Professional Documents
Culture Documents
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب
: unecriv@net.sy E-mail االلكتروني: البريد
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة اإلنترنت
http://www.awu-dam.org
-2-
ســــامي حمـــزة
-3-
دمشق 2001 -
-4-
-5-
:-
بأن "فلسطين" ربع ٍ
قرنَ ،كُب َر يقيني َّ إرهاصات هذي الرواية ،قب َل ِ
ُ مذ شغلتني
ٍ
ما هي إال واحدةٌ من (فلسطينات) سابقة والحقة.
ِ
عدسة الكاميرا. والعين الثانية بمكانة وعين على األدب،
ٌ ثم إني كتبتُها
ُ
بشر ،كما خلَّفها (الحقد والحب) في صراعهما الرهيب.!. حيوات ٍ
ُ وتلك هي
"مخرج" في إدارة فيلم طو..يل C...طويل.
ٍ عانيت معاناةَ
ُ رويت،
ُ ولعلي فيما
أغوار مقر ٍ
بة ومجسِّمة ،تستنبطُ ومحد ٍ
بة؛ ِّ َّ ٍ
بعدسات مقعَّر ٍة مزو ٍد ورافقتهم ٍ
بقلم َّ
َ النفوس ،واضعةً خلجاتِها على ِ
الخطوب
ُ أرواح غشتْها
ٍ أنف ِ
القلم ،ومكابدات ِ
ِ
الصمت ط جحيمولما تزل متشبثةً بأرماقها ..كما الشجر؛ وس َ والشياطينّ ،
المريبC.!.
وجدت نفسي ذاهالً ..واجماً ،وقد
ُ انتهيت من رسم كلماتها األخيرة،
ُ ولحظةَ
ٍ
عندئذ بكيتC.!. ِ
قارعة النص، ُّ
بت وقلمي على
سامي
***
-6-
-7-
إهــــــداء
إليك..
يا من تقف مع الحق
في محنته.
ضيق
وتظ ّل معه وإ ن ّ
عليكما الباطل بقوته.
***
-8-
-9-
1
ت نظرته امتناناً ألصدقائه غير المعلنين ،فقد صدقوا بما وعدوه ،وها َ :-ن َّز ْ
يتحدث عن مليكه لتوه ،يستر نصفه األسفل بـ"بنطال جينز" ،وأخذ ّ هو ذا قد عاد ّ
*
الجديد ،معجباً ّأيما إعجاب بـ"مامون " ،يتراءى له خارقاً معجزاً ،ذكياً ألمعياً،
ماهراً باهراً ،يفعل األعاجيب وال يجارى ،مثل األكاذيب الكبيرة .وما الهنود
والزنوج إال حثالة رثّة ،أشباه ما في شرقنا التّعيس.!.
كCC Cان يلمح اسCC Cتنكارنا ما يدعيCC Cه ،وهCC Cذه اللّهجة الغريبCC Cة ،ولكأنه أخفاها طCC Cويالً
تحت لسانه.!!.
خبث
يحدجنا بعينيه القنفذيتين ،يلتمع فيهما ٌ يحدثنا مشدوهاً بما رأىّ ،وما فتئ ّ
عتيق ،يمازج مكراً حقنوه به من الوريد إلى الوريد ،فأتلفوا في رأسه التالفيف،ٌ
الدماغ ،فبات آلياً بال روح ،ينفّ ُذ الهجاً بقدرة وحيد القرن وقوته،
ّ غسل وأجادوا
ٍ
تتورم أناه باضطراد ،تتخافت في
ونظرته زائغة مبهورة بما َأر ْوهُ ،حالماً بالوعودّ ،
اع،
لم ٍ مسخ ٍ
وليد ،يتهافت في قمع بو ٍ
ق ّ سريرته بقايا نزعته الشرقية ،مشكلةً رونق ٍ
للتو من تشويه ٍ
مبهمة ،وقد فرغ ِّ ٍ
وبلغة جعله يعلن أنه لن يكتب إال في الخرافات
طيف األلوان ،وتركها حديث العشيات في المواخير ،وما كانوا يريدون منه أكثر
من هذا ،وإ نها نقطة الماء المستمرة السقوط على نقر ٍة في جمجمة محكومC.!!.
أديب ،يذ ّكرك كيف أنه خرج من ثوبهجلية ألنموذج انتحار ٍ وإ نه حالة ّ
ٍ
أفعوان يخرج من جلده ك ّل حين .أال ما أشبهه بـ"عصمان" أحد ٍ
مرات ،مثل
تذهب َّن بعيداً ،مخمناً
شخوص هذي الرواية ،ينتظم في طابور تخريب C.!.وكي ال َ
بالرؤى وهاجساً ،وكي ال يجنح بك الظن والخيال ،بما قد تكون عليه خاتمة
الحكاية ،فتضيف إليها ما ليس فيها ،هي ذي أسطرها األخيرة إليكهاC..
- 10 -
فمثلما عاثوا فساداً ،هنالك ..وهنا ..وهناك ،في أرض الناس ،وما زالوا إلى
قائم بقو ٍة أنهم سرقوا ُّ
فالظن ٌ خربوا الضمائر المستنبتة،
يوم الناس هذا ،فقد ّ
ٍ
شعوب في األصقاع ألم بآداب وثقافات ٍ ٍ الرواية ،في ٍ
مكر ودهاء وحيلة ،تماماً مثلما ّ
المستهدفة كافةً ..وإ ال ،ما معنى إخفاء نسخة "مخطوطة" منها ،على يد دهقان
امتلك "دارنشـ..ـل" يزعم أنها لخدمة االزدهار.!.
لحساب من سرقها.؟.
أيتركها كما هي ،قانعاً بوضع اسمه عليها.؟؟.
فيوزعها في عواصم ال تصلنا كتبها C.!!.أم يظهرها في التلفاز مشوهة.؟ C.أم
قائم أال تظهر البتة ،مختفيةً في أروقة
يشتغل على بعض ما جاء فيها.؟ C.االحتمال ٌ
كسر فنجان قهو ٍة ذهب
سر اختفائها ِّ ٍ سفار ٍة؛ ذاهبةً إلى من ّ ٍ
سرية C.!.ويبقى ّ
ظمة ّ
بـ"الكواكبي" عن هذه الدنيا.!.
حي "فردان" ببيروت ،أو مثلما
أم يفعلون مثل فعلتهم بالكتّاب واألدباء ،في ّ
فعلوا بكتّاب وكتب مكتبات شارع "المتنبي" ببغداد.!.
وهأنذا آتيك هلوعاً -ليس جبناً -إنما ريبة ،إنهم يتهامسون ،وإ نهم يتوازعون
يبيتون ويترقبون ويستعدون ،وإ نهم يتآلفون ،وينفثون سمومهمC،
األدوار ،وإ نهم ّ
وإ ني آتيك ليس ألسمع منك حكاية ،بل ألبثّك حدسي ولواعجي C،وأخبرك بما آلت
ٍ
رطب، إليه األمور ،وإ ني أبصرهم ببصيرتي C..إنهم كالخلد ..أراهم بأكوام ٍ
تراب
يرفعها خلفه من سردابه ،وإ ْن هي إالّ عالمات على وجه األرض ،تد ّل على
ادلهمت C.!..وها هو ذا
ّ مساره ،وتد ّل على ما يحدثه في الخفاء من خراب ،ولقد
التل رابضاً ههنا منذ عهد اإلغريق ،والرابية الكلسية أسفل ظهره العريض ،حيث
مثواك ومئات األموات.
إذاً فقد وصلت إليكC.!.
بضعة عشر حجراً كالحاً فوق مرقدك ،وال شيء البتة غير ذلك يد ّل عليك.!.
دبوا في هذي البطاح ،دفعكم إليها الترك
صرت نسياً منسياً ،وكنت ممن ّ
ليسدوا بكم ثغرة الفيافي ،فتفنوا فيها دون أن يدري بكم أحد .!.وها قد صرتم
ّ
رمماً ،ولم يبق منكم نفّاخ نار ،ضعتم وك ّل ما كتمتموه في الصدور.!.
المغضنتي الجفون،
ّ ال أنسى عينيك الجائلتين في وقبيهما ،تينك العينين
ترفعهما إلى وجهي حين أهرع إليك ،تبرقان وتسأالني:
:-عالم جئت.؟.
- 11 -
:-جئت أسمع حكاية.
فتأخذني إلى حضنك الدافئ الفسيح ،فتحكي لي كأنك تقرأ في كتاب ،وكنت
أعجب لصوتك الخفوت ،يكاد ال يسمعه َم ْن ال يدنو منك كثيراً ،وأنت ترسم به
زوابع التقتيل واإلماتة ،والذبح وحرق الرجال والنساء واألطفال ،في حكاية ال
تنتهي ،وأنا أرتعد فأشهق خوفاً وعبرةً ،فأسألك:
:-هي حكاية ليس إال ،أليس كذلك.؟.
وكنت
َ عني األرق،
ف ّ رجاء أن تكون خرافةً ،فذلك يخفّ ُ
ٌ وفي أعماقي
حين صرت النظر إليك ،فأرى دمعاً مغرورقاً في عينيك ،وبعد ٍ تصمت ،فأختلس ّ
ُ
فعكفت على أن تختم الحكاياتِ وارتعادي، شهقتي كبت بتني- در ككأن تلحظ-
َ َ َ ّ ّ
بقولك:
َ
:-ذلك جرى سنة كذاC...
صرت
ُ ألي ،حين
أدركت ذلك بعد ٍ
ُ تتخيل ،وال تمزح لتسلّيني.
تكن ّ
إذاً لم ْ
غيرك يحكي للصغار عن "حرامي" يأتي من ثغرة في جدار ،وعن ِّ
الجن، َ أسمعُ
ومآثر السلطان ،فلماذا لم تحك لي واحدة منهن.؟ C.وما الذي كنت تقصده بحكاياتك
هين المراس.؟ .أم
كنت بنظرك ولداً لطيفاً رقيق األعطاف؛ ليناً ّ
الهائلة تلك.؟ .أما ُ
مدلهماتها السود.؟.
ّ تراك استشرفت قادمات الليالي ،فخاشنتني ألخشوشن في وجه
وما كان أبي ليخالفك ،أو َّ
يرد لك طلباً ،فعمل بمشورتك وأعفاني من الحرث
والرعي ،ألتعلّم بالقلم ،وكنت تمنحني مكافأة كلما مضيت بتهجئة الحروف.!.
رقدت ههنا ،وكأني بعينيك تسأالني:
َ أربعون عاماً انقضت مذ
:-عالم أتيت بعد تلك السنين كلها.؟C.
حائر تماماً فيما كتبت ،وال أدري ما الذي يرضيك أن أذيعه من حكايتك
ٌ
لكنني لم أتوان
مؤسفّ ،
ٌ طي الكتمان.؟ C.لن تجيبني ،وهذاالطويلة ،وما الذي أتركه َّ
مصدقة لما رويت،
ّ عن جمع مزيد من مثيالت ما سمعته منك ،وهي بجملتها أتت
وماثلتها بعجيبها ،وعجائب لم يألفها من فاته أن يسمعها من أحدكم ،أنتم طيور
السمندل؛ وقود تلك األهوال ،وأجنحة أبابيلها في آن معاً.
ٍ
مصير كالجحيم ،وكنت لك ُس ما أودى بكم إلى
كأني بك أردتني أن أعي أ ّ
فتبنيت خديج أرمينية ،شبَّت بكنفك ،وكنا
َ فت،
لت وما خلّ َ
ترم َ
بديل الولد والحفيدّ ،
أثيريك ،فهل كنت تتوخى أن أكون امتدادك في سيرتك.؟.
ْ
وأنت لم تترك شروى نقير ،لكنك أورثتني ذاكرتك ،فامتزجت بنفسي
- 12 -
وروحي ،فضاق بها صدري النزق ،وبرغم ذلك كتمتها ألكثر من ثالثين عاماً،
ألنفث عن قلبي ،ثم لعلها تكون فكانت هويساً يؤرقني في صفو الليالي ،ثم كتبتها ِ
يمر والظالمون يرفلون بأثواب ومحرضاً ،ويظل ما حاق بكم ماثالً ،فال ُّ
ّ عبرة
ٍ
مرحمة ،حفظوكم بها دماء جعلوها خضاب ٍ
زينة ،وآية البراءة؛ ونظافة األيدي من ٍ
َ
العرقي والمعتقد،
ِّ من العقب الحديدية واألقوياء ،كأنهم أنقذوكم من اإلفناء
فأودعوكم جوف الفناء البطيء ،على ٍ
تخوم "الجفتلك" واألمالك األميرية
السلطانية ،وتناسوكم ما دمتم في حاجتهم ،فقضيتم أعماركم عطاشاً ،لم ترتو
عروقكم ،وظلَّت قطرة الماء أغلى من دمع مآقي الالئبين؛ الحالمين بارتواء.!.
وكنتم ال تمرضون ،فإن مرض أحدكم يموت .!.تتغضن وجوهكم وتتجعَّد
وتأكدت من
ُ تعمرون،
باكراً ،فيظهر الكبر على قسماتكم ،وبرغم ذلك كنتم ّ
فتيان ،سكنا داراً في "السفيرة"ّ ،إبان دراستنا في المرحلةجبروتكم ،حين كنا خمسة ٍ
اإلعدادية ،وقت لم تكن في قريتنا غير المدرسة االبتدائية ،وتقاسمنا غرفتي الدار،
"عبدو وتحسين" في الغرفة الصغيرة "القبة" ،و"عدنان وزهير وأنا" في الغرفة
القد ،الشاسعة الصدر ،الشفيفة الروح ،ترعانا الكبيرة ،ومعنا تلك العجوز الضئيلة ِّ
وأماً رؤوماً ،تُ ِع ُّد
جدةً حنوناً ّ
بقدر استطاعتها ،كرمى لحفيدها زميلنا ،وكانت لنا ّ
طعامنا ،وتساهرنا ما دمنا ندرس ،وهي تتلو القرآن ،وال تأوي إلى فراشها إال
عقب أن ننام ،ولم ألحظها تشرب ،أو تطلب من أحدنا كوب ماء ،ولما أزف موعد
اقتربت منها شاكراً ،فمسحت على رأسي مبتسمةً ،ولم أبرح ُ العودة إلى أهالينا،
مكاني فسألتني:
:-أتريد شيئاً.؟.
لدي سؤال.
َّ :-
:-قل.
ماء.!!. ِ :-طوال تسعة ٍ
أشهر؛ لم أرك تشربين ً
:-نبيه .!!.إني يا بني أشرب الماء مرة كل عدة ٍ
أشهر ،وأكتفي بكوب شاي
عودت نفسي على ذلك ،مذ كنا مع "قمر الدين" في بعض المساءات الرمضانيةّ .
كثر نحن الذين فعلنا ذلك مكرهين.
لست وحديٌ ...
في طريق المسير الطويل؛ ُ
ألصدق لو لم أسألها عن هذا وغيرهَّ ،
وأكد لي ابنها أنها ما آكلت ّ وما كنت
زوجها ،طوال خمسين عاماً ،قضتها واقفة على خدمته ،ما دام جالساً إلى
طعام C..!.صبر عجيب.!!.
- 13 -
يصدق أنكم كنتم تشربون الشاي بالملح ،ما دام َّ
السكر مفقوداً ،وقلّما ومن ّ
ومرت السم بالترياقَّ .كنتم تحصلون عليه ،كأنكم قاومتم العطش بالملح ،كما يقاوم ّ
وتخضوضر به األرض ،فيأتي الجراد ويذرها
ُ ينبت الزرعُ،
عجافُ ،
ٌ عليكم سبعٌ
قاعاً صفصفاً ،ولجأتم إلى والي حلب دون جدوى ،وفي العام الثامن غطى الزرع
بعض وجه األرض ،ونفوسكم قانطة تنتظرون الجراد ،كأنه بات قدراً .!.ولم
يخلف الجراد موعده ،فذهبتم هائمين على وجوهكم ،إال رجالً ،خرج بولده وابنته
َّ
وأعد الوحيدين ،وأطلقهما في حقله ،مقسماً أن يقتلهما إن تركا جرادةً في الحقلC.!.
طائل ،وهوالرجل بندقيته ،وشحذ سيفه ،وجلس ينظر إليهما يهشان اآلفة دون ٍ
يقرع نفسه على رعونته في قراره ،وبدا له أن يقتل نفسه؛ فيخلص من عذابه وال ِّ
ٍ
يحنث في يمينه .وكاد يفقد عقله ،وهو أليام خلت ،لم يجد لولديه لقمةً ،وقد باع ما
حالة ال يعرف مرارتها غيره ،وإ ذ الشمستحته وفوقه ،وأوصله اليأس إلى ٍ
تحتجبَّ ،
فظنها غيمةً ،فاستبشر َّ
هنيةً ،ثم استدرك تشاؤمه مردداً:
:-وما الفائدة!.؟.
تحسس سيفه في غمده ،وتقدم منهما وإ صبعه على الزناد ،لكنه ُذهل لمرأى
طيور اللقلق تحطُّ من حوله آالفاً مؤلفةً ،تلتقط الجراد ،فال تبقي منه شيئاً وال تذر،
فضمهما إلى صدره جاحظ العنين ،رانياً إلى السماء مردداً: كأنها تفتدي ولديهَّ ،
{ :-ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}.
ومحصل أموال الوالية ،فلم
ّ العلية ،فأرسلت إليكم الجندرمة
وتذكرتكم الدولة ّ
ال ،وتذكرتكم األستانة وأوار الحرب الكونية الخمس وأنقصه قلي ً
ق لكم سوى ُيب ِ
مشتعل ،وأخذ جالوزتها رهطاً منكم وأنت فيهم ،وساقوكم إلى اليمن
ٌ األولى
والترعة ،وإ سحق صاحب ضيعة "القرباطية" يدّلهم عليكم حيثما اختبأتم ،وسحبوا
الفتى مرادًا ،فترك ماشيته في شعب الجبل ،وأوعز إلى كلبه األسود أن يسوقها إلى
ال ،فقالت حبيبة الفتى:
وهر هريراً متواص ً
وقدام الدار نبح َّ
داره ،وقد فعلّ ،
أهر ذا ٍ
ناب C.!!.سترك يا رب. :-شرٌّ َّ
ويهر ،فتبكي المرأة ابنها
وفي الموعد ذاته ولثالثة أعوام ،كان يأتي فينبح ُّ
رادة
ُ ً ق منها ويفليه ردان المغيب فتطعمه وتسقيه ،وزوجها يخلصه من دويبات ِ
الق ّ
قرادة ،والرجل يطمئن زوجته بقوله:
حي يرزق يا امرأة.
:-ما دام الكلب يأتي في الموعد ،فابنك ٌّ
وظلت المرأة والفتاة تنتظران الفتى أو كلبه ،لكنه في العام التالي لم يأت،
- 14 -
أمه المفطورة الفؤاد ،ونظرت هذه إلى زوجها وجلة، فنظرت الفتاة جزعة ،إلى ّ
يمسد على جيد فأشاح بوجهه ،وولج اإلسطبل ،فبكى حتى صغار رأسه ،وهو ّ
مهرة الفتى ،وخرج واجماً وأتى إلى هنا ،فوضع رجم حجارة كالقبر ،ثم عكف
ٍ
بدالء يزرع التين والزيتون والعنب ،تلك الفاكهة التي أحبها ولده ،وظل يسقيها
شحيحة ،إلى أن أثمرت لسنوات ،ثم عطبت ويبست ٍ ٍ
عميقة ٍ
بعيدة يحملها من ٍ
بئر
وعدت
َ رأيت بأم العين بعض جذورها باقية. ُ دفعة واحدة .!!.وبعد سنين طويلة
ألي ،فاراً برأسك من جحيم حرب العثامنة الخرافية بخسائرها ،فاقداً صوتك بعد ٍ
ٍ
حرب مستعر ٍة؛ ثم حد الهمس ،وذلك بتأثير البارود؛ وحرائق إال من بقية ال تتعدى َّ
بأم العين -كذا مرة -ووصلت ديار أهلك، البرد والعلل ،ورؤية الموت عن ٍ
كثب ِّ
رقع من سترة ،هيئتك تبعث الوجل ،ورائحتك تزكم خيش وبقايا ٍمزق من ٍ وعليك ٌ
جف وتقرفع على بري ٍة ،قروحك ّ
تنز ،وصديدها َّ ٍ
تيوس ّ األنوف ،مثل رائحة قطيع
سومري ٍة.
ّ ٍ
خواب متفدعتان مثل ثُ ٍلم في كعوب
جلدك المنكمش ،وقدماك ِّ
الحمام قبل الصالة أيام الجمع ،مقابل أن أسمع
وحين كنت أفرك ظهرك في ّ
جروح ،وبقايا أماكن دمامل .مشيت طويالً،
ٍ منك حكاية ،كنت أرى ندوباً وآثار
وزحفت ،وأيضاً تدحرجت في جبال اليمن وعسير والحجاز ومفازات النقب،
وقطعت الفيافي والقفار ،أكلت ما ال ُيؤكل ،وشربت ما ال ُيشرب ،وعانيت من
هدتك الهيضة وتهرش حتى تقطر أظفارك من دمكَّ ،
ُ القمل والجرب ،كنت ُّ
تحك
وذبحك العطش ،وفي صحراء النقب رأيت جماعة تتزاحم على ذبيحة ،فغامرت
واقتربت حابياً ،وفي َح ْبوك ذ ٌل وانقهار ،واختلطت بالجمع مستقوياً ببعض
وكدت
َ ٍ
وصوب، الفضية؛ مما وجدته مع مزق قتلى من كل ٍ
حدب ّ "المجيديات"
وتتمرغ بالدم وتقطع األنفاس ،وهم يجولون بينكم
َّ تموت لو لم تتماوت بين الجثث،
وتحملت غرزة "السنكة" بين كتفيك ،ورفسة "البسطار" بينّ بحثاً عن أحياء،
فخذيك ،وهالك أنهم توازعوا لحم حصان أطلق عليه صاحبه -بعد يأس-
رصاصة الرحمة ،حاولت الحصول على مقدار وجبة أو لقيمات ،فالموت جوعاً
يسحق أحشاءك ،وال أحد يهب قوتاً يدفع عنه الموت ليتحنن عليك ،وانصرفوا إال
ظل حذراً منك ،يقضم قضيب الحصان وخصيتيه ،ساومته فأبى ،والدم واحداًَّ ،
مل مما ال طائلكذئب ،ثم َّ
وظل مقرفصاً يقضم وينظر إليك ٍ يتقطر من بين شدقيهَّ ،
منه ،فأعطاك ما تبقى مقابل "مجيديين" ،فكسب مجيدياً ،وتلقفت الغنيمة ،ومضغت
شيأه الجوع،بشبح ّ
ولكت ما ال تطحنه أضراس ضبع ،حتى أنهكت فكيك ،فإذا ٍ
يطلب ما تبقى ،وأعطاك حفنة مجيديات ،وقد التقيتما بعد ذلك بسنوات ،وشهدت
- 15 -
(األحمدية) ،من أعمال ناحية
ّ ذهبت إليه مراراً في ضيعة
ُ ذاك اللقاء ،ولم أنسه ،فقد
فحدثني "الحاج نعسان" عما عانيتما في الحرب وفي الطريق ،فتطابق "دير حافر" ّ
ت وأنت كالمكما تماماً ،وأنك في الناصرة رأيت "نتيفا" وبعض صحبها ،وحين ُب ِه َّ
تتأكد ،عرفوك فالحقوك ،فتخفيت ،وسمعتهم من مخبئك يحث بعضهم بعضاً
للقبض عليك ،فقد تفضح أمرهم ،أو يتبادر إلى ذهنك تفسير بعض ما جرى ،حين
تسايرتم في طريق تهجيركم وتهريبهم عبر األناضول ،وأنت ابن ضيف اهلل ،وقد
كاد أن يكشفهم وقتذاك ،وتخلّصت منهم بأعجوبة بلجوئك إلى ضيعة "الريحانية" ثم
"الجاحوال" .ها إني قد أفرغت شحنة صدري ،وسأعود للتو إلى خلف الفرات،
ويؤلمني أنهم يهددون بخنقه؛ كما لجموا "قويق" ،وإ نهم يذ ّكروني بما فعله بكم
"عصمان" ذاك الضابط العجيب.
وما زلت أذكر أنني سألتك:
:-أيموت الحق.؟.
أجبت:
:-روحه في دوام ذكره ،وإ ال فإنه والميت سواء.!.
ولما تزل حكايتك عن حصان طروادة ملء السمع ،وأنت تكرر قولك كلما
ّ
ختمتها:
:-مصائب البشر تبدأ على أيدي الجواسيس .!.وإ نني إخال عناكبهم تنسج
بيوتاً تصل بين ما آلت إليه أرض الزيتون ،وبين إقامة دوله الخزر الحلمC.!.
وإ خال األديب الناحر نفسه بقلمه ،يتحين فرصةً سانحةً ،ليضع على قحف رأسه
يعمد هامته بقبعة "الكيبا" فتكتمل قيافته ،ويلج عتبات األلفية
قلنسوة "اليرمولك ،أو ّ
الثالثة ،في ركاب أصحاب النفوذ والقوة ،منفقاً ثمن فعلته في حياة ماتعة.!!.
وفي أواخر أيامك أظهرت حنيناً عجيباً ،خصصت به تلك الضيعة الجميلة
من أعمال قضاء صفد ،وكنت تتوقف طويالً ..طويالً بحديثك عن عائلة آوتك
وحمتك ،وأوصلتك إلى وادي اليرموك ،لتعود إلى أهلك في حلب ،وأن إحدى بنات
تلك العائلة قد أحبتك .لم تقل لي إن كنت قد بادلتها الحب ،لكنني فهمت الكثير مما
دت غير مر ٍة؛ َّ
أن تلك القرية "قدرية"!! C،وأن أحداً من دمك إما تصرح به ،وقد أ ّك َ
لم ّ
أن يسكنها أو يموت فيها أو يعشق منها.!!.
إن كنت تسمعني فإني أبلغك؛ أن ذلك قد حدث ،وقد صدقك حدسك ،فهل كنت
تستشف جريان دماء أسرتك.؟!؟ .حديثي حميمي؛ لم يتهيأ لي أن أبوح به لغيرك،
- 16 -
فهالّ سمعتني وعرفت ما حدث لي مع األميرة الصفدية.؟ .إنه غريب عجيب
مهيب ،ليس يختلف كثيراً عن حكاية المرأة قمرC.!.
- 17 -
2
- 18 -
تبغ ،ما لبث أن دسَّها بين تينك
المتوترة تفضح اضطراب دواخله ،وهو يجهّز لفافة ٍ
برتقالي كامد ،فأسرع العريف يقدح زناد قداحة الفتيل،
ٍّ الشفتين اللتين اكتستا ٍ
بلون
ٍ
مجات متتالية ،ولم يك الضابط يمجها ّ
وأدناها من لفافة سيده ،فاشتعل رأسها وهو ّ
عثمان منبسط األسارير؛ ليس ألن الناس شتموا ألكسندر والقيصر ،أو لنيلهم من
العلية؛ إنما لتلك النتيجة التي حققها مراهنه في دقة
ّأبهة السلطان ودولته ّ
وأم َن على حسن إنجاز الضابط األبرص، التصويب .وبرغم ذلك كتم غيظهَّ ،
مشكلةً قوساً في الهواء ،انتهى باستقرارها في كفودفع بإبهامه قطعة ذهبيةِّ ،
بشغف ،ودسَّها في جيب سترته فوق موضع القلب ،بينما ٍ ألكسندر ،فنظر إليها
عسكره يف ّكون الحاجز الخشبي ،الضاغط على صدر القتيل األول ،وظهر القتيل
الثالث ،والحاجزين اللذين يحبسانهم عن يمينهم ويسارهم ،بينما الضابط عثمان
يجهِّز بندقيته بصمت مطبق ،كما كل ما على الرابية ،بعيداً عن المنخفض ،حيث
جموع غير واضحة المعالم؛ بدت كقطيع وعول أرعبه التفاف ذئاب حولـه،
وأرهقه حصارها ،وثمة همهمة سرت وتصاعدت فوق الناس ،تظللهم كمزق ٍ
غيوم
تائهة؛ ومثل الغبار حين يعلق في الفضاء بين األرض والسماء ،فال يتحرك وقد
سكن من حوله الهواء.!.
وحين أنهى عسكر ألكسندر إبعاد الجثث ،تقدم "األومباشي" محيياً رئيسه؛
منتظراً أوامره ،فأوجزها بكلمة:
:-أربعة.
ثم التفت إلى الضابط ألكسندر مردفاً:
:-ما قولك إن أتت رصاصتي في صفن ٍّ
كل منهم.؟C.
لم يصدق األومباشي ما سمع ،فلم ِ
يدر ما يفعل ،همس لنفسه مدهوشاً:
:-أر ..بعةC.!!.
يعدها ،وقد ازداد ارتباكاً؛
كرر ذلك ،وفرد من كفه أربع أصابع ،ونظر إليها ّ
َّ
ال يدري إلى أية جهة يتجه ،غير متأكد إن كان أُصيب بدوار ،أم أن ما سمعه ليس
حقيقة!.؟C.
أما ألكسندر فقد علّق:
:-عقوبة مبتكرة ،لن يفكر أحد بعدها بإثارة القالقل.
ٍ
وصلف: قهقه عثمان مغتبطاً ،واختزل ضحكته فجأة ،آمراً ٍ
بحزم
:-أومباشي ...هات الستة.
- 19 -
نظر ألكسندر إلى عثمان نظرة المتيقن من خسارة هذا المغتر ،فبادله عثمان
تحدياً ،لم يرجف خاللها له جفن ،وسأل:
نظرة تقدح ّ
:-حسبت لك ثالثة عاقّين بذهبية ،فبكم تحسب لي ستة أوباش.؟.
ظل ألكسندر صامتاً ،ثم لوى شفته ولم يجب ،تحسس جيب سترته فوق َّ
ٍ
رد ،لحظتئذ حاول الضابط عثمان
موضع القلب ،ونفض رأسه غير مستقر على ّ
استفزازه:
إما برحت ساكتاً.
:-لن أتوانى عن تعفير سمعتك بالتراب أمام العسكر؛ ّ
تتحول إلى ما
مد ألكسندر نظره إلى المدى ،وزاغ بصره ،فرأى تلك األجساد ّ َّ
يشبه جذوع الشجر -وقد ساهم باقتالعها -تتزنر بجذورها ،فتتكسر عليها
كأن مغناطيساً
"بلطته" ،وتتشظى متناثرة ،ثم تتناسق كرؤوس الرماح منجذبةّ ،
باغتها ،وألصقها بجبينه ،فخدشته كوخز اإلبر ،فنبس:
" :-عصمان" C...هذا جنون.!.
كز عثمان فكيه ساحقاً كلماته بينهما:
ّ
تأدب ..قل بكم تحسب لي قتل ستة برصاصة واحدة.؟.
:-ألكسندر ّ
:-بالذي تطلبه.
:-عشر ذهبيات وامرأة.
:-وإ ن خسرت.؟.
قواداً.
تصيرني ّ
:-لن أدعك ّ
ثم سدد وضغط على الزناد ،ابتسم ألكسندر بعصبية ،وهرول األومباشي
والعريف نحو الحاجز ،وعال العويل من المنخفض وارتفع .بينما كال الضابطين
يمضغان أعصابهما ،حتى تقدم األومباشي مؤدياً التحية صائحاً:
:-تمام أفندم.
زمجر ألكسندر مستفسراً:
:-ما واقع الحال أيها العريف.؟.
:-سيدي ..كلهم أموات.
قهقه عثمان متشفياً ،وعال صوت ضحكته طاغياً على المكان ،وامتزج بذاك
الهسيس اآلتي من المنخفض ،وانصرف العسكر ينقلون الجثث ،وأخطأ ألكسندر
العد؛ مفضالً لو خسر عشرة من عسكره دون هذي الذهبياتَّ ،
وظل يردد: ّ
- 20 -
:-غير معقول ..ال أصدق.!.
وانبسطت كف عثمان أمام وجه ألكسندر ،والتقت خرزات العيون ،بينما
الذهبيات تتساقط في كف الرابح ،وأثناء ذلك كان العسكر يسلبون حصان أحد
القتلى من صديقه الفتى ،سحلوه وقد تعلّق برسنه ،وأوجعوه ضرباً بأعقاب بنادقهم،
أمه فوقه ،وبقي جاثياً قبالتها يكاد
حتى كاد أحدهم يطلق عليه النار؛ لوال ارتماء ّ
غيظه يفلقه ،وأخته تحتضنهما ،فهمس وعبرة ٍ
بكاء تخنقه:
:-قتلوه وسلبوني حصانه ،هل تفهمين معنى ذلك يا أمي.؟ C.أتدركين شناعة
ذلك يا أختاه.؟.
طبطبت على كتفه ووقفت آمرة:
:-قم.
األم:
توسل بليغ ،وقالت ُّ
مسحت أخته جبينه ،وفي صمتها ّ
:-إنك آخر رجال العائلة ،فلتدرك ذلك جيداً.
ومضت مثل نصف إلهة ،فهتف الفتى:
:-لكنه ابنك بالرضاعة.!.
هنية ،ثم استدارت مخاطبة ابنتها دون أن تنظر إليه:
توقفت ّ
:-آية ..تعالي ،وليتركنا إلى حزن عظيم وضياع؛ إن كان يحسب أنني
أرضعته من ِ
قربة ماء.
وتابعت سيرها واثقة أنها لن تزيد حرفاً ،وتبعتها الفتاة متعثرة رانية إليه،
وبقي مشتتاً ،ينظر إليهما ،ضارباً األرض بكلتا يديه ،متابعاً الحصان ،متسائالً:
:-أمعيب بكاء الرجال.؟.
َّ
شب واقفاً بشموخ ،وقفز عالياً؛ طاوياً ساقيه على فخذيه ،وأسقط جسده على
ركبتيه ،وراح يغني مرثية ،محدثاً ِّ
بجل أصابع كفه ،أخاديد في التراب ،بعدد من
يذكرهم في مرثاته المغناة.
ودعا الضابط عثمان زميله الضابط كماالً ،وجلسا مع ألكسندر إلى مائدة
الضباط برقةٍ
ّ وحيا
فاخرة ،في خيمة ميدانية ،فتقدم كبير الطهاة وخلفه معاونوهّ ،
ٍ
وكياسة:
:-سادتي C..أتمنى لكم طعاماً كما تبتغون .لدي القلب فلمن أقدمه.؟.
:-لسيدك كمال.
- 21 -
:-والكليتان ..سيدي.؟.
:-للضابك ألكسندر.
قال مبتسماً:
:-أما "الظوظ" واللسان فـ ..لك ..سيدي.
ُس َّر عثمان لنباهة كبير الطهاة ،وأكمل معاونوه حوائج المائدة ،ثم صرفهم
بإيماءة ،وبقي قائماً على خدمة سادته ،منتعشاً لسرورهم ،غير غافل عما يتوقع أن
يطلبوه ،فقد استلذ حذاقته منذ حين ،فصارت غاية ِّ
بحد ذاتها.
مقوساً حاجبيه،
وتذوق عثمان بعض الطعام ،ثم رفع رأسه نحو كبير الطهاةّ ،
مبدياً رضاه ،فانتشى وزاد نشاطه ،واستأنف الضابط تناول طعامه ،وفي لحظة
أن كماالً قد أسند رأسه على كلتا يديه ،ناظراً إلى كل شيء ،لكنه بدا كمنانتبه إلى ّ
ال يبصر شيئاً.!.
:-إن لم يعجبك الطعام ،طلبت لك ما تشتهي.
:-دعك من الطعام ،وقل لي :كيف قتلت ستةً برصاصة واحدة.؟! .ألم
كلي ٍة واحدة.؟!.
وتخرجنا في ّ
نتدرب على السالح ذاته؛ ّ
قسر نفسه على أن يكون هادئاً وقال:
كل ..فالطعام لذيذ ،ولحم الحصان حالل.
ْ :-
ٍ
بشيء من التوتر: هتف كمال
:-لن أتناول لقمةً ،ما لم أفهم كيف حدث ذلك.؟!C.
علّق ألكسندر بصوت خفيض:
:-ما زلت دهشاً ،أكاد ال أصدقC.!!.
التفت عثمان إلى كمال قائالً:
:-دعك من هلوسة خاسر الرهان هذا ،واعلم أني اتبعت تدريباً مضاعفاً،
أجزم أنه أكثر دقّة مما تلقيتماه معاً.
ب عليه ماء مثلّج،
صّتوقف ألكسندر عن مضغ لقمته ،وبرد وجه كمال كمن ُ
ك عثمان بعض اللغز إذ قال:
فف ّ
:-قد استخدم ألكسندر طلقةً مثل سائر الطلقات ،أما طلقتي فخاصة جداً،
ولعلّها خاصة بالمستقبل المنتظر.
تسرع كمال سائالً:
ّ
- 22 -
:-ما الذي تعنيه.؟.
مجات متعاقبات ،ثم
ك أزرة سترته عن بطنه ،وأشعل لفافة ،تل ّذذ منها بثالث ّ فّ
تجشأ معلناً:
أي مدى يمكنني أن أمنحك ثقتي ،أكثر مما أمنحها
:-لم تثبت لي بعد ،إلى ِّ
لكبير الطهاة هذا.
قال كمال متغاضياً عن اإلهانة:
:-كالمك ألغاز ،وأنا ال أحبها ،فهال أوضحت.؟.
ابتسم عثمان بفتور وقال:
ٍ
عندئذ ستكون موضع اختبار. :-ال بأس ..سيتركنا ألكسندر عما قريب،
ضحك ألكسندر باقتضاب ،وعلّق محاوالً تخفيف التوتر:
:-يظهر أن في األمر دعابة ظريفة.
رد عثمان وهو يطفئ لفافته ،ويستأنف طعامه:
ّ
كل أيها األبرص ،فاألمر أكبر مما تتخيل ،ولو ضمنت تواصالً بيننا،
ْ :-
ٍ
المتحان. ألخضعتك أنت اآلخر
بسر الطلقة.!.
:-فمن ينجح تتفضل عليه ِّ
َّ
هز عثمان رأسه باإليجاب ،ودمدم وهو يمضغ لقمته ،وقال كمال وهو يتناول
لقمته األولى:
:-با ٍ
ق معك ولو في جهنم ،ألعرف ما تخفي.
غص -أو أنه تقصد ذلك -وأسرع إليه كبير الطهاة ضحك عثمان حتى ّ
ٍ
بماء ،شرب ثم تجشأ ،ومسح فمه ومسَّد شاربيه ليقول:
:-لعل رهاننا اليوم -يا عزيزي ألكسندر -كان تدريباً ممتازاً.
ابتسم ألكسندر ٍ
بمكر معلناً:
:-حربنا التي لم تنقطع ضدهم ،كفتنا تدريباً شائقاً وشاقاً.
ثم ضحك وتنهد مطرقاً ،كأنه يغرق في ذكريات ما زالت ُّ
تحز في نفسه،
وعلّق كمال:
:-أثخنوكم جراحاً ،فخسائركم فادحة.
رد ألكسندر بأنفة تخفي حقيقة مشاعره:
ّ
- 23 -
:-ليست بالحسبان إذا ما قيست بما غنمناه من أرضهم.
ٍ
بخبث: َّ
احتج عثمان مراوغاً
:-فضلنا عليكم ال ُينكر ،والغنيمة لكلينا أيها األبرص الشريك.
فهز رأسه ،ثم ضحك مجامالً ٍ
بلؤم ،واختصر ضحكته ليقول فوجئ ألكسندر َّ
هازئاً:
:-ذ ّكرتني بواليكم "بطال باشا" ،حين نهب منهم ثمانمئة كيس ٍ
ذهب ،ولجأ
العلية خائناً ،وحين تدخلنا لصالحه ،عفوتم عنه.
إلينا ،فاعتبرته دولتكم ّ
وعينته دولتنا العلية والياً على "طرابزون" .هل في أقوالكم مثل قولنا:
ّ :-
ماء.؟.
الدم ال ُيصبح ً
ّ
قلب ألكسندر شفته غير متأكد وقال:
سرياً بمرتبة قانون.
:-لكلينا ما يعتقد .أما اتفاقنا على تهجيرهم ،فقد كان ِّ
رد عثمان:
ّ
ٍ
أرض ال شبيه لها C.!!.أال ما أغرب أن يكون لمثل أوالء الرعاع :-يالها من
مثل تلك األرض؛ وهناك شعب فذ بال أرض.!!.
:-كان فرماناً رهيباً" .من أراد البقاء في وطنه فهو بحكم أسير حرب.".
أخفناهم ،فهم يرون الموت أهون من األسر ،ضغطنا عليهم بكل السبل كي يتركوا
أرضهم.
نهجرهم لنخلّصهم من فظاظتكم،
:-يا لكم من أفظاظ C.!!.أال ترى كيف ّ
مسهِّلين لهم النفاذ بجلودهم.؟!.
تبرماً ،وقال
ضحك ألكسندر ،ثم انفجر عثمان ضاحكاً ،وأظهر كمال ّ
ألكسندر:
:-ليتنا ننهي االستالم والتسليم بأسرع ما يمكن.
:-كأنك مللت صحبتنا.!!.
... :-إنما ِّ
بودي لو احتفلت برأس السنة -ألف وتسعمئة وسبع ،بين أهلي
واألصدقاء.
ٍ
حاجة إلى :-لعلك قصدت الصديقات أيها األبرص ،إ ..يه ..أنا أيضاً في
وتأمل ما سيكون.
االسترخاءّ ،
أنهى قوله وخرج من الخيمة ضجراً ،فتبعه ألكسندر وكمال ،وقفوا على أنف
- 24 -
الرابية؛ عند طرف المنحدر؛ قرب الحاجز المقام على عجل ،تنفسوا الهواء
يلف المكان
المحمل برطوبة الليل ،متأملين المنظر أمامهم وستر الليل مسدولّ ،
ّ
بعتمة ال تبددها سوى أضواء النيران التي أوقدها الحرس هناك ..وهنالك ،حول
جموع الناس في الوهدة والمنخفض ،وثمة موسيقا تصلهم كأنغام جنائزية.
سأل عثمان دون أن يلتفت إلى ألكسندر:
:-أال قل لي ،كم فرداً منهم سأستلم منك.؟C.
:-لن تستلم أفراداً بالعدد ،إنما على شكل أسر ،وانتبه إلى مكرهم ،فهم
يتخاطبون بأسماء عائالتهم ،وقد ال تعرف أسماءهم األولى.
:-سنرى كيف نحول دون مكرهم.
سأل كمال:
:-أحقاً قتلتم ثالثة ماليين منهم.؟.
:-كان يجب القضاء على نصفهم ،كي يتوقف نصفهم اآلخر عن مقاومتنا.
:-ما زال الكثير منهم رهن مناجل الكوليرا والمالريا والجوع.
يحملنا تبعة ذلك ،إنها مناجل الغيب وإ رادة الرب.
:-ال أحد ّ
تمتم عثمان ٍ
بحقد:
:-أمرهم عجيب .!.يموتون وهم يتمتمون بالشهادتينC.!.
همس كمال بصفاء:
:-اهلل.!..
قال ألكسندر:
:-على الرغم مما حدث ،أستطيع االعتراف بشجاعتهم ،فقد دافعوا عن
أرضهم حتى استنفدوا قواهم.
متهورون.
ّ :-
وكانت أنغام الموسيقا ،ترافقها أصوات جماعية تتابع المنشد بانسجام:
( :-مع أننا خسرنا الكثير ..فلن نخسر إنسانيتنا أبداً.).
تمتم كمال:
درهم.!.
الرقي ..هلل ّ
ّ :-منتهى
علّق عثمان على تمتمة كمال:
- 25 -
:-لو خلعت بذتك العسكرية ،وصرت إمامهم في هرطقاتهم.
العلية.!!.
:-كأنك لست على دين دولتنا ّ
:-بلى C..وكيف ال أكونC.!.
استرق كمال إلى عثمان نظرة استهجان وعدم ارتياح ،والحظ عثمان ذلك،
فتحرك متثائباً ،محاوالً التخلص من حرجه ،ودعاهما إلى أن يناما ،فالعمل
المقرف ينتظرهم صباحاً .مضى كمال مرتاباً ،ومشى عثمان حانقاً ،فأوقفه
ألكسندر بقوله:
:-إلى أين.؟C.
:-سأحاول أن أنام.
:-إن فيك ما لن يدعك تنام .أال تريد بقية ما لك بذمتي من رهان اليوم.؟.
تلكأ ..وأبعد عن صفنه ما علق به من سراويله ،فاقترب ألكسندر منه الئماً:
:-أكنت تريد أن تتركني تحت وطأة المديونية.؟!C.
:-أتعني ما تقول.؟.
تعودت النوم مديناً ،لكني سأنالها قبلك.
:-ما ّ
:-موافق.
قالها غاصاً بلهفته ،ثم وجد نفسه ضئيالً؛ تحت نظرات ألكسندر ،فحاول
إصالح ما أفسدته رغبته الجامحة نحو أنثى:
:-بل تكون لي أوالً.
َّ
رد ألكسندر بلهجة داعر محترف:
:-إني أفيك دينك فحسب ،وسأنالها قبل أن تفتر ،ال سيما أنهم تحت
تصرفي ،وحين يمسون بتصرفك افعل بهم ما بدا لك.
لم ينتظر اعتراض عثمان أو موافقته ،فنادى العريف وأخذه هامساً ،وعند
باب خيمته ،راح العريف يهرول ،ودخل الضابط فلحق به كبير الطهاة ،ووضع
أمامه زجاجة؛ سرعان ما جرع منها جرعات متتاليات .نفخ زفيره بقو ٍة محاوالً
تفصد من جبينه إطفاء بلعومه ،فألقمه كبير الطهاة ملعقة (كافيار) وهو يمسح عرقاً ّ
بتأثير الخمرة ،وأشار إلى كبير الطهاة أن يجلس ،فأبدى كياسةً ،وأشار بيديه
عندئذ جلس على طرف المقعد ،ململماً ٍ وحاجبيه ،بأن ذلك ال يجوز ،فأمره زاجراً،
ٍ
عرفان ،لنيله تنم عن
جسده قدر استطاعته على التضاؤل ،وابتسامته الودودة ّ
- 26 -
شرف مجالسة سيده ،الذي دفع إليه كيس التبغ ،فتناوله بخفّة وحذق ،وشرع يجهّز
ويكومها قرب السراج.اللفافاتّ ،
وكان العريف ينفّذ التعليمات بدقة ،فبدا األمر روتينياً إلى ٍّ
حد كبير،
فاألضواء قليلة والعتمة أعم ،واألصوات تكاد تكون مكتومة ،ما خال أصوات
تحركات الحرس وكالب استنبحها عواء الذئاب ،وضباح الثعالب من بعيد،
تسول له
دورية ،تردع من ّّ ومجموعة االختطاف تجوب المكان ،منتظمة على هيئة
نفسه مخالفة تعليمات العريف.
ويزجيان ما
ّ واصطحب العميل صديقه الفتى ،إلى حيث يسليان نفسيهما،
ُمه -أن يلبي دعوته أمكن من هذا الليل الطو ..يل ،ثم أقنعه -وقد ابتعدا عن أ ِّ
دسا
لتناول الشراب في حضرة العريف ،فذاك شرف لم ينله أحد من أترابه ،وقد ّ
وأمها ،فلم يلحظا ما
يحومان حول مرقد الفتاة ِّأهجعهُ ،وراحا ّ
َ في شرابه ما
يريبهما ،فهما تبدوان غارقتين في النوم.
األم طيفهما غير متأكدة منهما ،فداهمها هاجس جعلها تتحسس فخذها، لمحت ّ
شدت إليه السيف قصير النصل ،ثم تأكدت من غطاء ابنتها ،بل اطمأنت إلى حيث َّ
وجودها بجانبها ،وأدارت رأسها -دون أن ترفعه -في ِّ
كل االتجاهات ،فلم َتر
واقفاً أو سائراً إال الحرس ،وذينك اللذين أثارا ش ّكها ،حتى ابتعدا وأخفتهما العتمة.
وأنى لها ذلك
حاولت إصاخة سمعها ،علّها تعرف البنها مكاناً إن سمعت صوتهّ ،
وذرت في الخدوش تردد خمشت ساعدهاَّ ، وحظر التجول يضرم فيها القلق ،ودون ٍ
ّ
ملحاً ،فسكنت وقلبها واجف وهي ال تغفو ،وتساءلت:
بشر يتربصها.؟C.).
(أتحس الروح ٍّ
ُّ :-
ليلة ليالء تمنت انقضاءها ،وإ ن كان النهار ليس بأقل منها عسراً ،لكنه يعني
مئات العيون تحميها من قلقها ،وإ ن لم تدفع عنها قدراً ليس يكترث بميقات؛ وال
ٍ
بقناعة أخرى ،وهي َم ْن رأت من ويالت السفر هذا وتلك وأنى لها
يحفل بزمانّ ،
َّر
الحرب ،ما أوقد بياض ناصيتها ،قبل أن تختم العقد الرابع من عمرها ،تتفج ُ
ق كشجر ٍة عطشى، الغم وشح اللقمة ،فأصل جمالها با ٍ
بنضج أنوثتها ،وإ ن لواها ّ
تحدقان في السماء؛ تعوذان بها ،لتخفف من سرويةّ ،
ّ وعيناها المحفوفتان برموش
بطيء جاثم في جنبات روحها؛ ال يتزحزح وال ينزاح ،والخاطفون وصلوا ٍ ثقل ٍ
ليل
ٍ
مقربة زاحفين ،تسمعهم إن همسوا أو تنفسوا: إلى
( :-عليك مواجهتهم ،فهل تقدرين.؟.).
- 27 -
والتهور يتجاوز الشجاعة،
ّ ضده،
(إنه الخوف على منصته ينقلب إلى ّ ّ
افتداء آخر الحلول وأيقنها ،وإ نهم يقتربون ،إنهم يتأكدون ،وإ نهم
ً فاالنتحار
يشبقونC.).
:-كلتاهما تقصم الظهر ،فأيتهما نأخذ.؟.
قال اآلخر متهدج الصوت:
:-نأخذهما معاً.
فاحاً كأفعوان:
زجره الثالث ّ
:-بل واحدة أيها الوبش ،فاألوامر واضحة.
أمها تشهق ،ودنا اآلخر منها فانغرزت شهقتها
دنا أحدهم من (آية) ،فكادت ّ
في حلقها.
:-فلنحمل هذه.
وأشار إلى الناهد .تحركت المرأة فزعة ،فصالب أحدهم سيفه مع عنقها،
همست:
:-ماذا تريدون.؟C.
:-الكاعب.
:-احذروا ..إنها مصابة بالتيفوس ..بالـ ..إنها.
:-إذاً أنت.
كمموا فمها وسحبوها مبتعدينَّ ،
دق أحدهم حجراً بحجر وانتظر ،أتاه صوت
مماثل ،ووقف اثنان الطيان في حفرة ،عرفتهما فقالت:
:-ال مالمة عليك أيها العريف.
والتفتت إلى صديق ابنها ولفظت:
:-ما لهذا أرضعتك أمك.
زجرها العريف رافعاً سوطه ،فأمسكته وقالت:
:-ال تكن فظاً ،فلقد أتيت معهم طواعية ،سلهم لتتأكد ،قل ما الذي تبغه.؟؟C.
:-سيدي يريد امرأة.
التهب رأسها واضطرب قلبها ،أدارت وجهها خفراً ،واحتدم المد والجزر بين
رأسها والقلب؛ سريعاً مثل الومض ،قالت:
- 28 -
:-أطمئن على ابني أوالً.
أمر العريف أحد رجاله أن يعيده إلى مطرحه ،فاندفع الرجل إلى مهمته ،دنت
من صاحب ابنها ،وقفت قبالته ،بدا وقحاً ،بصقت ملء فمها في وجهه ،دفعوها
ومضوا ،والعميل فاغر الفم يدمدم:
عالم تترفع الداعرة.؟! C.كالنا ّبياع ما
:-ما دامت أتت إلى الفحش طواعيةَ ،
لديه؛ وماالفرق.؟!.
َّ
استل من عنق حذائه زجاجة مفلطحة ،كرع منها ،ثم أفرغها في جوفه،
فانتفخت أوداجه وجحظت عيناه ،وقف وبال في الزجاجة بيلة مديدة حتى طفحت،
وضعها جانباً ودمدم:
:-سأنتظرها فأنالها ،وأحطم كبرياءها ،ثم أسقيها محتوى الزجاجة فأهينها.
ٍ
عندئذ تذ ّكر أن يمسح البصقة ،وخنخن بقوله: َّ
وحك أنفه، زهزق
:-فإن وشت بي فضحتها ..ولكنC.!!.
ضرب األرض بقبضتيه وتمتم :تباً للضعف ..تباً لقذارة القوة .ثم أجهش
يشتم الدنيا.
{خرج أبوها إلى الحرب ولم يعد ،قتلوه ال شك ،ال تدري إن ُدِفن أم أكلته
الجوارح ،ولما ساقوا زوجها وخيوله من المرعى ،طال غيابه ،ثم أعادوه جثة
هم أخوها أن ينزله ،انفجرت بهما عبوة جعلتهما والحصان على حصانه ،وحين َّ
طها أحد عسكرهم ،فأسقطت جنينها وكادت تموت.}. مزقاً ،وتذكرت يوم َلب َ
مكبلة ،تحسست فخذهامرت الصور سريعاً في ذاكرتها ،وهي تزحف بينهم ّ َّ
عدلت موضع السيف ،فللمعدن صوت غير ما النسحال الجسد على األرض ،ثم و ّ
صعدت الهضبة بينهم ،ودخل العريف خيمة سيده ،ودنا كبير الطهاة مبتسماً
وهمس:
:-أدعي أني أمهر الطهاة قاطبة ،وأطمع بمعرفة رأيك بما على المائدة،
موعدنا صباحاً سيدتي الجميلة.
أشار إليها العريف أن تتقدم ،وأزاح لها ستارة باب الخيمة( ..هوذا الخوف
على منصته انقلب إلى ضده) C..اقتحمت الخيمة مرفوعة الرأس ،وقفت بين الباب
والمائدة ،اتساع عينيها َّلم المكان وما فيه ،فرأت كل ٍ
شيء دون أن تتلفت.
أنزل الضابط الزجاجة عن فمه مبهوتاً ،وجهٌ لم يكن لمن عاشرهن مثل
جماله!
- 29 -
وهذان الصفّان من سرو البحيرتين ،رموشها والعينانُّ ،
والقد مثل شجرة
مشوية .!.أهي كذلك ،أم َّ
أن الخمرة ّ كالرمان ،والشفتان كستناء
ّ ورد ،والنهدان
ٍ
غصن كاد شاركته رسمها.؟ C.أو لعلّهُ انزياح الحرمان برائحة الندى ،على
يجفC.!.
:-تفضلي بالجلوس.
افتداء آخر
ً (التهور يتجاوز الشجاعة ،فاالنتحار
ّ جلست قطعة واحدة..
الحلول.).
:-كلي أيتها الباهرة.
(ولم ال آكل.؟ C.فقد تكون لقمتي األخيرة).
َ :-
جدد كبير الطهاة مائدة سيده الضابط عثمان ،ووقف ينظر إليها ويسترق ّ
ويتسول كلمةً تُرضي ولعه رضاه، ل يتوس ، نظرات إلى وجه سيده ،فاركاً كفاً ٍ
بكف
ّ ّ
فاغتَ َّم ودفع طبقاً أمام سيده ،ثم وصفها
بمديح صنع يديه .سأله الضابط عن المرأةْ ،
بأنها فرس ،وهي مثل الكمثرى ،لوال ضيم حاق بها ،فذهب ببعض نضارتها ،إال
َّأنها تبقى مقبولة لندرتها في مثل هذا الفصل ،وفي مثل هذا المكان.
:-وصدرها.؟.
:-حمامتان ورقاوان يا سيدي ..دجاجتان.!.
وهزت سكونه .انحسر َّ
الدم من وجه كبير الطهاة ،حتى صرخة مألت الليل ّ
بدا ببياض قرص من الجبن الطازج.
جمدت عينا عثمان في محجريهما ،ونسي للحظات من يكون C.!.تفترسه
غرائز ال يعلم كنههاَّ ،
كأنه ال يدرك عالقته بما حوله من الموجودات.!.
ابتعدت المرأة عن خيمة الضابط ألكسندر ،دانية من حافة المنحدر ،واندفع
العريف من خيمة سيده كالمجنون ،وأعلن أنه مقتول ،صرخ بالعسكر والحرس،
طوقوها فصاحت: واستنفر األومباشي عسكره ،والتقى الجمعان كحذوة حصانّ ،
دنسني ،وقد نوى.
:-قتلته وما ّ
ٍ
بطلقة ،ومثله فعل واخترق الرصاص جسدها ،واختتم العريف المشهد
األومباشي ،واستقرت رصاصتاهما في رأسها الذي كان جميالً ،وتدحرج الجسد
من عل.
ٍ
حينئذ وزحفوا نحو الهضبة كطيور البطريق المهتاجة؛ والوعول المنتهشة،
- 30 -
تبخرت النشوة من رأس العميل ،فأطلق مفتتاً القارورة ومشى C..أسرع ..ركض
منادياً صديقه الفتى ،ودفعه وأخته ليمتطيا الجواد ،فال وقت للحزن ،وليهربا قبل
أن يطولهما سوط العريف ورصاص عسكره.
:-هيا ..وستجد األم من يقبرها ،وإ ني منتقم لها ..أقسم.
ساط الحصان فعدا بهما خبباً ،حتى إذا ابتعدوا وأخفاهما الوادي ،تناول من
عنق حذائه زجاجة مفلطحة؛ دلقها في جوفه دفعة واحدة ،واعتلى رجماً؛ مخاطبًا
الناس من حوله:
واثق أنكم دافنوها ،وقد وعدت الفتى أن أنتقم لها ،وإ ني أفي بوعدي
ٌ :-
فاشهدوا.
استل سيفه قصير النصل ،وغرزه في موضع فؤاده ،وسحبه مثل لمح البرق، َّ
سرته ،وضغط جاثماً عليه ،فارتفعت سترته وسط ظهره مثل ثم جثا ووضعه في َّ
ٍ
خيمة ،وانسحلت ركبتاه فاستوى منبطحاً ،وارتطم أنفه باألرض ،وتعفَّر جبينه
بالتراب ،وبان نصل السيف ،وقد اخترقه من البطن إلى الظهر.
- 31 -
3
استفاق عثمان من الوهلة وما زال في دائرة النار ،رأى نفسه عقرباً؛ فيه من
السم ما يخلّصه من هذا المشوى؛ وذل االحتراق محاصراً.
ِّ
( :-ألمثل هذا تُ ِع ُّد العدة يا ..عثمان.؟! C.سه ٌل أخذ األمور على عواهنها،
فتتصرف بما تقتضيه الحال ،مثلما يتوقع المأفونون من حولك .لكنها ساعة طالما
وتزج بها في
ّ انتظرت مثيالتها؛ لتسقي فوالذ شكيمتك ،وما فتئت تخضعها للمحن، َ
امتحانات عسيرة ،لتكون ذات يوم حجر قوس القنطرة ،بها يظل البنيان قائماً،
وبدونها يتزلزل .اخلع قلبك كما تخلع قفازك أو قناعك أو نعلك ،وضع مكانه غاية
الغايات؛ ودعها تضخ في عروقك ما يجعلك ال ترى سواها؛ وال يشغل رأسك عنها
شاغل ،قم فقد آن األوان ،قلِّص ما استطعت أدوار َم ْن هم حولك ،فالحكاية لم تزل
بال نهاية ،وارم عصاك كما لو كانت عصا موسى C،اقلب السحر على الساحر؛
واسحب البساط إليك ،واجعل من مصيبتهم فوائد لك ،تذ ّك ِر الوحوش والبهائم
دابة عليها ،واقبس من خصائصها ،ولتكن ليناً وكاسراً، وخشاش األرض؛ وك ّل ّ
هيناً وهصوراً ،ناعماً كفرو األرنب ،ومثل إبرة العقرب ،افعل ما بدا لك ،وال تأبه
بالوعوعةC.).
كأن نخاعه الشوكي
دخل خيمة ألكسندر ،وأمام الجثة انتفض جسده مقشعراًّ ،
ٍ
لحظتئذ تخلّص تماماً من تأثير الحادثة ،فاستفاق ُو ِخ َز ّ
فاهتز في قناته واختلج،
بكامل حواسه وأحاسيسه ،واقترب من السترة على مشجبها ،نبش جيوبها .أراحه
التماع الذهبيات في كفه ،وداس على الجثة قرب انغماد السيف فاقتلعه ،وخرج به
ٍ
كسهم أمام العسكر ،فأتى منغرزاً كالوتد، كمن أخرج ثعباناً من جحره ،وألقى به
راقه ذلك ،كأنه أنجز ما يحتاج لضابط بمستواه ،قال:
:-عجلوا بدفنه في موضع خيمته ،فلن يمكنكم العودة به إلى مسقط رأسه.
ترك المهمة للعريف ،وأمر الضابط كماالً أن يتولى على الفور تدريب
- 32 -
العسكر ،ليستعيدوا لياقاتهم ،وأمر الطهاة أن يزيدوا جعالة العسكر ،وأعطى
األومباشي صالحية إطالق النار على ما يريب ،ثم ضغط على صدغيه ومضى
مفكراً ،فاألمر قد تفاقم ،والحنكة تدعو إلى تطويقه ،واستتر بالحادثة وعقابيلها،
وجعلها هاجس َم ْن ُهم حوله ،أما هو فلم يعهد أعصابه باردة وبهذا الهدوء ،وطفق
فشجع األلسن أن تلوك سمعة ألكسندر، يضع ما يدور في رأسه موضع التطبيقّ ،
حرج بين
ٍ غير ٍ
آبه باستنكار العريف لما يلقاه وجنوده من ازدراء ،وتركهم في
نارين ،نار فعلة كبيرهم ،ونار عجزهم عن إيقاف عجنهم جميعاً في اإلناء ذاته،
ط مقتل الضابط ،إلى مستوى ال وأهَب َ َّ
وأن ثلمة سمعة الرجل في المال أو النسوةْ ،
ألحد من عسكرهنفر بالهيضة ،ولم يشارك بمراسم الدفن ،ولم يسمح ٍ يتعدى موت ٍ
أن يكون قريباً من المكان ،وانقطع إلى نفسه كقائد؛ وهيئة أركان؛ وبدل قادة
الميدان ،كأنهم مختزلون في شخصه ،يرسم لمرحلة على األبواب ،وحسب أسوأ
ك الناس به ،ورفع عتبهم عنه ،وتبرئة نفسه مما االحتماالت ،ومرامه إبعاد ش ّ
فقدم العزاء بالمرأة ،مشيداً بموقفها دون شرفها ،وأمر
حدث ،واغتنم الفرصة ّ
حجرية على قبرها تبجيالً لطهرها العفيف.!.
ّ بشاهدة
( :-ما هذا يا عثمان.؟! C.ألم تنتظرها وأنت تتقطر شبقاً.؟ .أم أنك صيَّرتها
جسراً لغاياتك.؟ .من أي ٍ
وحل ُجبلت.؟ .وما الذي بينك والشيطان.؟C.).
كانت صورة أمه تمأل فضاء خياله ،وال شيء سوى طيفها ،وباألخص وقت
ألح عليها أن يعرف له أباً قبل فوات األوان ،قالت:
احتضارها ،وقد ّ
قدر تضحيتي من أجل تحقيق أسطورتنا، { :-أحد ثالثة في اآلستانة ويلدزّ ،
وانس يا بني ،فأنا أمك وأبوك.}.
َ
وحين أُنبئ بهرب ابنها وأخته ،اهتصر حنقه وكتم غيظه ،متغاضياً عن
الخبر ،لكنه جعل اإلعدام رمياً بالرصاص؛ عقوبة الحرس إن تكرر هرب أحد،
أن يتّبع الردع
فصرامة العقوبة غطت على تهاونه ،ومرق قصده سهالً ،وارتأى ْ
طن ،بدل القمع الشرس ،فاستدعى الشيخ اإلمام مرافق السفر ومفتي اإلقناعي المب ّ
المسير ،وزايد عليه إلى حين ،وباعه مما في جعبته ،كأنه يأتيه باجتهاد مسند،
مضض في بعض األحايين ،إلدراكه أنه ٍ يهز رأسه موافقاً ،وإ ن يكن على
واإلمام ّ
مسخر للخدمة ،وما هو وكل هذه المعمعة إال وسيلة لغاية قد ال يدركها تماماً ،إنماّ
ٍ
يستشف أهميتها من مرتب ُخصص له؛ يفوق ما يتقاضاه الضابط كمال هو
واألومباشي معاً ،فيقول ما يريدون حين يريدون ،ينحت ويقيس ويختلق ،فيزيد
ويكرس ضرورته للناس على أنه عالّمة مكانته ثباتاً ،ويحافظ على حاجتهم إليهّ ،
- 33 -
جهب ٌذ ،ورأى في إذعانه لطلب الضابط خيراً ومثابة ،فأقام صالة الجمعة في
فأدت الواقعة إلى
ذم ألكسندرّ ، العلية ،ولم يفته ّ
العراء ،فخطب لعثمان ومدح الدولة ّ
وكونتها كما يرغب ،فغنم منها ما لم يكن يحلم بهتعجيل عملية التسليم واالستالمّ ،
مح البيضة وقشرتها.تم األمر مع ألكسندر ،الذي كان سيقاسمه ّ لو َّ
وبأمرة العريف لَ َّم العسكر حاجاتهم وعتادهم ،وجهّزوا عرباتهم والدواب،
وأضحوا مستعدين للتحرك ،برغم تغافل الضابط عثمان عن تأمين دليل وحامية،
رده أن يسلكوا الطريق ذاتها ،وأن يستخدموا سالحهم في حماية أنفسهم ،بدل وكان ّ
استخدامه في اصطياد الثعالب واألرانب ،إذ جمعوا من جلودها أحمال ثالثة بغال،
سيبيعونها لنساء أغنياء الحروب وأثرياء سدنة الحكم هناك في "المسكوف" ،وربما
وزعوا بعضها على عشيقاتهم. ّ
أبلغهم ذلك بازدراء ،ومضى إلى حيث يتابع الضابط كمال تدريب العسكر.
طغى حنق العريف ،فامر السدنة بتجهيز المدافع الثالثة ،وأوعز بأن تُلقَّم
البنادق ،وخاطب عسكره بأنهم سيودعون كبيرهم بتحية الئقة ،فاصطفوا نسقين
ووجههم ناحية المنحدر،خلف المدافع بوضعية الرمي وقوفاً ،وتأكد من الجاهزيةّ ،
ثم صاح:
:-نا..ر.
غبار ونيران وقتلى ورعب وجرحى ،أجساد ممزقة ودماء.
مفاجأة لم يتوقعها الناس ،أخذتهم على حين ِغ ّرة ،وزادت محنتهم بؤساً.
حياه
توجه إلى مرقد الضابط ألكسندر ّ أمر العريف بإعادة تعمير السالح ،ثم ّ
قائالً:
:-ذلك مقابل قطرة واحدة من دمك النبيل ..الوداع سيدي.
ثم أعطى أمره صائحاً بعسكره:
:-أما..م سر.
يغيبهم األفق ،ظهر عثمان على حصانه فوق الرابية ،وراح يرقب
وحين كاد ّ
األفق والمنخفض وهمس:
عريف فذ .!..لو كنت من عسكري لمنحتك رتبة (ضابط ٍ :-يا لك من
شرف) على الفور ،ثم أعدمتك رمياً بالرصاص دون تردد .وأمر األومباشي أن
ينزل بكوكبة إلى أولئك ،يبلغهم استنكاره ،ويقدم باسمه العزاء بالقتلى ،وأن
وتوجه إلى قبر ألكسندر ،وخاطبه
ّ يوزعوا عليهم العدس المجروش ودقيق الذرة،
- 34 -
قائالً:
أبدية ،فاعلم أني سعيد بأنك ما زلت وستظل مديناً لي
:-ها قد نمت نومة ّ
أبداً أيها األبرص.
حينئذ وصل كمال على رأس العسكر منهكين ،فمشى عثمان أمامهم قائالً: ٍ
:-فعلة نكراء اقترفها ذاك العريف الوغدC.!..
ومضى إلى خيمته ،مشيراً لكبير الطهاة أن يلحق به .وكان كمال يرصد
المشهد ،ويتابع العريف وعسكره ،وقد أمسو "خربشة" سوداء على األفق البعيد،
وتفجر اشمئزازه عاصفاً بوجدانه ،فانحدر مسرعاً ،وهو ُّ
يفك أزرة سترته ،فلحق ّ
به بضعة متحمسين صائحين:
:-اهلل ..أكبر.
فاهتز غضباً
خرج عثمان من خيمته على عجل ،واستوعب ما يحدثّ ،
وصاح:
أمر عسكريٌّ.
:-ارجعوا فوراًٌ ..
هنية ،وجمد العسكر ونظرهم موزعٌ بين الضابطين ،وتفكيرهم
توقف كمال ّ
َّة واألمر ،فقذف كمال سترته ،ومضى نازالً يكاد يتدحرج ،عندئذٍ
مشتت بين الح ِمي ِ
َ
غدارته وصاح:
ّ من طلقة أطلق عثمان
:-الموت لمن ال يعود حاالً.
وادرأ كل منهم ٍ
طيور تكسَّرت أجنحتهاّ ، صعد العسكر الواحد إثر اآلخر ،مثل
قدامهم،
ّ السوط يفرقع وطفق الملتهبة، نظرته باآلخر ،يلوذ بعضهم ببعض ،تكويهم
ويسوطهم حيثما اتفق ،وأمرهم أن يحفروا خندقاً أعمق من أطولهم قامة ،حول قبر
ألكسندر ،وعاد إلى خيمته ،يضرب الهواء أمام وجهه صارخاً:
إلي بالطعام يا كبير "العكاريت".
َّ :-
أسر إلى سيده بما سببه العريف
وحين عاد األومباشي على رأس الكوكبةَّ ،
من كارثة ،وقرأ على وجهه عدم رغبته سماع المزيد ،فأدار دفة حديثه إلى ناحية
تسر الضابط ،وهو الذي خبر العسكرية ورجاالتها ،أوليس أومباشياً.؟!C.
توقع أن ّ
التهم الضابط ج ّل الطعام ووجهه طافح بالسرور ،واألومباشي مسلّم بواقع
األمر ،وعليه التحدث بما يفتح شهية هذا الشره األكول ،ليتلذذ بأطاييب الطعام،
زعارة سيلحقون بالعريف وعسكره ،وقد أقسموا ووشى بما تناهى إليه ،من َّ
أن ّ
- 35 -
على االنتقام .انتفض سائالً إن كان فتاهُ بينهم.؟ .فأكد األومباشي أنه ليس معهم،
فتنفس مرتاحاً وعاود التهام الطعام ،وأمر األومباشي باإلشراف على استكمال
غرر بهم كمال ،فمضى يلعق لعابه وقد سال غير مر ٍة ،متشهياً عقوبة أولئك الذين ّ
تذوق لقيمات ،وابتعد متسائالً عن تعلّق الضابط بذاك الفتى مذ رآه.؟ .وطفق
يهرش إبطه مردداً:
:-ربما ..ربما.!.
أخذ عثمان كتابه األثير من الصندوق ،وشرع يقرأ بصمت ،ثم أغلقه وشرد
يردد بهيام:
سر األسرار .أنت
السر الكتيم ،وقلب يتسع ّ
الخزرية ،يا ذات ِّ
ّ ( :-أيتها األم
النار والمنار ،أنيري طريقي ألضرم الحريق في صدور أولئك األوباش ،فتكونين
راضية يا بنة يشوعC.).
وأتت الحرائق في المنخفض على خيام وعربات ،مات أوادم ،ونفقت بهائم،
ق ،ويساعديوجه إلطفاء حري ٍتكسرت ،وكمال كالنمرّ ،يجبر أيدياً وأرجالً ّ
والحكيم ّ
ٍ
معلقة بجلد العضد ،وهاهما يطهّران جروحاً بالنار وبرماد خشب الحكيم في بتر ٍيد
ٍ
بدوخة فأغمي عليه مرهقاً ،وجثت ابنة العجوز بجانبه ،تساعد الزيتون .شعر
والدها بتدليك أطرافه حتى اختلج َّ
وأن ،ثم تقيأ ،فأمر العجوز ابنته أن تغلي من
أعشابه للفتى ،هرعت الحسناء؛ والفضوليون يهمهمون ويرمزون ،والعجوز
يحدجهم بنظرات تحمل معناها ،ثم استشاط غضباً وقد سفه أحدهم قائالً:
بعدو إلى هذا الحد.
:-ال تكن رحيماً ٍّ
شج رأسه مؤنباً: ٍ
بحجر ّ قذفه
:-عجيان ..أنستكم الشدائد طباع أهليكم وعاداتهم.
ّأيده أحدهم قائالً:
:-يستأهل .تباً للشدائد.
غاضب مدمدماً:
ٌ واستنكر بعضهم فعلة العجوز ،والمه
:-أتشج رأسه دفاعاً عن ذئب.؟!C.
سحب العجوز ع ّكازه ،وتحامل عليه حتى استقام ،وقال:
يعتز بأبيه ،إلى ٍ
فعل يخفف به عنا ما :-ليس هذا وقت اللوص ،فليذهب من ّ
يتحجر قلبه.
لدي ما أقوله غير ذلك لمن لم ّ َّ
حل بنا ...ليس ّ
- 36 -
انفض الرهط ،وأتت الحسناء ٍ
بإناء يتصاعد بخاره ،والعجوز يشجع كماالً ّ
قائالً:
مغبة طيبة عليك ،هيا يا فتىC...
عب منه قدر استطاعتك ،ففيه ّ
ّ :-
وخدر يسري في أعضائهٍ ٍ
براحة وأحس
َّ استعاد وجه كمال بعض تورده،
كالنمل ،وتمتم:
:-أشعر أنني سأنام.
ابتسم العجوز ومسح على جبين الفتى قائالً:
حسن هذا ،فقد نفعتك أعشابي ،نم اآلن فأنت تتعافى.
ٌ :-
أسياً:
وربت العجوز على كتفها وهمس ّ
ترقرقت الدموع في عينيهاّ ،
:-لو لم يقتلوا شقيقك ،لكان في عمره اآلن.
وقف وهو يوصيها أن تبقى إلى جانبه .نظرت إليه وتلفتت ،فهم قصدها
فهمس:
تقوالت األرذال.
:-ال تهتمي ،فصنيعك أنصع من ّ
مضى ورمى ع ّكازه؛ فترنحت إوزة صادفها ،وأسرع إليها بخفة صياد،
فذبحها وناولها المرأة تجهّز موقداً قائالً:
ِ
شاركت بما ينفع.؟ C.اسلقيها وأكثري الثوم على مرقها ريثما أعود. :-هال
وندت عنها شهقة الفجأة ،فضربت بكفها على خدها ،ولم امتقع وجه المرأةَّ ،
يكن ابتعد عنها ،استدار وفي نظرته تساؤل ،فلم يقع على غير صمت المرأة
فسألها:
:-ما بك أيتها الجميلة.؟.
لمح نظرتها معلّقة باإلوزة ،فقال:
حسن ..ما بها.؟.
ٌ :-
:-إوزتي وكانت شاردة.
ٍ
صمت ،ثم انفجرا ضاحكين في اللحظة ذاتها ،قالت المرأة: مرت لحظاتّ
:-فداك ..فليست ديك الجدة.
وتلقى األومباشي أمر رئيسه ،أن ُينزل األنفار في الخندق ،وأن يردمهم حتى
ٍ
بشيء من المواساة: حناجرهم ،فأسرع منفّذاً ،وكلما زاد طمرهم ردد
- 37 -
:-تجلدوا أيها الفتية ،هي ذي العسكرية بأحد وجوهها ،سبقتكم إلى مثل هذا
ٍ
مرات ،أم أنكم تحسبون "األومباشية" تُنال بدعاء الجدات وهدهدة األمهات.!!.
وحين لمح الضابط ينظر نحوهمَّ ،
هب واقفاً وصفع أقربهم رافعاً صوته:
" :-إيشك-حمار" .تستحقون أكثر ،ولكنها رحمة سيدي ورقّة قلبه.
ناداه فهرع إليه مؤدياً التحية ،مبالغاً بنبرته:
" :-تمام أفندم.".
عقد ذراعيه خلف ظهره ومشى الهوينى ،فتبعه كظلّه ،نفث دخان لفافته
سائالً:
دهاء ،الثعلب ،أم ابن آوى ،أم
:-أيهم أشد مكراً ،وأكثر مراوغة ،وأعظم ً
الذئب.؟C.
:-أحرجتني سيدي ،ليس لدي جواب.
:-فكر ..وفي الغد تعطيني جواباً.
جلس العجوز جانباً ،وابنته تلقم كماالً وتدفع إليه طاس الحساء.
التقت عيناهما ،ولمست يده يدها فأطرقت ،وارتعشت كفها فانسكب بعض
الحساء على قميصه ،شهقت وسارعت لتمسحه بطرف كم ثوبها ،منعها برفق،
وتعلّق نظره بتقاسيم وجهها وانفراق شعرها فوق جبينها ،تمتم:
:-قربان فالق القمر.!.
رفعت أهدابها وهمست:
:-يكفيك اآلن أنني ما عدت أنظر إليك كألكسندر وعثمان.
تنحنح العجوز وقال:
:-دع اإلوزة تستقر في جوفك دون ثرثرة ،وأنت يا بنيتي ،أكثري له من
الحساء ،فاإلوز يحب السباحة.
وحين أزفت عودته إلى المعسكر ،وقفت ترنو إليه ،وما استطاعت الحسم
فيما انتابها ،أو االنحياز إلى عداها ارتبكت وهرعت ،كأن العيون كشفت ما
يهفهف في قلبها.
وأُبلغ عثمان بعودة كمال ،فخرج إليه وقد تقلّد أوسمته ،والسوط تحت إبطه:
أقصر بتأدية ما يمكن ،وليسوا
:-كان يجب أال تخترق األوامر ،ثم إني لم ّ
يستحقون ما داموا بحكم األسرى ،ثم إنهم في حمايتي.
- 38 -
يجز رؤوسهم ،وما زالوا مطمورين.
اقترب من المعاقبين ،والحالق ّ
أشار بسوطه نحوهم قائالً:
َّ
ولشد ما أكره (الفلتان) .تصرفك اليوم ال يشجع على منح ورطتهم.
ّ :-
الثقة .أنسيت الطلقة!.؟ .كأنك ما زلت صغيراً على األسرار!!
وتسمر متأهباً كأنه يتلو فرماناً وقال:
ّ
:-ألنك ضابط فحسب ،لن تُعاقب مثلهم ،ابق حارساً عليهم حتى مطلع
الفجر.
بالمضي ،توقف واستدار نصف استدارة وأردف:
ِّ هم
َّ
:-من حقي أن أضعك معهم.
ضرب بسوطه ساق حذائه ،واتجه إلى خيمته.
طوقهم ووضع يده الزعارة ،كان لهم بالمرصادّ ،
وحين وصله خبر عودة ّ
على ما غنموه ،متوعداً بجلدهم حتى تتسلّخ جلودهم ،ومن الكبائر خروجهم عن
أن العقوبة قد تصل إلى تركهم مصلوبين فرائس طاعته وهو أميرهم .!.وأشاع َّ
للطيور الالحمة ،رافضاً بدأة ذي ٍ
بدء أية شفقة بهم ،ولم يقبل وساطة الشيخ اإلمام،
ٍ
وجيه من وجهائهم؛ لكنه أوحى لألومباشي بأن وساطة الشيخ ،مقرونة بشفاعة
مسألة فيها نظر ،أتقن األومباشي إبالغ الرسالة ،كأنه يقترحها من لدنه ،فتداولوا
ألي قابلهم ،لكنه دعاهم على الفور
األمر ،وانتخبوا ثالثة ممن لم يستنكفوا ،وبعد ٍ
وتدهى مظهراً حسن ّنية وفضل ٍ
كرم ،فترك إلى مائدته ،ثم ماطل بإجابة طلبهمّ ،
للزعارة ربع ما غنموه ،وزادهم ِمَّنة إذ ّ
قدم ربع الغنيمة لذوي قتيلهم الذي عادوا ّ
به.!.
قوته ،وح ّذر بعضهم بعضاًنفر عن تسامحه برغم ّ وتحدث ٌ
ّ تحفَّظ بعضهم،
مما يبديه ،بيد أن كبير الوجهاء ،ارتأى دعوته إلى وليمة ضمن استقبال مقتضب،
فامتعضت النسوة لكثرة ما عليهن عمله ،واستنكرن ذلك وبضعة منهم يدفنون كل
لمتهن ،فالوجيه اصطحب الشيخ اإلمام؛ وأخذ فتاه يوم ،وظل احتجاجهن حبيس َّ
ِلُيعظِّ َم الموكب ويزيده ّأبهة ،وجعال صعود الهضبة مجاالً يتشاوران خالله حول
صيغة الدعوة ،وكيف يخاطبانه بشأنها ،وطفق اإلمام يرجو ربَّه أن يقبل الضابط
الدعوة.
وقف كبير الوجهاء قاطعاً لهاثه ،هازاً عصاه ،وقال معترضاً ينهره:
:-وما معنى مجيئك إن لم تقنعه.؟!C.
- 39 -
أقصر ،ولكنه ضابط ،وأنت أدرى بأولئك الذين ال ضابط ألمزجتهم.
:-لن ِّ
تنس أني أتوخى
أصر على دعوته ،تذ ّكر ذلك ،وال َ
:-هه ..ها ،ولذلك ّ
الكثير فيما بعد.
يهم أن يحملهما معاً ،فيخلص من هذا
واستأنفا الصعود ،والفتى خلفهما ّ
اإلبطاء الممل .انتبه الوجيه إليه فضربه بع ّكازه على قفاه ونبر:
:-قد تعي كيف ولدتك أمك ،وال يكون ما يراودك ،فلن تحملني يا ولد إال
بنعشي.
ظل الضابط طوال الوقت منشغالً بمراقبة الفتى ،معجباً بقوته وتناسق جسده،
والحظ الوجيه ذلك فغمز بقوله:
:-إن كان وجود الولد يزعجك ،طردته للتو ليلعب في الخارج.
ضحك الضابط إذ راقه كالم الوجيه ،فما زالت في نفسه همة ،تجعله يرى
صعب عليهم الرضوخ
ٌ الفتى ولداً ،ال ُيجيد سوى اللعب .كذلك هم هؤالء المناكيد،
الفتوة من شعورهم بالكمال ،وأصعب من ذلك ،خلع صفة للشيخوخة؛ وهي تسحب ّ
أن وجهة نظر الضابط مخالفة الرجولة على من ال يثبت ذلك بفعل شجيع ،إال َّ
فقدم للفتى بعض الصابون هامساً:
تماماًّ ،
:-النظافة تناسبك.
يكر حبات سبحته ،وعيناه تنزرقان في الكالم ،وتعابيرلوى الشيخ رأسهُّ ،
الوجوه؛ مهمهماً كأنه في عالم آخر ،فيجهر بأحد أسماء اهلل الحسنى ،ثم يغيِّب
صوته خلف حركة شفتيه المتواترة مع أنفاسه؛ ودوران عينيه المتذبذبتين في
محجريهما.
وجير حظوته لدى الضابط لصالحه قائالً:
غبط الوجيه فتاهّ ،
:-أيها المحترم .هو ذا أحد رجالي ،وكان لي رجا ٌل بعدد نصف عسكرك،
عهدت إليه رعي خيولي وأبقاري ،وكان يمسك بالثور من ذيله ،فيقعيه أو يقطعه،
حتى بات نصف القطيع بال أذناب .هو بكنفي أتحنن عليه برغم المعسرة.
تابع الضابط ثرثرة الوجيه ،وعيناه تجوبان أنحاء الفتى ،وترصدان مسحة
الحزن والغموض التي تغلل وجهه.
:-فرصة متاحة لك يا فتى ،اجتزها ولك معنا شأن جالس.
والتفت إلى اآلخر ْين واعداً أن يلبي دعوتهما ،ووقف ليمد ٌّ
كل منهما يده َ
- 40 -
اج في عينيه .وضع وه ٌ
مصافحاً وينصرف ،واستدار نحو الفتى ماداً يده ،وبريق ّ
ٍ
كف الضابط ،فأمكن عليها قبضته ،عندئذ اهتصر الفتى الفتى يده برفق خجول في ِّ
كف الضابط ،فارتجفت أرنبة أنفه ،وأمست يده مثل يد أنثى ،فأسبل الفتى يدهَّ
غدارته ،جعلت ومضى ال يلوي على أحد .وحين أدبروا ،أطلق فوقهم طلقة من ّ
اإلمام يقفز صائحاً:
:-اهلل.!!.
وقف الوجيه رافعاً نظره إلى أعلى متسائالً باستهزاء:
:-أبومة أم وطواط ذاك الذي أطلقت عليه كي ال يزرق علينا ،أيها
المحترم.؟C.
ٍ
حينئذ تمتم عثمان معجباً: أما الفتى فقد تابع سيره كأنه لم يسمع صوتاً،
ّ
:-وإ نك متكامل كما تخيلت.!.
وخاطب الوجيه مبرراً:
:-طلقة تحية ليس إال يا كبير.
اقترب كمال فاتجه عثمان نحو خيمته ،فجعله يتبعه آمراً:
جوعهم ما استطعت. :-استمر بتدريبهم ،وامنع عنهم الجعالة؛ ّ
توقف ممسكاً عن الكالم ثم أردف:
:-فليصوموا يوم ٍ
غد ،ذلك بعض التدريب.
كازاً فكيه بعضهما
أسدل ستارة باب خيمته ،غير عابئ بكمال ،فامتعض ّ
فصرت نواجذه صريراً مأل مسمعيه ،وحنقه يكاد يخرجه عن طوره .نظر ٍ
ببعضّ ،
نحو المنحدر ،ثم جلس على صخر ٍة ،وأسند رأسه في كفيه متأمالً.
واتكأ عثمان بمرفقيه على طرف المنضدة ،اتسعت عيناه وتمتم:
منسية .فال الموت ٍ
هادئة ّ ٍ
شيخوخة ( :-لست من يتلمس سبل السالمة إلى
بأقل ألماً يرضيك ،وال العيش التافه بأقل الخسائر ما تبتغي .خيوط اللعبة في
أصابعي ،أنسجها كما أريدC.).
حسر بصره عما حوله ،وغاص في دواخل طفولتهَّ ،
فتكشفت له ،ثم صار
فر إليها:
فيها ،وقد َّ
زلت الذي ساررته -على صغري -بما ِ
كنت تخش َْي َن أن تفكري به ( :-ما ُ
وفية لما في أعماقك ،بقدر ما كان عابثاً فصبأ .كبيرة ِ
إن كان أحد قربك ،بقيت ّ
- 41 -
كنت قتلتِ ِه ،أو قتله سواك
بهمك يوم أنكرك وقد فاجأته بي في بطنك .ما همني إن ِ
ّ
أحببت ما صيرتني إليه ،أ ِ
ُبط ُن أكثر ُ وقد ترغبين، كما كونتني أنك األهم برضاك،
ومخلص لترانيمك ،وحكايات ٌ أبطنه، مما أُظهر ،وأُظهر غير ما أُبطن ،أُخلص لما
ولما قبل النوم ،وما ِ
المقدس من بيتنا .افتقدتك ّ كنت تتلينه في ذاك الركن الغامض ّ
أزل أحتاج حنانك ،تباً للحظة هذى فيها وادعى أنه عنين عاقر عقيم .وال أنسى
خوف وأطعمونا منٍ مرحمة أولئك األجلّة حين أسبغوا علينا من عطفهم وآوونا من
أمسيت أطول من الراعي والعصا ،وإ خال أنني للمآرب ُ جوع ،ليتك ترينني،
ف ،فهل أنت ق وتُ ِ
رع ُ األخرى ،لي غنمي C،أه ّشها بعصاً تبصق لهباً ،تُز ِه ُ
راضية.).
وما برح كمال ساهماً في حالة صفاء ،يجول في النقاء بقدر ما فيه من ٍ
ذخر
ذرة
مسبحاً بملكوت الكون الرحيب ،هو ّ يكرها ّ للتبتّل ،يرى ذاته خرزة في سبحة ّ
ُينكرها أمام عظمة ال تُضاهي .وذهب به التفكير إلى أولئك؛ وقد أُجتثوا فانجذروا
عن مراتع نبتوا فيها ،وإ ن قبلوا بكينونتهم ،مقابل االحتفاظ بما تبقى لهم ،وصون
مشاعرهم ،لكنه لم يستطع إحالل القناعة في نفسه عن تركهم أرضهم ،مهما فدح
وتج ْهَن َم.
الثمن ،فالموت ليس بكثير على الشعور باالنتماء إلى مكان مهما استعر َ
أوليس االنتماء أكبر من فكرة ومعتقد.؟C.
ضغط صدغيه بكلتا راحتيه عاجزاً عن المفاضلة أو الترجيح .تنفس عميقاً
تسرب فيه ،فأضاء حلب وقويقها وقلعتها وحواريها واختلج ،ولمس شعاع حنين ّ
وكيها ،ومحل الخياطة،وأشجار فستقها وبحسيتا ،ودكان أبيه لصنع الطرابيش ّ
القوادة ،وأنه سيجعل من ابنه رجالً أهم من زبنها
تذ ّكر يوم تحدى أبوه تلك ّ
تخر على كرسها نجمةُّ ، المتتركين رافضاً اشتراطها أن ينضوي في المحفل ،الذي َّ
بغلو
ركبتيها رؤوس الكبراء .أبى ..ولجأ إلى أم الوالي ،ف َك َوتْه على يد الوسيط ِّ
طلباتها ،وهي إنما تخدمه ألنها أحبَّت حلب وأهلها ،فههنا تفعل ما يضمن شطحات
خياط الباشا ونديمه ،ثم إنه دخل دارة "الخانم" فصعد الشجرة ولم نزواتها ،وجعلته ّ
ينزل عنها.!.
:-كل ذلك يا أبا كمال ليس بذي أهمية ،إذا ما تطلّعت إلى ٍ
غد ترى فيه ابنك
ضابطاً باشا.).
أخذ نفسًا عميقاً فسمع غناء حلب ،وعبقت في أنفه روائح أطعمة بيته
ونكهتها ،تصنعها أمه ورقوش تعاونها ،وأناملها تقطر نكهة تجعل للقمة طعماً ال
ينسى ،ويا لعنقها وليس ما يضاهيه إال عمود سرمدا C.!.ولكن ..ذلك يجب أن يكتم
- 42 -
كنسمة تُنعش الروح ،ليبدأ المسير الليلي فيتعب العسكر ،ويقلق الناس في المنحدر،
لدنوهم من
فروا منه ،وما من بارقة ّ مر ّ
وقد باتوا معلقين ،بعدما ابتعدوا عن واقع ٍّ
نهاية معاناتهم ،سحقهم العسكر هناك ،ويجولون ههنا حولهم ،ال يدرون أناقة لهم
أم جمل ،من كل هذا الذي ال ُيحتمل .!.فراغ وآت مجهول ،وعتمة بينهما معلقة،
ال أول لها وال آخر ،ولوال النجوم هنا ..ك ،ولهب النيران حولهم ،لكان المكان
قبراً جماعياً أو كهفاً مغلقاً؛ أُهيل همهم عليهم ،فإن ُه ِّون حالهم ،فهو كحظيرة كبيرة
فكه بحجة تأوي أنعاماً بال أكالء وماء .!.وبرغم الحصار ،تم ّكن بعض الفتية من ِّ
سالح غنموه من عسكر ألكسندر،ٍ جلب الحطب ،فعادوا بكثير منه وبما خبؤوه من
وأخفوه عن العيون ،أما الحطب فنصفه للعسكر ،ولعل كل الحطب ال يهم ،ما دام
السالح قد أُنقذ.
عدو إلى وليمة وهم
ولم يسلم الوجيه من األلسن ،فقد استنكر بعضهم دعوة ٍّ
جزار ،وقال بعضهم:
يهلكون جوعاً ،وامتعض بعضهم اآلخر الستضافة ّ
:-كذا هم الوجهاء ..ومتى لم يكونوا كذلك.؟C.
معقود على حكمته ،أوليس
ٌ بينما رأى آخرون أن للوجيه أسبابه ،واألمل
النية مطلوباً ،ومتى
وجيهاً.؟! C.يعرف متى تكون المهادنة نافعة ،وإ بداء حسن ّ
يجب إعالن القطيعة وإ جهار الرفض ،وهو أدرى بالوقت المناسب للسلم والحرب،
أن الوجهاء يبنون وجاهاتهم مع األقوى ،على حساب الضعفاء وإ ننفر َّ
وتهامس ٌ
كانوا أقرباء.!.
وكان لقدوم األومباشي وقت الضحى ،ونزوله بضيافة الوجيه ،ثم مغادرته
بأبهى مما استقبل به ،أكبر أثراً من القيل والقال ،فالضابط قادم مع أذان المغرب،
فهو صائم وسيفطر على مائدة الوجيه .!.أوليس في هذا تقدير للجميع؛ وحسن
يقدر الرجال.؟.
تصرف من رجل يعرف كيف ّ
وليتأدب السفهاء .وقال أحد خاصة
ّ إذاً فلتخرس األلسن التي نسيت التهذيب؛
الوجيه:
خير من أن تكون سيد األحمق.
:-أن تكون خادماً لعاقلٌ ،
إن من لم يشاهدك جالساً ،لن يراك وإ ن وقفت.
:-وما الداعي للوليمة.؟ّ C.
ولم يأبه المحايدون بما يقال ويجري .وأظهر الوجيه ترفّعاً عن هاتيك
الصغائر ،ومضى إلى تدبير ذبيحة الئقة بمقام الضيف ،وهذا هو األهم ،اقترب من
غرته وطبطب على فخذه ،ووقف مفكراً ،فحبست إناثه ثور عربة اإلناث .مسَّد َّ
- 43 -
يسخ بقوته وجلَِد ِه ،ثم إنه من الضخامة بما يكفي إطعام قبيلةَ ،فِل َم
أنفاسهن ،ولم ُ
ٍ
اإلسراف.؟ .فانصرف إلى كبش معقوف القرنين ،فتنفست امرأته الصعداء،
متمنية لو أولم لضيفه تلك الديوك الرومية المتبقية ،وهي ماهرة بتحضيرها،
ولكن C..أنى لها مخالفة ما يرتئيه ،فالزوجة ال تعارض زوجها أبداً.
جس الكبش في أكثر من موضع ،رفع أَليته وقبض صوف ظهره عند َّ
خاصرتيه ،رفعه ثم تركه ،فراوده شك بأنه قد ال يكفي .إذاً فليكن ذاك العجل ،فهو
تقولهم أولمه
ثور وبحجم كبشين .نعم ..أن يقولوا ذبح لضيفه عجالً ،غير ّ نصف ٍ
إن فعل بما أشار به الشيخ اإلمام ،ووضع رأس العجل أمام كبشاً فحسب ،ال سيما ْ
األبهة ،وإ ن درجوا على تقديم النصف األيسر من رأس رأي ال تنقصه ّالضيفٌ ،
وزعه على من يشاء، الخروف -الخروف فحسب -ألكبر الضيوف سناً ،فإن شاء ّ
لشاب ،كي يسمع جيداً طلبات من هم أكبر منه سناً ،والعينفيقتطع األذن ويقدمها ٍ
ٍ
لثرثار ،عساه يجد من يصغي إليه، ٍ
لفارس ،كي ال يغفل عن األعداء ،واللسان
ونصف الدماغ للمضيف ،داعياً له أن تبقى كلمته نافذة ،فيسود المائدة مرح ودعابة
محببة.
ولم يعتادوا تقديم رأس ٍ
عجل ،لكن في رأي الشيخ اإلمام تمشياً مع مقتضى
الحال وضيفه الغريب ،فليجامل الناس بما يناسبهم ..ردد هذا في دخيلته ،ونقر
غرة العجل بعصاه وقال:
َّ
:-اذبحوه.
ومضى ينقر األرض بعصاه المفضضة:
( :-كل شيء سيجري على ما يرام.).
ٍ
ونفس ملؤها طمأن نفسه واقترب حيث السماور ،وجلس يرشف الشاي ٍ
بتلذذ؛
أمل ،وعقب صالة العصر ،تأبط ذراع الشيخ ،وراحا يتحدثان عن الوليمة،
والوجيه يرفع صوته ٍ
بثقة وحذر خفي.
غمز أحدهم قائالً:
:-قد أطلق عنان عجرفته ،ليجعلنا مطايا غايته.
:-منذ بدء المسير ،وهو ال يألو جهداً بإظهار أنه المنقذ.
وبم تفضله لتهجوه.؟.
َ :-
:-ما قصدك.؟.
:-أحقاً ال تعرف ما قصدت.؟ .ال أحد يجهل أنك بعت أرضك أيضاً.
- 44 -
:-هأنتذا تقول إنها أرضي C..إذاً لم أبع أرض غيري ،أليس كذلك.؟.
:-أهكذا فهمت األمر!.؟
:-دعك منه ..فهذه مفاهيم الخونة .ينشدون التعالي ولو فوق الخرائب.
:-ضب أنت اآلخر على لسانك ،إال إذا أردت أن أشطره لك نصفين بهذا
السيف.
:-ال ..ال؛ ما هكذا األخوة في دروب الغربة .عيبC.!.
:-أقسم أنكم مثل البصل ،كلكم رؤوس ،ولن ترتدعوا حتى تُكسر رؤوسكم.
استمر العوام يتجادلون ،بينما الوجيه قد مضى بالشيخ اإلمام إلى نزله ،من
أخذ ور ٍد ،لكنه يعرف بالحدس مشاحناتهم ،وأنهمغير أن يسمع ما بين الناس من ٍ
يقطِّعون سيرته ،والماء ملء فمه ال يستطيع اإليضاح ،فاألمر بحدين ووجهين،
مر ،وليس يرضيه تناحرهم واتهامه بما يقلِّب المواجع ،فالمقتل في ٍ
سم قد أحالهما ٌّ
حد الترياق ،ولكأنه يهرب من ظلِّه ،راح يهمس للشيخ اإلمام:
زاد عن ِّ
:-ستجلس إلى جانبي ،فلم أدع أحداً قبلك.
سيصر على أن أجلس بجانبه ،إال أنها لفتة
ُّ :-برغم أني أعتقد أن الباشا
كريمة منك.
:-لي طلب يا موالنا ،إال إذا كان الشرع ال يسمح به.
:-أسمعك وال أنسى الشرع.
:-أريدك أن تؤ ّذن للمغرب ،هنا عند نزلي ،فنصلي والضابط معنا ،ثم نأخذ
أماكننا إلى المائدة.
وافق الشيخ مبتسماً ،وقد فهم هدف الوجيه ،وطلب مزيداً من الشاي ،وأمر
يحس
الوجيه فتاه ليسرج حصانه ،ويكون جاهزاً في أبهى حلّة ،وليجعل الضابط ُّ
بمدى لباقة مضيفه ،وليريه كيف ُيحسن المجاملة ،وكيف أنه يسامح وال يني
يحاول فتح صفحة أكثر نظافة ،فذلك أول الخيوط في نسج خطة طالما شغلته ،مذ
الزعارة أن يظهروا كياسةً في خدمة الضيف،
ظع بالمتنورين .وأمر أولئك ّ فّ
وعليهم حسن تدبير المائدة.
...
وكان يدخن لفافة ،وعلى رأسه قلنسوة "اليرمولك" الصغيرة ،قارئاً في كتابه
األثير ،حين سمع األومباشي من خلف ستارة باب الخيمة ،يعلمه عن الجاهزية
- 45 -
وعب من فنجان القهوةَّ ،
ومج َّ للتفتيش .أعاد الكتاب والقلنسوة إلى الصندوق،
وسوى هندامه ،وتأبط سوطه خارجاً إليهم، لفافته ،ثم فرك عقبها في المطفأةّ ،
بندقية
الغربي بعصيرها ،وهي على ارتفاع ّ ّ والشمس برتقالة كبيرة ،رشقت األفق
وقدم هذا بدورهصف العسكر للضابط كمالّ ، ّ فقدم األومباشي
حربتها مشرعةّ ،
الصف لرئيسه عثمان ،فاستعرضهم ومشى بينهم مالحظاً حالهم؛ متأكداً منّ
قيافاتهم وحسن مظهرهم؛ بما فيهم الطهاة وكبيرهم والحرس والحجبة .أثنى
صّي ٌم ،وهو أدرى بذلك وقد صام عليهم ،وامتدح صبرهم على التدريب وهم ُ
يعوضهم عما عانوه: ٍ
مثلهم C.!.لذلك سيكافئهم بطعام ّ
:-إنكم الكواسر ،تسرطون ما يوضع أمامكم ،فيصعب على الحازر معرفة
ولما تزل نظيفة كأن الماء ِ
إن سبق وكان في اآلنية شيء ،أم أنها ُوضعت أمامكم ّ
ما جرى فيهاC.!.
وكان الفتى قد اقترب يقود الحصان المعاً بسنا شمس األصيل ،مغرياً
نسقهُ الفتى ،والءم بينه وبين سرجه واللجام ومقوده المصنوع من ِ
بالفرجة ،وقد ّ
أفخر الجلود ،فبدا أجمل من صورة ،وأبهى حصان وقعت عليه عين الضابط مذ
عرف الخيل ،بما فيها أفراس السلطان ،تلك التي شدهته في إسطبالت قصر يلدز،
وقد عقد مقارنة بين الحصان والفتى ،وأشار إليه بأطراف أصابع كفه األربع.
سره أن وضع الفتى مقود الحصان في يده ،وفهم تقدير الوجيه لشخصه ابتسم وقد ّ
وحسن مجاملته ،لكنه فجأة طمس معالم سروره ،وأطفأ ابتسامته ،فانكمشت شفتاه
مقورة قرفعها التجفاف ،واستدار إلى عسكره ،وجعل فوهة باذنجانة ّانكماش ّ
يتأرجح على مقدمة قدميه؛ ثم عليهما ،ثم على عقبيه وهكذا ...وصاح سائالً
العسكر:
:-من تكونون.؟.
:-كواسر.
:-كيف تأكلون.؟.
:-سرطاً.
أ ُف َل قرص الشمس منحدراً خلف التالل البعيدة ،وسمع صوت الشيخ يرفع
وسره أن تسير األمور على هواه ،فلن ينتظرونه كيما يصلّوا،
أذان المغربّ ،
وحسب الوقت فوجد أنه سيصل وقد فرغوا من صالتهم .امتطى حصانه وأمر َ
كبير الطهاة أن يمتطي حصان الوجيه ،وأمر األومباشي أن يكون في المؤخرة،
- 46 -
وأوعز للفتى أن يبقى بمحاذاته ،ومن غير أن يلتفت أمر الضابط كماالً قائالً:
بذلت في التدريب جهداً :-أعهد إليك بحراسة المعسكر ،ولعلك ترتاح بعدما َ
ال ينكر.
لكز حصانه وسار في المقدمة ،وخلفه كبير الطهاة ،ومضى الموكب مبتعداً،
وكمال يضطرم الغيظ في كبده ،عاقداً ساعديه على صدره ،التفت إليه األومباشي
مسوغ لها ،ولكنها ٍ
مرتين ،شامتاً؛ أو يشاطره قساوة الموقف الفائح بإهانة ال ّ
العسكرية.
اقترب الموكب ،والوجيه وسط جماعته ،راعه المشهد ،وامتقع لونه وجفّت
يوسعوا المائدة ،ويضعوا كل ما في القدور،
لهاته ،واشتد لهبان جوفه .صاح أن ّ
ط ،وذاك حصانه ،يمتطيه من لم يرسله ألجله، فخ لم يكن في حسبانه ق ّ
فقد وقع في ٍ
والفتى يسير بمحاذاة الضابط سير ٍ
عبد أو أسير.!.
أرد لك الصاع صاعين؛ أيها
( :-هكذا إذاً .!.لن تنقضي الليلة ،ما لم ّ
الضابط وأنت البادئ.).
تجم َع الناس يتفرجون على الموكب .يا لها من فخامة يرفل بها ذاك
َّ
الضابطC.!.
أرخى المقود للفتى ،ثم أمره بالتوقف ،وتوقّف الموكب ،حتى اقترب الوجيه
وصحبه.
:-قد جئت ملبياً دعوتك ،على رأس موكب يليق بمقامك .هكذا أفهم أن ِّ
يقدر
الرجل الرج ُل.
َ
وتوجه إلى صدر المجلس ،ودعا الفتى ليتخذ
ّ ٍ
بفارس، ترجل كما يليقثم ّ
غص
مكانه قبالته ،وسط دهشة الجميع واستغراب الوجيه وقد أُسقط في يدهَّ .
المكان بالعسكر ،ووقع الوجيه في حيص بيص ،فأشار بحاجبيه لمن ال يخجل منه،
أن يترك المكان لهذا الجراد الزاحف.
قال المضيف:
:-تفضلوا.
بسمل الشيخ ،فتهيأ العسكرَّ ،
ومد الضابط يده؛ بمثابة إشارة البدء ،فأخذت
األيدي تغرف وتلقم األفواه ،في حركة ال انقطاع فيها ،فبدا منظرها كحركة
سره:
"الحريش -أم أربع وأربعين" وإ ذا الطعام أثر بعد عين ،والوجيه يردد في ِّ
غدار أيها الضابط الثعلبC.).!!. ( :-يا لك من ٍ
وغد ّ
- 47 -
قهقه الضابط بانفجار مباغت ،فرنا الوجيه إليه ذاهالً ،وترك الشيخ اللقمة في
يده معلقة بين اإلناء وفمه ،والضابط يقول في نفسه:
( :-هكذا يكون نجر الخوازيقC.).
ثم اجتث اللسان من أصله ،والعين من وقبها ،وشحر الدماغ ،واقتلع األذن
وجعلها لفافة ،متلذذاً بمضغ بعضها مع بعض ،ثم سأل العسكر:
:-هل شبعتم.؟C.
ٍ
بصوت واحد: ردوا
:-ال.
َّ
اضمحل الوجيه وذاب خجالً ،والتفت الضابط إليه وقال مراوغاً:
:-لو أولمت لنا دجاجة ،لكنا لك من الشاكرين.
فهبوا وأحاطوا بالمكان ،فبدوا
وأعطى إشارة لألومباشي ،فأوعز للعسكرّ ،
تم بنيانه للتو ،ورفع الضابط صوته ،قاصداً أن يسمع َم ْن في المكان
سور َّ
كأنهم ٌ
أجمعين:
سنوزع الجعاالت على
ّ :-كونوا مستعدين ،فسنتابع المسير عما قريب.
الجميع.
والتفت إلى الوجيه وهمس:
:-لك جعالة أربع عائالت.
الزعارة المائدة ،وأداروا أكواب الشاي ،ونظر الضابط إليهم
ورفع الشباب ّ
واحداً إثر ٍ
واحد ،وقال ساخراً:
زعارة األمس.!.
:-من يراكم بهذا التهذيب ،ال يصدق أنكم ّ
ضحك مستظرفاً كالمه ،فتضاحك الوجيه ،وجاراه الشيخ اإلمام ،وابتسم
بعض الذين قصدهم ،وسأل كبير طهاته:
:-ما قولك بهذا الشاي.؟.
استنشق بخاره العابق ،وأعاد النظر بلونه العقيقي ،ثم تذوقه كمن يتقرى
سره:
:-شاي السماور سلطاني ال يعلى عليه.
أحس الوجيه أن كبير الطهاة ألغز كالمه ،فقال بلهجة واثقة هادئة ،شحنها
َّ
ٍ
بقدر من التحدي:
- 48 -
ذواقة ،ونحن ما عهدنا الشاي من غير السماور.
:-ال شك أن سلطانكم ّ
امتعض كبير الطهاة ،ولم يأبه الضابط له بقدر ما أراحه أن يغمز أحد في قناة
السلطنة ،فسأل بخبث:
:-فلمن يعزى السماور وطيب شايه.؟.
َّ
رد الوجيه مقاطعاً كبير الطهاة بثقة:
:-إلينا حتماً .ال بأس أيها المحترم ،أجد مناسباً وقد فرغنا من طعامنا ،أن
أفضي إليك بما لدي.
حدث نفسه وهو يرشف من
أحس أن للدعوة أسبابهاّ ،
تململ الضابط وقد َّ
كوبه:
( :-أكنت تقول ما لديك ،لو علمت أني ال أحبك ،بل أبغضك ،وإ ن كنت
أحترمك ألسباب ال يمكنني تجاهلها.).
وجد أنه صمت أكثر مما ينبغي فقال:
مصغ.
ٍ :-إني
:-هو اقتراح ،وإ ن شئت ُع َّده طلباً.
ُ :-ع َّده أنت ما شئت ،إني أستمع.
سرت همهمة بين الناس ،وانتقلت سريعاً إلى العسكر ،قاطعة على الوجيه
وتوجس
ّ أحد بعد ،وقد رنا الحاضرون نحو العسكر،
فرصة اإلفضاء بما لم يعلمه ٌ
الضابط شراً فجمد لحظات ،وركض األومباشي نحوه معقود اللسان ،صرخ
الضابط:
:-أومباشي ..تكلم.
قال األومباشي مرتعداً:
:-حريق في المعسكر ..أفندم.
َّ
هب قاذفاً كوب الشاي في حضن مضيفه وزمجر:
:-فعلها الكلب.!.
الزعارة حولـه يؤكدون وجودهم ههنا طوال الوقت ،ولم يعرهم اهتماماً
التف َّّ
وقد خرج عن طوره ،وغلبه غضبه فصاح:
إلي بالحصان أيها الحيوان ..أومباشي C...إلى هناك أيها "الجحش".
َّ :-
- 49 -
وانطلق األومباشي خلفه ،ولحقهما العسكر مثل زوبعة هبَّت للتو في المكان
دون سابق إنذار.
للزعارة فانتشروا خفافاً ،والتفت إلى الشيخ قائالً:
غمز الوجيه ّ
:-ألم يحن وقت صالة العشاء يا موالنا.؟.
قفز الشيخ اإلمام مجفالً:
:-بلى C..لعنة اهلل على الشيطان.
- 50 -
4
ألسن ُة اللهب تبدو من البعد حمراء ،فإذا ارتفعت قليالً فبرتقالية ،ثم صفراء
دة؛ وهي تتماوج بدخانهابزرقة مسو ٍ
ٍ مشربة
ّ باهتة عند ذؤاباتها ،تكللها هالة شهباء ّ
المتعالي ،ذاهباً في عتمة الليل ليضيع فيها.
وبين الهضبة التي أنارت النار بعضها ،والمنخفض حيث ينطلق العسكر،
علت زوبعة غبار لم تحجب الرؤية ،ولكنها شوشتها .كان الوجيه أكثر الناس قلق ًا
جوالة، ٍ
شخص بعينه؛ بقدر ما هي ّ وتوتراً ،كما بدا من نظراته ،غير المستقرة على
ضالة ليست تجدها ،والشيخ اإلمام حائر غير ٍ
دار بما يمكن أن يفعله، ٍ تبحث عن
يحس أن واجباً يدعوه إلى ٍ
أمر لم يدرك سبيالً إليه. وهو ُّ
والناس كباراً وصغاراً يرنون إلى الهضبةَّ ،
لكأن منظرها والنار عليها ،قد
ومؤسف أنه خلخل
ٌ حدث، فتنت بعضهم ،وبالغ بعضهم بإظهار عدم رضاه عما
هدف الوجيه ومبتغاه من الوليمة ،وتساءل بعضهم عن الطلب المسكوت عنه ،وقد
كاد الوجيه أن يقوله ،وآخرون شغلتهم التخمينات عما يمكن أن يكون قد حدث في
وقسم تشفى به ،وما الحريق إال بعض ما يستحقون ،وليتها تأتيٌ مضارب العسكر،
على الموقع ،فتتركهم ُب ّوماً بال وكورC...
أما الوجيه فقد جعله القلق ال يسمع أسف المقربين للنهاية التي آلت إليها
وليمته ،واصطبر على سخرية بعضهم ،يسمعها عالنية لتفريطه بالعجل الذي
طوح
فضلوه على عشرة من أمثال الضابط عثمان ،وبعض الخبثاء الحظ كيف أنه ّ ّ
َّ ٍ
بكوب الشاي في حضن الوجيه ،غير آبه بعرف أو لباقة ،صحيح أن ذلك حز في
نفس الوجيه ،لكنه َع َّدها سفاهةً ال جدوى من الوقوف عندها ،وما اللغو الدائر
بلغم ،لن يلتفت إليها ،وظل يهز رأسه ،وينقر بأصابعه علىحولها إال نخامة ٍ
ركبتيه ،وهو فزع أدركه الخوف وأخذته الخشية ،فإن لم يضبط تماسكه افتضح
أشد عليه مما هو فيه ،وال أزيز أمره ،وحلَّت به وقيعة ،فال حمل السيف في ٍ
نزالّ ،
- 51 -
الرصاص ،مربك أكثر من حاله اآلن ،وقد انتابته حالة في جذوة الوجدان ،تشبه
خفقان القلب ،واضطراب األنفاس إثر نوبة داهمته فجأة ،وما فتئ يوازن بين
جردوه مما يعتز به، حالتين ،لو ّأنه بقي بأرضه ،وما يمكن أن يجري له ،بعدما ّ
ولم يبق له إال بقاؤه حياً كيفما اتفق ،يتثاءب طوال الوقت ،ويبتلع اإلهانات،
سره ،ثم نهايته التي يتخيلها
وينتظر نهايةً رأى أمثاله ينتهونها ،وحاله إن انكشف ّ
ق المركب بنفسه وبمن معه ،في مستنقع الضياع بتفاصيلها الدقيقة .أرهبه أن ُيغر ِ
والسكون المخيف بصمته المريب ،وانشغال الدنيا عنه وعن ناسه ،وقد داستهم
أحياء في الوحل
ً قذارة القوة ،وذبحهم بغي المال واألطماع الرهيبة ،تَدسُّهم وتدفنهم
والتراب.
شقّت الحسناء دربها بين الجموع من حوله ونادته:
ـ :عماه ..إلحق أبي.
كسبع َّ
هف قلبه فرحاً لمرآها ،واهتزت فرائصه مما قالته. ٍ َّ
هب واقفاً
ـ :أين هو.؟..
ـ :في نزله ..هال أسرعت إليه..
ـ :مابه.؟.
ـ :لدغته عقرب.
هده الهرم ،ولحق به الناس ،استدار ورفع يده فتوقفوا،
جرجر نفسه كسبع ّ
فاستأنف سيره كمن يمشي على هدب عينيه ،والحسناء تسبقه ،ولغط الناس
وهرجهم يجذبه وينأى به ،حتى دخل على العجوز ،فوجده واقفاً ينتظره ،نظرا
إلى بعضهما بعض وتعانقا ،دمعت عينا الوجيه ،وارتسمت على شفتي العجوز
ودت لو وضعت كفيها على كتفيهما ،فتجلسهما ابتسامة ،واقتربت الحسناء منهماّ ،
وما زاال في صمت االنفعال البليغ...
ـ :ليس من عقرب يا عماه.
ـ :إذاً هو عثمانC..!..
رد العجوز متطيراً:
ّ
ـ :ال عثمان وال عقربان ...إال أنني أخشىC...
قاطعه الوجيه وقد جفّت لهاته:
ـ :ما الذي تخشاه.؟ C..قل بالعزيز على قلبك C...تكلم...
- 52 -
ـ :أخشى أال أضنأ إن تزوجت..
ضحك العجوز ،فضربه الوجيه مرات تحبباً وتنفيثاً ،ثم سأل:
ـ :والرسالة.؟C.
ـ :سيجدها على المنضدة..
ـ :وِل َم أشعلتما ناراً..؟ هذا لم نتفق عليه..!..
نظر العجوز إلى ابنته ولم يجب ،فقالت:
ـ :أنا أشعلتها.
سأل الوجيه محتداً:
ـ :وِل َم C...لمه..؟.
ٍ
بحرقة وأطرقت خفراً ثم تمتمت: تنهدت
ـ :مثلما أشعلوا في قلوبنا حرائق.
أطرق برهة ،وأدار العجوز وجهه مدارياً ثقل الشجن على قلبه ،ورفع الوجيه
رأسه ناظراً إليها ،وقال بثبات:
ـ :منذ اللحظة لست َّ
كنتي.
شهقت ،ودهش العجوز ،فاستدرك بهدوء عميق:
ـ :أنت اآلن ابنتي.
نبع كاد يجف ،وخاطب ابنته مداعباً:
بدمع مثل ٍ
اغرورقت عينا العجوز ٍ
ـ ٍّ :
لكل من أترابك أب ،إال أنت ،فقد صار لك أبوان ،ولكن ما هذا البخل يا
بنت!..؟ C..أال تطعمينا كبد العجل والرئتين..؟!..
أسرعت ترفرف كطائر اشتاق أن يطير؛ بعد طول مكوث في العش دون
تحضر الطعام هناك في الزاوية.
ّ وليف ،وراحت
سأل الوجيه:
بسرّية..؟C.
تم األمر ّ
ـ :هل َّ
رد العجوز :
ـ :أجل.
ـ :والضابط اآلخر.؟.
ـ :كمال.؟C.
- 53 -
ـ :هل رآكما.؟C.
أجابت الحسناء من ركنها:
ـ :اعتقلته وربطته إلى عمود الخيمة...
ـ :العمىC.!!.
يتعرف إلي ..بقيت ملفّعة ولم أنبس بكلمة.
ـ :لم ّ
زفر الوجيه ٍ
أف وقد ارتاح إال قليالً.
نادته
ـ :عميC.
عضت على شفتها واستدركت قائلة:
ّ
ـ :أبتاه.
تود اإلفصاح عنه ،فقالت:
ابتسم الوجيه ورنا إليها ينتظر ما ّ
ٍ
خيمة وبعثرتها ،فكان بينها ثمة كتاب ضخم ـ :نثرت محتويات صندوق في
وشمعدان غريب الشكل ،ما إن رآهما الضابط كمال ،حتى رجاني أن أضع الكتاب
بين يديه؛ وأشعل له الشمعدان.
علت الدهشة محياه وسأل:
ـ :أما ِ
قلت إنك ربطته إلى عمود الخيمة.؟!!..
شعرت أنها أخطأت ،فتشاغلت بطهو الطعام ،وفرك العجوز كفاً ٍ
بكف وبدا
مؤيداً الوجيه ،فبررت موضحة بصوت خفيض:
ـ :ألنه توسَّل ليطلّع على مافي الكتاب.
وأي كتاب.؟! C.أكنا نمزح أم نتسلى.؟!C.
توسل ّ
:أي ّ
ـ ّ
حاول العجوز استيعاب غضب صاحبه ،وربما تخفيف المالمة عن ابنته فقال
بهدوء:
ـ :إنني ال أخشى جانب الضابط كمال..
ـ :هذا علك .ألم نتعلّم بعد أيها الخرف.؟! C.إن لم يكن ضبعاً فهو ابن آوى.
تمتم العجوز:
ـ :قل ما شئت ،فقلبي مطمئن لذاك الشاب.
تسرعت الحسناء قائلة:
ّ
- 54 -
ـ :وأنا أيضاً..
نظر إليهما مستغرباً وهتف:
ـ :اختلط األمر ،وثمة خيط فالت لست أدرك كنهه.!.
أصوات ونهيق وغوغاء ،وكان واضحاً صوت الشيخ اإلمام مقترباً: ٌ وعلت
ـ :على مهلكم ..حسبي اهلل ونعم الوكيلC..!.
طع أحدهم مفاخراً بنجدته:
وظهر فتيةٌ يدفعون الشيخ على حمارته ،وتن ّ
ـ :أتيناك بحمارة موالنا الشيخ..
استفسر العجوز مستنكراً :ولم الحمارة يا رجل..؟!..
ـ :أليس الحليب ينفع الملدوغ.؟.
ـ :حليب حمارة يا هذا.؟!C.
ـ :لم نحظ بغير الحمارة ،فهي حلوب..
ـ :لعل أمك لم تفطمك بعد ..!!..إذاً دونك الحمارة .أفسدتك األهوال
المتفلِّتة ،أنستكم األدب ،والتهذيب..!!.
فتفرقوا متراكضين ،جفلت الحمارة ،والشيخ ممتعض في وقذفهم بعصاهّ ،
حيرة يكاد يحتج ،حتى قام إليه الوجيه متأسفاً له مرحباً به ،فجلس يحبِّر وريقات،
مالبث أن غمرها بماء الطاس ،وسقى العجوز جرعات ثالث ،ممسِّداً ساقه ،ثم
السم انفرط بإذن اهلل ،وتشمم رائحة اللحم المقلي ،مغمضاً عينيه في
أن ّ ابتسم معلناً َّ
نشوة ،أخذته في بهجة دغدغت ولعه بالدسم ،فاعترته حالة قرقرت لها أمعاؤه ،وما
ظ ٍر بهذا الحالل المباح. عاد يفكر بغير ٍ
تلذذ منت َ
وعلى الهضبة ،أطفأ العسكر الحريق ،وكان قد أتى على بعض خيام األنفار
وبياطرة دواب الجيش ،لكن الحريق في قلب عثمان اضطرم وازداد تأججاً،
مطوق ما من ثغرة فيه لفأر .م ّشطوه ولم يتركوا حفرة أو رجماً ،فما
والمكان ّ
وقعوا على أثر ،ودخل األومباشي خيمة الضابط كمال مرات ،فتَّشها كمن يبحث
نمل ،وانعكس اإلخفاق على العسكر ،فجعلهم في حيص عن خرزة سبحة في قرية ٍ
بيص ،وزادهم توتراً ،وتركهم ينفذون األوامر ٍ
بآلية ،وقد أغلقوا تفكيرهم دون ما
يفعلون ،وعلى وجه الخصوص هذا "األومباشي" األشقر المربوع ،بوجهه
المستدير ،ووجنتيه الحمراوين كبندورة ناضجةُ ،ي ّدور عينيه الضيقتين هنا وهناك،
ويتهرب ـ ما أمكنه ـ من نظرات الضابط الشكس ،وقد جعله ملطمة حتى التاث،ّ
- 55 -
يكاد يفقد صوابه ،كلما طالعه ذاك الوجه الكالح المكفهر ،تتالطم في نفسه أمواج
توحش،
ّ هيستيريا ،فتزيده تجبراً وتأزماً ،يشتم صارخاً ،يجأر ويزأر هائجاً وقد
وقنط األومباشي مهدوماً من تعب ،الب وقد جفّت لهاته ويبس حلقومه وزاغ
بصره ،هذى وأخذ يهذر ،وفي لحظة غاب ناسياً ،فلم يتذكر ماهو فيه وما حدث،
لف حول نفسه في استدارة كاملة ،وحوله طوق العسكر ،يجوس بعضهم بين َّ
الخيام ،وآخرون يدخلونها ويخترقونها من الطرف اآلخر.
- 56 -
رداً على إهانته؛ حين لم يدعه إلى الوليمة ،وتركه
بكمال وقد انتقم لنفسه بطريقته؛ ّ
كأي "تنبل"..
مهمالً ّ
مسح دماً سال من منخريه ،متسائالً عن سبب الرعاف.؟! C..وعلّله باإلجهاد
والصداع الذي يفلق رأسه .حاول الوقوف فوقع:
ـ :يا ..ه ..أهرمت قبل األوان أيها األومباشي!.؟..
ترنح ثم اعتدل ،وحين استوى واقفاً ،فوجئ بالضابط ،فحياه زاعقاً:
ّ
ـ :تمام أفندم.
دهاء؛ من الثعلب
أشد مكراً وأكثر حيلة ،وأعظم ً
ـ :لعلك عرفت اآلن َم ْن ّ
وابن آوى والذئب معاً.؟.
ـ :أنت أفندم.
ـ :أيكون اختطف.؟.
ـ :احتمال أفندم.
ـ ِ :ل َم ال يكون هرب.؟.
ـ :احتمال ضعيف ..أفندم ،فسالحه هنا وحصانه موجود.
ـ :أيكونون لصوصاً ،قاومهم فأسروه..؟!..
ـ :ال شيء من العدة والعتاد مفقود C..أفندم.
ـ :فمن أحرق الخيام.؟.
محير.!.
ـ :شيء ّ
أخرج كيس التبغ ،فوجده يكاد يفرغ...فأمر األومباشي أن يأتيه بالتبغ،
فهرول إلى خيمة سيده ،أشعل عثمان لفافة وهو ساهم يفكر .انتفض إذ سمع
غدارته واقتحم الخيمة ،جمد
األومباشي يصيح خارجاً عن طوره .أسرع مشهراً ّ
وكمال يبتسم وبين يديه كتاب ،والشمعدان أمامه.
ـ :أنت هنا!.؟!C..
ـ :كما ترى..
َّ
فك األومباشي وثاقه ،فوقف يتمطى،ارتاب عثمان وتمتم:
ـ :ما الذي جرى.؟.
ـ :غافلني C...واعتقلني فربطني كما رأيت..
- 57 -
ـ :ولماذا أنت في خيمتي...؟!.
ـ :أتى بي إليها .كان يقصدها .انظر كيف بعثر محتويات صندوقك..
ـ :أكان يقصد سرقتي.؟.
ـ :لم يأخذ شيئاً قط.
ـ :من هو.؟C.
ـ :لم أعرفه.
بحث في الصندوق والتقط كيسين وشى صوتهما بما فيهما ،انشغل بهما عن
صرة
أن عمود الخيمة لم يتزحزح عن موضعه ،نظر إلى ّ الكتاب والشمعدان .تأكد َّ
على المنضدة وسأل:
ـ :وما هذه.؟.
ـ :تركها وانصرف .يبدو أنها تخصك.
اصفر وجهه ،وزكمت أنفه رائحة جعلته يتقيأ .اضطرب
َّ َّ
فكها وانتفض،
تنفسه ،وعلى رغم ذلك تماسك متجبراً وقال:
ـ :مع من تتآمر علي.؟.
ـ :ألم تجدني موثّقاً إلى عمود الخيمة.؟!.
ـ :أتدري ما في الصرة.؟ .رأس عريف عسكر ألكسندرC.!.
اشمأز كمال ،وران صمت مقيت ،أراد عثمان أن يصرف اهتمامه عن
طنت أذناه وسرى فيهما
الكتاب والشمعدان فنجح ،وكان األومباشي مذهوالًّ ،
وشيش ،جعله ال يميز إن كان تحت وطأة كابوس ،فقد رأى رأسه مكان رأس
العريف ،شهق وسقط وقد أغمي عليه.
سر تلك الطلقة يا عثمان.؟.
ـ :ما ُّ
غدارته ،فكان كمال أسرع منه ،فوضع رأس سيفه على حنجرته، َّ
مد يده إلى ّ
بالغدارة خلفه وكرر السؤال:
وطوح ّ ّ
سر الطلقة.؟.
ـ :قل ..ما ّ
تماسك وأبعد السيف بهدو ٍء عن نحره ،أشعل لفافة وقال:
ـ :نتفاهم خير لكلينا..
ـ :وعالم نتفاهم.؟.
- 58 -
ـ :مادمت متشنجاً فال سبيل للتفاهم ..هدئ من روعك فتعرف.
ـ :من أين أتتك الطلقات.؟C.
ضحك بخبث َّ
ومج لفافته ثم قال:
ـ :هدية أصدقاء في األستانة...
ـ :أصدقاء.؟!!C..
ـ :نعم ..ويمكن أن يكونوا أصدقاء لك.
ـ :وهذا الكتاب.؟.
ـ :مابه.؟.
ـ :أنت أدرى.
ـ :لالطالع .أم أنك ال تريد أن ترى أبعد من أنفك.؟!..
ـ :والشمعدان C..لماذا هو بالذات.؟.
ـ :لإلنارة ،مثل أي سراج ،وهل للشمعدان وظيفة أخرى ال أعرفها.؟!C..
ـ :ورأس العريف.؟.
نخزته إبرة في قلبه ،قبَّب كتفيه ،وقال:
ـ :ال أدري C..!.قل أنت إن كنت تعرف.؟؟
ـ :إنه إنذار وتحذير موجه إليك..
ـ :ها أنتذا تفسِّر مالم أدركه ،فمن أرسله.؟C.
ـ :جواب سؤالك تعرفه أنت أكثر من أي شخص آخر ..عثمان ..من
أنت..؟!..
أود أن نكون أصدقاء.
ـ :حسبتك ذكياً ،وكنت ّ
ـ :ألهذا أهنتني وحقّرتني كأنني عبد لك.؟!C.
ـ :حاول فرك أذنك ،لعلك ال تظ ّل في سرب النمل ،وال تكون مع "يلدز" أكثر
من السلطان.
ـ :ال فائدة منك يا عثمان ..ال فائدة .سأعرض الكتاب والشمعدان ورأس
العريف على المأل..
تهور كمال ،وقذف إليه أحد الكيسين تأسَّف َّ
وهز رأسه مبدياً عدم رضاه عن ّ
قائالً:
- 59 -
عربون من األصدقاء في األستانة...
ٌ ـ :ليس مني C..إنما
ـ :ال أقبل أي شيء من ٍ
أناس ال أعرفهم..
ـ :ال تكن عجوالً فتعرفهم ..ال سيما أنهم يعرفونك..
ـ :كيف!.؟C..
حدثتهم عنك..
ـّ :
ـ :إياك أن تنكر حقيقتك .كيف اخترقت الموانع إلى عسكر السلطنة.؟!C..
ـ :أية موانع أيها الغشيم .؟!! C..أتعرف من تواسط لك كي تكون ضابطاً.؟!C.
العلية تماماً.
ثم إنك لست مع الدولة ّ
ـ :وما دليلك.؟.
شيء مما أسلفت تريد دليالً.؟ C.أفق يا كمال فـ"يلدز" الذي تتحمسـ :عن أي ٍ
له ،ليس فيه من يدري بك ،وال يعرف السلطان إن كنت في جيشه .ثم ألست في
سرية.؟؟.
جمعية ّ
َّ
ظل ساكتاً مشتت التفكير ،ولكنه انتبه إلى تلك التهمة الخطيرة فقال:
سرية أو علنية..
ـ :لست في أية جمعية ِّ
ـ :وِل َم يا كمال ..لمه.؟!C.
ـ :لست أفهمك ..!!.ولست متورطاً البتة.
ـ :إذاً كن معنا.
ـ :ومن أنتم.؟.
ابتسم وهمس:
ـ :نحن المستقبل يا كمال .أال تحلم بالباشوية ..والياً ...أو أن تكون قائداً
للحربية.؟ .يجب أن تحلم ،احلم يا كمال ..احلم.
ّ كبيراً C...أو حتى ناظراً
أفاق األومباشي من إغماءته ،فوقف منتصباً محيياً:
ـ :تمام أفندم.
الصرة والشمعدان والكتاب بين يديه ،وأمره أن ينتظره في الخارج،
ّ وضع
فقال عثمان الئماً ٍ
بمكر:
ـ ِ :ل َم فعلت ذلك يا صديقي كمال ..لمه.؟!C..
ـ :ألنني ال آمن جانبك.
- 60 -
ـ :الحق معك .ها أنتذا تعيد ثقتي بك ،فلو كنت مكانك لتصرفت مثل
تصرفك ،خذ كيس الذهب هذا ،سينفعك.
ـ :ال.
تسترده حين تشاء..
ّ ـ :إذاً هو أمانة عندي لك،
تبادال طويالً نظرات متنافرة ،يتجاذبها شك ويقين ،حذر واطمئنان ..غدر
كرسه ذاك الحوار ،في نفسين على وأمان ،حلم وانكسار ،واقع وخيال ،وبكل ما ّ
مجرب ،وقلب تملؤه الطيبة واألمل والمثل،
مدرب ِّطرفي نقيض ،رأس مدبِّر ِّ
وربما السذاجة.
خرج حذراً ،وجلس عثمان ضاغطاً على صدغيه ،وهاهو ينسلخ عن المكان
دوامة ليس يرى فيها غير وجهها ،فشعَّت في داخله قبسات والزمان ،سابحاً في ّ
من هاتيك الطفولة ،وطفق يكلّمها:
بماسة من درر نصائحك الجواهر، ٍ الخزرية ...ها أنذا عملت
ّ ـ ( :أيتها
دواً لعدونا .إنها وصاياك التي تماهت في نسغ دماغي ونسج وهأنذا أصنع ع ّ
تالفيفه ،وذاك القرطاس َس َرت معانيه مع دمي في عروقي والحشا ،وتخلخلت في
معرفتي ،وما أخذه الخرتيت كمال لن ينفعه ،ما دام لن يتمثله .سيحرقه ،أو ينفر
منه كالرجس .خاسر هو في كلتا الحالتين ،ولن يكشف خفايا مابين السطور ،فله
وألمثاله مزيد من عمى البصيرةّ .أيدي رجائي يا غاليةC.).
وعلى ضوء المشاعل تحلَّق العسكر ،واألومباشي يرفع رأس العريف على
يتلمس في ذواتهم ،ذاك الطفل الذي حربة بندقية ،وكمال يرصد انفعاالتهم ،لكأنه َّ
لما كانوا بين األب ،وفي أحضان ٍّ
ما زال في أعماق كل منهم ،نقياً بهاتيك البراءةّ ،
همهما هذي النبتة التي ولّداها
األم ،يمنعان الشر أن يقرب فلذة الكبد وهتفة الروحُّ ،
بحميم عواطفهما ،يريان ذاتيهما فيها ،ويعلِّقان عليها آماالً معتّقةً ،ويسريان فيها ما
استمر فيهما مذ كانا في دنيا الطفولة .إنه رحيق الحلم ،ينزاح عنه الظالم وظالله
القاسية ،وقت اغتسال الروح بماء السماء ،فيزيدها طهراً ،يفوقها على قسوة
زيف المعدن ،وال ترغم األعماق القوة ،فال ينقهر الجوهر ،أو ُي ّ
الشراسة ووحشية َّ
وتلوث ،ثم تدفعها
الصم ،حيث تُسجن الريح ّ ّ المجنحة على التسليم لصالبة ج ُدره
ّ
فتصيرها بلون
ّ خبيثة كنظرة أعور الجان ،أو تأخذ الفسائل الغضَّة والزغاليل،
وشكل وصوت واحدC..!!.
أوالء الذين ِ
انتزعوا من أحضانهم؛ ومن على جثثهم ،ومن بازارات الرق
- 61 -
السرية ،أو أسرى مخطوفين؛ مسوقين قسراً ،ومن بقايا المذابح وحمالت اإلفناء، ّ
وحقنوا
ُ الذاكرات، لغسل ُخضعوا أ وقد برة،المد
ّ واإلبادة التيئيس واجتياحات
باألحادية الالمتناهية لطاغية مستبد .إنهم الذين ُغربوا عن أهليهم ،ثم أعيدوا إليهم
ويشبع غلواءهم الثناء الفضفاض لفظاعة تنكيلهم قتلة وجالوزةُ ،يلهب حماسهم ُ
وشناعة فظائعهم بجذورهمC..!.
همس كمال لألومباشي ،فأذاع َّ
أن هذا الرأس يقول:
ـ ( :إنكم لحراسة أولئك الناس ،والمحافظة على حيواتهم ،ريثما يصلون حيث
ُيراد لهم أن يتكيفوا مع الصبرC.)..!.
ثم أمر بدفن الرأس في قبر ألكسندر ،فسمع همسات حذرة:
ـ :فيمسي تنيناً برأسين..!.
وأشار للسائس أن يأتيه بحصانه ،فامتطاه ،وانكشفت له نظرات العسكر،
سره ذلك ،لكنه تساءل:
معنى لم يره فيها من قبلَّ . فألف منها
ً
إلي أنني
خيل َّ
واهم.؟! C..أم ّ
ـ ( :أحقاً لمحت فيها ذاك المعنى.؟ C..أم أنني ٌ
أرى ما أتمناه.؟C..
األمر ..ثم راحا ،وخرج الضابط عثمان إلىكفعل ِنظر إلى األومباشي نظرةً ِ
ِّ
متوجساً ،فلمح الحصان والبغلة ،وقد أقفيا ،يختفيان في حنية المنحدر العسكر
وانكساره ،صعد الرجم ورفع يده .تراكض إليه العسكر مصطفين قدامه فاطمأن،
هواء وريبة حبيسة ،فعقد يديه خلف ظهره ،مستعيداً ثقة كانت للتو
ً وزفر
مزعزعة ،ولم ينبس ببنت شفة.
ائتكل غضباً مما كان من كمال وتمتم:
ودهم فيصبحون أقرب إليك ،أكثر من خضوعهم ـ ( :أتبغي كسب ِّ
لصرامتي..؟! C..بسيطة ..يابن الحلبي والنابلسية.).!.
وحين همد وحفيف ثيابهم ودربكة أرجلهم ،ران الصمت فقال:
ـ :قد أمرت أن ُيعرض عليكم رأس ذاك العريف ،وقد دفع حياته ثمن
سذاجته ،وإ نكم لكواسر ،ومن لم يكن ذئباً تجرأت عليه الكالب .تعاملوا مع الناس
على أنهم يريدون رؤوسكم ،فحذار أن تأمنوا جانبهم ،وأن طائراً في السماء
فوقكم ،قد يحمل بين مخالبه حجراً ،ليرميه على رأس أحدكم فيموت .أطلقوا النار
َّ
يقولن أحدكم إنه ربما إن رأيتموه ،ولتفتت طلقاتكم مخالبه والحجر الذي بينها ،وال
حمل وردةً ،فأمثالكم ال أحد يتعامل معهم بالورد ،ولقد أمرت لكم بمزيد من
- 62 -
الطعام .كلوا أيها الكواسر ،وليتوزع الحراس ٌّ
كل في مكانه ،وال تنتظروا أوامر
جديدة الليلة من أحد فقد أرسلت الضابط واألومباشي في مهمة..
انصرافC...
****
وكان الناس قد اجتمعوا حلقات ،حلقة داخل حلقة ،يسمعون ما يقال ويناقشون
واقع الحال.
ـ :أما أن تزعزع األهوال ،خير ما فطرتم عليه من تقاليد راقية ،فتلك مصيبة
دونها دمنا الذي أهرقوه ،تماسكوا يا ناس وإ ال ذرتنا ريحهم العاتية ،فلقد استهدفوا
البشر والشجر ،والصمت من حولنا مريب ...مريب...
ـ :اللعنة على من كان السبب ،وقد أمسينا في برزخ...
ـ :طز بالخوف من الموت ،مادام يرضخني لعيشة ال تفرق عنه..
ـ :لسنا أول من حيكت ضدهم مؤامرة ،ولسنا ضدهم لوال أطماعهم ،وإ ن
صدق حدسي وما علمتني إياه األيام ،فسوف نسمع عن ٍ
أناس في أماكن أخرى؛
أخباراً تشبه ما حدث لنا.
يدعون أنهم أصدقاء.
ـ :خسرنا أمام جبروت الطغاة فلنحاول الكسب مع من ّ
ـ ُ :خ ِّدعنا أيما خديعة ،فهل نفهم أننا مدعوون لنسلِّم بخديعة أخرى..؟!C...
ـ :كفانا حسن ٍّ
ظن بالغاشم ،ونحن في موقع الغشيم.
وسئل الشاعر ،فطفق ينظر في عمق الظلمة ،ثم قال:
ـ :حتى الغربان على أطالل الخرائب ،يمكنها أن تكون مشهداً بالغ الجمال.
الليل ال يدوم مهما طال ،والشمس تبتسم أوالً ،ثم تصنع نهاراً.
هتف أحدهم صائحاً:
ـ :كل قول هراء ..هراء ..هراء ..ضعنا ...نضيع ..وال شيء غير
الضياع.
َّ
ورد عليه آخر:
ـ :اليأس بداية االنتحار.هل تدرك ذلك.؟C..
َّ
ولعل كالماً كثيراً كان سيقال ،لوال وصول الضابط كمال واألومباشي خلفه
على بعد خطوات ،وأظهر تهذيباً فوق ما توخاه القانطون والمتلهّبون غضباً:
ـ :أتقبلون ضيفاً أيها الطيبون.؟C.
- 63 -
حيرتهم مواقفه ،ولم يأمنوا جانبه بعد.
ظلوا في صمت كأنهم بال ألسنّ .
بادره أكبر الموجودين سناً:
ـ :تفضل إن كنت ترضى بنا أهالً..
أردف أحد الوجهاء:
ـ :فإن لم تنظر إلينا على أننا دونك فأهالً بك ،ال تأخذ كالمي على محمل
ضباط ،كوتنا غطرستهم.الصد ،فهذا ما لقيناه من جملة ّ
ابتسم وهو يضع رسن حصانه بيد األومباشي ،وأخذ الكتاب والشمعدان،
حجر وسط الحلقة ،صمت وهم ورفعهما حتى رآهما الجميع ،ثم وضعهما على ٍ
ينظرون إلى هاتيك األشياء ،وبحث عن العجوز بين الحاضرين ،وانتبه إليهم
كأنهم يسألونه تفسيراً لهذا اإلبهام.
ـ :لم أجد لهما مكاناً ،فجئت أتركهما أمانة لديكم.
ٍ
ورطة ،ماكان له أن يزج نفسه فيها C.!.اختلس نظرة ٍ
للحظات شعر أنه في
يبحث عن العجوز ،فلمح األومباشي ناعساً:
ـ :أومباشي ..كن يقظاً ،فقد أصطحبتك لتشهد.
انتفض محيياً مؤكداً يقظته ،والتفت الناس بعضهم نحو بعضهم ،ثم عاودوا
انتظار ما سيكون ،وهو ينتظر غير هذا الصمت الخانق ،أدار رأسه يتطلع في
الوجوه؛ حائرةً ومحايدةً ومستفهمةً ومندهشة ،وتلك التي ال يستطيع سوى خالقها
أن يفهم منها أي معنى ،كأنها قُ َّدت من الالمعنى ،فإما أنها ذات قدرة عجيبة على
أال ينعكس عليها أثر مما يعتمل في داخل أصحابها ،أو أنها مثل مرايا تآكل
ٍ
انتظار مقيت ،يبدو ساكناً ،وفي هدوئه أعتى ولما يزل ينتظر ،وياله منطالؤهاّ ،
القلق ،وأقسى معاني الضرب على األعصاب.
ـ ( :أكاد أكون جملة عصبية فحسب ،منذ قررت التصدي له ،وها قد أمسكت
ٍ
بخيط قد يودي إلى حقيقتهC..)..
نفض رأسه متنهداً وقال:
حسن..قد وصلني جوابكمC...
ٌ ـ:
التقط الكتاب والشمعدان وصاح:
ـ :أومباشي C..هيا بنا.
وقف كبير الوجهاء قبالته ،واضعاً عكازه في طريقه ،فأحاطوا به:
- 64 -
ـ :إلى أين.؟.
ـ :يجب أن أذهب.
ـ :سألتك إلى أين.؟C.
ـ :إلى حيث أخفيهماC...
قال أكبرهم سناً:
ـ :عيب ..!..فال ترتكب معيبة ،انظر في هذه الوجوه؛ واختر من تأتمنه
على وديعتك..
أيد ،وهاهي وجوه تعكس الدواخل ،وقد اشرأبت نحوه أعناق ،وامتدت إليه ٍ
انجلى ج ّل الشك ،وانقشعت ريبتهاٌّ ،
وكل منها تقُريه هتافها:
سرك.).
ـ ( :أنا مكمن ّ
قال منفعالً:
تصرفوا بها كما ترتؤون ،واأليام تكشف إن كنا
ـ :األمانة عندكم جميعاًّ ،
سنحتاجها.
ـ :وضعت في أعناقنا ما سيدلّك على مروءتنا.
عانق كما ٌل الوجيهَ ،وسرت همهمة وضحكات انفراج ،وسأل عن العجوز
مبدياً رغبة في زيارته ،فتأبط الوجيه ذراعه ،وسارا معاً ،والناس يتشاورون عمن
يختارون لحفظ الوديعة ،قال أحدهم مشيراً إلى الشمعدان:
ـ :قد رأيت مثله.
ـ :أين.؟C.
ـ :عند بعض الخزريين.
*****
خاطب كمال العجوز وفي عينيه نظرة ٍ
ود:
ـ :قد تلدغ العقرب حصاناً ،لكنها تبقى حشرة ،والحصان يظ ّل أصيالً.
تباهى العجوز بالمديح ،فهمس في أذنه الوجيه:
ـ :لك أن تنفش ريشك مثل ديك رومي؛ لوكانت ثمة لدغة أصالً.
َّ
ولمح كمال إلى أن حبس العجوز حنقه ممتعضاً ،وقد ذهبت متعة المديح،
فخيم صمت ،وامتقع وجه الحسناء ،وطأطأ الوجيه رأسه متثائباً،الرسالة وصلتّ ،
- 65 -
َّ
كأن األمر ال يعنيه ،وأبدى العجوز مكراً ،فاستفسر إن كانت ثمة رسالة وصلتهم
من األستانة ،فقطع عليه محاولة التهرب ،موجهاً كالمه إلى الحسناء:
ـ :خدمتني إذ ربطتني في خيمته ،كان ذلك دليل براءتي ،وإ ال لما توانى عن
اتهامي بما حدث ،ثم إنني مدين لك باطالعي على كتاب ،ليس سهالً الحصول
عليه.
ـ :الكتاب الذي جلبته إلينا.؟!C..
والتفت إلى الحسناء سائالً:
ـ :أليس هو الذي وجدتِه في صندوق الضابط عثمان..؟..
هزت رأسها باإليجاب فهتف: َّ
ـ :بدأت أفهم .كمال يا بني ،أقسم أنكم مستهدفون مثلما استهدفونا ،إنها
كحكاية حصان طروادة ،أتعرفها.؟ ..عسى حدسي أن يخطئ.
حاول العجوز أن يوقف اندفاع الوجيه في كالمه ،وهو َم ْن تَحفَّظ على ثقته
حك فروة رأسه وأردف: وابنته بالضابط هذا ،ولم يأبه بالمحاولةَّ .
ـ :بدؤوا تسللهم الثاني منذ سنتين إلى بالد الزيتون(فلسطين) .ألم تسمع بذلك
يا بني.؟C..
ـ :بلى ..وسمعت أنهم يبحثون عن وطن بال شعب..!!.
ـ :ألسنا شعباً.؟ C..هل كنا يوماً منذ آالف السنين بال أرض.؟! .أسمعت
بشخص يدعى "فكتور جاكسون".؟ ٍ
ـ :ال..
ـ :لو سألت الضابط عثمان لعرفه.
ـ :بل ألنكر معرفته به.
ـ :إنه في هيئة تساعده أن يكون زعيماً في األستانة ،فإن كان ذلك فقد سمعنا
ورأينا العجب.
وران صمت ثقيل ،فقطعه كمال سائالً:
ـ :هل سمعتم بعبد الرحمن الكواكبي.؟.
ـ :ومن يكون.؟.
ـ :إن قرأتم كتاباته عرفتموه .حثّوا شبابكم على قراءته.
- 66 -
بنية.
ـ :عبد الرحمن الكواكبي .!.ال تنسي هذا االسم يا ّ
ـ :وما وقع رسالتنا عليه.؟.
تكف أذيته عنكم إلى حين.
ـ :لعلها ّ
ـ :إلى حين فحسب .األمر كبير ..كبير يا بني.
هامة أن تقول شيئاً فأحجمت عنه ،والحظ كمال ترددها اقتربت مترددةّ ،
فسألها أن تفصح ،فنظرت إلى أبيها والوجيه ،أومأ الوجيه لها فسألت:
ـ :أصدقنا القول ،هل أنت معنا ،أم تراك تستلغنا في منافستك عثمان.؟..
لم يتردد بقوله الصريح:
ـ :معكم حتماً.
وضم الوجيه بيديه يديهما،
َّ َّ
مد العجوز يده ،فوضع كمال يده بيد العجوز،
فابتسمت الحسناء ،ثم ضحكت بسرور ،خجلت فبدت أبهى فتنة وأنوثة ،ومسحت
عن وجنتيها دمعتي فرح.
وهم باالنصراف ،فهتفت:
افتتن كمال بها ،وهي على هاتيك الحالَّ ،
ـ :كمال C.!.
التفتوا إليها باندهاش واستنكار ،فأطرقت ،ثم شمخت عاصرةً أصابع يدها في
كف يدها األخرى وأردفت:
إلي ،وستجدها عندي متى أردتC...
ـ :كمال أيها الضابط ..وديعتك ستؤول َّ
وربت الوجيه على كتفه ،ومضىمؤمناً على كالمهاّ ،
هز العجوز رأسه ّ َّ
متأبطاً ذراع الضابط ،بينما وقف العجوز يشيعهما ووجهه يطفح بشراً.
فزنرت خاصرتهضمها بذراعه إلى جنبهّ ، اقتربت فوضع يده على كتفها ،ثم ّ
ٍ
بذراعها ،ومشت معه نشوانة بدفء الحنان ،عائدين إلى الداخل ،حينئذ رفع الشيخ
اإلمام أذان الصبح.
****
يطوقون الناس ،وهم يلملمون حاجاتهم،
حين أشرقت الشمس ،كان العسكر ّ
نفع ،وساقهم العسكر إلى سفح الهضبة ،وقد أصبحت جرداء ،ما دون أن ينسوا ذا ٍ
خال قبر ألكسندر شاهداً أن ثمة حياة كانت عليها ،وزحف الناس نحوها مثل حبل
من النمل سرى بين موقعين ،وتخلّفت نسوة عند قبور الفقداء...
كان الضابط عثمان قد اتخذ مكانه تحت مظلّة تقيه لفحة الشمس ،ومن حولـه
- 67 -
الكتبة وكبير الطهاة ومعاونوه ،واألومباشي يتلو فرماناً وهو منتفخ األوداج؛ يكاد
ال يلتقط أنفاسه:
سجل لدى كتبة ديوان المسير في
ويتم توزيع الجعاالت وفق األسماء التي تُ ّ
ـّ :
"الدفتر خانة" وC....
يتم تفتيشهم على
وقف العسكر في صفين ،يمر بينهما الناس فرادىّ ،
مسافة أطول من أي ٍ
سيف ،ولم تكن ٍ الجانبين ،حتى يصلوا أمام الضابط على
علف أنفت منه الدواب ،وحين اعترض كمال، شأن ،وبعضها خليط ٍ الجعالة ذات ٍ
رد عثمان ال يقبل النقاش ،فإطعام العسكر هو األهم ،ثم دوابهم ،ثم أولئك
كان ّ
الناس ،وليعتمدوا على البقية الباقية من حيواناتهم ،يذبحونها أو يستبدلون بها
أصنافاً في الطريق ،ولهم أن يصيبوا مما في األرض وهي عشيبة ..!!.وطفق
يكرر:
ـ :أليس كذلك يا صديقي الضابط كماالً.؟C.
ويردف:
ـ :نعم هو كذلك.
فيعقّب قائالً:
ـ :إذاً لسنا مختلفين في ٍ
شيء ،كما ترى يا موالنا الشيخ اإلمام.
شيء ،ولن ُيعرف بغير االسم الذيبأن واحداً منهم لن يحصل على ٍ وفاجأهم َّ
ويسجله الكتبة في "الدفتر خانة" ،ومضى ُيطلق عليهم
ّ َم َّن به عظمة السلطان،
يلوح بها؛ على أنها من قصر يلدز في األسماء كيفما شاء ،متذرعاً بقائمة مابرح ّ
األستانة ..!!.واألومباشي يوصيهم مؤكداً أن يحفظوا األسماء الجديدة ،وإ ال...
كوموه.
وحين اعترض أحدهم ،تواله العسكر بأعقاب البنادق حتى ّ
وهمس الضابط عثمان لألومباشي ،فأطلق العنان لصوته معلناً:
ـ :هذا وبش ،على حافة السقوط في الكبائر ،وسيبقى دون اسم ،وسيان هو
وأي بغل شموس.
فرد الضابط عثمان غاضباً:اعترض الوجهاء ،وناصرهم الضابط كمالّ ،
ـ :إنها أوامر عظمة السلطان ،فهل بينكم من يخالف أمير المؤمنين أيها
الكبراء..؟!C
تقدمت الحسناء ،وكاد يلفظ لها اسماً ،فاقتحمت المكان .بحضورها األخاذ،
- 68 -
ونقرت على منضدة الكتبة ،دون أن ترفع نظرها عن الضابط قائلة:
ـ :اسمي قمر ،ولن يكون غير ذلك...
مخرشاً ببعض آثار حب الشباب،ُبهت عثمان أمام هذا الوجه الصبوحّ ،
تشعان ألقاً وإ رادة ،تفيضان أنوثة ،وتتقصف الرغبات على
وتينك العينين اللتين ّ
عنق كالمرمر ،وكتفين كاألجنحة ،وخصر يكاد ال يذكرC...!!..
غص بريقه وهمس:
َّ
ـ :قمر .!.إنك كذلك ،ومن يجرؤ قول عكس ذلك.؟!..
وسرت همهمة بين الناس ،فهذا يسأل عن اسم اآلخر ،وذاك يشتم حانقاً،
ولما
وآخر يردد اسمه ضاحكاً غير مصدق C..!..وثمة من استوعب اللعبة فذهل ّ
يزل ،وهذا ينتحب شاعراً بمرارة أن ُيلغى وأن ُيمسي شخصاً آخر ،والضابط يردد
في نفسه:
ـ ( :لو تعرف يا ألكسندر كيف تغلّبت على مكرهم .!!.هو ذا النسخ والمسخ
أيها "الغوييم" مادمتم على ما اعتقدتم ،واستعدوا لما هو أعتى أيها األوباشC.).
وأصدر أمره أن تستعد القافلة لمتابعة المسير ،وقد اختار فرساً للضابط
كمال ،تليق أن تساير حصانه الشبوبC.!.
***********
- 69 -
5
ابتعدت مقدمة القافلة عن أنف الجبل ،تتسلق ذاك المرتفع البعيد ،وهاهي
نهايتها تتابع حركتها ،كأنها جزء من مخلوق أسطوري؛ اختفى وسطه في الوهدة،
فبدا برأس وذنب تفصلهما مسافة غير قصيرة؛ تربطهما تلك الحركة المتتابعة،
وكلما تقدم الرأس ،ازداد العنق طوالً ،وقصر الذنب ،ثم تناهى في القصر حتى
شق األرض وخرج من باطنها. اختفى ،بينما الرأس يتقدم والجسد يتبعه ،لكأنه ّ
وحين ارتفع النهار بدت تحت أشعة الشمس والجو سديمي؛ مثل إحدى الفقاريات
الخرافية ،تتحرك ببطء يتناسب وضخامتها ،أو أنها عليلة آلمها الوجع فجعلها
تتململ فتبدو متحركة ليس ٍ
بهمة ،إنما بدافع ذاك الوجع المختزن في أوصالها
وتجمع النمل في الخدوش،
ّ وخدشه الدود،
ومفاصلها ،تتابع الزحف وقد تبثّر جلدها ّ
فتحركت هاربة منه وهي تحملهC.!.
تعرت األرض من كسوتها الشجراء ،متلفعة وكلما تقدمت في السهوبَّ ،
بشجيرات وأعشاب ،تتستر بها من لفح الشمس ودودة ولدودة ،تسقسق بين جنباتها
تفر حائمة أسراباً وواحدات ،فوق أرض طيور السمرمر والسُّماني ِ
والسبدانُّ ،
سافرة هنا محتجبة هناك ،تخددها المسايل وآثار انجرافات ،تجددها أمطار
المواسم ،وبذا شرع الطقس يقلب سحنته ،والطبيعة تغير فروتها بغير ما اعتاده
أهل القافلة ،فأصابت أغلبهم حاالت وأمراض لم يعهدوها ،خارت لها قوى
بعضهم ،وانحرفت أمزجة بعضهم اآلخر ،وفترت في كثير منهم ما تبقى من
مكابراتهم وشكائمهم ،وتعكر صفو معظمهم ،فأضحوا كطيور البطريق؛ انقشع
الثلج من حولها ،وجفّت المياه تحتها ،وهم يمرون بين سمع األرض وبصرها.
التغير الذي أصابهم ،وحار في أمرهم ،ولم يدرك
انتبه الضابط كمال إلى ذلك ّ
ألم بهم ،لكنه فسَّره على أنه تراكم اآلالم في نفوسهم الكلمى وتساءل:
ما َّ
ـِ :
(ل َم يزداد وضعهم سوءاً.؟).
- 70 -
سأل الضابط عثمان عن ذلك فابتسم ٍ
بمكر ولم ُيجبَّ ،
ألح بالسؤال وطفق
يبحث عن السبب ،علّه يتدارك األمر فيسعفهم ،لجأ إلى األومباشي وسأله فأجاب:
ـ :ستتحسن أوضاعهم كلما مضينا بهم قدماً .البد أن يتأقلموا ،وال شيء
يدعو للقلق ،فحتى الدواب تحتاج لفترة تعتاد خاللها جديد الكأل الذي ترعاه.
ضرب جبينه بباطن كفه وصفَّر صائحاً:
ـ :تباً للظلم .!.إنهم يقتاتون األعشاب وجذور النبات منذ حين .!.كيف لم
أفطن إلى ذلك.؟
اقترب من صاحبه العجوز يسأله:
ـ :كيف ترى األمر أيها العم داود.؟.
نظر طويالً في وجهه وهمس:
ـ :حتى أنت تناديني بهذا االسم الغريب عني.؟!..
أحس بالحرج ،وشعر العجوز بتأثير عتابه على كمال ،دنا من فرسهَّ ،
ومد َّ
إليها كفه مبسوطة ببعض الجعالة ،فشممتها وعافتها ،فنثرها وهمهم بمرارة:
ـ :أصيلة فرسك هذه ،لم تقبل بهذا الذي يعلفنا به ضابط األستانة.
انهار المدعو نوح من إقياء وإ سهال ،ثم انهار كثر ،وأعلن الحكيم إدريس عن
موت موسى ،وتتالى عدد الموتى يزداد باضطراد.
تنهد المدعو رشاد وصاح:
ـ :جذور لعينة أيها الضابط عثمان .هذا ال يليق بابن آدم قطّ..
واحتج المدعو أصالن قائالً:
ـ :الكالب ....يطعموننا علف الدواب .تباً لهم ،إنهم يزقموننا َّ
الزقوم.
حوقل الشيخ اإلمام وابتعد صامتاً ،ولم يأبه عثمان بما ُيقال ،وكان على
صهوة حصانه ،يقطع المسافة بين مقدمة القافلة ونهايتها ،كأنه في سبق أو رهان،
ِّكيت ،وكاد الضابط يسقط عن صهوة جواده ،وقد َّ
شب فتصدى له فتاه عثمان الس ِّ
مد يده إلى َّ
غدارته ،لكنه أمام فتاه األثير ..!.صرخ الفتى فاقداً فجأة على خلفيتيهَّ ،
السيطرة على أعصابه ،خارجاً من سكوته الطويل:
ـ :اللعنة ...لماذا ال تُصاب أنت وعسكرك بما ُنصاب به نحن.؟C.
نزل إليه وشرع يصفعه بيمينه وشماله ،فأمسك الفتى ذراعه ولواها حتى كاد
طوح به وجثا فوقه
يخلعها ،ثم قبض على حزامه ورفعه فوق رأسه ،دار مرات ثم ّ
- 71 -
وجره من فروة رأسه وأوقفه،
يخنقه ،فركله الضابط بين فخذيه فسقط متلوياًَّ ،
ٍ
بعنف هامساً: وأمسك بأنفه َّ
وهزه
ـ :أيها الحيوان ،مادمت أدركت األمر ،ما الذي يعمي قلبك ويمنعك أن
إلي.؟.
تكون واحداً من العسكر؛ بل من أفضلهم وأقربهم َّ
لم يترك له مهلة ،ودفع به إلى العسكر فاعتقلوه ،وأمرهم أن يربطوه في
إحدى عربات األرزاق ،مؤكداً على كبير الطهاة أن يفتح له علب الدبس وأكياس
التين ،ويقدم له "جق ملبن وبصطيق" .ثم اقترب منه ومسح على وجنتيه حيث
صفعه وهمس له:
ـ :هل تحب اللحم المقدد.؟ .ستجد أنواعاً وأصنافاً منه ،ال يحلم بها قومك.
مضى إلى مقدمة القافلة ،دون أن يوافق على التوقف لدفن الموتى ،مخافة أن
ينتهز الناس الواقعة ،فيجدوا فيها فرصة تتفتق خاللها جروحهم ،واالحتمال قائم
بانفجار أحقادهم ،وهي كدمامل انفثأت ،لكنه قبل ـ على مضض ـ تخفيف سرعة
القافلة ،ريثما يلحق بها أولئك الذين سمح لهم إنجاز مراسم الدفن ،يراقبهم أنفار من
العسكر.
أصرت قمر أن تبقى معهم برغم معارضتهم واستنكار بعضهم ،فأسكتتهم
ّ
بقولها:
ـ :يجب أن أعرف كيف يتم ذلك ،فقد أضطر لدفن أحدكم ،مادمنا في ظروف
مفتوحة على احتماالت.
رد ٍ
بمكر: ثم َّ
ولم يأبه بإلحاح الضابط إلطعام الناس ،راوغ َّ
ـ :ليس قبل أن أقطع بعسكري المفازة ،وأطمئن على سالمتهم.
سبب ٍ
كاف لتوزيع الماء ،وتحسين الجعاالت. ـ :المفازة ٌ
يجهز بندقية الصيد: َّ
رد وهو ّ
ـ :كمال يا عزيزي ..العسكر أهم...
ومضى يتعقب طيور السُّماني والسمرمر ،وبعض عسكره يتراكضون
يسري عن نفسه ،فتبرق أساريره...
فيلتقطون ما يصطاده ،وهو جذالن؛ ّ
****
حين أتموا دفن موسى C،سأل الشيخ اإلمام:
ـ :من يأخذ عزاءه.؟.
- 72 -
نظر الحاضرون بعضهم إلى بعضهم ،وزفر أحدهم متمتماً:
ـ :ليس له أحد ،فهو آخر عائلته..
تلفَّعت قمر ونبرت قائلة:
ـ :إني آخذة عزاءه.
أُحرج الشيخ ،وأسقط في يد من هم حوله ،فتقدم الشيخ يعزيها وتبعه الباقون،
وحين اقترب نعمان قالت:
ـ :أيها الشاعر ..احفظ أنه ـ أيضاً ـ آخر عائلته ،وبموته طُويت صفحاتها.
شرخه ٍ
بصوت َّ مرثية
عض نعمان شفته فأدماها ،وانفلتت قمر هائمة ،تغني ّ َّ
ٍٍ
كبلورات متأللئة، البرية ،فتوقف الدمع في المآقي
ّ جنبات صداها ورددت األسى،
وترجل بعض العسكر عن دوابهم ،ومشوا جميعاً في ّ وجرجر الرجال أرجلهم،
يشد القلوب في مصائب تجللها وطأة
مهابة ،فالحزن على قسوة المآل رباط ّ
الموت ،وراح عسكريان يلهوان عابثين ،وقد وجدا فرصة للتنفيث عن كبتهما،
يتفرسها ويرجمها بسهاممطلقين مكنونات نفسيهما من عقلها ،ولحق أحدهما بقمر ّ
المتجمرة.
ّ نظراته
ِّكيت من حارسه أن يفك وثاقه ،وهو يتماسك كي ال طلب الفتى عثمان الس ِّ
ترجل توارى خلف رجم يفك سيتبرز ،وحين ّ
ّ َّ
يتحدر بوله ،فلم يأبه له ،فهدد أنه
سراويله على عجل ،والحارس يراقبه بقرف ،وفوجئ كبير الطهاة أن الفتى أتى
على كثير من حمولة العربة...!.
عبه وجيوبه وما برح يطحر موهماً الحارس أنه يقضي حاجة ،بينما يفرغ ّ
المشيعين ،أشار لقمر إلى األطعمة ،ومضى ضارباً
ّ حتى إذا ما اقتربت جماعة
على بطنه كأنه تخفّف فاستراح ،وكبير الطهاة يزوره ريبةً ،بينما كان الحارس
شد وثاقه ،شعر براحة تمأل جوانحه ،وقمر تأكل وتبتسم له ،لحظات يشتريها ُيعيد َّ
بردح من عمره ،إنها وحدها سعادته ،وإ ن لم تعرف مافي قلبه الشفيف ،ومشاعر ٍ
الجْل ُد:
مشعة كالجمر ،وهو َّ
ـ ( :ألهبتِ ِه مذ رأيتك قبل زواجك ولم يفتر .لو تدرين كم حقدت عليه ،تمنيت
ٍ
بذهب أغراني به أن يموت ،ولم أقتله برغم أنني حسدته طوال الوقت ،ولم أقايضه
عسكر القيصر ،لكنني لم أسعفه حين جرح ،وما استجبت الستغاثته ،تركته
كالب َرد .ألجلك تنازلت
وفررت بجلدي ،فالقصف كان كالصواعق والرصاص َ
عن أن أكون بطالً .ما ندمت لكني عاقبت نفسي بسكوتي الطويل ،فلو علمت أكنت
- 73 -
تغفرين..؟C.
عدت وجدتهُ قد جمد متجلَّداً بدمه والثلج كفنه،
حياً ،وحين ُإنني آخر من رآه ّ
فقدر حموك صنيعي ،وال أحد يعرف أنني عدت به كي تتحققي من عدت بجثتهّ ،
ُ
بعدئذ تكونين لي ،فلو عرفت هل كنتِ ٍ موته ،فأحررك من ارتباطك به ،لعلك
تقبلين.؟..).
سأل عبد اهلل:
ـ :موالنا ..هل ما نأكله حالل.؟..
طال صمت الشيخ وهو يمضغ لقمته ،فهتف رشاد:
ـ :نعم ..إنه حالل.
َّ
رد إبراهيم:
ـ :بل هو حرام.
ـ :حالل..
ـ :حرام..
قال الوجيه عبدالحميد:
ـ :هالّ حسمت الجدل يا موالنا.؟.
تمنى الشيخ لو لم ُيسأل ،لكنه قال:
ـ :حرام على األغلب؛ واهلل أعلم..
ـ :وكيف تأكله إذاً..؟!C..
تف مافي فمه ،كي ال يقول إنه محسوب على العسكر ،وليس عليه حرج، َّ
فاحتجت قمر قائلة:
ـ ِ :ل َم تُ ِّ
حرمه يا موالنا.؟.
ـ :ألنه مسروق.
ـ :ممن.؟.
ـ :ال رزق بال صاحب...
ـ :فمن أصحابه.؟.
ـ :العسكر .وهم على سفر.
ـ :ألسنا أيضاً على سفر.؟! C.أما دفناهم للتو وقد قضوا جوعاً.؟ C...الجوع
- 74 -
كافر يا موالنا...
اضطرب الشيخ فزفر ،وسئل الشاعر نعمان ،فقال :وهو يمضغ لقمته:
ـ :إن لم آكل منه ،أكون قد مت انتحاراً ،أليس االنتحار حراماً يا موالنا.؟.
امتعض الشيخ فحوقل قائالً:
ٍ
ماض فلغطكم ال ُيحتمل. تالعب باأللفاظ ،وإ نني
ٌ ـ :هذا
يسوي عمامته ،كاتماً غيظه؛ متنفساً الصعداء في ٍ
آن معاً. وأسرع وهو ِّ
وما زال الفتى السِّكيت يغدق على َم ْن حوله ،وزاد العطاء لحارسه ،بينما
صوب ٍ
بقطع نقدية ،وحين اشتكاه كبير الطهاة إلى الضابط ،قهقه ثم ّ
أسكت الحوذي ٍ
وأطلق ،فهوى السمرمر بال رأس وال حوصلهC..!.
أمه ،وأطلق صوته ضاحكاً ،والناس من حوله
وأعلن عباس عن موت ِّ
حيارى:
أمه.؟!C.
ـ :أيفرح المرء إن فقد َّ
همس الضابط لنفسه:
طل العقل.).
ـ ( :الجوع يع ّ
عزوا عباساً فرقص.!.َّ
همس الضابط لنفسه:
ـ ( :العطش ُّ
يكل البصر.).
المقربون عباساً فغنى ،فقال الضابط لنفسه:
والم ّ
ـ ( :الجوع ينفث اليأس في النفسC.).
ونهر الشيوخ عباساً فهتف لسطوة المصير المبهم ،فتمتم الضابط لنفسه:
ذباحان دون إراقة دماء..).
ـ ( :العطش والجوع ّ
عباس ثم خمدت ،اضمحلت بسمته وانمحت ،رفرفت عيناه جلجلت ضحكة ّ
دمع فيهما يخمد الحريق ،جأر صائحاً ،ذهب منعزالً ،انفرد متشيئاً ،هام
وليس من ٍ
الكرة ففتك بهم بقوة ثور ،تكاثروا عليه
فطوح بهم ،عاودوا َّ
جره أترابه ّ
هبالًّ ،
طوقته فهجع في حجرها ينشج ،حتى إذا سمع صوت الضابط بالجدة نورّ ،
ّ فاستنجد
يتخبط ضارباً بالحجر ،ناثراً التراب ،عاضاً ظاهر كفه حتىعثمان ،هاج وراح ّ
أدماه ،ولم يستكن حتى أخذته قمر تطبطب على خديه ،ماسحة على رأسه ،فابتسم
ٍ
عندئذ ربطوه إلى عربة الممسوسين. مناغياً،
- 75 -
***
رمت الشمس جمرات الظهيرة ،فتصبب حصان الضابط عرقاً ،ورطّب
باطن سروايلـه ،فاستبد لـه بآخر ،وآوى إلى عربته الفارهة ،يضم إلى صدره
صندوقه األغلى ،مغلقاً على ما يدور في خلده ،كاتماً في صدره ما نوى إثر حادثة
رأس العريف ،وبدا بسكوته كرافع راية بيضاء ،وقد وضع كمال يده على
الشمعدان والكتاب ،ولم يشك لحظة أنه ذهب بهما إلى أوالء األوباش،وما سكوتهم
إال عن ّنية ّبيتوها لحين لزومها ،وليظن كمال المأفون أنه األذكى ،وأنه أجاد
فخ يوقعه فيه حين يشاء.
نصب ٍ
ٍ
نزهة...؟ C..أية نزهة لي مع هؤالء..؟! ...أكنت ـ ( :وهل كنت آخذهم في
دليل ٍ
قافلة من "الغوييم"؟ ...ألمثل هذا أحمل هذي الرتب.؟
وما قيمة ضابط مثلي في حالة سلم.؟ .وكيف يهنأ لي العيش مالم يكن أمامي
أؤول ك أنا ،محترزّ ،عدو ولو توهمته ..ش ّكا ٌ
من أتخيله عدوي.؟ ...البد لي من ٍّ
الوقائع بأسوأ احتماالتها ،فالناس أنجاس ،وكلهم موضع ريبة ،تحية أحدهم
وتصنع الطاعة واالحترام
ّ مغرضة ،والبسمة مغشوشة ،وإ بداء الخوف حيلة،
كذب ،والنوايا خبيثة ،والصمت قناع مخادع ،فإن لم يثبت العكس ،وقع المحتمل
َّ
ولشد ما ضمن الحسبان ،فتبوء المفاجأة بالخسران .أوقعهم في الظن أنني هادنت،
ترضيني بساطتهم المفرطة ،وخبثهم الساذج ....وإ نهم يتيحون لي بطولة الئقة،
ترفع مقامي C،وتصلح لحكاية تروى عني ،فأكون النجم الذي أردت أن أكونه أيتها
كف عن الضرب والتقتيل ،كما فعل األم الخزرية C.).فَ َّك َر على هذا المنوال وقد َّ
بهم من قبل ،إال أنه مصر أن يأخذهم إلى حيث يحقق غايته ويشبع رغبته،
فاألرض القفر التي لم تكن يوماً درباً ألحد ،كفيلة بفعل ما نوى ،يدفعهم إليها وقد
أن حارسهم هو استعد لها ،وتركهم مجردين من أسباب الصمود ،وهم غافلون عن َّ َّ
قاتلهمC..!..
ـ ( :فإن كانوا أبالسة ،فأنا الشيطان نفسه ،والعاقبة لمن شحذ ذهنه على ِم ّس ِّن
الزمن.).
أرض منبسطة على ِّ
مد البصر ،ال زرع فيها وال نبت ،والغيم مفقود في ٌ
سمائها ،وليس فيها طير يطير؛ وال تحتها وحش يسير؛ إال هم ....أُولجوا العراء،
هباء ،تطيِّره الريح فيلزق
فتلقاهم العجاج ،مخروا البيداء فانتخل التراب عليهم ً
بفتحات األنوف ،ويتسرب
ِ على أسمالهم وجلودهم ،ويلتصق بهدب العيون ،ويحف
بعضه متجمعاً في سقوف الحلوق يستثيرها ،وينزلق إلى الحناجر ،فتنتابهم نوبات
- 76 -
سعال وبوادر اختناق ،ويلتزج على الشفاه واألسنان ،ينسحق منجرشاً بينها،
وينجبل بالعرق المغرق أجسادهم ،ويزداد العطش ،والماء عزيز المنال ،فعربة
الماء تحت الحراسة المسلّحة ،أسوة بعربات السالح.
فجأةً عصفت الريح ُّ
تسك اآلذان ،وحبيبات الرمل تقذي العيون ،وتلطم
الخدود مثل وخز اإلبر ولسع الدبابير.
اشتبك الظامئون مع العسكر ،فداستهم الدواب بسنابكها والحوافر ومات
شيوخ ومرضى وعسكريان ،وماتت امرأة جاءها المخاض في هذا العذاب،
وأظلمت الدنيا كأنما انطبقت السماء على صدر األرض.
احتج الوجهاء فراح احتجاجهم في الغبار ،وصوتت النسوة وعلى رأسهن
قمر ،والريح تعوي َّ
كأن قطيعاً من الذئاب مقبل لنهش لحومهن ،متهمات الضابط
مجرم بال قلب ،فردد في نفسه:
ٌ أنه أسود الكبد،
ـ ( :بل في صدري قلب فحل ،فمن أرادت أن تشرب بثدييها ،سقيتها بيدي
منقوع الزبيب وشراب الدبس ،أو فلتضمر أثداؤكن كما التين المجفف.).
ٍ
محرقة ،فدفنوا ألي سكنت الريح وصفت السماء عن شمس أتون وبعد ٍّ
تفدعت الشفاه وتملَّحت ،وتالعب السراب باألبصار ،أزاغها،
ّ . ٍ
كبد أمواتهم في
َّ
وجف العرق على األبدان فصار ملحاً ،فثارت عليها وأيبس الصدى الحالقيم،
بثور ونثور ،وفي األفواه غلظت األلسنة وثقلت ،ركع من ركع ،وانبطح بعضهم
وزحف.
وجوهٌ َج ِعدة وبطون طاوية ،وقامات عجفاء ناحلة كأعواد قصب ٍ
زل جفَّت
اشتواء بلفح السعير ،فهان قصمها.
ً
يمرغ وجهه بالرمل ينبش من تحته التراب، ٍ
ذاك حاف وهذا شبه عريان ،وذا ّ
عل بعض الرطوبة فيه.َّ
شرب الضابط عثمان ،وسكب بقية الماء على رأسه وعنقه ،فناوله كبير
ٍ
متهجد الطهاة كوباً آخر ،ثم قدم له قهوة .رشف منها وهو ينظر إلى قمر بعيني
والصبية "أبهى" مقارنة لذا ذات التشهي؛ Cإن جمعه
ّ آن معاً ،عاقداً بينها ٍ
وذئب في ٍ
وإ حداهما فراش.
عبه وبين فخذيه ،وأتاه كبير الطهاة بشاي
وبخ الماء رذاذاً في ّ
تمضمض ّ
وسميه الفتى السِّكيت.
ّ أثيره إلى شراب بإناء الطهاة أحد بكالعقيق ،وأَ ْذ َه َ
اقتربت قمر بفرسها من الضابط كمال حانقة ،زفرت وهمست:
- 77 -
ـ :وبعد.؟!.
تطلّع إلى وجهها فأحسَّها تؤنبه بنظرة ليس لها تفسير آخر .لكز فرسه واتجه
إلى عربة الماء متلفتاً ،أمر الحرس أن يبتعدوا ،وأوقف العربة وأشار لقمر أن
تقترب ،صاحت في الجهات من حولها:
ـ :الما ..ء ،الماء..
صدقوا ،لكنهم هجموا دفعة واحدة .شتم عثمان األرض والسماء؛ كأنهم ما ّ
غدارته في الهواء ،فلم يأبهوا .لقَّم بندقيته الخاصة طلقة
ّ من وأطلق وحلب وقلعتها،
فطير كوبا ًمن يد "أصالن". "خاصة" وصوب ٍ
بدقةّ ، ّ
ساد صمت وسكن الجمع لحظات ،وتعلقت العيون بعثمان ،فأعاد تلقيم
البندقية ،دنت قمر من كمال نافذة الصبر ونبرت:
ـ :ماذا تنتظر إن لم تجبن.؟C.
الزعارة حولهما متقطعي األنفاس: َّ
التف الشباب ّ
ـ :دمه أو الماء .مامن خيار .نحن جاهزون.
الطفتهم مهدئة:
ـ :تقبروني ..لم يحن دوركم بعد.
سايرهم كمال قائالً:
ـ :اتركوا لي فرصة المحاولة.
وانفرد بعثمان قائالً:
ـ :الماء للناس ،أو أعلن عن الكتاب وC.....
ابتسم عثمان رفّة عين ،ونادى الشيخ اإلمام بصوت كالرعد:
ـ :أ ّذن يا موالنا فالصالة ناهية..
وصاح بالناس أن يتيمموا فالصعيد طاهر ،وويل لتاركي الصالة ،ولكل ٍ
ساه
عنهاC..!..
ص ِع َ
ق كمال ،والشيخ يؤ ّذن ،ثم أ ََّم الضابط عثمان المصلين ال وياً رقبته إلى ُ
اليمين ،وقف العجوز داود بين الوجيه عبد الحميد وكمال ،وسأل:
ـ :ما األمر.؟!C..
قال كمال:
- 78 -
ـ :إنه المكر.
تمتم عبد الحميد:
المندس بكفّة.!. ـ :ماكان من رجال القيصر ٍ
بكفة ،وما نراه من هذا النمس
ّ
ـ :قال الحكيم إدريس:
ـ :صالة باطلة..
والزعارة خلف كمال في الصف األخير ،فسمعوا ما قاله الثالثة،
ّ كان أصالن
َّ
فانسل عبد اهلل ولحق به توفيق ،ولبى أصالن إشارة قمر،ولحقه رشاد وإ براهيم،
السجد ،استنكر كمال فعلتهم ،فأبعده
وفي السجدة الثانية تلقفوا بنادق العسكر ّ
سليمان كأنه يعتقله ،هرعت إليهم قمر ،وتلقفت من أصالن بندقية ،فتبعتها أمينة
وجلبهار وفاطمة وجلنار .أخرجت قمر حماها وأباها من صف المصلين،
الزعارة
وطوق ّ وضمتهما إلى كمال ،وأحاطت الفتيات بالجمع مشهرات البنادقّ ،
األسلحة.احتج كمال فهمست لـه قمر أن يمتثل فتجنبه وصاحبيه
ّ المصلين مشرعي
فوهة البندقية بين كتفيه،المسؤولية .حاول ثنيها ورفاقها عن هذه اللعبة ،فوضعت ّ
وأمرته أن يجثو رافعاً يديه ،نظر مستنجداً بالعجوز والوجيه ،فوجدهما الئذين
بالصمت فامتثل.
هم أن يفعل شيئاً ،فانتصبت أمينة أمامه فأبقته قاعداً، ُب ِه َ
ت الضابط عثمانَّ ،
نظرإ ليها بمكر وهمس:
ـ :هل أعلمك الرماية فتكونين أول أنثى في جيش السلطنة.؟.
ـ :تدربت تدريباً كافياً بمواجهتنا عسكر القيصر ،إال إذا رغبت أن تكون
دريئة.
شاغلها بتلفته وصاح:
ـ :أومباشي ..أنفار .نارC...
- 79 -
أحملك تبعة ما يحدث.
ـ :أيها الوجيه عبد الحميد ،إنني ّ
ردت قمر:
ـ :الوجيه رهن االعتقال ،ال حول له وال قوة.
جالت في ذهنه خالصة حيثيات تراكمت في بواطنه منذ بدء التحضير
للمسير ،وليلة جاءته "تانسو" برفقة "أولتان" مبعوثين سريين ،وأبلغاه أن حاخام
األستانة األكبر "موشي ليفي" يؤكد عليه أن مهمته في "عينتاب" هي األ َْولَى
باهتمامه ،وعلى نجاحها يتوقف صعوده السلّم ،وأن يتشفى ممن أوكل إليه سيد
"يلدز" تأمين سالمتهم ،بعدما نجح المزروعون في مراكز القوى بإقناعه أن
المخلص عثمان ،خير من يؤتمن على َم ْن وثقوا بعظمة جاللته C...!.ثم يكون
جلوازهم تشفياً للخزريين ،ولتعنت السلطان دون رغبتهمC...
ـ ( :تهون الدنيا يا سادتي دون رغباتكم.).
توسل ،وأبدى تضرعاً وخنوعاً ،فأبعد برؤوس أصابعه
حقن عينيه بشحنة ّ
وأنمت تعابير وجهه
فوهة البندقية من بين عينيه ،كمن يهش ذبابة ،وبدا مهادناًّ ،
َّ
تذلالً ومسكنةً ،ورقق صوته حتى قارب الهوان ،فأبعدت أمينة البندقية عن وجهه،
ٍ
بصوت فوهتها في نقرته ،رضي بهذا االنفراج فلهج بالشكر ،ثم قال
لكنها ثبتت ّ
مشدود:
مدبر مايحدث ،وسيعلم عظمة السلطان بخيانتك،ـ :كمال C...ال أشك أنك ّ
وهو يغفر لرعاياه من أخطائهم ما شاء ،إال الخيانة ،إنني أرأف بك فأدعوك
لترتدع..
الخزرية ،علّها تصيب من قلبه نقطة
ّ ـ ( :إن هي إال لهجة مبطنة أيتها األم
ضعف..)..
قال توفيق متهكماً:
ـ :أين نحن وأنت من السلطان أيها األغبر.؟!..
َّ
رد واثقاً مهدداً:
ـ :رجاله في "أورفة" و"عينتاب" والوالي في حلب.
هز الوجيه عبد الحميد رأسه قائالً:ّ
ـ :يبدو واثقاً من تهديده C...ولكن..
َّ
هب توفيق غاضباً:
- 80 -
ـ :في أفواهنا ألسنة تبلغهم عما كان منك ،فإن لم يسمعوا فسحقاً لهم ولك.
نهره الوجيه قائالً:
ـ :فلتخرس يا ولد .لسنا رهن حماقتك.
غمزت قمر لكمال ونبرت:
ـ :توفيق C...اهدأ .اطمئن يا أبتاه ،سأعالج األمر.
ووجهت كالمها إلى الضابط قائلة:
ـ :الضابط كمال تحت رحمة سالحي ،ال حول له وال قوة.
عطس أبوها وتلعثم محتجاً:
تهور هذاC..!.
ـ :العمى C..!.تحمينه وتوقعين بنفسك.؟! ..أي ّ
قال توفيق:
ـ :أيخيفنا الذئب وهو في المصيدة.؟!..
رد العجوز داود:َّ
ـ :لو تعلم أيها الفتى كم يكون الذئب ضارياً ،وقد جرحته اإلهانة...!.
ابتسم توفيق قائالً:
ـ :لست بتلك البالهة ،وإ نني ممن خبروا الوحوش تماماً؛ وأنت أدرى.
ضحك العجوز داود وسأل:
ـ :توفيق ..أستحلفك ،ألم تكن ثمالً حين صرعته.؟.
مثوم ،وشربت حتى
ـ :بلى C...كنت وقتذاك في جاهليتي ،أكلت فخذ خروف ّ
بت أرى الهواء ،وأسمع ضحكة النملة ،ورقصت بخمسة سيوف مع ثالث
حسناوات ،وفي طريق عودتي إلى القرية هاجمني فصارعته .ثم أفقت وأبي
وجدت الدب صريعاً بجانبي ،سلخت
ُ يوقظني ،قال إن حصاني دلّهم على مكاني،
جلده ألهديه إلى صديقي العريس المحتفى به ،لكن عسكر القيصر سرقوه
مني.ذاك أبي اسألوه.
ـ :توفيق يا بني ،لست اآلن ثمالً لتواجه الضاري عثمان ،دعك منه
العدمناك.
أُسقط في يد الضابط فصاح:
ـ :كمال C...أنا رئيسك وإ نني مهان .أنسيت واجبك نحوي.؟C.
- 81 -
همس كمال:
ـ :بدأ يعلك C...ألجموه..
قالت قمر:
وجه كالمك إلي أيها الضابط عثمان.
ـ :أنا اآلمرة اآلنّ ،
ـ :ما الذي تريدونه أيتها المحترمة.؟C.
رد أصالن جازماً:َّ
ـ :الماء والطعام والسالم.
لم تنتظر قمر إجابة فصاحت:
ـ :إلى الماء والطعام ،وليأخذ ٌّ
كل حاجته فحسب ،موالنا الشيخ إنك خير من
يتولى التوزيع.
سره:
قال الشيخ في ّ
ـ ( :تورطينني وأنا في غنى عما أنتم فيه..)!!..
فحول بصره إلى السماء.
هز رأسه محوقالً ،والتقت نظراته بنظرة عثمانّ ، َّ
تلكأ قليالً ،وكاد يقول شيئاً ،لكنه كتم رغبته ومضى ،وأمرت قمر كبير الطهاة
وطاقمه أن يتبعوا الشيخ ليساعدوه ،فامتثلوا غير متحمسين وال رافضين ،قالت:
ـ :أولموا للضابط ،وأكثروا له مما يرغب.
وابتعد كمال محاوالً عدم لفت نظر صاحبيه ،تنحنح وهمس:
ِ
بأشراك)-. أيدي الهوى أوقعت قلبي ـ ( :من غنج عينيك -أم من لطف معناك
استغربت ونظرت إلى نفسها مستنكرة قذارة ثيابها ،تأففت متخيلة وجهها وقد
تلمسته ،وفركت بأناملها الغبار عنه فانفتل متطيناً بالعرق.
- 82 -
ابتسمت رفة جفن ،وكادت األنثى في داخلها ،أن ترق وتعلن عن نفسها ،بيد
أنها أخنعتها ،وقطّبت قائلة:
ـ :تأدبC..!..
صاح الضابط عثمان:
ـ :برغم أنك سمحت لي بأكل القديد ،لكنك ستندمين يا قمر..
ـ :فات أوان الندم.
ـ :أيها الضابط كمال ،قل لها ما عاقبة العصيان.
صاح عبد اهلل:
ـ :ليست من عسكرك لتعاقبها إن عصتك.
غيبت أنوثتها تحت
ذهبت إليه ،وقفت ،نظرت في عينيه بعيني امرأة ّ
همها،كادت تبصق فمنعتها شيمتها .كادت تضغط على الزناد ،جحظت عيناه،
كز أسنانه واختزل القول بكلمة:
تدفق الكالم من داخله فمأل فمهّ ،
ـ :نتفاهم..
ـ :بدون شروط مسبقة ،وهذا شرطنا الوحيد.
جفل عباس الملتاث؛ من طاس الماء حين حاولوا أن يسقوه ،صرخ وهذى،
اهتز وتشنج ،تأتأ وبكى واشتكى أنه ال يجيد السباحة ،ورجاهم أن يبعدوه عن هذي
ّ
أمه عطشاً..!.
ّ ماتت قد و ،ا
ً غرق يموت أن يريد ال فهو العميقة، البئر
وحين أدنوا الماء من أحد المحتضرين ،فرح المسكينَّ ،
عب حتى ارتوى،
نظر في الوجوه من حوله ممتناً ،ثم ابتسم بطالوة ومات...!..
ـ :نحرقها وال نتركها..
ـ :يالك من أحمقC...!..
سألتهما قمر:
ـ :عالم تتصارع الديكة.؟.
قال عبد اهلل:
ـ :األسلحة يا قمر..
ـ :أال يكفيكم ما غنمتم من سالح عسكر ألكسندر.؟!C..
رد توفيق:َّ
- 83 -
ـ :السالح ثروة ،والثروة ال يكتفى منها وإ ن زيد عليها.
حسمت الخالف بقولها:
يطمعن أحد بأسلحة عسكر عثمان .سنسلمها ألول مركز نصله .ولم َّ ـ :ال
تثمر المفاوضات طائالً ،فقد ساقها عثمان إلى طريق مسدودة ،فاستأنفت القافلة
سيرها بأمرة الضابط كمال ،وعن يمينه الوجيه عبد الحميد ،وإ لى يساره أصالن،
وأمامهم توفيق ،وخلفهم األومباشي ،وأُبقي عثمان في عربته ،وبخدمته كبير
الزعارة
وتوزع ّ الطهاة بحراسة أمينة ،وعهد إلى العجوز داود أمر عربة الماءّ ،
على عربات األرزاق ،وأنيطت بالفتى عثمان السِّكيت مهمة مراقبة العسكر،
ووزعت البغال والخيول على الشيوخ والمتعبين ،وقمر تلحظ القافلة كلها ،بينما
أمل مرتجى ،حتى نعمان ينشد حاثاً على تحمل المشقّة ،موحياً بالتطلع إلى ٍ
إذاتعب ،تال الشيخ وتالمذته ما تيسر من آي الذكر الحكيمC...
فقدت خطة المفازة واألرض القفر فاعليتها ،دون أن تحقق كامل رغبة
الضابط عثمان ،فقد نوى فعل األفاعيل فأخفق ،وبرغم أن ما جرى هائل ،لكنه لم
حيرته: ِ
يشف غليله ،فع ّذب نفسه وهويجلدها بأسئلة مقلقة ّ
ـ ( :أفعلت ما طُلب منك..؟! ...أيكون جوابك "نعم"..؟! C..يا لخيبتكC!!..
األرض القفر منحتك فرصة إبادتهم ،دون أن تلوث يديك بقطرة دم ،وما كان ألحدٍ
أن يتهمك أو ُي َؤثمك .اهلل أراد ..اهلل فعل C!!...وال شيء يخضعك للمساءلة ،فما
عذرك..؟! C..أتبكي..؟! Cمن ذا الذي ينفعه بكاؤك..؟! C..ومن ذا الذي يقنعه دمعك
قصرت؛ لم تقم بما عليك .اعترف أنك أخفقت .أصعبة وإ ن كان حراقاً..؟!ّ C...
هذه عليك!..؟ ..إذن قل إنك لم تنجح تماماً .مقبولة هذه أليس كذلك..؟! C...بيد أن
هذه وتلك ال تعفيانك ،بقدر ما تضعانك أمام الكير بين الغاية والوسيلة .دعك من
الوسيلة ،اتركها خارج تفكيرك .الغاية الغاية يا عثمان .ها أنتذا تقر أنك لست
مرتاحاً ،فماعساك فاعل..؟! ...ما زال في الوقت متسع ،وفي الطريق بقية...)...
***
سرب الحمائم ما أجمله C!!..سبحان َم ْن والفه ...!!..سائر الغيد يتهامسن
وروداً سرى
الغمة رويداًْ ،
مسرورات ،غناؤهن كالهديل وأرخم ،بعث بهجة تجلو ُ
فراغ فتّاك؛
بين األخريات همس النغمات ،فأشعن بعض الفرح في جوف كآبة ٍ
فأغظن الجدة المهيبة نور ،فزجرتهن سائلة:
ـ :ما الذي جعلكن تقوقئن كالدجاجات..؟!C...
- 84 -
الجدة...
ـ :فرحات أيتها ّ
ـ :بِ َم..؟!C..
ـ :بنصرنا على الضبع عثمانC...
قالت الجدة وقد شخص بصرها:
ـ :خاسرون نحن ،حتى لو تحولت هذي األرض فراديس...
ـ :ما األمر أيتها الجدة..؟!...
صاحت:
ـ :سليمان..
أوقف بغلته ممتثالً والتفت إليها..
ـ :تعال
اقترب مترجالً ،وسار بجانب العربة مصغياًC...
ـ :أفهم هذه الزغاليل معنى أننا خاسرون.
هز رأسه طاعة؛ وتنهد خلسةً ثم قال:
ّ
ـ :جدتي عارضت أن نترك أرضنا..
وغص فسكت .نظرت إليه غير راضية ،وهزأت: َّ تلعثم
جرو وصمت .مابك..؟! ...أتخجل أن تذكر ما ـ :وأوأ ابن الوجاهة مثل ٍ
قلته لآلثم أبيك...؟! ..أم تراك خجالً ألن قولي بفعلته كان صائباً..؟! خجلك هذا
ال يساوي حفنةً من مزبلة قريتنا يا ولد...
أسى وزأر: َّ
كز أسنانه ً
ـ :كرمى لروح جدي ..كفىC..
سحب بغلته وابتعد..
ـ :هه !..هرب ..!!..من يهرب من عيبه ال يتطهر منه..
حدقت في الوجوه المترقبة
أوقفت العربة فتوقف من خلفها الركبّ ،
وصاحت:
مسوغ يفصلهما.
ـ :األرض كالعرض وال ّ
ورددت بكائية ضبطت إيقاعها بنقر عصاها ،وعال صوتها ،فانتقلت العدوى
إلى العربات األخر ،تفاقم الغناء البكائي وارتفع ،نبتت له أجنحة ،رأته الجدة
- 85 -
يتحول أطياراً ،تجوب الفضاء فوقهم ،تذهب إلى هناك ،إلى حيث الحلم كان يعطي ّ
أكدت أنها ترى ذلك ،ترى القمم تتدلى منها أجنحة من
للحياة معنى الحياةّ ،
الخضرة ،تصنع قباباً وودياناً ،تشرق في أحضانها عيون من الينابيع والبحيرات،
مش ّكلة حالةً حميمية بين السماء واألرض؛ األرض التي جعلها الخالق جنة لذاته
أحب أوالء ،أعطاهم جنته األخاذة تلكC...
الجميلة ،وألنه ّ
فنبه الضابط كمال ،إلى هذا العويل المنفلت من انتهز الضابط عثمان الحالة ّ
هبت ريح كمامات الصدور ،وأكد على خطورته ،فهو جمر وإ ن غطاه الرماد؛ إن ّ ّ
ٍ
عندئذ تحرق وال شفيع، نفوسهم أذهبت الرماد ،وجهجهت قبسهم ،فتتقد نارهم،
فالقانطون مطموسة أبصارهم وبصائرهم ،خطرون هم ،ومن الغباء معاملتهم
زينها في عينيك الحرمان ياغدارّ ،بغير هذا المفهوم ،وما قمر إال طائر رخمة ّ
كمال..
تلمس مافي قاع نفسها من نوايا .حذراًأقلقه الكالم ،والتقاها مرات محاوالً ّ
جس الهواجس وظل نافراً ،وكالم عثمان يقرع ناقوس الريبة في نفسه ،والحظت َّ
قمر فتوره ،ولم يقنعها ما أدلى به مقتضباً ،أنه منشغل البال بأهله.
وماكان الفتى السِّكيت يراقب العسكر؛ بقدر انشغاله بمراقبتهما ،وغيرته
َّ
فاستغل الضابط ويريه مالم يكن منهما، ِ
تشتعل ملهبة خياله؛ فَُي ْسمعه ما ال يقوالنُ ،
انفعاالت أثيرة ،فنفخ بزهوه ،كيما يجعله طاووساً ،وامتدح فتنة قمر فاذاب
أطراف قلبه ،ومأله اهتياجاً وجوى ،غامزاً في قناة غريمه ،وأنها مأخوذة بجرأته،
وهي األرملة المقسورة على الحرمان ،وقد عزف على وتر وحشة فراغها ،فيما
هو يضمر ويكبت ،كأنه غافل عن فعالية الثناء في الغانيات ،فأعاده إلى الساح
قوته!..؟..
مشحوناً برغبة إثبات ذاته ،فالقوة تحسم األمر ،وأين كمال من ّ
وحين توقفت القافلة قبيل الغروب ،في موقع مناسب للمبيت ،انصرف الخلق
لتدبير شؤونهم ،وذهب كمال يتحرى محيط المكان( ،ولرغبته بخلوةَّ ،
يتفكر
خاللها ،فكالم عثمان ما زال ِّ
يصدع رأسه)...
قوته المختزنة ،وهي فيص ٌل هذا
لحق به الفتى السِّكيت ،وقد نوى اإلفادة من ّ
أوانه؛ لعله يكسب قمراً.
ذهب كالم كمال هباء ،ولم ِ
تجد محاولته للتفاهم مع الثور الصامت نفعاً ،ولم ً
يجد سبيالً غير أن يصطرعا ،فأثخنته الجراح ووسمته الكدمات ،قبل أن ُيهرع
ْ
إليهما بعضهم فيحجزوا بينهما.
- 86 -
وإ ثر تفشي الخبر ،عقد الشيوخ محكمة بكامل هيئتها من كبار ِّ
السن
وحراس التقاليد المتوارثة مشافهةً وممارسةً ،وجوهر
والضالعين باألعرافّ ،
تشريعها األخالق وقدسيتها ،يتساوى أمامها الكبير والصغير من الذكور ،كذلك
األنثى ،وإ ن حظيت بإجالل الجميع لها ،وأحكامها مبرمة ملزمة ،أما مخالفتها
ٍ
عندئذ تدبير آخر.. فخروج على نهج الجماعة ،وللمسألة
وكانت بهجة الضابط عثمان عارمة؛ إذ نال من كمال َّ
وهد أنفته ،وأثبت له
وبين له أنه واألومباشي
مضيه بعيداً عنه بتحالفه مع أولئك "القرباط"!!ّ ...
ّ خطأ
عصيC،
ٍّ سواء بسواء ،مادام ّج َّرد عسكره من أسلحتهم ،وتركهم كرعيان ماعز بال
فمكانته منوطة بقوة عسكره ،وإ ال فال معنى ألن يكون ضابطاً ،أما خالفهما فهو
راقية ،دون أن يطمع بهما ٍ ٍ
بطريقة وضرب من سو ِء التفاهم ،بيديهما تسويته
ٌ ٍ
واه،
زينت له تلك الرخمة أن وحشة الحرمان ّ أوالء الرعاع المتربصون ،وكرر عليه ّ
يتهور..
الحمقاء قمراً ،وعليه أال ّ
مضى والشك يعذبه ،وقضى وقتاً يقلِّب األمر على وجوهه ،وعا َذ من
وسواسه بصفحات مما انتهى إليه "الكواكبي" عن االستبداد...
حدث الضابط عثمان نفسه مبتسماً:َّ
الحلبي والنابلسية درساً يليق به
ّ ـ ( :سلمت يا بغلي الصموت ،فقد لقّنت ابن
أكثر من رتبته ،ولقد صدقني حدسي إذ اصطفيتك ،ولسوف يسطع نجمك ،وتضج
ليل شتائي طويل قارس البرودة ،تبعث الدفء فحولتك لهباً مشتهى؛ كنار القرم في ٍ
ً
في صقيع المخدع ،فاصطبر ريثما ننتهي إلى حلب....)!!..
وانتصب السؤال في رأس كمال عارياً:
ـ ( :هل أحبها..؟؟؟!.)..
ع ّذبه السؤال ملحاحاً ،ونفسه مفعمة رقّة وشفافية ،كادت تجعل الدمع يطفر
حمام السوق ،تذكر رفاقه في "القصيلة" تخيل "رقوش" ،هفّت نفسه إلى ّ من عينيهّ ،
وتجول تحت القلعة ،وتمشى أمام "جامع زكريا" ،دخل ّ تمشى في "ساحة الملح"،
الحجارين ،وذهب إلى حانوت أبيه في "بحسيتا" ،تذ ّكر أنه قرأ أن "بحسيتا"
"قسطل ّ
الموسوسين
ومرت أمامه مالمح زبن أبيه َ سريانية األصل وتعني "بيت الشرف"َّ .
بالطرابيش الحمر العثمانية ،وحسن مظهرها .رأى بائع "اإلنكنار" ،وبائع شراب
بعيدُ ،يخبر عنه صوت طاساته النحاسية يسقي الزبن ضيافةً آت من ٍ عرق السوس ٍ
حوارية بعدد
من صاحب الحانوت ،ويترك على الجدار قرب الباب عالمات ّ
- 87 -
الطاسات التي قدمها ،يحاسب على ثمنها فيما بعد بموجب العالمات المرسومة.
أمه ،سمع أصوات احتفال بختمة القرآن؛ وأصوات حفلة استنشق نكهة طبيخ ِّ
وغمازتها الج ّذابة؛ وصدرها المتوثب،
عنابية البشرةّ ،
ّ البضة؛
تخيل رقوش ّ ختانّ ،
غص ِفناؤها بالمدعوين
ثديان يتقافزان ويتحرشان بالنسمة ،رأى داره وقد َّ
واألقارب والمحبين و"جوقة اآلالتية" في حفل قبوله ضابطاً في الجيش ،وسمع
يترنم بموشحات وقدود ،والح لـه وجه "رقوش" منبِ َولّ ٍه شدو المنشد المطرب ّ
فرجة الباب ،تناوله أطباق "المهلبية الهيطلية" ،حينذاك همس لها:
ـ ( :قربان الذي خلق ،حلوة أنت مثل "الهيطلية"C..)..!..
جورية ،وأهدته منديالً مشغوالً على الطارة.
ّ وقطف لها عرق ريحان ووردة
ـ ( :جفف به عرق جبينك وتذكرني..)..
تنحنح رشاد عند باب الخيمة ،وأبلغه أن الشيوخ ينتظرونه ،فسأل:
ـ ألم ينتصف الليل..؟!C...
ـ :الوقت ميت ال ميزة له بين ليل ونهار.
ٍ
رشاد ،وحين نظر في وجه ِّ
محدثه ملياً ،يتقرى الوقت متوقفاً C،!!..ومضى مع
وصال ،تقدم من خصمه ،ربت على كتفه ،قائالً:
ـ :احترس من نفسك يا فتى ،وعفا اهلل عما مضى..
ساد الصمت لحظات ،ثم أعلن أكبرهم سناً إدانة الفتى السِّكيت ،وكفل الوجيه
عبد الحميد أن ّينفذ المدان الحكم بنفسه..
وبقي الرجال في أماكنهم بطلب من كمال ،فناقشوا وضع القافلة ،فحمي
النقاش بين معارض ومتحفّظ ومشكك C،وواثق بكمال وسداد رأيه وطيب نواياه،
واتفقوا أن يعيدوا أسلحة العسكر ،ويتسلح الرجال بما أخفوه من أسلحة عسكر
ألكسندر ،وأن توضع الذخيرة بتصرف أصالن ،فيكون مساعد الضابط كمال بما
يخصهم ،يساعده األومباشي بشؤون العسكر؛ وإ بقاء الضابط عثمان قائداً صورياً، ّ
وطلب كمال إقصاء النساء وعدم تسليحهن .استهجن بعضهم هذا الطرح ،وشكك
بأن ذلك يقطع دابر فتن بعضهم بما ذهب إليه ،لكنهم أذعنوا لحجة الحكيم إدريسَّ ،
الضابط عثمان ،ويدعم موقف الضابط كمال مستقبالً.
ارتاح لالتفاق ،وأقنع نفسه بصحة القرار ،فيتخلّص من احتمال أن تكون قمر
نقطة ضعفه ،ولعله بهذا يتأكد من شعوره نحوها ،ويجد إجابة عن سؤاله ،وفجأة
وتطير بعضهم،
ّ سكنوا كأنهم لم يتأكدوا ،ثم أصاخوا السمع فاكفهّرت وجوهٌ،
- 88 -
مر
ونظروا إلى الفتى السِّكيت وكمال ،كأنهما مصدر الشؤم ،ومالبث الصوت أن َّ
ٍ
خربة من فوقهم ،وأراحهم أن فسَّر إدريس الحكيم صوت البوم ،بقربهم من
ولعل خالصهم من خطر المفازة بات وشيكاً ،سرت همهمات ،وبعضهم مهجورةَّ ،
مازال متأثراً بالموروث عن شؤم البوم ،ثم تتالى صياح الديك ،فهتفوا لديك الجدة
نور ،حتى ارتفع صوت الشيخ اإلمام مؤ ّذناً لصالة الصبح.
*********
- 89 -
6
سألت أمينة:
الحد.؟.. ٍ
مؤس إلى هذا ِّ ـ :أهو
عم تسألين.؟..
ـّ :
ـ :أنثى أنا مثلك يا قمر.!.
ـ :ماذا تقصدين..؟C..
ِ
عرفت قصدي منذ نطقت ،ليست قمر من يليق بها أن تتغابى. ـ :أقسم أنك
هس ..ال تعلّقي ،فقط أجيبي..
ـ :ما الذي ترومين.؟.
ـ :ما تخفينه في قلبك ،وما يدور في هذا الرأس الجميل.
شدت رسن فرسها فأوقفتها ،وقالت: َّ
ٍ
حاجة إلى خلوة. ـ :إنني في
ـ :بل أنت في حاجة إلى أن تبوحي بالذي يشغلك ،أفضي إلي فأنا أخت لك.
أدارت فرسها عكس القافلة ،لكزتها ومضت ،فتبعتها أمينة محمولة بأجنحة
طيبتها ،غير ٍ
آبهة بدعوة نسوة أن تصعد معهن العربة ،ولم تتوقف عند لباقة
توفيق ،وقد تخلى لها عن حصانه.
َّ
شدت الجدة نور اهتمام الناس وهي تصيح:
فرطتم بأرضكم .عثمان أيها الضابط ..من ذا الذي يسعده كل
ـ :آثمون يامن ّ
هذا التخريب..؟!C...
دمدم الضابط متشفياً:
الدعية الخرفة.).
ّ ـ C"!!!!"( :عتيقة أنت أيتها
اقترب الوجيه عبد الحميد من الوجيه رجب وهمس:
- 90 -
ـ :اذهب إلى أمك يا رجب ،فلم نعهد نساءنا يتكلمن بهذي الطريقة.
أجاب رجب مختنقاً:
ـ :لعل سليمان يهدئ روعها.
جأر عبد الحميد محتداً:
ـ :سليمان ولد ،اذهب أنت.
أفاد رجب مغلوباً:
ـ :ال أستطيع؛ حذرتني أال أقترب منها..
هتف عبد الحميد بنزق:
ـ :ولكنها ال تسكت..!!..
صاحت الجدة نور:
ـ :سيبيعكم ذاك النخاس في البازار ،ويبيع اإلناث في المواخير ،ابتعد يابن
اآلثم ..ابتعد...
ـ :العمى..!..إنها تضرب سليمانC...!..
قال رجب بصوت خفيض:
ـ :وقد تضربنا إن اقتربنا منها..
ولكز حصانه مبتعداً ،محاوالً الهرب من العيون التي نظرت إليه بمعنى
آلمه .جعلته يطأطئ رأسه ،متمنياً لو يحتجب عن األنظار ،وتمنى لو تموت
أمه تمتم مستغفراً ،وعبرة بكاء خانقة تجيش في صدره ،تعرقل أنفاسه ،وتُطفر
فاندس بين العسكر مستتراً بهم ،علّه إن توارى عن ناظريها، َّ دمعاً من مآقيه،
هدأت ثورتها وسكنت نفسها ،لكنها أنشدت بكائية ،ضبطت إيقاعها على خشب
وتهدل عرفه ،وهو ُّ
يحك رجلها نوس عينيهّ ، العربة بعصاها؛ والديك بجانبها وقد ّ
بجناحه ،وهي منشغلة عمن حولها بِهَ ِم ِهم وبما يوجعها ،والعجائز يرددن معها
ناشجات ،بينما انشغل اإلسكافي يعقوب بتلك النعال المعطوبة ،متخيالً أنه
يخصفها ،وعدة الشغل ها هي معه ،وما برح العسكر يتقاذفون بأحذيتهم المهترئة،
ورطهم بالسير في وعثائها، ٍ
وبهمس لعنوا ّأم من ّ شاتمين األرض القفر وأوارها،
والطريق الذي عهدوه ذاك هو..
ُش ِده الوجيه رجب بما سمع ،فتركهم يسخرون من أسلحتهم ،وقد أمست
كالعصي ،ما دامت بال ذخيرة...
- 91 -
ـ ( :أصحيح ما قالوه عن الطريق..؟!)C..
فمر بالفتى السِّكيت ،وهو ينفذ الحكم
همز حصانه متجهاً إلى الضابط كمالَّ ،
بنفسه ،وهاهو يخدم الممسوسين ،أوالء الذين ذهبت أهوال التهجير وهذا المسير
بعقولهم.
وسارت قمر خلف القافلة بعيداً عن آخرها ،وقد أردفت أمينة خلفها ،وظلت
صامتة برغم ما بذلته أمينة لكشف سريرتها.
يفسر سورة "الممتحنة" لبضعة تحلقواومر الوجيه رجب بالشيخ اإلمام ،وهو َّّ
حولـه في العربة ،وبضعة آخرين حاذوا العربة بدوابهم على جانبيها ،تمهّل
وواكبهم منجذباً إلى عذوبة صوت الشيخ يتلو:
ـ « ( :يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم...)».....
اقتربت أبهى من عربة الماء ٍ
بخفر ،وقد سبقها نعمان إليها .مشت بجانبها
مطرقة ،تسترق النظر إلى وجه هذا الذي فتنها كالمه .انتبه العجوز داود إلى
وجودها ،فالطفها آخذاً الوعاء من يدها.
التقت عيناها بعيني فاتنها ،ابتسم لها فهمس قلبها:
ـ ( :ما أروعك...))!!..
مد العجوز يده باإلناء إليها ،وجدهما هائمين بعضهما ببعض ،فأرجأ وحين َّ
أمر الماء وراح يرقبهما ،وقد أعاداه إلى شيء من عشقه األوحد ،وقطع عليهم
ٍ
مضض ،وانتبه إلى تساميهم كبير الطهاة ،طالباً مزيداً من الماء ،فأعطاه على
مايشبه الكارثة ،ومضى نعمان حامالً إناء أبهى ،وحين اقتربا من عربة الفتيات،
أخذت منه اإلناء ،فقال لها:
ـ :سأهديك أغنية.
ابتسمت حذرة من عيون قريناتها فتغامزن عليهما .ارتبك ،وأفلت لحظة
التسامي حين عال صوت العجوز منذراً:
ـ :الماء يكاد ينفد C...الماءC..!!..
صعق الناس ،وابتسم الضابط عثمان ،وهو يطمئن إلى ِق َرب الماء فيُ
صندوقها الخاص .وتوقف الضابط كمال وأصالن ،وأشار األومباشي بيده ،فهدج
الرتل ثم توقف تماماً ،وساد الوجوم ،وتقدم الوجيه رجب قائالً:
ـ :أولئك األنفار قالوا كالماً غريباً أيها الضابط كمال.
- 92 -
نبر أصالن بنزق:
ـ :دعك من األنفار وثرثرتهم .ألم تسمع ما قاله العم داود..؟!C...
ـ :بلى C...وما سمعته من األنفار مهم أيضاً..
حسم كمال الموقف قائالً:
ـ :أفدناّ ..إنا نسمعك...
ت أصالن ،فساط حصانه متوتراً ،وراح به خبباً ،وقف بينهم مستوضحاً، ُب ِه َ
ورآهم كمال يشيرون بأيديهم غرباً ،وتقدم الوجهاء ونعمان وإ دريس ،ورافقهم
رشاد وإ براهيم وعبد اهلل وتوفيق ،ووقفوا إلى جانب كمال يشدون أزره أمام
الطارئ الجديد ،وعاد أصالن مؤكداً ما قاله الوجيه ،واستوضح الضابط كمال من
األومباشي.
ـ :ما قولك..؟!C
ـ :ذلك صحيح C..أفندم..
ـ :وِل َم ْلم تقل لي..؟!...
ـ :ألنك لم تسألني ..أفندم..
ـ :ألم تدرك أن المفازة خطرة ،وأن الطريق أيسر.؟!C..
ـ :بلى C...ولكنها األوامر ..أفندم..
ورمز بعينه مشيراً إلى الضابط عثمان ،فضربه توفيق بعقب بندقيته خلف
أذنه شاتماً:
ـ :ابن زنى أنت ومن أمركC...
وهم بخنقه ،فصرخ
تكوم األومباشي بين األرجل ،فقذف رشاد بنفسه فوقهّ ،
ّ
كمال به:
ـ :رشاد ..أيها النزقC..!..
ٍ
لحظتئذ سدد توفيق وكاد يطلق عليه ،فطCّ Cوح إبCCراهيم فقفز عبد اهلل إليه وأبعده،
بالبندقية ،فقال الضابط كمال بحزم.
ـ :اترك سالحك ألخيك وابتعد ..هيا..
استجاب توفيق لألمر على مضض ،وتغيرت سحنته وعبد اهلل يأخذ بندقيته،
فتملكه الغضب ،وامتأل حنقاً على األومباشي ،وذهب شاتماً عثمان واألومباشي
معاً ،ولم تختلف كوامن الباقين ،عن تلك التي عصفت بالفتى توفيق ،لكنها حكمة
- 93 -
الشيوخ ورباطة جأش الرجال ،والمسؤولية التي التزمها أصالن وكمال ،برغم أن
يحدث نفسه ،بأن الحق كله إلى جانب ذينك الشابين ،ولو كان
الضابط الشاب كان ّ
بمكانيهما لما كفاه ما فعاله ،لكنها حنكة القيادة وحسن إدارتها ،ونظر بعضهم إلى
كل منهم ارتياحهم لتصرف توفيق ،وردة فعل رشاد. بعضهم اآلخر ،فلمح ٌّ
صاحت َّ
الجدة نور:
ـ :ما الذي تنتظرونه أيها األزالم..؟! Cأتميتوننا قهراً أم عطشاً وجوعاً في هذا
الخالء السجن..؟!C..
نده:
تقدم كمال من عربة عثمان محدثاً نفسه ،وعيناه ترصدان خلجات ّ
ـ ( :أي أفعى تلك التي في رأسك؛ ويشوع بن نون قدوتك..؟!C.)..
مؤهالً مرحباً ،فقال كمال
جعل عثمان وجهه يتهلل ،واستوى من ضجعتهّ ،
في نفسه:
ـ ( :في داخلك عكس ما تُظهر ،فإنني بت أفهمكC..)..
بادره عثمان قائالً:
ـ :تقديرك مضبوط ...فالمكان مناسب لالستراحة ،ألك ببعض القهوة
التركية..؟C...
ـ :أوه ..!..فنجان قهوة منك مكسب..
تأدب..!...
ـ :كمالّ ..
ـ :أمرك ..فما رأيك بما قاله بعض العسكر..؟
تثاءب وهمهم كاذباً:
ـ :كنت نائماً فلم أسمع ..ولكن ..هل لدى األنفار ما يقال لنسمع..؟!...
قدم كبير الطهاة القهوة ،وعيناه كبندول الساعة ،تتحركان بين وجه هذا ووجه
اآلخر ،ترصدان أثر الرشفة األولى ،فهي التي ـ حسب ما خبر ـ تحدد جودة ما
صنع..
ـ :إدخال القافلة هذه المفازة كان خطأً..
تصنع الدهشة:
رد متقناً َّّ
ـ :كيف..؟!..
أشار كمال بيده بعيداً وسأل:
ـ :أليس هناك ..الطريق إلى عينتاب..؟..
- 94 -
ـ :ربما ..ولكن ما شأننا بعينتاب مادمنا نقصد أورفة..؟!C...
َّ
وطد نفسه لاللتفاف على مكر عثمان فقال هادئاً:
ـ :لم أفهم منك ذلك قبل اآلن ،فإن أوضحت لفهمت..
ـ :إن لم تكن عنيداً فاألمر بسيط..
ـ :وماهو..؟!...
ـ :تسمع وتطيع ..ثم أال تجد أن القيادة فضفاضة عليك..؟!C...
ابتسم كمال ثم جزم محدثاً نفسه:
ـ ( :ألعب معه بأدواته وأسلوبه..).
قشع ابتسامته بمالمح جادة ،فبدا مستعداً لتلقي األوامر ،قال:
ـ :أسمع فأستفيد.
ـ :بل تطيع..
انتظر لحظات ممنياً نفسه أن يرى رضوخ كمال ويسمع تسليمه ،بيد أنه
فعزى نفسه:
رأى قسماته ال تشي بتراجعّ ،
ـ ( :ال بأس إنه بلع من الطُعم بعضه ،ففي هذا ما يفتر اعتدادهC..)..
وجهر قائالً:
ـ :وجهتنا أورفه وطريقنا صحيحة ،وعلينا المتابعة نحو الشرق وإ لى
الجنوب.
ـ :أليست أورفة بعيدة..؟!C...
ـ :البعد ليس بذي أهمية...
ـ :لكن الماء يكاد ينفد...
ـ :ال يهم..
كاد يخرج عن طوره ،لكنه ضبط أعصابه ،وسأل:
ـ :وما المهم برأيك...؟!C...
َّ
رد بخبث:
ـ :أن يعلم حاكم (سنجق أورفه) ،بما فعلت فيعاقبك..
فكر كمال لحظات وقال:
- 95 -
ـ :أرى أن نترك خالفنا لوالي حلب..
ـ :ال ..حلب ما زالت بعيدة ،وال أريد أن أدخلها وأنا مستلب.
ـ :نحن أقرب إلى عينتاب ،وهي أقرب إلى حلب.
تغير وجهتنا إلى عينتاب ،لتظل القائد حتى نصل إلى
ـ :جبان ...أو أنك ّ
حلب..
ـ :واقع الحال يفرض علينا تلمس الطريق األقرب.
ـ :قل إنك خفت مما ستلقاه من حاكم سنجق أورفه.
ـ :نمر بعينتاب في طريقنا إلى حلب..
ـ :يالك من ثعلبC..!..
ـ :ليس من أجل هذا السجال جئتك..
ـ :إذن..؟!C..
ـ :ألسألك ،لماذا زججتنا في هذه البيداء..؟!..
تصر على مخالفتي ،كأنك ال تهتم بمستقبلكC!..ـّ :
َّ
رد كمال هادئاً:
ـ :ما يهمني اآلن ،أن أنقذ القافلة ،وأنقذك أيضاً ،شكراً من أجل القهوة.
ترك الفنجان ،أدى التحية ومضى محدثاً نفسه:
ـ ( :أعمل عكس ما يقول فأضمن السالمةC..)...
غص كبير الطهاة بريقه ،إذ مضى ولم يعرف له رأياً بقهوتهC...!!..
َّ
وتنفس عثمان الصعداء قائالً في سريرته:
ـ ( :ليس على الضابط عثمان يا ولد.)...!..
كهكه كاتماً ضحكته وتمتم منتشياً:
ـ ( :ليفي أيها العزيز ...لقاؤنا بات وشيكاًC..)..
اختار الضابط كمال خمسة أنفار ممن عهدوا الطريق ،ودفعهم إلى المقدمة
الخيالة ،ووزع الباقين على العربات وانعطف بالقافلة
أدالّء ،وأردف المشاة خلف ّ
غرباً ،وزاد سرعتها ،حتى جرت الدواب خبباً ،في سباق ضد العطش والضياع
في البيداء...
قالت أمينة:
- 96 -
*ـ :ربما كان اهتمامه بنا جميعاً ألجلك..
ردت قمر:
ـ :هراء ...إنه مهتم بكل ٍ
شيء سواي ،لو كرهني لكان أهون من أن
يهملنيC...
*ـ :كيف!!...؟؟؟ إنك تهذين ،وأخشى عليه منك..
ردت قمر متوترة:
ـ :ماهذا اللوص..؟!..
*ـ :يهمك أن تكوني محبوبة فحسب..
ـ :ما الذي تقصدين..؟!C..
*ـ :أخشى أن تغضبي.
ـ :غضبت وانتهى األمر..
* ـ :ليتني ما تكلمت..
ـ :تكلمي وإ ال دفعت سيفي في خاصرتك..
* ـ :مجنونة..
ـ :تكلمي يا بنت..
* ـ :سأكذب مادمت خائفة.
ـ :قولي مادمت أختاً ليC..
* ـ :إنك لم تحبيه بعد...
هاج بها الدم ،فأوقفت الفرس ونبرت:
الغَّنة:
ـ :انزلي يا ذات ُ
لم تصدق ما سمعت فنبست:
* ـ :قمر C..!..
ُح ِر َج ْ
ت أمينة فترجلت ،دفعتها إلى الخلف ،ثم امتطت ٍ
بحرقة ،وأ ْ نشجت
هزت لجامها حتى أخذت مسارها ،وهمست وهي تكبت تأثرها: صهوة الفرسَّ ،
عن لك ،علَّك ترتاحين.
* ـ :ضعي رأسك على كتفي ،وابكي ما َّ
أجهشت قمر ،وراحت أمينة تسابق الريح ،وتسبق العربات والبغال
وتخب ِط
مصب لغضبها ّ ّ واألفراس جميعاً ،وبدت مغلوبة تغالب مشاعرها ،وال
- 97 -
حرقتها ،سوى جوفها الملتهب.
فاغتم لهذي الخطة التي شرع مرؤوسه
َّ استفاق عثمان من خدر النشوة،
َّ
ينفذها؛واضطغن وفاضت نفسه حقداً .زفر وكز أضراسه ،ونفث حقده من صدره
المغ ّل:
إلي C!..تباً لك وقد تحالفت أنت
ـ ( :كمال يا رأس الشياطين؛ ما أبغضك ّ
علي أن أقتلك .ال بأس ...موعدنا بعينتاب)C...
وهؤالء األباليس .كان ّ
قلق البياطير لتخلخل نعال الدواب وتفكك بعضها ،وأبلغوا األومباشي
بأمرها ،فنقل ذلك بدوره إلى أصالنَّ ،
فرد دون تكلؤ:
ـ :لن نتوقف ،وليسمروها في عينتاب.
مر الوجيه عبد الحميد بعربة الممسوسين ،وسأل عثمان السِّكيت:
َّ
ـ :كيف تجد العقوبة..؟! C..هب أنك لست معاقباً ،فإنك تفعل خيراً لهؤالء
المساكين ،أراهم هادئين .لعلهم أعقل المجانين.
أمه ،وغفا
عباس فجأة ثم بكى ،وصمت فجأة ،وشرد مناجياً طيف ّ ضحك ّ
مر الوجيه بعربةمسنداً رأسه على ركبتيه ،ولم ينبس السِّكيت ببنت شفة ،وحين َّ
تحرش به قائالً:
الضابط عثمان ،وكاد يتجاوزها دون أن يلتفت إليهّ ،
ـ :يا حيف ..مخجل أن يكون مثلك بين هؤالء ،وتتركون أمركم مرهوناً بيد
ٍ
ولد مثل كمال ،ال يعرف كوعه من بوعه..
نظر الوجيه إليه نظرة تقطر هزءاً وقال:
ت إال
ـ :عيب ..عيب C!...إنك السبب ،لم ّأدخر جهداً لجعلك أقرب إلينا ،فأََب ْي َ
أن تستعديهم .يارجل ...لو أنك حايدتهم دون أن تنحاز إليهم ،لما نفروا منك وإ ن
لم يحبوك .أمرك عجيب...!!...
ـ :لم يفسد األمر إلى ٍ
حد ال يعود تدخلك مجدياً فيه.
َّ
هز الوجيه رأسه وقال:
ـ :رأب هذا الصدع يحتاج معجزة ،وأنا بشرC..!...
همس الضابط بإلحاح محموم:
ـ :حاول ..حاول ،ولك ما يرضيك..
َّ
رد الوجيه على الفور:
ـ :ال أريد أن أخسرهم ،أو أهتك شعيرات باقية بيني وبين أغلبهم ،وإ نني وإ ن
- 98 -
كنت ال أكرهك ،فإنني ال C...
قاطعه قائالً:
ـ :فهمت فال تزد ،لي طلب ..ال تشجعهم على التعلق بالضابط كمال.
ـ :صعب أن أشرح لك كيف تأتلف القلوب..
هتف الضابط باندفاع:
ـ :إياك واللجوء معي إلى مفاهيم المأفونين ،وال تهمل خيط مصلحتك،
فطرفه اآلخر بيدي.
ولما يتكلم .فتر َّ
هز الوجيه لجام حصانه ،تحرك وما زال صامتاً ،أخذ يبتعد ّ
وجه الضابط وارتخت قسماته ،واعترته مشاعر تتأرجح بين الخيبة والعناد .نغض
رأسه ،ومأل صدره بشهيق طويل ،ثم أطلق عبارته إلى أذني الوجيه وصميم
وجاهته:
*ـ :أيها الوجيه الموقر ،للوجهاء عند والي حلب منزلة خاصة ،وهو
يوصيني بهم دائماً ،وتزداد حظوة من ّأزكيهم لديه ،وسترى ـ إن شئت ـ حظوتي
ك ضيعة ،مثلما فعل مع غيرك من "البكوات".. لديه ،وقد ُي ْق ِط ُع َ
هنية .اقترب خطوات .توقف .اقترب .رفع نظره إلى وجه أطرق الوجيه ّ
ِ
وأولها .وعلى حين غ َّرة همز حصانه ،وراح يغالب
الضابط .نظر في آخر القافلة ّ
الفتية والرجال ،شاحذاً الهمم لتخطي الصعب ،مردداً أشعار نعمان .ضحك
الضابط ملء شدقيه ونبس:
*ـ :أسمعتك سحراً كرنين الذهب ،فأين المفر أيها البطريق...؟!...
ح ّذر سواس الدواب من جريها المتواصل وقتاً طويالً ،فقد تنفرط أكبادها،
ٍ
كأرض يتحلّب منها الماء. ونزمنها
ق بللها ّلكثرة ما رشحته جلودها من عر ٍ
صمت أصالن منتظراً قرار القائد ،وأمسك الرجال دون آرائهم ،فنظر طويالً
إلى القافلة ،تطلّع في الوجوه ،رأى نعمان وأبهى ،وضيف اهلل
وحمزة ،واألطفال والحبالى ،وامتأل الفضاء أمامه بوجه قمر ،فاستدار
إلى الرجال قائلاً:
ـ :فلتنفق الدواب لينجو البشر ،وليستمر المسير إلى عينتاب...
ٍ
بومض انساب إليها من القلوب وصاح أصالن مبلّغاً شع ِ
َّت العيون
يستمر المسير حتى عينتابC...
ّ :-
- 99 -
وتسف الرمال ،وال أثر
ّ مسافات في البراري الحماد ،والريح تذرو األتربة
لكائن حي C..!!..القلوب واجفة والحالقيم أيبسها عطش شرس ،والنحيح يمأل
األجواف ،والعيون أتعبها السهاد،وفسحة الرجاء يخنقها هذا الزمن المفتوح ،على
هاتيك المسافات المترامية الال متناهية ،والسراب الحار يزغلل األبصار ويؤرجح
األمل.
يحوم فارداًجناحيه على وسائد الهواء،
وعلى ارتفاع شاهق ظهر طائر ّ
وحزر بعض العسكر أنها حدأة،وقال بعضهم إنها رخمة ،والتقط بعضهم بعر
معزى أو ظباء ،وصارت األرض تبدو مرقّعة ببقيعات خضر هنا وهنالك..
أشواك باهتة الخضرة كالعفن حادة األوراق ،قال العجوز داود:
ـ :إنهاتباشير الحياة..!..
سبقت عربة الفتيات ركوبة نعمان؛ وهو مسترسل في شرود ،ضحكت أبهى
كعصفورة تزقزق فانتبه ،سألته:
ـ :بم تف ّكر..؟..
غصب شفته فابتسم ،سألته أن يشدو شعراً ،فقال:
ـ :إنك أبهى من أشعاري..!..
وضعت يدها موضع الفؤاد تحت الثدي وهمست:
ـ :هونك يا سيد الكلمات ،فقد يغمى علي...!..
صدحت أترابها مغنيات ،ومررن بعربة العجائز وعربة الجدة نور ،قوقأن
فهف بجناحيه وأجابهن بصيحات ثالث ،ومضين من جانب الجدة حذرات للديكّ ،
منكمشات ،فلم يجدن منها اعتراضاً ،لكنها قمعت الديك وأدارت ظهرها ،فابتعدن
رافعات أصواتهن ،واقتربت الفرس بأمينة وقمر حتى وازين نعمان ،سألته أمينة:
ـ :ألسنا نذهب إلى الحياة..؟!..
وسألته قمر:
ـ :ألسنا نهرب من الموت..؟!C..
قال مجامالً كلتيهما:
ـ :لعلنا نهرب إلى أمل بالحياة..
وران الصمت ثقيالً ثقل الهويس في الصدور؛ والظمأ على العروق .وعلى
البعد .عند األفق السحيق ،تماوج وهم سراب ،ثم َّ
تبدى متحركاً كبلور ينساب عليه
********
ملل ،تاركين أمر مجهول ،وغادر رجال الجندرمة على ٍ ٍ قُِّي َد ِت الحادثة َّ
ضد
ط ْمئِناً ،وكانا قد الحوذي إلى رفيقه ُم ْ
ُّ ع
هر َ ٍ
ساعتئذ ِ دفنهما لراغب بثواب ِ
قبرهما،
الحوذي
ُّ ق
وخن َ
بادراها؛ ثم تعاقب عليها العسكر؛ وعاوداها ،ثم َذَب َحها العسكريَُّ ،
صاحبها األثرم ،ومالبثا أن اختلفا على ما سلباه من ضحيتهما ،فقد طمع كل منهما َ
بنية
ّ الحوذي
ُّ َّ
وشك القسمة، تعجيل في العسكري
ُّ وماطل حصته، من بأكثر
صاحبه ،فهدد تهديداً مبطناً ،وأبدى اآلخر ال مباالة بما ّلوح به ذاك المأفون؛ من
تخويف ،لكنه لم يركن إلى عدم اهتمامه تماماً؛ فأطلق العنان ٍ خبث ومحاولة ٍ
لخياله ،حابكاً الحادثة بغير ما وقعت ،وأنه ربما ذهب بها إلى الضابط عثمان،
ب لنجدتها إال أن الحوذي ـ مصادفة ـ يغتصب المرأة؛ فَهَ َّ
ِّ فيشهد لديه أنه وقف على
الحوذي إال
ِّ رجلها سبقه ،ظاناً أنها خانته راغبة ،وهاج به الدم فذبحها ،فما كان من
أن خنقه وسلبه ماله ،ويالها من جريمة شنيعة ..!..أما هو فلم يهن عليه أن يرى
ذلك بأم عينه ،فانهال عليه ضرباً ،وها هي حفنة النقود التافهة ،التي دفعت ضعيف
النفس هذا إلى القتل ،وليس مستبعداً أن يكون مهووساً ،وال مندوحة من حماية
اآلخرين من حمقه وجنونه ،وافترقا وكل منهما واغر الصدر ،ممتلئين ضغينة
وحقداً ،وزاد حقدهما تأججاً؛ ضنك حاليهما ،وقد ُجندا قسراً وسخرةً.
***
ـ :خازوق C..!...لم أتوقعه وال في المنام...!!..
حمى
ليصدق ما حدث .انتابته ّ
ّ قال التاجر ذلك وقد حمس القهر قلبه ،فلم يكن
فهذى مستصعباً أنهم غلبوه ،وهو ختّار ال ُيجارى ٍ
بغدر واحتيال ،إال أنه كتم
غيظه ،ممتثالً لرجاء "غولدا وأستير" ونصيحة "إبراهام وصموئيل" أن يتكتم على
السرّية ،فهو وإ ياهم محظوظين بانتهاء الكابوس عند
اقتحام األغراب إحدى بيوته ِّ
اختطاف فتيات تافهات ،وليس ما يفصل بينهم في مخبئهم والدار التي اجتاحها
شيء بصاحبه ،كأنه يحتمي من وتفيأ ظل كل ٍ وطئت الشمس سنام السماءّ ،
هجيرها به C،.!.فانكمشت األنفس وفتر نشاطها ،كذبول شتالت خضر الصيف قبيل
وسواها بتلك المتشائمة،
غرسها ،فكشط اإلرهاق ج ّل ما اختزنته قلوب المتفائلينّ ،
وتذكروا وقوع "الشيخ شامل" في األسر ،ومن ثم نفيه ،وإ ن تركوا له اختيار منفاه،
فألنهم يريدون إبعاده كيفما اتفق ،فاختار الحجاز لبقية حياته ،وتذكروا ما كان من
ووجهوها إلى النحور ،يقتلونهم
الحاج مراد ،وكيف ُسلطت السيوف على الرقابّ ،
ويدفعونهم ليقتتلوا ويقاتلوا عنهم هناك في اآلفاق البعيدة ،فيذهبون وال يعودون،
ٍ
وصوب ،يحلّونهم بدالء في األرض فيستقدمون حلفاء لهم ومرتزقة من كل ٍ
حدب
والبيوت.
ص C C C Cنوا بما اعتقCC C C Cدوا ،فال ينفذ إلى بيCC C C Cاض
سCC C C Cآمة ما سCC C C Cلم منها إال الCC C C Cذين تح ّ
ص CCدورهم س CCواد ما يلقون CCه ،وه CCاهم س CCلكوا ه CCذا الس CCراط بال ب CCديل ،فليس من س CCبيل
سواه ،وما من خيار ،وبرغم ذلك ال يتركونهم بأمان.!.
أما تبعثر الخلق في شتى االتجاهات على مدى الطريق ،جعل األذهان تفطن
إلى كثرة تستجير من الرمضاء بالنار ،وتنشغل فوق همومها بالذي وراء هذا
الفرار الكبير ،فإلى أين هم ماضون.؟! C.أئلى خطب ،أذهب أوالء
أشتاتاً.؟!C.
متسولين وشحاذين ملحين ،يسألون بلجاجة ويستجدون ،وآخرون يعرضون
ما تبقى لهم ،يقايضونه بلقيمات ،وثمة خيام عليها بيارق حمر ،يلجها خلسة من
ويؤمها العسكر بحرمانهم تحت جنح الليل.!.
يرغب؛ ّ
تسربت العتمة إلى نفس الضابط كمال ،وفي الحين ذاته تك ّشف له ما يلفّع بلده ّ
وناسه ،فقد تناهى إليه أنهم قالوا:
فترت همته؛ وإ ن لم تهدأ نفسه العاصفة .تمنى لو يصبح "جاويشاً" مثل الفتى
السكيت ،فإلى أي من الضابطين يذهب.؟ .أئلى عثمان ،وقد ينفر منه الناس.؟! .أم ّ
ويدق الضابط التمساح عنقيهماC.!.
ّ إلى كمال.؟ C.وقد يعلو معه؛ أو يهلكان
أي منهماC.!.
( :-بئس هذا وذاك ،فلن تبقى "أصالن" يا أصالن إن رحت إلى ٍّ
صياد أنت ،وما حويت كلباً سلوقياً أبداًC.).!.
همز حصانه ،فعدا به نحو رهط الوجهاء ،وليكن عبد الحميد ،أو رجب ،أو
فشب شبوباً عارماً،
شد الرسن ،فلجم حصانه ّ عبد المجيد ،أو حتى سليمان .فجأة ّ
ثم استوى على قوائمه؛ يبحث التربة بحثاً ،قبل أن يسكن ذاعناً ال يتحرك.
( :-خادم يا أصالن ..له يا رجل .!.ما الذي دهاك.؟ C.تباً لك وللمرأة وللقمة
العيش معاًC.).
وبخ نفسه واتهمها بالهوان ،ثم عاد واستنكر مكابرة ليست بموضعها وهادن ّ
يوحدهما التحنان. ذاته إذ لم يزلقها في عيبة ،بيد أنه ظ ّل الئب القلب إلى ٍ
قلب ّ
جادل أعماقه جدالً عقيماً؛ فغايته ال تدرك في ساعة هيجان؛ مهما جاهد
وحشة الوحدة.
كاد يقتنع أن العشرة تولّد األلفة ،وتحقق المودة ،فتأتي المحبة ،كنمو الجنين،
وتخيل مريومة ولطائفها ،وفي أخذة
تشب للنبتة غصون تزهر فتثمرّ ، وكما ّ
اهتز عمقه وهتفت سريرته: عنفوان ّ
برمته من العشق.؟C.).
( :-وأين هذا ّ
واجه نفسه دون مواربة قائالً:
( :-ما كنت تخرج إلى الصيد إال وقصف الرعد يبرق ،واألمطار تنهمر،
تجس نبض الرجولة في شخصك ،فعالم تخفض مدلهم .كنت ّ ٌّ فتغنم وترجع والليل
هتمك إلى ضعة االصطياد بالفخاخ والدبق.؟C.).
عصية على التطويع .حاذى عربة الشيخ اإلمام ،يعلّم الصبية
ّ وجد عواطفه
يغص بعضها بشيوخ وشباب ،وفي بعضها نسوة ّ عربات وخلفها والرجال القرآن،
وفتيات ،تلك هي فاطمة ،وذاك هو عمر بن الحكيم إدريس ،هذا المنقطع إلى
ٍ
حماسة؛ وفي الدرس ،ال يكل وال يكتفي .األصوات تردد إثر قراءة الشيخ في
وقعت الواقعة ،وحدث ما ظلّت تهجس به منذ أمد ،صمتت مسلّمة منذ
لحدوه ،وما برحت تردد في ذاتها المقفرة:
( :-ها أنذا بعدك بال أحدC.!.).
عزاها ،وذكر أنه افتقده ،فقد كان أميناً؛ أنيساً طيب المعشر ،وأغدق عليه من
ّ
حسن الشمائل األجمل ،ونسب إليه ماال تعرفه حتى قمر C.!.بعضهم تلفّت إليها غير
مرة ،يكاد يقفز من أفواههم وعيونهم السؤال:
عجب عجب!.؟!.).
ٌ ( :-أكان منه هذا ،ونحن ال ندري..
تنز
تابعته منصتة ،وعلى طرف فمها بسمة مبهمة ،تكاد ال تظهر ،برغم أنها ّ
أي
سخرية ،ال يتوه عنها من يدرك مبالغة الضابط عثمان ،السيما أنه يغفل اسم ٍّ
ممن قد ُيسأل عما يقوله ،بينما أقسم وأغلظ األيمان ،على دقة ما يروي ،وأشهد
الشيخ اإلمام مراراً ،فلم يخذله ،ودون أن يجزم ،طفق يردد:
:-بلى C..نعم ..صحيح .أي نعم.
وحث السامعين على ّ ٍ
فيض، ٍ
بغيض من وتابع الضابط مؤكداً أنه ما أتى إال
ذكر محاسن موتاهم على الدوام ،وبين فينة وأخرى يباغت الشيخ اإلمام ،سائالً:
:-موالنا ..أال تشهد.؟.
فنقز من إغفاءته ،مجيباً:
:-أشهد ..أشهد..
ثم استحلب لعابه متمتماً:
أن ال إله إال اهلل ..أستغفر..
ْ .. :-
وعاود التماس إغفاءة تكاد تتبدد .وكادت قمر تنفجر ضاحكة ،حين أردف
***
*****
بكى الرجال الوقورون ،قهرتهم تلك الميتة الضالة ،تأثروا بها أيما ٍ
تأثر،
وقضوا الوقت ساهمين؛ غارقين في صمت أصم ،لم يرفع خالله أحدهم نظره في
وجه أحد ،وبدت وجوههم خاملة ،كأنما أدمغتهم ركنت في سبات بليد.
الموت هو الموت؛ ما تغير قط .لكن موتهما وحده ليس ما جعلهم شديدي
االكتئاب ،إنما انكشاف عورتيهما ،وانكبابهما على وجهيهما أحدهما فوق اآلخر،
وعرفت بينهم تلك المعابة المخجلةٌّ ،
وكل منهم يشعر أن وضعية مشينة ،فما سبق ُ
العار لحق بشخصه دون غيره.
النساء واجمات ،يلفّهن حزن كثيف ،وشعور بنقيصة غير مألوفة ،فبدون
زاهدات ،غير الويات على شيء.
الحظ األطفال أن أهليهم في حالة فوق العادة .حدسوا وتهامسوا ،ثم ما لبث
ٍ
لطقس ثقيل. ٌّ
كل منهم أن أوى بين ذويه ممتثالً
وكان الفتى السِّكيت يردد في داخله:
( :-بريئان ..أقسم).
ملحة ،فانتحى جانباً خارج
حثته نفسه أن يكشف الحقيقة ،وحضته نخوته ّ
السرب المحيط بالضابط ،بيد أنه ما لبث أن فتر وانصرف عن البوح ،ولم تهمد
فضجت سائلة:
ّ نفسه،
غيه.؟ .قد حكم
الغمة ،والضابط سادر في ّ
( :-كيف لهم الخروج من هذه ّ
عليهم بذاك العذاب ،فكان أجور من قاضي سدوم.).!.
وحده هو والضابط يعرفان ما حدث ،وتلك القافلة رحلت بعيداً ،حاملة جيئوال
وغولدا؛ الفاتنتين الضاريتين ،وقد رأى منهما ما أذهله ،وما ال يتخيله قطّ.!.
دمره ،ما دام للجسد ذاك البهاء بال
يكاد يعيد النظر بتباريحه والعشق الذي ّ
- 195 -
نظير .وما الخليقة بأسرار مفاتنها قاطبة ،إال دندنات وإ يقاعات من بعض موسيقا
الجسد .ومهما وصف يظل عاجزاً عن الوصف .إنه الجنون الجميل عينه.!.
ويا لعجبه من طاقة خرافية كامنة في رقة األنوثة C،.!.ولم يعرف قدر جمال
الجسد ،إال حين رأى عن كثب كيف اكتمل الجمال كله ،باندغام أنوثة طاغية
بذكورة فائقة.
لبشر ،فإن تك ّشف نبضه في أعماقه ،كان سدرة ال قبلها وال سر َّ
قل أن يتجلى ٍ ٌّ
بعدهاC..!..
( :-تراك يا قمر ..تعرفين هذي النأمة الواصلة الفاصلة.؟.).
ورد ،وألفت ذهنها يتناول عنقود مضطرب ،بين ٍ
أخذ ٍ ٍ ٍ
لتفكير ظلت قمر نهباً
التساؤالت ،وقد تشمرخ في زورها ،فيأخذ منه حبة فحبة:
( :-هو أمر مختلف تماماً ،لعل التشكيك به سبيل انحساره .ولكن C..كيف
أخرق هذا الطقس المهيب.؟ .وأنى لي تقديم برهان براءتهما.؟ .ومن أين آتي
أؤول ما رآه الناس.؟ .كيف أنقضه ألثبت سواه.؟ .ومن أينبدليل.؟ C.وكيف ّ
أبدأ.؟.
قمر ..الجدة نور لم تخطئ إذ قالت إنك شموس ،ولم (تستطعمي) بعد.؟!C.
المتصعدة،
ّ تجرعت مرارة الهزيمة والخيبة حتى حثالة الثمالةُ ،خِذلت بنفسك ّ
وفجعتك األحالم بجسدك المدلّه ،فعرفت طعم العلقم على ذاك وهذا الصعيد ،وما
ٍ
موقف أنف الرجال سباقة فيتدسين أنفك في هذه وتلك .!.العمى C..أتكونين ّ زلت ّ
منه ،فضالً عن أنثى.؟ C.العمى يا قمرC.).!.
:-وبعد أيها الحكيم إدريس.؟.
:-معضلة أيها الضابط.
:-كمال ..أراك مهزوزاً أيها الضابط.؟!.
:-اعتاص األمر علينا يا إبراهيم.
ردد إدريس الحكيم بتؤدة وتأكيد:
ٍ
بحادثة إال حادثة أخرى. :-ال يذهب
يحس القلق ٍ
بقلب منقبض ،فالعد تمتم إبراهيم القول يتمثّله ،بينما كمال ُّ
التنازلي بدأ ،والمسافة تقصر ،والقافلة وإ ن كانت تزحف؛ إال أنها تقترب من
حلب ،والضابط عثمان أهملهم ،بل لم يلتفت إليهم ،تركهم بال قوت ،حتى أكلوا
****
التجمعات ،وفي
ّ سرى نبؤهم في ّ
الحمام ،ثم انتشر في حارات المدينة وأماكن
حوانيت الحالقين وشراذم العاطلين عن العمل .وأثارت األقاويل فضول الرجال
فحركت الكوامن وأيقظت الهواجس ،وكانت مثيرة داعبت ٍ
والنساء على حد سواءّ ،
مصرح بها ،ونبشت رغبات مكبوتة ،دفعتها إلىٍ أخيلة الناس وكشفت قناعات غير
وتحولت إلى
ّ السطح ،فأمست تسليةً ومحور أحاديث في البيوت وقارعات الطرق،
تحرض على المتابعة ،فتسللوا خلسة إلى مفيض السيل وعلى مجنحةّ ،حكايات ّ
استحياء ،ثم تقاطروا بال مداورة ،والتموا حول النزل متوجسين ،فراقبوا وتهامسوا
لتلمس الغريب العجيب فتنادروا وتداولوا
متقولين مهتابين ،ثم تنادوا عالنية ّ
ّ
وتخيلوا ،وتداعوا إلى الفرجة على أناس ليسوا كالناسC.!!.
ّ الطرف
:-ماذا يريد هؤالء.؟.
:-إنهم يتغامزون كأنهم ما رأوا بشراً من قبل!..
:-كثرتهم مبعث ريبة ،لكأنهم يبحثون عن شيء بعينه.
:-ليس لدينا شيء لهم.
:-يتهامسون وعيونهم علينا.
:-أمرهم غريب.!.
:-يراقبوننا عن كثب.
:-فلنكن حذرين.
:-عيونهم تتابع النساءC.!.
:-ضعوا في الحسبان أسوأ االحتماالت.
تمطّط الوقت ،فذهب بعضهم وأتى غيرهم ،ولم ينقطع غدوهم ورواحهم ،ثم
*****
- 244 -
16
حين قطعت القافلة تخوم قرية السفيرة؛ موغلة في دربها ما بين أقدام الجبل
الجدة نور ترتعش مرددة:
وأطراف مملحة الجبول ،كانت ّ
«ولم تتم»
الرقة
( 1997ـ .)2000
***********
*******
***
الشجر :رواية /سامي حمزة – دمشق :اتحاد الكتاب العرب، البشر وحتى
253 – 2001ص؛ 24سم.
-4حمزة -3العنوان
كتبه المطبوعة:
-1استنشاق Cرائحة اللون -قصص.
-2المطر في خامس الفصول 3 -مسرحيات.
-3الساخرون -قصص ساخرة -مشترك.
-4اضطرام Cالهويس -قصص.
-5الدم حبراً -قصص.
كتب النصوص التلفزيونية .اثنان منهما مصوران.