You are on page 1of 258

‫البشر‪ ..‬وحتى الشجر‪.!.

‬‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب‬
‫‪: unecriv@net.sy E-mail‬‬ ‫االلكتروني‪:‬‬ ‫البريد‬
‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة اإلنترنت‬
‫‪http://www.awu-dam.org‬‬

‫تصميم الغالف للفنان ‪ :‬سامي حمزة‬


‫‪‬‬

‫‪-2-‬‬
‫ســــامي حمـــزة‬

‫البشر‪ ..‬وحتى الشجر‪.!.‬‬


‫* روايــــــة *‬

‫من منشورات اتحاد الكتّاب العرب‬

‫‪-3-‬‬
‫دمشق ‪2001 -‬‬

‫‪-4-‬‬
-5-
‫‪:-‬‬
‫بأن "فلسطين"‬ ‫ربع ٍ‬
‫قرن‪َ ،‬كُب َر يقيني َّ‬ ‫إرهاصات هذي الرواية‪ ،‬قب َل ِ‬
‫ُ‬ ‫مذ شغلتني‬
‫ٍ‬
‫ما هي إال واحدةٌ من (فلسطينات) سابقة والحقة‪.‬‬
‫ِ‬
‫عدسة الكاميرا‪.‬‬ ‫والعين الثانية بمكانة‬ ‫وعين على األدب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ثم إني كتبتُها‬
‫ُ‬
‫بشر‪ ،‬كما خلَّفها (الحقد والحب) في صراعهما الرهيب‪.!.‬‬ ‫حيوات ٍ‬
‫ُ‬ ‫وتلك هي‬
‫"مخرج" في إدارة فيلم طو‪..‬يل‪ C...‬طويل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عانيت معاناةَ‬
‫ُ‬ ‫رويت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ولعلي فيما‬
‫أغوار‬ ‫مقر ٍ‬
‫بة ومجسِّمة‪ ،‬تستنبطُ‬ ‫ومحد ٍ‬
‫بة؛ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫بعدسات مقعَّر ٍة‬ ‫مزو ٍد‬ ‫ورافقتهم ٍ‬
‫بقلم َّ‬
‫َ‬ ‫النفوس‪ ،‬واضعةً خلجاتِها على ِ‬
‫الخطوب‬
‫ُ‬ ‫أرواح غشتْها‬
‫ٍ‬ ‫أنف ِ‬
‫القلم‪ ،‬ومكابدات‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫الصمت‬ ‫ط جحيم‬‫ولما تزل متشبثةً بأرماقها‪ ..‬كما الشجر؛ وس َ‬ ‫والشياطين‪ّ ،‬‬
‫المريب‪C.!.‬‬
‫وجدت نفسي ذاهالً‪ ..‬واجماً‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬ ‫انتهيت من رسم كلماتها األخيرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ولحظةَ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ بكيت‪C.!.‬‬ ‫ِ‬
‫قارعة النص‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫بت وقلمي على‬

‫سامي‬
‫***‬

‫‪-6-‬‬
-7-
‫إهــــــداء‬

‫إليك‪..‬‬
‫يا من تقف مع الحق‬
‫في محنته‪.‬‬
‫ضيق‬
‫وتظ ّل معه وإ ن ّ‬
‫عليكما الباطل بقوته‪.‬‬

‫***‬

‫‪-8-‬‬
-9-
‫‪1‬‬

‫ت نظرته امتناناً ألصدقائه غير المعلنين‪ ،‬فقد صدقوا بما وعدوه‪ ،‬وها‬ ‫‪َ :-‬ن َّز ْ‬
‫يتحدث عن مليكه‬ ‫لتوه‪ ،‬يستر نصفه األسفل بـ"بنطال جينز"‪ ،‬وأخذ ّ‬ ‫هو ذا قد عاد ّ‬
‫*‬
‫الجديد‪ ،‬معجباً ّأيما إعجاب بـ"مامون "‪ ،‬يتراءى له خارقاً معجزاً‪ ،‬ذكياً ألمعياً‪،‬‬
‫ماهراً باهراً‪ ،‬يفعل األعاجيب وال يجارى‪ ،‬مثل األكاذيب الكبيرة‪ .‬وما الهنود‬
‫والزنوج إال حثالة رثّة‪ ،‬أشباه ما في شرقنا التّعيس‪.!.‬‬
‫ك‪CC C‬ان يلمح اس‪CC C‬تنكارنا ما يدعي‪CC C‬ه‪ ،‬وه‪CC C‬ذه اللّهجة الغريب‪CC C‬ة‪ ،‬ولكأنه أخفاها ط‪CC C‬ويالً‬
‫تحت لسانه‪.!!.‬‬
‫خبث‬
‫يحدجنا بعينيه القنفذيتين‪ ،‬يلتمع فيهما ٌ‬ ‫يحدثنا مشدوهاً بما رأى‪ّ ،‬‬‫وما فتئ ّ‬
‫عتيق‪ ،‬يمازج مكراً حقنوه به من الوريد إلى الوريد‪ ،‬فأتلفوا في رأسه التالفيف‪،‬‬‫ٌ‬
‫الدماغ‪ ،‬فبات آلياً بال روح‪ ،‬ينفّ ُذ الهجاً بقدرة وحيد القرن وقوته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غسل‬ ‫وأجادوا‬
‫ٍ‬
‫تتورم أناه باضطراد‪ ،‬تتخافت في‬
‫ونظرته زائغة مبهورة بما َأر ْوهُ‪ ،‬حالماً بالوعود‪ّ ،‬‬
‫اع‪،‬‬
‫لم ٍ‬ ‫مسخ ٍ‬
‫وليد‪ ،‬يتهافت في قمع بو ٍ‬
‫ق ّ‬ ‫سريرته بقايا نزعته الشرقية‪ ،‬مشكلةً رونق ٍ‬
‫للتو من تشويه‬ ‫ٍ‬
‫مبهمة‪ ،‬وقد فرغ ِّ‬ ‫ٍ‬
‫وبلغة‬ ‫جعله يعلن أنه لن يكتب إال في الخرافات‬
‫طيف األلوان‪ ،‬وتركها حديث العشيات في المواخير‪ ،‬وما كانوا يريدون منه أكثر‬
‫من هذا‪ ،‬وإ نها نقطة الماء المستمرة السقوط على نقر ٍة في جمجمة محكوم‪C.!!.‬‬
‫أديب‪ ،‬يذ ّكرك كيف أنه خرج من ثوبه‬‫جلية ألنموذج انتحار ٍ‬ ‫وإ نه حالة ّ‬
‫ٍ‬
‫أفعوان يخرج من جلده ك ّل حين‪ .‬أال ما أشبهه بـ"عصمان" أحد‬ ‫ٍ‬
‫مرات‪ ،‬مثل‬
‫تذهب َّن بعيداً‪ ،‬مخمناً‬
‫شخوص هذي الرواية‪ ،‬ينتظم في طابور تخريب‪ C.!.‬وكي ال َ‬
‫بالرؤى وهاجساً‪ ،‬وكي ال يجنح بك الظن والخيال‪ ،‬بما قد تكون عليه خاتمة‬
‫الحكاية‪ ،‬فتضيف إليها ما ليس فيها‪ ،‬هي ذي أسطرها األخيرة إليكها‪C..‬‬

‫مامون‪ :‬رب الجشع الممكنن‪ .‬وهو (رب المال)‪.‬‬ ‫*‬

‫‪- 10 -‬‬
‫فمثلما عاثوا فساداً‪ ،‬هنالك‪ ..‬وهنا‪ ..‬وهناك‪ ،‬في أرض الناس‪ ،‬وما زالوا إلى‬
‫قائم بقو ٍة أنهم سرقوا‬ ‫ُّ‬
‫فالظن ٌ‬ ‫خربوا الضمائر المستنبتة‪،‬‬
‫يوم الناس هذا‪ ،‬فقد ّ‬
‫ٍ‬
‫شعوب في األصقاع‬ ‫ألم بآداب وثقافات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الرواية‪ ،‬في ٍ‬
‫مكر ودهاء وحيلة‪ ،‬تماماً مثلما ّ‬
‫المستهدفة كافةً‪ ..‬وإ ال‪ ،‬ما معنى إخفاء نسخة "مخطوطة" منها‪ ،‬على يد دهقان‬
‫امتلك "دارنشـ‪..‬ـل" يزعم أنها لخدمة االزدهار‪.!.‬‬
‫لحساب من سرقها‪.‬؟‪.‬‬
‫أيتركها كما هي‪ ،‬قانعاً بوضع اسمه عليها‪.‬؟؟‪.‬‬
‫فيوزعها في عواصم ال تصلنا كتبها‪ C.!!.‬أم يظهرها في التلفاز مشوهة‪.‬؟‪ C.‬أم‬
‫قائم أال تظهر البتة‪ ،‬مختفيةً في أروقة‬
‫يشتغل على بعض ما جاء فيها‪.‬؟‪ C.‬االحتمال ٌ‬
‫كسر فنجان قهو ٍة ذهب‬
‫سر اختفائها ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫سفار ٍة؛ ذاهبةً إلى من ّ ٍ‬
‫سرية‪ C.!.‬ويبقى ّ‬
‫ظمة ّ‬
‫بـ"الكواكبي" عن هذه الدنيا‪.!.‬‬
‫حي "فردان" ببيروت‪ ،‬أو مثلما‬
‫أم يفعلون مثل فعلتهم بالكتّاب واألدباء‪ ،‬في ّ‬
‫فعلوا بكتّاب وكتب مكتبات شارع "المتنبي" ببغداد‪.!.‬‬
‫وهأنذا آتيك هلوعاً‪ -‬ليس جبناً‪ -‬إنما ريبة‪ ،‬إنهم يتهامسون‪ ،‬وإ نهم يتوازعون‬
‫يبيتون ويترقبون ويستعدون‪ ،‬وإ نهم يتآلفون‪ ،‬وينفثون سمومهم‪C،‬‬
‫األدوار‪ ،‬وإ نهم ّ‬
‫وإ ني آتيك ليس ألسمع منك حكاية‪ ،‬بل ألبثّك حدسي ولواعجي‪ C،‬وأخبرك بما آلت‬
‫ٍ‬
‫رطب‪،‬‬ ‫إليه األمور‪ ،‬وإ ني أبصرهم ببصيرتي‪ C..‬إنهم كالخلد‪ ..‬أراهم بأكوام ٍ‬
‫تراب‬
‫يرفعها خلفه من سردابه‪ ،‬وإ ْن هي إالّ عالمات على وجه األرض‪ ،‬تد ّل على‬
‫ادلهمت‪ C.!..‬وها هو ذا‬
‫ّ‬ ‫مساره‪ ،‬وتد ّل على ما يحدثه في الخفاء من خراب‪ ،‬ولقد‬
‫التل رابضاً ههنا منذ عهد اإلغريق‪ ،‬والرابية الكلسية أسفل ظهره العريض‪ ،‬حيث‬
‫مثواك ومئات األموات‪.‬‬
‫إذاً فقد وصلت إليك‪C.!.‬‬
‫بضعة عشر حجراً كالحاً فوق مرقدك‪ ،‬وال شيء البتة غير ذلك يد ّل عليك‪.!.‬‬
‫دبوا في هذي البطاح‪ ،‬دفعكم إليها الترك‬
‫صرت نسياً منسياً‪ ،‬وكنت ممن ّ‬
‫ليسدوا بكم ثغرة الفيافي‪ ،‬فتفنوا فيها دون أن يدري بكم أحد‪ .!.‬وها قد صرتم‬
‫ّ‬
‫رمماً‪ ،‬ولم يبق منكم نفّاخ نار‪ ،‬ضعتم وك ّل ما كتمتموه في الصدور‪.!.‬‬
‫المغضنتي الجفون‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال أنسى عينيك الجائلتين في وقبيهما‪ ،‬تينك العينين‬
‫ترفعهما إلى وجهي حين أهرع إليك‪ ،‬تبرقان وتسأالني‪:‬‬
‫‪ :-‬عالم جئت‪.‬؟‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫‪ :-‬جئت أسمع حكاية‪.‬‬
‫فتأخذني إلى حضنك الدافئ الفسيح‪ ،‬فتحكي لي كأنك تقرأ في كتاب‪ ،‬وكنت‬
‫أعجب لصوتك الخفوت‪ ،‬يكاد ال يسمعه َم ْن ال يدنو منك كثيراً‪ ،‬وأنت ترسم به‬
‫زوابع التقتيل واإلماتة‪ ،‬والذبح وحرق الرجال والنساء واألطفال‪ ،‬في حكاية ال‬
‫تنتهي‪ ،‬وأنا أرتعد فأشهق خوفاً وعبرةً‪ ،‬فأسألك‪:‬‬
‫‪ :-‬هي حكاية ليس إال‪ ،‬أليس كذلك‪.‬؟‪.‬‬
‫وكنت‬
‫َ‬ ‫عني األرق‪،‬‬
‫ف ّ‬ ‫رجاء أن تكون خرافةً‪ ،‬فذلك يخفّ ُ‬
‫ٌ‬ ‫وفي أعماقي‬
‫حين صرت‬ ‫النظر إليك‪ ،‬فأرى دمعاً مغرورقاً في عينيك‪ ،‬وبعد ٍ‬ ‫تصمت‪ ،‬فأختلس ّ‬
‫ُ‬
‫فعكفت على أن تختم الحكاياتِ‬ ‫وارتعادي‪،‬‬ ‫شهقتي‬ ‫كبت‬ ‫بتني‪-‬‬ ‫در‬ ‫ك‬‫كأن‬ ‫تلحظ‪-‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ ّ‬
‫بقولك‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ :-‬ذلك جرى سنة كذا‪C...‬‬
‫صرت‬
‫ُ‬ ‫ألي‪ ،‬حين‬
‫أدركت ذلك بعد ٍ‬
‫ُ‬ ‫تتخيل‪ ،‬وال تمزح لتسلّيني‪.‬‬
‫تكن ّ‬
‫إذاً لم ْ‬
‫غيرك يحكي للصغار عن "حرامي" يأتي من ثغرة في جدار‪ ،‬وعن ِّ‬
‫الجن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أسمعُ‬
‫ومآثر السلطان‪ ،‬فلماذا لم تحك لي واحدة منهن‪.‬؟‪ C.‬وما الذي كنت تقصده بحكاياتك‬
‫هين المراس‪.‬؟‪ .‬أم‬
‫كنت بنظرك ولداً لطيفاً رقيق األعطاف؛ ليناً ّ‬
‫الهائلة تلك‪.‬؟‪ .‬أما ُ‬
‫مدلهماتها السود‪.‬؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تراك استشرفت قادمات الليالي‪ ،‬فخاشنتني ألخشوشن في وجه‬
‫وما كان أبي ليخالفك‪ ،‬أو َّ‬
‫يرد لك طلباً‪ ،‬فعمل بمشورتك وأعفاني من الحرث‬
‫والرعي‪ ،‬ألتعلّم بالقلم‪ ،‬وكنت تمنحني مكافأة كلما مضيت بتهجئة الحروف‪.!.‬‬
‫رقدت ههنا‪ ،‬وكأني بعينيك تسأالني‪:‬‬
‫َ‬ ‫أربعون عاماً انقضت مذ‬
‫‪ :-‬عالم أتيت بعد تلك السنين كلها‪.‬؟‪C.‬‬
‫حائر تماماً فيما كتبت‪ ،‬وال أدري ما الذي يرضيك أن أذيعه من حكايتك‬
‫ٌ‬
‫لكنني لم أتوان‬
‫مؤسف‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫طي الكتمان‪.‬؟‪ C.‬لن تجيبني‪ ،‬وهذا‬‫الطويلة‪ ،‬وما الذي أتركه َّ‬
‫مصدقة لما رويت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عن جمع مزيد من مثيالت ما سمعته منك‪ ،‬وهي بجملتها أتت‬
‫وماثلتها بعجيبها‪ ،‬وعجائب لم يألفها من فاته أن يسمعها من أحدكم‪ ،‬أنتم طيور‬
‫السمندل؛ وقود تلك األهوال‪ ،‬وأجنحة أبابيلها في آن معاً‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مصير كالجحيم‪ ،‬وكنت لك‬ ‫ُس ما أودى بكم إلى‬
‫كأني بك أردتني أن أعي أ ّ‬
‫فتبنيت خديج أرمينية‪ ،‬شبَّت بكنفك‪ ،‬وكنا‬
‫َ‬ ‫فت‪،‬‬
‫لت وما خلّ َ‬
‫ترم َ‬
‫بديل الولد والحفيد‪ّ ،‬‬
‫أثيريك‪ ،‬فهل كنت تتوخى أن أكون امتدادك في سيرتك‪.‬؟‪.‬‬
‫ْ‬
‫وأنت لم تترك شروى نقير‪ ،‬لكنك أورثتني ذاكرتك‪ ،‬فامتزجت بنفسي‬

‫‪- 12 -‬‬
‫وروحي‪ ،‬فضاق بها صدري النزق‪ ،‬وبرغم ذلك كتمتها ألكثر من ثالثين عاماً‪،‬‬
‫ألنفث عن قلبي‪ ،‬ثم لعلها تكون‬ ‫فكانت هويساً يؤرقني في صفو الليالي‪ ،‬ثم كتبتها ِ‬
‫يمر والظالمون يرفلون بأثواب‬ ‫ومحرضاً‪ ،‬ويظل ما حاق بكم ماثالً‪ ،‬فال ُّ‬
‫ّ‬ ‫عبرة‬
‫ٍ‬
‫مرحمة‪ ،‬حفظوكم بها‬ ‫دماء جعلوها خضاب ٍ‬
‫زينة‪ ،‬وآية‬ ‫البراءة؛ ونظافة األيدي من ٍ‬
‫َ‬
‫العرقي والمعتقد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫من العقب الحديدية واألقوياء‪ ،‬كأنهم أنقذوكم من اإلفناء‬
‫فأودعوكم جوف الفناء البطيء‪ ،‬على ٍ‬
‫تخوم "الجفتلك" واألمالك األميرية‬
‫السلطانية‪ ،‬وتناسوكم ما دمتم في حاجتهم‪ ،‬فقضيتم أعماركم عطاشاً‪ ،‬لم ترتو‬
‫عروقكم‪ ،‬وظلَّت قطرة الماء أغلى من دمع مآقي الالئبين؛ الحالمين بارتواء‪.!.‬‬
‫وكنتم ال تمرضون‪ ،‬فإن مرض أحدكم يموت‪ .!.‬تتغضن وجوهكم وتتجعَّد‬
‫وتأكدت من‬
‫ُ‬ ‫تعمرون‪،‬‬
‫باكراً‪ ،‬فيظهر الكبر على قسماتكم‪ ،‬وبرغم ذلك كنتم ّ‬
‫فتيان‪ ،‬سكنا داراً في "السفيرة"‪ّ ،‬إبان دراستنا في المرحلة‬‫جبروتكم‪ ،‬حين كنا خمسة ٍ‬
‫اإلعدادية‪ ،‬وقت لم تكن في قريتنا غير المدرسة االبتدائية‪ ،‬وتقاسمنا غرفتي الدار‪،‬‬
‫"عبدو وتحسين" في الغرفة الصغيرة "القبة"‪ ،‬و"عدنان وزهير وأنا" في الغرفة‬
‫القد‪ ،‬الشاسعة الصدر‪ ،‬الشفيفة الروح‪ ،‬ترعانا‬ ‫الكبيرة‪ ،‬ومعنا تلك العجوز الضئيلة ِّ‬
‫وأماً رؤوماً‪ ،‬تُ ِع ُّد‬
‫جدةً حنوناً ّ‬
‫بقدر استطاعتها‪ ،‬كرمى لحفيدها زميلنا‪ ،‬وكانت لنا ّ‬
‫طعامنا‪ ،‬وتساهرنا ما دمنا ندرس‪ ،‬وهي تتلو القرآن‪ ،‬وال تأوي إلى فراشها إال‬
‫عقب أن ننام‪ ،‬ولم ألحظها تشرب‪ ،‬أو تطلب من أحدنا كوب ماء‪ ،‬ولما أزف موعد‬
‫اقتربت منها شاكراً‪ ،‬فمسحت على رأسي مبتسمةً‪ ،‬ولم أبرح‬ ‫ُ‬ ‫العودة إلى أهالينا‪،‬‬
‫مكاني فسألتني‪:‬‬
‫‪ :-‬أتريد شيئاً‪.‬؟‪.‬‬
‫لدي سؤال‪.‬‬
‫‪َّ :-‬‬
‫‪ :-‬قل‪.‬‬
‫ماء‪.!!.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ :-‬طوال تسعة ٍ‬
‫أشهر؛ لم أرك تشربين ً‬
‫‪ :-‬نبيه‪ .!!.‬إني يا بني أشرب الماء مرة كل عدة ٍ‬
‫أشهر‪ ،‬وأكتفي بكوب شاي‬
‫عودت نفسي على ذلك‪ ،‬مذ كنا‬ ‫مع "قمر الدين" في بعض المساءات الرمضانية‪ّ .‬‬
‫كثر نحن الذين فعلنا ذلك مكرهين‪.‬‬
‫لست وحدي‪ٌ ...‬‬
‫في طريق المسير الطويل؛ ُ‬
‫ألصدق لو لم أسألها عن هذا وغيره‪َّ ،‬‬
‫وأكد لي ابنها أنها ما آكلت‬ ‫ّ‬ ‫وما كنت‬
‫زوجها‪ ،‬طوال خمسين عاماً‪ ،‬قضتها واقفة على خدمته‪ ،‬ما دام جالساً إلى‬
‫طعام‪ C..!.‬صبر عجيب‪.!!.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫يصدق أنكم كنتم تشربون الشاي بالملح‪ ،‬ما دام َّ‬
‫السكر مفقوداً‪ ،‬وقلّما‬ ‫ومن ّ‬
‫ومرت‬ ‫السم بالترياق‪َّ .‬‬‫كنتم تحصلون عليه‪ ،‬كأنكم قاومتم العطش بالملح‪ ،‬كما يقاوم ّ‬
‫وتخضوضر به األرض‪ ،‬فيأتي الجراد ويذرها‬
‫ُ‬ ‫ينبت الزرعُ‪،‬‬
‫عجاف‪ُ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫عليكم سبعٌ‬
‫قاعاً صفصفاً‪ ،‬ولجأتم إلى والي حلب دون جدوى‪ ،‬وفي العام الثامن غطى الزرع‬
‫بعض وجه األرض‪ ،‬ونفوسكم قانطة تنتظرون الجراد‪ ،‬كأنه بات قدراً‪ .!.‬ولم‬
‫يخلف الجراد موعده‪ ،‬فذهبتم هائمين على وجوهكم‪ ،‬إال رجالً‪ ،‬خرج بولده وابنته‬
‫َّ‬
‫وأعد‬ ‫الوحيدين‪ ،‬وأطلقهما في حقله‪ ،‬مقسماً أن يقتلهما إن تركا جرادةً في الحقل‪C.!.‬‬
‫طائل‪ ،‬وهو‬‫الرجل بندقيته‪ ،‬وشحذ سيفه‪ ،‬وجلس ينظر إليهما يهشان اآلفة دون ٍ‬
‫يقرع نفسه على رعونته في قراره‪ ،‬وبدا له أن يقتل نفسه؛ فيخلص من عذابه وال‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫يحنث في يمينه‪ .‬وكاد يفقد عقله‪ ،‬وهو أليام خلت‪ ،‬لم يجد لولديه لقمةً‪ ،‬وقد باع ما‬
‫حالة ال يعرف مرارتها غيره‪ ،‬وإ ذ الشمس‬‫تحته وفوقه‪ ،‬وأوصله اليأس إلى ٍ‬
‫تحتجب‪َّ ،‬‬
‫فظنها غيمةً‪ ،‬فاستبشر َّ‬
‫هنيةً‪ ،‬ثم استدرك تشاؤمه مردداً‪:‬‬
‫‪ :-‬وما الفائدة‪!.‬؟‪.‬‬
‫تحسس سيفه في غمده‪ ،‬وتقدم منهما وإ صبعه على الزناد‪ ،‬لكنه ُذهل لمرأى‬
‫طيور اللقلق تحطُّ من حوله آالفاً مؤلفةً‪ ،‬تلتقط الجراد‪ ،‬فال تبقي منه شيئاً وال تذر‪،‬‬
‫فضمهما إلى صدره جاحظ العنين‪ ،‬رانياً إلى السماء مردداً‪:‬‬ ‫كأنها تفتدي ولديه‪َّ ،‬‬
‫‪{ :-‬ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}‪.‬‬
‫ومحصل أموال الوالية‪ ،‬فلم‬
‫ّ‬ ‫العلية‪ ،‬فأرسلت إليكم الجندرمة‬
‫وتذكرتكم الدولة ّ‬
‫ال‪ ،‬وتذكرتكم األستانة وأوار الحرب الكونية‬ ‫الخمس وأنقصه قلي ً‬
‫ق لكم سوى ُ‬‫يب ِ‬
‫مشتعل‪ ،‬وأخذ جالوزتها رهطاً منكم وأنت فيهم‪ ،‬وساقوكم إلى اليمن‬
‫ٌ‬ ‫األولى‬
‫والترعة‪ ،‬وإ سحق صاحب ضيعة "القرباطية" يدّلهم عليكم حيثما اختبأتم‪ ،‬وسحبوا‬
‫الفتى مرادًا‪ ،‬فترك ماشيته في شعب الجبل‪ ،‬وأوعز إلى كلبه األسود أن يسوقها إلى‬
‫ال‪ ،‬فقالت حبيبة الفتى‪:‬‬
‫وهر هريراً متواص ً‬
‫وقدام الدار نبح َّ‬
‫داره‪ ،‬وقد فعل‪ّ ،‬‬
‫أهر ذا ٍ‬
‫ناب‪ C.!!.‬سترك يا رب‪.‬‬ ‫‪ :-‬شرٌّ َّ‬
‫ويهر‪ ،‬فتبكي المرأة ابنها‬
‫وفي الموعد ذاته ولثالثة أعوام‪ ،‬كان يأتي فينبح ُّ‬
‫رادة‬
‫ُ ً‬ ‫ق‬ ‫منها‬ ‫ويفليه‬ ‫ردان‬ ‫المغيب فتطعمه وتسقيه‪ ،‬وزوجها يخلصه من دويبات ِ‬
‫الق‬ ‫ّ‬
‫قرادة‪ ،‬والرجل يطمئن زوجته بقوله‪:‬‬
‫حي يرزق يا امرأة‪.‬‬
‫‪ :-‬ما دام الكلب يأتي في الموعد‪ ،‬فابنك ٌّ‬
‫وظلت المرأة والفتاة تنتظران الفتى أو كلبه‪ ،‬لكنه في العام التالي لم يأت‪،‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫أمه المفطورة الفؤاد‪ ،‬ونظرت هذه إلى زوجها وجلة‪،‬‬ ‫فنظرت الفتاة جزعة‪ ،‬إلى ّ‬
‫يمسد على جيد‬ ‫فأشاح بوجهه‪ ،‬وولج اإلسطبل‪ ،‬فبكى حتى صغار رأسه‪ ،‬وهو ّ‬
‫مهرة الفتى‪ ،‬وخرج واجماً وأتى إلى هنا‪ ،‬فوضع رجم حجارة كالقبر‪ ،‬ثم عكف‬
‫ٍ‬
‫بدالء‬ ‫يزرع التين والزيتون والعنب‪ ،‬تلك الفاكهة التي أحبها ولده‪ ،‬وظل يسقيها‬
‫شحيحة‪ ،‬إلى أن أثمرت لسنوات‪ ،‬ثم عطبت ويبست‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عميقة‬ ‫ٍ‬
‫بعيدة‬ ‫يحملها من ٍ‬
‫بئر‬
‫وعدت‬
‫َ‬ ‫رأيت بأم العين بعض جذورها باقية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫دفعة واحدة‪ .!!.‬وبعد سنين طويلة‬
‫ألي‪ ،‬فاراً برأسك من جحيم حرب العثامنة الخرافية بخسائرها‪ ،‬فاقداً صوتك‬ ‫بعد ٍ‬
‫ٍ‬
‫حرب مستعر ٍة؛ ثم‬ ‫حد الهمس‪ ،‬وذلك بتأثير البارود؛ وحرائق‬ ‫إال من بقية ال تتعدى َّ‬
‫بأم العين‪ -‬كذا مرة‪ -‬ووصلت ديار أهلك‪،‬‬ ‫البرد والعلل‪ ،‬ورؤية الموت عن ٍ‬
‫كثب ِّ‬
‫رقع من سترة‪ ،‬هيئتك تبعث الوجل‪ ،‬ورائحتك تزكم‬ ‫خيش وبقايا ٍ‬‫مزق من ٍ‬ ‫وعليك ٌ‬
‫جف وتقرفع على‬ ‫بري ٍة‪ ،‬قروحك ّ‬
‫تنز‪ ،‬وصديدها َّ‬ ‫ٍ‬
‫تيوس ّ‬ ‫األنوف‪ ،‬مثل رائحة قطيع‬
‫سومري ٍة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫خواب‬ ‫متفدعتان مثل ثُ ٍلم في كعوب‬
‫جلدك المنكمش‪ ،‬وقدماك ِّ‬
‫الحمام قبل الصالة أيام الجمع‪ ،‬مقابل أن أسمع‬
‫وحين كنت أفرك ظهرك في ّ‬
‫جروح‪ ،‬وبقايا أماكن دمامل‪ .‬مشيت طويالً‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫منك حكاية‪ ،‬كنت أرى ندوباً وآثار‬
‫وزحفت‪ ،‬وأيضاً تدحرجت في جبال اليمن وعسير والحجاز ومفازات النقب‪،‬‬
‫وقطعت الفيافي والقفار‪ ،‬أكلت ما ال ُيؤكل‪ ،‬وشربت ما ال ُيشرب‪ ،‬وعانيت من‬
‫هدتك الهيضة‬ ‫وتهرش حتى تقطر أظفارك من دمك‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫القمل والجرب‪ ،‬كنت ُّ‬
‫تحك‬
‫وذبحك العطش‪ ،‬وفي صحراء النقب رأيت جماعة تتزاحم على ذبيحة‪ ،‬فغامرت‬
‫واقتربت حابياً‪ ،‬وفي َح ْبوك ذ ٌل وانقهار‪ ،‬واختلطت بالجمع مستقوياً ببعض‬
‫وكدت‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫وصوب‪،‬‬ ‫الفضية؛ مما وجدته مع مزق قتلى من كل ٍ‬
‫حدب‬ ‫ّ‬ ‫"المجيديات"‬
‫وتتمرغ بالدم وتقطع األنفاس‪ ،‬وهم يجولون بينكم‬
‫َّ‬ ‫تموت لو لم تتماوت بين الجثث‪،‬‬
‫وتحملت غرزة "السنكة" بين كتفيك‪ ،‬ورفسة "البسطار" بين‬‫ّ‬ ‫بحثاً عن أحياء‪،‬‬
‫فخذيك‪ ،‬وهالك أنهم توازعوا لحم حصان أطلق عليه صاحبه‪ -‬بعد يأس‪-‬‬
‫رصاصة الرحمة‪ ،‬حاولت الحصول على مقدار وجبة أو لقيمات‪ ،‬فالموت جوعاً‬
‫يسحق أحشاءك‪ ،‬وال أحد يهب قوتاً يدفع عنه الموت ليتحنن عليك‪ ،‬وانصرفوا إال‬
‫ظل حذراً منك‪ ،‬يقضم قضيب الحصان وخصيتيه‪ ،‬ساومته فأبى‪ ،‬والدم‬ ‫واحداً‪َّ ،‬‬
‫مل مما ال طائل‬‫كذئب‪ ،‬ثم َّ‬
‫وظل مقرفصاً يقضم وينظر إليك ٍ‬ ‫يتقطر من بين شدقيه‪َّ ،‬‬
‫منه‪ ،‬فأعطاك ما تبقى مقابل "مجيديين"‪ ،‬فكسب مجيدياً‪ ،‬وتلقفت الغنيمة‪ ،‬ومضغت‬
‫شيأه الجوع‪،‬‬‫بشبح ّ‬
‫ولكت ما ال تطحنه أضراس ضبع‪ ،‬حتى أنهكت فكيك‪ ،‬فإذا ٍ‬
‫يطلب ما تبقى‪ ،‬وأعطاك حفنة مجيديات‪ ،‬وقد التقيتما بعد ذلك بسنوات‪ ،‬وشهدت‬

‫‪- 15 -‬‬
‫(األحمدية)‪ ،‬من أعمال ناحية‬
‫ّ‬ ‫ذهبت إليه مراراً في ضيعة‬
‫ُ‬ ‫ذاك اللقاء‪ ،‬ولم أنسه‪ ،‬فقد‬
‫فحدثني "الحاج نعسان" عما عانيتما في الحرب وفي الطريق‪ ،‬فتطابق‬ ‫"دير حافر" ّ‬
‫ت وأنت‬ ‫كالمكما تماماً‪ ،‬وأنك في الناصرة رأيت "نتيفا" وبعض صحبها‪ ،‬وحين ُب ِه َّ‬
‫تتأكد‪ ،‬عرفوك فالحقوك‪ ،‬فتخفيت‪ ،‬وسمعتهم من مخبئك يحث بعضهم بعضاً‬
‫للقبض عليك‪ ،‬فقد تفضح أمرهم‪ ،‬أو يتبادر إلى ذهنك تفسير بعض ما جرى‪ ،‬حين‬
‫تسايرتم في طريق تهجيركم وتهريبهم عبر األناضول‪ ،‬وأنت ابن ضيف اهلل‪ ،‬وقد‬
‫كاد أن يكشفهم وقتذاك‪ ،‬وتخلّصت منهم بأعجوبة بلجوئك إلى ضيعة "الريحانية" ثم‬
‫"الجاحوال"‪ .‬ها إني قد أفرغت شحنة صدري‪ ،‬وسأعود للتو إلى خلف الفرات‪،‬‬
‫ويؤلمني أنهم يهددون بخنقه؛ كما لجموا "قويق"‪ ،‬وإ نهم يذ ّكروني بما فعله بكم‬
‫"عصمان" ذاك الضابط العجيب‪.‬‬
‫وما زلت أذكر أنني سألتك‪:‬‬
‫‪ :-‬أيموت الحق‪.‬؟‪.‬‬
‫أجبت‪:‬‬
‫‪ :-‬روحه في دوام ذكره‪ ،‬وإ ال فإنه والميت سواء‪.!.‬‬
‫ولما تزل حكايتك عن حصان طروادة ملء السمع‪ ،‬وأنت تكرر قولك كلما‬
‫ّ‬
‫ختمتها‪:‬‬
‫‪ :-‬مصائب البشر تبدأ على أيدي الجواسيس‪ .!.‬وإ نني إخال عناكبهم تنسج‬
‫بيوتاً تصل بين ما آلت إليه أرض الزيتون‪ ،‬وبين إقامة دوله الخزر الحلم‪C.!.‬‬
‫وإ خال األديب الناحر نفسه بقلمه‪ ،‬يتحين فرصةً سانحةً‪ ،‬ليضع على قحف رأسه‬
‫يعمد هامته بقبعة "الكيبا" فتكتمل قيافته‪ ،‬ويلج عتبات األلفية‬
‫قلنسوة "اليرمولك‪ ،‬أو ّ‬
‫الثالثة‪ ،‬في ركاب أصحاب النفوذ والقوة‪ ،‬منفقاً ثمن فعلته في حياة ماتعة‪.!!.‬‬
‫وفي أواخر أيامك أظهرت حنيناً عجيباً‪ ،‬خصصت به تلك الضيعة الجميلة‬
‫من أعمال قضاء صفد‪ ،‬وكنت تتوقف طويالً‪ ..‬طويالً بحديثك عن عائلة آوتك‬
‫وحمتك‪ ،‬وأوصلتك إلى وادي اليرموك‪ ،‬لتعود إلى أهلك في حلب‪ ،‬وأن إحدى بنات‬
‫تلك العائلة قد أحبتك‪ .‬لم تقل لي إن كنت قد بادلتها الحب‪ ،‬لكنني فهمت الكثير مما‬
‫دت غير مر ٍة؛ َّ‬
‫أن تلك القرية "قدرية"!!‪ C،‬وأن أحداً من دمك إما‬ ‫تصرح به‪ ،‬وقد أ ّك َ‬
‫لم ّ‬
‫أن يسكنها أو يموت فيها أو يعشق منها‪.!!.‬‬
‫إن كنت تسمعني فإني أبلغك؛ أن ذلك قد حدث‪ ،‬وقد صدقك حدسك‪ ،‬فهل كنت‬
‫تستشف جريان دماء أسرتك‪.‬؟!؟‪ .‬حديثي حميمي؛ لم يتهيأ لي أن أبوح به لغيرك‪،‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫فهالّ سمعتني وعرفت ما حدث لي مع األميرة الصفدية‪.‬؟‪ .‬إنه غريب عجيب‬
‫مهيب‪ ،‬ليس يختلف كثيراً عن حكاية المرأة قمر‪C.!.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ :-‬القارئون والذين يكتبون‪ ،‬هم األخطر‪ ،‬وإ نك تفهمني‪.‬‬


‫‪ :-‬بالتأكيد‪.‬‬
‫‪ :-‬فأين تريدها‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬موضع القلب‪.‬‬
‫دوى انفجار حشوة الطلقة‪ ،‬فشهق األول‬ ‫وسدد‪ّ ،‬‬
‫اتخذ وضعية الرامي واقفاً ّ‬
‫َّ‬
‫وعض الثاني على لسانه الفظاً أنفاسه‪ ،‬وانبجس دم‬ ‫وسقط رأسه على صدره‪،‬‬
‫َّ‬
‫الثالث من فمه‪ ،‬وتتالت قطراته‪ ،‬تخثرت واحدة‪ ،‬والتصقت بها أخريات‪ ،‬يتدلين من‬
‫جمدها الصقيع‪.‬‬
‫رأس األنف ومنبت الشاربين‪ ،‬كقطرات ماء ميزاب َّ‬
‫وهاج الناس أسفل الهضبة‪ ،‬وعال احتجاجهم وعويلهم الجماعي‪ C،‬فأومأ‬
‫الضابط آمراً‪ ،‬فأطلق عسكره عشرات الطلقات؛ فوق الرؤوس‪ ،‬فساد صمت‬
‫مقهور‪.‬‬
‫وطوح بها في الهواء‪،‬‬
‫نفث زفرته بعد احتباس‪ ،‬وأمسك بندقيته من منتصفها‪ّ ،‬‬
‫وضمها إلى صدره‪ ،‬كبعض واجبه نحو‬ ‫َّ‬ ‫فتلقفها العسكري طاوياً عليها ساعديه‪،‬‬
‫سالح سيده‪ ،‬وهو يكتم خوفه ولهاثه‪ ،‬باذالً ما يمكنه إلظهار افتتانه بالضابط‬
‫الممتلئ غطرسة‪ ،‬مخفياً اشمئزازه بما أوتي من قدرة على إخفاء حقيقة مشاعره؛‬
‫ٍ‬
‫لحظات عصبية‬ ‫فلي ِج ْد تناسيها‪ ،‬في‬
‫دربوه جيداً كي ينساها‪ ،‬فإن لم يتمكن‪ُ C..‬‬
‫التي ّ‬
‫كهذه‪.‬‬
‫أومأ الضابط ألكسندر برأسه إيماءة خفيفة لكنها جازمة‪ ،‬فأسرع العريف نحو‬
‫الجثث‪ ،‬تفحَّصها ثم استدار مهروالً وأدى التحية معلناً َّ‬
‫أن أرواحهم قد فارقت‬
‫أجسادهم‪.‬‬
‫انفرجت شفتا الضابط عن أسنان كستها طبقة كالزنجار‪ ،‬وكادت ابتسامته‬

‫‪- 18 -‬‬
‫تبغ‪ ،‬ما لبث أن دسَّها بين تينك‬
‫المتوترة تفضح اضطراب دواخله‪ ،‬وهو يجهّز لفافة ٍ‬
‫برتقالي كامد‪ ،‬فأسرع العريف يقدح زناد قداحة الفتيل‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫الشفتين اللتين اكتستا ٍ‬
‫بلون‬
‫ٍ‬
‫مجات متتالية‪ ،‬ولم يك الضابط‬ ‫يمجها ّ‬
‫وأدناها من لفافة سيده‪ ،‬فاشتعل رأسها وهو ّ‬
‫عثمان منبسط األسارير؛ ليس ألن الناس شتموا ألكسندر والقيصر‪ ،‬أو لنيلهم من‬
‫العلية؛ إنما لتلك النتيجة التي حققها مراهنه في دقة‬
‫ّأبهة السلطان ودولته ّ‬
‫وأم َن على حسن إنجاز الضابط األبرص‪،‬‬ ‫التصويب‪ .‬وبرغم ذلك كتم غيظه‪َّ ،‬‬
‫مشكلةً قوساً في الهواء‪ ،‬انتهى باستقرارها في كف‬‫ودفع بإبهامه قطعة ذهبية‪ِّ ،‬‬
‫بشغف‪ ،‬ودسَّها في جيب سترته فوق موضع القلب‪ ،‬بينما‬ ‫ٍ‬ ‫ألكسندر‪ ،‬فنظر إليها‬
‫عسكره يف ّكون الحاجز الخشبي‪ ،‬الضاغط على صدر القتيل األول‪ ،‬وظهر القتيل‬
‫الثالث‪ ،‬والحاجزين اللذين يحبسانهم عن يمينهم ويسارهم‪ ،‬بينما الضابط عثمان‬
‫يجهِّز بندقيته بصمت مطبق‪ ،‬كما كل ما على الرابية‪ ،‬بعيداً عن المنخفض‪ ،‬حيث‬
‫جموع غير واضحة المعالم؛ بدت كقطيع وعول أرعبه التفاف ذئاب حولـه‪،‬‬
‫وأرهقه حصارها‪ ،‬وثمة همهمة سرت وتصاعدت فوق الناس‪ ،‬تظللهم كمزق ٍ‬
‫غيوم‬
‫تائهة؛ ومثل الغبار حين يعلق في الفضاء بين األرض والسماء‪ ،‬فال يتحرك وقد‬
‫سكن من حوله الهواء‪.!.‬‬
‫وحين أنهى عسكر ألكسندر إبعاد الجثث‪ ،‬تقدم "األومباشي" محيياً رئيسه؛‬
‫منتظراً أوامره‪ ،‬فأوجزها بكلمة‪:‬‬
‫‪ :-‬أربعة‪.‬‬
‫ثم التفت إلى الضابط ألكسندر مردفاً‪:‬‬
‫‪ :-‬ما قولك إن أتت رصاصتي في صفن ٍّ‬
‫كل منهم‪.‬؟‪C.‬‬
‫لم يصدق األومباشي ما سمع‪ ،‬فلم ِ‬
‫يدر ما يفعل‪ ،‬همس لنفسه مدهوشاً‪:‬‬
‫‪ :-‬أر‪ ..‬بعة‪C.!!.‬‬
‫يعدها‪ ،‬وقد ازداد ارتباكاً؛‬
‫كرر ذلك‪ ،‬وفرد من كفه أربع أصابع‪ ،‬ونظر إليها ّ‬
‫َّ‬
‫ال يدري إلى أية جهة يتجه‪ ،‬غير متأكد إن كان أُصيب بدوار‪ ،‬أم أن ما سمعه ليس‬
‫حقيقة‪!.‬؟‪C.‬‬
‫أما ألكسندر فقد علّق‪:‬‬
‫‪ :-‬عقوبة مبتكرة‪ ،‬لن يفكر أحد بعدها بإثارة القالقل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وصلف‪:‬‬ ‫قهقه عثمان مغتبطاً‪ ،‬واختزل ضحكته فجأة‪ ،‬آمراً ٍ‬
‫بحزم‬
‫‪ :-‬أومباشي‪ ...‬هات الستة‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫نظر ألكسندر إلى عثمان نظرة المتيقن من خسارة هذا المغتر‪ ،‬فبادله عثمان‬
‫تحدياً‪ ،‬لم يرجف خاللها له جفن‪ ،‬وسأل‪:‬‬
‫نظرة تقدح ّ‬
‫‪ :-‬حسبت لك ثالثة عاقّين بذهبية‪ ،‬فبكم تحسب لي ستة أوباش‪.‬؟‪.‬‬
‫ظل ألكسندر صامتاً‪ ،‬ثم لوى شفته ولم يجب‪ ،‬تحسس جيب سترته فوق‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫رد‪ ،‬لحظتئذ حاول الضابط عثمان‬
‫موضع القلب‪ ،‬ونفض رأسه غير مستقر على ّ‬
‫استفزازه‪:‬‬
‫إما برحت ساكتاً‪.‬‬
‫‪ :-‬لن أتوانى عن تعفير سمعتك بالتراب أمام العسكر؛ ّ‬
‫تتحول إلى ما‬
‫مد ألكسندر نظره إلى المدى‪ ،‬وزاغ بصره‪ ،‬فرأى تلك األجساد ّ‬ ‫َّ‬
‫يشبه جذوع الشجر‪ -‬وقد ساهم باقتالعها‪ -‬تتزنر بجذورها‪ ،‬فتتكسر عليها‬
‫كأن مغناطيساً‬
‫"بلطته"‪ ،‬وتتشظى متناثرة‪ ،‬ثم تتناسق كرؤوس الرماح منجذبة‪ّ ،‬‬
‫باغتها‪ ،‬وألصقها بجبينه‪ ،‬فخدشته كوخز اإلبر‪ ،‬فنبس‪:‬‬
‫‪" :-‬عصمان"‪ C...‬هذا جنون‪.!.‬‬
‫كز عثمان فكيه ساحقاً كلماته بينهما‪:‬‬
‫ّ‬
‫تأدب‪ ..‬قل بكم تحسب لي قتل ستة برصاصة واحدة‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ألكسندر ّ‬
‫‪ :-‬بالذي تطلبه‪.‬‬
‫‪ :-‬عشر ذهبيات وامرأة‪.‬‬
‫‪ :-‬وإ ن خسرت‪.‬؟‪.‬‬
‫قواداً‪.‬‬
‫تصيرني ّ‬
‫‪ :-‬لن أدعك ّ‬
‫ثم سدد وضغط على الزناد‪ ،‬ابتسم ألكسندر بعصبية‪ ،‬وهرول األومباشي‬
‫والعريف نحو الحاجز‪ ،‬وعال العويل من المنخفض وارتفع‪ .‬بينما كال الضابطين‬
‫يمضغان أعصابهما‪ ،‬حتى تقدم األومباشي مؤدياً التحية صائحاً‪:‬‬
‫‪ :-‬تمام أفندم‪.‬‬
‫زمجر ألكسندر مستفسراً‪:‬‬
‫‪ :-‬ما واقع الحال أيها العريف‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬سيدي‪ ..‬كلهم أموات‪.‬‬
‫قهقه عثمان متشفياً‪ ،‬وعال صوت ضحكته طاغياً على المكان‪ ،‬وامتزج بذاك‬
‫الهسيس اآلتي من المنخفض‪ ،‬وانصرف العسكر ينقلون الجثث‪ ،‬وأخطأ ألكسندر‬
‫العد؛ مفضالً لو خسر عشرة من عسكره دون هذي الذهبيات‪َّ ،‬‬
‫وظل يردد‪:‬‬ ‫ّ‬

‫‪- 20 -‬‬
‫‪ :-‬غير معقول‪ ..‬ال أصدق‪.!.‬‬
‫وانبسطت كف عثمان أمام وجه ألكسندر‪ ،‬والتقت خرزات العيون‪ ،‬بينما‬
‫الذهبيات تتساقط في كف الرابح‪ ،‬وأثناء ذلك كان العسكر يسلبون حصان أحد‬
‫القتلى من صديقه الفتى‪ ،‬سحلوه وقد تعلّق برسنه‪ ،‬وأوجعوه ضرباً بأعقاب بنادقهم‪،‬‬
‫أمه فوقه‪ ،‬وبقي جاثياً قبالتها يكاد‬
‫حتى كاد أحدهم يطلق عليه النار؛ لوال ارتماء ّ‬
‫غيظه يفلقه‪ ،‬وأخته تحتضنهما‪ ،‬فهمس وعبرة ٍ‬
‫بكاء تخنقه‪:‬‬
‫‪ :-‬قتلوه وسلبوني حصانه‪ ،‬هل تفهمين معنى ذلك يا أمي‪.‬؟‪ C.‬أتدركين شناعة‬
‫ذلك يا أختاه‪.‬؟‪.‬‬
‫طبطبت على كتفه ووقفت آمرة‪:‬‬
‫‪ :-‬قم‪.‬‬
‫األم‪:‬‬
‫توسل بليغ‪ ،‬وقالت ُّ‬
‫مسحت أخته جبينه‪ ،‬وفي صمتها ّ‬
‫‪ :-‬إنك آخر رجال العائلة‪ ،‬فلتدرك ذلك جيداً‪.‬‬
‫ومضت مثل نصف إلهة‪ ،‬فهتف الفتى‪:‬‬
‫‪ :-‬لكنه ابنك بالرضاعة‪.!.‬‬
‫هنية‪ ،‬ثم استدارت مخاطبة ابنتها دون أن تنظر إليه‪:‬‬
‫توقفت ّ‬
‫‪ :-‬آية‪ ..‬تعالي‪ ،‬وليتركنا إلى حزن عظيم وضياع؛ إن كان يحسب أنني‬
‫أرضعته من ِ‬
‫قربة ماء‪.‬‬
‫وتابعت سيرها واثقة أنها لن تزيد حرفاً‪ ،‬وتبعتها الفتاة متعثرة رانية إليه‪،‬‬
‫وبقي مشتتاً‪ ،‬ينظر إليهما‪ ،‬ضارباً األرض بكلتا يديه‪ ،‬متابعاً الحصان‪ ،‬متسائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬أمعيب بكاء الرجال‪.‬؟‪.‬‬
‫َّ‬
‫شب واقفاً بشموخ‪ ،‬وقفز عالياً؛ طاوياً ساقيه على فخذيه‪ ،‬وأسقط جسده على‬
‫ركبتيه‪ ،‬وراح يغني مرثية‪ ،‬محدثاً ِّ‬
‫بجل أصابع كفه‪ ،‬أخاديد في التراب‪ ،‬بعدد من‬
‫يذكرهم في مرثاته المغناة‪.‬‬
‫ودعا الضابط عثمان زميله الضابط كماالً‪ ،‬وجلسا مع ألكسندر إلى مائدة‬
‫الضباط برقةٍ‬
‫ّ‬ ‫وحيا‬
‫فاخرة‪ ،‬في خيمة ميدانية‪ ،‬فتقدم كبير الطهاة وخلفه معاونوه‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫وكياسة‪:‬‬
‫‪ :-‬سادتي‪ C..‬أتمنى لكم طعاماً كما تبتغون‪ .‬لدي القلب فلمن أقدمه‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬لسيدك كمال‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫‪ :-‬والكليتان‪ ..‬سيدي‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬للضابك ألكسندر‪.‬‬
‫قال مبتسماً‪:‬‬
‫‪ :-‬أما "الظوظ" واللسان فـ‪ ..‬لك‪ ..‬سيدي‪.‬‬
‫ُس َّر عثمان لنباهة كبير الطهاة‪ ،‬وأكمل معاونوه حوائج المائدة‪ ،‬ثم صرفهم‬
‫بإيماءة‪ ،‬وبقي قائماً على خدمة سادته‪ ،‬منتعشاً لسرورهم‪ ،‬غير غافل عما يتوقع أن‬
‫يطلبوه‪ ،‬فقد استلذ حذاقته منذ حين‪ ،‬فصارت غاية ِّ‬
‫بحد ذاتها‪.‬‬
‫مقوساً حاجبيه‪،‬‬
‫وتذوق عثمان بعض الطعام‪ ،‬ثم رفع رأسه نحو كبير الطهاة‪ّ ،‬‬
‫مبدياً رضاه‪ ،‬فانتشى وزاد نشاطه‪ ،‬واستأنف الضابط تناول طعامه‪ ،‬وفي لحظة‬
‫أن كماالً قد أسند رأسه على كلتا يديه‪ ،‬ناظراً إلى كل شيء‪ ،‬لكنه بدا كمن‬‫انتبه إلى ّ‬
‫ال يبصر شيئاً‪.!.‬‬
‫‪ :-‬إن لم يعجبك الطعام‪ ،‬طلبت لك ما تشتهي‪.‬‬
‫‪ :-‬دعك من الطعام‪ ،‬وقل لي‪ :‬كيف قتلت ستةً برصاصة واحدة‪.‬؟!‪ .‬ألم‬
‫كلي ٍة واحدة‪.‬؟!‪.‬‬
‫وتخرجنا في ّ‬
‫نتدرب على السالح ذاته؛ ّ‬
‫قسر نفسه على أن يكون هادئاً وقال‪:‬‬
‫كل‪ ..‬فالطعام لذيذ‪ ،‬ولحم الحصان حالل‪.‬‬
‫‪ْ :-‬‬
‫ٍ‬
‫بشيء من التوتر‪:‬‬ ‫هتف كمال‬
‫‪ :-‬لن أتناول لقمةً‪ ،‬ما لم أفهم كيف حدث ذلك‪.‬؟!‪C.‬‬
‫علّق ألكسندر بصوت خفيض‪:‬‬
‫‪ :-‬ما زلت دهشاً‪ ،‬أكاد ال أصدق‪C.!!.‬‬
‫التفت عثمان إلى كمال قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬دعك من هلوسة خاسر الرهان هذا‪ ،‬واعلم أني اتبعت تدريباً مضاعفاً‪،‬‬
‫أجزم أنه أكثر دقّة مما تلقيتماه معاً‪.‬‬
‫ب عليه ماء مثلّج‪،‬‬
‫صّ‬‫توقف ألكسندر عن مضغ لقمته‪ ،‬وبرد وجه كمال كمن ُ‬
‫ك عثمان بعض اللغز إذ قال‪:‬‬
‫فف ّ‬
‫‪ :-‬قد استخدم ألكسندر طلقةً مثل سائر الطلقات‪ ،‬أما طلقتي فخاصة جداً‪،‬‬
‫ولعلّها خاصة بالمستقبل المنتظر‪.‬‬
‫تسرع كمال سائالً‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪- 22 -‬‬
‫‪ :-‬ما الذي تعنيه‪.‬؟‪.‬‬
‫مجات متعاقبات‪ ،‬ثم‬
‫ك أزرة سترته عن بطنه‪ ،‬وأشعل لفافة‪ ،‬تل ّذذ منها بثالث ّ‬ ‫فّ‬
‫تجشأ معلناً‪:‬‬
‫أي مدى يمكنني أن أمنحك ثقتي‪ ،‬أكثر مما أمنحها‬
‫‪ :-‬لم تثبت لي بعد‪ ،‬إلى ِّ‬
‫لكبير الطهاة هذا‪.‬‬
‫قال كمال متغاضياً عن اإلهانة‪:‬‬
‫‪ :-‬كالمك ألغاز‪ ،‬وأنا ال أحبها‪ ،‬فهال أوضحت‪.‬؟‪.‬‬
‫ابتسم عثمان بفتور وقال‪:‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ ستكون موضع اختبار‪.‬‬ ‫‪ :-‬ال بأس‪ ..‬سيتركنا ألكسندر عما قريب‪،‬‬
‫ضحك ألكسندر باقتضاب‪ ،‬وعلّق محاوالً تخفيف التوتر‪:‬‬
‫‪ :-‬يظهر أن في األمر دعابة ظريفة‪.‬‬
‫رد عثمان وهو يطفئ لفافته‪ ،‬ويستأنف طعامه‪:‬‬
‫ّ‬
‫كل أيها األبرص‪ ،‬فاألمر أكبر مما تتخيل‪ ،‬ولو ضمنت تواصالً بيننا‪،‬‬
‫‪ْ :-‬‬
‫ٍ‬
‫المتحان‪.‬‬ ‫ألخضعتك أنت اآلخر‬
‫بسر الطلقة‪.!.‬‬
‫‪ :-‬فمن ينجح تتفضل عليه ِّ‬
‫َّ‬
‫هز عثمان رأسه باإليجاب‪ ،‬ودمدم وهو يمضغ لقمته‪ ،‬وقال كمال وهو يتناول‬
‫لقمته األولى‪:‬‬
‫‪ :-‬با ٍ‬
‫ق معك ولو في جهنم‪ ،‬ألعرف ما تخفي‪.‬‬
‫غص‪ -‬أو أنه تقصد ذلك‪ -‬وأسرع إليه كبير الطهاة‬ ‫ضحك عثمان حتى ّ‬
‫ٍ‬
‫بماء‪ ،‬شرب ثم تجشأ‪ ،‬ومسح فمه ومسَّد شاربيه ليقول‪:‬‬
‫‪ :-‬لعل رهاننا اليوم‪ -‬يا عزيزي ألكسندر‪ -‬كان تدريباً ممتازاً‪.‬‬
‫ابتسم ألكسندر ٍ‬
‫بمكر معلناً‪:‬‬
‫‪ :-‬حربنا التي لم تنقطع ضدهم‪ ،‬كفتنا تدريباً شائقاً وشاقاً‪.‬‬
‫ثم ضحك وتنهد مطرقاً‪ ،‬كأنه يغرق في ذكريات ما زالت ُّ‬
‫تحز في نفسه‪،‬‬
‫وعلّق كمال‪:‬‬
‫‪ :-‬أثخنوكم جراحاً‪ ،‬فخسائركم فادحة‪.‬‬
‫رد ألكسندر بأنفة تخفي حقيقة مشاعره‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪- 23 -‬‬
‫‪ :-‬ليست بالحسبان إذا ما قيست بما غنمناه من أرضهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بخبث‪:‬‬ ‫َّ‬
‫احتج عثمان مراوغاً‬
‫‪ :-‬فضلنا عليكم ال ُينكر‪ ،‬والغنيمة لكلينا أيها األبرص الشريك‪.‬‬
‫فهز رأسه‪ ،‬ثم ضحك مجامالً ٍ‬
‫بلؤم‪ ،‬واختصر ضحكته ليقول‬ ‫فوجئ ألكسندر َّ‬
‫هازئاً‪:‬‬
‫‪ :-‬ذ ّكرتني بواليكم "بطال باشا"‪ ،‬حين نهب منهم ثمانمئة كيس ٍ‬
‫ذهب‪ ،‬ولجأ‬
‫العلية خائناً‪ ،‬وحين تدخلنا لصالحه‪ ،‬عفوتم عنه‪.‬‬
‫إلينا‪ ،‬فاعتبرته دولتكم ّ‬
‫وعينته دولتنا العلية والياً على "طرابزون"‪ .‬هل في أقوالكم مثل قولنا‪:‬‬
‫‪ّ :-‬‬
‫ماء‪.‬؟‪.‬‬
‫الدم ال ُيصبح ً‬
‫ّ‬
‫قلب ألكسندر شفته غير متأكد وقال‪:‬‬
‫سرياً بمرتبة قانون‪.‬‬
‫‪ :-‬لكلينا ما يعتقد‪ .‬أما اتفاقنا على تهجيرهم‪ ،‬فقد كان ِّ‬
‫رد عثمان‪:‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫أرض ال شبيه لها‪ C.!!.‬أال ما أغرب أن يكون لمثل أوالء الرعاع‬ ‫‪ :-‬يالها من‬
‫مثل تلك األرض؛ وهناك شعب فذ بال أرض‪.!!.‬‬
‫‪ :-‬كان فرماناً رهيباً‪" .‬من أراد البقاء في وطنه فهو بحكم أسير حرب‪.".‬‬
‫أخفناهم‪ ،‬فهم يرون الموت أهون من األسر‪ ،‬ضغطنا عليهم بكل السبل كي يتركوا‬
‫أرضهم‪.‬‬
‫نهجرهم لنخلّصهم من فظاظتكم‪،‬‬
‫‪ :-‬يا لكم من أفظاظ‪ C.!!.‬أال ترى كيف ّ‬
‫مسهِّلين لهم النفاذ بجلودهم‪.‬؟!‪.‬‬
‫تبرماً‪ ،‬وقال‬
‫ضحك ألكسندر‪ ،‬ثم انفجر عثمان ضاحكاً‪ ،‬وأظهر كمال ّ‬
‫ألكسندر‪:‬‬
‫‪ :-‬ليتنا ننهي االستالم والتسليم بأسرع ما يمكن‪.‬‬
‫‪ :-‬كأنك مللت صحبتنا‪.!!.‬‬
‫‪ ... :-‬إنما ِّ‬
‫بودي لو احتفلت برأس السنة‪ -‬ألف وتسعمئة وسبع‪ ،‬بين أهلي‬
‫واألصدقاء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حاجة إلى‬ ‫‪ :-‬لعلك قصدت الصديقات أيها األبرص‪ ،‬إ‪ ..‬يه‪ ..‬أنا أيضاً في‬
‫وتأمل ما سيكون‪.‬‬
‫االسترخاء‪ّ ،‬‬
‫أنهى قوله وخرج من الخيمة ضجراً‪ ،‬فتبعه ألكسندر وكمال‪ ،‬وقفوا على أنف‬

‫‪- 24 -‬‬
‫الرابية؛ عند طرف المنحدر؛ قرب الحاجز المقام على عجل‪ ،‬تنفسوا الهواء‬
‫يلف المكان‬
‫المحمل برطوبة الليل‪ ،‬متأملين المنظر أمامهم وستر الليل مسدول‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بعتمة ال تبددها سوى أضواء النيران التي أوقدها الحرس هناك‪ ..‬وهنالك‪ ،‬حول‬
‫جموع الناس في الوهدة والمنخفض‪ ،‬وثمة موسيقا تصلهم كأنغام جنائزية‪.‬‬
‫سأل عثمان دون أن يلتفت إلى ألكسندر‪:‬‬
‫‪ :-‬أال قل لي‪ ،‬كم فرداً منهم سأستلم منك‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬لن تستلم أفراداً بالعدد‪ ،‬إنما على شكل أسر‪ ،‬وانتبه إلى مكرهم‪ ،‬فهم‬
‫يتخاطبون بأسماء عائالتهم‪ ،‬وقد ال تعرف أسماءهم األولى‪.‬‬
‫‪ :-‬سنرى كيف نحول دون مكرهم‪.‬‬
‫سأل كمال‪:‬‬
‫‪ :-‬أحقاً قتلتم ثالثة ماليين منهم‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬كان يجب القضاء على نصفهم‪ ،‬كي يتوقف نصفهم اآلخر عن مقاومتنا‪.‬‬
‫‪ :-‬ما زال الكثير منهم رهن مناجل الكوليرا والمالريا والجوع‪.‬‬
‫يحملنا تبعة ذلك‪ ،‬إنها مناجل الغيب وإ رادة الرب‪.‬‬
‫‪ :-‬ال أحد ّ‬
‫تمتم عثمان ٍ‬
‫بحقد‪:‬‬
‫‪ :-‬أمرهم عجيب‪ .!.‬يموتون وهم يتمتمون بالشهادتين‪C.!.‬‬
‫همس كمال بصفاء‪:‬‬
‫‪ :-‬اهلل‪.!..‬‬
‫قال ألكسندر‪:‬‬
‫‪ :-‬على الرغم مما حدث‪ ،‬أستطيع االعتراف بشجاعتهم‪ ،‬فقد دافعوا عن‬
‫أرضهم حتى استنفدوا قواهم‪.‬‬
‫متهورون‪.‬‬
‫‪ّ :-‬‬
‫وكانت أنغام الموسيقا‪ ،‬ترافقها أصوات جماعية تتابع المنشد بانسجام‪:‬‬
‫‪( :-‬مع أننا خسرنا الكثير‪ ..‬فلن نخسر إنسانيتنا أبداً‪.).‬‬
‫تمتم كمال‪:‬‬
‫درهم‪.!.‬‬
‫الرقي‪ ..‬هلل ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬منتهى‬
‫علّق عثمان على تمتمة كمال‪:‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫‪ :-‬لو خلعت بذتك العسكرية‪ ،‬وصرت إمامهم في هرطقاتهم‪.‬‬
‫العلية‪.!!.‬‬
‫‪ :-‬كأنك لست على دين دولتنا ّ‬
‫‪ :-‬بلى‪ C..‬وكيف ال أكون‪C.!.‬‬
‫استرق كمال إلى عثمان نظرة استهجان وعدم ارتياح‪ ،‬والحظ عثمان ذلك‪،‬‬
‫فتحرك متثائباً‪ ،‬محاوالً التخلص من حرجه‪ ،‬ودعاهما إلى أن يناما‪ ،‬فالعمل‬
‫المقرف ينتظرهم صباحاً‪ .‬مضى كمال مرتاباً‪ ،‬ومشى عثمان حانقاً‪ ،‬فأوقفه‬
‫ألكسندر بقوله‪:‬‬
‫‪ :-‬إلى أين‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬سأحاول أن أنام‪.‬‬
‫‪ :-‬إن فيك ما لن يدعك تنام‪ .‬أال تريد بقية ما لك بذمتي من رهان اليوم‪.‬؟‪.‬‬
‫تلكأ‪ ..‬وأبعد عن صفنه ما علق به من سراويله‪ ،‬فاقترب ألكسندر منه الئماً‪:‬‬
‫‪ :-‬أكنت تريد أن تتركني تحت وطأة المديونية‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬أتعني ما تقول‪.‬؟‪.‬‬
‫تعودت النوم مديناً‪ ،‬لكني سأنالها قبلك‪.‬‬
‫‪ :-‬ما ّ‬
‫‪ :-‬موافق‪.‬‬
‫قالها غاصاً بلهفته‪ ،‬ثم وجد نفسه ضئيالً؛ تحت نظرات ألكسندر‪ ،‬فحاول‬
‫إصالح ما أفسدته رغبته الجامحة نحو أنثى‪:‬‬
‫‪ :-‬بل تكون لي أوالً‪.‬‬
‫َّ‬
‫رد ألكسندر بلهجة داعر محترف‪:‬‬
‫‪ :-‬إني أفيك دينك فحسب‪ ،‬وسأنالها قبل أن تفتر‪ ،‬ال سيما أنهم تحت‬
‫تصرفي‪ ،‬وحين يمسون بتصرفك افعل بهم ما بدا لك‪.‬‬
‫لم ينتظر اعتراض عثمان أو موافقته‪ ،‬فنادى العريف وأخذه هامساً‪ ،‬وعند‬
‫باب خيمته‪ ،‬راح العريف يهرول‪ ،‬ودخل الضابط فلحق به كبير الطهاة‪ ،‬ووضع‬
‫أمامه زجاجة؛ سرعان ما جرع منها جرعات متتاليات‪ .‬نفخ زفيره بقو ٍة محاوالً‬
‫تفصد من جبينه‬ ‫إطفاء بلعومه‪ ،‬فألقمه كبير الطهاة ملعقة (كافيار) وهو يمسح عرقاً ّ‬
‫بتأثير الخمرة‪ ،‬وأشار إلى كبير الطهاة أن يجلس‪ ،‬فأبدى كياسةً‪ ،‬وأشار بيديه‬
‫عندئذ جلس على طرف المقعد‪ ،‬ململماً‬ ‫ٍ‬ ‫وحاجبيه‪ ،‬بأن ذلك ال يجوز‪ ،‬فأمره زاجراً‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عرفان‪ ،‬لنيله‬ ‫تنم عن‬
‫جسده قدر استطاعته على التضاؤل‪ ،‬وابتسامته الودودة ّ‬

‫‪- 26 -‬‬
‫شرف مجالسة سيده‪ ،‬الذي دفع إليه كيس التبغ‪ ،‬فتناوله بخفّة وحذق‪ ،‬وشرع يجهّز‬
‫ويكومها قرب السراج‪.‬‬‫اللفافات‪ّ ،‬‬
‫وكان العريف ينفّذ التعليمات بدقة‪ ،‬فبدا األمر روتينياً إلى ٍّ‬
‫حد كبير‪،‬‬
‫فاألضواء قليلة والعتمة أعم‪ ،‬واألصوات تكاد تكون مكتومة‪ ،‬ما خال أصوات‬
‫تحركات الحرس وكالب استنبحها عواء الذئاب‪ ،‬وضباح الثعالب من بعيد‪،‬‬
‫تسول له‬
‫دورية‪ ،‬تردع من ّ‬‫ّ‬ ‫ومجموعة االختطاف تجوب المكان‪ ،‬منتظمة على هيئة‬
‫نفسه مخالفة تعليمات العريف‪.‬‬
‫ويزجيان ما‬
‫ّ‬ ‫واصطحب العميل صديقه الفتى‪ ،‬إلى حيث يسليان نفسيهما‪،‬‬
‫ُمه‪ -‬أن يلبي دعوته‬ ‫أمكن من هذا الليل الطو‪ ..‬يل‪ ،‬ثم أقنعه‪ -‬وقد ابتعدا عن أ ِّ‬
‫دسا‬
‫لتناول الشراب في حضرة العريف‪ ،‬فذاك شرف لم ينله أحد من أترابه‪ ،‬وقد ّ‬
‫وأمها‪ ،‬فلم يلحظا ما‬
‫يحومان حول مرقد الفتاة ِّ‬‫أهجعهُ‪ ،‬وراحا ّ‬
‫َ‬ ‫في شرابه ما‬
‫يريبهما‪ ،‬فهما تبدوان غارقتين في النوم‪.‬‬
‫األم طيفهما غير متأكدة منهما‪ ،‬فداهمها هاجس جعلها تتحسس فخذها‪،‬‬ ‫لمحت ّ‬
‫شدت إليه السيف قصير النصل‪ ،‬ثم تأكدت من غطاء ابنتها‪ ،‬بل اطمأنت إلى‬ ‫حيث َّ‬
‫وجودها بجانبها‪ ،‬وأدارت رأسها‪ -‬دون أن ترفعه‪ -‬في ِّ‬
‫كل االتجاهات‪ ،‬فلم َتر‬
‫واقفاً أو سائراً إال الحرس‪ ،‬وذينك اللذين أثارا ش ّكها‪ ،‬حتى ابتعدا وأخفتهما العتمة‪.‬‬
‫وأنى لها ذلك‬
‫حاولت إصاخة سمعها‪ ،‬علّها تعرف البنها مكاناً إن سمعت صوته‪ّ ،‬‬
‫وذرت في الخدوش‬ ‫تردد خمشت ساعدها‪َّ ،‬‬ ‫وحظر التجول يضرم فيها القلق‪ ،‬ودون ٍ‬
‫ّ‬
‫ملحاً‪ ،‬فسكنت وقلبها واجف وهي ال تغفو‪ ،‬وتساءلت‪:‬‬
‫بشر يتربصها‪.‬؟‪C.).‬‬
‫(أتحس الروح ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫‪:-‬‬
‫ليلة ليالء تمنت انقضاءها‪ ،‬وإ ن كان النهار ليس بأقل منها عسراً‪ ،‬لكنه يعني‬
‫مئات العيون تحميها من قلقها‪ ،‬وإ ن لم تدفع عنها قدراً ليس يكترث بميقات؛ وال‬
‫ٍ‬
‫بقناعة أخرى‪ ،‬وهي َم ْن رأت من ويالت السفر هذا وتلك‬ ‫وأنى لها‬
‫يحفل بزمان‪ّ ،‬‬
‫َّر‬
‫الحرب‪ ،‬ما أوقد بياض ناصيتها‪ ،‬قبل أن تختم العقد الرابع من عمرها‪ ،‬تتفج ُ‬
‫ق كشجر ٍة عطشى‪،‬‬ ‫الغم وشح اللقمة‪ ،‬فأصل جمالها با ٍ‬
‫بنضج أنوثتها‪ ،‬وإ ن لواها ّ‬
‫تحدقان في السماء؛ تعوذان بها‪ ،‬لتخفف من‬ ‫سروية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وعيناها المحفوفتان برموش‬
‫بطيء جاثم في جنبات روحها؛ ال يتزحزح وال ينزاح‪ ،‬والخاطفون وصلوا‬ ‫ٍ‬ ‫ثقل ٍ‬
‫ليل‬
‫ٍ‬
‫مقربة زاحفين‪ ،‬تسمعهم إن همسوا أو تنفسوا‪:‬‬ ‫إلى‬
‫‪( :-‬عليك مواجهتهم‪ ،‬فهل تقدرين‪.‬؟‪.).‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫والتهور يتجاوز الشجاعة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ضده‪،‬‬
‫(إنه الخوف على منصته ينقلب إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫افتداء آخر الحلول وأيقنها‪ ،‬وإ نهم يقتربون‪ ،‬إنهم يتأكدون‪ ،‬وإ نهم‬
‫ً‬ ‫فاالنتحار‬
‫يشبقون‪C.).‬‬
‫‪ :-‬كلتاهما تقصم الظهر‪ ،‬فأيتهما نأخذ‪.‬؟‪.‬‬
‫قال اآلخر متهدج الصوت‪:‬‬
‫‪ :-‬نأخذهما معاً‪.‬‬
‫فاحاً كأفعوان‪:‬‬
‫زجره الثالث ّ‬
‫‪ :-‬بل واحدة أيها الوبش‪ ،‬فاألوامر واضحة‪.‬‬
‫أمها تشهق‪ ،‬ودنا اآلخر منها فانغرزت شهقتها‬
‫دنا أحدهم من (آية)‪ ،‬فكادت ّ‬
‫في حلقها‪.‬‬
‫‪ :-‬فلنحمل هذه‪.‬‬
‫وأشار إلى الناهد‪ .‬تحركت المرأة فزعة‪ ،‬فصالب أحدهم سيفه مع عنقها‪،‬‬
‫همست‪:‬‬
‫‪ :-‬ماذا تريدون‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬الكاعب‪.‬‬
‫‪ :-‬احذروا‪ ..‬إنها مصابة بالتيفوس‪ ..‬بالـ‪ ..‬إنها‪.‬‬
‫‪ :-‬إذاً أنت‪.‬‬
‫كمموا فمها وسحبوها مبتعدين‪َّ ،‬‬
‫دق أحدهم حجراً بحجر وانتظر‪ ،‬أتاه صوت‬
‫مماثل‪ ،‬ووقف اثنان الطيان في حفرة‪ ،‬عرفتهما فقالت‪:‬‬
‫‪ :-‬ال مالمة عليك أيها العريف‪.‬‬
‫والتفتت إلى صديق ابنها ولفظت‪:‬‬
‫‪ :-‬ما لهذا أرضعتك أمك‪.‬‬
‫زجرها العريف رافعاً سوطه‪ ،‬فأمسكته وقالت‪:‬‬
‫‪ :-‬ال تكن فظاً‪ ،‬فلقد أتيت معهم طواعية‪ ،‬سلهم لتتأكد‪ ،‬قل ما الذي تبغه‪.‬؟؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬سيدي يريد امرأة‪.‬‬
‫التهب رأسها واضطرب قلبها‪ ،‬أدارت وجهها خفراً‪ ،‬واحتدم المد والجزر بين‬
‫رأسها والقلب؛ سريعاً مثل الومض‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫‪ :-‬أطمئن على ابني أوالً‪.‬‬
‫أمر العريف أحد رجاله أن يعيده إلى مطرحه‪ ،‬فاندفع الرجل إلى مهمته‪ ،‬دنت‬
‫من صاحب ابنها‪ ،‬وقفت قبالته‪ ،‬بدا وقحاً‪ ،‬بصقت ملء فمها في وجهه‪ ،‬دفعوها‬
‫ومضوا‪ ،‬والعميل فاغر الفم يدمدم‪:‬‬
‫عالم تترفع الداعرة‪.‬؟!‪ C.‬كالنا ّبياع ما‬
‫‪ :-‬ما دامت أتت إلى الفحش طواعية‪َ ،‬‬
‫لديه؛ وماالفرق‪.‬؟!‪.‬‬
‫َّ‬
‫استل من عنق حذائه زجاجة مفلطحة‪ ،‬كرع منها‪ ،‬ثم أفرغها في جوفه‪،‬‬
‫فانتفخت أوداجه وجحظت عيناه‪ ،‬وقف وبال في الزجاجة بيلة مديدة حتى طفحت‪،‬‬
‫وضعها جانباً ودمدم‪:‬‬
‫‪ :-‬سأنتظرها فأنالها‪ ،‬وأحطم كبرياءها‪ ،‬ثم أسقيها محتوى الزجاجة فأهينها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تذ ّكر أن يمسح البصقة‪ ،‬وخنخن بقوله‪:‬‬ ‫َّ‬
‫وحك أنفه‪،‬‬ ‫زهزق‬
‫‪ :-‬فإن وشت بي فضحتها‪ ..‬ولكن‪C.!!.‬‬
‫ضرب األرض بقبضتيه وتمتم‪ :‬تباً للضعف‪ ..‬تباً لقذارة القوة‪ .‬ثم أجهش‬
‫يشتم الدنيا‪.‬‬
‫{خرج أبوها إلى الحرب ولم يعد‪ ،‬قتلوه ال شك‪ ،‬ال تدري إن ُدِفن أم أكلته‬
‫الجوارح‪ ،‬ولما ساقوا زوجها وخيوله من المرعى‪ ،‬طال غيابه‪ ،‬ثم أعادوه جثة‬
‫هم أخوها أن ينزله‪ ،‬انفجرت بهما عبوة جعلتهما والحصان‬ ‫على حصانه‪ ،‬وحين َّ‬
‫طها أحد عسكرهم‪ ،‬فأسقطت جنينها وكادت تموت‪.}.‬‬ ‫مزقاً‪ ،‬وتذكرت يوم َلب َ‬
‫مكبلة‪ ،‬تحسست فخذها‬‫مرت الصور سريعاً في ذاكرتها‪ ،‬وهي تزحف بينهم ّ‬ ‫َّ‬
‫عدلت موضع السيف‪ ،‬فللمعدن صوت غير ما النسحال الجسد على األرض‪ ،‬ثم‬ ‫و ّ‬
‫صعدت الهضبة بينهم‪ ،‬ودخل العريف خيمة سيده‪ ،‬ودنا كبير الطهاة مبتسماً‬
‫وهمس‪:‬‬
‫‪ :-‬أدعي أني أمهر الطهاة قاطبة‪ ،‬وأطمع بمعرفة رأيك بما على المائدة‪،‬‬
‫موعدنا صباحاً سيدتي الجميلة‪.‬‬
‫أشار إليها العريف أن تتقدم‪ ،‬وأزاح لها ستارة باب الخيمة‪( ..‬هوذا الخوف‬
‫على منصته انقلب إلى ضده)‪ C..‬اقتحمت الخيمة مرفوعة الرأس‪ ،‬وقفت بين الباب‬
‫والمائدة‪ ،‬اتساع عينيها َّلم المكان وما فيه‪ ،‬فرأت كل ٍ‬
‫شيء دون أن تتلفت‪.‬‬
‫أنزل الضابط الزجاجة عن فمه مبهوتاً‪ ،‬وجهٌ لم يكن لمن عاشرهن مثل‬
‫جماله!‬

‫‪- 29 -‬‬
‫وهذان الصفّان من سرو البحيرتين‪ ،‬رموشها والعينان‪ُّ ،‬‬
‫والقد مثل شجرة‬
‫مشوية‪ .!.‬أهي كذلك‪ ،‬أم َّ‬
‫أن الخمرة‬ ‫ّ‬ ‫كالرمان‪ ،‬والشفتان كستناء‬
‫ّ‬ ‫ورد‪ ،‬والنهدان‬
‫ٍ‬
‫غصن كاد‬ ‫شاركته رسمها‪.‬؟‪ C.‬أو لعلّهُ انزياح الحرمان برائحة الندى‪ ،‬على‬
‫يجف‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬تفضلي بالجلوس‪.‬‬
‫افتداء آخر‬
‫ً‬ ‫(التهور يتجاوز الشجاعة‪ ،‬فاالنتحار‬
‫ّ‬ ‫جلست قطعة واحدة‪..‬‬
‫الحلول‪.).‬‬
‫‪ :-‬كلي أيتها الباهرة‪.‬‬
‫(ولم ال آكل‪.‬؟‪ C.‬فقد تكون لقمتي األخيرة‪).‬‬
‫‪َ :-‬‬
‫جدد كبير الطهاة مائدة سيده الضابط عثمان‪ ،‬ووقف ينظر إليها ويسترق‬ ‫ّ‬
‫ويتسول كلمةً تُرضي ولعه‬ ‫رضاه‪،‬‬ ‫ل‬ ‫يتوس‬ ‫‪،‬‬ ‫نظرات إلى وجه سيده‪ ،‬فاركاً كفاً ٍ‬
‫بكف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فاغتَ َّم ودفع طبقاً أمام سيده‪ ،‬ثم وصفها‬
‫بمديح صنع يديه‪ .‬سأله الضابط عن المرأة‪ْ ،‬‬
‫بأنها فرس‪ ،‬وهي مثل الكمثرى‪ ،‬لوال ضيم حاق بها‪ ،‬فذهب ببعض نضارتها‪ ،‬إال‬
‫َّأنها تبقى مقبولة لندرتها في مثل هذا الفصل‪ ،‬وفي مثل هذا المكان‪.‬‬
‫‪ :-‬وصدرها‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬حمامتان ورقاوان يا سيدي‪ ..‬دجاجتان‪.!.‬‬
‫وهزت سكونه‪ .‬انحسر َّ‬
‫الدم من وجه كبير الطهاة‪ ،‬حتى‬ ‫صرخة مألت الليل ّ‬
‫بدا ببياض قرص من الجبن الطازج‪.‬‬
‫جمدت عينا عثمان في محجريهما‪ ،‬ونسي للحظات من يكون‪ C.!.‬تفترسه‬
‫غرائز ال يعلم كنهها‪َّ ،‬‬
‫كأنه ال يدرك عالقته بما حوله من الموجودات‪.!.‬‬
‫ابتعدت المرأة عن خيمة الضابط ألكسندر‪ ،‬دانية من حافة المنحدر‪ ،‬واندفع‬
‫العريف من خيمة سيده كالمجنون‪ ،‬وأعلن أنه مقتول‪ ،‬صرخ بالعسكر والحرس‪،‬‬
‫طوقوها فصاحت‪:‬‬ ‫واستنفر األومباشي عسكره‪ ،‬والتقى الجمعان كحذوة حصان‪ّ ،‬‬
‫دنسني‪ ،‬وقد نوى‪.‬‬
‫‪ :-‬قتلته وما ّ‬
‫ٍ‬
‫بطلقة‪ ،‬ومثله فعل‬ ‫واخترق الرصاص جسدها‪ ،‬واختتم العريف المشهد‬
‫األومباشي‪ ،‬واستقرت رصاصتاهما في رأسها الذي كان جميالً‪ ،‬وتدحرج الجسد‬
‫من عل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫وزحفوا نحو الهضبة كطيور البطريق المهتاجة؛ والوعول المنتهشة‪،‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫تبخرت النشوة من رأس العميل‪ ،‬فأطلق مفتتاً القارورة ومشى‪ C..‬أسرع‪ ..‬ركض‬
‫منادياً صديقه الفتى‪ ،‬ودفعه وأخته ليمتطيا الجواد‪ ،‬فال وقت للحزن‪ ،‬وليهربا قبل‬
‫أن يطولهما سوط العريف ورصاص عسكره‪.‬‬
‫‪ :-‬هيا‪ ..‬وستجد األم من يقبرها‪ ،‬وإ ني منتقم لها‪ ..‬أقسم‪.‬‬
‫ساط الحصان فعدا بهما خبباً‪ ،‬حتى إذا ابتعدوا وأخفاهما الوادي‪ ،‬تناول من‬
‫عنق حذائه زجاجة مفلطحة؛ دلقها في جوفه دفعة واحدة‪ ،‬واعتلى رجماً؛ مخاطبًا‬
‫الناس من حوله‪:‬‬
‫واثق أنكم دافنوها‪ ،‬وقد وعدت الفتى أن أنتقم لها‪ ،‬وإ ني أفي بوعدي‬
‫‪ٌ :-‬‬
‫فاشهدوا‪.‬‬
‫استل سيفه قصير النصل‪ ،‬وغرزه في موضع فؤاده‪ ،‬وسحبه مثل لمح البرق‪،‬‬ ‫َّ‬
‫سرته‪ ،‬وضغط جاثماً عليه‪ ،‬فارتفعت سترته وسط ظهره مثل‬ ‫ثم جثا ووضعه في َّ‬
‫ٍ‬
‫خيمة‪ ،‬وانسحلت ركبتاه فاستوى منبطحاً‪ ،‬وارتطم أنفه باألرض‪ ،‬وتعفَّر جبينه‬
‫بالتراب‪ ،‬وبان نصل السيف‪ ،‬وقد اخترقه من البطن إلى الظهر‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫‪3‬‬

‫استفاق عثمان من الوهلة وما زال في دائرة النار‪ ،‬رأى نفسه عقرباً؛ فيه من‬
‫السم ما يخلّصه من هذا المشوى؛ وذل االحتراق محاصراً‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪( :-‬ألمثل هذا تُ ِع ُّد العدة يا‪ ..‬عثمان‪.‬؟!‪ C.‬سه ٌل أخذ األمور على عواهنها‪،‬‬
‫فتتصرف بما تقتضيه الحال‪ ،‬مثلما يتوقع المأفونون من حولك‪ .‬لكنها ساعة طالما‬
‫وتزج بها في‬
‫ّ‬ ‫انتظرت مثيالتها؛ لتسقي فوالذ شكيمتك‪ ،‬وما فتئت تخضعها للمحن‪،‬‬ ‫َ‬
‫امتحانات عسيرة‪ ،‬لتكون ذات يوم حجر قوس القنطرة‪ ،‬بها يظل البنيان قائماً‪،‬‬
‫وبدونها يتزلزل‪ .‬اخلع قلبك كما تخلع قفازك أو قناعك أو نعلك‪ ،‬وضع مكانه غاية‬
‫الغايات؛ ودعها تضخ في عروقك ما يجعلك ال ترى سواها؛ وال يشغل رأسك عنها‬
‫شاغل‪ ،‬قم فقد آن األوان‪ ،‬قلِّص ما استطعت أدوار َم ْن هم حولك‪ ،‬فالحكاية لم تزل‬
‫بال نهاية‪ ،‬وارم عصاك كما لو كانت عصا موسى‪ C،‬اقلب السحر على الساحر؛‬
‫واسحب البساط إليك‪ ،‬واجعل من مصيبتهم فوائد لك‪ ،‬تذ ّك ِر الوحوش والبهائم‬
‫دابة عليها‪ ،‬واقبس من خصائصها‪ ،‬ولتكن ليناً وكاسراً‪،‬‬ ‫وخشاش األرض؛ وك ّل ّ‬
‫هيناً وهصوراً‪ ،‬ناعماً كفرو األرنب‪ ،‬ومثل إبرة العقرب‪ ،‬افعل ما بدا لك‪ ،‬وال تأبه‬
‫بالوعوعة‪C.).‬‬
‫كأن نخاعه الشوكي‬
‫دخل خيمة ألكسندر‪ ،‬وأمام الجثة انتفض جسده مقشعراً‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫لحظتئذ تخلّص تماماً من تأثير الحادثة‪ ،‬فاستفاق‬ ‫ُو ِخ َز ّ‬
‫فاهتز في قناته واختلج‪،‬‬
‫بكامل حواسه وأحاسيسه‪ ،‬واقترب من السترة على مشجبها‪ ،‬نبش جيوبها‪ .‬أراحه‬
‫التماع الذهبيات في كفه‪ ،‬وداس على الجثة قرب انغماد السيف فاقتلعه‪ ،‬وخرج به‬
‫ٍ‬
‫كسهم أمام العسكر‪ ،‬فأتى منغرزاً كالوتد‪،‬‬ ‫كمن أخرج ثعباناً من جحره‪ ،‬وألقى به‬
‫راقه ذلك‪ ،‬كأنه أنجز ما يحتاج لضابط بمستواه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ :-‬عجلوا بدفنه في موضع خيمته‪ ،‬فلن يمكنكم العودة به إلى مسقط رأسه‪.‬‬
‫ترك المهمة للعريف‪ ،‬وأمر الضابط كماالً أن يتولى على الفور تدريب‬
‫‪- 32 -‬‬
‫العسكر‪ ،‬ليستعيدوا لياقاتهم‪ ،‬وأمر الطهاة أن يزيدوا جعالة العسكر‪ ،‬وأعطى‬
‫األومباشي صالحية إطالق النار على ما يريب‪ ،‬ثم ضغط على صدغيه ومضى‬
‫مفكراً‪ ،‬فاألمر قد تفاقم‪ ،‬والحنكة تدعو إلى تطويقه‪ ،‬واستتر بالحادثة وعقابيلها‪،‬‬
‫وجعلها هاجس َم ْن ُهم حوله‪ ،‬أما هو فلم يعهد أعصابه باردة وبهذا الهدوء‪ ،‬وطفق‬
‫فشجع األلسن أن تلوك سمعة ألكسندر‪،‬‬ ‫يضع ما يدور في رأسه موضع التطبيق‪ّ ،‬‬
‫حرج بين‬
‫ٍ‬ ‫غير ٍ‬
‫آبه باستنكار العريف لما يلقاه وجنوده من ازدراء‪ ،‬وتركهم في‬
‫نارين‪ ،‬نار فعلة كبيرهم‪ ،‬ونار عجزهم عن إيقاف عجنهم جميعاً في اإلناء ذاته‪،‬‬
‫ط مقتل الضابط‪ ،‬إلى مستوى ال‬ ‫وأهَب َ‬ ‫َّ‬
‫وأن ثلمة سمعة الرجل في المال أو النسوة‪ْ ،‬‬
‫ألحد من عسكره‬‫نفر بالهيضة‪ ،‬ولم يشارك بمراسم الدفن‪ ،‬ولم يسمح ٍ‬ ‫يتعدى موت ٍ‬
‫أن يكون قريباً من المكان‪ ،‬وانقطع إلى نفسه كقائد؛ وهيئة أركان؛ وبدل قادة‬
‫الميدان‪ ،‬كأنهم مختزلون في شخصه‪ ،‬يرسم لمرحلة على األبواب‪ ،‬وحسب أسوأ‬
‫ك الناس به‪ ،‬ورفع عتبهم عنه‪ ،‬وتبرئة نفسه مما‬ ‫االحتماالت‪ ،‬ومرامه إبعاد ش ّ‬
‫فقدم العزاء بالمرأة‪ ،‬مشيداً بموقفها دون شرفها‪ ،‬وأمر‬
‫حدث‪ ،‬واغتنم الفرصة ّ‬
‫حجرية على قبرها تبجيالً لطهرها العفيف‪.!.‬‬
‫ّ‬ ‫بشاهدة‬
‫‪( :-‬ما هذا يا عثمان‪.‬؟!‪ C.‬ألم تنتظرها وأنت تتقطر شبقاً‪.‬؟‪ .‬أم أنك صيَّرتها‬
‫جسراً لغاياتك‪.‬؟‪ .‬من أي ٍ‬
‫وحل ُجبلت‪.‬؟‪ .‬وما الذي بينك والشيطان‪.‬؟‪C.).‬‬
‫كانت صورة أمه تمأل فضاء خياله‪ ،‬وال شيء سوى طيفها‪ ،‬وباألخص وقت‬
‫ألح عليها أن يعرف له أباً قبل فوات األوان‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫احتضارها‪ ،‬وقد ّ‬
‫قدر تضحيتي من أجل تحقيق أسطورتنا‪،‬‬ ‫‪{ :-‬أحد ثالثة في اآلستانة ويلدز‪ّ ،‬‬
‫وانس يا بني‪ ،‬فأنا أمك وأبوك‪.}.‬‬
‫َ‬
‫وحين أُنبئ بهرب ابنها وأخته‪ ،‬اهتصر حنقه وكتم غيظه‪ ،‬متغاضياً عن‬
‫الخبر‪ ،‬لكنه جعل اإلعدام رمياً بالرصاص؛ عقوبة الحرس إن تكرر هرب أحد‪،‬‬
‫أن يتّبع الردع‬
‫فصرامة العقوبة غطت على تهاونه‪ ،‬ومرق قصده سهالً‪ ،‬وارتأى ْ‬
‫طن‪ ،‬بدل القمع الشرس‪ ،‬فاستدعى الشيخ اإلمام مرافق السفر ومفتي‬ ‫اإلقناعي المب ّ‬
‫المسير‪ ،‬وزايد عليه إلى حين‪ ،‬وباعه مما في جعبته‪ ،‬كأنه يأتيه باجتهاد مسند‪،‬‬
‫مضض في بعض األحايين‪ ،‬إلدراكه أنه‬ ‫ٍ‬ ‫يهز رأسه موافقاً‪ ،‬وإ ن يكن على‬
‫واإلمام ّ‬
‫مسخر للخدمة‪ ،‬وما هو وكل هذه المعمعة إال وسيلة لغاية قد ال يدركها تماماً‪ ،‬إنما‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫يستشف أهميتها من مرتب ُخصص له؛ يفوق ما يتقاضاه الضابط كمال هو‬
‫واألومباشي معاً‪ ،‬فيقول ما يريدون حين يريدون‪ ،‬ينحت ويقيس ويختلق‪ ،‬فيزيد‬
‫ويكرس ضرورته للناس على أنه عالّمة‬ ‫مكانته ثباتاً‪ ،‬ويحافظ على حاجتهم إليه‪ّ ،‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫جهب ٌذ‪ ،‬ورأى في إذعانه لطلب الضابط خيراً ومثابة‪ ،‬فأقام صالة الجمعة في‬
‫فأدت الواقعة إلى‬
‫ذم ألكسندر‪ّ ،‬‬ ‫العلية‪ ،‬ولم يفته ّ‬
‫العراء‪ ،‬فخطب لعثمان ومدح الدولة ّ‬
‫وكونتها كما يرغب‪ ،‬فغنم منها ما لم يكن يحلم به‬‫تعجيل عملية التسليم واالستالم‪ّ ،‬‬
‫مح البيضة وقشرتها‪.‬‬‫تم األمر مع ألكسندر‪ ،‬الذي كان سيقاسمه ّ‬ ‫لو َّ‬
‫وبأمرة العريف لَ َّم العسكر حاجاتهم وعتادهم‪ ،‬وجهّزوا عرباتهم والدواب‪،‬‬
‫وأضحوا مستعدين للتحرك‪ ،‬برغم تغافل الضابط عثمان عن تأمين دليل وحامية‪،‬‬
‫رده أن يسلكوا الطريق ذاتها‪ ،‬وأن يستخدموا سالحهم في حماية أنفسهم‪ ،‬بدل‬ ‫وكان ّ‬
‫استخدامه في اصطياد الثعالب واألرانب‪ ،‬إذ جمعوا من جلودها أحمال ثالثة بغال‪،‬‬
‫سيبيعونها لنساء أغنياء الحروب وأثرياء سدنة الحكم هناك في "المسكوف"‪ ،‬وربما‬
‫وزعوا بعضها على عشيقاتهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أبلغهم ذلك بازدراء‪ ،‬ومضى إلى حيث يتابع الضابط كمال تدريب العسكر‪.‬‬
‫طغى حنق العريف‪ ،‬فامر السدنة بتجهيز المدافع الثالثة‪ ،‬وأوعز بأن تُلقَّم‬
‫البنادق‪ ،‬وخاطب عسكره بأنهم سيودعون كبيرهم بتحية الئقة‪ ،‬فاصطفوا نسقين‬
‫ووجههم ناحية المنحدر‪،‬‬‫خلف المدافع بوضعية الرمي وقوفاً‪ ،‬وتأكد من الجاهزية‪ّ ،‬‬
‫ثم صاح‪:‬‬
‫‪ :-‬نا‪..‬ر‪.‬‬
‫غبار ونيران وقتلى ورعب وجرحى‪ ،‬أجساد ممزقة ودماء‪.‬‬
‫مفاجأة لم يتوقعها الناس‪ ،‬أخذتهم على حين ِغ ّرة‪ ،‬وزادت محنتهم بؤساً‪.‬‬
‫حياه‬
‫توجه إلى مرقد الضابط ألكسندر ّ‬ ‫أمر العريف بإعادة تعمير السالح‪ ،‬ثم ّ‬
‫قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬ذلك مقابل قطرة واحدة من دمك النبيل‪ ..‬الوداع سيدي‪.‬‬
‫ثم أعطى أمره صائحاً بعسكره‪:‬‬
‫‪ :-‬أما‪..‬م سر‪.‬‬
‫يغيبهم األفق‪ ،‬ظهر عثمان على حصانه فوق الرابية‪ ،‬وراح يرقب‬
‫وحين كاد ّ‬
‫األفق والمنخفض وهمس‪:‬‬
‫عريف فذ‪ .!..‬لو كنت من عسكري لمنحتك رتبة (ضابط‬ ‫ٍ‬ ‫‪ :-‬يا لك من‬
‫شرف) على الفور‪ ،‬ثم أعدمتك رمياً بالرصاص دون تردد‪ .‬وأمر األومباشي أن‬
‫ينزل بكوكبة إلى أولئك‪ ،‬يبلغهم استنكاره‪ ،‬ويقدم باسمه العزاء بالقتلى‪ ،‬وأن‬
‫وتوجه إلى قبر ألكسندر‪ ،‬وخاطبه‬
‫ّ‬ ‫يوزعوا عليهم العدس المجروش ودقيق الذرة‪،‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫قائالً‪:‬‬
‫أبدية‪ ،‬فاعلم أني سعيد بأنك ما زلت وستظل مديناً لي‬
‫‪ :-‬ها قد نمت نومة ّ‬
‫أبداً أيها األبرص‪.‬‬
‫حينئذ وصل كمال على رأس العسكر منهكين‪ ،‬فمشى عثمان أمامهم قائالً‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫‪ :-‬فعلة نكراء اقترفها ذاك العريف الوغد‪C.!..‬‬
‫ومضى إلى خيمته‪ ،‬مشيراً لكبير الطهاة أن يلحق به‪ .‬وكان كمال يرصد‬
‫المشهد‪ ،‬ويتابع العريف وعسكره‪ ،‬وقد أمسو "خربشة" سوداء على األفق البعيد‪،‬‬
‫وتفجر اشمئزازه عاصفاً بوجدانه‪ ،‬فانحدر مسرعاً‪ ،‬وهو ُّ‬
‫يفك أزرة سترته‪ ،‬فلحق‬ ‫ّ‬
‫به بضعة متحمسين صائحين‪:‬‬
‫‪ :-‬اهلل‪ ..‬أكبر‪.‬‬
‫فاهتز غضباً‬
‫خرج عثمان من خيمته على عجل‪ ،‬واستوعب ما يحدث‪ّ ،‬‬
‫وصاح‪:‬‬
‫أمر عسكريٌّ‪.‬‬
‫‪ :-‬ارجعوا فوراً‪ٌ ..‬‬
‫هنية‪ ،‬وجمد العسكر ونظرهم موزعٌ بين الضابطين‪ ،‬وتفكيرهم‬
‫توقف كمال ّ‬
‫َّة واألمر‪ ،‬فقذف كمال سترته‪ ،‬ومضى نازالً يكاد يتدحرج‪ ،‬عندئذٍ‬
‫مشتت بين الح ِمي ِ‬
‫َ‬
‫غدارته وصاح‪:‬‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫طلقة‬ ‫أطلق عثمان‬
‫‪ :-‬الموت لمن ال يعود حاالً‪.‬‬
‫وادرأ كل منهم‬ ‫ٍ‬
‫طيور تكسَّرت أجنحتها‪ّ ،‬‬ ‫صعد العسكر الواحد إثر اآلخر‪ ،‬مثل‬
‫قدامهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السوط‬ ‫يفرقع‬ ‫وطفق‬ ‫الملتهبة‪،‬‬ ‫نظرته‬ ‫باآلخر‪ ،‬يلوذ بعضهم ببعض‪ ،‬تكويهم‬
‫ويسوطهم حيثما اتفق‪ ،‬وأمرهم أن يحفروا خندقاً أعمق من أطولهم قامة‪ ،‬حول قبر‬
‫ألكسندر‪ ،‬وعاد إلى خيمته‪ ،‬يضرب الهواء أمام وجهه صارخاً‪:‬‬
‫إلي بالطعام يا كبير "العكاريت"‪.‬‬
‫‪َّ :-‬‬
‫أسر إلى سيده بما سببه العريف‬
‫وحين عاد األومباشي على رأس الكوكبة‪َّ ،‬‬
‫من كارثة‪ ،‬وقرأ على وجهه عدم رغبته سماع المزيد‪ ،‬فأدار دفة حديثه إلى ناحية‬
‫تسر الضابط‪ ،‬وهو الذي خبر العسكرية ورجاالتها‪ ،‬أوليس أومباشياً‪.‬؟!‪C.‬‬
‫توقع أن ّ‬
‫التهم الضابط ج ّل الطعام ووجهه طافح بالسرور‪ ،‬واألومباشي مسلّم بواقع‬
‫األمر‪ ،‬وعليه التحدث بما يفتح شهية هذا الشره األكول‪ ،‬ليتلذذ بأطاييب الطعام‪،‬‬
‫زعارة سيلحقون بالعريف وعسكره‪ ،‬وقد أقسموا‬ ‫ووشى بما تناهى إليه‪ ،‬من َّ‬
‫أن ّ‬

‫‪- 35 -‬‬
‫على االنتقام‪ .‬انتفض سائالً إن كان فتاهُ بينهم‪.‬؟‪ .‬فأكد األومباشي أنه ليس معهم‪،‬‬
‫فتنفس مرتاحاً وعاود التهام الطعام‪ ،‬وأمر األومباشي باإلشراف على استكمال‬
‫غرر بهم كمال‪ ،‬فمضى يلعق لعابه وقد سال غير مر ٍة‪ ،‬متشهياً‬ ‫عقوبة أولئك الذين ّ‬
‫تذوق لقيمات‪ ،‬وابتعد متسائالً عن تعلّق الضابط بذاك الفتى مذ رآه‪.‬؟‪ .‬وطفق‬
‫يهرش إبطه مردداً‪:‬‬
‫‪ :-‬ربما‪ ..‬ربما‪.!.‬‬
‫أخذ عثمان كتابه األثير من الصندوق‪ ،‬وشرع يقرأ بصمت‪ ،‬ثم أغلقه وشرد‬
‫يردد بهيام‪:‬‬
‫سر األسرار‪ .‬أنت‬
‫السر الكتيم‪ ،‬وقلب يتسع ّ‬
‫الخزرية‪ ،‬يا ذات ِّ‬
‫ّ‬ ‫‪( :-‬أيتها األم‬
‫النار والمنار‪ ،‬أنيري طريقي ألضرم الحريق في صدور أولئك األوباش‪ ،‬فتكونين‬
‫راضية يا بنة يشوع‪C.).‬‬
‫وأتت الحرائق في المنخفض على خيام وعربات‪ ،‬مات أوادم‪ ،‬ونفقت بهائم‪،‬‬
‫ق‪ ،‬ويساعد‬‫يوجه إلطفاء حري ٍ‬‫تكسرت‪ ،‬وكمال كالنمر‪ّ ،‬‬‫يجبر أيدياً وأرجالً ّ‬
‫والحكيم ّ‬
‫ٍ‬
‫معلقة بجلد العضد‪ ،‬وهاهما يطهّران جروحاً بالنار وبرماد خشب‬ ‫الحكيم في بتر ٍيد‬
‫ٍ‬
‫بدوخة فأغمي عليه مرهقاً‪ ،‬وجثت ابنة العجوز بجانبه‪ ،‬تساعد‬ ‫الزيتون‪ .‬شعر‬
‫والدها بتدليك أطرافه حتى اختلج َّ‬
‫وأن‪ ،‬ثم تقيأ‪ ،‬فأمر العجوز ابنته أن تغلي من‬
‫أعشابه للفتى‪ ،‬هرعت الحسناء؛ والفضوليون يهمهمون ويرمزون‪ ،‬والعجوز‬
‫يحدجهم بنظرات تحمل معناها‪ ،‬ثم استشاط غضباً وقد سفه أحدهم قائالً‪:‬‬
‫بعدو إلى هذا الحد‪.‬‬
‫‪ :-‬ال تكن رحيماً ٍّ‬
‫شج رأسه مؤنباً‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بحجر ّ‬ ‫قذفه‬
‫‪ :-‬عجيان‪ ..‬أنستكم الشدائد طباع أهليكم وعاداتهم‪.‬‬
‫ّأيده أحدهم قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬يستأهل‪ .‬تباً للشدائد‪.‬‬
‫غاضب مدمدماً‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫واستنكر بعضهم فعلة العجوز‪ ،‬والمه‬
‫‪ :-‬أتشج رأسه دفاعاً عن ذئب‪.‬؟!‪C.‬‬
‫سحب العجوز ع ّكازه‪ ،‬وتحامل عليه حتى استقام‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫يعتز بأبيه‪ ،‬إلى ٍ‬
‫فعل يخفف به عنا ما‬ ‫‪ :-‬ليس هذا وقت اللوص‪ ،‬فليذهب من ّ‬
‫يتحجر قلبه‪.‬‬
‫لدي ما أقوله غير ذلك لمن لم ّ‬ ‫َّ‬
‫حل بنا‪ ...‬ليس ّ‬

‫‪- 36 -‬‬
‫انفض الرهط‪ ،‬وأتت الحسناء ٍ‬
‫بإناء يتصاعد بخاره‪ ،‬والعجوز يشجع كماالً‬ ‫ّ‬
‫قائالً‪:‬‬
‫مغبة طيبة عليك‪ ،‬هيا يا فتى‪C...‬‬
‫عب منه قدر استطاعتك‪ ،‬ففيه ّ‬
‫‪ّ :-‬‬
‫وخدر يسري في أعضائه‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫براحة‬ ‫وأحس‬
‫َّ‬ ‫استعاد وجه كمال بعض تورده‪،‬‬
‫كالنمل‪ ،‬وتمتم‪:‬‬
‫‪ :-‬أشعر أنني سأنام‪.‬‬
‫ابتسم العجوز ومسح على جبين الفتى قائالً‪:‬‬
‫حسن هذا‪ ،‬فقد نفعتك أعشابي‪ ،‬نم اآلن فأنت تتعافى‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪:-‬‬
‫أسياً‪:‬‬
‫وربت العجوز على كتفها وهمس ّ‬
‫ترقرقت الدموع في عينيها‪ّ ،‬‬
‫‪ :-‬لو لم يقتلوا شقيقك‪ ،‬لكان في عمره اآلن‪.‬‬
‫وقف وهو يوصيها أن تبقى إلى جانبه‪ .‬نظرت إليه وتلفتت‪ ،‬فهم قصدها‬
‫فهمس‪:‬‬
‫تقوالت األرذال‪.‬‬
‫‪ :-‬ال تهتمي‪ ،‬فصنيعك أنصع من ّ‬
‫مضى ورمى ع ّكازه؛ فترنحت إوزة صادفها‪ ،‬وأسرع إليها بخفة صياد‪،‬‬
‫فذبحها وناولها المرأة تجهّز موقداً قائالً‪:‬‬
‫ِ‬
‫شاركت بما ينفع‪.‬؟‪ C.‬اسلقيها وأكثري الثوم على مرقها ريثما أعود‪.‬‬ ‫‪ :-‬هال‬
‫وندت عنها شهقة الفجأة‪ ،‬فضربت بكفها على خدها‪ ،‬ولم‬ ‫امتقع وجه المرأة‪َّ ،‬‬
‫يكن ابتعد عنها‪ ،‬استدار وفي نظرته تساؤل‪ ،‬فلم يقع على غير صمت المرأة‬
‫فسألها‪:‬‬
‫‪ :-‬ما بك أيتها الجميلة‪.‬؟‪.‬‬
‫لمح نظرتها معلّقة باإلوزة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حسن‪ ..‬ما بها‪.‬؟‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪:-‬‬
‫‪ :-‬إوزتي وكانت شاردة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صمت‪ ،‬ثم انفجرا ضاحكين في اللحظة ذاتها‪ ،‬قالت المرأة‪:‬‬ ‫مرت لحظات‬‫ّ‬
‫‪ :-‬فداك‪ ..‬فليست ديك الجدة‪.‬‬
‫وتلقى األومباشي أمر رئيسه‪ ،‬أن ُينزل األنفار في الخندق‪ ،‬وأن يردمهم حتى‬
‫ٍ‬
‫بشيء من المواساة‪:‬‬ ‫حناجرهم‪ ،‬فأسرع منفّذاً‪ ،‬وكلما زاد طمرهم ردد‬

‫‪- 37 -‬‬
‫‪ :-‬تجلدوا أيها الفتية‪ ،‬هي ذي العسكرية بأحد وجوهها‪ ،‬سبقتكم إلى مثل هذا‬
‫ٍ‬
‫مرات‪ ،‬أم أنكم تحسبون "األومباشية" تُنال بدعاء الجدات وهدهدة األمهات‪.!!.‬‬
‫وحين لمح الضابط ينظر نحوهم‪َّ ،‬‬
‫هب واقفاً وصفع أقربهم رافعاً صوته‪:‬‬
‫‪" :-‬إيشك‪-‬حمار"‪ .‬تستحقون أكثر‪ ،‬ولكنها رحمة سيدي ورقّة قلبه‪.‬‬
‫ناداه فهرع إليه مؤدياً التحية‪ ،‬مبالغاً بنبرته‪:‬‬
‫‪" :-‬تمام أفندم‪.".‬‬
‫عقد ذراعيه خلف ظهره ومشى الهوينى‪ ،‬فتبعه كظلّه‪ ،‬نفث دخان لفافته‬
‫سائالً‪:‬‬
‫دهاء‪ ،‬الثعلب‪ ،‬أم ابن آوى‪ ،‬أم‬
‫‪ :-‬أيهم أشد مكراً‪ ،‬وأكثر مراوغة‪ ،‬وأعظم ً‬
‫الذئب‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬أحرجتني سيدي‪ ،‬ليس لدي جواب‪.‬‬
‫‪ :-‬فكر‪ ..‬وفي الغد تعطيني جواباً‪.‬‬
‫جلس العجوز جانباً‪ ،‬وابنته تلقم كماالً وتدفع إليه طاس الحساء‪.‬‬
‫التقت عيناهما‪ ،‬ولمست يده يدها فأطرقت‪ ،‬وارتعشت كفها فانسكب بعض‬
‫الحساء على قميصه‪ ،‬شهقت وسارعت لتمسحه بطرف كم ثوبها‪ ،‬منعها برفق‪،‬‬
‫وتعلّق نظره بتقاسيم وجهها وانفراق شعرها فوق جبينها‪ ،‬تمتم‪:‬‬
‫‪ :-‬قربان فالق القمر‪.!.‬‬
‫رفعت أهدابها وهمست‪:‬‬
‫‪ :-‬يكفيك اآلن أنني ما عدت أنظر إليك كألكسندر وعثمان‪.‬‬
‫تنحنح العجوز وقال‪:‬‬
‫‪ :-‬دع اإلوزة تستقر في جوفك دون ثرثرة‪ ،‬وأنت يا بنيتي‪ ،‬أكثري له من‬
‫الحساء‪ ،‬فاإلوز يحب السباحة‪.‬‬
‫وحين أزفت عودته إلى المعسكر‪ ،‬وقفت ترنو إليه‪ ،‬وما استطاعت الحسم‬
‫فيما انتابها‪ ،‬أو االنحياز إلى عداها ارتبكت وهرعت‪ ،‬كأن العيون كشفت ما‬
‫يهفهف في قلبها‪.‬‬
‫وأُبلغ عثمان بعودة كمال‪ ،‬فخرج إليه وقد تقلّد أوسمته‪ ،‬والسوط تحت إبطه‪:‬‬
‫أقصر بتأدية ما يمكن‪ ،‬وليسوا‬
‫‪ :-‬كان يجب أال تخترق األوامر‪ ،‬ثم إني لم ّ‬
‫يستحقون ما داموا بحكم األسرى‪ ،‬ثم إنهم في حمايتي‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫يجز رؤوسهم‪ ،‬وما زالوا مطمورين‪.‬‬
‫اقترب من المعاقبين‪ ،‬والحالق ّ‬
‫أشار بسوطه نحوهم قائالً‪:‬‬
‫َّ‬
‫ولشد ما أكره (الفلتان) ‪ .‬تصرفك اليوم ال يشجع على منح‬ ‫ورطتهم‪.‬‬
‫‪ّ :-‬‬
‫الثقة‪ .‬أنسيت الطلقة‪!.‬؟‪ .‬كأنك ما زلت صغيراً على األسرار!!‬
‫وتسمر متأهباً كأنه يتلو فرماناً وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬ألنك ضابط فحسب‪ ،‬لن تُعاقب مثلهم‪ ،‬ابق حارساً عليهم حتى مطلع‬
‫الفجر‪.‬‬
‫بالمضي‪ ،‬توقف واستدار نصف استدارة وأردف‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫هم‬
‫َّ‬
‫‪ :-‬من حقي أن أضعك معهم‪.‬‬
‫ضرب بسوطه ساق حذائه‪ ،‬واتجه إلى خيمته‪.‬‬
‫طوقهم ووضع يده‬ ‫الزعارة‪ ،‬كان لهم بالمرصاد‪ّ ،‬‬
‫وحين وصله خبر عودة ّ‬
‫على ما غنموه‪ ،‬متوعداً بجلدهم حتى تتسلّخ جلودهم‪ ،‬ومن الكبائر خروجهم عن‬
‫أن العقوبة قد تصل إلى تركهم مصلوبين فرائس‬ ‫طاعته وهو أميرهم‪ .!.‬وأشاع َّ‬
‫للطيور الالحمة‪ ،‬رافضاً بدأة ذي ٍ‬
‫بدء أية شفقة بهم‪ ،‬ولم يقبل وساطة الشيخ اإلمام‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وجيه من وجهائهم؛‬ ‫لكنه أوحى لألومباشي بأن وساطة الشيخ‪ ،‬مقرونة بشفاعة‬
‫مسألة فيها نظر‪ ،‬أتقن األومباشي إبالغ الرسالة‪ ،‬كأنه يقترحها من لدنه‪ ،‬فتداولوا‬
‫ألي قابلهم‪ ،‬لكنه دعاهم على الفور‬
‫األمر‪ ،‬وانتخبوا ثالثة ممن لم يستنكفوا‪ ،‬وبعد ٍ‬
‫وتدهى مظهراً حسن ّنية وفضل ٍ‬
‫كرم‪ ،‬فترك‬ ‫إلى مائدته‪ ،‬ثم ماطل بإجابة طلبهم‪ّ ،‬‬
‫للزعارة ربع ما غنموه‪ ،‬وزادهم ِمَّنة إذ ّ‬
‫قدم ربع الغنيمة لذوي قتيلهم الذي عادوا‬ ‫ّ‬
‫به‪.!.‬‬
‫قوته‪ ،‬وح ّذر بعضهم بعضاً‬‫نفر عن تسامحه برغم ّ‬ ‫وتحدث ٌ‬
‫ّ‬ ‫تحفَّظ بعضهم‪،‬‬
‫مما يبديه‪ ،‬بيد أن كبير الوجهاء‪ ،‬ارتأى دعوته إلى وليمة ضمن استقبال مقتضب‪،‬‬
‫فامتعضت النسوة لكثرة ما عليهن عمله‪ ،‬واستنكرن ذلك وبضعة منهم يدفنون كل‬
‫لمتهن‪ ،‬فالوجيه اصطحب الشيخ اإلمام؛ وأخذ فتاه‬ ‫يوم‪ ،‬وظل احتجاجهن حبيس َّ‬
‫ِلُيعظِّ َم الموكب ويزيده ّأبهة‪ ،‬وجعال صعود الهضبة مجاالً يتشاوران خالله حول‬
‫صيغة الدعوة‪ ،‬وكيف يخاطبانه بشأنها‪ ،‬وطفق اإلمام يرجو ربَّه أن يقبل الضابط‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫وقف كبير الوجهاء قاطعاً لهاثه‪ ،‬هازاً عصاه‪ ،‬وقال معترضاً ينهره‪:‬‬
‫‪ :-‬وما معنى مجيئك إن لم تقنعه‪.‬؟!‪C.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫أقصر‪ ،‬ولكنه ضابط‪ ،‬وأنت أدرى بأولئك الذين ال ضابط ألمزجتهم‪.‬‬
‫‪ :-‬لن ِّ‬
‫تنس أني أتوخى‬
‫أصر على دعوته‪ ،‬تذ ّكر ذلك‪ ،‬وال َ‬
‫‪ :-‬هه‪ ..‬ها‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫الكثير فيما بعد‪.‬‬
‫يهم أن يحملهما معاً‪ ،‬فيخلص من هذا‬
‫واستأنفا الصعود‪ ،‬والفتى خلفهما ّ‬
‫اإلبطاء الممل‪ .‬انتبه الوجيه إليه فضربه بع ّكازه على قفاه ونبر‪:‬‬
‫‪ :-‬قد تعي كيف ولدتك أمك‪ ،‬وال يكون ما يراودك‪ ،‬فلن تحملني يا ولد إال‬
‫بنعشي‪.‬‬
‫ظل الضابط طوال الوقت منشغالً بمراقبة الفتى‪ ،‬معجباً بقوته وتناسق جسده‪،‬‬
‫والحظ الوجيه ذلك فغمز بقوله‪:‬‬
‫‪ :-‬إن كان وجود الولد يزعجك‪ ،‬طردته للتو ليلعب في الخارج‪.‬‬
‫ضحك الضابط إذ راقه كالم الوجيه‪ ،‬فما زالت في نفسه همة‪ ،‬تجعله يرى‬
‫صعب عليهم الرضوخ‬
‫ٌ‬ ‫الفتى ولداً‪ ،‬ال ُيجيد سوى اللعب‪ .‬كذلك هم هؤالء المناكيد‪،‬‬
‫الفتوة من شعورهم بالكمال‪ ،‬وأصعب من ذلك‪ ،‬خلع صفة‬ ‫للشيخوخة؛ وهي تسحب ّ‬
‫أن وجهة نظر الضابط مخالفة‬ ‫الرجولة على من ال يثبت ذلك بفعل شجيع‪ ،‬إال َّ‬
‫فقدم للفتى بعض الصابون هامساً‪:‬‬
‫تماماً‪ّ ،‬‬
‫‪ :-‬النظافة تناسبك‪.‬‬
‫يكر حبات سبحته‪ ،‬وعيناه تنزرقان في الكالم‪ ،‬وتعابير‬‫لوى الشيخ رأسه‪ُّ ،‬‬
‫الوجوه؛ مهمهماً كأنه في عالم آخر‪ ،‬فيجهر بأحد أسماء اهلل الحسنى‪ ،‬ثم يغيِّب‬
‫صوته خلف حركة شفتيه المتواترة مع أنفاسه؛ ودوران عينيه المتذبذبتين في‬
‫محجريهما‪.‬‬
‫وجير حظوته لدى الضابط لصالحه قائالً‪:‬‬
‫غبط الوجيه فتاه‪ّ ،‬‬
‫‪ :-‬أيها المحترم‪ .‬هو ذا أحد رجالي‪ ،‬وكان لي رجا ٌل بعدد نصف عسكرك‪،‬‬
‫عهدت إليه رعي خيولي وأبقاري‪ ،‬وكان يمسك بالثور من ذيله‪ ،‬فيقعيه أو يقطعه‪،‬‬
‫حتى بات نصف القطيع بال أذناب‪ .‬هو بكنفي أتحنن عليه برغم المعسرة‪.‬‬
‫تابع الضابط ثرثرة الوجيه‪ ،‬وعيناه تجوبان أنحاء الفتى‪ ،‬وترصدان مسحة‬
‫الحزن والغموض التي تغلل وجهه‪.‬‬
‫‪ :-‬فرصة متاحة لك يا فتى‪ ،‬اجتزها ولك معنا شأن جالس‪.‬‬
‫والتفت إلى اآلخر ْين واعداً أن يلبي دعوتهما‪ ،‬ووقف ليمد ٌّ‬
‫كل منهما يده‬ ‫َ‬

‫‪- 40 -‬‬
‫اج في عينيه‪ .‬وضع‬ ‫وه ٌ‬
‫مصافحاً وينصرف‪ ،‬واستدار نحو الفتى ماداً يده‪ ،‬وبريق ّ‬
‫ٍ‬
‫كف الضابط‪ ،‬فأمكن عليها قبضته‪ ،‬عندئذ اهتصر الفتى‬ ‫الفتى يده برفق خجول في ِّ‬
‫كف الضابط‪ ،‬فارتجفت أرنبة أنفه‪ ،‬وأمست يده مثل يد أنثى‪ ،‬فأسبل الفتى يده‬‫َّ‬
‫غدارته‪ ،‬جعلت‬ ‫ومضى ال يلوي على أحد‪ .‬وحين أدبروا‪ ،‬أطلق فوقهم طلقة من ّ‬
‫اإلمام يقفز صائحاً‪:‬‬
‫‪ :-‬اهلل‪.!!.‬‬
‫وقف الوجيه رافعاً نظره إلى أعلى متسائالً باستهزاء‪:‬‬
‫‪ :-‬أبومة أم وطواط ذاك الذي أطلقت عليه كي ال يزرق علينا‪ ،‬أيها‬
‫المحترم‪.‬؟‪C.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ تمتم عثمان معجباً‪:‬‬ ‫أما الفتى فقد تابع سيره كأنه لم يسمع صوتاً‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬وإ نك متكامل كما تخيلت‪.!.‬‬
‫وخاطب الوجيه مبرراً‪:‬‬
‫‪ :-‬طلقة تحية ليس إال يا كبير‪.‬‬
‫اقترب كمال فاتجه عثمان نحو خيمته‪ ،‬فجعله يتبعه آمراً‪:‬‬
‫جوعهم ما استطعت‪.‬‬ ‫‪ :-‬استمر بتدريبهم‪ ،‬وامنع عنهم الجعالة؛ ّ‬
‫توقف ممسكاً عن الكالم ثم أردف‪:‬‬
‫‪ :-‬فليصوموا يوم ٍ‬
‫غد‪ ،‬ذلك بعض التدريب‪.‬‬
‫كازاً فكيه بعضهما‬
‫أسدل ستارة باب خيمته‪ ،‬غير عابئ بكمال‪ ،‬فامتعض ّ‬
‫فصرت نواجذه صريراً مأل مسمعيه‪ ،‬وحنقه يكاد يخرجه عن طوره‪ .‬نظر‬ ‫ٍ‬
‫ببعض‪ّ ،‬‬
‫نحو المنحدر‪ ،‬ثم جلس على صخر ٍة‪ ،‬وأسند رأسه في كفيه متأمالً‪.‬‬
‫واتكأ عثمان بمرفقيه على طرف المنضدة‪ ،‬اتسعت عيناه وتمتم‪:‬‬
‫منسية‪ .‬فال الموت‬ ‫ٍ‬
‫هادئة ّ‬ ‫ٍ‬
‫شيخوخة‬ ‫‪( :-‬لست من يتلمس سبل السالمة إلى‬
‫بأقل ألماً يرضيك‪ ،‬وال العيش التافه بأقل الخسائر ما تبتغي‪ .‬خيوط اللعبة في‬
‫أصابعي‪ ،‬أنسجها كما أريد‪C.).‬‬
‫حسر بصره عما حوله‪ ،‬وغاص في دواخل طفولته‪َّ ،‬‬
‫فتكشفت له‪ ،‬ثم صار‬
‫فر إليها‪:‬‬
‫فيها‪ ،‬وقد َّ‬
‫زلت الذي ساررته‪ -‬على صغري‪ -‬بما ِ‬
‫كنت تخش َْي َن أن تفكري به‬ ‫‪( :-‬ما ُ‬
‫وفية لما في أعماقك‪ ،‬بقدر ما كان عابثاً فصبأ‪ .‬كبيرة‬ ‫ِ‬
‫إن كان أحد قربك‪ ،‬بقيت ّ‬

‫‪- 41 -‬‬
‫كنت قتلتِ ِه‪ ،‬أو قتله سواك‬
‫بهمك يوم أنكرك وقد فاجأته بي في بطنك‪ .‬ما همني إن ِ‬
‫ّ‬
‫أحببت ما صيرتني إليه‪ ،‬أ ِ‬
‫ُبط ُن أكثر‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬ ‫ترغبين‪،‬‬ ‫كما‬ ‫كونتني‬ ‫أنك‬ ‫األهم‬ ‫برضاك‪،‬‬
‫ومخلص لترانيمك‪ ،‬وحكايات‬ ‫ٌ‬ ‫أبطنه‪،‬‬ ‫مما أُظهر‪ ،‬وأُظهر غير ما أُبطن‪ ،‬أُخلص لما‬
‫ولما‬ ‫قبل النوم‪ ،‬وما ِ‬
‫المقدس من بيتنا‪ .‬افتقدتك ّ‬ ‫كنت تتلينه في ذاك الركن الغامض ّ‬
‫أزل أحتاج حنانك‪ ،‬تباً للحظة هذى فيها وادعى أنه عنين عاقر عقيم‪ .‬وال أنسى‬
‫خوف وأطعمونا من‬‫ٍ‬ ‫مرحمة أولئك األجلّة حين أسبغوا علينا من عطفهم وآوونا من‬
‫أمسيت أطول من الراعي والعصا‪ ،‬وإ خال أنني للمآرب‬ ‫ُ‬ ‫جوع‪ ،‬ليتك ترينني‪،‬‬
‫ف‪ ،‬فهل أنت‬ ‫ق وتُ ِ‬
‫رع ُ‬ ‫األخرى‪ ،‬لي غنمي‪ C،‬أه ّشها بعصاً تبصق لهباً‪ ،‬تُز ِه ُ‬
‫راضية‪.).‬‬
‫وما برح كمال ساهماً في حالة صفاء‪ ،‬يجول في النقاء بقدر ما فيه من ٍ‬
‫ذخر‬
‫ذرة‬
‫مسبحاً بملكوت الكون الرحيب‪ ،‬هو ّ‬ ‫يكرها ّ‬ ‫للتبتّل‪ ،‬يرى ذاته خرزة في سبحة ّ‬
‫ُينكرها أمام عظمة ال تُضاهي‪ .‬وذهب به التفكير إلى أولئك؛ وقد أُجتثوا فانجذروا‬
‫عن مراتع نبتوا فيها‪ ،‬وإ ن قبلوا بكينونتهم‪ ،‬مقابل االحتفاظ بما تبقى لهم‪ ،‬وصون‬
‫مشاعرهم‪ ،‬لكنه لم يستطع إحالل القناعة في نفسه عن تركهم أرضهم‪ ،‬مهما فدح‬
‫وتج ْهَن َم‪.‬‬
‫الثمن‪ ،‬فالموت ليس بكثير على الشعور باالنتماء إلى مكان مهما استعر َ‬
‫أوليس االنتماء أكبر من فكرة ومعتقد‪.‬؟‪C.‬‬
‫ضغط صدغيه بكلتا راحتيه عاجزاً عن المفاضلة أو الترجيح‪ .‬تنفس عميقاً‬
‫تسرب فيه‪ ،‬فأضاء حلب وقويقها وقلعتها وحواريها‬ ‫واختلج‪ ،‬ولمس شعاع حنين ّ‬
‫وكيها‪ ،‬ومحل الخياطة‪،‬‬‫وأشجار فستقها وبحسيتا‪ ،‬ودكان أبيه لصنع الطرابيش ّ‬
‫القوادة‪ ،‬وأنه سيجعل من ابنه رجالً أهم من زبنها‬
‫تذ ّكر يوم تحدى أبوه تلك ّ‬
‫تخر على‬ ‫كرسها نجمة‪ُّ ،‬‬ ‫المتتركين رافضاً اشتراطها أن ينضوي في المحفل‪ ،‬الذي َّ‬
‫بغلو‬
‫ركبتيها رؤوس الكبراء‪ .‬أبى‪ ..‬ولجأ إلى أم الوالي‪ ،‬ف َك َوتْه على يد الوسيط ِّ‬
‫طلباتها‪ ،‬وهي إنما تخدمه ألنها أحبَّت حلب وأهلها‪ ،‬فههنا تفعل ما يضمن شطحات‬
‫خياط الباشا ونديمه‪ ،‬ثم إنه دخل دارة "الخانم" فصعد الشجرة ولم‬ ‫نزواتها‪ ،‬وجعلته ّ‬
‫ينزل عنها‪.!.‬‬
‫‪ :-‬كل ذلك يا أبا كمال ليس بذي أهمية‪ ،‬إذا ما تطلّعت إلى ٍ‬
‫غد ترى فيه ابنك‬
‫ضابطاً باشا‪.).‬‬
‫أخذ نفسًا عميقاً فسمع غناء حلب‪ ،‬وعبقت في أنفه روائح أطعمة بيته‬
‫ونكهتها‪ ،‬تصنعها أمه ورقوش تعاونها‪ ،‬وأناملها تقطر نكهة تجعل للقمة طعماً ال‬
‫ينسى‪ ،‬ويا لعنقها وليس ما يضاهيه إال عمود سرمدا‪ C.!.‬ولكن‪ ..‬ذلك يجب أن يكتم‬

‫‪- 42 -‬‬
‫كنسمة تُنعش الروح‪ ،‬ليبدأ المسير الليلي فيتعب العسكر‪ ،‬ويقلق الناس في المنحدر‪،‬‬
‫لدنوهم من‬
‫فروا منه‪ ،‬وما من بارقة ّ‬ ‫مر ّ‬
‫وقد باتوا معلقين‪ ،‬بعدما ابتعدوا عن واقع ٍّ‬
‫نهاية معاناتهم‪ ،‬سحقهم العسكر هناك‪ ،‬ويجولون ههنا حولهم‪ ،‬ال يدرون أناقة لهم‬
‫أم جمل‪ ،‬من كل هذا الذي ال ُيحتمل‪ .!.‬فراغ وآت مجهول‪ ،‬وعتمة بينهما معلقة‪،‬‬
‫ال أول لها وال آخر‪ ،‬ولوال النجوم هنا‪ ..‬ك‪ ،‬ولهب النيران حولهم‪ ،‬لكان المكان‬
‫قبراً جماعياً أو كهفاً مغلقاً؛ أُهيل همهم عليهم‪ ،‬فإن ُه ِّون حالهم‪ ،‬فهو كحظيرة كبيرة‬
‫فكه بحجة‬ ‫تأوي أنعاماً بال أكالء وماء‪ .!.‬وبرغم الحصار‪ ،‬تم ّكن بعض الفتية من ِّ‬
‫سالح غنموه من عسكر ألكسندر‪،‬‬‫ٍ‬ ‫جلب الحطب‪ ،‬فعادوا بكثير منه وبما خبؤوه من‬
‫وأخفوه عن العيون‪ ،‬أما الحطب فنصفه للعسكر‪ ،‬ولعل كل الحطب ال يهم‪ ،‬ما دام‬
‫السالح قد أُنقذ‪.‬‬
‫عدو إلى وليمة وهم‬
‫ولم يسلم الوجيه من األلسن‪ ،‬فقد استنكر بعضهم دعوة ٍّ‬
‫جزار‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫يهلكون جوعاً‪ ،‬وامتعض بعضهم اآلخر الستضافة ّ‬
‫‪ :-‬كذا هم الوجهاء‪ ..‬ومتى لم يكونوا كذلك‪.‬؟‪C.‬‬
‫معقود على حكمته‪ ،‬أوليس‬
‫ٌ‬ ‫بينما رأى آخرون أن للوجيه أسبابه‪ ،‬واألمل‬
‫النية مطلوباً‪ ،‬ومتى‬
‫وجيهاً‪.‬؟!‪ C.‬يعرف متى تكون المهادنة نافعة‪ ،‬وإ بداء حسن ّ‬
‫يجب إعالن القطيعة وإ جهار الرفض‪ ،‬وهو أدرى بالوقت المناسب للسلم والحرب‪،‬‬
‫أن الوجهاء يبنون وجاهاتهم مع األقوى‪ ،‬على حساب الضعفاء وإ ن‬‫نفر َّ‬
‫وتهامس ٌ‬
‫كانوا أقرباء‪.!.‬‬
‫وكان لقدوم األومباشي وقت الضحى‪ ،‬ونزوله بضيافة الوجيه‪ ،‬ثم مغادرته‬
‫بأبهى مما استقبل به‪ ،‬أكبر أثراً من القيل والقال‪ ،‬فالضابط قادم مع أذان المغرب‪،‬‬
‫فهو صائم وسيفطر على مائدة الوجيه‪ .!.‬أوليس في هذا تقدير للجميع؛ وحسن‬
‫يقدر الرجال‪.‬؟‪.‬‬
‫تصرف من رجل يعرف كيف ّ‬
‫وليتأدب السفهاء‪ .‬وقال أحد خاصة‬
‫ّ‬ ‫إذاً فلتخرس األلسن التي نسيت التهذيب؛‬
‫الوجيه‪:‬‬
‫خير من أن تكون سيد األحمق‪.‬‬
‫‪ :-‬أن تكون خادماً لعاقل‪ٌ ،‬‬
‫إن من لم يشاهدك جالساً‪ ،‬لن يراك وإ ن وقفت‪.‬‬
‫‪ :-‬وما الداعي للوليمة‪.‬؟‪ّ C.‬‬
‫ولم يأبه المحايدون بما يقال ويجري‪ .‬وأظهر الوجيه ترفّعاً عن هاتيك‬
‫الصغائر‪ ،‬ومضى إلى تدبير ذبيحة الئقة بمقام الضيف‪ ،‬وهذا هو األهم‪ ،‬اقترب من‬
‫غرته وطبطب على فخذه‪ ،‬ووقف مفكراً‪ ،‬فحبست إناثه‬ ‫ثور عربة اإلناث‪ .‬مسَّد َّ‬

‫‪- 43 -‬‬
‫يسخ بقوته وجلَِد ِه‪ ،‬ثم إنه من الضخامة بما يكفي إطعام قبيلة‪َ ،‬فِل َم‬
‫أنفاسهن‪ ،‬ولم ُ‬
‫ٍ‬
‫اإلسراف‪.‬؟‪ .‬فانصرف إلى كبش معقوف القرنين‪ ،‬فتنفست امرأته الصعداء‪،‬‬
‫متمنية لو أولم لضيفه تلك الديوك الرومية المتبقية‪ ،‬وهي ماهرة بتحضيرها‪،‬‬
‫ولكن‪ C..‬أنى لها مخالفة ما يرتئيه‪ ،‬فالزوجة ال تعارض زوجها أبداً‪.‬‬
‫جس الكبش في أكثر من موضع‪ ،‬رفع أَليته وقبض صوف ظهره عند‬ ‫َّ‬
‫خاصرتيه‪ ،‬رفعه ثم تركه‪ ،‬فراوده شك بأنه قد ال يكفي‪ .‬إذاً فليكن ذاك العجل‪ ،‬فهو‬
‫تقولهم أولمه‬
‫ثور وبحجم كبشين‪ .‬نعم‪ ..‬أن يقولوا ذبح لضيفه عجالً‪ ،‬غير ّ‬ ‫نصف ٍ‬
‫إن فعل بما أشار به الشيخ اإلمام‪ ،‬ووضع رأس العجل أمام‬ ‫كبشاً فحسب‪ ،‬ال سيما ْ‬
‫األبهة‪ ،‬وإ ن درجوا على تقديم النصف األيسر من رأس‬ ‫رأي ال تنقصه ّ‬‫الضيف‪ٌ ،‬‬
‫وزعه على من يشاء‪،‬‬ ‫الخروف‪ -‬الخروف فحسب‪ -‬ألكبر الضيوف سناً‪ ،‬فإن شاء ّ‬
‫لشاب‪ ،‬كي يسمع جيداً طلبات من هم أكبر منه سناً‪ ،‬والعين‬‫فيقتطع األذن ويقدمها ٍ‬
‫ٍ‬
‫لثرثار‪ ،‬عساه يجد من يصغي إليه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لفارس‪ ،‬كي ال يغفل عن األعداء‪ ،‬واللسان‬
‫ونصف الدماغ للمضيف‪ ،‬داعياً له أن تبقى كلمته نافذة‪ ،‬فيسود المائدة مرح ودعابة‬
‫محببة‪.‬‬
‫ولم يعتادوا تقديم رأس ٍ‬
‫عجل‪ ،‬لكن في رأي الشيخ اإلمام تمشياً مع مقتضى‬
‫الحال وضيفه الغريب‪ ،‬فليجامل الناس بما يناسبهم‪ ..‬ردد هذا في دخيلته‪ ،‬ونقر‬
‫غرة العجل بعصاه وقال‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ :-‬اذبحوه‪.‬‬
‫ومضى ينقر األرض بعصاه المفضضة‪:‬‬
‫‪( :-‬كل شيء سيجري على ما يرام‪.).‬‬
‫ٍ‬
‫ونفس ملؤها‬ ‫طمأن نفسه واقترب حيث السماور‪ ،‬وجلس يرشف الشاي ٍ‬
‫بتلذذ؛‬
‫أمل‪ ،‬وعقب صالة العصر‪ ،‬تأبط ذراع الشيخ‪ ،‬وراحا يتحدثان عن الوليمة‪،‬‬
‫والوجيه يرفع صوته ٍ‬
‫بثقة وحذر خفي‪.‬‬
‫غمز أحدهم قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬قد أطلق عنان عجرفته‪ ،‬ليجعلنا مطايا غايته‪.‬‬
‫‪ :-‬منذ بدء المسير‪ ،‬وهو ال يألو جهداً بإظهار أنه المنقذ‪.‬‬
‫وبم تفضله لتهجوه‪.‬؟‪.‬‬
‫‪َ :-‬‬
‫‪ :-‬ما قصدك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أحقاً ال تعرف ما قصدت‪.‬؟‪ .‬ال أحد يجهل أنك بعت أرضك أيضاً‪.‬‬
‫‪- 44 -‬‬
‫‪ :-‬هأنتذا تقول إنها أرضي‪ C..‬إذاً لم أبع أرض غيري‪ ،‬أليس كذلك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أهكذا فهمت األمر‪!.‬؟‬
‫‪ :-‬دعك منه‪ ..‬فهذه مفاهيم الخونة‪ .‬ينشدون التعالي ولو فوق الخرائب‪.‬‬
‫‪ :-‬ضب أنت اآلخر على لسانك‪ ،‬إال إذا أردت أن أشطره لك نصفين بهذا‬
‫السيف‪.‬‬
‫‪ :-‬ال‪ ..‬ال؛ ما هكذا األخوة في دروب الغربة‪ .‬عيب‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬أقسم أنكم مثل البصل‪ ،‬كلكم رؤوس‪ ،‬ولن ترتدعوا حتى تُكسر رؤوسكم‪.‬‬
‫استمر العوام يتجادلون‪ ،‬بينما الوجيه قد مضى بالشيخ اإلمام إلى نزله‪ ،‬من‬
‫أخذ ور ٍد‪ ،‬لكنه يعرف بالحدس مشاحناتهم‪ ،‬وأنهم‬‫غير أن يسمع ما بين الناس من ٍ‬
‫يقطِّعون سيرته‪ ،‬والماء ملء فمه ال يستطيع اإليضاح‪ ،‬فاألمر بحدين ووجهين‪،‬‬
‫مر‪ ،‬وليس يرضيه تناحرهم واتهامه بما يقلِّب المواجع‪ ،‬فالمقتل في ٍ‬
‫سم قد‬ ‫أحالهما ٌّ‬
‫حد الترياق‪ ،‬ولكأنه يهرب من ظلِّه‪ ،‬راح يهمس للشيخ اإلمام‪:‬‬
‫زاد عن ِّ‬
‫‪ :-‬ستجلس إلى جانبي‪ ،‬فلم أدع أحداً قبلك‪.‬‬
‫سيصر على أن أجلس بجانبه‪ ،‬إال أنها لفتة‬
‫ُّ‬ ‫‪ :-‬برغم أني أعتقد أن الباشا‬
‫كريمة منك‪.‬‬
‫‪ :-‬لي طلب يا موالنا‪ ،‬إال إذا كان الشرع ال يسمح به‪.‬‬
‫‪ :-‬أسمعك وال أنسى الشرع‪.‬‬
‫‪ :-‬أريدك أن تؤ ّذن للمغرب‪ ،‬هنا عند نزلي‪ ،‬فنصلي والضابط معنا‪ ،‬ثم نأخذ‬
‫أماكننا إلى المائدة‪.‬‬
‫وافق الشيخ مبتسماً‪ ،‬وقد فهم هدف الوجيه‪ ،‬وطلب مزيداً من الشاي‪ ،‬وأمر‬
‫يحس‬
‫الوجيه فتاه ليسرج حصانه‪ ،‬ويكون جاهزاً في أبهى حلّة‪ ،‬وليجعل الضابط ُّ‬
‫بمدى لباقة مضيفه‪ ،‬وليريه كيف ُيحسن المجاملة‪ ،‬وكيف أنه يسامح وال يني‬
‫يحاول فتح صفحة أكثر نظافة‪ ،‬فذلك أول الخيوط في نسج خطة طالما شغلته‪ ،‬مذ‬
‫الزعارة أن يظهروا كياسةً في خدمة الضيف‪،‬‬
‫ظع بالمتنورين‪ .‬وأمر أولئك ّ‬ ‫فّ‬
‫وعليهم حسن تدبير المائدة‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫وكان يدخن لفافة‪ ،‬وعلى رأسه قلنسوة "اليرمولك" الصغيرة‪ ،‬قارئاً في كتابه‬
‫األثير‪ ،‬حين سمع األومباشي من خلف ستارة باب الخيمة‪ ،‬يعلمه عن الجاهزية‬

‫‪- 45 -‬‬
‫وعب من فنجان القهوة‪َّ ،‬‬
‫ومج‬ ‫َّ‬ ‫للتفتيش‪ .‬أعاد الكتاب والقلنسوة إلى الصندوق‪،‬‬
‫وسوى هندامه‪ ،‬وتأبط سوطه خارجاً إليهم‪،‬‬ ‫لفافته‪ ،‬ثم فرك عقبها في المطفأة‪ّ ،‬‬
‫بندقية‬
‫الغربي بعصيرها‪ ،‬وهي على ارتفاع ّ‬ ‫ّ‬ ‫والشمس برتقالة كبيرة‪ ،‬رشقت األفق‬
‫وقدم هذا بدوره‬‫صف العسكر للضابط كمال‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فقدم األومباشي‬
‫حربتها مشرعة‪ّ ،‬‬
‫الصف لرئيسه عثمان‪ ،‬فاستعرضهم ومشى بينهم مالحظاً حالهم؛ متأكداً من‬‫ّ‬
‫قيافاتهم وحسن مظهرهم؛ بما فيهم الطهاة وكبيرهم والحرس والحجبة‪ .‬أثنى‬
‫صّي ٌم‪ ،‬وهو أدرى بذلك وقد صام‬ ‫عليهم‪ ،‬وامتدح صبرهم على التدريب وهم ُ‬
‫يعوضهم عما عانوه‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫مثلهم‪ C.!.‬لذلك سيكافئهم بطعام ّ‬
‫‪ :-‬إنكم الكواسر‪ ،‬تسرطون ما يوضع أمامكم‪ ،‬فيصعب على الحازر معرفة‬
‫ولما تزل نظيفة كأن الماء‬ ‫ِ‬
‫إن سبق وكان في اآلنية شيء‪ ،‬أم أنها ُوضعت أمامكم ّ‬
‫ما جرى فيها‪C.!.‬‬
‫وكان الفتى قد اقترب يقود الحصان المعاً بسنا شمس األصيل‪ ،‬مغرياً‬
‫نسقهُ الفتى‪ ،‬والءم بينه وبين سرجه واللجام ومقوده المصنوع من‬ ‫ِ‬
‫بالفرجة‪ ،‬وقد ّ‬
‫أفخر الجلود‪ ،‬فبدا أجمل من صورة‪ ،‬وأبهى حصان وقعت عليه عين الضابط مذ‬
‫عرف الخيل‪ ،‬بما فيها أفراس السلطان‪ ،‬تلك التي شدهته في إسطبالت قصر يلدز‪،‬‬
‫وقد عقد مقارنة بين الحصان والفتى‪ ،‬وأشار إليه بأطراف أصابع كفه األربع‪.‬‬
‫سره أن وضع الفتى مقود الحصان في يده‪ ،‬وفهم تقدير الوجيه لشخصه‬ ‫ابتسم وقد ّ‬
‫وحسن مجاملته‪ ،‬لكنه فجأة طمس معالم سروره‪ ،‬وأطفأ ابتسامته‪ ،‬فانكمشت شفتاه‬
‫مقورة قرفعها التجفاف‪ ،‬واستدار إلى عسكره‪ ،‬وجعل‬ ‫فوهة باذنجانة ّ‬‫انكماش ّ‬
‫يتأرجح على مقدمة قدميه؛ ثم عليهما‪ ،‬ثم على عقبيه وهكذا‪ ...‬وصاح سائالً‬
‫العسكر‪:‬‬
‫‪ :-‬من تكونون‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬كواسر‪.‬‬
‫‪ :-‬كيف تأكلون‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬سرطاً‪.‬‬
‫أ ُف َل قرص الشمس منحدراً خلف التالل البعيدة‪ ،‬وسمع صوت الشيخ يرفع‬
‫وسره أن تسير األمور على هواه‪ ،‬فلن ينتظرونه كيما يصلّوا‪،‬‬
‫أذان المغرب‪ّ ،‬‬
‫وحسب الوقت فوجد أنه سيصل وقد فرغوا من صالتهم‪ .‬امتطى حصانه وأمر‬ ‫َ‬
‫كبير الطهاة أن يمتطي حصان الوجيه‪ ،‬وأمر األومباشي أن يكون في المؤخرة‪،‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫وأوعز للفتى أن يبقى بمحاذاته‪ ،‬ومن غير أن يلتفت أمر الضابط كماالً قائالً‪:‬‬
‫بذلت في التدريب جهداً‬ ‫‪ :-‬أعهد إليك بحراسة المعسكر‪ ،‬ولعلك ترتاح بعدما َ‬
‫ال ينكر‪.‬‬
‫لكز حصانه وسار في المقدمة‪ ،‬وخلفه كبير الطهاة‪ ،‬ومضى الموكب مبتعداً‪،‬‬
‫وكمال يضطرم الغيظ في كبده‪ ،‬عاقداً ساعديه على صدره‪ ،‬التفت إليه األومباشي‬
‫مسوغ لها‪ ،‬ولكنها‬ ‫ٍ‬
‫مرتين‪ ،‬شامتاً؛ أو يشاطره قساوة الموقف الفائح بإهانة ال ّ‬
‫العسكرية‪.‬‬
‫اقترب الموكب‪ ،‬والوجيه وسط جماعته‪ ،‬راعه المشهد‪ ،‬وامتقع لونه وجفّت‬
‫يوسعوا المائدة‪ ،‬ويضعوا كل ما في القدور‪،‬‬
‫لهاته‪ ،‬واشتد لهبان جوفه‪ .‬صاح أن ّ‬
‫ط‪ ،‬وذاك حصانه‪ ،‬يمتطيه من لم يرسله ألجله‪،‬‬ ‫فخ لم يكن في حسبانه ق ّ‬
‫فقد وقع في ٍ‬
‫والفتى يسير بمحاذاة الضابط سير ٍ‬
‫عبد أو أسير‪.!.‬‬
‫أرد لك الصاع صاعين؛ أيها‬
‫‪( :-‬هكذا إذاً‪ .!.‬لن تنقضي الليلة‪ ،‬ما لم ّ‬
‫الضابط وأنت البادئ‪.).‬‬
‫تجم َع الناس يتفرجون على الموكب‪ .‬يا لها من فخامة يرفل بها ذاك‬
‫َّ‬
‫الضابط‪C.!.‬‬
‫أرخى المقود للفتى‪ ،‬ثم أمره بالتوقف‪ ،‬وتوقّف الموكب‪ ،‬حتى اقترب الوجيه‬
‫وصحبه‪.‬‬
‫‪ :-‬قد جئت ملبياً دعوتك‪ ،‬على رأس موكب يليق بمقامك‪ .‬هكذا أفهم أن ِّ‬
‫يقدر‬
‫الرجل الرج ُل‪.‬‬
‫َ‬
‫وتوجه إلى صدر المجلس‪ ،‬ودعا الفتى ليتخذ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بفارس‪،‬‬ ‫ترجل كما يليق‬‫ثم ّ‬
‫غص‬
‫مكانه قبالته‪ ،‬وسط دهشة الجميع واستغراب الوجيه وقد أُسقط في يده‪َّ .‬‬
‫المكان بالعسكر‪ ،‬ووقع الوجيه في حيص بيص‪ ،‬فأشار بحاجبيه لمن ال يخجل منه‪،‬‬
‫أن يترك المكان لهذا الجراد الزاحف‪.‬‬
‫قال المضيف‪:‬‬
‫‪ :-‬تفضلوا‪.‬‬
‫بسمل الشيخ‪ ،‬فتهيأ العسكر‪َّ ،‬‬
‫ومد الضابط يده؛ بمثابة إشارة البدء‪ ،‬فأخذت‬
‫األيدي تغرف وتلقم األفواه‪ ،‬في حركة ال انقطاع فيها‪ ،‬فبدا منظرها كحركة‬
‫سره‪:‬‬
‫"الحريش‪ -‬أم أربع وأربعين" وإ ذا الطعام أثر بعد عين‪ ،‬والوجيه يردد في ِّ‬
‫غدار أيها الضابط الثعلب‪C.).!!.‬‬ ‫‪( :-‬يا لك من ٍ‬
‫وغد ّ‬
‫‪- 47 -‬‬
‫قهقه الضابط بانفجار مباغت‪ ،‬فرنا الوجيه إليه ذاهالً‪ ،‬وترك الشيخ اللقمة في‬
‫يده معلقة بين اإلناء وفمه‪ ،‬والضابط يقول في نفسه‪:‬‬
‫‪( :-‬هكذا يكون نجر الخوازيق‪C.).‬‬
‫ثم اجتث اللسان من أصله‪ ،‬والعين من وقبها‪ ،‬وشحر الدماغ‪ ،‬واقتلع األذن‬
‫وجعلها لفافة‪ ،‬متلذذاً بمضغ بعضها مع بعض‪ ،‬ثم سأل العسكر‪:‬‬
‫‪ :-‬هل شبعتم‪.‬؟‪C.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت واحد‪:‬‬ ‫ردوا‬
‫‪ :-‬ال‪.‬‬
‫َّ‬
‫اضمحل الوجيه وذاب خجالً‪ ،‬والتفت الضابط إليه وقال مراوغاً‪:‬‬
‫‪ :-‬لو أولمت لنا دجاجة‪ ،‬لكنا لك من الشاكرين‪.‬‬
‫فهبوا وأحاطوا بالمكان‪ ،‬فبدوا‬
‫وأعطى إشارة لألومباشي‪ ،‬فأوعز للعسكر‪ّ ،‬‬
‫تم بنيانه للتو‪ ،‬ورفع الضابط صوته‪ ،‬قاصداً أن يسمع َم ْن في المكان‬
‫سور َّ‬
‫كأنهم ٌ‬
‫أجمعين‪:‬‬
‫سنوزع الجعاالت على‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬كونوا مستعدين‪ ،‬فسنتابع المسير عما قريب‪.‬‬
‫الجميع‪.‬‬
‫والتفت إلى الوجيه وهمس‪:‬‬
‫‪ :-‬لك جعالة أربع عائالت‪.‬‬
‫الزعارة المائدة‪ ،‬وأداروا أكواب الشاي‪ ،‬ونظر الضابط إليهم‬
‫ورفع الشباب ّ‬
‫واحداً إثر ٍ‬
‫واحد‪ ،‬وقال ساخراً‪:‬‬
‫زعارة األمس‪.!.‬‬
‫‪ :-‬من يراكم بهذا التهذيب‪ ،‬ال يصدق أنكم ّ‬
‫ضحك مستظرفاً كالمه‪ ،‬فتضاحك الوجيه‪ ،‬وجاراه الشيخ اإلمام‪ ،‬وابتسم‬
‫بعض الذين قصدهم‪ ،‬وسأل كبير طهاته‪:‬‬
‫‪ :-‬ما قولك بهذا الشاي‪.‬؟‪.‬‬
‫استنشق بخاره العابق‪ ،‬وأعاد النظر بلونه العقيقي‪ ،‬ثم تذوقه كمن يتقرى‬
‫سره‪:‬‬
‫‪ :-‬شاي السماور سلطاني ال يعلى عليه‪.‬‬
‫أحس الوجيه أن كبير الطهاة ألغز كالمه‪ ،‬فقال بلهجة واثقة هادئة‪ ،‬شحنها‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بقدر من التحدي‪:‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫ذواقة‪ ،‬ونحن ما عهدنا الشاي من غير السماور‪.‬‬
‫‪ :-‬ال شك أن سلطانكم ّ‬
‫امتعض كبير الطهاة‪ ،‬ولم يأبه الضابط له بقدر ما أراحه أن يغمز أحد في قناة‬
‫السلطنة‪ ،‬فسأل بخبث‪:‬‬
‫‪ :-‬فلمن يعزى السماور وطيب شايه‪.‬؟‪.‬‬
‫َّ‬
‫رد الوجيه مقاطعاً كبير الطهاة بثقة‪:‬‬
‫‪ :-‬إلينا حتماً‪ .‬ال بأس أيها المحترم‪ ،‬أجد مناسباً وقد فرغنا من طعامنا‪ ،‬أن‬
‫أفضي إليك بما لدي‪.‬‬
‫حدث نفسه وهو يرشف من‬
‫أحس أن للدعوة أسبابها‪ّ ،‬‬
‫تململ الضابط وقد َّ‬
‫كوبه‪:‬‬
‫‪( :-‬أكنت تقول ما لديك‪ ،‬لو علمت أني ال أحبك‪ ،‬بل أبغضك‪ ،‬وإ ن كنت‬
‫أحترمك ألسباب ال يمكنني تجاهلها‪.).‬‬
‫وجد أنه صمت أكثر مما ينبغي فقال‪:‬‬
‫مصغ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ :-‬إني‬
‫‪ :-‬هو اقتراح‪ ،‬وإ ن شئت ُع َّده طلباً‪.‬‬
‫‪ُ :-‬ع َّده أنت ما شئت‪ ،‬إني أستمع‪.‬‬
‫سرت همهمة بين الناس‪ ،‬وانتقلت سريعاً إلى العسكر‪ ،‬قاطعة على الوجيه‬
‫وتوجس‬
‫ّ‬ ‫أحد بعد‪ ،‬وقد رنا الحاضرون نحو العسكر‪،‬‬
‫فرصة اإلفضاء بما لم يعلمه ٌ‬
‫الضابط شراً فجمد لحظات‪ ،‬وركض األومباشي نحوه معقود اللسان‪ ،‬صرخ‬
‫الضابط‪:‬‬
‫‪ :-‬أومباشي‪ ..‬تكلم‪.‬‬
‫قال األومباشي مرتعداً‪:‬‬
‫‪ :-‬حريق في المعسكر‪ ..‬أفندم‪.‬‬
‫َّ‬
‫هب قاذفاً كوب الشاي في حضن مضيفه وزمجر‪:‬‬
‫‪ :-‬فعلها الكلب‪.!.‬‬
‫الزعارة حولـه يؤكدون وجودهم ههنا طوال الوقت‪ ،‬ولم يعرهم اهتماماً‬
‫التف ّ‬‫َّ‬
‫وقد خرج عن طوره‪ ،‬وغلبه غضبه فصاح‪:‬‬
‫إلي بالحصان أيها الحيوان‪ ..‬أومباشي‪ C...‬إلى هناك أيها "الجحش"‪.‬‬
‫‪َّ :-‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫وانطلق األومباشي خلفه‪ ،‬ولحقهما العسكر مثل زوبعة هبَّت للتو في المكان‬
‫دون سابق إنذار‪.‬‬
‫للزعارة فانتشروا خفافاً‪ ،‬والتفت إلى الشيخ قائالً‪:‬‬
‫غمز الوجيه ّ‬
‫‪ :-‬ألم يحن وقت صالة العشاء يا موالنا‪.‬؟‪.‬‬
‫قفز الشيخ اإلمام مجفالً‪:‬‬
‫‪ :-‬بلى‪ C..‬لعنة اهلل على الشيطان‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫‪4‬‬

‫ألسن ُة اللهب تبدو من البعد حمراء‪ ،‬فإذا ارتفعت قليالً فبرتقالية‪ ،‬ثم صفراء‬
‫دة؛ وهي تتماوج بدخانها‬‫بزرقة مسو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫مشربة‬
‫ّ‬ ‫باهتة عند ذؤاباتها‪ ،‬تكللها هالة شهباء ّ‬
‫المتعالي‪ ،‬ذاهباً في عتمة الليل ليضيع فيها‪.‬‬
‫وبين الهضبة التي أنارت النار بعضها‪ ،‬والمنخفض حيث ينطلق العسكر‪،‬‬
‫علت زوبعة غبار لم تحجب الرؤية‪ ،‬ولكنها شوشتها‪ .‬كان الوجيه أكثر الناس قلق ًا‬
‫جوالة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫شخص بعينه؛ بقدر ما هي ّ‬ ‫وتوتراً‪ ،‬كما بدا من نظراته‪ ،‬غير المستقرة على‬
‫ضالة ليست تجدها‪ ،‬والشيخ اإلمام حائر غير ٍ‬
‫دار بما يمكن أن يفعله‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تبحث عن‬
‫يحس أن واجباً يدعوه إلى ٍ‬
‫أمر لم يدرك سبيالً إليه‪.‬‬ ‫وهو ُّ‬
‫والناس كباراً وصغاراً يرنون إلى الهضبة‪َّ ،‬‬
‫لكأن منظرها والنار عليها‪ ،‬قد‬
‫ومؤسف أنه خلخل‬
‫ٌ‬ ‫حدث‪،‬‬ ‫فتنت بعضهم‪ ،‬وبالغ بعضهم بإظهار عدم رضاه عما‬
‫هدف الوجيه ومبتغاه من الوليمة‪ ،‬وتساءل بعضهم عن الطلب المسكوت عنه‪ ،‬وقد‬
‫كاد الوجيه أن يقوله‪ ،‬وآخرون شغلتهم التخمينات عما يمكن أن يكون قد حدث في‬
‫وقسم تشفى به‪ ،‬وما الحريق إال بعض ما يستحقون‪ ،‬وليتها تأتي‬‫ٌ‬ ‫مضارب العسكر‪،‬‬
‫على الموقع‪ ،‬فتتركهم ُب ّوماً بال وكور‪C...‬‬
‫أما الوجيه فقد جعله القلق ال يسمع أسف المقربين للنهاية التي آلت إليها‬
‫وليمته‪ ،‬واصطبر على سخرية بعضهم‪ ،‬يسمعها عالنية لتفريطه بالعجل الذي‬
‫طوح‬
‫فضلوه على عشرة من أمثال الضابط عثمان‪ ،‬وبعض الخبثاء الحظ كيف أنه ّ‬ ‫ّ‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫بكوب الشاي في حضن الوجيه‪ ،‬غير آبه بعرف أو لباقة‪ ،‬صحيح أن ذلك حز في‬
‫نفس الوجيه‪ ،‬لكنه َع َّدها سفاهةً ال جدوى من الوقوف عندها‪ ،‬وما اللغو الدائر‬
‫بلغم‪ ،‬لن يلتفت إليها‪ ،‬وظل يهز رأسه‪ ،‬وينقر بأصابعه على‬‫حولها إال نخامة ٍ‬
‫ركبتيه‪ ،‬وهو فزع أدركه الخوف وأخذته الخشية‪ ،‬فإن لم يضبط تماسكه افتضح‬
‫أشد عليه مما هو فيه‪ ،‬وال أزيز‬ ‫أمره‪ ،‬وحلَّت به وقيعة‪ ،‬فال حمل السيف في ٍ‬
‫نزال‪ّ ،‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫الرصاص‪ ،‬مربك أكثر من حاله اآلن‪ ،‬وقد انتابته حالة في جذوة الوجدان‪ ،‬تشبه‬
‫خفقان القلب‪ ،‬واضطراب األنفاس إثر نوبة داهمته فجأة‪ ،‬وما فتئ يوازن بين‬
‫جردوه مما يعتز به‪،‬‬ ‫حالتين‪ ،‬لو ّأنه بقي بأرضه‪ ،‬وما يمكن أن يجري له‪ ،‬بعدما ّ‬
‫ولم يبق له إال بقاؤه حياً كيفما اتفق‪ ،‬يتثاءب طوال الوقت‪ ،‬ويبتلع اإلهانات‪،‬‬
‫سره‪ ،‬ثم نهايته التي يتخيلها‬
‫وينتظر نهايةً رأى أمثاله ينتهونها‪ ،‬وحاله إن انكشف ّ‬
‫ق المركب بنفسه وبمن معه‪ ،‬في مستنقع الضياع‬ ‫بتفاصيلها الدقيقة‪ .‬أرهبه أن ُيغر ِ‬
‫والسكون المخيف بصمته المريب‪ ،‬وانشغال الدنيا عنه وعن ناسه‪ ،‬وقد داستهم‬
‫أحياء في الوحل‬
‫ً‬ ‫قذارة القوة‪ ،‬وذبحهم بغي المال واألطماع الرهيبة‪ ،‬تَدسُّهم وتدفنهم‬
‫والتراب‪.‬‬
‫شقّت الحسناء دربها بين الجموع من حوله ونادته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬عماه‪ ..‬إلحق أبي‪.‬‬
‫كسبع َّ‬
‫هف قلبه فرحاً لمرآها‪ ،‬واهتزت فرائصه مما قالته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫هب واقفاً‬
‫ـ ‪ :‬أين هو‪.‬؟‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬في نزله‪ ..‬هال أسرعت إليه‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬مابه‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لدغته عقرب‪.‬‬
‫هده الهرم‪ ،‬ولحق به الناس‪ ،‬استدار ورفع يده فتوقفوا‪،‬‬
‫جرجر نفسه كسبع ّ‬
‫فاستأنف سيره كمن يمشي على هدب عينيه‪ ،‬والحسناء تسبقه‪ ،‬ولغط الناس‬
‫وهرجهم يجذبه وينأى به‪ ،‬حتى دخل على العجوز‪ ،‬فوجده واقفاً ينتظره‪ ،‬نظرا‬
‫إلى بعضهما بعض وتعانقا‪ ،‬دمعت عينا الوجيه‪ ،‬وارتسمت على شفتي العجوز‬
‫ودت لو وضعت كفيها على كتفيهما‪ ،‬فتجلسهما‬ ‫ابتسامة‪ ،‬واقتربت الحسناء منهما‪ّ ،‬‬
‫وما زاال في صمت االنفعال البليغ‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬ليس من عقرب يا عماه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬إذاً هو عثمان‪C..!..‬‬
‫رد العجوز متطيراً‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬ال عثمان وال عقربان‪ ...‬إال أنني أخشى‪C...‬‬
‫قاطعه الوجيه وقد جفّت لهاته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي تخشاه‪.‬؟‪ C..‬قل بالعزيز على قلبك‪ C...‬تكلم‪...‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫ـ ‪ :‬أخشى أال أضنأ إن تزوجت‪..‬‬
‫ضحك العجوز‪ ،‬فضربه الوجيه مرات تحبباً وتنفيثاً‪ ،‬ثم سأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬والرسالة‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬سيجدها على المنضدة‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وِل َم أشعلتما ناراً‪..‬؟ هذا لم نتفق عليه‪..!..‬‬
‫نظر العجوز إلى ابنته ولم يجب‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أنا أشعلتها‪.‬‬
‫سأل الوجيه محتداً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وِل َم‪ C...‬لمه‪..‬؟‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بحرقة وأطرقت خفراً ثم تمتمت‪:‬‬ ‫تنهدت‬
‫ـ ‪ :‬مثلما أشعلوا في قلوبنا حرائق‪.‬‬
‫أطرق برهة‪ ،‬وأدار العجوز وجهه مدارياً ثقل الشجن على قلبه‪ ،‬ورفع الوجيه‬
‫رأسه ناظراً إليها‪ ،‬وقال بثبات‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬منذ اللحظة لست َّ‬
‫كنتي‪.‬‬
‫شهقت‪ ،‬ودهش العجوز‪ ،‬فاستدرك بهدوء عميق‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أنت اآلن ابنتي‪.‬‬
‫نبع كاد يجف‪ ،‬وخاطب ابنته مداعباً‪:‬‬
‫بدمع مثل ٍ‬
‫اغرورقت عينا العجوز ٍ‬
‫ـ ‪ٍّ :‬‬
‫لكل من أترابك أب‪ ،‬إال أنت‪ ،‬فقد صار لك أبوان‪ ،‬ولكن ما هذا البخل يا‬
‫بنت‪!..‬؟‪ C..‬أال تطعمينا كبد العجل والرئتين‪..‬؟!‪..‬‬
‫أسرعت ترفرف كطائر اشتاق أن يطير؛ بعد طول مكوث في العش دون‬
‫تحضر الطعام هناك في الزاوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وليف‪ ،‬وراحت‬
‫سأل الوجيه‪:‬‬
‫بسرّية‪..‬؟‪C.‬‬
‫تم األمر ّ‬
‫ـ ‪ :‬هل َّ‬
‫رد العجوز ‪:‬‬
‫ـ ‪:‬أجل‪.‬‬
‫ـ ‪:‬والضابط اآلخر‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪- 53 -‬‬
‫ـ ‪:‬هل رآكما‪.‬؟‪C.‬‬
‫أجابت الحسناء من ركنها‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬اعتقلته وربطته إلى عمود الخيمة‪...‬‬
‫ـ ‪:‬العمى‪C.!!.‬‬
‫يتعرف إلي‪ ..‬بقيت ملفّعة ولم أنبس بكلمة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لم ّ‬
‫زفر الوجيه ٍ‬
‫أف وقد ارتاح إال قليالً‪.‬‬
‫نادته‬
‫ـ ‪ :‬عمي‪C.‬‬
‫عضت على شفتها واستدركت قائلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬أبتاه‪.‬‬
‫تود اإلفصاح عنه‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ابتسم الوجيه ورنا إليها ينتظر ما ّ‬
‫ٍ‬
‫خيمة وبعثرتها‪ ،‬فكان بينها ثمة كتاب ضخم‬ ‫ـ ‪:‬نثرت محتويات صندوق في‬
‫وشمعدان غريب الشكل‪ ،‬ما إن رآهما الضابط كمال‪ ،‬حتى رجاني أن أضع الكتاب‬
‫بين يديه؛ وأشعل له الشمعدان‪.‬‬
‫علت الدهشة محياه وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أما ِ‬
‫قلت إنك ربطته إلى عمود الخيمة‪.‬؟!!‪..‬‬
‫شعرت أنها أخطأت‪ ،‬فتشاغلت بطهو الطعام‪ ،‬وفرك العجوز كفاً ٍ‬
‫بكف وبدا‬
‫مؤيداً الوجيه‪ ،‬فبررت موضحة بصوت خفيض‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ألنه توسَّل ليطلّع على مافي الكتاب‪.‬‬
‫وأي كتاب‪.‬؟!‪ C.‬أكنا نمزح أم نتسلى‪.‬؟!‪C.‬‬
‫توسل ّ‬
‫‪:‬أي ّ‬
‫ـ ّ‬
‫حاول العجوز استيعاب غضب صاحبه‪ ،‬وربما تخفيف المالمة عن ابنته فقال‬
‫بهدوء‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إنني ال أخشى جانب الضابط كمال‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هذا علك ‪ .‬ألم نتعلّم بعد أيها الخرف‪.‬؟!‪ C.‬إن لم يكن ضبعاً فهو ابن آوى‪.‬‬
‫تمتم العجوز‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قل ما شئت‪ ،‬فقلبي مطمئن لذاك الشاب‪.‬‬
‫تسرعت الحسناء قائلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪- 54 -‬‬
‫ـ ‪ :‬وأنا أيضاً‪..‬‬
‫نظر إليهما مستغرباً وهتف‪:‬‬
‫ـ ‪:‬اختلط األمر‪ ،‬وثمة خيط فالت لست أدرك كنهه‪.!.‬‬
‫أصوات ونهيق وغوغاء‪ ،‬وكان واضحاً صوت الشيخ اإلمام مقترباً‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫وعلت‬
‫ـ ‪ :‬على مهلكم‪ ..‬حسبي اهلل ونعم الوكيل‪C..!.‬‬
‫طع أحدهم مفاخراً بنجدته‪:‬‬
‫وظهر فتيةٌ يدفعون الشيخ على حمارته‪ ،‬وتن ّ‬
‫ـ ‪ :‬أتيناك بحمارة موالنا الشيخ‪..‬‬
‫استفسر العجوز مستنكراً‪ :‬ولم الحمارة يا رجل‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أليس الحليب ينفع الملدوغ‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬حليب حمارة يا هذا‪.‬؟!‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬لم نحظ بغير الحمارة‪ ،‬فهي حلوب‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬لعل أمك لم تفطمك بعد‪ ..!!..‬إذاً دونك الحمارة‪ .‬أفسدتك األهوال‬
‫المتفلِّتة‪ ،‬أنستكم األدب‪ ،‬والتهذيب‪..!!.‬‬
‫فتفرقوا متراكضين‪ ،‬جفلت الحمارة‪ ،‬والشيخ ممتعض في‬ ‫وقذفهم بعصاه‪ّ ،‬‬
‫حيرة يكاد يحتج‪ ،‬حتى قام إليه الوجيه متأسفاً له مرحباً به‪ ،‬فجلس يحبِّر وريقات‪،‬‬
‫مالبث أن غمرها بماء الطاس‪ ،‬وسقى العجوز جرعات ثالث‪ ،‬ممسِّداً ساقه‪ ،‬ثم‬
‫السم انفرط بإذن اهلل‪ ،‬وتشمم رائحة اللحم المقلي‪ ،‬مغمضاً عينيه في‬
‫أن ّ‬ ‫ابتسم معلناً َّ‬
‫نشوة‪ ،‬أخذته في بهجة دغدغت ولعه بالدسم‪ ،‬فاعترته حالة قرقرت لها أمعاؤه‪ ،‬وما‬
‫ظ ٍر بهذا الحالل المباح‪.‬‬ ‫عاد يفكر بغير ٍ‬
‫تلذذ منت َ‬
‫وعلى الهضبة‪ ،‬أطفأ العسكر الحريق‪ ،‬وكان قد أتى على بعض خيام األنفار‬
‫وبياطرة دواب الجيش‪ ،‬لكن الحريق في قلب عثمان اضطرم وازداد تأججاً‪،‬‬
‫مطوق ما من ثغرة فيه لفأر‪ .‬م ّشطوه ولم يتركوا حفرة أو رجماً‪ ،‬فما‬
‫والمكان ّ‬
‫وقعوا على أثر‪ ،‬ودخل األومباشي خيمة الضابط كمال مرات‪ ،‬فتَّشها كمن يبحث‬
‫نمل‪ ،‬وانعكس اإلخفاق على العسكر‪ ،‬فجعلهم في حيص‬ ‫عن خرزة سبحة في قرية ٍ‬
‫بيص‪ ،‬وزادهم توتراً‪ ،‬وتركهم ينفذون األوامر ٍ‬
‫بآلية‪ ،‬وقد أغلقوا تفكيرهم دون ما‬
‫يفعلون‪ ،‬وعلى وجه الخصوص هذا "األومباشي" األشقر المربوع‪ ،‬بوجهه‬
‫المستدير‪ ،‬ووجنتيه الحمراوين كبندورة ناضجة‪ُ ،‬ي ّدور عينيه الضيقتين هنا وهناك‪،‬‬
‫ويتهرب ـ ما أمكنه ـ من نظرات الضابط الشكس‪ ،‬وقد جعله ملطمة حتى التاث‪،‬‬‫ّ‬

‫‪- 55 -‬‬
‫يكاد يفقد صوابه‪ ،‬كلما طالعه ذاك الوجه الكالح المكفهر‪ ،‬تتالطم في نفسه أمواج‬
‫توحش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هيستيريا‪ ،‬فتزيده تجبراً وتأزماً‪ ،‬يشتم صارخاً‪ ،‬يجأر ويزأر هائجاً وقد‬
‫وقنط األومباشي مهدوماً من تعب‪ ،‬الب وقد جفّت لهاته ويبس حلقومه وزاغ‬
‫بصره‪ ،‬هذى وأخذ يهذر‪ ،‬وفي لحظة غاب ناسياً‪ ،‬فلم يتذكر ماهو فيه وما حدث‪،‬‬
‫لف حول نفسه في استدارة كاملة‪ ،‬وحوله طوق العسكر‪ ،‬يجوس بعضهم بين‬ ‫َّ‬
‫الخيام‪ ،‬وآخرون يدخلونها ويخترقونها من الطرف اآلخر‪.‬‬

‫ـ ‪( :‬ماذا يفعلون‪.‬؟!‪ .‬وِل َم لست على رأسهم‪.‬؟!‪ C.‬هل ّ‬


‫قصرت‪.‬؟!‪ C.‬سابقة مهينة‬
‫إن كنت ارتكبت هذي الحماقة‪ .!.‬سأطلب منه العفو مبدياً أسفي ولن ينسى التزامي‬
‫ذهبت إليه متأخراً‬
‫ُ‬ ‫وانضباطي‪ ،‬ذاك هو فوق الرجم‪ C...‬يبدو غاضباً‪ ،‬ال بأس‪ ،‬فإن‬
‫خير من أن أزيد الطين بلّة‪.).‬‬
‫هرول إليه‪ ،‬ثم وقف منتصباً بثبات وعزم فهتف‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تمام أفندم‪..‬‬
‫انقض عليه وسأل‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬هل وجدته‪.‬؟‪.‬‬
‫أفندم‪..‬عمن‪ C‬تسألني‪.‬؟!‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪:‬عفوك‬
‫َّ‬
‫كشر عن أنيابه‪ ،‬ممسكاً عنق األومباشي وشرع يضغط‪ ،‬ثم صفعه مرتين‬
‫وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أمأفون أنت أم تتغابى‪.‬؟‪..‬‬
‫المدور احمراراً وانتفاخاً‪ ،‬وأظهر ضعفاً وبدا مستسلماً‬
‫احتار وازداد وجهه َّ‬
‫وسأسأ متأتئاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬سيدي‪ ...‬أفندم‪ ...‬أرجوك‪ C..‬تَ َعطَّف بإعادة صيغة السؤال‪.‬‬
‫وضيق عينيه‪َّ ،‬‬
‫كأن الذي أمامه ليس النمس الذي يعرفه‪ .!.‬بلع‬ ‫ّ‬ ‫قطّب حاجبيه‬
‫ريقه وزفر‪ .‬أشعل لفافة ثم تساءل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وأين يمكن ليربوع نتن أن يختفي‪.‬؟‪C..‬‬
‫هتف كمن وقع على ما ضاع منه‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إذاً يبحثون عن يربوع‪.‬؟!!‪C..‬‬
‫خده البض‪ ،‬وكلمح البرق لكمه بين عينيه‪ ،‬فانقذف إلى‬
‫هوى بكفه على ّ‬
‫الخلف‪ ،‬فداس على بطنه‪ ،‬وركله في دبره‪ ،‬مفرغاً شحنة حنقه‪ ،‬كأنه يشفي غليله‬

‫‪- 56 -‬‬
‫رداً على إهانته؛ حين لم يدعه إلى الوليمة‪ ،‬وتركه‬
‫بكمال وقد انتقم لنفسه بطريقته؛ ّ‬
‫كأي "تنبل"‪..‬‬
‫مهمالً ّ‬
‫مسح دماً سال من منخريه‪ ،‬متسائالً عن سبب الرعاف‪.‬؟!‪ C..‬وعلّله باإلجهاد‬
‫والصداع الذي يفلق رأسه‪ .‬حاول الوقوف فوقع‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬يا‪ ..‬ه‪ ..‬أهرمت قبل األوان أيها األومباشي‪!.‬؟‪..‬‬
‫ترنح ثم اعتدل‪ ،‬وحين استوى واقفاً‪ ،‬فوجئ بالضابط‪ ،‬فحياه زاعقاً‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬تمام أفندم‪.‬‬
‫دهاء؛ من الثعلب‬
‫أشد مكراً وأكثر حيلة‪ ،‬وأعظم ً‬
‫ـ ‪ :‬لعلك عرفت اآلن َم ْن ّ‬
‫وابن آوى والذئب معاً‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أنت أفندم‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أيكون اختطف‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬احتمال أفندم‪.‬‬
‫ـ ‪ِ :‬ل َم ال يكون هرب‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬احتمال ضعيف‪ ..‬أفندم‪ ،‬فسالحه هنا وحصانه موجود‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أيكونون لصوصاً‪ ،‬قاومهم فأسروه‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ال شيء من العدة والعتاد مفقود‪ C..‬أفندم‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬فمن أحرق الخيام‪.‬؟‪.‬‬
‫محير‪.!.‬‬
‫ـ ‪ :‬شيء ّ‬
‫أخرج كيس التبغ‪ ،‬فوجده يكاد يفرغ‪...‬فأمر األومباشي أن يأتيه بالتبغ‪،‬‬
‫فهرول إلى خيمة سيده‪ ،‬أشعل عثمان لفافة وهو ساهم يفكر‪ .‬انتفض إذ سمع‬
‫غدارته واقتحم الخيمة‪ ،‬جمد‬
‫األومباشي يصيح خارجاً عن طوره‪ .‬أسرع مشهراً ّ‬
‫وكمال يبتسم وبين يديه كتاب‪ ،‬والشمعدان أمامه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أنت هنا‪!.‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬كما ترى‪..‬‬
‫َّ‬
‫فك األومباشي وثاقه‪ ،‬فوقف يتمطى‪،‬ارتاب عثمان وتمتم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي جرى‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪:‬غافلني‪ C...‬واعتقلني فربطني كما رأيت‪..‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫ـ ‪ :‬ولماذا أنت في خيمتي‪...‬؟!‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أتى بي إليها‪ .‬كان يقصدها‪ .‬انظر كيف بعثر محتويات صندوقك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أكان يقصد سرقتي‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪:‬لم يأخذ شيئاً قط‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬من هو‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪:‬لم أعرفه‪.‬‬
‫بحث في الصندوق والتقط كيسين وشى صوتهما بما فيهما‪ ،‬انشغل بهما عن‬
‫صرة‬
‫أن عمود الخيمة لم يتزحزح عن موضعه‪ ،‬نظر إلى ّ‬ ‫الكتاب والشمعدان‪ .‬تأكد َّ‬
‫على المنضدة وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وما هذه‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬تركها وانصرف‪ .‬يبدو أنها تخصك‪.‬‬
‫اصفر وجهه‪ ،‬وزكمت أنفه رائحة جعلته يتقيأ‪ .‬اضطرب‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فكها وانتفض‪،‬‬
‫تنفسه‪ ،‬وعلى رغم ذلك تماسك متجبراً وقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬مع من تتآمر علي‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ألم تجدني موثّقاً إلى عمود الخيمة‪.‬؟!‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أتدري ما في الصرة‪.‬؟‪ .‬رأس عريف عسكر ألكسندر‪C.!.‬‬
‫اشمأز كمال‪ ،‬وران صمت مقيت‪ ،‬أراد عثمان أن يصرف اهتمامه عن‬
‫طنت أذناه وسرى فيهما‬
‫الكتاب والشمعدان فنجح‪ ،‬وكان األومباشي مذهوالً‪ّ ،‬‬
‫وشيش‪ ،‬جعله ال يميز إن كان تحت وطأة كابوس‪ ،‬فقد رأى رأسه مكان رأس‬
‫العريف‪ ،‬شهق وسقط وقد أغمي عليه‪.‬‬
‫سر تلك الطلقة يا عثمان‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ما ُّ‬
‫غدارته‪ ،‬فكان كمال أسرع منه‪ ،‬فوضع رأس سيفه على حنجرته‪،‬‬ ‫َّ‬
‫مد يده إلى ّ‬
‫بالغدارة خلفه وكرر السؤال‪:‬‬
‫وطوح ّ‬ ‫ّ‬
‫سر الطلقة‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬قل‪ ..‬ما ّ‬
‫تماسك وأبعد السيف بهدو ٍء عن نحره‪ ،‬أشعل لفافة وقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نتفاهم خير لكلينا‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وعالم نتفاهم‪.‬؟‪.‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫ـ ‪:‬مادمت متشنجاً فال سبيل للتفاهم‪ ..‬هدئ من روعك فتعرف‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬من أين أتتك الطلقات‪.‬؟‪C.‬‬
‫ضحك بخبث َّ‬
‫ومج لفافته ثم قال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هدية أصدقاء في األستانة‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬أصدقاء‪.‬؟!!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ ..‬ويمكن أن يكونوا أصدقاء لك‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬وهذا الكتاب‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪:‬مابه‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أنت أدرى‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لالطالع‪ .‬أم أنك ال تريد أن ترى أبعد من أنفك‪.‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬والشمعدان‪ C..‬لماذا هو بالذات‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لإلنارة‪ ،‬مثل أي سراج‪ ،‬وهل للشمعدان وظيفة أخرى ال أعرفها‪.‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬ورأس العريف‪.‬؟‪.‬‬
‫نخزته إبرة في قلبه‪ ،‬قبَّب كتفيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ال أدري‪ C..!.‬قل أنت إن كنت تعرف‪.‬؟؟‬
‫ـ ‪ :‬إنه إنذار وتحذير موجه إليك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ها أنتذا تفسِّر مالم أدركه‪ ،‬فمن أرسله‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬جواب سؤالك تعرفه أنت أكثر من أي شخص آخر‪ ..‬عثمان‪ ..‬من‬
‫أنت‪..‬؟!‪..‬‬
‫أود أن نكون أصدقاء‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬حسبتك ذكياً‪ ،‬وكنت ّ‬
‫ـ ‪ :‬ألهذا أهنتني وحقّرتني كأنني عبد لك‪.‬؟!‪C.‬‬
‫ـ ‪:‬حاول فرك أذنك‪ ،‬لعلك ال تظ ّل في سرب النمل‪ ،‬وال تكون مع "يلدز" أكثر‬
‫من السلطان‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ال فائدة منك يا عثمان‪ ..‬ال فائدة‪ .‬سأعرض الكتاب والشمعدان ورأس‬
‫العريف على المأل‪..‬‬
‫تهور كمال‪ ،‬وقذف إليه أحد الكيسين‬ ‫تأسَّف َّ‬
‫وهز رأسه مبدياً عدم رضاه عن ّ‬
‫قائالً‪:‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫عربون من األصدقاء في األستانة‪...‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ ‪ :‬ليس مني‪ C..‬إنما‬
‫ـ ‪ :‬ال أقبل أي شيء من ٍ‬
‫أناس ال أعرفهم‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ال تكن عجوالً فتعرفهم‪ ..‬ال سيما أنهم يعرفونك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬كيف‪!.‬؟‪C..‬‬
‫حدثتهم عنك‪..‬‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫ـ ‪ :‬إياك أن تنكر حقيقتك‪ .‬كيف اخترقت الموانع إلى عسكر السلطنة‪.‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬أية موانع أيها الغشيم ‪.‬؟!!‪ C..‬أتعرف من تواسط لك كي تكون ضابطاً‪.‬؟!‪C.‬‬
‫العلية تماماً‪.‬‬
‫ثم إنك لست مع الدولة ّ‬
‫ـ ‪ :‬وما دليلك‪.‬؟‪.‬‬
‫شيء مما أسلفت تريد دليالً‪.‬؟‪ C.‬أفق يا كمال فـ"يلدز" الذي تتحمس‬‫ـ ‪ :‬عن أي ٍ‬
‫له‪ ،‬ليس فيه من يدري بك‪ ،‬وال يعرف السلطان إن كنت في جيشه‪ .‬ثم ألست في‬
‫سرية‪.‬؟؟‪.‬‬
‫جمعية ّ‬
‫َّ‬
‫ظل ساكتاً مشتت التفكير‪ ،‬ولكنه انتبه إلى تلك التهمة الخطيرة فقال‪:‬‬
‫سرية أو علنية‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬لست في أية جمعية ِّ‬
‫ـ ‪:‬وِل َم يا كمال ‪ ..‬لمه‪.‬؟!‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬لست أفهمك‪ ..!!.‬ولست متورطاً البتة‪.‬‬
‫ـ ‪:‬إذاً كن معنا‪.‬‬
‫ـ ‪:‬ومن أنتم‪.‬؟‪.‬‬
‫ابتسم وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نحن المستقبل يا كمال‪ .‬أال تحلم بالباشوية‪ ..‬والياً‪ ...‬أو أن تكون قائداً‬
‫للحربية‪.‬؟‪ .‬يجب أن تحلم‪ ،‬احلم يا كمال‪ ..‬احلم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كبيراً‪ C...‬أو حتى ناظراً‬
‫أفاق األومباشي من إغماءته‪ ،‬فوقف منتصباً محيياً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تمام أفندم‪.‬‬
‫الصرة والشمعدان والكتاب بين يديه‪ ،‬وأمره أن ينتظره في الخارج‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وضع‬
‫فقال عثمان الئماً ٍ‬
‫بمكر‪:‬‬
‫ـ ‪ِ :‬ل َم فعلت ذلك يا صديقي كمال ‪ ..‬لمه‪.‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬ألنني ال آمن جانبك‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫ـ ‪ :‬الحق معك‪ .‬ها أنتذا تعيد ثقتي بك‪ ،‬فلو كنت مكانك لتصرفت مثل‬
‫تصرفك‪ ،‬خذ كيس الذهب هذا‪ ،‬سينفعك‪.‬‬
‫ـ ‪:‬ال‪.‬‬
‫تسترده حين تشاء‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪:‬إذاً هو أمانة عندي لك‪،‬‬
‫تبادال طويالً نظرات متنافرة‪ ،‬يتجاذبها شك ويقين‪ ،‬حذر واطمئنان‪ ..‬غدر‬
‫كرسه ذاك الحوار‪ ،‬في نفسين على‬ ‫وأمان‪ ،‬حلم وانكسار‪ ،‬واقع وخيال‪ ،‬وبكل ما ّ‬
‫مجرب‪ ،‬وقلب تملؤه الطيبة واألمل والمثل‪،‬‬
‫مدرب ِّ‬‫طرفي نقيض‪ ،‬رأس مدبِّر ِّ‬
‫وربما السذاجة‪.‬‬
‫خرج حذراً‪ ،‬وجلس عثمان ضاغطاً على صدغيه‪ ،‬وهاهو ينسلخ عن المكان‬
‫دوامة ليس يرى فيها غير وجهها‪ ،‬فشعَّت في داخله قبسات‬ ‫والزمان‪ ،‬سابحاً في ّ‬
‫من هاتيك الطفولة‪ ،‬وطفق يكلّمها‪:‬‬
‫بماسة من درر نصائحك الجواهر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الخزرية‪ ...‬ها أنذا عملت‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪( :‬أيتها‬
‫دواً لعدونا‪ .‬إنها وصاياك التي تماهت في نسغ دماغي ونسج‬ ‫وهأنذا أصنع ع ّ‬
‫تالفيفه‪ ،‬وذاك القرطاس َس َرت معانيه مع دمي في عروقي والحشا‪ ،‬وتخلخلت في‬
‫معرفتي‪ ،‬وما أخذه الخرتيت كمال لن ينفعه‪ ،‬ما دام لن يتمثله‪ .‬سيحرقه‪ ،‬أو ينفر‬
‫منه كالرجس‪ .‬خاسر هو في كلتا الحالتين‪ ،‬ولن يكشف خفايا مابين السطور‪ ،‬فله‬
‫وألمثاله مزيد من عمى البصيرة‪ّ .‬أيدي رجائي يا غالية‪C.).‬‬
‫وعلى ضوء المشاعل تحلَّق العسكر‪ ،‬واألومباشي يرفع رأس العريف على‬
‫يتلمس في ذواتهم‪ ،‬ذاك الطفل الذي‬ ‫حربة بندقية‪ ،‬وكمال يرصد انفعاالتهم‪ ،‬لكأنه َّ‬
‫لما كانوا بين األب‪ ،‬وفي أحضان‬ ‫ٍّ‬
‫ما زال في أعماق كل منهم‪ ،‬نقياً بهاتيك البراءة‪ّ ،‬‬
‫همهما هذي النبتة التي ولّداها‬
‫األم‪ ،‬يمنعان الشر أن يقرب فلذة الكبد وهتفة الروح‪ُّ ،‬‬
‫بحميم عواطفهما‪ ،‬يريان ذاتيهما فيها‪ ،‬ويعلِّقان عليها آماالً معتّقةً‪ ،‬ويسريان فيها ما‬
‫استمر فيهما مذ كانا في دنيا الطفولة‪ .‬إنه رحيق الحلم‪ ،‬ينزاح عنه الظالم وظالله‬
‫القاسية‪ ،‬وقت اغتسال الروح بماء السماء‪ ،‬فيزيدها طهراً‪ ،‬يفوقها على قسوة‬
‫زيف المعدن‪ ،‬وال ترغم األعماق‬ ‫القوة‪ ،‬فال ينقهر الجوهر‪ ،‬أو ُي ّ‬
‫الشراسة ووحشية َّ‬
‫وتلوث‪ ،‬ثم تدفعها‬
‫الصم‪ ،‬حيث تُسجن الريح ّ‬ ‫ّ‬ ‫المجنحة على التسليم لصالبة ج ُدره‬
‫ّ‬
‫فتصيرها بلون‬
‫ّ‬ ‫خبيثة كنظرة أعور الجان‪ ،‬أو تأخذ الفسائل الغضَّة والزغاليل‪،‬‬
‫وشكل وصوت واحد‪C..!!.‬‬
‫أوالء الذين ِ‬
‫انتزعوا من أحضانهم؛ ومن على جثثهم‪ ،‬ومن بازارات الرق‬

‫‪- 61 -‬‬
‫السرية‪ ،‬أو أسرى مخطوفين؛ مسوقين قسراً‪ ،‬ومن بقايا المذابح وحمالت اإلفناء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وحقنوا‬
‫ُ‬ ‫الذاكرات‪،‬‬ ‫لغسل‬ ‫ُخضعوا‬ ‫أ‬ ‫وقد‬ ‫برة‪،‬‬‫المد‬
‫ّ‬ ‫واإلبادة‬ ‫التيئيس‬ ‫واجتياحات‬
‫باألحادية الالمتناهية لطاغية مستبد‪ .‬إنهم الذين ُغربوا عن أهليهم‪ ،‬ثم أعيدوا إليهم‬
‫ويشبع غلواءهم الثناء الفضفاض لفظاعة تنكيلهم‬ ‫قتلة وجالوزة‪ُ ،‬يلهب حماسهم ُ‬
‫وشناعة فظائعهم بجذورهم‪C..!.‬‬
‫همس كمال لألومباشي‪ ،‬فأذاع َّ‬
‫أن هذا الرأس يقول‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬إنكم لحراسة أولئك الناس‪ ،‬والمحافظة على حيواتهم‪ ،‬ريثما يصلون حيث‬
‫ُيراد لهم أن يتكيفوا مع الصبر‪C.)..!.‬‬
‫ثم أمر بدفن الرأس في قبر ألكسندر‪ ،‬فسمع همسات حذرة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فيمسي تنيناً برأسين‪..!.‬‬
‫وأشار للسائس أن يأتيه بحصانه‪ ،‬فامتطاه‪ ،‬وانكشفت له نظرات العسكر‪،‬‬
‫سره ذلك‪ ،‬لكنه تساءل‪:‬‬
‫معنى لم يره فيها من قبل‪َّ .‬‬ ‫فألف منها‬
‫ً‬
‫إلي أنني‬
‫خيل َّ‬
‫واهم‪.‬؟!‪ C..‬أم ّ‬
‫ـ ‪( :‬أحقاً لمحت فيها ذاك المعنى‪.‬؟‪ C..‬أم أنني ٌ‬
‫أرى ما أتمناه‪.‬؟‪C..‬‬
‫األمر‪ ..‬ثم راحا‪ ،‬وخرج الضابط عثمان إلى‬‫كفعل ِ‬‫نظر إلى األومباشي نظرةً ِ‬
‫ِّ‬
‫متوجساً‪ ،‬فلمح الحصان والبغلة‪ ،‬وقد أقفيا‪ ،‬يختفيان في حنية المنحدر‬ ‫العسكر‬
‫وانكساره‪ ،‬صعد الرجم ورفع يده‪ .‬تراكض إليه العسكر مصطفين قدامه فاطمأن‪،‬‬
‫هواء وريبة حبيسة‪ ،‬فعقد يديه خلف ظهره‪ ،‬مستعيداً ثقة كانت للتو‬
‫ً‬ ‫وزفر‬
‫مزعزعة‪ ،‬ولم ينبس ببنت شفة‪.‬‬
‫ائتكل غضباً مما كان من كمال وتمتم‪:‬‬
‫ودهم فيصبحون أقرب إليك‪ ،‬أكثر من خضوعهم‬ ‫ـ ‪( :‬أتبغي كسب ِّ‬
‫لصرامتي‪..‬؟!‪ C..‬بسيطة‪ ..‬يابن الحلبي والنابلسية‪.).!.‬‬
‫وحين همد وحفيف ثيابهم ودربكة أرجلهم‪ ،‬ران الصمت فقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قد أمرت أن ُيعرض عليكم رأس ذاك العريف‪ ،‬وقد دفع حياته ثمن‬
‫سذاجته‪ ،‬وإ نكم لكواسر‪ ،‬ومن لم يكن ذئباً تجرأت عليه الكالب‪ .‬تعاملوا مع الناس‬
‫على أنهم يريدون رؤوسكم‪ ،‬فحذار أن تأمنوا جانبهم‪ ،‬وأن طائراً في السماء‬
‫فوقكم‪ ،‬قد يحمل بين مخالبه حجراً‪ ،‬ليرميه على رأس أحدكم فيموت‪ .‬أطلقوا النار‬
‫َّ‬
‫يقولن أحدكم إنه ربما‬ ‫إن رأيتموه‪ ،‬ولتفتت طلقاتكم مخالبه والحجر الذي بينها‪ ،‬وال‬
‫حمل وردةً‪ ،‬فأمثالكم ال أحد يتعامل معهم بالورد‪ ،‬ولقد أمرت لكم بمزيد من‬

‫‪- 62 -‬‬
‫الطعام‪ .‬كلوا أيها الكواسر‪ ،‬وليتوزع الحراس ٌّ‬
‫كل في مكانه‪ ،‬وال تنتظروا أوامر‬
‫جديدة الليلة من أحد فقد أرسلت الضابط واألومباشي في مهمة‪..‬‬
‫انصراف‪C...‬‬
‫****‬
‫وكان الناس قد اجتمعوا حلقات‪ ،‬حلقة داخل حلقة‪ ،‬يسمعون ما يقال ويناقشون‬
‫واقع الحال‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أما أن تزعزع األهوال‪ ،‬خير ما فطرتم عليه من تقاليد راقية‪ ،‬فتلك مصيبة‬
‫دونها دمنا الذي أهرقوه‪ ،‬تماسكوا يا ناس وإ ال ذرتنا ريحهم العاتية‪ ،‬فلقد استهدفوا‬
‫البشر والشجر‪ ،‬والصمت من حولنا مريب‪ ...‬مريب‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬اللعنة على من كان السبب‪ ،‬وقد أمسينا في برزخ‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬طز بالخوف من الموت‪ ،‬مادام يرضخني لعيشة ال تفرق عنه‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬لسنا أول من حيكت ضدهم مؤامرة‪ ،‬ولسنا ضدهم لوال أطماعهم‪ ،‬وإ ن‬
‫صدق حدسي وما علمتني إياه األيام‪ ،‬فسوف نسمع عن ٍ‬
‫أناس في أماكن أخرى؛‬
‫أخباراً تشبه ما حدث لنا‪.‬‬
‫يدعون أنهم أصدقاء‪.‬‬
‫ـ ‪:‬خسرنا أمام جبروت الطغاة فلنحاول الكسب مع من ّ‬
‫ـ ‪ُ :‬خ ِّدعنا أيما خديعة‪ ،‬فهل نفهم أننا مدعوون لنسلِّم بخديعة أخرى‪..‬؟!‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬كفانا حسن ٍّ‬
‫ظن بالغاشم‪ ،‬ونحن في موقع الغشيم‪.‬‬
‫وسئل الشاعر‪ ،‬فطفق ينظر في عمق الظلمة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬حتى الغربان على أطالل الخرائب‪ ،‬يمكنها أن تكون مشهداً بالغ الجمال‪.‬‬
‫الليل ال يدوم مهما طال‪ ،‬والشمس تبتسم أوالً‪ ،‬ثم تصنع نهاراً‪.‬‬
‫هتف أحدهم صائحاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كل قول هراء‪ ..‬هراء‪ ..‬هراء‪ ..‬ضعنا‪ ...‬نضيع‪ ..‬وال شيء غير‬
‫الضياع‪.‬‬
‫َّ‬
‫ورد عليه آخر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬اليأس بداية االنتحار‪.‬هل تدرك ذلك‪.‬؟‪C..‬‬
‫َّ‬
‫ولعل كالماً كثيراً كان سيقال‪ ،‬لوال وصول الضابط كمال واألومباشي خلفه‬
‫على بعد خطوات‪ ،‬وأظهر تهذيباً فوق ما توخاه القانطون والمتلهّبون غضباً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أتقبلون ضيفاً أيها الطيبون‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪- 63 -‬‬
‫حيرتهم مواقفه‪ ،‬ولم يأمنوا جانبه بعد‪.‬‬
‫ظلوا في صمت كأنهم بال ألسن‪ّ .‬‬
‫بادره أكبر الموجودين سناً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تفضل إن كنت ترضى بنا أهالً‪..‬‬
‫أردف أحد الوجهاء‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فإن لم تنظر إلينا على أننا دونك فأهالً بك‪ ،‬ال تأخذ كالمي على محمل‬
‫ضباط‪ ،‬كوتنا غطرستهم‪.‬‬‫الصد‪ ،‬فهذا ما لقيناه من جملة ّ‬
‫ابتسم وهو يضع رسن حصانه بيد األومباشي‪ ،‬وأخذ الكتاب والشمعدان‪،‬‬
‫حجر وسط الحلقة‪ ،‬صمت وهم‬ ‫ورفعهما حتى رآهما الجميع‪ ،‬ثم وضعهما على ٍ‬
‫ينظرون إلى هاتيك األشياء‪ ،‬وبحث عن العجوز بين الحاضرين‪ ،‬وانتبه إليهم‬
‫كأنهم يسألونه تفسيراً لهذا اإلبهام‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لم أجد لهما مكاناً‪ ،‬فجئت أتركهما أمانة لديكم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ورطة‪ ،‬ماكان له أن يزج نفسه فيها‪ C.!‍.‬اختلس نظرة‬ ‫ٍ‬
‫للحظات شعر أنه في‬
‫يبحث عن العجوز‪ ،‬فلمح األومباشي ناعساً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أومباشي ‪ ..‬كن يقظاً‪ ،‬فقد أصطحبتك لتشهد‪.‬‬
‫انتفض محيياً مؤكداً يقظته‪ ،‬والتفت الناس بعضهم نحو بعضهم‪ ،‬ثم عاودوا‬
‫انتظار ما سيكون‪ ،‬وهو ينتظر غير هذا الصمت الخانق‪ ،‬أدار رأسه يتطلع في‬
‫الوجوه؛ حائرةً ومحايدةً ومستفهمةً ومندهشة‪ ،‬وتلك التي ال يستطيع سوى خالقها‬
‫أن يفهم منها أي معنى‪ ،‬كأنها قُ َّدت من الالمعنى‪ ،‬فإما أنها ذات قدرة عجيبة على‬
‫أال ينعكس عليها أثر مما يعتمل في داخل أصحابها‪ ،‬أو أنها مثل مرايا تآكل‬
‫ٍ‬
‫انتظار مقيت‪ ،‬يبدو ساكناً‪ ،‬وفي هدوئه أعتى‬ ‫ولما يزل ينتظر‪ ،‬وياله من‬‫طالؤها‪ّ ،‬‬
‫القلق‪ ،‬وأقسى معاني الضرب على األعصاب‪.‬‬
‫ـ ‪( :‬أكاد أكون جملة عصبية فحسب‪ ،‬منذ قررت التصدي له‪ ،‬وها قد أمسكت‬
‫ٍ‬
‫بخيط قد يودي إلى حقيقته‪C..)..‬‬
‫نفض رأسه متنهداً وقال‪:‬‬
‫حسن‪..‬قد وصلني جوابكم‪C...‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫التقط الكتاب والشمعدان وصاح‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أومباشي‪ C..‬هيا بنا‪.‬‬
‫وقف كبير الوجهاء قبالته‪ ،‬واضعاً عكازه في طريقه‪ ،‬فأحاطوا به‪:‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫ـ ‪ :‬إلى أين‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬يجب أن أذهب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬سألتك إلى أين‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬إلى حيث أخفيهما‪C...‬‬
‫قال أكبرهم سناً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬عيب‪ ..!..‬فال ترتكب معيبة‪ ،‬انظر في هذه الوجوه؛ واختر من تأتمنه‬
‫على وديعتك‪..‬‬
‫أيد‪ ،‬وهاهي وجوه تعكس الدواخل‪ ،‬وقد‬ ‫اشرأبت نحوه أعناق‪ ،‬وامتدت إليه ٍ‬
‫انجلى ج ّل الشك‪ ،‬وانقشعت ريبتها‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منها تقُريه هتافها‪:‬‬
‫سرك‪.).‬‬
‫ـ ‪( :‬أنا مكمن ّ‬
‫قال منفعالً‪:‬‬
‫تصرفوا بها كما ترتؤون‪ ،‬واأليام تكشف إن كنا‬
‫ـ ‪ :‬األمانة عندكم جميعاً‪ّ ،‬‬
‫سنحتاجها‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬وضعت في أعناقنا ما سيدلّك على مروءتنا‪.‬‬
‫عانق كما ٌل الوجيهَ‪ ،‬وسرت همهمة وضحكات انفراج‪ ،‬وسأل عن العجوز‬
‫مبدياً رغبة في زيارته‪ ،‬فتأبط الوجيه ذراعه‪ ،‬وسارا معاً‪ ،‬والناس يتشاورون عمن‬
‫يختارون لحفظ الوديعة‪ ،‬قال أحدهم مشيراً إلى الشمعدان‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قد رأيت مثله‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أين‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬عند بعض الخزريين‪.‬‬
‫*****‬
‫خاطب كمال العجوز وفي عينيه نظرة ٍ‬
‫ود‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قد تلدغ العقرب حصاناً‪ ،‬لكنها تبقى حشرة‪ ،‬والحصان يظ ّل أصيالً‪.‬‬
‫تباهى العجوز بالمديح‪ ،‬فهمس في أذنه الوجيه‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لك أن تنفش ريشك مثل ديك رومي؛ لوكانت ثمة لدغة أصالً‪.‬‬
‫َّ‬
‫ولمح كمال إلى أن‬ ‫حبس العجوز حنقه ممتعضاً‪ ،‬وقد ذهبت متعة المديح‪،‬‬
‫فخيم صمت‪ ،‬وامتقع وجه الحسناء‪ ،‬وطأطأ الوجيه رأسه متثائباً‪،‬‬‫الرسالة وصلت‪ّ ،‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫َّ‬
‫كأن األمر ال يعنيه‪ ،‬وأبدى العجوز مكراً‪ ،‬فاستفسر إن كانت ثمة رسالة وصلتهم‬
‫من األستانة‪ ،‬فقطع عليه محاولة التهرب‪ ،‬موجهاً كالمه إلى الحسناء‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬خدمتني إذ ربطتني في خيمته‪ ،‬كان ذلك دليل براءتي‪ ،‬وإ ال لما توانى عن‬
‫اتهامي بما حدث‪ ،‬ثم إنني مدين لك باطالعي على كتاب‪ ،‬ليس سهالً الحصول‬
‫عليه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬الكتاب الذي جلبته إلينا‪.‬؟‍!‪C..‬‬
‫والتفت إلى الحسناء سائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أليس هو الذي وجدتِه في صندوق الضابط عثمان‪..‬؟‪..‬‬
‫هزت رأسها باإليجاب فهتف‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ـ ‪ :‬بدأت أفهم‪ .‬كمال يا بني‪ ،‬أقسم أنكم مستهدفون مثلما استهدفونا‪ ،‬إنها‬
‫كحكاية حصان طروادة‪ ،‬أتعرفها‪.‬؟‪ ..‬عسى حدسي أن يخطئ‪.‬‬
‫حاول العجوز أن يوقف اندفاع الوجيه في كالمه‪ ،‬وهو َم ْن تَحفَّظ على ثقته‬
‫حك فروة رأسه وأردف‪:‬‬ ‫وابنته بالضابط هذا‪ ،‬ولم يأبه بالمحاولة‪َّ .‬‬
‫ـ ‪ :‬بدؤوا تسللهم الثاني منذ سنتين إلى بالد الزيتون(فلسطين)‪ .‬ألم تسمع بذلك‬
‫يا بني‪.‬؟‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪ ..‬وسمعت أنهم يبحثون عن وطن بال شعب‪..!!.‬‬
‫ـ ‪ :‬ألسنا شعباً‪.‬؟‪ C..‬هل كنا يوماً منذ آالف السنين بال أرض‪.‬؟!‪ .‬أسمعت‬
‫بشخص يدعى "فكتور جاكسون"‪.‬؟‬ ‫ٍ‬
‫ـ ‪ :‬ال‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬لو سألت الضابط عثمان لعرفه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬بل ألنكر معرفته به‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬إنه في هيئة تساعده أن يكون زعيماً في األستانة‪ ،‬فإن كان ذلك فقد سمعنا‬
‫ورأينا العجب‪.‬‬
‫وران صمت ثقيل‪ ،‬فقطعه كمال سائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هل سمعتم بعبد الرحمن الكواكبي‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ومن يكون‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬إن قرأتم كتاباته عرفتموه‪ .‬حثّوا شبابكم على قراءته‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫بنية‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬عبد الرحمن الكواكبي‪ .!.‬ال تنسي هذا االسم يا ّ‬
‫ـ ‪ :‬وما وقع رسالتنا عليه‪.‬؟‪.‬‬
‫تكف أذيته عنكم إلى حين‪.‬‬
‫ـ ‪:‬لعلها ّ‬
‫ـ ‪ :‬إلى حين فحسب‪ .‬األمر كبير‪ ..‬كبير يا بني‪.‬‬
‫هامة أن تقول شيئاً فأحجمت عنه‪ ،‬والحظ كمال ترددها‬ ‫اقتربت مترددة‪ّ ،‬‬
‫فسألها أن تفصح‪ ،‬فنظرت إلى أبيها والوجيه‪ ،‬أومأ الوجيه لها فسألت‪:‬‬
‫ـ ‪:‬أصدقنا القول‪ ،‬هل أنت معنا‪ ،‬أم تراك تستلغنا في منافستك عثمان‪.‬؟‪..‬‬
‫لم يتردد بقوله الصريح‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬معكم حتماً‪.‬‬
‫وضم الوجيه بيديه يديهما‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫مد العجوز يده‪ ،‬فوضع كمال يده بيد العجوز‪،‬‬
‫فابتسمت الحسناء‪ ،‬ثم ضحكت بسرور‪ ،‬خجلت فبدت أبهى فتنة وأنوثة‪ ،‬ومسحت‬
‫عن وجنتيها دمعتي فرح‪.‬‬
‫وهم باالنصراف‪ ،‬فهتفت‪:‬‬
‫افتتن كمال بها‪ ،‬وهي على هاتيك الحال‪َّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال ‪C.!.‬‬
‫التفتوا إليها باندهاش واستنكار‪ ،‬فأطرقت‪ ،‬ثم شمخت عاصرةً أصابع يدها في‬
‫كف يدها األخرى وأردفت‪:‬‬
‫إلي‪ ،‬وستجدها عندي متى أردت‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال أيها الضابط‪ ..‬وديعتك ستؤول َّ‬
‫وربت الوجيه على كتفه‪ ،‬ومضى‬‫مؤمناً على كالمها‪ّ ،‬‬
‫هز العجوز رأسه ّ‬ ‫َّ‬
‫متأبطاً ذراع الضابط‪ ،‬بينما وقف العجوز يشيعهما ووجهه يطفح بشراً‪.‬‬
‫فزنرت خاصرته‬‫ضمها بذراعه إلى جنبه‪ّ ،‬‬ ‫اقتربت فوضع يده على كتفها‪ ،‬ثم ّ‬
‫ٍ‬
‫بذراعها‪ ،‬ومشت معه نشوانة بدفء الحنان‪ ،‬عائدين إلى الداخل‪ ،‬حينئذ رفع الشيخ‬
‫اإلمام أذان الصبح‪.‬‬
‫****‬
‫يطوقون الناس‪ ،‬وهم يلملمون حاجاتهم‪،‬‬
‫حين أشرقت الشمس‪ ،‬كان العسكر ّ‬
‫نفع‪ ،‬وساقهم العسكر إلى سفح الهضبة‪ ،‬وقد أصبحت جرداء‪ ،‬ما‬ ‫دون أن ينسوا ذا ٍ‬
‫خال قبر ألكسندر شاهداً أن ثمة حياة كانت عليها‪ ،‬وزحف الناس نحوها مثل حبل‬
‫من النمل سرى بين موقعين‪ ،‬وتخلّفت نسوة عند قبور الفقداء‪...‬‬
‫كان الضابط عثمان قد اتخذ مكانه تحت مظلّة تقيه لفحة الشمس‪ ،‬ومن حولـه‬

‫‪- 67 -‬‬
‫الكتبة وكبير الطهاة ومعاونوه‪ ،‬واألومباشي يتلو فرماناً وهو منتفخ األوداج؛ يكاد‬
‫ال يلتقط أنفاسه‪:‬‬
‫سجل لدى كتبة ديوان المسير في‬
‫ويتم توزيع الجعاالت وفق األسماء التي تُ ّ‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫"الدفتر خانة" و‪C....‬‬
‫يتم تفتيشهم على‬
‫وقف العسكر في صفين‪ ،‬يمر بينهما الناس فرادى‪ّ ،‬‬
‫مسافة أطول من أي ٍ‬
‫سيف‪ ،‬ولم تكن‬ ‫ٍ‬ ‫الجانبين‪ ،‬حتى يصلوا أمام الضابط على‬
‫علف أنفت منه الدواب‪ ،‬وحين اعترض كمال‪،‬‬ ‫شأن‪ ،‬وبعضها خليط ٍ‬ ‫الجعالة ذات ٍ‬
‫رد عثمان ال يقبل النقاش‪ ،‬فإطعام العسكر هو األهم‪ ،‬ثم دوابهم‪ ،‬ثم أولئك‬
‫كان ّ‬
‫الناس‪ ،‬وليعتمدوا على البقية الباقية من حيواناتهم‪ ،‬يذبحونها أو يستبدلون بها‬
‫أصنافاً في الطريق‪ ،‬ولهم أن يصيبوا مما في األرض وهي عشيبة‪ ..!!.‬وطفق‬
‫يكرر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أليس كذلك يا صديقي الضابط كماالً‪.‬؟‪C.‬‬
‫ويردف‪:‬‬
‫ـ ‪:‬نعم هو كذلك‪.‬‬
‫فيعقّب قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إذاً لسنا مختلفين في ٍ‬
‫شيء‪ ،‬كما ترى يا موالنا الشيخ اإلمام‪.‬‬
‫شيء‪ ،‬ولن ُيعرف بغير االسم الذي‬‫بأن واحداً منهم لن يحصل على ٍ‬ ‫وفاجأهم َّ‬
‫ويسجله الكتبة في "الدفتر خانة"‪ ،‬ومضى ُيطلق عليهم‬
‫ّ‬ ‫َم َّن به عظمة السلطان‪،‬‬
‫يلوح بها؛ على أنها من قصر يلدز في‬ ‫األسماء كيفما شاء‪ ،‬متذرعاً بقائمة مابرح ّ‬
‫األستانة‪ ..!!.‬واألومباشي يوصيهم مؤكداً أن يحفظوا األسماء الجديدة‪ ،‬وإ ال‪...‬‬
‫كوموه‪.‬‬
‫وحين اعترض أحدهم‪ ،‬تواله العسكر بأعقاب البنادق حتى ّ‬
‫وهمس الضابط عثمان لألومباشي‪ ،‬فأطلق العنان لصوته معلناً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هذا وبش‪ ،‬على حافة السقوط في الكبائر‪ ،‬وسيبقى دون اسم‪ ،‬وسيان هو‬
‫وأي بغل شموس‪.‬‬
‫فرد الضابط عثمان غاضباً‪:‬‬‫اعترض الوجهاء‪ ،‬وناصرهم الضابط كمال‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬إنها أوامر عظمة السلطان‪ ،‬فهل بينكم من يخالف أمير المؤمنين أيها‬
‫الكبراء‪..‬؟!‪C‬‬
‫تقدمت الحسناء‪ ،‬وكاد يلفظ لها اسماً‪ ،‬فاقتحمت المكان‪ .‬بحضورها األخاذ‪،‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫ونقرت على منضدة الكتبة‪ ،‬دون أن ترفع نظرها عن الضابط قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬اسمي قمر‪ ،‬ولن يكون غير ذلك‪...‬‬
‫مخرشاً ببعض آثار حب الشباب‪،‬‬‫ُبهت عثمان أمام هذا الوجه الصبوح‪ّ ،‬‬
‫تشعان ألقاً وإ رادة‪ ،‬تفيضان أنوثة‪ ،‬وتتقصف الرغبات على‬
‫وتينك العينين اللتين ّ‬
‫عنق كالمرمر‪ ،‬وكتفين كاألجنحة‪ ،‬وخصر يكاد ال يذكر‪C...!!..‬‬
‫غص بريقه وهمس‪:‬‬
‫َّ‬
‫ـ ‪ :‬قمر‪ .!.‬إنك كذلك‪ ،‬ومن يجرؤ قول عكس ذلك‪.‬؟!‪..‬‬
‫وسرت همهمة بين الناس‪ ،‬فهذا يسأل عن اسم اآلخر‪ ،‬وذاك يشتم حانقاً‪،‬‬
‫ولما‬
‫وآخر يردد اسمه ضاحكاً غير مصدق‪ C..!..‬وثمة من استوعب اللعبة فذهل ّ‬
‫يزل‪ ،‬وهذا ينتحب شاعراً بمرارة أن ُيلغى وأن ُيمسي شخصاً آخر‪ ،‬والضابط يردد‬
‫في نفسه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬لو تعرف يا ألكسندر كيف تغلّبت على مكرهم‪ .!!.‬هو ذا النسخ والمسخ‬
‫أيها "الغوييم" مادمتم على ما اعتقدتم‪ ،‬واستعدوا لما هو أعتى أيها األوباش‪C.).‬‬
‫وأصدر أمره أن تستعد القافلة لمتابعة المسير‪ ،‬وقد اختار فرساً للضابط‬
‫كمال‪ ،‬تليق أن تساير حصانه الشبوب‪C.!.‬‬

‫***********‬

‫‪- 69 -‬‬
‫‪5‬‬

‫ابتعدت مقدمة القافلة عن أنف الجبل‪ ،‬تتسلق ذاك المرتفع البعيد‪ ،‬وهاهي‬
‫نهايتها تتابع حركتها‪ ،‬كأنها جزء من مخلوق أسطوري؛ اختفى وسطه في الوهدة‪،‬‬
‫فبدا برأس وذنب تفصلهما مسافة غير قصيرة؛ تربطهما تلك الحركة المتتابعة‪،‬‬
‫وكلما تقدم الرأس‪ ،‬ازداد العنق طوالً‪ ،‬وقصر الذنب‪ ،‬ثم تناهى في القصر حتى‬
‫شق األرض وخرج من باطنها‪.‬‬ ‫اختفى‪ ،‬بينما الرأس يتقدم والجسد يتبعه‪ ،‬لكأنه ّ‬
‫وحين ارتفع النهار بدت تحت أشعة الشمس والجو سديمي؛ مثل إحدى الفقاريات‬
‫الخرافية‪ ،‬تتحرك ببطء يتناسب وضخامتها‪ ،‬أو أنها عليلة آلمها الوجع فجعلها‬
‫تتململ فتبدو متحركة ليس ٍ‬
‫بهمة‪ ،‬إنما بدافع ذاك الوجع المختزن في أوصالها‬
‫وتجمع النمل في الخدوش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وخدشه الدود‪،‬‬
‫ومفاصلها‪ ،‬تتابع الزحف وقد تبثّر جلدها ّ‬
‫فتحركت هاربة منه وهي تحمله‪C.!.‬‬
‫تعرت األرض من كسوتها الشجراء‪ ،‬متلفعة‬ ‫وكلما تقدمت في السهوب‪َّ ،‬‬
‫بشجيرات وأعشاب‪ ،‬تتستر بها من لفح الشمس ودودة ولدودة‪ ،‬تسقسق بين جنباتها‬
‫تفر حائمة أسراباً وواحدات‪ ،‬فوق أرض‬ ‫طيور السمرمر والسُّماني ِ‬
‫والسبدان‪ُّ ،‬‬
‫سافرة هنا محتجبة هناك‪ ،‬تخددها المسايل وآثار انجرافات‪ ،‬تجددها أمطار‬
‫المواسم‪ ،‬وبذا شرع الطقس يقلب سحنته‪ ،‬والطبيعة تغير فروتها بغير ما اعتاده‬
‫أهل القافلة‪ ،‬فأصابت أغلبهم حاالت وأمراض لم يعهدوها‪ ،‬خارت لها قوى‬
‫بعضهم‪ ،‬وانحرفت أمزجة بعضهم اآلخر‪ ،‬وفترت في كثير منهم ما تبقى من‬
‫مكابراتهم وشكائمهم‪ ،‬وتعكر صفو معظمهم‪ ،‬فأضحوا كطيور البطريق؛ انقشع‬
‫الثلج من حولها‪ ،‬وجفّت المياه تحتها‪ ،‬وهم يمرون بين سمع األرض وبصرها‪.‬‬
‫التغير الذي أصابهم‪ ،‬وحار في أمرهم‪ ،‬ولم يدرك‬
‫انتبه الضابط كمال إلى ذلك ّ‬
‫ألم بهم‪ ،‬لكنه فسَّره على أنه تراكم اآلالم في نفوسهم الكلمى وتساءل‪:‬‬
‫ما َّ‬
‫ـ‪ِ :‬‬
‫(ل َم يزداد وضعهم سوءاً‪.‬؟)‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫سأل الضابط عثمان عن ذلك فابتسم ٍ‬
‫بمكر ولم ُيجب‪َّ ،‬‬
‫ألح بالسؤال وطفق‬
‫يبحث عن السبب‪ ،‬علّه يتدارك األمر فيسعفهم‪ ،‬لجأ إلى األومباشي وسأله فأجاب‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ستتحسن أوضاعهم كلما مضينا بهم قدماً‪ .‬البد أن يتأقلموا‪ ،‬وال شيء‬
‫يدعو للقلق‪ ،‬فحتى الدواب تحتاج لفترة تعتاد خاللها جديد الكأل الذي ترعاه‪.‬‬
‫ضرب جبينه بباطن كفه وصفَّر صائحاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تباً للظلم‪ .!.‬إنهم يقتاتون األعشاب وجذور النبات منذ حين‪ .!.‬كيف لم‬
‫أفطن إلى ذلك‪.‬؟‬
‫اقترب من صاحبه العجوز يسأله‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كيف ترى األمر أيها العم داود‪.‬؟‪.‬‬
‫نظر طويالً في وجهه وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬حتى أنت تناديني بهذا االسم الغريب عني‪.‬؟!‪..‬‬
‫أحس بالحرج‪ ،‬وشعر العجوز بتأثير عتابه على كمال‪ ،‬دنا من فرسه‪َّ ،‬‬
‫ومد‬ ‫َّ‬
‫إليها كفه مبسوطة ببعض الجعالة‪ ،‬فشممتها وعافتها‪ ،‬فنثرها وهمهم بمرارة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أصيلة فرسك هذه‪ ،‬لم تقبل بهذا الذي يعلفنا به ضابط األستانة‪.‬‬
‫انهار المدعو نوح من إقياء وإ سهال‪ ،‬ثم انهار كثر‪ ،‬وأعلن الحكيم إدريس عن‬
‫موت موسى‪ ،‬وتتالى عدد الموتى يزداد باضطراد‪.‬‬
‫تنهد المدعو رشاد وصاح‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬جذور لعينة أيها الضابط عثمان‪ .‬هذا ال يليق بابن آدم قطّ‪..‬‬
‫واحتج المدعو أصالن قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الكالب‪ ....‬يطعموننا علف الدواب‪ .‬تباً لهم‪ ،‬إنهم يزقموننا َّ‬
‫الزقوم‪.‬‬
‫حوقل الشيخ اإلمام وابتعد صامتاً‪ ،‬ولم يأبه عثمان بما ُيقال‪ ،‬وكان على‬
‫صهوة حصانه‪ ،‬يقطع المسافة بين مقدمة القافلة ونهايتها‪ ،‬كأنه في سبق أو رهان‪،‬‬
‫ِّكيت‪ ،‬وكاد الضابط يسقط عن صهوة جواده‪ ،‬وقد َّ‬
‫شب‬ ‫فتصدى له فتاه عثمان الس ِّ‬
‫مد يده إلى َّ‬
‫غدارته‪ ،‬لكنه أمام فتاه األثير‪ ..!.‬صرخ الفتى فاقداً‬ ‫فجأة على خلفيتيه‪َّ ،‬‬
‫السيطرة على أعصابه‪ ،‬خارجاً من سكوته الطويل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬اللعنة‪ ...‬لماذا ال تُصاب أنت وعسكرك بما ُنصاب به نحن‪.‬؟‪C.‬‬
‫نزل إليه وشرع يصفعه بيمينه وشماله‪ ،‬فأمسك الفتى ذراعه ولواها حتى كاد‬
‫طوح به وجثا فوقه‬
‫يخلعها‪ ،‬ثم قبض على حزامه ورفعه فوق رأسه‪ ،‬دار مرات ثم ّ‬
‫‪- 71 -‬‬
‫وجره من فروة رأسه وأوقفه‪،‬‬
‫يخنقه‪ ،‬فركله الضابط بين فخذيه فسقط متلوياً‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بعنف هامساً‪:‬‬ ‫وأمسك بأنفه َّ‬
‫وهزه‬
‫ـ ‪ :‬أيها الحيوان‪ ،‬مادمت أدركت األمر‪ ،‬ما الذي يعمي قلبك ويمنعك أن‬
‫إلي‪.‬؟‪.‬‬
‫تكون واحداً من العسكر؛ بل من أفضلهم وأقربهم َّ‬
‫لم يترك له مهلة‪ ،‬ودفع به إلى العسكر فاعتقلوه‪ ،‬وأمرهم أن يربطوه في‬
‫إحدى عربات األرزاق‪ ،‬مؤكداً على كبير الطهاة أن يفتح له علب الدبس وأكياس‬
‫التين‪ ،‬ويقدم له "جق ملبن وبصطيق"‪ .‬ثم اقترب منه ومسح على وجنتيه حيث‬
‫صفعه وهمس له‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هل تحب اللحم المقدد‪.‬؟‪ .‬ستجد أنواعاً وأصنافاً منه‪ ،‬ال يحلم بها قومك‪.‬‬
‫مضى إلى مقدمة القافلة‪ ،‬دون أن يوافق على التوقف لدفن الموتى‪ ،‬مخافة أن‬
‫ينتهز الناس الواقعة‪ ،‬فيجدوا فيها فرصة تتفتق خاللها جروحهم‪ ،‬واالحتمال قائم‬
‫بانفجار أحقادهم‪ ،‬وهي كدمامل انفثأت‪ ،‬لكنه قبل ـ على مضض ـ تخفيف سرعة‬
‫القافلة‪ ،‬ريثما يلحق بها أولئك الذين سمح لهم إنجاز مراسم الدفن‪ ،‬يراقبهم أنفار من‬
‫العسكر‪.‬‬
‫أصرت قمر أن تبقى معهم برغم معارضتهم واستنكار بعضهم‪ ،‬فأسكتتهم‬
‫ّ‬
‫بقولها‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬يجب أن أعرف كيف يتم ذلك‪ ،‬فقد أضطر لدفن أحدكم‪ ،‬مادمنا في ظروف‬
‫مفتوحة على احتماالت‪.‬‬
‫رد ٍ‬
‫بمكر‪:‬‬ ‫ثم َّ‬
‫ولم يأبه بإلحاح الضابط إلطعام الناس‪ ،‬راوغ َّ‬
‫ـ ‪ :‬ليس قبل أن أقطع بعسكري المفازة‪ ،‬وأطمئن على سالمتهم‪.‬‬
‫سبب ٍ‬
‫كاف لتوزيع الماء‪ ،‬وتحسين الجعاالت‪.‬‬ ‫ـ ‪ :‬المفازة ٌ‬
‫يجهز بندقية الصيد‪:‬‬ ‫َّ‬
‫رد وهو ّ‬
‫ـ ‪ :‬كمال يا عزيزي‪ ..‬العسكر أهم‪...‬‬
‫ومضى يتعقب طيور السُّماني والسمرمر‪ ،‬وبعض عسكره يتراكضون‬
‫يسري عن نفسه‪ ،‬فتبرق أساريره‪...‬‬
‫فيلتقطون ما يصطاده‪ ،‬وهو جذالن؛ ّ‬
‫****‬
‫حين أتموا دفن موسى‪ C،‬سأل الشيخ اإلمام‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬من يأخذ عزاءه‪.‬؟‪.‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫نظر الحاضرون بعضهم إلى بعضهم‪ ،‬وزفر أحدهم متمتماً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ليس له أحد‪ ،‬فهو آخر عائلته‪..‬‬
‫تلفَّعت قمر ونبرت قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إني آخذة عزاءه‪.‬‬
‫أُحرج الشيخ‪ ،‬وأسقط في يد من هم حوله‪ ،‬فتقدم الشيخ يعزيها وتبعه الباقون‪،‬‬
‫وحين اقترب نعمان قالت‪:‬‬
‫ـ ‪:‬أيها الشاعر‪ ..‬احفظ أنه ـ أيضاً ـ آخر عائلته‪ ،‬وبموته طُويت صفحاتها‪.‬‬
‫شرخه‬ ‫ٍ‬
‫بصوت َّ‬ ‫مرثية‬
‫عض نعمان شفته فأدماها‪ ،‬وانفلتت قمر هائمة‪ ،‬تغني ّ‬ ‫َّ‬
‫ٍٍ‬
‫كبلورات متأللئة‪،‬‬ ‫البرية‪ ،‬فتوقف الدمع في المآقي‬
‫ّ‬ ‫جنبات‬ ‫صداها‬ ‫ورددت‬ ‫األسى‪،‬‬
‫وترجل بعض العسكر عن دوابهم‪ ،‬ومشوا جميعاً في‬ ‫ّ‬ ‫وجرجر الرجال أرجلهم‪،‬‬
‫يشد القلوب في مصائب تجللها وطأة‬
‫مهابة‪ ،‬فالحزن على قسوة المآل رباط ّ‬
‫الموت‪ ،‬وراح عسكريان يلهوان عابثين‪ ،‬وقد وجدا فرصة للتنفيث عن كبتهما‪،‬‬
‫يتفرسها ويرجمها بسهام‬‫مطلقين مكنونات نفسيهما من عقلها‪ ،‬ولحق أحدهما بقمر ّ‬
‫المتجمرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نظراته‬
‫ِّكيت من حارسه أن يفك وثاقه‪ ،‬وهو يتماسك كي ال‬ ‫طلب الفتى عثمان الس ِّ‬
‫ترجل توارى خلف رجم يفك‬ ‫سيتبرز‪ ،‬وحين ّ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يتحدر بوله‪ ،‬فلم يأبه له‪ ،‬فهدد أنه‬
‫سراويله على عجل‪ ،‬والحارس يراقبه بقرف‪ ،‬وفوجئ كبير الطهاة أن الفتى أتى‬
‫على كثير من حمولة العربة‪...!.‬‬
‫عبه وجيوبه‬ ‫وما برح يطحر موهماً الحارس أنه يقضي حاجة‪ ،‬بينما يفرغ ّ‬
‫المشيعين‪ ،‬أشار لقمر إلى األطعمة‪ ،‬ومضى ضارباً‬
‫ّ‬ ‫حتى إذا ما اقتربت جماعة‬
‫على بطنه كأنه تخفّف فاستراح‪ ،‬وكبير الطهاة يزوره ريبةً‪ ،‬بينما كان الحارس‬
‫شد وثاقه‪ ،‬شعر براحة تمأل جوانحه‪ ،‬وقمر تأكل وتبتسم له‪ ،‬لحظات يشتريها‬ ‫ُيعيد َّ‬
‫بردح من عمره‪ ،‬إنها وحدها سعادته‪ ،‬وإ ن لم تعرف مافي قلبه الشفيف‪ ،‬ومشاعر‬ ‫ٍ‬
‫الجْل ُد‪:‬‬
‫مشعة كالجمر‪ ،‬وهو َ‬‫ّ‬
‫ـ ‪( :‬ألهبتِ ِه مذ رأيتك قبل زواجك ولم يفتر‪ .‬لو تدرين كم حقدت عليه‪ ،‬تمنيت‬
‫ٍ‬
‫بذهب أغراني به‬ ‫أن يموت‪ ،‬ولم أقتله برغم أنني حسدته طوال الوقت‪ ،‬ولم أقايضه‬
‫عسكر القيصر‪ ،‬لكنني لم أسعفه حين جرح‪ ،‬وما استجبت الستغاثته‪ ،‬تركته‬
‫كالب َرد‪ .‬ألجلك تنازلت‬
‫وفررت بجلدي‪ ،‬فالقصف كان كالصواعق والرصاص َ‬
‫عن أن أكون بطالً‪ .‬ما ندمت لكني عاقبت نفسي بسكوتي الطويل‪ ،‬فلو علمت أكنت‬

‫‪- 73 -‬‬
‫تغفرين‪..‬؟‪C.‬‬
‫عدت وجدتهُ قد جمد متجلَّداً بدمه والثلج كفنه‪،‬‬
‫حياً‪ ،‬وحين ُ‬‫إنني آخر من رآه ّ‬
‫فقدر حموك صنيعي‪ ،‬وال أحد يعرف أنني عدت به كي تتحققي من‬ ‫عدت بجثته‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫بعدئذ تكونين لي‪ ،‬فلو عرفت هل كنتِ‬ ‫ٍ‬ ‫موته‪ ،‬فأحررك من ارتباطك به‪ ،‬لعلك‬
‫تقبلين‪.‬؟‪..).‬‬
‫سأل عبد اهلل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬موالنا‪ ..‬هل ما نأكله حالل‪.‬؟‪..‬‬
‫طال صمت الشيخ وهو يمضغ لقمته‪ ،‬فهتف رشاد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ ..‬إنه حالل‪.‬‬
‫َّ‬
‫رد إبراهيم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بل هو حرام‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬حالل‪..‬‬
‫ـ ‪:‬حرام‪..‬‬
‫قال الوجيه عبدالحميد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هالّ حسمت الجدل يا موالنا‪.‬؟‪.‬‬
‫تمنى الشيخ لو لم ُيسأل‪ ،‬لكنه قال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬حرام على األغلب؛ واهلل أعلم‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وكيف تأكله إذاً‪..‬؟!‪C..‬‬
‫تف مافي فمه‪ ،‬كي ال يقول إنه محسوب على العسكر‪ ،‬وليس عليه حرج‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فاحتجت قمر قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ِ :‬ل َم تُ ِّ‬
‫حرمه يا موالنا‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ألنه مسروق‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ممن‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ال رزق بال صاحب‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬فمن أصحابه‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬العسكر‪ .‬وهم على سفر‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ألسنا أيضاً على سفر‪.‬؟!‪ C.‬أما دفناهم للتو وقد قضوا جوعاً‪.‬؟‪ C...‬الجوع‬

‫‪- 74 -‬‬
‫كافر يا موالنا‪...‬‬
‫اضطرب الشيخ فزفر‪ ،‬وسئل الشاعر نعمان‪ ،‬فقال‪ :‬وهو يمضغ لقمته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إن لم آكل منه‪ ،‬أكون قد مت انتحاراً‪ ،‬أليس االنتحار حراماً يا موالنا‪.‬؟‪.‬‬
‫امتعض الشيخ فحوقل قائالً‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ماض فلغطكم ال ُيحتمل‪.‬‬ ‫تالعب باأللفاظ‪ ،‬وإ نني‬
‫ٌ‬ ‫ـ ‪ :‬هذا‬
‫يسوي عمامته‪ ،‬كاتماً غيظه؛ متنفساً الصعداء في ٍ‬
‫آن معاً‪.‬‬ ‫وأسرع وهو ِّ‬
‫وما زال الفتى السِّكيت يغدق على َم ْن حوله‪ ،‬وزاد العطاء لحارسه‪ ،‬بينما‬
‫صوب‬ ‫ٍ‬
‫بقطع نقدية‪ ،‬وحين اشتكاه كبير الطهاة إلى الضابط‪ ،‬قهقه ثم ّ‬
‫أسكت الحوذي ٍ‬
‫وأطلق‪ ،‬فهوى السمرمر بال رأس وال حوصله‪C..!.‬‬
‫أمه‪ ،‬وأطلق صوته ضاحكاً‪ ،‬والناس من حوله‬
‫وأعلن عباس عن موت ِّ‬
‫حيارى‪:‬‬
‫أمه‪.‬؟!‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬أيفرح المرء إن فقد َّ‬
‫همس الضابط لنفسه‪:‬‬
‫طل العقل‪.).‬‬
‫ـ ‪( :‬الجوع يع ّ‬
‫عزوا عباساً فرقص‪.!.‬‬‫َّ‬
‫همس الضابط لنفسه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬العطش ُّ‬
‫يكل البصر‪.).‬‬
‫المقربون عباساً فغنى‪ ،‬فقال الضابط لنفسه‪:‬‬
‫والم ّ‬
‫ـ ‪( :‬الجوع ينفث اليأس في النفس‪C.).‬‬
‫ونهر الشيوخ عباساً فهتف لسطوة المصير المبهم‪ ،‬فتمتم الضابط لنفسه‪:‬‬
‫ذباحان دون إراقة دماء‪..).‬‬
‫ـ ‪( :‬العطش والجوع ّ‬
‫عباس ثم خمدت‪ ،‬اضمحلت بسمته وانمحت‪ ،‬رفرفت عيناه‬ ‫جلجلت ضحكة ّ‬
‫دمع فيهما يخمد الحريق‪ ،‬جأر صائحاً‪ ،‬ذهب منعزالً‪ ،‬انفرد متشيئاً‪ ،‬هام‬
‫وليس من ٍ‬
‫الكرة ففتك بهم بقوة ثور‪ ،‬تكاثروا عليه‬
‫فطوح بهم‪ ،‬عاودوا َّ‬
‫جره أترابه ّ‬
‫هبالً‪ّ ،‬‬
‫طوقته فهجع في حجرها ينشج‪ ،‬حتى إذا سمع صوت الضابط‬ ‫بالجدة نور‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫فاستنجد‬
‫يتخبط ضارباً بالحجر‪ ،‬ناثراً التراب‪ ،‬عاضاً ظاهر كفه حتى‬‫عثمان‪ ،‬هاج وراح ّ‬
‫أدماه‪ ،‬ولم يستكن حتى أخذته قمر تطبطب على خديه‪ ،‬ماسحة على رأسه‪ ،‬فابتسم‬
‫ٍ‬
‫عندئذ ربطوه إلى عربة الممسوسين‪.‬‬ ‫مناغياً‪،‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫***‬
‫رمت الشمس جمرات الظهيرة‪ ،‬فتصبب حصان الضابط عرقاً‪ ،‬ورطّب‬
‫باطن سروايلـه‪ ،‬فاستبد لـه بآخر‪ ،‬وآوى إلى عربته الفارهة‪ ،‬يضم إلى صدره‬
‫صندوقه األغلى‪ ،‬مغلقاً على ما يدور في خلده‪ ،‬كاتماً في صدره ما نوى إثر حادثة‬
‫رأس العريف‪ ،‬وبدا بسكوته كرافع راية بيضاء‪ ،‬وقد وضع كمال يده على‬
‫الشمعدان والكتاب‪ ،‬ولم يشك لحظة أنه ذهب بهما إلى أوالء األوباش‪،‬وما سكوتهم‬
‫إال عن ّنية ّبيتوها لحين لزومها‪ ،‬وليظن كمال المأفون أنه األذكى‪ ،‬وأنه أجاد‬
‫فخ يوقعه فيه حين يشاء‪.‬‬
‫نصب ٍ‬
‫ٍ‬
‫نزهة‪...‬؟‪ C..‬أية نزهة لي مع هؤالء‪..‬؟!‪ ...‬أكنت‬ ‫ـ ‪( :‬وهل كنت آخذهم في‬
‫دليل ٍ‬
‫قافلة من "الغوييم"؟‪ ...‬ألمثل هذا أحمل هذي الرتب‪.‬؟‬
‫وما قيمة ضابط مثلي في حالة سلم‪.‬؟‪ .‬وكيف يهنأ لي العيش مالم يكن أمامي‬
‫أؤول‬ ‫ك أنا‪ ،‬محترز‪ّ ،‬‬‫عدو ولو توهمته‪ ..‬ش ّكا ٌ‬
‫من أتخيله عدوي‪.‬؟‪ ...‬البد لي من ٍّ‬
‫الوقائع بأسوأ احتماالتها‪ ،‬فالناس أنجاس‪ ،‬وكلهم موضع ريبة‪ ،‬تحية أحدهم‬
‫وتصنع الطاعة واالحترام‬
‫ّ‬ ‫مغرضة‪ ،‬والبسمة مغشوشة‪ ،‬وإ بداء الخوف حيلة‪،‬‬
‫كذب‪ ،‬والنوايا خبيثة‪ ،‬والصمت قناع مخادع‪ ،‬فإن لم يثبت العكس‪ ،‬وقع المحتمل‬
‫َّ‬
‫ولشد ما‬ ‫ضمن الحسبان‪ ،‬فتبوء المفاجأة بالخسران‪ .‬أوقعهم في الظن أنني هادنت‪،‬‬
‫ترضيني بساطتهم المفرطة‪ ،‬وخبثهم الساذج‪ ....‬وإ نهم يتيحون لي بطولة الئقة‪،‬‬
‫ترفع مقامي‪ C،‬وتصلح لحكاية تروى عني‪ ،‬فأكون النجم الذي أردت أن أكونه أيتها‬
‫كف عن الضرب والتقتيل‪ ،‬كما فعل‬ ‫األم الخزرية‪ C.).‬فَ َّك َر على هذا المنوال وقد َّ‬
‫بهم من قبل‪ ،‬إال أنه مصر أن يأخذهم إلى حيث يحقق غايته ويشبع رغبته‪،‬‬
‫فاألرض القفر التي لم تكن يوماً درباً ألحد‪ ،‬كفيلة بفعل ما نوى‪ ،‬يدفعهم إليها وقد‬
‫أن حارسهم هو‬ ‫استعد لها‪ ،‬وتركهم مجردين من أسباب الصمود‪ ،‬وهم غافلون عن َّ‬ ‫َّ‬
‫قاتلهم‪C..!..‬‬
‫ـ ‪( :‬فإن كانوا أبالسة‪ ،‬فأنا الشيطان نفسه‪ ،‬والعاقبة لمن شحذ ذهنه على ِم ّس ِّن‬
‫الزمن‪.).‬‬
‫أرض منبسطة على ِّ‬
‫مد البصر‪ ،‬ال زرع فيها وال نبت‪ ،‬والغيم مفقود في‬ ‫ٌ‬
‫سمائها‪ ،‬وليس فيها طير يطير؛ وال تحتها وحش يسير؛ إال هم‪ ....‬أُولجوا العراء‪،‬‬
‫هباء‪ ،‬تطيِّره الريح فيلزق‬
‫فتلقاهم العجاج‪ ،‬مخروا البيداء فانتخل التراب عليهم ً‬
‫بفتحات األنوف‪ ،‬ويتسرب‬
‫ِ‬ ‫على أسمالهم وجلودهم‪ ،‬ويلتصق بهدب العيون‪ ،‬ويحف‬
‫بعضه متجمعاً في سقوف الحلوق يستثيرها‪ ،‬وينزلق إلى الحناجر‪ ،‬فتنتابهم نوبات‬

‫‪- 76 -‬‬
‫سعال وبوادر اختناق‪ ،‬ويلتزج على الشفاه واألسنان‪ ،‬ينسحق منجرشاً بينها‪،‬‬
‫وينجبل بالعرق المغرق أجسادهم‪ ،‬ويزداد العطش‪ ،‬والماء عزيز المنال‪ ،‬فعربة‬
‫الماء تحت الحراسة المسلّحة‪ ،‬أسوة بعربات السالح‪.‬‬
‫فجأةً عصفت الريح ُّ‬
‫تسك اآلذان‪ ،‬وحبيبات الرمل تقذي العيون‪ ،‬وتلطم‬
‫الخدود مثل وخز اإلبر ولسع الدبابير‪.‬‬
‫اشتبك الظامئون مع العسكر‪ ،‬فداستهم الدواب بسنابكها والحوافر ومات‬
‫شيوخ ومرضى وعسكريان‪ ،‬وماتت امرأة جاءها المخاض في هذا العذاب‪،‬‬
‫وأظلمت الدنيا كأنما انطبقت السماء على صدر األرض‪.‬‬
‫احتج الوجهاء فراح احتجاجهم في الغبار‪ ،‬وصوتت النسوة وعلى رأسهن‬
‫قمر‪ ،‬والريح تعوي َّ‬
‫كأن قطيعاً من الذئاب مقبل لنهش لحومهن‪ ،‬متهمات الضابط‬
‫مجرم بال قلب‪ ،‬فردد في نفسه‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫أنه أسود الكبد‪،‬‬
‫ـ ‪( :‬بل في صدري قلب فحل‪ ،‬فمن أرادت أن تشرب بثدييها‪ ،‬سقيتها بيدي‬
‫منقوع الزبيب وشراب الدبس‪ ،‬أو فلتضمر أثداؤكن كما التين المجفف‪.).‬‬
‫ٍ‬
‫محرقة‪ ،‬فدفنوا‬ ‫ألي سكنت الريح وصفت السماء عن شمس أتون‬ ‫وبعد ٍّ‬
‫تفدعت الشفاه وتملَّحت‪ ،‬وتالعب السراب باألبصار‪ ،‬أزاغها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كبد‬ ‫أمواتهم في‬
‫َّ‬
‫وجف العرق على األبدان فصار ملحاً‪ ،‬فثارت عليها‬ ‫وأيبس الصدى الحالقيم‪،‬‬
‫بثور ونثور‪ ،‬وفي األفواه غلظت األلسنة وثقلت‪ ،‬ركع من ركع‪ ،‬وانبطح بعضهم‬
‫وزحف‪.‬‬
‫وجوهٌ َج ِعدة وبطون طاوية‪ ،‬وقامات عجفاء ناحلة كأعواد قصب ٍ‬
‫زل جفَّت‬
‫اشتواء بلفح السعير‪ ،‬فهان قصمها‪.‬‬
‫ً‬
‫يمرغ وجهه بالرمل ينبش من تحته التراب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ذاك حاف وهذا شبه عريان‪ ،‬وذا ّ‬
‫عل بعض الرطوبة فيه‪.‬‬‫َّ‬
‫شرب الضابط عثمان‪ ،‬وسكب بقية الماء على رأسه وعنقه‪ ،‬فناوله كبير‬
‫ٍ‬
‫متهجد‬ ‫الطهاة كوباً آخر‪ ،‬ثم قدم له قهوة‪ .‬رشف منها وهو ينظر إلى قمر بعيني‬
‫والصبية "أبهى" مقارنة لذا ذات التشهي؛‪ C‬إن جمعه‬
‫ّ‬ ‫آن معاً‪ ،‬عاقداً بينها‬ ‫ٍ‬
‫وذئب في ٍ‬
‫وإ حداهما فراش‪.‬‬
‫عبه وبين فخذيه‪ ،‬وأتاه كبير الطهاة بشاي‬
‫وبخ الماء رذاذاً في ّ‬
‫تمضمض ّ‬
‫وسميه الفتى السِّكيت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أثيره‬ ‫إلى‬ ‫شراب‬ ‫بإناء‬ ‫الطهاة‬ ‫أحد‬ ‫ب‬‫كالعقيق‪ ،‬وأَ ْذ َه َ‬
‫اقتربت قمر بفرسها من الضابط كمال حانقة‪ ،‬زفرت وهمست‪:‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫ـ ‪ :‬وبعد‪.‬؟!‪.‬‬
‫تطلّع إلى وجهها فأحسَّها تؤنبه بنظرة ليس لها تفسير آخر‪ .‬لكز فرسه واتجه‬
‫إلى عربة الماء متلفتاً‪ ،‬أمر الحرس أن يبتعدوا‪ ،‬وأوقف العربة وأشار لقمر أن‬
‫تقترب‪ ،‬صاحت في الجهات من حولها‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الما‪ ..‬ء‪ ،‬الماء‪..‬‬
‫صدقوا‪ ،‬لكنهم هجموا دفعة واحدة‪ .‬شتم عثمان األرض والسماء؛‬ ‫كأنهم ما ّ‬
‫غدارته في الهواء‪ ،‬فلم يأبهوا‪ .‬لقَّم بندقيته الخاصة طلقة‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫وأطلق‬ ‫وحلب وقلعتها‪،‬‬
‫فطير كوبا ًمن يد "أصالن"‪.‬‬ ‫"خاصة" وصوب ٍ‬
‫بدقة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ساد صمت وسكن الجمع لحظات‪ ،‬وتعلقت العيون بعثمان‪ ،‬فأعاد تلقيم‬
‫البندقية‪ ،‬دنت قمر من كمال نافذة الصبر ونبرت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ماذا تنتظر إن لم تجبن‪.‬؟‪C.‬‬
‫الزعارة حولهما متقطعي األنفاس‪:‬‬ ‫َّ‬
‫التف الشباب ّ‬
‫ـ ‪ :‬دمه أو الماء‪ .‬مامن خيار‪ .‬نحن جاهزون‪.‬‬
‫الطفتهم مهدئة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تقبروني‪ ..‬لم يحن دوركم بعد‪.‬‬
‫سايرهم كمال قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬اتركوا لي فرصة المحاولة‪.‬‬
‫وانفرد بعثمان قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الماء للناس‪ ،‬أو أعلن عن الكتاب و‪C.....‬‬
‫ابتسم عثمان رفّة عين‪ ،‬ونادى الشيخ اإلمام بصوت كالرعد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أ ّذن يا موالنا فالصالة ناهية‪..‬‬
‫وصاح بالناس أن يتيمموا فالصعيد طاهر‪ ،‬وويل لتاركي الصالة‪ ،‬ولكل ٍ‬
‫ساه‬
‫عنها‪C..!..‬‬

‫ص ِع َ‬
‫ق كمال‪ ،‬والشيخ يؤ ّذن‪ ،‬ثم أ ََّم الضابط عثمان المصلين ال وياً رقبته إلى‬ ‫ُ‬
‫اليمين‪ ،‬وقف العجوز داود بين الوجيه عبد الحميد وكمال‪ ،‬وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما األمر‪.‬؟!‪C..‬‬
‫قال كمال‪:‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫ـ ‪ :‬إنه المكر‪.‬‬
‫تمتم عبد الحميد‪:‬‬
‫المندس بكفّة‪.!.‬‬ ‫ـ ‪ :‬ماكان من رجال القيصر ٍ‬
‫بكفة‪ ،‬وما نراه من هذا النمس‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬قال الحكيم إدريس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬صالة باطلة‪..‬‬
‫والزعارة خلف كمال في الصف األخير‪ ،‬فسمعوا ما قاله الثالثة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كان أصالن‬
‫َّ‬
‫فانسل عبد اهلل ولحق به توفيق‪ ،‬ولبى أصالن إشارة قمر‪،‬ولحقه رشاد وإ براهيم‪،‬‬
‫السجد‪ ،‬استنكر كمال فعلتهم‪ ،‬فأبعده‬
‫وفي السجدة الثانية تلقفوا بنادق العسكر ّ‬
‫سليمان كأنه يعتقله‪ ،‬هرعت إليهم قمر‪ ،‬وتلقفت من أصالن بندقية‪ ،‬فتبعتها أمينة‬
‫وجلبهار وفاطمة وجلنار‪ .‬أخرجت قمر حماها وأباها من صف المصلين‪،‬‬
‫الزعارة‬
‫وطوق ّ‬ ‫وضمتهما إلى كمال‪ ،‬وأحاطت الفتيات بالجمع مشهرات البنادق‪ّ ،‬‬
‫األسلحة‪.‬احتج كمال فهمست لـه قمر أن يمتثل فتجنبه وصاحبيه‬
‫ّ‬ ‫المصلين مشرعي‬
‫فوهة البندقية بين كتفيه‪،‬‬‫المسؤولية‪ .‬حاول ثنيها ورفاقها عن هذه اللعبة‪ ،‬فوضعت ّ‬
‫وأمرته أن يجثو رافعاً يديه‪ ،‬نظر مستنجداً بالعجوز والوجيه‪ ،‬فوجدهما الئذين‬
‫بالصمت فامتثل‪.‬‬
‫هم أن يفعل شيئاً‪ ،‬فانتصبت أمينة أمامه فأبقته قاعداً‪،‬‬ ‫ُب ِه َ‬
‫ت الضابط عثمان‪َّ ،‬‬
‫نظرإ ليها بمكر وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هل أعلمك الرماية فتكونين أول أنثى في جيش السلطنة‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬تدربت تدريباً كافياً بمواجهتنا عسكر القيصر‪ ،‬إال إذا رغبت أن تكون‬
‫دريئة‪.‬‬
‫شاغلها بتلفته وصاح‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أومباشي ‪ ..‬أنفار‪ .‬نار‪C...‬‬

‫فوهة البندقية بين عينيه‪ ،‬ووثب يوسف فوق األومباشي‬


‫وضعت أمينة ّ‬
‫ولموا األسلحة وطمروها في‬‫فخروا جاثمين‪ّ ،‬‬
‫الزعارة بين أقدام العسكر‪ّ ،‬‬
‫وأطلق ّ‬
‫غدارته وش ّكلتها في حزامها‪ ،‬وألقت‬
‫وجردت أمينة عثمان من ّ‬
‫الرمل والتراب‪ّ ،‬‬
‫بندقيته فتلقّفها أصالن‪ ،‬وساد الهرج‪.‬‬
‫صاح الضابط‪:‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫أحملك تبعة ما يحدث‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أيها الوجيه عبد الحميد‪ ،‬إنني ّ‬
‫ردت قمر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الوجيه رهن االعتقال‪ ،‬ال حول له وال قوة‪.‬‬
‫جالت في ذهنه خالصة حيثيات تراكمت في بواطنه منذ بدء التحضير‬
‫للمسير‪ ،‬وليلة جاءته "تانسو" برفقة "أولتان" مبعوثين سريين‪ ،‬وأبلغاه أن حاخام‬
‫األستانة األكبر "موشي ليفي" يؤكد عليه أن مهمته في "عينتاب" هي األ َْولَى‬
‫باهتمامه‪ ،‬وعلى نجاحها يتوقف صعوده السلّم‪ ،‬وأن يتشفى ممن أوكل إليه سيد‬
‫"يلدز" تأمين سالمتهم‪ ،‬بعدما نجح المزروعون في مراكز القوى بإقناعه أن‬
‫المخلص عثمان‪ ،‬خير من يؤتمن على َم ْن وثقوا بعظمة جاللته‪ C...!‍.‬ثم يكون‬
‫جلوازهم تشفياً للخزريين‪ ،‬ولتعنت السلطان دون رغبتهم‪C...‬‬
‫ـ ‪( :‬تهون الدنيا يا سادتي دون رغباتكم‪.).‬‬
‫توسل‪ ،‬وأبدى تضرعاً وخنوعاً‪ ،‬فأبعد برؤوس أصابعه‬
‫حقن عينيه بشحنة ّ‬
‫وأنمت تعابير وجهه‬
‫فوهة البندقية من بين عينيه‪ ،‬كمن يهش ذبابة‪ ،‬وبدا مهادناً‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫تذلالً ومسكنةً‪ ،‬ورقق صوته حتى قارب الهوان‪ ،‬فأبعدت أمينة البندقية عن وجهه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫فوهتها في نقرته‪ ،‬رضي بهذا االنفراج فلهج بالشكر‪ ،‬ثم قال‬
‫لكنها ثبتت ّ‬
‫مشدود‪:‬‬
‫مدبر مايحدث‪ ،‬وسيعلم عظمة السلطان بخيانتك‪،‬‬‫ـ ‪ :‬كمال‪ C...‬ال أشك أنك ّ‬
‫وهو يغفر لرعاياه من أخطائهم ما شاء‪ ،‬إال الخيانة‪ ،‬إنني أرأف بك فأدعوك‬
‫لترتدع‪..‬‬
‫الخزرية‪ ،‬علّها تصيب من قلبه نقطة‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪( :‬إن هي إال لهجة مبطنة أيتها األم‬
‫ضعف‪..)..‬‬
‫قال توفيق متهكماً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أين نحن وأنت من السلطان أيها األغبر‪.‬؟!‪..‬‬
‫َّ‬
‫رد واثقاً مهدداً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬رجاله في "أورفة" و"عينتاب" والوالي في حلب‪.‬‬
‫هز الوجيه عبد الحميد رأسه قائالً‪:‬‬‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬يبدو واثقاً من تهديده‪ C...‬ولكن‪..‬‬
‫َّ‬
‫هب توفيق غاضباً‪:‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫ـ ‪ :‬في أفواهنا ألسنة تبلغهم عما كان منك‪ ،‬فإن لم يسمعوا فسحقاً لهم ولك‪.‬‬
‫نهره الوجيه قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فلتخرس يا ولد‪ .‬لسنا رهن حماقتك‪.‬‬
‫غمزت قمر لكمال ونبرت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬توفيق‪ C...‬اهدأ‪ .‬اطمئن يا أبتاه‪ ،‬سأعالج األمر‪.‬‬
‫ووجهت كالمها إلى الضابط قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الضابط كمال تحت رحمة سالحي‪ ،‬ال حول له وال قوة‪.‬‬
‫عطس أبوها وتلعثم محتجاً‪:‬‬
‫تهور هذا‪C..!.‬‬
‫ـ ‪ :‬العمى‪ C..!.‬تحمينه وتوقعين بنفسك‪.‬؟!‪ ..‬أي ّ‬
‫قال توفيق‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أيخيفنا الذئب وهو في المصيدة‪.‬؟!‪..‬‬
‫رد العجوز داود‪:‬‬‫َّ‬
‫ـ ‪ :‬لو تعلم أيها الفتى كم يكون الذئب ضارياً‪ ،‬وقد جرحته اإلهانة‪...!.‬‬
‫ابتسم توفيق قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لست بتلك البالهة‪ ،‬وإ نني ممن خبروا الوحوش تماماً؛ وأنت أدرى‪.‬‬
‫ضحك العجوز داود وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬توفيق‪ ..‬أستحلفك‪ ،‬ألم تكن ثمالً حين صرعته‪.‬؟‪.‬‬
‫مثوم‪ ،‬وشربت حتى‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪ C...‬كنت وقتذاك في جاهليتي‪ ،‬أكلت فخذ خروف ّ‬
‫بت أرى الهواء‪ ،‬وأسمع ضحكة النملة‪ ،‬ورقصت بخمسة سيوف مع ثالث‬
‫حسناوات‪ ،‬وفي طريق عودتي إلى القرية هاجمني فصارعته‪ .‬ثم أفقت وأبي‬
‫وجدت الدب صريعاً بجانبي‪ ،‬سلخت‬
‫ُ‬ ‫يوقظني‪ ،‬قال إن حصاني دلّهم على مكاني‪،‬‬
‫جلده ألهديه إلى صديقي العريس المحتفى به‪ ،‬لكن عسكر القيصر سرقوه‬
‫مني‪.‬ذاك أبي اسألوه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬توفيق يا بني‪ ،‬لست اآلن ثمالً لتواجه الضاري عثمان‪ ،‬دعك منه‬
‫العدمناك‪.‬‬
‫أُسقط في يد الضابط فصاح‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال‪ C...‬أنا رئيسك وإ نني مهان‪ .‬أنسيت واجبك نحوي‪.‬؟‪C.‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫همس كمال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بدأ يعلك‪ C...‬ألجموه‪..‬‬
‫قالت قمر‪:‬‬
‫وجه كالمك إلي أيها الضابط عثمان‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أنا اآلمرة اآلن‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي تريدونه أيتها المحترمة‪.‬؟‪C.‬‬
‫رد أصالن جازماً‪:‬‬‫َّ‬
‫ـ ‪ :‬الماء والطعام والسالم‪.‬‬
‫لم تنتظر قمر إجابة فصاحت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إلى الماء والطعام‪ ،‬وليأخذ ٌّ‬
‫كل حاجته فحسب‪ ،‬موالنا الشيخ إنك خير من‬
‫يتولى التوزيع‪.‬‬
‫سره‪:‬‬
‫قال الشيخ في ّ‬
‫ـ ‪( :‬تورطينني وأنا في غنى عما أنتم فيه‪..)!!..‬‬
‫فحول بصره إلى السماء‪.‬‬
‫هز رأسه محوقالً‪ ،‬والتقت نظراته بنظرة عثمان‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫تلكأ قليالً‪ ،‬وكاد يقول شيئاً‪ ،‬لكنه كتم رغبته ومضى‪ ،‬وأمرت قمر كبير الطهاة‬
‫وطاقمه أن يتبعوا الشيخ ليساعدوه‪ ،‬فامتثلوا غير متحمسين وال رافضين‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أولموا للضابط‪ ،‬وأكثروا له مما يرغب‪.‬‬
‫وابتعد كمال محاوالً عدم لفت نظر صاحبيه‪ ،‬تنحنح وهمس‪:‬‬
‫ِ‬
‫بأشراك)‪-.‬‬ ‫أيدي الهوى أوقعت قلبي‬ ‫ـ ‪( :‬من غنج عينيك‪ -‬أم من لطف معناك‬
‫استغربت ونظرت إلى نفسها مستنكرة قذارة ثيابها‪ ،‬تأففت متخيلة وجهها وقد‬
‫تلمسته‪ ،‬وفركت بأناملها الغبار عنه فانفتل متطيناً بالعرق‪.‬‬

‫هبت في فمها ضحكة فكتمتها‪ ،‬وتمتمت‪:‬‬ ‫ّ‬


‫ـ ‪( :‬وما قوله لو رآني في ِّ‬
‫عز بهائي‪.‬؟!)‪C..‬‬
‫تنهدت قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تتحرش بي‪ .‬أال تخشى أن أقتلك؛ ونحن في ظرف وتَّر أعصابنا‪.‬؟‪.‬‬
‫فهمس‪:‬‬
‫ِ‬
‫عيناك‪).‬‬ ‫فقد أراقت دمي بالسحر‬ ‫(ورد بخديك أم هذا خضاب دمي‬
‫ٌ‬ ‫ـ‪:‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫ابتسمت رفة جفن‪ ،‬وكادت األنثى في داخلها‪ ،‬أن ترق وتعلن عن نفسها‪ ،‬بيد‬
‫أنها أخنعتها‪ ،‬وقطّبت قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تأدب‪C..!..‬‬
‫صاح الضابط عثمان‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬برغم أنك سمحت لي بأكل القديد‪ ،‬لكنك ستندمين يا قمر‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬فات أوان الندم‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أيها الضابط كمال‪ ،‬قل لها ما عاقبة العصيان‪.‬‬
‫صاح عبد اهلل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ليست من عسكرك لتعاقبها إن عصتك‪.‬‬
‫غيبت أنوثتها تحت‬
‫ذهبت إليه‪ ،‬وقفت‪ ،‬نظرت في عينيه بعيني امرأة ّ‬
‫همها‪،‬كادت تبصق فمنعتها شيمتها‪ .‬كادت تضغط على الزناد‪ ،‬جحظت عيناه‪،‬‬
‫كز أسنانه واختزل القول بكلمة‪:‬‬
‫تدفق الكالم من داخله فمأل فمه‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬نتفاهم‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬بدون شروط مسبقة‪ ،‬وهذا شرطنا الوحيد‪.‬‬
‫جفل عباس الملتاث؛ من طاس الماء حين حاولوا أن يسقوه‪ ،‬صرخ وهذى‪،‬‬
‫اهتز وتشنج‪ ،‬تأتأ وبكى واشتكى أنه ال يجيد السباحة‪ ،‬ورجاهم أن يبعدوه عن هذي‬
‫ّ‬
‫أمه عطشاً‪..!.‬‬
‫ّ‬ ‫ماتت‬ ‫قد‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫ا‬
‫ً‬ ‫غرق‬ ‫يموت‬ ‫أن‬ ‫يريد‬ ‫ال‬ ‫فهو‬ ‫العميقة‪،‬‬ ‫البئر‬
‫وحين أدنوا الماء من أحد المحتضرين‪ ،‬فرح المسكين‪َّ ،‬‬
‫عب حتى ارتوى‪،‬‬
‫نظر في الوجوه من حوله ممتناً‪ ،‬ثم ابتسم بطالوة ومات‪...!..‬‬
‫ـ ‪ :‬نحرقها وال نتركها‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬يالك من أحمق‪C...!..‬‬
‫سألتهما قمر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬عالم تتصارع الديكة‪.‬؟‪.‬‬
‫قال عبد اهلل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬األسلحة يا قمر‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أال يكفيكم ما غنمتم من سالح عسكر ألكسندر‪.‬؟!‪C..‬‬
‫رد توفيق‪:‬‬‫َّ‬

‫‪- 83 -‬‬
‫ـ ‪ :‬السالح ثروة‪ ،‬والثروة ال يكتفى منها وإ ن زيد عليها‪.‬‬
‫حسمت الخالف بقولها‪:‬‬
‫يطمعن أحد بأسلحة عسكر عثمان‪ .‬سنسلمها ألول مركز نصله‪ .‬ولم‬ ‫َّ‬ ‫ـ ‪ :‬ال‬
‫تثمر المفاوضات طائالً‪ ،‬فقد ساقها عثمان إلى طريق مسدودة‪ ،‬فاستأنفت القافلة‬
‫سيرها بأمرة الضابط كمال‪ ،‬وعن يمينه الوجيه عبد الحميد‪ ،‬وإ لى يساره أصالن‪،‬‬
‫وأمامهم توفيق‪ ،‬وخلفهم األومباشي‪ ،‬وأُبقي عثمان في عربته‪ ،‬وبخدمته كبير‬
‫الزعارة‬
‫وتوزع ّ‬ ‫الطهاة بحراسة أمينة‪ ،‬وعهد إلى العجوز داود أمر عربة الماء‪ّ ،‬‬
‫على عربات األرزاق‪ ،‬وأنيطت بالفتى عثمان السِّكيت مهمة مراقبة العسكر‪،‬‬
‫ووزعت البغال والخيول على الشيوخ والمتعبين‪ ،‬وقمر تلحظ القافلة كلها‪ ،‬بينما‬
‫أمل مرتجى‪ ،‬حتى‬ ‫نعمان ينشد حاثاً على تحمل المشقّة‪ ،‬موحياً بالتطلع إلى ٍ‬
‫إذاتعب‪ ،‬تال الشيخ وتالمذته ما تيسر من آي الذكر الحكيم‪C...‬‬
‫فقدت خطة المفازة واألرض القفر فاعليتها‪ ،‬دون أن تحقق كامل رغبة‬
‫الضابط عثمان‪ ،‬فقد نوى فعل األفاعيل فأخفق‪ ،‬وبرغم أن ما جرى هائل‪ ،‬لكنه لم‬
‫حيرته‪:‬‬ ‫ِ‬
‫يشف غليله‪ ،‬فع ّذب نفسه وهويجلدها بأسئلة مقلقة ّ‬
‫ـ ‪( :‬أفعلت ما طُلب منك‪..‬؟!‪ ...‬أيكون جوابك "نعم"‪..‬؟!‪ C..‬يا لخيبتك‪C!!..‬‬
‫األرض القفر منحتك فرصة إبادتهم‪ ،‬دون أن تلوث يديك بقطرة دم‪ ،‬وما كان ألحدٍ‬
‫أن يتهمك أو ُي َؤثمك‪ .‬اهلل أراد‪ ..‬اهلل فعل‪ C!!...‬وال شيء يخضعك للمساءلة‪ ،‬فما‬
‫عذرك‪..‬؟!‪ C..‬أتبكي‪..‬؟!‪ C‬من ذا الذي ينفعه بكاؤك‪..‬؟!‪ C..‬ومن ذا الذي يقنعه دمعك‬
‫قصرت؛ لم تقم بما عليك‪ .‬اعترف أنك أخفقت‪ .‬أصعبة‬ ‫وإ ن كان حراقاً‪..‬؟!‪ّ C...‬‬
‫هذه عليك‪!..‬؟‪ ..‬إذن قل إنك لم تنجح تماماً‪ .‬مقبولة هذه أليس كذلك‪..‬؟!‪ C...‬بيد أن‬
‫هذه وتلك ال تعفيانك‪ ،‬بقدر ما تضعانك أمام الكير بين الغاية والوسيلة‪ .‬دعك من‬
‫الوسيلة‪ ،‬اتركها خارج تفكيرك‪ .‬الغاية الغاية يا عثمان‪ .‬ها أنتذا تقر أنك لست‬
‫مرتاحاً‪ ،‬فماعساك فاعل‪..‬؟!‪ ...‬ما زال في الوقت متسع‪ ،‬وفي الطريق بقية‪...)...‬‬
‫***‬
‫سرب الحمائم ما أجمله‪ C!!..‬سبحان َم ْن والفه‪ ...!!..‬سائر الغيد يتهامسن‬
‫وروداً سرى‬
‫الغمة رويداً‪ْ ،‬‬
‫مسرورات‪ ،‬غناؤهن كالهديل وأرخم‪ ،‬بعث بهجة تجلو ُ‬
‫فراغ فتّاك؛‬
‫بين األخريات همس النغمات‪ ،‬فأشعن بعض الفرح في جوف كآبة ٍ‬
‫فأغظن الجدة المهيبة نور‪ ،‬فزجرتهن سائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي جعلكن تقوقئن كالدجاجات‪..‬؟!‪C...‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫الجدة‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬فرحات أيتها ّ‬
‫ـ ‪ :‬بِ َم‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬بنصرنا على الضبع عثمان‪C...‬‬
‫قالت الجدة وقد شخص بصرها‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬خاسرون نحن‪ ،‬حتى لو تحولت هذي األرض فراديس‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬ما األمر أيتها الجدة‪..‬؟!‪...‬‬
‫صاحت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬سليمان‪..‬‬
‫أوقف بغلته ممتثالً والتفت إليها‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬تعال‬
‫اقترب مترجالً‪ ،‬وسار بجانب العربة مصغياً‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬أفهم هذه الزغاليل معنى أننا خاسرون‪.‬‬
‫هز رأسه طاعة؛ وتنهد خلسةً ثم قال‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬جدتي عارضت أن نترك أرضنا‪..‬‬
‫وغص فسكت‪ .‬نظرت إليه غير راضية‪ ،‬وهزأت‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫تلعثم‬
‫جرو وصمت‪ .‬مابك‪..‬؟!‪ ...‬أتخجل أن تذكر ما‬ ‫ـ ‪ :‬وأوأ ابن الوجاهة مثل ٍ‬
‫قلته لآلثم أبيك‪...‬؟!‪ ..‬أم تراك خجالً ألن قولي بفعلته كان صائباً‪..‬؟! خجلك هذا‬
‫ال يساوي حفنةً من مزبلة قريتنا يا ولد‪...‬‬
‫أسى وزأر‪:‬‬ ‫َّ‬
‫كز أسنانه ً‬
‫ـ ‪ :‬كرمى لروح جدي‪ ..‬كفى‪C..‬‬
‫سحب بغلته وابتعد‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هه‪ !..‬هرب‪ ..!!..‬من يهرب من عيبه ال يتطهر منه‪..‬‬
‫حدقت في الوجوه المترقبة‬
‫أوقفت العربة فتوقف من خلفها الركب‪ّ ،‬‬
‫وصاحت‪:‬‬
‫مسوغ يفصلهما‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬األرض كالعرض وال ّ‬
‫ورددت بكائية ضبطت إيقاعها بنقر عصاها‪ ،‬وعال صوتها‪ ،‬فانتقلت العدوى‬
‫إلى العربات األخر‪ ،‬تفاقم الغناء البكائي وارتفع‪ ،‬نبتت له أجنحة‪ ،‬رأته الجدة‬

‫‪- 85 -‬‬
‫يتحول أطياراً‪ ،‬تجوب الفضاء فوقهم‪ ،‬تذهب إلى هناك‪ ،‬إلى حيث الحلم كان يعطي‬ ‫ّ‬
‫أكدت أنها ترى ذلك‪ ،‬ترى القمم تتدلى منها أجنحة من‬
‫للحياة معنى الحياة‪ّ ،‬‬
‫الخضرة‪ ،‬تصنع قباباً وودياناً‪ ،‬تشرق في أحضانها عيون من الينابيع والبحيرات‪،‬‬
‫مش ّكلة حالةً حميمية بين السماء واألرض؛ األرض التي جعلها الخالق جنة لذاته‬
‫أحب أوالء‪ ،‬أعطاهم جنته األخاذة تلك‪C...‬‬
‫الجميلة‪ ،‬وألنه ّ‬
‫فنبه الضابط كمال‪ ،‬إلى هذا العويل المنفلت من‬ ‫انتهز الضابط عثمان الحالة ّ‬
‫هبت ريح‬ ‫كمامات الصدور‪ ،‬وأكد على خطورته‪ ،‬فهو جمر وإ ن غطاه الرماد؛ إن ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تحرق وال شفيع‪،‬‬ ‫نفوسهم أذهبت الرماد‪ ،‬وجهجهت قبسهم‪ ،‬فتتقد نارهم‪،‬‬
‫فالقانطون مطموسة أبصارهم وبصائرهم‪ ،‬خطرون هم‪ ،‬ومن الغباء معاملتهم‬
‫زينها في عينيك الحرمان يا‬‫غدار‪ّ ،‬‬‫بغير هذا المفهوم‪ ،‬وما قمر إال طائر رخمة ّ‬
‫كمال‪..‬‬
‫تلمس مافي قاع نفسها من نوايا‪ .‬حذراً‬‫أقلقه الكالم‪ ،‬والتقاها مرات محاوالً ّ‬
‫جس الهواجس وظل نافراً‪ ،‬وكالم عثمان يقرع ناقوس الريبة في نفسه‪ ،‬والحظت‬ ‫َّ‬
‫قمر فتوره‪ ،‬ولم يقنعها ما أدلى به مقتضباً‪ ،‬أنه منشغل البال بأهله‪.‬‬
‫وماكان الفتى السِّكيت يراقب العسكر؛ بقدر انشغاله بمراقبتهما‪ ،‬وغيرته‬
‫َّ‬
‫فاستغل الضابط‬ ‫ويريه مالم يكن منهما‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تشتعل ملهبة خياله؛ فَُي ْسمعه ما ال يقوالن‪ُ ،‬‬
‫انفعاالت أثيرة‪ ،‬فنفخ بزهوه‪ ،‬كيما يجعله طاووساً‪ ،‬وامتدح فتنة قمر فاذاب‬
‫أطراف قلبه‪ ،‬ومأله اهتياجاً وجوى‪ ،‬غامزاً في قناة غريمه‪ ،‬وأنها مأخوذة بجرأته‪،‬‬
‫وهي األرملة المقسورة على الحرمان‪ ،‬وقد عزف على وتر وحشة فراغها‪ ،‬فيما‬
‫هو يضمر ويكبت‪ ،‬كأنه غافل عن فعالية الثناء في الغانيات‪ ،‬فأعاده إلى الساح‬
‫قوته‪!..‬؟‪..‬‬
‫مشحوناً برغبة إثبات ذاته‪ ،‬فالقوة تحسم األمر‪ ،‬وأين كمال من ّ‬
‫وحين توقفت القافلة قبيل الغروب‪ ،‬في موقع مناسب للمبيت‪ ،‬انصرف الخلق‬
‫لتدبير شؤونهم‪ ،‬وذهب كمال يتحرى محيط المكان‪( ،‬ولرغبته بخلوة‪َّ ،‬‬
‫يتفكر‬
‫خاللها‪ ،‬فكالم عثمان ما زال ِّ‬
‫يصدع رأسه)‪...‬‬
‫قوته المختزنة‪ ،‬وهي فيص ٌل هذا‬
‫لحق به الفتى السِّكيت‪ ،‬وقد نوى اإلفادة من ّ‬
‫أوانه؛ لعله يكسب قمراً‪.‬‬
‫ذهب كالم كمال هباء‪ ،‬ولم ِ‬
‫تجد محاولته للتفاهم مع الثور الصامت نفعاً‪ ،‬ولم‬ ‫ً‬
‫يجد سبيالً غير أن يصطرعا‪ ،‬فأثخنته الجراح ووسمته الكدمات‪ ،‬قبل أن ُيهرع‬
‫ْ‬
‫إليهما بعضهم فيحجزوا بينهما‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫وإ ثر تفشي الخبر‪ ،‬عقد الشيوخ محكمة بكامل هيئتها من كبار ِّ‬
‫السن‬
‫وحراس التقاليد المتوارثة مشافهةً وممارسةً‪ ،‬وجوهر‬
‫والضالعين باألعراف‪ّ ،‬‬
‫تشريعها األخالق وقدسيتها‪ ،‬يتساوى أمامها الكبير والصغير من الذكور‪ ،‬كذلك‬
‫األنثى‪ ،‬وإ ن حظيت بإجالل الجميع لها‪ ،‬وأحكامها مبرمة ملزمة‪ ،‬أما مخالفتها‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تدبير آخر‪..‬‬ ‫فخروج على نهج الجماعة‪ ،‬وللمسألة‬
‫وكانت بهجة الضابط عثمان عارمة؛ إذ نال من كمال َّ‬
‫وهد أنفته‪ ،‬وأثبت له‬
‫وبين له أنه واألومباشي‬
‫مضيه بعيداً عنه بتحالفه مع أولئك "القرباط"!!‪ّ ...‬‬
‫ّ‬ ‫خطأ‬
‫عصي‪C،‬‬
‫ٍّ‬ ‫سواء بسواء‪ ،‬مادام ّج َّرد عسكره من أسلحتهم‪ ،‬وتركهم كرعيان ماعز بال‬
‫فمكانته منوطة بقوة عسكره‪ ،‬وإ ال فال معنى ألن يكون ضابطاً‪ ،‬أما خالفهما فهو‬
‫راقية‪ ،‬دون أن يطمع بهما‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة‬ ‫وضرب من سو ِء التفاهم‪ ،‬بيديهما تسويته‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫واه‪،‬‬
‫زينت له تلك الرخمة‬ ‫أن وحشة الحرمان ّ‬ ‫أوالء الرعاع المتربصون‪ ،‬وكرر عليه ّ‬
‫يتهور‪..‬‬
‫الحمقاء قمراً‪ ،‬وعليه أال ّ‬
‫مضى والشك يعذبه‪ ،‬وقضى وقتاً يقلِّب األمر على وجوهه‪ ،‬وعا َذ من‬
‫وسواسه بصفحات مما انتهى إليه "الكواكبي" عن االستبداد‪...‬‬
‫حدث الضابط عثمان نفسه مبتسماً‪:‬‬‫َّ‬
‫الحلبي والنابلسية درساً يليق به‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪( :‬سلمت يا بغلي الصموت‪ ،‬فقد لقّنت ابن‬
‫أكثر من رتبته‪ ،‬ولقد صدقني حدسي إذ اصطفيتك‪ ،‬ولسوف يسطع نجمك‪ ،‬وتضج‬
‫ليل شتائي طويل قارس البرودة‪ ،‬تبعث الدفء‬ ‫فحولتك لهباً مشتهى؛ كنار القرم في ٍ‬
‫ً‬
‫في صقيع المخدع‪ ،‬فاصطبر ريثما ننتهي إلى حلب‪....)!!..‬‬
‫وانتصب السؤال في رأس كمال عارياً‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬هل أحبها‪..‬؟؟؟!‪.)..‬‬
‫ع ّذبه السؤال ملحاحاً‪ ،‬ونفسه مفعمة رقّة وشفافية‪ ،‬كادت تجعل الدمع يطفر‬
‫حمام السوق‪ ،‬تذكر رفاقه في "القصيلة"‬ ‫تخيل "رقوش"‪ ،‬هفّت نفسه إلى ّ‬ ‫من عينيه‪ّ ،‬‬
‫وتجول تحت القلعة‪ ،‬وتمشى أمام "جامع زكريا"‪ ،‬دخل‬ ‫ّ‬ ‫تمشى في "ساحة الملح"‪،‬‬
‫الحجارين‪ ،‬وذهب إلى حانوت أبيه في "بحسيتا"‪ ،‬تذ ّكر أنه قرأ أن "بحسيتا"‬
‫"قسطل ّ‬
‫الموسوسين‬
‫ومرت أمامه مالمح زبن أبيه َ‬ ‫سريانية األصل وتعني "بيت الشرف"‪َّ .‬‬
‫بالطرابيش الحمر العثمانية‪ ،‬وحسن مظهرها‪ .‬رأى بائع "اإلنكنار"‪ ،‬وبائع شراب‬
‫بعيد‪ُ ،‬يخبر عنه صوت طاساته النحاسية يسقي الزبن ضيافةً‬ ‫آت من ٍ‬ ‫عرق السوس ٍ‬
‫حوارية بعدد‬
‫من صاحب الحانوت‪ ،‬ويترك على الجدار قرب الباب عالمات ّ‬

‫‪- 87 -‬‬
‫الطاسات التي قدمها‪ ،‬يحاسب على ثمنها فيما بعد بموجب العالمات المرسومة‪.‬‬
‫أمه‪ ،‬سمع أصوات احتفال بختمة القرآن؛ وأصوات حفلة‬ ‫استنشق نكهة طبيخ ِّ‬
‫وغمازتها الج ّذابة؛ وصدرها المتوثب‪،‬‬
‫عنابية البشرة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫البضة؛‬
‫تخيل رقوش ّ‬ ‫ختان‪ّ ،‬‬
‫غص ِفناؤها بالمدعوين‬
‫ثديان يتقافزان ويتحرشان بالنسمة‪ ،‬رأى داره وقد َّ‬
‫واألقارب والمحبين و"جوقة اآلالتية" في حفل قبوله ضابطاً في الجيش‪ ،‬وسمع‬
‫يترنم بموشحات وقدود‪ ،‬والح لـه وجه "رقوش" من‬‫بِ َولّ ٍه شدو المنشد المطرب ّ‬
‫فرجة الباب‪ ،‬تناوله أطباق "المهلبية الهيطلية"‪ ،‬حينذاك همس لها‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬قربان الذي خلق‪ ،‬حلوة أنت مثل "الهيطلية"‪C..)..!..‬‬
‫جورية‪ ،‬وأهدته منديالً مشغوالً على الطارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقطف لها عرق ريحان ووردة‬
‫ـ ‪( :‬جفف به عرق جبينك وتذكرني‪..)..‬‬
‫تنحنح رشاد عند باب الخيمة‪ ،‬وأبلغه أن الشيوخ ينتظرونه‪ ،‬فسأل‪:‬‬
‫ـ ألم ينتصف الليل‪..‬؟!‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬الوقت ميت ال ميزة له بين ليل ونهار‪.‬‬
‫ٍ‬
‫رشاد‪ ،‬وحين‬ ‫نظر في وجه ِّ‬
‫محدثه ملياً‪ ،‬يتقرى الوقت متوقفاً‪ C،!!..‬ومضى مع‬
‫وصال‪ ،‬تقدم من خصمه‪ ،‬ربت على كتفه‪ ،‬قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬احترس من نفسك يا فتى‪ ،‬وعفا اهلل عما مضى‪..‬‬
‫ساد الصمت لحظات‪ ،‬ثم أعلن أكبرهم سناً إدانة الفتى السِّكيت‪ ،‬وكفل الوجيه‬
‫عبد الحميد أن ّينفذ المدان الحكم بنفسه‪..‬‬
‫وبقي الرجال في أماكنهم بطلب من كمال‪ ،‬فناقشوا وضع القافلة‪ ،‬فحمي‬
‫النقاش بين معارض ومتحفّظ ومشكك‪ C،‬وواثق بكمال وسداد رأيه وطيب نواياه‪،‬‬
‫واتفقوا أن يعيدوا أسلحة العسكر‪ ،‬ويتسلح الرجال بما أخفوه من أسلحة عسكر‬
‫ألكسندر‪ ،‬وأن توضع الذخيرة بتصرف أصالن‪ ،‬فيكون مساعد الضابط كمال بما‬
‫يخصهم‪ ،‬يساعده األومباشي بشؤون العسكر؛ وإ بقاء الضابط عثمان قائداً صورياً‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وطلب كمال إقصاء النساء وعدم تسليحهن‪ .‬استهجن بعضهم هذا الطرح‪ ،‬وشكك‬
‫بأن ذلك يقطع دابر فتن‬ ‫بعضهم بما ذهب إليه‪ ،‬لكنهم أذعنوا لحجة الحكيم إدريس‪َّ ،‬‬
‫الضابط عثمان‪ ،‬ويدعم موقف الضابط كمال مستقبالً‪.‬‬
‫ارتاح لالتفاق‪ ،‬وأقنع نفسه بصحة القرار‪ ،‬فيتخلّص من احتمال أن تكون قمر‬
‫نقطة ضعفه‪ ،‬ولعله بهذا يتأكد من شعوره نحوها‪ ،‬ويجد إجابة عن سؤاله‪ ،‬وفجأة‬
‫وتطير بعضهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سكنوا كأنهم لم يتأكدوا‪ ،‬ثم أصاخوا السمع فاكفهّرت وجوهٌ‪،‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫مر‬
‫ونظروا إلى الفتى السِّكيت وكمال‪ ،‬كأنهما مصدر الشؤم‪ ،‬ومالبث الصوت أن َّ‬
‫ٍ‬
‫خربة‬ ‫من فوقهم‪ ،‬وأراحهم أن فسَّر إدريس الحكيم صوت البوم‪ ،‬بقربهم من‬
‫ولعل خالصهم من خطر المفازة بات وشيكاً‪ ،‬سرت همهمات‪ ،‬وبعضهم‬ ‫مهجورة‪َّ ،‬‬
‫مازال متأثراً بالموروث عن شؤم البوم‪ ،‬ثم تتالى صياح الديك‪ ،‬فهتفوا لديك الجدة‬
‫نور‪ ،‬حتى ارتفع صوت الشيخ اإلمام مؤ ّذناً لصالة الصبح‪.‬‬
‫*********‬

‫‪- 89 -‬‬
‫‪6‬‬
‫سألت أمينة‪:‬‬
‫الحد‪.‬؟‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫مؤس إلى هذا ِّ‬ ‫ـ ‪ :‬أهو‬
‫عم تسألين‪.‬؟‪..‬‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫ـ ‪ :‬أنثى أنا مثلك يا قمر‪.!.‬‬
‫ـ ‪ :‬ماذا تقصدين‪..‬؟‪C..‬‬
‫ِ‬
‫عرفت قصدي منذ نطقت‪ ،‬ليست قمر من يليق بها أن تتغابى‪.‬‬ ‫ـ ‪ :‬أقسم أنك‬
‫هس‪ ..‬ال تعلّقي‪ ،‬فقط أجيبي‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي ترومين‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪:‬ما تخفينه في قلبك‪ ،‬وما يدور في هذا الرأس الجميل‪.‬‬
‫شدت رسن فرسها فأوقفتها‪ ،‬وقالت‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫حاجة إلى خلوة‪.‬‬ ‫ـ ‪ :‬إنني في‬
‫ـ ‪ :‬بل أنت في حاجة إلى أن تبوحي بالذي يشغلك‪ ،‬أفضي إلي فأنا أخت لك‪.‬‬
‫أدارت فرسها عكس القافلة‪ ،‬لكزتها ومضت‪ ،‬فتبعتها أمينة محمولة بأجنحة‬
‫طيبتها‪ ،‬غير ٍ‬
‫آبهة بدعوة نسوة أن تصعد معهن العربة‪ ،‬ولم تتوقف عند لباقة‬
‫توفيق‪ ،‬وقد تخلى لها عن حصانه‪.‬‬
‫َّ‬
‫شدت الجدة نور اهتمام الناس وهي تصيح‪:‬‬
‫فرطتم بأرضكم‪ .‬عثمان أيها الضابط‪ ..‬من ذا الذي يسعده كل‬
‫ـ ‪ :‬آثمون يامن ّ‬
‫هذا التخريب‪..‬؟!‪C...‬‬
‫دمدم الضابط متشفياً‪:‬‬
‫الدعية الخرفة‪.).‬‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪ C"!!!!"( :‬عتيقة أنت أيتها‬
‫اقترب الوجيه عبد الحميد من الوجيه رجب وهمس‪:‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫ـ ‪:‬اذهب إلى أمك يا رجب‪ ،‬فلم نعهد نساءنا يتكلمن بهذي الطريقة‪.‬‬
‫أجاب رجب مختنقاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لعل سليمان يهدئ روعها‪.‬‬
‫جأر عبد الحميد محتداً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬سليمان ولد‪ ،‬اذهب أنت‪.‬‬
‫أفاد رجب مغلوباً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ال أستطيع؛ حذرتني أال أقترب منها‪..‬‬
‫هتف عبد الحميد بنزق‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ولكنها ال تسكت‪..!!..‬‬
‫صاحت الجدة نور‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬سيبيعكم ذاك النخاس في البازار‪ ،‬ويبيع اإلناث في المواخير‪ ،‬ابتعد يابن‬
‫اآلثم‪ ..‬ابتعد‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬العمى‪..!..‬إنها تضرب سليمان‪C...!..‬‬
‫قال رجب بصوت خفيض‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وقد تضربنا إن اقتربنا منها‪..‬‬
‫ولكز حصانه مبتعداً‪ ،‬محاوالً الهرب من العيون التي نظرت إليه بمعنى‬
‫آلمه‪ .‬جعلته يطأطئ رأسه‪ ،‬متمنياً لو يحتجب عن األنظار‪ ،‬وتمنى لو تموت‬
‫أمه تمتم مستغفراً‪ ،‬وعبرة بكاء خانقة تجيش في صدره‪ ،‬تعرقل أنفاسه‪ ،‬وتُطفر‬
‫فاندس بين العسكر مستتراً بهم‪ ،‬علّه إن توارى عن ناظريها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫دمعاً من مآقيه‪،‬‬
‫هدأت ثورتها وسكنت نفسها‪ ،‬لكنها أنشدت بكائية‪ ،‬ضبطت إيقاعها على خشب‬
‫وتهدل عرفه‪ ،‬وهو ُّ‬
‫يحك رجلها‬ ‫نوس عينيه‪ّ ،‬‬ ‫العربة بعصاها؛ والديك بجانبها وقد ّ‬
‫بجناحه‪ ،‬وهي منشغلة عمن حولها بِهَ ِم ِهم وبما يوجعها‪ ،‬والعجائز يرددن معها‬
‫ناشجات‪ ،‬بينما انشغل اإلسكافي يعقوب بتلك النعال المعطوبة‪ ،‬متخيالً أنه‬
‫يخصفها‪ ،‬وعدة الشغل ها هي معه‪ ،‬وما برح العسكر يتقاذفون بأحذيتهم المهترئة‪،‬‬
‫ورطهم بالسير في وعثائها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وبهمس لعنوا ّأم من ّ‬ ‫شاتمين األرض القفر وأوارها‪،‬‬
‫والطريق الذي عهدوه ذاك هو‪..‬‬
‫ُش ِده الوجيه رجب بما سمع‪ ،‬فتركهم يسخرون من أسلحتهم‪ ،‬وقد أمست‬
‫كالعصي‪ ،‬ما دامت بال ذخيرة‪...‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫ـ ‪( :‬أصحيح ما قالوه عن الطريق‪..‬؟!)‪C..‬‬
‫فمر بالفتى السِّكيت‪ ،‬وهو ينفذ الحكم‬
‫همز حصانه متجهاً إلى الضابط كمال‪َّ ،‬‬
‫بنفسه‪ ،‬وهاهو يخدم الممسوسين‪ ،‬أوالء الذين ذهبت أهوال التهجير وهذا المسير‬
‫بعقولهم‪.‬‬
‫وسارت قمر خلف القافلة بعيداً عن آخرها‪ ،‬وقد أردفت أمينة خلفها‪ ،‬وظلت‬
‫صامتة برغم ما بذلته أمينة لكشف سريرتها‪.‬‬
‫يفسر سورة "الممتحنة" لبضعة تحلقوا‬‫ومر الوجيه رجب بالشيخ اإلمام‪ ،‬وهو ّ‬‫َّ‬
‫حولـه في العربة‪ ،‬وبضعة آخرين حاذوا العربة بدوابهم على جانبيها‪ ،‬تمهّل‬
‫وواكبهم منجذباً إلى عذوبة صوت الشيخ يتلو‪:‬‬
‫ـ ‪« ( :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم‪...)».....‬‬
‫اقتربت أبهى من عربة الماء ٍ‬
‫بخفر‪ ،‬وقد سبقها نعمان إليها‪ .‬مشت بجانبها‬
‫مطرقة‪ ،‬تسترق النظر إلى وجه هذا الذي فتنها كالمه‪ .‬انتبه العجوز داود إلى‬
‫وجودها‪ ،‬فالطفها آخذاً الوعاء من يدها‪.‬‬
‫التقت عيناها بعيني فاتنها‪ ،‬ابتسم لها فهمس قلبها‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬ما أروعك‪...))!!..‬‬
‫مد العجوز يده باإلناء إليها‪ ،‬وجدهما هائمين بعضهما ببعض‪ ،‬فأرجأ‬ ‫وحين َّ‬
‫أمر الماء وراح يرقبهما‪ ،‬وقد أعاداه إلى شيء من عشقه األوحد‪ ،‬وقطع عليهم‬
‫ٍ‬
‫مضض‪ ،‬وانتبه إلى‬ ‫تساميهم كبير الطهاة‪ ،‬طالباً مزيداً من الماء‪ ،‬فأعطاه على‬
‫مايشبه الكارثة‪ ،‬ومضى نعمان حامالً إناء أبهى‪ ،‬وحين اقتربا من عربة الفتيات‪،‬‬
‫أخذت منه اإلناء‪ ،‬فقال لها‪:‬‬
‫ـ ‪:‬سأهديك أغنية‪.‬‬
‫ابتسمت حذرة من عيون قريناتها فتغامزن عليهما‪ .‬ارتبك‪ ،‬وأفلت لحظة‬
‫التسامي حين عال صوت العجوز منذراً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الماء يكاد ينفد‪ C...‬الماء‪C..!!..‬‬
‫صعق الناس‪ ،‬وابتسم الضابط عثمان‪ ،‬وهو يطمئن إلى ِق َرب الماء في‬‫ُ‬
‫صندوقها الخاص‪ .‬وتوقف الضابط كمال وأصالن‪ ،‬وأشار األومباشي بيده‪ ،‬فهدج‬
‫الرتل ثم توقف تماماً‪ ،‬وساد الوجوم‪ ،‬وتقدم الوجيه رجب قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أولئك األنفار قالوا كالماً غريباً أيها الضابط كمال‪.‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫نبر أصالن بنزق‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬دعك من األنفار وثرثرتهم‪ .‬ألم تسمع ما قاله العم داود‪..‬؟!‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪ C...‬وما سمعته من األنفار مهم أيضاً‪..‬‬
‫حسم كمال الموقف قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أفدنا‪ّ ..‬إنا نسمعك‪...‬‬
‫ت أصالن‪ ،‬فساط حصانه متوتراً‪ ،‬وراح به خبباً‪ ،‬وقف بينهم مستوضحاً‪،‬‬ ‫ُب ِه َ‬
‫ورآهم كمال يشيرون بأيديهم غرباً‪ ،‬وتقدم الوجهاء ونعمان وإ دريس‪ ،‬ورافقهم‬
‫رشاد وإ براهيم وعبد اهلل وتوفيق‪ ،‬ووقفوا إلى جانب كمال يشدون أزره أمام‬
‫الطارئ الجديد‪ ،‬وعاد أصالن مؤكداً ما قاله الوجيه‪ ،‬واستوضح الضابط كمال من‬
‫األومباشي‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ما قولك‪..‬؟!‪C‬‬
‫ـ ‪ :‬ذلك صحيح‪ C..‬أفندم‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وِل َم ْلم تقل لي‪..‬؟!‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬ألنك لم تسألني‪ ..‬أفندم‪..‬‬
‫ـ ‪:‬ألم تدرك أن المفازة خطرة‪ ،‬وأن الطريق أيسر‪.‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪ C...‬ولكنها األوامر‪ ..‬أفندم‪..‬‬
‫ورمز بعينه مشيراً إلى الضابط عثمان‪ ،‬فضربه توفيق بعقب بندقيته خلف‬
‫أذنه شاتماً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ابن زنى أنت ومن أمرك‪C...‬‬
‫وهم بخنقه‪ ،‬فصرخ‬
‫تكوم األومباشي بين األرجل‪ ،‬فقذف رشاد بنفسه فوقه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫كمال به‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬رشاد‪ ..‬أيها النزق‪C..!..‬‬
‫ٍ‬
‫لحظتئذ سدد توفيق وكاد يطلق عليه‪ ،‬فط‪Cّ C‬وح إب‪CC‬راهيم‬ ‫فقفز عبد اهلل إليه وأبعده‪،‬‬
‫بالبندقية‪ ،‬فقال الضابط كمال بحزم‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬اترك سالحك ألخيك وابتعد‪ ..‬هيا‪..‬‬
‫استجاب توفيق لألمر على مضض‪ ،‬وتغيرت سحنته وعبد اهلل يأخذ بندقيته‪،‬‬
‫فتملكه الغضب‪ ،‬وامتأل حنقاً على األومباشي‪ ،‬وذهب شاتماً عثمان واألومباشي‬
‫معاً‪ ،‬ولم تختلف كوامن الباقين‪ ،‬عن تلك التي عصفت بالفتى توفيق‪ ،‬لكنها حكمة‬

‫‪- 93 -‬‬
‫الشيوخ ورباطة جأش الرجال‪ ،‬والمسؤولية التي التزمها أصالن وكمال‪ ،‬برغم أن‬
‫يحدث نفسه‪ ،‬بأن الحق كله إلى جانب ذينك الشابين‪ ،‬ولو كان‬
‫الضابط الشاب كان ّ‬
‫بمكانيهما لما كفاه ما فعاله‪ ،‬لكنها حنكة القيادة وحسن إدارتها‪ ،‬ونظر بعضهم إلى‬
‫كل منهم ارتياحهم لتصرف توفيق‪ ،‬وردة فعل رشاد‪.‬‬ ‫بعضهم اآلخر‪ ،‬فلمح ٌّ‬
‫صاحت َّ‬
‫الجدة نور‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي تنتظرونه أيها األزالم‪..‬؟!‪ C‬أتميتوننا قهراً أم عطشاً وجوعاً في هذا‬
‫الخالء السجن‪..‬؟!‪C..‬‬
‫نده‪:‬‬
‫تقدم كمال من عربة عثمان محدثاً نفسه‪ ،‬وعيناه ترصدان خلجات ّ‬
‫ـ ‪( :‬أي أفعى تلك التي في رأسك؛ ويشوع بن نون قدوتك‪..‬؟!‪C.)..‬‬
‫مؤهالً مرحباً‪ ،‬فقال كمال‬
‫جعل عثمان وجهه يتهلل‪ ،‬واستوى من ضجعته‪ّ ،‬‬
‫في نفسه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬في داخلك عكس ما تُظهر‪ ،‬فإنني بت أفهمك‪C..)..‬‬
‫بادره عثمان قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تقديرك مضبوط‪ ...‬فالمكان مناسب لالستراحة‪ ،‬ألك ببعض القهوة‬
‫التركية‪..‬؟‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬أوه‪ ..!..‬فنجان قهوة منك مكسب‪..‬‬
‫تأدب‪..!...‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال‪ّ ..‬‬
‫ـ ‪ :‬أمرك‪ ..‬فما رأيك بما قاله بعض العسكر‪..‬؟‬
‫تثاءب وهمهم كاذباً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كنت نائماً فلم أسمع‪ ..‬ولكن‪ ..‬هل لدى األنفار ما يقال لنسمع‪..‬؟!‪...‬‬
‫قدم كبير الطهاة القهوة‪ ،‬وعيناه كبندول الساعة‪ ،‬تتحركان بين وجه هذا ووجه‬
‫اآلخر‪ ،‬ترصدان أثر الرشفة األولى‪ ،‬فهي التي ـ حسب ما خبر ـ تحدد جودة ما‬
‫صنع‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إدخال القافلة هذه المفازة كان خطأً‪..‬‬
‫تصنع الدهشة‪:‬‬
‫رد متقناً ّ‬‫َّ‬
‫ـ ‪ :‬كيف‪..‬؟!‪..‬‬
‫أشار كمال بيده بعيداً وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أليس هناك‪ ..‬الطريق إلى عينتاب‪..‬؟‪..‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫ـ ‪ :‬ربما‪ ..‬ولكن ما شأننا بعينتاب مادمنا نقصد أورفة‪..‬؟!‪C...‬‬
‫َّ‬
‫وطد نفسه لاللتفاف على مكر عثمان فقال هادئاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لم أفهم منك ذلك قبل اآلن‪ ،‬فإن أوضحت لفهمت‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إن لم تكن عنيداً فاألمر بسيط‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وماهو‪..‬؟!‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬تسمع وتطيع‪ ..‬ثم أال تجد أن القيادة فضفاضة عليك‪..‬؟!‪C...‬‬
‫ابتسم كمال ثم جزم محدثاً نفسه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬ألعب معه بأدواته وأسلوبه‪..).‬‬
‫قشع ابتسامته بمالمح جادة‪ ،‬فبدا مستعداً لتلقي األوامر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أسمع فأستفيد‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬بل تطيع‪..‬‬
‫انتظر لحظات ممنياً نفسه أن يرى رضوخ كمال ويسمع تسليمه‪ ،‬بيد أنه‬
‫فعزى نفسه‪:‬‬
‫رأى قسماته ال تشي بتراجع‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪( :‬ال بأس إنه بلع من الطُعم بعضه‪ ،‬ففي هذا ما يفتر اعتداده‪C..)..‬‬
‫وجهر قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وجهتنا أورفه وطريقنا صحيحة‪ ،‬وعلينا المتابعة نحو الشرق وإ لى‬
‫الجنوب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أليست أورفة بعيدة‪..‬؟!‪C...‬‬
‫ـ ‪ :‬البعد ليس بذي أهمية‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬لكن الماء يكاد ينفد‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬ال يهم‪..‬‬
‫كاد يخرج عن طوره‪ ،‬لكنه ضبط أعصابه‪ ،‬وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وما المهم برأيك‪...‬؟!‪C...‬‬
‫َّ‬
‫رد بخبث‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أن يعلم حاكم (سنجق أورفه)‪ ،‬بما فعلت فيعاقبك‪..‬‬
‫فكر كمال لحظات وقال‪:‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫ـ ‪ :‬أرى أن نترك خالفنا لوالي حلب‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ال‪ ..‬حلب ما زالت بعيدة‪ ،‬وال أريد أن أدخلها وأنا مستلب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬نحن أقرب إلى عينتاب‪ ،‬وهي أقرب إلى حلب‪.‬‬
‫تغير وجهتنا إلى عينتاب‪ ،‬لتظل القائد حتى نصل إلى‬
‫ـ ‪ :‬جبان‪ ...‬أو أنك ّ‬
‫حلب‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬واقع الحال يفرض علينا تلمس الطريق األقرب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬قل إنك خفت مما ستلقاه من حاكم سنجق أورفه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬نمر بعينتاب في طريقنا إلى حلب‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬يالك من ثعلب‪C..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬ليس من أجل هذا السجال جئتك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إذن‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬ألسألك‪ ،‬لماذا زججتنا في هذه البيداء‪..‬؟!‪..‬‬
‫تصر على مخالفتي‪ ،‬كأنك ال تهتم بمستقبلك‪C!..‬‬‫ـ‪ّ :‬‬
‫َّ‬
‫رد كمال هادئاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما يهمني اآلن‪ ،‬أن أنقذ القافلة‪ ،‬وأنقذك أيضاً‪ ،‬شكراً من أجل القهوة‪.‬‬
‫ترك الفنجان‪ ،‬أدى التحية ومضى محدثاً نفسه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬أعمل عكس ما يقول فأضمن السالمة‪C..)...‬‬
‫غص كبير الطهاة بريقه‪ ،‬إذ مضى ولم يعرف له رأياً بقهوته‪C...!!..‬‬
‫َّ‬
‫وتنفس عثمان الصعداء قائالً في سريرته‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬ليس على الضابط عثمان يا ولد‪.)...!..‬‬
‫كهكه كاتماً ضحكته وتمتم منتشياً‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬ليفي أيها العزيز‪ ...‬لقاؤنا بات وشيكاً‪C..)..‬‬
‫اختار الضابط كمال خمسة أنفار ممن عهدوا الطريق‪ ،‬ودفعهم إلى المقدمة‬
‫الخيالة‪ ،‬ووزع الباقين على العربات وانعطف بالقافلة‬
‫أدالّء‪ ،‬وأردف المشاة خلف ّ‬
‫غرباً‪ ،‬وزاد سرعتها‪ ،‬حتى جرت الدواب خبباً‪ ،‬في سباق ضد العطش والضياع‬
‫في البيداء‪...‬‬
‫قالت أمينة‪:‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫*ـ ‪ :‬ربما كان اهتمامه بنا جميعاً ألجلك‪..‬‬
‫ردت قمر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هراء‪ ...‬إنه مهتم بكل ٍ‬
‫شيء سواي‪ ،‬لو كرهني لكان أهون من أن‬
‫يهملني‪C...‬‬
‫*ـ ‪ :‬كيف‪!!...‬؟؟؟ إنك تهذين‪ ،‬وأخشى عليه منك‪..‬‬
‫ردت قمر متوترة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ماهذا اللوص‪..‬؟!‪..‬‬
‫*ـ ‪:‬يهمك أن تكوني محبوبة فحسب‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ما الذي تقصدين‪..‬؟!‪C..‬‬
‫*ـ ‪ :‬أخشى أن تغضبي‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬غضبت وانتهى األمر‪..‬‬
‫* ـ ‪ :‬ليتني ما تكلمت‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬تكلمي وإ ال دفعت سيفي في خاصرتك‪..‬‬
‫* ـ ‪:‬مجنونة‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬تكلمي يا بنت‪..‬‬
‫* ـ ‪ :‬سأكذب مادمت خائفة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬قولي مادمت أختاً لي‪C..‬‬
‫* ـ ‪ :‬إنك لم تحبيه بعد‪...‬‬
‫هاج بها الدم‪ ،‬فأوقفت الفرس ونبرت‪:‬‬
‫الغَّنة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬انزلي يا ذات ُ‬
‫لم تصدق ما سمعت فنبست‪:‬‬
‫* ـ ‪:‬قمر ‪C..!..‬‬
‫ُح ِر َج ْ‬
‫ت أمينة فترجلت‪ ،‬دفعتها إلى الخلف‪ ،‬ثم امتطت‬ ‫ٍ‬
‫بحرقة‪ ،‬وأ ْ‬ ‫نشجت‬
‫هزت لجامها حتى أخذت مسارها‪ ،‬وهمست وهي تكبت تأثرها‪:‬‬ ‫صهوة الفرس‪َّ ،‬‬
‫عن لك‪ ،‬علَّك ترتاحين‪.‬‬
‫* ـ ‪ :‬ضعي رأسك على كتفي‪ ،‬وابكي ما َّ‬
‫أجهشت قمر‪ ،‬وراحت أمينة تسابق الريح‪ ،‬وتسبق العربات والبغال‬
‫وتخب ِط‬
‫مصب لغضبها ّ‬ ‫ّ‬ ‫واألفراس جميعاً‪ ،‬وبدت مغلوبة تغالب مشاعرها‪ ،‬وال‬

‫‪- 97 -‬‬
‫حرقتها‪ ،‬سوى جوفها الملتهب‪.‬‬
‫فاغتم لهذي الخطة التي شرع مرؤوسه‬
‫َّ‬ ‫استفاق عثمان من خدر النشوة‪،‬‬
‫َّ‬
‫ينفذها؛واضطغن وفاضت نفسه حقداً‪ .‬زفر وكز أضراسه‪ ،‬ونفث حقده من صدره‬
‫المغ ّل‪:‬‬
‫إلي‪ C!..‬تباً لك وقد تحالفت أنت‬
‫ـ ‪( :‬كمال يا رأس الشياطين؛ ما أبغضك ّ‬
‫علي أن أقتلك‪ .‬ال بأس‪ ...‬موعدنا بعينتاب)‪C...‬‬
‫وهؤالء األباليس‪ .‬كان ّ‬
‫قلق البياطير لتخلخل نعال الدواب وتفكك بعضها‪ ،‬وأبلغوا األومباشي‬
‫بأمرها‪ ،‬فنقل ذلك بدوره إلى أصالن‪َّ ،‬‬
‫فرد دون تكلؤ‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لن نتوقف‪ ،‬وليسمروها في عينتاب‪.‬‬
‫مر الوجيه عبد الحميد بعربة الممسوسين‪ ،‬وسأل عثمان السِّكيت‪:‬‬
‫َّ‬
‫ـ ‪ :‬كيف تجد العقوبة‪..‬؟!‪ C..‬هب أنك لست معاقباً‪ ،‬فإنك تفعل خيراً لهؤالء‬
‫المساكين‪ ،‬أراهم هادئين‪ .‬لعلهم أعقل المجانين‪.‬‬
‫أمه‪ ،‬وغفا‬
‫عباس فجأة ثم بكى‪ ،‬وصمت فجأة‪ ،‬وشرد مناجياً طيف ّ‬ ‫ضحك ّ‬
‫مر الوجيه بعربة‬‫مسنداً رأسه على ركبتيه‪ ،‬ولم ينبس السِّكيت ببنت شفة‪ ،‬وحين َّ‬
‫تحرش به قائالً‪:‬‬
‫الضابط عثمان‪ ،‬وكاد يتجاوزها دون أن يلتفت إليه‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬يا حيف‪ ..‬مخجل أن يكون مثلك بين هؤالء‪ ،‬وتتركون أمركم مرهوناً بيد‬
‫ٍ‬
‫ولد مثل كمال‪ ،‬ال يعرف كوعه من بوعه‪..‬‬
‫نظر الوجيه إليه نظرة تقطر هزءاً وقال‪:‬‬
‫ت إال‬
‫ـ ‪ :‬عيب‪ ..‬عيب‪ C!...‬إنك السبب‪ ،‬لم ّأدخر جهداً لجعلك أقرب إلينا‪ ،‬فأََب ْي َ‬
‫أن تستعديهم‪ .‬يارجل‪ ...‬لو أنك حايدتهم دون أن تنحاز إليهم‪ ،‬لما نفروا منك وإ ن‬
‫لم يحبوك‪ .‬أمرك عجيب‪...!!...‬‬
‫ـ ‪ :‬لم يفسد األمر إلى ٍ‬
‫حد ال يعود تدخلك مجدياً فيه‪.‬‬
‫َّ‬
‫هز الوجيه رأسه وقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬رأب هذا الصدع يحتاج معجزة‪ ،‬وأنا بشر‪C..!...‬‬
‫همس الضابط بإلحاح محموم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬حاول‪ ..‬حاول‪ ،‬ولك ما يرضيك‪..‬‬
‫َّ‬
‫رد الوجيه على الفور‪:‬‬
‫ـ ‪:‬ال أريد أن أخسرهم‪ ،‬أو أهتك شعيرات باقية بيني وبين أغلبهم‪ ،‬وإ نني وإ ن‬

‫‪- 98 -‬‬
‫كنت ال أكرهك‪ ،‬فإنني ال ‪C...‬‬
‫قاطعه قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فهمت فال تزد‪ ،‬لي طلب‪ ..‬ال تشجعهم على التعلق بالضابط كمال‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬صعب أن أشرح لك كيف تأتلف القلوب‪..‬‬
‫هتف الضابط باندفاع‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إياك واللجوء معي إلى مفاهيم المأفونين‪ ،‬وال تهمل خيط مصلحتك‪،‬‬
‫فطرفه اآلخر بيدي‪.‬‬
‫ولما يتكلم‪ .‬فتر‬ ‫َّ‬
‫هز الوجيه لجام حصانه‪ ،‬تحرك وما زال صامتاً‪ ،‬أخذ يبتعد ّ‬
‫وجه الضابط وارتخت قسماته‪ ،‬واعترته مشاعر تتأرجح بين الخيبة والعناد‪ .‬نغض‬
‫رأسه‪ ،‬ومأل صدره بشهيق طويل‪ ،‬ثم أطلق عبارته إلى أذني الوجيه وصميم‬
‫وجاهته‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬أيها الوجيه الموقر‪ ،‬للوجهاء عند والي حلب منزلة خاصة‪ ،‬وهو‬
‫يوصيني بهم دائماً‪ ،‬وتزداد حظوة من ّأزكيهم لديه‪ ،‬وسترى ـ إن شئت ـ حظوتي‬
‫ك ضيعة‪ ،‬مثلما فعل مع غيرك من "البكوات"‪..‬‬ ‫لديه‪ ،‬وقد ُي ْق ِط ُع َ‬
‫هنية‪ .‬اقترب خطوات‪ .‬توقف‪ .‬اقترب‪ .‬رفع نظره إلى وجه‬ ‫أطرق الوجيه ّ‬
‫ِ‬
‫وأولها‪ .‬وعلى حين غ َّرة همز حصانه‪ ،‬وراح يغالب‬
‫الضابط‪ .‬نظر في آخر القافلة ّ‬
‫الفتية والرجال‪ ،‬شاحذاً الهمم لتخطي الصعب‪ ،‬مردداً أشعار نعمان‪ .‬ضحك‬
‫الضابط ملء شدقيه ونبس‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬أسمعتك سحراً كرنين الذهب‪ ،‬فأين المفر أيها البطريق‪...‬؟!‪...‬‬
‫ح ّذر سواس الدواب من جريها المتواصل وقتاً طويالً‪ ،‬فقد تنفرط أكبادها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كأرض يتحلّب منها الماء‪.‬‬ ‫ونزمنها‬
‫ق بللها ّ‬‫لكثرة ما رشحته جلودها من عر ٍ‬
‫صمت أصالن منتظراً قرار القائد‪ ،‬وأمسك الرجال دون آرائهم‪ ،‬فنظر طويالً‬
‫إلى القافلة‪ ،‬تطلّع في الوجوه‪ ،‬رأى نعمان وأبهى‪ ،‬وضيف اهلل‬
‫وحمزة‪ ،‬واألطفال والحبالى‪ ،‬وامتأل الفضاء أمامه بوجه قمر‪ ،‬فاستدار‬
‫إلى الرجال قائلاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فلتنفق الدواب لينجو البشر‪ ،‬وليستمر المسير إلى عينتاب‪...‬‬
‫ٍ‬
‫بومض انساب إليها من القلوب وصاح أصالن مبلّغاً‬ ‫شع ِ‬
‫َّت العيون‬
‫يستمر المسير حتى عينتاب‪C...‬‬
‫ّ‬ ‫‪:-‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫وتسف الرمال‪ ،‬وال أثر‬
‫ّ‬ ‫مسافات في البراري الحماد‪ ،‬والريح تذرو األتربة‬
‫لكائن حي‪ C..!!..‬القلوب واجفة والحالقيم أيبسها عطش شرس‪ ،‬والنحيح يمأل‬
‫األجواف‪ ،‬والعيون أتعبها السهاد‪،‬وفسحة الرجاء يخنقها هذا الزمن المفتوح‪ ،‬على‬
‫هاتيك المسافات المترامية الال متناهية‪ ،‬والسراب الحار يزغلل األبصار ويؤرجح‬
‫األمل‪.‬‬
‫يحوم فارداًجناحيه على وسائد الهواء‪،‬‬
‫وعلى ارتفاع شاهق ظهر طائر ّ‬
‫وحزر بعض العسكر أنها حدأة‪،‬وقال بعضهم إنها رخمة‪ ،‬والتقط بعضهم بعر‬
‫معزى أو ظباء‪ ،‬وصارت األرض تبدو مرقّعة ببقيعات خضر هنا وهنالك‪..‬‬
‫أشواك باهتة الخضرة كالعفن حادة األوراق‪ ،‬قال العجوز داود‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إنهاتباشير الحياة‪..!..‬‬
‫سبقت عربة الفتيات ركوبة نعمان؛ وهو مسترسل في شرود‪ ،‬ضحكت أبهى‬
‫كعصفورة تزقزق فانتبه‪ ،‬سألته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بم تف ّكر‪..‬؟‪..‬‬
‫غصب شفته فابتسم‪ ،‬سألته أن يشدو شعراً‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إنك أبهى من أشعاري‪..!..‬‬
‫وضعت يدها موضع الفؤاد تحت الثدي وهمست‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هونك يا سيد الكلمات‪ ،‬فقد يغمى علي‪...!..‬‬
‫صدحت أترابها مغنيات‪ ،‬ومررن بعربة العجائز وعربة الجدة نور‪ ،‬قوقأن‬
‫فهف بجناحيه وأجابهن بصيحات ثالث‪ ،‬ومضين من جانب الجدة حذرات‬ ‫للديك‪ّ ،‬‬
‫منكمشات‪ ،‬فلم يجدن منها اعتراضاً‪ ،‬لكنها قمعت الديك وأدارت ظهرها‪ ،‬فابتعدن‬
‫رافعات أصواتهن‪ ،‬واقتربت الفرس بأمينة وقمر حتى وازين نعمان‪ ،‬سألته أمينة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ألسنا نذهب إلى الحياة‪..‬؟!‪..‬‬
‫وسألته قمر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ألسنا نهرب من الموت‪..‬؟!‪C..‬‬
‫قال مجامالً كلتيهما‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لعلنا نهرب إلى أمل بالحياة‪..‬‬
‫وران الصمت ثقيالً ثقل الهويس في الصدور؛ والظمأ على العروق‪ .‬وعلى‬
‫البعد‪ .‬عند األفق السحيق‪ ،‬تماوج وهم سراب‪ ،‬ثم َّ‬
‫تبدى متحركاً كبلور ينساب عليه‬

‫‪- 100 -‬‬


‫ماء‪ ،‬فتحركت الحناجر في الحالقيم تستحلب األرياق‪ ،‬وتحركت في السراب‬
‫أطيافاً بدت كإبل عمالقة‪ ،‬على بعضها هوادج‪ ،‬تتخللها فتحات كتيمة‪ ،‬وأخريات‬
‫يتسرب منها ضوء يشبه انبثاق الرؤية في الوسن‪ ،‬مداعباً جفوناً ناعسة‪.‬‬
‫وفي األفق المالصق‪ ،‬الحت بقع سودمثل طيور الزاغ‪ ،‬وفيما بينهما امتد‬
‫بساط منقّط كوجه صبّية نمشاء‪.‬‬
‫تفسرت اإلبل العمالقة بيوتاً‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وإ ثر هرولة وركض وجري ما انقطعت‪ّ ،‬‬
‫المنمش حقول خضراوات وزرع وكروم عنب‪،‬‬ ‫وطيور الزاغ أشجاراً‪ ،‬والبساط ّ‬
‫تبرجت بها األرض‪ .‬إنها معمورة مأهولة‪C...!..‬‬‫وقد ّ‬

‫********‬

‫‪- 101 -‬‬


‫‪7‬‬

‫تلك هي عينتاب؛ محطة للمسافرين العابرين‪ ،‬عرفها من لم يرها بدبس‬


‫أعنابها الذاهبة شهرته في األرجاء حامالً اسمها‪ ،‬وذاك حي عتيق من أحيائها‪،‬‬
‫جد عشوائي؛ لناس دحرجتهم إليها ضائقات‬ ‫وهذي ضواحيها؛ وإ طارها من ٍ‬
‫سكن ّ‬
‫ويزنرونها بأجسادهم؛ وما تبقى فيها من طاقة‪ ،‬ال‬
‫ومعسرات‪ ،‬جعلتهم يلوذون بها‪ّ ،‬‬
‫يملكون غيرها‪ ،‬يبذلونها لمن يطلبها في خدمات وضيعة‪ ،‬ال تفرق كثيراً عن‬
‫الشحاذة‪ ،‬إالّ في أنها ليست إلحاحاً صريحاً في السؤال‪.‬‬
‫حس أو خ‪CC‬بر‪ ...!..‬ت‪CC‬أكلهم الفاقة‬
‫يعيش‪CC‬ون على قارعة الحي‪CC‬اة‪ ،‬ويموت‪CC‬ون دونما ٍّ‬
‫ولما ت‪C‬زل في أعم‪CC‬ار بعض‪CC‬هم‬‫واألوبئة‪ ،‬وقلما يولد أحدهم بغير علّ‪CC‬ة‪ ،‬يقض‪CC‬ون نحبهم ّ‬
‫بقية‪ ،‬ويكثر األيتام والعجيان باكراً‪.‬‬
‫وهذا نهير الساجور؛ وهاتيك السواقي‪ ،‬تديرها بغال وكدش وحمير‪ ،‬ترفع‬
‫الماء من حفرها إلى المساكب والبساتين‪ ،‬وليس بعيداً عنها حطّ السافرة‪ ،‬فارتوت‬
‫البهائم‪ ،‬وارتوى البشر‪ ،‬فذهب الظمأ وابتلت العروق‪ ،‬ونجوا من براثن اإلماتة في‬
‫طط ليفطِّسهم ودوابهم عطشاً‪ ،‬ليس لذنب‬‫األرض الخالء ومفازتها‪ ،‬حيث خ ّ‬
‫اقترفوه‪ ،‬إنما‪:‬‬
‫ـ ‪ C..( :‬وأبسلوا جميع ما في المدينة‪ ،‬من رجل أو امرأة وطفل وشيخ‪ ،‬حتى‬
‫بحد السيف‪ ،‬وفتح يشوع في ذلك اليوم مقيدة‪ ،‬وضربها ِّ‬
‫بحد‬ ‫البقر والغنم والحمير‪ِّ ،‬‬
‫السيف‪ ،‬وأبسل ملكها وكل األنفس التي فيها‪ ،‬وصنع بملك مقيدة كما صنع بملك‬
‫أريحا‪ ،‬ثم‪..)...‬‬
‫شهقت قمر وأغلقت الكتاب جافلة‪ .‬أهو كابوس تعمشق ظنونها‪ .‬وقد نام‬
‫عقلها‪.‬؟‪ C.‬أم تراه اندغام عطشها الذي انطفأ للتو؛ بجرح أنوثتها الذي التهب؛‬
‫لحظة نتأت قرحة ظنها‪َّ ،‬‬
‫أن كماالً أهملها فتركها منشغالً عنها؟‪ C..‬تراه التشابه إلى‬
‫حد التطابق بين ما نوى الضابط عثمان‪ ،‬وفعلة يشوع بن نون بأهل تلك‬ ‫ِّ‬
‫المدينة‪..‬؟‪..‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫ـ ‪( :‬أم هو تفاجؤك بأنك كدت تفعلين بكمال‪ ،‬مثلما يمكن أن يصيبه من ألد‬
‫أعدائه‪..‬؟ ما الذي دهاك يا امرأة‪..‬؟!‪ ..‬وكيف خطر لك أن تذهبي بهذا ِ‬
‫السفَر إلى‬
‫عثمان‪ ،‬فيكون منك مثلما كان من شمشون‪.‬؟ أكنت تنكثين بوعدك لكمال ‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ٍ‬
‫إحساس لم يتأكد‪..‬؟!‪ C..‬يالك من مجنونة‪C..)!!..‬‬ ‫أهكذا تنجرفين وراء‬
‫قدامه‬
‫ركضت حابسة دمعها‪ ،‬مخفية الندم في صدق اندفاعها‪ .‬كادت أن تركع ّ‬
‫فعدلت‪ ،‬خشية أن يفسر ركوعها "الكفارة" على أنه رضوخ لرجولته وتسليم بما هو‬
‫أحق به‪..‬‬
‫ُ‬
‫وضجت روحها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مدت له الكتاب صامتة‪َّ ،‬‬
‫ومد يده فلمس أناملها فاقشعرت‪،‬‬
‫فهفت نفسه إليها فهمس‪:‬‬
‫أمنتك على ماهو أنفس‪..‬‬
‫مادمت َّ‬
‫ُ‬ ‫ـ ‪ :‬يبقى أمانة عندك‪،‬‬
‫رفعت رأسها مأخوذة‪ ،‬ابتسم فضحكت وضحك كيانها‪َّ ،‬‬
‫وتقشر قلبها من‬
‫بعض شكوكه‪ ،‬نبست بشغف‪:‬‬
‫موتك حباً‪ِ .‬ل َم أهملتني‪..‬؟‪C..‬‬
‫شوية إن َّ‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫ـ ‪ :‬ما أهملتك‪ .‬شغلت طوال الوقت وأنا أتساءل‪ :‬هل أكون لك وحدك فنخسر‬
‫هؤالء‪ ،‬أم أكون لهم جميعاً ونحن منهم‪.‬؟‪C...‬‬
‫*ـ ‪ :‬وإ الم توصلت‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬أليس وصولنا إلى الماء انتصار لنا‪..‬؟!‪..‬‬
‫خجلت ونغصت‪ ،‬وأعادت الكتاب إلى مخبئه‪ ،‬وفي صدرها لهب األنوثة يردد‬
‫مع نعومة أنفاسها‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬وما نفع الدنيا إن خسرت هذي المشاعر‪!..‬؟!)‪C...‬‬
‫خاضت في النهر متقدة األحاسيس‪ ،‬وراحت ترشق الماء وتغطس على حين‬
‫الحمام‬
‫حرها وحرقة القلب‪ ،‬ثم قفزت داخل ّ‬ ‫غرة‪ ،‬كنورس اشتاق أن يتبلل‪ ،‬فتطفئ ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وأخشاب‪ ،‬عرائش غطوها‬ ‫ٍ‬
‫أغصان‬ ‫تتنظف‪ .‬واستحم الناس‪ ،‬وقد اتخذوا من‬
‫بستائر وأسمال‪ ،‬فبدت كالهوادج‪ ،‬يف ّكونها حين يرتحلون‪ ،‬وإ لى ذلك فهي‬
‫مغتسالتهم‪ ،‬كذلك فعل عثمان السِّكيت بالممسوسين‪ ،‬فنظّفهم كما يفعل سائس مغرم‬
‫بأحصنته‪ ،‬وإ ن أُخرجت من الخدمة لسبب قسري‪ ،‬ووزع كمال الجعاالت‪ ،‬ونحروا‬
‫ثوراً وأفراساً كادت تنفق‪ ،‬ومازحت بعضهن الجدة نور أن تذبح الديك قرباناً‬
‫جادةً‪:‬‬
‫فردت ّ‬
‫لوصولهم إلى الماء‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬فمن ذا الذي يوقظكم لصالة الصبح‪..‬؟!‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬موالنا الشيخ اإلمام‪..‬‬
‫‪- 103 -‬‬
‫ـ ‪ :‬ومن يوقظ الشيخ‪..‬؟!‪..‬‬
‫بنوا المواقد وأشعلوا النار‪ ،‬فطبخوا مستهلكين كميات ٍ‬
‫ثوم‪ ،‬لكأنه في أُس‬
‫طعامهم‪ ،‬وعادوا مرضاهم‪ ،‬وفرغ بعضهم من دفن موتاهم‪ ،‬وتفقدوا أحوالهم‪ ،‬فإذا‬
‫هم في بؤس وشظف‪ ،‬ولمسوا كم هم قريبون من شفير كارثة‪ ،‬فالهيضة تهدهم‪،‬‬
‫وبرغم ذلك عاذوا بإيمانهم وأدويتهم‪ ،‬وتال الشيخ اإلمام‪:‬‬
‫ـ ‪«( :‬وجعلنا من الماء كل ٍ‬
‫شيء حي‪C..)»....‬‬
‫وراحوا يرددون في جمع حاشد مهيب‪ ،‬تواصلوا فيه مع السموات‪ ،‬ثم‬
‫انصرفوا إلى شؤونهم‪ ،‬وانشغل البياطير بحذو الدواب‪ ،‬ومضى غيرهم يصلحون‬
‫العربات المخلخلة وعجالتها المفككة‪ ،‬وحمل آخرون أحذيتهم المعطوبة إلى‬
‫اإلسكافي يعقوب‪ ،‬وقد فرد عدة الشغل‪ ،‬وانفردت أساريره لرزقه المرصود بتلف‬
‫النعال‪ C..!!...‬ومضى الحكيم إدريس يفتّش عن األعشاب الدوائية‪.‬‬
‫وتجددت غمم بعضهم‪ ،‬وانتشر بعضهم اآلخر زرافات ووحدانا‪ ،‬بين الحقول‬
‫وأطراف البلدة‪ ،‬واضعين في الحسبان أال تتكرر معاناتهم في المفازة واألرض‬
‫جوع وعطش‪ .‬أثناء ذلك استد ّل إبراهيم وعبد اهلل إلى متجر‬
‫القفر‪ ،‬مهيئين ما يقيهم ٍ‬
‫"الحاج أمير" العجيب‪ ..!..‬إذ وجداه يراهن على تلبية طلبات زبنه من اإلبرة إلى‬
‫لمح به‪ ،‬فجعلهما في نزاع مع نفسيهما‪.‬‬
‫العربة‪ ،‬وكتما أمراً َّ‬
‫وطافت امرأة حذرة حول النزل‪ ،‬دانية من أطرافه والسواقي حيث يردون‬
‫ولما تزل تتلفّت‪ ،‬الحظ الضابط‬
‫الماء‪ ،‬سألت بتحفّظ فلم يفهموا ما قصدت‪ ،‬ابتعدت ّ‬
‫عثمان أنها كلّمت صبياً‪ ،‬فناداه حين اقترب‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬عجي‪ C..‬يا عجي‪ ،..‬تعال‪C...‬‬
‫توجس الصبي ريبة‪ ،‬تردد وهو خشيان‪ ،‬طمأنته ابتسامة الضابط فاقترب‬
‫ّ‬
‫وقال محتجاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لست عجياً أيها الضابط‪ ،‬فتلك هي أمي (ستناي) مع أبي ضيف اهلل‪..‬‬
‫لما وجد الضابط‬
‫أمه الحقيقي‪ ،‬لكنه ارتاح ّ‬
‫أحس الصبي أنه أخطأ إذ ذكر اسم ّ‬
‫َّ‬
‫يبتسم قائالً‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬ما اسمك أيها الجميل‪.‬؟‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬اسميتني حمزه‪ .‬كيف ال تذكر‪!..‬؟!‪..‬‬
‫ضحك لبراءة الصبي وقال‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬حمزه‪ !..‬نعم‪ ..‬ال بأس يا حمزه‪ ،‬من تلك التي كلمتك‪..‬؟!‪..‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫نظر نحوها وقد أقفت مبتعدة‪ ،‬فقبب كتفيه‪َّ ،‬‬
‫وهز رأسه عالمة النفي‪.‬‬
‫*ـ ‪ :‬ما الذي كانت تريده‪..‬؟!‪..‬‬
‫تقرحت‪ ،‬وبدا يعصر ذهنه محاوالً‬
‫استح ّكته فروة رأسه؛ وقد نتأت فيها دمامل ّ‬
‫أن يتذكر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قالت‪ ..‬صاعدون‪ ..‬ولم أفهم‪..‬‬
‫انحنى إليه وسأله متلهفاً‪:‬‬
‫"عليا‪َ ..‬يريداه‪.".‬؟‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬هل سمعتها تقول‪َ :‬‬
‫أجاب دون تردد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى قالت‪..‬كيف عرفت‪..‬؟!‪..‬‬
‫التمعت عيناه وهو يمج لفافته بنهم‪ ،‬طبطب على ظهره ووضع في يديه‬
‫"بصطيقاً وجق ملبن"‪ ،‬وصرفه قائالً‪:‬‬
‫إلي متى شئت‪ ،‬فنحن أصدقاء‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬عد َّ‬
‫مخمناً نصيبه إن قاسم أخويه عبد اهلل‬‫مضى منشغالً عن حك رأسه باألُعطية‪ّ ،‬‬
‫وتوفيقاً‪ ،‬فوجده يسيراً‪ ،‬سيما إذا جعل لوالديه نصيباً‪ ،‬فجلس يأكل محدثاً نفسه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬آكل بعضه وأقتسم ما يبقى معهم‪C..).‬‬
‫لكنه استطاب مابين يديه فأتى عليه‪C..!..‬‬
‫بينما تمتم الضابط‪:‬‬
‫تغير عادتك يا بن‬
‫ـ ‪( :‬إن صدقني حدسي‪ ،‬فهي من قبلك‪ ،‬فأنت أنت لن ّ‬
‫آوى‪.).‬‬
‫يجهزا العربة‪،‬‬‫أكمل ارتداء بذته بكامل "النياشين" وأمر السائس والحوذي أن ّ‬
‫وهاهو يزيح عمود الخيمة‪ ،‬ليخرج الصندوق‪ ،‬وقد نجح بإخفائه طوال المسير‪،‬‬
‫وهو فتات خزينة السلطنة‪ ،‬كما يحاول أن يقنع نفسه‪ ،‬جعلته لتكاليف التهجير‪،‬‬
‫سرياً‪ ،‬برغم‬
‫ولما تزل مادام البازار منعقداً والمزاد ّ‬
‫تمننهم به وما فتئت تتاجر بهم‪ّ ،‬‬
‫أنهم ال يستحقونه‪ ،‬وإ نه ثروة طائلة إن استأثر به شخص لنفسه‪ ،‬ولطالما تفقّده‬
‫مردداً‪:‬‬
‫طال باشا‪ ،‬وأحمد باشا بأفضل مني‪ ،‬وقد أخذا ما طالته أيديهما‪C.).‬‬
‫ـ ‪( :‬ليس ب ّ‬
‫حفر تحت عمود خيمته حيثما‬ ‫تنفس عميقاً يرمق الصندوق‪ ،‬وكم طمره في ٍ‬
‫ح ّل‪:‬‬
‫ـ ‪ ( :‬رحلة قصيرة وأخيرة‪ ،‬وتدخل في ملكيتي)‪C..‬‬
‫‪- 105 -‬‬
‫أطال إبراهيم وقفته أمام الساقية‪ ،‬مراقباً سطولها تغرف الماء وتسكبه‪ ،‬ثم‬
‫تنقلب عائدة إلى جوف الحفرة‪ ،‬أمعن النظر بمسنناتها‪ ،‬وراقب آلية دورانها على‬
‫محور تحركه قوة البغل‪ ،‬وراح يرسمها في ذهنه‪ ،‬وتنفس الصعداء مطمئناً إلى أنه‬ ‫ٍ‬
‫استوعبها وبمقدوره صنع مثلها؛ بيد أنه رأى عجباً في حال البغل؛ ماشياً طوال‬
‫وتصور نفسه مربوطاً إليها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫القدرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الوقت‪ ،‬على مدار هذه الدائرة‬
‫ـ ‪( :‬ياللكارثة وهولها‪ ،‬إن ُحددت حياة المرء بمثلها‪C..)!!..‬‬
‫متكورة في جمجمته‪ ،‬وقفز تفكيره‬
‫نفض رأسه كأنه يطرد تلك الفكرة المتقنفذة ّ‬
‫فتوته مثيراً خياله‪ ،‬لكنه شكك أن يتم األمر‬ ‫إلى تلميح صاحب المتجر‪ .‬أغراه َّ‬
‫وهز ّ‬
‫بالسهولة التي أوحى بها صاحب المتجر‪.‬‬
‫أحس إبراهيم به‪ ،‬فلم‬
‫اقترب عبد اهلل قلقاً‪ ،‬ضاق ذرعاً بما يعتمل في صدره‪َّ ،‬‬
‫نمقها خياله بكيفية طالما واكبت‬
‫يعره اهتماماً‪ ،‬واستمر مشدوداً إلى فتنة امرأة ّ‬
‫التفرد بحلم اليقظة‪ ،‬فاضطرب‬‫نغص عليه متعة ّ‬ ‫أن وجود صاحبه‪ّ ،‬‬ ‫غرائزه‪ ،‬بيد َّ‬
‫خياله وفتر‪.‬‬
‫وضع عبد اهلل يده على كتفه وسأله‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬أيشغلك ما يشغلني‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬وهل فهمت من التاجر؛ مثلما فهمت منه‪..‬؟!‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬ليس لما قاله تأويل آخر‪ .‬يظهر أن في حيوات البشر وطباعهم مالم ِ‬
‫ندر‬
‫به بعد‪..!..‬‬
‫نجرب‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬أتدعنا ّ‬
‫*ـ ‪ :‬تلزمنا نقود‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كنت أفكر كيف يمكننا توفيرها‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬لن يعييك أمرها‪ ،‬وأنت واسع الحيلة كما عهدتك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬فلنتأكد من أمر التاجر أوالً‪..‬‬
‫قال عبد اهلل متحمساً‪:‬‬
‫هلم بنا‪.‬‬
‫*ـ ‪ّ :‬‬
‫مسر َعين؛ والناس على ضفتي النهر يصطادون السمك‪،‬‬ ‫قطعا الطريق ِ‬
‫ولما‬
‫يشوونه في الحال‪ ،‬أو يجففون أكثره‪ ،‬زاداً لسفرهم على طريق هابوها‪ّ ،‬‬
‫رد‬
‫أن ماكان لن يتكرر‪ ،‬فكان ّ‬ ‫يطرقوها بعد‪ C..!..‬برغم أن الضابط كماالً َّ‬
‫أكد لهم َّ‬
‫إدريس الحكيم‪:‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫ـ ‪ :‬نعقل ثم نتوكل‪..‬‬
‫وقال العجوز داود‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نثق بك‪ ..‬لكن الثعبان عثمان بين ظهرانينا‪ ،‬وكفانا منه لدغاً‪.‬‬
‫وشمر عن ساعديه مقترباً من قمر‪ ،‬يشاركها صيد السمك‪،‬‬ ‫تركهم مبتسماً‪َّ ،‬‬
‫ّأزت رصاصة من فوق كتفه األيسر‪ ،‬فزلقت قدمه وسقط في الماء‪ ،‬وراح يسبح‬
‫عم الهرج والمرج‪ ،‬واختلط الحابل بالنابل‪ ،‬وانطلق توفيق ورشاد‬ ‫عكس التيار‪َّ .‬‬
‫نحو مصدر الصوت‪ ،‬بحثاً عمن أطلق النار‪ ،‬وهرع أصالن يطمئن على سالمة‬
‫كمال‪.‬‬
‫***‬
‫في الطريق إلى المتجر‪ ،‬وقف الناس شاحبي الوجوه‪ ،‬مهلهلي الثياب‪،‬‬
‫وبشيء من الحسد‪ ،‬واقترب بعضهم‬ ‫ٍ‬ ‫ينظرون إلى موكب الضابط الكبير؛ بإعجاب‬
‫طالبين حسنة‪ ،‬فساطهم العسكري وهو ينهرهم‪ ،‬وحزر بعضهم أنه الضابط الذي‬
‫يتردد إلى متجر الحاج أمير بين حين وآخر‪ .‬حمحم حصان العربة‪ ،‬وقد َّ‬
‫شد‬
‫الحوذي لجامه‪ ،‬فتوقف مراوحاً بين قوائمه‪ ،‬عالكاً ما استطاع من الشكيمة‪،‬‬
‫ترجل المرافق عن بغله‪ ،‬مؤدياً التحية‪ ،‬كذلك فعل الحوذي‪ ،‬فنزل‬ ‫وسرعان ما ّ‬
‫خيالء‪ ،‬ونثر لهم‬
‫ً‬ ‫سره أن ينظر الناس إليه وقوفاً‪ ،‬فازداد‬
‫الضابط متغطرساً‪ ،‬وقد ّ‬
‫حفنة "متاليك" وتبختر في مشيته‪ ،‬وهو يقطع المسافة القصيرة إلى مدخل المتجر‪،‬‬
‫فهرع إليه صاحبه يستقبله بترحيب لبق‪ ،‬وأدخل العسكريان الصندوق وخرجا على‬
‫عجل‪ ،‬فإذا بأحدهم قد خطف مخالة عليق الحصان‪ ،‬وركض هارباً‪ .‬أطلق‬
‫العسكري نحوه فأصابه‪ ،‬فخطف آخر المخالة وأطلق ساقيه للريح متوارياً في‬
‫للحاق به‪ ،‬غير أن رجال الجندرمة أحاطوا‬ ‫منعطف‪ ،‬بينما زحف المصاب سريعاً ّ‬
‫يجرونه إلى المخفر‪...!..‬‬
‫به؛ وأوجعوه ضرباً وهم ّ‬
‫حتى إذا مضوا‪ ،‬ضحك العسكري قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كنت دقيق الرماية‪ ..‬أليس كذلك‪..‬؟!‪C..‬‬
‫رد الحوذي منكمشاً‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪ ..‬لكن اآلخر فاز برطلين من الشعير‪C..!..‬‬
‫عنابية البشرة دكناء‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قالت امرأة غليظة الشفتين‪ ،‬ناتئة الوجنتين‪،‬‬
‫ـ ‪ :‬هو الجوع‪ ..‬وياله من كافر‪C..!..‬‬
‫هدجته الشهوة‪:‬‬
‫نظر إليها بعينين تبرقان شبقاً‪ ،‬وابتدرها بصوت ّ‬
‫ـ ‪ :‬كأنك جائعة‪ ..‬أنا أيضاً‪...‬‬
‫‪- 107 -‬‬
‫تنهدت وظلت صامتة‪ ،‬اقترب غامزاً وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أستطيع أن‪ C...‬فلدي ما تحتاجين إليه و‪C.....‬‬
‫تلفتت وجلة‪ ،‬أطرقت بخفر وأغمضت عينيها وتمتمت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أموت سبع مرات دون هذا‪.‬‬
‫وتهزعت في مشيتها مبتعدة‪ ،‬فاقترب رجل أثرم من العسكري‬
‫بكت بصمت‪ّ ،‬‬
‫وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬حاجتك عندي حسب الطلب‪.‬‬
‫أحاط العسكري والحوذي بالرجل‪ ،‬بينما أخذ التاجر ضيفه إلى صدر المتجر؛‬
‫حيث المصطبة بعيداً عن المدخل والعيون‪ ،‬ووضع أمامه دناً وقدحاً وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬معتّقه لسنوات‪ ،‬احتسيت منها كأسين‪ ،‬جعالني أرى نفسي أمام حائط‬
‫الهيكل‪ .‬ضحك الضابط وهو يصب كأساً وتمتم‪:‬‬
‫سر فيك يجعلني أشتاق إليك‪!..‬؟‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬ليفي‪ ...‬أي ٍّ‬
‫سرته المجاملة‪ ،‬فأوعز إلى مساعده أن يتصرف مع الزبن‪ ،‬إال في المسائل‬
‫َّ‬
‫الحساسة‪.‬‬
‫انتبه الضابط إلى الجملة األخيرة‪ ،‬فاستفسر عنها‪ ،‬فأوضح التاجر أنه قصد‬
‫الرهون‪ ،‬فالناس في ضائقة والمعيشة صعبة‪ .‬ضحك الضابط ساخراً وسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فما الذي يمكنهم رهنه‪..‬؟!‪..‬‬
‫لحس التاجر شفتيه وأفاد‪:‬‬
‫ونساء وغلماناً‪ .‬ما زالت‬
‫ٍ‬ ‫ـ ‪ :‬يبدو أنك في دنيا أخرى‪ .‬قد أتاني من رهن ٍ‬
‫بنات‬
‫سرية‪ .‬وقد بعت الغلمان جميعاً بأسرع مما توقعت‪.‬‬
‫األمور ِّ‬
‫ـ ‪ :‬والنساء‪..‬؟!‪..‬‬
‫تغص بإناث من كل ناحية‪ ..‬أوكرانيا‪ ..‬كريت‪..‬‬‫ـ ‪ :‬األحواش الثالثة ّ‬
‫انطاكية‪ ..‬تبليس‪ ...‬أنقرة‪ ..‬أرمينية وأوديسا‪C...‬‬
‫سكت قليالً ثم استدرك‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬القائمة طويلة‪ .‬سينخفض سعر النساء في األستانة هذه السنة‪.‬‬
‫نادى العامل سيده‪ ،‬استأذن وتأود خفيفاً إلى مساعده‪ ،‬واطمأن إلى وضع زبونه‪،‬‬
‫فالذل الذي يسربله؛ يختصر عليه المداورة‪ ،‬ووقف الضابط ينظر في ركن الكتب‪،‬‬
‫وتناول أحدها وقرأ‪:‬‬
‫ـ ‪ ( :‬كتاب الزبور الشريف‪ ،‬المنطوق به من الروح القدس على فم النبي‬
‫‪- 108 -‬‬
‫والملك داود‪َّ ،‬‬
‫وعدته ماية وخمسون مزموراً‪ ،‬يتلوه عشر تسابيح‪ .‬وقد طبع حديثاً‬
‫المحمية‪ ،‬في سنة ألف وسبعماية وستة مسيحية‪.).‬‬
‫ّ‬ ‫بمحروسة حلب‬
‫أعاده‪ ،‬وتناول غيره‪ ،‬ثم تناول آخر وعاد به إلى المصطبة‪ ،‬وشرع يقرأ‬
‫بشغف‪.‬‬
‫***‬
‫وألح بطلب عربون‪ ،‬ليأتيهما بامرأة إلى‬
‫والحوذي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بالعسكري‬
‫ّ‬ ‫انفرد األثرم‬
‫خيمة على يمين الطريق عند آخر ساقية‪ ،‬فإذا جاؤوها بعشرة ٍ‬
‫أنفار‪ ،‬ل ّذذهما بها‬
‫دون مقابل‪C...!..‬‬
‫ولم يرق لعبد اهلل وإ براهيم وجود عربة عثمان أمام المتجر‪ ،‬فدخال حذرين‪.‬‬
‫وقفا جانباً متذرعين بالنظر إلى هذه البضاعة وتلك‪ ،‬وما انقطعا يراقبانه‪ ،‬وأومأ‬
‫التاجر إليهما مرحباً؛ وما زال يساوم رجالً عرض تخديم ابنتيه عند علية القوم‪،‬‬
‫ورد التاجر بما ال يقبل الجدل‪ ،‬فهو ال‬
‫وحاول الحصول على بعض المال سلفة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بسمك ما زال في الماء‪ .‬ناء الرجل بذل الموقف‪ ،‬ودارت عيناه في وقبيهما‬ ‫يدفع‬
‫تتطلعان إلى أكياس البقول والحبوب وجرار الزيت‪ ،‬تمتم مؤكداً أنه عائد في الغد‬
‫بالفتاتين‪ ،‬وانصرف مستجيراً يكاد يكفر‪:‬‬
‫تحرم وأ َّ‬
‫ْدهن‪..!..‬‬ ‫ـ ‪ :‬اهلل‪ ..‬لو لم ِّ‬
‫ابتسم التاجر لعبد اهلل وإ براهيم‪ ،‬فسأاله عن حقيقة تلميحه أمس‪ ،‬ففتح باباً في‬
‫جدار المتجر‪ ،‬أفضى بهم إلى فناء دار واسعة‪ ،‬صفّق فخرجت إليه بضع عشرة‬
‫ودهش إبراهيم بتلك القسيمة الوضاءة‪ ،‬دعجاء‬ ‫أنثى‪ ،‬بُنهت عبد اهلل بما رأى‪ُ ،‬‬
‫قدرا أن بعضهن في الخامسة عشرة‪...!..‬‬ ‫العينين‪ّ .‬‬
‫دفعهما برفق وأغلق الباب فبدا كالجدار أو بعضه‪ .‬وغمز بحاجبيه قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬المتجر ال يبلّغ زبنه عن بضاعة ليست فيه‪ ،‬وقد رأيتما ما ليس موجوداً إال‬
‫عند كبار الباشوات وعندي‪..‬‬
‫بلع إبراهيم ريقه وهتف متلهّفاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كم تريد‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬ذهبيتان عن كل جوله‪..‬‬
‫نظر بعضهما إلى بعض‪ ،‬ورفع عبد اهلل حاجبيه‪ ،‬ولوى شفته‪ ،‬وقد أُسقط في‬
‫يده‪ .‬همس إبراهيم متلعثماً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أال تقبل بغير الذهب‪..‬؟!‪C..‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫ابتسم بمكر وقد استشف اقترابهما من فخاخه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫شيء سعره‪ ،‬فنحسبه على أساس‬ ‫ـ ‪ :‬وِلم ال‪ ...‬لكما بشكل خاص‪ ،‬فلكل ٍ‬
‫َ‬
‫الذهب‪ ،‬وكلما ندرت بضاعتكما جعلت لكما حسماً مناسباً‪ ،‬فماذا لديكما‪.‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬سالح‪ C..‬مثالً‪..‬‬
‫شعت نظرته لما أوحت له تلك الكلمة من كسب‪ ،‬يعادل ما يجنيه من تجارة‬‫ّ‬
‫الرقيق األبيض‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ .‬سالح ودواب وقمح وأوالد وبنات‪..‬‬
‫َّ‬
‫شد إبراهيم يد صاحبه وهمس للتاجر‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬سنعود إليك‪.‬‬
‫أتعرف عليكما‪.‬؟!‪ ..‬من أي ٍ‬
‫قوم أنتما‪.‬؟‪.‬‬ ‫ـ ‪ :‬هل لي أن ّ‬
‫خمن‪.‬‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫سأل بحذر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬خزريان‪.‬؟‪.‬‬
‫قال إبراهيم بجفاء‪:‬‬
‫يهمك ذلك‪.‬؟‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هب أننا غجريان؛ بم ّ‬
‫ـ ‪ُ :‬ع َّداه فضوالً ليس إال‪ .‬لكأني أحببتكما؛ برغم ّ‬
‫أن ما يهمني هو رواج‬
‫تجارتي‪ ،‬فأنا تاجر أوالً وآخراً‪.‬‬
‫قال عبد اهلل بأنفة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬واضح‪ ،‬وإ ننا من ٍ‬
‫قوم هم رفاق الخيل‪.‬‬
‫جره إبراهيم غاضباً وهمس‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬مهذار أنت يابن ضيف اهلل‪ .‬هلم بنا‪ ..‬فقد تكلمه عن رأس ذاك العريف‪،‬‬
‫وكيف اجتزرته‪.‬‬
‫شيعهما بنظرة ماكرة‪ِّ .‬‬
‫محدثاً نفسه أنهما لصان اشتد شبقهما‪ ،‬وقد رأيا ماال‬
‫طاقة لهما على مقاومته‪ ،‬أنى كان قومهما‪ .‬وأوعز لمساعده أن يكنس أمام المتجر‬
‫تحومان حول الصندوق‬ ‫ويغلق الباب خلفه‪ ،‬وأسرع إلى ضيفه‪ ،‬جلس قبالته وعيناه ِّ‬
‫المموه‪ ،‬حتى إذا أنهى الضابط قراءته‪ ،‬تنهّد مرتاحاً وتمتم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬يهوه يارب الجنود‪ !.‬كم ارتحت لما قرأت عن يشوع بن نون‪.!!.‬‬
‫ٍ‬
‫لمزيد من راحتك يا عزيزي كاهانا‪.‬‬ ‫تفرغت تماماً‬
‫ـ ‪ :‬وهأنذا ّ‬

‫‪- 110 -‬‬


‫وتفوه برقّة‪:‬‬
‫انبسطت أساريره ّ‬
‫ٍ‬
‫ساحر يا عزيزي ليفي‪ C.‬أنشيتني إذا ناديتني باالسم األحب إلى‬ ‫ـ ‪ :‬يالك من‬
‫قلبي من بين أسمائي كلها‪ .‬إنني محروم منه يا ليفي‪ C،‬محروم‪ .‬هل تفهمني‪.‬؟‪C..‬‬
‫رقّت قسمات التاجر وقال مواسياً‪:‬‬
‫هون عليك‪ ،‬نعرف قيمة إنكارك ذاتك‪ ،‬وتضحياتك موضع تقديرنا جميعاً‪،‬‬ ‫ـ‪ّ :‬‬
‫وإ نك مثال الجندي المخلص ليهوه ويشوع‪.‬‬
‫فاجأ الضابط مضيفه بقوله‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ومن تلك التي أرسلتها تتجسس أخباري‪..‬؟!‪..‬‬
‫َّ‬
‫رد التاجر دافعاً التهمة بحذق‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬مثلك نتلقّط أخباره‪ ،‬وال نتجسس عليه‪ ،‬و(نتيفا)عيل صبرها‪ ،‬وقد تأخر‬
‫وصول "عليا = الصاعدين"‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ومن تكون نتيفا‪.‬؟‪C..‬‬
‫ٍ‬
‫مهمات خاصة‪،‬‬ ‫ـ ‪ :‬فاتنة (أوديسية)‪ ،‬يعتمد عليها "فالديمير جابوتنسكي"‪ C،‬في‬
‫ألن تساعدها‪.‬؟‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وكيف ال‪ !...‬أعتقد أنني مكلف بذلك‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم يا كاهانا‪ ،‬فتلك مهمتك التي ستحدد لك موقعك على السلم‪ .‬البأس‪...‬‬
‫هيأت لك مالم تحلم به في‬
‫سنتكلم في هذا الحقاً‪ .‬ستستحم للتو‪ .‬وريث ذلك تجدني ّ‬
‫المنام‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬بادئ ٍ‬
‫بدء تستلم الوديعة‪.‬‬
‫ضم الصندوق إلى حجره‪ ،‬محدقاً في وجه التاجر‪ ،‬فلم يقرأ في قسماته شيئاً‬‫َّ‬
‫على اإلطالق‪ ،‬فأبهم بدوره‪ ،‬ولم يبن في كالمه وضوحاً‪ ،‬كأنما يبادله الغموض‬
‫بمثله‪ .‬لكن (ليفي) خرق ثقل اإلبهام فسأل‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وما قطفك من هذا الرواح‪.‬؟‪..‬‬
‫بحرص ونشو ٍة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أجاب وهو يفتح الصندوق‬
‫ـ ‪ :‬ذهب أحمر‪ .‬قامرت برأسي كيما أوصله إلى مأمنك‪ .‬احسم عمولتك سلفاً‪،‬‬
‫وجي ْر الباقي لحسابي‪.‬‬
‫واحسب حصتي الكنيس والمحفل‪ّ ،‬‬
‫بلع التاجر ريقه وكاد يغص به‪ ،‬وهو يرى أكياس الذهب‪ ،‬ويسمع خشخشته‪،‬‬
‫فهمس مستعطفاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أما للصاعدين نصيباً منه‪.‬؟‪ .‬سيواجهون ظروفاً صعبة‪.‬‬
‫‪- 111 -‬‬
‫ذئب إلى التاجر ونبر‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بعنف‪ ،‬ونظر بعيني ٍ‬ ‫أغلق الصندوق فجأة‬
‫ـ ‪ :‬أدفع لهم فتقبض منهم‪ ...!.‬أليس هذا مرامك‪...‬؟!‪..‬‬
‫ارتبك وقد تفاجأ‪ ،‬واعتبر كالم الضابط وقاحة وجرأة عليه‪ ،‬ليستا في وقتهما‪،‬‬
‫هبة‬
‫ك الضابط إال ّ‬ ‫وبرغم ذلك اصطبر‪ ،‬فالغاية تدعو إلى حنكة وحكمة‪ ،‬وما عل ُ‬
‫ٍ‬
‫بلطف‪:‬‬ ‫آنية‪ ،‬فقال‬
‫نزق ّ‬
‫ـ ‪ :‬االستحمام سيريحك ويجلو سريرتك‪...‬هيا‪C...‬‬
‫للتعرف إلى (نتيفا)‪...‬‬
‫ملحة ّ‬
‫ـ ‪ :‬لدي رغبة ّ‬
‫ـ ‪ :‬هي أول احتفائي بك الليلة‪ .‬ستجدها مثل حمامة حين تفرك لك ظهرك في‬
‫الحمام‪..‬‬
‫ّ‬
‫الحمام‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬فأين ّ‬
‫أشار التاجر بيده لصاحبه‪ ،‬وفتح باباً آخر في جدار المتجر وأردف‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ال تدع الحمامة (نتيفا) تنهكك‪ ،‬فلدي مفاجأة لك‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬ال أحب المفاجآت‪ ،‬أخبرني بما لديك‪.‬؟‪..‬‬
‫سبية‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬عذراوان‪ .‬كيليكية مخطوفة‪ ،‬وأرمينية ّ‬
‫ـ ‪ :‬قلت عذراوان يا ليفي‪ C،‬فهل هما عذراوان حقاً‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ ..‬فلم يقربهما سواي بعد‪.‬‬
‫وتخنث‪ ،‬فأردف‬
‫فتأوه‪ّ ،‬‬‫انفجر الضابط ضاحكاً بمجون‪ ،‬وضرب على أليته‪ّ ،‬‬
‫ولما يزل يضحك‪:‬‬‫الضابط ّ‬
‫ـ ‪ :‬عذراوان الشك‪ .‬صدقت أيها اللوطي صدقت‪.‬‬
‫ضحكا وهما يتقدمان في صحن الدار‪ .‬وأشار الضابط بيده مشترطاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أما الرابعة فأختارها بنفسي‪.‬‬
‫طفقا يضحكان دون تحفّظ؛ وهما يدخالن غرفة أنيقة األثاث‪ ،‬خلع الضابط‬
‫الحمام‪ ،‬وهو يستعجل نتيفا‪.‬‬
‫فيها ثيابه‪ ،‬ثم قاده التاجر إلى ّ‬
‫***‬
‫كأنهم انتظروا هذه اللحظة منذ زمن‪ ،‬فأحاطوا به كالطوق‪ ،‬وأخرج العجوز‬
‫داود البندقية من مخبئها أسفل العربة‪ ،‬تتنازعه المفاجأة والخيبة والخشية‬
‫والشكوك‪ ،‬واألنكى أنهم وجدوا معها بضع طلقات‪ ،‬كالتي تباهى الضابط عثمان‬
‫المتنورين‪C..!..‬‬
‫ّ‬ ‫باختراقها أجساد‬

‫‪- 112 -‬‬


‫ٍ‬
‫شرف‪ ،‬قالها بدل‬ ‫ُج َّن جنون الفتى السِّكيت‪ ،‬وأصابع االتهام ّ‬
‫تخزه في كلمة‬
‫القسم؛ أالّ يعاود االعتداء على الضابط كمال‪َّ ،‬‬
‫وظل الئذاً بالصمت ينفذ العقوبة‬
‫صاغراً؛ في خدمة الممسوسين‪ ،‬وما سأل عن مدتها‪ ،‬أو موعد انتهائها‪ ،‬موطداً‬
‫أف مهما طالت أو صعبت‪ ،‬فمالهم‪..‬؟‪ C..‬هل‬ ‫نفسه على تحملها فال يقول ٍ‬
‫ابتناء‬
‫ً‬ ‫نسوا‪..‬؟!‪ ،...‬فالعيون تحاصره من غير أن ّترف‪ ..!..‬وهاهو في مظلمة؛‬
‫سر‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫على سابقة ال سبيل لنكرانها‪ ،‬وقد مكنهم من قرينة ال يدانيها شك‪ .‬فالبندقية ّ‬
‫لسالح عدا‬
‫ٍ‬ ‫كشفوه للتو؛ وماكان ألحدهم علم بها من قبل‪ C!!..‬وهم لم يعهدوه مقتنياً‬
‫سيفه قصير النصل‪ ،‬لذا كبر ش ّكهم به‪ ،‬وإ ن يقن خلو ساحته من الشبهة‪ .‬أال ما‬
‫أشبه حاله بينهم اآلن‪ ،‬بحاله تجاه نفسه‪ ،‬حين ترك ابن الوجيه زوج قمر يموت‬
‫حقد‪ ،‬كسا روحه حينذاك غبطةً‬ ‫نازفاً‪ C..!.‬يالها من عقدة ما برحت تع ّذبه بأتون ٍ‬
‫ِ‬
‫بفنائه؛ وإ ن لم يقتله بيده‪ ،‬ولم يشفع لنفسه نقمةً أنفدت عقله وتمييزه‪ ،‬وهاهم‬ ‫إبليسية‬
‫ٍ‬
‫نير واحد‪ ،‬فمن سواه يعتدي‬ ‫يقرنون سابقته مع الضابط‪.‬واكتشافهم البندقية؛ في ٍ‬
‫على كمال‪ ،‬مادام الضابط عثمان غائباً‪..‬؟‍‪..‬‬
‫نده الفتى تباريح مهجته‪ ،‬وهو ينظرإ لى شخصين اثنين‪ ،‬من بين الجمع الغفير‬
‫المتحلق حولـه‪ ،‬كأنه ينشدهما إحساساً غير الذي يجلده به اآلخرون‪ ،‬وإ نهما مهما‬
‫رباه‪ .‬فلم يعرف أباً سواه مذ‬
‫نأيا عنه‪ ،‬فليس أقرب منهما إليه‪ ،‬ذاك الوجيه الذي ّ‬
‫تبناه‪ ،‬وتلك التي لو شقّت صدره لوجدت نفسها في قلبه‪.‬‬
‫كاد يصيح‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬سيدي‪ ..‬أنا ما قتلت ولدك‪ ،‬فخلصني من هذا الضيم‪ .‬ويا سيدة النسوة‪،‬‬
‫فمدي إلي يدك؛ أو شعرة من جدائلك؛ فيكون لك نبل محاولة‬
‫لست من قتل زوجك‪ّ ،‬‬
‫إنقاذ غريق ولو بشعرة‪C..).‬‬
‫ٍ‬
‫فرجة‪ ،‬ينفذ سكوتهما في‬ ‫جامدان مثل جدارين أصمين‪ ،‬يحوالن بينه وبين أي‬
‫ينز‬
‫ّ‬ ‫يتركانه‬ ‫تراهما‬ ‫مفؤود‪.‬‬ ‫جرح قلبه وهو‬
‫نفسه كحدي نصل رهيف‪ ،‬وخيبته بهما ّ‬
‫تماسكه عصباً إثر عصب‪ ،‬مثلما ترك فقيدهما ينزف دمه قطرة فقطرة‪...‬؟!‪..‬‬
‫صوانية‬
‫(صلد أنت يا سيدي مثل أوالء الدهماء‪ ،‬وأنت يا سيدة النسوة ّ‬
‫ٌ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫إن لم‬
‫ْ‬ ‫أنا‬ ‫غبي‬
‫ٌّ‬ ‫‪C‬‬
‫‪.‬‬ ‫المبهمة‪.‬؟!‪.‬‬ ‫نظرتك‬ ‫معنى‬ ‫ما‬ ‫ال‬
‫إ ّ‬ ‫و‬ ‫سواك‪،‬‬ ‫عمن‬ ‫لك‬ ‫ية‬ ‫مز‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫القلب‪،‬‬
‫ُقر أنني أُبلغت قراركما الصموت؛ بأنكما في ريبة مني‪ .‬أجل‪ ،‬أنا عندكما في غير‬ ‫أّ‬
‫أظنه بحالي‪ ،‬ونظرة من يجهل نسائم‬‫قدرتها لنفسي‪ ،‬إنه الفرق بين ما ّ‬‫المكانة التي ّ‬
‫غصة إن وسعت الفجوة بينهما‪..)!!..‬‬‫روحي‪ ،‬ويالها من ّ‬
‫الر َّمان‪ ،‬فصهل المهر في رأسه‪،‬‬
‫تسربت في قاع نفسه مرارة كطعم قشر ُّ‬
‫ّ‬
‫تقمصه‪ .‬نفرت عروق صدغيه‬ ‫وزأر السبع الذي يتوئم روحه‪ ،‬وجأر الثور الذي ّ‬

‫‪- 113 -‬‬


‫يفجر حنجرته‪ ،‬وبح صوته صائحاً ببراءته‪ ،‬معوضاً عن‬ ‫زمجر كأنه ِّ‬
‫َ‬ ‫والرقبة‪ ،‬ثم‬
‫صمته الطويل‪ ،‬وما انقطع صراخه‪ ،‬ينزح المكتوم في صدره الكهف‪ ،‬وبال توقّ ٍع‬
‫وضع نفسه مكان الدابة من العربة‪ ،‬وراح يدور بها في مكانها‪ ،‬فجعلها كقواديس‬
‫الناعورة وسطول الساقية‪ ،‬ثم تركها تنقلب متدحرجةً بالممسوسين‪ ،‬وقعد بينهم‬
‫ٍ‬
‫بصوت لم تلتقطه أذن قط‪:‬‬ ‫يحدثهم‬
‫ينظر في الجمع‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪( :‬مصرون‪ C..!!..‬إذاً بات لكم أهبل آخر؛ أيها األهل األلدة‪..).‬‬
‫***‬
‫هدج إبراهيم في مشيته‪ ،‬كشيخ أثقله الكبر والهم‪ ،‬وجلس مقرفصاً في‬
‫الطريق‪ ،‬واستمر نظره جائباً األفق المهيب في سكون‪ ،‬ثم مالبث أن حلَّق سابحاً‬
‫رنحته‪ ،‬واستقدمت مشاهد وطيوف ذاكرة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فضاء انفسح طرفه فيه‪ ،‬يسمع أغنية ّ‬ ‫في‬
‫جواالً بخيول القرية‪ ،‬يرصد عند تخومها آيباً من معركة في‬ ‫ّإبان بلوغه وقد كان ّ‬
‫مخدع أو خلو ٍة‪ ،‬ويسترق السمع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫محارب؛ فيشغله أمره‪ ،‬فيتلصص على‬ ‫استراحة‬
‫والبصر إلى تكوينات جسدين؛ يبتكران تشكيالت ال تضاهيها مدهشات الكون‬
‫برمتها‪ ،‬وهاتيك الهمسات؛ شتَّان بينها وأصوات الكائنات الجميلة كافة‪ ،‬وحرارة‬
‫أنفاسهما المتسربة؛ كبخار عين ٍ‬
‫مياه كبريتية في زمهرير الشتاء‪ُ ،‬يذيب الصقيع‬ ‫ّ‬
‫في رقعة تكفي لحمامتين أن تهدال حباً‪ ،‬يرعشهما جمر الروحين‪ ،‬نابذاً البرودة من‬
‫تطيب األرجاء بمثل رائحة‬ ‫المسامات فينتفضان مضمخين بنفح الزهرة للزهرة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫وتأرج السرو والصنوبر‪ ،‬وعبق وليد لم‬ ‫األرض في أثناء قطقطة المطرة األولى‪ّ ،‬‬
‫غرة‬
‫تغسله أمه ألسبوع مضى‪ ،‬وبنكهة اللبن الخاثر؛ من غنم رعت تعاشيب ّ‬
‫وطيها في‬
‫هزها عالياً ّ‬ ‫الربيع‪ ،‬فترتفع من قيعان النفوس رايات اصطبار آن أوان ّ‬
‫موارى‬
‫ً‬ ‫آن معاً‪ ،‬ذخر مؤونة الروح‪ ،‬لوحشة ٍ‬
‫زمن من جعبة المجهول المقفل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بحجب الغيب‪ ،‬مغلقة عليه قبضة ال تدرك ماهيتها المدارك‪ ،‬فالغيب كالروح‪،‬‬
‫وصفهما محال‪..!..‬‬
‫ويذكر ذاك الذي آب ولقيته كاسفة مغمومة‪ C،‬برغم رجوعه سالماً غانماً‪،‬‬
‫ودنس عسكر القيصر‬ ‫فصمت يتقرى قسماتها‪ ،‬ثم سأل إن كانت الطامة وقعت‪َّ ،‬‬
‫داره‪..‬؟‬
‫تخيره أيقتلها أم تنتحر‪.‬؟‪ C..‬فاستفسر وهو يرتجف‪:‬‬
‫أومأت ّ‬
‫ِ‬
‫ارتعشت‪..‬؟!‪C..‬‬ ‫*ـ ‪ :‬هل‬
‫ـ ‪ :‬بل ارتعدت خوفاً وقهراً‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬أصدقيني‪C..‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫ـ ‪:‬ارتعشت اشمئزازاً وغضباً‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬قولي الحقيقة‪..‬‬
‫وأسى‪..‬‬ ‫ـ ‪ :‬اختلجت حقداً‬
‫ً‬
‫أصدقك‪C..!..‬‬
‫*ـ ‪ :‬أريد أن ّ‬
‫انقدحت نار خاطرها مدركةً قصده‪ ،‬واستلَّت سيفه من غمده‪ ،‬فقذفته أمامهما‪،‬‬
‫فنبت في خشب أرضية الغرفة مهتزاً‪ ،‬ونفرت كلبؤ ٍة تفقأت مواجعها ونبرت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إن كنت تشك قيد شعيرة‪ ،‬اغرزه هنا‪.‬‬
‫وكش ‪CC‬فت عن نح ‪Cٍ C‬ر يختلج منتفض‪C C‬اً‪ .‬اقتلع س ‪CC‬يفه وأغلق كفّه الثانية على نص ‪CC‬له‪،‬‬
‫قوس‪CC‬ه‪ ،‬ثم ألق‪CC‬اه خلفه‪CC‬ا‪ ،‬س‪CC‬ال دم كف‪CC‬ه‪ ،‬فجعل راحة ي‪C‬ده في كفِّها وهص‪CC‬رهما‬ ‫ثن‪CC‬اه ح‪C‬تى ّ‬
‫بص‪CC C‬دره على ص‪CC C‬درها‪ ،‬فتحلّب ال‪CC C‬دم يص‪CC C‬بغ س‪CC C‬ترتيهما‪ .‬أح‪CC C‬اطت جي‪CC C‬دها بس‪CC C‬اعديها‬
‫فطوقها بذراعه األخ‪CC C‬رى‪ ،‬وما ع‪CC C‬اد واض‪CC C‬حاً إن ك‪CC C‬ان ال‪CC C‬ذي يقطر دمه أم‬ ‫مطرق ‪C C‬ةً‪ّ ،‬‬
‫هنية‪ ،‬ودون أن يلتفت خاطبها‪:‬‬ ‫دمها‪ !!..‬وثب نحو الباب‪ ،‬وقف ّ‬
‫ـ ‪َ :‬ع َّم ْدتك بدمي‪ ،‬ولن أقربك وشرفي مثلوم‪ .‬أبقي قسمي على كفي ريثما‬
‫مشرعة‬‫أعود‪..‬ذهب صافقاً الباب‪ ،‬ولبثت ساكنة هنيهة‪ ،‬ثم اقتربت من السراج‪ِّ ،‬‬
‫كفّها في ذبذبة ذبالته تظهر خضابه‪ ،‬أمعنت ملياً‪ ،‬ثم لفّت كفّها بشالها الحرير‪ ،‬راية‬
‫عذريتها ليلة زفافها‪ ،‬وجلست ساهمة الوجه‪ ،‬نافرة التقاطيع‪ ،‬وكسرت إحدى‬
‫سراط أرهف من شفرة‬ ‫ٍ‬ ‫بحد السيف‪ ،‬متخيلة زوجها‪ ،‬وقد غدا على‬ ‫عينيها مدققة ِّ‬
‫ق نعليه ونحنحته قبل أن يلج‬ ‫هذا البتّار‪ ،‬وفجأة جحظت عيناها‪ ،‬كأنها تسمع َخ ْف َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اقتص من ثالم شرفه‪ ،‬شهقت لخبط‬ ‫َّ‬ ‫الباب‪ ،‬فيستقيم نصل السيف في استقباله وقد‬
‫صرصر‪ ،‬والذئاب تعوي‪ ،‬والكالب نوابح‪ ،‬فانكمشت هاجعة‪ ،‬ثم‬ ‫ٌ‬ ‫الباب‪ ،‬والريح‬
‫فوهة المدخنة ومضى‪C.‬‬ ‫ٍ‬
‫سكنت ذاهلة‪ ،‬عندئذ انسحل الفتى عن ّ‬
‫***‬
‫سكت إبراهيم عن الغناء فجأة‪ ،‬وأطلق سؤاالً‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬بِ َم ُينعت من ييسر النساء للرجال‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ال أدري‪..‬‬
‫نساء‪.‬؟‪.‬‬
‫*ـ ‪ :‬هل عاشرت ً‬
‫ـ ‪ :‬أرملة رائعة‪.‬‬
‫*ـ ‪ :‬والمقابل‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬دون مقابل‪ .‬كانت تقول لي‪ :‬هي حاجة منحها أحدنا إلى اآلخر‪...‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫*ـ ‪ :‬أتذكر ليلة مقتل الضابط ألكسندر‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬وأحفظ أغنية نعمان عن تلك المرأة‪..‬‬
‫* ـ ‪ :‬أقسم أنني لمحت ابنتها "آية"‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ما عهدتك مهذاراً‪ .‬فما الذي تهذي به‪..‬؟!‪..‬‬
‫*ـ ‪" :‬آية" عند التاجر يا صديقي‪.‬‬
‫تخرف!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إن كنت محموماً أخذتك إلى الحكيم إدريس‪ .‬فإنك ِّ‬
‫*ـ ‪ :‬فلنتدبر النقود سريعاً دون علك وشطح‪.‬‬
‫***‬
‫مجمرة‪ ،‬وفم ك ّل‬‫طويالً تبادل الضابط كمال و الفتى عثمان السِّكيت نظرات ّ‬
‫منهما حشوه كالم وأسئلة متداخلة‪ ،‬متزاحمة؛ كنحل تكتظ به خلية مغلقة‪ ،‬والناس‬
‫من حولهما قطعوا األنفاس‪ ،‬وتوجسوا بلبلة‪ ،‬بانتظار قرار الضابط‪ ،‬دونما اكتراث‬
‫دمل تحت الجلد‪ ،‬يكاد اإلحساس بالمظلمة‬ ‫بالذي يفزر اآلخر؛ وهمه القابع فيه مثل ّ‬
‫لرقمه في عداد‬ ‫ٍ‬
‫يفقأه‪ ،‬ولن يتهور أحدهم فيطلب صفحاً لعامد متعمد‪ ،‬ولو أصابه‬
‫ّ‬
‫ِّمت بحدود العراك‪ ،‬وماكان السِّكيت‬‫سدى‪ ،‬خالفاً للمرة السابقة التي ُحج َ‬
‫الهالكين ً‬
‫ليدرك إن كان موقفهم هذا من حبهم كماالً‪ ،‬أم حاجتهم إليه‪ ،‬أم نتيجة نفورهم من‬
‫الضابط اآلخر؛ وهو أثيره‪..‬؟!‪ ..‬وتلك هي أداة الجريمة تشعل الريبة‪ ،‬وإ نها‬
‫جلية‪ ،‬كتوقيع للمجرم على جريمة مماثلة؛ بتشابه غير ٍ‬
‫وجه في الحالتين‪.‬‬ ‫لحقيقة ّ‬
‫عما سواه‪ ،‬ولم يبتر شكه بالسِّكيت‬ ‫َّ‬
‫كد كمال ذهنه في هذا المنحى‪ ،‬وانشغل به ّ‬
‫جواني‪..‬؟!‪..‬‬
‫مسخراً‪ ،‬أم أنه تصرف بدافع ّ‬
‫إن كان مدفوعاً ّ‬
‫سه ٌل عليه أن يأمر‪ ،‬فيثقّب العسكر جسده مثل غربال‪ ،‬أوأن يسدد بين تينك‬
‫العينين غامضتي النظرات‪ ،‬وإ ن هي إال طلقة واحدة‪ ،‬تُحدث نفقاً في الدماغ اليابس‬
‫وتنتهي المسألة‪ ،‬ولكن ماذا لو كان تصرف بدافع افتتانه بقمر‪!.‬؟‪ C..‬أال يعني أنها‬
‫كادت تكون سبب مقتله‪..‬؟‍ وإ ن نفّذ حكمه بهذا الشقي؛ أال تكون سبب جعله قاتالً‬
‫في غير حرب‪...‬؟‍‪ C..‬أيوصله سلطان عشقها أن يقتل من أجلها‪..‬؟‍‍!‪ ..‬الحيرة‬
‫الحلبية"‪:.‬‬
‫ّ‬ ‫تؤججه وتشتت صوابه‪ ...‬جفف عرق جبينه بمنديل "رقوش‬
‫ـ ‪ ( :‬أسعد اهلل وقتك؛ ما أعذب حبك‪ ،‬وكم هو هيِّن هنيء!‪...)..‬‬
‫انتبه الناس إلى شروده‪ ،‬وانتبه إليهم ينتظرون قراره‪ ،‬والعسكر ربما‬
‫ينتظرونه‪ ،‬وإ ن لم يسمح لهم باالقتراب‪ ،‬تاركاً لألقربين أن يروا القضية دون تأثير‬
‫أحد‪.‬‬
‫ألفعلن‪ ...‬فالوقت‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪( :‬أؤنفّذ حكمي وأختم الحكاية بصفوي مع قمر‪.‬؟‬

‫‪- 116 -‬‬


‫موات‪ ،‬لكن ما الذي يدلّني ٍ‬
‫بعدئذ على عالقة الضابط باألمر‪.‬؟‪C.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مناسب‪ ،‬والظرف‬
‫أأقتل هذا مقلِّماً مخلب ذاك‪..‬؟! أيهما غريمي‪.‬؟ أهذا الشقي بعشقه قمر‪ ،‬أم ذاك‬
‫الشيطان‪.‬؟‪ C.‬ويالهذا السِّكيت ما أقواه بالصمت‪.)..!!.‬‬
‫انقدحت نار خاطره ببارقة‪ ،‬قد تؤكد اإلدانة‪ ،‬بيد أنها ال تحسم إن كان الدافع‬
‫ذاتياً‪ ،‬أم هو مجرد مخلب فحسب‪..‬؟! دفع عن ذهنه هذا التهويش‪ ،‬ورفع البندقية‬
‫الكرة‬
‫زفير تام‪ ،‬واستنشق طاقة رئتيه‪،‬أعاد ّ‬ ‫فوهتها من أنفه‪ ،‬حابساً أنفاسه بعد ٍ‬ ‫مدنياً َّ‬
‫مرتين‪ ،‬فتأكد مما ال يقبل الشك‪ ،‬ألقاها أمام الفتى معلناً براءته‪ ،‬وأنها ما استخدمت‬
‫منذ أمد‪ ،‬ومضى منهك الذهن‪ ،‬وفي رأسه سؤال مثل سيخ النار‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬من ذا الذي فعلها إذاً‪...‬؟!‪..).‬‬
‫حين أُعلنت براءته‪ ،‬وشاف إعجاب الناس بغريمة الضابط كمال‪ ،‬وانتبه إليها‬
‫دق آخر الخوازيق في‬‫تكاد تطير خلفه‪ ،‬وفي عينيها ذاك البريق المذهل‪ ،‬أيقن أنه َّ‬
‫أمله بها؛ وإ ن اقتلع شوكة كادت تودي به على تفاهتها‪.‬‬
‫تجهّم والريح تعصف برأسه من كل جانب متناوحة‪ ،‬وطفق يجلد نفسه‬
‫متسائالً‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬وما الجدوى‪.‬؟)‪.‬‬
‫شعر بالعبث ُيش ّكل مساره؛ويئد روحه في ابتئاس ال خيار له فيه‪ .‬صاح‬
‫متحشرجاً مخنوقاً تكاد تتقطع حبال رقبته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قمر ‪..!!.‬‬
‫التفتت‪ ،‬وتقدم يلقّم البندقية‪ ،‬توقفت مخطوفة اللون‪ ،‬استنفرت من حولها‬
‫السرة‪،‬‬
‫وشق بنيقة سترته حتى ّ‬‫ّ‬ ‫كسرب ِحدآن‪ C.‬قذف البندقية إليها فتلقفتها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الفتيات‬
‫وأفرد ذراعيه كالمصلوب‪ ،‬مغمضاً عينيه في حالة صعبة ال يدركها غيره‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الخيول البائسة‪ ،‬تستحق رصاصة الرحمة‪..‬‬
‫انقذف الصبي حمزة خاطفاً البندقية منها صائحاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ال‪.....‬‬
‫وغرز ماسورتها في المسافة الفاصلة بينهما‪ ،‬وظل يناوب نظره بينهما ماداً‬
‫يديه إليهما‪C..‬‬
‫***‬
‫شيء دون بادرة مسبقة‪ ،‬انفجرت صرخة كادت تتصدع لها‬‫وكما يحدث أي ٍ‬
‫أركان الدار‪َّ C..!.‬‬
‫انسل ليفي من تحت أليفه‪ ،‬خارطاً تكة سرواله على وسطه‪،‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫وبعض من ٍ‬
‫دم حول فمه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مهروالً جهة الصوت‪ ،‬فخرج الضابط مهتاجاً‪،‬‬
‫ـ ‪ :‬كاهانا‪ ..‬ما الخطب‪..‬؟!‪C..‬‬
‫لم يلق إجابة فانزلق داخل المخدع‪ ،‬ثم خرج يتلعثم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كاهانا‪ C...‬إنك أكلت حلمة ثديها‪.‬‬
‫تفل دماً‪ ،‬وبزق مضغةً كحبة ٍ‬
‫توت‪ ،‬وجأر محتجاً‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬لم آكلها‪ .‬إليكها‪ .‬خذها‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ولكنك قضمتها‪C...!!.‬‬
‫*ـ ‪ :‬أمي يا ليفي‪ C..‬بي شوق دائم لصدرها‪ ،‬مشاعري مرهفة‪ .‬كيف ال ِّ‬
‫تقدر‬
‫ذلك يا ليفي‪..‬؟!‪C...‬‬
‫البد من معالجتها‪..‬‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫ألقى إليه ذهبية مدمدماً‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬هذه تشفيها‪.‬‬
‫قبضها وتمتم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أعطبت ثديها‪ ،‬وهذا تشويه يبخس ثمنها‪..‬‬
‫نثر حوله بضع ذهبيات هامساً‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬لم تدفع بها أكثر من هذا‪ ،‬فإن بعتها بـ"متليك" فإنك رابح بها‪.‬‬
‫خرجت تولول والدم ينقط من صدرها‪ ،‬وما لبثت أن َّ‬
‫ترنحت وسقطت مغشياً‬
‫وتأوه قائالً‪:‬‬
‫عليها‪ ،‬تََو ْه َوهَ ليفي ّ‬
‫ـ ‪ :‬فقدت وعيها‪..!.‬‬
‫قذفه بذهبيتين وهتف مشمئزاً‪:‬‬
‫يصحيها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫*ـ ‪ :‬ال تكن جزوعاً‪ ،‬فالذهب‬
‫ثم تمطى نافذ الصبر‪ ،‬شاداً تكة سرواله‪ ،‬ثم تركها ترتطم ببطنه‪ ،‬وسأل‪:‬‬
‫*ـ ‪ :‬أين األخرى‪..‬؟!‪..‬‬
‫***‬
‫وكان أن أُصيب عبد اهلل‪ ،‬وما لبث أن ألقوا القبض على إبراهيم‪ ،‬إثر معركة‬
‫قصيرة‪ ،‬وأعاد العسكر المسروقات‪ ،‬فباءت خطتهما بالفشل‪ ،‬إال أن هذا ليس ما‬
‫يشغلهما‪ ،‬وقد عاد رسول الوجهاء مؤكداً أنها "آية" ذاتها‪ ،‬وأن التاجر طلب بها‬
‫مبلغاً كبيراً؛ حين سمعوا به صمتوا والتوت أعناقهم‪ ،‬تثاءبوا‪ ،‬وتناعس بعضهم‪،‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫وتشاغلوا دون ما اجتمعوا له‪ ،‬والجدة نور تراقبهم‪ ،‬حتى تململوا‪ ،‬ثم انفرط عقدهم‪،‬‬
‫وبدؤوا ينتشرون‪ .‬صاحت بهم فتوقفوا‪ ،‬دعتهم فاقتربوا‪ ،‬وقفت تنقر بعصاها‬
‫أغنية تدانوا له‪ ،‬وتحلقوا حولـها‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫مدندنة لحن ّ‬
‫ـ ‪ :‬أسفي عليكم مرتين‪ .‬مرة ألنكم كنتم ستنامون وعرضكم ُيمتهن‪ ،‬ومرة‬
‫ألنكم فكرتم أن تدفعوا لسارق لحمكم‪ .‬عجبي‪ ..‬كيف يشتري المرء لحمه من ذئب‬
‫افترسه؛ أو ٍ‬
‫دب نهشه‪ C..!!..‬إبراهيم يا ولدي‪ ،‬اسمع‪ ..‬أتجعل البنيَّة "آية" حليلة‪.‬؟‬
‫أطرق غير متجرئ النظر إليها ولم يجب‪ .‬زجرته قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إبراهيم يا ولد‪ .‬ال وقت اآلن لهذا الحياء الكاذب‪ ،‬هيا قرر في الحال‪ ،‬أن‬
‫تكون رجالً أو ال‪.‬‬
‫فأخذت علماً بذلك‪ ،‬وأشهدتهم عليه‪ ،‬ونادت‬
‫ْ‬ ‫أعطى موافقته برأسه وعينيه‪،‬‬
‫فتيةً بأسمائهم‪ ،‬وجعلت حفيدها سليمان بينهم‪:‬‬
‫بالبنية‪ ،‬أو يأتيني خبركم‪ ،‬وإ نني منتظرة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬تذهبون لتعودوا ّ‬
‫انطلق الفتية بأسلحتهم على صهوات جيادهم‪ ،‬وإ براهيم بينهم‪ .‬قفزت قمر‬
‫وجرتها إليها هامسة‪:‬‬
‫أمامها طالبة السماح لها بالذهاب معهم‪ ،‬أمسكتها من جدائلها ّ‬
‫ـ ‪ :‬بل دعيني أستيقن أنك لست خنثى أيتها اللبؤة‪ .‬ماعيب الفتى السكيت‬
‫ها‪..‬؟‬
‫استلت سيفها فبترت جدائلها؛ وتركتها بيد الجدة‪ ،‬ومضت تضرب األرض‬
‫ٍ‬
‫كفرس ترمح غضباً‪.‬‬ ‫تكاد تد ّكها؛‬
‫زجتهم الجدة فيه‪ ،‬إال أنها لم‬
‫وحاول بعض الرجال الخروج من المأزق‪ ،‬وقد ّ‬
‫تمهلهم‪ ،‬وحسمت الموقف بأن الثرثرة لم ِ‬
‫تجد طائالً‪ ،‬وما برحوا يثرثرون طوال‬
‫الطريق‪ ،‬نادت الحكيم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إدريس‪ ...‬فليكن موالنا الشيخ جاهزاً‪ ،‬وليستعد نعمان إلتمام الزفاف؛‬
‫أولتأبين أولئك الفتية األعزاء‪.‬‬
‫***‬
‫قال الضابط عثمان‪:‬‬
‫حسن‪ C...‬وإ نني منفذ تعليمات "فالديمير جابوتنسكي"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بل زائيف يا سيدي كاهانا‪ ،‬حين نتكلم عنه بيننا نقول‪ :‬زائيف‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كما تريدين عزيزتي نتيفا‪ ..‬زائيف‪ ،‬وأنتم ستكونون بمكانة حجيج‬
‫زودهم بالصلبان يا ليفي‪C..‬‬
‫"يسوعيون"‪ ،‬وجهتكم "بيت لحم"‪ّ .‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫وطفقوا يناقشون الخطة بحماس‪ ،‬والضابط منشغل أغلب وقته بأستير الثدياء‬
‫عمن سواها وعن التفاصيل المملّة‪ ،‬وكانت "هدسة" منشغلة به عما حولها وعن‬
‫برمتها‪ ،‬وقد أفاقت أنوثتها مسيطرة على ملكاتها‪ .‬انتبهت نتيفا إلى ذلك‪،‬‬
‫الخطة ّ‬
‫غض نظرها بادئ األمر‪ ،‬إال أنها لم تصطبر طويالً‪ ،‬ولم يغب بعد عن‬ ‫وحاولت َّ‬
‫الحمام‪ ،‬فلفتت انتباههم بشيء من الزجر‪ ،‬وادعاء الغيرة‬
‫ذهنها‪ ،‬ما كان بينهما في ّ‬
‫على المصلحة العامة‪ ،‬فاستدرك الضابط متعهداً سالمتهم حتى مشارف حلب‪ ،‬ثم‬
‫تتولى "القديسة" نتيفا إيصالهم إلى "أرض الزيتون"‪ ،‬فيدخلونها حرفيين‪ ،‬وينتشرون‬
‫زراعين‪ C..!..‬تنفس الصعداء أولئك الذين اقتصر دورهم على اإلنصات‪،‬‬ ‫فيها ّ‬
‫واغتبطت نفوسهم مشدودة إلى لحظة خروجهم من هذه الدار الحبس‪ ،‬وفي أذهانهم‬
‫طون رحلهم قرب معسكر الضابط‪ ،‬الئذين به من‬ ‫صور الخالء فسيحاً‪ ،‬حيث يح ّ‬
‫الجياع وقطّاع الطرق واألوغاد‪C...‬‬
‫باب فأسرع التاجر إليه‪ ،‬وعاد ليهمس في أذن الضابط‪:‬‬
‫طرق ٌ‬
‫ُ‬
‫يلح بطلبك‪.‬‬
‫ـ ‪:‬أحد رجالك ّ‬
‫انتفض الضابط مسرعاً‪ ،‬ومن فرجة الباب قرأ الخيبة على وجه "الرجل‬
‫المخلّب"‪،‬‬
‫ـ ‪" :‬أنينو" َب ِّشر‪.‬؟‬
‫خمنت َّ‬
‫أن "أوغالن" رآني‪..‬‬ ‫ـ ‪ :‬ارتجفت يدي وقد ّ‬
‫وج َّره إلى الداخل صافقاً الباب بعقبه‪ ،‬وضربه بأخمص‬
‫أمسك بتالبيبه َ‬
‫غدارته على ِّأم رأسه فوقع‪ .‬شخصت األبصار‪ ،‬وأتاه ليفي مهروالً وسأل‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬مات‪.‬؟!‪..‬‬
‫*ـ ‪ :‬أ ِ‬
‫َمتْهُ‪ ..‬قد سهّلت عليك أمره‪.‬‬
‫ـ ‪:‬وهل أُجهز عليه‪.‬؟‪.‬‬
‫َح َسبه‬
‫*ـ ‪ :‬وستجد دمه معتّقاً كخمرتك‪ ،‬فقد تركته مساعداً لكبير الطهاة أمداً‪ .‬أ ْ‬
‫صار مثل هررة المطابخ‪ ،‬عليك به‪.‬‬
‫انحنى التاجر ينبش جيوبه‪.‬‬
‫*ـ ‪ :‬ليفي‪!!..‬‬
‫استقام جفالً يلهث‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هه‪!...‬؟!‪C..‬‬
‫*ـ ‪ :‬أي ٍ‬
‫سم لديك‪.‬؟‬

‫‪- 120 -‬‬


‫ـ ‪ :‬خلطة تستعيذ العقارب منها‪.‬‬
‫دس قنينة السم في جيبه‪ ،‬وحمل التاجر "التلمود" في الصندوق المموه‪ ،‬مؤكداً‬‫َّ‬
‫على الضابط الخروج من باب المتجر‪ ،‬فاألبواب األخرى مرصودة مسحورة‪ ،‬ال‬
‫يدري أحد مؤداها!‪C...‬‬
‫صعد العربة على عجل‪ ،‬آمراً الحوذي أن يسابق الريح والزمن‪ ،‬وخفية‬
‫أعطى العسكري إشارة خفيفة للرجل األثرم‪ ،‬ومضى الموكب ينهب األرض نهبًا‬
‫وكان الجدل محتدماً بين كمال والرجال‪ ،‬وهم يبعدون عنهم تهمة محاولة اغتياله‪،‬‬
‫وكان يطيل الصمت‪ ،‬ال يدحض حججهم‪ ،‬وال يبدي قناعة بها‪ ،‬وهم حيارى أمام‬
‫كسطح ٍ‬
‫مستو‪ ،‬فانبرى له‬ ‫ٍ‬ ‫كالمه القاسي القليل؛ ومالمحه المغلقة على التفسير‬
‫العجوز داود بنزق ولوم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال‪ ..‬أيها الضابط‪ ،‬لم أعهدك خبيثاً أو لئيماً‪ ،‬فتجعلنا نلهث لننال شهادة‬
‫حسن سلوك منك‪ .‬أسفي عليك‪...‬‬
‫َّ‬
‫واحتد ضيف اهلل على غير عادته‪:‬‬
‫بتعنتك ‪ .‬هذا ال يليق بنا‪ ،‬وال نقبله منك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إنك تذلنا ّ‬
‫وأوضح إدريس الحكيم باتزان وحزم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أيها الضابط المحترم‪ ،‬منحناك ثقتنا بأغلبية‪ ،‬ونحن بطبعنا مخلصون‪.‬‬
‫أضاف الوجيه عبد المجيد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نخلص بال تحفّظ‪ ،‬نصادق بشرف ونخاصم بشرف‪ ،‬نحب بصدق وال‬
‫نكره مادام للمحبة فسحة‪ .‬يجب أن تدرك ذلك أيها الفتى‪.‬‬
‫وألقى ضيف اهلل برميته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أخرجنا من دائرة شكك‪ ،‬وابحث عن غريمك في حاشيتك وعسكرك‪ ،‬تنج‬
‫من دوامة الشك‪ .‬نصيحة يا فتى‪ ،‬وإ ال فإن الفاعل في أمان‪ ،‬وقد يصيب منك مقت ً‬
‫ال‬
‫في مرة قادمه‪ ،‬فاحذر‪.‬‬
‫ساد صمت كأن على رؤوسهم الطير‪ ،‬وبرق بصر كمال بريقاً كاشفاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أومباشي‪ C..‬اجمع العسكر أجمعين‪.‬‬
‫***‬
‫ترجلت‪ ،‬دارت بينهم كأنها في حلم‪ ،‬وامتزجت ابتسامتها بضحكاتها‬‫وحين ّ‬
‫بدمعها‪ ،‬امتزاج مطر الربيع بضياء شمسه؛ بطيوف قوس قزح‪ ،‬ثم وقفت أمام‬
‫الجدة نور خاشعة‪ ،‬إجالالً لذكرى أمها‪ ،‬والشاعر نعمان ينشد مرثيتها الملحمية‪،‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫متخطية محنتها إلى فرحتها‪ُّ ،‬‬
‫تحف‬ ‫ّ‬ ‫صعدت مشاعرها فوق تأسيها‪،‬‬ ‫ثم مالبثت أن ّ‬
‫بها صديقتاها "مريومة الكيليكية" و"هوريك األرمينية"‪ ،‬وقد أصرت على‬
‫اصطحابهما حين حررها الفتية‪ ،‬فلقيتا حفاوة ساعدتهما على تباريحهما واأللم‪،‬‬
‫وتولى الحكيم إدريس والجدة نور مداواة صدريهما‪.‬‬
‫***‬
‫أحس‬
‫وحين نزل الضابط عثمان من عربته‪ ،‬وكمال يحقق مع العسكر‪َّ ،‬‬
‫بالعطب‪ ،‬فاستفهم متمكراً كأنه ال يعلم‪ ..!.‬واقترب متلهفاً مخاتالً‪ ،‬ال يفرق عن‬
‫ثعلب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كمال يا بني‪ ،‬أيحدث ذلك لك في غيبتي القصيرة عنك‪..‬؟! لن أغفر لنفسي‬
‫أن‪CC C‬ني تركتك للس‪CC C‬فلة‪ ،‬من ذا ال‪CC C‬ذي تجاسر علي‪CC C‬ك‪.‬؟‪ C.‬لم تجد الحاق‪CC C‬د‪ ،‬أليس ك‪CC C‬ذلك‪.‬؟‪C.‬‬
‫كطفل غرير‪C..!.‬‬‫ٍ‬ ‫طي ٍب‬
‫أرى أنك ما زلت تعاملهم بلطف‪ ..!!..‬يا لك من ّ‬
‫مشى مستعرضاً األنفار عاقداً حاجبيه؛ ضارباً عنق نعله بسوطه‪ ،‬متطلّعاً في‬
‫غدارته‪،‬‬
‫فجر جمجمته بطلقة من ّ‬ ‫الوجوه‪ ،‬وتوقف أمام "أوغالن"‪ C،‬وبلمح البصر ّ‬
‫َّ‬
‫فاستل‬ ‫وتابع هادئاً‪ ،‬وفجأة خطف بندقيةً فأردى صاحبها قتيالً‪ ،‬ومشى خطوات‬
‫عسكري وغمده في بطنه‪ ،‬واقترب من كمال وهو ينفض يديه‪:‬‬‫ٍّ‬ ‫سيف‬
‫ـ ‪ :‬افنهم عن بكرة أبيهم‪ ،‬مادام أحدهم قد تجرأ عليك‪ .‬أنت عندي بكل‬
‫ق إلى خيمته؛ هامس ًا‬‫بحنو‪ .‬ودفعه برف ٍ‬‫العسكر‪ ...‬وضع كفه على كتف كمال ٍّ‬
‫بوجوب تجاوز فورة الغضب‪،‬والتفكير بصفاء ذهن بمن يكون الحاقد‪.‬؟‪ C.‬ولزوم‬
‫توسيع دائرة الشك‪ ،‬فتشمل الجميع بال استثناء‪ ،‬حتى أطفال أولئك األوباش‪ ،‬وإ ال‬
‫فإن الفاعل قد يكون الطياً في زاوية أهملها الظن‪ ،‬ثم ِل َم ال تكون امرأة‪.‬؟‪...‬‬
‫وعند باب خيمته التفت مخاطباً األومباشي‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أبلغهم عن إكرامية مجزية لمن يدلنا على الفاعل‪.‬‬
‫بود وتحبب‪ ،‬قائالً‪:‬‬ ‫ودخل خيمته دافعاً كمال إلى جانبه ٍ‬
‫ـ ‪ :‬اإلكرامية ستغري المتستّر‪ ،‬وهذه أول البداهة‪ .‬ال عليك‪ .‬تعلّم مني‬
‫وأجري على اهلل‪C...!!..‬‬
‫***‬
‫ولما أنهى الشيخ اإلمام عقد قران إبراهيم و"آية" فوجئ الناس ٍ‬
‫بنار تضيء‬
‫يكدسونه‪ ،‬ثم‬
‫كثير قضى والممسوسين وقتاً ّ‬ ‫ٍ‬
‫بحطب ٍ‬ ‫الليل‪ ،‬أضرمها الفتى السِّكيت؛‬
‫ركض حامالً "أبهى" وألقى بها بين يدي نعمان؛ ودفعهما أمامه مشيراً بماسورة‬
‫يعجل الشيخ عقد قرانهما‪ ،‬ولما فعل بمباركة الجدة نور‪ ،‬أطلق في‬‫بندقيته أن ّ‬

‫‪- 122 -‬‬


‫الهواء ما بحوزته من طلقات‪ ،‬ثم رمى البندقية في النار‪.‬‬
‫بهمة‪ ،‬كأنما تخلع عن كاهلها فعالت‬ ‫شدت الجدة نور جذعها‪ ،‬وخطت ّ‬ ‫َّ‬
‫الزمن‪ ،‬متوسطة الساحة‪ ،‬باسطة ذراعيها كجناحي بجعة بيضاء‪ ،‬خرجت لتوها‬
‫بخفة مرات‪ ،‬كفرس تحك‬ ‫من تحت جليد غطى وجه البحيرة‪ .‬حركت قدميها ٍ‬
‫ّ‬
‫ظاهر التربة بقائمتيها فتقشطها‪ ،‬وما زالت تتطلع في الوجوه المهتابة‪ ،‬فمن ذا الذي‬
‫يجسر على مداناتها‪.‬؟‪ .‬أو ليست ممن ُي ْرتَعد لهيبتها الفائضة‪.‬؟‪ .‬لكنها اآلن وادعة‪،‬‬
‫وقلبها عصفور أخضر‪ ،‬وهاهي ذي تتهادى دائرة بهيام‪ ،‬غامزة بحاجبها للعجوز‬
‫ٍ‬
‫كسمندل خرج‬ ‫داود‪ ،‬وماكان ليصدق أن تخصه دون سائر أترابه‪ C.!.‬فانبرى لها‬
‫مشرعاً‬
‫لتوه من نار ورماد‪ ،‬فتحرك شبوباً رشيقاً‪ ،‬ودار على رؤوس أصابعه‪ّ ،‬‬
‫كرخ عظيم؛ يظلل أنثاه‪ ،‬ويحجبها عن العيون البصاصة‪ ،‬فتتبختر على‬ ‫ذراعيه ٍ‬
‫هديها "نور" الخالعة عنها نعت "الجدة" المقترن باسمها منذ أمد‪ ،‬فال تعني لها اآلن‬
‫شيئاً‪ ،‬عاتقة أعماقها من تراكمات الغم؛ وجسدها من عبودية سنوات العمر‪،‬‬
‫محررة قلبها من معتقل عتمة ليله الطويل‪ ،‬كذلك فعل "داود"‪ ،‬فراقصها بسيفين‬
‫راسماً بهما عالمات موحية بفروسية لم يعدمها‪ ،‬وهاهو يرتفع محلّقاً متجاوزاً الغيم‬
‫على حواف قمم جبال يتخيلها‪ ..‬يذهب في أعالي الفضاءات بعيداً‪ ،‬مالمساً‬
‫ق إلى‬ ‫الصبوات‪ ،‬وأعطاف األمس وشرخ الشباب‪ ،‬ثم يتدهدى ويتهادى من حال ٍ‬
‫ق كوقع المطر‬ ‫أكف الحاضرين بتصفي ٍ‬ ‫هذي اللحظة األجمل من الخيال‪ ،‬فالتهبت َّ‬
‫ويخرج من‬ ‫على نبت عطشان‪ ،‬وشعبان يماوج طيات ‪":‬األكورديون " فينطقه ُ‬
‫تضاعيفه أفراساً وفرساناً‪ ،‬تكاثفت طيوفهم في ذينك الراقصين‪ ،‬وهما في نشوة من‬
‫ماضيهما‪ .‬وماكانا عليه قبل عقود‪.‬‬
‫وتتالت الفتيات أسراباً كقطا وحمام‪ ،‬وانتظم الشباب قبالتهن‪ ،‬فأخلى ‪/‬داود‬
‫ونور‪ /‬الساحة‪ ،‬كاتمين لهاثهما ضاحكين‪ ،‬وحين اتخذت الجدة نور مكانها جليلة‪،‬‬
‫تحول الرقص طقساً مفعماً بمحاكاة التجارب‬
‫وجلس العجوز داود بين أترابه‪ّ ،‬‬
‫وخالصتها‪ ،‬والسلم والحرب‪ ،‬واألحالم ودفئها‪ ،‬وطموح المرء وتطلعاته‪ ،‬وتحليق‬
‫الطيور والخيال‪ ،‬وماس الغيم قمم شاهقات الجبال‪ ،‬والنفوس وتساميها فوق المحن‪،‬‬
‫وسفاسف منحدرات الضعف‪ ،‬فتصفو النفس إلهية اإللهام‪ ،‬وتشرئب صعداً‪ ،‬بما‬
‫يشبه تماهي الخيول ووداعة الحمائم البيض وعبق عطر األزاهير‪ ،‬بدا ذلك‬
‫واضحاً بدخول الفتى السِّكيت‪ ،‬مسيطراً على الساحة ببراعة‪ ،‬كأنما ُولد وحبا ونما‬
‫وشب ههنا‪ ،‬وما وضعته أمه إال راقصاً‪ ،‬فطفق يدور ويتفنن قافزاً‪ ،‬يدك األرض‬ ‫َّ‬
‫متبدح الخطوات‪ ،‬بادئاً بسيفين‬
‫دكاً‪ ،‬ويختال سابحاً‪ ،‬خفيف الوطأة‪ ،‬بديع الحركات ّ‬
‫ثم ثالثة‪ ،‬واثقاً مثل حصان‪ ،‬متيقظاً كصقر‪ ،‬متابعاً دونما كلل‪ ،‬وتعاقبت على‬
‫ينقض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مراقصته أمينة وسرب حسان‪ ،‬وما برح كالباشق‪ ،‬ثم كنورس يتهادى ثم‬

‫‪- 123 -‬‬


‫ومثل (طاووس)‪ ،‬وبغتة ينقلب عقاباً‪ ،‬واستخدم اثني عشر سيفاً بفمه وقبضتيه‬
‫ومحجري عينيه وثنيتي ساعديه على عضديه‪ ،‬حتى أخرج الفتيات من الساح‬
‫ولما يزل يتالعب بالسيوف كأجنحة من نار‪ ،‬ولما‬ ‫واحدة إثر األخرى الهثات‪ّ ،‬‬
‫أحس أنه تألّق‪ ،‬جعل الختام مدهشاً‪ ،‬إذ نفض األسياف جميعاً‪ ،‬فأتت منغرزة عند‬ ‫ّ‬
‫أقدامهن‪ ،‬كأنها ُش ّكت دقاً بمطرقة‪ ،‬وانحنى محيياً‪ ،‬منسحباً‪ ،‬مبقياً قلبه يرقص‬
‫كرمى واحدة بعينها‪ ،‬ومضى إلى النهر وغطس‪ .‬انشدهت "مريومة" وبدت‬
‫"هوريك" مبهوتة وقد بهرها الفتى بما فعل‪ ،‬وطفقت قمر تقضم أظفارها عاضة‬
‫شفتها السفلى وهي حيرى‪ ،‬أتبقى بين مثيالتها من النسوة المتفرجات ٍ‬
‫بخفر‪ ،‬أم‬
‫تنخرط في صف العذارى الراقصات‪..‬؟! روحها تأبى ذاك نازعة إلى هذا‪ ،‬وكم‬
‫تمنت لو راقصت الفتى السِّكيت فتتحداه‪ ،‬وماكانت لتتركه حتى يسلّم؛ أو يسقط‬
‫أحدهما في الساحة من إعياء‪ ،‬وأنى لها بمثله جديراً بالتحدي‪ ،‬فتصمد له لتثبت أنها‬
‫امرأة بسبع فتيات جبلن من طين وماء‪ ،‬و ُك ّونت من ورد ونار‪ ،‬مجنون هو‪ ،‬فماذا‬
‫لو تحداها واشترط إن غلبها أال تخرج من الساحة إال بعقد قرانها‪.‬؟ وللحظة‬
‫انشدت إلى تردد صدى صوت الجدة نور‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ـ ‪( :‬وما عيب الفتى السِّكيت‪ ..‬ها‪..‬؟‪C...)..‬‬
‫شيء تطلب وتشترط عليه‪.‬؟‪ C..‬ومامن ٍ‬
‫شيء‬ ‫وماذا إن غلبته‪..‬؟!‪ ..‬أي ٍ‬
‫يكفيها‪ C!!..‬وأدركتها جلنار بـ(األكورديون)‪ C،‬فشرعت تعزف عزفاً كوطيس مشتد‪،‬‬
‫سماوي عذب‪ ،‬وما تلبث أن تمزجهما‪ ،‬فتخلق صخباً‬
‫ٍّ‬ ‫ثم تذيب أناملها في ٍ‬
‫نغم‬
‫آن معاً‪ ،‬والعيون ترمقها بغبطة وعطف‪ ،‬وأمينة تنظر إليها‬ ‫وانسياباً حالماً في ٍ‬
‫ق‪ ،‬مدركةً ما يمور في داخلها من انفعاالت ورغبات كالبرق والرعد‪ ،‬وياله‬ ‫بإشفا ٍ‬
‫متضرمة في‬ ‫ِّ‬ ‫مصطخب ينجزر وينمد؛ بمشاعر منسربة كالضوء‪ ،‬وأنوثة‬ ‫ٍ‬ ‫من ٍ‬
‫بحر‬
‫قدها المسكون حيرة وتضوراً‪ ،‬ودفئاً حميماً‪ ،‬تمتزج ويذوب هذا بتلك‪ ،‬مختلطة‬ ‫ِّ‬
‫كنشوة السكر ومشاعر عظمة الجنون‪.‬‬
‫وحين صاح ديك الجدة نور‪ ،‬انصرفوا إلى مهاجعهم مع خيوط الفجر‪ ،‬وخرج‬
‫الفتى السِّكيت من الماء دانياً من الساحة‪ ،‬والنار جمر ورماد‪ ،‬تمتم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إن هي إال بسمة الجمال في جحيم الخراب‪..!..‬‬
‫ارتواء‪ ،‬وعاد إلى النهر‪ ،‬فرأى‬
‫ً‬ ‫تجول حولها والشمس تستيقظ كامرأة منتعشة‬‫ّ‬
‫وتكور على‬ ‫ٍ‬ ‫قمر تتعرى كرمح ٍ‬
‫نار‪ ،‬ثم تغطس في الماء مثل لهب فانبهر‪ّ ...!!..‬‬ ‫َ‬
‫وخيل إليه أنها‬
‫ّ‬ ‫المستعر‪،‬‬ ‫لهيبه‬ ‫من‬ ‫ت‬ ‫ضج‬
‫ّ‬ ‫الصخرة‬ ‫أن‬ ‫فأحس‬ ‫فاه‪،‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫فاغر‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫صخر‬
‫مثل قمر‪ ،‬ومثل إحدى أساطير "نارت" العبقرية‪ ،‬وأنها تلين وتنتفض‪ ،‬وأنها نشقت‬
‫منه‪ ،‬ولسوف تحبل‪ ،‬ولن تلبث أن تتصدع عن كائن يضاهي خوارق األساطير‪،‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫ٍ‬
‫ولحظتئذ رآها تسبح إلى‬ ‫بتهجده للجمال‪،‬‬
‫متناهي الكمال‪ ،‬إال من رقّة في قلبه ّ‬
‫الضفة األخرى حيث كمال‪ ،‬فََب ُك َم‪ ،‬وما فتئ يتحاشى ضوء القمر‪..!.‬‬
‫***********‬

‫‪- 125 -‬‬


‫‪8‬‬

‫ملل‪ ،‬تاركين أمر‬ ‫مجهول‪ ،‬وغادر رجال الجندرمة على ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قُِّي َد ِت الحادثة َّ‬
‫ضد‬
‫ط ْمئِناً‪ ،‬وكانا قد‬ ‫الحوذي إلى رفيقه ُم ْ‬
‫ُّ‬ ‫ع‬
‫هر َ‬ ‫ٍ‬
‫ساعتئذ ِ‬ ‫دفنهما لراغب بثواب ِ‬
‫قبرهما‪،‬‬
‫الحوذي‬
‫ُّ‬ ‫ق‬
‫وخن َ‬
‫بادراها؛ ثم تعاقب عليها العسكر؛ وعاوداها‪ ،‬ثم َذَب َحها العسكريُّ‪َ ،‬‬
‫صاحبها األثرم‪ ،‬ومالبثا أن اختلفا على ما سلباه من ضحيتهما‪ ،‬فقد طمع كل منهما‬ ‫َ‬
‫بنية‬
‫ّ‬ ‫الحوذي‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫وشك‬ ‫القسمة‪،‬‬ ‫تعجيل‬ ‫في‬ ‫العسكري‬
‫ُّ‬ ‫وماطل‬ ‫حصته‪،‬‬ ‫من‬ ‫بأكثر‬
‫صاحبه‪ ،‬فهدد تهديداً مبطناً‪ ،‬وأبدى اآلخر ال مباالة بما ّلوح به ذاك المأفون؛ من‬
‫تخويف‪ ،‬لكنه لم يركن إلى عدم اهتمامه تماماً؛ فأطلق العنان‬ ‫ٍ‬ ‫خبث ومحاولة‬ ‫ٍ‬
‫لخياله‪ ،‬حابكاً الحادثة بغير ما وقعت‪ ،‬وأنه ربما ذهب بها إلى الضابط عثمان‪،‬‬
‫ب لنجدتها إال أن‬ ‫الحوذي ـ مصادفة ـ يغتصب المرأة؛ فَهَ َّ‬
‫ِّ‬ ‫فيشهد لديه أنه وقف على‬
‫الحوذي إال‬
‫ِّ‬ ‫رجلها سبقه‪ ،‬ظاناً أنها خانته راغبة‪ ،‬وهاج به الدم فذبحها‪ ،‬فما كان من‬
‫أن خنقه وسلبه ماله‪ ،‬ويالها من جريمة شنيعة‪ ..!..‬أما هو فلم يهن عليه أن يرى‬
‫ذلك بأم عينه‪ ،‬فانهال عليه ضرباً‪ ،‬وها هي حفنة النقود التافهة‪ ،‬التي دفعت ضعيف‬
‫النفس هذا إلى القتل‪ ،‬وليس مستبعداً أن يكون مهووساً‪ ،‬وال مندوحة من حماية‬
‫اآلخرين من حمقه وجنونه‪ ،‬وافترقا وكل منهما واغر الصدر‪ ،‬ممتلئين ضغينة‬
‫وحقداً‪ ،‬وزاد حقدهما تأججاً؛ ضنك حاليهما‪ ،‬وقد ُجندا قسراً وسخرةً‪.‬‬
‫***‬
‫ـ ‪ :‬خازوق‪ C..!...‬لم أتوقعه وال في المنام‪...!!..‬‬
‫حمى‬
‫ليصدق ما حدث‪ .‬انتابته ّ‬
‫ّ‬ ‫قال التاجر ذلك وقد حمس القهر قلبه‪ ،‬فلم يكن‬
‫فهذى مستصعباً أنهم غلبوه‪ ،‬وهو ختّار ال ُيجارى ٍ‬
‫بغدر واحتيال‪ ،‬إال أنه كتم‬
‫غيظه‪ ،‬ممتثالً لرجاء "غولدا وأستير" ونصيحة "إبراهام وصموئيل" أن يتكتم على‬
‫السرّية‪ ،‬فهو وإ ياهم محظوظين بانتهاء الكابوس عند‬
‫اقتحام األغراب إحدى بيوته ِّ‬
‫اختطاف فتيات تافهات‪ ،‬وليس ما يفصل بينهم في مخبئهم والدار التي اجتاحها‬

‫‪- 126 -‬‬


‫الغرباء سوى ذاك الجدار‪ ،‬وإ نها أهون الشرور إذا ما قيست بعواقب انكشافهم‬
‫وفساد خططهم‪ .‬وبرغم التياعه أظهر تسليماً وسكينة أمثلين‪ ،‬وأبدى (لنتيفا)‬
‫حدث نفسه‬‫أريحية‪ .‬فسالمتهم أهم عنده من كل ما عداهم‪ ،‬وفي خلوته ّ‬ ‫ّ‬ ‫وصحبها‬
‫بأنهم ـ لحسن حظه ـ أغبياء كعهده بمن على شاكلتهم‪ ،‬فال شيء كان يحول بينهم‬
‫ونساء داره الثانية كافة‪ ،‬وتساءل‪:‬‬
‫والمحير أنهم طلبوا واحدة بعينها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪( :‬فما الذي جعلهم يكتفون بثالث‪..‬؟!‪C..‬‬
‫لوال إصرار ابنة الكلب على اصطحاب "الكيليكية واألرمينية‪..!..."..‬‬
‫ما داللة ذلك‪..‬؟!‪ C‬شيء غامض يبدو لغزاً‪...‬؟!‪ C..‬نعم إنه كذلك‪ ،‬فما هو‪..‬؟!‬
‫وما معنى أن يعرض أحدهم ماالً ألعتق فتاتهم‪..‬؟!‪ ..‬اللعنة‪ ...‬ثالث حسناوات‬
‫خسارة فادحة‪ ،‬تباً لي من جبان‪ .‬رعديد‪ .‬فلوال رضوخي لبأس بعضهم لحصلت‬
‫على تعويض ما‪C.)..‬‬
‫وكان الضابط كمال قد لمس في كالم رئيسه‪ ،‬بعض ما دفعه إلى التفكير‬
‫وإ عادة النظر‪ ،‬إذ بِم ينفعه اهتمامه بمن هم حوله؛ إن قتله أحدهم‪َّ ،‬‬
‫وظل القاتل طليق ًا‬ ‫َ‬
‫من بعده‪ ،‬ال يطاله جزاء؛ أو حتى مالمة؟‪ ..‬وما الذي يفيد القتيل إن فرموا القاتل‬
‫فرماً؛ أو صلبوه وتركوه للجوارح تنهش لحمه‪..‬؟!؟‪...‬‬
‫وطوق رأسه براحتيه مشتت الفكر‪ ،‬منشغل‬ ‫نفض رأسه ودعك عينيه حائراً‪ّ ،‬‬
‫البال ولم يتأكد الضابط عثمان مما فعل كالمه في تفكير بغيضه‪ ،‬بقدر ما تيقّن أنه‬
‫الحمام‪،‬‬
‫القناص "أنينو" وحرقها في بيت نار ّ‬ ‫محا أَثََر اقتناصه‪ ،‬فقد قطّع "ليفي" جثة ّ‬
‫وتخلّص من "أوغالن" فبدا غيوراً على االنضباط وحفظ المقامات‪ ،‬فال يتجرأ نفر‬
‫وحدث نفسه بأن البأس من التصاق التهمة بالفتى السِّكيت‪،‬‬
‫على رئيسه الحقاً‪ّ .‬‬
‫فلمثل هذا اكتنفه‪.‬‬
‫تكبله‬ ‫ٍ‬
‫لشيء سطوة ّ‬ ‫وفي الوقت ذاته‪ ،‬خلص الفتى السِّكيت إلى أنه لن يدع‬
‫توجه إلى نزل‬
‫وتشده إلى ما فات‪ ،‬ولن يهمه شأن كائن من كان‪ ،‬ودون تردد ّ‬ ‫ّ‬
‫حل من التزامه نحوه‪.‬‬‫الوجيه عبد الحميد‪ ،‬وأبلغه أنه في ٍّ‬
‫ـ ‪ :‬ولكني تبنيتك وربيتك يا بني‪C..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬خلف اهلل عليك‪..‬‬
‫كأنه ماسمع صوتاً كان يلبيه قبل‬
‫حلّفه أن يرجع عن قراره‪ ،‬فابتعد وما التفت‪ّ ،‬‬
‫أن يختم العبارة‪ !..‬توقّف لحظات رافعاً هامته‪ ،‬وشهق برأسه شهوقاً طاول‬
‫الفضاء‪ ،‬حيث الصقور والعقبان‪:‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫ـ ‪( :‬إذاً لن أرعوي عن مباشرة ٍ‬
‫أمر استهواني‪C.)..‬‬
‫يدك األرض بخطًا ثابتات‪ ،‬مقترباً من الضابط عثمان‪ ،‬حتى‬‫وتابع سيره ّ‬
‫حظَهُ فابتسم دون أن يلتفت إليه‪ ،‬وتركه يشاركه رصد رتل عربات حطّت‬ ‫حاذاه‪َ ،‬ل َ‬
‫رحلها مابين خيام العسكر وأطراف نزل الناس‪ ،‬والتاجر يستطلع المكان كلّه‬
‫ٍ‬
‫بصخب‪:‬‬ ‫ويرقب درب البلدة بعيون لم تعرف النوم لليل مضى‪ ،‬بينما عامله يعلن‬
‫ـ ‪" :‬با‪..‬زار‪ .‬با‪..‬زار‪..".‬‬
‫سره مغتبطاً‪:‬‬
‫هتف الضابط في ّ‬
‫ـ ‪" :‬عفارم ليفي‪..‬عفارم‪.).!!...‬‬
‫وضع يده على كتف أثيره‪ ،‬وما زال يرقب المشهد‪ ،‬وبعاطفة جياشة وحزم‬
‫همس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قد جئت؛ وال رجعة لك يا فتاي‪ ،‬وقت مناسب وحظك جالس‪.‬‬
‫وعهد إلى األومباشي أن يأخذه إلى الحالق‪ ،‬وأن يتدبر له كسوة تليق بمرافق‬
‫القائد وحارسه الخاص‪ ،‬ثم صرف نظره عنهما‪ ،‬إذ الح على الدرب رهط رهبان‬
‫وراهبات‪ ،‬بأكسية أجاد ليفي اختيارها بقلنسواتها والصلبان اللوامع‪ ،‬ثم تلتهم‬
‫وزهاد‪...‬‬
‫أرهاط زواهد ّ‬
‫مشهد بعث الجذل في نفسه‪ ،‬وهو يرى "الصاعدين" يخطون خطواتهم األولى‬
‫ليكونوا في كنفه‪ ،‬فتزداد حظوته بهذا االعتزاء‪ ،‬وبفتاه مارد القمم الذي سيجيبه‬
‫على الدوام‪:‬‬
‫ـ ("شبيك لبيك‪C.).".‬‬
‫‪ :-‬تمام أفندم‪.‬‬
‫بهذا أعلن األومباشي عن جاهزية الفتى عثمان السِّكيت‪ ،‬فصفّر الضابط‬
‫إعجاباً وصاح‪:‬‬
‫ـ ‪" :‬ما هول‪..!..‬خوش‪..!..‬عفارم‪C.".!..‬‬
‫ثم شكل على عضده رتبة "جاويش" وأمر األومباشي أن يؤدي التحية له‪،‬‬
‫ففعل مخيوالً‪ ،..!..‬وقبل أن ينصرف أعلم رئيسه متلعثماً َّ‬
‫أن "أنينو" مفقود‪ .‬فأمر‬
‫آبه بوجوم األومباشي واللوثة التي‬ ‫يقيدوا حذاء اسمه عبارة "أكله الذئب" غير ٍ‬
‫أن ّ‬
‫ألمت به‪ ،‬ومشيه متصلباً‪ ،‬وقد اخشوشبت ساقاه‪C..!..‬‬
‫َّ‬
‫بطراً‪ ،‬والناس ذاهبون إلى التاجر‪ ،‬وقد نشر البضائع وجعل األقمشة‬ ‫قهقه ِ‬
‫مثل رايات تخفق فتلفت بألوانها األنظار‪ ،‬وفرد الخوابي واألكياس‪ ،‬بينما الموكب‬

‫‪- 128 -‬‬


‫الرنات‪ ،‬وفي المؤخرة‬
‫يقترب‪ ،‬وناقوس يدق‪ ،‬وهم يرطنون بترنيمات عميقة ّ‬
‫ودواب تزحر بما تحمل‪ ،‬وبرغم ذلك فإنها تضاهي افراس الوجهاء‬ ‫ٌ‬ ‫عربات‬
‫ٌ‬
‫والضابطين‪ ،‬فاطمأن التاجر لمرآهم‪ ،‬وانهمك متشاغالً مع المتبضعين القالئل‪ ،‬وما‬
‫فتئ يرنو خلسة نحوجماعته‪ ،‬يتعرف إليهم بحللهم الجديدة واحداً إثر واحد‪ ،‬فذاك‬
‫هيلل وبجانبه صموئيل‪ ،‬وتلك غولدا وجيئوال‪ ،‬وهاتيك أستير‪ ،‬وأولئك يغال ومائير‬
‫وإ براهام ودانين و‪...‬‬
‫وأنصت يسمع تهامس الناس‪ ،‬يدفعهم فضولهم والفراغ الطاحن؛ ليقتربوا‬
‫يتساءلون مثرثرين‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬تراهم مهجَّرين‪..‬؟‪C‬‬
‫فروا من استبداد قيصرهم‪C..!..‬‬ ‫ـ ‪ :‬أو َّأنهم ّ‬
‫ـ ‪ :‬ليسوا من الطينة نفسها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أمصار شتى‪..!..‬‬ ‫ـ ‪:‬كأنهم رعايا قياصرة عديدين؛ من‬
‫ـ ‪ :‬فإلى أين يمضون‪..‬؟‪C‬‬
‫مهوشاً‪:‬‬
‫ورفع التاجر عقيرته ّ‬
‫‪:-‬أيقونات‪ ..‬شموع‪ ..‬مباخر‪.‬‬
‫طفح وجه الضابط حبوراً‪ ،‬لما يجري أمام ناظريه‪ ،‬وبأثيره الضال وقد جاء‬
‫إليه راضخاً كارهاً مشيته‪ ،‬راغباً أن يماشي الضابط‪ ،‬ذئباً كان أم تمساحاً‪ ،‬كما‬
‫سمع عباس الممسوس ينعته كلما رآه‪ ،‬ناعقاً كما الغراب‪:‬‬
‫‪:-‬عثمان‪ C..‬تمساح‪.‬‬
‫تأبط ذراع الشيخ اإلمام جذالً‪ ،‬ال يلوي على ٍ‬
‫شيء‪ ،‬وخلفهما "الجاويش‬
‫رجال يزجون الوقت‪:‬‬‫ٍ‬ ‫لمة‬
‫الجديد"‪ ،‬وقصدوا ّ‬
‫‪:-‬كأنها خرجت من "اسطبالتها" للتو‪.‬‬
‫‪:-‬لعلهم أحسنوا علفها‪ ،‬أو أنها ما كابدت كخيولنا‪.‬‬
‫‪:-‬فمن أين جاؤوا‪.‬؟‪C.‬‬
‫تمتم الضابط ممتعضاً‪:‬‬
‫‪(-‬ابن حرام‪ C.!.‬كأنه يعلم بإبدال دواب الجندرمة هذه‪ ،‬بدوابهم الهزلي‪C.!.‬‬
‫تراه يعرف فرق السعر الذي قبضه ضابط الجندرمة من الحاج أمير‪!.‬؟)‪C.‬‬
‫وحدث نفسه‪:‬‬
‫وازداد مقته لضيف اهلل؛ هذا الخبيث الخبير بأحوال الخيل‪ّ ،‬‬
‫‪- 129 -‬‬
‫جحشنا يا ليفي‪ ،‬فهاهم "الغوييم" كادوا يكشفون ما غفلنا عنه‪ .!.‬كيف‬
‫‪ّ (:-‬‬
‫تغرنك‬
‫فاتني تنبيهك إلى ذلك‪.‬؟‪ .‬صحيح ما أوصيتني به أيتها الخزرية الف ّذة‪ :‬ال ّ‬
‫تجملت‪ ،‬فهي إما فارغة‪ ،‬أو رعناء‪ ،‬لذا أقدحها بزنادك وال تركن‬
‫الرؤوس وإ ن ّ‬
‫إليها‪ ،‬واذكرها فإنها تنسى)‪.‬‬
‫للتعرف والترحيب بالجيران‪ ،‬اعتذر ضيف‬ ‫وقطع عليهم استرسالهم‪ ،‬فدعاهم ّ‬
‫وتذرع داود بأنه مبطون‪ ،‬وتشاغل‬
‫اهلل دون مواربة؛ برغم تبجيله السيدة العذراء‪ّ ،‬‬
‫إدريس الحكيم بمداواة العجوز مبدياً إيمانه بالسيد المسيح‪ ،‬وأبدى الوجيه أعذاراً‬
‫السكيب قد بات خارج‬‫واهية‪ ،‬ولغا لغواً لم يعتده‪ ،‬وال يليق بمقامه‪ ،‬وهو يرى الفتى ّ‬
‫كنفه‪ C،.!.‬وتنطّع الضابط عثمان قائالً‪:‬‬
‫‪:-‬حسبتكم تبادرون لدعوتهم إلى مأدبة‪ ،‬وأنتم الكرماء‪ ،‬أوليس هذا بعض‬
‫واجب المقيم نحو القادم إليه‪.‬؟‪.‬‬
‫نظر الرجال بعضهم إلى بعض‪ ،‬ولم يقدر ضيف اهلل إال أن يقول‪:‬‬
‫تجوعنا عامدا‪ ،‬ثم‪ ..‬ما الذي منعك عن الواجب‬
‫‪:-‬كالمك ال غبار عليه‪ ،‬لولم ّ‬
‫حين قدمنا إليك‪.‬؟‪C.‬‬
‫امتعض ولم يجب‪ ،‬فهذا نهجه حين ُيغلب‪ ،‬فال ُيظهر حرجه‪ ،‬بقدر ما يفعم‬
‫محدثاً الشيخ‬
‫اآلخر بشعور مرارة اإلهمال‪ ،‬ومضى كاتماً حنقه‪ ،‬رافعاً عقيرته‪ّ ،‬‬
‫اإلمام‪ ،‬علّهم يغتاظون‪:‬‬
‫‪:-‬موالنا‪ ..‬هيا بنا ندعهم إلى وليمة تقيمها أنت‪.‬‬
‫جفل الشيخ وقفز كضفدع قائالً‪:‬‬
‫‪:-‬أنا‪ .!.‬لست حمل الـ‪..‬‬
‫‪ :-‬ال عليك‪ .‬مقامك الرفيع نخدمه بما نقدر عليه‪ ،‬وعلى شرفك نقيم أفخم‬
‫مأدبة‪.‬‬
‫وقف ضيف اهلل شاتماً‪ ،‬فنهره الحكيم إدريس‪ ،‬لكنه أكمل‪:‬‬
‫‪:-‬أغضبك ما قلت‪ ،‬ولم تتأثر بما يالوصكم ذاك التمساح العجيب‪.!.‬‬
‫‪ :-‬أهدأ يا رجل‪ .‬فال جدوى‪..‬‬
‫‪ :-‬بل تسكت أيها الخرف‪ ..‬العمى‪ C.!.‬يدعو األغراب إلى والئم ومآدب‪،‬‬
‫ونحن ال نجد الكفاف‪ ،‬فلتبل الكالب على سلطنة يموت فيها الناس جوعاً‪.‬‬
‫‪:-‬احمد ربك يا رجل‪.‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫‪:-‬يبدو أني أخطأت حين طاوعتك يا عبد الحميد‪.‬‬
‫‪:-‬أنادم أنت‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬وأيما ندم‪.!.‬‬
‫‪:-‬أجاد فيما تقول‪.‬؟‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪:-‬نعم‪ ..‬فالموت وال هذا الذل‪.‬‬
‫‪:-‬إذن عد من حيث أتيت‪.‬‬
‫زوادة العيال‪ ،‬فأكون داعراً‬
‫تدبر لي ّ‬
‫‪:-‬هكذا إذا‪.‬؟!‪ .‬قم دلني على الطريق‪ّ ،‬‬
‫إن بقيت قبالتك ساعة من الزمن‪ ،‬هيا دلّني إن كنت تعرف الطريق‪ ،‬أقسم أنكم ال‬
‫تعرفون أين نحن اآلن‪.‬‬
‫قام العجوز داود وتنهّد بحرقة متمتماً‪:‬‬
‫‪:-‬اللعنة عليهم أجمعين‪ ..‬ضيعونا‪ .‬ال تلوموا ضيف اهلل‪ ،‬فالرجل لم يستوعب‬
‫أن يفقد ابنته‪ ،‬قد كانت زينب الجميلة‪ ،‬وردة روحه‪.‬‬
‫‪:-‬هذا لولم نفقد جميعاً أعزاء على قلوبنا‪.‬‬
‫‪:-‬صحيح‪ ..‬لكن المسكينة ماتت ميتة شنيعة‪C.!.‬‬
‫حوقل العجوز وتبع صديقه ضيف اهلل‪ ،‬وبقي اآلخرون في وجوم‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وصل الضابط عثمان في رهط من الرجال‪ ،‬فقد لبى دعوته بعض َم ْن‬
‫صادفهم في الطريق‪:‬‬
‫بإلحاح من موالنا الشيخ اإلمام‪ ،‬أما هؤالء األفاضل‪ ،‬فهم‬
‫ٍ‬ ‫مرحبين‬
‫‪:-‬جئناكم ّ‬
‫رسل قومهم إليكم‪ ،‬وأنا القائد عثمان بك؛ على أبواب نيل "الباشويه" عما قريب‪.‬‬
‫وتم التعارف حسب ما خطط‪( :‬القس‪ C،..‬الكاردينال… المطران…‪،‬‬‫ّ‬
‫البطريرك‪ C،..‬ال ّشماس‪ ،..‬القندلفت…‪ ،‬األب… الخوري…‪ ،‬األم…‪" ،‬والقديسة‬
‫نتيفا"‪ ،‬و…‪C.).‬‬
‫يحدق فيه‪ ،‬فأومأ ألخيه توفيق‪ ،‬وأسرعا آخذين‬
‫أن التاجر ّ‬ ‫انتبه عبد اهلل إلى ّ‬
‫معهما إبراهيم وسليمان‪ ،‬وهرعوا ينذرون صحبهم‪ ،‬واختفوا قبل انكشافهم‪ ،‬في‬
‫حين انشغل التاجر عنهم‪ ،‬فقد خامره الشك بإحداهن‪ ،‬وكاد يتأكد من أنها مملوكته‬
‫"مريومة الكيليكية"‪ ،‬وقد رأى عرجان مشيتها‪ ،‬قبل أن تندس بين جمع ٍ‬
‫نساء‪ ،‬وظ ّل‬
‫وهم أن يناديها‪ ،‬لولم تتحرك النسوة جميعاً مقفيات‬ ‫ٍ‬
‫يرقبها غير تائه عنها‪ّ ،‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫َّ‬
‫يراهن ظُلعاً‪ ،‬فررن فرار دجاجات عرجاوات‪،‬‬ ‫مبتعدات‪ ،‬فأنشده فاغراً فاه‪ ،‬وهو‬
‫تحوم فوقهن‪ ،‬حتى ولجن النزل‪ ،‬وافترقن مختفيات‪.‬‬
‫من حدأة الح لهن ظلّها‪ ،‬وهي ّ‬
‫النخاس‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪:-‬إذاً هو ّ‬
‫أومأت مريومة راجفة مؤ ّكدة أنه هو بالذات‪.‬‬
‫‪:-‬اخلعي ثوبك‪ ،‬هاته‪.‬‬
‫تبادلتا الثياب‪ ،‬وخرجت قمر قاصدة البازار‪ ،‬مصطحبة الصبي حمزة‪،‬‬
‫فصادفت الضابط كماالً‪ ،‬وانقضت لحظات قبل أن يرد تحيتها‪ ،‬فوقفت تنظر إليه‪،‬‬
‫يحدث نفسه‪:‬‬ ‫بينما هو شارد ّ‬
‫‪( :-‬قد يكون عثمان على جانب من ح ٍ‬
‫ق فيما قال‪ ،‬وصحيح أيضاً أنه وغد‬
‫منحط)‪.‬‬
‫اقتربت تناشده‪:‬‬
‫فلنعجل بالرحيل‪ ،‬دعنا نغادر هذا المكان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪:-‬نحن في خطر أيها القائد كمال‪،‬‬
‫السكيت‪ ،‬غامزاً بكمال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الجاويش‬ ‫بينما همس الضابط عثمان ألثيره‬
‫‪:-‬انظر إليه كيف أنه يمشي ببطء‪ ،‬لعله يفكر مثل مشيته‪ ،‬فرأسه مسبوت؛‬
‫شأنه في ذلك شأن قومك البلهاء‪ ،‬انظر‪ ..‬ما للقديسة "نتيفا" تحدق فيك‪.‬؟!‪.‬‬
‫وربت على كتف أثيره رامزاً بشفته‪ ،‬مبتسماً بمكر‪.‬‬
‫*‬ ‫* *‬
‫قالت قمر‪:‬‬
‫‪ :-‬لم تجب أيها القائد كمال‪.‬؟!‪C.‬‬
‫طال تطلعه في وجهها مف ّكراً‪.‬‬
‫المحيرة‪.‬؟!‪C.).‬‬
‫ّ‬ ‫‪( :-‬ألي غاية ترمين أيتها‬
‫‪:-‬كمال‪C.!.‬‬
‫علي النار‪.‬؟‪.‬‬ ‫‪:-‬من ذا الذي أطلق ّ‬
‫شهقت وضربت بكفها على صدرها‪:‬‬
‫‪:-‬تسألني ‪!.‬؟!‪C.‬‬
‫غرز نظراته في عينيها فكاد يطرفهما‪ ،‬وبرغم الوجع الذي هصر روحها‪،‬‬
‫تمالكت نفسها فلم تصفعه‪ ،‬بل مدت يديها‪ ،‬حتى كادت أصابعها تالمس أنفه‪:‬‬
‫وقدمتها إليك مق ّشرة مثل‬
‫‪:-‬لو كنت عرفته النتزعت حنجرته بهاته األظفار‪ّ ،‬‬
‫‪- 132 -‬‬
‫تفاحة‪ ،‬وتسألني يا كمال‪.!!.‬‬
‫موار‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫دفعت حمزة متكئة على كتفه‪ ،‬تخنقها عبرة بكاء مختلطة بغضب ّ‬
‫وابتعدت تظلع‪ ،‬متوقعة أن يوقفها ليتاسف لها؛ أو يسألها عن سبب عرجها‪،‬‬
‫أملتها منه‪ ،‬فسدر‬
‫أمنية صغيرة ّ‬
‫فنغص عليها ّ‬ ‫بحنوه عليها‪ ،‬لكنه لم يفعل‪ّ ،‬‬
‫فيشعرها ّ‬
‫بصرها بغشاوة دمعها‪ ،‬لكنها لم تخطئ وجهتها‪ ،‬فالهدف يلمع في ذهنها دونما‬
‫دكن‪ ،‬كتماحك غيظها وغضبها‬ ‫متتال من استمرار احتكاك ٍ‬
‫غيوم ٍ‬ ‫ق ٍ‬ ‫انقطاع‪ ،‬كبر ٍ‬
‫دنس هوريك ومريومة‪ ،‬وفعل بـ "آيه" ما يشينها‪ .‬ذاك هو‪ .‬دهقان من‬ ‫منه وممن ّ‬
‫النخاس؛ كانز المال‪ ،‬من اتجار‬
‫ببيع وتجارة‪ ،‬مخفياً وجه ّ‬
‫دهاقنة وقته‪ ،‬استتر ٍ‬
‫ستفش به خلقها وغليلها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باألنفس واألجساد‪ ،‬ولكل هذا‬
‫‪:-‬تظلعين يا قمر‪!.‬؟‪C.‬‬
‫‪:-‬ال عليك يا أبي‪ ،‬احتطبت شوكاً‪ ،‬فدخلت واحدة في قدمي‪C.‬‬
‫‪:-‬فجعلت من حمزة عكازاً‪.‬؟‪.‬‬
‫‪:-‬نعم يا عماه‪.‬‬
‫وتركتهما غا ّذةً السير‪ ،‬ترفع الصبي أكثر مما تتوكأ عليه‪.‬‬
‫زوجتها‪.‬‬
‫‪:-‬لو أنك ّ‬
‫كنة لك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪:-‬حسرتي من الدنيا‪ .‬أال تجعلها ّ‬
‫‪:-‬ليت أحد األوالد أكبر منها‪.‬‬
‫حدثتك بذلك‪ ،‬وإ ال جعلتني مسخرة للناس‪.‬‬
‫‪:-‬صحيح‪ .‬هذا صحيح‪ .‬انس أنني ّ‬
‫‪:-‬ما سمعت منك شيئاً ألنساه‪ ،‬اطمئن‪ .‬وإ ذا لم تكن أعين الرجال ُعميت‪،‬‬
‫فسيأتيك من يطلبها‪.‬‬
‫‪:-‬ليست ممن تنتظر من يطلبها‪ ،‬أدركت تماماً أن الجنس ملح كل الرجال‪،‬‬
‫لكنها تروم الحب‪ ،‬الحب بكل زخمه‪ ،‬شفّافة قمر يا ضيف اهلل‪.‬‬
‫‪ :-‬إنها إنسانة حقيقية‪ ،‬قد تتعذب طوال عمرها‪ ،‬قد تنزل قبرها بائسة‪ ،‬لكنها‬
‫إن صادفته صعدت السموات بساللم من ورد‪ ،‬سلني أنا‪.‬‬
‫‪:-‬إيه‪ ..‬يا صديقي‪ ..‬أنا من ُيسأل قبل أن يسأل في هذا البند بالذات‪.‬‬
‫‪:-‬من نكون حين نجد منتهى اللذة في تقليب المواجع‪.‬؟‪ .‬هل تعرف‪.‬؟‪ .‬قل إن‬
‫كنت تعرف‪ .‬قل‪ ..‬أليس ذلك بمستوى أسرار الروح‪.‬‬
‫متمسكاً بذراع صاحبه‪ ،‬كمن‬
‫ّ‬ ‫طفر الدمع من مقلتي العجوز‪ ،‬ناشقاً ما في أنفه‪،‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫شدة‪ ،‬وتابعا سيرهما والعجوز يلهج‪:‬‬
‫وجد مالذاً من ّ‬
‫‪ :-‬ما أخطأنا إذ أسميناك "ضيف اهلل"‪ ،‬يوم نزلت إلينا من الجبال‪.‬‬
‫‪:-‬أتذكر‪.‬؟‪ .‬قلت لكم‪ :‬ليس لي سوى هذا الطلب‪.‬‬
‫‪:-‬وزوجناك روحك‪ .‬أجمل نساء الكون‪ ،‬وسلمناك أفراسنا‪ ،‬وصرت فينا‬
‫أعز منا علينا‪ .‬تستأهل‪ ،‬أصيل أنت‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪:-‬أألنه أسمعهم صوته أسموه شاعراً‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪":-‬من‪.‬؟‪.‬‬
‫‪:-‬نعمان‪ ،‬أشعر أني أعمق منه شاعرية‪.‬‬
‫‪ :-‬وأنا‪ ..‬أشعر أني أملك الدنيا‪.‬‬
‫‪ :-‬كيف‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬بالحب‪.‬‬
‫‪ :-‬أنت صعب‪.!.‬‬
‫‪ :-‬وأنت قريب بعيد‪ ،‬مثل الشعر العظيم‪.‬‬
‫وابتعدا يجامل أحدهما اآلخر‪ ،‬وإ ن كان كل منهما يحرث عميقاً فيما يقول‪،‬‬
‫هم ليقوله‪ ،‬بلعه‬
‫ولما ّ‬
‫اقترب إدريس الحكيم‪ ،‬وفي فمه كالم أطال تأجيل البوح به‪ّ ،‬‬
‫على مضض‪ ،‬ومضى‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ولما وقف على رأس الوجيه عبد الحميد‪ ،‬سأله‪:‬‬
‫‪:-‬أحقاً فعلها ذاك العاق‪ ،‬فخرج عن طوعك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬لتلتة أيها الحكيم‪ ،‬خرط‪.‬‬
‫‪ :-‬هه‪C.!!.‬‬
‫‪ :-‬إياك‪ .‬فحين تشكك ٍ‬
‫بأمر‪ ،‬أنت الوحيد الذي ال يفعل ذلك اعتباطاً‪.‬‬
‫‪ :-‬سأك ّذب عيني إن أقنعتني بسبب مالزمته الضابط‪.‬‬
‫‪ :-‬ال ينقصك ذكاء لتعرف أنه طموح‪.‬‬
‫‪ :-‬لكن وضعه عندك‪ ،‬أفضل من أوضاع العسكر‪ .‬أليس ذاك حالهم‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬كأنك ما سمعت قول الروس‪ :‬الجندي الذي ال يطمح أن يكون جنراالً‪،‬‬
‫جندي خامل‪.‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫‪ :-‬ذلك لو كان جندياً‪ .!.‬ألست وجيهاً‪.‬؟‪ .‬يليق بك أن تكابر‪.!.‬‬
‫‪ :-‬إن لم تجد غير هذه الثرثرة‪ ،‬فاألفضل أن تصمت‪.‬‬
‫‪ :-‬بل لدي‪.‬‬
‫‪ :-‬إذاً أسمعك‪.‬‬
‫‪ :-‬سأعيد األوالد‪.‬‬
‫‪ :-‬وهل حان وقت ذلك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬لن أخجل منك ما دمنا وحدنا‪ .‬األوالد ال يلقون عندي مأكالً وملبساً‬
‫الئقين‪ .‬اختلف الوضع عما كنا عليه‪.‬‬
‫‪ :-‬كالمك ملهوج‪ ،‬فال تخرق التقاليد‪ ،‬وسيصلك مني ما يليق بأن يبقيك في‬
‫أعين الناس كفيل أوالدي‪.‬‬
‫حمال‬
‫بأسى‪ ،‬فنهره الوجيه الئماً بتقريع ّ‬ ‫ضحك إدريس ضحكةً مختزلة‬
‫ً‬
‫وجوه‪:‬‬
‫‪ :-‬كأنك نسيت من تكون‪ C..‬أيها الفارس الحكيم‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬ما نسيت قط‪ ،‬ولن أنسى‪ .‬إنما ضحكت ألنك تنهى عن ٍ‬
‫أمر وتأتيه‪.‬‬
‫‪ :-‬أنا‪ C.!..‬كيف‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬لم يسبق لكفيل أن أخذ مقابل رعايته أوالد علية قومه‪ .‬منذ "حليمة‬
‫السعدية"‪.‬‬
‫‪ :-‬مضطرون‪ ،‬وال تأخذني بواسع معرفتك‪ ،‬واحذر التكلّم في هذا‪ ،‬ريث أن‬
‫نصل إلى حيث يزعمون أننا سنستقر‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وما كان الحاج أمير هيناً‪ ،‬لكنه بهت لجرأتها‪ ،‬واضمح ّل ما خامره من ٍ‬
‫شك‬ ‫ُ‬
‫فيما رآه من عرجها‪ ،‬وما تبديه فيما ترويه‪ ،‬وخشيتها من أن يسمع أحد ما يدور‬
‫بينهما‪ ،‬فهي تفاوضه على ابن زوجها –هذا اليتيم‪ -‬مقابل كسوة وقوت أوالدها‬
‫الخمسة‪ ،‬تيتموا وهم زغب الحواصل‪ ،‬وإ نها ملتاعة‪ ،‬فهو مطيعٌ‪ ،‬لكن الظرف‬
‫قاهر‪ ،‬وهي مقطوعة من شجرة‪ ،‬فإن لم يأخذه‪ ،‬فإن أخوته يموتون جوعاً‪ ،‬فإن‬
‫قبرتهم إثر بعضهم‪ ،‬قتلت نفسها عقبهم‪ ،‬دون أن تؤكلهم بثدييها‪ ،‬وإ نه مدرك‬
‫بشهامته إباء حرة‪.!.‬‬
‫وزن الصبي وتمالّه‪ ،‬متخيالً كيف أنه لو عالجه من دمامله‪ ،‬ونظّفه وداراه‪،‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫ٍ‬
‫لحظات‪ ،‬فوافق وأعطاها ما طلبت‪،‬‬ ‫ثم باعه في سوق استانبول‪ ،‬حسب ذلك خالل‬
‫وإ ن تردد حيال هذا الطلب‪ ،‬وأنقص من صنف آخر‪.‬‬
‫وتودعه للمرة‬
‫استأذنته لتخلو بالصبي فتوصيه على طاعته بما يرضيه‪ّ ،‬‬
‫ربته وإ ن لم تلده‪.‬؟‪.‬‬
‫أمه التي ّ‬
‫األخيرة‪ ،‬أوليست ّ‬
‫ذ ّكرت حمزة بما اتفقا عليه‪ ،‬ثم حملت ما استطاعت‪ ،‬واستعانت بمن ساعدها‪،‬‬
‫ونشجت باكية فراق الصبي‪ ،‬ثم أقفت تظلع في مشيتها‪ ،‬والصبي ٍ‬
‫اله بما وضعته‬
‫في حجره من أطعمة‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫السكيت عند الوجيه‪ ،‬فتركه وقد‬ ‫ٍ‬
‫وخاب رجاء رشاد في الحلول مكان الفتى ّ‬
‫وحرك كوامنه‪:‬‬
‫أغضبه ّ‬
‫‪( :-‬لم تن ّكرت لي يا ولد‪.‬؟‪ .‬ألم آخذك قطعة ٍ‬
‫لحم أحمر؛ من بين الحرائق‬ ‫َ‬
‫دمر عسكر القيصر نصف القرية‪ ،‬وأحرقوا نصفها اآلخر؛‬ ‫ّ‬ ‫وقت‬ ‫عائلتك‪.‬؟‪.‬‬ ‫وجثث‬
‫ومنها بيتكم‪ ،‬فصرت لي بديل الولد‪ ،‬ولم أكن قد خلّفت بعد‪ ،‬ورحت تنمو بيننا‪ ،‬وما‬
‫كنة‬ ‫أمر أخفيناه عنك‪ ،‬لم ِ‬
‫تبد قبوالً بالتي اخترتها لك‪ ،‬ومذ صارت "قمر" ّ‬ ‫من ٍ‬
‫تصرح‪ ،‬حدسي نغزني‪،‬‬ ‫البيت‪ ،‬ما عاد يفرحك أو يحزنك شيء‪ ،‬صرت تسكت ولم ّ‬
‫العدة وبعد انقضائها‪،‬‬
‫برغم أنك ما اقتربت منها‪ ،‬اشهد‪ ،‬وأنك كنت عفيفاً وهي في ّ‬
‫لمحت‪ ،‬وكم كنت سأفرح فال ندعها تغادر‬ ‫وكم تقت وقتذاك لو أنك تكلّمت أو ّ‬
‫البيت‪ ،‬فيكون لي "حفيد" منك‪ .‬جعلتك يدي‪ ،‬سلّمتك خيولي والبقر‪ ،‬وما ظلمتك وإ ن‬
‫كحد السيف‪.‬؟!‪C.‬‬
‫تحرك لسانك أخيراً ّ‬‫ولم ّ‬
‫قسوت أحياناً عليك‪ ،‬فعالم كان سكوتك‪َ ،‬‬
‫وصيرك "شاطراً" إذ صلب عودك‪ ،‬واألوالد مازالوا في حاجة‬ ‫ّ‬ ‫وما الذي دهاك‬
‫اللماح أن الزمن‬
‫الفتوت؛ ولم يقفوا للحياة على أرجلهم بعد‪.‬؟‪ .‬كيف لم تلحظ وأنت ّ‬
‫أوهنني‪ ،‬وأني كليم الفؤاد؛ وحاجتي إليك تشتد‪.‬؟‪ .‬أال ما أكبر فجيعتي بولدي البكر‬
‫وبك‪.).!.‬‬
‫البرية مبتعداً‪ ،‬مفلتاً دمعه ينذرف لتفتّق مواجعه على بكره القتيل‪ ،‬وموت‬
‫ولج ّ‬
‫حز في نفسه حاله‬‫تجبر فلم يره أحد يبكيهما‪ ،‬واآلن ّ‬
‫زوجه األولى كمداً‪ ،‬آنذاك ّ‬
‫وفرت من أعماقه العاتية‪ ،‬هاربة من‬
‫فكسرت همومه قيودها‪ّ ،‬‬ ‫وهذي الغربة‪ّ ،‬‬
‫معتقل أطال حبسها فيه ونبس‪:‬‬
‫‪ :-‬نعم فللطاووس قلب أيضاً‪.‬‬
‫تهيب‪،‬‬
‫وهم بالكالم‪ ،‬لكنه ّ‬
‫ترجل ّ‬
‫واغتنم رشاد األزمة‪ ،‬فأتاه قاطراً حصانه‪ّ ،‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫فظ ّل متنحياً صامتاً‪ ،‬إلى أن سأله الوجيه دون أن ينظر إليه‪:‬‬
‫‪ :-‬ما الذي أتى بك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬الناس في حاجة كبيرهم‪.‬‬
‫‪ :-‬ما الخطب يا رشاد‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬مشاجرة ياسيدي‪.‬‬
‫البرية‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ ّتنبه إلى أصوات الطلقات‪ ،‬تصله خافتة‪ ،‬فأدرك أنه أوغل في ّ‬
‫وتوغل في غور همومه‪ ،‬مسح مقلتيه وعقف شاربيه مستعيداً هيبته‪ ،‬ونظر فرأى‬ ‫ّ‬
‫تكبر مترفعاً وقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك‬ ‫وبرغم‬ ‫النقع‪،‬‬ ‫مثار‬
‫يفضها سيدك رجب؛ أو ابنه سليمان‪ ،‬هيا اذهب إلى أحدهما‪.‬‬
‫‪ :-‬مشاجرة‪ّ .‬‬
‫‪ :-‬هي معركة يا سيدي‪ ،‬التاجر الحاج أمير و…‬
‫امتطى حصانه فعدا هذباً‪ ،‬ولما وصل كان الضابط كمال والوجيه رجب‬
‫والعسكر‪ ،‬قد فصلوا بين الطرفين‪ ،‬وسأل‪:‬‬
‫‪ :-‬ما الذي حدث‪.‬؟‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫كانت قمر قد أخفت الكسوة والقوت‪ ،‬وظلت ترقب التاجر حتى غادر المكان‪،‬‬
‫والزهاد‪ ،‬سمعت استغاثة حمزة‪ ،‬فاستنجدت‬ ‫ٍ‬
‫مقربة من نزل الرهبان ّ‬ ‫وصار على‬
‫منبهةً أهله والفتيان‪ ،‬وفوجئ التاجر بهم‪ ،‬فأشهر سالحه‪ ،‬وتبادلوا إطالق‬
‫بدورها ّ‬
‫النار‪ ،‬ولما رمى الصبي نفسه في حضن امرأة أخرى صائحاً‪:‬‬
‫‪ :-‬أمي‪ ..‬كاد يخطفني‪C.!‍.‬‬
‫عرف أنه خدع‪ ،‬ولن ينفعه ادعاؤه أن أم الصبي قد أبدلته بمتاع وحاجات‪ ،‬أو‬
‫أنها باعته إياه‪ ،‬لكنه عرف عبد اهلل وتوفيق ممن هاجموه‪ ،‬وتأكد من إبراهيم‬
‫هن النساء ال ظالع بينهن‪.‬‬
‫وسليمان‪ ،‬وتيقن من أنه رأى "مريومة الكيليكية"‪ ،‬فتلك ّ‬
‫ليس كابوساً أو مناماً‪ ،‬فأبدا تسليماً‪ ،‬وهمه أن ينفذ بريشه‪ ،‬وقد قطمت هوريك أذنه‬
‫وصفعته صارخة‪:‬‬
‫النخاس‪ ..‬خنزير أنت‪.‬‬
‫‪ :-‬أيها ّ‬
‫ٍ‬
‫لحظتئذ لمحها الضابط عثمان‪ ،‬فأدار وجهه وابتعد متخلياً عن حماية صاحبه‪،‬‬
‫فاألمر فوق أن ينتصر لـه‪ ،‬متذكراً كيف قضم حلمة ثديها‪ ،‬والتجأ التاجر إلى خيمة‬
‫"القندلفت"‪ ،‬وحال الضابط كمال وعسكره‪ ،‬دون وصول أهل الصبي والفتية إلى‬

‫‪- 137 -‬‬


‫وتدخل الوجيه رجب مستقوياً بمرأى الوجيه عبد الحميد يقترب رافعاً‬
‫غريمهم‪ّ ،‬‬
‫ٌّ‬
‫يديه مبسوطتي الكفين‪ ،‬مشيراً إلى وجوب أن يثبت كل في مكانه‪ ،‬ريثما ينجلي‬
‫األمر‪ ،‬ويرى فيه وأنداده رأياً صائباً‪ ،‬برغم أنه ما فتئ منشغل الفكر بمن تكون تلك‬
‫الشرسة التي قطمت أذن الرجل‪.‬؟!‪.‬‬
‫وكانت الجدة نور ترى المحشر مختلطاً‪ ،‬وأن الفاقة والقهر والغربة‪ ،‬جائحات‬
‫وروية‪ ،‬ودفعت ألن يرى المرء في‬ ‫عصفت بالخلق‪ ،‬من غير رجعة إلى فكر ّ‬
‫ق رتع في‬‫حادثة تخصه‪ ،‬أو ال شأن لـه بها‪ ،‬حجة يفش بها خلقه‪ ،‬منفّساً عن ضي ٍ‬
‫الصدر‪ ،‬وهل بينهم من ال تغمر روحه بلوى الغم والكمد‪.‬؟‪ C.‬أليسوا من رأوا‬
‫سنوات جعلت الولدان شيباً‪.‬؟‪ .‬ومنهم من لم يعرف غير موت األحبة والترعيب‪،‬‬
‫وحيثما اتجه واجهته مراعب بددت أنسه‪.!.‬‬
‫‪( :-‬كنا نتنفس الموت مع كل شهيق‪ ،‬ونعرف أن في الموت حصة ٍّ‬
‫لكل منا‪،‬‬
‫وإ ن لم ينلها بعد‪ .‬قد حلمت متمنية أال تكون ميتة شنيعة‪ ،‬تخيفنا شناعته أكثر من‬
‫مخافته‪ .‬وأنا أيضاً أخافني‪ ،‬ليس موتي‪ ،‬إنما موت األحبة‪ ،‬إنهم جعلوا أن تشرق‬
‫حي أمل دونه األماني‪ ،‬وأن تشرق‬‫الشمس على المرء حلماً‪ ،‬وأن تغيب وهو ٌّ‬
‫وتغيب دون أن يفقد حبيباً أعز من معجزه‪C.).!.‬‬
‫وخرج "القندلفت" ساحالً سالح التاجر‪ ،‬ورماه بين أقدام الوجيهين والضابط‪،‬‬
‫متصنعاً صفاء السريرة‪ ،‬وثغره ينم عن بسمة طافحة بدعوة إلى تهدئة األنفس‪ ،‬وما‬
‫إن لمحه ضيف اهلل‪ ،‬حتى ُأخذ‪ ،‬فاقترب مندهشاً‪ ،‬ولما تأكد هتف‪:‬‬
‫‪ :-‬مائير‪C.!!.‬‬
‫ق الرجل واهتز‪ ،‬سدرت عيناه وكاد يقع مغشياً‪ ،‬فاستدركت "القديسة‬ ‫ص ِع َ‬
‫ُ‬
‫نتيفا" متقدمة برصانة وتماسك بالغ‪ ،‬وحولها الرهبان‪ ،‬وخلفهم الزهاد‪ ،‬واألسلحة‬
‫مخفية في األردية‪ ،‬ونبست بما يشبه الهمس‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬فليسا محك الرب إذ أخطأت‪ ،‬والقندلفت يعذرك إن ُشّبه لك‪ ،‬فليس بيننا‬
‫من يحمل االسم الذي نطقت‪.‬‬
‫أمه‪ ،‬فمسحت على رأسه متمتمة أن يشفيه‬
‫ودنت من الصبي حمزة في حضن ّ‬
‫يسوع االبن روح القدس‪ ،‬ثم رنت إلى الضابط والوجيهين ونبست‪:‬‬
‫‪ :-‬األمان أيها األفاضل‪ ،‬فالتاجر يدعى "الحاج أمير" كما علمت‪ ،‬وبذا هو‬
‫أقرب إليكم؛ بل هو منكم‪ ،‬أجرناه ولسنا مع الخطأ‪ ،‬فإن شئتم رفعنا عنه االستجارة‪،‬‬
‫إال إذا جبرتم خواطرنا‪ ،‬فيكون لكم فضل لسنا ننساه في حجنا لمهد اليسوع بيت‬

‫‪- 138 -‬‬


‫لحم‪.‬‬
‫تفعل امرأة ماال يفعله عدة رجال ومعهم بضعة مثلهم في بعض األحايين‪،‬‬
‫ماهيبها في أعين‬
‫فكيف وهي فتّانة‪ ،‬حليت وسامتها بكساء ال يحجبها‪ ،‬بقدر ّ‬
‫مشنفة آذانهم بذياك الرنيم في صوتها‪!.‬؟‪.‬‬
‫الرجال‪ ،‬مخاطبة رشدهم‪ّ ،‬‬
‫فض‬ ‫ٍ‬
‫حماس ألي إجراء‪ ،‬سوى ّ‬ ‫نمت عيون الرجال عن اقتناع مشوب بعدم‬ ‫ّ‬
‫ق‪ ،‬وال مناص من كلمة تحسمه‬ ‫المشكلة عند الحد الذي وصلت إليه‪ ،‬فالموقف ّ ٌ‬
‫ل‬ ‫مع‬
‫وهذا ما أناطته العيون بالوجيه عبد الحميد‪ ،‬فأخذته الحيرة‪ ،‬ثم وجد في الشيخ‬
‫اإلمام مالذاً‪.‬‬
‫‪ :-‬ما فتوى موالنا‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬كلمتان‪ .‬المسامح كريم أوالً‪ ،‬وثانياً‪ :‬إن جنحوا للسلم‪ ،‬وال أزيد‪.‬‬
‫فض االشتباك‪ ،‬وتردد أنه بقدر ما ُهلع أهل الصبي‪ ،‬فقد لحق بالتاجر ما‬ ‫وتم ّ‬
‫ّ‬
‫يكفيه‪ ،‬فهذا بذاك‪.‬‬
‫‪ :-‬ال‪.‬‬
‫صاحتها الجدة نور وسط دهشتهم‪ ،‬واحتماالت ما يكون منها‪ ،‬وهي من نسفت‬
‫توقعاتهم مرة إثر مرة‪ ،‬آتية بما ال يحسبون‪ ،‬فالعيون شاخصة إليها‪ ،‬ولهواتهم‬
‫يبرد‬
‫جفّفها تنفسهم من أفواههم‪ ،‬كأن أنوفهم ضاقت عما يكفي صدورهم من هواء ّ‬
‫لهفهم‪ ،‬وزادتهم شداً إليها بإشارتها لهوريك ومريومة‪ ،‬كي تلبثا حيث هما‪ ،‬مومئة‬
‫مصرة على مداواة التاجر‬
‫ّ‬ ‫شادة لألمر حزامه‪،‬‬
‫للحكيم إدريس أن يتقدم معها‪ّ ،‬‬
‫وتضميد جراحه‪.‬‬
‫‪ :-‬ولكن في البلدة طبيباً أيتها الجليلة‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬وفيها جندرمه أيضاً‪ ،‬وبرغم ذلك األمور مشينة‪ ،‬الظلم بشع وكوابحه‬
‫متردية‪.‬‬
‫ودخلت خيمة القندلفت‪ ،‬آمرةً الحكيم أن يؤدي واجبه‪ ،‬فيخرج الرصاصة من‬
‫يعوض الفتيات الثالث‪ ،‬بما‬
‫ويضمد أذنه‪ ،‬وهددت التاجر بفضائحه‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬ ‫فخذه؛‬
‫يهون عليهن حيفاً ألحقه بهن‪.‬‬
‫ّ‬
‫تدخل الجدة نور‪،‬‬
‫ضاق صدر ضيف اهلل بالمجريات‪ ،‬وأسقط في يده‪ ،‬إثر ّ‬
‫فأخذ صاحبه العجوز‪ ،‬وابتعدا مسايرين النهر منفردين‪.‬‬
‫ألي خرجت الجدة من الخيمة‪ ،‬وأمام المأل وضعت كيس نقود في يد كل‬
‫وبعد ٍّ‬
‫ٍ‬
‫بكيس يخص "آيه"‪ .‬ثم صحبتهما داعية النفضاض ك ّل إلى‬ ‫من الفتاتين‪ ،‬واحتفظت‬

‫‪- 139 -‬‬


‫شأنه‪ ،‬فانشرح صدر قمر‪ ،‬وسارعت توزع الغذاء والكسوة عليهن وعلى‬
‫وخصت حمزة ببعضها‪ ،‬ثم أرسلته إلى‬
‫ّ‬ ‫الممسوسين‪ ،‬غير مؤثرة نفسها بشي ٍء‪،‬‬
‫كمال ليلقاها عند صخرة الشط‪.‬‬
‫وبينما عربات التاجر تغادر نزل الرهبان‪ ،‬ظهر الضابط عثمان وحارسه‬
‫أي من‬
‫بحذر‪ ،‬وحرص أال يزيد ظهوره الطين بلّة‪ ،‬فليس يناسبه أن تتعرف إليه ّ‬ ‫ٍ‬
‫الفتيات‪ ،‬الالتي فتّق عقده معهن‪ ،‬وأذهب حارسه يدعو كبراء الرهبان إلى الوليمة‬
‫المزمعة‪ ،‬فأتيح له االنفراد بـ "القديسة"‪ ،‬فواجهته متعصبة‪:‬‬
‫×‪ :-‬لن نطاعمهم‪.‬‬
‫‪ :-‬ليس وقت التزمت‪.‬‬
‫×‪ :-‬وال مبرر للمعصية‪.‬‬
‫‪ :-‬هو طعامي يقدمه "عوبديا" كبير طهاتي‪.‬‬
‫جندي مخلص وداهية‪.!.‬‬
‫ّ‬ ‫×‪ :-‬هكذا إذاً‪ .!.‬يا لك من‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ :-‬تقتلين مائير بالسم‪.‬‬
‫نبرت‪:‬‬
‫×‪ :-‬بل تقتل ضيف اهلل‪.‬‬
‫همس‪:‬‬
‫ِ‬
‫أتشهاك‪.‬‬ ‫‪:-‬‬
‫نبست‪:‬‬
‫×‪ :-‬تثير شبقي‪.‬‬
‫‪ :-‬إذاً مائير ُيقتل‪.‬‬
‫×‪ :-‬ويقتل اآلخر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعدئذ نلتقي‪.‬‬ ‫‪:-‬‬
‫×‪ :-‬ستجدني متلهّفة‪.‬‬
‫بسر مائير لصديقه العجوز‪ ،‬فهو تاجر الذخيرة في أدويسا‪،‬‬
‫أفضى ضيف اهلل ّ‬
‫لينضم إلى المحفل‪ ،‬مقابل ذخيرة بال ثمن فرفض‪ ،‬وبحث عنها‬
‫ّ‬ ‫وكان قد ساومه‬
‫فجوبه بوجوب حصوله على موافقة مائير‪ ،‬فهو راس شبكة‪ ،‬ما توانت عن‬

‫‪- 140 -‬‬


‫أصر رافضاً‪ ،‬دفّعوه ضعفي الثمن‪ ،‬وأعطوه‬
‫محاوالت إيقاعه بحبائلها‪ ،‬وألنه ّ‬
‫الصفقة األخيرة التي ال تنسى‪ ،‬وهي سبب مقتل ثالثة وأربعين من أشاوسهم‪ ،‬حين‬
‫خرجوا إلغاثة قرية‪ ،‬استباحها عسكر القيصر‪ ،‬فكان بارودهم فحماً مطحوناً‪،‬‬
‫خلبية‪ ،‬وياله من ثمن فادح‪.!.‬‬
‫وطلقاتهم ّ‬
‫*‪ :-‬وكان ذلك سبب لجوئي إليكم‪ .‬بدوت خائناً بين أهلي‪ .‬يا للمرارة‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬أمتأكد منه‪.‬؟‪.‬‬
‫*‪:-‬ألم َتر أنه أشرم‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬بلى‪.‬‬
‫من شرم أنفه‪.‬‬
‫*‪ :-‬فأنا َ‬
‫‪ :-‬كيف‪.‬؟!‪C.‬‬
‫تنس أنك األوحد الذي ساررته‪،‬‬
‫*‪:-‬دع الحكاية إلى وقت آخر‪ ،‬وال َ‬
‫بما لم أبح به لغيرك‪.‬‬
‫‪ :-‬وِل َم ظلمت نفسك‪.‬؟!‪C.‬‬
‫يصدق‪.‬‬
‫ألحد أن ّ‬‫*‪:-‬ما كان ٍ‬
‫‪ :-‬واآلن‪ ..‬ما تراك فاعالً‪.‬؟‪C.‬‬
‫*‪:-‬األمر مريب يا صاحبي ومعقّد‪.‬‬
‫‪ :-‬إذاً‪ ..‬ليتك تنسى‪.‬‬
‫*‪ :-‬ولكنه "مائير" المجرم‪ ،‬وأنا متأكد‪.!.‬‬
‫‪ :-‬تحفظ‪ ،‬فقد اقتربنا من الناس‪ ،‬ولنتحرز‪.‬‬
‫واقترب الوجيهان من الجدة نور‪ ،‬فسألها عبد الحميد عن الفتاتين‪ ،‬فأجابت‪:‬‬
‫‪ :-‬ابنتاي يا عبد الحميد‪.‬‬
‫‪ :-‬لكنهما‪..‬‬
‫قاطعته بال هوادة‪:‬‬
‫سمعت ما قلت فاحذر‪ .‬وإ ني ألتمس بهما حسنة‪ ،‬تذهب سيئة أن يكون‬
‫َ‬ ‫‪ :-‬قد‬
‫بطني قد حمل صاحبك العاق هذا‪ .‬هيا‪ ..‬خذه وابتعدا في الحال‪.‬‬
‫* * *‬
‫متفرساً بملء عينيه وجهها‪ ،‬لكأنه لم‬
‫وجلس كمال قبالتها تحت الصخرة‪ّ ،‬‬
‫‪- 141 -‬‬
‫يحفظ قسماته‪ .!.‬إنه يقرأ في كتاب ٍ‬
‫سحر وأحجيات‪ ،‬وأذهلته جرأتها‪ ،‬وشدهه‬
‫متفردة‪C،.!.‬‬ ‫ٍ‬
‫تدبيرها المحكم‪ ،‬وأكبر حصانة قلبها من خوف وخشية‪ .!.‬ويالها من ّ‬
‫لو قرأ عن مثلها ألعظم خيال الكاتب‪ ،‬غير أنها حقيقية‪ ،‬هي ذي أمامه ٍ‬
‫كسر‬
‫اكتشفه‪ .!.‬أربكته خواطره فتساءل إن كانت هي التي يمكن أن يركن إليها‪.‬؟‪ .‬وفي‬
‫كنتها‪.‬‬
‫أمه‪ ،‬معلنة رغبتها بأن تكون "رقوش" ّ‬
‫دوخته صورة ّ‬‫اللحظة ذاتها ّ‬
‫يبت في أمر قلبها‪ ،‬أو يعلن شح وجيب قلبه نحوها‪ ،‬فلم يجد‬
‫سألته عيناها أن ّ‬
‫أمور اختلطت في‬
‫بداً من التسويف‪ ،‬موحياً بالتمهّل ريث أن يصلوا حلب فثمة ٌ‬
‫ذهنه‪ ،‬ال يريد أن يشركها في خوفه منها‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪ :-‬كمال‪ ..‬أبي لن يخلد‪ ،‬فأبقى بال أحد‪.!.‬‬
‫ومضت خائضة في النهر‪ ،‬علّه يغسل نفسها من زوبعة تأبى االستسالم لها‪،‬‬
‫ثم غطست ناظرة إلى السماء من تحت الماء‪ ،‬متصفّحة كم هي نقية‪.!.‬‬
‫ضيق ضيف اهلل على القندلفت طوال‬‫وانصرف الكبراء عقب الوليمة‪ ،‬وقد ّ‬
‫تحدث‬
‫الوقت‪ ،‬فلم يجد معه فتيالً‪ ،‬تجاهل وتشاغل ونكر‪ ،‬ثم زاغ وراوغ ومكر‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫كجرس بال‬ ‫ومازح وتضاحك‪ ،‬وهو منخلع القلب‪ ،‬يغرقه في ٍيم عميق‪ ،‬فيجعله‬
‫رنين‪:‬‬
‫ثراء ال يتخيله جمعكم هذا‪،‬‬
‫ثري ً‬‫‪( :-‬إنني هو… واآلن "القندلفت"‪ ،‬وإ ني ٌّ‬
‫جنيت من دمائكم ودماء جند القيصر ذهباً‪ ،‬وإ ني في طريقي إلى غسل أدراني‪ ،‬ثم‬
‫فأتزعم‪ ،‬فأكون قارون زماني‬
‫ّ‬ ‫أنبثق من جديد‪ ،‬فال تعرفني سوى أمي‪ ،‬أتملّك‬
‫يصدقك أحد)‪.‬‬
‫بتلع نخامةً تعرفها عني‪ ،‬فلن ّ‬
‫بجبروت يشوع بن نون‪ ،‬فا ْ‬
‫وأمضى العجوز داود ليله مشوشاً‪ ،‬إلصرار ضيف اهلل وتأكيده‪ ،‬وصارعت‬
‫قمر سهادها‪ ،‬كأنها ليلة ال تنقضي‪ ،‬تف ّكر بالعجوز والدها‪ ،‬وبذاك الذي اختاره‬
‫ويتمنع‪ ،‬كأنه ال يدرك أن لحظات ٍ‬
‫حب معه‪ ،‬دونها الرجال أجمعهم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫قلبها‪،‬‬
‫‪( :-‬فيا إله الخلق وفيهم المحبون‪ِ ،‬ل َم ابتليتني بهذا االمتحان‪.‬؟‪.).‬‬
‫وقبيل انزياح جهمة آخر الليل‪ ،‬خرج عثمان من خيمة "نتيفا" حذراً‪ ،‬ومع‬
‫شروق الشمس‪ ،‬ذهب إلى التاجر‪ ،‬لغايتين ليس يبوح بهما أمام ذاته‪ ،‬مراوغاً أن‬
‫يغطي إحداهما باألخرى‪ ،‬فالوديعة أوالً‪ ،‬ثم االطمئنان على صحة هذا الذي جعله‬
‫مخبأ ثرو ٍة‪ ،‬ما فتئ يهيل عليها لتصبح تلّة‪ ،‬كذلك ليقف على حذافير خبر الفتيات‬
‫الشهيات الثالث‪ ،‬وخدعة اآلفة الشنيعة "قمر" المشتهاة‪ .‬غير أنه من حرصه خبأ‬
‫سر ابتعاده عن المكان‪ ،‬في هذا الوقت‪.‬‬
‫حتى على نفسه‪ّ ،‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫وحين عاد كان هؤالء قد دفنوا "ضيف اهلل"‪ ،‬ودفن أولئك "القندلفت"‪ ،‬فاحتجب‬
‫عن العيون‪ ،‬معتزالً ال يتكلم‪ ،‬يأكل بنهم‪ ،‬يشرد فال يرتد‪ ،‬يعايش الوقائع كما‬
‫يتصورها‪ ،‬فال تظهر ألحد‪ ،‬يجول ويصول‪ ،‬يشير بيديه‪ ،‬ويغمز بعينه‪ ،‬ويمطّ‬
‫ويقلّص شفتيه‪ ،‬ثم يتجهّم ويبتسم‪ ،‬مطمئناً إلى األمور التي يراها أولئك غاية في‬
‫السو ِء‪ ،‬إنما تسير –حسب زعمه‪ -‬على خير ما يروم‪ ،‬ولينفلق "كمال وأوباشه"‪،‬‬
‫فهم لم يعرفوا كل المرائر‪ ،‬فاألدهى إن لم يخذله دهاؤه‪ ،‬مازال في اآلتي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسافة‬ ‫وما لبثت القافلة أن استأنفت مسيرها‪ ،‬يتقدمها الضابط كمال‪ ،‬وعلى‬
‫تحرك موكب الضابط عثمان بأبهة‬‫تبعتها قافلة "القديسة" نتيفا‪ ،‬وفي البعد بينهما ّ‬
‫آن‪ ،‬يرقب تلك القافلة ٍ‬
‫بعين‪ ،‬راصداً األخرى بعينه‬ ‫دون سلطة‪ ،‬وادعاً يقظاً في ٍ‬
‫الثانية‪.!.‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫‪9‬‬

‫شيء بصاحبه‪ ،‬كأنه يحتمي من‬ ‫وتفيأ ظل كل ٍ‬ ‫وطئت الشمس سنام السماء‪ّ ،‬‬
‫هجيرها به‪ C،.!.‬فانكمشت األنفس وفتر نشاطها‪ ،‬كذبول شتالت خضر الصيف قبيل‬
‫وسواها بتلك المتشائمة‪،‬‬
‫غرسها‪ ،‬فكشط اإلرهاق ج ّل ما اختزنته قلوب المتفائلين‪ّ ،‬‬
‫وتذكروا وقوع "الشيخ شامل" في األسر‪ ،‬ومن ثم نفيه‪ ،‬وإ ن تركوا له اختيار منفاه‪،‬‬
‫فألنهم يريدون إبعاده كيفما اتفق‪ ،‬فاختار الحجاز لبقية حياته‪ ،‬وتذكروا ما كان من‬
‫ووجهوها إلى النحور‪ ،‬يقتلونهم‬
‫الحاج مراد‪ ،‬وكيف ُسلطت السيوف على الرقاب‪ّ ،‬‬
‫ويدفعونهم ليقتتلوا ويقاتلوا عنهم هناك في اآلفاق البعيدة‪ ،‬فيذهبون وال يعودون‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وصوب‪ ،‬يحلّونهم بدالء في األرض‬ ‫فيستقدمون حلفاء لهم ومرتزقة من كل ٍ‬
‫حدب‬
‫والبيوت‪.‬‬
‫ص ‪C C C C‬نوا بما اعتق‪CC C C C‬دوا‪ ،‬فال ينفذ إلى بي‪CC C C C‬اض‬
‫س‪CC C C C‬آمة ما س‪CC C C C‬لم منها إال ال‪CC C C C‬ذين تح ّ‬
‫ص ‪CC‬دورهم س ‪CC‬واد ما يلقون ‪CC‬ه‪ ،‬وه ‪CC‬اهم س ‪CC‬لكوا ه ‪CC‬ذا الس ‪CC‬راط بال ب ‪CC‬ديل‪ ،‬فليس من س ‪CC‬بيل‬
‫سواه‪ ،‬وما من خيار‪ ،‬وبرغم ذلك ال يتركونهم بأمان‪.!.‬‬
‫أما تبعثر الخلق في شتى االتجاهات على مدى الطريق‪ ،‬جعل األذهان تفطن‬
‫إلى كثرة تستجير من الرمضاء بالنار‪ ،‬وتنشغل فوق همومها بالذي وراء هذا‬
‫الفرار الكبير‪ ،‬فإلى أين هم ماضون‪.‬؟!‪ C.‬أئلى خطب‪ ،‬أذهب أوالء‬
‫أشتاتاً‪.‬؟!‪C.‬‬
‫متسولين وشحاذين ملحين‪ ،‬يسألون بلجاجة ويستجدون‪ ،‬وآخرون يعرضون‬
‫ما تبقى لهم‪ ،‬يقايضونه بلقيمات‪ ،‬وثمة خيام عليها بيارق حمر‪ ،‬يلجها خلسة من‬
‫ويؤمها العسكر بحرمانهم تحت جنح الليل‪.!.‬‬
‫يرغب؛ ّ‬
‫تسربت العتمة إلى نفس الضابط كمال‪ ،‬وفي الحين ذاته تك ّشف له ما يلفّع بلده‬ ‫ّ‬
‫وناسه‪ ،‬فقد تناهى إليه أنهم قالوا‪:‬‬

‫‪- 144 -‬‬


‫‪ :-‬حلب‪ C.!.‬يا لنبئها الفظيع‪.!!.‬‬
‫فر منها‬
‫أي متعسة ّ‬
‫المتسولين‪ ،‬فأدركوا ّ‬
‫ّ‬ ‫المتأملين أحوال‬
‫ّ‬ ‫ولمس بعض‬
‫المساكين‪ ،‬وهم إليها يمضون‪ .!!.‬يا للمسخرة‪.!.‬‬
‫وما نال السائلون ما ابتغوا‪ ،‬بقدر ما نكأتهم جالفة العسكر‪ ،‬يبعدونهم رفساً‪،‬‬
‫وبأعقاب البنادق شاتمين‪:‬‬
‫ت"‪.‬‬
‫‪" :-‬بيس ميلّ ْ‬
‫بأسى‪:‬‬ ‫وحوقل بعضهم‬
‫ً‬
‫‪ :-‬الموتى ال يشيلون أمواتاً‪.‬‬
‫األمر‬
‫المر إال ّ‬‫‪ :-‬ال يدفع إلى ّ‬
‫قالت قمر‪:‬‬
‫‪ :-‬يا حسرتي‪ ..‬كالم ضعفاء‪ ،‬وتعلل من ال يملك قوت يومه‪.‬‬
‫وأبدت دون مواربة‪ ،‬أنها عاجزة عن اإلتيان بنافعة‪ ،‬فاألمر أكبر من أن‬
‫أي منهم‪ ،‬فكال القسمين ال يسد رمقاً‪.‬‬
‫تقتسم رغيفاً بينها وبين ٍّ‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وما كانت حكاية "سدوم" لتردع "هيلل ويغال"‪ ،‬وال بؤس الناس من حولهما‬
‫منع "جيئوال وغولدا" عن فعل الشذوذ‪ ،‬كما لم يحل كرب البشر والموت بينهم‪،‬‬
‫دون تمتّع "أستير ونتيفا" بالضابط عثمان‪ ،‬تتناوبان عليه‪ ،‬أو يستمتع بهما في ٍ‬
‫آن‬
‫معاً‪ ،‬وفي بعض الليالي يختلي مع "هدسه" فيشبع ولعه بصدرها العظيم‪.!.‬‬
‫وانعزلت قمر بعض الوقت‪ ،‬وراحت تنظر فيما ائتمنها عليه كمال‪ ،‬مقلبة‬
‫صفحات ذاك الكتاب‪ ،‬وقرأت‪:‬‬
‫ليجز‬
‫‪ …( :-‬وأخبرت "تامار" وقيل لها‪ :‬هوذا "حموك" صاعد إلى "تمنة" ّ‬
‫ببرقع وتلففت وجلست في مدخل‬
‫ٍ‬ ‫ترملها‪ ،‬وتغطت‬
‫غنمة‪ ،‬فخلعت عنها ثياب ّ‬
‫"عينايم" التي على طريق "تمنة"‪ ،‬ألنها رأت أن "شيله" شقيق زوجيها األخوين‬
‫ترملت عنهما؛ قد كبر‪ ،‬وهي لم تُ ْعط له زوجة‪ ،‬فنظرها "يهوذا" وحسبها‬
‫اللذين ّ‬
‫كنته‪ ،‬فقالت‪ :‬ماذا‬
‫زانية‪ ،‬فمال إليها وقال‪ :‬هاكي أدخل عليك‪ ،‬ألنه لم يعرف أنها ّ‬
‫تعطيني لكي تدخل علي‪ ،‬فقال‪ :‬إني أرسل جدي معزى من الغنم‪ ،‬فقالت‪ :‬هل‬
‫تعطيني رهناً حتى ترسله‪ ،‬فقال‪ :‬ما الرهن الذي أعطيك‪ .‬فقالت‪ :‬خاتمك‬
‫وعصابتك وعصاك التي في يدك‪ ،‬فأعطاها ودخل عليها‪ ،‬فحبلت منه‪ ،‬ومضت‬

‫‪- 145 -‬‬


‫ترملها‪ ،‬وفي وقت والدتها‪ ،‬إذ في بطنها توأمان وضعتهما فكانا‬
‫ولبست ثياب ّ‬
‫"فارص" واآلخر "زارح"…)‪.‬‬
‫‪( :-‬ماهذا يا قمر‪ .!.‬أال تخجلين‪.‬؟‪ C.‬وِل َم الخجل‪.‬؟!‪ C.‬إنما تقرئين وتعرفين…‬
‫ويالك من أفّاك نجس يا عثمان‪ C.!.‬أية أفعى في رأسك‪ ،‬وأي أقنعة تستر بها حقيقة‬
‫وجهك‪.‬؟‪ C.‬مخيف أنت؛ ال يؤمن جانبك‪ .‬أال ما أشبهك باألفعوان‪ ،‬يبقى السم في‬
‫رأسه‪ ،‬وإ ن هدأ إلى حين‪ .‬فنحذرك مهما أظهرت من نعومة‪ ،‬ومهما كانت سلطتك‪،‬‬
‫فإنا نصبر عليك‪ ،‬وال نثق بك‪).‬‬
‫وأخذتها كثرة القبور المتناثرة على حافتي الطريق‪ ،‬والكواسر والجوارح تمأل‬
‫الفضاء‪ ،‬وتحجب خط األفق المديد‪ ،‬وروائح أجياف تفسد الهواء زاكمة األنوف‪ ،‬ثم‬
‫انشغلت عن نفسها بحال صديقها الصبي‪ ،‬فهو لم يبك لكنه كبت‪ ،‬ووحده حمزة‬
‫الصبي لم يقنع‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫الجبار ضيف اهلل‪ ،‬دون مقدمات‪.!.‬‬
‫‪ :-‬إنه ال يصدق أن يموت ّ‬
‫وقالوا‪:‬‬
‫‪ :-‬ألنه ما أدرك بعد جبروت الموت‪.‬‬
‫ولم يخرجه من وجومه حنان أمه وعطف إخوته‪ ،‬فاألمر في رأسه كالنجم‬
‫يحس بتوفيق وما يكمن في نظراته الكتومة‪ ،‬وليس فيها ذاك التسليم‪،‬‬‫الطارق‪ .‬كان ّ‬
‫أمه وأخيه عبد اهلل‪ ،‬فكان يلجأ إليه في سمره وأصالن‪ ،‬وكثيراً ما‬
‫كما في عيون ّ‬
‫ساهرهما‪ ،‬وقضى الليالي ساهداً في حضن توفيق‪ ،‬يسمع وجيب قلبه‪ ،‬وكم داهمه‬
‫فيهم أن يطلقه‪ ،‬لعله يلقى إجابة تذهب عذابه‪ ،‬أو تؤكد هويسه‪،‬‬
‫السؤال الكبير‪ّ ،‬‬
‫يتخبط في‬
‫وتجلو الشك باليقين‪ ،‬وكان يخاف التأكد مما وسوست به نفسه‪ ،‬وما ّ‬
‫أحب‬
‫وسر معاناته أنه ّ‬‫رأسه الصغير‪ ،‬حتى إذا ما غلبه النعاس‪ ،‬نام وهو مهموم‪ّ ،‬‬
‫أباه‪ ،‬وش ّذ عن تعلّق الصغار بأمهاتهم‪ ،‬واجداً بأبيه خير متراس‪ ،‬فسيرة حياته فوق‬
‫المألوفة أضرمت خياله‪ ،‬وعلّقته بسير أبطال األساطير‪ ،‬وما م ّل سماعها‪ ،‬حتى‬
‫أضحى "سوسروقه" الخارق مثله األعلى‪ C،‬ذاك الالمحدود‪ ،‬ابن "ستناي" من نطفة‬
‫حدثه أصالن‪،‬‬ ‫تصدعت عن كائن ال مثيل له‪ ،‬ربما إال آخيل‪ ،‬كما ّ‬
‫على صخرة‪ّ ،‬‬
‫تأسف لنقطة ضعفه في ركبتيه‪ ،‬كما آلخيل نقطة ضعف في كعبيه‪ ،‬وظل‬ ‫وكم ّ‬
‫السؤال يشغل باله‪:‬‬
‫‪:-‬أيهما السلف الفعلي‪.‬؟‪ .‬وهل المصادفة وحدها جعلتهما متشابهين‪.‬؟‪.‬‬
‫كانت غصته بموت أبيه مؤثرة‪ ،‬فلجمته عن البوح بما يفكر به؛ وزادته‬

‫‪- 146 -‬‬


‫انشداداً إلى َم ْن هم أكبر منه‪ ،‬فهو لم يعش طفولته كأترابه‪ ،‬فعانى من غربته بينهم‪،‬‬
‫يتهمونه بالتعالي‪ ،‬وينعتونه بما ال يفهمه‪ ،‬وفي قراره نفسه لم يكن ذلك يزعجه‪،‬‬
‫يقر به‬
‫أمه "ستناي"‪ ،‬ففي ذلك ما ّ‬‫اعتد باسم ّ‬
‫تخيل نفسه بازاً‪ ،‬وكم ّ‬ ‫ولعله كعصفور ّ‬
‫يحسوا بخوالجه‪ ،‬ووعيه أموراً ال يدركونها‪،‬‬‫من بطله المثل‪ ،‬وأنى ألترابه أن ّ‬
‫دربه أبوه؛ ومن ثم أصالن‪ ،‬هذا النزق إال‬ ‫وليس فيهم من يجيد ركوب الخيل كما ّ‬
‫في معاملته لألطفال‪ ،‬يجذبهم إليه بصرامته المحببة‪ ،‬يخاطبهم كما لو كانوا رجاالً‪،‬‬
‫ٍ‬
‫لخدوش أحدثتها الظروف‪.‬‬ ‫تعرض‬ ‫يعوض فيهم النقص‪ ،‬ويرمم في قلوبهم‪ ،‬ما ّ‬ ‫ّ‬
‫يعرف متى يزجرهم‪ ،‬ومتى يبدي رضاه‪ ،‬لكنه ال يزيد‪ ،‬وال يطلق مديحاً فضفاضاً‪،‬‬
‫راض عما أنجزوه‪ ،‬ولعله حفر في أذهانهم ثوابت‬ ‫ٍ‬ ‫إذ يكفي أن يعرفوا أنه‬
‫الموروث‪ ،‬وعلّمهم الكثير‪ .‬إال الصبي حمزه‪ ،‬فقد جعله في مكانة لم يخص بها‬
‫سواه‪ ،‬ال حاجزاً بينهما‪ ،‬وال موعداً للقائهما‪ ،‬يراه بمكانة االبن الذي طالما تمناه‪.‬‬
‫نغصه تعلّق قمر بكمال‪ ،‬كاد غير مرة أن يشي بها‪ ،‬فيردعه نفوره‬ ‫أصالن الذي ّ‬
‫من الدنايا والوصاية‪ ،‬والعه انتهاء آية إلى إبراهيم‪ ،‬ولم يحسد قط نعمان وأبهى‬
‫مغبة بقائه دون أليفة تؤرقه‪ ،‬فهو أكبر العزاب‪ ،‬ألهته‬ ‫بقدر ما غبطهما‪ ،‬وما تلبث ّ‬
‫عن عمره غيريته‪ ،‬وفقره ن ّكد عيشه‪ ،‬فهل للفقر أن يلجم قلبه عما فُطرت عليه‬
‫القلوب‪.‬؟‪ .‬أليس من حقه أن تكون ثمة أنثى مالذه‪.‬؟‪ .‬علق جموح قمر في تفكيره‪،‬‬
‫التفرد‪ .‬لكن‬‫الميال نحو ّ‬‫يحس أنها األسرع إلى خياله ساعة الصفا‪ ،‬هو الجانح ّ‬ ‫وهو ّ‬
‫وتبدت له أمينة باتزانها ودماثتها‪ ،‬وجلنار‬
‫كماالً اقتلعها من باله وتركه كاسفاً‪ّ ،‬‬
‫بتبرجها المغري‪ ،‬وفاطمة الشجية‬ ‫بتهتكها‪ ،‬وألفت الفارعة وتعفرتها‪ ،‬وجلبهار ّ‬
‫على الدوام‪ ،‬و…‬
‫‪ …( :-‬إيه أيها الكهل الشبوب‪ .‬نسيت فؤادك ردحاً فلم يعشق‪ ،‬وشغلت‬
‫فتى‪.‬؟‪ C.‬وتعمى بصيرتك إن التفتوا إليك‪ ،‬غررتك‬ ‫بقومك أن قالوا في الملمات‪ :‬من ً‬
‫المدحة‪ ،‬فتذهب وأنت يقن من أنك قد ال تعود‪ .‬وها قد ذهب من عمرك أنضره‪.‬‬
‫أمروءة هذه أم حمق‪.‬؟‪ C.‬وإ جابتك دائماً أنك هكذا ُخلقت‪.).‬‬
‫خطر لـه أن يقصد الجدة نور‪ ،‬ولكن… أيطلب مريومة الظالع‪.‬؟‪ .‬أم هوريك‬
‫األليفة‪.‬؟‪ .‬برغم أنه الحظ من مريومة توددها‪ ،‬وسمع تلميحاً من آيه بأن عين‬
‫البنية عليه‪ ،‬ونفسها تهفو إليه‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪( :-‬إذاً مريومة يا أصالن‪ .‬ولكنها… تباً لحظي‪ !.‬أما هوريك فمثل عود‬
‫الخيزران‪ ،‬وفي عينيها بريق وزرقة بحر عميق‪ .‬إذاً هي‪ ،‬بيد أنها… تباً لحظي‬
‫مرة أخرى‪ .!.‬ولكن‪ C..‬ال بأس إن سألت الشيخ اإلمام‪ ،‬عساه يحلّها لي‪ .‬إليه في‬

‫‪- 147 -‬‬


‫الحال)‪ .‬ثم ثناه البلبال‪ ،‬فتريث متسائالً‪:‬‬
‫‪( :-‬المرأة أم اللقمة أوالً يا هذا‪.‬؟‪.).‬‬

‫فترت همته؛ وإ ن لم تهدأ نفسه العاصفة‪ .‬تمنى لو يصبح "جاويشاً" مثل الفتى‬
‫السكيت‪ ،‬فإلى أي من الضابطين يذهب‪.‬؟‪ .‬أئلى عثمان‪ ،‬وقد ينفر منه الناس‪.‬؟!‪ .‬أم‬ ‫ّ‬
‫ويدق الضابط التمساح عنقيهما‪C.!.‬‬
‫ّ‬ ‫إلى كمال‪.‬؟‪ C.‬وقد يعلو معه؛ أو يهلكان‬
‫أي منهما‪C.!.‬‬
‫‪( :-‬بئس هذا وذاك‪ ،‬فلن تبقى "أصالن" يا أصالن إن رحت إلى ٍّ‬
‫صياد أنت‪ ،‬وما حويت كلباً سلوقياً أبداً‪C.).!.‬‬
‫همز حصانه‪ ،‬فعدا به نحو رهط الوجهاء‪ ،‬وليكن عبد الحميد‪ ،‬أو رجب‪ ،‬أو‬
‫فشب شبوباً عارماً‪،‬‬
‫شد الرسن‪ ،‬فلجم حصانه ّ‬ ‫عبد المجيد‪ ،‬أو حتى سليمان‪ .‬فجأة ّ‬
‫ثم استوى على قوائمه؛ يبحث التربة بحثاً‪ ،‬قبل أن يسكن ذاعناً ال يتحرك‪.‬‬
‫‪( :-‬خادم يا أصالن‪ ..‬له يا رجل‪ .!.‬ما الذي دهاك‪.‬؟‪ C.‬تباً لك وللمرأة وللقمة‬
‫العيش معاً‪C.).‬‬
‫وبخ نفسه واتهمها بالهوان‪ ،‬ثم عاد واستنكر مكابرة ليست بموضعها وهادن‬ ‫ّ‬
‫يوحدهما التحنان‪.‬‬ ‫ذاته إذ لم يزلقها في عيبة‪ ،‬بيد أنه ظ ّل الئب القلب إلى ٍ‬
‫قلب ّ‬
‫جادل أعماقه جدالً عقيماً؛ فغايته ال تدرك في ساعة هيجان؛ مهما جاهد‬
‫وحشة الوحدة‪.‬‬
‫كاد يقتنع أن العشرة تولّد األلفة‪ ،‬وتحقق المودة‪ ،‬فتأتي المحبة‪ ،‬كنمو الجنين‪،‬‬
‫وتخيل مريومة ولطائفها‪ ،‬وفي أخذة‬
‫تشب للنبتة غصون تزهر فتثمر‪ّ ،‬‬ ‫وكما ّ‬
‫اهتز عمقه وهتفت سريرته‪:‬‬ ‫عنفوان ّ‬
‫برمته من العشق‪.‬؟‪C.).‬‬
‫‪( :-‬وأين هذا ّ‬
‫واجه نفسه دون مواربة قائالً‪:‬‬
‫‪( :-‬ما كنت تخرج إلى الصيد إال وقصف الرعد يبرق‪ ،‬واألمطار تنهمر‪،‬‬
‫تجس نبض الرجولة في شخصك‪ ،‬فعالم تخفض‬ ‫مدلهم‪ .‬كنت ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫فتغنم وترجع والليل‬
‫هتمك إلى ضعة االصطياد بالفخاخ والدبق‪.‬؟‪C.).‬‬
‫عصية على التطويع‪ .‬حاذى عربة الشيخ اإلمام‪ ،‬يعلّم الصبية‬
‫ّ‬ ‫وجد عواطفه‬
‫يغص بعضها بشيوخ وشباب‪ ،‬وفي بعضها نسوة‬ ‫ّ‬ ‫عربات‬ ‫وخلفها‬ ‫والرجال القرآن‪،‬‬
‫وفتيات‪ ،‬تلك هي فاطمة‪ ،‬وذاك هو عمر بن الحكيم إدريس‪ ،‬هذا المنقطع إلى‬
‫ٍ‬
‫حماسة؛ وفي‬ ‫الدرس‪ ،‬ال يكل وال يكتفي‪ .‬األصوات تردد إثر قراءة الشيخ في‬

‫‪- 148 -‬‬


‫وراحة عميقة‪ ،‬وضعتهم ضمن برزخ عزلهم عما في أعماقهم من وساوس‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫استكانة‬
‫وأحزان‪ ،‬فذاك عباس الممسوس‪ ،‬وجلبهار الغاوية‪ ،‬ورمضان اللص‪ ،‬ومحمود‬
‫حد المسكنة‪ ،‬والوجيه عبد المجيد‪ .‬وألفى نفسه يردد معهم مهمهماً‪ ،‬ثم‬ ‫ِ‬
‫الغ ّر إلى ّ‬
‫ٍ‬
‫بانكماش؛ ثم فصاحة وبحماس‪.‬‬ ‫صار يسمع صوته‪ ،‬ردد‬
‫أفاق من أخذته‪ ،‬فهصره مرآهم‪ ،‬هتكت األهوال قلوبهم‪ ،‬فسكنهم الكمد‪،‬‬
‫ولوعهم فراق الديار‪ ،‬ومحقت المآسي هفيف أرواحهم‪ ،‬برغم أنهم ما فطروا على‬ ‫ّ‬
‫المنغصات‪ ،‬وليسوا ممن يذرفون الدمع كيفما اتفق‪ ،‬لكنهم‬
‫ّ‬ ‫واختالق‬ ‫ٍ‬
‫تهويل‬
‫مزجوجون بديجور ال قبس فيه‪ ،‬كنفق ال آخر لـه‪ ،‬فالذوا بعصام آي الذكر الحكيم‪.‬‬
‫وافقه إبراهيم فيما هجس‪ ،‬وأنهم ظالل موتاهم‪ ،‬ودخان احتراق قراهم‪ ،‬وأثر‬
‫شهود على اإلفناء‪ ،‬وأدلّة التطفيش والتهجير‪ ،‬وهم محار الهول‬
‫ٌ‬ ‫عائالتهم‪.‬‬
‫وأصداف المراعب وقواقع اإلهمال‪ ،‬وكناية طيور البطريق المبددة في القفار‪.‬‬
‫يجترانها وال‬
‫هز نعمان رأسه موافقاً متأسياً‪ ،‬ولم يحاورهما‪ ،‬فهذه بدهيات ّ‬
‫ّ‬
‫طائل‪ .‬مختلفاً عنهما‪ ،‬فال يقع بشرك األمر الواقع‪ ،‬ما وجد إلى ذلك سبيالً‪ ،‬وليس‬
‫وأحس‬
‫ّ‬ ‫هيناً ما قام به من رأب صدوع األنفس‪ ،‬فأبهى شحنت شاعريته وأرهفتها‪،‬‬
‫أنها ركن يلجؤه؛ يلتحم به من وجع التشريد‪ ،‬مستلهماً من قسمات وجهها‪،‬‬
‫حار‪،‬‬
‫ق ٍّ‬ ‫قدها‪ ،‬جغرافية أرضه وأركان البيت‪ ،‬فانبثقت أشعاره بتدف ٍ‬
‫وتضاريس ّ‬
‫وليس دافئاً فحسب‪ ،‬وسرعان ما ألفها الناس‪ ،‬وجعلوها أغنيات‪.‬‬
‫وما برح اإلسكافي يعقوب يردد بصوته المشروخ‪ ،‬عقب دفن ميت ما‪:‬‬
‫للشدة‪ ،‬فهي إلى زوال‪.‬‬
‫‪ :-‬حذار من الرضوخ ّ‬
‫رتيمة تذكير يقولها المتماسكة نفوسهم‪ ،‬للذين عقصوا خيوط األمل‪ ،‬كلما‬
‫مدت األمراض كالليبها‪ ،‬تنتزع أرواح الغوالي‪.‬‬
‫هتفت الجدة نور إثر دفن الميتة‪:‬‬
‫‪ :-‬لعلها استراحت‪ ،‬والويل لموتى األحياء‪ .‬لست أسامحك بحليبي يا‬
‫رجب‪C.!.‬‬
‫وجمعت صبية وصبايا‪ ،‬تحدثهم عن أسطورة تقول‪:‬‬
‫قسم األرض على البشر‪ ،‬وأبقى مساحة هي جنته في‬ ‫‪( :-‬إن الخالق ّ‬
‫تزينه قمم‬
‫األرض‪ ،‬تعانق البحر وتتسلق السفوح‪ ،‬ماضية على بساط أخضر‪ّ ،‬‬
‫أحب أوالء‬
‫بيضاء هناك وهنالك‪ ،‬فينتشر الجمال رائعاً في ربوع المنطقة‪ .‬وأنه ّ‬
‫الناس‪ ،‬فأعطاهم جنته األخاذه تلك‪C.).‬‬

‫‪- 149 -‬‬


‫بهضاب‪ ،‬ويصعدون سفح جبل‪ ،‬ثم‬ ‫ٍ‬ ‫حكت األسطورة مرات‪ ،‬وهم يمرون‬
‫يستبطنون وادياً‪ .‬طريق طو‪ ..‬يل طويل‪ ،‬وسير بطيء‪ .‬أيام وأسابيع متشابهة‪ ،‬ال‬
‫سبيل التقاء ثقل وقتها الممطوط إال بالصبر‪ ،‬أو التحايل على وطأتها‪ ،‬فيتحلق‬
‫الشباب والرجال من األعمار كافة‪ ،‬وغالباً ما حضر الشيخ وكمال والوجهاء‪،‬‬
‫مستمتعين بحكايات لقمان الحكاء البارع‪ ،‬يجذبهم مثيراً اهتمامهم‪ ،‬بتعابير وجهه‪،‬‬
‫وحركات يديه‪ ،‬وتكوينات جسده‪ ،‬وتلوين صوته وهاهم يقضون ليلة بين أنفي‬
‫جبلين‪ ،‬فيحدثهم بأسطورة جبل إلبروز‪:‬‬
‫‪( :-‬وإ نه شيخ الجبال‪ ..‬كأنه شيخ من شيوخ قبائل عريقة‪ ،‬أحب "معشوقة"‬
‫المختالة بحلتها الخضراء على الدوام‪ ،‬تسبي األلباب‪ ،‬والشيخ الجبل المعمم أبداً‬
‫المسور بالقوة والعزم‪ ،‬ينظر من عرشه إلى محبوبته البهية بشوق‪ ،‬يمنعه‬ ‫ّ‬ ‫بالثلج؛‬
‫الكبر عن االقتراب منها‪ ،‬وبجانب "معشوقة" هناك‪ ،‬كان جبل آخر ينظر في عينيها‬
‫كل يوم‪ ،‬يكاد يالمسها عن قرب‪ ،‬وكان يدغدغها بجداول مما تشتهي لترتوي‪،‬‬
‫وسرعان ما سرت الشائعات‪ ،‬وهي ال تنبع من فراغ‪ ،‬بأن هذا األخير يحبها‬
‫وتبادله هي الحب‪ ،‬ثم قيل إنهما يتواصالن‪ ،‬ولم ال‪..‬؟‪ .‬أليس الحب كالروح‪،‬‬
‫نم هذا لتلك‪ ،‬وهذه‬ ‫كالهما يسكن الجسد‪.‬؟‪ .‬ومثل كل حكايات العشق‪ ،‬حصل أن ّ‬
‫لذاك بالخبر‪ ،‬فوصل إلى شيخ الجبال المثقل بعمته البيضاء‪ ،‬ووقاره المحترم‪،‬‬
‫وسمعته النقية كالصدق‪ ،‬فارتجف غيظاً وغضباً‪ ،‬لكنه جعل لغيرته وردة فعله؛‬
‫حبكة أقرب إلى اهتمام من هم حوله‪ ،‬فاهتزت لذاك الغضب األرجاء كلها‪،‬‬
‫وأحدثت رعدةً في أوصال األرض‪ ،‬فتشققت أوداهاً ووهاداً وفجوات‪ ،‬وأومأ إلى‬
‫غريمه الجبل‪ ،‬فقسم جسمه إلى قطع خمس‪ ،‬بعد أن استطاع غريمه أن يضربه‬
‫ضربة‪ ..‬هكذا‪ ..‬قسمت عمته إلى فلقتين‪ ،‬ولم تصب منه مقتالً‪ .‬واست ّل الشيخ‬
‫سيفه‪ ،‬فطعن المحبوبة اللعوب في الصدر‪ ..‬تصوروا كيف تراخى ذاك الجسد‬
‫تجمدت قطع جسم‬ ‫الجميل‪ ،‬الذي كان أبداً ينتصب فاتناً تحت الشمس‪ ،‬ومع الزمن ّ‬
‫الجبل الغريم بخمس قمم‪ ،‬وأمسى شيخ الجبال مقسوم الشفة إلى شقين‪ .‬أما‬
‫فتفجرت من صدرها‪ ،‬ينابيع يعجز الوصف عن‬ ‫"معشوقة" ذات األنوثة الطاغية‪ّ ،‬‬
‫اإلحاطة بمواصفاتها أو يسلّم أنها بطيب رضاب "رؤى الردفاء" وهذه سيدة العشق‬
‫متفردة بين النساء‪ ،‬عشقها شاعر غجري وعشقته‪ ،‬فكواهما لسع‬ ‫والجمال‪ ،‬أنثى ّ‬
‫األلسنة التي ال تأنف الرذيلة‪ ،‬وبالوقت نفسه تمزق سمعة عشاق تساموا في عشقهم‬
‫فوق المألوف والسفاسف‪ ،‬فال يلتفتون إلى مدعيات العفة‪ ،‬وهي منهن براء‪.‬‬
‫تلك الينابيع باتت تشفي أمراض الناس‪ ،‬وباألخص العشاق‪ ،‬وتبكم الالتي‬

‫‪- 150 -‬‬


‫تفرعات‪ ،‬كحكاية‬ ‫يتمضمضن بسمعة هذه وتلك‪ ،‬لتغطية عهرهن‪ ،‬ولألسطورة ّ‬
‫"سعدونه" الملقبة بالحميرة‪ ،‬الحمرار وجهها كلما كذبت‪ ،‬وهي نادراً ما صدقت‪.‬‬
‫وحكاية كبرى القوادات خاطفة "زمك زمان"‪ ،‬وحكاية حشيمات الغفلة؛ التابعات‬
‫رهط عفيفات المصادفة‪ ،‬أمثال (آفة فيزوان‪ ،‬وآفة نواف‪ ،‬وآفة رندوكه) حكايات‬
‫ماتعة انتظروها على مر الليالي واأليام‪ ،‬ولعلمكم فإن تلك الينابيع أكيدة الفائدة‬
‫بالتجربة والبرهان‪ ،‬ولنسمع اآلن الشاعر نعمان‪C.).‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وفي البكور خرجت مريومة تستطلع المكان‪ .‬أشجار الجوز والكرز وكروم‬
‫العنب والزيتون‪ ،‬وهذا النسيم الرطب بالندى‪ ،‬ولون تربة األرض‪ ،‬وصخورها‬
‫الصفوان‪ .‬نظرت هنا وهناك‪ ،‬ركضت في الجهات األربع‪ ،‬صعدت أنف الجبل‪،‬‬
‫أمها في األرض‪ ،‬مرة‬ ‫وثبت من صخرة إلى حجر‪ ،‬وهي منذ البارحة تشم رائحة ّ‬
‫ٍ‬
‫بشيء في‬ ‫إثر مر ٍة‪ ،‬مشغولة بهذا العبق‪ ،‬وله في دمها أثر‪ .‬تملّت المكان‪ ،‬أحست‬
‫آن‪ ،‬ينتفض ويطير‪ ،‬يصهل كما المهرة األصيلة‪،‬‬ ‫ويتفرع في ٍ‬
‫قلبها يتقصف ّ‬
‫حمدانية المنبت‪ ،‬علت قامتها سامقة كشجرة ٍ‬
‫سرو متناسقة‪ ،‬متأصلة في المكان‪،‬‬
‫ألي إلى منبتها‪ ،‬وطفقت تركض ظالعاً وهي تلهث‪ ،‬كادت‬ ‫وهي كغرسة أعيدت بعد ٍّ‬
‫همت بالتوقف قرب "األومباشي"‪ ،‬تسأله لتتأكد‪:‬‬
‫تقع متدحرجة حين ّ‬
‫‪ :-‬أومباشي‪ ..‬أين نحن اآلن‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬على مشارف "كلّس" شمال حلب‪ .‬لم تسألين‪.‬؟‪C.‬‬
‫الحراثون وراء محاريثهم‪،‬‬
‫صوتت لفالح وزوجته في بطحاء‪ ،‬انتشر فيها ّ‬
‫وانزلقت نحوهم في المسيل الواسع‪ ،‬تسأل عن اسم الديار‪ ،‬وجاءها الجواب‪:‬‬
‫‪:-‬إنها ضيعات "عمر جيك"‬
‫ارتمت يغالبها اإلغماء‪ ،‬بهظها قلبها فرحاً بعد غربة مرة‪ ،‬وبرغم ذلك ما‬
‫فترت بسمتها‪ ،‬وثغرها يصدر ما يشبه ثغاء الشاة‪ ،‬وما يماثل بغام ظبية‪ ،‬وليس‬
‫أنيناً‪ ،‬وبعيد الظهر كانت مع من تبقى من أهلها‪ ،‬جدها ألبيها‪ ،‬وأختها األرملة‪ .‬أمها‬
‫ماتت بعد أن خطفوها‪ ،‬وبعيد أن طفش أبوها إلى القارة الجديدة‪ ،‬وأخوها لم يعد مذ‬
‫ساقه رجال الجندرمة إلى الخدمة العسكرية‪ ،‬هو ذا محراثهم العتيق‪ ،‬وفي الحظيرة‬
‫معزاة وحمار وبغلة‪ ،‬وهناك دجاجات ينبشن روث المزبلة‪.‬‬
‫‪ :-‬وبعد يا مريومة‪.‬؟‪.‬‬
‫أطرقت‪ ،‬ولم تجب عن سؤال الجدة نور‪ ،‬فقال جدها‪:‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫‪ :-‬مريومه ابنتنا‪ ..‬وإ ن كنا ال نجد ما نقتاته‪ ،‬فلهم أكثر المحصول‪ ،‬ولنا‬
‫التعب من بعدهم والجوع‪ .‬سئمت العيش وأكاد أكفر بالسلطنة والسلطان‪.‬‬
‫ابتعدت الجدة نور خطوات‪ ،‬ثم استدارت لتتكلم‪ ،‬فوجدت مريومه في أثرها‬
‫تحضنها‪:‬‬
‫سران‪ ،‬أفضي بهما إليك‪.‬‬
‫‪ :-‬أمي نور‪ ..‬هما ّ‬
‫‪ :-‬مريومه يا بنيتي‪ ..‬إني أسمعك‪.‬‬
‫‪ :-‬الضابط عثمان‪.‬‬
‫‪ :-‬ما به‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬هو الذي…‬
‫سرك اآلخر‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬قد علمت من هوريك باألمر‪ .‬هه‪ ..‬ما ّ‬
‫‪ :-‬قلبي يا أمي نور‪.‬‬
‫‪ :-‬من‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬أصالن‪.‬‬
‫أرسلت بطلبه‪ ،‬جاء على حصانه دونما إبطاء‪.‬‬
‫‪ :-‬أتصاهرني ببنيتي مريومة يا ولد‪.‬؟‪.‬‬
‫وعقد الشيخ اإلمام قرانهما‪ ،‬وقدمت الجدة نور‪ ،‬ثوب زفافها للعروس‪ ،‬ثم‬
‫سألت أصالن‪:‬‬
‫‪ :-‬أبا ٍ‬
‫ق مع مريومة؛ أم نأخذكما معنا‪.‬؟‪.‬‬
‫جد زوجته‪:‬‬
‫محدثاً ّ‬
‫نظر إلى المحراث‪ ،‬وتطلّع نحو أرض المسيل‪ّ ،‬‬
‫‪ :-‬أرى أن سكة الفدان قد صدئت أيها الجد‪.‬‬
‫‪ :-‬وكيف ال تصدأ‪ ،‬ونحن لم نحرث األرض هذا الموسم‪.!.‬‬
‫‪ :-‬إذاً دلني إليها‪ ،‬فلم يدركنا الوقت بعد‪.‬‬
‫ضمت الجدة نور مريومة إلى صدرها قائلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬أترك لك –يا بنيتي‪ -‬رجالً مقطوعاً من شجرة‪ ،‬فازرعيه في قلبك‪ ،‬كما‬
‫يزرع أرضك‪.‬‬
‫استدارت نحو أصالن وقالت‪:‬‬
‫‪ :-‬تركت لك بنيتي المحبة‪ ،‬فاقتلها عشقاً يا ولد‪.‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫قالت هوريك ممازحة‪:‬‬
‫‪ :-‬تركت لهما مالم ينله غيرهما يا أمي‪.‬‬
‫‪ :-‬وماذاك يا بنت‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ثوب زفافك الحرير‪.‬‬
‫كسرها‪ ،‬لك مني ما يلزم زفافك وليلة الدخلة‪.‬‬
‫بسر ّ‬ ‫‪ :-‬حين تفضين ليس ٍّ‬
‫مريومه‪ ..‬أصالن‪ ،‬أريد أحفاداً بعدد شعاب هذا الجبل‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وكان نعمان في البكور والضحى والهاجرة واألصيل‪ ،‬وفي الغسق والعتمة‬
‫والسحر‪ ،‬وكلما ضاقت صدور الناس حرجاً‪ ،‬وحلكت سواداً‪ ،‬متقهقرة في الظالل‬
‫القاتمة‪ ،‬ينشدهم وأبهى تغني لهم أشعاره‪:‬‬
‫شبه بالفوالذ‪.‬‬
‫‪( :-‬يا شعبي‪ C..‬لست أنت من ُي ّ‬
‫شبه بك‪.‬‬
‫إنما الفوالذ هو الذي ُي ّ‬
‫إذا صدئ الفوالذ يمكن إعادة البريق إليه‪.‬‬
‫اسود وجه اإلنسان فال يمكن تنظيفه أبداً‪.‬‬
‫أما إذا ّ‬
‫أيتها الريح َلم هذا الضجيج كله الذي يراكم األفكار‪.‬‬
‫سوداء على صفحة الروح‪.‬؟‪C.‬‬
‫تلبدي ما شئت أيتها الغيوم الدكن فوقي‬
‫فمن سمائي ُيطل هالل مضيء‪C.).‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫أوضحت "نتيفا" أنها حصلت عليها من "فال ديمير جابوتنسكي"‪ C،‬ولم يكن ذلك‬
‫سهالً البتة‪.‬‬
‫‪ :-‬ومن وضعها‪.‬؟‪C.‬‬
‫المرجح أنه "أشر غنزبرغ"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪:-‬‬
‫‪ :-‬إلي بها‬
‫‪ :-‬اعلم أن القتل هو جزاء كل من توجد بحوزته صفحة منها‪ .‬اسمع بعض‬
‫ما جاء فيها‪.‬‬
‫‪[ :-‬مستعدون أن نعدم "الـ‪ "..‬إعداماً يخفي خبره عن الناس جميعاً‪ ،‬وال يدري‬

‫‪- 153 -‬‬


‫المدبر له حتى‬
‫جهل من مصيره ّ‬‫بهذا أحد‪ ،‬حتى المحكوم عليه نفسه‪ ،‬فيظل على ٍ‬
‫يلقاه‪ ،‬فيموت بالوقت الذي ُيحدد له‪ ،‬فيبدو كأنه مات ميتة طبيعية‪ ،‬أو من مرض‬
‫ما‪.]..‬‬
‫كاهانا‪ ..‬ألم يقشعر بدنك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬نتيفا‪ ..‬يجب أن أقرأها‪.‬‬
‫‪ :-‬ولكن "أستير" تكاد ال تفارقك‪.‬‬
‫‪ :-‬وما عالقة "أستير" باألمر‪.‬؟‪ .‬نتيفا‪ ..‬كيف تخاطبينني بهذه الطريقة‪.‬؟!‪.‬‬
‫سر لي عندها‪ ،‬أو عند هدسه الوطباء‪.‬‬
‫‪ :-‬مهلك‪ ..‬ال أريد وضع ٍّ‬
‫‪ :-‬بل قولي إنك تغارين منهما‪.‬‬
‫‪ :-‬بلى أغار‪ .‬ولن تقرأ سطراً دون ثمن‪.‬‬
‫‪ :-‬وما الثمن‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أقرأ معك كل ليلة فقرة‪ ،‬وتبقى معي وحدي طوال المدة‪.‬‬
‫‪ :-‬موافق‪.‬‬
‫‪ :-‬إذن رتّب أمورك لنبدأ الليلة‪.‬‬
‫الليلة‪ -‬األولى‪[ :‬ال ينبغي لنا أن نتردد في استعمال الرشوة والخديعة‬
‫والخيانة‪.]...‬‬
‫الليلة‪ -‬الثانية‪[ :‬هذا الذهب قد جمعناه مقابل ٍ‬
‫بحار من الدم؛ والعرق المتصبب‪،‬‬
‫وقد حصدنا مازرعنا‪ ،‬وال عبرة إن جلّت وعظمت التضحيات‪ ،‬فكل ضحية منا‪،‬‬
‫تضاهي "ألفاً" من الغوييم…]‪.‬‬
‫الليلة‪ -‬الثالثة‪[ :-‬الغوييم قطيع غنم‪ ،‬ونحن ذئابهم‪.]..‬‬
‫الرابعة‪[ :‬سنمحو من أذهان الناس‪ ،‬جميع ما وعوه من وقائع القرون‬
‫الماضية‪ ،‬مما ال نرى فيه الخير لنا‪ ،‬وسنلغي حرية التعليم في جميع الوجوه‪،‬‬
‫وتقضي برامجنا بأن يعمل ثلث الناس في التجسس على الثلثين اآلخرين‪.]..‬‬
‫الخامسة‪[ :‬جواسيسنا من مختلف الطبقات؛ العليا والسفلى‪ ،‬ومن رجال‬
‫اإلدارة العاكفين على اللهو واألطايب‪ ،‬ومن محرري الصحف والكتّاب‬
‫والناشرين‪ ،‬وباعة الكتب‪ ،‬وموظفي الدوائر والدواوين‪ ،‬ومن الذين كثر اختالطهم‬
‫بالجمهور‪ ،‬عن طريق األخذ والعطاء‪ ،‬والبيع والشراء‪ ،‬كأنهم بوليس بال سلطة‪،‬‬
‫يشاهدون ويسمعون وينظّمون التقارير‪.]..‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫السادسة‪[ :‬الحاجة إلى رغيف الخبز كل ٍ‬
‫يوم‪ ،‬تُكره الغوييم على أن يخلدوا‬
‫خداماً لنا طائعين‪C.]..‬‬
‫إلى السكينة‪ ،‬ويكونوا ّ‬
‫السابعة‪[ :‬نكنس األديان األخرى جمعيها‪ ،‬ونحن دائماً حريصون على أال‬
‫نبوح بأسرار ديننا لغيرنا‪.]...‬‬
‫الثامنة‪[ :‬نضع في أيدي الناس ضروباً من مادة اآلداب المنشورة بالطباعة‪،‬‬
‫وهي غاية في التفاهة والقذارة والغثاثة‪.]..‬‬
‫التاسعة‪[ :‬نكثر من المحافل في بلدان العالم جميعها‪ ،‬ونشجع الغرور‬
‫والفردية‪]..‬‬
‫العاشرة‪[ :‬إن القدرة الحقيقية ال تسالم حقاً من الحقوق‪ ،‬حتى لو كان حق‬
‫اإلله‪ ،‬وال يستطيع أحد أن يدنو منها‪.]..‬‬
‫الحادية عشرة‪[ :‬نعمل على زيادة صرف أذهان الجماهير‪ ،‬بإنشاء وسائل‬
‫المباهج‪ ،‬والمسليات واأللعاب الفكهة‪ ،‬وضروب أشكال الرياضة واللهو والغذاء‪،‬‬
‫المزوقة‪ ،‬والمباني المزركشة‪ ،‬ثم نجعل‬
‫ّ‬ ‫للملذات والشهوات‪ ،‬واإلكثار من القصور‬
‫فنية رياضية‪ ،‬ومن كل جنس‪ ،‬فتتوجه األذهان إلى‬ ‫الصحف تدعو إلى مباريات ّ‬
‫هذه األمور‪ ،‬فتنصرف عما هيأناه‪ ،‬فنمضي بالناس إلى حيث نريد‪ .]..‬وعلى مر‬
‫الليالي ظلت نتيفا تتفنن بضروب اإلثارة‪ ،‬مبتدعة لكل ليلة فرادتها‪ ،‬فال تكرر ما‬
‫أتته في سواها‪ ،‬وفي الليلة األخيرة همست له‪:‬‬
‫تصرف كما تشاء‪ ،‬فقط أري‪CC‬دك أن تهمس لي بكل ما تعرفه من‬‫‪ :-‬الليلة لك‪ّ ..‬‬
‫شتائم وسباب وأقذع األلفاظ‪ ،‬أسمعني الكلمات البذيئة همساً‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وكلما قصرت المسافة‪ ،‬بدا كمال الئب الفؤاد‪ ،‬والشوق مثل العطش‪ ،‬يلهب‬
‫سره‪:‬‬
‫روحه توقاً ألهله وحلب‪ ،‬وما فتئ يردد جهاراً وفي ّ‬
‫يجري على المرء من ٍ‬
‫أسر وإ طالق‬ ‫(يا‪ -‬قلب صبراً جميالً إنه قدر‬
‫وكل داجية يوماً إلى إشراق)‪.‬‬ ‫فرج‬
‫بد للضيق‪ -‬بعد اليأس من ٍ‬
‫لا ّ‬
‫سمعته قمر يرددها‪ ،‬فأنصتت تتملى المعنى معجبة‪ ،‬وباآلن نفسه منقبضة‬
‫مضطربة‪ ،‬غير قادرة على إخفاء قلقها‪ ،‬مما راح إليه بذينك البيتين من الشعر‪:‬‬
‫‪( :-‬تغلبك األنثى التي فيك يا قمر‪ ،‬وتنسين أنه بشر‪ ،‬في قلبه ركن ألهله‪.!.‬‬
‫وجهك مرآة روحك‪ ،‬وهاهو قرأ ما دار في رأسك‪ ،‬فترينه يبذل ما بوسعه كي‬

‫‪- 155 -‬‬


‫مجرب ذاق لوعة الظلم‬
‫يقنعك أنه وجد فيهما سلوى تخفف الكرب‪ ،‬نطق بها ّ‬
‫والغربة‪.‬‬
‫إيه‪ ..‬يا الجدة نور‪ ..‬يا من دعكتك التجارب غضة‪ ،‬وأنضجتك امرأة غنية‬
‫ألم بهوريك‪ ،‬عقب افتراق مريومة عنها‪ ،‬وأنت ال توارين‬
‫الوجدان‪ ،‬فالحظت ما ّ‬
‫وال تعدمين لباقة‪C:.).‬‬
‫ٍ‬
‫صغير‪ ،‬كما فعلت الغالية‬ ‫بسر‬
‫إلي ٍّ‬
‫‪ :-‬هوريك يا بنيتي‪ ،‬ألن تفضي ّ‬
‫مريومة‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أمطت لك اللثام عما في قلبي يا أمي‪.‬‬
‫‪ :-‬عسانا نمر في طريقنا على منبتك‪ ،‬فتجدين أهلك‪.‬‬
‫‪ :-‬قد بعدنا كثيراً عن "ضالفوريك" ‪(.‬حين سبوني يا أمي‪ ،‬لمحت حرابهم‬
‫تنغرز في صدور الغوالي‪ ،‬قطعوا أثداء أختي‪ ،‬وبقروا بطن والدتي‪ ،‬ومزقوا‬
‫مشرعة‬ ‫ٍ‬
‫حراب ّ‬ ‫أوصال أبي وجدي‪ ،‬وأسقطوا أخي الصغير‪ ،‬من سطح الدار‪ ،‬على‬
‫كشوك القنفذ إلى أعلى‪ .‬وحده أخي "يراونت" احتمى بالجبال‪ ،‬يقاوم مع الرجال‬
‫الحميديين‪ .‬ضربونا بالمدفعية‪ ،‬بينما "البنباشي كيوسا" يردد قرار الصدر‬
‫ّ‬ ‫كتائب‬
‫األعظم "كوتشوك سعيد"‪:‬‬
‫‪ :-‬إن أنجع وسيلة إلنهاء قضية هؤالء‪ ،‬هي القضاء عليهم‪.‬‬
‫طعة‪،‬‬
‫رؤى جهنمية ال تغيب عن ذهني‪ .‬جمعوا القتلى واألوصال المق ّ‬
‫والمطعونين والمنازعين‪ ،‬وأحرقوهم حرقاً‪ .‬مازالت رائحة اشتواء لحومهم تمأل‬
‫خيشومي‪.).‬‬
‫ضمتها إلى صدرها‪ ،‬وربتت على كتفها‪ ،‬وفي مقلتيها دمعتان جامدتان‬
‫كحبتي برد‪:‬‬
‫‪ :-‬أصابنا مثل بلواكم يا بنيتي‪ .‬القتلة هم القتلة حيثما كانوا‪ .‬فليلطف اهلل بمن‬
‫يجعلونه بعدنا وبعدكم‪.‬‬
‫‪ :-‬أمي‪ ..‬لم ال يتوحد الطيبون‪ ،‬كما يفعل ِ‬
‫األشرار‪.‬؟‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫لشد ما أخشى عليك مما أعرف‪ .‬فالذي مضى لم ينته‪ ،‬وربما كان أسهل‬
‫‪ّ :-‬‬
‫مما هو ٍ‬
‫آت‪.‬‬
‫وخربوا عمري‪ ،‬وإ ن كان‬
‫في ما يزيدني ألماً‪ ،‬فقد أنغلوا قلبي ّ‬
‫‪ :-‬أمي‪ ..‬ليس ّ‬
‫لي ما أطلبه‪ ،‬فرجائي أال تشعريني أنك تريدين التخلص مني‬

‫‪- 156 -‬‬


‫‪ :-‬ال‪ ..‬لن يحدث‪ .‬اطمئني‪.‬‬
‫‪( :-‬إيه يا أنت يا نور‪ ..‬تعدين البنية بأكبر مما تقدرين‪ ،‬فعمرك يذوي دانياً‬
‫وأنى‬
‫من منحدر سفحه اآلخر‪ .‬لو أنك تنفّذين ما دار في خلدك‪ ،‬لضمنت لها الخير‪ّ ،‬‬
‫لنا أن نجمعهما‪ ،‬والشيخ اإلمام أكد غير مرة أن "ال إكراه‪ .)"..‬جال ذلك في خاطر‬
‫العجوز داود‪ ،‬وهمست قمر منقبض قلبها‪:‬‬
‫‪( :-‬بعدك أبقى بال أحد‪C.).!.‬‬
‫اختلت بنفسها يخنقها عجزها عن نفع والدها‪ .‬قد غفا فلعله يرتاح‪ ،‬بعدما خثّر‬
‫ألم حادة؛ انثنى لها وتلوى‪ ،‬وبقي إدريس الحكيم إلى‬‫دمها في عروقها‪ ،‬إثر صيحة ٍ‬
‫جانبه‪ ،‬حتى كاد الليل أن ينجلي‪ ،‬وما غمضت لها عين‪ .‬قلّبت صفحات الكتاب‬
‫متلفتة إلى أبيها وقرأت‪:‬‬
‫‪( :-‬أدوني صادق ملك أورشليم‪ .‬هوهام ملك حبرون‪ .‬فرآم ملك يرموت‪.‬‬
‫يافيع ملك لخيش‪ .‬دبير ملك عجلون‪ ..‬اختبؤوا في مغارة في مدينة مقيدة‪ ،‬فأمر‬
‫ٍ‬
‫بحجر كبير‪ ،‬حتى يموتوا‪ ،‬وقد فعلوا ما أمر‪،‬‬ ‫"يشوع" جماعته أن يغلقوا المغارة‬
‫ومن ثم فتحوا المغارة‪ ،‬وأخرجهم أحياء‪ ،‬ألن "يشوع" أراد أن يذلّهم‪ ،‬فأمر عدداً‬
‫من رجاله‪ ،‬أن يضعوا أرجلهم على أعناقهم‪ ،‬ففعل الرجال ذلك‪ ،‬ثم قتلهم "يشوع"‪،‬‬
‫وعلّقهم على الخشب‪ ،‬وبقوا معلقين حتى المساء‪ ،‬فأنزلوهم ووضعوهم في‬
‫المغارة‪ ،‬لتكون قبراً دائماً لهم‪ ،‬ووضعوا حجراً كبيراً على فم المغارة‪.)..‬‬
‫وأنى لها بكمال لتخبره بما‬
‫مقشعرة‪ ،‬وظلت قلقة وقتاً غير قصير‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫نقزت‬
‫انبثق في ذهنها‪ ،‬فحجة ألكسندر وعثمان للتخلّص من أولئك الفتية‪ ،‬تلفيق وحجة‬
‫واهية‪ ،‬ما كان لها أن تجعلهم درايا وإ عدامهم رمياً بالرصاص‪ ،‬وهم ج ّل‬
‫المتنورين‪ ،‬والحرب قذفتهم نصف ٍ‬
‫قرن إلى الخلف‪ ،‬وإ فناء أوالء يحتاج لجيلين‬
‫قادمين كي يتم تعويضهم‪ .‬إنه إطفاء ُسرج النور‪ ،‬لتزداد حلكة الغيهب فتنعدم‬
‫الرؤية‪ ،‬وتتقهقر األحالم إلى دهاليز الكوابيس‪.!.‬‬
‫سيطر هذا على تفكيرها‪ ،‬وجعلها تتغاضى عن وضع والدها‪ ،‬وراحت في‬
‫الغلس توقظ الصفوة صائحة‪:‬‬
‫‪ :-‬إننا عرضة لمؤامرة ضمن مؤامرة في مؤامرة أكبر‪.‬‬
‫وانطلقت إلى كمال موضحة ما سطع في ذهنها وسألت‪:‬‬
‫‪ :-‬ما غايتكم‪ ،‬وإ لى أين تمضون بنا يا عسكر السلطنة‪.‬؟‪ .‬أئلى مغارة مثل‬
‫مغارة "يشوع"‪.‬؟!‪C.‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫صمت مطرقاً‪ ،‬حتى حسبته لم يكترث بكالمها‪ ،‬لكنها أصغت إليه تماماً‪ ،‬وقد‬
‫فرد صفحات للكواكبي وقرأ لها‪:‬‬
‫‪( :-‬المستبد عدو الحق‪ ،‬عدو الحرية وقاتلهما‪ ،‬والحق أبو البشر‪ ،‬والحرية‬
‫أمهم‪ ،‬والعوام صبية أيتام نيام ال يعلمون شيئاً‪ ،‬والعلماء هم إخوتهم الراشدون‪ ،‬إن‬
‫هبوا‪ ،‬وإ ن دعوهم ّلبوا‪ ،‬وإ ال فيتصل نومهم بالموت‪.).‬‬‫أيقظوهم ّ‬
‫دبروا قتل قائل هذا الكالم‪ ،‬ولم يمت‬
‫أتدرين أني بت على يقين‪ ،‬من أنهم ّ‬
‫سيدبرون قتلي إن علموا أني أنقل لك كالمه‪.‬؟‪ C.‬ظلّي حذرة يا‬
‫حتف أنفه‪ .‬وأنهم ّ‬
‫قمر‪.‬‬
‫مغتراً أنه رجل المهمات الصعبة‪ .‬أولم‬
‫سمعهما عثمان متجسساً‪ ،‬شعر بالفخر ّ‬
‫السم للرجل في فنجان القهوة‪ ،‬ثم‬
‫ودس بيده ّ‬
‫يكن في مجموعة الحقته في القاهرة‪ّ ،‬‬
‫سرية‪ ،‬وحسبت له‬‫عاد وكوفئ‪ ،‬ثم نال ترقية لتخلّصه ممن ساعدوه بطريقة بقيت ّ‬
‫فذة عبقرية‪.‬؟!‪.‬‬
‫تركهما ومضى إلى "جيئوال"‪ ،‬يؤنس وحشتها‪ ،‬ويدفئ دثارها‪ ،‬مبيتاً لكمال زلّة‬
‫تذهبه‪ ،‬فال يقف على رجليه بعدها‪.‬‬
‫وتعمد الصمت طوال الوقت‪.‬‬
‫وطوى كمال صفحاته األثيرة‪ّ ،‬‬
‫مصوبة البؤبؤ في‬
‫ّ‬ ‫حدقت إليه‬
‫أدركت أنه رمى على عاتقها مهمة جسيمة‪ّ ،‬‬
‫البؤبؤ‪ ،‬وليس الكالم بأبلغ مما وصل العين من العين‪.‬‬
‫وأكبت تقرأ ٍ‬
‫بنهم‪ ،‬قبل أن يطرأ طارئ فينكشف أمرها‪ ،‬أو تضطر إلى إعادة‬ ‫ّ‬
‫الكتاب‪ ،‬وهو أمانة عندها‪ ،‬وتمعنت دهشة‪:‬‬
‫‪ …( :-‬وأمسك ثالثمئة ابن آوى‪ ،‬وأخذ مشاعل‪ ،‬وجعل ذنباً إلى ٍ‬
‫ذنب‪،‬‬
‫ووضع مشعالً بين كل ذنبين في الوسط‪ ،‬ثم أضرم المشاعل ناراً‪ ،‬وأطلقها بين‬
‫زروع الفلسطينيين‪ ،‬فأحرق األكداس والزرع وكروم الزيتون…)‪.‬‬
‫‪ :-‬العمى‪C.!!..‬‬
‫واجتس رسغها‪ ،‬ابتسم المساً‬
‫ّ‬ ‫هبت إليه‪ ،‬أمسك يدها‬
‫شهق والدها وحشرج‪ّ ،‬‬
‫وجنتها‪ ،‬ثم قطّب‪ ،‬ابتسم ثانية ثم تجهّم‪ ،‬فرد قسمات وجهه فانقبضت‪ ،‬جعل طاقته‬
‫ٍ‬
‫حينئذ نبس‪:‬‬ ‫برمتها في عضالت وجهه‪ ،‬فالحت انفراجة كسلى على أساريره‪،‬‬ ‫ّ‬
‫‪ :-‬ضيف اهلل كان واثقاً من كالمه عن "مائير"‪ ،‬وهناك غموض رهيب؛ فثمة‬
‫جد عجيبة‪ .‬ثقيل عليك ما‬
‫دبر ميتتهما في الليلة ذاتها‪ ،‬وإ ال فإنها مصادفة ّ‬
‫من ّ‬
‫تمحصونها ذات مرة‪ .‬قمر‪ ..‬ظلّي‬
‫تسمعين‪ ،‬لكنها أمانة احرصي عليها‪ ،‬لعلكم ّ‬

‫‪- 158 -‬‬


‫شامخة‪ ،‬وال تتخذي لك رجالً‪ ،‬إال أن يكون نضراً في القلب؛ من رتبة الحب‬
‫تفرطي بنبضة‬ ‫ومرتبة الشغف‪ ،‬وقلبك في هذا وحده الحكم‪ .‬أملقتنا الخطوب فال ّ‬
‫من قلبك‪ .‬بنيتي‪ ..‬فرسك "سيمازه" أصيلة مثلك‪ ،‬فال تدفعي بها إلى مهانة‪ .‬قمر يا‬
‫غالية‪ ..‬اعلمي أن "نور" عشقي األول‪ ،‬فانظري إليها ترين بعضي فيها‪ ،‬قولي‪:‬‬
‫هذه التي مات أبي وهو مغرم بها‪.‬‬
‫تمتم بالشهادتين‪ ،‬وانطفأ ألق الحياة في محياه‪ .‬لم تبكه‪ .‬ظلت ذاهلة برهة‪،‬‬
‫وتقرت على قسمات‬
‫تنظر إلى الجسد المسجى؛ كجذع سنديانة رمته ريح قاصفة‪ّ ،‬‬
‫وجهه ماال يمحوه الصمت‪ ،‬فما كان بينهما أكبر من النسيان‪ .‬طبعت قبلة على‬
‫كأن مشاعرها تلج هاته األحداق إلى‬
‫جبينه العريض‪ ،‬وتملّت تينك العينين‪ّ ،‬‬
‫تقبله عند حبل الوريد‪:‬‬
‫األعماق‪ ،‬قبل أن تسبل عليهما الجفون‪ C،‬وهمست وهي ّ‬
‫سر عمرك ولم ألحظه؛ وأنا منك كحبل الوريد‪ .!!.‬يا لجبروت‬
‫‪" :-‬نور" ُّ‬
‫العماليق‪ ..‬أيها الرجل البسيط‪.!!.‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫‪10‬‬

‫وقعت الواقعة‪ ،‬وحدث ما ظلّت تهجس به منذ أمد‪ ،‬صمتت مسلّمة منذ‬
‫لحدوه‪ ،‬وما برحت تردد في ذاتها المقفرة‪:‬‬
‫‪( :-‬ها أنذا بعدك بال أحد‪C.!.).‬‬
‫عزاها‪ ،‬وذكر أنه افتقده‪ ،‬فقد كان أميناً؛ أنيساً طيب المعشر‪ ،‬وأغدق عليه من‬
‫ّ‬
‫حسن الشمائل األجمل‪ ،‬ونسب إليه ماال تعرفه حتى قمر‪ C.!.‬بعضهم تلفّت إليها غير‬
‫مرة‪ ،‬يكاد يقفز من أفواههم وعيونهم السؤال‪:‬‬
‫عجب عجب‪!.‬؟!‪.).‬‬
‫ٌ‬ ‫‪( :-‬أكان منه هذا‪ ،‬ونحن ال ندري‪..‬‬
‫تنز‬
‫تابعته منصتة‪ ،‬وعلى طرف فمها بسمة مبهمة‪ ،‬تكاد ال تظهر‪ ،‬برغم أنها ّ‬
‫أي‬
‫سخرية‪ ،‬ال يتوه عنها من يدرك مبالغة الضابط عثمان‪ ،‬السيما أنه يغفل اسم ٍّ‬
‫ممن قد ُيسأل عما يقوله‪ ،‬بينما أقسم وأغلظ األيمان‪ ،‬على دقة ما يروي‪ ،‬وأشهد‬
‫الشيخ اإلمام مراراً‪ ،‬فلم يخذله‪ ،‬ودون أن يجزم‪ ،‬طفق يردد‪:‬‬
‫‪ :-‬بلى‪ C..‬نعم‪ ..‬صحيح‪ .‬أي نعم‪.‬‬
‫وحث السامعين على‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫فيض‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بغيض من‬ ‫وتابع الضابط مؤكداً أنه ما أتى إال‬
‫ذكر محاسن موتاهم على الدوام‪ ،‬وبين فينة وأخرى يباغت الشيخ اإلمام‪ ،‬سائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬موالنا‪ ..‬أال تشهد‪.‬؟‪.‬‬
‫فنقز من إغفاءته‪ ،‬مجيباً‪:‬‬
‫‪ :-‬أشهد‪ ..‬أشهد‪..‬‬
‫ثم استحلب لعابه متمتماً‪:‬‬
‫أن ال إله إال اهلل‪ ..‬أستغفر‪..‬‬
‫‪ْ .. :-‬‬
‫وعاود التماس إغفاءة تكاد تتبدد‪ .‬وكادت قمر تنفجر ضاحكة‪ ،‬حين أردف‬

‫‪- 160 -‬‬


‫الضابط‪ ،‬أن المرحوم أوصاه بها‪ ،‬ثم إنه لن يكتم مكانتها الحميمة في نفسه‪ ،‬وفيها‬
‫أمه‪.!.‬‬
‫شبه عجيب من ّ‬
‫اصطبرت‪ ،‬وسمعها من بجانبها تنبس‪:‬‬
‫‪ :-‬يا لك من مدلّس‪.!.‬‬
‫بضعة يطويهم الموت كل ٍ‬
‫يوم‪ ،‬سواء فقيد أهله‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫فما والدها إال واحداً من‬
‫من لم يبق من شجرته أحد‪ .‬وإ نها تتقزز لقذارة يديه‪ ،‬فتلك أصابعه تقطر دماء‬
‫كوحش ال يجارى فتكاً‪ ،‬وها هو يخرط مثرثراً‪ ،‬وهي تضغط‬ ‫ٍ‬ ‫الذين قتلهم غيلة‪،‬‬
‫اشمئزازها‪ ،‬كي ال تبصق في وجهه أو تتقيأ‪:‬‬
‫(تجمل بما أُتيح لك أيها الضاري‪ ،‬فليس بين الوحوش قاطبة‪ ،‬أشد توحشاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪:-‬‬
‫آدمي فقد إنسانيته مثلك‪ .‬بئس حقيقتك؛ وبئس غايتك يفوح دنسها جيفة‪ ،‬كذوب‬‫ٍّ‬ ‫من‬
‫أنت‪ ،‬ومحال أن أثق بك‪ ،‬وألنك األقوى فخذ امتدادك‪ ،‬وإ ني األنقى؛ ولي أبعادي‬
‫األعمق‪ ،‬وشتان يا ذا المخالب)‪ .‬وذهب بعضهم إلى اإلعجاب بموقف الضابط‬
‫عامتهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وغرهم لغوه المتتابع‪ ،‬مكبرين أن يشارك في عزاء رجل من ّ‬ ‫المتواضع‪ّ ،‬‬
‫وتهامس بعضهم‪:‬‬
‫‪ :-‬الكبير كبير‪ ،‬والتواضع زينة الكبراء‪.!.‬‬
‫ألح موصياً‪ ،‬أن يسمى مولودهم القادم باسم "داود"‪.!.‬‬
‫ولفت انتباههم كيف ّأنه ّ‬
‫لسبطه منها‪ ،‬فهو بديد‬‫وفية لذكراه‪ ،‬فتعطي اسمه ّ‬
‫لمح أن تكون قمر ّ‬ ‫وكيف أنه ّ‬
‫ولشد ما شدهم إذ ناداها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫الحفيد‪ ،‬فنصيبها آت ال ريب عما قريب‪،‬‬
‫‪ :-‬يا أم داود‪.‬‬
‫فأثار زوبعة تساؤالت –لماذا "داود" بالذات‪.‬؟!‪ C.‬طرحوا ذلك ببراءة وريبة‬
‫وطيبة واستنكار وثرثرة‪ ،‬وبعض الهزء أيضاً‪.‬‬
‫وتماسكت دون القيل والقال‪ ،‬مخفية ضجرها من كذبه ووجوده بينهم‪،‬‬
‫أن مرحها قد انجذر‪ ،‬بيد أنها لم‬
‫حريصة على تخبئة أساها في حبة القلب‪ .‬صحيح ّ‬
‫تركن إلى الحزن المتفطّر‪ ،‬فليس لها على من هم حولها أن يحتملوا كربها‪ ،‬وفيهم‬
‫ما يكفيهم ويزيد‪ ،‬وها قد ماتت طفلة بالتجفاف‪ ،‬ولحق بها عبد الغني الممسوس‪،‬‬
‫مزقت قذائف عريف ألكسندر‪ ،‬زوجه وابنته وولديه وأخته‪،‬‬ ‫ذاك الذي فقد عقله‪ ،‬مذ ّ‬
‫وهاهو نوح‪ ،‬لكأنه ثكل ببرذونه األبرش‪ ،‬ولسوف يمضي حفتاً على قدميه‪ ،‬إلى ما‬
‫شاء قدره‪.‬‬
‫قدر أن أغلب الموجودين يسمعون ما يختم‬
‫اقترب ووقف قبالتها صامتاً‪ ،‬حتى ّ‬

‫‪- 161 -‬‬


‫به مواساته‪ ،‬وبرغم أنه تداهى إذ أوحى أنه أخفض صوته‪ ،‬إال أنه تكلم بنبرة لم‬
‫تفت أحداً‪:‬‬
‫‪ :-‬ال بأس سيدتي‪ ..‬فإني مرجئ مسألة ٍ‬
‫مال تركته وديعة عنده‪ ،‬فليس اآلن‬
‫وقته‪ .‬أشاطرك افتقاده‪ ،‬ولك البقاء من بعده‪.‬‬
‫حوقل‪ ..‬ثم زجر الحوذي ليبعد العربة‪ ،‬فلن يصعدها تقديراً للفقيد‪ ،‬وطلباً‬
‫ٍ‬
‫لمثوبة من تف ّكره بالموت‪ ،‬وطفق يردد‪:‬‬
‫‪( :-‬ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر‪C.)..‬‬
‫ابتعد ولم يعد صوته مسموعاً‪ ،‬أو أنه سكت دون ما بدأ‪ .!.‬لكنه كان يدحض‬
‫أقواله كلها‪ ،‬مفرجاً عما كتمه‪:‬‬
‫ردة‪ ،‬فيكون مهرك‪ ،‬وأنالك صاغرة‪ ،‬فإن أبديت‬
‫بدين تعجزين عن ّ‬
‫(كبلتك ْ‬
‫‪ّ :-‬‬
‫حرداً‪ ،‬قسرتك بأسلوبي؛ وهذا مشتهاي ومنتهى مبتغاي‪ ،‬وال مفر‪.).‬‬
‫والقلّة من حولها في حيص بيص‪ ،‬أوالء الذين همهم أمرها‪ ،‬وحسبوا أنهم‬
‫يرن رنيناً‬
‫أقرب إليها من غيرهم‪ ،‬وما بعضهم إال فضوليين‪ ،‬جذبهم ذكر الوديعة‪ّ ،‬‬
‫ارتد لمعان بريقه عن مرايا صقيلة‪ ،‬في‬
‫متنوع اإليقاع‪ ،‬تردده الحواس جميعاً‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مخادع أُجيد إعدادها لضروب من الطقوس الخصوصية‪ ،‬وهاهو رمضان اللص‬
‫مندساً بينهم‪ ،‬لعل أذنه المرهفة تلتقط ما ينفعه‪ ،‬فهو‬
‫ذو األمزجة العجيبة‪ ،‬يقترب ّ‬
‫ٍ‬
‫حاجة أو إفادة‪ ،‬ولكثرة ما‬ ‫أولى بوديعة الضابط وبمال أمثاله‪ ،‬الذين يكنزونه دون‬
‫ردد مقولته هذه‪ ،‬صارت قناعته الرئيسة الراسخة فأمسى لصاً انتقائياً‪ ،‬مشروعة‬
‫أفعاله‪ ،‬له في الحياة مثلما للساعين فيها من نصيب‪.‬‬
‫ولم تلبث الشائعات أن تناثرت‪ ..‬العيون في ومضها تسأل‪ ،‬واآلذان بانتظار‬
‫ٍ‬
‫بحجر رماه الضابط فيها‪ ،‬فترك‬ ‫ٍ‬
‫حرف ُينبس‪ ،‬فبحيرة الحزن الراكدة لُجبت‬
‫الرؤوس واألنفس مضطربة‪ ،‬ومضى ال يعبأ بالذي أحدثه؛ بل إنه مغتبط لعسعسة‬
‫دسها في كالمه معسولة‪.‬‬
‫البلبلة‪ ،‬وقد ّ‬
‫أية وديعة تلك وما مقدارها‪.‬؟‪ .‬ومثله ال يحكي عن "براغيث ومتاليك"‪ C.!.‬قيل‬
‫إنها ثروة طائلة‪ ،‬وقيل إنها ما خصصته السلطنة لنفقات المسير‪ .‬أين تخفيها‬
‫النمرودة‪.‬؟‪ .‬أكنت ووالدك تتشدقان بغير ما تأتيانه في الخفاء‪.‬؟‪.‬‬
‫هاقد افتضحتما‪ ،‬ويا لخزيكما‪ .!.‬هكذا إذاً‪ .!!.‬فاألب صاحب الضابط ذي‬
‫وشاب بأول العمر‪ .!.‬يا لنا‬
‫ٌ‬ ‫المال‪ ،‬وابنته صاحبة الضابط ذي الفتاء‪ .‬جاهٌ وما ٌل‪،‬‬
‫من ُغ ّفل‪ C.!.‬سقط برقعك يا قمر‪ ،‬وأميط اللثام عن لحية والدك البيضاء‪ .‬فيا لسواد‬

‫‪- 162 -‬‬


‫وجوهنا بعيبكما‪.‬‬
‫‪( :-‬أين أنت يا وحيد قلبي‪ C..‬أواه يا كمال‪.‬؟!)‪C.‬‬
‫رأت الصبي حمزة فأومأت له‪ ،‬نظر إليها فبكى وطفش‪.‬‬
‫‪( :-‬حتى أنت يا صغيري‪.).!.‬‬
‫إلي يا قمر‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ما الذي تناهى ّ‬
‫شعرت كأنه أنشوطة المشنقة انحلّت عن رقبتها‪ ،‬بعد أن كادت تخنقها‪،‬‬
‫حضنت الجدة نور ونشجت‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫رضخ الضابط لرغبة "نتيفا" وصحبها‪ ،‬فخرير الماء في الجدول الصافي‪،‬‬
‫طقس – ٍ‬
‫بتكتم يتطلبه ظرفهم –‬ ‫ٍ‬ ‫حد ال يقاوم‪ ،‬والمكان مناسب إلحياء‬ ‫مغر إلى ٍ‬
‫ٍ‬
‫يعوضهم عن عيد "الهانوكاه"‪ ،‬وقد فاتهم االحتفاء به‪.‬‬
‫ّ‬
‫أمر باستراحة في المرج قرب‬‫ناور مرؤوسه كماالً‪ ،‬وأوجد ممرقاً إلصدار ٍ‬
‫نقع من جهة الشرق‪ ،‬ثم ظهور كوكبة فرسان على التلة‬‫الجدول‪ ،‬لكن ارتفاع ٍ‬
‫خيالة من الشمال‪ ،‬ومن خلفهم‬
‫القريبة‪ ،‬والتفاف جريدة من المسلّحين‪ ،‬وتقدم رعيل ّ‬
‫متأهبة‪ ،‬ودرداب طبل عال‪ ،‬كأنما ينذر‬
‫مشاة‪ ،‬وفي الجنوب وقفت ثلة ّ‬‫بدت شرذمة ٍ‬
‫ارتياح‪ .‬فهاهم في‬
‫ٍ‬ ‫توتر وعدم‬ ‫ٍ‬
‫بحرب ومقارعة‪ ،‬كل ذلك لفت االنتباه‪ ،‬ودفع إلى ٍ‬
‫ٍ‬
‫حصار‪ ،‬ثم سمعوا‪:‬‬ ‫حالة‬
‫‪ :-‬يا‪ ..‬هوو‪ ..‬أنتم هناك‪ .‬عيروا آغا يأمركم باستئناف سيركم‪ ،‬والخروج‬
‫من أرضه في الحال‪.‬‬
‫حاول الضباط عثمان تأليب الناس‪ ،‬واستنفر عسكره واضعاً الشر بين عينيه‪،‬‬
‫شاتماً عيرو آغا‪ ،‬خصمه اللدود‪ ،‬بأقذع السباب‪ ،‬لكنه خنع إثر اطالعه من "حمو"‬
‫ابن اآلغا‪ ،‬على كتاب صريح بتوقيع وختم والي حلب‪ ،‬يمنع العسكر من الحلول‬
‫بأرض اآلغا‪C.!.‬‬
‫مجتراً سخطه‪ ،‬وتراءت لـه أفاعيله المتكررة‪ ،‬وقد أذاق اآلغا‬
‫انزوى ّ‬
‫وجماعته المرائر‪.!.‬‬
‫أن الوجهاء التقوا ابن‬
‫ولم يستطع الضابط كمال إقناع "حمو" بشيء‪ ،‬إال ّ‬
‫اآلغا‪ ،‬فأبدى تعاطفاً‪ ،‬متأثراً بأحوالهم المزرية‪ ،‬فنقل صورتهم إلى والده‪ ،‬ثم عاد‬
‫بالجواب‪:‬‬

‫‪- 163 -‬‬


‫‪ :-‬أما أنتم فعلى الرحب والسعة‪ ،‬وأما العسكر فـ‪ ..‬ال‪.‬‬
‫حمي وطيس النقاش‪ ،‬واحتد الخالف‪ ،‬بين رأس العسكر وجماعة الوجهاء‪.‬‬
‫نزاع ٍ‬
‫حاد؛ بين صفته الرسمية‪ ،‬وما تمليه عليه‪،‬‬ ‫ووجد كمال نفسه على الحياد‪ ،‬في ٍ‬
‫وبين خلجات الوجدان وما تأخذه إليه‪ ،‬وكان الفصل بين الناس وطوق العسكر‪،‬‬
‫يحتاج إلى ٍ‬
‫قرار من صاحب قرار‪.!.‬‬
‫وآل الح ّل إلى الضابط عثمان‪ ،‬فسأل عن "ضيعات فوزي بك" فأحيط علماً‬
‫أنها المتاخمة‪ ،‬وسيكونون فيها مع الغروب‪ ،‬إذا أغ ّذوا السير دون ٍ‬
‫تلكؤ‪ ،‬وال شيء‬
‫بشد الرحال‪.‬‬
‫يجعلهم يتباطؤون ّ‬
‫فنظر ناحية قافلة "نتيفا"‪ ،‬ودمدم‪:‬‬
‫‪( :-‬لكأن الحظ يحالفكم أيها األعزاء‪ ،‬بقدر ما يجافي أوالد الكلب هؤالء‪.).‬‬
‫وجر الناس أرجلهم المتعبة إلى هناك‪ ،‬والشمس تمارس طقسها المألوف‪،‬‬ ‫ّ‬
‫منسحبة بتؤدة عن أطراف النهار‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ :-‬هي ذي حالتي يا أمي نور‪.‬‬
‫‪ :-‬هكذا إذاً ‪ ..!.‬سليمان… تعال‪.‬‬
‫أتاها عجالً‪ ،‬فأعلمته أنها تريد الحكيم إدريس على انفراد‪.‬‬
‫وانفردا في عربتها‪ ،‬وأمضت الدرب معه مستفسرة‪ ،‬تسأل مستفهمة تنصت‬
‫مستوعبة‪ ،‬تستوضح‪ ..‬تستمع‪ .‬فأدركت معرفته بحال جثة الميت مسموماً‪،‬‬
‫تجبرها‬
‫ووجدها مطرقة متسارعة األنفاس‪ ،‬سادرة العينين‪ ،‬تداري كآبة داست ّ‬
‫ووطئته‪ ،‬وصمتها مطبق عميق… فتركها ومضى دون أن يفهم ما تنوي‪ ،‬وظ ّل‬
‫ولما يزل منشغالً بحال الجندب النطاط ألتفه‬
‫راغباً لو سألها سؤاالً ليس سواه‪ّ .‬‬
‫األسباب‪ ،‬وبعض الطير تُقتل حاضنة بيضها‪ ،‬راقدة عليه والخطر يحيطها‬
‫محاصراً من فوق وتحت‪ ،‬وباقي الجهات‪C.!!.‬‬
‫وتضيفت الشمس غرباً‪ ،‬تستعد لقضاء الليل والمبيت الحالم؛ أو السهر مع‬
‫ّ‬
‫تبدل‬
‫ّ‬ ‫العرس‪،‬‬ ‫ليلة‬ ‫ٍ‬
‫بحناء‬ ‫مخضبة‬ ‫أقدام‬ ‫عن‬ ‫تتحفى‬ ‫والعين‪.‬‬ ‫والقلب‬ ‫الروح‬ ‫حبيب‬
‫ٍ‬
‫بقرمز وتوابل‬ ‫ثوبها‪ ،‬فتستحم بمنقوع أوراق شجر الجبال‪ ،‬حملتها معها مخلوطةً‬
‫الشرق‪ ،‬تعطر به جسدها‪ ،‬وترشقه على عتبات مخدعها المترف‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫سر فيك‪.‬؟!‪ .‬رقراق سلسبيل‪ ،‬تناتل النبت على‬
‫‪ :-‬وأنت‪ ..‬أيها الماء‪ ..‬أي ٍّ‬

‫‪- 164 -‬‬


‫تنوع وتش ّكل أشكاالً وتلّون‪ ،‬قصب ونعناع الماء وسماق‪ ،‬والبقلة الحمقاء‪،‬‬
‫جانبيك‪ّ ،‬‬
‫تمجد مبدعها‪ ،‬ونجيل مجدول‪ ،‬وعشب غض‪ ،‬ومرج ال تضاهيه سجاجيد‬ ‫وأقاح ّ‬
‫ٍ‬
‫قصور األكاسرة والقياصرة واألباطرة‪ C.!.‬الطرخون حيثما كان والنفل‪ ،‬وحشائش‬
‫عصية على الخيال‪ .!.‬وفي الخصور الهادئة شبه‬‫ّ‬ ‫وأزاهير ال تخطر على بال؛‬
‫مستجمة‪ .‬إنه يعشقك يا‬
‫ّ‬ ‫جد عريضة‪ ،‬طفت‬ ‫النيلوفر وروداً وأوراقاً ّ‬
‫الراكدة‪ ،‬يستحم ّ‬
‫ويزين نواحيك‪ ،‬وعلى حافتيك تتباهى نبتات‬
‫يتبرج لك ّ‬ ‫نهر‪ ،‬فحياته منك وفيك‪ّ ،‬‬
‫الحلفاء والبردي‪ ،‬ترنو إلى الصفصاف والدردار‪ ،‬وأعشاش طيور على األفنان‪،‬‬
‫تنوع شكله ولونه‪،‬‬
‫تنغم به طير ّ‬
‫سجع القمري يهاتف زقزقة عصافير‪ ،‬وتغريد ّ‬
‫تتربص بها بنات آوى‪،‬‬
‫وبعوض يط ّن وذباب وجنادب وفراشات‪ ،‬وضغيب أرانب ّ‬
‫وضباح ثعالة تحاور ثعلباً هناك‪ ،‬كأنما تدعوه ليتيقظ لبطيطة بطات سمان؛‬
‫غائصات عائمات فيك جماً وضحالً‪.‬‬
‫متوحد‬
‫ّ‬ ‫ويدعو إلى العجب‪ ،‬نقيق متقطّع متناوب متواتر مختلط متواصل‪،‬‬
‫شدته كلما اقترب المرء منك‪ .‬عجيبة‬
‫محتد‪ ،‬كأنه لمخلوق خرافي هائل‪ ،‬تزداد ّ‬
‫وحياتك وسالحفك‪ ،‬وأعجب منها ضفادعك المخضوضرة‪ .‬أيمكن‬ ‫شبابيطك ّ‬
‫عدها‪.‬؟‪ .‬أهي آالف‪.‬؟‪ C.‬أم أنها أكثر من الحصى‪.‬؟‪.‬‬
‫ّ‬
‫سألوا عن اسم النهر‪ ،‬فتفاصح "األومباشي" قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬تلك هي الضفادع تجيبكم‪.‬‬
‫فبدا كالمه مسخرة‪ ،‬لم يغضب‪ .‬إنما دعاهم أن يضبطوا إيقاعها‪.‬‬
‫‪( :-‬قويق‪ ..‬قويق‪ ..‬قويق‪C.)..‬‬
‫‪ :-‬بلى‪ C..‬إنه نهر قويق‪.‬‬
‫تناققوا مقلّدين‪ ،‬وأضحك بعضهم بعضاً‪ ،‬وراحوا يتراشقون خائضين‪،‬‬
‫مراقبين طائر ِ‬
‫القرلي‪ ،‬وهو يخطف صغار السمك بحركة رشيقة‪ ،‬ثم يذهب إلى‬
‫حيث يزدردها مطمئناً‪.‬‬
‫وأمسك بعضهم السرطانات‪ ،‬قاذفين بها إلى الشط‪ ،‬مراقبين مشيها الغريب‬
‫إلى هذا الجنب أو ذاك‪ .!.‬واألومباشي يداعبهم‪:‬‬
‫‪ :-‬أيها العالجيم‪ ..‬كأنكم ذكور الضفادع والبط‪ .!.‬حذار أن يجرف الماء‬
‫أحدكم‪ ،‬فيصل قبلنا إلى حلب‪.!.‬‬
‫وراحت النسوة يمألن األكواز والجرار‪ ،‬مستمتعات بمجمل ما يحيط بهن‪،‬‬
‫ونبهتهن جلبهار إلى بقبقة أوانيهن في الماء‪ ،‬وعقعقة ذاك الطائر المسرع بطيرانه‬

‫‪- 165 -‬‬


‫فوقهن وفي أنحاء األجواء‪ ،‬ومدى تشابه الصوتين‪:‬‬
‫‪ :-‬بلى‪ C..‬إنه طائر العقعق‪.‬‬
‫تنفّست أمينة بعمق وهتفت‪:‬‬
‫‪ :-‬تبقى الحياة جميلة مهما كان‪.‬‬
‫وتنهّدت "أُلفت" متحسرة وقالت‪:‬‬
‫‪ :-‬لو ما بلّدوا مشاعرنا‪ ،‬ومسخوا أحاسيسنا‪.!.‬‬
‫ودغدغت قمر عزلة هوريك قائلة‪:‬‬
‫‪ :-‬إن لم يكن من وقت للسرور‪ ،‬فال وقت أيضاً للحزن‪ .‬نفّسي عنك أيتها‬
‫الجميلة هوريك‪ ،‬وها نحن معك نحاول الرضى بالنصف المملوء من اإلناء‪.‬‬
‫قفزت أمينة إلى قمر تعانقها بلهفة وود‪ ،‬لكأنها عليلة برئت من مرضها للتو‪.‬‬
‫***‬
‫بدلت قافلة " نتيفا" وصحبها مكانها‪ ،‬ملتفةً شماالً‪ ،‬منعطفةً حول مجرى‬ ‫ٍ‬
‫آنئذ ّ‬
‫بعد‪ ،‬ال تسمع خالله إحدى القافلتين أصوات األخرى‪ ،‬وتلك هي تستقر‬ ‫النهر‪ ،‬وإ لى ٍ‬
‫غناء‪ ،‬بين أشجار الدغل المحيط بـ "قناق" فوزي بك‪.‬‬
‫قصر موقعه غوطة ّ‬ ‫قرب ٍ‬
‫اطمأن الضابط عثمان إلى أن "البك" فهم رسالته‪ ،‬وهو بهذا قرن القول‬
‫بالفعل‪ ،‬مؤكداً صدق حماسه المفرط‪ ،‬كلما جمعهما المحفل‪.‬‬
‫بينما أمضى الناس مساءهم يشوون األسماك‪ ،‬وكميات هائلة من الضفادع‪،‬‬
‫وقد هدتهم هوريك إلى طريقة تحضيرها‪ ،‬فجعلتهم يتخمون بعد ضور…‬
‫وهناك‪ ،‬أقام "البك" احتفالية لنتيفا وصحبها‪ ،‬وأوقدوا "المنورة –الشمعدان"‪،‬‬
‫ولبسوا القفاطين والمعاطف الثقيلة‪ ،‬وأردية عباءات "الظلت"‪ ،‬والقالنس الوبرية‬
‫السميكة والزنانير‪ ،‬وعلى رأسهم الحاخام‪ ،‬بقلنسوته المثبتة على مقدمتها حلية ذهبية‪،‬‬
‫الحزان‬
‫يحف به ّ‬
‫محفور عليها "مقدس الرب"‪ ،‬مخيطة بخيوط الحرير البنفسجية‪ّ ،‬‬
‫ونافخ البوق وخادم المعبد وحارسه‪ ،‬فأخذ من خزانة –قدس األقداس‪ -‬التلمود وسفر‬
‫تحول إلى "كنيس"‪.!.‬‬
‫أستير‪ ،‬وقرأ منهما على رؤوس الجمع‪ ،‬لكأن المكان ّ‬
‫"المن" مما خبؤوه من إفراز‬
‫وفي الجانب اآلخر أعدوا مائدتهم الخاصة‪ ،‬من ّ‬
‫ذاك النبات السكري‪ ،‬وأضافوا إليه "السلوى" من طيور السماني ِ‬
‫والفري‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬
‫وفّرها فوزي بك بكميات كافية‪ ،‬بينما علّق " ُش ِ‬
‫وحيط؛ المأذون لـه بالذبح"‪ ،‬ذينك‬
‫الكبشين‪ ،‬ورأساهما إلى أسفل‪ ،‬فذبحهما وغطى آثار الدم بالتراب‪ ،‬وتولى‬

‫‪- 166 -‬‬


‫مساعدوه السلخ والطبخ‪ ،‬فبذخت المأدبة حافلة باألطايب‪ ،‬فخر "البك" بها‪ ،‬لكن‬
‫وتلمست نتيفا له عذراً‪،‬‬
‫متعتهم منقوصة لتخلّف الضابط عنها‪ ،‬فوافقوه مجاملين‪ّ ،‬‬
‫فهو يغطي عليهم‪ ،‬ويلهي األعين عنهم‪ ،‬فموقفه دقيق الحساسية‪ ،‬ومهمته عظيمة‬
‫الصعوبة‪.‬‬
‫مثمنة مقامرته بحمايتهم‪ ،‬ريثما يبتعدون عن وجار‬
‫وأطنبت أستير بمدحه‪ّ ،‬‬
‫الضبع‪.‬‬
‫قال صموئيل‪:‬‬
‫‪ :-‬ضبع وجراء وجيف‪ ،‬هكذا هم‪ ،‬نخنعهم؛ بل نطهّر البسيطة منهم‪.‬‬
‫رد هيلل‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬ولكنهم أغلبية كثيرة‪.‬‬
‫فنسخرها‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬حين نعطب الرؤوس‪ ،‬ال أهمية للحثالة المتبقية في القعور‪،‬‬
‫للخدمات الوضيعة‪ ،‬أما العليا فال يرقى إليها إالنا‬
‫كبتت (نتيفا) غيرتها؛ إذ لمست في كالم أستير مؤايدة‪ ،‬لكنها لم ترتح‬
‫لطريقتها في اإلطراء‪ ،‬وتمنت لو جاء ذلك من آخر‪ ،‬ولحظت أستير غيرة‬
‫غريمتها‪ ،‬فناكدتها وجعلت من سيرة "كاهانا" مآل حديثهم‪ ،‬على أنها أقربهم إليه‪،‬‬
‫يفوتها "البك"‪ ،‬فزايد ممتدحاً الضابط واصفاً إياه بالصديق‪ ،‬أما فعله‬
‫وهي فرصة لم ّ‬
‫فال يتعدى الواجب‪ ،‬وإ ال كيف لـه أن يكون من جنود (يهوه)‪ ،‬مخلصاً ليشوع‬
‫وتعاليم التلمود‪.‬؟‪ .‬وحمس حتى كادوا يحسبوه حبراً من أحبارهم الكبراء‪.!.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ … :-‬نعم‪ ..‬هذا ما أ ّكده قبيل أن يسلّمها‪.‬‬
‫بذا ختمت قمر مكاشفتها‪ ،‬فوجم الحاضرون‪ ،‬ونظر حمزة وتوفيق أحدهما‬
‫نم صريح عما كبتاه طوال الفترة المنصرمة‪.‬‬ ‫كل منهما ٌّ‬ ‫إلى اآلخر‪ ،‬وفي عيني ٍّ‬
‫وتكررت في ذاكرة توفيق لحظات قصقصها ذهنه من مجمل أحداث ذاك‬
‫اليوم المشؤوم‪ ،‬فبرزت له لحظة نادى أبوه ذلك الرجل‪:‬‬
‫‪( :-‬مائير‪.).!.‬‬
‫دقّت الجدة نور بعصاها‪ ،‬فطبطب الديك جناحيه‪ ،‬وصاح صيحة واحدة‪ ،‬ثم‬
‫اعتلى طرف الخيمة‪ ،‬محركاً باصرتيه في الجهات‪ ،‬واستمرت الجدة بدقاتها‪ ،‬كأنها‬
‫صور‬ ‫ٍ‬
‫بخيوط‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لحظتئذ أشاحت هوريك وجهها رابطة خيطاً‬ ‫تزيح شكاً عن يقين‪.‬‬
‫ٌ‬

‫‪- 167 -‬‬


‫تجرح الذاكرة وتخدش الوجدان‪ ،‬تفتق ما كاد يندمل‪ ..‬سلعة في‬
‫تقاوم النسيان‪ّ ،‬‬
‫ماخور التاجر النخاس‪ ..‬قضم الحلمة‪ ..‬وليلة القبض عليها‪ ،‬إثر محاولة هربها من‬
‫جنين يندلق‬
‫بطن تُبقَر‪ٌ ..‬‬
‫المشرعة كشوك القنفذ‪ٌ ..‬‬ ‫ّ‬ ‫"قناق" أحد البكوات‪ ..‬الحراب‬
‫لحم يختلج هنيات‪ ..‬الحبل السري يتأرجح بين ٍ‬
‫رحم ومحتواه‪ .‬كان‬ ‫ساقطاً كومة ٍ‬
‫ذكراً‪ .!.‬وكان أبوها وافقها أن يسموه "هوسيب"‪ ،‬و "سيرانوش" إن كانت أنثى‪.‬‬
‫وتكاثفت في مخيلة الحكيم إدريس‪ ،‬مجمل حيثيات السويعات التي سبقت وليمة‬
‫الضابط‪ ،‬باسم الشيخ اإلمام‪ .‬تلك التي حمس مصراً على إقامتها‪ ،‬وموت ضيف اهلل‬
‫ٍ‬
‫متقصد‪ ،‬بأن يضعوا صليباً على‬ ‫عرى مفاصلهم لعين‬ ‫على إثرها‪ ،‬والحرج الذي ّ‬
‫قبر "القندلفت"‪ ،‬أو ال يضعون‪ ،.!.‬كانت إشارات متتالية‪ ،‬إنما المالمة على صفاء‬
‫سريرة‪ ،‬وطيبة قلب إلى حد الغباء‪ .!.‬أواه من الظن باآلخرين كحسن الظن‬
‫بالنفس‪ ،.!.‬إالم النظافة في زمن لوثته القذارة‪.‬؟‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وقتئذ كان اإلسكافي يعقوب يجوب المكان‪ ،‬رافعاً عقيرته ٍ‬
‫بقول طالما كرره‪:‬‬
‫‪ :-‬أيها األنقياء من البشر‪ ،‬تزنزوا بجذوركم مثل الشجر‪ ،‬وقت األعاصير‬
‫والمحن‪.‬‬
‫سأل رشاد‪:‬‬
‫‪ :-‬أيها الحكيم‪ .‬أمتأكد أنت‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬سترون العالمات ذاتها على الجثتين‪.‬‬
‫‪ :-‬جثتان‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬أي نعم‪ ،‬فإن كان ضيف اهلل مات مسموماً‪ ،‬فإن مائير –القندلفت‪ -‬مات‬
‫بالسم أيضاً‪ ،‬وبالتالي فإن تلك األمارات إن ثبتت‪ ،‬تجعلني أصر أن القاتل واحد‪.‬‬
‫كنمر غاضب وصاح‪:‬‬ ‫وثب توفيق ٍ‬
‫‪ :-‬الويل له‪ ..‬سأقتله‪ ،‬ابن الحرام‪.‬‬
‫أمسك به رشاد وعبد اهلل‪ ،‬وأجلساه‪ ،‬وطلبت الجدة نور أن يهدأ‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫للتهور‪ ،‬واألمر‬
‫‪ :-‬دعونا نجعل الخيوط تتجمع في عقدة واحدة‪ ،‬فال سبيل ّ‬
‫برمته يحتاج إلى دهاء‪.‬‬
‫هتف الصبي حمزة‪:‬‬
‫عم سألت‪.‬‬
‫‪ :-‬تذكرت‪ ..‬إنها هي‪ .‬أتتنا هناك وسألت‪ .‬لم أعد أذكر ّ‬
‫‪ :-‬عمن تتكلم‪.‬؟‪.‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫‪ :-‬نتيفا‪.‬‬
‫‪ :-‬القديسة‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬لم تكن قديسة‪ .‬أقصد لم تكن ترتدي حلة القديسة‪.‬‬
‫‪ :-‬متأكد يا ولد‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬نعم‪ ،‬وأقسم‪.‬‬
‫‪ :-‬ما معنى ذلك‪.‬؟!‪.‬‬
‫قال سليمان‪:‬‬
‫‪ :-‬هذا خيط آخر‪.‬‬
‫سأل إبراهيم‪:‬‬
‫‪ :-‬أتذكرون الشمعدان والكتاب‪.‬؟‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعض‪ ،‬وفي عيونهم ماهو أوضح من الكالم‪.‬‬ ‫نظر بعضهم إلى‬
‫قال إدريس الحكيم‪:‬‬
‫‪ :-‬لو تسنى لي معرفة إن كانوا مختتنين‪.‬؟‪C.‬‬
‫رد رشاد‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬هل أراقبهم إن اغتسلوا في النهر‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬حاول‪.‬‬
‫‪ :-‬ما الذي ذهبت إليه أيها الحكيم؟‬
‫‪ :-‬أشك بنصرانيتهم‪.‬‬
‫‪ :-‬ليس يهمنا ذلك في شيء‪.‬‬
‫‪ :-‬ولكنه خيط قد يحل اللغز‪.‬‬
‫‪ :-‬علمتني الحياة أن حل األلغاز‪ ،‬تزيد تعاسة الضعفاء أمثالنا‪ .‬يعرفون‪C..‬‬
‫وال يقدرون‪ ،‬وفي ذلك متعسة‪.‬‬
‫وصير‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬ما الذي قلب األوادم إلى وحوش‪.‬؟‪ .‬وما الذي جعل القتل هيناً‪،‬‬
‫الدم مألوفاً‪.‬؟‪ .‬وإ زهاق األرواح فعالً يومياً‪.‬؟‪.‬‬
‫رد الحكيم إدريس متأسياً‪:‬‬
‫ّ‬
‫خفية‪.‬؟‪ .‬مريعة تلك التي تناهت‬
‫‪ :-‬كأنها علل شيطانية‪ .‬أتساءل‪ :‬أهي حرب ّ‬
‫إلي‪ ،‬في سفري إلى وارسو وإ زمير وبوخارست وأدويسا‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫سأل رشاد متعجالً‪:‬‬
‫‪ :-‬وما ذاك‪ ..‬أفصح‪.‬؟‪C.‬‬
‫سرية‪،‬‬
‫‪ :-‬األطفال الذين أخذوهم من أهليهم‪ ،‬وضعوهم في مراكز تدريب ّ‬
‫محوا فيها ذاكرتهم الطرية‪ ،‬وجعلوهم آخرين‪ ،‬جنوداً أجالفاً يحبون بنادقهم‪،‬‬
‫يبيدون الخلق‪ ،‬بمن فيهم ذويهم‪ ،‬كأنهم يصطادون األرانب‪..!.‬‬
‫أكد سليمان أنه قرأ عن مثل هذا‪ّ ،‬إبان دراسته‪ ،‬وأنهم بعثوا من هؤالء‪ ،‬إلى‬
‫أولئك‪ ،‬ومن تلك البالد إلى غيرها‪.‬‬
‫‪ :-‬إنهم مسوخ ال يمثلون أصولهم‪.‬‬
‫‪ :-‬تقول ذلك جزافاً‪ ،‬بينما يمشي أولي األمر بالنميمة‪ ،‬فيوغرون صدور‬
‫المجني عليهم‪ ،‬على أصول أولئك المسوخ‪.‬‬
‫‪ :-‬هذا يعني أنهم يعترفون بحقيقة أولئك األدوات‪.!.‬‬
‫لردهم إلى أهليهم‪ .‬إنما‪..‬‬
‫المخفية‪ ،‬وليس ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬ليس اعترافاً بالحقائق‬
‫شر جاسوا به شراً‪ .!.‬إنها الفتن ونعر العصبية‪.‬‬
‫‪ :-‬اللعنة‪ٌ ..‬‬
‫‪ :-‬قد يكون بين العسكر ممن حولنا‪ ،‬من هم منا‪.‬‬
‫‪ :-‬وربما بعضهم من ذوي هوريك‪.‬‬
‫‪ :-‬ومن أهل مريومة‪ ،‬ومن بلد الضابط كمال‪ .‬ربما‪..‬‬
‫‪ :-‬ليسوا كلهم على ذاك المنوال‪ ،‬فثمة آصرة تربط غالبيتهم بآباء وأمهات‪.‬‬
‫‪ :-‬صحيح‪ C..‬فمنهم من له أهل يعرفهم‪ ،‬ويقتله الشوق إليهم‪.‬‬
‫‪" :-‬القابي قول" ال يعرفون سوى أنهم عبيد السلطان‪.‬‬
‫‪ :-‬وِل َم تذهبون بعيداً‪.‬؟‪ .‬دونكم تبديل أسمائنا‪.‬‬
‫انشق عنا‪ ،‬وأمسى أداةً طوع الضابط‬
‫ّ‬ ‫السكيت‪.‬؟‪ .‬ذاك هو‪..‬‬ ‫‪ :-‬وهل نسيتم ّ‬
‫التمساح‪.‬‬
‫نبر سليمان غاضباً‪:‬‬
‫‪ :-‬سافل‪ .‬رخيص‪ .‬حقير‪.‬‬
‫نظرت الجدة نور إلى حفيدها‪ ،‬نظرة إشفاق مترعة بهز ٍء ومرارة‪ ،‬ونبست‪:‬‬
‫‪ :-‬أحقاً‪ ،.!.‬وكيف إن دللتك على من هو أحقر منه‪.‬؟‪ .‬قلبي يحترق أيها‬
‫الغرير‪ ،‬وفي فمي وحل‪.‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫همست أمينة في أذن قمر‪:‬‬
‫‪ :-‬أخشى أنها قصدتك‪ ،‬فالسِّكيت على غرامه بك‪ ،‬لم تأبهي به‪ ،‬ولعلها ترى‬
‫أن ذلك سبب ضياعه‪.‬‬
‫‪ :-‬الحق معها إن عنتني حسب ما تهجسين‪ ،‬لكنها قصدت ابنها الوجيه‪.‬‬
‫استدرك إبراهيم قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬بعدنا عما بدأناه‪ ،‬والمشكلة قائمة‪.‬‬
‫‪ :-‬بل نحن في صلبها‪ ،‬فهذا من ذاك‪ ،‬ولعلنا لمسنا ما أرجأناه طويالً‪.‬‬
‫امتأل فم الحكيم إدريس بسؤال ملحاح كبير‪ ،‬رغب أن يوجهه إلى الجدة نور‪،‬‬
‫لكنه تريث فأرجأه‪.‬‬
‫‪ :-‬واآلن… ماذا ترون‪.‬؟‪C.‬‬
‫فحدجتها عيون ّثبتتها الدهشة!‬
‫ستقر للضابط بالمال‪ّ ،‬‬
‫أعلنت قمر أنها ّ‬
‫‪ :-‬ن ّشفت أرياقنا‪ ،‬أيتها النمرودة‪ ،‬والمال عندك‪.‬؟!!‪C.‬‬
‫يفج رأسه‪ ،‬وإ ياكم أن تصدقوا خرطه‪.‬‬
‫‪ :-‬ال مال وال صداع ّ‬
‫تقرين به‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬فكيف إذاً ّ‬
‫مغيبة‪.‬‬
‫‪ّ :-‬أيدوني‪ ،‬وسترون حقيقة ّ‬
‫قالت الجدة نور غامزة مبتسمة‪:‬‬
‫‪ :-‬ثقوا بها‪ ،‬فهي شموس ال جدل‪ ،‬لكنها صادقة‪.‬‬
‫‪ :-‬والضابط التمساح ليس سهالً‪.!.‬‬
‫‪ :-‬لذلك أريد الضابط كماالً معنا‪.‬‬
‫سأل إبراهيم‪:‬‬
‫تحرك رأسه نحوك يا قمر‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أية أفكار شيطانية ّ‬
‫‪ :-‬ها نحن نسعى لنعرف ذلك‪ .‬حمزه‪ ..‬اذهب إلى الضابط كمال‪ ،‬أخبره أننا‬
‫قادمون بأثرك‪.‬‬
‫كان رمضان اللص‪ ،‬نوى أن ينهي المسألة‪ ،‬قبل أن يقرر أولئك الحمقى‪C،‬‬
‫إعادة الوديعة‪ ،‬إلى ذاك الضبع األغبر‪ .‬فتّ َش ونبش‪ ،‬قلّب كل ما حوته خيمة قمر‪،‬‬
‫الكرة دون طائل‪ ،‬فحنق وتسلل مقهوراً‪.‬‬
‫استشاط وشتم‪ ،‬أعاد ّ‬
‫وكان الوجهاء وبضعة عشر رجالً متحلّقين‪ ،‬والشيخ اإلمام يشرح‪ ،‬وعمر‬

‫‪- 171 -‬‬


‫ابن إدريس الحكيم يقرأ‪ ،‬عن سراقة بن عمر‪ ،‬وسلمان بن ربيعة الباهلي‪ ،‬وكيف‬
‫أنهما حمال الرسالة من أم القرى‪ ،‬إلى ذاك الشمال القصي‪ ،‬جلس رمضان متطرفاً‬
‫ضجراً‪ ،‬بينما الوجيه عبد المجيد يسأل عن الهجرة إلى الحبشة فأسهب الشيخ وهم‬
‫منصتون‪ ،‬فانسحب بهدو ٍء‪ .‬مشى‪ .‬حبا‪ .‬زحف‪ ،‬راقب‪ ،‬غافل ودخل الخيمة‪ ،‬نظر‬
‫قصر في المرة السابقة‪ .‬تناول‬
‫موضع لم تصل إليه يده‪ ،‬فوجد أنه ما ّ‬
‫ٍ‬ ‫باحثاً عن‬
‫عضها‪ ،‬استنشقها‪ ،‬شعر ٍ‬
‫بنار تتقد في‬ ‫ضمها‪ّ ،‬‬ ‫شمها‪ّ ،‬‬ ‫بعض ثيابها وآثارها‪ ،‬قلّبها‪ّ ،‬‬
‫كيانه‪ ،‬اختلج محموماً‪ ،‬خرج كيفما اتفق‪ ،‬تعقّب شباناً تسللوا خلف النهر‪ ،‬حيث‬
‫بعض من عشرات الخيام هناك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رايات حمر فوق‬
‫***‬
‫ق‪ ،‬وجد كمال نفسه بينهم محرجاً‪.‬‬ ‫ضي ٍ‬ ‫وكمن وضعوا قدميه في ٍ‬
‫حذاء ّ‬
‫اتَّضحت الصورة أمامه بتفاصيل مرعبة‪ ،‬فوقف مشتتاً بين نوازع فكره وقلبه‬
‫وبزته التي تكبله‪ ،‬فبدا متصدعاً مشطوراً‪ ،‬وإ رادته منغلقة بأغاليق عصية‪ ،‬فما‬
‫ّ‬
‫ك أغالله ويدفعه إلطالق مشاعره‪ ،‬فيعمل بأفكاره‪.‬؟‪C..‬‬
‫الذي يف ّ‬
‫وإ لى هذا رأى نعمان أن العقبة الكأداء في بداية تفككها‪ ،‬وال بأس‪ٌّ ،‬‬
‫فكل‬
‫منشغ ٌل بما يهمه‪ ،‬ولعلها الحياة أفاقت عائدة إلى مجراها‪ ،‬تروح بالناس إلى‬
‫مغنية‪ ،‬وفتيات يتنظّفن مرددات معها‪:‬‬
‫مشاربهم في تشعباتها‪ .‬هناك تستحم جلنار ّ‬
‫‪( :-‬في الجدول الصافي اغتسلي‪ C..‬في الجدول الصافي‬
‫حذار من عيني الراعي البراقتين‪ ..‬حذار حذار)‪.‬‬
‫وجوقة البياطير انزووا في خصر منعطف النهر يستحمون منتعشين‪ ،‬وعزيز‬
‫مروض الخيل‪ ،‬ذاك هو‪ ..‬ينسى نفسه وينظف حصانه "الكبرديني"‪ .‬يغسله‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بنبتات خاصة‪ .‬وأولئك عدة أنفار يتحينون الفرصة األنسب ليفروا إلى‬ ‫يضمخه‬
‫ّ‬
‫أهليهم في جنديرس ومنبج وجرابلس…‬
‫كل مشغول بحاله‪ ،‬وتلك زوجة ضيف اهلل تحاور‬ ‫هذان وذاك وهؤالء‪ٌّ ،‬‬
‫مشاعرها المغمودة‪ ،‬يتراءى لها األبهى‪ C..‬األجمل‪ ..‬األصفى‪ C..‬األنقى‪ ،‬األقرب‬
‫عودة‪ ..‬تلك حاجاته وسرج حصانه‪ ،‬وها هي‬ ‫ِ‬ ‫واألبعد‪ ،‬أواه‪ ..‬قد مات‪ ..‬ذهب بال‬
‫ذي عيناه تحدقان‪ ،‬فيهما قوة ألق محرج‪ ،‬نظراته ج ّذابة تبعث الخدر فيمن تقع‬
‫نعاس ٍ‬
‫لذيذ‪ .‬عشقته عشية قدومه وأحبها‪ ،‬تعايشا عمراً؛ وما‬ ‫ٍ‬ ‫تحرض على‬ ‫عليه‪ّ ،‬‬
‫بشيء‪ ،‬لم تعرف ِل َم جاء ومن أين‪ .!.‬ولم تقطع عليه شروده المتكرر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أثقل عليها‬
‫تنتابها اآلن ندامة‪ ،‬فهي لم تعرف اسمه الحقيقي قط‪ .!.‬أتى ضيفاً‪ ،‬وها قد مضى‬

‫‪- 172 -‬‬


‫محدقاً‬
‫ظل ّ‬‫مثل نسيم لطيف‪ .‬سألته مرةً عالم يطيل النظر إليها ويطول شروده‪.‬؟‪َّ .‬‬
‫ألي قال لها دون أن تسأله‪:‬‬
‫في وجهها؛ ثم ابتسم دون أن يتكلم‪ ،‬وبعد ٍّ‬
‫‪( :-‬واجهتني أسباب الموت كلها‪ ،‬كل منها يفني رهط رجال‪ ،‬وبأم عيني‬
‫مر زؤام‪ .‬وها أنذا أراك سبحان من أبدعك‪ ،‬فكيف ال أتف ّكر‬
‫نوع ٌّ‬
‫رأيت أنواعه‪ ،‬كل ٍ‬
‫بالذي أحسن ما خلق‪.‬؟!)‪C.‬‬
‫يقدم وال‬
‫يبدل من حالها‪ ،‬وما نووا ال ّ‬
‫ال شيء مما قالوه أو قرروه الليلة‪ّ ،‬‬
‫يعوضها فقده‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يؤخر‪ ،‬فالضيف نسيم الروح نأى‪ ،‬وما من شيء ّ‬
‫‪( :-‬نعمان‪ ..‬ما هذا‪.‬؟‪ .‬هذيان‪ .!.‬حقيقة‪ C.!.‬أم هو جنح خيال‪.‬؟‪ .‬أهي بذرة‬
‫يكونها خيالك‪.‬؟‪ .‬أم هي صورة تراها وكالم تسمعه‪.‬؟‪ .‬أرأيت وسمعت‬ ‫قصيدة ّ‬
‫فنسجت من لدنك ألوانها‪.‬؟‪ ..‬أنائم أنت أم يقظان‪.‬؟‪C.‬‬
‫أو ليس ذاك الضابط عثمان‪.‬؟‪ C.‬يبدو حذراً‪ ،‬يسرق نفسه ممن حوله‪ ،‬ويدفع‬
‫كبير الطهاة قبله‪ ،‬تلفهما الظلمة فتخفيهما‪ .‬ومن ذاك وتلك‪.‬؟‪ .‬عاشقان يبحثان عن‬
‫ٍ‬
‫لوذة‪.!.‬‬
‫ساهرون ونيام‪ .‬الهون ومتعبدون‪ .‬صامتون وباكون‪ .‬متألمون يئنون‬
‫ومرحون يثرثرون‪ .‬أهذه رؤيتك أم رؤياك في صحوة أم غفوة يا نعمان‪.‬؟‪C.‬‬
‫تنبهك إلى برودة آخر الليل‪.‬‬
‫وما بال أبهى تتقلّب‪.‬؟‪ .‬تحثّك لترقد متدثراً‪ّ ،‬‬
‫أتحلم أم هي مشغولة بواقع الحال‪.‬؟‪ .‬إذاً ليست رؤيا خالصة‪ ..‬إنما الحياة في‬
‫مسارها‪ ،‬كما الماء في مجراه‪C.).‬‬
‫دثَّرته فوسَّدها ذراعه‪ ،‬فأغمضت عينيها حالمة أن تطفل‪.‬‬
‫***‬
‫سامرهم الضابط عثمان ونادموه‪ ،‬وكان محطّ األنظار‪ ،‬متيقظاً يسمع الهمسة‬
‫يدعم أبهته‪ ،‬ممتثالً للشعائر‪ُّ ،‬‬
‫جد‬ ‫وال تفوته حركة‪ ،‬حريصاً على مكانته‪ ،‬مؤدياً ما ّ‬
‫أن‬
‫رهبوت‪ ،‬وإ ن عاله بعضهم درجات على سلم الصعود‪ ،‬وما فتئ يؤكد لنفسه‪ّ ،‬‬
‫االستقرار في حالة ما‪ ،‬ال يعني عدم اختراقها مزاوغة‪.‬‬
‫وحري به‬
‫ّ‬ ‫سره هذا‪،‬‬ ‫وبدا واضحاً لكمال َّ‬
‫أن لجوءهم إليه‪ ،‬أكد مكانته عندهم‪ّ .‬‬
‫أن يظهر شهامة حيال ذلك‪ ،‬بيد أنه ردد في داخله‪:‬‬
‫‪( :-‬الشهامة والشجاعة ال تفترقان‪ ،‬والشجاعة والسعادة ال تترافقان)‪C.‬‬
‫معبرة تماماً عن حاله اآلن‪،‬‬
‫حاول تذكر أين ومتى قرأ هذه العبارة‪ ،‬ووجدها ّ‬
‫ُّ‬
‫يصب لهم الشاي‪ .‬تحدثوا متحمسين‪،‬‬ ‫فلم يتخذ موقفاً حاسماً‪ ،‬وأمضى وقتاً مستمعاً‪،‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫التهور‪ ،‬ولم يعد في‬
‫حد االنفعال على حافة ّ‬ ‫أبدوا اندفاعاً‪ ،‬ومضى بعضهم إلى ِّ‬
‫عال عليهم َع ْوالً جائراً‪ ،‬وها هم يحسون بالمظلمة‬ ‫ٍ‬
‫حاجة للتأكد من أن عثمان َ‬
‫لكن أغلبهم لم يرجح العقل‪ ،‬فوجد‬
‫إحساساً مريراً‪ ،‬واطمأن إلى صدق مشاعرهم‪ّ ،‬‬
‫نفسه يمتص فورتهم رويداً رويداً‪ ،‬فإن جاراهم فالعاقبة عليهم‪ ،‬أكثر مما يمكن أن‬
‫ٍ‬
‫متحمس لهم كما ينبغي‪ .‬توقعه بعضهم‬ ‫تأتي لهم‪ ،‬وفي هذا رأى بعضهم أنه غير‬
‫بروية‪ ،‬فخابت بعض آمالهم‪ ،‬كأنهم ما انتظروا إال‬ ‫مندفعاً‪ ،‬فلم يرقهم أخذه األمور ّ‬
‫أن يشهر سالحه‪ ،‬فيلقّمه‪ ،‬ويضع الضابط عثمان إلى سارية‪ ،‬يعصب عينيه قائالً‪:‬‬
‫‪( :-‬حكمنا عليك باإلعدام رمياً بالرصاص)‪.‬‬
‫ويخر صريعاً‪ ،‬فيلتفت إليهم قائالً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫"طاخ‪ ..‬طاخ‪ ..‬طاخ‪،".‬‬
‫‪( :-‬ارموه للكالب)‪.‬‬
‫ويمضي ماسحاً بندقيته‪ ،‬نافخاً في ماسورتها‪ ،‬ال يلوي على أحد‪.‬‬
‫ومنهم من غالب نفسه وإ ن تململ‪ ،‬فال يكون ما يندم عليه فيما بعد‪ ،‬فالتريث‬
‫بأخ أو شقيق‪ ،‬أو ابن ٍ‬
‫عم الزم‬ ‫معقل من خطل‪ ،‬أو هكذا عللوا أنفسهم‪ ،‬ثم إنه ليس ٍ‬
‫ملزوم‪ ،‬فال ُيطالب بما للجذع على الفرع‪ ،‬أو ليس هذا التعليل أهون من خيبة‬
‫الرجاء‪.‬؟‪.‬‬
‫الحظت قمر برودة منه لم تعجبها‪ ،‬ولمحت غاللة عدم الرضى في عيونهم‪،‬‬
‫فتحيرت ُم ْح َر َجةً‪ ،‬وشطّت مشاعرها إلى ِّ‬
‫حد أنه‬ ‫نمت عن انكماش قلوبهم نحوها‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫أملتهم به‪ C..!.‬تصارع داخلها وحمي أوارها‪ ،‬وانفلت جموح عواطفها‪:‬‬‫ليس الذي َّ‬
‫‪( :-‬ما الذي تفعله بي أمام أوالء العميان‪.‬؟!‪ .‬إني جعلتهم يغبطوني –إن لم‬
‫يتقولون إن الحب أعماني عن عيوبك‪.‬؟‪ .‬أو‬ ‫يحسدوني‪ -‬النحيازي إليك‪ .‬أتدعهم ّ‬
‫أن المشكلة كشفت معدنك‪ِ .‬ل َم وضعتني وإ ياك موضع شماتة وشك‪.‬؟‪ .‬أية خيبة؛‬
‫وتدمرني؛ إن كان قرارك سلباً‪.‬؟‪ C..‬حين مات أبي ُّ‬
‫بت بال‬ ‫تهدني ّ‬ ‫بل أية فجيعة ّ‬
‫بت بال أحد حتى أنت‪.‬؟‪ ..‬فإن لم تكن كما أنت في قلبي‪ ،‬يطير‬ ‫أحد‪ ،‬فهل حقاً ُّ‬
‫انضم إلى الممسوسين‪ ،‬أنوح كما لم أفعل‪ ،‬أُقيم مأتماً وليعزيني الناس بك‬
‫ّ‬ ‫عقلي‪C،‬‬
‫وبقلب أحبك‪ .‬أم ترى أقتل نفسي فال يدري مخلوق أنك السبب‪.‬؟‪ ..‬قل شيئاً‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬
‫تجرد‪ ..‬المع‪ ..‬أسمعهم صليلك‪ ،‬ال تدعهم يرونك مثل‬ ‫ٍ‬
‫تبق كسيف في غمده‪ّ ..‬‬ ‫َ‬
‫الضابط عثمان سواء بسواء‪ .‬اجعلهم ال ينظرون إلينا تلك النظرات الشزر‪ ،‬كأنهم‬
‫بفعلة شنعاء‪ .!.‬اجعلني أندم على شكي‪ ،‬ارفع رأسي فإنه يتطأطأ‪.‬‬ ‫وقفوا علينا ٍ‬
‫تكلم‪).‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫قالت الجدة نور داقة عصاها‪ ،‬دقات نفاد صبر‪:‬‬
‫‪ :-‬أراك أطلت التفكير أيها الشاب‪.‬؟‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ تهيأ كمال متأنياً‪ ،‬وبصوت جهوري قال‪:‬‬
‫ٍ‬
‫لمزيد من التمحيص‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة‬ ‫‪ :-‬أغلب الظن أننا‬
‫‪ :-‬أهذا ما تراه‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬وأتوق لمعرفة رأيك‪.‬‬
‫‪ :-‬دعني أعرف طريقة تفكيرك‪.‬‬
‫يتسرع‪ ،‬بقدر ما‬ ‫‪ :-‬ال بأس‪ ..‬يبدو َّ‬
‫أن َم ْن ْأوصل األمور إلى هذا التعقيد‪ ،‬لم ّ‬
‫ٍ‬
‫هادئة‪ ،‬بعناية فائقة‪ ،‬ولم تأت خبط عشواء‪ .‬ما قولك‪.‬؟‪.‬‬ ‫ّجهزها على ٍ‬
‫نار‬
‫‪ :-‬أكمل‪.‬‬
‫حسن‪ ..‬لعل مواجهته تكون صائبة‪ ،‬إذا ما رتبناها باألسلوب نفسه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪:-‬‬
‫دبر ما حدث‪ ،‬ذكي ال شك‪،‬‬ ‫‪ :-‬ما قلته يرضي العقل إلى ٍ‬
‫حد كبير‪ ،‬فالذي ّ‬
‫أي من خططه‪.‬؟‪.‬‬ ‫تراه أمعن نظره فيما يفعله‪ ،‬في حال كشف ٍّ‬
‫‪ :-‬االحتمال كبير‪ .‬وإ ال فإن احترازنا ليس خسارة‪.‬‬
‫قال عبد اهلل‪:‬‬
‫‪ :-‬إنك تعرفه حق المعرفة‪ ،‬أليس كذلك‪.‬؟‪C.‬‬
‫ابتسم كمال وعقّب بهدوء‪:‬‬
‫‪ :-‬نعم أعرفه‪ ،‬وربما ال أكون عرفته جيداً‪ .‬لذا أقترح أن نعيد النظر بمجمل‬
‫ما نعرفه عنه؛ من غير أن نهمل صغيرة‪ ،‬وال تربكنا كبيرة‪.‬‬
‫غرة‪:‬‬
‫مؤيداً‪ .‬وسأل إبراهيم على حين ّ‬
‫مؤمناً ّ‬ ‫َّ‬
‫هز الحكيم إدريس رأسه ّ‬
‫‪ :-‬أيها الضابط كمال‪ ،‬أصدقنا‪ ..‬ألست تكرهه‪.‬؟‪.‬‬
‫رد كمال بوضوح‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬لم أستطع أن أحبه‪.‬‬
‫‪ :-‬أتعتبره عدواً‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬دعونا نبحث إلى أي مدى جعل من نفسه عدواً لنا‪.‬‬
‫ضربت قمر على جبينها وأطرقت خجالً‪ ،‬وفي حلقها غصة ألم‪ ،‬تلوم نفسها‬
‫وروية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على ما دار في رأسها‪ ،‬عن هذا الذي ما نطق إال بعد تمحيص‬

‫‪- 175 -‬‬


‫سألتها أمينة همساً‪:‬‬
‫‪ :-‬ما الذي جرى‪.‬؟‪.‬‬
‫تسرعت‪.‬‬
‫‪ :-‬حمارة أنا‪ّ ..‬‬
‫دقت الجدة ٍ‬
‫نور بعصاها على طرف المنضدة وأعلنت‪:‬‬
‫‪ :-‬فلنبدأ‪.‬‬
‫يشمرون عن سواعدهم‪ ،‬تنحنح بعضهم‪ ،‬وتحسس‬ ‫وهموا‪ ،‬وكادوا ّ‬
‫تحركوا ّ‬
‫َّ‬
‫فصب الشاي للجدة نور وسألها مبتسماً‪:‬‬ ‫أحدهم سالحه‪ .‬الحظ كمال ذلك‪،‬‬
‫‪ :-‬لن تقبلي أن نبدأ بخطأ‪ .‬أليس كذلك‪.‬؟‪.‬‬
‫ردت كوب الشاي إلى موضعه ونبرت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬أوضح‪.‬‬
‫أن التهم جاهزة لدى الذي‬ ‫ٍ‬
‫‪ :-‬وجودكم في خيمة ضابط‪ ،‬ليس محبذاً‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫ال داعي لذكر اسمه‪ ،‬ولستم غافلين عن عيونه من حولنا‪ .‬هذا عدا تأويالت وجود‬
‫إناث ههنا‪ .‬أليس كذلك يا قمر‪.‬؟‪.‬‬
‫هبت نحو الباب قائلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬إني آخر من يحق لها أن تتكلم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كحاجز دونها والباب‪ ،‬وهتفت الجدة نور عن‬ ‫فمد ذراعه‬
‫همت بالخروج‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫قناعة‪:‬‬
‫‪ :-‬رؤية أنثى خارجة من عند عازب في ظرف كهذا كارثة‪.‬‬
‫هبت أمينة لمرافقتها‪ ،‬فنبرت الجدة نور بهما‪:‬‬
‫قوادة‪.‬‬
‫‪ :-‬يقول من في نفسه مرض‪ ،‬إحداكن ّ‬
‫بد منها‪،‬‬
‫صراحة الجدة نور جارحة‪ ،‬كما يراها الحكيم إدريس‪ ،‬إال أنها ال ّ‬
‫فليس الوقت يناسب أية مجاملة‪ ،‬وقعدت قمر قرب الباب كاسفة ساخطة تلوم‬
‫نفسها‪ ،‬واستدرك رشاد محاوالً تجاوز العقبة‪:‬‬
‫‪ :-‬إذاً نلتقي عند الحكيم إدريس‪.‬‬
‫وأضاف كمال‪:‬‬
‫‪ :-‬أو عند الجدة نور إن استدعى األمر‪.‬‬
‫حسمت الجدة نور الموقف بقولها‬

‫‪- 176 -‬‬


‫‪ :-‬عندي‪ ،‬وعلى هذا اتفقنا‪.‬‬
‫قال الحكيم إدريس لكمال‪:‬‬
‫‪ :-‬دعنا نستعيد الثقة بأنفسنا‪ ،‬ونبرهن أن في ضعفنا ثمة قوة كامنة‪.‬‬
‫رتّب كمال خروجهم‪ ،‬وجعلهم يذهبون في اتجاهات مختلفة‪ ،‬فال يثيرون‬
‫شبهة‪ ،‬وأوكلوا لعبد اهلل المراقبة‪ ،‬فلم يهدأ‪ ،‬دائراً حول الخيمة‪ ،‬متحفزاً‪ ،‬قابضاً على‬
‫سالحه‪ ،‬مستعداً أن يغرز سيفه قصير النصل في يربوع أو نملة‪ ،‬أو الضابط‬
‫عثمان نفسه‪ ،‬فعند الجدة نور تتم اآلن مناقشة الوضع‪ ،‬ورسم خطة‪.‬‬

‫***‬

‫‪- 177 -‬‬


‫‪11‬‬
‫الطريق طويل طو‪ ..‬يل‪ ،‬بطيء ممل ثقيل‪ ،‬وهو أثقل وطأة على أوالء‪ ،‬وما‬
‫أليام خلت‪ ،‬ينتظرون وصبرهم يتساحق ويتآكل‪ ،‬أن ينطق الضابط عثمان‬ ‫برحوا ٍ‬
‫تلك العبارة‪ ،‬فبقدر ما تحاشوها‪ ،‬صاروا يريدون سماعها‪ .‬فليتلفظها كما يشاء‪،‬‬
‫وبالنبرة واللهجة التي يختارها‪ ،‬المهم أن يقولها‪ ،‬فخطتهم برمتها مبنية على‬
‫استجرارها من بين أنيابه‪ ،‬وإ ال‪ ..‬ما من سبيل للتحرش به‪.‬‬
‫‪ :-‬سأذهب إليه‪.‬‬
‫‪ :-‬ال‪ .‬اربصي‪.‬‬
‫‪ :-‬فاض بي‪.‬‬
‫‪ :-‬اصبري‪.‬‬
‫ذهاب قمر إليه من تلقاء نفسها‪ ،‬قد يجعله يرتاب‪ ،‬وهو أكثر حذراً من‬
‫عصفور الدوري‪ ،‬وليس مستبعداً أنه ينتظر ذلك‪ ،‬وربما ّبيت ما ال يتوقعونه‪،‬‬
‫وهين عليه أن يتواقح‪ ،‬أو يدعي أنها جاءته‪ ،‬عارضة عليه نفسها بدل المال‪ ،‬أو‬‫ّ‬
‫لشبقها وفحولته‪ C..!.‬أما إن شعر‪ ،‬أو شك قيد شعرة‪ ،‬فال يتوقع أحد كيف تنعكس‬
‫ردة فعله‪ ،‬ومن المحتمل أن يقلب األمور عاليها سافلها‪ ،‬أو يتراجع بغمضة عين‬ ‫ّ‬
‫قائالً‪:‬‬
‫‪( :-‬وهل كنت مجنوناً ألودع "متليكاً" عند ذاك الـ…)‪.‬‬
‫قدك‪ ،‬فاض بك‪ ،‬فسألت محتداً‪:‬‬ ‫توفيق‪ ..‬يا صاعقة ساكنة ّ‬
‫‪ :-‬وأبونا القتيل‪!.‬؟‪C.‬‬
‫أحر من زيت على نار‪ ،‬والسكوت على‬ ‫صبروه يا ناس‪ ،‬فهذا الفتى دمه ّ‬
‫تميع الدم‬
‫ّ‬ ‫‪C‬‬
‫‪،‬‬ ‫وآن‬ ‫ٍ‬
‫آن‬ ‫بين‬ ‫وبرودتها‬ ‫األجواء‬ ‫اغتيال والده يع ّكر بؤبؤيه‪ ،‬لكن حماوة‬
‫تبخر‪..‬‬
‫تجمد‪ ..‬ذب‪ّ ..‬‬‫وتخثّره بين لحظة ولحظة‪ ،‬وال أحد يأبه يا فتى‪ ،‬تفتت‪ّ ..‬‬
‫تجلّد‪ ،‬سيان‪ C..‬فالباب دونك مغلق مقفل‪ ،‬والمفتاح عند الضابط عثمان‪ ،‬وعثمان الهٍ‬

‫‪- 178 -‬‬


‫يمزق األعصاب‪ ،‬واألعصاب عارية ليس يسندها‬ ‫ساكت‪ ،‬وسكوته مريب ملغوم ّ‬
‫وتنشد‪ ،‬وانشدادها يثير غيرها‪ ،‬وغيرها‬
‫ّ‬ ‫تقد من صخر‪ ،‬لذا تتوتر‬
‫حديد‪ ،‬وهي لم ّ‬
‫ٍ‬
‫ينتظر حجة‪ ،‬والحجة هينه جاهزة مثل الهم على القلب‪ ،‬فما من مستبد إال وفتاويه‬
‫في جيوبه‪ ،‬وموقفك مهما عال على قمم الحق‪ ،‬ال مناص له من تهدئة‪.‬‬
‫تتحملون‬
‫أال ما أقوى شكيمتك أيتها الجدة نور‪ ،‬ومعك الحكيم إدريس ورشاد‪ّ ،‬‬
‫نزوات هذا النزق وذاك‪ ،‬فلم يكن أحدهم يوماً كالشيء أو النبت أو الحيوان البليد‪،‬‬
‫تم االتفاق عليه‪ ،‬وإ دريس الحكيم يجاريكم‪ ،‬برغم أنه يغلي في‬
‫لذا ال خلل بما َّ‬
‫ود لو تحرر من الحكمة المسربل بقيودها ووقارها‪ ،‬مثلما يتحرر من‬ ‫داخله‪ ،‬وكم ّ‬
‫الزعارة صعاليك زمانهم‪ ،‬فيجعل الضابط الحرباء يحسد‬ ‫ثيابه‪ ،‬فيفلت جموحه كما ّ‬
‫عباساً الممسوس‪ ،‬لكنه محكوم بالحكمة مذ تعاطى التطبيب‪ ،‬وها هو يمأل السؤال‬
‫فمه‪ ،‬يلح عليه كسعال جاف أثارته حنجرة ملتهبة‪ ،‬يريد أن يوجهه إلى الجدة نور‪،‬‬
‫وما لبث أن ابتلعه‪ ،‬ربما للمرة المئة‪ ،‬ولكأنها قرأت سؤاله في إنساني عينيه‪،‬‬
‫فازدادت إصراراً على أال يعرف ابن أنثى‪ ،‬ما خلّفه موت "داود" في أعماقها‪،‬‬
‫َّ‬
‫الحب كلما كان كبيراً‪،‬‬ ‫وكيف لم تظهر دمعة في عينيها عليه‪ ،‬كأنهم ال يعلمون َّ‬
‫أن‬
‫ازداد الحرص على إخفائه‪ ،‬فهو بخصوصية ماهية الروح‪.‬‬
‫فروا‪.‬؟‪ُ .‬رعيان غنم أنتما‪ ،‬أم‬
‫‪ :-‬ماذا‪.‬؟‪ ..‬أنفار يهربون‪ ..‬عال‪ C.!!.‬كيف ّ‬
‫ضابط وأومباشي‪.‬؟‪C.‬‬
‫ها هو يكررها للمرة العشرين‪ .‬أيكون حانقاً إلى هذا الحد‪.‬؟‪ .‬أم أنه وجدها‬
‫حجة يلعب بها متسلياً بأعصابهما‪.‬؟‪ .‬لكأنه من جماعة تحت األرض؛ من الصعوبة‬
‫جده من هزئه‪.‬‬
‫بمكان تمييز ّ‬
‫‪ :-‬ضابط آخر زمن‪.‬‬
‫يتقبل اإلهانة تلو‬
‫طاشت قمر لمرارة السخرية‪ ،‬وكادت تصفع كماالً‪ ،‬وما زال ّ‬
‫اإلهانة‪.‬‬
‫‪ :-‬أتفعل شيئاً ألجل كرامتك‪ ،‬أم أردعه‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬صبراً يا قمر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصبر ال جدوى منه مع هذا النمس‪.‬‬ ‫ص ّدع رأسي‬
‫‪ُ :-‬‬
‫الدمل‪ ،‬لكنه جعل مرورها‬ ‫مرت أمامه ذهاباً وإ ياباً مرات‪ ،‬لعله يناديها فيفقأ ّ‬
‫ّ‬
‫يروح بها عن نفسه‪ ،‬وهي فرصة إليالم كمال‪ ،‬فزاد جرعة اإلهانة‪،‬‬ ‫أُلهية ّ‬
‫شده إلى الفلقة‪ ،‬يجلده بسوط‬
‫تورمت قدماه‪ ،‬إثر ّ‬‫واألومباشي ما عاد يستطيع دوساً‪ّ ،‬‬

‫‪- 179 -‬‬


‫ذيل ٍ‬
‫ثور‪ ،‬وظل يجلده حتى لهث وعرق‪ ،‬متخيالً أنه يجلد كماالً‪ ،‬ثم أمر الجاويش‬
‫أال يتركه حتى يتقطع السوط على تينك القدمين المدورتين كخفي بعير‪ ،‬أو ينفر‬
‫الدم منهما‪.‬‬
‫اقترب كمال من رئيسه‪ ،‬فبادره دون إمهال‪:‬‬
‫‪ :-‬فرار العسكر مسخرة‪.‬‬
‫‪ :-‬ولكنهم لم يفروا‪.!.‬‬
‫‪ :-‬كذاب‪ .‬أين هم إذن‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أكلهم الذئب‪.‬‬
‫‪ :-‬العمى‪ C.!.‬كيف‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬مثلما أكل "أنينو"‪.‬‬
‫‪ :-‬أنينو‪ .!.‬ما قصدك‪.‬؟‪.‬‬
‫مفترس‪ ،‬وأنت أدرى‪ .‬مساكين‪ .‬ومسكين أنينو‪C.!.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ :-‬الذئب ٍ‬
‫ضار‬
‫عصفت برأسه أحداث تلك الليلة‪ ،‬وتشمرخت في مخيلته‪:‬‬
‫‪( :-‬أَعرف هذا الجرو شيئاً مما جرى‪.‬؟‪C.).‬‬
‫بدا مأخوذاً‪ ،‬فلم يمهله كمال؛ فالضرب المتوالي يزيد الدوخة‪.‬‬
‫‪ :-‬أتذكر َّ‬
‫أن لي عندك أمانة‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أمانة‪ C.!.‬أية أمانة‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬كيس الذهبيات‪.‬‬
‫‪ :-‬أتهذي يا كمال‪!.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أنسيت‪ ..‬أم تتناسى‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ليس صحيحاً ما تقول كي أنسى أو ال أنسى‪.‬‬
‫‪ :-‬أظنك تذكر ليلة رأس العريف‪.‬‬
‫‪ :-‬ليلة سيئة‪.‬‬
‫‪ :-‬إذاً تذكر األمانة‪.‬‬
‫‪ :-‬ال بأس‪ ..‬هي لك‪ ،‬ولكن ستعينني يا كمال‪.‬‬
‫‪ :-‬على ماذا‪.‬؟‪.‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫‪ :-‬األمانة ومخصصات المسير‪ ،‬وبعض مالي تركتها عند داود‪.‬‬
‫‪ :-‬داود مات‪.!.‬‬
‫‪ :-‬ابنته لم تمت‪ ،‬ساعدني فنستعيد المال كله‪.‬‬
‫‪ :-‬وكيف أساعدك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬تشهد أني تركت الذهب وديعة عند أبيها‪.‬‬
‫‪ :-‬كيف أشهد على ما لم أقف عليه‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬تشهد على كالمي‪ .‬أم أنك ال تثق بي‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬بل أثق‪.‬‬
‫‪" :-‬عفارم"‪ .‬ذكي‪ .!!.‬لم يفتك أننا نقترب من حلب‪ .‬لو تدري كم اشتقت إلى‬
‫جناب الوالي‪.!.‬‬
‫وأينا ابن آوى‪.‬؟‪ .‬كل منا يلعب لعبته‪ .!.‬براعة أم خبث‬
‫‪( :-‬أيُّنا الثعلب‪ّ ،‬‬
‫ومكر ودهاء‪.).‬‬
‫‪ :-‬كمال‪ ..‬نتبادل األمانات‪ .‬أسلّمك وتسلمني‪.‬‬
‫‪ :-‬وماذا أسلمك‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪-‬ولو‪ C.!.‬الكتاب والشمعدان‪ ،‬فندخل حلب كما السمن على العسل‪.‬‬
‫‪ :-‬والذين هربوا‪.‬؟‪.‬‬
‫‪-‬أكلهم الذئب‪ .‬أترى أني ظلمت األومباشي‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ليتك تعفو عنه‪.‬‬
‫‪ :-‬أومباشي "عكروت" عفوت عنك‪ ..‬هيا افرح‪ .‬كمال أوقف القافلة‪.‬‬
‫سره ذلك‪،‬‬
‫أبدى كمال طاعة وحماسة؛ لم يعهدهما الضابط عثمان منذ أمد‪ّ .‬‬
‫فبالذهب يتم كشف معادن الرجال…‬
‫‪( :-‬وما أنت سوى صعلوك يا كمال‪ ،‬يا بن صانع الطرابيش والنابلسية‪.).‬‬
‫سره‪ ،‬ودهش وهو يسمع قول مرؤوسه‪:‬‬
‫قال ذلك في ِّ‬
‫‪ :-‬لئن رغبت‪ ،‬أرسلت العسكر يأتونك بها‪.‬‬
‫‪( :-‬يا للذهب من طاغية‪ C.!!.‬يفعل كما السحر وأعظم‪ ،‬فال يصمد أمام‬
‫حب هذا الذي زحلقه طمع‪.‬؟‪ .‬لن تستطيع‬ ‫إغرائه قلب ادعى نبض الحب‪ .‬وأي ٍّ‬
‫إنكاراً بعد اآلن مهما حاولت‪ ،‬واصبر قليالً‪ ،‬فإني محطمكما معاً)‪.‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫دار ذلك في خلده‪ ،‬ثم ابتسم مقترباً مجهراً قوله‪:‬‬
‫‪ :-‬أئلى ذاك الحد تحسبني جلفاً‪.‬؟!‪ C.‬ال تليق معاملة أنثى بالخشونة التي‬
‫تقترحها‪ .‬أال يرضيك أن أكون لطيفاً معها‪.‬؟‪.‬‬
‫أحد‬ ‫‪( :-‬ماكر أنت‪ ،‬حتى لو ظهرت بنعومة ريش النعام‪ ،‬وإ ني أ ِ‬
‫ُح ُّس بلسانك ّ‬ ‫ٌ‬
‫من موسى الحالقة وشوك القنفذ‪.).‬‬
‫ورد مراوغاً‪:‬‬
‫دار ذلك في ذاته‪ّ ،‬‬
‫‪ :-‬منك نتعلم اللباقة‪.‬‬
‫أرسل عثمان حارسه ليبلغها رغبته بمقابلتها‪ .‬تمنى الفتى السِّكيت لو ذهب‬
‫إلى الجحيم في الحال‪ ،‬مقابل أن يعفى من هذا المشوار‪ .‬لم ِ‬
‫يبد تردداً‪ ،‬لكنه مضى‬ ‫ُ‬
‫مبهوظاً بما حمل‪ .‬سأله كمال وهما في طريقهما إليها‪:‬‬
‫‪-‬هل الوديعة كثيرة‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ليست قليلة‪.‬‬
‫‪ :-‬هل لي أن أسأل‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬ها أنت تسأل‪.!.‬‬
‫‪ :-‬ما الذي جعلك تضع مبلغاً كبيراً عند ذاك الرجل‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬اعتبارات كثيرة‪ ،‬أولها خشيتي على المال منك ومنهم‪.‬‬
‫‪ :-‬مندهش أنا مما أسمع‪.!.‬‬
‫‪:-‬يا رجل‪.!!..‬‬
‫‪ِّ :-‬‬
‫صدق‪ ..‬كالمك شدهني‪ ،‬أو أني لم أفهم‪.‬‬
‫"جحشت" وتحالفت معهم‪ ،‬توقعت منكم كل سوء‪ ،‬وهداني تفكيري‬ ‫‪ :-‬حين ّ‬
‫أن أحدكم لن يخطر له سرقة رجل‪ ،‬تعرفون أنه فقير ال يملك شيئاً‪.‬‬
‫وأنا متألم منك‪ّ ،‬‬
‫‪ :-‬بهتّني وزدتني إعجاباً بطريقة تفكيرك‪ .!!.‬سؤال واحد وأخير‪.‬‬
‫‪ :-‬سل قبل أن نصل وال تُ ِطل‪.‬‬
‫‪-‬لماذا داود بالذات وأغلبهم فقراء‪.‬؟‪.‬‬
‫موارة‬
‫توقف وتلفّت حولـه‪ ،‬ثم ضرب عنق حذائه بسوطه‪ ،‬وتطلّع إليه بنظرة ّ‬
‫بالخبث‪ ،‬وغلّف وجهه بعالئم اضطراب‪ ،‬وبرقت في خاطره إحدى بنات دهائه‪،‬‬
‫وجدها كالسم في الدسم‪ ،‬فتركها تتسرب إلى مسمع كمال همساً‪:‬‬

‫‪- 182 -‬‬


‫‪ :-‬مرة أخرى تجدني أؤكد لك ثقتي بك‪ .‬داود كان عيني عليهم‪.‬‬
‫‪( :-‬يا أيها الذي لو وجد أكذب منه النتحر)‪.‬‬
‫تصنع االستغراب ونطق‪:‬‬
‫قال ذلك في نفسه‪ ،‬ثم ّ‬
‫‪ :-‬العمى!!‪C.‬‬
‫‪ :-‬ما بك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬مبهوت ونادم على ما كان مني‪ .‬تفضل‪.‬‬
‫وأشار بيده مفضالً رئيسه على نفسه‪ ،‬وفي الوقت ذاته لمح رشاداً وإ براهيم‬
‫وعبد اهلل وتوفيقاً‪ ،‬والصبي حمزة وأمهم‪ ،‬وتلك هي الجدة نور‪ ،‬وهناك آيه‬
‫وهوريك‪ ،‬وذاك هو إدريس الحكيم يقترب مستقبالً‪ ،‬دانياً من مطرح قمر‪.‬‬
‫‪( :-‬إذن هي هيئة المحكمة أيها الضابط‪ ،‬وها هم َّ‬
‫المدعون والشهود‪ ،‬وها‬
‫لتدعي‪ C.!.‬فهل آن أوان البت فيما ّبيت‪.‬؟‪ .‬وهل تعقد المحكمة جلسة دون‬
‫أنت قادم ّ‬
‫متّهم‪.‬؟!‪C‬‬
‫أم أنها قضية تُ ُّ‬
‫حل بالتراضي‪.‬؟‪C.).‬‬
‫استقبلتهما وفي عينيها كثير من التهيؤ‪ ،‬فلطالما انتظرت هذي اللحظات‪،‬‬
‫تنفست الصعداء وقد لمحت الجدة نور ورشاداً يقتربان‪ ،‬واختصر كمال عليها‬
‫وطأة اختالق الكالم إذ قال‪:‬‬
‫‪ :-‬قد يمنعك لطفك أن تسألينا عن سبب مجيئنا‪ ،‬وحقيقة األمر إنها زيارة‬
‫عمل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ سألتهما قمر‪:‬‬ ‫ثم ازداد عدد القادمين؛ بل بدأ يكتمل‪،‬‬
‫شيء أستطيع خدمتكما‪.‬؟‪.‬‬ ‫‪ :-‬بأي ٍ‬
‫لم يعد بد من أن يتكلم‪ ،‬وقد تركه كمال وتشاغل بما ليس له أهمية‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ألسترد الوديعة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬جئتك‬
‫‪ :-‬حقك‪.‬‬
‫ذهل‪ .!.‬وللوهلة األولى لم يصدق ما سمع‪ ،‬إال أنه ما عاد ممكناً غير أن‬
‫ُيكمل ما بدأ‪.‬‬
‫لكنه في حير ٍة‪ .‬كرر تلك الكلمة التي لفظتها مشدداً على حروفها‪ ،‬فلم يجد لها‬
‫تأويالً‪ ،‬كأنه ما انتظر هذا‪.!.‬‬
‫تدخلت الجدة نور قائلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪- 183 -‬‬
‫ٍ‬
‫مناسب‪ ،‬فإننا ننسحب‪.‬‬ ‫‪ :-‬لئن أتينا في وقت غير‬
‫لم تترك قمر له مجاالً إذ أردفت‪:‬‬
‫سر نخفيه عنكم‪ ،‬فللضابط وديعة جاء يطلبها‪.‬‬
‫‪ :-‬ليس من ٍّ‬
‫وسرعان ما التفتت إليه وقالت‪:‬‬
‫‪ :-‬الحق حق أيها الضابط‪ ،‬لذا أستفسر منك ألتأكد‪ ،‬فالمرحوم خلّف ودائع‬
‫كثيرة‪ ،‬أخشى أن يختلط أمر بعضها ببعضها اآلخر‪ ،‬فيذهب ما ألحدهم إلى غيره‪.‬‬
‫أكد الحكيم إدريس من فوره‪:‬‬
‫‪ :-‬أصبت فيما قلت‪ ،‬فقد ُعرف المرحوم بأمانته‪ ،‬فاستودعه الناس ودائعهم‪.‬‬
‫تلقَّفت قمر ناصية الكالم قبل أن يتدارك الضابط لوثته‪ ،‬فسألته‪:‬‬
‫‪ :-‬هال أعطيتني عالمة وديعتك‪.‬؟‪.‬‬
‫طينة يلطخها بذا الجدار‪ ،‬ما دام األمر متاحاً‪ ،‬وال يهم إن لصقت أو لم تلصق‪،‬‬
‫ولتكن كبيرة‪ ،‬فليس فيما يكون خسارة تذكر‪.‬‬
‫‪ :-‬أحد عشر كيساً‪ ،‬في كل منها مئة ذهبية‪.‬‬
‫صاح إدريس الحكيم ٍ‬
‫بجد ال يدانيه تأويل أو ريب‪:‬‬
‫‪ :-‬صدقت‪.‬‬
‫ُذهل مما سمع‪ ،‬فأعادته قمر إليها إذ سألته‪:‬‬
‫‪ :-‬أمتأكد من أنها أحد عشر كيساً فحسب‪.‬؟‪.‬‬
‫جمدت عيناه وهما بأقصى اتساعهما‪ ،‬ولم ينبس بكلمة‪ ،‬فأدركته كأنها تلقَّت‬
‫إيماءة‪ ،‬فنبست متصنعة الحيرة‪:‬‬
‫‪ :-‬المشكلة أنها اثنا عشر كيساً‪ .‬أليس كذلك أيها الحكيم‪.‬؟‪C.‬‬
‫هيأ نفسه لمثل هذا السؤال المباغت‪َّ .‬‬
‫تلكأ لحظة‪،‬‬ ‫لم يكن إدريس الحكيم قد ّ‬
‫فناجده كمال متدخالً دونما إبطاء‪:‬‬
‫‪ :-‬كنت استودعته كيساً‪ ،‬لعله الكيس الزائد‪.‬‬
‫قالت قمر‪:‬‬
‫‪ :-‬مجرد اإلدعاء ال ينفع‪ ،‬فهو ليس لك إن لم تؤكد قولك‪ .‬ما لونه‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬أسود‪ ..‬وفيه سبع وثمانون فضية وعشر ذهبيات‪ ،‬هي كل ما ادخرت‪.‬‬
‫نظرت إليه وفي نظرتها لمعان فضة‪ ،‬وكادت تقول معجبة ببداهته‪:‬‬

‫‪- 184 -‬‬


‫‪ :-‬يا ولد‪.!!.‬‬
‫والتفت رشاد نحو إدريس الحكيم شبه الئم‪:‬‬
‫سيدلنا عليها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تفرطون بالكيس‪ .‬قلت لكم صاحب الحاجة‬‫‪ :-‬أسمعت‪.‬؟‪ .‬كدتم ّ‬
‫حيرتنا‪.‬‬
‫وها قد حصل‪ .‬إنها الوديعة الوحيدة التي ّ‬
‫أنهت قمر الجدل قائلة‪:‬‬
‫‪ :-‬إذاً الكيس للضابط كمال‪ .‬ال بأس‪.‬‬
‫استعظمت الجدة نور ما رأت وسمعت‪ ،‬فالالعبون تفوقوا أكثر مما توقعت‪،‬‬
‫وتابعت لعبهم الخطر‪ ،‬فإن لم يبق في الجعبة غير سهم‪ ،‬رافقته خطورة أن يتساءل‬
‫حامله‪[ :‬أينتحر به كي ال يرى العدو يغلبه؛ أم أنه يطلقه‪.‬؟‪ .‬وما الذي ال يكون قد‬
‫خسره إن انتحر‪.‬؟‪ .‬وما تراه فاعل إن أطلقه ولم يصب من عدوه مقتالً‪.‬؟‪.].‬‬
‫همس كمال في أذن الضابط عثمان‪:‬‬
‫‪ :-‬أال تطلب ما لك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬هه‪ C.!!.‬بلى‬
‫‪ :-‬وتعطيني الكيس الذي وعدتني به‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬هه‪ C.!!.‬بلى‪.‬‬
‫‪ :-‬هيا إذاً‪.‬‬
‫وقف ماداً يده مبسوطة الكف نحو قمر‪ ،‬آمراً‪:‬‬
‫‪ :-‬هاتي األكياس‪.‬‬
‫أعد مال الضابط عثمان أيها الحكيم‪ ،‬وال تنس مال الضابط كمال‪.‬‬
‫‪ْ :-‬‬
‫‪ :-‬تفضال معي أيها المحترمان‪ .‬جهّز الخيل يا رشاد‪.‬‬
‫سأله عثمان‪:‬‬
‫‪ :-‬إلى أين‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬إلى قبر ضيف اهلل‪.‬‬
‫‪ :-‬ما هذا الهراء‪.‬؟!‪.‬‬
‫‪ :-‬بل هي الحقيقة‪ ،‬ما لك وضعه داود في قبر ضيف اهلل‪ ،‬وقد ساعدته في‬
‫وتم هذا بحضور عبد اهلل وتوفيق‪.‬‬
‫ذلك‪َّ ،‬‬
‫قال رشاد‪:‬‬

‫‪- 185 -‬‬


‫‪ :-‬وبعلمي‪.‬‬
‫وأكد إبراهيم‪:‬‬
‫‪ :-‬رأيت ذلك بأم عيني‪ ،‬هلما أيها الضابطان المحترمان‪ ،‬نسلّمكما ما لكما‬
‫ونرتاح نحن‪ ،‬فاألمانة ثقيلة كما تعلمان‪.‬‬
‫قال الضابط كمال‪:‬‬
‫‪ :-‬هيا بنا؛ ال داعي لالنتظار‪.‬‬
‫‪ :-‬سأذهب أنا وإ خوتي معكم‪.‬‬
‫‪ :-‬وما داعي ذهابكم يا توفيق‪.‬؟‪.‬‬
‫نسوي قبر والدنا‪ .‬ألن تنبشوه‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ّ :-‬‬
‫‪ :-‬صحيح‪.‬‬
‫‪ :-‬هلموا بنا‪.‬‬
‫صاح الضابط عثمان‪:‬‬
‫‪ :-‬كمال‪ ..‬إلى أين‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬نسترد المال‪ .‬تفضل‪.‬‬
‫‪ :-‬أمجنون أنت‪!.‬؟!‪ .‬لن نذهب‪.‬‬
‫‪ :-‬والمال‪.‬؟!‪.‬‬
‫‪ :-‬بئس المال‪.‬‬
‫‪ :-‬لك االستغناء عما يخصك‪ ،‬أما أنا‪ ..‬فال‪.‬‬
‫ضر ما نفع‪.‬‬
‫‪ :-‬كمال‪ ..‬اسمع نصيحتي‪ ،‬الطمع ّ‬
‫‪ :-‬أعجوبة أنت‪ ..‬وأنا مخيول‪.!!.‬‬
‫وهم أن يتركهم مغادرًا المكان‪ ،‬فوقفوا في طريقه‪ ،‬ثم الت ّفوا حوله‪،‬‬
‫دمدم شاتمًا‪َّ ،‬‬
‫موارة بنفاد صبر‪ ،‬فرفعت الجدة نور صوتها سائلة‪:‬‬ ‫طوقوه‪ ،‬بادلهم نظرات ّ‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬إدريس أيها الحكيم‪ .‬هل من ٍ‬
‫أثر يظهر على جثة المقتول بالسم‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أجل‪ ..‬بوضوح‪.‬‬
‫وأحس بمعطبة‪ ،‬وسأله إبراهيم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫انقبض قلبه‬
‫‪ :-‬ألن تذهب معنا‪.‬؟‪.‬‬

‫‪- 186 -‬‬


‫ودس لفافة بين شفتيه‪ ،‬وقد أتعبه السمع‪.‬‬ ‫هز رأسه نفياً ٍ‬
‫بأنفة‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫منمقة‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫قالت قمر بشيطنة ّ‬
‫تفرط بها‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬وديعتك ثروة‪ C.!.‬كيف ّ‬
‫ط ٍع متحسراً‪ ،‬وبصق‬
‫وهز سوطه‪ ،‬ولم يتكلم‪ ،‬لكنه تنهّد بتق ّ‬
‫تحسس "طبنجته" ّ‬
‫نخامةً‪.‬‬
‫قالت آية‪:‬‬
‫‪ :-‬ليس من خبيء إال ويظهر‪.‬‬
‫تمتم‪:‬‬
‫‪ :-‬تباً لكم "سيكان‪-‬قرباط"‪.‬‬
‫وقف رشاد قبالته معلناً‪:‬‬
‫‪ :-‬ال بأس‪ ..‬سأجلب لك مالك‪ ،‬ويكشف الحكيم إدريس على الجثة فنتأكد‪.‬‬
‫‪ :-‬تتأكدون‪ِ .!!.‬م َّم تتأكدون‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬من َّ‬
‫أن ضيف اهلل مات مسموماً‪.‬‬
‫‪ :-‬هذا "علك"‪ .‬لن يذهب أحد منكم‪ ،‬فالمسافة باتت طويلة‪ ،‬وإ ني أمنعكم‪.‬‬
‫رفعت الجدة نور عصاها إلى أنفه سائلة‪:‬‬
‫‪ :-‬لماذا قتلته يا عثمان‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬كفاكم مسخرة‪ ،‬لم أقتله‪ ،‬هرم فقضى نحبه‪.‬‬
‫‪ :-‬والقندلفت‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬أي لعين هو اآلخر‪.‬؟‪ .‬ربما مات حتف أنفه‪ .‬أنا ال أعرفه‪.‬‬
‫‪ :-‬ال تعرف "مائير" يا عثمان‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬ال أعرفه‪ ،‬ولم أفعل شيئاً مما يهيأ لكم‪.‬‬
‫دنت قمر منه متمهلة فسألته‪:‬‬
‫‪ :-‬وما الذي لم تفعله‪.‬؟‪.‬‬
‫فكيه بقو ٍة‪ ،‬وتحرك البؤبؤان‬
‫صفعته‪ ،‬فأخذ بعضديها وهصرهما‪ ،‬كازاً ّ‬
‫المع ّكران بغضب ضبعان تجاسرت عليه ثعالة‪ ،‬فكتّفه توفيق واضعاً ركبته تحت‬
‫أليته ورصرصه‪ ،‬بصقت هوريك في وجهه‪ ،‬واعتلى ديك الجدة نور كتفيه‪ ،‬وراح‬
‫ينقر شحمتي أذنيه‪ ،‬وصاح خافقاً جناحيه‪ ،‬وقفز دائراً حولهم‪ ،‬وأعادت قمر‬

‫‪- 187 -‬‬


‫السؤال‪:‬‬
‫‪ :-‬ما الذي لم تفعله‪ ..‬هه‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬لسعت ولدغت‪.‬‬
‫‪ :-‬نهشت وقتلت‪.‬‬
‫‪َّ :-‬‬
‫أمت وسممت‪.‬‬
‫وتجبرت‪.‬‬
‫‪ :-‬تآمرت ّ‬
‫‪ :-‬فجرت فوق فجور السفلة‪.‬‬
‫متفجراً‪:‬‬ ‫عجز عن متابعه رشقه بنبال أفاعيله من كل ٍ‬
‫حدب وصوب‪ ،‬فصرخ ّ‬
‫‪ :-‬كذب‪ ..‬كذب‪.‬‬
‫طبطب الديك جناحيه وصاح‪ ،‬ثم قفز ونقره من أرنبة أنفه‪ ،‬وتابع دورانه‬
‫حولهم‪ ،‬باحثاً التراب برأس جناحه مستنفراً‪ .‬اقتربت (آيه) ترتجف مجهشة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مرعب‪ ،‬صوتها الراعش‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫دهش‬ ‫وجاءه وسط‬
‫‪ِ :-‬ل َم نهشتني أيها الوحش‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬من تكونين‪.‬؟‪ C.‬أنا ال أعرفك‪C.!.‬‬
‫تقدمت (هوريك) تهتز غضباً‪ ،‬فتحت بنيقة ثوبها عن ثديها المعطوب‪،‬‬
‫وزمجرت بين قهر وغيظ‪:‬‬
‫‪ :-‬وتنكر يا صفيق‪ C.!.‬انظر أثر فعلتك أيها الحقير‪.‬‬
‫بعجل على الثدي المكشوف‪ .‬رآه الصبي حمزه‪ ،‬مثل‬ ‫ٍ‬ ‫ردت الجدة نور البنيقة‬
‫ّ‬
‫ولما يزل حتى كاد يقطع‬
‫ّ‬ ‫أليته‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وعض‬ ‫خلفه‬ ‫من‬ ‫فركض‬ ‫الرأس‪،‬‬ ‫مقطوعة‬ ‫حمامة‬
‫ٍ‬
‫بلوعة‪:‬‬ ‫نهشة‪ ،‬أبعدوه فهجم صائحاً‬
‫‪ :-‬كما‪..‬ل‪ ،‬ال تحمه‪ ،‬ابتعد عنه‪ ،‬الوغد‪ ..‬ذبح الحمامة وقتل العمالق‪.!.‬‬
‫صرخ الضابط عثمان خارجاً عن طوره‪:‬‬
‫‪ :-‬جاويش‪ ..‬أطلق النار‪.‬‬
‫أطلق مرة في الهواء‪ ،‬وبقي جامداً كأنه ينتظر أوامر أخرى‪ C.!!.‬دفعوه جانباً‬
‫فوقع‪ ،‬فلم يبد رغبة بتبديل وضعيته‪ ،‬صفقه الديك بجناحه‪ ،‬ولطمه بجناحه اآلخر‪،‬‬
‫ثم بحث التربة من حوله‪ ،‬ورشق بها وجهه حتى عفّره‪ ،‬أغمض عينيه متحاشياً‬
‫كدوي الرعد‪ ،‬وعصف‬ ‫ِّ‬ ‫يحول قدرتهما إلى أذنيه‪ ،‬فمأل سمعه عوي ٌل‬
‫الغبار‪ ،‬كأنه ّ‬
‫سباع ألّبها الجوع والثلج والبرد‪ .‬لكن الثدي‬
‫ريح تعوي مزمجرة‪ ،‬كقطعان ٍ‬
‫‪- 188 -‬‬
‫المعطوب َّ‬
‫ظل شاخصاً في مخيلته‪.!.‬‬
‫حمأة الغضب فوارة تمور بها القلوب‪ُّ ،‬‬
‫كل يتجسد في ذهنه‪ ،‬ما ناله من تينك‬ ‫ّ‬
‫اليدين اللتين عكفتا على قهرهم وتلويعهم‪ ،‬قاصصوه‪ ،‬ووقف كمال دون قتله‪ ،‬لكنه‬
‫وعضه وتعفيره بالتراب‪ ،‬وبرغم ما يناله من م ّذلة‬
‫ّ‬ ‫لم يحل دون ركله ولكمه‬
‫وهوان‪ ،‬ما فتئ يفكر كعهده‪:‬‬
‫‪ :-‬كمال‪ ..‬أنت خائن ستنال جزاءك‪ .‬انتظر ريث تصل إليك يدي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بغضب‪ ،‬مسيطراً على تفاقمه‪ ،‬فبدا أقرب إلى هدو ٍء مهزوز‪:‬‬ ‫رد‬
‫ّ‬
‫‪ :-‬جاحد أنت‪ ..‬كأنني ما أنقذت حياتك‪ C.!.‬فلو تركتهم المتلخوا لحمك عن‬
‫عظمك‪.‬‬
‫‪ :-‬ألنهم وحوش‪ .‬اذهب معهم؛ خذ المال كله‪ ،‬أحد عشر كيساً كلها لك‪.‬‬
‫خلّصني‪.‬‬
‫صدقها‪ .!.‬وبرغم أنك‬
‫‪ :-‬أحد العجائب أنت‪ .!.‬كذبت كذبة فكنت أول من ّ‬
‫أخفقت في لعبتك‪ ،‬ما زلت مصراً عليها‪C.!!.‬‬
‫إلي بالشيخ اإلمام‪ .‬تعالوا‬
‫وبش أنت مثلهم‪ .‬أين الكبراء‪.‬؟‪ .‬أريد الوجهاء‪ّ .‬‬
‫‪ٌ :-‬‬
‫إلي‪ .‬امنعوا عني السفهاء‪ ،‬خلّصوني من أوالء "القرباط"‪.‬‬
‫حيد كمال العسكر بإبعادهم‪ ،‬ووضعهم بأمرة األومباشي‪ ،‬فشغلهم وانشغل‬ ‫ّ‬
‫بهم‪ ،‬وفشلت وساطة الشيخ اإلمام‪ ،‬ولم يقترب الوجيه رجب‪ ،‬ما دامت أمه وضعت‬
‫ولما يزل دونما‬
‫العربة المقفّصة بأمرتها‪ ،‬وحاول الوجيه عبد الحميد مع الجدة نور ّ‬
‫جدوى‪ ،‬وما فتئ الوجيه عبد المجيد يحاول إقناع أوالد ضيف اهلل وزوجته‪ .‬أما‬
‫تدخل لصالح الضابط عثمان‪ ،‬ونأى بنفسه قريباً من قمر‬ ‫سليمان فقد رفض أي ٍ‬
‫جدته الفتةً انتباهه إلى مزاياها‪.‬‬
‫وهوريك‪ ،‬مفكراً بتلميح ّ‬
‫تشجعه‬
‫استرق النظر إليها مرة إثر مرة‪ ،‬وتراءت له ظالل إيماءة وابتسامة‪ّ ،‬‬
‫الب ّنية‪ ،‬عسى ولعل يستهويان بعضهما‪ ،‬وتمأل قلبه الذي ما‬‫قمر بهما ليقترب من ُ‬
‫برح يدق حالماً‪ .‬انتبه إلى نفسه‪ ،‬كأنه وقع عليها متلبِّسة بما ال يجوز‪ ،‬في ظرف‬
‫فوبخ نفسه الئماً بخجل‪ ،‬فذهن قمر ليس صافياً لمثل ما‬‫كظرفهم الصعب هذا‪ّ ،‬‬
‫تخيل‪.‬‬
‫ّ‬
‫مشوشاً‪ ،‬ودخلت نتيفا وصحبها‬‫وتناهى إلى القافلة األخرى بعض ما حدث ّ‬
‫في بوتقة قلق‪ ،‬إلى أن أتاهم كبير الطهاة (عوبديا) ليالً بتفاصيل الخبر‪ ،‬فتداولوه‬
‫ملياً‪ ،‬ثم كلّفوه برسالة شفهية ينقلها لكاهانا‪ ،‬وجهّز بعضهم سالحه‪.‬‬

‫‪- 189 -‬‬


‫وبين‬ ‫ٍ‬
‫وضغوط متوالية‪ ،‬أعلنت قمر أنها تعفو عنه إن صدقها ّ‬ ‫إلحاح‬
‫ٍ‬ ‫وإ ثر‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫دوافعه إلدعاء كاذب بوديعة وهمية‪ ،.!.‬فجوبه عرضها من أوالد ضيف اهلل وبقية‬
‫ذوي القتلى بالرفض جملةً وتفصيالً‪ ،‬وأُسقط نهائياً في أيدي الوسطاء‪ ،‬لحظة أنقذوا‬
‫حياته‪ ،‬وقد كاد أحدهم أن يصل إليه‪ ،‬وبدوا عاجزين عن الرد على قول عبد اهلل‪:‬‬
‫‪ :-‬تساوموننا ألننا لم نقتله‪ C،.!.‬وما الذي كنتم تقولونه لو أننا فعلنا‪.‬؟‪.‬‬
‫وصرخ توفيق‪:‬‬
‫‪ :-‬ال مناص‪ ..‬فإني قاتله‪.‬‬
‫لم يكتمل سرور عثمان برفضهم طلب قمر‪ ،‬حتى نغص بما أعلنه الفتى‪..‬‬
‫هذا األرعن‪ C،‬طالباً رأسه‪ ،‬وفي لحظة حرجة غاص في أعماقه ونبش سائالً‪:‬‬
‫ترجح‪.‬؟‪ C،.‬معضلة‪C.).!.‬‬
‫(سرك ورأسك في كفتين‪ ،‬فأيهما ّ‬
‫‪ّ :-‬‬
‫يصبر نوازعه إلى حين‪ ،‬لعله ينجح وصحب‬ ‫أقنع نفسه بقبول وضعه الراهن‪ّ ،‬‬
‫نتيفا‪ ،‬بنسج خطة تخرجه من مأزقه‪ ،‬أو فليوطد مشاعره ليدخل حلب حبيس هذا‬
‫فخ‬
‫زنجي اصطاده البيض‪ .‬ال‪ ..‬ال‪ C،.!.‬مثل أبيض وقع في ٍ‬ ‫ّ‬ ‫القفص الخشبي‪ ،‬مثل‬
‫نصبه المتوحشون الهنود‪ ..‬نعم‪ C،.!.‬فالمحال عينه أن يبوح بمرامه من إدعاء‬
‫الوديعة‪ .‬وطفق يسلي وقته ناظراً إلى أثيره السِّكيت‪ ،‬مربوطاً إلى العربة مثل كلب‬
‫ولما يزل‬
‫ُيخشى انفالته‪ ،‬أو مثل برذون (احتياط) يساعد بغل العربة عند الحاجة‪ّ .‬‬
‫يعلله ٍ‬
‫ببطر ينسيه كربته‪ ،‬ويجعل لحياته طعماً آخر‪.‬‬
‫فليصبر قليالً‪ ،‬فبين ليلة وضحاها يصلون تخوم حلب‪ .‬وبرغم حالته المزرية‪،‬‬
‫وجد متسعاً ليعجب من سرعتهم بتصنيع القفص على العربة‪ ،‬وتمنى لو جعلوه‬
‫ٍ‬
‫بغطاء يكيفه رؤية وجوههم المقيتة‪ .‬ثم إنه كابر فلم يذق طعاماً‪ ،‬وهو األكول النهم‪.‬‬
‫ومنع باصريه عن لقمة من طعامهم الرديء‪ ،‬مشترطاً أن ُيطعم بيد كبير الطهاة‪،‬‬
‫أو يتحمل كمال العاقبة‪.‬‬
‫اقشعر وهو يرى بغضه في عيني رشاد‪ ،‬هذا الذي أوكلوا إليه حمايته‪.‬‬
‫شرف هي كل ما يلزمه أمام (…) نور وشرذمتها؛ أن يصون حياته‪.!!.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كلمة‬
‫فيدس له السم‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬
‫أي عهد واهن هذا الذي يمنعه عن مواطأة أحدهم‪ّ ،‬‬
‫يخنقه‪.‬؟!‬
‫أليس هذا ما سيفعله‪ ،‬لو كان مكان رشاد أو غيره‪.‬؟‪.‬‬
‫‪( :-‬ويا لك من فتّانة أيتها الرخمة القميئة قمر‪ C،.!.‬ألّبت علي من تبقى ممن‬
‫ٍ‬
‫بصلة إلى أولئك الذين (…) على تلك الرابية‪ .‬ما الذي ذ ّكرك بهم والهم‬ ‫يمتّون‬

‫‪- 190 -‬‬


‫لقطت خيط حقيقة إقدامي أنا وألكسندر على تنفيذ‬‫ِ‬ ‫يحيطك فال تجدين متنفساً‪.‬؟‪C،.‬‬
‫نزوتنا‪ ،‬فكيف اهتديت إليه‪.‬؟!‪ C.‬يا لذكائك الوقّاد‪ ..‬أيتها البغيضة‪ C،.!!.‬وبقدر ما‬
‫تضرينني‪ ،‬أجدك بعض األحايين نافعة‪ ،‬فها أنت أنطقته بعد أليٍّ‪ ،‬فكشف فكره وما‬
‫يشغله‪ .‬أولم يؤكد لكم أن اإلماتة بالسم إحدى سمات الحقبة‪.‬؟‪.‬‬
‫وما همني إن كره السلطان والكواكبي بعضهما بعضاً‪ ،‬ولست مكترثاً بما‬
‫أن‬
‫أشيع من أنه قضى على أيدي رجال "عارف باشا" أو غيره‪ ،‬ماداموا غفلوا عن ّ‬
‫السرية‪ ،‬فلم ينتبهوا إلى اليد المنفذة والعقل‬
‫ال أحد يجارينا بمثل هذه المهمات ّ‬
‫المدبر‪ ،‬مكتفين بمعرفة ما طاف على السطح؛ عن الجهة التي يهمها إسكات‬ ‫ّ‬
‫الكواكبي وتصفيته‪ ،‬كأنها جهة واحدة فحسب‪ C،.!.‬قد سرني صاحبك بزلّة لسانه‬
‫عناء ما عجزت عن إثباته بمحاوالتي الدؤوبة‪ .‬إذاً هو‬ ‫الرائعة تلك‪ ،‬فوصلني دون ٍ‬
‫سالح‬
‫ٍ‬ ‫ممن ينتقدون السلطنة‪ C.!!.‬يكفيني من األمر برمته‪ ،‬أنه وضع يدي على‬
‫ضده‪ ،‬حسبما يكون رأسه ليناً أو يابساً‪ ،‬ولك أن تنصحيه‬ ‫بحدين‪ ،‬استخدمه معه أو ّ‬
‫أيتها الدودة العنيدة البائسة‪ ،‬وإ ال فبئس ما أنتم عليه وفيه من تعاسة وحمق‪.‬‬
‫غوغائيون تهرفون وال تجيدون سوى اللغو والفخفخة‪ ،‬حثالة تقيأكم الزمن‪،‬‬
‫وشتان‪ ..‬شتان بيننا‪ ،‬وإ ن كنا اآلن أشتاتاً)‪.‬‬
‫يجتر حقده‪ ،‬ونظر بغتة إلى أثيره‬ ‫فتح عينيه بعد استغرا ٍ‬
‫ق قضاه متف ّكراً ّ‬
‫السِّكيت وتساءل معجباً‪:‬‬
‫‪( :-‬أيها المبهم‪ C.!!.‬أكنت أدركت عظمة الصمت فسكت‪.‬؟‪ .‬صمتك جعلني‬
‫أراهن عليك‪ ،‬فانظر –لو أنك تعرف‪ -‬كم وكم تختلف عن قومك‪ ،‬كأنك لست‬
‫منهم‪C.).!.‬‬
‫وامتص دخانها‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫مد لفافة تبغ إلى حاميه رشاد‪ ،‬فلم يأبه بها‪ ،‬فأشعلها لنفسه‪،‬‬
‫على دفعات دونما انقطاع‪ ،‬وتلفّت مطمئناً إلى سير القافلة في االتجاه الصحيح‪،‬‬
‫مقدراً المسافة المتبقية‪ ،‬وتأكد من أن القافلة األخرى على مبعدة‪ ،‬تغ ّذ السير‪،‬‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫خيارات عليه‬ ‫حيرته بين‬
‫ّ‬ ‫الطهاة‬ ‫كبير‬ ‫رسالة‬ ‫لكن‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫عليه‬ ‫وهان‬ ‫فارتاح‬
‫تفضيل إحداها‪ .‬فهل يوافقهم على استخدام السالح‪.‬؟‪ C،.‬أو تحاول بعضهن إغواء‬
‫حاميه وغيره إن تطلّب الحال‪.‬؟‪ C،.‬أم تسميم الطعام والماء‪ ..‬وكلها أسلحة‪.‬؟!‪،.‬‬
‫وإ ن ما ال يخلّصه‪ ،‬يربكهم ويكون انتقاماً له‪.!!.‬‬
‫وأي ابن أنثى‬
‫‪( :-‬نتيفا‪ ..‬ما أنت إالّ المنتظر ذاته‪ ،.!.‬يا لسطوة األنوثة‪ّ C،.!.‬‬
‫لب عظامه‪ ،‬كما الهواء في الدم‪ ،‬يسكنه بين شهيق‬‫يتنكر لما يتغلغل منها في ّ‬
‫وزفير‪ ،‬إال إذا كان شيئاً كالرمل‪ ،‬وما رشاد إال رج ٌل يكابد من كبح ذكورته‪ .‬وذي‬

‫‪- 191 -‬‬


‫هي التضحية المغتفرة يا إناث (يهوه)‪ .‬بوركت ثم بوركت تضحيتكن أيتها‬
‫المخلصات الناصعات)‪.‬‬
‫***‬
‫طوا رحالهم‪ ،‬أسمع‬‫‪( :-‬أقبل الليل‪ ،‬وقويق ماؤه منساب‪ ،‬وها هم المناكيد ح ّ‬
‫نمائمهم الصغيرة والكبيرة‪ ،‬وكيف أوقدوا غليل عبد اهلل وتوفيق‪ ،‬فحاوال قتلي‪C،.!.‬‬
‫ورأيت كيف ازدجرهم الوجهاء‪ ،‬والخرتيتة نور‪ ،‬ليس حباً بي‪ ،‬بقدر ما هو خوفهم‬
‫يتوجسونها كقبض الجمر‪ ،‬وحين أقفوا‪،‬‬‫من عاقبة؛ وإ ن لم يعرفوا تفاصيلها‪ ،‬فهم ّ‬
‫داناني عبد المجيد َّ‬
‫وفح في أذني‪:‬‬
‫نتصرف معك خالف قناعتنا وما تستحق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪:-‬‬
‫وأتركهم أسرى الغموض‪ ،‬فخوفهم من اآلتي المجهول‪ ،‬يفتت ما يتبلور في‬
‫أنفسهم‪ ،‬ويزيغ أبصارهم‪ ،‬كما يرتج على ألسنتهم)‪.‬‬
‫هجع الناس‪ ،‬فأتى الصبي حمزة متسلالً‪ ،‬لكنه تعثّر بحرصه فانكشف أمره‪،‬‬
‫وجرحه السيف قصير النصل‪( .‬الجرو ُينشد بطولة‪ C.).!!.‬وإ براهيم ساوم‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬
‫بشدة ولم يتزحزح عن موقفه‪ ،‬فمضى إبراهيم‪ ،‬ثم‬ ‫بحرقة‪ ،‬ورشاد رفض ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫توسل‬
‫ّ‬
‫بهمه‪ ،‬وهمس‪:‬‬ ‫ا‬
‫ً ّ‬ ‫مختنق‬ ‫الرأس‬ ‫مطأطئ‬ ‫عاد‬
‫‪ :-‬لو تعلم أي ٍ‬
‫نار مضرمة في جوفي‪ C.!.‬دعني أخنقه قبل أن يخنقني عذابي‪.‬‬
‫‪ :-‬لو كان أمره بيدي‪ ،‬لما تركت رأسه ألحد‪ .‬ابتعد يا إبراهيم‪ ..‬ابتعد‪.‬‬
‫التفت إبراهيم راجفاً‪ ،‬بصق ملء وجه الضابط‪ ،‬ومضى مختلجاً‪ ،‬فإن هو كتم‬
‫يقض مضجعه فهذه كارثة‪ ،‬وكيف ال ُيجن‬
‫تورم في صدره‪ ،‬وإ ن أفضى بما ّ‬ ‫وجعه ّ‬
‫وفي رحم زوجه جنين؛ صعب عليها أن تجزم إن كان من صلبه‪ ،‬أم هو سفاح‬
‫ازدرعه الضابط تلك الليلة في رحمها‪.‬؟!‪C.‬‬
‫سكن الليل‪ ،‬وفرض النوم سلطانه على الخلق‪ ،‬مالمساً جفون األغلبية بأنامله‬
‫السحرية‪ ،‬كأنما ُغمست بخالصة نبتة البنج‪ ،‬وما بقي إال موجوعون‪ C‬ومفجوعون‪،‬‬
‫هدمهم التأسي واألنين‪ ،‬ويئسوا من الشكوى واالستغاثة فهمدوا مستسلمين‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومحتضرون يمهدون باالستغفار الستقبال الموت بسكينة وتسليم والمتناومون‬
‫تهرباً من عذابات مستعصية‪ ،‬وعشاق تالقوا ملتحفين عباءة الليل الساترة‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتدبرون ويتداولون ما يمكن وما عساه يكون‪ ،‬مؤدين ضريبة‬ ‫ّ‬ ‫العتمة‬ ‫وخفافيش‬
‫غاضين الطرف عما حولهم‪ ،‬مقابل أال تلتقط كالمهم أذن؛ أو‬
‫ّ‬ ‫التكتم‪ ،‬فيتهامسون‬
‫تقع عليهم عين‪ .‬كمال والجدة نور وقمر وسليمان والحكيم إدريس و…‬

‫‪- 192 -‬‬


‫وهناك نتيفا وجيئوال وغولدا وأخريات وآخرون‪ .‬ورمضان اللص‪ ،‬ذئب‬
‫الليل‪ ،‬يجوب األنحاء متصيداً‪ ،‬وفي مقلتيه وجل وحذر‪ .‬رأى جنيتين رشيقتين‬
‫دب نحوهما‪ ،‬ثم لطى‬‫تتهاديان منسربتين مثل سحليتين‪ ،‬تتدهديان في الممارق‪ّ ،‬‬
‫وتقدمت األخرى‪ ،‬عبرت إلى العربة المقفّصة‬
‫فتبعهما منسحالً‪ .‬لبثت إحداهما ّ‬
‫كاشفة عن مفاتنها‪ .‬تهافت قلبه كأنه هبط إلى وسطه‪ .‬لهث فاركاً عينيه‪ ،‬وقد‬
‫أطاشه ما يرى على سنا النار هناك‪ .‬نادت بهمس وغنج‪:‬‬
‫‪ :-‬رشا‪ ..‬د‪ .‬رشاد‪.‬‬
‫تعرت تماماً‪ .‬تمددت بجانبه‪ .‬تلوت ٍ‬
‫بدالل‪ .‬تقلّبت في الجهات‪ .‬انشدت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضمته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عانقته‪.‬‬ ‫األخرى‪.‬‬ ‫فأخذته‬ ‫اقة‪،‬‬ ‫حر‬
‫ّ‬ ‫آه‬ ‫منه‬ ‫فلتت‬ ‫عظام‪.!.‬‬ ‫بال‬ ‫وارتخت‬
‫توحده بهذا الجسد‬
‫ّ‬ ‫تزيد‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫وما‬ ‫وجهده‬ ‫هصرته في حضنها تستنزف ذهوله‬
‫الناري‪ ،‬فتخلبه ّلبه وقلبه‪.‬‬
‫في البكور‪ ،‬كان الضابط عثمان واقفاً وسط حلقات متواليات من عسكره‪ ،‬ال‬
‫ينفذ منها إليه ذبابة وال بقّة‪ .‬حليق الذقن‪ ،‬يشع نظافة‪ ،‬رافالً بأناقته‪ ،‬والجاويش‬
‫واألومباشي يطلقان النار في االتجاهات كافة‪ ،‬دونما هدف محدد‪ ،‬وطفق ينثر‬
‫"المجيديات" على عسكره األعزاء‪C.!.‬‬
‫ووجه كبير الطهاة (عوبديا) أن‬
‫وكان قد ّقبل غولدا وجيئوال قبلة الوداع‪ّ ،‬‬
‫يكون دليلهم‪ ،‬فيمضون في الحال‪ ،‬يغذون السير‪ ،‬ليقطعوا أطول مسافة قبل‬
‫الشروق‪ ،‬منحرفين غرباً من حلب‪ ،‬فيتابعون جنوباً‪ ،‬متاخمين الحضر والبادية‪،‬‬
‫تكسباً وتمويهاً‪،‬‬
‫يستبدلون بمالبسهم مالبس غجرية‪ ،‬فيمارسون الغناء والرقص ّ‬
‫والحناء واألخياط والغرابيل مثل "القرباط"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يكشفون "البخوت"‪ ،‬ويبيعون "البطم"‬
‫يضربون الدفوف ويحرقون البخور‪ ،‬مرددين األوراد والذكر كالدراويش‪ ،‬يمدون‬
‫أيديهم طالبين من مال اهلل‪ ،‬كما شحاذو "النور"‪ .‬يحتمون بـ "القبضايات" ورؤساء‬
‫القبائل وشيوخ العشائر والبكوات‪ .‬يقبرون موتاهم ليالً‪ ،‬فال يظهر لها أثر‪ ،‬حتى‬
‫زراعين حرفيين‪،.!.‬‬ ‫حراثين ّ‬
‫يصلوا تخوم األرض الموعودة‪ ،‬فيدخلونها أجراء ّ‬
‫مستفيدين من ثروات تكتنزها أجساد هذي الحسان‪ ،‬فال تنضب ما دام فيهن غواية‬
‫وعرق ينبض‪.‬‬
‫وكان الشيخ اإلمام قد أ ّذن لصالة الصبح‪ ،‬عندما وجدوا جثة رمضان قرب‬
‫النهر‪ ،‬وتحتها جثة رشاد‪ ،‬منزوعة عنهما السراويل‪ ،‬في وضعية شائنة‪.!.‬‬
‫دفنوهما واجمين كيفما اتفق‪ ،‬وأبى كثيرون المشاركة‪ ،‬يعمهم الصمت كأن‬
‫على رؤوسهم الطير‪.‬‬

‫‪- 193 -‬‬


‫واستأنفت القافلة المسير‪ ،‬والعسكر يهتفون للضابط عثمان‪ ،‬منددين بعصبة‬
‫األوباش‪ ،‬محيطين به كما السوار يحيط بالمعصم‪ ،‬وما زال يرشقهم بالمجيديات‪.‬‬

‫*****‬

‫‪- 194 -‬‬


‫‪12‬‬

‫بكى الرجال الوقورون‪ ،‬قهرتهم تلك الميتة الضالة‪ ،‬تأثروا بها أيما ٍ‬
‫تأثر‪،‬‬
‫وقضوا الوقت ساهمين؛ غارقين في صمت أصم‪ ،‬لم يرفع خالله أحدهم نظره في‬
‫وجه أحد‪ ،‬وبدت وجوههم خاملة‪ ،‬كأنما أدمغتهم ركنت في سبات بليد‪.‬‬
‫الموت هو الموت؛ ما تغير قط‪ .‬لكن موتهما وحده ليس ما جعلهم شديدي‬
‫االكتئاب‪ ،‬إنما انكشاف عورتيهما‪ ،‬وانكبابهما على وجهيهما أحدهما فوق اآلخر‪،‬‬
‫وعرفت بينهم تلك المعابة المخجلة‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منهم يشعر أن‬ ‫وضعية مشينة‪ ،‬فما سبق ُ‬
‫العار لحق بشخصه دون غيره‪.‬‬
‫النساء واجمات‪ ،‬يلفّهن حزن كثيف‪ ،‬وشعور بنقيصة غير مألوفة‪ ،‬فبدون‬
‫زاهدات‪ ،‬غير الويات على شيء‪.‬‬
‫الحظ األطفال أن أهليهم في حالة فوق العادة‪ .‬حدسوا وتهامسوا‪ ،‬ثم ما لبث‬
‫ٍ‬
‫لطقس ثقيل‪.‬‬ ‫ٌّ‬
‫كل منهم أن أوى بين ذويه ممتثالً‬
‫وكان الفتى السِّكيت يردد في داخله‪:‬‬
‫‪( :-‬بريئان‪ ..‬أقسم)‪.‬‬
‫ملحة‪ ،‬فانتحى جانباً خارج‬
‫حثته نفسه أن يكشف الحقيقة‪ ،‬وحضته نخوته ّ‬
‫السرب المحيط بالضابط‪ ،‬بيد أنه ما لبث أن فتر وانصرف عن البوح‪ ،‬ولم تهمد‬
‫فضجت سائلة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نفسه‪،‬‬
‫غيه‪.‬؟‪ .‬قد حكم‬
‫الغمة‪ ،‬والضابط سادر في ّ‬
‫‪( :-‬كيف لهم الخروج من هذه ّ‬
‫عليهم بذاك العذاب‪ ،‬فكان أجور من قاضي سدوم‪.).!.‬‬
‫وحده هو والضابط يعرفان ما حدث‪ ،‬وتلك القافلة رحلت بعيداً‪ ،‬حاملة جيئوال‬
‫وغولدا؛ الفاتنتين الضاريتين‪ ،‬وقد رأى منهما ما أذهله‪ ،‬وما ال يتخيله قطّ‪.!.‬‬
‫دمره‪ ،‬ما دام للجسد ذاك البهاء بال‬
‫يكاد يعيد النظر بتباريحه والعشق الذي ّ‬
‫‪- 195 -‬‬
‫نظير‪ .‬وما الخليقة بأسرار مفاتنها قاطبة‪ ،‬إال دندنات وإ يقاعات من بعض موسيقا‬
‫الجسد‪ .‬ومهما وصف يظل عاجزاً عن الوصف‪ .‬إنه الجنون الجميل عينه‪.!.‬‬
‫ويا لعجبه من طاقة خرافية كامنة في رقة األنوثة‪ C،.!.‬ولم يعرف قدر جمال‬
‫الجسد‪ ،‬إال حين رأى عن كثب كيف اكتمل الجمال كله‪ ،‬باندغام أنوثة طاغية‬
‫بذكورة فائقة‪.‬‬
‫لبشر‪ ،‬فإن تك ّشف نبضه في أعماقه‪ ،‬كان سدرة ال قبلها وال‬ ‫سر َّ‬
‫قل أن يتجلى ٍ‬ ‫ٌّ‬
‫بعدها‪C..!..‬‬
‫‪( :-‬تراك يا قمر‪ ..‬تعرفين هذي النأمة الواصلة الفاصلة‪.‬؟‪.).‬‬
‫ورد‪ ،‬وألفت ذهنها يتناول عنقود‬ ‫مضطرب‪ ،‬بين ٍ‬
‫أخذ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لتفكير‬ ‫ظلت قمر نهباً‬
‫التساؤالت‪ ،‬وقد تشمرخ في زورها‪ ،‬فيأخذ منه حبة فحبة‪:‬‬
‫‪( :-‬هو أمر مختلف تماماً‪ ،‬لعل التشكيك به سبيل انحساره‪ .‬ولكن‪ C..‬كيف‬
‫أخرق هذا الطقس المهيب‪.‬؟‪ .‬وأنى لي تقديم برهان براءتهما‪.‬؟‪ .‬ومن أين آتي‬
‫أؤول ما رآه الناس‪.‬؟‪ .‬كيف أنقضه ألثبت سواه‪.‬؟‪ .‬ومن أين‬‫بدليل‪.‬؟‪ C.‬وكيف ّ‬
‫أبدأ‪.‬؟‪.‬‬
‫قمر‪ ..‬الجدة نور لم تخطئ إذ قالت إنك شموس‪ ،‬ولم (تستطعمي) بعد‪.‬؟!‪C.‬‬
‫المتصعدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تجرعت مرارة الهزيمة والخيبة حتى حثالة الثمالة‪ُ ،‬خِذلت بنفسك‬ ‫ّ‬
‫وفجعتك األحالم بجسدك المدلّه‪ ،‬فعرفت طعم العلقم على ذاك وهذا الصعيد‪ ،‬وما‬
‫ٍ‬
‫موقف أنف الرجال‬ ‫سباقة في‬‫تدسين أنفك في هذه وتلك‪ .!.‬العمى‪ C..‬أتكونين ّ‬ ‫زلت ّ‬
‫منه‪ ،‬فضالً عن أنثى‪.‬؟‪ C.‬العمى يا قمر‪C.).!.‬‬
‫‪ :-‬وبعد أيها الحكيم إدريس‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬معضلة أيها الضابط‪.‬‬
‫‪ :-‬كمال‪ ..‬أراك مهزوزاً أيها الضابط‪.‬؟!‪.‬‬
‫‪ :-‬اعتاص األمر علينا يا إبراهيم‪.‬‬
‫ردد إدريس الحكيم بتؤدة وتأكيد‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بحادثة إال حادثة أخرى‪.‬‬ ‫‪ :-‬ال يذهب‬
‫يحس القلق ٍ‬
‫بقلب منقبض‪ ،‬فالعد‬ ‫تمتم إبراهيم القول يتمثّله‪ ،‬بينما كمال ُّ‬
‫التنازلي بدأ‪ ،‬والمسافة تقصر‪ ،‬والقافلة وإ ن كانت تزحف؛ إال أنها تقترب من‬
‫حلب‪ ،‬والضابط عثمان أهملهم‪ ،‬بل لم يلتفت إليهم‪ ،‬تركهم بال قوت‪ ،‬حتى أكلوا‬

‫‪- 196 -‬‬


‫هرب المؤونة إلى تلك القافلة األعز على قلبه‪ .‬عجيب هذا‬
‫سحالة الشعير‪ ،‬بعدما ّ‬
‫اآلدمي‪ C.!.‬كأنه ال يراهم‪ ،‬وكأنهم غير موجودين‪ .!.‬أليست هذه أساليب المهيمن؟‬
‫بلى‪ ..‬وإ نه ينطق غير ما يضمر‪ ،‬ويخفي عكس ما ُيظهر‪ .‬تلك خطورته‪ ،‬وهذا‬
‫سبب قلق كمال‪ ،‬فهو على تواضع خبرته‪ ،‬درى غطرسة أولئك العسكريين‬
‫المطنبين بالفخفخة‪ ،‬ضالعين في الغرور إلى حد التورم‪:‬‬
‫‪( :-‬أرفض أن أكون مثلكم؛ وإ ن كنت منكم‪C.).‬‬
‫فلم يكن فشفاشاً كالضابط عثمان‪ ،‬هذا الذي ال يرعوي‪ ،‬إال إذا أُقيل مسترذالً‬
‫فتفش نفخته‪ ،‬أو‪ ..‬يموت‪.‬‬
‫عزت فيه الطلقة‪ ،‬وها هي في‬
‫اختلس إبراهيم من كمال طلقة‪ ،‬في وقت ّ‬
‫قبضته‪ ،‬يضغط عليها‪ ،‬يحسسها دوافعه‪ ،‬واست ّل البندقية‪ ،‬غنيمته من معركتهم مع‬
‫عسكر عريف ألكسندر‪ ،‬ولطالما حرص على إخفائها‪ .‬مسحها وأودع الطلقة في‬
‫شق طوق العسكر المتراص‬ ‫جوفها‪ ،‬ربت على جيد حصانه وانطلق كرصاصة‪َّ ،‬‬
‫حول قائدهم‪ ،‬تنابهوا وأطلقوا وأطلق‪ .‬استقرت رصاصته في كتف الضابط‬
‫فشوهته‪ .‬بصق‬
‫األيسر‪ ،‬وسقط إبراهيم عن صهوة جواده مثقّباً‪ ،‬داسته الدواب ّ‬
‫الضابط متشفياً‪ ،‬تركه رسالة جوابية إليهم‪ ،‬وتابع الركب سيره‪ ،‬وجعل الجواد من‬
‫شمه فحمحم‪ ،‬ثم رفع خطمه إلى أقصى علو‬ ‫جسمه مظلّة لفارسه الذي سقط‪ّ .‬‬
‫وصهل‪ ،‬كبا وطأطأ رأسه حزناً أو احتراماً‪ ،‬واسترخت أذناه‪ ،‬وقطرت من عينيه‬
‫دمعة فدمعة‪.‬‬
‫جثمت آية عند رأس زوجها تسأله بعتب مؤلم‪:‬‬
‫‪ :-‬أأنت القتيل‪ ،‬أم أنا والذي في أحشائي‪.‬؟‪.‬‬
‫وتحسر‬
‫ّ‬ ‫اتسعت مقلتاها‪ ،‬وتجمدت أجفانها وظلت شاخصة‪ .!.‬دفنوه بمهابة‪،‬‬
‫أصدقاؤه والنسوة على شبابه‪ ،‬وتساءل بعضهم‪:‬‬
‫يعوض فقدانه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪-‬ل َم فعل ذلك‪.‬؟!‪ .‬لقد أضاع شبابه‪ ،‬وال شيء ّ‬
‫استأنفوا المسير‪ ،‬ونعمان ينشدهم ويرثي صاحبه‪:‬‬
‫‪( :-‬نختار الحياة القصيرة… وليبق صيتنا ذائعاً… دون أن نجانب الحقيقة…‬
‫حرة… دون أن نعبأ بالصعاب‪.).‬‬ ‫فلتكن العدالة طريقنا… ولنعش بقلوب ّ‬
‫وانقهر رهط شبان وصبية‪ ،‬وانفجر أحدهم قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬لو أنه قتله‪ ،‬لما كان موته بال ثمن‪.!.‬‬
‫وأجهش باكياً‪ .‬احتضنت هوريك صاحبتها آيه‪ ،‬وضمتهما الجدة نور إلى‬
‫‪- 197 -‬‬
‫حضنها‪ ،‬وتعاضدت قمر معهن مواسية‪:‬‬
‫‪ :-‬إبراهيم فقيدنا جميعاً‪.‬‬
‫فهز األخير رأسه‪ ،‬كأنه يؤكد ما‬
‫شخص بصر كمال بوجه إدريس الحكيم‪ّ ،‬‬
‫ٌّ‬
‫سبق وقال بأن ما للحادثة إال حادثة أخرى‪ ،‬وأمسك كل منهما عضدي اآلخر‬
‫وتهازا‪ ،‬دون أن يسمح أحدهما البتسامته الحزينة أن تظهر‪ ،‬فليست كل الميتات‬‫ّ‬
‫سواسية‪.!.‬‬
‫ولحق جسم القافلة برأسها‪ ،‬فقد توقف الركب في استراحة طوال مدة دفن‬
‫إبراهيم؛ ومداواة الضابط الجريح‪ ،‬وها هو يبدو متعافياً‪ ،‬أو أنه ُيظهر بأسه‪ ،‬فال‬
‫جد وسخرية‪:‬‬ ‫يفتق في غطرسته موضعاً‪ C.!.‬ثم خاطبهم بين ٍ‬
‫‪ :-‬اجعلوا لكم رأساً بدل أن تظلوا جميعاً موضع الذنب‪ .‬دعوا وجهاءكم في‬
‫الواجهة‪ ،‬فال أحد بطرف الوالي يلتفت إلى العجيزة‪.‬‬
‫لكز حصانه ومضى‪ C،‬وقبل أن يتقاطر خلفه العسكر‪ ،‬أدار حصانه موجهاً‬
‫كالمه إلى كمال‪:‬‬
‫حري بك أن تأخذ مكانك‪ .‬كفاك تردياً ومسخرة‪ .‬ضابط أنت ال راعي‬
‫ّ‬ ‫‪:-‬‬
‫غنم‪ .‬إني آمرك‪.‬‬
‫أطرق كمال هنيهة‪ ،‬ولمح إدريس الحكيم تردده‪ ،‬فنظر نحو الجدة نور كأنما‬
‫خرج الضابط الشاب من حيرته‪ ،‬فهتفت‪:‬‬ ‫يسألها أن تُ ِ‬
‫تصرف يا رجل‪ ،‬وال‬
‫‪ :-‬كمال يا بني‪ ،‬مطمئنون إليك حيثما كنت‪ .‬هيا‪ّ ..‬‬
‫حرج‪.‬‬
‫تطلّع نحو قمر فوجدها وهوريك منشغلتين بآيه‪ .‬حانت منها التفاتة فابتسمت‬
‫عدل‬
‫بدفء‪ ،‬شحنته ابتسامتها ثقة‪ ،‬فمسح رأس الصبي حمزه وترك العربة‪ّ ،‬‬
‫أحبه‪ ،‬ومن لم يرتح له على‬
‫هندامه و تناول رسن فرسه‪ ،‬امتطاها ومضى يحفّه َم ْن ّ‬
‫لحظتئذ انقبض قلب أرملة ضيف اهلل‪ ،‬وسالت دمعتان قهريتان على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حد سواء‪.‬‬
‫خديها‪ ،‬وذهب بصرها إلى الفضاء‪ ،‬فتراءى لها طيفه‪ ،‬شكت إليه حمأة الضعف‬
‫وتضاعيف الفراق‪ ،‬فذاك هو عثمان القتول‪ ،‬يتعنجه متبذخاً بدم قتاله‪( .!.‬وما عاد‬
‫علي بالرضا يا ضيف اهلل‪C.).!.‬‬
‫وجهك ُيطل ّ‬
‫انتبهت‪ ..‬وقد عال لغط حولها‪ ،‬فالجدة نور أبت أن يكون ابنها رجب في‬
‫المقدمة بين الكبراء‪ ،‬ثم إنهم ألحوا حتى أضجروها‪ ،‬ألنها ارتأت إنابة حفيدها‬
‫ٍ‬
‫بمكانة هي في‬ ‫سليمان‪ ،‬وحاولوا إقناعها بأنه لم يزل في مقتبل العمر‪ ،‬ووالده أولى‬

‫‪- 198 -‬‬


‫األصل له‪ ،‬فأكدت إصرارها‪ ،‬وتمنوا عليها أن تقبل ارتقاء المقدمة إلى جانب‬
‫ردها حاسماً‪:‬‬
‫رجب‪ ،‬فجاء ّ‬
‫‪ :-‬أما سليمان فبدالً عن أبيه‪ ،‬وأما أنا فإني أُنيب قمر‪.‬‬
‫دهشة‪ ،‬فلطالما أتتهم بآراء حيوية لم يألفوها‪ ،‬وال يجدوا حجةً‬ ‫ٍ‬ ‫لحظات وهم في‬
‫تبرر نقضها‪ .‬وكان الشيخ اإلمام آخر من حاول ثنيها عن رأيها‪ ،‬وحين لمست أنه‬
‫بإيحاء من الضابط عثمان‪ ،‬جادلته حتى أنسته غايته‪ ،‬فانصرف منشغالً‬ ‫ٍ‬ ‫يجادل‬
‫تشجعها‪ ،‬خالعة عليها أثواباً الئقة‪ ،‬مما‬
‫بغير ما جاء ألجله‪ ،‬ثم انقطعت إلى قمر ّ‬
‫وتعدها‬
‫بحرص عليها‪ ،‬وما فتئت ترشدها ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كان لها ّإبان قمة نضوجها‪ ،‬حافظت‬
‫مكرسة فطرتها المنذورة لمغالبة صيرورتها‪ ،‬من غير أن تنسى‬ ‫نديدة الرجال‪ّ ،‬‬
‫نفسها‪ ،‬فهي امرأة أوالً وآخراً‪ ،‬ليست مسترجلة وال مبتذلة‪ ،‬وأردفت‪:‬‬
‫أحسنت فلك يا قمر‪ ،‬وإ ن قص ِ‬
‫رت فعلينا معاً‪ .‬الحذر‪ ..‬الحذر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ :-‬فإن‬
‫ّ‬
‫آن‪ ،‬فغبطتها نسوة‪ ،‬وحسدتها بعضهن‪،‬‬ ‫رغبتها وح ّذرتها مباركة فطنتها في ٍ‬
‫ّ‬
‫وصفّق عباس الممسوس لها‪ ،‬وزفّها صبية وصبايا‪ ،‬وهي ماضية كأميرة على‬
‫فسبح الفتى السِّكيت بمبدع ما خلق‪ .!.‬وأخذته قشعريرة كومض‬ ‫صهوة فرسها‪ّ ،‬‬
‫بهية‪ ،‬تمناها‬
‫البرق اقتسرته الشهقة خاللها مرتين‪ ،‬وهو يتملى هذي القادمة عروساً ّ‬
‫ولم يحلم بغيرها‪ ،‬فأوقف قلبه عليها‪ ،‬وها هو يخفق على هامشها‪ ،‬وتناحرت في‬
‫أمس‪ ،‬وهذه التي لما تزل في نظره سيدة النسوة‪ .!.‬أهو عشق‬ ‫ذهنه خياالت بهرته ِ‬
‫يخص ذاتها‪ ،‬أم ولهه بالجمال كافة‪.‬؟!‪C.‬‬
‫حركت في قرارته حناناً شفيفاً‪:‬‬
‫وأطال عثمان النظر متملياً شخصيتها‪ ،‬وقد َّ‬
‫‪( :-‬أيتها البديعة‪ ..‬ما أشبهك بأمي‪.).!.‬‬
‫فحيت الرجال‪ ،‬واتخذت موقعها قرب سليمان‪ ،‬حيث يليق بمن في سنها‬ ‫دنت ّ‬
‫ثم إنها ما زالت ترهب حماها السابق؛ بل تحترمه‪ ،‬أو لم يقل إنها بمثابة ابنته‪.‬؟‪.‬‬
‫واستأنفت القافلة مسيرها مكتملة‪ ،‬فعادت لتبدو كمخلوق فقاري أسطوري‪،‬‬
‫برغم ما أصابه من هزال لكثرة ما نزف‪ ،‬فليس بقلة الذين انتزعهم الموت في‬
‫فروا منسلخين عنها‪ ،‬وها هي تزحف بناسها ودوابها‬ ‫الطريق الصعبة‪ ،‬والذين ّ‬
‫وعرباتها على روابي المدينة‪ ،‬وكمال يكاد يطير فرحاً إلى حيث بيته‪ ،‬لكنه سرعان‬
‫ما امتعض لمرأى أفواج الناس يغادرونها بهيئات بائسة‪ ،‬وتلك هي دوريات‬
‫تنقض فتأخذ أحدهم‪ ،‬وترمي‬
‫ّ‬ ‫الجندرمة‪ ،‬تجوب األمكنة‪ ،‬تطرد وتطارد فلولهم‪،‬‬
‫بآخر إلى التهلكة‪ ،‬رآهم أشباحاً وهياكل‪ ،‬لكأنها خرجت لتوها من أجداثها‪ ،‬أحاطوا‬

‫‪- 199 -‬‬


‫بالقافلة‪ ،‬تراكضوا حولها الهثين في إثر مضغة‪.!.‬‬
‫ٍ‬
‫خطب نابك يا حلب‪!.‬؟‪.).‬‬ ‫‪( :-‬أي‬
‫تعرق واضمحلت فرحته بالعودة‪ ،‬فهو‬ ‫أحزنه أن يرى ذلك‪ .‬خجل وانكمش‪ّ .‬‬
‫أسير شعور تملكه منذ وعى‪ C،‬فالمدينة بيته‪ ،‬وسكانها أهله وخاصته‪ ،‬والقادمون‬
‫إليها أضيافه‪ ،‬وال يخامره شك أن بيته أجمل بيوت الدنا‪ ،‬وأهله أفاضل‪ ،‬فيفاخر‬
‫ببيته وأهله‪ ،‬ويكرم ضيوفه كرامة حبه ألهله وبيته‪ ،‬فما تراه يفعل‪ ،‬وقد انكشف‬
‫ستر من أستار داره‪ ،‬شعور سوداوي غمره فأترعه حرجاً‪ ،‬كأن األضياف أطلوا‬
‫على بيته فرأوا عورته‪ .!.‬تذ ّكر الكواكبي‪ ،‬فزور عثمان وتحسس قبضة سيفه‪،‬‬
‫امتقع لونه وارتجفت أرنبة أنفه‪ .‬أحست قمر أنه مأزوم يفضحه اختالج وجنيته‪،‬‬
‫فبادرته‪:‬‬
‫‪ :-‬وصلنا أخيراً‪ ..‬أليس كذلك‪.‬؟‪ .‬حمداً على سالمتك‪.‬‬
‫‪ :-‬بلى‪ C..‬هي ذي حلب‪.‬‬
‫‪ :-‬تبدو كما وصفتها لي‪ .‬ستجد من يفرح بعودتك‪ ،‬إني أغبطك‪ .‬وما تلك‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬إنها القلعة‪ ..‬عالمة حلب‪.‬‬
‫‪ :-‬أتستطيع تحديد موقع بيتكم‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬إنه إلى جوارها‪ ..‬عند طرفها اآلخر‪.‬‬
‫‪ :-‬ليتني أراه‪.‬‬
‫بغصة وفرحة‬
‫لم يفهم ما رمت إليه‪ ،‬إال أنها انتشلته مما طغى عليه‪ ،‬فشعرت ّ‬
‫معاً‪ ،‬ونظرت في عينيه قدر ما أتيح لها‪ ،‬لكأنها تريدهما أن تنبئانها كيف يراها‬
‫اآلن‪ ،‬وهو على تخوم بيته‪.‬؟‪ .‬وللحظة تمنت لو لم ينته المسير‪.!.‬‬
‫ثم تمنت عميقاً أال تكون نهاية المسير ختام حكايتهما‪ .‬تنهدت‪ ،‬ثم رفعت‬
‫ق؛ لعلها تخفي هواجسها‪ ،‬وبعثت نظرها في أرجاء المكان‪،‬‬ ‫رأسها مبتسمة بإشرا ٍ‬
‫محاولة أال تكلمه أطول مدة تصبر عليها‪ ،‬ال سيما أنها الحظت استياء الوجهاء‪،‬‬
‫يزنر المدينة‪،‬‬
‫وقد أثارت حفيظاتهم‪ ،‬فتشاغلت عنهم بالنظر إلى النهر‪ ،‬وكيف ّ‬
‫ويلف خصرها أُلفةً‪ ،‬ويروي مساكب الخضر على ضفتيه‪ ،‬وجمال أشجار الفستق‬ ‫ّ‬
‫تحف بالسواقي‪ ،‬يستظلها هذا‬
‫ّ‬ ‫العمالقة‬ ‫التوت‬ ‫وأشجار‬ ‫المترامية‪،‬‬ ‫الكروم‬ ‫في‬
‫فالح وأفراد أسرته‬
‫البستاني وتتفيأ بظلها تلك العائلة‪ ،‬وتزهو الزروع بين أيدي ٍ‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أسراب‪ ،‬هفهافة منسابة‬ ‫وفي السماء‪ ،‬من فوقهم حومت أسراب ٍ‬
‫حمام إثر‬ ‫ّ‬
‫‪- 200 -‬‬
‫برشاقة‪ ،‬وكم رأت في نومها أنها تطير دون أجنحة أو ريش‪ ،‬تسبح في الفضاءات‬
‫الرحبة‪ ،‬تنزلق في الهواء متى أرادت؛ وإ لى حيث شاءت‪ ،‬فصار ديدنها أن تهجع‬
‫طالبة النوم‪ ،‬لعلها ترى أنها تطير محلّقة فوق األشجار السامقة‪ ،‬والبيوت‬
‫ومداخنها‪ ،‬وحرارة العواطف المتخيلة تحت سقوفها‪ ،‬والسهوب ومداها‪ ،‬والجبال‬
‫وأنفتها‪ ،‬ودروبها الضيقة بمنزلقاتها الصعبة‪ ،‬مستمدة من ذلك انتعاشاً ومتعة‬
‫تشوه نشوتها‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫وتجدداً‪ ،‬فلم ِّ‬
‫تحدث أحداً عن أضغاث أحالمها‪ ،‬خشية تخرصات ّ‬
‫سراً‬ ‫ٍ‬
‫الخفية‪ ،‬فربما ذهب الحسد بهذي النعمة‪ ،‬إن كان ما تراه ّ‬
‫حسد يحرمها متعتها ّ‬
‫ال يجوز إطالع اآلخرين عليه‪.!.‬‬
‫استرقت النظر إليه‪ ،‬فلمحت آللئ دمع عينيه‪ ،‬وطيف بسمة تهلل لها وجهه‬
‫حية بعد إبعادٍ‬ ‫ٍ‬
‫كطفل أعادوه إلى ّ‬ ‫ٍ‬
‫محدد فيها‪ ،‬فبدا‬ ‫رانياً إلى المدينة‪ ،‬باحثاً عن ٍ‬
‫مكان‬
‫لتضم أصابع يديه‪ ،‬وتلثم بين عينيه‪ ،‬تشاركه اللحظة‬
‫ّ‬ ‫جامح‬
‫ٍ‬ ‫بدافع‬
‫طويل‪ ،‬فشعرت ٍ‬
‫بندرتها‪ ،‬فتضمه برؤم األم‪.‬‬
‫انتابها خوف مفاجئ انقبض له صدرها‪ ،‬فماذا لو كانت ثمة أنثى تنتظر أوبته‬
‫وقلبه يهفو إليها‪.‬؟‪.‬‬
‫ردها صوت الضابط عثمان من شرودها‪ ،‬لحظة خاطبها في جملة الوجهاء‪:‬‬
‫ّ‬
‫تحملته من‬
‫‪ :-‬أوصلتكم إلى حيث أرادت لكم السلطنة‪ ،‬وعليكم تقدير ما ّ‬
‫مشقّة ألجلكم‪ ،‬وما عانيته من سفهائكم وأجالفكم‪.‬‬
‫العراب‪ .‬سفهاء وأجالف‪.‬؟!‪C.‬‬
‫‪ :-‬هكذا إذاً أيها ّ‬
‫محمر‬
‫قال عبد اهلل ذلك محتجاً‪ ،‬فانتصب توفيق وحمزه إلى جانبه‪ .‬زورهم ّ‬
‫برمته‪ ،‬واضعاً في حسبانه احتماالت شتى‪،‬‬
‫العينين‪ ،‬وباآلن نفسه رصد الموقف َّ‬
‫رده على ذاك الفتى األرعن‪ C،‬ثم قال‪:‬‬
‫وروأ في ّ‬
‫َّ‬
‫‪ :-‬ها أنت تأبى إال أن تعلن عن سفاهتك‪ .‬ارحم نفسك من لسانك يا هذا‪،‬‬
‫فإني مشفق على أمك‪.‬‬
‫مهوشاً‪،‬‬
‫غدارته ّ‬
‫وما كاد عبد اهلل ينتفض متقدماً نحوه خطوة‪ .‬حتى أشهر ّ‬
‫وأطلق على مؤخرة ٍ‬
‫بغل فجفل واشتعل ذنبه‪ ،‬وراح يعدو كالملدوغ‪ ،‬ضارباً الهواء‬
‫مهيجاً الدواب فاختلطت ودربكت وارتفعت أصواتها صهيالً وشحيجاً‬
‫بخلفيتيه‪ّ ،‬‬
‫السواس وأصحابها‬
‫ونهيقاً‪ ،‬واضطرب العسكر والناس‪ ،‬إلى أن كبح جماحها ّ‬
‫والبياطير‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ دفعت‬ ‫وعم سكون ملغوم‪ ،‬فالموقف منذر بما ال تُحمد عقباه‪.‬‬
‫ساد ترقب َّ‬

‫‪- 201 -‬‬


‫وقف‬
‫منوهاً أن مخاطبة الضابط ٌ‬
‫الجدة نور إدريس الحكيم‪ ،‬فأبعد األخوة الثالثة‪ّ ،‬‬
‫على الوجهاء‪ ،‬فالمكان والزمان يفرضان سلوكاً مطواعاً‪.!.‬‬
‫ٍ‬
‫بعض حرجاً وشزراً‪ ،‬فتنحنح الوجيه‬ ‫خيم صمت ثقيل‪ ،‬ونظر بعضهم إلى‬ ‫ّ‬
‫عبد الحميد قائالً‪:‬‬
‫‪ :-‬ال بأس أيها الضابط العتيد‪ .‬أين تؤووننا‪ ،‬ومتى نقابل الوالي‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬هو ذا المفيد؛ وأنت فيه على حق‪ .‬سألتمس لدى جنابه ليقابلكم‪ ،‬ولكن ليس‬
‫إلي أيها الضابط كمال‪.‬‬‫قبل أن أرى ما لدى قائد الحامية بشأنكم‪ .‬أعدك فاطمئن‪ّ .‬‬
‫انتحيا جانباً‪ ،‬وبادره بطلب الكتاب والشمعدان‪ ،‬رفض‪ ،‬فهدده متوعداً‪ ..‬ولم‬
‫يرضخ‪ ،‬ثم كرر طلبه بتحبب وتزلّف‪ ،‬بيد أنه لم يستجب‪ ،‬فساومه وفاوضه دونما‬
‫هباء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فائدة‪ ،‬ثم النت لهجته آخذة منحى الرجاء‪ ،‬وأيقن أنه إنما يسفح ماء وجهه ً‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪ :-‬ال بأس‪ .‬برغم سلبيتك سألتمس لدى قائد الحامية لـ‪ ..‬ترقيتك‪ .‬أما الكتاب‬
‫سر بهما‪ ،‬أو‬
‫والشمعدان فهما أعطية‪ ،‬احتفظ بهما‪ ،‬أو اعطهما إلى والدك‪ ،‬فقد ُي ُّ‬
‫قدمهما هدية للوالي فربما كافأك‪ .‬خذ األنفار إلى "القشلة" ما عدا الجاويش‬
‫واألومباشي‪ .‬هيا‪.‬‬
‫حين ابتعد بالعسكر والعتاد‪ ،‬بصق الضابط عثمان شاتماً‪:‬‬
‫‪" :-‬بيس ميلت‪-‬غوييم"‪.‬‬
‫رياء‪ ،‬وأضفى على األوامر صيغة االقتراح‪،‬‬
‫ومال إلى الوجهاء يجاملهم ً‬
‫على أن يحطّوا الرحال –مؤقتاً‪ -‬ههنا قرب مفيض السيل‪ ،‬فالمكان فسيح والنسيم‬
‫عليل‪ ،‬والحال أمان‪ ،‬وسيسهر "األومباشي" على راحة الكبراء‪ ،‬ثم ادعى أنه سيتابع‬
‫مسألتهم لدى أولي األمر‪ .‬وما لبث أن تركهم وانطلق على صهوة جواده‪ ،‬متجهاً‬
‫نحو المدينة وحارسه في ركابه‪.‬‬
‫تبختر الوجيه عبد الحميد مثل طائر الحباري‪ ،‬مبتهجًا بقيام األومباشي على‬
‫يقدر الوجهاء‪ ،‬وملَُؤ الرجل‬
‫أن الوالي ّ‬
‫لمح إلى ّ‬ ‫وأمل صحبه خيرًا‪ ،‬فالضابط ّ‬ ‫خدمته‪ّ ،‬‬
‫باع طويل في الميدان‪ ،‬وله من عسكره‬ ‫زهوًا‪ ،‬كأنه ضابط ما تقاعد إال للتو‪ ،‬له ٌ‬
‫ّ‬
‫تالميذ أوفياء‪ .!.‬وما األومباشي إال أحد أوالء النجباء‪ ،‬يأتمر ويلبي طلباته دونما‬
‫محنكين‪ ،‬يعرفون‬‫تلكؤ‪ ،‬واستدرك الفتاً االنتباه إلى األومباشيين‪ ،‬فغالبًا ما يكونون ّ‬
‫يقدر الوجهاء‪.‬؟‪.‬‬
‫قيمة الرجال ومكانتهم‪ .‬لكن األهم اآلن هو الوالي‪ ،‬أليس ّ‬
‫لذا فالصعب يهون‪ ،‬واألمور في طريقها إلى خير ما يرام‪.‬‬

‫‪- 202 -‬‬


‫حاولت قمر استدراج األومباشي‪ ،‬لعله يدلي بما يفيد عن مجمل أحداث‬
‫الطريق‪ ،‬وعلى وجه الخصوص‪ ،‬الذهب الذي ادعاه الضابط‪ ،‬ونهاية رشاد‬
‫ودس في يده بضعة‬ ‫وتدخل سليمان مجامالً‪َّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ورمضان‪ ،‬وأين اختفت تلك القافلة‪.‬؟‪.‬‬
‫نم عنه‬
‫مجيديات‪ ،‬إال أنه ظل متحفّظاً‪ ،‬إلى أن أوضح أنه خائف‪ ،‬ثم ألغى ما َّ‬
‫فهب متذرعاً‬
‫وتبرم النزوائه معهما‪ّ ،‬‬ ‫كالمه‪ ،‬فأنكر أن يكون مطلعاً عما يسألون‪ّ ،‬‬
‫ألحت أن تعرف أين كان ليلة موت رشاد ورمضان‪،‬‬ ‫بواجب خدمة الكبراء‪ ،‬ولما ّ‬
‫تنفس بتقطّ ٍع ونفض رأسه مدمدماً أنه ال يذكر‪ ،‬لكنه أ ّكد اختفاء كبير الطهاة‬
‫ليلتذاك‪ ،‬ثم استدرك راجياً تقدير وضعه الحرج‪ ،‬فلقمة العيش تلجم اللسان‪ ،‬وليس‬
‫عجل‪ ،‬فانتحى جانباً وجلس مطرقاً‪،‬‬ ‫هذ حديثه وتركهما على ٍ‬ ‫كل ما يعرف يقال‪ .‬ثم َّ‬
‫ُ‬
‫فجعلهما في ريبة منه‪ ،‬وشرع يغني‪:‬‬
‫‪ :-‬أمان أمان‪ .‬أما‪ ..‬ن‪.‬‬
‫وطفق يرثي نفسه وضياع العمر‪ ،‬شاكياً حالـه هاجياً الزمان…‬
‫عبرت عن تفتّق المواجع‪.‬‬
‫أشجاهما صوته الطلق‪ ،‬وقد وظّف في نبراته ُعرباً ّ‬
‫ولم ترتح قمر لحظةً لغياب كمال‪ ،‬غير قانعة بما يدور‪ ،‬تاركة لسليمان أن‬
‫تصرح أنها‬
‫جد ضجرة‪ .‬لم ّ‬ ‫الجدة نور ّ‬
‫يحاول مع األومباشي ثانية‪ ،‬فهي ذاهبة إلى ّ‬
‫شبه محبطة‪ ،‬فال مبرر لحشرها بين الوجهاء‪ ،‬وال مبرر لعزلهم عن الناس‪ ،‬فاللعبة‬
‫محض فخفخة جوفاء أحسن الضابط استثمارها‪ ،‬فحمى نفسه بهم‪ ،‬وكان على شفا‬
‫خطر؛ خطورة ما اقترف بحقهم‪:‬‬‫ٍ‬
‫‪ :-‬ويا للهبل إذ وافقناه فنصرناه على أنفسنا‪ .!.‬وههنا مزيج من غباء‬
‫وسذاجة وحمق‪ ،‬وإ نها كذلك في نظر الضابط الماكر‪ .‬خدعنا ونفذ سالماً‪ ،‬وها نحن‬
‫في أفواهنا رماد ومرارة خيبات‪.‬‬
‫***‬
‫الحمام‪ ،‬والحارات‬
‫مضى من الليل بعضه‪ ،‬حين خرج الضابط وحارسه من ّ‬
‫واألزقة مقفرة إال ما ندر‪ ،‬وبرغم ذلك كانا حذرين يتوخيان العتمة‪ ،‬في طريقهما‬
‫إلى سكن (الخانم الكبيرة)‪.‬‬
‫‪" :-‬عصمان"‪ .‬هذا ولد‪.!.‬‬
‫عز الطلب‪.‬‬
‫الئق وهو ّ‬
‫‪ٌ :-‬‬
‫‪ :-‬أحقاً‪ ..‬أم تراك تنتهز رقّة أهوائي‪!.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬استعضت عني بصانع الطرابيش‪ ،‬وها أنذا أهديك ما يغنيك عن الرجال‬

‫‪- 203 -‬‬


‫أجمعين‪.‬‬
‫‪ :-‬أما أنت فال أستغني عنك أبداً‪ ،‬وأما صانع الطرابيش فال تذكره البتة‪ ،‬هي‬
‫غلطة أريد أن ننساها‪ ،‬وليس في وقتي متسع لمثلها‪.‬‬
‫‪( :-‬أيتها المتقلّبة‪ ..‬يا ذات األمزجة المحيرة‪ .!.‬إنما تبدين تحفظاً بقدر ما‬
‫كلب‪ ،‬فضالً عن هذا‬‫تعف عن ٍ‬ ‫يلزم األبهة‪ .‬لن أدعك تتعجرفين‪ ،‬ونفسك ال ّ‬
‫المتكامل‪C.).‬‬
‫الو على الئ ٍ‬
‫ق‪ ،‬فقد بلغ السيل الزبى‪ ،‬ولن يدع‬ ‫واندفق الكالم من فمه‪ ،‬غير ٍ‬
‫لمحض ّترهة أن تنسف تدبيره‪:‬‬
‫‪ :-‬إنه فتي يا خانم وقوي‪ .‬جلد‪ ..‬صبور‪ ..‬كتوم‪ ..‬سكوت‪ ..‬نشيط‪ِ ..‬غٌّر‪..‬‬
‫مؤنس‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫َعزب‪ ..‬مطواع‪ ..‬لطيف‪ ..‬وسيم‪ ..‬مجهول‪ C..‬عصفور‪ ..‬سهَّاري‪..‬‬
‫سيدتي فتنت خانم‪.‬‬
‫ذابت وهي تستمع‪ ،‬وأجابت كأنها غائبة‪:‬‬
‫‪-‬يا للمتع‪ .!..‬ما اسمه "عصمان بك"‪.‬؟‪.‬‬
‫سمه ما ترغبين‪.‬‬
‫‪ :-‬ال اسم له‪ّ ..‬‬
‫‪ :-‬هل علم ابننا الباشا بعودتك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬اطمئني‪ ..‬ال علم ٍ‬
‫ألحد بالفتى‪.‬‬
‫‪" :-‬كاهانا" أيها المخلص‪ .‬شرطي أن تنساه‪.‬‬
‫‪" :-‬تامار" أيتها الفاتنة‪ ،‬نسيته منذ اللحظة‪.‬‬
‫‪ :-‬ترقية لك "عصمان بك"‪.‬‬
‫‪ :-‬كريمة يا خانم‪.‬‬
‫‪ :-‬إذاً تريحني من صانع الطرابيش فأطمئن‪.‬‬
‫طماع‪.‬‬
‫‪ :-‬هذا أمر آخر‪ ،‬وأنا ّ‬
‫طماع‪ ..‬نخاس‪ ..‬سمسار‪ ..‬ديوث‪ ..‬ثعلب أنت‪ ،‬وماذا أيضاً‪.‬؟‪.‬‬ ‫‪ّ :-‬‬
‫‪ :-‬مخلص مطيع‪.‬‬
‫‪" :-‬عفارم"‪ ..‬قل بِ َم تطمع‪.‬؟‪.‬‬
‫مأل عينيها بابتسامته الرقيقة الماكرة‪ ،‬وأسال إليها من عينيه فيض عسل‪،‬‬
‫فغرقت به ولم تستعجل إجابة‪ ،‬لكأنها تقرأ ما يدور في خلده‪:‬‬

‫‪- 204 -‬‬


‫(نولتك ديدنك‪ ..‬وسأستنزف سطوتك أيها المتصابية المتسلطة‪ ،‬فأستفيد‬ ‫‪ّ :-‬‬
‫أقصى استفادة من سلطانك الخفي‪ ،‬وهذا حقي ال فضل لك فيه‪ ،‬فإن زدت أستزيد‪،‬‬
‫ثم إن زدت فألنك تجعلين الفتى يراك "أناهيد"‪ ،‬ثم تشعرين أنك حقاً "أفروديت"‪،‬‬
‫األمارة تجعله‬
‫طب جلدك‪ ،‬فتتجدد بشرتك واألدمة‪ ،‬ونفسك ّ‬ ‫ُيفتّح مساماتك فير ّ‬
‫وتصدقين أنك‬
‫ّ‬ ‫ويسري إكسير الحياة في أنحائك‪ ،‬يؤلّقك فتبرقين‬ ‫مستلباً فيتفانى‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫جنية تلبَّستها‪ ،‬فقد أدخلته لحماً‪ ،‬وستخرجينه‬
‫"فينوس"‪ .‬إني مشفق عليه من صحوة ّ‬
‫فيجف نسغه وييبس كالشجر‪.!.‬‬‫ّ‬ ‫محطماً‪ ،‬تسلّيه عافيته‪،‬‬
‫ولن أطلب كل ما أريد‪ .‬سأترك األهم إلى حين يحرث الفتى التضاريس‪،‬‬
‫المحرث في النار‪ ،‬عند ذاك يهون عليك طلبي الصعب‪ ،‬أما اآلن فتقضين‬ ‫ويوغل ِ‬
‫لي أهونها وعاجلها‪ ،‬فمن أموري ما ال أحبذ تأجيله‪.).‬‬
‫يعرف أي منافق هو‪ ،‬وكان يستغرب أحياناً نفاقه‪ ،‬فيردد هاجساً‪:‬‬
‫‪( :-‬أنافق فأستفيد‪ ،‬دون أن يدري مبغضي‪ ،‬فأظ ّل الرابح الغالب‪.).‬‬
‫خرج وقد ضمن وعوداً‪ ،‬سيلمس ذوي الشأن نتائجها عما قريب‪ ،‬وبدا مطمئناً‬
‫إلى نتيجة فعلته‪ ،‬ونفسه ّفياضة بمشاعر الرضى‪ ،‬ومضى يضحك سروراً‪ ،‬يداعب‬
‫حدسه متسائالً‪:‬‬
‫قواد من يسهّل النساء للرجال‪ ،‬فماذا عمن يسهّل الرجال للنساء‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ّ :-‬‬
‫سباقاً إلى هذا‪.‬؟‪ .‬ما أل ّذ الفوز بقصب السبق ّأنى كان‪.!.‬‬
‫أأكون ّ‬
‫قلب شفته وقبَّب كتفيه‪( ،‬وانزلق) في الحارة الضيقة‪ ،‬ويده قابضة على‬
‫"الطبنجه" يقظاً متنبهاً لصوت قطة تقرفص في زاوية‪ ،‬وجر ٍذ (ينزبق) من كنيف‬
‫إلى مجرور‪ ،‬ودخل (زابوقاً) بعد آخر‪ ،‬حتى دنا من ذاك الباب الناتئة مساميره‪،‬‬
‫مثل مسامير الباب الكبير بمحلّة باب الحديد‪ ،‬واقترب من عتبته الواطئة‪ .‬ثالث‬
‫مشبكة في الباب‪ ،‬وتتالت‬
‫طرقات… فاثنتين‪ ..‬ثم طرقة واحدة‪ .‬انفرجت طاقة ّ‬
‫انشق الباب فعبره بخطوتين‪ ،‬ووجد نفسه‬‫ّ‬ ‫الكوة‪ ،‬ثم‬
‫عيون ترمقه عبر قضبان ّ‬
‫مخيم والعيون‬
‫رجال بينهم امرأة‪ .‬أُرتج الباب على عجل والصمت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مطوقاً ببضعة‬
‫ّ‬
‫مد يده إلى علبة خلف‬
‫ّ‬ ‫الفضفاضة‪.‬‬ ‫قفاطينهم‬ ‫في‬ ‫غائصة‬ ‫بأيديهم‬ ‫وأسلحة‬ ‫ترصده‪،‬‬
‫يفضها‪ ،‬وعيناه معلقتان بوجوههم‪ ،‬فحنى‬‫الباب‪ .‬تناول لفافة‪ .‬أدناها من فمه وهو ّ‬
‫"المزوزة"‪ ،‬ثم أعادها إلى العلبة‪ ،‬فسمعهم‬
‫وقرب الجلد من شفتيه ولثم ُ‬ ‫رأسه َّ‬
‫يحيونه‪:‬‬
‫ّ‬
‫"باروخ َهّبا‪-‬مبارك القادم"‪.‬‬
‫‪ُ :-‬‬

‫‪- 205 -‬‬


‫وأفسحوا له‪ ،‬فخطا نحو الداخل قائالً‪:‬‬
‫‪" :-‬شالوم"‪.‬‬
‫دقّاته على الباب كانت واضحة‪ ،‬ثم إن أحدهم يعرفه‪ ،‬وتأكدوا حين َّ‬
‫مد يده‬
‫خلف الباب إلى العلبة‪ ،‬لكنهم تركوه يكمل الطقس‪ ،‬فثبت بال شك أنه منهم‪.‬‬
‫احتج على إبطائهم‪ ،‬وهو الذي ال يطيق ذباب‬
‫لم يمتعض ولم يعترض‪ ،‬وال ّ‬
‫أمه يبقى مبرراً حتى يثبت إخالصه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولدته‬ ‫وجهه‪ ،‬فهو مثلهم محترز‪ ،‬والشك بمن‬
‫باركه الحاخام مرحباً‪ ،‬وقال لصحبه‪:‬‬
‫‪ :-‬هو ذا "كاهانا"‪.‬‬
‫مخدع‪ ،‬ليقضي بقية ليلته‪ ،‬لكنه قال مرجئاً‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أرادت المرأة أن تقوده إلى‬
‫‪ :-‬ليس قبل أن أبلغكم بما عندي‪.‬‬
‫‪ :-‬هذا ما نرغبه إن لم تكن متعباً‪.‬‬
‫يسر لـه الحبر مرافقة "الغوييم" ممن تعهّدت السلطنة أن تبعثرهم‬ ‫حدثهم كيف ّ‬ ‫ّ‬
‫وحدثهم‬
‫ّ‬ ‫"ليفي"‪،‬‬ ‫التاجر‬ ‫بتدبير‬ ‫معها‪،‬‬ ‫والصاعدين‬ ‫"نتيفا"‬ ‫تأمين‬ ‫له‬ ‫تسنى‬ ‫وبالتالي‬
‫اندسوا‬
‫عما يدور في األستانة‪ ،‬ودأبهم على معاقبة السلطان بتنحيته‪ ،‬وكيف أنهم ّ‬
‫في جماعتي الدستور والترقي‪ ،‬وبحثهم عن قناع يجعلونه واجهة فيتحركون خلفها‪،‬‬
‫ولمح لهم عن بعض مضامين "البروتوكوالت"‪ ،‬وعن نشاط "جابوتنسكي=زائيف)‬ ‫ّ‬
‫حدثهم عن مؤتمرهم وقراراته برفض أي بلد في إفريقية‪ ،‬وعدم‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫أوديسا‪،‬‬ ‫في‬
‫حدثهم عن الملخص "فوزي بك" واالحتفالية التي‬ ‫القبول بغير أرض (الميعاد)‪ .‬ثم ّ‬
‫أقامها للصاعدين‪ ،‬وأخيراً عن "تامار=فتنت" والمأمول منها‪ ،‬وبحث معهم قضيته‬
‫مع غريمه الضابط ابن صانع الطرابيش في محلّة بحسيتا‪ ،‬وكيف يمكنهم استرداد‬
‫المهجرين‪ ،‬فعرفوا الكثير عن قمر‬
‫ّ‬ ‫"أسفار التلمود والشمعدان" من أولئك "الغوييم"‬
‫والجدة نور والوجهاء والحكيم إدريس وأوالد ضيف اهلل البغضاء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫بدأ الفجر ينبثق مبدداً الجهمة‪ ،‬حين نقّطوا حروف عملهم ليومهم هذا‪،‬‬
‫أخذته "هاجر" إلى المخدع‪ ،‬وتوزعوا ٌّ‬
‫كل في مرقده‪ ،‬وتواصوا أن يهبوا قبيل‬
‫الضحى‪.‬‬
‫ولم تكن الشمس قد بزغت‪ ،‬عندما دار الوجيه عبد الحميد على الوجهاء‪ ،‬ثم‬
‫سبقهم إلى الشيخ اإلمام‪ ،‬فجالوا متفقدين الناس‪ ،‬واقفين على أحوالهم‪ ،‬عقب ليلتهم‬
‫األولى في بطاح حلب‪ ،‬وبدا هميماً عطوفاً‪ ،‬ذهب إلى المرضى‪ ،‬ولم ينس‬
‫الممسوسين مؤكداً اهتمامه بالصغير والكبير‪ ،‬باذالً ما استطاع الستعادة مكانته‪،‬‬

‫‪- 206 -‬‬


‫ٍ‬
‫وظروف ليس له يد فيها‪ ،‬حسبما يقوله اآلن لمن حوله‪ ،‬ولم يتأفف من‬ ‫بعد ٍ‬
‫كرب‬
‫وتجنب‬
‫ساخر هنالك‪ .‬تغاضى عما ال طائل عنه‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وغامز‬ ‫ٍ‬
‫معترض يخالفه هناك؛‬
‫المهاترة‪ ،‬برغم امتعاضه من قسوة بعضهم عليه‪ ،‬أغاظوه غير مر ٍة وكتم غيظه‪،‬‬
‫بش وتهلل وجهه‪ ،‬لتلك التي رأت في عودته على‬ ‫وظل حريصاً على االبتسام‪ ،‬ثم َّ‬
‫بمعية‬
‫رأس ناسه فأل خير‪ ،‬فازداد ثقة وحماسة‪ ،‬واقترح أن يذهب بعض الشبان ّ‬
‫األومباشي إلى أسواق المدينة‪ ،‬فيجلبون األطعمة‪ ،‬وحين استعدوا وجهّزوا‬
‫العربات‪ ،‬أبى إال أن يدفع كامل الكلفة‪.‬‬
‫لم تدر قمر ما تفعل‪ .‬أتلتحق بموكب الوجهاء أم تنصرف إلى شأنها‬
‫وهمها‪.‬؟‪.‬‬
‫ّ‬
‫ال سيما أن الوجيه رجب بينهم‪ ،‬كأنه يؤكد مكانته وإ ن بدا وجالً‪ ،‬بينما ابنه‬
‫سليمان يتذرع بمساعدة البيطار على حذو بغله‪ ،‬وغير ٍ‬
‫خاف عليها انشغاله‬
‫تدق األرض بعصاها وهي‬ ‫بهوريك‪ ،‬فتلك هي تبادله نظرة وابتسامة‪ ،‬والجدة نور ّ‬
‫أمر ما‪ ،‬والديك يدور حولها غاضباً لغضب صاحبته‪،‬‬ ‫عالمة عدم رضاها عن ٍ‬
‫فغافلتها وأسرعت مع المنحدرين إلى النهر‪ .‬نادتها الجدة نور مرةً عقب مرة‪ ،‬دون‬
‫مقدرة أن المسافة بينهما‪ ،‬تم ّكنها من ادعاء عدم سماع ندائها‪.‬‬
‫أن ترد‪ّ ،‬‬
‫شواء‬
‫ً‬ ‫جلست قرب الشطِّ تراقب أحياء الماء‪ ،‬متذكرة ليلة أولمت لهن هوريك‬
‫ابتكرته من أفخاذ الضفادع‪ .‬تنهّدت إثر بسمة خاطفة‪ ،‬أطرقت مستسلمة لوحدتها‬
‫أن كماالً‬‫فحدثها ّ‬
‫شيء في صدرها‪ .‬نقزت إذ انقبض قلبها ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فكمال لم يعد‪ .!.‬نخزها‬
‫لن يعود‪ C.!.‬جفلت فانزلقت‪ ،‬وبقيت قاعدة حيث استقرت في المجرى‪ ،‬يغمرها‬
‫الماء حتى ثدييها‪ ،‬فبدت كنبتة نيلوفر بأوراقها العظيمة‪ ،‬إنما بال زهر‪ ،‬وشرعت‬
‫تحدث النهر‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪( :-‬ما دمت ستضيع في ملوحة البحر‪ ،‬أو يالشيك عطش التراب‪ .!.‬ما قيمة‬
‫مصدرك ومن أين انبعثت‪.‬؟‪ .‬ال شيء البتة يجعلك قادراً على العودة من حيث‬
‫أتيت‪ .‬أو استرجاع بعض قطراتك‪ .‬شيء ما يجعلك ال تستمر‪ ،‬فينفقد ماؤك وينتهي‬
‫تنق فيه هذي الضفادع‪ .!.‬إلى هذا ِّ‬
‫الحد‬ ‫ويعز أن ّ‬
‫أحد اسمك‪ّ .‬‬
‫مجراك‪ ،‬فال يذكر ٌ‬
‫تحكمك قسوة العدم‪.‬‬
‫أيا نهر‪ ..‬أنا مثلك‪ .‬لي مائي وإ ن أضاع سريره‪ ،‬ونضارة النبت وعشب‬
‫المرج‪ ،‬فقلبي وردة كل الفصول‪ ..‬إال أني عطشانة َّ‬
‫ولشد ما أخشى التجفاف‪.‬‬
‫تنقبض عني حياتي فال يبقى لي غير لوك الذكريات‪ ،‬والعمر ينوس دون‬
‫تجف ذات يوم فتعرف معنى الحريق المنطفئ‬
‫استضاءة‪ .‬فيا أيها المتدفق‪ ،‬تراك ّ‬

‫‪- 207 -‬‬


‫جرب كيف يموت‪.‬؟‪C.).‬‬ ‫ٍ‬
‫أجرب موتي‪.‬؟‪ .‬وهل ألحد أن ّ‬ ‫في كياني‪.‬؟‪ C.‬أتراني ّ‬
‫تغيم في رأس صاحبتها‪ ،‬فتجعله كهفاً مرصوداً‬ ‫أدركت أمينة أية ٍ‬
‫أفكار داكنة ّ‬
‫تصب الماء على رأسها‪ ،‬وتمشط لها‬‫ّ‬ ‫للعفاريت‪ .‬فخاضت إليها وقعدت خلفها‪،‬‬
‫منغمةً أغنية طروبة تستدني األمل‪.‬‬
‫شعرها المجزوز‪ّ ،‬‬

‫****‬

‫‪- 208 -‬‬


‫‪13‬‬

‫التجمعات‪ ،‬وفي‬
‫ّ‬ ‫سرى نبؤهم في ّ‬
‫الحمام‪ ،‬ثم انتشر في حارات المدينة وأماكن‬
‫حوانيت الحالقين وشراذم العاطلين عن العمل‪ .‬وأثارت األقاويل فضول الرجال‬
‫فحركت الكوامن وأيقظت الهواجس‪ ،‬وكانت مثيرة داعبت‬ ‫ٍ‬
‫والنساء على حد سواء‪ّ ،‬‬
‫مصرح بها‪ ،‬ونبشت رغبات مكبوتة‪ ،‬دفعتها إلى‬‫ٍ‬ ‫أخيلة الناس وكشفت قناعات غير‬
‫وتحولت إلى‬
‫ّ‬ ‫السطح‪ ،‬فأمست تسليةً ومحور أحاديث في البيوت وقارعات الطرق‪،‬‬
‫تحرض على المتابعة‪ ،‬فتسللوا خلسة إلى مفيض السيل وعلى‬ ‫مجنحة‪ّ ،‬‬‫حكايات ّ‬
‫استحياء‪ ،‬ثم تقاطروا بال مداورة‪ ،‬والتموا حول النزل متوجسين‪ ،‬فراقبوا وتهامسوا‬
‫لتلمس الغريب العجيب فتنادروا وتداولوا‬
‫متقولين مهتابين‪ ،‬ثم تنادوا عالنية ّ‬
‫ّ‬
‫وتخيلوا‪ ،‬وتداعوا إلى الفرجة على أناس ليسوا كالناس‪C.!!.‬‬
‫ّ‬ ‫الطرف‬
‫‪ :-‬ماذا يريد هؤالء‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬إنهم يتغامزون كأنهم ما رأوا بشراً من قبل!‪..‬‬
‫‪ :-‬كثرتهم مبعث ريبة‪ ،‬لكأنهم يبحثون عن شيء بعينه‪.‬‬
‫‪ :-‬ليس لدينا شيء لهم‪.‬‬
‫‪ :-‬يتهامسون وعيونهم علينا‪.‬‬
‫‪ :-‬أمرهم غريب‪.!.‬‬
‫‪ :-‬يراقبوننا عن كثب‪.‬‬
‫‪ :-‬فلنكن حذرين‪.‬‬
‫‪ :-‬عيونهم تتابع النساء‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬ضعوا في الحسبان أسوأ االحتماالت‪.‬‬
‫تمطّط الوقت‪ ،‬فذهب بعضهم وأتى غيرهم‪ ،‬ولم ينقطع غدوهم ورواحهم‪ ،‬ثم‬

‫‪- 209 -‬‬


‫إن بعضهم لبث في مكانه‪ ،‬كأنه نوى اإلقامة‪ ،.!.‬والقادمون يزدادون يغشاهم‬
‫اكتشاف المجهول المثير‪.‬‬
‫‪ :-‬أضحينا فرجة‪.!.‬‬
‫خفية‪ ،‬أو ذرأهم الخالق فجأة‬
‫ينظرون إليهم كأنهم مخلوقات نبطتهم سراديب ّ‬
‫ذر النمل‪ ،‬فتناصحوا باليقظة كيما يستجلوا مراد أوالء المنفغرة أفواههم‪،‬‬
‫مثل ّ‬
‫وعيونهم تبرق زوغاناً‪ ،‬وتوالدت تساؤالت وكثر اللغط‪ ،‬فهذا زمن العجائب‪ ،‬وشاع‬
‫أحد من أين أتوا‪ .‬لعلهم يأجوج‬
‫أن في مفيض السيل‪ ،‬أناساً ال يدري ٌ‬ ‫في األنحاء ّ‬
‫مأجوج‪ ،‬يشبهون النور وما هم بغجر‪ .!.‬لهم أذيال كذيول الخنازير‪ .‬يعبدون الفرج‬
‫ويقدسون دم الحيض‪ .!.‬وبحبح بعضهم األقاويل بأنهم يستقدمون الجن فيعيدون‬ ‫ّ‬
‫للشيوخ صباهم‪ ،‬وحريمهم فاجرات داعرات‪ ،‬لكل منهن أربعة أثداء‪ ،‬وفي ثرثرات‬
‫أخرى هم سحرة مشعوذون‪ .‬إباحيون متحللون من قيود األخالق تضطجع النسوة‬
‫يتفرجون مسرورين‪ ،‬ومن نسائهم من تأكل أوالدها‬ ‫للراغبين حيثما كان‪ ،‬ورجالهن ّ‬
‫مثل القطط‪ ،‬ومن رجالهم من يأكلون زوجاتهم‪C.!.‬‬
‫‪ :-‬أئلى هذا الحد أوصلتنا األقاويل؟‬
‫‪ :-‬ما أقسى أن نضطر للبرهنة أننا أوادم‪.!.‬‬
‫‪ :-‬يا حيف‪C.!!.‬‬
‫نفر الدم من أنف يوسف فجأر‪:‬‬
‫‪ :-‬هذا ما ال ُيحتمل‪.!.‬‬
‫َّ‬
‫واستل سيفه وانتحر‪ .‬صاحت الجدة نور‪:‬‬
‫‪ :-‬ما تبقى لنا شيء‪ .‬لست أسامحك بحليبي يا رجب‪.‬‬
‫‪ :-‬وياله…‬
‫يشوهنا‪ ..‬يا للخجل‪ ..‬ما العمل‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬وماذا بعد‪ ..‬األلسن تلوكنا وتبتدع ما ّ‬
‫‪ :-‬فتشوا عمن وراء تلكم الشائعات الخبيثة‪.‬‬
‫‪ :-‬حاقد مغرض ال شك‪.‬‬
‫‪ :-‬فمن يكون‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬يا له من وغد‪.‬‬
‫‪ :-‬لو عرفته لقتلته‪ .‬دلّوني عليه‪.‬‬
‫‪ :-‬كائن من كان فإنه يستحق القتل‪.‬‬

‫‪- 210 -‬‬


‫تدخل الوجيه عبد المجيد قائالً‪:‬‬
‫ّ‬
‫والرد عليها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التقوالت‬
‫‪ :-‬هذا علك‪ .‬علينا مواجهة ّ‬
‫يروجها‪.‬‬
‫‪-‬يبدو أن وراء الشائعات من ّ‬
‫ونحدثهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ :-‬نلتقي الناس‬
‫‪ :-‬وهل نلتقي أهل المدينة كلهم‪.‬؟!‪C.‬‬
‫شيء أفضل من ال شيء‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪:-‬‬
‫جندوا لها‬
‫سكنت بعض النفوس المضطربة‪ ،‬وعلى صعوبة المهمة التي ّ‬
‫ٍ‬
‫برجل‪ ،‬ونفر هذا من ذاك‪ ،‬وتحفّظ أحدهم‬ ‫ومتفوهيهم‪ ،‬تعارف رجل‬ ‫حلماءهم‬
‫ّ‬
‫نفر لمةً‪ ،‬والتقى‬
‫واجترأ هذا وتجاسر ذاك‪ .‬تدانوا‪ ..‬ثم اختلطت زمرة بثلة‪ ،‬وجالس ٌ‬
‫محدثة‪ ،‬واستقصى‬‫وجس أحدهم نوايا ّ‬ ‫ٍ‬
‫رهطٌ بشرذمة‪ ،‬تساءلوا واستخبروا متنابئين‪ّ ،‬‬
‫بعضهم خواطر بعضهم اآلخر‪ ،‬وبرغم التقارب الظاهر‪ ،‬بقي الشك قائماً‪ ،‬ومهما‬
‫كان الحوار متبسطاً‪ ،‬فاألمر يبدو عسيراً‪.‬‬
‫أن قلّة منهم نظفت خياالتهم مما‬
‫صحيح أن بعض الطمأنينة سادت بينهم‪ ،‬إال ّ‬
‫علق بها‪ ،‬ففي الخرافات إغراء‪ ،‬وفي الشائعات غواية‪ ،‬مثلما للفضائح جاذبيتها‪.‬‬
‫‪ :-‬لقد أجدى الحوار‪.‬‬
‫‪ :-‬لكنها جدوى بطيئة محدودة‪.‬‬
‫‪ :-‬وما العمل‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬األوهام المزدرعة‪ ،‬نمت وتشمرخت في أذهان خاملة لسنوات مديدة‪،‬‬
‫مشكلتنا اآلن مع الوقت‪.‬‬
‫دقّت الجدة نور األرض بعصاها فاستنفر الديك‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪ :-‬أين أنت يا إدريس الحكيم‪.‬؟‪C.‬‬
‫‪ :-‬لبيك‪.‬‬
‫‪-‬أين حكمتك‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬أمتحنها‪ ..‬واالمتحان عسير‪.‬‬
‫حدثوا بتاريخكم وأساطيركم‪،‬‬
‫‪ :-‬ريث أن تتوقد‪ ،‬أطلقوا أشعاركم وأغانيكم‪ّ ،‬‬
‫دعوهم يرون فروسيتكم وفنونكم وجميل تراثكم‪ .‬هيا‪ ..‬واجهوا التشويه‪.‬‬
‫تيقن بعضهم من بهتان األقاويل‪ ،‬ولكن هيهات أن يفعل النفي مثل الذي أثارته‬
‫الشائعات‪ ،‬وهي شرار وهذا هشيمها‪ ،‬والذي عصف بالمدينة‪ ،‬عصف بالمستنبت‬

‫‪- 211 -‬‬


‫تجهيل ترعرع على جسد الزمن المقتول‪.‬‬‫ٍ‬ ‫فيها‪ ،‬ودغدغ إرث‬
‫لم ينتظر الصبي حمزه وأترابه انبثاق حكمة الشيوخ‪ ،‬فتراكضوا بين الناس‬
‫زرافات مرددين‪:‬‬
‫‪ :-‬أوادم نحن مثلكم بال ذيول‪.‬‬
‫ثم إن بعضهم وجد فيما شاع باب ارتزاق‪ ،‬فالعربات تنقل الناس‪ ،‬والسقاؤون‬
‫ملتقى وبازاراً‪،‬‬ ‫يتكسبون‪ ،‬وبائعو الحاجات يربحون‪ ،‬وأضحى مفيض السيل‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫وصار مشوار المتسكعين المتطلعين إلى فرجة تسلّيهم وتكسر رتابة أيامهم‬
‫فراغ وبطالة‪ ،‬وغايات أخرى‪.‬‬
‫المتشابهة‪ ،‬وفيه تعويض ٍ‬
‫هب ودب‪.‬‬‫طال الوقت ونحن في العراء‪ ،‬عرضة لفضول من ّ‬ ‫‪:-‬‬
‫كأننا حيوانات نادرة‪.!.‬‬ ‫‪:-‬‬
‫يبحثون عندنا عن الرذيلة‪C.!.‬‬ ‫‪:-‬‬
‫أدركنا أيها الحكيم إدريس‪.‬‬ ‫‪:-‬‬
‫إلي بالشيخ اإلمام‪ .‬إ ّذن للصالة‪ ،‬وليتوضأ أو يتيمم الجميع‪ .‬أقم صالة‬ ‫‪:-‬‬
‫جامعة‪.‬‬
‫كأن‬
‫خيم الصمت من حولهم‪ّ ،‬‬
‫وقفوا صفوفاً بخشوع‪ .‬صلّوا طوال الوقت‪ّ .‬‬
‫الطير على رؤوس الناس وهم في ذهول‪.‬‬
‫‪ :-‬أسأنا إليهم وظلمناهم‪.‬‬
‫‪ :-‬اتركوهم وشأنهم وعودوا من حيث أتيتم‪ .‬عيب‪.‬‬
‫‪ :-‬بل نساعدهم‪.‬‬
‫أي من الطرفين‪،‬‬‫لم تنته البلبلة دون ذيول‪ ،‬كأنهم أسرى معارك لم يخضها ٌّ‬
‫فالخلق مأزومون‪ C،‬استوحشهم القهر وألّبتهم المظالم‪ ،‬وها هم يردون عليها خبط‬
‫عشواء‪ ،‬فيصيبون أبرياء بمثل ما أصابهم‪ ،‬وقد فتنتهم الشائعات فغيهبت البصائر‪،‬‬
‫أسى ينداح مرارة‪ ،‬ويفتّق الوجع المتراكم فوق هشيم الروح‪ ،‬ينكأ‬
‫ودلهمت األفئدة ً‬
‫الجديد ويجدد القديم‪.‬‬
‫وظلت أخبارهم موضع رصد واهتمام الضابط عثمان‪ ،‬تابعها وجاسها‬
‫وحرث نارها‪ ،‬وها هو يظهر امتعاضه إن همدت‪ ،‬وينتشي إن اضطرم أوارها‪:‬‬
‫‪ :-‬هل أعجبك شغلنا‪.‬؟‪.‬‬
‫‪ :-‬ال بأس‪ ،‬وإ لى المزيد‪ .‬جننوهم‪ .‬اجعلوهم مضحكة ومسخره‪ .‬ارشقوهم‬
‫يعتزون به‪ ،‬احبكوا حولهم شرانق الظنون‪ .‬وليكونوا‬
‫بكل ما يعيب‪ ،‬خرمشوا ما ّ‬

‫‪- 212 -‬‬


‫عبرة كي يرتدعوا‪.‬‬
‫لتوجه الضربة تلو الضربة؛ بدقة وقوة‪ ،‬والغاية فوق الوسيلة‪،‬‬
‫حث فئته ّ‬‫ّ‬
‫ولتتحقق الغاية‪ ،‬فهي لم تقتلهم لكنها صرعتهم وحقّرتهم‪ ،‬وزعزعت ثقتهم بمن‬
‫حولهم وبالسلطنة والسلطان نفسه‪ ،‬سيعيشون مع هؤالء شكاً وريبة‪ ،‬وإ ن ناداهم‬
‫السلطان ال يناصرونه‪ ،‬فما تعهّدهم رأفة أو حباً بهم‪ ،‬فاألرض ذهبت للقيصر وهم‬
‫أولياء العظمة السلطانية فيما يرى وينتهج‪ ،‬يفيد من فروسيتهم وبراعة استخدامهم‬
‫السالح‪ ،‬ومآربه األخرى‪.‬‬
‫‪ :-‬نفّذنا ما يمهد لضربة أخرى‪ ،‬فما هي‪.‬؟‪.‬‬
‫فتجردهم من شعرة وضعها في أيديهم كمال‬ ‫‪ :-‬أما الضربة التالية يا هاجر‪ّ ،‬‬
‫قضاء وقدراً صانع الطرابيش‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫الممقوت‪ ،‬واليوم موعد نبأ عظيم‪ .‬يموت‬
‫شره‪.!.‬‬
‫عالقة لنا بخير القضاء والقدر أو ّ‬
‫وصنفت الجندرمة الحادثة بأنها نتيجة‬
‫ّ‬ ‫وتفحمت الجثة‪،‬‬
‫احترق الحانوت ّ‬
‫اختناق بغازات فحم المكواة والمنقل‪ ،‬ولسعت النار الحوانيت المجاورة‪ ،‬فذهبت‬
‫فعلة الفاعل‪ ،‬مثلما ذهبت محتويات الدكان نهباً قبل ألسنة اللهب‪ .‬وكمال قابع في‬
‫سرداب سجن "القشلة"‪.‬‬
‫زف الضابط عثمان البشرى إلى الخانم "فتنت" فأكدت له الترقية‪ ،‬وخيرته‬ ‫َّ‬
‫بين قيادة الحامية ومناصب أخرى في البلدية والسراي‪ ،‬ووعدته بتعيين صاحبه‬
‫محصالً ألموال "الدفتر داريه"‪ ،‬ولها نصيب من ذلك‪ ،‬وحثته أن يكون جاهزاً‬‫ّ‬
‫لمقابلة الباشا كأنه فرغ للتو من مأموريته الصعبة‪ ،‬جدد لها والءه وتملّق منافقاً‪،‬‬
‫فامتدح ألقها‪ ،‬فبدت جذلى تزقزق بضحكها‪ ،‬هميمة رشيقة الحركة؛ َّ‬
‫انبث الفتاء في‬
‫وتغنجت‪ ،‬ابتدرها سائالً بإثارة عن‬
‫كيانها انبثاث الشرايين في الجسد‪ ،‬وحين النت ّ‬
‫هرة في شباط‪ ،‬ونبست‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫حسن أداء الفتى السِّكيت فماءت دون تحفّظ مثل ّ‬
‫‪ :-‬يسلم لي‪ ،‬عصفور دوري‪ ،‬ومثل ذكر حمام الورشان‪ ،‬يضرم النار‬
‫ويطفئها في آن‪.‬‬
‫فردت بمكر إثر‬
‫انتهز نشوتها فسألها أن تعيره عربة التشريفات لسويعات‪ّ ،‬‬
‫ضحكة مدغومة‪:‬‬
‫نوع من دم‪.!.‬‬
‫ملوثة بأي ٍ‬
‫‪ :-‬شريطة أن تعيدها غير ّ‬
‫أذهب من ينبئ الوجهاء بقدوم رسل الوالي إليهم‪ ،‬ثم تهادت العربة الفارهة‬
‫بأبراهام وداود‪ ،‬على أنهما من كبار بطانة الباشا‪ ،‬أوفدهما لتقصي أخبارهم‬

‫‪- 213 -‬‬


‫والوقوف على حقيقة ما تناهى إليه عن حيف أحاقه بهم الضابط عثمان‪ ،‬فاستمعا‬
‫تحرق الناس‬
‫لتظلمات وشكاوى مشينة‪ ،‬لكنهما محقونان بمضادات تصونهما من ّ‬
‫واندفاعهم في رواية تفاصيل ما أصابهم‪ ،‬وما فتئا يهزان رأسيهما ويبديان دهشة‪،‬‬
‫صرح به‬
‫ويدمدمان بأن ما يسمعانه ال يرضي جناب الوالي‪ ،‬وهذا يفوق ما ّ‬
‫الضابط كمال…‬
‫كان لذكره فعل السحر في بعضهم‪ ،‬فأغدقوا بمديحه‪ ،‬وأكدوا إدانة الضابط‬
‫وقبحت سيرة ذاك‪،‬‬
‫جملت عواطفهم هذا‪ّ ،‬‬ ‫عثمان‪ ،‬ولم يزيدوا عما كان منهما‪ ،‬وإ ن ّ‬
‫بينما رأى أبراهام وداود عكس ما يروون‪ ،‬فامتداحهم الضابط كمال يزري‬
‫وذمهم الضابط "كاهانا" يذكيه ويرفع شـأنه لديهم‪ ،‬ثم انتهزا‬
‫مكانته عندهما‪ّ ،‬‬
‫سمهما في دسم أوالء‪ ،‬فقال أبراهام؛ وهو‬ ‫فدسا ّ‬
‫ممدحة ابن صانع الطرابيش‪ّ ،‬‬
‫"بايزيد" حسب مهمته اآلن‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬حض‪CC‬رات األفاض‪CC‬ل‪ .‬جن‪CC‬اب الباشا ال‪CC‬والي‪ ،‬س‪CC‬مع من الض‪CC‬ابط كم‪CC‬ال مثل ما‬
‫تقولون اآلن‪ ،‬لكن جنابه يت‪CC‬وخى العدال‪CC‬ة‪ ،‬فال يأخذ بمج‪CC‬رد ادع‪CC‬اء‪ ،‬ل‪CC‬ذا رأى جنابه أن‬
‫خبأ عن‪CC C‬دكم ما ي‪CC C‬دين الض‪CC C‬ابط‬
‫البين‪CC C‬ة‪ ،‬وك‪CC C‬ان الض‪CC C‬ابط كم‪CC C‬ال ذكر ّأنه ّ‬
‫يق‪CC C‬دم الم‪CC C‬دعي ّ‬
‫عثمان‪ ،‬فهل هذا صحيح‪ ،‬أم محض افتراء‪..‬؟!‪ ..‬هذا ما يريد جنابه التأكد منه‪..‬‬
‫وتحمس الوجيه عبد‬
‫ّ‬ ‫وبين بعضهم أنه يقصد الكتاب والشمعدان‪،‬‬
‫تهامسوا‪ّ ،‬‬
‫الحميد فأ ّكد قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬الضابط كمال صادق‪ ،‬وله أمانة عندنا‪ ،‬لعلها ما قصده‪ ،‬وإ ال فليس لدينا له‬
‫غيرها‪.‬‬
‫قال داود‪ ،‬وهو "أورخان" حسب مهمته اآلن‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬هاتوها‪ ..‬فهي التي ستنفعكم وتدعم ادعاء الضابط كمال‪ .‬وال نظنكم‬
‫تقصرون بمساندته‪ .‬أليس كذلك يا حضرات‪..‬؟‪C..‬‬ ‫ّ‬
‫تنادهت العيون من حولهما‪ ،‬ثم انحزمت نظراتهم كالضوء‪ ،‬فالتقت في وجه‬
‫المتنحية جانباً‪ .‬فهمت قصدهم‪ ،‬ولم تكن مرتاحة تماماً‪ ،‬شيء ما ُيقبض قلبها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قمر‬
‫ٍ‬
‫لمزيد من‬ ‫فبدت مترددة‪ ،‬لكنها خشيت التخرصات‪ ،‬فسيرتها و كمال ال تحتاج‬
‫الغمز واللغمز‪ ،‬حاولت تلبية طلب نظراتهم الواضحة‪ ،‬فانقبض قلبها أكثر‪ ،‬اقتربت‬
‫من الجدة نور مستجيرة‪ ،‬فبادرتها‪:‬‬
‫اآلن معنى إيحاء القلوب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ـ وقلبي مقبوض أيضاً يا قمر‪ ،‬ومامن أحد َسَي ْفهَ ُم َ‬
‫بد مما ليس منه بد‪ ،‬عساه خيراً‪.‬‬ ‫الموقف مأزوم يا بنيتي‪ ،‬وال ّ‬
‫‪- 214 -‬‬
‫اقتربت من الوجيه عبد الحميد‪ ،‬وهمست‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أبتاه‪ C...‬روحي تختنق‪ ،‬وقلبي منقبض‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إال قلبك الذهب‪ .‬ماذا تريدين‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬لو أننا سلّمنا األمانة لصاحبها‪.‬‬
‫ورط نفسه ألجلنا‪ ،‬ثم‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬وها نحن نفعل‪ .‬إنه ينتظر مساعدتنا‪ ،‬إذ يبدو أنه ّ‬
‫يجب وضع ٍ‬
‫حد لما نحن فيه‪ .‬أين الوديعة‪..‬؟!‪C..‬‬
‫أومأت للصبي حمزة فهرع‪ ،‬ولم يلبث أن عاد بصحبة عزيز الممسوس‪،‬‬
‫فوضع الكتاب والشمعدان بين يدي قمر‪ ،‬فوضعتهما أمام رسولي الوالي‪ ،‬وسألتهما‬
‫ٍ‬
‫بخفر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كيف حال الضابط كمال ‪..‬؟؟!‪..‬‬
‫ستتعزز مكانته لدى جناب الوالي‪ ،‬إن ثبت ادعاؤه ضد الضابط‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪ :‬بخير‪..‬‬
‫عثمان‪ .‬ألست قمراً‪.‬؟؟‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬لقد حملّني لك السالم وتحية خاصة‪..‬‬
‫تلفّت عزيز مستعرضاً الوجوه‪ ،‬بمفاجأتها به‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يسوغ ادعائي أنني ممسوس‪.‬‬‫علي‪ ،‬ولم يعد ما ّ‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ ..‬أديت ما ّ‬
‫أمه‪ ،‬وانثال على يديها‬ ‫ٍ‬
‫بدفء‪ ،‬فتنهّدت ٍ‬
‫بخفر‪ ،‬ثم ذهب إلى ّ‬ ‫نظر إلى أمينة‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يقبلهما‪ ،‬فضمته إلى صدرها بشوق رقيق‪ ،‬كأنها ولدته من جديد‪.‬‬
‫قال الوجيه عبد الحميد‪:‬‬
‫ـ ‪:‬أيها الفاضالن‪ C...‬أوصال األمانة‪ ،‬وأبلغا الضابط كماالً تحياتنا‪ ،‬ولكن متى‬
‫يقابلنا حضرة جناب الوالي الباشا‪....‬؟!‪..‬‬
‫الجمة‪،‬‬
‫ـ ‪ :‬سيبلغكم جنابه في حينه‪ ،‬ولن يطول انتظاركم برغم مشاغله ّ‬
‫ُلمح له برغبتكم هذه‪ .‬أعدكم أيها المحترم‪.‬‬
‫وسأ ّ‬
‫مضت العربة المترفة‪ ،‬والناس يتطلّعون إليها‪ ،‬كأنها بعض أمل يرجونه‪،‬‬
‫والتف رهط حول األومباشي حين قال‪:‬‬‫َّ‬ ‫وتنهّد بعضهم بارتياح‪،‬‬
‫ـ ‪ :‬العمى‪ ..‬خازوق‪..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬وما ذاك‪..‬؟‬

‫‪- 215 -‬‬


‫ـ ‪ :‬أكلها الضابط عثمان‪..‬‬
‫بأنه الشوق للحبيب‪.‬‬
‫فهونت عليها مداعبة ّ‬
‫شكت قمر قلقها إلى هوريك‪ّ ،‬‬
‫فحاولت إقناع نفسها‪ .‬لكنها لم تنم ليلتها‪.‬‬
‫***‬
‫أوجز الضابط عثمان أخبار المسير‪ ،‬وأطنب في تفاصيل كبده كيما يوصل‬
‫ملمحاً بمكر إلى شكه بوالئه‪ ،‬بينما الخانم‬
‫المهجرين‪ ،‬وما فتئ يغمز بقناة كمال ّ‬
‫ّ‬
‫الكبيرة تضرب على فخذها زاعقة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أمان‪ !..‬بيس ميلت‪.‬‬
‫مؤلّبة ابنها الباشا‪ ،‬مشيدة بالضابط عثمان‪ ،‬فال يتركانه يلتقط أنفاسه‪ .‬وما‬
‫زاال يوغران صدره‪ ،‬ويضرمان غضبه‪ ،‬فزاغ بصره لهول ما يؤكده الضابط‪ ،‬وما‬
‫تفنده الخانم من عواقب وخيمة‪ ،‬إن وصلت تلكم األخبار إلى قصر يلدز‪ ،‬فأولئك‬ ‫ّ‬
‫قوم مناجيس؛ وإ ال لما رماهم القيصر خارج مملكته‪ ،‬وما الضابط كمال إال واحدًا‬
‫ممن يكرهون أسيادهم الترك‪ ،‬فجعاله يرغي ويزبد مهدداً متوعداً‪ ،‬وأوصاله إلى‬
‫حد الهوج‪ ،‬ثم ختما مكيدتهما بأن وضعا بين يديه الكتاب والشمعدان‪ ،‬دليلي إدانة‪،‬‬
‫وزادت الخانم األمر هوالً‪ ،‬قائلة وهي تشهق ارتعاباً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أمان‪ .‬أما‪ ..‬ن‪ ..‬إن لم يعلم السلطان‪..!..‬‬
‫جأر الوالي مهتاجاً‪:‬‬
‫للمندسين‪ .‬سأعدمه في الحال‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪ :‬الويل‬
‫ـ ‪ :‬ال‪ ...‬إياك‪ .‬فاالستياء على أشده‪ ،‬والحال في غليان‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬نرسله مخفوراً إلى األستانة‪ ،‬فيلقى عقابه‪ ،‬فالسلطان أولى برعاياه‪ ،‬كذلك‬
‫يعلم بيقظتك ويلمس إخالصك‪ ،‬عصفوران بحجر واحد أيها الباشا‪.‬‬
‫وهبت لتخرج فجأة‪ ،‬مثلما أوهمته أنها حضرت دون سابق ّنية‪ ،‬وها هي قد‬ ‫ّ‬
‫غمها‪ .‬وليتها ما أتت‪ ،‬والتفتت إليه موصية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ما‬ ‫سمعت‬
‫وقرب المخلصين‪.‬‬‫المندسين ّ‬
‫ـ ‪:‬احذر ّ‬
‫غامزة نحو الضابط‪ .‬ولم تكن لتزور الباشا إال لماماً‪ ،‬أما هو فيزورها في‬
‫خصته بساعة من قبل ظهر أيام الجمع‪ ،‬يأتيها كالضيف فال يتجاوز‬ ‫دارها‪ ،‬وقد ّ‬
‫"الليوان" ليأمر بتلبية طلباتها‪ ،‬ثم يمضي في طريقه لتأدية صالة الجمعة‪ ،‬طالباً‬
‫رضاها‪..!..‬‬

‫‪- 216 -‬‬


‫ـ ‪ :‬ال أخالف الخانم الكبيرة؛ وقد أوصتني بك‪ ،‬فهات ما تبقى لديك‪.‬‬
‫المهجرين‪ ،‬ونصحه أال يأمن جانبهم‪ ،‬وذلك ال يعني عدم‬
‫ّ‬ ‫صور له خبث‬‫ّ‬
‫إيوائهم‪ ،‬فأوضح الوالي أن قصر يلدز أمر بتدبير إسكانهم‪ ،‬ريث يتم نفيهم إلى‬
‫قرية تبنى لهم‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬فليكن‪ C...‬وال بأس‪ ...‬إن مننتهم أنك تبنيها من كيسك‪..‬‬
‫محدثه‬
‫وهز رأسه إعجاباً‪ ،‬ورنا إلى ّ‬ ‫شخصت عينا الباشا لفطنة الضابط‪َّ ،‬‬
‫فح ّذره منهم ثانية‪ ،‬وليدعهم يتمنون مقابلته‪ ،‬فال يحظون بها‪ ،‬فيضمن خنوعهم دون‬
‫أن يطمعوا بغير رضاه‪ ،‬ويكفيهم األومباشي ليسوسهم‪ ،‬وتتولى قيادة الحامية‬
‫شؤونهم‪ ،‬فتخفّف عن جنابه عبأهم وتكفيه لجاجتهم وإ لحاحهم‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لكني سألتقيهم‪ ،‬فقد سمعت بخيولهم الفارهة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬إذن ليتك حين تلقاهم‪ ،‬تتأمل من نسائهم امرأة أقرب ما تكون إلى‬
‫أمازونيات األسطورة‪ C...‬اسمها قمر‪C...!‍..‬‬
‫ـ ‪ :‬قمر‪ ..‬اسم بديع ال ينسى‪..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬بل إن حدث ورأيتها انسها في الحال‪.‬‬
‫تنس ما لديك لسمرنا في سهرة‬
‫ـ ‪ :‬كالمك مثير‪ ..!..‬والوقت غير مناسب‪ .‬ال َ‬
‫قريبة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬بقي أمر "الدفتر داريه"‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أمره لك‪ ،‬ولي منه الثلث‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كرم وتواضع منك‪C..!.‬‬
‫ضحك مبالغاً؛ مسروراً لطواعية الضابط وحسن استجابته‪ .‬ثم تسلّم عثمان‬
‫َّ‬
‫واستهل عمله بتسيير سلفه؛ خافراً الضابط كماالً إلى األستانة‪ ،‬وطفق‬ ‫الحامية‪،‬‬
‫الضباط العرب في جيش العثامنة‪ ،‬ونهاياتهم المتشابهة على مدى‬‫ّ‬ ‫كمال يفكر بمآل‬
‫القرون المنصرمة‪ ،‬مستذكراً خالصات ما قرأه للكواكبي‪..‬‬
‫*****‬

‫‪- 217 -‬‬


‫‪14‬‬

‫شوا الذباب وهم يتثاءبون‪ ،‬تناوموا وأجفانهم تختلج تأبى االسترخاء‪،‬‬


‫هّ‬
‫فأهدلوا رؤوسهم على صدورهم‪ ،‬جالسين بال حراك‪ ،‬ينتظرون دونما لهفة‪،‬‬
‫قانطين بتسليم عميق‪ ،‬لم يبق لهم غير ما يستر هياكلهم من أسمال متهتكة‪ ،‬شديدة‬
‫وتمرسوا منذ أمد افتراش األرض والتحاف السماء‪،‬‬
‫الشبه بأنفسهم الواجمة‪ّ ،‬‬
‫يلتقطون أنفاسهم بصمت‪ ،‬غير متحمسين لشيء‪ ،‬وال فرق بين أن يقتل أحدهم ذئباً‪،‬‬
‫تند‬
‫أو ينهش الوحش بعضهم‪ ،‬منفصلين عمن حولهم‪ ،‬سجناء أنفسهم‪ ،‬منغلقين ال ّ‬
‫مطلب‪ ،‬فال يدرك من يلحظهم إن كان ثمة ما يدور في‬
‫ٌ‬ ‫عن أحدهم شكوى أو‬
‫ولشد ما يشبهون أهل‬
‫ّ‬ ‫رؤوسهم وأعماقهم‪ ،‬أم أنها صماء‪ ..!..‬كأنهم في سبات‪،‬‬
‫الكهف‪ ..!..‬وماتوقفت الحياة من حولهم‪ ،‬فال نملة استنكفت عن سعيها‪ ،‬وال الوالي‬
‫أرجأ احتساء قهوته التركية ألجلهم‪ ،‬وهاهم الفتية يزاولون ركوب الخيل‪ ،‬وصبية‬
‫لمة هنا‬
‫حول عمر بن إدريس الحكيم يستذكرون دروس الشيخ اإلمام‪ ،‬والنسوة ّ‬
‫يتحرقون لتلبية صراخ طيور‬ ‫وزمرة هناك‪ ،‬يثرثرن ويلكن همومهن‪ ،‬وذوو القتلى ّ‬
‫الهامة‪ ،‬وقد تمثلت لهم خارجة من رؤوس فقدائهم‪ ،‬صارخة في وجوههم وملء‬
‫أسماعهم‪ ،‬تكاد تزلزل األقحاف‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬اسقوني‪ C...‬اسقوني‪C..)...‬‬
‫يكبلهم‪ ،‬وياله من ترتيب‬
‫والصدى يستثيرهم حارقاً أعصابهم‪ ،‬والعجز ّ‬
‫خارق‪ ،‬فغريمهم الشخص ذاته‪ C،...!..‬والطيور تمأل جوانحهم إلحاحاً‪ ،‬فهل ينتهي‬
‫أي منهم‪..‬؟!‪ C..‬أم يتحتم عليهم كلهم أن يفعلوا ذلك‪..‬؟!‪ C،..‬وكيف‬
‫األمر إن قتله ّ‬
‫يتسنى لهم هذا‪..‬؟‪C...‬‬
‫دار الخاطر في فكر توفيق‪ ،‬فانشغل به‪ ،‬لعله يهتدي إلى قناعة‪ ،‬قبل أن يشرك‬
‫اآلخرين بما يئز في رأسه‪.‬‬
‫بتضخم‬
‫ّ‬ ‫يهون على المفؤودين؛ المسدودة آفاقهم‬
‫وما فتئ إدريس الحكيم ّ‬
‫‪- 218 -‬‬
‫ويالتهم‪ ،‬وقد تفتت تماسكهم‪ ،‬فطفق يشد أزرهم مردداً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كل ٍ‬
‫شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر‪ ،‬إال المصيبة فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر‪.‬‬
‫المتكور‪ ،‬متمتمة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تمسد بطنها‬
‫نشجت (آية) ملتاعة‪ ،‬وهي ّ‬
‫ـ ‪ :‬إال مصيبتي أيها الحكيم‪ C...‬إال مصيبتي‪..‬‬
‫بأبوة جنينها‪ ،‬برغم زعمها أنه ثمرة زواجها‪ ،‬ولعلها رغبتها‬‫ولم تكن قد بتت ّ‬
‫مصرة أال تظلمه‪ ،‬فدفعته دون أن‬
‫ّ‬ ‫فحسب‪ .‬فما استطاعت أن تؤكد ذلك إلبراهيم‪،‬‬
‫تدري إلى حتفه‪ ،‬كي ال تغ ّشه‪C...!..‬‬
‫وظلّت نهباً لتمزق مؤلم‪ .‬حاولت مواساة نفسها واالقتناع أنه جنينها‬
‫تحس أن تصالحها مع نفسها هزيل‪ ،‬يغشاه شك كبير في‬ ‫وخاصتها‪ ،‬ولكنها ما فتئت ّ‬
‫إمكانية إحالله‪..‬‬
‫ونضب صبر رشاد المتزن‪ ،‬فاقداً السيطرة على غضبه‪ ،‬فشتم العناً‪ ،‬واتهم‬
‫الحكيم بالهرطقة‪ ،‬وسأل ٍ‬
‫بتحد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬دلني على واحدة من مصائبنا؛ صغرت مذ اقتلعونا من أعقار بيوتنا‪..‬؟‪..‬‬
‫تؤيد أحدهما‪،‬‬
‫الجدة نور وهي تمضغ لعابها‪ ،‬مؤثرة الصمت فال ّ‬ ‫رمقتهما ّ‬
‫برغم أنها ال تخالف حكمة الحكيم‪ ،‬وتوافق رشاداً على حجته‪ ،‬بيد أنها كانت‬
‫واضحة فيما أبدته حيال قول قمر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ما نحن فيه ليس هو ما نريد‪ ،‬وما نريده ليس محاالً‪ ،‬والمحال أن نقبل‬
‫امتهاننا‪ ،‬ونحن سجناء هذا العراء‪ ،‬فما نحن بأسرى‪ ،‬ولسنا لقطاء‪ ،‬أو أرقاء‪ ،‬ولسنا‬
‫يصرون على نبذنا‪ ،‬وأن يكونوا نخاسين‪..‬؟!‪..‬‬
‫غباراً في هذه الحياة‪ ،‬فعالم ّ‬
‫ـ ‪ :‬ألنهم األقوى أيتها الطفلة‪..‬‬
‫ـ ‪:‬بل ألننا نقابل سفالتهم بدماثة‪.‬‬
‫الجدة نور داقةً األرض بعصاها‪:‬‬
‫قالت ّ‬
‫ـ ‪ :‬خاسرون‪ ...‬خاسرون‪C...‬‬
‫ولعل ظهور موكب الوجهاء عائداً من المدينة‪ ،‬أسكتهم وفاقم توتّرهم في ٍ‬
‫آن‪،‬‬
‫فهب كثيرون في استقبالهم‪ ،‬وبرغم أن هيئاتهم أوحت بخيبتهم‪ ،‬فإن رغبة‬
‫ّ‬
‫االستفسار خضت القلوب‪ ،‬وخشيتهم من قسوة نبأ اإلخفاق أرتجت األلسنة‪ ،‬فلم‬
‫يسأل أحدهم عن النتيجة برغم اللهفة‪ ،‬حتى اخترقت الجدة نور هشاشة ُح ٍ‬
‫جب‬
‫يحاولون اتقاء الصدمة بها‪ ،‬فسألت ممتعضة ساخرة‪:‬‬

‫‪- 219 -‬‬


‫َخ َر َج الوالي إلى الصيد ثانية يا عبد الحميد‪..‬؟!‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬هه‪ ..‬أ َ‬
‫ـ ‪ :‬ال‪ ..‬إنما هو مشغول‪ ،‬عنده وفد مفتشين من األستانة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لو كان الكذب إصبعي لقطعته يا عبد الحميد‪..‬‬
‫تبدل ثوبها‬
‫ـ ‪ :‬ال بأس يا أمي‪ ،‬فالصدق مثل الحق‪ ،‬يشبهان الوردة التي ال ّ‬
‫الوحيد‪..‬‬
‫ثم امتطت صهوة فرسها وأردفت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لعله يسمعنا على ٍ‬
‫نحو أفضل بوجود الوفد‪.‬‬
‫دارت الفرس حول نفسها دورة كاملة‪ ،‬ثم ثبتت قبالة الجدة نور‪ ،‬ونادت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬رشاد‪ ...‬نعمان‪ ،‬أيها الحكيم إدريس‪ ،‬وأنت يا سليمان‪ ،‬سنذهب إلى الوالي‬
‫في الحال‪.‬‬
‫هرع الصبي حمزة هاتفاً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬خذيني معك يا قمر‪..‬‬
‫بردهم‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫نظرت إلى من نادتهم وقد مطلوا ّ‬
‫تحبذون انتظار عودتنا أنا وحمزة‪C...!..‬‬
‫ـ ‪ :‬يبدو أنكم ّ‬
‫هتفت الجدة نور‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬سأكون معك‪ ،‬ويكفينا عن الرجال هذا الصبي‪C...‬‬
‫حثّت الصبي أن يصعد العربة إلى جانبها‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬قمر‪ ..‬هيا بنا‪..‬‬
‫اقترب األومباشي وهمس لها‪:‬‬
‫يرد ألمه طلباً‪ ،‬فلو ذهبت إليها‪C...‬‬
‫ـ ‪:‬يقولون إن الوالي ال ّ‬
‫ٍ‬
‫بحركة لم يفهم معها أوافقته أم أنها لم تكترث باقتراحه‪ ،‬وما إن‬ ‫هزت رأسها‬‫ّ‬
‫تحركت العربة حتى اكتملت كوكبة من اختارتهم قمر‪ ،‬واتجهت إلى المدينة‪،‬‬
‫وعزيز خلفهم ينادي صائحاً‪:‬‬
‫ـ ‪:‬خذوني معكم‪ .‬لدي ما أقوله للوالي يا قمر‪C...‬‬
‫حمية ورغبة لفعل شيء غير االنتظار الممل‪ ،‬ومنهم‬
‫ثم تبعه آخرون‪ ،‬دفعتهم ّ‬
‫اقتداء بالجميلة قمر أخت الرجال‪ ،‬أو تأثراً بشخصية الجدة نور‪،‬‬
‫ً‬ ‫من مضى‬
‫وبعضهم سعى إلى واجب من المعيب أن تسبقهم إليه نساء‪...!..‬‬

‫‪- 220 -‬‬


‫خرج الوجيه عبد الحميد عن الجماعة‪ ،‬ميمماً وجهه شطر النهر‪،‬عاقداً يديه‬
‫خلف ظهره‪ ،‬راكالً الحجارة بقدمه‪ ،‬وعلى مبعدة كان الوجيهان رجب وعبد المجيد‬
‫يتبعانه‪ ،‬وهما في خلخلة الخيبة‪ ،‬خلع عبد الحميد نعليه‪ ،‬وغمس قدميه في الماء‪.‬‬
‫طهما‪ ،‬لعل ورمهما يخف‪ ،‬وعسى الصداع يهدأ‪،‬‬ ‫ومسدهما بتؤدة‪ ،‬ثم غ ّ‬
‫حركهما ّ‬
‫يتجرع الهوان ومرارة الخيبات المتعاقبة؛ قاسية الظروف‬‫فرأسه يكاد ينفلق‪ .‬إنه ّ‬
‫هزت زعامته عنيفاً‪ ،‬تكاد تقذف به‬‫وحرون‪ ،‬فلقد ضعضعت ّأبهته غير مرة‪ ،‬كما ّ‬
‫وأي زعامة هذي التي لم تقف وقفة متكاملة منذ بدء المسير‪..‬؟!!‪...‬‬
‫بين العوام‪َّ ،‬‬
‫ومن على بعد خطوات بادره الوجيه عبد المجيد‪:‬‬
‫ٍ‬
‫أخماس بأسداس‪..‬؟!‪...‬‬ ‫أتوصل كبيرنا إلى ناتج ضرب‬
‫ّ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫أحس بما يشبه الصفعة على قفاه‪ ،‬ولم ينبس ببنت شفة‪ ،‬وجلس الوجيهان على‬‫َّ‬
‫مقربة صامتين‪ ،‬ثم فاجأ عبد المجيد سائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ماتراك فاعل إن أتى الفرج على أيدي المرأتين‪..‬؟!‪C..‬‬
‫خبط رجله في الماء‪ ،‬دون أن يكلّف نفسه عناء االلتفات‪ ،‬لكأنه اكتفى بما فعل‬
‫جواباً لسؤال رديء اللباقة‪ ،‬فصاحبه ال يقيم وزناً‪ ،‬إن أتى حديثه فجاً يع ّكر المزاج‪،‬‬
‫فقد اعتاد تسمية األشياء بمسمياتها‪ ،‬وهذا في عرف عبد الحميد عرف عبد الحميد‬
‫حري بالوجهاء أن يستخدموا لطيف الكلم‪ ،‬في أشد الظروف‬ ‫ّ‬ ‫نقص خبرة‪ ،‬إذ‬
‫حلوكاً؛ بحيث ُيخرجون األفعوان من حجره بحسن المالفظ وطالوة اللسان‪ ،‬وإ ال‬
‫فهم والرعاع سواء بسواء‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬وأين كان لسانك ّإبان لوص الضابط عثمان‪..‬؟!‪C‬‬
‫ـ ‪ :‬دعونا من سيرة إبليس‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أين هو يا ترى‪..‬؟!‪..‬‬
‫جني هو‪ ،‬قد ينبط أمامنا اآلن من هذا الماء‪..‬‬
‫ـ ‪ٌّ :‬‬
‫تنهد رجب وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬أشعر أنني تعبت ومللت‪ .‬ليت الفرج يأتينا ولو على يد عباس الممسوس‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬فيصبح وجيهاً ويأنف منا الناس‪!!...‬‬
‫رياء‪ .‬الوالي تجاهلنا ولم يعرنا‬
‫ـ ‪ :‬إنني أتنازل لـه‪ ،‬أُقسم على ذلك‪ .‬كفانا ً‬
‫اهتماماً‪.‬‬
‫هب ودب‪،‬‬
‫ـ ‪ :‬كأنك ُمسست يا رجب‪ C..!!..‬يبقى والياً ال يلج بابه ك ّل من ّ‬

‫‪- 221 -‬‬


‫ونحن في حاجة أن يرانا بكلتا عينيه‪ ،‬اذكر ذلك وال تنساه‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬وأنت‪ ..‬انظر حولك‪ .‬ما زالوا يأتوننا للفرجة‪ .‬واليأس أخذ من ناسنا كل‬
‫مأخذ‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬انتبه إلى شأنك أوالً‪ ،‬ودعك من شأن الناس‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬هذا كالم يغيظ الحمار‪ .‬أتحسب أننا ملكناهم أقناناً‪..‬؟!!‪..‬‬
‫ألن أمك تدفع بابنك إلى مكانتك‪ .‬أم أنك حقاً جننت‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أتقول ذلك ّ‬
‫ـ ‪:‬أقسم ‪ ..‬أن فيك قيصراً مخبوءاً‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬هوناً أيها المالك‪ ..‬ولتسسنا أمك على هواها‪ ،‬وإ نني إخالها تحسب نفسها‬
‫مثل (كاترينا العظيمة)‪..! ...‬‬
‫ـ ‪ :‬ولم ال‪..‬؟!‪ C..‬وإ نني أدعوك أن تفرغ لها ما ضاقت به حوصلتك‪...‬‬
‫يخرف‪ .‬خذه وامضيا كي ال أقول ما ال‬
‫ـ ‪ :‬عبد المجيد‪ ..‬صاحبك ّ‬
‫يرضيكما‪C...‬‬
‫ضرب عبد المجيد كفاً ٍ‬
‫بكف قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪:‬وا أسفاه‪ ..‬ضعنا ما دمنا ثالثة فقط‪ ..‬وال نتفق‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬ياويلنا إن لم نتفق يا عبد الحميد‪C...‬‬
‫أن‬
‫ـ ‪ :‬رجب‪ ...‬فلننس لحظات كان الشيطان خاللها بيننا‪ .‬وال تنكر البتة ّ‬
‫الوجاهة رأس مالنا‪..‬‬
‫حسن‪ C...‬مازال في صدري متسع‪ ..‬سنتركك عساك تراجع نفسك‪.‬هيا بنا‬
‫ٌ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫يا عبد المجيد‪C...‬‬
‫هب وشرع يصلي‪ .‬واقترب عبد المجيد من رجب وقطع حبل‬
‫تركاه وابتعدا‪ّ .‬‬
‫الصمت الذي طال بينهما‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬كم أخشى أال يكون حالنا أفضل مما رأيناه من أحوال أهل المدينة‪ .‬شيء‬
‫يخوف‪C..!..‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬وصاحبنا مستعصم بالوجاهة ولو في مقبرة‪..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬وما العمل‪..‬؟! ال نستطيع شيئاً كما ترى‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬يخطر لي أن نتمرد ونعلن العصيان؛ نمسي قطّاع طرق ـ جتا ـ نشلّح‬
‫والضباط منهم على وجه‬
‫ّ‬ ‫الجندرمة‪ ...‬نكمن‪ ..‬نغير‪ C...‬نسلب العسكر؛‬
‫الخصوص‪...‬‬

‫‪- 222 -‬‬


‫ـ ‪ :‬فنحقق للضابط عثمان ما أراده لنا‪ ..!..‬ونضع بين يديه مبرراً لتعليقنا من‬
‫عراقيبنا‪ .‬ما الذي دهاك يا رجل‪..‬؟!‪C..‬‬
‫اسودت الدنيا في وجهي‪ .‬ضاقت بي‪ِ .‬ل َم ْلم يقابلنا الوالي‪..‬؟!‬
‫ّ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫ـ ‪:‬ربما إليصالنا إلى ما قلته‪ ،‬وربما لغاية ألعن وأنكى‪.‬‬
‫يتفجر رأسي أو أُجن‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أوضح كي ال ّ‬
‫درك أيها الشاعر نعمان‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هلل ّ‬
‫ـ ‪ :‬نعمان‪C!!..‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت أجش‪:‬‬ ‫رفع حاجبيه ولوى رأسه كناية ـ بلى ـ ودندن‬
‫ـ ‪" :‬مع أننا خسرنا الكثير‪ C...‬فنحن لن نخسر إنسانيتنا أبداً‪C."...‬‬
‫يتفصد عرقاً فاتراً‪ ،‬ثم اختلجت شفتاه‬
‫ّ‬ ‫أطرق رجب لحظات‪ ،‬وجبينه‬
‫وانضبطت حركتهما مع حركة شفتي عبد المجيد‪ ،‬فسمع لنفسه دمدمة‪ ،‬وما لبث أن‬
‫فحث خطاه نحو الرجال واألطفال والنساء‪ ،‬فجاراه بعضهم‬ ‫انطلق صوته واشتد‪ّ ،‬‬
‫دمع‬
‫مهل‪ ،‬ثم ارتفعت أصوات غفيرة‪ ،‬والتمعت في العيون مواشير من ٍ‬ ‫على ٍ‬
‫عصي على التفسير‪ ،‬عكست في المآقي ألوان الطيف‪ ،‬وسرت فيهم مثل العدوى‬ ‫ٍّ‬
‫موجة انعتاق‪ ،‬رفعتهم‪ ..‬فإذا بهم وقوفاً؛ وأعناقهم مشرئبة صوب الشمس‪.‬‬
‫تحمس األومباشي فأنشد معهم منتفخ األوداج‪ ،‬ثم انتبه أن الشيخ اإلمام‬
‫ّ‬
‫يرمقه‪ ،‬فهرع إليه وجالً وسأله‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬موالنا‪ ..‬صفحك إن أخطأت‪...‬‬
‫جوالة‪ ،‬ووضع سبحته في‬ ‫والح على وجهه طيف ابتسامة‪ ،‬وبرقت نظراته ّ‬
‫جيبه‪ ،‬وردد منسجمًا مع الصوت الجماعي‪ ،‬فانخرط األومباشي في اإلنشاد‪ ،‬وألفى‬
‫فتحرك جمع في أثرهم‪ ،‬ومضوا‬ ‫هوريك تشارك بصوت عذب رقيق‪ .‬تقدم بعضهم ّ‬
‫متابعين إنشادهم‪ ،‬غاسلين قلوبهم من هباب الكبت‪ ،‬سالكين الطريق إلى المدينة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬يالغواية الغوغاء‪C...!..‬‬
‫فتوجس نذير ماال تُحمد ُعقباه فهتف‪:‬‬
‫تنبه عبد الحميد إليهم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬نشاوى بما قاله نعمانهم‪ ،‬ولم يفطنوا لما قاله اآلخر‪:‬‬
‫فلننس الخاسر‪C."..‬‬
‫َ‬ ‫"مادمنا ربحنا المعركة‪...‬‬
‫فهد يتحدى كهولته‪ ،‬وجرى بكل ما يختزنه جسده من طاقة؛‬ ‫وثب مثل ٍ‬
‫عززتها غريزة البقاء وشعور الخوف‪ ،‬مشحوناً بخطورة وقوعهم في براثن‬ ‫ّ‬

‫‪- 223 -‬‬


‫كرة إلى‬
‫الجندرمة‪ ،‬وقد أفرطوا في حماستهم وهم بهيئة متذمرين‪ ،‬دونما ّ‬
‫عقل‪،‬غافلين عن ضراوة الضبعان الهرم وشراسته‪ ،‬وهم ال يدرون أن "يلدز‪.‬‬
‫وجار بقدر ما هو قصر منيف‪..!..‬‬
‫ٌ‬
‫ناولته (آية) رسن حصانه‪ ،‬فقفز إلى صهوته كما لم يظن بنفسه‪ ،‬وراح‬
‫وراءهم كالريح‪ ،‬وبذل جهداً لثنيهم عما هم فيه‪ ،‬فلم يأبه أغلبهم له‪ ،‬حتى رجب ما‬
‫استجاب وال أبه لندائه‪ ،‬بيد أنه لم يترك عبد المجيد إال وأخرجه من بينهم على‬
‫مضض‪:‬‬
‫خربت انسجامي‪...‬؟!‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ـ ‪ :‬ل َم ّ‬
‫تخرب كل شيء‪ ..‬أوقف أولئك‬
‫ـ ‪ :‬جعلتك تصحو من سكرتك؛ كي ال ّ‬
‫الثمالى‪ ،‬قل لهم أن يرجعوا‪...‬‬
‫يهز رأسه باستحالة تلبية‬
‫نظر نحوهم فألفاهم يهدرون‪ ،‬وأعاد نظره إليه وهو ّ‬
‫طلبه‪.‬‬
‫ـ‪ِ :‬‬
‫أعد األهوج رجب على األقل‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬رجب في أوج نشوته‪ .‬صعب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أومباشي ‪ C...‬أعدهم‪ ،‬أيها األومباشي‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬ليسوا عسكراً‪ .‬صعب ـ جاتين ـ يا سيدي‪ ،‬يعفسونني بأرجلهم‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬موالنا‪ .‬مابك تقف كشاهدة قبر‪..‬؟ أثبهم إلى رشدهم‪ .‬استخدم منزلتك‬
‫جبتك وعمامتك تفعالن شيئاً فاألمر حرج‪.‬‬ ‫عندهم‪ ،‬دع ّ‬
‫مضى الشيخ هامزاً بغلته‪ ،‬منادياً بصوته الصداح‪ ،‬واألومباشي في أثره‪،‬‬
‫وجلس عبد الحميد الهثاً؛ يمسح عرق جبينه‪ ،‬وقد انسرب في شعيرات حاجبيه‬
‫متقاطراً إلى المحجرين‪ ،‬فاقترب عبد المجيد وقال‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ليتك ترفع العصابة السوداء عن ناظريك‪ ،‬فقد يربح رجب الجولة‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬هيهات‪ !..‬وسنرى إن كان سينجو من بطش الجندرمة‪ ،‬أم أنك مجنون‬
‫مثله‪ ،‬تحسبهم يتلقونه معانقين‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬لم أعهدك يئساً مرعوباً كما أنت اليوم‪..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬لو كنت تدري يا صاح‪ C،!..‬يا لشناعة ما عرفت ورأيت في األستانة‪..!..‬‬
‫فترتح‪ .‬إنك ترهق روحك بتكتمك‪C..‬‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫‪:‬أفض لي بما في صدرك‬ ‫ـ‬
‫ـ ‪ :‬آخ‪ ...‬يا عبد المجيد وآه‪ ..‬من علة العلل وداء األدواء‪..‬‬

‫‪- 224 -‬‬


‫ـ ‪ :‬وما ذاك؟!‪ ...‬قل‪ .‬تكلم‪...‬‬
‫يصم آذانهم‪ ،‬ويعمي قلوبهم عن سواهم أجمعين‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هو الذي ّ‬
‫ـ ‪ :‬بال ء عويص‪...!..‬‬
‫وصية احفظها عني يا عبد المجيد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـ ‪:‬فلنحذره مبتعدين عنه إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬على رسلك‪ ،‬ولنفعل شيئاً قبل أن يفلت الزمام‪.‬‬
‫إالم نظل نرتق ونرقّع‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ‪َ :‬‬
‫مودعاً بحفاوة لم ُيستقبل بمثلها‪ ،‬فقد تركهم‬ ‫ٍ‬
‫وقتئذ خرج الوفد من عند الوالي‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ينتظرون فينة‪ ،‬وهو (اله) بمداعبة قطط مختلفة األلوان واألحجام‪ُ ،‬يخرجها من‬
‫قفصها‪ ،‬فتموء وتتمسح بساقيه العقة نعليه‪ ،‬مغمضة عيونها مسالمة متمسكنة‪.‬‬
‫فرقع سوطه فأتته زاحفة‪ ،‬تدفع رؤوسها في الهواء المالمس وجه األرض بتؤدة‪،‬‬
‫ثم فرقعة ثانية فزحفت عائدة إلى القفص‪ ،‬لكأن فأراً سلبها طعامها‪ ،‬مستغالً حلمها‬
‫وضبط نفسها عن سفاهته وطيشه‪...!...‬‬
‫التفت نحو وجهاء الحي قائالً‪:‬‬
‫مؤدبة كما ترون‪ ،‬فكيف لهذه المخلوقات اللطيفة األليفة‪ ،‬أن تكون‬
‫ـ ‪ :‬مطيعة ّ‬
‫ضالّة وال عيونها‬
‫عدوانية‪ ،‬تهاجم زغاليل الحمام و"نمليات" الطعام‪...‬؟!‪ ..‬فال هي ّ‬
‫ردي يا أوادم‪..‬‬
‫فتأنست طباعها‪ ،‬ثم‪" :‬إذ جاءكم فاسق"‪ ..‬وهذا ّ‬‫شاردة‪ ،‬وقد ربيتها ّ‬
‫استدار مفرقعاً سوطه ومضى‪ C،‬فأُسقط في أيديهم‪ ،‬تمتموا منكفئة رؤوسهم‬
‫على صدورهم‪ ،‬يكاد العسكر يدفعونهم‪ ،‬وهرير كالب الوالي يفزعهم‪ ،‬فأُخرجوا‬
‫شبه مطرودين‪ ،‬مطعونين بصدق ما نقلوه من شكاوى الناس‪ ،‬وما كادوا يصلون‬
‫َّ‬
‫ب في عقبهم‪ ،‬فعاثت في مطابخهم‬ ‫الكلاّ ُ‬
‫بيوتهم حتى سبقتهم إليها القطط‪ .‬وقد فلتها َ‬
‫وأبراج حمامهم وخممة دجاجهم بطشاً وفساداً‪C!..‬‬
‫وشد على يد‬
‫ثم إنه رافق الوفد إلىعتبة الباب‪ ،‬وصافحهم منحنياً للجدة نور‪ّ ،‬‬
‫نم ببهتان‬
‫قمر‪ ،‬مبحراً في لجج عينيها‪ ،‬مأخوذاً بألقهما وبريقهما الفتّان‪ ،‬ففيهما ٌّ‬
‫مضمخاً بسحر بوح الخلوة واألحالم‪ ،‬ويا لصيحة الديك‬ ‫ّ‬ ‫وبيان‪ ،‬ومزيج خدر النشوة‬
‫حال موجبة؛ قبيل انبالج‬‫منبهة لالغتسال بفيوض عمقهما الدافئ‪ ،‬في غير ٍ‬ ‫فيهما‪ّ ،‬‬
‫الصبح؛ وانقضاء وقت األذان‪..!..‬‬
‫ـ ‪( :‬أكنت اهتديت إلى هذا الضالل ال ّشفيع أيها الضابط اللوذعي‪..‬؟!)‪C..‬‬
‫كاف ٍ‬
‫شاف بوشيه‬ ‫وقف وسط القاعة يعيد ترتيب فسيفساء حديثها‪ ،‬وهو ٍ‬
‫ومعناه‪:‬‬

‫‪- 225 -‬‬


‫ـ ‪ :‬وأنت على رأس الوالية‪ ،‬فإنك الدولة أيها الباشا‪ ،‬أو ليس على الدولة‬
‫تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم‪..‬؟! ال أذ ّكرك ـ حاشا ـ بما ال‬
‫لست تمنعه عن الناس ـ ونحن فيهم ـ إنما أسوقه ألنه يليق أن‬
‫تنساه‪ ،‬وال أطلب ما َ‬
‫فسمو خلقك يأبى لنا أن نذهب إلى وضيع ابن وضيع‪ ،‬ال‬ ‫نرفعه إلى مقامك الرفيع‪ّ ،‬‬
‫يستوجب وجودنا في كنفه‪.‬‬
‫الجدة‪ ،‬تلك المهيبة‬ ‫داخ بهذا الصوغ‪ ،‬وبهت ٍ‬
‫بدرر انحكم نظمها بلسان ّ‬
‫الودود‪ ،‬فجعلته في حضرتها يشعر بصغره‪َّ ،‬‬
‫فحن إلى طفولته‪ ،‬يتشهى غفوة في‬
‫حجرها الطهور‪ ،‬فيسمع مثل الذي سمعه منها بعيد دخولها وصحبها عليه‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬مادمت تحب أمك‪ ،‬فال تهن أمهات اآلخرين‪ ،‬لسنا طمعاء‪ ،‬وماء وجوهنا‬
‫ولشد ما يؤرقنا المصير المبهم‪ ،‬ويريبنا الصمت المطبق عما َّ‬
‫حل بنا‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ثمين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هتفت نفسه وطيف الضابط عثمان يتجسد في خياله‪:‬‬
‫(ل َم هذرت مبالغاً بما وشيت عنهم وهرفت‪..‬؟!‪.)...‬‬‫ـ‪ِ :‬‬
‫قضت قمر طريق العودة مفكرة كيف لم يتح لها معرفة شيء عن كمال‪ ،‬ولم‬
‫أحست بخلجان عينيه‪ ،‬ورجفة دالّة في يده لكنها تأنف‬ ‫يفتها اهتمام الوالي بها‪ ،‬بل ّ‬
‫من رجل يكاد يندلق من نفسه متهافتاً؛ وباآلن ذاته يتدرأ بجاهه‪ ،‬متوقعاً زوغان‬
‫عيني ناظره بلمعان "نياشينه"‪ ،‬فال هو جريء صريح‪ ،‬وال متماسك معتد‪.‬‬
‫طان على ما يتشهى من‬ ‫وأمضى الصبي حمزة وقته وعيناه تتقافزان‪ ،‬تح ّ‬
‫أطعمة وحلوى‪ ،‬سال لعابه لهما‪ ،‬وتمطّق كاسفاً‪ ،‬ثم طاش بصره‪ ،‬بحثاً عن وجهٍ‬
‫ليس يتوه عنه‪ ،‬فإن رآه‪ ،‬جعل ضيف اهلل يرتاح في مرقده‪ ،‬إلى أن يوقظه النفخ في‬
‫يفش خلقه بكشف‬
‫الصور‪ .‬وبقي رشاد شارد الفكر ساخطاً‪ ،‬إذ لم يتح له أن ّ‬
‫ٍ‬
‫شاغل بقططه المدلهات‪...!..‬‬ ‫فظاعات ذاك األلعبان‪ ،‬والباشا في شغل‬
‫وبقي نعمان منقبضاً من حذر الباشا وعدم ارتياحه له‪ ،‬إثر معرفته أنه‬
‫شاعر‪ ..!..‬وحدس َّ‬
‫أن الكرسي يجعلهم كلهم سواء‪C..!...‬‬
‫وبدا إدريس الحكيم هازئاً‪ ،‬وبسمته المائلة عند طرف فمه تقطر سخرية‪،‬‬
‫الهتمام جنابه بالهررة أكثر من سواها‪ ،‬لكأنهن ْأولينه أمرهن‪ C...!..‬وانتبه أثناء‬
‫خروجهم أن وجهاء الحي والناس من حولهم في خيبة‪ ،‬فالباشا نصر قططه عليهم‬
‫إذ ك ّذبهم‪ ،‬فتأكد لهم أنها ستظل عابثة بأرزاقهم‪ ،‬مادام يغض الطرف عن أفاعيلها‪،‬‬
‫حراسها‪C...!..‬‬
‫ويتقول بوداعتها‪ ،‬والويل لمن يتجاسر عليها من ّ‬
‫ّ‬
‫وعلو مرتبته‪ ،‬مفتوناً بفخامة قدره‪،‬‬
‫وكان سليمان مستغرقاً بمدى سلطة الوالي ِّ‬

‫‪- 226 -‬‬


‫وانصياع الناس ألمره‪ ،‬أُّبهة استحوذت على مكمن طموحاته‪ ،‬وشغفت قلبه‬
‫األبهة أمام هيمنة قمر المبهمة‪...!..‬‬
‫تقبض تلك ّ‬
‫بالمطامح‪ ،‬بيد أنه استأنف ّ‬
‫أما عزيز‪ C...‬فمبتهج ألمرين‪ ...‬أولهما أن الوالي صافحه‪ ،‬شأنه شأن الحكيم‬
‫يمض معظم الوقت‬ ‫ِ‬ ‫ويدخل البهجة إلى قلبه‪ .‬ألم‬
‫إدريس‪ ،‬ثم إن لديه ما يسر الباشا ُ‬
‫متحدثاً عن اسطبالت خيل أهله‪ ،‬واهتمام أسرته بها كابراً عن كابر‪..‬؟!‪ C..‬إذاً‬
‫يخمن فيفسد‬‫التحمل‪ ،‬وال يريد أن ّ‬‫ّ‬ ‫قوية‬
‫سيعرف قيمة حصان من خيول "كباردين" ّ‬
‫متعة الترجي‪ ،‬ففي انتظار ما ال يتوقعه‪ ،‬نشوة ال تدانيها متعة الحصول على شيء‬
‫فيزف إليه ما يفوق‬‫ّ‬ ‫سبق أن حدده‪ ،‬وقد يفكر بطلب دون ما نوى الباشا مهاداته‪،‬‬
‫أن "البرطيل"‬ ‫تمنياته‪ ،‬برغم توقه إلى جعله "جاويشاً" أو لم يسارره األومباشي َّ‬
‫ويكبر الصغير‪ ،‬ويف ّل حديد المستحيل‪ ،‬في هذا الزمان‬
‫يقرب البعيد ّ‬ ‫بات ّ‬
‫األعوج‪C..!..‬‬
‫مح البيضة‬‫الجدة نور ترمقهم مشفقة‪ ،‬ففي زمنهم الشاحب هذا‪ ،‬اختلط ّ‬
‫كانت ّ‬
‫علو أشرافه‪ ،‬يتقلبون في أعمال السلطان وفي نعمائه‪،‬‬
‫بآحها‪ ،‬وأمسى أوغاده في ِّ‬
‫يبسملون باسمه ويعملون أيديهم في مقدرات الخلق‪ C!..‬ومهما يكن فقد ُسفحت مياه‬
‫يرجح‬
‫وجوههم دون المأمول‪ ،‬وليس في الميزان قسط وماهو بقسطاس‪ ،‬أولم ّ‬
‫مخالب قططه على ألسنة الناس‪..‬؟!‪C...‬‬
‫ـ ‪"( :‬خاسرون‪ ...‬خاسرون‪..)"...‬‬
‫خرم جعله في خشب الشباك العالي‪ ،‬يرى‬ ‫وكان الفتى السِّكيت لمحهم من ٍ‬
‫يروح به عن نفسه‪ ،‬وقت يتخلّص من تلك العلقة الشبقة‪ ،‬ولمحهم ثانية‬ ‫خالله ما ّ‬
‫عند خروجهم من دار الوالية‪ ،‬خالل انشغالها مع "الحفّافه"‪ ،‬فنكست قمر صيرورته‬
‫تضم فخذيها بعضهما إلى‬‫المدودة التي ال تكتفي‪ ،‬فال ّ‬
‫نكساً‪ ،‬وهو يقارن بينها وهذه ّ‬
‫ٍ‬
‫يقظة؛ وقلّما تنام‪ ،!..‬وصار ديدنه معرفه سبب قدومهم إلى‬ ‫ٍ‬
‫بعض‪ ،‬مادامت‬
‫خمن فأصاب دون أن يدري‪ ،‬فوراء نفاذ المسمار في الجدار‬ ‫الوالي‪ ،‬برغم أنه ّ‬
‫الصلد‪ ،‬مطرقة تقرع رأسه‪ ،‬ولم يكن صعباً عليه الوقوف على حقيقة ما آلوا إليه‪،‬‬
‫وسر القمقم عنده وبيده‪ ،‬ولديه ما يضمن أنها‬
‫فأمه القمقم‪ّ ،‬‬
‫فإن كان الوالي مارداً‪ّ ،‬‬
‫ستقوله له‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬شبيك يا عصفوري ‪ ...‬لبيك‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬يجاب طلبهم دون تأخير‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬أمر فتاي‪C..).‬‬

‫‪- 227 -‬‬


‫وسيشد وتر‬
‫ّ‬ ‫مص قصب السكر‪،‬‬ ‫سيحرف الوتيرة بعدما استمرأت تقصي لذة ّ‬
‫القوس إلى ما دون التقطّع‪ ،‬فيتركها على السفح قبيل القمة‪ ،‬ويظهر نفوراً دونما‬
‫عجز‪ ،‬ويدفعها لتهذي‪ ،‬فيشترط فترضخ وتوعز للباشا فيلبي‪ ،‬كل ذلك بصمت أيها‬
‫أحد من قومك أنك خدمتهم وقد ظلموك‪C...‬‬‫السِّكيت‪ ،‬فال يعلم ٌ‬
‫****‬
‫سمرهم‬
‫ولم يستطع الوجيهان إيقاف جحافل الناس‪ ،‬إال أن ظهور كوكبه الوفد ّ‬
‫وأسكتهم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أقابلتموه‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪..‬‬
‫ـ ‪:‬وهل أجاب طلبكم‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ال‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬إذاً رفض‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لم يرفض‪.‬‬
‫ألغز هذا أم هو أحجية‪..‬؟‪C‬‬ ‫ـ‪ٌ :‬‬
‫‪:‬أملنا ولم َي ِع ْد‪ .‬لكنه ماقطع رجاء‪..‬‬
‫ـ ّ‬
‫ـ ‪" :‬طيط"‪..!..‬‬
‫بخالص طال انتظاره‪ ،‬انتظار ٍ‬
‫نبت‬ ‫ٍ‬ ‫رجية‬
‫تقصف ّ‬ ‫بهذه اللفظة اختصر لقمان ّ‬
‫لم َز ْيَن ٍة تنقذه من يباس محتوم‪ ،‬فقد افترسهم القلق‪ ،‬وعدم االطمئنان إلى غد عاله‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫الصدأ سلفاً‪C..!.‬‬
‫تسوي انكسارات نفوسهم‪ ،‬وترأب‬ ‫الجدة نور أن تتكلم طويالً‪ ،‬لعلها ّ‬
‫كان على ّ‬
‫تصدت للوجيه عبد الحميد وته ّكمه‪ ،‬تشفي ًا‬
‫ّ‬ ‫ذاته‬ ‫وبالوقت‬ ‫المتوالية‪،‬‬ ‫تصدعاتهم‬
‫منهم‪ ،‬ولعله شامت مرتاح في أعماقه‪ ،‬فهذه أسوأ من إخفاقة‪ ،‬وال مزية ٍ‬
‫ألحد عليه‪،‬‬
‫وأحس بثقل الخيبة الشاملة‪ ،‬إثر فشة الخلق األنانية‪ ،‬وقد دملت خدوش‬ ‫ّ‬ ‫بيد أنه تألم‬
‫كبريائه‪ ،‬وهاهو وإ ياهم يدخلون ثانية برزخ االنتظار‪ ،‬حيث ال سحر وال‬
‫شفق‪..!..‬‬
‫ودعا بعضهم إلى اقتباس فكرة الوجيه رجب‪ ،‬فيعلنون التمرد والعصيان‪،‬‬
‫ويمسون ـ جتا ـ يستهدفون الجندرمة والعسكر‪ ،‬وذهبوا يستقطبون من راقت لهم‬
‫الفكرة‪ ،‬والذين اقتنعوا أنهم رهائن الطريق المسدود‪ ،‬وماهي إال سويعات‬

‫‪- 228 -‬‬


‫وينطلقون مع قدوم الليل‪...‬‬
‫وحده عزيز في برج ال يشاركه فيه أحد‪ ،‬فما زال منذ عاد يدور حول‬
‫تخيل الباشا ممتطياً صهوته‬
‫حصانه‪ ،‬يعلفه ويغسله مرة إثر مرة بماء النهر‪ ،‬وقد ّ‬
‫أحس بالحرج‪ ،‬فالسرج عتيق ال يليق بمقام الوالي‪ ،‬ثم وجد الحل بسرج‬
‫إال أنه ّ‬
‫حصان إبراهيم‪ ،‬فالرجل تركه ومضى إلى حيث ال يحتاجه‪ ،‬مثلما ترك أشياءه‬
‫األخرى و‪ C!......‬ياللصحوة‪ C!...‬كيف غفل طوال الوقت عن هذا‪..‬؟!‪ C..‬ال داعي‬
‫للتفكير بسرقة السرج المطهم‪ ،‬مادام السبيل المتالكه وسواه ميسور بالحالل‪...‬‬
‫ـ ‪( :‬شهامة تسجل وتحسب لك‪ ،‬ثم ال تكون لطّخت سمعتك بسرقة‪.).‬‬
‫حدث نفسه بهذا ثم سارر قمر‪:‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬أتحبها ياعزيز‪..‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪)....( :‬‬
‫فراستها أغنتها عن الجواب جهراً‪ .‬لم تستنكر طلبه؛ لكنها لم تستسغه‪ ،‬فهي‬
‫مخلصة لعقيدتها‪ ،‬بأن ينبثق الشعور من أغوار النفس‪ ،‬بغضاً كان أم حباً‪ ،‬و الحب‬
‫دون سواه ليس موضع مساومة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ساعديني يا قمر‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أعرف رأيها فأخبرك‪..‬‬
‫ـ ‪:‬كوني في صفي‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬لست ضدك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أبلغيها أن وليدها سيحمل اسمي؛ إن رأت في ذلك ما يطمئنها‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬قد يشفع لك هذا العرض عندها‪ ،‬لكنه يمغمغ شعورها نحوك‪ ،‬فما بغيتك يا‬
‫عزيز‪..‬؟!‪C‬‬
‫ـ ‪ :‬الستر‪.‬‬
‫الجدة نور‪ ،‬فهي أجدر بهذا األمر‪..‬‬
‫ـ ‪:‬إذن اذهب إلى ّ‬
‫ـ ‪ :‬قمر ‪C..!!..‬‬
‫قصرت معك‪ .‬ثق يا عزيز‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لو كنت محباً لما ّ‬
‫(جحشت ولم تجد اللعبة‪ ،‬فهذه قمر يا ولد‪.)..!..‬‬
‫ّ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫الجدة نور بأن تعرض طلبه على‬
‫ونمق كالمه‪ ،‬فوصل إلى إقناع ّ‬
‫برى لسانه ّ‬
‫(آية)‪.‬‬

‫‪- 229 -‬‬


‫ـ ‪( :‬أجدت المراوغة يا ولد‪ .‬ستصعد‪ ،‬وسيلمع نجمك ويسطع‪ .‬امخر هذي‬
‫بحاراً أو قرصاناً‪ ،‬فإن لم تقدر؛ داورها وافعل على‬
‫الحياة وعبابها المصطخب‪ّ ،‬‬
‫منوال الثعلب‪ ،‬خذها من حيث أدبرت‪ ،‬خير من أن تموت كما ينفق جرذ‪ ،‬وخير‬
‫من أن تبقى مثله‪ ،‬احرص وتكتّم‪ ،‬وال تف ّل خيط خطتك حتى ألمك‪ ،‬فتسلم وال‬
‫لرجاء لها‪ ،‬أو نصيحة حرصها عليك‪ ،‬وتنجو من شر حاسد ومتط ّفل‪ ،‬فال‬‫ٍ‬ ‫تضعف‬
‫ينافسك أو يقلّدك كسول أو مقتبس‪ْ .‬فز وحدك وانفذ بجلدك‪ ،‬كن جسوراً واخرج‬
‫عن السرب الهالك‪ ،‬واحذر الكثيب المهيل‪ ،‬ال تقعد مادمت عزمت‪ ،‬واسبح مادمت‬
‫قادراً‪ ،‬فأمر سفينة نوح لن يتكرر‪ ،‬وعبث أن تضع رأسك بين الرؤوس في‬
‫المخنقة‪ ،‬وما حكمة أن تفنى معهم‪ ،‬أو ليست كل شاة من عرقوبها تعلّق‪.‬؟‪C.).‬‬
‫ردها‬
‫"رب عجلة وهبت ريثاً"‪ ،‬فأبطات آية ّ‬
‫اشتدت حرقته مستعجالً‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ترد البتة‪ ،‬لكنها تحت اإللحاح قالت‪:‬‬
‫وفي ّنيتها أال ّ‬
‫ـ ‪ :‬دعوني ريث أن أضع مولودي بسالم‪..‬‬
‫وتعمدت جلبهار أن تلتقيه‪ ،‬مبدية ارتياحها لعدم استجابتها‪ ،‬وغمزت في‬
‫ّ‬
‫ولمحت أنها لن تتذرع لو طلبها‪ ،‬فهي ال تنتظر مولوداً‪ ،‬فأطرق وحدس‪:‬‬
‫قناتها‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪( :‬وال تملكين نظير ذاك السرج‪ ،‬أيتها الجسورة الجميلة‪C...)!...‬‬
‫مسوغاً لنفسه سرقة السرج‪ ،‬دفعته (آية) إلى الفعلة دفعاً‪ ،‬وشعر َّ‬
‫أن‬ ‫ومضى ّ‬
‫ذنبه بات نصف ذنب‪ ،‬وفي البكور أسرج حصانه‪ ،‬ونخره بمهمازيه في طريقه إلى‬
‫ٍ‬
‫بأجنحة ناعمة‪.‬‬ ‫المدينة‪ ،‬والرؤى ترفرف في خياله كأسراب طيور‬
‫تدخل الخانم الكبيرة‪ ،‬ملبية طلب فتاها‪،‬‬
‫ثم إن أموره سارت دونما إبطاء؛ إثر ّ‬
‫على أنها سمعت أخبار أولئك الناس‪ ،‬في حفل استقبال نساء "آل فستق"‪ ،‬وهي تجد‬
‫سباقة لفعل الخير‪ ،‬فتمسي حديث المدينة‪،‬‬ ‫في ذلك فرصة ٍ‬
‫ليد بيضاء تسديها‪ّ ،‬‬
‫أكابرها وسكان حواريها‪ ،‬كما أنه فعل يشفع للوالي لدى علية القوم والدراويش‬
‫حد سواء‪ ،‬وطلبت أن يوعز لخطباء المساجد في أن يأتوا على اإلشادة بذلك‪،‬‬ ‫على ٍ‬
‫ثم إنها استعجلته ليصدر "فرماناً"‪ ،‬فيسكنون خاني (الصابون وقرطبة) وبعض‬
‫المساجد القريبة‪،‬إضافة إلى دور المياسير الزائدة عن حاجتهم‪ ،‬ريث ينتهي بناء‬
‫أن جنابه تك ّفل إقامتها من كيسه الخاص‪ ،‬على‬
‫القرية‪ ،‬فذهب مشياع الوالي يشيع ّ‬
‫أرض "الجفتلك" فضلة خيرات عظمة السلطان‪ ،‬ابتغاء مرضاة وجهه قربان اسمه‪،‬‬
‫وهنيئاً لفاعل الخير‪!..‬‬
‫الحراس‬
‫أمه الخانم بحفاوة ملتمساً رضاها‪ ،‬لمح عزيزاً يكافح ّ‬
‫شيع ّ‬
‫وحين ّ‬

‫‪- 230 -‬‬


‫ليصل إلى باب دار الوالية‪ ،‬فأمر أن يفسحوا له‪ ،‬وفي حقيقته أن يفسحوا للحصان‬
‫فقربه‬
‫وقد بهره‪ ،‬وأزاغ السرج النادر بصره‪ ،‬فقبل الهدية‪ ،‬وبات عزيز عزيزاً‪ّ ،‬‬
‫يحدثه عن الخيل وأحوالها‪ ،‬فال يم ّل سماع سيرتها‪،‬‬
‫وضمه إلى مجلس سمره‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫السواس الخاصين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كبير‬ ‫عزيز‬ ‫وصار‬

‫*****‬

‫‪- 231 -‬‬


‫‪15‬‬
‫ِزد الجرعة وأضرم النار‪ ،‬أشعل كدس الحطب هذا واجعله جمراً‪ ،‬فهو غير‬
‫نفع إن لم يضطرم‪ ،‬وسقر دائماً موقدة‪ ،‬تطلب المزيد كي ال تتفحم‪ ،‬وإ نها‬
‫ذي ٍ‬
‫تذر بخورك في مجمرتها‪ ،‬وها‬ ‫أدركت هذا فلبت طلبك‪ ،‬وهي طوع أمرك ما دمت ّ‬
‫هم ناسك حلّوا في المدينة‪ ،‬يتسكعون في ساحات خانتها‪ ،‬ويتشمسون ورعين في‬
‫مسربل بالبياض‪ ،‬فعانقوه ولثموا أهداب‬ ‫ٍ‬ ‫صحون المساجد‪ ،‬ومنهم من أحاط بزنجي‬
‫ثوبه على أنه ((بالل المؤذن))!‪ C،‬وكانوا يتقاسمون سراً غنيمتهم لليلة البارحة‪،‬‬
‫الكرة‪ ،‬وتلك‬‫ولعلهم استمرؤوا تشليح العسكر والجندرمة‪ ،‬يتشاورون في معاودة ّ‬
‫هي الجدة نور توزع الصابون على النسوة في زنابيل‪ ،‬فقضين سحابة نهارهن في‬
‫الغسيل واالغتسال‪ ،‬تنظفن وقمر بينهن في حمام السوق‪ ،‬أيها الضالع بقتل نفسك‪،‬‬
‫المفرط بتعذيب ذاتك‪ ،‬أنت أكثر من يدرك ضياء قمر‪-‬إن تنظفت‪ -‬كسطوع النجم‪،‬‬
‫وسائر النسوة من حولها كواكب فحسب‪ ،‬يمور هذا في أعماقك‪ ،‬ولست بناكر‪،‬‬
‫ولكنك مجاكر‪ ،‬تسوم ذاتك عذاب الشرك‪ ،‬مذ جعلت اآلفة المتالف شريكة للتي لم‬
‫تبرحك منذ احتلت كيانك‪ C!..‬تهذي معلالً أن الجسد لهذه بينما الروح لتلك‪C..!..‬‬
‫تجتره متيقناً أنه هراء ال طائل منه‪ ،‬وال مندوحة لك عما سبق‬ ‫وتعرف أن هذا لغو ّ‬
‫وأعلنت بصدق‪ ،‬بأنه في الروح يسكن الجسد‪! .!.‬كفاك تخريفاً إلى هذا الحد‪ ،‬يا‬
‫طاعناً نفسه في النحر‪ ،‬قم للتو كافئ المتصابية فقد جننتها في الليالي الخوالي‪،‬‬
‫أنشبت فيها الحرائق ولم تهمدها‪ ،‬استسرتك ليس لتمنع عنها ما يهمها‪ ،‬فال تتمادى‪،‬‬ ‫َ‬
‫فهي على قاب قوسين من القتل بجنون‪ ،‬ال تخف من ناسك فقد أضاعوك‪ ،‬ولست‬
‫من همومهم البتة‪ ،‬فهم في زنقة‪ ،‬وإ ن يكن الوجهاء وأتباعهم أقل ضنكاً وقد كنت‬
‫األهم ينقصك‪ ،‬فهل‬
‫َّ‬ ‫منهم‪َّ ،‬‬
‫وقل أن شغلتك اللقمة‪ ،‬برغم هذيانك المتواصل‪ ،‬أن‬
‫وجدته‪..‬؟!‪..‬‬
‫أيها األفّاق ال تنكر‪ ...!..‬أما زلت تستنكر فعالت األومباشي‪.‬؟!‪..‬‬
‫راقبته مراراً يركن إليها في مربطها‪ ،‬مرةً وأحياناً مرتين في الليلة الواحدة‪،‬‬

‫‪- 232 -‬‬


‫ولعلك تسترجع كيف كان تبرمه مما يفعله ليالً‪ ،‬وما يفعله في ليله تنفيث عما‬
‫سئمه نهاراً‪ ،‬يتفانى منفّذاً األوامر هرباً من عادته الليلية‪ ،‬حين ينحو إليها الئذاً من‬
‫ويتمسح بأذيال الشيخ اإلمام تطهّراً من رجسه‪ ،‬ومما تراه عيناه وال‬ ‫ّ‬ ‫ذل النهار‪،‬‬
‫تصل إليه يداه‪ C!..‬ماعدت مستنكراً حالته‪ ،‬وصرت ترأف به على أنه مسكين‪،‬‬
‫كأنك لمست عنده بعضك‪ ،‬أو وجدت فيه القرين‪ ...!!..‬أم أنكما أقنوم واحد في‬
‫جسدين‪..‬؟!‪..‬‬
‫لقد عاد األومباشي العتيد إلى "القشلة"‪ ،‬وبحث عن الضابط كمال‪ ،‬وبرغم‬
‫حرصه عن خبر ٍة‪ ،‬فقد وقع في براثن الضابط عثمان‪ ،‬فأرعبه بتهمة صلته بالخائن‬
‫كمال‪ C...!..‬ثم جعله يعترف بما يعرفه عما حدث منذ تركتما مفيض السيل‪ ،‬لكنه‬
‫للحق تكتّم على رسالة قمر‪ ،‬وتلك هي تنتظر منه خبراً‪ ،‬وأنت أدرى بقسوة‬
‫االنتظار‪.‬‬
‫وعاجز تماماً عن‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫بحاقد؛ وإ نما طيب جداً‪ ،‬وجبان‬ ‫ف بها؟‪ ...‬لست‬‫أمت ّش ٍ‬
‫إسعافها‪ C..!.‬سِّكيت أنت‪ ،‬وهذا أوان الصمت‪ ،‬فأنت في كمين‪ C..‬أتذكر بغل‬
‫الحجامة؛ صادية‬
‫تنسى!‪ ..‬قم أيها المغلول وانظر أمر علقتك ّ‬ ‫الساقية؟‪ ..‬عبرة ال‬
‫َ‬
‫اروها فتشغلك عما في رأسك الطاحون‪ ،‬وابذل لها من دمك تكنز ذهباً‪ ،‬اكنز‬ ‫هي‪ِ ،‬‬
‫ما يتاح لك قبل فوات األوان‪ ،‬وال تخف من سائل يستوضحك كيف صرت غنياً‪،‬‬
‫فإن سألوك قل إنك هاجرت وتاجرت‪ ...‬وأغلب الظن أنهم سيحسدونك ويغبطونك‬
‫ٍ‬
‫بعدئذ تجدهم‬ ‫مصدر غناك‪،‬‬
‫َ‬ ‫أحد‬
‫يتقصى ٌ‬ ‫وينبهرون بجاهك‪ ..‬وسينسون‪ ،‬فال‬
‫ّ‬
‫ويتقربون إليك‪ ،‬وفي الملمات يلجؤون إليك‪ ،‬ويا لسمائك ما أعالها‪C...!...‬‬‫يجلّونك ّ‬
‫ليغضوا طرفهم عنه‪ ،‬ثم تأتلقون‬
‫ّ‬ ‫فيغض كل منهم طرفه عن اآلخرين‪،‬‬‫ّ‬ ‫أما أمثالك‬
‫وتتنادون باأللقاب‪ ،‬وتمسون مرهوبين‪ ،‬فال تأبه مادمت بدأت‪ .‬أتفكر كيف لك‬
‫ندت الريح ريش جناحيه‪،‬‬ ‫الخروج ـ ذات يوم ـ من هذا الحبس‪..‬؟!‪ ...‬وأنت من ّ‬
‫فإذا بك طائر ال يطير‪ ،‬وها أنت مثل ديك الدجاج‪ ،‬وكان أبوك من عماد الطير‪،‬‬
‫بحد السيف‪ ،‬بينما والدك يطلق‬‫سرتك ِّ‬‫كي أن أمك وضعتك واقفة‪ ،‬وأنها قطعت ّ‬ ‫وح َ‬
‫ُ‬
‫على العسكر‪ ،‬ثم تمترست بجانبه وهمست‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ولد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بمعطف موروث‪ ،‬وعهد إلى كلبه‬ ‫وشرعت تطلق ريث أن يراك‪ ،‬فلفّك‬
‫يحرسك‪ ،‬فسحبك في النهر‪ ،‬وظال يطلقان حتى نفدت ذخيرتهما‪ ،‬فداهمهما العسكر‬
‫وأحرقوهما والبيت‪ ،‬ثم أخذك الوجيه‪ ،‬وذاك هو وصحبه مهيضة أجنحتهم‪ ،‬يغلبهم‬
‫يقدمون عرضاً‬ ‫ٍ‬
‫برجال ّ‬ ‫إحساس أنهم فرائس لقُناص يتماكرون‪ ،‬وضاقوا ذرعاً‬

‫‪- 233 -‬‬


‫ورغبوا واستغووهم‪ ،‬ولم يكشفوا سوى عن بعض غايتهم‪ ،‬فذكروا‬ ‫مبهماً‪ّ ،‬برقوا ّ‬
‫علية القوم والذهب‪ ،‬وأتوا على ذكر باطن وظاهر‪ ،‬وما انقطعوا عن خاني‬
‫"الصابون وقرطبة"‪ ،‬بهيئة باعة ومشترين‪ ،‬ومحسنين ومؤنسين‪ ،‬وما أحجمهم الرد‬
‫وقد صاغه إدريس الحكيم قوالً فصالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ال وجه آخر لنا‪ ،‬ولو كنا أظهرنا غير ما أبطأنا‪ ،‬لما اجتثونا من منابتنا‪...‬‬
‫فداورهم أكثرهم مراوغة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بضاعتكم ستبور في بازار األيام‪ ،‬أفيقوا قبل فوات األوان‪.‬‬
‫***‬
‫حين وضعت آية وليدها‪ ،‬اكتأبت واعتزلت الناس‪ ،‬وغرقت بصمت أخرس‪،‬‬
‫تلقم الرضيع ثديها‪ ،‬مقضوم الحلمة فتستبكيه‪ ،‬لكأنها تع ّذب روحها به‪ ،‬وتغطي‬
‫برعب ما برحت ال تدرك كيف تحملته‪ !..‬احتضنته‬ ‫ٍ‬ ‫وجهه كي ال تراه‪ ،‬إنه يذ ّكرها‬
‫تحدق ملياً في وجوههم دون سواهم‪ ،‬تجوب األمكنة دون‬ ‫هائمة تقتفي أثر العسكر‪ّ ،‬‬
‫كلل‪ ،‬وبقدر ما هزلت ازدادت عزيمة على ما نوت‪ ،‬ثم حطّت قرب "القشلة"‪،‬‬
‫متحرشين بها‪ ،‬وهي صماء‬
‫ترقب المدخل‪ ،‬ترصده بعيني بومة‪ ،‬ناوشها العسكر ّ‬
‫كصخرة‪ ،‬لكنها قبلت من أحدهم خبزاً‪ .‬ورأته خارجاً يهم أن يصعد عربته‬
‫الفارهة‪ ،‬فجعلت وليدها على كفيها متقدمة به‪ ،‬ورفعته حتى صار دون وجه‬
‫متجبراً‬
‫الضابط عثمان‪ ،‬أذهله أن يرى نفسه طفالً؛ فالشبه ّبين بال لبس‪ C..!..‬حاول ّ‬
‫أن يطمس مشاعره ويتن ّكر‪ ،‬فسمعها تقول‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ابنك‪..‬‬
‫َّ‬
‫ظل ينظر وحدقتاه ناتئتان‪ ،‬تكادان تهطالن عاطفة‪ ،‬إال أنه شكم انفعاله وجأر‪:‬‬
‫دجاله‪ ..‬أنا ال أعرفك‪...‬‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫وكاد يومئ ألتباعه كي يبعدوها‪ ،‬فدلقت ثديها مقضوم الحلمة ونبرت‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أتنكر‪..‬؟!‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬اصعدي‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬أشار لمرافقيه أن يلبثوا في أماكنهم‪ ،‬وساط جياد العربة‪ ،‬فراحت تنهب‬
‫األرض نحو "المسلمية"‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬انزلي‪C...‬‬
‫يقبله‪ ..‬لكنه استدار‬
‫وضمه إلى صدره‪ ،‬كاد ّ‬
‫ّ‬ ‫أخذ الصغير بيديه‪ ،‬أدار ظهره‬

‫‪- 234 -‬‬


‫سريعاً ودفعه إليها فلم تأخذه‪ .‬وضعه تحت إبطه‪ ،‬وسريعاً أطلق النار بين عينيها‪،‬‬
‫وموضع حلمة ثديها المقضومة‪ .‬سقطت فاغرة الفم ولم تخرج منه كلمة أرادت‬
‫وسدد متمتماً وقد تشنج حنكه‪:‬‬
‫قولها‪ ،‬ثم وضع الرضيع قربها‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬لن يؤمن جانبك إن كبرت‪ ،‬مادامت هذه أمك‪.‬‬
‫وأطلق‪ ...‬طفق يطلق حتى جعل من رأسيهما شيئاً مقززاً يشبه الخبيصة‪،‬‬
‫وقفل راجعاً دون أن يلتفت‪ ،‬ملهباً بسوطه ظهور الجياد فأدماها‪ ،‬ومن خلفه كانت‬
‫تحوم حاطّة فوق الجثتين‪ ،‬تضابحها الثعالب‬
‫الغربان تغطي األفق‪ ،‬والجوارح ّ‬
‫وبنات آوى‪C..‬‬
‫***‬
‫اضمح ّل أمل قمر‪ ،‬وضاقت بها األرض بما رحبت‪ ،‬حين أعاد األومباشي‬
‫عما حدث لعائلته‪ ،‬وهي في‬‫رسالتها إلى كمال‪ ،‬وتأكدت مما أخبرتها به "رقوش"‪ّ ،‬‬
‫أمها مسلولة‪ ،‬معلنة بين نسوة الزقاق‬
‫ضمتها أمه إلى العائلة‪ ،‬إثر وفاة ّ‬
‫جملتهم‪ ،‬وقد ّ‬
‫أحب الناس إلى قلبها‪،‬‬
‫الجورية قطيفة ّ‬
‫ّ‬ ‫كنتها‪ ،‬فور عودة الغالي‪ ،‬فهذه‬‫أنها ستكون ّ‬
‫لكن تدابير شيطانية غامضة أفنت العائلة‪ ،‬وذهبت بنور سراجها‪.‬‬
‫محدبة‪ ،‬تجلّت في رأس قمر أسباب شروده‬ ‫ومثل حزمة ضوء في عدسة ّ‬
‫العنابية ُعقدة لسانه‪ ،‬لجمته أمه بها‪.‬‬
‫المتعاقب‪ ،‬وعدم جزمه فيما يخصهما‪ ،‬فهذه ّ‬
‫العنابية‪..‬؟‪C.).‬‬
‫ـ ‪( :‬أَخسرته كلتانا أيتها ّ‬
‫مخيلتها وهي ترمق الفتاة‪ ،‬غير قادرة على تحديد إن كانت‬ ‫دار السؤال في ّ‬
‫غريمتها‪ ،‬أم شريكة حظها بما خبأته األيام لكلتيهما‪..‬؟!‪ ..‬لم تقنط؛ ولم تجد في‬
‫الجورية تلوثت‪ ،‬وإ ن كانت شديدة‬
‫ّ‬ ‫اإليثار موجباً‪ ،‬وال معنى النسحابها‪ ،‬فالوردة‬
‫الجاذبية‪ ،‬وأسقطها عسر االمتحان‪ ،‬فالجوع والضابط عثمان يضارعان بعضهما‬
‫جبار رائع وطاغية‪C..!..‬‬
‫قسوة‪ ،‬والحب ّ‬
‫ـ ‪ :‬أتتزوجها أيها األومباشي‪..‬؟‪ ..‬تدلّهك في القادمة من أيامك‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ولكنها‪....‬‬
‫ـ ‪ :‬تكسب ثوابها‪ .‬أو كنت بال خطيئة يا رجل‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬مريضة يا قمر‪C..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬داوها أيها الحكيم إدريس‪...‬‬
‫ـ ‪:‬ليس فيما داويت مرضاً كهذا‪ ،‬وما وقفت على مثله قط‪ .‬أليس في المدينة‬

‫‪- 235 -‬‬


‫أطباء‪..‬؟‬
‫تلحلح األومباشي ناشداً النجاة بجلده‪،‬وقال هامساً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نحن العسكر نجتاب البالد طوالً وعرضاً‪،‬فنرى العجاب‪ ،‬إنه أتاوة‬
‫الفاحشة‪ ،‬يؤدي إلى عواقب وخيمة‪...‬عدا الفضيحة‪.‬‬
‫تناهى إلى "رقوش" هذا الكالم الالسع‪ ،‬فاستبانت مآلها ومصيرها‪ ،‬ومضت‬
‫متحاملة على نفسها‪ ،‬غير عابئة بمناداتها‪ ،‬حتى وصلت القلعة‪ ،‬سارت نحوها‬
‫علوها‪ ،‬ثم هوت في خندقها‪ ،‬فتراكضت نحوها كالب ضالة‬‫ناظرة إلى أعلى ّ‬
‫ضارية‪.‬‬
‫***‬
‫ـ ‪ :‬وبعد يا قمر‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬افعلي خيراً يا أمي نور‪..‬‬
‫نزوج جلنار‪..‬؟!‬
‫ـ ‪ :‬تقصدين أن ّ‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬وأنت‪..‬؟!‪C‬‬
‫ـ ‪ :‬لن أقطع الرجاء‪..‬‬
‫ـ ‪:‬قد يطول غيابه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬إنني َجِل َدة بما فيه الكفاية‪.‬‬
‫نبت بأمر سليمان وهوريك؛ ونجد آية‪..‬‬ ‫ـ ‪ :‬ليتنا ّ‬
‫‪:‬سنبت‪ C...‬وآية ستعود‪ ،‬ال تقلقي‪ ،‬وسنجد هوريك‪..‬‬
‫ـ ّ‬
‫ـ ‪ :‬وماذا أفعل بقلقي عليك‪..‬؟!‪..‬‬
‫تصورت خيبة الغائب‪ ،‬وقد عاد ولم يجد أحداً بانتظاره‪.‬‬
‫ـ ‪:‬ستعذرينني إن ّ‬
‫ـ ‪:‬أفهمك مالكي‪..‬‬
‫ليتك ِ‬
‫كنت يا أمي‪...‬‬ ‫ـ‪ِ :‬‬
‫ـ ‪ِ :‬ل َم تُقلّب الشموس المواجع‪..‬؟!‪ C...‬صه‪ ...‬ال تزيدي حرفاً‪ ،‬ولنتابع البحث‬
‫عنهما‪ .‬أ‬
‫تعبهم البحث دون جدوى‪ ،‬ولم يقعوا لهما على ٍ‬
‫أثر‪ ،‬فال يذكر أحدهم وقت‬
‫اختفاء آية‪ ،‬فقد كانت لفتر ٍة حاضرةغائبة‪ ،‬وآخر عهدهم بهوريك‪ ،‬وقت كانت‬

‫‪- 236 -‬‬


‫ذرتهم‬
‫تحاور ذينك الشابين من قومها‪ ،‬قدما متخفيين بحثاً عن أبناء جلدتهما‪ ،‬ممن ّ‬
‫المهجرين‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ريح األهوال‪ ،‬وقذفت ببعضهم بين أوالء‬
‫حلبية‪ ،‬وأنها أوصته أن‬
‫وذكر الفتى حمزة أنها ذهبت معهما‪ C،‬متن ّكرة بمالءة ّ‬
‫للجدة نور قولها‪:‬‬
‫ينقل ّ‬
‫ـ ‪ ...( :‬وإ نك بمنزلة األم‪ ،‬وفضلك في ذمتي كبير‪ ،‬وحاشا أن أُنكر عظيم‬
‫جميلك‪ ،‬لكن ماهو أقوى مني ناداني‪ C،...‬أما الغالي سليمان فسيجد من هي أفضل‬
‫مني‪C..)..‬‬
‫أسى‪ ،‬فال أحد‬
‫وهزت رأسها ً‬
‫الجدة نور على نواجذها مغمضة العينين‪ّ ،‬‬ ‫كزت ّ‬ ‫ّ‬
‫أسبوع‪ ،‬ريثما‬
‫ٍ‬ ‫يعرف كم كبتت تألماً‪ ،‬ثم أعلنت تك ّفلها بمعيشة من يتزوج في بحر‬
‫يجد مصدر رزقه‪.‬‬
‫شعرت أنها تؤدي كفّارة‪ ،‬فالعتب عليها وحدها‪ ،‬ثم إنها تخفّف عن روحها‬
‫ضغط غلطة لم تغفرها لنفسها‪ ،‬منذ خالفت قلبها في ذاك اليوم البعيد‪ ...‬البعيد‪،‬‬
‫تلم شمل ع ّشاق وعواشق‪ّ ،‬برحهم‬ ‫وهو يأبى أن ينطوي في النسيان‪ ،‬وهاهي ّ‬
‫الجوى وسهّدتهم لقمة العيش‪ ،‬وبكت جلنار إذ ُعقد قرانها‪ ،‬إثر لوعة أوصلتها إلى‬
‫شفا هاوية‪...‬‬
‫ّأرقهم اختفاء آية وهوريك على ذاك النحو‪ ،‬وضاع ما بذلوه لتخليصهما من‬
‫ماخور النخاس في عينتاب‪ ،‬وزيد طينهم بلّة بسقوط قتيلين ممن استمرؤوا تشليح‬
‫العسكر والجندرمة‪ ،‬مما حدا بالسلطة تحميلهم تبعة ما لحق بـ"زلمها" من أذى‪ ،‬ثم‬
‫وزرتهم مصير أنفار‪ُ ،‬وجدوا مقتولين في أنحاء شتى من حواري المدينة وما‬ ‫إنها ّ‬
‫ماحصلتها خبط عشواء‪ ،‬مما تبقى لهم من‬ ‫ّ‬ ‫دية؛ سرعان‬ ‫حولها‪ ،‬فأرغمتهم على دفع ّ‬
‫البتزاز مهين‪ ،‬وفي أكثر من‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وأوان نادرة‪ ،‬وتعرضوا‬ ‫ٍ‬
‫وأسياف مفضضة‬ ‫دواب‬
‫حالة ضغطت عليهم ليدفعوا "براطيل"‪ ،‬على أنها تخفّف عنهم‪ ،‬فوقعوا ضحايا‬
‫فتنبهوا للجور الذي يخنق المدينة عاصفاً بأهلها‪ ،‬فالغالء يثقل‬ ‫ٍ‬
‫نصب واحتيال‪ّ ،‬‬
‫التغرب‪،‬‬
‫أشده‪ُ ،‬يكرههم على ّ‬ ‫الكواهل‪ ،‬والتجارة بائرة مشلولة‪ ،‬والضغط على ّ‬
‫يزور‬ ‫ٍ‬
‫مرعو‪ّ ،‬‬ ‫ومحصل األموال غير‬
‫ّ‬ ‫مخلّفين عيالهم ومن ال قوة لهم من ذويهم‪،‬‬
‫وازع‪ ،‬فتنادى ُحسباء الحارات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويقاسمهم رزقهم لكأنه شريكهم‪ C،..!..‬ينهبهم دون‬
‫وذهب الوجهاء معهم إلى سراي الوالي يلتمسون فرجة‪ ،‬فحال رجال الجندرمة‬
‫دون وصولهم إليه‪ ،‬فتسكعوا حيثما قادتهم أقدامهم في المكان ومحيطه‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أما زالت قططه تسطو على أقواتكم‪..‬؟‪C‬‬

‫‪- 237 -‬‬


‫ـ ‪ :‬أي منها تقصد‪ .‬الهررة أم‪...‬؟‬
‫وأشار إلى الجندرمة والحرس المحيطين بالمبنى‪ ،‬ثم لمحوا الضابط قائد‬
‫وهم أحدهم أن يناديه‪ ،‬واندفع‬
‫يترجل من عربته بقيافة باشا متأنق‪ّ ،‬‬
‫الحامية الجديد‪ّ ،‬‬
‫آخر نحوه‪ ،‬كأنهم وجدوا فيه حبل نجاة؛ وفي أفواههم عتب مثل الماء األجاج‪:‬‬
‫ـ ‪ ( :‬أين هي وعودك يا رجل‪..‬؟!)‪..‬‬
‫وإ ن هي إال نفثة المعاشرة على قسوتها؛ اختنقت بين الحناجر واللهوات‪،‬‬
‫الختفائه داخل المبنى بأسرع مما توقع مراقبوه‪ ،‬وما انف ّكوا يرصدون تحركاته‬
‫وتقريع‪ ،‬لعدم الدقة‬
‫ٍ‬ ‫ويتربصون به‪ ،‬فنظر بعضهم إلى بعضهم اآلخر‪ ،‬نظرة ٍ‬
‫لوم‬ ‫ّ‬
‫في تقدير الوقت‪ ،‬وارتبك خطو الحسباء والوجهاء‪ ،‬حين (انزبق) توفيق وحمزه‪،‬‬
‫وعيونهما تقدح شرراً‪ ،‬فأمسكوا بهما ودفعوهما بينهم‪ ،‬يخفونهما عن العيون‪:‬‬
‫غيكما يا ولدي ضيف اهلل؛ كي ال تثكلكما أمكما‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هس‪ ..‬كفّا عن ّ‬
‫ـ ‪ :‬واحرصوا أنتم على بحبوحة ذلنا هذا‪..‬؟!‪C..‬‬
‫وثار بينهم لغط متوتر‪ ،‬بأصوات يخنقها الخوف والحرص والحذر الشديد‪،‬‬
‫كي ال ينكشف أمرهم‪ .‬وعرف الحلبيان الراصدان‪ ،‬أن جماعتهم ليست الجماعة‬
‫تطوعت له‪ ،‬ثم حدث أن أفشل قائد الحامية خطتهم‪ ،‬حين خرج في‬ ‫الوحيدة‪ ،‬فيما ّ‬
‫رهط من مخاتير األحياء‪ ،‬وهرع إلى عربته نطاطاً مثل جندب‪ ،‬وراحت به العربة‬ ‫ٍ‬
‫مسرعة‪ ،‬يحيط بها المسلحون األشداء‪ ،‬فأسقط في يد الشاب الملثم‪ ،‬لكنه لم يعتبرها‬
‫آخر الفرص‪ ،‬متطلعاً‪ ،‬إلى فعل يجعله مثل سليمان الحلبي‪ !..‬واختلط الحسباء‬
‫بالمخاتير‪ ،‬فاكتشفّوا أن ثمة وقيعة بين الوالي وقائد الحامية‪ ،‬وفي خلوة الحسباء‬
‫والوجهاء‪ ،‬قال أحدهم‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إن صدق حدسي فاألستانة في اضطراب‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬وما الذي تتوقعه‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬مصائب تنزل على رؤوسنا‪ ،‬فما الذي تأمله ممن ينهش لحمك بحجة أنه‬
‫يحمي عظمك‪..‬؟‪C‬‬
‫ـ ‪ :‬لعلنا نفهم من شكري كنيدر‪..‬‬
‫وذهب بعضهم إلى مقر جريدة "التقدم" في محلّة "الصليبة"‪ ،‬وتفرق الباقون‬
‫يكتنفهم الضجر لغموض ما يدور‪ ،‬وتحرجهم نظرات الخيبة في عيون اآلملين‪،‬‬
‫وهون الفتى‬
‫المتسولين‪ ،‬ويخجلهم تفشي البغاء‪ ،‬فالفاقة جائحة!‪ّ C،...‬‬
‫ّ‬ ‫ويؤلمهم تزايد‬
‫عبد الجواد علي توفيق وحمزة بقوله‪:‬‬

‫‪- 238 -‬‬


‫ـ ‪ :‬هناك من صبر على ثأره أربعين سنة‪ .‬لن ننسى‪ ،‬وحسبنا أن نصبر‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬هل أصدق‪ ،‬وأنت ابن‪..‬؟‪C‬‬
‫سبة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬صدق أي نعم‪ ،‬وال أظنك قصدت ّ‬
‫ـ ‪ :‬أفدت من الحكيم إدريس‪ ،‬فهذا ليس من بدع والدك‪C...!..‬‬
‫يسرك ذلك‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أال ّ‬
‫ـ ‪ :‬ألن تعود أنت وأخوتك إلى والديك‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬بلى‪ C...‬في ٍ‬
‫وقت قريب‪ ،‬وأنتما مدعوان إلى الحفل‪.‬‬
‫وقال شكري كنيدر لضيوفه‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ C...‬اضطر السلطان إلى إصدار فرمان‪ ،‬أعلن بموجبه الدستور‪ ،‬بعدما‬
‫عطّله ثالثين سنة‪..‬‬
‫وأعاد الحكيم إدريس‪ ،‬يوم الخميس ليلة الجمعة‪ ،‬أوالد الوجيه عبد الحميد‪،‬‬
‫ممتطين أفراساً مطهمة‪ ،‬مرتدين حلالً فاخرة‪ ،‬يرافقهم صبية وفتيان؛ طافوا بهم‬
‫أنحاء الخان وما حوله‪ ،‬ودعا الوجيه حسباء األحياء‪ ،‬وأئمة المساجد المجاورة‪،‬‬
‫ومن تجدر دعوتهم كما جرت العادة‪ ،‬وأقام وليمة متواضعة وكان نعمان وصحبه‬
‫الذين يلتقيهم في بعض الغرف الملحقة بجامع زكريا‪ ،‬يشعرون بقسوة المظلمة‬
‫ووطأة المعيشة‪ ،‬يبصرون أحوال الخلق وأيديهم مغلولة‪ ،‬واعترف بعضهم‬
‫يقدمون‪ ،‬فالكالم ال يساوي الفعل‪ ،‬وغير مرة كتبوا عرائض إلى الوالي‬‫بضحالة ما ّ‬
‫والصدر األعظم‪ ،‬دون جدوى‪ ،‬أو اختلفوا على بعضها فمزقوها‪ ،‬وكادوا يقرون‬
‫وتشليح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وسطو‬ ‫فيحولون احتجاجهم ونشاط أولئك‪ ،‬من ٍ‬
‫لغو‬ ‫الزعارة‪ّ ،‬‬
‫تحالفاً مع ّ‬
‫لتلمس أوجاع البشر‪ .‬بيد أنهم ظلوا مشلولين في جملة‬‫إلى لفت انتباه أولي األمر‪ّ ،‬‬
‫المتذمرين‪ ،‬يتماحكون في ٍ‬
‫جدل عقيم‪.‬‬
‫وكان يجد عند شكري كنيدر متنفساً‪ ،‬فيقرأ ويسمع فيعرف‪ ،‬وكان يشعره أن‬
‫للكلمة المكتوبة أهمية بداية الفعل‪ ،‬وحين ذهب إليه هذه المرة‪ ،‬وجده مغموماً‬
‫بش له معتذراً‪ ،‬وأفضى له بما ع ّكر صفوهما معاً‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫دؤوب‪ّ ،‬‬ ‫منغمساً في ٍ‬
‫عمل‬
‫ـ ‪ :‬الفتاة والترقي بددتا اآلمال يا شاعرنا‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كيف‪..‬؟‪C.‬‬
‫اندسوا‬
‫ـ ‪ :‬ثمة نوع من البشر‪ ،‬عندما يمسي الشيطان عاجزاً فإنه يستعين بهم‪ّ ،‬‬
‫فيهما يا صاح‪ ،‬وحرفوا دفتيهما إلى وجهتهم‪.‬‬

‫‪- 239 -‬‬


‫ـ ‪ :‬عانينا من أمثالهم‪ ،‬فال أستغرب ما تقول‪.‬‬
‫وعاد مغموماً‪ C،‬وعند بوابة الخان خطرت له أبهى‪ ،‬وتساءل إن كان ظلمها‬
‫طرب بين الحال وشرار رأسه‪ ،‬وصادف نفراً من‬ ‫ضَ‬‫بارتباطهما‪ ،‬وهو في ُم ْ‬
‫صوفية‪ ،‬يستفسرون عمن يحاورون من نزالء الخان‪ ،‬وسبق أن‬ ‫ّ‬ ‫أصحاب طريقة‬
‫حضر جانباً من جلسات أرباب شعائر وطرق عدة‪ ،‬وأثار بعض الدراويش‬
‫اهتمامه بطمأنينتهم الداخلية‪ ،‬وغبطهم على استقرارهم الراسخ‪ ،‬وصفاء نفوسهم؛‬
‫ورضاهم عما يزاولونه في الزوايا والتكايا‪ ،‬وتوقّف طويالً مفكراً بحلقات الزار‬
‫وهم أن يدعوا‬
‫وضرب الشيش‪ ،‬ثم مالبث أن انصرف راسماً بيده عالمة حيرى‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫تعاضد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫طقس‬ ‫زمرة فتيات إلى جولة خلوية كرمى ألبهى‪ ،‬لكنه وجدهن في‬
‫الجدة نور تكاد تنسحق صامتة‪،‬‬
‫وهن يرين ّ‬ ‫ٍ‬
‫آسفات لغياب هوريك وضياع آية‪ّ ،‬‬
‫لتعاظم شعور الذنب في وجدانها‪ ،‬إذ غفلت عنهما وهاهي تعاني من تبكيت‬
‫الضمير‪.‬‬
‫مضى مضطرب المشاعر مشتت الذهن‪ ،‬وتبعه فتية‪ ،‬بينهم عبد الجواد وعمر‬
‫وحمزه‪ ،‬صعد القلعة واستدار مستطلعاً آفاق المدينة‪ ،‬فانتبه إلى الفتيان‪ .‬أخذهم‬
‫تند به شفتاه‪ ،‬ولم يتكلم كثيراً‪ ،‬الحظوا‬
‫معه جائلين في أنحائها‪ ،‬حريصين على ما ّ‬
‫اطمأنوا إلى سكينته‪ ،‬سألوه عن أقسامها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تأمله وشروده بين فينة وأخرى‪ ،‬حتى إذا‬‫ّ‬
‫ولما وجدهم تحت تأثير رؤياه‪ ،‬اقترب بهم من المكان الذي شغله فوق سواه‪ ،‬وحين‬
‫ُسئِ َل أجاب‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬إنه حبس الدم‪.‬‬
‫الدم‪.‬؟!‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬وهل ُيحبس ّ‬
‫ـ ‪ :‬يبدو ذلك‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لمه‪.‬؟‬
‫سر القالع‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لعله ّ‬
‫ـ ‪ :‬وأنت‪ ..‬ما قولك‪..‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬مرة‪ ..‬رأيت فيما يراه النائم‪ ،‬أنني في قاعة محكمة‪ ،‬وثمة من نطق بالحكم‬
‫علي حبساً كذا سنة‪ ،‬فأخذت سالح الحارس وقتلت نفسي‪ ،‬سألني ِل َم فعلت ذلك‪..‬؟!‬
‫تحمل الحبس‪.‬‬
‫أجبته ألنني ال أستطيع ّ‬
‫مطبق هيمن على الفتية حيناً‪ ،‬حتى قطعه عبد الجواد سائالً‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫صمت‬
‫ٌ‬
‫الدم هذا في (المسكوب واألستانة)‪.‬؟‪C.‬‬
‫ـ ‪ :‬أثمة ما يشبه حبس ّ‬
‫‪- 240 -‬‬
‫غرته قائالً‪:‬‬
‫وهز ّ‬
‫مسح على رأسه الفتى‪ّ ،‬‬
‫عمر‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬كبر مافي رأسك فوق عمرك‪ C..!..‬ستنال مجداً يا فتى ولن تُ ّ‬
‫وتجرأ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جنح خيال الفتى وخفق قلبه‪ ،‬احمرت وجنتاه‬
‫ـ ‪ :‬وإ نك القائل‪ :‬نختار الحياة القصيرة‪ ،‬وليبق صيتنا ذائعاً‪ ،‬دون أن نجانب‬
‫الحقيقة‪.‬‬
‫أسبل نعمان جفنيه مطرقاً ونبس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬نعم‪ ..‬نعم‪..‬‬
‫***‬
‫ردهم اللبق‬
‫وكان الرجال دماثاً في محاورة أصحاب الطريقة‪ ،‬واضحين في ّ‬
‫لردهم على من سبقهم‪:‬‬
‫على دعوة االنضمام إليهم‪ ،‬فكانت صيغة الرد مماثلة ّ‬
‫ـ ‪ :‬أحناف‪ C...‬ال نزيد وال ننقص‪ ،‬ولن نجادل من يختار‪.‬‬
‫ولما أبدى عباس رغبةَ مصاحبتهم‪ ،‬لم يلق معارضة أو تشجيعاً‪ ،‬فهم لم‬
‫يفتحوا الباب على مصراعيه‪ ،‬ولم يرتجوه باألغاليق‪.‬‬
‫وكان سليمان قد ضاق ذرعاً بأجواء الخان‪ ،‬وبما يذ ّكره بالتي غابت مثلما‬
‫فدخن‬
‫دخلت قلبه‪ ،‬دونما استئذان‪ ،‬فهرب الجئاً إلى مقهى في محلة باب النصر‪ّ ،‬‬
‫التبغ‪ ،‬وتعاطى النرجيلة‪ ،‬وراقبه والده وهو يتسلى بلعب النرد‪ ،‬فاطمأن إلى بعده‬
‫مل رتابة األيام وتشابهها‪ ،‬سئم الفراغ وضاق ذرعاً‬‫عن الشبهات‪ ،‬وهو أيضاً َّ‬
‫باضطهاده من أمه‪ ،‬وتاق مع الممتعضين من البطالة‪ ،‬إلى الزرع والضرع‪ ،‬في‬
‫المروج والروابي والسفوح‪ ،‬واالنعتاق من االختناق بين الجدران‪.‬‬
‫ٍ‬
‫موكب‪ ،‬حامالً عرض قائد الحامية‪ ،‬بأن يفتح لهم باب‬ ‫وجاءهم األومباشي في‬
‫ارتزاق يخلصهم من ذ ّل البطالة‪:‬‬
‫وألي عمل يريدنا سيدك عثمان‪..‬؟!‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ـ‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬شبه عسكر‪.‬‬
‫أخذه الحكيم إدريس ونعمان جانباً وسأاله‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أومباشي ‪ ..‬كن صادقاً‪.‬‬
‫مأمور أنا‪ ،‬لكنني ال أكذب عليكم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ ‪ :‬عبد‬
‫ـ ‪ :‬ما باطن األمور‪..‬؟!‪..‬‬
‫ردع ووجه مقبحة‪ ،‬فقد اختلفا‪ ،‬ضاريان ك ّشرا عن أنيابهما‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬يريدكم أداة ٍ‬
‫‪- 241 -‬‬
‫ثم إنه استعوق جوابهم‪ ،‬فاستفسر‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬لم أسمع رداً أحمله إليه‪.‬؟!‪C..‬‬
‫قال الوجيه عبد المجيد‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬ولن تسمع‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬وماذا أبلغه‪.‬؟‪ C.‬تعرفون طغواه‪C..!.‬‬
‫لماح‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ال تقل شيئاً‪ ،‬فتكن قد أوصلت إليه جوابنا؛ سيفهم فهو ّ‬
‫ثم سكتوا‪ ،‬فذهب األومباشي صامتاً‪ ،‬وفي رأسه جعجعة رحى الطاحون‪.‬‬
‫وطغام الوالي يقتحمون الخان‪ ،‬في موكب‬
‫وقبيل انقضاء أسبوع‪ ،‬كان عزيز ّ‬
‫وعرض خاص‪ ،‬يندرجون بموجبه في‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بأقوات وعطايا‬ ‫محملين‬
‫وتبرج‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫نعماء‬
‫خدمة الباشا مخالب خرمشه‪ ،‬فينالون مرضاته‪ ،‬ويصيبون من فضله‪.‬‬
‫سرب إلى طرف الوالي محاولة قائد الحامية معهم‪ ،‬فمنذ‬ ‫وكان األومباشي قد َّ‬
‫عاد استدرك ما فاته‪ ،‬وبدأ اللعب على حبلين‪ ،‬مقلّداً حركة المنشار‪ ،‬السيما أنه‬
‫أدرك تماماً نهاية الضابط كمال‪.‬‬
‫وقضى عزيز وقته مختاالً أمام أترابه‪ ،‬وتلطّف أمام الصبايا وأمام أمينة‬
‫غره امتداح حلّة يرفل بها‪ ،‬وهناءة واضحة على وجنتيه‪،‬‬ ‫وقريباً من جلبهار‪ ،‬وقد ّ‬
‫وأبهته‪ ،‬وفي لحظات كان ينسى نفسه خاللها‪ ،‬فيحدثهم كما لو‬ ‫حدثهم عن الباشا ّ‬ ‫ّ‬
‫كان الباشا ذاته أو نداً له‪ ،‬وتزيَّد في تبجحه التفاف الفتيات حولـه‪ ،‬وهاهي ذي‬
‫ٍ‬
‫بهمس جعلها تشهق‬ ‫وله‪ ،‬ولطالما انتظر التفاتة منها‪ ،‬فناغاها‬‫أمينة‪ ،‬ترنو إليه بِ ٍ‬
‫غبطة‪ ،‬أضفت على أنوثتها عذوبة الماء الزالل‪ ،‬وعرض عليها زواج الدخيلة في‬
‫اآلن‪ ،‬وإ نه يجيرها عند الوالي بالذات‪ ،‬ريث أن تسوى األمور وعقد القران‬
‫الجدة نور وقمر‪،‬‬
‫فشع وجهها فرحاً كأنها في حلم‪ ،‬واختفت خفراً بين ّ‬ ‫بالحالل‪ّ ،‬‬
‫الجدة نور استعجلته سائلة‪:‬‬
‫برغم أن أمه نادتها‪ ،‬لكن ّ‬
‫ـ ‪ :‬أتريد أمينة حليلة يا ولد‪..‬؟‪C.‬‬
‫الجدة المهيبة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬إذا رأيت أنني أستطيع إسعادها‪ ،‬أيتها ّ‬
‫ـ ‪ :‬إذاً قل ما وراء عرض الوالي‪..‬؟!‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬يبغي أشاوس يردعون المارق‪.‬‬
‫تسارع فتية ورجال يعلنون موافقتهم‪ ،‬لكأنها فرصة أنزلتها إليهم السماء‪،‬‬
‫ومنهم من ردد‪:‬‬

‫‪- 242 -‬‬


‫ـ ‪ :‬مكرهٌ أخاك‪...‬‬
‫تعوض‪ ،‬ليقتص ذوو القتلى من غريمهم القتول‪ ،‬ثم إنها‬ ‫وهي ذي سانحة ال ّ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫تؤمن لهم لقمة الزقوم‪.‬‬ ‫على ِّ‬
‫حد قول أحدهم‪ّ ،‬‬
‫جن الليل‪ ،‬عال صوت الح ّكاء لقمان قائالً‪:‬‬
‫وفي اجتماعهم وقت ّ‬
‫ـ ‪ :‬كالهما غول‪ ..‬فحذار‪..‬‬
‫ورد عزيز حانقاً‪:‬‬
‫وحكى لهم حكاية مناسبة‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬لقمان أيها الثرثار‪ ..‬هالّ صمت‪..‬‬
‫زجره الوجيه عبد المجيد قائالً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬بل تتأدب وتسكت أنت‪.‬‬
‫وتمتم الحكيم إدريس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وي ٌل لمن لم يتعظ بعد‪.‬‬
‫وقال نعمان بصوته الجهوري‪:‬‬
‫ـ ‪" :‬إذا قاتلوا الضبع فنحن عصاهم‪.‬‬
‫وإ ذا خافوا فنحن حماتهم‪.‬‬
‫وإ ذا انتهى عملهم فنحن كالبهم‪C.!.".‬‬
‫الجدة نور بعصاها‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫خيم الصمت والرؤوس مطرقة‪ ،‬ثم دقّت ّ‬
‫ّ‬
‫ابق معنا يا عزيز‪ ،‬وال تعد إلى حيث‬
‫ـ ‪ :‬ما قاله نعمان لألسف صحيح‪َ ،‬‬
‫فأزوجك أمينة للتو‪.‬‬
‫كنت‪ّ ،‬‬
‫ـ ‪:‬هذا شرط تعجيز‪..!..‬‬
‫أمه‪ ،‬مقسماً أال يعود إلى الخان ثانية‪ ،‬ولن‬
‫ونظر إلى نعمان شزراً‪ ،‬ثم أخذ ّ‬
‫يعرفهم بعد اآلن‪ ،‬ومضى ضارباً األرض بنزق‪.‬‬
‫أمه على‬‫غافلت جلبهار أترابها‪ ،‬ولحقت بهما خلسة‪ ،‬وهي تنظر إلى ّ‬
‫استحياء‪ ،‬ونظر إليها منجذباً‪ ،‬كأنها التعويض عما أخفق به‪ ،‬فأخذاها على عجل‪،‬‬
‫ودلفوا المسجد القريب لعقد القران‪ ،‬وكان بعض ذوي القتلى قد تبعوه‪ ،‬لكنهم‬
‫الجدة نور قبل أن يصلوا باب الخان‪ ،‬واستأنفوا جدلهم بوتيرة‬
‫تسمروا إثر صيحة ّ‬ ‫ّ‬
‫حامية‪ ،‬وما فتئت أمينة تنشج ساهدة‪.‬‬

‫‪- 243 -‬‬


**********

- 244 -
‫‪16‬‬

‫ضرب النافذة‪ ،‬فانكسر الزجاج‪ ،‬وانسحجت قبضته‪.‬‬


‫اهدأ‪..‬حري بنا أن نحافظ على مظهرنا المسالم‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫ـ ‪ :‬كاهانا‬
‫يتم باسم عثمان‪ ،‬وليس باسم‬
‫ـ ‪ :‬وأنت‪ ..‬احذر الخلط في وعظك‪ ،‬فذلك ُّ‬
‫والبد من قتله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أحد‪،‬‬
‫كاهانا‪ .‬لن يفطن إليكم ٌ‬
‫ـ ‪:‬سيحصل‪ .‬إنما ليس بطريقتك في غضبك هذا‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬وكيف إذاً‪..‬؟!‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬القتل هو القتل‪ ..‬اهدأ وتذ ّكر معي غرامه بـ"عثليا"ـ وداد خانم ـ‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬مخلصة ال ُينكر إخالصها‪..!..‬‬
‫مغفور ذنبك سلفاً‪ ،‬ستقضين ليلة مع الوالي أو ليلتين‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ ‪ :‬عثليا ‪ ..‬تعالي‪،‬‬
‫تسقينه دم الحيض مع شراب يفضله‪ ،‬فيموت الحقاً‪ ،‬أو ال يتعافى أبداً‪ ...‬هه‪...‬‬
‫وماذا بعد يا كاهانا العزيز‪..‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أرض البادية‪..‬‬
‫"طوبناها" باسم اسحق وابنتيه‪ ،‬ونبني عليها نواة قريتنا‪ ،‬لكننا احترنا فيما‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫نسميها‪.‬‬
‫ـ ‪" :‬القرباطية"‪ .‬فليكن هذا اسمها‪.‬‬
‫وتخيل أن يكون فيها ماخور وحانة وأنموذج مرصد‪ ،‬وخازوق ومفسدة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فالزمن يهدر قادماً ال محالة‪ ،‬ومن ال يذهب إليه‪ ،‬حكم على جدواه وأداً بكثبان‬
‫األيام ذات الظالل القاتمة‪ ،‬وكان يشتمهم بقوله‪" :‬سيكان ـ قرباط" ليكسر حدة‬
‫إحباطه من هشاشة جذور انتمائه‪ ،‬ولطالما ّأرقه أن يتكرر في أضغاث أحالمه‪ ،‬أنه‬
‫يسبح في ٍ‬
‫ماء ال يجد فيه غير األشنيات‪..!!..‬‬

‫‪- 245 -‬‬


‫محبة وردية‪ ،‬ولرغبة‬ ‫ٍ‬
‫بكريات ّ‬ ‫ويسبهم غيرة من نقاء دمائهم ودفئها‪ ،‬غنية‬
‫ّ‬
‫غائرة في أعماقه‪ ،‬أن يقضوا حياة ال تعرف استقراراً‪ ،‬نكاية بشعوب األرض‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بصلة‪ ،‬ولتتن ّكر لسواهم األصقاع‪ ،‬فال‬ ‫ألمه‬
‫يمتون ّ‬‫حاشا من هم فوق الخليقة ممن ّ‬
‫يحرثون‪ ،‬وال يأنسون داراً‪ ،‬يردمون موتاهم حيثما كان‪ ،‬يوهنهم الجوع‪ ،‬ويجفّفهم‬
‫العطش وتقتلهم األوبئة‪ ،‬يسكنهم الخوف دائماً‪ ،‬ويمحق الهول ماء ظهورهم‪،‬‬
‫وتتقصف فروعهم كالحطب‪ ،‬ويذروهم الهواء الغاضب مع غبار البوادي‪ ،‬فيذهب‬
‫بهم كما ذهب بالرومان‪ ،‬وبما كان لعمر بن عبد العزيز حين اتخذ تلك البقعة‬
‫حجر هائل من‬‫محطة له‪ ،‬ويتمنى أال يعرفوا ما تركه الرومان منقوشاً على ٍ‬
‫البازلت‪ ،‬وقد أبرزوه بأزاميل مبدعين‪:‬‬
‫وعمروا‪ ..‬يا من تحلّون في هذه‬
‫وعمرنا‪ ،‬فابنوا ّ‬
‫ـ ‪( :‬مررنا من ههنا فبنينا ّ‬
‫الديرة من بعدنا‪.).‬‬
‫يريد لهم أن تعصف بهم النوائب‪ ،‬فإن ماألتهم األيام‪ ،‬فليعيشوا كخنافس جبل‬
‫ترتو من ٍ‬
‫ماء أبداً‪ ،‬فهي جافة متخ ّشبة يابسة ال‬ ‫األحص‪ ،‬حشرات سوداء قميئة‪ ،‬لم ِ‬
‫ردهم عليه‪ ،‬ويالإلهانة من صمت مقصود‪،‬‬ ‫طراوة فيها‪ ،‬وكان قاسياً عدم ّ‬
‫ويالطيور البطريق الثلجية؛ وطاقتها على صبر صموت ال يجارى‪..!!..‬‬
‫الب َّؤس‪.‬؟‪ .‬أهي الجبال الصقيعية وكمون الخليقة في فصلها‬
‫من علّم أولئك ُ‬
‫الشتوي الطو‪ C...‬يل‪...‬؟!‪ ..‬أم هي الخبرة المكثّفة في المالحم واألساطير‬
‫(الضاربة في األزل)؟!‪C..‬‬
‫الجدة نور‪ ...‬تلك الشجرة المتج ّذرة المتشعبة‪..‬؟!‪..‬‬
‫أم أنهم تعلّموا من أمثال ّ‬
‫بقو ٍة‪ ،‬أمثال إدريس ونعمان وقمر ولقمان‪.‬؟‪C..‬‬
‫متفرعة ّ‬ ‫ٍ‬
‫أغصان ّ‬ ‫أم من‬
‫ـ ‪( :‬تراني خلعت عليهم أسماء كي أمسخهم‪ ،‬فإذا بهم يتمثّلونها ويعملون‬
‫بإيحائها‪.‬؟!‪ ..‬أكان األجدى أن أتركهم بأسماء حددها لهم السلطان‪.‬؟!‪ C..‬أم كان‬
‫المتنورين على تلك الهضبة‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ّ‬ ‫غباء عدم إبادتهم مع أولئك‬
‫ً‬
‫تباً لك في مرقدك يا ألكسندر األبرص‪ ،‬لو أنك أشرت أو همست‪ ...!!!.‬أما‬
‫كنا قدرةً وقدراً والتهمة كانت جاهزة‪.‬؟‪ .‬ومن بدأ اللعبة بتسعة قتلى‪ ،‬سه ٌل عليه‬
‫يعد تسعة وتسعين أخر‪ .‬الصمت يا ألكسندر‪ ..‬أتعرفه‪ ..‬قل لي كيف ُيقهر‪.‬؟!‪C..‬‬ ‫أن ّ‬
‫أحد من ٍ‬
‫سيف وأمضى من طلقة‪C..))..!!..‬‬ ‫وهو ّ‬
‫المتضور‬
‫ّ‬ ‫حيره كيف ال يخطف‬
‫ردهم على فرصة أتاحها لهم‪ّ ،‬‬
‫صعقه عدم ّ‬
‫يقض مضجع‬ ‫ٍ‬ ‫لقمة م ّدت إليه‪ .!.‬أتاح لهم أن يكونوا حوله مثل ٍ‬
‫كالب مرهوبة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬

‫‪- 246 -‬‬


‫الوالي بهم‪ ،‬ويلهب ظهر المدينة ببأسهم‪ ،‬يطلقهم في أثر الوالي مثل كالب الصيد‬
‫تصدوا لجالوزة طاغية‬
‫السلوقية‪ ،‬ويمسون في أعين أهل المدينة (قبضايات) ّ‬
‫األستانة‪ ،‬لكنهم "قرباط ـ سيكان"‪ ،‬وهذا أس الكالم‪ .‬العمى‪ C.!!.‬الهذا ِّ‬
‫الحد شدهوا‬
‫األمي الجلف‪.‬؟!‪C.‬‬
‫ّ‬ ‫بدعوة الراعي‬
‫ربما‪..‬أو ليس جلّهم رعاة جلفاء‪.‬؟!‪C..‬‬
‫لم تهدأ نفسه وأجيج غيظه‪ ،‬لكنه نفَّس عن كبته الغضب‪ ،‬وإ ال لتخلخل قحف‬
‫رأسه‪ ،‬ثم إن رسول "نتيفا" خفّف عنه‪ ،‬وأسعدته إشارتها إلى أنهم يأكلون‬
‫أن خمساً من‬ ‫ب كتفيه ألخبارهم‪ ،‬وطمأنته ّ‬ ‫وقب َ‬
‫الزيتون‪ C.!.‬لكنه قلب شفته‪ّ ،‬‬
‫وأن‬
‫عوضن فقداء الطريق‪ ،‬فوضعن خمسة مواليد‪ ،‬هم أول المباركين‪ّ ،‬‬ ‫المخلصات ّ‬
‫بعض المتنفّذين في الطريق أظهروا تعففاً‪ ،‬وبعضهم كانوا شديدي الشبق‪ ،‬وأن‬
‫ق وعناية‬ ‫ٍ‬
‫بعطف فائ ٍ‬ ‫ويحظون‬ ‫ٍ‬
‫صدور مدرارة‪....!..‬‬ ‫المواليد الخمسة ينمون على‬
‫ْ‬
‫كل منهم أن أحدهم قد يكون ابنه‪C..!..‬‬‫ذكور كثر‪ ،‬يخالج ٌّ‬
‫كبيرة من ٍ‬
‫أمه‪ !..‬فال يسكت‬ ‫َّ‬
‫ـ ‪( :‬ولعل أحدهم يشبهك‪ ،‬عدا عن أنه شديد التعلّق بصدر ّ‬
‫إال به‪...)!!..‬‬
‫اختلى بنفسه ولم ينم ليلته تلك‪ ..‬تحلل من كل ٍ‬
‫قيد ومهمة‪َّ ،‬‬
‫وظل يغني إلى أن‬
‫ِ‬
‫دوخه السهر‪ ،‬وداهمه الصبح على حين غ َّرة‪.‬‬
‫كفتى غرير ّ‬
‫صفا رأسه‪ ،‬فغفا ً‬
‫***‬
‫وأرقه تهريب أمواله وشغله‬ ‫َّ‬
‫وظل الوالي يتابع أخبار األستانة‪ ..‬جافاه النوم ّ‬
‫خف وزنه وغال ثمنه‪ ،‬وحرص على تفويت ما أمكن على‬ ‫تحويل ما جناه إلى ما َّ‬
‫سخية‪ ،‬وأمضى رمضان‬ ‫فتقرب من الناس‪ ،‬وبذل وعوداً ّ‬ ‫شريك األمس عثمان‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫إفطار على مدار‬ ‫ورعاً‪ ،‬يصلي العشاء والتراويح في جامع زكريا‪ ،‬وأمر بمائدة‬
‫الشهر لمئات األفواه‪ ،‬وحبس قططه في القفص‪ ،‬وأرجأ تحصيل األموال‪ ،‬وجعل‬
‫ووجه (الجندرمة) إلى‬
‫بعض المحابيس في خدمته‪ ،‬فكسب والءهم وتأييد ذويهم‪ّ ،‬‬
‫وصب جام اهتمامه على مراقبة "القشلة"‪ ،‬وذهب إلى بعض‬ ‫َّ‬ ‫التخفيف عن الناس‪،‬‬
‫مهجرين‬
‫ضواحي المدينة‪ ،‬فأنهى مشكلة عقّدتها ـ من قبل ـ تعليماته‪ ،‬بين فئتين من ّ‬
‫كأنه‬
‫ومقيمين‪ ،‬وطفق يبدي وداً لشيوخ العشائر ورؤساء القبائل وزعماء األحياء‪ّ ،‬‬
‫تجبر يوماً!‪ C..‬ملقياً المالمة على كاهل قائد الحامية‪ ،‬وكانت‬
‫ما ظلم أحداً وال ّ‬
‫تنم عن نفسها‪ ،‬وما من دخان بال ٍ‬
‫نار‪ ،‬فالمدينة قبلة الوافدين من شتى‬ ‫الشائعات ّ‬
‫األصقاع‪ ،‬وعلى رأسها األستانة‪ ،‬والناس بين مشدو ٍه ومك ّذب‪ ،‬ومن ذا الذي يصدق‬
‫أن جاللة الملك األعظم‪ ،‬في الدولة العظمى‪ ،‬قد استدان وأنه مفلس‪..‬؟!‪ C..‬وهو‬

‫‪- 247 -‬‬


‫ركن السلطنة‪ ،‬وعماد المملكة‪ ،‬السيف القاطع‪ ،‬والنجم الساطع‪ ،‬سيد البرين‬
‫وغرة الغربين و‪!...‬؟‪C...!.‬‬
‫درة الشرقين ّ‬ ‫والبحرين‪ّ ،‬‬
‫وشكري كنيدر نشطٌ‪ ،‬ال يتوانى عن نشر ما يعلم به‪ ،‬إن لم تمنعه إحدى‬
‫قوتين باتتا تتنازعان التصرف بالمدينة‪ُ ،‬يضطهد وتُحجز نسخ الصحيفة إن ورد نبأ‬
‫ال يعجب أحد الطرفين‪ ،‬برغم ّأنهما ال يعرفان تماماً كفة من منهما سترجح‪،‬‬
‫وبرغم أن كالً منهما يدرك بيقين‪ ،‬أن نهايته مرهونة ببقاء اآلخر‪ ،‬فالمكان قد ضاق‬
‫بهما‪ ،‬ولم يعد فيه متسع لكليهما معاً‪ ،‬فالخطط نضجت وتتهيأ لتعطي أكلها‪ ،‬تأخذ‬
‫بآمال الضابط عثمان إلى أقصى مداها‪ ،‬وتجعله يكاد يلمس مكانه بين أمثاله ‪ ،‬في‬
‫السدة‪ ،‬فهم الحكام وهم الظالّم‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منهم سلطان زمانه‪ ،‬وإ نهم‬ ‫تتسنم ّ‬
‫كوكبة ّ‬
‫يمرغون خطم البعير في الرمل‪ ،‬ليكون لهم الجمل بما حمل‪ ،‬حلم كبير يبدو شبيهاً‬ ‫ّ‬
‫بالسراب‪ ،‬وإ نهم حين بدؤوا‪ ،‬حذفوا مفردات محددة‪ ،‬وعلى رأسها ـ االستحالة ـ وإ ال‬
‫أحق بها‪،‬‬
‫تركة المعضول‪ ،‬وهم يرون أنهم ّ‬ ‫كيف يتحقق الحلم‪ ،‬ولمن يتركون ِ‬
‫يعجلون بوضع ٍّ‬
‫حد لتباريحه‪C..!..‬‬ ‫ورأفة به فإنهم ّ‬
‫بينما يتمنى الوالي أن يدوم العهد؛ وإ ن فني الخلق‪ .‬وكان يحدس‪:‬‬
‫ٍ‬
‫راض‪ ،‬وإ نني تابعك‪ ...‬أدامك‬ ‫شرابة ـ في خرج دابتك‪ ،‬فأنا‬
‫ـ ‪( :‬وإ ن كنت ـ ّ‬
‫اهلل‪ C...‬آمين‪C.).‬‬
‫صدق‪،‬‬
‫أحس بالعطب وال يريد أن ُي ّ‬ ‫مرعوب ترتجف روحه‪ ،‬ال يظهر خوفه‪َّ ،‬‬
‫متشبث بأظافره وأسنانه‪ ،‬حتى الرمق األخير؛ يهرب إلى أمام‪ ،‬كأن شيئاً ال‬
‫يحدث‪ ،‬فحرث حارات المدينة بجوالت اعتباطية‪ ،‬ولسانه يكاد ال يستقر في فمه‪،‬‬
‫ودب‪ ،‬دؤوب الحركة ال يركن في مكان‪.‬‬ ‫هب َّ‬
‫وال تستقر يده إلى جنبه‪ ،‬يصافح َم ْن َّ‬
‫يوجه موكبه إلى‬‫ناس؛ لم يأذن لهم أن يقابلوه من قبل‪ .‬وهاهو فجأة ّ‬
‫دخل بيوت أ ٍ‬
‫خان الصابون‪ ،‬واستأذن بدماثة أن يكون نزيلهم ريث يستريح‪ ،‬فقد أرهقه‬
‫ردوه خائباً‪ ،‬ولم يعاتبهم‬
‫التطواف‪ ،‬وله عندهم مطلب‪ ،‬ولم يذكر عزيزاً وكيف ّ‬
‫لردهم هديته وأعطياته‪ ،‬وسأل عن الحكيم إدريس والجدة نور ونعمان‪ ،‬وعيناه‬ ‫ّ‬
‫تجوالن في وقبيهما باحثين منقّبتين هنا وهناك‪ ،‬وما فتئ يجامل الوجهاء‪ ،‬ويالطف‬
‫الرجال‪ ،‬فشرب شاي السماور‪ ،‬وطلب خبزاً وملحاً‪ ،‬فغمس قطعة في الملح‬
‫تقرب منهم بقدر ما يستطيع‪ ،‬لكنه يطمع أن يكون أكثر‬ ‫ومضغها‪ ،‬وأعلن أنه بذا ّ‬
‫قرباً‪ ،‬ناور ثم قذف إليهم بطعم ال يقاوم‪ ،‬فخمسة من أوالدهم يدرسون في‬
‫"الخسرفية" والمدرسة العثمانية الدينية‪ ،‬على نفقته الخاصة‪ ،‬ويقبل بمن يز ّكيهم‬
‫الشيخ اإلمام‪ ،‬وأبدى توقاً لسماع تالوة من آي الذكر الحكيم‪ ،‬من الفتى عمر بن‬

‫‪- 248 -‬‬


‫الحكيم إدريس‪ ،‬أطرق منصتاً‪ ،‬وأفاض من مآقيه دمع تقوى وورع‪ ..!..‬ثم همس‬
‫سائالً عمن عساه يخاطب‪ ،‬والوجوه من حوله َسمحة‪ ،‬يحار المرء بينها وكلها‬
‫رزينة‪..!.‬‬
‫عدنا من بيت واحد تعددت غرفه‪ ،‬كبيرنا يسمعك‪ ،‬وصغيرنا منصت‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫إليك‪..‬‬
‫أزفت لحظة االندفاع هرباً إلى أمام‪ ،‬وال مناص من إزاحة الوشي والنمنمة‪،‬‬
‫وهاهي ذي غايته بادية‪ ،‬مثل دودة تحرر نفسها من ٍ‬
‫قز أفرزته ناعماً حولها‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬جئت أناسبكم‪ ..‬طالباً القرب منكم‪..‬‬
‫ران صمت مباغت‪ ،‬فالكالم ّأز في اآلذان‪ ،‬ودقّت قلوب عذارى خفّاقة‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬فمن أكلّم بشأنها‪.‬؟‬
‫ـ ‪ :‬من تقصد يا باشا‪.‬؟‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ذات العفاف قمر‪.‬‬
‫التفت الوجيه عبد المجيد نحو الوجيه عبد الحميد‪ ،‬وأشار الشيخ اإلمام ناحية‬
‫الجدة نور‪ ،‬فخاطبهما وانتظر جوابهما‪.‬‬
‫ّ‬
‫ـ ‪ :‬ال زواج عندنا دون قبول العروس يا باشا‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬سالها‪.‬‬
‫لم يمهلهم وبدا ملحاحاً؛ برماً بالمدة التي طلبها الوجيه الستمزاج الرأي‪،‬‬
‫وبرغم إصراره‪ ،‬وجد نفسه ينصاع لتمسكهم بتقاليد لها مكانة الشرائع‪ ،‬وغادر‬
‫ح إلى أنه سيكون صهراً نافعاً؛ مبدياً أسفه‬
‫راضخاً‪ ،‬إال أنه أوحى بتلهّفه؛ ولمَّ َ‬
‫شبانهم واإلفادة منها‪ ،‬وجعل في‬‫وامتعاضه ألوضاعهم‪ ،‬ولم تفته اإلشادة بطاقات ّ‬
‫كالمه إشارات إلى منفعة يبذلها لهم إن هم أحسنوا إجابة طلبه‪ ،‬وأمضى الطريق‬
‫يحدس معلالً حسن رأيه وصوابه‪:‬‬
‫ـ ‪( :‬بلى‪ C..‬وإ ن كنت مزواجاً‪ ،‬فهذه مختلفة‪ ،‬وبها تصيب مرامين‪ ،‬تنعشك‬
‫فتجدد شبابك وتنسيك همك‪ ،‬سيد أنت معها وباشا ما حييتما‪ ،‬تبدد‬
‫غمتك ّ‬‫وتجلو ّ‬
‫حرمانها وعوزها‪ ،‬فال تنسى فضلك وجميلك؛ السيما أنك ستنتشل ناسها من‬
‫بطالتهم‪ ،‬يبلعون الطعم ويقولون صهرنا أفادنا‪ ،‬فتضرب حولك سوراً من رجالٍ‬
‫تمرسوا القتال‪ ،‬لن ينفروا فابنتهم في فراشك‪ ،‬تدفع عنك سوء الظن إن وسوس في‬ ‫ّ‬
‫صدورهم شك‪ ،‬إنك تستخدمهم درعا‪ ،‬فتردع بهم ذاك األرعن‪ ،‬فيرضخ لك‪،‬‬
‫وتقدر األستانة صنيعك‪ ،‬ويأتيك‬
‫وتعيده إلى حظيرة اإلذعان ذليالً‪ ،‬فتتعزز مكانتك‪ّ ،‬‬
‫‪- 249 -‬‬
‫تجديد الوالية‪..).‬‬
‫***‬
‫الجدة نور عن بيان ما يدور في خلدها‪ ،‬بل إنها اعتكفت جانباً ال تكلّم‬
‫أحجمت ّ‬
‫تطور األمر‪ ،‬ولم يعد‬ ‫أحداً‪ ،‬برغم محاوالت إدريس ونعمان االستئناس برأيها‪ ،‬فقد ّ‬
‫أحد إال وجد جانباً يعنيه من شأن قمر ‪!.‬‬‫يعني قمراً وحدها‪ ،‬فالجدل محتدم‪ ،‬ومامن ٍ‬
‫حرة في أن تقول كلمتها‪C...!..‬‬
‫كأنها ليست ّ‬
‫إن رفضت حاججوها ّأنها تحول دون عمل موعود ينقذهم من سوء حالهم‪،‬‬
‫وإ ن قبلت تكون قد باعتهم وذهبت إلى من لم يلتفت إليهم‪ ،‬إال لينال امرأة منهم‪ ،‬ألم‬
‫يقل لقمان َّ‬
‫أن كليهما غول‪..‬؟!‪C...‬‬
‫وجاء عزيز غير مر ٍة‪ ،‬يطلب ّ‬
‫الرد لسيده‪ ،‬وقمر حرون‪C..!..‬‬
‫ـ ‪ :‬هذا باشا يا قمر‪..!.‬‬
‫وتمنعك‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لن يصبر طويالً على دالالك ّ‬
‫أمر ليس بقليل‪!..‬‬
‫مكرمة‪ .‬قمر خانم حرم الباشا‪ٌ ،‬‬
‫ـ ‪ :‬تعيشين ّ‬
‫ـ ‪ :‬يجد شبابنا عمالً فيتيسر زواج صاحباتك‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أتنسين ذلنا وقتالنا يا قمر؛ وهو أحد رؤوس التنين‪.‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬كيف ينظر أهل المدينة إلينا‪ ،‬وبنتنا في "حرملك" جالدهم‪.‬؟!‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬طال األمد يا قمر ‪ ..‬سينصرف عنك فتندمين‪.‬‬
‫شر انتقام‪.‬‬ ‫ـ ‪:‬إن ِ‬
‫قبلت؛ ثم رجحت كفة عثمان‪ ،‬سينتقم منا َّ‬
‫ـ ‪ :‬كمال ليس ٍ‬
‫بعائد يا قمر ‪C.!..‬‬
‫ـ ‪ :‬مقطوعة من شجرة يا مسكينة‪ ،‬وإ نك تكبرين‪C.!..‬‬
‫تصدع رأسي‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أبتاه‪ ..‬أيها الوجيه عبد الحميد‪ .‬أنقذني من ّ‬
‫ـ ‪ :‬أخشى أن أظلمك‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬أبتاه قل شيئاً‪ ...‬الصمت مرير‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬زواجك فيه منافع لنا جميعاً‪ ،‬وقد يضرنا‪ ،‬وال أدري‪..‬‬
‫جلست قربها ووضعت رأسها على الصدر الحنون‪ ،‬وهمست سائلة‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬أمي‪ ..‬ابنتك في عذاب قاتل‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬لوال أبهى لكان نعمان أجدرهم بك‪..‬إنما‪..!..‬‬

‫‪- 250 -‬‬


‫ـ ‪ :‬وكمال يا أمي‪..‬؟!‪..‬‬
‫سقطت على جبينها دمعتان بدفء حبة القلب‪ ،‬من تينك العينين الصادقتين‪،‬‬
‫للجدة نور دمعة من قبل‪ ،‬بيد أنهما ها هما كلؤلؤ‬
‫مصدقة‪ ،‬فهي لم َتر ّ‬
‫ّ‬ ‫لمستهما غير‬
‫فهبت بجلجلة مثل شجرة رمان كثيرة الجلنار‪،‬‬‫حقيقي‪ ،‬ومثل ماء السماء‪ّ ..!.‬‬
‫هزتها ريح مفاجئة‪ ،‬فوحوحت وهرعت؛ وفي رأسها ضجيج مآسي المسير‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫صدرها مناحة وعويل‪ ،‬واندفق الدم في كيانها‪ ،‬لكأنه هدير سيل؛ يجرف وجع‬
‫الروح والحب الحزين‪.‬‬
‫واعترض الفتى حمزة طريقها‪ .‬لم يتكلم برغم أنه علىحافة االنفجار‪ ،‬سألته‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬وأنت‪ ..‬ما قولك‪..‬؟‬
‫بكاء غامضاً صعب التفسير‪ .‬ربتت على ظهره‪ ،‬ونادت‪:‬‬
‫انفجر باكياً ً‬
‫ـ ‪ :‬نعمان‪ ...‬أيها الحكيم إدريس‪ ،‬رافقاني إلى الوالي‪.‬‬
‫شيعوها وقوفاً وعيونهم شبه أعين‬‫عراه الخريف‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫كشجر ّ‬ ‫تسمروا في أماكنهم‬
‫الصقور‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬باشا‪ ...‬إنني موافقة‪...‬‬
‫ـ ‪ :‬حقاً‪C..!!..‬‬
‫ـ ‪ :‬بشرط‪.‬‬
‫ـ ‪ :‬ذهب أم أرض أم ملك‪..‬؟!‪C..‬‬
‫ـ ‪ :‬رأس الضابط عثمان‪..‬‬
‫ـ ‪ :‬ذلك ليس شرطك‪ ،‬إنما هديتي لك‪ ،‬فلنتحالف لتحقيق ذلك‪..‬‬
‫حاو‪ ،‬وازداد إصراراً على المجابهة‪،‬‬‫حدثوه بماجرى‪ ،‬فأيقن أنه كان لعبة بيد ٍ‬‫ّ‬
‫بادئاً بما يمكن تداركه‪ ،‬وحاول الوقوف على حقيقة الوضع في األستانة‪ ،‬لكنه‬
‫فوجئ بالسبل مسدودة في وجهه‪ ،‬ولم يوفّر جهداً إلقناع قمر‪ ،‬فاألمر يستلزم أسلحة‬
‫متمسكة بمطلبها‪ ،‬فاستشاط غضباً‪ ،‬وكاد يهدد ويتوعد‪ ،‬بيد أنه‬
‫ّ‬ ‫الرجال‪ ،‬فوجدها‬
‫كبت غيظه والنار تلسعه‪ ،‬وصمم أن ينالها‪ ،‬ورأس الثعبان عثمان بين براثن‬
‫ودهم‪ ،‬فلم‬
‫قططه‪ ،‬ومضى يؤلّب الحسباء وشيوخ العشائر على غريمه وينشد ّ‬
‫يحصد غيرما زرع‪C..‍..‬‬
‫***‬
‫أتته الخانم أمه متوتّرة‪ ،‬لعلها تجد تفسيراً لما ح ّل بها‪ ،‬فاستشفّت ماال تريد‬

‫‪- 251 -‬‬


‫وأنى لها أن تفصح وفي فمها ماء علقم‪ ،‬والمستحيل ذاته هو أن تتكلم‪،‬‬
‫تصديقه‪ّ ،‬‬
‫فقفلت راجعة وحنقها يخنقها‪ ،‬وقد فقدت أُلهيتها والذهب والمجوهرات وترياق‬
‫الجسد‪...!‍‍..‬‬
‫ثم إنه وجد الناس في بلبلة‪ ،‬فاستبسل كي يمنع غراب البين أن يحطّ على‬
‫خمن وإ ن لم يتأكد‪ ،‬فباءت محاوالته‬
‫السارية‪ ،‬ولم يأ ُل جهداً إلخطار قصر يلدز بما ّ‬
‫أن األمر كان مقضياً‪ .‬استنجد واستغاث وال مغيث‪،‬‬ ‫بالفشل‪ ،‬وهو ال يدري ّ‬
‫وازدادت حمى االندفاع هرباً إلى أمام‪ ،‬متغاضياً عن دخان النار ولو إلى حين‪،‬‬
‫يلح أن توافق قمر ‪ ،‬ولها ماتشاء مما في يمناه ويسراه‪ ،‬فوجدها أشد‬
‫وطفق ّ‬
‫سراً إلى‬
‫إصراراً‪ ،‬قاطعة دابر المساومة‪ ،‬وحين تأكد له أن قائد الحامية غادر ّ‬
‫األستانة‪ ،‬اغرورقت عيناه بدمع القهر فاقترب منها وهمس‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬فات األوان‪.‬‬
‫ومضى ينوء باإلخفاق‪ ،‬باذالً قصارى طاقته كي يبدو متماسكاً‪ ،‬وفي قرارته‪،‬‬
‫أحس أنه كتلة خيبة تتدحرج كيفما اتفق‪ ،‬ولم يهن عليه أن تراه مغلوباً‪ ،‬فأمر‬
‫بنزوحهم عن المدينة إلى خناصرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬هناك في جوف البادية‪،‬‬
‫حيث ثمة قرية تنتظرهم‪ ،‬وقد بنيت على دوارس وأنقاض‪ُ ،‬وجدت في بعض‬
‫لفوهاتها‪.‬‬
‫بؤرها ست خرزات على أعماق مختلفة ّ‬
‫فهده التعب‪ ،‬لكن صلفه لم يهجعه مستسلماً‪ ،‬فاندفع‬
‫وأرقه ضعفه وقلة حيلته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫هارباً ـ مرة أخرى ـ إلى أمام‪ ،‬فوجد راحة عند الخانم وداد‪ ،‬وفي الوقت الذي كانت‬
‫فيه هوريك وعصبتها في أثر الضابط عثمان‪ ،‬كانت وداد تسقي الباشا شرابه‬
‫المفضل!‪C..‬‬
‫ّ‬
‫***‬

‫حين قطعت القافلة تخوم قرية السفيرة؛ موغلة في دربها ما بين أقدام الجبل‬
‫الجدة نور ترتعش مرددة‪:‬‬
‫وأطراف مملحة الجبول‪ ،‬كانت ّ‬

‫نتزنر بجذورنا كالشجر‪..‬‬


‫ـ ‪ :‬عثمان‪ ...‬أيها الباغي‪ C..‬نحن لن ُنقهر‪ ،‬ولسوف ّ‬
‫ينضد حروف خبر خلع السلطان‬
‫وكان شكري كنيدر في مطبعة صحيفته‪ّ ،‬‬
‫عبد الحميد‪ ،‬وبدء عهد يكتنفه الغموض!‪...‬‬
‫ونهر الذهب يدفق المزيد من مائه العذب‪ ،‬فيزداد امتداد جسد بحيرة‬

‫‪- 252 -‬‬


‫المملحة‪ ،‬وتلك جنباتها فاضت على السبخة‪ ،‬تغمرها بماء أُجاج‪ ،‬مثل ملوحة ذاك‬
‫البحر المغلق في أرض الزيتون‪ ،‬فيمتد ماء البحيرة في سبختها‪ ،‬ليغمر حضيض‬
‫جبل األحص عند موقع ((مط ْكعة الجحاش))‪ C،‬وذاك هو رابض على صدر الفالة‪،‬‬
‫كجثة مخلوق أسطوري‪ ،‬قتلته غضبة بركان نفث ما في جوفه ثم استكان‪.‬‬
‫وحين استقبلتهم حجارة سود عند أطراف الجبل‪ ،‬وبدأت دوابهم تطحر‬
‫أحس بمن‬ ‫ٍ‬ ‫وحفر ٍ‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وتزحر من وعور ٍة‬
‫وحجر‪ ،‬كان الضابط عثمان قد ّ‬ ‫وماء‬ ‫ووحل‬
‫يودع الشاعر نعمان؛ في طريقه للقاء الشيخ سيد‬
‫يتعقّبه‪ ،‬وكان شكري كنيدر ّ‬
‫درويش‪ ،‬القادم بجوقته من المحروسة مصر إلى ّبر الشام‪ ،‬وقد أودع أبهى في‬
‫الجدة نور ريث أن يعود؛ أو يأتي ليأخذها معه إلى أرض الكنانة‪.‬‬
‫كنف ّ‬
‫ولما خاضت القافلة في السبخة إلى منتصف المسافة‪ ،‬كان إسحق وابنتاه‬
‫يتعقبونها في طريقهم إلى "القرباطية"‪ ،‬تراود (زليخة وهاجر) هواجس وأحالم‪،‬‬
‫مخافة إخفاق وأمالً بتحقيق المهمة‪ ،‬فتبدو لهما سهلة بقدر ماهي من صعوبة‪،‬‬
‫يحدوهما طمع جعلهما تتطلعان إلى مكانة مرموقة بين جنود "يهوه"‪ ،‬فيما إسحق‬
‫يشنف أذنيه مستغرباً صياح ٍ‬
‫ديك في هذا المكان‪ ،‬وقت انتصاف النهار‪C!!..‬‬ ‫ّ‬
‫بصياح كالنحيب‪ ،‬ثم قفز وجرى‬
‫ٍ‬ ‫وقف الديك على ظهر بغل العربة‪ ،‬واستمر‬
‫تطيرت قمر فرفعت‬ ‫ّ‬ ‫الغريق‪،‬‬ ‫الماء‬ ‫يتخبط في الوحل موغالً في السبخة‪ ،‬داخالً في‬
‫ّ‬
‫هدب ثوبها راكضة خلفه‪ ،‬باذلة طاقتها إلنقاذه‪ ،‬لكنه استسبسل في االبتعاد إلى‬
‫عرض الماء‪ ،‬ومازال يكافح نحو اللج‪ ،‬وما برح يطلق صياحاً كما لم يفعل من‬
‫قبل‪ ،‬وقمر تركض وتقع وتتخبط‪ ،‬وهو يبتعد‪ ،‬ثم أخذ الماء يغمره‪ ،‬ولم يعد يظهر‬
‫منه غير رأسه‪ ،‬فصاح صيحة كالنعيب‪ ،‬وغطس إالّ عرفه‪ ،‬وحين أدركته كانت‬
‫حوصلته قد امتألت بالماء المالح‪ ،‬وعادت به جثة وقد لوى رقبته‪ ،‬ونفق‪ ،‬وخاض‬
‫إليها حمزة يساعدها‪ ،‬فتقتلع قدميها من الوحل واحدة إثر واحدة‪ ،‬وحين خرجا كان‬
‫أبح خلخل هواء‬‫وخبر ٌّ‬
‫ترجلوا خائضين في الماء والطين‪ٌ ،‬‬ ‫الناس في وجوم‪ ،‬وقد ّ‬
‫الفضاء‪ ،‬وذهب فيه يرتطم بالسفح والشعاب وحجارة الجبل البازلتية الكالحة‪،‬‬
‫كحفيف آالف الطير‪.‬‬
‫الجدة نور‪C..!..‬‬
‫ـ‪ّ :‬‬
‫وإ سحق يلتفت إليهم فيتشفى متمتماً‪:‬‬
‫ـ ‪ :‬دونكم المملحة‪ ،‬عيشوا فيها كسمك لم يحيا فيها قطّ‪ ،‬ودونكم السبخة‪،‬‬
‫انغرسوا فيها مثل ٍ‬
‫شجر لم ينبت فيها أبداً‪.‬‬

‫‪- 253 -‬‬


‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪.‬‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪.‬‬

‫«ولم تتم»‬
‫الرقة‬
‫( ‪ 1997‬ـ ‪.)2000‬‬
‫***********‬

‫‪- 254 -‬‬


‫(إشــــارة)‬

‫« إرهاصات الرواية ظهرت‬


‫في عدة قصص‪ ،‬ضمتها‬
‫المجموعات القصصية‪ ،‬السيما‬
‫قصص‪ :‬جولة في الضمير‪ C‬ـ ذلك‬
‫الحلم ـ حكاية الحكايات ـ من يعيب‬
‫بكاء الرجال ـ قمر ـ دائرة بألف‬
‫استدارة »‪.‬‬

‫*******‬

‫‪- 255 -‬‬


‫ـ صدر للمؤلف ـ‬

‫‪ 1‬ـ استنشاق رائحة اللون ـ قصص‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ المطر في خامس الفصول ـ مسرحيات‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اضطرام الهويس ـ قصص‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الدم‪ ...‬حبراً!‪ ...‬ـ قصص‪.‬‬

‫***‬

‫‪- 256 -‬‬


‫رقم اإليداع في مكتبة األسد الوطنية‬

‫الشجر‪ :‬رواية‪ /‬سامي حمزة – دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪،‬‬ ‫البشر وحتى‬
‫‪ 253 – 2001‬ص؛ ‪24‬سم‪.‬‬

‫‪ 813.009561 -2‬ح م ز ب‬ ‫‪ 813.03 -1‬ح م ز ب‬

‫‪ -4‬حمزة‬ ‫‪ -3‬العنوان‬

‫مكتبة األسد‬ ‫ع‪2001/1054/6 -‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 257 -‬‬


‫سامي حمزه‬
‫مواليد قرية خناصر‪ ،‬محافظة حلب‪1948 -‬‬
‫مقيم في مدينة الرقة‪.‬‬
‫يعمل في حقل التربية‪.‬‬
‫عضو اتحاد الكتّاب العرب‪ -‬جمعية القصة والرواية‪.‬‬

‫كتبه المطبوعة‪:‬‬
‫‪ -1‬استنشاق‪ C‬رائحة اللون‪ -‬قصص‪.‬‬
‫‪ -2‬المطر في خامس الفصول‪ 3 -‬مسرحيات‪.‬‬
‫‪ -3‬الساخرون‪ -‬قصص ساخرة‪ -‬مشترك‪.‬‬
‫‪ -4‬اضطرام‪ C‬الهويس‪ -‬قصص‪.‬‬
‫‪ -5‬الدم حبراً‪ -‬قصص‪.‬‬
‫كتب النصوص التلفزيونية‪ .‬اثنان منهما مصوران‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 258 -‬‬

You might also like