Professional Documents
Culture Documents
لحمة ُ
الح َّراس) َم ْم َل َكة َ
الس َح َرة ( َم َ
(رواية)
أحمد جبريل -داليا بزان
۞۞۞
2
ُ
ال أحب أن أنقل التشاؤم للناس ،وال أريد أن أكتب روايات
َّ ُ
شعورا باليأس ملن يقرأها أو أن ُه يريد الهرب ،أريد أن
ً تعطي
ستحق أن ُتعاش ويمكننا ً ُ َ ّ ً
دائما أكتب أعماال تقول" :أن الحياة ت
البدء من جديد".
–أحمد جبريل–
۞۞۞
3
۞۞۞
جميع أحداث هذا العمل فانتزيا َخ ّ
يالية مدموجة بأساطير موغلة
بص َلةّ .
وأي تشابه بين األسماء القدم ،وال َت ُم َّت للو اقع والتاريخ ّ
ِّ
َّ َّ ُ
واألساطير هو على سبيل التفاخرببعض أحداث القدماء ليس إال.
۞۞۞
4
إهداء
َّ َ إلى ْ َ
الكارثة األولى التي َحلت بكوكب األرض.
اإلنسان؛ ِ
ِ
۞۞۞
5
6
01
7
02
َ ُ
كانت النار قد طالت ك ّل ش ٍيء في املدينة ،أحرق الدخان عينيه،
سغي يديه النديبتين ،وعندما فتحهما على ِاتساعهما َب َدت ففركهما ُبر َّ
َّ ٌ َّ ُ َّ ٌ َّ ٌ
بالضياع شاعر صدق ِملا يراه،
فيهما نظرة بائسة توحي أنه غير م ٍ
يوما أن برج شرفة املنزل في القلعة الذي وقف خي ُل له ً واإلرهاق ،لم ُي َّ
فيه مر ًارا ُمنشرح القلب يتطلع في األخضرار واألزدهار الضاجج في ِ
َ ُ َّ ْ ُ َ َّ نُ ْ َّ
شور ،جميل الصو ِت ،ملو
املدينة ،ومن فوقه االالف من طائر الشر ِ
حزينا ُيشاهد ّ
كل مقبوضا ً
ً فيه اآلن ُ ّ
ِ الريش ،هو ذاته البرج الذي يقف ِ ِ
وم ال ِغدفان بصوتها املزعج وسوادها ش ٍيء من حوله يحترق بينما َت ُح ُ
مكان ِمن حوله. ُ ّ
الحالك في ك ِل ٍ
َ
وطقطق الجدران من خلفه اقص ضوء املشعل املُ َت َذبذب على ُ تر َ
ً ً ُ
شديد ِا َلت َف َت ِب َو ْج ِه ِه َي ْم َنة ،فخ ِّيل له فجأة َّأن ُه يرى وجه
ٍ طءلهيبهُ .بب ٍ
شاحبا والعينين ذابلة ً سيده الكاهن على الجدار ،وإن كان الوجه
أكثر مما يتذكرهما. منطفأة ُ
10
بارعا في سرد القصص ،لكن ،كما قال جاللة فلست ًُ أسطورية،
فيصبح قيد النسيان. الكاهن ،ما رأيته ال يمكن أن ُيطوى ُ
11
03
ُ ّ
صوت َح ِفيف تماما كمقبرة ،إال من كانت الغابة هادئة ،ساكنة ً
عليه في مثل هذه األوقات من العام، َُْ ُ ْ َ
األشجار وتساقط أوراقها املعتاد ِ
بالظالل والضباب َّ ّ َ
خيم على املنحدر الذي ظهر كانت قد بدأت تكتس ي ِ
وحذر نحو األرض وفي مالمحه نظرة ٍ ببطء
ٍ فوقه نياخ هاو وهو ينحنى
تماما على وجهه مع الحيرة عندما جلس على إستغراب بدت واضحة ً
ركبته اليمنى و َّأتكأ بيده اليسرى على جزع شجرة َّد ْردار عمالقة ووجهه
مثل وجه من ضل طريقه وليست هناك أي إشارة لالتجاهات ،أو من
ٌ ّ
عناء ومشقة إال َّأنه وجدها وجهة خاطئة. وصل إلى وجهته بعد ٍ
َ َ َّ ً
نبتة غريبة الشكل
وحذرا في اللحظة ذاتها ،يتطلع في ٍ ً ستغربا كان ُم
شديد قبل أن يرتاب في األمر ويتراجع ٍ ببطء
ٍ وهو يقرب يده اليمنى منها
ً ً
ساحبا يده بسرعة للخلف .لم يستطع في بادئ األمر أن يحدد إن فجأة
ٌ ً ً
لتوه من بيضة حيوان ملعون خرج ّ كان ما يراه نبتة حقيقية أو ّأنها
النبتة ذا هيئة ُمخيفةَ ،بدت ُله َّ
وكأنها ر ُ ُ
مفترس
ٍ حيوان
ٍ أس ٍ كبيرة ،كانت
َ
فيه ف ٌّك ٌ لم ير ُاه أو يسمع ِبه من قبل ،ر ٌ
كبير خرج من األرض لتوه، أس ِ
ُ ُ ُ
لزجة تشبه املخاط ،حمر ٌاء قاتمة اللون كالدماء ،لها ٍ بمادة
ٍ ُمغطاة
ٌ َ
لين خرجت منه يشبه رحم املرأة. بغالف ٍ
ٍ رائحة ن ِتنة ،غير َّأنها ُمحاطة
واقفا ،وكان الضباب قد تزايد من حوله بكثافة جعلت من إنتفض ً
12
أن الصعوبة عليه رؤية ُج ُذوع األشجار والدروب الوعرة فيما بينها ،كما ّ
َ ِ
ُ ْ َ
ُّ
هواء باردة تهب عليه َح ِفيف األشج ِار تزايد هو اآلخر وشعر بنسمات ٍ
َ َ
وندفات من املطر البارد بدأت تتساقط فوقه ،مما ٍ من جهة الشمال
وظل ً ّ
جعل األجواء في املكان َتبدو ُمخيفة .إال ّأنه لم يعبأ لألمرّ ،
واقفا
بحيرة شديدة ،بدا كمن يفكر في ُ
يتطلع فيها قليلة
للحظات ٍ ٍ قرب النبتة
ٍ
قر ٍار يتخذه ،وكان ذلك آخر ما فعله قبل أن ُيغمض عينيه ويصوب
ً
كلتا يديه مضمومتين بإتجاه النبته وقد أمسك بيده اليسرى ِ ّس َوارا
ٌ ٌ لتصقا بمعصم يده اليمنى َّ فضيا ُم ً ً
كأنه ِقطعة منها وألقي بتعويذة
بصوت َج ْه َو ِر ٌّي(( :إنسينديو)) .انطلقت من بين يديه ٌ سحرية فقال
ٌ طاقة ُ ٌ
أشالء زرقاء اللون ،ضربت النبتة ففجرتها على الفور ،حولتها إلى
ََ ٌ
ولزجة ٍ سائلة
ٍ ُمتنا ِثرة تحترق فور مالمستها لألرض وتتحول إلى ٍ
مادة
ُ ٌ ٌ ٌ َ ٌ ُ
جعلته يست ُاء لدرجة أن تنبعث منها أ ْب ِخ َرة ذا رائحة كريهة للغاية ،رائحة
َ َ قام ُم ً
بالح ْر َملة سرعا بتغطية أنفه
ُ
التي تحيط برقبته وكتفيه وقد ظهرت في مالمحه نظرة أشمئزاز.
واقفا في مكانه ظل ً على الرغم من الرائحة النتنة التي أحاطت بهَّ ،
ّ ُ
يتطلع في بقايا أشالء النبتة املحترقة ،وقد إعتراه شعور املنتصر ،إال
ّ
بوجهه ُيمنة بغية ِ لثوان قليلة ،فما إن ِالتف أنه لم ينهيء بهذا الشعور ٍ
ٌ
املغادرة ،وقبل أن يبرح مكانه ،وقعت عينيه على واحدة أخرى ،كانت
جد ًدا وقد َبدا قريبة منه للغايةُ .مفاجأة غير سارة ،أوقفته في مكانه ُم َّ
مصعوقا وهو ينظر إليها ً ً
كمومياء ُمحنطة.ٌ ثابتا
13
ببطء يشوبه قلق ،وللحظة شعر بوحدته وسط هذه ٍ حرك عينيه
ّ حوله ُم ً الغابة الكبيرة وهو َي ُ
منيا نفسه أال يجد ِ تطلع في املكان ِمن
ٌ ُ ْ ْ
واحدة أخرى وقعت عينيه على غيرها ،ولم لم ينهيء بما تمنى ،إذ
أمتار قليلة ،وما إن تطلع ُ َّ ُ
بالفعل ،كانت على بعد مسافة تقدر بعدة ٍ
ً ً ُ ً
مكان
مساحة أكبر ،وجد غيرها عددا كثيرا منتشرا في كل ٍ ٍ بعينيه في
رؤوس شيطانية خرجت لتوها من باطن األرض. ٌ حولهَ ،وبدت له َّ
كأنها
ْ ً
صغيرا في السن ،إذ لم لم يسمح للخوف بأن يتسلل إلى قلبه ،كان
كثيرا من االشياء الغريبة يتجاوز منتصف العشرينات بعدّ ،إال َّأنه رأى ً
ْ
واملريبة في حياته القصيرة ،كما َّأن ُه كان قوي البنية ،صارم ،إذ عمل
صغيرا ،قبل ً صبياصيادا كما والده وأجداده لفترة قصيرة عندما كان ً ً
َ ً ً
وتمرن في حلبات ترعرع َّ مصارعا ُمحترفا بعدما أن ُيصبح في شبابه
جنبا إلى جنب مع صديقه شبسكاف .في نهاية األمر إلتحقا ً
سويا القتال ً
بفيلق ُحراس الكاهن األكبر كاي تاي الذي علمهما السحر والحكمة
ُ ُ
يهب ك ٍ ّل منهما سوار السحر الفض ي الخاص به بعدما أصبحا قبل أن
ٌ ٌ
الحارسين الخاصين له ولقلعته مما أكسبهما ثقة كبيرة في أنفسهم .على
َ
شعورا بالقلق ِا ْعتر ُاه على سيده الذي ً الرغم من َّأنه لم يخفّ ،إال ّ
أن ِ
َّ
كان قد تركه يمارس طقوسه في حرية في معبد القناديل أعلى قمة
الغابة اآلمنة.
نظر ألعلى عبر الطريق بعينين ثاقبتين وعقل شغلته األفكارَ ،
ٍ
ّ ُ
الصاعد نحو التل الذي يفض ي في نهايته إلى معبد القناديل ،إال أن
14
ألي ش ٍيء أمامه.ّ
الضباب الكثيف أعاق رؤيته ِ
َ
وهم بوضع يده اليسرى على ِ
السوار في َ
أغمض عينيهَّ ، على َع َجل ٍة
ً ًّ
مرة ثانية وهو ُيلقي بتعويذة سحرية أخري ،فقال معصم يده ُ
اليمنى
ُ
عال تردد صداه في الغابة التي اصطبغ أفقها باللون األحمر مع بصوت ٍ
الشمس عن السماء(( :شاكوفيساي ..شا ..كو فيساي)). اب مغيب َّ اقتر ُ
ببطء بطريقة أفقية بعد أن رفع ٍ رددها مرتين وهو ُيباعد بين يديه
ُ
الس َوار ،فبدأت األشياء من حوله تعرض له داخل عقله يسراه عن ّ
ِ
ُ
تام وهو ما يزال مغمض العينين ،رأي النبتة الغريبة ِانتشرت بوضوح ٍ
ٍ
في كل مكان حوله حتى مألت دروب وساحات الغابة ،عددها تجاوز
املئات وربما االالف ،الكثير من الحيوانات تهرول في كل أتجاه مفزوعة
شيئا ما لم يستطع هو رؤيته ،رأي الطريق الصاعدة إلى أعلى تهرب من ً
ومن حولها أثنين التل حتى معبد القناديل ،ظهرت له عجلته الحربية ِ
ً َّ ََ َ
األرقط ،كانا يضربان األرض بقدميهما ،وكأن شيئا ما غير من الخيل
واضحا ً
تماما .إثنى عشر ً ظاهر ُيخيفهما ،ثم ظهر له معبد القناديل
مسافات
ٍ شجرة عمالقة ،مرصوصة بشكل هندس ي دائري على
تماما ،األشجار هيئتها هيئة قنديل البحر ،لها غصون متساوية ً
ُ ُ
خضر ٌاء تكاد تض يء من شدة خضرتها ،من األعلى تتخذ شكل مستدير
ومجوف مرفوعة على جزع رئيس ي بيد أن األالف من األغصان َّ مقوس َّ
ستار ُيخفي ما بداخل املعبد ،األغصان ُمتدلية منها حتى األرض وكأنها ٌ
الخضراء فسفورية اللون تزداد إضائتها كلما أهتزت بفعل الرياح
15
آمنا في مكانه جالسا ًً الخفيفة التي تمر عبرها ،كما رأى سيده الكاهن
حيث تركه في وسط املعبد ،كان سيده في منتصف الستينيات من
َ
رتديا مالبس بيضاء مصنوعة من الك َّتان عمره ،أصلع الرأسُ ،م ً
نحيال كرجل أصغر عشرين ً ً الصافي ،وعلى الرغم من ّ
عاما، سنه يبدو ِ
مرتديا في معصم يده ً ال َت ُنقص مالمحه الوسامة وإن َّ
شوبتها القسوة،
سوارا أخضر اللونُ ،ومطعم بثالث نجوم ُمضيئة نارية اللون .كان ً
بعضا من ً مغمض العينين ،واضعا كلتا يديه فوق ركبتيه ويتلو
الصلوات املقدسة وهو يقوم بالطقوس التي ِاعتاد أن يؤديها في معبد
القناديل.
ُّ
لم يشعر الحارس بالطمأنينة على سيده ملجرد رؤيته على هذه
َ الحالةْ ،إذ شعر َّ
أن طاقة شريرة وكراهية غير مألوفة إنتشرت في أ ْر َجاء
الغابة ،فقرر أن يستطلع الجهة األخرى من املعبد.
بوجهه ينظر في اإلتجاه اآلخر من املعبد ،فإذا به يرى ا َ
لتفت
ِ ِ
َ ً
حيوانا عمالقا في حجم خرتيت يخترق الضباب الكثيف ويجري ً
بسرعة
ٍ
قادما من مسافة دهساً ، ندفعا وسط األشجار يدهسها ً شديدة ُم ً
توجها صوب سيده بعيدة باتجاه املنحدر في الجانب االخر من املعبدُ ،م ً
مباشرة .كان الحيوان يصطدم باألشجار املتوسطة فيقتلعها والكبيرة
تنكسر فروعها من كبر حجمه وقوته ،كان له رأس خنزير يعلوه قرن
َ
خرتيت ،فكه يشبه رأس النبتة الشيطانية التي أحرقها قبل قليل ،بشع
قزز غير أن ُ ٌ
أن أسنانه ُمتباعدة عن بعضها البعض املنظر ْإذ ّ
بشكل م ٍ
ٍ
16
مليء بالشعر الكثيف مما الدماء تتقاطر من بينها ،كما أن جسده ُ
بدو كالغيالن الشيطانية.جعله َي ُ
ً َ ً ٌ
نفسه ،توجه ت ّوا قاصدا معبد ِ في لحظتها ،ودون َه َو َادة على
جريا بأقص ى ما لديه من سرعة ،يدفعه خوفه على سيده القناديلً ،
اع ٌر بشدة ،مما جعله يتعثر مرتين َ
الكاهن .كان الطريق إلى أعلى و ِ
متتاليتين جراء الضباب الذي حال بينه وبين رؤية إن كانت األرض
شجرة عمالقة،
ٍ مهدة أو َّأنها غير ذلك ،في املرة الثالثة إصطدم بفرعُم َّ
أرضا .وقف علىقطعي برأسه وسقوطه ً ٌ وتسببت الصدمة في ٌ
جرح
الفور وهو يتحسس الدماء النازفة من جبينه ،وقد إنتابته حالة من
ّ
الغضب جراء ما حدث له ،إال َّأنه لم يهدر وقته بالتفكير في حاله وما
الس َوار وقال بنبرة
حدث ،فأغمض عينيه وهو يضع قبضة يده على ّ
ِ
باب في الفراغ ،قفز بداخله صوت جادة(( :الوهومورا)) .انفتح له ٌ ٍ
وأختفى على الفور.
جالسا في مكانه داخل املعبد ،غيرً كان الكاهن كاي تاي ما يزال
ً
مكترث بما يحدث في الخارج ،فمعبد القناديل ليس مجرد مكانا ً
عاديا
سحريا ،له طبيعتة الثابتة التي ال تتأثر بما يحدث من ً بقدر كونه ً
مكانا
حوله ،درجة حرارتة ثابتة طوال العام ،حتى درجة إضائته ال تتغير في
ُ
الليل أو النهار فاألضاءة املنبعثة من أغصان األشجار وأوراقها توفر له
أضائة ثابتة طوال الوقت كما أنها تعكس وتحجب أشعة الشمس
ً
إليه .وعلى الرغم من ذلك ،كان الكاهن ُمدركا لكل
فتمنعها من الدخول ِ
17
ّ
غمض العينين، ُ
أي ردة فعل ،م ِ
ساكنا ال ُيبدي ّ َّ ً ش يء يحدث ،إال َّأنه ظل
ّ وا ً
هدوء وسكينة ،وكأنه ٍ ضعا كلتا يديه فوق ركبتيه ويكمل طقوسه في
سبقا بمجريات األمور وما ستؤول إليه. يعلم ُم ً
الباب في الفراغ مرة أخرى ،هذه املرة إنفتح داخل معبد ُ إنفتح
ً
القناديل ،إلى جوار الكاهن مباشرة .دلف منه نياخ هاو ُم ً
ندفعا وكأن
وس ،حيث ظهر ً َ ْ َُ ُ ً
أحدهم قذف به .كان ما يزال منزعجا غاضبا ِبوج ٍه عب ٍ
َّ ْ
ُم َقط ُب ال َح ِاج َب ْي ِن وهو يفرك رأسه النازفة املتأملة من أثر الصدمة التي
َ ً
متوترا والدماء تسيل على ً ثوان قليلة .كان ُم ْرت ِبكا،
حدثت له قبل ٍ
جبينه ،أراد لو يصرخ في سيده يقص عليه ما حدث وما رأى في الغابة،
دماء ذا رائحة نتنة ربما لو نطق لقال له أن رؤوس شيطانية غارقة في ٍ
شيطانا يتلبس جسد خرتيت ً نبتت في األرض ،وانتشرت في الغابة ،و َّ
أن
َّ لديه رأس خنزير بشع املنظر ً
قادما بسرعة شديدة في إتجاهنا اآلن .إال ِ
أن هدوء سيده وحالة السكينة التي ظهر عليها جعلته يرتاب .للحظة،
َّ
ظن َّأنه في كابوس أو َّأنه ُيعاني من نوبات جنو ٍن وخياالت مريضة ،إال َّ
أن صرخة مدوية أطلقها الحيوان القادم بأتجاههم أعادت إليه إتزانه
قادما إليهم. حد ًقا ً خطرا ُم َتماما وأن ً وأكدت له َّأنه في وعيه ً
ُ
لم يبرح الكاهن مكانه رغم صرخة الحيوان امل َد ّوية ،بل َّأنه لم
ً
ساكنا أي ردة فعل من األساسّ ،
ظل يفتح عينيه املغلقتين ولم ُيبدي ّ
ٍ
ً ً ً
شعورا هائال بالتوتر تملك من جلسته غير مكترث .في حين أن ِ تماما في
َّ َ
يجرأ على مقاطعة طقوس نياخ هاو وتسرب إلى أعماق روحه .لم يكن
18
سيده ،في حين ِعلمه أن سيده يرى أكثر مما يراه هو ،ويعلم أضعاف ما
يعلمه ،كما َّأنه لديه من قوة السحر ما يمكنه من حماية نفسه ً
جيدا.
ً
ومريبا ،خاصة وأن الحيوان شيئا ً
غريبا َّإال أن سكونه في حد ذاته كان ً
ِ
الغريب قد أوشك أن يصل معبد القناديل.
َ
تصاعدت حالة التوتر في املكان ،تزايد معها خ َفقان قلب نياخ هاو
الذي كان يتنقل بعينيه ما بين الكاهن واإلتجاه االخر القادم منه
ً
فجأة ّ
أن أدرك والخوف يعتر ِيه ص َّب َب َو ْج ُه ُه َع َر ًقا .ثم َ
الحيوان وقد َت َ
شيئا ما ،فال يمكنه أن يلعب دور املشاهد أكثر من ذلك .في فعل ًعليه ُ
يجرد سيفه من مسرعا إلى خارج املعبد وهو َّ ً تلك اللحظة ،إنطلق
َّ
غمده ،كان سي ًفا متوسط الحجم والطول إال َّأنه مصنوع في قلعة .ما
ً
عمالقا ً
قادما في إتجاهه ،وكان قد إن رأي الحيوان بحجمه الحقيقي،
مترا ،وما زال يتقدم ،تنقل مسافة تقل عن عشرين ً ٍ أصبح على ُبعد
بعينيه مرتين بين الحيوان والسيف ،ثم أدرك في نفسه أن هذا السيف
فترسا وسوف لعبة سخيفة أمام هذا الكائن العمالق الذي يبدو ُم ً
ً
سريعا يفتك به .ألقى سيفه من يده على الفور ،ثم عقد كلتا يديه
الس َوار ،فبدا كمن جد ًدا بيده على ّ بحركة ُمستديرة قبل أن يقبض ُم َّ
ِ
سحرية وهو يوجه كلتا يديه نحو ّ يستجمع قواه ،ثم القى بتعويذة
َ ََ
جزع وقال(( :ستوبيفاي))ِ .انطلقت من بين وأغمض عينيه في ٍ الحيوان
ُ ُ ُ ٌ
يديه طاقة بيضاء اللون ،متعرجة ،تشبه ضوء الرعد ،صدمت
ً َّ
أرضا .إال َّأنه لم سقوطه
ِ الحيوان ،صعقته على الفور ،وتسببت في
جد ًدا وهويبقى على األرض سوى ثوان معدودات .حاول النهوض ُم َّ
ٍ
19
صداها في الغابة حد َّأنه ترد َد َّ
يطلق صرخة غاضبة ومدوية ومخيفةَّ ،
بعيدا عن األشجار ،كما تطايرت على أثرها أفزع الطيور فجعلها تفر ً
الدماء اللزجة التي كانت تتقاطر من فمة ،وهو يضرب بقدميه األرض،
جد ًدا على الحارس نياخ هاو الذي نظر فبدا كمن يتهيء لألنقضاض ُم َّ
ُ ُ ً
شديد ٍ قلق
وقلق للخلف بإتجاه معبد القناديل ،نظرة ٍ توتر ٍ
مسرعا في ٍ
تعويذة
ٍ وحيرة ،ليست على سيده بل منه ،إذ عزم على إستخدام
َّ
قلقا من َّردة فعل سيده ،إال َّأن ُه وجد نفسه سحرية ُمحرمة وكان ً
ٍ
مضطرا لذلك ،فألتف بوجهه ثانية ولم يتوانى للحظة في عقد يديه مرة ً
أخرى وأغماض عينيه واستجماع أقص ى ما لديه من طاقة وصاح
ً
قائال(( :سيكتوسيمبرا)) .قالها وهو يفتح عينيه على آخر اتساعهما
ٌ ويوجه كلتا يديه بأتجاه الحيوان ُم َّ
جد ًدا ،فانطلقت من بينهما طاقة
ُ
شديدة منه، ٍ حمر ٌاء نارية اللون ،وكان الحيوان قد أصبح على مقربة
واحدة في إلقاء التعويذه ربما كان في تعداد األموات. ثانية َّ ُ
ٍ فلو أنه تأخر ٍ
باشرة ففجرته ًّ ّ
وحولته إلى أشالء مما إال أن التعويذة ضربت الحيوان ُم
مكان من حوله فلطخت األرض واألشجار دماءه َتتطاير في ّ
ُ
كل ٍ ِ جعل
ُ ٌ
وأنبعثت منه رائحة نتنه تشبه ً
تماما تلك التي إنبعثت من النبتة
الشيطانية قبل قليل ،كما أنها طالت إحدي يدي نياخ هاو فتسببت له
ً ً
منزعجا ُمتأملا بضع خطوات للخلف وهو في حروق على الفورْ ،إذ تراجع ُ
ٍ
يزيل الدماء عن يده وجسده وكانت تفور على مالبسة وتتفاعل وكأنها
ُ
دماء حارقة ،بيد أن السوار في معصم يده كان ُيض يء بشدة وتنبعث ٌ
منه حرارة شديدة حد أنها آملته للغاية.
20
مسكا بمعصم يده وآثار الحرق ُ ً ّ
لدى عودته معبد القناديل ،كان م
بادية عليه .ما إن دلف من بين أغصان شجر القنديل وكان يلف
غريب
ٍ بصوت
ٍ قطعة قماش مصنوعة من الكتان حول معصمه إذا
حوله في كل مكانُ .ثب َت على الفور في ِ قادم من السماء يصدح من ٍ
َّ ً ُ مكانهَّ ،
وجرد سيفه من ِغمده مرة أخرى .وعلى الرغم من ذلك نظر
نياخ هاو إلى السيف في حيرة من أمره وكأنه يتسائل ما فائدة هذا
ً ً ً
جاهدا أن دورة كاملة في حذر ،حاول الش يء فيما نواجهه .ثم استدار
ُ
يكتشف مصدر الصوت ،بينما فاجأة الكاهن بفتح عينيه على
السوار ً
منزعجا ً اتساعهما وبدا ُم ً
تماما من الصوت وهو ينظر نحو ِ نتبها
ُ
األخضر في معصم يده وكانت النجوم الثالثة عليه تض يء بأضطراب
ظل على سريع .إستغرب الحارس ِمن َّردة فعل سيده في حين أن األخير ّ
السوار وقد إعترته حالة من القلق واضحة ً
تماما حالته ً
منتبها ينظر إلى ِ
ً في مالمحة التي وشت َّ
بأن ُه غير مصدقا ملا يسمعه أو ما يراه .كانت
ْ ُ األصوات تتكرر ً
دوريا ،مما جعل الحارس يحتاط اكثر ،إذ إلتفت بتوتر
في كل اإلتجاهات ،لكن الكاهن نهض من جلسته على الفور وقال:
واضح على وجهه(( :ماذا يحدث ٍ قلق((فلنغادر)) .سأله نياخ هاو في ٍ
جاللة الكاهن؟! وما هو مصدر تلك األصوات؟)) أجابه الكاهن بحدةَّ
يشوبها قلق(( :ال تهتم .فلنغادر على الفور)).
۞۞۞
21
04
السواد الحالك بالفعل قبل إكتست بحجاب من َّالسماء قد َكانت َّ
ٍ
ً ُ
وبعضا من أن َيبلغوا القلعة .وجدوا مشاعل كثيرة تحملها ُحراس
رؤيته عجلتهم الحراس فور العامة وصوت جلبة في إنتظارهم .أحد ُّ
ِ
سريعا للداخل ،اخترق ً الحربية قادمة ِمن بعيد ِالتف بوجهه وهرول
الجموع متوج ًها نحو سيدة القلعة الجالسة منذ ثالثة َّأيام في برج
عليهم يا
الشرفة املطلة على املدينة ،وقال وهو يلهث(( :لقد عثروا ِ
سيدتي)).
ً
إنتفضت السيدة كاريسا زوجة الكاهن واقفة بسرعة وهي تسأل:
((رجالنا أم رجال املعبد؟)) .أجابها الحارس(( :لقد عادوا وحدهمَّ .إنهم
تماما)) .غمغمت كاريساُّ :
((الشكر لآللهة)). بخير ً
22
ُ
والب َد
يبحث عن السكينة واإلطمئنان ،لكنه ما زال الكاهن االكبر ُ َّ
وكأنه
ً
أن ُيحا ِفظ على وقاره .كان مدركا العيون التي تتبعه ،واألصوات
عما حدث وأين كان في تلك َّ
األيام املاضية. املكتومة التي تتسائل َّ
23
َّ
أحمر ًارا على أثرها وهي توميء له برأسها بالشكر واإلمتنان ،إال أن
ً ً
غضبا عندما سقطت مالمح وجه شبسكاف تبدلت فجأة واستشاط
ٌ
شكل عينيه على عجلة حربية سوداء توقفت أمام الساحة ،كان لها
جماجم بشرية ٌ غريب ومخيف ،حيث علقت على جانبيها وفي مقدمتها ٌ
وجماجم خنازير وضباع.
ً هبط من العجلة ً
حارسا عمالقا بطول ثمانية أقدام ،يرتدي خوذة
قمة رجل غريب األطوار ،يرتدي األسود من َّ كبيرة .وترجل من خلفه ٌ
رأسه حتى أخمص قدميه ،بدا من حركته َّأنه في عمر يقارب عمر
ً َّ
الكاهن كاي تاي ،إال أنه كاهن رشيق الحركة .دلفا مباشرة إلى الساحة،
صمت مريب .تفرقت الجموع املحتشدة وهم يتهامسون فيما بينهم ٌ َّ
فعم
ممرا ُيفض ي ُمباشرة نحو الكاهن الذي كان ما يزال بخوف ،صنعوا له ً
واقفا يربت على كتف زوجته كاريسا وإلى جوارهما حتبت رع وشبسكاف ً
ونياخ هاو الذي اقترب منهم هو اآلخر فور دخول الرجل للساحة.
َّ نظر شبسكاف إلى سيده الكاهن وهو َّ
يجرد سيفه من ِغمده ،إال
نظرة ذات مغزى ً تريثا وحكمهْ ،إذ َ
نظر إليه
ً
أن صديقه كان أكثر منه
يوميء له برأسه بأشارة مفادها أن ما يفعله بال فائدة .حالة من ُ وهو
التوتر والقلق لفت األجواء وتزايدت مع كل خطوة يخطوها الرجل ذو
املالبس السوداء نحو الكاهن الذي رفع يده وأشار بها إلى شبسكاف
يطالبه بأن ي ِغمد سيفه مرة أخرى ،والتفت بعد ذلك وقد إعترته حالة
إستغراب بدت واضحة في مالمح وجهه وهو يقول(( :خا .إم .ويست!!)).
24
الحق من الليل ،داخل شرفة املنزل املطلة على املدينة، وقت ٍ في ٍ
جنبا إلى جنب مع شبسكاف وبعض حراس الكاهن جلس نياخ هاو ً
واضحا في أوجه الجميع .على جدران الساحة ً االخرين وقد بدا األعياء
َ
تماثيل متوسطة الحجم ُممسكة بقناديل زيتية ٌ َمش ِاجب علقت فيها
ُ ُ
بالف َراء بعضها أخذ
أشعلت فيها نيران أضائت املكان ،األرض مفروشة ِ
من األغنام وبعضها من الثعالب .وعلى الرغم من تسامر ُ
الح َّراس
حالة غير طبيعية ،شارد َّ َّ
ومزاحهم مع بعضهم البعض إال أنه ظهر في ٍ
الزهن ،خائر القوى من كثرة التفكير ،ما زالت أحداث اليوم تشغل
أن سيده أمره بكتمان ما حدث وعدم الخوض فيه ً
كثيرا عقله ،ولوال َّ
بنفسه وما الحراس لكان اآلن يسرده للجميع ،ربما ليفتخر بقية ُمع ّ
ِ
ً
فعله في الغابة ،وربما بحثا عن إجابات تريح عقله الشارد في تفكير
مستمر عن ماهية النبتة الغريبة والحيوان ذا جسد الخرتيت ووجه
الخنزير واألصوات الغريبة القادمة من السماء .كان الجميع ينظرون
إليه من ٍآن آلخر يحثونه على الحديث ،لكن نظرة شبسكاف وحدها
متقدتين وتوجه نحو البرج في حقاَ .ترك الساحة بعينين َّ كانت املطمأنة ً
كل منهما اثنى عشرالتمثالين اللذين يرتفع ٌّ الشرفة ،وقف يتطلع في ّ
ِ
ّ
قدما ،أحدهما ُي َم ِثل كاريسا واآلخر سيده كاي تاي وصوت الحيوان ً
وضع يده علىيتردد في أذنيه .لحقه شبسكاف الذي َ وأبواق السماء َّ
كتفه وقال(( :نياخ هاوَ ..
أأنت بخير!)).
كان نياخ هاو ممتقع الوجه عندما بدأ في الحديث يحكي نسخته
من القصة دون أن يلتفت إلى صديقه ،وظل يسترسل في الحديث
25
ً
جميعا قد غادروا لوقت طويل ،وعندما فرغ من الكالم كان ُ
الحراس ٍ
ً ً َّ
الشرفة ولم يبقى معه إال شبسكاف الذي تراجع خطوة للوراء متثاقال
ّ ً
مكان آخر غير هنا بعد الذي سمعه، أي ٍ باديا كرجل يرغب أن يكون في ِ
وقال(( :ما الذي يجدر بي أن أفهمه من هذا بحق اآللهة؟ إن ما تقوله
وما فسره لك الكاهن أثناء طريق عودتكم إلى هنا ال يعني سوا ً
شيئا
ُ ً
شديد ُومخيف(( :نعم ،لم نكن ٍ هدوء
ٍ واحدا)) .قال نياخ هاو في
نعد الوحيدين هنا ،باتت غيالن الشياطين في كل الوحيدين هناك ،ولم ُ
ُ
مكان .لم تعد املدينة آمنة ،هذا ما يظنه جاللة الكاهن)).
َ ّ َّ َّ
متوت ًرا وسأله في حيرة
اتسعت عينا شبسكاف الناعستان واعتدل ِ
ً
مستغربا(( :لذلك أتى الشيطان خا .إم .ويست إلى هنا؟!)).
كان القمر على وشك أن ُيغادر السماء ،وكان الكاهن ما يزال
ً
جالسا في مخدع نومه تنتابه هو اآلخر حالة من القلق والتعب بادية
ً
تماما في وجهه مع الحيرة .حاولت كاريسا الجالسة إلى جواره بمالبسها
الحريرية الزرقاء البراقة والتي تكشف من جسدها الضاجج باألنوثة
أكثر مما تخفي أن ُتهدأ من روعه ،كانت شابة ً
دائما ،نحافتها جعلت منها
امرأة ال تتأثر بعوامل السن ،وكأن عمرها توقف في بداية األربعين.
شيئا من الطعام وهي تمد يدها تمسك سألته إن كان قد تناول ً
بشريحة من اللحم موجودة وسط مائدة مليئة بالطعام على مقربة
أي ش يء .فتناولت هي شريحة منهاّ ،إال أنه أشار بيده ر ً
افضا تناول ّ
َّ َ
وق َ
وجهه وهي
ِ ضمت منها قضمة صغيرة وقد علقت عينيها على اللحم
26
ٌ َّ
فيه، تبتسم له إبتسامة ذات مغزى وتنظر ِ
إليه نظرة مفادها أنها راغبة ِ
كأي امرأة أن احتضان حقيقة ّإال َّأنها تدرك ّ
ً ُ
ترغب فيه ربما لم تكن
رجل خائر القوى ُمرتاب يعيد إليه طاقته ويبث في روحه ً
شيئا من ٌ
ِ
ُ
األمان يشعره بالقوة اكثر مما يحتاج .تعمدت أن تسقط حمالة كتفها
َّ لتظهر ُله ً
شيئا من جسدها .إال أن الكاهن أسقط رأسه على كتفها
ْ ً
ساكنا بعد ذلك ،إذ شديد ولم يحرك
ٍ برففق
ٍ وربت بيده على ظهرهر
ظل على حالته ،شاحب الوجه ،وقد أخذ الشرود منه كل مأخذ. ّ
في شرفة املنزل ،كان نياخ هاو قد جلس على األرض ً
جنبا إلى جنب
مع صديقه شبسكاف وقد أعطيا ظهريهما للبرج ،وكان الحديث بينهما
ممتدا لم ينقطع بعد عندما دلفت حتبت رع من الباب ُمضيئةمايزال ً
كضوء الصباح ،ودنت منهم بهدوء الظالل ،وقالت بصوتها العميق
ُ ّ
املنكه باملوسيقى وهي تقدم الطعام إليهما(( :إستشعر قلبي َّأنكما ما
تزاال ُمستيقظين ،فر ُ
أيت من الجيد لو أحضر لكما شيئا تأكالنه)).
كان ردائها األبيض يكسوها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها،
َّ
لباس طوي ٌل وفضفاض مصنوع من الكتان األبيض ،طرزت عليه ٌ
أشكال زخرفية تحمل إسم الرب رع إله النور.
تنقل نياخ هاو بعينيه بين ردائها الزاهي وبين الطعام في يديها بينما
علقت عينا شبسكاف على وجهها وكأنه يراها للمرة األولى وقد كان ينظر
إليها ذات النظرة في كل مرة تقع عينيه عليها.
داعبا شقيقته وهو يتناول الطعام من بين يديها قال نياخ هاو ُم ً
27
وقد بدت عليه الدهشة ملرآها(( :من املفترض أن تكوني في فراشك يا
علي أن ((عز ّكقبلة ومالمح بشوشةّ : فتاة)) .أجابته بصوت ناعم ُ
ٍ ٍ
ً
أترككما جائعين بعد يومكما الشاق)) .قال ممازحا أياها وهو يرفع ُّ
سبابته(( :أنا فقط ..أنا فقط من كنت في الخارج)).
ً َّ
تختلس نظرة تتطلع بها ُمبتسمة في ُ خجل وهي
علقت حتبت رع في ٍ
لثوان معدودات ٍ وجه شبسكاف(( :وهو ))..ثم توقفت عن الحديث
ُ ً
قضتها كاملة في النظر داخل عيني شبسكاف قبل أن تكمل جملتها
ً
صوت إزداد فيها الخجل(( :وهو من كان يبحث لي عنك)). ٍ بنبرة
قائلة ِ
جدر حاول شبسكاف التظاهر بالجدية وهو يقول(( :حتى لو .ال َي ُ
َّ
بك أن تكوني ُهنا .إنه جوف الليل البارد)) .إال أن مالمحه فضحته ،لم ِ
َّ ُ
يكن باستطاعته أبدا أن يخاطبها في جدية دون أن يبتسم .كانت ً
ُ
الساعة ُمتأخرة بالفعل ،لكن حتبت رع لم تمانع من السهر وإعداد
ُ
الطعام ألجلهما ،أو في حقيقة األمر َّأنها أعتادت أن تخاصم النوم طاملا
ً َّ
حياء ألن يتضرج أن أحدهما ُمستيقظا .كانت تمتلك ما يكفي من ٍ
حقاوجهها بحمرة الخجل وتلمع عيناها العسليتان ،ولقد بدت جميلة ً
َّ
وهي خجول .فكر نياخ هاو بش ٍيء من الدهشة وهو يتأمل مالمح وجهها
ُ
تستطيع كل ش ٍيء بشكل عفوي جميل وال ((إنها تفعل َّ ويهمس في نفسهَّ :
ً أخفاء مشاعرها ً
أبدا)) .ثم ضحك فجأة في وجهها ،مما جعلها تلتفت في
جيدا بأمر الشعور األتجاه اآلخر تتحاش ى النظر في عينيه .كان يعلم ً
املتبادل بينها وبين صديقه ،بل كان يتلذذ بمتابعتهم وهم يسترقون
28
النظر لبعضهم البعض َّأيما جمعهما مكان ،وكان يحترم فيهما
إحترامهما له طوال الوقت.
قال شبسكاف ُم ً
قترحا وهو يبتسم(( :نياخ هاو .أال تدعوها لتناول
الطعام معنا؟!)) .أمعن نياخ هاو النظر في وجه شقيقته الضاجج
لثوان معدودة ثم أشار إليها بالجلوس .جثت على ركبتيها ٍ بالخجل
وحدجت شقيقها بنظرات عامرة باملحبة قبل أن ُتغمض عينيها َّ
وكأنها ٍ ٍ
تشكر اآللهة عليه.
حثاء سخين من لحم الغزالن َّ
والشعيرَ ،سلطات ُحطت األطباقُ ،
َّ
واملكسرات من خضار الطماطم والسبانخ ُر َّشت عليه التوابل
النهر وقد َ َّ
الطازج من َّ
طهي في املسحوقة ،إلى جوار سمك الترويت
ُ
الصلصال .كانت حتبت رع ت ّ أغلفة من َّ
قدم الطعام طبق بعد آخر، ِ
َّ َ ُ
وعندما ق ِّدم طبق اللحم ت َع َّم َد شقيقها أن يختطف أول قطعة فيه
قطعا شريحة من املفصل تليق بها كملكة وليست َّ
وقدمها إليها بنفسه ُم ً
مجرد مدبرة لقلعة سيده الكاهن كاي تاي ،وابتسم وهو يضعها لها على
طبقها .الحظت حتبت رع من الطريقة التي يتحرك بها نياخ هاو أن
ينبث بكلمة شكوى واحدة .على الفور، ذراعه ال تزال تؤمله ،لكنه لم ِ
َ
ِانتقلت بجسدها الضئيل إلى ك َنف أخيها ،وبرفق قبضت بيدها على
معصم يده وهي تشير إليه أن يتوقف عن إطعامها وإطعام نفسه ،من
ثم بدأت في إطعامه بنفسها وقد ملعت عينيها وأضائت وهي تتطلع في
عينيه.
29
۞۞۞
30
05
ُ َ
الج ّ ِو يش ي ُبدن ّ ِو
صافيا مع ش يء من الجفاف في َ
ٍ ً النهار ً
باردا بزغ َّ
ً ُّ َ نهاية َّ
عشرينا من حرس الكاهن تضم الصيف ،كانت القا ِفلة التي
يمتطون الخيل والعجالت الحربية ،ترافقهم بضع نساء من خادمات
خصصة لهم قد تحركت قبل بزوغ ٍ بات ُم
السيدة كاريسا يجلسون في عر ٍ
الدورية للتبضع ،كان على رأسهم شبسكاف ذو َّ الشمس في رحلتهم
َّ ً ً
العينين الناعستين الذي لم يكفيه يوما واحدا ليتعافى من مشقة األيام
نائما على متن الثالثة املنصرمة التي قضاها في البحث عن الكاهن ،كان ً
يفتح عينيه ما بين ٍآن وآخر بمشقة بغية عجلته الحربية طوال الوقتُ ،
إختالس النظر واإلطمئنان على حتبت رع في مكانها.
كانت حتبت رع من ٍآن آلخر تلتفت بدورها هي االخرى من حولها
ده على يسارها ،وتارة من يمينها ،وتارة خلفها ،لمتبحث عنه ،فتارة تج ُ
ِ
َّ
أبدا .تستغرق الرحلة من سبعة أي ٍام إلى عشرة ،بحسب ُيكن َيسب ُقها ً
ِ
ظروف املناخ وحالة األسواق ومدى توافر ما يبحثون عنه ،يقضونها
الطريق من ََّ ً
الفجر إلى ِ مقربة من ضفاف النهر ،يمضون على ٍ جميعا على
يمرون بالغابات والبساتين والحقول بالغة َ الغسقُّ ، َ
الجمال ،وعبر
جارية املزدحمة ،يقضون حاجاتهم، والبلدات ّ
الت َّ الصغيرة َ القرى َّ ُ
ِ
َ ُّ َّ
يحل الظالم ُيخ ِّيمون ويلتهمون طعامهم على ضوء القمر أو وعندما
31
الرجال الحراسةَّ ّ ُ
أحد القناديل الزيتية التي تض يء لهم ،ويتولى ِ
بالت ُ
ناوب. َّ
ً َّ
قرية
في ليلتهم األولى ،كان الظالم سائدا عند توقفهم على مشارف ٍ
َّ
عند مدينة كاهون ،قرب البحيرة الكبيرة بارون .كانت حتبت رع ملاحة،
دائما ،في كل مرة ّ
الذهن ً ّ ّ
تخيم في ذات املكان قرب البحيرة،
ِ متوقدة ِ
ِ
َ تلمح نير ًانا تومض من بين األشجار في َّ
مخيمات املسافرين اآلخرين،
كل رحلة عن املخيمات يزداد َّ وبدا لها في الرحالت السابقة أن عدد َّ
بالنهار ،حيث جارية َّ الت َّ البلدات ّ سابقتها ،كما تزداد الحركة على طريق َ
ِ
ً ً ُّ
الصبح والظهر واملساءُ ،م ِس ّنين وأطفاال ورجاال منهم يأتي املسافرون في ُّ
كل منهن رضيعها تضم ٌّ وأمهات ُّ وفتيات جميالت َّ ٍ كبير الحجم وضئيله،
ً ً
صغيرا يلهو من حولها ،بعضهم يقود إلى صدرها أو تصطحب طفال
َ ُ ُّ ّ ّ ً َ
الثيران،عربات تجرها ِ ٍ مؤخرة عربات املزارع والبعض يركب متخبطا في ِ
دائما أن تسمع صوت ضحكاتهم جميعهم في حالة من البهجة ،باألمكان ً
العالية والغناء في كل مكان تمر فيه .لكن هذه املرة وجدت ً
شيئا ٍ
ً ُ ً
مختلفا ،األعداد قليلة ،املخيمات تكاد تعد على أصابع اليد ،عددا أكبر
أي ش ٍيء امتطى أحصنة القتال والخيول القزمة والبغال والحميرَّ ،
ُ
ُيمكنه أن يمش ي أو يجري .إرتابت في األمر ،وأخذت تراجع أحداث اليوم
ً شيئا ،تذكرت رؤية امرأة ما تبكي وهي ُّ علها تفهم ً َّ
تجر عددا من في ذهنها
ً َّ ً
الخراف وبقرة حلوب على ظهرها فتاة صغيرة ،رأت حدادا شاحب
السندان ،بدا الوجه يدفع عربة ٍيد وفيها أدواته ،املَطارق وا ِمل َلقط وحتى ّ
ِ
ً َ أنه ُم ً
غادرا مكانه بال رجعة ،بعد قليل رأت رجال آخر يدفع عربة ٍيد
32
أخرى ،وإن كانت تحوي أشياء غير واضحة ملفوفة بدثار .أغلب من
حملوا ممتلكاتهم على سيرا على األقدام ،وقد َّ رأتهم قطعوا الطريق ً
ّ
متشككة خائفةَّ ،يتجهون ِ
أعينهم ال َحت نظرات َ
متعبة أكتافهم وفي ُ
ً
شماال صوب العاصمة ،صوب ممفيس ،بينما يتجه شبسكاف ومن
جنوبا بإتجاه العاصمة القديمة ،أبيدوس ،التي اصبحت عاصمة معه ً
محدودا للغاية من املسافرين يلتفت إليهم ً جعل ً
عددا الجنوب االن ،ما َ
َ
ُوي َو ِ ّجه لهم نظرة مريبة .تساءلت في نفسها عن سبب كونهم الوحيدين
ّ َ
االتجاه .كانت ما تزال تتطلع حولها بأرتياب وتتذكر الذين يسلكون هذا ِ
َّ
أحداث اليوم ،مسافرون كثيرون كانوا مسلحين ،ورأت سكاكين
وسيوفا هنا وهناك ،بينما َ ً ً
صنع بعضهم وفؤوسا، وخناجر ومناجل
تحسسون أسلحتهم جميعا ي َّ ً اوات من فروع األشجار ،كانوا هر ٍ َّ
ُوي َس ّلطون أنظارهم مع مرور العربات بهم ،وفي ّ
النهاية َي ُتركون َّ
الركب ِ ِ
يمض ي.
بعيدا ،فأحصت ما تبقى معها حاولت حتبت رع طرد هواجسها ً
ُ النقودَّ ، من ُعملة في كيس ُّ
وقررت أن تعطيه إلى شبسكاف ،ثم هرولت ٍ
ومن معها من فتيات صوب البحيرة .تخلوا عن مالبسهن بسرعة وقد
وهن يهرولن في اتجاه الشاطيء ،وما إن وطئن تعالى صوت ضحكاتهن َّ
فيه ،ظهرت امرأة مجنونة من بأقدامهن في املاء ،وقبل أن يتعمقوا ِ
أخذت في ُّ َ
الصراخ فيهم من على جانب املاء(( :يا حمقى! العدم،
َّ َّ ً
كالفزاعة ،زائغة النظرات ودامية ستموتون يا حمقى!)) .كانت نحيفة
القدمين.
33
صرخت الفتيات ،فأنطلق الحراس صوبهم في الحال كالسهام
وأحالوا بينهم وبين املرأة ،وحدها حتبت رع هرولت صوب شبسكاف
ُ
تختبيء فيه وتخفي جسدها العاري خلف جسده .أمر شبسكاف
الحراس أن يتقصوا أمرها إن كانت عجوز في غير وعيها وأن ُيبعدوها
َ
عن الفتيات و ُيعيدوها إلى ذويها إن كانوا قريبين.
لم تجرؤ حتبت رع والفتيات على االستحمام ،على الرغم من أن
ً
رائحتهم صارت كريهة ألقص ى َح ٍّد كرائحة من سقط في الوحل ،فروائح
كثيرة طالت ثيابهم أثناء التجول في األسواق وبين القرى ورائحة العرق
َّ قد تمكنت منهنَّ ،إال أن ً
شيئا ما أخبرها أال تقترب من املاء .فتاة واحدة
وقفت شبه عارية تتطلع في وجوه الجميع وهي صامتة إال ان شفتيها
وحاجبيها كانوا ييتحدثون بال صوت قبل أن تخلع ما تبقى من مالبسها
وب بعدما تعمدت فتاة َل ُع ٌ
ً
وتلقي بنفسها في املاء بطريقة اوحت َّأنها
ُ
إبراز أنوثتها للحراس .استائت حتبت رع مما شاهدتهَّ ،إال أنها َّ
أسرت
ّ ّ َّ
ص ِف انضم شبسكاف إلى األمر في نفسها وازداد ِاستيائها عندما
ً
املتوجهين إلى االستحمام ،والقوا بأنفسهم جميعا في املاء ً
جنبا ّ الحراس
ِ
إلى جنب مع الفتاة.
كسر حارس محظوظ القليل من الخشب الجاف من جزع شجرة َّ
ً
سهل عليه تقطيع ميتة منذ زمن طويل مما َّ قديم ،كانت ال َّشجرة
جمع شبسكاف وحتبت رع برفقة حارسين آخرين اغصانها ،بينما َ
َّ الشرارة األولى بنفسهَّ ، أشعل شبسكاف َّ َ َ
الق َّ
وهوى ليم اللهب ش.
34
ً تأجج ،فبدا كأن أغصان الشجرة َ بمعطفه إلى أن َّ
عادت إلى الحياة ثانية
قطعة اقصات من لهب داخل كل النار ،إذ َّدبت الحركة في ر في ضوء َّ
ٍ ٍ
وهاجة من األصفر من الخشب ،أخذن َي ُدرن ويتواثبن في فساتين َّ
دافئا حولهم .وسرعان ما الج َّو ً أصبح ّ َ واألحمر والبرتقالي ،وسرعان ما
الساقين وجها إلى وجه مع حتبت رع يلتهمها جلس شبسكاف متقاطع َّ
دائما ،وراقبته بدورها عن كثب .ثم تناو َل من بعينيه كما كان يفعل ً
شاء من فطائر اللحم الساخن وشربوا يستحموا َع ً ُّ استحموا ومن لم ُّ
َ قليال من َّ ً
رشفات قصيرة من دورقها املليء ٍ النبيذ .أخذت حتبت رع
َ ََ
الت َّفاح قبل أن تت َناقله الفتيات فيما بينهم وتلتهم هي الفطير بعصير ُّ
الساخن ،الفتاة اللعوب وحدها رفضت تناول الدورق ،كانت تجلس َّ
الريان بعدما ارتدت مالبس قصيرة بطريقة تكشف أجزاء من جسدها َّ
أحيانا ً مقصود ُومفتعل(( :أبي كان يسمح لي غنج
ً
ٍ للغاية ،وقالت في ٍ
ُ ُ َ ََ بشرب كوب من َّ ُ
النبيذ)) ،وغمزت بعينها وهي تضيف(( :أصبحت يافعة ٍ
ببالهة ٍ ض ِح َك شبسكاف ومن معه الت َّفاح))َ ، أكثر ،وال يناسبني عصير ُّ
ُ
شديدة وإن كانت ِضحكة شبسكاف ُمفتعلة .قالت اللعوب وهي تلعق
رشفة من ٍ دائرية حتى سال لعابها بعدما تناولت ٍ بحركة
ٍ شفتيها بلسانها
َّ ُ
دورق نبيذ أخذته من أحد الحراس(( :النبيذ أحلى بكثير)) .قالتها وهي
تتعمد سكب القليل منه أسفل شفتيها فسال على عنقها كماء النهر
ُ
وجري إلى مفرق َنهديها قبل أن تعض على شفتيها تصطنع الخجل.
همت واقفة وتحركت صوب شبسكاف حتى ِامتعضت حتبت رع التي َّ
وح َد َج ُ باشرة ًَ
غاضبة وكادت أن تحرقه وهي ٍ بنظرة
ٍ ته وقفت أمامه ُم
35
تزفر في وجهه وتقول بحدة(( :لقد نلنا من التعب ما فيه الكفاية،
فلنذهب للنوم وليذهب ُ
الح َّراس إلى مناوبات حراستهم)) .ثم دارت على
ً
عقبيها وقد ِاعترتها حالة من الغيظ الشديد بدت واضحة تماما في
مالمحها وهي تتوجه صوب خيمتها.
الحق من الليل ،تفاجئت ِبه خارج الخيمة ،يستأذنها أن وقت ٍ في ٍ
َّ تخرج إليه لتأخذ منه ً
شيئا ماِ .ابتسمت فور سماعها صوته ،إال َّأنها ِ
غضب ُمصطنعة وخرجت إليه. ُ َ َ
سرعان ما بدلت مالمح وجهها بمالمح
ٍ
وجدته ُيعطيها ِق ْرَبة ماء أحضرها لها من الينبوع الدافيء كي تستحم،
كان يعرف َّأنها ال تطيق أن تبقى هكذا حتى الصباحِ .اختطفتها من بين
وس ،وكان يعرف َّأنها ال تحتمل أن تنظر في وجهه دون أن َ ْ َُ
يديه ِبوج ٍه عب ٍ
بالق ْرَبة ،وعندما رفعت عينيها في عينيه ،أطال
فظل ُممسكا ِتبتسمّ ،
هزت رأسها ً
أخيرا وأبتسمت ،فتركها. النظر فيهما حتى َّ
36
ً
ما غير اعتيادي حدث معها ليال مما جعلها في حالة ِان ِتشاء .توجهت
بخطوات متسارعة ،وقفت أمامها مباشرة وأخذت ٍ حتبت رع صوبها
ن ٌ ََ
لثوان معدودات ،كانت كدمات زرقاء اللو مائلة إلى الحمرة تتفحصها ٍ
انحاء متفرقة من رقبتها وقرب مفرق النهدينِ .استشاطت حتبت رع ٌ في
َّ َّ ُ َّ ً
العسليتان عن آخرهما في لحظتها وهي غضبا ِملا رأته ،واتسعت عيناها
الح َّراس تلتف .توجهت ُمباشرة صوب شبسكاف الذي كان يتجهز مع ُ
ً
ملغادرة املكان ،سحبته من معصم يده وابتعدت به قليال حتى توارت به
س صفصاف عمالقة ،وقبل أن َتت َف َّو َه بكلمة واحدة َم َّ خلف شجرة َ
شفتيها املمتلئتين بإبهامه منعها عن الكالم ،وقال وهو ينظر في عينيها:
سواك)) ،إنتفضت في غيظ ،حاولت ((أقسم بجميع االلهة أن ال ٌ
أحد
ِ
املرة تعمد مرة أخرى على شفتيها لكن هذه َّ أن تتحدث ،فضغط بأبهامة َّ
ُ ُّ
((ورب حتبت رع ،لم أغادر خيمتي منذ أن يضغط على شفتيها وقال:
تركتك)).
ُ ِابتسمت ،وملعت ُحمرة ُّ
الر َّمان على شفتيها املمتلئتين ،وقالت
ُ ً ُ
خنجرا من بين طيات مالبسه وتشير به في يدها تستل تتوعده وهي
َ َ َ َ ً
بعيدا عنه(( :أقتلك يا شبسكاف ،أقتلك وأقتلع عينيك)) .تب َّسم
ً ً
برفق للخلف وهو ما يزال ُممسكا بكلتا َّ
ضاحكا من قولها وهم يدفعها ٍ ِ
ً ُ
كتفيها حتى ِالتصق ظهرها ِبجذع الشجرة ،ونظر داخل عينيها مباشرة،
فأغمضت عينيها وتنهدت وأسقطت الخنجر من يدها.
ً َّ
قضوا يومين كاملين في التبضع ،قبل أن يمضون على الطريق م َّرة
37
أخرى قاصدين مدينة آخت آتون ،وهي مدينة تتبع مملكة الجنوب
الواقعة تحت حكم اإلله ِست .في مساء ذلك اليوم ،قرب املدينة،
ْ رسا أسود ،كان يتسلل ،بدا ُم ً
غادرا للمدينة إذ توقف حارس يمتطي َف ً َّ
متاعا على جانبي الفرس .تفحص عرباتهم ووجوههم، ً كان يحمل
اكتشف من فوره أنهم غرباء يتبعون مملكة الشمال وإلههم أوزيريس،
بنبرة مريبة(( :عودوا ً َّ
وأنهم هنا بغرض التبضع ،قال ناصحا ولكن ٍ
تعد املدينة آمنة)) .وتحرك من فوره دون أن أدراجكم ،عودوا ..لم ُ
ينتظر منهم ّرد .لم ينتبه شبسكاف ومن معه لحديث الحارس ،وأكملوا
َّ ُ كأن ً السير ّ
شيئا لم يكن .على مشارف املدينة كان الطريق قد اكتس ى
ً َّ
بالظالل من حولهم مما أوحى أن الظالم بات وشيكا ،الحظت حتبت رع
صغيرا على جانب الطريق ،كومة ثرى صغيرة حددت من النظرة ً قبراً
األولى َّأنها لطفل .كان هناك شاهد قبور فوقها وأراد حارس أن يعرف
أسم الطفل ،قفز من عجلته الحربية وقبل أن يخطو باتجاه الشاهد
قال له شبسكاف بحدة أن يدع األموات وشأنهم ،فعاد إلى عجلته مرة
ّ ٌّ
صف كامل اخرى .بعد بضعة فراسخ ملحت حتبت رع املزيد من القبور،
قبورا على جانبي حديثا ،بعدها لم يقطعوا مسافة َّإال ورأت ًً
محفور
سبب واضح غير رؤيتها ٍ الطريق .انقبض قلبها شاعرة بالخوف بال
َّ
الح لها على مسافة ليست ببعيدة معبد حددت أنه معبد للقبورَ .
العرافات ،كانت قد زارته مرات عديدة من قبل برفقة نيآخ هاو
ُ
وشبسكاف نفسه .وهو معبد تقيم فيه أربعة من الساحرات ُه َّن
وه َّن ساحرات تمر عليهم قوافل ميليت ،وأنهاري ،وحنت تاوي ،ورويُ ،
38
املسافرين ليتباركوا بهم بعد أن ذاع صيتهم في ُحسن قراءة مستقبل
أن لهم قدرة ذائعة الصيت على طرد الناس ُومداواة املرض ى كما ّ
األرواح الشريرة وإبعادها عن املنازل وحقول املزارعين .عند اقترابهم من
املعبد ،قالت حتبت رع وهي تتطلع في حيرة وقلق بعينيها في األنحاء:
((فلنخيم هنا الليلة)).
موجها حديثه للحراس وإن كان بنبرةً َّردد شبسكاف من خلفها
ولهجة آمرة(( :فلنخيم هنا الليلة)). ٍ صوت أعلىٍ
َّ
كان املكان قد بدأ يكتس ي بالظالم من حولهم عندما انتهوا من
تعمدت إظهاره وهي توجه نظرة ذات نصب الخيام ،قالت اللعوب بغنج َّ
ً ٍ
ً
الح َّراس بعينه(( :لقد نلنا من التعب قسطا وفيرا، مغزى إلى أحد ُ
كل منا للنوم!)). ُ
ويذهب ٌّ فلماذا ال نتناول الطعام
ات مرتابةْ ،إذ كان الوقت ً
مبكرا للغاية رمقت حتبت رع الفتاة بنظر ٍ
ودارت على عقبيها بال ُّ تعلقَ . ّ َّ َّ
ترد ٍد وتوجهت إلى على النوم ،إال أنها لم ِ
خيمتها.
َّ
الحظ شبسكاف تغيرها الواضح على وجهها وأفعالها ،إال َّأنه لم
الح َّراس برفقة الفتيات ،ربما البقاء مع ُ ُ يذهب من خلفهاْ ،إذ َّ
فضل
شيئا من املساحة الشخصية ،أو َّأنه أراد ذلك بالفعل. رغب في أعطائها ً
39
واحدة من الطعام ،كعادته في كل مرة يشعر فيها أن حتبت رع
ٍ لقمة
ٍ
ليست على ما ُيرام.
تماماَ ،
وبدا لها وقت الحق من الليلة ،كانت حتبت رع ِيقظة ً
ٍ في ٍ
ُ
غريبا ،وإن بلغ مسامعها صوت شبسكاف الهدوء الذي َ
ساد ليلتها ً
النار ،وحتى ُ
تململ األحصنة الخافت، والحراس مع الفتيات وطقطقة َّ
لكن على الرغم من هذا شعرت كأن العالم يحبس أنفاسه ،خاصة
ُ
بعدما تطلعت في السماء عبر ف ْرجة صغيرة في سقف خيمتها ووجدت
ً
جميعا، أن النجوم اختفت وكأن السماء بها كتلة سوداء قد ابتلعتها
وجعلها هذا ََّ والطيور على األشجار غابت أصواتها ً
الصمت تماما.
َ ُ َ ترتجف .التفتت بوجهها عن ُ
سحبت ذراعها من ك ٍ ّم وأنزلت الف ْرجة، ِ
كورته لتنام فوقه ،وكافحت من أجل النوم رغبة منها َ
ردائها وخلعته ،ثم َّ
في دفع هواجسها ً
بعيدا.
تام في املكان،صم ٌت ٌ
حل ّ وقت متأخر من الليلة نفسها ،بعد أن ّ في ٍ
ٍ
ََُ َ َ َ
اب الخيمة ضوء متذ ِبذب يمر أماممها وسمعت رأت عبر خصاص ب ِ
شخص آخر لم تستطع ٌ وقع أقدام َّميزت َّأنه للفتاة اللعوب ُ
يلحق بها
ُ ّ ً
تسللة من خلفهم وهي تكمل ِارتداء أن تميزه من خطواته .خرجت م ِ
نتظرت حتى ِابتعدوا مسافة كافية قبل أن تهرع صوب خيمة مالبسهاِ ،ا َ
املنوط بهم نوبة الحراسة يغطون شبسكاف .في طريقها رأت الحارسين َّ
كل منهم بظهره على جزع شجرةَ .
انتابها فزع في نوم عميق وقد إتكأ ُّ
ٍ
ً َ ُّ َّ َ
ُمفاجيء ،وتسارعت دقات قلبها وراء الضلوع وحبست أنفاسها وهلة
40
عندما رأت خيمة شبسكاف فارغة ،وأغرورقت عيناها بالدمع على
الفور ،وشقت تنهيدة وجع صدرها في ذات اللحظة التي تألأل دمعها
َّ َ
نسدل الهابط كالسيل على وجنتيها .كان شعرها الكستنائي الطويل ُم ِ
بتيبس غريب كأن هذه أول َّ تحركت يداها ُّ
وظهرهاَّ ، َ
مر ٍة على كتفيها
خنجرا من الخيمةَّ ،
ً َ
دسته تحت تستخدمهما للف شعرها ثم استلت
َُ َ
مالبسها وهرعت مهرولة خلف الضوء املتذ ِبذب الذي ابتعد وأصبح
ُ ً
صاعدا على الدرجات القليلة املفضية إلى داخل معبد العرافات.
عدوا في الظالم الحالك ،تقطع املمش ى املؤدي إلى كانت تعدو ً
ُ
املعبد ،ومرت من بين أربعة تماثيل عمالقة في ساحتة الخارجية ،ك ِ ّل
ٌ
واحد منهم لواحدة من العرافات وبطول عشرة أقدام .صعدت ٍ
مترددة على الرغم من ّ
بخطوات تباطأت وأصبحت ِ
ٍ الدرجات من خلفهم
ذلك كان دمعها مازال كالسيل ينهمر على وجنتيها بغزارة ،كان ُيخيفها
ٌ ًّ
صوت ُمشوبة ٍ ً
حقيقيا ،قالت لنفسها بنبرة حقا أن تجد ما ظنته
بالدموع وهي تسحب الخنجر من أسفل مالبسها بيدان ترتعشان:
((سوف أقتلع قلبك يا شبسكاف ،سوف أقتلع قلبك)).
مواربا ،وفي اللحظة التي دلفت من باب املعبد العمالق والذي كان ً
وطأت فيها بقدميها داخل املعبد ،تعالت صوت العالقة الحميمة بين
غرفة منزوية وصدح صوتهما في أرجاء
ٍ الفتاة اللعوب ومن معها في
املعبد بأكمله بيد أن ضوء املشعل معهما جعل انعكاس خيالهما يظهر
لها على الحائط .كان الرجل والفتاة يتصارعان ،وبدا أن كالهما قد
41
إنتعز مالبس اآلخر حتى باتا عاريين ،ولم تتبين حتبت رع من الرجل.
كان ظهره لها وحجب جسده الفتاة اللعوب عن نظرها وهو يدفعها إلى
ً
ناعمة َت ُ ً ُ
صدر منهما ،وأدركت أنهما أصواتا أعلى قبالة الحائط .سمعت
بوضوح على الحائط ،كان القبالت ،ثم أستدارا فظهرا طيفهما يتبادالن ُ
ٍ
والب َّد أنه كان يؤملها في
يتجول بيده على بقع محدده يقصدهاُ ،
ٍ
الرجل َّ
بصوت خفيض ،مع ذلك قالت(( :توقف ... ٍ البقع ،ألنها بدأت َّ
تتأوه تلك ُ
ُ ً ً
مستسلما ،ولم تحاول أن ضعيفا أرجوك توقف)) ،لكن صوتها كان
َ تدفعه ً
بعيدا عنها ،بل دفنت يديها في شعره وجذبت وجهه إلى نهدها.
ُّ َّ
قادرة على
ٍ راقبتهما حتبت رع بعينين ُمتسعتين من الذعر غير
وهزت رأسهاالتقاط أنفاسها وشعرت بقلبها ينسحق داخل الضلوعَّ ،
بالنفي غير ُمصدقة ما تسمعه أذنيها وتراه عينيها .في تلك اللحظة،
وبمشقة واضحة رفعت يدها ٍ تماما فسقط الخنجر من يدها، إرتخت ً
األخرى ووضعتها فوق وجهها وهي ما تزال تبكي .لم تالحظ أن املعبد على
ُ
غير عادته ،ال ُحراس ،ال مشاعل تضيئه ،يبدو كالبيت الخرب ،تفوح
َّ
بحركة غريبة
ٍ منه رائحة الدم .أعمتها غيرتها واندفاعها ،إال َّأنها شعرت
طيفا حالك السواد يخرج من بين في الخارج ،فالتفت خائفة .أت ً
ر
الظالل املحيطة بالتماثيل األربعة ،قبل أن يمر عبر الباب ُم ً ّ
ندفعا ِ
كالريح الغاضبة باتجاه مصدر الصوت .لم يكن الطيف قد رآها،
وتوقف عند باب الغرفة التي يصدح منها صوت الفتاة وحجب رؤيتها
لظليهما على الحائط.
42
رفيع من نور القمر وجههَّ ، خيط ٌ ٌ َم َّ
تعرفته على الفور من س
بشرته الرمادية كثيفة الشعر وعيناه الحمراء كالدماءَّ ،
((إنه أحد
ً َ غيالن الجن التي َس ُ
وشهقت شاعرة بقلبها ينخلع معت عنها)) ،.قالتها
َّ ً
اشتمت رائحة أنفاسه الكريهة عندما فتح فمه خوفا على شبسكاف.
وسال لعابه وهو يتأهب لألنقضاض عليهما.
َ
واحتبست أنفاسها في اللحظة التي اندفع تراجعت خطوة للخلف،
وحدث ُّ َ
لحظات معدودة ..كادت أن ٍ كل ش ٍيء في فيها الغول نحوهم
َْ ُ َ
ألم مدوية لم
جلبة شديدة اعقبتها صرخة ٍ تصرخ عندما سمعت صوت ٍ
ً َّ
تتكرر ،إال أن يدا هبطت فوق شفتيها ومنعتها عن الصراخ ،ثم رأت
ً
رجاال يجرون للداخل ومن حولها ،يحملون الحراب واملشاعل.
الحراس ترى ُجثث ُحراس آخرين جعلتها أضواء املشاعل في يد ُ
ممن كان منوط بهم حماية املعبد والعرافات .تأهب الحراس ممن
أن شبسكاف وحده كان يعرف يرافقون شبسكاف ملهاجمة الغولَّ ،إال َّ
َّأنهم لن يستطيعوا مجابهته ،فأنزل يده عن وجه حتبت رع وهو يسحبها
واضعا أياها بين جسده والحائط، ً بيده األخرى ويجعلها خلف ظهره
السوار في معصم يده اليمنى. وأمسك بيده اليسرى ّ
ِ
خارجا من باب الغرفة تتقاطر الدماء ً كان الغول في تلك اللحظة
ً
من فمه ،ممسكا في يده رأس الفتاة بعد أن إقتلعها من الجسد .أحد
دافعا أيذضاه َّ
بقو ٍة شديدة. صوب فأسه بأتجاه الغول ً ُ
الح َّراس َّ
ً
أصابه الفأس في رأسه ُمباشرة ،مما أغضب الغول ،فأنقض عليه
43
ً
قطعي في كتفه
ٍ في ملح البصر .أسقطه أرضا على الفور وأصابه ٍ
بجرح
وبينما حاول الحارس املفزوع أن ُيدافع عن نفسه ،تدارك شبسكاف
ُ ً
بصوت مرتفع وهو
ٍ األمر بسرعة قائال تعويذة النور التي تخيف الغيالن
يوجه كلتا يديه بأتجاه الغول(( :لوموسيتاي)) .إنطلقت من بين يديه
ً ً
طاقة قوية ،صنعت فقاعة ضوئية أضائت املكان بشدة من حولهم،
مما جعل الغول يصرخ ُويصاب بالجنون .فترك الحارس على األرض
ً َّ
وهم بالهرب قفزا من أحد نوافذ املعبد.
رأي شبسكاف أن عليهم ترك املكان على الفور وعدم البقاء فيه
طويالُ ،ً
تحس ًبا لعودة املزيد من الغيالن ،خاصة وسط هذا الظالم
ط حتبت رع ضئيلة الجسد َّ َ َ َّ َ
وكأنها قطعة منه وخرج بها من الحالك ،تأب
ُ
املعبد ومن خلفه الحراس الذين عملوا على مساعدة الحارس املصاب.
ّ
اطمئن توجه بها ًّتوا إلى املخيم ولم يتركها تخرج من بين زراعيه حتى
قلبها.
صوتٍ ً
حارسا يخبر آخر بنبرة في الصباح الباكر،سمع شبسكاف
كل ش ٍيء انتهى هنا ،ولنغادرخائفة(( :كالب الجحيم ،الغيالن ،ال فارقُّ .
َّ
هذا املكان امللعون في الحال)) .إال َّأنه رفض املغادرة وقرر العودة إلى
ُ
املعبد ،حتى َيعثر على جثة الحارس والفتاة ويبحث خلف األمر.
أثناء توجههم صوب املعبد ،أمرهم شبسكاف أن يتخذوا حذرهم
ويتأهبوا .قال الحارس الذي ضرب الغول بالفأس وكان ُم ً
علقا ذراعه في
رقبته و َّ
يأن من األلم(( :قتلته ،ضربة الفأس قتلته ،قسمت جمجمته
44
ساخرا إبتسم شبسكاف وكان يتقدمهم مسافة تقل عن ً شطرين)).
بال بما سمعهِ ،إذ كان يعلم أن الغيالن ال تموت ُ
ثالثة أمتار ولم ي ِ
بسهولة هكذا على أيدي ُحراس عاديين.
لدى أقترابهم من أسوار املعبد وقعت عينه على عدد من نبتة
للح َّراس وهو يرفع قبضة يده أصابع الشيطان بالقرب من السور .قال ُ
جميعا)) .ثم تركهم ً يشير إليهم بعالمة التوقف في الحال(( :توقفوا
َ
وابتعد عنهم ً ً
مشيا على قدميه وهو يتفقد األرض وشرد متسلال في حذر
كثيرا من نبته أصابع الشيطان حول األشجار التي ُتحيط باملعبد .وجد ً
قد إنتشرت في املكان .مال برأسه مقترًبا من إحداها ،فوجدها
نبتات أخرى ،فعلم أن ً
كثيرا من ٍ مقضومة ،والحظ بقايا الكثير من
الغيالن كانت ُهنا ،وأنهم وجدوا طعامهم ً
وفيرا في املكان.
بقية الحراس ،دلفوا إلى املعبد ،وتجولوا داخل لدى عودته إلى َّ
ْ
أروقته .كانت ُمفاجأة في انتظارهم ،إذ وجدوا جثث العديد من حراس
تماما ،والخادمات كذلك ،في نهاية جولتهم داخل أروقة املعبد مشوهة ً
املعبد وجدوا العرافات األربعة ُمعلقات في القاعة الرئيسية على
واقتلعت العيون من تماما ُالحائط وقد حرقت وتتفحمت أجسادهن ً
واضحا َّأن ُه َّن قد
ً أيديه َّن ،بدا
ُ الجثث وال أثر لألساور السحرية في
شديد من السحر
ٍ لنوع
بغرض ما وفي النهاية تعرضوا ٍ
ٍ تعرضوا للتعذيب
األسود كان أكبر من قدرتهم على التصدي له ،فأحرقهم بهذه الطريقة
البشعة.
45
كان لدى شبسكاف شغف أن يكتشف ماذا حدث في املكان ،وكان
تقريرا لسيده الكاهن لدى عودتهم .فأغلق عينيهً أيضا أن ُيقدم عليه ً
ً ُ
مؤخرا في وهو يمسك بسواره وألقى بتعويذة تمكنه من رؤية ما حدث
ً َّ
سوادا حالكا ثم تعرض للصعق فيً هذا املكان ،إال َّأنه فور القائها رأى
الس َوار .ففهم من فوره أن ما حدث
معصم يده بعدما ارتفعت حرارة ِ
ٌ
سحر أسود يفوق قدرته بكثير. فيه
وار شديد القوة ِ بفعل ِس ٍ هنا كان ِ
في تلك اللحظة أمر الحراس أن يأخذوا الجثتين في الغرفة املجاورة
ويغادروا املكان على الفور.
بالقرب من املخيم ،شرع الحراس في حفر قبرين للحارس والفتاة.
بعيدا قربقالت حتبت رع في نفسها وهي تحدج شبسكاف املنزوي ً
ُ
عمالقة وقد مطت شفتيها وعقدت حاجبيها(( :ترى ..أين كان في ٍ شجرة
ٍ
ال عاقدة حاجبيها ،وقفت إليه ُمندفعة ،وهي ما تز ُ
الليل؟)) .توجهت ِ
لثوان معدودة أمامه مباشرة ،وسألته(( :أين كنت في الليل)) .نظر إليها ٍ
في صمت وقد شعر من أعماقه َّأنها مجنونة بالفعل .وقبل أن يعطيها َّرد
يب الغربان الذي تزايد فجأة ،وعندما رفع عينيه ألعلى ،الحظ سمع َن ِع ُ
ُّ ُ ُّ
بعيد بحجم الذباب وهي امتالء الهواء بالطيور ،أغلبها غدفان بدت من ٍ
ُ ّ
حلق وتدور في السماء حول املعبدِ .التفت وتطلع في أوجه الحراس ت ِ
الذين فرغوا لتوهم من دفن الجثتين ،ورأي األوساخ على مالبسهم
وتحت أظافرهم وفي أقدامهم ،كما رأي الشحوب والقلق في أوجه
هامسابعيدا قرب الخيان واألحصنة ،فقال لنفسه ً ُ
الجالسات ً الفتيات
بصوت يكاد ُيسمع(( :البد أن نعود إلى ممفيس)).
ٍ
46
۞۞۞
47
06
ً َ
بزغ صباح يوم عيد الحصاد في العاصمة ممفيس ُمشرقا كثير
السماء وساعدت في هطول بعض السحاب في َّ دفعت َّ الريح ،التي َ ّ
ِ
َ ُ
ن ُدفات املطر الباردة .في هذا العام ،تز َاي َدت املزارع أمام الغابات،
جارية أصبحت أكبر ومتقاربة لبعضها البعض، الت َّ والقرى واملعاقل ُ ُ
والو ْديان منبسطة،والتالل أصبحت أقصر ويكسوها الخضار ُ َّ
ٌ
وممتلئة بالخيرات ،والحصول على الطعام واملؤن واألسواق ُمتزايدة
سهال ً ً
يسيرا على العامة.
والت َّفاح ،في ساحة القصر اإللهي الخضراء، تحت شجر األكاسيا ُّ
َ ٌ ُ
الصنوبر املتين أسفل األ ْس َوار شاهقة موائد طويلة من خشب َّ ن ِص َبت
الطول التي تكسوها النقوش والرسومات الزاهية ،وتتخللها املسالت
َّ
الذهبية العمالقةُ .ب ِسط على املوائد مفارش من الكتان الذهبي،
إستعدادا ألستقبال العامة من أجل األحتفال ،وكان ُحراس القصر قد ً
وخدام القصر لثالث ليالي متتالية عملوا على قدم وساق مع الجزارين َّ
ٍ ٍ
في املزبح وأماكن إعداد الطعام من أجل تجهيز الوالئم لهذا األحتفال
الكبير .من جميع أنحاء البالد أتى كبار الكهنة ُّ
والت َّجار واألبطال الذي ِ
ُ ُ
تحكى عنهم الحكايات .كما امتلئت الساحة بعامة الناس ،مزارعين
والصيادين ورعاة املاشية وأبناء أصحاب الحانات َّ وع َّمال الحقول ُ
48
ً َ
وأمهات يملكن أنوثة كاملة، فتيات جميالت َّ
ٍ جميعا أ ِص َّحاء، وكانوا
فاألثداء ناهضة ،واملالبس ُم َّزينة وزاهية ،والوجوه بشوشة ،جميعهم
َ
نضرة َّ ً
النعيم. جنبا إلى جنب تحت األشجار وحول املوائدِ ،في وجوههم
َّ ُّ يحف املكان ُويسبغ عليه ُّ َّ كان َّ
التطلع السكون والهدوء ويجعل السالم
مريحا ويبعث الطمأنينة. فيه ً
ِ
كانت جموع العامة ما تزال تتوافد إلى ساحة القصر قادمة من
متفرقة في املدينة واملدن املجاورة ،بينما ِالتف بعض من أتوا إلى
ٍ انحاء
ٍ
مستديرة وعمالقة ،فوقها
ٍ منصة نصف ٍ مرة حول
القصر اإللهي ألول ٍ
خمسة من التماثيل الذهبية العظيمة القائمة في مقدمة القصر،
واحدا منهم إثنى عشر إثنان عن اليمين واثنان عن اليسار ،طول ُك ّل ً
قدما ،ويمثلون اآللهة األربعة ،أوزيريس وزوجته إيزيس ُحكام مملكة ً
الشمال ،و ِست وزوجته نفتيس ُحكام مملكة الجنوب .بينما يتوسطهم
ً ً ُ ً ً
تأخرا قليال التمثال الخامس بطول خمسة عشر قدما ،مصنوع كامال م
ً ً ُ َ ُ ً
مسكا في يده َ
أعاله بلورة ذهبية ص ْولجان في من الذهب الخالص ،م
بالزئبق األحمر ،وهو إلله الشمس والنور ،رع .كانت ُ
مضيئة وممتلئة ِ
ٌ َْ ُ َ ٌ َ ّ ٌ ُ ٌ ُ
وصة بطريقة بص ُفوف من امل َسالت العمالقة مرص الساحة ُممتلئة
هندسية فائقة الدقة ،جميعها على شكل زهرة اللوتس ،عمدانها
ٌ ٌ
مدبوغة باللون األبيض ومزخرفة باألخضر واألحمر ،والنقوش عليها
ستائر من الحرير األبيض واألحمر، ٌ باللون الذهبي ،ترفرف أعالها
ٌ
خصيصا لحماية الحشود من ً موصولة ببعضها البعضُ ،وضعت
آشعة الشمس أو املطر .الجميع من العامة كانوا يمشون بين املسالت،
49
ْ
أسفل الستائر الحريرية ،حاملين معهم الورود ،ال ش يء غير ذلك ،إذ
أن اإلله أوزيريس كان قد منعهم في األعوام السابقة من إحضار
الهدايا .فوق األسوار وفي شرفات القصر ،وقفت خادمات القصر
ُ
اإللهي تلقي بالورود وزهر اللوتس والقرنفل على املارة باألسفل.
َ ُّ َّ في موعد ُم َّ
حددُ ،دقت الط ُب ْو ِل وقرعت األ ْج َراس بواسطة الجنود ٍ
ٌ
طويل من َّ ٌ َ ُ
الرايات أيقاع ملكي ،ور ِفع على األسوار صف األشداء على ٍ
دوت أصوات الحريرية البيضاء التي رفرفت في الهواء فور رفعها ،ثم َّ َّ
األبواق .توجهت انظار الجميع صوب باب القصر العمالق الذي إنفتح
على مصراعيه .خرج من الباب واح تيُ ،متحدث القصر اإللهي ،وهو
لحية بيضاء ،له عينان ٍ رجل عمالق الجسد ،أسود البشرة ،ذو
ً ً
وشاحا طويال من الحرير األبيض املطرز ضيقتان تنم عن ذكاء ،يرتدي
ُ ً بخيوط من الذهب والفضة ،وله َّ
كمين واسعين ،ممسكا في يده اليمنى ٍ
ً ى ً
صولجانه املصنوع من العاج والذهب ،وفي يده اليسر بوقا عمالقا.
ً من خلفه خرج األخوين مونتو رع ،حارسان يرتدي ٌّ
كل منهما خوذة
َّ ً ً َّ ً
الف ّض ّي،قصيرة مذهبة ومعطفا أحمر موش ى عند الحواف بالساتان ِ
ُ َّ َ
ناهز وعلى صدره خيطت زهرة اللوتس بالذهب األبيض .كالهما ي ِ
طوال ،عريض الكتفين ّ ً َّ
وضيق الخصر ومفتول ِ السبعة أقدام
سختينالعضالت ،إن اقتربت منهما ورأيت وجهيهما بوضوح ،وجدتهما ُن ْ
التمييز بينهما ،فاألثنان لهما َ
الف ُّك القو ُّي نفسه متطابقتين ال ُيمكن َّ
ْ
والعينان السوداوان العميقتان.
50
ٌ
واحد منهما صف من حراس القصر ٍ خرجا مهرولين وخلف كل
اإللهي ،توجه أحدهما إلى يسار املنصة واآلخر إلى يمينها ،ولم يكن ًّأيا
ِمن حراس القصر يحمل أسلحة ،فقد جائت أوامر اإلله أوزيريس
ْ
واضحة منذ توليه الحكم ،إذ تنص على عدم حمل السالح في وجه
شعبه ًّأيا كانت األجواء .ما إن أخذ الحراس اماكنهم ،وقف األخوين
سبقا لإلله أوزيريس وزوجته ،بينما مونتو رع على جانبي العرش املُعد ُم ً
توسط واح تي املنصة ،ورفع البوق في يده اليسرى وكان ُيسمى بوق
الصيد الثمين ،فهو بوق عظيم ،مصنوع من العاج األبيض املأخوذ من
إهداء ملكي ،كان قد وهبه ٌ عليه
منقوش ِ ٌ جمجمة فيل أفريقي عمالق،
وقت سابق بعد أن إقتلعه من رأس له إله مملكة كوش الجنوبية في ٍ
أفريقي ّبري.
ٌ ٌ
فيل
َّ ُ ََ َ
تتالية ،إال َّأن ُه أطال النفخ في ات ُم ٍ نفخ واح تي في البوق ثالثة مر ٍ
ّ قليال حتى تراجعت ً ً
املتجمعة أمام
ِ تماما أصوات الحشود الثالثة
عال ،قال(( :حيوا بصوت ٍ ٍ املنصة .عندها فقط ،أنزل البوق ونادى
أوزيريس ملك األرض كلها ،حيوا إيزيس ملكة مصر كلها)).
امنا مع ظهور أوزيريس تعالت صيحات الحشود مرة أخرى تز ً
ٌ
برفقة زوجته إيزيس ومن خلفها صف من الخادمات وقد خرجوا
مترجلين من الباب العمالق حتى وصال ُمنتصف املنصة ،وتوقفوا أمام
التماثيل الخمسة .لوحوا للجموع املحتشدة أمامهم قبل أن يلتفا
كل منهما ستة أقدام .دار عائدين ليجلسا على عرشين ذهبيين ،طول ُّ
51
حولهم ضف الفتيات ،خادمات القصر ،ونثروا فوقهم الورود امللونة
ٌ
وزهر اللوتس وزهر القرنفل بينما توجه صف آخر إلى حافة املنصة
وأخذوا يلقون بالورود وزهر اللوتس والقرنفل على العامة تحت
املنصة .تعالت صيحات الجموع وامتزجت بأصوات الطبول واالجراس
مع األبواق .كان اإلله أوزيريس قوي البنية ،عريض املنكبين ،شديد
َ والحسن ،يملك عينين َّ
اذتين ،شعره ُب ِ ّن ُّي فاتح ووجهه أخ ْ الرشاقة ُ َّ
ً
صغيرا ،إذ كان ُمتناسق املالمح ،إكتسب محبته من صفاته وقتما كان
يترفق بجميع املخلوقات ،وال ُيهين ً ّ ُ ُ
أحدا، حسن الخلق، رقيق القلب،
حش ُ َّ ّ
من رآه هابه ،ومن عرفه أحبه ،يألف الناس ويألفونه ،ال ينطق بف ٍ
طعاماّ ،لين ،وعندما تولى الحكم لم أحد ،وال يعيب حتى ً يعيب على ٍ وال ُ
ً
بفظ وال غليظ .واليوم جعلت منه يجعل في أرضه سائال ،ولم يكن ٍ
ً
زوجته إيزيس صورة بالغة األناقة وقد َّثبتت معطفه الحريري األبيض
ً
ذهبية ،والبسته ُسترة َّ شجر
ٍ بدبوس على شكل ورقة عند الكتف ُّ
شيئا من هذا لم ُ الذهب األصفر واألبيض ،ولكن ً َّ
يلفت مشغولة من
دائما في أوزيريس هو أبدا إنتباه الحشود ،أكثر ما لفت إنتباه الحشود ً ً
ُ الخير والعدل واملساواة ،فقد كان ً
دائما الحاكم العادل املحب للجميع.
وطوقت ُعنقها ستانا من الحرير األصفر الذهبي َّ فارتدت ُف ً َّأما أيزيس َ
القمري والذهب األبيض، األبيض كالحليب بالياقوت األزرق واللؤلؤ َ
ولم يكن جمالها األخاذ أو لون عينيها الزرقاوان هما ما تشتهر بهما
فقط ،فقد إشتهرت بين العامة بالطبيبة الساحرة ،وذلك بعدما
ً
قطعت وقتا من حياتها وجعلته ملعالجة العامة من الناس ُمستخدمة
52
قدرتها السحرية وقوة سوارها وما تعلمته من علوم الطب على أيدي
الكهنة.
تباعا في وضع إقتربت صفوف الحشود من املنصة مهللين ،وبدأوا ً
َ
الورود والزهور أمام ملك األرض ،وفي اللحظة ذاتها ،ن َفخ واح تي في
ويسمح لهم ُ واحدا تلو اآلخر،ً يقدم اآللهة جد ًدا ،ثم بدأ ّ البوق ُم َّ
ِ
بالصعود إلى املنصة لتقديم الهدايا ُومباركة إله وملك األرض كلها
عال ،قال(( :هاثوور ،آلهة ٌ
أوزيريس وزوجته .فنادى بصوت جهوري ٍ
الحب)).
اس ِت ْح َي ٍاء ،بردائها األحمر الزاهيتقدمت هاثوور َمت َر َّج َلة َت ْمش ي َع َلى ْ
ِ
ٌ تاج على هيئة ّ املطرز بالذهب ،وفوق رأسها ٌ
قرني غزال تتوسطه بلورة
بيضاء كالثلج ،عيناها بندقيتان ٌ حمراء اللون ،كانت بالغة الجمال،
ُ ٌ
ضاجج باألنوثة .إنحنت أمام أوزيريس وزوجته وهي تقدم لهما وجسدها
ً َّ
هدية عيد الحصاد .ثم غادرت املنصة ،فنفخ واح تي في البوق ُمجددا،
مرة أخرى ،قال(( :توت ،إله الحكمة)). ونادى َّ
ّ ً ً
تقدم توت على الفور حامال بين يديه صندوقا ُم َوش ًى باألحجار
الز َئبق األحمر .ثم توالى تقديم اآللهة قوارير ِ الكريمة ،مليء بالذهب و ِ
ٌ
ُ واحدا تلو آخرٌّ ، ً
وكل منهم تصاحب لحظات دخوله دقات طبول ذا
يقدم الهدايا لإلله ملك األرض كلها .وبينما ُيقدم واحي أيقاع ثابت حتى ّ
ِ ٍ
ات تي أحد اآللهة ،إذا بحاملي األبواق وضاربي الطبول يعطون إشار ٍ
دقا ذا إيق ًل ً صوت األبواق للغاية ُ ُ
اعا ودقت الطبو ملكية ،إذا تعالى
53
شخصا عظيم الشأن قد حضر .توقف واح تي ً ً
ملكيا ،في إشارة منهم أن
طائر في الهواء
ٍ بموكب
ٍ من فوره عن الحديث وانتبه الجميع ،فإذا
ُ
يحمله الحمام األبيض يقترب ويحط على املنصة ،نزلت منه آلهة
الحماية ،سيدة الديار ،نفتيس ،أخت اإلله أوزيريس.
ْ ُ
مجيئها غير متوقع ،إذ أن اليوم هو يوم عيد الحصاد في كانت
ٌ الجنوب ً
أيضا ،ويجب عليها أن تكون متواجدة في قصرها إلى جوار
زوجها اإللة ِست من أجل اإلحتفال.
ٌ
طبيعي بمجيء نفتيس وتركها أن هناك ٌ
شيئ ما غير شعرت إيزيس ّ
القصر اإللهي في الجنوب يوم عيد الحصاد ،فأغمضت عينيها
ذهنيا مع زوجها أوزيريس طلبت منه أن ُيسرع في إنهاء طقوس
وتواصلت ً
َ َّ
اللحظة َه َّب ً
والتفت ناحية واح تي وأشار إليه واقفا اإلحتفال .في تلك
ببدأ توزيع الهدايا والعطايا التي أتى بها األلهة على أشخاص تم
وقت سابق بعد أختيارهم من بين العامة على أسسس تم وضعها في ٍ
ات كثيرة بين أوزيريس وكبار الكهنة والعاملين في القصر اإللهي.مشاور ٍ
ُ
مهندس معمار ٍي
ٍ إذ أعطيت الهدايا لصاحب أفضل محصول ،وأفضل
ُ
بناء يمكن للشمس أن تدخله طوال العام وتطل على قام بتصميم ٍ
نقطة محددة في يومين فقط في العام يتم تحديدهم بواسطة املهندس
عدد منذاته .وعلى هذا املنوال تم توزيع الهدايا والعطايا على ٍ
سبقا للقصر اإللهي بما صنعوه في خالل املتواجدين الذين تقدموا ُم ً
عام الحصاد .ما إن إنتهى توزيع الهدايا ،أشار واح تي إلى حاكم األرض
54
كلها أوزيريس يعلمه باإلنتهاء .فأشار له األخير ببدأ آخر طقوس
ٌ
اإلحتفال ،وكان منوط به أن يكون إطعام جميع الحشود كما يحدث في
ّ ُ
أي أن تحط أطباق الطعام على املوائد الصنوبرية ،ويجلس كل عام،
َّ العامة ً
جنبا إلى جنب ويتناولوا الطعام .إال أن هذه املرة كان األمر
ُم ً
ختلفا ،لم يخرج الحراس حاملين الطعام ليوزعوه على املوائد الكبيرة،
ُ
وجبات متساوية،
ٍ بل خرجوا حاملين الطعام وقد قسم على شكل
ً
يحم ُل واحدة أو اثنين
فرد أن ِ محفوظة بعناية شديدة إذ يمكن لكل ٍ
بين يديه والخروج بهم من القصر .وفي تلك اللحظة ،قال أوزيريس
ُ ً
موجها حديثه للجموع املحتشدة(( :ال تأكلوا فرادا ،إذهبوا إلى ذويكم،
جنبا إلى جنب ،فإن خير الطعام ما تتقاسموه مع تناولوا الطعام معهم ً
أمهاتكم وزوجاتكم وأطفالكم)).
تعالت صيحات الحشود ،فأشار أوزيريس إلى واح تي بأن ينفخ في
البوق من أجل تهدئتهم كي يكمل ما لديه من قول .وأطلق واح تي من
فوره البوق ثالثة مرات ُمتتالية ،فهدأت الحشود ُم َّ
جد ًدا ،وشرع امللك ٍ ٍ
ُيكمل ما تبقى من حديثه :قال (( :هذا العام ،جاء الحصاد ً
وفيرا،
ُ
فيضان ضاعفا ،لذا ،فالجميع معفيون من الضرائب حتى ً والخير ُم
النهر القادم)).
۞۞۞
55
07
َ
في أبيدوس ،تراجعت امل َّزارع أمام الغابات والرمال ،والقرى
ً
أصغر مساحة مما ُيتوقع أن تكون عليه، ُ واملعاقل التجارية أصبحت
والتالل أعلى ،وشديدة ّ ومتباعدة ً
كثيرا عن بعضها ،وقل روادهاِ ،
والوديان أعمق ،شحيحة الخيرات ،والعثور األنحدار يكسوها الصخرُ ،
ً
عسيرا. على الطعام َ
صار
سرية ِمن ُحراس وقت ُمبكر من صباح يوم عيد الحصاد ،كانت َّ
ٍ في ٍ
إله الجنوب ِست قد تجولت في أسواق وشوارع املدينة والقرى
َّ وف من العربات التي تجرها الخيول ُُ ٌ املجاورةَّ ،
بالسمك حملوا صف
واللفت ،وأجوله من الفاصوليا َّ ّ ُّ َّ
والشعير اململح والخبز الجامد والدهن ِ
ٌّ وقوالب من الجبن األصفر ُّ
والزْبدة .صف كامل من هذه العربات ُح ِّمل
ٌّ
الضا ِئ ُن وقوارير النبيذ ،صف آخر من العربات التي تجرها باللحم َّ
فئة من أفضل ُ ٌ
الحراس مدججين بالسالح األفيال الضخمة أحاط به
ُ َّ
بعضهم ُممسكا بحيوانات ضارية كاألسود والنمور ،ح ِملت بالعمالت
عنوة من أغنياء الذهبية وقطع الذهب الخالصُ ،أخذت جميعها َّ
التجار واملزارعين كنوع من الضرائب. ُّ
َ َ
ُعرف عن أهل الجنوب أن خيراتهم تملىء الخزائن حتى قيل َّأنها ال
ً ُ ً
أبدا ،خزائن منازلهم ُممتلئة طوال العام ،ك ُّل فردا فيهم ُم ْم َت ِلئ تنضب ً
56
َّ ُ َّ َ ْ
قيمة
كل ل ٍ البط ُن ِبالط َع ِام .لكن ومنذ تولى ِست الحكم ،تبدل كل ش ٍيء،
ُ جبرين على ُّ أكلت بالفعل ،واآلن قد أصبحوا ُم ََ
التعيش مما تنبته األرض.
فر إلى مملكة السرقة من أراض ي الغير ،وبعضهم َّ لجأ بعضهم ألحتراف َّ
ً الشمال .بينما َ
وجد بعضهم في الغابة مالذا لهم ،فيذهبوا إليها كل
الغسق يعودان بظبي معلق من صباح مع طلوع الشمس ،ومع حلول َ
َّ عامود بينهم ،أو بزوجين من طيور َّ
السمان يتدليان من أحزمتهم ،بينما
التوت األسود الصبية والفتيات وقليل من النساء على قطف ُّ يعمل َّ
جواال ُّ ً َّ
بالتفاح إذا النابت على الطريق ،أو يتسلقون األسوار ليملئوا
مروا ُببستان أحد األغنياء وكان ً
مثمرا. تصادف أن َّ
على مشارف املدينة ،بالقرب من قلعة القصر اإللهي ،كان َّ
النهار ِ
ً قد ِانتصف ،عندما ظهرت مجموعة َّ
مكونة ِمن عشرون أو ثالثون رجال
وخوذات قصيرة، ٍ َّ
معدنية حلقات
ٍ يرتدون القمصان املصنوعة من
شديد كما تش ي األصوات التي يصدرونهاٍ بأس
أغلبهم شديد البنية ذو ٍ
أو أصوات الذين يتجرعون األلم على أيديهم .كان صوتهم ً
عاليا للغاية،
وجها لوجه مع بعض ِمن سكان لديهم حراب وتروس وأحصنة ،ويقفون ً
وهلع ينتظرون العقاب بعدما خوف ٍ القرية الذين جثوا على األرض في ٍ
فشلوا في توفير الضرائب املفروضة عليهم لهذا العام .وكان عقاب من
ُ ُ
يعترض أو يتعثر أن تصادر ُممتلكاته إن كانت ذا قيمة أو تحرق إن
كانت غير ذلك ،وفي حي ٍن آخر من املمكن أن ُيقتل أو ُيحرق إذا واجههم
ُ ُم ً
عترضا أو أن تؤخذ إحدى فتياته إن كانت ضاججة باألنوثة لتوضع في
َ ُ جناح العذراوات لخدمة اإلله ست وأعوانه .كانت رائحة ُّ
الدخان تبلغ ِ
57
ً ّ
ألمياال في َّ
كل أتجاه ،والبيوت متفح ًما
ِ األنوف ،حيث الحقول خر ًابا
مسودة ،وقد تناثرت ُجثث الحيوانات املحروقة واملذبوحة مجرد هياكل َّ
َّ
حي من ال ِغدفان آكلة الجيفة ،التي تنعب ٍ ّ
غطاء ٍ على األرض ،تحت
غاضبة إذا قاطع أحد وجبتها.
عجالت
ٍ مرت قافلة عسكرية مكونة من عشرة في هذه األثناءَّ ،
حربية سوداء ،غريبة الشكل ومهيبة ،التفت َّرتل الجنود بأكمله
نحوها ،تابعوا القافلة بأنظارهم وهي تبتعد على الطريق الذي ُيفض ي في
تقدم العربات ثالثة من الحراس نهايته إلى قلعة القصر اإللهيَّ .
يمتطون الخيل ،بدا أن أحدهم هو القائد ،وتأخر عن العجالت
َ ٌ
جميعا باألسود من األعلى إلى أخمص األقدام، ً خمسة آخرين ،ت َو َّش َحوا
ً
وارتدوا خوذات سوداء طويلة ،وحملوا معهم سيوفا ورماح ،كانت
غيالن من الجنٌ العجالت منطلقة بسرعة شديدة وكأن ما يجرها
ً َّ ً ً وليست أحصنة .أي حراس ّ
املقدمة جثثا محروقة معلقة على خوازيق ِ ر
حادة قرب أسوار قلعة القصر اإللهي ،وقد َرفع أصحابها أيديهم أمام َّ
ً
إلتهاما ،قال كأنما ُيحاولون ُمقاومة َّ
النيران التي إلتهمتهم وجوههم َّ
ناس أمتنعوا وعارضوا دفع الضرائب)). ساخرا(( :أنها ُأل ًٌ أحدهم
عندما بلغوا القلعة كانت الشبكات الحديدية ُمسدلة بالفعل أمام
ُّ البواباتَ ،
مناسبة من املكان ،وقال
ٍ مسافة
ٍ أمر حارس بالتوقف على
َّ حرسوا العربات ريثما ُتفتح لهم َّ اآلخرين أن َي ُ َ
األبواب .حلق للحراس
َسرب من ال ِغدفان من داخل األسوار عندما دخلوا من بوابة القصر
58
أقفاص فوق أثنان من
ٍ العمالقة ،فبادلتهم ال ِغدفان التي معهم في
العربات بنعيب صارخ ُي ّ
ص ُم اآلذان.ِ
َّ ً كانت قلعة القصر اإللهي ُّ
أسطوانية تطل عابثة ،عشرة أبراج
َّ
الحديديةِ ،حصن أمامي ضخم ،أروقة مقنطرة هائلة َّ
متوجة باملتاريس
وجسور مغطاة ،ثكنات وزنازين وصوامع غالل ،أسوار واقية عمالقة
مزودة بفتحات الرماية ،كلها مشيدة بالحجارة الباهتة ،ال رسومات
ً
على الحوائط ،مسالت قليلة تبدو باهتة هي األخرى ،ال تماثيل بأستثناء
تماثيل الخداع املصبوبة على األسوار وتمثال واحد فقط لإلله ِست في
قدما مصنوع من الذهب الخالص. ساحة أمام القصر ،طوله ثالثين ً
ساكنا كمقبرة ،التماثيل الحجرية معً ً
مظلما َّأما القصر اإللهي فقد بدا
الحراس على األسوار تبدو ضبابية مشوشة ،ما إن تنظر إليه تشعر
وكأن العالم تسربل بالظالم .كما أن الجثث املحترقة بالخارج َ
فاحت
منها رائحة نتنة نفاذة ،وحتى جنود القصر مع الخادمات تبدوا في
وجوههم نظرات الشعور بالقلق الدائم.
كان ِست في جناح العذراوات يضاجع القاصرات ممن أخذهم
عنوة من عائالتهم في غياب زوجته السيدة نفتيس التي أتخذت لنفسها
ً تعيش فيها ً
ُ
بعيدا عنه برفقة بعض خادماتها وعددا ال بأس به من قلعة
ُ
الح َّراس الذين هربوا من جحيم زوجها.
كان بعض الحراس يقفون حوله وقد أعطوه ظهورهم حسب
أوامره في اللحظة التي دلف فيها أحد ُ
الح َّراس من الباب وأبلغه بحضور
59
كبير السحرة ،الكاهن يورشو وبعض جنوده .كما أخبره أن بعض
التجار قد بدأوا في التوافد على القصر من أجل تقديم الكهنة وكبار ُّ
بعنف ُمعتا ٌد ٍ الهدايا والقرابين مع الضرائب بمناسبة عيد الحصاد.
متوجها صوب ً عليه ،دفع ست الفتيات عن الفراش ،ونهض ً
عاريا ِ
ستفسرا بأرتياب(( :السيدة نفتيس!!)) .أجابه ً الحارس وهو يسأله ُم
خائفا(( :ما تزال في قلعتها ،لم تأتي إلى هنا بعد)) .دلف يورشو الحارس ً
كبير مهندس ي ِست وكاهنه إلى الجناح دون إستأذان ومن خلفه أثنان
ٌ صوت َ ُ
فاح منها خبث واضح ،قال: ٍ من ُح َّراسه ،وقاطعهما بنبرة
جنبا إلى أظن َّأنها ً
((نفتيس نفتيس َّ ..إنها في ممفيس منذ الصباحُ ،
جنب مع أوزيريس اآلن)).
ً َّ
بحركة فظ ٍة للحرس قائال(( :أتركونا وحدنا)) .ونظر إلى ٍ أشار ِست
رداء أزرق اللون مطعم ومطرز بالذهب حنق وهو يتوشح ٍ يورشو في ٍ
والفضة وقال(( :كنت ال تزال تعرف معنى الكياسة وأنت صبي)).
صوت شيئا من األسف َّ
مشو ٌب بالندم وقال بنبرة بدا على يورشو ً
ٍ
ً
سيدي ،لكن تلك لم تكن َّنيتي أطالقا)). آسفة(( :لقد أغضبتك يا َّ
ً
ذكريات قديمة ،لطاملا كان ِست طفال ٍ أثارت نظرة ِست في عقل يورشو
ٌ
ومتهورا ،قوي البنية ،عمالق ،له مالمح قبيحة ،شفتان ً ً
ماكرا
ضرر أو َّ
مشقوقتان ،وعين بها عور ،فظ ،غليظ القلب ،لكن بعد كل ٍ
ٌ
أزعاج يتسبب فيه يبدو عليه األسف الشديد ،وكانت هذه واحدة من
تماما ،كان يورشو كثيرا .وعلى عكسه ً مواهبة ،لكن السنين لم تغيره ً
60
ً
ضئيل الحجم ،أقصر من ُ صبيا مر ًحا وضئيل الحجم ،كبر ُليصبح رجال
ً
ست ببوصة أو أثنينً ،
رشيقا وسريع الحركة ،لديه املالمح الحادة التي ٍ ِ
َّ َّ ُ
ال تنس ى ،والعينان الضاحكتان ذاتا اللون األخضر الداكن ،كانت لديه
مدببة على ذقنه ،وخيوط من الفضة في شعره األسود لحية صغيرة َّ َّ
الرغم أنه لم يبلغ الثالثين بعد .كانا صديقان منذ نعومة على َّ
ْ
أظافرهما ،إذ أن يورشو كان اإلبن الوحيد للكاهن َحنكليس والذي كان
قسم الحكم بين األخوين كاهنا في زمن والد ِست اإلله رع قبل أن ُي َّ ً
أوزيريس و ِست .بيد أن يورشو تنقل بين املعابد والكهنة فتعلم فنون
السحر حتى أستطاع أن ُيصبح كبير السحرة واملهندسين املعماريين
وذلك بفضل تسخيره للجن ومقدرته على فتح بوابات بين العوالم
الخفية.
شديد لم يستطع أخفائه(( :كيف عرفت أن ٍ حنق
سأله ِست في ٍ
نفتيس غادرت املدينة؟)).
َّ ً َ
ومشوبة بالغرور(( :يورشو ..يعرف كل بأبتسامة ماكرة
ٍ أجاب
َّ
ستتفجر منه حتقنا لدرجة َّأن ُه بدا كأن ّ
الدماء ش يء)) .كان وجه ست ُم ً
ِ ِ
بصوت مختنق من فرط الغضب(( :سوف أقتل ٍ أي لحظة ،وصاح في ّ
َّ
أوزيريس ،سوف أقتله ،وسوف تساعدني في ذلك وإال سأضع رأسك
على خازوق!)).
كلمة أخرى ساخرا ثم َ
دار على عقبيه بال ٍ ً إنحنى يورشو وابتسم
واسعة من
ٍ بخطوات
ٍ شاعرا بنظرات ِست على ظهره ،ومع خروجه ً وهو
61
توقف كأن ً ُّ َّ
شيئا لم يكن ،وقال: استمر الحوار بال جناح العذراوات
ّ َ َُ
((إن صراعك ليس مع أوزيريس يا جاللة اإللهِ ،فلم تب ِدد قواك في قتاله
كل رجل لكي وجيش كامل العدد ،بينما تحتاج إلى ّ ٌ ولديه أسوار َّ
قوية
ِ
أشياء ُّ ٌ ُ
أهم من هذا اآلن)) .إنتبه ِست وهو تحقق مسعاك؟ ثم إن هناك
فتقدم اثنان وصفق يورشو عند اقترابه من البابَّ ، يمش ي من خلفهَّ ،
َّ ً ً
املطعم بالفضة من حراسه حاملين صندوقا ثقيال من خشب األرز
َّ
والذهب ووضعاه عند قدميه.
عما ُيمكن أن يكون ستغربا وهو يتسائل في نفسه َّ ً نظر ِست إليه ُم َ
ُ ّ في داخل الصندوق ،ثم َ
فتح الغطاء بالخ ِف الذهبي الذي ينتعله في
فضية اللون والخضراء َّ
السحرية َّ باألساو ُر فوجده ً
مليئا َ قدمه َّ
القوية،
ِ
واحدا منها َّ ً َ
وقربه من ذات الثالث نجمات كما وعده يورشو .التقط
نجمات نارية اللون، واره الذهبي في معصم يده الذي يتزين بخمس س ُ
ٍ ِ
ُ َّ
السواران وبدا أن ِست املبتسم في حينها يقاوم بسعادة تجاذب فتوهج ِ
َّ ُ َّ
السوار الفض ي السوارين لبعضهما البعض إال أنه في النهاية ترك ِ
يسقط فوق ِسواره ليسيل كاملاء ويندمجا في بعضهما البعض قبل أن
تبرز نجمة سادسة في ٍسواره األصلى.
لك أيضا عندي َ مقهقها(( :أنا ً ً الصندوق وقال تلك اللحظة ،أغلق ُّ
ُ َّ
رجل وامر ٍأة
هدية .ثالثة ليالي كاملة تقيمها في جناح العذراوات .وكل ُّ ٍ
سيعطى ما يشاء وما يستطيع أن يحمله من طعام وطفل من أتباعك ُ
حرَّية اختيار ما يشائون من قبو الضرائب. ّ
وثياب أو ذهب ،ولهم ِ ومال ٍٍ
62
۞۞۞
63
08
أخيرا إلى مشارف الطريق مرت قبل أن يصل شبسكاف ً ثالثة َّأيام َّ
املار عبر الغابة القديمة والذي ُيفض ي ُمباشرة إلى العاصمة ،كان على
َّ
متواصلة جعله
ٍ ساعات
ٍ عجلة من أمره ،إال أن هطول األمطار طوال ٍ
ٌ
يتوقف ويتأخر .إنتظار توقف املطر جعله شاعر بالضجر وامللل ،مما
ً
أعطاه أنطباع َّأنها ثالث َّأيام طويلة ،وكذلك حتبت رع ،بدت شاعرة
بامللل والقلق املشوب بالخوف إلى جواره.
َّ
تحركوا عند توقف األمطار ،دلفوا إلى الغابة بالفعل إال أن األرض
َّ
املبتلة أبطأت من حركتهم ،بعدما أصبحت َزل َق ًه للغاية ،مع ذلك تعثرت
صخرة صغيرة ،ولم تستطع األحصنة ٍ العربة التي تحمل الفتيات في
جرها ،فتوقفت .إنتبه شبسكاف لتوقف العربة في الخلف ،والتفت َّ
ْ َّ
ُيعاين األمر ،إال أن الحارس الذي يقودها لم ُيحسن التصرف ،إذ رفع
َّ ُ
الس ْوط في يده وأنهال ِبه على األحصنة التي تجر العربة ،مما أثار
ّ فزعهم فأنطلقوا ًّ
جريا بأقص ى ما لديهم ،وكانت األرض ِطينية شديدة
اإلنحدار ،فأصطدمت العربة بعدة صخور ونتوءات ،كما أن أفرع
األشجار التي يمرون أسفلها كانت كالسياط تلسع أجساد الفتيات.
ً
خاته َّن خوفا من تمسكت الفتيات في بعضهن البعض وتعالت َ
ص َر ُ
وتأملًا من لسع األغصان(( .تمسكي ً ُّ
جيدا)) ،قالها شبسكاف السقوط
64
لحتبت رع وهو ُيمسك كتفها ليؤكد عليها قبل أن يصرخ في األحصنة
التي تجر عجلته الحربية ويدفعها للحاق بعربة الفتيات .لم تجد حتبت
ً ُ
شيئا تمسك فيه سوى جسد شبسكاف نفسه .اثناء مطاردتهم رع
للعربة كانت الصخور والنتوءات تجعل عجلتهم تهتز بقوة مما جعل
حتبت رع تحتضنه من ظهره بكل ما أوتيت من قوة ،وقد شعرت
برعشة ُمحببة تتسلل إلى قلبها لم تشعر بها من قبل وهي تستنشق ٍ
فيه مع كل ارتطام يحدث لهما ،إذ كانت هذه مرتها رائحته وتحتك ِ
ً
األولى التي تقترب فيها منه لهذه الدرجة مذ كانوا أطفاال ومنذ أصبحت
شابة يافعة.
الص ّو ُ َ َّ
ان متوسطة الحجم، صخرة ِمن َّ
ٍ ت َعث َرت عربة الفتيات في
تسببت في إنكسار القضيب الذي يمسك عجالتها فأنخلعت إحداهم
وأنقلبت العربة بالفتيات .لحق بهم شبسكاف الذي وقف بعجلته ومن
َّ بقية ُ
خلفه َّ
الح َّراس ،حاول النزول عن العجلة ،إال أن حتبت رع كانت
ً ٌ
ستغربا فيه بشدة وما تزال ُمغمضة العينينِ ،التفت إليها ُم
ممسكة ِ
فوجدها ُمبتسمة لم تدرك بعد أنهما توقفا .وأبتسم بدوره وهو يزيح
ً
يدها عنه ،ففتحت عينيها على اتساعهما ُمتفاجئة ِمن نفسها .قفز
شبسكاف من فوره قرب العربة .كانت الفتيات متفرقات على األرض
وقد لطخت وجوههم بالطين والوحل ،وكذلك الحارس هو االخر كان
وبقية ُ
الح َّراس ولم يكن ًّأيا ُملطخ الوجه بالطين ،تطلع فيهم شبسكاف ّ
بسوء بالغ .توقفوا في مكانهم حتى أصلحوا العربة ٍ منهم قد أصيب
وأعادوها للعمل مرة أخرى ،وطوال الوقت الذي استغرقوه كانت
65
ٌ ٌ حتبت رع ال تفعل ً
ومالمح متهللة شيئا سوى التطلع بعينين المعتين
وجه شبسكاف الذي ُيساعد ٌ
ووجه ُمزين بحمرة الرمان في ٍِ اساريرها
واحدة منهم ،قبل أن يتوجه نحو ٍ الفتيات ويطمئن على حال كل
الحارس قائد العربة ويطمئن عليه ُويطمئنه.
َ
انقطع املطر ً َّ
تماما وظهرت الشمس عادوا للطريق مرة أخرى، ملا
وامرهم شبسكاف أن ُيسرعوا من حركتهم على الرغم أن األحصنة
خشية أن ُي ّ تماما ،لكنه ال يستطيع أن ُيمهلها ُفرصة َّ
للراحة َّ َ
منهك ًة ً
ضيع ِ
أقل من ِنصف يوم حتى وصلوا ً
أخيرا يوما آخر على الطريق .واستغرقوا َّ ً
الشمس.إلى بوابات ممفيس مع غروب َّ
كانت أسوار املدينة ُمضاءة ً
تماما بفعل املشاعل الزيتية املعلقة في
ال مفتوحة على كل مكان على مقربة من بعضها ،والبوابات ما تز ُ
ٍ
ُ َّ ً
مصراعيها أمام البغال التي تجر عربات العامة محملة باملحتفلين الذين
أتوا من أماكن بعيدة ،والعجالت الحربية من فوقها كبار التجار
والسادة وتجرها االحصنة ُمغادرة هي األخرى بعد إنتهاء إحتفالية عيد
الحصاد ،وكل شخص يحمل معه ما ُوهب إليه بجوار وجبته التي
ُ
مرصوف باألحجار املنقوشة ،تحيط به ٍ طريق
ٍ حصل عليها .عبر
ُ ٌ ٌ ٌ
مسالت عمالقة معلق فيها قناديل زيتية كبيرة الحجم تض يء للعامة،
ً
اخترقوا الحشود املغادرة متجهين ُمباشرة صوب منزل الكاهن،
وتقابلت عجلة نياخ هاو العائد برفقة سيده الكاهن من القصر اإللهي
أمام بوابة املنزل في ذات اللحظة التي وصل فيها شبسكاف وكانت
66
وأحست بصدرها ينشرح وقد َّ حتبت رع ما تزال جالسة إلى جواره،
تهللت أساريرها لرؤيتها شقيقها ً َّ
واقفا أمام عينيها ،وابتسمت ألول مرة
منذ ثالث ليال.
ساد الهرج واملرج ساحة القلعة األمامية .قفز لدى وصولهمَ ،
جميعا ،القادمون من الداخل بطاقتهم الكاملة والعائدون ً الرجال ّ
ِ
مرهقون برفقة شبسكاف فوق العربات ُيفرغون حمولتها ،براميل
اململح وأجولة َّ َّ َّ النبيذ وأجولة َّ َّ
الزبيب الدقيق والتوابل واألسماك واللحم
ببطء واحد ترجلحارس ٌ ٌ املجفف واللحوم والطيور. والتوت َّ والبندق ُّ
ٍ
صاب بالحمى ،وكان الحارس نفسه الذي حارس آخر ،كان ُم ٌ ٌ يتكأ على
أصيب في معبد العرافات إثر سقوطه أمام الغول .هز الكاهن رأسه َ
رحبا بعودته ،ثم دلف إلى املنزل ،بينما نظر بأمتنان إلى شبسكاف ُم ً
نياخ هاو في وجه شقيقته ،ومن الوهلة األولى أستطاع أن ُي ّ
حدد َّأنها ِفيِ
َ َّ
َو َه ٍل إال َّأنها تتعمد أخفاءه .دنا إليها ،وأمعن النظر في وجهها بركن
ُ
عينه ،وفهمت من فورها َّأنه غير ُمطمئن ،فقالت بأس ى لم تستطع
((أردت أن أعود إلى إليك ،أردت أن أعود إلى ّ
الديار)). ُ أخفائه:
ِ
كثيرة حاولت بكل قوتها أن تكون شجاعة ،لكنها ُ
أحيان ٍ ٍ تشعر في
أنها مجرد فتاة صغيرة رغم كل ش يء.
ستاء من شبسكاف ،ونظر تركها نياخ هاو ودنا خطوتين وهو ُم ٌ
ً ً تحمل ً
ُ
واستفسارا واستياءا في ٍآن واحد .أراد لو عتابا إليه نظرة تساؤل ِ
َّ ّ َّ يسأله َّ
عما حدث إال أن عينا صديقه الشاحبتان ومالمح وجهه املرهقة
67
َ َ َّ َ
قلق
جعلته يتريث ويصمت ،كانت حتبت رع تراقب املوقف بعينيها في ٍ
برفق على
بالغ الحظه شقيقها فتبسم في وجه صديقه وهو يصفعه ٍ
ٌ ٌ كتفه ويرحب بعودته ساملًا إلى ّ
الديار .مما جعلها تبتسم إبتسامة هادئة
ِ
إطمأنان تفش ى في صدرها.
ٍ تعبر عن
َّ وقت ُمتأخر من الليلَّ ،
تعمد شبسكاف أال يحظى ومن معه ٍ في ٍ
تقريرا لسيده ،فتوجه صوب الكاهن ترافقه ً بالراحة قبل أن يعطي
حتبت رع وأثنان من الحراس الذين رافقاهم الرحلة ،وفي شرفة املنزل
املطلة على املدينة وقف يقص تفاصيل ما واجهوه في رحلتهم منذ
مرت لحظة والكاهن يبدو مغادرتهم ممفيس وحتى لحظتهم الراهنةَّ .
ُ
كأنه لم يسمع ،فلم َيلح عليه غضب أو تشكيك أو حتى استياء ملا
َ
وسأل: حدق إلى مائدته املرسومة ّبف ٍّك مطبق عن ِآخره،
سمعه ،فقط َّ
((أأنت واثق؟)).
بعيني يا صاحب الجاللة ،والحراس أيت الجثث َقال شبسكافُ (( :
ر
َّ ُّ ً ُ َ قاموا بدفنهم ً
معا .العرافات ق ِتلت أيضا ،وع ِلقت جثثهم العارية
ُ
محروقة على حائط املعبد بعد أن نزعت األساور من أيديهم)).
ّ ً
نظر الكاهن ُبركن عينيه إلى حتبت رع ،فأومأت برأسها ِ
مؤمننة
على كالم شبسكاف ،وأردفت(( :الجميع شاهدوا ما حدث هناك ،كان
بشعا ُوم ً
خيفا)). األمر ً
َّ َّ
شبك الكاهن أصابع يديه تحت ذقنه ،وكانت عيناه مظللتين
َّ َ َ ُّ ً َّ
يتحرك مكبوسا عن ِآخره وقد أخذ فكه بحاجبيه الثقيلين وفمه
68
شعر بنظرات فدائما ما ُيص ُّر بأسنانه عندما يتوتر .كان َي ُ ً بصمت،
ِ
ً ُّ َْ ً َّ
وأخيرا سألهم(( :هل رأى أحدكم مؤخرا رؤيا الجميع املسلطة عليه،
وهو نائم؟)).
الريح في اللحظة ّ َ َ َّ َ َّ اهتز ضوء ْ
القنديل املعلق على الحائط ،وتنسم ِت ِ ِ
ً
التي تناوبوا النظرات فيها إلى بعضهم البعض ،فأضاف الكاهن موضحا:
َ ُ َ
((زوجتي ..السيدة كاريسا ،في منامها ليلة أمس بكت وهي تحلم بقطيع
الصباح استيقظت بعينين جاء َّ من الغيالن ُيطاردها في الغابة .وملَّا َ
ً ً َّ َّ
محمرتين ،خائفة ،وليس بإمكانها أن تذرف دمعة واحدة جافتين
ً
صامتة ً
تماما)). أخرى ،ومنذ ذلك الحين وهي
ْ َ
ضط َر َب أحد الحارسين ممن رافقا شبسكاف وانتقل بعينيه ِا
ترد ًدا(( :أنا يا سيدي ..أنا .. يتطلع في وجوه من حوله قبل أن يتحدث ُم ّ
ِ
ُ منذ يومينُ ،
أيت ال ِغدفان تطارد الناس في الشوارع ،كان حجمها أكبر ر
كثيرا مما هي عليه ،وكانت ذو شعر أسود أشعث ،تحمل الجثث وتطير ً
ُ ٌ ُ
عاليا قبل أن تسقطها غارقة في الدماء َم ْفقوءة العينين)). بها ً
ً ً
نظر شبسكاف إلى نياخ هاو بعينين حائرتين َبدت فيهما نظرة باردة َ
ُ َ َ
تماما ،وقال وهو َيتل ْعثم في ِعبارا ِت ِه(( :لثالثة َّأيام ُمتتالية لم تغمض لي ً
جاء لدى عودتكما َ عين ،كنت أبحث عنكما في الغابة واملعابد واألوديةّ ،
َ
وأناس موتى ٌ أخيرا ،ومعه أتت الكوابيس .حلمت َبق َّال ٍع تحترق النوم ً َّ
ً ُ َّ
قتال ممزقين فوق قبورهم ،كما رأيتني ونياخ هاو جنبا إلى جنب في ٍ
إختلطت فيه اآللهة بالكهنة مع الغيالن .)).. ..
69
لثوان معدودة عن الحديث ،بدا كمن يتذكر رؤياهِ ،وا َزد َر َد توقف ٍ
َ َ َ ْ ُ ُ ُ ََ ّ ً ُ َ َ ّ ً
ريقه قبل أن يسترسل في الحديث وكان صوته مته ِدجا متك ِسرا(( :كانت
لظالم ً َّ ٌ
سائدا .)) .. .. مالمح صارخة ،وكان ا الجثث في كل مكان تحمل
وتوقف عن الحديث مرة أخرى ،فأحاطته نظرات استياء من الجميع
تطالبه بأن ُيكمل ،وطقطق أحد القناديل الزيتية وتذبذب لهيبه قبل
ات أن ينطفيء عندما أضاف وهو ينظر نحو الكاهن الذي حدجه بنظر ٍ
ُ
تطالبه أن ُيكمل حديثه(( :كانت جثة جاللة الكاهن على األرض وكان
ً
صريعا إلى جواره)). هذا اخر ش يء رأيته قبل أن اسقط
ضيقت حتبت رع وتجه َمت مالمح الكاهن ،بينما َّ
صعق نياخ هاوَّ ، ُ
عينيها وقضبت حاجبيها وهي تنظر إلى شبسكاف مغتاظة قبل أن
سبقا بتلكتصفعه على مؤخرة كتفه وهي تقول(( :ملاذا لم تخبرني ُم ً
تأخرا شأني شأن أن علي أن أعرف األشياء ُم ً الرؤية يا شبسكاف ،أم ّ
الغرباء!)) ،وتوقفت عن الحديث للحظات ،قبل أن تتخذ نبرة صوتها
آخرا مليء بالدموع وهي تقول (( :ثم ..إذا كنت تحسب أني ً
مسارا ً
بالح َّمى وسوف بالح َّمى ،مريض ُ
سأسمح لك بأن تتأذى ،فأنت مريض ُ ُ
أقتلك يا شبسكاف)).
أي ردة لم ُيبدي الكاهن الذي كاد أن يبتسم أو َّأنه أبتسم بالفعل ّ
ً َّ ً ً ً فعل ،كانت حتبت رع له ً
دائما فتاة لطيفة ،رقيقة ومهذبة ،ويعرف أنها
أي ش ٍيء من ّ ُّ ً ُ ّ
كانت غارقة في ح ِب شبسكاف حتى النخاع ،وكانت لتفعل ِ
َ
تكررة،
ِ
أغفلت املقصد كعادتها امل ّ زفر نياخ هاو ،وقد فهم َّأنها
أجلهَ .
70
َ ّ ً
فقال ضاغطا على كلماته ُليذ ِكرها(( :نحن في حضور جاللة الكاهن)).
ً َ
أشاحت حتبت رع بنظرها هامسة وهي تهز رأسها(( :لم أضع هذا
َ
َ
فانتزعت في االعتبار))ِ .ا َلت َقف شبسكاف يدها في محاولة منه لطمأنتها،
ً
يدها منه وهزت رأسها قائلة وهي تزفر(( :سوف أقتلك)) .وتزحزحت
ً
قليال للوراء نحو نياخ هاو.
فرك وجنته(( :وأنت يا نياخسأل الكاهن بكياسة شديدة وهو َي ُ
هاو؟)).
ً
ناقوسا مكان بعيد في املدينة بدأ أحدهم يقرع ُ
قبل أن يجيب ،في ٍ
ينذر بالخطر .نهض الكاهن عن مقعدة وخطى ُمتثاقال صوب برج
شرفة املنزل أعلى نقطة في القلعة ،بينما سبقه شبسكاف ونياخ هاو.
تصاعدا حددا َّأنه قرب أحد املعابد املترامية على أطراف
ً أيا ً
دخانا ُم ر
املدينة ،نظرا إلى بعضهم البعض قبل أن يلتفتا ً
سويا نحو الكاهن وقد
وضع نياخ هاو يده فوق سواره الفض ي وتأهب أللقاء تعويذة يفتح بها
َّ
بابا ينتقل من خالله إلى إلى مكان الحادث ،إال َّأنه وقف ينتظرإذن ً
رياح ُمفاجئة ،إهتزت على أثرها القناديلهبت ٌ الكاهن .في تلك اللحظةَّ ،
عنيفا قبل أن تنطفي ويعم ً الزيتية املعلقة على الحوائط اهتز ًازا
لثوان ً ً ً
الظالم ،وإنفتح بابا سحريا في الفراغ إلى جوارهم ،بقي مفتوحا ٍ
معدودات دون أن يخرج منه أحد.
أخذ نياخ هاو وشبسكاف والحارسين االخرين وضع اإلستعداد
َّ ْ َ ُ
للقتال ،إذ ِا ْست َّل ك ّل ٍ
واحد منهم سيفه من ِغمدة .إال أن الكاهن كاي
71
ّ
يجرئ أن ٌ
تاي نظر إليهم وأشار بأن يهدءوا ،كان يعرف أن أحد ما ال ِ
ُ ٌ ٌ
يقتحم منزله بهذه السهولة ،كما أن فتح باب سحري وأبقاءه مفت ٍ
وح
لثوان قليلة دون أن يدلف منه أحد ،عالمة أستأذانَ ،
وتيقن الكاهن ٍ ٍ
ٌ ٌ ٌ ُ
من ذلك عندما القيت عبر الباب قطعة نقدية ذهبية وسقطت على
األرض ،فأشار بيده إلى شبسكاف الذي وقعت أسفل قدميه ،وقال:
ً
((أعدها مرة أخرى)).
كانت هذه إشارة باملوافقة ملن بالطرف اآلخر أن يمر عبر البوابه.
متوشحا بالسواد من ً على الفور ،دلف خا إم ويست من البوابة،
ُ ً
الرأس إلى أخمص القدمين ،ملثم الوجه ،وممسكا في يده ثالث رؤوس
واحد منها في حجم رؤوس عمالقة كل ٍ ٌ لغيالن تم فصلها عن الجسد،
ُ ٌ رأس عجل ضخم ،تتقاطر منها ٌ
سوداء ورائحة كريهة للغاية تدل دماء ٍ
على أنهم قتلوا للتو .تراجع الحارسان للخلف وقد أصابهما فزع ،بينما
ً َّ
ساكنا .إال أن حتبت لم يحرك ًّأيا من الكاهن أو نياخ هاو وشبسكاف
مفاجيء لدى سقوط عينيها ٌ نتابها ٌ
فزع أحست كأنها في كابوسْ ،إذ ِا َرع َّ
دقات قلبها وراء ال ُّ َّ َ
ضلوع وتسارعت على رؤوس الغيالن املقطوعة،
ً
وحبست أنفاسها وهلة وهي تختبيء خلف شقيقها .كانت األجراس تر ُّن َ
خيفا ،وشعر خا إم ويست بتزايد دقات قلبها الذي والريح ُتصدر ً
صوتا ُم ً ّ
ِ ِ
ّ
الل َث َ ُ
((عليك أن تلوذيِ ام: بدأ ينبض بعنف من الخوف ،فقال من خلف ِ
وارتجفت أنفاسها َ حقا لم يأتي بعد)). بالهدوء اآلن يا فتاة ،فما ُيخيف ً
في َحلقها وهي تلتصق في جسد نياخ هاو ،فدنا منها شبسكافِ ،التقف
72
بلين تشوبه شدة ،وعندما رفعت عينيها إلى عينيه هز يدها وقبض عليها ٍ
ً
رأسه وابتسم وهو يهمس قائال بكياسة(( :أنا هنا)).
ُ
تطلع خا إم ويست في القناديل املنطفئة قبل أن يحرك يده
بأتجاهها ويشير بأصبعيه السبابة والوسطى بطريقة أوحت كأنه يقذف
صغير أشعلٌ صغيرا من بينهما ،فأنطلق من بين أصابعه ٌ
لهب ً ً
شيئا
معتذرا(( :آسفَّ ،إنها عادة قديمة)).
ً القناديل مرة أخرى وهو يقول
ملكان آخر .ارتجفت حتبت ً
قاصدا بذلك إطفاءه القناديل قبيل انتقاله ٍ
رع وهي ما تزال تنظر نحو رؤوس الغيالن الثالثة في يد الساحر والدماء
خفيض للغاية(( :أريد بصوت
ٍ وهمست في أذن شبسكاف تتقاطر منهمَ ،
ٍ
املغادرة)).
قال خا إم ويست الذي يستحيل أن يكون قد سمع همسها وهو
يمكنك ذلك يا
ِ ينظر إليها في وقار ويشير بيده نحو الباب(( :بالطبع
فتاة)) .مما جعل الفزع يدب في قلبها ،إذ لم يسبق لها أن ترى هذا النوع
من السحر.
َّ ً
موجها حديثه إلى الحارسان(( :إنصرفا)) .وملا تحرك قال الكاهن
شبسكاف ونياخ هاو ومن بينهما حتبت رع ،قال(( :أبقيا أنتم)) .ووجه
ً
متعضا ،قال(( :ماذا صوت بدا فيها ُم حديثه إلى خا إم ويست بنبرة
ٍ
ُتريد؟ أو ..ما الذي أتى َ
بك إلى ُهنا؟)).
التفت خا إم ويست إلي الكاهن نصف التفاته ،ونظر إليه ُبركن
عينه وقال باألمتعاض ذاته في نبرة الكاهن(( :اعطيتك بيتي وقلبي،
73
ألحد بعد َ
أعطيتك مخطوطات من هامونابترا وتعويذات لم يسبق ٍ
َّ َ
أعطيتك األبنوس والذهب ،وبساتين إمحوتب أن عرف بشأنها،
ورم ًانا ،واعتزلت الحياة بأكملها ً
نافيا نفس ي في عطورا َّ
ً َ
أعطيتك ُّ
التفاح،
ً
املعبد األسود تاركا أياك تعيش هذه الحياة كما ينبغي ،وعندما آتيك
تقابلني هكذا!)).
بقلق عارم ،فلم
كان شبسكاف ونياخ هاو مع حتبت رع يشعرون ٍ
يسمع أحدهم من قبل عن خا إم ويست َّإال َّأنه الشيطان الذي ال ُ
يهاب
شيئا ،يرتكب الفظائع ويحرق من يخالفه الرأي ،حتى االلهة نفسها ً
ً
هادئا ً ً
تماما وهو يتحدث حسابا .في حين أن الكاهن كان تحسب له
ً
إليه ،خاصة عندما اعاد عليه السؤال مرة أخرى وبكياسة(( :خا إم
ويست ..ماذا تريد؟! وما الذي أتى بك إلى هنا؟)).
زفر الساحر وهو يلقي بالثالث رؤوس على األرض ،وكانت بقعة من
الدماء السوداء قد تجمعت أسفل قدميه ،ثم أخرج خريطة جلدية من
مقصود وقال وهو يزفر
ٍ بعنف
ٍ بين طيات مالبسة وثبتها على املائدة
ٌ
غضبا(( :ال تتعمد ُمضايقتي ،ال تتعمد .ألقي نظرة على هذه الخرائط)).
ً
نظر الكاهن بطرف عينيه وقال(( :هذه خرائط قديمة ،خرائط املعابد
اشار خا إم ويست على العالمات في الخريطة ،وقال: في القطرين))َ .
((انظر هنا ،وهنا ،وكذلك هنا ..انظر لجميع العالمات ،واخرها هنا)).
ُ
وختم حديثه وهو يشير خارج الخريطة ،يشير حيث الدخان املتصاعد
واألجراس ما تزال تضرب والناقوس ما يزال يصدح صوتهَ .
ونقر على
74
((ك ّل من يملك ًُ
سوارا الواح املائدة الخشبية الخشنة بأصابعه وأضاف:
ُ ً
سحريا في الجنوب تعرض للقتل والحرق قبل أن تقتلع عينيه وينتزع
السوار ،واآلن يحدث الش يء ذاته هنا في الشمال .أهنيس ،كاهون،
منه ِ
بذات الطريقة)).
ميديوم ،اليوم قتلت عرافاتهم والكهنة ِ
ً
مأخوذا باملفاجأة ،قالَّ :
((إنه الش يء علق شبسكاف الذي كان غير
نفسه الذي حدث للساحرات في معبد العرافات بمدينة آخت آتون)).
أيضا كان هناك)). اشار على رؤوس الغيالن(( :وهذا الش يء ً ثم َ
ً
ستغربا: تماما عندما قال ُم تقعا ً كان وجه الكاهن كاي تاي مم ً
ُ
سمعت أيت نبتة أصابع الشيطان في الغابة وقد انتشرت باألالف، (( ُ
ر
بوضوح تام فوق معبد ٍ ونياخ هاو صوت أبواق السماء قبل َّأيام
ً القناديل ،وباألمس ،باألمس ُ
كليا والقمر ُمغطىخسوفا ً أيت باملنامر
بالدماء بعد أن ضربه ُم َّ
ذن ٌب أحمر اللون .)) .. ..
حتدا(( :هذا هو الفرق بيني حنقا وقال ُم ًّ إحتقن وجه خا إم ويست ً
ّ
جئتك قبل َّأيام وكنت ً
موقنا أن َ وبينك يا كاي تاي ،هذا هو الفرق.
ريبا قد حدث لك ،ولكنك أسريته في نفسك)). ً
شيئا ُم ً
76
َّ ُ
وتحسه على إليها ،ووقعت عينيه في عينيها ،أومأت له برأسها تطمأنه
إفراغ ما في جوفه من أسرار.
َ
((الرب سيد ّ ِاطمأ َّن الكاهن ،فأمرهم بالجلوس قبل أن يقول:
جميعا ،هو خالق تلك الطبيعة والوحيد القادر على ً االلهة وامللوك
شيئا دون أن يفعل ً
تغيير قوانينها ،وال ش يء يستعص ى عليه ،كما َّأنه ال ُ
ٌ
ات ُمسبقة ،هذه اإلشارات تأتي كنزير قبل مجيء حدث يبعث إشار ٍ
ً
كبير ،قد يحذر من النار والدماء التي تتبع هذا الحدث ،وكل شيئا له
َّ
سبب ال يعلمه إال الرب ،واملعجزات مخفية بتلك االسباب .لذا عندما
تروا تلك اإلشارات ،احذروا)) .ثم أمعن النظر في وجوههم ،ووجد أن
َ شيئا مما قالهَ ، أحدا منهم لم يفهم ً ً
فرفع الكأس إلى شفتيه ورشف من
وجده شديد الحالوة مؤخراَ ،
ً النبيذ الذي أحضره شبسكاف وحتبت رع َّ
ً ْ
ستمتعا ،إذ نظر في الفراغ جدا ،مع ذلك لم يبدو عليه َّأن ُه ُملكن قوي ً
شيئا من ذكريات موغلة القدم ،واتضح للحظات ،بدا كمن يستعيد ً
ذلك عندما استرسل في الحديث يوضح لهم أن كهنة األرض السوداء،
ْ
كيميت ،تعلموا السحر منذ القدم ،إذ تواصلوا مع الجن واستخدموه
في حياتهم اليومية ،لحراسة القبور ونقل األشياء الثقيلة ومعرفة
مقتصرا على قلة من الكهنة ،قلة ً مسارات السفن في البحر ،وكان ذلك
جدا منهم ،يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة ،ولكنهم تمكنوا قليلة ً
ً
جميعا. رب اآللهة وامللوكمنه وبرعوا فيه بعد حادثة رع التي رتبها ُله ّ
77
ردائها خمرية البشرة ،حادة املالمحُ ، َّ اربعينية العمرَ ،رّيانة الجسد، ّ
بنظرة اع ْتاس َت َط َ الك َّتان ،ولها َع ْي ٌن َناف َذ ٌةْ ،إذ ْ َ
مصنوع منٌ الطويل
ٍ ِ
األجواء املتوترة من حولها ،فتوقفت فور تميز ّ واحدة بطرف عينها أن ّ
ِ ٍ
لثوان معدودات حتى اشارت لها السيدة كاريسا ٍ دخولها من الباب
ُ
الواقفة قرب الكاهن بالدخول .كان من خلفها ثالث خادمات اخريات
صغيرة قد يكونوا في بداية سن ّ
ٍ ارتدين املالبس ذاتها ،جميعهن في ٍ
َّ العشرين من العمر أو َّإن ّ
هن في العشرين بالفعل .ملا سمحت لهم
السيدة َّريانة الجسد بالبدأ في وضع الطعامَّ ،اتخذ ثالثتهم مواضعهم
على ثالثة جوانب من املائدة الخشبية املستطيلة ،مألن األطباق على
مذهبة، قدموه في أوعية َّ والزبدةَّ ،ساء من القشدة والفطر ُّ بح ً املائدة َ
ٍ
الشوفان َّ الحلوة وكعكات ُّ الذرة ُ ُّ
الساخنة قبل أن يضيفوا فطائر
ً
والت َّقاح والبرتقال ،بعدها توالت األطباق نزوال املخبوزة بقطع من البلح ُّ
ٍ
على املائدةِ ،قطع من لحم الديوك مع شرائح من لحم اإلوز املطبوخ في ُّ
َّ ُ صلصة من الخوخ َّ
والزعفران كما أضيفت شرائح اللحم البقري ٍ
ُ ُ َّ َّ
والنبيذ املغلي املحلى بالعسل ومضاف إليه اللوز املسلوق .الحظت
أحدا أن ً رص األطباق َّ ال واقفة ُتشرف بنفسها على ّ كاريسا والتي ما تز ُ
ِ
َّ من الجالسين حول املائدة لم ينظر إلى الطعامَّ ،
وكأنهم ال يروه .وملا
ً
كانت شاعرة باملسؤولية تجاه الجالسين ،وأرادت أن تكسر حالة الكآبة
عليه
تميل ِ ُ املخيم على األجواء ،نظرت في عيني زوجها وهي ّ والتوتر
ُ ِ
بلطف في أذنه(( :الطعام على املأدبة)). ٍ وهمست
أي مأدبة؟)). ستغربا(( :املأدبة؟ َّ ً قال بكآبة ُم
78
َ همست له ُم َّ
غنج ُمصطنع وهي تغ َم َز ُه ٍ املرة في جد ًدا ،لكن هذه َّ
َّ ُ
ِب َع ْي ِنها قاصدة بذلك أن تحرره من الضيق ليس إال(( :مأدبة الطعام
الذي سيمكنك من ُمجاراتي في غرفتنا حتى الصباح)).
َّ
نفسي ٍة حالة
أي ٍ دائما في الخروج من َّ كانت كاريسا ُتساعد زوجها ً
َّ تستحوذ عليه عبر مداعبته بالحديث وإبراز جمالها َّ ُ
األخاذ ،إال ّأنها في
الفض ي ّ َ ُ ً ّ
تلك الليلة فشلت على الرغم أنها ارتدت فستانا من الحرير ِ
َ َّ ُ
املوش ى بالفراء ،يكاد ك َّماه الفضفاضان املبطنان بالك َّتان األرجواني
َ يمسا األرض ،وكانت قد َّ َّ
الناعم َّ
بأناقة تحت شبكة ٍ صففت شعرها
وذهبية .وعلى الرغم أن َّ فض َّية رقيقة تلتمع فيها جواهر أرجوا َّنيةَّ
ً ط ،لكن التوتر َّ َ ُّ الكاهن لم َيرها بهذا َ
مهيمنا على ظل الجمال من قبل ق
مالمحه.
قالت في رجاء موجهة حديثها للجميع(( :ال يمكنكم الجلوس بال
النبيذ إلى زوجها الذي أخذه منها كأسا من َّ
طعام أكثر من ذلك)) .وقربت ً
ٍ
ً
وهو يقول موجها حديثه إلى نياخ هاو وشقيقته باألضافة إلى شبسكاف
الجالس بينهما(( :يمكنكم تناول الطعام ،بينما أقص عليكم ما َّ
لدي من
ً ُ
واحدة ثم أنزله فارغا على الطاولة،
ٍ مرة
حديث)) .ورفع كأسه وشربه في ٍ
وهموفي الوقت الذي بدأوا فيه تناول الطعام على مهل حكى لهم ُ
ٍ ِ
يأكلون.
ْ َ
صيفي ش ِد ُيد ال َح ّر ،في بالد
ٍ يوم َّ َ ُ
كان ذلك في الزمن الغابر ،ذات ٍ
ُ
آشور ،حيث األرض السوداء فيما بين النهرين .كانت جموع الناس
79
نساء ورجالَ ،يت َج ُّولون في سوق مدينة نينوي الكبير كبيرهم وصغيرهمٌ ،
كعادة كل يوم ،بعضهم يمش ي على األقدام وبعضهم يمتطون البغال
وآخرين يركبون العربات التي تجرها الخيول للتبضع والتجارة ،يرتدون
َ
مالبسهم الطويلة والقصيرة املصنوعة من الصوف والك َّتان لكنها بال
ْ ٌ ٌ
وشاق على غير العادة ،إذ إرتفعت صعب أكمام أو بنصفها .كان يومهم
ْ ُ ُ ّ
الحرارة عن معدالتها الطبيعية ،وا َ
زدادت معها ُرط َوبة ال َه َو ِاء ،فترى
تا ٌ َ َ َّ َ ْ ُ َ ً ُ ّ
جفف وجهه املرهق وهو يتحدث إلى أحد جر تصب َب وج ُهه ع َرقا ،ي ِ
الفخارية والخزف التي تحيط به من كل َّ املشترين يعرض عليه األواني
َ ْ ُّ َّْ
ص ِب ّيه الشاب حليق الشعر ،خم ِري اللو ِن ،عسلي جانب ،بينما َّ
ْ العينين ،مفتول العضالتً ،
واقفا ِمن خلفه وقد قام بخلع ُست َرته بعد
ُ أن بللها العرق ً
تماما ِنتاج مجهوده املضاعف في حمل ونقل البضائع
َ ْ ً َ
الثقيلة ِوا ْرت َدى ُست َرة بديلة مصنوعة من الك َّتان يتوارى فيها .لم يكن
الحر فقط ما جعل يومهم شاق ،بل الزحام والتدافع الذي َأ َح َ
ال بينهم ّ
َ ُ
فسي ٍة سيئة. حالة َّن ّ بشدة وفي ٍٍ واحد منهم ُم ْن َف ِع ٍل فصار ك ّل ٍ وبين الهدوء
ً ً ً
الت َّجار ِممن امتلكوا حانوتا ُمطال على النهر ذا ً كان أحد ُّ
وجها بشوشا
فعم بالحياة وهو يعرض بضاعته على بعض املشترين على وبدا صوته ُم ٌ
الرغم َّأنه كان ُيجفف العرق عن جبينه بقطعة من الكتان في يده
ً َّ ً
فخارية في يده الثانية ،إال َّأنه تركها فجأة تسقط على َّ بآنية
وممسكا ٍ
ستغربة عندما وجهه ألخرى ُم تغيرت قسمات وتتح َّط َم ،وقد َّ األرض َ
ٍ ِ
ً النظر بعينيه صوب َّ ال َّ َ
أط َ
ملفت للنظر ،وصرخ فجأة ٍ بإمعان
ٍ النهر
ْ ُ هوري َم ُش ٌ ٍ َ ّ
وب بالهلع برره بإشارتة إلى ماء النهر(( :أنظروا .. بصوت ج ٍ
80
ُْ
أنظروا)).
النهر الكبير الهادئة وقد التفتت جموع الناس بتتابع ،ليروا مياه َّ
واحدة منها العشرة
ٍ ضطربة تجاوز إرتفاع ّ
كل ٍ موجات ُم
ٍ تحولت إلى ثالث ّ
ِ
َّ َّ
بشدة لم يحدث أن رأوا مثلها ٍ أقدام ،وأخذت تتالطم في بعضها البعض
من قبل.
بدهشة يشوبها فزع(( :وكأن الروح ُبثت فيها))، صاح أحد املارة َ
ٍ
ً ُ ُ
أجسادا بشرية لكنها عمالقة وتتقاتل. ً وخ ِّيل له ّأنها تتخذ هيئة
ً َ صارخا ،وكان من ُ ً َ
مفزوعا، الرعاة ،وأخذ يتراجع للخلف صاح آخر
بنفس الهلع ،فيسقط قبل فيسقط على ظهره وينهض ،يتراجع ُم َّ
جد ًدا
ِ
جلد َّ َّ ينهض َّ
للمرة الثالثة إال أنه في هذه املرة نزع نعليه املصنوعين من ٍ
صارخاّ : ً طبيعي وأخذ يستعد للهرب وهو يقول ّ
((إنها الشياطين)) .بينما
ٌ َّ
شخص آخر وكان ممن يشترون من التاجر البشوش وقد وقف علق
قائال بنبرة صوت ُم ّ ً ً
دة
ترد ٍٍ ِ ٍ متواريا خلف صبي التاجر مفتول العضالت،
((إنها ارشكيجال))ّ .رددها قبل أن َ
يجثو على ركبتيه غير مصدق ملا يراهَّ :
ٍ ِ
ً ْ ً
تمجيدا لها ،إذ كان قاصدا بذلك ارشكيجال سيدة السحر ،إلهة
العالم السفلي ،والتي يعبدونها كي ترحمهم في العالم اآلخر.
َّ أناس َي ُ
حالة من الفوض ى ما بين ٌ ٌ
صرخون ويتعثرون بينما سادت
أرجلهم في البضائع وفي بعضهم البعض من فرط ويتدافعون وتشتبك ُ
وخوف إلى جانب َمن جثوا على ٍ العجلة وآخرين يشاهدون في ٍ
قلق
بغلته عجوزا ً
كبيرا عن ً األرض ًّ
ظنا منهم َّأنها إلهة العالم اآلخر ،ترجل
ِ
81
خطوات ُم َّ
تأني ٍة، علم من الكتاب ،مش ى نحو ضفة النهر بضع
ٍ وكان ذا ٍ
صغيرة ومدببة،
ٍ وذقن
ٍ وكان له وجه ُمجعد وعينان ضيقتان للغاية
ً
نفسه بكياسة قائال(( :السيدان ..هاروت وماروت)).
ِ وهمس في
كانت األمواج قد إتخذت هيئة ثالثة أشخاص يتقاتلون ،إثنان
ُ ُ
منهم على هيئة رجلين عمالقين ،لك ٍ ّل منهما عينان واسعتان أرجوانيتان
ً
ُومضيئتان ،يحاوالن إجبار إمرأة تبدو في مثل حجمهما أو أصغر قليال
مرة أخرى في ولها نفس العيون األرجوانية املضيئة على الغوص معهما َّ
ُ
املاء ،بينما تحاول املرأة جاهدة أن تهرب من بين أيديهم وتتوجه نحو
الشاطيء ،وبينما بدا أن الرجلين سوف يتغلبا على املرأة ،أطلقت
أنهاصيحة قصيرة ُتشبه الصراخ ،وعلى الرغم من قصر الصيحة َّإال َّ ً
مدوية شقت عنان السماء وبثت الرعب في قلوب الناس الذين كانت ّ
ً
سمعوها في جميع أنحاء املدينة من أقصاها إلى أدناها ،كانت صرخة
قوية حتى أن بعض الناس خروا ً ً
ركوعا على األرض واضعين أيديهم فوق
تغي ًرا أذانهم من فرط شدتها التي كادت تصم آذانهم .تبع هذه الصرخة ُّ
ّ ْ َّ ّ ُ َ ْ َ ً
صرا عاتية ولها صفير ،تطايرت األشياء في في الجو ،إذ هبت ِريح صر
ْ ُ ُ ْ ُ ْ
واز َد َادت معها ُب ُرودة ال َه َو ِاء َو ُرط َوبة ال َج ّ ِو ،وامتلئت
َ السوق من شدتهاْ ،
أبدا من السماء عن آخرها بالغيوم السوداء الحديدية التي لم ُيعرف ً
أين أتت ،ثم َر َع َد ِت وبرقت بشدة .كان الناس يسمعون الرعد
َّ
فيشعرون من قوته َّأنه يدب في قلوبهم ،وهطلت األمطار كما لم تهطل
ال تتقاتل عندما انسابت سيو ٌل من قبل ،وكانت األمواج الثالثة ما تز ُ
عارمة على منابع النهر الكبير ،فأغرقت األسواق والشوارع ،وهرع
82
ً ً
بمالبس بللها املطر ،كل منهم حامال ما
ٍ جميعا عائدين إلى املنازل الناس
متواصلة لوقت طويلَ ،ظ َّلتْ
ٌ استطاع من اشيائه ،واستمرت السيول
ٍ
ضط ِرب حتى فاض على الضفتين ،وتدفقت مياهه في
َ ْ َ فيه َأ ْم ُ
واج النهر ت ِ
َّ
أخيرا من الغوص باملرأة عنوة في باطنكل مكان عندما تمكن الرجلين ً
النهر ،وفي اللحظة التي كادت تختفي فيها بالكامل داخل املاء اطلقت
غاب صداهما مع غوصها أسفل املاء. صرختين متتاليتين ومدويتين َ
ّ
قلة قليلة من الناس ظلوا يشاهدون ما يحدث واملاء يتقاطر بشدة
فوق رؤوسهم حتى أغرق وجوههم ومالبسهم ،واشتدت أمواج النهر
اسماكه على الضفة ،وكانت بين تلك االسماك املضطرب حتى َلفظ ّ
سمكتان كبيرتان جميلتان للغاية وغريبتا الشكل ،قفزتا على الشاطيء
حتى عادتا إلى املياة مرة أخرى ،وسبحتا إلى وسط املياة حيث كانت
األمواج الثالثة تتالطم بقوة ،وبدأتا بدفع بيضة كبيرة في حجم حبة
حد أن رأي في حجمها من قبل ،كانت طافية على ُ
النارجيل ،لم يسبق أل ٍ
أبدا من أين أتت هذه البيضة، السطح بعد أن لفظها النهر ،ولم ُيعرف ً
ُ ٌ ٌ ْ
بيضاء كبيرة الحجم تتقدم وألقت السمكتان بها إلى ضفة ،وإذ بحمامة
ً ٌ ّ ٌ
عموديا مئات من الحمام تهبط من السماء ٍ مكون من بضع سرب
ً
وتحتضن البيضة وتطير بها بعيدا عن مجرى النهر .هبطت بها فوق
ُ
نحدر ومرتفع ،ال يذهب إليه الناس ،واستلقت فوقها جبل صخر ٍي م ٍ
ٌ ٌ
حتى فقست خالل يومين ،ومن داخل البيضة خرجت طفلة صغيرة
للغاية ،لكنها رائعة الجمال ،بيضاء كالثلج ،شعرها منسدل على وجهها،
ولها عينان أرجوانيتان ُمضيئتان كالالتي كانت لألمواج فوق النهر ،ومن
83
فر َف عليها بأجنحته ليرد عنها ّ
حر حولها أسراب الحمام األبيض الذي َر َ
كافيا ،وال ُم ً ّ َّ َّ
ناسبا، تتالية ،لكن ذلك لم يكن ً أليام ُم ٍ
النهار وبرد الليل ٍ
أن حمامة َّ
ذهبية في فبكت الطفلة ،ولم َتعرف الحمائم ماذا تفعلَّ .إال ّ
منطلقة من وسط مياه النهر بعد أن شقتها ً ً ُ
شقا حجم غداف خرجت
ً
من حيث ظهرت البيضة ألول مرة ،وتوجهت مباشرة صوب قمة الجبل
مقربة منهم وتجسدت في ٍ حيث حطت الحمائم والفتاة ،ثم هبطت على
شديدة الجمال ،لها ٌ ُ ٌ َّ
وجه وجسد أبيض بشرية .فتاة يافعة، هيئة
ٍ
ُ ُ َّ َّ
كالحليب ،ذهبية الشعر أرجوانية العينين املضيئتين ،شعرها منسدل
النيلي َّ
األخاذ، ّ ستانا من اللون مرتدية ُف ً
ً
على كتفيها وحتى األرض،
صدر ناهض ،بدت في هيئتها البشرية حسناء ،ونحيلةَّ ،إال َّأنها امتلكت ٌ
ضفر على تاج ُم َّ
العمر ،فوق رأسها ٌ كأنها في منتصف العشرينات من ُ
ُ َ ٌ الزيتون األخضر ،في معصمها ِس ٌ صن َّ هيئة ُغ ْ
ذهبي َّبراق ،ن ِقشت وار
كل منها َّ
مذهبة المعة. عليه عشرات النجوم البارزةٌّ ،
84
ُم ّهدت من حولها على إثر تعويذة ،وغرست األشجار ،العشرات من
ُ ُّ
التفاح املزهر ،والعشرات من الكروم األحمر واألصفر،
والرومان والزيتون ونباتات زهرها ُمتباين األلوان، َّ املانجووالبرتقال
ٌ رائحتها َّ
فواحة بشدة على إثر تعويذة أخرى ،ثم ضربت األرض وهي تلقي
ُ ٌ
بارد وأخذ يجري ويلتف بين عذب ٍ ماء ٍ بتعويذة ثالثة ،فأنفجر ينبوع ٍ
ً
صغيرا ُمغطى بنباتات الزينة
ً وأخيرا وضعت لها كوخا ً األشجار وحولها،
مرة أخرى والورود ،وكان هذا آخر ما فعلته قبل أن تدنو من الفتاة َّ
تلو ُح فيهما نظرة الوداع ،ثم خلعت ّ
لتحتضنها بعينين فاضت بالدموع ِ
بضفيرة من شعرها على يد الطفلة وهي ٍ السوار من معصمها وعقدته ِ
ُ تعدها(( :سوف أكون ً
دائما إلى جوارك ،قدر املستطاع)).
َّ
قفزت الفتاة في الهواء وأتخذت هيئة الحمامة مرة أخرى وشقت
ٌ تاركة َّأي ُاه من خلفها وقد ًَّ
تحول إلى واحة من السماء ُمغادرة املكان
خضار الضاجج ،شديدة الجمال مليئة بالفواكه والظالل واملياه، ال َّ
ُمعلقة في أعالي الجبال.
شهور قليلة
ٍ كانت الطفلة تكبر بسرعة غير طبيعية ،فبعد
ٌ
يافعة وبدا عمرها ً ٌ
قريبا من الستة أصبحت الطفلة الصغيرة فتاة
عشر ً
عاما ،ووجدت الحمائم أن الفواكه وحدها ال تكفي ألطعامها،
فيه ُ
الرعاة ما ُ
مكان يضع ِفبدأت تبحث لها عن الغذاء ،واهتدت إلى ٍ
وخبز طري ،فأخذت الحمائم منها بمقدار
يصنعون ِمن جبن ،وحليبٍ ،
ما تستطيع حمله بمناقيرها أو بين بعضهم البعض ،لتقدمه للطفلة.
85
الرعاة إلى جبنها وخبزها املنقور وحليبها مع الوقت إنتبهت زوجة أحد ُ
املنقوص ،فأخبرت زوجها الذي قرر مع ثالثة اخرين ترك أحدهم
لئيم وطماع.ليراقب املكان ،وكان راعي قصير القامة ،بدين ،لكنه ٌ
وشاهد الراعي عشرات الحمائم وهي تحط حول الجبن وتلتقط قطعه
مكان ليس ببعيد، الصغيرة ،وتمأل مناقيرها بالحليب وتطير به إلى ٍ
فأخبر رفاقه الثالثة ،واتفقوا على اتباع الحمائم حتى يعرفوا القصة.
برغبة عارمة
ٍ كبيرة مدفوعينبمشقة ٍ
ٍ لدى وصولهم إلى الجبل ،تسلقوه ّ
في معرفة ما الذي يفعله الحمام بالحليب والجبن .عند القمة قال
بيت لألفاعي العمالقة أو ((البد وأن هذا املكان ٌ الراعي الطويلُ :
الشياطين الفارة من الجحيم ،ال ُيمكن ألحد من البشر أن يأتي ُهنا)).
((كل هذا الكالم عن األفاعي والشياطين ليس رد عليه الراعي القصيرُّ :
شيئا من حقيقة أننا ُهنا بالفعل)). حقاَّ ،إنه ال ُي َغ ّير ًمسل ً
ّ ُ ً
ِ مخيفا وال ٍ
َ ً َ
ود َّ
خنجرا صغير الحجم ،فالحظ الراعي إلى س يده في معطفه أخرج
خيمت على مالمح صديقه القصير َوم َّد يده من جانبه حالة التوتر التي َّ
ٌ
فوره إلى مقبض سيفه وإن بدا من مقبضه َّأنه سيف مصنوع في ورشة
َّ
بأمعان وقد
ٍ رخيصة .لكن قبل أن يستله قال الراعي القصير وهو ُي ِط َّل
((وكأنها الجنة)) .بينما ّ بدت له األشجار الخضراء على مشارف الواحة:
قال آخر بلهفة وهو يطأ بقدميه في الظالل أسفل األشجار(( :أنظروا..
جميع األشجار ُمحملة عن آخرها بالفاكهة)) .كانت جميع األشجار ُ
خضر ٌاء ُومثمرة بالفعل ،وإن كانت في غير أوان إثمارها .كان الراعي
شاعرا بالقلق املشوب بالخوف ً قابضا على سيفه ً الطويل مايزال
86
ً ً
مبتسما متهلل عندما قبض صديقه القصير على خوخة ،وسأله
َّ
السحرية، واحدة يا أخي؟ إنها من واحة نينوي
ٍ املالمح(( :أترغب في
َ تتذوق ً وأؤك ُد لك أنك لم َّ ّ
وقضم من شيئا بهذه الحالوة من قبل))، ِ
َّ
شديد ليسيل العصير على جانب فمه .رد الراعي الطويل ٍ بنهم
الثمرة ٍ
ويتميز من الغيظ َّ وقد أخرج سيفه من ال ِغمد وبدا َّأنه غير مطمئن
السيدان! آت إلى هنا آلكل الفاكهة)) .قال ثالثهما(( :أيها ّ
الغير مبرر(( :لم ِ
ِ
نسن شروطا للتحرك هنا بحرص ،ال أن ًَ جدر بنا أن َّ َي ُ
نتبادل عبارات
االستفزاز)).
فاقع حمارها من الشجرة ،فإذا قطف الراعي القصير حبة خوخ ٌ
ُ
ِبه يتفاجأ َّأنها تثمر من فورها حبتين ،وتنضجان في ذات اللحظة ،حتى
أشد إحمرا ًرا من التي قطفها ،وعندما أعاد َّ
الكره أنهما ُتصبحان ُّ
ُ ً
((قلت لكم ّإنها الجنة)). وقطف حبتين ،أثمرت أربعة ،فصرخ ُمهلال:
الرعاة الثالثة منبهرين بما يروه من أشجار مثمرة وورود وبينما ُ
متباينة األلوان والرائحة وقعت عين القصير اللئيم على الفتاة والكوخ.
كان الكوخ يرتفع مترين ونصق املتر فقط عن األرضُ ،مغطى
َّ َ
أزهار حمر ٌاءٌ بالكامل بنبات الل ْبال ُب املتسلق أزرق اللون ،تتخلله
خيمت ظالل شجرة ُتفاح عمالقة حتى ّ
أن وبيضاء وأرجوانية .من فوقه َّ
ٌ
ٍ ٍ
ثمارها الناضجة الساقطة فوقه غطته ً
تماما .كانت الفتاة الواقفة أمام
َّ ً
مشابهة ً ُ ً
الذهبية وقتما تماما من الحمامة الكوخ قد أصبحت نسخة
هيئة بشرية .نحيفة ،لكنها يافعة ،ضاججة باألنوثة، ٍ تجسدت في
87
أنذهبي اللون ُمنسدل من الرأس حتى أخمص القدمينَّ ،إال َّ شعرها ُّ
ُ ّ
هل ،وكانت بشكل مذ ٍ
ٍ عيناها بقيتا كما هما ،أرجوانيتان ُمضيئتان
مصنوع من أوراق الشجر .إندفع الرعاة نحوها ،تدفعهم ٍ بكساء
ٍ ُملتفة
ظنا منهم َّأنهم بذلك الرغبة في أخذها ُعنوة إلى منازلهم في مدينة نينويً ،
كنز ثمين سوف سوف يستولون على واحتها السحرية التي اعتبروها ٌ
ً
ُيضر عليهم أمواال ال حصر لها من بيع الفاكهة التي ال تنضب.
ُ
أبدت الفتاة في باديء األمر بعض املقاومة ،لكنها كانت مقاومة
خجولة ،سرعان ما رضخت لهم فيما بعد ،ورافقتهم دون أن ُتبدي ّ
أي
تماما ،موقنة َّأنها في النهاية سوف تكون في خوف أو قلق ،كانت ثابتة ً ٍ
أمان .وأنقسمت الحمائم املفزوعة ملجموعتين ،واحدة تتبعت الفتاة
ُ
وأخرى توجهت صوب النهر تحاول إستدعاء الحمامة الذهبية كي
َّ
توقف أو
ٍ تحوم في مكانها وهي ُتنوح دون ّ
تنقذها ،وظلت كل مجموعة ِ
ميتا من شدة الجوع والعطش احة ،حتى أن بعضها كان يسقط ً
ر
والتعب من الطيران املتواصل ،فأمتلئ سطح مياه النهر بالحمائم
الرعاة قبل أن تمتليء نينوي بأكملها امليتة ،وكذلك أمتليء سطح منزل ُ
الرعاة يتخيلوا أن إخراج الفتاة من بأجساد الحمام امليت .لم يكن ُ
ُ
الواحة بمثابة خطيئة ،فما إن أب ِعدت عن واحتها ،جف نبع املاء،
فتوقفت املياه عن التدفق في جدولها ،وماتت األشجار وسقطت جميع
ً
واحد فقط ،ليس ألنقطاع املاء عنها ،فلم يوم ٍ ثمارها تالفة في أقل من ٍ
ُ
تكن تروى من املاء ،بل من السعادة والبهجة والطمأنينة التي كانت
تنبعث من الفتاة خاصة وأن الواحة بما فيها قد خلقت ألجلها ،وعادت
88
الرعاة منمرة أخرى إلى صيغتها األولى .في اليوم التالي ،خرج ُ الواحة َّ
منازلهم وتفاجئوا بجثث الحمائم الساقطة على األرض في كل مكان،
لكنهم لم يأبهوا لألمر ،تحركوا صوب الجبل ،وتسلقوه ،وهرولوا صوب
ّ
الواحة وقد تجهزوا لقطاف فاكهتها والعودة بها إلى السوق ،إال أنهم
وش َها ،وجن جنونهم وذهلوا ً َ َ ٌ ََ ُ ُ
تماما صعقوا عندما وجدوها خ ِاوية عل ٰى ع ُر ِ
َّ
ِملا رأوه ،فوقفوا شاعرين بالخيبة والغضب ،واتفقوا فيما بينهم أن
كعقاب لها.
ٍ يبيعوا الفتاة في سوق مدينة نينوى العظيم
خالل إسبوعين حزنت الفتاة على الحمائم التي تموت كل يوم
الرعاة لذلك أو يتفهموا أسبابه، وتسقط من حولها دون أن يأبه ُ
وحرصت الفتاة على إخفاء سوارها السحري طوال الوقت ،لم تكن
َّ ُ
الذهبية طريقة تعرف كيف تستخدمه ،فلم تعلمها الحمامة
إستخدامه أو التعاويذ التي تحتاجها لذلك ،على الرغم من َّأنها كانت
تترد ُد عليها لتزورها في النهار الذي يلي ليلة اكتمال القمر من كل شهر،َّ
السوار والتعاويذ دائما أن موعد تعليمها طريقة إستخدام ِ َّإال َّأنها رأت ً
ُ
املستخدمة في ذلك لم يأتي وقتها بعد.
الرعاة األربعة في صبيحة اليوم األول من اإلسبوع الثالث ،اقتادها ُ
إلى السوق ،وكان ذلك اليوم يوم موسم للزواج الذي ُيقام كل عام،
حيث تجتمع في السوق الكبير جموع الشبان والشابات قادمة من كل
ُ
شاب عروس تشاركه حياته ،أو ينتقي كل نواحي اململكة ،لينتقي كل ٍ
كهل صبية يحملها إلى داره فيربيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها أو
ٍ
89
ّ
تغص بالشيوخ، عروسا ألحد ابنائه .كانت ساحة السوق ً يقدمها
ُ
الكهول والشبان ،تجار ومزارعين وحراس ومقاتلين .دخل الرعاة
بالفتاة وكان الراعي القصير قد لثمها بطريقة أخفت وجهها ً
تماما
ألخفاء جمالها األخاذ وعينيها الالفتة لألنظار ،على أن يكون ذلك اللثام
ً
خافيا لوجهها حتى اللحظة املناسبة حيث يعرضونها للبيع.
اللحظة التي سها فيها
ٍ جلس الرعاة مع الصبية في أول الصف ،وفي
ُ ً
واحدة أن تميز َّأن ُه
ٍ نظرة
الرعاه عن الفتاة رأت رجال إستطاعت من ٍ
ً ً
صالحا ،خاصة عندما هفا قلبها إليه ،فقامت بكشف عينيها له رجال
ً
ونظرت في عينيه ُمباشرة.
كان الرجل ُيدعى سيما ،وهو القائد املسؤول عن خيول امللك
عقيما ال طفل له ،وهفا قلبه إلى سيمورامات من النظرة ً شمش ي .كان
األولى ورغب في تبنيها.
الرعاة وساومهم على ثمنها وقد عزم من اللحظة األولى علىدنا من ُ
مهما كلفه األمر ،عندما حاول الراعي القصير أن يستغل رغبة شرائها ً
تماما في عينيه ،قال له سيما(( :سوف أحصل على الرجل الواضحة ً
الفتاة حتى لو كلفني ذلك شقك لنصفين أيها الخنزير البغيض)).
ّ
تحوم فوق الفتاة ،وماتت
تلك اللحظة سقطت آخر حمامة كانت ِ
من فورها ،فتوجس أحد ُ
الرعاة خيفة وهو يتطلع في الحمامة ويتذكر
الحمائم التي رءآها طوال األيام املنصرمة ساقطة على األرض ميتة،
فهمس للبقية أن هذه الفتاة ملعونة وذكرهم بالحمائم امليتة في كل
90
مكان في نينوي ،وكذلك ما حدث للواحة ،وقال لهم(( :لو لم نتخلص ٍ
ً ً
منها اآلن قد تكون سببا في موتنا جميعا)) .كان توجسه هذا سببا في أن
تمت الصفقة في لحظتها،
عاد بها الرجل إلى منزله .ما إن رأت زوجته الفتاة ذات الجمال
ً ً
الرائع حتى هفا قلبها إليها ،وفرحت فرحا غامرا واعتنت بها عناية
ُمضاعفة ملدة إسبوعين ،فخرجت بها إلى األسواق ،تبضعت ألجلها
َ
والح ِل َّى ،فألبستها فساتين من الحرير والك َّتان املطرز أفضل األقمشة ُ
ذهبية وزينتها بالذهب والجواهر ،فاستدارت الفتاة وبرزت َّ بخيوط
ٍ
ُّ
أنوثتها كأجمل ما تكون النساء ،وذاع صيت جمالها بين التجار في
َّ
السوق والعامة في الشوارع وجيران القائد سيما ،إال أن سيرتها انتشرت
يوما ما ِمن سوق نينوي وذاع صيتها بشدة في املدينة ،عندما خرجت ً
ُ
ترافقها خادمتين وحارسين عينهم لها القائد سيما ،ورأت أناس
َّ
محمرة ُمشردين أصابهم املرضَ ،شعرهم قذر ولحاهم خشنةُ ،
أعينهم
َّ َّ
مشققة َّدامية ،وبينما اشمئز الناس منهم بشدة وشفاههم جافة
ظنا منهم أن االلهة قد لعنتهم ،دنت سيمورامات منهم، وتجنبوهم ًّ
َّ ْ
وكانت فيما بينهم طفلة صغيرة شعرها ُمغ َب ٌّرِ ،وات َس َخ جسدها بشدة،
احم َرا ٌر دامي ،ووجنتيها ملتهبة من كثرة ُ ْ ُ َْ
البكاء ،فدنت ِوفي مقل ِت ِه عينيها ِ
منها مدفوعة برقة قلبها ومنجرفة خلف عاطفتها .جلست أمام الفتاة
نابعا من داخلها يخبرها أن همسا ًمباشرة ،وفي تلك اللحظة سمعت ً
َّ
ترتدي السوار في معصمها ،فاستغربت األمر ،ولم تفعله .إال أن
السوار)).
السوار ..إرتدي ِ الصوت تردد مرة أخرى(( :إرتدي ِ
91
ُ
الصوت قلق ونهضت وهي تتراجع للخلف ،فهمس هزت رأسها في ٍ
السوار ،إرتدي السوار)). ُ َّ ً
فيها مجددا(( :الخير بالخير ..إرتدي ِ
لثوان معدودة ،فقال أحد حارسيها وهو ينظر
ٍ توقفت بمكانها
بأشمئزاز إلى الطفلة(( :سيدتي ..إنهم مرض ى ..ملعونين)) .فهمس
الصوت َّ
وتردد فبداخلها في نفس اللحظة(( :الخير بالخير ..إنقذي
الفتاة)).
السوار من بين طيات مالبسها إلتفتت سيمورامات وهي تخرج ِ
َّ
وسط ترقب كل من حولها من الحراس والعامة ،وملا ِارتدته سمعت
مسد بأصابعها فوق جباه الفتاةالصوت مرة أخرى يهمس لها بأن ُت َّ
ووجهها وهي تقول(( :بيليجيريرو)) ،ففعلت.
برأت الفتاة املشردة على الفور من مرضها وعاد وجهها وجه ٍ
طفلة
مسدت على مض يء .انتقلت سيمورامات إلى البقيةً ،
واحدا تلو آخرَّ ، ِ
ً ُ
جميعا جباههم وأيديهم بذات الطريقة وهي تلقي نفس التعويذة ،فبرأوا
مما أصابهم وعادوا أصحاء ً
تماما.
كانت جموع الناس في السوق تتجمع حولها وتترقب ما يحدث،
َّ
وصاحوا مهليين ملا رأوه وظنوا َّأنها من اآللهة وبعضهم أطلق عليها لقب
الساحرة.
في أواخر أصيل اليوم التالي ،شقت الحمامة الذهبية مياة النهر،
ً
مكروها وتفاجئت بجثث الحمائم الطافية على سطحها ،فعلمت أن
92
ّ ُ ً
الدورية املعتادة أصاب الفتاة ،طارت مباشرة صوب الواحة في زيارتها
من كل شهر ،وما إن وصلت ،وجدتها خاوية على عروشهاُ ،م ّ
دمرة،
ً ُ
مكروها أصابها ،واغرورقت عيناها فأيقنت أن الفتاة أخذت منها ،وأن
تحوم فوق الجبل ُمكذبة نفسها قبل أن تهبط بأتجاه بالدموع وهى َّ
َّ ّ ُ
وتتخذ هيئتها البشرية .وملا كانت غاضبة فإن هبوطها بدا األرض ِ
شديد للغاية جعل األرض تهتز أسفل قدميها والحص ى مع بقية ٍ كأرتطام
ٍ
مسموع
ٍ بصوت
ٍ األزهار التالفة من حولها أخذ يتطاير .كانت تزفر
ُ ُ
األرجوانية التي تض ُي تكاد من فرط الغضب تشع نير ًانا.
ّ وعيناها
ً ْ
جلست على إحدى ُّرك َبتيها مقتربة من األرض وبسطت كف يدها
عليها .على الفورُ ،عرض لها داخل عقلها ما حدث في الواحة منذ
غادرتها اخر مرة ،فرأت الحمائم وهي ترقص مع الفتاة ويلتفون معها
حول األشجار ويتقاذفون فيما بينهم حبات الفاكهة املتنوعة ،ورأت
ُ ً
كيف َّأنها أصبحت في شهرها األخير فتاة يافعة تشبهها تماما قبل أن
كل ش يء .عندما ُعرض لها الراعي القصير ،وهو الرعاة ويخربون ّ
ِ
يأتي ُ
شديدة ويأخذها
ٍ بقسوة
ٍ بيده الخشنة على معصم الفتاة اللين
يقبض ِ
ُّ َْ ً ً
بقوة أسقطتها أرضا على ركبتيها فجرحتا ،غضبت عنوة ويدفعها أمامه ٍ
مدوية كالتي أطلقتها يوم فاض النهر بشدة ،وأطلقت صرخة غاضبة ّ
وسمعت نينوي بأكملها تلك الصرخة .في تلك اللحظة إتخذت هيئة
مرة أخرى ،وطارت للسماء ،هذه املرة لم تقصد مياه َّ
الذهبية َّ الحمامة
َّ
النهر بل قصدت مدينة نينوي نفسها ،وظلت تتجول فوق املدينة من
أقصاها إلى أدناها حتى شعرت بقلبها يخفق بشدة ،فعلمت أن الفتاة في
93
ْ
قريب منها ،إذ كانت مؤمنة أن ما نبحث عنه بالقلب يمكن ٍ مكان
ٍ
ً
إليه دائما مهما غادرنا وابتعد .وما إن عبرت فوق منزل القائد ُ
اإلهتداء ِ
حددسيما شعرت بقوة السوار السحري يؤثر عليها واستطاعت أن ُت ّ
ِ ِ
مكانه ،فهبطت من فورها فوق املنزل ،ولم تبدل هيئتها ،خاصة عند
روأيتها الفتاة جالسة أمام زوجة القائد سيما ،واألخيرة تقوم بتصفيف
ستانا من الحرير األزرق وعلى رقبتهاشعرها .كانت الفتاة مرتدية ُف ً
ذهبية مطعمة باألحجار الكريمة رائعة الجمال ،وحول معصمها قالدة ّ
ٌ
وقدميها حلى من الذهب ،وعلى شفتيها املدبوغة بحمرة الرمان إبتسامة
مأ ّن فؤادها ً ْ َ ٌ ٌ
تماما وابتسمت عند رؤيتها صافية نابعة من القلب ،واط
القائد سيما يدخل عليهما ُم ً
بتسما ويدنو منها ليقبل جبينها.
هفت ِّريح باردة علىقرب إنتهاء الليل ،مع مغادرة القمر للسماءَّ ،
والدردار الصنوبر َّ
والت ُّنوب َّ محملة برائحة َّ الشرفة من بين األشجار َّ
والتوت املحيط باملنزل ،فاستنشقها الكاهن كاي تاي الذي توقف عن
ً ً
مدفوعا برغبة عارمة في الحصول على بعض الراحة. الحديث فجأة
كان نياخ هاو وشبسكاف باألضافة إلى حتبت رع والسيدة كاريسا
َ
قد ق َّل تناولهم للطعام بعدما اوشكوا على الشبع ،وأشارت كاريسا إلى
السيدة رَّيانة الجسد التي كانت ما تزال واقفة قرب الباب ،طالبتها
باستدعاء الخادمات الثالثة من أجل جمع األطباق وتنظيف املائدة ،في
اللحظة التي َم َألت فيها كأس من َّ
النبيذ عن آخره وقربته من زوجها. ٍ ِ
دلفت الخادمات من الباب ،وبدأن في جمع األطباق ،في تلك
94
ً
هامساُّ :
((أيهما مال شبسكاف برأسه على حتبت رع وسألها اللحظة َ
َّ ُ ُ
الذهبية أم الفتاة!)). تفضلي أن تصبحين؟ ،الحمامة
بقطعة كبيرة من لحم ُّ ً ً
الديوك تأكل فيها، كانت حتبت رع ُممسكة
وه َّزت رأسها وزفرت وضعتها على املائدة بعنف ونظرت إليه بطرف عينها َ
ٍ
وهي تقول(( :اريد أن أعرف أين كنت ليلة معبد العرافات .)).. ..
ً ُ ًّ
كمال عبارتها قائال(( :أو سأقتلك يا شبسكاف)). وقاطعها شبسكاف م ِ
وابتسم من أعماقه وهو ينظر في عينيها وراح يتذكر َّ
املرة األولى التي
أخبرته فيها بتلك الجملة.
ً ً
سنوات بعد ،عندما تركها ٍ صغارا لم يتجاوزا العشرة كانوا أطفاال
ً
الن َف ُق األرض ي وحدهم ،قاصدين أرض نائمة ودلفوا إلى َّ ونياخ هاو
املعابد ،ليستمعوا قصص السحر واألساطير القديمة من الكهنة.
َ َ
ستفاقت من النوم ،واكتشفت أمر ذهابهما من دونها ،شق عندما ِا
ُ َ َّ
تجلس وحدها ،فذهبت ِمن خلفهم عبر النفق األرض ي ،ولم عليها أن ِ
تأبه لكونه شديد الظالم والوعورة ،فضاعت فيه.
متأخر من اليوم نفسه ،عاد نياخ هاو وشبسكاف ،وغابت ٍ وقت
في ٍ
َّ َ َ
حتبت رعِ ،واستم َّر غيابها عشرة أي ٍام كاملة ،طوال خمسة ٍ
أيام منها
ّ
األن َف ُ
َّ
األرضية اق بحثوا مع عائلتهم عنها في كل مكان ،حتى َّأنهم دلفوا إلى
ُ
املحرمة ،وتوغلوا في متاهة األنفاق املليئة بالفخاخ الهندسية ،فعبروا
النيران وقفذوا من بين السهام املنبثقة من الحوائط وتفادوا قوافل
العقارب وتجمعات الحيات القريبة من أسوار مدينة هامونابترا ،مدينة
95
اآللهة السحرية واملخبأة أسفل أرض ممفيس ،ولم يجدوا لها ّ
أي أثر.
جميعا َّأنهم فقدوها لألبد ،وحده شبسكاف ّ
ظل ً في النهاية ّ
ظنوا
ً
وقت ما ،حتى َّأنه كان َّ
ُمتمسكا بفكرة أنها ما تزال بخير وسوف تعود في ٍ
جالسا ينتظر ً يذهب كل صباح إلى فوهة النفق ويظل طيلة اليوم
بصوت
ٍ أسه داخل النفق ويناديها عودتها ،كان من آن آلخر ُ
يميل بر ِ ٍ
واهن(( :حتبت رع ..حتبت رع)) كان يكرر النداء مرتين قبل أن يختنق ٍ
صوته في املرة الثالثة وتحل الدموع محله.
ً َ
جالسا في اليوم العاشر لغيابها ،وقت األ ِصيل ،كان شبسكاف
ظن َّأنه سمع كعادة كل يوم قرب فوهة النفق األرض ي يأمل عودتها ،و َّ
ٍ
أسه ينظر داخل النفق ،وتفاجأ بها صوت وقع أقدامها يقترب ،فمال بر ِ
أمامه ُمباشرة ،فصرخ ،وأجتمع الناس.
ّ ً َّ َّ ً
متأنقة ،إال َّأنهم وجدوا جسدها كانت نظيفة مصففة الشعر ِ
مليء بلدغات العقارب والحيات التي ال يمكن ألي أنسان أن ُيصاب بها
أبداأبدا كيف حدث ذلك ولم ُتفصح ً وينجو ،بيد َّأنها نجت ،ولم ُيعرف ً
عما حدث لها أو ما رأته طوال العشرة أيام التي قضتها تائهة في األنفاق. َّ
عندما خرجت من النفق كان شبسكاف ما يزال يبكي وعيناة متورمتان
كثيرا ،اكثر حتى من شقيقها نياخ هاو، من شدة البكاء ،كان يبكي ً
مرة أخرى ،سوف أقتلك يا فاقتربت منه وقالت(( :إذا بكيت َّ
شبسكاف)) .ومنذ ذلك اليوم رددتها مئات إن لم يكن االف املرات ،وكل
ُ
مرة كانت تقال تكون بدافع خوفها عليه ،حتى َّأنها أصبحت بمثابة
96
ُ
أحبك يا شبسكاف.
مسموع
ٍ بصوت
ٍ قاطع نياخ هاو شرود صديقه عندما تسائل
بنبرة ُمستغربة(( :امواج على هيئة بشر تتقاتل ،وبيضة كبيرة مشوب ٍ
ٍ
ّ ّ
تتخذ هيئة بشرية!! .)) .. ..
تختطفها حمامة ،وحمامة ذهبية ِ
موضحا(( :هاروت وماروت آلهة السحر ،استوطنا ً قاطعه الكاهن
َّ ً
أعماق األنهار بعيدا عن البشر منذ االف السنين ،إال أن أبنتهم
الحمامة الذهبية وقعت ذات يوم في حب أحد آلهة البشر ،وحملت منه
فلما قوبل حبها بالرفض وحكم عليها َّأال تغادر املاء َّإال ً
يوما طفلةَّ ،
َّ ُ ً
واحدا من كل شهر ،أرادت أن تخرج طفلتها من تحت املاء ،إال أنهم
منعوها ،فلفظت الطفلة على هيئة بيضة كبيرة القتها على سطح ماء
خفض الكاهن رأسه بجمود َ َّ
تطمأن عليها)). وقت الخر
النهر ،وزارتها من ٍ
كم ُل َّ
بقية َّ ً ُ ّ َّ
بعد أن فرغ من شرب كأس النبيذ واسترسل مجددا ي ِ
ً
الحديث .قائال:
وقت
لم تحظى سيمورامات التي أصبحت شابة يافعة بالراحة ل ٍ
ْ
طويل بعدما استقرت في بيت القائد سيما ،إذ وش ى أحدهم بقصتها
للملك اإلله شمش ي حاكم أرض آشور ،ولم يكن أول أو آخر من يذكر
الفتاة في مجلس امللك الذي لم يستطع منع نفسه من البحث عن
الفتاة الساحرة ذات العيون األرجوانية كما تتحدث عنها وتصفها
حرا ً ً
رجال ًّ
قويا ال مدينة نينوي بأكملها .وكان يعرف أن القائد سيما
ُ ٌ ٌ يهاب ً
أعداد غفيرة ال يستهان بها ،وخطر أحدا ،غير أن ُمحبيه في املدينة ُ
97
ُّ
بعقله َّأنه قد يرفض الحضور بالفتاة إن ط ِلب منه ذلك ،فتوجه
َّ بنفسه ير ُ
افقه ً
عددا من الحراس إلى منزل القائد ،وملا رأي الفتاة هفا ِ
قلبه لها من اللحظة األولى ،فعرض على القائد سيما أن يزوجها ألحد
ود َّع َم رفضها القائد كما توقع امللك .مما جعله أبناءهَّ ،إال َّأنها رفضت َ
ْ
يشعر بالسوء ،وِاش َت َّد َح َن ُق ُه عندما أمر القائد سيما ُح َّراس امللك
مكان آخر غيربالخروج من منزله وأمر زوجته أن تصطحب الفتاة إلى ٍ
َّ
فاستل ً
غضبا، الذي يقف فيه امللك ،بيد أن امللك شمش ي ِاستشاط
أرضا وبحركةالسيف من الحارس الواقف إلى جواره وألقى الغمد ً َّ
ومررها عليها ،فسالت النصل على رقبة القائد سيما َّ وضع حافة َّ سريعة َ
َ الش ّق الذي َ َّ ً ّ
صنعه في رقبته وأغرقت الفوالذ قبل أن الدماء قانية من ِ ِ
ً
تسيل على جسد القائد الذي سقط أرضا على الفور .صرخت زوجة
القائد واندفعت على زوجها ،فقابلها امللك وأسكن نصل السيف في
ً
قلبها مباشرة.
((ال))
شديد قبل أن يكتم أحد الحراس فمها ٍ بفزع
صرخت سيمورامات ٍ
بيده ،فأزاحت يده ودفعته بقوة شديدة وهي تصرخ(( :ال ،ال ُيمكنكم
ْ َ َْ
وجثث ُت على ُرك َب َت ْي َها بين جسدي القائد وزوجته وهي أن تفعلوا هذا))،
َّ َّ
ثوان قليلة لتعويذة الشفاء
ال تعرف ماذا تفعل ،إال أنها اهتدت بعد ٍ
التي تعلمتها يوم السوق ،فمسدت بيدها جبين القائد وهي تقول
بصوت ممتليء بالدموع(( :بيليجيريرو))َّ ،إال أن ً
شيئا لم يتغير ،فكررت ٍ ٍ
98
اش ودموعها كالسيل ٍ ََُ ّ ً ْ َ مرة أخرى إلقاء التعويذة َّ
بصوت متق ِطعا ِفي ارِتع ٍ
تترقرق على وجنتيها ،وخاب رجاءها عندما رأت القائد وزوجته قد
أصبحا جثتين هامدتين وتبللت راحة كفيها بدمائهما.
َ َ قال امللك ُ
ٌ
لحارس للح َّراس(( :أ ْح َرقوا املنزل بما فيه)) ،وأشار
بعينه وأمره وهو يلتف ُم ً
غادرا(( :أحضر الفتاة)).
أمسك الحارس ذراعها ليسحبها إلى الوراء ُيبعدها عن جثة القائد
ً َّ ُّ وزوجتهَّ ،
التملص من قبضته والجلوس قرب وتلوت الفتاة محاولة
َّ
الجثتين ،إال أن الحارس قبض بشدة على معصميها فاستسلمت له
سرت في جسدها قشعريرة ودب في روحها الفزع. وقد َ
100
فوجدت َ فتحت سيمورامات عينيها في وقت متأخر من املساءَ ،
ٍ ٍ
ً ً ً َ ُ ْ َْ
اش كبير ،استيقظت دفعة واحدة شاعرة بوخز نفسها مستلقية في فر ٍ
َ
الفجر قد بزغ ُ في أعصابها َّكلها ،وللحظة لم تتذكر أين هي .لم يكن َ
َّ
بعد ٍ
ّ ُ َّ َ ً ً ُ َ
بالدفء تحت أغطيتها، فوجدت الغرفة مظلمة باردة ،وإن ظلت تشعر ِ
شديدة دبت في جسدها عندما اكتشفت غياب ِسوارها ٍ برودة
ٍ بيد أن
ٌ
السحري ،فأنتفضت عن فراشها ووقفت شاعرة بالفزع والضياع ال
ً َّ
تعرف ماذا تفعل وأين تذهب ،إال َّأنها أطمأنت قليال عندما ِاقتربت من
كتمال في السماء ،مما يعني أن حمامتها ا َّ ُ ً
لذهبية النافذة ورأت القمر م
قريباَّ ،إال أن شيئا من القلق على ِسوارها السحري ّ
ظل ً سوف َتظهر ً
قابعا على قلبها. ً
ً
تلك اللحظة ،دلفت من الباب خادمة بترولية البشرةَّ ،ريانة
ٌ َّ
شاحب،ٌ ووجه الجسد ،إال َّأنها هزيلة النهدين للغاية ،لها عينان ذابلتان
دافئا لها .نظرت سيمورامات إلى عشبيا ً
ً ً
مشروبا حملت في يدها وقد َّ
الكأس في يدها بأرتياب ،فطمأنتها الخادمة التي دنت منها وقدمته لها
حاده فلم تستطع أن تبتسم، بلطف شديد َّإال أن مالمحها كانت َّ
ٍ
وأشارت سيمورمات إلى معصم يدها دون أن تتكلم ،ففهمتها الخادمة
التي قالت(( :السوار!)).
هزت سيمورامات رأسها على الفور(( :نعم)) .فأبتسمت الخادمة َّ
ٌ ٌ
إبتسامة هزيلة ومالت ومدت يدها بين طيات الفراش التي كانت
السوار.
تستلقي فوقه سيمورامات وأخرجت ِ
101
ُ
تلك اللحظة ،سمعوا صوت وقع أقدام يقترب ،وبينما تخفي
ٌ
سيمورامات ِسوارها ،دلفت من الباب خادمة أخرى ،قالت للخادمة
َّ ً ُ
مرة أخرى وقد إرتفعت حرارتها ((طفلتك عادت للبكاء
ِ ّريانة الجسد:
بشدة)) .ترقرقت دمعة حزينة على وجه الخادمة َّريانة الجسد وهي
ٌ
مكسوة بالحزن بمالمح
ٍ تستأذن سيمورامات وانصرفت ِمن أمامها
مكسورة الفؤاد على صغيرتها التي إمتنعت عن الطعام قبل إسبوعين
ُ
كاملين بعدما جف الحليف في ثدي أمها.
ّ
الذهبية ماء النهر، في اليوم التالي ،وقت األصيل ،شقت الحمامة
متوجهة صوب منزل القائد سيماّ . ً
لدى وقطعت الغيوم في السماء
لُ ً
حترقا ُم ً
تفحما ،والحظت بعض العامة يمرون وصولها تفاجئت باملنز م
أمام املنزل ويقفون حوله يتفقدوا حجم الدمار ،بعضهم يمش ي على
َّ َّ
األقدام ،وبعضهم يركب الخيول والبغال ،إال أنها لم تأبه ٍ
ألحد منهم
غضب ُمتأجج داخلها َّ
وأتخذت هيئتها ٌ ً
عموديا يدفعها عندما هبطت
البشرية قبل أن تصل لألرض بعدة أمتار .اصطدمت باألرض ،توقفت
وسط الدمار والرماد الذي تبقى من املنزل ،ففزع الناس لهبوطها
واصطدامها باألرض الذي جعل األنقاض تتطاير من حولها .كان صبرها
قد نفذ ،فلم تتفقد املكان ،جلست فور هبوطها على ُركبتيها وبسطت
راحة يدها على األرض بعد أن أغمضت عينيها ،فبدأ ما حدث ُيعرض
ً ًّ
مدوية ،فدب الهلع في املدينة ،وطارت لها داخل عقلها .صرخت صرخة
ً َّ
مرة أخرى في السماء ،توجهت مباشرة صوب قصر امللك اإلله شمش ي.
102
حومت فوق القصر تستطلعه بعينيها األرجوانيتان ،فرأت َّ
سيمورامات بخير لكنها محتجزة في غرفة ال تفارقها ،ورأت خادمات،
وحراس ،وامللك وأبناءه قرب العرش ،ورأت سحرة امللك األربعة الذين
شعروا بقوتها على هيئة طاقة تسري في املكان.
ُ
هبطت إلى نافذة الغرفة املحتجزة فيها أبنتها ،رأت فتاة وأمرأتان
خدمان على سيمورامات ،إحداهما كانت ُتمشط شعرها واألخرى ُت ّ
ِ
ُ ُ
تعتني بأظافرها ،والفتاة الصغيرة تمسك لها مرآة تساعدها على رؤية
ُ ّ ً ْ
صفف وجهها جيدا .إذ كان ظهر إبنتها إليها ،وحجب جسد املرأة التي ت ِ
ً َّ
جيدا ،إال َّأنها إستطاعت رؤيتها بطريقة مشوشة في لها شعرها رؤيتها لها
ً
أصواتا ناعمة تصدر مرءآة الفتاة الصغيرة الواقفة أمامها ،وسمعت
منها لكنها هزيلة حزينة مشوبة بالخوف ،فأدركت أن روحها تتألم.
َّ
فعلقادرة على ِ
ٍ لدقائق بعينين ُمتسعتين من القلق غير ٍ راقبتها
ش ٍيء لها .في تلك اللحظة همست لها في روحها ((سيمورامات ..
تماما ..النافذة)).خلفك ًِ سيمورامات ..انظري ..
ببطء تصفف لها شعرها ،والتفتت ّ
ٍ ازاحت الفتاة يد املرأة التي ِ
تهم واقفة وتتحرك صوب النافذة. شديد يشوبه إستغراب قبل أن ّ ٍ
ً
لذهبية نفسها للفتاة الصغيرة جاعلة َّأياها تراها حتى أظهرت الحمامة ا َّ
ُ ُتطمأن قلبها ،وتواصلت معها ً
مرة أخري أخبرتها(( :ك ُّل ش ٍيء سوف ذهنيا َّ
قريبا ً
قريباً ،
ملساعدت ِك ً ُ
جدا)). يكون بخير ،هناك من سيأتي
ٌّ
َّ
والصوت طارت الحمامة ،وكان ُهناك صف من النوافذ تحتها،
103
نافذة على هذا الجانب التي تطير جهته ،حيث قاعة ٍ خرج من ِآخر َي ُ
ُ َ
العرش .هبطت قرب خصاص نافذة ،وسمعت َّثمة امرأة تقول(( :ك ّل
موعد للزفاق))ّ .رد اإلله شمش ي ٍ ش ٍيء أصبح جاهز ،بقي فقط تحديد
جالسا فوق العرش(( :سوف يكون ليلة إكتمال القمر في ً الذي كان
دورته القادمة)) .قالت املرأة(( :كما ترى جاللة اإلله)).
تلك اللحظة ،تنهد الكاهن كاي تاي وهو ُيضيف :كانت الحمامة
الذهبية قد فقدت جزء كبير من قوتها بتخليها عن ِسوارها السحري َّ
فائقة بسرعة أن ذلك لم يحرمها من شق السماء والتحليق ألبنتهاَّ ،إال ّ
ٍ ٍ
َّ
سحري ٍة ال يوقفها ش يء. كحمامة
ٍ
والنهار إقترب ِمن فرض نفسه نسحبا ببطء ًَّ ولى ُم
كان الليل قد ّ
الداكنة ،في بالفعل ،والسماء بدأت تكتسب ُزرقة مياه البحر العميق َّ
ِ
َّ ً ُ
بملل ممض وإعياء سببه له الوقت الذي ِإستحوذ على الكاهن شعور ٍ
ُ
عضلة في جسده تؤ ِمله، ٍ الجلوس طوال الساعات املاضية ،شعر بكل
ملجرد التفكير في ُمغادرة َّ والتوت مالمحه َّ َ وكتفاه وضلوعه كذلك،
َّ
الشرفة دون إكمال قصته ،ولكنه يتألم ،وليس في وسعه إال اإلنصراف
وقت آخر. بقية ما لديه في ٍ اآلن على أمل أن ُيكمل لهم َّ
ِ
َّ ً َ ً
مرة كانت حتبت رع تترقب تحركاته أ ِّملة إسترساله في الحديث
نس َح َب ألعلى في مقعده ففهمت َّأنه سوف ينهض ،فتسائلت أخري ،وِا َ
َّ
فائقة! فاااا!! ..ماذا ٍ بسرعة
ٍ لهفة حائرة وهي تنظر إليه(( :وحلقت في ٍ
بعد؟)).
104
فهمها الكاهن الذي حاول أن يبتسم في وجهها أو َّأنه إبتسم
ً
تماما ،ورغبت في معرفة ستحوذا عليها ً بالفعل ،كان يعي أن الفضول ُم
ُ
ما بعد ذلك ،وخذل تطلعاتها عند إشارته بيده للخلف حيث السماء
فانقلبت سحنتها ً انظريَ ، ُ
حنقا َ الفجر ًي ُبزغ)). وهو يقول(( :لن أفعل،
ً
فتبسم ُمجددا وهو َّ َّ صطنعا وهي تقول (( :ال أستطيع االن ِتظار)). ً ُم
ً ُ ُيغادر مقعده ّ
بكلمة واحدة، ٍ خارجا ترافقه زوجته دونما أن ينبث وهم
شديد َبداٍ بأعياء
ٍ ً
شاعرا ومن خلفه غادر نياخ هاو هو اآلخر ،وكان
بكلمة واضحا في مالمحه وهو يشير لها وشبسكاف بيده دونما أن ينبث ً
ٍ
ً ً واحدة فقد كان يومه في قلعة القصر اإللهي ً
يوما طويال وثقيال ورغب
في أن يستريح.
ً ُ
قلقتبقت حتبت رع التي وقفت وراحت تتطلع شاردة بعينيها في ٍ
ُ
وخوف بديا واضحين في مالمح وجهها مع الحيرة وهي تمعن النظر ِملا ٍ
كالذهب وورديٌّ َّ َ َّ َ ّ
وراء خ ِط األشجار إلى الشرق حيث الح وهج شاحب
كاملحار.
دائما دونما أن دنا منها شبسكاف ،وكان يشعر بما يدور في ذهنها ً
فيه، ُ
تبوح به ،وقف إلى جوارها يتطلع في شروق الشمس كما تتطلع ِ
َّ ٌ
خفيض وعينه ُمعلقة على الشمس التى تولد(( :أنا ُهنا، بصوت ُ ٍ ٍ وقال
َ ٌ ُ َ ّ ُّ َ ْ كالشمس ً
لك الحياة)) .في محاولة منه لبث الطمأ ِنينة في دائما ،أض يء ِ
َّ
روحها ،إال َّأنها فاجئته بقولها(( :وهذا ما يقلقني)).
ً ً التفت إليها ُبركن ُ
ستغربا أو قد يكون مصعوقا ،ال يفهم عينه ُم ِ
105
املغزى من كالمها وهو الذي اعتاد فهمها دون كالم.
((مذ ُ هدوء ُمخيفُ :
ٌ ُ
جئت لهذه هادئة لكنه
ٍ صوت
ٍ فأضافت بنبرة
بأحد غيرك ونياخ هاوُ .يقلقني أن تكونا ُهنا وسط كل األرض لم أحظى ٌ
ُ
الهراء من القتل والحرق واللعنات)) .وظن ّأنها سوف تكمل حديثها هذا ُ
َّ
بمقولتها الشهيرة ،إال َّأنها خالفت توقعاته في هذه املرة ،فقد تملكها
فعليا ِواستحوذ على روحها فلم تستطع إلقاء ُدعابتها ككل مرة. القلق ً
مس شفتيها بسبابته لف شبسكاف وجهها بأطراف أصابعه وقد تعمد ّ
ٌ ٌ وهو يجعل وجهها بمواجهته ً
تماما ،وتراجع خطوة واحدة إلى الخلف
ُ
ُمم ِع ًنا النظر إليها ،لم يكن ينظر إلى حمالة فستانها الحرير األزرق
والوجنتين الشاحبتين من اإلرهاق والياقوته الحمراء عند َحلقها
إنما نظر فيارتسمت عليهما بسمة باهتةَّ ،َ َّ
والشفتين الحمراوين اللتين
جالسا على ركبته اليمنى ورفع وجهه ُم َّ ً
جد ًدا ينظر ً عينيها مباشرة وخر
لها ذات النظرة.
في هذه األثناء ،عاد نياخ هاو وكان قد نس َّي خنجرة على املائدة،
أرضا أمام شقيقته حتبت رع ،فتوقف عند وتفاجأ بشبسكاف الراكع ً
ستغربا ال يفهم ً
ً َّ
شيئا مما يحدث. الباب يترقب ُم
َ
لم ينتبها إليه ،فلم يكن ًّأيا منهما قد شعر بقدومه أو َرأه ،وأمسك
َ
لك برب السموات شبسكاف يد حتبت رع بكلتا يديه وقال(( :أقسم ِ
سوءا يمسسك ً
أبدا، ِ وجميع اآللهة واملعابدَّ ،أال أترك ً
ُ كلها ،برع وآمون
أسبقك إلى العالم اآلخر)).
ِ حتى لو كلفني ذلك حياتي وأن
106
إبتسمت من أعماق روحها وتناست خوفها وذهب عنها القلق.
ً تلك اللحظة ،دلف نياخ هاو من الباب ُم ً ا ً
صوتا ُمفتعال صدر
ً
قاصدا به تنبيههم بمجيئة وكانت عينيه تلمع اللمعة ذاتها في عين حتبت
((أقسم ََ رع ،وخر ر ً
لك اكعا على ركبته اليمنى أمام شبسكاف وهو يقول:
سوءا يصلك ً ً َّ بإله َّ
أبدا ما السماء واألرض وما بينهما ،أال أترك
أستطعت ،حتى لو كلفني ذلك حياتي أو أن أسبقك إلى العالم اآلخر)).
وهم يسحب خنجره من فوق الطاولة وأعاده في ونهض عن األرض َّ
غمده وهو ينظر إلى حتبت رع ويقول(( :إطمئني ..سوف نكون ُهنا
ً
دائما)).
غادر نياخ هاو الشرفة بينما ِإبتسم شبسكاف في وجه حتبت رع
جنبا إلى جنب، الشروق ً سويا ُيشاهدان ُّقبل أن ُيمسك يدها ويقفا ً
ِ
ال لون السماء في هذه اللحظة إلى أحمر وأصفر وأزرق وأخضر ِوا ْس َت َح َ
سرب من الحمام وسمعوا صوت طائر ٌ وبرتقالي ،ومر من أمامهما
َّ
الشرشور ُيغرد ،وملا خفق قلب شبسكاف بشدة وهفا لحتبت رع،
التفت إليها ،وأمعن النظر في عينيها العسليتين وكانت يده تتحسس
ثوان معدودات ارتسمت ِابتسامة على وجهيهما برفق شديد ،وبعد ٍ يدها ٍ
ُ
وشعر ك ٍ ّل منهما بالحميمة تجاه اآلخر ،بيد أن عين حتبت رع ِاتسعت
َّ ً
غضب لم يفهم شبسكاف مصدره إال عندما قالت: ٍ فجأة وزفرت في
ََ
((أين كنت ليلة معبد العرافات؟)) .وحاولت لك َم ُه في كتفه ،بيد َّأنه
ً َّ
أرضا ،إال َّأنه لحق بها تفادا لكمتها مما جعلها تتهاوى وكادت تسقط
107
ٌ ووضعها بين زراعيه لتصبح رأسها فوق قلبه ً
تماما وهو يهمس(( :فتاة
ُ ّ ً
مجنونة)) .قالت مبتسمة وهي ت َم ِلس على معصم يده املشعر بكثرة
ضعيف ُمستسلم(( :سوفٍ ناعم
بصوت ٍٍ ُ
وتهمس وتنظر في عمق عينيه
َ أقتلك يا شبسكاف)) .ولم ُتحاول أن تدفعه ً
بعيدا عنها ،دفنت رأسها في ِ
صدره واستنشقت رائحته كمن اعتلت سطح املاء اآلن بعدما كادت أن
ُ
تغرق ،ورفعت رأسها لألعلى ،فرأى شبسكاف وجهها عن قرب .كانت
اسا طويلة كادت أن تكون خرج منه أنف ًعيناها مغلقتين وفمها مفتوح َت ُ
جانب ورأسها يتحرك فوق َّ َ
ٍ جانب إلى
ٍ وتأرجح شعرها الذهبي من أهة،
صدره تحك أنفها في جسده.
عند نهاية وقت األصيل من اليوم نفسه ،ترجلت حتبت رع وحدها
التفاح التي تتخللها بعض أشجار التوت الخاصة بسيدها نحو بساتين ُّ
كاي تاي.
يوميا للسيدة كاريسا كما َّأنها
كانت ُمعتادة على جمع التوت البري ً
ً
بجزءا منه لشقيقها وبعناية تجمع الجزء األفضل أعتادت أن تحتفظ
لشبسكاف.
َ قبل غياب آخر شعاع َّ
للشمس وراء األشجار إلى الغرب كان ِ
ً ُ
شبسكاف قد تسلل إلى البستان باحثا عنها ،فمر بين صفوف األشجار
عينيه على أغراضها التي تجمع فيها
ِ ً
وأخير وقعت واحدة تلو اآلخرى،
ٍ
ُّ
التفاح والتوت.
شديد نحوها ،فوجدها وقد أسندت رأسها على جزع
ٍ ببطء
ٍ تسلل
108
ٌ
أنفاس شجرة توت بري .كانت عيناها مغلقتين وفمها مفتوح َت ُ
خرج منه
َّ َ َ ٌ
جانب إلى جانب ورأسها ٍ وتأرجح شعرها الذهبي من طويلة تشبه آهة،
يتحرك إلى اليسار واليمين على صوت سيمفونية هادئة مصنوعة من َّ
صوتا ما ،ألن عينيها انفتحتاأصدر ً َ حفيف أوراق األشجارُّ .
والبد أنه
ً َّ
بغيظ مصطنع: عن ِآخرهما فجأة وحدقت فيه مباشرة ،ثم صاحت ٍ
((شبسكااف)).
ً َ
غرس أصابعه في ساقها وهمس قائال: دنا منها بلطف .وتعمد
ُ
استحياء بدا شديد ،ونبض قلبها ٍ حبك)) .إبتسمت في خجل على ((أ ِ
طفلة في الثانية
مجرد ٍ شعر أنها َّ وعادت َت ُ خوفا ،لكنه من النوع اللذيذَ ، ً
َّ ً
ستعدة على اإلطالق ملا تسمعه. عشر من ُعمرها ال أكثر ،وليست ُم
وخيم ش ٌيء من الظالم عليهما ً
سويا. غاب آخر شعاع للشمسَّ ،
هشة كالفراشات بين فشعرت بأنها َّ
َ إقترب برأسه حتى مال على كتفها،
يديه وأطرافها واهية كاملاء .ارتجفت في مكانها بين يديه ،وعندما نظر في
عينيها كادت أن تشهق أو أنها شهقت بالفعل.
حدق في وجهها ومالمحه ممتلئة بتعابير الحب وهمس ُم َّ
جد ًدا لكن َّ
ُ هذه َّ
حبك)) ،ومد يده ليمسح على وجنتيها ِ ((أ بصوت خفيض: ٍ املرة
مشوب بتنهيدة(( :إبتعد)).
ٍ بصوت
ٍ الحمراوتين كحمرة الرمان .قالت
ُ
الجلد الغليظ بين شفتيها املبللتين وتعمد مالمسة صف مرر إبهامه ذي ِ
خفيض أكثر(( :إبتعد ،وتوقف)) .فقال بصوت
ٍ أسنانها السفليَّ .
فكررت
ٍ ُ
حبك)).
ِ ((أ لها :
109
خطر لها أنه فقد عقله أو ربما بات ال يعرف غير تلك الكلمة َ
بشكل ما جعلتها تطمئنَ .م َّ َّ
س شبسكاف ٍ فحسب .إال أن محبته هذه
الشقراء وهو ُي َتم ِتم الذهبية ََّّ ومرر أصابعه بين خصالتها بخف ٍة َّ َشعرها َّ
َّ َّ
بش ٍيء ما لم تفهمه ،لكن كان َّثمة ِدفء في نبرته ،رقة لم تتوقع وجودها
ورفع رأسها أبعدها عن وضع أصابعه تحت ذقنها َ داخل هذا القلبَ .
ً
مباشرة .ثم َد َّ َ ُ
س يديه تحت جزع الشجرة قربها إليه كي تنظر في عينيه
ً ً َ إبطيها َ
وأجلسها أمامه مباشرة على جزع شجرة أعلى فأصبح ورفعها
ومر ًة أخرى أخيرا َّ واحد ً ارتفاع ٍ ٍ مواجها له ليتالقى وجهاهما على ً وجهها
َّ ُ
حبك)).
كرر(( :أ ِ
مبحوح(( :شبسكاف!)) ،لم ُيجبها .بعد لحظة مالت ٍ بصوت
ٍ نادته
حتبت رع إلى األمام جتى جعلت جبينها يالمس جبينه ،واستشعرا ّ
كلٍ
وقتا طويال بصمت ،كانت عينيهما فقط
ً أنفاس اآلخرَ .ظ َّل َي ُرمقها ًُ منهما
تتحدثان وأنفاسهما الدافئة تتعانق .ثم تجرأ ،وبدأ يالمس جسدها،
ً ُ ّ
جردها من مالبسها .كانت أصابعه رشيقة الحركة ورقيقة على وبدأ ي ِ
ً ً َّ َ
أدهشهاَ .
خلع ِقطع الثوب الحريري قطعة قطعة، نحو
جسدها على ٍ
َ ُ ً بينما َ
جلست حتبت رع في مكانها صامتة بال حراك تنظر في عينيه
وأنفاسها تحولت إلى آهات وتنهيدات .لم تستطع منع نفسها عندما
َّ كشف نهديها َّ َ
الصغيرين ،فأشاحت ببصرها وغطت نفسها بيديها،
ً ُ
برقة لكن حبك)) ،ودفع يديها بعيدا عن نهديها ٍ فقال شبسكاف(( :أ ِ
َّ ُ ُ َّ ً
((أحبك))َّ ،
فرددتها ِ مرة أخرى َلتنظر إليه ،وكرر: بحزم ،ثم َ
رفع رأسها
وراءه َّ
كالصدى.
110
قريبا إليه ليخلع قطعة الحرير األخيرة .كان هواء َ
وجذبها ً أوقفها،
ً َ َ الليل ً َّ
باردا على بشرتها العارية ،وارتجفت شاعرة بالخدر في ذراعيها
سي ُخائفة مما شعرت أنه ًَ
للحظات لم ٍ حدث ،لكن وساقيها .كانت
حدث ش يء .كان شبسكاف يتأملها وينهل من مالمح وجهها وجسدها َي ُ
بعينيه.
أوال ثم بخشونة .كانت تشعر َّ ً َ
بقوته عومة
بعد قليل بدأ يلمسها بن ٍ
واحدا تلو ً س أصابعها مرة .وضع يدها في يده َوم َّ
لكنه لم يؤملها ولو َّ
َ
متتب ًعا
س وجهها ّ
ِ
ومرر أصابعه على ساقها ،فتأوهتَ .وم َّ اآلخرَّ ،
انحناءات ُأذنيها ً
ودائرا حول شفتيها بإصبع رقيق.
أخيراَّ ، َ
بلغت يداه نهديها ً ساعات قد َّ
فمسد مرت عندما ٍ بدا كأن
حينئذ َ
وجذبها الجلد َّ
الناعم تحتهما إلى أن تسارع أنفاسها بشدة .توقف
ٍ
متور ًدا
ّ َ
جلس في حجره .كانت حتبت رع متقطعة األنفاس اآلن ووجهها ِ لت ِ
ونظر في عينيها وقال: َ عن ِآخره .طوق شبسكاف وجهها بيديه
َ ُ
حبك)) ،وكانت تعرف أنه سؤال وليس إفادة .أخذت يده وقادتها على ِ ((أ
َ ُ َ ُ
جسدها ،وبينما تقودها إلى حيث يريد وتريد همست(( :أحبك))
وشهقت لدى وصول يده وأغمضت عينيها.
شيئا يعود للوراء ،فأصبحوا سويا أن ال ً منذ ذلك الوقت اكتشفا ً
ساعات وساعات وهما يتبادالن اللحظات الحميمية ،وتمض ي
ٍ يمضون
َّأيام كاملة ال يفعال ً
شيئا غير األضجاع أسفل أشجار التوت واإلصغاء ٍ ٍ
ألمواج النهر الهادئة وأصوات حفيف األشجار والطبيعة أو مشاهدة
111
ً
النجوم في السماء إن كانوا في الليل .كان جسدها أعجوبة في نظره،
َّ ّ ً َ
متلذذة بقربه إال أن أفضل ش يء تمثل لها في وجوده فقط ،فيوبدت هي ِ
بروح
صباح ٍ مشاركته لها أوقاتها الهادئة .كانت تتفقد الغيوم كل
ُُ ً
ممتلئة باألمل ،وتهمس لنفسها قائلة(( :هناك عند خط األفق ،خلف ٍ
َ ُ
هذه الغيوم املثقله بالحنين ،سيظل ذلك الشعاع املض ئ من الحنان
واليقين هو ما يربط بين قلبينا ً
معا َّ
بقوة ويرفعنا الي تلك الفقاعه اآلمنه
ً لنختبئ ً
بعيدا عن السوء الذي يغمر كل ما هو خارجها ..هناك ..دوما..
سأنتظرك)).
۞۞۞
112
09
غائما ،داخل غرفته ساكنا ً ً الفجر ،والعالم ما يزال قبل ساعة من َ
ٍ
الحجرية الخاصة في املعبد األسود ،وعلى الرغم من برودة الجو تلك
ستيقظا لم ينم بعدُ ،م ً ً
رتديا ذات الليلة ،كان خا إم ويست ما يزال ُم
َّ
املالبس السوداء ،إال أن رأسه ووجهه مكشوفان ،فظهرت مالمحه
مشذ ًباَ ،ف َّكه َّ
َّ ً َ ً
مربع قصيرا واضحة ،كان محافظا على شعر لحيته
ووجنتيه غائرتين ،عيناه ُجرحان مفتوحان أسفل حاجبيه الكثيفين،
َّ
فم مخلو ٌق الليل ،وفمه صغيرٌ ، ُزرقتهما داكنة كالبحر تحت سماء
الصارمة ،ذو شفتين رفيعتين شاحبتين والز ّم وتوجيه األوامر َّ َّ
للعبوث ِ
فم نس ي كيف يبتسم أو َّأنه لم يعرف فك مشدودة كاألوتارٌ ، وعضالت ّ
ٍ
َ ُّ معنى َّ
الضحك قط .وبدت ندبة بطول وجهه في الشق األيسر منه
ٌ
رفيع من نور القنديل املتذبذب على الحائط .كان خيط ٌ عندما َم َّسه
ً َ
صوت َن ّهام بومته العمياء يصدح في أ ْر َجاء املكان ،مع ذلك َبدا ُمنهمكا في
فقد خريطة جلدية قديمة ،مأخوذة من جلد الضباع ،بعد أن بسطها َت ُ
ستديرة سوداء اللون ،وثبتها بجماجم حيوانات غريبة قد ٍ مائدة ُم
ٍ على
تكون لخنازير او ضباع وربما غير ذلك .كان َيضع عليها عالمات في
َ
أماكن متفرقة ،وأخذ ُيشير بيده املحروقة على العالمات بالتتابع، ٍ
ً ُ ً
ويربط فيما بينهم ،وكانت تأخذ مسارا بدا متسلسالِ ،وانتبه فجأة
مؤكدا لنفسه ً لعالمة بعينها ،ودق بأصبعه فوقها ثالث مرات ُمتتالية
113
ُ َ
بصوت بدا قريب للغاية في الوقت الذي قال خا ٍ ش ٌيء ما ،ون َع َق غراب
خرج مع أنفاسة مع ّ
كل إم ويست لنفسه ُم ْح َت ٌّد في كالم ِه ُ
والبخار َي ُ
ِ ِ
كلمة(( :ال ،ال ،ال .سوبيك نفرو ،ال)).
كان قد توقع أو َّأنه حدد بالفعل أن الهجوم القادم سيكون على
ْ
معبد سوبيك ،وكانت عالقته بها جيدة ووطيدة للغاية إذ كانت ثاني من
دعمه في خالفة السابق مع اآللهة بعد شقيقه الكاهن كاي تاي.
ُ ً ً
خارجا من باب غرفته ُممسكا خريطتة الجلدية في يده إندفع
املحروقة ُويغطي رأسه باليد األخرى.
على اليسار من باب الغرفة ،وجد حارسه العمالق بخوذته
جالسا على مقعد مصنوع من ً الحديدية الكبيرة ومالبسة السوداء
ً حارس آخر ُّ
ٌ
يقل عنه في الحجم قليال، خشب الصفصاف وإلى جواره
بخشونة ليوقظه من هزه خا إم ويست نائماَّ .
أن كالهما كان ً َّإال ّ
ٍ
طويل أفض ى ِبه إلى خارج املعبد، رواق ُ
ٍ أحالمه ،وخرج مباشرة عبر ٍ
ُ
الجرانيت الوردي تحيط وقف بين مسلتين عمالقتين مصنوعتين من ِ
َ بهم عشرة تماثيل ألبي الهولَ .ول ِحق ِبه حارسه ُمترِنحا في َّ
السح ِر البارد ً ّ
َّ والنوم ال يزال ُي َش ّوش َّ
كل ش ٍيء أمام عينيه ،إال َّأنه َّميز مكان األحصنة ِ
َّ
وخطا بأتجاههم ،وتفاجأ بصوت سيده الذي تخلى عن فكرة اإلنتقال
َُ
((هل ِ ّم إلى ُهنا ،هياَّ ،ثمة شؤون يجب أن نهتم بعجلته الحربية يقول له:
بها)).
خارجا من باب املعبد يتكأ على الحوائط ً كان الحارس الثاني
114
فائقة ولم يكن قد ِإستفاق من نومه بعد ٍ الحجرية املرسومة بدقة
عندما أمسك خا إم ويست سواره السحري وهمس(( :الوهومورا)).
ضوئي في الفراغ ،عبر وحارسه العمالق منه على الفور ٌ فأنفتح ٌ
باب
تاركين أياه خلفهم.
السماء فوق األشجار، وتفتحت أصابعه الطويلة في َّ الفجرَّ ، طلع َ َ
ً ُ الدنيا وهما يرتقيان برو ًزا ًّ وبدأت األلوان ترجع إلى ُ
واطئا تحيط جبليا
ملكان ليس ّ
به األشجار ،بعد أن عبروا البوابة السحرية التي أقلتهما ٍ
ببعيد عن معبد سوبيك نفرو. ٍ
ُ ً ً
تحديدا حيث قاصدا أن يخرج في هذا املكان كان خا إم ويست
سيرا على األقدام حتى بقية الطريق صوب املعبد ً فضل أن َيقطع ّ َّ
آمنة ويترقب ما يتمكن من إستطالعه وما حوله ً
مسافة ٍٍ جيدا من
سوف يحدث .من خلف شجرة بلوط قديمة ،لها عمر أطول من
عمريهما ،أشار الكاهن لألمام وهو يقول لحارسه بكياسة(( :معبد
َ َّ
صمت سوبيك نفرو يقع أسفل التلة ،خلف هذه األشجار ُمباشرة)).
وتطلع أمامه وقد َبدت على وجهه أمارات َّ َّ
التفكير .كانت للحظة
ٍ الحارس
الصباح الباردة تهمس بين األشجار صانعة سيمفونية هادئة ريح َّ
َّ ُ
ممتزجة بالنسيم البارد ،وت َح ّ ِرك معطفه األسود الثقيل بفعل صدريته
تمتم الحارس فجأة النحاسية الواقية وراء ظهره كأنه كائن نصف حيَ .
ِ
َّ
وقد توقف أمام كتلة متحركة من الضباب(( :ثمة ش يء ما على غير ما
ُيرام هنا)).
115
َ باسما ،وقال بازد اءً : رمقه سيده العجوز ً
((حقا؟)) سأله الحارس: ر
الرياح بين األشجار)). ّ َ ُ
((أال تشعر به؟ أصغ إلى همس ِ
فعال ،أربعون ً ً كان خا إم ويست َي ُ
عاما قضاها في أرض شعر به
بخوف كالذي شعر به في ٍ شعر فيها السحرة يتعلم فنون السحر لم َي ُ
َّ
تلك اللحظة ،حتى َّأنه همس في نفسه(( :ماذا هناك بالضبط)) ،وملا
الرياح ُ َّ ّ
أراد أن يبث الطمأنينة في روح حارسه ،قال(( :ال أسمع إال ِ
فأي هذه وحفيف األشجار وعواء ِذئب ،ورائحة نتنة تصدر منكُّ ،
األصوات ُيخيفك إلى هذه الدرجة؟)).
ترد ًدا ترجل ُم ّ عندما لم يحصل الحارس على إجابة من سيده َّ
ِ
َّ َّ َ
الذهبية التي وسحب سيفه الطويل من ِغمده ،فتألقت الحلى لألمام،
َّ َ َّ
وانعكس ضوء الصباح على الفوالذ الالمع .كان رصعت املقبض،
َّ َّ ً ً
سالحا ر ً
وتشوهت حافته من االستخدام ائعا بالفعل ،مطروقا في قلعة،
السيف قد العنيف ويش ي شكله بأنه موغل القدم ،ما يوحي بأن هذا َّ
ً ُ
خدم ِفي نز ٍاال ٍت كثيرة من قبل .قال الحارس ُم ِ ّنب ًها سيده ُمحاوال است ِ
بشد ٍة تتشابك َّ َ إطالة عمر الحديث بينهما أكثر وقت ممكن(( :األشجار
حسن أن أستخدمه في إفساح السيف علينا الحركةَ ،ي ُ هنا ،سيسهل َّ
ّ
بتأكيد
ٍ استحال فم خا إم ويست إلى َخ ِط رفيع وهو يقول َ طري ٌق لنا)).
قاطع(( :ال ..ال تؤذي األشجار)).
ّ
منخفض شديد اإلنحدار،
ٍ بحذر وترقب عبر
ٍ ش َّق الحارس الطريق
ساحة واسعة ُمغطاة بالضباب ،والحت له
ٍ ثم بدأ يهبط املنحدر نحو
116
نقطة تصلح للمراقبة من تحت واحدة من أشجار َّ
الد ْردار الضخمة، ٍ
قريبة وعلى مشارف الساحة الخالية ،وأدنى ُ
أفرعها ٍ مسافة
ٍ كانت على
واحد ال أكثر من األرض. ُ ّ
قدم ٍيتدلى على بعد ٍ
عند اقترابه من الشجرة ،انزلقت غزالة صغيرة من أعلى الجرف،
لق الحارس في سقطت فوقه بعدما كانت تتحرك على الحافة ،وانز َ
النبض في األفرع الواطئة من الشجرة ،وتوقف قلبه عن َّ الوحل تحت ُ
التنفس .على عكس املتوقع ،لم تهرب صدره ،وللحظة لم يجرؤ على ّ
َّ
بكسر
ٍ الغزالة ،على الرغم َّأنها حاولت ،إال َّأنها أصيبت في إحدى قدميها
ساخرا منً ضاعف أفقدها القدرة على الهرب .إبتسم الحارس ٍ بدا ُم
مجددا على قدميه ،إستعاد توازنه ورفع سيفه ًّ خوفه وهو يقف
اغبا في أن يهوى به على الغزالة يقطع رقبتها بعد أن رأي فيها العمالق ،ر ً
ً شهية ًُ ً
إنتقاما لخوفه ،بيد أن سيده جائتهما بال مجهود أو ربما وجبة
ً
سريعا ((بح ِ ّق اآللهة!)) ،وأضاف
شفقا وهو ينظر إلى الغزالةَ : قال ُم ً
((أياك َّ ..أياك أن تمسسها بسوء)).
وهو يرمق الحارس بنظرة تحذيرَّ :
كان سيف الحارس يهوى بالفعل على رقبة الغزالة ،بيد َّأنه أطاع
أمر سيده على مضض وغير مسار السيف في اللحظة األخيرة ،فأرتطم
صخري ٍة إنبعثت منها شرارة ّ
نارية من قوة اإلحتكاك ،ونظر إلى َّ بقطعة
ٍ
سيده ُمستغرًبا وعلى وجهه نظرة غير راضية وهو يتنقل بعينيه بين
وهدوء
ٍ بلطف
ٍ السيف والغزالة ،بينما دنا سيده من الغزالة الصغيرة
شديدين ،وأمعن النظر في وجهها الخائف ،ليرى دمعة قد ترقرقت من
117
َّ
عينيها ،بعدما دب الفزع في روحها وهي تحاول جاهدة أن تهرب ،إال َّأنه
ربت بكف يده على جسدها ورأسها للحظات حتى هدأت ،وقام بوضع
ومسد على قدمها املكسورة وهو يهمس بتعويذة الشفاء يده على ِسواره َّ
ً
قائال(( :بيليجيريرو)).
تعافت الغزالة على الفور ،واستطاعت الوقوف ً
أخيرا على قدميها،
وقامت بحك رأسها في ساق خا إم ويست ما بدا َّأنه ً
تعبيرا عن اإلمتنان،
ونظرت إلى حارسه العمالق نظرة غاضبة وهي تهرب ً
بعيدا عن املكان،
مما يوحي بأن أضعف الحيوانات يمكنه التمييز بين الخير والشر بين
من ُيسانده ومن ُيحاول أذيته.
على مقربة من املعبد ،في الساحة الواسعة ،قرب مجموعة من
دار ،شاهد الحارس وسيده تجمع كبير للغزالن ،والغزالة أشجار َّ
الد ْر ُ
الصغيرة تتوجه صوبهم ،غزالة بعينها َّميزوا ّأنها أنثى تركت القطيع
ُ
بلهفة مما أوحي لهما َّأنها الغزالة األم،
ٍ مهرولة تقابل الغزالة الصغيرة
وجعل ذلك املوقف قلب الحارس العمالق يرق وتلمع عينيه بأبتسامة
تنم عن رضا.
ترقبا املعبد وما حوله منذ الضوء األول للشمس حتى وقت
األصيل ،وكان كل ش ٍيء على ما ُيرام ،فلم يريا ش ٍيء غير مألوف .فقط
وقت آلخر وقلة من الزوار ممن أتوا ُحراس املعبد يتجولون حوله من ٍ
لزيارة سوبك نفرو والحصول على ُمباركتها وخدماتها.
ٌ
ضوئية من العدم على مسافة ت ُ ٌ ُ
قل عم قرب املغيب ،ف ِتحت بوابة
118
مختلفة هيئة ً مائة متر من املعبد ،خرج منها يورشو ُم ً
ٍ متطيا حصانا ذا ٍ
ُ
عن املعتاد عليه ،فالرأس عريضة ،أو ربما َّأنها ُمستديرة ،واألقدام
ً
وبقية الجسد ُمغطى قليال من الخلفية ،والذيل أملسّ ، األمامية أطول
مادية ،وأدرك خا بوشاح اسود ال ُيظهر سوا عينيه الحمراء وأقدامه الر َّ
ً ٍ
ً ً ً َّ
إم ويست من نظرته األولى أنه غوال جنيا وليس حصانا عاديا ،وتأكد
خوذات ٌ الرجال العماليق يرتدون فوق رؤوسهم ّ
عندما رأي خمسة من ِ
ً َّ ُ
رمادية ويركبون خيوال سوداء طويلة تخفي وجوههم ،لهم أجساد
طويلة
ٍ رمادية في نفس حجم ما يركبه يورشو ،ويتسلحون برما ٍح َّ
أس من فضة. مصنوعة في قلعة ،غير أنها من الفوالذ ولها ر ٌ
ٌ ٌ َ
متوتر وقلق على يسار سيده خطر للحارس العمالق وهو واقف
أن َّثمة صعوبة أن يتقاتل أثنان مع ستة أشخاص بهذا خا إم ويست ّ
أن الحجم مع هذه الرماح الطويلة ،وأراد ّأال ينقل قلقه إلى سيدهّ ،إال َّ
119
ُ َّ َ
قاطعه سيده(( :لن تكون هناك معركة ..إنهم موتى ولن ي ِ
زعجونا
ً
ثانية ً
أبدا)).
كان خا إم ويست خفيف الحركة كالصيادين ،ال أحد يستطيع
َّ
مكان ما كما يفعل هو .وملا
الحركة في الغابة بين األشجار أو يتسلل في ٍ
كان عليه التحرك أسرع بغية التسلل إلى داخل معبد سوبك نفرو
والتواجد في الوقت املناسب حتى يمنع يورشو عن أذيتها والحصول على
ً
سوارها السحري ترك حارسه من خلفة وبدأ يتنقل متسلال بين
ّ
األشجار بخفة ،إال أن الحارس أبى أن يتركه وأتبعه وهو ُيعاني من
صعوبة أن يفعل مثله.
خرج خا إم ويست من بين أشجار َّ
الد ْردار في النقطة ذاتها التي
اجتمع فيها قطيع الغزالن منذ بدأ النهار ،بيد َّأنه تفاجأ بالغزالة
الصغيرة إلى جوار أمها وقد تمزقت األحشاء ً
تماما وتناثرت دمائهما على
ً ُ َّ ً ً
مددة األرض .رفع عينيه ينظر لألمام قليال فوجد بقية القطيع جثثا م
على األرض وقد تمزقوا ً
أربا ،فالدماء كالنهر ،واألشالء في كل مكان ،وكأن
قطيع من كالب الجحيم املسعورة مر عليهم .خرج الحارس العمالق من
بين األشجار خلف سيده ،وعلى الرغم من محاولته قتل الغزالة
صعق ً
تماما ّ
لدى رؤيتها إلى جوار الغزالة الصغيرة في الصباحَّ ،إال َّأنه ُ
األم والدماء متناثرة بطريقة وحشية في كل مكان .وتضاعف غضبه
ً
بقية القطيع على نفس الحالُ ،ممزقا على األرض .قال وزفر عندما رأى َّ
وحش يمكنه فعل ذلك بهذه ً
جميعا ،أي ً
غاضبا(( :بحق اآللهة
ٍ
120
القسوة؟)).
أجابه سيده(( :الوحوش ال تفعل ذلك ،اإلنسان فقط هو من
كلمة واحدة(( :يورشو)).
يقتل من أجل متعة القتل)) ،وأضاف ٍ
ومحتدا َّردد الحارس وهو يضرب األرض بحد سيفه:ًّ ً
ستغربا ُم
َّ
((يورشو!! ال يفعل ذلك إال شيطان)).
حف ًزا وهو يخطو إلى األمام في أتجاه معبد سوبك ّ
قال سيده ُم ِ
َ ُّ
((هل َم إذن نقض ي على الشيطان)). نفرو:
ً ً
تحرك لألمام وهو ُمدركا أن يورشو قد دلف إلى املعبد ،خاصة بعد
أن رأي مذبحة الغزالن ،وفهم من فوره أن يورشو قتلهم بتعويذة القتل
املحرمة(( :سيكتوسيمبرا)) ،رغبة منه في مليء الجو برائحة دماء
الغزالن النفاذة من أجل تهييج الغيالن ونشر طاقة سلبية في املكان مما
ً َّ يجعلهم في أشد حاالت ُ
السعار واإلندفاع نحو األذى .وملا كان عاملا
ختصرا إستطاع منً قديما ُوم
خلفيا ً جيدا ،سلك ً
طريقا ً بدروب املكان ً
ً َّ
وقت قصير ،وتوقف ثانية عندما بلغ سور خالله أن يصل إلى املعبد في ٍ
َّ َّ ّ
الدائري ،ثم َّ
يتشمم الثغرة في الحجر ،قبل أن تقدم بحذر ِ املعبد
ُ ٌ ُ َّ ًّ ُ
عجبه ،فرائحة الغيالن مقرفة يتراجع مشمئزا وكأن ما أشتمه لم ي ِ
ونفاذة.
ببطء وحذر في
ٍ صغيرة وترجلوا
ٍ نافذة
ٍ في آخر السور ،عبروا من
قصير وجدوا فيه جثتين لحارسين من حراس املعبد وقد تهشمت
ٍ ممر
ٍ
121
رؤوسهم وتشوهت وجوههم في معركة مع غيالن يورشو .أفض ى بهم
بهو عمالق ،تتوسطه أربعة تماثيل لألخوة الثالثة سوبك نفرو املمر إلى ٍ
وإمنمحات وشقيقهم األكبر نفر بتاح ،كل منهم بطول عشرة أقدام،
يقفون ُملتفين حول تمثال جدهم سنوسرت وطوله إثنى عشر ً
قدما.
اوية ،يترقبا املكان.
تواريا في ز ٍ
ُّ ّ َ ً
تنسل من بين رمادية أشياء ُبركن عينه رأى الحارس حركة ما،
َ ً
فلمح غوال وقد رفع الخوذة عن رأسه التماثيل األربعة .أدار رأسه
وثمة ما يتقاطر فظهرت مالمحه ،أنيابه البارزة أسفل عينيه الحمراء َّ
وانسل آخر إلى األمام َّ من بين شفتيه وأنفه املقرفة بطريقة مقززة،
ٌ ٌ
طويل ليس كش ٍيء رآه الحارس من بخطوات صامتة ،وفي يده سيف ٍ
ّ َ ُ ُّ َ
أي معدن بشري. قبل قط .ميز الحارس أن هذا السيف لم يطرق من ِ
شفاف، كان ينبض بنور القناديل الزيتية املعلقة على الجد ان ،شبه َّ
ر
ّ َّ َّ
الرقة تكاد تتوارى عن األنظار إذا نظرت إليها ِكسرة من البلور شديدة ِ
أزرق خا ِفت ،ضوء شبحي يتراقص حول َ أسا .كان َّثمة وميض ر ً
ّ َ
أي نصل رآه من قبل. وبشكل ما عرف الحارس أنه أمض ى من ِ ٍ الحواف،
ّ َ
محذ ًرا ،لكن الكلمات ِ فتح الحارس فمه ليتحدث إلى سيده
تجمدت في حلقه ،وأتاه صوت سيده من خلفه يهمسّ :
((تريث ..تريث َّ
وال تتحرك)) .ظهر يورشو َيمر من بين التماثيل ومن خلفة ظهر ما تبقى
الحراس على أبواب املعبد من حراسه من الغيالن بعدما تخلصوا من ُ
في الخارج وحراس املمراتّ ،
وبقي حارسين فقط على باب قاعة التعبد
122
الرئيسية التي تجلس فيها سوبيك نفرو ،واللذان فزعا لدى رؤيتهما
ً
مفزوعا(( :غرباء)) ،بينما الساحر وأتباعه من الغيالن ،فقال أحدهم
سحب اآلخر سيفه من ال ِغمد وأخذ يلوح به في الهواء ويأخذ وضع
آبه بما يفعله،
بتسما غير ٍاإلستعداد للقتال .خطى يورشو في أتجاهه ُم ً
وما إن دنا منه وأصبح الفاصل بينهم بضع خطوات إنطلق الحارس
هازءا وهو يشير بسبابته على الحارس: صوبه بالسيف ،قال يورشو ً
ٌ
فيه
((إنسينيدو)) ،أنطلقت شرارة نارية أرتطمت بالحارس وأشتعلت ِ
ُ َّ
النيران على الفور .صرخ الحارس ،إال أن صرخته كتمت ولم تكتمل
بعدما قام الغول املترجل خلف الساحر بضرب عنقه بسيفه البلوري
ضربة واحدة. الطويل فأسقطها ً
أرضا من
ٍ
ْ
دب الهلع في قلب الحارس اآلخر ،وشعر بالعجز ،إذ لم يعرف ماذا
لثوان معدودات إلى باب قاعة التعبد الرئيسية، عليه أن يفعل .نظر ٍ ِ
َّ ُ ّ ً
حذر سيدته .إال أن يورشو هز هلع شديد أمال أن ي ِ وأنطلق نحوها في ٍ
ساخرا من خوف الحارس ،وقال وهو يشير عليه بسبابته: ً رأسه
((االرتي اسندري)) ،وهي تعويذة خرجت على أثرها طاقة قوية وأرتطمت
ندفعا لألمام بقوة شديدة، بالحارس جعلته يفقد إتزانه ويطير ُم ً
الصوان فانكسرت جمجمته َّ فارتطمت رأسه بالجدار املبني من صخر
على الفور ونزفت منها الدماء الحمراء القانية.
حاول الحارس أن يزحف على األرض صوب الباب ،بيد أن يورشو
ً ْ ُ
عطه فرصة ،إذ ألقى عليه تعويذة الحرق قائال(( :إنسينيدو))،
لم ي ِ
123
فحوله هو اآلخر إلى نيران ُمتأججة ،مر من فوقها ودفع الباب الكبير
وجها لوجه معالذي أفض ى به إلى داخل قاعة التعبد ُليصبح بذلك ً
سوبيك نفرو التي كانت تجلس على عرشها ،ومر من خلفه أثنان من
حراسة وأغلقوا الباب من ورائهم ،بينما تبقى تسعة من الغيالن في البهو
الخارجي حول التماثيل األربعة.
ربت خا إم ويست على كتف حارسه العمالق قبل أن يدفع أياه
ً
هامسا(( :لترقص معهم برفق لألمام ،وهو ُي ِح َّسه على القتال
ٍ
بشجاعة)).
تلك اللحظة ،مرت غمامة حديدية سوداء أمام قرص القمر في
َّ ٌ ُ السماء فحجبتهَّ ،
ريح تشبه النسيم إال َّأنها أطفأت بعض وهفت
ورفع الحارس سيفه ً
عاليا القناديل مما جعل الظالم يغطي املكانَ ،
السيف، وارتجفت يداه من ِثقل َّ َ فوق أسه ّ
بتحد وهو يترجل لألمام،
ٍ ر
خطر له في تلك اللحظة أنه َ أوربما من التوتر املشوب بالخوف ،وإن
ليس بمفرده ،بل خلفه واحد من أعظم الكهنة العاملين بأمور السحر.
َّ
توقف غول أمامه ،ورأى الحارس عينيه .كانتا ذا لو ٍن أحمر شديد
أي عين َّ
بشرية رآها ً ّ
يوما ما. الحمرة كالدماء ،أعمق وأكثر أحمر ًارا من ِ ٍ
ثبتت نظراته على َّ َ ً
السيف ارتخت يداه بالسيف ونزلت قليال وقد
َّ
الطويل الذي ارتفع في يد الغول ،وراقب ضوء النور البارد يجري على
جد ًدا ،وللحظة جرؤ النصل بعدما رحلت الغيوم وعاد الضوء ُم َّ
الحارس على األمل في أن يقض ي على الغولَّ ،إال أنه تفاجأ بخروج ّ
بقية
124
الغيالن من خلف وبين التماثيل ..اثنان في البداية ...ثالثة ..أربعة ..
خمسة ..ثم اكتملوا تسعة ،وشعر الحارس العمالق بالبرودة التي
جائت معهم ودبت في أوصاله.
رغب في أن ُيطلق صيحة تحذير إلى سيده ،كان هذا ما يدور في
رأسه ،لكنه رأى هالكه إذا فعلها ،فالغيالن سوف تنقض عليه على
َ
الفور .نظر خلفه ،ورأى سيده قد أختفى .ارتجف ،وألقى ببطء
املعطف األسود الطويل فوق كتفيه ُلي َح ّ ِرر ذراعيه للقتال ،وأطبق على
السيف املض يء في يد الغول عاليا .شق َّ سيفه بكلتا يديه ،ورفعه ً
الهواء ،وقابله الحارس بسيفه الفوالذي ،وعندما التقى َّ
النصالن لم
يتردد رنين اصطدام املعدن باملعدن ،فلم يكن سيف الغول من ّ
أي َّ
حافة َّ َّ
السمع ،كصرخة صوت مرتفع رفيع عند ٍ معدن ،بل صدح
ً ً
ص َّد الحارس ضربة ثانية ،ثم الثالثة ،ثم تدخل غول حيوان يتألمَ .
ٍ
َ َ
آخر ،فتراجع الحارس خطوة للوراء وضرب بحافة سيفة قصعة
ً ً َّ
نحاسية كانت ممتلئة بالنيران محاوال تعطيل الغيالن عن مبارزته وهو
يأمل أن يخرج سيده من حيث يتوارى ويتدخل ملعاونته.
َّ
وتخيل كانا الغوالن يتحركان برشاقة عالية أعلى مما توقع
اجع الحارس منالضربات ،فتر َ الحارس ،وتوالت سلسلة أخرى من َّ
جديد واصطدم بأحد التماثيل ،كادت ضربة من السيف تنزل فوق
رأسه ،إال َّأن ُه تفاداها برشاقة فأصطدم النصل بالتمثال ،كسر جزء
من يده املمسكة بصولجان الشمس وشوهه.
125
بقية الغيالن ،من أمامه ،إلى يمينه ،إلى يساره ،من كل أحاطت به ّ
مكان حوله ،كانت وجوههم قبيحة ،تمنى في نفسه لو َّأنها بال معالم من ٍ
ً
شدة قبحها .ظل خا إم ويست متواريا ،لم يتدخل ،والحارس في معركة
َّ ً
ومرة أخرى وأخرى التقت السيوف ،إلى غير متكافئة ،يحارب غوالن،
َُ
أحس الحارس بأنه ُيريد أن يغطي أذنيه ليقيها صوت االصطدام َّ أن
الحاد الشبيه بالعويل .كان الحارس قد بدأ يلهث من َّجراء املجهود في َّ
ساخن في نور القمر، خار ُ َ ُ
ٍ تلك اللحظة ،وأنفاسه تخرج في شكل ب ٍ
بتشوهات ُمضاعفة أكثر مما كانت عليه بينما ٍ واكتست حواف سيفه
َّ
سيوف الغيالن ما تزال على حالتها األولى .ثم تأخرت حركة الحارس
ً َ ً ّ
فاعية لحظة واحدة ،فش َّق السيف الصارخ في يد أحد الغولين الد َّ ِ
َ ّ
الحلقات املعدنية في صدريته النحاسية من الجانب ،وأطلق الحارس َّ
مفعمة باأللم .انبجس َّ
الدم َّ ً ً
الساخن من بين الحلقات الغاضب صرخة
َ ُ َّ البردَ ، خرج ُبخاره في َ َلي ُ
وبدت القطرات حمراء كاللهب وهي تقطر على
أرضية املعبد الحجرية .إتكأ الحارس بظهره على الجدار من خلفه،
َ
ومسح وأسند سيفه بيده إلى تمثال ألبي الهول طوله ثالثة أقدام،
ً جانبه بيده ،فرأى ُ
الق َّفاز املصنوع من فرو الذئب غارقا في األحمر ِ
ً
القاني .نظر الغوالن إلى بعضهما البعض ،ونظرا سويا للخلف إلى
بحيرة شتوية قال الغول ذا كتشقق الجليد على سطح ُ وبصوت بقيتهم.ّ
ٍ ٍ
ً غة َ ً ُ
يجهلها الحارس ،وكانت كلماته ساخرة. الوجه املكشوف شيئا بل ٍ
ادار الحارس وجهه للحائط ،وأبقى يده على التمثال كي يقف َ
ً
شاعرا بثبات .والتفت حوله ،إلى اليسار ،وإلى اليمين ،ثم زفر ً
يائسا
126
بالنهاية ،ويده الثانية ما تزال على جانبه تكتم الدماء املنبثقة من
يأس الجرح .شعر بتقدم الغيالن نحوه من الخلف ،فزفر زفرة ٍ
هشتين مرتعشتين بعدما شاعرا أن يديه وساقيه أصبحتا َّ ً واستسالم
تعذر عليه رؤية سيده ولم يعرف أين أختفى.
بعدا َّأياها عن التمثال ،وكاد يغمض عينيه ارخى يده بالسيف ُم ً
ستسلما وهو يلهث من املجهود الذي بذله في ً وهو يوميء برأسه ُم
رجا من أحد مجابهة الغيالنّ ،إال أن وجه سيده خا إم ويست ظهر خا ً
ٌ
الفتحات في الحائط إلى جانبه ،وكانت في عيني سيده نظرة واثقة وملع
وعثر الحارس ً َ
أخيرا على القوة السوار في معصم يده وهو يهزها. ِ
َ َّ
والغضبة التي كان يحتاجها ،فهز رأسه لسيده وصاح وهو يرفع سيفه
َّ
املكسو السيف العمالق مزمجرا ر ً
افعا َّ ً َ
واندفع جد ًدا في الهواء ُم َّ
بالفوالذ بيديه ،كان الغول ذا الرأس العارية ما يزال ينظر للخلف
بضربة
ٍ لبقية الغيالن ،وعندما إستدار هوى الحارس بسيفه على ر ِ
أسه
َ ْ
صريعا ً وضع ِثقله كله وراءها ،فش َّج َرأ َس ُه إلى نصفين وأسقطه عمودية َ
َّ ٍ
على الفور تنبجس الدماء ذا الرائحة النتنة منه.
َّ
بحرك تكاد تكون ال أرادية ،إال َّأنها حركه ٍ تراجع الغول الثاني
خائفة تنم عن ذهول .وبدا ذلك عندما نظر إلى بقية الغيالن يحثهم
َّ ً
مرة أخرى، على معاونته ،ورفع سيفه في الهواء والتفت ُيقاتل الحارس
تحطم سيف الحارس ُّ َّ وعندما تالقى َّ
الصلب .رفع الغول سيفه النصالن
ً َّ ً
بنبرة ساخرة ،وقبل أن يهوى به على رأس مرة أخرى وهو يردد شيئا ٍ
127
الحارس الذي التفت ينظر إلى سيده ،قال خا إم ويست وهو يشير نحو
الغول (( :اكسبالريومس)) ،فجرده من سالحة.
بقية الغيالن نحو الحارس وسيده شاهرين الرماح إندفعت ّ
ً
الطويلة ،فألقى خا إم ويست تعويذة الصعق قائال(( :ستوبيفاي))،
أرضا ً
واحدا تلو مرة في اتجاه كل واحد منهم ،فأسقطهم ً
ٍ مر ًة بعد َّ
قالها َّ
آخر ،بينما أنحنى الحارس وأمسك سيف الغول الذي قتله قبل ٍ
ثوان
وكانت مالمح وجهه تدل على أنه ُمشمئز من رائحة دماءه النتنة بيد َّأنه
وص ِعقحيوان حي تنبض فيه الروحْ ،إذ إهتزت يده ُ
ٌ شعر وكأن السيف
أرضا وأنحنى يلتقط سيف أحد فألقاه ً
ُ بشده عندما أمسك به،
الحارسين الذي قتلهم يورشو ،وأخذ يضرب أعناق الغيالن املصعوقة
ً
جميعا. حتى قض ى عليهم
بخطى ُمتسارعة توجه خا إم ويست صوب باب قاعة التعبد ً
َّ
بغية إنقاذ سوبيك نفرو .إال َّأنهم وجدوا الرئيسية ولحق به الحارسّ ،
ٌ
حديث ٌ
دائر بين باب القاعة مغلق بأحكام من الداخل وسمعوا َّثمة
الساحر يورشو والكاهنة سوبيك ،وميز خا إم ويست أن الحديث
ُ
محتد بينهم .تراجع من فوره خطوتين للوراء ،ووضع يده فوق ِ
السوار
وألقى تعويذة التدمير وهو ُيشير إلى الباب ويقول(( :ريدوكتو)).
ً
تحطم الباب واندفع ساقطا نحو الداخل ،اصطدم بالغوالن
اللذان كانا يقفا خلفه فأسقطهما ً
أرضا.
كانت سوبيك واقفة على يسار عرشها متوترة ،أو َّأنها خائفة،
128
وأنتبهت لتحطم الباب وسقوط الغولين وظهور وجه خا إم ويست وهو
ً يعبر الباب ُم ً
تقدما حارسه بخطوة .عن يمين العرش لألسفل قليال
ساكنا ولم يلتفت للوراء ،كأن ً
شيئا لم ً وقف يورشو الذي لم يحرك
يكن.
قالت سوبيك بثقة وقد انفرجت اساريرها عن إبتسامة تنم عن
السوار)). ً
إطمئنان وتجرأت(( :انظر ..ال يمكنك أبدا أن تحصل على ِ
ٌ
ُبركن عينه ،نظر يورشو للوراء نظرة إزدراء مشوبة بالسخرية،
وفاجأها بتوجيه كلتا يديه مضمومتين على بعضهما وهو ُيلقي عليها
ً
تعويذة القتل املحرمة غير املغتفرة قائال(( :افادا كدافرا)) ،فسقطت
مدوية وأخذ جسدها يتقلص أرضا وهي تصرخ صرخة َّ سوبيك نفرو ً
وأحترق حتى أصبح كومة من رماد ،ولم يتبقى منها ً
شيئا بأستثناء ٍ
سوارها السحري.
غضبا وبدت في مالمحه عالمات الذهولً إستشاط خا إم ويست
سريعا صوب السوار ً ندفعا نحو يورشو الذي توجه وهو يخطو ُم ً
وأنحنى ليحصل عليه.
غاضبا وهو يصوب كلتا يديه نحو يورشو:ً قال خا إم ويست
ّ
((االرتي اسندري)) ،فخرجت من بين يديه طاقة سحرية صدمت
لثوان عاليا ويصطدم بالجدار .سقط ً
أرضا يورشو جعلته يطير ً
ٍ
ً
ساخرا من خا إم ويست. معدودة كان فيها ُم ً
بتسما
129
وجها لوجه مع الحارس العمالق وكان للحظة ،وقف الغوالن ً
ْ حجميهما أكبر من ّ
بقية الغيالن التي واجهها الحارس قبل قليل ،إذ كانا
عاليا ُ
تأه ًبا لقتاله. حارسين شخصيين ليورشو ،ورفع كل منهما رمحه ً
نظر الحارس إلى سيده نظرة ذات مغزى يسأله املساعدة .فألقى سيده
عليه تعويذة تكبير الحجم(( :إنجورجيو)) ،فتضخم حجم الحارس
وتضاعفت قوته البدنية ،ودارت معركة.
موجها حديثه إلى خا إم ويست الذي انحنى ً قال يورشو بسخرية،
دائما العجوز ستظل ً
ُ يحصل على سوار سوبيك نفرو(( :أحمق ..
ً
((دائما تنحاز للجانب الخاطيء)). األحمق)) .وأتبع سببا:
ُ ّ
السوار في قالدة في رقبته وإن كانت
إبتسم خا إم ويست وهو ي ِعلق ِ
إبتسامته شاحبة يشوبها حزن على فقدانه سوبيك نفرو ،وقال:
خائنا مثل سيدك وأبيك من قبل)).دائماً ،
((اللعنة عليك ً
130
لم يظهر خا إم ويست ،ولم يكلف يورشو نفسه عناء البحث عنه،
نظر نحو الحارس العمالق والذي كان قد تخلص بالفعل من أحد
الغيالن ويضرب عنق الغول الثاني.
َّ
قال يورشو (( :فيرا فيرتو)) ،فأختفى هو اآلخر ،إال َّأنه ظهر خلف
ً
ساخرا من اختفاء خا الحارس العمالق ُمباشرة .ظهر وهو يبتسم ً
هازءا
َ ْ
إم ويست ،إذ اعتبر ما يفعله خا إم ويست محض سذاجة.
تلك اللحظة ،أظهر خا إم ويست نفسه في الحال ،وكان إلى جوار
عرش سوبيك نفرو بمواجهة حارسه العمالق ً
وجها لوجه تفصلهما
عدة أمتار.
تبادل النظر مع حارسه وأطال النظر في عينيه ،ففهم الحارس من
فوره أن الشيطان يورشو يقف خلف ظهره ،وشعر أن ساعته قد
مودع لسيده ِوالتفت
ٍ يأس وبدت في مالمحه نظرةحانت فأبتسم في ٍ
ُ
وحذر شديدين ،فتفاجأ بيد الساحر يورشو تطبق بقوة ٍ ببطء
ٍ للخلف
على رقبته ويلقي عليه تعويذة التعذيب املحرمة والغير ُمغتفرة:
وألم ً
هلع شديد ٍ ((كروشيو)) .فسقط الحارس أرضا وبدأ يصرخ في ً ٍ
تماما في صرخاته املتكررة ،وسالت الدماء نازفة من فمه وأنفه واضح ً
ٍ
قبل أن تنفجر عينيه وأذنيه ويموت في الحال.
ً
واضحا ً
شديدا على حارسه ،وبدا ذلك ً
غضبا ِانتاب خا إم ويست
في مالمحه وهو ُيزيح وشاحه عن كتفيه وينزل غطاء رأسه ببطء .أبتسم
ّ
بسخرية وقال ببرود(( :ريديكيالس)) ،فانطلقت طاقة يورشو َّ
مجد ًدا
131
ض َّخ َم حجمها حتى ملئت القاعة ،وهي تعويذة خضراء على هيئة بلورة َت َ
ُ
تبطل السحر في املكان ملدة زمنية قصيرة ،فعل ذلك رغبة منه في إنهاء
باشر بالسيوف .رضخ خا إم ويست لرغبة يورشو وبدا ُ
بقتال م ٍ
ٍ األمر
موافقا ،فقام األخير بإلتقاط سيف من يد الغول ً ذلك عندما هز رأسه
السيف الفوالذي الذي كان يستخدمه الحارس بأتجاه خا إم ودفع َّ
قويا يهابه الجميع،شابا ًّوقت سابق كنت ًّ
هازءا(( :في ٍ ويست وقال ُله ً
َّأما اآلن فأنت عجوز ضعيف تحتاج إلى الشفقة ،ولن أمنحك َّأياها)).
ترددت نبرته الغاضبة السيف ،وقال بصوت َّإلتقط خا إم ويست َّ
ٍ
صرجدر بي أن ُأ َق ّ ((صبي مغرور ،كان َي ُ
ٌ في أرجاء القاعة الخاوية:
ِ
لوقت طويل ،تالقىوقت سابق)) ،وأصطدم كل منهما باآلخرٍ . لسانك في ٍ
مرة ،وأخذ خا إم ويست وضع الدفاع طوال الوقت، مرة بعد َّ
النصالن َّ َّ
النصالن َّ
مرة ْإذ لم يستطع ُمجاراة يورشو الشاب في القتال ،وأدى تالقي َّ
مرة إلى تحطم الجزء األمامي من نصل خا إم ويست املصنوع من بعد َّ
الصلب ،فتسيد يورشو املوقف بتوجيه عدة ضربات متتاليه أسقط ُّ
أرضا على ركبتيه ،وأمسك ِسوار سوبيك نفرو الذي بها خا إم ويست ً
علقا في رقبته وأنتزعه منها وهو يضربه بقدمه في صدره ً
دافعا أياه كان ُم ً
عاليا في الهواء وقد بدت في مالمحه نظرة السيف ً نحو الجدار ،ثم رفع َّ
ِانتصار.
دافعا أياه بكل قوته بضربة شديدة ،تصدى لها خا هبط بالسيف ً
قطعة َّ َّ َّ
وتشظى َّ
مشوهة، ٍ السيف الطويل في يده إلى مئة إم ويست،
132
الحادة .تلك اللحظة ظهر خا إم َّ كأمطار من األبر الشظاياوتناثرت َّ
َ
ٍ
بالضياع واإلرهاق املشوب بالضعف يرافقه إستسالم، شاعرا َّ ً ويست
َّ
وأيقن بأن ال طاقة له بمواجهة يورشو ،فركع على ركبتيه وسلم نفسه
َّ
وأستسلم للموت بعدما شعر أن ساعته قد حانت ،إال أن تعويذة:
ُ
((ريدكيالس)) التي تبطل السحر إنتهى مفعولها في تلك اللحظة،
ً
بلهفة:
ٍ فأستغل خا إم ويست األمر وألقى تعويذة اإلنتقال قائال
((الوهومورا)).
ضوئي على ُبعد مسافة أقل من مترين عن ٌ على الفور إنفتح له ٌ
باب
بشدة ،لكنه قفزمتيبسة ،وآملته ُركبتاه َّنتفضا بأطراف ّ نهض ُم ً يمينهَ ،
ِ
َّ
برمح في اللحظة التي عبر فيها
ٍ قذفه يورشو أن إال عبر الباب بسرعة،
من الباب.
۞۞۞
133
10
َ َّ
الظالم قد َ
ساد بالكامل بالفعل عندما استيقظ الكاهن كاي كان
ُ َ ُ
تاي ليرى املوجودات في غرفة نومه سوداء ً
تماما ويشعر بالوجع في ّ
كل
ِ
مفصل في جسده لكثرة ساعات نومه.
ٍ
َ
كانت رياح خفيفة َت ُه ُّب عبر خصاص نافذة الغرفة فوق رأسه
ُّ ً عندما َ
بالصداع ،ثم دفع نفسه إلى الجلوس معتدال ورأسه ينبض
َّ َ
الفراش. قبض على صولجانه وأتكأ عليه لينزل ٍ
بثبات من ِ
كثيرا ،ولم يستدعوني)) .قالها في نفسه ثم َ
فتح ((تأخر الوقت ً َّ
مناديا بصوت فيه كسل(( :نياخ هاو ،أين أنت؟)) .لم َّ
يتلق ً الباب
ٍ
مرة أخرى لكن بصووت َهادر(( :نياخ هاو!)) ،لم َّ ُ جوابا ،فنادى َّ ً
يتلق ٍ ِ
فحجيرة حارسه تقع على مقربة غريباُ ،
أيضا ،ما كان ً املرة ً جوابا هذه َّ ً
َّ من غرفتهُ ،ويمكنه أن يسمعه بسهولة .في ّ
النهاية اضطر الكاهن ألن ِ
َّ ُ ً
((أسرعوا ،لقد نمت أطول من الالزم. ِ مناديا الخدم ،وقال لهم: يزعق
ْ
كان يجب أن ُيو ِقظني أحد)) .لم يحصل على إجابة ،إذ كانت زوجته
ٌ ٌ
نومة هانئة، أجواء ساكنة كي يتحصل على ٍ السيدة كاريسا قد هيئت له
جميعا إلى ساحة املنزل الخارجية وأماكن إعداد ً فصرفت الخدم
الطعام.
ََ النوافذ َّ َّ
الطويل ،وعبر َّ قطع ُّ مرة أخرى َ َّ
الضخمة أتت ريح الرواق
134
الغنية ،وتر َ
اقصت دار َّ
والد ْر ُ ومحم ًلة برائحة َّ
الص َن ْو َبر َّ َّ ً َّ
الليل هامسة
َ
أضواء املشاعل على الجدران وتراقصت معها الذكريات في عقله،
وتذكر طفولته مع شقيقه الوحيد خا إم ويست ،ولم يعرف ملاذا في
تحديدا أتته هذه الذكرياتَّ .ثمة شعور حزين تمكن من ً هذا الوقت
فؤاده ،لم يعرف له مصدر.
تناهت إلى مسامعه ضحكات لدى وصوله إلى باب الشرفة الكبيرة َ
ً
حتبت رع وزوجته كاريسا املمتزجة بالصوت األعمق لشبسكاف ونياخ
هاو ،كانوا يتبادلوا أطراف الحديث عندما دلف الكاهن من الباب
ً ً َ
ورسم ابتسامة واهنة على شفتيه وهو يتحرك صوب مقعده.
وقف نياخ هاو وشبسكاف وإلى جوارهما حتبت رع لحظة رؤيتهم
َّ
الكاهن يدلف من الباب ،إال َّأنه أشار لهم بالجلوس.
قالت السيدة كاريسا بصوتها العميق وقد ملعت عيناها:
َّ
((إفتقدتك ،إال َّأنك كنت تحتاج هذه النومة)) .وبينما يجلس الكاهن
ٌ َّ
ووجه زينته على مقعده ،قالت حتبت رع بصوتها املنكه باملوسيقى
ّ
الذهبية)). اإلبتسامة(( :أنا أكثر من أفتقدك يا سيدي ..أنا والحمامة
متنا لهاِ ،والتفت إلى زوجته وهو يقول فيإبتسم الكاهن كاي تاي ُم ً
ّ َّ ّ
الدكة جدية شديدة(( :أنا جائع)) .من فوره نهض نياخ هاو من على ِ
وقال(( :سوف أطلب الطعام)) .رد سيده الكاهن(( :كما تشاء ،املهم أن
تأتيني بالطعام)) ،كانت رائحة السمك فائحة في املكان ،اشتمها الكاهن
والتفت ُيخاطب حتبت رع الجالسة أمامه على اليمين وعلى وجهها َ
135
َّ
تحلت بها .قال لها ُم ً
مازحا وهو ابتسامة ساطعة ُمضيئة كالجواهر التي
َ
ُيل ّ ِوح بيده كالسمكة(( :رائحة األسماك نفاذة ،من بين مئات األنواع من
الطعام ،يبقى السمك أكلتي املفضلة)).
ً َ
حدجته حتبت رع بإمعان ،وقالت هازة رأسها قبل أن تميل بها في
نهاية ما تقوله وتغلق جانب شفتيها وتسحبه إلى جانب(( :الحمامة
الذهبية)).
ً َ كان شبسكاف قد َسكب َّ
النبيذ لنفسه في الكأس وأخذ منه جرعة
ً
طويلة ،حتى لم َّ
رشفة في القاع عندما علقت
ٍ يتبق فيه غير ِنصف
ً
حتبت رع للكاهن ،فأنتفض ضاحكا وأهتز بشدة قبل أن َي ُترك الكأس
وتتهشم على األرض من شدة الضحك ،ونظرا لبعضهما َّ سقط َلت ُ
سويا(( :سوف أقتلك يا شبسكاف)). البعض في ذات اللحظة ورددا ًّ
136
العميق.
تالقت ُ َ
رؤيته عينيها
ِ أعينهما ،واستطاعت حتبت رع أن ترى وقع
عن قرب على قلبه ،فتوقفت عن الحركةِ ،وابتسمت وهي تنظر له
ٌ
بأيقاع ثابت ،دقت ُبركن عينيها وقد تعمدت فتحهما على ِاتساعهما.
دقات ُم ٍ
تتالية ٍ برفق على خشب املائدة الخشن ثالث السيدة كاريسا ٍ
صوت مفعمة بش ٍيء من الضحك(( :الحمامة ٍ وهي تقول بنبرة
ُ ّ
الذهبية)) ،في إشارة منها لحتبت رع أن تنجز أمرها.
ُ َ َ
عاد نياخ هاو ودلف من الباب بعدما أوص ى كبيرة الطهاه على
الطعام ،جلس في مقعده أمام الكاهن جهة اليسار في اللحظة التي
أنتهت فيها حتبت رع وشبسكاف من جمع قطع الزجاج املنثور وصعدا
ً
سويا إلى املائدة.
بصوت أتى منٍ جميعا حول املائدة ،قال الكاهنً ما إن أصبحوا
ً
أعماق روحه بعدما أغمض عينيه ِاغماضة أوحت بأنه يحاول تذكر
ُ
مايقوله(( :ك َّنا أمة عظيمة)) .واسترسل في الحديث.
ٌ َّ
الذهبية قصر امللك شمش ي ،قاطعة عرض غادرت الحمامة
السماء ،هذه َّ
املرة ليس في أتجاه النهر ،وليس في أتجاه الحدائق املعلقة
بعيد للغاية ،في إتجاه القصر اإللهي فيأتجاه ٍ
ٍ التي خلتَّ ،إنما في
ُّ ُ
الجنوب من األرض السوداء ،كيميت ،حيث قصر إله األرض كلها اإلله
الشاب رع.
137
كانت الرحلة تحتاج عدة أيام ليقطعها البشر ومثلهم من الطيران
ّ
الذهبية قطعتها في أي طائر عرفه الناسَّ ،إال َّ
أن الحمامة ّ
املتواصل من ِ ٍ
غمضة عين.
مقربة من قاعة العرش الخارجية وهي قاعة عظيمةُ ،بنيت في ٍ على
اصد فلكية متطورة ساحة كبيرة للغاية ُ
ضخمة ومر ٍ
ٍ معابد
ٍ تضم ٍ
ً ُ
وقاعات للطعام واإلحتفال .كان إله األرض رع مجتمعا بقادة الجيوش
َّ ً ورجال القصر والكهنة وبعض ُ
التجار ِعندما هبطت الحمامة ُمتخذة
ُ هيئتها البشرية على ُ
طريق اإلله وهو الطريق املمتد من ضفة النهر حتى
أرض املعابد ،طوله يقرب من ألفين متر وعرضه يزيد عن خمسة
يقرب من ألف تمثال أغلبها ألبيُ ص مامترا ،على جانبيه ُر َّ
وسبعون ً
الهول ،على هيئة جسد أسد ورأس إنسان ،وبعضها جسد أسد ورأس
كبش ،حيث ترمز رأس الكبش لإلله آمون ،أحاطت بالقاعة عشرات
املسالت وعشرات العمدان التي تتخذ شكل زهرة اللوتس ،طول كل
ٌ
ستائر قدما ،علقت فوقهم ومن حولهم واحد منها تجاوز الثالثون ً ٍ
ً ّ َّ ّ
الريح فجأة وأهتزترمزية اللون وبعضها أصفر وأبيض .وهبت ِ حريرية ِق ِ
األرض لحظة هبوط الحمامة وتجسدها.
جمد ُحراس القصر اإللهي في أماكنهم لثوان معدودات َت َّ
ٍ
قلق ال يعرفون ُ
مستغربين ينظرون إلى بعضهم البعض وإلى قائدهم في ٍ
ً
ما الذي ينبغي عليهم فعله ،بينما ترجلت الفتاة ُمباشرة صوب قاعة
ن ً ُ ُ العرش الذي كان ُ
مترا .وخ ِّيل يبعد عنها مسافة تقدر بمائة وخمسو
138
لها أو َّأنها تمنت لو يحدث ما تأمله دون ِقتال ،فهي لم تأتي إلى هنا
َّ سعيا للمتاعبَّ ،إنما ً
ً
طلبا للمساعدة .إال أن ذلك لم يحدث ،فعلى
َّ َّ
أوجنية حضرت ّ األخاذ إال َّأنها ب َدت لهم كساحرة الرغم من جمالها
ُ
لتنال من إلههم وتحدث ش ًيء من الجلبة.
تمنت لوتفاجئت بالحراس يندفعون كالسهام املارقة في إتجاههاَّ ،
ومرة أخرى لم يحدث .بيد َّأنهم يتدخل قائدهم فيأمرهم بالتراجعَّ ،
ُ ْ َ
شاهرا سيفه،ً احاطوا بها ،إذ اقترب منها إثنين من الحراس ،ك ٍ ّل منهما
غاضب
ٍ هامس
ٍ بصوت
ٍ وملحت في عيني أحدهما جرأة وتهور ،فقالت
((إبقيا على حياتكما ..ال تقتربا أكثر)). وواثق وهي ُتشير لهما بكلتا يديهَّ :
ً
إنتباها، ساخرا من ضآلة حجمها ونحولها ،لم ُي ِعرها ً ِإبتسم حارس
ً
وفسر كلماتها بكونها خائفة أو حمقاء ،وأندفع َّ َّ
بالسيف نحوها.
ُ
لم تكن تملك رفاهية الوقت ،فقد أوشكت الشمس أن تغيب
َّ
مرة أخرى وإال َس ُتحرم من الخروج للضفة وعليها أن تغوص في املاء َّ
شفقة أو رحمة،
ٍ جد ًدا كما َّأنها لم ُتكن في حالة تسمح لها بإبداء ّ
أي ُم َّ
ورغبت أن ترسل رسالة قاطعة ُمفادها َّأنها تريد ُمحادثة إله األرض،
مفاجأة دارت على عقبيها أمام الحارس ،وطارتٍ بحركة
ٍ وسوف تفعل.
معها خصالت شعرها الطويلة املنسدلة على ظهرها ،ولم يرى أو َيعرف
وبضربة
ٍ أحد املحيطين بها كيف حصلت على السيف من بين يديه
بعنقه كأنه قطعة من الكتان تحت َ
انفلق فوالذ الواقي املحيط ُ واحدة
ٍ
َّ ُ ِظ ّل َّ
شهقة خفيضة
ٍ السيف ،ولم يس ِعف الوقت الحارس إال بإطالق ِ
139
الدماء من َحلقه وسط ذهول الحارس الثاني ّ
وبقية قبل أن تنبثق ّ
ِ
اح َبته شهقة إستطاعت أن ص َ
الحراس الذين أحاطوا بها مع فزع وهلع َ
تسمعها بوضوح من جانب الحاضرين في قاعة العرش.
ً
خائفا وهو يلتفت خطوات للوراء تراجع الحارس الثاني بضع
ٍ
للحراس من حوله ،قبل أن يتجرأ ُويهاجمها ر ً
افعا سيفه في الهواء
فتفادته الفتاة برشاقة شديدة َ
ودارت على َ ً
وواضعا خلفه كل قوته،
سيف على مؤخرة كتفيه فأصابته عقبيها ُم َّ
جد ًدا ووجهت له ضربة
ٍ
بجرح قطعي بعرضهما وأسقطته ً
أرضا.
بقية الحراس للخلف خائفين ،بينما ترجل قائدهم وقال تراجع َّ
ً َ
واختطف ً ُم ًّ
فأسا حربية طويلة املقبض من حتدا(( :ستموتين لهذا))،
يد أحد الحراس العماليق اللذين وقفوا على مشارف قاعة العرش،
وأضاف(( :ستدفعين حياتك َث ً
منا لحياة الحارس!)).
َ
ِ
سادت حالة من التوتر والقلق في املكان ،ووقف إله األرض رع
غضب أخذ يتزايد ،ومن حوله وقفت أنا وكبار ٍ ُيشاهد ما يحدث في
الكهنة ،شقيقي األكبر خا إم ويست ،وإمحوتب سيد الكهنة الذي أوتي
ألحد غيره من قبل ،إلى جوار الكاهن َحنكليس من العلم ما لم يؤتى ٍ
والد الساحر يورشو.
ّ َ
بعلو شديد بدت صرخ قصيرة ٍ ٍ هاجمها القائد وحده ،فصرخت
ُ
أخيرا(( :ال!)) ،لم تكن خائفة َّإنما كارهة
عثرت على صوتها ً فيها كمن َ
الدم ِاستحوذ على القائد وحراسه بالفعل، إلراقة الدماءَّ .إال أن جنون َّ
140
طغت على نبرتها القسوةَّ . َ َّ
وانقض ٌّ
تحركت بصيحات
ٍ كل منهم عليها
السيف في يدهاص ِّدقها القائد وحراسه ،وكان َّ الفتاة بسرعة لم ُي َ
ٍ
َّ ُ َ َ
وثابتا كقطعة من جسدها ورفعته لتصد فأس قائد الحرس لتصقا ً ُم ً
فتفجرت شرارة تألقت باألصفر َّ الذي هوى بضربته عليها من أعلى،
بصوت ُّ َ
ارت َ
يصم اآلذان ،ودارت على ٍ طم الفوالذ بالفوالذ الناري عندما
ً
جروحا في وجهه على عقبيها فضربته بخصالت شعرها الذي سبب له
ً
برشاقة جعلت الحراس يفتحون ٍ الفور ،ومالت برأسها منحنية للخلف
بالسيف أفواههم على آخرها غير مصدقين َّأنها فعلت ذلك ،ثم ضربت َّ
مقبض الفأس في يد القائد الشاب ليطير النصل ُم ً
نكسرا ً
دائرا في
الهواء.
تدخل ثالثة من الحراس ،ثم أربعة آخرين ،وحاول أثنين ُمساعدة
القائد في النهوض من األرض .توقفت في مكانها تزفر في غضب وعيناها
األرجوانيتان مثبتتان على األرض.
ً
غاضبا وهو يدفع الحارسان بعدما ساعداه ،وألقى نهض القائد
َّ
انقض جندي فجأة عليها، مقبض الفأس َوم َّد يده إلى سيفه ،بينما
َ
وصلصال. ورقص سيفاهما ً
معا َ َ
فتفادته
عندما عاد القائد إلى حومة القتال إلى جوار الحراس الذين
تزايدوا وتجرأوا كانت الشمس بالفعل قد مالت نحو املغيب ،والحظت
ووجدت نفسهاَ الظالل َّ
والرياح الباردة قد أحاطت بها، الفتاة أن ِ
ُّ ً
ثانية أخرى .كان الكهنة األربعة قد
مرغمة على التقدم دونما تضييع أي ٍ
141
َ ُّ
ظلوا بمنأى عن القتال غير واثقين بما يجب أن يفعلوه ،وقفوا في حالة
وعلم إمحوتب أن ما يتجسد أمامه قد يكونترقب وتأهب ملا يحدثَ ،
أي ش يء آخر على أن يكون ٌ
كائن بشري ،وأيقن من ذلك عندما تجمع ِّ ٍ
الحراس يتقدمهم القائد وأحاطوا بها ،فمالت برأسها وأنحنت بجسدها
َّ ً ً ً
أرضية عنيفة، خاطفة وبسطت كفها على األرض ُمحدثة هزةٍ بسرعة
ٍ
جعلت القائد والحراس يتطايرون من حولها .ترجل اإلله رع عن عرشه
بمالمح
ٍ ثابتة ومر من بين الكهنة األربعة وهو يترقب األمربخطوات ٍ
ٍ
بدت ُمستغربة.
حاول الكاهن كاي تاي أيقافه ،بينما تقدم خا إم ويست يرافقه
تعويذة قالوا فيها(( :ستيناريمورا))ُ ،مستخدمين
ٍ َحنكليس وقاما بألقاء
ًّ
سحريا يصعب تجاوزه. معا ،فصنعوا ً
جدارا السحرية ً
َّ قوتهما
نهضت الفتاة عن األرض وألقت السيف من يدها ،ثم ترجلت
بثقة كبيرة مارة من بين الحراس املبعثرين ً
أرضا. ٍ
وحنكليس في ثقة ً
ظنا منهما َّأنها لن تستطيع إبتسم خا إم ويست َ
ِ
تجاوز جدارهما السحري ،بينما ملعت في عين إمحوتب نظرة تنم عن
يأس ،وقد علم َّأنها ستتجاوز الجدار وكأنه غير موجود.
وحنكليس عق خا إم ويست َ فص َ
مرت الفتاة عبر الجدار بالفعلُ ،
كنا بيد َّأنه أشار َّ
إلي بأن أترك إله ملا شاهداه ،ولم يحرك إمحوتب سا ً
األرض وأتراجع خطوتين للوراء ،فتراجعت وأنا أغمغمّ :
((أي لعنة هذه،
حرا أسود ما ،أو َّ ً
شعوذة أو ِس ً
أن كل ذلك محض كابوس)). هل هي
142
كانت الشمس على وشك املغيب في غضون دقيقتين ،عندما
بسطت الفتاة راحة يدها فوق رأس إله األرض رع ،وأمعنت النظر في
عالم ًّ
عينيه ،وتواصلت معه ذهنيا ،أخبرته أنها أبنة ملكان أتيا من ٍ
ً ً
وتعقيدا ،لهما قوة لم ُيعرف بها من قبل ،وأن أبنتها، آخر ،أكثر قوة
ُ ُ َ
وتحتاج إلى املساعدة في بالد آشور ما بين حفيدت ُهما الوحيدةُ ،محتجزة
ًّ
سحريا فيه وارا ُ
تحمل ِس ً النهرين لدى امللك شمش ي .ونوهت أن أبنتها
َّ َ
وس ِم َع عنها البشر أجمعين ،إال َّانها ال تعرف كيف عرف َ قوة أكبر مما
ً
تستخدمه .وأضافت(( :حرر الفتاةِ ،واتخذها ملكة وزوجة ،وأحصل
َ ْ ً َّ
بذلك على ُملكا ال َي َنب ِغي ِأل َح ٍد ِّمن َب ْع ِدك)) .تراجعت خطوة للوراء وهي
ترفع راحة يدها عن رأس اإلله رعِ ،والتفتت إلى الغرب ،فوجدت
ثوان معدودات قبل أن الشمس قد غاصت في الرمال ،ولم تتبقى سوى ٍ
تفقد قدرتها السحريةِ .التفت بوجهها ،ودارت بعينيها تتأمل وجوه
ُ الكهنة األربعة لثوان معدودات ،بدا َّ
كأنها تبحث عن ش يء ما غير مفهوم ٍ
َّ َ
فيه ذلك الش يء مما لهم ،وث ُبتت عيناها في عيني إمحوتب ،وقد ميزت ِ
جعلها تختاره .فدنت منه حتى كادت تلتصق بصدره ،ووضعت أطراف
أناملها على جبينه وهمست له(( :هذه التعويذات السحرية التي
السوار،وحدك ُيمكنه تحمل مسؤوليتها))ِ .انبثقت من راحة يحتاجها ِ
يدها طاقة خضراء سكنت في رأس إمحوتب الذي أغمض عينيه وقد
شديد في جبينهِ .والتفتت الفتاة ُبركن عينها تنظر صوب ٍ بوخذ
ٍ شعر
تماما أسفل الرمال ،والتفتت الشمس ،فوجدتها على وشك أن تختفي ً
مرة أخرى تنظر في عين إله األرض رع نظرة أخيرة قبل أن تتحول إلى َّ
143
ً حمامة َّ
ذهبي ٍة وتشق الهواء طائرة بأندفاع شديد في ِاتجاه النهر .في ٍ
َّ
فتحولت اللحظة التي وصلت فيها إلى الضفة كانت الشمس قد غابت
َ
بماء النهر وأختفت.
صغيرة من املاء ِاختلطت ِ
ٍ موجة
ٍ الحمامة إلى
ليلتها ،رفض اإلله رع النقاش مع كهنته األربعة فيما حدث ،وتوجه
ْ َّ
هانئة طوال الليل ،إذ شعر
بنومة ٍ ٍ مباشرة إلى غرفته ،إال َّأنه لم يحظى
لوقت طويل.
بوخذة في رأسه آملته ٍ ٍ
الريح ،التي َ
دفعت َّ غائما كثير ّ
بزغ صباح اليوم التالي ً َ
السحاب في ِ
ق ٌ ٌ ُ ٌ َّ
السماء وجعلته يضطرب ،ودوا رعد مخيف وأنار بر طوال الوقت.
ً
عندما ِإنتصف النهار غفى اإلله رع لدقائق محاوال إراحة رأسه من
ألم بها .فرأى في منامه الحمامة الذهبية تهبط أماماأللم الشديد الذي َّ
عرشه وتتجسد في هيئة الفتاة البشرية بكامل جمالها َّ
األخاذ ،إبتسمت
وذكرته بضرورة إنقاذ طفلتها ،وتراجعت للخلف بضع َّ له في لطف
املخيف ونفثت نيراناً ُ
خطوات وأتخذت هيئة طائر العنقاء العمالق
ً
شديدة من حوله وهي تخبره بأن تأخره سوف يجلب الخراب في كل
مكان في األرض .ثم أختفت. ٍ
في مساء اليوم نفسه ،إجتمع إله األرض بكهنته األربعة ،تداول
معهم األمر ِمن كل جانب دونما إخفاء ش يء ،كذلك فعل إمحوتب
َ
الذي أفصح عن رؤية راودته فقال(( :حلمت برمال الصحراء تتالطم
موجا من رمال سوداء ُتحطم َّ
البوابات يت ً حول أسوار طيبة ،أ ُ
ر
ٍ
َ َّ
واألبراج ،ثم تدفقت الرمال من فوق األسوار وأغرقت املدينة .)) ..
144
((رمال أسقطتٌ قاطعه إله األرض رع وقد تجمدت مالمحة ،قال:
وطفت ُجثث العامة والحراس في َ املسالت وحطمت املعابد،
الساحات)). َّ
145
أجاب إمحوتب بكياسة (( :ال أدري)). اآللهة؟!))َ .
146
ُ
مبكر من صباح اليوم السادس ،حضر غداف أسود ٍ وقت
في ٍ
ّ ً ُ
قادما من الشرق ،حيث مملكة آشور ،حامال بين مخالبه دعوة ُح ِد َد ً
فيها موعد زفاف إبن اإلله شمش ي على الفتاة ،مما وضع اإلله رع
ّ ٌ
سريع في شأن ٍ وكهنته في موقف صعب ،إذ توجب عليهم ِإتخاذ قر ٍار
الفتاة .بعد مشاورات مع الكهنة ،قال(( :إن قتال شمش ي لهو ٌ
أمر
خيارا آخر)) .من ثم إتخذ قر ًارا بأن النذر ال تدع لنا ً أكرههَّ ،إال أن ُ
نتوجه إلى بالد آشور وننقذ الفتاة مهما كلفنا األمر.
في مساء اليوم ذاته ،ومع ظهور القمر في السماء ،إخترقت عجلة
حربية مصنوعة من الفوالذ شوارع املدينة يتبعها أربعة عجالت حربية
َ
أخرى يحرسونها .تباينت ردود أفعال العامة من الناس لدى رؤيتهم
العجلة الفوالذية تخترق الشوارع الرئيسية في املدينة وتتجه صوب
ْ
طريق اإلله ،إذ هلل بعضهم وأطلق آخرين صافرات التشجيع
والترحيب ،والبعض القوا الورود والزهور على الرتل وهو يمر ،وملعت
في عين الجميع نظرة تدل على الفخر .لدى وصول العجلة الفوالذية إلى
قاعة العرش الخارجية ترجل منها ِايورخي قائد جيوش اإلله وحارس
العمر ،لكنه شديد َ
يتجاوز الثالثين من ُ ً
وسيما لم القصر اإللهيً ،
شابا
رشيقا ًالدعابةً ، س ُّ َّ
يتحلى ِبح ّ
نحيفا ِ الوقار كرجل في الستين ،صارم ال
أسود طويل ًُ ً ً َّ ّ
العنق، جلديا حذاء رماديتان،ارتدى كسكين ،له عينانِ
َّ ُ ُّ ً ً
وسرواال أسود من الصوف ،وقفازين أسودين من فرو الخلد ،وسترة
بحلقات فوالذية .ما إن إستقر ِايورخي في ٍ جلدية سوداء ُمطعمة
ً
شارحا األمر مقعده ،شرع إمحوتب في التحدث بصوت امللك،
147
بتركيز شديد. ٍ بتفاصيله للقائد الذي أنصت ُله
ضيق ِايورخي عينيه وقال(( :ال عندما فرغ إمحوتب من الحديثَّ ،
َّ ُ ّ ٌ
أمر مثل هذا لهو ش ٌيء
تلهف للقتال ،وأن مرافقتكما في ٍ أنكر أنني م ِ
ً
يروقني ،ولكن .))...صمت ِايورخي ،ففهم إمحوتب أن شيئا ما يدور في
ذهنه يخش ى أن يبوح به ،فتحدث إليه مرة أخرى بصوت اإلله ،قال:
ُ
((ال ش يء ُلتخفيه ،قل ما عندك)).
((إنني عضو في مجلس اإلله مذ توليت قيادة قال ايورخيَّ :
ِ
َّ َّ َّ
الجيوش ،وعلى الرغم أنني لست من دماء ملكية إال أنني حظيت بمكانة
ً
واضحا ألحد من قبلي أن حظى بها ،لذا توجب على أن اكون لم يسبق ٍ
وصريحا على قدر هذه املسؤولية)) ،ثم وجه بصره إلى اإلله رع وأضاف: ً
كبير عليكم ،إن شمش ي خطر ٌ ٌ ((جاللة اإلله ،مرافقتكم لي فيها
جيشا ً ن ً
كبيرا وسحرة ذائعوا وجيوشه ليسو مجرد رعاه ،إنهم يملكو
ّ الصيت)) ،ورفع إصبعه ُم ّ
ومحذ ًرا(( :غير أنهم يتحصنون في ِ ند ًداِ
نينوي)).
سأله َحنكليس(( :وماذا في نينوي؟)).
بصوت إرتفع ً
شارحا التفت إليه ايورخي وضيق عينيه ُم َّ
جد ًدا وقال
ٍ ِ ِ
ُ قليال ًَّ
عما كان يتحدث به من قبل وهو يشير بأصابع يده التي أخذت
هيئة مخالب(( :نينوى ..مأوى األسود ،مدينة الدماء ،ال تفارقها
ََ الفرائس ،ال ينقطع فيها صوت ّ
البكر ،خيلها السياط وصوت قعقعة
تخب ومركباتها تثب ،فرسانها آلفوا لهب السيف وبريق الرمح ،ما ّ
148
َّ
دخلها جيش إال وأضحى كومة من الجيف)) .ومر بعينيه يتطلع في وجوه
خيلواحدا تلو آخر وأضاف(( :لن يكون األمر سهل كما ُي َّ ً الجميع
ُ ً
للبعض ،فدعوني أذهب بدال منكم)).
َّ
قاطعة إمحوتب بيأس(( :الفتاة لن تبرح مكانها إال برفقة اإلله،
ونحن لن نتركه بمفرده ًّأيا كان ما ينتظرنا وراء النهرين)) .تدخل خا إم ُ
ضيفا(( :بيد َّأنك في حاجتنا ملواجهة سحرة شمش ي)). ويست ُم ً
قال ِايورخي(( :إذن ،فليكن أمر الفتاة ًّ
سريا ،وال يخرج من بيننا،
ُ
أخش ى أن يتناقل الجنود الحديث فيما بينهم بطريقة تقلل من همتهم)).
سأله َحنكليس(( :كم من جنود الجيش سترافقنا؟ ألف! إثنين! أم
أجاب ِايورخي وقد ضيق عينيه(( :مائة فقط)) ،وردد َ َّأنها ثالثة!))،
ٌ َحنكليس من وراءه ُم ً
حتدا وقد ظهر ذلك في مالمح وجهه(( :مائة
فقط!!)).
ٌ
قال ِايورخي(( :نعم ..مائة فقط ،وليسوا من جنودنا ،بل من
شعوب الشردانا)).
شديد ر ً
اغبا في ِفهم ما ٍ بأمعان ِالتفت اإلله رع إلى ِايورخي ً
ناظرا إليه
ٍ
ْ ً
ستغربا أختياره جنود الشردانا ،إذ أنهم قبائل سكنت يدور في خلده ُوم
ً َّ
سابقا ،إال أن ِايورخي إستطاع أعالي البحار ،وشاركوا في غزو كيميت
هزيمتهم وضمهم لصفوف جيوش اإلله.
((مقاتلي الشردانا ،أنحف وأخف فسراُ :
إبتسم إمحوتب وقال ُم ً
ِ
149
َّ وأسرع ،مما يجعل الخصم ُي ّقلل من ّ
شأنهم ،إال أن رشاقتهم العالية
ِ ِ ِ
جيش ُ
وكفائتهم البدنية تجعل مقاتل واحد منهم بالعشرات من أي
ٍ
آخر)) .بادله ِايورخي ذات اإلبتسامة وهو يقول(( :بيد أن العدد القليل
عاديا للغاية ،لن ُيلفت إنتباه قادة جيوش ً سيجعل األمر َيبدو
شمش ي)).
((حدد للزفاف أنموجها حديثه للقائد ِايورخيُ :ً قال إمحوتب
يكون ليلة إكتمال القمر القادمة ،أي بعد ثالث أسابيع من اآلن ،لذا
ُ ً
جميعا أن نتحرك بأسرع ما في املستطاع)). علينا
ً ً َ ً
تفويضا كامال ((لديك موجها حديثه إلى إمحوتب: تدخل اإلله رع
َ
ضرورية))ِ .واعتلت تكشيرة وجه َحنكليس
َّ ترتيبات
ٍ ّ
أي
وسلطة بإجراء ِ
ُّ
لحظات ليستوعب كلمات اإلله ،لكن ٍ سمع هذا ،واستغر َق َ عندما
َّ
بإبتسامة ُمصطنعة
ٍ أخيرا َ
غادر الظالم عينيه وقال جاء الفهم ً عندما َ
وهو يوميء برأسه(( :إمحوتب يستحق هذا)).
شديد(( :فليكن يا جاللة
ٍ بإمتنان عتدل إمحوتب في جلسته وقالِا َ
ٍ
ُ َ
بنبرة ت ِح َّسه على اإلسراع في
اإلله))ِ .والتفت للقائد ِايورخي وأضاف ٍ
الطريق إلى ما بين النهرين ٌ َّ ّ َ
شاق وطويل، أذكرك بأن
تجهيزاته(( :دعني ِ
ووقتنا قصير)).
ُ َ
برشاقة تامة وقال وهو يتحرك(( :سأكون عليه ومن ٍ نهض ِايورخي
خلفي جنود الشردانا قبل مطلع َفجر الليلة القادمة ،وأنا على ثقة َّ
بأننا ٍ
ً
جميعا سنعود ساملين ُمصطحبين الفتاة)).
150
۞۞۞
151
11
لثالث أسابيع كاملة ،مشينا في موكبنا قاطعين الطريق في إتجاه
ً َّ
الشرق بال توقف إال قليال ،خمسون عجلة حربية مصنوعة من
ُ ُّ
حملت إثنان من أمهر جنود الشردانا ،ك ِ ّل واحدة منها َّ ٍ الصلبّ ،
كلِ
ٌ ٌ ّ َ ُ َ َّ ٌ
ورمح وخنجر السالح على أكمل وجه ،سيف واحد منهم مدجج ِب ِ ٍ
وصدرية واقية ،جميعها أسلحة فوالذية مصنوعة في قلعة.
ُ
حربية مصنوعة من الفوالذ ،إثنين منهما ٍ عجالت
ٍ تتقدمهم ثالث
وبقية الكهنة ،والثالثة حملت إله األرض برفقة قائد الجيوش حملتني ّ
ِايورخي.
في خمسة َّأيام ،مررنا عبر متاهات الصخور الشمالية فيما بين
ً ُ
وأخيرا بعد البحرين ،وفي عشرة أخر عبرنا األراض ي الباردة فيما بعدها
خمسة َّأي ٍام إضافية إجتزنا مدينتي نمرود وخورسباد ،ثم الحت في األفق
مدينة نينوي املعروفة بسيدة املمالك ،الحت أسوارها املزدوجة
الضخمة والخندق املائي املحيط بها واللذان صنعا منها مدينة حصينة
لدى إقترابهم أكثر بدت لهم هياكلها املهيبة وجنائنها يصعب ِاقتحامهاَّ .
ّ
املعلقة ومعابدها الهرمية وقصورها شاهقة اإلرتفاع .في الساحات
بالدخان ملب ًدا ُّ املحيطة بقصر اإلله شمش ي ،كان هواء ُّ
الصبح َّ
َ الطهي املنتشرة في ّ َّ
جلس أربعة آالف كل مكان ،إذ
ِ املتصاعد من نيران
152
َ ُ
ليتناولوا مقاتل ممن أسند إليهم مهمة حماية القصر ليلة الزفاف
طعام اإلفطار تحت رايات قائدهم دافوس ي.
كان ُيسمح لكل مدعو بالدخول إلى القصر اإللهي برفقة كهنته
ومائة فقط من الحراس ،وهو ما علم به ايورخي ُم ً ٌ
سبقا إذ إتضح َّأنها ِ
عتاد عليها في مملكة آشور وبخاصة اإلله شمش ي، مراسم ُمتعارف ُوم ٌ
وما دفعه ألختيار مائة من أفضل ُمقاتلي الشردانا.
أمام بوابات القصر الخارجية ،أسفل األسوار شاهقة اإلرتفاع،
لدقائق معدودة
ٍ شديدة الحراسة ،املزدحة بحاملي النشابات ،توقفنا
في إنتظار فتح البوابات وتمهيد الطريق.
ُ
يتطلع في الساحات َّ
وتجول ِإستغل إمحوتب دقائق اإلنتظار
ً املحيطة بالقصر ،الحظ أن موكبنا هو ُ
ألقل عددا على اإلطالق مقارنة
بمواكب كثيرة أتت لحضور حفل الزفافَّ ،إال أن أكثر املواكب ً
عددا
والذي لفت إنتباهه كان موكب امللك حمورابي إله بابل وأقاليم مجاورة
يقرب ِمن خمسة اآلف ُمقاتل جميعهم من لها ،والذي أتى برفقة ما ُ
ٌ
صيت ذائع في فار ُع القامة قو ُّي البنية ،لهم ٌ
جنود أكاديا ،شباب ِ
إستخدام السياط الطويلة لتشتيت العدو ثم طعنه في العنق بالرماح
حرب وحشية تعتمد َّ ّ ُ
الطويلة .عرفوا لدى املمالك املجاورة بأنهم آلة ٍ
ّ
معركة خاضوها لحماية
ٍ سياسة بث الرعب في قلوب خصومهم .في آخر
مدينتهم ،قام امللك حمورابي ببناء عدة أبراج عند بوابة قلعته ،أطلق
عليها ُبرج األلمُ ،وبرج األراملُ ،وبرج الصراخُ ،وبرج اللصوصُ ،وبرج
153
محرقة اإلله .وسلخ جلد كل الزعماء الذين تمردوا ضده وكس ى األبراج
بجلودهم ،سجن البعض داخل ُبرج ،ووضع البعض اآلخر على خوازيق
حول ُبرج ،كما بتر أطراف الضباط ،وأحرق جميع األسرى أمام ُبرج.
ً ظر فيهم وما يملكونه من ُم َّ أمعن إمحوتب َّ
الن َ
عدات ،وكان عاملا أن
ً ً
شديدا قد نشب بين امللك شمش ي إله آشور وامللك حمورابي إله خالفا
بابل قبل عدة شهور ِعندما طلب األخير إمدادات عسكرية ولم يجد
إجابة ،فغضب بشدة وأسر غضبه في نفسه لظروف الحرب التي كان
يخوضها ،بيد أن شمش ي أدرك خطأه ً
الحقا فأرسل إليه هدية َّ
مكونة
ً ٌ
ِمن ثالثين وزنة ذهب ،وثمانمائة وزنة من الفضةُ ،مضاف إليها أحجارا
كريمة ،وكل انواع كنوز مملكة آشور النفيسةَّ ،إال أن حمورابي َ
أعاد
افضا أياها في ذلك الوقت .وعلى الرغم أن الحراس ر ً الهدية مع ُ
َّ َّ
نفسه أن
ِ العالقات بين اململكتين ظلت قائمة ،إال أن إمحوتب أيقن في
املكون من خمسة أالف ُمقاتل من األكاديين لم يأتي هذه املوكب َّ
حسابات قديمة.
ٍ لحماية ملكهم فقطَّ ،إنما لتصفية
ُ ّ
نتظر أمام بوابات
لدى عودته ِوإنضمامة إلى صفوف املوكب امل ِ
كنت إلى جوار عجلة اإلله الحربية قصر امللك شمش ي املزدوجةُ ،
ً بمرافقة خا إم ويست َ
وحنكليس عندما أقترب ِايورخي مترجال في
اللحظة التي عاد فيها إمحوتب وتطلع في وجوهنا بوجوم قبل أن يهمس
ستنهب ..أبوابها ُ ً
قائال(( :إن نينوى ُ
ستفتح ألعدائها ثقة ُم ٍ
فرطة ب ٍ
ّ
وحراسها سيهربون الليلة)).
154
بإستغراب ،إنتبه الجميع لحديث إمحوتب ،الذي أضاف:
صبح قفرا)) .إقترب ضابط ممن يحرسون ((ستغرق في الدماءَ ،س ُت ُ َ
البوابات وقال(( :يمكنكم العبور اآلن)).
ألوان زرقاء مشيدة بالحجارة ذات اج َّ وراء البوابات ،الحت أبر ٌ
ٍ
ستائر حريرية مشرطة بها ٌ ورمادية وخضراء ،معلق فوقها وفيما بينها َّ
ٌ
ذهب وفضة تحمل ذات األلوان. خيوط من ٍ
ّ
ألي ُ ُ
على األبراج وحولها وقف الفرسان مرتدين دروعهم متأهبين ِ
ترسا ُم ً
قيدا ش يء طاريء .في كل زاوية يمكنك أن ترى ً
أسدا مف ً ٍ ٍ ٍ
حارس مسؤول عن خدمته ،كما أن تماثيل ٌ بالسالسل وإلى جواره
ُ
األسود بحجمها الحقيقي منتشرة في األنحاء .في املمرات املفضية إلى
سيقام عليها حفل الزفاف، ساحة القصر اإللهي الرئيسية والتي ُ
ٌ
ِإنتشرت الفتيات الجميالت تحملن الورود وإلى جوار كل واحدة منهن
التفاح واملانجو وقواني مائدة ُملئت عن بكرة أبيها بالفواكة وعصائر ُّ
النبيذ العتيقة .عند بوابة القصر اإللهي الداخلية ،ترجل اإلله رع نحو َّ
شديدة.
ٍ بحفاوة
ٍ القصر حيث وقف امللك شمش ي ووسحرته يستقبلونه
وحنكليس ،بينما تأخر ترجلت من خلفه برفقة خا إم ويست َ
خطوات متثاقلة وهو يتأمل الغيوم املتراكمة في السماء
ٍ إمحوتب بضع
الري ُ
اح ويتطلع في األشجار وتأثير حركة الهواء عليها بعدما إشتدت َّ
ُ
تباطئت ألجله ،عندما عما كانت عليه قبل ساعات. ملحوظ َّ بشكل
ٍ ٍ
ّ ّ َّ ُ ْ َ
حظصوت أوحت إلي أنه ممتن قال(( :أي سوء ٍ ٍ لحق ّبي همس بنبرة
155
ينتظرك يا شمش ي!)) ،نظرت إليه ولم أفهم ما يعنيه ،فأضافَّ :
((ثمة
عاصفة شديدة على وشك أن تضرب املدينة ،ستكون هناك
أضطرابات في األجواء يصاحبها رعد وبرق وأمطار غزيرة قبل حلول
املساء)).
كان القائد ِايورخي قد ِإستغل إستراحات الطريق املتقطعة ودقائق
سبقا مع جنودالتوقف أمام بوابات القصر في وضع وتوضيح ُخطته ُم ً
ْ
مجموعة منهم ،إذ طلب منهم اإلنتباه
ٍ الشردانا والتأكيد على أدوار كل
طوال الوقت ،والتواجد قرب بوابة القصر الداخلية القريبة من قاعة
أي شخص من عرش شمش ي الرئيسية وأكد عليهم بعدم التحدث إلى ّ
الغرباءَّ ،أما إمحوتب فقد جمع معلومات كثيرة عن طبيعة القصر
واقفا يتبادل أطراف الحديث مع بعض كهنة وممراته ،بيد َّأنه كان ً
نينوي وآخرين من مملكة بابل عندما خرج أحد األشخاص من واحدة
بشكل ُمفرط .إقترب من من بوابات القاعة والحظ تمجيد ُ
الحراس له
ٍ
أحد الحراس وأبتسم في وجهه وهو ُيعطيه ُجعر ًانا ذهب ًيا على سبيل
املحبة ،عند رفض الحارس أخذ الهدية قال إمحوتب(( :لقد أحضرنا
كثير من الحراس حصلوا عليها)) .فأخذ املئات من كيميت كهداياٌ ،
شديدة.
ٍ الحارس الجعران ونظر إليه بحفاوة
في هذه اللحظة استغل إمحوتب إنبهار الحارس وتشتت ذهنه
وسأله عن الرجل.
أخبره الحارس أ َّنه ماحنتوش الرجل األكثر ً
علما بالقصر اإللهي
156
وخرائط وكنوز نينيوي ،فهو حامل أسرار امللك واململكة واشار إلى
ً
قائالَّ :
((إنها الغرفة األهم في القصر بأكملة، الغرفة الذي خرج منها
غرفة ماحنتوش)).
خطوات مبتعدا عنه قبل أن
ٍ هز إمحوتب رأسه للحارس وتراجع َّ
ً
شديد ُمستغال خفته وجسدهٍ ببطء
ٍ يتخفى وسط الحشود ،ثم تسلل
غفلة من الحراس ،دفع
الضئيل حتى وصل إلى غرفة ماحنتوش وفي ٍ
بابها ودلف إليها في ملح البصر.
كانت الغرفة شاسعة املساحة ،بها مكتبة عظيمة لم يسبق ألحد
أن رأى أو سمع عن وجود مثلها ،تتوسطها مائدة خشبية عمالقة رصت
عليها عشرات الكتب موغلة القدم ،وبعض لفائف الورق بدت من
الوهلة األولى َّأنها خرائط .تتوسط املائدة بعض الشموع داخل قناديل
زجاجية ُتض يء املكان فكأنه ً
نهارا.
تنقل بعينيه بين رفوف الكتب ولفائف الورق ،حتى سقطت عينه
ُ ٌ
رف فيها خرائط نينوي القديمة أسفله رف آخر أشير له بخرائط على ٍ
بواحدة بعد واحدة بعد واحدة ،وبداٍ نينوي الحديثة .مد يده ،أمسك
َّ َّ
أنه يبحث عن ش يء ما بعينه ولم يجده ،إال أنه ً
أخيرا تهللت مالمحه
واحدة بعينها.
ٍ بعدما فتح
ٌ
كتاب موغل بتعدا عن رف الخرائط فوقعت عينيه على التف ُم ً
ِ
ُ
القدم ،كتب عليه أسرار السحرة وغابة املوتى.
157
خطوات
ٍ أمسك بالكتاب في اللحظة ذاتها التي سمع فيها صوت
ً ُ
شديد وتوارى خلفٍ بحرص
ٍ تقترب من باب الغرفة .إنتفض مهروال
الباب .دلف ماحنتوش إلى الغرفة ،وفي اللحظة التي وطأت اقدامه
شيئا ما على غير ما ُيرام ،فتوقف بمنتصف الغرفة أرضيتها شعر أن ً َّ
وأخذ يتفقد الكتب عليها والحظ أن خريطة بعينها في غير مكانها ،وقبل
عال للغاية ،شقت بصوت ٍ
ٍ أن يلتفت للخلف صاحت إمرأة في الخارج
صرختها عنان السماء ،فهرع نحو النافذة ونظر منها ،كان أحد ُ
الحراس
ممن يعلقون الزينة فوق أبراج ساحة القصر قد سقط ً
أرضا وأصيب،
فصرخت املرأة لرؤيته يسقط إلى جوارها.
شديد
ٍ بهدوء
ٍ إستغل إمحوتب إنشغال ماحنتوش وغادر الغرفة
للغاية وعاد إلى قاعة العرش مرة أخرى وأندس وسط الوفود والزحام.
وقت األصيلِ ،امتلئت ساحات القصر الخارجية بالزوار العاديين
والحراسِ ،وامتلئت قاعة عرش امللك شمش ي بامللوك والكهنة والسحرة
ٌ
حتفاالت صاخبة ،فدقات الطبول واألبواق لم ُ
أصوات ِا ورافق ذلك
تتوقف منذ الصباح .في الوقت ذاته إشتدت الرياح وصاحبتها أتربة
ورمال ،وبدت في وجه إمحوتب نظرات إمتنان لآللهة عندما دوى صوت
وهم بالتحرك صوب الرعد وتردد البرق في السماءِ ،والتفت من فوره ّ
لثوان معدودات القائد ايورخي الذي كان ً
واقفا قرب مقعد اإلله رع.
ٍ ِ
تبادال أطراف الحديث فيما بينهما بالهمسِ .إكتفى ِايورخي بهز رأسه
ً
موافقا على ما يمليه عليه إمحوتب ،وعند نهاية الحديث طوال الوقت
158
ً
قاصدا دافوس ي كبير ُحراس امللك شمش ي وقائد ترجل وسط الزحام
قريبة من العرش.
مسافة ٍ
ٍ جيوشة الذي كان يقف على
عبر له عن رغبة اإلله رع في لقاء األميرة سيمورامات ملباركتها
وأعطائها هدية نفيسة جلبها ألجلها من كيميت .هز الحارس رأسه
بأمتنان وقد الحت في مالمحة نظرات أوحت أنه مقتنع بما سمعه ،ودنا
من سيده شمش ي وهمس له بما لديه .تطلع ِايورخي الواقف على
قريبة من العرش في وجه امللك شمش ي وحارسه دافوس ي ٍ مسافة
ٍ
َّ ً
وكذلك فعل إمحوتب الواقف بعيدا ،وأستشفا اإلثنين من ُّ
تغير
ُ قسمات وجه امللك َّأنه ُم ٌ
بصدر رحب.
ٍ رحب بما أقترح عليه
لدى عودة الحارس وأخبار ِايورخي بموافقة امللك على طلبه ،ترجل
صغيرة َّزينت وجهه
ٍ بتسامة
ٍ هادئة ِوا
ٍ بخطوات
ٍ األخير صوب إمحوتب
وهو يقول بكياسةَ :
((لك ما أردت))ّ .رد إمحوتب(( :أخبر الشردانا أن
يتأهبوا)).
ِالتفت القائد بوجهه صوب بوابة قاعة العرش ،وكان أثنين من
ُحراس الشردانا قد وقفا أمام البوابة ُمباشرة منتبهين له ،أعينهم
ٌ
نظر إليهم ومال برأسه نحو كتفهسلطة عليه ،أينما ذهب ترقبوهَ . ُم
ً
األيمن قليال ،هز الحارسان رأسيهما ببطء ،وتأكد من فوره َّأنهما قد
فهما رسالته عندما غادرا للخارج َّ
بغية جمع بقية الحراس.
لثالث أسابيع شاهدت سيمورامات اإلله رع في رؤياها يحضر
يوم حتى َّأنها ِألفت مالمحهم وكأنهم
برفقة كهنته لينقذوها ،رأتهم كل ٍ
159
لوقت ليس ٍ أشخاص رافقوها طوال حياتها مما بث في قلبها طمأنينة
ً
اعرة َّ َّ
بالضياع واإلرهاق املشوب بقصير ،إال َّأنها في تلك اللحظة كانت ش
بالقلق والخوف ،بخاصة عندما سلمت نفسها للخادمات ،وجلست بين
ُ
أيديه َّن ُيزينوها ،فألبسوها فستان مصنوع من الحرير املوش ى بالذهب ُ
والفضة وغطوا رقبتها بالجواهر.
َّ كانت َّ
تضرع للسماء أن تبث شجاعتها في قلبها وأن تقي ما لديها من
ً
براءة وهمست تدعو بيقين لم تعرف مصدره طالبة العدالة لروحها،
التفتت إلى الخادمة وأخيرا َ ً ُّ
للتعرف عليها، للسعي إليها والحكمة والقوة َّ َّ
ُ ريانة الجسد أم الرضيع التي ً
غالبا ما تقف إلى جوارها تساعدها
مصباحا بعثته السماء ليض يء إليها عتمة أوقاتها، ً وتواسيها َّ
وكأنها
قائلة(( :أرشديني يا ّ ً َ
سيدتي، ِ ِ وعين ترقرق منها الدمع بنبرة واهنة ٍ ودعتها ٍ
َّ الدرب الذي َّ أريني َّ
علي أن أقطعه ،ال تدعيني أتعثر فيما ينتظرني من
ً َ
سمعت وقع أقدام من ورائها وجلبة عند ظالم)) .وفي تلك اللحظة
الباب.
ً
ومنالتفتت ..ففتح القائد ِايورخي باب الغرفة ودلف منه مباشرة ِ
موجها حديثه للخادمات ً خلفه اإلله رع ونحن نتبعهما .قال ِايورخي
ُّ
حاسمة(( :ك ِلن يبقى في مكانه ،لتكونوا آمنين)) .بينما قال إمحوتب ٍ بنبرة
ٍ
العذر ،لكن ((سيدتي ،أستمحيك ُ شديدّ : برفق ً
ِ ِ ٍ موجها حديثه للفتاة ٍ
ُ
وقتنا هنا انتهى ،ويجب أن نغادر القصر على الفور ،واملدينة قبل
الفجر)). مطلع َ
160
بشدة من متيبسة ،وآملَتها ُركبتاها َّ نهضت سيمورامات بأطراف ّ َ
ِ ٍ
كثرة الجلوس والنوم بالفراش والحزن الذي تملكها طيلة َّ
األيام
املاضية ،ولم يكن هذا بالش يء الغريب ،هكذا يفعل الحزن في اإلنسان
اش من نفسيا ولو كان حبيس قصر من الجواهر ،أو حتى فر ٌ ً املهزوم
غاليا مقابل أن ً
فعليا حتى إنها كانت لتدفع ثمنا ً صنع اآللهة .كانت تتألم ًُ
دقائق قليلة بعدما ووسادة لتستريح عليها الريشّ
ٍ ٍ تحظى ِبفراش من ِ
ً
أيقنت أنها باتت آمنة ،لكنها قالت موجهة حديثها بشكل خاص لإلله رع:
جميعا ،وأنا ً شكل عام(( :أشكركم ((أشكرك)) .وأضافت لنا ب ٍ
جلبة ُ
أتمت بها قولها ُسمع صوت ُمستعدة)) .في اللحظة ذاتها التي ّ
ٍ
قادمة من أمام ساحات القصر ،وارتعدت الخادمات أكثر، ٍ شديدة
ٍ
ضيق من الغرفة ،بينما دنا ٍ ركن
ووقفن خلف بعضهن البعض في ٍ
خارجا ،وعندما أعاد رأسه ً إمحوتب من نافذة الغرفة وأطل برأسه
للداخل قال بجدية(( :إنهم األكاديين ..جنود حمورابي إقتحموا ساحة
القصر اإللهي ليستولوا عليه من ثم يستولوا على املدينة)).
هلع
دلفت من باب الغرفة خادمة شابة ،على وجهها نظرات ٍ
شديد وقالت وهي ترتعد(( :األكاديين إقتحموا القصر)).
ٍ وخوف
ٍ
إنتفضت الخادمة ريانة الجسد وهبت صوب الخادمة الشابة
َ
رضيعها من بين يديها .قال ِايورخي(( :اآلن يأتي الشردانا، إختطفت
أمنا نسلكه للخروج من القصر)). علينا أن نجد ً
طريقا ً
ً
قال ًحنكليس(( :فلنتوجه صوب البوابات مباشرة بينما هم
161
منشغلين في قتال بعضهم البعض و.))..
حاسمة غير قابلة للجدال ،قال(( :لن
ٍ صوت
ٍ قاطعه إمحوتب بنبرة
نقترب من البوابات الرئيسية ،ولن نعبر شوارع املدينة ،نينوي بأكملها
ستحترق ،وال يمكن أن يكون سنحاريب قد أتى بخمسة اآلف من
جيشه فقط)).
((ألديك خطة أخرى؟)) ،وكرر ُحنكليس ذات السؤال من َ سألته:
بعدي(( :نعم ..ألديك خطة أخرى؟)) .قال وهو يلتف ليخرج من باب
الغرفة(( :إتبعوني)).
يل السيوف والفؤوس بالخارج ،بدا األمر وكأن إرتفع صوت َ
ص ِل ُ
عشرة جيوش تتقاتل ،كما أن رائحة دخان إنتشرت في كل مكان مما
يؤكد أن حرائق إشتعلت في القصر واألبراج املحيطة.
ً
واضحا أن الخوف بدا إرتعدت الخادمات من شدة الخوفّ ،إال ّ
كضوء الشمس في مالمح الخادمة َّريانة الجسد والتي كانت خائفة ليس
على نفسها بقدر خوفها على طفلتها الرضيعة.
ُ
ونحن نبتعد وبين الخادمات تنقلت سيمورامات بعينيها بيننا
بخطى ُمتسارعة صوب
ً الواقفات خائفات من خلفها قبل أن تعود
ُ َّ
السوار من بين طيات مالبسها الخادمة ريانة الجسد وهي تخرج ِ
ً
وتضعه في معصمها .وقفت أمامها ُمباشرة تكاد تلتصق بها ،وتطلعت في
ٌ ْ
عينيها وقد ترقرقت دموعها كالسيل على خديها إذ كانت شاعرة تجاهها
162
هونت عليها وساعدتها طوال َّ
األيام التي كانت فيها بالعرفان كونها َّ
فمسدت براحةحبيسة القصر ،ورأت أن عليها أن ترد لها ما فعلتهَّ ،
يدها على ثدي الخادمة وهي تقول(( :بيليجيريرو)) ،خرجت طاقة
تعويذة الشفاء من راحة يدها وأستقرت في ثدي املرأة الذي عاد ً
نابضا
متهدج من أثر اإلختناق بالدموع:
ٍ بصوت
ٍ بالحياة مرة أخرى .ثم أضافت
((اآلن يمكن للصغيرة أن تحصل على الطعام الوفير)).
تفاجئت بيد إمحوتب تقبض على معصمها بعدما عاد ليصطحبها
وهو يقول(( :ال وقت لدينا)).
ُ ًّ ّ
حتدا علق ِايورخي الذي قالت وهي تقاوم يده (( :أريدهم معي!!)) .م
عاد هو اآلخر خلف إمحوتب(( :سيبطئون من حركتنا)).
قالت الفتاة(( :قلبي سينزف ً
كثيرا إن تركناهم)).
هازا رأسه في يأس قال ِايورخي(( :النساء ُه َّن النساء)) ،ثم أضاف
ً
ُ
موجها حديثه للخادمات وقد ضيق عينيه ورفع لهم سبابته(( :أريدك َّن ً
أسرع من أسرع واحد بيننا)).
كان جنود الشردانا املائة أول من إقتحموا قاعة العرش الرئيسية
قتال مع جنود امللك َّ َّ ُ
نظم ،إال أنهم لم يشتبكوا في ٍ
قتالي م ٍ
ٍ تشكيل
ٍ في
ُ ً
شمش يَّ ،إنما صعدوا مباشرة على ساللم تفض ي بهم إلى الطابق الثاني
من القصر بعدما قتلوا أثنين أو ثالثة على األكثر ممن أعترضوا
طريقهم ،في الوقت ذاته حاول حراس امللك شمش ي أخذه ً
بعيدا عن
163
القاعة وساحة القتال بعدما أنقض األكاديين عليها .وبينما أنشغل
الجيشين بقتال بعضهما إنشغلت الوفود امللكية ممن حضروا للقصر
بحماية أنفسهم ،وانشغل حراس امللك شمش ي بالحفاظ على حياتة
وحياة سحرته وحاشيته.
ً
في الوقت ذاته ،كان إمحوتب ُممسكا بالخريطة التي حصل عليها
من مكتبة حارس القصر اإللهي وأخذ يقودنا عبر جدران القصر
ومر عبر األسوارالرواق الخلفي للقصرّ ، العتيقة ،فعبر بنا من ُّ
حرسها فئة من أفضل حراس شمش ي اخلية التي َت ُ
والد َّ الوسطى َّ ُ
السوداءَّ ،إال أن جميع ُ
الحراس كانوا َّ
الحديدية َّ البواباتوتستقر فيها َّ
ُّ
قد غادروا أماكنهم وتحركوا صوب البوابات األمامية لقتال االكاديين،
الساحة الكبيرة املحاطة بأسوار شاهقة اإلرتفاع ومليئة عندئذ عبرنا َّ ٍ
ً َّ ّ
وأخيرا عبرنا من البوابة الخلفية لقصر باألسود إال أنها كانت مقيدة،
ُ
اإلله ،والتي أفضت بنا إلى غابة املوتى امللعونة والتي تعد مقابر ألعداء
زمن قديم. آشور منذ ٍ
ما إن وطأت أقدامنا أرض الغابة ،إنتصبت شعيرات جسد كل
واحد منا .وقف خا إم ويست يتطلع في ااألشجار والسواد الحالك الذي
ٍ
ً ُ ّ
يخيم على املكان وقال مرتاباَّ :
((ثمة طاقة سلبية ليس لها آخر في هذا ِ
أرض عرفناها أو ّ ُ َ
املكان)) ،أضاف حنكليس(( :أرض مخيفة ،غير أي ٍ
سمعنا بها من قبل)) .كانا األثنين ُمحقين فيما تفوهت به السنتهم،
بدائي ومظلم بل َّأنه حالك السواد طوال
ٌ فغابة املوتى امللعونين ٌ
مكان
164
َ َ
الوقتُ ،مقام على مساحة ال تقل عن خمسمائة ف ّدان من الغابة
عام ،مع أرتفاع األسوار َُ َّ
القديمة التي لم تمس منذ عشرة آالف ٍ
التربة َّ ُ
الرطبة والعفن، الطبيعية العابثة من حولها ،تفوح فيها رائحة
وال تنمو فيها أشجار مثمرة.
ُّ
الدردار ،وأشجار البلوط هذه الغابة كانت حافلة بأشجار ِ
العمالقة ،كما انتشرت أشجار فزاعات املوتى بلونها األسود والقديمة
َّ ّ ِق َدم هذه األرض ذاتها التي تحميها أوراقها َّ
الحادة ذات اللونين املدببة
معا ،بينما تتزاحم ً السوداء الغليظة َ الرمادي واألسود .كانت الجذوع َّ َّ
َ ً َّ ً َ
وتتصارع الجزور تنسج الفروع امللتوية مظلة سميكة فوق الرؤوس،
ُّ َّ
املشوهة فيما بينها تحت أديم التربة.
ّ َّ مكانا َّ قرأ إمحوتب في كتاب معه أن هذا ً
والظالل للصمت التام ِ
الكئيبة ،والسحر والجن وانواع مختلفة من الخفافيش والثعابين
والعقارب الذين يعيشون فيه بال اسم أو إنتماء .لكنه كان يعلم ً
أيضا ِ
َّ
ونجمة ستسطع في السماء ٍ نجمة
ٍ أنها ليلة مكتملة القمر ،كما أن ألف
ً
قريبا لتنير لهم دربهم.
الرياح في اللحظة التي مع حلول الليل توقفت األمطار ،وهدأت َّ
أختفى فيها آخر ضوء لقنديل معلق في أسوار قصر امللك شمش ي
وتالش ى فيها صوت صليل الفؤوس والسيوف ،وخاب ظن إمحوتب في
النجوم والقمر وراء ُّ
السحب الحصول على ضوء السماء ْإذ َ
توارت ُّ
ٌ السوداء وساد سكو ٌن ُم ٌ
َّ
ريب ومخيف في األنحاء ،فأحاط جنود
165
الشردانا املائة باإلله رع وكهنته األربعة ومن خلفنا كانت األميرة
ُ
جريا لألمام خلف أحد جنود الشردانا ً
جميعا نهرول َّ والخادمات .ك َّنا
ِم َّمن لديه خبرة بكيفية التجول في الغابات وكان خلفه ُمباشرة إمحوتب
بخريطته الجلدية ،يمعن النظر فيها تحت ضوء لهيب املشاعل التي
يحملها الجنودُ ،يحاول توجيه الجندي املستكشف تارة ُومساعدته تارة
أخرى .توقفنا عند منتصف الليل ،شاعرين باألرهاق واألعياء الشديد،
إتكأ كل واحد منا على جزع شجرة ،بعضنا جلس ً
أرضا بعدما افترش ٍ
درعا أو إتخذ جزع شجرة كمقعد له .كانت األرض أسفل أقدامنا ما ً
تزال ُمبللة وندفات املطر التي كانت ُمخزنة فوق أوراق األشجار ما تزال
ُ َّ
تتساقط علينا كلما أهتزت األغصان بفعل الريح .تقدم ِايورخي يرافقه
ً إمحوتب لألمام مسافة خمسون ً
مترا بعدما أخذا مشعال من أحد
عما يحدث في قصر شمش ي وإن كان هناك من سيأتي الحراس ،تحدثا َّ
من خلفهم أم ال.
قال إمحوتب وهو يسحب كتاب من بين طيات مالبسه ويشير به
كتاب موغل القدم(( :اآلشوريين ال يدخلون غابة ٌ وقد بدا عليه َّأنه
املوتى ،لديهم يقين تام أن من يدخلها ال يخرج ً
أبدا)) ،نظر له ِايورخي
ً
ستغربا كاد أن يسأله(( :ماذا تعني؟)). بركن عينه ُم
فأضاف إمحوتب(( :شمش ي سوف ينجو ،فال أحد ُيهزم في بيته
َّ
بسهولة .إال َّأنه لن ُيطاردنا في غابة املوتىَّ ،إنما سينتظرنا على الجانب
اآلخر)).
166
بدا على وجه ايورخي أن هذه األجابة لم تكن ما ينتظرهَّ ،
وأنه ما ِ
ٌ
يزال ينتظر إجابة أخرى ،فأضاف إمحوتب(( :هذه األرض ملعونة
بالفعل ،إن صدق هذا الكتاب فنحن في أرض الشيطان هيدياك
ُ
وشقيقه نازيئيل ،واملشاعل املضيئة في أيدينا سوف تجلب علينا
َ ُ
قريبا)) .كنت أ ْدنو في اللحظة التي أنهى فيها إمحوتب جملته،
اللعنات ً
علم بما تفوه به ،فقلت(( :هيدياك ،سيد طيور الجحيم ،ما لدي ٌ
وكان ّ
ّ
إنقضت على مخلوق حي إال وأختطفته للسماء وتناوبوا تمزيقه في الجو
شيئا منقبل أن ُتسقط ما تبقى من عظامه)) ،التفت ايورخي وقد بدا ً
ِ
ً
القلق املشوب باإلستغراب في وجهه ولم يمهله إمحوتب وقتا ليسأل
((أما نازيئيل ،فهو سيد كالب الجحيم ،كالب عما يستغربهْ ،إذ قالَّ :
سوداء اللون حمراء العينين لها حضور شبحي ورائحة كريهة)).
\إنفعل ِايورخي وهو يقول(( :ششش ..ششش ..توقفا)) وأخذ
ٌ
((حضور شبحي ..عينان حمراوتان ..ورائحة ُيكرر ما قاله إمحوتب:
كريهة!)).
ً
ستغربا(( :نعم!!)) .أمعن ِايورخي النظر في السواد َّرد إمحوتب ُم
الحالك بين األشجار وقال(( :لقد ُخ ّيل لي طوال الطريق أن ً
كالبا ِ
سوداء لها عيون حمراء تتسابق حولنا)) ،وسمعا ثالثتهم وقع أقدام
قادما من خلفهم ،وقبل أن يلتفتا قالت سيمورامات التي دنت منهم: ً
((لم ُي َّ
خيل لك ،بل هي حقيقة)).
سألتها(( :هل أيتي ً
شيئا لم نراه؟)) ،أجابت(( :الَّ ،إنما ُيمكنني ر
167
ً
ستغربا(( :قراءة الريح!)) ،قالت (( :نعم))، قراءة الريح)) .علق ِايورخي ُم
ُ ((أيا كان ما تقولينه ،هل بإمكانك التأكد ً
يقينا إن ك َّنا سألها إمحوتبًّ :
أن هناك كائنات أخرى؟)). وحدنا في هذا املكان أم ّ
ببطء ً
ويسارا أغمضت سيمورامات عينيها وبدأت تلتفت ً
يمينا
ٍ
ٌ ُ
وحيوانات أخرى شديد تقرأ الريح ،ثم قالت(( :كالب على األرض،
ُتشبهها ،وغ ٌ
دفان كثيرة تطير فوقهم)). ِ
سألها َحنكليس(( :هل ُهناك ش ٌيء آخر؟)).
ُ
ظلت سيمورامات ُمغمضة العينين وهي تجاوب(( :خيل ورجال
وأسود يعبرون النهر على حافة الغابة)).
قلت(( :ربما يتبعون النهر إلى واد آخر فقط)).
قال إمحوتب(( :ال َّ ..إنهم رجال شمش ي سبقونا للجهة األخرى من
يمكنك التنبأ
ِ الغابة)) .وأضاف وهو ينظر إلى سيمورامات يسألها(( :هل
الجو .وحشيةّ بنواياهم؟)) .أجابت(( :أشعر بنوايا وحشية في
ووشيكة)) .سألها َحنكليس في توتر بدا في وجهه الذي أخذ يتصبب منه
العرق(( :هل يمكنك التنبأ بعددهم!)).
كامل من الكالب ومئات من ال ِغدفان تطير فوقها. ٌ
((قطيع ٌ َّردت:
على الجانب اآلخر عشرات الخيول وعديد من الرجال يمشون ربما
أكثر من ألفين ،إصطحب بعضهم األسود)).
جيش كامل وليست سريةَّ ،إنهم جنود ٌ قال إمحوتب(( :إنه
168
شمش ي)) .التفت ايورخي ومش ى ً
عائدا في إتجاه اإلله رع وخا إم ويست ِ ِ
لثوان معدودة قبل أن يلتفت إلى
ٍ الذي وقف بجانبه ،وقف أمامهما
جنود الشردانا ويقول بصوت جهوري(( :الشرداناُ ،
نحن هنا غرباء، ٍ
ضعفاء ،وسوف نعود إلى وطننا ،نحن واحد ونقاتل كرجل لكننا لسنا ُ
واحد .استعوا للمعركة)).
أنهى ِايورخي حديثه في اللحظة التي ُسمع فيها صوت جلبة قادم
من بين األشجار تبعها صوت صراخ أحد جنوده وقد انقض عليه أحد
كالب الجحيم املسعورة وأخذ يسحبه بين األشجار بمساعدة ٌ
كالب
أخرى بدأوا ينهشون في جسده ويمزقونه.
ُ
وبينما تهيء الجميع للمعركة وأخذوا وضعية القتال إنقض غداف
في حجم نسر كبير على جندي آخر ،قبض بمخالبه الحادة على رأس
ْ َّ
الجندي وحاول الطيران به ،إال َّأنه لم يستطع إذ تشبث جنديان
َّ
لثوان معدودة فقبل أن
قريبان في أقدام الجندي ،لكن ذلك لم يدم إال ٍ
تتدخل بقية جنود الشردانا ملساعدة بعضهم حضرت فوقهم مجموعة
كبيرة من ال ِغدفان وصاحب ذلك وصول قطيع كامل من كالب
الجحيم .ترك الجنديان أقدام الجندي وأخذا يدافعان عن أنفسهم
ضد كالب الجحيم على األرض وال ِغدفان العمالقة التي تأتي من األعلى
بين األشجار.
ُ
في الدقائق األولى من املعركة فقد ما يقرب من عشرة جنود من
ًّ
سويا: الشردانا ،فيما تدخل خا إم ويست و َحنكليس وصاحا
169
ً
سحريا أحال بينهم وبين كالب الجحيم ((ستيناريمورا)) ،فصنعوا ً
جدارا
التي تسارعت في القفز في الجدر واإلرتطام به في محاولة منهم لعبورة،
َّ
إال أن هذا لم يفلح مع ال ِغدفان التي تزايدت فوقهم وأصبح عددها
بالعشرات.
ُ
وقفت هلع شديد ،بينما
بكت الخادمات بشدة ودخلوا في حالة ٍ
جنبا إلى جنب أمام امللك اإلله رع ومن خلفه األميراة وإمحوتب ً
سيمورامات نحاول حمايتهم .كنت أشاهد ال ِغدفان وهي تهبط عمودية
ُ ُ
من السماء فوق جنود الشردانا فتقتل من تقتل وتصيب من تصيب،
ً
حل بديل أوخطة.تسائال إن كان لديه ٌّ وفي يأس نظرت إلى إمحوتب ُم
في تلك اللحظة ،خرجت األميرة سيمورامات من خلف اإلله رع وهي
ُ
السوار في معصم اليد األخرى وأخذت تشير بيدهاتضع راحة يدها على ٍ
ُ
بكلمة ملا أفهمها ،بدت لي أنها تعويذة سحرية
ٍ نحو ال ِغدفان وهي تلقي
ً ُ
وهو ما كان .قالت وهي تشير على أحد ال ِغدفان وكان عمالقا له مخالب
لم نرى مثلها من قبل ُويقاتله ما يقرب من خمسة جنود من الشردانا:
ُ
((سيكتوسيمبرا)) ،انطلقت طاقة زرقاء اللون من يدها وإذا بالغداف
يحترق ويسقط ً
أرضا ويتحول إلى أشالء تتناثر مع دماءه فوق الجنود
ً وحولهم .إنتبه الجميع ملا حدث وفتح كل ٌ
واحد منا فاهه غير مصدقا ما
فعلته الفتاة .وانتبه الجميع أكثر عندما َّرددت سيمورامات تعويذتها
أرضا وهو يحترق وهي ُتشير على كل طائر تسقط عينها عليه فتسقطه ً
أخيرا ِانتبهت أن الطيور تتجنب الحراس ممن يحملون ً ويتمزق.
170
املشاعل ،ففهمت من فورها أنهم يخشون النيران أو األضواء املنبعثة
منها ،فأستجمعت قوتها وأطلقت تعويذة النور قائلة(( :لوموسيتاي)).
فأنطلقت من بين أيديها آشعة شديدة األضاءة جعلت املكان بأكمله
ُيض يء وكأنه منتصف النهار وألف شمس ساطعة.
تماما من فوقهم ومن بين من فورها هربت ال ِغدفان ،اختفت ً
األشجار ،كذلك هربت كالب الجحيم هي األخرى ولم يتبقى منها ّ
أي
واحد خلف الجدار السحري .مع تالش ي األضواء فقدت سيمورامات
ٍ
وعيها وسقطت ً
أرضا.
قرب الفجر ،إستعادت األميرة وعيها لتجد نفسها نائمة على حمالة
خشبية صنعها لها جنود الشردانا من أغصان األشجار.
منطقة َّ َ
غابية تميل أشجارها القليلة ٍ بصمت حملتهم أقدامهم عبر
ٍ
ً
كالسكارى بعيدا عن النهر .تفقدت ما حولها من أشجار وصاحت وهي َّ
تقفز من فوق حمالتها(( :توقفوا ،توقفوا .))..
توقف الجميع في أماكنهم ُمستغربين ،بينما هرولت لألمام مسافة
مترا وأتبعها إمحوتب وخا إم ويست مهرولين خلفها بينما بقيت عشرون ً
َ
وحنكليس إلى جوار اإلله رع.
أغمضت عينيها وقالت(( :أشعر بكراهية شديدة .ولكن صامتة.
خيل تنخر ،وتضرب ببراثنها الحص ى .خيل كثيرة .مختبئين وراء صوت
النهر)).
171
قال إمحوتب(( :البد وأنهم ينتظرون خروجنا من غابة املوتى)).
سأل خا إم ويست(( :كيف علموا بأننا سنخرج من هذه النقطة
ً
تحديدا؟)).
رد إمحوتب وهو يمش ي إلى أمام(( :هذا املنحدر هو املخرج الوحيد
من هذه الغابة ُويفض ي إلى ممر ضيق ينتهي بنا إلى جسر معلق فوق
النهر نعبر منه إلى الضفة األخرى .هناك مسايل وأجراف على جميع
الجوانب عدا هذا ،لذلك رسم األسالف هذه الخريطة)).
شديد حتى ووقف خلف شجرة فزاعات املوتى وكانت ٍ تسلل ببطء
عمالقة تقترب أغصانها من األرض ،وأخذ يتفقد الساحة القريبة خلف
النهر.
السالح مع جنود شمش ي، سمع صهيل الخيول العصبي وصلصلة ّ
ِ
َّ َّ ّ َّ
الرجال والجياد الطويلة بالظالم ،على يمينها كانت
وقد تدرعت صفوف ِ
الرايات،رايات ،وعلى شمالها رايات ،ومن أمامها صفوف وصفوف من َّ
ُ
لكن في ظلمة ما قبل الفجر ال يختلف لون عن لون أو رمز عن رمز.
َ
املسربلين َّ ُ
بالسواد رماحهم إلى أعلى بينما جلسوا رفع رفرسان شمش ي
على صهوات خيولهم ينتظرون خروجنا من بين األشجار.
َّ َّ
مرت سيمورامات من خالل مجموعة من األشجار الطويلة
العارية ،مسلوبة األوراق والحياة ،ونظرت إلى جيش شمش ي فرأت
َّ
الظالم أعمق وأحلك ،حائط من األسود ال تلوح ملعة نجم واحد من
ُ خالله ،وإن رأت املشاعل َّ
تتحرك هنا وهناك خلف النهر في املرج حيث
172
َ
أقام قائد جيش امللك شمش ي معسكره.
قال ِايورخي الذي إستطاع من نظرة واحدة تحديد عدد وعتاد
جيش شمش ي(( :هذا ٌ
وقت مناسب للموت ،على األقل يمكننا تكبيدهم
خسائر كثيرة في هذا الظالم)).
حالة من الصمت ِاستحوذت على الجميع بعد كلمة املوت الذي
خيمت على األجواء .دنا اطلقها ِايورخي ،رافقتها حالة من القلق والتوتر َّ
ً
منيا نفسه لو َّأنها تملك حال ،أو
إمحوتب من سيمورامات ونظر إليها ُم ً
أن السوار في يدها يمكنه فعل ً
شيئا يجنبهم هذه املعركة. ِ
بادلته النظر بإمعان ،وقالت(( :يجب أن ننتظر ،ليس طلوع
الشمس فحسب .بل إلى وقت األصيل)) .كانت تعلم أن اليوم هو صباح
يوم إكتمال القمر ،مما يعني أن والدتها الحمامة الذهبية سوف تشق
ُ
مياه النهر وتخرج وبالتأكيد سوف تساعدهم في الخروج من مأزقهم.
قبل أن ُينير َّ
النهار ،سأل َحنكليس(( :إن تجاوزنا هذه املعركة،
كيف سنقطع كل هذا الطريق إلى كيميت وقد فقدنا الخيل والعجالت
الحربية؟)) .أجاب إمحوتب بثقة(( :من قال! بعد تجاوزنا املعركة
سنحظى بكل ما تراه عينيك خلف هذا النهر)).
مع سطوع الشمس على الساحة املواجهة لغابة املوتى ،خلف النهر
ً
ظاهرا بوضوح وكأنه أمام املرج ،وقف دافوس ي قائد جيوش شمش ي
ً ُ ً
قويا ،ط َبع نسبه الوضيع عال مالمحه الحادة يقصد أن نراه .رجال
173
ً َ
معطفا بمنتهى الوضوح ،لحيته قصيرة ،يضع على كتفيه الش ِديدين
وسخه القتال في قصر نينوي ورذاذ النهر واإللتفاف حول أسود َرًثا َّ
ً
ولوحت الشمس لونه ،ويرتدي من تحته ُسترة وسراويل غابة املوتى َّ
ُب َّني ْتين كشعره وعينيه ،وقد تدلى على صدره جراب من الجلد النادر
بعنقه ،وغطى ُق َّفاز جلدي يده ُ معلق في شريط ُيحيط ُ َّ
اليسرى ِ
قديم مع أسد مفترس من أسود نينوي.
املجدوعة في صر ٍاع ٍ
ِانشغل جنود الشردانا بتنظيف مالبسهم وأسلحتهم على حافة
دول ماء صغير متفرع من النهر إلى داخل غابة املوتى ،بينما جلس َج َ
ُ
وقفت َّ
وبقية الكهنة جنبا إلى جنب مع سيمورامات ومن حوله اإلله رع ً
متواريا خلف شجرةً نتبادل أطراف الحديث .وحده ِايورخي ظل ً
قابعا
نتبها يترقب دافوس ي طوال ساعات ،وظل األخير ً
واقفا فزاعات املوتى ُم ً
تأهبا خلف النهر عينيه على الغابة وكأنه يرانا أو َّأنه موقن تمام ُم ً
اليقين أننا متواجدين أمام عينيه وينتظر خروجنا.
ً
مع اقتراب وقت األصيل ،ترجل إمحوتب نحوه ُممسكا بقطع
َّ
أسماك مجففة يعرضها عليه ليأكلها .إال َّأنه تحدث له دون أن يلتف ٍ
َّ
إذ بقيت عينيه معلقة على دافوس ي وهو يقول(( :هذا الرجل ليس
ً
سهال ،أو أنه يعرف أننا هنا)).
((يقال في نينوي ال أحد يمللك ِنصف مهارة دافوس ي رد إمحوتبُ :
صبه امللك شمش ي ً
قائدا كان أشهر ذي اليد املقطوعة ،وقبل أن ُي َن ّ
ِ
ً َ ً ّ
املهربين في ممالك آشور كلها وأكثرهم مراوغة وتضليال وله صبر ليس له ِ
174
مثيل)).
كان خا إم ويست يسمعهم وهو يقترب منهم فسألهم(( :إذن؟)).
َه َّز ِايورخي رأسه وقال(( :مائة ضد أربعة االف ..وال مفر من
ٌ
ذاهب إلى التقدم ،وإذا تقدم هذا الحشد َّ
الصغير إلى ضفة النهر ،فهو
أعدادا أو ً
عتادا كافية)). ً حتفه .إننا ال نملك
كل ما في وسعك ،واآلن علينا أن تنهد إمحوتب وقال(( :لقد فعلت َّ
َّ
نتقدم إلى األمام ًّأيا كان ما ينتظرنا)) .كان وقت األصيل قد حان
بالفعل ،وبدأت الشمس تميل نحو الغروب والظالل تكسو أطراف
بصوت جهوري:
ٍ الغابة عندما بدت الحيرة في وجه ِايورخي وهو يقول
((الشردانا ..لم يحدث أن حارب مائة من املقاتلين خمسة االف)) ،ثم
ً
بدل نبرة صوته ألخرى مازحة لكنها يائسة وقد خفض صوته قليال وهو
ً يقول(( :لو حدث ُ
كنت ألذكر حادثة كتلك)) .ثم عاد مرة أخرى لنبرة
َّ
صوته الجهورية الحماسية السابقة وقال(( :إال أننا سنفعل ذلك اآلن ..
عليه برفع سبابته.
وسننجو)) .وختم حديثه وهو يؤكد ِ
على الفور قام جنوده من الشردانا بالدق بأسلحتهم على ظهور
دروعهم الفوالذية يحمسون أنفسهم ،بينما قام ِايورخي بتثبيت خوذته
ً
جيدا وتقدم إلى أمام ومن خلفه الجنود وما يزالوا مستمرين بالدق على
وبقية الكهنة باالله رع واألميرة سيمورامات في ُ
أحطت ّ دروعهم ،بينما
مؤخرة املوكب.
175
غادرنا شجرة فزاعة املوتى ،جعلناها خلف ظهورنا ودنونا من
ضفة النهر ،ظهر موكبنا بالكامل لدافوس ي الذي ظل ً
واقفا في مكانه لم
يبرحه َّإال لدقائق قليلة منذ ساعات الصباح .وأبتسم ً
أخيرا ّ
لدى رؤيته ٍ
لنا ،وصاح في جنوده املتأهبين للقتال أن يستعدوا ،فأخذوا مواضعهم
ورتبوا تشكيالتهم القتالية.
كان امللك شمش ي يقود الدفاع عن قصر نينوي بنفسه ً
جنبا إلى
جنب مع أبنائه الثالثة األصغر ً
سنا وسحرته األربعة ،بينما أرسل أبنه
ً
منوطا به أن يكون ً
زوجا لسيمورامات ليكون األكبر نيراري الذي كان
اض ً
جنبا إلى جنب مع القائد دافوس ي ليلحقا بنا ،وقد وعد دافوس ي بأر ٍ
وحصن صغير وصالحيات ليس لها آخر إن عاد ٌ ممتازة وشاسعة
حية ورؤوس من ساعدوها على الهرب. باألميرة سيمورامات َّ
176
أبدا لن تكون تتخيل ما يمكن للدوافع القوية أن تفعله .هذه املعركة ً
سهلة وإن بدت غير ذلك)).
ُ
كنا قد وصلنا بالفعل إلى املمر الضيق بين ضفتي النهر ولم يتبقى
َّ
املغطاة ُ
بالق َّفاز وهو رفع دافوس ي يده لنا سوى أن نعبر الجسر ،عندها َ
َّ ً ُ يخبر نيراري ُمرد ًفا(( :كانت ُ
مرة أخرى قبل أن ُيصغي هذا لتنبت أصابعي ِ
الرجل لصوت يخبره أن يستسلم أو يتراجع بال قتال)) .تنهد نيراري َّ
أضم صوتي إلى صوتك ،ولنقتلهم وقال(( :لقد فعلت ما في وسعي ،واآلن َّ
ً
جميعا)).
التقى الجيشان ،نحن على الضفة وفوق الجسر على النهر،
َ
وجيش شمش ي بقيادة دافوس ي أمامنا في سهول املرعى الواسعة بين
حقو ٍل َّ
ذهبي ٍة من القمح اليانع الجاهز للقطاف.
للرماة الواقفين مندون أن يلتفت بوجهه أعطى دافوس ي أوامره ُّ
طلقون سهامهم على املوكب الذي بدأ ًّ
فعليا ُ خلفه في َّ
الساحة بأن ي ِ
أطلق))، َ صاح بصوت عالّ : باملرور بين ضفتي النهرَ ،
((ثبت ،اسحبِ ، ِ ٍ ٍ
ً ُّ
الطيور ُ السهام ً اصدرت ّ
محلقا في الهواء ،بينما يثب صوتا كسرب من ِ
إتخذ جنود الشردانا وضعية دفاعية ،فأنخفضوا بأجسادهم راكعين
ورافعين الدروع ألعلى.
انخفض الجسر ّ َ ٌ تنهدت ٌ َّ
املهتز وجعلت ريح باردة عبر الضفة حين
ملستها الجنود ترتجف ،قال ِايورخي لنفسه(( :إنه البرد ال أكثر،
قشعريرة ال رعدة .حتى ُّ
الشجعان تنتابهم القشعريرة)).
177
ّ ً ً َّ
الريح وتحت ثم تقدم مهروال أمام جنوده داخال وسط أنياب هذه ِ
الدروع الفوالذية حتى عبر الجسر وأصبح على الضفة األخرى .كان
دافوس ي قد إمتطى حصانه األرقط وقف إلى جواره نيراري امللقب
قليالً ، ً ً
وصفا ِمن الرهيب ،ومن أمامهما ُرماة على حافة مرتفعة باملقاتل َّ
وص ًفا آخر إلى يمينهما ،ومن خلفهما حاملي الحراب إلى يسارهما َ
صفوف مكونة من أربعة أالف مقاتل.
السماء نحونا ،إندفعت في اللحظة التي كانت تطير بها ّ
السهام في َِّ
شديدة خارجة من أسفل الدروع ورفعت ٍ برشاقة وجر ٍأة
ٍ سيمورامات
ُ كلتا يديها صوب َّ
السماء وهي تطلق تعويذة قالتها بعدما سمعت صوت
الحمامة الذهبية تهمس لها بها وهي أسفل الدروع ،قالت:
كموجة من
ٍ ((اكسبالريومس))ِ .انطلقت طاقة قوية من بين يديها
الرياح العاتية شتت السهام في الهواء قبل أن تصل للجسر أو للجنود َّ
الرماة بإعادة أرضا كأنها أعواد خشب بال قيمة .أمر دافوس ي ُ فأسقطتها ً
ٍ
حشو النشابات مرة أخرى وإطالق دفعة ثانية من السهامُ .م َّ
جد ًدا
أرضا وسط قامت سيمورامات بالتصدي لها مرة أخرى وأسقطتها ً
متذم ًرا(( :ماذا ّ
دهشة الجميع ،جنود الشردانا واآلشوريين .قال نيراري ِ
يحدث؟)).
دائما يا أهل((متعجلون أنتم ً ّ بكياسة في هدوء: رد عليه دافوس ي
ِ ٍ
نينوي ،لكن قل لي ما فائدة العجلة؟ من يستعجل في الحياة يستعجل
ساخراَّ : َ َّ َ ّ
((إن ُهم حشرات سوف ً تجشأ ثم أضاف الذهاب إلى القبر)) ،و ِ
178
ناديا على أحد قادة تشكيالته العسكرية في ُتحرق اآلن)) ،وصاح ُم ً
قائد ومن خلفه طريقا من خلفة ،وظهر ٌ الخلف ،فأفسحت الحشود ً
منجنيقا عمالق الحجم ،يحمل ً مجموعة صغيرة من الجنود يدفعون
قذيفة عمالقة من القش املحشو بالزجاج امللفوف بالقماش .دفعوا
املنجنيق حتى أصبح موز ًايا للقائد دافوس ي ،ثم قام ثالثة جنود بإفراغ
الزيت على قذيفة القش وأشعل قائدهم فيها النيران في اللحظة التي
عاليا في الهواء قبل أن تسقط فوقنا ترك الحراس قيدها لتطير ً
َّ َّ لدى سقوطها َّ ُمباشرةّ .
تفرق الشردانا وتشتتوا ،لكن لتلك اللحظات
القليلة ال أكثر ،إذ احدثت خسائر هائلة في الصفوف ،فأصيب من
ً
أصيب وأحترق من أحترق وقفز في النهر من أستطاع محاوال النجاة
أرضا على أثر بنفسه من النيران التي طالته .بينما سقطت سيمورامات ً
اإلنفجار الذي أحدثته كرة النار ،وأرطتمت بقطعة صخرية جعلتها
مسافة قصيرة سقط خا إم ويست ٍ تفقد وعيها ،من خلفها على
ً َ
وحنكليس الذي كان يهرول على األرض محاوال إطفاء النيران التي طالت
بقوة ،وقد َ ضاغطا على أسنانه َّ ً مالبسه .خطا امللك رع في َّ
رفع النار
اللهبَّ ،َّ َّ
واتجه صوب األميرة الصغيرة الجلدية أمامه لتقيه من الحرملة
َ ُ ً
سيف ٍ ُمباشرة ،رفعها بين يديه قبل أن يسندها على كتفه وأطبق على
ق َ َّ
املغطاة ُ
قوي ٍة واحدة، بش َّد ٍة َّ وانتزعه من الخشب املحتر َ بالق َّفاز، بيده
عاليا واللهب األخضر َ َّ السيف ً افعا َّ اجع ر ً ثم تر َ
كأعصار
ٍ كاليشب يدور
حول الفوالذ األحمر كالكرز واألميرة كالطفلة فوق كتفه.
علقت اندفع جنود الشردانا ُليخمدوا الجمرات الصغيرة التي َ َ
ِ
179
بثياب امللك ،بينما هتف أحد الشردانا(( :إحترسوا َّ ..إنهم قادمون)).
ُ
طل َق فيها الكهنة األربعة وقائد الجيوش كانت هذه َّ
املرة الوحيدة التي أ ِ
املغنون ً
الحقا أطلق عليها ُّ َ معركة واحدة ،املعركة التي وإلههم ً
معا في
ٍ
اسم ((محرقة نينوي)).
وقعت عينا إمحوتب على ِسوار سيمورامات في األرض بين النيران،
ً
صائحا(( :هذا النهار س يء فأنتفض مهروال بأتجاهه وهو يقول في نفسه
ٌ
ومفعم باألهوال ،مع ذلك لن أموت اليوم)).
تعثر بش ٍيء ما ،فسقط على األرض ،ولن يثنيه ذلك عما عزم على
بالسوار
وأخيرا أمسك ِ ً فعله ،فزحف على قدميه بضع خطوات
شديد يضرب
ٍ بدوار
ٍ وأصابعه ترتعش وهو يضعه على معصمه ،وشعر
رأسه في تلك اللحظة ووخذة قوية للغاية جعلته يغمض كلتا عينيه
للحظات وأهتز بالكامل وتذكر جميع التعويذات التي بثتها الحمامة
الذهبية في رأسه فيما سبق .فتح عينيه ،وجد جنود دافوس ي تقترب
بالفعل شاهرين السيوف والرماح ،وقف على قدميه وأغمض عينيه
مرة أخرى وهو يوجه ِ
السوار نحوهم ويصيح(( :اكسبالريومس)) ،وإذا
به يتفاجأ بالجنود القادمين نحوه يتجردون من أسلحتهم فتطير ً
عاليا
أرضا .لم تتوقف الجنود بل هرولوا ً
جريا من بين أديهم وتسقط ً
بأتجاهه يحتمون خلف دروعهم الصلبة .فصاح ُم َّ
جد ًدا يقول:
ٌ
((ريدوكتو)) ،فخرجت طاقة حمراء اللون ُمندفعة بقوة شديدة من
يديه وأصطدمت بالجنود فتقطعت أجسادهم وكأنها وتفجرت راحة ِ
180
حالة من الجنون ً
فسقطوا أرضا وتناثرت دمائهم وأشالئهم في كل مكانٍ .
سيطرت على دافوس ي ونيراري اللذان أعطيا أوامرهم لكامل جنودهم
بالتقدم.
ُ
فيه على أفضل وبينما يحاول إمحوتب إستخدام ِ
السوار والتحكم ِ
ما يكون ،كان جنود دافوس ي قد أصبحوا بالفعل على مسافة خمسون
ً
مترا فقط من جنود الشردانا ومنا.
أطلق إمحوتب تعويذاته مرة بعد مرة ،فقتل وأحرق منهم عددا
لثوان قليلة وقد شرد يفكر في قوة َّ َّ
ليس بقليل ،إال أنه تأخر في حركته ٍ
السوار السحرية ،وأستغل أحد الجنود شروده فصوب رمحه عليه
السوار من يده. ً
وأصابه في كتفه فأسقطه أرضا وسقط ِ
ً
جميعا صوبنا. صاح دافوس ي في جنوده أن يتقدموا
ً َّ شعر ّ
واحد منا أن حتفه بات وشيكا إال أن األميرة سيمورامات
كل ٍ ِ
إستعادت وعيها في تلك اللحظة وأطلقت صرخة إستغاثة قوية تصم
األذان من فرط قوتها.
إضطربت الرياح وأشتدت في لحظتها ،وتقاطرت ندفات املطر من
السماء فوقنا .إبتسمت سيمورامات إبتسامة الواثق املطمئن على
الرغم من الفزع الذي دب في قلوب جميع من حولها ،وعلى الرغم من
صوت صليل السيوف والفؤوس والرماح املرفوعة بين حراس دافوس ي
القادم بسرعة شديدة فوق حصانه برفقة أربعة أالف من جنوده.
181
قادما ال محالة ،أغمض الشردانا عيونهم ظن الجميع أن املوت ً
َّ
أمام هذا السيل القادم نحوهم من جنود دافوس ي ،إال أن الحمامة
ً
بقوة شديدة لتهبط في ٍ الذهبية شقت مياه النهر وأنطلقت طائرة
املنتصف مباشرة بين الجيشين وقد إتخذت هيئتها البشرية.
ً
وكعادتها سبب إرتطامها الشديد باألرض موجة عاتية من الرياح
واهتزت األرض أسفل قدميها مما جعل دافوس ي ونيراري يسقطان عن
حصانيهما ،بيد أن جنودهم تتطايروا من حولهم.
فتح الجميع أعينهم ليفاجئوا بها جاثية على ركبتها اليسرى باسطة
راحة يدها اليمنى على األرض وهي تبتسم وتنظر بعينيها صوب األميرة
الشابة سيمورامات .حاول بعض جنود دافوس ي ممن نهضوا عن
جريا صوبها شاهرين سيوفهم ورماحهم ،وتفاجئوا بها األرض التقدم ً
شيئا ما من جانب ضفة تحرك يدها بطريقة دائرية وكأنها تسحب ً
ٍ
النهر ،فإذا بموجة عاتية من مياة النهر تتحرك صوبهم وتدفعهم
للخلف بشدة.
كان إمحوتب يحاول النهوض بمشقة وصعوبة ،في الوقت الذي
السوار وأنحنى ليأخذه.
اقترب فيه خا إم ويست من ِ
إقتربت مجموعة من الجنود حملة الرماح نحو خا إم ويست
وإمحوتب الذي كان ما يزال ً
جاثيا على ركبتيه على مسافة مترين فقط
ً
نظرة ذات مغزى ُ
والدماء تغطي كتفه .نظر خا إم ويست إلى إمحوتب
ُ
مفادها تساؤل(( :كيف أستخدم ِ
السوار)).
182
السوار واختر ً
ذهنيا الشخص واهن(( :وجه ِ
بصوت ٍ ٍ قال األخير
الذي تود إصابته ،من ثم قل التعويذة))ِ .التف خا إم ويست ووجه
شديد نحو الجنود القادمة بأتجاههم وكانا شاهرين ٍ توتر
السوار في ٍ ِ
ًّ َّ
سيوفهم الصلبة ورماحهم الطويلة ،إال أنه لم يكن يعرف أيا من
جد ًدا نحو إمحوتب الذي فهم من فوره التعويذات ،فالتف بوجهه ُم َّ
ً
وصاح قائال(( :كروشيو ..كروشيو)).
ً ً
لم يكن إمحوتب هادئا ُمتزًنا ،ولم يكن عاملا أن هذه لعنة التعذيب
خيل له أن خا إم ويست سيوجه لعنته ليس على والذبح القاتلة ،ولم ُي َّ
واحد فقط أو مجموعة ،بل على جيش شمش ي وقائدة ٍ شخص
ٍ
َّ
دافوس ي بأكمله .في هذه اللحظة ،صوب أحد جنود دافوس ي رمحه على
َّ
خا إم ويست وكاد يخترق رأسه ،بيد أنه تفاداه في اللحظة األخيرة ،إال
قطعي في وجهه وأذنه .إستشاط أخذ خا إم ٌ أن الرمح تسبب له في ٌ
جرح
السوار نحو الجنود ويصيح غضبا واشتد حنقه فأخذ يوجه ِ ً ويست
فيهم(( :كروشيو ..كرشيو ..كروشيو)) ،فإذا بصيحات األلم والفزع
وصرخات الوجع واإلستغاثة تدوي في كل إتجاه.
ٌ
بأحد منهم .وفي غضون خمس مع ذلك لم يتوقف أو تأخذه شفقة ٍ
َ
دقائق احترق أربعة آالف رجل في ذلك اليوم ،من بينهم دافوس ي قائد
َ
جيوش شمش ي ،أما نيراري إبن امللك فقد نجا من التعويذات وقرر أن
َّ
يستسلم ،إال أن خا إم ويست أصابه جنون الدماء ،فترجل وسط
الجثث واألشالء املمزقة تدفعه الرياح للخلف فيقاومها ،تتقاطر
183
األمطار فوق رأسه فال يأبه لها ،حتى وصل إلى نيراري وعلى الرغم َّأنه
صابا تنزف الدماء من أنحاء متفرقة في جسده جاثيا على ركبتيه ُوم ً
كان ً
ُ ً َّ
معدودة قبل أن
ٍ لثوان
إال أن خا إم ويست وقف أمامه متعاليا بكبرياء ٍ
ينحني ويمسك بأحد السيوف الطويلة من األرض .صاح إمحوتب(( :خا
إم ويست ..ال)) .ترجل إله األرض نحوه وهو يتحدث بكياسة(( :إنتهى
َّ
األمر ،دعه وشأنه)) .إال أن خا إم ويست لم ُينصت سوا لغضبه
واحدة قوية.
ٍ يوأطاح برقبته بضربة
ً
وليمة ُ ُ
للجثث املحروقة بالفعل ،حيث ِالتفت ك ٍ ّل منا حوله ،كانت
بعثر ُخدام التعويذة من الجن أربعة أالف جندي ،جعلوهم مذبوحون َ
بوحشية على األرض ،غرقى في برك من ّ
الدماء الساخنة ،بعضهم مبتور ِ ِ ٍ َّ ٍ
الرؤوس ،وقد قبضت األيدي املقطوعة على األطراف وبعضهم مبتور ًّ
الدامية والدروع الحديدية. السيوف والرماح َّ
ً
ترجل اإلله رع بين وليمة الجثث غير ُمصدقا ما آلت إليه األمور،
وترجل ِايورخي بدوره بين جثث بعض جنوده ممن القوا حتفهم في
املعركة ،بينما أحتضنت الحمامة الذهبية إبنتها سيمورامات وقد
شعرت ً
أخيرا أن أبنتها باتت آمنة.
وقف إمحوتب فوق جسدي نيراري والقائد دافوس ي وقد تشوهت
تماما ،فاملالمح مشوهة ،واأليدي مبتورة ،والدماء تغطيهمجثتيهما ً
عما فعله خا إم ويست ،فلم ً
تماما .كانت مالمحه تش ي بأنه غير راض ي َّ
ٍ
تكن هذه النهاية املرجوة من هذه املعركة ،كل ما رغبا فيه هو إنقاذ
184
قدر ممكن من الخسائر ال أن يصنعوا
الفتاة والنجاة بأنفسهم بأقل ٍ
مذبحة بشعة إلى هذا الحد.
ً
شاعرا بالقوة التي تقدم َحنكليس نحو خا إم ويست الذي كان
يملكها غير مقدر حجم الدماء الذي تسبب في سيالنها على هذه األرض.
َّ
بالسوار ،إال أن خا إم ويست ً ُ َ
أراد حنكليس الذي بدا مذهوال لو يمسك ِ
سحب يده للخلف ر ً
افضا أن يلمسه أحد.
السوار ،بيد أن ً ُ
نظر إليه إمحوتب مستغربا وأراد لو يطلب منه ِ
دهشة إلى جوار خا إم ويست،ٍ بسرعة ُم
ٍ الحمامة الذهبية إنتقلت
فأصبحت مالصقة له .قبضت على معصم يده بقوة شديدة وانتزعت
ً
عنوة من ثم َت َّ
قدمت به نحو إبنتها سيمورامات التي كانت ما السوار
منه ِ
َّ
السوار ،وهي توصيها بأال تستخدمهتزال واقفة قرب اإلله رع ،فأعطتها ِ
َّ ّ
نوع من األذى ،وأال تدع نفسها أو غيرها يكون تحت أمر قوته بل أي ٍفي ِ
أن يكون دائما تحت أمر ضميرها.
لثوان
ٍ تلك اللحظة ،توقف الكاهن كاي تاي عن إكمال حديثه
النبيذ وقربه إليه ،تصاعدَ قدحا من َّ
معدودات مد فيها يده إلتقط ً
ً البخار من َّ
بأستحسان
ٍ النبيذ وهو يجرب جرعة منه ،ثم َه َّز رأسه ُ
مقتضب قبل أن ُيعيد القدح للمائدة مرة أخرى ويقول(( :يبدو أن
ً
جالسا هنا الفجر قد إقترب ،وال أنوي أن تأتي الشمس وأنا ما أز ُ
ال
بينكم)).
بإستحياء شوبه ِاستنكار(( :ال يمكنك أن تتركني
ٍ قالت حتبت رع
185
تستجديه عالقة ُهنا دون أن تخبرني ما الذي حدث ً
الحقا)) .وأضافت
ِ
في رجاء(( :أرجوك يا سيدي ،جاللة الكاهن ،أرجووك)).
ً َ التثاؤب الذي َوكتم َ
ِالتفت إليها َ
هاجمه فجأة بظهر يده ثم قال
َّ َّ ُ
((أعتقد أني سأتخلى عن النوم الليلة ،وسأظل هنا .على بلهجة رفيقة:
ٍ
َّ
أن يكون ذلك حتى أول خيوط الضوء)).
ناعسا أغلب الوقت وأراد لو ينامً :
((نوما قال شبسكاف الذي كان ً
سيدي)) ،في إيماءة منه برغبته لو ينتهي الحديث إلى هنا هنيئا يا ّ ً
ِ
الليلة ،وشرع يجمع األكواب الفارغة من على سطح املائدة.
ً
كانت حتبت رع تحمل ملعقة في يدها عندما استطردت في كالمها
شديد:
ٍ غيظوهي تضرب بها على يد شبسكاف وتخبره وهي تزفر في ٍ
َّ ((سوف أقتلك يا شبسكاف))َّ .
حدق نياخ هاو فيها بعينين متسعتين،
ً
مستاءا مما تفعله. وبدا َّأنه
َّ
طقطق الكاهن كاي تاي بيده على ظهر املائدة الخشبية ،وفكر
ّ
السوار ،بدا عليه كمن إشتم رائحة متذك ًرا الليالي التي تلت حادثة ِ ِ
َّ َّ ً ً َّ ُ
املوت والدماء مجددا .فجأة فقد شهيته للشرب ،فأعطى قدح النبيذ
َّ ً
خاصته إلى زوجته كاريسا التي رفعته مباشرة إلى شفتيها ولم تتركه إال
تمدها ّ إضافية ُّ
َّ ً
بالدفء في ِ حصة
ٍ بحاجة إلى
ٍ فارغا ،فبدت وكأنها كانت
ً
برد آخر الليل .واسترسل الكاهن ُمكمال قصته وهو يعود بذاكرته
بوتيرة أسرع ،قال:
ٍ للوراء ولكن
186
ُ تهب َّ الرياح ُّّ
بقو ٍة قبيل أن نغادر ساحة املعركة ،وقامت كانت ِ
الحمامة الذهبية بإعادة ِسوارها إلى معصم يد إبنتها سيمورامات وبثت
ُ
جميع تعويذاته في رأسها من ثم وضعتها بين يدي اإلله رع وهي تخبره أن
وأنها ستبقى فوق األرض ما دام ًّ زوجة َّ ً
حيا ثم غادرتنا مع غروب يتخذها
ْ
الشمس إذ قفزت وغاصت في مياه النهر مرة أخرى .وقتها ،قال إمحوتب
َ متنبأ بالطقس(( :مع مجيء َّ ً
الصباح ستكون األرض قد اكتست
ستدفن في وتتيبس وتتخثر دمائهاُ ، بالصقيع ،وستتجمد هذه الجثث َّ َّ
َّ َ
الجليد)) .انبعث من الظالم صوت خافت بعيد ،وإن كان ُعواء ذئاب ال
حماسية لحنها من جوع، وانخفضت َّ
بأغني ٍة َ َلبس فيهَ .
ارتفعت أصواتها
ٍ
مؤخرة ُعنق جنود الشردانا .قال
ّ ً ُّ
جاعلة الشعيرات تنتصب على ِ
ً
إمحوتب الهثا من غضب سيطر عليه من أحداث اليوم وهو يتفقد
نخيم هنا الليلة ،فلنرحل للديار)). الجثث املتناثرة من حوله(( :لن ّ
ِ
السوار ،وقالتأغمضت سيمورامات عينيها وهي تضع يدها على ٍ
ما تراه في عقلها(( :خسر شمش ي معركته مع حمورابي الذي قطع رأسه
ورؤوس أبناءه الثالثة وعلقها على أسوار القصر اإللهي قبل أن يقوم
بإحراق نينوي بأكملها ً
ناهيا أسطورة شمش ي ومدينة األسود لألبد)).
لدى عودتنا إلى كيميت ،تزوج اإلله رع من سيمورامات ،وفاض ّ
سنوات بعيدة،
ٍ النهر في هذا العام مرتين وهو ما لم يحدث منذ
السوار في خلق واحاتساعدت األميرة سيدة األرض بإستخدامها ِ
خير ٌ
وفير في األرض السوداء. خضراء ليس لها آخر ،وعم ٌ
187
أساور ذا ٍ
قوة ٍ إستطاع إمحوتب أن يبتكر طريقة إلستنساخ
للحراس ،وأساور خضراء متفاوتة من السوار ،فصنع أساور فضية ُ
ِ
اللون للكهنة والكاهنات ،وأساور ذهبية لإلله رع ومن يصطفيهم ،ثم
قام بإنشاء مدينة كاملة لتعليم السحر وتربية السحرة ،قام فيها
بتعليم التعاويذ الخاصة بكل فصيل ،كما جعلهم يعرفون ً
جيدا
َّ
الحدود التي يجب عليهم أال يجتازوها في إستخدام السحر.
بعد 10سنواتُ ،رزق اإلله رع من سيمورامات بأربعة أبناء هم
إيزيس وأوزيريس وست ونفتيس ،في أحد َّأيام هذه السنواعت طلب
َّ
سحرية لم يسبق ألحد اإلله رع من إمحوتب أن يصنع له مدينة َّ
سرية
تخيل أن يتواجد مثلها ،وأتاح له جميع الصالحيات التي أن رأي أو َّ
ُ
تمكنه من فعل ما طلب منه .جمع إمحوتب بضع آالف من خيرة عمال
كيميت ،وحدد منطقة هضبة الشمس لتكون مكان املدينة الجديدة
التي قرر لها أن تكون أسفل الهضبة قرب األهرامات .صنع متاهة كبيرة
من املمرات األرضية ،ملئها بالفخاخ الهندسية والفخاخ السحرية
أي كائن أن يعبر منها .أثناء ذلك ،ولخمسة يصعب على ّواللعنات التي ُ
عشر ً
عاما كانت اململكة تنعم باألمان والرخاء.
صيد كان قد تغيب فيها ملا َ
في أحد الليالي عاد حنكليس من رحلة ٍ
يقرب الشهر ،واكتشف أمر صداقة حميمية نشأت بين زوجته وكبير
سويا في املسبح .فقام بصنع تمساح منالحراس في قصرهْ ،إذ وجدهما ً
السوار ،من ثم القاه لهم في املسبح، الشمع وبث فيه الروح بقوة ِ
188
لتسماح عمالق وفتك بهما .ولم يستطع َحنكليس التخلص من ٌ فتحول
شهيرا ً ً
التمساح ،إذ هرب من املسبح وخرج للعامة وكان سوق ً
قريبا من
قصره .إقتحمه التمساح ومزق ً
عددا من الرعاة .ولم تكن هذه الحادثة
ُ
الوحيدة التي أستخدمت فيها األساور بطريقة مؤذية ،بل تعددت
الحوادث ،مما أثار غضب األميرة سيمورامات واإلله رع ،فطلبوا
حضور ِإيورخي وشاوراه في األمر ،وقال األخير أن األمر ال يتطلب قوة
َّ
عسكرية بقدر تطلبه قوة سحرية وحكمة ،وأن مثل هذا األمر إذا ما تم
بيده ستكون أضراره جثيمة ،فمن املمكن أن تنشأ صراعات وكراهية ِ
ً
بين الحراس والكهنة وقيادة الجيوش .وأضاف ناصحا(( :وحده
ْ
إمحوتب يستطيع فعل ذلك بأقل خسائر ،إذ َّأنه يمتلك عالقات قوية
بجميع الكهنة والراهبات والحراس فهو من دربهم وعلمهم فنون
السحر)).
ِاستجاب اإلله رع وزوجته لنصيحة القائد ،فطلبوا حضور
ً
إمحوتب الذي كان مايزال مشغوال ببناء املدينة السحرية وقيادة آالف
العمال أسفل األرض لبناء ممرات املتاهة الحسرية .على الرغم من
ذلك لبى أمر إله األرض رع.
لدى حضوره في قاعة العرش في القصر اإللهي ،تلقى أمر بجمع ّ
األساور الذهبية من الجميع ،حراس ،ورهبان وحتى كبار الكهنة .قالت
األميرة سيمورامات وهي تنزل درجات العرش وتتخلى عن ِ
السوار:
ٌ
متعاب كثيرة ،فال أحد يتخلى عن القوة بهذه البساطة)). ((ستواجهك
189
وأعطته ِسوارها يستخدمه في إجبار السحرة والكهنة والحراس على
التخلي عن قواهم السحرية وأساورهم.
َّ
كون إمحوتب بمرافقة ِايورخي مجموعة من أفضل جنود الشردانا
وبعض الكيمتيين األشداء ،خاض بهم حرب ضروس مع السحرة
والكهنة والراهبات والحراس في أرض كيميت كلها ،إستطاع فيها أن
قدر ممكن من األساور .وما إن كاد يوشك على اإلنتهاء من يجمع أكبر ٍ
يوم
مهمته ،تفاجأ مع الكيمتيين بمغادرة إله األرض رع إلى املساء ،في ٍ
ً ً
حزنا وأملا على األرض كلها .لم تكن مغادرة اإلله رع الحياة هي هو األشد
الكارثة الوحيدة التي حلت باألرض ،بل وجوب مغادرة األميرة
سيمورامات هي األخرى وعودتها إلى قاع النهر لتكون إلى جانب الحمامة
ً
مسبقا بين اإلله رع والحمامة الذهبية وذلك بموجب أمر متفق عليه
الذهبية ولم يكن أحد يعلم به ش ٍيء .بعد أن قامت األميرة سيمورامات
بأيداع جسد زوجها في مقبرته ،وأنتهت من جميع الطقوس الجنائزية
الالزمة لتكريمه ،قامت بتقسيم الحكم بين ولديها أوزيريس و ِست ،على
أن يتزوج أوزيريس من إيزيس ويحكم الشمال ،ويتزوج ِست من نفتيس
ويحكم الجنوب.
لم يكن إمحوتب قد أنهى مهمته كاملة بعد ،إذ كانت بعض
األساور ما تزال بين يدي بعض الحراس والكهنة ،وانتظرت سيمورامات
ً
عودته حامال ِسوارها السحري بكامل قوته بعد أن يحصل على بقية
يعد ولم َيعلم مجدداَّ ،إال أن إمحوتب ً
أبدا لم ُ ً األساور ويدمجهم فيه
190
ُ أي مخلوق آخر عنه ً
شيئا ،وأضطرت سيمورامات أن تغادر األرض ٍ
ّ
تاركة خلفها ِسوارها السحري إلى األبد .قال البعض أن إمحوتب عاد
ُ
إلى مدينة هامونابترا ،وقال آخرين َّأنه قتل في أحد املعارك .وحده
ِايورخي قال(( :سوف يعود ً
يوما ما إذا ما تحتم عليه أن يعود)).
۞۞۞
191
12
ً
بزغت الشمس على إستحياء ُمتخفية خلف الغيوم الحديدية،
وعلى الرغم من برودة الهواء وصوت سيمفونية صنعتها ندفات املطر
الد ْردار والبلوط والتوت املُتساقطة على أوراق وأغصان أشجار َّ
ً ً َّ
شديدا تمكن من املحيطة باملنزل ورائحة األرض الندية إال أن أرقا
الكاهن كاي تاي الذي لم يستطع أن ُيمدد جسده في الفراش من فرط
األرق.
دفعه الشعور باألرق إلى مغادرة مضجعه ،فعاد ُم َّ
جد ًدا إل برج
طل من بين األشجار العالية فيه ُي َّ
شرفة املنزل بوسط القلعة ،وقف ِ
كشريط من األخضر املزرق في يتأمل كل ما يطاله ببصره .رأى َّ
النهر
ٍ
شمس الصباح وبطول ض َّفتيه نما البوص بكثافة في الجزء َّ
الضحل
من املياه ،رأي صيادين وعمال يتجولون على الضفة ،رأي ُ
بضع نساء
ً
تمساحا يملئن الجرار باملاء وأخريات تسقي بعض الحيوانات ،رأى
التموجات من ورائه وهو ُّ السطح ،تنتشر صغيرا ينزلق َّ
بخف ٍة على َّ ً
َّ ُ َّ
يتحرك وفي األعلى حلق غداف بكسل في دوائر.
ُّ
وتحف املكان ًّ ُّ تنهد ،وبدا أن َّ
حقا على الرغم السكينة تحف قلبه
من بهتان مالمح وجهه الشاحب الحزين على أثر فراق شقيقه .صدح
صوت دقات طبول وقرعت نواقيس بدا من شدة صوتها َّأنها عمالقة ُ
192
ْ
الحجم إذ ُس ِمع صدى صوتها في األرجاء جميعها ،ثم أعلن ٍ
مناد أتى
صوته من بعيد وهو يطوف في شوارع العاصمة عن دعوة إلحتفالية
ُ
عظيمة سوف تقام في قصر اإلله أوزيريس برعاية شقشقه إله
الجنوب ِست.
كصفعة على الوجه ،وغمغم: تبدلت مالمح الكاهنَ ،
أصابه الخبر
ٍ
((ست ست ست ..ال خير فيه ً
أبدا)). ِ ِ ِ ِ
دلف شبسكاف ُيرافقه نياخ هاو الذي قال فور دخوله من الباب:
((ثمة مجزرة حقيقية حدثت في معبد سوبيك نفرو)) .وأضاف َّ
وقتل ً ُ ُ
أيضا حارس السيد خا أم ويست في شبسكاف(( :قتلت ببشاعة ِ
ً
ستفسرا في إستغراب(( :مما يعني؟)). ذات املعركة)) .سألهما الكاهن ُم
قال شبسكاف ،نعتقد أن السيد خا إم ويست كان ُيدافع عن
ُ
السيدة سوبيك نفرو عندما قتل حارسه الخاص ،بيد َّأنه غير موجود
ونعتقد َّأنه.))...
ً
بلهجة قاطعة وهو يرفع كف يده باسطا َّأي ُاه في وجه
ٍ قال الكاهن
ً
مخاطبا نياخ هاو: َ
شبسكاف (( :ششش ..خا إم ويست بخير)) .والتفت
بخبر يقين)). ُ َّ
((إذهب ..وعد إلي ٍ
وأبدا يا سيدي)) .في اللحظةدائما ً
رد نياخ هاو (( :أنا رهن إشارتك ً
همس يستغيث .كان ُ
صوت ذاتها ،قبل أن ُيغادر نياخ هاو مكانه ُسمع
ٍ
ذهنيا مع الكاهن ومن حولهِ .التفت ً صوت خا إم ويست يتواصل
193
ً ُ ثالثتهم لبعضهم البعض وقبل أن يعلق أحدهم ُفتح ً
ضوئيا والقيت بابا
عبره قطعة نقود معدنية سقطت أسفل أقدام شبسكاف الذي إنحنى
ومتوتراوهو ينظر نحو البوابة الضوئية: ً ً
ستغربا والتقطها وقال ُم
((مبللة بالدماء)) .إندفع الكاهن كاي تاي وعبر من البوابة وعبر من ُ
حارسيه دونما تردد أو أن يعرفا إلى أين ستقودهما هذه البوابة.
ِ خلفه
َّ
الحجرية وجدوا أنفسهم يخرجون في وسط غرفة خا إم ويست
ً ً
بركة من
داخل املعبد األسود .ووجدوه ساقطا على األرض ،غارقا في ٍ
الدماء بلونها األحمر القاني ،مالمح وجهه مزرقة كمن شارف على املوت.
ُ
فزع كاي تاي لرؤية شقيقة على هذه الحالة ،جلس ثالثتهم إلى جواره،
ساعداه شبسكاف ونياخ هاو على اإلعتدال وأسندا رأسه على أيديهم.
ومنحيا خالفات املاض ي ًّ ً
متناسيا قبض الكاهه على معصم شقيقه
عليه بيد أن خا إم وأمسك ِسواره السحري َّ
بغية القاء تعويذة الشفاء ِ
ويست قبض على يده وقال(( :ال فائدة ،فات األوان)) .قاطعه كاي تاي
ً
مكروها وأنا وهو يزيح يده عن معصمه(( :لم ُيفت ش يء ،لن ُيصبك
ُهنا)).
حدق خا إم ويست في مالمح وجه شقيقه وأمعن النظر بشدة
ثوان قليلة
مشهد من ٍ
ٍ داخل عينيه وشرد لبرهة قصيرة تذكر فيها
جمعهم قبل عشرات السنين ،كان يلعبا مع بعض الصبية داخل أروقة
معبد السماء بين العمدان واملسالت العمالقة ،فيختفي جميع الصغار
ُ
فرجة
ٍ حائط متوسط الطول يخفي أجسادهم ،الحائط ِ
فيه ٍ خلف
194
أفقية ال تظهر منها سوا أعينهم ،وعلى الصبي املختار أن يمر أمامهمٍ
واحد منهم من لون عينيه ،ومرة ً
واحدا تلو آخر ويكشف شخصية كل ٍ
بعد مرة كان خا إم ويست في دوره يكتشف أخيه من النظرة األولى ،وفي
كل مرة كان كاي تاي يفشل في إكتشافه .إبتسم خا إم ويست وهو
يتذكر لون عيني شقيقه الصغير الذي كبر وأصبح سيد الكهنة وما
بصوت واهن(( :بل فات وأنقض ى منذ
ٍ تزال عينيه بنفس لونهما وقال
زمن بعيد ،فقط إسمع)) ،والتفت بوجهه نحو الحارسين وأضاف: ٍ
ً
((وأنتما أيضا إسمعا ِ ..ست يسعى لفتح أبواب الجحيم ،يرغب في إزالة
جيش منهم .لذا جعل يورشوالحاجز بين البشر والغيالن ليحصل على ٍ
السحرية ليستخدم قوتها في إستدعاء سادة الجحيم َّ يجمع له األساور
ليلبوا أوامره .األرض السوداء كلها بين أيديكم .األرض كلها)) .ثم أطبق
شفتيه مع ًلنا بذلك صمته إلى األبد.
في هذه اللحظة ،ظهر إله املوتى آنوبيس حامي املقابر ومرشد
األرواح في طريقها إلى العالم اآلخر وتجسد إلى جوارهم .عمالق الجسد،
ٌ ٌ
طوله ثمانية أقدام ،له بشرة طينية سوداء تبدو عند النظر إليها وكأن
قناعا أسود على هيئة رأس ذئب، بها شقوق مليئة بالنار ،يرتدي ً
مفتول العضالت عيناه تظهر غائرتين داخل رأسه خلف القناع.
ٌ ٌ
بوشاح أسود مصنوع من معدن ناري ُمتدلي من حزام عريض ملفوف
ً
أساور حديدية من نار يستخدمها
ٍ يلتف حول خصره ،ممسكا في ُيسراه
في تكبيل األرواح السيئة ويجرها بها في الطريق إلى آخر العالم ،وفي
ُ ٌ
صولجان ُز ٌ
جاجي مليء بالذئبق ،يجعل األرواح الجيده تتشبث ُيمناه
195
بلطف نحو العالم اآلخر.
ٍ ويسقيه من ذئبقه وهو يرافقهم
ِ فيه
ِ
ّ ً
عميق
ٍ بصوت
ٍ وتأوه أملا إنتفضت روح كاي تاي داخل جسده
لدى رؤيته آنوبيس يتجسد أمامه ْإذ علم أن خا إم ويست فارق ومكتوم ّ
ُ الحياة ً
فعليا وأن روحه سوف تغادر إلى حيث ال يمكن الوصول إليها
مرة أخرى في هذا يعد بإستطاعة أحدهم أن يجعله موجود َّ ُم َّ
جد ًدا ولم ُ
بدموع لم يستطع أن ُيخفيها ،وتوسل إلى ٍ العالم .اغرورقت عيناه
ً
((رحماك يا إلهناُ ،رحماك يا إلهناُ ،رحماك يا إلهنا)).
قائالُ : آنوبيس
َ ُ
فخاطبه الكاهن هز آنوبيس رأسه أن ال فائدة ،قض ي األمر.
ُ
ستساعدني))َّ . ستجديا(( :تقابلنا ُم ً
ً
هز آنوبيس رأسه سبقا ،قلت إنك ُم
بصوت
ٍ عضلة واحدة في وجهه وقد ُثبتت عيناه وقال ٍ دونما أن تتحرك
بعيدة(( :كاي تاي ،صديقك العجوز سبقك إلى ٍ أعماق
ٍ أتى من
ُ َّ
الرحيل)) ،واشار إلى وجه خا إم ويست وأضاف(( :انظر)) .كان رأس
ُ
شقيقه ما يزال في ِحجره ،لكن عينيه مفتوحتان ت َحدقان إلى الفراغ
كفتا عن الحركة .وفي هذه اللحظة ،حنت البومة رأسها وشفتاه َّ
ً
وصدحت صارخة بصوتها وكأنها تنعي روح سيدها التي بدأت بالفعل
تتحرر من جسده.
شديد بدا في صوته توسل كاي تاي وهو يقبض بشدة على ٍ بحز ٍن
ً
كف شقيقه قائال لإلله آنوبيس(( :أنت إله ،أرجوك ساعدني ،لقد
ً ضاع نصف العمر ونحن مفترقان ،أعده َّ
إلي ولو قليال)).
بصوت تردد صداه في املعبد(( :ال أحد من اآللهة
ٍ رد عليه آنوبيس
196
يستطيع أن ُيساعدكُ .يمكن لإلله أن يعيش ألف سنة ،لكن ال ُيمكننا
الدافيء واذهب من ُهنا، التغلب على املوتُ .خذ سواره وسيفه ومعطفه َّ
ِ
لقد حان الوقت لتذهب روحه إلى سبيلها)).
َّ
((لدي شيئا لتفعله!)) .ورد آنوبيس:قال كاي تاي(( :البد وأن لديك ً
ُ
الكثير ،ليس من بين هذا الكثير أن أعيد روحه مرة أخرى)) .والتفت إلى
تحررت)). جسد خا إم ويست ومد يده وهو يقولَّ :
((إن َك َّ
ُ
كتلةببطء شديد على هيئة ٍ ٍ إنسلت روح خا إم ويست من جسده
ُ
من ضباب ونهضت تمسك في يد آنوبيس املمدودة وسط ذهول شديد
باب بدا في مالمح الكاهن كاي تاي .ترجل آنوبيس ُ
خطوات نحو ٍ
ٍ بضع
ُ
صطحبا الروح من خلفه. ً ضوئي فتح أمامه في الفراغ ُم
ٍ
قبل أن يعبرا البوابة إلى العالم اآلخر ،التفتت الروح الضبابية
ُ
أخير إلى
وداع ٍشديد وفيها نظرة ٍ
ٍ بوضوح
ٍ وظهرت عينا خا إم ويست
شقيقه كاي تاي الذي إبتسم وتذكر عينا أخيه ومالمحه وقتما كان
صغيرا في معبد السماء وعرفها ً
أخيرا فهمس(( :خا ..إم ..ويست .. ً
وداعا)) .وتحررت دمعة دافئة من عينيه لحظة أختفاء روح شقيقه ً
خلف البوابة وإنغالقها.
ً
وأخيرا تمالك ً
حتضنا رأس شقيقة، لدقائق قليلة ،ظل كاي تاي ُم
ٍ
نفسه ونهض وهو يأمر حارسيه بحمل جسده واإلنتقال به إلى منزله
ً
بغية اإلستعداد لتحنيطه وإقامة طقوس دفنه .كان الغضب ُمستحوذا َّ
عليه بالكامل وهو يقوم بتحنيط أخيه بنفسه وسط ُمساعدة حارسيه
197
وحارسين آخرينَّ ،إال أن ذلك لم ينمعه من الشرود في ذكرياتهم ً
سويا،
فتذكر يوم عودتهما من معركة نينوي ،وكيف أن اإلله رع حكم عليه
السوار القصوى وذبح جيش قوة ِ باملوت كعقاب على إستخدامه َّ
َّ َّ
بالسوار لنفسه .إال أن تدخله دافوس ي ،وكيف أنه أراد لو يحتفظ ِ
وتوسله لإلله أن يعفوا عن أخيه جعله يخفف العقاب ،فبدله بالنفي
من املدينة وعدم مخالطة الناس .وتذكر كيف أن خا إم ويست الذي
كان ُيحب السيدة كاريسا ويرغب في الزواج بها ،تركها وترك أمالكه
بيت وحدائق وأموال له .ثم باغتته نوبة حنين فأنتفض ً ً
باكيا كاملة من ٍ
وترقرت الدموع من عينيه.
الشمس مستترا من َّ
ً عند حلول الظهيرة ،كان إله األرض أوزيريس
قرمزية ،وقد أر َ َّ ُ َّ
اح ساقه على ذراع كرسيه الذهبي املنقوش، تحت ظل ٍة
َ َ
وجلست امللكة إيزيس إلى جواره ،فيما وقف الحارسين العمالقين
امللكية منتبهين وقد أر َ
َّ ّ
اح كل منهما يديه مؤخرة املقصورة مونتو رع في ِ
الحرس اإللهي األسود َّ
املثبت وانسدل معطف َ َ على حزام سيفه،
َّ
بدبوس ذهبي ُمحلى بالجواهر من على كتفيهما العريضين. ُّ
ً
دلف متحدث القصر اإللهي واح تي إلى املقصورة وتحدث مباشرة
ً
إلى اإلله أوزيريس قائال باقتضاب بصوته الخشن كاملنشار في الخشب:
ُ ُ
((أنهيت جميع التدابير الالزمة ألقامة الحفل املخطط له من قبل اإلله
ِست والسيدة نفتيس ،على أن يكون خالل خمسة َّأي ٍام من شمس
َّ
بتحي ٍة خجول على ذكر اسم اليوم)) .هزت السيدة إيزيس رأسها
198
شقيقتها.
قال أوزيريس وهو يعتدل قبل أن ينهض(( :ستكون احتفالية
ٌ
اال َ ُ
فغر فاه رائعة)) .كان امللك يرتدي سترة مذهبة ن ِقش عليها غز
حربا ً َّ
يتوقع أن ال تقوم ً
أبدا في بالده. للطعام ،كأنه
في املساء ،بعد إنتهاء طقوس تحنيط ودفن الكاهن خا إم ويست،
جلس الكاهن برفقة حارسية شبسكاف ونياخ هاو ،تبادال أطراف
أخيرا أن عليهم مقابلة إله األرضعما يدور حولهم ،وتوصال ً الحديث َّ
أوزيريس وأخباره بما لديهم .مع نهاية االجتماع كانت كتفا الكاهن
ً ّ
متيبستين من الجلوس في املقعد نفسه طويال وجسده بالكامل يؤمله ِ
حزنا على شقيقه فقرر اإلنسحاب من جلسته والذهاب إلى فراشه على ً
سويا في الصباح أمر زيارة القصر اإللهي بغرض التواصل مع أن يرتبوا ً
اإلله أوزيريس.
وأخيرا أتى الصباح،ً َّ
مرت الليلة ثقيلة على الكاهن ولم ينم فيها،
تردد نفير ُي ِعلن
يتناول األفطار برفقة زوجته وحارسيهَّ ،
جلس َ َ وبينما
ضيف كبير املقام إلى املدينة .وبالنظر من برج الشرفة
ٍ عن وصول
ُ
بطابور من الفرسان واألتباع، وجدا َّأنه الساحر يورشو قد حضر
ٍ
َّ ومعه َّ
ستة من الغيالن املسلحين األقوياء ُمهيبي الشكل ،على ثيابهم
َّ
الرمادية رمز العقرب يقودون ويوجهون إثنان من الفيلة العماليق
يجرون عربة مصنوعة من الفوالذ ُح ّمل فوقها ً
تابوتا بطول ثالثة أمتار ِ
صنع بالكامل من الذهب الخالص املوش ى بأثمن الجواهر والنقوشات ُ
199
السحرية ،متوجهين ِبه صوب القصر اإللهي .أراد الكاهن لو يقفز من َّ
َّ
حارسيه أمسكا ِبه ومنعاه ُمعللين ذلك ِ الشرفة وينتقم ألخيه ،إال أن
لقاء مع اإلله رع ويخبروه بما حدث ويكشفا بأن عليهم أن يحصال على ٍ
له نوايا شقيقه إله الجنوب ِست.
وهم باألنصراف إلى حنى الكاهن كاي تاي رأسه بجمود في غضبَّ ،
َ
فأدرك الضجر،وانتابته حالة من َّ
َ مضجعه .جلس على حافة الفراش،
النوم ُم َّ خلد إلى َّ َ ُ
غاضب على األقل .خرج من ٌ جد ًدا .ليس وهو أنه لن ي
فه َّزه من كتفه ً
جالسا على كرس ّي خارج البابَ ، َ
الغرفة ،وجد حارسه
ٍ
قائال(( :استدع شبسكاف ونياخ هاو ،ثم أجر إلى الخارج ّ ً
وجهزِ ِ ِ
َّ َ َّ
حصانين وعجلتين)) .ردد الحارس بعينين عليهما غمامة النوم فلم يكن
ْ
قد نام هو اآلخر إذ سهر يعمل على خدمة سيده(( :حصانين)).
ً َ
احتقن وجه الكاهن وزفر قائال(( :تلك الحيوانات السوداء
الكبيرة ،أنا واثق بأنك رأيتها من قبل ،أربع سيقان وذيل ...لكن نياخ
أوال)) .هرول الحارس ُم ًً
بتعدا من أمام سيده. هاو وشبسكاف
حضر شبسكاف برفقة نياخ هاو إلى الشرفة ،نظر الكاهن إلي
تجردا من أسلحته ،فقال(( :كانعادية ُم ً
تديا مالبس ّنياخ هاو وكان مر ً
حريا بك أن ترتدي ً
ثيابا غير هذه وتتجهز ،فاألجواء بالخارج غير آمنة)). ًّ
مكان ما؟)).
قال شبسكاف(( :أنحن ذاهبان إلى ٍ
((أكل ُ
الحراس ُّ رد سيده بأقتضاب لكنه ًّردا على غير العادة:
بذكائك؟)).
200
ُّ
على الرغم من املخاطر التي تحف شوارع العاصمة ممفيس
لوجود يورشو وأتباعه فيها ،شعر الكاهن أن عليه أن ُيقابل إله األرض
َ
أخرجه وشعر باألمان في وجود حارسيه األمينين عليه. َ في هذا اليوم،
جانبية في سور املنزل من الشمال ،ومن هناك َّ الحارسين من َّبو ٍ
ابة
َ ُ قطعا َّ
الدرب املحاط باألشجار بعجلتيهما الحربيتين حتى سفح تل
بصفوف من
ٍ ممفيس العالي ،ثم َّأتجها إلى طريق امللوك ،حيث َّ
مرا
لطريق آخر يلتف حول املدينة حيث ٍ التماثيل امللكية ،ثم عبرا منه
َّ
املغطاة َّ فمرا بصفوف من َّ التجار َّ يسكن كبار ُّ
بالستائر، النوافذ ٍ
املبنية بالجرانيت الوردي .بدا أن الشمس تتبعهم أينما واملباني العتيقة َّ
النظر إليهما ثم تتوارى وراء غيمة أو شجرة ،وهكذا ذهبا ،تختلس َّ
عجوز شمطاء وحيدة أحدا ُيقلقهم باستثناء دواليك ،بينما لم ُيصادفا ً
ٍ ِ
َ َ ً ً
بنظرة خائفة ومشفقة في ٍ َة ميتة من ذيلها ،رمقتهم تحمل ِقط
َّ ُ
ذات الوقت ،كأنها تخش ى أن يح ِاوال سرقة عشائها ،ثم انسلت وسط
ّ
كلمة واحدة. الظالل بال ٍ ِ
مزدحما على الرغم من الوقت ً لدى وصولهم القصر اإللهي ،كان
ببشاشة واصطحبوهم إلى ٍ املبكر ،وحياهم ُحراس البوابة الرئيسية
ألمر هام ،فقال لهم: كبير الحرس فأخبراه برغبتهم في مقابلة إله األرض ٍ
كثيرا عندما يعرف أنكم أتيتم .لكن ذلك ال يعني أنكم سر اإلله ً ُ
((سي ُّ
ْ
ستقابلوه اليوم .فال فرصة للقائه قبل خمسة َّأي ٍام ٍ
كاملة من اآلن ،إذ
أنه كثير اإلنشغال بالتدابير الالزمة لحفل عيد الحصاد الثاني والذي
سيقام برعاية اإلله ِست)) .أطل الكاهن برأسه من فوق عجلته ُ
201
ً
قاطعا: الحربية وقال(( :أحتاج للقاءه أسرع من ذلك)) .ورد الحارس
ُ
سأحرص على تجهيز ((سيكون ذلك في الشمس الخامسة من اليوم،
موعد لك .وكأس من َّ
النبيذ امللكي)) .استاء الكاهن وهو ينظر إلى ٍ
سيدي ،لكني ال أستطيعُ
حارسيه ،فأضاف كبير الحراس(( :سامحنا يا ّ
ِ ِ ِ
فعل ش ٍيء غير ذلك)).
۞۞۞
202
13
ً َّ
كئيبا من النوع الذي ُيشعرك هدوءا ً ً جاء الصباح هادئا ،إال َّأنه َ
مرتدية ُف ً
ستانا نيلي اللون
ً
أن الحياة تحتضر .أطلت من شرفتها وكانت
بخيوط من الذهب والفضة ،وتطاير شعرها الذي ٍ فضفاضُ ،مطرز
تعد تحمله فوق رأسها منذ حررته من تاجها منذ وقت طويل فلم ُ
الحراس يعبرون ملحت ُبركن عينها ثالثة من ُ غادرت القصر اإللهيَ .
بقية ُ
الحراس، أبواب القلعةَّ ،ميزتهم من مالبسهم املختلفة عن ّ
لدى وصولهم إلى قاعتها فتسائلت ُمستغربة في حيرة(( :كانوا سبعة!))ّ .
َّ ّ
مبك ًرا عن املتوقع؟)). كانت تتسائل في نفسها(( :ملاذا عادوا ِ
بقية من خرجوا استفسرت نفتيس ُحراسها الثالثة عن َّ َ حين
َّ
الح َّراس ((أنه يورشو، أجابها أحد ُ
برفقتهم للتجسس على زوجها ستَ .
ِ
دفعة واحدة)). أفقدنا أربعة رجال ٍ
تلقتها في بطنها ،فقد كانوا من املقربين أحست بالكلمات كركلة َّ َّ
ٍ
عليه
كل حال ،بل ِ إليها ،وقالت لنفسها(( :على هذا الغبي ُمساعدتي على ّ
ِ
ساعد نفسه حتى ال ُيدفن كما ُدفن الجنوب كله أسفل أقدام أن ي ِ
ُ
ً ٌ َ
حارس في الحديث ،قائال(( :على الجانب اآلخر من سترسل ِست))ِ .ا
املدينة جمع يورشو اآلالف من الجنود)).
سألت نفتيس(( :اآلالف!! ماذا يفعلون؟)).
203
سارا ً
كثيرا)). أجاب حارس بوجومًّ :
((أيا كان ،فلم يكن منظرهم ًّ َ
204
عنوة من ُت َّجار أهل الجنوب .كان ً ً
كثيرا من جنوده قد فروا من جمعها
سوء حكمه ،منهم من غادر إلى ممفيس في الشمال فأصبح تحت ّ
إمرة
أوزيريس ،ومنهم من فر إلى قلعة زوجته نفتيس التي إستمالت كل من
لقوة زوجها. لجأ إليها رغبة منها في تكوين قوة مضاهية َّ
ً ً
خاطبا في جنوده قائال(( :أنتم أبناء كيميت األصليين، صاح ِست
دائما للدماء ،ال تهابون والئم الجثث. أخوة الدم والسالح ،املتعطشين ً
فخورا بش ٍيء أكثر من ذلك)) .وتوقف عن الحديث ً وال يوجد قائد يكون
ً
لثوان معدودة ،اشاح فيها بعينيه عنهم ُملتفتا إلى تمثاله العمالق الذي ٍ
ً
يقف خلفه تماما بطول ثالثين قدما شأنه شأن املسالت ،ثم أضاف ً
بكياسة ُمفتعلة(( :ممفيس ..عاصمة الشمال ،أعظم مدينة كانت أو ِ
َ َّ
والبوابة بين الشمال والجنوب ومركز َّ َّ
ستكون .إنها مركز العالم،
ّ ُ َّ
الشرق والغرب ،أعتق من أن تدرك ذاكرة البشر منشأها ،وبديعة
لدرجة أنها ال تستحق أن ُتحكم َّإال بأيدينا)) .صاح الجنود َّ
بقوة ودقوا
برماحهم الطويلة وسيوفهم الصلبة على الدروع فأهتزت األرض أسفل
ً ً
جميعا على يد أقدامهم .استرسل ِست قائال(( :الجنود املتمردون حرقوا
ً
يورشو)) .وهز رأسه وخفض صوته قليال وهو يقول بلهجة محذرة أكثر
َّ
منها معلومة(( :والغيالن ..علقت رؤوسهم على الرماح)) .ثم رفع صوته
جد ًدا قال(( :والبقية هربوا إلى قلعة نفتيس حيث أنهم يستعدون ُم َّ
ملواجهتنا ،لكن أنتم يا ذئاب الجنوب سوف تسحقونهم عند عودتنا
خطوات نحو
ٍ بعد إسقاط ممفيس)) ،أنهى جملته وهو يترجل بضع
عربة جرها فيل عمالق قاده بعض الحراس حتى وقف خلفه ً
تماما، ٍ
205
كاشفا صناديق مليئة عن آخرهاً رفع أحد ُحراسه الغطاء عن العربة
واحد من الصناديق وقام بإفراغه َّ
الذهبية .حمل ِست ٍ بقطع العمالت
ً ً
قذفا أسفل أقدام جنوده ومن خلفه فعل ثالثة من ُحراسه الش يء
ذاته .قال ِست لجنوده وهو يستدير ُم ً
غادرا الساحة(( :أنتم تستحقون
هذا ،تستحقون الذهب واملجد)).
ٌ بعد ثالثة َّأيامَ ،
جاءت ظهيرة ،إهتدت فيها نفتيس إلى حيلة ماكرة،
ْإذ وقفت في نافذة غرفتها ُت ِط ّل على النهر ،من ثم تواصلت ً
ذهنيا مع
يورشو الذي كان في عجلته الحربية خلف إله الجنوب ِست برفقة قادة
فيالق الجيش ومن خلفهم خمسة اآلف ُمقاتل متوجهين صوب
العاصمة ممفيس .كانوا قد تجاوزوا الحدود الشمالية ملدينة كاهون
قليلة
ٍ عات
واقتربوا من الحدود الجنوبية ملدينة ميديوم فباتت سا ٍ
((أرغب فيك،ُ تفصلهم عن بوابات ممفيس .همست له بأقتضاب:
ً ً سأنتظرك وقت األصيل)) .في اللحظة ذاتهاَ ،
سمعت طرقة خفيفة على
الباب ،فالتفتت ً
بعيدا عن النافذة ،وقالت(( :ادخل!)).
عاما وانحنيتا لها، دلفت اثنتان من الخدم بعمر يقل عن عشرين ً
ً ُ
مارسان عملهما مباشرة .كانت نفتيس مشغولة الذهن ،ولم ثم بدأتا ت ِ
َّ
املفضلة عوضت صمتها ،كانت تنبث ببنت شفة ،لكن إحدى الفتاتين َّ
الشعر َّ
بنية لدى سيدتها ،فتاة في الثامنة عشر من ُعمرها ،ناعمة َّ
ُ َ َُ ْ
فخلعت أسمال فستانها ،ثم العينين لم تكف عن الثرثرة وهي تعمل.
اخلية .مألت خادمتها األخرى املغطس طنية وثيابها َّ
الد َّ خلعت ُسترتها ُ
الق َّ
206
بالزيوت َّ َّ
وعطرتاه ُّ الساخن الذي َ باملاء َّ
الفواحة، جاءتا به من املطبخ
ُّ
وساعدتاها على النزول إلى املغطس.
َّ
نظفنها َّ
بالصابون َ َ َّ
حممتها واحدة وغسلت شعرها ووجهها وبينما
الدافىء على رأسها ،لم َتر أمامها غير وجه يورشو الذي وصببن املاء َّ
رغبت في أفراغ رأسه من جميع ما فيه من مخططات.
َ ً
نظيفة ً
ساعدتها الخادمتان على الخروج من تماما عندما صارت
املغطس وأحضرتا املناشف القطنية لتجفيف جسدها .مشطت الفتاة
ضمختها األخرى ب ِعطر زهرة َشعرها حتى تألق كالحرير األحمر ،بينما َّ
الياسمين البري القادمة من سهول بالد كوش ،مسحت به على ّ
كلِ
َّ
معصم ووراء أذنيها وعلى حافتي نهديها ،ثم مسحة باردة أخيرة على
َّ َّ ساقيها وما هو أبعد من ذلك .بعدها َ
التحتية، ألبستها األثنتان الثياب
وفوقها الوشاح الحريري ذا اللون األرجواني املائل إلى األزرق الذي ُيبرز
املموهالصندل َّ
وضعت خادمة قدميها في َّ َ لون عينيها الزرقاوين ،ثم
َّ َّ َّ
املرصع بالجواهر على رأسها، بالذهب ،بينما َّثبتت األخرى التاج
الذهبي َّ َّ َ
املزين بالنجوم حول معصمها ،وفي ووضعت نفتيس ِسوارها
ُ َ َّ
النهاية كان الطوق الذهبي الذي ن ِقشت عليه رموز بالكيمتية القديمة
وأمرت الخادمتين بمغادرة الغرفة.
طيا مع اقتراب وقت األصيل ،كانت عجلته الحربية تطوي األرض ًّ
منطلقا أمامه فوق عجلته ً عندما نظر يورشو إلى ِست الذي كان
الحربية يقودها قائد أحد فيالق الجيوش لألمام يشق رمال الصحراء
207
وميز أنه منشغل باإلسراع في دون هواده بعدما قطعوا مدينة ميديومَّ ،
قطع الطريق أكثر من أي ش ٍيء آخر وأنه لم يالحظ غيابه عن املوكب.
َّ فشرد بعجلته الحربية ُم ً
بتعدا عن صفوف الجيش وتوارى خلف تل ٍة
صغيرة ثم قال(( :الوهومورا)) .إنفتح الباب السحري في الفراغ ،فقذف
عبره قطعة نقود ذهبية.
ُ
فتح الباب في غرفة نفتيس وسقطت القطعة النقدية على األرض.
لدى رؤيتها القطعةإبتسمت نفتيس إبتسامة الواثقة في حالها وحيلتها ّ
أرضاِ .انحنت وقبضت عليها ،لم تردها عبر البوابة، النقدية تسقط ً
ُ أوال في املرآة ذات األطار ّ ً َ
الفض ي وابتسمت وهي تحرك ِ رمقت انعكاسها
لسانها بين شفتيها وتعمدت إظهار جسدها من أسفل وشاحها
األرجواني املتدلي عن كتفيها لتبدو شبه عارية وهي تقترب من فراشها.
الفراش ثم القت بالقطعة الذهبية عبر البوابة َّ
تمددت على بطنها على ِ
ودفنت رأسها في وسادتها.
دة ُ ُ َّ ً
شبه عارية في فراشها، عبر يورشو من البوابة ،تفاجأ بها ممد
((حقا؟))َ ، ًّ ً َّ
ً
متابعا وهو وه َّز كتفيه فتساءل غير ُمصدقا ِملا يراه:
س لحيته(( :يبدو َّأنني مدعو ألحظى بالقليل من املرح)). َّ
يتحس ُ
ً ُ
الفراش
لم تحرك امللكة ساكنا ،فدنا منها حتى جلس على حافة ِ
ً ً َ
وشعر أن عينيه ترى
لرؤيته خليط
ِ مصنوعا من حليب ،وانبهر جسدا
ً
العسل باللبن والقشدة إلى جوار قارورة من النبيذ .تجرأ ووضع يده على
ً
جسدهاِ ،ارتعشت ،فتبسم قائال(( :أتسمحي لي بالقليل من املرح يا
208
سيدتي)) .تنهدت ،فأمسك بخليط العسل مع الحليب وسكب ً
شيئا منه ّ
ِ
أسفل كتفيها ،وشرع يدهن على ظهرها وانتقل إلى ساقيها ،قبل أن يمزج
جرعة من نبيذ َّ ً
النوم ُويضيف إليه العسل ُليساعدها على لها
اإلسترخاء ،وملا تحركت كالثعبان أسفل راحة يده قال لها وهو ُيناولها
ً ً
الكأس(( :نامي قليال يا صغيرة ،سيبدو كل هذا ُح ًلما لذيذا فحسب
عندما تستيقظين)).
َ َّ
احتست فكرت نفتيس(( :كال ،لن يبدو كذلك أيها األبله)) ،لكنها
َّ َّ
حال وتركته يعبث في جسدها .كان الظالم قد َح َّل حين كل ٍ
النبيذ على ّ
ِ
استفاق يورشو للوقت ومدى املسافة التي تفصله عن مكانه الصحيح
إلى جوار سيدهَّ ،إال أن ما تفعله به نفتيس ومنظرها كان ً
قمينا بأن
فترك وشاحه بشدة ،وأنتفض جسده َ يجعل كل ش يء فيه ينتصب َّ
ِ ٍ
َ َّ ً ُ
غمغمت نفتيس الفراش وقبل كتفيها وملا يسقط أرضا ،ثم صعد على ِ
ثانية ولعق رقبتها ،وأخذ يتجول على كتفيها حتى َ ً بش ٍيء ما َّ
أطلقت قبلها
َ ً ً
وارتعدت .حاول أن يعتليها ،فأبتعدت واستدارت حتى أصبح َّأنة خافتة
ً ً
وجهها لوجهه فأطلقت ضحكة ساخرة شديدة العلو .كانت عيناها
ً َّ مفتوحتين طوال الوقتَّ ،
وتبسمت وملست على شعره هامسة(( :ال
تتعجل ..ال تتعجل يا صغيري ،ال تتعجل)).
لهث يورشو وارتعد وهو يراقبها تنهض عن الفراش .ترجلت صوب
وشدتالباب وركلته لتغلقة ،لفت انتباهه منظر اخر عندما انحنت َّ
َّ َّ
وشاحها من حافته وسحبته ألعلى ثم ألقته بعيدا ليلوح أنها ربما تخلت
209
َّ ّ
الداخلية أو َّأنها تخلت عنها بالفعل ،وقالت(( :لن تتمكن من
َّ عن ِثيابها
الراحة أبدا بعد اليوم)) .قالتها وهي تقف امامه عارية متوردة ُّ
تسر
وضعت يدها على وركها ،وأضافت(( :ستفكر َّفي كلما خلدت العين ،وقد َ
ً ُ ً
ساعدك ولنإلى ِفراشك ،وعندها ستتصبب عرقا ولن تجد أحدا ي ِ
النوم ً
أبدا حتى)). تستطيع َّ
211
َّ
الحراس والقت تعويذة أخرى ،إال َّأنه صاحت نفتيس تطلب ُ
جد ًدا باألحتماء خلف أحد التماثيل ،ثم قفز من النافذة تفاداها ُم َّ
ً
ضوئيا بسرعة كقرد وهو ُيلقى تعويذة(( :الوهومورا)) ،لينفتح له ً
بابا ٍ
وهو يسقط في الهواء فيعبر من خالله ويختفي في الحال.
السماء لحظة وصول ِست وجنوده إلى َ
ارتفع في َّ القمر قد كان َ
بوابات ممفيس .قبل أن يعبروا البوابات املفتوحة منذ الصباحِ ،التفت
ً
حوله باحثا بعينيه عن يورشو(( .مالي ال أرى يورشو أم َّأنه من
الغائبين!)) ،قالها ألحد قادة فيالق الجيش ،وقبل أن يرد عليه ظهر
مزحا ُمصطنع(( :أفكر ..ماذا سيكون مازحا ً يورشو من خلفه وقال ً
َّ
دوري في خطتك يا جاللة امللك)).
أن ساحره كان مصفر الوجه شاحب املالمح ،وحينها عرف ست َّ
ِ
بفعل ما على غير ما ُيرام .حاول يورشو أن ُيشتت إنتباه سيده، أتى ٍ
ّ َ
فأشار بسبابته للقائد الواقف امامه مباشرة وكان ذا ف ٍك مفلوق وله
عينين غائرتين في وجهه خلف القناع ،وسأله(( :أنت! ماذا سيكون
دورك في خطتنا؟))
الرعب في قلوب أجاب القائد بتردد لكن بحماس(( :أن ُألقي ُّ َ
قواتنااألعداء كما يتوجب على َمن يحمل اسمك أن يفعل .سأقود َّ
وأزحف إلى قلب العاصمة ً
تماما)).
وتدخل قائد آخر ،قال وهو يتفقد األسوار(( :تلك القلعة َّ
قوية،
قدماَّ ،
وثمة أبراج َّ
حجرية ،ترتفع ثالثين ً َّ
قوية بما فيه الكفاية .األسوار
212
قصرا ً
إليهيا ومربعة عند كل ُركن ،مما يعني أن ً ُمستديرة بطول السور َّ
ً منيعا في َّ
الداخل))َّ .أمن قائد الفيلق األول على كالمه قائال(( :وال ُيمكننا ً
بصوت الحجرية ،فكيف نق .))...قاطعهم ِستَّ إضرام َّ
النار في األسوار
ٍ
ً
جميعا)). َه َّدار(( :صه ،اخرسوا
سبقا بالفعل ،وكل هذا الحديث محض كانت هناك خطة ُمعدة ُم ً
هراء.
النواقيس معلنين أن موكب إله الحراس َّ
على أسوار ممفيس َد َّق ُ
َ َ َ
أبواق كبيرة الحجم ،تلتفالجنوب ِست أقبل ،بينما نفخ آخرون في ٍ
َ َ ُّ َّ
صف من الخادمات برونزية ضخمة ،وخرج كأفاع
ٍ حول أجسادهم
َّ
ليتخذوا مواقعهم ليستقبلوا املوكب بالورود وزهر الياسمين والقرنفل.
أبواب القصر الداخلية لدى رؤيته الحراس على َّ تسائل أحد ُ
خمسة أآلف ُمقاتل يتبعون اإلله ِست والساحر يورشو في ساحة
القلعة قادمين نحوه(( :ملاذا تأتي كل هذه الجنود من خلفه؟!)) .رد
مقربة منه ،قال(( :الظلم يحتاج ً
دائما قوة ٍ ٌ
حارس آخر يقف على
تحميه ،بعكس العدل ،يحمي نفسه بنفسه)) .بدا أن الحارس األول لم
شيئا مما سمعه فهز رأسه وشرد بنظره ً
بعيدا. يفهم ً
213
موائد خشبية ُمغطاة بمفارش من الحرير املوش ى بالساتان قرمزي
ٌ اللونُ ،ر َّ
صت عليه أصناف مختلفة من الطعام إلى جانب عصير
املتبلة ،وقد تشبع الهواء بروائح امللح واألسماك َّ
املقلية التفاح والخمور َّ ُّ
ولحم الضأن والغزالن والديوك .وكان صوت الضحكات والهمز واللمز
ً
ضجيجا رغم خفوت األصوات املتحدثة. بين العامة يصنع
خرج أوزيريس بصحبة زوجته إيزيس ومن خلفها ثالثة من
خادماتها ،توجها مباشرة صوب العرش.
ضجت القاعة بالترحيب لدى ظهورهم .ما إن جلسا على العرش
دلف ِست من بوابة القاعة واختال في مشيته وهو يقطع أرضيتها ً
سيرا
َ
والتمع البرونز َ
واعتمر تاجه قبل أن يصل أمام شقيقيه صوب العرش
ّ
الظالل عينيه وهو والذهب بلو ٍن قاتم في ضوء املشاعل ،وأخفت ِ
الحراس داخل القاعة ومدى ما يحملونه من بخبث في عدد ُ
ٍ يتطلع
أسلحة.
إبتسمت إيزيس لدى رؤيتها شقيقها ُم َّ
جد ًدا في ممفيس ،فلم يكن
قد زارها منذ إنقسام األرض إلى مملكتين وتوليه مملكة الجنوب.
شديدة بينما اكتفى ِست بهز رأسه في وجه
ٍ بحفاوة
ٍ إحتضنه أوزيريس
تأخرا ،اغفرا لي ذلك)). ُ
معتذرا(( :أتيت ُم ً
ً كليهما وقال
ّ ً
إبتسم أوزيريس وهو يقول(( :كعادتك دائما)) .رد ع ِست(( :على ِ
أي
حال ،مازال الوقت أمامنا ،وأقسم أنك ال ترغب في أنقضاء الوقت
ً
ستفهما: الليلة)) .ثم التفت من حوله يتفقد املكان وسأل ُم
214
((التابوت؟)).
مقربة وأشار إلى واح تي الواقف علىَ إبتسم أوزيريس ًّ
هازا رأسه
ٍ
منه ،فالتفت األخير وأشار بدوره الى حارسين واقفين في آخر القاعة.
جانبيا ،دخل منه أربعة ُحراس يحملون التابوت ً فتح الحارسين ً
بابا
ُ
على األكتاف ،ترجلوا به حتى وضعوه أمام العرش جهة اليسار وسط
صياح وتهليل الحضور الذين وقفوا مذهولين لرؤية التابوت الذهبي
أمام أعينهم وكل منهم ُيمني نفسه لو يناله بنهاية الليلة.
بوجه إرتسمت في قسماته إبتسامة مصطنعة يطالبهم صاح ِست ٍ
مائدة من الخشب قريبة منه.
ٍ بالصمت وهو يدق بقبضته على سطح
َ
ان َّ
الصمت في القاعة ،واهتزت نيران املشاعل واألباريق على الحوائط. ر
هدوء شديد(( :لثالث سنوات عمل أفضل النحاتون ٍ قال ِست في
في أبيدوس على صناعة هذه التحفة التي ترونها ،واليوم أهبها ململكة
الشمال ،للشخص الذي ُيمكن للتابوت أن ُيغلق عليه)).
كان الحضور يتناولون الطعام والشراب ،وتوقف الجميع في تلك
واحد منهم لنيل فرصة اإلستلقاء داخل التابوت.
اللحظة واستعد كل ٍ
َ
أشار ِست إلى واح تي أن يختار بنفسه األشخاص الذين سيشاركون في
نيل فرصة االستلقاء داخل التابوت.
واحد تلو آخر ،وفي كل مرة حاول أشار واح تي للحضور ً
تباعا
ٍ
ُ
الحراس إغالق التابوت ،فشلوا .كان ِست ُيتابع األمر وقسمات وجهه
215
أحد ّ ً ُ
أي ٍثقة مفرطة في أن التابوت لن يغلق أبدا على ِ
الخبيثة تدل على ٍ
من الحضور.
في هذه األثناء ،إستغل يورشو إنشغال جميع من في القاعة بما
َ
فانتشر برفقة مجموعة من الغيالن فيهم ُ
الحراس بأمر التابوت،
املتخفية في مالبس الجنود في أركان القاعة ،مدججين بالسيوف
والرماح.
العرش رأى واح تي جنود يورشو من موقعه العالي على يسار َ
ينسلون في مؤخرة القاعة وأستغرب أحجامهم العمالقة وطريقة
تسللهم بين الناس .قبل أن ُيفكر في ش يء ،فاجأه يورشو بالترجل في
مشيا صوب سيده ِست وهو يقول(( :اآلن حان دوري. منتصف القاعة ً
َّ
علي أن أحظى بفرصة ألفوز بهذا التابوت)).
ً
ابتسم ِست واشار له قائال(( :لك ذلك)).
واحد من غيالنه يتأكد من
ترجل يورشو وهو يتنقل بعينيه بين كل ٍ
إتخاذهم أماكنهم املحددة لهم .من ثم استلقى داخل التابوت .حاول
عليه ،وكما الحال في كل مرة ،بائت املحاولة ُ
الحراس إغالق بابه ِ
بالفشل.
نهض يورشو وعلى غير حال جميع من خسروا التجربة كان
ً
طويال ً شاعرا كأن ً مبتسماَّ .
جدا َم َّر عليه في القاعة وقتا ً هز ِست رأسه ً
شيئا ما مثير طرأ في رأسه. قبل أن يحرك أسه بطريقة أوحت أن ً
ر
216
َ
فألتفت صوب أخيه الجالس على كرس ي العرش وقال(( :أوزيريس َّ ..إنه
ُ
لك اآلن)) .تهلل وجه إيزيس وأشارت إلى زوجها تشجعه على التجربة.
وأبتهج أوزيريس وهو ينزل درجتين أسفل العرش ويخطو في اتجاه
التابوت.
في هذه اللحظة ،دلف الكاهن كاي تاي ومن خلفه حارسيه
شبسكاف ونياخ هاو ترافقهما حتبت رع التي أبت أن تتركهما وحدهما.
الحظ واح تي أن الكاهن ومن معه دخلوا إلى القاعة متأخرين
ومندفعين ،فأشار إليهم أن يقفا ً
بعيدا.
أراد الكاهن أن يقترب من إله األرض أوزيريس وأن يمنعه من
التقرب للتابوت ،فأشار واح تي إلى األخوين مونتو رع أن يمنعاه .ترجل
األخوين مونتو رع صوب الكاهن ومنعاه من التقدم ، ،مما جعل أوان
فعل ش ٍيء قد فات خاصة بعدما أصبح سيده أوزيريس داخل التابوت.
َ
أشار يورشو ألثنين من الغيالن في مؤخرة القاعة بإغالق األبواب
عليهم من الداخل .في اللحظة ذاتها دنا ِست من شقيقه الذي تمدد
َّ
سخرية بالفعل داخل التابوت .انحنى وجلس على ركبته ً
هازا رأسه في
بطريقة ما بين
ٍ السوار في معصم يده وأنتزعه منه
وفاجأة بالقبض على ِ
خبث واضح(( :أخش ى أن ُيعيقك داخل اللطف والقسوة وقال في ٍ
للحراس أنأمرا ُ
التابوت الذي ستبقى فيه إلى األبد)) ،من ثم أعطى ً
يغلقوا فوهة التابوت.
عليه.
يسر ِإنقبض التابوت على جسد أوزيريس ،فأنغلق بابه بكل ٍ
217
صاح الحضور مهللين لفوز سيدهم بالتابوت ،على الرغم أن غصة
أصابة بعضهم لفقدان مثل هذه التحفة الفنية.
صمت في القاعة ،وسمع الحضور صوت ٌ انبعد ثوان قليلةَ ،
ر ٍ
ً
سيدهم أوزيريس قادما من داخل التابوت يستغيث .فأستغرب الجميع
َّ
وانصتوا .إنتظروا أمر إله الجنوب ِست بفتح التابوت إال أن ذلك تأخر
ً
قليال .حالة من الوجوم َّ
خيمت على وجوه الجميع.
((ست!!)).
نادت إيزيس شقيقها بإستغرابِ :
صاح الكاهن كاي تاي من منتصف القاعة في الحارسين مونتو رع:
((إفتحوا أعينكم ،إنها مؤامرة ..خيانة)) .وحاول شبسكاف ونياخ هاو
تجاوز األخوين مونتو رعَّ ،إال أن األمر كاد َّ
يتحول ملعركة.
من مكانه املرتفع إلى جوار العرش خاطب يورشو الكاهن كاي تاي
َّ ُ ًّ ً
بصوت جاف قائال(( :حضرة الكاهن ،أناشدك أال تتعجل موتك اآلن)).ٍ
حالة من التوتر الشديد والخوف بين العامة في
تسبب ما قاله في تفش ي ٍ
القاعة.
بثقة مفرطة(( :كل ش ٍيء َ
من موقعه العالي قرب العرش قال ِست ٍ
قد إنتهى)) .وأخذ جرعة طويلة من َّ
النبيذ ،ثم ألقى الكأس الفارغ على
ً َ َ
ساخرا(( :عاصمة الشمال عاصمة ومسح فمه بظهر يده ،وقال األرض
الشمال))) .ثم أطلق ضحكة طويلة تردد صداها في القاعة .تلك
واحد منهم
ٍ اللحظة ،رفعت الغيالن األقنعة عن وجوههم وأستل ّ
كل
ِ
218
سيفه من الغمد.
لم تستطع إيزيس استيعاب ما يفعله شقيقها ِست ،سألته في
ً
محاولة َّ
((ست ..ما الذي تنتويه؟)) .أطلق
السيطرة على غضبهاِ : هدوء
ٍ
َ ً
واستطرد(( :جميعكم موتى)) .وكنت هذه ضحكة مفاجأة كالعاصفة
ٍ
ْ
أشارة ،إذ شرع جنوده من الغيالن في قتل وذبح جميع من بالقاعة.
نظر يورشو في عيني السيدة إيزيس وقال وهو يوجه كلتا يديه
صوب التابوت(( :افادا كدافرا)) .إنتفض التابوت عن األرض وطار
بقوة شديدة صوب الحائط في آخر القاعة ليرتطم بها بشدة قبل ٍ
يسقط على األرض مرة أخرى .صرخت إيزيس مفزوعة(( :ال)) .فأعاد
خبث ووقال: ٍ يورشو توجيه يديه صوب التابوت وأبتسم في
فدوا صوت ((كروشيو)) .إنطلقت طاقة حمراء إرتطمت بالتابوتَّ ،
مكتومة أطلقها أوزيريس داخل التابوت قبل أن يتقطع جسده
ٍ صرخة
ٍ
ويتحول إلى أشالء وتتسلل الدماء من على حافتي باب التابوت لتصنع
ً
سيال على جانبيه.
صرخت إيزيس صرخة َّ
مدوية أهتزت لها قاعة العرش ،وقالت وهي
َّ
تصوب بيديها على يورشو(( :سيكتوسيمبرا)) .إال َّأنه تفادا قوة
َّ
التعويذة .وملا حاولت مطاردته بالتعويذات يدفعها الغضب ،لم يكن
خيل لها أن ِست سيتدخل ملعونة ساحره ،وتفاجئت به يقول(( :فيرا ُي َّ
فيرتو)) ،فأختفى من مكانه وأنتقل في ملح البصر إلى جوارها .تفاجئت
السوار .حاولت مقاومته، ُ
به يمسك يدها من املعصم وينتزع عنها ِ
219
بقوة كبيرة على وجهها ،فسالت الدماء على إثر َّ
قوة اللطمة. فصفعها ٍ
أخيرا وأصبحا إلى جوارً َ
إلتفت كان األخوين مونتو رع قد
وجها لوجه مع ِست ويورشو شبسكاف ونياخ هاو مع الكاهن كاي تاي ً
الغمد ً َ استل شبسكاف ََّّ
أرضا وكذلك فعل السيف والقى وجنودهم.
السوار فأخذاألخوين مونتو رع .وحده نياخ هاو قرر أن يستخدم ِ
ً
يصيح وهو يوجه كلتا يديه صوب من يقترب منه أو من الكاهن قائال:
عاليا للخلف ويرتطم باملوائد ً ((افادا كدافرا)) ،فيجعله يطير
ً ً
والحوائط .محاوال عدم إستخدام التعويذات املحرمة خوفا من فقدان
قوته التي يحتاجها ألنهاء القتال .كما وجه الكاهن كلتا يديه على
ً
الغيالن قائال(( :سيكتوسيمبرا)) ،مرة بعد مرة ،وفي كل مرة كان يتسبب
َّ
في حرق وقتل أحد الغيالن ،إال أنهم كانوا بالفعل قد قتلوا أغلب ممن
في القاعة من سادة األقاليم وكبار ُّ
التجار في حين أن األخوين مونتو رع
وشبسكاف تولوا أمر قتل بعض ُ
الح َّراس ممن كانوا برفقة الغيالن.
مذعورا ،ال يعرف أين يتوارى وسط هذه املعركة التيً كان واحي تي
ً ً
نشبت فجأة .والحظه يورشو عندما كان يتراجع للخلف محاوال الفرار
واحدة من سيفه،
ٍ بضربة
ٍ أسه
من القاعة ،فلحق وضرب عنقه أطار ر ِ
مرة أخرى بوجهه ُيتابع القاعة ،فوجد األخوين مونتو رع والتف َّ
ُيحسنان القتال إلى جوار الكاهن وحارسيه ،فأنتقل على الفور إلى
َّ
شاهرا سيفه إال َّأنه لم يستخدمه ،إذ قال وهو يوجه يديه ً جوارهما،
أرضا على الفور ،وتعالت صوب األخوين(( :كروشيو)) ،فأسقطهما ً
220
صوت صرخاتهم وتمرغهما على األرض وهما يتركان سيفيهما وتتفجر
الدماء من أعينهم وأذنيهما قبل أن ُيفارقا الحياة.
حاول كاي تاي إستخدام ِسواره في مواجهة يورشو فصاح وهو
َّ
يوجه كلتا يديه عليه(( :سيكتوسيمبرا)) ،إال أن األخير إختفى على
الفور وظهر ِمن خلفه ً
تماما ووضع نصل سيفه على رقبته ،في حين أن
ً
شبسكاف ونياخ هاو توقفا في مكانيهما ساكنين دون حركة خوفا على
سيدهما ،بيد أن يورشو لم يأبه لش ٍيء وقام بسحب نصله على رقبة
شديدة جعلت رأسه تنفصل عن جسده وسط ذهول ٍ الكاهن بقوة
الحارسين.
إقترب حارسين من حراس يورشو ،وقفا بسيوفهم إلى جوار
شبسكاف ونياخ هاو الذي لم يأبه لألمر بقدر إهتمامه ألختفاء حتبت
رع التي لم يظهر لها أثر .الحظ شبسكاف بدوره ُّ
تغيبها ففزع قلبه عليها
ً
وبدأ يتجول بعينيه في القاعة بحثا عنها على الرغم من شعور النهاية
الذي َّ
خيم على روحه وروح نياخ هاو.
في هذه األثناء ،تعالت أصوات السيوف والفؤوس خارج القصر
اإللهي بعدما بدأت قوات ِست في األستيالء على األسوار الخارجية
بالفعل.
إقترب ِست من النافذة وأطل برأسه للخارج ،فشاهد جنوده
يقتلون ويحرقون جميع ُحراس ممفيس ويستولون على املدينة أو َّأنهم
بالفعل إستولوا عليها بعدما بدأ ُ
الحراس يفرون أمامهم.
221
شدسد خلف
ٍ ببطء
ٍ وقعت عينا شبسكاف على حتبت رع تتسلل
ُ
كرس ي العرش تحاول اإلقتراب من إله الجنوب ِست الذي كان مايزال
ُ ً
بسوار شقيقه إوزيريس وبدأ يقربه من ِسواره ،فبدأ ينصهرممسكا ِ
ويذوب ليندمج فيه.
ٌ
ضوئي في الفراغ بالقرب منهم .دلفت في هذه اللحظة ،إنفتح ٌ
باب
منه السيدة نفتيس ،وقالت فور عبورها من الباب وهي توجه كلتا يديها
َّ
صوب الساحر يورشو(( :كروشيو)) ،إال أنه إنتبه لها في اللحظة األخيرة
أرضا .وجهت تعويذة أخرى صوب الحارسين وقفز عن مكانه وسقط ً
قفزا من فورهما تاركين الواقفين خلف شبسكاف ونياخ هاو اللذان َ
الحارسين من خلفهما ُيعانيا من قوة التعويذة قبل أن ُيفارقا الحياة.
َّ
التفت زوجها ِست إليها ،وجدها تستعد لتلقي عليه تعويذة إال أنه
بخنجر ِاستله من الغمد املعلق في مالبسه، ٍ كان أسرع منها إذ قذفها
ليستقر في قلبها ُمباشرة ،قبل أن يوجه ِ
يديه عليها ويقول(( :إنسينيدو))
لتشب فيها النيران وتحرقها وسط دوي صرخاتها وصرخات متتالية من
شقيقتهما إيزيس التي كانت ماتزال جاثية على ركبتيها في األرض.
عما آلت إليه النهاية،ثابتة جامدة غير راض َّبمالمح ٍ هز رأسه
ٍ ٍ
وترجل نحوها وهو يرفع ِسوار إيزيس ويلوح به في الهواء وهو يقول:
((فليسقط الشمال ،ولتحيا أبيدوس)) .انحنى علي جسدها املحترق
شبت في ستائر القاعة، ونزع السوار من معصمها .كانت النيران قد َّ
ِ
وبدأت رائحة الدخان تنتشر من حولهم في اللحظة التي إنفتح فيها ٌ
باب
222
ٌ
صغير بعمر أقل ِمن سبع في أقص ى يمين العرش .دلف من الباب ٌ
صبي
ً سنوات ،هرول ً
خائفا من النيران بأتجاه امللكة إيزيس وكان ُممسكا
بورقة من البردي .صاحت إيزيس مفزوعة(( :حورس!!)) َّ
وهمت
تحتضنه.
خائفاَّ ،إال َّأنه أطمئن َّ
لدى وصوله بين ذراعي والدته. كان الصبي ً
ترجل ِست صوب امللكة ،وانحنى حتى صارت رأسه إلى جوار الطفل
الصغير وونظر بعينيه صوب البردية وسأله(( :أيمكنك قراءتها؟))،
فزعا على صضغيرها ،وأرادت لو تصرخ في وجه كانت إيزيس تنتفض ً
َّ
شقيقها تطالبه أن يترك الصغير وشأنه ،إال أنها فقدت صوتها في هذه
اللحظة.
كرر ِست سؤاله للصبي(( :أيمكنك قرائتها ألجلي؟)) قرأ حورس ما
ً
في البردية قائال(( :األمل أكبر قوة في الدنيا ،وهذه القوة هي ما تجعلنا
على قيد الحياة)).
ساخرا بعدما جلجل صوته بضحكة عالية وكان ً قال يورشو
ُ ً ً
يقترب من شبسكاف الذي كان واقفا مذهوال يشاهد إحتراق امللكة
شبت في ستائر القاعة وصوت سليل السيوف في نفتيس والنيران التي َّ
أذنيه وخوفه على الطفل يستحوذ على قلبه(( :ال ش ٍيءالخارج يدوي في ِ
بخنجر في ظهره فأسقطهٍ هنا يدعو لألمل)) .ثم قام بطعن شبسكاف
أرضا أسفل قدمي صديقه نياخ هاو. ً
ً
صرخت حتبت رع صرخة مدوية وكأن الخنجر أخترق قلبها ال
223
ً
ظهرر شبسكاف ،وأندفعت مهرولة بأقص ى ما لديها صوب إله الجنوب
بسوار
منحنيا قرب الصبي حورس وممسكا ِ ً ِست الذي كان مايزال
نفتيس بعدما صهر ِسواري أخيه وزوجته.
قامت بدفعه بكل ما تملك من قوة ،ورغم ضئالة جسدها وقوة
َّ
بنيان ِست ،إال َّأنها أسقطته من إرتفاع منصة العرش فتدحرج ِمن
السوار من يده فور أصطدامها به َّ َ َ َ ْ َ َ َ
أعلى الدر ِج ِإلى أسف ِل ِه وسقط ِ
وتدحرج حتى أستقر أسفل أقدام امللكة إيزيس.
إرتعد يورشو لسقوط ِست وهرول صوبه يساعده .همست إيزيس
إلى نياخ هاو وهي تنظر إليه(( :أهرب في الحال)) .نظر نياخ هاو في عين
شقيقته ،وجد عينيها مغرورقتان بالدموع تتأمالن شبسكاف ،فأنحنى
باب سحر ٌي على
عليه وحمل جسده وهو يقول(( :ألوهومورا)) .إنفتح ٌ
يساره .توقف للحظات يتنقل بعينيه بين الباب وبين شقيقته وامللكة
إيزيس.
إقتحم جنود ِست القاعة بعدما حطموا األبواب .هرول ثالثة في
املقدمة حاملين الفؤوس والسيوف صوب نياخ هاو الذي هز رأسه في
ً
يأس وقفز على الفور داخل البوابة حامال جسد صديقه.ٍ
ً
حاول يورشو مساعدة ِست الذي كان ينهض ُمتثاقال من أثر قوة
َّ
السقوط على الدرج .إال أن ِست الغاضب دفعه بقوة شديدة فأسقطه
ً
أرضا.
224
كانت إيزيس قد حصلت على ِسوار نفتيس َّ
وهمت تضعه حول
معصمها وهي ما تزال محتضنة صغيرها حورس.
في هذه اللحظة نظر إليها ِست .فقالت(( :فيرا فيرتو)) .وأختفت
وصغيرها في الحال ،ثم ظهرا ً
سويا إلى جوار حتبت رع التي كانت ما تزال
واقفة في مكانها خلف ست إلى جوار العرش وقد تجمدت أوصالها ً
فزعا ِ
ملوت شبسكاف ودموعها كالسيل تجري على خديها.
إزدحمت القاعة بجنود ِست حاملين السيوف والرماح مختفيين
خلف أقنعتهم الحديدية السوداء ينظرون ويصوبون رماحهم صوب
إيزيس وحتبت رع.
فت بوجهه إلى الخلف ،وكان يعرف َّ
أن إستدار ست بجسده والت َ
ِ
إيزيس قد ظهرت من خلفه .نهض يورشو عن األرض في ذات اللحظة
لثوان معدودات ،إبتسم ِست ٌ
صمت يديه عليها ،ران َّ
ٍ وصوب كليهما ِ
ساخرا من شقيقته وهز يورشو رأسه فبدا َّأنهما سوف يتحدثان ،وقبل ً
وجلبة شديدة
ٍ واحدة ُسمع صوت مواء كثير،
ٍ بكلمة
ٍ أن تنبث شفاههما
أعقبها ظهور قطعان من القطط السوداء تقتحم القاعة من النوافذ
واألبواب وبعضها يقفز من نوافذ مرتفعة .إرتبك ِست ويورشو والتفتا
محاولة منهم ِفهم ما يحدث.
ٍ من حولهما في
إستغلت إيزيس إرتباكهما في أمر القطط السوداء ،فقبضت
بيدها على معصم صغيرها وباألخرى على معصم حتبت رع وصاحت:
ُ ٌ
عصافير صغيرة الحجم وطارا عبر ((بيترو فاليز)) ،فتحول ثالثتهم إلى
225
مستديرة في مؤخرة القاعة بينما تردد صوت إيزيس في القاعة
ٍ نافذة
ٍ
وهي تقول(( :األمل أكبر قوة في الدنيا ،وهذه القوة هي ما تجعلنا على
قيد الحياة)).
226