬لكن الجامعة الكبرية التي ال تستطيع االنتقام من عدوها‬
‫تستوعب عدوانيتها غال ًبا‪ .‬فعندما تحاول مثل هذه املجموعة زيادة أو إعادة تنشيط عادات‬
‫ثقافية معينة من أجل تقوية إحساسها با«النحن» ومتييز هوية جامعتها الكبرية عن هويات‬

‫‪133‬‬
‫«اخخرين»‪ ،‬فإننا غال ًبا ما نرى استبطان العدوان يف الفعل‪ .‬توجد يف أوسيتيا الجنوبية‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬عادة «خطف» راسخة‪ :‬عىل وجه التحديد‪« ،‬يخطف» الشاب امرأة يحبها ثم يتزوجها‬
‫ً‬
‫مبباركة األرسة‪ .‬بعد انهيار االتحاد السوفيتي وحروب أوسيتيا الجنوبية مع جورجيا‪،‬‬
‫أصبحت طقوس االختطاف هذه خبيثة للغاية‪ .‬يف هذه الحاالت‪ ،‬اختطفت واغتصاب شابات‬
‫– بال زواج‪ .‬قابلت ذات مرة فتاة شابة من أوسيتيا الجنوبية تعرضت للخطف واالغتصاب‬
‫والتعذيب ثم أعيدت إىل والدتها‪ .‬حاولت أن أكون مفي ًدا‪ ،‬لكن يف النهاية شعرت بالعجز‬
‫والحزن‪ .‬علمت أن حديثي معها لب ع ساعات ال ميكن أن يزيل الضر الذي لحق بها‬
‫وعائلتها‪.‬‬
‫كام هو الحال بعد الكوارث الطبيعية أو العرضية‪ ،‬غال ًبا ما تظهر النكات أي ً ا بعد‬
‫وقويف كارثة عىل يد العدو‪ .‬لكن هذه النكات‪ ،‬عىل عكس املوصوفة سابقًا املتعلقة بزلزال‬
‫مدينة مكسيكو وكارثة تشالنجر‪ ،‬ال تسخر من ال حايا‪ .‬تهدف النكات التي تقال بعد‬
‫صدمات هوية الجامعة الكبرية عمو ًما إىل محو الخزي واإلذالل عن طريق إهانة صورة‬
‫مثال‪ ،‬بعد‬
‫العدو‪ .‬عندما أجرى مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي مرشو ًعا يف الكويت‪ً ،‬‬
‫سنوات قليلة من صد الواليات املتحدة وحلفائها قوات صدام حسني الغازية‪ ،‬سمعت نكات‬
‫عديدة من الكويتيني الذين قابلتهم‪ .‬عزت إحدى النكات موت واختفاء الحيوانات يف حديقة‬
‫حيوان مدينة الكويت إىل جنود عراقيني جائعني قيل إنهم أكلوها‪ .‬تحدثت نكتة أخرى عن‬
‫عراقيني جاهلني وغري متحضين مل يروا آلة رصاف آيل من قبل واعتقدوا أنه يف الكويت‬
‫الغنية ميكن ألي شخص ببساطة ال غط عىل زر عىل جدار البنك للحصول عىل املال‪ .‬هذه‬
‫النكات هي محاوالت للتعامل مع الخزي واإلذالل بجعل العدو يبدو غب ًيا ودون إنساين‪.‬‬
‫مثة عالمة أخرى فريدة من نوعها للكوارث ال خمة التي يسببها العدو تت من نقل‬
‫الصدمة عرب األجيال‪ .‬عىل املستوى الفردي‪ ،‬سينقل بعض البالغني املصدومني بسبب كوارث‬
‫طبيعية أو كوارث من صنع اإلنسان‪ ،‬وغري القادرين لسبب أو خخر عىل إنجاز املهام النفسية‬
‫للتعامل بشكل تكيفي مع هذه املآيس‪ ،‬بعض مهام الحداد إىل ذريتهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يف حاالت‬

‫‪134‬‬
‫الصدمة ال خمة التي يسببها العدو‪ ،‬يعمم النقل عرب األجيال للعمليات النفسية غري املكتملة‬
‫حتام يف تعزيز هوية الجامعة الكبرية املشرتكة وحتى يف تعديلها‪ .‬هذا موضويف‬
‫ويشارك ً‬
‫واسع ومهم للغاية سأبحثه الحقًا يف هذا املجلد‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬يف الفصلني املقبلني‪ ،‬سيكولوجية بناء النصب التذكاري‪ ،‬وهي‬
‫لكن سأناقش ً‬
‫عملية مجتمعية مشرتكة ت الصدمة ضخمة التي يتسبب بها العدو‪ .‬سأصف يف الفصل‬
‫السابع شبكة أيتام الحرب العاملية الثانية األمريكية إيه دبليو أو إن) ومشاركة أع ائها يف‬
‫النصب التذكاري للحرب العاملية الثانية يف واشنطن العاصمة منذ افتتاحه يف عام ‪،2004‬‬
‫فقد تطور النصب التذكاري للحرب العاملية الثانية بالفعل ككائن ربط مشرتك للكثريين‪ .‬ثم‬
‫سأستكشف يف الفصل الثامن تطور األنصاب التذكارية األخرى وأبحث يف السؤال‬
‫العريض‪ :‬ماذا يخربنا فحص هذه األنصاب التذكارية عن سيكولوجية الجامعة املتضرة‪،‬‬
‫وعملية حدادها‪ ،‬ومحاولتها عكس الخزي واإلذالل‪ ،‬واستعدادها لقبول «اعتذار» عدوها‪،‬‬
‫واستعدادها «ملسامحة» عدوها؟‬

‫‪135‬‬
‫شبكة أيتام الحرب العاملية الثانية األمريكية وألف نجمة ذهبية‬ ‫‪7‬‬

‫يف يوم الذكرى عام ‪ ،2004‬أٌقيم نصب تذكاري للحرب العاملية الثانية بحجم ملعب كرة قدم‬
‫وسط ضجة كبرية يف واشنطن العاصمة‪ .‬ويخلد هذا النصب ذكرى ‪ 16‬مليون فرد خدم يف‬
‫قوات الواليات املتحدة املسلحة وأكرث من أربعامئة ألف أمرييك مات خالل تلك الحرب‪.‬‬
‫وانتظرت عائلتي افتتاح هذا النصب بيشء من الحامس‪ .‬فقد كان جورما بالونني‪ ،‬والد‬
‫زوجتي بيتي‪ ،‬من بني خسائر تلك الحرب‪ .‬وقد مات حني كان بعمر التاسعة والعرشين‪.‬‬
‫جند يف الجيش حني كانت زوجته حبىل – قبل أن تولد بيتي‬
‫وبعد زواجه بثالثة أعوام‪ُ ،‬‬
‫بثالثة أشهر‪ .‬ويف إجازته التي أعقبت تدريبه العسكري‪ ،‬رأى بيتي مرتني قبل أن يُبعث إىل‬
‫أوروبا‪ .‬ويف إحدى زياراته تلك‪ ،‬ا ُلتقطت صورة له وهو يحمل طفلته الرضيعة‪.‬‬
‫مات جورما يف ‪ 21‬نوفمرب ‪ 1994‬يف إيطاليا‪ .‬وبعدها بأربعة أعوام عادت جثته إىل‬
‫ريا‬
‫الواليات املتحدة و ُدفنت يف مقربة بلدة ماساتشوستس الصغرية‪ ،‬لوننربغ‪ ،‬التي ال تبعد كث ً‬
‫عن حدود الوالية مع نيو هامبشري‪ .‬ويف يوم الذكرى عام ‪ ،1949‬أُقيم نصب تذكاري حجري‬
‫يف منتصف لوننربغ يحمل أسامء املقتولني يف الحرب العاملية الثانية ممن كانوا من تلك‬
‫البلدة‪ ،‬ومن بينهم جورما بالونني‪ .‬وكشفت بيتي‪ ،‬التي كانت بعمر الخامسة حينها‪ ،‬عن هذا‬
‫النصب التذكاري يف احتفال أقامته البلدة‪ .‬ويف ‪ ،1950‬بعد أن ُدفن زوجها عىل أرض‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬تزوجت والدة بيتي مرة أخرى‪ ،‬وأنجبت طفلة أخرى‪ ،‬وقدمت بيئة أرسية‬
‫ريا عن زوجها األول‪ ،‬ولكنها علقت رسمة فيها جورما وهو‬
‫جيدة ألطفالها‪ .‬ومل تتكلم كث ً‬
‫يرتدي زي الجندي العسكري يف غرفة نوم بيتي‪ .‬ولبقية حياتها حتى اليوم الذي توفيت فيه‬
‫عام ‪ ،2002‬ارتدت خامتي زفاف ملحومني سويًا‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬وألن األقارب من جهة والدها‬

‫‪136‬‬
‫عاشوا يف لوننربغ وحافظوا عىل عالقاتهم الودية بوالدة بيتي وزوجها الجديد‪ ،‬نشأت بيتي‬
‫فمثال‪ ،‬كانت هناك زيارات شعائرية ملوقع دفنه‪.‬‬
‫ً‬ ‫وحولها الكثري مام يذكرها بوالدها املتوىف‪.‬‬
‫ريا عن جورما وحياته‪ .‬ولذا‪ ،‬تُركت بيتي‬
‫ولكن أقارب بيتي‪ ،‬كحال والدتها‪ ،‬مل يتكلموا كث ً‬
‫لتخلق تصو ًرا لوالدها وحياته يف عامل الخيال‪.‬‬
‫أشارت حكومة الواليات املتحدة إىل بيتي و‪ 183,000‬طفل أمرييك آخر ممن فقدوا‬
‫والدهم خالل الحرب العاملية الثانية باسم «أيتام الحرب العاملية الثانية»‪ .‬ولكن‪ ،‬نظ ًرا إىل أن‬
‫معظم هؤالء األطفال كانوا ال يزالون يعيشون مع أمهاتهم‪ ،‬مل يشعر هؤالء األطفال بأنهم‬
‫«أيتام» حقًا‪ .‬فقد أخربين والرت لني‪ ،‬طيار متقاعد لدى القوات الجوية من إنديانا فقد والده‬
‫يتيام عىل اإلطالق حني نشأ ألنه عاش مع والدته‪.‬‬
‫حني كان بعمر الثانية‪ ،‬أنه مل يعترب نفسه ً‬
‫وحني بلغ السادسة تزوجت أمه مرة أخرى‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬كان والرت عىل دراية بأن زوجها‬
‫قائال‪:‬‬
‫الجديد ليس والده الحقيقي‪ .‬فقد وضح والرت ً‬
‫ريا لدرجة أنه‬
‫أنا متأكد متا ًما من أنني وضحت ذلك لزوج والديت كث ً‬
‫يف مرحلة ما طلبت مني والديت أن أدعوه أيب‪ .‬ومنذ تلك اللحظة‬
‫شعرت أن ع ّ أن أحمي مشاعر والديت بفعل ما يتوجب فعله‬
‫لجعلها سعيدة‪ .‬وضعت والدي عىل الرف‪ ،‬إذا جاز التعبري‪ ،‬بعد‬
‫وفاته حتى وصلت إىل نقطة يف حيايت أريب فيها أطفايل‪ ،‬وبدأت‬
‫استقر يف مرحلة تكوين العائلة يف حيايت‪ .‬ويف ‪ 1985‬رشعت‬
‫يف إعادة والدي إىل حيايت من خالل تعقب أيامه األخرية يف‬
‫أوروبا‪ .‬أردت أن أشعر مبا رآه ورمبا أحظى بلمحة عام شعر به‬

‫‪137‬‬
‫خالل تلك الشهور القليلة‪ .‬ومل يكن ذلك بغرض البحث عام أنجزه‪،‬‬
‫بل أردت باألحرى أن أعرف ماهيته‪ ،‬وأي نويف من الرجال هو‪.‬‬
‫قدمت حكومة الواليات املتحدة صناديق فيدرالية لدعم تعليم األيتام‪ .‬وبالفعل‪،‬‬
‫استفادت بيتي من مثل تلك الصناديق ومتكنت من االلتحاق بجامعة خاصة مل يكن بوسع‬
‫عائلتها أن تتحمل نفقاتها لوال ذلك‪ .‬وحني تزوجنا‪ ،‬انتقلت رسمة جورما إىل بيتنا‪ .‬وال زالت‬
‫معلقة عىل حائط يف غرفة املعيشة لدينا‪ .‬وتعرفت عىل جورما من خالل تلك الرسمة‪ ،‬وكذا‬
‫تعرف عليه أطفالنا الحقًا‪ .‬وأدركت بيتي أن القدر كلفها مبهمة‪ ،‬وهي رحلة بحث تستمر‬
‫طوال الحياة ملعرفة ما كان عليه جورما كشخص حقيقي عىل قيد الحياة‪ ،‬ال مجرد رسمة‬
‫عىل حائط‪.‬‬
‫ال بد للبالغني الذين عانوا من فقدان شخص عزيز عليهم يف مرحلة الطفولة دون أن‬
‫يتعرضوا بالقدر الكايف للفقيد من أن ينسجوا صورة لهذا الفقيد يف مخيلتهم حتى ينسوه‪.‬‬
‫وقد يكون من األصعب أن يحزن املرء عىل فقدان والده إذا ك ّون معظم صورته أو كلها عنه‬
‫يف الخيال من أن يحزن عىل فقدان والده الذي ظل مشاركًا يف حياة الطفل حتى وفاته‪.‬‬
‫وباختالف األعامر التي فقد األطفال آباءهم فيها‪ ،‬مل يحظ أيتام الحرب العاملية الثانية بفرصة‬
‫التفاعل مع آبائهم عىل أرض الواقع وأن ينموا صو ًرا ذهنية قامئة عىل تلك التفاعالت‪ُ ،‬معدلة‬
‫من خاللها عىل األقل‪ .‬وذلك ال يعني أنه مل يكن بوسعهم أن يشكلوا صو ًرا عن آبائهم‬
‫البيولوجيني يف عقولهم‪ .‬بل عىل النقيض من ذلك‪ ،‬كان ال بد لهم من تشكيل مثل تلك‬
‫الصور‪ ،‬ولكن ما شكلوه كان قامئًا يف األساس عىل الحاجات‪ ،‬واألماين‪ ،‬والتوقعات‪،‬‬
‫واملثاليات‪ ،‬وإنقاص القيمة‪ ،‬وغريها من الدفاعات العقلية األخرى‪ .‬وإذا أضحت أمهات األيتام‬
‫يف حالة حداد دائم عىل فقدان أزواجهن –حتى لو جزئ ًيا– وظللن صامتات حيال أزواجهن‬

‫‪138‬‬
‫املتوفني‪ ،‬ومل يشجعن أيتامهن عىل الحديث عن صورهم الذهنية خبائهم حتى يتسنى لهم‬
‫تصحيح خياالتهم من خالل البالغني الذين عرفوا الفقيد حقًا‪ ،‬يُرتك األطفال شاردين مع‬
‫خياالتهم‪.‬‬
‫يفقد ماليني األطفال آباءهم أو يولدون بعد وفاة آبائهم ألسباب متنوعة‪ ،‬مثل املرض‪،‬‬
‫أو الحوادث‪ ،‬أو االنتحار‪ ،‬أو القتل‪ .‬ويستجيب كل هؤالء األطفال بطريقتهم النفسية الخاصة‬
‫لغياب األب‪ .‬ويعتمد شكل تلك االستجابة عىل عمر الطفل يف وقت الوفاة‪ 85،‬وتكوينه‬
‫النفيس‪ ،‬والدعم الذي يتلقاه الطفل يف استيعاب املهام التنموية املقرتنة بالعمر‪ .‬ولكن‪ ،‬يف‬
‫حالة أيتام الحرب العاملية الثانية‪ ،‬اقرتن فقدانهم مبارش ًة بصورة حدث تاريخي ومشاعر‬
‫عامة مشرتكة عن األفراد الذين ماتوا من أجل وطنهم‪ .‬ومن الواضح أن اتصالهم بحدث مهم‬
‫ووصف الحكومة األمريكية لهم بأيتام الحرب العاملية الثانية لعب دو ًرا يف متييزهم عن‬
‫مهووسا بالتعرف عىل والده حني كان‬
‫ً‬ ‫األطفال اخخرين‪ .‬فقد قال والرت‪ ،‬الذي ظن أنه ليس‬
‫ريا‪ ،‬أنه شعر بأنه طفل مميز «كلام سأل أحدهم عن سبب اختالف اسمه األخري عن‬
‫صغ ً‬
‫إخوته»‪ .‬وقد شعر أي ً ا ببعض الذنب حيال «استغالل مكانة والدي البطولية يف الشعور‬
‫بالتميز»‪.‬‬
‫إذا كانت الصورة التي شكلها الطفل عن والده الفقيد جزئ ًيا أو كل ًيا يف مخيلته صورة‬
‫ميجد الجنود املتوفني عاد ًة باعتبارهم أبطاالً – يغدو الحداد عىل فقدانهم أو‬
‫مثالية –إذ ُ‬
‫الصورة املتخيلة عنهم) أصعب‪ .‬مثة مقاومة نفسية للتخ عن بطل ُمشكل داخل عقل املرء‬
‫وجعله مجرد فقيد عادي‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬من الصعب أن يتخىل املرء عن إحساسه بكونه‬
‫طفال عاديًا ألب متوىف عادي‪ .‬ومثة مصدر أعمق‬
‫ً‬ ‫طفال لبطل وأن يغدو‬
‫ً‬ ‫ممي ًزا لكونه‬
‫لإلحساس بالتميز‪ :‬عاملت األرامل الشابات‪ ،‬الاليت كن متزوجات قبل ب عة أيام أو شهور‬

‫‪139‬‬
‫من الوقت الذي رحل فيه أزواجهن إىل الحرب ومل يعودوا‪ ،‬أطفالهن من أزواجهن املفقودين‪،‬‬
‫عن علم أو دون علم‪ ،‬كجسم حي يربط بينها وبني زوجها بدرجة أو بأخرى‪ .‬فقد كُلف‬
‫ريا ما اضطرت‬
‫األطفال مبهمة رسية تنطوي عىل الربط بني أمهاتهم وآبائهم املتوفني‪ .‬وكث ً‬
‫هؤالء األمهات‪ ،‬الاليت اضطررن إىل مواصلة حياتهن بشكل طبيعي‪ ،‬إىل قمع أو إنكار الحب‬
‫أو حتى النزايف الذي كان موجو ًدا يف زيجاتهم السابقة‪.‬‬
‫رسا كأجسام‬
‫وال بد من األخذ يف االعتبار أن أيتام الحرب العاملية الثانية الذين ُعوملوا ً‬
‫حية رابطة هم أطفال حزاىن يف ذات أنفسهم‪ ،‬حتى وإن كانوا يف الواقع مل يعرفوا آباءهم‪،‬‬
‫أو بالكاد عرفوهم‪ .‬فقد شعروا بأن شيئًا ما مفقود‪ .‬واألطفال الحزاىن يف حاجة إىل األجسام‬
‫الرابطة الخاصة بهم أي ً ا حني يكربون حتى يندبوا آباءهم املتوفني‪ .‬وبدون االستعانة مبثل‬
‫شخصا عزي ًزا له يف‬
‫ً‬ ‫تلك األجسام أو الظواهر) الرابطة ال ميكن للفرد البالغ الذي فقد‬
‫طفولته أن يجعل التمثيل الذهني للشخص املتوىف معقوالً بالقدر الكايف حتى «يُدفن» داخل‬
‫‪86‬‬
‫عقل الفرد ويغدو‪ ،‬كام قال فيكو تاهكا‪« ،‬بال مستقبل»‪.‬‬
‫كانت بييك محظوظة إىل حد كبري‪ .‬فرغم أن والدتها وأقارب والدها مل يتحدثوا عن‬
‫جورما وعن حياته‪ ،‬فقد احتفظوا بالعديد من األشياء التي كانت مبثابة وسائل تذكري بوجوده‬
‫الحقيقي‪ ،‬مثل خطاباته‪ ،‬وصوره الفوتوغرافية‪ ،‬وأوسمته‪ .‬ومن خالل تلك األشياء متكنت‬
‫بيتي من تشكيل صورة خيالية من والدها قامئة عىل أساس واقعي بعض اليشء‪ .‬وإذا مل‬
‫تكن تلك األشياء بحوزتها لكان من الصعب عليها أن تشكل صورة عن رجل متوىف ليس‬
‫لديها ذاكرة عنه‪.‬‬
‫ومع وجود أكرث من ‪ 180,000‬فرد من أيتام الحرب العاملية الثانية يف الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬يتشارك العديد منهم يف املهمة النفسية التي تنطوي عىل البحث عن آبائهم‬

‫‪140‬‬
‫البيولوجيني واإلحساس بالتميز‪ ،‬وهو ما ميثل يف حد ذاته‪ ،‬من ناحية نفسية‪ ،‬عبئًا‪ .‬ومن‬
‫بني أفراد تلك املجموعة آن بينيت ميكس‪ .‬فحني كانت صغرية‪ ،‬مل تد ِر آن أنها كانت «يتيمة‬
‫حرب»‪ ،‬ومل تعلم أن هذا املصطلح ينطبق عليها إال الحقًا‪ .‬وتتساءل عن حال غريها من الناس‬
‫الذين فقدوا أبًا لهم خالل الحرب والكيفية التي تكيفوا بها مع ذلك قائلةً‪:‬‬
‫مل يكن لدي أي فكرة عام يكونون‪ ،‬وأين يكونون‪ ،‬وكم منهم‬
‫جئت إىل‬
‫ُ‬ ‫موجودون أيتام الحرب العاملية الثانية)‪ .‬وحني‬
‫الهيئات الحكومية طل ًبا للمساعدة اكتشفت أنهم كانوا غافلني عن‬
‫ذلك أي ً ا! كان جل ًيا يل أنني بصدد الخوض يف كفاح طويل‪،‬‬
‫ولكنني كنت عازمة أن نجتمع سويًا ونتكلم عن حياتنا وعام‬
‫حدث! بدأت التقي ببعض الناس‪ ،‬وحني تكلمنا شعرت بالغ ب‬
‫علمت أن قلة قليلة منهم تكلموا مع أيتام حرب‬
‫ُ‬ ‫والحزن حني‬
‫آخرين‪ ،‬أو ُسمح لهم بالكالم عن آبائهم‪ .‬وعلمت أن معظمنا‬
‫ق ينا حياتنا ونحن نشعر بالعزلة ومل نكن نعلم إال القليل عن‬
‫‪87‬‬
‫خدمة آبائنا أو الكيفية التي ماتوا بها‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 1990‬رشعت آن يف البحث عن أيتام آخرين واتخذت تدابري أولية لتشكيل‬
‫شبكة أيتام الحرب العاملية الثانية األمريكية ‪ .)AWON‬والحقًا يف العام التايل‪ ،‬قرأت آن‬
‫مقالة يف مجلة باراد أعلنت عن حفلة إهداء شجرة لعائالت الذين ماتوا يف الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ .‬وقد ُدعم هذا الحدث امل ُقام يف مقربة أرلنغتون الوطنية يف ‪ 8‬ديسمرب ‪ 1991‬من‬
‫قبل نو غريرت لوف‪ ،‬وهي منظمة أُسست يف ‪ .1971‬وتقدم تلك املنظمة برامج للذكرى‬
‫شخصا عزي ًزا لها ممن ماتوا يف خدمة الواليات املتحدة‬
‫ً‬ ‫وتقديم الرعاية للعائالت التي فقدت‬

‫‪141‬‬
‫أو إثر عمل إرهايب‪ .‬اتصلت آن بكارميال ال سبادا التابعة لنو غريرت لوف وطلبت منها اإلذن‬
‫لتوزيع بعض املنشورات عن ‪ AWON‬أثناء مراسم االحتفال‪ .‬ومبباركة كارميال‪ ،‬سافرت آن‬
‫إىل واشنطن وقابلت أيتا ًما آخرين ووزعت املنشورات‪ .‬ويف أثناء ذلك االحتفال‪ ،‬قابلت بيتي‬
‫آن ألول مرة‪ .‬وبعد أن نرشت واشنطن بوست مقالة كبرية عن آن وعن جهودها‪ ،‬تحولت‬
‫‪ AWON‬إىل حقيقة بالفعل‪ .‬واليوم‪ ،‬ت م تلك املنظمة أكرث من مثامنائة ع و‪.‬‬
‫رصت متحدثًا معتا ًدا يف االجتامعات السنوية لشبكة أيتام الحرب العاملية الثانية‬
‫األمريكية‪ ،‬بد ًءا من اجتامعها األول‪ .‬وبصفتي طبيب ومحلل نفيس ذو بايف طويل يف دراسة‬
‫الحداد وم اعفاته عىل نطاق واسع‪ ،‬اعتقد أع اء ‪ AWON‬أن بوسعي أن أقدم لهم بعض‬
‫العون‪ .‬ولكن أعظم فائدة من فوائد ‪ AWON‬تكمن يف األع اء الذين يلتقون ببع هم بع ً ا‬
‫ويدركون سويًا تشابه املهام النفسية التي اضطلعوا بها جمي ًعا‪ .‬فقد حكوا قصصهم‬
‫الشخصية وأدركوا أنه‪ ،‬بجانب فقدانهم لوالدهم‪« ،‬فقد» معظمهم أي ً ا أمهات طفولتهم‪ .‬إذ‬
‫تداخلت مرحلة حداد أمهاتهم مع وظائف أمومية محددة‪ .‬وقد أدرك ُت مدى صعوبة أن‬
‫تتكيف أرملة حرب شابة مع الحياة كأم وحيدة يف أربعينيات القرن العرشين‪ .‬إذ تعتربهن‬
‫بعض الشابات املتزوجات تهديدات‪ ،‬أو منافسات لحنان أزواجهن وانجذابهم الجنيس‪ .‬ومل‬
‫تتزوج بعض أرامل الحرب مجد ًدا إىل األبد‪ .‬وبع هم فعل عكس ذلك‪ .‬فقد تزوجن مرة أخرى‬
‫وحاولن أن ميحني أي صلة ملموسة تربطهن بأزواجهن األوائل وعائالت أزواجهن‪ ،‬باستثناء‬
‫األطفال الذين ُعوملوا كأجسام رابطة حية رسية‪ .‬وبالطبع‪ ،‬حرمت جهود محو أي رابط‬
‫ملموس أطفال الزوج األول من أي عالقة ملموسة بآبائهم‪ ،‬ما يجعل هؤالء األطفال يشعرون‬
‫بالحرمان وبالتميز بطريقة غريبة يف ذات الوقت‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫تعرفت‬
‫ُ‬ ‫علمت كم كان شائ ًعا لألرامل الشابات أال يتحدثن عن أزواجهن املتوفني‪ .‬وحني‬
‫الحظت أن أولئك الذين كانوا محظوظني مبا فيه‬
‫ُ‬ ‫عىل الكثري من أع اء ‪ AWON‬كأصدقاء‪،‬‬
‫الكفاية للحصول عىل روابط ملموسة بآبائهم املتوفني كانوا قادرين بصفة عامة أن يتكيفوا‬
‫بشكل أف ل لبيئتهم يف مرحلة البلوغ‪ .‬ويف عدة مناسبات‪ ،‬سألني البعض عام إذا كان يل‬
‫رأي يف األسباب التي جعلت أيتام الحرب العاملية الثانية ينتظرون حتى بلوغهم سن‬
‫الخمسني والستني حتى يكون لديهم مشاعر قوية تجاه بحثهم عن آبائهم وأن يشاركوا‬
‫بنشاط يف تحويل آبائهم الخياليني إىل حقيقة‪ .‬وال أزعم أنني أمتلك إجابة حاسمة لذلك‪،‬‬
‫ولكنني أشتبه يف أن بلوغ أطفال األيتام نفس األعامر التي بلغوها حني قُتل آباؤهم حفّز‬
‫مهمة «البحث عن األب» التي دامت مدى الحياة‪.‬‬
‫عرب أع اء ‪ AWON‬يف مرحلة البلوغ عن مشاركتهم يف تكوين صورة آبائهم الذهنية‬
‫املتخيلة يف العديد من الترصفات املختلفة‪ .‬وبهذه الترصفات‪ ،‬يبحث هؤالء األيتام عن آبائهم‬
‫بصورة رمزية‪ ،‬ثم يعرثون عليهم «بطريقة سحرية»‪ ،‬ثم «يفقدونهم» مجد ًدا‪ ،‬ثم تتكرر تلك‬
‫فمثال‪ ،‬تزوجت بعض النساء برجال يواءمون‪ ،‬داخل عقول هؤالء النساء‬
‫ً‬ ‫الحلقة مرات عدة‪.‬‬
‫الالواعية‪ ،‬صورهم عن آبائهم جي ًدا‪ .‬ويتوقعون من أزواجهن أن يؤدوا املهام التي كان من‬
‫املفرتض خبائهن أن يؤدوها‪ .‬ولكن نظ ًرا إىل أن األزواج ملوثون بالصور الذهنية خباء‬
‫الزوجات‪ ،‬خشيت النساء عن وعي أو دون وعي أي ً ا من أن أزواجهن قد ميوتون فجأة أو‬
‫يرتكوهن‪ .‬وقد شعرت أن بعض هؤالء النساء شعرن دون دراية بأن مامرسة الجنس مع‬
‫أزواجهن هو مبثابة زنا محارم‪ ،‬باملعنى الرمزي‪ .‬وقد أدى ذلك إىل نشوء نزايف أدى بدوره إىل‬
‫الطالق‪ .‬وقد حاول بعض األيتام الذكور جاهدين يف مرحلة البلوغ العيش مع الصور املثالية‬
‫خبائهم املتوفني‪ ،‬يف حني أن البعض اخخر أنقص من قيمة مثل تلك الصور حتى يحقق‬

‫‪143‬‬
‫استقالله الذايت الخاص‪ .‬وان م الكثري من الرجال إىل الجيش كوسيلة للتامهي مع آبائهم‪.‬‬
‫فقد حىك يل والرت عن أنه اشرتك هو وأخوه الصغري يف أنشطة خطرة مثل الطريان وسباق‬
‫قائال‪« :‬قررت منذ الصغر أن أن م إىل الجيش ألنني ظننت أنني مدين‬
‫السيارات‪ .‬وأضاف ً‬
‫بذلك إىل والدي وإىل املحاربني القدامى»‪ .‬ولكن‪ ،‬يف ذات الوقت‪ ،‬قال والرت أي ً ا أنه مل يلق‬
‫باال لصورة والده املتوىف‪ .‬وطور البعض اخخر‪ ،‬عىل خالف والرت‪ ،‬مشاعر قوية مناه ة‬
‫ً‬
‫للحروب‪ ،‬ورمبا يكون ذلك إلنكار وجود خسائر الحروب‪ ،‬مبا فيها موت آبائهم‪ .‬فإذا مل تكن‬
‫الحروب موجودة‪ ،‬فلن ميوت والد طفل يف منطقة حرب‪ .‬وباختصار‪ ،‬ال مفر وال مهرب من‬
‫تأثري الصور الذهنية لآلباء املتوفني املفعمة بالتوقعات املتوهمة‪ ،‬سواء بالنسبة للرجال أو‬
‫النساء‪ .‬وبالطبع‪ ،‬أنا أعمم هنا فقط من أجل إيصال تلك النقطة‪.‬‬
‫كان لدى بعض أيتام الحرب العاملية الثانية أزواج أمهات أو بدائل أبوية أخرى يف‬
‫الصغر‪ .‬إذا كانت العالقة بني الطفل اليتيم وزوج األم مرضية وإذا كان زوج األم قاد ًرا عىل‬
‫مساعدة اليتيم أن يتفاوض بشأن الخوض يف ممرات تنموية محددة‪ ،‬مثل أن مير الطفل‬
‫مبرحلة أوديبية يلعب فيه الوالد وصورته دو ًرا رئيس ًيا‪ ،‬فمن شأن ذلك أن يروض «رحلة‬
‫البحث عن الوالد» هذه‪ .‬أما إذا كانت العالقة بني الطفل وزوج األم‪ ،‬إىل جانب اإلخوة‪ ،‬يشوبها‬
‫النزايف‪ ،‬فسيزداد مدى استثامر اليتيم يف الصورة امل ُشكلة عن الوالد البيولوجي املتوىف‪،‬‬
‫وسريغم الطفل عىل أن يبقي إحساسه بالتميز أكرث رسية بصورة متزايدة‪ .‬وينطوي ذلك‬
‫ُ‬
‫عىل عواقب نفسية مرهقة‪.‬‬
‫أضحى بعض أع اء ‪ ،AWON‬مثل جاك فورجي‪ ،‬عقيد متقاعد يف الجيش األمرييك‪،‬‬
‫باحثني‪ ،‬ورشعوا يف مراجعة ملفات الحكومة‪ ،‬وسجالت املستشفى‪ ،‬وغريها من املستندات‬
‫للعثور عىل إجابات ألسئلة األيتام‪ .‬ومن بني األسئلة الشائعة‪« :‬كيف مات والدي؟»‪« ،‬أين هو‬

‫‪144‬‬
‫رفاته؟»‪« ،‬أمثة شخص ما عىل قيد الحياة حارب مع والدي وعرفه وبوسعه أن يخربين‬
‫عنه؟»‪ .‬أراد أع اء ‪ AWON‬أن يعرفوا حقيقة الظروف التي أحاطت بأيام آبائهم األخرية‪.‬‬
‫ويذكرين ذلك بعمل صديقتي املحللة النفسية نانيس هوالندر مع أقارب املختفني يف أمريكا‬
‫الالتينية‪ .‬فقد وصفت حالة تخص زميلة أرجنتينية ا ُختطف ابنها خالل حكم بينوشيه‪،‬‬
‫وتعرض للتعذيب‪ ،‬ثم قُتل‪ .‬وبعدها بعدة أعوام اكتشفت تلك املرأة تفاصيل ما حدث البنها‪،‬‬
‫وعلقت قائلةً‪« :‬إن معرفة الحقيقة‪ ،‬رغم تفاصيلها املروعة‪ ،‬منحني قد ًرا من السالم‪ ...‬وقد‬
‫أخربتني أمهات املختفني قرسيًا عن كم أنا محظوظة‪ .‬وكان حظي) هو أنني علمت أنهم‬
‫قتلوا ابني برشاش آيل‪ .‬قالت يل األمهات أنهم يتمنون لو كانوا يف مكاين‪ .‬هنا تكمن أهمية‬
‫‪88‬‬
‫الحقيقة‪ ،‬أهمية املعرفة»‪.‬‬
‫رشيف أع اء ‪ AWON‬يف العمل جاهدين‪ ،‬بعد خمسني عا ًما من نهاية الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ ،‬فرديًا وجامع ًيا‪ ،‬عىل تحويل صور آبائهم إىل حقيقية‪ .‬ويف اجتامعاتهم السنوية‬
‫قسموا أنفسهم إىل جامعات صغرية وقارنوا قصص موت أو اختفاء آبائهم‪ .‬فقد أسقطت‬
‫النريان طائرة كان يحلقها أحد اخباء فوق فرنسا‪ ،‬بينام تعرض آخر للقصف وأٌلقي به يف‬
‫ريا عن اليابان ومن املرجح أن أسامك القرش قد التهمته‪ .‬وقد‬
‫البحر يف مكان ال يبعد كث ً‬
‫سافرت رئيسة مجلس اإلدارة الحايل ملنظمة ‪ ،AWON‬باتريشا غافني كينديغ‪ ،‬آالف األميال‬
‫لبابوا نيو غينيا حتى تعرث عىل طائرة والدها املفقودة يف أدغال جبلية غري صالحة للسكن‪.‬‬
‫حددت بقايا والدها من سجالت األسنان التي‬
‫وقد ا ُكتشف موقع الحطام يف النهاية و ُ‬
‫احتفظت بها باتريشا‪ .‬واصطحبت بقايا والدها إىل ويسكونسن من أجل مراسم الجنازة‪ ،‬ثم‬
‫إىل مقربة أرلنغتون الوطنية للدفن‪ .‬وقد زار العديد من األيتام مقابر جيش الواليات املتحدة‬
‫يف بلدان مختلفة من أجل زيارة مقابر آبائهم‪ .‬وتعاون مسؤولو حكومة الواليات املتحدة‬
‫عىل أتم وجه مع أع اء ‪ AWON‬يف بحثهم‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫وبرزت العديد من االكتشافات املؤثرة عىل السطح‪ .‬فقد عرف سام تاننباوم أن والده‬
‫قُتل يف معركة الثغرة بالقرب من أوترا‪ ،‬بلجيكا‪ .‬ولكن ما مل يكن يعرفه هو أن توين فاكارو‪،‬‬
‫جندي صار صديقًا لوالده حني كانا يخدمان يف فوج املشاة رقم ‪ ،331‬التقط صو ًرا لجسده‬
‫امليت راق ًدا يف الثلج يف يناير ‪ .1945‬وأضحت تلك الصورة معروفة للغاية و ُعرضت يف‬
‫مناطق عديدة من العامل‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لقد رأيتها أنا وبيتي يف إحدى املرات يف لندن يف‬
‫ريا‪ ،‬مل يكن يعلم حتى‬
‫معرض يحتفل بذكرى إنزال نورماندي السنوية‪ .‬وحني كان سام صغ ً‬
‫أين ُدفن والده‪ .‬ومن خالل ‪ AWON‬انتهى به املطاف مبقابلة رجل من لوكسمبورغ يُدعى‬
‫جيم شيلتز‪ ،‬وحصل منه سام عىل طرف الخيط الذي كان يف حاجة إليه ليعلم املزيد عن‬
‫والده‪ .‬وجه شيلتز سام إىل كتاب بعنوان لوكسمبورغ ‪ 1945–1935‬كتبه توين فاكارو‪.‬‬
‫وقد أدى ذلك إىل املقابلة املؤثرة بني سام وتوين‪ .‬وات ح أن توين كان دامئًا يتساءل عن‬
‫ابن صديقه املتوىف‪ ،‬ومتنى لو يتمكن من التواصل معه‪ .‬واكتشف سام أن والده ُدفن يف‬
‫كوينز‪ ،‬نيويورك‪ .‬ويف إحدى الزيارات التي رافقته فيها زوجته ريتشيل إىل قرب والده‪ ،‬كان‬
‫توين معهام أي ً ا‪ .‬ويف يونيو ‪ ،2002‬ان م توين إىل سام وريتشيل يف إقامة نصب‬
‫تذكاري لوالد سام يف البقعة التي قُتل فيها والده يف املعركة منذ خمسني عا ًما‪ .‬وقد حض‬
‫االحتفال أكرث من ثالمثائة فرد من الواليات املتحدة‪ ،‬وبلجيكا‪ ،‬ولوكسمبورغ‪ ،‬وأملانيا‪،‬‬
‫وفرنسا‪ ،‬وهولندا‪.‬‬
‫وفور ساميف أع اء ‪ AWON‬بقصص مثل قصة سام‪ ،‬فرت الدمويف من أعينهم يف أول‬
‫اجتاميف سنوي للمنظمة‪ .‬ومع مرور السنني‪ ،‬إىل حد مالحظتي‪ ،‬أضحى األع اء مشاركني‬
‫يف عملية حداد أكرث صم ًتا من الحداد الذي مير به البالغون يف العادة إثر فقدان شخص‬
‫فمثال‪،‬‬
‫عزيز لهم‪ .‬ويف غ ون ذلك‪ ،‬شقت قصص عديدة من قصصهم طريقها إىل اإلعالم‪ً 89.‬‬
‫حني كتب مذيع أخبار إن يب يس السابق توم بروكاو مقالة الجيل األعظم يتحدث‪ :‬خطابات‬
‫وتأمالت‪ 90،‬أضاف إليها قصة باتريشا غافني كينديغ باإلضافة إىل قصة ع و ‪ AWON‬آن‬

‫‪146‬‬
‫مولوين بالك التي ُولدت بعد وفاة والدها ومل تتزوج أمها مر ًة أخرى‪ ،‬وماتت يف التسعينات‬
‫من عمرها‪.‬‬
‫وقامت زوجتي بيتي باكتشافها الخاص يف محاولة معرفة املزيد عن والدها‪ .‬ففي‬
‫أغسطس ‪ 2002‬سافرت معي إىل بولونيا‪ ،‬إيطاليا حيث ألقيت محارضة‪ .‬وتقع عىل مشارف‬
‫بولونيا بلدة صغرية تُدعى ليفرنيانو‪ .‬ويف ضواحي تلك البلدة بالتحديد أُصيب والد بيتي‪،‬‬
‫جورما بالونني‪ ،‬بنريان النازيني حني حاول األمريكيون تحريرها‪ .‬وبف ل أبحاث جاك‬
‫جرح عليه والد بيتي‪ .‬وقد علمنا‬
‫فورجي كان بحوزتنا خريطة عسكرية وصورة للتل الذي ُ‬
‫ريا عن امتنانهم لألمريكيني الذين‬‫متثاال لجندي أمرييك تعب ً‬
‫ً‬ ‫أي ً ا أن أهل البلدة أقاموا‬
‫أنقذوهم‪ .‬ويف أحد األيام املمطرة سنحت لنا الفرصة للسفر بالحافلة إىل ليفرنيانو وأجرينا‬
‫محادثة مع نادلة متحدثة باإلنجليزية يف مقهى بالقرب من محطة الحافالت‪ .‬وقلنا لها أننا‬
‫راغبون يف زيارة التمثال‪ .‬ونظ ًرا لعدم وجود سيارات أجرة يف البلدة‪ ،‬أخربتنا النادلة أن‬
‫علينا أن نسري ميلني لنهاية البلدة األخرى حتى نراه‪ .‬وأخربتنا أي ً ا عن أومبريتو مانياين‪،‬‬
‫ريا بتاريخ تحرير ليفرنيانو خالل الحرب العاملية الثانية‪ .‬وكان‬
‫كهربايئ البلدة الذي كان خب ً‬
‫لدى أومبريتو‪ ،‬عىل حد فهمنا‪ ،‬متحف صغري احتفظ فيه بأشياء متعلقة بالحرب‪ ،‬ومقاالت‬
‫أخبار‪ ،‬وصور‪ .‬وقالت إنها عىل استعداد لإلجابة عن أي أسئلة عن الحرب إذا أردنا ذلك؟‬
‫وحاولت أن تتصل به عرب الهاتف‪ ،‬لكنه مل يرد‪ .‬وبسبب األمطار‪ ،‬ارتأينا أن نؤجل مسريتنا‬
‫إىل التمثال نصف ساعة تقري ًبا ونحتيس كوبًا آخر من الكابتشينو‪ .‬وات ح أن ذلك كان قرا ًرا‬
‫مصرييًا‪ ،‬ذلك أن بقاءنا لفرتة أطول يف املقهى جعل مقابلة أومبريتو أم ًرا ممك ًنا‪.‬‬
‫حني كنا ننتظر توقف األمطار‪ ،‬اتصلت النادلة بأومبريتو مر ًة أخرى‪ .‬ويف تلك املرة‬
‫أجاب عليها‪ .‬وبعد ب ع دقائق جاء إىل املقهى‪ .‬وعرض علينا أومبريتو‪ ،‬الذي مل يكن يتحدث‬
‫باإلنجليزية‪ ،‬أن يقودنا بسيارته إىل التمثال‪ .‬ومل نكن نتوقع أن نفعل أي يشء سوى أن نقف‬
‫بجوار التمثال ونلتقط ب ع صور ونلقي نظرة عىل التالل املغطاة باألشجار املحيطة‬
‫باملنطقة لرنى إن كان أي منها يشبه التل يف الصورة التي أعطانا إياها جاك‪ .‬وحني وصلنا‬

‫‪147‬‬
‫إىل التمثال توقفت األمطار‪ .‬ونزلنا أنا وبيتي من سيارة أومبريتو وأخذنا وقتنا يف البحث‬
‫بينام جلس أومبريتو يف مقعد القيادة‪ .‬وفجأة‪ ،‬أخرج أومبريتو رأسه من النافذة وسأل بيتي‬
‫عن اسم والدها‪ .‬فأخربته بيتي بذلك‪ ،‬وتفاجأنا بأن االسم بدا مألوفًا له‪ .‬ثم خرج من سيارته‬
‫وطلب من بيتي أن تكتبه‪ .‬وبعد أن وجدت قطعة من الورق وقلم كتبت بيتي «بالونني»‪.‬‬
‫قائال‪« :‬قربة بالونني! قربة‬
‫ً‬ ‫وحني رأى أومبريتو ذلك‪ ،‬أشار برسعة إىل صدره وصاح‬
‫بالونني!»‪ .‬واستغرقنا دقيقة أو اثتنني حتى ندرك أن أومبريتو احتفظ بقربة والد بيتي يف‬
‫متحفه الصغري‪ .‬ويف تلك اللحظة املفاجئة أجهشت بيتي بالبكاء‪ ،‬واغرورقت عيناي بالدمويف‬
‫أنا أي ً ا‪ .‬وبدأ أومبريتو يعاملنا كام لو كنا أقاربه املقربني‪ .‬ونظر إىل صورة جاك وخريطة‬
‫التل ثم قادنا فو ًرا إىل املكان الذي أُصيب فيه جورما‪.‬‬
‫كان هناك ثالثة خنادق حاول جنود الواليات املتحدة أن يختبئوا ويحتموا من نريان‬
‫النازيني املصوبة من أرض مرتفعة فيها‪ .‬وما أدهشنا هو ما رأيناه وملسناه‪ ،‬بعد مرور مثانية‬
‫وخمسني عا ًما‪ :‬مفرقعات متحجرة حملها جورما ورفاقه معهم يف تلك املهمة‪ .‬وكان املكان‬
‫ال يزال تغطيه الشظايا واألسالك الكهربية وغريها من أشياء الحرب‪ .‬كنا نعلم أنه بعد أن‬
‫أُصيب جورما مل يكن باإلمكان نقله إىل أسفل التل يف التو واللحظة‪ .‬وأفادت أبحاث بيتي‬
‫األولية أن املسعفني استغرقوا اثنتي عرشة ساعة يف نقل والدها املصاب بجروح خطرية بعي ًدا‬
‫عن الخطوط األمامية‪ .‬ويف النهاية نُقل إىل مستشفى عسكرية يف فلورنسا حيث مات بعدها‬
‫بأكرث من شهر‪ .‬وللمرء أن يتخيل كيف تُركت قربته خلفه حني نُقل خارج هذا املكان‪.‬‬
‫وحني قادنا أومبريتو بسيارته إىل املتحف‪ ،‬بدأت األمطار تهطل مجد ًدا‪ ،‬وبشدة هذا‬
‫املرة‪ .‬ومل يكن هذا املتحف أكرث من منطقة تخزين تحتوي عىل علم أمرييك قديم‪ ،‬وكتب‪،‬‬
‫وأوراق‪ ،‬ومعدات اتصال‪ ،‬وخوذ‪ ،‬وأزياء رسمية‪ ،‬وحاوية كبرية احتفظ فيها أومبريتو بعرشة‬
‫ِق َرب‪ .‬ومل تكن أسامء الجنود مطبوعة عىل ال ِقرب التي يصدرها جيش الواليات املتحدة‪ ،‬ولذا‬
‫تسعة منها كانوا غري مميزين عىل اإلطالق‪ .‬ولكن جورما متكن من كتابة اسمه األخري والعام‬
‫والبلد الذي كان يحارب فيه من خالل سلسلة من االنبعاجات الصغرية عىل القربة – بواسطة‬

‫‪148‬‬
‫رصاصة عىل األرجح‪« :‬بالونني‪ ،44 ،‬إيطاليا»‪ .‬وقد خدش عليها أي ً ا كلمة «ماس» اختصا ًرا‬
‫ملاساتشوستس‪ ،‬واليته األصلية‪ ،‬ورشيف يف تسنني الخط األول من الحرف ‪ M‬قبل أن «يُصاب‬
‫بجروح خطرية»‪ ،‬كام قيل يف أحد السجالت العسكرية‪ .‬وحني حملت بيتي القربة ألول مرة‬
‫عانقتها‪.‬‬
‫لن ننىس أب ًدا طيبة أومبريتو التي سمحت له بإعطاء القربة لبيتي‪ .‬وهي اخن تقف‬
‫رجال حقيق ًيا‬
‫عىل طاولة تحت لوحة جورما يف بيتنا كيشء ميثل حقيقة أن جورما كان ً‬
‫بالفعل‪ ،‬وقد حارب هذا الرجل النازيني‪ ،‬وقُتل‪ .‬وقربته هي تذكار بيتي الخاص لوالدها‪.‬‬
‫وإبان سامعها قصة بيتي‪ ،‬كتبت سام رسالة لها وأشارت إىل الجسم الرابط الجديد هذا يف‬
‫حياتها واصفة إياه بأنه جاء «من شفتي أباك إىل قلبك»‪.‬‬
‫تخربنا قصص أع اء ‪ AWON‬أنه حني تنتهي الحرب قانونيًا أو حني تختفي ظروف‬
‫الحرب‪ ،‬يستمر رضره النفيس أو تأثريه عىل األفراد عىل األقل‪ ،‬حتى يف أفراد الجيل التايل‪.‬‬
‫فقد اضطر أع اء ‪ ،AWON‬عىل غرار عائالت املختفني قرسيًا يف أمريكا الالتينية‪ ،‬وأمهات‬
‫األبناء والبنات املفقودين يف كرواتيا عقب انهيار يوغوسالفيا السابقة‪ ،‬واملهجرين داخليًا‬
‫يف جورجيا وجنوب أوسيتيا‪ ،‬إىل التمسك بأجسام رابطة –وحتى خلقها– واستعاملها‬
‫لتأجيل عمليات الحداد حتى تبدأ يف تاريخ الحق‪ .‬وأنا متأكد عائالت ضحايا مأساة ‪11‬‬
‫سبتمرب وحروب العراق وأفغانستان يف الواليات املتحدة مشغولون بفعل نفس اليشء‪ .‬وأنا‬
‫متأكد أي ً ا أن عائالت ضحايا القصف اإلرهايب يف مدريد‪ ،‬والدار البي اء‪ ،‬وإسطنبول‪،‬‬
‫ومومباسا‪ ،‬وطابا‪ ،‬ولندن وغريها من األماكن سيعانون من صعوبة الحداد ألجيال قادمة‪.‬‬
‫فاألشخاص الذين تعرضوا لصدمة وأطفالهم يتحملون نفس املهام النفسية‪ ،‬حتى وإن كانت‬
‫لدينا نزعة إنسانية بعدم االكرتاث عاطف ًيا بشأن مآيس الناس يف أماكن بعيدة عنا‪.‬‬
‫كام وصفت يف الفصل السابق‪ ،‬ال بد ملجتمع أن يخ ع لعمليات محددة عقب خوضه‬
‫حربًا أو صدمة شبيهة بالحرب حتى يتكيف مع الواقع الجديد‪ .‬وتنطوي إحدى تلك العمليات‬
‫عىل إنشاء النصب التذكارية العامة‪ ،‬وهي معامل تذكارية تؤدي غرض جسم رابط مشرتك‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫ويف هذا الكتاب‪ ،‬سأتبع تعريف «نصب تذكاري» و«معلم تذكاري» الذي قدمه جيمس يونغ‪،‬‬
‫الذي لخص مكان النصب واملعامل التذكارية يف الثقافة املعارصة‪ .‬وقال‪« :‬أنا أعامل كل مواقع‬
‫الذكرى معاملة النصب التذكارية‪ ،‬واألجسام التشكيلية داخل تلك املواقع هي املعامل‪ .‬قد يكون‬
‫معلام‪ .‬ولكن املعلم من‬
‫ً‬ ‫النصب التذكاري يو ًما‪ ،‬أو مؤمت ًرا‪ ،‬أو مكانًا‪ ،‬ولكن ال يلزم أن يكون‬
‫الناحية األخرى هو دامئًا نويف من أنوايف النصب التذكارية»‪ 91.‬ويجادل جيفري كارل‬
‫قائال‪« :‬نود لو نبقي املوىت أحياء‬
‫أوشسرن‪ ،‬أستاذ العامرة يف جامعة واشنطن يف سياتل‪ً ،‬‬
‫يف الذاكرة –أحياء كام تُعاش الحياة وكام نشعر بها‪ ،‬ال يف العمل فقط‪ ،‬بل يف التفاعل‬
‫اإلنساين‪ .‬وتكمن الصعوبة يف أن الذكريات تتالىش مع مرور الزمن‪ .‬ونحن نسعى إىل صنع‬
‫تذكارات –سجل أبدي عام يف هيئة املعامل والنصب التذكارية– متثل رموزًا ألولئك الذين‬
‫رحلوا من قبل أو األحداث التي شاركوا فيها) حتى يظلوا أحياء يف الذاكرة»‪ 92.‬ويستطرد‬
‫أوشسرن كالمه مذك ًرا إيانا بأنه حني نقرر إقامة شواهد القبور واملعامل من أجل تخليد ذكرى‬
‫حياة املوىت‪:‬‬
‫نحن ال نعتزم بناء األجسام الرابطة‪ ،‬ولكن األجسام التي نصنعها‬
‫بالفعل تخدمنا بهذه الطريقة بوضوح‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ال يستلزم الدور‬
‫الذي تلعبه األجسام الرابطة أن تكون أجسا ًما مخلوقة عم ًدا‬
‫لتأدية هذا الغرض رغم أن األمر قد يكون كذلك) أو أن تكون‬
‫أجسا ًما شاركناها شخص ًيا مع من نتذكره ومجد ًدا‪ ،‬قد يكون‬
‫األمر كذلك)‪ .‬وبوسع األجسام األخرى أن تؤدي هذا الدور أي ً ا‬
‫طاملا أن لديها «املساحة» الكافية للسامح بحدوث ظاهرة اإلسقاط‬
‫النفسية‪ .‬إن تلك املساحة وعدم االكتامل املتأصل يف الجسم‬
‫‪93‬‬
‫الرابط هو ما نشعر به بقوة كمساحة من الفراغ‪.‬‬
‫مثاال قويًا لتوضيح الكيفية التي تتمكن بها «األجسام األخرى» من تأدية‬
‫وهنا يقدم ً‬
‫ريا يف متحف الهولوكوست يف‬
‫دور األجسام الرابطة‪ .‬ويقول إن من بني أكرث التجارب تأث ً‬
‫‪150‬‬
‫حصدت» من أشخاص عىل وشك أن‬
‫الواليات املتحدة مجموعة من األجسام العادية التي « ُ‬
‫يُقتلوا‪ ،‬ومن بينها أحذية وفرش شعر وفرش أسنان ومقصات‪ .‬وكتب‪« :‬تبدو املسافة والزمن‬
‫الفاصالن بني تلك األشياء وأصحابها وبني األشياء املامثلة التي نتملكها وأنفسنا قصريين‪.‬‬
‫وبوسعها أن تكون مواقع لإلسقاط أجسام رابطة)‪ ،‬ومن خاللها بوسعنا أن نخوض أو‬
‫‪94‬‬
‫اتصاال وثيقًا باإلحساس بحياة أولئك الذين ماتوا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫نسقط)‬
‫لقد جعلتنا قربة جورما نشعر بعطش جورما وإنسانيته‪ .‬أخذت بيتي القربة معها‬
‫حني ان م كالنا إىل أكرث من ثالمثائة ع و يف ‪ AWON‬للمشاركة يف حفل إهداء نصب‬
‫الحرب العاملية الثانية التذكاري الذي ترأسه الرئيس جورج دبليو‪ .‬بوش‪ .‬وقبل اإلهداء‪ ،‬تحدث‬
‫بوب دول يف املؤمتر‪ ،‬وهو محارب قديم يف الحرب العاملية الثانية خدم يف فرقة الجبال‬
‫العارشة التي كان والد آن ميكس فر ًدا فيها أي ً ا‪.‬‬
‫لعبت آن وأع اء ‪ AWON‬اخخرين دو ًرا يف تصميم نصب الحرب العاملية الثانية‬
‫التذكاري‪ .‬فقد أدركت آن مبك ًرا أن صانعي هذا النصب التذكاري أرادوا بناء نصبًا تذكاريًا‬
‫خبائهم أو للمحاربني القدامى‪ ،‬ولكن ليس ألولئك الذين ماتوا أو لعائالتهم‪ .‬وشعرت أن أولئك‬
‫«خاصا» بهم‪ .‬ونتيجة لذلك‪،‬‬
‫ً‬ ‫معلام‬
‫ً‬ ‫املسؤولني عن اختيار تصميم النصب التذكاري أرادوا بناء‬
‫ضغطت آن بشدة من أجل إدراج أسامء املوىت يف النصب التذكاري‪ .‬وحني وجدت أن هذا‬
‫االقرتاح قُوبل باملقاومة‪ ،‬جاءت بفكرة استخدام النجوم لتمثيل املوىت‪ .‬وبف ل جهودها‬
‫ُوضعت ‪ 4,000‬نجمة ذهبية عىل سور الحرية املحيط مبسبح قوس القزح الخاص بالنصب‬
‫جندي أمرييك قُتل يف الحرب‪ .‬ولذا‪ ،‬شعر أع اء ‪AWON‬‬
‫التذكاري‪ .‬وكل نجمة متثل مائة ُ‬
‫مبلكية خاصة لتلك النجوم‪ ،‬ورؤية النجوم جعلتهم يشعرون باتصال وثيق ببقية النصب‬
‫التذكاري‪ .‬وقرر األيتام أي ً ا أن يحملوا نجو ًما ذهبية عىل ورق مقوى يف حفل االفتتاح‬
‫ولوحوها باستمرار أثناء حديث الرئيس بوش وغريه‪ .‬وكان من الواضح أنه مبجرد افتتاحه‪،‬‬
‫جسام رابطًا مشرتكًا‬
‫ً‬ ‫أضحى نصب الحرب العاملية الثانية التذكاري‪ ،‬وال سيام النجوم‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫جسام رابطًا مشرتكًا خالف األمريكيني‬
‫ً‬ ‫ألع اء ‪ .AWON‬ورسعات ما الحظت أنه أضحى‬
‫اخخرين‪.‬‬
‫وقيل للعامة أال يرتكوا تذكارات يف موقع نصب الحرب العاملية الثانية التذكاري‪ ،‬ولكن‬
‫بحلول اليوم التايل‪ ،‬تُركت مئات األشياء‪ ،‬من صور وخطابات إىل ميداليات وأزهار‪ ،‬هناك‪،‬‬
‫للتعبري عن روابط الزوار العاطفية بالنصب التذكاري‪ .‬واتخذ املسؤولون الذين قرروا تجميع‬
‫مدروسا من ناحية نفسية وأعلنوا أنهم سي عون األشياء املرتوكة يف‬
‫ً‬ ‫تلك األشياء قرا ًرا‬
‫مخزن‪ ،‬ما يرمز إىل الحفاظ عىل الروابط الفردية لجسم رابط مركزي مشرتك‪ .‬ونفس اليشء‬
‫يحدث مع األشياء املادية التي كانت وال تزال تُرتك يف نصب قدامى حرب فيتنام التذكاري‬
‫املجاور‪.‬‬
‫اتصاال وثيقًا مبجموعة من الحزاىن ويؤدي دور‬
‫ً‬ ‫متصال‬
‫ً‬ ‫حني يغدو نصبًا تذكاريًا‬
‫التمثيل الذهني ال لخسارة أرواح خاصة بفرد بعينه وحسب‪ ،‬بل لخسارة جامعية مشرتكة‪،‬‬
‫فهو يصبح «حيًا»‪ ،‬ولن «ميوت» إال حني يتالىش التمثيل الذهني مل فُقد بعد عقود أو قرون‬
‫تالية‪ .‬وطاملا يظل النصب التذكاري «حيًا»‪ ،‬فستكشف لنا الطريقة التي تواجهها بها‬
‫املجموعة الكثري عن تلك املجموعة – وستعلمنا الكثري عن ظواهر خاصة مبجموعات كبرية‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫«أماكن ساخنة»‪ ،‬نصب تذكارية‪ ،‬اعتذارات‪ ،‬ومغفرة‬ ‫‪8‬‬

‫بوسعنا أن نجد نقاط التقاء القوى النفسية واالجتامعية والتاريخية والسياسية حولنا يف‬
‫كل مكان‪ ،‬والدالئل املهمة عىل ت افرها ليست مسترتة أو محجوبة أو طي الكتامن دامئًا‪.‬‬
‫أجل‪ ،‬علينا يف بعض األحيان أن نجتهد لنعرث عليها ونرى األمور بوضوح أكرث‪ ،‬كام يف حالة‬
‫كلب دايل الثاين تشاريل‪ ،‬وقربة والد بيتي‪ ،‬والبطانيات التي اختار قبارصة األتراك أن‬
‫يحرقوها رغم أن الشتاء كان قاد ًما‪ .‬ولكن يف حاالت أخرى نجد الدالئل أمامنا متا ًما كلوحة‬
‫إعالنات ضخمة‪ .‬وأنا أدعو تلك «األماكن الساخنة»‪.‬‬
‫املكان الساخن هو مصطلح استعمله لوصف موقع مادي يحفز أو يعيد تحفيز)‬
‫مشاعر قوية بني أفراد جامعة إثنية أو أي جامعة كبرية أخرى‪ ،‬سواء عىل املستوى الفردي‬
‫أو الجامعي‪ .‬وهو يف العادة مكان قُتل فيه أشخاص أو تعرضوا لإلهانة مؤخ ًرا‪ .‬وتحظى‬
‫بعض األماكن الساخنة بأهمية تاريخية قامئة منذ زمن طويل‪ ،‬وقد يكون بع ها معامل‬
‫تذكرنا عم ًدا بحدث معني‪ ،‬وبع ها يتشكل بطريقة أكرث عشوائية حني تشعر جامعة كبرية‬
‫بتهديد لهويتها‪ .‬ولكن كل املعامل تحفز مشاعر مشرتكة نشطة أو سلبية تنطوي عىل الحزن‪،‬‬
‫والغ ب‪ ،‬واالضطهاد‪ ،‬والرغبة يف االضطهاد‪ ،‬واملشاعر األخرى املقرتنة بالفجيعة أو الحداد‬
‫عىل نحو معقد‪.‬‬
‫مل يكن من الصعب العثور عىل أماكن ساخنة وقت تفكك االتحاد السوفيتي – إذ أن‬
‫تلك الفرتة‪ ،‬رغم كل يشء‪ ،‬كانت فرتة «ساخنة» للغاية‪ .‬ويف زيارايت العديدة إىل التفيا‪،‬‬
‫التقيت ببع ها‪ ،‬عم ًدا يف بعض‬
‫ُ‬ ‫وليتوانيا‪ ،‬وإستونيا يف مطلع تسعينيات القرن العرشين‪،‬‬
‫فمثال‪ ،‬قتل الجنود السوفييت جامعة من‬
‫ً‬ ‫‪95‬‬
‫األحيان وعن غري عمد يف أحيان أخرى‪.‬‬
‫الليتوانيني الذين تظاهروا من أجل االستقالل يف فيلنيوس‪ ،‬العاصمة‪ .‬وقد م ّيز الليتوانيون‬
‫هذا املوقع بإقامة صلبان طولها يرتاوح بني خمسة وستة أقدام متثل أبناء وطنهم الذين‬
‫ضحوا بحياتهم‪ .‬وهذا املكان ساخن وقد أُقيم بالفعل لتقوية وحامية مشاعر الجامعة الكبرية‬

‫‪153‬‬
‫املشرتكة‪ .‬وعقب انفصال التفيا من االتحاد السوفيتي‪ ،‬تحولت مقربة التفيا الوطنية –مقربة‬
‫اإلخوة يف السالح– أي ً ا إىل مكان ساخن حني أراد الالتفيون أن يزيلوا ما يقرب من مائتي‬
‫ضابط وقائد عسكري سوفيتي ممن ُدفنوا هناك‪ .‬وقد قُتل هؤالء الجنود يف الحرب العاملية‬
‫الثانية حني استوىل الجيش األحمر تحت قيادة ستالني عىل التفيا من سيطرة النازيني‪.‬‬
‫ولكن الالتفيني اعتربوهم من الروس واألجانب – األعداء‪ .‬وأراد الالتفيون أن ينبشوا قبور‬
‫هؤالء الجنود من أجل «تطهري» املقربة من «اخخرين» غري املرغوبني فيهم‪ ،‬وذلك رغم أن‬
‫‪96‬‬
‫هؤالء «اخخرين» مل يشكلوا تهدي ًدا وقد ماتوا منذ أكرث من خمسني عا ًما‪.‬‬
‫حني كنت أعمل أنا وزماليئ من مركز دراسة العقل والتفاعل اإلنساين ‪)CSMHI‬‬
‫يف جمهوريات البلطيق يف مطلع تسعينيات القرن العرشين ومنتصفها‪ ،‬أدركنا أنه إذا أخذنا‬
‫جامعة متأثرة إىل مكان ساخن‪ ،‬فرسعان ما يصريون متحدثني باسم جامعتهم‬ ‫ممث‬
‫الكبرية‪ .‬ويرشعون يف التعبري بحامس شديد عن مشاعر جامعتهم تجاه العدو‪ ،‬واإلشارة إىل‬
‫التوقعات املستقبلية الواقعية أو املتخيلة عن هؤالء «اخخرين»‪ ،‬والتحدث عن معتقداتهم‬
‫رؤى قيمة عىل نحو ثابت‪ .‬ويف‬
‫ً‬ ‫السحرية املشرتكة املقرتنة بعالقتهم بالعدو‪ .‬وقد جمعنا‬
‫بعض املناسبات أخذ فريق ‪ CSMHI‬ممث كل جانب من جانبي النزايف إىل مكان ساخن‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬متكنا من أخذ الالتفيني‪ ،‬باإلضافة إىل الروس الذين يعتربهم الالتفيون اإلثنيون‬
‫ً‬
‫كال من اإلستونيني‬
‫«معتدين»‪ ،‬إىل املقربة الالتفية الوطنية يف ريغا‪ .‬وعىل غرار ذلك‪ ،‬أخذنا ً‬
‫والروس عم ًدا إىل بالديسيك‪ ،‬وهي قاعدة بحرية سوفيتية ضخمة كانت ت م أسطوالً من‬
‫وكل من بالديسيك والقاعدة العسكرية السوفيتية يف بارنو كانت‬
‫ٌ‬ ‫الغواصات النووية‪.‬‬
‫أماكن محرمة عىل املواطنني اإلستونيني ولذا كانت مصادر للخوف واإلهانة لنسبة كبرية من‬
‫السكان‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬أضحت هاتان القاعدتان أماكن ساخنة بعدما استعادت إستونيا‬
‫‪97‬‬
‫استقاللها)‪.‬‬
‫وتخربنا التعليقات املعرب عنها يف مثل تلك الزيارات عن نظم املعتقدات املشرتكة‬
‫الواعية وغري الواعية لكل جانب من الجانبني ومخاوف الجامعة التي لوثت وعرقلت التواصل‬

‫‪154‬‬
‫الفعال واملفاوضات السلمية يف العادة‪ .‬وحني أحضنا املمثلني املت ادين م ًعا من أجل‬
‫محاورات حقيقية ومحادثات دبلوماسية غري رسمية‪ ،‬متكنا من التعامل بشكل أف ل مع‬
‫فمثال‪ ،‬يف‬
‫ً‬ ‫نوبات االحتدام العاطفية واملقاومات العنيدة التي أحبطت النقاشات الواقعية‪.‬‬
‫بالديسيك‪ ،‬أضحت التخيالت املشرتكة لإلستونيني التي تخص تاريخهم مرئية‪ .‬إذ نظ ًرا إىل‬
‫أنهم عاشوا يف ظل حكم «اخخرين» لقرون‪ ،‬كانوا خائفني من أن يُبتعلوا ويصبحوا يف طي‬
‫النسيان بعد حصولهم عىل االستقالل‪ .‬ولتلك التخيالت املشرتكة انعكاسات مجتمعية‬
‫وسياسية‪ .‬وترتب عىل ذلك أننا‪ ،‬خالل املفاوضات غري الرسمية التالية مع الروس‪ ،‬لفتنا انتباه‬
‫املفوضني اإلستونيني إىل تلك التخيالت وساعدناهم عىل تخطيها‪ .‬وقبل ذلك كتبت أن زيارة‬
‫األماكن الساخنة‪ ،‬من نواح عديدة‪« ،‬ميثل بالنسبة لسيكولوجيا الجامعات الكبرية ما ميثله‬
‫رشا‬
‫تذكر األحالم بالنسبة إىل فرد يخ ع للتحليل النفيس‪ .‬فكالهام يوفران طريقًا مبا ً‬
‫للنواحي الخفية والرمزية للبيئة السيكولوجية‪ .‬ومن خالل إح ار أفراد الجامعات املت ادة‬
‫إىل مواقع مترشبة بأهمية مأساوية‪ ،‬بوسع املرء يف أغلب األحيان أن يظهر ما يتشبث به‬
‫‪98‬‬
‫الناس بعمق من أماين ومشاعر ووجدان وأحكام كانت لتظل مخفية لوال ذلك»‪.‬‬
‫وتتطور األماكن الساخنة يف أغلب األحيان إىل نصب تذكارية حقيقية حيث يُقام فيها‬
‫معامل تذكارية للتذكري مبحنة الجامعة وخسائرها‪ .‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬تؤدي بعض النصب‬
‫التذكارية‪ ،‬حني تُبنى ألول مرة عىل األقل‪ ،‬دور األماكن الساخنة‪ .‬ومن املؤكد أن «الطابق‬
‫األريض» الذي وقف عليه برجا التجارة العاملية يف مدينة نيويورك قبل ‪ 11‬سبتمرب ‪2001‬‬
‫مكان ساخن‪ .‬ويف حفل التأبني الذي أُقيم هناك يف ‪ 28‬أكتوبر ‪ ،2001‬تلقى أفراد عائلة‬
‫ال حايا قوارير خشبية تحتوي عىل تراب وغبار ورماد من املوقع‪ .‬وكان املعنى الذي تحمله‬
‫تلك القوارير واض ًحا‪ ،‬إذ أن الرماد ميثل األحباء الذين هلكوا رمزيًا‪ ،‬إن مل يكن حرف ًيا‪.‬‬
‫وسيحظى أفراد العائلة بقطعة من أحبائهم حتى إذا مل يكن ميكن لهم اسرتدادها‪ .‬ومن خالل‬
‫ذلك سريبطون أنفسهم نفس ًيا مبن فقدوهم‪ .‬وال أعرف شخص ًيا ما الذي فعله أفراد العائلة‬
‫بقواريرهم‪ ،‬ولكني أشتبه يف أن معظمها أصبحت أجسا ًما رابطة‪ .‬وبعد انتهاء تلك املراسم‬

‫‪155‬‬
‫بوقت قصري‪ ،‬بدأت املناقشات يف العلن ويف اإلعالم عن إقامة نصب تذكاري –جسم رابط‬
‫مشرتك– يف الطابق األريض‪ .‬أينبغي أن يُرتك جزء من املنطقة املدمرة كنصب تذكاري؟‬
‫أينبغي خلق صورة من الربجني بأشعة من ال وء تنبعث من األرض إىل السامء؟ يف ربيع‬
‫‪ 2005‬أفادنا اإلعالم بأن إعادة إنشاء الطابق األريض وقعت يف أوقات مؤملة نظ ًرا إىل‬
‫االعتبارات االقتصادية والسياسية‪ .‬ولكن من السهل لنا أن نفرتض أن التصميم املختار ملعلم‬
‫تذكاري يف هذا املوقع سيخ ع إىل نقاشات طويلة وعاطفية‪.‬‬
‫إذا بُني نصب تذكاري عىل موقع ال يزال ساخنًا‪ ،‬فسيغدو مكانًا رمزيًا تنتفع به‬
‫الجامعة املتأثرة حتى يحافظوا عىل عملية الحداد املشرتكة والرغبة يف االنتقام‪ .‬ولكن يف‬
‫النهاية‪« ،‬يهدأ» هذا النصب التذكاري «الساخن» ويغدو صندوقًا رمزيًا من الحجر أو الرخام‬
‫أو املعدن يجمع بداخله عمل الحداد الجامعي غري املكتمل‪ ،‬وي ع ح ًدا حول مشاعر الجامعة‬
‫املشرتكة‪ ،‬وتختتم الجامعة‪ ،‬ألهداف عملية‪ ،‬عملية الحداد‪ .‬وقد تحول نصب الحرب العاملية‬
‫الثانية التذكاري الذي أرشت إليه يف الفصل السابق إىل صندوق كهذا فو ًرا‪ ،‬ويعزى ذلك‬
‫كال من‬
‫بدرجة كبرية إىل أنه بُني بعد ستة عقود من نهاية الحرب‪ .‬فهو يرمز ويكرم ً‬
‫األربعامئة ألف فقيد إىل جانب كل أولئك الذين تأثروا بالحرب من األمة عىل نحو فحال‪.‬‬
‫وبذلك تصبح ذكرى أولئك املفقودين ُمعرتفًا بها وخالدة‪ ،‬ما يجعلها «بال مستقبل»‪.‬‬
‫ولتوضيح الكيفية التي تُعرب عنها مشاعر الجامعات الكبرية داخل تلك النصب‬
‫التذكارية ومن خاللها إىل مدى أبعد‪ ،‬سأقدم مقارنة بني موقعني مختلفني للغاية‪ :‬نصب‬
‫األب البايك التذكاري يف تسخينفايل‪ ،‬جنوب أوسيتيا‪ ،‬ونصب قدامى حرب فيتنام التذكاري‬
‫يف العاصمة واشنطن‪ .‬فاألول الذي يُعد خليطًا بني مكان ساخن ونصب تذكاري‪ ،‬موجود‬
‫للحفاظ عىل مشاعر الجامعة الكبرية متقدة‪ ،‬يف حني أن اخخر أضحى مكانًا أعان حداد‬
‫الجامعة الكبرية يف أمريكا عىل نحو هائل‪ ،‬ما يخمد املشاعر املختلطة حيال حرب فيتنام‬
‫ريا إىل العمل النفيس الذي مل يُحسم بعد‪.‬‬
‫وي ع نهاية أخ ً‬

‫‪156‬‬
‫أحاطت القوات الجورجية بتسخينفايل لعدة شهور خالل النزايف بني جورجيا‬
‫وجنوب أوسيتيا يف ‪ .92–1991‬ويف مرحلة ما خالل هذا الحصار‪ ،‬مات ثالثة مقاتلني‬
‫شباب من جنوب أوسيتيا خالل لحظات‪ .‬وألن الجورجيني استولوا عىل املقربة التي يف‬
‫ضواحي املدينة واحتلوها‪ُ ،‬دفن هؤالء الرجال يف فناء املدرسة الثانوية الخامسة يف جادة‬
‫لينني يف تسخينفايل‪ .‬وقد التحق أحد هؤالء ال حايا بتلك املدرسة‪ ،‬وكان يُعتقد أن فناء تلك‬
‫املدرسة كان مكانًا آمنًا لدفنهم‪ .‬وبصورة تدريجية‪ُ ،‬دفن املزيد واملزيد من املدافعني املوىت‬
‫هناك‪ ،‬ومن بينهم ثالثون قُتلوا يف النفس اليوم عىل ما يبدو‪ .‬واليوم يصل عدد القبور هناك‬
‫إىل أكرث من مائة قرب‪.‬‬
‫وقد علمت بأمر فناء املدرسة هذا يف زياريت الثانية إىل تسخينفايل‪ .‬وعقب انتهائنا‬
‫من عملنا يف قرص إبدايف األطفال وحني استعددنا للعودة إىل تبالييس‪ ،‬اقرتح نودار‬
‫شارفيالدز أن نزور املقربة التي يف املدرسة الخامسة‪ .‬وقد ظننت أنه يريد أولئك الذين من‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬أع اء ‪ ،CSMHI‬أن يشعروا مبعاناة سكان جنوب أوسيتيا‪ .‬ورغم أن نودار‬
‫جورجي‪ ،‬فقد أرادنا أن نكون منصفني وأعطانا فرصة لفهم الصدمة التي خلقها النزايف بني‬
‫جورجيا وجنوب أوسيتيا للجانب اخخر بشكل أف ل‪ .‬وأنا أعتقد أن نودار حض إىل هذا‬
‫املكان مسبقًا‪ ،‬ولكن الجورجيني الذين رافقونا هذا اليوم مل يروه أب ًدا‪ .‬قد حضتُ أنا ويوري‬
‫أوربانوفيتش إىل عدة أماكن ساخنة وعلمنا أن الغرباء ال ينبغي عليهم أن يزوروها دون‬
‫استعدادات ودون «مرافقني» من الجامعة املتأثرة‪ .‬ومن خالل فينريا باسيشفي أو الجنوب‬
‫أوسيتيني اخخرين الذين تعرفنا عليهم‪ ،‬كان بإمكاننا أن نحصل عىل «إذن رسمي» للذهاب‬
‫إىل املدرسة الخامسة‪ .‬ورغم أننا مل نفعل ذلك‪ ،‬مل أبد أي اعرتاضات القرتاح نودار‪ .‬فقد كان‬
‫نبيال‪ ،‬ورغم كل يشء‪ ،‬فقد تركنا للتو بع ً ا من أكرث سكان جنوب أوسيتيا لطفًا‬
‫اقرتاحه ً‬
‫وو ًدا‪.‬‬
‫وهكذا مشينا نحن‪ ،‬جورجيون وأمريكيون‪ ،‬يف جادة لينني املهجورة‪ ،‬وقفزنا فوق‬
‫حفر الطريق ونحن نسري بجانب جدار متهالك طوله ال يزيد عن خمسة أقدام يفصل بني‬

‫‪157‬‬
‫فناء املدرسة والشاريف‪ .‬ووصلنا إىل بوابة املدرسة الخامسة ورأينا موقع الدفن يف الجانب‬
‫األمين من الفناء‪ .‬وأخرجت كامرييت اللتقاط بعض الصور‪ .‬وفجأة‪ ،‬ظهرت شاحنة وسيارة‬
‫من حيث ال ندري‪ .‬ووثب منها رجال غاضبون من جنوب أوسيتيا‪ ،‬بثياب مدنية‪ ،‬وأحاطوا‬
‫بنا‪ .‬وقد رأيت أن بحوزتهم مسدسات‪ .‬وكان من الواضح أنهم يريدون أن يعرفوا ما الذي كنا‬
‫مقدسا لهم‪ .‬هل كنا هناك لتدنيس الذكرة‬
‫ً‬ ‫نحن‪ ،‬األجانب‪ ،‬فاعلون يف موقع أضحى مكانًا‬
‫املكرمة املثالية ألبطال جنوب أوسيتيا الذين ُدفنوا هناك؟‬
‫كنت خائفًا‪ .‬كان بوسع هؤالء الرجال أن يأخذوا كامرياتنا منا‪ ،‬ويربحونا رضبًا‪ ،‬أو‬
‫يقتلونا‪ .‬وألنني مل أكن قاد ًرا عىل التواصل مع هؤالء الرجال‪ ،‬شعرت بالشلل وبدأت ألعن‬
‫نفيس يف صمت عىل نسياين ملقدار املشاعر التي تحفزها األماكن الساخنة يف أع اء‬
‫الجامعة املصدومة‪ ،‬ومدى الحذر الذي كان ينبغي علينا أن نتحىل به يف التجهيز لزيارة إىل‬
‫مكان كهذا‪ .‬قدم نودار نفسه باإلنجليزية والروسية‪ ،‬وتحدث معهم بالروسية بطريقة هادئة‬
‫علمت الحقًا‪ ،‬قال لهم أنه أستاذ جورجي عىل اتصال بزمالء من جنوب أوسيتيا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫للغاية‪ .‬وكام‬
‫وأن جميعنا حض إىل هذا املكان لتقديم العزاء للموىت‪ ،‬وأننا مل نقصد إساءة مشاعر أي‬
‫أحد‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬سمح لنا هؤالء الرجال‪ ،‬الذين أشتبه يف أنهم ينتمون إىل جامعة شبه‬
‫عسكرية جنوب أوسيتية‪ ،‬بالعودة إىل سياراتنا دون م ايقة‪ .‬وغني عن القول إنني أعجبت‬
‫ريا بسلوك نودار الهادئ‪ .‬وشعرت باالمتنان الشديد له عىل إنقاذنا مام كان من املحتمل‬
‫كث ً‬
‫أن يكون موقفًا شني ًعا‪.‬‬
‫مل أعد أب ًدا إىل فناء املدرسة الخامسة يف جادة لينني يف تسخينفايل‪ ،‬ولكن يظل هذا‬
‫مثاال واض ًحا عىل مكان ساخن‪ .‬وحني واصلت أنا وزماليئ من ‪CSMHI‬‬
‫املكان يف ذهني ً‬
‫تسهيل املناقشات يف األعوام التالية بني الجورجيني وسكان جنوب أوسيتيا‪ ،‬ظلت تلك املقربة‬
‫وعلمت أن سكان جنوب أوسيتيا شيدوا الحقًا مصىل كنيس صغري‪ ،‬وأقاموا‬
‫ُ‬ ‫موضويف نقاش‪.‬‬
‫يل إنغا كوتشيفا من جنوب أوسيتيا‬
‫متثا ًال يُدعى األب البايك يف فناء املدرسة‪ .‬وأرسلت إ ّ‬
‫صو ًرا للمصىل والتمثال‪ .‬ويشبه تصميم املصىل الصغري قوس النرص يف باريس‪ ،‬واألب‬

‫‪158‬‬
‫البايك هو متثال حجري بالحجم الطبيعي يقف عىل كتلة مربعة‪ .‬وترتدي شخصية التمثال‬
‫طويال‪ .‬ويف ثقافة‬
‫ً‬ ‫التي تقف يف وضعية حزينة غطاء رأس جنوب أوسيتي تقليدي ومعطفًا‬
‫جنوب أوسيتيا‪ ،‬ليس من املفرتض للرجال أن يبكوا‪ ،‬ولذا تعكس دموعه األبوية أمل ًا حا ًدا ال‬
‫يتوقف‪.‬‬
‫ورغم وجود سياج حديدي يفصل مكان الدفن واملصىل الصغري واألب البايك عن‬
‫بقية فناء املدرسة‪ ،‬فبإمكانك رؤيتهم من املدرسة‪ .‬وحتى يتسنى الدخول إىل مبنى املدرسة‬
‫املكون من ثالثة طوابق‪ ،‬ي طر الطالب الذين استأنفوا الح ور إىل فصولهم مجد ًدا بعد‬
‫انتهاء القتال يف تسخينفايل) إىل املرور بجانبهم‪ .‬وبوسع الطالب واملدرسني أن ينظروا إىل‬
‫موقع الدفن والنصب التذكاري من جميع طوابق املدرسة‪ .‬يتم تذكري الصغار دامئًا باضطهاد‬
‫سكان جنوب أوسيتيا‪ ،‬وعجزهم‪ ،‬وخسائرهم‪ .‬ويف خالل السنني األوىل التي تلت نزايف‬
‫‪ ،92–1991‬أُقيمت مراسم متكررة يف فناء املدرسة‪ .‬وقد قيل يل إن سلطات جنوب أوسيتيا‬
‫استعانت بكل عذر ممكن إلقامة مثل تلك االحتفاالت التي تفاوتت من ذكريات سنوية إىل‬
‫عطالت دينية‪ .‬وقد دعم العامة السلطات باملشاركة يف تلك االحتفاالت بأعداد غفرية‪ .‬وقد‬
‫شُ جع الصغار أي ً ا عىل كتابة وقراءة الشعر الذي يتحدث عن االضطهاد‪ ،‬وما هو أهم من‬
‫ذلك‪ ،‬االنتقام‪ .‬وقد روجت صورة عن العدو من أجل تعزيز هوية الجامعة امل طهدة والوهم‬
‫القائل بأن قتال هؤالء «اخخرين» من شأنه أن ميكن سكان جنوب أوسيتيا من استعادة‬
‫خسائرهم يف املستقبل‪.‬‬
‫وخالل سلسلة حواراتنا املستمرة‪ ،‬أضحت عالقة سكان جنوب أوسيتيا بتمثال األب‬
‫رشا من نويف ما عن املزاج العام يف تسخينفايل وطبيعة تفاعالت سكان جنوب‬
‫البايك مؤ ً‬
‫أوسيتيا مع الجورجيني‪ .‬وقد اعرتف املشاركون من جنوب أوسيتيا أن وجود متثال األب‬
‫البايك واالحتفاالت املتكررة املقامة يف هذا املوقع تسمم عقول الصغار امللتحقني باملدرسة‬
‫الخامسة وتبقي املشاعر السلبية تجاه الجورجيني حية داخل جيلهم‪ .‬وقد تحدث املشاركون‬
‫عن ذلك للسلطات يف تسخينفايل معربني عن قلقهم‪ .‬وأفادوا الحقًا بأنه‪ ،‬بف ل جهودهم‪،‬‬

‫‪159‬‬
‫أقامت السلطات احتفاالت أقل تدريج ًيا مع مرور الزمن يف فناء املدرسة‪ .‬وأفادوا أي ً ا بأن‬
‫املشاعر يف القصائد التي يقرأها الطالب أصبحت أقل حدة‪ ،‬وذلك بف ل تشجيع السلطات‬
‫واملدرسني‪ .‬ولكن هؤالء الصغار كانوا ال يزالون م طرين إىل املرور بجانب متثال األب‬
‫البايك‪ ،‬واملصىل‪ ،‬ومكان الدفن يف كل يوم درايس‪ .‬ورشيف أفراد جنوب أوسيتيا أي ً ا يف‬
‫التحدث عن الحاجة لحل تلك املشكلة‪ :‬فقد علموا أن عليهم إما أن ينقلوا املقابر إىل مكان آخر‬
‫مستحيال‪ ،‬وذلك ألن املعتقدات الدينية‬
‫ً‬ ‫أو يشيدوا مدرسة أخرى‪ .‬ولكن الخيار األول كان‬
‫والتقاليد الثقافية متنعهم من إزعاج املوىت‪ ،‬والخيار الثاين كان غري واقعي ألن البلد مل يكن‬
‫يتحمل نفقات بناء مدرسة جديدة‪.‬‬
‫وبعد فرتة من الزمن‪ ،‬مكنت النقاشات املتمحورة حول النصب التذكاري ومسائل‬
‫أخرى املشاركني الجورجيني أن يرشعوا يف التعبري عن نويف من الندم عىل خوض حرب ضد‬
‫جنوب أوسيتيا وعىل القومية يف جورجيا يف عهد زفياد جامساخورديا التي حفزت تلك‬
‫الحرب‪ .‬ولكن املشاركني الجورجيني شعروا رغم ذلك أن مكافحة األبخازيني كان أم ًرا‬
‫ريا من املسؤولية بسبب دور جورجيا‬
‫رضوريًا‪ ،‬ولكن بع هم صار يحمل عىل عاتقه جز ًءا كب ً‬
‫يف تأجيج النزايف بني جورجيا وجنوب أوسيتيا‪ .‬وقد بدا عىل املشاركني من جنوب أوسيتيا‬
‫أي ً ا أنهم أكرث استعدا ًدا لا«ساميف» بعض من إحساس الجورجيني بالندم عىل النزايف‬
‫الدموي‪ 99.‬وحني قالت سيدة جورجية أنها تأثرت مبأزق سكان جنوب أوسيتيا وأنها أرادت‬
‫أن تزور املدرسة الخامسة لتعزية املوىت‪ ،‬بدا عىل املشاركني من جنوب أوسيتيا أنهم سعداء‪،‬‬
‫ولكني ال أعتقد أن تلك الزيارة حدثت بالفعل‪.‬‬
‫ولكن املشاكل يف جنوب أوسيتيا مل تكن تقترص عىل أولئك الذين ماتوا يف الحرب‬
‫وتخليد ذكراهم‪ .‬فبعد انتهاء الحرب‪ ،‬رحل الكثري من رجال جنوب أوسيتيا للعمل يف روسيا‪.‬‬
‫وقد وضع تركهم زوجاتهم وأوالدهم عب ًئا مهوالً عىل قيم العائلة التقليدية‪ .‬وحني اضطرت‬
‫إحساسا باالستقالل‪ .‬وحني عاد أزواجهن‪،‬‬
‫ً‬ ‫النساء إىل الخروج والبحث عن عمل‪ ،‬وجدن‬
‫وجدوا أن حياة زوجاتهم مل تعد تتناسب مع املعيار املألوف لثقافتهم‪ .‬وارتفع عدد حاالت‬

‫‪160‬‬
‫الطالق‪ ،‬وأثّر ذلك بدوره عىل حياة األطفال‪ 100.‬وأصبح العديد من الصغار إما مجرمني أو‬
‫عاهرات‪ .‬ويف ذات األثناء‪ ،‬أضحت سلطات جنوب أوسيتيا أكرث عرضة للتالعب السيايس‬
‫الرويس‪ ،‬ما ص ّعب الوصول إىل اتفاق سيايس مع الجورجيني‪ ،‬وقد استمر نسيج الحياة يف‬
‫جنوب أوسيتيا يف التمزق نتيجة ال غط املستمر للنزايف‪ .‬وقد علمنا أن توسيع نطاق‬
‫الحوارات مبا يسمح بإرشاك شخصيات مؤثرة سياس ًيا من كال الجانبني من شأنه أن يساعد‬
‫يف منع بعض التأثريات السلبية طويلة املدى التي قد تعاين منها املنطقة لوال ذلك‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫مع حلول نهاية الحرب املفتوحة‪ ،‬رسعان ما جفت األموال املخصصة للعمل يف جورجيا‬
‫وجنوب أوسيتيا‪.‬‬
‫بعد أن توقفت منظمة ‪ CSMHI‬عن زيارة جورجيا‪ ،‬استطعنا أن نعمل مع املشاركني‬
‫من جورجيا وجنوب أوسيتيا لعام آخر من خالل إح ارهم إىل تركيا – مرة إىل إزمري ومرة‬
‫إىل إسطنبول‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬واصل املشاركون من كال الجانبني التعاون يف محاولة فهم‬
‫العمليات املجتمعية املحددة‪ ،‬مثل زيادة العنف األرسي نتيجة النزايف اإلثني‪ .‬ولكن‪ ،‬يف‬
‫‪ ،2004‬وقع اشتباك دموي جديد بني جورجيا وجنوب أوسيتيا‪ ،‬ما أدى إىل انهيار تام‬
‫للتواصل بني املشاركني من جورجيا وجنوب أوسيتيا يف السلسلة األوىل من حوارات‬
‫‪ .CSMHI‬وأنا ال أعلم سبب حدوث ذلك جي ًدا‪ ،‬ولكني بقيت عىل اتصال مع كال الجانبني من‬
‫خالل الربيد اإللكرتوين‪ .‬وعلمت من شخص ما من جنوب أوسيتيا أن نودار شارفيالدز أرسل‬
‫تحيات عيد امليالد املجيد إىل سكان جنوب أوسيتيا يف ديسمرب ‪ .2004‬ورغم أن سكان‬
‫جنوب أوسيتيا كانوا سعداء شخص ًيا باستقبالهم تلك الرسالة‪ ،‬فبسبب التطورات السياسية‬
‫مستحيال‪ ،‬ولذا مل يردوا‬
‫ً‬ ‫والعسكرية األخرية‪ ،‬وجد هؤالء الناس املشاركة مع «العدو» أم ًرا‬
‫عليه‪ .‬وعلمت أي ً ا من سكان جنوب أوسيتيا أن الجامعة الحظت مرة أخرى «دمويف» األب‬
‫البايك‪.‬‬
‫كام أرشت سابقًا‪ ،‬أنا مل أعد أب ًدا إىل املدرسة الخامسة‪ ،‬ولكن ما علمته من مالحظات‬
‫درسا‪ .‬فمن شأنه أن يخربنا الكثري عن حداد‬
‫مشاريك جنوب أوسيتيا عن هذا املوقع علمني ً‬
‫‪161‬‬
‫الجامعة‪ ،‬وإحساسهم باالنتقام‪ ،‬وقدرتهم عىل املغفرة‪ .‬وسأعود لفحص مثل تلك املشاعر‬
‫املشرتكة داخل جامعة أكرب الحقًا يف هذا الفصل‪.‬‬
‫رغم أن املعلم الذي بُني يف فناء املدرسة الخامسة ا ُستخدم كجسم رابط مشرتك إلبقاء‬
‫عملية حداد سكان جنوب أوسيتيا عىل قيد الحياة‪ ،‬فقد ساهم نصب قدامى حرب فيتنام يف‬
‫العاصمة واشنطن يف مقابل ذلك يف وضع حد لتلك العملية‪ .‬فقد ساعد املبنى ونصب قدامى‬
‫حرب فيتنام ورد الفعل الالحق للمحاربني القدامى‪ ،‬وعائالت ال حايا‪ ،‬والعامة األمريكيني‬
‫عىل تقبل أن خسائرهم كانت حقيقية وأن الحياة ستستمر دون استعادة أولئك املفقودين‪.‬‬
‫ويف وقت سابق‪ ،‬نعى أفراد العائلة واألصدقاء ضحايا حرب فيتنام األمريكيني‪ ،‬و ُدفنوا‬
‫بجهود خاصة‪ .‬ولكن عىل املستوى العام‪ ،‬مل يُعرتف بوفاتهم بصورة جامعية‪ .‬وبالنظر إىل‬
‫املشاعر املختلطة حيال تلك الحرب‪ ،‬عاد املحاربون القدامى إىل وطنهم دون أن يستقبلهم‬
‫الناس بالتصفيق واإلشادة‪ .‬وظلت أسئلة كثرية عن تلك الحرب غري ُمجابة يف عقول الشعب‬
‫األمرييك‪ .‬هل مات الناس من أجل ق ية نبيلة أم أنهم هلكوا بسبب سياسة سيئة وحسب؟‬
‫هل خرسنا الحرب؟ وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬هل ينبغي علينا أن نكرم من ضحوا بالكثري؟ يخربنا‬
‫جيفري أوشسرن أنه‪ ،‬بالنظر إىل مشاعر األمريكيني املحايدة تجاه تلك الحرب‪« ،‬يف الواقع‪،‬‬
‫كانت أكرث اإلجابات شيو ًعا إنكار»‪ 101‬املشاعر واألفكار التي يحملها الناس تجاه املوىت‪ ،‬تجاه‬
‫املحاربني القدامى‪ ،‬وتجاه تراجع مجتمعي داخل املجتمع األمرييك‪« .‬ورغم ذلك‪ ،‬بدا أن إنشاء‬
‫‪102‬‬
‫غري كل ذلك»‪.‬‬
‫نصب قدامى حرب فيتنام التذكاري الذي يحمل أسامء املوىت واملفقودين ّ‬
‫كانت مصممة النصب التذكاري‪ ،‬مايا ينغ لني‪ ،‬طالبة بعمر الواحد والعرشين يف‬
‫جامعة ييل حني أُعلن عن مسابقة تصميم النصب التذكاري‪ .‬وأفادت لني‪ ،‬يف مقابلة مع‬
‫كارول فوجل نُرشت يف نيويورك تاميز يف ‪ 9‬مايو ‪ ،1994‬بأنها حني كانت يف ييل يف‬
‫أواخر السبعينيات وأوائل الثامنينيات‪ ،‬أخربها أساتذتها أن بوسعها إما أن تكون فنانة أو‬
‫معامرية‪ ،‬ولكن ليس كالهام‪ .‬وأضافت قائلةً‪« :‬أنا أحب املعامر والنحت‪ ،‬ولكن مل يكن بوسعي‬
‫وأثناء تصميمها‬ ‫التف يل بينهام أب ًدا‪ .‬فالنحت بالنسبة يل كالشعر‪ ،‬واملعامر كالنرث»‪.‬‬
‫‪103‬‬

‫‪162‬‬
‫لنصب قدامى حرب فيتنام‪ ،‬بصفتها معامرية وفنانة يف ذات الوقت‪ ،‬ربطت املوت «بأمل حاد‬
‫تخف وطأته مع مرور الزمن‪ ،‬ولكنه ال يلتئم متا ًما ويرتك ندبة مكانه»‪ 104.‬وأرادت أن تأخذ‬
‫سكينًا وتشق األرض‪« ،‬ومع مرور الوقت سيشفي العشب هذا األمل»‪ 105.‬ولكن حني ُعرض‬
‫تصميمها عىل العامة‪ ،‬وجده بعض الناس مسيئًا ووصفوه بأنه «حائط مبىك» أو «جرح‬
‫‪106‬‬
‫أسود عميق من الخزي»‪.‬‬
‫ورغم أن تصميم الحائط افتعل بعض الجدل ووضع مل ًحا عىل جروح الحرب التي مل‬
‫تلتئم‪ ،‬فقد أقيم نصب قدامى حرب فيتنام التذكاري يف ‪ 13‬نوفمرب ‪ 107 .1982‬ومن مالمحه‬
‫الرئيسية بالط طويل من الجرانيت األسود تلتقي جميعها بزاوية وترتفع تدريج ًيا عن‬
‫األرض‪ .‬وتحمل أسامء أكرث من خمسني ألف طاقم عسكري مقتول أو مفقود يف املعركة‪.‬‬
‫ويتسم ترتيب األسامء عىل الجرانيت األسود بأنه غري معتاد‪ 108.‬كتب أوشسرن‪« :‬قبل نصب‬
‫قدامى حرب فيتنام التذكاري‪ ،‬عرضت معظم املعامل التذكارية الوارد بها املقتولني أو‬
‫املفقودين من حرب أو معركة أسامء ال حايا بتسلسل هرمي للمنظومة العسكرية‪ ...‬ولكن‪،‬‬
‫يف نصب قدامى حرب فيتنام‪ ،‬تجد األسامء مرتبة وفقًا للتسلسل الزمني دون أي إشارة إىل‬
‫أي رتبة عسكرية‪ .‬ولن تجد فيها أي تواريخ سوى عامني فقط‪ .‬ورغم ذلك بوسعك أن‬
‫إحساسا مبرور األيام من املجموعات األبجدية لألسامء – إذ تشري كل مجموعة‬
‫ً‬ ‫تستشعر‬
‫بدهاء إىل األرواح املفقودة يف كل يوم‪ ...‬وكلام رسنا عىل طول هذا املعلم التذكاري مررنا‬
‫بأعوام متعاقبة من الخسائر حتى نجد أنفسنا يف مواجهة أمام ضخامة اإلطار الزمني حيث‬
‫‪109‬‬
‫نجد التاريخني ‪ 1959‬و‪ 1975‬عىل األوجه املتقابلة للقمة»‪.‬‬
‫نظر أحد أبنايئ‪ ،‬كورت فولكان‪ ،‬إىل نصب قدامى حرب فيتنام من زاوية نفسية‪،‬‬
‫جسام رابطًا مشرتكًا‪ .‬وشدد كورت بصفة خاصة عىل السيكولوجيا‬
‫ً‬ ‫وكحال أوشسرن اعتربه‬
‫الكامنة وراء رؤية الفرد النعكاسه وهو يتداخل مع األسامء املنحوتة عىل الجرانيت األسود‬
‫الالمع‪ .‬فقد كتب‪« :‬من املؤكد أن تفسري أي فنان‪ ،‬سواء كان مجازيًا أو استعاريًا‪ ،‬لحرب‬
‫فيتنام ينطوي عىل معنى أقل من العنرص اإلنساين الذي ينطوي عليه رؤية الفرد لنفسه‬

‫‪163‬‬
‫وبيئته املعيشية منعكسة عىل حجر خلف أسامء جنود متوفيني»‪ 110.‬ونظ ًرا إىل أن صور‬
‫جسام رابطًا‬
‫ً‬ ‫املوىت مرتبطة بالصورة املقابلة لها للزائرين األحياء‪ ،‬ميثل هذا املعلم بالفعل‬
‫مشرتكًا‪ .‬ويقول كورت‪« :‬من خالل ملس الحجر واألسامء املنقوشة عليه‪ ،‬يعزز األحياء صلتهم‬
‫باألموات – فمع كل يشء‪ ،‬االسم مصطلح رمزي يجسد كل يشء عن وجود فرد ما‪ ...‬واألسامء‬
‫املنقوشة عىل الجرانيت‪ ،‬التي ستظل موجودة خالف السنني‪ ،‬تجعل املوت أم ًرا رسم ًيا ونهائ ًيا‬
‫يف عقل الفرد»‪ .111‬ويستطرد كالمه موض ًحا الكيفية التي تجعل بها رؤية العديد من األسامء‬
‫املرتاصة جن ًبا إىل جنب عىل الجرانيت األسود الخاص بحائط النصب التذكاري –عىل غرار‬
‫رؤية العديد من النجوم الذهبية جن ًبا إىل جنب عىل حائط الحرية يف نصب الحرب العاملية‬
‫جسام رابطًا مشرتكًا‪ ،‬م يفًا أن‪« :‬إذن بإمكان الحائط أن‬
‫ً‬ ‫الثانية التذكاري– املعلم التذكاري‬
‫يكون كأم تبيك ألجل ابنها املفقود عىل املستوى الشخيص‪ ،‬أو كأمة تبيك عىل تاريخها‬
‫‪112‬‬
‫حال بعد عىل املستوى العام»‪.‬‬
‫املايض الذي مل تجد له ً‬
‫ودون أي مبادرات دبلوماسية من االعتذار أو الغفران بني الواليات املتحدة وفيتنام‪،‬‬
‫مهام يف حداد‬
‫عمال نفسيًا ً‬
‫كان إنشاء النصب التذكاري ورد الفعل األمرييك له –الذي أدى ً‬
‫الجامعة– خطوة مهمة يف تحييد العالقات بني البلدين‪ .‬ولذا بدا أن جروح حرب فيتنام قد‬
‫التأمت‪ ،‬عىل مستوى الحس الجامعي عىل األقل‪ .‬وال ينطبق ذلك عىل سكان جنوب أوسيتيا‪،‬‬
‫الذين جعلتهم استجاباتهم للصدمة جامدين كحجر األب البايك يف تسخينفايل‪ .‬ومن‬
‫املستحيل لهم أن يستجيبوا ألي إمياءات باملصالحة من الجورجيني‪ .‬وخالل سلسلة الحوارات‬
‫التي أدارتها ‪ CSMHI‬بني الجورجيني وسكان جنوب أوسيتيا‪ ،‬طُرحت مفاهيم االعتذار‬
‫واملغفرة‪ ،‬ولكن حني طُرحت تلك املفاهيم أرسيف سكان جنوب أوسيتيا يف العودة إىل مناقشة‬
‫ما يعنيه األب البايك لهم‪ .‬من املؤكد أن الكيفية التي تتفاعل بها الجامعة مع نصب تذكاري‬
‫تخربنا عن مدى استعدادهم لساميف اعتذار الجانب اخخر‪.‬‬
‫وبدون الحداد‪ ،‬مبعناه النفيس التحلي ‪ 113،‬ال ميكن تقديم أو استقبال «اعتذا ًرا» أو‬
‫«مغفرة» من جانب الجامعات التي تعرضت للصدمة من جامعات أخرى‪ .‬وذلك ال يحمل يف‬

‫‪164‬‬
‫العادة أهمية كبرية يف الدبلوماسية العاملية نظ ًرا إىل أن األمم وقادتها ناد ًرا ما يقدمون‬
‫اعتذارات رسمية ألولئك الذين حاربوهم يف الحروب املاضية‪ .‬ولكن ذلك حدث بالفعل‪ .‬ففي‬
‫إحدى الحاالت التي حظيت بتغطية إعالمية واسعة‪ ،‬اعتذر املستشار األملاين حينها‪ ،‬وي‬
‫براندت‪ ،‬لليهود البولنديني يف زيارته يوم ‪ 7‬ديسمرب ‪ 1970‬إىل موقع الحي اليهودي السابق‬
‫يف وارسو‪ ،‬حني ارتكز براندت عفويًا عىل ركبتيه اعرتافًا منه مبا فعله النازيون‪ .‬و ُعرف هذا‬
‫االعتذار الدرامي باسم ‪ )Kniefall‬وعلقت صورته يف أذهان الناس داخل وخارج أملانيا‬
‫ألعوام عديدة‪ .‬ومل يعجب بعض األملان مبا فعله براندت‪ ،‬بينام واجهه الشعب البولندي بقبول‬
‫فعاال ألن العديد من العمليات السياسية األخرى يف‬
‫عامة‪ .‬وبصفة عامة‪ ،‬كان اعتذار براندت ً‬
‫أملانيا بعد الهولوكوست جهزت ال حايا لساميف كلمة االعتذار‪ .‬واالعتذار يف حد ذاته مل يبد‬
‫وكأنه كلمة سحرية‪ .‬وهو أي ً ا جزء مام ُعرف بسياسة براندت الرشقية‪ ،‬التي متثلت يف‬
‫‪114‬‬
‫جهوده لتطبيع العالقات مع االتحاد السوفيتي وبلدان الكتلة الرشقية األخرى‪.‬‬
‫وقع ثاين اعتذار يحظى بتغطية إعالمية واسعة يف ‪ 1990‬حني اعتذر القائد‬
‫السوفيتي حينها ميخائيل غورباتشوف عن مجزرة غابة كاتني يف الحرب العاملية الثانية يف‬
‫بولندا‪ .‬ففي ربيع ‪ ،1950‬أُرس نحو ‪ 4,500‬جندي احتياطي بولندي‪ ،‬من بينهم أطباء‬
‫ومحامون وعلامء ورجال أعامل‪ ،‬ونُقلوا إىل غابة كاتني بالقرب من سمولينسك يف روسيا‬
‫الغربية‪ .‬ثم كممهم الجنود السوفييت وربطوهم وأطلقوا عليهم النريان بأمر مبارش من‬
‫جوزيف ستالني‪ .‬وعقب اكتشاف جندي أملاين لتلك املقربة الجامعية يف ‪ ،1943‬اتهم األملان‬
‫السوفييت بارتكاب تلك املجزرة‪ .‬وأنكر السوفييت مشاركتهم يف تلك املأساة‪ ،‬وعىل ما يبدو‬
‫أن األمريكان والربيطانيني سايروا هذا اإلنكار وحاولوا إلقاء اللوم عىل النازيني كجزء من‬
‫«سمع» اعتذار جورباتشوف نظ ًرا للتغريات‬
‫بروباجندا الحلفاء املوجهة ضدهم‪ .‬وقد ُ‬
‫السياسية واالجتامعية العديدة التي بادر بها قبل اعتذاره‪ .‬ولكن‪ ،‬يف ‪ ،1995‬رفض بوريس‬
‫يلستني أن يحض مراسم تذكارية خاصة يف موقع املجزرة‪ ،‬ما أدى إىل تأجيج العالقات‬
‫البولندية الروسية‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ورغم ذلك‪ ،‬بعد اعرتاف جورباتشوف العلني ملسؤولية االتحاد السوفيتي عن تلك‬
‫املجزرة‪ ،‬بدأ مفهوم االعتذار‪ ،‬إىل جانب مفهوم املغفرة‪ ،‬يجذب اهتامم املامرسني والباحثني‬
‫الذين يتناولون العالقات الدولية‪ .‬وقد صار موضو ًعا رائ ًجا للغاية يف أوساط بعض الدوائر‬
‫الحكومية‪ ،‬ال سيام بعد تشكيل لجنة جنوب أفريقيا للحقيقة واملصالحة ‪ )TRC‬كوسيلة‬
‫للتعامل مع الفظائع التي ارتكبت يف فرتة الفصل العنرصي‪ .‬وشملت العملية ضحايا يحكون‬
‫قصصهم علنًا ويسامحون املعتدين عليهم الذين اعرتفوا بأفعالهم واعتذروا عنها‪.‬‬
‫أضحى الحصول عىل اعتذار محسوس من املرتكب وتشجيع مثل هذا املرتكب بقوة‬
‫مهام يف حل النزاعات اإلثنية‪،‬‬
‫ً‬ ‫رصا‬
‫عىل االعتذار من خالل طرف ثالث محايد يُعد عن ً‬
‫والقومية‪ ،‬والدينية‪ ،‬واأليدولوجية بني الجامعات الكبرية‪ .‬ولذا‪ ،‬أضحى الناس يروجون‬
‫ملفهومي االعتذار واملغفرة‪ ،‬املرتبطني ارتباطًا وثيقًا بتعاليم دينية محددة منذ آالف‬
‫السنني‪ ،115‬باعتبارهام مامرسات دبلوماسية وسياسية‪ .‬وانترشت اللجان التي حذت حذو‬
‫‪ TRC‬يف مناطق متفرقة من العامل‪ .‬ولكن املشاكل –واإلخفاقات– التي تواجه أولئك الذين‬
‫يحاولون تقليد عمل ‪ TRC‬توحي بالحاجة إىل دراسة أعمق وفهم أف ل لألوقات والطرق‬
‫التي يثمر بها االعتذار واملغفرة عن نتائج‪.‬‬
‫رغم أنني كنت أعلم منذ وقت مبكر من سلسلة حوارات ‪ CSMHI‬أن األطراف املتنازعة‬
‫غري قادرة عىل تقديم اعتذار‪ ،‬وقبوله‪ ،‬ومسامحة الطرف اخخر دون إثارة الجدل‪ ،‬سلطت يل‬
‫مساهاميت يف إحدى مجموعات مفاوضات التصالح ال وء عىل املشاكل التي قد تقابل الفرد‬
‫حني تكون االعتذارات‪ ،‬واملغفرة‪ ،‬والنصب التذكارية جز ًءا من الحوارات الدائرة بني جامعتني‪.‬‬
‫وبدأت مشاركتي يف تلك املفاوضات يف أواخر تسعينيات القرن العرشين‪ ،‬حني اتصل يب‬
‫صديقي غندوز أكتان‪ ،‬دبلومايس محرتف سابق سبق له شغل منصب سفري األمم املتحدة‬
‫يف جينيفا‪ ،‬واليونان‪ ،‬واليابان‪ ،‬ووكيل وزارة الخارجية الرتكية‪ .‬ومنذ تقاعده عن الخدمة‬
‫ورئيسا ملركز أبحاث تريك مشهور‪ .‬وكشخص ال يزال‬
‫ً‬ ‫العامة‪ ،‬أضحى غندوز صحف ًيا بارزًا‬
‫يتمتع بنفوذ كبري يف تركيا‪ ،‬طلب مني غندوز أن أن م له أنا وآخرون كأع اء يف لجنة‬

‫‪166‬‬
‫التصالح الرتكية األرمينية ‪ )TARC‬املشكلة حديثًا‪ .‬وهدف تلك اللجنة –التي يرأسها وييرس‬
‫جهودها شخص أمرييك– هو جمع ستة أتراك وستة من األرمن يف سلسلة من املقابالت‬
‫عىل مدار عدة أعوام ملناقشة أحداث ‪ 1915‬املأساوية‪ ،‬حني قُتل مئات اخالف من األرمن –‬
‫وعدد كبري من األتراك– عىل أيدي بع هم البعض وبسبب املجاعات واألمراض‪ .‬ونظ ًرا إىل‬
‫أن كل طرف من الطرفني يحمل تفسريات مختلفة متا ًما عن اخخر ملا تسبب يف تلك األحداث‪،‬‬
‫وما آلت إليه األمور‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬عدد ال حايا‪ ،‬كان األمل املنشود من تلك املبادرة هو أنها‬
‫كال من الوفود الرتكية والوفود األرمينية‬
‫ستؤدي إىل نويف من التصالح بينهام‪ .‬وقد علمت أن ً‬
‫شملت سياسيني متقاعدين ومسؤولني‪ ،‬إىل جانب رئيس وزراء تريك سابق ورئيس وزراء‬
‫أرميني سابق‪.‬‬
‫كنت مرتد ًدا يف االن امم إىل ‪ TARC‬لعدة أسباب‪ .‬وأولها هو أن النقاش فيام يعرف‬
‫بصفة عامة با«اإلبادة الجامعية لألرمن» يعرتيه الجدل والعداوة املمتدة ألجيال عديدة‪.‬‬
‫ورغم أنني مهتم بتاريخ هذا الحدث نظ ًرا إىل أنه متداخل مع سيكولوجيا وهوية الجامعات‬
‫خا وال أعلم سوى القليل عن تاريخ العالقات الرتكية األرمينية‪ .‬وقد‬
‫الكبرية‪ ،‬فأنا لست مؤر ً‬
‫أوقع النقاش حول هذا الوقت امل طرب والشنيع بالعديد من املؤرخني البارزين يف عدد ال‬
‫يحىص من البلدان لعقود طويلة‪ ،‬فكيف عساين أن أساهم يف ذلك؟‬
‫والسبب الثاين هو أنني مل أكن مواطنًا تركيًا أب ًدا‪ .‬فقد ولدت يف قربص حني كانت‬
‫الجزيرة مستعمرة بريطانية‪ ،‬ولذا حني هاجرت إىل الواليات املتحدة يف ‪ 1957‬كنت أحمل‬
‫جواز سفر بريطان ًيا‪ .‬ثم رصت مواط ًنا أمريك ًيا يف ‪ 1964‬وق يت معظم حيايت البالغة يف‬
‫فريجينيا‪ .‬ويعود تاريخ معرفتي الوحيدة باألرمن وتعام معهم إىل أيامي املبكرة‪ .‬فحني‬
‫ريا‪ ،‬كان جريان عائلتي من األرمن‪ ،‬وقد تواصلنا مع بع نا بع ً ا بالرتكية‬
‫كنت ول ًدا صغ ً‬
‫وكنا عىل وفاق معهم‪ .‬وإىل جانب ذلك‪ ،‬كان معلم الكامن لدي‪ ،‬مونسنيور بيديليان‪ ،‬الذي‬
‫أعجبت به منذ مرحلة ما قبل املراهقة وحتى يف مرحلة املراهقة‪ ،‬أرمين ًيا‪ ،‬وقد اعتدت العزف‬
‫طفال ومراهقًا‪ ،‬مل أكن عىل‬
‫ً‬ ‫عىل الكامن عىل مرسح كنيسة أرمينية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬حني كنت‬

‫‪167‬‬
‫تساءلت عن مدى أهليتي ألن أكون ع ًوا يف‬
‫ُ‬ ‫دراية بأي عداوة بني األرمن واألتراك‪ .‬ولذا فقد‬
‫‪ .TARC‬ولكنني تيقنت من أن بقية أع اء اللجنة لهم خلفيات مشابهة‪ :‬فقد كان أحد‬
‫املشاركني قائ ًدا أرمين ًيا أمريك ًيا ملجتمع أرميني يف الواليات املتحدة‪ ،‬وكان آخر قائ ًدا ملجتمع‬
‫السابق يف العالقات‬ ‫عرفت األخري من عم‬
‫ُ‬ ‫أرميني يف االتحاد الرويس‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫األمريكية السوفيتية وعالقات جمهوريات البلطيق باالتحاد الرويس‪ .‬وكان زماليئ أع اء‬
‫اللجنة األتراك عىل علم بأنني أمتلك معرفة شخصية ومهنية محدودة بالعالقات الرتكية‬
‫يب كشخص ذي خربة يف الدبلوماسية غري الرسمية وسيكولوجيا‬
‫األرمينية‪ ،‬ولكنهم رحبوا ّ‬
‫العالقات الدولية‪.‬‬
‫راودين شعور بأن األرمن كجامعة مل يتمكنوا من الحداد عىل موتاهم بصورة‬
‫إحساسا داخليًا باالضطهاد‪ ،‬ما يجعل ذلك جز ًءا بارزًا من هويتهم‬
‫ً‬ ‫جامعية‪ ،‬وأن لديهم‬
‫الجامعية املشرتكة‪ .‬وعىل ما يبدو أن معظم هويتهم قامئة عىل ما فعلته بهم أيادي أعدائهم‬
‫يف بداية القرن العرشين‪ .‬وكنت أعلم أي ً ا أن تلك املالحظة مل تكن مستحدثة‪ ،‬ذلك أن األرمن‬
‫ي‬
‫ريا يف أرمينيا‪ ،‬فلد ّ‬
‫كتبوا بأنفسهم عن مثل هذا الشعور املشرتك‪ .‬ورغم أنني مل أكن خب ً‬
‫‪116‬‬

‫بعض املعرفة عن جامعات أخرى تتسم بإحساس مشرتك بهوية م طهدة‪ .‬ويف كتايب‬
‫سالالت‪ :‬من الفخر العرقي إىل اإلرهاب العرقي حكيت قصة إحساس الرصب باضطهاد‬
‫مستمر‪ ،‬والكيفية التي أعاد بها سلوبودان ميلوشيفيتش تنشيطه لتعزيز إحساس أحقيتهم‬
‫باالنتقام‪ 117.‬ومن هذا املنطلق توقعت أن األرمن سيجدون صعوبة يف ساميف اعتذار «اخخر»‬
‫تعديال لهوية الجامعة الكبرية‬
‫ً‬ ‫و‪/‬أو مسامحتهم‪ ،‬نظ ًرا إىل أن حركات مثل هذه تتطلب‬
‫القامئة‪ ،‬وذلك يؤدي‪ ،‬بدوره‪ ،‬إىل إثارة قلق جامعي‪.‬‬
‫ومل ميض وقت طويل حتى بدأت التعقيدات يف املفاوضات تتصاعد‪ .‬وبالفعل‪ ،‬برزت‬
‫مشاكل متعلقة بالنصب التذكارية‪ ،‬واالعتذارات‪ ،‬واملغفرة عىل الفور يف أول اجتاميف أحضه‬
‫ملنظمة ‪ .TARC‬وبدأ هذا االجتاميف الذي جرى يف أوروبا بالبيان اخيت من الوفود األرمينية‪:‬‬
‫«متكنا خالل العقود املاضية من جمع مبلغ هائل من املال‪ ،‬ونحن نخطط يف استعامله لبناء‬

‫‪168‬‬
‫معلم تذكاري هائل يف العاصمة واشنطن تخلي ًدا لذكرى اإلبادة الجامعية لألرمن عىل يد‬
‫األتراك يف ‪ .1915‬إذا اعرتفتم أنتم األتراك باإلبادة الجامعية لألرمن واعتذرتم عنها‪ ،‬فسيمثل‬
‫هذا املعلم األتراك يف صورة أف ل‪ .‬أما إذا مل تعرتفوا باإلبادة الجامعية لألرمن‪ ،‬فسيجعل‬
‫أشخاصا بشعني للغاية‪ .‬االختيار بيديكم!» علمت حينها فو ًرا‬
‫ً‬ ‫النصب امل ُقرتح األتراك يبدون‬
‫أن هذا االجتاميف أخذ منحنًا سيئًا من البداية‪ ،‬وأي أمل للحياد أو املوضوعية بني املشاركني‬
‫سيكون صع ًبا يف أحسن األحوال‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬حاولت أن أراقب بعض الظواهر الجامعية‬
‫الخفية وغري الخفية ذات الصلة بكل من األرمن واألتراك وأنا أحاول أن أظل محاي ًدا‪.‬‬
‫ومام الحظته هو أن إحساس الهوية الجامعية لألرمن كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا‬
‫بهوية األتراك الجامعية‪ ،‬ومل يكن له وجود أو مل يكن بإمكانه أن يكون موجو ًدا بشكل‬
‫مستقل عن الهوية الرتكية‪ .‬إذ ميتلك األرمن بداخلهم «طاب ًعا تركيًا» –املرتبط يف أذهان‬
‫األرمن باإلمرباطورية العثامنية– كجزء من هويتهم الجامعية‪ .‬ومل تكن تلك مالحظة غري‬
‫متوقعة بالنسبة يل‪ .‬فالجامعة اإلثنية التي تعيش تحت حكم قوة أجنبية مركزية لعقود أو‬
‫قرون تستوعب صو ًرا من الجامعة اإلثنية السائدة التابعة لتلك القوة املركزية بداخل هويتها‬
‫مع الحفاظ عىل هويتها اإلثنية والثقافية والدينية األساسية‪ .‬ونفس اليشء ينطبق‪ ،‬عىل حد‬
‫اعتقادي‪ ،‬عىل كل الجامعات‪ ،‬وليس فقط الجامعات املسيحية املختلفة التي عاشت تحت‬
‫الحكم العثامين لعدة قرون‪ .‬فحني تنهار إمرباطورية أو قوة مركزية‪ ،‬لن تتمكن الجامعة‬
‫اإلثنية املستقلة حديثًا من محو «الهوية املزدوجة» الداخلية التي تطورت مع مرور الزمن عىل‬
‫نحو مفاجئ‪ .‬ويف العادة يتحول جزء الهوية الجامعية املتعلق بالجامعة الحاكمة السابقة‬
‫قوي بني‬ ‫إىل «رش مطلق» والجزء غري «امللوث» إىل «خري مطلق»‪ .‬وينشأ صدام داخ‬
‫الهويتني‪.‬‬
‫ويخرج هذا الجزء الذي ميثل «الرش املطلق» من الباطن ويُغرس يف أحفاد الجامعة‬
‫الحاكمة أو ورثة اإلمرباطورية‪ ،‬ويخ ع للمراقبة ويكافح ضده باستمرار‪ .‬وال أحد يصف ما‬
‫أتكلم عنه هنا بشكل أف ل من الكاتب اليوناين املشهور نيكوس كازانتزاكيس‪ .‬ففي كتابه‬

‫‪169‬‬
‫تقرير إىل غريكو‪ ،‬يشري كازانتزاكيس إىل طفولته يف كريت ويعكس ما حدث لليونانيني‬
‫الذين عاشوا لقرون كرعايا لإلمرباطورية العثامنية‪ .‬ويقول‪:‬‬
‫أوال وقبل كل يشء‪ ،‬تلك كانت‬
‫أن نحظى بالحرية من األتراك ً‬
‫الخطوة املبدئية‪ ،‬والحقًا‪ ،‬بدأ كفاح جديد‪ :‬أن نحظى بالحرية من‬
‫األتراك الداخليني الخطوط املائلة م افة) – من الجهل والحقد‬
‫ريا‪،‬‬
‫والحسد‪ ،‬من الخوف والكسل‪ ،‬من األفكار الرباقة الزائفة‪ ،‬وأخ ً‬
‫تبجيال وشعبية‪ ...‬وقد‬
‫ً‬ ‫من األوثان‪ ،‬جميعها‪ ،‬حتى أكرث األوثان‬
‫احتدم هذا الكفاح)‪ ،‬الذي تجاوز حدود كريت واليونان‪ ،‬يف كل‬
‫العصور واألماكن واجتاح تاريخ البرشية‪ .‬فاملعركة القامئة اخن‬
‫ليست بني كريت وتركيا‪ ،‬بل بني الخري والرش‪ ،‬النور والظالم‪ ،‬الله‬
‫والشيطان‪ .‬ولطاملا كانت نفس املعركة الخالدة‪ ،‬ولطاملا كانت كريت‬
‫من يقف وراء الخري‪ ،‬خلف النور والله؛ ولطاملا كانت تركيا من يقف‬
‫‪118‬‬
‫وراء الرش‪ ،‬وراء الظالم‪ ،‬ووراء الشيطان‪.‬‬
‫وال بد من أن هويتي األرمن املزدوجة ك حية وم طهد كانتا قامئتني داخليًا‪ ،‬جنبًا‬
‫إىل جنب يف الخفاء‪ ،‬من أجل خلق هوية األرمن املرئية‪ .‬ووصف بعض املشاركني مامرسات‬
‫تربية األطفال يف أرمينيا ويف العائالت األرمينية يف أماكن أخرى تبني الكيفية التي تُنقل‬
‫بها هاتني الهويتني املتعايشتني إىل أطفال األرمن بد ًءا من عمر الثانية‪ ،‬حني يحيك لهم‬
‫والديهم عن قصص االضطهاد‪ .‬وحني يكرب هؤالء األطفال‪ ،‬عليهم أن يخرجوا هذا الجزء‬
‫الرتيك من ذواتهم األساسية إىل السطح حتى يكونوا أحرا ًرا من الكفاح الداخ بني ال حية‬
‫وامل طهد‪ .‬ولذا فإن األرمن البالغني –وأنا أعمم هنا بالطبع– ُملزمون بتكريس حياتهم‬
‫لالنشغال بهذا الجزء العثامين‪/‬الرتيك الخارجي‪.‬‬
‫أوحى يل اإلنذار الذي سمعته يف االجتاميف األول الذي حضته يف ‪ ،TARC‬إىل جانب‬
‫عدة مالحظات أخرى من اجتامعات الحقة‪ ،‬بأنه إذا حدث واعرتف األتراك حقًا باإلبادة‬

‫‪170‬‬
‫الجامعية لألرمن وكفلوا لهم حق االعتذار‪ ،‬فسيعكر ذلك أساس الهوية األرمينية الجامعية‬
‫بدرجة كبرية‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬سيحث ذلك حدوث اضطراب داخل املجتمع‪ .‬ومن هذا املنطلق‪،‬‬
‫خلصت إىل أنه قد تكون هناك جهود الواعية وواعية مبذولة من جانب األرمن للحفاظ عىل‬
‫الوضع الراهن للعالقة الرتكية األرمينية الشائكة‪ .‬وقد اعرتف جميع أع اء لجنة ‪TARC‬‬
‫األتراك عالنية بحدوث مأساة هائلة واضطهاد لألرمن يف ‪ ،1915‬ولكنهم كلام حاولوا أن‬
‫يعربوا عفويًا عن أي تعاطف مع معاناة األرمن‪ ،‬بدا أنهم قُوبلوا فو ًرا بالرفض‪ .‬فحتى حني‬
‫طلب أع اء اللجنة األرمينيون التعاطف من األتراك بوضوح وقوة‪ ،‬مل تكن هناك مساحة‬
‫لقبول تعاطف أع اء اللجنة األتراك‪ .‬وعلمت أن مئات رسائل الربيد اإللكرتوين ورسائل‬
‫الهاتف أُرسلت من أرمينيا والشتات األرميني إىل أع اء اللجنة األرمينيني‪ ،‬واملنظامت‬
‫األرمينية‪ ،‬واإلعالم األرميني تحث أع اء اللجنة األرمينيني عىل عدم تقويض ال غط العاملي‬
‫عىل تركيا من خالل تكوين صورة إيجابية عن املشاركني األتراك‪ ،‬وعن األتراك بصفة عامة‬
‫تفقد الرابط اخيت عىل سبيل املثال‪ )www.asbarez.com/Tarc/Tarc.html :‬ومل تحدث‬
‫ظاهرة مشابهة من الجانب الرتيك ضد أع اء اللجنة األرمينيني أو األرمن بصفة عامة‪.‬‬
‫ولكن ذلك ال يعني أن الجانب الرتيك من ‪ TARC‬مل يكن يخلو من مشاكل متعلقة‬
‫بالهوية الجامعية‪ .‬ومن املشاكل القامئة صمت املجتمع الرتيك بشأن ما حدث لألرمن يف‬
‫ظل اإلمرباطورية العثامنية حني بدأت يف االنهيار‪ ،‬وكام سأصف الحقًا‪ ،‬صمت األتراك بشأن‬
‫ما حدث ألنفسهم يف نفس الوقت‪ .‬وقد كان أع اء اللجنة األتراك ميثلون مجتم ًعا «صام ًتا»‬
‫مثل هذا‪ ،‬وكان من الصعب عليهم أن ينشقوا من معيار اجتامعي قائم بالفعل‪.‬‬
‫وكام ذكرت‪ ،‬نشأت يف قربص بصفتي ترك ًيا‪ .‬ورغم أنني كنت أعرف عد ًدا من األرمن‪،‬‬
‫مل أكن واع ًيا أب ًدا بأي عداوة بني هذين املجتمعني‪ .‬وحني انتقلت إىل تركيا يف نهاية فرتة‬
‫مراهقتي لدراسة الطب‪ ،‬مل يتكلم أحد عن األرمن‪ .‬وكان أحد أساتذيت يف كلية الطب ترك ًيا‬
‫أرمين ًيا‪ ،‬ولكن مل يبدو أن أح ًدا أبدى أي اهتامم بإثنيته‪ 119.‬وعم الصمت بشأن «املشكلة‬
‫األرمينية»‪ .‬يف الواقع‪ ،‬مل أعلم مبدى انتشار تلك «املشكلة» قبل ذهايب إىل أمريكا يف ‪.1957‬‬

‫‪171‬‬
‫ويف بداية حيايت املهنية كطبيب نفيس‪ ،‬حني حضت اجتام ًعا مهن ًيا‪ ،‬جلست إىل طبيب‬
‫نفيس آخر بنفس عمري‪ .‬وحني عرف أنني تريك من قربص‪ ،‬قال يل أنه أرميني أمرييك‬
‫وأنني أول تريك يقابله عىل اإلطالق‪ .‬ولن أنىس أب ًدا خوفه مني‪ .‬فقد بدا يل كولد صغري‬
‫ينظر إىل أكرث الوحوش رع ًبا من مخيلة طفولته‪.‬‬
‫ويف وسط املشاركني األرمينيني واألتراك يف ‪ ،TARC‬كان إدراك سبب الصمت‬
‫مختلف بدرجة كبرية‪ ،‬ما يجعل الحوار التعاطفي بينهم أم ًرا صع ًبا للغاية‪ .‬فبالنسبة إىل‬
‫األرمن‪ ،‬سبب صمت األتراك بسيط للغاية‪ :‬فاألتراك يشعرون بالذنب ولذا لن يتكلموا عام‬
‫فعله أسالفهم العثامنيني باألرمن‪ .‬ولكن تلك مل تكن تجربة املشاركني األتراك‪ .‬إذ كان تصور‬
‫األتراك عن صمتهم له عالقة كبرية بعجزهم عن الحداد عىل موتاهم خالل القرن األخري من‬
‫اإلمرباطورية العثامنية‪ .‬فمنذ ‪ ،1821‬أو بداية التمرد اليوناين عىل اإلمرباطورية العثامنية‪،‬‬
‫رشد ما يُقدر بنحو ‪ 5‬ماليني تركيًا وغريهم‬
‫وحتى ‪ ،1922‬نهاية حرب االستقالل الرتكية‪ُ ،‬‬
‫رسا من بيوتهم إبان الحروب املتكررة يف البلقان والقوقاز مع تقلص‬
‫من الرعايا املسلمني ق ً‬
‫حجم اإلمرباطورية العثامنية‪ .‬وقد أُجرب هذا العدد املهول من الناس عىل الهجرة إىل قلب‬
‫تركيا‪ ،‬األناضول‪ ،‬من قبل رعايا اإلمرباطورية السابقني غري املسلمني‪ ،‬مبساعدة األوروبيني‬
‫وعززت‬ ‫‪120‬‬
‫والروس املسيحيني‪ .‬وطبقًا للتقديرات‪ ،‬قُتل خمسة ماليني فر ًدا آخرين‪.‬‬
‫الربوباغندا األوروبية من فكرة أن العثامنيني يعيدون األرايض التي احتجزوها لقرون‬
‫ملالكها الرشعيني‪ ،‬ما خلق خلفية وتربي ًرا «أخالق ًيا» لا«نسيان» الخمسة ماليني فرد الذين‬
‫تعرضوا للنفي‪ ،‬والخمسة املاليني اخخرين الذين قُتلوا‪.‬‬
‫وما زاد األمور تعقي ًدا وحرم األتراك من الحداد عىل فقدانهم إمرباطوريتهم‪ ،‬وأهلهم‪،‬‬
‫وبيوتهم‪ ،‬وهيبتهم هو والدة الدولة الرتكية الحديثة بقائدها الجذاب‪ ،‬مصطفى كامل أتاتورك‪.‬‬
‫فمن أجل خلق تركيا جديدة‪ ،‬حارب األتراك القوميني األتراك اخخرين املوالني للسلطان‪ .‬أي‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬كانت الصورة التي كونها األتراك الجدد عن السلطان –وبالتبعية العثامنيني–‬
‫صورة «سيئة»‪ .‬ويف الفرتة األوىل من تركيا الحديثة‪ ،‬قُدرت نواحي مختارة فقط من املايض‬

‫‪172‬‬
‫العثامين‪ ،‬وتعرضت األجزاء األخرى لإلنكار‪ .‬وعم صمت شامل عن الخسائر‪ ،‬وعن الحداد‬
‫عليها‪ ،‬وعن املعاناة الشديدة‪ ،‬كام لو كانت تركيا الجديدة وقائدها الجذاب كافيني‪ ،‬ومل يكن‬
‫لديهم وقت إضايف لوضع حل لذكريات ومشاعر كريهة بطريقة أو بأخرى‪ .‬إذن فقد كان‬
‫الصمت الخاص مبا حدث لألرمن يف ‪ 1915‬جز ًءا من هذا الصمت األعم‪.‬‬
‫أتذكر أن أع اء اللجنة األتراك أضحوا واعني بذلك حني كانوا وحدهم خالل اسرتاحة‬
‫من االجتاميف‪ .‬وأدركوا فجأة أن كلهم‪ ،‬باستثناء واحد فقط عاش أسالفه دامئًا يف األناضول‪،‬‬
‫أطفاال ألتراك أجربهم رعايا اإلمرباطورية العثامنية السابقني املسيحيني عىل ترك‬
‫ً‬ ‫كانوا‬
‫حرموا جمي ًعا من الحداد عىل منازلهم‪ ،‬إذ مل يشتيك أسالفهم قط من‬
‫منازلهم‪ .‬وأنهم قد ُ‬
‫نفيهم القرسي‪ .‬وكان هذا أم ًرا مختلفًا متا ًما عام سمعناه عن بيوت األرمن‪ ،‬حيث ظلت‬
‫الجروح مكشوفة‪ .‬وقد أُحبطت محاولة مشاركة تلك املالحظة مع األع اء األرمينيني يف‬
‫مهدها‪ ،‬وذلك ألن أسلوب هذا االجتاميف تحت تنظيم املسهل األمرييك –تلميذ ملا يُدعى‬
‫اسرتاتيجية «الفوز املشرتك» العقالنية لحل النزايف– مل يكن مالمئًا لتسليط ال وء عىل‬
‫اعتبارات نفسية مثل هذه‪ .‬ولذا مل يكن التواصل التعاطفي ممكنًا‪.‬‬
‫وقد شعر األع اء األتراك أي ً ا بأن األرمن يشبّهون مأساتهم بشكل واعي‬
‫بالهولوكوست‪ .‬فقد أنفق األرمن عقو ًدا من الزمن يف بلورة هذا النموذج وجعله «واقعهم‬
‫النفيس» املشرتك‪ .‬ومل يسمحوا بأي نقاشات توضح الفروقات الهائلة بني ما حدث يف أملانيا‬
‫النازية وما حدث يف اإلمرباطورية العثامنية أثناء انهيارها‪ ،‬والنواحي التي تتشابه فيها‬
‫اإلبادة الجامعية لليهود تحت الحكم النازي مع مذابح األرمن والنواحي التي تختلف عنها‬
‫أي ً ا‪ .‬فاملشكلة مل تكمن يف إنكار املأساة‪ ،‬بل يف التشكيك يف كيفية تعيني اسم لها‪.‬‬
‫وبعدما رصت ع ًوا يف ‪ ،TARC‬قرأت الكثري عام حدث يف ‪ 1915‬من املصادر‬
‫األرمينية والغربية‪ .‬وقرأت الكثري أي ً ا من املصادر العثامنية التي طُبعت باألبجدية الجديدة‬
‫عقب والدة الجمهورية الرتكية‪ .‬وخلصت إىل أن املأساة‪ ،‬من ناحية تاريخية‪ ،‬كانت بالفعل‬
‫معقدة للغاية‪ ،‬وأن ترتيب األمور يستلزم فعله بحذر من املؤرخني من كىل الجانبني تحت‬

‫‪173‬‬
‫إرشاف طرف ثالث محايد مع إتاحة كل الوثائق لفحصها من قبل كل طرف‪ .‬وأدركت أي ً ا‬
‫أن ذلك لن يحدث عىل األرجح يف ظل التجسيد الحايل ملنظمة ‪ TARC‬نظ ًرا للمالحظات التي‬
‫دونتها أعاله‪ .‬وخلصت أي ً ا إىل أنه ال بد من استكشاف مأساة كبرية مثل هذه –برصف‬
‫النظر عن أسبابها وعن الطرق املختلفة التي يتصورها كل طرف من الطرفني املت ادين–‬
‫أوال برفق وبهدوء حتى نخلق مساحة للتواصل التعاطفي‪ .‬وبدون وجود مناخ كهذا‪ ،‬اعتقدت‬
‫ً‬
‫أن نقاشات ‪ TARC‬ستصدم بطريق مسدود‪.‬‬
‫الحظت‪ ،‬مل يكن نهج «املمثل العقالين» الذي يتبعه األمرييك املسؤول عن‬
‫ُ‬ ‫وكام‬
‫اجتامعات ‪– TARC‬وحتى يومنا هذا ال أعلم من أين جاءت األموال التي دعمت تلك األنشطة–‬
‫مالمئًا لخلق مناخ كهذا‪ .‬وحتى نحرز تقد ًما حقيق ًيا‪ ،‬ال بد من أخذ املقاومات النفسية يف‬
‫االعتبار حتى «يسمع» األع اء بع هم بع ً ا‪ ،‬ولكن املسهل األمرييك اختار بدالً من ذلك أن‬
‫يحول تلك االجتامعات إىل جلسات مفاوضة‪ .‬وبعد عدة سنوات‪ ،‬استقلت من ‪ TARC‬رغم‬
‫أنني استحدثت رغبة حقيقية يف أن أقدم بعض العون يف تحسني العالقات الرتكية‬
‫حا بني األتراك واألرمن عىل املستوى‬
‫األرمينية‪ .‬وعلمت أي ً ا بوجود اجتامعات أكرث نجا ً‬
‫الشعبي‪ ،‬وودت لو أن كل تلك األموال والجهود أُنفقت عىل منوذج أكرث فعالية من املفاوضات‬
‫غري الرسمية‪ ،‬مثل تلك التي سأصفها يف الجزء الثالث من هذا الكتاب‪.‬‬
‫وعقب استقالتي من ‪ ،TARC‬لحق يب غندوز‪ ،‬ومن ثم استقال كل أع اء اللجنة‬
‫األتراك منها باستثناء واحد‪ ،‬ورغم ذلك ُدعي أع اء جدد للمشاركة واستمرت اجتامعات‬
‫‪ .TARC‬وعىل حد فهمي‪ ،‬مل تطرأ أي تطورات مهمة يف تلك االجتامعات الالحقة‪ .‬ولكن‪ ،‬يف‬
‫مارس ‪ ،2005‬اقرتحت الحكومة الرتكية‪ ،‬بدعم كامل من الحزب املعارض يف الربملان الرتيك‪،‬‬
‫مبادرة تسعى إىل جمع املؤرخني األتراك واألرمينيني سويًا للتحقيق املشرتك يف املحفوظات‬
‫الوطنية يف إطار بعثة كاتب عدل من منظمة دولية خارجية‪ ،‬مثل اليونسكو‪ .‬وحتى اخن‪،‬‬
‫األوسع مشاعر باردة تجاه مقرتح‬ ‫أبدت الحكومة األرمينية واملجتمع األرميني الداخ‬
‫التحقيق العلمي هذا‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫مل أكن متفاجئًا بوجود مقاومة ملجرد التحليل التاريخي للتاريخ األرميني والرتيك‪،‬‬
‫وذلك ألن التاريخ والهوية الجامعية أصبحا متداخلني بشكل وثيق ج ًدا عرب األجيال‪ .‬وحني‬
‫تعجز جامعة تعرض للصدمة عن إبطال إحساسها بالعجز واإلهانة‪ ،‬وحني تعجز عن خوض‬
‫مهمة الحداد بشكل فعال‪ ،‬تنقل تلك الجامعة تلك املهام النفسية غري املنتهية لألجيال‬
‫املستقبلية‪ .‬وقد وضح املحللون النفسيون وخرباء الصحة النفسية الكيفية التي تحدث بها‬
‫عمليات النقل العابرة لألجيال مثل هذه‪ ،‬وال سيام يف دراسات عديدة عن أطفال وأحفاد‬
‫الناجني من الهولوكوست‪ 121.‬وباختصار‪ ،‬تنتقل مثل تلك املهام يف األغلب من خالل أمناط‬
‫الوالدين السلوكية‪ ،‬واإلمياءات الجسدية‪ ،‬وغريها من وسائل التواصل غري اللغوية‪ ،‬ومنح‬
‫الطفل الحنان أو حرمانه منه إذا ترصف الطفل بطرق محددة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬تحدث عمليات‬
‫النقل مثل هذه يف أغلب األحيان بشكل وايف يف إطار العالقة بني الطفل واألبوين أو الطفل‬
‫والراعي)‪.‬‬
‫ورغم االختالف الفردي لكل طفل يف األجيال املتعاقبة‪ ،‬ففي جامعة كبرية تعرض‬
‫أسالفها لصدمة هائلة وخسائر بالغة عىل يد العدو‪ ،‬يُكلف أطفال األجيال التالية مبهام أولية‬
‫مشابهة‪ :‬استكامل عملية الحداد عىل املوىت‪ ،‬وإبطال الخزي واإلهانة‪ ،‬وتحويل السلبية إىل‬
‫تأكيد الذات‪ .‬ومبا أن كل تلك املهام متعلقة بالتمثيل الذهني لنفس الحدث الذي يخلق صدمة‬
‫نفسية هائلة‪ ،‬يربط التمثيل الذهني لهذا الحدث أفراد الجامعة ببع هام بع ً ا بطريقة غري‬
‫مرئية‪ .‬وبعد عدة قرون يتطور هذا التمثيل الذهني للحدث إىل عالمة لهوية الجامعة الكبرية‪.‬‬
‫وأدعو تلك الصدمات التاريخية صدمات مختارة‪ – 122‬أي أن الصورة التاريخية لتلك الصدمة‬
‫« ُمختارة» لتمثيل جامعة بعينها‪ .‬يخلد التشيك ذكرى معركة بيال هورا من عام ‪ ،1620‬التي‬
‫أدت إىل خ وعهم إلمرباطورية هابسبورغ ملا يقرب من ثالمثائة عا ًما‪ .‬ويف الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬يستذكر هنود الكوتا الذكرى السنوية لهالكهم عام ‪ 1890‬يف ووندد ين‪ .‬ومتى‬
‫يغدو الحدث صدمة مختارة لألجيال التالية‪ ،‬ال تعود الحقيقة التاريخية املشكلة الحاسمة‬
‫لتلك الجامعة‪ .‬واملهم هو أنه‪ ،‬من خالل مشاركة الصدمة املختارة‪ ،‬يرتبط أفراد الجامعة‬

‫‪175‬‬
‫ببع هم بع ً ا‪ .‬وتصبح الصدمة املختارة‪ ،‬باعتبارها «عالمة هوية» حاسمة‪ ،‬مهمة يف حياة‬
‫الجامعة الكبرية‪.‬‬
‫وقد تقوم الجامعات الكبرية بأمور مختلفة مع تلك املهام املخولة لهم‪ ،‬وذلك يعتمد‬
‫فمثال‪ ،‬قد تشارك األجيال الالحقة يف عداوات مع الجريان املنحدرين‬
‫عىل الظروف التاريخية‪ً .‬‬
‫من ساللة امل طهِدين وميثلون امل طهِدين األصليني رمزيًا‪ .‬وإذا سمحت الظروف‬
‫الخارجية السياسية أو العسكرية ألحفاد الجامعة امل ط َهدة أن تحظى بقوة عسكرية أو‬
‫سياسية‪ ،‬فمن املحتمل أن يخوضوا مواقف مشابهة للحروب أو أن يصبحوا شوكة سياسية‬
‫يف حلق «العدو»‪ .‬وال أقصد بذلك أن صدمة الجامعة الكبرية املختارة تتسبب يف الحروب أو‬
‫ظروف مشابهة للحروب‪ .‬بل ما أعنيه أنه حني يُعاد تنشيط تلك الصدمة فمن شأنها أن تأجج‬
‫نزا ًعا ما‪.‬‬
‫حني يتداخل التاريخ‪ ،‬والخرافة‪ ،‬وهوية الجامعة الكبرية مع الصدمة والحداد املعقد‪،‬‬
‫فمن شأن النصب التذكاري أن يعيد تنشيط صدمة جامعة كبرية مختارة بنتائج كارثية‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬حني كان سلوبودان ميلوشيفيتش يثري املشاعر القومية بني الرصب بعد ‪ ،1978‬كان‬
‫ً‬
‫له دور فعال –مبساعدة بعض املفكرين الرصبيني وغريهم من الكنيسة الرصبية– يف بناء‬
‫معلم كبري عىل تل يطل عىل ساحة معركة كوسوفو‪ .‬وقد وقعت معركة كوسوفو يف ‪1389‬‬
‫بني الرصب والعثامنيني‪ .‬وعىل مر القرون‪ ،‬أضحى التمثيل الذهني لتلك املعركة –وللقائد‬
‫الرصيب األمري الزار الذي قُتل يف تلك املعركة– الصدمة الرصبية املختارة البارزة‪ .‬وكان بناء‬
‫مصمام لكشف جروح الرصب التي بلغ عمرها‬
‫ً‬ ‫معلم يف الذكرى الست مئوية لهذا الحدث‬
‫قرونًا وخلق أعداء جدد‪ .‬ويف تلك الحالة‪ ،‬ا ُستبدل العثامنيون بالبوسنيني واأللبانيني يف‬
‫العقل الرصيب‪.‬‬
‫ومعلم كوسوفو‪ ،‬الذي يقف بارتفايف مائة قدم فوق ساحة املعركة‪ ،‬مصنويف من الحجر‬
‫األحمر‪ ،‬ما ميثل الدم‪ 123.‬وأطلق الرصب عىل الزهور التي منت يف ساحة املعركة «الزهور‬
‫الحزينة»‪ ،‬نظ ًرا إىل أن وزن زهراتها تجعلها تبدو كام لو أن رأسها منحنية‪ .‬ويحاط باملعلم‬

‫‪176‬‬
‫أعمدة إسمنتية عىل شكل القذائف املدفعية‪ ،‬وعىل كل عمود تجد سيفًا منحوتًا بداخلها إىل‬
‫جانب التواريخ ‪ .1989–1389‬وينبغي أن نتذكر أن نصب قدامى حرب فيتنام التذكاري‬
‫ريا إىل اإلطار الزمني للحرب الفعلية‪ .‬ولكن‪ ،‬عىل‬
‫يحمل األعوام من ‪ 1959‬إىل ‪ ،1975‬مش ً‬
‫النقيض من ذلك‪ ،‬توحي التواريخ املحفورة يف معلم كوسوفو أن الحرب ال تزال قامئة‪ ،‬وأنه‬
‫مل يُبنى إلنهاء عملية حداد الرصب البالغة من العمر ستامئة عا ًما‪ ،‬بل إلعادة فتحها‪ .‬ومل تكن‬
‫النية منه السامح بأفكار املغفرة‪ ،‬بل الحث عىل االنتقام من األعداء الحاليني الذين ميثلون‬
‫األعداء األصليني نفس ًيا‪.‬‬
‫وال أريد أن أرمي إىل أن بناء معلم كوسوفو أدى إىل املآيس التي وقعت يف‬
‫يوغوسالفيا السابقة بطريقة ما‪ .‬ولكني أعتقد أن هذا الهيكل يعرب رمزيًا عن مشاعر انتقلت‬
‫عرب األجيال‪ .‬وقد أُوقظت مشاعر االضطهاد من «سباتها» عىل يد القادة اإلثنيني القوميني‬
‫من خالل هذا املعلم ومجموعة متنوعة من الوسائل األخرى‪ .‬وسأقدم معلومات تفصيلية عن‬
‫ذلك الحقًا‪ ،‬ولكني من خالل الرتكيز يف هذا الفصل عىل الكيفية التي تتفاعل بها جامعة مع‬
‫نصب تذكارية تكرم املوىت وتذكرهم بصدمتهم‪ ،‬حاولت أن أسلط بعض ال وء عىل‬
‫السيكولوجيا املعقدة القامئة بني الجامعات الكبرية املتنازعة‪ .‬ومن شأن تلك العوامل بدورها‬
‫أن تؤثر عىل السياسات السياسية‪ .‬ولذا‪ ،‬يف العالقات الدولية‪ ،‬ينبغي أال ينصب الرتكيز عىل‬
‫فعل اعتذار واحد سحري ظاهريًا)‪ ،‬أو طلب املغفرة‪ ،‬أو زيارة مكان العدو الساخن‪ .‬بل‬
‫ينبغي أن يكون عىل تطوير اسرتاتيجيات تساعد عملية حداد الجامعة امل طهدة‪ ،‬وعىل‬
‫تعديل مثل تلك العمليات من أجل ترويض مشاعر االنتقام‪ ،‬وعىل تعزيز اإلحساس بالتعايش‬
‫السلمي‪ ،‬وعىل خلق مناخ سيايس يجد فيه امل طهد وال حية مرب ًرا لنويف جديد من القرابة‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫مسرية موت باتان ورحالت قتل الحيوانات‬ ‫‪9‬‬

‫إن االستجابات املجتمعية املتنوعة للصدمات الجسيمة عىل أيدي «اخخرين»‪ ،‬مبا فيها‬

‫بناء النصب التذكارية التي قدمت أمثل ًة عليها يف الفصلني السابقني‪ ،‬ترتبط مبحاوالت إقامة‬

‫الحداد عىل الخسائر وإصالح الهوية املجروحة للمجموعة الكبرية‪ .‬ميكننا اخن تحويل‬

‫انتباهنا إىل نويف مختلف من االستجابات املجتمعية‪ ،‬وهو النقل العابر لألجيال ملهامت نفسية‬

‫محددة‪ ،‬تسلم إىل نسل املجموعة املتضرة‪ ،‬كام لو كانت هذه املهامت ستعنى بإكامل حداد‬

‫اخباء غري املكتمل ونشاطات اإلصالح غري املنتهية‪ .‬لرشح مفهوم النقل العابر لألجيال‪،‬‬

‫سأصف يف هذا الفصل بيشء من التفصيل كيف ميكننا مالحظته يف الفرد‪ .‬ومبجرد أن‬

‫نقال عاب ًرا لألجيال‪ ،‬سأركز يف الفصل التايل عىل إمكانية أن تصبح‬
‫نرى أن هناك شي ًئا يدعى ً‬

‫عمليات النقل املشرتكة العابرة لألجيال يف املجموعات الكبرية عوامل بارزة يف الحركات‬

‫املجتمعية‪ ،‬و‪/‬أو السياسية‪ ،‬و‪/‬أو التاريخية‪.‬‬

‫هناك اختالفات يف عمليات النقل العابرة لألجيال‪ ،‬وكام سرنى‪ ،‬فإن بعض األنوايف‬

‫أكرث مالءم ًة للمشاركة ولبدء عملية مجتمعية‪ ،‬و‪/‬أو سياسية‪ ،‬و‪/‬أو تاريخية‪ .‬ولكن كل أنوايف‬

‫النقل العابر لألجيال لديها يشء مشرتك‪ :‬فهي تعتمد عىل النفاذية يف الحد النفيس بني‬

‫األطفال وأمهاتهم أو األشخاص املهمني اخخرين ممن يقدمون الرعاية لهم‪ .‬ميكن أن متر‬
‫‪178‬‬
‫مشاعر القلق واملشاعر األخرى‪ ،‬والخياالت غري الواعية‪ ،‬واألماين‪ ،‬وسبل الدفايف ضد هذه‬

‫األماين إىل الوعي النامي لدى الطفل بنفسه‪ .‬يالحظ املحللون النفسيون مثل هذه الظواهر‬

‫منذ عقود‪.‬‬

‫أظهرت دراسة من أوائل أربعينيات القرن العرشين أجرتها املحللتان النفسيتان‬

‫املعروفتان آنا فرويد ودورويث برلنغهام كيف أنه‪ ،‬يف أثناء الهجامت األملانية عىل لندن يف‬

‫الحرب العاملية الثانية الحظ بعض األطفال بقلق القامئني عىل رعايتهم‪ ،‬وبدورهم‪ ،‬أصبحوا‬

‫قلقني هم أي ً ا‪ .‬إذا بقي األمهات ومقدمو الرعاية هادئني‪ ،‬لن يشعر األطفال بالقلق‪.‬‬
‫‪124‬‬

‫شخصا بارزًا يف‬


‫ً‬ ‫الحقًا‪ ،‬يف منتصف ستينيات القرن العرشين‪ ،‬كان هاري ستاك سوليفان‬

‫مجال التحليل النفيس‪ ،‬وكان يدرس بشكل خاص األشخاص الذين يعانون من مرض‬

‫انفصام الشخصية‪ .‬ركزت نظريته الخاصة بانفصام الشخصية يف املقام األول عىل إمكانية‬

‫انتقال قلق األم بطريقة سامة إىل الطفل‪ 125.‬يف أواخر ستينيات القرن العرشين‪ ،‬وضحت‬

‫مالحظات مارغريت مالر عام يدعى الطور التكاف لنمو الطفل يف الفرتة نحو ما بني‬

‫أربعة أسابيع وخمسة أشهر من العمر) كيف ميكن يف مناطق معينة‪ ،‬أن يدمج الطفل وأمه‬

‫صورهام العقلية ووظائفهام العقلية ويترصفا كام لو كانا وحد ًة واحدة‪ .‬مير الطفل ما بني‬

‫خمسة أشهر إىل ستة وثالثني شه ًرا من عمره فيام يدعى بأطوار االنفصال – التفرد ليصبح‪،‬‬

‫‪179‬‬
‫من ناحية نفسية‪ ،‬فر ًدا يف حد ذاته أو ذاتها‪ 126.‬أشار باحثون أكرث حداث ًة يف مثانينيات‬

‫وأوائل تسعينيات القرن العرشين أي ً ا إىل كيفية مرور املشاعر و«الرسائل» النفسية عرب‬

‫ريا‪ ،‬بدأ مرشويف بحث مخربي ما يزال قامئًا يف كلية‬


‫الحد النفوذ بني األم والطفل‪ .‬أخ ً‬
‫‪127‬‬

‫كوبيو للطب يف فنلندا بتقديم أدلة وافرة عىل عمليات النقل عرب األجيال وأسسها‬
‫‪128‬‬
‫النفسية‪.‬‬

‫تظهر بعض تقارير الحالة الرسيرية أي ً ا بوضوح إمكانية تفسري األعراض التي‬

‫يعاين منها الفرد بالشكل األف ل‪ ،‬أو عىل األقل بشكل جزيئ‪ ،‬بدراسة ما مر عرب «الحد»‬

‫مثال‪ ،‬وصفنا أنا والطبيب النفيس أسعد املرصي اعتقاد عابرة مؤنثة‬
‫النافذ بني األم واالبن‪ً .‬‬

‫للجنس بأنها رجل وأن جلدها لو فتح سحابه كام تفتح الثياب لظهر ق يب من بني ساقيها‪.‬‬

‫عملنا أي ً ا مع أم هذه العابرة جنس ًيا ومتكنا من إظهار أن هذه العابرة جنس ًيا كانت تعكس‬

‫بشكل أسايس خيال أمها الالواعي بأن ابنتها كانت ق يبًا ذكريًا‪ ،‬وقد نقلت األم هذا الخيال‬

‫الالواعي إىل ابنتها‪ .‬عندما أنجبت طفلتها‪ ،‬التي أصبحت عابر ًة جنس ًيا يف املستقبل‪ ،‬كانت‬

‫ريا ما‬
‫تعيش يف بلد أجنبي مع زوجها الذي كان يشارك يف نشاط عسكري شبه رسي وكث ً‬

‫كان بعي ًدا عن املنزل‪ .‬شعرت األم الشابة باإلحباط‪ ،‬والقلق‪ ،‬واالنتكاس‪ ،‬وكانت تريد بعض‬

‫املتعة‪ .‬لذا‪ ،‬كانت ت ع ابنتها الرضيعة بني ساقيها ومتارس العادة الرسية كام لو كانت ابنتها‬

‫‪180‬‬
‫بديال عن الق يب‪ .‬بعد فرتة كان خيالها عن كون رضيعتها األنثى ق ي ًبا قد تعمم‬
‫الرضيعة ً‬

‫إىل درجة أنها كانت تغطيها بالبطانيات عند الخروج إىل األماكن العامة كام يغطي البالغون‬

‫الق يب ويخبئونه يف األماكن العامة‪ .‬مل تكن ابنتها تعلم قصة أمها من قبل‪ ،‬ولكن خيال‬

‫األم نقل‪ ،‬واق ًعا‪ ،‬إليها ألن االبنة كربت وهي تعتقد أنها متتلك ق ي ًبا‪ 129.‬يف حالة أخرى‪،‬‬

‫سجلت أنا وعامل النفس روبرت زوكرمان كيف مررت أم بعمود فقري مشوه الصورة الذهنية‬

‫ملشكلتها الجسدية إىل ابنها الذي‪ ،‬بدوره‪ ،‬ترصف كام لو كان عموده الفقري مشو ًها‪.‬‬
‫‪130‬‬

‫‪131‬‬
‫هناك أمثلة وفرية عىل حاالت رسيرية كهذه‪.‬‬

‫بأخذ نفاذية الحد النفيس بني الطفل واألم أو مقدم رعاية آخر يف عني االعتبار‪ ،‬فإن‬

‫تركيزي يف هذا الفصل سينصب عىل ما أسميه إيدايف الصورة الذاتية للبالغني أو الصور‬

‫الداخلية لألشخاص اخخرين يف الذات النامية للطفل‪ 132.‬اإليدايف نويف محدد من النقل العابر‬

‫ريا من‬
‫لألجيال يرتبط بشكل وثيق مبفهوم التعريف املعروف جي ًدا‪ .‬لكن يختلف اختالفًا كب ً‬

‫بعض النواحي عن تحديد الهوية‪ .‬يف تحديد الهوية يكون األطفال الرشكاء الفاعلني‬

‫األساسيني؛ فهم يأخذون بشكل غري وايف غال ًبا) جوانب من رشكائهم البالغني وبعض‬

‫خاصا بهم‪ .‬هناك تحديد‬


‫ً‬ ‫وظائف الرشكاء البالغني‪ ،‬ويستوعبون ما يأخذونه‪ ،‬ويجعلونه‬

‫صحي وغري صحي للهوية‪ .‬يف عملية اإليدايف‪ ،‬يدفع الشخص البالغ بشكر فاعل أكرث الصور‬

‫‪181‬‬
‫الذاتية املحددة والصور املعكوسة داخل ًيا لآلخرين لتنمية ذات الطفل‪ .‬بكلامت أخرى‪ ،‬يستغل‬

‫البالغ الطفل‪ ،‬بشكل غري وايف غال ًبا‪ ،‬كمستوديف لصور ذهنية معينة تنتمي إىل ذلك الشخص‬

‫البالغ‪ .‬عىل الرغم من أن الطفل‪ ،‬الذي يصري مستود ًعا‪ ،‬ليس رشيكًا متلق ًيا سلب ًيا بالكامل‪،‬‬

‫فإن الطفل ليس من يرشيف بنقل الصور مع الوظائف املرتبطة بها؛ بل البالغ هو من يبدأ‬
‫‪133‬‬
‫هذه العملية‪.‬‬

‫من املجاالت التي ميكن فيها رشح مفهوم اإليدايف بشكل واضح ما يرتبط مبا يسمى‬

‫ظاهرة «الطفل البديل»‪ 134.‬تخيل أن أ ًما لديها صورة داخلية مكونة عن طفلها الذي ميوت‬

‫مثال‪ ،‬بعمر ثالث سنوات‪ .‬هي توديف هذه الصورة يف الذات النامية لطفلها الثاين‪ ،‬الذي‬
‫فجأة‪ً ،‬‬

‫يولد عاد ًة بعد موت الطفل األول‪ .‬ليس لدى الطفل الثاين‪ ،‬الطفل البديل‪ ،‬خربة فعلية مع‬

‫أخيه املتويف‪ ،‬وال صورة لهذا الطفل املفقود‪ .‬األم‪ ،‬التي لديها صورة للطفل امليت‪ ،‬تعامل‬

‫الثاين كمستوديف ميكن فيه أن يبقى الطفل امليت «حيًا»‪ .‬وفقًا لذلك‪ ،‬تعطي األم الطفل الثاين‬

‫حا‪ ،‬ينمي‬
‫مهامت أنانية معينة لحامية ما أودعته يف هذا الطفل الثاين والحفاظ عليه‪ .‬وضو ً‬

‫مثال‪،‬‬
‫األطفال البديلون أي ً ا وظائفهم األنانية الخاصة للتعامل مع ما دفع إىل داخلهم‪ً .‬‬

‫يشغل األطفال البديلون أنفسهم مبهمة مكا َملة الصورة املودعة مع ما تبقى من متثيلهم‬
‫‪135‬‬
‫للذات‪ .‬وقد ينجحون يف فعل ذلك أو ال ينجحون‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫قد يدفع بعض البالغني أي ً ا بشكل فاعل‪ ،‬ولكن غري وايف يف معظمه‪ ،‬صورهم الذاتية‬

‫املتأذية بالصدمات النفسية‪ ،‬ترافقها أحيانًا صور داخلية لآلخرين الذين لعبوا دو ًرا يف‬

‫الصدمات‪ ،‬إىل الذات النامية لألطفال الخاضعني لرعايتهم‪ .‬تنتمي الذكريات الفعلية الخاصة‬

‫بالصدمات إىل البالغني؛ أما األطفال املستودعون فال تكون لديهم تجربة مع الصدمة‪ .‬ال‬

‫ميكن نقل الذكريات الفعلية الخاصة بشخص ما إىل آخر‪ ،‬ولكن ميكن للشخص البالغ أن‬

‫يوديف الصور املتأذية بالصدمات يف ذات الطفل‪ .‬بتأدية فعل اإليدايف‪ ،‬فإن املوديف يصدر‬

‫الصور امل طربة خارجيًا إىل شخص آخر‪ .‬وبشكل موافق‪ ،‬يهدف املوديف إىل أن يتحرر من‬

‫حمل الصور امل طربة داخل ًيا و‪ ،‬لحد ما أو خخر‪ ،‬يتعامل مع الرصاعات الذهنية والقلق‬

‫املصاحب لهذه الصور‪ .‬من جانب آخر‪ ،‬يعطى الطفل املستوديف «مورث ًة» نفسية تؤثر عىل‬

‫متثيل الذات‪ ،‬وبالتايل عىل حس الطفل بالهوية‪ .‬بعد إيدايف الصور امل طربة يف الطفل‬

‫يوجه املوديف أي ً ا‪ ،‬بشكل غري وايف يف معظمه كذلك‪ ،‬ليشارك يف مهامت معينة للمحافظة‬

‫عىل ما أوديف فيه‪ .‬يوجه املوديف الطفل أحيانًا لفعل يشء أو آخر‪ ،‬أو أن يطور خصلة شخصية‬

‫أو أخرى ألجل أن يعدل ما يحمله الطفل اخن أو يشفيه‪« .‬ي‪/‬تتحكم» البالغ‪/‬ة مبعنى ما مبا‬

‫ينتمي يف األصل له أو لها وهو اخن «ظاهر هناك» يف الطفل‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫عندما يأيت األفراد الذين كانوا يحتفظون بالصور املودعة خالل طفولتهم إىل‬

‫التحليل‪ ،‬سرتتكز مقاومتهم للعملية التحليلية وللتحسن يف وقت ما حول مواجهة احتاملية‬

‫التوقف عن لعب دور املستوديف‪ ،‬أو عىل األقل تعديل هذا الوضع‪ ،‬ما يغري حسهم بهويتهم‬

‫املوجودة‪ .‬إن تجاهل أو تعديل ما أوديف يف الذات يؤدي إىل القلق تجاه تغري هوية املرء‬

‫الشخصية‪ ،‬وفقدان الصلة بتمثيل األم أو غريها ممن لعب دور املوديف من مقدمي الرعاية‪،‬‬

‫ويؤدي حتى إىل «قتل» املوديف‪ .‬لذلك‪ ،‬تطفو مقاومة ضد التحسن‪ .‬عندما يحدث هذا يف أثناء‬

‫عملية التحليل النفيس‪ ،‬يصلح مفهوم النقل عرب األجيال واض ًحا‪ .‬االنتقاالت مشرتكة بني كل‬

‫األطفال أو معظمهم يف مجموعة كبرية تعرضت للصدمة النفسية عىل أيدي أعدائها‪،‬‬

‫وسأعود يف الفصل القادم إىل مفهوم الصدمة املختارة التي وصفت مسبقًا يف الفصل‬

‫أوال أن أرشح مفهوم النقل العابر لألجيال بدراسة حالة‪.‬‬


‫السابق‪ .‬ولكنني أريد ً‬

‫قبل حرب الخليج التي أعقبت غزو العراق للكويت‪ ،‬أىت عامل نفس‪/‬محلل نفيس خبري‬

‫يدعى د‪ .‬بول ليس اسمه الحقيقي) من مدينة أخرى لرياين يف تشارلوتسفيل‪ ،‬فريجينيا‪،‬‬

‫حيث أعيش‪ .‬كنت قد التقيت به قبلها‪ ،‬ولكنني مل أكن أعرفه جي ًدا‪ .‬وقد وصف يل كيف تعرض‬

‫لفقد مرويف وغري متوقع جعله مكتئ ًبا مبا يكفي ليتوقف عن العمل لنحو عامني‪ .‬قال إنه أعاد‬

‫فتح مكتبه مؤخ ًرا ومن الناس الذين أتوا إليه طل ًبا ملساعدته رجل سندعوه بيرت‪ .‬عىل ما يبدو‪،‬‬

‫‪184‬‬
‫فإن بيرت كان قد اختار اسم املحلل النفيس من دليل هاتفي‪ .‬من خالل استامعه لبيرت‪ ،‬شعر‬

‫الدكتور بول أن طفولة املريض امل طربة تذكره بجوانب من طفولته الخاصة به نفسه‪.‬‬

‫اعتقد أنه يف املايض‪ ،‬قبل الفقد العظيم غري املتوقع‪ ،‬كان ليتمكن من التعامل مع التشابه‬

‫بني قصص طفولته وقصص طفولة مرضاه‪ .‬ولكن بعد االكتئاب الحديث الخاص به نفسه‪،‬‬

‫مل يكن واثقًا تجاه العمل مع بيرت دون استشارة‪ .‬كان قد قرأ بعض كتبي التي تتناول‬

‫اضطرابات الشخصية‪ ،‬لذا سألني د‪ .‬بول إن كان بإمكانه أن يستشريين بينام يعالج بيرت‪.‬‬

‫ورغم أن قصة د‪ .‬بول ليست محط تركيزي هنا‪ ،‬فإنني ذكرت ما سبق بشكل رئييس ألذكر‬

‫منغمسا يف العملية وعالقتي بالدكتور بول‪ .‬انتهى األمر يب وبالدكتور بول‬


‫ً‬ ‫كيف أصبحت‬

‫بأن رصنا نلتقي مر ًة يف األسبويف يف خالل تحليل بيرت الذي استمر خمس سنوات‪ ،‬رغم أنه‬

‫كان عىل د‪ .‬بول أن يسافر ملسافة معتربة ليأيت لزياريت‪.‬‬

‫أرشت إىل حالة بيرت يف مكان آخر‪ 136،‬ولكنني هنا سأقدم تفاصيل مل تكن متاح ًة‬

‫قبل‪ .‬باختصار‪ ،‬كان متثيل بيرت الذايت مستود ًعا لصورة زوج أمه الذاتية امل طربة‪ ،‬كام‬

‫سأظهر قري ًبا‪ .‬كان زوج أم بيرت‪ ،‬غريغوري‪ ،‬بحا ًرا أمريك ًيا يف الحرب العاملية الثانية عمل‬

‫مسؤوال عن طوربيداتها‪ .‬أمسك به اليابانيون وهو متمركز يف الفيليبني‬


‫ً‬ ‫يف غواصة وكان‬

‫وأجرب عىل املشاركة يف مسرية املوت املرعبة يف باتان يف ربيع عام ‪ ،1942‬حني أجرب‬

‫‪185‬‬
‫ميال يف‬
‫‪ 76,000‬أمرييك وفيليبيني باألسواط واألسلحة عىل امليش خمسني أو ستني ً‬

‫الشمس الحارقة‪ .‬مات نحو ‪ 20,000‬سجي ًنا‪ 11,600 ،‬منهم أمريكيون‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬كان‬

‫غريغوري يف معسكر اعتقال ياباين حتى نهاية الحرب‪ ،‬حيث تعرض لقسوة ال تصدق‪.‬‬

‫شاهد قطع رؤوس زمالئه السجناء بالسيوف؛ ودفن أصدقاءه املوىت يف قبور ضحلة وأعاد‬

‫دفنهم عندما أعادت الفي انات جثثهم إىل السطح‪ .‬خ ع لفقدان الحيلة وإهانة الكرامة‬

‫وعاىن أي ً ا من العديد من األمراض الجسدية‪.‬‬

‫نحيال‪ ،‬متعبًا كان قد فقد خمس ًة وستني ً‬


‫رطال‬ ‫ً‬ ‫بعد عودته إىل الواليات املتحدة بقليل‪،‬‬

‫خالل اعتقاله)‪ ،‬شعر غريغوري بالود تجاه امرأة كان زوجها قد تركها عندما كان ولدهام‬

‫الوحيد‪ ،‬بيرت‪ ،‬يبلغ من العمر ثالثة أسابيع فقط‪ .‬انتقل غريغوري يف النهاية للسكن معها‪،‬‬

‫ومع بيرت‪ ،‬ومع أمها بعد عيد ميالد بيرت الثالث بقليل‪ .‬يف طفولة بيرت املبكرة‪ ،‬بقي غريغوري‬

‫يف املنزل بينام ذهبت املرأتان للعمل‪ ،‬ما جعله يأخذ الدور األبوي الرئييس بالنسبة لبيرت‪.‬‬

‫وبعد فرتة قليلة‪ ،‬تزوج غريغوري أم بيرت وتبنى بيرت كابن له‪ .‬انتقل هو‪ ،‬وزوجته‪ ،‬وبيرت‬

‫إىل منزل جديد‪ ،‬تاركني وراءهم جدة الطفل‪ ،‬التي توفيت عندما كان بيرت يف سنني ما قبل‬

‫املراهقة‪ .‬وفقًا لبيرت‪ ،‬ناد ًرا ما تحدث زوج والدته عن تجاربه املريعة يف الحرب عندما كان‬

‫‪186‬‬
‫طفال‪ .‬كان جي ًدا مع بيرت واستمر يف كونه مقدم الرعاية األسايس لبيرت‪ .‬كان بيرت‬
‫ً‬ ‫بيرت‬

‫بطال‪.‬‬
‫الصغري يعترب غريغوري ً‬

‫قبل ظهور غريغوري عىل الساحة‪ ،‬كانت أم بيرت وجدته غاضبتني بشكل عام تجاه‬

‫الرجال‪ .‬عندما تركها زوجها األول‪ ،‬تحول غ ب والدة بيرت الفظيع بشكل ال واعي يف‬

‫معظمه إىل ابنها وتدخل يف استقاللية الطفل النامية‪ .‬يف تشكيل انفعاالتها‪ ،‬أطعمته أكرث‬

‫مام يجب‪ ،‬بل أجربته عىل تناول الطعم حتى‪ ،‬ما جعل الصبي الصغري مفرطًا يف السمنة‪.‬‬

‫يف السنة الخامسة –خالل طور اإلنهاء– من تحليله عند د‪ .‬بول‪ ،‬بدأ بيرت مبراجعة ما تعلمه‬

‫خالل تحليله‪ .‬يف حلم‪ ،‬رمز لحياته مع والدته وجدته بالعيش تحت قبة مع مرأتني بدتا‬

‫مخلوقتني ف ائيتني عدوانيتني‪/‬جنسيتني من كوكب آخر‪ .‬يف حلم مراجعة آخر‪ ،‬يدخل زوج‬

‫غزاال مشو ًها بسيقان سميكة‪ ،‬عاثرة وبال قرون مبالغًا يف إطعامه‬
‫والدته حياته ويرى بيرت ً‬

‫ومخصيًا من املرأتني) ويحاول أن ينقذ الصبي‪.‬‬

‫قبل أن أرشح ظاهرة النقل عرب األجيال كام ظهرت يف العالقة بني غريغوري وبيرت‪،‬‬

‫من املفيد إلقاء نظرة عني النرس عىل التحليل اإلجاميل لبيرت‪ .‬سيوفر هذا الخلفية الضورية‬

‫ملالحظة مفهوم كيفية «إيدايف» البالغني للصور يف ذوات األطفال بوضوح‪ ،‬يرافقه أي ً ا‬

‫إمرارهم الوظائف ألطفالهم لتوجيههم يف كيفية التعامل مع ما «أوديف» يف داخلهم‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫جا ويف منتصف‬
‫عندما سعى بيرت للحصول عىل عالج بالتحليل النفيس كان متزو ً‬

‫األربعينيات من عمره‪ ،‬وذا ابنة تدرس يف الجامعة‪ .‬كان بيرت رشيكًا يف رشكة تعمل يف‬

‫مجال إنتاج األسلحة‪ .‬وكان لديه تاريخ طويل من اإلفراط يف الرشب‪ .‬كانت لديه مشكلة‬

‫أخرى أي ً ا‪ :‬الرشه املريض‪ .‬بدأ يفرط يف تناول الطعام ويستفرغ منذ كان عمره عرشين‬

‫عا ًما‪ ،‬ويف بعض األحيان‪ ،‬كان يتخم نفسه ويستفرغ أكرث من مرة يف اليوم‪ .‬يف املنزل شعر‬

‫بانعدام القرب من عائلته‪ .‬بدا له هذا خاط ًئا‪ ،‬ولكنه مل يكن ليتخذ خطوات لتغيري الوضع‪.‬‬

‫ترك زوجته تدير حياتهام االجتامعية دون إبداء حامسة لذلك وأعلن‪« ،‬ال أحب ابنتي حقًا»‪.‬‬

‫كانت دوافعه الجنسية مثبطة‪ ،‬يعوض عنها شغفه لقتل الحيوانات‪ .‬غال ًبا ما كان يسافر‬

‫ألماكن بعيدة ليصطاد حيوانات الغريبة‪ .‬كان صيا ًدا‪ ،‬ولكنه مل يكن رياضيًا‪ .‬عىل سبيل‬

‫املثال‪ ،‬كان يطري فوق قطيع من الغزالن بطائرة مروحية يف أماكن كأالسكا ويرتكب مجزر ًة‬

‫بالحيوانات باستخدام رشاش آيل‪ .‬كانت هوايته التحنيط‪.‬‬

‫ريا عىل‬
‫يف أحد األيام‪ ،‬برفقة زوجته‪ ،‬كان يف غداء عمل يف لوس أنجلوس‪ .‬رشب كث ً‬

‫الطاولة ثم بدأ يستفرغ أمام ال يوف‪ ،‬ملوثًا ثياب كل قائد سيايس بارز‪ ،‬يرمز إىل صورة‬

‫األب‪ .‬أصبحت زوجته محرج ًة ج ًدا وأخربته أن عليه أن يخ ع للعالج‪ .‬أضافت أنه إن مل‬

‫يتعالج‪ ،‬فستطلقه‪ .‬هذا ما دفع بيرت للذهاب إىل د‪ .‬بول‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫بدأ بيرت العالج بيشء من الغرور‪ ،‬متشوقًا ليظهر أنه مسيطر وال يحتاج إىل أحد‪.‬‬

‫كان يذهب لزيارة د‪ .‬بول فقط لرييض زوجته‪ .‬رفض الجلوس عىل األريكة‪ ،‬ووافق الدكتور‬

‫بول عىل العمل معه وج ًها لوجه حتى شعر بيرت أنه مستعد لألريكة‪ ،‬التي كان يعتربها بيرت‬

‫دليال عىل التبعية‪ .‬خالل األسبويف األول من العالج‪ ،‬توقف عن الرشب‪ .‬وذكر أن لديه أف ل‬
‫ً‬

‫ع الت بطن ميكن ألحد أن يحصل عليها وأن بإمكانه يتقيأ حينام يشاء‪ .‬وأعلن أن مامرساته‬

‫الرشهة ليست مشكلةً‪.‬‬

‫قبل بدء زياراته للدكتور بول‪ ،‬كانت رشكة بيرت منخرطة يف صفقة بقيمة نصف‬

‫بليون دوالر‪ .‬قال بتعال‪« :‬أظن أن بإمكاين إخبارك باسم الصاروخ الذي نطوره»‪ ،‬م يفًا‬

‫«هذه ليست معلومات رسية»‪ .‬وذكر كيف أنه قتل «لضورات الحرب» أطفاالً ونساء أثناء‬

‫خدمته يف فيتنام‪ .‬بعد التباهي بأشياء مختلفة ملدة ثالثة أشهر‪ ،‬قال للدكتور بول‪« ،‬أنت رجل‬

‫مهام‪ .‬عندما كنت يف فيتنام كان لدي خمسون طبيبًا تحت إمريت؛‬
‫شخصا ً‬
‫ً‬ ‫لطيف‪ ،‬لكنك لست‬

‫كان اثنان منهم طبيبني نفسيني‪ .‬آمل أال تشعر باإلهانة إذا توقفت عن املجيء»‪ .‬مل يكن بيرت‬

‫شخصا محبوبًا‪ .‬أظن أن هذا ساعد د‪ .‬بول عىل البقاء يف وضع عالجي مع‬
‫ً‬ ‫يف هذا الوقت‬

‫وكيال عن زوجة بيرت‪ ،‬بل كان هناك ببساطة ليعمل معه‪ ،‬وأن‬
‫ً‬ ‫بيرت‪ .‬أخرب بيرت أنه مل يكن‬

‫القرار بيد بيرت إن أراد االستمرار يف العالج أم ال‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫اختار بيرت االستمرار يف العالج وبدأ يستلقي عىل أريكة الدكتور بول أربع مرات يف‬

‫كان لبيرت‪ ،‬كام اعتقدنا‪ ،‬نظام‬ ‫‪137‬‬


‫األسبويف‪ .‬مطو ًرا ما أسميه نقلة «الفقاعة الزجاجية»‪.‬‬

‫إحساسا جائ ًعا‬


‫ً‬ ‫شخصية نرجسية ملوث بالسادية‪ .‬الحظنا أي ً ا أنه يخفي تحت تبجحه‬

‫بالذات‪ .‬يتخيل أمثال بيرت من الخاضعني للتحليل النفيس وجود يشء مثل الفقاعة الزجاجية‬

‫التي تشكل مملكة يكون فيها الفرد هو الرقم واحد والشخص الوحيد‪ ،‬شخص يسيطر عىل‬

‫عامل خاص به‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ي ع هؤالء الناس عظمتهم تحت حاجز وقايئ نفيس)‪.‬‬

‫يراقبون باستمرار ما يقع خارج فقاعتهم الزجاجية املجازية‪ .‬الناس الذين يعتربون أنهم‬

‫موجودون بغاية الهيام بهم‪ ،‬يقرون بوجودهم؛ ويستهينون بقيمة أولئك الذين يعتربونهم‬

‫أشخاصا ال يقبلون كونهم هدية الله لألرض‪ .‬يرمز األشخاص املستهان بهم إىل الجزء‬
‫ً‬

‫«الجائع» من الفرد الرنجيس)‪ .‬تحدث بيرت حقيق ًة عن «إمرباطورية عىل جزيرة» كان يود‬

‫العيش فيها وحي ًدا‪ .‬توقع بيرت من محلله أن يبقى خارج جزيرته الخيالية‪ ،‬ألنه حقًا مل يتوقع‬

‫االعرتاف بها‪ .‬كان يظهر سلوكًا مشاب ًها يف املنزل‪ .‬فقد بنى غرف ًة خاصة ضخمة يعرض فيها‬

‫صيوده املحنطة‪ .‬كان يجلس هناك وحي ًدا ويتأمل كم هو شخص رائع‪.‬‬

‫عىل األريكة ترصف بيرت كام لو كان يف فقاعة زجاجية‪ .‬أبقى د‪ .‬بول خارج مملكته‬

‫ريا ما كان بيرت يباهي مبعرفته بأشخاص بارزين ويتبجح‪.‬‬


‫الخاصة وأنقص من قيمته‪ .‬كث ً‬

‫‪190‬‬
‫دعمت د‪ .‬بول يف جهوده للتسامح مع هذا‪ ،‬ألنه يظهر قبوالً للتكيف الدفاعي الشخيص لبيرت‬

‫قبل استكشاف ذاته املتطلبة وامل طربة التي كانت تختبئ خلف عظمته السطحية‪ .‬كان بيرت‬

‫فمثال‪ ،‬كان يبدو ظاهريًا أنه ال‬


‫ً‬ ‫يظهر هذا الجانب املتطلب واملخفي من ذاته بني حني وآخر‪.‬‬

‫يكرتث بزوجته أو محلله النفيس‪ ،‬ولكن إذا غابت زوجته أو غاب محلله لفرتة قصرية‪ ،‬كان‬

‫املراق املريض يظهر عىل بيرت‪.‬‬

‫حدث تغيري جذري يف نهاية السنة األوىل من عالج بيرت‪ .‬بعد أن سمع أن والدته‪،‬‬

‫التي كانت يف السبعينيات من عمرها‪ ،‬كانت مري ة‪ ،‬شعر بيرت بالنعاس عىل األريكة والحظ‬

‫أن شعر أمه ما يزال أسو ًدا‪ .‬ومىض يقول إنه عىل الرغم من أن سلوك الدببة ميكن التنبؤ به‬

‫إىل حد كبري كقاعدة‪ ،‬فإن الدب األسود الذي يرمز لوالدته) «مصاب بالفصام» ويهجم دون‬

‫أن يستفزه أحد‪ .‬بعد ذلك بوقت قصري‪ ،‬سافر إىل املدينة التي تعيش فيها والدته وزوجها‬

‫وتوجهوا إىل املستشفى التي كانت تتعالج فيها والدته‪ .‬حاملا دخل ردهة املستشفى شعر‬

‫باإلغامء ونقل إىل غرفة الطوارئ‪ .‬علمنا الحقًا أن بيرت كان بإغامئه يحمي نفسه من إدراك‬

‫رغبته بأن متوت والدة طفولته املبكرة‪.‬‬

‫كان بيرت محتا ًرا‪ .‬فبعد العودة إىل العالج‪ ،‬قال للدكتور بول‪« ،‬مل يغم ع يف فيتنام‬

‫حتى عندما أسقطت مروحيتي بالرصاص!» بعد هذا الحدث‪ ،‬أبدى بيرت استعدا ًدا للسامح‬

‫‪191‬‬
‫لنفسه بأن يتحدث عن طفولته املتأذية ويستكشف آثار هجران والده البيولوجي عندما أصبح‬

‫بيرت هدفًا لعنف أمه وجدته‪ .‬عادت أعراضه‪ ،‬التي كان يسيطر عليها منذ األسبويف األول من‬

‫العالج‪ ،‬وسمح ملحلله النفيس أن يستفرس عن أسباب تطويره لها‪ .‬بدأ يذكر أحالمه يف‬

‫الجلسات واستخدمها الستكشاف عامله الداخ ‪ .‬نشأ لديه شعور بأنه يشبه الشخصية التي‬

‫أدى دورها داسنت هوفامن يف فيلم رين مان‪ ،‬والتي كان يعتني بها أخوها املحلل)‪ .‬كان‬

‫الشخص املتطلب‪ .‬ولكن هذا تناوب مع عودة بيرت إىل اإلحساس بالعظمة‪ .‬كان بطرس يحلم‬

‫بأنه ك القدرة‪ ،‬كفرعون مرصي‪ ،‬وأن محلله النفيس نكرة‪ ،‬مثل متسول‪ .‬ببطء‪ ،‬بدأ بيرت‬

‫يكامل بني جانب الرقم واحد والجانب «الجائع» ويتمكن من االستمتايف بالحياة والتصالح‬

‫مع كونه عاديًا من نواح عديدة‪.‬‬

‫عندما اقرتبت حرب الخليج‪ ،‬حفزت الحرب الخارجية بيرت ملعرفة الحرب الداخلية‬

‫لطفولته املبكرة‪ ،‬بالتجارب والخربات وبالعواطف املصاحبة عىل األريكة‪ .‬حلم بالقتال‬

‫باستخدام القوس والنشاب يف الكهوف التي ترمز إىل بطن أمه)‪ .‬ثم حرر الكثري من‬

‫ذكريات الطفولة التي كانت مقموعة‪ .‬ومن بينهم إهانته أمام والده البيولوجي‪ .‬عندما كان‬

‫يف الخامسة من عمره‪ ،‬ودون أي تح ريات‪ ،‬أخذ ليزور والده البيولوجي الذي كان قد تزوج‬

‫مر ًة أخرى‪ .‬أخذه والده إىل معرض و‪ ،‬مثل أمه‪ ،‬أفرط يف إطعامه‪ .‬شعر بالغثيان وتقيأ عىل‬

‫‪192‬‬
‫أبيه‪ .‬مل ير الرجل ابنه بعدها‪ .‬فهم بيرت أن رشهه املريض كان بسبب واحد‪ :‬كان معتم ًدا عىل‬

‫اهتامم أمه وجدته‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬كانتا هام البالغتني الوحيدتني اللتني اعتنيتا به حتى أىت‬

‫«سام عاطف ًيا»‪ ،‬لذا‬


‫ً‬ ‫غريغوري إىل حياته‪ .‬ولكن إطعامهام املفرط العنيف له كان كإعطائه‬

‫ركز بيرت الصغري عىل حل أصبح من أعراضه عند البلوغ‪ .‬كان ميأل جوفه بالطعام ليتلقى‬

‫«حب» أمه وجدته ويشبع جوعه العاطفي‪ .‬ثم كان يتقيأ ويحرر نفسه من هذا الطعام عندما‬

‫يت ح أنه «سام»‪ .‬كان محتو ًما عليه تكرار هذا النمط‪ .‬كان السبب اخخر لرشهه املريض‬

‫ريا بشعوره باإلهانة ثم الرفض النهايئ من قبل والده البيولوجي‪ .‬كان غاضبًا بشدة‬
‫يتعلق كث ً‬

‫من والده البيولوجي إىل درجة أنه‪ ،‬كشخص بالغ‪ ،‬تقيأ عىل شخص سيايس شديد األهمية‬

‫صورة لألب) يف غداء عمل‪ .‬كام ذكرت مسبقًا‪ ،‬هذا الحدث جلبه لزيارة د‪ .‬بول‪.‬‬

‫ريا من الندم عىل نشاطاته السادية يف‬


‫قبل إنهاء تحليله النفيس بنجاح‪ ،‬أبدى بيرت كث ً‬

‫حريصا عىل‬
‫ً‬ ‫الحرب‪ .‬مبا أن قتل النساء واألطفال كان قد حدث يف ظروف حرب‪ ،‬كان د‪ .‬بول‬

‫متسلسال للحيوانات التي مثلت‬


‫ً‬ ‫قاتال‬
‫عدم تحريض الندم يف بيرت‪ .‬توقف بيرت أي ً ا عن كونه ً‬

‫ذاته الجائعة‪ ،‬وأمه وجدته العدوانيتني‪ ،‬ووالده البيولوجي‪ .‬كان ناد ًما عىل قتل الحيوانات‪،‬‬

‫أي ً ا‪ .‬قبل إنهاء عالجه بب عة شهور راوده حلم‪« :‬كنت أحلم بالصيد‪ ،‬ورؤية الكثري من‬

‫‪193‬‬
‫الغزالن دون قتل أي منها»‪ .‬ثم أضاف فجأة‪ ،‬والحزن يظهر عليه‪« ،‬يسألنا اإلله عن الحيوانات‬

‫التي نقتلها‪ .‬أنا أحاول تحمل مسؤولية األشياء»‪ .‬أتم بيرت تحليله بنجاح‪.‬‬

‫ليس هديف هنا أن أقدم حالة رسيرية كام أفعل لو كنت يف لقاء مهني مع محللني‬

‫نفسيني آخرين‪ ،‬لذا فأنا ال أذكر تفاصيل عامل بيرت الداخ وال عالجه التحلي النفيس هنا‪.‬‬

‫وأنا ال أشري إىل عصابه االنتقايل وحله واستجابات د‪ .‬بول امل ادة لالنتقال عنده‪ .‬ولكن‪،‬‬

‫أردت أن أعطي الخلفية السابقة للتح ري لدراسة الدور الذي أداه غريغوري‪ ،‬زوج والدته‪،‬‬

‫وخصوصا بتسليح بيرت بالعظمة الظاهرية والسادية‪ .‬سأركز عىل ما تعلمناه‬


‫ً‬ ‫يف حياة بيرت‪،‬‬

‫من بيرت عن غريغوري وعالقة غريغوري الخاصة مع ابن زوجته‪.‬‬

‫بينام مل يكن لدى محلل بيرت النفيس وال لدي أنا أي اتصال مبارش مع غريغوري‪،‬‬

‫فقد تعلمنا من خالل عملنا مع بيرت أن التخريج إسقاط صوره الشخصية و‪/‬أو الصور‬

‫املستدخلة لآلخرين عىل العامل الخارجي) كان آلية غريغوري النفسية األساسية التي ساعدته‬

‫عىل أن يعيش حياة «عادية» يف الواليات املتحدة بعد الصدمات النفسية التي ال توصف التي‬

‫شهدها يف الفيليبني‪ .‬بعد أن انتقل هو وعائلته إىل منزلهم الجديد يف مدينة صغرية يف‬

‫الغرب األوسط‪ ،‬بنى غريغوري بيت طيور متعدد الطوابق للسنونو البنفسجي يف حديقته‪.‬‬

‫كان للعمود الذي أقيم عليه بيت الطيور قاعدة إسمنتية‪ .‬تباهى غريغوري الحقًا بأنه استخدم‬

‫‪194‬‬
‫مئة باوند من اإلسمنت إلقامة بيت الطيور‪ .‬لعقود ظل بيت الطيور هذا ثابتًا يف الحديقة‪.‬‬

‫بذل غريغوري جهو ًدا م نية ال منتهية لطالء وإعادة طالء عندما كان الطالء القديم يبهت)‬

‫األرقام عىل كل من «الشقق» العديدة التي تحتلها عوائل الطيور‪ .‬كان ميتلئ بطيور السنونو‬

‫البنفسجي كل عام‪ .‬عندما تفقس البيوض‪ ،‬تطعم الطيور صيصانها وتساعدها عىل الطريان‬

‫عندما تصبح جاهزة‪ .‬كان غريغوري ي ع عصاب ًة عىل ساق كل طائر صغري بعد أن يفقس‪.‬‬

‫وكل عصابة كانت مرقمة برقم يوافق «شقة» عائلته يف منزل الطيور‪ .‬إذا سقط طائر صغري‬

‫فجأة من بيت الطيور‪ ،‬يعرف غريغوري ألي «شقة» كان ينتمي ويعيده إىل عشه الصحيح‪.‬‬

‫مهام ج ًدا‪ ،‬ألن الطري الصغري الذي ينقذه إنسان ويعيده إىل العش الخاطئ ترف ه‬
‫كان هذا ً‬

‫حتام‪.‬‬
‫الطيور البالغة يف تلك «الشقة» وميوت ً‬

‫بينام كان بيرت الصغري ينمو‪ ،‬وكاد يكون ظل غريغوري‪ ،‬راقب مرا ًرا وتكرا ًرا اهتامم‬

‫زوج والدته مبنزل الطيور ونشاطاته الخاصة بالطيور‪ .‬يف منتصف تحليله النفيس‪،‬‬

‫استوعب بالكامل أن منزل طيور السنونو البنفسجي كان يرمز إىل مخيم اعتقال غريغوري‬

‫الياباين حيث عاىن األمرين وكان معرضً ا ملوت رفاقه بشكل شبه يومي‪ .‬حرص غريغوري‬

‫أال ميوت صغار الطيور أثناء سكنهم يف منزل الطيور الخاص به‪ .‬غري «وظيفة» صورة‬

‫«مخيام» ال يسمح فيه للساكنني‪ ،‬هو ورفاقه‪ ،‬باملوت!‬


‫ً‬ ‫مخيم اعتقاله؛ أنشأ‬

‫‪195‬‬
‫تطور فهم بيرت بأن غريغوري عامله كام عامل طيوره الصغرية ببطء خالل التحليل‪،‬‬

‫وخصوصا بعد أن أغمي عىل بيرت يف أثناء زيارته لوالدته يف املستشفى‪ .‬أوالً ‪ ،‬قيل لنا كيف‬
‫ً‬

‫منشغال بجعل بيرت الصغري قويًا‪ .‬فعندما كان زوج والدته يف املنزل مع بيرت‪،‬‬
‫ً‬ ‫كان غريغوري‬

‫كان ي ع مهامت معينة للصبي ويعلمه كيف يتمرن‪ ،‬وينقص وزنه‪ ،‬وينمي جس ًدا رياض ًيا‪.‬‬

‫علم غريغوري بيرت اليافع عىل األسلحة وعلمه كيف يصطاد عندما كان الصبي يف أوائل‬

‫سنني مراهقته‪ .‬وبعد ذلك بقليل‪ ،‬باستخدام معارفه‪ ،‬حرص عىل التحاق بيرت مبدرسة‬

‫عسكرية‪ .‬بعد التخرج‪ ،‬كرجل عسكري ان م بيرت إىل حرب فيتنام حيث‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬قتل‬

‫أشخاصا‪ ،‬من بينهم نساء وأطفال‪ ،‬بعد تلقي أوامر بفعل ذلك‪.‬‬
‫ً‬

‫بعد فيتنام‪ ،‬كمدين‪ ،‬كان بيرت البالغ يشغل منصبًا رفيع املستوى يف صناعة األسلحة‬

‫العسكرية‪ ،‬عىل الرغم من أنه كان يحب أن يعرف نفسه بأنه «صياد»‪ .‬حتى بعد أن تزوج‬

‫بيرت وانتقل مع زوجته وابنته إىل مدينة أخرى‪ ،‬بقي عىل اتصال دائم بغريغوري الذي‬

‫استمر بانشغاله مبنزل الطيور وصغار الطيور‪ .‬كان بيرت يسافر ج ًوا إىل الغرب األوسط كل‬

‫عام ويذهب الرجالن يف رحالت صيد بطقوس خاصة‪ .‬ولكن بيرت كان يذهب أي ً ا للصيد‬

‫دون زوج والدته الذي يشيخ ببطء‪ .‬الحظ بيرت أنه كلام كان يشعر بالقلق كشخص بالغ‪،‬‬

‫‪196‬‬
‫متسلسال» للحيوانات‪ .‬مبا أنه كان‬
‫ً‬ ‫«قاتال‬
‫ً‬ ‫كان يذهب يف رحالت لقتل الحيوانات‪ .‬لقد كان‬

‫ميتلك الكثري من األموال فقد كان بإمكانه املشاركة يف نشاطات كهذه ليك «يشفي» قلقه‪.‬‬

‫يف أثناء تحليله‪ ،‬بدأ الدكتور بول وبيرت يستوعبان ببطء أن غريغوري كان قد وضع‬

‫أوديف) صورته الذاتية «كصيد»‪ ،‬جريح‪ ،‬مهان‪ ،‬ومنزويف الحيلة يف الفيليبني) يف متثيل‬

‫الصبي الصغري املفرط يف السمنة النامي لنفسه‪ .‬إحقاقًا للحق‪ ،‬كان هناك تالؤم جيد بني‬

‫صورة غريغوري الجريح املودعة وصورة بيرت الشخصية العاجزة كام بدت يف حلمه املذكور‬

‫مسبقًا‪ ،‬عن قبة تحكمها نساء مقتحامت من كوكب آخر‪ .‬عندما كان غريغوري يعطي مهام‬

‫البن زوجته –فعل ًيا‪ ،‬مترصفًا كمدرب له– جعله يف الحقيقة صورته املودعة الخاصة‪ ،‬أي ً ا)‬

‫صيا ًدا ميكنه القتل‪ .‬ال ميكنه قتل الغزالن عدمية القرون واملشوهة التي كانت متثل بيرت يف‬

‫حلمه وحسب‪ ،‬بل أي نويف من الغزالن؛ وليس فقط الدببة السوداء‪ ،‬بل أي نويف من الدببة‪.‬‬

‫وفاعال‬
‫ً‬ ‫عكس هذا عجزه‪ ،‬وإذالله‪ ،‬وسلبيته التي أجرب عليها‪ ،‬وجعلت الصبي قويًا بال حدود‬

‫من خالل التخلص من اخخرين الخطريين‪ .‬عامل غريغوري بيرت كام كان يعامل صغار‬

‫الطيور الخاصة به‪ .‬حرص عىل أن يبقى بيرت «ح ًيا» ويحقق «حريته»‪ ،‬ولكن لفعل ذلك كان‬

‫عليه أن يكون قدي ًرا بشكل سادي‪ .‬بعد خدمته العسكرية وتعليمه‪ ،‬أصبح بيرت عىل صلة‬

‫مهنية بتصميم وصناعة أكرث األسلحة فتكًا‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫أصبح فهم بيرت بأنه متاثل مع غريغوري – وأكرث من ذلك‪ ،‬أنه كان مستود ًعا للصورة‬

‫الجريحة لزوج والدته – واض ًحا ج ًدا عندما فحص د‪ .‬بول املعاين العديدة لواحد من أهم‬

‫منشغال مبنزل الطيور وسكانه وأصبح بيرت عند‬


‫ً‬ ‫هواجس بيرت كشخص بالغ‪ .‬كان غريغوري‬

‫منشغال بغرفة تذكارات الصيد الخاصة به‪ .‬ما سأركز عليه هنا كيفية تكرار بيرت‬
‫ً‬ ‫بلوغه‬

‫الالواعي للذكريات غريغوري املعتقل املحاط برفاقه املوىت‪ .‬شملت هوايته أي ً ا إحدى‬

‫املهامت التي أوكلها إليه غريغوري‪ :‬إعادة إحياء املوىت وتغيري وظيفة مخيم االعتقال‪ ،‬كام‬

‫كان يفعل غريغوري عندما كان يحمي حيوات صغار الطيور‪ .‬لذا‪ ،‬بذل بيرت جهو ًدا م نية‬

‫ليجعل صيوده تبدو حي ًة من خالل التحنيط الباريف‪ ،‬وبذل وقتًا وماالً كث ً‬


‫ريا عىل املحنطني‬

‫لتحقيق هذا الوهم‪.‬‬

‫كان الحصول عىل أب قد ساعد يف التعامل مع اإلهانة التي عاىن منها بيرت الصغري‬

‫بسبب الرفض من قبل والده الحقيقي‪ .‬استذكر أنه مع قدوم زوج والدته أشار بفخر إىل‬

‫قائال‪« ،‬انظروا! أنا أي ً ا لدي أب!» كانت والدته وجدته قد قللتا من قيمة والده‬
‫غريغوري‪ً ،‬‬

‫البيولوجي‪ ،‬ولفتتا انتباه الصبي مرا ًرا وتكرا ًرا إىل عجزه األبوي‪ ،‬لذا فقد وازن األمر جعل‬

‫زوج األم قدو ًة له وجعل الرجل األكرب يشعر بالراحة بأخذ ذات غريغوري امل طربة‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫بعد أن حصل بيرت عىل نظرة معمقة يف هذا‪ ،‬تذكر أنه عندما ذهبت أمه مع غريغوري‬

‫يف نويف من شهر العسل‪ ،‬ظهرا لسبب ما عىل برنامج إذاعي كان يستمع إليه بيرت مع جدته‪.‬‬

‫يف اليوم التايل كرس بيرت لعبة عىل شكل مسدس كان صاحب والدته الجديد قد أعطاه‬

‫إياها‪ ،‬وأدرك أنه كان غاض ًبا من الرجل الذي أخذ أمه بعي ًدا عنه‪ .‬كان خائفًا من أن يعاقب‬

‫عند عودة الزوجني‪ ،‬ويتذكر اخن بوضوح أن غريغوري سأل أمه عام الذي ينبغي فعله لبيرت‬

‫لكرسه املسدس‪ ،‬وأن أمه قالت‪« ،‬هو ابنك اخن‪ .‬افعل ما تشاء!» تذكر بيرت أنه أعجب باختيار‬

‫غريغوري عدم معاقبته‪ .‬ولكنه كان أي ً ا معجبًا بالشعور بأن غريغوري لن يتوقف عن‬

‫تقديم بيرت الصغري للمزيد من لعب األسلحة وثم األسلحة الحقيقية‪ .‬أدرك بيرت أن الرجل‬

‫املسن مل يكن يف الواقع صيا ًدا ماه ًرا يو ًما من األيام‪ ،‬ولكنه ذهب للصيد مع الصبي ألن‬

‫مشاهدة بيرت وهو يصري صيا ًدا أكرث مهار ًة وعنفًا كانت تسعد غريغوري وتحسن شعوره‪.‬‬

‫شخصا ميكن أن «يصاد»‬


‫ً‬ ‫فهم بيرت اخن أن غريغوري أراد لبيرت أن يصبح صيا ًدا بدل أن يظل‬

‫من قبل اليابانيني)‪ .‬إذا كرب بيرت ليصبح صيا ًدا رش ًها‪ ،‬فلن تواجه نفس غريغوري امل طربة‬

‫التي تعيش يف بيرت صدم ًة مشابه ًة من جديد‪.‬‬

‫طوال تحليله‪ ،‬كان لدى بيرت حلم متكرر‪ .‬ويف الحلم كان مييش عىل املاء‪ .‬يعكس‬

‫امل مون الواضح لهذا الحلم شعوره املبالغ فيه بالعظمة‪ .‬كان يترصف يف حياته اليومية‬

‫‪199‬‬
‫كام لو كان إل ًها‪ .‬مبا أنه كان يشارك يف تصميم وتطوير أسلحة جديدة وأكرث فتكًا‪ ،‬فقد كان‬

‫عىل صلة بسياسيني من املستوى الرفيع وكبار الرجال العسكريني‪ .‬آمن أن أمن أمريكا كان‬

‫يف يديه – كان متفوقًا عىل غريه بوضوح‪.‬‬

‫يف بداية عامه الخامس من التحليل‪ ،‬تغري حلم بيرت املتكرر بامليش عىل املاء‪ .‬يف حلم‬

‫جديد كانت غواصة تبدو تحت املاء الذي مييش عليه بيرت‪ .‬يجب أن نذكر أن غريغوري كان‬

‫مسؤوال عن الطوربيدات قبل أن ميسك به‬


‫ً‬ ‫قد أدى الخدمة عىل غواصة حربية وكان‬

‫اليابانيون‪ .‬لذلك ففي الحلم‪ ،‬كانت الغواصة ترمز لغريغوري قبل أن يصبح عاج ًزا)‪ .‬كان‬

‫وهام‪ .‬سمح تحليل هذا الحلم‬


‫يبدو فقط ظاهريًا أنه مييش عىل املاء؛ امليش عىل املاء كان ً‬

‫املعدل لبيرت أن يرى املزيد ويقر بعالقته الخاصة يف طفولته بغريغوري‪ ،‬وصورة الرجل‬

‫املسن امل طربة املودعة‪ ،‬وجعل غريغوري له «قدي ًرا» كدفايف ضد عجزه الخاص وعجز‬

‫الصبي الصغري السمني)‪ .‬بعد فرتة وجيزة‪ ،‬يف حلم ال ينىس – آخر سلسلة أحالمه بالسري‬

‫عىل املاء – غطست الغواصة وسقط بيرت يف املاء‪ .‬كانت قدرته املطلقة قد اختفت‪ .‬سبح إىل‬

‫الشاطئ كرجل «عادي»‪ ،‬ولكن ح ًرا من صورة غريغوري املودعة الغواصة)‪ .‬بعد هذا‪ ،‬يف‬

‫الحياة الواقعية‪ ،‬تخلص من حيواناته امليتة املحنطة‪ ،‬وحول هذه الغرفة الخاصة إىل دفيئة‬

‫لزوجته‪ ،‬وبدأ يستمتع بصحبتها‪ ،‬وتحسنت حياتهام الجنسية‪ .‬مل يتمكن من التخ لسهولة‬

‫‪200‬‬
‫عن تجارته املربحة ولكنه غري موقفه السيايس‪ .‬ومتنى أن ينبي األمريكيون صوامع حبوب‬

‫بدال من صوامع األسلحة النووية‪ .‬فكر يف أن يصبح من دعاة حامية البيئة‪ .‬ومل تعد أعراض‬
‫ً‬

‫إدمان الكحول والرشه املريض موجودة لديه‪.‬‬

‫متا ًما عندما كانت جميع الدالئل تشري إىل أن بيرت سيدخل يف طور إنهاء ناجح‬

‫لتحليله‪ ،‬أظهر مقاوم ًة شديد ًة ج ًدا للتحسن‪ ،‬وعادت أعراضه املرضية القدمية التي تعكس‬

‫الذات الجائعة‪ :‬اإلفراط يف األكل‪ ،‬والرشب‪ ،‬واالكتئاب‪ .‬كانت حرب الخليج جاري ًة يف ذلك‬

‫الوقت‪ ،‬وقد أظهر أي ً ا خياالت مطلقة القدرة موافقة عن تفجري العراق ومسحها عن الوجود‬

‫وإلقاء القبض عىل صدام حسني‪ .‬كان محلل بيرت يف حرية‪ .‬بصفتي مستشاره‪ ،‬مل أستطع‬

‫يف البداية فهم سبب حدوث مثل هذا التحول الجذري يف األحداث‪ .‬لقد أدركت أنا والدكتور‬

‫بول ببطء أن مقاومة بيرت كانت بسبب تصوره الصحيح بأنه إذا تعاىف وتوقف عن كونه‬

‫مستود ًعا للصورة الذاتية امل طربة لزوج والدته‪ ،‬فإن غريغوري سي طر الستعادة ما كان‬

‫قد أودعه يف بيرت‪ .‬قد تقتل هذه العملية حرف ًيا غريغوري‪ ،‬والذي كان حينها يف السبعينيات‬

‫من عمره‪ .‬وجد بيرت نفسه أمام مع لة كربى‪ :‬إما أن يتحسن ويقتل غريغوري أو أن ميتنع‬

‫عن استكامل تحليله وينقذ حياة غريغوري‪ .‬فهمه‪ ،‬وفهمنا‪ ،‬لهذه املع لة حدث بعد األحداث‬

‫التالية‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫حال‪ :‬ساعد زوج والدته عىل رشاء املنزل املجاور ملنزله األص وإعادة‬
‫وجد بيرت بعدها ً‬

‫إقامة منزل طيور السنونو البنفسجي يف حديقة هذا البيت الثاين‪ ،‬ليس بعي ًدا ج ًدا عن موقعه‬

‫األص ‪ .‬اختار بيرت أال يفرس معنى بيت الطيور لغريغوري‪« .‬أنا ال أريد سوى مساعدته؛ هو‬

‫ال يحتاج «تفسريات» يف السبعينيات من عمره»‪ ،‬كام قال بيرت‪ .‬مبجرد إعادة بناء بيت‬

‫الطيور‪ ،‬تحسنت الصحة الجسدية للرجل املسن بشكل كبري‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد عرف بيرت أن‬

‫بيت الطيور الذي شيد حديثًا مل يكن مستود ًعا لصور زوج والدته املستخرجة الجريحة‬

‫بنفس قوة سابقه األص ‪ .‬مع ذلك‪ ،‬مل ميت الرجل املسن واختفى عجزه وحريته لدرجة‬

‫كبرية‪ .‬وصل بيرت بعدها إىل إنهاء ناجح لتحليله‪ 138.‬يف اليوم السابق خخر جلسات بيرت‬

‫التحليلية النفسية حدث يشء غري معتاد‪ .‬كان بيرت وحي ًدا يف الدفيئة الزجاجية‪ ،‬التي كانت‬

‫سابقًا غرفة الصيد الخاصة به‪ ،‬عندما أدرك أن بعض صغار الطيور كانت محبوس ًة يف‬

‫مدخنته‪ .‬بعد وضع شبكة عىل املوقد‪ ،‬صعد إىل سطح الدفيئة ووضع مكنسة طويلة يف‬

‫املدخنة من األعىل‪ ،‬وجعل الطيور الصغرية تطري إىل الشبكة يف األسفل‪ .‬بعد النزول من‬

‫السطح‪ ،‬أطلق الطيور الحبيسة من الشبكة وتركها تطري بحرية‪.‬‬

‫يف خالل جلسته األخرية‪ ،‬بعد حديثه عن هذا الحدث غري العادي‪ ،‬قال بيرت إن ذلك‬

‫ساعده عىل ترميز حريته الخاصة أكرث‪ .‬مل يكن مجرد مستوديف لصورة غريغوري امل طربة‬

‫‪202‬‬
‫عن ذاته‪ ،‬بل أي ً ا للصور املدخلة لدى غريغوري عن رفاقه الجرحى واملوىت‪ .‬كان بيرت طوال‬

‫مهتام بطيور الرجل املسن ومشاركًا إذ كانت متثل أي ً ا غريغوري العاجز ورفاقه يف‬
‫ً‬ ‫حياته‬

‫مخيم االعتقال‪ .‬من خالل الحادثة أعاله‪ ،‬شعر بيرت أنه طور استقالليته الخاصة بالتخ عن‬

‫الصور امل طربة‪ .‬كانت لديه طريقته الخاصة لتحرير الطيور كلها دفع ًة واحدة‪ ،‬بدالً من‬

‫السنني الطويل من االنشغال املستمر بها‪ ،‬وهو عرض من أعراض زوج والدته‪.‬‬

‫يف تلك األثناء‪ ،‬كانت ابنته قد أصبحت عاملة أحياء‪ .‬علم بيرت أن النقل العابر لألجيال‬

‫لذات غريغوري امل طربة والصور املدخلة لآلخرين وصل إىل الجيل الثالث‪ .‬كانت حفيدة‬

‫غريغوري‪ ،‬كعاملة أحياء‪ ،‬تعمل عىل مشاريع إلنقاذ الحيوانات الربية‪ ،‬متا ًما كام كان أبوها‬

‫رجال جدي ًدا‪،‬‬


‫يقتل تلك الحيوانات‪ .‬قال بيرت‪ ،‬اخن بعد أن اختفت مقاومته للتعايف‪ ،‬إنه صار ً‬

‫شخصا معال ًجا بالكامل بالتحليل النفيس خال ًيا من الرنجسية السادية‪.‬‬
‫ً‬

‫إن تفحص قصة ذات غريغوري امل طربة نتيجة الصدمات النفسية والصور املدخلة‬

‫لرفاقه املوىت أو ال حايا‪ ،‬وتخريجهم إىل الطيور وبيرت الصغري‪ ،‬يدل عىل وجود النقل‬

‫العابر لألجيال‪ .‬ليس لدي معلومات مبارشة عن العامل الداخ ألي ناج آخر من مسرية املوت‬

‫يف باتان ومخيامت االعتقال اليابانية يف شبه جزيرة باتان‪ .‬ولكن‪ ،‬من الشهادات‬

‫نعلم أن عرشات آالف األمريكيني تعرضت نفوسهم للصدمات ولديهم صور‬ ‫‪139‬‬
‫املكتوبة‪،‬‬

‫‪203‬‬
‫مدخلة م طربة عن اخخرين‪ ،‬كلها ترتبط بتجاربهم يف الفيليبني‪ .‬حتى قبل بدء مسرية‬

‫املوت‪ ،‬كان األمريكيون والفيليبينيون قد شعروا بالعجز منذ محارصة شبه جزيرة باتان من‬

‫قبل القوات اليابانية وعدم إرسال واشنطن للتعزيزات‪ .‬يعكس غناء الكلامت التالية بشكل‬
‫‪140‬‬
‫مبارش انتكاسهم الجمعي وفقدانهم ملا أسامه إريك إريكسون «الثقة األساسية»‪.‬‬

‫نحن نحارب أوغاد باتان‪،‬‬


‫ال ماما‪ ،‬ال بابا‪ ،‬ال عم سام‪،‬‬
‫ال عامت‪ ،‬ال أعامم‪ ،‬ال أبناء عم‪ ،‬ال أبناء إخوة‬
‫ال بندقيات‪ ،‬ال طائرات وال عدة مدفعية‪،‬‬
‫‪141‬‬
‫وال أحد يأبه البتة‬

‫ميكننا أن نخمن من ذلك أن عرشات اخالف من األمريكيني كانوا مرتبطني بشبكة غري مرئية‪:‬‬
‫جميعهم لديهم صور مؤملة مرتبطة بهذا الحدث التاريخي نفسه‪ .‬ميكننا أن نفرتض أنه عىل‬
‫ريا‬
‫الرغم من متسك هؤالء األشخاص مبنظوماتهم الشخصية الخاصة‪ ،‬فمن املرجح أن عد ًدا كب ً‬
‫منهم نقلوا ذواتهم املصابة بالصدمة وصور األشياء الخاصة بهم إىل األجيال الشابة‪ ،‬معطني‬
‫إياهم مهام مشابهة للتعامل مع الصور املودعة‪ .‬لذلك‪ ،‬ميكننا أن نفرتض أي ً ا أن الجيل‬
‫التايل املكون من األشخاص الذين كانت متثيالتهم لذواتهم «مستودعات») أصبحت أي ً ا‬
‫مرتبطة بشكل خفي من خالل استقبال الصور امل طربة التي نشأت من الحدث التاريخي‬
‫نفسه ومن خالل وجود مهام مامثلة ينبغي التعامل معها‪.‬‬
‫بينام ما وصفته أعاله حالة فردية من النقل العابر لألجيال للصدمة النفسية‪ ،‬فمن‬
‫خالل انخراطي يف الدبلوماسية الدولية غري الرسمية لنحو ثالثة عقود‪ ،‬جمعت أدلة كافية‬
‫‪204‬‬
‫تشري إىل أن حوادث نقل عابرة لألجيال كهذه تحدث بانتظام عىل مستوى اجتامعي وأحيانًا‬
‫–عندما تكون الحوادث التاريخية الخارجية سب ًبا– تحدث عىل نطاق واسع‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫األيديولوجية السياسية لالستحقاق‬ ‫‪10‬‬
‫وصدمات «مختارة»‪ ،‬و«حادة»‪ ،‬و«ساخنة»‬
‫ ‬
‫ترشح قصة غريغوري وبيرت املذكورة يف الفصل السابق أن ظاهرة النقل العابر لألجيال‬
‫ليست مجرد نظرية‪ ،‬بل ميكن مشاهدتها حقيق ًة يف الطبيعة البرشية عند دراستها تحت‬
‫عدسة التحليل النفيس املكربة‪ .‬وكام ذكرت يف ذلك الفصل ذاته‪ ،‬فإن ظواهر مشابهة تتجىل‬
‫أي ً ا عىل مستوى املجموعات الكبرية من خالل ما أصطلح عىل تسميته صدم ًة مختارةً‪.‬‬
‫الصدمة املختارة هي التمثيل الذهني لدى مجموعة كبرية لحدث تاريخي سبب مشاعر‬
‫جمعية بالعجز‪ ،‬والشعور ك حية‪ ،‬والعار‪ ،‬واإلذالل عىل أيدي «اخخرين»‪ ،‬وتشمل عاد ًة‬
‫خسائر فادحة يف األشخاص واألرض‪ ،‬والهيبة‪ ،‬والكرامة‪ .‬كام فعل غريغوري لبيرت‪ ،‬فإن‬
‫أع اء املجموعة املصابة بالصدمة يودعون ذواتهم املجروحة‪ ،‬وصورهم املدخلة عن اخخرين‬
‫الذين أوذوا خالل الحدث املسبب للصدمة‪ ،‬يف الذوات النامية لألطفال يف الجيل التايل‪.‬‬
‫يعطى هؤالء األطفال أي ً ا مهامت معينة‪ ،‬كعكس العجز‪ ،‬والعار‪ ،‬واإلذالل‪ ،‬وتحويل السلبية‬
‫إىل مبادرة فعلية ودافع‪ .‬من املهام األخرى التي مترر إىل األجيال مهمة تتعلق بإكامل عملية‬
‫الحداد املشرتكة‪.‬‬
‫عندما توديف كل هذه الصور للحدث التاريخي واملهام املرتبطة به يف الجيل التايل‪،‬‬
‫فإنها تشكل رابطًا غري مريئ بني أفراده‪ .‬وإذا مل يكن لدى هذا الجيل التايل القوة السياسية‬
‫أو االقتصادية أو العسكرية للقيام مبهامه املوروثة‪ ،‬فقد ينتهي به املطاف بنقل الصور غري‬
‫املن بطة واملهام غري املكتملة إىل أبناء الجيل الذي يليه‪ .‬ومع مرور العقود والقرون‪،‬‬
‫رصا‬
‫«تختار» املجموعة الكبرية دون وعي أن تعترب التمثيل الذهني للحدث الصادم للسلف عن ً‬
‫مهام يف هوية املجموعة الكبرية املعارصة‪ .‬إن صدمتهم املختارة متثل إحساسهم بالنحن‪-‬‬
‫ً‬
‫وية‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫ال تتطور كل صدمة عاىن منها األسالف لتصبح صدم ًة مختارة‪ .‬فقد تحل أحيانًا‬
‫استهدافات جديدة لل حايا محل القدمية‪ ،‬أو قد يختار قائد أو قائدة بشكل وايف أو غري وايف‬
‫صدمة محددة من املايض ليجمع أتباعه أو أتباعها بطرق دراماتيكية‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪،‬‬
‫فإن كيفية حياكة املجتمع لألساطري حول حدث معني من خالل األغاين والقصائد واللوحات‬
‫واألشكال األخرى للفن‪ ،‬والنصب التذكارية التي تبنى‪ ،‬تلعب دو ًرا ها ًما أي ً ا يف خلق صدمة‬
‫مختارة‪.‬‬
‫عندما يكون هناك خطر راهن من «اخخرين»‪ ،‬فإن الجيل الحايل يعيد تنشيط الصدمة‬
‫ا ملختارة للمجموعة بهدف تعزيز هوية املجموعة وتقويتها ملواجهة التهديد‪ .‬إن إعادة‬
‫التنشيط هذه‪ ،‬بدورها‪ ،‬تعيد إشعال املهامت التي يجب تنفيذها‪ .‬يظهر هذا أحيانًا كمقاومة‬
‫عنيدة لحل النزاعات العرقية أو غريها من النزاعات الجامعية بالطرق السلمية‪ .‬هنا نرى صدى‬
‫ما الحظناه أنا ود‪ .‬بول يف حالة بيرت‪ .‬لقد طور بيرت مقاوم ًة للتعايف ألنه إذا توقف عن كونه‬
‫مبن يكون‪ ،‬أي‬ ‫مستود ًعا لصور غريغوري الجريحة‪ ،‬فإن ذلك سيغري إحساسه الداخ‬
‫بهويته‪ .‬وباملثل‪ ،‬فقد تقاوم مجموعة كبرية التخ عن املهام املجتمعية املشرتكة املرتبطة‬
‫بصدمتها املختارة ألنها ال تستطيع تحمل التعديل الناتج عن هوية املجموعة الكبرية‪.‬‬
‫أو‪ ،‬كام هو موضح يف حالة بيرت‪ ،‬قد تتغري وظيفة املهمة الجامعية التي تنتقل عرب‬
‫الصدمة املختارة‪ .‬مبعنى آخر‪ ،‬ال تختفي املهامت األساسية يف التعامل مع تأثري الصدمات‬
‫أوال حاول غريغوري أن يتعامل مع صدمته‬
‫السابقة‪ ،‬ولكن يبدو أنها تنفذ ألهداف أخرى‪ً .‬‬
‫النفسية يف باتان ببناء بيت طيور السنونو البنفسجية والتأكد من أال يلحق بصغار الطيور‬
‫التي تقع أي أذى – طور نظا ًما ليك تعود دامئًا إىل عش عائلتها‪ .‬بيرت‪ ،‬بسبب عالقته‬
‫قاتال متوحشً ا للحيوانات‪ .‬ولكننا أي ً ا تعلمنا أن رد فعل‬
‫بغريغوري بشكل رئييس‪ ،‬أصبح ً‬
‫ابنة بيرت كان بسلوك سبيل مختلف متا ًما عن والدها‪ :‬فقد أصبحت عاملة أحياء وناشطة‬
‫للحفاظ عىل األنوايف – حامية للحيوانات‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫عندما يغري تعرض مجموعة كبرية للصدمة وظيفته‪ ،‬قد تكون إحدى النتائج تحوله‬
‫إىل أيديولوجية استحقاق مفرط ميكن‪ ،‬عندما تهدد هوية املجموعة‪ ،‬أن يتالعب بها القادة‬
‫السياسيون إلطالق برامج سياسية جديدة و‪/‬أو اتخاذ إجراءات جديدة مدعومة بهذه‬
‫األيديولوجية‪ .‬يوفر االستحقاق املفرط نظام اعتقاد يؤكد عىل أن املجموعة لها حق امتالك‬
‫فمثال‪ ،‬التحريرية‬
‫ً‬ ‫ما تشاء امتالكه‪ ،‬وميكن لهذا بوضوح أن يؤدي إىل نزاعات مع اخخرين‪.‬‬
‫الوحدوية أيديولوجية استحقاق سيايس‪ .‬وقد أصبحت مصطل ًحا سياس ًيا بعد أن سعت حركة‬
‫قومية إيطالية إىل ضم أراض عرفت باسم إيتاليا إريدينتا إيطاليا غري املسرتدة)‪ ،‬وهي‬
‫مناطق تسكنها أغلبية إثنية إيطالية ولكنها تحت والية النمسا من بعد ‪.1866‬‬
‫هناك الكثري مام ميكن قوله عن هذا املثال‪ ،‬ولكن ألزيد يف رشح الصدمة املختارة‬
‫وكيف تغري وظيفتها لتصبح أيديولوجية استحقاق‪ ،‬سأستعري مثاالً من تركيا‪ .‬درسنا أنا‬
‫ونورمان إتزكوفيتز بتعمق كيف كانت ردة فعل بعض املجموعات املسيحية الكبرية عىل مر‬
‫القرون لسقوط القسطنطينية إسطنبول يف وقتنا الحايل) عىل أيدي األتراك يف عام‬
‫‪ ،1453‬وكيف متخض عن الصورة الذهنية لهذا الحدث يف النهاية بعد نحو أربعة قرون‬
‫فكرة ميغايل «الفكرة العظمى»)‪ ،‬وهي أيديولوجية سياسية محددة طالبت بإعادة توحيد‬
‫‪142‬‬
‫كل املنتمني لإلثنية اإلغريقية من اإلمرباطورية البيزنطية السالفة‪.‬‬
‫بدأ ال غط عىل البيزنطيني قبل نحو ألف عام حينام بدأت قبال الرتك تهاجر غربًا‬
‫من آسيا الوسطى‪ ،‬جالب ًة معها التواصل باإلضافة إىل النزاعات مع كل من العرب‬
‫واألوروبيني‪ .‬يف أثناء تلك الفرتة تبنت القبائل الرتكية اإلسالم دي ًنا لها وانتهت إىل حكم‬
‫أجزاء مام يسمى اليوم إيران‪ ،‬وأفغانستان‪ ،‬وسوريا‪ .‬يف آسيا الصغرى واجهوا أي ً ا‬
‫البيزنطيني‪ ،‬وهم الورثة املسيحيون لإلمرباطورية اإلغريقية الرومانية الذين حكموا من‬
‫القسطنطينية‪ .‬يف عام ‪ 1071‬م‪ ،.‬هزم قائد السالجقة األتراك ألب أرسالن القوات البيزنطية‬
‫تحت إمرة اإلمرباطور رومانوس الرابع ديوغينس قرب مانزيكرت يف رشق األناضول‪ .‬رغم‬
‫أن معركة مانزيكرت ذاتها مل تكن حاسم ًة أو بارز ًة بشكل خاص‪ ،‬فإن آسيا الصغرى‪ ،‬أو‬

‫‪208‬‬
‫األناضول‪ ،‬كقلب تركيا املعروفة اليوم‪ ،‬ترتكت تدريج ًيا وكان االنحسار التدريجي‬
‫لإلمرباطورية البيزنطية قاد ًما‪ .‬بعد مانزيكرت بقليل‪ ،‬استولت مجموعة من السالجقة األتراك‬
‫عىل القدس‪ ،‬ما أدى إىل الحمالت الصليبية‪ .‬بحلول الوقت الذي دخل فيه الصليبيون القدس‪،‬‬
‫مل تعد املدينة تحت االحتالل الرتيك‪ ،‬ولكن تصورهم لألتراك كمحتلني لألرايض املسيحية‬
‫املقدسة وكعدو للمسيحيني استمر‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فقد كان سقوط القسطنطينية يف أيدي األتراك‪ ،‬والذي حدث بعد ثالمثئة‬
‫عام من معركة مانزيكرت‪ ،‬والتي أصبحت صدمة مختارة أوضح للعامل املسيحي‪ .‬احتلت‬
‫القسطنطينية من قبل خلف السالجقة الرتك‪ ،‬العثامنيني‪ ،‬يف ‪ 29‬مايو ‪ .1453‬تاريخ ًيا‪ ،‬كان‬
‫هذا مبثابة نهاية لعرص وبداية عرص آخر إذ حلت اإلمرباطورية العثامنية التي يهيمن عليها‬
‫املسلمون محل اإلمرباطورية البيزنطية املسيحية‪ .‬ورغم حقيقة رفض روما توفري الدعم‬
‫للقسطنطينية ضد الرتك‪ ،‬فقد تلقت املدينة خرب سقوط بيزنطة بالصدمة وعدم التصديق‪.‬‬
‫اعترب االنتصار الرتيك سكينًا يف قلب املسيحية‪ .‬كتب آيناس سيلفيوس بيكولوميني‪ ،‬الذي‬
‫أصبح بابا فيام بعد‪ ،‬للبابا نيكوالس الخامس يف ‪ 12‬يوليو‪ ،1453 ،‬إن الرتك قتلوا هومريوس‬
‫‪143‬‬
‫وأفالطون للمرة الثانية‪.‬‬
‫عمت الصدمة واستمرت بطرق عديدة‪ .‬ومبا أن القسطنطينية أخذت يف يوم ثالثاء‪،‬‬
‫انعكاسا‬
‫ً‬ ‫فقد اعترب املسيحيون كل ثالثاء بعدها يو ًما مشؤو ًما‪ .‬حتى أن الخسارة اعتربت‬
‫لحكم اإلله عىل «خطايا املسيحيني يف كل مكان»‪ 144.‬كانت عقابًا أعاد فتح جراح خسارة‬
‫القدس‪ ،‬ومل ميكن حل الحداد األورويب‪-‬املسيحي عىل هذه الخسارة وال غض النظر عنها‪.‬‬
‫قاتلت الجيوش املسيحية الستعادة القدس‪ ،‬مع أنها خرستها الحقًا من جديد‪ ،‬ولكن كل ما‬
‫جلبه سقوط القسطنطينية كان مشاعر العجز‪ ،‬والعار‪ ،‬واإلذالل‪ .‬عربت الرغبة بتصحيح هذه‬
‫الصدمة عن نفسها من خالل بعبعة عن تنظيم حملة صليبية أخرى‪ .‬مل تتمخض هذه‬
‫األحاديث عن يشء‪ ،‬ولكن الفكرة استمرت‪ .‬ردد املسيحيون يف األرايض العثامنية م ًعا العبارة‬
‫التالية‪« :‬مر ًة أخرى‪ ،‬مع مرور السنني‪ ،‬ستكون لنا مر ًة أخرى»‪ ،‬يف محاولة إلنكار التغيريات‬

‫‪209‬‬
‫التي حدثت واستعادة الخسائر التي فقدوها‪ .‬سيكون هذا بذرة أيديولوجية االستحقاق‬
‫‪145‬‬
‫املفرط التي ستثمر الحقًا‪.‬‬
‫ظهر اإلنكار بطرق أخرى أي ً ا‪ .‬إذا أمكن إيجاد رابط مستمر بني الرتك والبيزنطيني‪،‬‬
‫فستقل الحاجة لدى البيزنطيني واملسيحيني للشعور بأمل الفقدان‪ .‬شغل الكثري من الغربيني‬
‫فمثال‪ ،‬أعلن جيوفاين ماريا فيليلفو‪،‬‬
‫ً‬ ‫أنفسهم‪ ،‬أحيانًا بطرق صوفية‪ ،‬باألصول القدمية للرتك‪.‬‬
‫وهو إنسانوي‪ ،‬أن السلطان الرتيك الشاب محمد الثاين‪ ،‬الذي استوىل عىل القسطنطينية‪،‬‬
‫كان طرواديًا‪ .‬ودرس فيلكس فابري‪ ،‬وهو أملاين‪ ،‬فكرة انحدار الرتك من تيوكروس‪ ،‬ابن‬
‫الصديق اإلغريقي لهرقل‪ ،‬تيليمون‪ ،‬واألمرية الطروادية هيسيون‪ .‬ربط فابري تيوكروس‬
‫بواحد من ساللته يدعى توركوس‪ ،‬قائد عصبة الطرواديني التي هربت إىل داخل آسيا بعد‬
‫سقوط طروادة‪ .‬بعد أن عاشوا متخفني خالف السنني‪ ،‬عاود نسل توركوس الظهور للمطالبة‬
‫‪146‬‬
‫بقدرهم وإحياء «مجد إليوم»‪.‬‬
‫يال‬
‫بينام استمرت هذه الجهود التاريخية الزائفة إليجاد استمرارية بني الجانبني سب ً‬
‫لتقبل الخسارة واإلذالل‪ ،‬فقد حاولت محاولة م ادة فك االرتباط بينهام‪ ،‬وتجريد الرتك من‬
‫إنسانيتهم وشيطنتهم جمي ًعا‪ .‬يف أوروبا‪ ،‬كان هذا يعني تنميطًا سلبيًا عني ًدا وممنه ًجا انترش‬
‫يف جميع أرجاء العامل املسيحي‪ .‬وفقًا لنيازي بريكس‪ ،‬فإن األقدار تالعبت بالرتك بسبب‬
‫استيالئهم عىل القسطنطينية والقدس‪ 147.‬مهام كانت إنجازاتهم‪ ،‬كان العامل ينظر إليهم‬
‫بعداء‪ .‬يدعي بريكس أن املؤرخني األوروبيني يف ذلك الوقت مل يكونوا أب ًدا ينمطون «الغرباء»‬
‫اخخرين كالصينيني والعرب واليابانيني إىل ذلك الحد‪.‬‬
‫إن االنشغال بالرتك كفاتحني للقدس والقسطنطينية امتد حتى إىل العامل الجديد‬
‫مثال‪ ،‬شارك الهنود‬
‫الذي كان األوروبيون قد اكتشفوه وكانوا يستعمرونه بشدة‪ .‬يف ‪ً ،1539‬‬
‫املكسيكيون يف موكب دراماتييك مثل تحرير القدس من الرتك‪ ،‬وهو نرص أتيح باالجتاميف‬
‫املصور للجيوش الكاثوليكية يف أوروبا واألمريكتني‪ 148.‬حتى اخن‪ ،‬ما تزال متثل نسخة من‬
‫هذا املوكب يف املكسيك‪ ،‬التي بينها وبني تركيا مسافة نصف العامل‪ 149.‬كان هذا التنميط‬

‫‪210‬‬
‫املعومل يدمج حتى يف النسخ القدمية من قاموس ويبسرت تحت تعريف «الرتك»‪ ،‬والذي كان‬
‫يقول‪« ،‬شخص يظهر أي صفة تعزى إىل الرتك‪ ،‬كالشهوانية والوحشية»‪ .‬اإلشارة إىل‬
‫الوحشية مفهومة بأخذ املعارك العديدة ضد الرتك خالل توسع مملكتهم‪ .‬حاولنا أنا‬
‫وإتكوفيتز أي ً ا أن نفهم اإلشارة إىل الشهوانية‪ .‬استنتجنا أنها ارتبطت بشدة بالصورة‬
‫الشابة والفحولية ملحمد الثاين محمد الفاتح)‪ ،‬الذي كان ينظر إىل فتحه عىل أنه‬
‫«اغتصاب»‪ .‬ما تزال القسطنطينية لدى الشعراء املعارصين رم ًزا للمرأة املنهارة و‪/‬أو‬
‫‪150‬‬
‫املكلومة‪.‬‬
‫ولكن سقوط بيزنطة كان إشكال ًيا بشكل خاص لإلغريق ألنه مثل آخر أثر ملا كانت‬
‫إمرباطوريتهم العظيمة‪ .‬ظلوا يف حداد دائم‪ ،‬غري قادرين عىل التصالح مع الخسارة‪.‬ومع‬
‫مرور األجيال‪ ،‬تطور سقوط القسطنطينية ليصبح الصدمة املختارة الكربى لديهم وأثر عىل‬
‫تطور فكرة ميغايل‪ ،‬التي تبلورت يف القرن التاسع عرش‪ ،‬عندما استعادت اليونان استقاللها‬
‫عن اإلمرباطورية العثامنية بعد حرب االستقالل اليونانية ‪ ،)1833-1821‬وقد سألوا‬
‫أنفسهم أي ً ا «من نحن اخن؟» كانت الهوية الجديدة التي ظهرت مركب ًة من عنارص هيلينية‬
‫اليونان القدمية ما قبل املسيحية) وعنارص بيزنطية اليونان املسيحية)‪ 151.‬عرب عن الرغبة‬
‫يف االحتفاظ بالعنارص الثقافية والدينية لبيزنطة‪ ،‬والتي سقطت قبل نحو أربعمئة عام‪،‬‬
‫واستعادتها من قبل العديد من القادة اليونانيني‪ ،‬ومن بينهم أشخاص مؤثرات كسبرييدون‬
‫‪152‬‬
‫زامبليوس ونيكوالوس ج‪ .‬بوليتيس‪.‬‬
‫تطور عن هذه الحركة برنامج بعيد املدى للدعاية التعليمية والثقافية يهدف إىل غرس‬
‫اإلحساس بالهوية الهيلينية ليس ضمن حدود اليونان الحديثة نفسها وحسب‪ ،‬بل أي ً ا بني‬
‫السكان اليونانيني الكرث الذين ظلوا تحت الحكم العثامين‪ .‬جذبت جامعة أثينا أسست عام‬
‫ناسا من كل أنحاء العامل اليوناين لتدريبهم كطالب ودعاة للهيلينية‪.‬‬
‫‪ً )1837‬‬
‫هذا النهج ذو الحدين‪ ،‬وفقًا لباسكاليس كيرتوميليدس‪ ،‬لن يوحد اليونانيني ضمن‬
‫حدودهم الحالية يف اليونان وحسب‪ ،‬بل سيوحدهم أي ً ا بأولئك الذين يعيشون يف‬

‫‪211‬‬
‫‪153‬‬
‫اإلمرباطورية العثامنية يف أماكن «تعترب جز ًءا ال يتجزأ من اإلرث التاريخي للهيلينية»‪.‬‬
‫وهكذا ولدت فكرة ميغايل‪ .‬يصف عامل االجتاميف كريياكوس ماركيدس‪ ،‬وهو يف األصل‬
‫يوناين قربيص هاجر‪ ،‬مث ‪ ،‬إىل الواليات املتحدة منذ عقود‪ ،‬فكرة ميغايل بأنها «حلم‬
‫يتقاسمه اليونانيون بأن اإلمرباطورية البيزنطية ستستعاد يو ًما ما وكل األرايض اليونانية‬
‫سيعاد توحيدها من جديد يف اليونان العظمى»‪ 154‬رسعان ما أصبح حلم إعادة جمع كل‬
‫شخص من أصل يوناين مر ًة أخرى أكرث من مجرد رغبة يف اليونان – فد أصبح أيديولوجية‬
‫سياسية مدعومة من قبل الكنيسة األرثوذكسية اليونانية والسياسيني‪ ،‬ومدعوم ًة بنظريات‬
‫أكادميية‪ ،‬ويروج لها الدبلوماسيون‪ ،‬ويقاتل ألجلها عىل العديد من ساحات املعارك يف سعي‬
‫اليونانيني إىل تحصيل ما هو «حق» لهم‪.‬‬
‫ولجعل فكرة ميغايل واق ًعا‪ ،‬قاتلت اليونان يف حروب البلقان ‪)1913-1912‬‬
‫والحرب اليونانية الرتكية ‪ ،)1922-1919‬ودخلت يف النزاعات الطويلة القومية اإلثنية مع‬
‫املقدونيني‪ ،‬والبلغاريني‪ ،‬والرتك‪ ،‬واأللبانيني‪ ،‬واإليطاليني‪ ،‬ومجموعات أخرى عىل امتداد‬
‫حدودهم‪ .‬بالفعل‪ ،‬استمرت فكرة ميغايل فرت ًة طويل ًة بعد انتهاء اإلمرباطورية العثامنية‬
‫ووالدة تركيا بوصفها أم ًة علامني ًة دميقراطيةً‪ .‬لقد ظلت قامئ ًة يف السياسات السياسية‬
‫والعسكرية وكذلك يف عقيدة الجامعات اإلرهابية اليونانية‪ .‬ميكنك ساميف أصدائها يف‬
‫الخطب‪ ،‬وأعمدة الصحف‪ ،‬والربامج التلفزيونية‪ ،‬وخطب الكنائس‪ ،‬واألحاديث الصغرية يف‬
‫صالونات الحالقة‪ .‬هل ميكننا اختزال كل العالقات اليونانية الرتكية يف سقوط‬
‫القسطنطينية وتحولها إىل صدمة مختارة وثم إىل فكرة ميغايل؟ بالطبع ال‪ .‬ولكن عندما‬
‫يتطور حريق إىل سعري‪ ،‬ال ميكن تفسري وقوده ببساطة ضمن نظريات املرتكب العقالين‬
‫يف العالقات الدولية‪ .‬وقد استمرت نريان فكرة ميغايل بحرق قربص يف أواخر خمسينيات‬
‫القرن العرشين وبداية ستينياته‪ .‬وقد كتب ماركيدس‪:‬‬

‫‪212‬‬
‫ميكن للمرء أن يجادل بأن «الفكرة العظمى» كان لها منطق داخ ‪،‬‬
‫وهو ي غط لتحقيقها كل أجزاء العامل اليوناين التي ظلت تحت‬
‫حكم أجنبي‪ .‬وألن يونانيي قربص اعتربوا أنفسهم إغريقيني تاريخ ًيا‬
‫وثقاف ًيا‪ ،‬فقد كان لدى «الفكرة العظمى» جاذب شديد‪ .‬لذلك‪ ،‬فعندما‬
‫دعا آباء الكنيسة القبارصة ]والقصد القبارصة اليونانيون[ للقتال‬
‫ريا ‪. . . .‬‬
‫ألجل الوحدة مع اليونان‪ ،‬مل يتطلب تحفيز املشاعر جه ًدا كب ً‬
‫مل ينشأ اإلينوسيس ]توحيد قربص مع اليونان[ يف الكنيسة ولكن‬
‫يف عقول املثقفني يف محاولة منهم إلعادة أحياء الح ارة‬
‫اإلغريقية‪-‬البيزنطية‪ .‬ولكن‪ ،‬كونها األكرث مركزي ًة واألقوى بني‬
‫املؤسسات‪ ،‬فقد ساهمت الكنيسة بشكل كبري يف تطويره‪ .‬تبنت‬
‫‪155‬‬
‫الكنيسة الحركة وأصبحت لكل األسباب العملية نواته املوجهة‪.‬‬

‫بعد تدخل الجيش الرتيك يف قربص عام ‪ ،1974‬قسمت الجزيرة فعليًا إىل قطاعات لإلثنية‬
‫اإلغريقية وأخرى لإلثنية الرتكية‪ .‬استمر التوتر‪ ،‬ولكن منذ أصبحت اليونان ع ًوا يف االتحاد‬
‫األورويب‪ ،‬فقد تأثري فكرة ميغايل عىل السياسة الخارجية اليونانية عنرص الجذب القوي‬
‫فيه‪ .‬ولكن‪ ،‬رمبا ما يزال أثر الصدمة اليونانية املختارة يؤثر عىل السلوك السيايس للبلد‪ .‬يف‬
‫أبريل ‪ ،2004‬صوت الجانبان الرتيك واليوناين يف قربص بشكل منفصل عىل اقرتاح لألمم‬
‫املتحدة يعرف باسم خطة عنان رسمت الخطوط العري ة لنويف من إعادة التوحيد‬
‫الف فاضة لتسمح لقربص كلها أن تدخل ضمن االتحاد األورويب‪ .‬صوت الجانب اليوناين‬
‫بشكل كاسح ضد هذا التوحيد‪ ،‬بينام صوت الجانب الرتيك بشكل كاسح معه‪ .‬كان هناك‬
‫الكثري من األسباب السياسية الواقعية لتصويت القبارصة اليونانيني «ال»‪ ،‬كالرشوط الخاصة‬
‫باالتفاقيات فيام يخص التعديالت اإلقليمية‪ ،‬وعودة امللكيات واألشخاص النازحني‪ ،‬ونزيف‬

‫‪213‬‬
‫السالح‪ ،‬ولكن ما يزال من املمكن ساميف صدى فكرة ميغايل فيه‪ .‬فقبل االستفتاء‪ ،‬خطب‬
‫بعض قادة الكنيسة األرثوذكسية اليونانية يف الجزيرة بأن أي قربيص يوناين سيصوت‬
‫«نعم» سيذهب إىل الجحيم‪ .‬يبدو أن اإلحساس العاطفي لدى القبارصة اليونانيني‬
‫باالستحقاق انترص عىل خطة ترشيعية كانت ستؤسس لنويف من التعاون مع القبارصة‬
‫األتراك‪.‬‬
‫كام ذكرت‪ ،‬فأنا ال أريد بأي شكل أن أخترص العالقات الرتكية‪-‬اليونانية يف أثر فكرة‬
‫ميغايل وحدها‪ .‬ال أريد أن أعطي انطبا ًعا بأن مشاكل طرف واحد هي التي تسبب املشاكل‬
‫والعنف يف العالقات الدولية – إذ تأيت أسباب العنف عاد ًة من كال الجانبني‪ .‬وال أنكر أي ً ا‬
‫معاناة اليونانيني ال قبل االستقالل وال بعده‪ .‬كان تركيز هذا الفصل أكرث تحدي ًدا‪ :‬العالقة بني‬
‫املجموعة الكبرية املعارصة‪ ،‬والصدمات الهائلة ألسالفها‪ ،‬وتغيري الوظيفة إىل أيديولوجية‬
‫استحقاق مفرطة وواسعة االنتشار‪.‬‬
‫بينام ساهمت فكرة ميغايل يف التوترات وإراقة الدماء‪ ،‬فإن اإلمكانات املدمرة‬
‫الحقيقية لصدمة مختارة تبينها أكرث األحداث يف يوغوسالفيا السابقة بعد انهيار الشيوعية‪.‬‬
‫ففي ذلك الوقت‪ ،‬نرشت القيادة الرصبية عن عمد دعاية سياسية أعادت تنشيط مشاعر‬
‫الخسارة‪ ،‬واإلذالل‪ ،‬والعار‪ ،‬واالضطهاد العميقة واملقلقة والتي دفعت الشعب الرصيب إىل‬
‫تنفيذ املهامت املروعة التي مررت إليهم‪ ،‬بطريقة مروعة‪ ،‬من خالل الصدمة املختارة الخاصة‬
‫بهم‪.‬‬
‫يحيط التعريف البسيط بالدعاية السياسية‪ ،‬مبعناها األوسع‪ ،‬أي تواصل وتالعب من‬
‫مصدر سلطة سياسية يوجه نحو أتباعها ومعارضيها يف الديار و‪/‬أو يف الخارج‪ ،‬باإلضافة‬
‫إىل أولئك الذين قد يوصفون باملحايدين‪ .‬هدفها هو تعزيز رغبات أصحاب الدعاية وأفكارهم‬
‫ويف بعض الحاالت‪ ،‬أيديولوجيتهم السياسية‪ .‬يف العامل الحديث‪ ،‬توجد الدعاية السياسية‬
‫يف كل من املجتمعات املفتوحة واملغلقة‪ ،‬وخاص ًة خالل فرتات التوتر الوطني والدويل‬

‫‪214‬‬
‫والحرب والظروف الشبيهة بالحرب مثل اإلرهاب‪ .‬بعد ‪ 11‬سبتمرب‪ ،‬ازدادت الدعاية السياسية‬
‫بشكل ملحوظ‪ ،‬سوا ًء ضمن الواليات املتحدة أو خارجها‪ .‬يبدو أنها يف كل مكان‪.‬‬
‫ولكن الدعاية املستخدمة يف رصبيا بعد صعود سلوبودان ميلوسيفيتش للسلطة‬
‫كانت فريد ًة ج ًدا‪ ،‬ومحددةً‪ ،‬وفعالةً‪ ،‬وقاتلة‪ .‬استهدفت هذه الدعاية بشكل مبارش معركة‬
‫كوسوفو يف ‪ ،1389‬وهي حادثة مبالغ يف جعلها أسطورية أصبحت ترمز لهزمية الرصب‬
‫املسيحيني ومعاناتهم التي تلتها عىل أيدي العثامنيني املسلمني‪ .‬رمبا تكون هذه هي الصدمة‬
‫املختارة املثالية – فقد أدت إعادة تنشيطها إىل انهيار ستمئة سنة وعرشات األجيال مجتمع ًة‬
‫يف الحارض؛ وقد بلغت املهام املوروثة من القوة ما جعل الزمن يبدو كأنه ال مييض‪ .‬كان‬
‫الرصب سينتقمون من هزميتهم‪ ،‬ويستعيدون األرايض التي كانت من «حقهم»‪ ،‬وينقلبون‬
‫ريا عىل االعتداء عليهم ك حايا‪.‬‬
‫أخ ً‬
‫هناك روايات تاريخية متعددة ومتناق ة عن معركة كوسوفو‪ ،‬ومن املستحيل نقل‬
‫ما حدث بدقة‪ .‬نحن نعلم حقًا أن معركة كربى حدثت وتكبد فيها الطرفان خسائر كثرية؛‬
‫قتل كل من القائد الرصيب األمري الزار والسلطان العثامين مراد األول‪ .‬بعد املعركة‪ ،‬نقلت‬
‫جثة الزار إىل دير رافانيكا الرصيب املركزي وطوب هناك‪ ،‬وخلفه يف النهاية ابنه ستيفان‬
‫الزاريفيتش‪ .‬بينام دفن قلب مراد وأع اء أخرى منه يف كوسوفو‪ ،‬ولكن بقية جثته أعيدت‬
‫إىل مدينة بورصة يف األناضول ودفن إىل جوار أسالفه‪ ،‬وخلفه ابنه بايزيد سلطانًا‪ .‬نعلم‬
‫أي ً ا أنه سواء كانت هذه املعركة الواحدة حاسم ًة بشكل واضح أم ال‪ ،‬فقد منا نفوذ العثامنيني‬
‫مثال‪ ،‬إحدى بنات الزار‪ ،‬وقاتل ابن الزار ستيفان الزاريفيتش‬
‫يف رصبيا‪ .‬إذ تزوج بايزيد‪ً ،‬‬
‫مع الجيش العثامين يف معركته ضد تيمورلتك‪ ،‬زعيم إمرباطورية املغول‪ .‬ويف الوقت نفسه‪،‬‬
‫ظلت رصبيا مستقل ًة بشكل أسايس وتتمتع بعقود من السالم واالزدهار النسبيني لوقت ال‬
‫بأس به بعد معركة كوسوفو‪ .‬ولكن يف النهاية‪ ،‬غزا العثامنيون رصبيا كلها بحلول عام‬
‫‪ ،1459‬بعد ست سنوات من سقوط بيزنطة‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫مع مرور الزمن‪ ،‬ارتبط كل من كوسوفو والزار بشكل مبارش بسقوط رصبيا‪،‬‬
‫وحيكت الكثري من األساطري حول كل منهام‪ .‬تطور متثيل ذهني مشرتك للمعركة عىل مدى‬
‫العقود والقرون‪ ،‬لينقل ويتحول من خالل الروايات الشفوية والدينية القوية يف رصبيا‪.‬‬
‫وشخصا شبي ًها باملسيح للرصبيني‪ ،‬وأصبحت‬
‫ً‬ ‫ومقدسا‪،‬‬
‫ً‬ ‫جعلت هذه الحكايات الزار شهي ًدا‬
‫خسارة كوسوفو بالنسبة لهم مبثل أهمية سقوط القدس متا ًما‪ .‬مع ترسيخ السيطرة‬
‫شامال‪ ،‬مبا فيهم الرهبان الذين ظلوا يحرسون جثامن‬
‫ً‬ ‫العثامنية‪ ،‬تحرك العديد من الرصب‬
‫الزار يف رافانيكا‪ .‬سافرت أساطري البطل الرصيب ومعركة كوسوفو مع رفاته‪ ،‬غال ًبا من‬
‫خالل حكايا شعراء الرتوبادور الجوالني الرصبيني الذين يدعون الغوسالر‪.‬‬
‫وفقًا إلحدى األساطري‪ ،‬ظهر القديس إيليا‪ ،‬عىل شكل صقر رمادي‪ ،‬أمام األمري الزار‬
‫يف ليلة معركة كوسوفو إليصال رسالة من مريم العذراء‪ .‬أعطي الزار خيارين‪ :‬ميكنه أن‬
‫يكسب املعركة ويجد ملكوتًا عىل األرض‪ ،‬أو يخرس املعركة ويجد ملكوتًا يف السامء‪ .‬اختار‬
‫صورت املنحوتات واللوحات‬ ‫‪156‬‬
‫األمري الزار الذهاب إىل السامء ورافقه يسويف املصلوب‪.‬‬
‫الرصبية الزار بطريقة مشابهة‪ ،‬ومنها لوحة معدلة عن العشاء األخري يجلس فيها الزار يف‬
‫املنتصف‪ .‬كانت كوسوفو تصعد لتكون الصدمة املختارة الرصبية الرئيسية‪.‬‬
‫مل ميكن ال ملرور القرون وال للسيطرة الشيوعية أن يطفئا قوة كوسوفو كعالمة عىل‬
‫هوية املجموعة الرصبية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬بعد سقوط االتحاد السوفيتي‪ ،‬أعيد إحياؤها برسعة‬
‫تحت قيادة سلوبودان ميلوسيفيتش‪ .‬مع اقرتاب ذكرى مرور ستمئة عام عىل معركة‬
‫كوسوفو‪ ،‬نبش شعب ميلوسيفيتش حرف ًيا جثة الزار ومعه املهامت التي نقلت عىل مدى‬
‫ستمئة عام‪ .‬وبدعم من سلطات الكنيسة الرصبية وبعض األكادمييني‪ ،‬اتخذت الرتتيبات‬
‫الالزمة إلخراج جثة الزار من «املنفى» وإعادته إىل مكان دفنه الصحيح‪ .‬ولكن رحلة عودة‬
‫الزار إىل كوسوفو مل تكن قصرية‪ :‬فقد وضع رفاته يف نعش وأخذ يف جولة ملدة عام ليجوب‬
‫كل قرية وبلدة رصبية حيث كانت حشود املكلومني املتشحني بالسواد تجتمع الستقباله‪.‬‬
‫دفن جثامن الزار رمزيًا وأعيد تجسيده يف العديد‪ ،‬العديد‪ ،‬من املناسبات‪ .‬أجريت املراسم‬

‫‪216‬‬
‫الدينية‪ ،‬وألقى بعض السياسيني خطابات كراهية مبارشة أو غري مبارشة‪ .‬بدأ الناس‬
‫يشعرون‪ ،‬دون أن يعوا ذلك فكريًا‪ ،‬أن الهزمية يف معركة كوسوفو مل تحدث إال مؤخ ًرا‪ ،‬وهو‬
‫تطور أصبح ممكنًا بف ل حقيقة أن الصدمة املختارة ظلت حي ًة فعل ًيا –حتى لو كانت نامئة‬
‫يف بعض األحيان– لقرون‪ .‬ومن ثم فإن الصدمة الرصبية املختارة ستساعد يف ترسيخ‬
‫هوية رصبية جديدة بعد زوال يوغوسالفيا‪.‬‬
‫يف ‪ 28‬يونيو‪ ،1989 ،‬يف ذكرى مرور ستمئة عام عىل معركة كوسوفو‪ ،‬أىت‬
‫ميلوسيفيتش بنفسه إىل أرض املراسم‪ ،‬وهي تلة مطلة عىل ساحة معركة كوسوفو‪ ،‬حيث‬
‫تجمع آالف الرصبيني إلحياء ذكرى هذا الحدث‪ .‬كان نصب تذكاري ضخم مصنويف من حجر‬
‫أحمر يرمز للدم قد أقيم‪ ،‬يف وقت سابق‪ ،‬كام ذكرت يف الفصل ‪ ،8‬يف املوقع‪ .‬اخن‪ ،‬كان‬
‫ميلوسيفيتش‪ ،‬اخيت إىل هذا املكان بالطائرة املروحية‪ ،‬تجسي ًدا لالزار العائد إىل األرض من‬
‫السامء‪ .‬ولكن شعور الرصبيني بكونهم ضحايا والذي كان يربطهم م ًعا قد تغري اخن‪ :‬فبدالً‬
‫من متابعة اختيار الزار مللكوت السامء‪ ،‬يختار الرصب اخن «مملك ًة عىل األرض»‪.‬‬
‫سينقلبون اخن عىل خساراتهم وينتمون إلذاللهم ويستعيدون األرايض التقليدية‬
‫لرصبيا الواقعة اخن بأيدي «اخخرين»‪ .‬يف صورة فوتوغرافية لهذا التجمع‪ ،‬ميكن رؤية نداء‬
‫الزار ذي الستمئة عام لكل الرصبيني ليحاربوا ضد الرتك مطبوع ًة عىل قمصان العديد من‬
‫املتفرجني‪ .‬ساعدت قيامة الزار وإعادة تنشيط صدمة كوسوفو املختارة عىل خلق مناخ مالئم‬
‫للعنف الهائل يف املستقبل ضد البوشناق املسلمني والحقًا ضد األلبانيني يف يوغوسالفيا‬
‫السابقة‪ ،‬والذين كان يعتربهم الرصبيون امتدا ًدا لألتراك‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لعب البوشناق واأللبان‬
‫ريا ما أطلق عليهم الرصبيون‪ ،‬يف املواقف العصيبة‪،‬‬
‫مهام يف التاريخ العثامين وكث ً‬
‫دو ًرا ً‬
‫«أتراكًا»‪.‬‬
‫وأعتقد أي ً ا أن إعادة تنشيط الصدمة املختارة لدى الرصب ترتبط ارتباطًا وثيقًا‬
‫باالغتصاب املنهجي للنساء البوسنيات‪ .‬خالل الحروب أو املواقف املشابهة للحرب‪ ،‬ينتكس‬
‫األفراد والجامعات عىل حد سواء ويندمج العنف الجنيس والعدوان يف أذهان وأفعال العديد‬

‫‪217‬‬
‫من األفراد‪ .‬قد يؤدي هذا إىل االغتصاب‪ .‬الصور الرقمية ملا فعله الجنود األمريكيون يف سجن‬
‫أبو غريب يف العراق توضيح مصور لدمج العدوان بالجنس‪ .‬أثناء كتابتي لهذه الكلامت‪ ،‬من‬
‫الصعب تحديد إذا ما كانت ستحدث يف املستقبل تحقيقات أكرث فيام يخص أبو غريب‪،‬‬
‫باستثناء تلك التي جلبت بعض الجنود الذين كانوا متورطني بشكل مبارش إىل املحاكم‬
‫العسكرية‪ .‬تعكس هذه األحداث انتكاس بعض األفراد وجمعهم الجنس والعنف من خالل‬
‫اإلذالل «اخخر» وتجريده من إنسانيته‪ .‬ولكن‪ ،‬كانت عمليات االغتصاب يف رصبيا ممنهجة‬
‫ومرشعة بأيديولوجية استحقاق‪.‬‬
‫لفهم طبيعة حوادث االغتصاب التي حدثت يف يوغوسالفيا السابقة‪ ،‬لننظر أوالً إىل‬
‫مثال عن الدعاية الرصبية من أواخر مثانينيات القرن العرشين وأوائل تسعينياته‪:‬‬

‫بأوامر من أصوليني إسالميني من رساييفو‪ ،‬يجري فصل نساء‬


‫صحيحات أعامرهن من ‪ 17‬حتى ‪ 40‬عا ًما عن بع هن وإخ اعهن‬
‫ملعاملة خاصة‪ .‬وفقًا لخططهم املري ة التي تعود إىل عدة سنوات‬
‫م ت يجب أن تحبل هذه النساء من نطاف مسلمني ملتزمني لرتبية‬
‫جيل من اإلنكشاريني يف األرايض التي يعتربونها لهم قط ًعا‪،‬‬
‫الجمهورية اإلسالمية‪ .‬بكلامت أخرى‪ ،‬ترتكب جرمية رباعية األوجه‬
‫ضد املرأة الرصبية‪ :‬أخذها من عائلتها‪ ،‬جعلها تحبل من نطاف غري‬
‫‪157‬‬
‫مرغوبة‪ ،‬إرغامها عىل والدة غريب وثم أخذه بعي ًدا عنها‪.‬‬

‫يبدو أن هذه الرسالة كانت تحذر من إعادة إحياء نظام الدوشريمة العثامين‪ ،‬والخطط العلنية‬
‫للمسلمني يف يوغوسالفيا السابقة لبدء جيش إنكشاري جديد‪ .‬باختصار‪ ،‬الدوشريمة‪ ،‬وهي‬

‫‪218‬‬
‫مامرسة بدأت يف ظل حكم مراد األول واستمرت ألربعة قرون تلت‪ ،‬ان وت عىل التجنيد‬
‫اإلجباري للشباب من سكان اإلمرباطورية املسيحيني األرثوذكسيني ليؤدوا دور عام‬
‫الدولة‪ .‬كان الشباب املسيحيون األرثوذكس‪ ،‬كاليافعني الرصبيني‪ ،‬يجمعون كأنهم رضيبة‬
‫استثنائية يفرضها السلطان‪ ،‬ويؤخذون من عوائلهم‪ ،‬ويحولون إىل اإلسالم‪ ،‬ويعلمون‬
‫ليخدموا السلطان‪ .‬كان أحد أعظم كبار وزراء اإلمرباطورية العثامنية‪ ،‬سوكولو‬
‫سوكولوفيتش) محمد باشا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬رصب ًيا يف األصل تصعد يف نظام‬
‫الدوشريمة‪ .‬ولكن‪ ،‬معظم شباب الرصبيني واملسيحيني السابقني اخخرين) كانوا يجندون‬
‫يف رتب الجيش كأع اء لقوة اإلنكشاريني املرعبة‪.‬‬
‫يف أواخر مثانينيات القرن العرشين وأوائل تسعينياته‪ ،‬سعت الدعاية الرصبية‬
‫لبث الرعب بني أمهات الرصبيني خشية فقد أبنائهن‪ ،‬الذين سيعودون لهم إنكشاريني‬
‫تخل هذه الفكرة من بذرة للحقيقة‪ ،‬إذ أشارت إحدى كتابات‬
‫إلخ ايف وقتل شعبهم‪ .‬مل ُ‬
‫الزعيم البوسني املسلم آنذاك ع عزت بيغوفيتش إىل إمكانية قيام مرشويف إسالمي يف‬
‫البوسنة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فألي غاية عملية ممكنة‪ ،‬كانت إمكانية إعادة إحياء نظام الدوشريمة‬
‫محض خيال رصيب يستخدم للدعاية‪.‬‬
‫كان الرائد ميلوفان ميلوتينوفيتش من الشخصيات الرئيسية يف إدارة آلة الدعاية‬
‫الرصبية يف ظل نظام ميلوسيفيتش‪ .‬يف عام ‪ ،1991‬قابله الصحفي األمرييك روي غامتان‪،‬‬
‫الذي بلغ من الصدمة عند اإلشارة إىل اإلنكشاريني درج ًة سأل عندها ميلوتينوفيتش‪« ،‬عن‬
‫أي بلد تتحدث؟»‪ 158‬أجاب ميلوتينوفيتش أنها كانت ظاهر ًة حديثة‪ ،‬م يفًا‪« ،‬هم يحاولون‬
‫فعل ما فعلوه قبل قرون م ت»‪ 159.‬يف بيان ميلوتينوفيتش‪ ،‬نسمع إشارات إىل عواقب‬
‫إعادة تنشيط الصدمة الرصبية املختارة – انهيار للزمن – ومثاالً عىل معادلة مبارشة وإن‬
‫كان متعذ ًرا الدفايف عنها تربط الخصم الحايل بعدو قديم‪ .‬ال سبيل يل ملعرفة إذا ما كان‬
‫ميلوتينوفيتش حقًا يؤمن مبا كان يقوله‪ .‬املسألة املهمة أن مالحظاته كانت جان ًبا من ظاهرة‬
‫جامعة‪-‬كبرية تحكمها سيكولوجية انهيار الزمن يف مجتمع منتكس‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫قبل االغتصاب املنظم للنساء البوسنيات املسلامت مبارش ًة ويف أثنائه‪ ،‬حلت الدعاية‬
‫الرصبية الجديدة محل الحملة القدمية التي حذرت النساء الرصبيات من االغتصاب املنهجي‬
‫من قبل رجال مسلمني بوسنيني كامتداد للعثامنيني)‪ .‬أضافت هذه الدعاية الجديدة لفتةً‪:‬‬
‫إذا اغتصب رجل رصيب امرأ ًة بوسنية مسلمة‪ ،‬فإن الطفل املولود نتيجة هذا االغتصاب‬
‫سيكون دمه رصب ًيا بالكامل وال يحمل أي بقايا من األم أي هوية املجموعة‪-‬الكبرية غري‬
‫الرصبية لألم)‪ .‬بدت عاملة االجتاميف األمريكية بيفريل آلن‪ ،‬التي درس هذا الجانب من الدعاية‬
‫الرصبية‪ ،‬محتارةً‪ .‬يف كتابها‪ ،‬حرب االغتصاب‪ :‬اإلبادة الجامعية املخفية يف البوسنة‬
‫والهرسك وكرواتيا‪ ،‬تساءلت عام إذا كان الرصب لديهم أي فكرة عن علم الوراثة‪ 160.‬بالتأكيد‬
‫مل يكن لهذا الخيط من الدعاية الرصبية أي صلة بالعلم‪ :‬إن اغتصاب امرأة مسلمة إلنجاب‬
‫ريا عن‬
‫طفل رصيب ولد رغبة لالنقالب عىل استهداف أسالفهم ك حايا وكان أي ً ا تعب ً‬
‫التعرف عىل العثامنيني أعداء أسالفهم‪.‬‬
‫عندما أعاد ميلوسيفيتش تنشيط صدمة كوسوفو املختارة ألول مرة‪ ،‬هل كان ينوي‬
‫تطبيق االغتصاب املمنهج للنساء البوسنيات املسلامت والتطهري اإلثني لرصبيا؟ أم كان‪ ،‬عىل‬
‫األقل يف البداية‪ ،‬مجرد متحمس فائق للقومية استغل حاجة رصبيا إىل «النحن‪-‬وية»‬
‫كوسيلة لصعوده إىل السلطة؟ قد ال يجاب عىل هذا السؤال بشكل كامل أب ًدا‪ ،‬ولكن التاريخ‬
‫أظهر مرة تلو األخرى أن صندوق باندورا للشعور باالستهداف ك حايا ما أن يفتح‪ ،‬رسعان‬
‫ما تتبعه اإلبادة‪ .‬عندما تنتكس مجموعة كبرية ويتساءل الناس عن هوية مجموعتهم الكبرية‪،‬‬
‫عامال له تأثري ملحوظ عىل‬
‫ً‬ ‫مهام يف السيناريو‪،‬‬
‫عامال ً‬
‫ً‬ ‫تصبح شخصية القائد السيايس‬
‫العمليات السياسية واالجتامعية‪ .‬قد يشعل القائد العواطف اإلثنية أو عواطف املجموعة‪-‬‬
‫الكب رية األخرى أو يشكمها‪ ،‬وقد يقود املجموعة نحو تعايش سلمي مع «اخخرين»‪ ،‬أو يوقد‬
‫فعاال حتى يف إشعال الحرب‪ .‬يف كتايب الثقة العمياء‪ :‬املجموعات‬
‫خا حرب ًيا‪ ،‬مؤديًا دو ًرا ً‬
‫منا ً‬
‫الكبرية وقادتها يف أوقات األزمة والرعب‪ ،‬كتبت عن القادة «اإلصالحيني» و«التدمرييني»‬
‫يساعد األولون يف تعزيز هوية املجموعة املهددة أو‬ ‫‪161‬‬
‫يف املجموعات الكبرية املنتكسة‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫املتغرية دون االستنقاص من مجموعة أخرى أو تدمريها‪ .‬بينام يهدف األخريون إىل تطوير‬
‫و‪/‬أو تعديل الهوية الجديدة للمجموعة من خالل تدمري مجموعة مقابلة‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪.‬‬
‫يف عملية من خمس خطوات‪ ،‬يفعل القادة التدمرييون وآالتهم الدعائية ما ي ‪ )1 :‬تعزيز‬
‫حس مشرتك باالستهداف ضمن املجموعة الكبرية بعد هجوم من مجموعة معادية أو كارثة‬
‫مثال‪ ،‬أو حتى يف حاالت ال يوجد فيها أي استهداف حديث مريئ؛‬
‫أخرى‪ ،‬كارثة اقتصادية ً‬
‫‪ )2‬إعادة تنشيط صدمة مختارة؛ ‪ )3‬زيادة إحساس النحن‪-‬وية هوية املجموعة‪-‬الكبرية)‪،‬‬
‫ولكن يف حالة منتكسة؛ ‪ )4‬االستنقاص من العدو إىل درجة نزيف اإلنسانية عنه؛ ‪ )5‬خلق‬
‫ميل مفرط للشعور باالستحقاق لالنتقام أو إعادة تنشيط أيديولوجية استحقاق نامئة‪.‬‬
‫من خالل الخطوات الخمس‪ ،‬يخلق مناخ تشعر املجموعات الكبرية يف ظله‬
‫باالستحقاق لتدمري العدو الحايل وحتى االشرتاك يف التطهري الثقايف واإلثني‪ ،‬وبهذا تطهري‬
‫أنفسهم من أي تلوث من قبل «آخرين» ناقصني وغري مرغوبني‪ .‬قد تؤله املجموعة الكبرية‪،‬‬
‫يف ظل ظروف معينة‪ ،‬بدون وسائل واقعية لتامرس السادية ضد العدو الحايل‪ ،‬استهدافها‬
‫ك حية وتصبح «مازوشية»‪ .‬للصدمات املختارة املعاد تنشيطها وأيديولوجيات االستحقاق‬
‫املبالغ فيها املصاحبة لها‪ ،‬وخاص ًة عند تبنيها من قبل قائد سيايس‪ ،‬آثار عميقة عىل‬
‫املجموعات الكبرية واملجموعات «األخرى» التي تعتربها أعداءها‪ ،‬ما يلعب دو ًرا بارزًا يف‬
‫تطور الرعب واإلرهاب‪.‬‬
‫يف وقتنا الحارض‪ ،‬قد نتساءل عن جوانب متعددة من سيكولوجية املجموعة‪-‬‬
‫الكبرية التي لعبت دو ًرا يف جعل مئات آالف أو رمبا حتى ماليني املسلمني عاشقني ألسامة‬
‫بن الدن‪ .‬كان بن الدن يشري باستمرار إىل ثالث صدمات تاريخية حديثة إىل حد ما لتحفيز‬
‫املشاعر لدى أتباعه وتشجيعهم عىل االنتقام من األمريكيني وحلفائهم‪« :‬اقتحام» الواليات‬
‫املتحدة لألماكن املقدسة يف اململكة العربية السعودية؛ وعقوبات األمم املتحدة بقيادة‬
‫الواليات املتحدة ضد العراق وما صاحبها من معاناة للمدنيني العراقيني وخاص ًة أطفال‬
‫العراق؛ ودعم الواليات املتحدة إلرسائيل ضد الفلسطينيني العرب‪ .‬هل حاول أسامة بن الدن‬

‫‪221‬‬
‫أي ً ا إعادة تنشيط صدمة مختارة؟ يف بعض خطاباته‪ ،‬تحدث عن تجريف املسلمني اإلذالل‬
‫واالحتقار ألكرث من مثانني عا ًما ورصح بأن أمريكا بعد ‪ 11‬سبتمرب تذوق من الكأس نفسه‪.‬‬
‫يف إحدى الخطب‪ ،‬قال إن «العامل اإلسالمي ]وقع[ تحت راية الصليب» قبل أكرث من مثانني‬
‫‪162‬‬
‫عا ًما‪.‬‬
‫عىل األرجح‪ ،‬فقد كان يشري إىل انهيار اإلمرباطورية العثامنية وإنهاء الخالفة من‬
‫قبل الجمهورية الرتكية الحديثة تحت حكم كامل أتاتورك‪ .‬رغم أن إنهاء الخالفة ال يبدو أنه‬
‫يعم يف املخاوف اليومية لألتبايف املسلمني األصوليني لنب الدن‪ ،‬رمبا جعل بن الدن هذا الحدث‬
‫صدمته املختارة الشخصية‪ .‬رمبا تكون أيديولوجيته التحريرية الوحدوية الستعادة الخالفة‬
‫جز ًءا مام أعطاه «اإلذن» إليذاء أو قتل «اخخرين»‪ ،‬ألنه فقط بتدمريهم سيصبح انتشار عالمته‬
‫اإلسالمية التحريرية الوحدوية) أم ًرا ممكنًا‪.‬‬
‫بأي حال‪ ،‬أظهر مثال رصبيا أنه بإعادة تنشيط صدمة مختارة‪ ،‬حولت القيادة‬
‫السياسية‪ ،‬باستخدام الدعاية‪« ،‬ذكرى» إىل حدث حاد‪ .‬هناك أي ً ا أحداث جارية حادة وهائلة‬
‫مولدة للصدمات تؤثر‪ ،‬دون أن تكثف يف صورة صدمة مختارة ودون أن تلوث بتجربة‬
‫انهيار الزمن‪ ،‬بشكل هائل عىل عمليات املجموعة‪-‬الكبرية وقد تلد أيديولوجيات سياسية‬
‫جديدة‪ .‬وأنا أعني مبصطلح صدمة حادة صدم ًة تسبب حال ًة مستمرة من االرتباك‪ ،‬وحدا ًدا ال‬
‫يطاق‪ ،‬وفوىض‪ ،‬وازديا ًدا يف اإلجرام ضمن املجموعة‪ .‬يف ظل هذه الظروف‪ ،‬تبحث‬
‫املجموعة عن قائد أو قادة) ليؤدي دور املصلح أو املنقذ‪ ،‬ويحاول إعادة تأسيس إحساس‬
‫جديد بهوية املجموعة‪-‬الكبرية‪ .‬قد يؤدي هذا بذاته إىل أحداث عنف‪ ،‬ورعب‪ ،‬وإرهاب موجهة‬
‫فمثال‪ ،‬أثناء‬
‫نحو اخخرين‪ ،‬أو حتى داخل ًيا ضد أع اء آخرين من املجموعة املتعرضة للصدمة‪ً .‬‬
‫كتابتي لهذا الكتاب‪ ،‬يشهد الشعب العراقي‪ ،‬املقسم تقسيامت طائفية سنة‪ ،‬شيعة) وإثنية‬
‫خاصا به لشكم العواطف‪ ،‬صدم ًة حادةً‪.‬‬
‫ً‬ ‫عرب‪ ،‬أكراد‪ ،‬تركامن)‪ ،‬والذي ال ميتلك قائ ًدا موح ًدا‬
‫شهدت األمم املتحدة صدمتها الحادة الخاصة بها يف ‪ 11‬سبتمرب‪ .2001 ،‬ولكن‪،‬‬
‫عىل عكس الوضع يف العراق‪ ،‬للواليات املتحدة قائد سيايس معرف ومؤسسات معرفة‪ ،‬ومل‬

‫‪222‬‬
‫تنحدر البلد إىل الفوىض‪ .‬بدل ذلك‪ ،‬املوجود هو انقسامات سياسية وشعور مشرتك ال ميكن‬
‫تعريفه بسهولة‪ ،‬بأن أشياء معينة مل تعد روتينية – هناك شعور مزعج بأن شيئًا ما خاطئ‪.‬‬
‫أدت أحداث ‪ 11‬سبتمرب يف النهاية إىل سياسة أيديولوجية تعرف باسم تعاليم بوش‪ ،‬تهدد‬
‫باستخدام القوة االستباقية أحادية الجانب يف الساحة الدولية‪ .‬وسيبقى كون هذه التعاليم‬
‫الجدلية ستبقى ملا بعد رئاسة بوش محط جدل‪.‬‬
‫بالفعل‪ ،‬ال تصري األيديولوجية السياسية التي تنبثق من صدمة اجتامعية حادة أو‬
‫تصاحبها بالضورة مدرج ًة يف املؤسسات السياسية أو عالم ًة عىل هوية املجموعة‪-‬الكبرية‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬ال تنتهي كل صدمة حادة هائلة بالضورة صدم ًة مختار ًة بعد عقود أو قرون‪ .‬من‬
‫األرجح للصدمات الحادة التي تبقى «ساخنةً» لفرتة طويلة‪ ،‬بأي حال‪ ،‬أن تتطور إىل صدمات‬
‫مختارة‪ .‬تكون الصدمة «ساخنة» إذا بقي األفراد املتعرضون للصدمة ونسلهم مشرتكني‬
‫مثال‪« ،‬صدم ًة‬
‫عاطفيًا يف إقامة الحداد عليها واستح ار ذكراها‪ .‬تبقى محرقة الهولوكوست‪ً ،‬‬
‫ساخنةً»‪.‬‬
‫أيًا كان مصدر الصدمة‪ ،‬فإن النتيجة النهائية هي املعاناة اإلنسانية‪ .‬دفعت الرغبة‬
‫يف تخفيف يشء من هذه املعاناة عىل األقل إىل إنشاء أول منظمة غري حكومية دولية‪ .‬ومع‬
‫تطور هذه املنظامت غري الحكومية وبدئها يف توسيع نطاق عملها‪ ،‬أضاف العديد منها حل‬
‫النزاعات الدولية إىل مجال صالحيتها‪ .‬ولكن العديد من النزاعات التي حاولت هذه املنظامت‬
‫حلها كان ملوثًا بعمليات املجموعات‪-‬الكبرية املوصوفة أعاله‪ ،‬وأصبح واض ًحا يف النهاية أن‬
‫بعض حلول النزاعات كان يقاوم بشكل وايف أو غري وايف‪ .‬لذا سيناقش الفصل التايل‬
‫االسرتاتيجيات التي ميكنها نزيف «السموم» السيكولوجية يف النزاعات والسامح بحلها‬
‫سلم ًيا‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫الجزء الثالث‬

‫الهويات جن ًبا إىل جنب‪ :‬هل التعايش أمر ممكن؟‬

‫‪224‬‬
‫من الدبلوماسية الرسمية إىل غري الرسمية‪ :‬نظرة عامة‬ ‫‪11‬‬

‫كان ملجموعة متنوعة من العوامل يف القرن العرشين دور يف ظهور املنظامت غري‬
‫الحكومية‪ ،‬التي اتخذت فيام بعد أدوا ًرا دامئة التوسع‪ ،‬وتحولت ذات يوم إىل مجال مقترص‬
‫عىل اإلدارات الفيدرالية‪ .‬حشدت جمويف من الخرباء املتنوعني من مهندسني وعلامء‬
‫أنرثوبولوجيا لفهم املشكالت الدولية واملساعدة يف حلها‪ ،‬لين م إليها يف نهاية املطاف‬
‫علامء السلوك وغريهم من املتخصصني يف مجال الصحة العقلية‪ ،‬وبذلك نشط العمل متعدد‬
‫التخصصات‪ .‬حني شاركت شخص ًيا شعرت وكأنني يف عامل جديد وغريب‪ .‬وعىل الرغم من‬
‫شعوري بأنني رائد يف مجايل‪ ،‬مل أكن بالطبع أول املحللني النفسيني الذين طبقوا معرفتهم‬
‫بالعمليات النفسية الفردية عىل التجمعات الجمعية البرشية‪.‬‬
‫أرشت يف املقدمة إىل مفهوم إريك إريكسون عن االنتوايف الزائف وفكرته املتمثلة يف‬
‫تطوير كل مجموعة برشية لشعور مميز بالهوية يف فجر التاريخ البرشي‪ .‬وليك يتسنى لنا‬
‫تصور مفهوم إريكسون‪ ،‬ميكننا أن نغلق أعيننا ونتخيل مجموع ًة صغري ًة من البرش األوائل‬
‫مرتدين جلو ًدا بنية اللون تعود ألحد أنوايف الحيوانات وريشً ا حمراء تعود لنويف من أنوايف‬
‫الطيور‪ ،‬ومجموع ًة مجاور ًة من البرش املرتدين جلو ًدا صفراء اللون تعود لنويف آخر من‬
‫الحيوانات وريشً ا خضاء تعود لنويف مختلف من الطيور‪ ،‬فتنقسم هاتان املجموعتان إىل‬
‫نوعني مختلفني‪ .‬كتب إريكسون‪:‬‬

‫يقترص األمر يف البداية عىل كل حشد أو قبيلة وطبقة أو أمة‪ ،‬ولكن فيام بعد تصبح‬
‫حتى كل جمعية دينية ممثل ًة عن النويف البرشي وتعترب اخخرين جمي ًعا اخرتا ًعا غري ًبا‬
‫وباطال لبعض اخلهة غري املهمة‪ .‬وليك يتعزز الوهم بأنها مختارة‪ ،‬تعرتف كل قبيلة‬ ‫ً‬
‫بخلق خاص بها‪ ،‬أي بأسطورة والحقًا بتاريخ‪ :‬وبذلك أصبح الوالء لنظام بيئي أو‬

‫‪225‬‬
‫أخالقي معني أم ًرا م مونًا‪ .‬مل يعرف املرء أب ًدا كيف خلقت جميع القبائل األخرى‪،‬‬
‫ولكن مبا أنها موجودة عىل أي حال‪ ،‬أصبحت مفيد ًة عىل األقل باعتبارها شاش ًة‬
‫ريا رضوريًا‪ ،‬إن مل يكن مزع ًجا‪ ،‬للهويات‬
‫إلسقاط الهويات السلبية التي كانت نظ ً‬
‫‪163‬‬
‫اإليجابية‪.‬‬

‫ال بد من أن البرش األوائل احتاجوا لخدمات دبلومايس بدايئ ما يف بعض املناسبات‪ ،‬أي يف‬
‫الوقت الذي مل يشاركوا فيه يف قتال من أجل مصدر غذاء واحد‪ .‬وميكننا أي ً ا أن نتخيل أن‬
‫مصدر الغذاء الواحد هذا توسع الحقًا ليشمل أغذي ًة لنويف آخر من الجويف العاطفي‪ :‬الجويف‬
‫لالنتامء إىل هوية مجموعة كبرية أكرث توس ًعا‪.‬‬
‫يتشارك املحللون النفسيون والعلامء السياسيون إذًا اهتام ًما لفهم كيفية ترصف البرش‬
‫ضمن املجموعات ودور الدبلوماسية يف تنظيمهم‪ .‬ولكن إيجاد أرضية مشرتكة مل يكن باألمر‬
‫محلال نفسيًا‪ ،‬أن أقبل أن عقولنا تعمل غالبًا بطريقة «بدائية»‬
‫ً‬ ‫السهل‪ .‬ينبغي ع ‪ ،‬بصفتي‬
‫ضمن املجموعات الكبرية‪ ،‬وهو ما ال يرغب العديد باالعرتاف به‪ .‬أما العلامء السياسيون‪ ،‬يف‬
‫ضا» تغلب عليها العقالنية حني يتعلق‬
‫املقابل‪ ،‬فيفرتضون أننا نترصف بطريقة أكرث «تح ً‬
‫األمر بالدبلوماسية الحديثة‪ .‬اسمحوا يل أن أطرح منظورين مختلفني لتوضيح التناقض‬
‫املحتمل لهذين املنطلقني‪.‬‬
‫يعتقد جيه‪ .‬أندرسون تومسون بوجود سلوك يسمى «العنف التحالفي القائم عىل‬
‫الرتابط الذكوري» من بني سلوكياتنا البدائية واألولية املتأصلة‪ ،‬ويؤكد أننا إن ألقينا نظر ًة‬
‫عىل التاريخ التطوري والرتابط الذكوري يف املجموعات البرشية األوىل‪ ،‬سنجد داف ًعا‬
‫طبيع ًيا للعنف العشوايئ الذي كان مفي ًدا يف معظم األوقات عىل مر تاريخنا التطوري‪.‬‬
‫وبحسب ما يرى تومسون‪ ،‬هناك أربع قدرات أو آليات فطرية ذات صلة‪ )1 :‬القدرة عىل‬
‫تشكيل تحالفات ذكورية بسهولة؛ ‪ )2‬القدرة عىل استخدام هذه التحالفات لشن غارات‬
‫مميتة بغرض القتل؛ ‪ )3‬القدرة عىل شن هذه الغارات املميتة ضد برش مل يقابلوهم من قبل‬

‫‪226‬‬
‫ومل يستفزوهم بشكل مبارش؛ ‪ )4‬القدرة عىل رؤية أع اء املجموعات األخرى باالعتامد‬
‫عىل اخليات املعرفية ذاتها التي يستخدمونها عند رؤية فريسة ما‪ .‬ويف إشارة إىل أحداث‬
‫مثال‪ ،‬كتب‪« :‬إذا أردنا حقًا أن نفهم أحداث‬
‫العنف الجامعي كتلك التي حدثت يف ‪ 11‬سبتمرب ً‬
‫‪ 11‬سبتمرب يف مستواها األسايس‪ ،‬علينا أن نواجه أشكال الرعب يف تاريخنا التطوري‬
‫واإلرث املميت الذي ورثه جميع الرجال والعنف الكامن يف جوهر الدين»‪ 164.‬وبعبارة أخرى‪،‬‬
‫وكام أخربين تومسون مؤخ ًرا‪« :‬نحن منتلك قدرات كامن ًة قد تكون مفيد ًة يف مواقف معينة‪،‬‬
‫وميكن أن تنشطها عمليات مجموعة ما وتستخدمها بطرق تختلف عن تصميمها األص ‪،‬‬
‫أي طرق مميتة»‪.‬‬
‫ومن الناحية األخرى‪ ،‬هناك املهام الدبلوماسية التقليدية التي تطورت جن ًبا إىل جنب‬
‫مع «ح ارتنا» ودفعتها إىل األمام‪ .‬إن الدوافع العدوانية اإلنسانية‪ ،‬بحسب ما يؤكده العديد‬
‫من العلامء السياسيني‪ ،‬روضتها القوانني والعادات والحكومات – وال سيام عىل املستوى‬
‫متثيال رسميًا لدولة ما ضمن حدود دولة أخرى‪ ،‬ورشحت‬
‫ً‬ ‫الدويل‪ .‬قدمت الدبلوماسية‬
‫سياساتها ودافعت عنها وفرستها وفاوضت بشأنها‪ ،‬ووضعت وصاغت وعدلت العديد من‬
‫القواعد الدولية ذات النوعني املعياري والتنظيمي التي من شأنها أن تشكل هيكل النظام‬
‫قد يعترب املحللون النفسيون العديد من هذه األنشطة مامرسات طقسيةً‪ ،‬أي‬ ‫‪165‬‬
‫الدويل‪.‬‬
‫«األساليب الصحيحة» التي يتبعها ممثلو دولة ما عند تواصلهم مع ممث دولة أخرى‪ ،‬وهي‬
‫التي أصبحت جز ًءا من الربتوكول السائد بني املجموعات الذي وضع حدو ًدا ملنع العواطف‬
‫من االنفجار‪.‬‬
‫ومبرور الوقت‪ ،‬أضيف املزيد من القوانني واالتفاقيات إلدارة العالقات بني الدول‪.‬‬
‫تعود بعض مامرساتنا الدبلوماسية إىل مؤمتر فيينا ‪ ،)1815-1814‬الذي وضع األساس‬
‫للدرجات املحددة يف الوضع الدبلومايس‪ ،‬وحدد بوضوح ماهية املوضوعات التي ميكن‬
‫للمحلق أو القنصل أو السفري أو الوزير أن يتفاعل معها وكيفية ذلك‪ .‬طرح املؤمتر أي ً ا‬
‫مفهوم الحصانة الدبلوماسية القائم عىل أساس ثالث مطالبات باالمتياز‪droit de )1 :‬‬
‫‪227‬‬
‫‪chapelle‬؛ ‪droit de quartier )2‬؛ ‪droit de l’hôtel )3‬؛ وهي تعني الحق يف‬
‫االستمرار يف مامرسة الشعائر الدينية لوطنه األم والحصانة من االعتقال عىل يد الرشطة‬
‫املحلية واإلعفاء من الوالية الق ائية والضائب املحلية عىل التوايل‪ .‬وتعود بعض أشكال‬
‫التزمت األخرى املتعلقة بالدبلوماسية الرسمية إىل أبعد من ذلك‪ ،‬أي إىل األفكار السياسية‬
‫‪ )1527-1469‬وتوماس هوبز ‪)1676-1588‬‬ ‫لبعض الرجال مثل نيكولو مكيافي‬
‫وجون لوك ‪ )1704-1632‬وكارل ماركس ‪ )1883-1818‬وفريدريك إنغلز ‪-1820‬‬
‫‪ ،)1895‬يف حني تعود بعض النظريات‪ ،‬مثل الحاجة إىل تشكيل تحالفات دولية للحفاظ‬
‫عىل «توازن القوى»‪ ،‬إىل املؤرخ اليوناين ثوقيديدس‪.‬‬
‫أما دبليو‪ .‬ناثانيال هاول‪ ،‬السفري األمرييك السابق يف الكويت خالل فرتة الغزو‬
‫العراقي عام ‪ 1990‬والدبلومايس املقيم منذ فرتة طويلة يف مركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي‪ ،‬فتحدث عن الحاجة إىل الدبلوماسية بطريقة أخرى‪ :‬نظ ًرا ألنه لعب كرة السلة حني‬
‫كان طالبًا جامعيًا‪ ،‬استخدمها هاول باعتبارها تشبي ًها لرشح أنه كان من الطبيعي‬
‫والضوري وضع قواعد للعب يف السياسة الدولية كام هو الحال عند التخطيط ملباراة يف‬
‫كال من السياسة الخارجية ذات اإلدارة الجيدة ومباراة كرة السلة ذات التنفيذ‬
‫كرة السلة‪ .‬إن ً‬
‫الدقيق مثاالن عىل التناسق والفعالية واقتصاد الجهد حني تناسبان الظروف وتنفذان عىل‬
‫النحو املنشود‪ .‬وعىل أي حال‪ ،‬يؤكد هاول أن الدبلوماسية –مثل كرة السلة– فن بقدر ما هي‬
‫علم‪ ،‬ألن الشخص الدبلومايس يعتمد بالضورة عىل أسلوبه الشخيص وشخصيته وذكائه‬
‫وقدرته عىل النجاح ضمن نطاق «قواعد اللعبة»‪.‬‬
‫وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬ترتبط الدبلوماسية الرسمية بالضورة مبفاهيم العدالة واألخالق‪.‬‬
‫إنها قامئة عىل مفهوم ‪ Fiat Justitia, pereat mundus‬فليقم العدل ولو فني العامل)‪ .‬إن‬
‫مفاهيم األخالق والعدالة والرشف متثل الجهود املبذولة لكبح األنانية الوحشية التي يبدو‬
‫أنها حق مكتسب للجنس البرشي‪ .‬ولكن هذه التعريفات التي تبدو دقيق ًة ظاهريًا قد تغدو‬
‫غام ةً‪ ،‬بل وميكن أن تنحرف أي ً ا حني يصبح كل من فقدان هوية املجموعة الكربى‪،‬‬

‫‪228‬‬
‫والسلطة‪ ،‬واحرتام الذات‪ ،‬وتقرير املصري مهددين‪ 166.‬إن أردنا التوسع أكرث يف تشبيه كرة‬
‫السلة‪ ،‬دعونا نتخيل مبارا ًة عىل أرضية مصقولة أكرث من الالزم‪ .‬سيسقط الالعبون‬
‫وينزلقون فوق بع هم البعض‪ ،‬وهو ما سيحبطهم ومدربيهم واملتفرجني أي ً ا‪ .‬إن أردنا‬
‫املشاركة يف مباراة منظمة‪ ،‬ينبغي التخفيف من كمية الطالء عىل أرضية ملعب كرة السلة‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬تسود املشاعر بعض العالقات بني األعداء – كثري من التعقيدات النفسية‪ .‬وإن مل‬
‫يكن هناك محاوالت للتعامل مع هذه املشاعر‪ ،‬لن تكون الجهود الدبلوماسية متناسق ًة أو‬
‫منهجيةً‪ .‬يف العديد من املناسبات املختلفة‪ ،‬أتيحت يل الفرصة ملراقبة بعض الدبلوماسيني‬
‫«الرسميني» أثناء عملهم‪ ،‬وغال ًبا ما شعرت بعدم االرتياح حني يشري مفاوض دبلومايس إىل‬
‫نظريه بقوله «زمي املوقر»‪ .‬هذه هي قواعد اللعبة‪ ،‬ولكنني شعرت أنه مل يعجب مبا قاله‬
‫الدبلومايس أب ًدا‪ ،‬ومل ترق له الدولة التي جاء منها أي ً ا‪ .‬تخللت املشاعر املسمومة كال‬
‫الطرفني‪ ،‬وحاوال بذل قصارى جهدهام إلنكارها أو متويهها – ولكن من الواضح أنهام مل‬
‫ينجحا يف ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬كيف ميكننا إيجاد أرضية مشرتكة بني التوجهات املختلفة لعلامء السياسة‬
‫أن تجد مكان ًة مهم ًة يف عامل‬ ‫والسلوك؟ وهل ميكن ملفاهيم فرويد أو إريكسون‬
‫‪167‬‬

‫الدبلوماسية؟ كام يتساءل هارولد سوندرز‪ ،‬مساعد سابق لوزير الخارجية األمرييك‪ ،‬هل‬
‫ميكننا خلق منظور جديد وإدخال لغة حديثة عندما يفشل املنظور القديم واللغة التقليدية‬
‫يف جذب االنتباه إىل العامل؟‪ 168‬كنت أنوي أن أعرف اإلجابة باالعتامد عىل الحقيقة املتمثلة‬
‫يف أن الجوانب األساسية للدبلوماسية قد تغريت تدريج ًيا منذ مؤمتر فيينا عىل يد العديد‬
‫ممن سبقوين‪.‬‬
‫أسفر إنشاء األمم املتحدة يف ‪ 24‬أكتوبر عام ‪ 1945‬إىل تغيري كثري من نواحي‬
‫العالقات بني الدول ذات السيادة‪ ،‬ورسعان ما جاءت الحرب الباردة التي غريت املزيد من‬
‫الجوانب األخرى‪ .‬كان سباق التسلح النووي من ناحية اسرتاتيجي ًة عسكري ًة وسياسي ًة‬
‫منطقي ًة تقوم عىل رديف هجامت العدو من خالل التعبري الدبلومايس الدقيق؛ أي التهديدات‬

‫‪229‬‬
‫«املوثوقة» و«الدمار املؤكد املتبادل»‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬كانت االحتاملية الواقعية لحدوث‬
‫تدمري مرويف عىل مستوى العامل أم ًرا بعي ًدا عن املنطق‪ ،‬إذ تسبب أي ً ا يف إثارة كثري من‬
‫القلق غري املعلن عنه ولكن املعرب عنه يف عدد ال يحىص من الكتب واملرسحيات واألفالم‬
‫واللوحات‪ .‬بدأ الناس‪ ،‬بخالف رجال الدولة‪ ،‬باملطالبة مبعرفة املزيد عن سلوك القادة‬
‫السياسيني‪ .‬خلقت أسلحة الدمار الشامل شعو ًرا بالحاجة امللحة إىل إجراء مفاوضات عىل‬
‫أعىل املستويات‪ ،‬وهو ما حدث خالل أزمة صواريخ كوبا يف أكتوبر عام ‪ .1962‬ولد «عرص‬
‫مؤمترات القمة»‪ ،‬عىل حد تعبري وزير الخارجية اإلرسائي الراحل أبا إيبان‪ ،‬وولدت معه‬
‫الرغبة يف عقد اجتامعات مبارشة منتظمة ومنظمة بني قادة الدول املتعارضة أو املتنافسة‪.‬‬
‫غري هذا الشكل الثنايئ املبارش من املفاوضات الدبلوماسية وظيفة األجهزة السياسية‬
‫‪169‬‬
‫الخارجية‪ ،‬مبا يف ذلك وزارة الخارجية‪.‬‬
‫أدى التطور الهائل لوسائل االتصاالت الرسيعة والتغطية اإلعالمية الفورية أي ً ا إىل‬
‫تغيري يف آلية مامرسة الدبلوماسية الرسمية‪ .‬أصبح مبقدور قادة املجموعات الكبرية‪ ،‬سوا ًء‬
‫كانوا منتخبني دميوقراطيًا أو ديكتاتوريني‪ ،‬إرسال رسائل إىل أصدقائهم وأعدائهم‬
‫واملشاركة يف الربوباغندا السياسية من خالل الظهور عىل شاشات التلفزيون‪ ،‬وهو ما ألغى‬
‫رضورة إرسال السفراء أو غريهم من الرسل إليصال أقوالهم‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬أشار السري هارولد‬
‫نيكلسون يف منتصف الحرب الباردة إىل سبب آخر للتغيري‪ :‬ظهور املفاهيم «الدميوقراطية»‬
‫للعالقات الدولية‪ ،‬إذ قال إنها أدت إىل منع مجموعات النخبة الصغرية من أن تكون الفاعل‬
‫الوحيد يف الدبلوماسية‪ ،‬وسي طر بذلك القادة السياسيون ورجال الدولة وغريهم من‬
‫‪170‬‬
‫البريوقراطيني إىل رشح مواقفهم للجامهري يف دولهم أو أقاليمهم‪.‬‬
‫أما ظهور ق ايا حقوق اإلنسان حني بدأت املطالب بتحدث السلطات األجنبية عل ًنا‬
‫عن ق ايا األقليات أو االنتهاكات يف البلدان ذات السيادة‪ ،‬بل وحتى التدخل فيها‪ ،‬فأسفر‬
‫عن حدوث تغيريات أي ً ا‪ .‬وكذلك هو الحال بالنسبة «للعوملة»‪ .‬أدى ظهور العوملة يف البيئة‬
‫الدولية إىل املزيد من االجتامعات الدولية‪ ،‬واللوائح‪ ،‬واملعاهدات‪ ،‬وما يصاحبها من اتفاقيات‬

‫‪230‬‬
‫اقتصادية وقانونية يجريها أشخاص خارج الدوائر الدبلوماسية الرسمية‪ ،‬كرجال األعامل‬
‫مثال‪ .‬حظيت هذه األنشطة تدريج ًيا باملزيد واملزيد من التغطية اإلعالمية التي عاد ًة ما تكون‬
‫ً‬
‫ملوث ًة بالربوباغندا السياسية واالقتصادية‪.‬‬
‫ساهم التزايد املستمر يف عدد املنظامت غري الحكومية حول العامل يف التأثري عىل‬
‫املامرسة الدبلوماسية الرسمية بدرجة أو بأخرى‪ .‬ويف واقع األمر‪ ،‬أخربين دبلومايس رفيع‬
‫املستوى يف مقر األمم املتحدة يف أوروبا ذات مرة بعي ًدا عن الرسميات أن الدبلوماسيني‬
‫االحرتافيني الرسميني مثله‪ ،‬عىل الرغم من أنهم م طرون لالبتسام واالستاميف إىل العديد‬
‫ريا من املنظامت غري الحكومية مصدر إزعاج لهم‪.‬‬
‫من مطالبها‪ ،‬يعتقدون أن كث ً‬
‫ريا‪ ،‬كان لتطور ما يطلق عليه اسم «الدبلوماسية غري الرسمية» وظهور منظامت‬
‫وأخ ً‬
‫ريا عىل الدبلوماسية الرسمية إيجابًا وسلبًا‪ .‬وهنا سأرشح‬
‫حل النزاعات وإدارة الرصاعات تأث ً‬
‫بالتفصيل آلية عمل هذه املنظامت وتاريخها‪ ،‬وسأتحدث يف الفصلني ‪ 12‬و‪ 13‬عن أسلوب‬
‫من أساليب «الدبلوماسية غري الرسمية» الذي طورته مبساعدة زماليئ يف مركز دراسة‬
‫العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬وأطلقنا عليه اسم «منوذج الشجرة»‪.‬‬
‫تحدث إيبان يف مثانينات القرن العرشين عن دور األفراد واملنظامت الذي تعدى عىل‬
‫املجال الدبلومايس الذي كان محر ًما عليهم ذات يوم‪« :‬كل من الكويكرز‪ ،‬وقادة الكنيسة‪،‬‬
‫ورؤساء مؤسسات أبحاث السالم‪ ،‬واألساتذة‪ ،‬وأع اء الربملانات‪ ،‬والصحفيني‪ ،‬جميعهم‬
‫‪171‬‬
‫حاول حل النزاعات التي استعصت عىل الجهود التي بذلها املبعوثون املعتمدون رسم ًيا»‪.‬‬
‫ويف تتبعه للجذور التي ساعدت يف تفيش الدبلوماسية غري الرسمية يف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫يذكرنا إيبان بالتعليقات التي أدىل بها الرئيس دوايت دي‪ .‬أيزنهاور‪ ،‬إذ قال ذات مرة إن‬
‫املواطنني العاديني الذين يتمتعون بثقة حكوماتهم قد يساعدون يف متهيد الطريق‬
‫للمفاوضات الرسمية‪ .‬مل يكن موقف أيزنهاور اعتياديًا‪ :‬اعتقد معظم القادة السياسيني يف‬
‫عرصه أن الدبلوماسيني غري الرسميني ليسوا سوى متدخلني مزعجني برصف النظر عن‬
‫نواياهم الحسنة‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬كان هؤالء القادة محقني يف اعتقادهم‪ :‬طغى الطابع‬

‫‪231‬‬
‫التجاري اليوم عىل الدبلوماسية غري الرسمية يف الواليات املتحدة بسبب العدد الهائل من‬
‫الخرباء املزعومني يف حل النزاعات‪.‬‬
‫حني كنت يف زيارة لقربص الشاملية قبل اثني عرش عا ًما تقري ًبا‪ ،‬ذهبت للقاء زميل‬
‫يل منذ أيام املدرسة الثانوية يف منزله‪ .‬كان يشغل يف تلك الفرتة منص ًبا جي ًدا يف املكتب‬
‫الرئايس للرئيس رؤوف دنكطاش‪ ،‬إذا كان يظهر عىل شاشات التلفزيون بشكل منتظم ليك‬
‫شخصا معروفًا يف املجتمع الرتيك‬
‫ً‬ ‫يقدم تحليالته السياسية‪ .‬وخالصة القول إنه كان‬
‫القربيص‪ .‬وعلمت أي ً ا أنه حض بعض اجتامعات «حل النزاعات» مع القبارصة األتراك‬
‫النافذين اخخرين‪ ،‬إذ التقوا فيها بنظرائهم القبارصة اليونانيني‪ ،‬وأدار فريق وساطة أمرييك‪،‬‬
‫ريا من األموال من مصادر أمريكية معينة‪ ،‬اجتامعات «حل النزاعات» هذه‪ .‬أراد‬
‫بعد تلقيه كث ً‬
‫صديقي حني ذهبت للقائه أن يريني بعض الصور ألطفاله‪ ،‬ولكن حني فتح أحد ألبومات‬
‫الصور‪ ،‬سقطت صورة كبرية عىل األرض‪ .‬التقطتها ورأيت فيها صديقي وهو يلعب بقطع‬
‫الليغو كام لو أنه طفل صغري يحاول بناء منزل‪ .‬اعتقدت يف البداية أنه رمبا كان يلعب برفقة‬
‫أحد أطفال أصدقائه ألنه مل يكن له أحفاد يف تلك الفرتة‪ .‬ولكن حني الحظ صديقي أنني‬
‫جا للغاية‪ .‬أخربين أن هذه الصورة قد التقطت خالل آخر اجتاميف «حل‬
‫رأيت الصورة‪ ،‬بدا محر ً‬
‫نزاعات» حضه‪ .‬يبدو أن فريق الوساطة األمرييك طلب من القبارصة اليونانيني واألتراك‪،‬‬
‫باإلضافة إىل الرجال والنساء املؤثرين يف مجتمعاتهم‪ ،‬أن يلعبوا بقطع الليغو سويةً‪ .‬كان‬
‫الهدف من هذا النشاط أن يساعد يف حل النزايف القربيص‪ .‬بدأ صديقي يتذكر الذل الذي‬
‫أحس به خالل مشاركته يف هذا النشاط‪ ،‬إذ شعر باإلهانة وأنهم تعاملوا معه وكأنه طفل‪.‬‬
‫وأخربين أي ً ا أنه قرر أال يحض االجتامعات املقبلة‪ .‬إنني واثق بأن فريق الوساطة األمرييك‬
‫لديه تفسري منطقي ألسلوبه هذا‪ ،‬ولكنني أعتقد أن هذا املثال وغريه من األمثلة التي لفتت‬
‫انتباهي يعكس التبسيط والتسويق التجاري اللذين سيطرا عىل «قطايف» حل النزاعات‪ ،‬إذ‬
‫يتدرب األشخاص عىل مامرسة «حيل» رسيعة واستخدام «التفكري السحري»‪ ،‬مثل إحالل‬
‫السالم بني ممثلني عن طرفني متعادين من خالل اللعب‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬ال بد من وجود جهود دبلوماسية غري رسمية حقيقية‪ ،‬ومثة أشخاص‬
‫ساهموا يف فتح باب الحوار بني األطراف املتعادية وساعدوا يف تحقيق التعايف املجتمعي‬
‫بأساليب مهمة‪ ،‬مثل نودار شارفيالدزي الذي تحدثت عنه يف الفصول السابقة‪ .‬أنا شخص ًيا‬
‫قادر عىل كتابة قامئة طويلة باملساهمني اإليجابيني‪ .‬ولكن ما هي التطورات املهمة التي‬
‫مهدت الطريق النخراطي يف املجال الدبلومايس غري الرسمي؟ سأتحدث عن بعض منها‪.‬‬
‫بعد فشل قمة أيزنهاور‪ -‬خروتشوف عام ‪ ،1959‬دعم أيزنهاور مفاوضات مؤمتر‬
‫دارمتوث – سلسلة من االجتامعات غري الرسمية بني املؤثرين يف املجتمع األمرييك‬
‫والسوفييتي نظمها يف بادئ األمر نورمان كوينز ومن بعده محرر صحيفة ساتردي ريفيو‪.‬‬
‫اقترصت االجتامعات األوىل عىل توفري منتدى غري رسمي للتواصل وتبادل املعلومات‪ ،‬ولكن‬
‫قرر املشاركون يف أوائل مثانينات القرن العرشين إنشاء فرق عمل صغرية وأكرث تركي ًزا‪،‬‬
‫واتفقوا أي ً ا عىل االجتاميف بني الجلسات العامة‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬أنشئ فريق عمل‬
‫خاص بالعالقات السياسية يف عام ‪ ،1986‬إذ كان له تأثري عىل عمليتي غالسنوست‬
‫‪172‬‬
‫وبرييسرتويكا‪.‬‬
‫بدأ رواد األعامل االقتصاديني باالنخراط يف العالقات الدولية والدبلوماسية غري‬
‫الرسمية خالل الحرب الباردة‪ 173.‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬كان ألرماند هامر من رشكة أوكسيدنتال‬
‫برتوليوم عالقات مع السوفييت منذ عرشينيات القرن العرشين‪ ،‬إذ كان أشبه بحلقة وصل‬
‫بني القوتني العظيمتني‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬جرت مفاوضات خاصة‪ ،‬كتلك التي شارك فيها‬
‫مثال‪ ،‬وهو أملاين شارك يف عملية تبادل الجواسيس بني الرشق والغرب التي‬
‫وولفغانغ فوغل ً‬
‫ت منت إطالق رساح أناتويل شارانسيك‪ .‬استقطبت هذه املفاوضات الخاصة جمهو ًرا أكرب‬
‫بعد تدخل وسائل اإلعالم اإلخبارية‪ .‬ويف واقع األمر‪ ،‬وجد بعض املراسلني أنفسهم يعملون‬
‫بصفتهم دبلوماسيني غري رسميني‪ ،‬مثل جون سكايل املراسل األمرييك الذي شارك يف‬
‫‪174‬‬
‫وساطة «ما وراء الكواليس» خالل أزمة صواريخ كوبا‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫مل تكن العالقة بني الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي أو العالقات بني الرشق‬
‫والغرب وحدها سب ًبا يف تطوير الجهود الدبلوماسية غري الرسمية‪ ،‬إذ شارك بعض األفراد‬
‫من خارج القلة النخبوية من الدبلوماسيني الرسميني يف الرصايف العريب اإلرسائي ‪ .‬وعىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يعود الف ل إىل والرت كرونكايت يف الجمع بني مناحم بيجن اإلرسائي وأنور‬
‫السادات املرصي عرب األقامر الصناعية‪ .‬وبحلول أواخر سبعينيات القرن العرشين‪ ،‬غدت‬
‫تنظيام‪ ،‬إذ اكتسب ممثلو مؤسسات السالم الجديدة والناشئة‬
‫ً‬ ‫الدبلوماسية غري الرسمية أكرث‬
‫و«األساتذة» –كام سمى إيبان هؤالء األكادمييني– خرب ًة فعلي ًة يف مجال املساهمة يف تشكيل‬
‫السياسات‪.‬‬
‫بدأ عامل النفس االجتامعي يف جامعة هارفرد هربرت كيلامن بالجمع بني العرب‬
‫واإلرسائيليني رفيعي املستوى بحذر إلجراء حوارات رسية‪ ،‬وأطلق عليها «ورش عمل تفاعلية‬
‫لحل املشكالت»‪ 175.‬بعد زيارة السادات للكنيست‪ ،‬كام ذكرنا سابقًا يف هذا الكتاب‪ ،‬أجرى‬
‫فريق من الجمعية األمريكية للطب النفيس مجموع ًة من االجتامعات غري الرسمية بني العرب‬
‫من جهة ومعظمهم من املرصيني والفلسطينيني) واإلرسائيليني من جهة أخرى بني عامي‬
‫‪ 1979‬و‪ ،1986‬وشاركت فيها برفقة األطباء النفسيني ويليام ديفيدسون ودمييرتيوس‬
‫جوليوس وريتا روجرز وجون ماك وألفريد فريدمان والدبلوماسيني هارولد سوندرز‬
‫وجوزيف مونتفيل‪ .‬وصف مونتفيل هذه العملية بأنها «دبلوماسية املسار الثاين» عىل عكس‬
‫«الدبلوماسية غري الرسمية» وقال إنها تفاعل غري رسمي بني األع اء املؤثرين يف‬
‫املجموعات الكبرية املتعارضة بهدف تطوير اسرتاتيجيات من أجل التأثري عىل الرأي العام‬
‫ويف وقت الحق‪ ،‬كتب‬ ‫‪176‬‬
‫وتنظيم املوارد البرشية واملادية بطرق مناسبة لحل النزاعات‪.‬‬
‫سوندرز كتابًا علم ًيا نفس ًيا واستخدم ما قاله السادات يف الكنسيت عنوانًا له‪« :‬الجدران‬
‫األخرى»‪ ،‬إذ كان يشري إىل الحاجز النفيس بني العرب واإلرسائيليني‪ 177.‬بف ل تجربتي مع‬
‫اجتامعات الجمعية األمريكية للطب النفيس هذه –وغريها أي ً ا– والدعم املايل من مؤسسة‬
‫مايس يف ريتشموند يف فرجينيا‪ ،‬استطعت تأسيس مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‬

‫‪234‬‬
‫يف عام ‪ .1987‬ويف تلك األوقات‪ ،‬مل تكن الدبلوماسية غري الرسمية –أو حل النزاعات– قد‬
‫أخذت طابعها التجاري يف الواليات املتحدة كام هي يف يومنا هذا‪.‬‬
‫ساهم تأسيس معهد الواليات املتحدة للسالم ‪ )USIP‬يف عام ‪ 1984‬يف تقديم املزيد‬
‫من الدعم الرسمي للدبلوماسية غري الرسمية بصفته مؤسس ًة فيدرالي ًة مستقل ًة غري حزبية‬
‫أنشأها الكونغرس األمرييك للتشجيع عىل منع النزاعات الدولية وإدارتها وحلها سلم ًيا‪،‬‬
‫‪178‬‬

‫إذ لعب معهد الواليات املتحدة للسالم دو ًرا جوهريًا بالنسبة للعديد من الباحثني وغريهم‬
‫فيام يتعلق بالتفكري يف طرق لخلق عامل أكرث سال ًما‪.‬‬
‫هناك اخن مئات من األشخاص ذوي الخلفيات املهنية والدرجات التعليمية والخربات‬
‫واملعارف املختلفة بالشؤون العاملية الذين يطلقون عىل أنفسهم اسم «الخرباء» أو‬
‫املتخصصني يف «حل النزاعات»‪ .‬إنه أمر شبيه ج ًدا «باملساواة الدميوقراطية» يف النهج‬
‫العالجية النفسية يف الواليات املتحدة؛ إذ يقع كل يشء تقريبًا ضمن إطار «الدميوقراطية‬
‫الفائقة» و«الصواب السيايس»‪ .‬أعتقد أن الناس مشوشون فيام يتعلق بالفرق بني الجهود‬
‫العالجية النفسية والخديف‪ .‬وعىل نحو مامثل‪ ،‬إن التفريق بني برنامج حل نزايف خطري قائم‬
‫عىل أساس نظري وتجريبي وآخر تجاري ليس باألمر السهل‪.‬‬
‫واخن دعونا نعود إىل زمن الحوارات العربية اإلرسائيلية برعاية الجمعية األمريكية‬
‫للطب النفيس وانهيار االتحاد السوفييتي‪ ،‬شعرنا نحن الذين وجدنا أنفسنا يف خ م‬
‫متحمسا بخصوص دراسة يشء ال أعرف عنه‬
‫ً‬ ‫الشؤون العاملية وكأننا رواد‪ .‬أتذكر كم كنت‬
‫نفيس من شأنه أن يوضح أي ً ا العمليات املجتمعية‬ ‫سوى القليل –من منظور تحلي‬
‫الواعية– ولكنني قادر عىل تعلمه من خالل التجارب القاسية يف هذا املجال‪ .‬سألت نفيس‪:‬‬
‫«ما هو التعريف الدقيق للدبلوماسية غري الرسمية؟»‪ ،‬ويف عام ‪ 1987‬نظمت مؤمت ًرا يف‬
‫جامعة فريجينيا بغرض التفكري يف هذا السؤال‪ ،‬ودعوت عد ًدا قلي ًال من الخرباء املعروفني‬
‫يف تلك الفرتة لطرح وجهات نظرهم وتعريفاتهم لتقنيات العمل خاصتهم‪ 179.‬ويف سياق‬
‫مناقشاتنا املكثفة‪ ،‬خلصت إىل أنه ال وجود لتعريف محدد للدبلوماسية غري الرسمية‪ ،‬أو‬

‫‪235‬‬
‫لدبلوماسية املسار الثاين كام يسميها مونتفيل‪ .‬ضمت بعض التقنيات التي طرحت مفاهيم‬
‫مهام بسبب نهجها غري التقليدية‬
‫نفسية؛ ولكن ليس جميعها‪ ،‬عىل الرغم من أن كلها كان ً‬
‫‪180‬‬
‫وإنسانية املنحى يف العالقات الدولية‪.‬‬
‫ومع مرور الوقت‪ ،‬طرح العديد من األشخاص مفاهيم نظري ًة وعملي ًة مختلف ًة حول‬
‫حل النزاعات‪ .‬أكد بعض الخرباء الجدد عىل «البعد اإلنساين» للنزاعات الدولية‪ ،‬إال أن ما‬
‫يقصدونه عاد ًة هو السيكولوجية السطحية واملرئية للمساومة أو الفوز أو الخسارة‪ ،‬إذ مل‬
‫يأخذوا يف الحسبان سيكولوجية املجموعة الكبرية‪ ،‬وال سيام ق ايا الهوية واالنحدار‪.‬‬
‫أدركت أنه لطاملا اضطر الدبلوماسيون عىل التعامل مع العديد من الق ايا العاطفية للغاية‪،‬‬
‫وأن التقدم يف مسرية تحقيق الحلول السلمية للنزاعات والتعايش السلمي بني املجموعات‬
‫الكبرية املتعارضة قد يعتمد إىل حد كبري عىل دراسة املكونات العاطفية ألي أزمة قيد البحث‪.‬‬
‫إن االعتقاد بأن الدبلوماسية الرسمية ال مكان لها سوى يف البيئات املحمية العقالنية‬
‫واملحايدة عاطفيًا) بحاجة إىل إعادة نظر‪ 181.‬بدأت أدرك كلام تعلمت أكرث أن هذا هو املجال‬
‫الذي قد يكون لخلفيتي التحليلية النفسية دو ًرا يف تطويره‪ .‬يستحضين مقط ًعا من أحد‬
‫كتب دونالد هورويتز‪ .‬الحظ هورويتز‪ ،‬املحامي والعامل السيايس‪ ،‬أن حجم العاطفة التي‬
‫وأن‬ ‫يعرب عنها يف النزاعات اإلثنية «يستدعي تفسرينا الذي ينصف عامل املشاعر»‪،‬‬
‫‪182‬‬

‫‪183‬‬
‫«الظواهر الدموية ال ميكن تفسريها بواسطة نظرية الدموية»‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫من النظرية إىل التطبيق‪ :‬منوذج الشجرة‬ ‫‪12‬‬

‫بعد مرور سنوات من دراستي للق ايا الدولية واملتعلقة بالعالقات بني اإلثنيات‪ ،‬ووساطتي‬
‫يف الحوارات بني املجموعات املتعادية‪ ،‬أتيحت يل فرصة فريدة من نوعها ليك أطبق خربيت‬
‫وخربة زماليئ يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي بصورة شاملة‪ .‬حصل مركز دراسة‬
‫العقل والتفاعل البرشي عىل منحة كبرية مقدمة من صناديق بيو الخريية يف منتصف‬
‫تسعينات القرن العرشين من أجل دعم أحد املشاريع لدينا‪ ،‬والذي يهدف إىل مساعدة‬
‫‪184‬‬
‫إستونيا يف االنفصال سلم ًيا عن االتحاد الرويس وتطوير املؤسسات الدميوقراطية فيها‪.‬‬
‫وبعد أن أعلنت صناديق بيو الخريية عن اهتاممها مبرشوعنا اإلستوين‪-‬الرويس‪ ،‬أتذكر أنني‬
‫كنت واقفًا يف يوم من األيام إىل جانب السبورة يف غرفة االجتامعات الصغرية يف مقر مركز‬
‫دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬املوجود ضمن مستشفى بلو ريدج يف جامعة فريجينيا‬
‫مغلق اخن)‪ .‬وبينام كنت أرشح مراحل املرشويف اإلستوين‪-‬الرويس لستيف ديل روسو‪،‬‬
‫مدير برنامج بيو آنذاك‪ ،‬بدأت يف رسم شجرة عىل السبورة السوداء‪ ،‬ورسعان ما أصبح‬
‫مصطلح «منوذج الشجرة» مستخد ًما لوصف نهج مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي يف‬
‫جمع املجموعات الكبرية املتعادية م ًعا من أجل إيجاد سبل للتعايش السلبي بينها‪ .‬ومخترص‬
‫تقييام نفسيًا سياسيًا للرصايف‪ ،‬يف حني ميثل الجذيف سلسل ًة‬
‫ً‬ ‫القول إن جذور الشجرة متثل‬
‫طويل ًة من الحوارات النفسية‪-‬السياسية بني ممثلني رفيعي املستوى لتلك املجموعات‬
‫املتعارضة‪ ،‬أما الفرويف فتشري إىل نقل نتائج هذه الحوارات النفسية السياسية إىل املستوى‬
‫الشعبي والرسمي بهدف ترسيخ التعايش السلمي‪.‬‬
‫تعلمت حني كنت طال ًبا يف كلية الطب أنه ينبغي إجراء تشخيص ملشاكل املريض قبل‬
‫البدء بالعالج‪ 185.‬وكذلك من املهم أن يشارك الوسطاء –أي فريق مركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي متعدد التخصصات يف حالتي هذه– يف تقييم املشاكل التي ينبغي أن تعالج ضمن‬

‫‪237‬‬
‫املجموعة الكبرية وبني املجموعة الكبرية وعدوتها‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬ينبغي أي ً ا تشخيص‬
‫حالة املجموعة املعادية وكيفية تصورها للمجموعة األوىل‪.‬‬
‫يجب أن يسافر الوسطاء إىل موقع النزايف املعني من أجل إجراء تقييم كامل للموقف‪.‬‬
‫وعليهم أي ً ا أن يستعدوا جي ًدا ويدرسوا تاريخ وثقافة املجموعات الكبرية املعنية‪ ،‬باإلضافة‬
‫إىل جمع املعلومات حول الوضع الحايل قبل السفر إىل منطقة كهذه‪ .‬إن الحاجة إىل وجود‬
‫تعاون بني عدة تخصصات هو أمر واضح منذ البداية‪ ،‬وكام أرشت سابقًا‪ ،‬ضم فريق‬
‫مسؤوال عن مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي محللني نفسيني‬
‫ً‬ ‫الوساطة لدينا حني كنت‬
‫وأطباء نفسيني وعلامء نفس ودبلوماسيني سابقني وعلامء سياسيني ومؤرخني‪ ،‬بل وحتى‬
‫أفراد ذوي تخصصات أخرى حني تطلب األمر‪ .‬عىل الرغم من أن املؤرخ يف فريقنا قد ال‬
‫ريا يف بلد أو مجموعة أو هوية معينني‪ ،‬إنه يشارك منهجي ًة وطريقة تفكري تساهم‬
‫يكون خب ً‬
‫يف فهم املعلومات املجموعة‪ .‬ويقدم األطباء مفهو ًما للصور الذهنية املتعلقة باألحداث‬
‫التاريخية‪ ،‬ولكيفية مشاركة هذه الصور بني أع اء املجموعات الكبرية‪ .‬أما الدبلوماسيون‬
‫مثال‪ ،‬كام تنعكس يف‬
‫فيقيمون مشاكل العامل الحقيقي‪ ،‬كالق ايا القانونية واالقتصادية ً‬
‫العمليات السياسية‪.‬‬
‫إن أداة التقييم الغريبة‪ ،‬ولكن األساسية‪ ،‬املستخدمة يف منوذج الشجرة هي إجراء‬
‫املحللني النفسيني واألطباء النفسيني وعلامء النفس ملقابالت متعمقة مع مجموعة كبرية من‬
‫األشخاص من كال طريف النزايف‪ ،‬مبا يف ذلك املسؤولون الحكوميون واملواطنون البالغون‬
‫«العاديون» واألطفال‪ .‬ال تقوم منهجية إجراء املقابالت هذه عىل أسئلة وأجوبة بسيطة‪ ،‬إذ‬
‫لن تقدم لنا البيانات املجموعة وفقًا لهذه الطريقة سوى فهم سطحي لألمر‪ .‬نحن نسعى إىل‬
‫البحث يف املشاعر واألفكار والتصورات الخفية املشرتكة واملرتبطة بق ايا ورصاعات هوية‬
‫املجموعة الكبرية‪ .‬تنفذ هذه املقابالت عىل يد أطباء ذوي خربة كبرية‪ .‬ميكن للقراء أن يلقوا‬
‫نظر ًة خاطف ًة عىل مثل هذه املقابالت من خالل العودة إىل محادثتي مع دايل عىل بحر‬
‫تبلييس‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫إذا كان إجراء املقابالت املتعمقة والبحث يف املوضوعات املشرتكة يف تلك املقابالت‬
‫هام األداة ا ألوىل يف مرحلة التقييم‪ ،‬فزيارة «املناطق الساخنة» هو األداة الثانية‪ ،‬كام هو‬
‫موضح سابقًا يف هذا الكتاب‪ .‬سبق وتحدثت عن نصب األب البايك يف تسخينفايل باعتباره‬
‫إحدى املناطق الساخنة‪ .‬إن آيا صوفيا القديسة صوفيا) يف إسطنبول هو منطقة ساخنة‬
‫يف ظل ظروف معينة‪ ،‬إىل جانب كونه منطقة جذب سياحي‪ .‬كانت هذه األعجوبة املعامرية‬
‫أساسا‪ ،‬ولكن حولها األتراك إىل مسجد بعد غزوهم للقسطنطينية‬
‫ً‬ ‫كنيس ًة بيزنطي ًة شهري ًة‬
‫إسطنبول) عام ‪ .1453‬ساهمت زيارة ممث تركيا واليونان خيا صوفيا عند اجتامعهم يف‬
‫إسطنبول إلجراء حوارات غري رسمية عام ‪ 2000‬يف زيادة وعي الوسطاء حول حنني‬
‫اليونانيني إىل هذا املكان‪ .‬يحفز منعكس الحنني خالل أوقات التوتر بني البلدين إحياء إحدى‬
‫الصدمات اليونانية املختارة باإلضافة إىل التعلق اليوناين بفكرة ميغايل انظروا الفصل‬
‫‪.)10‬‬
‫طويال‪ ،‬ولكنها جوهرية لفهم‬‫ً‬ ‫تستغرق مرحلة التقييم يف منوذج الشجرة وقتًا‬
‫سيكولوجية املجموعة الكبرية قيد الدراسة‪ .‬بعد االنتهاء من جمع البيانات املعنية ومراجعتها‪،‬‬
‫تبدأ صياغة «تشخيص» نفيس سيايس شامل‪ ،‬وتجمع قامئة ت م ق ايا العامل الحقيقي‬
‫التي ينبغي معالجتها‪ ،‬ف ًال عن املشاعر واألفكار والتصورات املشرتكة العميقة‪ .‬عاد ًة ما‬
‫تغذي املشاعر واألفكار والتصورات الخفية املشرتكة نو ًعا من املقاومة الواعية وغري الواعية‬
‫للحوارات‪ ،‬باإلضافة إىل أنها تتداخل مع املناقشات الفعالة لق ايا العامل الحقيقي وتساعد‬
‫عىل خلط الخيال بالواقع‪ ،‬ف ًال عن أنه ميكن استخدامها ببساطة يف الربوباغندا املدمرة‪.‬‬
‫وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬ينبغي أن نكشف عنها ونعرتف بها يف الوقت املناسب ليك منهد الطريق‬
‫أمام خلق حل عم لق ايا معينة‪.‬‬
‫شعر اإلستونيون باالبتهاج طب ًعا بعد استعادة استقاللهم من االتحاد السوفييتي يف‬
‫عام ‪ 1991‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ولكن استطايف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي الكشف‬
‫حا من التوقعات اإلستونية من خالل مقابالت مكثفة مع‬
‫عن جوانب أخرى أقل وضو ً‬
‫‪239‬‬
‫مجموعات مختلفة من اإلستونيني‪ ،‬باإلضافة إىل زيارات إىل «املناطق الساخنة»‪ ،‬مثل قاعدة‬
‫الغواصات السوفييتية السابقة يف بالديسيك‪ .‬ما وجدناه هو أن اإلستونيني عانوا من قلق‬
‫كامن مشرتك إزاء احتاملية أن «يختفوا» كمجموعة إثنية‪ ،‬إىل جانب اختفاء ثقافتهم الفريدة‬
‫ولغتهم وهويتهم‪ .‬عاش اإلستونيون تحت سيطرة اخخرين عىل مر تاريخهم البالغ ‪5000‬‬
‫عام‪ ،‬باستثناء فرتة وجيزة استقلوا فيها بني عامي ‪ 1918‬و‪ .1940‬ولذلك‪ ،‬جمعهم تصور‬
‫ريا بأن مجموع ًة كبري ًة مجاور ًة ستبلعهم مر ًة أخرى‬
‫الوايف بعد استعادتهم الستقاللهم أخ ً‬
‫الروس يف هذه الحالة)‪ ،‬وهو ما يتناىف مع الواقع السطحي املتمثل بسعادتهم بسبب‬
‫استقاللهم‪.‬‬
‫يف حقيقة األمر‪ ،‬هناك سبب منطقي لقلقهم‪ :‬نحو ‪ 40‬يف املائة من سكان إستونيا‬
‫ليسوا من أصل إستوين‪ ،‬و‪ 30‬يف املائة منهم روسيون أو يتحدثون الروسية‪ .‬وباإلضافة إىل‬
‫ذلك‪ ،‬يبدو أن احتاملية اختفائهم ليست بعيد ًة بالنظر إىل أن تعدادهم السكاين ال يتجاوز‬
‫‪ 1.5‬مليون شخص‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬حني كان اإلستونيون يحاولون اإلجابة عن سؤال «من‬
‫نحن اخن؟» خالل السنوات األوىل من استعادتهم الستقاللهم‪ ،‬شهدوا غز ًوا اقتصاديًا من‬
‫قبل الرشكات الغربية واألمريكية‪ ،‬وهو أمر ج يف العدد املتزايد من السيارات األوروبية‬
‫ومطاعم الوجبات الرسيعة األمريكية‪ .‬وعىل الرغم من ترحيبهم بهذه التطورات الحقًا‪،‬‬
‫اعتقدوا يف البداية أنها تهديد لبقاء الهوية اإلستونية‪ .‬أسفر وقويف حادث مأساوي يف عام‬
‫‪ 1994‬عن زيادة املخاوف اإلستونية‪ .‬غرقت عبارة ضخمة تسمى إستونيا يف بحر البلطيق‬
‫مام أدى إىل مقتل نحو ‪ 900‬راكب واستثارة مشاعر الحزن والعار بني اإلستونيني‪ .‬كان‬
‫شعورهم بالعار نتيج ًة لحقيقة أن هذه املأساة حدثت بسبب خطأ برشي‪ ،‬وأن طاقم السفينة‬
‫كان ي م إستونيني حلوا محل الروس أو املتحدثني بالروسية الذين يعيشون يف إستونيا‬
‫السوفيتيني السابقني من غري اإلستونيني)‪ .‬علمنا فور إجرائنا لبعض املقابالت مع مواطنني‬
‫إستونيني أنهم تأثروا بهذه املأساة أكرث ألنها تعكس خوفهم من «االختفاء»‪ .‬بعد أن حاولت‬

‫‪240‬‬
‫إستونيا أن تبحر عرب عامل ما بعد االتحاد السوفييتي العاصف‪ ،‬فهل سرتتكب خطًا وتغرق‬
‫أمتها املكافحة أي ً ا؟ هل سيغرق اإلستونيون يف بحر النفوذ األجنبي؟‬
‫عىل الرغم من وجود كثري من ق ايا العامل الحقيقي التي ينبغي معالجتها يف‬
‫إستونيا التي استعادت استقاللها حديثًا‪ ،‬تسبب التصور الكامن بأن إستونيا ستختفي يف‬
‫مقاومة اإلستونيني األصليني للسياسات التي شجعت التعايش مع غري اإلستونيني من‬
‫السكان‪ .‬إذا اختلط الدم اإلستوين والرويس فمن املحتمل أن يختفي الطابع الفريد للشعب‬
‫اإلستوين‪ ،‬مع أن إحساسهم بهوية املجموعة الكبرية قد استمر‪ ،‬بل وازدهر يف واقع األمر‪،‬‬
‫عىل الرغم من أو بسبب أعدادهم الصغرية والظروف التي قاسوها عىل مر القرون‪ .‬أشار‬
‫تقييم مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي إىل رضورة مساعدة اإلستونيني عىل التمييز بني‬
‫الق ايا الحقيقية واملخاوف املتخيلة يف الوقت الذي‬
‫يرسخون فيه أنفسهم باعتبارهم دول ًة دميوقراطي ًة جديدةً‪ ،‬ليك يتعايشوا بشكل أف ل مع‬
‫‪186‬‬
‫الروس واملتحدثني باللغة الروسية الذين يعيشون يف إستونيا‪.‬‬

‫دعوين أوضح لكم أن استخدامي ملصطلح «التعايش» هنا جاء بدواعي وصفية الستكشاف‬
‫الديناميكا النفسية وراء العالقات املختلفة بني املجموعات الكبرية‪ .‬وهناك مصطلحات أخرى‬

‫‪241‬‬
‫مامثلة أي ً ا‪ ،‬مثل «االندماج» و«االمتصاص»‪ .‬هذه ليست مصطلحات دبلوماسية رسمية‪،‬‬
‫عىل الرغم من أنها عاد ًة ما تذكر يف سياق اللغة الدبلوماسية وأدبيات العلوم السياسية‬
‫البحثية‪ .‬تحمل هذه املصطلحات‪ ،‬من الناحية السياسية والدبلوماسية‪ ،‬معان مختلفة‬
‫لألطراف املختلفة يف املفاوضات حني تستخدم «رسم ًيا»‪ .‬ومثة مصطلحات أخرى مشابهة‬
‫يستخدمها الدبلوماسيون والسياسيون والباحثون‪ ،‬مثل «االتحاد» و«التوحيد» و«املصالحة»‬
‫و«االستيعاب»‪ .‬هناك أي ً ا مصطلحات تشري إىل تقسيم املجموعات الكبرية إىل كيانات‬
‫سياسية‪ ،‬كام هو الحال يف جمهورية التشيك وسلوفاكيا‪ .‬وبالنظر إىل هذا الفصل‪ ،‬إنني‬
‫استخدم مصطلح «التعايش» فيام يتعلق بإستونيا لإلشارة إىل الديناميكيات النفسية‬
‫للتفاعل بني مجموعتني كبريتني‪ ،‬أي اإلستونيني والروس واملتحدثني باللغة الروسية الذين‬
‫يعيشون ضمن الحدود القانونية لدولة واحدة‪ .‬رأينا يف زيارتنا إىل إستونيا أن بعض الروس‬
‫والناطقني بالروسية مواطنون قانونيون يف إستونيا‪ ،‬ولكن معظمهم ليسوا كذلك‪.‬‬
‫انقلب ت األوضايف بالنسبة لسكان إستونيا بني ليلة وضحاها‪ .‬أصبح مليون إستوين‬
‫«زعيام» يف بالده بعد استعادتهم الستقاللهم‪ ،‬ويف مواجهتهم نصف مليون «عدو» سابق‪،‬‬
‫ً‬
‫أي الروس والناطقني بالروسية الذين يعيشون بينهم‪ .‬وجد الروس يف إستونيا أنفسهم‬
‫فجأ ًة مواطنني من «الدرجة الثانية» يف هذه الدولة‪ .‬مايزال كثري منهم يحمل جوازات سفر‬
‫سوفييتية عىل الرغم من انهيار االتحاد السوفييتي‪ ،‬حتى أن معظمهم ال يستطيع التحدث‬
‫باللغة اإلستونية‪ .‬عاش بع هم يف إستونيا عىل مر عقود من الزمن‪ ،‬يف حني قىض البعض‬
‫اخخر قرونًا فيها‪ ،‬ولكن حتى أولئك الذين مل يعيشوا فيها لفرتة طويلة مل يشعروا بالحامس‬
‫للعودة إىل روسيا‪ ،‬حيث تفشت الجرمية والفساد والفوىض‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬ظلت‬
‫املشاكل «الساخنة» قامئ ًة بني إستونيا وروسيا حتى بعد استعادة إستونيا الستقاللها‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك النزاعات بشأن الحدود اإلستونية‪ ،‬وحالة املنشآت العسكرية السوفييتية الروسية‬
‫اخن) التي ماتزال موجود ًة يف إستونيا‪ ،‬مثل املحطة النووية يف بالديسيك‪ .‬عىل مر السنوات‬
‫القليلة األوىل بعد استعادتهم لالستقالل‪ ،‬خلقت املشاعر املتأججة والخوف املشرتك من‬

‫‪242‬‬
‫«االختفاء» حال ًة من القلق أثرت عىل عمليات اتخاذ القرار فيام يتعلق ببعض الق ايا‬
‫السياسية التي سأتحدث عنها قري ًبا‪.‬‬
‫أما بالنسبة للمرحلة الثانية من املرشويف اإلستوين الرويس‪ ،‬أي مرحلة جذيف الشجرة‪،‬‬
‫جمعنا ممثلني عن املجموعات الثالث –اإلستونيني األصليني والروس والناطقني بالروسية‬
‫الذين يعيشون يف إستونيا والروس من موسكو– يف سلسلة من الحوارات النفسية‬
‫السياسية التي استغرقت سنوات‪.‬‬

‫وعىل أي حال‪ ،‬أعتقد أنه من األف ل أن أصف شكل هذه الحوارات النفسية السياسية التي‬
‫أجريناها وهيكلها قبل الخوض يف هدفها ومنهجيتها‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ينبغي توخي الحذر يف اختيار موقع أو مواقع) جلسات الحوار‪ ،‬فمن املهم أن تكون‬
‫اللقاءات يف مكان تعتربه املجموعات املتعارضة املشاركة محاي ًدا‪ .‬قد يكون اختيار موقع‬
‫منعزل إىل حد ما من أجل االجتامعات أم ًرا جي ًدا‪ ،‬إذ لن يحاول املشاركون تخطي أجزا ًء من‬
‫الحوار من أجل ق اء أعامل أخرى‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬قد يكون لعقد االجتامعات يف مكان‬
‫بعيد عن مناطق إقامة املشاركني فائدة نفسية أي ً ا‪ ،‬حتى ولو تطلب األمر السفر إىل بلد‬
‫ليس طرفًا يف النزايف‪ .‬يف جميع الحاالت‪ ،‬ينبغي أن ينتبه الوسطاء إىل اإلهانات أو املعوقات‬
‫التي قد يشعر بها املشاركون –حتى ولو بشكل غري وايف– عند اختيار مكان االجتاميف وبيئته‪.‬‬
‫مازلت أذكر أحد اللقاءات يف مرص خالل سلسلة الحوار العريب اإلرسائي ‪ ،‬إذ أدركنا فجأ ًة‬
‫أن الفندق الذي سيبيت فيه اإلرسائيليون والوسطاء اسمه «الفندق الفلسطيني»‪ .‬أما فيام‬
‫يتعلق بحواراتنا ثالثية األطراف يف إستونيا‪ ،‬كان مكان لقائنا الدائم يف إستونيا ألسباب‬
‫اقتصادية عملية‪ ،‬ولكن يف مواقع مختلفة فيها‪.‬‬
‫يف الحالة املثالية‪ ،‬ينبغي أن تستمر االجتامعات الحوارية أربعة أيام وأن تعقد ثالث‬
‫مرات سنويًا عىل األقل عىل مدار عامني أو ثالثة أعوام‪ .‬قد تكون االجتامعات املتكررة عىل‬
‫عامال مقي ًدا‪ .‬يجب أن‬
‫ً‬ ‫مدار فرتة زمنية طويلة مفيدة أي ً ا‪ ،‬ولكن غالبًا ما يكون التمويل‬
‫يدعى املشاركون ذاتهم يف كل مرة‪ ،‬باإلضافة إىل دعوة مشاركني جدد ليحلوا محل أي‬
‫شخص ال يستطيع الح ور أو إلضافة منظور مفيد غاب عن الحوارات السابقة‪ .‬من األف ل‬
‫شخصا‪ ،‬وأن تت من املجموعة األوىل‬
‫ً‬ ‫أن يكون عدد األشخاص الحارضين بني ‪ 30‬و‪40‬‬
‫واملعارضة عدد األشخاص ذاته‪ .‬يبدأ كل اجتاميف بجلسة عامة يلخص خاللها ممثل كل فريق‬
‫من وجهة نظرهم) األحداث التي وقعت منذ االجتاميف األخري‪ ،‬باإلضافة إىل ردود أفعال‬
‫مجموعته عىل هذه األحداث‪ .‬أما يف الوقت املتبقي فيقسم األشخاص يف مجموعات صغرية‬
‫شخصا)‪ ،‬ويقود كل منها اثنان أو ثالثة من أع اء فريق الوسطاء املحايد‪.‬‬
‫ً‬ ‫مثانية عرش‬
‫ويف حالتنا هذه‪ ،‬وضعنا طبي ًبا برفقة دبلومايس أو عامل سيايس أو مؤرخ ليك يكونا قائدين‬
‫لكل مجموعة صغرية كلام سمحت الظروف بذلك‪ .‬يعتمد عدد املجموعات الصغرية عىل العدد‬

‫‪244‬‬
‫اإلجاميل للمشاركني‪ ،‬ولكن ينبغي أن تشكل نفس املجموعات الصغرية يف كل اجتاميف‪،‬‬
‫بحيث يلتقي نفس املشاركني عدة مرات مع بع هم البعض عىل مدار فرتات طويلة‪.‬‬
‫خالل أول اجتامعني من سلسلة الحوارات الدبلوماسية غري الرسمية‪ ،‬يعقد الوسطاء‬
‫جلس ًة عام ًة يف بداية ونهاية كل يوم‪ ،‬يف حني تجتمع املجموعات الصغرية بني هاتني‬
‫الجلستني‪ .‬تصبح الجلسات العامة هذه أقل أهمي ًة وتكرا ًرا كلام مر وقت أطول عىل بداية‬
‫سلسلة الحوار‪ .‬يجتمع املشاركون م ًعا يف بداية اليوم األول ويف نهاية اليوم األخري كحد‬
‫أدىن‪ .‬يشارك أع اء مختارون من كل مجموعة صغرية يف هذه الجلسة العامة األخرية ما‬
‫حدث يف جلساتهم مع اخخرين – أي النتائج التي توصلوا إليها ومقرتحاتهم وخطط العمل‬
‫املعروضة‪ .‬لقد أدركت أن أربعة أيام هي املدة املثالية لكل اجتاميف حواري نفيس سيايس‪ .‬قد‬
‫ال تكفي ثالثة أيام للوصول إىل نتيجة حقيقية فيام يتعلق بالتقمص الوجداين والتواصل‬
‫والتفاهم أو لتخطي املقاومة النفسية وترويض املشاعر املتأججة‪ ،‬ولكنني أرى أن متديد‬
‫االجتامعات ألكرث من أربعة أيام ال ي يف فائد ًة حقيقيةً‪ .‬ينبغي أن نتذكر أن املشاركني يف‬
‫هذه التجمعات غري الرسمية هم أشخاص مشغولون للغاية يف حياتهم اليومية‪ ،‬إذ ما من‬
‫فائدة يف جعلهم يحضون أكرث من ثالثة حوارات نفسية سياسية عىل مدار أربعة أيام‬
‫سنويًا‪.‬‬
‫يغلب ميل املشاركني يف املعسكرات املتعارضة إىل الرتكيز عىل حامية هوية املجموعة‬
‫الكبرية خاصتهم عىل معظم النقاشات خالل اليومني األولني من االجتامعات‪ ،‬ولكنهم عاد ًة‬
‫ال يشعرون مبدى تركيزهم عىل هذا املنحى‪ ،‬بل وتختلف درجة قيامهم بذلك بنا ًء عىل مدى‬
‫طول سلسلة الحوارات ومدى معرفة املشاركني ببع هم البعض‪ .‬أما يف اليوم الثالث فتبدأ‬
‫املفاوضات األكرث واقعي ًة بعد أن يساعد الوسطاء املشاركني يف تخطي مقاومتهم ودفعهم‬
‫لساميف بع هم بع ً ا‪ .‬عاد ًة ما يخصص اليوم الرابع لتقديم االقرتاحات العملية التي تهدف‬
‫إىل تخفيف حدة التوترات بني هذه املجموعات الكبرية‪ ،‬ويف تلك املرحلة يبدأ دور‬
‫الدبلوماسيني والعلامء السياسيني باعتبارهم قادة فرق الوساطة‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫وإىل جانب الجلسات العامة وجلسات املجموعات الصغرية‪ ،‬يتناول املشاركون‬
‫والوسطاء وجبات الطعام م ًعا ويحظون بفرصة أخرى للتفاعل االجتامعي غري الرسمي‪.‬‬
‫وهكذا يعرف كل املشاركني ما يجري يف كل مجموعة صغرية حتى ولو مل يشاركوا سوى‬
‫يف مجموعتهم الخاصة‪ .‬غال ًبا ما يحدث التواصل اإلنساين الجوهري يف سياق املحادثات‬
‫االرتجالية‪ .‬أما خارج نطاق الجلسات الرسمية‪ ،‬يبقى الوسطاء يف حالة بحث عن مشتقات‬
‫للعمليات الواعية والالواعية التي من شأنها أن تؤثر عىل الحوارات‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن‬
‫رئيسا ملركز‬
‫ً‬ ‫العالقات بني أع اء فريق الوسطاء مهمة ج ًدا لنجاح الحوارات‪ .‬حني كنت‬
‫دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬كان األع اء الرئيسيون قد عملوا جن ًبا إىل جنب منذ‬
‫الحوارات العربية اإلرسائيلية بني عامي ‪ 1979‬و‪ ،1986‬وبذلك متكنوا من إزالة التنافس‬
‫الطبيعي بني التخصصات‪ .‬كانوا قادرين عىل التحدث «بلغة» بع هم البعض وعىل استدعاء‬
‫ذوي الخربات املطلوبة بشكل فعال يف أي وقت‪.‬‬
‫هناك يف واقع األمر عمليتان متوازيتان تحدثان خالل سلسلة االجتامعات الحوارية‪.‬‬
‫أولهام عملية التطور التي تحدث خالل كل اجتاميف يف اليوم الرابع‪ ،‬وثانيهام العملية الكربى‬
‫التي تتبلور عىل مدار سنتني إىل ثالث أو أربع سنوات‪ 187.‬من املهم أن نفهم أنه من املحتمل‬
‫أن تكرر أمناط معينة من التفاعالت والسلوكيات نفسها عىل مدى مراحل مختلفة من‬
‫االجتاميف الواحد وعىل مدار سلسلة االجتامعات كلها‪ .‬إن العملية ليست خطي ًة – وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬قد يبدو التقدم املحرز يف يوم معني أو خالل اجتاميف محدد يف تلك األيام األربعة‬
‫من السلسلة مكبوتًا حني يلجأ املشاركون إىل سلوكيات أقل إيجابية يف اجتامعات الحقة‪.‬‬
‫دامئًا ما يتساءل الوسطاء عن أسباب هذا الكبت‪ ،‬ويف معظم األحيان يكون سببه أن ممث‬
‫مجموعة معارضة يرون فيه تهدي ًدا لهوية مجموعتهم الكبرية‪.‬‬
‫من هم املشاركون الذي ينبغي عىل فريق الوسطاء اختيارهم للمشاركة يف عملية‬
‫منوذج الشجرة؟ لقد شعرنا بأننا محظوظون بالطبع حني قابلنا نودار شارفيالدزي يف‬
‫جورجيا خالل فرتة تقييمنا لنموذجنا‪ .‬ولكن عىل أي حال‪ ،‬ال يتمتع فريق الوسطاء يف كثري‬

‫‪246‬‬
‫من األحيان عند ذهابه إىل أرض أجنبية برفاهية املعرفة الكاملة ملن سيكون األكرث مالءم ًة‬
‫لهذا النويف املحدد من الدبلوماسية غري الرسمية يف املنطقة املتنازيف عليها‪ .‬ولكن يف العموم‪،‬‬
‫ينبغي أن يبحث الوسطاء عن األفراد املؤثرين يف دوائرهم الحكومة‪ ،‬أو األوساط األكادميية‪،‬‬
‫‪188‬‬
‫أو وسائل اإلعالم) ممن يرغبون يف املشاركة بصفة غري رسمية وعىل أساس طوعي‪.‬‬
‫يجب عىل الوسطاء أن يسعوا إىل تحقيق توازن وتناسب بني أع اء املجموعات‬
‫املتعارضة وممث القطاعات املختلفة‪ .‬عىل الرغم من دور قدرة املشاركني عىل التأثري يف‬
‫اخخرين خارج نطاق مجموعة الحوار يف تأثري العملية عىل املجتمع ككل يف نهاية املطاف‪،‬‬
‫توصل فريق مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي إىل أن إرشاك كبار القادة السياسيني يف‬
‫العملية غال ًبا ما يكون له نتائج عكسية‪ 189.‬إن أع اء املستوى الثاين يف الحكومات عاد ًة ما‬
‫يكونوا أكرث املشاركني مالءمةً‪ ،‬إذ من املحتمل أن يكونوا أكرث تحر ًرا من ال غوط السياسية‬
‫وأكرث قدر ًة عىل تغيري مواقفهم دون أن يغري ذلك من حقيقة أنهم مؤثرون‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬ميتلك كل مشارك يف سلسلة الحوارات منظمته الخاصة ومكان ًة‬
‫مهني ًة واجتامعي ًة وتوج ًها سياسيًا‪ .‬يتأثر كل مشارك أي ً ا‪ ،‬ولكن بدرجات متفاوتة‪ ،‬بنزايف‬
‫املجموعات الكبرية والربوباغندا السياسية املوجودة ومشاعره الشخصية‪ .‬قد يشعر األفراد‬
‫خالل املناقشات كام لو أنهم يتعرضون لهجوم‪ ،‬ومن املحتمل أن يحسوا بدافع للدفايف عن‬
‫هويتهم الشخصية باإلضافة إىل هويتهم الجامعية بشكل مبارش أو غري مبارش‪ .‬ومن املؤكد‬
‫أن األطباء يف فريق الوسطاء سيالحظون يف بعض الحاالت إشارات عىل وجود مشاكل‬
‫شخصية شائكة‪ .‬وحني يحدث أمر كهذا‪ ،‬يجب أن يحاول الوسطاء إعادة توجيه االنتباه إىل‬
‫رصايف املجموعة الكبرية بأرسيف ما ميكن‪ .‬إن هدف الوسطاء ال يكمن يف تشكيل مجموعات‬
‫عالجية صغرية للمشاركني الفرديني‪ ،‬بل يف تشجيع املشاركني عىل التحدث باسم‬
‫مجموعاتهم الكبرية‪ .‬ونظ ًرا ألن الرتكيز األسايس منصب عىل رصايف املجموعات الكبرية كام‬
‫هو واضح يف الحوارات‪ ،‬ال ينبغي اللجوء إىل ديناميكيات املجموعة الصغرية‪ ،‬أي التعامل‬
‫‪190‬‬
‫مع املشاركني بصفتهم أفرا ًدا‪ ،‬إال حني يعرتضون الطريق‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫لعل خلق بيئة آمنة من الناحية النفسية قبل البدء بالحوارات واحد من األمور‬
‫الجوهرية يف سلسلة الحوارات‪ .‬ميكن تحقيق ذلك من خالل حيادية الوسطاء يف الدرجة‬
‫فعال‬
‫األوىل‪ .‬وما تعنيه الحيادية أحيانًا هو اإلثبات للمشاركني أن الطرف الثالث مهتم ً‬
‫بالعملية وال يرغب يف اقرتاح أو فرض حلول معينة وحسب‪ .‬ويستلزم حياد الوسطاء أي ً ا‬
‫تجنب إهانة أي من الطرفني‪ ،‬باإلضافة إىل استكشاف القلق املتعلق بهويات املجموعة الكبرية‬
‫للمشاركني بأساليب لبقة‪ .‬عاد ًة ما تفتقر حالة املجموعات الكبرية املتنازعة إىل التناسق‪ ،‬مثل‬
‫روسيا التي تعترب أكرب وأقوى بكثري من إستونيا‪ .‬من املؤكد أن وسطاء مركز دراسة العقل‬
‫والتفاعل البرشي يدركون هذا األمر‪ ،‬ولكنهم تعاملوا مع ممث الجامعات املتعارضة خالل‬
‫سلسلة الحوارات عىل قدم املساواة‪.‬‬
‫ال يواجه فريق الوسطاء عد ًوا‪ ،‬عىل عكس املشاركني يف الحوار من املجموعات‬
‫املتعارضة‪ ،‬وبالتايل فهو أقل عرض ًة لالستجابة باندفايف أمام املشاعر اإلثنية القومية أو‬
‫الدينية أو األيديولوجية‪ .‬يعتمد ن ج فريق الوسطاء ونجاحه عىل تحديد مهمته بوضوح‪،‬‬
‫باإلضافة إىل تشكيل تحالف قائم بني أع ائه وعالقة غري راجعة مع قائده‪ .‬يعترب قائد فريق‬
‫الوسطاء قائ ًدا لالجتامعات بأكملها‪ ،‬لذلك من املهم أن يكون قاد ًرا عىل االضطاليف بدور‬
‫قيادي والحفاظ عليه ومساعدة قادة األطراف املتنازعة عىل تحديد مهام كل منهام‪ .‬ومن‬
‫األمور الضورية أي ً ا خالل الحوارات النفسية السياسية هو تقديم موجز للمعلومات بني‬
‫أع اء فريق الوسطاء‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يجتمع أع اء فريق مركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي يف نهاية كل يوم لتبادل مالحظاتهم وإيجاد حلول للصعوبات املحتملة التي قد‬
‫يواجهونها‪ .‬من املحتمل أن يف ل بعض الوسطاء مجموع ًة عىل األخرى سوا ًء كان ذلك‬
‫مقصو ًدا أو غري مقصود‪ .‬ومن املمكن أن يشكل الوسطاء كام املشاركني مواقف إيجابي ًة أو‬
‫سلبي ًة تجاه مشاركني معينني أو قادة سياسيني خارج غرفة الحوار‪ .‬حني تصبح مثل هذه‬
‫األمور إشكاليةً‪ ،‬ينبغي التعامل معها خالل األوقات التي يجتمع فيها الوسطاء فيام بينهم‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫ومن الناحية األخرى‪ ،‬من املمكن أن يرسم املشاركون يف مخيالتهم توقعات غري واقعية‬
‫للوسطاء‪.‬‬
‫كان من الواضح خالل الحوارات اإلستونية الروسية‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن أحد‬
‫املشاركني املنتظمني من روسيا‪ ،‬والذي يدعى يوري فوييفودا‪ ،‬لديه شكوك إزاء دوافع فريق‬
‫الوسطاء يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي إلجراء هذه الحوارات‪ .‬اعتقد فوييفودا‪،‬‬
‫الذي كان حينها ع ًوا يف مجلس الدوما الرويس‪ ،‬أن مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‬
‫مرتبط بوكالة املخابرات املركزية األمريكية يس‪ .‬آي‪ .‬إيه‪ .).‬وبطبيعة الحال‪ ،‬دفع هذا األمر‬
‫فريق مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي إىل اإلحساس بعدم الراحة‪ .‬ويف إحدى الليايل‬
‫التي أقيمت فيها االجتامعات الحوارية‪ ،‬دعاين فوييفودا برفقة يوري أوربانوفيتش‬
‫لالن امم إليه يف الساونا وأمطرين بأسئلته ألكرث من ساعة‪ .‬ويف نهاية هذا «االستجواب»‪،‬‬
‫لخص فوييفودا أفكاره باقتباس لكونفوشيوس‪« :‬ال يهم لون القطة – ما يهم هو إذا كانت‬
‫هذه القطة تصطاد الفرئان!»‪ ،‬ملم ًحا إىل أنه مايزال محتا ًرا بشأن دوافعنا ولكنه عىل‬
‫استعداد للميض قد ًما بسبب فعالية النتائج‪ .‬تعترب هذه املحادثات االرتجالية مع املشاركني‬
‫رضوري ًة يف بعض األحيان‪ ،‬بل ومن املمكن أن تكون محوري ًة يف أغلب األحيان‪ ،‬لذا يجب‬
‫أن يكون أع اء فريق الوسطاء مستعدين وقادرين عىل إرشاك املشاركني من خالل طرق‬
‫عديدة من أجل تعزيز العملية‪.‬‬
‫إن الحوارات النفسية السياسية ليست كالتعامل مع شخص خاضع للتحليل النفيس‬
‫يف بيئة رسيرية‪ ،‬إال أنه من املمكن استعارة بعض املفاهيم‪ .‬ميكن القول إن الخاضع للتحليل‬
‫النفيس يف تلك البيئة يعزف «املوسيقى» التي ألفها بينام يجلس عىل األريكة‪ ،‬ولكن املحلل‬
‫يف هذه الحالة هو قائد األوركسرتا‪ .‬وباملثل بالنسبة ملمث املجموعات الكبرية املتعارضة يف‬
‫منوذج الشجرة‪ ،‬الذين يعزفون املوسيقى التي ألفها كل منهم‪ ،‬يف حني يعترب فريق الوسطاء‬
‫مبثابة املايسرتو‪ ،‬بحيث تستطيع الفرق املتعارضة ساميف املقطوعات املوسيقية خاصتها‬
‫وتعديلها عند الحاجة‪ .‬ولكن األهم من ذلك هو أن أمامهم فرصة لساميف النغامت املوسيقية‬

‫‪249‬‬
‫«للعدو» والرد عليها‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬أود أن أذكر القراء بأن فريق الوسطاء يشمل أطباء عىل‬
‫درجة عالية من املعرفة التحليلية النفسية ولديهم خربة يف عقد االجتامعات بني املجموعات‬
‫الصغرية‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬ال ميكن محاكاة منوذج الشجرة إال إن درس بعض األع اء‬
‫األساسيني يف مجموعة الوسطاء الطبيعة البرشية وعلم نفس املجموعة الكبرية بتعمق ومن‬
‫الناحيتني النظرية والتطبيقية‪.‬‬
‫ومن بني املبادئ التي استعرتها من التحليل الرسيري وطبقتها عىل منوذج الشجرة‬
‫هو عدم وضع جدول أعامل محدد مسبقًا ألي من االجتامعات‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يطلب من‬
‫املدعوين «تداعيات حرة» كام يطلب من الخاضع للتحليل النفيس خالل جلسته‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬متتلك هذه االجتامعات مهم ًة واضحةً‪ :‬يجتمع ممثلو الجامعات املتعارضة بشكل غري‬
‫رسمي ملناقشة النزاعات القامئة بينهم‪ ،‬والتفاوض عىل الحلول‪ ،‬والتوصل إىل اسرتاتيجيات‬
‫الجامعات املتعارضة أو السلطات املمثلة‬ ‫وإجراءات معينة‪ .‬ال ينصح الوسطاء ممث‬
‫ملجموعاتهم الكبرية بفعل يشء معني‪ ،‬بل يتواجد الوسطاء من أجل املساعدة يف التخفيف‬
‫من املقاومة النفسية للمفاوضات األكرث واقعية‪ ،‬وذلك من خالل إلقاء ال وء عىل املخاوف‬
‫املتخيلة‪ ،‬أي فصل ما هو حقيقي عام هو متخيل وعكس عملية االنكفاء الزمني –الخلط بني‬
‫املشاعر واألفكار والتصورات املتعلقة بصدمة مختارة واألحداث الجارية– والبدء بعملية‬
‫االبتعاد الزمني‪ .‬سنتحدث عن األمثلة املتعلقة بهذا النهج الحقًا‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬أعتقد أن سلسلة الحوارات هذه عبارة عن عملية مشابهة لتلك التي مير بها‬
‫وأخ ً‬
‫شخص ما يرقد عىل أريكة املحلل النفيس‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إن وسطاء منوذج الشجرة ال يسعون‬
‫املجموعات‬ ‫إىل إنهاء كل اجتاميف يف السلسلة واملشاعر الطيبة تسود األجواء بني ممث‬
‫الكبرية املتعارضة‪ ،‬ولكنهم عىل الرغم من ذلك مهتمون بسري العملية نحو مفاوضات أكرث‬
‫واقعي ًة وغري ملوثة بتوقعات خيالية حول املستقبل‪.‬‬
‫هناك أي ً ا بعض املفاهيم التي ميكن أن تعطي بعض األحداث التي تتخلل سلسلة‬
‫الحوار معنى معي ًنا‪ ،‬غال ًبا يف سياق االجتامعات بني املجموعات الصغرية‪ ،‬ولكن أحيانًا يف‬

‫‪250‬‬
‫الجلسات العامة أي ً ا‪ 191.‬تبدو هذه األحداث غري مرتابطة ظاهريًا‪ ،‬ولكن املعاين الحقيقية‬
‫املرتبطة بق ايا هوية املجموعة الكبرية هي ما تربطها ببع ها البعض‪ .‬دعونا نبدأ مبفهوم‬
‫الرصايف املصغر‪.‬‬
‫قد يتطور موقف مزعج معني أحيانًا يف بداية اجتاميف حواري‪ ،‬وال سيام يف‬
‫االجتامعات األوىل يف سلسلة الحوارات‪ ،‬فيمتص انتباه وطاقة جميع املشاركني‪ .‬عاد ًة ما‬
‫مهام حقًا باملقارنة‬
‫يرتبط موقف كهذا بشعور بحاجة ملحة‪ ،‬ولكن جوهر «األزمة» ليس ً‬
‫بالجوانب البارزة للرصايف اإلثني أو القومي أو الديني أو األيديولوجي الذي نظم االجتاميف من‬
‫أجله‪ .‬إنه أشبه بتلك النقاشات املطولة حول كيفية جلوس األشخاص عىل طاولة املؤمتر‪،‬‬
‫التي تحدث أحيانًا قبل املفاوضات الرسمية املهمة بني الدول‪ .‬قد تبدو هذه الرصاعات‬
‫املصغرة بال معنى أو غري متناسقة‪ ،‬ولكنها تشبه إىل حد كبري متثيليات األقنعة التي تسبق‬
‫الرتاجيديا اإلليزابيثية‪ ،‬التي تعالج ما سرناه الحقًا يف املرسحية بطريقة موجزة ورمزية‪.‬‬
‫تتحول العديد من االهتاممات امللحة املرتبطة بق ايا ومشاكل هوية املجموعة الكبرية‪،‬‬
‫بف ل الرصاعات املصغرة‪ ،‬إىل أمور أصغر نطاقًا وأقرب مناالً ‪.‬‬
‫كانت املرة األوىل التي الحظت فيها حدوث مثل هذه الرصاعات املصغرة خالل‬
‫الحوارات العربية اإلرسائيلية قبل سنوات من تبلور نهج منوذج الشجرة‪ .‬ففي أحد اجتامعات‬
‫سلسلة الحوارات الدبلوماسية غري الرسمية العربية اإلرسائيلية‪ ،‬التقينا يف سويرسا بعد أيام‬
‫قليلة من اغتيال عصام الرسطاوي يف الربتغال‪ ،‬الذي كان حينها مبعوثًا متجوالً ملنظمة‬
‫ميا لذكرى‬
‫التحرير الفلسطينية‪ .‬نشب جدال حول ما إذا كان ينبغي الوقوف دقيقة صمت تكر ً‬
‫عصام الرسطاوي‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬رغب الفلسطينيون بذلك‪ ،‬ولكن مل يوافق اإلرسائيليون‬
‫عىل تكريم أحد مساعدي الرئيس عرفات‪ .‬هدد الطرفان مبغادرة االجتاميف‪ ،‬وكان ال بد من‬
‫إيجاد حل لهذه األزمة قبل بدء املفاوضات غري الرسمية‪.‬‬
‫ومن األمثلة األخرى عىل الرصاعات املصغرة رصايف حدث يف اجتاميف عريب إرسائي‬
‫آخر وكان ذا صلة باألزواج‪ ،‬إذ منع األزواج الذين رافقوا املشاركني من املشاركة يف الحوار‬

‫‪251‬‬
‫نفسه‪ .‬طالب أحد املشاركني بالسامح لزوجته بح ور االجتاميف بصفة رسمية‪ ،‬ورسعان ما‬
‫أصبح هذا األمر يف غاية األهمية‪ .‬مل تعد ق ايا هوية املجموعة الكبرية مهم ًة أو حارض ُة يف‬
‫تلك األثناء‪.‬‬
‫عىل الرغم من أن الشخصيات الفردية قادرة عىل التسبب مبثل هذه االضطرابات‪،‬‬
‫أعتقد أن الرصاعات املصغرة مرتبطة إىل حد كبري بجمع «األعداء» م ًعا وج ًها لوجه‪ .‬يزداد‬
‫إحساس الفرد واملجموعة الكبرية بالذات الهوية) يف الظروف التي تنطوي عىل تقارب‬
‫جسدي‪ ،‬وهو ما يهدد التوازن املتناقض بني األعداء – إنهم «يحتاجون» إىل بع هم البعض‬
‫من أجل إجراء الحوارات‪ ،‬ومع ذلك ينبغي عليهم تجنب إدراك الحقيقة املتمثلة بأنهم‬
‫«قريبون» ج ًدا أو متشابهون مع بع هم البعض‪ ،‬وبالتايل يحاولون الحفاظ عىل مسافة‬
‫معينة‪ .‬ومن خالل خلق الرصاعات املصغرة‪ ،‬تنزاح أشكال العدوانية وترتكز يف حدث غري‬
‫مهم مقارن ًة بحجم الرصايف القومي أو العرقي أو الديني أو األيديولوجي املطروح‪ .‬يعكس‬
‫الرصايف املصغر آلية الدفايف العقلية اإلزاحة) للتسرت عىل القلق الكامن يف قلب الرصايف‬
‫الحقيقي‪.‬‬
‫واملفارقة تكمن يف أن الرصاعات املصغرة‪ ،‬التي تظهر عاد ًة يف بداية االجتامعات‪،‬‬
‫تسعى إىل إبعاد الحوار عن مساره‪ ،‬ولكنها يف واقع األمر تؤدي وظيف ًة مفيد ًة يف سري هذه‬
‫العملية‪ :‬من املحتمل أن تساعد قائد فريق الوسطاء يف ترسيخ أو إعادة ترسيخ دوره‬
‫القيادي‪ .‬مثة العديد من القادة الفطريني يف هذه االجتامعات‪ ،‬أولئك الذين ميثلون‬
‫ويتحدثون باسم مجموعات كبرية أو مجموعات مهنية مختلفة‪ ،‬وحتى القادة السياسيني‬
‫للمجموعات املتعادية – الذين تبقى صورهم العقلية موجودة عىل الرغم من عدم ح ورهم‪.‬‬
‫إذا كان قائد فريق الوسطاء قاد ًرا عىل «حل» النزايف املصغر‪ ،‬فهو بذلك يرسخ سلطته وقدرته‬
‫عىل إعادة توجيه املشاركني للعمل سويةً‪ ،‬وبالتايل تحويل االنتباه إىل نزاعات املجموعات‬
‫الكبرية القامئة‪ .‬حني يرسخ قائد فريق الوسطاء دوره بصفته «قائ ًدا لألوركسرتا»‪ ،‬يستطيع‬
‫حينها املشاركون البدء بالعزف‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫انتهى الرصايف املصغر املتعلق بوفاة عصام الرسطاوي بعد إعالين عن السامح‬
‫للمشاركني بتكريم ذكرى أي شخص يختارونه خالل دقيقة الصمت‪ .‬وافق اإلرسائيليون عىل‬
‫هذه البادرة ولكنهم أعلنوا رصاح ًة أنهم لن يكرموا الرسطاوي‪ ،‬إذ اختاروا بدالً من ذلك تكريم‬
‫إمييل غرونزويك‪ ،‬اإلرسائي الذي قتل مؤخ ًرا وكان نشطًا يف حركة السالم اخن اإلرسائيلية‪.‬‬
‫أما الرصايف املصغر املتعلق بطلب أحد املشاركني بأن تحض زوجته االجتاميف‪ ،‬فانتهى‬
‫بإعالين بصفتي قائ ًدا لفريق الوسطاء أنه مرحب بجميع األزواج‪ .‬مل يحض أي أحد منهم‬
‫بعد هذه الدعوة)‪ .‬ال ينبغي السامح للرصاعات املصغرة باالستمرار كام لو أنها محور الرتكيز‬
‫األسايس لالجتاميف‪ ،‬فهذا من شأنه أن يبعد االجتاميف بأكمله عن مساره‪.‬‬
‫قد تتدخل أحداث خارجية أخرى أي ً ا يف الحوار‪ .‬حني يبدأ ممثلو األطراف املتعارضة‬
‫مناقش ًة ما ً‬
‫مثال‪ ،‬يصبح «صدى» األحداث األخرية التي شاركت فيها مجموعاتهم الكبرية‬
‫مسمو ًعا يف نقاشاتهم‪ ،‬وبالتايل تشتعل املشاعر أكرث وتصبح مقاومة املناقشات التكيفية‬
‫أكرث صالبةً‪ .‬أطلقت عىل هذه الظاهرة اسم ظاهرة الصدى‪ .‬ويف الحوارات النفسية‬
‫السياسية‪ ،‬رأيت شبح بعض التطورات العسكرية والسياسية األخرية وهو يسيطر عىل‬
‫مجموعة العمل‪ .‬ولذلك من الضوري أن نعرتف ونستوعب هذا الشبح وما يعنيه بالنسبة‬
‫للمجموعة املعارضة قبل أن يستمر التفاوض الواقعي‪.‬‬
‫انترشت كثري من الترصيحات العدوانية بعد دقيقة الصمت تكرميًا لذكرى الرسطاوي‬
‫وغرونزويك يف الجلسة االفتتاحية للورشة العربية اإلرسائيلية‪ ،‬ولكن كان تأثري هذه‬
‫الترصيحات تاف ًها‪ .‬فكرت يف شبح االغتياالت الذي يبدو أنه كبت التعبري عن املشاعر‪ ،‬وال‬
‫سيام املشاعر العدوانية كالثأر أو الرغبة يف «تحقيق املساواة»‪ .‬تساءلت عام إذا كان قلق‬
‫املشاركني يف الجامعات املتعارضة من شعورهم بالعدوانية تجاه الرصايف العريب اإلرسائي‬
‫قد تسبب يف تعاطفهم الالواعي مع القتلة أو يف قلقهم الخفي من احتامل تعرضهم‬
‫لالغتيال‪ .‬يف حالة االجتاميف الذي تحدثنا عنه أعاله‪ ،‬يبدو أن صدى اغتيال كل من الرسطاوي‬

‫‪253‬‬
‫وغرونزويك قد أثار مشاعر متنوع ًة بني املشاركني‪ :‬االنتقام‪ ،‬والتعاطف مع املعتدين‪،‬‬
‫والخوف من كونهم هدفًا للعدوان‪ ،‬باإلضافة إىل زيادة شعورهم بالعار‪.‬‬
‫عندما ذهبنا إىل مطعم لتناول العشاء يف مدينة فيفي يف سويرسا‪ ،‬حيث عقد هذا‬
‫االجتاميف‪ ،‬كنا نعلم بشأن اإلجراءات األمنية االحرتازية املتخذة‪ .‬جابت الرشطة السويرسية‬
‫الشاريف خارج املطعم‪ ،‬وكان أحد املشاركني الفلسطينيني‪ ،‬الراحل إلياس فريج الذي كان‬
‫حريصا عىل عدم الجلوس أمام نافذة مفتوحة لحامية نفسه من‬
‫ً‬ ‫رئيسا لبلدية لحم‪،‬‬
‫ً‬ ‫حينها‬
‫إطالق النار عليه بحسب ما اعتقدت‪ .‬جلست بني محلل نفيس إرسائي ومحام فلسطيني‪.‬‬
‫أعرب األخري عن رغبته يف تعلم القليل حول اضطراب الفصام‪ ،‬فأجبت أنا واملحلل النفيس‬
‫اإلرسائي ‪ ،‬الراحل رافائيل موىس‪ ،‬من منظورنا املهني‪ .‬عادت املحادثة بعد ذلك إىل‬
‫موضوعي العنف والعدوان‪ :‬أراد املحامي أن يعرف ما إذا كان جون هينك ‪ ،‬قاتل الرئيس‬
‫السابق رونالد ريغان‪ ،‬مصابًا بالفصام‪ ،‬وتحرس عىل استحالة حامية املجتمع من «القتلة‬
‫املجانني»‪ .‬الحظت أن املحامي يحاول لرمبا أن يخلص نفسه من الدوافع واملشاعر العدوانية‬
‫مستخد ًما أسلوب اإلزاحة من خالل تحدثه عن هينك ‪ .‬من املؤسف أن هذا الفلسطيني قتل‬
‫‪192‬‬
‫بوحشية يف غزة عىل يد جامعة فلسطينية متطرفة بعد فرتة قصرية من هذه املحادثة‪.‬‬
‫صدمني هذا الخرب وذكرين مبقتل رشييك يف السكن أيام املدرسة الطبية عىل يد إرهابيني‬
‫قربصيني يونانيني‪ .‬أدركت حينها حقًا أن الناس ال يقتلون باسم الهوية وحسب‪ ،‬بل ملجرد‬
‫شخصا ينتمي إليهم‪ ،‬أي ال حايا‪ ،‬ال يحمي هذه الهوية‪ .‬الحظت عىل مر السنني‬
‫ً‬ ‫اعتقادهم أن‬
‫أن األشخاص الذين يشاركون طواعي ًة يف الحوارات غري الرسمية مع العدو يعتربون «خونةً»‬
‫بشكل أو بآخر بالنسبة ألفراد مجتمعهم ممن يعارضون أي تواصل مع العدو‪ .‬قد يشعر‬
‫هؤالء املشاركون بالعار من حوارهم مع العدو‪ ،‬وتزداد حدة شعورهم يف حال نفذ العدو‬
‫عملي ًة عنيف ًة خالل املحادثات‪ .‬وبعد وفاة املحامي الفلسطيني‪ ،‬تأكد الوسطاء من أن‬
‫املشاركني يشعرون وكأنهم «خونةً»‪ ،‬وأصبحنا أكرث وع ًيا بالواقع الذي يواجهه املشاركون‬
‫بعد «عودتهم» إىل مجتمعاتهم بعد املشاركة يف حواراتنا‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫حا بعد ذلك العشاء يف مدينة فيفي عن اإلجراءات األمنية يف‬
‫تحدث إلياس فريج مامز ً‬
‫أحد فنادق لندن‪ ،‬حيث أقام مؤخ ًرا برفقة زوجته‪ .‬كان الحديث عىل طاولته عىل ما يبدو‪ ،‬كام‬
‫طاولتي‪ ،‬متمحو ًرا حول األمن والحامية والخوف غري املبارش من االغتيال‪ .‬شعرت كام لو أن‬
‫شبح مقتل الرسطاوي وغرونزويك‪ ،‬وما يرتبط به من ق ايا تخص هوية املجموعات‬
‫الكربى‪ ،‬قد سيطر عىل املجموعة‪ ،‬ولذلك تحدثت عن املوضويف يف الجلسة العامة التي أقيمت‬
‫يف اليوم التايل‪ .‬ساعدت مالحظايت يف تحسني الحالة املزاجية للمشاركني يف االجتاميف‪،‬‬
‫لنتمكن بذلك من إكامل حوارنا دون كثري من التشتت‪.‬‬
‫إن تأثري األحداث الخارجية عىل املشاركني يف الحوارات النفسية السياسية مبارش‬
‫يف بعض األحيان‪ .‬حني تزعج خطوة عسكرية أو سياسية طرفًا ما‪ ،‬ينبغي أن يعرب عن‬
‫مثال‪،‬‬
‫مشاعره حيالها قبل البدء باملفاوضات أو استئنافها‪ .‬يف أحد االجتامعات يف إستونيا ً‬
‫تسبب صدى الشعبية املتزايدة للقومي الرويس فالدميري جريينوفسيك حينها يف زيادة‬
‫القلق بني املشاركني اإلستونيني‪ ،‬إذ أعرب جريينوفسيك يف آخر زياراته إىل فنلندا عن‬
‫شكوكه حول استقالل إستونيا مجد ًدا‪ ،‬وروج للسياسات القومية املتعلقة «بالخارج القريب»‬
‫لروسيا‪ ،‬التي يعتربها اإلستونيون خطريةً‪ .‬سيطرت مخاوف اإلستونيني من تصاعد‬
‫العدوانية الروسية واملناقشات الساخنة حول هذا املوضويف عىل االجتاميف‪ ،‬ولكن ساعد فريق‬
‫الوسطاء املشاركني الروس يف طأمنتهم للمشاركني اإلستونيني بأن الروس الحارضين ال‬
‫يتبنون وجهات نظر جريينوفسيك هذه‪.‬‬
‫يحاول الدبلوماسيون الرسميون جاهدين أن يخططوا اسرتاتيج ًيا لتوقيت االجتامعات‬
‫الرسمية‪ ،‬ولكن قد تقع أحداث غري متوقعة أحيانًا بعد االتفاق عىل موعد االجتاميف ووضع‬
‫جدول األعامل‪ .‬تدفعنا ظاهرة الصدى إىل االهتامم مبثل هذه الحوادث حتى حني ال تبدو‬
‫أنها مرتبط ًة بأجندة االجتاميف الرسمي بشكل مبارش‪ .‬هناك أي ً ا استجابات لألحداث ذات‬
‫الطابع الشخيص‪ ،‬والتي ترتبط بشكل واضح بظاهرة الصدى‪ .‬قد يفكر الدبلوماسيون جي ًدا‬
‫يف التأثري املحتمل ألي حدث عسكري أو دبلومايس جديد‪ ،‬ولكنهم غال ًبا ما يغ ون النظر‬

‫‪255‬‬
‫عن األحداث ذات الطابع الشخيص‪ .‬ومن األمثلة عىل ذلك هو ما تحدث عنه ديفيد روثشتاين‪،‬‬
‫الطبيب النفيس الذي خدم يف لجنة وارن التي بحثت يف اغتيال جون إف‪ .‬كينيدي‪ .‬كتب‬
‫روثشتاين حول اجتاميف يف نيوجريس بني الرئيس حينها ليندون جونسون ورئيس الوزراء‬
‫الرويس آنذاك أليكيس كوسيغني‪ .‬توفيت زوجة كوسيغن قبل االجتاميف بفرتة قصرية‪ ،‬وكتب‬
‫روثشتاين حول آثار هذه الوفاة عىل نتيجة االجتاميف‪« :‬هل فكر رئيس الوزراء كوسيغني أو‬
‫شعر بأي يشء يخص وفاة زوجته أثناء لقائه مع الرئيس جونسون؟ أم أنه متكن من إبقاء‬
‫‪193‬‬
‫هذه املشاعر معزول ًة متا ًما عن مشاركته يف الحوارات؟»‪.‬‬
‫وهناك مفهوم آخر‪ ،‬أسميه ظاهرة األكورديون‪ ،‬يظهر يف الحوارات أي ً ا‪ .‬قد يخترب‬
‫املشاركون يف املجموعات الكبرية املتعارضة تقاربًا بشكل مفاجئ‪ ،‬ثم يبتعدون عن بع هم‬
‫البعض فجأ ًة قبل أن يتقاربوا مر ًة أخرى‪ .‬يتكرر هذا النمط بني املجموعات الصغرية أو‬
‫التجمعات االجتامعية‪ ،‬وهو أمر ميكن مالحظته عدة مرات يف الجلسات العامة‪ .‬وأنا أشبه‬
‫كال من أشكال العدوانية التي‬
‫هذه الظاهرة بعزف األكورديون –التقارب ثم التباعد‪ .‬إن ً‬
‫يحملها املشاركون تجاه مجموعات «العدو» –حتى ولو كانت خفية– ومحاوالت حامية‬
‫هويات املجموعة الكبرية هام األساس الكامن لهذا السلوك‪ .‬يحض كل طرف إىل هذه‬
‫االجتامعات صوره املشرتكة لإلصابات والنزاعات التاريخية‪ ،‬ويخترب كل طرف مشاعر واعي ًة‬
‫وغري واعية من العدوانية تجاه «العدو»‪ .‬ولذلك‪ ،‬يعترب التباعد األويل مبثابة مناورة دفاعية‬
‫إلبقاء املواقف واملشاعر العدوانية تحت السيطرة‪ ،‬إذ من املحتمل أن يؤذي الخصوم بع هم‬
‫بع ً ا –عىل األقل يف خيالهم– حني يقرتبون من بع هم البعض‪ ،‬أو قد يصبحون هم أهدافًا‬
‫لالنتقام‪ .‬ويعكس التباعد األويل أي ً ا رغبة املشاركني يف عدم تلويث هوية مجموعتهم‬
‫الكبرية مبشاعر مجموعة العدو الكبرية‪ .‬يجب عىل املشاركني يف الفرق املتعارضة‪،‬‬
‫املحصورة مع بع ها يف غرفة واحدة وتتقاسم الجهود الواعية من أجل تحقيق «السالم» أو‬
‫عىل األقل من أجل إجراء مفاوضات ح ارية‪ ،‬إنكار مشاعرهم العدوانية والتقارب من‬

‫‪256‬‬
‫بع هم بع ً ا يف نويف من االتحاد الوهمي‪ .‬يشعر املشاركون بالخطر حني يصبح هذا‬
‫التقارب غري طوعي‪ ،‬وبذلك يحدث التباعد مر ًة أخرى‪.‬‬
‫تعرفت عىل هذه الظاهرة للمرة األوىل حني كنا نعمل مع العرب واإلرسائيليني‪ ،‬إذ‬
‫شهدنا بشكل متكرر خالل سلسلة الحوار هذه انسجا ًما مفاجئًا بني املشاركني املتعارضني‪،‬‬
‫حتى أنهم الحظوا يف كثري من األحيان وبنويف من الحامس أوجه التشابه بينهم‪ .‬كنا نسمع‬
‫عبارات مثل «كلنا أخوة وأخوات‪ ،‬جميعنا أحفاد جدنا املشرتك إبراهيم!» خالل فرتات التقارب‬
‫هذه‪ .‬ولكن بعد مرور فرتة قصرية‪ ،‬يعود املشاركون يف كل مجموعة إىل الرتكيز عىل‬
‫اختالفاتهم‪ ،‬ثم يبتعدون عن بع هم البعض‪ ،‬وبذلك تستمر سلسلة املواقف املتناق ة‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬ألقى ممثلون من إستونيا وروسيا يف أحد اجتامعات سلسلة الحوارات يف إستونيا‬
‫باللوم عىل املتطرفني من كل معسكر بخصوص املشاكل بني البلدين‪ .‬وبذلك‪ ،‬تقارب‬
‫املشاركون من كل جانب من بع هم البعض وترصفوا بطريقة ودية مع بع هم البعض‬
‫وأكدوا عىل أن املتطرفني سبب املشكلة‪ .‬كانت مشاعر التآزر هذه قصرية املدى عمو ًما‪،‬‬
‫فتصور املشاركون بعد أن تسود حالة الود يف املجموعتني بأنهم متشابهون أكرث بكثري مام‬
‫كانوا يعتقدون سابقًا يسبب القلق‪ ،‬ألن هذا يعني تهديد هويات املجموعات الكبرية‪ .‬يشعر‬
‫األعداء بأنهم ملزمون بالحفاظ عىل ما أسميه «مبدأ عدم التامثل»‪ ،‬الذي سأتحدث عنه الحقًا‬
‫يف هذا الفصل‪.‬‬
‫أعتقد أنه ما من مجال إلجراء مناقشة أكرث فعالي ًة لق ايا العامل الحقيقي ما مل يسمح‬
‫املرء «لعزف األكورديون» باالستمرار لفرتة معينة من الوقت‪ ،‬بحيث تحل املفاهيم األكرث‬
‫واقعي ًة واستقرا ًرا واملشاعر األكرث متاسكًا املتعلقة بهويات املجموعات الكبرية للمشاركني‬
‫محل التأرجح املستمر يف األحاسيس‪ .‬إذا توصل املشاركون إىل اتفاق خالل فرتة التقارب‬
‫املبكرة‪ ،‬من املحتمل أن يخل به أو ينبذ حني تعود املجموعات إىل حالة التباعد مجد ًدا‪.‬‬
‫ومن املفاهيم املفيدة األخرى ملساعدتنا يف فهم ما يحدث خالل مرحلة الحوار يف‬
‫‪194‬‬
‫منوذج الشجرة هو ما يعرف يف مجال التحليل النفيس باسم التامهي اإلسقاطي‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫يستخدم البرش بد ًءا مبرحلة الطفولة وما بعدها آليات عقلي ًة معين ًة للتخلص من الجوانب‬
‫املزعجة يف أنفسهم ويسقطونها عىل اخخرين‪ .‬قد يحاول أع اء إحدى املجموعات‬
‫املتعارضة تعريف هويتهم من خالل إخراج جوانب غري مرغوبة فيها وإسقاطها عىل العدو‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬نحن ال نفتعل املشاكل‪ ،‬ولكن هم من يفعلون ذلك‪ .‬غال ًبا ما تسفر هذه‬
‫العمليات عن خلق تقسيم واضح وجذري بني «نحن وهم»‪ :‬نحن «جيدون» وهم‬
‫«سيئون»‪ 195.‬ميكن أن تتطور عمليات اإلخراج واإلسقاط هذه خالل سلسلة الحوار إىل عالقة‬
‫أكرث تعقي ًدا بني ممث املجموعتني املتعارضتني‪ ،‬وهو منط مشابه خلية التامهي اإلسقاطي‬
‫التي يالحظها املحللون النفسيون يف املرىض‪ .‬أما عىل مستوى املجموعة‪ ،‬فمن املحتمل أن‬
‫يسقط فريق عىل اخخر رغباته الخاصة فيام يتعلق بآلية التفكري أو الشعور أو الترصف التي‬
‫ينبغي عىل الطرف اخخر اتباعها‪ ،‬ثم يتامهى الفريق األول مع اخخر الذي أصبح يحمل جميع‬
‫اإلخراجات واإلسقاطات – ينظر إىل الفريق اخخر عىل أنه يترصف وفقًا لتوقعات الفريق‬
‫األول‪ .‬ويف واقع األمر‪ ،‬يصبح أحد الفريقني «متحدثًا باسم الفريق اخخر»‪ ،‬إذ يصدق الفريق‬
‫األول مالحظاتهم بخصوص العدو نظ ًرا ألن هذه العملية تحدث دون وعي‪ .‬وعىل أي حال‪،‬‬
‫العالقة الناتجة ليست حقيقي ًة ألنها تستند إىل عملية ت م طرفًا واح ًدا وحسب‪ .‬لرمبا يكون‬
‫مثاال عىل ذلك مفي ًدا هنا‪ ،‬ألن التامهي اإلسقاطي من شأنه أن يتسبب يف مقاومة عنيدة‬
‫ً‬
‫للحوار‪ ،‬وينبغي معالجته من أجل إحراز أي تقدم‪.‬‬
‫تحدث املشاركون الروس يف أحد اجتامعاتنا يف إستونيا مطوالً حول شعور‬
‫اإلستونيني‪ ،‬وتفكريهم‪ ،‬وردود أفعالهم‪ ،‬وما يؤمنون به‪ ،‬وما يرغبون به والسبب يف ذلك‪،‬‬
‫وما إىل ذلك‪ .‬استجاب اإلستونيون بدورهم برسد ما يفكر به الروس وما يشعرون به وما‬
‫يريدون‪ .‬عىل الرغم من أنهم يخاطبون بع هم البعض ظاهريًا‪ ،‬كان كل طرف يتحدث إىل‬
‫نفسه يف واقع األمر‪ ،‬إذ كانا يجريان حوا ًرا بني موقعهام وما يعتقدانه أو يتوقعانه أو‬
‫يتخيالنه) حول موقف ا خخر‪ .‬تدخل الوسطاء وأوضحوا للمجموعة أن ما يقوله الروس حول‬
‫اإلستونيني قد يعكس ما يتمنونه أو يخشونه بشأن أفكار اإلستونيني وأفعالهم‪ ،‬وباملثل‬

‫‪258‬‬
‫بالنسبة لإلستونيني فيام يتعلق بالروس‪ .‬مل يكن السلوك اإلسقاطي األويل لكال الجانبني‬
‫بعي ًدا ج ًدا عن الواقع‪ ،‬ولرمبا استند إىل مخاوف حقيقية‪ ،‬ولكنه يف الوقت ذاته غري دقيق‬
‫ومبالغ فيه‪ ،‬بل وأحيانًا خاطئ متا ًما‪ .‬إذا سمح للطرفني بالتحدث عن نفسيهام‪ ،‬ميكنهام‬
‫حينها البدء يف تصحيح أي تصورات خاطئة و«ترويض» اإلخراجات واإلسقاطات‪ .‬ولذلك‬
‫طلبنا من الروس أن يسمحوا لإلستونيني بالتحدث عن مشاعرهم وأفكارهم وأفعالهم‪ ،‬ليك‬
‫يتمكن الروس من إدراك «حقيقة» مل متسها التوقعات املتخيلة واملسقطة‪ ،‬وثم طلبنا األمر‬
‫ذاته من اإلستونيني أي ً ا‪.‬‬
‫تتناول جميع املفاهيم املذكورة أعاله التهديدات التي تتعرض لها هويات املجموعات‬
‫الكبرية حني تلتقي بأعدائها‪ .‬تتداخل جميعها حني يدخل أع اء الفرق املتعارضة حوا ًرا ما‪،‬‬
‫إذ عاد ًة ما يتطور هذا الحوار إىل منافسة لرسد املظامل التاريخية الصدمات املختارة)‬
‫واالنتصارات املاضية األمجاد املختارة)‪ .‬وباإلضافة إىل الصدمات واألمجاد املاضية ذاتها‪،‬‬
‫عاد ًة ما يتحدثون عن االشتقاقات األخرى لألحداث األخرية‪ .‬ونظ ًرا ألن الصدمات املختارة‬
‫أكرث فعالي ًة من األمجاد املختارة فيام يتعلق بتعزيز التامسك االجتامعي والهوية الجمعية‪،‬‬
‫حا مقارن ًة باإلشارات‬
‫عاد ًة ما يكون رسد الصدمات الجامعية السابقة خالل الحوار أكرث وضو ً‬
‫إىل النجاحات السابقة‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬تعيد الصدمات املختارة العجز السابق إىل الذهن‪،‬‬
‫وبالتايل ت خم من التصور للخطر الحايل‪ ،‬وال سيام يف حال وقفت مجموعة الفرد ال تحرك‬
‫ساك ًنا‪ .‬يلعب هذا األمر أي ً ا دو ًرا يف انشغال املجموعة بالجراح املشرتكة السابقة‪ .‬يبدو‬
‫التنافس عىل رسد املظامل ال إراديًا يف االجتامعات الحوارية غري الرسمية‪ ،‬وال سيام يف‬
‫بداياتها‪ ،‬إذ يحدث وفقًا ملبدأ أنوية ال حية‪ 196:‬ال تعاطف مع خسائر وإصابات الطرف‬
‫اخخر‪.‬‬
‫أثار اإلستونيون خالل سلسلة الحوار اإلستوين الرويس مرا ًرا وتكرا ًرا شكاوى ضد‬
‫الروس فيام يتعلق بعدة جوانب من تاريخهم‪ .‬روى اإلستونيون قصة القصف السوفييتي‬
‫عام ‪ 1944‬لتالني عاصمة إستونيا)؛ وتحدثوا عن عدد اإلستونيني الذين رحلوا أو سجنوا‬

‫‪259‬‬
‫أو قتلوا أو أبعدوا عن منازلهم خالل الفرتة السوفييتية؛ واشتكوا من الذل الذي شعروا به‬
‫عن تقاليدهم اإلثنية يف ظل السوفييت‪ .‬ال‬ ‫حني أجربوا عىل تعلم اللغة الروسية والتخ‬
‫يبدو أن الصدمة التي اختاروها تشري إىل حدث ماض معني‪ ،‬بل عكست حقيقة أنهم عاشوا‬
‫قرونًا عديد ًة تحت حكم «اخخرين»‪ .‬ومن الناحية األخرى‪ ،‬تحدث الروس عن صدمة معينة‬
‫مختارة‪ ،‬وال سيام حني شعروا باإلهانة‪ .‬عاد الروس بالزمن قرونًا إىل الفرتة التي تعرضوا‬
‫فيها لهجوم واحتالل عىل يد املغول‪ ،‬أو إىل الفرتة النازية التي عانوا خاللها من خسائر‬
‫وت حيات هائلة «لحامية العامل املتحض»‪ .‬وتحدث الروس أي ً ا عن العديد من التطورات‬
‫واملزايا التي شهدها اإلستونيون يف ظل الوصاية السوفييتية‪ ،‬مثل التحول الصناعي‬
‫والتحديث‪ .‬أشار املشاركون الروس‪ ،‬بشكل مبارش وغري مبارش‪ ،‬إىل إرثهم بوصفهم أبناء‬
‫وبنات إمرباطورية قوية قدمت العديد من اإلنجازات املهمة‪ ،‬وبالتايل عززوا احرتام الذات‬
‫املشرتك ومتسكوا بذكريات أمجادهم املختارة‪.‬‬
‫تفتقر هذه التبادالت إىل التكامل الواقعي بني ما فعلوه «هم» بنا‪ ،‬أو ما فعلناه «نحن»‬
‫بهم‪ .‬وإذا ترك كال الطرفني دون رديف‪ ،‬سيستمران يف التحدث عن الصدمات واألمجاد املختارة‬
‫واملزيد من املظامل التي حدثت يف اخونة األخرية مرا ًرا وتكرا ًرا يف منافسة أبدية عقيمة‪ .‬عىل‬
‫الرغم من اإلحباط الذي تسببه هذه التبادالت للوسطاء‪ ،‬أعتقد أنها رضورية للعملية نفسها‪،‬‬
‫ألن الصدمات واألمجاد املختارة املنشطة تعترب مبثابة عالمات لهوية املجموعات الكبرية‪،‬‬
‫ومن شأنها أن تقوي من متسك املشاركني بهويات املجموعة الكبرية خاصتهم‪ .‬إذا مل يشعر‬
‫املشاركون باألمان تجاه هويات مجموعاتهم الكبرية‪ ،‬سيواجهون صعوب ًة كبري ًة يف‬
‫التفاوض الواقعي مع «اخخر» حني يحني الوقت لذلك‪ .‬تتمثل مهمة فريق الوسطاء أثناء‬
‫تحدث املشاركني عن املظامل السابقة والحالية يف استيعاب مشاعر األطراف املتدفقة من‬
‫خالل االستاميف النشط وتجنب االنحياز إىل طرف من الطرفني‪ ،‬أي أن يصبح الفريق مثاالً‬
‫عىل االستاميف التعاطفي‪ .‬حني تبدأ الفرق املتعارضة يف نهاية املطاف «بساميف» بع ها‬
‫البعض‪ ،‬حينها تحدث املناقشات األكرث واقعيةً‪ .‬إن االعرتاف املتبادل مبعاناة بع نا البعض‬

‫‪260‬‬
‫يخلق بيئ ًة مالمئ ًة إلحراز تقدم يف املفاوضات‪ ،‬ألنه ينطوي عىل تحقق متبادل من هوية‬
‫املجموعة الكبرية للطرف اخخر‪.‬‬
‫عند العودة إىل الصدمات املختارة وأشكالها املختلفة‪ ،‬يبدو األمر كام لو أن هذه‬
‫املشاعر والتصورات املتعلقة بها حديثة – تندمج مع املشاعر والتصورات املتعلقة بالحارض‬
‫وحتى بالتي ميكن توقعها يف املستقبل‪ .‬يجتمع ما نتذكره من املايض وما نشعر به اخن وما‬
‫نتوقعه يف املستقبل فيام يسمى باالنكفاء الزمني‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬يعقد هذا االنكفاء الزمني‬
‫محاوالت حل النزاعات املطروحة‪ .‬ومن أجل مواجهة هذه الظاهرة وبدء عملية االبتعاد‬
‫الزمني‪ ،‬يجب أن يسمح الوسطاء بإجراء مناقشات حول الصدمة املختارة نفسها‪ ،‬باإلضافة‬
‫إىل الصدمات الشخصية للمشاركني واملتعلقة بالنزايف عىل مستوى املجموعات الكبرية‪.‬‬
‫الحظت أن هذه املناقشات «محرمة» يف إطار الدبلوماسية الرسمية يف كثري من األحيان‪ ،‬إذ‬
‫عاد ًة ما يطلب من املشاركني خالل الحوارات الرسمية «عدم التحدث عن املايض‪ ،‬وااللتزام‬
‫بالوقت الحارض»‪ .‬ما أحاول قوله هو أنه من املهم يف بعض األحيان أن نتحدث عن صدمات‬
‫املايض ونعرب عن مشاعرنا‪ .‬حني يصبح إبعاد املشاعر والق ايا املاضية وفصلهام عن‬
‫املشكالت الحالية أم ًرا ممكنًا‪ ،‬نتمكن من مناقشة املشكالت الحالية بصورة أكرث واقعية‪ .‬ال‬
‫تتجىل هذه الظاهرة يف صورة انكفاء زمني وحسب حني يتعلق األمر بالصدمات الخاصة‬
‫بأسالف الفرد‪ ،‬بل يحدث االنكفاء الزمني أي ً ا حني يتعلق األمر بحدث سابق يف حياة األفراد‬
‫نفسهم‪ .‬ينبغي أن ينتبه الوسطاء إىل االنكفاءات الزمنية الفردية التي تؤثر عىل مهمة‬
‫التعامل مع املشكالت املتعلقة بهوية املجموعات الكبرية‪.‬‬
‫خالل أحد االجتامعات يف إستونيا‪ ،‬شارك أرنولد روتيل الذي كان نائب رئيس مجلس‬
‫النواب اإلستوين ‪ )Riigikogu‬حينها وأحد رؤساء إستونيا السابقني الذي قاد إستونيا منذ‬
‫نهاية الفرتة السوفييتية وحتى االستقالل رواي ًة عن اجتاميف له مع ميخائيل غورباتشوف يف‬
‫موسكو‪ .‬سافر روتيل إىل هناك من أجل مناقشة رغبة إستونيا يف االستقالل عن االتحاد‬
‫السوفييتي مع غورباتشوف‪ ،‬إذ بقي منتظ ًرا مبفرده يف غرفة االنتظار ملدة ساعتني بعد‬

‫‪261‬‬
‫املوعد املحدد لالجتاميف‪ .‬بدا أن هذا الحدث‪ ،‬الذي حصل قبل أكرث من خمس سنوات من هذا‬
‫مذال بالنسبة لروتيل‪ ،‬يؤثر عىل وجهة نظره تجاه الروس خالل الحوار‪،‬‬
‫االجتاميف والذي كان ً‬
‫ألنه بدا متمسكًا باخراء القومية الراسخة إىل حد كبري وحاول أن ينأى بنفسه عن املشاركني‬
‫الروس‪ ،‬سوا ًء كانوا من روسيا أو إستونيا‪ .‬ولكن بعد أن اعرتف الوسطاء بالطبيعة املهينة‬
‫لهذه التجربة مع االتحاد السوفييتي وتعاطفوا معها‪ ،‬بدأ السيايس اإلستوين يف التخفيف‬
‫من حدة خطابه املعادي لروسيا‪ ،‬وأصبح تفاعله أقل تصل ًبا وأكرث انسجا ًما مع املشاركني‬
‫الروس‪ .‬كان األمر كام لو أنه تخلص من عبء الجمع بني مشاعره السابقة والحالية تجاه‬
‫الروس‪ ،‬وبذلك متكن من التعامل بأريحية أكرب مع العالقة الحالية بني البلدين‪ ،‬ألن استطايف‬
‫أن يخلق «تباع ًدا» زمن ًيا‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬أثر التحول الذي طرأ عىل موقف روتيل عىل املشاركني‬
‫اإلستونيني اخخرين‪ ،‬الذين بدا وكأنهم أي ً ا خلقوا تباع ًدا زمنيًا‪.‬‬
‫إنه مفهوم آخر يتعلق باالختالفات البسيطة التي تستخدم لحامية الهويات الفردية‬
‫حني تتحول غرفة االجتامعات الحوارية السياسية‬ ‫‪197‬‬
‫وخاصة بهوية املجموعة الكبرية‪.‬‬
‫النفسية إىل مخترب لرصاعات املجموعات الكبرية‪ ،‬يغدو العديد من جوانب طقوس‬
‫رضا يف مناقشات املجموعات الصغرية‪ .‬وحني تصبح األطراف أكرث‬
‫املجموعات الكبرية حا ً‬
‫تعاطفًا مع بع ها البعض‪ ،‬من املحتمل أن يشعروا بالقلق إن بدأوا بإدراك حقيقة أنهم‬
‫ومجموعتهم متشابهون مع العدو‪ .‬وحني تصبح عمليات إخراج وإسقاط الجوانب غري‬
‫املرغوب فيها غري مستقر ًة بسبب تصور أحد األطراف أن املجموعة األخرى تشبه مجموعته‪،‬‬
‫من املحتمل أن يبالغ املشاركون يف التأكيد عىل االختالفات البسيطة بينهم من أجل الحفاظ‬
‫عىل خصوصية مجموعاتهم الكبرية‪ .‬وبذلك يتفعل «مبدأ عدم التامثل»‪ ،‬إذ تعمل االختالفات‬
‫البسيطة باعتبارها حواجز عنيد ًة تفصل بني الطرفني املتعارضني بحيث تبقى هوية الطرفني‬
‫عىل ما هي عليه‪ .‬قد يكون هذا التفاوت السخيف ظاهريًا ذا أهمي ًة كبريةً‪ ،‬ومن املمكن أن‬
‫يخرب املناقشات اإليجابية‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫الحظت أنه يصعب التعامل عىل الصعيد النفيس مع االختالفات البسيطة بني‬
‫املجموعات املتعارضة مقارن ًة باالختالفات الجوهرية‪ ،‬مثل اللغة أو الدين‪ .‬يف أحد االجتامعات‬
‫التي بدا فيها املشاركون اإلستونيون والروس وكأنهم يعربون عن وجهات نظر متشابهة‬
‫ج ًدا‪ ،‬نهض إستوين فجأ ًة وأعلن أنه عيد ميالد أحد املشاركني املتحدثني بالروسية‪ .‬طلب من‬
‫الجميع أن يغنوا أغنية‪« :‬عيد ميالد سعيد»‪ .‬عىل الرغم من أن بدا وكأنه يقوم ببادرة صادقة‬
‫عمال دفاع ًيا يف جوهره‪ .‬شعر هذا املشارك بالقلق بسبب االقرتاب‬
‫ظاهريًا‪ ،‬كان هذا الترصف ً‬
‫من التوصل إىل اتفاق‪ ،‬ولكنه يف واقع األمر استجاب لقلق املشاركني من كال الطرفني‪ .‬حاول‬
‫أن يشتت انتباه املشاركني من خالل ذكره لعيد امليالد‪ ،‬ملنعهم من الوصول إىل اتفاق‪،‬‬
‫وبالتايل يظلون مختلفني عن بع هم البعض‪ .‬من املهم يف مواقف كهذه أن يفرس فريق‬
‫الوسطاء معنى االختالف البسيط وأهميته يف الحوار‪ ،‬وأن يطمنئ جميع املشاركني بأن‬
‫التوصل إىل اتفاق ال يعني أن تفقد املجموعة الكبرية هويتها‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫حفل الرابع من متوز مع نريان مدفعية ثقيلة‬ ‫‪13‬‬

‫تعزز عملية الحوارات النفسية السياسية تطوير «جذيف» سليم للتواصل بني اإلثنيات‬

‫حاسام يف استقرار منطقة ما أو تهدئة‬


‫ً‬ ‫والعالقات مع دول الجوار‪ .‬وميكن أن تؤدي دو ًرا‬

‫الرصاعات والتوترات اإلثنية أو القومية أو الدينية أو األيديولوجية املشتعلة بصورة منتظمة‬

‫فيها‪ .‬كام هو الحال مع شجرة تحتاج إىل التقليم‪ ،‬ميكن عرقلة النمو الصحي داخل‬

‫املجموعات الكبرية وفيام بينها بسبب العداوات املتأججة القامئة عىل هوية املجموعة الكبرية‪،‬‬

‫والتي تؤدي إىل إنفاق غري مربر يف الطاقة عىل ق ايا ذات نتائج عكسية‪ .‬تذكرنا هذه‬

‫الظاهرة بالطريقة التي تعيق «الجذيرات املاصة» فيها منو الشجرة‪ ،‬وهي الرباعم ال ارة‬

‫التي تتشكل عند قاعدة جذعها‪ .‬ملواجهة هذه املخاطر‪ ،‬من املهم إرشاك الجامعات املتصارعة‬

‫يف الحوارات السياسية النفسية التي قد تحول دون التصعيد الخطري وعواقب العداوات‬

‫املتأججة‪ .‬مع وجود جذيف سليم‪ ،‬تستطيع «الفرويف» الجديدة بدء النمو‪ .‬لقد أرشت بالفعل إىل‬

‫بعض الفرويف التي تبني نقلنا الدروس املستفادة من الحوارات النفسية السياسية إىل‬

‫املستويات الرسمية‪ .‬متثل الفرويف األخرى نقلنا املعرفة نفسها إىل املستوى الشعبي بهدف‬

‫بناء مؤسسات مجتمعية تدعم التعايش‪ .‬يوفر األساس النفيس السيايس الذي تحقق خالل‬

‫الحوارات الركيزة الضورية لدعم اإلجراءات واملؤسسات الجديدة؛ دون تشكيل تحالفات‬

‫‪264‬‬
‫وإزالة املقاومة النفسية للتغيري يف املقام األول‪ ،‬تخاطر مثل هذه املؤسسات بأن تغدو قصرية‬

‫األمد وغري فعالة‪.‬‬

‫قبل متكن الفرد من تطبيق الربامج أو اإلجراءات املقرتحة من أطراف االجتاميف‪ ،‬ال بد‬

‫من تشكيل مجموعة اتصال محلية‪ .‬يتمثل دور مجموعة االتصال هذه‪ ،‬التي يختار أع اءها‬

‫فريق التيسري بالتشاور مع األطراف املعارضة املشاركة يف سلسلة الحوار‪ ،‬يف تنسيق عملية‬

‫تحويل سيناريوهات العمل املقرتحة إىل مشاريع حقيقية‪ .‬يشجع امليرسون أع اء مجموعة‬

‫االتصال عىل التفاعل كوحدة واحدة والتطور إىل «مجموعة عمل» حتى ال يعودوا إىل تسويغ‬

‫مخاوفهم وتوقعاتهم وإسقاطها عىل أع اء الجانب اخخر‪ .‬عند اكتامل تشكيلها‪ ،‬يجب أن‬

‫تتطور مجموعة االتصال لتصبح امتدا ًدا لفريق التيسري‪ ،‬وأن ت م أفرا ًدا محليني مدربني‬

‫يف علم النفس‪ ،‬أشخاص ميكن تحسني تدريبهم عرب التشاور مع األطباء املوجودين بني‬

‫امليرسين‪.‬‬

‫ويف النهاية‪ ،‬ال ب ّد أن تتطور مجموعة االتصال إىل منظمة غري حكومية ملتزمة‬

‫بتعزيز التفاهم بني املجموعات والحد من التوتر اإلثني من طريق تنمية الدعم املجتمعي‪.‬‬

‫فهام أعمق لجذور النزايف الواعية وغري الواعية‪،‬‬


‫بعد استيعابها تقنيات امليرسين واكتسابها ً‬

‫تتقدم مجموعة االتصال لتؤدي دو ًرا قياديًا جدي ًدا‪ ،‬حيث يبدأ الفريق امليرس باالنسحاب‬
‫‪206‬‬
‫جا للطرائق غري الرجعية يف التعامل مع املشكالت املجتمعية‪.‬‬
‫ويصبح منوذ ً‬

‫‪265‬‬
‫متى غدت متامسكةً‪ ،‬تختار مجموعة االتصال‪ ،‬بالتشاور الوثيق مع فريق التيسري‪،‬‬

‫«الفرويف» املحتملة‪ ،‬واملشاريع العملية التي سيجري تنظيمها وتنفيذها‪ ،‬مبعنى تكرار جزء‬

‫من «الجذيف» يف موقع مختلف‪ .‬ميثل هذا االختبار الحقيقي ملجموعة االتصال‪ ،‬فال بد أن‬

‫تقدر عىل التعامل مع نفس الديناميكيات اإلشكالية للحوارات النفسية السياسية األصلية‪،‬‬

‫ف ًال عن التحديات الجديدة الخاصة ببيئة املرشويف‪ .‬وعليه يكون مفي ًدا وجود امليرسين‬

‫أوال عىل األرض وثم من بعيد‪ ،‬لتقديم التوجيه التقني املستمر والتشجيع عىل‬
‫ب ع سنوات‪ً ،‬‬

‫طول الطريق‪ .‬ميكن أي ً ا توفري التوجيه عرب الحوارات النفسية السياسية األصلية إذا‬

‫استمرت‪ ،‬وعرب الشبكات املتنامية لألفراد واملنظامت التي جرى ربطها من خالل‬
‫‪207‬‬
‫الحوارات‪.‬‬

‫بعد الحوارات السياسية النفسية ‪ 1996-1994‬يف إستونيا‪ ،‬طور مركز ‪)CMHI‬‬

‫يس إم إتش آي مشاريع محلية عىل مدى السنوات الثالث التالية مدعوم ًة مبنحة كبرية من‬

‫صندوق بيو الخريي‪ .‬اختِريت ثالثة مواقع إلحداث منظامت غري حكومية ومشاريع تعزز‬

‫بناء املجتمع الدميقراطي بني اإلثنيات‪ :‬موستامي‪ ،‬إحدى ضواحي تالني؛ وموستفي‪ ،‬بلدة‬

‫قريبة من بحرية بيبوس الواقعة عىل الحدود بني إستونيا وروسيا؛ وكلوغا‪ ،‬قرية صغرية‬

‫ميال عن تالني‪ .‬تساوت تقريبًا نسب السكان اإلستونيني والروس يف كل موقع‪،‬‬


‫تبعد ‪ً 25‬‬

‫لكنهم كانوا أي ً ا مختلفني متا ًما عن بع هم وجسدوا تنويف الق ايا املتعلقة بالعالقات بني‬

‫اإلستونيني والروس واملتحدثني باللغة الروسية الذين يعيشون يف إستونيا‪.‬‬


‫‪266‬‬
‫اخرتنا عرشة استونيني وعرشة روس أو ناطقني بالروسية) مبساعدة مجموعة‬

‫االتصال يف كل موقع‪ .‬كانت طريقتنا يف بدء العملية بسيطة‪ :‬التقينا بالعرشين مشاركًا يف‬

‫كل منطقة وأخربناهم أننا نريدهم أن يجتمعوا مر ًة واحد ًة عىل األقل شهريًا ملدة عام أو نحو‬

‫ذلك‪ ،‬والتوصل إىل مرشويف أو مشاريع) يقبله جميع املقيمني يف مجتمعهم‪ ،‬عىل أن‬

‫يساعدهم عىل املباحثة جن ًبا إىل جنب مع مساعديه اإلستونيني والروس) رئيس مجموعة‬

‫االتصال‪ ،‬يف هذه الحالة‪ ،‬عامل النفس اإلستوين إندل تالفيك‪ ،‬املخضم يف سلسلة الحوار‬

‫السيايس النفيس األص ورئيس الجمعية اإلستونية للتحليل النفيس الناشئة حينها‪ .‬إىل‬

‫جانب زيارة أع اء هيئة التدريس يف ‪ CMHI‬أي ً ا كل أربعة أشهر أو نحو ذلك وتقديم‬

‫االستشارات‪ .‬عندما قرروا املرشويف‪ ،‬منحت ‪ CMHI‬املجموعة املحلية التي ستتطور لتصبح‬

‫منظمة غري حكومية) ‪ 50,000‬دوالر مقدم ًة من صندوق بيو الخريي لتنفيذ مرشوعهم‪.‬‬

‫سأصف اخن بإيجاز ما فعلناه يف موستامي وموستفي‪ ،‬ثم سأقدم وصفًا أكرث‬

‫تفصيال لعملنا يف كلوغا‪ 208.‬متلك موستامي‪ ،‬إحدى ضواحي تالني‪ ،‬نسب ًة عالي ًة من األطفال‬
‫ً‬

‫الصغار ومدارس عديدة‪ .‬كانت املدارس اإلستونية والروسية يف إستونيا منفصلةً‪ ،‬إذ تدرس‬

‫كل منها بلغتها الخاصة‪ .‬تألفت مجموعة موستامي من مدرسني وآباء إستونيني وروسيني‬

‫سعوا إىل تطوير برامج لتعزيز التعايش بني طالب رياض األطفال اإلستونيني والروس ‪-3‬‬

‫‪ 6‬أعوام)‪ .‬عىل مدار عام ونصف‪ ،‬أجرت مجموعة االتصال جلسة واحدة شهريًا مع املعلمني‬

‫‪267‬‬
‫بنا ًء عىل مبادئ الحوارات النفسية السياسية املوضحة سابقًا‪ .‬ان م فريق ‪ CMHI‬إىل هذه‬

‫االجتامعات ثالث مرات يف السنة للمراقبة واإلرشاف‪.‬‬

‫بعد مباحثات مطولة‪ ،‬اتفق املشاركون يف موستامي عىل برنامج‪ .‬ألفوا كت ًبا مدرسي ًة‬

‫مبني ًة عىل معرفة بعلم النفس لتعليم األطفال الروس اللغة والثقافة اإلستونيتني ونرشوها‪،‬‬

‫ووظفوا سبعة معلمني لتدريس اللغة اإلستونية يف فصول طالب رياض األطفال الروس‪.‬‬
‫‪209‬‬

‫أتاح برنامجهم لألطفال الروس املشاركني يف فصول اللغة فرصة اللعب مع األطفال‬

‫اإلستونيني مبجرد اكتسابهم بعض املهارات اللغوية‪ .‬أُقيمت أي ً ا رحالت ميدانية إىل‬

‫املتاحف ومرسح الدمى اإلستوين‪ ،‬وزيارات إىل مدارس بع هم‪ ،‬ومخيم صيفي لألطفال‬

‫الروس واإلستونيني‪.‬‬

‫ريا لإلعجاب‪ ،‬بدت التدخالت النفسية‬


‫يف حني أن تقدم مجموعة موستامي بدا مث ً‬
‫واضحةً‪ .‬آمن العديد من اإلستونيني‪ ،‬حتى أكرثهم ثقافةً‪ ،‬أن دمج رياض األطفال الروسية‬

‫واإلستونية سيفيض إىل تعلم األطفال اإلستونيني اللغة الروسية بدالً من تعلم األطفال‬

‫الروس اإلستونية – وهو تعبري رمزي عن الخيال «املتاليش» الذي وصفته سابقًا‪ .‬كان‬

‫البالغون عىل يقني من هيمنة الروس حتى لو ُوضع أربعة أطفال روس فقط يف فصل مع‬

‫ستة عرش طفالً إستونيًا‪ .‬عزى فريق ‪ CMHI‬أن هذا االعتقاد‪ ،‬الذي ظهر ألول مرة خالل‬

‫الحوارات النفسية السياسية األصلية‪ ،‬إىل تقمص اإلستونيني دور ال حية وإسقاط عدوانهم‬

‫عىل الروس‪ .‬رغم هذه املخاوف والشكوك‪ ،‬مل يُظهر األطفال الروس يف موستامي أي نزعات‬
‫‪268‬‬
‫عدوانية عند تنفيذ برنامج اللغة اإلستونية‪ ،‬وكانوا ف وليني ومرحني ومتحمسني لتعلمها‪.‬‬

‫تحققت فكرة «املشاهدة خري دليل» يف موستامي‪ .‬أظهر هذا الربنامج أن أربعة أطفال روس‬

‫لن يهيمنوا عىل ستة عرش طفالً إستون ًيا‪ .‬بعد العام األول‪ ،‬زادت شعبية برنامج اللغة زياد ًة‬

‫كبرية بني أولياء األمور واملعلمني واملدارس حتى فاق الطلب عدد الشواغر املتاحة للطالب‪.‬‬

‫بعد أن غادر ‪ CMHI‬إستونيا‪ ،‬دعمت الحكومة اإلستونية العمل يف موستامي ووافقت عليه‬

‫كنموذج تعليمي‪.‬‬

‫تقع مدينة موستفي الريفية خمس ساعات بالسيارة جنوب رشق تالني بالقرب من‬

‫بحرية بيبوس‪ ،‬وتُعد موط ًنا ألشخاص من تراث إستوين ورويس‪ ،‬مبا يف ذلك الطائفة‬

‫املعروفة باسم املؤمنني القدامى الذين فروا من االضطهاد الديني يف روسيا يف القرنني‬

‫قليال بني السكان‪ ،‬وعاش‬


‫السابع عرش والثامن عرش‪ .‬لذلك كان عدد «الوافدين الجدد» ً‬

‫معظمهم عىل امتداد قرون دون رصايف‪ ،‬رغم وجود اختالفات إثنية ودينية بينهم‪ .‬هدف‬

‫‪ CMHI‬هنا إىل مساعدة القرويني عىل البقاء ضمن رشوط سلمية يف أثناء سعيهم لتطوير‬

‫صناعة جديدة تنعش اقتصادهم‪ ،‬الذي انهار مع االتحاد السوفيتي‪ .‬اختارت مجموعة‬

‫موستفي الرتويج للسياحة البيئية يف بلدتهم ومنطقتهم‪.‬‬

‫بدا التطبع النفيس بالنظام السوفيتي‪ 210‬واض ًحا يف مواقع املرشويف الثالثة‪ ،‬لكنه‬

‫تجىل بصورة أوضح يف موستفي‪ .‬عندما بدأ اإلستونيون العرشة والعرشة الروس مبن‬

‫فيهم املؤمنون القدامى) باالجتاميف ملناقشة تطوير مرشويف مجتمعي‪ ،‬مال املشاركون إىل‬
‫‪269‬‬
‫بدال من االنخراط يف حوار حقيقي مع بع هم‪ .‬بينام وقف أحد املشاركني‬
‫إلقاء الخطب ً‬

‫ليخطب‪ ،‬تحدث املشاركون اخخرون فيام بينهم ومل يظهروا أي اهتامم بكالم املتحدث‪ .‬يبدو‬

‫أنهم مل يبذلوا أي جهد حقيقي للمشاركة يف التجمع الدميقراطي‪ ،‬مع توقعهم أن يتخذ‬

‫شخص ما يف السلطة قرارات نياب ًة عنهم‪ .‬كانوا بحاجة إىل تعلم كيفية اتخاذ قرارات‬

‫مستقلة‪ ،‬كأفراد أو كمجتمع‪.‬‬

‫ات ح جهلهم بعملية صنع القرار املستقل جل ًيا يف موستفي حتى قبل بدء الربنامج‬

‫املجتمعي بعقد اجتامعاته‪ .‬يف الفرتة التي تقىص فيها ميرسو ‪ CMHI‬املنطقة كمرشح‬

‫محتمل للحوارات املجتمعية‪ ،‬تحدث إلينا عمدة موستفي الجديد يف إستونيا حول قراره‬

‫املرتقب بشأن رشاء أنابيب الرصف الصحي الجديدة‪ .‬سابقًا‪ ،‬أُسندت هذه املهمة إىل مهندس‬

‫سوفيتي يقوم مبسح املدينة‪ ،‬ويسرتشد بدليل اإلجراءات الخاص به‪ ،‬ثم يوفر األنبوب وفق‬

‫إرشادات صارمة‪ .‬اليوم‪ ،‬تقع مسؤولية إنجاز املهمة عىل عاتق رئيس البلدية‪ ،‬ومن الواضح‬

‫ريا‪.‬‬
‫أنها سببت له قلقًا كب ً‬

‫تبني أن تعلم كيفية اتخاذ القرارات كفريق وكيفية تحديد أولويات احتياجات املدينة‬

‫املتعددة بهدف كتابة اقرتاح للتمويل من ‪ CMHI‬قد شكّل تحديًا ملجموعة موستفي‪ .‬ومع‬

‫ذلك‪ ،‬أسسوا يف نهاية املطاف منظمة غري حكومية محلية وقدموا مقرتحات مشاريع‪ .‬نظمت‬

‫املجموعة املجتمعية مرك ًزا لتقديم املعلومات للسائحني بعدة لغات وأثثته‪ .‬طبعوا أي ً ا مواد‬

‫إعالنية‪ ،‬ووضعوا الفتات ملساعدة السياح الذين كانوا حينها فنلنديني يأتون إىل بحرية‬
‫‪270‬‬
‫بيبوس لصيد األسامك‪ ،‬وحضوا اجتامعات مهنية وعروضً ا تجارية حول السياحة‪ .‬اشرتوا‬

‫أي ً ا معدات ملركزهم الريايض‪ ،‬مبا فيها لوحة نتائج كهربائية من شأنها أن تسمح لهم‬

‫باست افة بطوالت يف الكرة الطائرة والرياضات األخرى‪ .‬يف النهاية‪ ،‬تعلموا كيفية تطوير‬

‫السياحة البيئية‪.‬‬

‫أعتقد أن الحوار الذي أجريته أنا وزماليئ مع إندل تالفيك وجامعته يف موستفي‬

‫ليس الدافع الوحيد الذي شجع سكان هذه البالد عىل االبتعاد عن طرقهم السوفييتية يف‬

‫تدبري األمور‪ ،‬وأن يصبحوا نشيطني‪ ،‬وأن يتكيفوا مع أسلوب حياة جديد‪ .‬لقد توصلت إىل‬

‫االعتقاد بأن الناس يف أماكن مثل موستفي أو يف مخيامت اللجوء‪ ،‬مثل تلك املوجودة يف‬

‫جمهورية جورجيا) يحتاجون إىل تحرير نفسيتهم‪ .‬لقد تعرضوا لصدمة وأعتقد أنهم‬

‫مكتئبون‪ .‬يعني تحرير النفس تعلم الفرد‪ ،‬عرب التفاعل مع شخص يهتم باخخر‪ ،‬حب نفسه‬

‫واملشاركة يف أشياء جديدة بنشاط واستمتايف‪ .‬أرى هذا النويف من العمليات‪ ،‬عند تحليل‬

‫جا «محبًا‬
‫أشخاص عانوا االكتئاب سابقًا عىل سبيل املثال‪ .‬يصبح القائم بالرعاية منوذ ً‬

‫للحياة»‪ ،‬دون أن يقوض «استقاللية» أولئك الذين يحاولون الخروج من اكتئابهم‪ .‬وعليه‪،‬‬

‫فإن عملية بنائنا املؤسسات ال تشري فقط إىل التخطيط الفكري‪ ،‬بل أي ً ا إىل «إضفاء الطابع‬

‫اإلنساين» عىل التفاعالت‪ ،‬إذ يكتسب أولئك الذين سيبنون املؤسسات احرتا ًما أكرب للذات‪.‬‬

‫كان توجهنا قامئًا عىل فهم الطبيب املجتمع فه ًام تحليل ًيا نفس ًيا‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬قررنا إقامة‬

‫أشخاصا من سلسلة حواراتنا النفسية السياسية‬


‫ً‬ ‫حفل الرابع من يوليو يف موستفي ودعونا‬
‫‪271‬‬
‫إىل هناك‪ .‬مل يسبق لبعض الحارضين املؤثرين من تالني الذهاب أب ًدا إىل مثل هذا املكان‬

‫«البعيد»‪ .‬شعر سكان البلدة أن تالني كانت تالحظهم اخن‪.‬‬

‫يف مرحلة ما‪ ،‬أصبح أع اء فريق ‪« CMHI‬خنازير غينيا»؛ أول زبائن موقع السياحة‬

‫البيئية املتطور هذا‪ .‬نظ ًرا لعدم وجود فندق يف موستفي‪ ،‬فتح مرشحو السياحة البيئية من‬

‫سكان املدينة أبواب منازلهم –مقابل رسوم رمزية– لتوفري مسكن لنا‪ .‬أتذكر اخن مع يشء‬

‫جمعنا أنا وستيف ديل روسو‪ ،‬مدير الربنامج يف صندوق بيو‬


‫من املتعة والحنني كيف ُ‬

‫الخريي‪ ،‬يف أحد املنازل‪ ،‬حيث أخذنا أع اء مجموعة االتصال الخاصة بنا نحو منتصف‬

‫رستنا أنا وديل روسو‬


‫الليل‪ .‬رحبت بنا سيدة إستونية مل تعرف كلمة إنجليزية واحدة‪ .‬كانت أ ّ‬
‫يف غرفة معيشتها حيث علقت مالءة رسير كستارة من السقف لفصل رسيرها عن أرستنا‪.‬‬

‫بدأت عىل الفور بالشخري‪ .‬للوصول إىل الحامم‪ ،‬وهو ثقب يف األرضية‪ ،‬تعني علينا إزالة‬

‫الستارة والقفز فوق رسير م يفتنا‪ ،‬أمر مل يرغب أي منا بالقيام به‪ .‬أتساءل دامئًا عند‬

‫التفكري يف تلك الليلة إن تحسن مبيت السياح الجدد هذا عىل اإلطالق‪.‬‬

‫عىل أي حال‪ ،‬تظل زياريت األوىل إىل موستفي يف الشتاء أعز ذكريايت عنها‪ .‬سافرنا‬

‫هناك‪ ،‬عىل الجليد‪ ،‬برسعة سبعني ميالً يف الساعة يف حافلة يقودها سائق دبابة سابق يف‬

‫الجيش السوفيتي‪ .‬فور وصولنا إىل موستفي‪ ،‬وضعنا سكان املدينة يف مبنى ذي «تدفئة‬

‫جيدة»‪ .‬كانت الغرف نظيفة وممرات القاعة م اء ًة مبصابيح حمراء‪ .‬يف اليوم التايل علمنا‬

‫أننا بتنا يف بيت دعارة يف املدينة‪ ،‬إذ إن السيدات الاليت عملن هناك أخذن إجازة الليل حتى‬
‫‪272‬‬
‫يتمكن سكان البلدة من توفري سكن دافئ لنا‪ .‬أحبنا سكان املدينة وأحببناهم‪ .‬هذا ما أسميه‬

‫تحرير مجتمع مكتئب ومرتاجع‪.‬‬

‫يف مايو ‪ ،1998‬أحض فريق ‪ CMHI‬ممثلني من املحليات الثالثة‪ ،‬موستامي‬

‫وموستفي وكلوغا‪ ،‬إىل تالني حيث عرضوا برامجهم وتقدمهم يف اجتاميف ضم مشاركني من‬

‫الحوارات السياسة النفسية‪ ،‬واملسؤولني الحكوميني ووسائل اإلعالم‪ .‬أظهرت العروض‬

‫التقدميية ما ميكن تحقيقه يف إستونيا عرب العمل الجاد الذي يؤديه أع اء املجتمع‬

‫اإلستوين والرويس بدعم من امليرسين املحليني و‪ .CMHI‬ووصفت العروض مناذج للتعايش‬

‫وبناء املجتمع ميكن تطبيقها يف أجزاء أخرى من إستونيا وكذلك يف أجزاء أخرى من العامل‪.‬‬

‫يف مايو ‪ ،1999‬عقد ‪ CMHI‬مؤمت ًرا نهائ ًيا يف شارلوتسفيل‪ ،‬فريجينيا‪ ،‬ليمثل تتوي ًجا ملبادرة‬

‫السنوات الخمس الكاملة يف إستونيا‪ .‬حض املؤمتر ستون مشاركًا‪ ،‬من بينهم متخصصون‬

‫يف حل النزاعات وعلامء اجتاميف ومحللون نفسيون وصحفيون ودبلوماسيون ومؤرخون‪.‬‬

‫كام حض خمسة من رشكائنا ومؤيدينا اإلستونيني‪ ،‬مبن فيهم الربملاين اإلستوين الرويس‬

‫سريجي إيفانوف؛ كبري مستشاري السياسة لرئيس الوزراء اإلستوين املنتهية واليته بول‬

‫ليتينز؛ ونائب رئيس جامعة اليورو وأستاذ معهد الدراسات الدولية واالجتامعية‪ ،‬بيرت‬

‫فاريس؛ واملنسق املح يف موستامي يل كريك؛ وقائد مجموعة االتصال إندل تالفيك‪.‬‬

‫توجد صعوبات متأصلة يف التقييم العلمي لفعالية النموذج الشجري‪ ،‬متا ًما كام هو‬

‫الحال يف تقييم تقدم التحليل النفيس الفردي‪ .‬فالحوارات النفسية السياسية يف إستونيا‬
‫‪273‬‬
‫مثال قد تأثرت مبتغريات عديدة وأثرت فيها عىل مستويات عديدة‪ .‬أولها سلوكيات املشاركني‬
‫ً‬

‫الخاصة ومشاعرهم‪ ،‬وشخصياتهم‪ ،‬ومكانتهم ومستوى تأثريهم يف الحكومة أو املجتمع‪،‬‬

‫واستثامرهم الشخيص يف الحوار بني اإلثنيات‪ .‬أثرت أي ً ا األحداث السياسية الخارجية التي‬

‫وقعت خالل فرتة الحوار داخل الطرفني املعنيني أو بينهام عىل االجتامعات‪ .‬حددت مدة‬

‫سلسلة الحوار ومقدار التمويل املتاح لدعمها‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬نطاق ما تم إنجازه‪ .‬لعل بعض‬

‫قياسا أي ً ا‪ ،‬هي التصورات الالواعية املشرتكة واملقاومة التي‬


‫أهم العنارص‪ ،‬ولكنها األصعب ً‬

‫يتبناها املشاركون وتغريها املحتمل يف سياق الحوارات‪ .‬هل غري املشاركون اإلستونيون‬

‫والروس والناطقون بالروسية أي من التصورات غري املعلنة التي يشاركونها مع أع اء‬

‫آخرين من مجموعتهم اإلثنية؟‬

‫ال ميكن اختزال العديد من التغيريات الناجمة عن عملية الحوار إىل مصطلحات‬

‫إحصائية؛ قد يكون البحث التجريبي الذي يركز عىل جانب من جوانب الحكومة أو املجتمع‬

‫لال يف الواقع‪ ،‬ألنه عاجز كليًا عن رواية القصة كاملةً‪ ،‬وقد ال يقدم أي بيانات حول ما‬
‫م ً‬

‫هو مهم حقًا‪ .‬تتمثل تجربة ‪ CMHI‬يف أن أف ل طريقة ورمبا الطريقة الوحيدة بالفعل)‬

‫لتقييم هذا النويف من العمل تنطوي عىل التسجيل املفصل وإعداد التقارير‪ ،‬وعند اإلمكان‪،‬‬

‫تصوير العملية نفسها بالفيديو‪ .‬رغم أن مثل هذه األدلة «القصصية» يُرفض باعتباره تاف ًها‬

‫أو غري علمي‪ ،‬لكنها تبقى الطريقة الوحيدة إلظهار ما يحدث يف النفس البرشية يف األفراد‬

‫وكذلك يف املجموعات الكبرية)‪ ،‬والطريقة الوحيدة لدمج جميع املتغريات واملستويات املعقدة‬
‫‪274‬‬
‫املعنية دون تشويهها‪ .‬إن توثيق العملية توثيقًا منهج ًيا ودقي ًقا‪ ،‬ميكنه أن يعطي أدل ًة عىل ما‬

‫طرأ «داخل» املشاركني‪ ،‬وأن يشري إىل قدرتهم عىل الترصف بنا ًء عىل ما تعلموه يف تفاعلهم‬

‫املستمر مع أع اء املجموعة املعارضة‪ .‬وهذا‪ ،‬بعد كل يشء‪ ،‬هو الهدف‪ :‬تعزيز التعايش‬
‫‪211‬‬
‫السلمي يف بيئة دميقراطية ومنع أنوايف التفاعالت التي تؤدي إىل العنف والرصايف‪.‬‬

‫إن أوضح األدلة عىل نجاح النموذج الشجري يف إستونيا يتمثل يف درجة استمرار‬

‫املشاريع املجتمعية واملؤسسات التي تأسست خالل العملية مبفردها بعد انتهاء مشاركة‬

‫رشا من الحكومة اإلستونية وسعى آخرون للحصول عىل‬


‫دعام مبا ً‬
‫‪ .CMHI‬تلقى البعض ً‬

‫متويل من مصادر أخرى‪ .‬يعرض التعليق الختامي‪ 212‬بعض األمثلة عىل النتائج امللموسة‬

‫لتطبيق النموذج الشجري يف إستونيا وإشارات إىل استدامته ومالءمته إلعادته تكراره‪ .‬ال‬

‫تت من هذه القامئة إشارات إىل عملنا يف كلوغا‪ ،‬الذي سألخصه هنا‪.‬‬

‫كيف ميكنني أن أصف كلوغا كام كانت موجودة يف أوائل عام ‪ ،1996‬حيث كانت‬

‫أول مرة أُخذنا فيها أنا وزماليئ يف ‪ CMHI‬إىل هناك؟ فكر يف مكب نفايات طوله ثالثة‬

‫أميال وعرضه ميل واحد‪ ،‬يف حالة خراب تقري ًبا‪ .‬تقع كلوغا عىل بعد سبعة أميال فقط من‬

‫بالديسيك‪ ،‬موقع املحطة النووية السوفيتية السابقة‪ .‬متركزت البحرية النووية السوفيتية‬

‫خالل الحقبة السوفيتية يف بالديسيك‪ ،‬وضمت كلوغا منشأة عسكرية سوفيتية‪ .‬كانت‬

‫معظم مناطق كلوغا –مثل بالديسيك– محظورة عىل اإلستونيني‪ ،‬ولكن بعد انسحاب‬

‫الجيش السوفيتي من إستونيا‪ ،‬أصبحت الثكنات واملنازل والشقق ونادي ال باط‬


‫‪275‬‬
‫واملستشفى واملكتبات ومالعب األطفال متاح ًة لإلستونيني الذين أرادوا إيجاد مساكن غري‬

‫مكلفة واالستقرار يف هذه املنطقة‪ .‬كان معظم اإلستونيني الواصلني حديثًا قادمني من‬

‫العاصمة القريبة‪ ،‬تالني‪ ،‬يف ظل معاناتهم اقتصاديًا‪ .‬مل تت من املجمعات السكنية القدمية‬

‫قليال من الشقق اخمنة‬


‫ذات الطراز السوفيتي‪ ،‬حيث ميكن أن تعيش مئات العائالت‪ ،‬إال عد ًدا ً‬

‫بدرجة معقولة إليواء القادمني الجدد‪ .‬إىل جانب غياب البنية التحتية وأنظمة التدفئة‬

‫املوثوقة‪ ،‬مل تتوفر خدمات جمع القاممة أو إنفاذ للقانون‪ .‬سمعت أن رشطيني قد يتمركزان‬

‫يف بالديسيك املجاورة‪.‬‬

‫أتذكر أنني أُخذت إىل كلوغا ألول مرة يف سيارة إندل ذات يوم بارد‪ .‬توقفنا بجانب‬

‫جميال خالل الحقبة السوفيتية‪ .‬كان هناك مقهى صغري‬


‫ً‬ ‫شالل صغري رمبا كان مكانًا‬

‫بالجوار مغلق األبواب‪ .‬تخيلت يف رأيس ال باط السوفييت وعائالتهم يستجمون خارج‬

‫املقهى‪ ،‬ويستمعون إىل ضجيج املاء‪ .‬اخن‪ ،‬ونحن ننظر حولنا برسعة‪ ،‬حرصنا عىل تجنب‬

‫ترك السيارة دون مراقبة لفرتة طويلة منذ أن أخربين إندل أنها قد تتعرض للتخريب‪ .‬سافرنا‬

‫بعدها إىل وسط كلوغا والتقينا ببعض األشخاص الذين كانوا ينتظروننا‪ .‬تألف السكان يف‬

‫كلوغا –نحو ‪ 2000‬فرد يف ذلك الوقت– من نصف إستوين وصل حديثًا ونصف رويس‬

‫مبا يف ذلك عدد قليل من املتحدثني بالروسية‪ ،‬مثل األرمن)‪ .‬كان معظم الروس يف كلوغا‬

‫من غري املواطنني‪ ،‬ومعظمهم نساء تُركوا مع أطفالهن عقب إغالق القاعدة‪ .‬كان مصري العديد‬

‫مجهوال‪ .‬وهكذا‪ ،‬عندما وصل ممثلو ‪ ،CMHI‬كانت كلوغا مبعنى ما «مكبًا» مليئًا‬
‫ً‬ ‫من األزواج‬
‫‪276‬‬
‫باألشخاص الذين يبحثون عن حياة أف ل‪ :‬اإلستونيون ذوو املوارد املحدودة والزوجات‬

‫واألطفال املهملون من العسكريني السوفييت‪ .‬وقد تفاقمت الطبيعة امل طهدة للسكان‬

‫بسبب الخراب املادي يف كلوغا‪.‬‬

‫اعتقدت يف البداية أن الجيش السوفيتي السابق قد دمر املكان عندما انسحب من‬

‫ريا عن إذاللهم وغ بهم من طردهم من مكان اعتربوه لهم‪ .‬لكن تصوري كان‬
‫كلوغا تعب ً‬
‫خاطئًا‪ .‬علمت الحقًا أن الجيش السوفيتي السابق ترك ثكناته وشققه ومنازل ضباطه‬

‫بطريقة منظمة‪ .‬أخربين أحدهم أن العسكريني تركوا وراءهم أزها ًرا يف املزهريات يف منطقة‬

‫تناول الطعام باملستشفى‪ .‬وقف الوافدون الجدد غال ًبا خلف تخريب هذا املكان؛ مثلت حالة‬

‫ريا عن غ ب اإلستونيني‪ .‬بالطبع‪ ،‬بحث اإلستونيون الفقراء عن أي يشء‬


‫كلوغا املتداعية تعب ً‬
‫ميكنهم استخدامه‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬مل ينطبق هذا عىل الكتب الروسية‪ ،‬رغم أنهم جمي ًعا‬

‫يعرفون اللغة الروسية‪ .‬وهكذا‪ ،‬امتأل الجزء الداخ من املكتبة السوفيتية السابقة يف كلوغا‬

‫مبئات ومئات من الكتب املرتاكمة عىل األرض‪ ،‬بعد أن أُخذت رفوفها بعي ًدا‪.‬‬

‫رسعان ما تعلمت حقائق جديدة‪ .‬نظ ًرا إىل عدم وجود أنظمة تدفئة موثوقة‪ ،‬واجه‬

‫الروس الذين بقوا يف كلوغا واإلستونيون «الوافدون الجدد» أوقاتًا عصيبة يف أشهر الشتاء‪.‬‬

‫كانت األمهات خائفات من تجمد أطفالهن حتى املوت‪ ،‬لذلك سعى الناس وراء أي يشء ميكن‬

‫حرقه لتدفئة شققهم ومنازلهم‪ .‬وهكذا‪ ،‬استُعملت أبواب الشقق واملنازل الفارغة ونوافذها‬

‫ورفوف الكتب من املكتبة وما إىل ذلك‪ .‬انترش التخريب والجرمية ليصبحا من حقائق الحياة‬
‫‪277‬‬
‫املعممة حتى يف فرتات الطقس الحار‪ .‬غاب الشعور الحقيقي باملجتمع يف كلوغا التي حوت‬

‫مجتم ًعا مرتاج ًعا‪ .‬ومع جهل الروس واإلستونيني ببع هم‪ ،‬وانقالب الوضع السيايس يف‬

‫رأسا عىل عقب قبل سنوات قليلة فقط‪ ،‬كان االنقسام اإلثني شدي ًدا‪.‬‬
‫إستونيا ً‬

‫سعى ‪ CMHI‬يف كلوغا إىل تطوير درجة معينة من التامسك املجتمعي دون التسبب‬

‫مبزيد من الرصاعات اإلثنية‪ .‬مل ميلك الروس وبعض املتحدثني بالروسية) الذين تُركوا يف‬

‫إستونيا‪ ،‬سواء كانوا مواطنني أو غري مواطنني يف الدولة الجديدة‪ ،‬أي مكان يذهبون إليه‪.‬‬

‫وروسيا الجديدة‪ ،‬التي عانت مشاكلها االقتصادية والسياسية الخاصة‪ ،‬لن تجلب الروس‬

‫الذين يعيشون يف إستونيا إىل روسيا‪ .‬وعليه‪ ،‬كان من الضوري انبثاق شكل من أشكال‬

‫التعاي ش داخل حدود إستونيا بني اإلستونيني والروس واملتحدثني بالروسية)‪ .‬اعتقدنا أن‬

‫متكننا من املساعدة عىل تطوير التعايش السلمي بني املجموعات اإلثنية يف كلوغا‪ ،‬يعني‬

‫قدرتنا عىل تقديم منوذج للتعايش السلمي يف جميع أنحاء البالد‪.‬‬

‫شعرت أن اختيارنا كلوغا مكانًا للعمل كان أشبه بتنفيذ مهمة مستحيلة‪ .‬ألقول‬

‫الحقيقة‪ ،‬مل أملك أدىن فكرة عن كيفية إجراء هذه التجربة‪ ،‬باستثناء البدء بها؛ لجأنا إىل‬

‫مجموعة االتصال الخاصة بنا وقائدها إندل‪ ،‬للعثور عىل عرشة إستونيني وعرشة روس‪،‬‬

‫وتشكيل مجموعة حوار‪ ،‬وااللتقاء بهم مرة واحدة يف الشهر‪ .‬قيل لهم إنهم إن توصلوا‪ ،‬بعد‬

‫نحو عام من املناقشات فيام بينهم‪ ،‬إىل مرشويف من شأنه أن يفيد املجتمع‪ ،‬فإننا ‪)CMHI‬‬

‫سنمنحهم ‪ 50,000‬دوالر؛ مبلغ كبري من املال حينها يف إستونيا يف مكان مثل كلوغا‪ .‬أما‬
‫‪278‬‬
‫اخن فال أعتقد اخن أنه كاف لرشاء صاروخ جيد‪ .‬يف سبيل هوية املجموعة الكبرية‪ ،‬ننفق‬

‫األموال لقتل الناس أو تشويههم‪ ،‬أكرث من إنفاقها لتوفري مكان ميكنهم العمل واللعب‬

‫وال حك فيه‪.‬‬

‫كان إندل‪ ،‬يف إدارته للنقاش مع العرشين فر ًدا‪« ،‬ينسخ» ما فعلناه مع مجموعات‬

‫الحوار النفيس السيايس األصلية‪ ،‬كام وصفت يف الفصل السابق‪ .‬عاش إندل وعائلته‬

‫الجميلة بالقرب من كلوغا‪ ،‬يف مجمع سكني بني كلوغا وتالني‪ .‬ذات مرة مررت مبنزلهم‬

‫بالسيارة والتقيت بأطفال إندل يلعبون يف حقل أمام املجمع السكني‪ .‬خالل خمس سنوات‬

‫من العمل املكثف هناك‪ ،‬ال أستطيع تذكر أكرث من مناسبة واحدة ُدعي فيها أع اء ‪CMHI‬‬

‫إىل منزل مواطن إستوين أو رويس يعيش يف إستونيا‪ .‬مبرور الوقت‪ ،‬شعرت أن هذا كان‬

‫بسبب مساحات املعيشة ال يقة وافتقارهم إىل املوارد املالية ليكونوا م يفني جيدين‪ .‬ق ّدم‬

‫عيش إندل بالقرب من كلوغا مكافأ ًة رائع ًة ألنه استطايف الذهاب إليها متى دعت الحاجة‪ .‬مثل‬

‫معظم اإلستونيني‪ ،‬فإن إندل صامت إىل حد ما وال يعرب عن مشاعره‪ .‬لكنه تبني أنه أف ل‬

‫«محلل نفيس» ميكن أن نجده ملشكالت كلوغا حيث بدأ بإجراء الحوارات‪.‬‬

‫الحقًا‪ ،‬عندما اقرتب مرشوعنا يف كلوغا من نهايته‪ ،‬أجريت مقابلة مع إندل حول‬

‫شخصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تجاربه الخاصة‪ .‬أخربين كم كان من الصعب عليه بدء حوار هادف بني العرشين‬

‫أمكنهم الحديث عن أي يشء آخر؛ يف البداية‪ ،‬طالبوا باستخدام الخمسني ألف دوالر‬

‫فعال بحاجة إىل نظام تدفئة‪ ،‬لكن منحهم املال عىل‬


‫للحصول عىل نظام تدفئة جديد‪ .‬كانوا ً‬
‫‪279‬‬
‫الفور سيعارض هدف املرشويف‪ .‬أراد إندل و‪ CMHI‬من هؤالء األشخاص‪ ،‬مجموعة كلوغا‪،‬‬

‫«تعلم» كيفية التحدث مع بع هم وتطوير نواة دميقراطية للقرية‪ .‬مل يكن للقرية رئيس‬

‫بلدية وال زعيم رسمي‪ ،‬ومل تهتم السلطات يف املقاطعة التي تقع فيها كلوغا بهذا املكان‬

‫البائس‪ .‬أخربين إندل عن يأس الناس وكيف ستنتقل مشاعرهم إليه‪ .‬يتذكر قائالً‪« :‬كنت‬

‫بحاجة إىل مرشوب قوي بعد كل اجتاميف هناك»‪ .‬إن التزام إندل ومساعديه تجاه هذا املرشويف‬

‫شخصا‪ ،‬الذين عملوا مع اإلستونيني والروس اخخرين يف املجتمع‪،‬‬


‫ً‬ ‫غري العرشين‬
‫هو ما ّ‬
‫وتطوروا يف النهاية إىل منظمة غري حكومية واختاروا قائدهم‪ ،‬مع إندل بصفة مستشار‬

‫لهم‪.‬‬

‫عند ظهور رصاعات بني أفراد معينني يف مجموعة كلوغا‪ ،‬قام بزيارتهم بشكل‬

‫منفصل‪ ،‬واستمع إليهم‪ ،‬و «فرس» املقاومة‪ ،‬إىل جانب محاولته تجنب التدخالت السلبية يف‬

‫العملية التي بدأتها املجموعة‪ .‬خالل زيارة أع اء ‪ CMHI‬من الواليات املتحدة املكان كل‬

‫أساسا وضع املراقبني‪ ،‬إذ «أرشفنا» فقط عىل إندل‪ ،‬رغم أنه يف‬
‫ً‬ ‫ثالثة أو أربعة أشهر‪ ،‬أخذنا‬

‫الواقع مل يكن بحاجة إىل إرشاف‪ .‬لقد تعلمت الكثري من هذا الرجل الذي يصغرين بكثري‪.‬‬

‫يف نهاية املطاف‪ ،‬ومن خالل جهود مجموعة كلوغا ومن ثم املنظمة غري الحكومية‪ ،‬بُني‬

‫مجتمع متامسك يف كلوغا‪ ،‬وتعلم اإلستونيون والروس التعايش السلمي‪.‬‬

‫عندما بدأنا العمل يف كلوغا‪ ،‬مل تكن آمالنا يف النجاح كبري ًة ج ًدا – إذ بدت تحديات‬

‫الحياة اليومية هناك أعقد مام ميكننا حله‪ .‬لكن ما حدث فيها فاجأنا جمي ًعا وأثبت لنا بسعادة‬
‫‪280‬‬
‫ريا يف املستقبل وال مكانًا آخر يذهبون‬
‫أمال كب ً‬
‫أننا عىل خطأ‪ .‬نظ ًرا ألن سكان كلوغا مل ميلكوا ً‬

‫إليه‪ ،‬نظرت مجموعة كلوغا يف نهاية املطاف إىل فريقنا‪ ،‬إضاف ًة إىل وجود إندل‪ ،‬كمصدر‬

‫دعم حقيقي‪ .‬أصبحنا لهم مصد ًرا للتحرر‪ .‬أمكنهم استيعاب وظائف التسوية واالستفادة‬

‫منها ببطء لتطوير مجتمعهم‪ .‬يف البيئات الرسيرية‪ ،‬نرى عملية مامثلة عندما يستمد طفل‬

‫أو مريض بالغ مرتاجع وظائف األنا الخاصة من محلله ببطء ويستخدمها‪ .‬ان م الناس يف‬

‫كلوغا إىل املجموعة يف تنظيف قريتهم‪ .‬مل تكن هذه مهمة سهلة‪ ،‬لكن العمل الجاد‬

‫كمجموعة أصبح مصد ًرا آخر للتحرر‪.‬‬

‫عىل مدى السنوات الثالث التالية‪ ،‬اجتمع الروس واإلستونيون يف كلوغا وأسسوا‬

‫منظمة غري حكومية دميقراطية وواعية سياس ًيا‪ ،‬وانتخبوا أولغا كاميشان‪ ،‬امرأة روسية من‬

‫مجموعة كلوغا األصلية‪ ،‬كأول مديرة لها‪ .‬بف ل مبلغ الخمسني ألف دوالر أمرييك املقدم‬

‫من ‪ ،CMHI‬استأجروا املكتبة السوفيتية القدمية يف البلدة وجددوها وحولوها إىل مركز‬

‫مجتمعي‪ .‬بذل الرجال والنساء‪ ،‬اإلستونيون والروس‪ ،‬الكبار والصغار‪ ،‬طاقتهم لبناء‬

‫«منزل»‪ .‬من املؤكد أن هذه القرية احتاجت إىل مركز مجتمعي حيث يستطيع سكان القرية‬

‫التجمع يف املناسبات االجتامعية أو التعليمية‪ ،‬لكن الحنني إىل كلوغا يف العهد السوفيتي‬

‫لعب أي ً ا دو ًرا يف بناء هذا املركز‪ .‬مل يخف الروس يف املنظمة غري الحكومية حنينهم إىل‬

‫راحة كلوغا وجاملها كام كانت مع وجود جيش سوفيتي منظم فيها‪ .‬يتذكرون أي ً ا كم كان‬

‫نادي ال باط لطيفًا‪ .‬اعرتت مشاعر الحنني للنادي العسكري السوفيتي أي ً ا مايت براس‪،‬‬
‫‪281‬‬
‫وهو أول إستوين ينتقل إىل كلوغا من تالني)‪ .‬يف أيام السوفييت األخرية يف إستونيا‪ُ ،‬سمح‬

‫لإلستونيني بالقدوم إىل كلوغا‪ ،‬وتذكر مايت جامل القرية قبل خرابها‪ .‬كان املركز املجتمعي‪،‬‬

‫إىل حد ما‪ ،‬يجسد جاملها القديم ونظامها‪ .‬شي ًئا فيشء‪ ،‬أصبح املركز مكانًا يستطيع الجميع‬

‫القدوم إليه للتعلم مثل دروس الكمبيوتر واللغة اإلنجليزية واإلستونية) واللعب‪ .‬أصبح‬

‫لألطفال مكان آمن يذهبون إليه بعد املدرسة‪ .‬تجمع املراهقون هناك أي ً ا‪ ،‬وأقام املركز‬

‫احتفاالت األعياد للمجتمع بأكمله‪.‬‬

‫مل تكن عملية التوصل إىل اتفاق حول ما يجب الرتكيز عليه‪ ،‬وتعلم العمل م ًعا‪ ،‬وإيجاد‬

‫مبنى‪ ،‬وتجاوز العقبات البريوقراطية املطلوبة لتجديده وتحويله إىل مركز مجتمعي‪ ،‬سلس ًة‬

‫دامئًا‪ .‬إذ اعرتضت طريقنا أحيانًا رصاعات الهوية الشخصية أو اإلثنية وغريها من املشاعر‬

‫واألفكار «الخفية» واحتاجت إىل تسليط ال وء عليها‪ .‬كان املشاركون يف مجموعة كلوغا‬

‫يف البداية قلقني ج ًدا حيال الجرمية يف كلوغا‪ .‬إذا فتحوا مرك ًزا اجتامع ًيا وأثثوه ووضعوا‬

‫فيه أجهزة كمبيوتر‪ ،‬وعليه كانوا يخشون أن يرسقهم املجرمون‪ .‬لذلك اقرتحوا طلب الحامية‬

‫من بعض أع اء كايتسيليت‪.‬‬

‫مبا أنني مل أسمع عن كايتسيليت من قبل‪ ،‬جمعت برسعة معلومات عنها؛ كايتسيليت‬

‫هو االسم الذي يُطلق عىل نويف من امليليشيات اإلستونية‪ ،‬مثل الحرس الوطني‪ .‬مع انهيار‬

‫الحكومة السوفيتية‪ ،‬مل يتخل بعض اإلستونيني من الجيش السوفيتي عن أسلحتهم‪ .‬وبدالً‬

‫من ذلك‪ ،‬نظموا‪ ،‬مبباركة الحكومة اإلستونية‪ ،‬نو ًعا من التنظيم امليليشياوي‪ .‬بدا أن هدفهم‬
‫‪282‬‬
‫األص هو العمل كخط دفايف إذا حاولت روسيا غزو إستونيا‪ .‬يف تلك األيام‪ ،‬تجىل شعور‬

‫«االختفاء» املشرتك يف األنشطة االجتامعية ‪ /‬العسكرية‪ .‬وهكذا بات أع اء كايتسيليت يف‬

‫كل مكان‪ .‬لقد تدربوا عىل الرماية‪ ،‬وأمكن توظيفهم لتوفري الحامية من منظامت املافيا التي‬

‫ظهرت خالل الفرتة املتقلبة التي تلت عودة إستونيا إىل االستقالل‪.‬‬

‫أراد بعض املشاركني اإلستونيني يف مجموعة كلوغا اللجوء إىل كايتسيليت للحامية‬

‫من «العنارص اإلجرامية»‪ ،‬لكن األع اء الروس املحليني رأوا هذه الخطوة مبثابة تهديد‪ .‬إذ‬

‫أساسا معادي ًة لروسيا‪ .‬لكن املجتمع‪ ،‬مبن فيه الروس‪ ،‬احتاج إىل‬
‫ً‬ ‫إن كايتسيليت كانت‬

‫مساعدتها‪ .‬شعرت أن الروس يف كلوغا يجدون أنفسهم م طرين لالختيار بني شيطانني‬

‫–املافيا وكايتسليت– يف موقف ذي تداعيات عاطفية‪.‬‬

‫خالل زيارة يف يناير ‪ ،1997‬اقرتحت مجموعة تيسري ‪ CMHI‬عىل األع اء الروس‬

‫يف مجموعة كلوغا أن يتحدثوا برصاحة عن مع لتهم خالل اجتامعات املجموعة‪ .‬عندما‬

‫حدث هذا‪ ،‬ظهر نويف من االرتياح بني األع اء الروس واإلستونيني الذين التقوا بانتظام‪ .‬مل‬

‫يكن الروس مجربين عىل اإلعجاب بكايتسيليت‪ ،‬لكن قد يعتمدون عليها يف ظل هذه‬

‫الظروف‪ ،‬ألن املافيا كانت أسوأ من كايتسيليت بنظرهم‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬مل يعارض‬

‫اإلستونيون استخدام كايتسيليت للمساعدة عىل الحامية من العنرص اإلجرامي‪.‬‬

‫منظام للمركز املجتمعي‬


‫ً‬ ‫عرض أحد الناطقني بالروسية يف مجموعة كلوغا أن يصبح‬

‫ومسؤوالً عن األنشطة املجتمعية املخطط لها‪ .‬عندما كنت هناك‪ ،‬الحظت أن‬ ‫املستقب‬
‫‪283‬‬
‫مجموعة كلوغا قد ناقشت بالفعل ترشيحه لهذا املنصب وقبلته كنويف من مديري الربامج‪.‬‬

‫من أصل‬ ‫شعرت أي ً ا أن هذا كان مبثابة حل وسط‪ .‬لن يكون مدير الربنامج املستقب‬

‫إستوين أو رويس‪ ،‬بل أرمين ًيا وناطقًا بالروسية‪ .‬عرض البقاء يف بناء املجتمع املستقب‬

‫ليال هناك عنى قتله عىل يد املافيا حسب تعبريه‪ .‬عندما ظهرت‬
‫فقط خالل النهار‪ ،‬ألنه بقاءه ً‬

‫هذه املشكلة‪ ،‬مل يتوقع أحد يف مجموعة كلوغا أن يكون الع و األرميني بطالً أو يواجه‬

‫خطر املوت‪ .‬واعتقدوا يف البداية أن بعض أع اء كايتسيليت سيبقون يف املبنى بعد حلول‬

‫الظالم لحاميته‪ .‬خالل هذه املناقشات‪ ،‬الحظت أن مجموعة كلوغا أصبحت أكرث فأكرث‬

‫مجموعة عمل‪ ،‬ويرجع ذلك يف الغالب إىل زيارات إندل ومساعديه املنتظمة هناك‪ .‬كان هذا‬

‫تطورا هاما للغاية‪ .‬كام أرشت يف الفصل السابق‪ ،‬فإن استيعاب النظام السوفييتي جعل‬

‫األشخاص العاديني الذين يعيشون يف ظل هذا النظام غري قادرين عىل التفاوض بشأن‬

‫الق ايا فيام بينهم بطريقة دميقراطية والتوصل إىل تشكيالت توافق دون خسارة وحدتهم‪.‬‬

‫مل تطلب مجموعة كلوغا نصيحة ‪ CMHI‬لحل مسألة األمن‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬كانوا أكرث‬

‫خربة بالعنارص اإلجرامية املحلية مام نستطيع معرفته‪ .‬الحقًا‪ ،‬كام علمت من إندل‪ ،‬الذي‬

‫أبقاين أنا وزماليئ يف ‪ CMHI‬يف شارلوتسفيل عىل اطاليف من خالل املكاملات الهاتفية‬

‫والربيد‪ ،‬أدى فتح باب النقاش حول كايتسيليت وق ايا الهوية إىل تعزيز التقارب بني‬

‫أع اء مجموعة كلوغا‪ .‬يف النهاية‪ ،‬وافقت املجموعة عىل العمل «ي ًدا بيد» دون طلب املساعدة‬

‫‪284‬‬
‫من كايتسيليت‪ .‬يف الواقع‪ ،‬هذا هو االسم الذي أطلقوه عىل منظمتهم غري الحكومية‬

‫الجديدة‪« ،‬ي ًدا بيد»‪.‬‬

‫عندما أجريت مقابلة مع إندل بعد انتهاء مرشويف كلوغا‪ ،‬أخربين عن «اختبار» غري‬

‫مألوف للنجاح املستقب تم إجراؤه قبل أسابيع قليلة فقط من رحلتنا يف يناير ‪ 1997‬إىل‬

‫كلوغا‪ ،‬يف وقت كانت مجموعة كلوغا ما تزال تتساءل عن رضورة طلب مساعدة كايتسيليت‪.‬‬

‫لتجسيد «التعايش» املكتشف حديثًا يف قريتهم‪ ،‬قررت مجموعة كلوغا الحصول عىل شجرة‬

‫عيد امليالد املشرتكة ووضعها يف الهواء الطلق‪ .‬اجتمع بعض سكان القرية وزينوا شجرة‬

‫حا‪ .‬وفقًا إلندل‪ ،‬كان الجميع يف كلوغا‪ ،‬مبن فيهم هو‪ ،‬قلقني‪ .‬لقد‬
‫عيد امليالد بخمسني مصبا ً‬

‫رأوا يف تزيني شجرة عيد امليالد يف الهواء الطلق اختبا ًرا‪ :‬إذا مل تُرسق املصابيح املوجودة‬

‫عىل الشجرة يف اليوم التايل أو طوال موسم عيد امليالد‪ ،‬فهذا يعني أن سكان القرية الذين‬

‫يعملون م ًعا سينترصون عىل العنارص اإلجرامية املهددة‪ .‬يف اليوم التايل هريف سكان القرية‬

‫حا‪ .‬كانوا‬
‫إىل شجرة عيد امليالد املزينة‪ .‬عدوا املصابيح‪ ،‬ووجدوا تسعة وأربعني مصبا ً‬

‫رسق مصباح واحد فقط ومل تشكل هذه الرسقة «الرمزية» تهدي ًدا‪ .‬لقد‬
‫مرتاحني للغاية‪ ،‬إذ ُ‬

‫اجتازوا االختبار‪ ،‬الذي شجعهم بدوره عىل مواصلة العمل م ًعا‪.‬‬

‫يجب أن أذكر أن كلوغا كانت موق ًعا «ساخنًا» لسبب تاريخي‪ .‬مل يقترص األمر عىل‬

‫إيوائها «املحتلني» الجيش السوفيتي) فحسب‪ ،‬بل كانت أي ً ا موق ًعا ملعسكر االعتقال‬

‫النازي‪ .‬يف فرتة تواجدنا هناك‪ ،‬كانت العالمات املادية الوحيدة املتبقية للمخيم مجرد ب ع‬
‫‪285‬‬
‫حددت بوصفها جز ًءا منه‪ .‬يف الواقع‪ ،‬علمنا بوجود إستونيني اثنني من‬
‫حجارة هنا وهناك ُ‬

‫هذه املنطقة أمكنهم تذكر وجود معسكر االعتقال‪ ،‬مع أنني مل أقابلهم أب ًدا‪ .‬خالل الحرب‬

‫العاملية الثانية‪ ،‬انقسم والء اإلستونيون‪ :‬قاتل البعض مع النازيني‪ ،‬والبعض مع السوفييت‪،‬‬

‫وآخرون ظلوا قوميني إستونيني‪ .‬عندما أصبحت إستونيا مستقل ًة مرة أخرى‪ ،‬كانت هذه‬

‫االنقسامات السابقة ق ايا حساسة مخفية استحال التحدث عنها تقري ًبا‪ .‬عندما تستعيد‬

‫دولة صغرية مثل إستونيا استقاللها‪ ،‬فإن السكان يعتربون أنفسهم «أم ًة واحدةً»‪ .‬وبينام‬

‫يقللون االختالفات فيام بينهم لتعزيز هويتهم الوطنية‪ ،‬فإنهم عاد ًة ما يزيدون إسقاطاتهم‬

‫عىل اخخرين‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬ان م اإلستونيون الذين قاتلوا مع النازيني وأحفادهم إىل‬

‫اإلستونيني الذين قاتلوا مع السوفييت وأبنائهم لخلق هوية إستونية «جديدة»‪ ،‬وهذا عىل‬

‫األرجح زاد من إسقاطاتهم عىل األقلية‪ ،‬والروس واألقليات الناطقة بالروسية‪.‬‬

‫خالل حوارات ‪ CMHI‬النفسية السياسية يف إستونيا‪ ،‬ظهرت الق ايا املتعلقة‬

‫بانقسام والءات اإلستونيني خالل الحرب العاملية الثانية ومتت مناقشتها يف بعض‬

‫املجموعات الصغرية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل يقدر فريق ‪ CMHI‬وال إندل عىل خلق جو يف كلوغا‬

‫ميكن من خالله مناقشة االنقسامات واألحداث املتعلقة بالحرب العاملية الثانية بعمق‪ .‬غال ًبا‬

‫نُوقشت الق ايا اإلثنية خارج نطاق العمل الرسمي ملجموعة كلوغا‪ ،‬لكنها يف النهاية لفتت‬

‫انتباه إندل ثم تعامل معها‪ .‬وجه جميع أفراد املجتمع تركيزهم بصورة أكرب عىل احتياجات‬

‫البقاء األساسية‪ ،‬مثل األمن واملأوى الدافئ‪ ،‬أكرث من تركيزهم عىل التاريخ‪ .‬لكن تداعيات‬
‫‪286‬‬
‫املايض كانت حارض ًة بنفس الوترية‪ .‬بدأ أحد أع اء فريق ‪ ،CMHI‬املحلل النفيس موريس‬

‫أبري‪ ،‬بالبحث يف اشتقاقات مايض كلوغا –«السم» املتجسد بكونها مكانًا ضم معسكر‬

‫اعتقال نازي –وشاركها مع إندل‪ ،‬حتى يكون‪ ،‬بدوره‪ ،‬مراع ًيا لرد فعل القرويني املحتمل تجاه‬

‫العيش يف مثل هذا املكان‪.‬‬

‫كان الجيش اإلستوين الوليد يستخدم حقالً مجاو ًرا لكلوغا للتدريب عىل الرماية عىل‬

‫أهداف حية؛ وضع أثار قلق سكان كلوغا‪ ،‬سواء اإلستونيني أو الروس‪ ،‬ألنه مثل خط ًرا حقيقًا‬

‫عليهم وعىل أطفالهم‪ .‬استوقفت هذه املشكلة إندل يف وقت مبكر ج ًدا من مشاركته مع‬

‫كلوغا‪ .‬سارت خطة عمل مخفية عىل هذا النحو‪« :‬ميكننا نحن اإلستونيني اخن أن نتحد مع‬

‫املعتدين‪ .‬من الناحية الفكرية‪ ،‬نعلم أن كلوغا اليوم موطن للمواطنني اإلستونيني واألطفال‬

‫اإلستونيني أي ً ا‪ ،‬لكننا ما زلنا نرى يف أذهاننا هذا املكان كقاعدة عسكرية سوفيتية‪ .‬وعليه‪،‬‬

‫فإننا نقصفها مرا ًرا وتكرا ًرا»‪.‬‬

‫مل توجد منشآت –منازل أو نوادي– يف الحقل املجاور لكلوغا حيث تجمعت القوات‬

‫العسكرية مع معداتها و«قصفت»‪ .‬لذلك‪ ،‬أمكنهم اختيار أي مكان آخر يف إستونيا للتدرب‬

‫عىل إصابة األهداف‪ .‬لكنهم أرصوا عىل «قصف» كلوغا‪« ،‬القرية الروسية»‪ ،‬رغم أنها مل تعد‬

‫روسي ًة يف الواقع‪ .‬كانت نريان املدفعية الثقيلة شبه اليومية عىل امليدان املجاور لكلوغا‬

‫خطرية حقًا‪ ،‬حيث فُصل الحقل الذي سقطت فيه الذخرية الحية عن القرية بطريق ترايب‬

‫يبلغ عرضه عرشين قد ًما‪ .‬كنا خائفني من إصابة األطفال الذين يلعبون يف الجوار أو مقتلهم‪.‬‬
‫‪287‬‬
‫رصا وذهب عرب الحقل‬
‫وقعت حادثة واحدة عندما حاول قروي إستوين أن يسلك طريقًا مخت ً‬
‫بجرارته القدمية‪ ،‬وأصيب ج ّراره‪ .‬لكنه نجا بأعجوبة‪ .‬يف البداية‪ ،‬أبلغ الجيش سكان القرية‬

‫مبوعد رمي «القنابل»‪ ،‬لكنهم باتوا يف نهاية املطاف يؤدون تدريباتهم دون إشعار مسبق‪،‬‬

‫ما جعل الوضع أسوأ‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬تعني علينا وضع خطة إلي اح الخطر املوجود للسلطات اإلستونية بطريقة‬

‫ريا عىل مستوى املجتمع يف كلوغا‪ .‬كام‬


‫حفال كب ً‬
‫مبارشة‪ .‬يف ‪ 4‬يوليو ‪ ،1997‬أقام ‪ً CMHI‬‬

‫أرشنا سابقًا يف هذا الفصل‪ ،‬عقدنا يف وقت سابق حفل الرابع من يوليو يف موستفي‪ ).‬مل‬

‫نقم بأي ضجة حول الواليات املتحدة واستقاللها‪ ،‬ولكن أُخرب الجميع عن فحوى الرابع من‬

‫يوليو‪ .‬دعونا العديد من املشاركني الناطقني باللغة اإلستونية والروسية من سلسلة الحوار‬

‫السيايس النفيس األص ‪ ،‬مبن فيهم بعض الربملانيني‪ ،‬للح ور مع عائالتهم‪ .‬عاش‬

‫معظمهم يف تالني‪ ،‬وكنا ندرك أنهم مل يزروا كلوغا من قبل‪ .‬حتى أن السفارة الروسية أرسلت‬

‫دبلوماسيًا من الصف الثاين‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬تم تجهيز املرسح‪.‬‬

‫وبعد الحفلة‪ ،‬دعونا ضيوفنا إىل نزهة حول القرية‪ ،‬ووجهتهم إىل السري يف الطريق‬

‫الرتايب الذي يفصل القرية عن امليدان الذي سقطت فيه املدفعية الحية‪ .‬أملت أن يُستأنف‬

‫«القصف» حتى يتمكن ضيوفنا من تجربة طبيعة العيش يف كلوغا – قرية «ساخنة» قابعة‬

‫تحت «الحصار»‪ .‬لقد كان حقًا مكانًا للعدوان املكثف واملشاعر املختلطة‪ .‬كام كان متوق ًعا‪،‬‬

‫مستحيال تجاهل تدريبات الرماية‪ ،‬التي‬


‫ً‬ ‫رسعان ما بدأت االنفجارات التي تصم اخذان‪ .‬كان‬
‫‪288‬‬
‫قدمت أدلة ال لبس فيها عىل ما عاشه سكان كلوغا كل يوم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ورغم رؤية خطر هذه‬

‫املامرسة عىل أرواحهم‪ ،‬إال أن ضيوفنا الربملانيني ما زالوا عاجزين عن حمل أنفسهم عىل‬

‫فعل أي يشء حيال ذلك‪ .‬فهذا عىل ما يبدو كان صع ًبا من الناحية السياسية وسيتعارض‬

‫مع صورتهم عن كلوغا كمكان «عدو»‪ ،‬رغم أنهم شاهدوا بالفعل بعض األطفال اإلستونيني‬

‫يلعبون هناك‪.‬‬

‫كان أرفو هوغ من بني الربملانيني الذين جاؤوا إىل حفلتنا يف ذلك اليوم‪ .‬مارس هوغ‬

‫الطب النفيس قبل أن يصبح سياسيًا وكان ع ًوا فائق األهمية يف سلسلة الحوار السيايس‬

‫وشخصا محب ًبا للغاية حسبام وجدته‪ .‬تعرفنا أي ً ا عىل زوجته‪ ،‬السيدة‬
‫ً‬ ‫النفيس األص ‪.‬‬

‫الجميلة واملغنية الرئيسية يف قسم جوقة األوبرا اإلستونية‪ .‬أتذكر باعتزاز دعويت إىل غرفة‬

‫تبديل املالبس يف مبنى األوبرا يف تالني واالختالط بالفنانني‪ .‬عندما تعرفنا عليها‪ ،‬علمنا أن‬

‫السيدة هوغ مرهفة املشاعر للغاية عندما يتعلق األمر برفاهية األطفال‪ .‬وبينام كنا نتجول‬

‫يف امليدان الذي تعرض «للقصف»‪ ،‬استطعت أن أرى انزعاجها من ذلك‪ ،‬بينام كان عىل‬

‫زوجها‪ ،‬وهو رجل كبري‪ ،‬حامية كربيائه القومي‪ .‬اعتمدنا عىل السيدة هوغ للتحدث أكرث عن‬

‫كلوغا عىل انفراد مع زوجها‪ .‬لكننا علمنا خالل رحلتنا التالية إىل إستونيا أن «قصف» كلوغا‬

‫ما زال مستم ًرا‪.‬‬

‫يف مارس ‪ ،1998‬قمت برحلة أخرى إىل إستونيا مبفردي دون أع اء فريقي‪ ،‬بهدف‬

‫تعزيز ح ورنا إلجراء حوارات إضافية وج ًها لوجه مع إندل ومساعديه‪ .‬علمت أن «القنابل»‬
‫‪289‬‬
‫ما زالت تتساقط عىل كلوغا‪ .‬يف ‪ 24‬مارس‪ ،‬قمت أنا وإندل بزيارة تيت ماي‪ ،‬املسؤول‬

‫الرئييس حينها عن مقاطعة كيال التي ت م كلوغا‪ .‬وبسبب قلقي الكبري من تعرض شخص‬

‫ما‪ ،‬خاص ًة األطفال‪ ،‬لألذى أو القتل‪ ،‬خالفت مبدأنا العام املتمثل يف عدم تقديم املشورة‬

‫للمنظامت املحلية التي نعمل معها ونصحت ماي مبساعدتنا عىل وقف قصف كلوغا‪ .‬ووافق‬

‫عىل أن إجراء تدريبات عسكرية قد تؤذي الناس أمر غري منطقي وأنه ال يوجد سبب إلطالق‬

‫النار دون سابق إنذار أو تعريض الناس ل وضاء املدافع الثقيلة‪ .‬لكن عىل املدى الطويل‪،‬‬

‫مل يكن ماي أي ً ا قاد ًرا عىل مساعدتنا‪ .‬حاولت بعدها التحدث إىل بعض الربملانيني من تالني‬

‫بع هم مشارك يف سلسلة الحوار األصلية‪ ،‬مبن فيهم أرفو هوغ)‪ ،‬لكنني وجدت مقاوم ًة‬

‫عرب أحد أع اء الربملان‪« :‬هذا املكان ملكنا اخن‪ .‬ميكننا أن‬


‫كبري ًة لوقف «قصف» كلوغا‪ .‬كام ّ‬
‫ريا بكيفية‬
‫نفعل ما نريده هناك‪ .‬الجيش اإلستوين مصدر فخرنا وسعادتنا»‪ .‬لقد تأثرت كث ً‬
‫متسك اإلستونيني بصورة كلوغا كمكان رويس‪ .‬تظهر هذه الظاهرة قوة الالوعي يف‬

‫الشؤون املجتمعية والسياسية والعسكرية‪.‬‬

‫تحدثت مع إندل عن سيكولوجية اإلذالل والرغبة بعكسها حتى لو تم هذا بطرق غريبة‬

‫وخطرية يف بعض األحيان‪ .‬ناقشنا أي ً ا مفهوم التوافق مع املعتدي‪ 213.‬كنت آمل أن ينقل‬

‫إندل هذا الفهم بطريقة ما إىل منظمة كلوغا غري الحكومية ويساعدهم عىل عكس سلبيتهم‪.‬‬

‫عمل إندل بصورة أكرب عىل تعميق الوعي السيايس للمنظامت غري الحكومية ومهارات‬

‫رسرنا أنا وزماليئ للغاية عندما علمنا الحقًا أن مايت براس قد أطلق عملي ًة سياسيةً‪:‬‬
‫التنظيم‪ُ .‬‬
‫‪290‬‬
‫كتب مئة من سكان كلوغا رسال ًة إىل الرئيس اإلستوين آنذاك لينارت مريي طالبني وقف‬

‫إطالق النار‪ .‬بالنسبة إىل املقيمني يف الواليات املتحدة‪ ،‬قد نُعد هذا شيئًا طبيعيًا‪ ،‬وسهل‬

‫التنفيذ يف الواقع‪ .‬لكن العيش يف ظل الشيوعية واستيعاب قواعد ذلك النظام السيايس‬

‫وأنظمته جعل جهود هؤالء القرويني جبارة‪ .‬يف الفرتة نفسها‪ ،‬أصدر تيت ماي قانونًا محل ًيا‬

‫يحظر األنشطة العسكرية ضمن ممتلكات املقاطعة‪ .‬لكن الجيش رد بالقول إن املمتلكات‬

‫تخصهم‪ .‬اتهموا مايت بأنه جاسوس رويس وأمروا وزارة املالية مبراجعة الشؤون املالية له‬

‫ولزوجته مزيد من الت وافق مع املعتدي أو الظامل)‪ .‬بحلول ذلك الوقت‪ ،‬بدأت كلوغا تحظى‬

‫باالهتامم عىل الصعيد الوطني‪ .‬سمعت فيام بعد أن محطة تلفزيونية أرسلت مراسليها‬

‫وكامرياتها إىل القرية‪ ،‬مع ظهور ضجة كبرية حول «قصف» كلوغا‪ .‬الحظنا أن مجتمعنا‬

‫الصغري تعلم الحزم واستخدام ال غط السيايس واإلعالمي ملصلحته‪ .‬يف النهاية‪ ،‬نجح‬

‫القرويون يف وقف «القصف»‪ .‬وهكذا بدأت تتغري الصورة األصلية لكلوغا كمكان للعدوان‪.‬‬

‫عامال آخر غري متوقع ولكنه رئييس لنجاحنا‬


‫ً‬ ‫كان صنع فيلم وثائقي عن مرشوعنا‬

‫يف تحرير مجتمع كلوغا املرتاجع‪ .‬أصبح صانع األفالم الكندي الحائز عىل جوائز‪ ،‬آالن كينغ‪،‬‬

‫مهتام بأعامل ‪ CMHI‬يف دول البلطيق‬


‫ً‬ ‫واملعروف لدى الكثريين بأنه «أب الفيلم الواقعي»‬

‫وحض إحدى ورش الحوار النفيس السيايس يف عام ‪ .1994‬بعد عدة سنوات من البحث‬

‫والتطوير‪ ،‬وجمع التربعات للفيلم‪ ،‬سافر آالن إىل دول البلطيق وقىض سبعة أسابيع يف‬

‫التصوير يف كلوغا يف صيف عام ‪ .1997‬والنتيجة هي فيلم ذا دراغون إغ‪ :‬ميكنغ بيس أون‬
‫‪291‬‬
‫ذا ريكج أوف ذا توينتث سينرشي‪ ،‬الذي يقدم صورة حية عن عملية بناء املجتمع يف كلوغا‬
‫‪214‬‬
‫ومنهجية ‪.CMHI‬‬

‫نصا ويتألف فقط من كلامت مجموعة كلوغا وأنشطتها‬


‫ال ميلك الفيلم راويًا أو ً‬

‫واجتامعاتها‪ ،‬حيث عمل أع اؤها م ًعا‪ ،‬وجادلوا‪ ،‬ونظفوا قريتهم‪ ،‬وعانوا‪ ،‬وانترصوا يف‬

‫عملية تشكيل منظمة غري حكومية‪ ،‬وانتخاب قائد مح ‪ ،‬وتجديد مركز املجتمع‪ ،‬والسعي‬

‫إىل حياة أف ل ألنفسهم وألطفالهم‪ .‬يوضح الفيلم بطريقة مؤثرة رصاعات أولغا كاميشان‬

‫الداخلية مع هويتها اإلثنية كان والدها من أصل إستوين خدم يف الجيش السوفيتي وتم‬

‫«تروسيه»‪ ،‬وتوليها دور القيادة‪ ،‬ومعالجة إندل الحذقة للنزاعات املحلية والرصاعات اإلثنية‪.‬‬

‫بينام يظهر أع اء ‪ CMHI‬يف جزء قصري منه‪ ،‬يدور الفيلم حول األشخاص‪ ،‬مبن فيهم‬

‫قصصا تثلج الصدر عن‬


‫ً‬ ‫األطفال‪ ،‬الذين عاشوا يف كلوغا حينها‪ .‬بالنسبة يل‪ ،‬فإنه يخرب‬

‫الكرامة اإلنسانية‪ ،‬وتظهر أي ً ا الجانب القبيح من الطبيعة البرشية‪.‬‬

‫أضافت صناعة األفالم بع ًدا مفي ًدا للغاية إىل العملية يف كلوغا‪ ،‬إذ أعطت تجربة‬

‫إحساسا بأن هناك من يهتم‬


‫ً‬ ‫املتابعة والتصوير مدة سبعة أسابيع أع اء مجموعة كلوغا‬

‫بكلوغا‪ ،‬وأن ما فعلوه ذو أهمية وميكن أن يحدث فرقًا‪ .‬آالن رجل طيب بشعر أبيض ولحية‬

‫بي اء‪ .‬إنه مثل بابا نويل النحيف والرشيق‪ .‬استجاب القرويون له بطريقة واثقة‪ ،‬ومل‬

‫يشعروا أنه كان يتطفل عىل خصوصيتهم‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫يف ‪ 8‬مارس ‪ ،1999‬ان م بعض زماليئ من ‪ CMHI‬إىل آالن لح ور العرض العاملي‬

‫األول للفيلم يف مبنى مركز كلوغا املجتمعي املرمم بطريقة جميلة‪ .‬كان املركز أشبه بجوهرة‬

‫مصقولة وجاهزة إلظهار فخر القرية‪ .‬تطويف الكثري من الناس يف كلوغا بوقتهم لجعله‬

‫جميال؛ قام القرويون بطالء الجدار الداخ بألوان الباستيل الهادئة‪ ،‬وأضيفت عىل جدران‬
‫ً‬

‫خصصت أي ً ا غرف لدروس الكمبيوتر يف‬


‫أماكن تجمع األطفال لوحات للنمور واألشجار‪ُ .‬‬

‫املستقبل‪ ،‬وغرفة كبرية للرقصات املجتمعية‪ .‬يف وقت سابق‪ ،‬جمعت احتفاالت مشرتكة يف‬

‫الهواء الطلق اإلستونيني والروس من كلوغا يف العديد من املناسبات‪ ،‬لكنهم حصلوا اخن‪،‬‬

‫بف ل املركز املجتمعي‪ ،‬عىل فرصة لاللتقاء يف الداخل أثناء الطقس البارد‪.‬‬

‫تقرر عرض الفيلم األول يف غرفة املجتمع الكبرية‪ .‬وصلنا أنا وآالن وآخرون من‬

‫‪ CMHI‬وإندل وبعض أع اء مجموعة كلوغا األصلية إىل املركز املجتمعي قبل ساعة أو نحو‬

‫كامال حتى تلك اللحظة‪.‬‬


‫ً‬ ‫ذلك من عرض الفيلم‪ .‬مل تسنح يل فرصة رؤية املبنى بعد تجديده‬

‫انتقلنا من غرفة إىل أخرى‪ ،‬نعرب عن تقديرنا لكمية الحب املستثمرة يف هذا املبنى‪ .‬كان آالن‬

‫متوت ًرا مثل طفل صغري يظهر ألول مرة عىل مرسح يف مرسحية رياض أطفال‪ .‬والليلة كانت‬

‫باردة ومثلجة؛ ماذا لو مل يحض أحد العرض األول؟ ماذا لو حض عدد قليل من األشخاص؟‬

‫كيف سيكون رد فعل الجمهور عندما يرون أنفسهم عىل الشاشة؟ ظل آالن ينظر إىل الخارج‬

‫يف الظالم‪ ،‬منتظ ًرا قدوم الناس‪ .‬فجأة‪ ،‬وقبل خمسة عرش دقيقة فقط من عرض الفيلم‪ ،‬بدأ‬

‫سكان كلوغا بالخروج من الظالم إىل مركزهم املجتمعي الجديد‪ ،‬وملء جميع الكرايس‬
‫‪293‬‬
‫املتاحة‪ .‬وأكدت سعادتهم برؤية أنفسهم ومنزلهم يف كلوغا يف الفيلم أن ما أنجزوه كان‬
‫‪215‬‬
‫حقيقيًا‪ ،‬وأن هذا املجتمع سيتغري إىل األبد بسببه‪.‬‬

‫إن ما حدث يف كلوغا رمز ملا حدث يف إستونيا عمو ًما‪ .‬تطورت إستونيا كدميقراطية‬

‫قوية وازدهرت اقتصاديًا‪ .‬يف أوائل صيف عام ‪ ،2003‬عدت إىل إستونيا للمشاركة يف‬

‫اجتاميف معهد أوروبا الرشقية للتحليل النفيس‪ ،‬الذي تم إنشاؤه قبل ب ع سنوات برعاية‬

‫جمعية التحليل النفيس الدولية‪ .‬ضم املعهد طالبًا من روسيا‪ ،‬ومن جمهوريات البلطيق‪ ،‬ومن‬

‫دول أوروبا الرشقية التي كانت تخ ع للحكم الشيوعي‪ .‬حض هؤالء الطالب‪ ،‬الذين أُطلق‬

‫فصوال مشرتكة والتقوا مدرسيهم يف بلدان مختلفة‪ .‬وهذه‬


‫ً‬ ‫عليهم «مرشحو التحليل النفيس»‪،‬‬

‫املرة كان اللقاء يف هابسالو‪ ،‬بلدة صغرية يف إستونيا‪ .‬كنت ع ًوا ضيفًا يف هيئة التدريس‪،‬‬

‫وكان إندل‪ ،‬الذي لعب دو ًرا رئيس ًيا يف تنظيم هذا االجتاميف‪ ،‬مرش ًحا رسم ًيا للتحليل النفيس‪.‬‬

‫ريا‬
‫ريا كب ً‬
‫قبل يوم من االجتاميف يف هابسالو وبعده بيوم‪ ،‬مكثت يف تالني‪ ،‬التي تغريت تغ ً‬
‫منذ أول زيارة يل هناك عام ‪ .1996‬جرى تجديد «املدينة القدمية» يف وسط تالني بأسلوب‬

‫جميل وبدت كأنها يشء من قصة خيالية‪ .‬كان السياح يف كل مكان‪.‬‬

‫رغم انشغاله الشديد يف هابسالو‪ ،‬امتلك إندل ما يكفي من الوقت ليخربين املزيد عن‬

‫حدث مأساوي كنت عىل علم به بالفعل‪ :‬وفاة ابن أولغا كاميشان املراهق يف حادث مروري‪.‬‬

‫تحولت أولغا‪« ،‬نجمة» فيلم آالن كينغ‪ ،‬إىل قائدة مجتمعية نشطة للغاية يف كلوغا‪ .‬مع أنها‬

‫مل تنجح بالحصول عىل مقعد يف الربملان اإلستوين عند ترشحها يف مارس عام ‪،1999‬‬
‫‪294‬‬
‫لكنها أصبحت جز ًءا من عملية سياسية أكرب؛ خطوة هائلة مل يكن ممكنًا تخيلها قبل ب ع‬

‫سنوات‪ .‬عندما سمعت هذا‪ ،‬اعتقدت أن مثالها كان دليالً إضافيًا عىل فعالية النموذج الشجري‬

‫يف كلوغا‪ .‬ثم جاءت املأساة‪ .‬عندما أغمض عيني‪ ،‬أرى ابن أولغا يف فيلم آالن يتحدث مع‬

‫األوالد اخخرين عن الشابات‪ .‬أخربين إندل عن انهيار أولغا بعد وفاة ابنها وضيايف دورها‬

‫القيادي؛ مل يعد املركز املجتمعي يعمل‪ .‬تالىش قلق ما بعد االستقالل بشأن «التعايش» يف‬

‫كلوغا مع تكيف إستونيا أكرث فأكرث مع إعادة استقاللها‪ .‬لقد فهمت أن املكان أصبح قرية‬

‫إستونية منوذجية أخرى بجوانبها الجيدة والسيئة‪.‬‬

‫يف اليوم التايل لالجتاميف يف هابسالو‪ ،‬خرجت يف نزهة وحي ًدا يف مدينة تالني‬

‫مشغوال بالتفكري يف أنشطتنا السابقة هناك يف‬


‫ً‬ ‫القدمية الجميلة‪ .‬يف ذلك اليوم‪ ،‬كان ذهني‬

‫وقت كانت فيه املدينة –والبلد– تحاول العودة إىل الحياة بعد سنوات عديدة من اإلهامل يف‬

‫جالسا‬
‫ً‬ ‫الحقبة السوفيتية‪ .‬مررت مبقهى وتذكرت كيف رأيت قبل ب ع سنوات أرنولد روتل‬

‫هناك مبفرده‪ .‬تذكرت سحب كريس للجلوس بجانبه‪ ،‬رغم أنه ال يتحدث اإلنجليزية وال أتحدث‬

‫اإلستونية أو الروسية؛ تحدثنا بإمياءات اليد‪ .‬اعتقدت أنه أصبح يف القرص الرئايس‪ .‬فكرت‬

‫يف أنتس باجو وغريه‪ .‬أردت أن أجد بيرت فاريس‪ ،‬الباحث اللطيف للغاية‪ ،‬الذي شغل منصب‬

‫نائب مدير معهد الدراسات الدولية واالجتامعية يف تالني أثناء مشاركته يف سلسلة الحوار‬

‫السيايس النفيس‪ .‬توىل بيرت وجامعته مسؤولية تنظيم اجتامعاتنا وجميع الخطوات العملية‬

‫التي يجب القيام بها‪ .‬أدركت أنني أفتقدهم‪ .‬شعرت أي ً ا بالحنني إىل أوقايت الخاصة مع‬
‫‪295‬‬
‫جان كابلينسيك‪ ،‬شاعر استثنايئ وباحث عن الطفل داخله‪ ،‬يثمن كل يشء من حوله‪ ،‬من‬

‫وصوال إىل أرواح الناس من خلفيات متنوعة‪ .‬أردت‬


‫ً‬ ‫دمية الدب يف طفولته إىل تربة مزرعته‪،‬‬

‫أي ً ا الذهاب إىل كلوغا والجلوس يف صمت بجانب أولغا‪ .‬لكنني علمت أن ال وقت لدي لرؤية‬

‫أي شخص‪ ،‬وأنه يجب أال أتصل بإندل وأزعجه بسبب انشغاله املستمر وبالتايل عدم قدرته‬

‫عىل مساعديت‪.‬‬

‫استمتعت وأنا أتذكر كيف اعتاد العديد من أصدقائنا اإلستونيني إخبارنا أنهم‬

‫سي عون متاثيل لنا يف مدينة تالني القدمية بسبب استثامرنا الهائل فيهم‪ .‬ولكن ها أنا ذا‬

‫بعد ب ع سنوات‪ ،‬أسري وحدي يف مدينة تالني القدمية‪ ،‬حايل حال العديد من األشخاص‬

‫يف الشاريف الذين مل يولهم أحد أي اهتامم خاص‪ .‬وفجأة‪ ،‬سيطرت هويتي التحليلية النفسية‪.‬‬

‫شعرت أنني أخترب شعو ًرا اعتدت أن يراودين يف نهاية تحليالت املحللني‪ .‬إذا كانت تحليالتهم‬

‫ناجحة‪ ،‬فإنهم سيرتكونني مثل شبان صغار‪ ،‬ينفصلون نفس ًيا عن والديهم إليجاد‬

‫استقالليتهم وهوياتهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬علمت أن املحللني الذين أكملوا تحليالتهم بنجاح‪ ،‬عىل‬

‫عكس الشباب الذين يكربون ويحافظون عىل عالقات مع والديهم‪ ،‬سيقمعون معظم جوانب‬

‫عالقتهم الحميمة معي‪ .‬من خالل التوافقات الالواعية املختلفة معي‪ ،‬سيحملونني داخل‬

‫أنفسهم لبقية حياتهم دون أن يكونوا عىل دراية بفعل ذلك‪ .‬لن يكونوا عىل اتصال جسدي‬

‫معي بعد اخن ولن يتصلوا يب حتى‪ ،‬كام ينبغي أن يكون الحال‪ .‬هذا اإلدراك جعلني أشعر‬

‫أنني بحالة جيدة‪ .‬بطريقة ما‪ ،‬اعتقدت‪ ،‬أنني كنت موجو ًدا يف مكان ما يف هذا البلد الجميل‬
‫‪296‬‬
‫متا ًما كام كنت موجو ًدا يف من حللتهم سابقًا‪ ،‬وبطريقة ما ستبقى إستونيا يف داخ بقية‬

‫حيايت‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫مالحظات‬

‫الفصل األول‬
‫‪ .1‬انظر فاميك دي‪ .‬فولكان‪The Need to Have Enemies and Allies: From ،‬‬
‫‪Clinical‬‬
‫نورث فيل‪ ،‬نيوجرييس‪ :‬جيسون‬ ‫‪Practice to International Relationships‬‬
‫أرونسون‪.)1988 ،‬‬
‫‪ .2‬املصدر السابق‪ .‬يف عام ‪ 1988‬طورت مفهو ًما يربط حاجة املجتمعات اإلنسانية إىل‬
‫األعداء والحلفاء بتطور الفرد يف طفولته‪ .‬يف فرتة النمو‪ ،‬يحاول كل طفل أن يطور شعو ًرا‬
‫متامسكًا بالنفس وشعو ًرا متامسكًا باخخرين‪ ،‬كأمه)‪ .‬الطفل الصغري ج ًّدا ال يستطيع أن‬
‫حا وشبعان ومعتنًى به‪،‬‬
‫يشعر بأنه فرد واحد‪ ،‬بل يكون له نفس «جيدة» عندما يكون مرتا ً‬
‫نفسا‬
‫مهمال‪ .‬يف عمر ثالث سنوات‪ ،‬يطور الطفل ً‬
‫ً‬ ‫ونفس «سيئة» عندما يكون غاضبًا أو‬
‫نفسا‬
‫«رمادية» من النفسني السوداء «السيئة»)‪ ،‬والبي اء «الجيدة»)‪ :‬يطور الطفل عندها ً‬
‫متامسكة متكاملة‪ .‬ملزيد من التفاصيل راجع‪ :‬إديث جاكوبسون‪The Self and the ،‬‬
‫)‪ ،Object World (New York: International Universities Press, 1964‬ومارغرت‬
‫إس‪ .‬مالر‪On Human Symbiosis and the Vicissitudes of Individuation (New ،‬‬
‫)‪ ،York: International Universities Press,1968‬وإريك إتش إريكسون‪Identity ،‬‬
‫)‪،and the Life Cycle (New York: International Universities Press, 1959‬‬
‫وأوتو إف‪ .‬كرينربغ‪Borderline Conditions and Pathological Narcissism (New ،‬‬
‫)‪ ،York: Jason Aronson, 1975‬و ‪Internal World and External Reality (New‬‬
‫)‪.York: Jason Aronson, 1980‬‬
‫مال‪ .‬تبقى بعض الصور «الجيدة» و«السيئة» غري‬
‫كانت أطروحتي أن هذا اإلدماج ليس كا ً‬
‫مدمجة يف النفس الرمادية‪ .‬إن الشعور بهذه الصور يف النفس يؤدي إىل الشعور بالكرب‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫ي طر األطفال إىل أن يفعلوا شيئًا بأجزائهم غري املدمجة‪ .‬من الطرق التي يتعاملون فيها‬
‫مع املشكلة أنهم يبحثون عن «خزانات» دامئة لجوانبهم غري املدمجة‪ .‬توجد هذه «الخزانات»‬
‫الدامئة عادة يف «املعززات الثقافية» للجامعة الكبرية التي ينتمي إليها الطفل‪ .‬للمزيد عن‬
‫املعززات الثقافية راجع جون ماك‪Cultural Amplifiers of Ethnic-Nationalistic “ ،‬‬
‫‪ ،”Affiliation and Differentiation‬وهي ورقة قرئت عىل لجنة العالقات الدولية يف‬
‫االجتاميف الخريفي ملجموعة التقدم بالطب النفيس‪ ،‬تشريي هيل‪ ،‬نيوجرييس‪ 10 ،‬نوفمرب‬
‫‪ .)1984‬يف فرتة النمو‪ ،‬يتعلم األطفال وضع األجزاء غري املدمجة يف هذه الخزانات‪ .‬فعىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يعد الساونا «خزانًا» جي ًدا لألطفال الفنلنديني‪ ،‬ويعترب الخنزير خزانًا «سيئًا»‬
‫أساسا للشعور بالا«نحنية»‪،‬‬
‫ً‬ ‫تحض الخزانات «الجيدة» املشرتكة الدامئة‬
‫ّ‬ ‫لألطفال املسلمني‪.‬‬
‫أما الخزانات «السيئة» املشرتكة الدامئة فتصبح نقطة االنطالق للحاجة إىل أعداء مجتمعيني‪.‬‬
‫حا‪ ،‬متلك الجامعات الكبرية أسبابًا كثرية للحاجة إىل األعداء والحلفاء‪ ،‬ولقد‬
‫وضو ً‬
‫استطلعت بع ً ا منها يف أعاميل النفسية السياسية السابقة‪ ،‬مثل ‪The Need to Have‬‬
‫‪Enemies and Allies; Bloodlines: From Ethnic Pride to Ethnic Terrorism‬‬
‫)‪ ،(New York: Farrar, Straus & Giroux, 1997‬و ‪Blind Trust: Large Groups‬‬
‫‪and Their Leaders in Times of Crises and Terror (Charlottesville, VA:‬‬
‫)‪ .Pitchstone Publishing, 2004‬إن هديف من اإلشارة إىل هذه الدوافع الطفولية لهذه‬
‫الحاجات هو تذكري القارئ بأن اهتاممنا باألعداء والحلفاء املجتمعيني وبق ايا هويتنا‬
‫الجامعية الكبرية أمر حتمي نفس ًّيا‪ ،‬يف تقديري‪.‬‬
‫‪ .3‬جورجيا بلد قديم ميتد تاريخه ‪ 3,000‬عام‪ .‬الجورجيون مختصون مبنطقة القوقاز‬
‫أنرثوبولوج ًّيا‪ .‬لغتهم‪ ،‬ذات األبجدية املميزة واحدة من ‪ 14‬أبجدية يف العامل)‪ ،‬موجودة‬
‫بشكلها املكتوب منذ عام ‪ 400‬للميالد‪ ،‬وهي بعيدة لغويًّا عن اللغات السالفية والرتكية‪ .‬كانت‬
‫املسيحية‪ ،‬التي اعتنقتها جورجيا يف القرن الرابع‪ ،‬نقلة نوعية يف تطور الثقافة الروحية‬
‫للجورجيني‪ .‬بني القرن الرابع والسابع‪ ،‬كانت جورجيا محل خالف بني اإلمرباطوريتني‬

‫‪299‬‬
‫البيزنطية والساسانية‪ ،‬وبني البيزنطيني والعرب من القرن السابع إىل القرن العارش‪ .‬كانت‬
‫الفرتة املمتدة من القرن الحادي عرش إىل القرن الثالث عرش «العرص الذهبي» لجورجيا‪،‬‬
‫الذي قاده حكم ديفيد الباين‪ ،‬ثم امللكة تامار‪ ،‬عندما أسست إمرباطورية جرجية امتدت من‬
‫البحر األسود إىل بحر قزوين وارتبطت بأوروبا والرشق بعالقات تجارية‪.‬‬
‫كان غزو املغوليني للقوقاز من عام ‪ 1220‬نهاية لنه ة جورجيا‪ .‬عزل سقوط‬
‫القسطنطينية إسطنبول اليوم) يف يد العثامنيني األتراك عام ‪ 1453‬جورجيا من املاملك‬
‫املسيحية‪ ،‬ويف القرون الثالثة التالية أصبحت بل ًدا يتنازيف عليه الفرس والعثامنيون‪ .‬يف عام‬
‫‪ُ ،1783‬وضعت جورجيا‪ ،‬حسب اتفاقية جورجييفسك‪ ،‬تحت الحامية الروسية‪ .‬يف عام‬
‫‪ ،1801‬وضع قيرص روسيا بافل األول رشق جورجيا تحت الحكم الرويس املبارش‪ .‬نتيجة‬
‫للحروب الروسية الرتكية والروسية الفارسية‪ ،‬ض ّمت اإلمرباطورية الروسية املناطق‬
‫الجورجية الغربية يف سبعينيات القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫كانت طبقة النبالء الروسية والجورجية متفقتني إىل درجة كبرية يف تلك الفرتة‪،‬‬
‫وكان الن امم جورجيا إىل اإلمرباطورية الروسية بعض اخثار اإليجابية‪ ،‬منها ارتفايف‬
‫مستوى املعيشة والنمو املستقر للشعب الجورجي‪ ،‬وتوسيع البنى التحتية يف البلد‪ .‬لكن كان‬
‫لهذا االن امم آثار سلبية أي ً ا‪ ،‬استمرت إىل فرتة االتحاد السوفييتي‪ .‬خرست الكنيسة‬
‫الجورجية األرثوذكسية استقاللها للكنيسة األرثوذكسية الروسية‪ ،‬ولو أن اللغة الجورجية‬
‫وأنظمة االعتقاد الجورجية حافظت عىل نفسها رغم ضغوط «الرتويس»‪ .‬بقي الجورجيون‪،‬‬
‫املنقسمون إىل «قبائل» مختلفة فخورين بثقافتهم القدمية وأبجديتهم الفريدة‪.‬‬
‫بعيد الثورة البلشفية عام ‪ 1917‬يف روسيا‪ ،‬نالت جورجيا استقاللها عام ‪1918‬‬
‫لفرتة وجيزة‪ .‬أصبحت جورجيا جمهورية سوفييتية عام ‪ 1921‬من خالل تعاون الجيش‬
‫األحمر ومنظامت بلشفية محلية‪ .‬ارتبطت جورجيا وأرمينيا وأذربيجان بعد ذلك يف اتحاد‬
‫حل هذا االاتحاد‬
‫جنوب القوقاز‪ ،‬الذي ان م إىل االتحاد السوفييتي يف ‪ 30‬ديسمرب ‪ُ .1922‬‬
‫عام ‪ ،1936‬وأصبحت كل جمهورية يف جنوب القوقاز ع ًوا مبارشا يف االتحاد السوفييتي‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫مهام يف السياسة السوفييتية –كان جوزيف ستالني‬
‫عىل رغم لعب الجورجيني دو ًرا ًّ‬
‫حرم الجورجيني من أن يديروا شؤونهم الداخلية والدولية‪ .‬ككل الجمهوريات‬
‫من جورجيا– ُ‬
‫السوفييتية تقري ًبا‪ ،‬كان يف جورجيا تشكالت إثنية متعددة‪ :‬أبخازيا‪ ،‬وأجاريا‪ ،‬وأوسيتا‬
‫الجنوبية‪ .‬أثارت املشكالت املرتبطة بإعادة االستقالل التوترات اإلثنية السياسية من جديد‬
‫بني الجورجيني اإلثنيني ومجموعتني غري جورجيتني‪ ،‬هي األبخازيون واألوسيتيون‬
‫الجنوبيون‪ .‬يف عام ‪ ،1990‬أدت املآيس املرتاكمة واملساعي السياسية القامئة عىل الهوية‬
‫لألبخازيني واألوسيتيني الجنوبيني إىل إعالن كل من املجموعتني عن استقاللها بحكم الواقع‬
‫من جورجيا‪ .‬هذه املحاوالت النفصالية حدثت يف سياق صعود الوطنية الجورجية‪.‬‬
‫مل يهتم كثري من الناس بادعاءات االستقالل هذه اهتام ًما ج ّديًّا‪ ،‬ألن «استعراضً ا من‬
‫السيادات املدفوعة بالهوية» كان يحدث يف ذلك الوقت‪ ،‬إذ نصبت عدة جمهوريات وأقاليم‬
‫ومناطق رؤساء لها واحدة تلو األخرى‪ .‬لكن يف جورجيا‪ ،‬أصبح الوضع مأساويًّا بسبب‬
‫انداليف نزاعني إثنيني شديدين‪ ،‬أولهام يف أوسيتا الجنوبية واخخر يف أبخازيا‪ .‬نتيجة هذا‪،‬‬
‫بدأ الناس يقتل بع هم بع ً ا باسم هوية الجامعة الكبرية‪ ،‬وقُتل آالف الناس‪ ،‬و ُه ّجر مئات‬
‫وآالف‪ ،‬وتعرض املجتمع الجورجي بكليته لصدمة عميقة‪.‬‬
‫‪ .4‬ملزيد من التفاصيل انظر إس‪ .‬نيل مكفرالن‪ ،‬والري مينيار‪ ،‬وستيفن دي‪ .‬شانفيلد‪،‬‬
‫‪Armed Conflict in Georgia: A Case Study of Humanitarian Action and‬‬
‫‪Peacekeeping (Providence, RI: Thomas J. Watson, Jr. Institute for‬‬
‫)‪.International Studies, 1996‬‬
‫‪ .5‬بعد أن حققت موسكو بهذا الحادث‪ ،‬مل تقدم أي اعتذار‪.‬‬
‫‪ .6‬انظر فولكان‪ ،Bloodlines ،‬وجويس نيو وفاميك دي فولكان‪Developing a ،‬‬
‫‪Methodology for Conflict Prevention: The Case of Estonia (Atlanta, GA:‬‬
‫)‪.Carter Center Special Report Series, Winter 1999‬‬

‫‪301‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫‪ .7‬يف جمعي للبيانات من مجتمعات مصدومة‪ ،‬طورت أسلوبًا أسميه «جمع البيانات‬
‫العالجي»‪ .‬أقول للناس إن سامعي لقصة حياتهم يساعدين عىل تحسني فهمي ملا جرى‬
‫ملجتمعهم‪ .‬أقودهم كذلك وهم يذكرون األحداث الهامة يف حياتهم‪ .‬هديف ليس التشخيص‬
‫الكامل لنظام شخصية الفرد‪ ،‬وأشكال أعراضه‪ ،‬ونقاط تعلقه النفسية الجنسية‪ .‬بل أسعى‬
‫إىل فهم تشابك العوامل الداخلية لألفراد ومتثيالتهم الذهنية لألحداث الخارجية‪ ،‬ال سيام‬
‫األحداث التي كانت صادمة لهم ولجامعتهم‪ .‬إن إدراك الصدمة وعيشها يرتك أصداء يف‬
‫العوامل الداخلية لألفراد ويعكس عمليات نفسية‪ .‬هذه العمليات النفسية تكون مشرتكة عادة‬
‫يف املجموعة املصدومة‪ .‬إن إظهار هذه العمليات قد يساعد املحلل عىل تطوير اسرتاتيجيات‬
‫مثال)‪.‬‬
‫تستجيب للحاجات النفسية والواقعية للذين ينتمون للجامعة‪ .‬انظر املالحظة ‪ً 9‬‬
‫عندما يكون مناسبًا‪ ،‬ميكن للمحاور أن يشارك مع الفرد املصدوم اكتشافاته بشأن العمليات‬
‫النفسية التي أثارتها الصدمات وكانت «مخفية»‪ .‬يفعل املحاور هذا عندما يشعر أنه سيساعد‬
‫زيادة آليات التأثلم يف الفرد املصدوم‪ .‬يجب أن أؤكد هنا أن «جمع البيانات العالجي» يجب‬
‫أن يجرى عىل أيدي مختصني من الذين أجروا تدريبًا نفسيًّا تحليليًّا أو نفسيًّا ديناميكيًّا‪.‬‬
‫‪ .8‬ألسباب سياسية‪ ،‬أغلقت املدارس التي تدرس باللغة األبخازية يف أربعينيات القرن‬
‫العرشين‪.‬‬
‫‪ .9‬هذا الجانب من الحوار مع دايل جذب انتباهي إىل صعوبة نفسية بني النازحني داخل ًّيا‬
‫مل يكن ميكن اكتشافها باستخدام جمع البيانات باألسئلة واألجوبة عىل األرجح‪ .‬بعد هذا‪،‬‬
‫ومن خالل م يفينا الجورجيني‪ ،‬أطلقنا عملية تتيح للنازحني داخل ًّيا الذين خرسوا هوياتهم‬
‫األصلية أن يحصلوا عىل هويات جديدة من سلطات تبلييس‪ ،‬مع التأكيد عىل رضورة‬
‫إصدارها بطريقة محرتمة ال تثري مشاعر اإلهانة‪ .‬اقرتحنا كذلك أن تذكر بطاقات الهوية‬
‫الجديدة مكان الوالدة أو السكن األص للنازح‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫‪ .10‬فاميك دي‪ .‬فولكان‪Cyprus—War and Adaptation: A Psychoanalytic ،‬‬
‫‪History of Two Ethnic Groups in Conflict (Charlottesville, VA: University‬‬
‫)‪.of Virginia Press, 1979‬‬
‫‪ .11‬يرشح مايكل سابك ظاهرة مطابقة حدثت يف نظام تشيكوسلوفاكيا الشمويل‪ .‬انظر‬
‫مايكل سابك‪Anality in the Totalitarian System and the Psychology of Post-“ ،‬‬
‫‪.Totalitarian Society,” Mind and Human Interaction 4 (1992): 52–59‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫‪ .12‬تشري األدبيات النفسية إىل ظاهرة تسمى «الطفل البديل»‪ ،‬إذ الحظ العديد من‬
‫املؤلفني أنه بعد وفاة الطفل‪ ،‬قد تستبدل األم‪ ،‬التي تعاين الشعور بالذنب أو املصابة‬
‫طفال آخر ما يزال عىل قيد الحياة‪.‬‬
‫باالكتئاب أو الرهاب أو الوسواس القهري‪ ،‬بطفلها املفقود ً‬
‫كتب إي‪ .‬أو‪ .‬بوزنانسيك‪« ،‬إن استبدال طفل بآخر يتيح للوالدين إنكار وفاة الطفل األول‬
‫جزئيًا‪ .‬فالطفل البديل يؤدي دور املانع أمام اعرتاف الوالدين باملوت‪ ،‬مبا أن الطفل الحقيقي‬
‫موجود كبديل»‪ .‬إي‪ .‬أو‪ .‬بوزنانسيك‪A Saga of :’Replacement Child‘ The“ ،‬‬
‫‪.1193–1090 :)1972 81 Behavioral Pediatrics ”Unresolved Parental Grief‬‬
‫يصف فاميك دي‪ .‬فولكان وغابرييل أست يف ‪Siblings in the Unconscious and‬‬
‫‪)Madison, CT: International Universities Press, 1997 Psychopathology‬‬
‫كيف ميكن لألم التي فقدت طفلها أن «توديف» التمثيل الذهني للطفل امليت يف التمثيل الذايت‬
‫النامي للطفل الثاين‪ .‬ميكن لألطفال البدالء التعامل مع ما «أُوديف» فيهم بطرق مختلفة‪،‬‬
‫بع ها تكيفي وبع ها مريض‪.‬‬
‫‪ .13‬تشري باكورة نظريات سيغموند فرويد إىل الصدمة الخارجية كعامل رئييس يف علم‬
‫نفس األمراض‪ .‬سيغموند فرويد‪The in ”,Project for a Scientific Psychology“ ،‬‬
‫‪New York: Basic Books, 1893– 351–347 ,Origins of Psycho-Analysis‬‬

‫‪303‬‬
‫‪The in vol. 15 of ”,Introductory Lectures to Psychoanalysis“ ;)1954‬‬
‫‪,Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud‬‬
‫‪ed. James Strachey, 5–239 (London: Hogarth Press, 1917–1964); and‬‬
‫“‪The Standard Edition of the in vol. 18 of ”Beyond the Pleasure Principle‬‬
‫‪ed. James Strachey, 1– ,Complete Psychological Works of Sigmund Freud‬‬
‫)‪ .65 (London: Hogarth Press, 1920–1955‬بعد ذلك‪ ،‬ركز فرويد عىل الخيال‬
‫الذي يصبح مرتبطًا بالحدث الصادم‪ .‬يف “ ‪Inhibitions, Symptoms, and‬‬ ‫الداخ‬
‫‪The Standard Edition of the Complete Psychological in vol. 20 of ”Anxiety‬‬
‫‪ed. by James Strachey, 75–175 (London: ,Works of Sigmund Freud‬‬
‫)‪ ،Hogarth Press, 1926–1959‬وصف فرويد الصدمة بأنها حالة من العجز النفيس‪،‬‬
‫يتم اختبارها فعليًا‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فقد ميز بني األحداث الصادمة واملواقف الصادمة التي يتخللها‬
‫ترقب للخطر‪.‬‬
‫الذي يصبح مرتبطًا‬ ‫ركز معظم املحللني النفسيني عقب فرويد عىل الخيال الداخ‬
‫بالصدمة وليس عىل الصدمة الخارجية نفسها‪ .‬وهكذا‪ ،‬حتى العقد الفائت أو نحو ذلك‪ ،‬مل‬
‫يو ِل املحللون النفسيون اهتام ًما كافيًا لألحداث الخارجية‪ .‬لكن هذا الوضع قد تغري اخن‪.‬‬
‫‪ .14‬هوارد إف‪ .‬شتاين‪Personal Thoughts on the Journey from Trauma to “ ،‬‬
‫‪.98–90 :)2003 13 Mind and Human Interaction ”,Resilience‬‬
‫‪ .15‬يف عام ‪ ،2004‬رضب لنا املحلل النفيس لألطفال املعروف هرني بارينز يف‬
‫‪Rockville, MD: Schreiber Renewal of Life: Healing from the Holocaust‬‬
‫مثاال واض ًحا عىل االستجابة اإلبداعية للصدمة‪ .‬فقد ع ّرفنا بارينز يف‬
‫‪ً )Publishing, 2004‬‬
‫عقده السابع عىل طفل مميز – هو ذاته يف الثانية عرشة من عمره ملا هرب من ريفزالت‪،‬‬
‫أحد معسكرات االعتقال يف فييش بفرنسا‪ .‬وجدنا أمه‪ ،‬كانت يف ريفزالت أي ً ا ثم قُتلت‬
‫الحقًا يف أوشفيتس‪ ،‬التي تحلت بالشجاعة لتشجيع ابنها عىل الفرار‪ .‬وأعتقد أن شجاعة هذه‬

‫‪304‬‬
‫األم ظلت حية يف ابنها‪ ،‬إذ حول وجوده املثقل بصدمة وخسارة مروعتني إىل حياة زاخرة‬
‫بالرعاية والعالج واإلبدايف‪ .‬ففي عمله كمحلل نفيس مع األطفال‪ ،‬قدم بارينز مساهامت جليلة‬
‫يف مسألة كيفية تطور العدوانية وكيفية تشكلها يف كل واحد منا‪ .‬اقرأ هرني بارينز‪The ،‬‬
‫‪New York: Jason Development of Aggression in Early Childhood‬‬
‫‪.)Aronson, 1979‬‬
‫‪ .16‬لدراسة مستفي ة للصدمة واالنفصال‪ ،‬اقرأ إيرا بريرن‪Psychic Trauma: ،‬‬
‫‪.)New York: Jason Aronson, 2004 Dynamics, Symptoms and Treatment‬‬
‫‪ .17‬فاميك دي‪ .‬فولكان‪Traumatized Societies and Psychological Care: “ ،‬‬
‫‪Mind and Human ”,Expanding the Concept of Preventive Medicine‬‬
‫‪.194–177 :)2000 11 Interaction‬‬
‫‪ .18‬ال أتعامل هنا مع ردود أفعال األطفال عىل الخسارة‪ .‬فالطفل ال ميكنه أن يحافظ عىل‬
‫صور اخخرين املختلفة عندما ينفصل جسديًا عنهم حتى يرسخ بقوة متثيالت ذهنية عن‬
‫اخخرين‪ ،‬فديناميات حداد الطفل تختلف عن ديناميات حداد الشخص البالغ‪ .‬لالطاليف عىل‬
‫مراجعة‪ ،‬اقرأ فاميك فولكان‪Linking Objects and Linking Phenomena: A Study ،‬‬
‫‪of the Forms, Symptoms, Metapsychology and Therapy of Complicated‬‬
‫‪.)New York: International Universities Press, 1981 Mourning‬‬
‫‪ .19‬فيكو تاهكا‪Scandinavian Psychoanalytic ”,Dealing with Object Loss“ ،‬‬
‫‪.33–13 :)1984 1 Review‬‬
‫‪ .20‬عندما تكون التامهيات مع صور ووظائف ما فُقد انتقائية و«صحية»‪ ،‬فإن عملية‬
‫الحداد تعترب «طبيعية»‪ .‬واملفجويف‪ ،‬بعد أن يخوض آالم الفجيعة وبعد استنزاف قدر كبري‬
‫من الطاقة يف مراجعة التمثيل الذهني للشخص أو اليشء املفقود‪« ،‬يكتسب» شي ًئا من‬
‫تجاربه‪ .‬كام وتحدث معظم التامهيات دون وعي‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫ميكن أن تحدث متاهيات غري صحية أي ً ا‪ .‬فإذا كان املفجويف مرتبطًا بالشخص أو اليشء‬
‫املفقود مع تناقض مفرط حني كان الشخص ما يزال عىل قيد الحياة أو كان اليشء ما يزال‬
‫موجو ًدا‪ ،‬وإذا كانت الخسارة مرتبطة بصدمة وغ ب عاجز‪ ،‬فقد ينتهي املطاف باملفجويف‬
‫بالتامهي مع متثيل العنرص املفقود بطريقة غري صحية‪ .‬مثل هذا املفجويف غري قادر عىل‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬إنه يستوعب متثيل العنرص املفقود «بالكامل» يف‬
‫خلق متاه انتقايئ وغني‪ً .‬‬
‫متثيله الذايت‪ .‬اقرأ جوزيف سميث‪Bereavement: in ”,On the Work of Mourning“ ،‬‬
‫‪ed. B. Scoenberg, I. Gerber, A. Weiner, et. al., ,Its Psychological Aspects‬‬
‫)‪ .18–25 (New York: Columbia University Press, 1975‬بنا ًء عىل ذلك‪ ،‬فإن الحب‬
‫والكراهية التناقض) اللذين كانا يربطان يف األصل املفجويف بالشخص أو اليشء املفقود‬
‫يحوالن اخن متثيل املفجويف الذايت إىل ساحة معركة‪ .‬فقد أصبح الرصايف بني الحب والكراهية‬
‫محسوسا اخن داخل متثيل املفجويف الذايت الذي استوعب التمثيل املرتبط بشكل متناقض‬
‫ً‬
‫للعنرص املفقود من خالل متاه كامل معه‪ .‬أطلق سيغموند فرويد عىل هذه الحالة اسم‬
‫«السوداوية»‪ .‬سيغموند فرويد‪The vol. 14 of ”,Mourning and Melancholia“ ،‬‬
‫‪,Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud‬‬
‫)‪.ed. by James Strachey, 243–258 (London: Hogarth Press, 1917–1957‬‬
‫عندما تصبح الكراهية تجاه التمثيل املستو َعب للشخص أو اليشء املفقود هي املسيطرة‪،‬‬
‫قد يحاول بعض املفجوعني قتل أنفسهم االنتحار) من أجل «قتل» التمثيل الذهني‬
‫املستو َعب‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يريدون من الناحية النفسية تفجري أو خنق التمثيل الذهني‬
‫للعنرص املفقود ضمن متثيلهم الذايت‪ ،‬وبالتايل يطلقون النار عىل أنفسهم أو يشنقون‬
‫أنفسهم‪ .‬فالسوداوية االكتئاب) بعد الفقد ميكن أن تكون قاتلة للمفجويف‪.‬‬
‫‪ .21‬إىل حد كبري‪ ،‬ال يستطيع الشخص املق َّدر له أن يكون مفجو ًعا دامئًا أن يتامهى مع‬
‫الجوانب الغنية املختارة للتمثيل الذهني للشخص أو اليشء املفقود‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬ال‬
‫ينتهي املطاف باملفجويف بالتامهي بالكامل مع متثيل العنرص املفقود‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال‬

‫‪306‬‬
‫يستطيع املفجويف أن يخوض عملية حداد «طبيعية» أو ال ميكنه أن يطور السوداوية‬
‫«جسام‬
‫ً‬ ‫بدال من ذلك‪ ،‬يحتفظ املفجويف بالتمثيل الذهني للعنرص املفقود باعتباره‬
‫االكتئاب)‪ً .‬‬
‫غري ًبا» محد ًدا وغري مستو َعب ويرتبط به باستمرار‪ .‬يكون املفجويف الدائم ممزقًا بني توق‬
‫عارم الستعادة ح ور الشخص أو اليشء املفقود وخوف مرويف بنفس القدر من احتامل‬
‫جسام‬
‫ً‬ ‫مواجهة العنرص املفقود‪ .‬إن وجود هذا «الجسم الغريب» يسميه املحللون النفسيون‬
‫مستد َم ًجا) يتيح وهم االختيار‪ ،‬وبهذه الطريقة يخفف القلق‪ .‬لكن وجود مثل هذا «الجسم‬
‫الغريب» داخل املرء يعني استمرار الرصايف الداخ معه‪.‬‬
‫‪ .22‬وضعت مصطلح «األجسام الرابطة» يف عام ‪ .1972‬اقرأ فاميك دي‪ .‬فولكان‪The ،‬‬
‫‪Archives of General ”,Linking Objects of Pathological Mourners‬‬
‫‪.222–215 :)1972 27 Psychiatry‬‬
‫‪ .23‬ال ينبغي الخلط بني األجسام الرابطة واألجسام االنتقالية يف مرحلة الطفولة كدمية‬
‫الدب‪ .‬اقرأ دونالد وينيكوت‪Transitional Objects and Transitional “ ،‬‬
‫‪.97–89 :)1953 34 International Journal of Psycho-Analysis ”,Phenomena‬‬
‫ميثل الجسم االنتقايل‪ ،‬من الناحية النفسية‪ ،‬أول يشء ليس‪-‬أنا‪ ،‬لكنه ليس ليس‪-‬أنا بالكامل‪.‬‬
‫فهو يربط ليس‪-‬أنا مع أمي‪-‬أنا وهو بنية مؤقتة نحو اإلحساس بالواقع‪ .‬اقرأ فيليس‬
‫غريناكر‪,1 Emotional Growth in ”,The Fetish and the Transitional Object“ ،‬‬
‫‪.)New York: International Universities Press, 1969–1974 334–315‬‬
‫تنطوي األجسام الرابطة عىل رمزية عالية املستوى‪ .‬ويجب النظر إليها كرموز مرصوصة‬
‫بإحكام ترتبط أهميتها بالفروق الدقيقة الواعية والالواعية للعالقة التي سبقت الخسارة‪.‬‬
‫رس خارجي بني التمثيالت الذهنية للمفجويف والتمثيالت الذهنية للشخص‬
‫والجسم الرابط ج ٌ‬
‫أو اليشء املفقود‪ ،‬متا ًما كام يعمل الجسم املستد َمج كجرس داخ ‪.‬‬
‫مثة أنوايف مختلفة من العنارص التي ميكن أن تتطور إىل أجسام رابطة‪ ،‬كاملقتنيات‬
‫الشخصية للمتوىف أو أحد األجزاء الحقيقية من اليشء املفقود؛ الهدية أو الرسالة الوداعية‬

‫‪307‬‬
‫الرمزية؛ اليشء الذي استخدمه الشخص املفقود لتعزيز حواسه أو وظائف جسده كآلة‬
‫التصوير؛ أو «جسم الدقيقة األخرية»‪ ،‬وهو يشء كان يف متناول اليد حني علم املفجويف‬
‫مبوت شخص مهم أو اختفاء عنرص مهم‪ .‬يبديف بعض املفجوعني أجسامهم الرابطة‪ ،‬كاللوحة‬
‫أو قصائد خوندادزه)‪ ،‬بينام يستخدم آخرون أجسا ًما رابطة حية‪.‬‬
‫‪ .24‬يف بداية دراستي حول الفجيعة والحداد التي استمرت لعقود‪ ،‬ركزت عىل الجوانب‬
‫املرضية لألجسام الرابطة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬اعتربت وجودها محض عالمة عىل «تجميد»‬
‫املفجويف لعملية حداده‪ .‬كتبت الحقًا عن الجسم الرابط كمصدر لإللهام يوجه نحو اإلبدايف‬
‫لدى بعض األفراد‪ .‬وميارس مثل هؤالء األفراد الحداد املعقد أي ً ا‪ ،‬إال أنهم يعربون عنه يف‬
‫األشكال الفنية‪ .‬أعتقد أنه ليس مناس ًبا اإلشارة إىل شخص أبديف شيئًا مثل تاج محل عىل أنه‬
‫« َم َريض»‪ .‬اقرأ فاميك فولكان وإليزابيث زينتل‪Life After Loss: The Lessons of Grief ،‬‬
‫‪.)s Sons, 1993’New York: Charles Scribner‬‬
‫‪ .25‬يقول دونالد دبليو‪ .‬وينيكوت أنه «يف اللعب‪ ،‬ورمبا يف اللعب فقط‪ ،‬يكون الطفل أو‬
‫الشخص البالغ ح ًّرا يف اإلبدايف»‪ .‬دونالد دبليو‪ .‬وينيكوت‪Playing and Reality ،‬‬
‫يب‪ .‬يب‪ .‬نويباور‪،‬‬
‫‪ .(London: Tavistock Publications, 1971), 53‬اقرأ أي ً ا ّ‬
‫“‪ed. by ,The Many Meanings of Play in ”,Playing: Technical Implications‬‬
‫‪Albert J. Solnit, D. J. Cohen, and P. B. Neubaurer, 100–122 (New Haven,‬‬
‫)‪ .CT: Yale University Press, 1993‬عملت غابرييل أست‪ ،‬وهي محللة نفسية متارس‬
‫عملها يف ميونيخ بأملانيا‪ ،‬مع شابة تُدعى «غيتا» ُولدت بتشوهات جسدية عديدة وخ عت‬
‫ملا يقرب من أربع وعرشين عملية جراحية منذ الطفولة حتى بلغت أوائل العرشينيات من‬
‫عمرها‪ .‬وقد أُصيبت غيتا بالصدمة من جراء العمليات الجراحية واالستشفاء الطويل‬
‫«لعبت» ملدة‬
‫ْ‬ ‫والصعب‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬تشكلت لديها صورة معيبة لجسدها‪ .‬يف أثناء عالجها‪،‬‬
‫تسعة أشهر عن طريق إصالح شقتها‪ .‬لقد جسد عالجها بوضوح كيف أن إصالحها لبيئتها‬
‫وصورة جسدها املعيبة‪ .‬فاميك دي‪.‬‬ ‫الخارجية مرتبط بجهودها إلصالح عاملها الداخ‬

‫‪308‬‬
‫فولكان وغابرييل أست‪Actualized ’:Leaking Body‘ s’Curing Gitta“ ،‬‬
‫‪Journal of Clinical ”,Unconscious Fantasies and Therapeutic Play‬‬
‫‪ .596–557 :)2001 10 Psychoanalysis‬إن الغاية من بناء عائلة كاتشافارا «لغرفة‬
‫فاميكنا» تشبه الغاية من عمل غيتا عىل شقتها‪.‬‬
‫‪ .26‬إن مفهوم «متالزمة الناجي»‪ ،‬الذي ينطوي عىل الشعور بالذنب‪ ،‬قد وصفه ويليام‬
‫نيدرالند ألول مرة بعد دراساته املكثفة عىل الناجني من الهولوكوست‪ .‬اقرأ ويليام نيدرالند‪،‬‬
‫“‪:)1961 10 Journal of Hillside Hospital ”,The Problem of the Survivor‬‬
‫‪.247–233‬‬
‫‪ .27‬أوزكز ياشن‪a Mektuplar (Letters to My Son Savas)’Oglum Savas ،‬‬
‫‪.)(Nicosia: Çevre Yayınları, 1965), 18‬‬
‫‪ .28‬أوزكز ياشن‪(Istanbul: Varlık Kıbrıs Mektubu (The Cyprus Letter) ،‬‬
‫‪Istanbul: Varlık Kanlı Kıbrıs (Bloody Cyprus) Yayınları, 1958) and‬‬
‫‪ .)Yayınları, 1964‬ملزيد من املعلومات حول األحداث يف قربص‪ ،‬اقرأ فولكان‪،‬‬
‫‪.Cyprus— War and Adaptation‬‬
‫‪ .29‬تاهكا‪”.Dealing with Object Loss“ ،‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫‪ .30‬اقرأ فولكان‪ ،Blind Trust ،‬الذي أدرس فيه بالتفصيل تطور هوية املجموعة الكبرية‪.‬‬
‫‪ .31‬دونالد وينيكوت‪ ”.Transitional Objects and Phenomena“ ،‬يشغل الجسم‬
‫االنتقايل ح ّي ًزا بني «ليس‪-‬أنا» و«أمي‪-‬أنا»‪ .‬اقرأ أي ً ا فيليس غريناكر‪The Transitional “ ،‬‬

‫‪309‬‬
”,Object and the Fetish: With Special Reference to the Use of Illusion
.456–447 :)1970 51 International Journal of Psycho-Analysis
.‫ مثة الكثري من اإلشارات إىل دراسات عىل هذه الشاكلة وال يسعني تحديدها كلها هنا‬.32
،‫ وغابرييل أست‬،‫ فولكان‬.‫ميكن العثور عىل مراجعة جيدة ملثل هذه الدراسات يف فاميك دي‬
The Third Reich in the Unconscious: Transgenerational ،‫وويليام غرير‬
New York: Brunner-Routledge, Transmission and its Consequences
.)2002
Broken Spirits: The Treatment of ‫ جون ويلسون وبوريس دروزديك‬.33
New Traumatized Asylum Seekers, Refugees, War and Torture Victims
.)York: Brunner-Routledge, 2004
‫ سيزار غارزا غرييرو عن سيكولوجية‬.‫ كتب إيه‬،1974 ‫ يف عام‬،‫ عىل سبيل املثال‬.34
،‫ سيزار غارزا غرييرو‬.‫ إيه‬.‫ درست النزوح القرسي‬1979 ‫ ويف عام‬،‫الهجرة الطوعية‬
Journal of the ”,Culture Shock: Its Mourning and Vicissitudes of Identity“
،‫ وفولكان‬429–408 :)1974 22 American Psychoanalytic Association
.Cyprus—War and Adaptation
Psychoanalytic Perspectives on ،‫ ليون غرينبريغ وريبيكا غرينبريغ‬.35
trans. N. Festinger. (New Haven, CT: Yale ,Immigration and Exile
.University Press, 1989)
.Ibid., 67 .36
.The Need to Have Enemies and Allies ،‫ فولكان‬.37
Biculturalism and International “ ،‫ يوليوس‬.‫ دمييرتيوس إيه‬.38
56–53 :)1992 3 Mind and Human Interaction ”,Interdependence

310
International ”,Being a Refugee and Being an Immigrant“ ،‫ مارتن وانغ‬.39
.(Winter 1992): 15–17 Psychoanalysis
Mourning and Its Relation to Manic-Depressive “ ،‫ ميالين كالين‬.40
338–331 ,1945–1921 ,Contributions to Psychoanalysis in ”,States
Notes on Some Schizoid “ (London: Hogarth Press, 1940) and
ed. J. Riviere, 292–320 ,Development in Psychoanalysis in ”,Mechanisms
.(London: Hogarth Press, 1946)
trans. C. Trollope (London: ,Guilt and Depression ،‫ ليون غرينبريغ‬.41
.Karnac Books, 1992), 79
Immigration and Identity: Turmoil, Treatment and ،‫ سلامن أخرت‬.42
.)Northvale, NJ: Jason Aronson, 1999 Transformation
On Human Symbiosis and the Vicissitudes of ،‫ مالر‬.‫ مارغريت إس‬.43
.)New York: International Universities Press, 1968 Individuation
The Assault on Basic “ ،‫ روبن‬.‫ جي‬.‫ اقرأ أنطونيوس يس‬،‫ بالنسبة لألرجنتني‬.44
Cultures in ”,Trust: Disappearance, Protest, and Reburial in Argentina
ed. by Antonius C. G. ,Under Siege: Collective Violence and Trauma
Robben and Marcello M. Suarez-Orozco, 70–101 (Cambridge: Cambridge
The Heritage “ ،‫ سواريز أوروزكو‬.‫ اقرأ أي ً ا مارسيلو إم‬.University Press, 2000)
Psychological Aspects of Terror in Argentina, :’Dirty War‘ of Enduring a
.505–469 :)1991 18 Journal of Psychohistory ”,1976–1988
Linking Objects in “ ،‫ اقرأ سالفيكا جورسيفيتش وإيفان أورليك‬،‫بالنسبة لكرواتيا‬
Croatian Medical ”,the Process of Mourning for Sons Disappeared in War
.239–234 :)2001 43 Journal

311
‫‪ .45‬يف الوقت الراهن‪ ،‬أصبحت ملكية العقارات التي خلفها القبارصة اليونانيون يف‬
‫قربص الشاملية بعد عام ‪ ،1974‬مسألة قانونية وسياسية معقدة ج ًدا‪ ،‬إذ ما زال األتراك‬
‫واليونانيون يناضلون إليجاد حل ملشكلة قربص‪.‬‬
‫‪ .46‬فولكان‪.chap. 6 ,Cyprus—War and Adaptation ،‬‬
‫‪ .47‬يجب أن أذكر هنا أنني مل أج ِر أي دراسات يف الفلوجة‪ .‬وباالعتامد عىل معرفتي‬
‫املكتسبة يف مكان آخر‪ ،‬أتوقع ما سيحدث من الناحية النفسية لسكان تلك املدينة‪.‬‬
‫‪ .48‬وولف ويرديجري‪Hidden Images: Palestinians and Israelis—An ،‬‬
‫‪Vienna: Cultural Department, Austrian Archeology of the Unconscious‬‬
‫‪.)Federal Ministry of Education, 2003‬‬
‫‪ .49‬من الواضح أن هذا االختالف «الطفيف» مهم‪ .‬سأستخدم «تسخينفايل» هنا ألنه االسم‬
‫األشيع الذي يظهر يف املنشورات الدولية‪.‬‬
‫‪ .50‬فولكان‪Blind and ;Bloodlines ;The Need to Have Enemies and Allies ،‬‬
‫‪.Trust‬‬
‫‪ .51‬سيغموند فرويد‪in ”Group Psychology and the Analysis of the Ego“ ،‬‬
‫‪The Standard Edition of the Complete Psychological Works of vol. 18 of‬‬
‫‪ed.James Strachey, 65–143 (London: Hogarth Press, ,Sigmund Freud‬‬
‫)‪.1921–1955‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫‪ .52‬أصبح هذا النويف من «حل النزايف» من فرد إىل آخر شائ ًعا يف السنوات األخرية‪.‬‬
‫وبدعم من عدد من املنظامت الدولية يف الواليات املتحدة وأوروبا‪ ،‬جمعت مبادرات مختلفة‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬شبابًا من مجموعات متعارضة من أجل «تعزيز التفاهم من خالل التفاعل»‪ ،‬عىل حد‬
‫ً‬
‫تعبري أحد هذه الربامج‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬قد تض هذه اللقاءات‪ ،‬من دون تح ري دقيق‬

‫‪312‬‬
‫فمثال‪ ،‬تخيل إح ار مجموعة من املراهقني القبارصة‬
‫واسرتاتيجية مدروسة‪ ،‬أكرث مام تنفع‪ً .‬‬
‫األتراك واليونانيني إىل معسكر يف الواليات املتحدة قبل فتح الحدود بني الجانبني يف عام‬
‫‪ .2004‬سيلعب األطفال م ًعا يف املخيم تحت ضغط مقدمي الرعاية األجانب –الذين يتمثل‬
‫هدفهم املنطقي يف جعل األطفال «يحبون» بع هم البعض– وينظرون إىل بع هم البعض‬
‫كبرش‪ .‬ثم سيعودون بعد ب عة أسابيع إىل قربص حيث لن يسمح لهم الواقع السيايس بأي‬
‫نويف من التواصل‪ ،‬باستثناء الربيد اإللكرتوين رمبا‪ .‬سريتبك األطفال بسهولة‪ :‬إذ سيعزز‬
‫املعسكر األمرييك حالة ذهنية ال ميكن الحفاظ عليها حرف ًيا يف الوطن‪ .‬سيشعرون غال ًبا‬
‫بأنهم خونة إذا تحدثوا عن االستمتايف أو إذا استمروا يف التواصل عرب الربيد اإللكرتوين مع‬
‫أطفال «العدو»‪ .‬وبالتايل‪ ،‬دون دراسة دقيقة للسياقات النفسية طويلة املدى لألطفال‪ ،‬قد‬
‫تسفر هذه اللقاءات يف الواقع عن نتائج سلبية وقد تربك حتى الشباب املعنيني وتكدرهم‪.‬‬
‫‪ .53‬خالل زيارايت إىل جورجيا التي بدأت يف مايو ‪ ،1998‬الحظت من كثب كيف‬
‫تطورت مؤسسة التنمية البرشية إىل أداة قوية ملعالجة الق ايا املجتمعية الالحقة للصدمة‪.‬‬
‫طور نودار شارفيالدزه وزمالؤه برام ًجا للنازحني الداخليني الجورجيني يف تبلييس‬
‫وغوري‪ ،‬باإلضافة إىل فتح حوارات مع نظرائهم األوسيتيني الجنوبيني‪ .‬وكلام اندلعت‬
‫مناوشات جديدة عىل طول «الحدود» الجورجية–األبخازية وظهرت موجة جديدة من األفراد‬
‫والالجئني املصدومني‪ ،‬كان مؤسسة التنمية البرشية جاهزة للتعامل مع أوضاعهم الحادة‪.‬‬
‫ان م نودار نفسه إىل الجورجيني اخخرين يف املشاركة يف التفاعالت املبارشة مع األبخاز‪.‬‬
‫وعندما اجتاح الروس الشيشان‪ ،‬فر نحو مثانية آالف الجئ شيشاين إىل شامل جورجيا‪،‬‬
‫من مني إىل نحو سبعة آالف شيشاين كانوا هناك مسبقًا‪ .‬رغم أن السفر إىل شامل جورجيا‬
‫ريا للغاية‪ ،‬وجد نودار وزمالؤه طرقًا لتقديم املساعدة لهم‪ .‬وهم يواصلون حتى‬
‫كان خط ً‬
‫يومنا هذا تكريس طاقاتهم الكبرية ملا يسمونه «إعادة التأهيل االجتامعي» ملنطقتهم‬
‫املصدومة بعمق‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫‪ .54‬غال ًبا ما يحلم األطفال املصابون بصدمة بالتبول عىل النار‪ ،‬وهو رمز آخر للغ ب‪.‬‬
‫تعكس هذه األحالم رغبة هؤالء األطفال يف التفريغ وبالتايل التخلص من غ بهم‪ .‬كام أنه‬
‫ضد اإلحساس بغ بهم ومعرفته‪ :‬املاء البول) يطفئ النار‬ ‫يعكس دفاعهم العق‬
‫الغ ب)‪.‬‬

‫الفصل السادس‬
‫‪ .58‬فولكان‪Blind Trust ،‬؛ نورمان إيتزكويتز‪ ،”Enver Hoxha’s Albania“ ،‬ورقة‬
‫قرئت يف حلقة نقاش حول اإلرهاب والرتاجع املجتمعي‪ ،‬االجتاميف الشتوي لجمعية التحليل‬
‫النفيس األمريكية‪ ،‬نيويورك‪ 23 ،‬يناير ‪.2005‬‬
‫‪ .59‬نانيس هوالندر‪Love in Time of Hate: Liberation Psychology in ،‬‬
‫‪Latin America (New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 1997) and‬‬
‫‪ ،”“Frozen Grief and the Transitional Transmission of Trauma‬ورقة قرئت يف‬
‫حلقة نقاش حول اإلرهاب والرتاجع املجتمعي‪ ،‬االجتاميف الشتوي لجمعية التحليل النفيس‬
‫األمريكية‪ ،‬نيويورك‪ 23 ،‬يناير ‪.2005‬‬
‫‪ .60‬مايكل كييس‪Aceh Hostilities on Hold; Sri Lanka Split,” “ ،‬‬
‫‪.Associated Press, December 29, 2004‬‬
‫‪ .61‬تيم سوليفان‪A Civil War, a Tsunami, a Lost Opportunity: Sri “ ،‬‬
‫‪Lanka Descends into ‘Shadow War,’” Associated Press, September 18,‬‬
‫‪.2005‬‬
‫‪ .62‬للحصول عىل دراسة مفصلة لحادث كارداك‪/‬إمييا وللمقارنة بني هويات‬
‫الجامعات الرتكية واليونانية‪ ،‬انظر فولكان‪.Bloodlines ،‬‬
‫‪ .63‬ديفيد ل‪ .‬فيليبس‪Track Two: Beyond Traditional Diplomacy,” “ ،‬‬
‫‪.State Magazine (2000): 26–29‬‬

‫‪314‬‬
‫‪ .64‬يف كتاب ثقة عمياء ص ‪ ،)84‬كتبت‪« :‬تُظهر مالحظات األطفال الصغار أنهم‬
‫مهتمون مبا يخرج من أجسادهم –الرباز والبول– لكنهم غري مهتمني بالضورة بالدم‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬يدرك األطفال تدريج ًيا‪ ،‬من خالل اإلصابات النازفة‪ ،‬أنه يوجد يشء «حي» تحت جلدهم‪،‬‬
‫يف وقت تتطور فيه هويتهم األساسية‪ .‬فيتشابك إحساس الطفل بذاته‪« ،‬الحي» أي ً ا بداخله‪،‬‬
‫مثل الدم‪ ،‬مع فكرة الدم‪ :‬يرتبط الدم والهوية»‪.‬‬
‫‪ .65‬كاي إريكسون‪Loss of Community at Buffalo Creek,” American “ ،‬‬
‫‪Journal of Psychiatry 133 (1975): 302–325‬؛ جاي‪ .‬ل‪ .‬تيتشرن وف‪ .‬كاب‪،‬‬
‫‪Disaster at Buffalo Creek: Family and Character Change,” American‬‬
‫‪Journal of Psychiatry 133 (1976): 295–299‬؛ روبرت جاي‪ .‬ليفتون وي‪ .‬أولسون‪،‬‬
‫“ ”‪The Human Meaning of Total Disaster: The Buffalo Creek Experience,‬‬
‫‪Psychiatry 39 (1976): 1–18‬؛ وليو رانجيل‪Discussion of the Buffalo Creek “ ،‬‬
‫‪Disaster: The Course of Psychic Trauma,” American Journal of Psychiatry‬‬
‫‪.133 (1976): 313–316‬‬
‫ُمنح الناجون ‪ 13.5‬مليون دوالر‪ ،‬وزيف منه ‪ 6‬ماليني دوالر عىل أساس نظام النقاط‬
‫كتعويض عن األرضار النفسية‪ .‬وألول مرة‪ُ ،‬سمح لألفراد الذين مل يكونوا موجودين يف مكان‬
‫الكارثة بالتعايف من إصاباتهم العقلية‪ .‬كان مصطلح «اإلعاقة النفسية» هو املصطلح املصوغ‬
‫إلصابات الناجني املدعني‪.‬‬
‫‪ .66‬إريكسون‪”.Loss of Community at Buffalo Creek“ ،‬‬
‫‪ .67‬ر‪ .‬م‪ .‬ويليامز وك‪ .‬موري باركس‪Psychosocial Effects of Disaster: “ ،‬‬
‫‪.Birth Rate in Aberfan,” British Medical Journal 2 (1975): 303–304‬‬
‫‪ .68‬رافاييل موزس‪An Israeli Psychoanalyst Looks Back in 1983,” in “ ،‬‬
‫‪Psychoanalytic Reflections on the Holocaust: Selected Essays, ed. S. A.‬‬
‫‪.)Luel and P. Marcus, 52–69 (New York: KTAV Publishing, 1984‬‬

‫‪315‬‬
‫‪ .69‬وليامز وباركس‪Psychosocial Effects of Disaster: Birth Rate in “ ،‬‬
‫‪”.Aberfan‬‬
‫‪ .70‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ .71‬فولكان‪.Cyprus—War and Adaptation ،‬‬
‫‪ .72‬روبرت جاي‪ .‬ليفتون‪Death in Life: Survivors of Hiroshima (New ،‬‬
‫‪.)York: Random House, 1968‬‬
‫‪ .73‬موزس–هروشوفسيك‪.Grief and Grievance ،‬‬
‫‪ .74‬إيهود شربينزاك‪Brother Against Brother: Violence and Extremism ،‬‬
‫‪in Israeli Politics from Altena to the Rabin Assassination (New York: Free‬‬
‫‪.Press, 1999), xi‬‬
‫‪ .75‬املرجع نفسه‪.254-253 ،‬‬
‫‪ .76‬املرجع نفسه‪.277 ،‬‬
‫‪ .77‬أفنري فيلك‪A Psychohistory of Political Assassination: The Cases “ ،‬‬
‫‪ ،”of Lee Harvey Oswald and Yigal Amir‬ورقة مقدمة يف االجتاميف العلمي السنوي‬
‫الثاين والعرشين للجمعية الدولية لعلم النفس السيايس‪ ،‬أمسرتدام‪ 21-18 ،‬يوليو‪.1999 ،‬‬
‫للحصول عىل نسخة أقرص‪ ،‬انظر أفنري فيلك‪Political Assassination and “ ،‬‬
‫”‪Personality Disorder: The Cases of Lee Harvey Oswald and Yigal Amir,‬‬
‫‪.Mind and Human Interaction 12 (2001): 2–34‬‬
‫‪ .78‬يشري فيلك أن حغاي حسد إيغال لكونه االبن املف ل ألمهم‪ ،‬لكنه كبت هذا الحسد‬
‫وأجل أخيه األصغر‪ .‬يف وقت الحق‪ ،‬بينام كان الشقيقان ينتظران محاكمة اغتيالهام‪ ،‬كتب‬
‫ّ‬
‫حغاي لوالديه بغ ب من السجن‪« :‬لقد فعل إيغال الكثري‪ .‬وقد فعل ذلك لوجه الله فحسب‪.‬‬
‫أراد أن ينجح‪ ،‬وقد فعل‪ ،‬فلم تسقط شعرة من رأسه‪ .‬إن كان ذلك لهذه الغاية فحسب‪،‬‬

‫‪316‬‬
‫فسأحرتمه لبقية حيايت‪ ....‬ولن أقبل حتى أي ذرة إنكار لغايل من جانبكام‪ .‬إنه أكرب مني‬
‫ومنكام»‪ .‬من يديعوت أحرونوت‪ 21 ،‬ديسمرب ‪ ،1995‬ترجمه أفنري فيلك‪.‬‬
‫‪ .79‬فيلك‪”.A Psychohistory of Political Assassination“ ،‬‬
‫‪ .80‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -81‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ .82‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ .83‬إيرين ميسيلفيتز‪German Reunification: A Quasi Ethnic “ ،‬‬
‫‪ .Conflict,” Mind and Human Interaction 13 (2003): 77–86‬انظر أي ً ا فولف‬
‫فاغرن‪ ،‬الذي يوضح كيف يستمر كل جانب يف اعتبار سلوكه صحي ًحا بشكل طبيعي بينام‬
‫رسا سلوك اخخرين‪ .‬توضح دراسات فاغرن املستفي ة أنه بعد عقد تقريبًا من إعادة‬
‫يرفض ً‬
‫التوحيد‪ ،‬ما تزال أساليب العديد من األملان الرشقيني واألملان الغربيني السابقني يف الروتني‬
‫فمثال‪ ،‬يصافح األملان الغربيون السابقون بع هم يف‬
‫ً‬ ‫وأمناط السلوك اليومية مختلفة‪.‬‬
‫التقدميات الرسمية فقط‪ ،‬بينام يصافح األملان الرشقيون السابقون بع هم عندما يجتمعون‬
‫ألول مرة كل يوم‪Wolf Wagner, Kulturschock Deutschland 1 (Culture Shock .‬‬
‫‪Germany 1) (Hamburg: Rotbuch-Verlag, 1996) and Kulturschock‬‬
‫‪Deutschland; Der zweite Blick (Culture Shock Germany: The Second‬‬
‫‪.)View) (Hamburg: Rotbuch-Verlag, 1998‬‬
‫‪ .84‬فيوال دبليو‪ .‬برنارد‪ ،‬بريي أوتينبريغ‪ ،‬وفريتز ريدل‪Dehumanization: A “ ،‬‬
‫‪Composite Psychological Defense in Relation to Modern War,” in‬‬
‫‪Sanctions for Evil: Sources of Social Destructiveness, ed. N. Sanford and‬‬
‫‪ .)C. Comstock, 102–124 (San Francisco: Jossey-Bass, 1973‬انظر أي ً ا‬
‫سلامن أخرت‪Dehumanization: Origins, Manifestations, and Remedies,” in ،‬‬
‫‪Violence or Dialogue: Psychoanalytic Insights on Terror and Terrorism,‬‬
‫‪317‬‬
‫‪ed. Sverre Varvin and Vamık D. Volkan, 131–145 (London: International‬‬
‫‪.)Psychoanalytic Association, 2003‬‬

‫الفصل السابع‬

‫‪ .85‬ال يتطور عقل الطفل أو إحساسه بالهوية يف فرايف‪ .‬إذ يعتمد تطور عقل الفرد وإحساسه‬
‫املتسق بالتشابه أو الهوية) ون وج الوظائف العقلية بدرجة كبرية عىل طبيعة تفاعالت‬
‫الطفولة مع الوالدين‪ ،‬واإلخوة‪ ،‬وغريهم من األشخاص املهمني يف بيئة الطفل‪ .‬مثة أنوايف‬
‫ألي طفل‪ .‬وحتى يصل الطفل إىل‬ ‫محددة من التفاعالت مع اخباء رضورية للنمو العق‬
‫مرحلة املراهقة‪ ،‬تختلف عمليات حداد األطفال عن عملية حداد البالغني‪ .‬انظر مارثا‬
‫وولفنشتاين‪« ،‬الفقدان‪ ،‬الغ ب‪ ،‬والتكرار»‪ ،‬دراسة نفسية تحليلية للطفل ‪:)1969 24‬‬
‫‪ .460–432‬تشري عملية حداد البالغني إىل ارتباطه مبجموعة من الصور التمثيل الذهني)‬
‫للمتوىف وترويض تلك العالقة الداخلية بهذا التمثيل الذهني يف مجرى الحداد «العادي»‪.‬‬
‫أما األطفال‪ ،‬حتى عمر الثانية أو الثانية والنصف‪ ،‬ال يقدرون عىل املحافظة عىل التمثيل‬
‫ريا يلعب يف غرفته‪ .‬ووالدته يف الغرفة املجاورة‪ ،‬املطبخ‪،‬‬
‫طفال صغ ً‬
‫الذهني لآلخرين‪ .‬تخيل ً‬
‫تطهو الطعام‪ .‬بإمكان هذا الطفل أن يظل وحي ًدا طاملا ظل التمثيل الذهني –نويف من التوأم‬
‫الذهني– لوالدته موجو ًدا يف عقله‪ .‬ولكن‪ ،‬مبجرد أن يبدأ توأم األم الذهني يف التاليش‪،‬‬
‫يرصخ الطفل «أمي!» وتجيبه أمه‪ .‬أو قد يجري الطفل إىل املطبخ‪ ،‬يلمس األم‪ ،‬ثم يعود إىل‬
‫الغرفة األوىل ويستأنف اللعب‪ .‬ونقول هنا أن الطفل «يعيد تزويد» نفسه بتوأم األم الذهني‬
‫من خالل املخالطة الحقيقية واملتكررة لألم الحقيقية‪ .‬انظر مارغريت ماهلر‪ ،‬عن تعايش‬
‫اإلنسان وتقلبات التفرد‪ .‬ويف عمر الثانية أو الثانية والنصف‪ ،‬يرشيف الطفل يف املحافظة‬
‫عىل التمثيل الذهني للشخصية املهمة يف حياته يدعو علامء النفس التحليليني هذا تأسيس‬
‫استمرارية الكائن)‪ ،‬ولكن هذا التوأم الذهني يظل «هشً ا» لفرتة من الزمن‪ .‬ويُشكل هذا‬

‫‪318‬‬
‫التمثيل الذهني وفقًا لحاجات الطفل وأمانيه باإلضافة إىل تجاربه الحقيقية مع هذا‬
‫ وال بد من إشبايف مثل تلك الحاجات واألماين بطريقة أو بأخرى حتى يستوعب‬.‫الشخص‬
‫ بدرجة‬،‫ وجميعنا نظل باحثني عن مقدمي حاجاتنا وأمانينا‬.‫الطفل املهام التي يقدمها البالع‬
‫ والطفل الصغري يف حاجة إىل استيعاب وظائف األم املحبة حتى‬.‫ لبقية حياتنا‬،‫أو بأخرى‬
.‫ والطفل أي ً ا يف حاجة إىل أب يستجيب لحاجات وأماين محددة‬.‫يتعلم كيفية حب نفسه‬
‫فكر يف املرحلة األوديبية؛ إذ يعتمد حلها عىل املنافسة مع األب والتامهي معه بالنسبة‬
‫ فسيظل‬،‫ وإذا مل يكن األب موجو ًدا يف الواقع‬.‫ و«تأكيد» األنوثة بالنسبة للبنات‬،‫لألوالد‬
.»‫األطفال يف حاجة ذهنية إىل التعامل مع املرحلة األوديبية من خالل شخصية أب «خيالية‬
86. Tähkä, “Dealing with Object Loss.”
87. Ann Bennett Mix’s remarks appear on the AWON website.
88. Hollander, Love in Time of Hate: Liberation Psychology in Latin
America.
89. Ann Bennet Mix, Touchstones: A Guide to Records, Rights and
Resources for Families of American World War II Causalities
(Indianapolis, IN: James Publishers, 2003); Susan Johnson Hadler and
Ann Bennett Mix, Lost in Victory: Reflections of American War Orphans
of World War II (Denton, TX: University of North Texas Press, 1998).
90. Tom Brokaw, The Greatest Generation Speaks: Letters and Reflections
(Norwalk, CT: Easton Press, 1999). Also see an enlarged second version,
Tom Brokaw, The Greatest Generation (New York: Random House, 2004).
91. James E. Young, The Texture of Memory: Memorials and Meaning
(New Haven: Yale University Press, 1993), 4

319
92. Jeffrey Karl Ochsner, “A Space of Loss: The Vietnam Veterans
Memorial,” Journal of Architectural Education 10 (1997):156–171, 157
93. Ibid., 168.
94. Ibid., 171.

‫الفصل الثامن‬
95. Vamık D. Volkan, “The Tree Model: A Comprehensive Psychopolitical
Approach to Unofficial Diplomacy and the Reduction of Ethnic Tension,”
Mind and Human Interaction 10 (1999): 142–210.
96. For details of the Latvian National Cemetery story, see Volkan,
Bloodlines, chap. 8.
97. From 1920 to 1940, Estonia had been an independent country. For
CSMHI’s and the Carter Center’s work in Estonia, see Volkan, Bloodlines,
chap. 13, and Neu and Volkan, Developing a Methodology for Conflict
Prevention.
98. Volkan, “The Tree Model,” 156
‫ قد تعدل الجامعة املتأثر هويتها وقد ترشيف يف‬،»‫ عقب صدمة جسيمة عىل يد «اخخرين‬.99
‫ قد تقاوم تلك الجامعة تغيري‬،‫ ومن هذا املنطلق‬.‫استيعاب إحساس مشرتك باالضطهاد‬
‫ كلام حاولت‬.‫هويتها «الجديدة» وقد ال «تسمح» للجامعة األخرى بأن تبدي أي تعاطف معها‬
‫ يرشيف وفود جنوب أوسيتيا‬،‫الوفود الجورجية أن تبدي تعاطفًا مع سكان جنوب أوسيتيا‬
‫ ويوقف سكان جنوب أوسيتيا‬.‫يف القول بأنهم كانوا مساملني تجاه جريانهم عىل مر القرون‬
‫جهود الجورجيني يف إظهار التعاطف معهم باعتبار أنفسهم «أبرياء» و«طيبيني إىل أقىص‬

320
‫مدى» واعتبار الجورجيني «مذنبني»‪ .‬أي بعبارة أخرى‪ ،‬إذا كانت ثقافتهم تلزمهم بأن يكونوا‬
‫ودودين تجاه «اخخرين»‪ ،‬فليس عىل الجورجيني إال أن يلوموا أنفسهم عىل النزايف والعنف‪.‬‬
‫‪ .100‬من شأن العنف األرسي أن يربز نتيجة القوى املرضية النفسية القامئة داخل األرسة‬
‫نفسها‪ ،‬ولكنه يحدث أي ً ا نتيجة ضغوطات االنهيار املجتمعي‪ ،‬ويف أغلب األحوال يتداخل‬
‫هذين السببني‪ .‬فحني يصبح املجتمع غري مستق ًرا بسبب الحرب‪ ،‬أو التوترات اإلثنية‪ ،‬أو‬
‫االضطرابات االجتامعية‪ ،‬أو ترشيد السكان‪ ،‬أو التغري يف التوازن الجنيس يف القوى العاملة‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬حصول النساء عىل تعليم أعىل أو عملهن خارج املنزل)‪ ،‬يتغري هيكل‬
‫األرسة الذي يقوي الهويات الفردية والجامعية يف العادة‪ ،‬ما قد يؤدي إىل نشوب العنف‬
‫مثاال عىل ذلك‪ :‬سالينا امرأة روسية متزوجة برجل من جنوب أوسيتيا‬
‫األرسي‪ .‬وهنا نجد ً‬
‫كان ثريًا نسبيًا قبل الحرب مبعايري جنوب أوسيتيا‪ .‬ولديهام طفالن‪ .‬طبقًا للتقاليد األرسية‪،‬‬
‫تعيش الزوجة مع عائلة الزوج املمتدة‪ .‬ولذا‪ ،‬بعد الحرب‪ ،‬حني رحل زوج سالينا إىل موسكو‬
‫عمال‪ ،‬اضطرت سالينا إىل العيش مع عائلة زوجها‪ .‬وألنها مل تكن متتلك ماالً ‪،‬‬
‫يك يجد ً‬
‫افتتحت كشكًا ورشعت يف بيع األشياء لكسب املال‪ .‬ولكن‪ ،‬طبقًا للتقاليد‪ ،‬املرأة التي تعمل‬
‫مع العامة هي امرأة «منحلة»‪ ،‬وقد نُظر إىل سالينا عىل هذا النحو رغم أنها كانت يف الحقيقة‬
‫وفية لزوجها‪ .‬واتصلت عائلة زوجها بالزوج يف موسكو الذي كان له عشيقة هناك‪ ،‬وأخربوه‬
‫بتفاصيل عن زوجته «املنحلة»‪ .‬ويف النهاية أجربوا الزوجة عىل مغادرة املنزل ولكنهم‬
‫احتفظوا باألطفال‪ .‬وم ت سالينا يف العيش يف ال واحي‪ ،‬ولكنها عادت يف بعض األحيان‬
‫إىل تسخينفايل حتى تلقي نظرة عىل أطفالها من بعيد‪ .‬والحقًا‪ ،‬حني عاد زوجها إىل موسكو‬
‫وحاولوا العيش سويًا من جديد‪ ،‬رضبها زوجها بشدة‪ ،‬ما مل يرتك لها خيا ًرا سوى أن تتقبل‬
‫إساءة املعاملة تلك‪ .‬هذا املقطع مقتبس من عمل فاميك د‪ .‬فولكان‪ ،‬نينو ماكاشفي ‪ ،‬نودار‬
‫شارفيالدز‪ ،‬وإيسل فاهيب‪IREX Black and Caspian Sea Collaborative « ،‬‬
‫‪ ،»Research Program: Gender Issues and Family Violence‬وثيقة من مركز‬

‫‪321‬‬
‫ مركز دراسة العقل والتفاعل‬:‫ فريجينيا‬،‫دراسة العقل والتفاعل اإلنساين شارلوتسفيل‬
.8 ،)2005 ‫ يوليو‬،‫اإلنساين‬
101. Ochsner, “A Space of Loss,” 159
102. Ibid.
103. Carol Vogel, “Maya Lin’s World of Architecture, or Is It Art?” New
YorkTimes, May 9, 1994.
104. Robert Campbell, “An Emotive Apart,” Art in America (May 1983):
150–151.
105. Ibid.
106. Kurt Volkan, “The Vietnam War Memorial,” Mind and Human
Interaction 3 (1992): 73–77. For the controversy over black granite of the
memorial, see Jan C. Scruggs and Joel L. Swerdlow, To Heal a Nation: The
Vietnam Veterans Memorial (New York: Harper and Row, 1985).
‫ الشخص الذي فكر يف بناء معلم تذكاري‬،‫ رامي يف حرب فيتنام‬،‫ كان جان سكراغس‬.107
.‫ألولئك الذين خدموا يف حرب فيتنام يحمل أسامء جميع من قُتل يف تلك الحرب بالنقش‬
.‫ شفاء أمة‬،‫ انظر سكراغس وسويردلو‬،‫وللمزيد عن تلك القصة‬
‫ أفاد تقرير البناء بأن عدد املقتولني واملفقودين‬،‫خطط لبناء هذا النصب التذكاري‬
ُ ‫ حني‬.108
58,000 ‫ واخن مثة أكرث من‬.‫ أُضيفت أسامء أخرى‬،‫ والحقًا‬.‫ فر ًدا‬57,692 ‫الوارد أسامءهم‬
.‫اسام معروضً ا‬
ً
109. Ochsner, “A Space of Loss,” 159.
110. K. Volkan, “The Vietnam War Memorial,” 75.
111. Ibid.
112. Ibid.

322
113. There are a few exceptions. See Rafael Moses and Rena
MosesHrushovski, “Two Powerful Tools in Human Interactions: To Accept
One’s Fault and to Ask for Forgiveness,” in Psikopatoloji ve Psikoanalitik
Teknik (Psychopathology and Psychoanalytic Technique), ed. Ayhan
Egrilmez and Isıl Vahip (Izmir, Turkey: Meta, 2002); Volkan, Bloodlines;
and Salman Akhtar, New Clinical Realms: Pushing the Envelope of Theory
and Technique (Northvale, NJ: Jason Aronson, 2003). Joseph V. Montville,
a career diplomat with great insights about political psychology, also wrote
about “apology” and “forgiveness.” See Joseph V. Montville, “Justice and
the Burdens of History,” in Reconciliation, Coexistence, and Justice in
Interethnic Conflict: Theory and Practice, ed. Mohammed Abu Nimr, 129–
144 (Lanham, MD: Lexington Books, 2001) and “Religion and
Peacemaking,” in Forgiveness and Reconciliation: Religion, Public Policy,
and Conflict Transformation, ed. Raymond G. Hemlick and Rodney L.
Peterson, 97–116 (Philadelphia: Tempelton Foundation Press, 2001).
Also see Journal of the American Psychoanalytic Association 53, no. 2
(2005), which is devoted to “love, shame, revenge, and forgiveness.”
114. Willy Brandt, Erinnerungen: Mit den Notizen zum Fall G (Berlin:
Ullstein, 1994).
‫ قد يلتمس شخص كاثولييك يف‬،‫فمثال‬
ً .‫ مفهوم «املغفرة» جزء من الدين املسيحي‬.115
‫ وميكن تفسري مفهومي ميتا وكارونا البوذيني الحب‬.‫غرفة االعرتاف «املغفرة» عىل ذنوبه‬
،»‫ منظورات رشقية‬:‫ ماهيندران «املغفرة بني األمم‬.‫ انظر س‬.‫واملودة والشفقة) مبعنى املغفرة‬
ً ‫ كنت حا‬.13–12 :)1994 5 ‫عقول دولية‬
‫رضا يف مجتمع دبلومايس يحضه دبلوماسيون‬

323
‫مسلمون ومسيحيون‪ .‬وقد أرص املشاركون املسلمون عىل أن مفهومي «االعتذار» و«املغفرة»‬
‫ليسا جز ًءا من ثقافتهم الدينية‪.‬‬
‫‪116. For the Serbian sense of being victims, see Marko S. Markovic, “The‬‬
‫‪Secret of Kosovo,” in Landmarks in Serbian Culture and History, trans. C.‬‬
‫‪Kramer, ed. V. D. Mihailovich, 111–131 (Pittsburgh, PA: Serb National‬‬
‫‪Foundation, 1983); Prince Lazarovich-Hrebelianovich and Eleanor‬‬
‫‪Calhoun, The Serbian People, vol. 1 (New York: Scribner’s, 1910). For‬‬
‫‪Armenians’ response to a collective sense of loss during the last years of‬‬
‫‪the Ottoman Empire and massacres and displacements before World War‬‬
‫‪I, see Gerard Jinair Libaridian, ed., Armenia at the Crossroads: Democracy‬‬
‫‪and Nationhood in the Post-Soviet Era (Watertown, MA: Blue Cross Books,‬‬
‫‪1991).‬‬
‫‪117. Volkan, Bloodlines.‬‬
‫‪118. Nikos Kazantzakis, Report on Greco, trans. P.A. Bien (New York:‬‬
‫‪Simon and Schuster, 1965).‬‬
‫‪ .119‬أطلقت جامعة من األكراد يف تركيا بقيادة عبد الله أوكاالن يف ‪ 1978‬عىل نفسها اسم‬
‫حزب العامل الكردي‪ ،‬ويف ‪ 1984‬شنت تلك الجامعة حملة إرهابية أدت يف النهاية إىل‬
‫عرشات اخالف من حاالت الوفاة‪ .‬لدراسة نفسية عن السرية الذاتية لعبد الله أوكاالت‪ ،‬انظر‬
‫فولكان‪ ،‬سالالت‪ ،‬الفصل الحادي عرش‪ .‬وعقب حملة اإلرهاب تلك‪ ،‬أضحت الفروقات اإلثنية‬
‫بني مواطني تركيا ظاهرة للعامة بصورة أوضح‪ .‬ويف ‪ 2005‬أبهج موسم تلفزيوين يف‬
‫تركيا الجامهري بعدد كبري من املسلسالت التي تعامل مع ق ايا الهوية والسياسة القومية‪.‬‬
‫وقد تعامل هذا الربنامج التلفزيوين مع مشاكل قومية خطرية ا ُعتربت يف يوم ما حساسة‬
‫للغاية عىل أن تُعرض يف أوقات الذروة‪ :‬العالقات اليونانية الرتكية‪ ،‬والتوترات الطائفية‪،‬‬

‫‪324‬‬
.‫ وحروب اليمني واليسار يف سبعينيات القرن العرشين‬،‫ واملسألة الكردية‬،‫وصعود اإلسالم‬
.2005 ‫ مارس‬12 ،‫انظر إجينس فرانس بريس‬
120. These numbers are taken from Justin McCarthy’s research. Justin
McCarthy, Death and Exile (Princeton: Darwin Press,1995).
121. For a review, see Judith Kestenberg and Ira Brenner, The Last
Witness (Washington, D.C.: American Psychiatric Press, 1996); Ilany
Kogan, The Cry of Mute Children: A Psychoanalytic Perspective of the
Second Generation of the Holocaust (London: Free Association Books,
1995); Volkan, Ast, and Greer, The Third Reich in the Unconscious.
122. Vamık D. Volkan, “On Chosen Trauma,” Mind and Human Interaction
4 (1991): 3–19; Volkan, Bloodlines; and Volkan, Blind Trust. 123. Robert
D. Kaplan, Balkan Ghosts: A Journey Through History (New York: Vintage
Books, 1993); Volkan, Blind Trust. See also, Vamık D. Volkan and Norman
Itzkowitz, Turks and Greeks: Neighbours in Conflict (Cambridgeshire,
England: Eothen Press, 1994).

‫الفصل التاسع‬
124. Anna Freud and Dorothy Burlingham, War and Children (New York:
International Universities Press, 1942).
125. Harry S. Sullivan, Schizophrenia as a Human Process (New York: W.
W. Norton, 1962).
126. Mahler, On Human Symbiosis and the Vicissitudes of Individuation.

325
127. Daniel N. Stern, The Interpersonal World of the Infant (New York:
Basic Books, 1985); Stanley I. Greenspan, The Development of the Ego:
Implications for Personality Theory, Psychopathology and the
Psychotherapeutic Process (Madison, CT: International Universities
Press, 1989); and Robert N. Emde, “Positive Emotions for Psychoanalytic
Theory: Surprises from Infancy Research and New Directions,” Journal of
the American Psychoanalytic Association 39 (Supplement 1991): 5–44.
128. Johannes Lehtonen, “Research: The Dream Between Neuroscience
and Psychoanalysis: Has Feeding an Impact on Brain Function and the
Capacity to Create Dream Images in Infants?” Psychoanalysis in Europe
57 (2003): 175 –182; Johannes Lehtonen, M. Kononen, M. Purhonen, J.
Partanen, S. Saarikoski, and K. Launiala,“The Effect of Nursing on the
Brain Activity of the Newborn,” Journal of Pediatrics 132 (1998): 646–
651; Johannes Lehtonen, M. Kononen, M. Purhonen, J. Partanen, S.
Saarikoski, and K. Launiala “The Effects of Feeding on the
Electroencephalogram in 3- and 6-Month Old Infants,” Psychophysiology
39 (2002): 73–9 and M. Purhonen, A. Pääkkönen, H. Yppärilä, Johannes
Lehtonen, and J. Karhu, “Dynamic Behavior of the Auditory N100
Elicited by a Baby’s Cry,” International Journal of Psychophysiology
41(2001): 271–278.
129. Vamık D. Volkan and As’ad Masri, “The Development of Female
Transsexualism,” American Journal of Psychotherapy 43 (1989): 92–
107.

326
130. Robert Zuckerman and Vamık D. Volkan, “Complicated Mourning
over a Body Defect: The Making of a ‘Living Linking Object,’” in The
Problem of Loss and Mourning: Psychoanalytic Perspectives, ed. by D.
Deitrich and P. Shabad, 257–274. (New York: International Universities
Press. 1988).
‫ ميكن أي ً ا أن تكون الحدود النفسية نافذ ًة يف العالقة بني طفل نام وأب أو‬.131
‫ أو بني شخصني بالغني عندما ينتسبان إىل بع هام يف حاالت‬،‫ويص عىل رعايته‬
‫ ونظ ًرا ألن األشخاص املحلَلني ينتكسون عالج ًيا وينتكس‬.‫مرتاجعة أو مرتاجعة جزئ ًيا‬
‫ ميكن أن تالحظ نفاذية لحدود بني شخصني‬،»‫«كال منهم خدم ًة لآلخر‬
ً ‫املحللون أي ً ا‬
Stanley L.Olinick, The ‫ انظر‬.‫بالغني أي ً ا يف خالل الجلسات التحليلية‬
‫ بنا ًء عىل‬.Therapeutic Instrument (New York: Jason Aronson, 1980), 7
‫ سريلس عن «اقتياد اخخر للجنون» ودرس شيلدون هيث‬.‫ كتب هارولد ف‬،‫مالحظات كهذه‬
Harold F. .‫كيف ميكن لألفراد املكتئبني أن ميرروا اكتئابهم إىل محلليهم النفسيني‬
Searles, “The Effort to Drive the Other Person Crazy: An Element in the
Aetiology and Psychotherapy of Schizophrenia,” in Collected Papers on
Schizophrenia and Related Subjects, 254–283 (New York: International
Universities Press, 1959) and Sheldon Heath, Dealing with the
Therapist’s Vulnerability to Depression (Northvale, NJ: Jason Aronson,
.1991)
.‫ «اإليدايف» نويف مستمر وخاص ج ًدا من التعريف اإلسقاطي للهوية الذاتية‬.132
Vamık D. Volkan, Six Steps in the Treatment of Borderline ‫انظر‬
Organization (Northvale, NJ: Jason Aronson, 1987) and Personality
.Volkan, Ast, and Greer, The Third Reich in the Unconscious
327
‫‪ .133‬ليست التجارب التي خلقت هذه الصور الذهنية لدى البالغ «متاحة الوصول»‬
‫بالنسبة للطفل‪ .‬ومع ذلك فإن هذه الصور الذهنية توديف يف الطفل أو تدفع إىل داخله‪،‬‬
‫فعال الفرد‬
‫فمثال‪ ،‬قد ال يعرف الطفل ً‬
‫ً‬ ‫ولكن دون «اإلطار» التجريب‪/‬السياقي الذي أنتجها‪.‬‬
‫الذي زرعت صورته الذهنية يف متثيل الطفل الذايت لنفسه‪ ،‬ويشري مصطلح جوديث‬
‫كستنربغ «النقل العابر لألجيال» ‪،‬عىل ما أعتقد‪ ،‬إىل «إيدايف الصور»‪Judith .‬‬
‫‪Kestenberg, “A Psychological Assessment Based on Analysis of a‬‬
‫‪Survivor’s Child,” in Generations of the Holocaust, ed. by M. S. Bergmann‬‬
‫‪and M. E. Jucovy, 158–177 (New York: Columbia University Press,‬‬
‫)‪.1982‬‬
‫‪134. A. C. Cain and B. S. Cain, “On Replacing a Child,” Journal of‬‬
‫;‪the American Academy of Child Psychiatry 3 (1964): 443–456‬‬
‫‪Poznanski, “The ‘Replacement Child’”; and Volkan and Ast, Siblings in‬‬
‫‪the Unconscious and Psychopathology.‬‬
‫متثيال غري متكامل‬
‫ً‬ ‫‪ .135‬إذا مل تنجح هذه املهمة‪ ،‬فقد ينشأ لدى الطفل البديل‬
‫للذات وبالنتيجة منظومة شخصية حدية أو نرجسية‪ .‬انظر ‪Volkan, Six Steps in the‬‬
‫‪.Treatment of Borderline Personality Organization‬‬
‫‪ .136‬نرش سجل كامل لتحليل بيرت سابقًا باللغة األملانية‪Vamık D. Volkan .‬‬
‫& ‪and Gabriele Ast, Spektrum des Narzissmus (Göttingen: Vanderhoeck‬‬
‫)‪.Ruprecht, 1994‬‬
‫‪137. Volkan, Six Steps in the Treatment of Borderline Personality‬‬
‫‪Organization.‬‬
‫«شخصا‬
‫ً‬ ‫‪ .138‬يف أثناء املرحلة النهائية من تحليل بيرت‪ ،‬اعترب املحلل بوضوح‬
‫حا «موضو ًعا جدي ًدا»)‪ ،‬بينام يف املراحل السابقة لتحليله فقد اعترب‬
‫جدي ًدا» يسمى اصطال ً‬
‫‪328‬‬
‫ للمزيد عن‬.‫املحلل ذاته «الجائعة» الخاصة وبأنه ميثل صور اخخرين املهمني يف طفولته‬
Hans Loewald, “On the Therapeutic Action of ‫ انظر‬،»‫«املوضوعات الجديدة‬
Psychoanalysis,” International Journal of Psycho-Analysis 41 (1960):
.16–33
139. A. A. Bocksel, Rice, Men and Barbed Wire: A True Epic of
Americans as Japanese POW’s (Hauppage, NY: Michael B. Glass &
Associates, 1991) and S. Stewart, Give Us This Day (New York: Avon
Books, 1990).
140. Erik H. Erikson, Childhood and Society (New York: W. W. Norton,
1950).
141. A. Hopkins, “Pearl Harbor, Day of Infamy,” Time Magazine,
December 2, 1991.

‫الفصل العارش‬
142. Vamık D. Volkan and Norman Itzkowitz, “Istanbul, not
Constantinople: The Western World’s View of ‘the Turk,’” Mind and
Human Interaction 4 (1993): 129–134, and Turks and Greeks:
Neighbours in Conflict.
143. Robert Schwoebel, The Shadows of the Crescent: The Renaissance
Image of the Turk, 1453–1517 (New York: St. Martin Press, 1967).
.14 ،‫ املرجع نفسه‬.144
145. Kenneth Young, The Greek Passion: A Study in People and Politics
(London: J. M. Dent & Sons, 1969).

329
146. References to Giovanni Maria Filelfo can be found in Monumenta
Hungariae, XXIII, part one, no. 9, 308, 309, 405, and 453 and to Felix
Fabri in Evagatorium III, 236–239. See also Schwoebel, The Shadows of
the Crescent.
147. Niyazi Berkes, Türk Düsününde Batı Sorunu (The Western Question
in Turkish Thought) (Ankara: Bilgi Yayınevi, 1988).
148. T. de Motolinia, History of Indians of New Spain, trans. F. B. Steck
(Washington, D.C.: Academy of American Franciscan History, 1951).
149. Max Harris, “Hidden Transcripts in Public Places,” Mind and
Human Interaction 3 (1992): 63–69.
150. Volkan and Itzkowitz, Turks and Greeks: Neighbours in Conflict and
Talat Halman, “Istanbul,” in The Last Lullaby, 8–9 (Merrick, NY: Cross
Cultural Communications, 1992).
151. Michael Herzfeld, Ours Once More: Ideology and the Making of
Modern Greece (New York: Pella, 1986).
152. Nikolaos G. Politis, “Khelidhonisma” (Swallow Song), Neoelinika
Analekta 1 (1872): 354–368; Introductory Lecture for the Class in
Hellenic Mythology (in Greek) (Athens, Greece: Aion, 1882); Spyridon
Zamblios, “Some Philosophical Researches on the Modern Greek
Language” (in Greek), Pandora 7 (1856): 369–380, 484–489 and
Whence the Vulgar Word Traghoudho? Thoughts Concerning Hellenic
Poetry (in Greek), (Athens, Greece: P. Soutsas and A. Ktenas, 1859).

330
153. Paschalis M. Kitromilides, “‘Imagined communities’ and the Origins
of the National Question in the Balkans,” in Modern Greek Nationalism
and Nationality, ed. by M. Blickhorn and T. Veremis, 23–65 (Athens,
Greece: SageEliamep, 1990), 35.
154. Kyriacos C. Markides, The Rise and Fall of the Cyprus Republic
(New Haven, CT: Yale University Press, 1977), 10.
.‫ املرجع نفسه‬.155
156. M. S. Markovic, “The Secret of Kosovo.”
157. Roy Gutman, Witness to Genocide: The 1993 Pulitzer Prize-
Winning Dispatches on the “Ethnic Cleansing” of Bosnia (New York:
Maxwell Macmillan International, 1993), x.
.‫ املرجع نفسه‬.158
.‫ املرجع نفسه‬.159
160. Beverly Allen, Rape Warfare: The Hidden Genocide in Bosnia-
Herzegovina and Croatia (Minneapolis, MN: University of Minnesota
Press, 1946).
161. Volkan, Blind Trust.
‫ املرجع نفسه‬.162

‫الفصل الحادي عرش‬


Identity: Youth and Crises (New York: W.W. ،‫ إيركسون‬.‫ إيريك إتش‬.163
،Norton
41.،1968)

331
‫‪ .164‬جاي‪ .‬أندرسون تومسون‪or: How،“Killer Apes on American Airlines ،‬‬
‫‪ ”،Religion Was the Main Hijacker on September 11‬يف ‪Violence or‬‬
‫?‪Dialogue‬‬
‫‪ ،Psychoanalytic Insights on Terror and Terrorism‬مراجعة سيفريي فارفني‬
‫وفاميك دي‪ .‬فولكان‪،London: International Psychoanalysis Library 84–73 ،‬‬
‫‪ .)2003‬انظر أي ً ا ريتشارد رانغهام‪“Is Military Incompetence Adaptive? Apes ،‬‬
‫‪and‬‬ ‫‪the‬‬ ‫‪Origins‬‬
‫‪” Evolution and Human Behavior 20 (1999): 3–17;،of Human Violence‬‬
‫ريتشارد رانغهام ودي‪ .‬بيرتسون‪،Demonic Males (Boston: Houghton Mifflin ،‬‬
‫‪ 1996).‬كتب كل من دايفيد إم‪ .‬بوس وجوشوا دي‪ .‬دانت من جامعة تكساس‪-‬أوسنت أي ً ا‬
‫حول هذا املوضويف‪“Murder by Design: The Evolution of Homicide” (in press). :‬‬
‫يب‪ .‬بارستون‪1988).،Modern Diplomacy (New York: Longman ،‬‬
‫‪ .165‬رونالد ّ‬
‫‪ .166‬يرتبط مفهوم األخالق يف التحليل النفيس مبفهوم «األنا العليا»‪ .‬ال تستند أخالق الفرد‬
‫عىل ما يرص عليه اخباء واملعلمون أو عىل التحذيرات الدينية وحسب‪ .‬ينظر طالب التنمية‬
‫البرشية إىل األنا العليا‪ ،‬التي تسمى بشكل غري دقيق «ال مري»‪ ،‬عىل أنها تنشأ من مزيج‬
‫من صيغ التسوية التي تتعامل مع الرصاعات العقلية‪ ،‬التي تتبلور غالبًا خالل املرحلة‬
‫األوديبية من حياة املرء‪ .‬تخيلوا ول ًدا يف املرحلة األوديبية‪ .‬تتسبب رصاعاته األوديبية‬
‫مبخاوف من فقدان أحبته و‪/‬أو من يحبه‪ ،‬باإلضافة إىل املعاقبة واإلخصاء‪ .‬وبعدها يصبح‬
‫«أخالق ًيا» بالطريقة التي متليها عليه تخيالته‪ ،‬من أجل التخفيف من القلق وغريه من املشاعر‬
‫املزعجة‪ .‬من املحتمل أن يرى نفسه يف تصوره عن أبيه أو أمه الذين مينعونه أو قد يبتعد عن‬
‫املنافسة يف محاولة لتجنب العقوبة املتوقعة‪ .‬نظ ًرا ألن بداية األخالق مرتبطة بالخوف‬
‫الالواعي القلق) وغريه من املشاعر املزعجة األخرى‪ ،‬تزيد رصامة األنا العليا التي يطورها‬
‫الطفل كلام زاد القلق أو التأثري السيئ عليه‪ .‬تبني التحقيقات التحليلية النفسية أن الحس‬

‫‪332‬‬
‫األخالقي املقنع لدى املرء يساوي الحاجة امللحة لتجنب العقاب‪ .‬وبنا ًء عىل مالحظات تحليلية‬
‫نفسية‪ ،‬ال يجب أن نتفاجأ حني نكتشف أن الحس األخالقي ال يعتمد عليه يف املواقف التي‬
‫تنطوي عىل نزعات رجعية‪ .‬ميكن قول اليشء نفسه عن املجتمعات التي تكون فيها هوية‬
‫املجموعة الكبرية تحت خطر التهديد‪ .‬لذلك قد يظهر الفساد األخالقي ضمن املجتمع من أجل‬
‫حامية هوية املجموعة الكبرية‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬ال يبقى الطفل يف املرحلة األوديبية إن كان منوه «طبيع ًيا»‪ ،‬بل يطور‬
‫اعتداال‪ ،‬ف ًال عن آليات عقلية أكرث تعقي ًدا من أجل‬
‫ً‬ ‫تكامال وقانونًا أخالق ًيا أكرث‬
‫ً‬ ‫أنا عليا أكرث‬
‫حامية األنا العليا املتكاملة والقانون األخالقي املعتدل‪ .‬ولكن لسوء الحظ‪ ،‬قد تحدث‬
‫انتكاسات تطال األفراد واملجتمعات يف ظل ظروف معينة‪ .‬ال يتفاجأ املحللون النفسيون‬
‫حني يالحظون فساد ما يسمى القيم الوطنية واملثل العليا األخرى يف ظل ظروف سياسية‬
‫ودولية خطرية معينة‪.‬‬
‫‪« .167‬تكهن» سيغموند فرويد أي ً ا حول املجموعات البرشية األوىل‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫كتب عن كيفية تحريم البرش األوائل لسفاح القرىب‪ .‬سيغموند فرويد‪“Totem and ،‬‬
‫‪” vol. 13 of The Standard Edition of the Complete،Taboo‬‬
‫‪ ،Psychological Works of Sigmund Freud‬مراجعة جيمس سرتاتيش‪1–162. ،‬‬
‫‪(London:‬‬
‫‪1913–1955).،Hogarth Press‬‬
‫‪ .168‬هارولد إتش‪ .‬سوندرز‪“Official and Citizens in International ،‬‬
‫‪Relationships:‬‬
‫‪ ”،The Dartmouth Conference‬يف ‪The Psychodynamics of International‬‬
‫‪ ، Unofficial Diplomacy at Work، vol. 2،Relationships‬مراجعة فاميك دي‪ .‬فولكان‬
‫وجوزيف يف‪ .‬مونتفيل ودميرتيوس إيه‪ .‬يوليوس‪MA: ،41–69 (Lexington ،‬‬

‫‪333‬‬
‫‪Lexington‬‬
‫‪1991).،Books‬‬
‫‪ .169‬أبا إيبان‪The New Diplomacy: International Affairs in the Modern Age ،‬‬
‫‪1983).،(New York: Random‬‬
‫‪ .170‬هارولد نيكلسون‪1963)،Diplomacy (London: Oxford University Press ،‬‬
‫‪ .171‬إيبان‪386.،The New Diplomacy ،‬‬
‫‪ .172‬أسست مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي يف عام ‪ 1987‬واستمريت يف إدارته‬
‫حتى عام ‪ .2002‬كان مساعد وزير الخارجية السابق يف ظل كارتر‪ ،‬هارولد سوندرز‪ ،‬ع ًوا‬
‫يف املجلس االستشاري ملركز دراسة العقل والتفاعل البرشي يف تلك الفرتة الزمنية‪ .‬شارك‬
‫سوندرز يف سلسلة مؤمترات دارمتوث وسمعت منه عن العمليات الداخلية لهذه االجتامعات‪.‬‬
‫سميت السلسلة بهذا االسم بسبب عقد االجتاميف األول يف كلية دارمتوث يف هانوفر بوالية‬
‫نيو هامبشاير)‪ .‬تجسدت بعض املفاهيم التي تتناول األبعاد اإلنسانية للرصايف بني الواليات‬
‫املتحدة واالتحاد السوفييتي‪ ،‬مثل حرمان بع هم البعض من وجود عدو‪ ،‬يف الترصيحات‬
‫والخطابات الرسمية‪ ،‬وال سيام التي رصح بها ميخائيل جورباتشوف‪ .‬حضت ريتا روجرز‪،‬‬
‫أحد األع اء يف املجلس االستشاري يف مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬مؤمترات‬
‫بوغواش بانتظام‪ ،‬التي كانت مهم ًة حني بدأ السوفييت يف إرسال الباحثني ذوي النفوذ‬
‫السيايس‪ .‬كان هذان املؤمتران مبثابة جرسين يف املفاوضات الدبلوماسية‪ ،‬وال سيام بني‬
‫الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪ .‬أرشت يف املقدمة إىل األنشطة يف مؤسسة إيسالن‪،‬‬
‫والتي تعترب مهمة أي ً ا يف الحفاظ عىل روابط حقيقية بني الرشق والغرب خالل األوقات‬
‫العصيبة‪.‬‬
‫‪ .173‬تشارلز ليفنسون‪1978);،Vodka Cola (London: Gordon and Cremonesi ،‬‬
‫مارشال آي‪ .‬غولدمان‪Détente and Dollars: Doing Business with Soviets (New ،‬‬

‫‪334‬‬
،‫ جونسون ومراجعون‬.‫ بريمان وجوزيف إي‬.‫ مورين آر‬1975);،York: Basic Books
1977).،Unofficial Diplomats (New York: Columbia University Press
‫” يف‬،“Backstage Mediation in the Cuban Missile Crises ، ‫ جون صق‬.174
‫ ماكدونالد‬.‫ مراجعة جون دبليو‬،Conflict Resolution: Tract Two Diplomacy
D.C.: Center for the Study of ،(Washington ‫ بينداماين‬.‫ يب‬.‫وجونيور ودي‬
1987).،Foreign Affairs
“Interactive Problem Solving: The Uses and Limits of ،‫ هريبرت كيلامن‬.175
The ‫ يف‬a Therapeutic Model for the Resolution of International Conflict”
‫ مراجعة فولكان‬، vol. 2،Psychodynamics of International Relationships
145–160. ،‫ومونتفيل ويوليوس‬
“The Arrow and the Olive branch. A Case for Tract ،‫ مونتفيل‬.‫ جوزيف يف‬.176
‫ مراجعة جون‬،” in Conflict Resolution: Tract Two Diplomacy،Two Diplomacy
D.C.: U.S. Government ،5–20 (Washington ،‫ بينداماين‬.‫ يب‬.‫ماكدونالد ودي‬
Printing
1987).،Office
The Other Walls: The Politics of the Arab-Israeli ،‫ سوندرز‬.‫ هارولد إتش‬.177
1985).، D.C.: American Enterprise Institute،Peace Process (Washington
.http://www.usip.org ‫ أنظر‬.178
‫ ضم املشاركون يف هذا االجتاميف دبلوماسيني وعلامء سياسيني وعلامء نفس ومحللني‬.179
‫ وستيفن‬،‫ وجون بورتون‬،‫ وإدوارد عازار‬،‫ وهم ريتشارد أرندت‬،‫نفسيني وعلامء اجتاميف‬
‫ وجوزيف‬،‫ وجيمس الو‬،‫ وهربرت كيلامن‬،‫ ودميرتيوس يوليوس‬،‫ وهارييت كروسبي‬،‫كوهني‬
‫ وحض أي ً ا السفري املتقاعد صمويل لويس‬.‫ وفاميك فولكان‬،‫ وهارولد سوندرز‬،‫مونتفيل‬
.‫ الذي كان آنذاك رئيس معهد الواليات املتحدة للسالم‬،‫بصفة مراقب‬

335
‫‪ .180‬نرش مجلدين من العروض التقدميية يف ذلك االجتاميف‪ .‬فاميك دي‪ .‬فولكان وجوزيف‬
‫‪The‬‬ ‫ومراجعون‪،‬‬ ‫يوليوس‬ ‫ودميرتيوس‬ ‫مونتفيل‬ ‫يف‪.‬‬
‫‪، Concepts and Theories، vol. 1،Psychodynamics of International Relations‬‬
‫وفولكان ويوليوس ومونتفيل‬ ‫‪1990)، MA: Lexington Books،(Lexington‬‬
‫ومراجعون‪vol. 2.،The Psychodynamics of International Relationships ،‬‬
‫استخدم العديد من «الطالب» هذين املجلدين لتوضيح مفهوم «الدبلوماسية غري الرسمية»‪.‬‬
‫تأثر جون دبليو‪ .‬بورتون‪ ،‬الذي كان الرئيس الدائم لوزارة الخارجية األسرتالية يف‬
‫عام ‪ 1947‬واملفوض السامي لسيالن يف عام ‪ ،1955‬بنظريات «االحتياجات اإلنسانية»‪.‬‬
‫‪“Conflict‬‬ ‫‪Resolution‬‬ ‫‪as‬‬ ‫‪a‬‬ ‫‪Political‬‬ ‫بورتون‪،‬‬ ‫دبليو‪.‬‬ ‫جون‬
‫‪ ”،System‬يف ‪ ، vol. 2،The Psychodynamics of International Relations‬مراجعة‬
‫فولكان ومونتفيل ويوليوس‪1991).، MA: Lexington Books،71–92 (Lexington ،‬‬
‫اعتقد بورتون أن املشاركني البرشيني يف حاالت الرصايف «يكافحون ال إراديًا يف بيئاتهم‬
‫املؤسسية الخاصة عىل جميع املستويات االجتامعية من أجل تلبية االحتياجات األساسية‬
‫والشاملة – كاالحتياج إىل األمن واالعرتاف والتنمية» املرجع نفسه‪ .)88 ،‬ولذلك تناولت‬
‫محاوالته يف «حل النزاعات» مطالب إعادة التنظيم املؤسيس بشكل أسايس بدالً من املواقف‬
‫املتغرية والتوافق القرسي ضمن معايري سلوكية معينة‪ .‬هناك نوعان من النزاعات وفقًا لرأي‬
‫بورتون‪« :‬النزاعات القامئة عىل املصالح» و«النزاعات القامئة عىل القيمة أو االحتياجات»‪.‬‬
‫إن النزاعات القامئة عىل املصالح ليست عميقة الجذور‪« ،‬ألن ال أحد يرغب يف املوت يف‬
‫رصايف حول األجور» املرجع نفسه)‪ .‬زعم بورتون أن مجموع ًة متنوع ًة من األساليب القانونية‬
‫والتحكيمية وغريها من تقنيات حل النزاعات ميكنها أن تتعامل مع هذا النويف من النزاعات‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬تعكس النزاعات القامئة عىل القيمة واالحتياجات مطالب غري قابلة‬
‫للتفاوض‪ .‬وبحسب بورتون‪ ،‬ال يوجد مقاي ات حني يتعلق األمر بالقيم واالحتياجات‪ .‬كتب‬
‫قليال من اإلكراه أو القوة التفاوضية قد يؤدي يف بعض األحيان إىل القمع و«تسوية»‬
‫أن ً‬

‫‪336‬‬
‫النزاعات القامئة عىل القيمة أو االحتياجات‪ .‬إن عالقة أفكار بورتون بالتحليل النفيس‬
‫ضعيفة أو حتى معدومة‪ .‬إن نهجه «غري الرسمي» يف الدبلوماسية يوازي مناذج الفاعل‬
‫العقالين «الرسمية» يف الدبلوماسية‪ .‬كان نهجه محور اهتامم معهد تحليل النزاعات وحلها‬
‫يف جامعة جورج مايسون يف شامل فريجينيا‪ ،‬حيث عمل بورتون منذ منتصف خمسينيات‬
‫وحتى أواخر مثانينيات القرن العرشين‪ .‬أضاف معهد تحليل النزاعات وحلها‪ ،‬بوصفه موقع‬
‫تدريب معروف ملن يرغب يف أن يصبح دبلوماس ًيا غري رسمي‪ ،‬إىل أفكار بورتون‪.‬‬
‫اعتمد عامل النفس االجتامعي هربرت يس‪ .‬كيلامن‪ ،‬الذي كان أستاذًا لألخالقيات‬
‫االجتامعية يف جامعة هارفرد يف الوقت الذي حض فيه اجتاميف عام ‪ 1987‬يف مركز دراسة‬
‫العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬عىل الجهود الرائدة لجون بورتون إىل حد كبري‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬
‫االحتياجات البرشية‪ .‬أثر جريوم فرانك أي ً ا عىل كيلامن‪ ،‬وهو طبيب نفيس درس العمليات‬
‫االجتامعية واستخدم بع ً ا من مفاهيم التحليل النفيس‪ .‬استعار فرانك فكرة «التجربة‬
‫العاطفية اإلصالحية» من املحللني النفسيني فرانز ألكسندر وتوماس فرينش‪ ،‬اللذين كانا‬
‫مؤثرين ومثريين للجدل يف تدريسهام للتحليل النفيس يف الواليات املتحدة يف أربعينيات‬
‫القرن العرشين‪ .‬للمزيد انظر فرانز ألكسندر وتوماس فرينش‪Psychoanalytic Theory ،‬‬
‫‪ 1946).،(New York: Ronald Press‬استخدم مصطلح التجربة العاطفية اإلصالحية‬
‫للمرة األوىل يف بيئة رسيرية لوصف ترصف املحلل النفيس بشكل مختلف عن قصد يف‬
‫موقف ينطوي عىل شخصيات مهمة من طفولة املريض‪ .‬استخدم فرانك هذا املفهوم يف‬
‫جلسات العالج الجامعي خاصته‪ ،‬وأثر أي ً ا عىل طريقة عمل كيلامن‪ .‬انظر أي ً ا هربرت‬
‫‪“Interactive‬‬ ‫كيلامن‪،‬‬ ‫يس‪.‬‬
‫”‪Problem Solving.‬‬
‫لفت هارولد سوندرز االنتباه إىل املخاطر والقيود‪ ،‬ف ًال عن قيمة املساهامت عىل‬
‫مستوى األفراد واملنظامت غري الرسمية‪ ،‬سوا ًء كانوا يعملون بالتعاون مع أع اء مؤثرين‬
‫يف مجموعات كبرية معارضة أم يركزون عىل الحركات الشعبية‪ .‬اعتقد سوندرز أنه من‬

‫‪337‬‬
‫املحتمل أن يكون للتجمعات الدبلوماسية غري الرسمية دور كبري يف طرح «أفكار تلفت انتباه‬
‫‪“Officials‬‬ ‫‪and‬‬ ‫سوندرز‪،‬‬ ‫هارولد‬ ‫انظر‬ ‫املزيد‬ ‫لقراءة‬ ‫الجميع»‪.‬‬
‫‪ ” 61.،Citizens in International Relationships‬مبجرد وضع سياسة دبلوماسية‬
‫رسمية‪ ،‬لن يرغب القادة السياسيون وغريهم من صانعي القرار الرسميني يف طلب املشورة‬
‫مثال يف ظل إدارة بوش)‪ .‬وعىل أي حال‪ ،‬إن مل‬
‫من خارج دوائرهم عادةً‪ .‬هذا هو الحال ً‬
‫تنجح السياسية بعد تنفيذها‪ ،‬حينها قد يتعني عىل القادة السياسيني االستاميف إىل األفكار‬
‫التي يتحدث عنها الجميع‪ .‬اعتقد سوندرز أن خطاب جورباتشوف أمام األمم املتحدة يف‬
‫ديسمرب عام عام ‪ 1988‬يعكس األفكار التي تحدث عنها الجميع خالل حوارات مؤمتر‬
‫دارمتوث‪.‬‬
‫مثال هيرني‬
‫‪ .181‬طرحت هذه األفكار منذ فرتة طويلة وبقيت مؤثر ًة لعقود عديدة‪ .‬انظر ً‬
‫‪Politics‬‬ ‫‪Among‬‬ ‫‪Nations‬‬ ‫‪(New‬‬ ‫مورغنتاو‪،‬‬
‫‪1954).،York: Knopf‬‬
‫‪ .182‬دونالد إل‪ .‬هورويتز‪Ethnic Groups in Conflict (Berkeley: University of ،‬‬
‫‪140.، 1985)،California Press‬‬
‫‪ .183‬هورويتز‪Ethnic Groups in Conflict. ،‬‬

‫الفصل الثاين عرش‬


‫‪ .184‬كان هناك مصادر أخرى لألموال أي ً ا‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تلقى مركز دراسة العقل‬
‫أمواال إضافي ًة من معهد الواليات املتحدة للسالم خالل مرحلة تقييم هذا‬
‫ً‬ ‫والتفاعل البرشي‬
‫أمواال من مركز كارتر يف أتالنتا وتعاوننا معه خالل مرحلة الحوار‬
‫ً‬ ‫املرشويف‪ ،‬ثم تلقى‬
‫السيايس النفيس للمرشويف‪ .‬تلقى مركز كارتر أمواالً للمرشويف اإلستوين من مؤسسة‬
‫تشارلز ستيوارت موت)‪ .‬قدمت مؤسسة بيو الخريية منح ًة ملركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي من أجل رفع املرشويف إىل مستوى القاعدة الشعبية‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫‪ .185‬حني يواجه األطباء حال ًة حرج ًة ينزف فيها املريض بشدة‪ ،‬أول ما يفعلونه هو محاولة‬
‫إيقاف النزيف‪ ،‬ثم يأيت التوصل إىل تقييم كامل حول سبب النزيف الحقًا‪ .‬وباملثل‪ ،‬ال ينبغي‬
‫أن نتوقع أن تكون الدبلوماسية غري الرسمية ذات التقدم البطيء‪ ،‬مثل منوذج الشجرة‪ ،‬فعال ًة‬
‫يف نزايف حاد ودام عىل مستوى املجموعات الكبرية‪ .‬وعىل أي حال‪ ،‬تعترب بعض املفاهيم‬
‫التي طورها تطبيق منوذج الشجرة مفيد ًة يف تقييم املشاكل الدولية الحادة ووضع‬
‫اسرتاتيجيات محددة لها‪.‬‬
‫‪ .186‬ملزيد من التفاصيل انظر فولكان‪ Bloodlines. ،‬انظر أي ً ا نيو وفولكان‪،‬‬
‫‪Developing‬‬
‫‪a Methodology for Conflict Prevention.‬‬
‫مثال دميرتيوس يوليوس‪“The Practice of Tract Two ،‬‬
‫ً‬ ‫‪ .187‬انظر‬
‫”‪ Diplomacy in the Arab-Israeli Conferences‬يف ‪The Psychodynamics of‬‬
‫‪ ، vol. 2،International Relationships‬مراجعة فولكان ومونتفيل ويوليوس‪193– ،‬‬
‫‪205.‬‬
‫رئيسا ملركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪ ،‬مل نقدم أب ًدا أي دعم‬
‫ً‬ ‫‪ .188‬خالل فرتة عم‬
‫مايل لألفراد الذين شاركوا يف أنشطته الدبلوماسية غري الرسمية‪ ،‬باستثناء تغطية النفقات‬
‫املتعلقة باالجتامعات‪ .‬وهذا ينطبق أي ً ا عىل فريق عمل مركز دراسة العقل والتفاعل‬
‫البرشي‪ .‬حني علم ممثلو املجموعات الكبرية املتعارضة الذين جمعناهم م ًعا أن أع اء فريق‬
‫مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي ال يكسبون املال لقاء عملهم كوسطاء خالل االجتاميف‪،‬‬
‫ترك األمر انطبا ًعا إيجاب ًيا عليهم‪ .‬تلقى أع اء فريق مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‬
‫الذي عملوا بدوام كامل يف التدريس بجامعة فريجينيا رواتبهم الروتينية‪ .‬إنني أقدر ج ًدا‬
‫الدعم الذي تلقاه املركز من عميد كلية الطب آنذاك روبرت كايري؛ إذ اعترب أنشطة مركز‬
‫دراسة العقل والتفاعل البرشي التي قام بها أع اء املركز بدوام كامل أنشط ًة روتيني ًة كالتي‬
‫تحدث يف أي كلية طب‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫‪ .189‬كان هناك مناسبات عديدة‪ ،‬عىل أي حال‪ ،‬أصبح فيها الخرباء يف سلسلة الحوارات‬
‫النفسية السياسية سياسيني مؤثرين يف بلدانهم أو مواقعهم‪ ،‬حتى أنهم وصلوا إىل مناصب‬
‫رئيسا‬
‫ً‬ ‫عليا‪ ،‬مثل أرنولد روتيل‪ ،‬أحد الخرباء يف سلسلة حواراتنا يف إستونيا‪ ،‬إذ انتخب‬
‫إلستونيا يف ‪ 21‬سبتمرب عام ‪.2001‬‬
‫‪ .190‬لقراءة املزيد حول ديناميكيات املجموعة الصغرية انظر إس‪ .‬إتش‪ .‬فولكس وإي‪.‬‬
‫جاميس أنتوين‪Group Psychotherapy: The Psychoanalytic Approach ،‬‬
‫‪،(London:‬‬ ‫‪Penguin‬‬
‫)‪1964‬؛ وويلفريد آر‪ .‬بيون‪Experiences in Groups and Other Papers (London: ،‬‬
‫‪ 1961)،Tavistock Publications‬؛ ودي‪ .‬ويلفريد إيبس‪Clinical Notes on Group- ،‬‬
‫‪Analytic‬‬
‫‪ 1974)،Psychotherapy (Charlottesville: University Press of Virginia‬؛‬
‫ومالكوم باينز ومراجعون‪The Evolution of Group Analysis (London: ،‬‬
‫‪،Routledge‬‬ ‫&‬ ‫‪Kegan‬‬ ‫‪Paul‬‬
‫‪ 1983).‬انظر أي ً ا إيرل هوبر‪Traumatic Experience in the Unconscious Life ،‬‬
‫‪of‬‬
‫‪Groups:‬‬ ‫‪The‬‬ ‫‪Fourth‬‬ ‫‪Basic‬‬ ‫‪Assumption:‬‬ ‫‪Incohesion:‬‬
‫‪Aggregation/Massification‬‬ ‫‪or‬‬
‫‪ 2003).،(ba) I: A/M (London: Jessica Kingsley Publishers‬باإلضافة إىل كتاباته‬
‫فهام جدي ًدا لديناميكيات األنظمة املجتمعية الشبيهة‬
‫حول املجموعات الصغرية‪ ،‬طرح هوبر ً‬
‫باملجموعات‪.‬‬
‫‪ .191‬لقراءة مزيد من الرشوحات املفصلة حول «تركيبة» هذه االجتامعات‪ ،‬انظر فاميك دي‪.‬‬
‫فولكان وماكس هاريس‪“Negotiating a Peaceful Separation: APsychopolitical ،‬‬
‫‪Analysis of Current Relationships Between Russia and Baltic‬‬

‫‪340‬‬
‫‪ ” Mind and Human Interaction 4 (1992): 20–29،Republics‬و‪“The‬‬
‫‪” International Journal of Group ،Psychodynamics of Ethnic Terrorism‬‬
‫‪Rights‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪(1995): 145–159.‬‬
‫‪1985.، December 6،Palestinian Weekly .192‬‬
‫‪ .193‬دايفد روثشتاين‪“The Assassin and the Assassinated: As Nonpatient ،‬‬
‫”‪ Subject of Psychiatric Investigation‬يف ‪ ،Dynamics of Violence‬مراجعة جاي‪.‬‬
‫فاوسيت‪1972).،145–155 (Chicago: American Medical Association ،‬‬
‫‪ .194‬ميالين كالين‪ ”،“Notes on Some Schizoid Mechanisms ،‬يف ‪Development‬‬
‫‪ ،in Psychoanalysis‬مراجعة جاي‪ .‬ريفريي‪London: Hogarth Press. ،‬‬
‫‪ .195‬يحتاج الوسطاء‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬إىل التعامل مع هذا األمر حيث يحدث من خالل‬
‫توضيح «املناطق الرمادية» بني «األسود» و«األبيض»‪ .‬وقد يكون الوسطاء يف الحوارات‬
‫أهدافًا إلخراجات املشاركني وإسقاطاتهم‪ .‬وهذا يعني أن الوسطاء قد يتعرضون للوم أو‬
‫ينتقدون بسبب أشياء ينزعج منها املشاركون‪ .‬وحني يحدث هذا األمر‪ ،‬ال يؤثر األمر عىل‬
‫الوسطاء ذوي الخربة الرسيرية ألنهم معتادون عىل تلقي إخراجات مرضاهم وإسقاطاتهم‬
‫تحويالتهم) والتعامل معها‪ .‬قد يحدث تحويل م اد – توقعات غري منطقية من جانب‬
‫إحساسا غري‬
‫ً‬ ‫مثال قد مينح الوسطاء‬
‫الوسطاء‪ .‬إن التواصل مع األشخاص املهمني سياس ًيا ً‬
‫مستحق بالقدرة املطلقة‪ .‬يدرك أخصائيو الصحة العقلية ذوو الخربة هذه الظاهرة‪ ،‬لذا من‬
‫غري املرجح أن يخ عوا الستجابات التحويل امل اد املؤذية بعد عقود من العمل يف هذا‬
‫املجال‪.‬‬
‫‪ .196‬جون ماك‪ ”،“Foreword ،‬يف ‪ Cyprus: War and Adaptation‬لفاميك دي‪.‬‬
‫فولكان‪ix–xxi.، 1979)، VA: University Press of Virginia،(Charlottesville ،‬‬

‫‪341‬‬
‫‪ .197‬وصف سيغموند فرويد مفهوم «االختالفات البسيطة»‪ .‬انظر سيغموند فرويد‪،‬‬
‫‪ ” vol. 11،“Taboo of Virginity‬من ‪The Standard Edition of the‬‬
‫‪ ،Complete Psychological Works of Sigmund Freud‬مراجعة جاميس سرتاتيش‪،‬‬
‫‪191–208.‬‬
‫و ‪Group Psychology and the‬‬ ‫‪1917–1955)،(London: Hogarth Press‬‬
‫‪Analysis‬‬ ‫‪of‬‬
‫‪ the Ego.‬ولقراءة املزيد حول «االختالفات البسيطة» يف العالقات العاملية‪ ،‬انظر فولكان‪،‬‬
‫‪The‬‬
‫‪and Blind Trust.، Bloodlines،Need to Have Enemies and Allies‬‬
‫‪ .198‬يصف موريس أبري أهمية االختالفات بني أع اء الفريق الواحد فيام يتعلق بق ايا‬
‫هوية املجموعة الكبرية‪ .‬انظر موريس أبري‪“Heuristic Steps for Negotiating ،‬‬
‫‪Ethno-National‬‬ ‫‪Conflicts:‬‬ ‫‪Vignettes‬‬ ‫‪from‬‬
‫‪” New Literary History 27 (1996): 199–212.،Estonia‬‬
‫إن كان منوذج الشجرة يعمل كام هو متوقع‪ ،‬فستظهر القصص الشخصية تلقائيًا‪.‬‬
‫قد «يحث» الوسطاء املشاركني من الفرق املتعارضة عىل رواية قصصهم املتعلقة بنزايف‬
‫املجموعة الكبرية يف الحاالت التي تعقد فيها االجتامعات أقل من ثالث مرات سنويًا بسبب‬
‫قلة الدعم املادي‪ .‬ال ينجح األمر إال يف حالة وجود خلفية آمنة عىل املستوى الشخيص‬
‫والعاطفي‪ ،‬وإال يصبح واج ًبا «قرسيًا» ال يجدي نف ًعا‪.‬‬
‫‪ .199‬نيو وفولكان‪Developing a Methodology for Conflict Prevention. ،‬‬
‫‪ .200‬فولكان‪Blind Trust. ،‬‬
‫‪ .201‬شارك مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي يف أنشطة دبلوماسية غري رسمية عام‬
‫‪ 1999‬بني اليونانيني واألتراك املؤثرين‪ .‬ومن املثري من لالهتامم هو ورود ذكر استعارة‬
‫الفيل واألرنب يف هذه السلسة أي ً ا‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫‪ .202‬سيغموند فرويد‪The،Mourning and Melancholia; George Pollock ،‬‬
‫‪CT: International ، 2 vols. (Madison،Mourning and Liberation Process‬‬
‫‪Universities‬‬
‫‪ 1989)،Press‬؛ وفولكان‪Linking Objects and Linking Phenomena; ،‬؛ وفولكان‬
‫وزينتل‪Life After Loss. ،‬‬
‫‪ .203‬خالل الحوارات اإلستونية‪ ،‬حاول مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي النظر يف‬
‫وجهة نظر األجيال املختلفة فيام يتعلق بالعالقات اإلستونية الروسية‪ .‬ولهذا السبب اخرتنا‬
‫أربعة طالب جامعيني إستونيني وأربعة طالب جامعيني روسيني إستونيني‪ ،‬وأجرينا‬
‫جلسات جامعية صغرية معهم‪ .‬دعونا الطالب لالن امم إىل األكرب سنًا يف أحد االجتامعات‬
‫يف الجزء األخري من سلسلة الحوار السيايس النفيس األصلية‪ .‬جلس الطالب يف املرة األوىل‬
‫يف منتصف قاعة الجلسات العامة‪ ،‬يف حني جلس املشاركون األكرب سنًا عىل الكرايس‬
‫املحيطة بالشباب باإلضافة إىل اثنني من فريق وسطاء مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪،‬‬
‫املحلل النفيس موريس أبري وأنا‪ .‬أرشك الوسطاء الطالب يف املناقشات واستمع املشاركون‬
‫األكرب سنًا لهم‪ .‬كان هدفنا معرفة ما إذا كان هناك اختالف بني األجيال فيام يتعلق‬
‫بالتصورات حول العدو ومقاربات السالم‪ .‬أردنا أن نتحقق من صحة ما يقال –وما يعتقد‬
‫اعتداال واستعدا ًدا‬
‫ً‬ ‫عمو ًما– أن أفراد الجيل األصغر سنًا ال يفكرون مثل األكرب سنًا‪ ،‬وأنهم أكرث‬
‫قليال أن هناك أوجه تشابه‬
‫لقبول التغيري‪ .‬من خالل هذه املناقشات‪ ،‬اكتشفنا بعد أن تعمقنا ً‬
‫مفاجئة بني األجيال يف املوضوعات املتعلقة بق ايا ورصاعات الهوية الكبرية «الساخنة»‪.‬‬
‫أعلنت مشاركة إستونية بحزم‪ ،‬يف الوقت الذي ناقش فيه املشاركون الشباب وجهات‬
‫نظرهم‪ ،‬أن جيلها مختلف متا ًما عن جيل جدها الذي كان معاديًا برشاسة للروس‪ .‬شعرت‬
‫أنها وأقرانها أف ل يف التعامل مع مشاكل اندماج املتحدثني بالروسية يف إستونيا‪ .‬ولكن‬
‫يف وقت الحق من الحوار‪ ،‬وبعد أن طلب منها أن تتمعن النظر يف تصوراتها ومشاعرها‬
‫تجاه الروس الذين يعيشون يف إستونيا‪ ،‬وجدت نفسها تتحدث عن بعض الصدمات‬

‫‪343‬‬
‫املجتمعية لجيل جدها‪ .‬أدركت بعد ذلك أنها «تتحدث باسم» جدها دون وعي‪ ،‬وأنها ورثت‬
‫الصور املشرتكة للصدمات واملواقف املتعلقة بها عىل الرغم من االختالفات الحقيقية بني‬
‫الجيلني‪ .‬شعرت بالصدمة بسبب ما حدث‪ ،‬ولكنه ساعدها يف الوقت ذاته يف البحث عن‬
‫وجهات نظرها حول الروس بعي ًدا عن التأثريات‪.‬‬
‫فعال بعض الصور‬
‫عىل الرغم من اكتشافنا بأن أفراد الجيل األصغر قد ورثوا ً‬
‫التاريخية نفسها من آبائهم‪ ،‬كان لهذا التنسيق بني األجيال بعض النتائج اإليجابية‪ .‬لقد‬
‫الحظنا تأثر الجيل األكرب سنًا حني رأوا جيل الشباب يحمل أعباءهم التاريخية‪ .‬شجع هذا‬
‫األمر األشخاص ذوي املناصب العليا عىل البحث عن ذاتهم وحفزهم للعمل أكرث‪ .‬لقد آملهم‬
‫أن يروا ما يتعرض له أطفالهم‪ .‬عىل الرغم من أن الوسطاء مل يجربوا هذا األمر سوى مر ًة‬
‫واحدةً‪ ،‬أعتقد أن نهج املناقشة بني األجيال قد يكون أدا ًة مفيد ًة يف مواقف أخرى‪.‬‬
‫‪ .204‬إيبان‪The New Diplomacy. ،‬‬
‫‪ .205‬عىل الرغم من أن هذا يذكرنا جزئيًا بأفكار جون بورتون حول بناء املؤسسات‪ ،‬كام‬
‫رشحت يف الفصل الحادي عرش‪ ،‬يبغي أن يسمح للحوارات السياسية النفسية بأخذ مسارها‬
‫ليك يكون بناء املؤسسات ناج ًحا‪ ،‬وذلك وفقًا ملنهجية مركز دراسة العقل والتفاعل البرشي‪.‬‬
‫توفر الحوارات النفسية السياسية األساس الالزم والتغيريات يف املواقف والفهم الذي ميهد‬
‫الطريق أمام الربامج والتغيريات الهيكلية األخرى ضمن املجتمع‪.‬‬

‫الفصل الثالث عرش‬


‫‪ .206‬إن التوقيت مهم للغاية عند بناء مثل هذه املنظامت غري الحكومية الجديدة‪ .‬قد تأيت‬

‫الجهود السابقة ألوانها إلنشاء مؤسسات متعددة اإلثنيات بنتائج عكسية عىل املدى الطويل‬

‫إذا استسلم األع اء للسلوكيات الخبيثة اإلثنية أو القومية أو الدينية أو األيديولوجية‪ .‬بعد‬

‫انهيار االتحاد السوفيتي‪ ،‬احتاجت مفاهيم مثل امللكية الشخصية‪ ،‬والتفكري الفردي‬
‫‪344‬‬
‫واملسؤولية‪ ،‬وخدمة املجتمع‪ ،‬والقانون املدين‪ ،‬والتنظيم‪ ،‬إىل وقت للتطور يف عامل ما بعد‬

‫الشيوعية‪ ،‬إضاف ًة إىل الحاجة إىل اختبارها مبا فيه الكفاية ليتم استيعابها‪.‬‬

‫‪ .207‬يف إستونيا‪ ،‬كان عامل النفس إندل تالفيك قائد فريق االتصال لدينا‪ .‬إىل جانب‬

‫خربته يف الحوارات النفسية السياسية مع يس إس إم إتش آي بني عامي ‪ 1994‬و‪،1996‬‬

‫تلقى تالفيك تدري ًبا من يس إس إم إتش آي يف إستونيا والواليات املتحدة‪ .‬بدعم من هارولد‬

‫سوندرز‪ ،‬سافر مع أليكيس سيميونوف‪ ،‬أحد قادة الروس يف إستونيا) إىل دايتون‪ ،‬أوهايو‪،‬‬

‫وشارك يف ندوة لبناء املجتمع نظمتها مؤسسة كيرتينغ‪ .‬يف وقت الحق‪ ،‬تلقى تالفيك تدريبًا‬

‫يف التحليل النفيس يف فنلندا ومن مدرسة التحليل النفيس ألوروبا الرشقية التابعة للجمعية‬

‫يب إيه)‪ .‬وهو اليوم محلل نفيس معتمد من الجمعية‪.‬‬


‫الدولية للتحليل النفيس آي ّ‬

‫قصصا عن هذه املواقع يف كتايب سالالت الدم‪ .‬لكن عملنا هناك‬


‫ً‬ ‫‪ .208‬سبق أن أوردت‬

‫استمر بعد االنتهاء منه‪ ،‬لذلك أنا هنا قادر عىل ذكر املزيد من القصص الكاملة‪.‬‬

‫‪ .209‬تولت املعلمة اإلستونية املتفانية‪ ،‬يل كريك‪ ،‬القيادة يف إعداد هذه الكتب‬

‫املدرسية‪ .‬ساعدها طاقم عملها الخاص‪ ،‬وكذلك إندل تالفيك واملحلل النفيس موريس أبري‪،‬‬

‫واملؤرخ نورمان إيتزكويتز‪ ،‬وممرضة الطب النفيس والوسيطة مارجي هاول من يس إس إم‬

‫إتش آي‪.‬‬

‫‪ .210‬وصف مايكل سيبك هذه العملية‪ .‬انظر سيبيك‪« ،‬اإلستية يف النظام الشمويل‬

‫وعلم نفس مجتمع ما بعد الشمولية»‪.‬‬


‫‪345‬‬
‫‪ .211‬يوجد عىل أي حال تقييم إحصايئ واحد لعملنا يف موستفي‪ .‬موريس أبري‪،‬‬

‫بالتعاون مع يل كريك وفيكتور أبري وإنديل تالفيك‪« ،‬من االستداللية إىل التجريبية‪ :‬دمج‬

‫رياض األطفال بني اإلثنيات»‪ .‬العقل والتفاعل البرشي ‪ ،11‬رقم ‪.205-194 :)2000 3‬‬

‫‪ .212‬فيام ي قامئة مخترصة باإلنجازات‪:‬‬

‫‪ .1‬أثناء استمرار سلسلة الحوار السيايس النفيس‪ُ ،‬دعي فالدميري‬

‫هوميوكوف‪ ،‬كممثل للروس وللناطقني بالروسية يف إستونيا‪ ،‬إىل الربملان اإلستوين‪.‬‬

‫خاطب الربملان حتى يتمكن النواب اإلستونيون من فهم مخاوفهم بشكل أف ل‪.‬‬

‫‪ .2‬خالل الحوار النفيس السيايس الخامس‪ُ ،‬دعي ثالثة من ممث الدوما‬

‫الروسية الذين شاركوا يف سلسلة الحوار إىل الربملان اإلستوين‪ ،‬حيث التقوا بنظرائهم‬

‫اإلستونيني‪ ،‬وخاضوا حديثًا مثم ًرا‪.‬‬

‫‪ .3‬جان كابلينسيك‪ ،‬املرشح لجائزة نوبل يف األدب عام ‪ 1995‬وشخصية‬

‫معروفة‪ ،‬كتب عدة مقاالت للصحف اإلستونية للتأثري يف الجمهور وتعزيز التعايش‬

‫السلمي بني اإلثنيني اإلستونيني وغريهم ممن يعيشون يف إستونيا‪.‬‬

‫‪ .4‬قامت منظمة موستامي غري الحكومية‪ ،‬ي ًدا بيد‪ ،‬بتصميم وكتابة ونرش‬

‫الكتب املدرسية ودليل املعلم واملرفقات لتعليم اللغة والثقافة اإلستونية لألطفال‬

‫الناطقني بالروسية‪ .‬مل تكن هذه املواد التعليمية موجود ًة قبل هذا املرشويف‪ .‬يُعد‬

‫الكتاب املدريس أدا ًة مهم ًة للرتويج الواقعي للتعايش بني املتحدثني باللغة الروسية‬
‫‪346‬‬
‫واإلستونيني يف إستونيا‪ .‬من خالل تعريف األطفال من كلتا املجموعتني ببع هم‬

‫ومنحهم اللغة والفرصة للتفاعل‪ ،‬بدأ املنظمون واملشاركون اإلستونيون والروس يف‬

‫تغيري أمناط تفاعلهم وسلوكهم ورسم طريقة للتعايش السلمي‪.‬‬

‫‪ .5‬حصلت منظمة موستامي غري الحكومية عىل متويل ملدريس اللغة‬

‫ومديري الربامج لتدريب املعلمني يف أجزاء أخرى من إستونيا عىل مناهج اللغة‬

‫والثقافة اإلستونية‪ .‬كام طلبوا مشاركة إندل تالفيك ملعالجة الق ايا النفسية املعنية‪.‬‬

‫‪ .6‬أنشأت موستفي مركز معلومات ملساعدة السياح الذين يزورون املدينة‬

‫وطبعت موا ًدا بعدة لغات تصف املواقع التي يجب زيارتها‪ .‬اكتسب أع اء املنظامت‬

‫غري الحكومية ثق ًة وخرب ًة كافيني يف تخطيط الربامج وتنفيذها للحصول عىل متويل‬

‫جديد بأنفسهم بهدف تحقيق تحسينات إضافية يف مرافق املدينة للسياح والزوار‪.‬‬

‫متويال من مؤسسة سوروس‪.‬‬


‫ً‬ ‫عىل سبيل املثال‪ ،‬تلقوا‬

‫‪ .7‬منذ االنتهاء من مرشويف يس إس إم إتش آي يف إستونيا‪ ،‬جرى التعاقد‬

‫مع إندل تالفيك كخبري يف مشاريع «اإلندماج» يف منطقتي نارفا جيسو وأسريي يف‬

‫إستونيا‪ ،‬إذ طُلبت استشارته كنتيجة مبارشة لتجربته وإنجازاته يف مشاريع يس إس‬

‫إم إتش آي املجتمعية الثالثة‪.‬‬

‫‪ .8‬أنتجت يل كريك‪ ،‬منسقة مرشويف موستامي‪ ،‬مقاطع فيديو من لقطات‬

‫حقيقية لربنامج تعليم اللغة اإلستونية يف املدارس الناطقة بالروسية وتجمعات‬


‫‪347‬‬
‫األطفال اإلستونيني والروس املشرتكة‪ .‬استُخدمت مقاطع الفيديو هذه للحد من‬

‫املفاهيم الخاطئة واملخاوف املتعلقة بالتفاعل الرويس اإلستوين‪ ،‬وهي تثبت أن‬

‫تجسيد االندماج بصورة مرئية هو بالفعل أداة قوية للحد من املقاومة تجاه مثل هذه‬

‫الربامج‪.‬‬

‫‪ُ .9‬ع ّني بول ليتينز‪ ،‬أحد املشاركني يف سلسلة الحوار السيايس النفيس‬

‫فعاال يف‬
‫ً‬ ‫‪ 1996-1994‬يف مجلس إدارة مؤسسة االندماج اإلستوين‪ .‬أدى دو ًرا‬

‫الرتويج ملرشويف موستامي اللغوي أمام أع اء آخرين يف مجلس مؤسسة اإلندماج‬

‫اإلستوين‪ .‬أسفرت جهوده عن حصول موستامي عىل منحة من املؤسسة‪.‬‬

‫‪ .10‬نقل سريجي إيفانوف‪ ،‬النائب الربملاين البارز الناطق بالروسية يف‬

‫إستونيا آنذاك‪ ،‬رؤى من أنشطة يس إس إم إتش آي إىل مجتمعه‪.‬‬

‫رئيسا إلستونيا يف ‪ 21‬سبتمرب ‪ .2001‬نفرتض‬


‫ً‬ ‫‪ .11‬انتُخب أرنولد روتيل‬

‫أنه نقل خرباته يف أنشطة يس إس إم إتش آي معه إىل مكتبه‪.‬‬

‫بعد اكتامل عملنا يف إستونيا‪ ،‬حاولنا تطبيق النموذج الشجري يف جمهورية جورجيا‬

‫انظر الفصول ‪ .)3-1‬أصبح من الواضح أن تطبيق املنهجية يف مواقع وظروف األخرى‬

‫يقتيض إجراء بعض التعديالت‪ .‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬تعترب نقطة الدخول ‪ -‬النقطة التي‬

‫يحصل الفريق امل ُيرس عربها أوالً عىل إمكانية الوصول ويشرتك مع أع اء املجموعات‬

‫ريا وفقًا للعوامل السياسية واالجتامعية‬


‫املعارضة ‪ -‬أم ًرا بالغ األهمية وتختلف اختالفًا كب ً‬
‫‪348‬‬
‫وعوامل أخرى‪ .‬وكمثال عىل ذلك‪ ،‬ال يُعد مجديًا وال مرغوبًا يف حاالت عديدة البدء بجمع‬

‫صانعي القرار رفيعي املستوى من كال الجانبني كام فعل يس إس إم إتش آي يف إستونيا)‪.‬‬

‫خالل مرحلة التشخيص‪ ،‬يجب عىل امليرسين إجراء التقييم واتخاذ القرار بشأن أف ل‬

‫سياق ينخرطون فيه يف التوترات أو النزاعات بني املجموعات‪ .‬وعليه‪ ،‬يف بعض املواقف‪ ،‬قد‬

‫أو عىل مستوى القاعدة الشعبية نقطة الدخول‬ ‫يكون بدء الحوارات عىل املستوى املح‬

‫األكرث فعالية‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬بغض النظر عن املكان الذي بدأوا فيه‪ ،‬سيسعى امليرسون يف‬

‫نهاية املطاف إىل إحداث تأثري م اعف يخلق اتصاالت ونقاط لقاء مهمة مع املسؤولني‬

‫ويؤثر يف السياسة والتفكري والسلوك عىل العديد من املستويات‪ .‬إذا بدأ الفرد من القمة‪،‬‬

‫نزوال إىل مستوى املجتمع‪ .‬إذا بدأ املرء عىل‬


‫فسيحتاج يف النهاية إىل نرش األفكار واألنشطة ً‬

‫املستوى املح ‪ ،‬فسيحتاج إىل إيجاد طرائق إليصال النتائج واألفكار إىل املستويات‬

‫السياسية العليا‪ .‬مهام كانت نقطة الدخول‪ ،‬تظل الفلسفة العامة لنموذج الشجرة كام هي‪.‬‬

‫‪ .213‬وصفت آنا فرويد مفهوم «التوافق مع املعتدي» ألول مرة‪ .‬انظر آنا فرويد‪ ،‬األنا‬

‫وآليات الدفايف نيويورك‪ :‬مطبعة الجامعات الدولية‪.)1946-1936 ،‬‬

‫‪ .214‬راجع ‪ http://www.allankings.com‬للحصول عىل معلومات عن ذا‬

‫دراغون إغ خالن كينغ‪.‬‬

‫‪ .215‬تلقت كلوغا جز ًءا من أموال الربنامج من منظمة األمن والتعاون يف أوروبا إلقامة‬
‫أنشطة يف مركزها املجتمعي‪ .‬نظمت منظمة كلوغا غري الحكومية واملقيمون اخخرون‬

‫‪349‬‬
‫مجموع ًة متنوع ًة من األحداث واألنشطة يف املركز‪ ،‬والتي مل تكن ممكنة قبل إنشائه‪ .‬شملت‬
‫هذه األنشطة أنشطة األطفال بعد املدرسة‪ ،‬ودروس اللغة اإلستونية للروس)‪ ،‬ودروس‬
‫اللغة اإلنجليزية املشرتكة لإلستونيني والروس‪ ،‬ودروس الكمبيوتر للمراهقني وغريهم‪،‬‬
‫والتجمعات االجتامعية عىل مستوى املجتمع واحتفاالت األعياد‪.‬‬

‫‪350‬‬
A translation of “Killing in the Name of Identity: A Study of Bloody Conflicts” © [2006]
Vamık Volkan.

You might also like