You are on page 1of 226

1

‫لحمة ُ‬
‫الح َّراس)‬ ‫َم ْم َل َكة َ‬
‫الس َح َرة ( َم َ‬

‫(رواية)‬
‫أحمد جبريل ‪ -‬داليا بزان‬
‫۞۞۞‬

‫‪2‬‬
‫ُ‬
‫ال أحب أن أنقل التشاؤم للناس‪ ،‬وال أريد أن أكتب روايات‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫شعورا باليأس ملن يقرأها أو أن ُه يريد الهرب‪ ،‬أريد أن‬
‫ً‬ ‫تعطي‬
‫ستحق أن ُتعاش ويمكننا ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫دائما‬ ‫أكتب أعماال تقول‪" :‬أن الحياة ت‬
‫البدء من جديد"‪.‬‬
‫–أحمد جبريل–‬
‫۞۞۞‬

‫‪3‬‬
‫۞۞۞‬
‫جميع أحداث هذا العمل فانتزيا َخ ّ‬
‫يالية مدموجة بأساطير موغلة‬
‫بص َلة‪ّ .‬‬
‫وأي تشابه بين األسماء‬ ‫القدم‪ ،‬وال َت ُم َّت للو اقع والتاريخ ّ‬
‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫واألساطير هو على سبيل التفاخرببعض أحداث القدماء ليس إال‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪4‬‬
‫إهداء‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫إلى ْ َ‬
‫الكارثة األولى التي َحلت بكوكب األرض‪.‬‬
‫اإلنسان؛ ِ‬
‫ِ‬
‫۞۞۞‬

‫‪5‬‬
6
‫‪01‬‬

‫والس َحرة والجان‪ ،‬قادة الجيوش‪ُ ،‬حكام األقاليم والجنود‪،‬‬‫ال َك َه َنة َ‬


‫ّ‬
‫الرعية‪.‬‬ ‫جميعهم ُح َّراس اإلله ‪ ..‬و اإلله هو حارس‬
‫۞۞۞‬

‫‪7‬‬
‫‪02‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫كانت النار قد طالت ك ّل ش ٍيء في املدينة‪ ،‬أحرق الدخان عينيه‪،‬‬
‫سغي يديه النديبتين‪ ،‬وعندما فتحهما على ِاتساعهما َب َدت‬ ‫ففركهما ُبر َّ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ ٌ‬
‫بالضياع‬ ‫شاعر‬ ‫صدق ِملا يراه‪،‬‬
‫فيهما نظرة بائسة توحي أنه غير م ٍ‬
‫يوما أن برج شرفة املنزل في القلعة الذي وقف‬ ‫خي ُل له ً‬ ‫واإلرهاق‪ ،‬لم ُي َّ‬
‫فيه مر ًارا ُمنشرح القلب يتطلع في األخضرار واألزدهار الضاجج في‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َّ ْ ُ َ َّ نُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫شور‪ ،‬جميل الصو ِت‪ ،‬ملو‬
‫املدينة‪ ،‬ومن فوقه االالف من طائر الشر ِ‬
‫حزينا ُيشاهد ّ‬
‫كل‬ ‫مقبوضا ً‬
‫ً‬ ‫فيه اآلن‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫الريش‪ ،‬هو ذاته البرج الذي يقف ِ‬ ‫ِ‬
‫وم ال ِغدفان بصوتها املزعج وسوادها‬ ‫ش ٍيء من حوله يحترق بينما َت ُح ُ‬
‫مكان ِمن حوله‪.‬‬ ‫ُ ّ‬
‫الحالك في ك ِل ٍ‬
‫َ‬
‫وطقطق‬ ‫الجدران من خلفه‬ ‫اقص ضوء املشعل املُ َت َذبذب على ُ‬ ‫تر َ‬
‫ً‬ ‫ً ُ‬
‫شديد ِا َلت َف َت ِب َو ْج ِه ِه َي ْم َنة‪ ،‬فخ ِّيل له فجأة َّأن ُه يرى وجه‬
‫ٍ‬ ‫طء‬‫لهيبه‪ُ .‬بب ٍ‬
‫شاحبا والعينين ذابلة‬ ‫ً‬ ‫سيده الكاهن على الجدار‪ ،‬وإن كان الوجه‬
‫أكثر مما يتذكرهما‪.‬‬ ‫منطفأة ُ‬

‫هامسا بإستغراب‪(( :‬جاللة الكاهن ‪ .))!!..‬وقاطعه‬ ‫ً‬ ‫نفسه‬


‫ِ‬ ‫تسائل في‬
‫ُ‬
‫س‪ ،‬وال ت َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫طيف سيده‪ ،‬قائال‪(( :‬ال تبت ِئ ْ‬
‫ضيع وقتك في الحزن ‪ ..‬فات األمر‬
‫ُ‬
‫فتضيع العبرة))‪.‬‬ ‫وبقي عليك تدوينه حتى ال َي ُ‬
‫نساه الناس‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫َّرد ُمرتبكا‪(( :‬لكن!! أنا ُمحارب‪ ،‬وما أنا بكاتب))‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫جد ًدا‪(( :‬رأيك ورأي أحدهم بك ليس‬ ‫قاطعه الطيف على الجدار ُم َّ‬
‫ً‬
‫حقيقيا يا‬ ‫حقيقيا‪ ،‬ليس بالضروري ً‬
‫أبدا أن يكون‬ ‫ً‬ ‫بالضروري أن يكون‬
‫اإلنسان ً‬ ‫ْ‬
‫دائما يستطيع أن يكون ما يريده إذا ما رغب في ذلك‬ ‫نياخ هاو‪،‬‬
‫حقا من أعماقه))‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫فشيئا‬ ‫ات وهو يتالش ي ً‬
‫شيئا‬ ‫عدة مر ً‬
‫صوت الكاهن في الفراغ َّ‬ ‫ُ‬ ‫تردد‬
‫ّ‬
‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫ثوان معدودات مرت قبل أن يستدير‬ ‫من على الجدار‪ .‬وما هي إال ٍ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫ويتوجه صوب كومة من أوراق البردي‪ ،‬أمسك بها مع القلم وِاتكأ على‬
‫طل على بقايا املدينة املحترقة‪ .‬رسم قوسين في أعلى الورقة‬ ‫الحائط املُ ّ‬
‫يكتب أسفلهما مباشرة وهو يتطلع بحز ٍن‬ ‫ارغا‪ ،‬ثم شرع ُ‬‫ً‬
‫وترك ما بينهما ف‬
‫املحطمة واألبراج التي تحترق‬ ‫ُ‬
‫شاحب في املسالت‬
‫ٍ‬ ‫بوجه‬
‫في األنحاء يتطلع ٍ‬
‫وتماثيل اآللهة العمالقة التي باتت بال رؤوس‪:‬‬
‫سبقا بما سيقترفه أحفاده من‬ ‫‪ -‬لو أن نوح بن المك علم ُم ً‬
‫ذنوب‪ ،‬لقتل أبنه مصرايم حتى ال يهبط في هذه األرض أو لخرق‬
‫السفينة وأغرق الجميع‪.‬‬
‫ً‬
‫باشرة‪َّ ،‬‬
‫وكأنها إفتتاحية‬ ‫كتبها أعلى ورقة البردي‪ ،‬أسفل القوسين ُم‬
‫ً‬
‫رئيسية ملا عزم على تدوينه قبل أن يهبط بقلمه قليال لألسفل‬
‫ويسترسل في الكتابة‪:‬‬
‫طفال ً‬
‫عاديا‪ ،‬هكذا َ‬ ‫ً‬
‫قيل لي مر ًارا من ِقبل جدي وكهنة‬ ‫لم أكن‬
‫الق َّدم في‬
‫املعبد‪ ،‬كنت أعشق اإلستماع إلى قصص األساطير موغلة ِ‬
‫صغري‪ ،‬أختي حتبت رع‪ ،‬وصديقي شبسكاف‪ ،‬وأنا‪ ،‬إعتدنا الهروب من‬
‫‪9‬‬
‫ً‬
‫ومخيفا‪،‬‬ ‫نفقا ً‬
‫ضيقا‬ ‫العاصمة ممفيس عبر نفق أرض ي طويل‪ .‬كان ً‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مليئا بالفخاخ القاتلة‪ ،‬تسكنه العقارب والثعابين‬ ‫شديد الظالم‪ً ،‬‬
‫واألرواح الفارة من جحيم العالم اآلخر‪ ،‬كما َّأنه ُمتصل بعدة متاهات‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لم نعلم ً‬
‫دلفت بالخطأ إلى واحدة‬ ‫أبدا إلى أين تؤدي بمن يسلكها‪ ،‬إن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ ً‬
‫يجرئ أن يهبط داخله إال من‬‫منها فأنت حتما في تعداد األموات‪ ،‬ال أحد ِ‬
‫ُ‬ ‫يحفظون ممراته عن ظهر قلب‪ ،‬وعلى َّ‬
‫بخفه‬ ‫الرغم من ذلك كنا نجتازه ٍ‬
‫إليه عشرات املرات خلف الكهنة ووضعنا‬ ‫وسهوله بعدما تسللنا ِ‬ ‫ٍ‬
‫عالمات على الحوائط دون أن يشعر بنا أحد‪.‬‬
‫ً‬
‫كان النفق ُيفض ي بنا ُمباشرة إلى األرض الجنائزية في مدينة‬
‫ي ُ‬
‫حيث املقابر واملعابد وأرواح املقاتلين الهائمة ً‬
‫جنبا إلى جنب مع‬ ‫صقار‬
‫الرصد من الجن املوجود حول مقابر اآللهة واملسخر من قبل سحرة‬
‫ُ‬
‫املعبد األسود لحمايتها من اللصوص‪ .‬ما إن نخرج من النفق ك َّنا نتسلل‬
‫ممر يضم ألف تمثال ألبي الهول ومنه إلى داخل املعبد القديم‬ ‫ّ‬
‫عبر ٍ‬
‫املواجه ألمالك امللك رع‪ .‬كل ذلك لنستمع إلى قصص األساطير الغريبة‬
‫واملخيفة التي يرويها أجدادنا والكهنة لبعضهم البعض داخل ّب ْهو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املعبد‪ .‬إعتدت أن أتصنع دور البطل األسطوري تارة والشرير تارة‬
‫أخرى أمام أختي وصديقي كل ليلة أثناء عودتنا للمدينة بعد سماعنا‬
‫للقصص‪.‬‬
‫وأعتاد شبسسكاف أن يلعب دور املنقذ لحتبت رع في كل َّ‬
‫مرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫يوما ما َّأنني قد أخبر أحدهم بقصة‬
‫مرت السنوات‪ ،‬ما كنت أتصور ً‬

‫‪10‬‬
‫بارعا في سرد القصص‪ ،‬لكن‪ ،‬كما قال جاللة‬ ‫فلست ً‬‫ُ‬ ‫أسطورية‪،‬‬
‫فيصبح قيد النسيان‪.‬‬ ‫الكاهن‪ ،‬ما رأيته ال يمكن أن ُيطوى ُ‬

‫فأجتياز نينوي وغابات املوتى املالعين‪ُ ،‬ومخالفة عهد مهالئيل‬


‫وإستدعاء املردة من وادي ِس ِ ّجين‪ ،‬وتحرير غيالن الجن َّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬كل‬
‫هذه أشياء ال يجب أن ُتطوى دون أن ُ‬
‫يعلم بأهوالها ما تبقى من البشر‪.‬‬
‫أن حياتي الحقيقية بدأت في‬‫أمضيت من العمر أكثر مما تبقى فيه‪َّ ،‬إال ّ‬
‫ِ‬
‫ذلك اليوم‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪11‬‬
‫‪03‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫صوت َح ِفيف‬ ‫تماما كمقبرة‪ ،‬إال من‬ ‫كانت الغابة هادئة‪ ،‬ساكنة ً‬
‫عليه في مثل هذه األوقات من العام‪،‬‬ ‫َُْ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫األشجار وتساقط أوراقها املعتاد ِ‬
‫بالظالل والضباب َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫خيم على املنحدر الذي ظهر‬ ‫كانت قد بدأت تكتس ي ِ‬
‫وحذر نحو األرض وفي مالمحه نظرة‬ ‫ٍ‬ ‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫فوقه نياخ هاو وهو ينحنى‬
‫تماما على وجهه مع الحيرة عندما جلس على‬ ‫إستغراب بدت واضحة ً‬
‫ركبته اليمنى و َّأتكأ بيده اليسرى على جزع شجرة َّد ْردار عمالقة ووجهه‬
‫مثل وجه من ضل طريقه وليست هناك أي إشارة لالتجاهات‪ ،‬أو من‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫عناء ومشقة إال َّأنه وجدها وجهة خاطئة‪.‬‬ ‫وصل إلى وجهته بعد ٍ‬
‫َ َ َّ‬ ‫ً‬
‫نبتة غريبة الشكل‬
‫وحذرا في اللحظة ذاتها‪ ،‬يتطلع في ٍ‬ ‫ً‬ ‫ستغربا‬ ‫كان ُم‬
‫شديد قبل أن يرتاب في األمر ويتراجع‬ ‫ٍ‬ ‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫وهو يقرب يده اليمنى منها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ساحبا يده بسرعة للخلف‪ .‬لم يستطع في بادئ األمر أن يحدد إن‬ ‫فجأة‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لتوه من بيضة‬ ‫حيوان ملعون خرج ّ‬ ‫كان ما يراه نبتة حقيقية أو ّأنها‬
‫النبتة ذا هيئة ُمخيفة‪َ ،‬بدت ُله َّ‬
‫وكأنها ر ُ‬ ‫ُ‬
‫مفترس‬
‫ٍ‬ ‫حيوان‬
‫ٍ‬ ‫أس‬ ‫ٍ‬ ‫كبيرة‪ ،‬كانت‬
‫َ‬
‫فيه ف ٌّك ٌ‬ ‫لم ير ُاه أو يسمع ِبه من قبل‪ ،‬ر ٌ‬
‫كبير خرج من األرض لتوه‪،‬‬ ‫أس ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لزجة تشبه املخاط‪ ،‬حمر ٌاء قاتمة اللون كالدماء‪ ،‬لها‬ ‫ٍ‬ ‫بمادة‬
‫ٍ‬ ‫ُمغطاة‬
‫ٌ َ‬
‫لين خرجت منه يشبه رحم املرأة‪.‬‬ ‫بغالف ٍ‬
‫ٍ‬ ‫رائحة ن ِتنة‪ ،‬غير َّأنها ُمحاطة‬
‫واقفا‪ ،‬وكان الضباب قد تزايد من حوله بكثافة جعلت من‬ ‫إنتفض ً‬

‫‪12‬‬
‫أن‬ ‫الصعوبة عليه رؤية ُج ُذوع األشجار والدروب الوعرة فيما بينها‪ ،‬كما ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ُ ْ َ‬
‫ُّ‬
‫هواء باردة تهب عليه‬ ‫َح ِفيف األشج ِار تزايد هو اآلخر وشعر بنسمات ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وندفات من املطر البارد بدأت تتساقط فوقه‪ ،‬مما‬ ‫ٍ‬ ‫من جهة الشمال‬
‫وظل ً‬ ‫ّ‬
‫جعل األجواء في املكان َتبدو ُمخيفة‪ .‬إال ّأنه لم يعبأ لألمر‪ّ ،‬‬
‫واقفا‬
‫بحيرة شديدة‪ ،‬بدا كمن يفكر في‬ ‫ُ‬
‫يتطلع فيها‬ ‫قليلة‬
‫للحظات ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قرب النبتة‬
‫ٍ‬
‫قر ٍار يتخذه‪ ،‬وكان ذلك آخر ما فعله قبل أن ُيغمض عينيه ويصوب‬
‫ً‬
‫كلتا يديه مضمومتين بإتجاه النبته وقد أمسك بيده اليسرى ِ ّس َوارا‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫لتصقا بمعصم يده اليمنى َّ‬ ‫فضيا ُم ً‬ ‫ً‬
‫كأنه ِقطعة منها وألقي بتعويذة‬
‫بصوت َج ْه َو ِر ٌّي‪(( :‬إنسينديو))‪ .‬انطلقت من بين يديه‬ ‫ٌ‬ ‫سحرية فقال‬
‫ٌ‬ ‫طاقة ُ‬ ‫ٌ‬
‫أشالء‬ ‫زرقاء اللون‪ ،‬ضربت النبتة ففجرتها على الفور‪ ،‬حولتها إلى‬
‫ََ ٌ‬
‫ولزجة‬ ‫ٍ‬ ‫سائلة‬
‫ٍ‬ ‫ُمتنا ِثرة تحترق فور مالمستها لألرض وتتحول إلى ٍ‬
‫مادة‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ُ‬
‫جعلته يست ُاء لدرجة أن‬ ‫تنبعث منها أ ْب ِخ َرة ذا رائحة كريهة للغاية‪ ،‬رائحة‬
‫َ َ‬ ‫قام ُم ً‬
‫بالح ْر َملة‬ ‫سرعا بتغطية أنفه‬
‫ُ‬
‫التي تحيط برقبته وكتفيه وقد ظهرت في مالمحه نظرة أشمئزاز‪.‬‬
‫واقفا في مكانه‬ ‫ظل ً‬ ‫على الرغم من الرائحة النتنة التي أحاطت به‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يتطلع في بقايا أشالء النبتة املحترقة‪ ،‬وقد إعتراه شعور املنتصر‪ ،‬إال‬
‫ّ‬
‫بوجهه ُيمنة بغية‬ ‫ِ‬ ‫لثوان قليلة‪ ،‬فما إن ِالتف‬ ‫أنه لم ينهيء بهذا الشعور ٍ‬
‫ٌ‬
‫املغادرة‪ ،‬وقبل أن يبرح مكانه‪ ،‬وقعت عينيه على واحدة أخرى‪ ،‬كانت‬
‫جد ًدا وقد َبدا‬ ‫قريبة منه للغاية‪ُ .‬مفاجأة غير سارة‪ ،‬أوقفته في مكانه ُم َّ‬
‫مصعوقا وهو ينظر إليها ً‬ ‫ً‬
‫كمومياء ُمحنطة‪.‬‬‫ٌ‬ ‫ثابتا‬

‫‪13‬‬
‫ببطء يشوبه قلق‪ ،‬وللحظة شعر بوحدته وسط هذه‬ ‫ٍ‬ ‫حرك عينيه‬
‫ّ‬ ‫حوله ُم ً‬ ‫الغابة الكبيرة وهو َي ُ‬
‫منيا نفسه أال يجد‬ ‫ِ‬ ‫تطلع في املكان ِمن‬
‫ٌ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫واحدة أخرى‬ ‫وقعت عينيه على‬ ‫غيرها‪ ،‬ولم لم ينهيء بما تمنى‪ ،‬إذ‬
‫أمتار قليلة‪ ،‬وما إن تطلع‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُ‬
‫بالفعل‪ ،‬كانت على بعد مسافة تقدر بعدة ٍ‬
‫ً‬ ‫ً ُ‬ ‫ً‬
‫مكان‬
‫مساحة أكبر‪ ،‬وجد غيرها عددا كثيرا منتشرا في كل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بعينيه في‬
‫رؤوس شيطانية خرجت لتوها من باطن األرض‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫حوله‪َ ،‬وبدت له َّ‬
‫كأنها‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫صغيرا في السن‪ ،‬إذ لم‬ ‫لم يسمح للخوف بأن يتسلل إلى قلبه‪ ،‬كان‬
‫كثيرا من االشياء الغريبة‬ ‫يتجاوز منتصف العشرينات بعد‪ّ ،‬إال َّأنه رأى ً‬
‫ْ‬
‫واملريبة في حياته القصيرة‪ ،‬كما َّأن ُه كان قوي البنية‪ ،‬صارم‪ ،‬إذ عمل‬
‫صغيرا‪ ،‬قبل‬ ‫ً‬ ‫صبيا‬‫صيادا كما والده وأجداده لفترة قصيرة عندما كان ً‬ ‫ً‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتمرن في حلبات‬ ‫ترعرع َّ‬ ‫مصارعا ُمحترفا بعدما‬ ‫أن ُيصبح في شبابه‬
‫جنبا إلى جنب مع صديقه شبسكاف‪ .‬في نهاية األمر إلتحقا ً‬
‫سويا‬ ‫القتال ً‬
‫بفيلق ُحراس الكاهن األكبر كاي تاي الذي علمهما السحر والحكمة‬
‫ُ ُ‬
‫يهب ك ٍ ّل منهما سوار السحر الفض ي الخاص به بعدما أصبحا‬ ‫قبل أن‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫الحارسين الخاصين له ولقلعته مما أكسبهما ثقة كبيرة في أنفسهم‪ .‬على‬
‫َ‬
‫شعورا بالقلق ِا ْعتر ُاه على سيده الذي‬ ‫ً‬ ‫الرغم من َّأنه لم يخف‪ّ ،‬إال ّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫كان قد تركه يمارس طقوسه في حرية في معبد القناديل أعلى قمة‬
‫الغابة اآلمنة‪.‬‬
‫نظر ألعلى عبر الطريق‬ ‫بعينين ثاقبتين وعقل شغلته األفكار‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الصاعد نحو التل الذي يفض ي في نهايته إلى معبد القناديل‪ ،‬إال أن‬

‫‪14‬‬
‫ألي ش ٍيء أمامه‪.‬‬‫ّ‬
‫الضباب الكثيف أعاق رؤيته ِ‬
‫َ‬
‫وهم بوضع يده اليسرى على ِ‬
‫السوار في‬ ‫َ‬
‫أغمض عينيه‪َّ ،‬‬ ‫على َع َجل ٍة‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫مرة ثانية وهو ُيلقي بتعويذة سحرية أخري‪ ،‬فقال‬ ‫معصم يده ُ‬
‫اليمنى‬
‫ُ‬
‫عال تردد صداه في الغابة التي اصطبغ أفقها باللون األحمر مع‬ ‫بصوت ٍ‬
‫الشمس عن السماء‪(( :‬شاكوفيساي ‪ ..‬شا ‪ ..‬كو فيساي))‪.‬‬ ‫اب مغيب َّ‬ ‫اقتر ُ‬

‫ببطء بطريقة أفقية بعد أن رفع‬ ‫ٍ‬ ‫رددها مرتين وهو ُيباعد بين يديه‬
‫ُ‬
‫الس َوار‪ ،‬فبدأت األشياء من حوله تعرض له داخل عقله‬ ‫يسراه عن ّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫تام وهو ما يزال مغمض العينين‪ ،‬رأي النبتة الغريبة ِانتشرت‬ ‫بوضوح ٍ‬
‫ٍ‬
‫في كل مكان حوله حتى مألت دروب وساحات الغابة‪ ،‬عددها تجاوز‬
‫املئات وربما االالف‪ ،‬الكثير من الحيوانات تهرول في كل أتجاه مفزوعة‬
‫شيئا ما لم يستطع هو رؤيته‪ ،‬رأي الطريق الصاعدة إلى أعلى‬ ‫تهرب من ً‬
‫ومن حولها أثنين‬ ‫التل حتى معبد القناديل‪ ،‬ظهرت له عجلته الحربية ِ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ‬
‫األرقط‪ ،‬كانا يضربان األرض بقدميهما‪ ،‬وكأن شيئا ما غير‬ ‫من الخيل‬
‫واضحا ً‬
‫تماما‪ .‬إثنى عشر‬ ‫ً‬ ‫ظاهر ُيخيفهما‪ ،‬ثم ظهر له معبد القناديل‬
‫مسافات‬
‫ٍ‬ ‫شجرة عمالقة‪ ،‬مرصوصة بشكل هندس ي دائري على‬
‫تماما‪ ،‬األشجار هيئتها هيئة قنديل البحر‪ ،‬لها غصون‬ ‫متساوية ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خضر ٌاء تكاد تض يء من شدة خضرتها‪ ،‬من األعلى تتخذ شكل مستدير‬
‫ومجوف مرفوعة على جزع رئيس ي بيد أن األالف من األغصان‬ ‫َّ‬ ‫مقوس‬ ‫َّ‬
‫ستار ُيخفي ما بداخل املعبد‪ ،‬األغصان‬ ‫ُمتدلية منها حتى األرض وكأنها ٌ‬
‫الخضراء فسفورية اللون تزداد إضائتها كلما أهتزت بفعل الرياح‬

‫‪15‬‬
‫آمنا في مكانه‬ ‫جالسا ً‬‫ً‬ ‫الخفيفة التي تمر عبرها‪ ،‬كما رأى سيده الكاهن‬
‫حيث تركه في وسط املعبد‪ ،‬كان سيده في منتصف الستينيات من‬
‫َ‬
‫رتديا مالبس بيضاء مصنوعة من الك َّتان‬ ‫عمره‪ ،‬أصلع الرأس‪ُ ،‬م ً‬
‫نحيال كرجل أصغر عشرين ً‬ ‫ً‬ ‫الصافي‪ ،‬وعلى الرغم من ّ‬
‫عاما‪،‬‬ ‫سنه يبدو‬ ‫ِ‬
‫مرتديا في معصم يده‬ ‫ً‬ ‫ال َت ُنقص مالمحه الوسامة وإن َّ‬
‫شوبتها القسوة‪،‬‬
‫سوارا أخضر اللون‪ُ ،‬ومطعم بثالث نجوم ُمضيئة نارية اللون‪ .‬كان‬ ‫ً‬
‫بعضا من‬ ‫ً‬ ‫مغمض العينين‪ ،‬واضعا كلتا يديه فوق ركبتيه ويتلو‬
‫الصلوات املقدسة وهو يقوم بالطقوس التي ِاعتاد أن يؤديها في معبد‬
‫القناديل‪.‬‬
‫ُّ‬
‫لم يشعر الحارس بالطمأنينة على سيده ملجرد رؤيته على هذه‬
‫َ‬ ‫الحالة‪ْ ،‬إذ شعر َّ‬
‫أن طاقة شريرة وكراهية غير مألوفة إنتشرت في أ ْر َجاء‬
‫الغابة‪ ،‬فقرر أن يستطلع الجهة األخرى من املعبد‪.‬‬
‫بوجهه ينظر في اإلتجاه اآلخر من املعبد‪ ،‬فإذا به يرى‬ ‫ا َ‬
‫لتفت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫حيوانا عمالقا في حجم خرتيت يخترق الضباب الكثيف ويجري‬ ‫ً‬
‫بسرعة‬
‫ٍ‬
‫قادما من مسافة‬ ‫دهسا‪ً ،‬‬ ‫ندفعا وسط األشجار يدهسها ً‬ ‫شديدة ُم ً‬
‫توجها صوب سيده‬ ‫بعيدة باتجاه املنحدر في الجانب االخر من املعبد‪ُ ،‬م ً‬
‫مباشرة‪ .‬كان الحيوان يصطدم باألشجار املتوسطة فيقتلعها والكبيرة‬
‫تنكسر فروعها من كبر حجمه وقوته‪ ،‬كان له رأس خنزير يعلوه قرن‬
‫َ‬
‫خرتيت‪ ،‬فكه يشبه رأس النبتة الشيطانية التي أحرقها قبل قليل‪ ،‬بشع‬
‫قزز غير أن‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫أن أسنانه ُمتباعدة عن بعضها البعض‬ ‫املنظر ْإذ ّ‬
‫بشكل م ٍ‬
‫ٍ‬

‫‪16‬‬
‫مليء بالشعر الكثيف مما‬ ‫الدماء تتقاطر من بينها‪ ،‬كما أن جسده ُ‬
‫بدو كالغيالن الشيطانية‪.‬‬‫جعله َي ُ‬
‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ٌ‬
‫نفسه‪ ،‬توجه ت ّوا قاصدا معبد‬ ‫ِ‬ ‫في لحظتها‪ ،‬ودون َه َو َادة على‬
‫جريا بأقص ى ما لديه من سرعة‪ ،‬يدفعه خوفه على سيده‬ ‫القناديل‪ً ،‬‬
‫اع ٌر بشدة‪ ،‬مما جعله يتعثر مرتين‬ ‫َ‬
‫الكاهن‪ .‬كان الطريق إلى أعلى و ِ‬
‫متتاليتين جراء الضباب الذي حال بينه وبين رؤية إن كانت األرض‬
‫شجرة عمالقة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مهدة أو َّأنها غير ذلك‪ ،‬في املرة الثالثة إصطدم بفرع‬‫ُم َّ‬
‫أرضا‪ .‬وقف على‬‫قطعي برأسه وسقوطه ً‬ ‫ٌ‬ ‫وتسببت الصدمة في ٌ‬
‫جرح‬
‫الفور وهو يتحسس الدماء النازفة من جبينه‪ ،‬وقد إنتابته حالة من‬
‫ّ‬
‫الغضب جراء ما حدث له‪ ،‬إال َّأنه لم يهدر وقته بالتفكير في حاله وما‬
‫الس َوار وقال بنبرة‬
‫حدث‪ ،‬فأغمض عينيه وهو يضع قبضة يده على ّ‬
‫ِ‬
‫باب في الفراغ‪ ،‬قفز بداخله‬ ‫صوت جادة‪(( :‬الوهومورا))‪ .‬انفتح له ٌ‬ ‫ٍ‬
‫وأختفى على الفور‪.‬‬
‫جالسا في مكانه داخل املعبد‪ ،‬غير‬‫ً‬ ‫كان الكاهن كاي تاي ما يزال‬
‫ً‬
‫مكترث بما يحدث في الخارج‪ ،‬فمعبد القناديل ليس مجرد مكانا ً‬
‫عاديا‬
‫سحريا‪ ،‬له طبيعتة الثابتة التي ال تتأثر بما يحدث من‬ ‫ً‬ ‫بقدر كونه ً‬
‫مكانا‬
‫حوله‪ ،‬درجة حرارتة ثابتة طوال العام‪ ،‬حتى درجة إضائته ال تتغير في‬
‫ُ‬
‫الليل أو النهار فاألضاءة املنبعثة من أغصان األشجار وأوراقها توفر له‬
‫أضائة ثابتة طوال الوقت كما أنها تعكس وتحجب أشعة الشمس‬
‫ً‬
‫إليه‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬كان الكاهن ُمدركا لكل‬
‫فتمنعها من الدخول ِ‬

‫‪17‬‬
‫ّ‬
‫غمض العينين‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أي ردة فعل‪ ،‬م ِ‬
‫ساكنا ال ُيبدي ّ َّ‬ ‫ً‬ ‫ش يء يحدث‪ ،‬إال َّأنه ظل‬
‫ّ‬ ‫وا ً‬
‫هدوء وسكينة‪ ،‬وكأنه‬ ‫ٍ‬ ‫ضعا كلتا يديه فوق ركبتيه ويكمل طقوسه في‬
‫سبقا بمجريات األمور وما ستؤول إليه‪.‬‬ ‫يعلم ُم ً‬

‫الباب في الفراغ مرة أخرى‪ ،‬هذه املرة إنفتح داخل معبد‬ ‫ُ‬ ‫إنفتح‬
‫ً‬
‫القناديل‪ ،‬إلى جوار الكاهن مباشرة‪ .‬دلف منه نياخ هاو ُم ً‬
‫ندفعا وكأن‬
‫وس‪ ،‬حيث ظهر‬ ‫ً َ ْ َُ‬ ‫ُ ً‬
‫أحدهم قذف به‪ .‬كان ما يزال منزعجا غاضبا ِبوج ٍه عب ٍ‬
‫َّ ْ‬
‫ُم َقط ُب ال َح ِاج َب ْي ِن وهو يفرك رأسه النازفة املتأملة من أثر الصدمة التي‬
‫َ ً‬
‫متوترا والدماء تسيل على‬ ‫ً‬ ‫ثوان قليلة‪ .‬كان ُم ْرت ِبكا‪،‬‬
‫حدثت له قبل ٍ‬
‫جبينه‪ ،‬أراد لو يصرخ في سيده يقص عليه ما حدث وما رأى في الغابة‪،‬‬
‫دماء ذا رائحة نتنة‬ ‫ربما لو نطق لقال له أن رؤوس شيطانية غارقة في ٍ‬
‫شيطانا يتلبس جسد خرتيت‬ ‫ً‬ ‫نبتت في األرض‪ ،‬وانتشرت في الغابة‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬
‫َّ‬ ‫لديه رأس خنزير بشع املنظر ً‬
‫قادما بسرعة شديدة في إتجاهنا اآلن‪ .‬إال‬ ‫ِ‬
‫أن هدوء سيده وحالة السكينة التي ظهر عليها جعلته يرتاب‪ .‬للحظة‪،‬‬
‫َّ‬
‫ظن َّأنه في كابوس أو َّأنه ُيعاني من نوبات جنو ٍن وخياالت مريضة‪ ،‬إال‬ ‫َّ‬
‫أن صرخة مدوية أطلقها الحيوان القادم بأتجاههم أعادت إليه إتزانه‬
‫قادما إليهم‪.‬‬ ‫حد ًقا ً‬ ‫خطرا ُم َ‬‫تماما وأن ً‬ ‫وأكدت له َّأنه في وعيه ً‬
‫ُ‬
‫لم يبرح الكاهن مكانه رغم صرخة الحيوان امل َد ّوية‪ ،‬بل َّأنه لم‬
‫ً‬
‫ساكنا‬ ‫أي ردة فعل من األساس‪ّ ،‬‬
‫ظل‬ ‫يفتح عينيه املغلقتين ولم ُيبدي ّ‬
‫ٍ‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫شعورا هائال بالتوتر تملك من‬ ‫جلسته غير مكترث‪ .‬في حين أن‬ ‫ِ‬ ‫تماما في‬
‫َّ َ‬
‫يجرأ على مقاطعة طقوس‬ ‫نياخ هاو وتسرب إلى أعماق روحه‪ .‬لم يكن‬

‫‪18‬‬
‫سيده‪ ،‬في حين ِعلمه أن سيده يرى أكثر مما يراه هو‪ ،‬ويعلم أضعاف ما‬
‫يعلمه‪ ،‬كما َّأنه لديه من قوة السحر ما يمكنه من حماية نفسه ً‬
‫جيدا‪.‬‬
‫ً‬
‫ومريبا‪ ،‬خاصة وأن الحيوان‬ ‫شيئا ً‬
‫غريبا‬ ‫َّإال أن سكونه في حد ذاته كان ً‬
‫ِ‬
‫الغريب قد أوشك أن يصل معبد القناديل‪.‬‬
‫َ‬
‫تصاعدت حالة التوتر في املكان‪ ،‬تزايد معها خ َفقان قلب نياخ هاو‬
‫الذي كان يتنقل بعينيه ما بين الكاهن واإلتجاه االخر القادم منه‬
‫ً‬
‫فجأة ّ‬
‫أن‬ ‫أدرك والخوف يعتر ِيه‬ ‫ص َّب َب َو ْج ُه ُه َع َر ًقا‪ .‬ثم َ‬
‫الحيوان وقد َت َ‬
‫شيئا ما‪ ،‬فال يمكنه أن يلعب دور املشاهد أكثر من ذلك‪ .‬في‬ ‫فعل ً‬‫عليه ُ‬
‫يجرد سيفه من‬ ‫مسرعا إلى خارج املعبد وهو َّ‬ ‫ً‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬إنطلق‬
‫َّ‬
‫غمده‪ ،‬كان سي ًفا متوسط الحجم والطول إال َّأنه مصنوع في قلعة‪ .‬ما‬
‫ً‬
‫عمالقا ً‬
‫قادما في إتجاهه‪ ،‬وكان قد‬ ‫إن رأي الحيوان بحجمه الحقيقي‪،‬‬
‫مترا‪ ،‬وما زال يتقدم‪ ،‬تنقل‬ ‫مسافة تقل عن عشرين ً‬ ‫ٍ‬ ‫أصبح على ُبعد‬
‫بعينيه مرتين بين الحيوان والسيف‪ ،‬ثم أدرك في نفسه أن هذا السيف‬
‫فترسا وسوف‬ ‫لعبة سخيفة أمام هذا الكائن العمالق الذي يبدو ُم ً‬
‫ً‬
‫سريعا‬ ‫يفتك به‪ .‬ألقى سيفه من يده على الفور‪ ،‬ثم عقد كلتا يديه‬
‫الس َوار‪ ،‬فبدا كمن‬ ‫جد ًدا بيده على ّ‬ ‫بحركة ُمستديرة قبل أن يقبض ُم َّ‬
‫ِ‬
‫سحرية وهو يوجه كلتا يديه نحو‬ ‫ّ‬ ‫يستجمع قواه‪ ،‬ثم القى بتعويذة‬
‫َ ََ‬
‫جزع وقال‪(( :‬ستوبيفاي))‪ِ .‬انطلقت من بين‬ ‫وأغمض عينيه في ٍ‬ ‫الحيوان‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫يديه طاقة بيضاء اللون‪ ،‬متعرجة‪ ،‬تشبه ضوء الرعد‪ ،‬صدمت‬
‫ً َّ‬
‫أرضا‪ .‬إال َّأنه لم‬ ‫سقوطه‬
‫ِ‬ ‫الحيوان‪ ،‬صعقته على الفور‪ ،‬وتسببت في‬
‫جد ًدا وهو‬‫يبقى على األرض سوى ثوان معدودات‪ .‬حاول النهوض ُم َّ‬
‫ٍ‬
‫‪19‬‬
‫صداها في الغابة حد َّأنه‬ ‫ترد َد َّ‬
‫يطلق صرخة غاضبة ومدوية ومخيفة‪َّ ،‬‬
‫بعيدا عن األشجار‪ ،‬كما تطايرت على أثرها‬ ‫أفزع الطيور فجعلها تفر ً‬
‫الدماء اللزجة التي كانت تتقاطر من فمة‪ ،‬وهو يضرب بقدميه األرض‪،‬‬
‫جد ًدا على الحارس نياخ هاو الذي نظر‬ ‫فبدا كمن يتهيء لألنقضاض ُم َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ ً‬
‫شديد‬ ‫ٍ‬ ‫قلق‬
‫وقلق للخلف بإتجاه معبد القناديل‪ ،‬نظرة ٍ‬ ‫توتر ٍ‬
‫مسرعا في ٍ‬
‫تعويذة‬
‫ٍ‬ ‫وحيرة‪ ،‬ليست على سيده بل منه‪ ،‬إذ عزم على إستخدام‬
‫َّ‬
‫قلقا من َّردة فعل سيده‪ ،‬إال َّأن ُه وجد نفسه‬ ‫سحرية ُمحرمة وكان ً‬
‫ٍ‬
‫مضطرا لذلك‪ ،‬فألتف بوجهه ثانية ولم يتوانى للحظة في عقد يديه مرة‬ ‫ً‬
‫أخرى وأغماض عينيه واستجماع أقص ى ما لديه من طاقة وصاح‬
‫ً‬
‫قائال‪(( :‬سيكتوسيمبرا))‪ .‬قالها وهو يفتح عينيه على آخر اتساعهما‬
‫ٌ‬ ‫ويوجه كلتا يديه بأتجاه الحيوان ُم َّ‬
‫جد ًدا‪ ،‬فانطلقت من بينهما طاقة‬
‫ُ‬
‫شديدة منه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫حمر ٌاء نارية اللون‪ ،‬وكان الحيوان قد أصبح على مقربة‬
‫واحدة في إلقاء التعويذه ربما كان في تعداد األموات‪.‬‬ ‫ثانية‬ ‫َّ ُ‬
‫ٍ‬ ‫فلو أنه تأخر ٍ‬
‫باشرة ففجرته ّ‬‫ً‬ ‫ّ‬
‫وحولته إلى أشالء مما‬ ‫إال أن التعويذة ضربت الحيوان ُم‬
‫مكان من حوله فلطخت األرض واألشجار‬ ‫دماءه َتتطاير في ّ‬
‫ُ‬
‫كل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫جعل‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وأنبعثت منه رائحة نتنه تشبه ً‬
‫تماما تلك التي إنبعثت من النبتة‬
‫الشيطانية قبل قليل‪ ،‬كما أنها طالت إحدي يدي نياخ هاو فتسببت له‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منزعجا ُمتأملا‬ ‫بضع خطوات للخلف وهو‬ ‫في حروق على الفور‪ْ ،‬إذ تراجع ُ‬
‫ٍ‬
‫يزيل الدماء عن يده وجسده وكانت تفور على مالبسة وتتفاعل وكأنها‬
‫ُ‬
‫دماء حارقة‪ ،‬بيد أن السوار في معصم يده كان ُيض يء بشدة وتنبعث‬ ‫ٌ‬
‫منه حرارة شديدة حد أنها آملته للغاية‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫مسكا بمعصم يده وآثار الحرق‬ ‫ُ ً‬ ‫ّ‬
‫لدى عودته معبد القناديل‪ ،‬كان م‬
‫بادية عليه‪ .‬ما إن دلف من بين أغصان شجر القنديل وكان يلف‬
‫غريب‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫قطعة قماش مصنوعة من الكتان حول معصمه إذا‬
‫حوله في كل مكان‪ُ .‬ثب َت على الفور في‬ ‫ِ‬ ‫قادم من السماء يصدح من‬ ‫ٍ‬
‫َّ ً ُ‬ ‫مكانه‪َّ ،‬‬
‫وجرد سيفه من ِغمده مرة أخرى‪ .‬وعلى الرغم من ذلك نظر‬
‫نياخ هاو إلى السيف في حيرة من أمره وكأنه يتسائل ما فائدة هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جاهدا أن‬ ‫دورة كاملة في حذر‪ ،‬حاول‬ ‫الش يء فيما نواجهه‪ .‬ثم استدار‬
‫ُ‬
‫يكتشف مصدر الصوت‪ ،‬بينما فاجأة الكاهن بفتح عينيه على‬
‫السوار‬ ‫ً‬
‫منزعجا ً‬ ‫اتساعهما وبدا ُم ً‬
‫تماما من الصوت وهو ينظر نحو ِ‬ ‫نتبها‬
‫ُ‬
‫األخضر في معصم يده وكانت النجوم الثالثة عليه تض يء بأضطراب‬
‫ظل على‬ ‫سريع‪ .‬إستغرب الحارس ِمن َّردة فعل سيده في حين أن األخير ّ‬
‫السوار وقد إعترته حالة من القلق واضحة ً‬
‫تماما‬ ‫حالته ً‬
‫منتبها ينظر إلى ِ‬
‫ً‬ ‫في مالمحة التي وشت َّ‬
‫بأن ُه غير مصدقا ملا يسمعه أو ما يراه‪ .‬كانت‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫األصوات تتكرر ً‬
‫دوريا‪ ،‬مما جعل الحارس يحتاط اكثر‪ ،‬إذ إلتفت بتوتر‬
‫في كل اإلتجاهات‪ ،‬لكن الكاهن نهض من جلسته على الفور وقال‪:‬‬
‫واضح على وجهه‪(( :‬ماذا يحدث‬ ‫ٍ‬ ‫قلق‬‫((فلنغادر))‪ .‬سأله نياخ هاو في ٍ‬
‫جاللة الكاهن؟! وما هو مصدر تلك األصوات؟)) أجابه الكاهن بحدةَّ‬
‫يشوبها قلق‪(( :‬ال تهتم‪ .‬فلنغادر على الفور))‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪21‬‬
‫‪04‬‬
‫السواد الحالك بالفعل قبل‬ ‫إكتست بحجاب من َّ‬‫السماء قد َ‬‫كانت َّ‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وبعضا من‬ ‫أن َيبلغوا القلعة‪ .‬وجدوا مشاعل كثيرة تحملها ُحراس‬
‫رؤيته عجلتهم‬ ‫الحراس فور‬ ‫العامة وصوت جلبة في إنتظارهم‪ .‬أحد ُّ‬
‫ِ‬
‫سريعا للداخل‪ ،‬اخترق‬ ‫ً‬ ‫الحربية قادمة ِمن بعيد ِالتف بوجهه وهرول‬
‫الجموع متوج ًها نحو سيدة القلعة الجالسة منذ ثالثة َّأيام في برج‬
‫عليهم يا‬
‫الشرفة املطلة على املدينة‪ ،‬وقال وهو يلهث‪(( :‬لقد عثروا ِ‬
‫سيدتي))‪.‬‬
‫ً‬
‫إنتفضت السيدة كاريسا زوجة الكاهن واقفة بسرعة وهي تسأل‪:‬‬
‫((رجالنا أم رجال املعبد؟))‪ .‬أجابها الحارس‪(( :‬لقد عادوا وحدهم‪َّ .‬إنهم‬
‫تماما))‪ .‬غمغمت كاريسا‪ُّ :‬‬
‫((الشكر لآللهة))‪.‬‬ ‫بخير ً‬

‫كان رجالها يبحثون عن الكاهن وحارسه منذ ثالثة َّأيام كاملة‪،‬‬


‫لكن رجال املعبد خرجوا للتفتيش عنهم كذلك‪ ،‬وكان يهمها بشدة أن‬
‫يجدهم رجالها ال رجال املعبد فهي ال ترغب أن يكون لهم الفضل عليها‬
‫بخطى متسارعة‪ ،‬توجهت نحو ساحة القلعة‬ ‫ً‬ ‫في ش يء‪ .‬غادرت ُ‬
‫البرج‬
‫الخارجية تدفعها لهفة اإلطمئنان على زوجها‪ .‬كان الرجال يقتربون من‬
‫يقطع ساحة القلعة‪ ،‬لكنه‬ ‫ُ‬ ‫الكاهن رغبة منهم في اإلطمئنان عليه وهو‬
‫ََّ‬ ‫تجاهلهم وهو يتحرك بسرعة‪ .‬كان ُّ‬
‫يود أن يجري إليها ويتدثر في ثيابها‬

‫‪22‬‬
‫ُ‬
‫والب َد‬
‫يبحث عن السكينة واإلطمئنان‪ ،‬لكنه ما زال الكاهن االكبر ُ‬ ‫َّ‬
‫وكأنه‬
‫ً‬
‫أن ُيحا ِفظ على وقاره‪ .‬كان مدركا العيون التي تتبعه‪ ،‬واألصوات‬
‫عما حدث وأين كان في تلك َّ‬
‫األيام املاضية‪.‬‬ ‫املكتومة التي تتسائل َّ‬

‫بالحراس عندما دلف إليها نياخ هاو‬ ‫كانت الساحة مزدحمة ُ‬


‫ٌ‬ ‫ُم ً‬
‫ندفعا خلف سيده‪ ،‬مزدحمة أكثر من الالزم في رأيه‪ .‬ال يفهم ما الداعي‬
‫َّ‬
‫لكل هذه الجلبة فهم تغيبوا بضع ساعات ليس إال‪ .‬لم يكن يعلم أن‬
‫ثالث َّأيام كاملة قد إنقضت عليهم في الغابة‪ ،‬ولو َّأنهم بقوا قليال فيها‬
‫زمان غير الزمان بعد أن فقدت الغابة عامل الزمن في‬ ‫لربما عادوا في ٍ‬
‫تلك اللحظات التي انطلقت فيها أبواق السماء التي تتسبب في اضطراب‬
‫الزمن وتصنع فجوة كونية تتسارع فيها السنوات‪.‬‬
‫ِاستقبلهما شبسكاف حارس السيدة كاريسا وصديق نياخ هاو‬
‫بإبتسامة عريضة وهو َيحمد اإلله على عودتهما ساملين‪َّ ،‬إال َ‬
‫أن عينيه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫كانت معلقة ً‬
‫تماما على صديقه القادم من الخلف‪ .‬كان قد قاد البحث‬
‫وعدا إلى حتبت رع‬‫األيام الثالثة املنقضية بعد أن قطع ً‬ ‫بنفسه طوال َّ‬
‫ً‬ ‫بأنه سوف ُ‬ ‫شقيقة نياخ هاو َّ‬
‫يعود ِبه إليها ساملا‪ .‬ومنذ أختفى الكاهن‬
‫وأعياء‬
‫ٍ‬ ‫بكمد‬
‫شعر ٍ‬ ‫ونياخ هاو لم ينم ألكثر من ساعة‪ .‬هذا املَّساء كان َي ُ‬
‫شديدين حتى َّأنه إستطاع الوقوف بصعوبة‪ ،‬لكن قواة تجددت اآلن‬
‫بوجهه ينظر إلى حتبت رع نظرة‬‫ِ‬ ‫عند رؤية صديقه وسيده بخير‪ِ .‬التفت‬
‫ذات مغزى ُمفادها َّأنه أوفى بوعده‪ ،‬بادلته بدورها النظر بعينين‬
‫المعتين وقد ِارتسمت على شفتيها إبتسامة هادئة إزدادت وجنتيها‬

‫‪23‬‬
‫َّ‬
‫أحمر ًارا على أثرها وهي توميء له برأسها بالشكر واإلمتنان‪ ،‬إال أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غضبا عندما سقطت‬ ‫مالمح وجه شبسكاف تبدلت فجأة واستشاط‬
‫ٌ‬
‫شكل‬ ‫عينيه على عجلة حربية سوداء توقفت أمام الساحة‪ ،‬كان لها‬
‫جماجم بشرية‬ ‫ٌ‬ ‫غريب ومخيف‪ ،‬حيث علقت على جانبيها وفي مقدمتها‬ ‫ٌ‬
‫وجماجم خنازير وضباع‪.‬‬
‫ً‬ ‫هبط من العجلة ً‬
‫حارسا عمالقا بطول ثمانية أقدام‪ ،‬يرتدي خوذة‬
‫قمة‬ ‫رجل غريب األطوار‪ ،‬يرتدي األسود من َّ‬ ‫كبيرة‪ .‬وترجل من خلفه ٌ‬
‫رأسه حتى أخمص قدميه‪ ،‬بدا من حركته َّأنه في عمر يقارب عمر‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الكاهن كاي تاي‪ ،‬إال أنه كاهن رشيق الحركة‪ .‬دلفا مباشرة إلى الساحة‪،‬‬
‫صمت مريب‪ .‬تفرقت الجموع املحتشدة وهم يتهامسون فيما بينهم‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫فعم‬
‫ممرا ُيفض ي ُمباشرة نحو الكاهن الذي كان ما يزال‬ ‫بخوف‪ ،‬صنعوا له ً‬
‫واقفا يربت على كتف زوجته كاريسا وإلى جوارهما حتبت رع وشبسكاف‬ ‫ً‬
‫ونياخ هاو الذي اقترب منهم هو اآلخر فور دخول الرجل للساحة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫نظر شبسكاف إلى سيده الكاهن وهو َّ‬
‫يجرد سيفه من ِغمده‪ ،‬إال‬
‫نظرة ذات مغزى‬ ‫ً‬ ‫تريثا وحكمه‪ْ ،‬إذ َ‬
‫نظر إليه‬
‫ً‬
‫أن صديقه كان أكثر منه‬
‫يوميء له برأسه بأشارة مفادها أن ما يفعله بال فائدة‪ .‬حالة من‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬
‫التوتر والقلق لفت األجواء وتزايدت مع كل خطوة يخطوها الرجل ذو‬
‫املالبس السوداء نحو الكاهن الذي رفع يده وأشار بها إلى شبسكاف‬
‫يطالبه بأن ي ِغمد سيفه مرة أخرى‪ ،‬والتفت بعد ذلك وقد إعترته حالة‬
‫إستغراب بدت واضحة في مالمح وجهه وهو يقول‪(( :‬خا‪ .‬إم‪ .‬ويست!!))‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الحق من الليل‪ ،‬داخل شرفة املنزل املطلة على املدينة‪،‬‬ ‫وقت ٍ‬ ‫في ٍ‬
‫جنبا إلى جنب مع شبسكاف وبعض حراس الكاهن‬ ‫جلس نياخ هاو ً‬
‫واضحا في أوجه الجميع‪ .‬على جدران الساحة‬ ‫ً‬ ‫االخرين وقد بدا األعياء‬
‫َ‬
‫تماثيل متوسطة الحجم ُممسكة بقناديل زيتية‬ ‫ٌ‬ ‫َمش ِاجب علقت فيها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بالف َراء بعضها أخذ‬
‫أشعلت فيها نيران أضائت املكان‪ ،‬األرض مفروشة ِ‬
‫من األغنام وبعضها من الثعالب‪ .‬وعلى الرغم من تسامر ُ‬
‫الح َّراس‬
‫حالة غير طبيعية‪ ،‬شارد‬ ‫َّ َّ‬
‫ومزاحهم مع بعضهم البعض إال أنه ظهر في ٍ‬
‫الزهن‪ ،‬خائر القوى من كثرة التفكير‪ ،‬ما زالت أحداث اليوم تشغل‬
‫أن سيده أمره بكتمان ما حدث وعدم الخوض فيه ً‬
‫كثيرا‬ ‫عقله‪ ،‬ولوال َّ‬
‫بنفسه وما‬ ‫الحراس لكان اآلن يسرده للجميع‪ ،‬ربما ليفتخر‬ ‫بقية ُ‬‫مع ّ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫فعله في الغابة‪ ،‬وربما بحثا عن إجابات تريح عقله الشارد في تفكير‬
‫مستمر عن ماهية النبتة الغريبة والحيوان ذا جسد الخرتيت ووجه‬
‫الخنزير واألصوات الغريبة القادمة من السماء‪ .‬كان الجميع ينظرون‬
‫إليه من ٍآن آلخر يحثونه على الحديث‪ ،‬لكن نظرة شبسكاف وحدها‬
‫متقدتين وتوجه نحو البرج في‬ ‫حقا‪َ .‬ترك الساحة بعينين َّ‬ ‫كانت املطمأنة ً‬
‫كل منهما اثنى عشر‬‫التمثالين اللذين يرتفع ٌّ‬ ‫الشرفة‪ ،‬وقف يتطلع في ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫قدما‪ ،‬أحدهما ُي َم ِثل كاريسا واآلخر سيده كاي تاي وصوت الحيوان‬ ‫ً‬
‫وضع يده على‬‫يتردد في أذنيه‪ .‬لحقه شبسكاف الذي َ‬ ‫وأبواق السماء َّ‬
‫كتفه وقال‪(( :‬نياخ هاو‪َ ..‬‬
‫أأنت بخير!))‪.‬‬
‫كان نياخ هاو ممتقع الوجه عندما بدأ في الحديث يحكي نسخته‬
‫من القصة دون أن يلتفت إلى صديقه‪ ،‬وظل يسترسل في الحديث‬
‫‪25‬‬
‫ً‬
‫جميعا قد غادروا‬ ‫لوقت طويل‪ ،‬وعندما فرغ من الكالم كان ُ‬
‫الحراس‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫الشرفة ولم يبقى معه إال شبسكاف الذي تراجع خطوة للوراء متثاقال‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مكان آخر غير هنا بعد الذي سمعه‪،‬‬ ‫أي ٍ‬ ‫باديا كرجل يرغب أن يكون في ِ‬
‫وقال‪(( :‬ما الذي يجدر بي أن أفهمه من هذا بحق اآللهة؟ إن ما تقوله‬
‫وما فسره لك الكاهن أثناء طريق عودتكم إلى هنا ال يعني سوا ً‬
‫شيئا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫شديد ُومخيف‪(( :‬نعم‪ ،‬لم نكن‬ ‫ٍ‬ ‫هدوء‬
‫ٍ‬ ‫واحدا))‪ .‬قال نياخ هاو في‬
‫نعد الوحيدين هنا‪ ،‬باتت غيالن الشياطين في كل‬ ‫الوحيدين هناك‪ ،‬ولم ُ‬
‫ُ‬
‫مكان‪ .‬لم تعد املدينة آمنة‪ ،‬هذا ما يظنه جاللة الكاهن))‪.‬‬
‫َ ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫متوت ًرا وسأله في حيرة‬
‫اتسعت عينا شبسكاف الناعستان واعتدل ِ‬
‫ً‬
‫مستغربا‪(( :‬لذلك أتى الشيطان خا‪ .‬إم‪ .‬ويست إلى هنا؟!))‪.‬‬
‫كان القمر على وشك أن ُيغادر السماء‪ ،‬وكان الكاهن ما يزال‬
‫ً‬
‫جالسا في مخدع نومه تنتابه هو اآلخر حالة من القلق والتعب بادية‬
‫ً‬
‫تماما في وجهه مع الحيرة‪ .‬حاولت كاريسا الجالسة إلى جواره بمالبسها‬
‫الحريرية الزرقاء البراقة والتي تكشف من جسدها الضاجج باألنوثة‬
‫أكثر مما تخفي أن ُتهدأ من روعه‪ ،‬كانت شابة ً‬
‫دائما‪ ،‬نحافتها جعلت منها‬
‫امرأة ال تتأثر بعوامل السن‪ ،‬وكأن عمرها توقف في بداية األربعين‪.‬‬
‫شيئا من الطعام وهي تمد يدها تمسك‬ ‫سألته إن كان قد تناول ً‬
‫بشريحة من اللحم موجودة وسط مائدة مليئة بالطعام على مقربة‬
‫أي ش يء‪ .‬فتناولت هي شريحة‬ ‫منها‪ّ ،‬إال أنه أشار بيده ر ً‬
‫افضا تناول ّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وق َ‬
‫وجهه وهي‬
‫ِ‬ ‫ضمت منها قضمة صغيرة وقد علقت عينيها على‬ ‫اللحم‬

‫‪26‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫فيه‪،‬‬ ‫تبتسم له إبتسامة ذات مغزى وتنظر ِ‬
‫إليه نظرة مفادها أنها راغبة ِ‬
‫كأي امرأة أن احتضان‬ ‫حقيقة ّإال َّأنها تدرك ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ترغب فيه‬ ‫ربما لم تكن‬
‫رجل خائر القوى ُمرتاب يعيد إليه طاقته ويبث في روحه ً‬
‫شيئا من‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫األمان يشعره بالقوة اكثر مما يحتاج‪ .‬تعمدت أن تسقط حمالة كتفها‬
‫َّ‬ ‫لتظهر ُله ً‬
‫شيئا من جسدها‪ .‬إال أن الكاهن أسقط رأسه على كتفها‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫ساكنا بعد ذلك‪ ،‬إذ‬ ‫شديد ولم يحرك‬
‫ٍ‬ ‫برففق‬
‫ٍ‬ ‫وربت بيده على ظهرهر‬
‫ظل على حالته‪ ،‬شاحب الوجه‪ ،‬وقد أخذ الشرود منه كل مأخذ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫في شرفة املنزل‪ ،‬كان نياخ هاو قد جلس على األرض ً‬
‫جنبا إلى جنب‬
‫مع صديقه شبسكاف وقد أعطيا ظهريهما للبرج‪ ،‬وكان الحديث بينهما‬
‫ممتدا لم ينقطع بعد عندما دلفت حتبت رع من الباب ُمضيئة‬‫مايزال ً‬
‫كضوء الصباح‪ ،‬ودنت منهم بهدوء الظالل‪ ،‬وقالت بصوتها العميق‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫املنكه باملوسيقى وهي تقدم الطعام إليهما‪(( :‬إستشعر قلبي َّأنكما ما‬
‫تزاال ُمستيقظين‪ ،‬فر ُ‬
‫أيت من الجيد لو أحضر لكما شيئا تأكالنه))‪.‬‬
‫كان ردائها األبيض يكسوها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها‪،‬‬
‫َّ‬
‫لباس طوي ٌل وفضفاض مصنوع من الكتان األبيض‪ ،‬طرزت عليه‬ ‫ٌ‬
‫أشكال زخرفية تحمل إسم الرب رع إله النور‪.‬‬
‫تنقل نياخ هاو بعينيه بين ردائها الزاهي وبين الطعام في يديها بينما‬
‫علقت عينا شبسكاف على وجهها وكأنه يراها للمرة األولى وقد كان ينظر‬
‫إليها ذات النظرة في كل مرة تقع عينيه عليها‪.‬‬
‫داعبا شقيقته وهو يتناول الطعام من بين يديها‬ ‫قال نياخ هاو ُم ً‬

‫‪27‬‬
‫وقد بدت عليه الدهشة ملرآها‪(( :‬من املفترض أن تكوني في فراشك يا‬
‫علي أن‬ ‫((عز ّ‬‫كقبلة ومالمح بشوشة‪ّ :‬‬ ‫فتاة))‪ .‬أجابته بصوت ناعم ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫أترككما جائعين بعد يومكما الشاق))‪ .‬قال ممازحا أياها وهو يرفع‬ ‫ُّ‬
‫سبابته‪(( :‬أنا فقط ‪ ..‬أنا فقط من كنت في الخارج))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫تختلس نظرة تتطلع بها ُمبتسمة في‬ ‫ُ‬ ‫خجل وهي‬
‫علقت حتبت رع في ٍ‬
‫لثوان معدودات‬ ‫ٍ‬ ‫وجه شبسكاف‪(( :‬وهو ‪ ))..‬ثم توقفت عن الحديث‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قضتها كاملة في النظر داخل عيني شبسكاف قبل أن تكمل جملتها‬
‫ً‬
‫صوت إزداد فيها الخجل‪(( :‬وهو من كان يبحث لي عنك))‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بنبرة‬
‫قائلة ِ‬
‫جدر‬ ‫حاول شبسكاف التظاهر بالجدية وهو يقول‪(( :‬حتى لو‪ .‬ال َي ُ‬
‫َّ‬
‫بك أن تكوني ُهنا‪ .‬إنه جوف الليل البارد))‪ .‬إال أن مالمحه فضحته‪ ،‬لم‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫يكن باستطاعته أبدا أن يخاطبها في جدية دون أن يبتسم‪ .‬كانت‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫الساعة ُمتأخرة بالفعل‪ ،‬لكن حتبت رع لم تمانع من السهر وإعداد‬
‫ُ‬
‫الطعام ألجلهما‪ ،‬أو في حقيقة األمر َّأنها أعتادت أن تخاصم النوم طاملا‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫حياء ألن يتضرج‬ ‫أن أحدهما ُمستيقظا‪ .‬كانت تمتلك ما يكفي من ٍ‬
‫حقا‬‫وجهها بحمرة الخجل وتلمع عيناها العسليتان‪ ،‬ولقد بدت جميلة ً‬
‫َّ‬
‫وهي خجول‪ .‬فكر نياخ هاو بش ٍيء من الدهشة وهو يتأمل مالمح وجهها‬
‫ُ‬
‫تستطيع‬ ‫كل ش ٍيء بشكل عفوي جميل وال‬ ‫((إنها تفعل َّ‬ ‫ويهمس في نفسه‪َّ :‬‬
‫ً‬ ‫أخفاء مشاعرها ً‬
‫أبدا))‪ .‬ثم ضحك فجأة في وجهها‪ ،‬مما جعلها تلتفت في‬
‫جيدا بأمر الشعور‬ ‫األتجاه اآلخر تتحاش ى النظر في عينيه‪ .‬كان يعلم ً‬
‫املتبادل بينها وبين صديقه‪ ،‬بل كان يتلذذ بمتابعتهم وهم يسترقون‬

‫‪28‬‬
‫النظر لبعضهم البعض َّأيما جمعهما مكان‪ ،‬وكان يحترم فيهما‬
‫إحترامهما له طوال الوقت‪.‬‬
‫قال شبسكاف ُم ً‬
‫قترحا وهو يبتسم‪(( :‬نياخ هاو‪ .‬أال تدعوها لتناول‬
‫الطعام معنا؟!))‪ .‬أمعن نياخ هاو النظر في وجه شقيقته الضاجج‬
‫لثوان معدودة ثم أشار إليها بالجلوس‪ .‬جثت على ركبتيها‬ ‫ٍ‬ ‫بالخجل‬
‫وحدجت شقيقها بنظرات عامرة باملحبة قبل أن ُتغمض عينيها َّ‬
‫وكأنها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تشكر اآللهة عليه‪.‬‬
‫حثاء سخين من لحم الغزالن َّ‬
‫والشعير‪َ ،‬سلطات‬ ‫ُحطت األطباق‪ُ ،‬‬
‫َّ‬
‫واملكسرات‬ ‫من خضار الطماطم والسبانخ ُر َّشت عليه التوابل‬
‫النهر وقد َ‬ ‫َّ‬
‫الطازج من َّ‬
‫طهي في‬ ‫املسحوقة‪ ،‬إلى جوار سمك الترويت‬
‫ُ‬
‫الصلصال‪ .‬كانت حتبت رع ت ّ‬ ‫أغلفة من َّ‬
‫قدم الطعام طبق بعد آخر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫وعندما ق ِّدم طبق اللحم ت َع َّم َد شقيقها أن يختطف أول قطعة فيه‬
‫قطعا شريحة من املفصل تليق بها كملكة وليست‬ ‫َّ‬
‫وقدمها إليها بنفسه ُم ً‬
‫مجرد مدبرة لقلعة سيده الكاهن كاي تاي‪ ،‬وابتسم وهو يضعها لها على‬
‫طبقها‪ .‬الحظت حتبت رع من الطريقة التي يتحرك بها نياخ هاو أن‬
‫ينبث بكلمة شكوى واحدة‪ .‬على الفور‪،‬‬ ‫ذراعه ال تزال تؤمله‪ ،‬لكنه لم ِ‬
‫َ‬
‫ِانتقلت بجسدها الضئيل إلى ك َنف أخيها‪ ،‬وبرفق قبضت بيدها على‬
‫معصم يده وهي تشير إليه أن يتوقف عن إطعامها وإطعام نفسه‪ ،‬من‬
‫ثم بدأت في إطعامه بنفسها وقد ملعت عينيها وأضائت وهي تتطلع في‬
‫عينيه‪.‬‬

‫‪29‬‬
۞۞۞

30
‫‪05‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الج ّ ِو يش ي ُبدن ّ ِو‬
‫صافيا مع ش يء من الجفاف في َ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫النهار ً‬
‫باردا‬ ‫بزغ َّ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫نهاية َّ‬
‫عشرينا من حرس الكاهن‬ ‫تضم‬ ‫الصيف‪ ،‬كانت القا ِفلة التي‬
‫يمتطون الخيل والعجالت الحربية‪ ،‬ترافقهم بضع نساء من خادمات‬
‫خصصة لهم قد تحركت قبل بزوغ‬ ‫ٍ‬ ‫بات ُم‬
‫السيدة كاريسا يجلسون في عر ٍ‬
‫الدورية للتبضع‪ ،‬كان على رأسهم شبسكاف ذو‬ ‫َّ‬ ‫الشمس في رحلتهم‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫العينين الناعستين الذي لم يكفيه يوما واحدا ليتعافى من مشقة األيام‬
‫نائما على متن‬ ‫الثالثة املنصرمة التي قضاها في البحث عن الكاهن‪ ،‬كان ً‬
‫يفتح عينيه ما بين ٍآن وآخر بمشقة بغية‬ ‫عجلته الحربية طوال الوقت‪ُ ،‬‬
‫إختالس النظر واإلطمئنان على حتبت رع في مكانها‪.‬‬
‫كانت حتبت رع من ٍآن آلخر تلتفت بدورها هي االخرى من حولها‬
‫ده على يسارها‪ ،‬وتارة من يمينها‪ ،‬وتارة خلفها‪ ،‬لم‬‫تبحث عنه‪ ،‬فتارة تج ُ‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫أبدا‪ .‬تستغرق الرحلة من سبعة أي ٍام إلى عشرة‪ ،‬بحسب‬ ‫ُيكن َيسب ُقها ً‬
‫ِ‬
‫ظروف املناخ وحالة األسواق ومدى توافر ما يبحثون عنه‪ ،‬يقضونها‬
‫الطريق من َ‬‫َّ‬ ‫ً‬
‫الفجر إلى‬ ‫ِ‬ ‫مقربة من ضفاف النهر‪ ،‬يمضون على‬ ‫ٍ‬ ‫جميعا على‬
‫يمرون بالغابات والبساتين والحقول بالغة َ‬ ‫الغسق‪ُّ ،‬‬ ‫َ‬
‫الجمال‪ ،‬وعبر‬
‫جارية املزدحمة‪ ،‬يقضون حاجاتهم‪،‬‬ ‫والبلدات ّ‬
‫الت َّ‬ ‫الصغيرة َ‬ ‫القرى َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ َّ‬
‫يحل الظالم ُيخ ِّيمون ويلتهمون طعامهم على ضوء القمر أو‬ ‫وعندما‬

‫‪31‬‬
‫الرجال الحراسة‬‫َّ ّ‬ ‫ُ‬
‫أحد القناديل الزيتية التي تض يء لهم‪ ،‬ويتولى ِ‬
‫بالت ُ‬
‫ناوب‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫قرية‬
‫في ليلتهم األولى‪ ،‬كان الظالم سائدا عند توقفهم على مشارف ٍ‬
‫َّ‬
‫عند مدينة كاهون‪ ،‬قرب البحيرة الكبيرة بارون‪ .‬كانت حتبت رع ملاحة‪،‬‬
‫دائما‪ ،‬في كل مرة ّ‬
‫الذهن ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تخيم في ذات املكان قرب البحيرة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫متوقدة ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫تلمح نير ًانا تومض من بين األشجار في َّ‬
‫مخيمات املسافرين اآلخرين‪،‬‬
‫كل رحلة عن‬ ‫املخيمات يزداد َّ‬ ‫وبدا لها في الرحالت السابقة أن عدد َّ‬
‫بالنهار‪ ،‬حيث‬ ‫جارية َّ‬ ‫الت َّ‬ ‫البلدات ّ‬ ‫سابقتها‪ ،‬كما تزداد الحركة على طريق َ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫الصبح والظهر واملساء‪ُ ،‬م ِس ّنين وأطفاال ورجاال منهم‬ ‫يأتي املسافرون في ُّ‬
‫كل منهن رضيعها‬ ‫تضم ٌّ‬ ‫وأمهات ُّ‬ ‫وفتيات جميالت َّ‬ ‫ٍ‬ ‫كبير الحجم وضئيله‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صغيرا يلهو من حولها‪ ،‬بعضهم يقود‬ ‫إلى صدرها أو تصطحب طفال‬
‫َ ُ ُّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الثيران‪،‬‬‫عربات تجرها ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مؤخرة‬ ‫عربات املزارع والبعض يركب متخبطا في ِ‬
‫دائما أن تسمع صوت ضحكاتهم‬ ‫جميعهم في حالة من البهجة‪ ،‬باألمكان ً‬
‫العالية والغناء في كل مكان تمر فيه‪ .‬لكن هذه املرة وجدت ً‬
‫شيئا‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مختلفا‪ ،‬األعداد قليلة‪ ،‬املخيمات تكاد تعد على أصابع اليد‪ ،‬عددا أكبر‬
‫أي ش ٍيء‬ ‫امتطى أحصنة القتال والخيول القزمة والبغال والحمير‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ُيمكنه أن يمش ي أو يجري‪ .‬إرتابت في األمر‪ ،‬وأخذت تراجع أحداث اليوم‬
‫ً‬ ‫شيئا‪ ،‬تذكرت رؤية امرأة ما تبكي وهي ُّ‬ ‫علها تفهم ً‬ ‫َّ‬
‫تجر عددا من‬ ‫في ذهنها‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫الخراف وبقرة حلوب على ظهرها فتاة صغيرة‪ ،‬رأت حدادا شاحب‬
‫السندان‪ ،‬بدا‬ ‫الوجه يدفع عربة ٍيد وفيها أدواته‪ ،‬املَطارق وا ِمل َلقط وحتى ّ‬
‫ِ‬
‫ً َ‬ ‫أنه ُم ً‬
‫غادرا مكانه بال رجعة‪ ،‬بعد قليل رأت رجال آخر يدفع عربة ٍيد‬
‫‪32‬‬
‫أخرى‪ ،‬وإن كانت تحوي أشياء غير واضحة ملفوفة بدثار‪ .‬أغلب من‬
‫حملوا ممتلكاتهم على‬ ‫سيرا على األقدام‪ ،‬وقد َّ‬ ‫رأتهم قطعوا الطريق ً‬
‫ّ‬
‫متشككة خائفة‪َّ ،‬يتجهون‬ ‫ِ‬
‫أعينهم ال َحت نظرات َ‬
‫متعبة‬ ‫أكتافهم وفي ُ‬
‫ً‬
‫شماال صوب العاصمة‪ ،‬صوب ممفيس‪ ،‬بينما يتجه شبسكاف ومن‬
‫جنوبا بإتجاه العاصمة القديمة‪ ،‬أبيدوس‪ ،‬التي اصبحت عاصمة‬ ‫معه ً‬
‫محدودا للغاية من املسافرين يلتفت إليهم‬ ‫ً‬ ‫جعل ً‬
‫عددا‬ ‫الجنوب االن‪ ،‬ما َ‬
‫َ‬
‫ُوي َو ِ ّجه لهم نظرة مريبة‪ .‬تساءلت في نفسها عن سبب كونهم الوحيدين‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫االتجاه‪ .‬كانت ما تزال تتطلع حولها بأرتياب وتتذكر‬ ‫الذين يسلكون هذا ِ‬
‫َّ‬
‫أحداث اليوم‪ ،‬مسافرون كثيرون كانوا مسلحين‪ ،‬ورأت سكاكين‬
‫وسيوفا هنا وهناك‪ ،‬بينما َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صنع بعضهم‬ ‫وفؤوسا‪،‬‬ ‫وخناجر ومناجل‬
‫تحسسون أسلحتهم‬ ‫جميعا ي َّ‬ ‫ً‬ ‫اوات من فروع األشجار‪ ،‬كانوا‬ ‫هر ٍ‬ ‫َّ‬
‫ُوي َس ّلطون أنظارهم مع مرور العربات بهم‪ ،‬وفي ّ‬
‫النهاية َي ُتركون َّ‬
‫الركب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يمض ي‪.‬‬
‫بعيدا‪ ،‬فأحصت ما تبقى معها‬ ‫حاولت حتبت رع طرد هواجسها ً‬
‫ُ‬ ‫النقود‪َّ ،‬‬ ‫من ُعملة في كيس ُّ‬
‫وقررت أن تعطيه إلى شبسكاف‪ ،‬ثم هرولت‬ ‫ٍ‬
‫ومن معها من فتيات صوب البحيرة‪ .‬تخلوا عن مالبسهن بسرعة وقد‬
‫وهن يهرولن في اتجاه الشاطيء‪ ،‬وما إن وطئن‬ ‫تعالى صوت ضحكاتهن َّ‬
‫فيه‪ ،‬ظهرت امرأة مجنونة من‬ ‫بأقدامهن في املاء‪ ،‬وقبل أن يتعمقوا ِ‬
‫أخذت في ُّ‬ ‫َ‬
‫الصراخ فيهم من على جانب املاء‪(( :‬يا حمقى!‬ ‫العدم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫كالفزاعة‪ ،‬زائغة النظرات ودامية‬ ‫ستموتون يا حمقى!))‪ .‬كانت نحيفة‬
‫القدمين‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫صرخت الفتيات‪ ،‬فأنطلق الحراس صوبهم في الحال كالسهام‬
‫وأحالوا بينهم وبين املرأة‪ ،‬وحدها حتبت رع هرولت صوب شبسكاف‬
‫ُ‬
‫تختبيء فيه وتخفي جسدها العاري خلف جسده‪ .‬أمر شبسكاف‬
‫الحراس أن يتقصوا أمرها إن كانت عجوز في غير وعيها وأن ُيبعدوها‬
‫َ‬
‫عن الفتيات و ُيعيدوها إلى ذويها إن كانوا قريبين‪.‬‬
‫لم تجرؤ حتبت رع والفتيات على االستحمام‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫ً‬
‫رائحتهم صارت كريهة ألقص ى َح ٍّد كرائحة من سقط في الوحل‪ ،‬فروائح‬
‫كثيرة طالت ثيابهم أثناء التجول في األسواق وبين القرى ورائحة العرق‬
‫َّ‬ ‫قد تمكنت منهن‪َّ ،‬إال أن ً‬
‫شيئا ما أخبرها أال تقترب من املاء‪ .‬فتاة واحدة‬
‫وقفت شبه عارية تتطلع في وجوه الجميع وهي صامتة إال ان شفتيها‬
‫وحاجبيها كانوا ييتحدثون بال صوت قبل أن تخلع ما تبقى من مالبسها‬
‫وب بعدما تعمدت‬ ‫فتاة َل ُع ٌ‬
‫ً‬
‫وتلقي بنفسها في املاء بطريقة اوحت َّأنها‬
‫ُ‬
‫إبراز أنوثتها للحراس‪ .‬استائت حتبت رع مما شاهدته‪َّ ،‬إال أنها َّ‬
‫أسرت‬
‫ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫ص ِف‬ ‫انضم شبسكاف إلى‬ ‫األمر في نفسها وازداد ِاستيائها عندما‬
‫ً‬
‫املتوجهين إلى االستحمام‪ ،‬والقوا بأنفسهم جميعا في املاء ً‬
‫جنبا‬ ‫ّ‬ ‫الحراس‬
‫ِ‬
‫إلى جنب مع الفتاة‪.‬‬
‫كسر حارس محظوظ القليل من الخشب الجاف من جزع شجرة‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫سهل عليه تقطيع‬ ‫ميتة منذ زمن طويل مما َّ‬ ‫قديم‪ ،‬كانت ال َّشجرة‬
‫جمع شبسكاف وحتبت رع برفقة حارسين آخرين‬ ‫اغصانها‪ ،‬بينما َ‬
‫َّ‬ ‫الشرارة األولى بنفسه‪َّ ،‬‬ ‫أشعل شبسكاف َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الق َّ‬
‫وهوى ليم اللهب‬ ‫ش‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ً‬ ‫تأجج‪ ،‬فبدا كأن أغصان الشجرة َ‬ ‫بمعطفه إلى أن َّ‬
‫عادت إلى الحياة ثانية‬
‫قطعة‬ ‫اقصات من لهب داخل كل‬ ‫النار‪ ،‬إذ َّدبت الحركة في ر‬ ‫في ضوء َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وهاجة من األصفر‬ ‫من الخشب‪ ،‬أخذن َي ُدرن ويتواثبن في فساتين َّ‬
‫دافئا حولهم‪ .‬وسرعان ما‬ ‫الج َّو ً‬ ‫أصبح ّ‬ ‫َ‬ ‫واألحمر والبرتقالي‪ ،‬وسرعان ما‬
‫الساقين وجها إلى وجه مع حتبت رع يلتهمها‬ ‫جلس شبسكاف متقاطع َّ‬
‫دائما‪ ،‬وراقبته بدورها عن كثب‪ .‬ثم تناو َل من‬ ‫بعينيه كما كان يفعل ً‬
‫شاء من فطائر اللحم الساخن وشربوا‬ ‫يستحموا َع ً‬ ‫ُّ‬ ‫استحموا ومن لم‬ ‫ُّ‬
‫َ‬ ‫قليال من َّ‬ ‫ً‬
‫رشفات قصيرة من دورقها املليء‬ ‫ٍ‬ ‫النبيذ‪ .‬أخذت حتبت رع‬
‫َ ََ‬
‫الت َّفاح قبل أن تت َناقله الفتيات فيما بينهم وتلتهم هي الفطير‬ ‫بعصير ُّ‬
‫الساخن‪ ،‬الفتاة اللعوب وحدها رفضت تناول الدورق‪ ،‬كانت تجلس‬ ‫َّ‬
‫الريان بعدما ارتدت مالبس قصيرة‬ ‫بطريقة تكشف أجزاء من جسدها َّ‬
‫أحيانا‬ ‫ً‬ ‫مقصود ُومفتعل‪(( :‬أبي كان يسمح لي‬ ‫غنج‬
‫ً‬
‫ٍ‬ ‫للغاية‪ ،‬وقالت في ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫بشرب كوب من َّ‬ ‫ُ‬
‫النبيذ))‪ ،‬وغمزت بعينها وهي تضيف‪(( :‬أصبحت يافعة‬ ‫ٍ‬
‫ببالهة‬ ‫ٍ‬ ‫ض ِح َك شبسكاف ومن معه‬ ‫الت َّفاح))‪َ ،‬‬ ‫أكثر‪ ،‬وال يناسبني عصير ُّ‬
‫ُ‬
‫شديدة وإن كانت ِضحكة شبسكاف ُمفتعلة‪ .‬قالت اللعوب وهي تلعق‬
‫رشفة من‬ ‫ٍ‬ ‫دائرية حتى سال لعابها بعدما تناولت‬ ‫ٍ‬ ‫بحركة‬
‫ٍ‬ ‫شفتيها بلسانها‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫دورق نبيذ أخذته من أحد الحراس‪(( :‬النبيذ أحلى بكثير))‪ .‬قالتها وهي‬
‫تتعمد سكب القليل منه أسفل شفتيها فسال على عنقها كماء النهر‬
‫ُ‬
‫وجري إلى مفرق َنهديها قبل أن تعض على شفتيها تصطنع الخجل‪.‬‬
‫همت واقفة وتحركت صوب شبسكاف حتى‬ ‫ِامتعضت حتبت رع التي َّ‬
‫وح َد َج ُ‬ ‫باشرة َ‬‫ً‬
‫غاضبة وكادت أن تحرقه وهي‬ ‫ٍ‬ ‫بنظرة‬
‫ٍ‬ ‫ته‬ ‫وقفت أمامه ُم‬
‫‪35‬‬
‫تزفر في وجهه وتقول بحدة‪(( :‬لقد نلنا من التعب ما فيه الكفاية‪،‬‬
‫فلنذهب للنوم وليذهب ُ‬
‫الح َّراس إلى مناوبات حراستهم))‪ .‬ثم دارت على‬
‫ً‬
‫عقبيها وقد ِاعترتها حالة من الغيظ الشديد بدت واضحة تماما في‬
‫مالمحها وهي تتوجه صوب خيمتها‪.‬‬
‫الحق من الليل‪ ،‬تفاجئت ِبه خارج الخيمة‪ ،‬يستأذنها أن‬ ‫وقت ٍ‬ ‫في ٍ‬
‫َّ‬ ‫تخرج إليه لتأخذ منه ً‬
‫شيئا ما‪ِ .‬ابتسمت فور سماعها صوته‪ ،‬إال َّأنها‬ ‫ِ‬
‫غضب ُمصطنعة وخرجت إليه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سرعان ما بدلت مالمح وجهها بمالمح‬
‫ٍ‬
‫وجدته ُيعطيها ِق ْرَبة ماء أحضرها لها من الينبوع الدافيء كي تستحم‪،‬‬
‫كان يعرف َّأنها ال تطيق أن تبقى هكذا حتى الصباح‪ِ .‬اختطفتها من بين‬
‫وس‪ ،‬وكان يعرف َّأنها ال تحتمل أن تنظر في وجهه دون أن‬ ‫َ ْ َُ‬
‫يديه ِبوج ٍه عب ٍ‬
‫بالق ْرَبة‪ ،‬وعندما رفعت عينيها في عينيه‪ ،‬أطال‬
‫فظل ُممسكا ِ‬‫تبتسم‪ّ ،‬‬
‫هزت رأسها ً‬
‫أخيرا وأبتسمت‪ ،‬فتركها‪.‬‬ ‫النظر فيهما حتى َّ‬

‫توقف أمام خيمتها يحرسها حتى تنتهي‪ ،‬خلعت مالبسها وأنسدل‬


‫شعرها الطويل على ظهرها‪ ،‬وأصبحت عارية ً‬
‫تماما‪ ،‬ولم تبدأ صب املاء‬
‫فوق أسها حتى تأكدت عبر خصاص الخيمة أنه ما يزال ً‬
‫واقفا يحرسها‬ ‫ر‬
‫وقد أعطاها ظهره‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الصباح َّ‬
‫التالي‪ ،‬قبل طلوع َّ‬ ‫في َّ‬
‫النهار‪ ،‬فتحت عينيها قبل أن تتسلل‬
‫ّ‬ ‫الضوء َّ‬ ‫خيوط َّ‬
‫الشاحب األولى من خصاص خيمتها‪ ،‬خرجت وتجمعوا‬
‫جميع الفتيات على طبيعتهم باستثناء الفتاة‬‫ُ‬ ‫خارج الخيام‪ ،‬ظهرت‬
‫اللعوب بدت على غير حالتها‪ ،‬كانت أكثر سعادة مالمحها تش ي أن شيئاً‬

‫‪36‬‬
‫ً‬
‫ما غير اعتيادي حدث معها ليال مما جعلها في حالة ِان ِتشاء‪ .‬توجهت‬
‫بخطوات متسارعة‪ ،‬وقفت أمامها مباشرة وأخذت‬ ‫ٍ‬ ‫حتبت رع صوبها‬
‫ن ٌ‬ ‫ََ‬
‫لثوان معدودات‪ ،‬كانت كدمات زرقاء اللو مائلة إلى الحمرة‬ ‫تتفحصها ٍ‬
‫انحاء متفرقة من رقبتها وقرب مفرق النهدين‪ِ .‬استشاطت حتبت رع‬ ‫ٌ‬ ‫في‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫العسليتان عن آخرهما في لحظتها وهي‬ ‫غضبا ِملا رأته‪ ،‬واتسعت عيناها‬
‫الح َّراس‬ ‫تلتف‪ .‬توجهت ُمباشرة صوب شبسكاف الذي كان يتجهز مع ُ‬
‫ً‬
‫ملغادرة املكان‪ ،‬سحبته من معصم يده وابتعدت به قليال حتى توارت به‬
‫س‬ ‫صفصاف عمالقة‪ ،‬وقبل أن َتت َف َّو َه بكلمة واحدة َم َّ‬ ‫خلف شجرة َ‬
‫شفتيها املمتلئتين بإبهامه منعها عن الكالم‪ ،‬وقال وهو ينظر في عينيها‪:‬‬
‫سواك))‪ ،‬إنتفضت في غيظ‪ ،‬حاولت‬ ‫((أقسم بجميع االلهة أن ال ٌ‬
‫أحد‬
‫ِ‬
‫املرة تعمد‬ ‫مرة أخرى على شفتيها لكن هذه َّ‬ ‫أن تتحدث‪ ،‬فضغط بأبهامة َّ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫((ورب حتبت رع‪ ،‬لم أغادر خيمتي منذ‬ ‫أن يضغط على شفتيها وقال‪:‬‬
‫تركتك))‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِابتسمت‪ ،‬وملعت ُحمرة ُّ‬
‫الر َّمان على شفتيها املمتلئتين‪ ،‬وقالت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خنجرا من بين طيات مالبسه وتشير به في يدها‬ ‫تستل‬ ‫تتوعده وهي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫بعيدا عنه‪(( :‬أقتلك يا شبسكاف‪ ،‬أقتلك وأقتلع عينيك))‪ .‬تب َّسم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫برفق للخلف وهو ما يزال ُممسكا بكلتا‬ ‫َّ‬
‫ضاحكا من قولها وهم يدفعها ٍ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كتفيها حتى ِالتصق ظهرها ِبجذع الشجرة‪ ،‬ونظر داخل عينيها مباشرة‪،‬‬
‫فأغمضت عينيها وتنهدت وأسقطت الخنجر من يدها‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫قضوا يومين كاملين في التبضع‪ ،‬قبل أن يمضون على الطريق م َّرة‬

‫‪37‬‬
‫أخرى قاصدين مدينة آخت آتون‪ ،‬وهي مدينة تتبع مملكة الجنوب‬
‫الواقعة تحت حكم اإلله ِست‪ .‬في مساء ذلك اليوم‪ ،‬قرب املدينة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رسا أسود‪ ،‬كان يتسلل‪ ،‬بدا ُم ً‬
‫غادرا للمدينة إذ‬ ‫توقف حارس يمتطي َف ً‬ ‫َّ‬
‫متاعا على جانبي الفرس‪ .‬تفحص عرباتهم ووجوههم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان يحمل‬
‫اكتشف من فوره أنهم غرباء يتبعون مملكة الشمال وإلههم أوزيريس‪،‬‬
‫بنبرة مريبة‪(( :‬عودوا‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫وأنهم هنا بغرض التبضع‪ ،‬قال ناصحا ولكن ٍ‬
‫تعد املدينة آمنة))‪ .‬وتحرك من فوره دون أن‬ ‫أدراجكم‪ ،‬عودوا ‪ ..‬لم ُ‬
‫ينتظر منهم ّرد‪ .‬لم ينتبه شبسكاف ومن معه لحديث الحارس‪ ،‬وأكملوا‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫كأن ً‬ ‫السير ّ‬
‫شيئا لم يكن‪ .‬على مشارف املدينة كان الطريق قد اكتس ى‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫بالظالل من حولهم مما أوحى أن الظالم بات وشيكا‪ ،‬الحظت حتبت رع‬
‫صغيرا على جانب الطريق‪ ،‬كومة ثرى صغيرة حددت من النظرة‬ ‫ً‬ ‫قبرا‬‫ً‬
‫األولى َّأنها لطفل‪ .‬كان هناك شاهد قبور فوقها وأراد حارس أن يعرف‬
‫أسم الطفل‪ ،‬قفز من عجلته الحربية وقبل أن يخطو باتجاه الشاهد‬
‫قال له شبسكاف بحدة أن يدع األموات وشأنهم‪ ،‬فعاد إلى عجلته مرة‬
‫ّ ٌّ‬
‫صف كامل‬ ‫اخرى‪ .‬بعد بضعة فراسخ ملحت حتبت رع املزيد من القبور‪،‬‬
‫قبورا على جانبي‬ ‫حديثا‪ ،‬بعدها لم يقطعوا مسافة َّإال ورأت ً‬‫ً‬
‫محفور‬
‫سبب واضح غير رؤيتها‬ ‫ٍ‬ ‫الطريق‪ .‬انقبض قلبها شاعرة بالخوف بال‬
‫َّ‬
‫الح لها على مسافة ليست ببعيدة معبد حددت أنه معبد‬ ‫للقبور‪َ .‬‬
‫العرافات‪ ،‬كانت قد زارته مرات عديدة من قبل برفقة نيآخ هاو‬
‫ُ‬
‫وشبسكاف نفسه‪ .‬وهو معبد تقيم فيه أربعة من الساحرات ُه َّن‬
‫وه َّن ساحرات تمر عليهم قوافل‬ ‫ميليت‪ ،‬وأنهاري‪ ،‬وحنت تاوي‪ ،‬وروي‪ُ ،‬‬

‫‪38‬‬
‫املسافرين ليتباركوا بهم بعد أن ذاع صيتهم في ُحسن قراءة مستقبل‬
‫أن لهم قدرة ذائعة الصيت على طرد‬ ‫الناس ُومداواة املرض ى كما ّ‬
‫األرواح الشريرة وإبعادها عن املنازل وحقول املزارعين‪ .‬عند اقترابهم من‬
‫املعبد‪ ،‬قالت حتبت رع وهي تتطلع في حيرة وقلق بعينيها في األنحاء‪:‬‬
‫((فلنخيم هنا الليلة))‪.‬‬
‫موجها حديثه للحراس وإن كان بنبرة‬‫ً‬ ‫َّردد شبسكاف من خلفها‬
‫ولهجة آمرة‪(( :‬فلنخيم هنا الليلة))‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫صوت أعلى‬‫ٍ‬
‫َّ‬
‫كان املكان قد بدأ يكتس ي بالظالم من حولهم عندما انتهوا من‬
‫تعمدت إظهاره وهي توجه نظرة ذات‬ ‫نصب الخيام‪ ،‬قالت اللعوب بغنج َّ‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫الح َّراس بعينه‪(( :‬لقد نلنا من التعب قسطا وفيرا‪،‬‬ ‫مغزى إلى أحد ُ‬
‫كل منا للنوم!))‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ويذهب ٌّ‬ ‫فلماذا ال نتناول الطعام‬
‫ات مرتابة‪ْ ،‬إذ كان الوقت ً‬
‫مبكرا للغاية‬ ‫رمقت حتبت رع الفتاة بنظر ٍ‬
‫ودارت على عقبيها بال ُّ‬ ‫تعلق‪َ .‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ َّ‬
‫ترد ٍد وتوجهت إلى‬ ‫على النوم‪ ،‬إال أنها لم ِ‬
‫خيمتها‪.‬‬
‫َّ‬
‫الحظ شبسكاف تغيرها الواضح على وجهها وأفعالها‪ ،‬إال َّأنه لم‬
‫الح َّراس برفقة الفتيات‪ ،‬ربما‬ ‫البقاء مع ُ‬ ‫ُ‬ ‫يذهب من خلفها‪ْ ،‬إذ َّ‬
‫فضل‬
‫شيئا من املساحة الشخصية‪ ،‬أو َّأنه أراد ذلك بالفعل‪.‬‬ ‫رغب في أعطائها ً‬

‫صغيرة صنعتها الفتيات وشرعوا‬ ‫مائدة‬ ‫جلس برفقة ُ‬


‫الح َّراس حول‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫بنهم شديد‪ ،‬وحده شبسكاف لم يستطع إبتالع‬ ‫جميعا في تناول الطعام ٍ‬

‫‪39‬‬
‫واحدة من الطعام‪ ،‬كعادته في كل مرة يشعر فيها أن حتبت رع‬
‫ٍ‬ ‫لقمة‬
‫ٍ‬
‫ليست على ما ُيرام‪.‬‬
‫تماما‪َ ،‬‬
‫وبدا لها‬ ‫وقت الحق من الليلة‪ ،‬كانت حتبت رع ِيقظة ً‬
‫ٍ‬ ‫في ٍ‬
‫ُ‬
‫غريبا‪ ،‬وإن بلغ مسامعها صوت شبسكاف‬ ‫الهدوء الذي َ‬
‫ساد ليلتها ً‬
‫النار‪ ،‬وحتى ُ‬
‫تململ األحصنة الخافت‪،‬‬ ‫والحراس مع الفتيات وطقطقة َّ‬
‫لكن على الرغم من هذا شعرت كأن العالم يحبس أنفاسه‪ ،‬خاصة‬
‫ُ‬
‫بعدما تطلعت في السماء عبر ف ْرجة صغيرة في سقف خيمتها ووجدت‬
‫ً‬
‫جميعا‪،‬‬ ‫أن النجوم اختفت وكأن السماء بها كتلة سوداء قد ابتلعتها‬
‫وجعلها هذا َّ‬‫َ‬ ‫والطيور على األشجار غابت أصواتها ً‬
‫الصمت‬ ‫تماما‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ترتجف‪ .‬التفتت بوجهها عن ُ‬
‫سحبت ذراعها من ك ٍ ّم وأنزلت‬ ‫الف ْرجة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كورته لتنام فوقه‪ ،‬وكافحت من أجل النوم رغبة منها‬ ‫َ‬
‫ردائها وخلعته‪ ،‬ثم َّ‬
‫في دفع هواجسها ً‬
‫بعيدا‪.‬‬
‫تام في املكان‪،‬‬‫صم ٌت ٌ‬
‫حل ّ‬ ‫وقت متأخر من الليلة نفسها‪ ،‬بعد أن ّ‬ ‫في ٍ‬
‫ٍ‬
‫ََُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اب الخيمة ضوء متذ ِبذب يمر أماممها وسمعت‬ ‫رأت عبر خصاص ب ِ‬
‫شخص آخر لم تستطع‬ ‫ٌ‬ ‫وقع أقدام َّميزت َّأنه للفتاة اللعوب ُ‬
‫يلحق بها‬
‫ُ ّ ً‬
‫تسللة من خلفهم وهي تكمل ِارتداء‬ ‫أن تميزه من خطواته‪ .‬خرجت م ِ‬
‫نتظرت حتى ِابتعدوا مسافة كافية قبل أن تهرع صوب خيمة‬ ‫مالبسها‪ِ ،‬ا َ‬
‫املنوط بهم نوبة الحراسة يغطون‬ ‫شبسكاف‪ .‬في طريقها رأت الحارسين َّ‬
‫كل منهم بظهره على جزع شجرة‪َ .‬‬
‫انتابها فزع‬ ‫في نوم عميق وقد إتكأ ُّ‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ُمفاجيء‪ ،‬وتسارعت دقات قلبها وراء الضلوع وحبست أنفاسها وهلة‬

‫‪40‬‬
‫عندما رأت خيمة شبسكاف فارغة‪ ،‬وأغرورقت عيناها بالدمع على‬
‫الفور‪ ،‬وشقت تنهيدة وجع صدرها في ذات اللحظة التي تألأل دمعها‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫نسدل‬ ‫الهابط كالسيل على وجنتيها‪ .‬كان شعرها الكستنائي الطويل ُم ِ‬
‫بتيبس غريب كأن هذه أول َّ‬ ‫تحركت يداها ُّ‬
‫وظهرها‪َّ ،‬‬ ‫َ‬
‫مر ٍة‬ ‫على كتفيها‬
‫خنجرا من الخيمة‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫دسته تحت‬ ‫تستخدمهما للف شعرها ثم استلت‬
‫َُ َ‬
‫مالبسها وهرعت مهرولة خلف الضوء املتذ ِبذب الذي ابتعد وأصبح‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫صاعدا على الدرجات القليلة املفضية إلى داخل معبد العرافات‪.‬‬
‫عدوا في الظالم الحالك‪ ،‬تقطع املمش ى املؤدي إلى‬ ‫كانت تعدو ً‬
‫ُ‬
‫املعبد‪ ،‬ومرت من بين أربعة تماثيل عمالقة في ساحتة الخارجية‪ ،‬ك ِ ّل‬
‫ٌ‬
‫واحد منهم لواحدة من العرافات وبطول عشرة أقدام‪ .‬صعدت‬ ‫ٍ‬
‫مترددة على الرغم من‬ ‫ّ‬
‫بخطوات تباطأت وأصبحت ِ‬
‫ٍ‬ ‫الدرجات من خلفهم‬
‫ذلك كان دمعها مازال كالسيل ينهمر على وجنتيها بغزارة‪ ،‬كان ُيخيفها‬
‫ٌ‬ ‫ًّ‬
‫صوت ُمشوبة‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬
‫حقيقيا‪ ،‬قالت لنفسها بنبرة‬ ‫حقا أن تجد ما ظنته‬
‫بالدموع وهي تسحب الخنجر من أسفل مالبسها بيدان ترتعشان‪:‬‬
‫((سوف أقتلع قلبك يا شبسكاف‪ ،‬سوف أقتلع قلبك))‪.‬‬
‫مواربا‪ ،‬وفي اللحظة التي‬ ‫دلفت من باب املعبد العمالق والذي كان ً‬
‫وطأت فيها بقدميها داخل املعبد‪ ،‬تعالت صوت العالقة الحميمة بين‬
‫غرفة منزوية وصدح صوتهما في أرجاء‬
‫ٍ‬ ‫الفتاة اللعوب ومن معها في‬
‫املعبد بأكمله بيد أن ضوء املشعل معهما جعل انعكاس خيالهما يظهر‬
‫لها على الحائط‪ .‬كان الرجل والفتاة يتصارعان‪ ،‬وبدا أن كالهما قد‬

‫‪41‬‬
‫إنتعز مالبس اآلخر حتى باتا عاريين‪ ،‬ولم تتبين حتبت رع من الرجل‪.‬‬
‫كان ظهره لها وحجب جسده الفتاة اللعوب عن نظرها وهو يدفعها إلى‬
‫ً‬
‫ناعمة َت ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫صدر منهما‪ ،‬وأدركت أنهما‬ ‫أصواتا‬ ‫أعلى قبالة الحائط‪ .‬سمعت‬
‫بوضوح على الحائط‪ ،‬كان‬ ‫القبالت‪ ،‬ثم أستدارا فظهرا طيفهما‬ ‫يتبادالن ُ‬
‫ٍ‬
‫والب َّد أنه كان يؤملها في‬
‫يتجول بيده على بقع محدده يقصدها‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫الرجل َّ‬
‫بصوت خفيض‪ ،‬مع ذلك قالت‪(( :‬توقف ‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫البقع‪ ،‬ألنها بدأت َّ‬
‫تتأوه‬ ‫تلك ُ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مستسلما‪ ،‬ولم تحاول أن‬ ‫ضعيفا‬ ‫أرجوك توقف))‪ ،‬لكن صوتها كان‬
‫َ‬ ‫تدفعه ً‬
‫بعيدا عنها‪ ،‬بل دفنت يديها في شعره وجذبت وجهه إلى نهدها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫قادرة على‬
‫ٍ‬ ‫راقبتهما حتبت رع بعينين ُمتسعتين من الذعر غير‬
‫وهزت رأسها‬‫التقاط أنفاسها وشعرت بقلبها ينسحق داخل الضلوع‪َّ ،‬‬
‫بالنفي غير ُمصدقة ما تسمعه أذنيها وتراه عينيها‪ .‬في تلك اللحظة‪،‬‬
‫وبمشقة واضحة رفعت يدها‬ ‫ٍ‬ ‫تماما فسقط الخنجر من يدها‪،‬‬ ‫إرتخت ً‬
‫األخرى ووضعتها فوق وجهها وهي ما تزال تبكي‪ .‬لم تالحظ أن املعبد على‬
‫ُ‬
‫غير عادته‪ ،‬ال ُحراس‪ ،‬ال مشاعل تضيئه‪ ،‬يبدو كالبيت الخرب‪ ،‬تفوح‬
‫َّ‬
‫بحركة غريبة‬
‫ٍ‬ ‫منه رائحة الدم‪ .‬أعمتها غيرتها واندفاعها‪ ،‬إال َّأنها شعرت‬
‫طيفا حالك السواد يخرج من بين‬ ‫في الخارج‪ ،‬فالتفت خائفة‪ .‬أت ً‬
‫ر‬
‫الظالل املحيطة بالتماثيل األربعة‪ ،‬قبل أن يمر عبر الباب ُم ً‬ ‫ّ‬
‫ندفعا‬ ‫ِ‬
‫كالريح الغاضبة باتجاه مصدر الصوت‪ .‬لم يكن الطيف قد رآها‪،‬‬
‫وتوقف عند باب الغرفة التي يصدح منها صوت الفتاة وحجب رؤيتها‬
‫لظليهما على الحائط‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫رفيع من نور القمر وجهه‪َّ ،‬‬ ‫خيط ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َم َّ‬
‫تعرفته على الفور من‬ ‫س‬
‫بشرته الرمادية كثيفة الشعر وعيناه الحمراء كالدماء‪َّ ،‬‬
‫((إنه أحد‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫غيالن الجن التي َس ُ‬
‫وشهقت شاعرة بقلبها ينخلع‬ ‫معت عنها))‪ ،.‬قالتها‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫اشتمت رائحة أنفاسه الكريهة عندما فتح فمه‬ ‫خوفا على شبسكاف‪.‬‬
‫وسال لعابه وهو يتأهب لألنقضاض عليهما‪.‬‬
‫َ‬
‫واحتبست أنفاسها في اللحظة التي اندفع‬ ‫تراجعت خطوة للخلف‪،‬‬
‫وحدث ُّ‬ ‫َ‬
‫لحظات معدودة‪ ..‬كادت أن‬ ‫ٍ‬ ‫كل ش ٍيء في‬ ‫فيها الغول نحوهم‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ألم مدوية لم‬
‫جلبة شديدة اعقبتها صرخة ٍ‬ ‫تصرخ عندما سمعت صوت ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫تتكرر‪ ،‬إال أن يدا هبطت فوق شفتيها ومنعتها عن الصراخ‪ ،‬ثم رأت‬
‫ً‬
‫رجاال يجرون للداخل ومن حولها‪ ،‬يحملون الحراب واملشاعل‪.‬‬
‫الحراس ترى ُجثث ُحراس آخرين‬ ‫جعلتها أضواء املشاعل في يد ُ‬
‫ممن كان منوط بهم حماية املعبد والعرافات‪ .‬تأهب الحراس ممن‬
‫أن شبسكاف وحده كان يعرف‬ ‫يرافقون شبسكاف ملهاجمة الغول‪َّ ،‬إال َّ‬
‫َّأنهم لن يستطيعوا مجابهته‪ ،‬فأنزل يده عن وجه حتبت رع وهو يسحبها‬
‫واضعا أياها بين جسده والحائط‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بيده األخرى ويجعلها خلف ظهره‬
‫السوار في معصم يده اليمنى‪.‬‬ ‫وأمسك بيده اليسرى ّ‬
‫ِ‬
‫خارجا من باب الغرفة تتقاطر الدماء‬ ‫ً‬ ‫كان الغول في تلك اللحظة‬
‫ً‬
‫من فمه‪ ،‬ممسكا في يده رأس الفتاة بعد أن إقتلعها من الجسد‪ .‬أحد‬
‫دافعا أيذضاه َّ‬
‫بقو ٍة شديدة‪.‬‬ ‫صوب فأسه بأتجاه الغول ً‬ ‫ُ‬
‫الح َّراس َّ‬
‫ً‬
‫أصابه الفأس في رأسه ُمباشرة‪ ،‬مما أغضب الغول‪ ،‬فأنقض عليه‬
‫‪43‬‬
‫ً‬
‫قطعي في كتفه‬
‫ٍ‬ ‫في ملح البصر‪ .‬أسقطه أرضا على الفور وأصابه ٍ‬
‫بجرح‬
‫وبينما حاول الحارس املفزوع أن ُيدافع عن نفسه‪ ،‬تدارك شبسكاف‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بصوت مرتفع وهو‬
‫ٍ‬ ‫األمر بسرعة قائال تعويذة النور التي تخيف الغيالن‬
‫يوجه كلتا يديه بأتجاه الغول‪(( :‬لوموسيتاي))‪ .‬إنطلقت من بين يديه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طاقة قوية‪ ،‬صنعت فقاعة ضوئية أضائت املكان بشدة من حولهم‪،‬‬
‫مما جعل الغول يصرخ ُويصاب بالجنون‪ .‬فترك الحارس على األرض‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وهم بالهرب قفزا من أحد نوافذ املعبد‪.‬‬
‫رأي شبسكاف أن عليهم ترك املكان على الفور وعدم البقاء فيه‬
‫طويال‪ُ ،‬‬‫ً‬
‫تحس ًبا لعودة املزيد من الغيالن‪ ،‬خاصة وسط هذا الظالم‬
‫ط حتبت رع ضئيلة الجسد َّ‬ ‫َ َ َّ َ‬
‫وكأنها قطعة منه وخرج بها من‬ ‫الحالك‪ ،‬تأب‬
‫ُ‬
‫املعبد ومن خلفه الحراس الذين عملوا على مساعدة الحارس املصاب‪.‬‬
‫ّ‬
‫اطمئن‬ ‫توجه بها ًّتوا إلى املخيم ولم يتركها تخرج من بين زراعيه حتى‬
‫قلبها‪.‬‬
‫صوت‬‫ٍ‬ ‫ً‬
‫حارسا يخبر آخر بنبرة‬ ‫في الصباح الباكر‪،‬سمع شبسكاف‬
‫كل ش ٍيء انتهى هنا‪ ،‬ولنغادر‬‫خائفة‪(( :‬كالب الجحيم‪ ،‬الغيالن‪ ،‬ال فارق‪ُّ .‬‬
‫َّ‬
‫هذا املكان امللعون في الحال))‪ .‬إال َّأنه رفض املغادرة وقرر العودة إلى‬
‫ُ‬
‫املعبد‪ ،‬حتى َيعثر على جثة الحارس والفتاة ويبحث خلف األمر‪.‬‬
‫أثناء توجههم صوب املعبد‪ ،‬أمرهم شبسكاف أن يتخذوا حذرهم‬
‫ويتأهبوا‪ .‬قال الحارس الذي ضرب الغول بالفأس وكان ُم ً‬
‫علقا ذراعه في‬
‫رقبته و َّ‬
‫يأن من األلم‪(( :‬قتلته‪ ،‬ضربة الفأس قتلته‪ ،‬قسمت جمجمته‬

‫‪44‬‬
‫ساخرا إبتسم شبسكاف وكان يتقدمهم مسافة تقل عن‬ ‫ً‬ ‫شطرين))‪.‬‬
‫بال بما سمعه‪ِ ،‬إذ كان يعلم أن الغيالن ال تموت‬ ‫ُ‬
‫ثالثة أمتار ولم ي ِ‬
‫بسهولة هكذا على أيدي ُحراس عاديين‪.‬‬
‫لدى أقترابهم من أسوار املعبد وقعت عينه على عدد من نبتة‬
‫للح َّراس وهو يرفع قبضة يده‬ ‫أصابع الشيطان بالقرب من السور‪ .‬قال ُ‬
‫جميعا))‪ .‬ثم تركهم‬ ‫ً‬ ‫يشير إليهم بعالمة التوقف في الحال‪(( :‬توقفوا‬
‫َ‬
‫وابتعد عنهم ً‬ ‫ً‬
‫مشيا على قدميه وهو يتفقد األرض‬ ‫وشرد متسلال في حذر‬
‫كثيرا من نبته أصابع الشيطان‬ ‫حول األشجار التي ُتحيط باملعبد‪ .‬وجد ً‬
‫قد إنتشرت في املكان‪ .‬مال برأسه مقترًبا من إحداها‪ ،‬فوجدها‬
‫نبتات أخرى‪ ،‬فعلم أن ً‬
‫كثيرا من‬ ‫ٍ‬ ‫مقضومة‪ ،‬والحظ بقايا الكثير من‬
‫الغيالن كانت ُهنا‪ ،‬وأنهم وجدوا طعامهم ً‬
‫وفيرا في املكان‪.‬‬
‫بقية الحراس‪ ،‬دلفوا إلى املعبد‪ ،‬وتجولوا داخل‬ ‫لدى عودته إلى َّ‬
‫ْ‬
‫أروقته‪ .‬كانت ُمفاجأة في انتظارهم‪ ،‬إذ وجدوا جثث العديد من حراس‬
‫تماما‪ ،‬والخادمات كذلك‪ ،‬في نهاية جولتهم داخل أروقة‬ ‫املعبد مشوهة ً‬
‫املعبد وجدوا العرافات األربعة ُمعلقات في القاعة الرئيسية على‬
‫واقتلعت العيون من‬ ‫تماما ُ‬‫الحائط وقد حرقت وتتفحمت أجسادهن ً‬
‫واضحا َّأن ُه َّن قد‬
‫ً‬ ‫أيديه َّن‪ ،‬بدا‬
‫ُ‬ ‫الجثث وال أثر لألساور السحرية في‬
‫شديد من السحر‬
‫ٍ‬ ‫لنوع‬
‫بغرض ما وفي النهاية تعرضوا ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تعرضوا للتعذيب‬
‫األسود كان أكبر من قدرتهم على التصدي له‪ ،‬فأحرقهم بهذه الطريقة‬
‫البشعة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫كان لدى شبسكاف شغف أن يكتشف ماذا حدث في املكان‪ ،‬وكان‬
‫تقريرا لسيده الكاهن لدى عودتهم‪ .‬فأغلق عينيه‬‫ً‬ ‫أيضا أن ُيقدم‬ ‫عليه ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مؤخرا في‬ ‫وهو يمسك بسواره وألقى بتعويذة تمكنه من رؤية ما حدث‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫سوادا حالكا ثم تعرض للصعق في‬‫ً‬ ‫هذا املكان‪ ،‬إال َّأنه فور القائها رأى‬
‫الس َوار‪ .‬ففهم من فوره أن ما حدث‬
‫معصم يده بعدما ارتفعت حرارة ِ‬
‫ٌ‬
‫سحر أسود يفوق قدرته بكثير‪.‬‬ ‫فيه‬
‫وار شديد القوة ِ‬ ‫بفعل ِس ٍ‬ ‫هنا كان ِ‬
‫في تلك اللحظة أمر الحراس أن يأخذوا الجثتين في الغرفة املجاورة‬
‫ويغادروا املكان على الفور‪.‬‬
‫بالقرب من املخيم‪ ،‬شرع الحراس في حفر قبرين للحارس والفتاة‪.‬‬
‫بعيدا قرب‬‫قالت حتبت رع في نفسها وهي تحدج شبسكاف املنزوي ً‬
‫ُ‬
‫عمالقة وقد مطت شفتيها وعقدت حاجبيها‪(( :‬ترى ‪ ..‬أين كان في‬ ‫ٍ‬ ‫شجرة‬
‫ٍ‬
‫ال عاقدة حاجبيها‪ ،‬وقفت‬ ‫إليه ُمندفعة‪ ،‬وهي ما تز ُ‬
‫الليل؟))‪ .‬توجهت ِ‬
‫لثوان معدودة‬ ‫أمامه مباشرة‪ ،‬وسألته‪(( :‬أين كنت في الليل))‪ .‬نظر إليها ٍ‬
‫في صمت وقد شعر من أعماقه َّأنها مجنونة بالفعل‪ .‬وقبل أن يعطيها َّرد‬
‫يب الغربان الذي تزايد فجأة‪ ،‬وعندما رفع عينيه ألعلى‪ ،‬الحظ‬ ‫سمع َن ِع ُ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫بعيد بحجم الذباب وهي‬ ‫امتالء الهواء بالطيور‪ ،‬أغلبها غدفان بدت من ٍ‬
‫ُ ّ‬
‫حلق وتدور في السماء حول املعبد‪ِ .‬التفت وتطلع في أوجه الحراس‬ ‫ت ِ‬
‫الذين فرغوا لتوهم من دفن الجثتين‪ ،‬ورأي األوساخ على مالبسهم‬
‫وتحت أظافرهم وفي أقدامهم‪ ،‬كما رأي الشحوب والقلق في أوجه‬
‫هامسا‬‫بعيدا قرب الخيان واألحصنة‪ ،‬فقال لنفسه ً‬ ‫ُ‬
‫الجالسات ً‬ ‫الفتيات‬
‫بصوت يكاد ُيسمع‪(( :‬البد أن نعود إلى ممفيس))‪.‬‬
‫ٍ‬
‫‪46‬‬
۞۞۞

47
‫‪06‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫بزغ صباح يوم عيد الحصاد في العاصمة ممفيس ُمشرقا كثير‬
‫السماء وساعدت في هطول بعض‬ ‫السحاب في َّ‬ ‫دفعت َّ‬ ‫الريح‪ ،‬التي َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن ُدفات املطر الباردة‪ .‬في هذا العام‪ ،‬تز َاي َدت املزارع أمام الغابات‪،‬‬
‫جارية أصبحت أكبر ومتقاربة لبعضها البعض‪،‬‬ ‫الت َّ‬ ‫والقرى واملعاقل ُ‬ ‫ُ‬
‫والو ْديان منبسطة‪،‬‬‫والتالل أصبحت أقصر ويكسوها الخضار ُ‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬
‫وممتلئة بالخيرات‪ ،‬والحصول على الطعام واملؤن‬ ‫واألسواق ُمتزايدة‬
‫سهال ً‬ ‫ً‬
‫يسيرا على العامة‪.‬‬
‫والت َّفاح‪ ،‬في ساحة القصر اإللهي الخضراء‪،‬‬ ‫تحت شجر األكاسيا ُّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الصنوبر املتين أسفل األ ْس َوار شاهقة‬ ‫موائد طويلة من خشب َّ‬ ‫ن ِص َبت‬
‫الطول التي تكسوها النقوش والرسومات الزاهية‪ ،‬وتتخللها املسالت‬
‫َّ‬
‫الذهبية العمالقة‪ُ .‬ب ِسط على املوائد مفارش من الكتان الذهبي‪،‬‬
‫إستعدادا ألستقبال العامة من أجل األحتفال‪ ،‬وكان ُحراس القصر قد‬ ‫ً‬
‫وخدام القصر لثالث ليالي متتالية‬ ‫عملوا على قدم وساق مع الجزارين َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫في املزبح وأماكن إعداد الطعام من أجل تجهيز الوالئم لهذا األحتفال‬
‫الكبير‪ .‬من جميع أنحاء البالد أتى كبار الكهنة ُّ‬
‫والت َّجار واألبطال الذي‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تحكى عنهم الحكايات‪ .‬كما امتلئت الساحة بعامة الناس‪ ،‬مزارعين‬
‫والصيادين ورعاة املاشية وأبناء أصحاب الحانات‬ ‫َّ‬ ‫وع َّمال الحقول‬ ‫ُ‬

‫‪48‬‬
‫ً َ‬
‫وأمهات يملكن أنوثة كاملة‪،‬‬ ‫فتيات جميالت َّ‬
‫ٍ‬ ‫جميعا أ ِص َّحاء‪،‬‬ ‫وكانوا‬
‫فاألثداء ناهضة‪ ،‬واملالبس ُم َّزينة وزاهية‪ ،‬والوجوه بشوشة‪ ،‬جميعهم‬
‫َ‬
‫نضرة َّ‬ ‫ً‬
‫النعيم‪.‬‬ ‫جنبا إلى جنب تحت األشجار وحول املوائد‪ِ ،‬في وجوههم‬
‫َّ ُّ‬ ‫يحف املكان ُويسبغ عليه ُّ‬ ‫َّ‬ ‫كان َّ‬
‫التطلع‬ ‫السكون والهدوء ويجعل‬ ‫السالم‬
‫مريحا ويبعث الطمأنينة‪.‬‬ ‫فيه ً‬
‫ِ‬
‫كانت جموع العامة ما تزال تتوافد إلى ساحة القصر قادمة من‬
‫متفرقة في املدينة واملدن املجاورة‪ ،‬بينما ِالتف بعض من أتوا إلى‬
‫ٍ‬ ‫انحاء‬
‫ٍ‬
‫مستديرة وعمالقة‪ ،‬فوقها‬
‫ٍ‬ ‫منصة نصف‬ ‫ٍ‬ ‫مرة حول‬
‫القصر اإللهي ألول ٍ‬
‫خمسة من التماثيل الذهبية العظيمة القائمة في مقدمة القصر‪،‬‬
‫واحدا منهم إثنى عشر‬ ‫إثنان عن اليمين واثنان عن اليسار‪ ،‬طول ُك ّل ً‬
‫قدما‪ ،‬ويمثلون اآللهة األربعة‪ ،‬أوزيريس وزوجته إيزيس ُحكام مملكة‬ ‫ً‬
‫الشمال‪ ،‬و ِست وزوجته نفتيس ُحكام مملكة الجنوب‪ .‬بينما يتوسطهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ ً ً‬
‫تأخرا قليال التمثال الخامس بطول خمسة عشر قدما‪ ،‬مصنوع كامال‬ ‫م‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ً‬
‫مسكا في يده َ‬
‫أعاله بلورة ذهبية‬ ‫ص ْولجان في‬ ‫من الذهب الخالص‪ ،‬م‬
‫بالزئبق األحمر‪ ،‬وهو إلله الشمس والنور‪ ،‬رع‪ .‬كانت‬ ‫ُ‬
‫مضيئة وممتلئة ِ‬
‫ٌ‬ ‫َْ ُ َ ٌ‬ ‫َ ّ‬ ‫ٌ ُ ٌ‬ ‫ُ‬
‫وصة بطريقة‬ ‫بص ُفوف من امل َسالت العمالقة مرص‬ ‫الساحة ُممتلئة‬
‫هندسية فائقة الدقة‪ ،‬جميعها على شكل زهرة اللوتس‪ ،‬عمدانها‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مدبوغة باللون األبيض ومزخرفة باألخضر واألحمر‪ ،‬والنقوش عليها‬
‫ستائر من الحرير األبيض واألحمر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫باللون الذهبي‪ ،‬ترفرف أعالها‬
‫ٌ‬
‫خصيصا لحماية الحشود من‬ ‫ً‬ ‫موصولة ببعضها البعض‪ُ ،‬وضعت‬
‫آشعة الشمس أو املطر‪ .‬الجميع من العامة كانوا يمشون بين املسالت‪،‬‬
‫‪49‬‬
‫ْ‬
‫أسفل الستائر الحريرية‪ ،‬حاملين معهم الورود‪ ،‬ال ش يء غير ذلك‪ ،‬إذ‬
‫أن اإلله أوزيريس كان قد منعهم في األعوام السابقة من إحضار‬
‫الهدايا‪ .‬فوق األسوار وفي شرفات القصر‪ ،‬وقفت خادمات القصر‬
‫ُ‬
‫اإللهي تلقي بالورود وزهر اللوتس والقرنفل على املارة باألسفل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫في موعد ُم َّ‬
‫حدد‪ُ ،‬دقت الط ُب ْو ِل وقرعت األ ْج َراس بواسطة الجنود‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫طويل من َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرايات‬ ‫أيقاع ملكي‪ ،‬ور ِفع على األسوار صف‬ ‫األشداء على ٍ‬
‫دوت أصوات‬ ‫الحريرية البيضاء التي رفرفت في الهواء فور رفعها‪ ،‬ثم َّ‬ ‫َّ‬
‫األبواق‪ .‬توجهت انظار الجميع صوب باب القصر العمالق الذي إنفتح‬
‫على مصراعيه‪ .‬خرج من الباب واح تي‪ُ ،‬متحدث القصر اإللهي‪ ،‬وهو‬
‫لحية بيضاء‪ ،‬له عينان‬ ‫ٍ‬ ‫رجل عمالق الجسد‪ ،‬أسود البشرة‪ ،‬ذو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وشاحا طويال من الحرير األبيض املطرز‬ ‫ضيقتان تنم عن ذكاء‪ ،‬يرتدي‬
‫ُ ً‬ ‫بخيوط من الذهب والفضة‪ ،‬وله َّ‬
‫كمين واسعين‪ ،‬ممسكا في يده اليمنى‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ى ً‬
‫صولجانه املصنوع من العاج والذهب‪ ،‬وفي يده اليسر بوقا عمالقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫من خلفه خرج األخوين مونتو رع‪ ،‬حارسان يرتدي ٌّ‬
‫كل منهما خوذة‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً َّ ً‬
‫الف ّض ّي‪،‬‬‫قصيرة مذهبة ومعطفا أحمر موش ى عند الحواف بالساتان ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ناهز‬ ‫وعلى صدره خيطت زهرة اللوتس بالذهب األبيض‪ .‬كالهما ي ِ‬
‫طوال‪ ،‬عريض الكتفين ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫وضيق الخصر ومفتول‬ ‫ِ‬ ‫السبعة أقدام‬
‫سختين‬‫العضالت‪ ،‬إن اقتربت منهما ورأيت وجهيهما بوضوح‪ ،‬وجدتهما ُن ْ‬
‫التمييز بينهما‪ ،‬فاألثنان لهما َ‬
‫الف ُّك القو ُّي نفسه‬ ‫متطابقتين ال ُيمكن َّ‬
‫ْ‬
‫والعينان السوداوان العميقتان‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ٌ‬
‫واحد منهما صف من حراس القصر‬ ‫ٍ‬ ‫خرجا مهرولين وخلف كل‬
‫اإللهي‪ ،‬توجه أحدهما إلى يسار املنصة واآلخر إلى يمينها‪ ،‬ولم يكن ًّأيا‬
‫ِمن حراس القصر يحمل أسلحة‪ ،‬فقد جائت أوامر اإلله أوزيريس‬
‫ْ‬
‫واضحة منذ توليه الحكم‪ ،‬إذ تنص على عدم حمل السالح في وجه‬
‫شعبه ًّأيا كانت األجواء‪ .‬ما إن أخذ الحراس اماكنهم‪ ،‬وقف األخوين‬
‫سبقا لإلله أوزيريس وزوجته‪ ،‬بينما‬ ‫مونتو رع على جانبي العرش املُعد ُم ً‬
‫توسط واح تي املنصة‪ ،‬ورفع البوق في يده اليسرى وكان ُيسمى بوق‬
‫الصيد الثمين‪ ،‬فهو بوق عظيم‪ ،‬مصنوع من العاج األبيض املأخوذ من‬
‫إهداء ملكي‪ ،‬كان قد وهبه‬ ‫ٌ‬ ‫عليه‬
‫منقوش ِ‬ ‫ٌ‬ ‫جمجمة فيل أفريقي عمالق‪،‬‬
‫وقت سابق بعد أن إقتلعه من رأس‬ ‫له إله مملكة كوش الجنوبية في ٍ‬
‫أفريقي ّبري‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فيل‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َ‬
‫تتالية‪ ،‬إال َّأن ُه أطال النفخ في‬ ‫ات ُم ٍ‬ ‫نفخ واح تي في البوق ثالثة مر ٍ‬
‫ّ‬ ‫قليال حتى تراجعت ً‬ ‫ً‬
‫املتجمعة أمام‬
‫ِ‬ ‫تماما أصوات الحشود‬ ‫الثالثة‬
‫عال‪ ،‬قال‪(( :‬حيوا‬ ‫بصوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫املنصة‪ .‬عندها فقط‪ ،‬أنزل البوق ونادى‬
‫أوزيريس ملك األرض كلها‪ ،‬حيوا إيزيس ملكة مصر كلها))‪.‬‬
‫امنا مع ظهور أوزيريس‬ ‫تعالت صيحات الحشود مرة أخرى تز ً‬
‫ٌ‬
‫برفقة زوجته إيزيس ومن خلفها صف من الخادمات وقد خرجوا‬
‫مترجلين من الباب العمالق حتى وصال ُمنتصف املنصة‪ ،‬وتوقفوا أمام‬
‫التماثيل الخمسة‪ .‬لوحوا للجموع املحتشدة أمامهم قبل أن يلتفا‬
‫كل منهما ستة أقدام‪ .‬دار‬ ‫عائدين ليجلسا على عرشين ذهبيين‪ ،‬طول ُّ‬

‫‪51‬‬
‫حولهم ضف الفتيات‪ ،‬خادمات القصر‪ ،‬ونثروا فوقهم الورود امللونة‬
‫ٌ‬
‫وزهر اللوتس وزهر القرنفل بينما توجه صف آخر إلى حافة املنصة‬
‫وأخذوا يلقون بالورود وزهر اللوتس والقرنفل على العامة تحت‬
‫املنصة‪ .‬تعالت صيحات الجموع وامتزجت بأصوات الطبول واالجراس‬
‫مع األبواق‪ .‬كان اإلله أوزيريس قوي البنية‪ ،‬عريض املنكبين‪ ،‬شديد‬
‫َ‬ ‫والحسن‪ ،‬يملك عينين َّ‬
‫اذتين‪ ،‬شعره ُب ِ ّن ُّي فاتح ووجهه‬ ‫أخ ْ‬ ‫الرشاقة ُ‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫صغيرا‪ ،‬إذ كان‬ ‫ُمتناسق املالمح‪ ،‬إكتسب محبته من صفاته وقتما كان‬
‫يترفق بجميع املخلوقات‪ ،‬وال ُيهين ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أحدا‪،‬‬ ‫حسن الخلق‪،‬‬ ‫رقيق القلب‪،‬‬
‫حش‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫من رآه هابه‪ ،‬ومن عرفه أحبه‪ ،‬يألف الناس ويألفونه‪ ،‬ال ينطق بف ٍ‬
‫طعاما‪ّ ،‬لين‪ ،‬وعندما تولى الحكم لم‬ ‫أحد‪ ،‬وال يعيب حتى ً‬ ‫يعيب على ٍ‬ ‫وال ُ‬
‫ً‬
‫بفظ وال غليظ‪ .‬واليوم جعلت منه‬ ‫يجعل في أرضه سائال‪ ،‬ولم يكن ٍ‬
‫ً‬
‫زوجته إيزيس صورة بالغة األناقة وقد َّثبتت معطفه الحريري األبيض‬
‫ً‬
‫ذهبية‪ ،‬والبسته ُسترة‬ ‫َّ‬ ‫شجر‬
‫ٍ‬ ‫بدبوس على شكل ورقة‬ ‫عند الكتف ُّ‬
‫شيئا من هذا لم ُ‬ ‫الذهب األصفر واألبيض‪ ،‬ولكن ً‬ ‫َّ‬
‫يلفت‬ ‫مشغولة من‬
‫دائما في أوزيريس هو‬ ‫أبدا إنتباه الحشود‪ ،‬أكثر ما لفت إنتباه الحشود ً‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫الخير والعدل واملساواة‪ ،‬فقد كان ً‬
‫دائما الحاكم العادل املحب للجميع‪.‬‬
‫وطوقت ُعنقها‬ ‫ستانا من الحرير األصفر الذهبي َّ‬ ‫فارتدت ُف ً‬ ‫َّأما أيزيس َ‬
‫القمري والذهب األبيض‪،‬‬ ‫األبيض كالحليب بالياقوت األزرق واللؤلؤ َ‬
‫ولم يكن جمالها األخاذ أو لون عينيها الزرقاوان هما ما تشتهر بهما‬
‫فقط‪ ،‬فقد إشتهرت بين العامة بالطبيبة الساحرة‪ ،‬وذلك بعدما‬
‫ً‬
‫قطعت وقتا من حياتها وجعلته ملعالجة العامة من الناس ُمستخدمة‬
‫‪52‬‬
‫قدرتها السحرية وقوة سوارها وما تعلمته من علوم الطب على أيدي‬
‫الكهنة‪.‬‬
‫تباعا في وضع‬ ‫إقتربت صفوف الحشود من املنصة مهللين‪ ،‬وبدأوا ً‬
‫َ‬
‫الورود والزهور أمام ملك األرض‪ ،‬وفي اللحظة ذاتها‪ ،‬ن َفخ واح تي في‬
‫ويسمح لهم‬ ‫ُ‬ ‫واحدا تلو اآلخر‪،‬‬‫ً‬ ‫يقدم اآللهة‬ ‫جد ًدا‪ ،‬ثم بدأ ّ‬ ‫البوق ُم َّ‬
‫ِ‬
‫بالصعود إلى املنصة لتقديم الهدايا ُومباركة إله وملك األرض كلها‬
‫عال‪ ،‬قال‪(( :‬هاثوور‪ ،‬آلهة‬ ‫ٌ‬
‫أوزيريس وزوجته‪ .‬فنادى بصوت جهوري ٍ‬
‫الحب))‪.‬‬
‫اس ِت ْح َي ٍاء‪ ،‬بردائها األحمر الزاهي‬‫تقدمت هاثوور َمت َر َّج َلة َت ْمش ي َع َلى ْ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫تاج على هيئة ّ‬ ‫املطرز بالذهب‪ ،‬وفوق رأسها ٌ‬
‫قرني غزال تتوسطه بلورة‬
‫بيضاء كالثلج‪ ،‬عيناها بندقيتان‬ ‫ٌ‬ ‫حمراء اللون‪ ،‬كانت بالغة الجمال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ضاجج باألنوثة‪ .‬إنحنت أمام أوزيريس وزوجته وهي تقدم لهما‬ ‫وجسدها‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫هدية عيد الحصاد‪ .‬ثم غادرت املنصة‪ ،‬فنفخ واح تي في البوق ُمجددا‪،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬قال‪(( :‬توت‪ ،‬إله الحكمة))‪.‬‬ ‫ونادى َّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تقدم توت على الفور حامال بين يديه صندوقا ُم َوش ًى باألحجار‬
‫الز َئبق األحمر‪ .‬ثم توالى تقديم اآللهة‬ ‫قوارير ِ‬ ‫الكريمة‪ ،‬مليء بالذهب و ِ‬
‫ٌ‬
‫ُ‬ ‫واحدا تلو آخر‪ٌّ ،‬‬ ‫ً‬
‫وكل منهم تصاحب لحظات دخوله دقات طبول ذا‬
‫يقدم الهدايا لإلله ملك األرض كلها‪ .‬وبينما ُيقدم واحي‬ ‫أيقاع ثابت حتى ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ات‬ ‫تي أحد اآللهة‪ ،‬إذا بحاملي األبواق وضاربي الطبول يعطون إشار ٍ‬
‫دقا ذا إيق ً‬‫ل ً‬ ‫صوت األبواق للغاية ُ‬ ‫ُ‬
‫اعا‬ ‫ودقت الطبو‬ ‫ملكية‪ ،‬إذا تعالى‬

‫‪53‬‬
‫شخصا عظيم الشأن قد حضر‪ .‬توقف واح تي‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ملكيا‪ ،‬في إشارة منهم أن‬
‫طائر في الهواء‬
‫ٍ‬ ‫بموكب‬
‫ٍ‬ ‫من فوره عن الحديث وانتبه الجميع‪ ،‬فإذا‬
‫ُ‬
‫يحمله الحمام األبيض يقترب ويحط على املنصة‪ ،‬نزلت منه آلهة‬
‫الحماية‪ ،‬سيدة الديار‪ ،‬نفتيس‪ ،‬أخت اإلله أوزيريس‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫مجيئها غير متوقع‪ ،‬إذ أن اليوم هو يوم عيد الحصاد في‬ ‫كانت‬
‫ٌ‬ ‫الجنوب ً‬
‫أيضا‪ ،‬ويجب عليها أن تكون متواجدة في قصرها إلى جوار‬
‫زوجها اإللة ِست من أجل اإلحتفال‪.‬‬
‫ٌ‬
‫طبيعي بمجيء نفتيس وتركها‬ ‫أن هناك ٌ‬
‫شيئ ما غير‬ ‫شعرت إيزيس ّ‬
‫القصر اإللهي في الجنوب يوم عيد الحصاد‪ ،‬فأغمضت عينيها‬
‫ذهنيا مع زوجها أوزيريس طلبت منه أن ُيسرع في إنهاء طقوس‬
‫وتواصلت ً‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫اللحظة َه َّب ً‬
‫والتفت ناحية واح تي وأشار إليه‬ ‫واقفا‬ ‫اإلحتفال‪ .‬في تلك‬
‫ببدأ توزيع الهدايا والعطايا التي أتى بها األلهة على أشخاص تم‬
‫وقت سابق بعد‬ ‫أختيارهم من بين العامة على أسسس تم وضعها في ٍ‬
‫ات كثيرة بين أوزيريس وكبار الكهنة والعاملين في القصر اإللهي‪.‬‬‫مشاور ٍ‬
‫ُ‬
‫مهندس معمار ٍي‬
‫ٍ‬ ‫إذ أعطيت الهدايا لصاحب أفضل محصول‪ ،‬وأفضل‬
‫ُ‬
‫بناء يمكن للشمس أن تدخله طوال العام وتطل على‬ ‫قام بتصميم ٍ‬
‫نقطة محددة في يومين فقط في العام يتم تحديدهم بواسطة املهندس‬
‫عدد من‬‫ذاته‪ .‬وعلى هذا املنوال تم توزيع الهدايا والعطايا على ٍ‬
‫سبقا للقصر اإللهي بما صنعوه في خالل‬ ‫املتواجدين الذين تقدموا ُم ً‬
‫عام الحصاد‪ .‬ما إن إنتهى توزيع الهدايا‪ ،‬أشار واح تي إلى حاكم األرض‬

‫‪54‬‬
‫كلها أوزيريس يعلمه باإلنتهاء‪ .‬فأشار له األخير ببدأ آخر طقوس‬
‫ٌ‬
‫اإلحتفال‪ ،‬وكان منوط به أن يكون إطعام جميع الحشود كما يحدث في‬
‫ّ ُ‬
‫أي أن تحط أطباق الطعام على املوائد الصنوبرية‪ ،‬ويجلس‬ ‫كل عام‪،‬‬
‫َّ‬ ‫العامة ً‬
‫جنبا إلى جنب ويتناولوا الطعام‪ .‬إال أن هذه املرة كان األمر‬
‫ُم ً‬
‫ختلفا‪ ،‬لم يخرج الحراس حاملين الطعام ليوزعوه على املوائد الكبيرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجبات متساوية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بل خرجوا حاملين الطعام وقد قسم على شكل‬
‫ً‬
‫يحم ُل واحدة أو اثنين‬
‫فرد أن ِ‬ ‫محفوظة بعناية شديدة إذ يمكن لكل ٍ‬
‫بين يديه والخروج بهم من القصر‪ .‬وفي تلك اللحظة‪ ،‬قال أوزيريس‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫موجها حديثه للجموع املحتشدة‪(( :‬ال تأكلوا فرادا‪ ،‬إذهبوا إلى ذويكم‪،‬‬
‫جنبا إلى جنب‪ ،‬فإن خير الطعام ما تتقاسموه مع‬ ‫تناولوا الطعام معهم ً‬
‫أمهاتكم وزوجاتكم وأطفالكم))‪.‬‬
‫تعالت صيحات الحشود‪ ،‬فأشار أوزيريس إلى واح تي بأن ينفخ في‬
‫البوق من أجل تهدئتهم كي يكمل ما لديه من قول‪ .‬وأطلق واح تي من‬
‫فوره البوق ثالثة مرات ُمتتالية‪ ،‬فهدأت الحشود ُم َّ‬
‫جد ًدا‪ ،‬وشرع امللك‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُيكمل ما تبقى من حديثه‪ :‬قال‪ (( :‬هذا العام‪ ،‬جاء الحصاد ً‬
‫وفيرا‪،‬‬
‫ُ‬
‫فيضان‬ ‫ضاعفا‪ ،‬لذا‪ ،‬فالجميع معفيون من الضرائب حتى‬ ‫ً‬ ‫والخير ُم‬
‫النهر القادم))‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪55‬‬
‫‪07‬‬
‫َ‬
‫في أبيدوس‪ ،‬تراجعت امل َّزارع أمام الغابات والرمال‪ ،‬والقرى‬
‫ً‬
‫أصغر مساحة مما ُيتوقع أن تكون عليه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫واملعاقل التجارية أصبحت‬
‫والتالل أعلى‪ ،‬وشديدة‬ ‫ّ‬ ‫ومتباعدة ً‬
‫كثيرا عن بعضها‪ ،‬وقل روادها‪ِ ،‬‬
‫والوديان أعمق‪ ،‬شحيحة الخيرات‪ ،‬والعثور‬ ‫األنحدار يكسوها الصخر‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫عسيرا‪.‬‬ ‫على الطعام َ‬
‫صار‬
‫سرية ِمن ُحراس‬ ‫وقت ُمبكر من صباح يوم عيد الحصاد‪ ،‬كانت َّ‬
‫ٍ‬ ‫في ٍ‬
‫إله الجنوب ِست قد تجولت في أسواق وشوارع املدينة والقرى‬
‫َّ‬ ‫وف من العربات التي تجرها الخيول‬ ‫ُُ ٌ‬ ‫املجاورة‪َّ ،‬‬
‫بالسمك‬ ‫حملوا صف‬
‫واللفت‪ ،‬وأجوله من الفاصوليا َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫والشعير‬ ‫اململح والخبز الجامد والدهن ِ‬
‫ٌّ‬ ‫وقوالب من الجبن األصفر ُّ‬
‫والزْبدة‪ .‬صف كامل من هذه العربات ُح ِّمل‬
‫ٌّ‬
‫الضا ِئ ُن وقوارير النبيذ‪ ،‬صف آخر من العربات التي تجرها‬ ‫باللحم َّ‬
‫فئة من أفضل ُ‬ ‫ٌ‬
‫الحراس مدججين بالسالح‬ ‫األفيال الضخمة أحاط به‬
‫ُ َّ‬
‫بعضهم ُممسكا بحيوانات ضارية كاألسود والنمور‪ ،‬ح ِملت بالعمالت‬
‫عنوة من أغنياء‬ ‫الذهبية وقطع الذهب الخالص‪ُ ،‬أخذت جميعها َّ‬
‫التجار واملزارعين كنوع من الضرائب‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُعرف عن أهل الجنوب أن خيراتهم تملىء الخزائن حتى قيل َّأنها ال‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أبدا‪ ،‬خزائن منازلهم ُممتلئة طوال العام‪ ،‬ك ُّل فردا فيهم ُم ْم َت ِلئ‬ ‫تنضب ً‬

‫‪56‬‬
‫َّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬
‫قيمة‬
‫كل ل ٍ‬ ‫البط ُن ِبالط َع ِام‪ .‬لكن ومنذ تولى ِست الحكم‪ ،‬تبدل كل ش ٍيء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جبرين على ُّ‬ ‫أكلت بالفعل‪ ،‬واآلن قد أصبحوا ُم َ‬‫َ‬
‫التعيش مما تنبته األرض‪.‬‬
‫فر إلى مملكة‬ ‫السرقة من أراض ي الغير‪ ،‬وبعضهم َّ‬ ‫لجأ بعضهم ألحتراف َّ‬
‫ً‬ ‫الشمال‪ .‬بينما َ‬
‫وجد بعضهم في الغابة مالذا لهم‪ ،‬فيذهبوا إليها كل‬
‫الغسق يعودان بظبي معلق من‬ ‫صباح مع طلوع الشمس‪ ،‬ومع حلول َ‬
‫َّ‬ ‫عامود بينهم‪ ،‬أو بزوجين من طيور َّ‬
‫السمان يتدليان من أحزمتهم‪ ،‬بينما‬
‫التوت األسود‬ ‫الصبية والفتيات وقليل من النساء على قطف ُّ‬ ‫يعمل َّ‬
‫جواال ُّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫بالتفاح إذا‬ ‫النابت على الطريق‪ ،‬أو يتسلقون األسوار ليملئوا‬
‫مروا ُببستان أحد األغنياء وكان ً‬
‫مثمرا‪.‬‬ ‫تصادف أن َّ‬
‫على مشارف املدينة‪ ،‬بالقرب من قلعة القصر اإللهي‪ ،‬كان َّ‬
‫النهار‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫قد ِانتصف‪ ،‬عندما ظهرت مجموعة َّ‬
‫مكونة ِمن عشرون أو ثالثون رجال‬
‫وخوذات قصيرة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫معدنية‬ ‫حلقات‬
‫ٍ‬ ‫يرتدون القمصان املصنوعة من‬
‫شديد كما تش ي األصوات التي يصدرونها‬‫ٍ‬ ‫بأس‬
‫أغلبهم شديد البنية ذو ٍ‬
‫أو أصوات الذين يتجرعون األلم على أيديهم‪ .‬كان صوتهم ً‬
‫عاليا للغاية‪،‬‬
‫وجها لوجه مع بعض ِمن سكان‬ ‫لديهم حراب وتروس وأحصنة‪ ،‬ويقفون ً‬
‫وهلع ينتظرون العقاب بعدما‬ ‫خوف ٍ‬ ‫القرية الذين جثوا على األرض في ٍ‬
‫فشلوا في توفير الضرائب املفروضة عليهم لهذا العام‪ .‬وكان عقاب من‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يعترض أو يتعثر أن تصادر ُممتلكاته إن كانت ذا قيمة أو تحرق إن‬
‫كانت غير ذلك‪ ،‬وفي حي ٍن آخر من املمكن أن ُيقتل أو ُيحرق إذا واجههم‬
‫ُ‬ ‫ُم ً‬
‫عترضا أو أن تؤخذ إحدى فتياته إن كانت ضاججة باألنوثة لتوضع في‬
‫َ ُ‬ ‫جناح العذراوات لخدمة اإلله ست وأعوانه‪ .‬كانت رائحة ُّ‬
‫الدخان تبلغ‬ ‫ِ‬
‫‪57‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ألمياال في َّ‬
‫كل أتجاه‪ ،‬والبيوت‬ ‫متفح ًما‬
‫ِ‬ ‫األنوف‪ ،‬حيث الحقول خر ًابا‬
‫مسودة‪ ،‬وقد تناثرت ُجثث الحيوانات املحروقة واملذبوحة‬ ‫مجرد هياكل َّ‬
‫َّ‬
‫حي من ال ِغدفان آكلة الجيفة‪ ،‬التي تنعب‬ ‫ٍ ّ‬
‫غطاء ٍ‬ ‫على األرض‪ ،‬تحت‬
‫غاضبة إذا قاطع أحد وجبتها‪.‬‬
‫عجالت‬
‫ٍ‬ ‫مرت قافلة عسكرية مكونة من عشرة‬ ‫في هذه األثناء‪َّ ،‬‬
‫حربية سوداء‪ ،‬غريبة الشكل ومهيبة‪ ،‬التفت َّرتل الجنود بأكمله‬
‫نحوها‪ ،‬تابعوا القافلة بأنظارهم وهي تبتعد على الطريق الذي ُيفض ي في‬
‫تقدم العربات ثالثة من الحراس‬ ‫نهايته إلى قلعة القصر اإللهي‪َّ .‬‬
‫يمتطون الخيل‪ ،‬بدا أن أحدهم هو القائد‪ ،‬وتأخر عن العجالت‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫جميعا باألسود من األعلى إلى أخمص األقدام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خمسة آخرين‪ ،‬ت َو َّش َحوا‬
‫ً‬
‫وارتدوا خوذات سوداء طويلة‪ ،‬وحملوا معهم سيوفا ورماح‪ ،‬كانت‬
‫غيالن من الجن‬‫ٌ‬ ‫العجالت منطلقة بسرعة شديدة وكأن ما يجرها‬
‫ً َّ ً‬ ‫ً‬ ‫وليست أحصنة‪ .‬أي حراس ّ‬
‫املقدمة جثثا محروقة معلقة على خوازيق‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫حادة قرب أسوار قلعة القصر اإللهي‪ ،‬وقد َرفع أصحابها أيديهم أمام‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫إلتهاما‪ ،‬قال‬ ‫كأنما ُيحاولون ُمقاومة َّ‬
‫النيران التي إلتهمتهم‬ ‫وجوههم َّ‬
‫ناس أمتنعوا وعارضوا دفع الضرائب))‪.‬‬ ‫ساخرا‪(( :‬أنها ُأل ٌ‬‫ً‬ ‫أحدهم‬
‫عندما بلغوا القلعة كانت الشبكات الحديدية ُمسدلة بالفعل أمام‬
‫ُّ‬ ‫البوابات‪َ ،‬‬
‫مناسبة من املكان‪ ،‬وقال‬
‫ٍ‬ ‫مسافة‬
‫ٍ‬ ‫أمر حارس بالتوقف على‬
‫َّ‬ ‫حرسوا العربات ريثما ُتفتح لهم َّ‬ ‫اآلخرين أن َي ُ‬ ‫َ‬
‫األبواب‪ .‬حلق‬ ‫للحراس‬
‫َسرب من ال ِغدفان من داخل األسوار عندما دخلوا من بوابة القصر‬

‫‪58‬‬
‫أقفاص فوق أثنان من‬
‫ٍ‬ ‫العمالقة‪ ،‬فبادلتهم ال ِغدفان التي معهم في‬
‫العربات بنعيب صارخ ُي ّ‬
‫ص ُم اآلذان‪.‬‬‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫كانت قلعة القصر اإللهي ُّ‬
‫أسطوانية‬ ‫تطل عابثة‪ ،‬عشرة أبراج‬
‫َّ‬
‫الحديدية‪ِ ،‬حصن أمامي ضخم‪ ،‬أروقة مقنطرة‬ ‫هائلة َّ‬
‫متوجة باملتاريس‬
‫وجسور مغطاة‪ ،‬ثكنات وزنازين وصوامع غالل‪ ،‬أسوار واقية عمالقة‬
‫مزودة بفتحات الرماية‪ ،‬كلها مشيدة بالحجارة الباهتة‪ ،‬ال رسومات‬
‫ً‬
‫على الحوائط‪ ،‬مسالت قليلة تبدو باهتة هي األخرى‪ ،‬ال تماثيل بأستثناء‬
‫تماثيل الخداع املصبوبة على األسوار وتمثال واحد فقط لإلله ِست في‬
‫قدما مصنوع من الذهب الخالص‪.‬‬ ‫ساحة أمام القصر‪ ،‬طوله ثالثين ً‬
‫ساكنا كمقبرة‪ ،‬التماثيل الحجرية مع‬‫ً‬ ‫ً‬
‫مظلما‬ ‫َّأما القصر اإللهي فقد بدا‬
‫الحراس على األسوار تبدو ضبابية مشوشة‪ ،‬ما إن تنظر إليه تشعر‬
‫وكأن العالم تسربل بالظالم‪ .‬كما أن الجثث املحترقة بالخارج َ‬
‫فاحت‬
‫منها رائحة نتنة نفاذة‪ ،‬وحتى جنود القصر مع الخادمات تبدوا في‬
‫وجوههم نظرات الشعور بالقلق الدائم‪.‬‬
‫كان ِست في جناح العذراوات يضاجع القاصرات ممن أخذهم‬
‫عنوة من عائالتهم في غياب زوجته السيدة نفتيس التي أتخذت لنفسها‬
‫ً‬ ‫تعيش فيها ً‬
‫ُ‬
‫بعيدا عنه برفقة بعض خادماتها وعددا ال بأس به من‬ ‫قلعة‬
‫ُ‬
‫الح َّراس الذين هربوا من جحيم زوجها‪.‬‬
‫كان بعض الحراس يقفون حوله وقد أعطوه ظهورهم حسب‬
‫أوامره في اللحظة التي دلف فيها أحد ُ‬
‫الح َّراس من الباب وأبلغه بحضور‬

‫‪59‬‬
‫كبير السحرة‪ ،‬الكاهن يورشو وبعض جنوده‪ .‬كما أخبره أن بعض‬
‫التجار قد بدأوا في التوافد على القصر من أجل تقديم‬ ‫الكهنة وكبار ُّ‬
‫بعنف ُمعتا ٌد‬ ‫ٍ‬ ‫الهدايا والقرابين مع الضرائب بمناسبة عيد الحصاد‪.‬‬
‫متوجها صوب‬ ‫ً‬ ‫عليه‪ ،‬دفع ست الفتيات عن الفراش‪ ،‬ونهض ً‬
‫عاريا‬ ‫ِ‬
‫ستفسرا بأرتياب‪(( :‬السيدة نفتيس!!))‪ .‬أجابه‬ ‫ً‬ ‫الحارس وهو يسأله ُم‬
‫خائفا‪(( :‬ما تزال في قلعتها‪ ،‬لم تأتي إلى هنا بعد))‪ .‬دلف يورشو‬ ‫الحارس ً‬
‫كبير مهندس ي ِست وكاهنه إلى الجناح دون إستأذان ومن خلفه أثنان‬
‫ٌ‬ ‫صوت َ‬ ‫ُ‬
‫فاح منها خبث واضح‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫من ُح َّراسه‪ ،‬وقاطعهما بنبرة‬
‫جنبا إلى‬ ‫أظن َّأنها ً‬
‫((نفتيس نفتيس ‪َّ ..‬إنها في ممفيس منذ الصباح‪ُ ،‬‬
‫جنب مع أوزيريس اآلن))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫بحركة فظ ٍة للحرس قائال‪(( :‬أتركونا وحدنا))‪ .‬ونظر إلى‬ ‫ٍ‬ ‫أشار ِست‬
‫رداء أزرق اللون مطعم ومطرز بالذهب‬ ‫حنق وهو يتوشح ٍ‬ ‫يورشو في ٍ‬
‫والفضة وقال‪(( :‬كنت ال تزال تعرف معنى الكياسة وأنت صبي))‪.‬‬
‫صوت‬ ‫شيئا من األسف َّ‬
‫مشو ٌب بالندم وقال بنبرة‬ ‫بدا على يورشو ً‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫سيدي‪ ،‬لكن تلك لم تكن َّنيتي أطالقا))‪.‬‬ ‫آسفة‪(( :‬لقد أغضبتك يا َّ‬
‫ً‬
‫ذكريات قديمة‪ ،‬لطاملا كان ِست طفال‬ ‫ٍ‬ ‫أثارت نظرة ِست في عقل يورشو‬
‫ٌ‬
‫ومتهورا‪ ،‬قوي البنية‪ ،‬عمالق‪ ،‬له مالمح قبيحة‪ ،‬شفتان‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ماكرا‬
‫ضرر أو‬ ‫َّ‬
‫مشقوقتان‪ ،‬وعين بها عور‪ ،‬فظ‪ ،‬غليظ القلب‪ ،‬لكن بعد كل ٍ‬
‫ٌ‬
‫أزعاج يتسبب فيه يبدو عليه األسف الشديد‪ ،‬وكانت هذه واحدة من‬
‫تماما‪ ،‬كان يورشو‬ ‫كثيرا‪ .‬وعلى عكسه ً‬ ‫مواهبة‪ ،‬لكن السنين لم تغيره ً‬

‫‪60‬‬
‫ً‬
‫ضئيل الحجم‪ ،‬أقصر من‬ ‫ُ‬ ‫صبيا مر ًحا وضئيل الحجم‪ ،‬كبر ُليصبح رجال‬
‫ً‬
‫ست ببوصة أو أثنين‪ً ،‬‬
‫رشيقا وسريع الحركة‪ ،‬لديه املالمح الحادة التي‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ال تنس ى‪ ،‬والعينان الضاحكتان ذاتا اللون األخضر الداكن‪ ،‬كانت لديه‬
‫مدببة على ذقنه‪ ،‬وخيوط من الفضة في شعره األسود‬ ‫لحية صغيرة َّ‬ ‫َّ‬
‫الرغم أنه لم يبلغ الثالثين بعد‪ .‬كانا صديقان منذ نعومة‬ ‫على َّ‬
‫ْ‬
‫أظافرهما‪ ،‬إذ أن يورشو كان اإلبن الوحيد للكاهن َحنكليس والذي كان‬
‫قسم الحكم بين األخوين‬ ‫كاهنا في زمن والد ِست اإلله رع قبل أن ُي َّ‬ ‫ً‬
‫أوزيريس و ِست‪ .‬بيد أن يورشو تنقل بين املعابد والكهنة فتعلم فنون‬
‫السحر حتى أستطاع أن ُيصبح كبير السحرة واملهندسين املعماريين‬
‫وذلك بفضل تسخيره للجن ومقدرته على فتح بوابات بين العوالم‬
‫الخفية‪.‬‬
‫شديد لم يستطع أخفائه‪(( :‬كيف عرفت أن‬ ‫ٍ‬ ‫حنق‬
‫سأله ِست في ٍ‬
‫نفتيس غادرت املدينة؟))‪.‬‬
‫َّ ً‬ ‫َ‬
‫ومشوبة بالغرور‪(( :‬يورشو ‪ ..‬يعرف كل‬ ‫بأبتسامة ماكرة‬
‫ٍ‬ ‫أجاب‬
‫َّ‬
‫ستتفجر منه‬ ‫حتقنا لدرجة َّأن ُه بدا كأن ّ‬
‫الدماء‬ ‫ش يء))‪ .‬كان وجه ست ُم ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بصوت مختنق من فرط الغضب‪(( :‬سوف أقتل‬ ‫ٍ‬ ‫أي لحظة‪ ،‬وصاح‬ ‫في ّ‬
‫َّ‬
‫أوزيريس‪ ،‬سوف أقتله‪ ،‬وسوف تساعدني في ذلك وإال سأضع رأسك‬
‫على خازوق!))‪.‬‬
‫كلمة أخرى‬ ‫ساخرا ثم َ‬
‫دار على عقبيه بال ٍ‬ ‫ً‬ ‫إنحنى يورشو وابتسم‬
‫واسعة من‬
‫ٍ‬ ‫بخطوات‬
‫ٍ‬ ‫شاعرا بنظرات ِست على ظهره‪ ،‬ومع خروجه‬ ‫ً‬ ‫وهو‬

‫‪61‬‬
‫توقف كأن ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫شيئا لم يكن‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫استمر الحوار بال‬ ‫جناح العذراوات‬
‫ّ‬ ‫َ َُ‬
‫((إن صراعك ليس مع أوزيريس يا جاللة اإلله‪ِ ،‬فلم تب ِدد قواك في قتاله‬
‫كل رجل لكي‬ ‫وجيش كامل العدد‪ ،‬بينما تحتاج إلى ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ولديه أسوار َّ‬
‫قوية‬
‫ِ‬
‫أشياء ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫أهم من هذا اآلن))‪ .‬إنتبه ِست وهو‬ ‫تحقق مسعاك؟ ثم إن هناك‬
‫فتقدم اثنان‬ ‫وصفق يورشو عند اقترابه من الباب‪َّ ،‬‬ ‫يمش ي من خلفه‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املطعم بالفضة‬ ‫من حراسه حاملين صندوقا ثقيال من خشب األرز‬
‫َّ‬
‫والذهب ووضعاه عند قدميه‪.‬‬
‫عما ُيمكن أن يكون‬ ‫ستغربا وهو يتسائل في نفسه َّ‬ ‫ً‬ ‫نظر ِست إليه ُم‬ ‫َ‬
‫ُ ّ‬ ‫في داخل الصندوق‪ ،‬ثم َ‬
‫فتح الغطاء بالخ ِف الذهبي الذي ينتعله في‬
‫فضية اللون والخضراء‬ ‫َّ‬
‫السحرية َّ‬ ‫باألساو ُر‬ ‫فوجده ً‬
‫مليئا‬ ‫َ‬ ‫قدمه َّ‬
‫القوية‪،‬‬
‫ِ‬
‫واحدا منها َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وقربه من‬ ‫ذات الثالث نجمات كما وعده يورشو‪ .‬التقط‬
‫نجمات نارية اللون‪،‬‬ ‫واره الذهبي في معصم يده الذي يتزين بخمس‬ ‫س ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫السواران وبدا أن ِست املبتسم في حينها يقاوم بسعادة تجاذب‬ ‫فتوهج ِ‬
‫َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫السوار الفض ي‬ ‫السوارين لبعضهما البعض إال أنه في النهاية ترك ِ‬
‫يسقط فوق ِسواره ليسيل كاملاء ويندمجا في بعضهما البعض قبل أن‬
‫تبرز نجمة سادسة في ٍسواره األصلى‪.‬‬
‫لك‬ ‫أيضا عندي َ‬ ‫مقهقها‪(( :‬أنا ً‬ ‫ً‬ ‫الصندوق وقال‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬أغلق ُّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫رجل وامر ٍأة‬
‫هدية‪ .‬ثالثة ليالي كاملة تقيمها في جناح العذراوات‪ .‬وكل ُّ ٍ‬
‫سيعطى ما يشاء وما يستطيع أن يحمله من طعام‬ ‫وطفل من أتباعك ُ‬
‫حرَّية اختيار ما يشائون من قبو الضرائب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وثياب أو ذهب‪ ،‬ولهم ِ‬ ‫ومال ٍ‬‫ٍ‬

‫‪62‬‬
۞۞۞

63
‫‪08‬‬
‫أخيرا إلى مشارف الطريق‬ ‫مرت قبل أن يصل شبسكاف ً‬ ‫ثالثة َّأيام َّ‬
‫املار عبر الغابة القديمة والذي ُيفض ي ُمباشرة إلى العاصمة‪ ،‬كان على‬
‫َّ‬
‫متواصلة جعله‬
‫ٍ‬ ‫ساعات‬
‫ٍ‬ ‫عجلة من أمره‪ ،‬إال أن هطول األمطار طوال‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫يتوقف ويتأخر‪ .‬إنتظار توقف املطر جعله شاعر بالضجر وامللل‪ ،‬مما‬
‫ً‬
‫أعطاه أنطباع َّأنها ثالث َّأيام طويلة‪ ،‬وكذلك حتبت رع‪ ،‬بدت شاعرة‬
‫بامللل والقلق املشوب بالخوف إلى جواره‪.‬‬
‫َّ‬
‫تحركوا عند توقف األمطار‪ ،‬دلفوا إلى الغابة بالفعل إال أن األرض‬
‫َّ‬
‫املبتلة أبطأت من حركتهم‪ ،‬بعدما أصبحت َزل َق ًه للغاية‪ ،‬مع ذلك تعثرت‬
‫صخرة صغيرة‪ ،‬ولم تستطع األحصنة‬ ‫ٍ‬ ‫العربة التي تحمل الفتيات في‬
‫جرها‪ ،‬فتوقفت‪ .‬إنتبه شبسكاف لتوقف العربة في الخلف‪ ،‬والتفت‬ ‫َّ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ُيعاين األمر‪ ،‬إال أن الحارس الذي يقودها لم ُيحسن التصرف‪ ،‬إذ رفع‬
‫َّ ُ‬
‫الس ْوط في يده وأنهال ِبه على األحصنة التي تجر العربة‪ ،‬مما أثار‬
‫ّ‬ ‫فزعهم فأنطلقوا ًّ‬
‫جريا بأقص ى ما لديهم‪ ،‬وكانت األرض ِطينية شديدة‬
‫اإلنحدار‪ ،‬فأصطدمت العربة بعدة صخور ونتوءات‪ ،‬كما أن أفرع‬
‫األشجار التي يمرون أسفلها كانت كالسياط تلسع أجساد الفتيات‪.‬‬
‫ً‬
‫خاته َّن خوفا من‬ ‫تمسكت الفتيات في بعضهن البعض وتعالت َ‬
‫ص َر ُ‬
‫وتأملًا من لسع األغصان‪(( .‬تمسكي ً‬ ‫ُّ‬
‫جيدا))‪ ،‬قالها شبسكاف‬ ‫السقوط‬

‫‪64‬‬
‫لحتبت رع وهو ُيمسك كتفها ليؤكد عليها قبل أن يصرخ في األحصنة‬
‫التي تجر عجلته الحربية ويدفعها للحاق بعربة الفتيات‪ .‬لم تجد حتبت‬
‫ً ُ‬
‫شيئا تمسك فيه سوى جسد شبسكاف نفسه‪ .‬اثناء مطاردتهم‬ ‫رع‬
‫للعربة كانت الصخور والنتوءات تجعل عجلتهم تهتز بقوة مما جعل‬
‫حتبت رع تحتضنه من ظهره بكل ما أوتيت من قوة‪ ،‬وقد شعرت‬
‫برعشة ُمحببة تتسلل إلى قلبها لم تشعر بها من قبل وهي تستنشق‬ ‫ٍ‬
‫فيه مع كل ارتطام يحدث لهما‪ ،‬إذ كانت هذه مرتها‬ ‫رائحته وتحتك ِ‬
‫ً‬
‫األولى التي تقترب فيها منه لهذه الدرجة مذ كانوا أطفاال ومنذ أصبحت‬
‫شابة يافعة‪.‬‬
‫الص ّو ُ‬ ‫َ َّ‬
‫ان متوسطة الحجم‪،‬‬ ‫صخرة ِمن َّ‬
‫ٍ‬ ‫ت َعث َرت عربة الفتيات في‬
‫تسببت في إنكسار القضيب الذي يمسك عجالتها فأنخلعت إحداهم‬
‫وأنقلبت العربة بالفتيات‪ .‬لحق بهم شبسكاف الذي وقف بعجلته ومن‬
‫َّ‬ ‫بقية ُ‬
‫خلفه َّ‬
‫الح َّراس‪ ،‬حاول النزول عن العجلة‪ ،‬إال أن حتبت رع كانت‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ستغربا‬ ‫فيه بشدة وما تزال ُمغمضة العينين‪ِ ،‬التفت إليها ُم‬
‫ممسكة ِ‬
‫فوجدها ُمبتسمة لم تدرك بعد أنهما توقفا‪ .‬وأبتسم بدوره وهو يزيح‬
‫ً‬
‫يدها عنه‪ ،‬ففتحت عينيها على اتساعهما ُمتفاجئة ِمن نفسها‪ .‬قفز‬
‫شبسكاف من فوره قرب العربة‪ .‬كانت الفتيات متفرقات على األرض‬
‫وقد لطخت وجوههم بالطين والوحل‪ ،‬وكذلك الحارس هو االخر كان‬
‫وبقية ُ‬
‫الح َّراس ولم يكن ًّأيا‬ ‫ُملطخ الوجه بالطين‪ ،‬تطلع فيهم شبسكاف ّ‬
‫بسوء بالغ‪ .‬توقفوا في مكانهم حتى أصلحوا العربة‬ ‫ٍ‬ ‫منهم قد أصيب‬
‫وأعادوها للعمل مرة أخرى‪ ،‬وطوال الوقت الذي استغرقوه كانت‬
‫‪65‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫حتبت رع ال تفعل ً‬
‫ومالمح متهللة‬ ‫شيئا سوى التطلع بعينين المعتين‬
‫وجه شبسكاف الذي ُيساعد‬ ‫ٌ‬
‫ووجه ُمزين بحمرة الرمان في ِ‬‫ٍ‬ ‫اساريرها‬
‫واحدة منهم‪ ،‬قبل أن يتوجه نحو‬ ‫ٍ‬ ‫الفتيات ويطمئن على حال كل‬
‫الحارس قائد العربة ويطمئن عليه ُويطمئنه‪.‬‬
‫َ‬
‫انقطع املطر ً‬ ‫َّ‬
‫تماما وظهرت الشمس عادوا للطريق مرة أخرى‪،‬‬ ‫ملا‬
‫وامرهم شبسكاف أن ُيسرعوا من حركتهم على الرغم أن األحصنة‬
‫خشية أن ُي ّ‬ ‫تماما‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن ُيمهلها ُفرصة َّ‬
‫للراحة َّ‬ ‫َ‬
‫منهك ًة ً‬
‫ضيع‬ ‫ِ‬
‫أقل من ِنصف يوم حتى وصلوا ً‬
‫أخيرا‬ ‫يوما آخر على الطريق‪ .‬واستغرقوا َّ‬ ‫ً‬
‫الشمس‪.‬‬‫إلى بوابات ممفيس مع غروب َّ‬
‫كانت أسوار املدينة ُمضاءة ً‬
‫تماما بفعل املشاعل الزيتية املعلقة في‬
‫ال مفتوحة على‬ ‫كل مكان على مقربة من بعضها‪ ،‬والبوابات ما تز ُ‬
‫ٍ‬
‫ُ َّ ً‬
‫مصراعيها أمام البغال التي تجر عربات العامة محملة باملحتفلين الذين‬
‫أتوا من أماكن بعيدة‪ ،‬والعجالت الحربية من فوقها كبار التجار‬
‫والسادة وتجرها االحصنة ُمغادرة هي األخرى بعد إنتهاء إحتفالية عيد‬
‫الحصاد‪ ،‬وكل شخص يحمل معه ما ُوهب إليه بجوار وجبته التي‬
‫ُ‬
‫مرصوف باألحجار املنقوشة‪ ،‬تحيط به‬ ‫ٍ‬ ‫طريق‬
‫ٍ‬ ‫حصل عليها‪ .‬عبر‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مسالت عمالقة معلق فيها قناديل زيتية كبيرة الحجم تض يء للعامة‪،‬‬
‫ً‬
‫اخترقوا الحشود املغادرة متجهين ُمباشرة صوب منزل الكاهن‪،‬‬
‫وتقابلت عجلة نياخ هاو العائد برفقة سيده الكاهن من القصر اإللهي‬
‫أمام بوابة املنزل في ذات اللحظة التي وصل فيها شبسكاف وكانت‬

‫‪66‬‬
‫وأحست بصدرها ينشرح وقد‬ ‫َّ‬ ‫حتبت رع ما تزال جالسة إلى جواره‪،‬‬
‫تهللت أساريرها لرؤيتها شقيقها ً‬ ‫َّ‬
‫واقفا أمام عينيها‪ ،‬وابتسمت ألول مرة‬
‫منذ ثالث ليال‪.‬‬
‫ساد الهرج واملرج ساحة القلعة األمامية‪ .‬قفز‬ ‫لدى وصولهم‪َ ،‬‬
‫جميعا‪ ،‬القادمون من الداخل بطاقتهم الكاملة والعائدون‬ ‫ً‬ ‫الرجال‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫مرهقون برفقة شبسكاف فوق العربات ُيفرغون حمولتها‪ ،‬براميل‬
‫اململح وأجولة َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫النبيذ وأجولة َّ‬ ‫َّ‬
‫الزبيب‬ ‫الدقيق والتوابل واألسماك واللحم‬
‫ببطء‬ ‫واحد ترجل‬‫حارس ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫املجفف واللحوم والطيور‪.‬‬ ‫والتوت َّ‬ ‫والبندق ُّ‬
‫ٍ‬
‫صاب بالحمى‪ ،‬وكان الحارس نفسه الذي‬ ‫حارس آخر‪ ،‬كان ُم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يتكأ على‬
‫أصيب في معبد العرافات إثر سقوطه أمام الغول‪ .‬هز الكاهن رأسه‬ ‫َ‬
‫رحبا بعودته‪ ،‬ثم دلف إلى املنزل‪ ،‬بينما نظر‬ ‫بأمتنان إلى شبسكاف ُم ً‬
‫نياخ هاو في وجه شقيقته‪ ،‬ومن الوهلة األولى أستطاع أن ُي ّ‬
‫حدد َّأنها ِفي‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫َو َه ٍل إال َّأنها تتعمد أخفاءه‪ .‬دنا إليها‪ ،‬وأمعن النظر في وجهها بركن‬
‫ُ‬
‫عينه‪ ،‬وفهمت من فورها َّأنه غير ُمطمئن‪ ،‬فقالت بأس ى لم تستطع‬
‫((أردت أن أعود إلى إليك‪ ،‬أردت أن أعود إلى ّ‬
‫الديار))‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أخفائه‪:‬‬
‫ِ‬
‫كثيرة‬ ‫حاولت بكل قوتها أن تكون شجاعة‪ ،‬لكنها ُ‬
‫أحيان ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تشعر في‬
‫أنها مجرد فتاة صغيرة رغم كل ش يء‪.‬‬
‫ستاء من شبسكاف‪ ،‬ونظر‬ ‫تركها نياخ هاو ودنا خطوتين وهو ُم ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحمل ً‬
‫ُ‬
‫واستفسارا واستياءا في ٍآن واحد‪ .‬أراد لو‬ ‫عتابا‬ ‫إليه نظرة تساؤل‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫يسأله َّ‬
‫عما حدث إال أن عينا صديقه الشاحبتان ومالمح وجهه املرهقة‬

‫‪67‬‬
‫َ َ َّ َ‬
‫قلق‬
‫جعلته يتريث ويصمت‪ ،‬كانت حتبت رع تراقب املوقف بعينيها في ٍ‬
‫برفق على‬
‫بالغ الحظه شقيقها فتبسم في وجه صديقه وهو يصفعه ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كتفه ويرحب بعودته ساملًا إلى ّ‬
‫الديار‪ .‬مما جعلها تبتسم إبتسامة هادئة‬
‫ِ‬
‫إطمأنان تفش ى في صدرها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تعبر عن‬
‫َّ‬ ‫وقت ُمتأخر من الليل‪َّ ،‬‬
‫تعمد شبسكاف أال يحظى ومن معه‬ ‫ٍ‬ ‫في ٍ‬
‫تقريرا لسيده‪ ،‬فتوجه صوب الكاهن ترافقه‬ ‫ً‬ ‫بالراحة قبل أن يعطي‬
‫حتبت رع وأثنان من الحراس الذين رافقاهم الرحلة‪ ،‬وفي شرفة املنزل‬
‫املطلة على املدينة وقف يقص تفاصيل ما واجهوه في رحلتهم منذ‬
‫مرت لحظة والكاهن يبدو‬ ‫مغادرتهم ممفيس وحتى لحظتهم الراهنة‪َّ .‬‬
‫ُ‬
‫كأنه لم يسمع‪ ،‬فلم َيلح عليه غضب أو تشكيك أو حتى استياء ملا‬
‫َ‬
‫وسأل‪:‬‬ ‫حدق إلى مائدته املرسومة ّبف ٍّك مطبق عن ِآخره‪،‬‬
‫سمعه‪ ،‬فقط َّ‬
‫((أأنت واثق؟))‪.‬‬
‫بعيني يا صاحب الجاللة‪ ،‬والحراس‬ ‫أيت الجثث َ‬‫قال شبسكاف‪ُ (( :‬‬
‫ر‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُ َ‬ ‫قاموا بدفنهم ً‬
‫معا‪ .‬العرافات ق ِتلت أيضا‪ ،‬وع ِلقت جثثهم العارية‬
‫ُ‬
‫محروقة على حائط املعبد بعد أن نزعت األساور من أيديهم))‪.‬‬
‫ّ ً‬
‫نظر الكاهن ُبركن عينيه إلى حتبت رع‪ ،‬فأومأت برأسها ِ‬
‫مؤمننة‬
‫على كالم شبسكاف‪ ،‬وأردفت‪(( :‬الجميع شاهدوا ما حدث هناك‪ ،‬كان‬
‫بشعا ُوم ً‬
‫خيفا))‪.‬‬ ‫األمر ً‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫شبك الكاهن أصابع يديه تحت ذقنه‪ ،‬وكانت عيناه مظللتين‬
‫َّ‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫يتحرك‬ ‫مكبوسا عن ِآخره وقد أخذ فكه‬ ‫بحاجبيه الثقيلين وفمه‬
‫‪68‬‬
‫شعر بنظرات‬ ‫فدائما ما ُيص ُّر بأسنانه عندما يتوتر‪ .‬كان َي ُ‬ ‫ً‬ ‫بصمت‪،‬‬
‫ِ‬
‫ً ُّ َْ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫وأخيرا سألهم‪(( :‬هل رأى أحدكم مؤخرا رؤيا‬ ‫الجميع املسلطة عليه‪،‬‬
‫وهو نائم؟))‪.‬‬
‫الريح في اللحظة‬ ‫ّ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫اهتز ضوء ْ‬
‫القنديل املعلق على الحائط‪ ،‬وتنسم ِت ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫التي تناوبوا النظرات فيها إلى بعضهم البعض‪ ،‬فأضاف الكاهن موضحا‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫((زوجتي ‪ ..‬السيدة كاريسا‪ ،‬في منامها ليلة أمس بكت وهي تحلم بقطيع‬
‫الصباح استيقظت بعينين‬ ‫جاء َّ‬ ‫من الغيالن ُيطاردها في الغابة‪ .‬وملَّا َ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫محمرتين‪ ،‬خائفة‪ ،‬وليس بإمكانها أن تذرف دمعة واحدة‬ ‫جافتين‬
‫ً‬
‫صامتة ً‬
‫تماما))‪.‬‬ ‫أخرى‪ ،‬ومنذ ذلك الحين وهي‬
‫ْ َ‬
‫ضط َر َب أحد الحارسين ممن رافقا شبسكاف وانتقل بعينيه‬ ‫ِا‬
‫ترد ًدا‪(( :‬أنا يا سيدي ‪ ..‬أنا ‪..‬‬ ‫يتطلع في وجوه من حوله قبل أن يتحدث ُم ّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫منذ يومين‪ُ ،‬‬
‫أيت ال ِغدفان تطارد الناس في الشوارع‪ ،‬كان حجمها أكبر‬ ‫ر‬
‫كثيرا مما هي عليه‪ ،‬وكانت ذو شعر أسود أشعث‪ ،‬تحمل الجثث وتطير‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫عاليا قبل أن تسقطها غارقة في الدماء َم ْفقوءة العينين))‪.‬‬ ‫بها ً‬
‫ً ً‬
‫نظر شبسكاف إلى نياخ هاو بعينين حائرتين َبدت فيهما نظرة باردة‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫تماما‪ ،‬وقال وهو َيتل ْعثم في ِعبارا ِت ِه‪(( :‬لثالثة َّأيام ُمتتالية لم تغمض لي‬ ‫ً‬
‫جاء‬ ‫لدى عودتكما َ‬ ‫عين‪ ،‬كنت أبحث عنكما في الغابة واملعابد واألودية‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫وأناس موتى‬ ‫ٌ‬ ‫أخيرا‪ ،‬ومعه أتت الكوابيس‪ .‬حلمت َبق َّال ٍع تحترق‬ ‫النوم ً‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ُ َّ‬
‫قتال‬ ‫ممزقين فوق قبورهم‪ ،‬كما رأيتني ونياخ هاو جنبا إلى جنب في ٍ‬
‫إختلطت فيه اآللهة بالكهنة مع الغيالن ‪.)).. ..‬‬

‫‪69‬‬
‫لثوان معدودة عن الحديث‪ ،‬بدا كمن يتذكر رؤياه‪ِ ،‬وا َزد َر َد‬ ‫توقف ٍ‬
‫َ َ َ ْ ُ ُ ُ ََ ّ ً ُ َ َ ّ ً‬
‫ريقه قبل أن يسترسل في الحديث وكان صوته مته ِدجا متك ِسرا‪(( :‬كانت‬
‫لظالم ً‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫سائدا ‪.)) .. ..‬‬ ‫مالمح صارخة‪ ،‬وكان ا‬ ‫الجثث في كل مكان تحمل‬
‫وتوقف عن الحديث مرة أخرى‪ ،‬فأحاطته نظرات استياء من الجميع‬
‫تطالبه بأن ُيكمل‪ ،‬وطقطق أحد القناديل الزيتية وتذبذب لهيبه قبل‬
‫ات‬ ‫أن ينطفيء عندما أضاف وهو ينظر نحو الكاهن الذي حدجه بنظر ٍ‬
‫ُ‬
‫تطالبه أن ُيكمل حديثه‪(( :‬كانت جثة جاللة الكاهن على األرض وكان‬
‫ً‬
‫صريعا إلى جواره))‪.‬‬ ‫هذا اخر ش يء رأيته قبل أن اسقط‬
‫ضيقت حتبت رع‬ ‫وتجه َمت مالمح الكاهن‪ ،‬بينما َّ‬
‫صعق نياخ هاو‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫عينيها وقضبت حاجبيها وهي تنظر إلى شبسكاف مغتاظة قبل أن‬
‫سبقا بتلك‬‫تصفعه على مؤخرة كتفه وهي تقول‪(( :‬ملاذا لم تخبرني ُم ً‬
‫تأخرا شأني شأن‬ ‫أن علي أن أعرف األشياء ُم ً‬ ‫الرؤية يا شبسكاف‪ ،‬أم ّ‬
‫الغرباء!))‪ ،‬وتوقفت عن الحديث للحظات‪ ،‬قبل أن تتخذ نبرة صوتها‬
‫آخرا مليء بالدموع وهي تقول‪ (( :‬ثم ‪ ..‬إذا كنت تحسب أني‬ ‫ً‬
‫مسارا ً‬
‫بالح َّمى وسوف‬ ‫بالح َّمى‪ ،‬مريض ُ‬
‫سأسمح لك بأن تتأذى‪ ،‬فأنت مريض ُ‬ ‫ُ‬
‫أقتلك يا شبسكاف))‪.‬‬
‫أي ردة‬ ‫لم ُيبدي الكاهن الذي كاد أن يبتسم أو َّأنه أبتسم بالفعل ّ‬
‫ً َّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فعل‪ ،‬كانت حتبت رع له ً‬
‫دائما فتاة لطيفة‪ ،‬رقيقة ومهذبة‪ ،‬ويعرف أنها‬
‫أي ش ٍيء من‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً ُ ّ‬
‫كانت غارقة في ح ِب شبسكاف حتى النخاع‪ ،‬وكانت لتفعل ِ‬
‫َ‬
‫تكررة‪،‬‬
‫ِ‬
‫أغفلت املقصد كعادتها امل ّ‬ ‫زفر نياخ هاو‪ ،‬وقد فهم َّأنها‬
‫أجله‪َ .‬‬

‫‪70‬‬
‫َ ّ‬ ‫ً‬
‫فقال ضاغطا على كلماته ُليذ ِكرها‪(( :‬نحن في حضور جاللة الكاهن))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫أشاحت حتبت رع بنظرها هامسة وهي تهز رأسها‪(( :‬لم أضع هذا‬
‫َ‬
‫َ‬
‫فانتزعت‬ ‫في االعتبار))‪ِ .‬ا َلت َقف شبسكاف يدها في محاولة منه لطمأنتها‪،‬‬
‫ً‬
‫يدها منه وهزت رأسها قائلة وهي تزفر‪(( :‬سوف أقتلك))‪ .‬وتزحزحت‬
‫ً‬
‫قليال للوراء نحو نياخ هاو‪.‬‬
‫فرك وجنته‪(( :‬وأنت يا نياخ‬‫سأل الكاهن بكياسة شديدة وهو َي ُ‬
‫هاو؟))‪.‬‬
‫ً‬
‫ناقوسا‬ ‫مكان بعيد في املدينة بدأ أحدهم يقرع‬ ‫ُ‬
‫قبل أن يجيب‪ ،‬في ٍ‬
‫ينذر بالخطر‪ .‬نهض الكاهن عن مقعدة وخطى ُمتثاقال صوب برج‬
‫شرفة املنزل أعلى نقطة في القلعة‪ ،‬بينما سبقه شبسكاف ونياخ هاو‪.‬‬
‫تصاعدا حددا َّأنه قرب أحد املعابد املترامية على أطراف‬
‫ً‬ ‫أيا ً‬
‫دخانا ُم‬ ‫ر‬
‫املدينة‪ ،‬نظرا إلى بعضهم البعض قبل أن يلتفتا ً‬
‫سويا نحو الكاهن وقد‬
‫وضع نياخ هاو يده فوق سواره الفض ي وتأهب أللقاء تعويذة يفتح بها‬
‫َّ‬
‫بابا ينتقل من خالله إلى إلى مكان الحادث‪ ،‬إال َّأنه وقف ينتظرإذن‬ ‫ً‬
‫رياح ُمفاجئة‪ ،‬إهتزت على أثرها القناديل‬‫هبت ٌ‬ ‫الكاهن‪ .‬في تلك اللحظة‪َّ ،‬‬
‫عنيفا قبل أن تنطفي ويعم‬ ‫ً‬ ‫الزيتية املعلقة على الحوائط اهتز ًازا‬
‫لثوان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الظالم‪ ،‬وإنفتح بابا سحريا في الفراغ إلى جوارهم‪ ،‬بقي مفتوحا ٍ‬
‫معدودات دون أن يخرج منه أحد‪.‬‬
‫أخذ نياخ هاو وشبسكاف والحارسين االخرين وضع اإلستعداد‬
‫َّ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫للقتال‪ ،‬إذ ِا ْست َّل ك ّل ٍ‬
‫واحد منهم سيفه من ِغمدة‪ .‬إال أن الكاهن كاي‬
‫‪71‬‬
‫ّ‬
‫يجرئ أن‬ ‫ٌ‬
‫تاي نظر إليهم وأشار بأن يهدءوا‪ ،‬كان يعرف أن أحد ما ال ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫يقتحم منزله بهذه السهولة‪ ،‬كما أن فتح باب سحري وأبقاءه مفت ٍ‬
‫وح‬
‫لثوان قليلة دون أن يدلف منه أحد‪ ،‬عالمة أستأذان‪َ ،‬‬
‫وتيقن الكاهن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫من ذلك عندما القيت عبر الباب قطعة نقدية ذهبية وسقطت على‬
‫األرض‪ ،‬فأشار بيده إلى شبسكاف الذي وقعت أسفل قدميه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫((أعدها مرة أخرى))‪.‬‬
‫كانت هذه إشارة باملوافقة ملن بالطرف اآلخر أن يمر عبر البوابه‪.‬‬
‫متوشحا بالسواد من‬ ‫ً‬ ‫على الفور‪ ،‬دلف خا إم ويست من البوابة‪،‬‬
‫ُ ً‬
‫الرأس إلى أخمص القدمين‪ ،‬ملثم الوجه‪ ،‬وممسكا في يده ثالث رؤوس‬
‫واحد منها في حجم‬ ‫رؤوس عمالقة كل ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫لغيالن تم فصلها عن الجسد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫رأس عجل ضخم‪ ،‬تتقاطر منها ٌ‬
‫سوداء ورائحة كريهة للغاية تدل‬ ‫دماء‬ ‫ٍ‬
‫على أنهم قتلوا للتو‪ .‬تراجع الحارسان للخلف وقد أصابهما فزع‪ ،‬بينما‬
‫ً َّ‬
‫ساكنا‪ .‬إال أن حتبت‬ ‫لم يحرك ًّأيا من الكاهن أو نياخ هاو وشبسكاف‬
‫مفاجيء لدى سقوط عينيها‬ ‫ٌ‬ ‫نتابها ٌ‬
‫فزع‬ ‫أحست كأنها في كابوس‪ْ ،‬إذ ِا َ‬‫رع َّ‬
‫دقات قلبها وراء ال ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ضلوع‬ ‫وتسارعت‬ ‫على رؤوس الغيالن املقطوعة‪،‬‬
‫ً‬
‫وحبست أنفاسها وهلة وهي تختبيء خلف شقيقها‪ .‬كانت األجراس تر ُّن‬ ‫َ‬
‫خيفا‪ ،‬وشعر خا إم ويست بتزايد دقات قلبها الذي‬ ‫والريح ُتصدر ً‬
‫صوتا ُم ً‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫الل َث َ‬ ‫ُ‬
‫((عليك أن تلوذي‬‫ِ‬ ‫ام‪:‬‬ ‫بدأ ينبض بعنف من الخوف‪ ،‬فقال من خلف ِ‬
‫وارتجفت أنفاسها‬ ‫َ‬ ‫حقا لم يأتي بعد))‪.‬‬ ‫بالهدوء اآلن يا فتاة‪ ،‬فما ُيخيف ً‬
‫في َحلقها وهي تلتصق في جسد نياخ هاو‪ ،‬فدنا منها شبسكاف‪ِ ،‬التقف‬

‫‪72‬‬
‫بلين تشوبه شدة‪ ،‬وعندما رفعت عينيها إلى عينيه هز‬ ‫يدها وقبض عليها ٍ‬
‫ً‬
‫رأسه وابتسم وهو يهمس قائال بكياسة‪(( :‬أنا هنا))‪.‬‬
‫ُ‬
‫تطلع خا إم ويست في القناديل املنطفئة قبل أن يحرك يده‬
‫بأتجاهها ويشير بأصبعيه السبابة والوسطى بطريقة أوحت كأنه يقذف‬
‫صغير أشعل‬‫ٌ‬ ‫صغيرا من بينهما‪ ،‬فأنطلق من بين أصابعه ٌ‬
‫لهب‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شيئا‬
‫معتذرا‪(( :‬آسف‪َّ ،‬إنها عادة قديمة))‪.‬‬
‫ً‬ ‫القناديل مرة أخرى وهو يقول‬
‫ملكان آخر‪ .‬ارتجفت حتبت‬ ‫ً‬
‫قاصدا بذلك إطفاءه القناديل قبيل انتقاله ٍ‬
‫رع وهي ما تزال تنظر نحو رؤوس الغيالن الثالثة في يد الساحر والدماء‬
‫خفيض للغاية‪(( :‬أريد‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫وهمست في أذن شبسكاف‬ ‫تتقاطر منهم‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫املغادرة))‪.‬‬
‫قال خا إم ويست الذي يستحيل أن يكون قد سمع همسها وهو‬
‫يمكنك ذلك يا‬
‫ِ‬ ‫ينظر إليها في وقار ويشير بيده نحو الباب‪(( :‬بالطبع‬
‫فتاة))‪ .‬مما جعل الفزع يدب في قلبها‪ ،‬إذ لم يسبق لها أن ترى هذا النوع‬
‫من السحر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫موجها حديثه إلى الحارسان‪(( :‬إنصرفا))‪ .‬وملا تحرك‬ ‫قال الكاهن‬
‫شبسكاف ونياخ هاو ومن بينهما حتبت رع‪ ،‬قال‪(( :‬أبقيا أنتم))‪ .‬ووجه‬
‫ً‬
‫متعضا‪ ،‬قال‪(( :‬ماذا‬ ‫صوت بدا فيها ُم‬ ‫حديثه إلى خا إم ويست بنبرة‬
‫ٍ‬
‫ُتريد؟ أو ‪ ..‬ما الذي أتى َ‬
‫بك إلى ُهنا؟))‪.‬‬
‫التفت خا إم ويست إلي الكاهن نصف التفاته‪ ،‬ونظر إليه ُبركن‬
‫عينه وقال باألمتعاض ذاته في نبرة الكاهن‪(( :‬اعطيتك بيتي وقلبي‪،‬‬
‫‪73‬‬
‫ألحد بعد‬ ‫َ‬
‫أعطيتك مخطوطات من هامونابترا وتعويذات لم يسبق ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫أعطيتك األبنوس والذهب‪ ،‬وبساتين‬ ‫إمحوتب أن عرف بشأنها‪،‬‬
‫ورم ًانا‪ ،‬واعتزلت الحياة بأكملها ً‬
‫نافيا نفس ي في‬ ‫عطورا َّ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫أعطيتك‬ ‫ُّ‬
‫التفاح‪،‬‬
‫ً‬
‫املعبد األسود تاركا أياك تعيش هذه الحياة كما ينبغي‪ ،‬وعندما آتيك‬
‫تقابلني هكذا!))‪.‬‬
‫بقلق عارم‪ ،‬فلم‬
‫كان شبسكاف ونياخ هاو مع حتبت رع يشعرون ٍ‬
‫يسمع أحدهم من قبل عن خا إم ويست َّإال َّأنه الشيطان الذي ال ُ‬
‫يهاب‬
‫شيئا‪ ،‬يرتكب الفظائع ويحرق من يخالفه الرأي‪ ،‬حتى االلهة نفسها‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫هادئا ً‬ ‫ً‬
‫تماما وهو يتحدث‬ ‫حسابا‪ .‬في حين أن الكاهن كان‬ ‫تحسب له‬
‫ً‬
‫إليه‪ ،‬خاصة عندما اعاد عليه السؤال مرة أخرى وبكياسة‪(( :‬خا إم‬
‫ويست ‪ ..‬ماذا تريد؟! وما الذي أتى بك إلى هنا؟))‪.‬‬
‫زفر الساحر وهو يلقي بالثالث رؤوس على األرض‪ ،‬وكانت بقعة من‬
‫الدماء السوداء قد تجمعت أسفل قدميه‪ ،‬ثم أخرج خريطة جلدية من‬
‫مقصود وقال وهو يزفر‬
‫ٍ‬ ‫بعنف‬
‫ٍ‬ ‫بين طيات مالبسة وثبتها على املائدة‬
‫ٌ‬
‫غضبا‪(( :‬ال تتعمد ُمضايقتي‪ ،‬ال تتعمد‪ .‬ألقي نظرة على هذه الخرائط))‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر الكاهن بطرف عينيه وقال‪(( :‬هذه خرائط قديمة‪ ،‬خرائط املعابد‬
‫اشار خا إم ويست على العالمات في الخريطة‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫في القطرين))‪َ .‬‬
‫((انظر هنا‪ ،‬وهنا‪ ،‬وكذلك هنا ‪ ..‬انظر لجميع العالمات‪ ،‬واخرها هنا))‪.‬‬
‫ُ‬
‫وختم حديثه وهو يشير خارج الخريطة‪ ،‬يشير حيث الدخان املتصاعد‬
‫واألجراس ما تزال تضرب والناقوس ما يزال يصدح صوته‪َ .‬‬
‫ونقر على‬

‫‪74‬‬
‫((ك ّل من يملك ً‬‫ُ‬
‫سوارا‬ ‫الواح املائدة الخشبية الخشنة بأصابعه وأضاف‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫سحريا في الجنوب تعرض للقتل والحرق قبل أن تقتلع عينيه وينتزع‬
‫السوار‪ ،‬واآلن يحدث الش يء ذاته هنا في الشمال‪ .‬أهنيس‪ ،‬كاهون‪،‬‬
‫منه ِ‬
‫بذات الطريقة))‪.‬‬
‫ميديوم‪ ،‬اليوم قتلت عرافاتهم والكهنة ِ‬
‫ً‬
‫مأخوذا باملفاجأة‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫((إنه الش يء‬ ‫علق شبسكاف الذي كان غير‬
‫نفسه الذي حدث للساحرات في معبد العرافات بمدينة آخت آتون))‪.‬‬
‫أيضا كان هناك))‪.‬‬ ‫اشار على رؤوس الغيالن‪(( :‬وهذا الش يء ً‬ ‫ثم َ‬
‫ً‬
‫ستغربا‪:‬‬ ‫تماما عندما قال ُم‬ ‫تقعا ً‬ ‫كان وجه الكاهن كاي تاي مم ً‬
‫ُ‬
‫سمعت‬ ‫أيت نبتة أصابع الشيطان في الغابة وقد انتشرت باألالف‪،‬‬ ‫(( ُ‬
‫ر‬
‫بوضوح تام فوق معبد‬ ‫ٍ‬ ‫ونياخ هاو صوت أبواق السماء قبل َّأيام‬
‫ً‬ ‫القناديل‪ ،‬وباألمس‪ ،‬باألمس ُ‬
‫كليا والقمر ُمغطى‬‫خسوفا ً‬ ‫أيت باملنام‬‫ر‬
‫بالدماء بعد أن ضربه ُم َّ‬
‫ذن ٌب أحمر اللون ‪.)) .. ..‬‬
‫حتدا‪(( :‬هذا هو الفرق بيني‬ ‫حنقا وقال ُم ًّ‬ ‫إحتقن وجه خا إم ويست ً‬
‫ّ‬
‫جئتك قبل َّأيام وكنت ً‬
‫موقنا أن‬ ‫َ‬ ‫وبينك يا كاي تاي‪ ،‬هذا هو الفرق‪.‬‬
‫ريبا قد حدث لك‪ ،‬ولكنك أسريته في نفسك))‪.‬‬ ‫ً‬
‫شيئا ُم ً‬

‫لثوان معدودات‪ ،‬قبل أن ُيضيف خا إم ويست‬ ‫َ‬


‫صامت ْين‬ ‫وقفا‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫وصوت بدأ يتثاقل‪(( :‬في جميع األوقات‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بمالمح بدت قاسية ساخطة‬
‫ٍ‬
‫دائما ما يكون الوضوح أقرب الطرق لتجنب الغرق‪ ،‬وفي األوقات‬ ‫ً‬
‫الصعبة يتوجب علينا تنحيه الخالفات ً‬
‫جانبا‪ ،‬فال يجب أن نجعل من‬
‫فاتت ً‬‫َ‬
‫بوقت نكون فيه‬
‫ٍ‬ ‫سببا في تفرقتنا‬ ‫وأوقات‬
‫ٍ‬ ‫أناس ماتوا منذ زمن‬
‫ٍ‬
‫‪75‬‬
‫أحوج ما يكون ألن نجتمع))‪ .‬أنهى حديثه ولم ينتظر َّرد‪َّ ،‬إنما أضاف‪:‬‬
‫َّ‬
‫((ال تنبت أصابع الشيطان إال بعدما يفتح أحدهم الحاجز بين البشر‬
‫والجن ويستدعي الغيالن التي تتغذى على هذه النبتة‪ ،‬وإن إنتشرت‬
‫باألالف كما يقول حارسك فهذا يعني أن الكثير من الغيالن باتوا‬
‫بيننا))‪ .‬كان الغضب قد تمكن منه‪ ،‬وشعر أن كاي تاي يحتاج للتفكير‬
‫مليا‪ .‬لذا‪ِ ،‬إلتف بوجهه وترجل نحو الحائط وهو يشير بكلتا إصبعيه‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫السبابة والوسطى إلى ما بين قنديلين مع أغماض عينيه وهمس‬
‫ضوئيا على الحائط عبر‬ ‫ً‬ ‫خفيض للغاية ((الوهومورا))‪ ،‬فأنفتح له ً‬
‫بابا‬ ‫ٍ‬
‫من خالله وأختفى قبل أن يتالش ى الباب فور عبوره ‪.‬‬
‫خضم األحداث املتسارعة والتوتر الذي أحاط بالجميع‪ ،‬وقف‬ ‫ّ‬ ‫في‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شاعرا بالعيون املتسائلة املسلطة‬ ‫ً‬ ‫ضطربا للحظات‪،‬‬ ‫الكاهن شاردا ُم‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫وقل ِاضطرابه ملا رأى زوجته كاريسا التي أطلت‬ ‫عليه‪ّ ،‬إال َّأن ُه هدأ ً‬
‫تماما َّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ثوان‬
‫بوجهها عبر الباب قبل أن تدلف منه وتتحرك صوبه مباشرة‪ .‬بعد ٍ‬
‫ُ‬
‫ويتحدث ً‬
‫كثيرا‪ .‬لم يكن نياخ‬ ‫من الصمت شعر أن عليه أن يتحدث‪،‬‬
‫كبقية الحراس‪ ،‬وال حتبت رع‬ ‫هاو وشبسكاف مجرد ُحراس عاديين َّ‬
‫شيئا من‬ ‫مساعدة زوجته األولى ومدبرة القلعة كذلك‪ ،‬لطاملا اعتبرهم ً‬
‫كيانه‪ ،‬غير َّأنهم كانوا كذلك بالفعل‪ .‬عاد إلى مقعده على املائدة‬
‫وجلس‪ ،‬ثم مال برأسه عليها وطقطق بأصابعة علي سطحها الخشبي‬
‫الخشن وكان يعرف أنهم يترقبوه‪ ،‬ينتظرون منه أجابات كثيرة‪.‬‬
‫فلما رفع رأسه‬ ‫دنت منه زوجته كاريسا‪ ،‬وربتت على كتفه برفق‪َّ ،‬‬

‫‪76‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وتحسه على‬ ‫إليها‪ ،‬ووقعت عينيه في عينيها‪ ،‬أومأت له برأسها تطمأنه‬
‫إفراغ ما في جوفه من أسرار‪.‬‬
‫َ‬
‫((الرب سيد‬ ‫ّ‬ ‫ِاطمأ َّن الكاهن‪ ،‬فأمرهم بالجلوس قبل أن يقول‪:‬‬
‫جميعا‪ ،‬هو خالق تلك الطبيعة والوحيد القادر على‬ ‫ً‬ ‫االلهة وامللوك‬
‫شيئا دون أن‬ ‫يفعل ً‬
‫تغيير قوانينها‪ ،‬وال ش يء يستعص ى عليه‪ ،‬كما َّأنه ال ُ‬
‫ٌ‬
‫ات ُمسبقة‪ ،‬هذه اإلشارات تأتي كنزير قبل مجيء حدث‬ ‫يبعث إشار ٍ‬
‫ً‬
‫كبير‪ ،‬قد يحذر من النار والدماء التي تتبع هذا الحدث‪ ،‬وكل شيئا له‬
‫َّ‬
‫سبب ال يعلمه إال الرب‪ ،‬واملعجزات مخفية بتلك االسباب‪ .‬لذا عندما‬
‫تروا تلك اإلشارات‪ ،‬احذروا))‪ .‬ثم أمعن النظر في وجوههم‪ ،‬ووجد أن‬
‫َ‬ ‫شيئا مما قاله‪َ ،‬‬ ‫أحدا منهم لم يفهم ً‬ ‫ً‬
‫فرفع الكأس إلى شفتيه ورشف من‬
‫وجده شديد الحالوة‬ ‫مؤخرا‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫النبيذ الذي أحضره شبسكاف وحتبت رع‬ ‫َّ‬
‫ً ْ‬
‫ستمتعا‪ ،‬إذ نظر في الفراغ‬ ‫جدا‪ ،‬مع ذلك لم يبدو عليه َّأن ُه ُم‬‫لكن قوي ً‬
‫شيئا من ذكريات موغلة القدم‪ ،‬واتضح‬ ‫للحظات‪ ،‬بدا كمن يستعيد ً‬
‫ذلك عندما استرسل في الحديث يوضح لهم أن كهنة األرض السوداء‪،‬‬
‫ْ‬
‫كيميت‪ ،‬تعلموا السحر منذ القدم‪ ،‬إذ تواصلوا مع الجن واستخدموه‬
‫في حياتهم اليومية‪ ،‬لحراسة القبور ونقل األشياء الثقيلة ومعرفة‬
‫مقتصرا على قلة من الكهنة‪ ،‬قلة‬ ‫ً‬ ‫مسارات السفن في البحر‪ ،‬وكان ذلك‬
‫جدا منهم‪ ،‬يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة‪ ،‬ولكنهم تمكنوا‬ ‫قليلة ً‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫رب اآللهة وامللوك‬‫منه وبرعوا فيه بعد حادثة رع التي رتبها ُله ّ‬

‫تلك اللحظة‪ ،‬حضرت الخادمات ووقفن قرب الباب‪ ،‬امرأة‬

‫‪77‬‬
‫ردائها‬ ‫خمرية البشرة‪ ،‬حادة املالمح‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫اربعينية العمر‪َ ،‬رّيانة الجسد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بنظرة‬ ‫اع ْت‬‫اس َت َط َ‬ ‫الك َّتان‪ ،‬ولها َع ْي ٌن َناف َذ ٌة‪ْ ،‬إذ ْ‬ ‫َ‬
‫مصنوع من‬‫ٌ‬ ‫الطويل‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫األجواء املتوترة من حولها‪ ،‬فتوقفت فور‬ ‫تميز ّ‬ ‫واحدة بطرف عينها أن ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫لثوان معدودات حتى اشارت لها السيدة كاريسا‬ ‫ٍ‬ ‫دخولها من الباب‬
‫ُ‬
‫الواقفة قرب الكاهن بالدخول‪ .‬كان من خلفها ثالث خادمات اخريات‬
‫صغيرة قد يكونوا في بداية‬ ‫سن‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ارتدين املالبس ذاتها‪ ،‬جميعهن في ٍ‬
‫َّ‬ ‫العشرين من العمر أو َّإن ّ‬
‫هن في العشرين بالفعل‪ .‬ملا سمحت لهم‬
‫السيدة َّريانة الجسد بالبدأ في وضع الطعام‪َّ ،‬اتخذ ثالثتهم مواضعهم‬
‫على ثالثة جوانب من املائدة الخشبية املستطيلة‪ ،‬مألن األطباق على‬
‫مذهبة‪،‬‬ ‫قدموه في أوعية َّ‬ ‫والزبدة‪َّ ،‬‬‫ساء من القشدة والفطر ُّ‬ ‫بح ً‬ ‫املائدة َ‬
‫ٍ‬
‫الشوفان َّ‬ ‫الحلوة وكعكات ُّ‬ ‫الذرة ُ‬ ‫ُّ‬
‫الساخنة‬ ‫قبل أن يضيفوا فطائر‬
‫ً‬
‫والت َّقاح والبرتقال‪ ،‬بعدها توالت األطباق نزوال‬ ‫املخبوزة بقطع من البلح ُّ‬
‫ٍ‬
‫على املائدة‪ِ ،‬قطع من لحم الديوك مع شرائح من لحم اإلوز املطبوخ في‬ ‫ُّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫صلصة من الخوخ َّ‬
‫والزعفران كما أضيفت شرائح اللحم البقري‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َّ‬
‫والنبيذ املغلي املحلى بالعسل ومضاف إليه اللوز املسلوق‪ .‬الحظت‬
‫أحدا‬ ‫أن ً‬ ‫رص األطباق َّ‬ ‫ال واقفة ُتشرف بنفسها على ّ‬ ‫كاريسا والتي ما تز ُ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫من الجالسين حول املائدة لم ينظر إلى الطعام‪َّ ،‬‬
‫وكأنهم ال يروه‪ .‬وملا‬
‫ً‬
‫كانت شاعرة باملسؤولية تجاه الجالسين‪ ،‬وأرادت أن تكسر حالة الكآبة‬
‫عليه‬
‫تميل ِ‬ ‫ُ‬ ‫املخيم على األجواء‪ ،‬نظرت في عيني زوجها وهي‬ ‫ّ‬ ‫والتوتر‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بلطف في أذنه‪(( :‬الطعام على املأدبة))‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وهمست‬
‫أي مأدبة؟))‪.‬‬ ‫ستغربا‪(( :‬املأدبة؟ َّ‬ ‫ً‬ ‫قال بكآبة ُم‬
‫‪78‬‬
‫َ‬ ‫همست له ُم َّ‬
‫غنج ُمصطنع وهي تغ َم َز ُه‬ ‫ٍ‬ ‫املرة في‬ ‫جد ًدا‪ ،‬لكن هذه َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِب َع ْي ِنها قاصدة بذلك أن تحرره من الضيق ليس إال‪(( :‬مأدبة الطعام‬
‫الذي سيمكنك من ُمجاراتي في غرفتنا حتى الصباح))‪.‬‬
‫َّ‬
‫نفسي ٍة‬ ‫حالة‬
‫أي ٍ‬ ‫دائما في الخروج من َّ‬ ‫كانت كاريسا ُتساعد زوجها ً‬
‫َّ‬ ‫تستحوذ عليه عبر مداعبته بالحديث وإبراز جمالها َّ‬ ‫ُ‬
‫األخاذ‪ ،‬إال ّأنها في‬
‫الفض ي‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ ً‬ ‫ّ‬
‫تلك الليلة فشلت على الرغم أنها ارتدت فستانا من الحرير ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫املوش ى بالفراء‪ ،‬يكاد ك َّماه الفضفاضان املبطنان بالك َّتان األرجواني‬
‫َ‬ ‫يمسا األرض‪ ،‬وكانت قد َّ‬ ‫َّ‬
‫الناعم َّ‬
‫بأناقة تحت شبكة‬ ‫ٍ‬ ‫صففت شعرها‬
‫وذهبية‪ .‬وعلى الرغم أن‬ ‫َّ‬ ‫فض َّية رقيقة تلتمع فيها جواهر أرجوا َّنية‬‫َّ‬
‫ً‬ ‫ط‪ ،‬لكن التوتر َّ‬ ‫َ ُّ‬ ‫الكاهن لم َيرها بهذا َ‬
‫مهيمنا على‬ ‫ظل‬ ‫الجمال من قبل ق‬
‫مالمحه‪.‬‬
‫قالت في رجاء موجهة حديثها للجميع‪(( :‬ال يمكنكم الجلوس بال‬
‫النبيذ إلى زوجها الذي أخذه منها‬ ‫كأسا من َّ‬
‫طعام أكثر من ذلك))‪ .‬وقربت ً‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫وهو يقول موجها حديثه إلى نياخ هاو وشقيقته باألضافة إلى شبسكاف‬
‫الجالس بينهما‪(( :‬يمكنكم تناول الطعام‪ ،‬بينما أقص عليكم ما َّ‬
‫لدي من‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫واحدة ثم أنزله فارغا على الطاولة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مرة‬
‫حديث))‪ .‬ورفع كأسه وشربه في ٍ‬
‫وهم‬‫وفي الوقت الذي بدأوا فيه تناول الطعام على مهل حكى لهم ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫يأكلون‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫صيفي ش ِد ُيد ال َح ّر‪ ،‬في بالد‬
‫ٍ‬ ‫يوم‬ ‫َّ َ ُ‬
‫كان ذلك في الزمن الغابر‪ ،‬ذات ٍ‬
‫ُ‬
‫آشور‪ ،‬حيث األرض السوداء فيما بين النهرين‪ .‬كانت جموع الناس‬

‫‪79‬‬
‫نساء ورجال‪َ ،‬يت َج ُّولون في سوق مدينة نينوي الكبير‬ ‫كبيرهم وصغيرهم‪ٌ ،‬‬
‫كعادة كل يوم‪ ،‬بعضهم يمش ي على األقدام وبعضهم يمتطون البغال‬
‫وآخرين يركبون العربات التي تجرها الخيول للتبضع والتجارة‪ ،‬يرتدون‬
‫َ‬
‫مالبسهم الطويلة والقصيرة املصنوعة من الصوف والك َّتان لكنها بال‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وشاق على غير العادة‪ ،‬إذ إرتفعت‬ ‫صعب‬ ‫أكمام أو بنصفها‪ .‬كان يومهم‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الحرارة عن معدالتها الطبيعية‪ ،‬وا َ‬
‫زدادت معها ُرط َوبة ال َه َو ِاء‪ ،‬فترى‬
‫تا ٌ َ َ َّ َ ْ ُ َ ً ُ ّ‬
‫جفف وجهه املرهق وهو يتحدث إلى أحد‬ ‫جر تصب َب وج ُهه ع َرقا‪ ،‬ي ِ‬
‫الفخارية والخزف التي تحيط به من كل‬ ‫َّ‬ ‫املشترين يعرض عليه األواني‬
‫َ ْ ُّ َّْ‬
‫ص ِب ّيه الشاب حليق الشعر‪ ،‬خم ِري اللو ِن‪ ،‬عسلي‬ ‫جانب‪ ،‬بينما َّ‬
‫ْ‬ ‫العينين‪ ،‬مفتول العضالت‪ً ،‬‬
‫واقفا ِمن خلفه وقد قام بخلع ُست َرته بعد‬
‫ُ‬ ‫أن بللها العرق ً‬
‫تماما ِنتاج مجهوده املضاعف في حمل ونقل البضائع‬
‫َ‬ ‫ْ ً‬ ‫َ‬
‫الثقيلة ِوا ْرت َدى ُست َرة بديلة مصنوعة من الك َّتان يتوارى فيها‪ .‬لم يكن‬
‫الحر فقط ما جعل يومهم شاق‪ ،‬بل الزحام والتدافع الذي َأ َح َ‬
‫ال بينهم‬ ‫ّ‬
‫َ ُ‬
‫فسي ٍة سيئة‪.‬‬ ‫حالة َّن ّ‬ ‫بشدة وفي ٍ‬‫ٍ‬ ‫واحد منهم ُم ْن َف ِع ٍل‬ ‫فصار ك ّل ٍ‬ ‫وبين الهدوء‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الت َّجار ِممن امتلكوا حانوتا ُمطال على النهر ذا ً‬ ‫كان أحد ُّ‬
‫وجها بشوشا‬
‫فعم بالحياة وهو يعرض بضاعته على بعض املشترين على‬ ‫وبدا صوته ُم ٌ‬
‫الرغم َّأنه كان ُيجفف العرق عن جبينه بقطعة من الكتان في يده‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫فخارية في يده الثانية‪ ،‬إال َّأنه تركها فجأة تسقط على‬ ‫َّ‬ ‫بآنية‬
‫وممسكا ٍ‬
‫ستغربة عندما‬ ‫وجهه ألخرى ُم‬ ‫تغيرت قسمات‬ ‫وتتح َّط َم‪ ،‬وقد َّ‬ ‫األرض َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫النظر بعينيه صوب َّ‬ ‫ال َّ‬ ‫َ‬
‫أط َ‬
‫ملفت للنظر‪ ،‬وصرخ فجأة‬ ‫ٍ‬ ‫بإمعان‬
‫ٍ‬ ‫النهر‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫هوري َم ُش ٌ‬ ‫ٍ َ ّ‬
‫وب بالهلع برره بإشارتة إلى ماء النهر‪(( :‬أنظروا ‪..‬‬ ‫بصوت ج ٍ‬
‫‪80‬‬
‫ُْ‬
‫أنظروا))‪.‬‬
‫النهر الكبير الهادئة وقد‬ ‫التفتت جموع الناس بتتابع‪ ،‬ليروا مياه َّ‬
‫واحدة منها العشرة‬
‫ٍ‬ ‫ضطربة تجاوز إرتفاع ّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫موجات ُم‬
‫ٍ‬ ‫تحولت إلى ثالث‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بشدة لم يحدث أن رأوا مثلها‬ ‫ٍ‬ ‫أقدام‪ ،‬وأخذت تتالطم في بعضها البعض‬
‫من قبل‪.‬‬
‫بدهشة يشوبها فزع‪(( :‬وكأن الروح ُبثت فيها))‪،‬‬ ‫صاح أحد املارة‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أجسادا بشرية لكنها عمالقة وتتقاتل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وخ ِّيل له ّأنها تتخذ هيئة‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫صارخا‪ ،‬وكان من ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫مفزوعا‪،‬‬ ‫الرعاة‪ ،‬وأخذ يتراجع للخلف‬ ‫صاح آخر‬
‫بنفس الهلع‪ ،‬فيسقط قبل‬ ‫فيسقط على ظهره وينهض‪ ،‬يتراجع ُم َّ‬
‫جد ًدا‬
‫ِ‬
‫جلد‬ ‫َّ َّ‬ ‫ينهض َّ‬
‫للمرة الثالثة إال أنه في هذه املرة نزع نعليه املصنوعين من ٍ‬
‫صارخا‪ّ :‬‬ ‫ً‬ ‫طبيعي وأخذ يستعد للهرب وهو يقول‬ ‫ّ‬
‫((إنها الشياطين))‪ .‬بينما‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫شخص آخر وكان ممن يشترون من التاجر البشوش وقد وقف‬ ‫علق‬
‫قائال بنبرة صوت ُم ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دة‬
‫ترد ٍ‬‫ٍ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫متواريا خلف صبي التاجر مفتول العضالت‪،‬‬
‫((إنها ارشكيجال))‪ّ .‬رددها قبل أن َ‬
‫يجثو على ركبتيه‬ ‫غير مصدق ملا يراه‪َّ :‬‬
‫ٍ ِ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫تمجيدا لها‪ ،‬إذ كان قاصدا بذلك ارشكيجال سيدة السحر‪ ،‬إلهة‬
‫العالم السفلي‪ ،‬والتي يعبدونها كي ترحمهم في العالم اآلخر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أناس َي ُ‬
‫حالة من الفوض ى ما بين ٌ‬ ‫ٌ‬
‫صرخون ويتعثرون‬ ‫بينما سادت‬
‫أرجلهم في البضائع وفي بعضهم البعض من فرط‬ ‫ويتدافعون وتشتبك ُ‬
‫وخوف إلى جانب َمن جثوا على‬ ‫ٍ‬ ‫العجلة وآخرين يشاهدون في ٍ‬
‫قلق‬
‫بغلته‬ ‫عجوزا ً‬
‫كبيرا عن‬ ‫ً‬ ‫األرض ًّ‬
‫ظنا منهم َّأنها إلهة العالم اآلخر‪ ،‬ترجل‬
‫ِ‬
‫‪81‬‬
‫خطوات ُم َّ‬
‫تأني ٍة‪،‬‬ ‫علم من الكتاب‪ ،‬مش ى نحو ضفة النهر بضع‬
‫ٍ‬ ‫وكان ذا ٍ‬
‫صغيرة ومدببة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وذقن‬
‫ٍ‬ ‫وكان له وجه ُمجعد وعينان ضيقتان للغاية‬
‫ً‬
‫نفسه بكياسة قائال‪(( :‬السيدان ‪ ..‬هاروت وماروت))‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وهمس في‬
‫كانت األمواج قد إتخذت هيئة ثالثة أشخاص يتقاتلون‪ ،‬إثنان‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫منهم على هيئة رجلين عمالقين‪ ،‬لك ٍ ّل منهما عينان واسعتان أرجوانيتان‬
‫ً‬
‫ُومضيئتان‪ ،‬يحاوالن إجبار إمرأة تبدو في مثل حجمهما أو أصغر قليال‬
‫مرة أخرى في‬ ‫ولها نفس العيون األرجوانية املضيئة على الغوص معهما َّ‬
‫ُ‬
‫املاء‪ ،‬بينما تحاول املرأة جاهدة أن تهرب من بين أيديهم وتتوجه نحو‬
‫الشاطيء‪ ،‬وبينما بدا أن الرجلين سوف يتغلبا على املرأة‪ ،‬أطلقت‬
‫أنها‬‫صيحة قصيرة ُتشبه الصراخ‪ ،‬وعلى الرغم من قصر الصيحة َّإال َّ‬ ‫ً‬
‫مدوية شقت عنان السماء وبثت الرعب في قلوب الناس الذين‬ ‫كانت ّ‬
‫ً‬
‫سمعوها في جميع أنحاء املدينة من أقصاها إلى أدناها‪ ،‬كانت صرخة‬
‫قوية حتى أن بعض الناس خروا ً‬ ‫ً‬
‫ركوعا على األرض واضعين أيديهم فوق‬
‫تغي ًرا‬ ‫أذانهم من فرط شدتها التي كادت تصم آذانهم‪ .‬تبع هذه الصرخة ُّ‬
‫ّ ْ َّ ّ ُ َ ْ َ ً‬
‫صرا عاتية ولها صفير‪ ،‬تطايرت األشياء في‬ ‫في الجو‪ ،‬إذ هبت ِريح صر‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫واز َد َادت معها ُب ُرودة ال َه َو ِاء َو ُرط َوبة ال َج ّ ِو‪ ،‬وامتلئت‬
‫َ‬ ‫السوق من شدتها‪ْ ،‬‬
‫أبدا من‬ ‫السماء عن آخرها بالغيوم السوداء الحديدية التي لم ُيعرف ً‬
‫أين أتت‪ ،‬ثم َر َع َد ِت وبرقت بشدة‪ .‬كان الناس يسمعون الرعد‬
‫َّ‬
‫فيشعرون من قوته َّأنه يدب في قلوبهم‪ ،‬وهطلت األمطار كما لم تهطل‬
‫ال تتقاتل عندما انسابت سيو ٌل‬ ‫من قبل‪ ،‬وكانت األمواج الثالثة ما تز ُ‬
‫عارمة على منابع النهر الكبير‪ ،‬فأغرقت األسواق والشوارع‪ ،‬وهرع‬
‫‪82‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بمالبس بللها املطر‪ ،‬كل منهم حامال ما‬
‫ٍ‬ ‫جميعا عائدين إلى املنازل‬ ‫الناس‬
‫متواصلة لوقت طويل‪َ ،‬ظ َّلتْ‬
‫ٌ‬ ‫استطاع من اشيائه‪ ،‬واستمرت السيول‬
‫ٍ‬
‫ضط ِرب حتى فاض على الضفتين‪ ،‬وتدفقت مياهه في‬
‫َ ْ َ‬ ‫فيه َأ ْم ُ‬
‫واج النهر ت‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫أخيرا من الغوص باملرأة عنوة في باطن‬‫كل مكان عندما تمكن الرجلين ً‬
‫النهر‪ ،‬وفي اللحظة التي كادت تختفي فيها بالكامل داخل املاء اطلقت‬
‫غاب صداهما مع غوصها أسفل املاء‪.‬‬ ‫صرختين متتاليتين ومدويتين َ‬
‫ّ‬
‫قلة قليلة من الناس ظلوا يشاهدون ما يحدث واملاء يتقاطر بشدة‬
‫فوق رؤوسهم حتى أغرق وجوههم ومالبسهم‪ ،‬واشتدت أمواج النهر‬
‫اسماكه على الضفة‪ ،‬وكانت بين تلك االسماك‬ ‫املضطرب حتى َلفظ ّ‬
‫سمكتان كبيرتان جميلتان للغاية وغريبتا الشكل‪ ،‬قفزتا على الشاطيء‬
‫حتى عادتا إلى املياة مرة أخرى‪ ،‬وسبحتا إلى وسط املياة حيث كانت‬
‫األمواج الثالثة تتالطم بقوة‪ ،‬وبدأتا بدفع بيضة كبيرة في حجم حبة‬
‫حد أن رأي في حجمها من قبل‪ ،‬كانت طافية على‬ ‫ُ‬
‫النارجيل‪ ،‬لم يسبق أل ٍ‬
‫أبدا من أين أتت هذه البيضة‪،‬‬ ‫السطح بعد أن لفظها النهر‪ ،‬ولم ُيعرف ً‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫بيضاء كبيرة الحجم تتقدم‬ ‫وألقت السمكتان بها إلى ضفة‪ ،‬وإذ بحمامة‬
‫ً‬ ‫ٌ ّ ٌ‬
‫عموديا‬ ‫مئات من الحمام تهبط من السماء‬ ‫ٍ‬ ‫مكون من بضع‬ ‫سرب‬
‫ً‬
‫وتحتضن البيضة وتطير بها بعيدا عن مجرى النهر‪ .‬هبطت بها فوق‬
‫ُ‬
‫نحدر ومرتفع‪ ،‬ال يذهب إليه الناس‪ ،‬واستلقت فوقها‬ ‫جبل صخر ٍي م ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حتى فقست خالل يومين‪ ،‬ومن داخل البيضة خرجت طفلة صغيرة‬
‫للغاية‪ ،‬لكنها رائعة الجمال‪ ،‬بيضاء كالثلج‪ ،‬شعرها منسدل على وجهها‪،‬‬
‫ولها عينان أرجوانيتان ُمضيئتان كالالتي كانت لألمواج فوق النهر‪ ،‬ومن‬
‫‪83‬‬
‫فر َف عليها بأجنحته ليرد عنها ّ‬
‫حر‬ ‫حولها أسراب الحمام األبيض الذي َر َ‬
‫كافيا‪ ،‬وال ُم ً‬ ‫ّ َّ‬ ‫َّ‬
‫ناسبا‪،‬‬ ‫تتالية‪ ،‬لكن ذلك لم يكن ً‬ ‫أليام ُم ٍ‬
‫النهار وبرد الليل ٍ‬
‫أن حمامة َّ‬
‫ذهبية في‬ ‫فبكت الطفلة‪ ،‬ولم َتعرف الحمائم ماذا تفعل‪َّ .‬إال ّ‬
‫منطلقة من وسط مياه النهر بعد أن شقتها ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫شقا‬ ‫حجم غداف خرجت‬
‫ً‬
‫من حيث ظهرت البيضة ألول مرة‪ ،‬وتوجهت مباشرة صوب قمة الجبل‬
‫مقربة منهم وتجسدت في‬ ‫ٍ‬ ‫حيث حطت الحمائم والفتاة‪ ،‬ثم هبطت على‬
‫شديدة الجمال‪ ،‬لها ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫وجه وجسد أبيض‬ ‫بشرية‪ .‬فتاة يافعة‪،‬‬ ‫هيئة‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫كالحليب‪ ،‬ذهبية الشعر أرجوانية العينين املضيئتين‪ ،‬شعرها منسدل‬
‫النيلي َّ‬
‫األخاذ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ستانا من اللون‬ ‫مرتدية ُف ً‬
‫ً‬
‫على كتفيها وحتى األرض‪،‬‬
‫صدر ناهض‪ ،‬بدت في هيئتها البشرية‬ ‫حسناء‪ ،‬ونحيلة‪َّ ،‬إال َّأنها امتلكت ٌ‬
‫ضفر على‬ ‫تاج ُم َّ‬
‫العمر‪ ،‬فوق رأسها ٌ‬ ‫كأنها في منتصف العشرينات من ُ‬
‫ُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫الزيتون األخضر‪ ،‬في معصمها ِس ٌ‬ ‫صن َّ‬ ‫هيئة ُغ ْ‬
‫ذهبي َّبراق‪ ،‬ن ِقشت‬ ‫وار‬
‫كل منها َّ‬
‫مذهبة المعة‪.‬‬ ‫عليه عشرات النجوم البارزة‪ٌّ ،‬‬

‫ترجلت وسط الحمائم ولم يفزعوا لرؤيتها‪ ،‬بل تراقصوا في الهواء‬


‫فرحين بقدومها‪ ،‬حتى أن بعضهم حط على كتفيها‪.‬‬
‫وهمت ُتقبل جبينها وقد ترقرق‬ ‫ملَّا دنت من الفتاة ِاحتضنتها‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫عجلة من أمرها‬
‫ٍ‬ ‫الدمع من عينيها إال َّأنها كانت دموع سعادة‪ .‬بدا ّأنها في‬
‫ض على‬ ‫عندما اعادتها لفراشها مرة أخرى والتفت بوجهها وهي َتقب ُ‬
‫ِ‬
‫بلهجة لم ُيسمع بها من‬
‫ٍ‬ ‫كلمات‬
‫ٍ‬ ‫السوار في معصم يدها وشرعت في إلقاء‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫كتعويذات سحري ٍة القتها في كل إتجاه‪ ،‬فإذا باألرض‬
‫ٍ‬ ‫قبل‪ .‬بدت كلماتها‬

‫‪84‬‬
‫ُم ّهدت من حولها على إثر تعويذة‪ ،‬وغرست األشجار‪ ،‬العشرات من‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫التفاح املزهر‪ ،‬والعشرات من الكروم األحمر واألصفر‪،‬‬
‫والرومان والزيتون ونباتات زهرها ُمتباين األلوان‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املانجووالبرتقال‬
‫ٌ‬ ‫رائحتها َّ‬
‫فواحة بشدة على إثر تعويذة أخرى‪ ،‬ثم ضربت األرض وهي تلقي‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫بارد وأخذ يجري ويلتف بين‬ ‫عذب ٍ‬ ‫ماء ٍ‬ ‫بتعويذة ثالثة‪ ،‬فأنفجر ينبوع ٍ‬
‫ً‬
‫صغيرا ُمغطى بنباتات الزينة‬
‫ً‬ ‫وأخيرا وضعت لها كوخا‬ ‫ً‬ ‫األشجار وحولها‪،‬‬
‫مرة أخرى‬ ‫والورود‪ ،‬وكان هذا آخر ما فعلته قبل أن تدنو من الفتاة َّ‬
‫تلو ُح فيهما نظرة الوداع‪ ،‬ثم خلعت‬ ‫ّ‬
‫لتحتضنها بعينين فاضت بالدموع ِ‬
‫بضفيرة من شعرها على يد الطفلة وهي‬ ‫ٍ‬ ‫السوار من معصمها وعقدته‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫تعدها‪(( :‬سوف أكون ً‬
‫دائما إلى جوارك‪ ،‬قدر املستطاع))‪.‬‬
‫َّ‬
‫قفزت الفتاة في الهواء وأتخذت هيئة الحمامة مرة أخرى وشقت‬
‫ٌ‬ ‫تاركة َّأي ُاه من خلفها وقد َّ‬‫ً‬
‫تحول إلى واحة من‬ ‫السماء ُمغادرة املكان‬
‫خضار الضاجج‪ ،‬شديدة الجمال مليئة بالفواكه والظالل واملياه‪،‬‬ ‫ال َّ‬
‫ُمعلقة في أعالي الجبال‪.‬‬
‫شهور قليلة‬
‫ٍ‬ ‫كانت الطفلة تكبر بسرعة غير طبيعية‪ ،‬فبعد‬
‫ٌ‬
‫يافعة وبدا عمرها ً‬ ‫ٌ‬
‫قريبا من الستة‬ ‫أصبحت الطفلة الصغيرة فتاة‬
‫عشر ً‬
‫عاما‪ ،‬ووجدت الحمائم أن الفواكه وحدها ال تكفي ألطعامها‪،‬‬
‫فيه ُ‬
‫الرعاة ما‬ ‫ُ‬
‫مكان يضع ِ‬‫فبدأت تبحث لها عن الغذاء‪ ،‬واهتدت إلى ٍ‬
‫وخبز طري‪ ،‬فأخذت الحمائم منها بمقدار‬
‫يصنعون ِمن جبن‪ ،‬وحليب‪ٍ ،‬‬
‫ما تستطيع حمله بمناقيرها أو بين بعضهم البعض‪ ،‬لتقدمه للطفلة‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫الرعاة إلى جبنها وخبزها املنقور وحليبها‬ ‫مع الوقت إنتبهت زوجة أحد ُ‬
‫املنقوص‪ ،‬فأخبرت زوجها الذي قرر مع ثالثة اخرين ترك أحدهم‬
‫لئيم وطماع‪.‬‬‫ليراقب املكان‪ ،‬وكان راعي قصير القامة‪ ،‬بدين‪ ،‬لكنه ٌ‬
‫وشاهد الراعي عشرات الحمائم وهي تحط حول الجبن وتلتقط قطعه‬
‫مكان ليس ببعيد‪،‬‬ ‫الصغيرة‪ ،‬وتمأل مناقيرها بالحليب وتطير به إلى ٍ‬
‫فأخبر رفاقه الثالثة‪ ،‬واتفقوا على اتباع الحمائم حتى يعرفوا القصة‪.‬‬
‫برغبة عارمة‬
‫ٍ‬ ‫كبيرة مدفوعين‬‫بمشقة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫لدى وصولهم إلى الجبل‪ ،‬تسلقوه‬ ‫ّ‬
‫في معرفة ما الذي يفعله الحمام بالحليب والجبن‪ .‬عند القمة قال‬
‫بيت لألفاعي العمالقة أو‬ ‫((البد وأن هذا املكان ٌ‬ ‫الراعي الطويل‪ُ :‬‬
‫الشياطين الفارة من الجحيم‪ ،‬ال ُيمكن ألحد من البشر أن يأتي ُهنا))‪.‬‬
‫((كل هذا الكالم عن األفاعي والشياطين ليس‬ ‫رد عليه الراعي القصير‪ُّ :‬‬
‫شيئا من حقيقة أننا ُهنا بالفعل))‪.‬‬ ‫حقا‪َّ ،‬إنه ال ُي َغ ّير ً‬‫مسل ً‬
‫ّ‬ ‫ُ ً‬
‫ِ‬ ‫مخيفا وال ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ود َّ‬
‫خنجرا صغير الحجم‪ ،‬فالحظ الراعي إلى‬ ‫س يده في معطفه أخرج‬
‫خيمت على مالمح صديقه القصير َوم َّد يده من‬ ‫جانبه حالة التوتر التي َّ‬
‫ٌ‬
‫فوره إلى مقبض سيفه وإن بدا من مقبضه َّأنه سيف مصنوع في ورشة‬
‫َّ‬
‫بأمعان وقد‬
‫ٍ‬ ‫رخيصة‪ .‬لكن قبل أن يستله قال الراعي القصير وهو ُي ِط َّل‬
‫((وكأنها الجنة))‪ .‬بينما‬ ‫ّ‬ ‫بدت له األشجار الخضراء على مشارف الواحة‪:‬‬
‫قال آخر بلهفة وهو يطأ بقدميه في الظالل أسفل األشجار‪(( :‬أنظروا‪..‬‬
‫جميع األشجار ُمحملة عن آخرها بالفاكهة))‪ .‬كانت جميع األشجار‬ ‫ُ‬
‫خضر ٌاء ُومثمرة بالفعل‪ ،‬وإن كانت في غير أوان إثمارها‪ .‬كان الراعي‬
‫شاعرا بالقلق املشوب بالخوف‬ ‫ً‬ ‫قابضا على سيفه‬ ‫ً‬ ‫الطويل مايزال‬
‫‪86‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مبتسما متهلل‬ ‫عندما قبض صديقه القصير على خوخة‪ ،‬وسأله‬
‫َّ‬
‫السحرية‪،‬‬ ‫واحدة يا أخي؟ إنها من واحة نينوي‬
‫ٍ‬ ‫املالمح‪(( :‬أترغب في‬
‫َ‬ ‫تتذوق ً‬ ‫وأؤك ُد لك أنك لم َّ‬ ‫ّ‬
‫وقضم من‬ ‫شيئا بهذه الحالوة من قبل))‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫شديد ليسيل العصير على جانب فمه‪ .‬رد الراعي الطويل‬ ‫ٍ‬ ‫بنهم‬
‫الثمرة ٍ‬
‫ويتميز من الغيظ‬ ‫َّ‬ ‫وقد أخرج سيفه من ال ِغمد وبدا َّأنه غير مطمئن‬
‫السيدان!‬ ‫آت إلى هنا آلكل الفاكهة))‪ .‬قال ثالثهما‪(( :‬أيها ّ‬
‫الغير مبرر‪(( :‬لم ِ‬
‫ِ‬
‫نسن شروطا للتحرك هنا بحرص‪ ،‬ال أن َ‬‫ً‬ ‫جدر بنا أن َّ‬ ‫َي ُ‬
‫نتبادل عبارات‬
‫االستفزاز))‪.‬‬
‫فاقع حمارها من الشجرة‪ ،‬فإذا‬ ‫قطف الراعي القصير حبة خوخ ٌ‬
‫ُ‬
‫ِبه يتفاجأ َّأنها تثمر من فورها حبتين‪ ،‬وتنضجان في ذات اللحظة‪ ،‬حتى‬
‫أشد إحمرا ًرا من التي قطفها‪ ،‬وعندما أعاد َّ‬
‫الكره‬ ‫أنهما ُتصبحان ُّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫((قلت لكم ّإنها الجنة))‪.‬‬ ‫وقطف حبتين‪ ،‬أثمرت أربعة‪ ،‬فصرخ ُمهلال‪:‬‬
‫الرعاة الثالثة منبهرين بما يروه من أشجار مثمرة وورود‬ ‫وبينما ُ‬
‫متباينة األلوان والرائحة وقعت عين القصير اللئيم على الفتاة والكوخ‪.‬‬
‫كان الكوخ يرتفع مترين ونصق املتر فقط عن األرض‪ُ ،‬مغطى‬
‫َّ َ‬
‫أزهار حمر ٌاء‬‫ٌ‬ ‫بالكامل بنبات الل ْبال ُب املتسلق أزرق اللون‪ ،‬تتخلله‬
‫خيمت ظالل شجرة ُتفاح عمالقة حتى ّ‬
‫أن‬ ‫وبيضاء وأرجوانية‪ .‬من فوقه َّ‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ثمارها الناضجة الساقطة فوقه غطته ً‬
‫تماما‪ .‬كانت الفتاة الواقفة أمام‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫مشابهة ً‬ ‫ُ ً‬
‫الذهبية وقتما‬ ‫تماما من الحمامة‬ ‫الكوخ قد أصبحت نسخة‬
‫هيئة بشرية‪ .‬نحيفة‪ ،‬لكنها يافعة‪ ،‬ضاججة باألنوثة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تجسدت في‬

‫‪87‬‬
‫أن‬‫ذهبي اللون ُمنسدل من الرأس حتى أخمص القدمين‪َّ ،‬إال َّ‬ ‫شعرها ُّ‬
‫ُ ّ‬
‫هل‪ ،‬وكانت‬ ‫بشكل مذ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫عيناها بقيتا كما هما‪ ،‬أرجوانيتان ُمضيئتان‬
‫مصنوع من أوراق الشجر‪ .‬إندفع الرعاة نحوها‪ ،‬تدفعهم‬ ‫ٍ‬ ‫بكساء‬
‫ٍ‬ ‫ُملتفة‬
‫ظنا منهم َّأنهم بذلك‬ ‫الرغبة في أخذها ُعنوة إلى منازلهم في مدينة نينوي‪ً ،‬‬
‫كنز ثمين سوف‬ ‫سوف يستولون على واحتها السحرية التي اعتبروها ٌ‬
‫ً‬
‫ُيضر عليهم أمواال ال حصر لها من بيع الفاكهة التي ال تنضب‪.‬‬
‫ُ‬
‫أبدت الفتاة في باديء األمر بعض املقاومة‪ ،‬لكنها كانت مقاومة‬
‫خجولة‪ ،‬سرعان ما رضخت لهم فيما بعد‪ ،‬ورافقتهم دون أن ُتبدي ّ‬
‫أي‬
‫تماما‪ ،‬موقنة َّأنها في النهاية سوف تكون في‬ ‫خوف أو قلق‪ ،‬كانت ثابتة ً‬ ‫ٍ‬
‫أمان‪ .‬وأنقسمت الحمائم املفزوعة ملجموعتين‪ ،‬واحدة تتبعت الفتاة‬
‫ُ‬
‫وأخرى توجهت صوب النهر تحاول إستدعاء الحمامة الذهبية كي‬
‫َّ‬
‫توقف أو‬
‫ٍ‬ ‫تحوم في مكانها وهي ُتنوح دون‬ ‫ّ‬
‫تنقذها‪ ،‬وظلت كل مجموعة ِ‬
‫ميتا من شدة الجوع والعطش‬ ‫احة‪ ،‬حتى أن بعضها كان يسقط ً‬
‫ر‬
‫والتعب من الطيران املتواصل‪ ،‬فأمتلئ سطح مياه النهر بالحمائم‬
‫الرعاة قبل أن تمتليء نينوي بأكملها‬ ‫امليتة‪ ،‬وكذلك أمتليء سطح منزل ُ‬
‫الرعاة يتخيلوا أن إخراج الفتاة من‬ ‫بأجساد الحمام امليت‪ .‬لم يكن ُ‬
‫ُ‬
‫الواحة بمثابة خطيئة‪ ،‬فما إن أب ِعدت عن واحتها‪ ،‬جف نبع املاء‪،‬‬
‫فتوقفت املياه عن التدفق في جدولها‪ ،‬وماتت األشجار وسقطت جميع‬
‫ً‬
‫واحد فقط‪ ،‬ليس ألنقطاع املاء عنها‪ ،‬فلم‬ ‫يوم ٍ‬ ‫ثمارها تالفة في أقل من ٍ‬
‫ُ‬
‫تكن تروى من املاء‪ ،‬بل من السعادة والبهجة والطمأنينة التي كانت‬
‫تنبعث من الفتاة خاصة وأن الواحة بما فيها قد خلقت ألجلها‪ ،‬وعادت‬
‫‪88‬‬
‫الرعاة من‬‫مرة أخرى إلى صيغتها األولى‪ .‬في اليوم التالي‪ ،‬خرج ُ‬ ‫الواحة َّ‬
‫منازلهم وتفاجئوا بجثث الحمائم الساقطة على األرض في كل مكان‪،‬‬
‫لكنهم لم يأبهوا لألمر‪ ،‬تحركوا صوب الجبل‪ ،‬وتسلقوه‪ ،‬وهرولوا صوب‬
‫ّ‬
‫الواحة وقد تجهزوا لقطاف فاكهتها والعودة بها إلى السوق‪ ،‬إال أنهم‬
‫وش َها‪ ،‬وجن جنونهم وذهلوا ً‬ ‫َ َ ٌ ََ ُ‬ ‫ُ‬
‫تماما‬ ‫صعقوا عندما وجدوها خ ِاوية عل ٰى ع ُر ِ‬
‫َّ‬
‫ِملا رأوه‪ ،‬فوقفوا شاعرين بالخيبة والغضب‪ ،‬واتفقوا فيما بينهم أن‬
‫كعقاب لها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫يبيعوا الفتاة في سوق مدينة نينوى العظيم‬
‫خالل إسبوعين حزنت الفتاة على الحمائم التي تموت كل يوم‬
‫الرعاة لذلك أو يتفهموا أسبابه‪،‬‬ ‫وتسقط من حولها دون أن يأبه ُ‬
‫وحرصت الفتاة على إخفاء سوارها السحري طوال الوقت‪ ،‬لم تكن‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الذهبية طريقة‬ ‫تعرف كيف تستخدمه‪ ،‬فلم تعلمها الحمامة‬
‫إستخدامه أو التعاويذ التي تحتاجها لذلك‪ ،‬على الرغم من َّأنها كانت‬
‫تترد ُد عليها لتزورها في النهار الذي يلي ليلة اكتمال القمر من كل شهر‪،‬‬‫َّ‬
‫السوار والتعاويذ‬ ‫دائما أن موعد تعليمها طريقة إستخدام ِ‬ ‫َّإال َّأنها رأت ً‬
‫ُ‬
‫املستخدمة في ذلك لم يأتي وقتها بعد‪.‬‬
‫الرعاة األربعة‬ ‫في صبيحة اليوم األول من اإلسبوع الثالث‪ ،‬اقتادها ُ‬
‫إلى السوق‪ ،‬وكان ذلك اليوم يوم موسم للزواج الذي ُيقام كل عام‪،‬‬
‫حيث تجتمع في السوق الكبير جموع الشبان والشابات قادمة من كل‬
‫ُ‬
‫شاب عروس تشاركه حياته‪ ،‬أو ينتقي كل‬ ‫نواحي اململكة‪ ،‬لينتقي كل ٍ‬
‫كهل صبية يحملها إلى داره فيربيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها أو‬
‫ٍ‬

‫‪89‬‬
‫ّ‬
‫تغص بالشيوخ‪،‬‬ ‫عروسا ألحد ابنائه‪ .‬كانت ساحة السوق‬ ‫ً‬ ‫يقدمها‬
‫ُ‬
‫الكهول والشبان‪ ،‬تجار ومزارعين وحراس ومقاتلين‪ .‬دخل الرعاة‬
‫بالفتاة وكان الراعي القصير قد لثمها بطريقة أخفت وجهها ً‬
‫تماما‬
‫ألخفاء جمالها األخاذ وعينيها الالفتة لألنظار‪ ،‬على أن يكون ذلك اللثام‬
‫ً‬
‫خافيا لوجهها حتى اللحظة املناسبة حيث يعرضونها للبيع‪.‬‬
‫اللحظة التي سها فيها‬
‫ٍ‬ ‫جلس الرعاة مع الصبية في أول الصف‪ ،‬وفي‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫واحدة أن تميز َّأن ُه‬
‫ٍ‬ ‫نظرة‬
‫الرعاه عن الفتاة رأت رجال إستطاعت من ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صالحا‪ ،‬خاصة عندما هفا قلبها إليه‪ ،‬فقامت بكشف عينيها له‬ ‫رجال‬
‫ً‬
‫ونظرت في عينيه ُمباشرة‪.‬‬
‫كان الرجل ُيدعى سيما‪ ،‬وهو القائد املسؤول عن خيول امللك‬
‫عقيما ال طفل له‪ ،‬وهفا قلبه إلى سيمورامات من النظرة‬ ‫ً‬ ‫شمش ي‪ .‬كان‬
‫األولى ورغب في تبنيها‪.‬‬
‫الرعاة وساومهم على ثمنها وقد عزم من اللحظة األولى على‬‫دنا من ُ‬
‫مهما كلفه األمر‪ ،‬عندما حاول الراعي القصير أن يستغل رغبة‬ ‫شرائها ً‬
‫تماما في عينيه‪ ،‬قال له سيما‪(( :‬سوف أحصل على‬ ‫الرجل الواضحة ً‬
‫الفتاة حتى لو كلفني ذلك شقك لنصفين أيها الخنزير البغيض))‪.‬‬
‫ّ‬
‫تحوم فوق الفتاة‪ ،‬وماتت‬
‫تلك اللحظة سقطت آخر حمامة كانت ِ‬
‫من فورها‪ ،‬فتوجس أحد ُ‬
‫الرعاة خيفة وهو يتطلع في الحمامة ويتذكر‬
‫الحمائم التي رءآها طوال األيام املنصرمة ساقطة على األرض ميتة‪،‬‬
‫فهمس للبقية أن هذه الفتاة ملعونة وذكرهم بالحمائم امليتة في كل‬
‫‪90‬‬
‫مكان في نينوي‪ ،‬وكذلك ما حدث للواحة‪ ،‬وقال لهم‪(( :‬لو لم نتخلص‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منها اآلن قد تكون سببا في موتنا جميعا))‪ .‬كان توجسه هذا سببا في أن‬
‫تمت الصفقة في لحظتها‪،‬‬
‫عاد بها الرجل إلى منزله‪ .‬ما إن رأت زوجته الفتاة ذات الجمال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الرائع حتى هفا قلبها إليها‪ ،‬وفرحت فرحا غامرا واعتنت بها عناية‬
‫ُمضاعفة ملدة إسبوعين‪ ،‬فخرجت بها إلى األسواق‪ ،‬تبضعت ألجلها‬
‫َ‬
‫والح ِل َّى‪ ،‬فألبستها فساتين من الحرير والك َّتان املطرز‬ ‫أفضل األقمشة ُ‬
‫ذهبية وزينتها بالذهب والجواهر‪ ،‬فاستدارت الفتاة وبرزت‬ ‫َّ‬ ‫بخيوط‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫أنوثتها كأجمل ما تكون النساء‪ ،‬وذاع صيت جمالها بين التجار في‬
‫َّ‬
‫السوق والعامة في الشوارع وجيران القائد سيما‪ ،‬إال أن سيرتها انتشرت‬
‫يوما ما ِمن سوق نينوي‬ ‫وذاع صيتها بشدة في املدينة‪ ،‬عندما خرجت ً‬
‫ُ‬
‫ترافقها خادمتين وحارسين عينهم لها القائد سيما‪ ،‬ورأت أناس‬
‫َّ‬
‫محمرة‬ ‫ُمشردين أصابهم املرض‪َ ،‬شعرهم قذر ولحاهم خشنة‪ُ ،‬‬
‫أعينهم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫مشققة َّدامية‪ ،‬وبينما اشمئز الناس منهم‬ ‫بشدة وشفاههم جافة‬
‫ظنا منهم أن االلهة قد لعنتهم‪ ،‬دنت سيمورامات منهم‪،‬‬ ‫وتجنبوهم ًّ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫وكانت فيما بينهم طفلة صغيرة شعرها ُمغ َب ٌّر‪ِ ،‬وات َس َخ جسدها بشدة‪،‬‬
‫احم َرا ٌر دامي‪ ،‬ووجنتيها ملتهبة من كثرة ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َْ‬
‫البكاء‪ ،‬فدنت‬ ‫ِوفي مقل ِت ِه عينيها ِ‬
‫منها مدفوعة برقة قلبها ومنجرفة خلف عاطفتها‪ .‬جلست أمام الفتاة‬
‫نابعا من داخلها يخبرها أن‬ ‫همسا ً‬‫مباشرة‪ ،‬وفي تلك اللحظة سمعت ً‬
‫َّ‬
‫ترتدي السوار في معصمها‪ ،‬فاستغربت األمر‪ ،‬ولم تفعله‪ .‬إال أن‬
‫السوار))‪.‬‬
‫السوار ‪ ..‬إرتدي ِ‬ ‫الصوت تردد مرة أخرى‪(( :‬إرتدي ِ‬
‫‪91‬‬
‫ُ‬
‫الصوت‬ ‫قلق ونهضت وهي تتراجع للخلف‪ ،‬فهمس‬ ‫هزت رأسها في ٍ‬
‫السوار‪ ،‬إرتدي السوار))‪.‬‬ ‫ُ َّ ً‬
‫فيها مجددا‪(( :‬الخير بالخير ‪ ..‬إرتدي ِ‬
‫لثوان معدودة‪ ،‬فقال أحد حارسيها وهو ينظر‬
‫ٍ‬ ‫توقفت بمكانها‬
‫بأشمئزاز إلى الطفلة‪(( :‬سيدتي ‪ ..‬إنهم مرض ى ‪ ..‬ملعونين))‪ .‬فهمس‬
‫الصوت َّ‬
‫وتردد فبداخلها في نفس اللحظة‪(( :‬الخير بالخير ‪ ..‬إنقذي‬
‫الفتاة))‪.‬‬
‫السوار من بين طيات مالبسها‬ ‫إلتفتت سيمورامات وهي تخرج ِ‬
‫َّ‬
‫وسط ترقب كل من حولها من الحراس والعامة‪ ،‬وملا ِارتدته سمعت‬
‫مسد بأصابعها فوق جباه الفتاة‬‫الصوت مرة أخرى يهمس لها بأن ُت َّ‬
‫ووجهها وهي تقول‪(( :‬بيليجيريرو))‪ ،‬ففعلت‪.‬‬
‫برأت الفتاة املشردة على الفور من مرضها وعاد وجهها وجه ٍ‬
‫طفلة‬
‫مسدت على‬ ‫مض يء‪ .‬انتقلت سيمورامات إلى البقية‪ً ،‬‬
‫واحدا تلو آخر‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جميعا‬ ‫جباههم وأيديهم بذات الطريقة وهي تلقي نفس التعويذة‪ ،‬فبرأوا‬
‫مما أصابهم وعادوا أصحاء ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫كانت جموع الناس في السوق تتجمع حولها وتترقب ما يحدث‪،‬‬
‫َّ‬
‫وصاحوا مهليين ملا رأوه وظنوا َّأنها من اآللهة وبعضهم أطلق عليها لقب‬
‫الساحرة‪.‬‬
‫في أواخر أصيل اليوم التالي‪ ،‬شقت الحمامة الذهبية مياة النهر‪،‬‬
‫ً‬
‫مكروها‬ ‫وتفاجئت بجثث الحمائم الطافية على سطحها‪ ،‬فعلمت أن‬

‫‪92‬‬
‫ّ ُ‬ ‫ً‬
‫الدورية املعتادة‬ ‫أصاب الفتاة‪ ،‬طارت مباشرة صوب الواحة في زيارتها‬
‫من كل شهر‪ ،‬وما إن وصلت‪ ،‬وجدتها خاوية على عروشها‪ُ ،‬م ّ‬
‫دمرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مكروها أصابها‪ ،‬واغرورقت عيناها‬ ‫فأيقنت أن الفتاة أخذت منها‪ ،‬وأن‬
‫تحوم فوق الجبل ُمكذبة نفسها قبل أن تهبط بأتجاه‬ ‫بالدموع وهى َّ‬
‫َّ‬ ‫ّ ُ‬
‫وتتخذ هيئتها البشرية‪ .‬وملا كانت غاضبة فإن هبوطها بدا‬ ‫األرض ِ‬
‫شديد للغاية جعل األرض تهتز أسفل قدميها والحص ى مع بقية‬ ‫ٍ‬ ‫كأرتطام‬
‫ٍ‬
‫مسموع‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫األزهار التالفة من حولها أخذ يتطاير‪ .‬كانت تزفر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األرجوانية التي تض ُي تكاد من فرط الغضب تشع نير ًانا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وعيناها‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫جلست على إحدى ُّرك َبتيها مقتربة من األرض وبسطت كف يدها‬
‫عليها‪ .‬على الفور‪ُ ،‬عرض لها داخل عقلها ما حدث في الواحة منذ‬
‫غادرتها اخر مرة‪ ،‬فرأت الحمائم وهي ترقص مع الفتاة ويلتفون معها‬
‫حول األشجار ويتقاذفون فيما بينهم حبات الفاكهة املتنوعة‪ ،‬ورأت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫كيف َّأنها أصبحت في شهرها األخير فتاة يافعة تشبهها تماما قبل أن‬
‫كل ش يء‪ .‬عندما ُعرض لها الراعي القصير‪ ،‬وهو‬ ‫الرعاة ويخربون ّ‬
‫ِ‬
‫يأتي ُ‬
‫شديدة ويأخذها‬
‫ٍ‬ ‫بقسوة‬
‫ٍ‬ ‫بيده الخشنة على معصم الفتاة اللين‬
‫يقبض ِ‬
‫ُّ َْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بقوة أسقطتها أرضا على ركبتيها فجرحتا‪ ،‬غضبت‬ ‫عنوة ويدفعها أمامه ٍ‬
‫مدوية كالتي أطلقتها يوم فاض النهر‬ ‫بشدة‪ ،‬وأطلقت صرخة غاضبة ّ‬
‫وسمعت نينوي بأكملها تلك الصرخة‪ .‬في تلك اللحظة إتخذت هيئة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وطارت للسماء‪ ،‬هذه املرة لم تقصد مياه‬ ‫َّ‬
‫الذهبية َّ‬ ‫الحمامة‬
‫َّ‬
‫النهر بل قصدت مدينة نينوي نفسها‪ ،‬وظلت تتجول فوق املدينة من‬
‫أقصاها إلى أدناها حتى شعرت بقلبها يخفق بشدة‪ ،‬فعلمت أن الفتاة في‬
‫‪93‬‬
‫ْ‬
‫قريب منها‪ ،‬إذ كانت مؤمنة أن ما نبحث عنه بالقلب يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫مكان‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫إليه دائما مهما غادرنا وابتعد‪ .‬وما إن عبرت فوق منزل القائد‬ ‫ُ‬
‫اإلهتداء ِ‬
‫حدد‬‫سيما شعرت بقوة السوار السحري يؤثر عليها واستطاعت أن ُت ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مكانه‪ ،‬فهبطت من فورها فوق املنزل‪ ،‬ولم تبدل هيئتها‪ ،‬خاصة عند‬
‫روأيتها الفتاة جالسة أمام زوجة القائد سيما‪ ،‬واألخيرة تقوم بتصفيف‬
‫ستانا من الحرير األزرق وعلى رقبتها‬‫شعرها‪ .‬كانت الفتاة مرتدية ُف ً‬
‫ذهبية مطعمة باألحجار الكريمة رائعة الجمال‪ ،‬وحول معصمها‬ ‫قالدة ّ‬
‫ٌ‬
‫وقدميها حلى من الذهب‪ ،‬وعلى شفتيها املدبوغة بحمرة الرمان إبتسامة‬
‫مأ ّن فؤادها ً‬ ‫ْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تماما وابتسمت عند رؤيتها‬ ‫صافية نابعة من القلب‪ ،‬واط‬
‫القائد سيما يدخل عليهما ُم ً‬
‫بتسما ويدنو منها ليقبل جبينها‪.‬‬
‫هفت ِّريح باردة على‬‫قرب إنتهاء الليل‪ ،‬مع مغادرة القمر للسماء‪َّ ،‬‬
‫والدردار‬ ‫الصنوبر َّ‬
‫والت ُّنوب َّ‬ ‫محملة برائحة َّ‬ ‫الشرفة من بين األشجار َّ‬
‫والتوت املحيط باملنزل‪ ،‬فاستنشقها الكاهن كاي تاي الذي توقف عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مدفوعا برغبة عارمة في الحصول على بعض الراحة‪.‬‬ ‫الحديث فجأة‬
‫كان نياخ هاو وشبسكاف باألضافة إلى حتبت رع والسيدة كاريسا‬
‫َ‬
‫قد ق َّل تناولهم للطعام بعدما اوشكوا على الشبع‪ ،‬وأشارت كاريسا إلى‬
‫السيدة رَّيانة الجسد التي كانت ما تزال واقفة قرب الباب‪ ،‬طالبتها‬
‫باستدعاء الخادمات الثالثة من أجل جمع األطباق وتنظيف املائدة‪ ،‬في‬
‫اللحظة التي َم َألت فيها كأس من َّ‬
‫النبيذ عن آخره وقربته من زوجها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫دلفت الخادمات من الباب‪ ،‬وبدأن في جمع األطباق‪ ،‬في تلك‬

‫‪94‬‬
‫ً‬
‫هامسا‪ُّ :‬‬
‫((أيهما‬ ‫مال شبسكاف برأسه على حتبت رع وسألها‬ ‫اللحظة َ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الذهبية أم الفتاة!))‪.‬‬ ‫تفضلي أن تصبحين؟‪ ،‬الحمامة‬
‫بقطعة كبيرة من لحم ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الديوك تأكل فيها‪،‬‬ ‫كانت حتبت رع ُممسكة‬
‫وه َّزت رأسها وزفرت‬ ‫وضعتها على املائدة بعنف ونظرت إليه بطرف عينها َ‬
‫ٍ‬
‫وهي تقول‪(( :‬اريد أن أعرف أين كنت ليلة معبد العرافات ‪.)).. ..‬‬
‫ً‬ ‫ُ ًّ‬
‫كمال عبارتها قائال‪(( :‬أو سأقتلك يا شبسكاف))‪.‬‬ ‫وقاطعها شبسكاف م ِ‬
‫وابتسم من أعماقه وهو ينظر في عينيها وراح يتذكر َّ‬
‫املرة األولى التي‬
‫أخبرته فيها بتلك الجملة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سنوات بعد‪ ،‬عندما تركها‬ ‫ٍ‬ ‫صغارا لم يتجاوزا العشرة‬ ‫كانوا أطفاال‬
‫ً‬
‫الن َف ُق األرض ي وحدهم‪ ،‬قاصدين أرض‬ ‫نائمة ودلفوا إلى َّ‬ ‫ونياخ هاو‬
‫املعابد‪ ،‬ليستمعوا قصص السحر واألساطير القديمة من الكهنة‪.‬‬
‫َ َ‬
‫ستفاقت من النوم‪ ،‬واكتشفت أمر ذهابهما من دونها‪ ،‬شق‬ ‫عندما ِا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫تجلس وحدها‪ ،‬فذهبت ِمن خلفهم عبر النفق األرض ي‪ ،‬ولم‬ ‫عليها أن ِ‬
‫تأبه لكونه شديد الظالم والوعورة‪ ،‬فضاعت فيه‪.‬‬
‫متأخر من اليوم نفسه‪ ،‬عاد نياخ هاو وشبسكاف‪ ،‬وغابت‬ ‫ٍ‬ ‫وقت‬
‫في ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حتبت رع‪ِ ،‬واستم َّر غيابها عشرة أي ٍام كاملة‪ ،‬طوال خمسة ٍ‬
‫أيام منها‬
‫ّ‬
‫األن َف ُ‬
‫َّ‬
‫األرضية‬ ‫اق‬ ‫بحثوا مع عائلتهم عنها في كل مكان‪ ،‬حتى َّأنهم دلفوا إلى‬
‫ُ‬
‫املحرمة‪ ،‬وتوغلوا في متاهة األنفاق املليئة بالفخاخ الهندسية‪ ،‬فعبروا‬
‫النيران وقفذوا من بين السهام املنبثقة من الحوائط وتفادوا قوافل‬
‫العقارب وتجمعات الحيات القريبة من أسوار مدينة هامونابترا‪ ،‬مدينة‬

‫‪95‬‬
‫اآللهة السحرية واملخبأة أسفل أرض ممفيس‪ ،‬ولم يجدوا لها ّ‬
‫أي أثر‪.‬‬
‫جميعا َّأنهم فقدوها لألبد‪ ،‬وحده شبسكاف ّ‬
‫ظل‬ ‫ً‬ ‫في النهاية ّ‬
‫ظنوا‬
‫ً‬
‫وقت ما‪ ،‬حتى َّأنه كان‬ ‫َّ‬
‫ُمتمسكا بفكرة أنها ما تزال بخير وسوف تعود في ٍ‬
‫جالسا ينتظر‬ ‫ً‬ ‫يذهب كل صباح إلى فوهة النفق ويظل طيلة اليوم‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫أسه داخل النفق ويناديها‬ ‫عودتها‪ ،‬كان من آن آلخر ُ‬
‫يميل بر ِ‬ ‫ٍ‬
‫واهن‪(( :‬حتبت رع ‪ ..‬حتبت رع)) كان يكرر النداء مرتين قبل أن يختنق‬ ‫ٍ‬
‫صوته في املرة الثالثة وتحل الدموع محله‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫جالسا‬ ‫في اليوم العاشر لغيابها‪ ،‬وقت األ ِصيل‪ ،‬كان شبسكاف‬
‫ظن َّأنه سمع‬ ‫كعادة كل يوم قرب فوهة النفق األرض ي يأمل عودتها‪ ،‬و َّ‬
‫ٍ‬
‫أسه ينظر داخل النفق‪ ،‬وتفاجأ بها‬ ‫صوت وقع أقدامها يقترب‪ ،‬فمال بر ِ‬
‫أمامه ُمباشرة‪ ،‬فصرخ‪ ،‬وأجتمع الناس‪.‬‬
‫ّ ً َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫متأنقة‪ ،‬إال َّأنهم وجدوا جسدها‬ ‫كانت نظيفة مصففة الشعر ِ‬
‫مليء بلدغات العقارب والحيات التي ال يمكن ألي أنسان أن ُيصاب بها‬
‫أبدا‬‫أبدا كيف حدث ذلك ولم ُتفصح ً‬ ‫وينجو‪ ،‬بيد َّأنها نجت‪ ،‬ولم ُيعرف ً‬
‫عما حدث لها أو ما رأته طوال العشرة أيام التي قضتها تائهة في األنفاق‪.‬‬ ‫َّ‬
‫عندما خرجت من النفق كان شبسكاف ما يزال يبكي وعيناة متورمتان‬
‫كثيرا‪ ،‬اكثر حتى من شقيقها نياخ هاو‪،‬‬ ‫من شدة البكاء‪ ،‬كان يبكي ً‬
‫مرة أخرى‪ ،‬سوف أقتلك يا‬ ‫فاقتربت منه وقالت‪(( :‬إذا بكيت َّ‬
‫شبسكاف))‪ .‬ومنذ ذلك اليوم رددتها مئات إن لم يكن االف املرات‪ ،‬وكل‬
‫ُ‬
‫مرة كانت تقال تكون بدافع خوفها عليه‪ ،‬حتى َّأنها أصبحت بمثابة‬

‫‪96‬‬
‫ُ‬
‫أحبك يا شبسكاف‪.‬‬
‫مسموع‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫قاطع نياخ هاو شرود صديقه عندما تسائل‬
‫بنبرة ُمستغربة‪(( :‬امواج على هيئة بشر تتقاتل‪ ،‬وبيضة كبيرة‬ ‫مشوب ٍ‬
‫ٍ‬
‫ّ ّ‬
‫تتخذ هيئة بشرية!! ‪.)) .. ..‬‬
‫تختطفها حمامة‪ ،‬وحمامة ذهبية ِ‬
‫موضحا‪(( :‬هاروت وماروت آلهة السحر‪ ،‬استوطنا‬ ‫ً‬ ‫قاطعه الكاهن‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫أعماق األنهار بعيدا عن البشر منذ االف السنين‪ ،‬إال أن أبنتهم‬
‫الحمامة الذهبية وقعت ذات يوم في حب أحد آلهة البشر‪ ،‬وحملت منه‬
‫فلما قوبل حبها بالرفض وحكم عليها َّأال تغادر املاء َّإال ً‬
‫يوما‬ ‫طفلة‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫واحدا من كل شهر‪ ،‬أرادت أن تخرج طفلتها من تحت املاء‪ ،‬إال أنهم‬
‫منعوها‪ ،‬فلفظت الطفلة على هيئة بيضة كبيرة القتها على سطح ماء‬
‫خفض الكاهن رأسه بجمود‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫تطمأن عليها))‪.‬‬ ‫وقت الخر‬
‫النهر‪ ،‬وزارتها من ٍ‬
‫كم ُل َّ‬
‫بقية‬ ‫َّ ً ُ ّ‬ ‫َّ‬
‫بعد أن فرغ من شرب كأس النبيذ واسترسل مجددا ي ِ‬
‫ً‬
‫الحديث‪ .‬قائال‪:‬‬
‫وقت‬
‫لم تحظى سيمورامات التي أصبحت شابة يافعة بالراحة ل ٍ‬
‫ْ‬
‫طويل بعدما استقرت في بيت القائد سيما‪ ،‬إذ وش ى أحدهم بقصتها‬
‫للملك اإلله شمش ي حاكم أرض آشور‪ ،‬ولم يكن أول أو آخر من يذكر‬
‫الفتاة في مجلس امللك الذي لم يستطع منع نفسه من البحث عن‬
‫الفتاة الساحرة ذات العيون األرجوانية كما تتحدث عنها وتصفها‬
‫حرا ً‬ ‫ً‬
‫رجال ًّ‬
‫قويا ال‬ ‫مدينة نينوي بأكملها‪ .‬وكان يعرف أن القائد سيما‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يهاب ً‬
‫أعداد غفيرة ال يستهان بها‪ ،‬وخطر‬ ‫أحدا‪ ،‬غير أن ُمحبيه في املدينة‬ ‫ُ‬

‫‪97‬‬
‫ُّ‬
‫بعقله َّأنه قد يرفض الحضور بالفتاة إن ط ِلب منه ذلك‪ ،‬فتوجه‬
‫َّ‬ ‫بنفسه ير ُ‬
‫افقه ً‬
‫عددا من الحراس إلى منزل القائد‪ ،‬وملا رأي الفتاة هفا‬ ‫ِ‬
‫قلبه لها من اللحظة األولى ‪ ،‬فعرض على القائد سيما أن يزوجها ألحد‬
‫ود َّع َم رفضها القائد كما توقع امللك‪ .‬مما جعله‬ ‫أبناءه‪َّ ،‬إال َّأنها رفضت َ‬
‫ْ‬
‫يشعر بالسوء‪ ،‬وِاش َت َّد َح َن ُق ُه عندما أمر القائد سيما ُح َّراس امللك‬
‫مكان آخر غير‬‫بالخروج من منزله وأمر زوجته أن تصطحب الفتاة إلى ٍ‬
‫َّ‬
‫فاستل‬ ‫ً‬
‫غضبا‪،‬‬ ‫الذي يقف فيه امللك‪ ،‬بيد أن امللك شمش ي ِاستشاط‬
‫أرضا وبحركة‬‫السيف من الحارس الواقف إلى جواره وألقى الغمد ً‬ ‫َّ‬
‫ومررها عليها‪ ،‬فسالت‬ ‫النصل على رقبة القائد سيما َّ‬ ‫وضع حافة َّ‬ ‫سريعة َ‬
‫َ‬ ‫الش ّق الذي َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫صنعه في رقبته وأغرقت الفوالذ قبل أن‬ ‫الدماء قانية من ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫تسيل على جسد القائد الذي سقط أرضا على الفور‪ .‬صرخت زوجة‬
‫القائد واندفعت على زوجها‪ ،‬فقابلها امللك وأسكن نصل السيف في‬
‫ً‬
‫قلبها مباشرة‪.‬‬
‫((ال))‬
‫شديد قبل أن يكتم أحد الحراس فمها‬ ‫ٍ‬ ‫بفزع‬
‫صرخت سيمورامات ٍ‬
‫بيده‪ ،‬فأزاحت يده ودفعته بقوة شديدة وهي تصرخ‪(( :‬ال‪ ،‬ال ُيمكنكم‬
‫ْ‬ ‫َ َْ‬
‫وجثث ُت على ُرك َب َت ْي َها بين جسدي القائد وزوجته وهي‬ ‫أن تفعلوا هذا))‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ثوان قليلة لتعويذة الشفاء‬
‫ال تعرف ماذا تفعل‪ ،‬إال أنها اهتدت بعد ٍ‬
‫التي تعلمتها يوم السوق‪ ،‬فمسدت بيدها جبين القائد وهي تقول‬
‫بصوت ممتليء بالدموع‪(( :‬بيليجيريرو))‪َّ ،‬إال أن ً‬
‫شيئا لم يتغير‪ ،‬فكررت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫‪98‬‬
‫اش ودموعها كالسيل‬ ‫ٍ ََُ ّ ً ْ َ‬ ‫مرة أخرى‬ ‫إلقاء التعويذة َّ‬
‫بصوت متق ِطعا ِفي ارِتع ٍ‬
‫تترقرق على وجنتيها‪ ،‬وخاب رجاءها عندما رأت القائد وزوجته قد‬
‫أصبحا جثتين هامدتين وتبللت راحة كفيها بدمائهما‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫قال امللك ُ‬
‫ٌ‬
‫لحارس‬ ‫للح َّراس‪(( :‬أ ْح َرقوا املنزل بما فيه))‪ ،‬وأشار‬
‫بعينه وأمره وهو يلتف ُم ً‬
‫غادرا‪(( :‬أحضر الفتاة))‪.‬‬
‫أمسك الحارس ذراعها ليسحبها إلى الوراء ُيبعدها عن جثة القائد‬
‫ً َّ ُّ‬ ‫وزوجته‪َّ ،‬‬
‫التملص من قبضته والجلوس قرب‬ ‫وتلوت الفتاة محاولة‬
‫َّ‬
‫الجثتين‪ ،‬إال أن الحارس قبض بشدة على معصميها فاستسلمت له‬
‫سرت في جسدها قشعريرة ودب في روحها الفزع‪.‬‬ ‫وقد َ‬

‫غرفة ال يدخلها ضوء النهار‪ ،‬مع‬


‫ٍ‬ ‫لثالث َّأيام متتالية وضعوها في‬
‫ذلك أهتموا بها كش ٍيء نفيس لم يسبق لهم أن إمتلكوا مثله‪ .‬في صبيحة‬
‫اليوم الرابع جعلوا قاعة العرش بحر من الجواهر والفراء واألقمشة‬
‫َّ‬
‫الثمينة‪ ،‬تكتظ ُّ‬
‫بالتجار وسادة اململكة الذين وقفوا منتظرين خروج‬
‫الفتاة الساحرة التي ذاع صيتها في مدينة نينوي والتي ُق ّ ِر َر لها أن تكون‬
‫جلس امللك اإلله شمش ي على‬ ‫زوجة أحد أبناء امللك اإلله‪ .‬فوق الجميع َ‬
‫مرتديا قميصه القرمزي تحت‬ ‫ً‬ ‫مصنوع من الذهب الخالص‪،‬‬ ‫عرش‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫معطف أسود مرصع بالياقوت األحمر‪ ،‬وعلى رأسه تاجه الذهبي‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫الثقيل‪.‬‬
‫غرفة داخلية‪ ،‬جعلت خادمات القصر سيمورامات تتألق في‬‫ٍ‬ ‫في‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املشرط باملخمل الخمري والحرير القرمزي‬ ‫ستان من قماش الذهب‬
‫ف ٍ‬
‫‪99‬‬
‫قتادها أثنان من ُ‬ ‫هبية‪ ،‬وا َ‬ ‫َّ‬
‫الذ َّ‬ ‫َّ‬
‫املوش ى َّ‬
‫الح َّراس إلى قاعة‬ ‫ِ‬ ‫بالشرائط‬
‫العرش‪ ،‬بعد أن وضعوا عصبة سوداء على عينيها‪ ،‬وكان بصرها قد‬
‫َّ َ‬ ‫َ َّ‬
‫فلما رفع الحارس ال ِعصاب عن رأسها اضائت عينيها‬ ‫اعتاد الظالم‪،‬‬
‫األرجوانيتان وهي تتفقد املكان‪ ،‬وانبهر الجميع بعينيها‪.‬‬
‫تماما من الخارج على الرغم من اضطرابها الشديد من‬ ‫بدت هادئة ً‬
‫قائما إلى أن رأت سحرة امللك األربعة‪ ،‬وكان‬ ‫الداخل‪ ،‬وظل ذلك الهدوء ً‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫لثوان معدودات‪ ،‬وملا‬ ‫ٍ‬ ‫صيت ذائع‪ .‬أمعنت النظر في وجوههم‬ ‫لهم‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫غضب‬ ‫سقطت عينيها في عين أحدهم وكان رجال ه ِرم‪ ،‬تأجج داخلها‬
‫ًّ‬ ‫ّ ً‬
‫صرخة مدوية كالتي‬ ‫شديد وشعرت برغبة عارمة في الصراخ‪ ،‬فأطلقت‬
‫صرخة أفزعت جميع من في‬ ‫الذهبية من قبل‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أطلقتها الحمامة‬
‫َّ‬
‫القصر‪ ،‬فخلعت قلوبهم‪ ،‬حتى أنهم جثوا على األرض من شدتها‪،‬‬
‫ً‬
‫وسقطت الفتاة فاقدة وعيها‪.‬‬
‫ً‬
‫شاعرا بالغثيان‪ ،‬ثم‬‫ً‬ ‫محمر العينين‬ ‫َّ‬ ‫اله ِرم ُمتثاقال‪،‬‬ ‫نهض الساحر َ‬ ‫َ‬
‫عف وهو يمسح فمه‬ ‫َ َ‬
‫وغمغم بض ٍ‬ ‫نظر إليها بعينين إتسعتا على آخرهما‬
‫بظهر يده‪(( :‬سوف نموت ُّكلنا‪ ،‬وأقرب مما نحسب))‪َ .‬‬ ‫َ‬
‫إليه الساحر‬ ‫نظر ِ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫بالدوار وغمغم هو اآلخر قائال‪:‬‬ ‫ً‬
‫شاعرا‬ ‫الناهض إلى جواره ُمتثاقال‬
‫((سوف تتحول نينوي بمن فيها إلى أنقاض‪ ،‬بعدما يستدعي أحدهم‬
‫بصرخة ال مثيل لها اولئك الغزاة املتعجرفين ملحاسبتهم على معاملته‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫قديمة تنبأ بها‬
‫ٍ‬ ‫نبؤات‬
‫ٍ‬ ‫بوقاحة))‪ .‬لم تكن هذه الكلمات سوى واحدة ِمن‬
‫َّ‬
‫أحد املشعوذين قبل مئات السنين‪ ،‬إال أن السحرة لم ينسوها‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫فوجدت‬ ‫َ‬ ‫فتحت سيمورامات عينيها‬ ‫في وقت متأخر من املساء‪َ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َْ‬
‫اش كبير‪ ،‬استيقظت دفعة واحدة شاعرة بوخز‬ ‫نفسها مستلقية في فر ٍ‬
‫َ‬
‫الفجر قد بزغ ُ‬ ‫في أعصابها َّكلها‪ ،‬وللحظة لم تتذكر أين هي‪ .‬لم يكن َ‬
‫َّ‬
‫بعد‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بالدفء تحت أغطيتها‪،‬‬ ‫فوجدت الغرفة مظلمة باردة‪ ،‬وإن ظلت تشعر ِ‬
‫شديدة دبت في جسدها عندما اكتشفت غياب ِسوارها‬ ‫ٍ‬ ‫برودة‬
‫ٍ‬ ‫بيد أن‬
‫ٌ‬
‫السحري‪ ،‬فأنتفضت عن فراشها ووقفت شاعرة بالفزع والضياع ال‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫تعرف ماذا تفعل وأين تذهب‪ ،‬إال َّأنها أطمأنت قليال عندما ِاقتربت من‬
‫كتمال في السماء‪ ،‬مما يعني أن حمامتها ا َّ‬ ‫ُ ً‬
‫لذهبية‬ ‫النافذة ورأت القمر م‬
‫قريبا‪َّ ،‬إال أن شيئا من القلق على ِسوارها السحري ّ‬
‫ظل‬ ‫ً‬ ‫سوف َتظهر ً‬
‫قابعا على قلبها‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬دلفت من الباب خادمة بترولية البشرة‪َّ ،‬ريانة‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫شاحب‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ووجه‬ ‫الجسد‪ ،‬إال َّأنها هزيلة النهدين للغاية‪ ،‬لها عينان ذابلتان‬
‫دافئا لها‪ .‬نظرت سيمورامات إلى‬ ‫عشبيا ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشروبا‬ ‫حملت في يدها‬ ‫وقد َّ‬
‫الكأس في يدها بأرتياب‪ ،‬فطمأنتها الخادمة التي دنت منها وقدمته لها‬
‫حاده فلم تستطع أن تبتسم‪،‬‬ ‫بلطف شديد َّإال أن مالمحها كانت َّ‬
‫ٍ‬
‫وأشارت سيمورمات إلى معصم يدها دون أن تتكلم‪ ،‬ففهمتها الخادمة‬
‫التي قالت‪(( :‬السوار!))‪.‬‬
‫هزت سيمورامات رأسها على الفور‪(( :‬نعم))‪ .‬فأبتسمت الخادمة‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫إبتسامة هزيلة ومالت ومدت يدها بين طيات الفراش التي كانت‬
‫السوار‪.‬‬
‫تستلقي فوقه سيمورامات وأخرجت ِ‬

‫‪101‬‬
‫ُ‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬سمعوا صوت وقع أقدام يقترب‪ ،‬وبينما تخفي‬
‫ٌ‬
‫سيمورامات ِسوارها‪ ،‬دلفت من الباب خادمة أخرى‪ ،‬قالت للخادمة‬
‫َّ ً ُ‬
‫مرة أخرى وقد إرتفعت حرارتها‬ ‫((طفلتك عادت للبكاء‬
‫ِ‬ ‫ّريانة الجسد‪:‬‬
‫بشدة))‪ .‬ترقرقت دمعة حزينة على وجه الخادمة َّريانة الجسد وهي‬
‫ٌ‬
‫مكسوة بالحزن‬ ‫بمالمح‬
‫ٍ‬ ‫تستأذن سيمورامات وانصرفت ِمن أمامها‬
‫مكسورة الفؤاد على صغيرتها التي إمتنعت عن الطعام قبل إسبوعين‬
‫ُ‬
‫كاملين بعدما جف الحليف في ثدي أمها‪.‬‬
‫ّ‬
‫الذهبية ماء النهر‪،‬‬ ‫في اليوم التالي‪ ،‬وقت األصيل‪ ،‬شقت الحمامة‬
‫متوجهة صوب منزل القائد سيما‪ّ .‬‬ ‫ً‬
‫لدى‬ ‫وقطعت الغيوم في السماء‬
‫لُ ً‬
‫حترقا ُم ً‬
‫تفحما‪ ،‬والحظت بعض العامة يمرون‬ ‫وصولها تفاجئت باملنز م‬
‫أمام املنزل ويقفون حوله يتفقدوا حجم الدمار‪ ،‬بعضهم يمش ي على‬
‫َّ َّ‬
‫األقدام‪ ،‬وبعضهم يركب الخيول والبغال‪ ،‬إال أنها لم تأبه ٍ‬
‫ألحد منهم‬
‫غضب ُمتأجج داخلها َّ‬
‫وأتخذت هيئتها‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫عموديا يدفعها‬ ‫عندما هبطت‬
‫البشرية قبل أن تصل لألرض بعدة أمتار‪ .‬اصطدمت باألرض‪ ،‬توقفت‬
‫وسط الدمار والرماد الذي تبقى من املنزل‪ ،‬ففزع الناس لهبوطها‬
‫واصطدامها باألرض الذي جعل األنقاض تتطاير من حولها‪ .‬كان صبرها‬
‫قد نفذ‪ ،‬فلم تتفقد املكان‪ ،‬جلست فور هبوطها على ُركبتيها وبسطت‬
‫راحة يدها على األرض بعد أن أغمضت عينيها‪ ،‬فبدأ ما حدث ُيعرض‬
‫ً ًّ‬
‫مدوية‪ ،‬فدب الهلع في املدينة‪ ،‬وطارت‬ ‫لها داخل عقلها‪ .‬صرخت صرخة‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫مرة أخرى في السماء‪ ،‬توجهت مباشرة صوب قصر امللك اإلله شمش ي‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫حومت فوق القصر تستطلعه بعينيها األرجوانيتان‪ ،‬فرأت‬ ‫َّ‬
‫سيمورامات بخير لكنها محتجزة في غرفة ال تفارقها‪ ،‬ورأت خادمات‪،‬‬
‫وحراس‪ ،‬وامللك وأبناءه قرب العرش‪ ،‬ورأت سحرة امللك األربعة الذين‬
‫شعروا بقوتها على هيئة طاقة تسري في املكان‪.‬‬
‫ُ‬
‫هبطت إلى نافذة الغرفة املحتجزة فيها أبنتها‪ ،‬رأت فتاة وأمرأتان‬
‫خدمان على سيمورامات‪ ،‬إحداهما كانت ُتمشط شعرها واألخرى‬ ‫ُت ّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تعتني بأظافرها‪ ،‬والفتاة الصغيرة تمسك لها مرآة تساعدها على رؤية‬
‫ُ ّ‬ ‫ً ْ‬
‫صفف‬ ‫وجهها جيدا‪ .‬إذ كان ظهر إبنتها إليها‪ ،‬وحجب جسد املرأة التي ت ِ‬
‫ً َّ‬
‫جيدا‪ ،‬إال َّأنها إستطاعت رؤيتها بطريقة مشوشة في‬ ‫لها شعرها رؤيتها لها‬
‫ً‬
‫أصواتا ناعمة تصدر‬ ‫مرءآة الفتاة الصغيرة الواقفة أمامها‪ ،‬وسمعت‬
‫منها لكنها هزيلة حزينة مشوبة بالخوف‪ ،‬فأدركت أن روحها تتألم‪.‬‬
‫َّ‬
‫فعل‬‫قادرة على ِ‬
‫ٍ‬ ‫لدقائق بعينين ُمتسعتين من القلق غير‬ ‫ٍ‬ ‫راقبتها‬
‫ش ٍيء لها‪ .‬في تلك اللحظة همست لها في روحها ((سيمورامات ‪..‬‬
‫تماما ‪ ..‬النافذة))‪.‬‬‫خلفك ً‬‫ِ‬ ‫سيمورامات ‪ ..‬انظري ‪..‬‬
‫ببطء‬ ‫تصفف لها شعرها‪ ،‬والتفتت‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ازاحت الفتاة يد املرأة التي ِ‬
‫تهم واقفة وتتحرك صوب النافذة‪.‬‬ ‫شديد يشوبه إستغراب قبل أن ّ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫لذهبية نفسها للفتاة الصغيرة جاعلة َّأياها تراها حتى‬ ‫أظهرت الحمامة ا َّ‬
‫ُ‬ ‫ُتطمأن قلبها‪ ،‬وتواصلت معها ً‬
‫مرة أخري أخبرتها‪(( :‬ك ُّل ش ٍيء سوف‬ ‫ذهنيا َّ‬
‫قريبا ً‬
‫قريبا‪ً ،‬‬
‫ملساعدت ِك ً‬ ‫ُ‬
‫جدا))‪.‬‬ ‫يكون بخير‪ ،‬هناك من سيأتي‬
‫ٌّ‬
‫َّ‬
‫والصوت‬ ‫طارت الحمامة‪ ،‬وكان ُهناك صف من النوافذ تحتها‪،‬‬
‫‪103‬‬
‫نافذة على هذا الجانب التي تطير جهته‪ ،‬حيث قاعة‬ ‫ٍ‬ ‫خرج من ِآخر‬ ‫َي ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫العرش‪ .‬هبطت قرب خصاص نافذة‪ ،‬وسمعت َّثمة امرأة تقول‪(( :‬ك ّل‬
‫موعد للزفاق))‪ّ .‬رد اإلله شمش ي‬ ‫ٍ‬ ‫ش ٍيء أصبح جاهز‪ ،‬بقي فقط تحديد‬
‫جالسا فوق العرش‪(( :‬سوف يكون ليلة إكتمال القمر في‬ ‫ً‬ ‫الذي كان‬
‫دورته القادمة))‪ .‬قالت املرأة‪(( :‬كما ترى جاللة اإلله))‪.‬‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬تنهد الكاهن كاي تاي وهو ُيضيف‪ :‬كانت الحمامة‬
‫الذهبية قد فقدت جزء كبير من قوتها بتخليها عن ِسوارها السحري‬ ‫َّ‬
‫فائقة‬ ‫بسرعة‬ ‫أن ذلك لم يحرمها من شق السماء والتحليق‬ ‫ألبنتها‪َّ ،‬إال ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫سحري ٍة ال يوقفها ش يء‪.‬‬ ‫كحمامة‬
‫ٍ‬
‫والنهار إقترب ِمن فرض نفسه‬ ‫نسحبا ببطء َّ‬‫ً‬ ‫ولى ُم‬
‫كان الليل قد ّ‬
‫الداكنة‪ ،‬في‬ ‫بالفعل‪ ،‬والسماء بدأت تكتسب ُزرقة مياه البحر العميق َّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بملل ممض وإعياء سببه له‬ ‫الوقت الذي ِإستحوذ على الكاهن شعور ٍ‬
‫ُ‬
‫عضلة في جسده تؤ ِمله‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الجلوس طوال الساعات املاضية‪ ،‬شعر بكل‬
‫ملجرد التفكير في ُمغادرة‬ ‫َّ‬ ‫والتوت مالمحه َّ‬ ‫َ‬ ‫وكتفاه وضلوعه كذلك‪،‬‬
‫َّ‬
‫الشرفة دون إكمال قصته‪ ،‬ولكنه يتألم‪ ،‬وليس في وسعه إال اإلنصراف‬
‫وقت آخر‪.‬‬ ‫بقية ما لديه في ٍ‬ ‫اآلن على أمل أن ُيكمل لهم َّ‬
‫ِ‬
‫َّ ً‬ ‫َ ً‬
‫مرة‬ ‫كانت حتبت رع تترقب تحركاته أ ِّملة إسترساله في الحديث‬
‫نس َح َب ألعلى في مقعده ففهمت َّأنه سوف ينهض‪ ،‬فتسائلت‬ ‫أخري‪ ،‬وِا َ‬
‫َّ‬
‫فائقة! فاااا!! ‪ ..‬ماذا‬ ‫ٍ‬ ‫بسرعة‬
‫ٍ‬ ‫لهفة حائرة وهي تنظر إليه‪(( :‬وحلقت‬ ‫في ٍ‬
‫بعد؟))‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫فهمها الكاهن الذي حاول أن يبتسم في وجهها أو َّأنه إبتسم‬
‫ً‬
‫تماما‪ ،‬ورغبت في معرفة‬ ‫ستحوذا عليها ً‬ ‫بالفعل‪ ،‬كان يعي أن الفضول ُم‬
‫ُ‬
‫ما بعد ذلك‪ ،‬وخذل تطلعاتها عند إشارته بيده للخلف حيث السماء‬
‫فانقلبت سحنتها ً‬ ‫انظري‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫حنقا‬ ‫َ‬ ‫الفجر ًي ُبزغ))‪.‬‬ ‫وهو يقول‪(( :‬لن أفعل‪،‬‬
‫ً‬
‫فتبسم ُمجددا وهو‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫صطنعا وهي تقول‪ (( :‬ال أستطيع االن ِتظار))‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُم‬
‫ً ُ‬ ‫ُيغادر مقعده ّ‬
‫بكلمة واحدة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫خارجا ترافقه زوجته دونما أن ينبث‬ ‫وهم‬
‫شديد َبدا‬‫ٍ‬ ‫بأعياء‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫شاعرا‬ ‫ومن خلفه غادر نياخ هاو هو اآلخر‪ ،‬وكان‬
‫بكلمة‬ ‫واضحا في مالمحه وهو يشير لها وشبسكاف بيده دونما أن ينبث‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدة فقد كان يومه في قلعة القصر اإللهي ً‬
‫يوما طويال وثقيال ورغب‬
‫في أن يستريح‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قلق‬‫تبقت حتبت رع التي وقفت وراحت تتطلع شاردة بعينيها في ٍ‬
‫ُ‬
‫وخوف بديا واضحين في مالمح وجهها مع الحيرة وهي تمعن النظر ِملا‬ ‫ٍ‬
‫كالذهب وورديٌّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ّ‬
‫وراء خ ِط األشجار إلى الشرق حيث الح وهج شاحب‬
‫كاملحار‪.‬‬
‫دائما دونما أن‬ ‫دنا منها شبسكاف‪ ،‬وكان يشعر بما يدور في ذهنها ً‬
‫فيه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تبوح به‪ ،‬وقف إلى جوارها يتطلع في شروق الشمس كما تتطلع ِ‬
‫َّ ٌ‬
‫خفيض وعينه ُمعلقة على الشمس التى تولد‪(( :‬أنا ُهنا‪،‬‬ ‫بصوت ُ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وقال‬
‫َ‬ ‫ٌ ُ َ ّ ُّ َ ْ‬ ‫كالشمس ً‬
‫لك الحياة))‪ .‬في محاولة منه لبث الطمأ ِنينة في‬ ‫دائما‪ ،‬أض يء ِ‬
‫َّ‬
‫روحها‪ ،‬إال َّأنها فاجئته بقولها‪(( :‬وهذا ما يقلقني))‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫التفت إليها ُبركن ُ‬
‫ستغربا أو قد يكون مصعوقا‪ ،‬ال يفهم‬ ‫عينه ُم‬ ‫ِ‬

‫‪105‬‬
‫املغزى من كالمها وهو الذي اعتاد فهمها دون كالم‪.‬‬
‫((مذ ُ‬ ‫هدوء ُمخيف‪ُ :‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫جئت لهذه‬ ‫هادئة لكنه‬
‫ٍ‬ ‫صوت‬
‫ٍ‬ ‫فأضافت بنبرة‬
‫بأحد غيرك ونياخ هاو‪ُ .‬يقلقني أن تكونا ُهنا وسط كل‬ ‫األرض لم أحظى ٌ‬
‫ُ‬
‫الهراء من القتل والحرق واللعنات))‪ .‬وظن ّأنها سوف تكمل حديثها‬ ‫هذا ُ‬
‫َّ‬
‫بمقولتها الشهيرة‪ ،‬إال َّأنها خالفت توقعاته في هذه املرة‪ ،‬فقد تملكها‬
‫فعليا ِواستحوذ على روحها فلم تستطع إلقاء ُدعابتها ككل مرة‪.‬‬ ‫القلق ً‬
‫مس شفتيها بسبابته‬ ‫لف شبسكاف وجهها بأطراف أصابعه وقد تعمد ّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وهو يجعل وجهها بمواجهته ً‬
‫تماما‪ ،‬وتراجع خطوة واحدة إلى الخلف‬
‫ُ‬
‫ُمم ِع ًنا النظر إليها‪ ،‬لم يكن ينظر إلى حمالة فستانها الحرير األزرق‬
‫والوجنتين الشاحبتين من اإلرهاق والياقوته الحمراء عند َحلقها‬
‫إنما نظر في‬‫ارتسمت عليهما بسمة باهتة‪َّ ،‬‬‫َ‬ ‫َّ‬
‫والشفتين الحمراوين اللتين‬
‫جالسا على ركبته اليمنى ورفع وجهه ُم َّ‬ ‫ً‬
‫جد ًدا ينظر‬ ‫ً‬ ‫عينيها مباشرة وخر‬
‫لها ذات النظرة‪.‬‬
‫في هذه األثناء‪ ،‬عاد نياخ هاو وكان قد نس َّي خنجرة على املائدة‪،‬‬
‫أرضا أمام شقيقته حتبت رع‪ ،‬فتوقف عند‬ ‫وتفاجأ بشبسكاف الراكع ً‬
‫ستغربا ال يفهم ً‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫شيئا مما يحدث‪.‬‬ ‫الباب يترقب ُم‬
‫َ‬
‫لم ينتبها إليه‪ ،‬فلم يكن ًّأيا منهما قد شعر بقدومه أو َرأه‪ ،‬وأمسك‬
‫َ‬
‫لك برب السموات‬ ‫شبسكاف يد حتبت رع بكلتا يديه وقال‪(( :‬أقسم ِ‬
‫سوءا يمسسك ً‬
‫أبدا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وجميع اآللهة واملعابد‪َّ ،‬أال أترك ً‬
‫ُ‬ ‫كلها‪ ،‬برع وآمون‬
‫أسبقك إلى العالم اآلخر))‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حتى لو كلفني ذلك حياتي وأن‬

‫‪106‬‬
‫إبتسمت من أعماق روحها وتناست خوفها وذهب عنها القلق‪.‬‬
‫ً‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬دلف نياخ هاو من الباب ُم ً ا ً‬
‫صوتا ُمفتعال‬ ‫صدر‬
‫ً‬
‫قاصدا به تنبيههم بمجيئة وكانت عينيه تلمع اللمعة ذاتها في عين حتبت‬
‫((أقسم َ‬‫َ‬ ‫رع‪ ،‬وخر ر ً‬
‫لك‬ ‫اكعا على ركبته اليمنى أمام شبسكاف وهو يقول‪:‬‬
‫سوءا يصلك ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫بإله َّ‬
‫أبدا ما‬ ‫السماء واألرض وما بينهما‪ ،‬أال أترك‬
‫أستطعت‪ ،‬حتى لو كلفني ذلك حياتي أو أن أسبقك إلى العالم اآلخر))‪.‬‬
‫وهم يسحب خنجره من فوق الطاولة وأعاده في‬ ‫ونهض عن األرض َّ‬
‫غمده وهو ينظر إلى حتبت رع ويقول‪(( :‬إطمئني ‪ ..‬سوف نكون ُهنا‬
‫ً‬
‫دائما))‪.‬‬
‫غادر نياخ هاو الشرفة بينما ِإبتسم شبسكاف في وجه حتبت رع‬
‫جنبا إلى جنب‪،‬‬ ‫الشروق ً‬ ‫سويا ُيشاهدان ُّ‬‫قبل أن ُيمسك يدها ويقفا ً‬
‫ِ‬
‫ال لون السماء في هذه اللحظة إلى أحمر وأصفر وأزرق وأخضر‬ ‫ِوا ْس َت َح َ‬
‫سرب من الحمام وسمعوا صوت طائر‬ ‫ٌ‬ ‫وبرتقالي‪ ،‬ومر من أمامهما‬
‫َّ‬
‫الشرشور ُيغرد‪ ،‬وملا خفق قلب شبسكاف بشدة وهفا لحتبت رع‪،‬‬
‫التفت إليها‪ ،‬وأمعن النظر في عينيها العسليتين وكانت يده تتحسس‬
‫ثوان معدودات ارتسمت ِابتسامة على وجهيهما‬ ‫برفق شديد‪ ،‬وبعد ٍ‬ ‫يدها ٍ‬
‫ُ‬
‫وشعر ك ٍ ّل منهما بالحميمة تجاه اآلخر‪ ،‬بيد أن عين حتبت رع ِاتسعت‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫غضب لم يفهم شبسكاف مصدره إال عندما قالت‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫فجأة وزفرت في‬
‫ََ‬
‫((أين كنت ليلة معبد العرافات؟))‪ .‬وحاولت لك َم ُه في كتفه‪ ،‬بيد َّأنه‬
‫ً َّ‬
‫أرضا‪ ،‬إال َّأنه لحق بها‬ ‫تفادا لكمتها مما جعلها تتهاوى وكادت تسقط‬

‫‪107‬‬
‫ٌ‬ ‫ووضعها بين زراعيه لتصبح رأسها فوق قلبه ً‬
‫تماما وهو يهمس‪(( :‬فتاة‬
‫ُ ّ‬ ‫ً‬
‫مجنونة))‪ .‬قالت مبتسمة وهي ت َم ِلس على معصم يده املشعر بكثرة‬
‫ضعيف ُمستسلم‪(( :‬سوف‬‫ٍ‬ ‫ناعم‬
‫بصوت ٍ‬‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫وتهمس‬ ‫وتنظر في عمق عينيه‬
‫َ‬ ‫أقتلك يا شبسكاف))‪ .‬ولم ُتحاول أن تدفعه ً‬
‫بعيدا عنها‪ ،‬دفنت رأسها في‬ ‫ِ‬
‫صدره واستنشقت رائحته كمن اعتلت سطح املاء اآلن بعدما كادت أن‬
‫ُ‬
‫تغرق‪ ،‬ورفعت رأسها لألعلى‪ ،‬فرأى شبسكاف وجهها عن قرب‪ .‬كانت‬
‫اسا طويلة كادت أن تكون‬ ‫خرج منه أنف ً‬‫عيناها مغلقتين وفمها مفتوح َت ُ‬
‫جانب ورأسها يتحرك فوق‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫جانب إلى‬
‫ٍ‬ ‫وتأرجح شعرها الذهبي من‬ ‫أهة‪،‬‬
‫صدره تحك أنفها في جسده‪.‬‬
‫عند نهاية وقت األصيل من اليوم نفسه‪ ،‬ترجلت حتبت رع وحدها‬
‫التفاح التي تتخللها بعض أشجار التوت الخاصة بسيدها‬ ‫نحو بساتين ُّ‬
‫كاي تاي‪.‬‬
‫يوميا للسيدة كاريسا كما َّأنها‬
‫كانت ُمعتادة على جمع التوت البري ً‬
‫ً‬
‫بجزءا منه لشقيقها وبعناية تجمع الجزء األفضل‬ ‫أعتادت أن تحتفظ‬
‫لشبسكاف‪.‬‬
‫َ‬ ‫قبل غياب آخر شعاع َّ‬
‫للشمس وراء األشجار إلى الغرب كان‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شبسكاف قد تسلل إلى البستان باحثا عنها‪ ،‬فمر بين صفوف األشجار‬
‫عينيه على أغراضها التي تجمع فيها‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫وأخير وقعت‬ ‫واحدة تلو اآلخرى‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫التفاح والتوت‪.‬‬
‫شديد نحوها‪ ،‬فوجدها وقد أسندت رأسها على جزع‬
‫ٍ‬ ‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫تسلل‬
‫‪108‬‬
‫ٌ‬
‫أنفاس‬ ‫شجرة توت بري‪ .‬كانت عيناها مغلقتين وفمها مفتوح َت ُ‬
‫خرج منه‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ‬
‫جانب إلى جانب ورأسها‬ ‫ٍ‬ ‫وتأرجح شعرها الذهبي من‬ ‫طويلة تشبه آهة‪،‬‬
‫يتحرك إلى اليسار واليمين على صوت سيمفونية هادئة مصنوعة من‬ ‫َّ‬
‫صوتا ما‪ ،‬ألن عينيها انفتحتا‬‫أصدر ً‬ ‫َ‬ ‫حفيف أوراق األشجار‪ُّ .‬‬
‫والبد أنه‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫بغيظ مصطنع‪:‬‬ ‫عن ِآخرهما فجأة وحدقت فيه مباشرة‪ ،‬ثم صاحت ٍ‬
‫((شبسكااف))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫غرس أصابعه في ساقها وهمس قائال‪:‬‬ ‫دنا منها بلطف‪ .‬وتعمد‬
‫ُ‬
‫استحياء بدا شديد‪ ،‬ونبض قلبها‬ ‫ٍ‬ ‫حبك))‪ .‬إبتسمت في خجل على‬ ‫((أ ِ‬
‫طفلة في الثانية‬
‫مجرد ٍ‬ ‫شعر أنها َّ‬ ‫وعادت َت ُ‬ ‫خوفا‪ ،‬لكنه من النوع اللذيذ‪َ ،‬‬ ‫ً‬
‫َّ ً‬
‫ستعدة على اإلطالق ملا تسمعه‪.‬‬ ‫عشر من ُعمرها ال أكثر‪ ،‬وليست ُم‬
‫وخيم ش ٌيء من الظالم عليهما ً‬
‫سويا‪.‬‬ ‫غاب آخر شعاع للشمس‪َّ ،‬‬
‫هشة كالفراشات بين‬ ‫فشعرت بأنها َّ‬
‫َ‬ ‫إقترب برأسه حتى مال على كتفها‪،‬‬
‫يديه وأطرافها واهية كاملاء‪ .‬ارتجفت في مكانها بين يديه‪ ،‬وعندما نظر في‬
‫عينيها كادت أن تشهق أو أنها شهقت بالفعل‪.‬‬
‫حدق في وجهها ومالمحه ممتلئة بتعابير الحب وهمس ُم َّ‬
‫جد ًدا لكن‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫هذه َّ‬
‫حبك))‪ ،‬ومد يده ليمسح على وجنتيها‬ ‫ِ‬ ‫((أ‬ ‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫املرة‬
‫مشوب بتنهيدة‪(( :‬إبتعد))‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫الحمراوتين كحمرة الرمان‪ .‬قالت‬
‫ُ‬
‫الجلد الغليظ بين شفتيها املبللتين وتعمد مالمسة صف‬ ‫مرر إبهامه ذي ِ‬
‫خفيض أكثر‪(( :‬إبتعد‪ ،‬وتوقف))‪ .‬فقال‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫أسنانها السفلي‪َّ .‬‬
‫فكررت‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫حبك))‪.‬‬
‫ِ‬ ‫((أ‬ ‫لها ‪:‬‬

‫‪109‬‬
‫خطر لها أنه فقد عقله أو ربما بات ال يعرف غير تلك الكلمة‬ ‫َ‬
‫بشكل ما جعلتها تطمئن‪َ .‬م َّ‬ ‫َّ‬
‫س شبسكاف‬ ‫ٍ‬ ‫فحسب‪ .‬إال أن محبته هذه‬
‫الشقراء وهو ُي َتم ِتم‬ ‫الذهبية َّ‬‫َّ‬ ‫ومرر أصابعه بين خصالتها‬ ‫بخف ٍة َّ‬ ‫َشعرها َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بش ٍيء ما لم تفهمه‪ ،‬لكن كان َّثمة ِدفء في نبرته‪ ،‬رقة لم تتوقع وجودها‬
‫ورفع رأسها أبعدها عن‬ ‫وضع أصابعه تحت ذقنها َ‬ ‫داخل هذا القلب‪َ .‬‬
‫ً‬
‫مباشرة‪ .‬ثم َد َّ‬ ‫َ ُ‬
‫س يديه تحت‬ ‫جزع الشجرة قربها إليه كي تنظر في عينيه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫إبطيها َ‬
‫وأجلسها أمامه مباشرة على جزع شجرة أعلى فأصبح‬ ‫ورفعها‬
‫ومر ًة أخرى‬ ‫أخيرا َّ‬ ‫واحد ً‬ ‫ارتفاع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مواجها له ليتالقى وجهاهما على‬ ‫ً‬ ‫وجهها‬
‫َّ ُ‬
‫حبك))‪.‬‬
‫كرر‪(( :‬أ ِ‬
‫مبحوح‪(( :‬شبسكاف!))‪ ،‬لم ُيجبها‪ .‬بعد لحظة مالت‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫نادته‬
‫حتبت رع إلى األمام جتى جعلت جبينها يالمس جبينه‪ ،‬واستشعرا ّ‬
‫كل‬‫ٍ‬
‫وقتا طويال بصمت‪ ،‬كانت عينيهما فقط‬
‫ً‬ ‫أنفاس اآلخر‪َ .‬ظ َّل َي ُرمقها ً‬‫ُ‬ ‫منهما‬
‫تتحدثان وأنفاسهما الدافئة تتعانق‪ .‬ثم تجرأ‪ ،‬وبدأ يالمس جسدها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ ّ‬
‫جردها من مالبسها‪ .‬كانت أصابعه رشيقة الحركة ورقيقة على‬ ‫وبدأ ي ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫أدهشها‪َ .‬‬
‫خلع ِقطع الثوب الحريري قطعة قطعة‪،‬‬ ‫نحو‬
‫جسدها على ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫ً‬ ‫بينما َ‬
‫جلست حتبت رع في مكانها صامتة بال حراك تنظر في عينيه‬
‫وأنفاسها تحولت إلى آهات وتنهيدات‪ .‬لم تستطع منع نفسها عندما‬
‫َّ‬ ‫كشف نهديها َّ‬ ‫َ‬
‫الصغيرين‪ ،‬فأشاحت ببصرها وغطت نفسها بيديها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫برقة لكن‬ ‫حبك))‪ ،‬ودفع يديها بعيدا عن نهديها ٍ‬ ‫فقال شبسكاف‪(( :‬أ ِ‬
‫َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ً‬
‫((أحبك))‪َّ ،‬‬
‫فرددتها‬ ‫ِ‬ ‫مرة أخرى َلتنظر إليه‪ ،‬وكرر‪:‬‬ ‫بحزم‪ ،‬ثم َ‬
‫رفع رأسها‬
‫وراءه َّ‬
‫كالصدى‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫قريبا إليه ليخلع قطعة الحرير األخيرة‪ .‬كان هواء‬ ‫َ‬
‫وجذبها ً‬ ‫أوقفها‪،‬‬
‫ً َ‬ ‫َ‬ ‫الليل ً‬ ‫َّ‬
‫باردا على بشرتها العارية‪ ،‬وارتجفت شاعرة بالخدر في ذراعيها‬
‫سي ُ‬‫خائفة مما شعرت أنه َ‬‫ً‬
‫للحظات لم‬ ‫ٍ‬ ‫حدث‪ ،‬لكن‬ ‫وساقيها‪ .‬كانت‬
‫حدث ش يء‪ .‬كان شبسكاف يتأملها وينهل من مالمح وجهها وجسدها‬ ‫َي ُ‬
‫بعينيه‪.‬‬
‫أوال ثم بخشونة‪ .‬كانت تشعر َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫بقوته‬ ‫عومة‬
‫بعد قليل بدأ يلمسها بن ٍ‬
‫واحدا تلو‬ ‫ً‬ ‫س أصابعها‬ ‫مرة‪ .‬وضع يدها في يده َوم َّ‬
‫لكنه لم يؤملها ولو َّ‬
‫َ‬
‫متتب ًعا‬
‫س وجهها ّ‬
‫ِ‬
‫ومرر أصابعه على ساقها‪ ،‬فتأوهت‪َ .‬وم َّ‬ ‫اآلخر‪َّ ،‬‬
‫انحناءات ُأذنيها ً‬
‫ودائرا حول شفتيها بإصبع رقيق‪.‬‬
‫أخيرا‪َّ ،‬‬ ‫َ‬
‫بلغت يداه نهديها ً‬ ‫ساعات قد َّ‬
‫فمسد‬ ‫مرت عندما‬ ‫ٍ‬ ‫بدا كأن‬
‫حينئذ َ‬
‫وجذبها‬ ‫الجلد َّ‬
‫الناعم تحتهما إلى أن تسارع أنفاسها بشدة‪ .‬توقف‬
‫ٍ‬
‫متور ًدا‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫جلس في حجره‪ .‬كانت حتبت رع متقطعة األنفاس اآلن ووجهها ِ‬ ‫لت ِ‬
‫ونظر في عينيها وقال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫عن ِآخره‪ .‬طوق شبسكاف وجهها بيديه‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حبك))‪ ،‬وكانت تعرف أنه سؤال وليس إفادة‪ .‬أخذت يده وقادتها على‬ ‫ِ‬ ‫((أ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جسدها‪ ،‬وبينما تقودها إلى حيث يريد وتريد همست‪(( :‬أحبك))‬
‫وشهقت لدى وصول يده وأغمضت عينيها‪.‬‬
‫شيئا يعود للوراء‪ ،‬فأصبحوا‬ ‫سويا أن ال ً‬ ‫منذ ذلك الوقت اكتشفا ً‬
‫ساعات وساعات وهما يتبادالن اللحظات الحميمية‪ ،‬وتمض ي‬
‫ٍ‬ ‫يمضون‬
‫َّأيام كاملة ال يفعال ً‬
‫شيئا غير األضجاع أسفل أشجار التوت واإلصغاء‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ألمواج النهر الهادئة وأصوات حفيف األشجار والطبيعة أو مشاهدة‬

‫‪111‬‬
‫ً‬
‫النجوم في السماء إن كانوا في الليل‪ .‬كان جسدها أعجوبة في نظره‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ّ ً‬ ‫َ‬
‫متلذذة بقربه إال أن أفضل ش يء تمثل لها في وجوده فقط‪ ،‬في‬‫وبدت هي ِ‬
‫بروح‬
‫صباح ٍ‬ ‫مشاركته لها أوقاتها الهادئة‪ .‬كانت تتفقد الغيوم كل‬
‫ُُ‬ ‫ً‬
‫ممتلئة باألمل‪ ،‬وتهمس لنفسها قائلة‪(( :‬هناك عند خط األفق‪ ،‬خلف‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫هذه الغيوم املثقله بالحنين‪ ،‬سيظل ذلك الشعاع املض ئ من الحنان‬
‫واليقين هو ما يربط بين قلبينا ً‬
‫معا َّ‬
‫بقوة ويرفعنا الي تلك الفقاعه اآلمنه‬
‫ً‬ ‫لنختبئ ً‬
‫بعيدا عن السوء الذي يغمر كل ما هو خارجها‪ ..‬هناك ‪ ..‬دوما‪..‬‬
‫سأنتظرك))‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪112‬‬
‫‪09‬‬
‫غائما‪ ،‬داخل غرفته‬ ‫ساكنا ً‬ ‫ً‬ ‫الفجر‪ ،‬والعالم ما يزال‬ ‫قبل ساعة من َ‬
‫ٍ‬
‫الحجرية الخاصة في املعبد األسود‪ ،‬وعلى الرغم من برودة الجو تلك‬
‫ستيقظا لم ينم بعد‪ُ ،‬م ً‬ ‫ً‬
‫رتديا ذات‬ ‫الليلة‪ ،‬كان خا إم ويست ما يزال ُم‬
‫َّ‬
‫املالبس السوداء‪ ،‬إال أن رأسه ووجهه مكشوفان‪ ،‬فظهرت مالمحه‬
‫مشذ ًبا‪َ ،‬ف َّكه َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مربع‬ ‫قصيرا‬ ‫واضحة‪ ،‬كان محافظا على شعر لحيته‬
‫ووجنتيه غائرتين‪ ،‬عيناه ُجرحان مفتوحان أسفل حاجبيه الكثيفين‪،‬‬
‫َّ‬
‫فم مخلو ٌق‬ ‫الليل‪ ،‬وفمه صغير‪ٌ ،‬‬ ‫ُزرقتهما داكنة كالبحر تحت سماء‬
‫الصارمة‪ ،‬ذو شفتين رفيعتين شاحبتين‬ ‫والز ّم وتوجيه األوامر َّ‬ ‫َّ‬
‫للعبوث ِ‬
‫فم نس ي كيف يبتسم أو َّأنه لم يعرف‬ ‫فك مشدودة كاألوتار‪ٌ ،‬‬ ‫وعضالت ّ‬
‫ٍ‬
‫َ ُّ‬ ‫معنى َّ‬
‫الضحك قط‪ .‬وبدت ندبة بطول وجهه في الشق األيسر منه‬
‫ٌ‬
‫رفيع من نور القنديل املتذبذب على الحائط‪ .‬كان‬ ‫خيط ٌ‬ ‫عندما َم َّسه‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫صوت َن ّهام بومته العمياء يصدح في أ ْر َجاء املكان‪ ،‬مع ذلك َبدا ُمنهمكا في‬
‫فقد خريطة جلدية قديمة‪ ،‬مأخوذة من جلد الضباع‪ ،‬بعد أن بسطها‬ ‫َت ُ‬
‫ستديرة سوداء اللون‪ ،‬وثبتها بجماجم حيوانات غريبة قد‬ ‫ٍ‬ ‫مائدة ُم‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫تكون لخنازير او ضباع وربما غير ذلك‪ .‬كان َيضع عليها عالمات في‬
‫َ‬
‫أماكن متفرقة‪ ،‬وأخذ ُيشير بيده املحروقة على العالمات بالتتابع‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ويربط فيما بينهم‪ ،‬وكانت تأخذ مسارا بدا متسلسال‪ِ ،‬وانتبه فجأة‬
‫مؤكدا لنفسه‬ ‫ً‬ ‫لعالمة بعينها‪ ،‬ودق بأصبعه فوقها ثالث مرات ُمتتالية‬
‫‪113‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫بصوت بدا قريب للغاية في الوقت الذي قال خا‬ ‫ٍ‬ ‫ش ٌيء ما‪ ،‬ون َع َق غراب‬
‫خرج مع أنفاسة مع ّ‬
‫كل‬ ‫إم ويست لنفسه ُم ْح َت ٌّد في كالم ِه ُ‬
‫والبخار َي ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كلمة‪(( :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال‪ .‬سوبيك نفرو‪ ،‬ال))‪.‬‬
‫كان قد توقع أو َّأنه حدد بالفعل أن الهجوم القادم سيكون على‬
‫ْ‬
‫معبد سوبيك‪ ،‬وكانت عالقته بها جيدة ووطيدة للغاية إذ كانت ثاني من‬
‫دعمه في خالفة السابق مع اآللهة بعد شقيقه الكاهن كاي تاي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خارجا من باب غرفته ُممسكا خريطتة الجلدية في يده‬ ‫إندفع‬
‫املحروقة ُويغطي رأسه باليد األخرى‪.‬‬
‫على اليسار من باب الغرفة‪ ،‬وجد حارسه العمالق بخوذته‬
‫جالسا على مقعد مصنوع من‬ ‫ً‬ ‫الحديدية الكبيرة ومالبسة السوداء‬
‫ً‬ ‫حارس آخر ُّ‬
‫ٌ‬
‫يقل عنه في الحجم قليال‪،‬‬ ‫خشب الصفصاف وإلى جواره‬
‫بخشونة ليوقظه من‬ ‫هزه خا إم ويست‬ ‫نائما‪َّ .‬‬
‫أن كالهما كان ً‬ ‫َّإال ّ‬
‫ٍ‬
‫طويل أفض ى ِبه إلى خارج املعبد‪،‬‬ ‫رواق‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫أحالمه‪ ،‬وخرج مباشرة عبر ٍ‬
‫ُ‬
‫الجرانيت الوردي تحيط‬ ‫وقف بين مسلتين عمالقتين مصنوعتين من ِ‬
‫َ‬ ‫بهم عشرة تماثيل ألبي الهول‪َ .‬ول ِحق ِبه حارسه ُمترِنحا في َّ‬
‫السح ِر البارد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫َّ‬ ‫والنوم ال يزال ُي َش ّوش َّ‬
‫كل ش ٍيء أمام عينيه‪ ،‬إال َّأنه َّميز مكان األحصنة‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫وخطا بأتجاههم‪ ،‬وتفاجأ بصوت سيده الذي تخلى عن فكرة اإلنتقال‬
‫َُ‬
‫((هل ِ ّم إلى ُهنا‪ ،‬هيا‪َّ ،‬ثمة شؤون يجب أن نهتم‬ ‫بعجلته الحربية يقول له‪:‬‬
‫بها))‪.‬‬
‫خارجا من باب املعبد يتكأ على الحوائط‬ ‫ً‬ ‫كان الحارس الثاني‬
‫‪114‬‬
‫فائقة ولم يكن قد ِإستفاق من نومه بعد‬ ‫ٍ‬ ‫الحجرية املرسومة بدقة‬
‫عندما أمسك خا إم ويست سواره السحري وهمس‪(( :‬الوهومورا))‪.‬‬
‫ضوئي في الفراغ‪ ،‬عبر وحارسه العمالق منه على الفور‬ ‫ٌ‬ ‫فأنفتح ٌ‬
‫باب‬
‫تاركين أياه خلفهم‪.‬‬
‫السماء فوق األشجار‪،‬‬ ‫وتفتحت أصابعه الطويلة في َّ‬ ‫الفجر‪َّ ،‬‬ ‫طلع َ‬ ‫َ‬
‫ً ُ‬ ‫الدنيا وهما يرتقيان برو ًزا ًّ‬ ‫وبدأت األلوان ترجع إلى ُ‬
‫واطئا تحيط‬ ‫جبليا‬
‫ملكان ليس‬ ‫ّ‬
‫به األشجار‪ ،‬بعد أن عبروا البوابة السحرية التي أقلتهما ٍ‬
‫ببعيد عن معبد سوبيك نفرو‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تحديدا حيث‬ ‫قاصدا أن يخرج في هذا املكان‬ ‫كان خا إم ويست‬
‫سيرا على األقدام حتى‬ ‫بقية الطريق صوب املعبد ً‬ ‫فضل أن َيقطع ّ‬ ‫َّ‬
‫آمنة ويترقب ما‬ ‫يتمكن من إستطالعه وما حوله ً‬
‫مسافة ٍ‬‫ٍ‬ ‫جيدا من‬
‫سوف يحدث‪ .‬من خلف شجرة بلوط قديمة‪ ،‬لها عمر أطول من‬
‫عمريهما‪ ،‬أشار الكاهن لألمام وهو يقول لحارسه بكياسة‪(( :‬معبد‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫صمت‬ ‫سوبيك نفرو يقع أسفل التلة‪ ،‬خلف هذه األشجار ُمباشرة))‪.‬‬
‫وتطلع أمامه وقد َبدت على وجهه أمارات َّ‬ ‫َّ‬
‫التفكير‪ .‬كانت‬ ‫للحظة‬
‫ٍ‬ ‫الحارس‬
‫الصباح الباردة تهمس بين األشجار صانعة سيمفونية هادئة‬ ‫ريح َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ممتزجة بالنسيم البارد‪ ،‬وت َح ّ ِرك معطفه األسود الثقيل بفعل صدريته‬
‫تمتم الحارس فجأة‬ ‫النحاسية الواقية وراء ظهره كأنه كائن نصف حي‪َ .‬‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫وقد توقف أمام كتلة متحركة من الضباب‪(( :‬ثمة ش يء ما على غير ما‬
‫ُيرام هنا))‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫َ‬ ‫باسما‪ ،‬وقال بازد اء‪ً :‬‬ ‫رمقه سيده العجوز ً‬
‫((حقا؟)) سأله الحارس‪:‬‬ ‫ر‬
‫الرياح بين األشجار))‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ‬
‫((أال تشعر به؟ أصغ إلى همس ِ‬
‫فعال‪ ،‬أربعون ً‬ ‫ً‬ ‫كان خا إم ويست َي ُ‬
‫عاما قضاها في أرض‬ ‫شعر به‬
‫بخوف كالذي شعر به في‬ ‫ٍ‬ ‫شعر فيها‬ ‫السحرة يتعلم فنون السحر لم َي ُ‬
‫َّ‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬حتى َّأنه همس في نفسه‪(( :‬ماذا هناك بالضبط))‪ ،‬وملا‬
‫الرياح‬ ‫ُ َّ ّ‬
‫أراد أن يبث الطمأنينة في روح حارسه‪ ،‬قال‪(( :‬ال أسمع إال ِ‬
‫فأي هذه‬ ‫وحفيف األشجار وعواء ِذئب‪ ،‬ورائحة نتنة تصدر منك‪ُّ ،‬‬
‫األصوات ُيخيفك إلى هذه الدرجة؟))‪.‬‬
‫ترد ًدا‬ ‫ترجل ُم ّ‬ ‫عندما لم يحصل الحارس على إجابة من سيده َّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫الذهبية التي‬ ‫وسحب سيفه الطويل من ِغمده‪ ،‬فتألقت الحلى‬ ‫لألمام‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وانعكس ضوء الصباح على الفوالذ الالمع‪ .‬كان‬ ‫رصعت املقبض‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سالحا ر ً‬
‫وتشوهت حافته من االستخدام‬ ‫ائعا بالفعل‪ ،‬مطروقا في قلعة‪،‬‬
‫السيف قد‬ ‫العنيف ويش ي شكله بأنه موغل القدم‪ ،‬ما يوحي بأن هذا َّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫خدم ِفي نز ٍاال ٍت كثيرة من قبل‪ .‬قال الحارس ُم ِ ّنب ًها سيده ُمحاوال‬ ‫است ِ‬
‫بشد ٍة‬ ‫تتشابك َّ‬ ‫َ‬ ‫إطالة عمر الحديث بينهما أكثر وقت ممكن‪(( :‬األشجار‬
‫حسن أن أستخدمه في إفساح‬ ‫السيف علينا الحركة‪َ ،‬ي ُ‬ ‫هنا‪ ،‬سيسهل َّ‬
‫ّ‬
‫بتأكيد‬
‫ٍ‬ ‫استحال فم خا إم ويست إلى َخ ِط رفيع وهو يقول‬ ‫َ‬ ‫طري ٌق لنا))‪.‬‬
‫قاطع‪(( :‬ال ‪ ..‬ال تؤذي األشجار))‪.‬‬
‫ّ‬
‫منخفض شديد اإلنحدار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بحذر وترقب عبر‬
‫ٍ‬ ‫ش َّق الحارس الطريق‬
‫ساحة واسعة ُمغطاة بالضباب‪ ،‬والحت له‬
‫ٍ‬ ‫ثم بدأ يهبط املنحدر نحو‬

‫‪116‬‬
‫نقطة تصلح للمراقبة من تحت واحدة من أشجار َّ‬
‫الد ْردار الضخمة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قريبة وعلى مشارف الساحة الخالية‪ ،‬وأدنى ُ‬
‫أفرعها‬ ‫ٍ‬ ‫مسافة‬
‫ٍ‬ ‫كانت على‬
‫واحد ال أكثر من األرض‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫قدم ٍ‬‫يتدلى على بعد ٍ‬
‫عند اقترابه من الشجرة‪ ،‬انزلقت غزالة صغيرة من أعلى الجرف‪،‬‬
‫لق الحارس في‬ ‫سقطت فوقه بعدما كانت تتحرك على الحافة‪ ،‬وانز َ‬
‫النبض في‬ ‫األفرع الواطئة من الشجرة‪ ،‬وتوقف قلبه عن َّ‬ ‫الوحل تحت ُ‬
‫التنفس‪ .‬على عكس املتوقع‪ ،‬لم تهرب‬ ‫صدره‪ ،‬وللحظة لم يجرؤ على ّ‬
‫َّ‬
‫بكسر‬
‫ٍ‬ ‫الغزالة‪ ،‬على الرغم َّأنها حاولت‪ ،‬إال َّأنها أصيبت في إحدى قدميها‬
‫ساخرا من‬‫ً‬ ‫ضاعف أفقدها القدرة على الهرب‪ .‬إبتسم الحارس‬ ‫ٍ‬ ‫بدا ُم‬
‫مجددا على قدميه‪ ،‬إستعاد توازنه ورفع سيفه‬ ‫ًّ‬ ‫خوفه وهو يقف‬
‫اغبا في أن يهوى به على الغزالة يقطع رقبتها بعد أن رأي فيها‬ ‫العمالق‪ ،‬ر ً‬
‫ً‬ ‫شهية ُ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫إنتقاما لخوفه‪ ،‬بيد أن سيده‬ ‫جائتهما بال مجهود أو ربما‬ ‫وجبة‬
‫ً‬
‫سريعا‬ ‫((بح ِ ّق اآللهة!))‪ ،‬وأضاف‬
‫شفقا وهو ينظر إلى الغزالة‪َ :‬‬ ‫قال ُم ً‬
‫((أياك ‪َّ ..‬أياك أن تمسسها بسوء))‪.‬‬
‫وهو يرمق الحارس بنظرة تحذير‪َّ :‬‬

‫كان سيف الحارس يهوى بالفعل على رقبة الغزالة‪ ،‬بيد َّأنه أطاع‬
‫أمر سيده على مضض وغير مسار السيف في اللحظة األخيرة‪ ،‬فأرتطم‬
‫صخري ٍة إنبعثت منها شرارة ّ‬
‫نارية من قوة اإلحتكاك‪ ،‬ونظر إلى‬ ‫َّ‬ ‫بقطعة‬
‫ٍ‬
‫سيده ُمستغرًبا وعلى وجهه نظرة غير راضية وهو يتنقل بعينيه بين‬
‫وهدوء‬
‫ٍ‬ ‫بلطف‬
‫ٍ‬ ‫السيف والغزالة‪ ،‬بينما دنا سيده من الغزالة الصغيرة‬
‫شديدين‪ ،‬وأمعن النظر في وجهها الخائف‪ ،‬ليرى دمعة قد ترقرقت من‬

‫‪117‬‬
‫َّ‬
‫عينيها‪ ،‬بعدما دب الفزع في روحها وهي تحاول جاهدة أن تهرب‪ ،‬إال َّأنه‬
‫ربت بكف يده على جسدها ورأسها للحظات حتى هدأت‪ ،‬وقام بوضع‬
‫ومسد على قدمها املكسورة وهو يهمس بتعويذة الشفاء‬ ‫يده على ِسواره َّ‬
‫ً‬
‫قائال‪(( :‬بيليجيريرو))‪.‬‬
‫تعافت الغزالة على الفور‪ ،‬واستطاعت الوقوف ً‬
‫أخيرا على قدميها‪،‬‬
‫وقامت بحك رأسها في ساق خا إم ويست ما بدا َّأنه ً‬
‫تعبيرا عن اإلمتنان‪،‬‬
‫ونظرت إلى حارسه العمالق نظرة غاضبة وهي تهرب ً‬
‫بعيدا عن املكان‪،‬‬
‫مما يوحي بأن أضعف الحيوانات يمكنه التمييز بين الخير والشر بين‬
‫من ُيسانده ومن ُيحاول أذيته‪.‬‬
‫على مقربة من املعبد‪ ،‬في الساحة الواسعة‪ ،‬قرب مجموعة من‬
‫دار‪ ،‬شاهد الحارس وسيده تجمع كبير للغزالن‪ ،‬والغزالة‬ ‫أشجار َّ‬
‫الد ْر ُ‬
‫الصغيرة تتوجه صوبهم‪ ،‬غزالة بعينها َّميزوا ّأنها أنثى تركت القطيع‬
‫ُ‬
‫بلهفة مما أوحي لهما َّأنها الغزالة األم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مهرولة تقابل الغزالة الصغيرة‬
‫وجعل ذلك املوقف قلب الحارس العمالق يرق وتلمع عينيه بأبتسامة‬
‫تنم عن رضا‪.‬‬
‫ترقبا املعبد وما حوله منذ الضوء األول للشمس حتى وقت‬
‫األصيل‪ ،‬وكان كل ش ٍيء على ما ُيرام‪ ،‬فلم يريا ش ٍيء غير مألوف‪ .‬فقط‬
‫وقت آلخر وقلة من الزوار ممن أتوا‬ ‫ُحراس املعبد يتجولون حوله من ٍ‬
‫لزيارة سوبك نفرو والحصول على ُمباركتها وخدماتها‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ضوئية من العدم على مسافة ت ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫قل عم‬ ‫قرب املغيب‪ ،‬ف ِتحت بوابة‬
‫‪118‬‬
‫مختلفة‬ ‫هيئة‬ ‫ً‬ ‫مائة متر من املعبد‪ ،‬خرج منها يورشو ُم ً‬
‫ٍ‬ ‫متطيا حصانا ذا ٍ‬
‫ُ‬
‫عن املعتاد عليه‪ ،‬فالرأس عريضة‪ ،‬أو ربما َّأنها ُمستديرة‪ ،‬واألقدام‬
‫ً‬
‫وبقية الجسد ُمغطى‬ ‫قليال من الخلفية‪ ،‬والذيل أملس‪ّ ،‬‬ ‫األمامية أطول‬
‫مادية‪ ،‬وأدرك خا‬ ‫بوشاح اسود ال ُيظهر سوا عينيه الحمراء وأقدامه الر َّ‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫إم ويست من نظرته األولى أنه غوال جنيا وليس حصانا عاديا‪ ،‬وتأكد‬
‫خوذات‬ ‫ٌ‬ ‫الرجال العماليق يرتدون فوق رؤوسهم‬ ‫ّ‬
‫عندما رأي خمسة من ِ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫رمادية ويركبون خيوال‬ ‫سوداء طويلة تخفي وجوههم‪ ،‬لهم أجساد‬
‫طويلة‬
‫ٍ‬ ‫رمادية في نفس حجم ما يركبه يورشو‪ ،‬ويتسلحون برما ٍح‬ ‫َّ‬
‫أس من فضة‪.‬‬ ‫مصنوعة في قلعة‪ ،‬غير أنها من الفوالذ ولها ر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫متوتر وقلق على يسار سيده‬ ‫خطر للحارس العمالق وهو واقف‬
‫أن َّثمة صعوبة أن يتقاتل أثنان مع ستة أشخاص بهذا‬ ‫خا إم ويست ّ‬
‫أن‬ ‫الحجم مع هذه الرماح الطويلة‪ ،‬وأراد ّأال ينقل قلقه إلى سيده‪ّ ،‬إال َّ‬

‫شدة توتره جعلته ينطق بلسانه ما يدور في نفسه‪ ،‬فقال على ٍ‬


‫نحو‬
‫ساخرا وهمس دونما‬ ‫ً‬ ‫متردد‪(( :‬إنهم ستة ‪ ..‬ستة ُمقاتلين))‪ .‬إبتسم سيده‬
‫أن يلتفت إليه‪َّ :‬‬
‫((إنهم إثنى عشر))‪.‬‬
‫كان خا إم ويست يعرف أن اإلنسان الوحيد في املجموعة التي‬
‫َّ‬
‫يراها هو الساحر يورشو‪ ،‬أما الجنود الخمسة والخيول التي يمتطوها‬
‫َّ‬
‫ما هي إال غيالن من الجن ُيسيرها ُويسيطر عليها يورشو بواسطة‬
‫واقشعر جسده وهو يسحب‬‫َّ‬ ‫السحر‪ .‬قال الحارس وقد تزايد توتره‬
‫سيفه من غمده ُم َّ‬
‫جد ًدا‪(( :‬إذن ‪ ..‬إنها معركة!))‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪119‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫قاطعه سيده‪(( :‬لن تكون هناك معركة ‪ ..‬إنهم موتى ولن ي ِ‬
‫زعجونا‬
‫ً‬
‫ثانية ً‬
‫أبدا))‪.‬‬
‫كان خا إم ويست خفيف الحركة كالصيادين‪ ،‬ال أحد يستطيع‬
‫َّ‬
‫مكان ما كما يفعل هو‪ .‬وملا‬
‫الحركة في الغابة بين األشجار أو يتسلل في ٍ‬
‫كان عليه التحرك أسرع بغية التسلل إلى داخل معبد سوبك نفرو‬
‫والتواجد في الوقت املناسب حتى يمنع يورشو عن أذيتها والحصول على‬
‫ً‬
‫سوارها السحري ترك حارسه من خلفة وبدأ يتنقل متسلال بين‬
‫ّ‬
‫األشجار بخفة‪ ،‬إال أن الحارس أبى أن يتركه وأتبعه وهو ُيعاني من‬
‫صعوبة أن يفعل مثله‪.‬‬
‫خرج خا إم ويست من بين أشجار َّ‬
‫الد ْردار في النقطة ذاتها التي‬
‫اجتمع فيها قطيع الغزالن منذ بدأ النهار‪ ،‬بيد َّأنه تفاجأ بالغزالة‬
‫الصغيرة إلى جوار أمها وقد تمزقت األحشاء ً‬
‫تماما وتناثرت دمائهما على‬
‫ً ُ َّ ً‬ ‫ً‬
‫مددة‬ ‫األرض‪ .‬رفع عينيه ينظر لألمام قليال فوجد بقية القطيع جثثا م‬
‫على األرض وقد تمزقوا ً‬
‫أربا‪ ،‬فالدماء كالنهر‪ ،‬واألشالء في كل مكان‪ ،‬وكأن‬
‫قطيع من كالب الجحيم املسعورة مر عليهم‪ .‬خرج الحارس العمالق من‬
‫بين األشجار خلف سيده‪ ،‬وعلى الرغم من محاولته قتل الغزالة‬
‫صعق ً‬
‫تماما ّ‬
‫لدى رؤيتها إلى جوار الغزالة‬ ‫الصغيرة في الصباح‪َّ ،‬إال َّأنه ُ‬
‫األم والدماء متناثرة بطريقة وحشية في كل مكان‪ .‬وتضاعف غضبه‬
‫ً‬
‫بقية القطيع على نفس الحال‪ُ ،‬ممزقا على األرض‪ .‬قال‬ ‫وزفر عندما رأى َّ‬
‫وحش يمكنه فعل ذلك بهذه‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬أي‬ ‫ً‬
‫غاضبا‪(( :‬بحق اآللهة‬
‫ٍ‬

‫‪120‬‬
‫القسوة؟))‪.‬‬
‫أجابه سيده‪(( :‬الوحوش ال تفعل ذلك‪ ،‬اإلنسان فقط هو من‬
‫كلمة واحدة‪(( :‬يورشو))‪.‬‬
‫يقتل من أجل متعة القتل))‪ ،‬وأضاف ٍ‬
‫ومحتدا َّردد الحارس وهو يضرب األرض بحد سيفه‪:‬‬‫ًّ‬ ‫ً‬
‫ستغربا‬ ‫ُم‬
‫َّ‬
‫((يورشو!! ال يفعل ذلك إال شيطان))‪.‬‬
‫حف ًزا وهو يخطو إلى األمام في أتجاه معبد سوبك‬ ‫ّ‬
‫قال سيده ُم ِ‬
‫َ ُّ‬
‫((هل َم إذن نقض ي على الشيطان))‪.‬‬ ‫نفرو‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحرك لألمام وهو ُمدركا أن يورشو قد دلف إلى املعبد‪ ،‬خاصة بعد‬
‫أن رأي مذبحة الغزالن‪ ،‬وفهم من فوره أن يورشو قتلهم بتعويذة القتل‬
‫املحرمة‪(( :‬سيكتوسيمبرا))‪ ،‬رغبة منه في مليء الجو برائحة دماء‬
‫الغزالن النفاذة من أجل تهييج الغيالن ونشر طاقة سلبية في املكان مما‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫يجعلهم في أشد حاالت ُ‬
‫السعار واإلندفاع نحو األذى‪ .‬وملا كان عاملا‬
‫ختصرا إستطاع من‬‫ً‬ ‫قديما ُوم‬
‫خلفيا ً‬ ‫جيدا‪ ،‬سلك ً‬
‫طريقا ً‬ ‫بدروب املكان ً‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وقت قصير‪ ،‬وتوقف ثانية عندما بلغ سور‬ ‫خالله أن يصل إلى املعبد في ٍ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الدائري‪ ،‬ثم َّ‬
‫يتشمم الثغرة في الحجر‪ ،‬قبل أن‬ ‫تقدم بحذر‬ ‫ِ‬ ‫املعبد‬
‫ُ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫عجبه‪ ،‬فرائحة الغيالن مقرفة‬ ‫يتراجع مشمئزا وكأن ما أشتمه لم ي ِ‬
‫ونفاذة‪.‬‬
‫ببطء وحذر في‬
‫ٍ‬ ‫صغيرة وترجلوا‬
‫ٍ‬ ‫نافذة‬
‫ٍ‬ ‫في آخر السور‪ ،‬عبروا من‬
‫قصير وجدوا فيه جثتين لحارسين من حراس املعبد وقد تهشمت‬
‫ٍ‬ ‫ممر‬
‫ٍ‬

‫‪121‬‬
‫رؤوسهم وتشوهت وجوههم في معركة مع غيالن يورشو‪ .‬أفض ى بهم‬
‫بهو عمالق‪ ،‬تتوسطه أربعة تماثيل لألخوة الثالثة سوبك نفرو‬ ‫املمر إلى ٍ‬
‫وإمنمحات وشقيقهم األكبر نفر بتاح‪ ،‬كل منهم بطول عشرة أقدام‪،‬‬
‫يقفون ُملتفين حول تمثال جدهم سنوسرت وطوله إثنى عشر ً‬
‫قدما‪.‬‬
‫اوية‪ ،‬يترقبا املكان‪.‬‬
‫تواريا في ز ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫تنسل من بين‬ ‫رمادية‬ ‫أشياء‬ ‫ُبركن عينه رأى الحارس حركة ما‪،‬‬
‫َ ً‬
‫فلمح غوال وقد رفع الخوذة عن رأسه‬ ‫التماثيل األربعة‪ .‬أدار رأسه‬
‫وثمة ما يتقاطر‬ ‫فظهرت مالمحه‪ ،‬أنيابه البارزة أسفل عينيه الحمراء َّ‬
‫وانسل آخر إلى األمام‬ ‫َّ‬ ‫من بين شفتيه وأنفه املقرفة بطريقة مقززة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫طويل ليس كش ٍيء رآه الحارس من‬ ‫بخطوات صامتة‪ ،‬وفي يده سيف‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫أي معدن بشري‪.‬‬ ‫قبل قط‪ .‬ميز الحارس أن هذا السيف لم يطرق من ِ‬
‫شفاف‪،‬‬ ‫كان ينبض بنور القناديل الزيتية املعلقة على الجد ان‪ ،‬شبه َّ‬
‫ر‬
‫ّ َّ‬ ‫َّ‬
‫الرقة تكاد تتوارى عن األنظار إذا نظرت إليها‬ ‫ِكسرة من البلور شديدة ِ‬
‫أزرق خا ِفت‪ ،‬ضوء شبحي يتراقص حول‬ ‫َ‬ ‫أسا‪ .‬كان َّثمة وميض‬ ‫ر ً‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫أي نصل رآه من قبل‪.‬‬ ‫وبشكل ما عرف الحارس أنه أمض ى من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الحواف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫محذ ًرا‪ ،‬لكن الكلمات‬ ‫ِ‬ ‫فتح الحارس فمه ليتحدث إلى سيده‬
‫تجمدت في حلقه‪ ،‬وأتاه صوت سيده من خلفه يهمس‪ّ :‬‬
‫((تريث ‪ ..‬تريث‬ ‫َّ‬
‫وال تتحرك))‪ .‬ظهر يورشو َيمر من بين التماثيل ومن خلفة ظهر ما تبقى‬
‫الحراس على أبواب املعبد‬ ‫من حراسه من الغيالن بعدما تخلصوا من ُ‬
‫في الخارج وحراس املمرات‪ّ ،‬‬
‫وبقي حارسين فقط على باب قاعة التعبد‬

‫‪122‬‬
‫الرئيسية التي تجلس فيها سوبيك نفرو‪ ،‬واللذان فزعا لدى رؤيتهما‬
‫ً‬
‫مفزوعا‪(( :‬غرباء))‪ ،‬بينما‬ ‫الساحر وأتباعه من الغيالن‪ ،‬فقال أحدهم‬
‫سحب اآلخر سيفه من ال ِغمد وأخذ يلوح به في الهواء ويأخذ وضع‬
‫آبه بما يفعله‪،‬‬
‫بتسما غير ٍ‬‫اإلستعداد للقتال‪ .‬خطى يورشو في أتجاهه ُم ً‬
‫وما إن دنا منه وأصبح الفاصل بينهم بضع خطوات إنطلق الحارس‬
‫هازءا وهو يشير بسبابته على الحارس‪:‬‬ ‫صوبه بالسيف‪ ،‬قال يورشو ً‬
‫ٌ‬
‫فيه‬
‫((إنسينيدو))‪ ،‬أنطلقت شرارة نارية أرتطمت بالحارس وأشتعلت ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫النيران على الفور‪ .‬صرخ الحارس‪ ،‬إال أن صرخته كتمت ولم تكتمل‬
‫بعدما قام الغول املترجل خلف الساحر بضرب عنقه بسيفه البلوري‬
‫ضربة واحدة‪.‬‬ ‫الطويل فأسقطها ً‬
‫أرضا من‬
‫ٍ‬
‫ْ‬
‫دب الهلع في قلب الحارس اآلخر‪ ،‬وشعر بالعجز‪ ،‬إذ لم يعرف ماذا‬
‫لثوان معدودات إلى باب قاعة التعبد الرئيسية‪،‬‬ ‫عليه أن يفعل‪ .‬نظر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ً‬
‫حذر سيدته‪ .‬إال أن يورشو هز‬ ‫هلع شديد أمال أن ي ِ‬ ‫وأنطلق نحوها في ٍ‬
‫ساخرا من خوف الحارس‪ ،‬وقال وهو يشير عليه بسبابته‪:‬‬ ‫ً‬ ‫رأسه‬
‫((االرتي اسندري))‪ ،‬وهي تعويذة خرجت على أثرها طاقة قوية وأرتطمت‬
‫ندفعا لألمام بقوة شديدة‪،‬‬ ‫بالحارس جعلته يفقد إتزانه ويطير ُم ً‬
‫الصوان فانكسرت جمجمته‬ ‫َّ‬ ‫فارتطمت رأسه بالجدار املبني من صخر‬
‫على الفور ونزفت منها الدماء الحمراء القانية‪.‬‬
‫حاول الحارس أن يزحف على األرض صوب الباب‪ ،‬بيد أن يورشو‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫عطه فرصة‪ ،‬إذ ألقى عليه تعويذة الحرق قائال‪(( :‬إنسينيدو))‪،‬‬
‫لم ي ِ‬

‫‪123‬‬
‫فحوله هو اآلخر إلى نيران ُمتأججة‪ ،‬مر من فوقها ودفع الباب الكبير‬
‫وجها لوجه مع‬‫الذي أفض ى به إلى داخل قاعة التعبد ُليصبح بذلك ً‬
‫سوبيك نفرو التي كانت تجلس على عرشها‪ ،‬ومر من خلفه أثنان من‬
‫حراسة وأغلقوا الباب من ورائهم‪ ،‬بينما تبقى تسعة من الغيالن في البهو‬
‫الخارجي حول التماثيل األربعة‪.‬‬
‫ربت خا إم ويست على كتف حارسه العمالق قبل أن يدفع أياه‬
‫ً‬
‫هامسا‪(( :‬لترقص معهم‬ ‫برفق لألمام‪ ،‬وهو ُي ِح َّسه على القتال‬
‫ٍ‬
‫بشجاعة))‪.‬‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬مرت غمامة حديدية سوداء أمام قرص القمر في‬
‫َّ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫السماء فحجبته‪َّ ،‬‬
‫ريح تشبه النسيم إال َّأنها أطفأت بعض‬ ‫وهفت‬
‫ورفع الحارس سيفه ً‬
‫عاليا‬ ‫القناديل مما جعل الظالم يغطي املكان‪َ ،‬‬
‫السيف‪،‬‬ ‫وارتجفت يداه من ِثقل َّ‬ ‫َ‬ ‫فوق أسه ّ‬
‫بتحد وهو يترجل لألمام‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ر‬
‫خطر له في تلك اللحظة أنه‬ ‫َ‬ ‫أوربما من التوتر املشوب بالخوف‪ ،‬وإن‬
‫ليس بمفرده‪ ،‬بل خلفه واحد من أعظم الكهنة العاملين بأمور السحر‪.‬‬
‫َّ‬
‫توقف غول أمامه‪ ،‬ورأى الحارس عينيه‪ .‬كانتا ذا لو ٍن أحمر شديد‬
‫أي عين َّ‬
‫بشرية رآها ً‬ ‫ّ‬
‫يوما ما‪.‬‬ ‫الحمرة كالدماء‪ ،‬أعمق وأكثر أحمر ًارا من ِ ٍ‬
‫ثبتت نظراته على َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫السيف‬ ‫ارتخت يداه بالسيف ونزلت قليال وقد‬
‫َّ‬
‫الطويل الذي ارتفع في يد الغول‪ ،‬وراقب ضوء النور البارد يجري على‬
‫جد ًدا‪ ،‬وللحظة جرؤ‬ ‫النصل بعدما رحلت الغيوم وعاد الضوء ُم َّ‬
‫الحارس على األمل في أن يقض ي على الغول‪َّ ،‬إال أنه تفاجأ بخروج ّ‬
‫بقية‬

‫‪124‬‬
‫الغيالن من خلف وبين التماثيل ‪ ..‬اثنان في البداية ‪ ...‬ثالثة ‪ ..‬أربعة ‪..‬‬
‫خمسة ‪ ..‬ثم اكتملوا تسعة‪ ،‬وشعر الحارس العمالق بالبرودة التي‬
‫جائت معهم ودبت في أوصاله‪.‬‬
‫رغب في أن ُيطلق صيحة تحذير إلى سيده‪ ،‬كان هذا ما يدور في‬
‫رأسه‪ ،‬لكنه رأى هالكه إذا فعلها‪ ،‬فالغيالن سوف تنقض عليه على‬
‫َ‬
‫الفور‪ .‬نظر خلفه‪ ،‬ورأى سيده قد أختفى‪ .‬ارتجف‪ ،‬وألقى ببطء‬
‫املعطف األسود الطويل فوق كتفيه ُلي َح ّ ِرر ذراعيه للقتال‪ ،‬وأطبق على‬
‫السيف املض يء في يد الغول‬ ‫عاليا‪ .‬شق َّ‬ ‫سيفه بكلتا يديه‪ ،‬ورفعه ً‬
‫الهواء‪ ،‬وقابله الحارس بسيفه الفوالذي‪ ،‬وعندما التقى َّ‬
‫النصالن لم‬
‫يتردد رنين اصطدام املعدن باملعدن‪ ،‬فلم يكن سيف الغول من ّ‬
‫أي‬ ‫َّ‬
‫حافة َّ‬ ‫َّ‬
‫السمع‪ ،‬كصرخة‬ ‫صوت مرتفع رفيع عند‬ ‫ٍ‬ ‫معدن‪ ،‬بل صدح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ص َّد الحارس ضربة ثانية‪ ،‬ثم الثالثة‪ ،‬ثم تدخل غول‬ ‫حيوان يتألم‪َ .‬‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫آخر‪ ،‬فتراجع الحارس خطوة للوراء وضرب بحافة سيفة قصعة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫نحاسية كانت ممتلئة بالنيران محاوال تعطيل الغيالن عن مبارزته وهو‬
‫يأمل أن يخرج سيده من حيث يتوارى ويتدخل ملعاونته‪.‬‬
‫َّ‬
‫وتخيل‬ ‫كانا الغوالن يتحركان برشاقة عالية أعلى مما توقع‬
‫اجع الحارس من‬‫الضربات‪ ،‬فتر َ‬ ‫الحارس‪ ،‬وتوالت سلسلة أخرى من َّ‬
‫جديد واصطدم بأحد التماثيل‪ ،‬كادت ضربة من السيف تنزل فوق‬
‫رأسه‪ ،‬إال َّأن ُه تفاداها برشاقة فأصطدم النصل بالتمثال‪ ،‬كسر جزء‬
‫من يده املمسكة بصولجان الشمس وشوهه‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫بقية الغيالن‪ ،‬من أمامه‪ ،‬إلى يمينه‪ ،‬إلى يساره‪ ،‬من كل‬ ‫أحاطت به ّ‬
‫مكان حوله‪ ،‬كانت وجوههم قبيحة‪ ،‬تمنى في نفسه لو َّأنها بال معالم من‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫شدة قبحها‪ .‬ظل خا إم ويست متواريا‪ ،‬لم يتدخل‪ ،‬والحارس في معركة‬
‫َّ ً‬
‫ومرة أخرى وأخرى التقت السيوف‪ ،‬إلى‬ ‫غير متكافئة‪ ،‬يحارب غوالن‪،‬‬
‫َُ‬
‫أحس الحارس بأنه ُيريد أن يغطي أذنيه ليقيها صوت االصطدام‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫الحاد الشبيه بالعويل‪ .‬كان الحارس قد بدأ يلهث من َّجراء املجهود في‬ ‫َّ‬
‫ساخن في نور القمر‪،‬‬ ‫خار‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ٍ‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬وأنفاسه تخرج في شكل ب ٍ‬
‫بتشوهات ُمضاعفة أكثر مما كانت عليه بينما‬ ‫ٍ‬ ‫واكتست حواف سيفه‬
‫َّ‬
‫سيوف الغيالن ما تزال على حالتها األولى‪ .‬ثم تأخرت حركة الحارس‬
‫ً َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫فاعية لحظة واحدة‪ ،‬فش َّق السيف الصارخ في يد أحد الغولين‬ ‫الد َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الحلقات املعدنية في صدريته النحاسية من الجانب‪ ،‬وأطلق الحارس‬ ‫َّ‬
‫مفعمة باأللم‪ .‬انبجس َّ‬
‫الدم َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الساخن من بين الحلقات‬ ‫الغاضب صرخة‬
‫َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫البرد‪َ ،‬‬ ‫خرج ُبخاره في َ‬ ‫َلي ُ‬
‫وبدت القطرات حمراء كاللهب وهي تقطر على‬
‫أرضية املعبد الحجرية‪ .‬إتكأ الحارس بظهره على الجدار من خلفه‪،‬‬
‫َ‬
‫ومسح‬ ‫وأسند سيفه بيده إلى تمثال ألبي الهول طوله ثالثة أقدام‪،‬‬
‫ً‬ ‫جانبه بيده‪ ،‬فرأى ُ‬
‫الق َّفاز املصنوع من فرو الذئب غارقا في األحمر‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫القاني‪ .‬نظر الغوالن إلى بعضهما البعض‪ ،‬ونظرا سويا للخلف إلى‬
‫بحيرة شتوية قال الغول ذا‬ ‫كتشقق الجليد على سطح‬ ‫ُ‬ ‫وبصوت‬ ‫بقيتهم‪.‬‬‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫غة َ‬ ‫ً ُ‬
‫يجهلها الحارس‪ ،‬وكانت كلماته ساخرة‪.‬‬ ‫الوجه املكشوف شيئا بل ٍ‬
‫ادار الحارس وجهه للحائط‪ ،‬وأبقى يده على التمثال كي يقف‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫شاعرا‬ ‫بثبات‪ .‬والتفت حوله‪ ،‬إلى اليسار‪ ،‬وإلى اليمين‪ ،‬ثم زفر ً‬
‫يائسا‬
‫‪126‬‬
‫بالنهاية‪ ،‬ويده الثانية ما تزال على جانبه تكتم الدماء املنبثقة من‬
‫يأس‬ ‫الجرح‪ .‬شعر بتقدم الغيالن نحوه من الخلف‪ ،‬فزفر زفرة ٍ‬
‫هشتين مرتعشتين بعدما‬ ‫شاعرا أن يديه وساقيه أصبحتا َّ‬ ‫ً‬ ‫واستسالم‬
‫تعذر عليه رؤية سيده ولم يعرف أين أختفى‪.‬‬
‫بعدا َّأياها عن التمثال‪ ،‬وكاد يغمض عينيه‬ ‫ارخى يده بالسيف ُم ً‬
‫ستسلما وهو يلهث من املجهود الذي بذله في‬ ‫ً‬ ‫وهو يوميء برأسه ُم‬
‫رجا من أحد‬ ‫مجابهة الغيالن‪ّ ،‬إال أن وجه سيده خا إم ويست ظهر خا ً‬
‫ٌ‬
‫الفتحات في الحائط إلى جانبه‪ ،‬وكانت في عيني سيده نظرة واثقة وملع‬
‫وعثر الحارس ً‬ ‫َ‬
‫أخيرا على القوة‬ ‫السوار في معصم يده وهو يهزها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫والغضبة التي كان يحتاجها‪ ،‬فهز رأسه لسيده وصاح وهو يرفع سيفه‬
‫َّ‬
‫املكسو‬ ‫السيف العمالق‬ ‫مزمجرا ر ً‬
‫افعا َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫واندفع‬ ‫جد ًدا‬ ‫في الهواء ُم َّ‬
‫بالفوالذ بيديه‪ ،‬كان الغول ذا الرأس العارية ما يزال ينظر للخلف‬
‫بضربة‬
‫ٍ‬ ‫لبقية الغيالن‪ ،‬وعندما إستدار هوى الحارس بسيفه على ر ِ‬
‫أسه‬
‫َ ْ‬
‫صريعا‬ ‫ً‬ ‫وضع ِثقله كله وراءها‪ ،‬فش َّج َرأ َس ُه إلى نصفين وأسقطه‬ ‫عمودية َ‬
‫َّ ٍ‬
‫على الفور تنبجس الدماء ذا الرائحة النتنة منه‪.‬‬
‫َّ‬
‫بحرك تكاد تكون ال أرادية‪ ،‬إال َّأنها حركه‬ ‫ٍ‬ ‫تراجع الغول الثاني‬
‫خائفة تنم عن ذهول‪ .‬وبدا ذلك عندما نظر إلى بقية الغيالن يحثهم‬
‫َّ ً‬
‫مرة أخرى‪،‬‬ ‫على معاونته‪ ،‬ورفع سيفه في الهواء والتفت ُيقاتل الحارس‬
‫تحطم سيف الحارس ُّ‬ ‫َّ‬ ‫وعندما تالقى َّ‬
‫الصلب‪ .‬رفع الغول سيفه‬ ‫النصالن‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬
‫بنبرة ساخرة‪ ،‬وقبل أن يهوى به على رأس‬ ‫مرة أخرى وهو يردد شيئا ٍ‬

‫‪127‬‬
‫الحارس الذي التفت ينظر إلى سيده‪ ،‬قال خا إم ويست وهو يشير نحو‬
‫الغول ‪(( :‬اكسبالريومس))‪ ،‬فجرده من سالحة‪.‬‬
‫بقية الغيالن نحو الحارس وسيده شاهرين الرماح‬ ‫إندفعت ّ‬
‫ً‬
‫الطويلة‪ ،‬فألقى خا إم ويست تعويذة الصعق قائال‪(( :‬ستوبيفاي))‪،‬‬
‫أرضا ً‬
‫واحدا تلو‬ ‫مرة في اتجاه كل واحد منهم‪ ،‬فأسقطهم ً‬
‫ٍ‬ ‫مر ًة بعد َّ‬
‫قالها َّ‬
‫آخر‪ ،‬بينما أنحنى الحارس وأمسك سيف الغول الذي قتله قبل ٍ‬
‫ثوان‬
‫وكانت مالمح وجهه تدل على أنه ُمشمئز من رائحة دماءه النتنة بيد َّأنه‬
‫وص ِعق‬‫حيوان حي تنبض فيه الروح‪ْ ،‬إذ إهتزت يده ُ‬
‫ٌ‬ ‫شعر وكأن السيف‬
‫أرضا وأنحنى يلتقط سيف أحد‬ ‫فألقاه ً‬
‫ُ‬ ‫بشده عندما أمسك به‪،‬‬
‫الحارسين الذي قتلهم يورشو‪ ،‬وأخذ يضرب أعناق الغيالن املصعوقة‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫حتى قض ى عليهم‬
‫بخطى ُمتسارعة توجه خا إم ويست صوب باب قاعة التعبد‬ ‫ً‬
‫َّ‬
‫بغية إنقاذ سوبيك نفرو‪ .‬إال َّأنهم وجدوا‬ ‫الرئيسية ولحق به الحارس‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫حديث ٌ‬
‫دائر بين‬ ‫باب القاعة مغلق بأحكام من الداخل وسمعوا َّثمة‬
‫الساحر يورشو والكاهنة سوبيك‪ ،‬وميز خا إم ويست أن الحديث‬
‫ُ‬
‫محتد بينهم‪ .‬تراجع من فوره خطوتين للوراء‪ ،‬ووضع يده فوق ِ‬
‫السوار‬
‫وألقى تعويذة التدمير وهو ُيشير إلى الباب ويقول‪(( :‬ريدوكتو))‪.‬‬
‫ً‬
‫تحطم الباب واندفع ساقطا نحو الداخل‪ ،‬اصطدم بالغوالن‬
‫اللذان كانا يقفا خلفه فأسقطهما ً‬
‫أرضا‪.‬‬
‫كانت سوبيك واقفة على يسار عرشها متوترة‪ ،‬أو َّأنها خائفة‪،‬‬
‫‪128‬‬
‫وأنتبهت لتحطم الباب وسقوط الغولين وظهور وجه خا إم ويست وهو‬
‫ً‬ ‫يعبر الباب ُم ً‬
‫تقدما حارسه بخطوة‪ .‬عن يمين العرش لألسفل قليال‬
‫ساكنا ولم يلتفت للوراء‪ ،‬كأن ً‬
‫شيئا لم‬ ‫ً‬ ‫وقف يورشو الذي لم يحرك‬
‫يكن‪.‬‬
‫قالت سوبيك بثقة وقد انفرجت اساريرها عن إبتسامة تنم عن‬
‫السوار))‪.‬‬ ‫ً‬
‫إطمئنان وتجرأت‪(( :‬انظر ‪ ..‬ال يمكنك أبدا أن تحصل على ِ‬
‫ٌ‬
‫ُبركن عينه‪ ،‬نظر يورشو للوراء نظرة إزدراء مشوبة بالسخرية‪،‬‬
‫وفاجأها بتوجيه كلتا يديه مضمومتين على بعضهما وهو ُيلقي عليها‬
‫ً‬
‫تعويذة القتل املحرمة غير املغتفرة قائال‪(( :‬افادا كدافرا))‪ ،‬فسقطت‬
‫مدوية وأخذ جسدها يتقلص‬ ‫أرضا وهي تصرخ صرخة َّ‬ ‫سوبيك نفرو ً‬
‫وأحترق حتى أصبح كومة من رماد‪ ،‬ولم يتبقى منها ً‬
‫شيئا بأستثناء‬ ‫ٍ‬
‫سوارها السحري‪.‬‬
‫غضبا وبدت في مالمحه عالمات الذهول‬‫ً‬ ‫إستشاط خا إم ويست‬
‫سريعا صوب السوار‬ ‫ً‬ ‫ندفعا نحو يورشو الذي توجه‬ ‫وهو يخطو ُم ً‬
‫وأنحنى ليحصل عليه‪.‬‬
‫غاضبا وهو يصوب كلتا يديه نحو يورشو‪:‬‬‫ً‬ ‫قال خا إم ويست‬
‫ّ‬
‫((االرتي اسندري))‪ ،‬فخرجت من بين يديه طاقة سحرية صدمت‬
‫لثوان‬ ‫عاليا ويصطدم بالجدار‪ .‬سقط ً‬
‫أرضا‬ ‫يورشو جعلته يطير ً‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫ساخرا من خا إم ويست‪.‬‬ ‫معدودة كان فيها ُم ً‬
‫بتسما‬

‫‪129‬‬
‫وجها لوجه مع الحارس العمالق وكان‬ ‫للحظة‪ ،‬وقف الغوالن ً‬
‫ْ‬ ‫حجميهما أكبر من ّ‬
‫بقية الغيالن التي واجهها الحارس قبل قليل‪ ،‬إذ كانا‬
‫عاليا ُ‬
‫تأه ًبا لقتاله‪.‬‬ ‫حارسين شخصيين ليورشو‪ ،‬ورفع كل منهما رمحه ً‬
‫نظر الحارس إلى سيده نظرة ذات مغزى يسأله املساعدة‪ .‬فألقى سيده‬
‫عليه تعويذة تكبير الحجم‪(( :‬إنجورجيو))‪ ،‬فتضخم حجم الحارس‬
‫وتضاعفت قوته البدنية‪ ،‬ودارت معركة‪.‬‬
‫موجها حديثه إلى خا إم ويست الذي انحنى‬ ‫ً‬ ‫قال يورشو بسخرية‪،‬‬
‫دائما العجوز‬ ‫ستظل ً‬
‫ُ‬ ‫يحصل على سوار سوبيك نفرو‪(( :‬أحمق ‪..‬‬
‫ً‬
‫((دائما تنحاز للجانب الخاطيء))‪.‬‬ ‫األحمق))‪ .‬وأتبع سببا‪:‬‬
‫ُ ّ‬
‫السوار في قالدة في رقبته وإن كانت‬
‫إبتسم خا إم ويست وهو ي ِعلق ِ‬
‫إبتسامته شاحبة يشوبها حزن على فقدانه سوبيك نفرو‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫خائنا مثل سيدك وأبيك من قبل))‪.‬‬‫دائما‪ً ،‬‬
‫((اللعنة عليك ً‬

‫نظر يورشو في عينيه مباشرة‪ ،‬وبسرعة شديدة ألقى صوبه‬ ‫َ‬


‫اغبا في تقطيعه‬ ‫تعويذة غير مغتفرة‪ْ ،‬إذ قال‪(( :‬سيكتوسيمبرا))‪ ،‬ر ً‬
‫وتحويله ألشالء‪ّ ،‬إال أن خا إم ويست كان ً‬
‫منتبها‪ ،‬فقال‪(( :‬فيرا فيرتو))‪،‬‬
‫فأختفى على الفور وأنتقل ٍ‬
‫ملكان آخر على بعد عدة أمتار‪.‬‬
‫توقع يورشو مكان أختفاءه‪ ،‬وأبتسم وهو يقول‪ (( :‬ال يمكنك أن‬
‫تخرج من هنا ًّ‬
‫حيا‪ ،‬كنت أطمع في ِسوار واحد‪ ،‬واآلن ‪ّ ..‬‬
‫لدي أثنين‪ ،‬منهما‬ ‫ٍ‬
‫ِسوارك الثمين))‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫لم يظهر خا إم ويست‪ ،‬ولم يكلف يورشو نفسه عناء البحث عنه‪،‬‬
‫نظر نحو الحارس العمالق والذي كان قد تخلص بالفعل من أحد‬
‫الغيالن ويضرب عنق الغول الثاني‪.‬‬
‫َّ‬
‫قال يورشو‪ (( :‬فيرا فيرتو))‪ ،‬فأختفى هو اآلخر‪ ،‬إال َّأنه ظهر خلف‬
‫ً‬
‫ساخرا من اختفاء خا‬ ‫الحارس العمالق ُمباشرة‪ .‬ظهر وهو يبتسم ً‬
‫هازءا‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫إم ويست‪ ،‬إذ اعتبر ما يفعله خا إم ويست محض سذاجة‪.‬‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬أظهر خا إم ويست نفسه في الحال‪ ،‬وكان إلى جوار‬
‫عرش سوبيك نفرو بمواجهة حارسه العمالق ً‬
‫وجها لوجه تفصلهما‬
‫عدة أمتار‪.‬‬
‫تبادل النظر مع حارسه وأطال النظر في عينيه‪ ،‬ففهم الحارس من‬
‫فوره أن الشيطان يورشو يقف خلف ظهره‪ ،‬وشعر أن ساعته قد‬
‫مودع لسيده ِوالتفت‬
‫ٍ‬ ‫يأس وبدت في مالمحه نظرة‬‫حانت فأبتسم في ٍ‬
‫ُ‬
‫وحذر شديدين‪ ،‬فتفاجأ بيد الساحر يورشو تطبق بقوة‬ ‫ٍ‬ ‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫للخلف‬
‫على رقبته ويلقي عليه تعويذة التعذيب املحرمة والغير ُمغتفرة‪:‬‬
‫وألم‬ ‫ً‬
‫هلع شديد ٍ‬ ‫((كروشيو))‪ .‬فسقط الحارس أرضا وبدأ يصرخ في ً ٍ‬
‫تماما في صرخاته املتكررة‪ ،‬وسالت الدماء نازفة من فمه وأنفه‬ ‫واضح ً‬
‫ٍ‬
‫قبل أن تنفجر عينيه وأذنيه ويموت في الحال‪.‬‬
‫ً‬
‫واضحا‬ ‫ً‬
‫شديدا على حارسه‪ ،‬وبدا ذلك‬ ‫ً‬
‫غضبا‬ ‫ِانتاب خا إم ويست‬
‫في مالمحه وهو ُيزيح وشاحه عن كتفيه وينزل غطاء رأسه ببطء‪ .‬أبتسم‬
‫ّ‬
‫بسخرية وقال ببرود‪(( :‬ريديكيالس))‪ ،‬فانطلقت طاقة‬ ‫يورشو َّ‬
‫مجد ًدا‬
‫‪131‬‬
‫ض َّخ َم حجمها حتى ملئت القاعة‪ ،‬وهي تعويذة‬ ‫خضراء على هيئة بلورة َت َ‬
‫ُ‬
‫تبطل السحر في املكان ملدة زمنية قصيرة‪ ،‬فعل ذلك رغبة منه في إنهاء‬
‫باشر بالسيوف‪ .‬رضخ خا إم ويست لرغبة يورشو وبدا‬ ‫ُ‬
‫بقتال م ٍ‬
‫ٍ‬ ‫األمر‬
‫موافقا‪ ،‬فقام األخير بإلتقاط سيف من يد الغول‬ ‫ً‬ ‫ذلك عندما هز رأسه‬
‫السيف الفوالذي الذي كان يستخدمه الحارس بأتجاه خا إم‬ ‫ودفع َّ‬
‫قويا يهابه الجميع‪،‬‬‫شابا ًّ‬‫وقت سابق كنت ًّ‬
‫هازءا‪(( :‬في ٍ‬ ‫ويست وقال ُله ً‬
‫َّأما اآلن فأنت عجوز ضعيف تحتاج إلى الشفقة‪ ،‬ولن أمنحك َّأياها))‪.‬‬
‫ترددت نبرته الغاضبة‬ ‫السيف‪ ،‬وقال بصوت َّ‬‫إلتقط خا إم ويست َّ‬
‫ٍ‬
‫صر‬‫جدر بي أن ُأ َق ّ‬ ‫((صبي مغرور‪ ،‬كان َي ُ‬
‫ٌ‬ ‫في أرجاء القاعة الخاوية‪:‬‬
‫ِ‬
‫لوقت طويل‪ ،‬تالقى‬‫وقت سابق))‪ ،‬وأصطدم كل منهما باآلخر‪ٍ .‬‬ ‫لسانك في ٍ‬
‫مرة‪ ،‬وأخذ خا إم ويست وضع الدفاع طوال الوقت‪،‬‬ ‫مرة بعد َّ‬
‫النصالن َّ‬ ‫َّ‬
‫النصالن َّ‬
‫مرة‬ ‫ْإذ لم يستطع ُمجاراة يورشو الشاب في القتال‪ ،‬وأدى تالقي َّ‬
‫مرة إلى تحطم الجزء األمامي من نصل خا إم ويست املصنوع من‬ ‫بعد َّ‬
‫الصلب‪ ،‬فتسيد يورشو املوقف بتوجيه عدة ضربات متتاليه أسقط‬ ‫ُّ‬
‫أرضا على ركبتيه‪ ،‬وأمسك ِسوار سوبيك نفرو الذي‬ ‫بها خا إم ويست ً‬
‫علقا في رقبته وأنتزعه منها وهو يضربه بقدمه في صدره ً‬
‫دافعا أياه‬ ‫كان ُم ً‬
‫عاليا في الهواء وقد بدت في مالمحه نظرة‬ ‫السيف ً‬ ‫نحو الجدار‪ ،‬ثم رفع َّ‬
‫ِانتصار‪.‬‬
‫دافعا أياه بكل قوته بضربة شديدة‪ ،‬تصدى لها خا‬ ‫هبط بالسيف ً‬
‫قطعة َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وتشظى َّ‬
‫مشوهة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫السيف الطويل في يده إلى مئة‬ ‫إم ويست‪،‬‬

‫‪132‬‬
‫الحادة‪ .‬تلك اللحظة ظهر خا إم‬ ‫َّ‬ ‫كأمطار من األبر‬ ‫الشظايا‬‫وتناثرت َّ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫بالضياع واإلرهاق املشوب بالضعف يرافقه إستسالم‪،‬‬ ‫شاعرا َّ‬ ‫ً‬ ‫ويست‬
‫َّ‬
‫وأيقن بأن ال طاقة له بمواجهة يورشو‪ ،‬فركع على ركبتيه وسلم نفسه‬
‫َّ‬
‫وأستسلم للموت بعدما شعر أن ساعته قد حانت‪ ،‬إال أن تعويذة‪:‬‬
‫ُ‬
‫((ريدكيالس)) التي تبطل السحر إنتهى مفعولها في تلك اللحظة‪،‬‬
‫ً‬
‫بلهفة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫فأستغل خا إم ويست األمر وألقى تعويذة اإلنتقال قائال‬
‫((الوهومورا))‪.‬‬
‫ضوئي على ُبعد مسافة أقل من مترين عن‬ ‫ٌ‬ ‫على الفور إنفتح له ٌ‬
‫باب‬
‫بشدة‪ ،‬لكنه قفز‬‫متيبسة‪ ،‬وآملته ُركبتاه َّ‬‫نتفضا بأطراف ّ‬ ‫نهض ُم ً‬ ‫يمينه‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫برمح في اللحظة التي عبر فيها‬
‫ٍ‬ ‫قذفه‬ ‫يورشو‬ ‫أن‬ ‫إال‬ ‫عبر الباب بسرعة‪،‬‬
‫من الباب‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪133‬‬
‫‪10‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫الظالم قد َ‬
‫ساد بالكامل بالفعل عندما استيقظ الكاهن كاي‬ ‫كان‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تاي ليرى املوجودات في غرفة نومه سوداء ً‬
‫تماما ويشعر بالوجع في ّ‬
‫كل‬
‫ِ‬
‫مفصل في جسده لكثرة ساعات نومه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫كانت رياح خفيفة َت ُه ُّب عبر خصاص نافذة الغرفة فوق رأسه‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫عندما َ‬
‫بالصداع‪ ،‬ثم‬ ‫دفع نفسه إلى الجلوس معتدال ورأسه ينبض‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الفراش‪.‬‬ ‫قبض على صولجانه وأتكأ عليه لينزل ٍ‬
‫بثبات من ِ‬
‫كثيرا‪ ،‬ولم يستدعوني))‪ .‬قالها في نفسه ثم َ‬
‫فتح‬ ‫((تأخر الوقت ً‬ ‫َّ‬
‫مناديا بصوت فيه كسل‪(( :‬نياخ هاو‪ ،‬أين أنت؟))‪ .‬لم َّ‬
‫يتلق‬ ‫ً‬ ‫الباب‬
‫ٍ‬
‫مرة أخرى لكن بصووت َهادر‪(( :‬نياخ هاو!))‪ ،‬لم َّ‬ ‫ُ‬ ‫جوابا‪ ،‬فنادى َّ‬ ‫ً‬
‫يتلق‬ ‫ٍ ِ‬
‫فحجيرة حارسه تقع على مقربة‬ ‫غريبا‪ُ ،‬‬
‫أيضا‪ ،‬ما كان ً‬ ‫املرة ً‬ ‫جوابا هذه َّ‬ ‫ً‬
‫َّ‬ ‫من غرفته‪ُ ،‬ويمكنه أن يسمعه بسهولة‪ .‬في ّ‬
‫النهاية اضطر الكاهن ألن‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫((أسرعوا‪ ،‬لقد نمت أطول من الالزم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مناديا الخدم‪ ،‬وقال لهم‪:‬‬ ‫يزعق‬
‫ْ‬
‫كان يجب أن ُيو ِقظني أحد))‪ .‬لم يحصل على إجابة‪ ،‬إذ كانت زوجته‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫نومة هانئة‪،‬‬ ‫أجواء ساكنة كي يتحصل على ٍ‬ ‫السيدة كاريسا قد هيئت له‬
‫جميعا إلى ساحة املنزل الخارجية وأماكن إعداد‬ ‫ً‬ ‫فصرفت الخدم‬
‫الطعام‪.‬‬
‫ََ‬ ‫النوافذ َّ‬ ‫َّ‬
‫الطويل‪ ،‬وعبر َّ‬ ‫قطع ُّ‬ ‫مرة أخرى َ‬ ‫َّ‬
‫الضخمة أتت ريح‬ ‫الرواق‬
‫‪134‬‬
‫الغنية‪ ،‬وتر َ‬
‫اقصت‬ ‫دار َّ‬
‫والد ْر ُ‬ ‫ومحم ًلة برائحة َّ‬
‫الص َن ْو َبر َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫الليل هامسة‬
‫َ‬
‫أضواء املشاعل على الجدران وتراقصت معها الذكريات في عقله‪،‬‬
‫وتذكر طفولته مع شقيقه الوحيد خا إم ويست‪ ،‬ولم يعرف ملاذا في‬
‫تحديدا أتته هذه الذكريات‪َّ .‬ثمة شعور حزين تمكن من‬ ‫ً‬ ‫هذا الوقت‬
‫فؤاده‪ ،‬لم يعرف له مصدر‪.‬‬
‫تناهت إلى مسامعه ضحكات‬ ‫لدى وصوله إلى باب الشرفة الكبيرة َ‬
‫ً‬
‫حتبت رع وزوجته كاريسا املمتزجة بالصوت األعمق لشبسكاف ونياخ‬
‫هاو‪ ،‬كانوا يتبادلوا أطراف الحديث عندما دلف الكاهن من الباب‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ورسم ابتسامة واهنة على شفتيه وهو يتحرك صوب مقعده‪.‬‬
‫وقف نياخ هاو وشبسكاف وإلى جوارهما حتبت رع لحظة رؤيتهم‬
‫َّ‬
‫الكاهن يدلف من الباب‪ ،‬إال َّأنه أشار لهم بالجلوس‪.‬‬
‫قالت السيدة كاريسا بصوتها العميق وقد ملعت عيناها‪:‬‬
‫َّ‬
‫((إفتقدتك‪ ،‬إال َّأنك كنت تحتاج هذه النومة))‪ .‬وبينما يجلس الكاهن‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ووجه زينته‬ ‫على مقعده‪ ،‬قالت حتبت رع بصوتها املنكه باملوسيقى‬
‫ّ‬
‫الذهبية))‪.‬‬ ‫اإلبتسامة‪(( :‬أنا أكثر من أفتقدك يا سيدي ‪ ..‬أنا والحمامة‬
‫متنا لها‪ِ ،‬والتفت إلى زوجته وهو يقول في‬‫إبتسم الكاهن كاي تاي ُم ً‬
‫ّ َّ‬ ‫ّ‬
‫الدكة‬ ‫جدية شديدة‪(( :‬أنا جائع))‪ .‬من فوره نهض نياخ هاو من على ِ‬
‫وقال‪(( :‬سوف أطلب الطعام))‪ .‬رد سيده الكاهن‪(( :‬كما تشاء‪ ،‬املهم أن‬
‫تأتيني بالطعام))‪ ،‬كانت رائحة السمك فائحة في املكان‪ ،‬اشتمها الكاهن‬
‫والتفت ُيخاطب حتبت رع الجالسة أمامه على اليمين وعلى وجهها‬ ‫َ‬

‫‪135‬‬
‫َّ‬
‫تحلت بها‪ .‬قال لها ُم ً‬
‫مازحا وهو‬ ‫ابتسامة ساطعة ُمضيئة كالجواهر التي‬
‫َ‬
‫ُيل ّ ِوح بيده كالسمكة‪(( :‬رائحة األسماك نفاذة‪ ،‬من بين مئات األنواع من‬
‫الطعام‪ ،‬يبقى السمك أكلتي املفضلة))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫حدجته حتبت رع بإمعان‪ ،‬وقالت هازة رأسها قبل أن تميل بها في‬
‫نهاية ما تقوله وتغلق جانب شفتيها وتسحبه إلى جانب‪(( :‬الحمامة‬
‫الذهبية))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫كان شبسكاف قد َسكب َّ‬
‫النبيذ لنفسه في الكأس وأخذ منه جرعة‬
‫ً‬
‫طويلة‪ ،‬حتى لم َّ‬
‫رشفة في القاع عندما علقت‬
‫ٍ‬ ‫يتبق فيه غير ِنصف‬
‫ً‬
‫حتبت رع للكاهن‪ ،‬فأنتفض ضاحكا وأهتز بشدة قبل أن َي ُترك الكأس‬
‫وتتهشم على األرض من شدة الضحك‪ ،‬ونظرا لبعضهما‬ ‫َّ‬ ‫سقط‬ ‫َلت ُ‬
‫سويا‪(( :‬سوف أقتلك يا شبسكاف))‪.‬‬ ‫البعض في ذات اللحظة ورددا ًّ‬

‫يائسا من أن يتغيرا‪ ،‬وأبتسمت السيدة كاريسا في‬ ‫هز الكاهن رأسه ً‬


‫وجه زوجها توافقه على ما دار في رأسه‪ .‬نزل شبسكاف على ُر َ‬
‫كبتيه‪،‬‬
‫سويا وجه لوجه في األسفل إلى جانب‬ ‫ومثله فعلت حتبت رع‪ ،‬فأصبحا ً‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الذهبية املعلقة في رقبة حتبت رع وهي تهز‬ ‫املائدة‪ .‬جلجلت الجواهر‬
‫رأسها وتقول في غيظ‪(( :‬أحمق‪ ،‬أحمق‪ ،‬أحمق))‪ ،‬بينما رمقها بنظرة‬
‫َّ‬
‫تجلت فيها املحبة كاملة‪ .‬شرعا في تجميع قطع الزجاج ولم يستطع‬
‫شبسكاف أن يفعل ذلك دونما أن يرفع عينه ويسترق النظر إلى نهديها‬
‫َّ‬
‫الصغيرين املتكورين أمام عينيه‪ ،‬إال أن هذا لم يكن أكثر ما لفت‬
‫ِانتباهه وخطف قلبه‪َّ ،‬إنما تراقص لهب القناديل في بؤبؤ عينيها‬

‫‪136‬‬
‫العميق‪.‬‬
‫تالقت ُ‬ ‫َ‬
‫رؤيته عينيها‬
‫ِ‬ ‫أعينهما‪ ،‬واستطاعت حتبت رع أن ترى وقع‬
‫عن قرب على قلبه‪ ،‬فتوقفت عن الحركة‪ِ ،‬وابتسمت وهي تنظر له‬
‫ٌ‬
‫بأيقاع ثابت‪ ،‬دقت‬ ‫ُبركن عينيها وقد تعمدت فتحهما على ِاتساعهما‪.‬‬
‫دقات ُم ٍ‬
‫تتالية‬ ‫ٍ‬ ‫برفق على خشب املائدة الخشن ثالث‬ ‫السيدة كاريسا ٍ‬
‫صوت مفعمة بش ٍيء من الضحك‪(( :‬الحمامة‬ ‫ٍ‬ ‫وهي تقول بنبرة‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الذهبية))‪ ،‬في إشارة منها لحتبت رع أن تنجز أمرها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عاد نياخ هاو ودلف من الباب بعدما أوص ى كبيرة الطهاه على‬
‫الطعام‪ ،‬جلس في مقعده أمام الكاهن جهة اليسار في اللحظة التي‬
‫أنتهت فيها حتبت رع وشبسكاف من جمع قطع الزجاج املنثور وصعدا‬
‫ً‬
‫سويا إلى املائدة‪.‬‬
‫بصوت أتى من‬‫ٍ‬ ‫جميعا حول املائدة‪ ،‬قال الكاهن‬‫ً‬ ‫ما إن أصبحوا‬
‫ً‬
‫أعماق روحه بعدما أغمض عينيه ِاغماضة أوحت بأنه يحاول تذكر‬
‫ُ‬
‫مايقوله‪(( :‬ك َّنا أمة عظيمة))‪ .‬واسترسل في الحديث‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫الذهبية قصر امللك شمش ي‪ ،‬قاطعة عرض‬ ‫غادرت الحمامة‬
‫السماء‪ ،‬هذه َّ‬
‫املرة ليس في أتجاه النهر‪ ،‬وليس في أتجاه الحدائق املعلقة‬
‫بعيد للغاية‪ ،‬في إتجاه القصر اإللهي في‬‫أتجاه ٍ‬
‫ٍ‬ ‫التي خلت‪َّ ،‬إنما في‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الجنوب من األرض السوداء‪ ،‬كيميت‪ ،‬حيث قصر إله األرض كلها اإلله‬
‫الشاب رع‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫كانت الرحلة تحتاج عدة أيام ليقطعها البشر ومثلهم من الطيران‬
‫ّ‬
‫الذهبية قطعتها في‬ ‫أي طائر عرفه الناس‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن الحمامة‬ ‫ّ‬
‫املتواصل من ِ ٍ‬
‫غمضة عين‪.‬‬
‫مقربة من قاعة العرش الخارجية وهي قاعة عظيمة‪ُ ،‬بنيت في‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫اصد فلكية متطورة‬ ‫ساحة كبيرة للغاية ُ‬
‫ضخمة ومر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫معابد‬
‫ٍ‬ ‫تضم‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وقاعات للطعام واإلحتفال‪ .‬كان إله األرض رع مجتمعا بقادة الجيوش‬
‫َّ ً‬ ‫ورجال القصر والكهنة وبعض ُ‬
‫التجار ِعندما هبطت الحمامة ُمتخذة‬
‫ُ‬ ‫هيئتها البشرية على ُ‬
‫طريق اإلله وهو الطريق املمتد من ضفة النهر حتى‬
‫أرض املعابد‪ ،‬طوله يقرب من ألفين متر وعرضه يزيد عن خمسة‬
‫يقرب من ألف تمثال أغلبها ألبي‬‫ُ‬ ‫ص ما‬‫مترا‪ ،‬على جانبيه ُر َّ‬
‫وسبعون ً‬
‫الهول‪ ،‬على هيئة جسد أسد ورأس إنسان‪ ،‬وبعضها جسد أسد ورأس‬
‫كبش‪ ،‬حيث ترمز رأس الكبش لإلله آمون‪ ،‬أحاطت بالقاعة عشرات‬
‫املسالت وعشرات العمدان التي تتخذ شكل زهرة اللوتس‪ ،‬طول كل‬
‫ٌ‬
‫ستائر‬ ‫قدما‪ ،‬علقت فوقهم ومن حولهم‬ ‫واحد منها تجاوز الثالثون ً‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الريح فجأة وأهتزت‬‫رمزية اللون وبعضها أصفر وأبيض‪ .‬وهبت ِ‬ ‫حريرية ِق ِ‬
‫األرض لحظة هبوط الحمامة وتجسدها‪.‬‬
‫جمد ُحراس القصر اإللهي في أماكنهم‬ ‫لثوان معدودات َت َّ‬
‫ٍ‬
‫قلق ال يعرفون‬ ‫ُ‬
‫مستغربين ينظرون إلى بعضهم البعض وإلى قائدهم في ٍ‬
‫ً‬
‫ما الذي ينبغي عليهم فعله‪ ،‬بينما ترجلت الفتاة ُمباشرة صوب قاعة‬
‫ن ً ُ‬ ‫ُ‬ ‫العرش الذي كان ُ‬
‫مترا‪ .‬وخ ِّيل‬ ‫يبعد عنها مسافة تقدر بمائة وخمسو‬

‫‪138‬‬
‫لها أو َّأنها تمنت لو يحدث ما تأمله دون ِقتال‪ ،‬فهي لم تأتي إلى هنا‬
‫َّ‬ ‫سعيا للمتاعب‪َّ ،‬إنما ً‬
‫ً‬
‫طلبا للمساعدة‪ .‬إال أن ذلك لم يحدث‪ ،‬فعلى‬
‫َّ َّ‬
‫أوجنية حضرت‬ ‫ّ‬ ‫األخاذ إال َّأنها ب َدت لهم كساحرة‬ ‫الرغم من جمالها‬
‫ُ‬
‫لتنال من إلههم وتحدث ش ًيء من الجلبة‪.‬‬
‫تمنت لو‬‫تفاجئت بالحراس يندفعون كالسهام املارقة في إتجاهها‪َّ ،‬‬
‫ومرة أخرى لم يحدث‪ .‬بيد َّأنهم‬ ‫يتدخل قائدهم فيأمرهم بالتراجع‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شاهرا سيفه‪،‬‬‫ً‬ ‫احاطوا بها‪ ،‬إذ اقترب منها إثنين من الحراس‪ ،‬ك ٍ ّل منهما‬
‫غاضب‬
‫ٍ‬ ‫هامس‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫وملحت في عيني أحدهما جرأة وتهور‪ ،‬فقالت‬
‫((إبقيا على حياتكما ‪ ..‬ال تقتربا أكثر))‪.‬‬ ‫وواثق وهي ُتشير لهما بكلتا يديه‪َّ :‬‬
‫ً‬
‫إنتباها‪،‬‬ ‫ساخرا من ضآلة حجمها ونحولها‪ ،‬لم ُي ِعرها‬ ‫ً‬ ‫ِإبتسم حارس‬
‫ً‬
‫وفسر كلماتها بكونها خائفة أو حمقاء‪ ،‬وأندفع َّ‬ ‫َّ‬
‫بالسيف نحوها‪.‬‬
‫ُ‬
‫لم تكن تملك رفاهية الوقت‪ ،‬فقد أوشكت الشمس أن تغيب‬
‫َّ‬
‫مرة أخرى وإال َس ُتحرم من الخروج للضفة‬ ‫وعليها أن تغوص في املاء َّ‬
‫شفقة أو رحمة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫جد ًدا كما َّأنها لم ُتكن في حالة تسمح لها بإبداء ّ‬
‫أي‬ ‫ُم َّ‬
‫ورغبت أن ترسل رسالة قاطعة ُمفادها َّأنها تريد ُمحادثة إله األرض‪،‬‬
‫مفاجأة دارت على عقبيها أمام الحارس‪ ،‬وطارت‬‫ٍ‬ ‫بحركة‬
‫ٍ‬ ‫وسوف تفعل‪.‬‬
‫معها خصالت شعرها الطويلة املنسدلة على ظهرها‪ ،‬ولم يرى أو َيعرف‬
‫وبضربة‬
‫ٍ‬ ‫أحد املحيطين بها كيف حصلت على السيف من بين يديه‬
‫بعنقه كأنه قطعة من الكتان تحت‬ ‫َ‬
‫انفلق فوالذ الواقي املحيط ُ‬ ‫واحدة‬
‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِظ ّل َّ‬
‫شهقة خفيضة‬
‫ٍ‬ ‫السيف‪ ،‬ولم يس ِعف الوقت الحارس إال بإطالق‬ ‫ِ‬
‫‪139‬‬
‫الدماء من َحلقه وسط ذهول الحارس الثاني ّ‬
‫وبقية‬ ‫قبل أن تنبثق ّ‬
‫ِ‬
‫اح َبته شهقة إستطاعت أن‬ ‫ص َ‬
‫الحراس الذين أحاطوا بها مع فزع وهلع َ‬
‫تسمعها بوضوح من جانب الحاضرين في قاعة العرش‪.‬‬
‫ً‬
‫خائفا وهو يلتفت‬ ‫خطوات للوراء‬ ‫تراجع الحارس الثاني بضع‬
‫ٍ‬
‫للحراس من حوله‪ ،‬قبل أن يتجرأ ُويهاجمها ر ً‬
‫افعا سيفه في الهواء‬
‫فتفادته الفتاة برشاقة شديدة َ‬
‫ودارت على‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وواضعا خلفه كل قوته‪،‬‬
‫سيف على مؤخرة كتفيه فأصابته‬ ‫عقبيها ُم َّ‬
‫جد ًدا ووجهت له ضربة‬
‫ٍ‬
‫بجرح قطعي بعرضهما وأسقطته ً‬
‫أرضا‪.‬‬
‫بقية الحراس للخلف خائفين‪ ،‬بينما ترجل قائدهم وقال‬ ‫تراجع َّ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫واختطف ً‬ ‫ُم ًّ‬
‫فأسا حربية طويلة املقبض من‬ ‫حتدا‪(( :‬ستموتين لهذا))‪،‬‬
‫يد أحد الحراس العماليق اللذين وقفوا على مشارف قاعة العرش‪،‬‬
‫وأضاف‪(( :‬ستدفعين حياتك َث ً‬
‫منا لحياة الحارس!))‪.‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫سادت حالة من التوتر والقلق في املكان‪ ،‬ووقف إله األرض رع‬
‫غضب أخذ يتزايد‪ ،‬ومن حوله وقفت أنا وكبار‬ ‫ٍ‬ ‫ُيشاهد ما يحدث في‬
‫الكهنة‪ ،‬شقيقي األكبر خا إم ويست‪ ،‬وإمحوتب سيد الكهنة الذي أوتي‬
‫ألحد غيره من قبل‪ ،‬إلى جوار الكاهن َحنكليس‬ ‫من العلم ما لم يؤتى ٍ‬
‫والد الساحر يورشو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫بعلو شديد بدت‬ ‫صرخ قصيرة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫هاجمها القائد وحده‪ ،‬فصرخت‬
‫ُ‬
‫أخيرا‪(( :‬ال!))‪ ،‬لم تكن خائفة َّإنما كارهة‬
‫عثرت على صوتها ً‬ ‫فيها كمن َ‬
‫الدم ِاستحوذ على القائد وحراسه بالفعل‪،‬‬ ‫إلراقة الدماء‪َّ .‬إال أن جنون َّ‬

‫‪140‬‬
‫طغت على نبرتها القسوة‪َّ .‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وانقض ٌّ‬
‫تحركت‬ ‫بصيحات‬
‫ٍ‬ ‫كل منهم عليها‬
‫السيف في يدها‬‫ص ِّدقها القائد وحراسه‪ ،‬وكان َّ‬ ‫الفتاة بسرعة لم ُي َ‬
‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وثابتا كقطعة من جسدها ورفعته لتصد فأس قائد الحرس‬ ‫لتصقا ً‬ ‫ُم ً‬
‫فتفجرت شرارة تألقت باألصفر‬ ‫َّ‬ ‫الذي هوى بضربته عليها من أعلى‪،‬‬
‫بصوت ُّ‬ ‫َ‬
‫ارت َ‬
‫يصم اآلذان‪ ،‬ودارت على‬ ‫ٍ‬ ‫طم الفوالذ بالفوالذ‬ ‫الناري عندما‬
‫ً‬
‫جروحا في وجهه على‬ ‫عقبيها فضربته بخصالت شعرها الذي سبب له‬
‫ً‬
‫برشاقة جعلت الحراس يفتحون‬ ‫ٍ‬ ‫الفور‪ ،‬ومالت برأسها منحنية للخلف‬
‫بالسيف‬ ‫أفواههم على آخرها غير مصدقين َّأنها فعلت ذلك‪ ،‬ثم ضربت َّ‬
‫مقبض الفأس في يد القائد الشاب ليطير النصل ُم ً‬
‫نكسرا ً‬
‫دائرا في‬
‫الهواء‪.‬‬
‫تدخل ثالثة من الحراس‪ ،‬ثم أربعة آخرين‪ ،‬وحاول أثنين ُمساعدة‬
‫القائد في النهوض من األرض‪ .‬توقفت في مكانها تزفر في غضب وعيناها‬
‫األرجوانيتان مثبتتان على األرض‪.‬‬
‫ً‬
‫غاضبا وهو يدفع الحارسان بعدما ساعداه‪ ،‬وألقى‬ ‫نهض القائد‬
‫َّ‬
‫انقض جندي فجأة عليها‪،‬‬ ‫مقبض الفأس َوم َّد يده إلى سيفه‪ ،‬بينما‬
‫َ‬
‫وصلصال‪.‬‬ ‫ورقص سيفاهما ً‬
‫معا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فتفادته‬
‫عندما عاد القائد إلى حومة القتال إلى جوار الحراس الذين‬
‫تزايدوا وتجرأوا كانت الشمس بالفعل قد مالت نحو املغيب‪ ،‬والحظت‬
‫ووجدت نفسها‬‫َ‬ ‫الظالل َّ‬
‫والرياح الباردة قد أحاطت بها‪،‬‬ ‫الفتاة أن ِ‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫ثانية أخرى‪ .‬كان الكهنة األربعة قد‬
‫مرغمة على التقدم دونما تضييع أي ٍ‬
‫‪141‬‬
‫َ ُّ‬
‫ظلوا بمنأى عن القتال غير واثقين بما يجب أن يفعلوه‪ ،‬وقفوا في حالة‬
‫وعلم إمحوتب أن ما يتجسد أمامه قد يكون‬‫ترقب وتأهب ملا يحدث‪َ ،‬‬
‫أي ش يء آخر على أن يكون ٌ‬
‫كائن بشري‪ ،‬وأيقن من ذلك عندما تجمع‬ ‫ِّ ٍ‬
‫الحراس يتقدمهم القائد وأحاطوا بها‪ ،‬فمالت برأسها وأنحنت بجسدها‬
‫َّ ً‬ ‫ً ً‬
‫أرضية عنيفة‪،‬‬ ‫خاطفة وبسطت كفها على األرض ُمحدثة هزة‬‫ٍ‬ ‫بسرعة‬
‫ٍ‬
‫جعلت القائد والحراس يتطايرون من حولها‪ .‬ترجل اإلله رع عن عرشه‬
‫بمالمح‬
‫ٍ‬ ‫ثابتة ومر من بين الكهنة األربعة وهو يترقب األمر‬‫بخطوات ٍ‬
‫ٍ‬
‫بدت ُمستغربة‪.‬‬
‫حاول الكاهن كاي تاي أيقافه‪ ،‬بينما تقدم خا إم ويست يرافقه‬
‫تعويذة قالوا فيها‪(( :‬ستيناريمورا))‪ُ ،‬مستخدمين‬
‫ٍ‬ ‫َحنكليس وقاما بألقاء‬
‫ًّ‬
‫سحريا يصعب تجاوزه‪.‬‬ ‫معا‪ ،‬فصنعوا ً‬
‫جدارا‬ ‫السحرية ً‬
‫َّ‬ ‫قوتهما‬
‫نهضت الفتاة عن األرض وألقت السيف من يدها‪ ،‬ثم ترجلت‬
‫بثقة كبيرة مارة من بين الحراس املبعثرين ً‬
‫أرضا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وحنكليس في ثقة ً‬
‫ظنا منهما َّأنها لن تستطيع‬ ‫إبتسم خا إم ويست َ‬
‫ِ‬
‫تجاوز جدارهما السحري‪ ،‬بينما ملعت في عين إمحوتب نظرة تنم عن‬
‫يأس‪ ،‬وقد علم َّأنها ستتجاوز الجدار وكأنه غير موجود‪.‬‬
‫وحنكليس‬ ‫عق خا إم ويست َ‬ ‫فص َ‬
‫مرت الفتاة عبر الجدار بالفعل‪ُ ،‬‬
‫كنا بيد َّأنه أشار َّ‬
‫إلي بأن أترك إله‬ ‫ملا شاهداه‪ ،‬ولم يحرك إمحوتب سا ً‬
‫األرض وأتراجع خطوتين للوراء‪ ،‬فتراجعت وأنا أغمغم‪ّ :‬‬
‫((أي لعنة هذه‪،‬‬
‫حرا أسود ما‪ ،‬أو َّ‬ ‫ً‬
‫شعوذة أو ِس ً‬
‫أن كل ذلك محض كابوس))‪.‬‬ ‫هل هي‬
‫‪142‬‬
‫كانت الشمس على وشك املغيب في غضون دقيقتين‪ ،‬عندما‬
‫بسطت الفتاة راحة يدها فوق رأس إله األرض رع‪ ،‬وأمعنت النظر في‬
‫عالم‬ ‫ًّ‬
‫عينيه‪ ،‬وتواصلت معه ذهنيا‪ ،‬أخبرته أنها أبنة ملكان أتيا من ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتعقيدا‪ ،‬لهما قوة لم ُيعرف بها من قبل‪ ،‬وأن أبنتها‪،‬‬ ‫آخر‪ ،‬أكثر قوة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وتحتاج إلى املساعدة في بالد آشور ما بين‬ ‫حفيدت ُهما الوحيدة‪ُ ،‬محتجزة‬
‫ًّ‬
‫سحريا فيه‬ ‫وارا‬ ‫ُ‬
‫تحمل ِس ً‬ ‫النهرين لدى امللك شمش ي‪ .‬ونوهت أن أبنتها‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وس ِم َع عنها البشر أجمعين‪ ،‬إال َّانها ال تعرف كيف‬ ‫عرف َ‬ ‫قوة أكبر مما‬
‫ً‬
‫تستخدمه‪ .‬وأضافت‪(( :‬حرر الفتاة‪ِ ،‬واتخذها ملكة وزوجة‪ ،‬وأحصل‬
‫َ‬ ‫ْ ً َّ‬
‫بذلك على ُملكا ال َي َنب ِغي ِأل َح ٍد ِّمن َب ْع ِدك))‪ .‬تراجعت خطوة للوراء وهي‬
‫ترفع راحة يدها عن رأس اإلله رع‪ِ ،‬والتفتت إلى الغرب‪ ،‬فوجدت‬
‫ثوان معدودات قبل أن‬ ‫الشمس قد غاصت في الرمال‪ ،‬ولم تتبقى سوى ٍ‬
‫تفقد قدرتها السحرية‪ِ .‬التفت بوجهها‪ ،‬ودارت بعينيها تتأمل وجوه‬
‫ُ‬ ‫الكهنة األربعة لثوان معدودات‪ ،‬بدا َّ‬
‫كأنها تبحث عن ش يء ما غير مفهوم‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫فيه ذلك الش يء مما‬ ‫لهم‪ ،‬وث ُبتت عيناها في عيني إمحوتب‪ ،‬وقد ميزت ِ‬
‫جعلها تختاره‪ .‬فدنت منه حتى كادت تلتصق بصدره‪ ،‬ووضعت أطراف‬
‫أناملها على جبينه وهمست له‪(( :‬هذه التعويذات السحرية التي‬
‫السوار‪،‬وحدك ُيمكنه تحمل مسؤوليتها))‪ِ .‬انبثقت من راحة‬ ‫يحتاجها ِ‬
‫يدها طاقة خضراء سكنت في رأس إمحوتب الذي أغمض عينيه وقد‬
‫شديد في جبينه‪ِ .‬والتفتت الفتاة ُبركن عينها تنظر صوب‬ ‫ٍ‬ ‫بوخذ‬
‫ٍ‬ ‫شعر‬
‫تماما أسفل الرمال‪ ،‬والتفتت‬ ‫الشمس‪ ،‬فوجدتها على وشك أن تختفي ً‬
‫مرة أخرى تنظر في عين إله األرض رع نظرة أخيرة قبل أن تتحول إلى‬ ‫َّ‬

‫‪143‬‬
‫ً‬ ‫حمامة َّ‬
‫ذهبي ٍة وتشق الهواء طائرة بأندفاع شديد في ِاتجاه النهر‪ .‬في‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫فتحولت‬ ‫اللحظة التي وصلت فيها إلى الضفة كانت الشمس قد غابت‬
‫َ‬
‫بماء النهر وأختفت‪.‬‬
‫صغيرة من املاء ِاختلطت ِ‬
‫ٍ‬ ‫موجة‬
‫ٍ‬ ‫الحمامة إلى‬
‫ليلتها‪ ،‬رفض اإلله رع النقاش مع كهنته األربعة فيما حدث‪ ،‬وتوجه‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫هانئة طوال الليل‪ ،‬إذ شعر‬
‫بنومة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مباشرة إلى غرفته‪ ،‬إال َّأنه لم يحظى‬
‫لوقت طويل‪.‬‬
‫بوخذة في رأسه آملته ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الريح‪ ،‬التي َ‬
‫دفعت َّ‬ ‫غائما كثير ّ‬
‫بزغ صباح اليوم التالي ً‬ ‫َ‬
‫السحاب في‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ ُ ٌ‬ ‫َّ‬
‫السماء وجعلته يضطرب‪ ،‬ودوا رعد مخيف وأنار بر طوال الوقت‪.‬‬
‫ً‬
‫عندما ِإنتصف النهار غفى اإلله رع لدقائق محاوال إراحة رأسه من‬
‫ألم بها‪ .‬فرأى في منامه الحمامة الذهبية تهبط أمام‬‫األلم الشديد الذي َّ‬
‫عرشه وتتجسد في هيئة الفتاة البشرية بكامل جمالها َّ‬
‫األخاذ‪ ،‬إبتسمت‬
‫وذكرته بضرورة إنقاذ طفلتها‪ ،‬وتراجعت للخلف بضع‬ ‫َّ‬ ‫له في لطف‬
‫املخيف ونفثت نيراناً‬ ‫ُ‬
‫خطوات وأتخذت هيئة طائر العنقاء العمالق‬
‫ً‬
‫شديدة من حوله وهي تخبره بأن تأخره سوف يجلب الخراب في كل‬
‫مكان في األرض‪ .‬ثم أختفت‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫في مساء اليوم نفسه‪ ،‬إجتمع إله األرض بكهنته األربعة‪ ،‬تداول‬
‫معهم األمر ِمن كل جانب دونما إخفاء ش يء‪ ،‬كذلك فعل إمحوتب‬
‫َ‬
‫الذي أفصح عن رؤية راودته فقال‪(( :‬حلمت برمال الصحراء تتالطم‬
‫موجا من رمال سوداء ُتحطم َّ‬
‫البوابات‬ ‫يت ً‬ ‫حول أسوار طيبة‪ ،‬أ ُ‬
‫ر‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫واألبراج‪ ،‬ثم تدفقت الرمال من فوق األسوار وأغرقت املدينة ‪.)) ..‬‬

‫‪144‬‬
‫((رمال أسقطت‬‫ٌ‬ ‫قاطعه إله األرض رع وقد تجمدت مالمحة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وطفت ُجثث العامة والحراس في‬ ‫َ‬ ‫املسالت وحطمت املعابد‪،‬‬
‫الساحات))‪.‬‬ ‫َّ‬

‫بحيرة ممتزجة باإلستغراب‪ ،‬قال‪(( :‬لكن‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬


‫شاعرا‬ ‫تدخل َحنكليس‬
‫بعد مئات ومئات من األميال‪ ،‬وأسوار‬ ‫رمال الصحراء ثقيلة‪ ،‬بيد َّأنها َت ُ‬
‫َ‬
‫طيبة عالية للغاية ومنيعة‪ ،‬فلن تدخل الرمال من فوقها حتى لو حدث‬
‫َّ‬ ‫أضفت أنا‪ ،‬وكنت قد ُ‬ ‫ُ‬
‫أيت نفس الرؤية‪(( :‬في ظالم الليل‬ ‫ر‬ ‫ذلك))‪.‬‬
‫َّ‬
‫ستتدفق الرمال السوداء من فوق هذه األسوار‪ .‬سوف يحدث األمر‬
‫ُ‬ ‫حتما‪ ،‬لقد ُ‬
‫أيت ُجثث املوتى الغارقة في الرمال))‪ .‬لم يكن َحنكليس‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫ُ ُ‬ ‫ً‬
‫ُمدركا ما أدركه إمحوتب واإلله رع‪ ،‬حتى أنا كاي تاي‪ ،‬لم أكن أدرك‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫ماهية الفتاة‪ ،‬إال َّأنني كنت عاملا أن ش ًيء ما نواجهه أكبر من السحر‬
‫الذي عرفناه والذي توارثناه وطورنا فيه‪ .‬إقترح خا إم ويست‪(( :‬يجب أن‬
‫َّ‬ ‫الحراس ُّ‬ ‫ُنخبرهم‪ ،‬العامة‪ُ ،‬‬
‫والتجار‪ ،‬نقول لهم أال يبقوا في املدينة))‪.‬‬ ‫ِ‬
‫صدق أنت‬ ‫تماما كما لم ُت ّ‬
‫ص ِّدقوا يا خا إم ويست‪ً ،‬‬ ‫قلت له‪(( :‬لن ُي َ‬
‫ِ‬
‫بنبرة أوحت أن ما يقوله ال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وكما لم يصدق حنكليس))‪ .‬قال إمحوتب ٍ‬
‫بدل هذا مصايرهم أو مصيرنا))‪ِ .‬والتفت ينظر إلى‬ ‫حل سواه‪(( :‬لن ُي ّ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ضيفا‪ُ :‬‬ ‫وتنهد ُم ً‬ ‫اإلله رع َّ‬
‫((البد وأن ننقذ الفتاة))‪.‬‬
‫الحق ليلتها‪ِ ،‬عندما ِالتقى إمحوتب مع َحنكليس وخا إم‬‫وقت ٍ‬‫في ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ويست وكنت رابعهم‪ ،‬هز رأسه وقال‪(( :‬األشياء التي نراها في األحالم‪،‬‬
‫ً‬ ‫حقيقية‪ ،‬ولم َّ‬
‫تتغير))‪ .‬علق خا إم ويست ُمتسا ِئال‪(( :‬أهي إشارات‬

‫‪145‬‬
‫أجاب إمحوتب بكياسة‪ (( :‬ال أدري))‪.‬‬ ‫اآللهة؟!))‪َ .‬‬

‫بخوف مفاجيء‪ ،‬وقال بعبوس‪(( :‬ما الذي‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬


‫وشعر‬ ‫إرتاب َحنكليس‬
‫الح اإلحساس بالقلق في‬‫أيضا؟))‪َ .‬‬ ‫نقاومه أو نواجهه؟ وهل سنغرق ً‬
‫ً‬
‫قائال‪َّ :‬‬
‫((إنه اختبار ِمن مجلس آلهة‬ ‫تنهد وهو َي ُرمقه‬
‫عيني إمحوتب الذي َّ‬
‫حاجبيه‬ ‫أن إمحوتب ُيخفي ً‬
‫شيئا ما‪ ،‬فقضب‬ ‫الكون))‪َ .‬‬
‫أدرك َحنكليس ّ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫جميعا؟))‪.‬‬ ‫وسأل ُّ‬
‫بتوتر‪(( :‬هل سنموت‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بنبرة أوحت كأن َّ‬ ‫َ‬
‫حلمت‬ ‫كلمة تؤ ِمله‪(( :‬لقد‬
‫كل ٍ‬ ‫‪,‬أجاب إمحوتب ٍ‬
‫جائت قبل يوم‪ ،‬لن تترك ً‬ ‫َ‬
‫شيئا خلفها إذا لم نستطع‬ ‫بالفتاة التي‬
‫إلي وإلى خا إم ويست وهو‬ ‫ُمساعدة إبنتها‪ ،‬ستعود غاضبة))‪ .‬وأشار ّ‬
‫ُيضيف‪(( :‬أنت وأخوك كنتما ميتين عند قدميها))‪ِ ،‬والتف ينظر إلى‬
‫ُ‬
‫َحنكليس وقال‪(( :‬وكانت تسلخ وجهك بنير ٍان حمراء اللهب))‪ ،‬وترجل‬
‫((إال أننا سنحظى بما لم يحظى به ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُم ً‬
‫أحد قبلنا‬ ‫غادرا املكان وهو يقول‪:‬‬
‫إذا ما أستطعنا تحرير الفتاة))‪.‬‬
‫لخمسة َّأي ٍام ُمتتالية‪ ،‬رأى اإلله رع كوابيس ُمختلفة جميعها‬
‫أشارت إلى غرق املدينة وخرابها‪ ،‬بيد َّأنه سمع داخل رأسه همس الفتاة‬
‫يوما بعد يوم تدعوه لتحريرها‪ ،‬كذلك سمع همس‬ ‫سيمورامات ً‬
‫حسه على اإلسراع في التحرك صوب مملكة آشور‬ ‫الحمامة الذهبية ُت َّ‬
‫ُ‬
‫وحاكمها امللك شمش ي‪ .‬لم يكن إله األرض وحده من يرى الكوابيس‬
‫بوضوح‬
‫ٍ‬ ‫ويسمع الهمس‪ ،‬حتى نحن الكهنة رأيناها وسمعنا الهمس ذاته‬
‫تام‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ُ‬
‫مبكر من صباح اليوم السادس‪ ،‬حضر غداف أسود‬ ‫ٍ‬ ‫وقت‬
‫في ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫قادما من الشرق‪ ،‬حيث مملكة آشور‪ ،‬حامال بين مخالبه دعوة ُح ِد َد‬ ‫ً‬
‫فيها موعد زفاف إبن اإلله شمش ي على الفتاة‪ ،‬مما وضع اإلله رع‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫سريع في شأن‬ ‫ٍ‬ ‫وكهنته في موقف صعب‪ ،‬إذ توجب عليهم ِإتخاذ قر ٍار‬
‫الفتاة‪ .‬بعد مشاورات مع الكهنة‪ ،‬قال‪(( :‬إن قتال شمش ي لهو ٌ‬
‫أمر‬
‫خيارا آخر))‪ .‬من ثم إتخذ قر ًارا بأن‬ ‫النذر ال تدع لنا ً‬ ‫أكرهه‪َّ ،‬إال أن ُ‬
‫نتوجه إلى بالد آشور وننقذ الفتاة مهما كلفنا األمر‪.‬‬
‫في مساء اليوم ذاته‪ ،‬ومع ظهور القمر في السماء‪ ،‬إخترقت عجلة‬
‫حربية مصنوعة من الفوالذ شوارع املدينة يتبعها أربعة عجالت حربية‬
‫َ‬
‫أخرى يحرسونها‪ .‬تباينت ردود أفعال العامة من الناس لدى رؤيتهم‬
‫العجلة الفوالذية تخترق الشوارع الرئيسية في املدينة وتتجه صوب‬
‫ْ‬
‫طريق اإلله‪ ،‬إذ هلل بعضهم وأطلق آخرين صافرات التشجيع‬
‫والترحيب‪ ،‬والبعض القوا الورود والزهور على الرتل وهو يمر‪ ،‬وملعت‬
‫في عين الجميع نظرة تدل على الفخر‪ .‬لدى وصول العجلة الفوالذية إلى‬
‫قاعة العرش الخارجية ترجل منها ِايورخي قائد جيوش اإلله وحارس‬
‫العمر‪ ،‬لكنه شديد‬ ‫َ‬
‫يتجاوز الثالثين من ُ‬ ‫ً‬
‫وسيما لم‬ ‫القصر اإللهي‪ً ،‬‬
‫شابا‬
‫رشيقا ً‬‫الدعابة‪ً ،‬‬ ‫س ُّ‬ ‫َّ‬
‫يتحلى ِبح ّ‬
‫نحيفا‬ ‫ِ‬ ‫الوقار كرجل في الستين‪ ،‬صارم ال‬
‫أسود طويل ُ‬‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫العنق‪،‬‬ ‫جلديا‬ ‫حذاء‬ ‫رماديتان‪،‬ارتدى‬ ‫كسكين‪ ،‬له عينان‬‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وسرواال أسود من الصوف‪ ،‬وقفازين أسودين من فرو الخلد‪ ،‬وسترة‬
‫بحلقات فوالذية‪ .‬ما إن إستقر ِايورخي في‬ ‫ٍ‬ ‫جلدية سوداء ُمطعمة‬
‫ً‬
‫شارحا األمر‬ ‫مقعده‪ ،‬شرع إمحوتب في التحدث بصوت امللك‪،‬‬
‫‪147‬‬
‫بتركيز شديد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بتفاصيله للقائد الذي أنصت ُله‬
‫ضيق ِايورخي عينيه وقال‪(( :‬ال‬ ‫عندما فرغ إمحوتب من الحديث‪َّ ،‬‬
‫َّ ُ ّ ٌ‬
‫أمر مثل هذا لهو ش ٌيء‬
‫تلهف للقتال‪ ،‬وأن مرافقتكما في ٍ‬ ‫أنكر أنني م ِ‬
‫ً‬
‫يروقني‪ ،‬ولكن ‪ .))...‬صمت ِايورخي‪ ،‬ففهم إمحوتب أن شيئا ما يدور في‬
‫ذهنه يخش ى أن يبوح به‪ ،‬فتحدث إليه مرة أخرى بصوت اإلله‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫((ال ش يء ُلتخفيه‪ ،‬قل ما عندك))‪.‬‬
‫((إنني عضو في مجلس اإلله مذ توليت قيادة‬ ‫قال ايورخي‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الجيوش‪ ،‬وعلى الرغم أنني لست من دماء ملكية إال أنني حظيت بمكانة‬
‫ً‬
‫واضحا‬ ‫ألحد من قبلي أن حظى بها‪ ،‬لذا توجب على أن اكون‬ ‫لم يسبق ٍ‬
‫وصريحا على قدر هذه املسؤولية))‪ ،‬ثم وجه بصره إلى اإلله رع وأضاف‪:‬‬ ‫ً‬
‫كبير عليكم‪ ،‬إن شمش ي‬ ‫خطر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫((جاللة اإلله‪ ،‬مرافقتكم لي فيها‬
‫جيشا ً‬ ‫ن ً‬
‫كبيرا وسحرة ذائعوا‬ ‫وجيوشه ليسو مجرد رعاه‪ ،‬إنهم يملكو‬
‫ّ‬ ‫الصيت))‪ ،‬ورفع إصبعه ُم ّ‬
‫ومحذ ًرا‪(( :‬غير أنهم يتحصنون في‬ ‫ِ‬ ‫ند ًدا‬‫ِ‬
‫نينوي))‪.‬‬
‫سأله َحنكليس‪(( :‬وماذا في نينوي؟))‪.‬‬
‫بصوت إرتفع‬ ‫ً‬
‫شارحا‬ ‫التفت إليه ايورخي وضيق عينيه ُم َّ‬
‫جد ًدا وقال‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫قليال َّ‬‫ً‬
‫عما كان يتحدث به من قبل وهو يشير بأصابع يده التي أخذت‬
‫هيئة مخالب‪(( :‬نينوى ‪ ..‬مأوى األسود‪ ،‬مدينة الدماء‪ ،‬ال تفارقها‬
‫ََ‬ ‫الفرائس‪ ،‬ال ينقطع فيها صوت ّ‬
‫البكر‪ ،‬خيلها‬ ‫السياط وصوت قعقعة‬
‫تخب ومركباتها تثب‪ ،‬فرسانها آلفوا لهب السيف وبريق الرمح‪ ،‬ما‬ ‫ّ‬

‫‪148‬‬
‫َّ‬
‫دخلها جيش إال وأضحى كومة من الجيف))‪ .‬ومر بعينيه يتطلع في وجوه‬
‫خيل‬‫واحدا تلو آخر وأضاف‪(( :‬لن يكون األمر سهل كما ُي َّ‬ ‫ً‬ ‫الجميع‬
‫ُ ً‬
‫للبعض‪ ،‬فدعوني أذهب بدال منكم))‪.‬‬
‫َّ‬
‫قاطعة إمحوتب بيأس‪(( :‬الفتاة لن تبرح مكانها إال برفقة اإلله‪،‬‬
‫ونحن لن نتركه بمفرده ًّأيا كان ما ينتظرنا وراء النهرين))‪ .‬تدخل خا إم‬ ‫ُ‬
‫ضيفا‪(( :‬بيد َّأنك في حاجتنا ملواجهة سحرة شمش ي))‪.‬‬ ‫ويست ُم ً‬
‫قال ِايورخي‪(( :‬إذن‪ ،‬فليكن أمر الفتاة ًّ‬
‫سريا‪ ،‬وال يخرج من بيننا‪،‬‬
‫ُ‬
‫أخش ى أن يتناقل الجنود الحديث فيما بينهم بطريقة تقلل من همتهم))‪.‬‬
‫سأله َحنكليس‪(( :‬كم من جنود الجيش سترافقنا؟ ألف! إثنين! أم‬
‫أجاب ِايورخي وقد ضيق عينيه‪(( :‬مائة فقط))‪ ،‬وردد‬ ‫َ‬ ‫َّأنها ثالثة!))‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َحنكليس من وراءه ُم ً‬
‫حتدا وقد ظهر ذلك في مالمح وجهه‪(( :‬مائة‬
‫فقط!!))‪.‬‬
‫ٌ‬
‫قال ِايورخي‪(( :‬نعم ‪ ..‬مائة فقط‪ ،‬وليسوا من جنودنا‪ ،‬بل من‬
‫شعوب الشردانا))‪.‬‬
‫شديد ر ً‬
‫اغبا في ِفهم ما‬ ‫ٍ‬ ‫بأمعان‬ ‫ِالتفت اإلله رع إلى ِايورخي ً‬
‫ناظرا إليه‬
‫ٍ‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫ستغربا أختياره جنود الشردانا‪ ،‬إذ أنهم قبائل سكنت‬ ‫يدور في خلده ُوم‬
‫ً َّ‬
‫سابقا‪ ،‬إال أن ِايورخي إستطاع‬ ‫أعالي البحار‪ ،‬وشاركوا في غزو كيميت‬
‫هزيمتهم وضمهم لصفوف جيوش اإلله‪.‬‬
‫((مقاتلي الشردانا‪ ،‬أنحف وأخف‬ ‫فسرا‪ُ :‬‬
‫إبتسم إمحوتب وقال ُم ً‬
‫ِ‬

‫‪149‬‬
‫َّ‬ ‫وأسرع‪ ،‬مما يجعل الخصم ُي ّقلل من ّ‬
‫شأنهم‪ ،‬إال أن رشاقتهم العالية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جيش‬ ‫ُ‬
‫وكفائتهم البدنية تجعل مقاتل واحد منهم بالعشرات من أي‬
‫ٍ‬
‫آخر))‪ .‬بادله ِايورخي ذات اإلبتسامة وهو يقول‪(( :‬بيد أن العدد القليل‬
‫عاديا للغاية‪ ،‬لن ُيلفت إنتباه قادة جيوش‬ ‫ً‬ ‫سيجعل األمر َيبدو‬
‫شمش ي))‪.‬‬
‫((حدد للزفاف أن‬‫موجها حديثه للقائد ِايورخي‪ُ :‬‬‫ً‬ ‫قال إمحوتب‬
‫يكون ليلة إكتمال القمر القادمة‪ ،‬أي بعد ثالث أسابيع من اآلن‪ ،‬لذا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫جميعا أن نتحرك بأسرع ما في املستطاع))‪.‬‬ ‫علينا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫تفويضا كامال‬ ‫((لديك‬ ‫موجها حديثه إلى إمحوتب‪:‬‬ ‫تدخل اإلله رع‬
‫َ‬
‫ضرورية))‪ِ .‬واعتلت تكشيرة وجه َحنكليس‬
‫َّ‬ ‫ترتيبات‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫أي‬
‫وسلطة بإجراء ِ‬
‫ُّ‬
‫لحظات ليستوعب كلمات اإلله‪ ،‬لكن‬ ‫ٍ‬ ‫سمع هذا‪ ،‬واستغر َق‬ ‫َ‬ ‫عندما‬
‫َّ‬
‫بإبتسامة ُمصطنعة‬
‫ٍ‬ ‫أخيرا َ‬
‫غادر الظالم عينيه وقال‬ ‫جاء الفهم ً‬ ‫عندما َ‬
‫وهو يوميء برأسه‪(( :‬إمحوتب يستحق هذا))‪.‬‬
‫شديد‪(( :‬فليكن يا جاللة‬
‫ٍ‬ ‫بإمتنان‬ ‫عتدل إمحوتب في جلسته وقال‬‫ِا َ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫بنبرة ت ِح َّسه على اإلسراع في‬
‫اإلله))‪ِ .‬والتفت للقائد ِايورخي وأضاف ٍ‬
‫الطريق إلى ما بين النهرين ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫شاق وطويل‪،‬‬ ‫أذكرك بأن‬
‫تجهيزاته‪(( :‬دعني ِ‬
‫ووقتنا قصير))‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫برشاقة تامة وقال وهو يتحرك‪(( :‬سأكون عليه ومن‬ ‫ٍ‬ ‫نهض ِايورخي‬
‫خلفي جنود الشردانا قبل مطلع َفجر الليلة القادمة‪ ،‬وأنا على ثقة َّ‬
‫بأننا‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫جميعا سنعود ساملين ُمصطحبين الفتاة))‪.‬‬
‫‪150‬‬
۞۞۞

151
‫‪11‬‬
‫لثالث أسابيع كاملة‪ ،‬مشينا في موكبنا قاطعين الطريق في إتجاه‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الشرق بال توقف إال قليال‪ ،‬خمسون عجلة حربية مصنوعة من‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫حملت إثنان من أمهر جنود الشردانا‪ ،‬ك ِ ّل‬ ‫واحدة منها َّ‬ ‫ٍ‬ ‫الصلب‪ّ ،‬‬
‫كل‬‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ َ‬ ‫ُ َ َّ ٌ‬
‫ورمح وخنجر‬ ‫السالح على أكمل وجه‪ ،‬سيف‬ ‫واحد منهم مدجج ِب ِ‬ ‫ٍ‬
‫وصدرية واقية‪ ،‬جميعها أسلحة فوالذية مصنوعة في قلعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫حربية مصنوعة من الفوالذ‪ ،‬إثنين منهما‬ ‫ٍ‬ ‫عجالت‬
‫ٍ‬ ‫تتقدمهم ثالث‬
‫وبقية الكهنة‪ ،‬والثالثة حملت إله األرض برفقة قائد الجيوش‬ ‫حملتني ّ‬
‫ِايورخي‪.‬‬
‫في خمسة َّأيام‪ ،‬مررنا عبر متاهات الصخور الشمالية فيما بين‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وأخيرا بعد‬ ‫البحرين‪ ،‬وفي عشرة أخر عبرنا األراض ي الباردة فيما بعدها‬
‫خمسة َّأي ٍام إضافية إجتزنا مدينتي نمرود وخورسباد‪ ،‬ثم الحت في األفق‬
‫مدينة نينوي املعروفة بسيدة املمالك‪ ،‬الحت أسوارها املزدوجة‬
‫الضخمة والخندق املائي املحيط بها واللذان صنعا منها مدينة حصينة‬
‫لدى إقترابهم أكثر بدت لهم هياكلها املهيبة وجنائنها‬ ‫يصعب ِاقتحامها‪َّ .‬‬
‫ّ‬
‫املعلقة ومعابدها الهرمية وقصورها شاهقة اإلرتفاع‪ .‬في الساحات‬
‫بالدخان‬ ‫ملب ًدا ُّ‬ ‫املحيطة بقصر اإلله شمش ي‪ ،‬كان هواء ُّ‬
‫الصبح َّ‬
‫َ‬ ‫الطهي املنتشرة في ّ‬ ‫َّ‬
‫جلس أربعة آالف‬ ‫كل مكان‪ ،‬إذ‬
‫ِ‬ ‫املتصاعد من نيران‬

‫‪152‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ليتناولوا‬ ‫مقاتل ممن أسند إليهم مهمة حماية القصر ليلة الزفاف‬
‫طعام اإلفطار تحت رايات قائدهم دافوس ي‪.‬‬
‫كان ُيسمح لكل مدعو بالدخول إلى القصر اإللهي برفقة كهنته‬
‫ومائة فقط من الحراس‪ ،‬وهو ما علم به ايورخي ُم ً‬ ‫ٌ‬
‫سبقا إذ إتضح َّأنها‬ ‫ِ‬
‫عتاد عليها في مملكة آشور وبخاصة اإلله شمش ي‪،‬‬ ‫مراسم ُمتعارف ُوم ٌ‬
‫وما دفعه ألختيار مائة من أفضل ُمقاتلي الشردانا‪.‬‬
‫أمام بوابات القصر الخارجية‪ ،‬أسفل األسوار شاهقة اإلرتفاع‪،‬‬
‫لدقائق معدودة‬
‫ٍ‬ ‫شديدة الحراسة‪ ،‬املزدحة بحاملي النشابات‪ ،‬توقفنا‬
‫في إنتظار فتح البوابات وتمهيد الطريق‪.‬‬
‫ُ‬
‫يتطلع في الساحات‬ ‫َّ‬
‫وتجول‬ ‫ِإستغل إمحوتب دقائق اإلنتظار‬
‫ً‬ ‫املحيطة بالقصر‪ ،‬الحظ أن موكبنا هو ُ‬
‫ألقل عددا على اإلطالق مقارنة‬
‫بمواكب كثيرة أتت لحضور حفل الزفاف‪َّ ،‬إال أن أكثر املواكب ً‬
‫عددا‬
‫والذي لفت إنتباهه كان موكب امللك حمورابي إله بابل وأقاليم مجاورة‬
‫يقرب ِمن خمسة اآلف ُمقاتل جميعهم من‬ ‫لها‪ ،‬والذي أتى برفقة ما ُ‬
‫ٌ‬
‫صيت ذائع في‬ ‫فار ُع القامة قو ُّي البنية‪ ،‬لهم‬ ‫ٌ‬
‫جنود أكاديا‪ ،‬شباب ِ‬
‫إستخدام السياط الطويلة لتشتيت العدو ثم طعنه في العنق بالرماح‬
‫حرب وحشية تعتمد‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الطويلة‪ .‬عرفوا لدى املمالك املجاورة بأنهم آلة ٍ‬
‫ّ‬
‫معركة خاضوها لحماية‬
‫ٍ‬ ‫سياسة بث الرعب في قلوب خصومهم‪ .‬في آخر‬
‫مدينتهم‪ ،‬قام امللك حمورابي ببناء عدة أبراج عند بوابة قلعته‪ ،‬أطلق‬
‫عليها ُبرج األلم‪ُ ،‬وبرج األرامل‪ُ ،‬وبرج الصراخ‪ُ ،‬وبرج اللصوص‪ُ ،‬وبرج‬

‫‪153‬‬
‫محرقة اإلله‪ .‬وسلخ جلد كل الزعماء الذين تمردوا ضده وكس ى األبراج‬
‫بجلودهم‪ ،‬سجن البعض داخل ُبرج‪ ،‬ووضع البعض اآلخر على خوازيق‬
‫حول ُبرج‪ ،‬كما بتر أطراف الضباط‪ ،‬وأحرق جميع األسرى أمام ُبرج‪.‬‬
‫ً‬ ‫ظر فيهم وما يملكونه من ُم َّ‬ ‫أمعن إمحوتب َّ‬
‫الن َ‬
‫عدات‪ ،‬وكان عاملا أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شديدا قد نشب بين امللك شمش ي إله آشور وامللك حمورابي إله‬ ‫خالفا‬
‫بابل قبل عدة شهور ِعندما طلب األخير إمدادات عسكرية ولم يجد‬
‫إجابة‪ ،‬فغضب بشدة وأسر غضبه في نفسه لظروف الحرب التي كان‬
‫يخوضها‪ ،‬بيد أن شمش ي أدرك خطأه ً‬
‫الحقا فأرسل إليه هدية َّ‬
‫مكونة‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ِمن ثالثين وزنة ذهب‪ ،‬وثمانمائة وزنة من الفضة‪ُ ،‬مضاف إليها أحجارا‬
‫كريمة‪ ،‬وكل انواع كنوز مملكة آشور النفيسة‪َّ ،‬إال أن حمورابي َ‬
‫أعاد‬
‫افضا أياها في ذلك الوقت‪ .‬وعلى الرغم أن‬ ‫الحراس ر ً‬ ‫الهدية مع ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫نفسه أن‬
‫ِ‬ ‫العالقات بين اململكتين ظلت قائمة‪ ،‬إال أن إمحوتب أيقن في‬
‫املكون من خمسة أالف ُمقاتل من األكاديين لم يأتي‬ ‫هذه املوكب َّ‬
‫حسابات قديمة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫لحماية ملكهم فقط‪َّ ،‬إنما لتصفية‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫نتظر أمام بوابات‬
‫لدى عودته ِوإنضمامة إلى صفوف املوكب امل ِ‬
‫كنت إلى جوار عجلة اإلله الحربية‬ ‫قصر امللك شمش ي املزدوجة‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫بمرافقة خا إم ويست َ‬
‫وحنكليس عندما أقترب ِايورخي مترجال في‬
‫اللحظة التي عاد فيها إمحوتب وتطلع في وجوهنا بوجوم قبل أن يهمس‬
‫ستنهب ‪ ..‬أبوابها ُ‬ ‫ً‬
‫قائال‪(( :‬إن نينوى ُ‬
‫ستفتح ألعدائها‬ ‫ثقة ُم ٍ‬
‫فرطة‬ ‫ب ٍ‬
‫ّ‬
‫وحراسها سيهربون الليلة))‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫بإستغراب‪ ،‬إنتبه الجميع لحديث إمحوتب‪ ،‬الذي أضاف‪:‬‬
‫صبح قفرا))‪ .‬إقترب ضابط ممن يحرسون‬ ‫((ستغرق في الدماء‪َ ،‬س ُت ُ‬ ‫َ‬
‫البوابات وقال‪(( :‬يمكنكم العبور اآلن))‪.‬‬
‫ألوان زرقاء‬ ‫مشيدة بالحجارة ذات‬ ‫اج َّ‬ ‫وراء البوابات‪ ،‬الحت أبر ٌ‬
‫ٍ‬
‫ستائر حريرية مشرطة بها‬ ‫ٌ‬ ‫ورمادية وخضراء‪ ،‬معلق فوقها وفيما بينها‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬
‫ذهب وفضة تحمل ذات األلوان‪.‬‬ ‫خيوط من ٍ‬
‫ّ‬
‫ألي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫على األبراج وحولها وقف الفرسان مرتدين دروعهم متأهبين ِ‬
‫ترسا ُم ً‬
‫قيدا‬ ‫ش يء طاريء‪ .‬في كل زاوية يمكنك أن ترى ً‬
‫أسدا مف ً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حارس مسؤول عن خدمته‪ ،‬كما أن تماثيل‬ ‫ٌ‬ ‫بالسالسل وإلى جواره‬
‫ُ‬
‫األسود بحجمها الحقيقي منتشرة في األنحاء‪ .‬في املمرات املفضية إلى‬
‫سيقام عليها حفل الزفاف‪،‬‬ ‫ساحة القصر اإللهي الرئيسية والتي ُ‬
‫ٌ‬
‫ِإنتشرت الفتيات الجميالت تحملن الورود وإلى جوار كل واحدة منهن‬
‫التفاح واملانجو وقواني‬ ‫مائدة ُملئت عن بكرة أبيها بالفواكة وعصائر ُّ‬
‫النبيذ العتيقة‪ .‬عند بوابة القصر اإللهي الداخلية‪ ،‬ترجل اإلله رع نحو‬ ‫َّ‬
‫شديدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بحفاوة‬
‫ٍ‬ ‫القصر حيث وقف امللك شمش ي ووسحرته يستقبلونه‬
‫وحنكليس‪ ،‬بينما تأخر‬ ‫ترجلت من خلفه برفقة خا إم ويست َ‬
‫خطوات متثاقلة وهو يتأمل الغيوم املتراكمة في السماء‬
‫ٍ‬ ‫إمحوتب بضع‬
‫الري ُ‬
‫اح‬ ‫ويتطلع في األشجار وتأثير حركة الهواء عليها بعدما إشتدت َّ‬
‫ُ‬
‫تباطئت ألجله‪ ،‬عندما‬ ‫عما كانت عليه قبل ساعات‪.‬‬ ‫ملحوظ َّ‬ ‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ َّ ُ ْ َ‬
‫حظ‬‫صوت أوحت إلي أنه ممتن قال‪(( :‬أي سوء ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لحق ّبي همس بنبرة‬

‫‪155‬‬
‫ينتظرك يا شمش ي!))‪ ،‬نظرت إليه ولم أفهم ما يعنيه‪ ،‬فأضاف‪َّ :‬‬
‫((ثمة‬
‫عاصفة شديدة على وشك أن تضرب املدينة‪ ،‬ستكون هناك‬
‫أضطرابات في األجواء يصاحبها رعد وبرق وأمطار غزيرة قبل حلول‬
‫املساء))‪.‬‬
‫كان القائد ِايورخي قد ِإستغل إستراحات الطريق املتقطعة ودقائق‬
‫سبقا مع جنود‬‫التوقف أمام بوابات القصر في وضع وتوضيح ُخطته ُم ً‬
‫ْ‬
‫مجموعة منهم‪ ،‬إذ طلب منهم اإلنتباه‬
‫ٍ‬ ‫الشردانا والتأكيد على أدوار كل‬
‫طوال الوقت‪ ،‬والتواجد قرب بوابة القصر الداخلية القريبة من قاعة‬
‫أي شخص من‬ ‫عرش شمش ي الرئيسية وأكد عليهم بعدم التحدث إلى ّ‬
‫الغرباء‪َّ ،‬أما إمحوتب فقد جمع معلومات كثيرة عن طبيعة القصر‬
‫واقفا يتبادل أطراف الحديث مع بعض كهنة‬ ‫وممراته‪ ،‬بيد َّأنه كان ً‬
‫نينوي وآخرين من مملكة بابل عندما خرج أحد األشخاص من واحدة‬
‫بشكل ُمفرط‪ .‬إقترب من‬ ‫من بوابات القاعة والحظ تمجيد ُ‬
‫الحراس له‬
‫ٍ‬
‫أحد الحراس وأبتسم في وجهه وهو ُيعطيه ُجعر ًانا ذهب ًيا على سبيل‬
‫املحبة‪ ،‬عند رفض الحارس أخذ الهدية قال إمحوتب‪(( :‬لقد أحضرنا‬
‫كثير من الحراس حصلوا عليها))‪ .‬فأخذ‬ ‫املئات من كيميت كهدايا‪ٌ ،‬‬
‫شديدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الحارس الجعران ونظر إليه بحفاوة‬
‫في هذه اللحظة استغل إمحوتب إنبهار الحارس وتشتت ذهنه‬
‫وسأله عن الرجل‪.‬‬
‫أخبره الحارس أ َّنه ماحنتوش الرجل األكثر ً‬
‫علما بالقصر اإللهي‬

‫‪156‬‬
‫وخرائط وكنوز نينيوي‪ ،‬فهو حامل أسرار امللك واململكة واشار إلى‬
‫ً‬
‫قائال‪َّ :‬‬
‫((إنها الغرفة األهم في القصر بأكملة‪،‬‬ ‫الغرفة الذي خرج منها‬
‫غرفة ماحنتوش))‪.‬‬
‫خطوات مبتعدا عنه قبل أن‬
‫ٍ‬ ‫هز إمحوتب رأسه للحارس وتراجع‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫شديد ُمستغال خفته وجسده‬‫ٍ‬ ‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫يتخفى وسط الحشود‪ ،‬ثم تسلل‬
‫غفلة من الحراس‪ ،‬دفع‬
‫الضئيل حتى وصل إلى غرفة ماحنتوش وفي ٍ‬
‫بابها ودلف إليها في ملح البصر‪.‬‬
‫كانت الغرفة شاسعة املساحة‪ ،‬بها مكتبة عظيمة لم يسبق ألحد‬
‫أن رأى أو سمع عن وجود مثلها‪ ،‬تتوسطها مائدة خشبية عمالقة رصت‬
‫عليها عشرات الكتب موغلة القدم‪ ،‬وبعض لفائف الورق بدت من‬
‫الوهلة األولى َّأنها خرائط‪ .‬تتوسط املائدة بعض الشموع داخل قناديل‬
‫زجاجية ُتض يء املكان فكأنه ً‬
‫نهارا‪.‬‬
‫تنقل بعينيه بين رفوف الكتب ولفائف الورق‪ ،‬حتى سقطت عينه‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫رف فيها خرائط نينوي القديمة أسفله رف آخر أشير له بخرائط‬ ‫على ٍ‬
‫بواحدة بعد واحدة بعد واحدة‪ ،‬وبدا‬‫ٍ‬ ‫نينوي الحديثة‪ .‬مد يده‪ ،‬أمسك‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أنه يبحث عن ش يء ما بعينه ولم يجده‪ ،‬إال أنه ً‬
‫أخيرا تهللت مالمحه‬
‫واحدة بعينها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بعدما فتح‬
‫ٌ‬
‫كتاب موغل‬ ‫بتعدا عن رف الخرائط فوقعت عينيه على‬ ‫التف ُم ً‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫القدم‪ ،‬كتب عليه أسرار السحرة وغابة املوتى‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫أمسك بالكتاب في اللحظة ذاتها التي سمع فيها صوت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شديد وتوارى خلف‬‫ٍ‬ ‫بحرص‬
‫ٍ‬ ‫تقترب من باب الغرفة‪ .‬إنتفض مهروال‬
‫الباب‪ .‬دلف ماحنتوش إلى الغرفة‪ ،‬وفي اللحظة التي وطأت اقدامه‬
‫شيئا ما على غير ما ُيرام‪ ،‬فتوقف بمنتصف الغرفة‬ ‫أرضيتها شعر أن ً‬ ‫َّ‬
‫وأخذ يتفقد الكتب عليها والحظ أن خريطة بعينها في غير مكانها‪ ،‬وقبل‬
‫عال للغاية‪ ،‬شقت‬ ‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫أن يلتفت للخلف صاحت إمرأة في الخارج‬
‫صرختها عنان السماء‪ ،‬فهرع نحو النافذة ونظر منها‪ ،‬كان أحد ُ‬
‫الحراس‬
‫ممن يعلقون الزينة فوق أبراج ساحة القصر قد سقط ً‬
‫أرضا وأصيب‪،‬‬
‫فصرخت املرأة لرؤيته يسقط إلى جوارها‪.‬‬
‫شديد‬
‫ٍ‬ ‫بهدوء‬
‫ٍ‬ ‫إستغل إمحوتب إنشغال ماحنتوش وغادر الغرفة‬
‫للغاية وعاد إلى قاعة العرش مرة أخرى وأندس وسط الوفود والزحام‪.‬‬
‫وقت األصيل‪ِ ،‬امتلئت ساحات القصر الخارجية بالزوار العاديين‬
‫والحراس‪ِ ،‬وامتلئت قاعة عرش امللك شمش ي بامللوك والكهنة والسحرة‬
‫ٌ‬
‫حتفاالت صاخبة‪ ،‬فدقات الطبول واألبواق لم‬ ‫ُ‬
‫أصوات ِا‬ ‫ورافق ذلك‬
‫تتوقف منذ الصباح‪ .‬في الوقت ذاته إشتدت الرياح وصاحبتها أتربة‬
‫ورمال‪ ،‬وبدت في وجه إمحوتب نظرات إمتنان لآللهة عندما دوى صوت‬
‫وهم بالتحرك صوب‬ ‫الرعد وتردد البرق في السماء‪ِ ،‬والتفت من فوره ّ‬
‫لثوان معدودات‬ ‫القائد ايورخي الذي كان ً‬
‫واقفا قرب مقعد اإلله رع‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫تبادال أطراف الحديث فيما بينهما بالهمس‪ِ .‬إكتفى ِايورخي بهز رأسه‬
‫ً‬
‫موافقا على ما يمليه عليه إمحوتب‪ ،‬وعند نهاية الحديث‬ ‫طوال الوقت‬

‫‪158‬‬
‫ً‬
‫قاصدا دافوس ي كبير ُحراس امللك شمش ي وقائد‬ ‫ترجل وسط الزحام‬
‫قريبة من العرش‪.‬‬
‫مسافة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫جيوشة الذي كان يقف على‬
‫عبر له عن رغبة اإلله رع في لقاء األميرة سيمورامات ملباركتها‬
‫وأعطائها هدية نفيسة جلبها ألجلها من كيميت‪ .‬هز الحارس رأسه‬
‫بأمتنان وقد الحت في مالمحة نظرات أوحت أنه مقتنع بما سمعه‪ ،‬ودنا‬
‫من سيده شمش ي وهمس له بما لديه‪ .‬تطلع ِايورخي الواقف على‬
‫قريبة من العرش في وجه امللك شمش ي وحارسه دافوس ي‬ ‫ٍ‬ ‫مسافة‬
‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫وكذلك فعل إمحوتب الواقف بعيدا‪ ،‬وأستشفا اإلثنين من ُّ‬
‫تغير‬
‫ُ‬ ‫قسمات وجه امللك َّأنه ُم ٌ‬
‫بصدر رحب‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫رحب بما أقترح عليه‬
‫لدى عودة الحارس وأخبار ِايورخي بموافقة امللك على طلبه‪ ،‬ترجل‬
‫صغيرة َّزينت وجهه‬
‫ٍ‬ ‫بتسامة‬
‫ٍ‬ ‫هادئة ِوا‬
‫ٍ‬ ‫بخطوات‬
‫ٍ‬ ‫األخير صوب إمحوتب‬
‫وهو يقول بكياسة‪َ :‬‬
‫((لك ما أردت))‪ّ .‬رد إمحوتب‪(( :‬أخبر الشردانا أن‬
‫يتأهبوا))‪.‬‬
‫ِالتفت القائد بوجهه صوب بوابة قاعة العرش‪ ،‬وكان أثنين من‬
‫ُحراس الشردانا قد وقفا أمام البوابة ُمباشرة منتبهين له‪ ،‬أعينهم‬
‫ٌ‬
‫نظر إليهم ومال برأسه نحو كتفه‬‫سلطة عليه‪ ،‬أينما ذهب ترقبوه‪َ .‬‬ ‫ُم‬
‫ً‬
‫األيمن قليال‪ ،‬هز الحارسان رأسيهما ببطء‪ ،‬وتأكد من فوره َّأنهما قد‬
‫فهما رسالته عندما غادرا للخارج َّ‬
‫بغية جمع بقية الحراس‪.‬‬
‫لثالث أسابيع شاهدت سيمورامات اإلله رع في رؤياها يحضر‬
‫يوم حتى َّأنها ِألفت مالمحهم وكأنهم‬
‫برفقة كهنته لينقذوها‪ ،‬رأتهم كل ٍ‬
‫‪159‬‬
‫لوقت ليس‬ ‫ٍ‬ ‫أشخاص رافقوها طوال حياتها مما بث في قلبها طمأنينة‬
‫ً‬
‫اعرة َّ‬ ‫َّ‬
‫بالضياع واإلرهاق املشوب‬ ‫بقصير‪ ،‬إال َّأنها في تلك اللحظة كانت ش‬
‫بالقلق والخوف‪ ،‬بخاصة عندما سلمت نفسها للخادمات‪ ،‬وجلست بين‬
‫ُ‬
‫أيديه َّن ُيزينوها‪ ،‬فألبسوها فستان مصنوع من الحرير املوش ى بالذهب‬ ‫ُ‬
‫والفضة وغطوا رقبتها بالجواهر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫كانت َّ‬
‫تضرع للسماء أن تبث شجاعتها في قلبها وأن تقي ما لديها من‬
‫ً‬
‫براءة وهمست تدعو بيقين لم تعرف مصدره طالبة العدالة لروحها‪،‬‬
‫التفتت إلى الخادمة‬ ‫وأخيرا َ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫للتعرف عليها‪،‬‬ ‫للسعي إليها والحكمة‬ ‫والقوة َّ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ريانة الجسد أم الرضيع التي ً‬
‫غالبا ما تقف إلى جوارها تساعدها‬
‫مصباحا بعثته السماء ليض يء إليها عتمة أوقاتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتواسيها َّ‬
‫وكأنها‬
‫قائلة‪(( :‬أرشديني يا ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫سيدتي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعين ترقرق منها الدمع‬ ‫بنبرة واهنة ٍ‬ ‫ودعتها ٍ‬
‫َّ‬ ‫الدرب الذي َّ‬ ‫أريني َّ‬
‫علي أن أقطعه‪ ،‬ال تدعيني أتعثر فيما ينتظرني من‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫سمعت وقع أقدام من ورائها وجلبة عند‬ ‫ظالم))‪ .‬وفي تلك اللحظة‬
‫الباب‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن‬‫التفتت ‪ ..‬ففتح القائد ِايورخي باب الغرفة ودلف منه مباشرة ِ‬
‫موجها حديثه للخادمات‬ ‫ً‬ ‫خلفه اإلله رع ونحن نتبعهما‪ .‬قال ِايورخي‬
‫ُّ‬
‫حاسمة‪(( :‬ك ِلن يبقى في مكانه‪ ،‬لتكونوا آمنين))‪ .‬بينما قال إمحوتب‬ ‫ٍ‬ ‫بنبرة‬
‫ٍ‬
‫العذر‪ ،‬لكن‬ ‫((سيدتي‪ ،‬أستمحيك ُ‬ ‫شديد‪ّ :‬‬ ‫برفق‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫موجها حديثه للفتاة ٍ‬
‫ُ‬
‫وقتنا هنا انتهى‪ ،‬ويجب أن نغادر القصر على الفور‪ ،‬واملدينة قبل‬
‫الفجر))‪.‬‬ ‫مطلع َ‬

‫‪160‬‬
‫بشدة من‬ ‫متيبسة‪ ،‬وآملَتها ُركبتاها َّ‬ ‫نهضت سيمورامات بأطراف ّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫كثرة الجلوس والنوم بالفراش والحزن الذي تملكها طيلة َّ‬
‫األيام‬
‫املاضية‪ ،‬ولم يكن هذا بالش يء الغريب‪ ،‬هكذا يفعل الحزن في اإلنسان‬
‫اش من‬ ‫نفسيا ولو كان حبيس قصر من الجواهر‪ ،‬أو حتى فر ٌ‬ ‫ً‬ ‫املهزوم‬
‫غاليا مقابل أن‬ ‫ً‬
‫فعليا حتى إنها كانت لتدفع ثمنا ً‬ ‫صنع اآللهة‪ .‬كانت تتألم ً‬‫ُ‬
‫دقائق قليلة بعدما‬ ‫ووسادة لتستريح عليها‬ ‫الريش‬‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تحظى ِبفراش من ِ‬
‫ً‬
‫أيقنت أنها باتت آمنة‪ ،‬لكنها قالت موجهة حديثها بشكل خاص لإلله رع‪:‬‬
‫جميعا‪ ،‬وأنا‬ ‫ً‬ ‫شكل عام‪(( :‬أشكركم‬ ‫((أشكرك))‪ .‬وأضافت لنا ب ٍ‬
‫جلبة‬ ‫ُ‬
‫أتمت بها قولها ُسمع صوت‬ ‫ُمستعدة))‪ .‬في اللحظة ذاتها التي ّ‬
‫ٍ‬
‫قادمة من أمام ساحات القصر‪ ،‬وارتعدت الخادمات أكثر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫شديدة‬
‫ٍ‬
‫ضيق من الغرفة‪ ،‬بينما دنا‬ ‫ٍ‬ ‫ركن‬
‫ووقفن خلف بعضهن البعض في ٍ‬
‫خارجا‪ ،‬وعندما أعاد رأسه‬ ‫ً‬ ‫إمحوتب من نافذة الغرفة وأطل برأسه‬
‫للداخل قال بجدية‪(( :‬إنهم األكاديين ‪ ..‬جنود حمورابي إقتحموا ساحة‬
‫القصر اإللهي ليستولوا عليه من ثم يستولوا على املدينة))‪.‬‬
‫هلع‬
‫دلفت من باب الغرفة خادمة شابة‪ ،‬على وجهها نظرات ٍ‬
‫شديد وقالت وهي ترتعد‪(( :‬األكاديين إقتحموا القصر))‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وخوف‬
‫ٍ‬
‫إنتفضت الخادمة ريانة الجسد وهبت صوب الخادمة الشابة‬
‫َ‬
‫رضيعها من بين يديها‪ .‬قال ِايورخي‪(( :‬اآلن يأتي الشردانا‪،‬‬ ‫إختطفت‬
‫أمنا نسلكه للخروج من القصر))‪.‬‬ ‫علينا أن نجد ً‬
‫طريقا ً‬
‫ً‬
‫قال ًحنكليس‪(( :‬فلنتوجه صوب البوابات مباشرة بينما هم‬

‫‪161‬‬
‫منشغلين في قتال بعضهم البعض و‪.))..‬‬
‫حاسمة غير قابلة للجدال‪ ،‬قال‪(( :‬لن‬
‫ٍ‬ ‫صوت‬
‫ٍ‬ ‫قاطعه إمحوتب بنبرة‬
‫نقترب من البوابات الرئيسية‪ ،‬ولن نعبر شوارع املدينة‪ ،‬نينوي بأكملها‬
‫ستحترق‪ ،‬وال يمكن أن يكون سنحاريب قد أتى بخمسة اآلف من‬
‫جيشه فقط))‪.‬‬
‫((ألديك خطة أخرى؟))‪ ،‬وكرر ُحنكليس ذات السؤال من‬ ‫َ‬ ‫سألته‪:‬‬
‫بعدي‪(( :‬نعم ‪ ..‬ألديك خطة أخرى؟))‪ .‬قال وهو يلتف ليخرج من باب‬
‫الغرفة‪(( :‬إتبعوني))‪.‬‬
‫يل السيوف والفؤوس بالخارج‪ ،‬بدا األمر وكأن‬ ‫إرتفع صوت َ‬
‫ص ِل ُ‬
‫عشرة جيوش تتقاتل‪ ،‬كما أن رائحة دخان إنتشرت في كل مكان مما‬
‫يؤكد أن حرائق إشتعلت في القصر واألبراج املحيطة‪.‬‬
‫ً‬
‫واضحا‬ ‫أن الخوف بدا‬ ‫إرتعدت الخادمات من شدة الخوف‪ّ ،‬إال ّ‬
‫كضوء الشمس في مالمح الخادمة َّريانة الجسد والتي كانت خائفة ليس‬
‫على نفسها بقدر خوفها على طفلتها الرضيعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ونحن نبتعد وبين الخادمات‬ ‫تنقلت سيمورامات بعينيها بيننا‬
‫بخطى ُمتسارعة صوب‬
‫ً‬ ‫الواقفات خائفات من خلفها قبل أن تعود‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫السوار من بين طيات مالبسها‬ ‫الخادمة ريانة الجسد وهي تخرج ِ‬
‫ً‬
‫وتضعه في معصمها‪ .‬وقفت أمامها ُمباشرة تكاد تلتصق بها‪ ،‬وتطلعت في‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫عينيها وقد ترقرقت دموعها كالسيل على خديها إذ كانت شاعرة تجاهها‬

‫‪162‬‬
‫هونت عليها وساعدتها طوال َّ‬
‫األيام التي كانت فيها‬ ‫بالعرفان كونها َّ‬
‫فمسدت براحة‬‫حبيسة القصر‪ ،‬ورأت أن عليها أن ترد لها ما فعلته‪َّ ،‬‬
‫يدها على ثدي الخادمة وهي تقول‪(( :‬بيليجيريرو))‪ ،‬خرجت طاقة‬
‫تعويذة الشفاء من راحة يدها وأستقرت في ثدي املرأة الذي عاد ً‬
‫نابضا‬
‫متهدج من أثر اإلختناق بالدموع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫بالحياة مرة أخرى‪ .‬ثم أضافت‬
‫((اآلن يمكن للصغيرة أن تحصل على الطعام الوفير))‪.‬‬
‫تفاجئت بيد إمحوتب تقبض على معصمها بعدما عاد ليصطحبها‬
‫وهو يقول‪(( :‬ال وقت لدينا))‪.‬‬
‫ُ ًّ ّ‬
‫حتدا علق ِايورخي الذي‬ ‫قالت وهي تقاوم يده‪ (( :‬أريدهم معي!!))‪ .‬م‬
‫عاد هو اآلخر خلف إمحوتب‪(( :‬سيبطئون من حركتنا))‪.‬‬
‫قالت الفتاة‪(( :‬قلبي سينزف ً‬
‫كثيرا إن تركناهم))‪.‬‬
‫هازا رأسه في يأس قال ِايورخي‪(( :‬النساء ُه َّن النساء))‪ ،‬ثم أضاف‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫موجها حديثه للخادمات وقد ضيق عينيه ورفع لهم سبابته‪(( :‬أريدك َّن‬ ‫ً‬
‫أسرع من أسرع واحد بيننا))‪.‬‬
‫كان جنود الشردانا املائة أول من إقتحموا قاعة العرش الرئيسية‬
‫قتال مع جنود امللك‬ ‫َّ َّ‬ ‫ُ‬
‫نظم‪ ،‬إال أنهم لم يشتبكوا في ٍ‬
‫قتالي م ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تشكيل‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫شمش ي‪َّ ،‬إنما صعدوا مباشرة على ساللم تفض ي بهم إلى الطابق الثاني‬
‫من القصر بعدما قتلوا أثنين أو ثالثة على األكثر ممن أعترضوا‬
‫طريقهم‪ ،‬في الوقت ذاته حاول حراس امللك شمش ي أخذه ً‬
‫بعيدا عن‬

‫‪163‬‬
‫القاعة وساحة القتال بعدما أنقض األكاديين عليها‪ .‬وبينما أنشغل‬
‫الجيشين بقتال بعضهما إنشغلت الوفود امللكية ممن حضروا للقصر‬
‫بحماية أنفسهم‪ ،‬وانشغل حراس امللك شمش ي بالحفاظ على حياتة‬
‫وحياة سحرته وحاشيته‪.‬‬
‫ً‬
‫في الوقت ذاته‪ ،‬كان إمحوتب ُممسكا بالخريطة التي حصل عليها‬
‫من مكتبة حارس القصر اإللهي وأخذ يقودنا عبر جدران القصر‬
‫ومر عبر األسوار‬‫الرواق الخلفي للقصر‪ّ ،‬‬ ‫العتيقة‪ ،‬فعبر بنا من ُّ‬
‫حرسها فئة من أفضل حراس شمش ي‬ ‫اخلية التي َت ُ‬
‫والد َّ‬ ‫الوسطى َّ‬ ‫ُ‬
‫السوداء‪َّ ،‬إال أن جميع ُ‬
‫الحراس كانوا‬ ‫َّ‬
‫الحديدية َّ‬ ‫البوابات‬‫وتستقر فيها َّ‬
‫ُّ‬
‫قد غادروا أماكنهم وتحركوا صوب البوابات األمامية لقتال االكاديين‪،‬‬
‫الساحة الكبيرة املحاطة بأسوار شاهقة اإلرتفاع ومليئة‬ ‫عندئذ عبرنا َّ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫وأخيرا عبرنا من البوابة الخلفية لقصر‬ ‫باألسود إال أنها كانت مقيدة‪،‬‬
‫ُ‬
‫اإلله‪ ،‬والتي أفضت بنا إلى غابة املوتى امللعونة والتي تعد مقابر ألعداء‬
‫زمن قديم‪.‬‬ ‫آشور منذ ٍ‬
‫ما إن وطأت أقدامنا أرض الغابة‪ ،‬إنتصبت شعيرات جسد كل‬
‫واحد منا‪ .‬وقف خا إم ويست يتطلع في ااألشجار والسواد الحالك الذي‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يخيم على املكان وقال مرتابا‪َّ :‬‬
‫((ثمة طاقة سلبية ليس لها آخر في هذا‬ ‫ِ‬
‫أرض عرفناها أو‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫املكان))‪ ،‬أضاف حنكليس‪(( :‬أرض مخيفة‪ ،‬غير أي ٍ‬
‫سمعنا بها من قبل))‪ .‬كانا األثنين ُمحقين فيما تفوهت به السنتهم‪،‬‬
‫بدائي ومظلم بل َّأنه حالك السواد طوال‬
‫ٌ‬ ‫فغابة املوتى امللعونين ٌ‬
‫مكان‬

‫‪164‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الوقت‪ُ ،‬مقام على مساحة ال تقل عن خمسمائة ف ّدان من الغابة‬
‫عام‪ ،‬مع أرتفاع األسوار‬ ‫َُ‬ ‫َّ‬
‫القديمة التي لم تمس منذ عشرة آالف ٍ‬
‫التربة َّ‬ ‫ُ‬
‫الرطبة والعفن‪،‬‬ ‫الطبيعية العابثة من حولها‪ ،‬تفوح فيها رائحة‬
‫وال تنمو فيها أشجار مثمرة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الدردار‪ ،‬وأشجار البلوط‬ ‫هذه الغابة كانت حافلة بأشجار ِ‬
‫العمالقة‪ ،‬كما انتشرت أشجار فزاعات املوتى بلونها األسود والقديمة‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِق َدم هذه األرض ذاتها التي تحميها أوراقها َّ‬
‫الحادة ذات اللونين‬ ‫املدببة‬
‫معا‪ ،‬بينما‬ ‫تتزاحم ً‬ ‫السوداء الغليظة َ‬ ‫الرمادي واألسود‪ .‬كانت الجذوع َّ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫َ‬
‫وتتصارع الجزور‬ ‫تنسج الفروع امللتوية مظلة سميكة فوق الرؤوس‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫املشوهة فيما بينها تحت أديم التربة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫مكانا َّ‬ ‫قرأ إمحوتب في كتاب معه أن هذا ً‬
‫والظالل‬ ‫للصمت التام ِ‬
‫الكئيبة‪ ،‬والسحر والجن وانواع مختلفة من الخفافيش والثعابين‬
‫والعقارب الذين يعيشون فيه بال اسم أو إنتماء‪ .‬لكنه كان يعلم ً‬
‫أيضا‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫ونجمة ستسطع في السماء‬ ‫ٍ‬ ‫نجمة‬
‫ٍ‬ ‫أنها ليلة مكتملة القمر‪ ،‬كما أن ألف‬
‫ً‬
‫قريبا لتنير لهم دربهم‪.‬‬
‫الرياح في اللحظة التي‬ ‫مع حلول الليل توقفت األمطار‪ ،‬وهدأت َّ‬
‫أختفى فيها آخر ضوء لقنديل معلق في أسوار قصر امللك شمش ي‬
‫وتالش ى فيها صوت صليل الفؤوس والسيوف‪ ،‬وخاب ظن إمحوتب في‬
‫النجوم والقمر وراء ُّ‬
‫السحب‬ ‫الحصول على ضوء السماء ْإذ َ‬
‫توارت ُّ‬
‫ٌ‬ ‫السوداء وساد سكو ٌن ُم ٌ‬
‫َّ‬
‫ريب ومخيف في األنحاء‪ ،‬فأحاط جنود‬

‫‪165‬‬
‫الشردانا املائة باإلله رع وكهنته األربعة ومن خلفنا كانت األميرة‬
‫ُ‬
‫جريا لألمام خلف أحد جنود الشردانا‬ ‫ً‬
‫جميعا نهرول َّ‬ ‫والخادمات‪ .‬ك َّنا‬
‫ِم َّمن لديه خبرة بكيفية التجول في الغابات وكان خلفه ُمباشرة إمحوتب‬
‫بخريطته الجلدية‪ ،‬يمعن النظر فيها تحت ضوء لهيب املشاعل التي‬
‫يحملها الجنود‪ُ ،‬يحاول توجيه الجندي املستكشف تارة ُومساعدته تارة‬
‫أخرى‪ .‬توقفنا عند منتصف الليل‪ ،‬شاعرين باألرهاق واألعياء الشديد‪،‬‬
‫إتكأ كل واحد منا على جزع شجرة‪ ،‬بعضنا جلس ً‬
‫أرضا بعدما افترش‬ ‫ٍ‬
‫درعا أو إتخذ جزع شجرة كمقعد له‪ .‬كانت األرض أسفل أقدامنا ما‬ ‫ً‬
‫تزال ُمبللة وندفات املطر التي كانت ُمخزنة فوق أوراق األشجار ما تزال‬
‫ُ َّ‬
‫تتساقط علينا كلما أهتزت األغصان بفعل الريح‪ .‬تقدم ِايورخي يرافقه‬
‫ً‬ ‫إمحوتب لألمام مسافة خمسون ً‬
‫مترا بعدما أخذا مشعال من أحد‬
‫عما يحدث في قصر شمش ي وإن كان هناك من سيأتي‬ ‫الحراس‪ ،‬تحدثا َّ‬
‫من خلفهم أم ال‪.‬‬
‫قال إمحوتب وهو يسحب كتاب من بين طيات مالبسه ويشير به‬
‫كتاب موغل القدم‪(( :‬اآلشوريين ال يدخلون غابة‬ ‫ٌ‬ ‫وقد بدا عليه َّأنه‬
‫املوتى‪ ،‬لديهم يقين تام أن من يدخلها ال يخرج ً‬
‫أبدا))‪ ،‬نظر له ِايورخي‬
‫ً‬
‫ستغربا كاد أن يسأله‪(( :‬ماذا تعني؟))‪.‬‬ ‫بركن عينه ُم‬
‫فأضاف إمحوتب‪(( :‬شمش ي سوف ينجو‪ ،‬فال أحد ُيهزم في بيته‬
‫َّ‬
‫بسهولة‪ .‬إال َّأنه لن ُيطاردنا في غابة املوتى‪َّ ،‬إنما سينتظرنا على الجانب‬
‫اآلخر))‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫بدا على وجه ايورخي أن هذه األجابة لم تكن ما ينتظره‪َّ ،‬‬
‫وأنه ما‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫يزال ينتظر إجابة أخرى‪ ،‬فأضاف إمحوتب‪(( :‬هذه األرض ملعونة‬
‫بالفعل‪ ،‬إن صدق هذا الكتاب فنحن في أرض الشيطان هيدياك‬
‫ُ‬
‫وشقيقه نازيئيل‪ ،‬واملشاعل املضيئة في أيدينا سوف تجلب علينا‬
‫َ ُ‬
‫قريبا))‪ .‬كنت أ ْدنو في اللحظة التي أنهى فيها إمحوتب جملته‪،‬‬
‫اللعنات ً‬
‫علم بما تفوه به‪ ،‬فقلت‪(( :‬هيدياك‪ ،‬سيد طيور الجحيم‪ ،‬ما‬ ‫لدي ٌ‬
‫وكان ّ‬
‫ّ‬
‫إنقضت على مخلوق حي إال وأختطفته للسماء وتناوبوا تمزيقه في الجو‬
‫شيئا من‬‫قبل أن ُتسقط ما تبقى من عظامه))‪ ،‬التفت ايورخي وقد بدا ً‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫القلق املشوب باإلستغراب في وجهه ولم يمهله إمحوتب وقتا ليسأل‬
‫((أما نازيئيل‪ ،‬فهو سيد كالب الجحيم‪ ،‬كالب‬ ‫عما يستغربه‪ْ ،‬إذ قال‪َّ :‬‬
‫سوداء اللون حمراء العينين لها حضور شبحي ورائحة كريهة))‪.‬‬
‫\إنفعل ِايورخي وهو يقول‪(( :‬ششش ‪ ..‬ششش ‪ ..‬توقفا)) وأخذ‬
‫ٌ‬
‫((حضور شبحي ‪ ..‬عينان حمراوتان ‪ ..‬ورائحة‬ ‫ُيكرر ما قاله إمحوتب‪:‬‬
‫كريهة!))‪.‬‬
‫ً‬
‫ستغربا‪(( :‬نعم!!))‪ .‬أمعن ِايورخي النظر في السواد‬ ‫َّرد إمحوتب ُم‬
‫الحالك بين األشجار وقال‪(( :‬لقد ُخ ّيل لي طوال الطريق أن ً‬
‫كالبا‬ ‫ِ‬
‫سوداء لها عيون حمراء تتسابق حولنا))‪ ،‬وسمعا ثالثتهم وقع أقدام‬
‫قادما من خلفهم‪ ،‬وقبل أن يلتفتا قالت سيمورامات التي دنت منهم‪:‬‬ ‫ً‬
‫((لم ُي َّ‬
‫خيل لك‪ ،‬بل هي حقيقة))‪.‬‬
‫سألتها‪(( :‬هل أيتي ً‬
‫شيئا لم نراه؟))‪ ،‬أجابت‪(( :‬ال‪َّ ،‬إنما ُيمكنني‬ ‫ر‬

‫‪167‬‬
‫ً‬
‫ستغربا‪(( :‬قراءة الريح!))‪ ،‬قالت ‪(( :‬نعم))‪،‬‬ ‫قراءة الريح))‪ .‬علق ِايورخي ُم‬
‫ُ‬ ‫((أيا كان ما تقولينه‪ ،‬هل بإمكانك التأكد ً‬
‫يقينا إن ك َّنا‬ ‫سألها إمحوتب‪ًّ :‬‬
‫أن هناك كائنات أخرى؟))‪.‬‬ ‫وحدنا في هذا املكان أم ّ‬

‫ببطء‬ ‫ً‬
‫ويسارا‬ ‫أغمضت سيمورامات عينيها وبدأت تلتفت ً‬
‫يمينا‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وحيوانات أخرى‬ ‫شديد تقرأ الريح‪ ،‬ثم قالت‪(( :‬كالب على األرض‪،‬‬
‫ُتشبهها‪ ،‬وغ ٌ‬
‫دفان كثيرة تطير فوقهم))‪.‬‬ ‫ِ‬
‫سألها َحنكليس‪(( :‬هل ُهناك ش ٌيء آخر؟))‪.‬‬
‫ُ‬
‫ظلت سيمورامات ُمغمضة العينين وهي تجاوب‪(( :‬خيل ورجال‬
‫وأسود يعبرون النهر على حافة الغابة))‪.‬‬
‫قلت‪(( :‬ربما يتبعون النهر إلى واد آخر فقط))‪.‬‬
‫قال إمحوتب‪(( :‬ال ‪َّ ..‬إنهم رجال شمش ي سبقونا للجهة األخرى من‬
‫يمكنك التنبأ‬
‫ِ‬ ‫الغابة))‪ .‬وأضاف وهو ينظر إلى سيمورامات يسألها‪(( :‬هل‬
‫الجو‪ .‬وحشية‬‫ّ‬ ‫بنواياهم؟))‪ .‬أجابت‪(( :‬أشعر بنوايا وحشية في‬
‫ووشيكة))‪ .‬سألها َحنكليس في توتر بدا في وجهه الذي أخذ يتصبب منه‬
‫العرق‪(( :‬هل يمكنك التنبأ بعددهم!))‪.‬‬
‫كامل من الكالب ومئات من ال ِغدفان تطير فوقها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫((قطيع ٌ‬ ‫َّردت‪:‬‬
‫على الجانب اآلخر عشرات الخيول وعديد من الرجال يمشون ربما‬
‫أكثر من ألفين‪ ،‬إصطحب بعضهم األسود))‪.‬‬
‫جيش كامل وليست سرية‪َّ ،‬إنهم جنود‬ ‫ٌ‬ ‫قال إمحوتب‪(( :‬إنه‬
‫‪168‬‬
‫شمش ي))‪ .‬التفت ايورخي ومش ى ً‬
‫عائدا في إتجاه اإلله رع وخا إم ويست‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لثوان معدودة قبل أن يلتفت إلى‬
‫ٍ‬ ‫الذي وقف بجانبه‪ ،‬وقف أمامهما‬
‫جنود الشردانا ويقول بصوت جهوري‪(( :‬الشردانا‪ُ ،‬‬
‫نحن هنا غرباء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ضعفاء‪ ،‬وسوف نعود إلى وطننا‪ ،‬نحن واحد ونقاتل كرجل‬ ‫لكننا لسنا ُ‬
‫واحد‪ .‬استعوا للمعركة))‪.‬‬
‫أنهى ِايورخي حديثه في اللحظة التي ُسمع فيها صوت جلبة قادم‬
‫من بين األشجار تبعها صوت صراخ أحد جنوده وقد انقض عليه أحد‬
‫كالب الجحيم املسعورة وأخذ يسحبه بين األشجار بمساعدة ٌ‬
‫كالب‬
‫أخرى بدأوا ينهشون في جسده ويمزقونه‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبينما تهيء الجميع للمعركة وأخذوا وضعية القتال إنقض غداف‬
‫في حجم نسر كبير على جندي آخر‪ ،‬قبض بمخالبه الحادة على رأس‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫الجندي وحاول الطيران به‪ ،‬إال َّأنه لم يستطع إذ تشبث جنديان‬
‫َّ‬
‫لثوان معدودة فقبل أن‬
‫قريبان في أقدام الجندي‪ ،‬لكن ذلك لم يدم إال ٍ‬
‫تتدخل بقية جنود الشردانا ملساعدة بعضهم حضرت فوقهم مجموعة‬
‫كبيرة من ال ِغدفان وصاحب ذلك وصول قطيع كامل من كالب‬
‫الجحيم‪ .‬ترك الجنديان أقدام الجندي وأخذا يدافعان عن أنفسهم‬
‫ضد كالب الجحيم على األرض وال ِغدفان العمالقة التي تأتي من األعلى‬
‫بين األشجار‪.‬‬
‫ُ‬
‫في الدقائق األولى من املعركة فقد ما يقرب من عشرة جنود من‬
‫ًّ‬
‫سويا‪:‬‬ ‫الشردانا‪ ،‬فيما تدخل خا إم ويست و َحنكليس وصاحا‬

‫‪169‬‬
‫ً‬
‫سحريا أحال بينهم وبين كالب الجحيم‬ ‫((ستيناريمورا))‪ ،‬فصنعوا ً‬
‫جدارا‬
‫التي تسارعت في القفز في الجدر واإلرتطام به في محاولة منهم لعبورة‪،‬‬
‫َّ‬
‫إال أن هذا لم يفلح مع ال ِغدفان التي تزايدت فوقهم وأصبح عددها‬
‫بالعشرات‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقفت‬ ‫هلع شديد‪ ،‬بينما‬
‫بكت الخادمات بشدة ودخلوا في حالة ٍ‬
‫جنبا إلى جنب أمام امللك اإلله رع ومن خلفه األميراة‬ ‫وإمحوتب ً‬
‫سيمورامات نحاول حمايتهم‪ .‬كنت أشاهد ال ِغدفان وهي تهبط عمودية‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫من السماء فوق جنود الشردانا فتقتل من تقتل وتصيب من تصيب‪،‬‬
‫ً‬
‫حل بديل أوخطة‪.‬‬‫تسائال إن كان لديه ٌّ‬ ‫وفي يأس نظرت إلى إمحوتب ُم‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬خرجت األميرة سيمورامات من خلف اإلله رع وهي‬
‫ُ‬
‫السوار في معصم اليد األخرى وأخذت تشير بيدها‬‫تضع راحة يدها على ٍ‬
‫ُ‬
‫بكلمة ملا أفهمها‪ ،‬بدت لي أنها تعويذة سحرية‬
‫ٍ‬ ‫نحو ال ِغدفان وهي تلقي‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وهو ما كان‪ .‬قالت وهي تشير على أحد ال ِغدفان وكان عمالقا له مخالب‬
‫لم نرى مثلها من قبل ُويقاتله ما يقرب من خمسة جنود من الشردانا‪:‬‬
‫ُ‬
‫((سيكتوسيمبرا))‪ ،‬انطلقت طاقة زرقاء اللون من يدها وإذا بالغداف‬
‫يحترق ويسقط ً‬
‫أرضا ويتحول إلى أشالء تتناثر مع دماءه فوق الجنود‬
‫ً‬ ‫وحولهم‪ .‬إنتبه الجميع ملا حدث وفتح كل ٌ‬
‫واحد منا فاهه غير مصدقا ما‬
‫فعلته الفتاة‪ .‬وانتبه الجميع أكثر عندما َّرددت سيمورامات تعويذتها‬
‫أرضا وهو يحترق‬ ‫وهي ُتشير على كل طائر تسقط عينها عليه فتسقطه ً‬
‫أخيرا ِانتبهت أن الطيور تتجنب الحراس ممن يحملون‬ ‫ً‬ ‫ويتمزق‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫املشاعل‪ ،‬ففهمت من فورها أنهم يخشون النيران أو األضواء املنبعثة‬
‫منها‪ ،‬فأستجمعت قوتها وأطلقت تعويذة النور قائلة‪(( :‬لوموسيتاي))‪.‬‬
‫فأنطلقت من بين أيديها آشعة شديدة األضاءة جعلت املكان بأكمله‬
‫ُيض يء وكأنه منتصف النهار وألف شمس ساطعة‪.‬‬
‫تماما من فوقهم ومن بين‬ ‫من فورها هربت ال ِغدفان‪ ،‬اختفت ً‬
‫األشجار‪ ،‬كذلك هربت كالب الجحيم هي األخرى ولم يتبقى منها ّ‬
‫أي‬
‫واحد خلف الجدار السحري‪ .‬مع تالش ي األضواء فقدت سيمورامات‬
‫ٍ‬
‫وعيها وسقطت ً‬
‫أرضا‪.‬‬
‫قرب الفجر‪ ،‬إستعادت األميرة وعيها لتجد نفسها نائمة على حمالة‬
‫خشبية صنعها لها جنود الشردانا من أغصان األشجار‪.‬‬
‫منطقة َّ‬ ‫َ‬
‫غابية تميل أشجارها القليلة‬ ‫ٍ‬ ‫بصمت حملتهم أقدامهم عبر‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫كالسكارى بعيدا عن النهر‪ .‬تفقدت ما حولها من أشجار وصاحت وهي‬ ‫َّ‬
‫تقفز من فوق حمالتها‪(( :‬توقفوا‪ ،‬توقفوا ‪.))..‬‬
‫توقف الجميع في أماكنهم ُمستغربين‪ ،‬بينما هرولت لألمام مسافة‬
‫مترا وأتبعها إمحوتب وخا إم ويست مهرولين خلفها بينما بقيت‬ ‫عشرون ً‬
‫َ‬
‫وحنكليس إلى جوار اإلله رع‪.‬‬
‫أغمضت عينيها وقالت‪(( :‬أشعر بكراهية شديدة‪ .‬ولكن صامتة‪.‬‬
‫خيل تنخر‪ ،‬وتضرب ببراثنها الحص ى‪ .‬خيل كثيرة‪ .‬مختبئين وراء صوت‬
‫النهر))‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫قال إمحوتب‪(( :‬البد وأنهم ينتظرون خروجنا من غابة املوتى))‪.‬‬
‫سأل خا إم ويست‪(( :‬كيف علموا بأننا سنخرج من هذه النقطة‬
‫ً‬
‫تحديدا؟))‪.‬‬
‫رد إمحوتب وهو يمش ي إلى أمام‪(( :‬هذا املنحدر هو املخرج الوحيد‬
‫من هذه الغابة ُويفض ي إلى ممر ضيق ينتهي بنا إلى جسر معلق فوق‬
‫النهر نعبر منه إلى الضفة األخرى‪ .‬هناك مسايل وأجراف على جميع‬
‫الجوانب عدا هذا‪ ،‬لذلك رسم األسالف هذه الخريطة))‪.‬‬
‫شديد حتى ووقف خلف شجرة فزاعات املوتى وكانت‬ ‫ٍ‬ ‫تسلل ببطء‬
‫عمالقة تقترب أغصانها من األرض‪ ،‬وأخذ يتفقد الساحة القريبة خلف‬
‫النهر‪.‬‬
‫السالح مع جنود شمش ي‪،‬‬ ‫سمع صهيل الخيول العصبي وصلصلة ّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫الرجال والجياد الطويلة بالظالم‪ ،‬على يمينها كانت‬
‫وقد تدرعت صفوف ِ‬
‫الرايات‪،‬‬‫رايات‪ ،‬وعلى شمالها رايات‪ ،‬ومن أمامها صفوف وصفوف من َّ‬
‫ُ‬
‫لكن في ظلمة ما قبل الفجر ال يختلف لون عن لون أو رمز عن رمز‪.‬‬
‫َ‬
‫املسربلين َّ‬ ‫ُ‬
‫بالسواد رماحهم إلى أعلى بينما جلسوا‬ ‫رفع رفرسان شمش ي‬
‫على صهوات خيولهم ينتظرون خروجنا من بين األشجار‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫مرت سيمورامات من خالل مجموعة من األشجار الطويلة‬
‫العارية‪ ،‬مسلوبة األوراق والحياة‪ ،‬ونظرت إلى جيش شمش ي فرأت‬
‫َّ‬
‫الظالم أعمق وأحلك‪ ،‬حائط من األسود ال تلوح ملعة نجم واحد من‬
‫ُ‬ ‫خالله‪ ،‬وإن رأت املشاعل َّ‬
‫تتحرك هنا وهناك خلف النهر في املرج حيث‬
‫‪172‬‬
‫َ‬
‫أقام قائد جيش امللك شمش ي معسكره‪.‬‬
‫قال ِايورخي الذي إستطاع من نظرة واحدة تحديد عدد وعتاد‬
‫جيش شمش ي‪(( :‬هذا ٌ‬
‫وقت مناسب للموت‪ ،‬على األقل يمكننا تكبيدهم‬
‫خسائر كثيرة في هذا الظالم))‪.‬‬
‫حالة من الصمت ِاستحوذت على الجميع بعد كلمة املوت الذي‬
‫خيمت على األجواء‪ .‬دنا‬ ‫اطلقها ِايورخي‪ ،‬رافقتها حالة من القلق والتوتر َّ‬
‫ً‬
‫منيا نفسه لو َّأنها تملك حال‪ ،‬أو‬
‫إمحوتب من سيمورامات ونظر إليها ُم ً‬
‫أن السوار في يدها يمكنه فعل ً‬
‫شيئا يجنبهم هذه املعركة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بادلته النظر بإمعان‪ ،‬وقالت‪(( :‬يجب أن ننتظر‪ ،‬ليس طلوع‬
‫الشمس فحسب‪ .‬بل إلى وقت األصيل))‪ .‬كانت تعلم أن اليوم هو صباح‬
‫يوم إكتمال القمر‪ ،‬مما يعني أن والدتها الحمامة الذهبية سوف تشق‬
‫ُ‬
‫مياه النهر وتخرج وبالتأكيد سوف تساعدهم في الخروج من مأزقهم‪.‬‬
‫قبل أن ُينير َّ‬
‫النهار‪ ،‬سأل َحنكليس‪(( :‬إن تجاوزنا هذه املعركة‪،‬‬
‫كيف سنقطع كل هذا الطريق إلى كيميت وقد فقدنا الخيل والعجالت‬
‫الحربية؟))‪ .‬أجاب إمحوتب بثقة‪(( :‬من قال! بعد تجاوزنا املعركة‬
‫سنحظى بكل ما تراه عينيك خلف هذا النهر))‪.‬‬
‫مع سطوع الشمس على الساحة املواجهة لغابة املوتى‪ ،‬خلف النهر‬
‫ً‬
‫ظاهرا بوضوح وكأنه‬ ‫أمام املرج‪ ،‬وقف دافوس ي قائد جيوش شمش ي‬
‫ً ُ‬ ‫ً‬
‫قويا‪ ،‬ط َبع نسبه الوضيع عال مالمحه الحادة‬ ‫يقصد أن نراه‪ .‬رجال‬

‫‪173‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫معطفا‬ ‫بمنتهى الوضوح‪ ،‬لحيته قصيرة‪ ،‬يضع على كتفيه الش ِديدين‬
‫وسخه القتال في قصر نينوي ورذاذ النهر واإللتفاف حول‬ ‫أسود َرًثا َّ‬
‫ً‬
‫ولوحت الشمس لونه‪ ،‬ويرتدي من تحته ُسترة وسراويل‬ ‫غابة املوتى َّ‬
‫ُب َّني ْتين كشعره وعينيه‪ ،‬وقد تدلى على صدره جراب من الجلد النادر‬
‫بعنقه‪ ،‬وغطى ُق َّفاز جلدي يده ُ‬ ‫معلق في شريط ُيحيط ُ‬ ‫َّ‬
‫اليسرى‬ ‫ِ‬
‫قديم مع أسد مفترس من أسود نينوي‪.‬‬
‫املجدوعة في صر ٍاع ٍ‬
‫ِانشغل جنود الشردانا بتنظيف مالبسهم وأسلحتهم على حافة‬
‫دول ماء صغير متفرع من النهر إلى داخل غابة املوتى‪ ،‬بينما جلس‬ ‫َج َ‬
‫ُ‬
‫وقفت َّ‬
‫وبقية الكهنة‬ ‫جنبا إلى جنب مع سيمورامات ومن حوله‬ ‫اإلله رع ً‬
‫متواريا خلف شجرة‬‫ً‬ ‫نتبادل أطراف الحديث‪ .‬وحده ِايورخي ظل ً‬
‫قابعا‬
‫نتبها يترقب دافوس ي طوال ساعات‪ ،‬وظل األخير ً‬
‫واقفا‬ ‫فزاعات املوتى ُم ً‬
‫تأهبا خلف النهر عينيه على الغابة وكأنه يرانا أو َّأنه موقن تمام‬ ‫ُم ً‬
‫اليقين أننا متواجدين أمام عينيه وينتظر خروجنا‪.‬‬
‫ً‬
‫مع اقتراب وقت األصيل‪ ،‬ترجل إمحوتب نحوه ُممسكا بقطع‬
‫َّ‬
‫أسماك مجففة يعرضها عليه ليأكلها‪ .‬إال َّأنه تحدث له دون أن يلتف‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫إذ بقيت عينيه معلقة على دافوس ي وهو يقول‪(( :‬هذا الرجل ليس‬
‫ً‬
‫سهال‪ ،‬أو أنه يعرف أننا هنا))‪.‬‬
‫((يقال في نينوي ال أحد يمللك ِنصف مهارة دافوس ي‬ ‫رد إمحوتب‪ُ :‬‬
‫صبه امللك شمش ي ً‬
‫قائدا كان أشهر‬ ‫ذي اليد املقطوعة‪ ،‬وقبل أن ُي َن ّ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ّ‬
‫املهربين في ممالك آشور كلها وأكثرهم مراوغة وتضليال وله صبر ليس له‬ ‫ِ‬
‫‪174‬‬
‫مثيل))‪.‬‬
‫كان خا إم ويست يسمعهم وهو يقترب منهم فسألهم‪(( :‬إذن؟))‪.‬‬
‫َه َّز ِايورخي رأسه وقال‪(( :‬مائة ضد أربعة االف ‪ ..‬وال مفر من‬
‫ٌ‬
‫ذاهب إلى‬ ‫التقدم‪ ،‬وإذا تقدم هذا الحشد َّ‬
‫الصغير إلى ضفة النهر‪ ،‬فهو‬
‫أعدادا أو ً‬
‫عتادا كافية))‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتفه‪ .‬إننا ال نملك‬
‫كل ما في وسعك‪ ،‬واآلن علينا أن‬ ‫تنهد إمحوتب وقال‪(( :‬لقد فعلت َّ‬
‫َّ‬
‫نتقدم إلى األمام ًّأيا كان ما ينتظرنا))‪ .‬كان وقت األصيل قد حان‬
‫بالفعل‪ ،‬وبدأت الشمس تميل نحو الغروب والظالل تكسو أطراف‬
‫بصوت جهوري‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫الغابة عندما بدت الحيرة في وجه ِايورخي وهو يقول‬
‫((الشردانا ‪ ..‬لم يحدث أن حارب مائة من املقاتلين خمسة االف))‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫بدل نبرة صوته ألخرى مازحة لكنها يائسة وقد خفض صوته قليال وهو‬
‫ً‬ ‫يقول‪(( :‬لو حدث ُ‬
‫كنت ألذكر حادثة كتلك))‪ .‬ثم عاد مرة أخرى لنبرة‬
‫َّ‬
‫صوته الجهورية الحماسية السابقة وقال‪(( :‬إال أننا سنفعل ذلك اآلن ‪..‬‬
‫عليه برفع سبابته‪.‬‬
‫وسننجو))‪ .‬وختم حديثه وهو يؤكد ِ‬
‫على الفور قام جنوده من الشردانا بالدق بأسلحتهم على ظهور‬
‫دروعهم الفوالذية يحمسون أنفسهم‪ ،‬بينما قام ِايورخي بتثبيت خوذته‬
‫ً‬
‫جيدا وتقدم إلى أمام ومن خلفه الجنود وما يزالوا مستمرين بالدق على‬
‫وبقية الكهنة باالله رع واألميرة سيمورامات في‬ ‫ُ‬
‫أحطت ّ‬ ‫دروعهم‪ ،‬بينما‬
‫مؤخرة املوكب‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫غادرنا شجرة فزاعة املوتى‪ ،‬جعلناها خلف ظهورنا ودنونا من‬
‫ضفة النهر‪ ،‬ظهر موكبنا بالكامل لدافوس ي الذي ظل ً‬
‫واقفا في مكانه لم‬
‫يبرحه َّإال لدقائق قليلة منذ ساعات الصباح‪ .‬وأبتسم ً‬
‫أخيرا ّ‬
‫لدى رؤيته‬ ‫ٍ‬
‫لنا‪ ،‬وصاح في جنوده املتأهبين للقتال أن يستعدوا‪ ،‬فأخذوا مواضعهم‬
‫ورتبوا تشكيالتهم القتالية‪.‬‬
‫كان امللك شمش ي يقود الدفاع عن قصر نينوي بنفسه ً‬
‫جنبا إلى‬
‫جنب مع أبنائه الثالثة األصغر ً‬
‫سنا وسحرته األربعة‪ ،‬بينما أرسل أبنه‬
‫ً‬
‫منوطا به أن يكون ً‬
‫زوجا لسيمورامات ليكون‬ ‫األكبر نيراري الذي كان‬
‫اض‬ ‫ً‬
‫جنبا إلى جنب مع القائد دافوس ي ليلحقا بنا‪ ،‬وقد وعد دافوس ي بأر ٍ‬
‫وحصن صغير وصالحيات ليس لها آخر إن عاد‬ ‫ٌ‬ ‫ممتازة وشاسعة‬
‫حية ورؤوس من ساعدوها على الهرب‪.‬‬ ‫باألميرة سيمورامات َّ‬

‫إقترح نيراري على القائد دافوس ي لو يطلب من القائد ِايورخي‬


‫ً‬ ‫َّ‬
‫اإلستسالم‪ ،‬إال أن األخير رفض قائال‪(( :‬ال‪ ،‬رجال كهذا لن ُيعطيك‬
‫انتص ًارا بال خسائر))‪.‬‬
‫ً‬
‫رد نيراري‪(( :‬إن فنائهم مؤكد‪ ،‬ورجال كهذا لن ُيعطي جنوده أمال‬
‫أبدا‪ ،‬أو ُي َه ّ ِون قسوة الحقيقة))‪ .‬نظر دافوس ي في عمق عيني‬ ‫كاذبا ً‬‫ً‬
‫ً‬
‫أحيانا‪ ،‬حتى‬ ‫نيراري وأخبره‪(( :‬من شأن الحقيقة أن تكون ُم َّرة االبتالع‬
‫ُ ّ َّ‬ ‫َّ َّ‬
‫فكر إال في العودة إلى‬‫بالنسبة لرجل مثل القائد ِايورخي‪ .‬إال أنه ال ي ِ‬
‫قوته‪ُ ،‬ليكمل في منصبه ُويحارب أعدائه ويستحوذ‬ ‫كيميت‪ ،‬وبكامل َّ‬
‫قويا‪ ،‬وال يمكنك أن‬‫دافعا ً‬ ‫على قلوب الكيمتيين‪ ،‬وهذا في حد ذاته ً‬

‫‪176‬‬
‫أبدا لن تكون‬ ‫تتخيل ما يمكن للدوافع القوية أن تفعله‪ .‬هذه املعركة ً‬
‫سهلة وإن بدت غير ذلك))‪.‬‬
‫ُ‬
‫كنا قد وصلنا بالفعل إلى املمر الضيق بين ضفتي النهر ولم يتبقى‬
‫َّ‬
‫املغطاة ُ‬
‫بالق َّفاز وهو‬ ‫رفع دافوس ي يده‬ ‫لنا سوى أن نعبر الجسر‪ ،‬عندها َ‬
‫َّ ً ُ‬ ‫يخبر نيراري ُمرد ًفا‪(( :‬كانت ُ‬
‫مرة أخرى قبل أن ُيصغي هذا‬ ‫لتنبت أصابعي‬ ‫ِ‬
‫الرجل لصوت يخبره أن يستسلم أو يتراجع بال قتال))‪ .‬تنهد نيراري‬ ‫َّ‬
‫أضم صوتي إلى صوتك‪ ،‬ولنقتلهم‬ ‫وقال‪(( :‬لقد فعلت ما في وسعي‪ ،‬واآلن َّ‬
‫ً‬
‫جميعا))‪.‬‬
‫التقى الجيشان‪ ،‬نحن على الضفة وفوق الجسر على النهر‪،‬‬
‫َ‬
‫وجيش شمش ي بقيادة دافوس ي أمامنا في سهول املرعى الواسعة بين‬
‫حقو ٍل َّ‬
‫ذهبي ٍة من القمح اليانع الجاهز للقطاف‪.‬‬
‫للرماة الواقفين من‬‫دون أن يلتفت بوجهه أعطى دافوس ي أوامره ُّ‬
‫طلقون سهامهم على املوكب الذي بدأ ًّ‬
‫فعليا‬ ‫ُ‬ ‫خلفه في َّ‬
‫الساحة بأن ي ِ‬
‫أطلق))‪،‬‬ ‫َ‬ ‫صاح بصوت عال‪ّ :‬‬ ‫باملرور بين ضفتي النهر‪َ ،‬‬
‫((ثبت‪ ،‬اسحب‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ٍ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫الطيور ُ‬ ‫السهام ً‬ ‫اصدرت ّ‬
‫محلقا في الهواء‪ ،‬بينما‬ ‫يثب‬ ‫صوتا كسرب من‬ ‫ِ‬
‫إتخذ جنود الشردانا وضعية دفاعية‪ ،‬فأنخفضوا بأجسادهم راكعين‬
‫ورافعين الدروع ألعلى‪.‬‬
‫انخفض الجسر ّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫تنهدت ٌ‬ ‫َّ‬
‫املهتز وجعلت‬ ‫ريح باردة عبر الضفة حين‬
‫ملستها الجنود ترتجف‪ ،‬قال ِايورخي لنفسه‪(( :‬إنه البرد ال أكثر‪،‬‬
‫قشعريرة ال رعدة‪ .‬حتى ُّ‬
‫الشجعان تنتابهم القشعريرة))‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫الريح وتحت‬ ‫ثم تقدم مهروال أمام جنوده داخال وسط أنياب هذه ِ‬
‫الدروع الفوالذية حتى عبر الجسر وأصبح على الضفة األخرى‪ .‬كان‬
‫دافوس ي قد إمتطى حصانه األرقط وقف إلى جواره نيراري امللقب‬
‫قليال‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وصفا ِمن‬ ‫الرهيب‪ ،‬ومن أمامهما ُرماة على حافة مرتفعة‬ ‫باملقاتل َّ‬
‫وص ًفا آخر إلى يمينهما‪ ،‬ومن خلفهما‬ ‫حاملي الحراب إلى يسارهما َ‬
‫صفوف مكونة من أربعة أالف مقاتل‪.‬‬
‫السماء نحونا‪ ،‬إندفعت‬ ‫في اللحظة التي كانت تطير بها ّ‬
‫السهام في َّ‬‫ِ‬
‫شديدة خارجة من أسفل الدروع ورفعت‬ ‫ٍ‬ ‫برشاقة وجر ٍأة‬
‫ٍ‬ ‫سيمورامات‬
‫ُ‬ ‫كلتا يديها صوب َّ‬
‫السماء وهي تطلق تعويذة قالتها بعدما سمعت صوت‬
‫الحمامة الذهبية تهمس لها بها وهي أسفل الدروع‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫كموجة من‬
‫ٍ‬ ‫((اكسبالريومس))‪ِ .‬انطلقت طاقة قوية من بين يديها‬
‫الرياح العاتية شتت السهام في الهواء قبل أن تصل للجسر أو للجنود‬ ‫َّ‬
‫الرماة بإعادة‬ ‫أرضا كأنها أعواد خشب بال قيمة‪ .‬أمر دافوس ي ُ‬ ‫فأسقطتها ً‬
‫ٍ‬
‫حشو النشابات مرة أخرى وإطالق دفعة ثانية من السهام‪ُ .‬م َّ‬
‫جد ًدا‬
‫أرضا وسط‬ ‫قامت سيمورامات بالتصدي لها مرة أخرى وأسقطتها ً‬
‫متذم ًرا‪(( :‬ماذا‬ ‫ّ‬
‫دهشة الجميع‪ ،‬جنود الشردانا واآلشوريين‪ .‬قال نيراري ِ‬
‫يحدث؟))‪.‬‬
‫دائما يا أهل‬‫((متعجلون أنتم ً‬ ‫ّ‬ ‫بكياسة في هدوء‪:‬‬ ‫رد عليه دافوس ي‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫نينوي‪ ،‬لكن قل لي ما فائدة العجلة؟ من يستعجل في الحياة يستعجل‬
‫ساخرا‪َّ :‬‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ّ‬
‫((إن ُهم حشرات سوف‬ ‫ً‬ ‫تجشأ ثم أضاف‬ ‫الذهاب إلى القبر))‪ ،‬و‬ ‫ِ‬

‫‪178‬‬
‫ناديا على أحد قادة تشكيالته العسكرية في‬ ‫ُتحرق اآلن))‪ ،‬وصاح ُم ً‬
‫قائد ومن خلفه‬ ‫طريقا من خلفة‪ ،‬وظهر ٌ‬ ‫الخلف‪ ،‬فأفسحت الحشود ً‬
‫منجنيقا عمالق الحجم‪ ،‬يحمل‬ ‫ً‬ ‫مجموعة صغيرة من الجنود يدفعون‬
‫قذيفة عمالقة من القش املحشو بالزجاج امللفوف بالقماش‪ .‬دفعوا‬
‫املنجنيق حتى أصبح موز ًايا للقائد دافوس ي‪ ،‬ثم قام ثالثة جنود بإفراغ‬
‫الزيت على قذيفة القش وأشعل قائدهم فيها النيران في اللحظة التي‬
‫عاليا في الهواء قبل أن تسقط فوقنا‬ ‫ترك الحراس قيدها لتطير ً‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫لدى سقوطها َّ‬ ‫ُمباشرة‪ّ .‬‬
‫تفرق الشردانا وتشتتوا‪ ،‬لكن لتلك اللحظات‬
‫القليلة ال أكثر‪ ،‬إذ احدثت خسائر هائلة في الصفوف‪ ،‬فأصيب من‬
‫ً‬
‫أصيب وأحترق من أحترق وقفز في النهر من أستطاع محاوال النجاة‬
‫أرضا على أثر‬ ‫بنفسه من النيران التي طالته‪ .‬بينما سقطت سيمورامات ً‬
‫اإلنفجار الذي أحدثته كرة النار‪ ،‬وأرطتمت بقطعة صخرية جعلتها‬
‫مسافة قصيرة سقط خا إم ويست‬ ‫ٍ‬ ‫تفقد وعيها‪ ،‬من خلفها على‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫وحنكليس الذي كان يهرول على األرض محاوال إطفاء النيران التي طالت‬
‫بقوة‪ ،‬وقد َ‬ ‫ضاغطا على أسنانه َّ‬ ‫ً‬ ‫مالبسه‪ .‬خطا امللك رع في َّ‬
‫رفع‬ ‫النار‬
‫اللهب‪َّ ،‬‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫واتجه صوب األميرة الصغيرة‬ ‫الجلدية أمامه لتقيه من‬ ‫الحرملة‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫سيف‬ ‫ٍ‬ ‫ُمباشرة‪ ،‬رفعها بين يديه قبل أن يسندها على كتفه وأطبق على‬
‫ق َ‬ ‫َّ‬
‫املغطاة ُ‬
‫قوي ٍة واحدة‪،‬‬ ‫بش َّد ٍة َّ‬ ‫وانتزعه من الخشب املحتر‬ ‫َ‬ ‫بالق َّفاز‪،‬‬ ‫بيده‬
‫عاليا واللهب األخضر َ‬ ‫َّ‬ ‫السيف ً‬ ‫افعا َّ‬ ‫اجع ر ً‬ ‫ثم تر َ‬
‫كأعصار‬
‫ٍ‬ ‫كاليشب يدور‬
‫حول الفوالذ األحمر كالكرز واألميرة كالطفلة فوق كتفه‪.‬‬
‫علقت‬ ‫اندفع جنود الشردانا ُليخمدوا الجمرات الصغيرة التي َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫‪179‬‬
‫بثياب امللك‪ ،‬بينما هتف أحد الشردانا‪(( :‬إحترسوا ‪َّ ..‬إنهم قادمون))‪.‬‬
‫ُ‬
‫طل َق فيها الكهنة األربعة وقائد الجيوش‬ ‫كانت هذه َّ‬
‫املرة الوحيدة التي أ ِ‬
‫املغنون ً‬
‫الحقا‬ ‫أطلق عليها ُّ‬ ‫َ‬ ‫معركة واحدة‪ ،‬املعركة التي‬ ‫وإلههم ً‬
‫معا في‬
‫ٍ‬
‫اسم ((محرقة نينوي))‪.‬‬
‫وقعت عينا إمحوتب على ِسوار سيمورامات في األرض بين النيران‪،‬‬
‫ً‬
‫صائحا‪(( :‬هذا النهار س يء‬ ‫فأنتفض مهروال بأتجاهه وهو يقول في نفسه‬
‫ٌ‬
‫ومفعم باألهوال‪ ،‬مع ذلك لن أموت اليوم))‪.‬‬
‫تعثر بش ٍيء ما‪ ،‬فسقط على األرض‪ ،‬ولن يثنيه ذلك عما عزم على‬
‫بالسوار‬
‫وأخيرا أمسك ِ‬ ‫ً‬ ‫فعله‪ ،‬فزحف على قدميه بضع خطوات‬
‫شديد يضرب‬
‫ٍ‬ ‫بدوار‬
‫ٍ‬ ‫وأصابعه ترتعش وهو يضعه على معصمه‪ ،‬وشعر‬
‫رأسه في تلك اللحظة ووخذة قوية للغاية جعلته يغمض كلتا عينيه‬
‫للحظات وأهتز بالكامل وتذكر جميع التعويذات التي بثتها الحمامة‬
‫الذهبية في رأسه فيما سبق‪ .‬فتح عينيه‪ ،‬وجد جنود دافوس ي تقترب‬
‫بالفعل شاهرين السيوف والرماح‪ ،‬وقف على قدميه وأغمض عينيه‬
‫مرة أخرى وهو يوجه ِ‬
‫السوار نحوهم ويصيح‪(( :‬اكسبالريومس))‪ ،‬وإذا‬
‫به يتفاجأ بالجنود القادمين نحوه يتجردون من أسلحتهم فتطير ً‬
‫عاليا‬
‫أرضا‪ .‬لم تتوقف الجنود بل هرولوا ً‬
‫جريا‬ ‫من بين أديهم وتسقط ً‬
‫بأتجاهه يحتمون خلف دروعهم الصلبة‪ .‬فصاح ُم َّ‬
‫جد ًدا يقول‪:‬‬
‫ٌ‬
‫((ريدوكتو))‪ ،‬فخرجت طاقة حمراء اللون ُمندفعة بقوة شديدة من‬
‫يديه وأصطدمت بالجنود فتقطعت أجسادهم وكأنها وتفجرت‬ ‫راحة ِ‬

‫‪180‬‬
‫حالة من الجنون‬ ‫ً‬
‫فسقطوا أرضا وتناثرت دمائهم وأشالئهم في كل مكان‪ٍ .‬‬
‫سيطرت على دافوس ي ونيراري اللذان أعطيا أوامرهم لكامل جنودهم‬
‫بالتقدم‪.‬‬
‫ُ‬
‫فيه على أفضل‬ ‫وبينما يحاول إمحوتب إستخدام ِ‬
‫السوار والتحكم ِ‬
‫ما يكون‪ ،‬كان جنود دافوس ي قد أصبحوا بالفعل على مسافة خمسون‬
‫ً‬
‫مترا فقط من جنود الشردانا ومنا‪.‬‬
‫أطلق إمحوتب تعويذاته مرة بعد مرة‪ ،‬فقتل وأحرق منهم عددا‬
‫لثوان قليلة وقد شرد يفكر في قوة‬ ‫َّ َّ‬
‫ليس بقليل‪ ،‬إال أنه تأخر في حركته ٍ‬
‫السوار السحرية‪ ،‬وأستغل أحد الجنود شروده فصوب رمحه عليه‬
‫السوار من يده‪.‬‬ ‫ً‬
‫وأصابه في كتفه فأسقطه أرضا وسقط ِ‬
‫ً‬
‫جميعا صوبنا‪.‬‬ ‫صاح دافوس ي في جنوده أن يتقدموا‬
‫ً َّ‬ ‫شعر ّ‬
‫واحد منا أن حتفه بات وشيكا إال أن األميرة سيمورامات‬
‫كل ٍ‬ ‫ِ‬
‫إستعادت وعيها في تلك اللحظة وأطلقت صرخة إستغاثة قوية تصم‬
‫األذان من فرط قوتها‪.‬‬
‫إضطربت الرياح وأشتدت في لحظتها‪ ،‬وتقاطرت ندفات املطر من‬
‫السماء فوقنا‪ .‬إبتسمت سيمورامات إبتسامة الواثق املطمئن على‬
‫الرغم من الفزع الذي دب في قلوب جميع من حولها‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫صوت صليل السيوف والفؤوس والرماح املرفوعة بين حراس دافوس ي‬
‫القادم بسرعة شديدة فوق حصانه برفقة أربعة أالف من جنوده‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫قادما ال محالة‪ ،‬أغمض الشردانا عيونهم‬ ‫ظن الجميع أن املوت ً‬
‫َّ‬
‫أمام هذا السيل القادم نحوهم من جنود دافوس ي‪ ،‬إال أن الحمامة‬
‫ً‬
‫بقوة شديدة لتهبط في‬ ‫ٍ‬ ‫الذهبية شقت مياه النهر وأنطلقت طائرة‬
‫املنتصف مباشرة بين الجيشين وقد إتخذت هيئتها البشرية‪.‬‬
‫ً‬
‫وكعادتها سبب إرتطامها الشديد باألرض موجة عاتية من الرياح‬
‫واهتزت األرض أسفل قدميها مما جعل دافوس ي ونيراري يسقطان عن‬
‫حصانيهما‪ ،‬بيد أن جنودهم تتطايروا من حولهم‪.‬‬
‫فتح الجميع أعينهم ليفاجئوا بها جاثية على ركبتها اليسرى باسطة‬
‫راحة يدها اليمنى على األرض وهي تبتسم وتنظر بعينيها صوب األميرة‬
‫الشابة سيمورامات‪ .‬حاول بعض جنود دافوس ي ممن نهضوا عن‬
‫جريا صوبها شاهرين سيوفهم ورماحهم‪ ،‬وتفاجئوا بها‬ ‫األرض التقدم ً‬
‫شيئا ما من جانب ضفة‬ ‫تحرك يدها بطريقة دائرية وكأنها تسحب ً‬
‫ٍ‬
‫النهر‪ ،‬فإذا بموجة عاتية من مياة النهر تتحرك صوبهم وتدفعهم‬
‫للخلف بشدة‪.‬‬
‫كان إمحوتب يحاول النهوض بمشقة وصعوبة‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫السوار وأنحنى ليأخذه‪.‬‬
‫اقترب فيه خا إم ويست من ِ‬
‫إقتربت مجموعة من الجنود حملة الرماح نحو خا إم ويست‬
‫وإمحوتب الذي كان ما يزال ً‬
‫جاثيا على ركبتيه على مسافة مترين فقط‬
‫ً‬
‫نظرة ذات مغزى‬ ‫ُ‬
‫والدماء تغطي كتفه‪ .‬نظر خا إم ويست إلى إمحوتب‬
‫ُ‬
‫مفادها تساؤل‪(( :‬كيف أستخدم ِ‬
‫السوار))‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫السوار واختر ً‬
‫ذهنيا الشخص‬ ‫واهن‪(( :‬وجه ِ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قال األخير‬
‫الذي تود إصابته‪ ،‬من ثم قل التعويذة))‪ِ .‬التف خا إم ويست ووجه‬
‫شديد نحو الجنود القادمة بأتجاههم وكانا شاهرين‬ ‫ٍ‬ ‫توتر‬
‫السوار في ٍ‬ ‫ِ‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫سيوفهم الصلبة ورماحهم الطويلة‪ ،‬إال أنه لم يكن يعرف أيا من‬
‫جد ًدا نحو إمحوتب الذي فهم من فوره‬ ‫التعويذات‪ ،‬فالتف بوجهه ُم َّ‬
‫ً‬
‫وصاح قائال‪(( :‬كروشيو‪ ..‬كروشيو))‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم يكن إمحوتب هادئا ُمتزًنا‪ ،‬ولم يكن عاملا أن هذه لعنة التعذيب‬
‫خيل له أن خا إم ويست سيوجه لعنته ليس على‬ ‫والذبح القاتلة‪ ،‬ولم ُي َّ‬
‫واحد فقط أو مجموعة‪ ،‬بل على جيش شمش ي وقائدة‬ ‫ٍ‬ ‫شخص‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫دافوس ي بأكمله‪ .‬في هذه اللحظة‪ ،‬صوب أحد جنود دافوس ي رمحه على‬
‫َّ‬
‫خا إم ويست وكاد يخترق رأسه‪ ،‬بيد أنه تفاداه في اللحظة األخيرة‪ ،‬إال‬
‫قطعي في وجهه وأذنه‪ .‬إستشاط أخذ خا إم‬ ‫ٌ‬ ‫أن الرمح تسبب له في ٌ‬
‫جرح‬
‫السوار نحو الجنود ويصيح‬ ‫غضبا واشتد حنقه فأخذ يوجه ِ‬ ‫ً‬ ‫ويست‬
‫فيهم‪(( :‬كروشيو ‪ ..‬كرشيو ‪ ..‬كروشيو))‪ ،‬فإذا بصيحات األلم والفزع‬
‫وصرخات الوجع واإلستغاثة تدوي في كل إتجاه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫بأحد منهم‪ .‬وفي غضون خمس‬ ‫مع ذلك لم يتوقف أو تأخذه شفقة ٍ‬
‫َ‬
‫دقائق احترق أربعة آالف رجل في ذلك اليوم‪ ،‬من بينهم دافوس ي قائد‬
‫َ‬
‫جيوش شمش ي‪ ،‬أما نيراري إبن امللك فقد نجا من التعويذات وقرر أن‬
‫َّ‬
‫يستسلم‪ ،‬إال أن خا إم ويست أصابه جنون الدماء‪ ،‬فترجل وسط‬
‫الجثث واألشالء املمزقة تدفعه الرياح للخلف فيقاومها‪ ،‬تتقاطر‬

‫‪183‬‬
‫األمطار فوق رأسه فال يأبه لها‪ ،‬حتى وصل إلى نيراري وعلى الرغم َّأنه‬
‫صابا تنزف الدماء من أنحاء متفرقة في جسده‬ ‫جاثيا على ركبتيه ُوم ً‬
‫كان ً‬
‫ُ ً‬ ‫َّ‬
‫معدودة قبل أن‬
‫ٍ‬ ‫لثوان‬
‫إال أن خا إم ويست وقف أمامه متعاليا بكبرياء ٍ‬
‫ينحني ويمسك بأحد السيوف الطويلة من األرض‪ .‬صاح إمحوتب‪(( :‬خا‬
‫إم ويست ‪ ..‬ال))‪ .‬ترجل إله األرض نحوه وهو يتحدث بكياسة‪(( :‬إنتهى‬
‫َّ‬
‫األمر‪ ،‬دعه وشأنه))‪ .‬إال أن خا إم ويست لم ُينصت سوا لغضبه‬
‫واحدة قوية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫يوأطاح برقبته بضربة‬
‫ً‬
‫وليمة ُ‬ ‫ُ‬
‫للجثث املحروقة بالفعل‪ ،‬حيث‬ ‫ِالتفت ك ٍ ّل منا حوله‪ ،‬كانت‬
‫بعثر ُخدام التعويذة من الجن أربعة أالف جندي‪ ،‬جعلوهم مذبوحون‬ ‫َ‬
‫بوحشية على األرض‪ ،‬غرقى في برك من ّ‬
‫الدماء الساخنة‪ ،‬بعضهم مبتور‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫َّ ٍ‬
‫الرؤوس‪ ،‬وقد قبضت األيدي املقطوعة على‬ ‫األطراف وبعضهم مبتور ًّ‬
‫الدامية والدروع الحديدية‪.‬‬ ‫السيوف والرماح َّ‬
‫ً‬
‫ترجل اإلله رع بين وليمة الجثث غير ُمصدقا ما آلت إليه األمور‪،‬‬
‫وترجل ِايورخي بدوره بين جثث بعض جنوده ممن القوا حتفهم في‬
‫املعركة‪ ،‬بينما أحتضنت الحمامة الذهبية إبنتها سيمورامات وقد‬
‫شعرت ً‬
‫أخيرا أن أبنتها باتت آمنة‪.‬‬
‫وقف إمحوتب فوق جسدي نيراري والقائد دافوس ي وقد تشوهت‬
‫تماما‪ ،‬فاملالمح مشوهة‪ ،‬واأليدي مبتورة‪ ،‬والدماء تغطيهم‬‫جثتيهما ً‬
‫عما فعله خا إم ويست‪ ،‬فلم‬ ‫ً‬
‫تماما‪ .‬كانت مالمحه تش ي بأنه غير راض ي َّ‬
‫ٍ‬
‫تكن هذه النهاية املرجوة من هذه املعركة‪ ،‬كل ما رغبا فيه هو إنقاذ‬

‫‪184‬‬
‫قدر ممكن من الخسائر ال أن يصنعوا‬
‫الفتاة والنجاة بأنفسهم بأقل ٍ‬
‫مذبحة بشعة إلى هذا الحد‪.‬‬
‫ً‬
‫شاعرا بالقوة التي‬ ‫تقدم َحنكليس نحو خا إم ويست الذي كان‬
‫يملكها غير مقدر حجم الدماء الذي تسبب في سيالنها على هذه األرض‪.‬‬
‫َّ‬
‫بالسوار‪ ،‬إال أن خا إم ويست‬ ‫ً ُ‬ ‫َ‬
‫أراد حنكليس الذي بدا مذهوال لو يمسك ِ‬
‫سحب يده للخلف ر ً‬
‫افضا أن يلمسه أحد‪.‬‬
‫السوار‪ ،‬بيد أن‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫نظر إليه إمحوتب مستغربا وأراد لو يطلب منه ِ‬
‫دهشة إلى جوار خا إم ويست‪،‬‬‫ٍ‬ ‫بسرعة ُم‬
‫ٍ‬ ‫الحمامة الذهبية إنتقلت‬
‫فأصبحت مالصقة له‪ .‬قبضت على معصم يده بقوة شديدة وانتزعت‬
‫ً‬
‫عنوة من ثم َت َّ‬
‫قدمت به نحو إبنتها سيمورامات التي كانت ما‬ ‫السوار‬
‫منه ِ‬
‫َّ‬
‫السوار‪ ،‬وهي توصيها بأال تستخدمه‬‫تزال واقفة قرب اإلله رع‪ ،‬فأعطتها ِ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫نوع من األذى‪ ،‬وأال تدع نفسها أو غيرها يكون تحت أمر قوته بل‬ ‫أي ٍ‬‫في ِ‬
‫أن يكون دائما تحت أمر ضميرها‪.‬‬
‫لثوان‬
‫ٍ‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬توقف الكاهن كاي تاي عن إكمال حديثه‬
‫النبيذ وقربه إليه‪ ،‬تصاعدَ‬ ‫قدحا من َّ‬
‫معدودات مد فيها يده إلتقط ً‬
‫ً‬ ‫البخار من َّ‬
‫بأستحسان‬
‫ٍ‬ ‫النبيذ وهو يجرب جرعة منه‪ ،‬ثم َه َّز رأسه‬ ‫ُ‬
‫مقتضب قبل أن ُيعيد القدح للمائدة مرة أخرى ويقول‪(( :‬يبدو أن‬
‫ً‬
‫جالسا هنا‬ ‫الفجر قد إقترب‪ ،‬وال أنوي أن تأتي الشمس وأنا ما أز ُ‬
‫ال‬
‫بينكم))‪.‬‬
‫بإستحياء شوبه ِاستنكار‪(( :‬ال يمكنك أن تتركني‬
‫ٍ‬ ‫قالت حتبت رع‬
‫‪185‬‬
‫تستجديه‬ ‫عالقة ُهنا دون أن تخبرني ما الذي حدث ً‬
‫الحقا))‪ .‬وأضافت‬
‫ِ‬
‫في رجاء‪(( :‬أرجوك يا سيدي‪ ،‬جاللة الكاهن‪ ،‬أرجووك))‪.‬‬
‫ً َ‬ ‫التثاؤب الذي َ‬‫وكتم َ‬
‫ِالتفت إليها َ‬
‫هاجمه فجأة بظهر يده ثم قال‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫((أعتقد أني سأتخلى عن النوم الليلة‪ ،‬وسأظل هنا‪ .‬على‬ ‫بلهجة رفيقة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫أن يكون ذلك حتى أول خيوط الضوء))‪.‬‬
‫ناعسا أغلب الوقت وأراد لو ينام‪ً :‬‬
‫((نوما‬ ‫قال شبسكاف الذي كان ً‬
‫سيدي))‪ ،‬في إيماءة منه برغبته لو ينتهي الحديث إلى هنا‬ ‫هنيئا يا ّ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫الليلة‪ ،‬وشرع يجمع األكواب الفارغة من على سطح املائدة‪.‬‬
‫ً‬
‫كانت حتبت رع تحمل ملعقة في يدها عندما استطردت في كالمها‬
‫شديد‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫غيظ‬‫وهي تضرب بها على يد شبسكاف وتخبره وهي تزفر في ٍ‬
‫َّ‬ ‫((سوف أقتلك يا شبسكاف))‪َّ .‬‬
‫حدق نياخ هاو فيها بعينين متسعتين‪،‬‬
‫ً‬
‫مستاءا مما تفعله‪.‬‬ ‫وبدا َّأنه‬
‫َّ‬
‫طقطق الكاهن كاي تاي بيده على ظهر املائدة الخشبية‪ ،‬وفكر‬
‫ّ‬
‫السوار‪ ،‬بدا عليه كمن إشتم رائحة‬ ‫متذك ًرا الليالي التي تلت حادثة ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫املوت والدماء مجددا‪ .‬فجأة فقد شهيته للشرب‪ ،‬فأعطى قدح النبيذ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫خاصته إلى زوجته كاريسا التي رفعته مباشرة إلى شفتيها ولم تتركه إال‬
‫تمدها ّ‬ ‫إضافية ُّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫بالدفء في‬ ‫ِ‬ ‫حصة‬
‫ٍ‬ ‫بحاجة إلى‬
‫ٍ‬ ‫فارغا‪ ،‬فبدت وكأنها كانت‬
‫ً‬
‫برد آخر الليل‪ .‬واسترسل الكاهن ُمكمال قصته وهو يعود بذاكرته‬
‫بوتيرة أسرع‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫للوراء ولكن‬

‫‪186‬‬
‫ُ‬ ‫تهب َّ‬ ‫الرياح ُّ‬‫ّ‬
‫بقو ٍة قبيل أن نغادر ساحة املعركة‪ ،‬وقامت‬ ‫كانت ِ‬
‫الحمامة الذهبية بإعادة ِسوارها إلى معصم يد إبنتها سيمورامات وبثت‬
‫ُ‬
‫جميع تعويذاته في رأسها من ثم وضعتها بين يدي اإلله رع وهي تخبره أن‬
‫وأنها ستبقى فوق األرض ما دام ًّ‬ ‫زوجة َّ‬ ‫ً‬
‫حيا ثم غادرتنا مع غروب‬ ‫يتخذها‬
‫ْ‬
‫الشمس إذ قفزت وغاصت في مياه النهر مرة أخرى‪ .‬وقتها‪ ،‬قال إمحوتب‬
‫َ‬ ‫متنبأ بالطقس‪(( :‬مع مجيء َّ‬ ‫ً‬
‫الصباح ستكون األرض قد اكتست‬
‫ستدفن في‬ ‫وتتيبس وتتخثر دمائها‪ُ ،‬‬ ‫بالصقيع‪ ،‬وستتجمد هذه الجثث َّ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الجليد))‪ .‬انبعث من الظالم صوت خافت بعيد‪ ،‬وإن كان ُعواء ذئاب ال‬
‫حماسية لحنها من جوع‪،‬‬ ‫وانخفضت َّ‬
‫بأغني ٍة‬ ‫َ‬ ‫َلبس فيه‪َ .‬‬
‫ارتفعت أصواتها‬
‫ٍ‬
‫مؤخرة ُعنق جنود الشردانا‪ .‬قال‬
‫ّ‬ ‫ً ُّ‬
‫جاعلة الشعيرات تنتصب على ِ‬
‫ً‬
‫إمحوتب الهثا من غضب سيطر عليه من أحداث اليوم وهو يتفقد‬
‫نخيم هنا الليلة‪ ،‬فلنرحل للديار))‪.‬‬ ‫الجثث املتناثرة من حوله‪(( :‬لن ّ‬
‫ِ‬
‫السوار‪ ،‬وقالت‬‫أغمضت سيمورامات عينيها وهي تضع يدها على ٍ‬
‫ما تراه في عقلها‪(( :‬خسر شمش ي معركته مع حمورابي الذي قطع رأسه‬
‫ورؤوس أبناءه الثالثة وعلقها على أسوار القصر اإللهي قبل أن يقوم‬
‫بإحراق نينوي بأكملها ً‬
‫ناهيا أسطورة شمش ي ومدينة األسود لألبد))‪.‬‬
‫لدى عودتنا إلى كيميت‪ ،‬تزوج اإلله رع من سيمورامات‪ ،‬وفاض‬ ‫ّ‬
‫سنوات بعيدة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫النهر في هذا العام مرتين وهو ما لم يحدث منذ‬
‫السوار في خلق واحات‬‫ساعدت األميرة سيدة األرض بإستخدامها ِ‬
‫خير ٌ‬
‫وفير في األرض السوداء‪.‬‬ ‫خضراء ليس لها آخر‪ ،‬وعم ٌ‬

‫‪187‬‬
‫أساور ذا ٍ‬
‫قوة‬ ‫ٍ‬ ‫إستطاع إمحوتب أن يبتكر طريقة إلستنساخ‬
‫للحراس‪ ،‬وأساور خضراء‬ ‫متفاوتة من السوار‪ ،‬فصنع أساور فضية ُ‬
‫ِ‬
‫اللون للكهنة والكاهنات‪ ،‬وأساور ذهبية لإلله رع ومن يصطفيهم‪ ،‬ثم‬
‫قام بإنشاء مدينة كاملة لتعليم السحر وتربية السحرة‪ ،‬قام فيها‬
‫بتعليم التعاويذ الخاصة بكل فصيل‪ ،‬كما جعلهم يعرفون ً‬
‫جيدا‬
‫َّ‬
‫الحدود التي يجب عليهم أال يجتازوها في إستخدام السحر‪.‬‬
‫بعد ‪ 10‬سنوات‪ُ ،‬رزق اإلله رع من سيمورامات بأربعة أبناء هم‬
‫إيزيس وأوزيريس وست ونفتيس‪ ،‬في أحد َّأيام هذه السنواعت طلب‬
‫َّ‬
‫سحرية لم يسبق ألحد‬ ‫اإلله رع من إمحوتب أن يصنع له مدينة َّ‬
‫سرية‬
‫تخيل أن يتواجد مثلها‪ ،‬وأتاح له جميع الصالحيات التي‬ ‫أن رأي أو َّ‬
‫ُ‬
‫تمكنه من فعل ما طلب منه‪ .‬جمع إمحوتب بضع آالف من خيرة عمال‬
‫كيميت‪ ،‬وحدد منطقة هضبة الشمس لتكون مكان املدينة الجديدة‬
‫التي قرر لها أن تكون أسفل الهضبة قرب األهرامات‪ .‬صنع متاهة كبيرة‬
‫من املمرات األرضية‪ ،‬ملئها بالفخاخ الهندسية والفخاخ السحرية‬
‫أي كائن أن يعبر منها‪ .‬أثناء ذلك‪ ،‬ولخمسة‬ ‫يصعب على ّ‬‫واللعنات التي ُ‬
‫عشر ً‬
‫عاما كانت اململكة تنعم باألمان والرخاء‪.‬‬
‫صيد كان قد تغيب فيها ملا‬ ‫َ‬
‫في أحد الليالي عاد حنكليس من رحلة ٍ‬
‫يقرب الشهر‪ ،‬واكتشف أمر صداقة حميمية نشأت بين زوجته وكبير‬
‫سويا في املسبح‪ .‬فقام بصنع تمساح من‬‫الحراس في قصره‪ْ ،‬إذ وجدهما ً‬
‫السوار‪ ،‬من ثم القاه لهم في املسبح‪،‬‬ ‫الشمع وبث فيه الروح بقوة ِ‬

‫‪188‬‬
‫لتسماح عمالق وفتك بهما‪ .‬ولم يستطع َحنكليس التخلص من‬ ‫ٌ‬ ‫فتحول‬
‫شهيرا ً‬ ‫ً‬
‫التمساح‪ ،‬إذ هرب من املسبح وخرج للعامة وكان سوق ً‬
‫قريبا من‬
‫قصره‪ .‬إقتحمه التمساح ومزق ً‬
‫عددا من الرعاة‪ .‬ولم تكن هذه الحادثة‬
‫ُ‬
‫الوحيدة التي أستخدمت فيها األساور بطريقة مؤذية‪ ،‬بل تعددت‬
‫الحوادث‪ ،‬مما أثار غضب األميرة سيمورامات واإلله رع‪ ،‬فطلبوا‬
‫حضور ِإيورخي وشاوراه في األمر‪ ،‬وقال األخير أن األمر ال يتطلب قوة‬
‫َّ‬
‫عسكرية بقدر تطلبه قوة سحرية وحكمة‪ ،‬وأن مثل هذا األمر إذا ما تم‬
‫بيده ستكون أضراره جثيمة‪ ،‬فمن املمكن أن تنشأ صراعات وكراهية‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫بين الحراس والكهنة وقيادة الجيوش‪ .‬وأضاف ناصحا‪(( :‬وحده‬
‫ْ‬
‫إمحوتب يستطيع فعل ذلك بأقل خسائر‪ ،‬إذ َّأنه يمتلك عالقات قوية‬
‫بجميع الكهنة والراهبات والحراس فهو من دربهم وعلمهم فنون‬
‫السحر))‪.‬‬
‫ِاستجاب اإلله رع وزوجته لنصيحة القائد‪ ،‬فطلبوا حضور‬
‫ً‬
‫إمحوتب الذي كان مايزال مشغوال ببناء املدينة السحرية وقيادة آالف‬
‫العمال أسفل األرض لبناء ممرات املتاهة الحسرية‪ .‬على الرغم من‬
‫ذلك لبى أمر إله األرض رع‪.‬‬
‫لدى حضوره في قاعة العرش في القصر اإللهي‪ ،‬تلقى أمر بجمع‬ ‫ّ‬
‫األساور الذهبية من الجميع‪ ،‬حراس‪ ،‬ورهبان وحتى كبار الكهنة‪ .‬قالت‬
‫األميرة سيمورامات وهي تنزل درجات العرش وتتخلى عن ِ‬
‫السوار‪:‬‬
‫ٌ‬
‫متعاب كثيرة‪ ،‬فال أحد يتخلى عن القوة بهذه البساطة))‪.‬‬ ‫((ستواجهك‬

‫‪189‬‬
‫وأعطته ِسوارها يستخدمه في إجبار السحرة والكهنة والحراس على‬
‫التخلي عن قواهم السحرية وأساورهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫كون إمحوتب بمرافقة ِايورخي مجموعة من أفضل جنود الشردانا‬
‫وبعض الكيمتيين األشداء‪ ،‬خاض بهم حرب ضروس مع السحرة‬
‫والكهنة والراهبات والحراس في أرض كيميت كلها‪ ،‬إستطاع فيها أن‬
‫قدر ممكن من األساور‪ .‬وما إن كاد يوشك على اإلنتهاء من‬ ‫يجمع أكبر ٍ‬
‫يوم‬
‫مهمته‪ ،‬تفاجأ مع الكيمتيين بمغادرة إله األرض رع إلى املساء‪ ،‬في ٍ‬
‫ً ً‬
‫حزنا وأملا على األرض كلها‪ .‬لم تكن مغادرة اإلله رع الحياة هي‬ ‫هو األشد‬
‫الكارثة الوحيدة التي حلت باألرض‪ ،‬بل وجوب مغادرة األميرة‬
‫سيمورامات هي األخرى وعودتها إلى قاع النهر لتكون إلى جانب الحمامة‬
‫ً‬
‫مسبقا بين اإلله رع والحمامة‬ ‫الذهبية وذلك بموجب أمر متفق عليه‬
‫الذهبية ولم يكن أحد يعلم به ش ٍيء‪ .‬بعد أن قامت األميرة سيمورامات‬
‫بأيداع جسد زوجها في مقبرته‪ ،‬وأنتهت من جميع الطقوس الجنائزية‬
‫الالزمة لتكريمه‪ ،‬قامت بتقسيم الحكم بين ولديها أوزيريس و ِست‪ ،‬على‬
‫أن يتزوج أوزيريس من إيزيس ويحكم الشمال‪ ،‬ويتزوج ِست من نفتيس‬
‫ويحكم الجنوب‪.‬‬
‫لم يكن إمحوتب قد أنهى مهمته كاملة بعد‪ ،‬إذ كانت بعض‬
‫األساور ما تزال بين يدي بعض الحراس والكهنة‪ ،‬وانتظرت سيمورامات‬
‫ً‬
‫عودته حامال ِسوارها السحري بكامل قوته بعد أن يحصل على بقية‬
‫يعد ولم َيعلم‬ ‫مجددا‪َّ ،‬إال أن إمحوتب ً‬
‫أبدا لم ُ‬ ‫ً‬ ‫األساور ويدمجهم فيه‬

‫‪190‬‬
‫ُ‬ ‫أي مخلوق آخر عنه ً‬
‫شيئا‪ ،‬وأضطرت سيمورامات أن تغادر األرض‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫تاركة خلفها ِسوارها السحري إلى األبد‪ .‬قال البعض أن إمحوتب عاد‬
‫ُ‬
‫إلى مدينة هامونابترا‪ ،‬وقال آخرين َّأنه قتل في أحد املعارك‪ .‬وحده‬
‫ِايورخي قال‪(( :‬سوف يعود ً‬
‫يوما ما إذا ما تحتم عليه أن يعود))‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪191‬‬
‫‪12‬‬
‫ً‬
‫بزغت الشمس على إستحياء ُمتخفية خلف الغيوم الحديدية‪،‬‬
‫وعلى الرغم من برودة الهواء وصوت سيمفونية صنعتها ندفات املطر‬
‫الد ْردار والبلوط والتوت‬ ‫املُتساقطة على أوراق وأغصان أشجار َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫شديدا تمكن من‬ ‫املحيطة باملنزل ورائحة األرض الندية إال أن أرقا‬
‫الكاهن كاي تاي الذي لم يستطع أن ُيمدد جسده في الفراش من فرط‬
‫األرق‪.‬‬
‫دفعه الشعور باألرق إلى مغادرة مضجعه‪ ،‬فعاد ُم َّ‬
‫جد ًدا إل برج‬
‫طل من بين األشجار العالية‬ ‫فيه ُي َّ‬
‫شرفة املنزل بوسط القلعة‪ ،‬وقف ِ‬
‫كشريط من األخضر املزرق في‬ ‫يتأمل كل ما يطاله ببصره‪ .‬رأى َّ‬
‫النهر‬
‫ٍ‬
‫شمس الصباح وبطول ض َّفتيه نما البوص بكثافة في الجزء َّ‬
‫الضحل‬
‫من املياه‪ ،‬رأي صيادين وعمال يتجولون على الضفة‪ ،‬رأي ُ‬
‫بضع نساء‬
‫ً‬
‫تمساحا‬ ‫يملئن الجرار باملاء وأخريات تسقي بعض الحيوانات‪ ،‬رأى‬
‫التموجات من ورائه وهو‬ ‫ُّ‬ ‫السطح‪ ،‬تنتشر‬ ‫صغيرا ينزلق َّ‬
‫بخف ٍة على َّ‬ ‫ً‬
‫َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫يتحرك وفي األعلى حلق غداف بكسل في دوائر‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وتحف املكان ًّ‬ ‫ُّ‬ ‫تنهد‪ ،‬وبدا أن َّ‬
‫حقا على الرغم‬ ‫السكينة تحف قلبه‬
‫من بهتان مالمح وجهه الشاحب الحزين على أثر فراق شقيقه‪ .‬صدح‬
‫صوت دقات طبول وقرعت نواقيس بدا من شدة صوتها َّأنها عمالقة‬ ‫ُ‬

‫‪192‬‬
‫ْ‬
‫الحجم إذ ُس ِمع صدى صوتها في األرجاء جميعها‪ ،‬ثم أعلن ٍ‬
‫مناد أتى‬
‫صوته من بعيد وهو يطوف في شوارع العاصمة عن دعوة إلحتفالية‬
‫ُ‬
‫عظيمة سوف تقام في قصر اإلله أوزيريس برعاية شقشقه إله‬
‫الجنوب ِست‪.‬‬
‫كصفعة على الوجه‪ ،‬وغمغم‪:‬‬ ‫تبدلت مالمح الكاهن‪َ ،‬‬
‫أصابه الخبر‬
‫ٍ‬
‫((ست ست ست ‪ ..‬ال خير فيه ً‬
‫أبدا))‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫دلف شبسكاف ُيرافقه نياخ هاو الذي قال فور دخوله من الباب‪:‬‬
‫((ثمة مجزرة حقيقية حدثت في معبد سوبيك نفرو))‪ .‬وأضاف‬ ‫َّ‬
‫وقتل ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أيضا حارس السيد خا أم ويست في‬ ‫شبسكاف‪(( :‬قتلت ببشاعة ِ‬
‫ً‬
‫ستفسرا في إستغراب‪(( :‬مما يعني؟))‪.‬‬ ‫ذات املعركة))‪ .‬سألهما الكاهن ُم‬
‫قال شبسكاف‪ ،‬نعتقد أن السيد خا إم ويست كان ُيدافع عن‬
‫ُ‬
‫السيدة سوبيك نفرو عندما قتل حارسه الخاص‪ ،‬بيد َّأنه غير موجود‬
‫ونعتقد َّأنه‪.))...‬‬
‫ً‬
‫بلهجة قاطعة وهو يرفع كف يده باسطا َّأي ُاه في وجه‬
‫ٍ‬ ‫قال الكاهن‬
‫ً‬
‫مخاطبا نياخ هاو‪:‬‬ ‫َ‬
‫شبسكاف ‪(( :‬ششش ‪ ..‬خا إم ويست بخير))‪ .‬والتفت‬
‫بخبر يقين))‪.‬‬ ‫ُ َّ‬
‫((إذهب ‪ ..‬وعد إلي ٍ‬
‫وأبدا يا سيدي))‪ .‬في اللحظة‬‫دائما ً‬
‫رد نياخ هاو‪ (( :‬أنا رهن إشارتك ً‬
‫همس يستغيث‪ .‬كان‬ ‫ُ‬
‫صوت‬ ‫ذاتها‪ ،‬قبل أن ُيغادر نياخ هاو مكانه ُسمع‬
‫ٍ‬
‫ذهنيا مع الكاهن ومن حوله‪ِ .‬التفت‬ ‫ً‬ ‫صوت خا إم ويست يتواصل‬

‫‪193‬‬
‫ً ُ‬ ‫ثالثتهم لبعضهم البعض وقبل أن يعلق أحدهم ُفتح ً‬
‫ضوئيا والقيت‬ ‫بابا‬
‫عبره قطعة نقود معدنية سقطت أسفل أقدام شبسكاف الذي إنحنى‬
‫ومتوتراوهو ينظر نحو البوابة الضوئية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ستغربا‬ ‫والتقطها وقال ُم‬
‫((مبللة بالدماء))‪ .‬إندفع الكاهن كاي تاي وعبر من البوابة وعبر من‬ ‫ُ‬
‫حارسيه دونما تردد أو أن يعرفا إلى أين ستقودهما هذه البوابة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫خلفه‬
‫َّ‬
‫الحجرية‬ ‫وجدوا أنفسهم يخرجون في وسط غرفة خا إم ويست‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بركة من‬
‫داخل املعبد األسود‪ .‬ووجدوه ساقطا على األرض‪ ،‬غارقا في ٍ‬
‫الدماء بلونها األحمر القاني‪ ،‬مالمح وجهه مزرقة كمن شارف على املوت‪.‬‬
‫ُ‬
‫فزع كاي تاي لرؤية شقيقة على هذه الحالة‪ ،‬جلس ثالثتهم إلى جواره‪،‬‬
‫ساعداه شبسكاف ونياخ هاو على اإلعتدال وأسندا رأسه على أيديهم‪.‬‬
‫ومنحيا خالفات املاض ي‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫متناسيا‬ ‫قبض الكاهه على معصم شقيقه‬
‫عليه بيد أن خا إم‬ ‫وأمسك ِسواره السحري َّ‬
‫بغية القاء تعويذة الشفاء ِ‬
‫ويست قبض على يده وقال‪(( :‬ال فائدة‪ ،‬فات األوان))‪ .‬قاطعه كاي تاي‬
‫ً‬
‫مكروها وأنا‬ ‫وهو يزيح يده عن معصمه‪(( :‬لم ُيفت ش يء‪ ،‬لن ُيصبك‬
‫ُهنا))‪.‬‬
‫حدق خا إم ويست في مالمح وجه شقيقه وأمعن النظر بشدة‬
‫ثوان قليلة‬
‫مشهد من ٍ‬
‫ٍ‬ ‫داخل عينيه وشرد لبرهة قصيرة تذكر فيها‬
‫جمعهم قبل عشرات السنين‪ ،‬كان يلعبا مع بعض الصبية داخل أروقة‬
‫معبد السماء بين العمدان واملسالت العمالقة‪ ،‬فيختفي جميع الصغار‬
‫ُ‬
‫فرجة‬
‫ٍ‬ ‫حائط متوسط الطول يخفي أجسادهم‪ ،‬الحائط ِ‬
‫فيه‬ ‫ٍ‬ ‫خلف‬

‫‪194‬‬
‫أفقية ال تظهر منها سوا أعينهم‪ ،‬وعلى الصبي املختار أن يمر أمامهم‬‫ٍ‬
‫واحد منهم من لون عينيه‪ ،‬ومرة‬ ‫ً‬
‫واحدا تلو آخر ويكشف شخصية كل ٍ‬
‫بعد مرة كان خا إم ويست في دوره يكتشف أخيه من النظرة األولى‪ ،‬وفي‬
‫كل مرة كان كاي تاي يفشل في إكتشافه‪ .‬إبتسم خا إم ويست وهو‬
‫يتذكر لون عيني شقيقه الصغير الذي كبر وأصبح سيد الكهنة وما‬
‫بصوت واهن‪(( :‬بل فات وأنقض ى منذ‬
‫ٍ‬ ‫تزال عينيه بنفس لونهما وقال‬
‫زمن بعيد‪ ،‬فقط إسمع))‪ ،‬والتفت بوجهه نحو الحارسين وأضاف‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫((وأنتما أيضا إسمعا ‪ِ ..‬ست يسعى لفتح أبواب الجحيم‪ ،‬يرغب في إزالة‬
‫جيش منهم‪ .‬لذا جعل يورشو‬‫الحاجز بين البشر والغيالن ليحصل على ٍ‬
‫السحرية ليستخدم قوتها في إستدعاء سادة الجحيم‬ ‫َّ‬ ‫يجمع له األساور‬
‫ليلبوا أوامره‪ .‬األرض السوداء كلها بين أيديكم‪ .‬األرض كلها))‪ .‬ثم أطبق‬
‫شفتيه مع ًلنا بذلك صمته إلى األبد‪.‬‬
‫في هذه اللحظة‪ ،‬ظهر إله املوتى آنوبيس حامي املقابر ومرشد‬
‫األرواح في طريقها إلى العالم اآلخر وتجسد إلى جوارهم‪ .‬عمالق الجسد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫طوله ثمانية أقدام‪ ،‬له بشرة طينية سوداء تبدو عند النظر إليها وكأن‬
‫قناعا أسود على هيئة رأس ذئب‪،‬‬ ‫بها شقوق مليئة بالنار‪ ،‬يرتدي ً‬
‫مفتول العضالت عيناه تظهر غائرتين داخل رأسه خلف القناع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫بوشاح أسود مصنوع من معدن ناري ُمتدلي من حزام عريض‬ ‫ملفوف‬
‫ً‬
‫أساور حديدية من نار يستخدمها‬
‫ٍ‬ ‫يلتف حول خصره‪ ،‬ممسكا في ُيسراه‬
‫في تكبيل األرواح السيئة ويجرها بها في الطريق إلى آخر العالم‪ ،‬وفي‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫صولجان ُز ٌ‬
‫جاجي مليء بالذئبق‪ ،‬يجعل األرواح الجيده تتشبث‬ ‫ُيمناه‬
‫‪195‬‬
‫بلطف نحو العالم اآلخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ويسقيه من ذئبقه وهو يرافقهم‬
‫ِ‬ ‫فيه‬
‫ِ‬
‫ّ ً‬
‫عميق‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫وتأوه أملا‬ ‫إنتفضت روح كاي تاي داخل جسده‬
‫لدى رؤيته آنوبيس يتجسد أمامه ْإذ علم أن خا إم ويست فارق‬ ‫ومكتوم ّ‬
‫ُ‬ ‫الحياة ً‬
‫فعليا وأن روحه سوف تغادر إلى حيث ال يمكن الوصول إليها‬
‫مرة أخرى في هذا‬ ‫يعد بإستطاعة أحدهم أن يجعله موجود َّ‬ ‫ُم َّ‬
‫جد ًدا ولم ُ‬
‫بدموع لم يستطع أن ُيخفيها‪ ،‬وتوسل إلى‬ ‫ٍ‬ ‫العالم‪ .‬اغرورقت عيناه‬
‫ً‬
‫((رحماك يا إلهنا‪ُ ،‬رحماك يا إلهنا‪ُ ،‬رحماك يا إلهنا))‪.‬‬
‫قائال‪ُ :‬‬ ‫آنوبيس‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫فخاطبه الكاهن‬ ‫هز آنوبيس رأسه أن ال فائدة‪ ،‬قض ي األمر‪.‬‬
‫ُ‬
‫ستساعدني))‪َّ .‬‬ ‫ستجديا‪(( :‬تقابلنا ُم ً‬
‫ً‬
‫هز آنوبيس رأسه‬ ‫سبقا‪ ،‬قلت إنك‬ ‫ُم‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫عضلة واحدة في وجهه وقد ُثبتت عيناه وقال‬ ‫ٍ‬ ‫دونما أن تتحرك‬
‫بعيدة‪(( :‬كاي تاي‪ ،‬صديقك العجوز سبقك إلى‬ ‫ٍ‬ ‫أعماق‬
‫ٍ‬ ‫أتى من‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الرحيل))‪ ،‬واشار إلى وجه خا إم ويست وأضاف‪(( :‬انظر))‪ .‬كان رأس‬
‫ُ‬
‫شقيقه ما يزال في ِحجره‪ ،‬لكن عينيه مفتوحتان ت َحدقان إلى الفراغ‬
‫كفتا عن الحركة‪ .‬وفي هذه اللحظة‪ ،‬حنت البومة رأسها‬ ‫وشفتاه َّ‬
‫ً‬
‫وصدحت صارخة بصوتها وكأنها تنعي روح سيدها التي بدأت بالفعل‬
‫تتحرر من جسده‪.‬‬
‫شديد بدا في صوته توسل كاي تاي وهو يقبض بشدة على‬ ‫ٍ‬ ‫بحز ٍن‬
‫ً‬
‫كف شقيقه قائال لإلله آنوبيس‪(( :‬أنت إله‪ ،‬أرجوك ساعدني‪ ،‬لقد‬
‫ً‬ ‫ضاع نصف العمر ونحن مفترقان‪ ،‬أعده َّ‬
‫إلي ولو قليال))‪.‬‬
‫بصوت تردد صداه في املعبد‪(( :‬ال أحد من اآللهة‬
‫ٍ‬ ‫رد عليه آنوبيس‬
‫‪196‬‬
‫يستطيع أن ُيساعدك‪ُ .‬يمكن لإلله أن يعيش ألف سنة‪ ،‬لكن ال ُيمكننا‬
‫الدافيء واذهب من ُهنا‪،‬‬ ‫التغلب على املوت‪ُ .‬خذ سواره وسيفه ومعطفه َّ‬
‫ِ‬
‫لقد حان الوقت لتذهب روحه إلى سبيلها))‪.‬‬
‫َّ‬
‫((لدي‬ ‫شيئا لتفعله!))‪ .‬ورد آنوبيس‪:‬‬‫قال كاي تاي‪(( :‬البد وأن لديك ً‬
‫ُ‬
‫الكثير‪ ،‬ليس من بين هذا الكثير أن أعيد روحه مرة أخرى))‪ .‬والتفت إلى‬
‫تحررت))‪.‬‬ ‫جسد خا إم ويست ومد يده وهو يقول‪َّ :‬‬
‫((إن َك َّ‬
‫ُ‬
‫كتلة‬‫ببطء شديد على هيئة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إنسلت روح خا إم ويست من جسده‬
‫ُ‬
‫من ضباب ونهضت تمسك في يد آنوبيس املمدودة وسط ذهول شديد‬
‫باب‬ ‫بدا في مالمح الكاهن كاي تاي‪ .‬ترجل آنوبيس ُ‬
‫خطوات نحو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بضع‬
‫ُ‬
‫صطحبا الروح من خلفه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ضوئي فتح أمامه في الفراغ ُم‬
‫ٍ‬
‫قبل أن يعبرا البوابة إلى العالم اآلخر‪ ،‬التفتت الروح الضبابية‬
‫ُ‬
‫أخير إلى‬
‫وداع ٍ‬‫شديد وفيها نظرة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بوضوح‬
‫ٍ‬ ‫وظهرت عينا خا إم ويست‬
‫شقيقه كاي تاي الذي إبتسم وتذكر عينا أخيه ومالمحه وقتما كان‬
‫صغيرا في معبد السماء وعرفها ً‬
‫أخيرا فهمس‪(( :‬خا ‪ ..‬إم ‪ ..‬ويست ‪..‬‬ ‫ً‬
‫وداعا))‪ .‬وتحررت دمعة دافئة من عينيه لحظة أختفاء روح شقيقه‬ ‫ً‬
‫خلف البوابة وإنغالقها‪.‬‬
‫ً‬
‫وأخيرا تمالك‬ ‫ً‬
‫حتضنا رأس شقيقة‪،‬‬ ‫لدقائق قليلة‪ ،‬ظل كاي تاي ُم‬
‫ٍ‬
‫نفسه ونهض وهو يأمر حارسيه بحمل جسده واإلنتقال به إلى منزله‬
‫ً‬
‫بغية اإلستعداد لتحنيطه وإقامة طقوس دفنه‪ .‬كان الغضب ُمستحوذا‬ ‫َّ‬
‫عليه بالكامل وهو يقوم بتحنيط أخيه بنفسه وسط ُمساعدة حارسيه‬
‫‪197‬‬
‫وحارسين آخرين‪َّ ،‬إال أن ذلك لم ينمعه من الشرود في ذكرياتهم ً‬
‫سويا‪،‬‬
‫فتذكر يوم عودتهما من معركة نينوي‪ ،‬وكيف أن اإلله رع حكم عليه‬
‫السوار القصوى وذبح جيش‬ ‫قوة ِ‬ ‫باملوت كعقاب على إستخدامه َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بالسوار لنفسه‪ .‬إال أن تدخله‬ ‫دافوس ي‪ ،‬وكيف أنه أراد لو يحتفظ ِ‬
‫وتوسله لإلله أن يعفوا عن أخيه جعله يخفف العقاب‪ ،‬فبدله بالنفي‬
‫من املدينة وعدم مخالطة الناس‪ .‬وتذكر كيف أن خا إم ويست الذي‬
‫كان ُيحب السيدة كاريسا ويرغب في الزواج بها‪ ،‬تركها وترك أمالكه‬
‫بيت وحدائق وأموال له‪ .‬ثم باغتته نوبة حنين فأنتفض ً‬ ‫ً‬
‫باكيا‬ ‫كاملة من ٍ‬
‫وترقرت الدموع من عينيه‪.‬‬
‫الشمس‬ ‫مستترا من َّ‬
‫ً‬ ‫عند حلول الظهيرة‪ ،‬كان إله األرض أوزيريس‬
‫قرمزية‪ ،‬وقد أر َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ‬
‫اح ساقه على ذراع كرسيه الذهبي املنقوش‪،‬‬ ‫تحت ظل ٍة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وجلست امللكة إيزيس إلى جواره‪ ،‬فيما وقف الحارسين العمالقين‬
‫امللكية منتبهين وقد أر َ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫اح كل منهما يديه‬ ‫مؤخرة املقصورة‬ ‫مونتو رع في ِ‬
‫الحرس اإللهي األسود َّ‬
‫املثبت‬ ‫وانسدل معطف َ‬ ‫َ‬ ‫على حزام سيفه‪،‬‬
‫َّ‬
‫بدبوس ذهبي ُمحلى بالجواهر من على كتفيهما العريضين‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ً‬
‫دلف متحدث القصر اإللهي واح تي إلى املقصورة وتحدث مباشرة‬
‫ً‬
‫إلى اإلله أوزيريس قائال باقتضاب بصوته الخشن كاملنشار في الخشب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫((أنهيت جميع التدابير الالزمة ألقامة الحفل املخطط له من قبل اإلله‬
‫ِست والسيدة نفتيس‪ ،‬على أن يكون خالل خمسة َّأي ٍام من شمس‬
‫َّ‬
‫بتحي ٍة خجول على ذكر اسم‬ ‫اليوم))‪ .‬هزت السيدة إيزيس رأسها‬

‫‪198‬‬
‫شقيقتها‪.‬‬
‫قال أوزيريس وهو يعتدل قبل أن ينهض‪(( :‬ستكون احتفالية‬
‫ٌ‬
‫اال َ‬ ‫ُ‬
‫فغر فاه‬ ‫رائعة))‪ .‬كان امللك يرتدي سترة مذهبة ن ِقش عليها غز‬
‫حربا ً‬ ‫َّ‬
‫يتوقع أن ال تقوم ً‬
‫أبدا في بالده‪.‬‬ ‫للطعام‪ ،‬كأنه‬
‫في املساء‪ ،‬بعد إنتهاء طقوس تحنيط ودفن الكاهن خا إم ويست‪،‬‬
‫جلس الكاهن برفقة حارسية شبسكاف ونياخ هاو‪ ،‬تبادال أطراف‬
‫أخيرا أن عليهم مقابلة إله األرض‬‫عما يدور حولهم‪ ،‬وتوصال ً‬ ‫الحديث َّ‬
‫أوزيريس وأخباره بما لديهم‪ .‬مع نهاية االجتماع كانت كتفا الكاهن‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫متيبستين من الجلوس في املقعد نفسه طويال وجسده بالكامل يؤمله‬ ‫ِ‬
‫حزنا على شقيقه فقرر اإلنسحاب من جلسته والذهاب إلى فراشه على‬ ‫ً‬
‫سويا في الصباح أمر زيارة القصر اإللهي بغرض التواصل مع‬ ‫أن يرتبوا ً‬
‫اإلله أوزيريس‪.‬‬
‫وأخيرا أتى الصباح‪،‬‬‫ً‬ ‫َّ‬
‫مرت الليلة ثقيلة على الكاهن ولم ينم فيها‪،‬‬
‫تردد نفير ُي ِعلن‬
‫يتناول األفطار برفقة زوجته وحارسيه‪َّ ،‬‬
‫جلس َ‬ ‫َ‬ ‫وبينما‬
‫ضيف كبير املقام إلى املدينة‪ .‬وبالنظر من برج الشرفة‬
‫ٍ‬ ‫عن وصول‬
‫ُ‬
‫بطابور من الفرسان واألتباع‪،‬‬ ‫وجدا َّأنه الساحر يورشو قد حضر‬
‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ومعه َّ‬
‫ستة من الغيالن املسلحين األقوياء ُمهيبي الشكل‪ ،‬على ثيابهم‬
‫َّ‬
‫الرمادية رمز العقرب يقودون ويوجهون إثنان من الفيلة العماليق‬
‫يجرون عربة مصنوعة من الفوالذ ُح ّمل فوقها ً‬
‫تابوتا بطول ثالثة أمتار‬ ‫ِ‬
‫صنع بالكامل من الذهب الخالص املوش ى بأثمن الجواهر والنقوشات‬ ‫ُ‬

‫‪199‬‬
‫السحرية‪ ،‬متوجهين ِبه صوب القصر اإللهي‪ .‬أراد الكاهن لو يقفز من‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫حارسيه أمسكا ِبه ومنعاه ُمعللين ذلك‬ ‫ِ‬ ‫الشرفة وينتقم ألخيه‪ ،‬إال أن‬
‫لقاء مع اإلله رع ويخبروه بما حدث ويكشفا‬ ‫بأن عليهم أن يحصال على ٍ‬
‫له نوايا شقيقه إله الجنوب ِست‪.‬‬
‫وهم باألنصراف إلى‬ ‫حنى الكاهن كاي تاي رأسه بجمود في غضب‪َّ ،‬‬
‫َ‬
‫فأدرك‬ ‫الضجر‪،‬‬‫وانتابته حالة من َّ‬
‫َ‬ ‫مضجعه‪ .‬جلس على حافة الفراش‪،‬‬
‫النوم ُم َّ‬ ‫خلد إلى َّ‬ ‫َ ُ‬
‫غاضب على األقل‪ .‬خرج من‬ ‫ٌ‬ ‫جد ًدا‪ .‬ليس وهو‬ ‫أنه لن ي‬
‫فه َّزه من كتفه‬ ‫ً‬
‫جالسا على كرس ّي خارج الباب‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫الغرفة‪ ،‬وجد حارسه‬
‫ٍ‬
‫قائال‪(( :‬استدع شبسكاف ونياخ هاو‪ ،‬ثم أجر إلى الخارج ّ‬ ‫ً‬
‫وجهز‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫حصانين وعجلتين))‪ .‬ردد الحارس بعينين عليهما غمامة النوم فلم يكن‬
‫ْ‬
‫قد نام هو اآلخر إذ سهر يعمل على خدمة سيده‪(( :‬حصانين))‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫احتقن وجه الكاهن وزفر قائال‪(( :‬تلك الحيوانات السوداء‬
‫الكبيرة‪ ،‬أنا واثق بأنك رأيتها من قبل‪ ،‬أربع سيقان وذيل ‪ ...‬لكن نياخ‬
‫أوال))‪ .‬هرول الحارس ُم ً‬‫ً‬
‫بتعدا من أمام سيده‪.‬‬ ‫هاو وشبسكاف‬
‫حضر شبسكاف برفقة نياخ هاو إلى الشرفة‪ ،‬نظر الكاهن إلي‬
‫تجردا من أسلحته‪ ،‬فقال‪(( :‬كان‬‫عادية ُم ً‬
‫تديا مالبس ّ‬‫نياخ هاو وكان مر ً‬
‫حريا بك أن ترتدي ً‬
‫ثيابا غير هذه وتتجهز‪ ،‬فاألجواء بالخارج غير آمنة))‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫مكان ما؟))‪.‬‬
‫قال شبسكاف‪(( :‬أنحن ذاهبان إلى ٍ‬
‫((أكل ُ‬
‫الحراس‬ ‫ُّ‬ ‫رد سيده بأقتضاب لكنه ًّردا على غير العادة‪:‬‬
‫بذكائك؟))‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫ُّ‬
‫على الرغم من املخاطر التي تحف شوارع العاصمة ممفيس‬
‫لوجود يورشو وأتباعه فيها‪ ،‬شعر الكاهن أن عليه أن ُيقابل إله األرض‬
‫َ‬
‫أخرجه‬ ‫وشعر باألمان في وجود حارسيه األمينين عليه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫في هذا اليوم‪،‬‬
‫جانبية في سور املنزل من الشمال‪ ،‬ومن هناك‬ ‫َّ‬ ‫الحارسين من َّبو ٍ‬
‫ابة‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قطعا َّ‬
‫الدرب املحاط باألشجار بعجلتيهما الحربيتين حتى سفح تل‬
‫بصفوف من‬
‫ٍ‬ ‫ممفيس العالي‪ ،‬ثم َّأتجها إلى طريق امللوك‪ ،‬حيث َّ‬
‫مرا‬
‫لطريق آخر يلتف حول املدينة حيث‬ ‫ٍ‬ ‫التماثيل امللكية‪ ،‬ثم عبرا منه‬
‫َّ‬
‫املغطاة َّ‬ ‫فمرا بصفوف من َّ‬ ‫التجار َّ‬ ‫يسكن كبار ُّ‬
‫بالستائر‪،‬‬ ‫النوافذ‬ ‫ٍ‬
‫املبنية بالجرانيت الوردي‪ .‬بدا أن الشمس تتبعهم أينما‬ ‫واملباني العتيقة َّ‬
‫النظر إليهما ثم تتوارى وراء غيمة أو شجرة‪ ،‬وهكذا‬ ‫ذهبا‪ ،‬تختلس َّ‬
‫عجوز شمطاء وحيدة‬ ‫أحدا ُيقلقهم باستثناء‬ ‫دواليك‪ ،‬بينما لم ُيصادفا ً‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ً ً‬
‫بنظرة خائفة ومشفقة في‬ ‫ٍ‬ ‫َة ميتة من ذيلها‪ ،‬رمقتهم‬ ‫تحمل ِقط‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ذات الوقت‪ ،‬كأنها تخش ى أن يح ِاوال سرقة عشائها‪ ،‬ثم انسلت وسط‬
‫ّ‬
‫كلمة واحدة‪.‬‬ ‫الظالل بال ٍ‬ ‫ِ‬
‫مزدحما على الرغم من الوقت‬ ‫ً‬ ‫لدى وصولهم القصر اإللهي‪ ،‬كان‬
‫ببشاشة واصطحبوهم إلى‬ ‫ٍ‬ ‫املبكر‪ ،‬وحياهم ُحراس البوابة الرئيسية‬
‫ألمر هام‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬ ‫كبير الحرس فأخبراه برغبتهم في مقابلة إله األرض ٍ‬
‫كثيرا عندما يعرف أنكم أتيتم‪ .‬لكن ذلك ال يعني أنكم‬ ‫سر اإلله ً‬ ‫ُ‬
‫((سي ُّ‬
‫ْ‬
‫ستقابلوه اليوم‪ .‬فال فرصة للقائه قبل خمسة َّأي ٍام ٍ‬
‫كاملة من اآلن‪ ،‬إذ‬
‫أنه كثير اإلنشغال بالتدابير الالزمة لحفل عيد الحصاد الثاني والذي‬
‫سيقام برعاية اإلله ِست))‪ .‬أطل الكاهن برأسه من فوق عجلته‬ ‫ُ‬
‫‪201‬‬
‫ً‬
‫قاطعا‪:‬‬ ‫الحربية وقال‪(( :‬أحتاج للقاءه أسرع من ذلك))‪ .‬ورد الحارس‬
‫ُ‬
‫سأحرص على تجهيز‬ ‫((سيكون ذلك في الشمس الخامسة من اليوم‪،‬‬
‫موعد لك‪ .‬وكأس من َّ‬
‫النبيذ امللكي))‪ .‬استاء الكاهن وهو ينظر إلى‬ ‫ٍ‬
‫سيدي‪ ،‬لكني ال أستطيعُ‬
‫حارسيه‪ ،‬فأضاف كبير الحراس‪(( :‬سامحنا يا ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فعل ش ٍيء غير ذلك))‪.‬‬
‫۞۞۞‬

‫‪202‬‬
‫‪13‬‬
‫ً َّ‬
‫كئيبا من النوع الذي ُيشعرك‬ ‫هدوءا ً‬ ‫ً‬ ‫جاء الصباح هادئا‪ ،‬إال َّأنه‬ ‫َ‬
‫مرتدية ُف ً‬
‫ستانا نيلي اللون‬
‫ً‬
‫أن الحياة تحتضر‪ .‬أطلت من شرفتها وكانت‬
‫بخيوط من الذهب والفضة‪ ،‬وتطاير شعرها الذي‬ ‫ٍ‬ ‫فضفاض‪ُ ،‬مطرز‬
‫تعد تحمله فوق رأسها منذ‬ ‫حررته من تاجها منذ وقت طويل فلم ُ‬
‫الحراس يعبرون‬ ‫ملحت ُبركن عينها ثالثة من ُ‬ ‫غادرت القصر اإللهي‪َ .‬‬
‫بقية ُ‬
‫الحراس‪،‬‬ ‫أبواب القلعة‪َّ ،‬ميزتهم من مالبسهم املختلفة عن ّ‬
‫لدى وصولهم إلى قاعتها‬ ‫فتسائلت ُمستغربة في حيرة‪(( :‬كانوا سبعة!))‪ّ .‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫مبك ًرا عن املتوقع؟))‪.‬‬ ‫كانت تتسائل في نفسها‪(( :‬ملاذا عادوا ِ‬
‫بقية من خرجوا‬ ‫استفسرت نفتيس ُحراسها الثالثة عن َّ‬ ‫َ‬ ‫حين‬
‫َّ‬
‫الح َّراس ((أنه يورشو‪،‬‬ ‫أجابها أحد ُ‬
‫برفقتهم للتجسس على زوجها ست‪َ .‬‬
‫ِ‬
‫دفعة واحدة))‪.‬‬ ‫أفقدنا أربعة رجال ٍ‬
‫تلقتها في بطنها‪ ،‬فقد كانوا من املقربين‬ ‫أحست بالكلمات كركلة َّ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫عليه‬
‫كل حال‪ ،‬بل ِ‬ ‫إليها‪ ،‬وقالت لنفسها‪(( :‬على هذا الغبي ُمساعدتي على ّ‬
‫ِ‬
‫ساعد نفسه حتى ال ُيدفن كما ُدفن الجنوب كله أسفل أقدام‬ ‫أن ي ِ‬
‫ُ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫حارس في الحديث‪ ،‬قائال‪(( :‬على الجانب اآلخر من‬ ‫سترسل‬ ‫ِست))‪ِ .‬ا‬
‫املدينة جمع يورشو اآلالف من الجنود))‪.‬‬
‫سألت نفتيس‪(( :‬اآلالف!! ماذا يفعلون؟))‪.‬‬
‫‪203‬‬
‫سارا ً‬
‫كثيرا))‪.‬‬ ‫أجاب حارس بوجوم‪ًّ :‬‬
‫((أيا كان‪ ،‬فلم يكن منظرهم ًّ‬ ‫َ‬

‫على الجانب اآلخر من املدينة‪ ،‬داخل غرفته امللكية في قصره‬


‫الحراس على ارتداءه درعه‬ ‫اإللهي‪ ،‬حظى ست بمساعدة اثنان من ُ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫والفض ي‪ ،‬وعلى رأس خوذته‬ ‫الفوالذي املزخرف ذات اللونين الذهبي‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫وضعوا ريشات حمراء طويلة‪ ،‬وناوله أحدهم ترسه املزين بعقر ٌب‬
‫طويال ذا نصل أمض ى من ّ‬ ‫ً‬ ‫أسود‪ .‬عاونهم يورشو وناو َل اإلله ً‬
‫أي‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫سيفا‬
‫صنع‬ ‫قبضة على شكل تمساح‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نصل آخر عرفته مملكة الجنوب‪ ،‬له‬‫ٍ‬
‫ناسب يد امللك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫خصيصا لي ِ‬
‫ترجل ِست أمام يورشو إلى خارج بوابة القصر‪ ،‬توقفا في الساحة‬
‫قدما‪ ،‬وإلى‬‫واحدة منهما تجاوز ثالثين ً‬
‫ٍ‬ ‫العظيمة بين مسلتين طول كل‬
‫وجها لوجه‬ ‫جوارهم وقف بعض ُمساعديهم من قادة فيالق الجيوش ً‬
‫َّ‬
‫الل َّ‬ ‫مع ‪ 5‬أالف ُمقاتل‪ .‬كانوا مقاتلين النخبة‪ ،‬طوال القامة‪ُ ،‬‬
‫وزية‬ ‫أعينهم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الداكنة ال تبوح إال بغضب‪ ،‬يرتدون أقنعة حديدية سوداء‪ ،‬أجسادهم‬
‫دروعا سوداء‬ ‫النمر والذئب‪ ،‬وقد ارتدوا ً‬ ‫بالكتان والصوف وفرو َّ‬ ‫ُمغطاة َّ‬
‫واقيات‬
‫ٍ‬ ‫وخوذات ذات‬
‫ٍ‬ ‫الصلب ُتشبه ظهر ُ‬
‫السلحفاة‪،‬‬ ‫مصنوعة من ُ‬
‫ِ‬
‫حاسيان وريشة سوداء طويلة‬ ‫كل منها نابان ُن َّ‬
‫خرج من ّ‬ ‫طويلة لألنف‪َ ،‬ي ُ‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫واحد منهم يبدو كجندي ُمحارب ال مثيل له إال َّأنهم في حقيقة‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬
‫األمر مجموعة من الهمج‪.‬‬
‫ً‬
‫فكثيرا منهم مرتزقة‬ ‫لم يكن جيش ِست مكون من الكيمتين فقط‪،‬‬
‫من مملكة كوش وممالك أخرى إستمالهم ِست بالعمالت الذهبية التي‬

‫‪204‬‬
‫عنوة من ُت َّجار أهل الجنوب‪ .‬كان ً‬ ‫ً‬
‫كثيرا من جنوده قد فروا من‬ ‫جمعها‬
‫سوء حكمه‪ ،‬منهم من غادر إلى ممفيس في الشمال فأصبح تحت ّ‬
‫إمرة‬
‫أوزيريس‪ ،‬ومنهم من فر إلى قلعة زوجته نفتيس التي إستمالت كل من‬
‫لقوة زوجها‪.‬‬ ‫لجأ إليها رغبة منها في تكوين قوة مضاهية َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خاطبا في جنوده قائال‪(( :‬أنتم أبناء كيميت األصليين‪،‬‬ ‫صاح ِست‬
‫دائما للدماء‪ ،‬ال تهابون والئم الجثث‪.‬‬ ‫أخوة الدم والسالح‪ ،‬املتعطشين ً‬
‫فخورا بش ٍيء أكثر من ذلك))‪ .‬وتوقف عن الحديث‬ ‫ً‬ ‫وال يوجد قائد يكون‬
‫ً‬
‫لثوان معدودة‪ ،‬اشاح فيها بعينيه عنهم ُملتفتا إلى تمثاله العمالق الذي‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫يقف خلفه تماما بطول ثالثين قدما شأنه شأن املسالت‪ ،‬ثم أضاف‬ ‫ً‬
‫بكياسة ُمفتعلة‪(( :‬ممفيس ‪ ..‬عاصمة الشمال‪ ،‬أعظم مدينة كانت أو‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫والبوابة بين الشمال والجنوب ومركز‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ستكون‪ .‬إنها مركز العالم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الشرق والغرب‪ ،‬أعتق من أن تدرك ذاكرة البشر منشأها‪ ،‬وبديعة‬
‫لدرجة أنها ال تستحق أن ُتحكم َّإال بأيدينا))‪ .‬صاح الجنود َّ‬
‫بقوة ودقوا‬
‫برماحهم الطويلة وسيوفهم الصلبة على الدروع فأهتزت األرض أسفل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جميعا على يد‬ ‫أقدامهم‪ .‬استرسل ِست قائال‪(( :‬الجنود املتمردون حرقوا‬
‫ً‬
‫يورشو))‪ .‬وهز رأسه وخفض صوته قليال وهو يقول بلهجة محذرة أكثر‬
‫َّ‬
‫منها معلومة‪(( :‬والغيالن ‪ ..‬علقت رؤوسهم على الرماح))‪ .‬ثم رفع صوته‬
‫جد ًدا قال‪(( :‬والبقية هربوا إلى قلعة نفتيس حيث أنهم يستعدون‬ ‫ُم َّ‬
‫ملواجهتنا‪ ،‬لكن أنتم يا ذئاب الجنوب سوف تسحقونهم عند عودتنا‬
‫خطوات نحو‬
‫ٍ‬ ‫بعد إسقاط ممفيس))‪ ،‬أنهى جملته وهو يترجل بضع‬
‫عربة جرها فيل عمالق قاده بعض الحراس حتى وقف خلفه ً‬
‫تماما‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫‪205‬‬
‫كاشفا صناديق مليئة عن آخرها‬‫ً‬ ‫رفع أحد ُحراسه الغطاء عن العربة‬
‫واحد من الصناديق وقام بإفراغه‬ ‫َّ‬
‫الذهبية‪ .‬حمل ِست ٍ‬ ‫بقطع العمالت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قذفا أسفل أقدام جنوده ومن خلفه فعل ثالثة من ُحراسه الش يء‬
‫ذاته‪ .‬قال ِست لجنوده وهو يستدير ُم ً‬
‫غادرا الساحة‪(( :‬أنتم تستحقون‬
‫هذا‪ ،‬تستحقون الذهب واملجد))‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫بعد ثالثة َّأيام‪َ ،‬‬
‫جاءت ظهيرة‪ ،‬إهتدت فيها نفتيس إلى حيلة ماكرة‪،‬‬
‫ْإذ وقفت في نافذة غرفتها ُت ِط ّل على النهر‪ ،‬من ثم تواصلت ً‬
‫ذهنيا مع‬
‫يورشو الذي كان في عجلته الحربية خلف إله الجنوب ِست برفقة قادة‬
‫فيالق الجيش ومن خلفهم خمسة اآلف ُمقاتل متوجهين صوب‬
‫العاصمة ممفيس‪ .‬كانوا قد تجاوزوا الحدود الشمالية ملدينة كاهون‬
‫قليلة‬
‫ٍ‬ ‫عات‬
‫واقتربوا من الحدود الجنوبية ملدينة ميديوم فباتت سا ٍ‬
‫((أرغب فيك‪،‬‬‫ُ‬ ‫تفصلهم عن بوابات ممفيس‪ .‬همست له بأقتضاب‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫سأنتظرك وقت األصيل))‪ .‬في اللحظة ذاتها‪َ ،‬‬
‫سمعت طرقة خفيفة على‬
‫الباب‪ ،‬فالتفتت ً‬
‫بعيدا عن النافذة‪ ،‬وقالت‪(( :‬ادخل!))‪.‬‬
‫عاما وانحنيتا لها‪،‬‬ ‫دلفت اثنتان من الخدم بعمر يقل عن عشرين ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مارسان عملهما مباشرة‪ .‬كانت نفتيس مشغولة الذهن‪ ،‬ولم‬ ‫ثم بدأتا ت ِ‬
‫َّ‬
‫املفضلة‬ ‫عوضت صمتها‪ ،‬كانت‬ ‫تنبث ببنت شفة‪ ،‬لكن إحدى الفتاتين َّ‬
‫الشعر َّ‬
‫بنية‬ ‫لدى سيدتها‪ ،‬فتاة في الثامنة عشر من ُعمرها‪ ،‬ناعمة َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ‬
‫فخلعت أسمال فستانها‪ ،‬ثم‬ ‫العينين لم تكف عن الثرثرة وهي تعمل‪.‬‬
‫اخلية‪ .‬مألت خادمتها األخرى املغطس‬ ‫طنية وثيابها َّ‬
‫الد َّ‬ ‫خلعت ُسترتها ُ‬
‫الق َّ‬

‫‪206‬‬
‫بالزيوت َّ‬ ‫َّ‬
‫وعطرتاه ُّ‬ ‫الساخن الذي َ‬ ‫باملاء َّ‬
‫الفواحة‪،‬‬ ‫جاءتا به من املطبخ‬
‫ُّ‬
‫وساعدتاها على النزول إلى املغطس‪.‬‬
‫َّ‬
‫نظفنها َّ‬
‫بالصابون‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫حممتها واحدة وغسلت شعرها ووجهها وبينما‬
‫الدافىء على رأسها‪ ،‬لم َتر أمامها غير وجه يورشو الذي‬ ‫وصببن املاء َّ‬
‫رغبت في أفراغ رأسه من جميع ما فيه من مخططات‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫نظيفة ً‬
‫ساعدتها الخادمتان على الخروج من‬ ‫تماما‬ ‫عندما صارت‬
‫املغطس وأحضرتا املناشف القطنية لتجفيف جسدها‪ .‬مشطت الفتاة‬
‫ضمختها األخرى ب ِعطر زهرة‬ ‫َشعرها حتى تألق كالحرير األحمر‪ ،‬بينما َّ‬
‫الياسمين البري القادمة من سهول بالد كوش‪ ،‬مسحت به على ّ‬
‫كل‬‫ِ‬
‫َّ‬
‫معصم ووراء أذنيها وعلى حافتي نهديها‪ ،‬ثم مسحة باردة أخيرة على‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ساقيها وما هو أبعد من ذلك‪ .‬بعدها َ‬
‫التحتية‪،‬‬ ‫ألبستها األثنتان الثياب‬
‫وفوقها الوشاح الحريري ذا اللون األرجواني املائل إلى األزرق الذي ُيبرز‬
‫املموه‬‫الصندل َّ‬
‫وضعت خادمة قدميها في َّ‬ ‫َ‬ ‫لون عينيها الزرقاوين‪ ،‬ثم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫املرصع بالجواهر على رأسها‪،‬‬ ‫بالذهب‪ ،‬بينما َّثبتت األخرى التاج‬
‫الذهبي َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫املزين بالنجوم حول معصمها‪ ،‬وفي‬ ‫ووضعت نفتيس ِسوارها‬
‫ُ َ‬ ‫َّ‬
‫النهاية كان الطوق الذهبي الذي ن ِقشت عليه رموز بالكيمتية القديمة‬
‫وأمرت الخادمتين بمغادرة الغرفة‪.‬‬
‫طيا‬ ‫مع اقتراب وقت األصيل‪ ،‬كانت عجلته الحربية تطوي األرض ًّ‬
‫منطلقا أمامه فوق عجلته‬ ‫ً‬ ‫عندما نظر يورشو إلى ِست الذي كان‬
‫الحربية يقودها قائد أحد فيالق الجيوش لألمام يشق رمال الصحراء‬

‫‪207‬‬
‫وميز أنه منشغل باإلسراع في‬ ‫دون هواده بعدما قطعوا مدينة ميديوم‪َّ ،‬‬
‫قطع الطريق أكثر من أي ش ٍيء آخر وأنه لم يالحظ غيابه عن املوكب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫فشرد بعجلته الحربية ُم ً‬
‫بتعدا عن صفوف الجيش وتوارى خلف تل ٍة‬
‫صغيرة ثم قال‪(( :‬الوهومورا))‪ .‬إنفتح الباب السحري في الفراغ‪ ،‬فقذف‬
‫عبره قطعة نقود ذهبية‪.‬‬
‫ُ‬
‫فتح الباب في غرفة نفتيس وسقطت القطعة النقدية على األرض‪.‬‬
‫لدى رؤيتها القطعة‬‫إبتسمت نفتيس إبتسامة الواثقة في حالها وحيلتها ّ‬
‫أرضا‪ِ .‬انحنت وقبضت عليها‪ ،‬لم تردها عبر البوابة‪،‬‬ ‫النقدية تسقط ً‬
‫ُ‬ ‫أوال في املرآة ذات األطار ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الفض ي وابتسمت وهي تحرك‬ ‫ِ‬ ‫رمقت انعكاسها‬
‫لسانها بين شفتيها وتعمدت إظهار جسدها من أسفل وشاحها‬
‫األرجواني املتدلي عن كتفيها لتبدو شبه عارية وهي تقترب من فراشها‪.‬‬
‫الفراش ثم القت بالقطعة الذهبية عبر البوابة‬ ‫َّ‬
‫تمددت على بطنها على ِ‬
‫ودفنت رأسها في وسادتها‪.‬‬
‫دة ُ‬ ‫ُ َّ ً‬
‫شبه عارية في فراشها‪،‬‬ ‫عبر يورشو من البوابة‪ ،‬تفاجأ بها ممد‬
‫((حقا؟))‪َ ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً َّ‬
‫ً‬
‫متابعا وهو‬ ‫وه َّز كتفيه‬ ‫فتساءل غير ُمصدقا ِملا يراه‪:‬‬
‫س لحيته‪(( :‬يبدو َّأنني مدعو ألحظى بالقليل من املرح))‪.‬‬ ‫َّ‬
‫يتحس ُ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الفراش‬
‫لم تحرك امللكة ساكنا‪ ،‬فدنا منها حتى جلس على حافة ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وشعر أن عينيه ترى‬
‫لرؤيته خليط‬
‫ِ‬ ‫مصنوعا من حليب‪ ،‬وانبهر‬ ‫جسدا‬
‫ً‬
‫العسل باللبن والقشدة إلى جوار قارورة من النبيذ‪ .‬تجرأ ووضع يده على‬
‫ً‬
‫جسدها‪ِ ،‬ارتعشت‪ ،‬فتبسم قائال‪(( :‬أتسمحي لي بالقليل من املرح يا‬

‫‪208‬‬
‫سيدتي))‪ .‬تنهدت‪ ،‬فأمسك بخليط العسل مع الحليب وسكب ً‬
‫شيئا منه‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫أسفل كتفيها‪ ،‬وشرع يدهن على ظهرها وانتقل إلى ساقيها‪ ،‬قبل أن يمزج‬
‫جرعة من نبيذ َّ‬ ‫ً‬
‫النوم ُويضيف إليه العسل ُليساعدها على‬ ‫لها‬
‫اإلسترخاء‪ ،‬وملا تحركت كالثعبان أسفل راحة يده قال لها وهو ُيناولها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكأس‪(( :‬نامي قليال يا صغيرة‪ ،‬سيبدو كل هذا ُح ًلما لذيذا فحسب‬
‫عندما تستيقظين))‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫احتست‬ ‫فكرت نفتيس‪(( :‬كال‪ ،‬لن يبدو كذلك أيها األبله))‪ ،‬لكنها‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫حال وتركته يعبث في جسدها‪ .‬كان الظالم قد َح َّل حين‬ ‫كل ٍ‬
‫النبيذ على ّ‬
‫ِ‬
‫استفاق يورشو للوقت ومدى املسافة التي تفصله عن مكانه الصحيح‬
‫إلى جوار سيده‪َّ ،‬إال أن ما تفعله به نفتيس ومنظرها كان ً‬
‫قمينا بأن‬
‫فترك وشاحه‬ ‫بشدة‪ ،‬وأنتفض جسده َ‬ ‫يجعل كل ش يء فيه ينتصب َّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫غمغمت نفتيس‬ ‫الفراش وقبل كتفيها وملا‬ ‫يسقط أرضا‪ ،‬ثم صعد على ِ‬
‫ثانية ولعق رقبتها‪ ،‬وأخذ يتجول على كتفيها حتى َ‬ ‫ً‬ ‫بش ٍيء ما َّ‬
‫أطلقت‬ ‫قبلها‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وارتعدت‪ .‬حاول أن يعتليها‪ ،‬فأبتعدت واستدارت حتى أصبح‬ ‫َّأنة خافتة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وجهها لوجهه فأطلقت ضحكة ساخرة شديدة العلو‪ .‬كانت عيناها‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مفتوحتين طوال الوقت‪َّ ،‬‬
‫وتبسمت وملست على شعره هامسة‪(( :‬ال‬
‫تتعجل ‪ ..‬ال تتعجل يا صغيري‪ ،‬ال تتعجل))‪.‬‬
‫لهث يورشو وارتعد وهو يراقبها تنهض عن الفراش‪ .‬ترجلت صوب‬
‫وشدت‬‫الباب وركلته لتغلقة‪ ،‬لفت انتباهه منظر اخر عندما انحنت َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وشاحها من حافته وسحبته ألعلى ثم ألقته بعيدا ليلوح أنها ربما تخلت‬

‫‪209‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الداخلية أو َّأنها تخلت عنها بالفعل‪ ،‬وقالت‪(( :‬لن تتمكن من‬
‫َّ‬ ‫عن ِثيابها‬
‫الراحة أبدا بعد اليوم))‪ .‬قالتها وهي تقف امامه عارية متوردة ُّ‬
‫تسر‬
‫وضعت يدها على وركها‪ ،‬وأضافت‪(( :‬ستفكر َّفي كلما خلدت‬ ‫العين‪ ،‬وقد َ‬
‫ً ُ‬ ‫ً‬
‫ساعدك ولن‬‫إلى ِفراشك‪ ،‬وعندها ستتصبب عرقا ولن تجد أحدا ي ِ‬
‫النوم ً‬
‫أبدا حتى))‪.‬‬ ‫تستطيع َّ‬

‫وارتسمت على شفتيها تلك اإلبتسامة الخبيثة التي ُيحبها يورشو‬‫َ‬


‫آمرا على الرغم َّأنه مازال يلهث‪:‬‬
‫مستكملة‪(( :‬تركت سيدك ألجلي!)) قال ً‬ ‫ِ‬
‫((اصمتي وقبليني))‪.‬‬‫ُ‬
‫َّ‬
‫يتذوق طعم َّ‬
‫النبيذ على شفتيها‪ ،‬وأحس‬ ‫جارته فيما يريد‪ ،‬فتركته‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عليه وهي تالمس جسده‬ ‫ِ‬ ‫املشدود ْين الناهضين يضغطان‬ ‫بنهديها‬
‫برفق نحو الفراش‪ ،‬فأشارت بسبابتها رافضة وهي‬ ‫بأصابعها‪ .‬دفعها ٍ‬
‫ً‬
‫تهمس قاطعة‪(( :‬ال))‪ .‬وأضافت‪(( :‬عليك أن تدفع لتنال‪ ،‬أخبرني أوال بما‬
‫لكم في ممفيس!))‪ .‬وتلعثمت وهي ُتضيف‪(( :‬فأنا قلقة ً‬
‫كثيرا على سيد‬
‫الجنوب‪ِ .‬ست))‪.‬‬
‫وحادة‪ ،‬كما لو أنه‬‫ّ‬ ‫كان ينظر إليها وهي أمامه‪ ،‬بأعين حائمة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫شيئا في مالمحها‪ ،‬يقترب ّ‬
‫بالتخبط‬ ‫بتمعن غريب‪ ،‬يبدأ تنفسه‬ ‫يصطاد‬
‫بثقل كلما مد كفيه ليتحسسها‪ ،‬وأدرك أنه لصعب على رجل صلب‬
‫مثله أن ينصهر لهذا الحد‪ ،‬وأن ترتعد أطرافه كلما تخيل أنه قد ُيغادر‬
‫املكان دون أن يطالها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ ُ َ‬
‫لثوان معدودة‬
‫ٍ‬ ‫قطق بمرح مزعج في املستوقد‬ ‫كانت النار تط ِ‬
‫‪210‬‬
‫إستغرقها يورشو في التفكير فيما عليه أن يفعله‪ .‬في النهاية‪ ،‬إستسلم‬
‫السحر لألنوثة الطاغية‪ ،‬وفاض يورشو بالحديث فأخبرها أن زوجها‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ِست دبر احتفالية عظيمة تقام في القصر اإللهي لشقيقها أوزيريس‪،‬‬
‫بمناسبة الحصاد الوفير في مملكة الشمال‪ .‬كما َّأنه صنع ً‬
‫تابوتا ر ً‬
‫ائعا‬
‫من الذهب الخالص‪ ،‬سيكون هدية من يكون على مقاسه ً‬
‫تماما‪ .‬هزت‬
‫نفتيس رأسها وانحنت ُتمسك بوشاحها لتضعه على كتفيها وهي تقول‬
‫ُ‬ ‫ُ ّ ً‬
‫تهكمة على حديثه‪(( :‬كما تريد!))‪.‬‬‫م ِ‬
‫غضبا ما ِاستحوذ عليها‪ ،‬فأضاف‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أن‬ ‫إنتفض يورشو َش ً‬
‫اعرا َّ‬
‫َّ‬
‫((تابوت ملعون ‪ ..‬ملعون بتعويذة تجلعه ال ُيغلق إال على جسد‬
‫فتأخذ‬‫أوزيريس‪ ،‬ما إن ُيغلق عليه ستتمزق أحشائه وينفجر القلب ُ‬
‫روحه إلى العالم اآلخر ُمباشرة))‪.‬‬
‫ً ّ‬ ‫َ‬
‫غضبا ِملا سمعته‬ ‫واحتقن وجهها‬ ‫كانت نفتيس قد اعطته ظهرها‪،‬‬
‫ُ‬
‫بسوارها‬ ‫حتى كادت تنفجر منه الدماء‪ ،‬وهمست في نفسها وهي تمسك ِ‬
‫ً‬
‫وتزفر الكلمات‪(( :‬خونة‪ .‬خوووونة))‪ .‬ورفعت صوتها قليال وهي تلتفت‬
‫ُ‬
‫إليه وتضيف‪(( :‬اإلنسان هو الكارثة األولى واألخيرة في هذه األرض))‪.‬‬
‫لحظات ليستوعب كلماتها‪ ،‬لكن عندما َ‬ ‫َ‬
‫جاء‬ ‫ٍ‬ ‫استغرق يورشو‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫الفهم ً‬
‫وغادر الظالم عينيه تفاجأ بها وهي تطلق تعويذة صائحة‪:‬‬ ‫أخيرا‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫((سيكتوسيمبرا))‪ .‬إنتفض ً‬
‫ومتفاديا‬ ‫قفزا من مكانه ُمستغال رشاقته‬
‫قوة التعويذة التي إصطدمت بالستائر الحريرية والقناديل على الحائط‬
‫فدمرتها‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫َّ‬
‫الحراس والقت تعويذة أخرى‪ ،‬إال َّأنه‬ ‫صاحت نفتيس تطلب ُ‬
‫جد ًدا باألحتماء خلف أحد التماثيل‪ ،‬ثم قفز من النافذة‬ ‫تفاداها ُم َّ‬
‫ً‬
‫ضوئيا‬ ‫بسرعة كقرد وهو ُيلقى تعويذة‪(( :‬الوهومورا))‪ ،‬لينفتح له ً‬
‫بابا‬ ‫ٍ‬
‫وهو يسقط في الهواء فيعبر من خالله ويختفي في الحال‪.‬‬
‫السماء لحظة وصول ِست وجنوده إلى‬ ‫َ‬
‫ارتفع في َّ‬ ‫القمر قد‬ ‫كان َ‬
‫بوابات ممفيس‪ .‬قبل أن يعبروا البوابات املفتوحة منذ الصباح‪ِ ،‬التفت‬
‫ً‬
‫حوله باحثا بعينيه عن يورشو‪(( .‬مالي ال أرى يورشو أم َّأنه من‬
‫الغائبين!))‪ ،‬قالها ألحد قادة فيالق الجيش‪ ،‬وقبل أن يرد عليه ظهر‬
‫مزحا ُمصطنع‪(( :‬أفكر ‪ ..‬ماذا سيكون‬ ‫مازحا ً‬ ‫يورشو من خلفه وقال ً‬
‫َّ‬
‫دوري في خطتك يا جاللة امللك))‪.‬‬
‫أن ساحره‬ ‫كان مصفر الوجه شاحب املالمح‪ ،‬وحينها عرف ست َّ‬
‫ِ‬
‫بفعل ما على غير ما ُيرام‪ .‬حاول يورشو أن ُيشتت إنتباه سيده‪،‬‬ ‫أتى ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫فأشار بسبابته للقائد الواقف امامه مباشرة وكان ذا ف ٍك مفلوق وله‬
‫عينين غائرتين في وجهه خلف القناع‪ ،‬وسأله‪(( :‬أنت! ماذا سيكون‬
‫دورك في خطتنا؟))‬
‫الرعب في قلوب‬ ‫أجاب القائد بتردد لكن بحماس‪(( :‬أن ُألقي ُّ‬ ‫َ‬
‫قواتنا‬‫األعداء كما يتوجب على َمن يحمل اسمك أن يفعل‪ .‬سأقود َّ‬
‫وأزحف إلى قلب العاصمة ً‬
‫تماما))‪.‬‬
‫وتدخل قائد آخر‪ ،‬قال وهو يتفقد األسوار‪(( :‬تلك القلعة َّ‬
‫قوية‪،‬‬
‫قدما‪َّ ،‬‬
‫وثمة أبراج‬ ‫َّ‬
‫حجرية‪ ،‬ترتفع ثالثين ً‬ ‫َّ‬
‫قوية بما فيه الكفاية‪ .‬األسوار‬
‫‪212‬‬
‫قصرا ً‬
‫إليهيا‬ ‫ومربعة عند كل ُركن‪ ،‬مما يعني أن ً‬ ‫ُمستديرة بطول السور َّ‬
‫ً‬ ‫منيعا في َّ‬
‫الداخل))‪َّ .‬أمن قائد الفيلق األول على كالمه قائال‪(( :‬وال ُيمكننا‬ ‫ً‬
‫بصوت‬ ‫الحجرية‪ ،‬فكيف نق‪ .))...‬قاطعهم ِست‬‫َّ‬ ‫إضرام َّ‬
‫النار في األسوار‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫جميعا))‪.‬‬ ‫َه َّدار‪(( :‬صه‪ ،‬اخرسوا‬
‫سبقا بالفعل‪ ،‬وكل هذا الحديث محض‬ ‫كانت هناك خطة ُمعدة ُم ً‬
‫هراء‪.‬‬
‫النواقيس معلنين أن موكب إله‬ ‫الحراس َّ‬
‫على أسوار ممفيس َد َّق ُ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫أبواق كبيرة الحجم‪ ،‬تلتف‬‫الجنوب ِست أقبل‪ ،‬بينما نفخ آخرون في ٍ‬
‫َ َ ُّ‬ ‫َّ‬
‫صف من الخادمات‬ ‫برونزية ضخمة‪ ،‬وخرج‬ ‫كأفاع‬
‫ٍ‬ ‫حول أجسادهم‬
‫َّ‬
‫ليتخذوا مواقعهم ليستقبلوا املوكب بالورود وزهر الياسمين والقرنفل‪.‬‬
‫أبواب القصر الداخلية لدى رؤيته‬ ‫الحراس على َّ‬ ‫تسائل أحد ُ‬
‫خمسة أآلف ُمقاتل يتبعون اإلله ِست والساحر يورشو في ساحة‬
‫القلعة قادمين نحوه‪(( :‬ملاذا تأتي كل هذه الجنود من خلفه؟!))‪ .‬رد‬
‫مقربة منه‪ ،‬قال‪(( :‬الظلم يحتاج ً‬
‫دائما قوة‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫حارس آخر يقف على‬
‫تحميه‪ ،‬بعكس العدل‪ ،‬يحمي نفسه بنفسه))‪ .‬بدا أن الحارس األول لم‬
‫شيئا مما سمعه فهز رأسه وشرد بنظره ً‬
‫بعيدا‪.‬‬ ‫يفهم ً‬

‫كانت قاعة العرش شبه ممتلئة بالعشرات من الضيوف‪ ،‬كانت‬


‫بخيوط من‬
‫ٍ‬ ‫ُمحاطة كلها بالستائر الحريرية الخضراء والزرقاء املطرزة‬
‫الذهب والفضة‪ ،‬ومليئة بتماثيل وكؤوس وأباريق ذهبية اعدت‬
‫ص على جانبيها عشرات املقاعد‪ ،‬امامها‬ ‫ً‬
‫خصيصا لهذه االحتفالية‪ُ .‬ر َّ‬

‫‪213‬‬
‫موائد خشبية ُمغطاة بمفارش من الحرير املوش ى بالساتان قرمزي‬
‫ٌ‬ ‫اللون‪ُ ،‬ر َّ‬
‫صت عليه أصناف مختلفة من الطعام إلى جانب عصير‬
‫املتبلة‪ ،‬وقد تشبع الهواء بروائح امللح واألسماك َّ‬
‫املقلية‬ ‫التفاح والخمور َّ‬ ‫ُّ‬
‫ولحم الضأن والغزالن والديوك‪ .‬وكان صوت الضحكات والهمز واللمز‬
‫ً‬
‫ضجيجا رغم خفوت األصوات املتحدثة‪.‬‬ ‫بين العامة يصنع‬
‫خرج أوزيريس بصحبة زوجته إيزيس ومن خلفها ثالثة من‬
‫خادماتها‪ ،‬توجها مباشرة صوب العرش‪.‬‬
‫ضجت القاعة بالترحيب لدى ظهورهم‪ .‬ما إن جلسا على العرش‬
‫دلف ِست من بوابة القاعة واختال في مشيته وهو يقطع أرضيتها ً‬
‫سيرا‬
‫َ‬
‫والتمع البرونز‬ ‫َ‬
‫واعتمر تاجه قبل أن يصل أمام شقيقيه‬ ‫صوب العرش‬
‫ّ‬
‫الظالل عينيه وهو‬ ‫والذهب بلو ٍن قاتم في ضوء املشاعل‪ ،‬وأخفت ِ‬
‫الحراس داخل القاعة ومدى ما يحملونه من‬ ‫بخبث في عدد ُ‬
‫ٍ‬ ‫يتطلع‬
‫أسلحة‪.‬‬
‫إبتسمت إيزيس لدى رؤيتها شقيقها ُم َّ‬
‫جد ًدا في ممفيس‪ ،‬فلم يكن‬
‫قد زارها منذ إنقسام األرض إلى مملكتين وتوليه مملكة الجنوب‪.‬‬
‫شديدة بينما اكتفى ِست بهز رأسه في وجه‬
‫ٍ‬ ‫بحفاوة‬
‫ٍ‬ ‫إحتضنه أوزيريس‬
‫تأخرا‪ ،‬اغفرا لي ذلك))‪.‬‬ ‫ُ‬
‫معتذرا‪(( :‬أتيت ُم ً‬
‫ً‬ ‫كليهما وقال‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫إبتسم أوزيريس وهو يقول‪(( :‬كعادتك دائما))‪ .‬رد ع ِست‪(( :‬على ِ‬
‫أي‬
‫حال‪ ،‬مازال الوقت أمامنا‪ ،‬وأقسم أنك ال ترغب في أنقضاء الوقت‬
‫ً‬
‫ستفهما‪:‬‬ ‫الليلة))‪ .‬ثم التفت من حوله يتفقد املكان وسأل ُم‬
‫‪214‬‬
‫((التابوت؟))‪.‬‬
‫مقربة‬ ‫وأشار إلى واح تي الواقف على‬‫َ‬ ‫إبتسم أوزيريس ًّ‬
‫هازا رأسه‬
‫ٍ‬
‫منه‪ ،‬فالتفت األخير وأشار بدوره الى حارسين واقفين في آخر القاعة‪.‬‬
‫جانبيا‪ ،‬دخل منه أربعة ُحراس يحملون التابوت‬ ‫ً‬ ‫فتح الحارسين ً‬
‫بابا‬
‫ُ‬
‫على األكتاف‪ ،‬ترجلوا به حتى وضعوه أمام العرش جهة اليسار وسط‬
‫صياح وتهليل الحضور الذين وقفوا مذهولين لرؤية التابوت الذهبي‬
‫أمام أعينهم وكل منهم ُيمني نفسه لو يناله بنهاية الليلة‪.‬‬
‫بوجه إرتسمت في قسماته إبتسامة مصطنعة يطالبهم‬ ‫صاح ِست ٍ‬
‫مائدة من الخشب قريبة منه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بالصمت وهو يدق بقبضته على سطح‬
‫َ‬
‫ان َّ‬
‫الصمت في القاعة‪ ،‬واهتزت نيران املشاعل واألباريق على الحوائط‪.‬‬ ‫ر‬
‫هدوء شديد‪(( :‬لثالث سنوات عمل أفضل النحاتون‬ ‫ٍ‬ ‫قال ِست في‬
‫في أبيدوس على صناعة هذه التحفة التي ترونها‪ ،‬واليوم أهبها ململكة‬
‫الشمال‪ ،‬للشخص الذي ُيمكن للتابوت أن ُيغلق عليه))‪.‬‬
‫كان الحضور يتناولون الطعام والشراب‪ ،‬وتوقف الجميع في تلك‬
‫واحد منهم لنيل فرصة اإلستلقاء داخل التابوت‪.‬‬
‫اللحظة واستعد كل ٍ‬
‫َ‬
‫أشار ِست إلى واح تي أن يختار بنفسه األشخاص الذين سيشاركون في‬
‫نيل فرصة االستلقاء داخل التابوت‪.‬‬
‫واحد تلو آخر‪ ،‬وفي كل مرة حاول‬ ‫أشار واح تي للحضور ً‬
‫تباعا‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫الحراس إغالق التابوت‪ ،‬فشلوا‪ .‬كان ِست ُيتابع األمر وقسمات وجهه‬

‫‪215‬‬
‫أحد‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أي ٍ‬‫ثقة مفرطة في أن التابوت لن يغلق أبدا على ِ‬
‫الخبيثة تدل على ٍ‬
‫من الحضور‪.‬‬
‫في هذه األثناء‪ ،‬إستغل يورشو إنشغال جميع من في القاعة بما‬
‫َ‬
‫فانتشر برفقة مجموعة من الغيالن‬ ‫فيهم ُ‬
‫الحراس بأمر التابوت‪،‬‬
‫املتخفية في مالبس الجنود في أركان القاعة‪ ،‬مدججين بالسيوف‬
‫والرماح‪.‬‬
‫العرش رأى واح تي جنود يورشو‬ ‫من موقعه العالي على يسار َ‬
‫ينسلون في مؤخرة القاعة وأستغرب أحجامهم العمالقة وطريقة‬
‫تسللهم بين الناس‪ .‬قبل أن ُيفكر في ش يء‪ ،‬فاجأه يورشو بالترجل في‬
‫مشيا صوب سيده ِست وهو يقول‪(( :‬اآلن حان دوري‪.‬‬ ‫منتصف القاعة ً‬
‫َّ‬
‫علي أن أحظى بفرصة ألفوز بهذا التابوت))‪.‬‬
‫ً‬
‫ابتسم ِست واشار له قائال‪(( :‬لك ذلك))‪.‬‬
‫واحد من غيالنه يتأكد من‬
‫ترجل يورشو وهو يتنقل بعينيه بين كل ٍ‬
‫إتخاذهم أماكنهم املحددة لهم‪ .‬من ثم استلقى داخل التابوت‪ .‬حاول‬
‫عليه‪ ،‬وكما الحال في كل مرة‪ ،‬بائت املحاولة‬ ‫ُ‬
‫الحراس إغالق بابه ِ‬
‫بالفشل‪.‬‬
‫نهض يورشو وعلى غير حال جميع من خسروا التجربة كان‬
‫ً‬
‫طويال ً‬ ‫شاعرا كأن ً‬ ‫مبتسما‪َّ .‬‬
‫جدا َم َّر عليه في القاعة‬ ‫وقتا‬ ‫ً‬ ‫هز ِست رأسه‬ ‫ً‬
‫شيئا ما مثير طرأ في رأسه‪.‬‬ ‫قبل أن يحرك أسه بطريقة أوحت أن ً‬
‫ر‬

‫‪216‬‬
‫َ‬
‫فألتفت صوب أخيه الجالس على كرس ي العرش وقال‪(( :‬أوزيريس ‪َّ ..‬إنه‬
‫ُ‬
‫لك اآلن))‪ .‬تهلل وجه إيزيس وأشارت إلى زوجها تشجعه على التجربة‪.‬‬
‫وأبتهج أوزيريس وهو ينزل درجتين أسفل العرش ويخطو في اتجاه‬
‫التابوت‪.‬‬
‫في هذه اللحظة‪ ،‬دلف الكاهن كاي تاي ومن خلفه حارسيه‬
‫شبسكاف ونياخ هاو ترافقهما حتبت رع التي أبت أن تتركهما وحدهما‪.‬‬
‫الحظ واح تي أن الكاهن ومن معه دخلوا إلى القاعة متأخرين‬
‫ومندفعين‪ ،‬فأشار إليهم أن يقفا ً‬
‫بعيدا‪.‬‬
‫أراد الكاهن أن يقترب من إله األرض أوزيريس وأن يمنعه من‬
‫التقرب للتابوت‪ ،‬فأشار واح تي إلى األخوين مونتو رع أن يمنعاه‪ .‬ترجل‬
‫األخوين مونتو رع صوب الكاهن ومنعاه من التقدم‪ ، ،‬مما جعل أوان‬
‫فعل ش ٍيء قد فات خاصة بعدما أصبح سيده أوزيريس داخل التابوت‪.‬‬
‫َ‬
‫أشار يورشو ألثنين من الغيالن في مؤخرة القاعة بإغالق األبواب‬
‫عليهم من الداخل‪ .‬في اللحظة ذاتها دنا ِست من شقيقه الذي تمدد‬
‫َّ‬
‫سخرية‬ ‫بالفعل داخل التابوت‪ .‬انحنى وجلس على ركبته ً‬
‫هازا رأسه في‬
‫بطريقة ما بين‬
‫ٍ‬ ‫السوار في معصم يده وأنتزعه منه‬
‫وفاجأة بالقبض على ِ‬
‫خبث واضح‪(( :‬أخش ى أن ُيعيقك داخل‬ ‫اللطف والقسوة وقال في ٍ‬
‫للحراس أن‬‫أمرا ُ‬
‫التابوت الذي ستبقى فيه إلى األبد))‪ ،‬من ثم أعطى ً‬
‫يغلقوا فوهة التابوت‪.‬‬
‫عليه‪.‬‬
‫يسر ِ‬‫إنقبض التابوت على جسد أوزيريس‪ ،‬فأنغلق بابه بكل ٍ‬
‫‪217‬‬
‫صاح الحضور مهللين لفوز سيدهم بالتابوت‪ ،‬على الرغم أن غصة‬
‫أصابة بعضهم لفقدان مثل هذه التحفة الفنية‪.‬‬
‫صمت في القاعة‪ ،‬وسمع الحضور صوت‬ ‫ٌ‬ ‫ان‬‫بعد ثوان قليلة‪َ ،‬‬
‫ر‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫سيدهم أوزيريس قادما من داخل التابوت يستغيث‪ .‬فأستغرب الجميع‬
‫َّ‬
‫وانصتوا‪ .‬إنتظروا أمر إله الجنوب ِست بفتح التابوت إال أن ذلك تأخر‬
‫ً‬
‫قليال‪ .‬حالة من الوجوم َّ‬
‫خيمت على وجوه الجميع‪.‬‬
‫((ست!!))‪.‬‬
‫نادت إيزيس شقيقها بإستغراب‪ِ :‬‬
‫صاح الكاهن كاي تاي من منتصف القاعة في الحارسين مونتو رع‪:‬‬
‫((إفتحوا أعينكم‪ ،‬إنها مؤامرة ‪ ..‬خيانة))‪ .‬وحاول شبسكاف ونياخ هاو‬
‫تجاوز األخوين مونتو رع‪َّ ،‬إال أن األمر كاد َّ‬
‫يتحول ملعركة‪.‬‬
‫من مكانه املرتفع إلى جوار العرش خاطب يورشو الكاهن كاي تاي‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ًّ ً‬
‫بصوت جاف قائال‪(( :‬حضرة الكاهن‪ ،‬أناشدك أال تتعجل موتك اآلن))‪.‬‬‫ٍ‬
‫حالة من التوتر الشديد والخوف بين العامة في‬
‫تسبب ما قاله في تفش ي ٍ‬
‫القاعة‪.‬‬
‫بثقة مفرطة‪(( :‬كل ش ٍيء‬ ‫َ‬
‫من موقعه العالي قرب العرش قال ِست ٍ‬
‫قد إنتهى))‪ .‬وأخذ جرعة طويلة من َّ‬
‫النبيذ‪ ،‬ثم ألقى الكأس الفارغ على‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ساخرا‪(( :‬عاصمة الشمال عاصمة‬ ‫ومسح فمه بظهر يده‪ ،‬وقال‬ ‫األرض‬
‫الشمال)))‪ .‬ثم أطلق ضحكة طويلة تردد صداها في القاعة‪ .‬تلك‬
‫واحد منهم‬
‫ٍ‬ ‫اللحظة‪ ،‬رفعت الغيالن األقنعة عن وجوههم وأستل ّ‬
‫كل‬
‫ِ‬

‫‪218‬‬
‫سيفه من الغمد‪.‬‬
‫لم تستطع إيزيس استيعاب ما يفعله شقيقها ِست‪ ،‬سألته في‬
‫ً‬
‫محاولة َّ‬
‫((ست ‪ ..‬ما الذي تنتويه؟))‪ .‬أطلق‬
‫السيطرة على غضبها‪ِ :‬‬ ‫هدوء‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫واستطرد‪(( :‬جميعكم موتى))‪ .‬وكنت هذه‬ ‫ضحكة مفاجأة كالعاصفة‬
‫ٍ‬
‫ْ‬
‫أشارة‪ ،‬إذ شرع جنوده من الغيالن في قتل وذبح جميع من بالقاعة‪.‬‬
‫نظر يورشو في عيني السيدة إيزيس وقال وهو يوجه كلتا يديه‬
‫صوب التابوت‪(( :‬افادا كدافرا))‪ .‬إنتفض التابوت عن األرض وطار‬
‫بقوة شديدة صوب الحائط في آخر القاعة ليرتطم بها بشدة قبل‬ ‫ٍ‬
‫يسقط على األرض مرة أخرى‪ .‬صرخت إيزيس مفزوعة‪(( :‬ال))‪ .‬فأعاد‬
‫خبث ووقال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫يورشو توجيه يديه صوب التابوت وأبتسم في‬
‫فدوا صوت‬ ‫((كروشيو))‪ .‬إنطلقت طاقة حمراء إرتطمت بالتابوت‪َّ ،‬‬
‫مكتومة أطلقها أوزيريس داخل التابوت قبل أن يتقطع جسده‬
‫ٍ‬ ‫صرخة‬
‫ٍ‬
‫ويتحول إلى أشالء وتتسلل الدماء من على حافتي باب التابوت لتصنع‬
‫ً‬
‫سيال على جانبيه‪.‬‬
‫صرخت إيزيس صرخة َّ‬
‫مدوية أهتزت لها قاعة العرش‪ ،‬وقالت وهي‬
‫َّ‬
‫تصوب بيديها على يورشو‪(( :‬سيكتوسيمبرا))‪ .‬إال َّأنه تفادا قوة‬
‫َّ‬
‫التعويذة‪ .‬وملا حاولت مطاردته بالتعويذات يدفعها الغضب‪ ،‬لم يكن‬
‫خيل لها أن ِست سيتدخل ملعونة ساحره‪ ،‬وتفاجئت به يقول‪(( :‬فيرا‬ ‫ُي َّ‬
‫فيرتو))‪ ،‬فأختفى من مكانه وأنتقل في ملح البصر إلى جوارها‪ .‬تفاجئت‬
‫السوار‪ .‬حاولت مقاومته‪،‬‬ ‫ُ‬
‫به يمسك يدها من املعصم وينتزع عنها ِ‬
‫‪219‬‬
‫بقوة كبيرة على وجهها‪ ،‬فسالت الدماء على إثر َّ‬
‫قوة اللطمة‪.‬‬ ‫فصفعها ٍ‬
‫أخيرا وأصبحا إلى جوار‬‫ً‬ ‫َ‬
‫إلتفت‬ ‫كان األخوين مونتو رع قد‬
‫وجها لوجه مع ِست ويورشو‬ ‫شبسكاف ونياخ هاو مع الكاهن كاي تاي ً‬
‫الغمد ً‬ ‫َ‬ ‫استل شبسكاف َّ‬‫َّ‬
‫أرضا وكذلك فعل‬ ‫السيف والقى‬ ‫وجنودهم‪.‬‬
‫السوار فأخذ‬‫األخوين مونتو رع‪ .‬وحده نياخ هاو قرر أن يستخدم ِ‬
‫ً‬
‫يصيح وهو يوجه كلتا يديه صوب من يقترب منه أو من الكاهن قائال‪:‬‬
‫عاليا للخلف ويرتطم باملوائد‬ ‫ً‬ ‫((افادا كدافرا))‪ ،‬فيجعله يطير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والحوائط‪ .‬محاوال عدم إستخدام التعويذات املحرمة خوفا من فقدان‬
‫قوته التي يحتاجها ألنهاء القتال‪ .‬كما وجه الكاهن كلتا يديه على‬
‫ً‬
‫الغيالن قائال‪(( :‬سيكتوسيمبرا))‪ ،‬مرة بعد مرة‪ ،‬وفي كل مرة كان يتسبب‬
‫َّ‬
‫في حرق وقتل أحد الغيالن‪ ،‬إال أنهم كانوا بالفعل قد قتلوا أغلب ممن‬
‫في القاعة من سادة األقاليم وكبار ُّ‬
‫التجار في حين أن األخوين مونتو رع‬
‫وشبسكاف تولوا أمر قتل بعض ُ‬
‫الح َّراس ممن كانوا برفقة الغيالن‪.‬‬
‫مذعورا‪ ،‬ال يعرف أين يتوارى وسط هذه املعركة التي‬‫ً‬ ‫كان واحي تي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نشبت فجأة‪ .‬والحظه يورشو عندما كان يتراجع للخلف محاوال الفرار‬
‫واحدة من سيفه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بضربة‬
‫ٍ‬ ‫أسه‬
‫من القاعة‪ ،‬فلحق وضرب عنقه أطار ر ِ‬
‫مرة أخرى بوجهه ُيتابع القاعة‪ ،‬فوجد األخوين مونتو رع‬ ‫والتف َّ‬
‫ُيحسنان القتال إلى جوار الكاهن وحارسيه‪ ،‬فأنتقل على الفور إلى‬
‫َّ‬
‫شاهرا سيفه إال َّأنه لم يستخدمه‪ ،‬إذ قال وهو يوجه يديه‬ ‫ً‬ ‫جوارهما‪،‬‬
‫أرضا على الفور‪ ،‬وتعالت‬ ‫صوب األخوين‪(( :‬كروشيو))‪ ،‬فأسقطهما ً‬

‫‪220‬‬
‫صوت صرخاتهم وتمرغهما على األرض وهما يتركان سيفيهما وتتفجر‬
‫الدماء من أعينهم وأذنيهما قبل أن ُيفارقا الحياة‪.‬‬
‫حاول كاي تاي إستخدام ِسواره في مواجهة يورشو فصاح وهو‬
‫َّ‬
‫يوجه كلتا يديه عليه‪(( :‬سيكتوسيمبرا))‪ ،‬إال أن األخير إختفى على‬
‫الفور وظهر ِمن خلفه ً‬
‫تماما ووضع نصل سيفه على رقبته‪ ،‬في حين أن‬
‫ً‬
‫شبسكاف ونياخ هاو توقفا في مكانيهما ساكنين دون حركة خوفا على‬
‫سيدهما‪ ،‬بيد أن يورشو لم يأبه لش ٍيء وقام بسحب نصله على رقبة‬
‫شديدة جعلت رأسه تنفصل عن جسده وسط ذهول‬ ‫ٍ‬ ‫الكاهن بقوة‬
‫الحارسين‪.‬‬
‫إقترب حارسين من حراس يورشو‪ ،‬وقفا بسيوفهم إلى جوار‬
‫شبسكاف ونياخ هاو الذي لم يأبه لألمر بقدر إهتمامه ألختفاء حتبت‬
‫رع التي لم يظهر لها أثر‪ .‬الحظ شبسكاف بدوره ُّ‬
‫تغيبها ففزع قلبه عليها‬
‫ً‬
‫وبدأ يتجول بعينيه في القاعة بحثا عنها على الرغم من شعور النهاية‬
‫الذي َّ‬
‫خيم على روحه وروح نياخ هاو‪.‬‬
‫في هذه األثناء‪ ،‬تعالت أصوات السيوف والفؤوس خارج القصر‬
‫اإللهي بعدما بدأت قوات ِست في األستيالء على األسوار الخارجية‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫إقترب ِست من النافذة وأطل برأسه للخارج‪ ،‬فشاهد جنوده‬
‫يقتلون ويحرقون جميع ُحراس ممفيس ويستولون على املدينة أو َّأنهم‬
‫بالفعل إستولوا عليها بعدما بدأ ُ‬
‫الحراس يفرون أمامهم‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫شدسد خلف‬
‫ٍ‬ ‫ببطء‬
‫ٍ‬ ‫وقعت عينا شبسكاف على حتبت رع تتسلل‬
‫ُ‬
‫كرس ي العرش تحاول اإلقتراب من إله الجنوب ِست الذي كان مايزال‬
‫ُ ً‬
‫بسوار شقيقه إوزيريس وبدأ يقربه من ِسواره‪ ،‬فبدأ ينصهر‬‫ممسكا ِ‬
‫ويذوب ليندمج فيه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ضوئي في الفراغ بالقرب منهم‪ .‬دلفت‬ ‫في هذه اللحظة‪ ،‬إنفتح ٌ‬
‫باب‬
‫منه السيدة نفتيس‪ ،‬وقالت فور عبورها من الباب وهي توجه كلتا يديها‬
‫َّ‬
‫صوب الساحر يورشو‪(( :‬كروشيو))‪ ،‬إال أنه إنتبه لها في اللحظة األخيرة‬
‫أرضا‪ .‬وجهت تعويذة أخرى صوب الحارسين‬ ‫وقفز عن مكانه وسقط ً‬
‫قفزا من فورهما تاركين‬ ‫الواقفين خلف شبسكاف ونياخ هاو اللذان َ‬
‫الحارسين من خلفهما ُيعانيا من قوة التعويذة قبل أن ُيفارقا الحياة‪.‬‬
‫َّ‬
‫التفت زوجها ِست إليها‪ ،‬وجدها تستعد لتلقي عليه تعويذة إال أنه‬
‫بخنجر ِاستله من الغمد املعلق في مالبسه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كان أسرع منها إذ قذفها‬
‫ليستقر في قلبها ُمباشرة‪ ،‬قبل أن يوجه ِ‬
‫يديه عليها ويقول‪(( :‬إنسينيدو))‬
‫لتشب فيها النيران وتحرقها وسط دوي صرخاتها وصرخات متتالية من‬
‫شقيقتهما إيزيس التي كانت ماتزال جاثية على ركبتيها في األرض‪.‬‬
‫عما آلت إليه النهاية‪،‬‬‫ثابتة جامدة غير راض َّ‬‫بمالمح ٍ‬ ‫هز رأسه‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وترجل نحوها وهو يرفع ِسوار إيزيس ويلوح به في الهواء وهو يقول‪:‬‬
‫((فليسقط الشمال‪ ،‬ولتحيا أبيدوس))‪ .‬انحنى علي جسدها املحترق‬
‫شبت في ستائر القاعة‪،‬‬ ‫ونزع السوار من معصمها‪ .‬كانت النيران قد َّ‬
‫ِ‬
‫وبدأت رائحة الدخان تنتشر من حولهم في اللحظة التي إنفتح فيها ٌ‬
‫باب‬

‫‪222‬‬
‫ٌ‬
‫صغير بعمر أقل ِمن سبع‬ ‫في أقص ى يمين العرش‪ .‬دلف من الباب ٌ‬
‫صبي‬
‫ً‬ ‫سنوات‪ ،‬هرول ً‬
‫خائفا من النيران بأتجاه امللكة إيزيس وكان ُممسكا‬
‫بورقة من البردي‪ .‬صاحت إيزيس مفزوعة‪(( :‬حورس!!)) َّ‬
‫وهمت‬
‫تحتضنه‪.‬‬
‫خائفا‪َّ ،‬إال َّأنه أطمئن َّ‬
‫لدى وصوله بين ذراعي والدته‪.‬‬ ‫كان الصبي ً‬
‫ترجل ِست صوب امللكة‪ ،‬وانحنى حتى صارت رأسه إلى جوار الطفل‬
‫الصغير وونظر بعينيه صوب البردية وسأله‪(( :‬أيمكنك قراءتها؟))‪،‬‬
‫فزعا على صضغيرها‪ ،‬وأرادت لو تصرخ في وجه‬ ‫كانت إيزيس تنتفض ً‬
‫َّ‬
‫شقيقها تطالبه أن يترك الصغير وشأنه‪ ،‬إال أنها فقدت صوتها في هذه‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫كرر ِست سؤاله للصبي‪(( :‬أيمكنك قرائتها ألجلي؟)) قرأ حورس ما‬
‫ً‬
‫في البردية قائال‪(( :‬األمل أكبر قوة في الدنيا‪ ،‬وهذه القوة هي ما تجعلنا‬
‫على قيد الحياة))‪.‬‬
‫ساخرا بعدما جلجل صوته بضحكة عالية وكان‬ ‫ً‬ ‫قال يورشو‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يقترب من شبسكاف الذي كان واقفا مذهوال يشاهد إحتراق امللكة‬
‫شبت في ستائر القاعة وصوت سليل السيوف في‬ ‫نفتيس والنيران التي َّ‬
‫أذنيه وخوفه على الطفل يستحوذ على قلبه‪(( :‬ال ش ٍيء‬‫الخارج يدوي في ِ‬
‫بخنجر في ظهره فأسقطه‬‫ٍ‬ ‫هنا يدعو لألمل))‪ .‬ثم قام بطعن شبسكاف‬
‫أرضا أسفل قدمي صديقه نياخ هاو‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫صرخت حتبت رع صرخة مدوية وكأن الخنجر أخترق قلبها ال‬
‫‪223‬‬
‫ً‬
‫ظهرر شبسكاف‪ ،‬وأندفعت مهرولة بأقص ى ما لديها صوب إله الجنوب‬
‫بسوار‬
‫منحنيا قرب الصبي حورس وممسكا ِ‬ ‫ً‬ ‫ِست الذي كان مايزال‬
‫نفتيس بعدما صهر ِسواري أخيه وزوجته‪.‬‬
‫قامت بدفعه بكل ما تملك من قوة‪ ،‬ورغم ضئالة جسدها وقوة‬
‫َّ‬
‫بنيان ِست‪ ،‬إال َّأنها أسقطته من إرتفاع منصة العرش فتدحرج ِمن‬
‫السوار من يده فور أصطدامها به‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫أعلى الدر ِج ِإلى أسف ِل ِه وسقط ِ‬
‫وتدحرج حتى أستقر أسفل أقدام امللكة إيزيس‪.‬‬
‫إرتعد يورشو لسقوط ِست وهرول صوبه يساعده‪ .‬همست إيزيس‬
‫إلى نياخ هاو وهي تنظر إليه‪(( :‬أهرب في الحال))‪ .‬نظر نياخ هاو في عين‬
‫شقيقته‪ ،‬وجد عينيها مغرورقتان بالدموع تتأمالن شبسكاف‪ ،‬فأنحنى‬
‫باب سحر ٌي على‬
‫عليه وحمل جسده وهو يقول‪(( :‬ألوهومورا))‪ .‬إنفتح ٌ‬
‫يساره‪ .‬توقف للحظات يتنقل بعينيه بين الباب وبين شقيقته وامللكة‬
‫إيزيس‪.‬‬
‫إقتحم جنود ِست القاعة بعدما حطموا األبواب‪ .‬هرول ثالثة في‬
‫املقدمة حاملين الفؤوس والسيوف صوب نياخ هاو الذي هز رأسه في‬
‫ً‬
‫يأس وقفز على الفور داخل البوابة حامال جسد صديقه‪.‬‬‫ٍ‬
‫ً‬
‫حاول يورشو مساعدة ِست الذي كان ينهض ُمتثاقال من أثر قوة‬
‫َّ‬
‫السقوط على الدرج‪ .‬إال أن ِست الغاضب دفعه بقوة شديدة فأسقطه‬
‫ً‬
‫أرضا‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫كانت إيزيس قد حصلت على ِسوار نفتيس َّ‬
‫وهمت تضعه حول‬
‫معصمها وهي ما تزال محتضنة صغيرها حورس‪.‬‬
‫في هذه اللحظة نظر إليها ِست‪ .‬فقالت‪(( :‬فيرا فيرتو))‪ .‬وأختفت‬
‫وصغيرها في الحال‪ ،‬ثم ظهرا ً‬
‫سويا إلى جوار حتبت رع التي كانت ما تزال‬
‫واقفة في مكانها خلف ست إلى جوار العرش وقد تجمدت أوصالها ً‬
‫فزعا‬ ‫ِ‬
‫ملوت شبسكاف ودموعها كالسيل تجري على خديها‪.‬‬
‫إزدحمت القاعة بجنود ِست حاملين السيوف والرماح مختفيين‬
‫خلف أقنعتهم الحديدية السوداء ينظرون ويصوبون رماحهم صوب‬
‫إيزيس وحتبت رع‪.‬‬
‫فت بوجهه إلى الخلف‪ ،‬وكان يعرف َّ‬
‫أن‬ ‫إستدار ست بجسده والت َ‬
‫ِ‬
‫إيزيس قد ظهرت من خلفه‪ .‬نهض يورشو عن األرض في ذات اللحظة‬
‫لثوان معدودات‪ ،‬إبتسم ِست‬ ‫ٌ‬
‫صمت‬ ‫يديه عليها‪ ،‬ران‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫وصوب كليهما ِ‬
‫ساخرا من شقيقته وهز يورشو رأسه فبدا َّأنهما سوف يتحدثان‪ ،‬وقبل‬ ‫ً‬
‫وجلبة شديدة‬
‫ٍ‬ ‫واحدة ُسمع صوت مواء كثير‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بكلمة‬
‫ٍ‬ ‫أن تنبث شفاههما‬
‫أعقبها ظهور قطعان من القطط السوداء تقتحم القاعة من النوافذ‬
‫واألبواب وبعضها يقفز من نوافذ مرتفعة‪ .‬إرتبك ِست ويورشو والتفتا‬
‫محاولة منهم ِفهم ما يحدث‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫من حولهما في‬
‫إستغلت إيزيس إرتباكهما في أمر القطط السوداء‪ ،‬فقبضت‬
‫بيدها على معصم صغيرها وباألخرى على معصم حتبت رع وصاحت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫عصافير صغيرة الحجم وطارا عبر‬ ‫((بيترو فاليز))‪ ،‬فتحول ثالثتهم إلى‬
‫‪225‬‬
‫مستديرة في مؤخرة القاعة بينما تردد صوت إيزيس في القاعة‬
‫ٍ‬ ‫نافذة‬
‫ٍ‬
‫وهي تقول‪(( :‬األمل أكبر قوة في الدنيا‪ ،‬وهذه القوة هي ما تجعلنا على‬
‫قيد الحياة))‪.‬‬

‫ّتمت ‪ ..‬ولكن !!‬

‫‪226‬‬

You might also like