You are on page 1of 218

‫العوملة‬

‫املَنشأ واملُنجز واملآل‬

‫تأليف‪ :‬حيدر مح ّمد الكعبي‬


‫الفهرس‬

‫مقدمة املركز ‪7..............................................‬‬


‫مقدمة املؤ ّلف ‪9.............................................‬‬

‫األول‪:‬املفهوم واملنشأ ‪19..............................‬‬


‫الفصل ّ‬
‫أ ّوالً‪ :‬ما معنى عوملة ‪Globalization‬؟ ‪21.....................‬‬

‫ثانياً‪ :‬الجذور الفكريّة والتاريخ ّية للعوملة ‪25....................‬‬

‫أ‪ .‬عرص التنوير ‪29..........................Enlightenment‬‬

‫ب‪ .‬عرص الحداثة ‪34............................modernity‬‬

‫ت‪ .‬عرص ما بعد الحداثة ‪39.............. Postmodernism‬‬

‫الخالصة‪ :‬مخاض العوملة ‪43..................................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬والدة عرص العوملة‪46....................................‬‬

‫رابعاً‪ :‬ع ّرابو العوملة‪53.........................................‬‬

‫أ‪ .‬فريدريك هايك ‪54.....................Friedrich Hayek‬‬

‫ب‪ .‬ميلتون فريدمان ‪58..................Milton Friedman‬‬

‫ت‪ .‬جورج سوروس ‪62...................... George Soros‬‬


‫الفصل الثاين‪ :‬مُ ّ‬
‫نظمات عصر العوملة ‪69....................‬‬

‫أ ّوالً‪ُ :‬منظّامت اقتصاديّة ‪71.....................................‬‬


‫الفهرس‬

‫أ‪ .‬صندوق النقد الدويل ‪72.............................IMF‬‬

‫ب‪ .‬مجموعة البنك الدويل ‪76........................WBG‬‬

‫ت‪ .‬منظّمة التجارة العامليّة ‪79........................ WTO‬‬

‫ثانياً‪ :‬منظّامت سياس ّية‪83.......................................‬‬

‫ثالثاً‪ُ :‬منظّامت وحركات ُمعارضة ‪89............................‬‬

‫رابعاً‪ :‬الرشكات ُمتعدّ دة الجنس ّيات ‪95..........................‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬مُ نجزات العوملة ‪109..............................‬‬

‫ِطعم األزمات ‪111..................................‬‬


‫أ ّوالً‪َ :‬ع ْوملة ب ِ‬

‫ثانياً‪ :‬عاملٌ غني يسكنه البائسون ‪124.............................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬األرسة وتشكيل الهوية الجندر ّية‪128........................‬‬

‫رابعاً‪ :‬االستهالك ّية وتش ّيؤ اإلنسان‪138............................‬‬

‫خامساً‪ :‬تكنولوجيا العوملة وإلغاء التوازنات ‪147................‬‬

‫سادسا‪ :‬منجزات إيجاب ّية للعوملة‪154............................‬‬


‫ً‬

‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العوملة ‪161.................................‬‬

‫أ ّوالً‪ :‬تدابري العوملة املُستقبل ّية ‪163.................................‬‬

‫أ‪ .‬ترسيع اندماج البلدان النامية ‪165...........................‬‬


‫الفهرس‬

‫ب‪ .‬اإلعالم وطمس القضايا الكربى ‪168.....................‬‬

‫ت‪ .‬التح ّول نحو الحداثة الغازية‪170.........................‬‬

‫ثانياً‪ :‬توقّعات ملآالت العوملة ‪174...............................‬‬

‫أ‪ .‬إصالح نظام العوملة ‪175..................................‬‬

‫ب‪ .‬نظام الالقطبيّة للعوملة ‪179..............................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اإلسالم يف مواجهة العوملة ‪182...........................‬‬

‫اخلامتة ‪193....................................................‬‬

‫قائمة املصادر واملراجع ‪199...................................‬‬


‫ّ‬
‫مقدمة المركز‬

‫تدخل هذه السلسلة التي يصدرها املركز اإلسالمي للدراسات‬


‫االسرتاتيج ّية يف سياق منظومة معرف ّية يعكف املركز عىل تظهريها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مرتكزات‬ ‫وتهدف إىل بحث وتأصيل ونقد مفاهيم شكَّلت ومل ّا تزل‬
‫أساسيّ ًة يف فضاء التفكري املعارص‪.‬‬
‫وسع ًيا إىل تحقيق هذا الهدف وضعت الهيئة املرشفة خارط ًة‬
‫ريا‬
‫وتداول وتأث ً‬
‫ً‬ ‫شامل ًة للعناية باملصطلحات واملفاهيم األكرث حضو ًرا‬
‫يف العلوم اإلنسان ّية؛ وال س ّيام يف حقول الفلسفة‪ ،‬وعلم االجتامع‪،‬‬
‫والفكر السيايس‪ ،‬وفلسفة الدين‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬وتاريخ الحضارات‪.‬‬
‫أ ّما الغاية من هذا املرشوع املعريف فيمكن إجاملها باآليت‪:‬‬
‫أ ّو ًل‪ :‬الوعي باملفاهيم وأهميّتها املركزيّة يف تشكيل وتنمية‬
‫املعارف والعلوم اإلنسانيّة وإدراك مبانيها وغاياتها‪ ،‬وبالتايل التعامل‬
‫معها كرضور ٍة للتواصل مع عامل األفكار‪ ،‬والتع ُّرف عىل النظريّات‬
‫واملناهج التي تتشكّل منها األنظمة الفكريّة املختلفة‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬إزالة الغموض حول الكثري من املصطلحات واملفاهيم التي‬
‫غال ًبا ما تستعمل يف غري موضعها أو يجري تفسريها عىل خالف املراد‬
‫ريا من اإلشكال ّيات املعرف ّية ناتجة من اضطراب‬
‫منها‪ .‬ال س ّيام وأ ّن كث ً‬
‫الفهم يف تحديد املفاهيم والوقوف عىل مقاصدها الحقيقيّة‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬بيان حقيقة ما يؤ ّديه توظيف املفاهيم يف ميادين االحتدام‬
‫الحضاري بني الرشق والغرب‪ ،‬وما يرتتّب عىل هذا التوظيف من آثا ٍر‬
‫سلبي ٍة بفعل العوملة الثقافيّة والقيميّة التي تتع َّرض لها املجتمعات‬
‫وخصوصا يف الحقبة املعارصة‪.‬‬
‫ً‬ ‫العربية واإلسالم ّية‪،‬‬
‫راب ًعا‪ :‬رفد املعاهد الجامعيّة ومراكز األبحاث واملنتديات‬
‫العولمة‬ ‫‪8‬‬

‫ٍ‬
‫جديد يحيط بنشأة املفهوم ومعناه ودالالته‬ ‫موسوعي‬
‫ٍ‬ ‫الفكريّة بعملٍ‬
‫صالته‬‫فضل عن ِ‬ ‫ً‬ ‫االصطالح ّية‪ ،‬ومجال استخداماته العلم ّية‪،‬‬
‫وارتباطه بالعلوم واملعارف األخرى‪.‬‬
‫وانطالقًا من البعد العلمي واملنهجي والتحكيمي لهذا املرشوع‪،‬‬
‫فقد حرص املركز عىل أن يشارك يف إنجازه نخب ٌة من كبار األكادمي ّيني‬
‫والباحثني واملفكّرين من العاملني العريب واإلسالمي‪.‬‬

‫***‬
‫هذا الكتاب (العوملة)‪ ،‬ال يدخل يف التكرار البحثي‪ ،‬كأن يسعى‬
‫يهتم‬
‫إىل إضافة رقم جديد للمؤلّفات التي تناولت العوملة‪ ،‬كام أنه ال ّ‬
‫بالتعريف املُج ّرد للمصطلح ومفهومه األكادميي‪ ،‬وإنّ ا يحاول أن‬
‫يجمع شتات األفكار املُعقّدة واملُتقاطعة حول العوملة ليص ّبها يف‬
‫قالب ُمنظّم واضح املعامل‪.‬‬

‫عىل الرغم من أنّ كثرياً من املفكّرين العرب قد أَث َروا الساحة‬


‫الفكر ّية بكتاباتهم عن العوملة‪ّ ،‬‬
‫إل أنّ هذه الكتابات مل تعمل عىل‬
‫تحريك النقاش يف املؤمترات الفكريّة والنوادي األدب ّية ووسائل‬
‫اإلعالم ومجاالت الف ّن لدينا‪ ،‬لذا فإن مسعانا من الدخول مجدداً‬
‫عىل هذا املفهوم فإمنا من أجل أن ال يبقى غريباً عىل تلقيات‬
‫الخاصة يف مجتمعاتنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذهن ّية الثقاف ّية‬

‫والحمد لله رب العاملني‬


‫املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيج ّية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مقدمة المؤلف‬

‫يُع ّد مصطلح العوملة (‪ )Globalization‬من املصطلحات التي‬


‫تعاين إهامالً بيّناً عىل ساحة التداول الثقايف يف البلدان العربيّة‬
‫بخاصة إذا أخذنا بنظر االعتبار أه ّميته وحساس ّيته يف‬
‫ّ‬ ‫واإلسالم ّية‪،‬‬
‫ملست ذلك شخص ّياً خالل السنوات العرشة‬
‫ُ‬ ‫الوقت الحارض‪ ،‬وقد‬
‫أقل تقدير‪.‬‬
‫املاضية عىل ّ‬

‫وعىل الرغم من أ ّن كثريا ً من املفكّرين العرب قد أَث َروا الساحة‬


‫إل أ ّن هذه الكتابات مل تعمل عىل‬
‫الفكريّة بكتاباتهم عن العوملة‪ّ ،‬‬
‫تحريك النقاش يف املؤمترات الفكريّة والنوادي األدبيّة ووسائل‬
‫اإلعالم ومجاالت الف ّن لدينا‪ ،‬فبقي هذا املصطلح غريباً عىل‬
‫الخاصة يف مجتمعاتنا بشكل عام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذهن ّية الثقاف ّية‬

‫ومن املفارقة أن يكون املسؤول األ ّول عن ذلك هو العوملة‬


‫ذاتها؛ أل ّن من أه ّم السامت الثقاف ّية لعرص العوملة هي إشغال‬
‫التفكري مبا هو جزيئ وسطحي‪ ،‬ولفت األنظار بعيدا ً عن األسباب‬
‫األساسيّة التي تصنع الوقائع‪ ،‬وسوف نرى يف أثناء هذا الكتاب أ ّن‬
‫كل‬
‫هذه السمة ‪-‬سمة االهتامم مبا هو جزيئ وسطحي دون ما هو ّ‬
‫ومه ّم‪ -‬متثّل جزءا ً ال يتج ّزأ من ثقافة العوملة‪ ،‬وقطعة رئيسة من‬
‫أحجيتها الكبرية‪.‬‬

‫إ ّن اختيارنا الحديث عن العوملة كمصطلح ُمعارص ينطلق من‬


‫‪ 10‬العولمة‬

‫إمياننا بأنّه يحمل أولويّة قصوى وأه ّمية فائقة ال يوازيها مصطلح‬
‫يعب عن مفهوم دينامييك شديد التط ّور يعمل عىل هدم‬
‫آخر؛ ألنّه ّ‬
‫وإعادة تشكيل حياة الشعوب باستمرار‪ ،‬ويتدخّل يف خصوص ّياتهم‬
‫السياسيّة واالقتصاديّة والثقافيّة ليخلق أمناطاً جديدة‪ ،‬وعىل ح ّد‬
‫تعبري أولريش بيك‪" :‬العوملة ليست ظاهرة خارج ّية عن ظروفنا‬
‫الخاصة‪ ،‬أجل إنّها الطريقة‬
‫ّ‬ ‫تغي حياتنا‬
‫الحيات ّية‪ ،‬إذ هي باألحرى ّ‬
‫التي سنعيش بها من اآلن فصاعدا ً"[[[‪.‬‬

‫من هذه النقطة نُثبت ميزة هذا الكتاب‪ ،‬فهو ال يسعى إىل إضافة‬
‫رقم للمؤلّفات التي تناولت العوملة‪ ،‬وال يهت ّم بالتعريف امل ُج ّرد‬
‫ملصطلح العوملة ومفهومه األكادميي‪ ،‬وإنّ ا يحاول أن يجمع شتات‬
‫األفكار امل ُعقّدة وامل ُتقاطعة حول العوملة ليصبّها يف قالب ُمنظّم‬
‫واضح املعامل‪ ،‬يُوقد يف الذهن ّية العرب ّية واإلسالم ّية أه ّمية جعله يف‬
‫أولويّات النقاش الفكري والثقايف‪ ،‬إذ نعتقد أ ّن موضوع العوملة ال‬
‫يليق أن يكون بحثاً نخبويّاً ينحرص يف أروقة الجامعات‪ ،‬أو ترفاً فكريّاً‬
‫ُ‬
‫ألس ُن امل ُثقّفني‪ ،‬إنّه موضوع يقع يف صميم مشكالتنا الكربى‬
‫تتحل به ُ‬
‫ّ‬
‫تغي‬
‫التي صارت ترتى بشكل تدع الحليم حريانًا‪ ،‬فالعوملة متثّل "أه ّم ّ‬
‫طرأ عىل التاريخ اإلنساين‪ ،‬وهو ما ينعكس يف مجاالت كثرية وال‬
‫سيّام يف مجال العالقات االجتامعيّة‪ ...‬إ ّن اإلنسانيّة تواجه يف عرص‬
‫العوملة أكرث الخطوات إنذارا ً بالسوء عىل مدى تاريخها الطويل"[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ما هي العوملة ‪ -‬أولريش بيك ‪ -‬منشورات الجمل‪ /‬بريوت ‪ -‬الطبعة الثانية ‪ ،2012‬ص‪.10‬‬
‫نص أساس‪ ،‬جورج ريتزر‪ ،‬ترجمة‪ :‬السيّد إمام‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪ /‬القاهرة ‪-‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة‪ّ ..‬‬
‫الطبعة األوىل ‪ ،2015‬ص‪.27‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫إ ّن العوملة باملفهوم الشائع هي تحقيق االندماج العاملي يف‬


‫الص ُعد‪ :‬السياس ّية واالقتصاديّة والثقاف ّية‪ ،‬ولك ّنها باملفهوم‬
‫شتّى ُ‬
‫كل الخصوص ّيات الدين ّية والقوم ّية‪ ،‬والخضوع‬ ‫العميل‪ :‬تحطيم ّ‬
‫إلرادة قوى ليرباليّة عابرة للقا ّرات‪ ،‬تسعى وراء األرباح االقتصاديّة‬
‫يف املقام األ ّول‪ ،‬فجوهر العوملة رأساميل بامتياز‪ .‬وإ ّن سعي‬
‫الرأسامل ّية الدائم نحو األرباح يدعوها إىل كرس الحدود العامل ّية‬
‫بحثاً عن فرص أكرب الستثامر األموال‪ ،‬وصارت التقن ّية الحديثة هي‬
‫الوسيلة األبرز لذلك‪ ،‬فاملواصالت املتط ّورة مثل البواخر والطائرات‬
‫والقطارات صارت متتلك من اإلمكان ّيات التي تؤ ّهلها لتحويل‬
‫ك ّميات هائلة من السلع والخدمات خالل وقت قيايس جدا ً‪ ،‬كام‬
‫أسهمت تكنولوجيا املعلومات مثل البثّ الفضايئ واإلنرتنت يف‬
‫إيجاد تبادالت نقديّة واسعة النطاق وبك ّميات َمهولة‪ ،‬وساعدت‬
‫عىل ظهور ما يس ّمى باقتصاد املعرفة‪ ،‬الذي أسهم بدوره يف تقريب‬
‫املزاج الثقايف للشعوب لقبول أمناط حياة قادمة من خارج حدودها‬
‫الثقاف ّية‪ ،‬وعليه فإ ّن التقن ّية الحديثة متثّل السبب األساس يف انتشار‬
‫العوملة‪.‬‬

‫من وجهة نظر وصف ّية‪ ،‬فإ ّن العوملة متثّل ناتجاً طبيع ّياً للتط ّور‬
‫الحضاري للبرش‪ ،‬وال ميكن عىل ضوء ذلك الحكم عليها بالسلب‪،‬‬
‫بخاصة أنّها حقّقت منجزات إيجابيّة الفتة مثل القضاء عىل الركود‬
‫ّ‬
‫االقتصادي‪ ،‬وإتاحة فرص عمل جديدة‪ ،‬وتوفري تكنولوجيا رخيصة‬
‫تجعل الحياة أسهل لقطاعات واسعة من املواطنني‪ ،‬ولكن من‬
‫‪ 12‬العولمة‬

‫مناص من الحكم عليها بالسلب‪ ،‬نظرا ً للمبدأ‬


‫ّ‬ ‫وجهة نظر معياريّة فال‬
‫الذي تقوم عليه‪ ،‬وهو املبدأ الرأساميل الذي ال يُلقي باالً للجوانب‬
‫املعنويّة من حياة الناس كالتضامن االجتامعي والقيم األخالق ّية‬
‫والعالقات اإلنسانيّة الدافئة‪ ،‬أل ّن جني املال بالنسبة للنظام‬
‫الرأساميل ميثّل غاية نهائ ّية‪ ،‬ولن ترت ّدد الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‬
‫أي بلد إذا ما شكّلت عقبة بوجه الخدمات‬ ‫يف استباحة خصوصيات ّ‬
‫والسلع التي تص ّدرها إليه‪ ،‬كام أ ّن طمع هذه الرشكات يف املنافسة‬
‫التجاريّة املحمومة يجعلها ال تلقي باالً للتل ّوث البيئي وتر ّدي‬
‫املناخ الذي يجعل الحياة البرشيّة عىل حافة الهاوية‪ ،‬ومل يعد خافياً‬
‫أ ّن ارتفاع نسب الغازات الضا ّرة وتفاقم االحتباس الحراري لألرض‬
‫يرتبط ارتباطاً عضويّاً بعجلة اإلنتاج الجشع لهذه الرشكات‪.‬‬

‫ولعل من أبرز املظاهر السلب ّية للعوملة خضوع السياسة الدول ّية‬
‫ّ‬
‫ألهداف الرشكات الرأسامل ّية‪ ،‬بحيث صار من املألوف أن ت ُفتعل‬
‫توتّرات سياسيّة أو يت ّم إشعال حروب استنزاف بهدف ترصيف‬
‫جه‬
‫بضائع هذه الرشكات أو لتنشيط عملها‪ ،‬وبات من الطبيعي أن تو ّ‬
‫أي دولة ترفض فتح حدودها‬
‫بحق ّ‬
‫ّ‬ ‫أقىس العقوبات االقتصاديّة‬
‫لصالح الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‪.‬‬

‫كام أ ّن من أسوأ نواتج العوملة الحايل هو تفكّك الروابط‬


‫االجتامع ّية وتدحرج سعادة البرش نحو الحضيض بسبب التضليل‬
‫امل ُمنهج الذي تقوم به وسائل اإلعالم امل ُعولَمة يف تركيزها عىل‬
‫إشباع الحاجات املاديّة وإهامل الحاجات املعنويّة‪ ،‬لتح ّول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪13‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫اإلنسان من كائن ذي أهداف أخالقيّة راقية إىل كائن تنحرص‬


‫كل صبغة إنسانيّة‪،‬‬‫اهتامماته بإشباع غرائزه البدائيّة‪ ،‬ما يُج ّرده من ّ‬
‫ويجعله فريسة لالغرتاب واالكتئاب وارتكاب الجرمية‪.‬‬

‫إنّنا وبعبارة موجزة نعيش املوجة الثانية من االستعامر الغريب‬


‫للعامل‪ ،‬ولك ّنها موجة تنطوي عىل ِحمل كبري جدا ً من املخاطر‬
‫مقارنة باملوجة األوىل‪ ،‬صحيح أ ّن االستعامر الكولونيايل قد انتهك‬
‫خصوصيّات الشعوب واستنزف خريات البلدان التي استعمرها‪،‬‬
‫ولك ّنه يف الوقت نفسه كان يزرع حول ذاته أسالكاً شائكة تقيّده‬
‫بسبب اعتامده عىل الق ّوة الخشنة‪ ،‬فهو يخلق يف نفوس الشعوب‬
‫التي يستعمرها كراهية ورفضاً يتجلّيان يف كثري من األحيان باملقاومة‬
‫الفكريّة والثورات امل ُسلّحة‪ ،‬أ ّما استعامر العوملة فإنّه يعتمد عىل‬
‫الق ّوة الناعمة‪ ،‬إذ يت ّم استنزاف خريات البلدان من دون أن تُسال قطرة‬
‫دم واحدة‪ ،‬وحيث تُنتهك خريات الشعوب وهي تقبل بذلك عن‬
‫طيب خاطر‪.‬‬

‫وعىل الرغم من أ ّن العوملة تُعرف بأنّها تعمل عىل تحويل العامل‬


‫إل أنّها يف الحقيقة تفتّت العامل وتزيد انقساماته‪،‬‬
‫إىل قرية واحدة‪ّ ،‬‬
‫وعىل ح ّد تعبري أورليش بيك‪ :‬إ ّن العوملة ال تعني الدولة العامل ّية‪،‬‬
‫وإنّ ا تعني مجتمعاً عامليّاً من دون حكومة عامليّة‪ ،‬بل هنالك‬
‫رأسامل ّية شاملة ُمختلّة النظام تأخذ يف االتساع‪ ،‬فليست هناك ق ّوة‬
‫عاملي‪ ..‬ال اقتصادي وال سيايس[[[ ‪ ،‬وبهذا‬
‫ّ‬ ‫مهيمنة وليس هناك نظام‬
‫[[[‪ -‬ما هي العوملة‪ ،‬أورليش بيك‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.35‬‬
‫‪ 14‬العولمة‬

‫املعنى فإ ّن العوملة تزعزع توازن األنظمة بحيث تنتهي بها إىل‬


‫إحداث فوىض‪ ،‬وتُوجد نظاماً دوليّاً متأرجحاً يسوده التخبّط‪ ،‬أل ّن‬
‫املنتظم أصبح بال رادع أو قيد بسبب االنتشار غري املنظّم للسلطة‬
‫والق ّوة واملسؤول ّية[[[‪.‬‬

‫لقد عملت العوملة عىل تح ّول املجتمعات البرشيّة ‪-‬يف البلدان‬


‫خاص‪ -‬إىل فئات منقسمة بشكل ُمتاميز من ُمنتجني‬
‫ّ‬ ‫النامية بشكل‬
‫و ُمستهلكني‪ ،‬ورابحني وخارسين‪ ،‬وسالطني وعبيد‪ ،‬وقتلة وضحايا‪،‬‬
‫وما يبعث عىل األىس أكرث أ ّن اختيار االنتامء ألحد هذه الفئات‬
‫لن يكون باختيار األفراد أنفسهم‪ ،‬وإنّ ا باختيار الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات وسامرستها‪.‬‬

‫التمسك‬
‫ّ‬ ‫لو فرضنا أ ّن حكومة يف بلد من البلدان النامية ق ّررت‬
‫بسياسة اقتصاديّة ُمستقلّة تتمثّل باالعتامد عىل إنتاجها القومي‪ ،‬فإ ّن‬
‫هذا القرار سيكون مزعجاً للرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات بالتأكيد؛ ألنّه‬
‫سيفقدها فرصة ذهبيّة إلطالق استثامراتها يف هذا البلد أ ّوالً‪ ،‬وثانياً‬
‫أل ّن هذه الحكومة لو نجحت يف سياستها االقتصاديّة امل ُستقلّة هذه‪،‬‬
‫فسوف ُيثّل ذلك أمنوذجاً يُحتذى به من قبل دول أخرى تطمح‬
‫يف الحفاظ عىل سيادتها واستقاللها االقتصادي‪ ،‬ولهذا يُق ّرر مديرو‬
‫الرشكات بوجوب تنازل هذه الحكومة عن سياستها االقتصاديّة‪،‬‬
‫فيتح ّركون للضغط عىل الحكومات الكربى واملنظّامت الدول ّية‬

‫[[[‪ -‬فهم النظام الدويل الحايل‪ ،‬مايكل جيه مازار‪ ،‬مرياندا بريايب‪ ،‬أندرو رادين‪ ،‬اسرتيد ستوث‬
‫مؤسسة راند‪ ،2016 ،‬ص‪.2‬‬ ‫سيفالوس‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪15‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫الستصدار قرارات تلفّق التهم لتلك الحكومة وتش ّوه سمعتها‬


‫وتجعلها يف حرج أمام شعبها والعامل‪ ،‬وعادة ما ينتهي ذلك إىل‬
‫استخدام الحصار االقتصادي‪ ،‬وقد يستدعي التدخّل املسلّح بهدف‬
‫دفع تلك الحكومة إىل الرضوخ أمام اإلرادة الدول ّية‪ ،‬فإذا ت ّم إخضاعها‬
‫فإ ّن الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات سوف تبدأ عملها أ ّوالً مب ّد جسور‬
‫التواصل مع السياسيني والنافذين داخل تلك الدولة لتح ّولهم إىل‬
‫سامرسة يعملون لصالحها‪ ،‬ف ُيس ّهلون دخول منتجاتها ويستصدرون‬
‫قوانني تدعم نشاطها‪ ،‬وال ب ّد أ ّن الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات سوف‬
‫تكافئهم عىل خدماتهم الجليلة فتجعلهم يلتحقون بفئة (الرابحني)‪.‬‬

‫وعندما تغرق أسواق ذلك البلد ببضائع الرشكات ُمتع ّددة‬


‫كل أمل بقدرة السوق املحليّة عىل البقاء يف‬
‫الجنسيّات‪ ،‬فسينتهي ّ‬
‫حلبة املنافسة؛ أل ّن لدى تلك الرشكات الخربة والكفاءة إلنتاج أفضل‬
‫السلع بأرخص األسعار‪ ،‬وتحتكر األبحاث العلم ّية والتكنولوجيا‬
‫املتق ّدمة يف هذا الصدد‪ ،‬وبذلك تُفلس املصانع الوطن ّية وتندثر‬
‫املهن والحرف األهليّة‪ ،‬وتبدأ قطاعات كبرية من الشعب بالدخول‬
‫يف فئة (الخارسين)‪.‬‬

‫وعندما تلمس الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات أ ّن يف تلك الدولة‬


‫ثقافة قيميّة تُعرقل إقبال الناس عىل رشاء املزيد من بضائعها‪ ،‬فإنّها‬
‫ستعمد إىل إنشاء موجة إعالم ّية صاخبة تكتسح عقول الشعب‬
‫بطرائق تسويق ّية ذك ّية لنرش ثقافة االستهالك بينهم‪ ،‬بحيث تجعلهم‬
‫مييلون نحو حياة امل ُتع املاديّة والبضائع الكامل ّية‪ ،‬لتدخل قطاعات‬
‫‪ 16‬العولمة‬

‫لكل جديد تطرحه‬


‫واسعة منهم يف فئة (املستهلكني) الذين يتل ّهفون ّ‬
‫فئة (امل ُنتجني) من هذه الرشكات‪.‬‬

‫وعندما يُقبل الشعب عىل االستهالك‪ ،‬وال يجد يف املهن‬


‫والحرف األهليّة ما يس ّد الرمق‪ ،‬فإ ّن اإلقبال عىل الوظائف اإلداريّة‬
‫جع‬
‫سوف يزداد‪ ،‬وإ ّن الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات تعلم ذلك وتش ّ‬
‫عليه‪ ،‬وتُوحي إىل سامرستها برضورة الرتكيز عىل أسلوب الدخل‬
‫هذا يف بلدهم‪ ،‬فهذه الوظائف ال تُنتج ِسلعاً ُمنافسة لبضائعها‪،‬‬
‫وتجعل الدولة تعتمد عىل االقتصاد الريعي الذي يستنزف املوارد‬
‫من دون إنتاج اقتصاد ُمستدام‪.‬‬

‫وحيث إ ّن الوظائف اإلداريّة محدودة وال تتّسع حاجتها فعلياً‬


‫كل الفئات القادرة عىل العمل‪ ،‬فسوف تتح ّول غالباً إىل بطالة‬
‫إىل ّ‬
‫ُمق ّنعة‪ ،‬إذ تستقبل الدوائر موظّفني ال يجدون شيئاً ذا قيمة إلنجازه‪،‬‬
‫وذلك بطبيعة الحال سوف يُفقدهم اإلحساس بالجدوى‪ ،‬ويُدخلهم‬
‫يف د ّوامة الروتني الذي يلزمهم بتح ّمل الضغط النفيس الهائل بدافع‬
‫تأمني مصدر القوت‪ ،‬وبذلك تتح ّول قطاعات واسعة من املجتمع‬
‫املؤسسات البريوقراط ّية‪ ،‬وهؤالء يتح ّولون‬
‫ّ‬ ‫إىل فئة (عبيد) ملديري‬
‫إىل (سادة) يجلدونهم بقرارات روتين ّية‪ ،‬ويجربونهم عىل تح ّمل‬
‫أملها حفاظاً عىل لقمة العيش‪.‬‬

‫املؤسسات البريوقراط ّية للدولة‪ ،‬بل‬


‫ّ‬ ‫وال تنحرص العبوديّة يف‬
‫إنّها يف الرشكات الرأسامليّة أكرث متثيالً‪ ،‬فاندثار املهن املحليّة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪17‬‬ ‫مقدمة المؤلف‬

‫وامتالء الوظائف الحكوميّة يف البلدان النامية سوف يجعل العاملة‬


‫تتهافت عىل خطوط اإلنتاج يف الرشكات العابرة للقا ّرات للعمل‬
‫فيها بأبخس األمثان‪ ،‬لذا رصنا نشاهد صورا ً ُمحزنة لخطوط طويلة‬
‫من العامل ‪-‬يتك ّونون غالباً من النساء واألطفال‪ -‬يعملون لساعات‬
‫طويلة يف بيئات عمل غري آمنة‪ ،‬وهم مجربون عىل تح ّمل سياط‬
‫يبق من بديل يس ّد ال َر َمق يف مشاهد ت ُعيد للذهن‬
‫الرأسامليني‪ ،‬إذ مل َ‬
‫صور تجارة العبيد عرب األطلنطي‪.‬‬

‫وال ينتهي الحال عند هذا الح ّد‪ ،‬فمن املعلوم أ ّن ثقافة االستهالك‬
‫إذا ع ّمت يف بلد من البلدان فسوف تستهلك موارده الطبيع ّية ب َنهم‪،‬‬
‫وتُك ّدس باملقابل أطناناً ال حرص لها من امل ُخلّفات التي ال يُعاد‬
‫بخاصة أ ّن‬
‫ّ‬ ‫تدويرها بشكل سليم‪ ،‬كتل ّوث الرتبة والهواء واملاء‪،‬‬
‫هذه امل ُخلّفات تحتوي عىل نسب عالية من املواد البرتوكيمياويّة‬
‫‪-‬مثل البالستيك‪ -‬التي ينتج عنها نفايات قذرة ترفع من نسب‬
‫اإلصابة بأمراض خطرية كالرسطان والعقم‪ ،‬وال بأس بذلك إن مل‬
‫يكن مرغوباً فيه بش ّدة‪ ،‬إذ هي فرصة مثينة لترصيف بضائع رشكات‬
‫األدوية يف ذلك البلد‪ ،‬إذ تق ّدم خدماتها للقادرين عىل دفع املبالغ‬
‫حتهم املهدورة‪ ،‬وبذلك سيدخل القطاع‬
‫الضخمة الستعادة ص ّ‬
‫األكرب من الشعب ضمن فئة (الضحايا) بعد أن مارست الرشكات‬
‫ُمتع ّددة الجنسيّات دور (القَتلة) بحقّهم‪.‬‬

‫إ ّن هذه الصور امل ُحزنة ليست محض خيال‪ ،‬بل هي ُمنتزعة من‬
‫واقع أكرث كآبة‪ ،‬ففي أمريكا الالتين ّية ورشق آسيا وأفريقيا والرشق‬
‫‪ 18‬العولمة‬

‫األوسط‪ ،‬هنالك دول نامية يت ّم تطبيق هذه الخطة الجهنميّة فيها‬


‫بأبشع الصور‪ ،‬وما يزيد األمر سوءا ً عدم وجود جهات واضحة‬
‫ميكن توجيه التُهم بحقّها‪.‬‬

‫إذا ً فنظام العوملة يتدخّل يف ِّ‬


‫كل شأن من شؤون حياتنا‪ ،‬ابتداء‬
‫من أكرب كيان يتمثّل بالحكومة ودوائرها األمن ّية والخدم ّية إىل أصغر‬
‫كيان يتمثّل بالعائلة وركائزها املاديّة واملعنويّة‪ ،‬ومع أ ّن العوملة قد‬
‫بلغت ح ّدا ً من االستفحال بحيث صار من املستحيل ترسيم حدود‬
‫خاص عىل الصعيد السيايس‬
‫ّ‬ ‫فاصلة بني ما هو عام وبني ما هو‬
‫واالقتصادي‪ ،‬ولك ّنه ال يزال ممكناً عىل الصعيد الثقايف‪ ،‬بل هو‬
‫رضوري ج ّدا ً؛ أل ّن الثقافة االجتامع ّية هي آخر املعاقل التي نُع ّول‬
‫عليها يف إيقاف النتائج السلبيّة للعوملة‪ ،‬فمع تراجع سيطرة الدول‬
‫عىل امتالك الحريّة يف قرارها السيادي‪ ،‬يبقى القرار الجامهريي‬
‫هو الفاعل وعليه املع ّول يف إيقاف امل ّد الرأساميل البشع الذي‬
‫كل أمل لألجيال املستقبل ّية بالعيش يف حياة هانئة‬
‫يهدم مبعاوله ّ‬
‫ومستق ّرة‪ ،‬وذلك ما لخّصه عامل االجتامع ليسيل سكيلر بقوله‪ :‬إ ّن‬
‫الثقافات املضا ّدة الوحيدة التي متثّل فعالً تهديدا ً لالستهالكيّة‬
‫الرأسامل ّية العامل ّية يف الوقت الحارض هي األصول ّية الدين ّية‪ ،‬بالذات‬
‫اإلسالم ّية‪.‬‬

‫ ‬
‫الفصل ّ‬
‫األول‬

‫المفهوم والمنشأ‬
‫الفصل ّ‬
‫األول‪ :‬املفهوم واملنشأ‬
‫مع� عولمة ‪Globalization‬؟‬ ‫ّأو ًال‪ :‬ما ن‬

‫يعود الجذر اللغوي لكلمة عوملة (‪ )Globalization‬إىل اسم‬


‫‪ Globe‬باللغة اإلنجليزيّة‪ ،‬وقد ت ّم ترصيفها إىل صفة ‪ ،Global‬ث ّم‬
‫تحويل الصفة إىل فعل ‪ ،Globalize‬وأخريا ً إعادة الفعل إىل عامل‬
‫األسامء ليكون املصطلح النهايئ هو‪.Globalization :‬‬
‫وتتبع الرتجمة العرب ّية للمصطلح ذات الخطوات التي اتبعها‬
‫الترصيف اإلنجليزي‪ ،‬وذلك لكونه مصطلحاً ُمستحدثاً ال يوجد‬
‫له نظري أصيل يف اللغة العرب ّية‪ ،‬لذا ت ّم اشتقاق صفة (عاملي) من‬
‫الكلمة األساس ّية (عالَم)‪ ،‬ث ّم تحويل الصفة إىل فعل فأصبحت‬
‫(يُعولِم)‪ ،‬ث ّم اشتقاق اسم (عوملة) من الفعل لتكون اسامً مرتجامً‬
‫حرف ّياً للمصطلح اإلنجليزي ‪.Globalization‬‬
‫عب عن‬ ‫طبعاً فإ ّن عمل ّية االشتقاق والتحويل تستبطن معنى يُ ّ‬
‫رشع اللغة‬
‫مم يتطلّب من ُم ّ‬
‫حدوث ظاهرة مل تكن موجودة سابقاً‪ّ ،‬‬
‫وضع ُمصطلح يتناسب وهذه الظاهرة امل ُستج ّدة‪ ،‬وبعبارة أخرى‪:‬‬
‫تنفك عن حدوث يشء ت ّم افتعاله عن تخطيط‬ ‫إ ّن ظاهرة العوملة ال ّ‬
‫وقصد‪ ،‬لذا فإ ّن اسم (عامل ‪ )Globe‬وصفة (عاملي ‪ )Global‬لن‬
‫تفيان بالغرض املطلوب للتعبري عن هذه الظاهرة‪.‬‬
‫هذا ويعود الجذر التاريخي ملصطلح (‪ )Globalization‬إىل‬
‫الكلمة الالتينيّة ‪ Globus‬والتي تعني (الكرة األرضيّة)‪ ،‬وذلك ما مييّز‬
‫املصطلح عن كلمة (كوين ‪ )cosmic‬أو كلمة (شامل ‪،)universal‬‬
‫العولمة‬ ‫‪22‬‬

‫يعب بشكل دقيق عن ظاهرة ال تتجاوز بشموليتها كوكب‬


‫فاملصطلح ّ‬
‫األرض الذي يسكنه البرش‪ ،‬وتتعلّق بأهداف عمل ّية مرتبطة بحياة‬
‫الشعوب‪ ،‬وليست ذات بعد فلسفي يدور يف أذهان املفكّرين فقط‪.‬‬
‫وبحسب قاموس ‪ merriam-webster‬فإ ّن أ ّول استخدام‬
‫معروف لكلمة ‪ Globalization‬كان يف العام ‪ 1930‬للتعبري عن‬
‫خاص‬
‫ّ‬ ‫«تطوير اقتصاد عاملي متكامل بشكل متزايد يتم ّيز بشكل‬
‫بالتجارة الح ّرة والتدفّق الح ّر لرأس املال‪ ،‬واالستفادة من أسواق‬
‫العمل األجنب ّية األرخص مثناً»[[[‪.‬‬
‫ولكن من امله ّم اإلشارة إىل أنّه ليس بالرضورة أن يبقى هذا‬
‫التعريف للمصطلح سارياً عىل طول الخط‪ ،‬أل ّن تح ّوالت كبرية‬
‫طرأت عىل ظاهرة انفتاح األسواق والتجارة الح ّرة‪ ،‬ما يعني أ ّن‬
‫هنالك دالالت جديدة للمصطلح آخذة بالربوز تبعاً لذلك‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬إ ّن هنالك تط ّورات كثرية طرأت عىل واقع‬
‫العوملة منذ بواكري ظهورها‪ ،‬فمعنى العوملة الذي انبثق بعد الحرب‬
‫يل عن املعنى الذي انبثق يف‬
‫العامل ّية الثانية بات يختلف بشكل ج ّ‬
‫سبعين ّيات القرن العرشين‪ ،‬ما يعني أ ّن هنالك تح ّوالت رسيعة يف‬
‫داللة املصطلح تناظر الرسعة التي أحدثتها العوملة يف املجاالت‬
‫السياس ّية واالقتصاديّة والثقاف ّية عىل املستوى العاملي‪.‬‬
‫ولعل ذلك ما دفع عامل االجتامع األملاين أورليش بيك إىل‬
‫ّ‬
‫وصف كلمة العوملة بأنّها «الكلمة الشعار والجدل األكرث استعامالً‬
‫‪[1] Definition of globalization/ merriam-webste/ https://www.merriam-webster.‬‬
‫‪com/dictionary/globalization‬‬
‫‪23‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫واألقل تحديدا ً‪ ،‬ولعلّها األكرث تع ّرضاً لسوء الفهم‬


‫ّ‬ ‫واألسوأ استعامالً‬
‫واألكرث غموضاً واألبعد أثرا ً يف السنوات املاضية‪ ،‬وستكون كذلك‬
‫يف السنوات القادمة أيضاً»[[[‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬ومن أجل تحديد تعريف يالئم املعنى الراهن ملصطلح‬
‫مناص من النظر إىل التح ّوالت التاريخ ّية التي م ّرت‬
‫ّ‬ ‫العوملة‪ ،‬ال‬
‫بها الظاهرة وصوالً إىل حالتها الراهنة‪ ،‬فمنذ العام ‪ 1930‬وحتّى‬
‫نهاية الحرب العامل ّية الثانية عام ‪ 1944‬شهد العامل انفتاحاً تجاريّاً‬
‫ُمق ّنناً من قبل حكومات الدول مع تأسيس منظّامت دول ّية تعنى‬
‫بتنظيم العالقات االقتصاديّة والسياس ّية بني البلدان‪ ،‬أه ّمها البنك‬
‫الدويل وصندوق النقد الدويل‪ ،‬وقد استم ّر هذا الحال حتّى عقد‬
‫السبعين ّيات الذي شهد حالة من األزمات االقتصاديّة الكبرية التي‬
‫أفضت إىل بروز النيوليربال ّية كنظريّة اقتصاديّة مستوحاة من الليربال ّية‬
‫الكالسيك ّية‪ ،‬بحيث جاءت لتفرض قيودا ً جديدة عىل دور الدولة‬
‫يف عالقتها بالسوق‪ ،‬وتفسح املجال للرشكات الرأسامل ّية لالنطالق‬
‫بق ّوة‪ ،‬وشهد عقد الثامنين ّيات التطبيق العميل لهذه النظريّة يف أمريكا‬
‫وبريطانيا مع صعود حزب املحافظني (بقيادة ريغان وتاترش)‪ ،‬ولك ّن‬
‫األمر بقي محصورا ً عىل نطاق ض ّيق‪ ،‬ومل تتخذ العوملة صورتها‬
‫إل مطلع التسعين ّيات مع انهيار االتحاد‬
‫القريبة من الوضع الحايل ّ‬
‫السوفييتي‪ ،‬وسقوط جدار برلني‪ ،‬واإلعالن عن ميالد نظام دويل‬
‫وحيد القطب ّية بزعامة الواليات املتّحدة األمريك ّية‪.‬‬
‫ومع حلول منتصف التسعين ّيات من القرن العرشين ت ّم استكامل‬
‫[[[‪ -‬ما هي العوملة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.46‬‬
‫العولمة‬ ‫‪24‬‬

‫مؤسسات العوملة بإقامة منظّمة التجارة الدوليّة‪ ،‬كام اتسع دور‬


‫ّ‬
‫املؤسسات املاليّة‪ ،‬وحصل تق ّدم هائل يف ميدان االتصاالت‬
‫ّ‬ ‫وأه ّمية‬
‫مم أسهم يف زيادة ورسعة تداول املعلومات ورؤوس‬
‫واملعلوماتيّة‪ّ ،‬‬
‫األموال‪ ،‬وتصاعدت ح ّمى املضاربات يف العملة‪ ،‬واتسع نطاق‬
‫االستثامرات غري املبارشة‪ ،‬كام تصاعد النشاط االئتامين‪ ،‬وغالت‬
‫الواليات املتّحدة يف استخدام نفوذ عملتها الدوالريّة باملزيد من‬
‫اإلصدارات النقديّة دون غطاء[[[‪.‬‬
‫عىل هذا األساس‪ ،‬فإ ّن مصطلح العوملة أخذ يتبلور عىل أساس‬
‫عب‬
‫ركيزتني رئيستني هام‪ :‬التكنولوجيا الحديثة والليربال ّية‪ ،‬وقد ّ‬
‫عن آل ّية ذلك الكاتب مارتن وولف يف صحيفة الفاينانشال تاميز‬
‫ّبلَة (إشاعة‬
‫قائالً‪« :‬تقوم التكنولوجيا بجعل العوملة ُممكنة‪ ،‬أ ّما الل ْ َ‬
‫الليربال ّية) فتمكّنها من التحقّق»[[[‪.‬‬
‫هذا وإ ّن تكنولوجيا االتصال الحديثة والنسخة الجديدة من‬
‫الليربال ّية ال ب ّد من أن تعمل عىل هدم ق ّوة الحكومات القوم ّية وإضعاف‬
‫سيطرتها‪ ،‬فاإلعالم واالقتصاد ميثّالن ركيزتني من أه ّم الركائز التي‬
‫تحفظ للحكومة القوم ّية سيادتها وسيطرتها‪ ،‬وهاتان الركيزتان صارتا‬
‫ت ُص ّدران إىل العامل من الخارج‪ ،‬وهام ُمع ّبأتان بإيدولوج ّية اقتصاديّة‬
‫تؤ ّدي إىل إضعاف ق ّوة الحكومات لصالح األسواق الح ّرة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬العوملة وتأثرياتها‪ ،‬د‪.‬منري الحمش‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربيّة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ -‬بريوت‪،‬‬
‫‪ ،2012‬ص‪.11-10‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة الطوفان أم اإلنقاذ؟ الجوانب الثقافيّة والسياسيّة واالقتصاديّة‪ ،‬فرانك جي‪ .‬لتشرن‬
‫وجون بويل‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربيّة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ -‬بريوت‪ ،2010 ،‬ص‪.26‬‬
‫‪25‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫مم تق ّدم نقرتح بأن يكون تعريف العوملة ‪Globalization‬‬ ‫ّ‬


‫الحايل بأنّها‪ :‬اتجاه نيوليربايل يهدف إىل إخضاع بلدان العامل لنظام‬
‫سيايس وثقايف مو ّحد يُل ّبي مصالح الرشكات ُمتعدّ دة الجنس ّيات بعد‬
‫تاليش الحدود الجغراف ّية بفضل تكنولوجيا االتصال الحديثة‪.‬‬
‫وبذلك نفهم أ ّن العوملة تختلف عن العامل ّية (‪)Universalism‬‬
‫التي تعني طموحاً نحو االرتقاء بالخصوص ّية إىل مستوى عاملي‪،‬‬
‫أي تفتّح العامل عىل ما هو عاملي وكوين‪ ،‬يف حني أ ّن العوملة‬
‫لكل ما هو خصويص وفرض إلرادة الهيمنة[[[‪ ،‬لذا فإنّنا‬
‫تعني إقصاء ّ‬
‫معي من الحياة‪،‬‬
‫«متى تب ّنينا واقتنعنا بأ ّن العوملة هي عوملة منط ّ‬
‫أداتها األساس ّية اآلن هي الرشكات العمالقة ُمتع ّددة الجنس ّيات‪ ،‬التي‬
‫متارس هذه العوملة بكفاءة منقطعة النظري‪ ،‬متى اقتنعنا بذلك أدركنا‬
‫كل هذا الكالم الذي يص ّور العوملة عىل أنّها عمل ّية تح ّرر من‬
‫أ ّن ّ‬
‫مختلف صور االستعباد هو محض خرافة»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫والتاريخية للعولمة‬ ‫ثانيا‪ :‬الجذور الفكرية‬
‫قبل البدء يف الحديث عن الجذور الفكريّة والتاريخيّة التي‬
‫نشأت منها العوملة‪ ،‬ال ب ّد من اإلشارة إىل نقطتني أساسيّتني‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬إ ّن العوملة ليست مج ّرد فكرة عامئة ظهرت فجأة‬

‫ل يف مواجهة العوملة من منظور أساتذة جامعة بسكرة‪ ،‬ميمونة‬ ‫[[[‪ -‬هوية املجتمع املح ّ‬
‫منارصيّة‪ ،‬أطروحة دكتوراه يف علم اجتامع التنمية‪ ،‬جامعة مح ّمد خيرض‪ ،‬بسكرة –الجزائر‪،‬‬
‫‪ ،2012-2011‬ص‪.48‬‬
‫[[[‪ -‬ما بعد العوملة‪ ..‬صناعة اإلعالم وتح ّول السلطة‪ ،‬د‪ .‬خالد مح ّمد غازي‪ ،‬وكالة الصحافة‬
‫العربيّة (نارشون)‪ ،‬مرص‪ ،2017 ،‬ص‪.41‬‬
‫العولمة‬ ‫‪26‬‬

‫عىل الساحة الغربيّة من دون أرضيّة فكريّة م ّهدت لها‪ ،‬وإ ّن معرفة‬
‫هذه األرضيّة تشكّل جذرا ً أساسيّاً يف سرب أغوار العوملة بشكلها‬
‫املعارص‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إ ّن للفكر الغريب التأثري األكرب يف رسم املعامل السياس ّية‬
‫واالقتصاديّة والثقاف ّية للعامل‪ ،‬وذلك بفضل حمالت االستعامر‬
‫الكولونيايل‪ ،‬وساعده يف ذلك التط ّور التقني والطمع يف استكشاف‬
‫مستعمرات جديدة ألهداف سياس ّية واقتصاديّة‪.‬‬
‫من هاتني النقطتني نخلص إىل نتيجة هي‪ :‬أ ّن الحديث عن‬
‫طبيعة التح ّوالت التاريخ ّية التي م ّر بها الفكر الغريب وصوالً إىل‬
‫العوملة يقع يف صميم الحديث عن التح ّوالت الفكريّة والسياس ّية‬
‫التي م ّرت بها غالبية بلدان العامل املتق ّدمة والنامية يف تاريخها‬
‫الحديث‪ ،‬وذلك ما ميكّننا من فهم أفضل لجذور العوملة التي‬
‫تهيمن عىل املشهد العاملي اليوم‪.‬‬
‫وبالعودة إىل تاريخ العوملة‪ ،‬يرى بعض الباحثني أ ّن العوملة ال‬
‫تختص بهذا العرص‪ ،‬وإنّ ا هي تشهد بروزا ً تاريخيّاً واندثارا ً متك ّررا ً‬
‫ّ‬
‫عرب التاريخ يف دورات متك ّررة‪ ،‬وهذه الفكرة متيل إىل «دحض فكرة‬
‫أصح‬
‫ّ‬ ‫أنّنا نعيش اآلن يف عرص كوين جديد‪ ،‬ويوحي هذا مبعنى‬
‫بوجود عصور كونيّة أخرى يف املايض‪ ،‬وأ ّن ما يبدو اآلن عرصا ً‬
‫كونيّاً جديدا ً أو ذروة هذا العرص مق ّدر عليه االنكامش واالختفاء‬
‫يف املستقبل‪ ،‬وأخريا ً سوف يُستبدل هذا أيضاً بدورة جديدة يف‬
‫‪27‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫ست فرتات متتابعة‬


‫سريورة العوملة»‪ ،‬يف حني يرى ثريبورن[[[ وجود ّ‬
‫لكل منها منشأ مح ّدد‪ ،‬من القرن الرابع إىل السابع‬
‫كربى للعوملة ّ‬
‫امليالدي حيث شهدت عوملة الدين (املسيحيّة واإلسالم)‪ ،‬ث ّم‬
‫أواخر القرن الخامس عرش التي تتميّز بأشكال الغزو االستعامري‬
‫األورويب‪ ،‬ث ّم أواخر القرن الثامن عرش وأوائل القرن التاسع عرش‪،‬‬
‫وهي الفرتة التي برزت العوملة فيها نتيجة للحروب العديدة داخل‬
‫أوروبا‪ ،‬ث ّم يف منتصف القرن التاسع عرش وحتّى العام ‪ 1918‬حيث‬
‫ذروة اإلمربياليّة األوروبيّة‪ ،‬تلتها الفرتة التي أعقبت الحرب العامليّة‬
‫الثانية‪ ،‬وأخريا ً فرتة ما بعد الحرب الباردة[[[‪.‬‬
‫يف حني يق ّدم روبرتسون[[[ مجموعة مختلفة وأكرث ج ّدية بكثري‬
‫من األطوار‪ ،‬إذ يتت ّبع بدايات العوملة من أوائل القرن الخامس عرش‬
‫وحتّى وسط القرن الثامن عرش‪ ،‬إذ كانت العوملة يف الطور الجنيني‪،‬‬
‫تاله الطور األ ّويل يف أوروبا من منتصف القرن الثامن عرش وحتّى‬
‫سبعين ّيات القرن التاسع عرش‪ ،‬إذ ت ّم بلورة مفاهيم العالقات الدول ّية‬
‫التي اتخذت طابعاً رسم ّياً وتص ّورا ً أكرث ميين ّية للبرشيّة‪ ،‬تاله طور‬
‫االنطالق من سبعين ّيات القرن التاسع عرش إىل منتصف عرشين ّيات‬
‫القرن العرشين‪ ،‬إذ كانت الزيادات الحا ّدة يف عدد ورسعة األشكال‬
‫الكون ّية لالتصال وتط ّور املنافسات العامل ّية وغريه من القضايا‬

‫[[[‪ -‬جوران ثريبورن‪ :‬أستاذ علم االجتامع يف جامعة كامربيدج يشتهر بكتاباته حول مواضيع تقع‬
‫ضمن اإلطار السيايس واالجتامعي العام ملا بعد املاركسيّة‪.‬‬
‫نص أساس‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.100‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة‪ّ ..‬‬
‫[[[‪ -‬رونالد روبرتسون‪ :‬هو عامل اجتامع بريطاين ومن أوائل من درسوا العوملة ووصفها بأنّها‬
‫«عمليّة انضغاط للعامل وتكثيف للعامل ككل»‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪28‬‬

‫العامليّة‪ ،‬مثل استخدام التوقيت العاملي وجائزة نوبل والحرب‬


‫العامليّة األوىل‪ ،‬ث ّم يأيت الطور الرابع وهو طور الرصاع من أجل‬
‫الهيمنة منذ عرشينيّات القرن العرشين وحتّى ستينيّات القرن ذاته‪،‬‬
‫حيث الحرب العامليّة الثانية والحرب الباردة‪ ،‬وأخريا ً جاء طور‬
‫الاليقني منذ ستينيّات القرن العرشين وحتّى أوائل التسعينيّات‪ ،‬إذ‬
‫اندمج العامل الثالث يف النظام العاملي‪ ،‬وانتهت الحرب الباردة‪،‬‬
‫وانترشت األسلحة النوويّة‪ ،‬وظهر املجتمع املدين واملواطنة‬
‫العامليّة[[[‪.‬‬
‫وهنالك اتجاهات أخرى تتناغم مع ما تق ّدم من تحديد تاريخ‬
‫كل هذه اآلراء تحمل وجوهاً من‬
‫عي للعوملة‪ ،‬وعىل الرغم من أ ّن ّ‬
‫ُم ّ‬
‫حة‪ ،‬ولكن ال يخفى عىل امل ُتأ ّمل بأ ّن العوملة بشكلها املعارص‬
‫الص ّ‬
‫ال ميكن أن تنتمي إىل حقب قدمية ج ّدا ً‪ ،‬وإنّ ا هي ذات طابع‬
‫حديث تشكّلت معاملها الراهنة برسعة استثنائ ّية‪ ،‬ويف الوقت ذاته ال‬
‫ميكن أن نُدير ظهرنا إىل مبدأ الرتاكم ّية والسريورة‪ ،‬إذ ال ميكن قطع‬
‫العوملة عن جذورها الفكريّة الضاربة يف التاريخ الغريب‪ ،‬بحيث ال‬
‫ميكن أن نعزو ظهور العوملة إىل الفجائ ّية‪.‬‬
‫وعىل هذا األساس ميكن القول بأ ّن املبادئ الفكريّة للعوملة‬
‫تعود إىل تاريخ ظهور مفهوم الليربال ّية‪ ،‬أ ّما تاريخ والدتها الفعل ّية‬
‫عاملي‬
‫ّ‬ ‫فيعود إىل سبعين ّيات القرن العرشين‪ ،‬وإ ّن انطالقها عىل نحو‬
‫قد ت ّم بعد سقوط االتحاد السوفييتي مطلع التسعين ّيات‪ ،‬إذ ذاب‬
‫االستقطاب العاملي الذي كان قامئاً عىل معسكرين‪ :‬اشرتايك‬
‫نص أساس‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.102-101‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة‪ّ ..‬‬
‫‪29‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫وليربايل‪ ،‬وحدث االندماج االقتصادي عىل ضوء النيوليرباليّة الذي‬


‫التحقت به روسيا ودول رشق أوروبا وقبلها الصني باستثناء بعض‬
‫الدول املعدودة مثل كوبا وكوريا الشامليّة‪.‬‬
‫ويف الحديث عن طبيعة التح ّوالت الفكريّة التي م ّر بها الفكر‬
‫الغريب‪ ،‬والتي متخّضت عنها مبادئ العوملة‪ ،‬فإنّنا نجد أ ّن هذه‬
‫التح ّوالت كانت عبارة عن سلسلة من ردود األفعال التي اقتدحها‬
‫برجوازيّون غرب ّيون‪ ،‬واستجاب لها املجتمع األورويب نتيجة‬
‫حة‪ ،‬وميكن اقرتاح حدود تاريخ ّية‬
‫لضغوط اقتصاديّة وسياس ّية ُمل ّ‬
‫لتلك التح ّوالت وفقاً للعصور التي برزت فيها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أ‪ .‬عرص التنوير‪.‬‬
‫ب‪ .‬عرص الحداثة‪.‬‬
‫ت‪ .‬عرص ما بعد الحداثة‪.‬‬
‫أ‪ .‬عرص التنوير ‪ :Enlightenment‬هو املرحلة التي انفجرت‬
‫فيه ردود األفعال ض ّد حكم الطبقة األرستقراطيّة املتآلفة مع الكنيسة‬
‫ُتعسفة‪ ،‬وجاءت ردود األفعال تلك عىل يد ر ّواد الفكر‬
‫الكاثوليكيّة امل ّ‬
‫األورويب الذين ظهروا يف القرن الثامن عرش‪ ،‬وكان عامد أفكارهم‬
‫جه الدوغاميئ للكنيسة‪ ،‬إذ كان رجال الدين‬
‫هو القضاء عىل التو ّ‬
‫التمسك مبقوالت الالهوت امل ُعتمد عىل الفلسفة‬
‫ّ‬ ‫يحثّون الناس عىل‬
‫أي تغيري يشكّل تهديدا ً ملصالح النبالء[[[‪.‬‬
‫القدمية‪ ،‬ويرفضون ّ‬

‫[[[‪ -‬مثل اتهام الكنيسة للعامل غاليلو غالييل (‪ )1642-1564‬بالهرطقة بعد تأييده ملقوالت‬
‫الفليك كوبرنيكوس (‪ )1543-1473‬يف أ ّن األرض تدور حول الشمس وليس العكس‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪30‬‬

‫وقد استم ّد مفكّرو عرص التنوير معظم أفكارهم من حركة فكريّة‬


‫م ّرت بالقارة األوروبيّة خالل عرص النهضة ‪ Renaissance‬الذي انبثق‬
‫من فلورنسا اإليطال ّية‪ ،‬وانترش يف أنحاء أوروبا منذ القرن الخامس‬
‫عرش‪ ،‬إذ كانت فلورنسا محطّة احتكاك األفكار بفعل التجارة‬
‫ظل حكم عائلة ميدييش ‪Medici‬‬ ‫النشطة واالزدهار السيايس يف ّ‬
‫الربجوازيّة‪ ،‬وقد تبلورت أفكار عرص النهضة فيام بعد عىل يد فالسفة‬
‫وعلامء معروفني مثل باروخ سبينوزا (‪ )1677-1632‬وجون لوك‬
‫(‪ )1704 -1632‬وإسحاق نيوتن (‪ )1727-1642‬فكانت نتاجاتهم‬
‫هي املا ّدة األساس التي استم ّد منها مفكّرو عرص التنوير وقود‬
‫حربهم عىل الكنيسة وامللوك خالل القرن الثامن عرش[[[‪.‬‬
‫إ ّن التنظيامت الدينيّة والسياسيّة التي كانت تسود أوروبا يف‬
‫مرحلة ما قبل التنوير جعلت املجتمع يعيش يف ظلم وطبقيّة مقيتة‪،‬‬
‫ففي حني كانت املجاعات واألوبئة تفتك باملواطنني‪ ،‬كان النبالء‬
‫يقفون موقف امل ُتف ّرج عىل ذلك املشهد املأساوي‪ ،‬ويقف إىل‬
‫ربروا ما يحدث استنادا ً إىل أساطري ت ُحاول إخضاع‬
‫جانبهم الكهنة لي ّ‬
‫الناس باالستسالم ملصريٍ مجهول‪ ،‬ولهذا كان ر ّواد عرص التنوير‬
‫من أمثال جون توالند وديفيد هيوم يف إنجلرتا‪ ،‬وكريستيان وولف‬
‫وليسينغ يف أملانيا‪ ،‬ومنتسكيو وفولتري وديدرو ودوالمرتي ودولباخ‬
‫يف فرنسا‪ ،‬ينتهجون معامل فكريّة مم ّيزة تتمثّل باآليت[[[‪:‬‬

‫[[[‪ -‬عندما نقول إنّهم استمدّوا منها مادّة انطالقهم‪ ،‬فال نعني بالرضورة أنهم آمنوا بها كأساس لهم‬
‫وبنوا عىل مبادئها أفكارهم‪ ،‬بل يشمل ذلك نقدهم لها ومراجعتهم لها كامدّة أساس لتحريرهم‬
‫الفكري يف عرص التنوير‪.‬‬
‫[[[‪ -‬مصطلح التنوير‪ ..‬مفاهيمه واتجاهاته يف العامل اإلسالمي الحديث «نظرة تقومييّة»‪ ،‬د‪ .‬عبد‬
‫اللطيف الشيخ توفيق‪ ،‬مجمع الفقه اإلسالمي بجدة‪ ،‬منتدى الفكر اإلسالمي‪ /16 ،‬شباط‪ ،200 /‬ص‪.4‬‬
‫‪31‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫الهجوم عىل الدين والسلطات القامئة وتسفيهها وذ ّمها‪.‬‬


‫اإلشادة بالعقل الطبيعي وشعارهم‪« :‬إ ّن أنوار العقل الطبيعي‬
‫وحدها هي القادرة عىل قيادة بني اإلنسان إىل كامل العلم‬
‫والحكمة»‪.‬‬
‫الدعوة إىل عقالن ّية تجريب ّية حسب املنهج الذي رسمه إسحاق‬
‫نيوتن يف عرص النهضة‪.‬‬
‫اعتبار النظم الفلسفيّة امليتافيزيقيّة التي كانت سائدة يف القرن‬
‫السابع عرش أبنية خياليّة‪.‬‬
‫محل العقالن ّية الكربى التي‬
‫ّ‬ ‫حلول العقالن ّية التحليل ّية والنقديّة‬
‫كانت سائدة يف القرن السابع عرش‪.‬‬
‫محل النظرة املتعالية‬
‫ّ‬ ‫تحل‬
‫ّ‬ ‫الحسية التجريبيّة لألشياء‬
‫ّ‬ ‫النظرة‬
‫التقديسيّة‪.‬‬
‫ولهذا كانت كتابات وكلامت ر ّواد عرص التنوير تدور حول‬
‫اتخاذ منهج العقالن ّية والرتكيز عىل البحث العلمي‪ ،‬واالبتعاد عن‬
‫املقوالت الغيب ّية‪ ،‬وكانوا يحثّون الناس عىل عدم االستسالم لألقدار‬
‫والتأكيد عىل التح ّرر من الوصاية البابويّة وامللوك ّية التي حكمت‬
‫أوروبا أكرث من ألف عام‪.‬‬
‫يف عرص التنوير بنى الفكر الغريب عرشه عىل فلسفة معقولة‬
‫قصة‬
‫ترفض أسطورة الخطيئة املوروثة التي تفيد بها التوراة يف ّ‬
‫آدم أبو البرش‪ ،‬وإعادة الثقة باإلنسان‪ ،‬واملناداة برضورة التسامح‬
‫العولمة‬ ‫‪32‬‬

‫واملطالبة بحريّة التفكري والتعبري‪ ،‬لذا كانت فلسفة عرص التنوير‬


‫متفائلة‪ ،‬وتضع ثقة كبرية يف العقل اإلنساين‪ ،‬وترى أ ّن التق ّدم العلمي‬
‫كل مشكالت املجتمع وسيُلبّي‬
‫سيحل ّ‬
‫ّ‬ ‫والتق ّدم االقتصادي املا ّدي‬
‫كل حاجاته‪ ،‬وهكذا أعلن كوندورسيه‪« :‬أ ّن اإلنسانيّة وهي تزداد علامً‬
‫ّ‬
‫كل يوم وبدون توقّف سوف ترى سلطتها عىل الطبيعة تزداد‬
‫ومعرفة ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة لرثواتها وإمكانات سعادتها‪،‬‬
‫وتقوى ّ‬
‫فصالحيّة اإلنسان لبلوغ الكامل هي يف الواقع بغري نهاية»[[[‪.‬‬
‫وبذلك متخّض فكر عرص التنوير عن ظهور مبدأ اإلنسانويّة‬
‫(الهيومان ّية ‪ )Humanity‬التي ع ّرفها االتحاد الدويل للدراسات‬
‫اإلنسان ّية واألخالق ّية[[[ بأنّها‪« :‬موقف حياة دميقراطي وأخالقي يؤكّد‬
‫الحق واملسؤول ّية يف إعطاء معنى وشكل لحياتهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أ ّن البرش لهم‬
‫إنّه ميثّل بناء مجتمع أكرث إنسان ّية من خالل أخالق تقوم عىل القيم‬
‫اإلنسان ّية وغريها من القيم الطبيع ّية ‪.[[[»...‬‬
‫وقد متخّض عرص التنوير عن انبعاث قوي ملبدأ الحريّة‬
‫الفرديّة (الليربال ّية ‪ ،)Liberalism‬وتعود جذور هذا املبدأ إىل حركة‬
‫رصح‬
‫اإلصالح الربوتستانتي يف القرن السادس عرش‪ ،‬ويف ذلك ي ّ‬

‫[[[‪ -‬مصطلح التنوير‪ ..‬مفاهيمه واتجاهاته يف العامل اإلسالمي الحديث «نظرة تقومييّة»‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫[[[‪ -‬االتحاد الدويل للدراسات اإلنسانيّة واألخالقيّة (‪ :)IHEU‬هو اتحاد عاملي مك ّون من ‪117‬‬
‫منظّمة من املنظّامت اإلنسان ّية واألخالق ّية والعقالن ّية التنويريّة واإللحاديّة والعلامن ّية واملنظّامت‬
‫التي تدعو للتفكري الح ّر يف ‪ 38‬بلدا ً وشعار “اإلنسان السعيد” هو الرمز الرسمي لالتحاد الدويل‬
‫للدراسات اإلنسانيّة واألخالقيّة باإلضافة لكونه الرمز املعرتف به كشعار عاملي للعلامنيّة‬
‫اإلنسانيّة‪.‬‬
‫‪[3]- IHEU Bylaws, Internal Rules, General Assembly Regulationsand Membership‬‬
‫‪and DuesRegulations - IHEU Bylaws – 2.1 – PAGE 3.‬‬
‫‪33‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫الفيلسوف برتراند عن الليرباليّة‪« :‬الواقع أنّها أقرب بكثري إىل أن‬


‫تكون تط ّورا ً للفكرة الربوتستانتيّة القائلة إ ّن عىل ّ‬
‫كل فرد أن يس ّوي‬
‫التعصب والتز ّمت‬
‫ّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬هذا فضالً عن أ ّن‬
‫ّ‬ ‫أموره مع الله بطريقته‬
‫رض باألعامل االقتصاديّة»[[[‪.‬‬
‫يُ ّ‬
‫وقد م ّهدت الليربال ّية الربوتستانت ّية لظهور الليربال ّية العلامن ّية‬
‫كل سلطة‪،‬‬ ‫كمذهب وضعي يرى أ ّن خيارات الفرد تعلو فوق ّ‬
‫ويعتقد أ ّن وظيفة الدولة هي حامية حريّات املواطنني مثل حريّة‬
‫الخاصة‪ ،‬وقد ارتبطت الليربال ّية بالعامل‬
‫ّ‬ ‫التفكري والتعبري وامللك ّية‬
‫االقتصادي بش ّدة‪ ،‬بحيث أنّها يف صيغتها الكالسيك ّية كانت «ترفض‬
‫شمول الطبقات والفئات الفقرية والنساء‪ ،‬وهذا ما نجده يف نصوص‬
‫جون لوك بصفته رائد الليربال ّية الكالسيك ّية‪ ،‬وكذلك يف آراء‬
‫عامنوئيل كانط (‪ )1804 - 1724‬بصفته املنظّر والفيلسوف املؤث ّر‬
‫الذي اعتمده الحقاً الليربال ّيون من أتباع الدميقراط ّية االشرتاك ّية‬
‫رصح كانط برأيه القائل‪ :‬إ ّن امتالك رأس‬ ‫والليربال ّية الجديدة‪ ،‬فقد ّ‬
‫املال (وحسب تعبريه االستقالل ّية والسيادة) هو الرشط األساس‬
‫الذي يجعل الفرد مواطناً ومتساويّاً مع سائر املواطنني األحرار‪،‬‬
‫حق التصويت والترشيع والحكم»[[[‪.‬‬
‫وهذا هو الذي ميتلك ّ‬
‫كل حال فقد كانت (اإلنسانويّة) و(الليربال ّية) مبثابة الرشر‬
‫وعىل ّ‬

‫[[[‪ -‬حكمة الغرب‪ ..‬الفلسفة الحديثة واملعارصة‪ ،‬برتراند رسل‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪ ،2009 ،‬ص‪.94‬‬
‫[[[‪ -‬الليرباليّة‪ ،‬شهريار زرشناس‪ ،‬املركز اإلسالمي للدراسات اإلسرتاتيجيّة‪ /‬سلسلة مصطلحات‬
‫معارصة‪ ،‬دار الكفيل‪ /‬كربالء‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،2017‬ص‪.72 -71‬‬
‫العولمة‬ ‫‪34‬‬

‫الذي أشعل النار يف هشيم الشعوب األوروبيّة املقهورة‪ ،‬فانطلقت‬


‫عىل ضوئها الحركات التح ّررية‪ ،‬وعىل رأسها الثورة الفرنسيّة سنة‬
‫‪1798‬التي مثلّت مرحلة فاصلة من مراحل االنقالب السيايس يف‬
‫التاريخ الحديث‪ ،‬وكان للمنظّامت املاسونيّة دور واضح يف قيام‬
‫هذه الحركات[[[‪ ،‬بحيث أ ّن شعار املاسونيّة (حرية‪-‬مساواة‪-‬إخاء)‬
‫قد تح ّول فيام بعد إىل نداء للثورة الفرنسيّة ث ّم إىل شعار انتخايب‬
‫لألحزاب يف فرنسا‪ ،‬حتّى أ ّن رمزها املعروف ‪-‬العني والهرم‪ -‬يتص ّدر‬
‫وثيقة إعالن حقوق اإلنسان واملواطن الفرنسيّة‪.‬‬
‫والخالصة أ ّن عرص التنوير قد شهد انقالباً من التمحور الفكري‬
‫حول املبادئ الدين ّية إىل التمحور حول املبادئ ال َعلامن ّية‪ ،‬وانعكس‬
‫ذلك عىل الحياة السياس ّية بالتح ّول من ال َملَك ّية إىل الجمهوريّة‪،‬‬
‫وعىل الحياة االقتصاديّة بالتح ّول من اإلقطاع ّية إىل الرأسامل ّية‪.‬‬
‫ب‪ .‬عرص الحداثة ‪:modernity‬‬
‫ميثّل القرن التاسع عرش االنطالقة األبرز لعرص الحداثة‪ ،‬إذ‬
‫للتغيات التي م ّرت يف أوروبا يف القرن الثامن‬
‫ّ‬ ‫جاء كحلقة ُمك ّملة‬
‫عرش‪ ،‬وإ ّن أه ّم ما مييّز عرص الحداثة هو عمليّة تقعيد النتائج التي‬
‫متخّضت عن الحراك الغريب الذي ينشد التغيري عىل شتّى الصعد‪،‬‬

‫[[[‪ -‬كان املاسونيّون ـ وهم من الطبقة البورجوازيّة ـ يهدفون إىل وضع نظام اجتامعي جديد‪،‬‬
‫رصحت بذلك النرشة املاسونيّة الشهرية (كيليت) يف عدديها الصادرين يف شهري سبتمرب‬ ‫وقد ّ‬
‫ويوليو من عام ‪ 1911‬قائلة‪« :‬نحن نضع أسس نظام اجتامعي جديد‪ ...‬نحن نتآمر يوم ّياً بعقيدة‬
‫مقدّسة ومبرارة ض ّد نظام املجتمع الحايل (املصدر‪ :‬املاسونيّة العامليّة‪ ..‬بحث عن املنشأ‬
‫واألهداف النهائيّة للحرب العامليّة األوىل‪ ،‬فريدريش فيختل‪ ،‬ترجمة‪ :‬عثامن مح ّمد عثامن‪،‬‬
‫املركز القومي للرتجمة – الطبعة األوىل (القاهرة) ‪ ،2010‬ص‪.97‬‬
‫‪35‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫فت ّم إعادة تنظيم البناء االجتامعي وفقاً لقواعد الفلسفة الوضعيّة‬


‫التي برز فيها الفيلسوف الفرنيس أوغست كونت (‪)1857-1798‬‬
‫مؤسس علم االجتامع الحديث‪ ،‬الذي دعا إىل الفصل التام بني‬
‫ّ‬
‫يستحق أن نطلق‬
‫ّ‬ ‫املذهب العقيل واملذهب التجريبي‪ ،‬ورأى أ ّن ما‬
‫الحس وميكن‬
‫ّ‬ ‫عليه اسم «علم» هو فقط ما ميكن أن يقع عليه‬
‫كل النتائج املبنيّة عىل التفكري العقيل‬
‫اختباره بالتجربة‪ ،‬ورفض ّ‬
‫ٍ‬
‫خاف أ ّن هذا املنحى هو‬ ‫الخالص واعتربها من األساطري‪ ،‬وغري‬
‫أحد النتائج الواضحة لتبجيل القانون الهيوماين الذي ورثه عرص‬
‫الحداثة من عرص التنوير‪.‬‬
‫وقد أ ّدت آراء كونت إىل اعتبار الحقائق الحس ّية واإلحصاءات‬
‫األمربيق ّية هي صاحبة الكلمة الفصل يف بيان الحقيقة مبا فيها‬
‫علم االجتامع‪ ،‬إذ اعترب أ ّن املجتمع البرشي خاضع لقوانني حتم ّية‬
‫مثل القوانني الفيزيائ ّية‪ ،‬وإ ّن اكتشاف هذه القوانني ُي ّهد إلمكان ّية‬
‫توظيفها لتحقيق سعادة البرش‪.‬‬
‫وعىل الرغم من أ ّن الفلسفة الوضع ّية تنطوي عىل مغالطة يف‬
‫دعوى تجاوزها للمذهب العقيل[[[‪ ،‬ولك ّن املوضوع ّية ُ‬
‫املنتزعة‬
‫من الواقع التي تعتمدها هذه الفلسفة ساعدت عىل كشف اللثام‬
‫عن مساحات واسعة من قوانني الطبيعة وحركة املجتمع‪ ،‬فتحقّقت‬
‫مم عزز من إميان املجتمع‬
‫بذلك اكتشافات وإنجازات هائلة‪ّ ،‬‬
‫األورويب بها‪ ،‬واعتربوا املنهج الوضعي رأس الخيط الذي يوصلهم‬

‫الحس والتجربة ال ميكن أن تخلص إىل‬


‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬إ ّن املعارف التي حصل عليها اإلنسان من خالل‬
‫نتائج علميّة من دون االستناد إىل تفكري عقيل خالص وفق القواعد العقليّة الرصفة‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪36‬‬

‫إىل السعادة ونهاية املعاناة‪ ،‬سواء كانت هذه املعاناة طبيعيّة مثل‬
‫الكوارث البيئيّة أم مفتعلة مثل الحروب‪.‬‬
‫ومل تكن الفلسفة الوضعيّة هي الوحيدة التي برزت يف عرص‬
‫الحداثة‪ ،‬وإنّ ا برزت أيضاً الفلسفة النفعيّة عىل يد الفيلسوف‬
‫اإلنجليزي جريمي بنثام (‪ )1832-1748‬الذي رأى أ ّن ما يسعى‬
‫الناس لبلوغه هو يف تحصيل أكرب قدر من السعادة ألنفسهم‪ ،‬وكلمة‬
‫السعادة مساوية يف معناها لكلمة اللذّة برأيه‪ ،‬ومه ّمة القانون هي‬
‫أي شخص يف سعيه إىل سعادته القصوى لن‬ ‫فقط التأكّد من أ ّن ّ‬
‫حق اآلخرين يف السعي إىل الهدف نفسه[[[‪.‬‬ ‫ميس ّ‬ ‫ّ‬
‫عىل مستوى العلوم التطبيق ّية‪ ،‬ظهرت نظريّة النشوء واالرتقاء لعامل‬
‫األحياء تشارلز داروين (‪ )1882-1809‬التي عارضت الرؤية التورات ّية‬
‫بصدد ظهور اإلنسان األ ّول عىل األرض‪ ،‬لتقطع بذلك آخر خيوط األمل‬
‫يف كبح جامح الفكر امل ُتم ّرد عىل الدين‪ ،‬وقد م ّهدت نظريّة داروين‬
‫بعد نزولها إىل ساحة الفكر االجتامعي والسيايس إىل ظهور حركات‬
‫عنرصيّة ُمتط ّرفة‪ ،‬كان لها دور كبري يف رسم مالمح القرن العرشين‪.‬‬
‫لتؤسس مبدأً يُع ّد‬ ‫أدب ّياً‪ ،‬ظهرت الرومانس ّية يف القرن التاسع عرش ّ‬
‫من أه ّم أسس فكر الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬أال وهو مبدأ الثورة‬
‫وكل ما هو موروث سواء كان ثقافيّاً أم دينيّاً أم‬
‫كل ما هو قديم ّ‬ ‫عىل ّ‬
‫أسلوباً أدبيّاً‪ ،‬لقد بدأت الثورة العارمة ناشدة التغيري‪ ،‬رافضة الجمود‬
‫والتقليد‪ ،‬وخارجة عىل التقاليد‪ ،‬فالرومانسيّة ال تثور فقط عىل‬
‫كالسيكيّة القرن الثامن عرش بل تنسفها من جذورها بذهنيّة وهويّة‬

‫[[[‪ -‬حكمة الغرب‪ ..‬الفلسفة الحديثة واملعارصة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.184‬‬


‫‪37‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫أدبيّة جديدة مولعة باستمرار بالتغيري وبتقريب املتناقضات‪ ،‬تلك‬


‫ونصبت‬
‫الثورة العارمة وتآلف املتناقضات الهامئة هي التي جعلت ّ‬
‫بحق األم الرشعيّة ألدب الحداثة وما بعدها[[[‪.‬‬
‫الرومانسيّة لتكون ّ‬
‫اقتصاديّاً‪ ،‬مت ّيز عرص الحداثة بانطالقة املجتمع الصناعي بعد‬
‫أن متخّضت الحركة العلميّة عن الثورة الصناعيّة وحلول املح ّرك‬
‫محل اليد العاملة‪ ،‬وأسهم يف تط ّور املواصالت الرسيعة‬
‫ّ‬ ‫البخاري‬
‫مم دفع بعجلة االقتصاد والتجارة‬ ‫بدل وسائل النقل القدمية‪ّ ،‬‬
‫األوروب ّية دفعة كبرية إىل األمام‪ ،‬وقد أحيت املكننة الصناع ّية نظريّة‬
‫آدم سميث (‪ )1790-1723‬يف تقسيم العمل إىل أجزاء صغرية‪،‬‬
‫مم أ ّدى إىل االندثار التدريجي ِ‬
‫للحرف‪ ،‬وتح ّول أداء القوى البرشيّة‬ ‫ّ‬
‫العمل إحساسهم بدافع ّية‬ ‫ّ‬ ‫يف املصانع إىل عمل روتيني آيل أفقد‬
‫اإلنجاز‪ ،‬وسلب منهم إمكان ّية تحقيق الذات باستخدام مهاراتهم‬
‫الذاتيّة‪ ،‬كام سادت نظريّة «عدم التدخّل» التي ط ّورها آدم سميث‬
‫عىل املشهد االقتصادي‪ ،‬والتقت بذلك مع الفلسفة النفعيّة لبنثام‪،‬‬
‫أي سبب يدفع الحكومات‬ ‫«إذ ش ّدد سميث عىل أنّه ال يوجد ّ‬
‫للتدخّل يف االقتصاد عرب فرض تعريفات جمرك ّية أو ح ّد أدىن‬
‫لألجور‪ ،‬مؤكّدا ً عىل أنّه باستثناء الرضائب التي اعتربها رضوريّة‬
‫إل إىل‬ ‫لضامن الرفاهية االقتصاديّة‪ ،‬فإ ّن مثل هذه القيود ال تؤ ّدي ّ‬
‫ربر»[[[‪.‬‬
‫عدم الكفاءة وإعاقة اإلنتاج دون م ّ‬

‫[[[‪ -‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬د‪ .‬سعيد مح ّمد مح ّمد السقا‪ ،‬دار الوفاء للطباعة والنرش‪/‬‬
‫اإلسكندريّة ‪ -‬الطبعة األوىل‪ ،2014 ،‬ص‪.55-54‬‬
‫قصة «دعه يعمل‪ ..‬دعه مير»‪ ،‬صحيفة القبس‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2018 /2 /9‬عىل الرابط‬
‫[[[‪ -‬ما ّ‬
‫‪-‬ما‪-‬قصة‪-‬دعه‪-‬يعمل‪-‬دعه‪-‬مير ‪https://alqabas.com/article/499448‬‬
‫العولمة‬ ‫‪38‬‬

‫جع عىل شعار‬ ‫مم تق ّدم نفهم أ ّن الليرباليّة الرأسامليّة التي تش ّ‬


‫ّ‬
‫«دعه يعمل دعه مير» ال تزال هي الطاقة التي تولّد الرؤى الفلسفيّة‬
‫والنظريّات االقتصاديّة‪ ،‬وتعيد صقلها من جديد يف املجتمع الغريب‪،‬‬
‫كام أنّها السبب يف توليد ردود الفعل املعارضة للرأسامليني الكبار‬
‫محل الطبقة األرستقراط ّية يف الحكم‪ ،‬فبسبب‬ ‫ّ‬ ‫الذين بدؤوا يحلّون‬
‫توسعت الطبقة الربجوازيّة‪ ،‬وانقسمت إىل برجوازيني‬ ‫الثورة الصناع ّية ّ‬
‫جار‪ ،‬وبرجوازيني كبار مثل املرصفيني‬ ‫العمل والت ّ‬
‫ّ‬ ‫صغار مثل‬
‫والصناعيني‪ ،‬وقد لجأ الربجوازيّون األصليّون ‪-‬الرأسامليّون‪ -‬إىل‬
‫موسعة‪ ،‬يف حني أ ّدى ظهور املهن التقنيّة‬ ‫االرتباط بطبقة علويّة ّ‬
‫والتكنولوجيّة إىل توجيه الربجوازيّة لالرتباط مع الطبقات ال ُدنيا من‬
‫توسع دائرة الفقر بني‬ ‫املجتمع[[[‪ ،‬وكانت هذه الطبقات تعاين من ّ‬
‫مم أحدث رصاعاً‬ ‫أطنابها وسوء استغاللها يف املصانع واملزارع‪ّ ،‬‬
‫داخل ّياً نتج عنه من ّو مفهوم االشرتاك ّية كإيديولوجيا سياس ّية‪.‬‬
‫وبذلك نشط ما يس ّمى بالحركة الدميقراط ّية االشرتاك ّية يف‬
‫جهات‬ ‫أواسط القرن التاسع عرش عىل يد مفكّرين ماركسيني ذوي تو ّ‬
‫إصالح ّية مثل فرديناند السال (‪ )1864-1825‬يف أملانيا‪ ،‬إذ دعوا‬
‫إىل وضع ح ّد للرأسامل ّية املستفحلة من خالل تدخّل الحكومة‬
‫إلرساء العدالة االجتامع ّية ضمن النظام الرأساميل لتحقيق دولة‬
‫الرفاه بناء عىل نظام االقتصاد املختلط واقتصاد السوق االجتامعي‪،‬‬
‫والالفت يف األمر هو أ ّن طبقة الربجوازيّة كانت لها أصابع واضحة‬
‫يف ترسيم معامل الدميقراطيّة االشرتاكيّة هذه‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ما هي الربجوازيّة‪ ،‬مح ّمد مروان‪ ،‬موقع موضوع‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2020 /1 /13‬عىل الرابط‬
‫‪#cite_note-Lqo9pCDGyC-4‬ما_هي_الربجوازيّة‪https://mawdoo3.com/‬‬
‫‪39‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫سياسيّاً‪ ،‬كانت سلسلة الثورات األوروبيّة التي تس ّمى «الربيع‬


‫األوروب» والتي انطلقت يف العام ‪ 1848‬من أه ّم األحداث السياسيّة‬
‫ّ‬
‫يف عرص الحداثة‪ ،‬فقد كانت هذه الثورات تطالب باملزيد من حقوق‬
‫الشعب والطبقة العامليّة والقضاء عىل آخر معاقل اإلقطاعيّة‪ ،‬وكان‬
‫والعمل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مح ّرك هذه الثورات من اإلصالحيني والطبقات الوسطى‬
‫مؤسس‬
‫وإىل جانب أعامل روبرت أوين (‪ )1858-1771‬الذي يع ّد ّ‬
‫الجمعيّات التعاونيّة‪ ،‬أخذت الليرباليّة الكالسيكيّة تضمحل تدريجيّاً‬
‫بحق الطبقة العاملة‬
‫لتحل محلّها ليرباليّة اشرتاكيّة دميقراطيّة تؤمن ّ‬
‫ّ‬
‫املشاركة بصنع القرار السيايس‪.‬‬
‫ت‪ .‬عرص ما بعد الحداثة ‪:Postmodernism‬‬
‫كانت الفرتة األخرية من القرن التاسع عرش يسودها نوع من التفاؤل‬
‫حل مشكالت البرش‬
‫العلمي واإلميان بقدرة العلم التجريبي عىل ّ‬
‫وتحقيق السعادة لهم أينام كانوا‪ ،‬ويتناغم هذا التفاؤل مع الفلسفة‬
‫الرباغامت ّية للفيلسوف وليم جيمس (‪ )1910-1842‬الذي رأى أ ّن‬
‫األشياء تكتسب قيمتها مبا تق ّدمه من نفع للبرش‪ ،‬بحيث أ ّن ما نطلق‬
‫عليه اسم «الحقيقة» ال يُع ّد وصفاً لواقع ثابت يف الكون‪ ،‬وإنّ ا هو‬
‫مج ّرد أداة للوصول إىل فائدة عمل ّية‪ ،‬فام نطلق عليه اسم «الحقيقة»‬
‫ميكن أن يُستبدل يف املستقبل بحقيقة أخرى جديدة عندما تكون‬
‫أي حقيقة‬
‫قادرة عىل تقديم منفعة أفضل للبرش‪ ،‬وعليه ميكن أن تبىل ّ‬
‫أي أداة عفا عليها الزمن‪ ،‬ومن هذه الزاوية ميكن‬
‫نعرفها كام تبىل ّ‬
‫القول أ ّن الفلسفة الرباغامت ّية متثّل نسخة متط ّورة عن الفلسفة النفع ّية‬
‫التي نشطت يف القرن التاسع عرش عىل يدي جريمي بنثام‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪40‬‬

‫ويف بدايات القرن العرشين‪ ،‬وفيام تراود العقليّة الغربيّة أحالم‬


‫جميلة عىل وقع أنغام اإلنجازات العلم ّية والرفاه االقتصادي‪،‬‬
‫استيقظ الغرب ّيون عىل وقع أقدام الوحش املرعب الذي ُولد من‬
‫رحم العلم الوضعي والنفعيّة الرباغامتيّة‪ ،‬إذ اشتعلت الحربان‬
‫العامليّتان اللتان ج ّرتا ويالت عظيمة خلّفت وراءها ماليني القتىل‬
‫رشدين‪ ،‬ل ُيرضب التفاؤل الغريب يف مقتل‪.‬‬ ‫والجرحى واملعاقني وامل ّ‬
‫مل تكن األحداث الدامية للحربني العامليّتني هام فقط ما أزعج‬
‫تبي أ ّن الحداثة جلبت معها آلة دمار‬ ‫العقل ّية الغرب ّية الحاملة‪ ،‬إذ ّ‬
‫عظيمة أدخلت الشعوب يف حالة من القلق املزمن‪ ،‬فمع ظهور‬
‫محك اإلبادة الشاملة‪ ،‬فضالً عن‬ ‫ّ‬ ‫األسلحة النووية صار العامل عىل‬
‫مرور االقتصاد الرأساميل بأزمة عظيمة متثّلت بالكساد العظيم الذي‬
‫رضب الواليات املتّحدة عام ‪ 1929‬وامت ّد أثره إىل باقي أنحاء العامل‪.‬‬
‫كام شهد القرن العرشون بروز النظريّة النسب ّية عىل يد الفيزيايئ‬
‫ألربت آينشتاين (‪ )1955-1879‬الذي قلب فيزياء نيوتن رأساً عىل‬
‫عقب‪ ،‬وقد ت ّم تجيري النظريّة النسب ّية لرتسيخ قاعدة فلسف ّية تتض ّمن‬
‫رصح‬‫إنكار الحقائق امل ُطلقة للكون‪ ،‬ما حدا بآينشتاين نفسه إىل أن ي ّ‬
‫ُمتذ ّمرا ً‪« :‬لقد أُيسء فهم ما تعنيه النسب ّية عىل نطاق واسع‪ ،‬يلعب‬
‫الفالسفة بالكلامت كام يلعب األطفال بال ُدمى‪ ،‬النسب ّية كام أراها‬
‫ت ُشري إىل أ ّن بعض الحقائق الفيزيائ ّية وامليكانيك ّية التي كان يُنظر‬
‫إليها عىل أنّها ثابتة‪ ،‬هي نسبيّة حينام نضع يف االعتبار حقائق‬
‫الحق يف أن‬
‫ّ‬ ‫فيزيائ ّية وميكانيك ّية أخرى‪ ،‬النسب ّية ال تعني أ ّن لدينا‬
‫نقلب العامل رأساً عىل عقب بخبث»[[[‪.‬‬
‫‪[1]- What life means to Albert Einstein, the saturday evening post, october 26.1929, page 17..‬‬
‫‪41‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫ويف السياق ذاته‪ ،‬جاء مبدأ الّالدقّة للفيزيايئ فرينر هايزنربغ‬


‫ينص عىل أنّه ال ميكن لإلنسان التأكّد متاماً‬
‫(‪ )1976 -1901‬الذي ّ‬
‫خواص املا ّدة عىل املستوى‬
‫ّ‬ ‫من تحديد خاصيّتني مقاستني من‬
‫الكمومي‪ ،‬ما يعني أنّه مهام تط ّورت وسائل القياس‪ ،‬فال ميكن‬
‫تبي للغربيني‬
‫التوصل إىل معرفة كاملة للطبيعة حولنا‪ ،‬وبذلك ّ‬
‫ّ‬
‫أنّهم يركبون مج ّرد قارب متواضع من املعرفة وسط بحر ال نهايئ‬
‫من الغموض امل ُستعيص عىل الفهم‪ ،‬يقول برتراند رسل‪« :‬أ ّدى‬
‫التق ّدم الرسيع الذي تحقّق يف العلم والتكنولوجيا إىل االعتقاد أنّنا‬
‫حل جميع مشكالتنا‪ ،‬وكان املتوقّع أن تكون فيزياء‬
‫أوشكنا عىل ّ‬
‫نيوتن هي األداة التي تضطلع بهذه امله ّمة‪ ،‬غري أن كشوف الجيل‬
‫كل ما تبقّى‬
‫التايل قد أحدثت صدمة عنيفة لدى أولئك الذي ظ ّنوا أ ّن ّ‬
‫أمامنا هو تطبيق املبادئ املعروفة للنظريّة الفيزيائيّة عىل الحاالت‬
‫الخاصة التي تعرض لنا‪ ،‬كذلك فإ ّن الكشوف املتعلّقة بالرتكيب‬
‫ّ‬
‫الداخيل للذ ّرة قد أ ّدت (يف القرن العرشين) إىل زعزعة النظرة‬
‫الهادئة املستق ّرة التي كانت سائدة عند نهاية القرن التاسع عرش»[[[‪.‬‬
‫وبدل أن يتواضع الفكر الغريب أمام القدرة العظيمة امل ُهندسة‬
‫التخل عن اكتشاف‬
‫ّ‬ ‫للكون‪ ،‬برز فيهم تيار شكويك يدعو إىل‬
‫نظريّات كربى تحكم املجتمعات البرشيّة‪ ،‬ما استدعى نشاط مبدأ‬
‫الاليقني ورفض املرجع ّيات الفكريّة الصلبة‪ ،‬وطال التشكيك أكرث‬
‫البديه ّيات وضوحاً مثل الثوابت األخالق ّية والجامل ّية‪ ،‬فأخذت القيم‬
‫البرشيّة تعتمد عىل معايري س ّيالة مت ّيز بها عرص ما بعد الحداثة‪ ،‬وهي‬

‫[[[‪ -‬حكمة الغرب‪ ..‬الفلسفة الحديثة واملعارصة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.223‬‬


‫العولمة‬ ‫‪42‬‬

‫حالة أطلق عليها الفيلسوف عيل ع ّزت بيجوفيتش (‪)2003 -1925‬‬


‫اسم الحداثة السائلة‪.‬‬
‫يف هذه املرحلة ظهرت حركات عدم ّية عىل يد مجاميع من‬
‫العدمي ونبذ املعايري الثابتة التي مت ّيز بها‬
‫ّ‬ ‫الشباب متتثل للفكر‬
‫عرص الحداثة‪ ،‬مثل حركة الهي ّبيني التي ظهرت يف ستين ّيات القرن‬
‫العرشين‪ ،‬إذ رفض الهيب ّيون أمناط الحياة السائدة‪ ،‬وحاولوا إيجاد‬
‫املتوسطة‬
‫ّ‬ ‫أمناط مغايرة للحياة‪ ،‬وكان معظم الهي ّبيني من أبناء الطبقة‬
‫الذين يرتكون أهلهم ويعيشون يف مخ ّيامت أو يف بيوت مؤقّتة أو‬
‫ينامون يف الشوارع‪ ،‬وكانوا ميثّلون بيئة حاضنة ملامرسة الدعارة‬
‫وتعاطي الكحول واملخ ّدرات‪.‬‬
‫هذه البيئة كانت صالحة إلحياء الفلسفة الوجوديّة عىل يد جان‬
‫بول سارتر (‪ )1980-1905‬التي استم ّدت من مبدأ الاليقني رؤيتها‬
‫للعامل‪ ،‬إذ تق ّرر الوجوديّة أنّه ال يوجد معنى أصيل للوجود‪ ،‬لذا فمن‬
‫أي توصيفات‬
‫خاص لوجوده من دون ّ‬
‫ّ‬ ‫كل إنسان خلق معنى‬
‫حق ّ‬
‫ّ‬
‫جوهريّة سابقة أو ُمح ّددات خارج ّية مفروضة‪ ،‬لنجد أصابع الليربال ّية‬
‫واضحة املعامل يف هذه الفلسفة أيضاً‪.‬‬
‫وقد ق ّدمت الوجوديّة دعامً جديدا ً للحركات النسويّة من خالل‬
‫شخصيّات نسويّة‪ ،‬أه ّمها سيمون دي بوفوار(‪ )1986-1908‬التي‬
‫كل األمناط السائدة‪ ،‬وفتحت الباب‬
‫دعت املرأة إىل التح ّرر من ّ‬
‫نحو اتجاهات أكرث تط ّرفاً يف مفاهيم املساواة الجندريّة‪.‬‬
‫كل حال‪ ،‬فإ ّن عرص ما بعد الحداثة كان ميثّل مرحلة «نهاية‬
‫وعىل ّ‬
‫‪43‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫الرسديّات الكبرية» عىل ح ّد تعبري الفيلسوف الفرنيس جان فرنسوا‬


‫ليوتارد‪ ،‬إنّها مرحلة نهاية اإلميان الغريب بالتق ّدم والسري نحو إنسانيّة‬
‫أفضل‪ ،‬فام بعد الحديث يُعترب «جامليّة مكشوفة لفرد أضاع نقاط‬
‫مرجعيّته فضاع يف مجتمع ال مستقبل له ودون ماض أو تعا ٍل»[[[‪.‬‬
‫الخالصة‪ :‬مخاض العولمة‬
‫ورث عرص العوملة مجمل األفكار التي تبلورت يف العصور‬
‫السابقة من التاريخ الغريب الحديث‪ ،‬فكان جذرها األ ّول ناشئاً‬
‫عن أصلني هام (الليربال ّية) و(اإلنسانويّة) اللذين نضجا يف عرص‬
‫التنوير‪ ،‬وعليهام قامت باقي األفكار الفلسف ّية والعلم ّية بشكل‬
‫كل واحد من هذين األصلني بتوليد‬ ‫مبارش أو غري مبارش‪ ،‬وقد تكفّل ّ‬
‫فلسفات وأفكار يدعم بعضها البعض‪ ،‬ويأخذ بعضها برقاب بعض‬
‫عىل الرغم من اختالفاتها من حيث التصنيف‪.‬‬
‫ففي عرص الحداثة أحيت الليرباليّة الفكرين السيايس واالقتصادي‬
‫الشق السيايس فقد عملت عىل انبعاث الدميقراطيّة الليرباليّة‬
‫معاً‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫الشق االقتصادي عملت‬
‫التي كان معلمها البارز‪ :‬الثورة الفرنسيّة‪ ،‬ويف ّ‬
‫عىل تحرير الرأسامليّة من قيود املذهب الربوتستانتي‪ ،‬فكانت‬
‫الرأسامليّة والدميقراطيّة الليرباليّة السمة األبرز لعرص الحداثة‪ ،‬لك ّن‬
‫تغيريا ً طرأ عىل الدميقراطيّة الليرباليّة‪ ،‬إذ واجهت متطلّبات التح ّول‬
‫نحو الدميقراطيّة االشرتاكيّة التي تعطي للحكومة صالحيات واسعة‬
‫يف تنظيم االقتصاد وحامية املواطنني من جشع الرأسامليني‪.‬‬
‫املؤسسة الجامعيّة للدراسات والنرش والتوزيع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬معجم العلوم اإلنسانيّة‪ ،‬جان فرنسوا دورتيه‪،‬‬
‫بريوت ‪ -‬الطبعة األوىل‪ ،2009 ،‬ص‪.939‬‬
‫العولمة‬ ‫‪44‬‬

‫وعىل الرغم من ذلك التح ّول السيايس امله ّم إلّ أن الرأسامليّة‬


‫بقيت عصيّة عىل التغيري‪ ،‬وأغلب الظن أ ّن جذرها الديني الربوتستانتي‬
‫وحاجة اإلنسان للتملّك جعلها كذلك‪ ،‬ويبدو أنّها آخذة بالتجذّر بفضل‬
‫الفلسفة النفعيّة ‪-‬التي لها بعد يف اإلنسانويّة أيضاً‪ -‬وقد حصلت عىل‬
‫دفعة انتعاش أكرب مع تبلور الفلسفة الرباغامتيّة يف عرص ما بعد الحداثة‪.‬‬
‫وبالعودة إىل أصل اإلنسانويّة‪ ،‬فقد تبلور عنه يف جانب التفكري‬
‫الحس والتجريبي‬
‫ّ‬ ‫العلمي‪ :‬الفلسفة الوضع ّية التي تُعطي للعلم‬
‫كل معرفة بغري هذا الطريق‪ ،‬وقد‬
‫أه ّمية بالغة‪ ،‬وتنفي صفة العلم عن ّ‬
‫تط ّورت عىل ضوئها مجموعة من النظريّات العلم ّية التي اتخذت‬
‫فيام بعد منحى فلسفياً كالداروين ّية يف عرص الحداثة‪ ،‬ونظريّة النسب ّية‪،‬‬
‫ومبدأ الالدقّة يف عرص ما بعد الحداثة‪ ،‬وهذه النظريّات الثالث‬
‫(الداروين ّية والنسب ّية والالدقّة) أفضت بالعقل ّية الغرب ّية إىل القطع‬
‫بعدم وجود إله خالق للكون‪ ،‬والتأكيد عىل أ ّن العدم ّية تسترشي يف‬
‫هذا الوجود‪ ،‬وأ ّن نظام الكون يتوقّف عىل مبدأ الصدفة امل ُتكاثرة‪،‬‬
‫فالسمة التي م ّيزت عرص ما بعد الحداثة هو إنكار الحقائق امل ُطلقة‬
‫مبا يف ذلك األخالق اإلنسان ّية‪ ،‬وذلك ما أعطى الفلسفة الوجوديّة‬
‫جرعة نشاط وحيوية كبريين يف عرص ما بعد الحداثة‪.‬‬
‫أ ّما عىل الجانب الفني واألديب‪ ،‬فقد نشأت واستم ّرت الحركة‬
‫الرومانس ّية منذ عرص الحداثة وما بعدها‪ ،‬وكان لها تأثري واسع عىل‬
‫باقي الفلسفات والنظريّات العلم ّية والسياس ّية واالقتصاديّة‪ ،‬وكانت‬
‫كل ما‬
‫يف جوهرها عبارة عن محاوالت وجدان ّية مستم ّرة للثورة عىل ّ‬
‫هو مألوف وقديم يف املجتمع الغريب الحديث‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫مم تق ّدم نجد أ ّن عرص ما بعد الحداثة قد خلصت إليه أربعة‬


‫ّ‬
‫محاور فكريّة هي‪ :‬الدميقراطيّة االشرتاكيّة يف السياسة‪ ،‬والفلسفة‬
‫الوجوديّة يف العقيدة واألخالق‪ ،‬والفلسفة الرباغامتيّة يف االقتصاد‪،‬‬
‫والحركة الرومانسيّة يف الف ّن واألدب‪ ،‬وبالتأمل يف هذه املحاور‬
‫األربعة نجد أ ّن ثالثة منها (الوجوديّة والرباغامتيّة والرومانسيّة)‬
‫تتناغم مع بعضها تناغامً كبريا ً لكونها تحوم حول الفردانيّة واملصلحة‬
‫الذاتيّة‪ ،‬فهذه املحاور الثالثة تفرز إمياناً بالعدميّة وغياب املرجعيّة‬
‫األخالقيّة‪ ،‬وسلوكاً قامئاً عىل أساس املنفعة اآلنيّة‪ ،‬ورغبة يف‬
‫كل ما هو مألوف لصالح التغيري املستم ّر‪ ،‬وأدناه مخطّط‬
‫تحطيم ّ‬
‫ألبرز األصول واملحاور التي تبلورت يف الفكر الغريب التي انتهت‬
‫إىل عرص ما بعد الحداثة‪ ،‬مع التأكيد عىل أ ّن هذه األصول واملحاور‬
‫تتن ّوع ما بني فلسفة ونظريّة علميّة وإيديولوجيا فكريّة‪ ،‬ولكن بينها‬
‫ارتباطات باملضمون ومشرتكات من حيث الجوهر‪:‬‬
‫العولمة‬ ‫‪46‬‬

‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬والدة عرص العولمة‬
‫بالنسبة ملحور الدميقراط ّية االشرتاك ّية فهو الوحيد الذي بدا‬
‫غريباً عن املحاور الثالثة آنفة الذكر؛ أل ّن مبدأ االشرتاك ّية كنظام‬
‫جم من الرغبات الفرديّة لصالح املجموع‪ ،‬إذ يؤكّد عىل‬
‫سيايس يُح ّ‬
‫الخري العام‪ ،‬ويدافع عن األمناط الثقاف ّية ذات البعد االجتامعي‪،‬‬
‫ومع انهيار االقتصاد الغريب فيام يُعرف بالكساد الكبري سنة ‪1929‬‬
‫امت ّد لعرش سنني جعل الدميقراط ّية االشرتاك ّية تنال دفعة وجود‬
‫إضاف ّية‪ ،‬إذ تطلّب تفعيل نظريّة عامل االقتصاد اإلنجليزي جون‬
‫مينارد كينز (‪ )1946-1883‬املعروفة بالنظريّة الكينزيّة يف االقتصاد‬
‫‪ Keynesian economics‬التي تعطي للحكومة سلطة واسعة يف‬
‫التدخّل باألسواق الح ّرة لكبح االستغالل الرأساميل‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬فإ ّن تاريخ والدة العوملة يبدأ مع انهيار محور الدميقراطيّة‬
‫االشرتاكيّة وتطبيق مبدأ سيايس بديل يعتمد عىل النظريّة النيوليرباليّة‬
‫‪ Neoliberalism‬يتناغم مع باقي املحاور الثالثة التي تق ّدم ذكرها‬
‫(الوجوديّة والرباغامتيّة والرومانسيّة)‪ ،‬وبذلك يعود للمحور السيايس‬
‫انسجامه مع باقي مبادئ الفكر الغريب القائم عىل الليرباليّة املطلقة‪.‬‬
‫إ ّن النظريّة النيوليربال ّية ال ت ُعري أه ّمية للمسؤول ّية االجتامع ّية‪،‬‬
‫وهي كام يتّضح من اسمها (الليربال ّية الجديدة) تبدو تحديثاً ُمتط ّرفاً‬
‫لنسخة الليربال ّية الكالسيك ّية التي أطلقها آدم سميث يف نظريّته‬
‫القائلة بعدم تدخّل الدولة يف السوق‪ ،‬والتي ألقت بظاللها عىل‬
‫املشهد السيايس واالقتصادي يف عرص الحداثة‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫النيوليرباليّة تقوم عىل افرتاض جوهري مفاده‪ :‬إ ّن تنازل الدولة‬


‫عن تطبيق السياسة النقديّة والتخطيط االقتصادي مع دعمها الكبري‬
‫للرشكات الرأسامليّة يؤ ّدي إىل تنامي األرباح لدى تلك الرشكات‪،‬‬
‫ما يجعل خريها ينزل عىل باقي قطاعات امل ُجتمع‪ ،‬بحيث «أ ّن‬
‫األرباح األعىل سوف تتساقط إىل األسفل وتحقيق املنفعة ألكرب‬
‫عدد من أفراد املجتمع»[[[‪ ،‬وميكن تلخيص اآلليّة التي يعمل بها‬
‫النظام السيايس النيوليربايل بالنقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪ .1‬خصخصة الخدمات الحكوم ّية العا ّمة ما يؤ ّدي إىل‪ :‬خفض‬
‫النظام الرضيبي الحكومي عىل الرشكات‪ ،‬ما يؤ ّدي إىل‪ :‬توسيع‬
‫حجم االستثامر لدى الرشكات‪ ،‬وذلك يعني مزيداً من فرص العمل‬
‫ونشاط السوق‪.‬‬
‫‪ .2‬خفض شبكة الرعاية الحكوم ّية للمواطنني ما يؤ ّدي إىل‪:‬‬
‫أقل‪ ،‬ما‬
‫حاجة إىل املواطنني إىل البحث عن فرص العمل بأجور ّ‬
‫يؤدي إىل‪ :‬زيادة يف أرباح الرشكات وأنشطتها‪ ،‬وذلك يعني مزيداً‬
‫من فرص العمل ونشاط السوق‪.‬‬
‫‪ .3‬خفض اإلنفاق عىل الخدمات العا ّمة الحكوميّة ما يؤ ّدي‬
‫إىل‪ :‬تضخيم حجم االحتياطي الفيدرايل‪ ،‬ما يؤ ّدي إىل‪ :‬منح فرصة‬
‫للرشكات يف استثامرها أوقات الرخاء‪ ،‬وذلك يعني مزيداً من فرص‬
‫العمل ونشاط السوق‪.‬‬

‫نص أساس‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.266‬‬


‫[[[‪ -‬العوملة ّ‬
‫العولمة‬ ‫‪48‬‬

‫وفيام يأيت مخطّط يوضّ ح آليّة عمل النظريّة النيوليرباليّة‪:‬‬

‫ولكن بنظرة فاحصة لهذا النظام الخطّي ميكن بسهولة أن‬


‫الشق الحتمي فيه يتعلّق فقط بزيادة أرباح الرشكات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نكتشف بأ ّن‬
‫الشق الثاين فهو ليس حتم ّياً؛ وذلك أل ّن زيادة أرباح الرشكات ال‬
‫أ ّما ّ‬
‫يقتيض أن يدفعها إىل توسيع استثامراتها أ ّوالً‪ ،‬وحتّى لو عملت عىل‬
‫ذلك‪ ،‬فليس بالرضورة أن تقوم بذلك داخل بلدها األم‪ ،‬فالنيوليربال ّية‬
‫تق ّر بأ ّن للرشكات الحريّة الكاملة يف نقل استثامراتها حيث تشاء من‬
‫بلدان العامل دون التق ّيد بالحدود الوطن ّية‪ ،‬لذا فاالحتامل وارد جدا ً‬
‫يف أن تبحث الرشكات الرأسامل ّية عن بلدان أخرى تجد فيها فرصاً‬
‫الخاصة‪ ،‬حيث تتوفّر املواد األ ّولية والعاملة‬
‫ّ‬ ‫أفضل لتعظيم أرباحها‬
‫‪49‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫األرخص وقلّة الرضائب‪ ،‬وكمثال عىل ذلك فقد أغلقت رشكة‬


‫جرنال موتورز أكرث من عرشين مصنعاً يف الواليات املتّحدة وكندا‪،‬‬
‫العمل يف‬
‫وأصبحت يف الوقت ذاته صاحبة أكرب رشكات تستقطب ّ‬
‫املكسيك ُمستفيدة من مميّزات املعجزة االقتصاديّة التي خفّضت‬
‫العمل بشكل حا ّد[[[‪ ،‬وبذلك فإ ّن النيوليرباليّة تتيح ألرباب‬
‫ّ‬ ‫أجور‬
‫الرشكات فرصاً كثرية لتحقيق األرباح‪ ،‬يف حني تضيّق عىل املواطنني‬
‫بخاصة أ ّن االحتياطي‬
‫ّ‬ ‫الفرص يف تحقيق حياة كرمية يف أوطانهم‬
‫حل مشكالت الناس‬
‫الخاص بالدولة سوف لن يُستثمر يف ّ‬
‫ّ‬ ‫املايل‬
‫يصب يف صالح الرشكات الرأسامليّة عىل‬ ‫ّ‬ ‫العالقة‪ ،‬وإنّ ا سوف‬
‫شكل منح وقروض من أجل توسيع أنشطتها التجاريّة‪.‬‬
‫هنا بالذات يكمن جوهر األطروحة الجديدة للنيوليربال ّية‪ ،‬والتي‬
‫تف ّرقها عن الليربال ّية الكالسيك ّية‪ ،‬أ ّن الليربال ّية الكالسيك ّية تسعى إىل‬
‫منع تدخّل الدولة يف السوق الح ّر من أجل السامح للمستثمرين‬
‫يف العمل بحريّة‪ ،‬يف حني أ ّن النيوليربال ّية تدفع الدولة إىل التدخّل‬
‫السلبي يف السوق‪ ،‬وذلك من خالل دعم كبار املستثمرين عىل‬
‫حساب املستثمرين الناشئني والقطاع األوسع من الشعب‪ ،‬مبعنى‬
‫أ ّن النيوليربال ّية يف عمقها الحقيقي تق ّوض الدميقراط ّية وتلغي‬
‫املنافسة العادلة للسوق الح ّرة بحسب مبدأ البقاء لألقوى‪.‬‬
‫هذه العمل ّية تساعد بطبيعتها عىل متايز طبقة محدودة جدا ً من‬
‫جار املنتفعني من املال الحكومي عىل تحقيق‬
‫الحكوميني والت ّ‬

‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬نعوم تشومسيك‪ ،‬نهضة مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،2007 ،‬ص‪.235‬‬
‫العولمة‬ ‫‪50‬‬

‫استثامرات وأرباح مهولة مقابل سحق الطبقة العاملة والفقرية‪،‬‬


‫وبخاصة يف الدول النامية‪ ،‬حيث تُرغَم الدولة عىل االنصياع‬
‫ّ‬
‫يغل يد الحكومة‬
‫ملؤسسات عومليّة مثل صندوق النقد الدويل الذي ّ‬
‫ّ‬
‫عن إيجاد فرص لتحقيق الرفاه للمواطن العادي وتقديم الخدمات‬
‫املجانيّة ملحتاجيها‪ ،‬ويف الوقت نفسه يدعم كبار املقاولني لتوسيع‬
‫ثرواتهم‪ ،‬وبذلك تنشأ حالة عجيبة يف البلدان النامية تجمع بعالقة‬
‫عكسيّة بني صعود العمران وهبوط الناس تحت خط الفقر‪.‬‬
‫غري أ ّن سطوة الدولة النيوليربال ّية ال تتوقّف عند االقتصاد بل‬
‫تذهب إىل أبعد منه‪ ،‬فاملسألة هنا تدخّلية أكرث دهاء ومراوغة للدولة‪،‬‬
‫يرى ميشال فوكو أنّها تعمل يف بعض جوانبها غري املرئ ّية عىل إرساء‬
‫زج الثقايف يف السيايس بالكامل‬ ‫«معرفة سلطويّة جديدة» تشمل ّ‬
‫التنفيذي‪ ،‬هكذا فإ ّن الدولة النيوليربال ّية هي «مخاتل ن ّهاب» وفقاً‬
‫لتعبري جيمس غالربيث العامل االقتصادي األمرييك املعروف‪ ،‬فلقد‬
‫ن ُِسجت حسب رأيه عالقات تواطؤ وثيقة بني الحاكمني والنخب‬
‫االقتصاديّة واملال ّية والثقاف ّية الجديدة[[[‪.‬‬
‫بدأت أوىل بوادر النيوليربال ّية يف الواليات املتّحدة األمريك ّية‬
‫يف العام ‪ ،1980‬بعدما أخذت النظريّة االقتصاديّة الكينزيّة تتهاوى‬
‫أمام تبعات التضخّم والركود كام أملحنا سابقاً‪ ،‬إذ إ ّن سياسة الدولة‬
‫يف الحفاظ عىل حقوق العامل كان يخفّض من قدرة املستثمرين‬
‫عىل تنمية رؤوس أموالهم‪ ،‬ما يعني تخفيضاً يف اإلنتاج وترسيحاً‬

‫[[[‪ -‬مرة أخرى‪ ..‬بني الليرباليّة والنيوليرباليّة‪ ،‬أحمد فرحات‪ ،‬العريب الجديد‬
‫‪/ https://www.alaraby.co.uk -‬مرة‪-‬أخرى‪-‬بني‪-‬الليرباليّة‪-‬والنيوليرباليّة‬
‫‪51‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫للعامل‪ ،‬وبالتايل ارتفاعاً يف مستوى البطالة‪ ،‬وقد بلغت هذه‬


‫التبعات ذروتها يف منتصف السبعينيّات‪ ،‬وكان ال ب ّد من التفكري يف‬
‫مخرج لهذه األزمة االقتصاديّة‪ ،‬ومع مجيء الرئيس رونالد ريغان‬
‫(‪ )2004-1911‬إىل س ّدة الحكم‪ ،‬ت ّم ش ّن حملة عىل االقتصاد‬
‫الكينزي وتحرير سلطة الرشكات للقضاء عىل ظاهرة التضخّم‬
‫والركود يف البالد فيام عرف تاليا باسم صدمة فولكر[[[‪ ،‬إذ ج ّردت‬
‫قطاعات واسعة من السلطة الحكوميّة ابتداء من الخطوط الجويّة‬
‫واالتصاالت مع مهاجمة النقابات العامليّة وأصحاب املهن‪ ،‬إىل‬
‫جانب تخفيض الرضائب عىل الرشكات كثريا ً من ‪ %70‬إىل ‪.[[[%28‬‬
‫حتّى ذلك الحني كانت النيوليربال ّية تبدو وكأنّها شأن أمرييك‬
‫داخيل‪ ،‬وأ ّن بوادر نقلها إىل العامل ّية هو الحركة التالية التي قامت‬
‫بها بنوك االستثامر يف نيويورك‪ ،‬التي جرت بني أيديها أموال ضخمة‬
‫من أموال البرتودوالر عقب انتهاء أزمة املقاطعة الخليجية ألمريكا‬
‫يف العام ‪ ،1973‬إذ بحثت هذه البنوك عن منافذ تستثمر فيها هذه‬
‫األموال لتد ّر عليها األرباح‪ ،‬ومل ّا مل تكن الخيارات ج ّيدة داخل‬
‫الواليات املتّحدة بالنظر القتصادها الذي ال يزال يعاين من الركود‬
‫آنذاك‪ ،‬وجدت فرصتها يف الخارج عند حكومات الدول النامية‬
‫التي كانت ُمتعطّشة للقروض‪ ،‬ولك ّن ذلك كان يعني أيضاً مواجهة‬
‫خطر أن تتخلّف تلك الحكومات عن سداد ديونها مع سعر الفائدة‪،‬‬

‫[[[‪ -‬نسبة إىل اسم مدير البنك االحتياطي الفيدرايل يف أمريكا آنذاكبول فولكر (‪.)2019 -1927‬‬
‫[[[‪ -‬الوجيز يف تاريخ النيوليرباليّة‪ ،‬ديفيد هاريف‪ ،‬منشورات الهيئة العا ّمة السوريّة للكتاب‪ ،‬دمشق‪-‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،2013 ،‬ص‪.40‬‬
‫العولمة‬ ‫‪52‬‬

‫لحل هذه املشكلة من خالل إعادة‬


‫فوضعت حكومة ريغان طريقة ّ‬
‫جدولة سداد دين الحكومات األجنبيّة برشط أن تف ّعل ذلك مقابل‬
‫إصالحات نيوليرباليّة‪ ،‬وأصبحت هذه الطريقة هي القاعدة املتّبعة‪،‬‬
‫لكل‬
‫والتي ُوصفت بأنّها عمليّة تطهري من قبل صندوق النقد الدويل ّ‬
‫أثر ملبادئ االقتصاد الكينزي يف عام ‪ ،1982‬فصار مطلوباً من‬
‫الدول امل َدينة أن تخفّض نفقاتها عىل الخدمات االجتامعيّة‪ ،‬وتس ّن‬
‫قوانني أكرث مرونة لسوق العاملة والخصخصة مقابل إعادة جدولة‬
‫ديونها‪ ،‬وبذلك أصبح صندوق النقد الدويل والبنك الدويل مركزين‬
‫رئيسني لنرش وتطبيق مبادئ النيوليرباليّة عامليّاً[[[‪.‬‬
‫وليس غريباً أن يكون هذا الفتح عىل يدي الرئيس ريغان مرشّ ح‬
‫الحزب الجمهوري املحافظ‪ ،‬فمن املعروف أ ّن هذا الحزب‬
‫يستقطب الت ّيار املسيحي الربوتستانتي‪ ،‬ما يعني أنّه األقدر عىل‬
‫مترير املرشوع النيوليربايل يف أمريكا بدعم من جامهري تؤيّده عىل‬
‫أساس ديني‪ ،‬إذ يسهل توجيه اإلشكال ّيات التي يعاين منها املجتمع‬
‫نحو مصادر ثقاف ّية‪ ،‬وليس نحو مصادر اقتصاديّة‪ ،‬فكأ ّن األمر يدار‬
‫كل طرف ما يصبو إليه‬
‫باتفاق بني الرأسامليني واملحافظني ليحقّق ّ‬
‫من أهداف اقتصاديّة وسياس ّية[[[‪.‬‬
‫وخالصة ملا تق ّدم‪ ،‬فإ ّن عرص العوملة انطلق بانتعاشة جديدة‬

‫[[[‪ -‬الوجيز يف تاريخ النيوليرباليّة‪ ،‬ديفيد هاريف‪ ،‬م‪.‬س‪ ،‬ص‪.45-42‬‬


‫[[[‪ -‬من طرائف األمور أن تدور الدوائر ويتح ّول الدميقراطيّون يف الواليات املتّحدة إىل‬
‫املدافعني األبرز عن العوملة والنيوليرباليّة‪ ،‬يف حني عاد املحافظون إىل التخندق مبقوالت‬
‫القوميّة والحامئيّة والح ّد من االنفتاح التجاري‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫لليرباليّة‪ ،‬وكان من أه ّم سامت هذه االنتعاشة تحرير جشع الرشكات‬


‫الرأسامليّة‪ ،‬وإعطاؤها دعامً ال محدودا ً ليك تقود املشهد عىل‬
‫نطاق عاملي باستغالل املبادئ التي ورثها عرص العوملة من عرص‬
‫بكل ما تحمله من سيولة يف العقائد واألخالق‪،‬‬
‫ما بعد الحداثة ّ‬
‫وانعدام يف الرؤية الشاملة لصالح الرؤية الضيّقة‪ ،‬وتراجع االهتامم‬
‫بالشؤون االجتامعيّة لصالح االهتامم بالفردانيّة األنانيّة‪ ،‬وإهامل‬
‫القيم املعنويّة لصالح القيم االستهالكيّة‪.‬‬
‫هذه املبادئ الفكريّة التي ورثها عرص العوملة من عرص ما بعد‬
‫الحداثة تجلّت كثريا ً يف العقود األخرية التي نعيشها‪ ،‬فأكرث البرش‬
‫باتوا يستبدلون هويّاتهم الثقاف ّية امل ُتجذّرة بهويّات يصطنعونها‬
‫بأنفسهم وفقاً ملبادئ ليربال ّية مطلقة‪ ،‬حتّى وصلت النوبة إىل إعادة‬
‫تعريف الجنس وفقاً عىل التو ّ‬
‫جه الجندري‪ ،‬أو إعادة تعريف األرسة‬
‫عىل أنّها أكرث من زواج بني رجل وامرأة‪ ،‬أو بناء عقائد توليف ّية‬
‫غريبة تجمع بني االستهالك ّية الغرب ّية والروح ّية الرشق ّية‪ ،‬مع السعي‬
‫املستمر إىل تغيري األمناط ما أتاحت الفرصة إىل ذلك من سبيل‪.‬‬
‫ً‬
‫ابعا‪ّ :‬‬
‫عرابو العولمة‬ ‫ر‬
‫من الواضح أنّه ال ميكن ع ّد العوملة وليدة أفكار مح ّددة‬
‫لشخصيّات معيّنة؛ ألنّها‪ ،‬كام أوضحنا سلفاً‪ ،‬جاءت عرب تراكم‬
‫تراث فكري واسع تبلور يف املجتمع الغريب خالل عصور مديدة‪،‬‬
‫حصة من تحقّق‬
‫لكل فيلسوف و ُمنظّر يف تلك الحقب ّ‬
‫بحيث يكون ّ‬
‫العوملة ووصولها إىل ما هي عليه اآلن‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪54‬‬

‫ولك ْن عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ميكن املرور ببعض النامذج من‬


‫امل ُنظّرين الذين ارتبط اسمهم ارتباطا عضويّاً بالعوملة‪ ،‬نظرا ً لقربهم‬
‫من عرصها ودورهم الواضح يف الدفع نحو تطبيق مفاهيمها عىل‬
‫الساحة الدوليّة‪ ،‬وذلك من خالل نظريّاتهم التي كانت تجمع أه ّم‬
‫املبادئ السياسيّة واالقتصاديّة والثقافيّة التي متتاز بها العوملة اليوم‪،‬‬
‫وتدفع يف النهاية نحو إعطاء االقتصاد الرأساميل الليربايل دفعة‬
‫إنعاش كونيّة‪ ،‬بحيث مل يعد واضحاً إمكانيّة وضع بدائل عن هذا‬
‫االقتصاد عىل املدى املنظور‪ ،‬ولذلك آثرنا يف هذه الفقرة ذكر ثالث‬
‫شخصيّات فقط من أبرز املفكّرين الذين يع ّدون مناذج مثاليّة لع ّرايب‬
‫العوملة وهم‪ :‬فريدريك هايك وميلتون فريدمان وجورج سوروس‪.‬‬
‫أ‪ .‬فريدريك هايك ‪Friedrich Hayek‬‬
‫عامل اقتصاد منساوي األصل‪ ،‬ولد عام ‪ 1899‬منحدرا ً من‬
‫أرسة علم ّية ميسورة الحال‪ ،‬والده كان يعمل أستاذا ً جامع ّياً أث ّر عىل‬
‫حب التعلّم واالستطالع‪ ،‬انض ّم يف عام ‪1917‬‬
‫جهاته‪ ،‬فكان لديه ّ‬
‫تو ّ‬
‫إىل فوج سالح املدفع ّية بالجيش النمساوي املجري‪ ،‬وقاتل عىل‬
‫الجبهة اإليطال ّية‪ ،‬وعاىن من أرضار الحرب العامل ّية األوىل‪ ،‬ومثل‬
‫العديد من طالب االقتصاد يف وقته اختار هايك دراسة االقتصاد‬
‫ليس ملصلحته الشخص ّية‪ ،‬وإنّ ا لتحسني الظروف االجتامع ّية‪ ،‬إذ‬
‫كان فقر فيينا بعد الحرب العامل ّية األوىل مبثابة تذكري يومي مبثل‬
‫هذه الحاجة‪ ،‬ويبدو أ ّن االشرتاك ّية مل تق ّدم حالً لذلك[[[‪.‬‬

‫‪[1]- Friedrich A. Hayek, Mises Institute - https://mises.org/profile/friedrich-hayek‬‬


‫‪55‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫درس االقتصاد يف جامعة فيينا‪ ،‬وحصل منها عىل درجة‬


‫الدكتوراه يف القانون عام ‪ 1921‬ويف العلوم السياسيّة عام‬
‫‪ ،1923‬أصبح هايك مديرا ً للمعهد النمساوي الجديد ألبحاث‬
‫دورة األعامل‪ ،‬ويف أوائل ثالثينيّات القرن العرشين انتقل إىل‬
‫كليّة لندن لالقتصاد‪ ،‬فمكث فيها مثانية عرش عاماً ليحصل عىل‬
‫الجنسيّة الربيطانيّة عام ‪.[[[ 1938‬‬
‫يُع ّد هايك من أشهر تالميذ الفيلسوف النمساوي الشهري‬
‫لودفيج ميزس (‪ )1973-1881‬املعروف بتأثريه الكبري عىل‬
‫الحركة الليربتاريّة الحديثة‪ ،‬والليربتاريّة هي مذهب فلسفي سيايس‬
‫كل قيود مفروضة عليها من‬
‫يدعو إىل إطالق الحريّة الفرديّة من ّ‬
‫قبل الدولة أو املجتمع كالعادات والتقاليد وتقليص حجمها قدر‬
‫املستطاع‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1944‬أصدر هايك أحد أكرث كتبه تأثريا ً (الطريق إىل‬
‫جته‬
‫العبوديّة) حذّر فيه الربيطان ّيني من أتباع االشرتاك ّية‪ ،‬وكانت ح ّ‬
‫األساس ّية يف ذلك هي أ ّن سيطرة الحكومة عىل الحياة االقتصاديّة‬
‫ترقى إىل مستوى الشمول ّية‪ ،‬وكتب قائالً‪« :‬الضبط االقتصادي ليس‬
‫مج ّرد سيطرة عىل أحد قطاعات الحياة البرشيّة مبعزل عن غريه من‬
‫القطاعات األخرى‪ ،‬بل هو التحكّم يف الوسائل التي تحقّق غاياتنا‬
‫جميعاً»‪ ،‬ومن املثري للدهشة أ ّن العامل االقتصادي كينز صاحب‬
‫النظريّة الكينزيّة قد أشاد بالكتاب قائالً‪« :‬يف رأيي إنّه كتاب كبري‪...‬‬

‫‪[1]- Friedrich August Hayek, David R. Henderson, econlib/ https://www.econlib.‬‬


‫‪org/library/Enc/bios/Hayek.html‬‬
‫العولمة‬ ‫‪56‬‬

‫من الناحية األخالق ّية والفلسف ّية أجد نفيس متّفقاً مع األمر بر ّمته‬
‫تقريباً‪ ،‬ليس متّفقاً حسب‪ ،‬بل ُمتّفقاً بش ّدة»[[[‪.‬‬
‫تُع ّد كتابات هايك حول رأس املال واملال ودورة األعامل‬
‫أه ّم مساهامته يف االقتصاد‪ ،‬وبنا ًء عىل نظريّة أستاذه ميزس للامل‬
‫واالئتامن‪ ،‬أظهر هايك كيف ترتبط التقلّبات يف اإلنتاج والتوظيف‬
‫عىل مستوى االقتصاد بهيكل رأس مال االقتصاد‪ ،‬ويف كتابه (األسعار‬
‫واإلنتاج) الصادر عام ‪ 1931‬ق ّدم نظريّة (املثلّثات الهايك ّية) لتوضيح‬
‫العالقة بني قيمة السلع الرأسامل ّية ومكانها يف التسلسل الزمني‬
‫لإلنتاج‪ ،‬ويف كتابه (النظريّة النقديّة ودورة التجارة) الصادر عام ‪1933‬‬
‫أظهر هايك كيف أ ّن الحقن النقدي عن طريق خفض مع ّدل الفائدة‬
‫إىل ما دون مع ّدله الطبيعي يش ّوه هيكل اإلنتاج بني فرتات زمن ّية[[[‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1950‬أصبح أستاذا ً يف لجنة الفكر االجتامعي بجامعة‬
‫مؤسسة خارجيّة‬
‫شيكاغو‪ ،‬ومل يكن متويله من الجامعة وإنّ ا من ّ‬
‫هي صندوق وليام فولكر‪ ،‬وهناك أث ّر عىل مجموعة من االقتصاديني‪،‬‬
‫كل من فرانك نايت وفريدمان‬
‫منهم ميلتون فريدمان‪ ،‬وعمل مع ّ‬
‫وجورج ستيجلر عىل تأسيس منتدى دويل للّيرباليني الجدد‪ ،‬والذي‬
‫أُعيد تسميته فيام بعد باسم معهد الدراسات بني الكليّات‪ ،‬وهو‬
‫منظّمة طالبية أمريكيّة مك ّرسة لألفكار التح ّررية[[[‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1974‬حصل هايك عىل جائزة نوبل التذكاريّة يف‬

‫‪[1]- Friedrich August Hayek, David R. Henderson.‬‬


‫‪[2]- Friedrich A. Hayek, Mises Institute.‬‬
‫‪[3]- Friedrich Hayek, Wikipedia‬‬
‫‪57‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫العلوم االقتصاديّة مع جونار مريدال لبحوثيهام يف التقلّبات‬


‫واملؤسساتيّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫االقتصاديّة وترابط الظواهر االقتصاديّة واالجتامعيّة‬
‫ويف عام ‪ 1984‬ت ّم تكرميه بوسام الرشف ملساهامته األكادمييّة‬
‫يف االقتصاد‪ ،‬كام حصل عىل جائزة هانس مارتن شالير يف العام‬
‫ذاته‪ ،‬ونال وسام الحريّة الرئايس من الرئيس جورج بوش األب عام‬
‫‪ ،1991‬ويف العام ‪ 2011‬ت ّم اختيار مقالته املوسومة (استخدام‬
‫املعرفة يف املجتمع) كواحدة من أفضل ‪ 20‬مقالة نُرشت يف‬
‫املجلّة االقتصاديّة األمريكيّة خالل املئة عام األوىل من نرشها[[[‪.‬‬
‫كان لفريدريك هايك أثر كبري عىل حزب املحافظني الربيطاين‪،‬‬
‫قصة عن اجتامع للحزب كانت تتز ّعمه مارغريت‬
‫ويروى يف هذا الصدد ّ‬
‫تاترش عقب تولّيها رئاسة الوزراء‪ ،‬فعندما بدأ أحد األعضاء برشح‬
‫املبادئ األساس ّية التي يقوم عليها حزب املحافظني‪ ،‬فتحت تاترش‬
‫حقيبتها وأخرجت كتابا رثّاً‪ ،‬وصفقته عىل الطاولة‪ ،‬وقالت‪« :‬هذا ما نؤمن‬
‫به»‪ ،‬كان الكتاب هو (دستور الحريّة) لهايك الذي نرشه عام ‪،1960‬‬
‫وبدأ فيه برتويج أضيق ملفهوم الحريّة‪ :‬وهو غياب اإلكراه وقبول مفاهيم‬
‫الحريّة السياس ّية والحقوق العامل ّية واملساواة بني البرش وتوزيع الرثوة‪،‬‬
‫كام رأى أصحاب الرثوات الكبرية يف هذا الكتاب فرصة للدفاع عن‬
‫ومؤسسات لنرش‬
‫ّ‬ ‫أنفسهم ض ّد الدميقراط ّية‪ ،‬لذا شكّلواجامعات ضغط‬
‫فكر فريدريك هايك والرسديّة الجديدة النيوليربال ّية[[[‪.‬‬

‫‪[1]- Friedrich Hayek,‬‬


‫[[[‪ -‬النيوليرباليّة والسيطرة عىل العوملة بسالح فايروس كورونا املستجدّ‪ K‬د‪ .‬حذيفة املشاقبة‪،‬‬
‫وكالة عمون اإلخبارية‪https://www.ammonnews.net/article/533521 - 2020/4/28 ،‬‬
‫العولمة‬ ‫‪58‬‬

‫وبحسب الربوفسور كوين سلوبوديان من جامعة هارفارد‪ :‬إ ّن‬


‫فريدريك هايك ورفاقه من النيوليرباليني أرادوا «ليس فقط مقاومة‬
‫الفاشيّة والشيوعيّة‪ ،‬بل أيضاً قمع ق ّوة الجمهور الدميقراطي»‪ ،‬وقد‬
‫زار هايك ديكتاتور تشييل الجرنال بينوشيه‪ ،‬وقال‪« :‬ديكتاتور ليربايل‬
‫أفضل من حكومة دميقراطيّة تنقصها الليرباليّة»[[[‪.‬‬
‫ب‪ .‬ميلتون فريدمان ‪Milton Friedman‬‬
‫وترب وسط‬
‫ّ‬ ‫عامل اقتصاد أمرييك‪ ،‬ولد يف نيويورك سنة ‪،1912‬‬
‫أرسة يهوديّة مهاجرة متواضعة الحال‪ ،‬حصل عىل منحة دراس ّية يف‬
‫جامعة روتجرز‪ ،‬ودرس الرياض ّيات واالقتصاد‪ ،‬وحصل عىل درجة‬
‫البكالوريوس عام ‪ ،1932‬ث ّم حصل عىل املاجستري من جامعة‬
‫شيكاغو عام ‪ ،1933‬وحصل عىل الدكتوراه من جامعة كولومبيا يف‬
‫عام ‪ ،1946‬ويف عام ‪ 1951‬حصل عىل وسام بيتس كالرك‪ ،‬الذي‬
‫يُك ّرم االقتصاديني تحت س ّن األربعني تقديرا ً إلنجازاتهم املتم ّيزة‪،‬‬
‫ع ِمل مستشارا ً للرئيس ريتشارد نيكسون‪ ،‬وكان آنذاك رئيساً للجمع ّية‬
‫االقتصاديّة األمريك ّية يف عام ‪ ،1967‬تقاعد من جامعة شيكاغو عام‬
‫‪ ،1977‬لك ّنه واصل نشاطه العميل مبعهد هوفر بجامعة ستانفورد‬
‫كزميل باحث[[[‪.‬‬
‫واصل نشاطه يف السياسة العا ّمة منذ عام ‪ ،1977‬وكتب مقاالت‬

‫[[[‪ -‬لعب «البايسبول الدستوري» يف العامل الدميقراطي‪ -‬رفيق خوري ‪ -‬عرب ّية ‪–Independent‬‬
‫‪/https://www.independentarabia.com/node/55861- 2019/9/14‬‬
‫آراء‪/‬لعب‪-‬البايسبول‪-‬الدستوري‪-‬يف‪-‬العامل‪-‬الدميقراطي‪.‬‬
‫‪[2]- Milton Friedman 19122006-/ Econlib/ https://www.econlib.org/library/Enc/‬‬
‫‪bios/Friedman.html‬‬
‫‪59‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫مستم ّرة ملجل ّة نيوزويك‪ ،‬كام نرشت له الصحف الكربى العديد من‬
‫مقاالت الرأي‪ ،‬وعمل كمستشار غري رسمي لرونالد ريغان خالل‬
‫ترشيحه للرئاسة عام ‪ ،1980‬وكعضو يف املجلس االستشاري‬
‫للسياسة االقتصاديّة للرئيس خالل م ّدة رئاسته‪ ،‬ويف عام ‪1988‬‬
‫منحه الرئيس ريغان وسام الحريّة الرئايس‪ ،‬ويف العام نفسه حصل‬
‫عىل امليداليّة الوطنيّة للعلوم‪ ،‬ويف عام ‪ 1976‬حصل عىل جائزة‬
‫نوبل يف االقتصاد إلنجازاته يف مجال تحليل االستهالك والتاريخ‬
‫النقدي‪.‬‬
‫كان ميلتون يسافر خارج أمريكا عىل نطاق واسع منذ عام‬
‫‪ ،1977‬وأه ّم رحالته كانت إىل الصني ثالث م ّرات‪ :‬األوىل يف عام‬
‫‪ 1980‬ألقى فيها سلسلة من املحارضات برعاية الحكومة الصين ّية‪،‬‬
‫والثانية يف عام ‪ 1988‬لحضور مؤمتر يف شنغهاي حول التنمية‬
‫االقتصاديّة الصين ّية‪ ،‬وخاللها عقد جلسة مه ّمة مع الرئيس الصيني‬
‫دينغ تشاوبينغ‪ ،‬أ ّما الرحلة الثالثة فقد كانت عام ‪ 1993‬جال خاللها‬
‫يف جميع أنحاء الصني‪ ،‬واطلّع عىل املرحلة األوىل من تح ّول‬
‫االقتصاد الصيني املركزي إىل اقتصاد السوق الح ّر[[[‪.‬‬
‫تأث ّر فريدمان باملدرسة الليربال ّية يف االقتصاد‪ ،‬ويُع ّد أحد أه ّم‬
‫منظّري (النظريّة النقديّة) ومن أبرز األكادمييني املنتمني ملدرسة‬
‫شيكاغو‪ ،‬أمىض حياته ُمدافعاً عن املذهب الليربايل واألسواق‬
‫الح ّرة و ُمر ّوجاً لألفكار الليربال ّية عرب العامل من خالل محارضاته‬

‫‪[1]- Milton Friedman Biographical / The Nobelprize / https://www.nobelprize.org/‬‬


‫‪prizes/economic-sciences/1976/friedman/biographical/‬‬
‫العولمة‬ ‫‪60‬‬

‫وبرنامجه التلفزيوين (حريّة االختيار) الذي أُذيع يف بلدان ع ّدة‪،‬‬


‫وقد سطّر مالمح نظريّته النقديّة يف كتاب (التاريخ النقدي للواليات‬
‫املتّحدة) الذي ألَّفه مع الباحثة أَنَّا شوارتز‪ ،‬وط ّورها يف كتابات‬
‫الحقة مثل (النقود‪ :‬النظريّة الكميّة) و(الثورة املضا ّدة يف النظريّة‬
‫النقديّة)‪ ،‬وأكّد أ ّن السياسة النقديّة التي تقوم بها الحكومة بتحفيز‬
‫االقتصاد من خالل رفع حجم الكتلة النقديّة هي سياسة غري ف ّعالة‬
‫وتؤ ّدي فقط إىل التضخّم‪ ،‬وكتب قائالً‪« :‬التضخّم هو دامئاً وأينام‬
‫ُوجد ظاهرة نقديّة‪ ،‬بالنظر إىل أنّه ينتُج عن زيادة يف ك ّمية النقود‬
‫تفوق زيادة اإلنتاج‪ ،‬وأنّه ال ميكن أن يكون نتيجة لغري ذلك»[[[‪.‬‬
‫اقرتح فريدمان تبعاً لهذا التحليل خفض الكتلة النقديّة ورفع‬
‫تض باالقتصاد‬
‫أسعار الفائدة للتخلّص من التضخّم الذي ع ّده آفة ُ ّ‬
‫عىل املدى البعيد‪ ،‬كام ق َّدم تفسريا ً لظاهرة (الركود التضخّمي)‬
‫الذي يعني حصول منو بطيء مصحوب بتضخّم قوي‪ ،‬والذي‬
‫تع ّرضت إليه االقتصادات الغرب ّية يف السبعين ّيات بعد أزمتي النفط‬
‫يف ‪ 1973‬و‪ ،1979‬وأوضح أنّه ال يكفي تخفيض أسعار الفائدة‬
‫إلنعاش االستثامر والنمو[[[‪.‬‬
‫حمل فريدمان لواء النظريّة النيوليربال ّية التي نظّر لها الفيلسوف‬
‫لوفيغ ميزس وتلميذه فريدريك هايك‪ ،‬وبذلك ميكن ع ّده أشهر من‬
‫أعطى لنظام العوملة مالمحه النهائ ّية‪ ،‬إذ سعى إىل تدمري آخر معاقل‬

‫[[[‪ -‬ميلتون فريدمان‪ ،‬الجزيرة‪/2015-5-31 ،‬‬


‫‪/31/5/‬ميلتون‪-‬فريدمان‪https://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2015‬‬
‫[[[ ‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫جع عىل تعويم العملة وتحديد‬ ‫االقتصاد الكينزي‪ ،‬كام كان يش ّ‬


‫أسعارها بكامل الحريّة وفقاً ألسواق الرصف بعيدا ً عن اتفاقات‬
‫الدول للحيلولة دون لجوء الحكومات إىل سياسات خفض سعر‬
‫العملة بغرض تعزيز تنافسيّة رشكات بلدانها‪ ،‬كام دعا إىل ّ‬
‫فك البنوك‬
‫خ العملة‬ ‫املركزيّة عن سلطة الحكومات كيال يت ّم استغاللها لض ّ‬
‫ألغراض انتخاب ّية‪ ،‬وكان يؤكّد بأ ّن األسواق قادرة عىل تعديل أزماتها‬
‫بنفسها من دون حاجة إىل تدخّل الحكومات‪ ،‬وهي الفكرة القدمية‬
‫آلدم سميث فيام يس ّمى باليد الخفيّة للسوق‪.‬‬
‫مل تكن أفكار فريدمان مه ّمة لدى صناّع القرار السيايس يف‬
‫إل أ ّن أزمات التضخّم التي راحت تعصف باقتصاديّات‬ ‫بادئ األمر‪ّ ،‬‬
‫الدول الرأسامليّة يف السبعينيّات أ ّدت إىل إحياء أفكاره‪ ،‬ولهذا‬
‫كان فريدمان يرى بأ ّن األزمات متثّل فرصاً ذهب ّية إلحداث تغيريات‬
‫رصح قائالً‪« :‬وحدها‬ ‫اقتصاديّة جذريّة التي يجب أن يستغلّها‪ ،‬ف ّ‬
‫األزمة ‪-‬الواقعة أو املنظورة‪ -‬هي التي ت ُحدث تغيريا ً فعل ّياً‪ ،‬فعند‬
‫حدوث تلك األزمة تكون التدابري امل ُتخذة منوطة باألفكار‬
‫امل ُحيطة‪ ،‬تلك هي وظيفتنا األساسيّة عىل ما أعتقد‪ :‬نط ّور البدائل‬
‫للسياسات املوجودة‪ ،‬وأن نُبقي تلك البدائل قامئة ومتوفّرة حتّى‬
‫يصبح امل ُستحيل سياس ّياً حتم ّية سياس ّية»[[[‪ ،‬وقد ت ّم بالفعل ات ّباع‬
‫هذه السياسة يف العديد من البلدان الحقاً‪ ،‬وذلك ما دفع نعومي‬
‫كالين[[[ إىل تشبيه فريدمان بالطبيب النفيس إيوان كامريون الذي‬

‫[[[‪ -‬عقيدة الصدمة‪ ..‬صعود رأسامليّة الكوارث‪ ،‬ناعومي كالين‪ ،‬رشكة املطبوعات للنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ -‬الطبعة الثالثة‪ ،2011 ،‬ص‪.204‬‬
‫[[[‪ -‬نعومي كالين ‪ :Naomi Klein‬صحفيّة سياسيّة وكاتبة ومؤلّفة أفالم تسجيليّة كنديّة‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪62‬‬

‫كان يعمل عىل محو ذاكرة مرضاه وإعادة بناء شخصيّاتهم باستخدام‬
‫الصدمات[[[‪.‬‬
‫كل من‬
‫إ ّن وصول مارغريت تاترش ورونالد ريغان إىل الرئاسة يف ّ‬
‫اململكة املتّحدة والواليات املتّحدة خالل عامي ‪ 1979‬و‪1980‬‬
‫ساعد إىل ح ّد كبري يف تطبيق نظريّة فريدمان االقتصاديّة ونرشها‬
‫عىل نطاق عاملي‪ ،‬أضف إىل ذلك فقد سعى الرئيس الصيني دينغ‬
‫تشاوبينغ يف عام ‪ 1978‬إىل تطبيق مبادئ فريدمان لتمكني الصني‬
‫من االلتحاق بالنهضة االقتصاديّة للنمور اآلسيويّة‪.‬‬
‫توف ميلتون فريدمان يف عام ‪ 2006‬تاركاً‬ ‫ّ‬ ‫بسبب أزمة قلب ّية‬
‫معارضني كُرثا ً آلرائه االقتصاديّة التي انترشت انتشار الهشيم يف‬
‫رشق األرض وغربها‪ ،‬ليس بسبب توافرها عىل عوامل النجاح بقدر‬
‫تلقّيها الدعم من قبل القوى الرأسامليّة ال َنهِمة الساعية نحو مراكمة‬
‫كل عقال‪.‬‬‫األرباح باالنفالت من ّ‬
‫ت‪ .‬جورج سوروس ‪George Soros‬‬
‫يشتهر امللياردير األمرييك جورج سوروس بأوصاف ُمتناقضة‪،‬‬
‫فمن جانب يُوصف بكونه أكرب ُمحسن يف مجال األعامل الخرييّة‬
‫يف العامل‪ ،‬وباملقابل يُوصف بأنّه راعي االضطرابات االجتامع ّية يف‬
‫حد‪،‬‬ ‫العامل‪ ،‬إذ يسعى بشكل جا ّد إىل خلق مجتمع ليربايل عاملي مو ّ‬
‫ما يجعله ُمستح ّقاً عن جدارة للقب (جيفارا العوملة)‪.‬‬

‫[[[‪ -‬جذبت أبحاث الدكتور كامريون اهتامم املخابرات األمريكيّة ‪ CIA‬يف الخمسينيّات‪ ،‬فطلبت‬
‫منه إجراء تجارب حول وسائل السيطرة عىل الدماغ النتزاع االعرتافات من السجناء‪ ،‬وت ّم تطبيق‬
‫رسي يحمل اسم (إم يك ألرتا ‪.)Project MKUltra‬‬ ‫التجارب ضمن برنامج ّ‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫ُولد عام ‪ 1930‬يف بودابست عاصمة املجر ُمنحدرا ً من أرسة‬


‫يهوديّة وسطى نجت من القمع النازي لليهود بفضل تغيري هويّتها إىل‬
‫املسيح ّية‪ ،‬هاجر إىل بريطانيا بعد سنتني من نهاية الحرب العامل ّية‬
‫الثانية‪ ،‬وواصل دراسته هناك ليحصل عىل شهادة البكالوريوس يف‬
‫االقتصاد‪ ،‬وشهادة املاجستري يف السياسة واالقتصاد ث ّم الدكتوراه‬
‫يف الفلسفة من جامعة لندن‪.‬‬
‫عمل يف البنوك التجاريّة الربيطانيّة‪ ،‬ث ّم هاجر للواليات املتّحدة‬
‫عام ‪ ،1956‬وهناك متكّن من جمع ثروة تنامت بشكل صاروخي‬
‫لتبلغ يف عام ‪ 2011‬قرابة ‪ 25‬مليار دوالر‪ ،‬وقد اشتهر بلقب (الرجل‬
‫الذي حطّم بنك إنكلرتا)‪ ،‬إذ كانت لديه توقّعات دقيقة بقرب انهيار‬
‫العملة الربيطانيّة يف عام ‪ ،1992‬فقام بعمليّة مضاربة مرصفيّة متثّلت‬
‫ببيعه ما يعادل ‪ 10‬مليارات دوالر من ثروته بالجنيه اإلسرتليني‪ ،‬ومع‬
‫حصول ما توقّعه من انهيار للجنيه اإلسرتليني فيام يعرف باألربعاء‬
‫األسود‪ ،‬حقّق سوروس ربحاً صافياً قدره مليار دوالر يف يوم واحد‪،‬‬
‫وت ُعزى دقّة تنبؤاته بفضل نظريّته االنعكاسيّة يف االقتصاد[[[‪.‬‬
‫تأث ّر سوروس كثريا ً بأستاذه الفيلسوف الشهري كارل بوبر‬

‫[[[‪ -‬ملخص هذه النظريّة هو أ ّن املستثمر الذي يسعى إىل جني األرباح من لعبة البورصة عليه‬
‫أن يكون متفائالً بأداء السوق وإلّ لن يستثمر فيه‪ ،‬هذا التفاؤل لدى املستثمر وأمواله امل ُستث َمرة‬
‫تنعكس إيجابيّاً من خالل املساهمة بارتفاع القيمة يف السوق‪ ،‬ث ّم يؤدّي ذلك إىل تعزيز التفاؤل‬
‫ويرسخ الرؤية اإليجابيّة له‪ ،‬ما يجعل املستثمر يتجاهل األسس االقتصاديّة التي يفرتض‬ ‫يف السوق ّ‬
‫أن تحقّق التوازن وتحدّد القيمة الفعليّة للسوق‪ ،‬ويجعله يقول (السوق بألف خري!)‪ ،‬مبا أ ّن هذا‬
‫الخطاب اإليجايب يطغى عىل املستثمرين تبقى السوق بخري رغم انعدام التوازن بني القيمة‬
‫الواقعيّة لها ووهم القيمة الذي تعكسه املداوالت‪ ،‬إىل أن تنفجر الفقاعة وتحصل أزمة انكفاء‬
‫وكساد وتصحيح لقيمة السوق (ينظر‪ :‬فلسفة تاجر ثورات‪ ،‬جامل غصن‪ ،‬جريدة األخبار‪-1-14 ،‬‬
‫‪.) https://al-akhbar.com/Politics/327902 /2022‬‬
‫العولمة‬ ‫‪64‬‬

‫(‪ )1994-1902‬صاحب كتاب (املجتمع املفتوح وأعداؤه) الذي‬


‫لكل من أفالطون‬ ‫انتقد فيه األفكار امل ُتعلّقة بالحتم ّية التاريخ ّية ّ‬
‫وهيغل وماركس‪ ،‬كام يُع ّد بوبر من أش ّد أنصار الليربال ّية‪ ،‬وعدوا ً‬
‫لدودا ً للمبادئ االشرتاكيّة‪ ،‬إذ يُنقل عنه يف هذا الصدد قوله‪« :‬الحريّة‬
‫أه ّم من املساواة‪ ،‬وأ ّن محاولة تحقيق املساواة من شأنها أن ت ُه ّدد‬
‫الحريّة‪ ،‬وأ ّن الحريّة إذا فُ ِق َدت فلن يتمتّع فاقدوها باملساواة»‪.‬‬
‫منذ عام ‪ 1987‬نرش سوروس ‪ 14‬كتاباً وعددا ً من املقاالت‬
‫يف مجلّة نيويورك ريفيو أوف بوكس ​​ ونيويورك تاميز وغريها‪،‬‬
‫توضّ ح مقاالته أ ّن مبدأه الفكري هو مبدأ دويل‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن‬
‫كثريين من يسار الوسط الذين برزوا يف التسعينيّات‪ ،‬بحيث يرى‬
‫أ ّن هدف الوجود اإلنساين املعارص هو إنشاء عامل ال تح ّده الدول‬
‫ذات السيادة‪ ،‬وخلق مجتمع مفت وح عاملي يشرتك فيه الجميع‬
‫بتحقيق الحريّة واملساواة واالزدهار‪ ،‬باملقابل يصف املجتمعات‬
‫امل ُغلقة بأنّها تعاين من منط تفكري عقائدي يجعل من املستحيل‬
‫ُتغية للتاريخ‪ ،‬لذلك يُجرب الناس يف‬‫عليها التكيّف مع التقلّبات امل ّ‬
‫املجتمعات امل ُغلقة عىل االلتزام بأيديولوج ّية رجع ّية غري ُمقنعة‬
‫بشكل ُمتزايد‪ ،‬ويزعم سوروس أنّه عندما تنفصل هذه العقيدة أخريا ً‬
‫عن الواقع بشكل واضح فسوف تقع ثورة تقلب املجتمع امل ُغلق‪،‬‬
‫أ ّما املجتمعات املفتوحة فهي بحسب سوروس ديناميكيّة وقادرة‬
‫عىل تصحيح املسار كلّام ابتعدت عقائدها عن الواقع[[[‪.‬‬

‫‪[1]- The George Soros philosophy – and its fatal flaw /Daniel Bessner/ The Guardian‬‬
‫‪/ 62018-7-/‬‬
‫‪https://www.theguardian.com/news/2018/jul/06/the-george-soros-philosophy-‬‬
‫‪and-its-fatal-flaw‬‬
‫‪65‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫بدأ سوروس بتنفيذ أنشطته «الخرييّة» منذ عام ‪ ،1979‬وأنشأ يف‬


‫ربع لها من‬‫(مؤسسة املجتمع املفتوح) ت ّ‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪ 1986‬منظّمة تدعى‬
‫ثروته مببلغ ‪ 32‬مليار دوالر من أجل دعم حركات النضال الليربايل‬
‫وسعان ما تح ّولت املنظّمة إىل شبكة عابرة للقوميّات‬ ‫حول العامل‪ُ ،‬‬
‫مؤسسة املجتمع املفتوح ثالث أكرب‬ ‫يف ‪ 120‬دولة‪ ،‬وتع ّد منظّمة ّ‬
‫ومؤسسة ولكام‬‫ّ‬ ‫مؤسسة بيل غيتس‬ ‫صندوق خريي يف العامل بعد ّ‬
‫تراست[[[‪ ،‬وقد شملت املنظّمة متويل املنح الدراس ّية للطالب السود‬
‫يف نظام الفصل العنرصي بجنوب إفريقيا‪ ،‬لك ّن اهتامم سوروس‬
‫الرئيس كان منصبّاً عىل الكتلة الشيوعيّة يف أوروبا الرشقيّة‪ ،‬إذ اعترب‬
‫أ ّن بلدان أوروبا الرشق ّية الشيوع ّية هي النامذج النهائ ّية للمجتمعات‬
‫خ سوروس بعد سقوط جدار‬ ‫امل ُغلقة كام كان يرى أستاذه بوبر‪ ،‬إذ «ض ّ‬
‫برلني يف عام ‪ 1989‬مئات املاليني من الدوالرات يف دول الكتلة‬
‫السوفييتيّة لتعزيز املجتمع املدين والدميقراطيّة الليرباليّة‪ ،‬وكان ذلك‬
‫بالنسبة لدول أوروبا الرشق ّية أشبه بخطّة مارشال نفّذها رجل واحد‪،‬‬
‫خاصة مل يسبق لها مثيل يف التاريخ»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهي مبادرة‬
‫ويُع ّد سوروس من أهم مم ّويل (مجموعة األزمات الدول ّية)‪،‬‬
‫وهي منظّمة غري حكوم ّية تعمل عىل منع نشوب األزمات والنزاعات‬
‫فصلة وتقديم‬ ‫يف العامل من خالل قيامها بدراسات ميدانيّة ُم ّ‬
‫استشارات رفيعة املستوى للحكومات من أجل ات ّخاذ تدابري كفيلة‬

‫‪/‬مؤسسة املجتمع املنفتح وجورج سوروس ‪[1]-‬‬


‫ّ‬ ‫‪Open Society Foundations/ 12020-12-/‬‬
‫‪https://www.opensocietyfoundations.org/newsroom/open-society-foundations-‬‬
‫‪and-george-soros/ar‬‬
‫‪[2]- George Soros Bet Big on Liberal Democracy. Now He Fears He Is Losing./‬‬
‫‪Michael Steinberger / The New York Times Magazine / 172018-7- / https://www.‬‬
‫‪nytimes.com/201817/07//magazine/george-soros-democrat-open-society.html‬‬
‫العولمة‬ ‫‪66‬‬

‫ويحتل سوروس مقعدا ً يف مجلس األمناء‬ ‫ّ‬ ‫مبنع النزاعات الدوليّة‪،‬‬


‫أسس منظّمة النهضة الدول ّية يف عام ‪ 1990‬التي‬ ‫للمجموعة‪ ،‬كام ّ‬
‫املؤسسات‬
‫ّ‬ ‫تع ّد جزءا ً من منظّمة املجتمع املفتوح‪ ،‬وتع ّد من أكرب‬
‫الخرييّة يف أوكرانيا‪ ،‬وقد تفاخر سوروس يف أحد لقاءاته بقناة‬
‫مهمً يف إشعال‬‫‪ CNN‬األمريكيّة بأ ّن هذه املنظّمة قد لعبت دورا ً ّ‬
‫االحتجاجات الشعب ّية التي شهدتها أوكرانيا عام ‪ ،2014‬والتي‬
‫أسفرت عن عزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش املوايل لروسيا وصعود‬
‫تيّار سيايس وثيق الصلة باالتحاد األورويب[[[‪.‬‬
‫تع ّرض سوروس بفعل دعمه الرصيح للثورات الليربال ّية إىل‬
‫هجامت رشسة من قبل اليمني األمرييك امل ُتط ّرف‪ ،‬وقد اتّهمته‬
‫مراكز اإلعالم الغربيّة بأنّه يقف وراء معظم االحتجاجات الشعبيّة التي‬
‫اجتاحت أوروبا وبلدان أخرى‪ ،‬وكان له دور كبري يف حرب البلقان‬
‫وهزمية رصبيا ومتويل ثورتني يف أوكرانيا‪ ،‬كام تتّهمه تركيا بتمويل‬
‫مظاهرات إسطنبول عام ‪ 2013‬متّهمة إياه بأنّه يسعى لتقسيم تركيا‪،‬‬
‫كام اتّهمته الحكومة الروسيّة بالوقوف خلف موجة االحتجاجات التي‬
‫مؤسساته يف‬‫اجتاحت موسكو عام ‪ 2015‬بحيث قامت بإغالق جميع ّ‬
‫روسيا‪ ،‬كام اتّهمته حكومة دونالد ترامب بأنّه م ّول قوافل املهاجرين من‬
‫أمريكا الالتينيّة إلجبار الحكومة األمريكيّة عىل فتح الحدود وإغراق‬
‫أمريكا باملهاجرين‪ ،‬ليصبح السكان البيض أقليّة يف بلدهم‪ ،‬ما أثار‬
‫نداءات من بعض أعضاء الحزب الجمهوري عام ‪2017‬م تدعو إىل‬

‫‪[1]- Soros on Russian ethnic nationalism/ FAREED ZAKARIA/ CNN/ 252014-5-/‬‬


‫‪https://cnnpressroom.blogs.cnn.com/201425/05//soros-on-russian-ethnic-‬‬
‫‪nationalism/?fbclid=IwAR2_MmpKSiHO-26KeyXBQP4bTKauoRO6HUlnoxd3m‬‬
‫‪NUGbkvyHh0sm44KSyU‬‬
‫‪67‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المفهوم والمنشأ‬

‫إسقاط الجنسيّة األمريكيّة عنه وترحيله إىل بلده األصيل‪ ،‬كام تع ّرض‬
‫إىل محاولة اغتيال فاشلة بإرسال طرد ُملغّم إىل داره يف نيويورك[[[‪.‬‬
‫[[[‬
‫ومن املفارقة أ ّن سوروس يستند يف دعمه للثورات املل ّونة‬
‫عىل أساس النظريّة االنعكاس ّية التي ط ّبقها يف االقتصاد‪ ،‬ففي مقال‬
‫له يف صحيفة فايننشال تاميز يرشح استخدامه لعبارة «اللحظة‬
‫الثوريّة» عىل أنّها عبارة انعكاسيّة تستمد قيمتها الحقيقيّة من ال َوقْع‬
‫الذي تحدثه‪ ،‬ال من الواقع الذي تستند عليه‪ ،‬ويف حال دخلت‬
‫هذه العبارة فيام يس ّميه سوروس «حلقة التلقيم الراجع اإليجايب»‬
‫فقد تلقى سوقاً شعب ّياً يتداولها لتُحدث التأثري املرجو منها‪ ،‬فليس‬
‫إل إدراك أ ّن اللحظة فعالً ثوريّة لينعكس ذلك‬ ‫املطلوب من الث ّوار ّ‬
‫وضعاً مؤاتياً للثورة‪ ،‬يف املقابل فإ ّن انعدام التوازن بني الواقع‬
‫وتفاؤل «االنعكاسيني» قد ينتج َوقْعاً ُمعاكساً‪ ،‬فام يقوله سوروس‬
‫جل ما‬ ‫هو‪ :‬أ ّن َوقْع «اللحظة الثوريّة» إ ّما أن يكون ثورة مل ّونة أو ّ‬
‫ينجزه هو إنتاج فقاعة من مجتمع ُمنتفخ[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬لغز جورج سوروس‪ ،‬وهل هو حقاً من يحكم العامل!‪ ،‬مجيد الهاميش‪ ،‬كتابات‪،‬‬
‫‪ /12/04/https://kitabat.com/2021 /2021-4-12‬لغز‪-‬جورج‪-‬سوروس‪-‬وهل‪-‬هو‪-‬حقا‪-‬من‪-‬‬
‫يحكم‪-‬العال‪/‬‬
‫[[[‪ -‬هي الثورات واالحتجاجات الشعبيّة التي تتّخذ من األلوان شعارات لها غالباً‪ ،‬مثل الثورة‬
‫الورديّة يف جورجيا‪ ،‬والثورة الربتقاليّة يف أوكرانيا‪ ،‬والثورة الزهريّة يف قرغيزيا‪ ،‬والثورة الزرقاء يف‬
‫الكويت‪ ،‬والثورة القرمزيّة يف التبت‪ ،‬والثورة الخرضاء يف إيران‪ ..‬إلخ‬
‫[[[‪ -‬فلسفة تاجر ثورات‪ ،‬مصدر إلكرتوين سابق‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫ُ ّ‬
‫منظمات عرص العولمة‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫الثا�‪ُ :‬منظمات عرص العولمة‬
‫ي‬ ‫الفصل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ّأوال‪ُ :‬منظمات اقتصادية‬
‫متثّل املنظّامت االقتصاديّة الدوليّة حجر الزاوية يف نظام‬
‫العوملة املعارص باعتبار أ ّن العوملة نشأت عىل أساس رأساميل‪،‬‬
‫كام أوضحنا سالفاً‪ ،‬وهذه املنظّامت تعمل عىل تعزيز التناغم‬
‫االقتصادي عىل صعيد عاملي‪ّ ،‬‬
‫وفك النزاعات التجاريّة بني الدول‪،‬‬
‫أي كساد اقتصادي ُمتوقّع‪ ،‬واأله ّم من‬
‫ووضع خطط اإلنقاذ أمام ّ‬
‫ذلك أ ّن املنظّامت االقتصاديّة الدوليّة تفرش البساط األحمر أمام‬
‫وكل ذلك يضمن استقرار‬
‫النيوليرباليّة لتتم ّدد عىل أوسع نطاق‪ّ ،‬‬
‫مصالح الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات والبنوك ودميومة عمل‬
‫البورصات العامليّة‪.‬‬
‫أسست غالباً بعد الحرب‬
‫واملنظّامت االقتصاديّة الدول ّية عديدة ّ‬
‫العامل ّية الثانية‪ ،‬بعضها يشمل مجموعة دول مثل منتدى مجموعة‬
‫كل دول العامل أو أغل ّبيتها‪،‬‬
‫العرشين[[[‪ ،‬يف حني يشمل بعضها اآلخر ّ‬
‫ويف هذه الفقرة سوف نتناول أه ّم املنظّامت التي لها الدور األكرب‬
‫يف ترسيخ العوملة عىل النطاق الكوين‪ :‬صندوق النقد الدويل ‪IMF‬‬
‫ومجموعة البنك الدويل ‪ WBG‬ومنظّمة التجارة العامل ّية ‪.WTO‬‬

‫[[[‪ -‬مجموعة العرشين (‪ُ :)Group of Twenty‬منتدى دويل يجمع الحكومات و ُمحافظي البنوك‬
‫املركزيّة من ‪ 19‬دولة واالتحاد األورويب‪ ،‬أسس سنة ‪ 1999‬بهدف ُمناقشة السياسات امل ُتعلّقة‬
‫بتعزيز االستقرار املايل الدويل‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪72‬‬

‫الدول ‪IMF‬‬
‫ي‬ ‫أ‪ .‬صندوق النقد‬
‫بعد نهاية الحرب العامل ّيتني والكساد الكبري يف ثالثين ّيات القرن‬
‫العرشين‪ ،‬خرجت كثري من الدول برضر اقتصادي عظيم‪ ،‬فمن‬
‫ناحية كان االقتصاد العاملي يف حالة فوىض بسبب عدم وجود‬
‫أسعار رصف ثابتة للعمالت‪ ،‬فكانت الدول تعمد إىل تخفيض قيمة‬
‫عمالتها لتخفيض سعر صادراتها من أجل كسب األسواق العامل ّية‪،‬‬
‫وذلك يدفع دوالً أخرى إىل اتخاذ أسلوب الحامئيّة ض ّد الصادرات‬
‫شل حركة التجارة العامليّة‪ ،‬ومن ناحية أخرى كانت كثري من‬
‫ما يسبّب ّ‬
‫البلدان تعاين من رضر بالغ يف ال ُبنى التحت ّية والتضخّم االقتصادي‬
‫بسبب الحرب العامل ّية الثانية‪ ،‬فكان من الرضوري بالنسبة لها إيجاد‬
‫حل رسيع ينهي هذه األزمات‪.‬‬
‫ّ‬

‫تص ّدت الواليات املتّحدة األمريك ّية إليجاد مخرج من ذلك بعد‬
‫أن خرجت من الحرب العامل ّية الثانية كمنترص أ ّول‪ ،‬كام كانت لها‬
‫استحقاقات كبرية عىل حلفائها األوروبيني‪ ،‬ومل تكن بُناها التحتيّة‬
‫رضرة بسبب الحرب‪ ،‬واأله ّم من ذلك أنّها كانت تستحوذ عىل‬ ‫ُمت ّ‬
‫أكرث من نصف طاقة التصنيع العامل ّية‪ ،‬وتحتفظ مبعظم ك ّميات‬
‫الذهب يف العامل‪ ،‬وعىل هذا األساس رعت مؤمتر النقد الدويل‬
‫الشهري باسم اتفاقيّة بريتون وودز ‪ Bretton Woods‬يف العام ‪1944‬‬
‫شارك فيها ممثّلون عن ‪ 44‬دولة‪ ،‬ومتثّل هذه االتفاق ّية بادرة تأسيس ّية‬
‫حد‪ ،‬وبذلك تع ّد هذه االتفاق ّية البذرة‬ ‫لتم ّدد االقتصاد الرأساميل املو ّ‬
‫األول ّية لتأسيس املنظّامت االقتصاديّة التي ستقود العوملة الحقاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪73‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫ق ّرر القادة املجتمعون يف اتفاقيّة بريتون وودز تثبيت أسعار‬


‫رصف العمالت األجنبيّة عن طريق ربطها بالدوالر األمرييك مع‬
‫ربط األخري بالذهب‪ ،‬واالتفاق عىل تثبيت سعره مبا يعادل ‪35‬‬
‫دوالرا ً لألونصة الواحدة من الذهب‪ ،‬وبذلك ت ّم تأمني سعر العملة‬
‫ألي بلد وفقاً ملخزون الذهب أو الدوالر لديها‪ ،‬كام‬ ‫املحليّة ّ‬
‫أسهمت االتفاقيّة برفع العوائق الدوليّة بشأن اإلقراض والتجارة‬
‫الدوليّة وميزان املدفوعات‪ ،‬ما يجعل من عمليّة إعادة إعامر البلدان‬
‫التي د ّمرتها الحرب العامليّة ميسورا ً‪ ،‬وأوكلت مه ّمة تطبيق بنود‬
‫االتفاقيّة ملنظّمتني دوليّتني يف وقت انعقاد االتفاقيّة هام‪ :‬صندوق‬
‫النقد الدويل والبنك الدويل‪.‬‬
‫يُدار صندوق النقد الدويل من ‪ 189‬عضوا ً ميثّلون دول العامل‪،‬‬
‫ويقع مق ّره يف واشنطن‪ ،‬تتشكّل ميزان ّيته من اشرتاكات الدول‬
‫األعضاء فيه‪ ،‬وتتفاوت قيم االشرتاكات بحسب مكانة الدولة يف‬
‫حصة األسد‬
‫االقتصاد العاملي‪ ،‬لذلك متتلك الواليات املتّحدة ّ‬
‫حق الفيتو‬
‫من ميزان ّية الصندوق‪ ،‬ما يجعلها الوحيدة التي متلك ّ‬
‫حق‬
‫عىل قراراته ‪-‬بخالف مجلس األمن الدويل الذي تتقاسم فيه ّ‬
‫الفيتو خمس دول‪ -‬ويعمل الصندوق عىل منح القروض القصرية‬
‫واملتوسطة األجل لضامن سيولة العملة الصعبة لدى احتياطات‬
‫الدول األعضاء عند الحاجة‪.‬‬
‫كان االقتصادي جون مينارد كينز يرغب يف أن يكون صندوق‬
‫النقد الدويل اتحاد تصفية دويل‪ ،‬يُق ّدم القروض لالقتصاديّات التي‬
‫وأل تكون هناك رشوط عىل هذه القروض‪ ،‬ورأى‬
‫تعاين مشكالت‪ّ ،‬‬
‫العولمة‬ ‫‪74‬‬

‫أنّه أداة عدل‪ ،‬فمن خالله متنح الدول الغنيّة املساعدة للدول الفقرية‬
‫للحفاظ عىل استقرار نسبي‪ ،‬ولك ّن واقع صندوق النقد الدويل تب ّدل‬
‫يف نهاية األمر‪ ،‬وبدالً من ذلك فقد بدأ يتّخذ قرارات بإعطاء القروض‬
‫الخاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫طبقاً للحصص‪ ،‬ويت ّم حسابها من خالل حقوق السحب‬
‫وتُحسب وفقاً لك ّمية رأس املال الذي متتلكه الدولة بالفعل‪ ،‬الذي‬
‫األقل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يبدو أنّه يعمل بالضبط ض ّد األهداف التي فكّر بها كينز عىل‬
‫واأله ّم من ذلك أ ّن صندوق النقد الدويل بدأ يفرض برنامج تكيّف‬
‫هيكيل ورشوطاً أخرى عىل اقتصاد الدول امل ُقرتضة‪ ،‬إذ تستلزم‬
‫القروض املرشوطة تخفيضات يف إنفاق الخدمات العا ّمة مثل‬
‫حة وخصخصة صناعات معيّنة مثل املياه والكهرباء‪،‬‬
‫الرفاهية والص ّ‬
‫وكان تأثري خصخصة املياه عىل وجه الخصوص كارثة يف بعض‬
‫املناطق‪ ،‬فقد أصبحت تكلفة املياه متنع من االشرتاك يف هذه‬
‫الخدمة‪ ،‬وبذلك اكتسب صندوق النقد الدويل أسوأ سمعة[[[‪.‬‬
‫بفعل هذه السياسة االقتصاديّة لصندوق النقد الدويل تناقص‬
‫الح ّد األدىن من األجور بش ّدة يف أمريكا الالتين ّية بني عامي (‪1985‬‬
‫‪ ،)1992-‬كام ارتفع عدد الفقراء بنسبة ‪ %50‬فيام بني أعوام (‪1986‬‬
‫‪ ،)1990-‬وتزايد الدين الخارجي ألمريكا الالتين ّية أكرث من ‪45‬‬
‫بليون دوالر خالل الفرتة من ديسمرب ‪ 1991‬وحتّى يونيو ‪1993‬‬
‫ليصل إجامليه إىل ‪ 463‬بليوناً[[[‪ ،‬وعند انتشار أزمة االقتصاد الكبرية‬

‫[[[‪ -‬العوملة‪ ..‬املفاهيم األساسيّة‪ ،‬أنابيل موين وبيتيس إيفانز‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنرش‪/‬‬
‫بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،2009‬ص‪.198-197‬‬
‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.191‬‬
‫ّ‬
‫‪75‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫يف رشق آسيا بني عامي (‪ )1998-1997‬كان صندوق النقد الدويل‬


‫سبباً يف تفاقم األزمة وانتشارها‪ ،‬فصندوق النقد بدعوته املتواصلة‬
‫للحكومات عىل اتّباع السياسات االنكامش ّية جعل االنكامش‬
‫االقتصادي ينتقل من بلد آلخر‪ ،‬فعندما يعمد البلد الذي يعاين من‬
‫أزمة مال ّية إىل تقليص استرياداته من جريانه فسوف يج ّر جريانه معه[[[‪.‬‬
‫وإ ّن أحد أه ّم الدالئل التي تؤكّد خطورة ما يقوم به صندوق النقد‬
‫الدويل ما أفاد به نائب رئيس البنك الدويل السابق جوزيف ستكتلز‪،‬‬
‫الذي يُع ّد من أه ّم الشخص ّيات االقتصاديّة الحائزة عىل جائزة نوبل‪،‬‬
‫إذ أكّد يف كتاباته ومقابالته التلفزيون ّية بأ ّن صندوق النقد الدويل‬
‫يخضع ملصالح عامل املال العامل عىل املستوى العوملي‬
‫واملجموعات االقتصاديّة ُمتع ّددة الجنسيّات‪ ،‬وأ ّن رشوط الصندوق‬
‫التي يضعها أمام الدول امل ُه ّددة بخطر االنكامش االقتصادي يف‬
‫أفريقيا ورشق آسيا ورشق أوروبا أ ّدت إىل إفقار جزء كبري من سكّان‬
‫هذه املناطق‪ ،‬ويرى ستكتلز أ ّن دوالً مثل إثيوبيا وماليزيا استطاعت‬
‫أن تحقّق االستقرار بقدراتها الذات ّية؛ ألنّها رفضت العالج بالصدمة‬
‫ي‬
‫لصندوق النقد[[[‪ ،‬يقول ستكتلز‪« :‬عىل م ّر السنني ومنذ انبثاقه‪ ،‬تغ ّ‬
‫صندوق النقد الدويل بشكل ملحوظ‪ ،‬فهو أُ ّسس بنا ًء عىل اعتقاد‬
‫بأ ّن األسواق غالباً ما تعمل بشكل رديء‪ ،‬أ ّما اآلن فهو يرتبّع عىل‬
‫وأسس عىل االعتقاد بوجود حاجة‬ ‫هيمنة السوق بحامسة عقائديّة‪ّ ،‬‬
‫ملامرسة ضغط دويل عىل البلدان من أجل اعتامد املزيد من‬

‫[[[‪ -‬العوملة ومساوئها‪ ،‬جوزيف ستكتلز ‪ -‬بيت الحكمة‪ ،‬بغداد – الطبعة األوىل‪ ،2003 ،‬ص‪.127‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة ومناهضوها‪ ،‬كالوس ليجفي‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪ ،2011‬ص‪.82-81‬‬
‫العولمة‬ ‫‪76‬‬

‫السياسات االقتصاديّة التوسعيّة ‪-‬كزيادة اإلنفاق وتقليل الرضائب أو‬


‫خفض مع ّدالت الفائدة لتحفيز االقتصاد‪ -‬واليوم كام هو مألوف ال‬
‫مينح الصندوق أمواالً إلّ إذا اعتمدت البلدان سياسات كخفض‬
‫مم يؤ ّدي إىل‬
‫العجوزات وزيادة الرضائب أو زيادة مع ّدالت الفائدة ّ‬
‫ومم ال ريب فيه أ ّن كينز سيتل ّوى يف قربه لو‬
‫انكامش االقتصاد‪ّ ،‬‬
‫قُيّض له رؤية ما حدث لولده الذي أنجبته بنات أفكاره»[[[‪.‬‬
‫الدول [[[‪WBG‬‬
‫ي‬ ‫ب‪ .‬مجموعة البنك‬
‫مؤسسة مال ّية تق ّدم قروضاً منخفضة الفائدة واعتامدات من‬
‫هي ّ‬
‫دون فائدة و ِم َنحاً للدول النامية‪ ،‬تستخدم بشكل أساس يف تطوير‬
‫ال ُبنى التحت ّية مثل السدود والطرق وشبكات املواصالت وتوليد‬
‫حة والتعليم يف تلك الدول‪ ،‬يجمع البنك‬
‫الطاقة وتخزينها والص ّ‬
‫الدويل أمواله من القروض واملِنح من األعضاء الذين ميتلكون‬
‫البنك‪ ،‬ومن االستثامرات يف األسواق العامل ّية‪ ،‬وال ميكن الحصول‬
‫عىل العضويّة فيه إلّ بعد الحصول عىل عضويّة يف صندوق النقد‬
‫املؤسستان إحداهام باألخرى[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الدويل‪ ،‬وهكذا ترتبط‬

‫[[[‪ -‬العوملة ومساوئها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.29-28‬‬


‫مؤسسة‬‫[[[‪ -‬تشتمل مجموعة البنك الدويل اليوم عىل خمس وكاالت ذات عمل متن ّوع‪ ،‬منها ّ‬
‫الخاص يف‬
‫ّ‬ ‫أسست عام ‪ 1956‬لتقدّم الدعم لالستثامر يف القطاع‬ ‫التمويل الدوليّة ‪ IFC‬التي ّ‬
‫يسة ذات‬ ‫أسست عام ‪ 1960‬لتقدّم قروضاً ُم ّ‬ ‫البلدان النامية‪ ،‬ومنها وكالة التنمية الدوليّة ‪ IDA‬التي ّ‬
‫فائدة ضئيلة أو من دون فائدة عىل اإلطالق مراعا ًة لوضع بعض الدول امل ُقرتضة‪ ،‬يف حني تز ّود‬
‫أسست عام ‪ 1988‬تأميناً ض ّد املخاطر‬ ‫وكالة ضامن االستثامرات متعددّة األطراف ‪ MIGA‬التي ّ‬
‫لهؤالء الذي يستثمرون يف الدول النامية أو يقومون بإقراضها‪ ،‬إذ يقوم املركز بتسوية نزاعات‬
‫بحل املنازعات بني االستثامر األجنبي والدول املضيفة‪.‬‬ ‫االستثامر ّ‬
‫[[[‪ -‬العوملة‪ ..‬املفاهيم األساسيّة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.80‬‬
‫ّ‬
‫‪77‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫وقد ورد يف دليل دائرة الحقوق الصادر عن جامعة مينيسوتا‬


‫األمريكيّة أ ّن مراجعة ما تض ّمنته برامج التكيّف الهيكيل من سياسات‬
‫تتعلّق بظروف العمل يكشف لنا عن دور البنك الدويل يف تقويض‬
‫الدميقراطيّة وحقوق اإلنسان‪ ،‬فقد ذكرت مقالة نرشتها صحيفة‬
‫لوس أنجلس تاميز يف آب ‪ 1998‬أ ّن البنك قام بتدريب املسؤولني‬
‫األندونيسيني لعزل أنفسهم عن الضغوط الناجمة عن وجود تع ّددية‬
‫نقابيّة ولقمع النقابات امل ُستقلّة‪ ،‬وت ُشري املقالة إىل دراسة مرموقة‬
‫للبنك ُمل ّمح ًة إىل أ ّن إحدى املزايا األساسيّة املستم ّدة من قمع‬
‫النقابات هي إطالق العنان للبريوقراطيّات الحكوميّة لتنفيذ تدابري‬
‫التقشّ ف االقتصادي وفرض التكيّف الهيكيل عنوة مبا يفتح الباب‬
‫الخاص‪ ،‬وتقول هذه الدراسة امل ُعنونة باسم (معجزة‬
‫ّ‬ ‫لالستثامر‬
‫رشق آسيا) أ ّن الحكومات يف اليابان وكوريا وسنغافورة وتايوان‬
‫أقل ماليزيا قامت بإعادة هيكلة القطاع العاميل‬
‫والصني وبدرجة ّ‬
‫لقمع األنشطة الراديكاليّة يف محاولة لضامن االستقرار السيايس‪،‬‬
‫فألغت النقابات املهنيّة وحثّت عىل إنشاء نقابات للرشكات‬
‫واملرشوعات[[[‪.‬‬
‫ومنذ سبعين ّيات القرن العرشين وبرامج التك ّيف الهيكيل متثّل‬
‫حوايل ‪%25‬من إجاميل قروض البنك الدويل‪ ،‬ويتض ّمن هذا‬
‫التك ّيف تقليل حجم اإلنفاق الحكومي وخصخصة الصناعات‬
‫اململوكة للدولة‪ ،‬وتقليل سيطرة الحكومة عىل القطاع العام‪ ،‬وإعادة‬

‫[[[‪ -‬دائرة الحقوق‪ ..‬دليـل تدريـبي لدعـاة الحقـوق االقتصـاديّة واالجتمـاعيّة والثقـافيّة‪ ،‬جامعة‬
‫مينيسوتا‪ ،‬ص‪ ،524‬نرش عىل الرابط ‪http://hrlibrary.umn.edu/arab/M27.pdf‬‬
‫العولمة‬ ‫‪78‬‬

‫هيكلة القطاعات االقتصاديّة لالمتثال لقواعد تحرير التجارة وغري‬


‫ذلك من امل ُح ّددات امل ُامثلة‪ ،‬وتكاد عمليّة التفاوض عىل برامج‬
‫التكيّف الهيكيل أن تقترص عىل البنك الدويل وصندوق النقد‬
‫الدويل ووزارات املاليّة من دون مشاركة املجتمع املدين‪ ،‬ويف‬
‫أغلب األحوال ال تُتاح للعا ّمة معلومات عنها عىل الرغم من أ ّن هذه‬
‫الربامج تؤ ّدي إىل آثار ضا ّرة خصوصاً عىل املدى القصري[[[‪.‬‬
‫يتبي لنا أ ّن كالً من صندوق النقد الدويل والبنك‬
‫مم سبق ّ‬‫ّ‬
‫الدويل ميتلكان هيمنة كبرية عىل النشاطات االقتصاديّة للدول‬
‫األعضاء‪ ،‬فمن خالل ما يُق ّدمانه من تسهيالت مال ّية فإ ّن الحكومات‬
‫امل ُستفيدة ستكون مرغمة عىل الخضوع لتعديالت اقتصاديّة جذريّة‬
‫املؤسستني‪ ،‬بحيث يرتهن استمرار التسهيالت‬
‫ّ‬ ‫وفقاً لرشوط هاتني‬
‫املال ّية منهام مبدى ف ّعالية تنفيذ تلك التعديالت‪.‬‬
‫إ ّن الصالحيات الواسعة التي بيد صندوق النقد الدويل والبنك‬
‫الدويل جعلتهام يلعبان مه ّمة مزدوجة‪ ،‬فمن جانب هام يحميان‬
‫املؤسسات املال ّية الكربى ‪-‬األمريك ّية غالباً‪ -‬من عجز‬
‫ّ‬ ‫استثامرات‬
‫املؤسسات‪ ،‬ومن جانب آخر‬
‫ّ‬ ‫الدول النامية عن سداد ديونها لهذه‬
‫يفرضان ِحمية قاسية عىل القطاع األوسع من الشعب‪ ،‬فتُستنزف‬
‫جيوب الفقراء من أجل سداد ديون الحكومات مع سعر الفائدة‪،‬‬
‫فعندما كانت بنوك نيويورك وأمثالها تق ّدم للدول النامية قروضاً‬
‫بفائدة خالل الستين ّيات والسبعين ّيات إلنجاز مشاريع التنمية‪ ،‬كان‬
‫سعر الفائدة عىل القروض قابالً للتعديل غالباً‪ ،‬بحيث أ ّن مج ّرد‬
‫[[[‪ -‬دائرة الحقوق‪ ..‬دليـل تدريـبي لدعـاة الحقـوق االقتصـاديّة واالجتمـاعيّة والثقـافيّة‪ ،‬م‪.‬س‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪79‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫زيادة يف سعر الفائدة يف الواليات املتّحدة كان كفيالً باعتباره‬


‫أساساً لزيادة سعر فائدة الدين عىل البلدان النامية‪ ،‬وبذلك تقع‬
‫هذه البلدان يف أزمات حا ّدة‪ ،‬مثلام حصل مع املكسيك والربازيل‬
‫ودول أخرى‪ ،‬إذ عجزت عن سداد هذه القروض عام ‪ ،1982‬وهنا‬
‫يأيت دور صندوق النقد الدويل والبنك الدويل لتأمني مصالح بنوك‬
‫نيويورك وأمثالها‪ ،‬وتنفيذ الحمية املعهودة عىل حساب الفقراء‪،‬‬
‫فيق ّدمان قروضاً لتلك البلدان إلنقاذها من أزمة الديون مقابل أن‬
‫تخضع لربنامج كاسح من االقتطاع من اإلعانات الحكوميّة يف‬
‫السكن والغذاء والنقل وخصخصة الرشكات التي تديرها الدولة‬
‫وتخفيض الحواجز الجمركيّة إلجبار الصناعات املحليّة عىل‬
‫مواجهة املنافسة العامليّة[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العالمية ‪WTO‬‬ ‫ت‪ .‬منظمة التجارة‬
‫هي ثالث أه ّم منظّمة يقوم عليها نظام العوملة االقتصادي‪،‬‬
‫إل‬
‫أسست عام ‪ّ -1995‬‬ ‫وعىل الرغم من أنّها منظّمة حديثة النشوء ‪ّ -‬‬
‫أسست االتفاق ّية العا ّمة‬
‫أ ّن جذورها تعود إىل العام ‪ 1947‬حينام ّ‬
‫للتعرفة الجمرك ّية (الجات ‪ )GATT‬التي كانت تهدف إىل تخفيف‬
‫القيود عىل التجارة الدول ّية‪.‬‬
‫يقع مق ّر منظّمة التجارة العامليّة يفجنيف بسويرسا‪ ،‬وتض ّم أكرث من‬
‫‪ 160‬دولة عضوا ً متثّل ما يزيد عىل ‪ %98‬من التجارة العامليّة والناتج‬
‫املحل التجاري العاملي‪ .‬تعمل املنظّمة عىل تقليص العوائق الدوليّة‬
‫ّ‬
‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ – 1‬ج‪ .‬تيمونزر وبريتس‪ /‬إميي هيت‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ -‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،–2004 ،‬ص‪.36-35‬‬
‫العولمة‬ ‫‪80‬‬

‫أمام انتقال السلع والخدمات ورؤوس األموال والحقوق الفكريّة‪ ،‬وت ُذلّل‬
‫القيود التي تفرضها الحكومات أمام حريّة حركة االقتصاد العاملي‪ ،‬كام‬
‫حل النزاعات التجاريّة التي تحدث بني الدول‪.‬‬
‫تعمل عىل ّ‬
‫يُنظر إىل منظّمة التجارة العامل ّية عىل أنّها ساعدت يف منو‬
‫املحل اإلجاميل عام‬
‫ّ‬ ‫الصادرات العامل ّية من ‪ %22‬من الناتج‬
‫مم يشري إىل‬
‫يقل قليالً عن ‪ %30‬يف العام ‪ّ 2015‬‬
‫‪ 1995‬إىل ما ّ‬
‫أه ّميتها يف تنشيط حركة التجارة العامل ّية‪ ،‬كام يُعتقد أ ّن لوائح املنظّمة‬
‫ساعدت عىل تج ّنب حرب تجاريّة كربى خالل فرتة الركود العاملي‬
‫لعام [[[‪ ،2008‬يف حني يرى أندرو روز الباحث يف املكتب القومي‬
‫لألبحاث االقتصاديّة ‪ NBER‬أ ّن منظّمة التجارة العامل ّية ليس فقط‬
‫ال تقوم بزيادة التجارة بني الدول األعضاء بل إنّها ال ت ُنتج سياسات‬
‫تجاريّة أكرث انفتاحاً بينها‪ ،‬وبحسب روز فإ ّن الدولة التي كانت تتمتّع‬
‫بنسبة انفتاح تجاري تبلغ ‪ %73.1‬قبل انضاممها إىل املنظّمة بخمس‬
‫سنوات عانت من انخفاض يف نسبة االنفتاح إىل ‪ %70.4‬بعد خمس‬
‫سنوات من انضاممها للمنظّمة‪ ،‬ويف الوقت ذاته ارتفعت الرسوم‬
‫الجمرك ّية فيها بشكل ضئيل من ‪ %12.5‬إىل ‪.[[[%13.1‬‬
‫جه لهذه املنظّمة أنّها تهت ّم‬‫وإ ّن من أه ّم االنتقادات التي تو ّ‬
‫بتحقيق املصالح التجاريّة وتُهمل التنمية‪ ،‬فمنظّمة التجارة العامل ّية‬
‫‪[1]- Advantages and disadvantages of WTO–economicshelp - Friday, June 17, 2016‬‬
‫‪- https://econ.economicshelp.org/200706//advantages-and-disadvantages-of-wto.‬‬
‫‪html‬‬
‫‪[2]- Does the World Trade Organization Actually Promote World Trade? - NO. 5,‬‬
‫‪MAY 2003 - https://www.nber.org/digest/may03/does-world-trade-organization-‬‬
‫‪actually-promote-world-trade‬‬
‫ّ‬
‫‪81‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫ت ُركّز عىل حريّة التبادل التجاري من دون توفري رشوط الحامية‬


‫للمنتجات املحليّة يف البلدان النامية التي تتع ّرض ملنافسة رشسة‬
‫مع منتجات الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات‪ ،‬فهذه الرشكات متتلك‬
‫موارد ماليّة هائلة تساعدها عىل احتكار أبحاث التطوير إلنتاج سلع‬
‫ذات جودة عالية بأسعار تنافسيّة وبك ّميات ضخمة‪ ،‬ما يجعل اإلنتاج‬
‫املحل غري قاد ٍر عىل مجاراتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويف بيان وقّعته ‪ 1200‬منظّمة غري حكوم ّية من ‪ 87‬دولة‪،‬‬
‫يؤكّد أ ّن «اتفاقات منظّمة التجارة العامل ّية التي أُبرمت يف دورة‬
‫األورغواي قد استهدفت فتح أسواق جديدة للرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات عىل حساب االقتصاد الوطني والعديد من الفئات‬
‫االجتامع ّية‪ ،‬كام انتقدت هذه املنظّامت آل ّيات وإجراءات املنظّمة‬
‫باعتبارها ُمعادية للدميقراط ّية وتفتقر للشفافية كام أوضحت منظّمة‬
‫أوكسفام‪ ...‬أ ّما يف فرنسا فقد رفضت املنظّمة الفرنس ّية للمنظّامت‬
‫غري الحكوم ّية االعرتاف مبنظّمة التجارة العامل ّية‪ ،‬وطالبت بفرض‬
‫رضائب ملساعدة فقراء العامل‪ ،‬أ ّما يف اليابان وكوريا فقد طالبت‬
‫املنظّامت غري الحكوم ّية منظّمة التجارة العامل ّية بالعمل عىل إيجاد‬
‫قواعد جديدة لضامن الحفاظ عىل األمن الغذايئ وتوقّف هجرات‬
‫املزارعني‪ ،‬وإلّ فإنّه سيرتتّب عىل ذلك آثار اجتامع ّية وخيمة»[[[‪.‬‬
‫وعىل مستوى تحرير السلع‪ ،‬تق ّرر منظّمة التجارة العامل ّية إلغاء‬

‫[[[‪ -‬انتقادات ض ّد منظمة التجارة العامليّة‪ ،‬مح ّمد ولد عبد الدائم‪ ،‬موقع الجزيرة اإللكرتوين‪ ،‬نرش‬
‫بتاريخ ‪ 2004 /10 /3‬عىل الرابط ‪ /03/10/https://www.aljazeera.net/2004‬انتقادات‪-‬ضد‪-‬‬
‫منظمة‪-‬التجارة‪-‬العاملية‪#‬اقتصادية‬
‫العولمة‬ ‫‪82‬‬

‫الدعم الذي كانت متنحه بعض الدول املتق ّدمة للسلع الزراعيّة مع‬
‫ما ينجم عنه من عواقب وخيمة عىل الدول التي تعترب السلع الزراعيّة‬
‫مه ّمة يف قامئة وارداتها‪ ،‬كام يرتتّب عىل تحرير املنظّمة لتبادل السلع‬
‫انخفاض كبري يف حصيلة الرسوم الجمركيّة التي تشكّل نسبة كبرية من‬
‫مجموع إيرادات الدول النامية‪ ،‬ومن ناحية أخرى فإ ّن السلع التي تتمتّع‬
‫فيها الدول النامية بقدرة تنافسيّة عالية ‪-‬كسلع املنسوجات‪ -‬مازالت‬
‫الدول املتق ّدمة غري ُمتح ّمسة لتحريرها باملقارنة مع سلع أخرى ال تعترب‬
‫ذات أه ّمية بالنسبة للدول النامية‪ ،‬أ ّما عىل مستوى الخدمات فلم ترا ِع‬
‫منظّمة التجارة العامليّة انعدام التوازن بني حجم قطاعات الخدمات‬
‫يف الدول الغنيّة وحجمه يف الدول الفقرية‪ ،‬كام مل ترا ِع ارتباط بعض‬
‫قطاعات الخدمات يف الدول النامية مبصالحها اإلسرتاتيجيّة[[[‪.‬‬
‫جهة إليها‬
‫وبالطبع فإ ّن منظّمة التجارة العامل ّية تنفي كل ّالتُهم املو ّ‬
‫يف هذا الصدد‪ ،‬كام ترفض تهمة كونها سبباً بارتفاع الفجوة االقتصاديّة‬
‫بني األغنياء والفقراء من خالل دعمها الستثامرات الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات وعدم دميقراط ّية قراراتها التي تُهيمن عليها مصالح الدول‬
‫املتق ّدمة‪ ،‬وت ّدعي أنّها توفّر الحدود املعقولة لحامية اقتصاديّات الدول‬
‫الفقرية والنامية‪ ،‬وتقلّل من حجم التبعات التي ترتتّب عىل قراراتها‬
‫بوصفها آالماً جانب ّية قصرية املدى مقابل تحقيق منافع بعيدة األمد‪.‬‬
‫ولكن يبدو أ ّن دفاع منظّمة التجارة العامل ّية عن نفسها مل يكن‬
‫كافياً لتربير ما يحدث عىل أرض الواقع‪ ،‬إذ إ ّن أوىل االحتجاجات‬
‫العامل ّية املناهضة للعوملة انطلقت بالتزامن مع انعقاد اجتامعات‬
‫[[[‪ -‬انتقادات ض ّد منظمة التجارة العامليّة‪ ،‬مح ّمد ولد عبد الدائم‪ ،‬م‪.‬س‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪83‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫هذه املنظّمة يف واشنطن‪ ،‬إذ ت ّم اعتبارها «أوضح رمز عىل الظلم‬


‫العاملي ونفاق البلدان الصناعيّة املتق ّدمة‪ ،‬فبينام تعظ هذه البلدان‬
‫إل‬
‫‪-‬وتفرض‪ -‬فتح األسواق يف البلدان النامية ملنتجاتها الصناعيّة‪ّ ،‬‬
‫أنّها استم ّرت يف إبقاء أسواقها مغلقة بوجه منتجات البلدان النامية‬
‫كاملنتوجات النسيجيّة والزراعيّة‪ ،‬وبينام تعظ البلدان النامية بعدم‬
‫إل أنّها استم ّرت يف تقديم املليارات عىل شكل‬
‫دعم صناعاتها‪ّ ،‬‬
‫مم يجعل من املستحيل عىل البلدان النامية‬ ‫معونات ملزارعيها ّ‬
‫املنافسة‪ ،‬وبينام تعظ بفضائل األسواق التنافسيّة فإ ّن الواليات‬
‫املتّحدة سارعت إىل الضغط باتجاه إقامة كارتالت[[[ عامليّة يف‬
‫الفوالذ واألملنيوم وال سيّام عندما بدت صناعاتها املحليّة مه ّددة‬
‫باالسترياد‪ ،‬وضغطت الواليات املتّحدة باتجاه تحرير الخدمات‬
‫املاليّة‪ ،‬ولك ّنها قاومت تحرير قطاعاتها الخدميّة التي تتمتّع فيها‬
‫البلدان النامية بالق ّوة مثل الخدمات اإلنشائيّة والخدمات البحريّة»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫سياسية‬ ‫ثانيا‪ :‬منظمات‬
‫تأيت منظّمة األمم املتّحدة عىل رأس قامئة املنظّامت التي تقود‬
‫العوملة سياس ّياً‪ ،‬فهذه املنظّمة هي الرابط املشرتك بني حكومات‬
‫وحل كثري من‬
‫ّ‬ ‫العامل‪ ،‬بحيث تعمل عىل توحيد وجهات نظرها‬
‫النزاعات الدول ّية‪ ،‬وهي املنظّمة الوحيدة القادرة عىل جعل العوملة‬
‫ضمن حدود سياس ّية منظّمة وقانون ّية‪.‬‬

‫ي من فروع اإلنتاج ألجل‬


‫[[[‪ -‬الكارتل‪ :‬ميثاق بني عدد من املشاريع التي تنتمي إىل فرع مع ّ‬
‫تنظيم املنافسة االقتصاديّة‪ ،‬وتعد منظّمة أوبك أحد الكارتالت العامليّة يف مجال تصدير النفط‪.‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة ومساوئها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.272‬‬
‫العولمة‬ ‫‪84‬‬

‫أنشئت منظّمة األمم املتّحدة عام ‪ 1945‬ومق ّرها الرئيس يف‬


‫نيويورك بالواليات املتّحدة‪ ،‬يبلغ عدد أعضائها حالياً ‪ 193‬دولة‪،‬‬
‫وتعود جذورها فعل ّياً إىل ميثاق األطليس الذي عقده الرئيس‬
‫األمرييك فرانكلني روزفلت مع رئيس الوزراء الربيطاين ونستون‬
‫ترششل عام ‪ ،1941‬وكان هدف امليثاق توضيح أهداف الحلفاء‬
‫ملا بعد الحرب العامل ّية الثانية‪ ،‬ووضع مجموعة من املبادئ‬
‫من أجل التعاون الدويل يف حفظ األمن والسالم‪ ،‬وبعد جوالت‬
‫واجتامعات دوليّة عديدة ت ّم اإلعالن رسميّاً عن إنشاء منظّمة األمم‬
‫املتّحدة بتاريخ ‪ 24‬ترشين األ ّول ‪.1945‬‬
‫متخصصة ع ّدة أه ّمها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مؤسسات‬
‫تشتمل األمم املتّحدة عىل ّ‬
‫مجلس األمن الدويل‪ ،‬ومحكمة العدل الدوليّة‪ ،‬ومنظّمة األمم‬
‫املتّحدة للرتبية والعلم والثقافة (اليونسكو)‪ ،‬ومنظّمة األغذية‬
‫أسست جميعها يف العام ‪ ،1945‬وكذلك‬ ‫والزراعة (فاو)‪ ،‬وقد ّ‬
‫أسست يف عام‬ ‫منظّمة األمم املتّحدة للطفولة (اليونيسيف) التي ّ‬
‫أسست يف العام ‪ ،1948‬هذا‬ ‫حة العامليّة التي ّ‬
‫‪ ،1946‬ومنظّمة الص ّ‬
‫فضالً عن تابع ّية صندوق النقد والبنك الدوليني لها‪.‬‬
‫وعىل صعيد املواثيق الدول ّية‪ ،‬فقد أصدرت األمم املتّحدة‬
‫يف العام ‪ 1948‬اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان الذي ميثّل‬
‫أه ّم املواثيق الدول ّية‪ ،‬إذ ترتت ّب عليه كثري من املح ّددات‬
‫السياسيّة واالقتصاديّة والثقافيّة التي ق ّربت من االختالفات‬
‫اإلنسان ّية وتن ّوعاتها الثقاف ّية يف أغلب بقاع املعمورة‪.‬‬
‫كان لألمم املتّحدة دور واضح يف إنهاء العديد من النزاعات‬
‫ّ‬
‫‪85‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫السياسيّة والعسكريّة‪ ،‬ونفّذت برامج إمنائيّة وصحيّة وتعليميّة مه ّمة‬


‫ق ّدمت املساعدات للماليني من البرش املحتاجني حول العامل‪،‬‬
‫كل األزمات مبا‬ ‫ولكن عىل الرغم من ذلك فإنّها مل تكن تغطّي ّ‬
‫يتالءم والهدف من إنشائها كمنظّمة تعنى باالستقرار العاملي‪،‬‬
‫فالنزاعات والحروب ميآلن العامل‪ ،‬وهنالك كثري من االنتهاكات‬
‫بخاصة تلك التي ال تتالءم مع‬ ‫ّ‬ ‫الصارخة لقرارات املنظّمة‪،‬‬
‫جهات األمريك ّية[[[‪ ،‬وذلك ما يدعو البلدان النامية إىل وضع‬ ‫التو ّ‬
‫األمم املتّحدة والواليات املتّحدة يف سلّة واحدة‪.‬‬
‫ويف هذا الصدد يؤكّد معهد بروكينجز[[[ أ ّن انخفاض ثقة دول‬
‫الجنوب يف األمم املتّحدة يتالءم طرديّاً مع انخفاض ثقتها بالواليات‬
‫املتّحدة األمريكيّة‪ ،‬مع األخذ بعني االعتبار أ ّن ذلك ال يتأث ّر بطبيعة‬
‫ثقة هذه الدول مبنظّامت أخرى مثل صندوق النقد الدويل واالتحاد‬
‫األورويب أو منظّامت حقوق اإلنسان‪ ،‬وذلك يُع ّد كمؤرش عىل أ ّن‬
‫شعوب البلدان النامية ترى األمم املتّحدة كمنظّمة تعمل عىل تعزيز‬
‫مصالح الواليات املتّحدة فقط[[[‪.‬‬
‫ربرها عىل أرض الواقع‪ ،‬فاملوارد التي تضمن‬
‫ولهذه الرؤية ما ي ّ‬
‫دميومة األمم املتّحدة تقوم أساساً عىل دعم الواليات املتّحدة‬

‫[[[‪ -‬كمثال عىل ذلك‪ :‬قرار محكمة العدل الدوليّة الصادر سنة ‪ 2004‬والذي يدين إرسائيل‬
‫لبنـائها الجـدار العازل يف األرض الفلسطينيّة واعتباره انتهاكاً للقانون الدويل‪.‬‬
‫مؤسسات الفكر‬
‫مؤسسة أمريكية مق ّرها يف العاصمة واشنطن وهي من أقدم ّ‬
‫[[[‪ -‬معهد بروكينجز‪ّ :‬‬
‫والرأي‪.‬‬
‫–‪[3]- Is the UN a friend or foe? - Charles T. Call, David Crow, and James Ron‬‬
‫‪brookings-October 3, 2017- https://www.brookings.edu/blog/order-from-‬‬
‫‪chaos/201703/10//is-the-un-a-friend-or-foe/‬‬
‫العولمة‬ ‫‪86‬‬

‫جه الغريب‪ ،‬فبحسب إحصائيّة العام‬


‫وحلفائها من البلدان ذات التو ّ‬
‫‪ 2008‬وصلت نسبة ما تدفعه الواليات املتّحدة لألمم املتّحدة‬
‫إىل‪ %22‬من ميزانيّتها‪ ،‬تليها اليابان بنسبة ‪ %16.62‬ث ّم أملانيا بنسبة‬
‫‪ %8.57‬وبريطانيا بنسبة ‪ %6.64‬وفرنسا بنسبة ‪ ،%6.30‬وعىل صعيد‬
‫موارد حفظ السالم التابعة لألمم املتّحدة فإ ّن أمريكا تدعم بنسبة تصل‬
‫إىل ‪ %20‬تليها اليابان بنسبة ‪ %17‬ث ّم أملانيا بنسبة ‪ %9‬وبريطانيا بنسبة‬
‫‪ %8‬ث ّم فرنسا بنسبة ‪ %7‬بحسب إحصائيّة عام ‪.[[[ 2007‬‬

‫من جانب آخر تعاين األمم املتّحدة تراجعاً يف عملها مع تراخي‬


‫القبضة األمريكيّة عىل املشهد السيايس العاملي‪ ،‬فصعود الصني‬
‫ونهوض روسيا وتشكّل االتحاد األورويب يجعل القرار السيايس‬
‫العاملي ُمتع ّدد األقطاب بعد أن كان أحاديّاً‪ ،‬ما يجعل املنظّمة‬
‫تواجه إشكال ّية حقيق ّية يف تحقيق أهدافها األساس ّية‪ ،‬ويف ذلك يقول‬
‫الربوفسور الرتيك طارق أوغوزلو[[[‪« :‬إ ّن الهدف الواقعي املتمثّل‬
‫يف تحقيق السلم واألمن عىل أساس مبدأي املساواة يف السيادة‬
‫وعدم التدخّل يف الشؤون الداخل ّية كان دامئاً يف تضا ّد مع الهدف‬
‫الليربايل املتمثّل يف تحسني حقوق اإلنسان عىل أساس مبادئ‬
‫تحقيق املعايري العامل ّية واملسؤول ّية عن الحامية‪ ،‬وفشل األمم‬
‫املتّحدة يف س ّد الفجوة بني هذين الهدفني أصبح أكرث وضوحاً يف‬
‫السنوات األخرية‪ ،‬حيث أصبحت األولويّة التي تُ نح للقوى الغرب ّية‬

‫[[[‪ -‬كل ما أردت دوماً أن تعرفه عن األمم املتّحدة‪ ،‬إدارة شؤون اإلعالم يف األمم املتّحدة‪ ،‬قسم‬
‫األمم املتّحدة للنرش‪ ،‬نيويورك ‪ ،2008‬ص‪.14–11‬‬
‫[[[‪ -‬عضو يف قسم العلوم السياسيّة والعالقات الدوليّة بجامعة «بيليم» يف والية أنطاليا الرتكيّة‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪87‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫محل نزاع متزايد من قبل القوى غري الغربيّة املتزايدة يف نظام عاملي‬
‫ّ‬
‫جديد ُمتع ّدد األقطاب»[[[‪.‬‬
‫فإذا كانت األمم املتّحدة تعاين من هذا الرتاجع الواضح يف‬
‫تحقيق أهدافها‪ ،‬فام الداعي لبقائها إذا ً؟‬
‫مؤسسة‬
‫الجواب ببساطة‪ :‬حاجة املجتمع الدويل إىل وجود ّ‬
‫ناظمة للشؤون العامل ّية املشرتكة الخارجة عن نطاق القرارات‬
‫األحاديّة للدول العظمى‪ ،‬فمع أ ّن تع ّدد األقطاب يجعل األمم‬
‫املتّحدة يف وضع حرج‪ ،‬إلّ أنّه يستدعي يف الوقت نفسه رضورة‬
‫مؤسسة عابرة للقوم ّيات تعمل عىل تحقيق املوازنة بني‬ ‫ّ‬ ‫وجود‬
‫اإلرادات املتعاكسة وإيجاد التوافق الالزم بينها؛ ذلك أل ّن قيام‬
‫حرب عامل ّية جديدة ليس خيارا ً مرغوباً فيه من قبل جميع األطراف‬
‫بخاصة مع تحرر التجارة العامل ّية وتركّز التنافس عىل التنمية‬
‫ّ‬ ‫الدول ّية‪،‬‬
‫االقتصاديّة‪ ،‬وإذا أضفنا تراجع الهويّات الوطن ّية والقوم ّية مقابل منو‬
‫الهويّة العومل ّية بفضل تقنيات التواصل الحديثة‪ ،‬فإ ّن الحفاظ عىل‬
‫الح ّد األدىن من التوافق يُصبح أولويّة قصوى‪.‬‬
‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫ولهذا السبب ال يزال مجلس األمن الدويل يحظى بأه ّمية‬
‫كل املنظّامت التابعة لألمم املتّحدة‪ ،‬إذ تقع عىل عاتقه‬ ‫من بني ّ‬
‫املسؤوليّة الرئيسة يف صون السلم الدويل‪ ،‬وأله ّميته نجد أ ّن عضويّة‬
‫إل بنا ًء عىل توصية من مجلس‬
‫الدول يف األمم املتّحدة ال تُقبل ّ‬
‫[[[‪ -‬األمم املتّحدة ورضورة إصالح هيكيل يتجاوز «الخمس الكبار» (مقال تحلييل)‪ ،‬الربوفسور‬
‫طارق أوغوزلو‪ ،‬وكالة األناضول‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2017 /9 /22‬عىل الرابط‬
‫أخبار‪-‬تحليلية‪/‬األمم‪-‬املتحدة‪-‬ورضورة‪-‬إصالح‪-‬هيكيل‪-‬يتجاوز‪https://www.aa.com.tr/ar/-‬‬
‫الخمس‪-‬الكبارمقال‪-‬تحلييل‪916562/‬‬
‫العولمة‬ ‫‪88‬‬

‫األمن نفسه‪ ،‬كام أنّه ال يزال ميتلك نوعاً من االستقالل عن اإلرادة‬


‫مقسمة بني خمسة أعضاء‬
‫الغربيّة امل ُطلقة؛ أل ّن زمام األمور فيه ّ‬
‫دامئي العضويّة هم‪ :‬أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصني وروسيا‪ ،‬إذ‬
‫حق النقض (الفيتو) عىل‬
‫كل واحد من هؤالء األعضاء ميلك ّ‬
‫إ ّن ّ‬
‫القرارات التي تق ّدم يف مجلس األمن‪.‬‬
‫ظل عامل تنشط فيه الرشكات ُمتع ّددة‬
‫أضف إىل ذلك‪ ،‬فإنّه يف ّ‬
‫الجنس ّيات تبقى منظّمة األمم املتّحدة تحتفظ مبكانة متم ّيزة يف‬
‫السوق االستهالك ّية باعتبارها أكرب ُمشرتٍ للسلع والخدمات‪ ،‬إذ تصل‬
‫مشرتياتها إىل ‪ 6.4‬بليون دوالر سنويّاً لتحقيق برامجها الخرييّة‪،‬‬
‫فمنظّمة اليونيسيف وحدها تشرتي نصف اللقاحات امل ُنتجة يف‬
‫جميع أنحاء العامل‪ ،‬كام يشحن برنامج األغذية التابع لألمم املتّحدة‬
‫ما يقرب من ‪ 5‬ماليني طن من املواد الغذائ ّية إلطعام ما يقرب من‬
‫‪ 113‬مليون شخص يف ‪ 80‬بلدا ً[[[‪.‬‬
‫ويف عامل تتزايد فيه ظاهرة تاليش الحدود القوم ّية ويرتفع فيه‬
‫تحتل منظّمة األمم املتّحدة مكانة‬
‫ّ‬ ‫نجم العوملة‪ ،‬فمن املتوقّع أن‬
‫ولعل بوادر ذلك الحت منذ العام ‪ 2005‬عندما أق ّرت األمم‬
‫ّ‬ ‫أكرب‪،‬‬
‫املتّحدة مبدأ (مسؤول ّية الحامية) القايض بتدخّلها يف الدول‬
‫أي مجتمع إقليمي يرتكبون‬ ‫األعضاء عندما يثبت أ ّن الحكومة أو ّ‬
‫جرائم حرب أو إبادة جامع ّية أو جرائم ض ّد اإلنسان ّية‪ ،‬كام تأكّد‬
‫دورها يف إدارة األزمات العامل ّية الحديثة مثل انتشار وباء كوفيد‪19-‬‬
‫يف العام ‪ ،2020‬إذ ع ّول عليها املجتمع الدويل كثريا ً إلدارة هذه‬
‫[[[‪ -‬كل ما أردت دوماً أن تعرفه عن األمم املتّحدة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫ّ‬
‫‪89‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫األزمة التي تجاوزت الحدود القوميّة والقرارات السياديّة املنفردة‪.‬‬


‫بالرتسخ يف املشهد العاملي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويف حال استم ّر نظام العوملة‬
‫فإ ّن منظّمة األمم املتّحدة ستكون هي االحتامل األقوى ألن تتب ّوأ‬
‫موقع الحكومة العامل ّية فيه مستقبالً ‪-‬وإن كانت ال تزال تنفي عن‬
‫نفسها هذه الصفة‪ -‬إذ ال توجد منظّمة دول ّية تنافسها يف ذلك حتّى‬
‫تخصصات‬
‫ّ‬ ‫اآلن؛ ملا تحمله من رمزيّة تاريخ ّية‪ ،‬وما تتوافر عليه من‬
‫واسعة ومه ّمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثالثا‪ُ :‬منظمات وحركات ُمعارضة‬
‫واجهت العوملة حركات معارضة نشطة بَعد سنوات قليلة فقط من‬
‫انطالقتها الكونيّة‪ ،‬وقد متكّنت هذه الحركات من تسجيل بصمة لها‬
‫عىل صعيد الرأي العام الدويل‪ ،‬ولك ّن املفارقة يف األمر أ ّن محاولة‬
‫تؤسس‬
‫هذه املنظّامت توحيد الجهود العامليّة ملناهضة العوملة ّ‬
‫ملنظّامت عابرة للقوميّات‪ ،‬وذلك بح ّد ذاته ميثّل شكالً من أشكال‬
‫العوملة‪ ،‬ولك ّنها «عوملة من األسفل” بحسب تعبري جورج ريتزر‪.‬‬
‫مؤسسات عابرة‬
‫تقوم “العوملة من األسفل” عىل أساس تشكيل ّ‬
‫للقوم ّيات تعارض سلوك النخب الرأسامل ّية املتحكّمة باالقتصاد‬
‫العاملي‪ ،‬لذا فهي يف الحقيقة تطرح نفسها كعوملة بديلة عن العوملة‬
‫السائدة (العوملة من األعىل التي تقودها النخب الرأسامل ّية)‪،‬‬
‫وبذلك تتأكّد لدينا فكرة أ ّن العوملة منذ انطالقتها الفعل ّية قد ح ّررت‬
‫مرشوع التوحيد الكوين بشكل ال ميكن لجمه حتّى من قبل الجهات‬
‫املعارضة لها‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪90‬‬

‫بدأت املنظّامت املعارضة للعوملة يف البدء عىل شكل‬


‫احتجاجات‪ ،‬مثل احتجاجات مدريد عام ‪ 1994‬واحتجاجات سياتل‬
‫عام ‪ ،1999‬وقد كانت األخرية من السعة والعنف بحيث امت ّدت أليام‪،‬‬
‫وأ ّدت إىل تأجيل الجلسة االفتتاحيّة الجتامع منظّمة التجارة الدوليّة‬
‫الذي كان مؤمالً انعقاده يف سياتل بالعاصمة األمريكيّة واشنطن‪ ،‬ومل‬
‫العمل األمريكيني‬
‫تقترص احتجاجات سياتل عىل الدفاع عن مصالح ّ‬
‫فقط «وإنّ ا أخذ األمر شكل االحتجاج الجامعي مع زمالء من رشق‬
‫آسيا والكاريبي وجنوب أفريقيا وأمريكا الالتينيّة‪ ،‬وهي مه ّمة شاقّة‬
‫العملية الكالسيكيّة»[[[‪.‬‬
‫طاملا أخفقت فيها حركة تدويل الحركات ّ‬
‫كام شهد العام ‪ 2001‬طيفاً واسعاً من االحتجاجات ض ّد‬
‫العوملة‪ ،‬أه ّمها مظاهرات جنوه اإليطال ّية التي وقعت بالتزامن مع‬
‫انعقاد ق ّمة مجموعة الثامين للدول الصناع ّية الكربى‪ ،‬وقد شارك‬
‫فيها نحو ‪ 200‬ألف متظاهر‪ ،‬وشهدت اشتباكات هي األعنف من‬
‫نوعها عىل هذا الصعيد‪.‬‬
‫وكل أنحاء فرنسا‬
‫كل من برلني ولندن واليونان‪ّ ،‬‬
‫كام شهدت ّ‬
‫تقريباً احتجاجات ض ّد العوملة‪ ،‬باإلضافة إىل مظاهرات أمام مبنى‬
‫البورصة يف مدينة سيدين األسرتال ّية‪ ،‬واحتجاجات سيؤول التي‬
‫ض ّمت ‪ 20‬ألف متظاهر‪ ،‬باإلضافة إىل احتجاجات وقعت يف ‪44‬‬
‫مدينة ترك ّية[[[‪ ،‬وهنالك أيضاً احتجاجات سويرسا وفرنسا التي شارك‬
‫[[[‪ -‬العوملة ومناهضوها ‪-‬مصدر سابق‪ -‬ص‪.151‬‬
‫[[[‪ -‬مظاهرات ض ّد العوملة يف أوروبا وأعامل عنف يف آسيا أثناء االحتفاالت بيوم العمّل‪،‬‬
‫صحيفة الرشق األوسط‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2001 /5 /2‬عىل الرابط‬
‫‪https://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=8070&article=37930#.Yl5ZBujP2M8‬‬
‫ّ‬
‫‪91‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫فيها ‪ 100‬ألف شخص‪ ،‬وجاءت بالتزامن مع اجتامع ق ّمة إيفيان‬


‫للدول الصناعيّة يف العام [[[‪.2003‬‬
‫وقد تكلّل الحراك املناهض للعوملة مبولد املنتدى االجتامعي‬
‫العاملي ‪ WSF‬يف بورتو أليجري يف الربازيل عام ‪ ،2001‬وعىل‬
‫الرغم من أ ّن املنتدى ال ميثّل مصدرا ً رسم ّياً التخاذ القرارات باسم‬
‫إل أنّه حمل قيمة رمزيّة‬
‫املنظّامت والحركات املناهضة للعوملة‪ّ ،‬‬
‫تؤكّد إمكان ّية تأسيس منظّامت عومل ّية من أسفل‪ ،‬ولتأكيد نديّته‬
‫للعوملة من األعىل فإ ّن انعقاده السنوي صار يت ّم بالتزامن مع انعقاد‬
‫املنتدى االقتصادي العاملي يف دافوس بسويرسا‪.‬‬
‫إىل جانب ذلك هناك نشاط املنظّامت الدول ّية غري الحكوم ّية‬
‫‪ INGOs‬التي ما فتئت تتعامل مع مظاهر إشكال ّية مع ّينة للعوملة‪،‬‬
‫ومن أمثلتها‪ :‬منظّمة أتاك ‪ ،[[[ATTAC‬واتحادات النقابات العامل ّية‬
‫‪ ،AFL-CIO‬واالتحاد الدويل لحفظ الطبيعة ومواردها ‪،IUCN‬‬
‫ونادي سريا ‪ ،Sierra Club‬ومنظّمة الطعام البطيء ‪Slow food‬‬
‫فضالً عن منظّامت الدفاع عن حقوق اإلنسان واملهاجرين‪.‬‬
‫هذا وميكن إدراج أحزاب اليمني امل ُتط ّرف يف أوروبا ضمن‬

‫[[[‪ -‬احتجاجات صاخبة تُخّيم عىل قمة إيفيان‪ ،‬الوحدة الدولية لهيئة اإلذاعة والتلفزيون‬
‫السويرسيّة ‪ ،SWI‬نرش بتاريخ ‪ 2003 /6 /2‬عىل الرابط‬
‫احتجاجات‪-‬صاخبة‪-‬ت‪-‬خ‪-‬يم‪-‬عىل‪-‬قمة‪-‬إيفيان‪https://www.swissinfo.ch/ara/3340150/‬‬
‫[[[‪ -‬تتم ّيز هذه املنظمة بأنها ذات بعد رقايب عىل قرارات منظّمة التجارة العامل ّية ومنظّمة التعاون‬
‫االقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدويل‪ ،‬وتنكر هذه املنظّمة دعوى كونها مناهضة للعوملة‪،‬‬
‫وإنّ ا تنتقد األيديولوجيا النيوليرباليّة التي تسيطر عىل العوملة االقتصاديّة‪ ،‬وتدعو إىل عوملة بديلة‬
‫تحت شعار «عامل آخر ممكن»‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪92‬‬

‫قامئة املنظّامت املناهضة للعوملة‪ ،‬مثل حزب الحريّة النمساوي‪،‬‬


‫والجبهة الوطنيّة الفرنسيّة‪ ،‬وحزب ليغا نورد اإليطايل‪ ،‬باعتبار أ ّن‬
‫هذه األحزاب تُع ّد من أقوى املعارضني للنيوليرباليّة منذ تسعينيّات‬
‫القرن العرشين‪ ،‬إذ ترى أ ّن العوملة من شأنها تدمري النسيج الطبيعي‬
‫للمجتمع املدين[[[‪ ،‬ولكن ما يلفت النظر أ ّن هذه األحزاب تركّز‬
‫يف مناهضتها للعوملة عىل املبادئ القوميّة األوروبيّة‪ ،‬فهي ال‬
‫توسع الفجوة بني األغنياء والفقراء بالدرجة‬
‫تحارب العوملة لكونها ّ‬
‫األساس‪ ،‬بل ألنّها تقلّل الفجوة بني األعراق والثقافات‪.‬‬
‫وال ننىس أيضاً وجود املفكّرين املعارضني للعوملة من ذوي‬
‫التأثري الكبري يف صناعة الرأي العام أمثال نعوم تشومسيك ونعومي‬
‫كالين وفيفيان فوريسرت ورالف نادر‪ ،‬فضالً عن شخص ّيات أخرى‬
‫كانت داعمة يف وقت ما للعوملة أمثال هليموت شميدت وجوزيف‬
‫ستكتلز‪ ،‬إ ّن نشاط مثل هذه الشخص ّيات يجعل من املنظّامت‬
‫والحركات املعارضة للعوملة أمرا ً ال ميكن تجاوزه؛ أل ّن األمر مل‬
‫يعد يقترص عىل الحراك االحتجاجي‪ ،‬بل بات يقوم عىل رصيد‬
‫فكري ثري و ُمنظّرين مؤث ّرين[[[‪.‬‬
‫‪[1]- Exclusion, Community, and a Populist Political Economy: The Radical Right‬‬
‫‪as an Anti-Globalization Movement - Andrej Zaslove – springerlink - 27 June 2008‬‬
‫_‪- https://link.springer.com/article/10.1057/palgrave.cep.6110126?error=cookies‬‬
‫‪not_supported&error=cookies_not_supported&code=42280719969-e-4b8a-8b2f-‬‬
‫‪a50dd4888a6d&code=2dba96714-ff14-fd0-beb48-f57325a559a‬‬
‫[[[‪ -‬مام يؤسف له أ ّن مثل هذه املنظّامت والحركات املناهضة للعوملة ال يوجد لها نظري يف‬
‫بلداننا العربيّة واإلسالميّة‪ ،‬إذ تقترص الحركات االحتجاجيّة يف عاملنا العريب واإلسالمي عىل‬
‫مستوى املشكالت االقتصاديّة والسياسيّة من دون أن تتسع رؤيتها لتشمل مفهوم العوملة مبعناه‬
‫بي لدى الرأي العام يف بلداننا عن إدراك‬
‫يدل عىل ضعف ّ‬ ‫دل عىل يشء فإنّ ا ّ‬ ‫األع ّم‪ ،‬وهذا إن ّ‬
‫الص ُعد كافة‪.‬‬
‫مفهوم العوملة وحجم تحكّمه مبصائرنا عىل ُ‬
‫ّ‬
‫‪93‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫ولكن عىل الرغم من ذلك تبقى املنظّامت والحركات املعارضة‬


‫للعوملة ضعيفة‪ ،‬وهذا الضعف يتمثّل يف محدوديّة املوارد والبُعد‬
‫عن القرار السيايس‪ ،‬واأله ّم من ذلك أ ّن املنخرطني تحت لواء‬
‫هذه املنظّامت والحركات يأتون من خلفيّات ُمتباينة بش ّدة‪ ،‬من‬
‫النقابات العامليّة إىل األحزاب اليمينيّة املتط ّرفة‪ ،‬ومن جمعيّات‬
‫حقوق اإلنسان إىل حركة املدافعني عن البيئة‪ ،‬ومن الحركات‬
‫النسويّة إىل الجمعيّات الكنسيّة‪ ،‬فهذا الطيف الواسع يحمل بطبيعته‬
‫بذور الترشذم واالختالف‪ ،‬بحيث تضطر املنظّامت والحركات‬
‫املعارضة للعوملة إىل أن تطلق شعارات تحمل غموضاً وتعميامً‬
‫وتجريدا ً؛ ألنّها «تخاطب تشكيلة متباينة ‪-‬وبدرجة ما‪ -‬متناقضة‪،‬‬
‫مم‬
‫فكان عليها أن تقف عند حدود عموميّات ُمج ّردة تغطّي أكرث ّ‬
‫تظهر‪ ،‬فالوضوح تحديد بالرضورة‪ ،‬وامليل الجبهوي التجميعي‬
‫يدفع منظّمي الحركة إىل تفادي التحديد‪ ،‬فتبدو الشعارات عاكسة‬
‫للمشرتك بني االتجاهات كافّة‪ ،‬بينام ال تعكس شيئاً مح ّددا ً ميكن‬
‫املراكمة عىل أساسه يف اتجاه ُمح ّدد»[[[‪ ،‬يف حني تقوم «العوملة‬
‫كل املنظّامت الحكوميّة‬
‫من األعىل» عىل أساس تنسيق ُمعقّد بني ّ‬
‫وغري الحكوميّة‪ ،‬بحيث لو افرتضنا جدالً أ ّن املنظّامت املعارضة‬
‫للعوملة إذا متكّنت من إيجاد تغيري جذري يف جانب من جوانبها‪،‬‬
‫فإنّها ستعمل عىل إحداث فجوة قد ال تتمكّن عىل ردمها بقدراتها‬
‫املحدودة وانسجامها املفقود‪.‬‬

‫[[[‪ -‬مناهضة العوملة‪ ،‬كريس هارمان‪ ،‬مركز األرض لحقوق اإلنسان‪ ،‬مرص‪ ،‬سلسلة املقاومة‬
‫والعوملة‪ ،‬العدد ‪ ،1‬ص‪.14‬‬
‫العولمة‬ ‫‪94‬‬

‫هذا وإ ّن التنسيق امل ُعقّد بني منظّامت العوملة خلق شكالً‬


‫خطريا ً من غياب السلطة املسؤولة التي ميكن تشخيصها كعدو‬
‫جه إليه االتهام‪ ،‬إذ «تخضع الرشكات للقوانني‪ ،‬والقوانني‬
‫ُمح ّدد يُو ّ‬
‫تصدر بضغط من الناشطني السياسيني‪ ،‬والناشطون السياسيّون‬
‫يتح ّركون بناء عىل اإلعالم‪ ،‬واإلعالم يصغي بانتباه إىل األسواق‬
‫وكيفيّة تط ّورها‪ ،‬واألسواق عرضة لألوضاع الجاريّة‪ ،‬واألوضاع‬
‫الجاريّة تتأث ّر بأفعال البنوك املركزيّة‪ ،‬والبنوك املركزيّة مستقلّة عن‬
‫الحكومات‪ ،‬والحكومات تدار من قبل أحزاب سياسيّة قريبة من‬
‫الجرمية املنظّمة‪ ،‬والجرمية املنظّمة تغسل أموالها يف كيانات‬
‫األوفشور[[[‪ ،‬وكيانات األوفشور أصبحت جزءا ً من الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنسيّات‪ ،[[[»...‬لذا فإ ّن السلطة يف عرص العوملة صارت موزّعة‬
‫بشكل غامض وشائك يجعل املعارضني لها يدورون بحثاً عنها يف‬
‫حلقة ُمفرغة‪.‬‬
‫إضافة إىل ما تق ّدم‪ ،‬فإ ّن ما يجعل املنظّامت والحركات‬
‫املناهضة للعوملة ضعيفة التأثري هو تغلغل العوملة يف عمق النسيج‬
‫الثقايف االجتامعي عىل نطاق كوين‪ ،‬بحيث تجعل تأييد الشعوب‬
‫للحراك املناهض للعوملة مج ّرد ر ّد فعل مؤقّت ال ميلك مق ّومات‬
‫االستمرار عىل املدى الطويل‪ ،‬فلقد نجحت العوملة بفضل عوامل‬
‫االتصال الحديثة بأن تح ّول ثقافة االستهالك إىل جزء ال يتج ّزأ من‬

‫[[[‪ -‬أوفشور ‪ :Offshore‬كيانات اقتصاديّة تعمل خارج حدود بلدانها األصليّة يف مناطق تعفى‬
‫فيها من الرضائب‪.‬‬
‫[[[‪ -‬نظام التفاهة‪ ،‬آالن دونو‪ ،‬دار سؤال للنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،2020‬ص‪.351-350‬‬
‫ّ‬
‫‪95‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫ثقافة املجتمعات‪ ،‬سواء يف البلدان املتق ّدمة أم النامية‪ ،‬ولهذا فإ ّن‬


‫املنجزات املعقولة التي ميكن للمنظّامت والحركات املناهضة‬
‫للعوملة أن تحقّقها هي مامرسة إصالحات جزئيّة عىل قضايا تبدو‬
‫أنّها تجاوزات خطرية‪ ،‬وعىل الرغم من أنّها محدودة إلّ أنّه ال ميكن‬
‫التقليل من شأنها‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬إ ّن نشاط املناهضني للعوملة يجعل الوعي‬
‫الجامهريي يف حالة استنارة بصدد مصدر معاناتهم الرئيس‪،‬‬
‫ُتستة بشعارات اإلنسان ّية الزائفة‪.‬‬
‫ويفضح كذب القوى العظمى امل ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫الجنسيات‬ ‫ال�كات ُمتعددة‬
‫ابعا‪ :‬ش‬
‫ر‬
‫متثّل الرشكات ا مل ُتع ّد دة الجنسيّات (أو العابرة للقوميّات‬
‫‪ )Multinational Corporation‬قلب العوملة النابض‪ ،‬إنّها‬
‫بالنسبة للعوملة املح ّرك األ ّول والهدف النهايئ يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬وبفضل سيادة النيوليرباليّة ومنظّمة التجارة العامليّة‬
‫دخلت هذه الرشكات مرحلة غري مسبوقة من التعاظم والق ّوة‬
‫بحيث أ ّهلها فعالً ألن تكون حكومة العامل الخفيّة‪.‬‬
‫خاصة باستثامراتها كرشكة وطن ّية‪ ،‬فإذا‬
‫ّ‬ ‫أي رشكة‬
‫عادة ما تبدأ ّ‬
‫متكّنت من توسيع أنشطتها يف بلدان أجنب ّية بحيث تكون لديها‬
‫خطوط إنتاج ّية ثابتة فيها‪ ،‬فإنّها عندئذ ستتح ّول إىل رشكة ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات‪ ،‬وتنقسم الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات يف سياستها‬
‫اإلدارية إىل نوعني‪ :‬األ ّول يتّسم باملركزيّة‪ ،‬إذ تكون الرشكة الوطن ّية‬
‫األم هي املتحكّمة بقرارات باقي الفروع يف الدول األجنب ّية‪ ،‬أ ّما‬
‫العولمة‬ ‫‪96‬‬

‫كل فرع مستقلّة عن الرشكة‬


‫النوع الثاين فال مركزي‪ ،‬إذ تكون إدارة ّ‬
‫األم‪.‬‬
‫يرجع تاريخ ظهور الرشكات امل ُتع ّددة الجنس ّيات بشكلها الحايل‬
‫إىل القرن التاسع عرش‪ ،‬ففي العام ‪ 1865‬أنشأت رشكة باير األملان ّية‬
‫للصناعات الكيميائ ّية مصنعاً لها يف نيويورك‪ ،‬يف حني أنشأت رشكة‬
‫سنجر األمريك ّية يف عام ‪ 1867‬مصنعاً لها يف غالسكو إلنتاج‬
‫ماكينات الخياطة‪ ،‬وتبعته مبصانع أخرى يف النمسا وكندا‪ ،‬ورسعان‬
‫ما حذت الكثري من الرشكات األمريك ّية حذوها[[[‪ ،‬ولكن بشكل‬
‫الخاصة متتلك الق ّوة الكافية ألن‬
‫ّ‬ ‫عام مل تكن غالب ّية الرشكات‬
‫تكون ُمتع ّددة الجنس ّيات؛ أل ّن الحكومات كانت تتبع منهجاً حامئ ّياً‬
‫للحفاظ عىل اقتصادها القومي‪ ،‬وبذلك تواجه الرشكات عقبات‬
‫التوسع يف األسواق األجنب ّية‪ ،‬كام أ ّن الحكومات‬
‫ّ‬ ‫حقيق ّية متنعها من‬
‫يف السابق كانت تحتكر الصناعات الوطنية امله ّمة مثل استخراج‬
‫الفحم وصناعات الحديد الصلب‪ ،‬لذلك يبقى عمل الرشكات‬
‫الخاصة محصورا ً يف إنتاج البضائع املحل ّية بحيث تبقى ضمن قدرة‬
‫ّ‬
‫اقتصاديّة محدودة[[[‪.‬‬
‫تغي الحال‪ ،‬إذ أ ّدى تحرير‬
‫ولكن بعد الحرب العامل ّية الثانية ّ‬

‫سة لدوافع نشأتها‬


‫[[[‪ -‬تاريخ ظهور الرشكات املتعدّدة الجنسيّات والنظريّات املف ّ‬
‫املوسوعة الجزائريّة للدراسات السياس ّية واإلسرتاتيج ّية ‪- SAKHRI Mohamed -‬‬
‫‪/‬تاريخ‪-‬ظهور‪-‬الرشكات‪-‬املتعددة‪-‬الجنسيات‪2018/11/-21 - https://www.politics-dz.com/‬‬
‫سة لدوافع نشأتها‬‫[[[‪-‬تاريخ ظهور الرشكات املتعدّدة الجنسيّات والنظريّات املف ّ‬
‫‪ - SAKHRI Mohamed -‬املوسوعة الجزائريّة للدراسات السياسيّة واإلسرتاتيجيّة ‪2018/11/-21‬‬
‫‪/https://www.politics-dz.com -‬تاريخ‪-‬ظهور‪-‬الرشكات‪-‬املتعددة‪-‬الجنسيات‪. /‬‬
‫ّ‬
‫‪97‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫التجارة واستقرار االقتصاد العاملي ‪-‬بفضل اتفاقيّة بريتون وودز‪ -‬إىل‬


‫الخاصة‪ ،‬فأخذت هذه‬
‫ّ‬ ‫إيجاد فرص ذهبية أمام استثامر الرشكات‬
‫الرشكات تفكّر يف افتتاح أسواق ناشئة يف الدول األجنبيّة‪ ،‬وأ ّن االقتصاد‬
‫النيوليربايل أعطى دفعة كبرية للرشكات ليك تتغ ّول‪ ،‬إذجعل الحكومات‬
‫تتخل بشكل واسع عن إنتاج السلع والخدمات لصالح الخصخصة‪،‬‬
‫ّ‬
‫كام سمح بإغداق القروض الحكوميّة عليها مع تقليل عبء الرضائب‬
‫عن كاهلها‪ ،‬وبذلك صارت تلك الرشكات متلك أرصدة ماليّة مهولة‬
‫مكّنتها تدريجيّاً من تحقيق اندماجات عموديّة وأفقيّة[[[‪ ،‬كام أخذت‬
‫بتوسيع أنشطتها يف مجاالت غري مرتابطة‪ ،‬فمثالً رشكة جرنال ألكرتيك‬
‫‪ GE‬صارت تعمل يف صناعة الطائرات ويف خدمات الرعاية الصحيّة‬
‫ويف مجاالت الطاقة ويف الصناعات التكنولوجيّة الرقميّة ويف اإلعالم‪،‬‬
‫هذا فضالً عن استثامراتها يف سوق األوراق املاليّة‪.‬‬
‫كام أ ّن فتح الحدود أمام حركة رؤوس األموال التي مت ّيز بها‬
‫عرص العوملة أعطى فرصاً ذهب ّية للرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات يف‬
‫الته ّرب من الرضائب‪ ،‬وذلك باالنتقال إىل ما يس ّمى بالج ّنات‬
‫الخاصة بتوفري غطاء‬
‫ّ‬ ‫الرضيب ّية‪ ،‬وهي مناطق تسمح قوانينها‬
‫للمستثمرين األجانب يف الته ّرب من دفع الرضائب يف بلدانهم‬
‫األصل ّية‪ ،‬كام تسمح بتبييض األموال امل ُتدفّقة عليها من أرجاء‬

‫كل الخطوط اإلنتاجيّة الالزمة لصناعتها‪ ،‬ابتداء من‬


‫[[[‪ -‬االندماج العمودي هو أن متتلك الرشكة ّ‬
‫استخراج املواد الخام وانتهاء بالتوريد والتوزيع ومن أمثلته رشكة عيل بابا الصين ّية التي متتلك‬
‫الخاصة بها‪ ،‬أ ّما االندماج األفقي فهو‬
‫ّ‬ ‫نظاماً متكامالً يشمل الدفع والتوصيل ومح ّركات البحث‬
‫أن تستحوذ الرشكة عىل الرشكات املنافسة لها يف ذات الصناعة‪ ،‬ومثاله استحواذ رشكة فيسبوك‬
‫عىل أنستغرام وواتساب‪.‬‬
‫العولمة‬ ‫‪98‬‬

‫العامل‪ ،‬والتي ال يت ّم التحقّق من مصادرها[[[‪ ،‬وتهدف هذه املناطق‬


‫من وراء ذلك إىل جلب االستثامرات األجنبيّة إليها‪ ،‬ومن أبرز‬
‫مؤش‬
‫ّ‬ ‫املناطق التي تص ّنف عىل أنّها ج ّنات رضيبيّة بحسب‬
‫املالذات الرضيبيّة للرشكات لعام ‪ 2021‬ما ييل‪ :‬جزر فيجن‬
‫تحتل الصدارة يف مخالفات رضائب الرشكات يف‬
‫ّ‬ ‫الربيطانيّة التي‬
‫العامل بنسبة ‪ ،%6.4‬وهي تستضيف حوايل ‪ %2.3‬من النشاط‬
‫املايل للرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات‪ ،‬وجزر كاميان بنسبة‪ %6‬وهي‬
‫موطن لحوايل ‪ %1.9‬من النشاط املايل العاملي‪ ،‬وأرخبيل برمودا‬
‫املسؤول عن ‪ %5.7‬من التجاوزات الرضيبيّة للرشكات العامليّة‪،‬‬
‫ويحتضن ‪ %1.6‬من النشاط املايل لهذه الرشكات‪ ،‬وهولندا‬
‫بنسبة ‪ %5.5‬وتستضيف ‪ %11‬من النشاط املايل للرشكات يف‬
‫العامل‪ ،‬ث ّم سويرسا املسؤولة عن ‪ %5.1‬من التجاوزات الرضيبيّة‪،‬‬
‫وتحتضن ما نسبته ‪ %3.4‬من نشاط الرشكات العامليّة[[[‪.‬‬
‫لقد متكّنت الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات من أن تتوافر عىل‬
‫أصول مال ّية ضخمة تجعلها تتف ّوق عىل ميزان ّيات دول كاملة‪ ،‬فمثالً‬
‫بلغت القيمة السوق ّية لرشكة آبل األمريك ّية أواسط العام ‪ 2015‬أكرث‬
‫من ‪ 700‬مليار دوالر[[[‪ ،‬وهذا الرقم يفوق مجموع إيرادات العراق‬
‫[[[‪ -‬الج ّنات الرضيبيّة ودورها يف الته ّرب الرضيبي الدويل‪ ..‬الحالة اإليرلنديّة املزدوجة‬
‫والساندويتش الهولندي لرشكة غوغل‪ ،‬ضاريف رمية وبلخريي مح ّمد سعد الدين‪ ،‬مجلّة اقتصاد‬
‫املال واألعامل‪ ،‬املجلّد ‪ -4‬العدد‪ ،1‬أفريل ‪ ،2020‬ص‪.77-76‬‬
‫‪[2]- Los paraísosfiscalesmásimportantes del mundo / Juan Pedro Fernández / 28-‬‬
‫‪2021-06 / https://www.muynegociosyeconomia.es/economia-y-finanzas/fotos/‬‬
‫‪los-paraisos-fiscales-mas-importantes-del-mundo-561624894693- 17/‬‬
‫‪[3]- Apple Market Cap 20102021- | AAPL/ macrotrends / https://www.‬‬
‫‪macrotrends.net/stocks/charts/AAPL/apple/market-cap‬‬
‫ّ‬
‫‪99‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫من النفط للم ّدة ‪ 2015-2010‬التي تبلغ قرابة ‪ 522‬مليار دوالر‬


‫فقط[[[‪ ،‬ما يعني أ ّن العراق لو جمع وارداته النفطيّة التي تشكّل ‪%85‬‬
‫ست سنوات كاملة‪ ،‬فلن‬ ‫مم ينفقه إلعالة الشعب العراقي مل ّدة ّ‬ ‫ّ‬
‫يكون قادرا ً عىل رشاء رشكة آبل بكامل قيمتها السوقيّة لعام ‪.2015‬‬
‫والغريب أ ّن عددا ً من الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات قد قفزت بعد‬
‫انتشار جائحة كوفيد‪ 19-‬قفزات مخيفة‪ ،‬فمثالً تجاوزت قيمة رشكة‬
‫آبل لوحدها ألفي مليار دوالر للعام ‪ ،2021‬يف حني وصل مجموع‬
‫القيمة السوق ّية ألربع رشكات أمريك ّية هي (مايكروسوفت وأمازون‬
‫وألفا بيتا وفيسبوك) قرابة ‪ 5‬آالف مليار دوالر للعام ذاته[[[‪.‬‬
‫هذا ومل تعد األهداف التي تص ّوب نحوها كثري من هذه‬
‫الرشكات ُمقترصة عىل جني األرباح وتعظيم رأس املال‪ ،‬بل‬
‫تجاوزتها إىل أهداف التأثري الشامل والدائم عىل الصعيد العاملي‪،‬‬
‫إذ أخذت تتسابق لتحويل عالماتها التجاريّة إىل سامت تطبع حياة‬
‫عب عن ذلك هيكتور ليانغ الرئيس السابق‬
‫البرش بشكل منطي‪ ،‬وكام ّ‬
‫لرشكة البسكويت املتّحدة قائالً‪« :‬اآلالت تبىل‪ ،‬تصدأ السيارات‪،‬‬
‫الناس ميوتون‪ ،‬لكن ما يعيش هو العالمات التجاريّة»[[[‪.‬‬
‫هذا فضالً عن سعي أرباب هذه الرشكات إىل تدويل ذواتهم‪ ،‬إذ‬
‫[[[‪ -‬االقتصاد العراقي‪ :‬التحدّيات والخيارات‪ ،‬رسمد كوكب الجميل ومنري أمري الصائغ وعدي‬
‫سامل‪ ،‬مركز صنع السياسات للدراسات الدوليّة واإلسرتاتيجيّة‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2018 /8 /11‬عىل‬
‫الرابط ‪https://www.makingpolicies.org/ar/posts/economy.arabic.php‬‬
‫‪[2]- The Biggest Companies in the World in 2021 / Jenna Ross / visualcapitalist‬‬
‫‪/ June 10, 2021 / https://www.visualcapitalist.com/the-biggest-companies-in-the-‬‬
‫‪world-in-2021/‬‬
‫‪[3]- NO LOGO/ Naomi Klein/ Great Britain by Flamingo - 2000 / page 204.‬‬
‫‪ 100‬العولمة‬

‫صار الدخول يف قامئة (أثرى أثرياء العامل) هدفاً بح ّد ذاته يتنافسون‬


‫فيام بينهم لتحقيقه‪ ،‬وبذلك مل تعد قامئة النجوم واملشاهري يف عرص‬
‫العوملة تقترص عىل املمثّلني واملغ ّنني والعبي كرة القدم وحسب‪،‬‬
‫بل صار يدخلها جيل جديد من أصحاب الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات‬
‫أمثال ستيفن جوبزوبيل غيتس ومارك زوكربريغ وإيلون ماسك‪ ،‬وذلك‬
‫ما ساعد عىل منو قامئة املليارديرات الذين يتوافرون عىل أرصدة ماليّة‬
‫عمالقة تنافس ميزانيّات مجموعة من الدول‪ ،‬ففي الواليات املتّحدة‬
‫يوجد ‪ 735‬مليارديرا ً يبلغ صايف أرصدتهم املاليّة ‪ 4.7‬ألف مليار‬
‫دوالر‪ ،‬ويف الصني يوجد ‪ 607‬مليارديرات يبلغ صايف أرصدتهم‬
‫املاليّة ‪ 2.3‬ألف مليار دوالر‪ ،‬علامً أ ّن عدد مليارديرات العامل قد وصل‬
‫إىل ‪ 2668‬شخصاً بحسب إحصائيّة مجلّة فوربس للعام [[[‪.2022‬‬
‫ويشري تقرير منظّمة أوكسفام الدول ّية الصادر عن املنتدى‬
‫االقتصادي العاملي لعام ‪ 2020‬إىل أ ّن مليارديرات العامل صاروا‬
‫ميلكون ثروة تفوق ما ميلكه ‪ %60‬من سكان األرض‪ ،‬مبعنى أ ّن‬
‫أكرث من ألفي شخص فقط لديهم أرصدة تتجاوز أرصدة ‪4.6‬‬
‫مليار إنسان يف العامل‪ ،‬وبحسب التقرير فإنّه لو دفع ‪ %1‬من هؤالء‬
‫املليارديرات زيادة رضيب ّية تبلغ ‪ %0.5‬فقط من ثروتهم عىل مدى‬
‫‪ 10‬سنوات ُمقبلة‪ ،‬فإ ّن ذلك من شأنه أن يخلق ‪ 117‬مليون وظيفة‬
‫يف قطاعات ِكبار السن ورعاية األطفال والتعليم والص ّ‬
‫حة[[[‪.‬‬
‫‪[1] - Forbes World’s Billionaires List The Richest in 2022/Kerry A. Dolan & Chase‬‬
‫‪Peterson-Withorn / Forbes/ https://www.forbes.com/billionaires/.‬‬
‫‪[2]- World’s billionaires have more wealth than 4.6 billion people / Oxfam / 20th‬‬
‫‪January 2020 / https://www.oxfam.org/en/press-releases/worlds-billionaires-‬‬
‫‪have-more-wealth-46-billion-people.‬‬
‫ّ‬
‫‪101‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫إ ّن تركّز األموال بهذا الشكل الفاحش بيد قلّة قليلة من البرش يف‬
‫عرص العوملة ّ‬
‫يدق ناقوس خطر حقيقي‪ ،‬إذ مل يشهد تاريخ البرشية‬
‫وكل ذلك‬
‫مثل هذا املستوى من عدم املساواة واحتكار الرثوة‪ّ ،‬‬
‫أي‬
‫يعود إىل إطالق العنان للرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات من دون ّ‬
‫رقابة أو ضوابط تح ّد من سلطتها‪.‬‬
‫وإ ّن ما تخفيه الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات تحت هذا الرثاء‬
‫الفاحش بش ٌع بامتياز‪ ،‬فالتفاصيل التي ُجمعت عن مناطق التجارة‬
‫الح ّرة التي تستغلّها الرشكات للوصول إىل العاملة الرخيصة يف‬
‫البلدان النامية تجعلنا نعرف جزئ ّياً كيف يجمع أولئك الناس‬
‫ال تصف نعومي كالين الوضع يف مناطق‬ ‫األنيقون ثروتهم‪ ،‬فمث ً‬
‫التجارة الح ّرة (كافيت ‪ )Cavite‬جنوب الفلبني قائلة‪« :‬يت ّم تشغيل‬
‫العديد من مصانع املنطقة بقبضة حديديّة وقواعد صارمة تنتهك‬
‫بشكل منهجي قانون العمل الفل ّبيني‪ ،‬عىل سبيل املثال بعض أرباب‬
‫الحممات ُمغلقة باستثناء فرتة االسرتاحة‬
‫ّ‬ ‫العمل يحافظون عىل‬
‫يتعي عىل العامل‬
‫ّ‬ ‫البالغة خمس عرشة دقيقة‪ ،‬وخالل هذه الفرتة‬
‫تسجيل دخولهم وخروجهم حتّى تتمكّن اإلدارة من تحديد وقتهم‬
‫غري امل ُنتج‪ ،‬ويضطر بعض العامل إىل التب ّول يف أكياس بالستيك ّية‬
‫يُخفونها تحت أجهزتهم‪ ،‬ويف بعض املصانع هنالك قواعد صارمة‬
‫متنع الكالم وحتّى االبتسام‪ ،‬ليس هذا فقط بل يت ّم التالعب مبسألة‬
‫العمل دون الح ّد األدىن من األجور‪،‬‬
‫األجور أيضاً‪ ،‬إذ يكسب معظم ّ‬
‫لعملها‪،‬‬
‫وتغش املصانع بانتظام يف مدفوعات الضامن االجتامعي ّ‬
‫ّ‬
‫لكل يشء‪ ،‬ويف مصنع‬
‫ربعات» ّ‬
‫وتجمع منهم بشكل غري قانوين «ت ّ‬
‫‪ 102‬العولمة‬

‫شاشات حواسيب (آي يب إم) فإ ّن ساعات العمل اإلضايف ال ت ُدفع‬


‫مقابلها أجور ماليّة بل بضعة قطع صغرية من الكعك‪ ،‬ويف الوقت‬
‫العمل األعشاب الضا ّرة من‬
‫نفسه يتوقّع بعض الم ُّلك أن يسحب ّ‬
‫ويتعي عىل آخرين تنظيف‬
‫ّ‬ ‫األرض وهم يف طريقهم إىل املصنع‪،‬‬
‫والحممات بعد انتهاء نوباتهم‪ ،‬هذا يف الوقت الذي تكون‬
‫ّ‬ ‫األرضيّات‬
‫فيه بيئة العمل قاسية بسبب سوء التهوية وندرة ُمع ّدات الحامية»[[[‪.‬‬
‫قد يقال إ ّن هذه السلب ّيات باملجمل ميكن التغايض عنها ما‬
‫دامت هذه الرشكات تعمل عىل تشغيل اليد العاملة يف البلدان‬
‫مؤشات ّ‬
‫تدل عىل أ ّن ‪ 200‬رشكة‬ ‫ّ‬ ‫الفقرية والنامية‪ ،‬ولكن هنالك‬
‫عمالقة تتص ّدر قامئة الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‪ ،‬والتي تقوم‬
‫بتنفيذ ربع النشاط االقتصادي العاملي‪ ،‬ال تستخدم سوى ‪%0.075‬‬
‫من القوى العاملة[[[‪ ،‬يف حني تلجأ بعض الرشكات إىل استخدام‬
‫األمتتة بهدف التخلّص من العاملة البرشيّة‪ ،‬فمثالً بدأت رشكة‬
‫فوكسكون ‪-‬إحدى أكرب رشكات تصنيع اإللكرتون ّيات العامل ّية يف‬
‫العمل بالروبوتات بعد وقوع سلسلة من حاالت‬
‫الصني‪ -‬باستبدال ّ‬
‫العمل املهاجرين الشباب بسبب ضغوط العمل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫االنتحار بني‬
‫وتُطلق فوكسكون عىل خطوط اإلنتاج الجديدة مصطلح (مصانع‬
‫األنوار امل ُطفأة) الذي يعني أ ّن الرشكة مل تعد بحاجة إىل القلق بشأن‬
‫مشكالت االعتامد عىل البرش[[[‪.‬‬
‫‪[1]- NO LOGO/ previous source / page2019 .‬‬
‫[[[‪ -‬انتقادات ض ّد منظّمة التجارة العامل ّية‪ ،‬مصدر إلكرتوين سابق‪.‬‬
‫[[[‪« -‬فوكسكون» ‪ ..‬أكرب معمل تقني يدفع مثن الحرب التجاريّة‪ /‬كاثرين هييل‪ /‬جريدة االقتصاديّة‬
‫‪https://www.aleqt.com/201924/06//article_1623166.html / 242019-6-/‬‬
‫ّ‬
‫‪103‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫هذا وإ ّن اإلمكانات الضخمة التي توافرت عليها الرشكات‬


‫ُمتع ّددة الجنسيّات أ ّهلتها ألن تحتكر عمليّات التطوير العلمي‬
‫ألغراضها التجاريّة‪ ،‬وبذلك عملت هذه الرشكات عىل تحويل دفّة‬
‫اإلنتاج العلمي األكادميي من أهداف تنمويّة إىل أهداف سلعيّة‬
‫الخلقة‬
‫ّ‬ ‫رصفة‪ ،‬إذ تستقطب كربى الرشكات الرأسامليّة العقول‬
‫للطلبة يف األكادمييّات العامليّة‪ ،‬وتغدق عليهم األموال لتجيري‬
‫إبداعات عقولهم ملصالحها التجاريّة‪ ،‬وتعمد إىل توظيف األبحاث‬
‫يف علوم إنسانيّة مه ّمة ‪-‬مثل علم النفس وعلم االجتامع‪ -‬ألغراض‬
‫تسويقيّة رصفة‪ ،‬وال غرابة عندئذ يف أن يضع أستاذ علم النفس‬
‫روبرت سيالديني كتابه (التأثري‪ ..‬علم نفس اإلقناع) بناء عىل متابعته‬
‫ألساليب التأثري النفيس ألغراض التسويق‪ ،‬إذ تتعلّم الرشكات الكثري‬
‫عن نقاط الضعف النفسيّة لدى البرش‪ ،‬ليس من أجل ردمها بل من‬
‫أجل استغاللها لبيع أكرب قدر من البضائع‪ ،‬وهذا ما دفع الدكتور‬
‫آالن دونو إىل اعتبار التعليم األكادميي اليوم جزءا ً من نظام التفاهة؛‬
‫أل ّن قدرا ً كبريا ً من هذا التعليم صار يهدف إىل تسليع العلم وطالبه‪،‬‬
‫فلم يَ ُعد الطلبة « ُمستهلكني للتدريس وللشهادات امل ُق ّدمة يف‬
‫الحرم الجامعي‪ ،‬لقد صاروا هم أنفسهم سلعاً‪ ،‬فالجامعة تبيع ما‬
‫تصنعه منهم إىل زبائنها الجدد وتحديدا ً إىل الرشكات وغريها من‬
‫املؤسسات امل ُم ِّولة لهذه الجامعة»[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫وال يقترص األمر عىل الطلبة‪ ،‬فلقد متكّنت الرشكات من رشاء‬
‫املختصني يف حقولهم املعرف ّية لصالح التسويق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ذمم األكادمييني‬

‫[[[‪ -‬نظام التفاهة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.92‬‬


‫‪ 104‬العولمة‬

‫ويرضب دونو أمثلة عىل ذلك‪ ،‬فرشكة كوكا كوال م ّولت دراسات‬
‫علميّة ت ّدعي أ ّن سبب السمنة ال يكمن يف السعرات الحراريّة بل‬
‫عم يعرف عن أساتذة كليّات الطب‬
‫يعود إىل نقص الرياضة‪ ،‬ناهيك ّ‬
‫امل ُم َّولني من قبل الرشكات الدوائيّة من ميل إىل التهوين من آثار‬
‫املضار الجانبيّة لألدوية عند مناقشتها يف قاعات الدرس[[[‪.‬‬
‫هذا وإ ّن احتكار هذه الرشكات ألبحاث التطوير ال يؤ ّدي إىل‬
‫تسفيه العلم حسب‪ ،‬وإنّ ا يعمل عىل تدمري ِ‬
‫الحرف واملهن املحل ّية‬
‫التي تعتاش عليها قطاعات واسعة من الشعوب‪ ،‬إ ّن الرشكات من‬
‫خالل هذه األبحاث سوف تكون قادرة حرف ّياً عىل إنتاج بضائع‬
‫وخدمات رخيصة بجودة عالية تجعل منافستها يف األسواق الناشئة‬
‫جه ‪-‬الذي‬
‫شبه مستحيلة‪ ،‬ومن الطبيعي أن ينطوي مثل هذا التو ّ‬
‫جع عليه املنظّامت العومل ّية‪ -‬عىل مقدار عظيم من انعدام‬ ‫تش ّ‬
‫العدالة والالمباالة مبصائر قطاع واسع من الشعب يف البلدان الفقرية‬
‫والنامية‪.‬‬
‫إ ّن هذا الحجم الذي بلغته الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات أحدث‬
‫تغيريا ً فعل ّياً يف توازن القوى مع حكومات الدول املتق ّدمة‪ ،‬إذ‬
‫تح ّولت عالقة هذه الرشكات بالحكومات إىل عالقة اعتامديّة شديدة‬
‫ال يستغني فيها أحد الطرفني عن اآلخر‪ ،‬ومن الطبيعي أ ّن اإلمكان ّيات‬
‫الضخمة التي تحوزها هذه الرشكات تؤ ّهلها فعل ّياً ألن ت ُشكّل ق ّوة‬
‫ضغط هائلة الستحصال القرارات السياس ّية التي تالئم مصالحها‬
‫التجاريّة‪ ،‬وذلك عن طريق رشائها للساسة واألحزاب والضغط عىل‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.144‬‬
‫ّ‬
‫‪105‬‬ ‫الفصل الثاني‪ُ :‬منظمات عصر العولمة‬

‫جامعات اللويب‪ ،‬لذا ميكن اعتبار الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات أشبه‬
‫بالحكومة الفعليّة التي تدير املشهد العاملي يف عرص العوملة‪.‬‬
‫وحيث إ ّن هذه الحكومة ال تتك ّون من قطب واحد‪ ،‬وإنّ ا من‬
‫أقطاب ُمتع ّددة تجمعها أهداف استثامر الفرص التي تزيد أرباحها‬
‫يف املشهد العاملي‪ ،‬لذا فهي بحاجة إىل التوافق بني أطرافها‪ ،‬ولهذا‬
‫ينعقد املنتدى االقتصادي العاملي ‪ WEF‬يف مدينة دافوس بسويرسا‬
‫سنويّاً‪ ،‬حيث يشرتك قادة أكرب ‪ 1000‬رشكة يف العامل من أمثال نستله‬
‫ونايىك ومايكروسوفت وبكتل وكوكاكوال وغولدمان وساكس وآي‬
‫يب أم‪ ،‬وعادة ما تت ّم استضافة رؤساء وقادة وأشخاص مؤث ّرين عىل‬
‫الصعيد الدويل للمشاركة يف أعامل املنتدى‪.‬‬
‫يف منتدى دافوس توضع مس ّودات لخطط ومشاريع اقتصاديّة‬
‫مشرتكة‪ ،‬وعىل الرغم من أنّه رسم ّياً منظّمة غري حكوم ّية وال يستهدف‬
‫يقل عن‬
‫إل أ ّن رشوط عضويّته تحتّم أن يكون دخل الرشكة ال ّ‬
‫الربح‪ّ ،‬‬
‫مليار دوالر سنويّاً‪ ،‬إىل جانب اشرتاك عضويّة يبلغ ‪12.500‬دوالر‪،‬‬
‫أ ّما االشرتاك يف املؤمتر السنوي فيكلّف ‪ 6.250‬ألف دوالر‪ ،‬وإذا‬
‫أرادت الرشكة االشرتاك يف وضع أجندة هذا املؤمتر قبل انعقاده‪،‬‬
‫فعليها أن تدفع ‪ 250.000‬ألف دوالر‪ ،‬وإذا أرادت أن تكون رشيكاً‬
‫دامئاً‪ ،‬فعليها أن تدفع ‪ 78.000‬ألف دوالر[[[‪.‬‬
‫وقد «ف ّرخ» منتدى دافوس منتديات قاريّة وإقليميّة أه ّمها (اللقاء‬
‫السنوي لألبطال الجدد) يف الصني و(دافوس الصيفي) الذي يض ّم‬
‫[[[‪ -‬دافوس ‪ :2020‬كل ما تريد معرفته عن املنتدى االقتصادي العاملي‪ ،‬دانيال توماس‪BBC ،‬‬
‫عريب‪https://www.bbc.com/arabic/business-51160664 /2020-1-19 /‬‬
‫‪ 106‬العولمة‬

‫قادة األعامل والسياسة يف الدول الصناعيّة الصاعدة مبا فيها الهند‬


‫وروسيا والربازيل والصني‪ ،‬إضافة إىل املنتدى االقتصادي العاملي‬
‫لقا ّرة أمريكا الالتينيّة‪ ،‬كام صارت تنعقد سلسلة من اللقاءات اإلقليميّة‬
‫التي تحمل اسم دافوس يف مناطق أخرى مثل أوروبا وآسيا الوسطى‬
‫وروسيا وأفريقيا والرشق األوسط[[[‪.‬‬
‫إ ّن منتدى دافوس وأمثاله أشبه ما يكون مبنظّمة األمم املتّحدة‬
‫بالنسبة لحكومات العامل‪ ،‬إذ تؤكّد كربى الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‬
‫وتعب عن طموحاتها‬ ‫ّ‬ ‫عىل سلطتها العامل ّية عىل نطاق رسمي‪،‬‬
‫املتزايدة يف تع ّدي بعدها االقتصادي إىل األبعاد السياس ّية والثقاف ّية‪،‬‬
‫إ ّن الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات تؤكّد من خالل ذلك عىل سلطتها‬
‫الصاعدة التي تهمل االختالفات القوم ّية املعهودة بل وتهمل‬
‫التنافس التقليدي بني الحضارات‪.‬‬
‫ولكن هل ميكن أن تتح ّرر الرشكات من حاجتها للحكومات‬
‫األقل‬
‫ّ‬ ‫القوم ّية وأنظمتها التقليديّة؟ إ ّن هذا األمر ال يبدو ممكناً عىل‬
‫يف املستقبل املنظور؛ أل ّن الحكومات القوم ّية ال تزال هي امل ُع َّول‬
‫عليه‪ ،‬الذي تستند إليه الرشكات لتأمني بيئة مستق ّرة أمن ّياً‪ ،‬كام تعتمد‬
‫هذه الرشكات عىل الحكومات العظمى لتنظيم التنافس املحموم‬
‫بني الرشكات ذاتها‪ ،‬فمن املعلوم أ ّن منتدى دافوس وأمثاله ال يستند‬
‫يف تنفيذ قراراته إىل قوى قاهرة كالتي متتلكها الحكومات التي ال‬
‫تزال متتلك الق ّوة العسكريّة الرسم ّية يف جميع أنحاء العامل‪.‬‬

‫[[[‪ -‬كالوس شواب وصعود منتدى “دافوس”‪ ،‬صحيفة الغد‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2011 /7 /25‬عىل‬
‫الرابط ‪/https://alghad.com‬كالوس‪-‬شواب‪-‬وصعود‪-‬منتدى‪-‬دافوس‪/‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫ُمنجزات العولمة‬
‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬
‫ّ ً َ ْ‬
‫أوال‪ :‬عولمة ِب ِ‬
‫طعم األزمات‬
‫ال يخفى أ ّن موازين القوى بعد الحرب العامليّة الثانية تح ّولت‬
‫من أوروبا إىل الواليات املتّحدة األمريكيّة مبا يف ذلك الق ّوة‬
‫االستعامريّة التي كانت تتمتّع بها دول غرب أوروبا‪ ،‬ولكن بسبب‬
‫وجود االتحاد السوفييتي كق ّوة عظمى منافسة للقوة األمريكيّة‬
‫وتأسيس املواثيق الدوليّة تحت مظلّة األمم املتّحدة‪ ،‬ركّزت الواليات‬
‫املتّحدة عىل اتّباع أسلوب الق ّوة االستعامريّة غري املبارشة‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل تشجيع االنقالبات العسكريّة ودعم الحركات االنفصاليّة‬
‫ونرش الفوىض واستغالل الكوارث البيئيّة‪ ،‬وقد لعبت املخابرات‬
‫األمريكيّة ‪ CIA‬دورا ً كبريا ً يف هذا الصدد‪.‬‬
‫إ ّن الق ّوة االستعامريّة غري املبارشة التي مارستها الواليات‬
‫أقل كُلفة‪ ،‬وثانيها‬
‫املتّحدة متتاز بثالث م ّيزات مه ّمة‪ :‬أ ّولها أنّها ّ‬
‫أنّها ال تخرق املواثيق الدول ّية عالنية‪ ،‬وثالثها أنّها ت ُوقف مت ّدد‬
‫الشيوع ّية عن طريق فرض األجندة الرأسامل ّية‪ ،‬فاالقتصاد سالح‬
‫عظيم ال توازيه أش ّد األسلحة فتكاً‪ ،‬وإ ّن تحويل النظام االقتصادي‬
‫ألي دولة من االشرتايك إىل الرأساميل ال يعني انفتاح تلك الدولة‬
‫ّ‬
‫عىل املرشوع الغريب حسب‪ ،‬وإنّ ا يعني أيضاً تقويض السياسة‬
‫االشرتاك ّية بر ّمتها‪ ،‬ويقوم أسلوب االستعامر غري املبارش عىل‬
‫أساس فكرة بسيطة تتمثّل يف استغالل األزمات لتمرير النظام‬
‫النيوليربايل والقضاء عىل النظام االشرتايك‪ ،‬وهي عمل ّية أطلقت‬
‫‪ 112‬العولمة‬

‫عليها نعومي كالين اسم (عقيدة الصدمة) التي كانت أمريكا‬


‫الالتينيّة من أوائل ضحاياها‪.‬‬
‫مؤسسة خرييّة يف العامل آنذاك‪-‬‬
‫مؤسسة فورد ‪-‬وهي أكرب ّ‬
‫كانت ّ‬
‫تُع ّد امل ُم ّول األ ّول للربنامج األمرييك الالتيني للبحث والتدريب‬
‫االقتصادي التابع لجامعة شيكاغو‪ ،‬الذي أطلق العديد من (صبيان‬
‫شيكاغو)[[[ األمريكيني يف القا ّرة‪ ،‬كذلك م ّولت فورد برنامجاً موازياً‬
‫يف الجامعة الكاثوليك ّية يف سانتياغو عاصمة تشييل ُمص ّمامً لجذب‬
‫طالب االقتصاد من البلدان املجاورة ليك يتعلّموا عىل يدي صبيان‬
‫مؤسسة فورد‪ ،‬سواء بشكل متع ّمد أم غري‬
‫شيكاغو‪ ،‬وقد ح ّول ذلك ّ‬
‫متع ّمد‪ ،‬إىل مصدر رئيس لتمويل انتشار إيديولوجيا مدرسة شيكاغو‬
‫يف أرجاء أمريكا الالتين ّية بشكل يفوق دور الحكومة األمريك ّية ذاتها[[[‪.‬‬
‫أوىل تجارب االستعامر النيوليربايل الجديد كانت يف جمهوريّة‬
‫تشييل الواقعة عىل الساحل الغريب ألمريكا الالتين ّية‪ ،‬إذ دعمت‬
‫الواليات املتّحدة انقالباً عسكريّاً بقيادة الجرنال أوجستو بينوشيه‬
‫عىل حكومة الرئيس االشرتايك سلفادور أللندي يف العام ‪،1973‬‬
‫وقد حكم الجرنال بينوشيه البالد بالحديد والنار مل ّدة ‪ 17‬سنة ُمعطياً‬
‫املجال لصبيان شيكاغو يف مامرسة دورهم لنقل تشييل من النظام‬
‫االشرتايك إىل الرأساميل عىل الطريقة النيوليربال ّية‪ ،‬ويف ذلك يقول‬

‫[[[‪ -‬صبيان شيكاغو أو فتيان شيكاغو‪ :‬مجموعة من االقتصاديني التشيليني البارزين يف‬
‫السبعينيّات والثامنينيّات من القرن العرشين‪ ،‬تلقّى معظمهم تعليمهم يف قسم االقتصاد بجامعة‬
‫شيكاغو تحت إرشاف ميلتون فريدمان وأرنولد هاربرجر‪.‬‬
‫[[[‪ -‬عقيدة الصدمة‪ ..‬صعود رأسامليّة الكوارث‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.181‬‬
‫‪113‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫ميلتون فريدمان‪« :‬كانت هذه هي امل ّرة األوىل التي نتّخذ فيها إجراء‬
‫ض ّد الشيوعيّة‪ ،‬والتي كانت يف الحقيقة خطوة نحو السوق الح ّر»[[[‪.‬‬
‫بعد تطبيق الرأسامليّة النيوليرباليّة مبارشة‪ ،‬فشل االقتصاد التشييل‬
‫فشالً ذريعاً‪ ،‬ففي العام ‪ 1974‬بلغ التضخّم االقتصادي ‪ ،%375‬وهو‬
‫أعىل مع ّدل يف العامل وضعف أعىل مستوى بلغه االقتصاد التشييل‬
‫تحت حكم الرئيس أللندي تقريباً[[[‪ ،‬وعىل الرغم من أ ّن مع ّدالت‬
‫الفقر يف تشييل انخفضت من ‪ %30‬يف عام ‪ 2000‬إىل ‪ %6.4‬يف‬
‫واألقل‬
‫ّ‬ ‫إل أ ّن الفجوة بني مستويات معيشة األغنياء‬ ‫عام ‪ّ ،2017‬‬
‫دخالً ظلّت كبرية للغاية‪ ،‬بحيث أصبحت تشييل من أكرث البلدان‬
‫عدم مساواة يف توزيع الدخل من بني الدول األعضاء يف منظّمة‬
‫التعاون االقتصادي والتنمية‪ ،‬ومل تن ُم األجور بالشكل الكايف ملالحقة‬
‫زيادات أسعار الكهرباء والبنزين وغريها من السلع والخدمات العا ّمة‪،‬‬
‫فتزايدت الضغوط عىل املواطنني حتّى نزلوا مبظاهرات عارمة يف‬
‫ترشين األ ّول من عام ‪ 2019‬لالحتجاج ض ّد ثالثني سنة من التقشّ ف‬
‫حة والتعليم واملعاشات واإلسكان‬ ‫وتر ّدي الدعم لقطاعات الص ّ‬
‫وزيادة تكاليف الكهرباء والغاز يف مقابل التساهل مع امل ُستثمرين‪،‬‬
‫ويف مفارقة تراجيديّة كتبت إحدى الفتيات املتظاهرات عىل الفتة‬
‫تحملها عبارة‪« :‬ولدت النيوليربال ّية يف تشييل وستموت يف تشييل»[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬مقتبس من وثائقي مص ّور بعنوان (عقيدة الصدمة) من إنتاج ‪Revolution Films Production‬‬
‫بدعم من معهد صندانس‪.Sundance institute‬‬
‫[[[‪ -‬معجزة تشييل‪ ،‬املعرفة‪ ،‬نرش عىل الرابط ‪/https://m.marefa.org‬معجزة_تشيىل‬
‫‪cite_ref-16#‬‬
‫[[[‪ -‬كيف تتمزق سمعة النيوليرباليّة تحت أقدام املتظاهرين يف شييل؟ مح ّمد جاد‪ ،‬صحيفة‬
‫املنصة‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2019 /11 /2‬عىل الرابط ‪https://almanassa.com/ar/story/13137‬‬
‫ّ‬
‫‪ 114‬العولمة‬

‫املتخصص يف شؤون أمريكا الالتين ّية قائالً‪:‬‬


‫ّ‬ ‫كتب كايث شنيدر‬
‫«لقد كان التح ّول الذي شهده النظام االقتصادي والسيايس ذا تأثري‬
‫بالغ عىل رؤية املواطن التشييل للعامل‪ ،‬فأغلب التشيليني اليوم‬
‫‪-‬سواء كانوا ميلكون أعامالً صغرية أو يعملون بشكل وقتي‪ -‬إنّ ا‬
‫ميارسون أعاملهم بشكل ُمنفرد‪ ،‬ويعتمدون عىل مبادراتهم الفرديّة‬
‫يف توسعة النشاط االقتصادي‪ ،‬وليس لديهم اتصال واضح بغريهم‬
‫العمل أو جريانهم‪ ،‬وليس يف وسعهم سوى قضاء وقت محدود‬
‫من ّ‬
‫مع عوائلهم‪ ،‬وتتّسم مشاركتهم السياس ّية أو انخراطهم يف تنظيامت‬
‫عملية باملحدوديّة التا ّمة مع بعض االستثناءات يف قطاعات‬ ‫ّ‬
‫الخدمات الشعب ّية كالرعاية الطب ّية ‪-‬والتي مل يستطع الحكام الفاش ّيون‬
‫تدمريها بسبب ش ّدة مقاومة السكّان‪ -‬ويعاين هؤالء السكّان من‬
‫نقص املوارد والسلطة التي متكّنهم من مواجهة الحكومة‪ ،‬لقد حقّق‬
‫تفتيت تج ّمعات املعارضة ما فشلت فيه الوسائل القمع ّية الوحش ّية‪،‬‬
‫كل هذا تشييل ثقاف ّياً وسياس ّياً من دولة ذات مشاركات نشطة‬
‫ونقل ّ‬
‫للتنظيامت الزراع ّية والقرويّة إىل مكان ال اتصال بني أرجائه‪ ،‬يعيش‬
‫فيه أفراد معزولون غري مشاركني سياس ّياً»[[[‪.‬‬
‫ومل يتن ِه االستعامر غري املبارش للواليات املتّحدة عند تشييل‪،‬‬
‫بل استم ّر يف استهداف بلدان أخرى‪ ،‬ففي العام ‪ 1976‬حدث انقالب‬
‫عسكري يف األرجنتني بقيادة الجرنال خورخه فيديال أطاح بحكومة‬
‫الرئيسة إيزابيل بريون‪ ،‬وفسح املجال لصبيان شيكاغو لهيكلة‬
‫االقتصاد األرجنتيني من االشرتايك إىل الرأساميل عىل الطريقة‬

‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.272‬‬


‫‪115‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫النيوليربال ّية لتتفاقم بعدها معاناة الشعب األرجنتيني‪ ،‬فبني أعوام‬


‫(‪ )1990–1975‬انخفض الدخل الحقيقي للفرد األرجنتيني أكرث‬
‫من ‪ %20‬ليمحو ما يزيد عىل ثالثة عقود من التنمية االقتصاديّة[[[‪.‬‬
‫وقد حاول النظام العسكري يف األرجنتني إسكات الشعب‬
‫مم اضطر‬
‫بالحديد والنار‪ ،‬ولك ّن الحراك الشعبي واصل ضغوطه ّ‬
‫حكومة العسكر إىل إيجاد منفذ من املأزق بش ّن حرب‪ ،‬هدفها‬
‫امل ُعلن هو استعادة جزر الفوكالند من بريطانيا التي تحتلّها منذ عام‬
‫‪ ،1833‬باملقابل أعلنت بريطانيا بقيادة مارغريت تاترش الحرب‬
‫ج ُزر‪ ،‬فكان النرص حليفها بعد قتال دام أكرث من ثالثة‬
‫الستعادة ال ُ‬
‫أشهر‪ ،‬راح ضحيّته مئات الجنود من الطرفني‪ ،‬وعىل الرغم من أ ّن‬
‫جزر الفوكالند مل تكن تُ ثل أه ّمية‬
‫هذه الحرب مل يكن لها دا ٍع أل ّن ُ‬
‫ألي طرف‪ ،‬إلّ أ ّن الجانب االقتصادي كان هو الهدف امل ُ ّ‬
‫ربر‬ ‫كبرية ّ‬
‫من ورائها‪ ،‬ليس بالنسبة لحكومة األرجنتني فقط‪ ،‬وإنّ ا لحكومة‬
‫بريطانيا أيضاً‪.‬‬
‫فبسبب النرص الرمزي الذي حقّقته يف حرب الفوكالند‪ ،‬والذي‬
‫منحها اسم (املرأة الحديديّة)‪ ،‬استخدمت تاترش هذه الورقة‬
‫لتعويض تراجعها االنتخايب بسبب تر ّدي االقتصاد الربيطاين‬
‫إثر السياسات النيوليربال ّية التي ط ّبقتها منذ تولّيها رئاسة الوزراء‪،‬‬
‫عمل مناجم الفحم يف العام ‪ 1984‬ر ّدا ً عىل‬ ‫فعندما أرضب اتحاد ّ‬
‫تقليص الحكومة لسلطة االتحاد‪ ،‬اعتربت تاترش هذا االعتصام‬
‫استمرارا ً لحرب الفوكالند قائلة‪« :‬كان علينا أن نكافح العدو يف‬
‫[[[‪ -‬التاريخ االقتصادي لألرجنتني‪ ،‬املعرفة‪ ،‬نرش عىل الرابط ‪/https://www.marefa.org‬‬
‫التاريخ_االقتصادي_لألرجنتني‪simplified#cite_note-ucematgu-74/‬‬
‫‪ 116‬العولمة‬

‫جزر الفوكالند‪ ،‬واآلن علينا أن نقاتل العدو امل ُرتبّص يف الداخل‪،‬‬


‫العمليّة أصعب لك ّن الخطر عىل الحريّة هو نفسه»‪ ،‬وبذلك وجدت‬
‫تاترش الفرصة لتطبيق ما كان فريدريك هايك ينصحها به حول تنفيذ‬
‫السياسات النيوليرباليّة بالق ّوة عىل املجتمع الربيطاين‪ ،‬فش ّنت حرباً‬
‫رضوساً عىل أقوى اتحاد يف بريطانيا وربحتها يف النهاية‪ ،‬فبحلول‬
‫العام ‪ 1985‬طردت تاترش ‪ 966‬شخصاً من اتحاد ّ‬
‫عمل املناجم‪،‬‬
‫بش النيوليرباليّة يف‬
‫وهي خطوة شبيهة مبا فعله رونالد ريغان ‪ُ -‬م ّ‬
‫أمريكا‪ -‬بعد تولّيه الرئاسة عام ‪ ،1980‬إذ طرد ‪ 11400‬عامل‬
‫من مراقبي الحركة الجويّة يف أمريكا بعد اإلرضاب الذي نظّمته‬
‫نقابتهم[[[‪.‬‬
‫وهكذا تستم ّر سلسلة استغالل األزمات لصالح مت ّدد النيوليربال ّية‪،‬‬
‫وبخاصة مع أزمة تفكّك االتحاد السوفييتي عام ‪ ،1991‬فعندما‬
‫ّ‬
‫حدثت محاولة االنقالب العسكري التي دبّرها أعضاء الحزب‬
‫الشيوعي ض ّد الرئيس ميخائيل غورباتشوف‪ ،‬عمد بوريس يلتسني‬
‫‪-‬الذي كان آنذاك منحازا ً للرأسامل ّية‪ -‬إىل ركوب تلك األزمة وإنهاء‬
‫االنقالب لصالح تفكيك االتحاد السوفييتي والقضاء عىل االقتصاد‬
‫املؤسسات العا ّمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫االشرتايك‪ ،‬فقام بتحرير األسعار وخصخصة‬
‫فوقعت الرثوة يف أيدي قلّة من الروس الذين تح ّولوا إىل مليارديرات‬
‫عىل حساب القطاع األوسع من الشعب‪ ،‬فزاد االقتصاد الرويس‬
‫تدهورا ً وع ّم التضخّم يف البالد‪ ،‬وج ّرت األحداث إىل اشتعال األزمة‬
‫حل الربملان‬
‫الدستوريّة الروس ّية يف عام ‪ ،1993‬فعمد يلتسني إىل ّ‬

‫[[[‪ -‬عقيدة الصدمة‪ ..‬صعود رأسامليّة الكوارث‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.203-201‬‬


‫‪117‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫ليؤسس بذلك دكتاتوريّة متيض‬


‫وإلغاء الدستور وحظر املعارضة‪ّ ،‬‬
‫قدماً يف تطبيق االقتصاد النيوليربايل دون رجعة‪.‬‬
‫كانت هذه األزمة مبثابة الفتح للنيوليربال ّية األمريك ّية‪ ،‬فهو‬
‫اإلعالن الرسمي عن نهاية املنافس االشرتايك اللدود‪ ،‬ولك ّنه يف‬
‫الوقت نفسه مل ميثّل نهاية الق ّوة االستعامريّة غري املبارشة للواليات‬
‫املتّحدة‪ ،‬فالنيوليربال ّية ال تستغني عن وجود أزمات تفتح انغالقاتها‬
‫االقتصاديّة وتكتشف أسواقاً جديدة للرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‪،‬‬
‫ومنها الرشكات املص ّنعة لألسلحة[[[‪.‬‬
‫وقد تح ّولت النسخة االستعامريّة غري املبارشة للواليات‬
‫مؤشات تفكّك االتحاد‬
‫املتّحدة إىل نسخة أكرث تراجيديّة بعد ظهور ّ‬
‫السوفييتي‪ ،‬فربزت الحاجة إىل النفخ يف تهديدات مع ّينة وتحويلها‬
‫إىل بُع ُبع يع ّوض عن زوال خطر الشيوع ّية‪ ،‬فكان اإلرهاب الدويل‬
‫هو الخطر الذي تح ّدث عنه الرئيس بوش األب يف خطابه مبعهد‬
‫آسنب عقب غزو العراق للكويت قائالً‪« :‬عىل الرغم من التغيري يف‬
‫إل أ ّن العامل ال يزال مكاناً خطريا ً مع تهديدات‬
‫التهديد السوفييتي ّ‬
‫خطرية ملصالح أمريك ّية ُمه ّمة ال عالقة لها متاماً باألمناط السابقة‬
‫للعالقة بني الواليات املتّحدة واالتحاد السوفييتي‪ ،‬هذه التهديدات‬
‫[[[‪ -‬اعتربت مجلّة وول سرتيت أ ّن اإلنفاق العسكري كان طريقاً لحقن (دماء جديدة يف جسد‬
‫االقتصاد) ووجدت املجلّة بعد ذلك بسنوات أ ّن ذلك النهج جعل االقتصاديّات العامليّة معتمدة‬
‫جه الكينزي‬‫بشكل أسايس عىل مدى اإلنفاق عىل السالح يف الواليات املتّحدة‪ ،‬مشرية إىل التو ّ‬
‫العاملي الذي نجح يف النهاية يف إعادة بناء املجتمعات الصناع ّية الرأسامل ّية يف الخارج‪ ،‬ووضع‬
‫للتوسع الكبري للرشكات العابرة للقوميّات وأغلبها رشكات أمريكيّة (النظام العاملي القديم‬
‫ّ‬ ‫أسساً‬
‫والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.)147‬‬
‫‪ 118‬العولمة‬

‫كام رأينا يف األربع والعرشين ساعة املاضية ميكن أن تظهر بشكل‬


‫مفاجئ وغري ُمتوقّع ومن جهات غري ُمتوقّعة‪ ،‬ال ميكن حامية مصالح‬
‫إل بالق ّوة الحارضة واملستع ّدة للعمل دون تأخري‪،‬‬
‫الواليات املتّحدة ّ‬
‫تؤكّد أحداث اليوم املايض أيضاً عىل الحاجة الحيويّة لهيكل‬
‫دفاعي ال يُحافظ عىل أمننا فحسب‪ ،‬بل يوفّر املوارد الالزمة لدعم‬
‫احتياجات الدفاع عن النفس املرشوعة ألصدقائنا وحلفائنا»[[[‪،‬‬
‫وبذلك صارت أزمة الخليج الحدث املناسب لإلعالن عن والدة‬
‫العوملة رسميّاً‪ ،‬إذ وصفها الرئيس بوش بأنّها «فرصة نادرة لقيام نظام‬
‫عاملي جديد أكرث تح ّررا ً من تهديد اإلرهاب»[[[‪.‬‬
‫رصفت أزمة الخليج العجز املايل األمرييك الذي بلغ‬
‫لقد ّ‬
‫آنذاك ‪ 232‬مليار دوالر[[[‪ ،‬كام فتحت مناجم الذهب األسود‬
‫أمام الرشكات امل ُص ّدرة للسالح‪ ،‬وما بني عامي (‪)1991-1990‬‬
‫أصبحت الواليات املتّحدة أكرب ُمو ّرد لألسلحة إىل العامل الثالث‪،‬‬
‫ويف عام ‪ 1992‬استأثرت بـ‪ %57‬من مبيعات األسلحة إىل سوق‬
‫حصتها عىل ‪ ،%9‬وقد‬
‫العامل الثالث مقارنة بروسيا التي ال تزيد ّ‬
‫دفعت السعوديّة وحدها ‪ 30‬بليون دوالر يف منتصف ‪،1993‬‬
‫وهو ما حقّق الهدف األمرييك لتقويض اقتصاد هذه الدولة بالغة‬
‫– ‪[1]- Remarks at the Aspen Institute Symposium in Aspen, Colorado - 199002-08-‬‬
‫‪George H. Bush - https://bush41library-tamu-edu.translate.goog/archives/public-‬‬
‫‪papers/2128?_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=op,sc‬‬
‫‪[2]- BUSH ‹OUT OF THESE TROUBLED TIMES . . . A NEW WORLD‬‬
‫‪ORDER› – The Washington post - https://www.washingtonpost.com/archive/‬‬
‫‪politics/199012/09//bush-out-of-these-troubled-times-a-new-world-order/‬‬
‫‪b93b5cf1-e3894-e6a-84b085-f71bf4c946/‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫الرثاء حتّى يضمن إعادة الرثوة النفطيّة إىل الواليات املتّحدة بصفة‬
‫خاصة[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫«كل عام يرسل البيت األبيض تقريرا ً‬
‫يقول نعوم تشومسيك‪ّ :‬‬
‫إىل الكونغرس يرشح له أ ّن التهديد العسكري الذي نعانيه يتطلّب‬
‫تخصيص ميزان ّية ضخمة مبا يضمن الحفاظ عىل مستوى عا ٍل يف‬
‫الصناعات التكنولوج ّية يف داخل الواليات املتّحدة وضامن «القمع‬
‫يف الخارج»‪ ،‬وكانت الطبعة األوىل لسياسات ما بعد الحرب الباردة‬
‫ربر هو ذاته‪ :‬فنحن نواجه‬ ‫قد ظهرت يف مارس ‪ 1990‬وكان امل ّ‬
‫تهديدات ُمرعبة وال ميكن ترسيح ح ّراس أمننا‪ ،‬ويت ّم تعديل التوجيه‬
‫العسكري إىل مناطق جديدة‪ ،‬فالق ّوة العسكريّة األمريك ّية يجب‬
‫أن تركّز عىل العامل الثالث عىل نحو ما اقرتح التقرير امل ُق ّدم من‬
‫الكونغرس‪ ،‬وأن يكون الهدف األ ّول هو الرشق األوسط‪ ...‬فلقد فقد‬
‫ربر السوفييتي ف ّعاليته‪ ،‬ويستم ّر التقرير داعياً إىل رضورة تطوير‬
‫امل ّ‬
‫قواعد عسكريّة ُمتق ّدمة ودعم إمكانات مواجهة التم ّردات والنزاعات‬
‫الخفيفة‪ ،‬ويف ضوء تزايد تعقيد نزاعات الرشق األوسط يجب عىل‬
‫الواليات املتّحدة أن تع ّزز من القاعدة الصناع ّية للدفاع[[[‪.‬‬
‫وبعد عرش سنوات فقط من االنطالقة الفعل ّية للعوملة‪ ،‬ت ّم ضخ‬
‫دماء بلون آخر يف جسد االقتصاد النيوليربايل‪ ،‬وذلك من خالل أزمة‬
‫تفجري مركز التجارة العاملي ‪ WTC‬يف الحادي عرش من سبتمرب‬

‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.149‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪102‬‬
‫‪ 120‬العولمة‬

‫كل ما يحمله الحدث من معانٍ رمزيّة الفتة[[[‪ ،‬ويف‬‫‪ 2001‬مع ّ‬


‫الوقت ذاته كانت هذه األزمة متثّل الدجاجة التي تبيض ذهباً‪ ،‬إذ‬
‫خ ّولت الواليات املتّحدة احتالل العراق الحقاً عام ‪ 2003‬تحت‬
‫تبي الحقاً أ ّن الهدف‬
‫غطاء امتالكه ألسلحة الدمار الشامل‪ ،‬وقد ّ‬
‫الرئيس هو تحويل اقتصاد البلد ‪-‬الذي ميلك خامس أكرب احتياطي‬
‫من النفط‪ -‬من النظام االشرتايك إىل النظام النيوليربايل بعد تعريض‬
‫نظامه السيايس لسلسلة من األزمات الداخليّة تحت مبدأ (الفوىض‬
‫الخلقة)[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫توسع اإلنفاق عىل الجانب‬
‫وال يفوتنا أن نذكّر بأ ّن من أسباب ّ‬
‫العسكري من قبل الحكومة األمريك ّية بعد الحرب الباردة ‪-‬عىل‬
‫الرغم من أنّه يناقض مبادئ النيوليربال ّية القاضية بتقليص اإلنفاق‬
‫الحكومي عىل القطاع العام‪ -‬بسبب ارتفاع مع ّدالت الكراهية تجاه‬
‫كل حدب وصوب عقب األزمات التي افتعلتها أو شاركت‬
‫أمريكا من ّ‬
‫فيها‪ ،‬لذا فإ ّن الرأسامليني وأصحاب الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‬

‫[[[‪ -‬من املعاين الرمزيّة لهجوم الحادي عرش من سبتمرب أنّه وقع يف ذات اليوم الذي أعلن‬
‫فيه الرئيس جورج بوش األب عن انطالق «النظام العاملي الجديد» يف خطابه أمام الكونجرس‬
‫األمرييك بتاريخ ‪ 11‬سبتمرب ‪ ،1990‬كام أ ّن الهجوم استهدف مركز «التجارة العامل ّية» الذي ميثّل‬
‫جوهر العوملة‪ ،‬وأ ّن الهجوم وقع عىل يد اإلرهاب اإلسالمي الذي نفخت فيه الواليات املتحدة‬
‫لتجعله كق ّوة عظمى بديلة عن االتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ت ُع ّرف (الفوىض الخلّقة) بأنّها إحداث متع َّمد لفوىض بقصد الوصول إىل موقف أو واقع‬
‫سيايس يرنو إليه الطرف الذي أحدث الفوىض‪ ،‬ويرتتب عليها تفكيك للمنظومة املعنيّة بطريقة‬
‫تتيح الولوج إىل مك ّوناتها األساس ّية وعنارصها الصلبة والرخوة‪ ،‬لتقويضها جزئ ّياً أو كلّياً وإعادة‬
‫الخلقة‬
‫ّ‬ ‫تشكيلها مجدّدا ً مبا يخدم تلك املصالح حاالً أو يف املدى املنظور (ينظر‪ :‬الفوىض‬
‫وتداعياتها عىل األمن اإلقليمي‪ ،‬دينا رحومة فارس‪ ،‬املركز الدميقراطي العريب‪ ،‬نرش بتاريخ ‪/8 /7‬‬
‫‪ 2015‬عىل الرابط ‪.)https://democraticac.de/?p=17753‬‬
‫‪121‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫يشعرون برضورة اإلبقاء عىل ق ّوة الردع العسكري للواليات املتّحدة‬


‫ملواجهة التهديد واسع النطاق الذي يواجهه البلد األ ّول الراعي‬
‫للنيوليرباليّة ليؤ ّمن مصالح تلك الرشكات‪.‬‬
‫وخالصة ملا تق ّدم‪ ،‬فإ ّن اقتصاد العوملة قائم فعل ّياً عىل مبدأ‬
‫ربر‬
‫البقاء لألقوى‪ ،‬الذي يستم ّد فلسفته من الداروين ّية‪ ،‬فهذا املبدأ يُ ّ‬
‫للنيوليرباليني التنقّل من أزمة إىل أخرى من أجل الحصول عىل‬
‫املوارد الجاهزة المتصاصها‪ ،‬ويبقون دائبني يف البحث عن البلدان‬
‫املنكوبة لالستثامر يف أزماتها‪ ،‬فإذا وجد النيوليربال ّيون دفاعاً‬
‫عنيفاً من قبل الدولة التي يستهدفونها‪ ،‬عمدوا إىل وسائل ت ِ‬
‫ُخضع‬
‫املدافعني لرغباتهم االقتصاديّة بافتعال الفوىض والصدمات‪ ،‬لذا‬
‫فإ ّن استغالل االنقالبات العسكريّة والحروب األهل ّية من قبل أرباب‬
‫العوملة متثّل أدوات ال تص ّوب نحو أهداف قوم ّية أو أيديولوج ّية‬
‫باألساس‪ ،‬وإنّ ا تص ّوب نحو أهداف اقتصاديّة من أجل فتح حدود‬
‫البلدان النامية والوصول إىل مواردها الطبيع ّية واستغالل مواردها‬
‫البرشيّة يف عبوديّة العمل باملصانع يف مقابل الكفاف‪ ،‬وهكذا تبقى‬
‫متتص املوارد يف قفري البلد النامي حتّى تنضب‬‫ّ‬ ‫دبابري العوملة‬
‫موارده ويستحكم فيه الفساد‪ ،‬وعندئذ سريفعون أيديهم عنه بحثاً عن‬
‫ٍ‬
‫بلد جديد ال يزال واعدا ً‪ ،‬وبذلك يُرتك النظام السيايس يف مواجهة‬
‫مبارشة مع الشعب الساخط‪ ،‬فتكون االحتجاجات والصدامات بني‬
‫الحكومة والشعب هي الستار الذي يُسدل عىل املشهد الرتاجيدي‬
‫األخري‪.‬‬
‫ولك ْن من املفارقات أ ّن طاولة النيوليربال ّية رسعان ما انقلبت‬
‫‪ 122‬العولمة‬

‫عىل أربابها‪ ،‬وذلك بحلول األزمة االقتصاديّة يف عام ‪ 2008‬التي‬


‫متثّل أسوأ أزمة عرفها العامل بعد أزمة الكساد الكبري عام ‪،1929‬‬
‫وهي األزمة املعروفة باسم (أزمة الرهون العقاريّة األمريكيّة)‪.‬‬
‫ابتدأت األزمة يف العام ‪ 2004‬عندما دفع جشع البنوك يف وول‬
‫سرتيت إىل االندفاع يف تحقيق أرباح رسيعة بفتح قروض عقاريّة‬
‫للمواطنني األمريكان من دون ضامنات كافية للسداد‪ ،‬وجعل الرهن‬
‫العقاري هو الضامن لذلك‪ ،‬ث ّم قامت البنوك االستثامريّة باقرتاض‬
‫مليارات الدوالرات من أجل رشاء هذه القروض من بنوك أخرى‪،‬‬
‫ث ّم تقوم بتوريقها وطرحها للتداول يف البورصة‪ ،‬ث ّم قامت البنوك‬
‫االستثامريّة بجمع هذه األوراق املال ّية من البورصة وبيعها إىل بنوك‬
‫استثامريّة أخرى وصناديق استثامر وصناديق احتياط ومستثمرين يف‬
‫جميع أنحاء العامل‪ ،‬وبطبيعة الحال فإ ّن هذه القروض يت ّم تحميلها‬
‫كل م ّرة تُطرح للبيع‪ ،‬ث ّم دخلت رشكات‬
‫هوامش أرباح إضاف ّية يف ّ‬
‫التأمني عىل الخ ّ‬
‫ط بتحرير وصوالت تأمني عىل هذه القروض‪.‬‬
‫تح ّولت عمل ّيات البيع والرشاء واإلقراض واالستثامر عىل‬
‫الرهون العقاريّة إىل جبل عمالق من االرتباطات املال ّية‪ ،‬وكان هذا‬
‫الجبل يستند إىل مج ّرد صخرة هشّ ة تتمثّل مبواطنني أمريكان ال‬
‫ميلكون القدرة الكافية عىل سداد القروض‪ ،‬ومبج ّرد أن بدأت بوادر‬
‫عجزهم عن السداد يف العام ‪ ،2007‬قامت البنوك بأخذ املنازل‬
‫مم خلق عرضاً أكرث من الطلب عىل املنازل‬
‫منهم وطرحها للبيع‪ّ ،‬‬
‫يف السوق‪ ،‬فانهارت أسعارها‪ ،‬ويف عام ‪ 2008‬انفجرت الفقاعة‬
‫االقتصاديّة وأ ّدت إىل إفالسات رسيعة لكربى البنوك يف الواليات‬
‫‪123‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫املؤسسات‬
‫ّ‬ ‫املتّحدة‪ ،‬تبعتها البنوك األجنبيّة املرتبطة بها‪ ،‬ما أدخل‬
‫املاليّة العامليّة يف فوىض عارمة‪ ،‬وأخذت البورصات بالتدهور‬
‫كل أنحاء العامل‪،‬‬
‫رسيعاً‪ ،‬تبعتها رشكات التأمني واملستثمرون من ّ‬
‫رسحت البنوك والرشكات امل ُفلسة موظّفيها فارتفعت نسبة البطالة‪،‬‬
‫و ّ‬
‫مؤشات األسهم مع هروب املستثمرين من األسواق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتراجعت‬
‫فأصيبت جميع القطاعات االقتصاديّة بالشلل‪.‬‬
‫ق ّررت حكومة الواليات املتّحدة أن تتدخّل مبنح مليارات‬
‫الدوالرات إلنقاذ كربى البنوك لديها مثل بنك سيتي غروب أوف‬
‫أمريكا وولز فارجو ومورغان ستانيل وجولدمان ساكس جي يب‬
‫مورغان ورشكتي اإلقراض العقاري فاين وفريدي ماك‪ ،‬كام قامت‬
‫بتأميم رشكة ايه آي جي أكرب رشكة تأمني يف العامل‪ ،‬وعمل االحتياطي‬
‫الفيدرايل عىل تخفيض مع ّدل فائدته الرئيسة إىل ‪ %3.50‬ث ّم ت ّم‬
‫تخفيضه تدريج ّياً إىل ‪ %2‬وهو إجراء استثنايئ جدا ً‪ ،‬باملقابل قامت‬
‫الحكومة الربيطان ّية بتأميم مرصف برادفورد وبينغيل‪ ،‬وأ ّممت حكومة‬
‫بلجيكا مرصف فورتيس‪ ،‬وهام مرصفان أوروب ّيان تأث ّرا بشكل مبارش‬
‫بأزمة الرهون العقاريّة األمريك ّية‪.‬‬
‫حش الرأسامل ّية رسعان ما يعود‬
‫رش امل ُقيم يف تو ّ‬
‫بذلك نجد أ ّن ال ّ‬
‫كل الحسابات‪ ،‬فاالقتصاد عندما ال يقوم عىل‬
‫غي ّ‬
‫ليفاجئ الجميع ويُ ّ‬
‫قاعدة أخالق ّية‪ ،‬فإ ّن الحراك الجشع ألصحاب النفوذ املايل رسعان‬
‫بخاصة يف املنظومة النيوليربال ّية التي‬
‫ّ‬ ‫ما يقلب الطاولة عىل الجميع‪،‬‬
‫أي تنظيم ورقابة حقيق ّية‪ .‬إ ّن الفوىض التي‬
‫جشع من ّ‬
‫تح ّرر هذا ال َ‬
‫أحدثها السوق الح ّر كلّف الدول الكربى خسارات هائلة مل تكن‬
‫‪ 124‬العولمة‬

‫تداعياتها الكارثيّة لتتوقّف من دون تدخّل القطاع الحكومي إلنقاذ‬


‫الوضع‪ ،‬واإلجراءات التي أقدمت عليها حكومات العامل الغريب‬
‫أي‬
‫يف أزمة الرهون العقاريّة فضحت النيوليرباليّة التي كانت ترفض ّ‬
‫تدخّل حكومي يف االقتصاد الح ّر‪ ،‬بدعوى أ ّن هذا االقتصاد قادر‬
‫بذاته عىل تجاوز محنه وتعديل موازينه باليد الخفيّة للسوق‪.‬‬
‫ٌ ن‬ ‫ً‬
‫غ� يسكنه البائسون‬ ‫ثانيا‪ :‬عالم ي‬
‫عندما تدخل العوملة يف البلدان ذات املوارد االقتصاديّة الوفرية‪،‬‬
‫فإنها تُوجد أ ّوالً حالة من النشاط امللحوظ يف سوق العمل‪ ،‬وذلك‬
‫تزامناً مع ض ّ‬
‫خ األموال يف جيوب املستثمرين يف الداخل‪ ،‬ومن‬
‫الطبيعي أن يستتبع ذلك نشاط حركة التوظيف وال َعاملة‪ ،‬ولكن‬
‫يُلحظ يف هذه الفرتة بالذات تصاعد يف نسب ُمتطلّبات املعيشة‬
‫األساس ّية‪ ،‬أل ّن الحكومة ‪-‬كام يقتيض النظام النيوليربايل‪ -‬سوف‬
‫تبدأ بسحب يدها عن دعم قطاعات الخدمات األساس ّية للمواطنني‬
‫حي‪ ،‬ما يدفع‬
‫حة والكهرباء واملاء والرصف الص ّ‬
‫مثل التعليم والص ّ‬
‫حصة كبرية من األموال التي يجنونها لتعويض‬
‫املواطنني إىل رصف ّ‬
‫النقص يف هذه الخدمات‪ ،‬وهنا تنطوي املسألة عىل حيلة ذك ّية‪،‬‬
‫فالنشاط امللحوظ يف سوق العمل يد ّر أرباحاً رسيعة ت ُشعر الناس‬
‫باألمن االقتصادي‪ ،‬بحيث ال يُشكّل تراجع الخدمات األساس ّية‬
‫مشكلة كبرية لهم ما داموا قادرين عىل تعويضها ببدائل الخصخصة‪،‬‬
‫بخاصة أ ّن تراجع الخدمات األساس ّية يأيت تدريج ّياً بحيث ال يثري‬
‫ّ‬
‫حساس ّيتهم‪ ،‬بل يصبح أمرا ً طبيع ّياً يف نظرهم‪ ،‬ولك ّن امل ُعاناة تبدأ‬
‫وتقل فرص التشغيل بسبب‬
‫ّ‬ ‫بالظهور عندما يرتاجع نشاط السوق‬
‫‪125‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫انفتاح االستثامرات عىل الخارج‪ ،‬وعندئذ يصبح تراجع الخدمات‬


‫األساسيّة كشبح ثقيل يجثم عىل صدور املواطنني‪ ،‬إذ يُصبحون غري‬
‫قادرين عىل سداد فواتريها؛ أل ّن غالبيتهم باتوا يعانون من البطالة أو‬
‫شبه بطالة‪.‬‬
‫هذا الحال ال ب ّد من أن يخلق الطبق ّية الحتم ّية‪ ،‬فرشيحة محدودة‬
‫جدا ً سوف تحوز عىل قدرات مال ّية ضخمة‪ ،‬يف حني تعود قطاعات‬
‫واسعة من الشعب إىل ما دون خ ّ‬
‫ط الفقر‪ ،‬وهي صفة الزمة من لوازم‬
‫العوملة‪ ،‬إذ تزداد الفجوة بني األغنياء والفقراء بانتظام‪« ،‬ففي عام‬
‫املحل اإلجاميل بني أغنى ‪%20‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 1960‬كانت نسبة إجاميل الناتج‬
‫وأفقر ‪ %20‬من السكّان ‪ ،1: 30‬لكن يف عام ‪ 1989‬بلغت هذه‬
‫النسبة ‪ ،1: 60‬بل كشفت إحصاءات برنامج األمم املتّحدة للتنمية‬
‫أ ّن نسبة دخل أغنى وأفقر ‪ %20‬من سكّان العامل بلغت ‪ ،140:1‬وقد‬
‫أظهرت بياناتها أ ّن عدم التساوي بني أفقر وأثرى ‪ %20‬من السكان‬
‫أكرث وضوحاً ال عىل مستوى األمم بل داخل األمم[[[‪.‬‬
‫ومتثّل نيكاراغوا مثاالً واضحاً عىل ما تس ّببه العوملة من توسيع‬
‫جل أدىن مع ّدالت يف‬
‫يف مساحة الفقراء‪ ،‬إذ كانت هذه الدولة تس ّ‬
‫وفيات األطفال الرضّ ع مطلع الثامنين ّيات‪ ،‬ولكن بعد خضوعها‬
‫للنظام النيوليربايل استحقّت لقب أسوأ دول أمريكا الالتين ّية‪ ،‬إذ‬
‫أخذت تعاين من أعىل املع ّدالت يف وفيات األطفال يف القا ّرة‬
‫كلّها‪ ،‬وبحسب األمم املتّحدة فإ ّن ‪ %25‬من أطفال نيكاراغوا يعانون‬
‫سوء التغذية‪ ،‬وأخذت النساء بإعداد مطابخ طهي الحساء لبيعه يف‬
‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.205-204‬‬
‫‪ 126‬العولمة‬

‫زوايا الشوارع بهدف إنقاذ عرشات األطفال من براثن املجاعة‪،‬‬


‫كل إشارة مرور‪،‬‬
‫وذلك يف وقت ينترش فيه أطفال بؤساء جوعى يف ّ‬
‫مستع ّدون ملسح زجاج السيارات أو يتس ّولون دون مواربة‪ ،‬بل قد‬
‫ينجرفون إىل مستنقع الدعارة والرسقة‪ ،‬كام أ ّن األمراض التي كانت‬
‫الربامج الصحيّة لحكومة الساندينيني قد تغلّبت عليها‪ ،‬عاودت‬
‫لالنتشار من جديد‪ ،‬وقد تفاخر وزير املاليّة األمرييك بأ ّن نيكاراغوا‬
‫«حقّقت أدىن مع ّدل تضخّم يف األمريكيّتني» لكن فاته أن يشري إىل‬
‫وجود أربع ماليني إنسان يقرص بطونهم الجوع يف تلك الدولة‪،‬‬
‫وقد قوبلت برامج الساندينيني يف الرعاية الطبيّة والغذائيّة ومحو‬
‫األميّة والزراعة بالرفض من قبل الحكومة املحليّة بسبب ضغوط‬
‫صندوق النقد الدويل وواشنطن حتّى تنقلب الدولة إىل الخصخصة‬
‫جه للشعب[[[‪.‬‬
‫وقطع الدعم امل ُو ّ‬
‫هذا وال ينطوي نظام العوملة الجديد عىل مشكلة صعود األغنياء‬
‫توسع قاعدة الفقراء أفق ّياً حسب‪ ،‬وإنّ ا ينطوي‬
‫عموديّاً عىل حساب ّ‬
‫عىل مشكلة أخرى تتمثّل بأزمة الطبقة الوسطى التي تعمل غالباً يف‬
‫وظائف ال تناغم طموحاتها وإمكان ّياتها الفعل ّية‪ ،‬بل هي مجربة عىل‬
‫ُتوسط‪ ،‬بعبارة أخرى‪:‬‬
‫البقاء فيها لتحافظ عىل مستواها االقتصادي امل ّ‬
‫إ ّن نظام العوملة يُوظّف طبقة ال يُستهان بها من أفراد املجتمع يف‬
‫أعامل ال يؤمنون بها وال يُطيقونها‪ ،‬ولك ّنهم ُمجربون عليها بحكم‬
‫املؤسسات‬
‫ّ‬ ‫حاجتهم إىل املصادر املال ّية التي يغدقها عليهم أرباب‬
‫والخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والرشكات العا ّمة‬

‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.194‬‬


‫‪127‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫هذه الطبقة التي تستهلك نفسها يف الوظائف تعاين من قهر‬


‫يقل شأناً عن قهر الطبقة الفقرية‪ ،‬ولكن مع فارق مه ّم هو‬
‫اجتامعي ال ّ‬
‫املتوسطة تقبل بهذا القهر وتكبته للحفاظ عىل امتيازاتها‬
‫ّ‬ ‫أ ّن الطبقة‬
‫املاليّة‪ ،‬وقد يضط ّرهم هذا الكبت إىل السكوت والتواطؤ مع أرباب‬
‫العمل إلمتام صفقات الفساد التي تزيد من معاناة الفقراء من أبناء‬
‫جلدتهم‪ ،‬لذا فإ ّن غالبيّة أفراد هذه الطبقة ال يُتوقّع منهم أن يثوروا يوماً‬
‫عىل ال ُنظُم اإلداريّة الفاسدة كام يُتوقّع من طبقة الفقراء أن تفعل؛ أل ّن‬
‫القهر االجتامعي الذي يعاين منه أبناء الطبقة الوسطى مدفوع الثمن‪.‬‬
‫ولك ّن ذلك ال ب ّد من أن تكون له ارتدادات سلب ّية خطرية‪ ،‬تبدأ‬
‫تدن مستويات اإلنجاز يف الوظائف‪ ،‬فعندما يُجرب‬ ‫ّ‬ ‫مؤشاتها مع‬
‫ّ‬
‫الناس عىل أعامل ال يح ّبونها ومل ّدة طويلة‪ ،‬فمن املؤكّد أ ّن اإلهامل‬
‫والتقصري سيتفشّ يان يف تلك األعامل‪ ،‬وهذا يُع ّد واحدا ً من أه ّم‬
‫مس ّببات زيادة مع ّدالت الفساد يف الوظائف‪ ،‬باإلضافة إىل إهدار‬
‫طاقة الطبقة الوسطى التي متتلك مؤ ّهالت لإلبداع يف مجاالت‬
‫ُمتع ّددة لكونها طبقة ُمتعلّمة‪ ،‬وتنتهي قامئة االرتدادات السلب ّية‬
‫عند املشكالت النفس ّية من القلق واالكتئاب‪ ،‬التي يعاين منها‬
‫أبناء الطبقة الوسطى نتيجة اللتزامهم بأعامل ال تالئم طموحاتهم‬
‫ومواهبهم الذات ّية‪.‬‬
‫حلً لذلك‪ ،‬إذ يُلفت الفيلسوف‬
‫ولك ّن أفذاذ النيوليربال ّية وجدوا ّ‬
‫بيونغ تشول هان أنظارنا إىل دور ورش التدريب والتنمية البرشيّة‬
‫العديدة التي تهدف إىل تدريب األفراد عىل اإلدارة الذات ّية بهدف‬
‫تجاوز القلق واالكتئاب وطرد الطاقة السلب ّية‪ ،‬وتدفعهم لتطوير أدائهم‬
‫‪ 128‬العولمة‬

‫وتجاوز اإلرهاق الناتج عن االستغالل املستم ّر ألجسادهم وأرواحهم‬


‫من أجل أن يكونوا منتجني جيّدين يف نظام العوملة النيوليربايل‪،‬‬
‫وبذلك يت ّم مترير وهم مفاده أ ّن املرء إذا عمل بج ّد فسيضمن لنفسه‬
‫حياة ُمرضية‪ ،‬أي إ ّن الحياة الهنيئة تنحرص يف تحسني اإلنتاجيّة‬
‫أي تشكيك بذلك الوهم لهو أمر خطري؛ ألنّه قد يقيض‬‫بالعمل‪ ،‬وأ ّن ّ‬
‫عىل رضورة التحسني الذايت‪-‬مبعنى زيادة اإلنتاجيّة‪ -‬وبذلك متثّل‬
‫إيديولوجيّة النيوليرباليّة يف تحسني الذات شكالً من أشكال العقيدة[[[‪.‬‬
‫ويؤكّد الفيلسوف هان عىل أ ّن هذا التحكّم النفيس للسلطة أكرث‬
‫كفاءة يف السيطرة عىل الجامهري من الوسائل التقليديّة؛ ألنّه يجعل‬
‫التم ّرد شبه مستحيل‪ ،‬أل ّن الذين فشلوا يف النظام النيوليربايل يعيشون‬
‫جهون‬
‫الخاصة‪ ،‬ويف أفضل األحوال سيو ّ‬
‫ّ‬ ‫فشلهم عىل أنّه مسؤول ّيتهم‬
‫إحباطهم نحو زيادة إنتاج ّيتهم من خالل التصحيح الذايت التلقايئ‪،‬‬
‫ويف أسوأ الحاالت فإ ّن إحباطهم بسبب فشلهم يف خلق الرثوة أو‬
‫الشهرة يجعلهم مكتئبني يد ّمرون أنفسهم‪ ،‬وال يُد ّمرون النظام الذي‬
‫ع ّزز هذا االكتئاب والتدمري الذايت[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬األرسة وتشكيل الهوية الجندرية‬
‫ها قد وصلنا إىل أه ّم تغيري فعلت فيه العوملة فعلها‪ ،‬وذلك‬
‫ألنّه تغيري عىل الصعيد الثقايف الذي ميثّل الركيزة األه ّم يف حياة‬
‫كل من الذكر واألنثى‬
‫املجتمعات‪ ،‬وهذا التغيري يتعلّق بإعادة توصيف ّ‬

‫‪[1]- Neoliberalism & Social Control - Arianna Marchetti – philosophynow -‬‬


‫‪https://philosophynow.org/issues/139/Neoliberalism_and_Social_Control‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫تحت مس ّمى (الهويّة الجندريّة)‪ ،‬مع أنّه من أكرث الحقائق البرشيّة‬


‫وضوحاً‪،‬إذ ال نحتاج إىل تأ ّمل كثري لنحكم بأ ّن املجتمع البرشي نشأ‬
‫واستم ّر بقاؤه عىل أساس وجود نوعني ُمتاميزين من البرش‪ ،‬أحدهام‬
‫كل منهام أدوارا ً تكامليّة إلدامة زخم‬
‫(ذكر) واآلخر (أنثى)‪ ،‬يلعب ّ‬
‫بخاصة من ناحية تشكيل األرسة‬
‫ّ‬ ‫الحياة االجتامعيّة بشكل تضامني‪،‬‬
‫ألي مجتمع برشي‪.‬‬
‫التي متثّل مصدر التكاثر والنواة الرئيسة ّ‬
‫إ ّن الدول الخاضعة لألنظمة النيوليربال ّية ولهيمنة الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات وضعت يف حسبانها أه ّمية تشكيل الهوية الجندريّة مبا‬
‫يتالءم ومتطلّبات العوملة وأمناطها الجديدة‪ ،‬فذلك هو ما يضمن‬
‫كل التباينات الثقاف ّية تحت مظلّة الثقافة امل ُعوملة لشعوب‬
‫توحيد ّ‬
‫األرض‪ ،‬ويف هذا الصدد يقول املحلّل السيايس ألكسندر نازاروف‪:‬‬
‫«يع ّد النموذج املثايل ملجتمع العوملة مجتمع الترشذم‪ ،‬الذي ال‬
‫ميتلك الشخص فيه جنس ّية‪ ،‬وال يرتبط مبجموعة اجتامع ّية مستق ّرة‪،‬‬
‫وال هويّة شخص ّية ودين ّية واضحة‪ ،‬بينام يتمتّع باملرونة والقدرة عىل‬
‫بكل ما تحمله الكلمة من معنى‪ ،‬سواء عىل مستوى الجغرافيا‬
‫الحركة ّ‬
‫وحتّى مستوى تغيري الجنس‪ ،‬فقط استنادا ً لذلك األساس عندما‬
‫متحى جميع االختالفات ميكن لإلنسان ّية عىل نطاق عاملي أن تصبح‬
‫كيانا واحدا ً ميكن التحكّم فيه من مركز واحد‪ ،‬من هنا تكتسب معناها‬
‫كل الجهود املبذولة لتشويه سمعة الدين‪ ،‬وتدمري األرسة‪ ،‬والدعاية‬
‫ّ‬
‫جهات الجنس ّية البديلة‪ ،‬ونرش منط تغيري الجنس»[[[‪.‬‬
‫املهووسة للتو ّ‬
‫[[[‪ -‬هل متت ّد موجة ‪ LGBT‬لتشمل الرشق األوسط؟ ‪-‬روسيا اليوم‪ -‬نرش بتاريخ ‪2020 /11 /30‬‬
‫عىل الرابط ‪https://arabic.rt.com/press/1178484-‬هل‪-‬متتد‪-‬موجة‪-lgbt-‬لتشمل‪-‬الرشق‪-‬‬
‫األوسط‪/‬‬
‫‪ 130‬العولمة‬

‫بدأ األمر مع تنشيط الحركات النسويّة ‪ Feminism‬بشكل‬


‫راديكايل‪ ،‬بحيث أصبحت املطالب النسويّة ُمتط ّرفة بشكل ال‬
‫معقول‪ ،‬إذ نرشت النسويّات أفكارا ً غريبة حول الهويّة الجندريّة‪،‬‬
‫مفادها أ ّن التاميز بني الرجل واملرأة ال يقوم عىل أساس االختالفات‬
‫الفسيولوجيّة والسيكولوجيّة‪ ،‬وإنّ ا يقوم عىل أساس التكييف‬
‫االجتامعي والتنشئة األرسيّة التي تجعل الفرد يتّبع هوية جندريّة‬
‫معيّنة يخلقها امل ُجتمع بشكل ُمسبق‪ ،‬وال ريب يف أ ّن هذه األفكار‬
‫تتوافق مع مبادئ ما بعد الحداثة وفلسفتها الوجوديّة‪ ،‬التي ال تستند‬
‫صلبة‪ ،‬كام أرشنا يف الفصل األول‪،‬‬
‫أي مرجعيّة فكريّة أو أخالقيّة ُ‬
‫إىل ّ‬
‫وبهذه الطريقة صار يُنظر إىل الهويّة الجندريّة كمج ّرد يشء اعتباري‬
‫ميكن تشكيله وفقاً مليول الناس‪ ،‬وعىل هذا األساس بدأت تنترش‬
‫وبخاصة مع تط ّور التقنيات‬
‫ّ‬ ‫ظاهرة التح ّول الجنيس ‪،transgender‬‬
‫والتوسع يف استخدام العقاقري الهرمونيّة بحسب الرغبة‬‫ّ‬ ‫الطبيّة‬
‫ال بحسب الحاجة[[[‪ ،‬وبذلك مل يشهد التاريخ كلّه نظريا ً للحملة‬
‫الرشسة التي تقودها العوملة ض ّد التاميز بني الجنسني‪.‬‬
‫يقل خطورة‪ ،‬وهو‬
‫هذا وقد ص ّوبت العوملة نحو هدف آخر ال ّ‬

‫[[[‪ -‬طبعاً فإ ّن لهذه العمل ّيات ّ‬


‫قصة أخرى تتمثّل باألرباح املال ّية الكبرية‪ ،‬ففي الواليات املتّحدة‬
‫تكلّف العمليّات الجراحيّة للتحويل من ذكر إىل أنثى ‪ 100,000 - 25,000‬دوالر وتكلّف أكرث‬
‫أقل عندما يتم‬
‫من ذلك بالنسبة لعمليّات التح ّول من أنثى إىل ذكر‪ ،‬وتكون العمليّات ذات كلفة ّ‬
‫االقتصار عىل بعض التغيريات يف األجزاء العلويّة أو السفليّة من الجسم‪ ،‬لذا فإ ّن السعر النموذجي‬
‫ما بني ‪ 50,000 - 7,000‬دوالر‪ ،‬وسنويّاً يت ّم إجراء هذه العمل ّيات الجراح ّية ملا يقارب ‪- 100‬‬
‫‪ 500‬شخص يف الواليات املتّحدة‪ ،‬وما يقارب ‪ 2500‬عمليّة عىل مستوى العامل (ينظر‪ :‬كيف‬
‫تتم عمليّة التح ّول الجنيس بالتفصيل؟ ‪ -‬أنا أصدّق العلم – نرش بتاريخ ‪ 2018 /4 /29‬عىل الرابط‬
‫‪) https://www.ibelieveinsci.com/?p=47295‬‬
‫‪131‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫جة الدفاع عن حقوق املرأة‪ ،‬إذ أخذت‬


‫تقويض األرسة التقليديّة بح ّ‬
‫التعديالت القانونيّة والحمالت اإلعالميّة تتواىل وتزداد ق ّوة يف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬حتّى ورد يف تقرير مجلس حقوق اإلنسان التابع لألمم‬
‫املتّحدة‪ :‬أ ّن حقوق املرأة عىل الرغم من أنّها تواجه تح ّديات يف‬
‫خاص عىل‬
‫ّ‬ ‫إل أ ّن حقوقها مه ّددة بشكل‬
‫جميع الوجود اإلنساين ّ‬
‫الصعيد األرسي‪ ،‬باعتبار أ ّن األرسة «هي مكان الستمرار القيم‬
‫مؤسسة أساسيّة‬
‫التقليديّة‪ ،‬وهي نابعة من الثقافة األبويّة‪ ،‬وت ُشكّل ّ‬
‫للحفاظ عىل النظام األبوي»‪ ،‬لذا يويص التقرير بأ ّن مساواة املرأة‬
‫يف الحقوق داخل األرسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقوقها يف جميع‬
‫مجاالت الحياة‪ ،‬ما يعني أ ّن نقطة التغيري التي يستهدفها النظام‬
‫العوملي تبدأ من األرسة بالذات[[[‪.‬‬
‫ولهذا تزداد الحمالت التي تدفع النساء يف املجتمع الغريب إىل‬
‫مزيد من االنفكاك عن أمناط الثقافة التقليديّة لألرسة‪ ،‬حتّى صار من‬
‫املألوف لديه ّن التعبري الفاضح عن رغباتهن الجنس ّية وميوله ّن يف‬
‫تحقيق ذواته ّن عرب أمناط حياة ال تليق بالطبيعة اإلنسان ّية مثل حركة‬
‫دعم حقوق املرأة أو حقوق املثليني‪ ،‬ما يعني أ ّن قضايا الحركات‬
‫النسويّة مل تعد مقترصة عىل الحقوق السياس ّية واالقتصاديّة للمرأة‪،‬‬
‫بل تع ّدتها إىل إعادة هندسة العالقات االجتامع ّية‪ ،‬ويت ّم ذلك بنا ًء‬
‫عىل قاعدة الخصومة والعداء بني الجنسني ال عىل أساس التعاون‬
‫واأللفة كام يُفرتض أن يكون‪.‬‬

‫[[[‪ -‬تقرير الفريق العامل املعني مبسألة التمييز ض ّد املرأة يف القانون واملامرسة‪ ،‬مجلس حقوق‬
‫اإلنسان‪ ،‬األمم املتّحدة – ‪ – 2015 /4 /2‬البند ‪ ،22‬ص‪.9‬‬
‫‪ 132‬العولمة‬

‫كل من الرجال والنساء اليشء الكثري‪ ،‬فقد‬


‫هذه العدوان ّية كلّفت ّ‬
‫تح ّولت الحياة الزوج ّية الهانئة التي يض ّمها سقف األرسة السعيدة‬
‫إىل مطلب بعيد املنال‪ ،‬ويواجه الزوجان بسبب ذلك كثريا ً من‬
‫التح ّديات والعراقيل‪ ،‬وعىل ضوء ذلك ارتفعت ُمع ّدالت الطالق‬
‫العامل ّية‪ ،‬ما جعل الشباب يعيدون النظر يف مشاريع الزواج؛ ألنّها‬
‫أصبحت تحتوي عىل كثري من املخاطر‪ ،‬إذ ال تقترص عىل دفع‬
‫التعويضات بعد الطالق أو االنفصال حسب‪ ،‬وإنّ ا تشمل النفقات‬
‫املرتت ّبة عىل وجود أطفال والتكفّل بحضانتهم‪.‬‬
‫هذا باإلضافة إىل أ ّن تشكيل األرسة يُواجه تح ّديات الليربال ّية‬
‫وحسابات الربح والخسارة عىل ضوئها‪ ،‬فام الذي يدفع الشاب‬
‫الذي يعيش الثقافة الفردان ّية إىل الزواج الذي ميثّل ُمعرقالً لحريّته‬
‫الشخص ّية ومصالحه الذات ّية مثل توسيع مشاريعه االقتصاديّة أو‬
‫الحصول عىل الرتقيات الدراس ّية أو مامرسة الرتفيه والسياحة؟ أ ّما‬
‫بالنسبة للغريزة الجنس ّية ‪-‬التي متثّل واحدة من أهم دوافع الزواج‪-‬‬
‫فإ ّن عرص العوملة يوفّر بدائل متن ّوعة ورخيصة‪ ،‬ابتداء من األفالم‬
‫اإلباح ّية وانتهاء مبالهي التع ّري وحانات الدعارة‪.‬‬
‫كام أ ّن هذا الحال صار ُيثّل منشأً طبيعيّاً لتنامي ظاهرة‬
‫(املساكنة)‪ ،‬إذ يعيش رجل مع امرأة تحت سقف واحد‪ ،‬وميارسان‬
‫أي طرف بالتزامات‬
‫حياة مشرتكة من دون زواج‪ ،‬بحيث ال يتقيّد ّ‬
‫التخل عن‬
‫ّ‬ ‫قانونيّة أو أخالقيّة تجاه الطرف اآلخر‪ ،‬وميكن بسهولة‬
‫هذه العالقة من قبل أحد الطرفني أو كليهام‪ ،‬وقد أخذت هذه الظاهرة‬
‫تنترش برسعة مذهلة يف العامل الغريب مع بدايات عرص العوملة‪ ،‬ففي‬
‫‪133‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫الواليات املتّحدة يق ّدر مكتب اإلحصاء األمرييك أ ّن نسبة الشباب‬


‫الذين ترتاوح أعامرهم بني ‪ 24-18‬عاماً‪ ،‬الذين يعيشون املساكنة‬
‫قد زادت من ‪ ٪0.1‬إىل ‪ ٪9.4‬خالل الفرتة ‪،2018[[[-1968‬‬
‫وازداد هذا النوع من العالقات عامل ّياً من حوايل ‪ 500.000‬يف‬
‫العام ‪ 1970‬إىل أكرث من ‪ 7.7‬مليون يف العام [[[‪.2010‬‬
‫هذه القض ّية تُعيد لألذهان الحركة التي دعمتها الشيوع ّية‬
‫بخصوص تحرير املرأة من القيام باألعامل املنزل ّية نظرا ً لكونها‬
‫جع النساء عىل النزول إىل سوق‬
‫أعامالً من دون أجور‪ ،‬بحيث ش ّ‬
‫تصب يف صالح األعامل والتجارة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املحصلة النهائ ّية‬
‫ّ‬ ‫العمل‪ ،‬فكانت‬
‫تصب يف صالح النساء بالدرجة األوىل‪ ،‬ما يعني أ ّن الحركة‬
‫ّ‬ ‫وال‬
‫تصب يف مصلحة الرشكات الرأسامل ّية‪،‬‬‫ّ‬ ‫النسويّة كانت وال تزال‬
‫وذلك عىل ثالثة محاور‪:‬‬
‫أ ّوالً‪ :‬تغذية النشاط االقتصادي‪ ،‬فنزول املرأة إىل ميدان العمل‬
‫يف الرشكات واملصانع سوف يدفع بزخم األيدي العاملة ويخدم‬
‫الرشكات أكرث‪ ،‬فكرثة األيادي العاملة النسويّة سوف ت ُقلّل من‬
‫األجور‪ ،‬فالنساء ميلن إىل العمل بكفاءة يف الخطوط اإلنتاجيّة‬
‫الروتينيّة التي ال تحتاج إىل َعاملة ماهرة‪ ،‬إىل جانب كونهن قليالت‬
‫الشكوى من قلّة األجور‪ ،‬وال ميل َن إىل االنخراط يف حركات‬

‫‪[1]- rriages and Divorces - Esteban Ortiz-Ospina and Max Roser – ourworldindata‬‬
‫‪- https://ourworldindata.org/marriages-and-divorces‬‬
‫‪[2]- Relationship Quality among Cohabiting versus Married Couples - US National‬‬
‫‪Library of Medicine /‬‬
‫‪National Institutes of Health- 16 Dec 2015 - https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/‬‬
‫‪articles/PMC6002150/‬‬
‫‪ 134‬العولمة‬

‫نقابيّة ُمعارضة‪ ،‬فمنذ الستينيّات «س ّدت املرأة يف الدول الصناعيّة‬


‫الحديثة مثل كوريا الجنوبيّة وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة الحاجة‬
‫املطلوبة للعاملة الرخيصة األجر من أجل النمو االقتصادي الرسيع‬
‫كل من الفلبني‬
‫امللحوظ الذي مارسته هذه املنطقة‪ ،‬كام اعتمدت ّ‬
‫وماليزيا وأندونيسيا وتايالند عىل النساء العامالت منذ السبعينيّات‪...‬‬
‫وهناك اعتامد كبري عىل العاملة النسائيّة‪ ،‬وحتّى عىل األطفال يف‬
‫املجموعة اآلسيوية األخرية التي أنشأت مناطق عمليّات تصديريّة‬
‫خالل الثامنينيّات مثل سرييالنكا وبنغالديش ومناطق من الصني‬
‫والهند»[[[‪.‬‬
‫كام نجد أ ّن الحكومة اليابان ّية قد وضعت نزول املرأة لسوق‬
‫العمل يف صميم خطّتها إلنعاش االقتصاد الياباين يف عام ‪،2014‬‬
‫رصح رئيس مجلس الوزراء شينزو آيب بأ ّن إنتاج اليابان ميكن أن‬
‫إذ ّ‬
‫يرتفع بنسبة ‪ %16‬إذا عملت املرأة اليابان ّية بالقدر الذي يعمل به‬
‫الرجال‪ ،‬ووضع خطّة أطلق عليها اسم (املشاركة االقتصاديّة الف ّعالة‬
‫للمرأة اليابان ّية ‪ )Womenomics‬من أهدافها رفع نسبة القوى العاملة‬
‫النسائ ّية إىل نحو ‪ %73‬مقارنة بـ ‪ %68‬للعام ‪ 2012‬عىل أمل أن‬
‫يحصد املجتمع الياباين عائدها االقتصادي يف العام [[[‪.2020‬‬
‫ثانياً‪ :‬نرش تجارة الجنس‪ ،‬فثقافة التح ّرر تتيح مزيدا ً من‬
‫االستغالل التجاري لجسد املرأة‪ ،‬سواء كان ذلك يف اإلعالنات أم‬

‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ ،2‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪194-193‬‬


‫[[[‪ -‬رييوا ‪ ..‬عرص إنصاف املرأة اليابانيّة‪ ،‬بوابة األهرام‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2020/1/5‬عىل الرابط‬
‫‪https://gate.ahram.org.eg/News/2345438.aspx‬‬
‫‪135‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫يف التسويق أم يف صناعة األفالم اإلباحيّة أم يف السياحة الجنسيّة‬


‫أم يف باقي أشكال الدعارة‪ ،‬وكمثال عىل ذلك‪ :‬بلغت نسبة النساء‬
‫اللوايت يعملن يف الجنس يف بانكوك ‪ %10‬من عدد العامالت يف‬
‫الرشكات العابرة للجنسيّات‪ ،‬وترتبط تجارة الجنس باستثامرات‬
‫األعامل الدوليّة والرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات والقواعد العسكريّة‬
‫املؤسسات املاليّة‬
‫ّ‬ ‫األمريكيّة يف الدول املتق ّدمة‪ ،‬وترى بعض‬
‫كحل ألزمات الديون‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العامليّة وبعض الدول تطوير هذه الصناعة‬
‫كام تلعب حكومات هذه الدول دورا ً رئيساً يف تطوير هذا الشكل‬
‫من عاملة النساء غري الرسميّة‪ ،‬ويف الوقت نفسه تقوم بتمجيد فضيلة‬
‫النساء العامالت يف املصانع[[[‪.‬‬
‫يصب يف‬
‫ّ‬ ‫ثالثاً‪ :‬تفكيك األمناط القدمية لألرسة‪ ،‬وهذا التفكيك‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬فعندما تسود ثقافة عمل املرأة خارج‬
‫صالح العوملة ّ‬
‫املنزل‪ ،‬فإ ّن ذلك سوف يفرض تغيريا ً شامالً ألمناط الحياة التقليديّة‪،‬‬
‫حي يف املنزل‪ ،‬أو تكون مركزا ً‬ ‫فال تعود األرسة تنتج الغذاء الص ّ‬
‫يض ّم الجلسات العائل ّية الحميم ّية‪ ،‬وإنّ ا يجد أفراد األرسة ذواتهم‬
‫تصب‬
‫ّ‬ ‫يف املطاعم واملوالت والحانات وصاالت الرتفيه التي‬
‫املزيد من األموال يف جيوب الرشكات‪ ،‬ما يعني أ ّن العوملة تسعى‬
‫إىل وضع املرأة يف خض ّم التسليع‪ ،‬فتج ّردها من مهامها اإلنسان ّية‪،‬‬
‫وتجعلها تركّز عىل مهام العاملة واألرباح املال ّية‪ ،‬وتجعلها تقتنع بأ ّن‬
‫رعاية الزوج واألبناء والقيام بالشؤون املنزل ّية مه ّمة خارسة ألنّها تت ّم‬
‫من دون أجور‪.‬‬

‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ ،2‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.205‬‬


‫‪ 136‬العولمة‬

‫هذه املقايسة تقيص إىل ح ّد بعيد املعايري األخالقيّة واإلنسانيّة‬


‫من حياة املرأة‪ ،‬وتجعل ميزان الجودة يف الجهد املبذول من‬
‫قبلها قامئاً عىل الربح املايل فقط‪ ،‬أ ّما مسائل مثل مامرسة دور‬
‫األمومة وتنشئة األطفال تنشئة سليمة وتعزيز الروابط األرسيّة‬
‫وتحقيق اإلشباعات العاطفيّة‪...‬إلخ كلّها مسائل خارجة عن نطاق‬
‫تحتل وزناً يف اعتبارات العوملة‪ ،‬وعىل ذلك يُعلّق‬
‫ّ‬ ‫التقييم‪ ،‬وتكاد ال‬
‫زيجمونت باومان قائالً‪« :‬اإلنسان االقتصادي واإلنسان االستهاليك‬
‫يشريان إىل رجال ونساء بال روابط اجتامعيّة‪ ،‬إنّهم السكّان املثاليّون‬
‫القتصاد السوق واألمناط التي تبثّ السعادة يف نفوس مراقبي الناتج‬
‫القومي اإلجاميل»[[[‪.‬‬
‫ويندرج ضمن خطّة العوملة لتفكيك األمناط القدمية لألرسة‪:‬‬
‫التوسع الشديد يف مفهوم األرسة‪ ،‬مبعنى إدخال أشكال جديدة ضمن‬
‫ّ‬
‫مفهوم تشكيل األرسة من كونها قامئة عىل منط زواج بني (رجل–‬
‫امرأة) إىل عالقة زواج بني (رجل–رجل) أو بني (أنثى–أنثى)‪ ،‬وقد‬
‫أوىص تقرير مجلس حقوق اإلنسان مبا يأيت‪« :‬ينبغي توسيع نطاق‬
‫مفهوم األرسة وتعريفها القانوين يف الترشيعات الوطن ّية لالعرتاف‬
‫باألشكال املختلفة لألرسة‪ ،‬واالعرتاف باألزواج من نفس الجنس‪،‬‬
‫سواء كانوا رجاالً أو نساء‪ ،‬وبأشكال أخرى لألرسة‪ ،‬هو مامرسة‬
‫ج ّيدة سبق أن ط ّبقتها دول عديدة‪ ،‬ويف هذا الصدد أكّدت محكمة‬
‫البلدان األمريك ّية لحقوق اإلنسان أنّه ينبغي ألّ تحرم األمهات‬

‫الحب السائل‪ ..‬عن هشاشة الروابط اإلنسانيّة‪ ،‬زيجمونت باومان‪ ،‬الشبكة العربيّة لألبحاث‬
‫ّ‬ ‫[[[‪-‬‬
‫والنرش‪ ،‬بريوت‪ -‬الطبعة األوىل‪ ،2016 ،‬ص‪.109‬‬
‫‪137‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫الحق يف حضانة أطفالهن»[[[‪ ،‬وت ّم التحشيد الواسع‬


‫ّ‬ ‫املثليّات من‬
‫أي مامرسة تناهض املثليّة بأنّها‬
‫لقانونيّة هذا املفهوم إىل ح ّد وصم ّ‬
‫مامرسة عنرصيّة ومتييز يج ّرمه القانون‪ ،‬كام يت ّم الرتويج للمثليّة‬
‫بشكل كبري عرب حزم عديدة من الربامج الثقافيّة واإلعالميّة‪ ،‬ويف‬
‫املخصصة‬
‫ّ‬ ‫هذا الصدد يطرق الذهن أعامل شبكة نتفلكس ‪Netflix‬‬
‫لعرض األفالم واملسلسالت عىل شبكة اإلنرتنت‪ ،‬إذ تعمل جاهدة‬
‫أي‬
‫عىل إقحام املثليّة يف عروضها حتّى لو مل تخدم هذه الفكرة ّ‬
‫غرض درامي يف سياق أحداث الفيلم أو املسلسل الذي تعرضه‪،‬‬
‫كام أعلنت رشكة والت ديزين مؤخّرا ً عن نيّتها يف إنتاج حزمة من‬
‫أبطال الكارتون املثليني‪ ،‬وبارشت بالفعل بإنتاج فيلم ‪Lightyear‬‬
‫لعام ‪ 2022‬تظهر فيه شخصيّة (باز يطري) الشهرية كشخصيّة مثليّة‪.‬‬
‫خ اإلعالمي إىل جانب رواج األفالم اإلباح ّية عرب‬
‫هذا الض ّ‬
‫اإلنرتنت ع ّزز القبول االجتامعي لظاهرة الشذوذ الجنيس‪ ،‬ففي‬
‫مؤسسة غالوب يف املجتمع األمرييك‬
‫استطالع للرأي قامت به ّ‬
‫باعتبار املثل ّية مقبولة أخالق ّياً بنسبة ‪ %40‬مقابل اعتبارها خطأ بنسبة‬
‫‪ %53‬لعام ‪ ،2001‬وقد انقلبت النسبة يف العام ‪ 2021‬حيث بلغ‬
‫قبول املثل ّية أخالق ّياً بنسبة ‪ %69‬مقابل اعتبارها خطأ أخالق ّياً بنسبة‬
‫‪.[[[%30‬‬
‫وكام يف مسألة التح ّول الجنيس‪ ،‬فإ ّن للمثل ّية شأناً اقتصاديّاً‬

‫[[[‪ -‬تقرير الفريق العامل املعني مبسألة التمييز ض ّد املرأة يف القانون واملامرسة‪ ،‬مصدر سابق‪،‬‬
‫البند ‪ ،25‬ص‪.10‬‬
‫‪[2]- LGBT Rights–Gallup - https://news.gallup.com/poll/1651/gay-lesbian-rights.aspx‬‬
‫‪ 138‬العولمة‬

‫كبريا ً‪ ،‬يتمثّل باستهداف املاليّة الضخمة التي ميتلكها املثليّون‬


‫الخاصة بهم بنحو ‪3.7‬‬
‫ّ‬ ‫حول العامل‪ ،‬إذ تق ّدر الق ّوة الرشائيّة‬
‫ترليون دوالر[[[‪ ،‬وهذه الق ّوة الرشائيّة يسيل لها لعاب الرشكات‬
‫ُمتع ّددة الجنسيّات‪ ،‬وأ ّن مثل هذا املجتمع طيّع جدا ً لنمط الحياة‬
‫االستهالكيّة الذي تشكّل أمناطه هذه الرشكات كيف تشاء[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وتشيؤ اإلنسان‬ ‫االستهالكية‬ ‫رابعا‪:‬‬

‫اإلنسان السلعة‪ ..‬هذا هو املخلوق الجديد الذي تستهدف‬


‫العوملة صناعته‪ ،‬إنّه (إنسان فرانكشتاين) الذي ج ّربت العوملة‬
‫تخليقه يف مختربات النيوليربال ّية ليك يكون األداة املربوطة ب ِنري‬
‫االستهالكية املح ّركة للسوق‪ ،‬حيث ال فرصة لريفع رأسه من أجل‬
‫أن يُبرص الواقع من حوله‪ ،‬إنّه (اإلنسان امل ُتش ّيئ)‪.‬‬
‫إ ّن تشيّؤ اإلنسان يعني ببساطة تح ّوله إىل (يشء) كسائر‬
‫األشياء القابلة للتسليع من قبل القوى امل ُتحكّمة باإلنتاج‪ ،‬بحيث‬
‫‪[1]- The LGBTQ+ Community Has $3.7 Trillion In Purchasing Power; Here›s‬‬
‫‪How We Want You to Sell to Us.–entrepreneur-By / Nick Wolny- middle east – 10/‬‬
‫‪June/2019 - https://www.entrepreneur.com/article/334983‬‬
‫يخص‬
‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬ال يخلو التشجيع عىل املثليّة من ُمناغمة اإليديولوجيا الرأسامليّة القدمية فيام‬
‫االنفجار السكّاين‪ ،‬إذ اعترب ذلك أحد امل ُشكالت التي ظهرت مع نهاية القرن الثامن عرش عندما‬
‫بدأ التطعيم يُقلل من نسبة الوفيات‪ ،‬وقد اضطلع بدراسة هذه املشكلة توماس مالثوس (‪-1766‬‬
‫مم‬
‫‪ )1834‬إذ طرح نظريّة تقول إ ّن نسبة زيادة السكّان تتجاوز برسعة زيادة املوارد الغذائيّة‪ّ ،‬‬
‫تفش املجاعات‪ ،‬وقد اتخذ مالثوس موقفاً‬ ‫ّ‬ ‫يستدعي تخفيض معدّل الوالدات للحيلولة دون‬
‫مسيحيّاً تقليديّاً لعمليّة التخفيض هذه‪ ،‬من خالل تعليم الناس التعفّف‪ ،‬يف حني دعا الفيلسوف‬
‫ماركيز دي كوندورسيه (‪ )1794-1743‬إىل تحديد النسل بطريقة أقرب للمفهوم الحديث‪ ،‬ويف‬
‫عرص العوملة فقد ت ّم إحياء مثل هذه األفكار عىل يد رجل األعامل األمرييك الشهري بيل غيتس‪ ،‬ما‬
‫يعني أنّهم يتح ّركون فعليّاً إليجاد وسيلة للسيطرة عىل هذا التنامي السكّاين‪ ،‬وإذا كان األمر يتعلّق‬
‫بالوسائل الجامهرييّة فإ ّن أنجعها هي الوسيلة الثقافيّة‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫ميكن أن يكون أداة ُمنتجة للسلع‪ ،‬وميكن أن يكون بنفسه سلعة‪،‬‬


‫فتتح ّدد قيمته وفقاً ملتطلبات ال َع ْرض والطَلَب الذي تتحكّم فيه‬
‫واملؤسسات الرأسامليّة‪ ،‬وإ ّن تشيّؤ اإلنسان يرتبط مببدأ‬
‫ّ‬ ‫الرشكات‬
‫تأسس عليه الفكر الغريب الحديث‪ ،‬فعندما ا ّدعى‬
‫الهيومانيّة الذي ّ‬
‫فالسفة عرص التنوير الرتفّع باإلنسان إىل ق ّمة هرم الوجود بإعالء‬
‫مبدأ الهيومانيّة املاديّة‪ ،‬مل ي ُدر بخلدهم أنّهم ينزلون اإلنسان إىل‬
‫أي متايز بينه وبني باقي موجودات‬ ‫رتبة األشياء املاديّة‪ ،‬ويلغون ّ‬
‫الطبيعة‪ ،‬فالفلسفة املاديّة ال تعرتف بيشء يقع ما وراء املا ّدة كام‬
‫يؤكّد الدكتور عبد الوهاب املسريي[[[‪.‬‬
‫وإذا كان البرش أشياء كسائر األشياء يف الطبيعة‪ ،‬وإذا كانت العوملة‬
‫كل يشء مبعيار الربح املايل‪ ،‬فام‬
‫تستند إىل قوى الرأسامل ّية التي تُق ّيم ّ‬
‫بخاصة‬
‫ّ‬ ‫املانع يف أن يت ّم تحديد قيمة سوق ّية لجامعات البرش املختلفة؟‬
‫إذا متكّنت القوى امل ُنتجة من إضفاء تحسينات ُمك ّملة تزيد من فرص‬
‫الطلب عليهم يف السوق االستهالك ّية من قبل جامعات أخرى‪.‬‬

‫[[[‪ -‬يقول الدكتور عبد الوهاب املسريي‪« :‬يحدث يف داخل املنظومة الواحديّة املاديّة أن‬
‫يصبح اإلنسان هو مركز الكون املتجاوز له‪ ،‬فتظهر ثنائيّة اإلنسان‪ /‬الطبيعة‪ ،‬وهذا هو أساس الفكر‬
‫اإلنساين الهيوماين‪ ،‬التمركز حول الذات ومرجعيّة متجاوزة يف إطار مادّي‪ ،‬ولكن مثل هذه الثنائيّة‬
‫أي جوهر مستقل عن حركة املادّة‪ ،‬ومن‬ ‫ثنائ ّية واهية غري حقيق ّية‪ ،‬فالفلسفة املاديّة‪ ...‬تنكر وجود ّ‬
‫ألي عنرص مبا يف ذلك اإلنسان أن يحقّق تجاوزا ً للنظام املادّي الطبيعي‪ ،‬ولذا ال ب ّد‬ ‫ث ّم ال ميكن ّ‬
‫أن ترسي القوانني الواحدي ّة املاديّة يف نهاية األمر‪ ،‬ويف التحليل األخري عىل اإلنسان رسيانها عىل‬
‫وحسه الخلقي جزءا ً ال يتجزأ من حركة املادّة‪ ،‬خاضعاً لها‪،‬‬‫ّ‬ ‫الطبيعة‪ ،‬فيصبح اإلنسان بوعيه وفهمه‬
‫وتصبح هي املركز‪ ،‬وينترص املوضوع عىل الذات ويذوب اإلنسان ويختفي ويفقد مقدرته عىل‬
‫التجاوز‪ ،‬ويستوعب متاماً النظام الطبيعي‪ ،‬فموت اإلنسان هو نتيجة حتميّة للرؤية املاديّة وموت‬
‫اإلله»(ينظر‪ :‬الفلسفة املاديّة وتفكيك اإلنسان‪ ،‬د‪ .‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬الطبعة‬
‫السادسة ‪ ،2016‬ص‪.)63‬‬
‫‪ 140‬العولمة‬

‫ولكن أليس عجيباً أن يكون امل ُشرتي سلعة يف الوقت ذاته؟‬


‫إ ّن ذلك من ابتكارات العوملة الذي تف ّوقت به عىل (فرانكشتاين)‬
‫يف صناعة اإلنسان املسخ‪ ،‬فاإلنسان امل ُتشيّئ سيدافع عن تسليع‬
‫اآلخرين ليُحافظ عىل قيمة ذاته باعتباره سلعة أيضاً‪ ،‬إنّه ُمجرب‬
‫أحس يف قرارة ذاته بأنّه ميتهن نفسه‪ ،‬ملعرفته‬
‫ّ‬ ‫عىل ذلك حتّى لو‬
‫إل بالسلع‪ ،‬وسوف يُلقي يف سلّة‬
‫أ ّن املجتمع االستهاليك ال يهت ّم ّ‬
‫أي يشء غري السلعة الرائجة للتسويق‪.‬‬
‫املهمالت ّ‬
‫ال يحتاج املرء سوى أن يتج ّول بذهنه يف واقع العامل اليوم ليجد‬
‫الدليل عىل صدق ما نقول‪ :‬املاليني الذين يُصادرون طاقاتهم يف‬
‫وظائف روتين ّية باردة طمعاً يف عالوات ُمؤ ّ‬
‫جلة‪ ،‬واملاليني الذين‬
‫يستنفدون طاقاتهم ضمن خطوط إنتاج ّية يف مصانع أشبه بالسجون‪،‬‬
‫منصة ‪-‬حقيق ّية أو افرتاض ّية‪ -‬لبيع‬
‫أي ّ‬‫وماليني النساء الباحثات عن ّ‬
‫أجسادهن مببلغ ما‪ ،‬وال ريب يف أن تكون مثل هذه األجواء مليئة‬
‫باألمل واإلحباط؛ ألنّها تُصادر قيمة اإلنسان التي ال تتح ّمل االبتذال‬
‫بهذا الشكل‪ ،‬ولكن هل من مناص لإلنسان امل ُتش ّيئ غري ذلك؟‬
‫إ ّن اإلنسان امل ُتش ّيئ حبيس ثقافة االستهالك‪ ،‬وهذه الثقافة ت ُعيد‬
‫حساب الجودة االجتامع ّية للبرش عىل أساس املقاييس املاديّة‪،‬‬
‫وال مكان للقيم املعنويّة يف هذه املقاييس‪ ،‬ولذلك يعود اإلنسان‬
‫امل ُتش ّيئ غريباً ُمغرتباً مع سبق اإلرصار‪ :‬غريباً عن نفسه لتخلّيه عن‬
‫ذاته البرشيّة التي تُشبعها القيم املعنويّة‪ُ ،‬مغرتباً النقطاعه عن هويّته‬
‫االجتامع ّية الكامنة يف الرتاث واألعراف والتقاليد‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫وبالتأكيد ستكون هنالك رضيبة باهظة تكمن وراء التشيّؤ‪،‬‬


‫فتسليع البرش يعني هجرة الناس من حياتهم االجتامعيّة املليئة‬
‫باملعاين امل ُج ّردة نحو حياة فردانيّة بحتة‪ ،‬وهذه املاديّة ال ب ّد أن‬
‫تكون لها ارتدادات ُمد ّمرة عىل أكرث من صعيد‪ ،‬لك ّن ارتدادها عىل‬
‫الصعيد النفيس هو األكرث تدمريا ً‪ ،‬وميكن تحديد آثار التشيّؤ عىل‬
‫الجانب النفيس يف خمس شعب مرتابطة فيام بينها‪:‬‬
‫أ ّوالً‪ :‬إ ّن إغراق األسواق بالبضائع وجعل استهالكها غاية بح ّد‬
‫ذاته يعمل عىل رفع مستوى الطموحات االستهالك ّية لدى األفراد‬
‫بشكل غري متوازن مع مستوى إشباع هذه الطموحات‪ ،‬فكلّام زاد‬
‫ُمع ّدل اإلشباع االستهاليك انفتحت أبواب أوسع لطموحات أكرب‪،‬‬
‫ما يؤ ّدي إىل بروز حالة مزمنة من الشعور بالحرمان‪ ،‬فبقدر «ما‬
‫يحصلون عىل اإلشباع تتضخّم طموحاتهم وتته ّيج لدرجة تُفاقم من‬
‫درجة استيائهم»[[[‪.‬‬
‫أي مجتمع عليها أن‬ ‫ثانياً‪ :‬من أجل أن ّ‬
‫تحل ثقافة االستهالك يف ّ‬
‫ت ُضعف من الهياكل الثقاف ّية األصيلة‪ ،‬وعادة ما تقوم هذه الهياكل‬
‫عىل القيم واملبادئ الراسخة مثل الدين واألعراف والتقاليد‪ ،‬التي‬
‫من شأنها أن تشكّل قاعدة صلبة يتسامل عليها جميع أفراد املجتمع‪،‬‬
‫ويسريون عىل هديها باطمئنان‪ ،‬فإذا زالت القاعدة الصلبة وحلّت‬
‫محلّها ثقافة االستهالك التي تتّسم بالتب ّدل والسيولة وعدم الثبات‪،‬‬
‫فإ ّن اإلنسان سوف يكتنفه القلق ويشعر بالخوف املستم ّر من بيئة‬

‫[[[ علم االجتامع من النظريّات الكربى إىل الشؤون اليوميّة أعالم وتواريخ وتيّارات‪ ،‬فيليب كابان‬
‫وجان فرانسوا دورتيه‪ ،‬دار الفرقد‪-‬سوريا ‪-‬الطبعة األوىل‪ ،2010 ،‬ص‪.85‬‬
‫‪ 142‬العولمة‬

‫اجتامعيّة مجهولة قد تُخبّئ له مفاجآت غري سا ّرة‪ ،‬وذلك بالتأكيد‬


‫سيخلق لديه شعورا ً دامئاً بالقلق وعدم األمان‪ ،‬ما يعني فقدانه‬
‫لحاجة نفسيّة أساسيّة وضعها عامل النفس األمرييك أبراهام ماسلو‬
‫(‪ )1970-1908‬باملرتبة الثانية من حيث األه ّمية يف هرم الحاجات‬
‫اإلنسانيّة األساسيّة‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬غياب اإلشباع العاطفي يف العالقات بني األفراد‪ ،‬وذلك‬
‫أل ّن منط الحياة االستهالك ّية يجعل العالقات االجتامع ّية مبن ّية عىل‬
‫أساس ما ّدي ربحي بالدرجة األوىل‪ ،‬ويُقلّل من أه ّمية تأسيس هذه‬
‫العالقات عىل أساس مشاعر روح ّية دافئة‪ ،‬فاإلنسان بطبيعته كائن ذو‬
‫بالحب الحقيقي‪ ،‬وقد رت ّب‬
‫ّ‬ ‫شعور يسعى إىل إشباع حاجاته العاطف ّية‬
‫ماسلو هذه الحاجة النفس ّية يف الطبقة الثالثة من حيث األه ّمية‪ ،‬وإ ّن‬
‫غياب إشباعها يع ّد واحدا ً من أه ّم مس ّببات الكآبة وعدم االستقرار‬
‫النفيس‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬فقدان الشعور باالنتامء للبيئة االجتامع ّية‪ ،‬فاإلنسان كائن‬
‫اجتامعي بطبعه بحاجة إىل الشعور باالنسجام مع بيئته االجتامع ّية‬
‫ليتفاعل معها وينمو من خاللها ليصل إىل مرحلة تقدير الذات‬
‫وتحقيقها يف هذه البيئة‪ ،‬ولك ّن ثقافة االستهالك تعمل عىل إضعاف‬
‫الهويّة الثقاف ّية األصل ّية للمجتمع‪ ،‬كام ذكرنا آنفاً‪ ،‬وتزعزع ثقة‬
‫اإلنسان برتاثه الثقايف‪ ،‬وتعمل عىل ّ‬
‫فك ارتباطه بهذه البيئة‪ ،‬فيشعر‬
‫اإلنسان بالغربة عنها‪ ،‬وعدم الشعور بوجود رابط االنتامء لها‪ ،‬وهذا‬
‫االغرتاب يُن ّمي مشاعر العزلة والكآبة مادام وجد اإلنسان يف بيئة‬
‫تحاول الحفاظ عىل أمناطها الثقاف ّية األصل ّية‪.‬‬
‫‪143‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫خامساً‪ :‬إ ّن العوملة تع ّمم ثقافة الرفاهية االستهالكيّة عىل ّ‬


‫كل‬
‫األفراد‪ ،‬بغض النظر عن إمكانيّاتهم امل ُتفاوتة‪ ،‬وذلك يجعل الطبقات‬
‫الواقعة يف أسفل السلّم االقتصادي تحت ضغط نفيس غري معهود‪،‬‬
‫مم يخلق لديهم حالة من اإلحباط النسبي لعدم قدرتهم عىل مساواة‬
‫ّ‬
‫باقي الطبقات يف الرفاهية االستهالكيّة‪ ،‬ألنّه «مبقدار ما تتضاعف‬
‫املتع‪ ،‬مبقدار ما يفرض انتشارها نفسه عىل أكرب عدد‪ ،‬أل ّن املحرومني‬
‫الكل‬
‫ّ‬ ‫منها هم أكرث حساسيّة لهذا الحرمان النسبي من حرمانهم‬
‫السابق‪ ،‬فعندما كانت حكرا ً عىل بعض املحظوظني كانت بعيدة عن‬
‫متناولهم‪ ،‬لقد أصبحت أشهى بعد أن أصبحت أسهل مناالً‪ ،‬وهذا ما‬
‫يدعوه علامء النفس األمريكيّون اإلحباط النسبي»[[[‪.‬‬
‫إ ّن أمناط الحياة الجديدة التي تفرضها طبيعة السوق امل ُتح ّررة‬
‫سوف تُح ّول ِمقياس الجودة االجتامع ّية للفرد إىل ِمقياس ما ّدي‬
‫صف‪ ،‬فتكون مكانة اإلنسان االجتامع ّية محصورة فيام ميتلكه‬ ‫ِ‬
‫من وظيفة مرموقة تد ّر عليه أرباحاً كبرية‪ ،‬إىل جانب ما يسكنه من‬
‫منزل فاره‪ ،‬وما يركبه من سيارة حديثة‪ ،‬وما يلبسه من مالبس فاخرة‪،‬‬
‫وما يأكله يف مطاعم الدرجة األوىل‪ ،‬وذلك يُشكّل ضغطاً هائالً‬
‫عىل الرشيحة االجتامع ّية الفقرية‪ ،‬التي كانت تقنع مبا هي عليه‬
‫من مستوى ما ّدي‪ ،‬وتجد العوض يف تحقيق جودتها االجتامع ّية‬
‫مبا متتلكه من قيم معنويّة رصفة مثل شبكة العالقات االجتامع ّية‬
‫والسرية األخالق ّية وااللتزام بالدين‪...‬إلخ‪.‬‬

‫[[[‪ -‬علم االجتامع من النظريّات الكربى إىل الشؤون اليوميّة أعالم وتواريخ وتيّارات‪ ،‬م‪.‬س‪،‬‬
‫ص‪.317‬‬
‫‪ 144‬العولمة‬

‫إ ّن مجموع الضغوط النفسيّة الناشئة عن اآلثار الخمسة امل ُتق ّدمة‬


‫(ت ُفاقم االستياء‪ ،‬انعدام الشعور باألمن‪ ،‬عدم اإلشباع العاطفي‪،‬‬
‫الشعور باالغرتاب‪ ،‬اإلحباط النسبي) سوف يدفع اإلنسان امل ُتشيّئ‬
‫غالباً إىل التو ّرط بجملة من االنحرافات االجتامعيّة الخطرية مثل‬
‫وتفش الجرمية وتصاعد نسب‬
‫ّ‬ ‫االنتحار وتعاطي املخ ّدرات‬
‫الطالق والتفكّك األرسي والعدوانيّة وانتهاك حقوق الضعفاء‪.‬‬
‫أي مجتمع‪ ،‬فإ ّن ذلك يقتيض‬
‫كام أ ّن ثقافة االستهالك إذا مت ّددت يف ّ‬
‫بالرضورة سيادة منط املصالح الفرديّة عىل حساب األمناط الثقاف ّية‬
‫التقليديّة التي تهت ّم بالصالح العام وتؤ ّدي دورا ً كبريا ً يف حفظ التضامن‬
‫االجتامعي‪ ،‬وبذلك تعمل ثقافة االستهالك عىل تشكيل د ّوامة لولب ّية‬
‫تسحب اإلنسان امل ُتش ّيئ نحو الهاوية‪ ،‬بحيث ال ميلك خيار العودة‬
‫إىل السطح‪ ،‬فعندما يهت ّم األفراد مبصالحهم الفرديّة أكرث من اهتاممهم‬
‫بالصالح العام‪ ،‬فهم يقومون بصناعة منط حياة انعزال ّية تُضعف‬
‫من تضامنهم االجتامعي‪ ،‬والذي يؤ ّدي بدوره إىل ضعف الحامية‬
‫امل ُجتمع ّية لألفراد‪ ،‬وإ ّن ضعف الحامية امل ُجتمع ّية لألفراد يدفعهم‬
‫بشكل اضطراري إىل مزيد من التمحور حول الذات ببناء الحواجز‬
‫التي تحمي مصالحهم الفرديّة‪ ،‬وذلك يؤ ّدي حتامً إىل تدهور التضامن‬
‫االجتامعي وخسارة املزيد من الحامية امل ُجتمع ّية تبعاً لذلك‪ ،‬وهكذا‬
‫دواليك إىل أن يصل توسيع األفراد لحواجزهم الفرديّة إىل التداخل بني‬
‫بعضها البعض‪ ،‬ما يولّد احتكاكات تجعل التضامن االجتامعي ينقلب‬
‫إىل ِعداء اجتامعي‪ ،‬وعند تلك املرحلة يصبح ترسيم حدود واضحة‬
‫للحقوق الفرديّة قض ّية صعبة للغاية‪ ،‬فيشعر األفراد بالعجز‪ ،‬ما يضط ّرهم‬
‫‪145‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫تالياً إىل اللجوء للّوائح واألنظمة القانونيّة الصارمة يف محاولة يائسة‬


‫لرتسيم حدود فاصلة بينهم‪ ،‬فتكرث النزاعات العجيبة التي تعجز أفضل‬
‫كل األطراف‪.‬‬
‫امل َحاكم عن إنهائها مبا يُريض ّ‬
‫إ ّن أفضل الع ّينات التمثيل ّية امل ُصغّرة لهذا الحال امل ُؤسف‬
‫يتجسد يف العالقة الزوج ّية اليوم‪ ،‬فرتكيز الزوجني عىل املصالح‬ ‫ّ‬
‫الفرديّة أضعف العالقة التضامن ّية بينهام‪ ،‬وأفقدهام الثقة واالطمئنان‬
‫كل طرف إىل التعجيل يف حجز أوسع مساحة‬
‫ببعضهام‪ ،‬ما يدفع ّ‬
‫من الحقوق لنفسه‪ ،‬وذلك يُنتج شكالً من أشكال العالقة العدائ ّية‬
‫أي غنيمة ألحد الطرفني تُثّل خسارة للطرف‬
‫بشكل تدريجي[[[؛ أل ّن ّ‬
‫اآلخر‪ ،‬وهذا الشكل من العالقة العدائ ّية يؤ ّدي الحقاً إىل زوال‬
‫الثقة واالطمئنان بني الزوجني‪ ،‬ما يضط ّرهام إىل اللجوء للقوانني‬
‫والترشيعات الصارمة بهدف ترسيم حدود واضحة من الحقوق‬
‫بينهام‪ ،‬وكثريا ً ما تعجز هذه القوانني عن ترسيم مثل هذه الحدود‪،‬‬
‫وحتّى لو متكنت من ذلك‪ ،‬فال ضامنة من عدم اخرتاقها‪ ،‬ما يجعل‬
‫املختصة ظاهرة مألوفة ومتك ّررة يف هذا‬
‫ّ‬ ‫الرتدد عىل املحاكم‬
‫العرص‪ ،‬يف حني أ ّن العالقة الزوج ّية يجب أن تقوم عىل أسس معنويّة‬
‫رصفة من األلفة والتعاون والتضحية‪ ،‬ولكن ميل النساء والرجال‬
‫مم ح ّول‬
‫نحو الفردان ّية بسبب ثقافة االستهالك أفقدتهم التضامن‪ّ ،‬‬
‫املترضرين من هذه العالقة هي املرأة ألنّها الطرف األضعف بطبيعة الحال‪ ،‬ففي أملانيا‬
‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬أكرب‬
‫عىل سبيل املثال فإ ّن جرائم العنف بني الزوجني قد أودى بحياة ‪ 139‬امرأة و‪ 30‬رجالً للعام‬
‫جلت فرنسا ‪ 125‬من بينها ‪ 102‬امرأة للعام نفسه (املصدر‪ :‬أرقام صادمة‬ ‫‪ ،2020‬يف حني س ّ‬
‫يف اليوم العاملي للقضاء عىل العنف ض ّد املرأة ‪ /DW/‬نرش بتاريخ ‪ 2021 /11 /25‬عىل‬
‫الرابط ‪/https://www.dw.com/ar‬أرقام‪-‬صادمة‪-‬يف‪-‬اليوم‪-‬العاملي‪-‬للقضاء‪-‬عىل‪-‬العنف‪-‬ضد‪-‬‬
‫املرأة‪) 59912781-a/‬‬
‫‪ 146‬العولمة‬

‫العالقة الزوجيّة من رابطة حميمة دافئة إىل رابطة بريوقراطيّة باردة‬


‫تُعاين من التفكّك ويُه ّددها االنهيار‪.‬‬
‫ومن امله ّم االلتفات إىل أنّه من املفيد جدا ً ألرباب العوملة ‪-‬من‬
‫مديري الرشكات الرأسامل ّية إىل قادة األحزاب الليربال ّية وحواشيهم‬
‫يف األجهزة الحكوم ّية‪ -‬استمرار الرصاع الداخيل بني أطياف‬
‫املجتمع عىل هذا النحو؛ أل ّن ذلك يعمل بفاعليّة عىل استنفاد‬
‫طاقة الجامهري يف نزاعات فرعيّة‪ ،‬ويُبعد نظرهم عن الرؤية الكليّة‬
‫من أجل تحديد األسباب الحقيق ّية الكامنة وراء معاناتهم‪ ،‬ولذلك‬
‫يقول ليسيل سكيلر بأ ّن االستهالك ّية كونها جزءا ً من الحداثة قد‬
‫محل إيديولوجيّات أخرى (نظم العقيدة) وشتّتت انتباه‬ ‫حلّت متاماً ّ‬
‫كل الناس عن األرضار الحقيقيّة التي يعانون منها كنتائج للعوملة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ويقرتح أ ّن وقوف إحدى اإلسرتاتيج ّيات ض ّد رشك الحداثة والعوملة‬
‫يكون مبحاربة «النزعة االستهالك ّية»[[[‪.‬‬
‫ويرى سكيلر أ ّن الحركات املعارضة الوحيدة الناجحة هي تلك‬
‫التي تستطيع أن توقع الفوىض بشكل ف ّعال يف النظام وال تسمح‬
‫باستقطابها ال هي وال املنظّامت واألهداف املحليّة‪ ،‬وعند النظر‬
‫إىل الخلف ميكن أن نرى أ ّن نجاح «التحديث» كان يف انتشار‬
‫املفهوم االستهاليك القائل بأ ّن «السلع» ستجعلنا سعداء وتعطي‬
‫لحياتنا معنى‪ ،‬ويدعو سكيلر هذا تغيريا ً اجتامع ّياً لرشائح عومل ّية‬
‫حقيقيّة‪ ،‬ولهذا السبب يرى أ ّن الحركات االجتامعيّة املعارضة‬
‫لـ«االستهالكيّة» هي األكرث تدمريا ً من بني الحركات كلّها[[[‪.‬‬
‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ ،2‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.232-231‬‬
‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ ،1‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫‪147‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫ً‬
‫خامسا‪ :‬تكنولوجيا العولمة وإلغاء التوازنات‬
‫يختص‬
‫ّ‬ ‫من البديهي أ ّن التط ّور التكنولوجي الذي يُحرزه البرش ال‬
‫بعرص العوملة‪ ،‬بل هو حقيقة واقعة منذ فجر التاريخ‪ ،‬ويفرض هذه‬
‫الحقيقة نزوع اإلنسان نحو تحسني حاله وتسهيل حياته وحامية نفسه‬
‫من األخطار املحيطة به‪ ،‬لذا مل يتوقّف اإلنسان يوماً عن اكتشاف‬
‫التكنولوجيا وتطويرها منذ اخرتاع العجلة حتّى اكتشاف املح ّرك‬
‫البخاري وما بعده‪ ،‬لك ّن اليشء الجديد يف تكنولوجيا عرص العوملة‬
‫هو رسعة التط ّور الهائلة الذي مت ّر به بسبب هذه التكنولوجيا‪ ،‬بسبب‬
‫تغ ّول الرشكات الرأسامل ّية وجشعها املتزايد للربح‪ ،‬بحيث جعلت‬
‫العنارص االجتامع ّية األخرى غري قادرة عىل مجارات التط ّور التقني‬
‫وامتصاص عوارضه السلب ّية‪ ،‬لتدخل املجتمعات البرشيّة بسبب‬
‫ذلك يف حالة من اإلرباك امل ُتفاقم‪.‬‬
‫وهذا اإلرباك قد صادقت عليه ثقافة العوملة؛ أل ّن ثقافتها تابعة‬
‫ألهم مبادئ الفلسفة الغربيّة القامئة عىل مفهوم البقاء لألقوى‪ ،‬فرتى‬
‫أ ّن العنارص اإلنسانيّة التي تُعاين من ضعف يجب أن تنقرض‪ ،‬سواء‬
‫كانت هذه العنارص سياسيّة فيت ّم تغليب الدميقراطيّة عىل الشموليّة‪،‬‬
‫أو اقتصاديّة فيت ّم تغليب الرأسامليّة عىل االشرتاكيّة‪ ،‬أو حضاريّة فيت ّم‬
‫تغليب الغرب عىل الرشق‪ ،‬أو اجتامعيّة فيت ّم تغليب الشامل عىل‬
‫جع عىل تسيّد األحاديّة‪،‬‬
‫الجنوب وهكذا‪ ،‬وبالتايل فإ ّن ثقافة العوملة تُش ّ‬
‫وإ ّن هذا االتجاه األحادي للعوملة يعني يف النهاية إفقاد العامل‬
‫للتوازنات الثنائيّة التي تضمن بالرضورة ديناميكيّة عمله وسالمة بقائه‪،‬‬
‫فمبدأ التوازن بني الثنائيّات هو مبدأ بسيط ومه ّم إىل أبعد الحدود‪.‬‬
‫‪ 148‬العولمة‬

‫دعونا نأخذ أه ّمية التوازن الثقايف بني البيئة الحرضيّة والبيئة‬


‫ولدة للتط ّور‬
‫الريفيّة كمثال‪ ،‬إ ّن البيئة الحرضيّة مع أنّها متثّل بيئة ّ‬
‫ألي أ ّمة‪ ،‬إلّ أنّها يف الوقت ذاته ُمع ّرضة لخطر‬
‫الفكري والسيايس ّ‬
‫التخل عن األعراف األصيلة للمجتمع‪ ،‬وهنا يأيت دور البيئة الريفيّة‬
‫ّ‬
‫متسكها بالعادات‬ ‫ّ‬ ‫التي متثّل خ ّزانات طبيعيّة لألعراف بحكم‬
‫والتقاليد‪ ،‬وبوجود البيئتني بشكل فاعل فإ ّن الخلطة بني الحداثة‬
‫والرتاث‪ ،‬بني املا ّدة واملعنى‪ ،‬بني جسد األمة وروحها ستكون‬
‫جه العوملة األحادي الذي يقيض بتغليب البيئة‬
‫متوازنة‪ ،‬وإ ّن تو ّ‬
‫الحرضيّة عىل الريفيّة يؤ ّدي بالرضورة إىل إفقاد املجتمع توازنه‬
‫الثقايف بني األصالة وامل ُعارصة‪.‬‬
‫وتلعب التكنولوجيا الحديثة دورا ً محوريّاً يف هذا الصدد‪ ،‬إذ‬
‫كل‬
‫إ ّن ارتباط هذه التكنولوجيا بزعزعة التوازنات أمر واضح يف ّ‬
‫املجاالت‪ ،‬وهو يف املجال الثقايف أكرب وأوضح‪ ،‬وذلك أساس‬
‫نظريّة عامل االجتامع وليم أوجربن (‪ )1959-1886‬الذي تح ّدث‬
‫عم تفعله التكنولوجيا الحديثة من تغليب للثقافة املاديّة عىل‬‫ّ‬
‫الثقافة املعنويّة للمجتمع‪ ،‬فمن خالل تكنولوجيا االتصال واإلعالم‬
‫تعمل العوملة عىل استباحة الفضاء الثقايف للمجتمعات‪ ،‬ومن شأن‬
‫هذه التكنولوجيا إلغاء «إمكان ّيات التثاقف كخيار ‪-‬يعني االنفتاح‬
‫الطوعي عىل املنظّامت الثقاف ّية املختلفة عرب آل ّيات التأثري والتأث ّر‬
‫والتفاعل امل ُتبادل‪ -‬لصالح االستباحة الكاملة للفضاء الثقايف الذي‬
‫يُع ّزز قيم الغالب‪ ،‬ويؤ ّدي إىل استتباع املغلوب‪ ،‬واكتساح دفاعاته‬
‫التقليديّة‪ ،‬وبالتايل ال ترتك أمامه من خيارات خارج حدود االنعزال‬
‫‪149‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫أو الذوبان سوى هوامش محدودة يف مواجهة تكنولوجيا اإلخضاع‬


‫وصناعة العقول وهندسة اإلدراك لغرض الغلبة الحضاريّة وكرس‬
‫املامنعة الثقافيّة»[[[‪.‬‬
‫ومن املستحيل أن ال يكون لهذا األمر تداعيات خطرية‪ ،‬إذ‬
‫إ ّن فقدان التوازن الثقايف الرسيع سيخلق ردود أفعال عنيفة ته ّدد‬
‫بزعزعة األمن املجتمعي ذاته‪ ،‬كام حدث يف نيجرييا التي شهدت‬
‫اضطرابات عنيفة عىل هامش الخالف بني الجامعات املسلمة‬
‫والعلامن ّية بخصوص احتضان البلد ملسابقة ملكة جامل العامل‬
‫لعام ‪ ،2002‬إذ أ ّدت االضطرابات إىل مقتل أكرث من ‪ 200‬نيجريي‪،‬‬
‫وانتهت القض ّية بنقل ف ّعاليات املسابقة إىل لندن يف النهاية[[[‪.‬‬
‫أ ّما عىل الصعيد زعزعة التوازن بني الطموحات الجامهرييّة‬
‫والواقع االجتامعي والسيايس‪ ،‬فإ ّن تكنولوجيا العوملة بطبيعتها‬
‫تغيات رسيعة يف تطلّعات الجامهري بشكل ال‬
‫قادرة عىل إحداث ّ‬
‫توازيه القدرة االقتصاديّة والسياس ّية للبلد الذي يعيشون فيه‪ ،‬إذ «إ ّن‬
‫الحرضنة والتعليم والثقافة ووسائط اإلعالم كلّها تع ّرض اإلنسان‬
‫التقليدي إىل أشكال جديدة من الحياة ومعايري جديدة للمتعة‬
‫وإمكانات جديدة لإلشباع» وبالتايل «تنمو فجوة بني الطموح‬
‫والتوقّع‪ ،‬بني تشكّل الحاجة وإشباعها‪ ،‬أو وظيفة الطموحات ووظيفة‬

‫[[[‪ -‬إشكاليّة التغيري االجتامعي املعارص من خالل مقاربة لنظرية التخلّف الثقايف عند وليم‬
‫أوكربن‪ ،‬ضامر وليد عبد الرحمن‪ ،‬مجلّة األكادمييّة للدراسات االجتامعيّة واإلنسانيّة‪ ،‬العدد ‪،11‬‬
‫كانون الثاين‪ ،2014 ،‬ص‪.6‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة ومناهضوها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.54‬‬
‫‪ 150‬العولمة‬

‫مستوى املعيشة‪ ،‬تولّد هذه الفجوة إحباطاً اجتامعيّاً واستيا ًء عمليّاً‬


‫مؤشا ً منطقيّاً إىل عدم االستقرار السيايس»[[[‪.‬‬
‫ويوفّر امتداد الفجوة ّ‬
‫غيت تكنولوجيا العوملة بيئة العمل القدمية التي‬
‫من جانب آخر‪ّ ،‬‬
‫كانت تُوازن بني مصالح العامل ومصالح الرشكات‪ ،‬كام يف تجربة‬
‫رشكة فورد التي كانت توفّر أجورا ً مجزية للعاملني من أجل الحفاظ عىل‬
‫العاملة املاهرة لديها‪ ،‬بحيث يشعر العامل بأ ّن مستقبله املهني مرتبط‬
‫ارتباطاً عضويّاً بهذه الرشكة‪ ،‬ولك ْن مع مجيء التكنولوجيا الحديثة‬
‫للعوملة وما متنحه من فرص واسعة للرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‬
‫وح ّرية يف التنقّل واالختيار‪ ،‬فقد ت ّم فقدان التوازن بني مصالح العاملة‬
‫ومصالح الرشكات‪ ،‬ومثالها األشهر رشكة مايكروسوفت التي ال يرغب‬
‫بأي مرشوع عىل املدى الطويل‪ ،‬متّخذا ً‬
‫مالكها بيل غيتس يف االرتباط ّ‬
‫كل االلتزامات‬
‫سياسة البحث عن األرباح الرسيعة والتخلّص من ّ‬
‫امل ُرهقة للمشاريع بعيدة األمد‪ ،‬وبذلك صارت مسألة املهن املؤقّتة‬
‫شيئاً سائدا ً جدا ً‪ ،‬لتصبح الطبقة العاملة مه ّددة بفقدان مصدر الرزق‬
‫أي وقت‪.‬‬
‫ويالحقها شبح البطالة يف ّ‬
‫أ ّما عىل صعيد االقتصاد الحكومي‪ ،‬فإ ّن تكنولوجيا عرص العوملة‬
‫خلقت سوقاًجديدة وناشطة تتمثّل يف املضاربات يف األوراق املال ّية‬
‫التي ته ّدد بطبيعتها التوازنات يف األسواق العامل ّية‪ ،‬يقول أستاذ العلوم‬
‫السياس ّية كالوس ليجفي‪« :‬الطبيعة املُتّسمة باملضاربة لهذه األشكال‬
‫من االستثامر املايل والقيود املفروضة عىل إمكانات الرقابة من‬
‫خالل إرشاف املصارف والبورصات ألصقت بهذا الشكل من أشكال‬
‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ ،1‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.237‬‬
‫‪151‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫(بكل ما يف الكلمة من معنى) اسم رأسامليّة‬ ‫ّ‬ ‫املقامرة االقتصاديّة‬


‫الكازينو»[[[‪ ،‬وهذا األمر ينطبق أيضاً عىل املضاربة يف سوق رصف‬
‫العمالت (فوركس) ‪ Foreign Exchange Market‬الذي يؤ ّدي إىل‬
‫عدم استقرار أسعار العمالت‪ ،‬إذ يعمل هذا السوق عىل تدفّق أموال‬
‫املضاربات ما يجعلها تتف ّوق بسهولة عىل مخزون العمالت األجنب ّية‬
‫ألي حكومة‪ ،‬بحيث «مل تعد البنوك األهل ّية قادرة عىل حامية عمالتها‬ ‫ّ‬
‫أمام هجوم املضاربات‪ ،‬وصار التخطيط االقتصادي الوطني متزايد‬
‫الصعوبة حتّى للدول الرثيّة‪ ،‬وتزايد عدم استقرار السوق‪ ،‬واتجهت‬
‫الحكومات إىل سياسات االنكامش املايل للحفاظ عىل مصداقيّة‬
‫السوق‪ ،‬وهو ما دفع االقتصاديّات نحو حالة من البطء والبطالة مع‬
‫انخفاض األجور الفعل ّية وزيادة يف الفقر والالمساواة»[[[‪.‬‬
‫وأحد أخطر أشكال عدم التوازن الذي تف ّعله تكنولوجيا العوملة‬
‫هو تهديد النظام البيئي‪ ،‬فالتط ّور التكنولوجي يف مجال التصنيع‬
‫يشكّل فارقاً كبريا ً يف انعدام التوازن بني استغالل املوارد وتعويضها‬
‫يف الطبيعة‪ ،‬فمثالً تقوم الج ّرارات الحديثة بقطع آالف الهكتارات من‬
‫األشجار يف الغابات خالل وقت قيايس ال تتمكّن تلك الغابات من‬
‫تعويضه‪ ،‬ويت ّم تلويث املياه والهواء بألوان السموم بفعل املخلّفات‬
‫الصناع ّية بشكل ال تستوعبه إعادة التدوير الطبيع ّية لكوكب األرض‪،‬‬
‫وذلك ما دفع بو ساتكليف إىل القول‪« :‬إ ّن عوملة خصائص الدول‬
‫املتق ّدمة ستجعل كوكبنا بالتأكيد مكاناً ال ميكن العيش فيه»[[[‪.‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة ومناهضوها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.33-32‬‬
‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.233‬‬
‫[[[‪ -‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ ،2‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.228-227‬‬
‫‪ 152‬العولمة‬

‫وعىل الرغم من أ ّن املنظّامت املدافعة عن البيئة تنشط بش ّدة‬


‫يف محاوالت حثيثة إلعادة االستقرار البيئي يف عرص العوملة‪ ،‬ولك ْن‬
‫هنالك حملة خبيثة باملقابل تقمع مثل هذه املحاوالت‪ ،‬مثل التضليل‬
‫اإلعالمي وتزييف الحقائق العلميّة للتقليل من شأن املخاطر التي‬
‫تنتجها الصناعة الحديثة‪ ،‬فمثالً حصلت جامعة السالم األخرض عىل‬
‫مستندات تظهر أ ّن (ويهوك سون) العامل يف مركز (هارفرد‪-‬سميثونيان)‬
‫للفيزياء الفلكيّة كان يتلقّى دفعات ماليّة من قبل القطاع النفطي لال ّدعاء‬
‫بأ ّن التفاوت يف طاقة الشمس هو أمر ميكن أن يعزى له االحتباس‬
‫الحراري األخري إىل درجة كبرية‪ ،‬كام أ ّن (جيمس كريسويل) الخبري‬
‫يف الزهور والنحل يف جامعة (إكسرت) الربيطانيّة كان يُدفع له من قبل‬
‫رشكة سينجينتا العمالقة يف مجال امل ُبيدات الحرشيّة لقيام بعمل‬
‫يُظهر أ ّن املوت امللحوظ ملستعمرات النحل حول العامل ال عالقة له‬
‫بهذه املبيدات[[[‪ ،‬كام تتع ّرض املنظّامت املدافعة عن البيئة لحملة‬
‫تنصلت الواليات‬
‫تشويه بحجة أ ّن النضال البيئي ُمنحاز سياسيّاً‪ ،‬وقد ّ‬
‫املتّحدة األمريكيّة يف عهد الرئيس دونالد ترامب من اتفاق باريس‬
‫جة أنّه اتفاق ُمنحاز‪ ،‬وأنّه مل يكن ُمص ّمامً إلنقاذ‬
‫للمناخ عام ‪ 2019‬بح ّ‬
‫البيئة بل لقتل االقتصاد األمرييك[[[‪.‬‬
‫وعودة عىل بدء‪ ،‬فإ ّن ترسيع التكنولوجيا يف عرص العوملة‬
‫والتخل عن توازن الثنائ ّيات عىل الصعيد‬
‫ّ‬ ‫لعمل ّيات االندماج‬

‫[[[‪ -‬نظام التفاهة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪144-143‬‬


‫[[[‪ -‬ترامب يدافع عن االنسحاب من اتفاق باريس للمناخ‪ /‬فرانس‬
‫‪/https://www.france24.com/ar /2020-11-22 /24‬‬
‫األخباراملستمرة‪-20201122/‬ترامب‪-‬يدافع‪-‬عن‪-‬االنسحاب‪-‬من‪-‬اتفاق‪-‬باريس‪-‬للمناخ‬
‫‪153‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫الثقايف واالقتصادي والسيايس واالجتامعي والبيئي ال ب ّد من أن‬


‫أي لحظة‬
‫يخلق حالة من التوتّر العاملي‪ ،‬وهذا التوتّر قد يؤ ّدي يف ّ‬
‫كل‬
‫إىل انفجار سيايس شعبوي واسع النطاق‪ ،‬وذلك ما حذّر منه ّ‬
‫من شواب وسامديا يف منتدى دافوس لعام ‪ 1996‬قائلني‪« :‬لقد‬
‫دخلت العوملة االقتصاديّة مرحلة جديدة ومث ّة ر ّدة متصاعدة ض ّد‬
‫وبخاصة يف البلدان الدميقراطيّة الصناعيّة‪ ،‬ته ّدد بأثر مد ّمر‬
‫ّ‬ ‫آثارها‬
‫للنشاط االقتصادي واالستقرار االجتامعي يف بلدان ع ّدة‪ ،‬والحالة‬
‫يفس‬
‫تدل عىل اليأس والقلق‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫السائدة يف هذه الدميقراطيّات ّ‬
‫نشوء صنف جديد من السياسيني الشعبويني‪ ،‬وهذا األمر قد يتح ّول‬
‫بسهولة إىل مت ّرد»[[[‪.‬‬
‫وألجل الحفاظ عىل مستوى التوتّر عند حدود مع ّينة‪ ،‬تسعى‬
‫الدول يف عرص العوملة إىل التنافس املحموم عىل التسليح لتوفري‬
‫ق ّوة الردع وتحقيق التوازن بني القوى العسكريّة املنافسة‪ ،‬لذا نجد‬
‫ويف مفارقة تراجيديّة أ ّن نظام العوملة ‪-‬بسبب طبيعته املتوحشّ ة‬
‫القامئة عىل مبدأ البقاء لألقوى‪ -‬يعمل عىل تثبيت األمن العاملي‬
‫باستخدام توازن الرعب باهظ التكلفة‪ ،‬يف حني يه ّم لتثبيت هذا‬
‫بحل املشكلة من الجذور وبتكلفة أرخص بكثري‪ ،‬فاإلنفاق‬
‫األمن ّ‬
‫العاملي عىل التسليح سنويّاً بلغ ‪ 800‬بليون دوالر‪ ،‬مقابل ‪ 50‬بليون‬
‫دوالر فقط لتوفري الطاقة النظيفة‪ ،‬و‪ 24‬بليون دوالر ملنع تحات‬
‫الرتبة‪ ،‬و‪ 21‬بليوناً لتقديم الرعاية الصح ّية ومكافحة اإليدز‪ ،‬و‪19‬‬
‫بليوناً للقضاء عىل الجوع وسوء التغذية‪ ،‬و‪ 10‬باليني دوالر لتوفري‬

‫[[[‪ -‬الوجيز يف تاريخ النيوليرباليّة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.115‬‬


‫‪ 154‬العولمة‬

‫املياه النظيفة واآلمنة‪ ،‬و‪ 16‬بليون دوالر ملنع االحرتار العاملي‬


‫واألمطار الحامضيّة‪ ،‬و‪ 12‬بليون دوالر إليقاف إزالة الغابات ومنع‬
‫نفاذ األوزون[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫إيجابية للعولمة‬ ‫ً‬
‫سادسا‪ :‬منجزات‬
‫إل أ ّن ذلك ال‬
‫كل السلب ّيات التي طرحناها للعوملة‪ّ ،‬‬
‫عىل الرغم من ّ‬
‫يعني أ ّن ال إيجاب ّيات فيها‪ ،‬بل هنالك إيجاب ّيات كبرية ال ميكن إنكارها‪،‬‬
‫فمثالً أ ّدى الرتابط االقتصادي إىل تحقيق منو اقتصادي رسيع‪ ،‬ما ساعد‬
‫املحل اإلجاميل العاملي عىل النمو من حوايل ‪ 50‬تريليون‬
‫ّ‬ ‫الناتج‬
‫دوالر عام ‪ 2000‬إىل ‪ 75‬تريليون دوالر عام ‪.[[[ 2016‬‬
‫كام ساعدت العوملة كثريا ً من البلدان الفقرية وبلدان العامل‬
‫النامي عىل استثامر أكرب ملواردها البرشيّة‪ ،‬إذ أسهم استثامر‬
‫الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات يف تلك البلدان بفتح فرص عمل‬
‫كثرية ساعدت يف إعالة قطاعات واسعة من الشعب مل تكن تحلم‬
‫بفرص عمل أصالً‪ ،‬يقول جوزيف ستكتز‪« :‬االنفتاح عىل التجارة‬
‫مم لو‬
‫الدوليّة ساعد العديد من البلدان عىل النمو بصورة أرسع ّ‬
‫جه‬
‫كان العكس‪ ،‬والتجارة الدوليّة تساعد التنمية االقتصاديّة عندما تو ّ‬
‫جه نحو التصدير كان‬
‫صادرات البلد من ّوه االقتصادي‪ ،‬والنم ّو املو ّ‬
‫واسطة السياسة الصناعيّة التي أغنت معظم بلدان آسيا‪ ،‬وجعلت‬

‫[[[‪ -‬كل ما أردت دوما أن تعرفه عن األمم املتّحدة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.57‬‬
‫[[[‪ -‬تقرير العوملة الجديد‪ :‬ثالثة اتجاهات كربى قد تؤث ّر يف مستقبلنا‪ -‬األمم املتّحدة‪-‬‬
‫‪https://www.un.org/development/desa/ar/news/intergovernmental- 2019-/10/19‬‬
‫‪coordination/new-globalization-report.html‬‬
‫‪155‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫املاليني من األشخاص هناك يف وضع ما ّدي أفضل‪ ،‬وبسبب‬


‫العوملة يعيش العديد من األشخاص يف العامل اآلن فرتة أطول من‬
‫وربا يحسب الناس‬
‫قبل‪ ،‬وأصبح مستواهم املعييش أفضل بكثري‪ّ ،‬‬
‫يف الغرب وظائف الرواتب الواطئة يف رشكة ناييك استغالالً‪ ،‬إلّ أ ّن‬
‫العديد من الناس العاملني يف املصانع يف العامل النامي يع ّدونها‬
‫خيارا ً أفضل بكثري من العمل يف املزارع ومزاولة زراعة الرز‪ ،‬لقد‬
‫قلّلت العوملة الشعور بالعزلة يف معظم العامل النامي وأعطت‬
‫العديد من األشخاص يف البلدان النامية سبيالً إىل املعرفة تع ّدى‬
‫أي بلد قبل قرن‪ ،‬إ ّن االحتجاجات‬
‫حدود إمكانيّة حتّى األغنياء يف ّ‬
‫املعادية للعوملة بح ّد ذاتها هي نتيجة هذا االرتباط»[[[‪.‬‬
‫وال ننىس أ ّن العوملة تس ّببت يف انفتاح أكرب عىل استهالك‬
‫الطاقة من قبل الدول الصناع ّية الكبرية‪ ،‬مثل النفط والغاز والفحم‬
‫الحجري‪ ،‬وهو الجانب األه ّم الذي تعتمد عليه اقتصاديّات كثري من‬
‫الدول النامية التي تسعى إىل تأمني مستويات معيش ّية لشعوبها مبا‬
‫يتالءم وأمناط الحياة التي رسمتها العوملة‪.‬‬
‫كام أ ّن االندماج االقتصادي الذي س ّببته العوملة ساعد يف‬
‫وصول منتجات التق ّدم التقني يف الدول الفقرية والنامية‪ ،‬فلم تعد‬
‫هذه املنتجات حكرا ً عىل الدول املتط ّورة‪ ،‬إ ّن حريّة التجارة أسهمت‬
‫يف حصول العديد من الشعوب عىل أحدث املخرتعات التقن ّية‪،‬‬
‫والوصول إىل أفضل الوسائل التكنولوج ّية التي تجعل الجميع يستفيد‬
‫من منافع هذه املخرتعات‪ ،‬ويكون مساهامً يف تطوير كفاءتها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة ومساوئها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫‪ 156‬العولمة‬

‫من جانب آخر‪ ،‬أ ّدى رخص املواد األوليّة واليد العاملة إىل‬
‫تغطية األسواق العامليّة بك ّميات كبرية من السلع والخدمات‪ ،‬ما‬
‫جعلها رخيصة الثمن ويف متناول قطاعات واسعة من الجامهري‪،‬‬
‫وذلك س ّهل حياة كثريٍ من الناس‪ ،‬وأعانهم عىل مامرسة نشاطات‬
‫فكريّة واقتصاديّة وترفيهيّة مل يكونوا يحلمون بها يف السابق‪،‬‬
‫مبعنى آخر إ ّن السلع والخدمات الحديثة مل تعد حكرا ً عىل‬
‫الطبقات الغنيّة وأصحاب النفوذ املحظوظني يف غالبيّة بلدان‬
‫العامل‪ ،‬بل صارت مثل هذه القضايا أسهل مناالً‪ ،‬ويف متناول يد‬
‫كثري من الناس‪.‬‬
‫كل ذلك‪ ،‬عملت العوملة عىل خلق نظام اقتصادي‬
‫واأله ّم من ّ‬
‫فوقي شديد الرتابط يعمل كنسق متناغم يقلّل من حاالت الفوىض‬
‫والتخ ّبط االقتصادي‪ ،‬التي كانت أمرا ً مألوفاً يف العامل خالل عرص‬
‫ما قبل العوملة‪ّ ،‬‬
‫وأدل يشء عىل ذلك التذبذب الشديد يف أسعار‬
‫العمالت التي كانت تابعة ألهواء الحكومات بسبب رغبتها يف‬
‫تحفيز صناعاتها املحل ّية ومامرسة الحامئ ّية ض ّد الصادرات األجنب ّية‬
‫قبل الحرب العامل ّية الثانية‪.‬‬
‫وفيام يتعلّق باألبعاد السياس ّية‪ ،‬فإ ّن العوملة مبا أنتجته من‬
‫أعراف وقوانني دول ّية متكّنت من إبراز دائرة الرأي العام من‬
‫املحل إىل العاملي‪ ،‬وذلك يؤث ّر يف النهاية عىل هيمنة‬
‫ّ‬ ‫النطاق‬
‫الشخص ّيات الدكتاتوريّة وتحديد حركتها‪ ،‬وإ ّن بعض القرارات‬
‫رصفات الحكومات‬
‫الدول ّية صارت تشكّل وسيلة ضغط أكرب عىل ت ّ‬
‫امل ُستب ّدة‪ ،‬ومن جانب آخر فإ ّن العوملة يف نسختها املتق ّدمة‬
‫‪157‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫أخذت تخلق أقطاباً جديدة تخفّف من مساوئ حكم القطب‬


‫الواحد الذي بدأ مع انطالقة العوملة أواخر القرن العرشين‪ ،‬ومثال‬
‫ذلك صعود الصني كق ّوة اقتصاديّة وسياسيّة قادرة عىل إيجاد ق ّوة‬
‫وازنة للق ّوة األمريكيّة‪.‬‬
‫ثقاف ّياً‪ ،‬مل يعد التبادل الثقايف يسري يف اتجاه واحد‪ ،‬فعىل‬
‫الرغم من أ ّن السمة السائدة يف عرص العوملة هي تأثري الثقافة‬
‫إل أ ّن الرشق مل ينفك‬
‫الغرب ّية عىل الثقافة الرشق ّية بشكل عام‪ّ ،‬‬
‫عن التغلغل يف أوساط الغرب ليؤث ّر فيه‪ ،‬وكذا تأثريات الجنوب‬
‫الزراعي عىل الشامل الصناعي‪ ،‬وذلك يت ّم يف كثري من األحيان‬
‫من األسفل بسبب حركات الهجرة والنزوح التي ساعدت العوملة‬
‫عىل تنشيطها وتسهيلها بفارق واضح عن العصور السابقة‪ .‬إ ّن‬
‫إل أن تكون ذات فائدة‪ ،‬فالتبادل‬
‫الحركة الثقاف ّية املتبادلة ال ميكن ّ‬
‫الثقايف بني الحضارات يع ّد املح ّرك األبرز لتطوير الواقع البرشي‬
‫منذ فجر التاريخ‪.‬‬
‫عىل صعيد انتشار املعلومات‪ ،‬ساعدت التقن ّية التي منت‬
‫لكل‬
‫يف عرص العوملة عىل خلق مجتمع املعلومات‪ ،‬الذي يتيح ّ‬
‫الشعوب القدرة عىل االستثامر يف الجانب الفكري والثقايف‪ ،‬فمثالً‬
‫متكّنت رشكة واحدة فقط هي رشكة ألفا بيتّا – صاحبة مح ّرك البحث‬
‫الشهري جو جل‪ -‬من جمع وأرشفة وإتاحة النتاج الفكري للعامل‬
‫خالل بضعة عقود‪ ،‬بحيث اخترصت عمالً ج ّبارا ً ّ‬
‫ربا يحتاج العمل‬
‫عىل تنفيذه بالطرائق التقليديّة مئات القرون‪.‬‬
‫‪ 158‬العولمة‬

‫وقد أسهم انتشار املعلومات بهذا الشكل إىل إشاعة املعرفة‪،‬‬


‫وسهولة الوصول إىل الحقيقة‪ ،‬فبفضل االنفجار االتصايل للعوملة‬
‫أمكن للباحث اليوم من الحصول عىل كثري من املعطيات عن طريق‬
‫نقرات قليلة عىل أزرار الحاسوب ال تستغرق سوى دقائق‪ ،‬يف حني‬
‫كان الوصول إىل مثل هذه املعطيات يستغرق أيّاماً أو شهورا ً يف‬
‫سالف األزمان‪.‬‬
‫كام أسهم انتشار املعلومات ّية إىل ظهور ما يس ّمى باقتصاد‬
‫املعرفة‪ ،‬والذي أصبح السمة األساس ّية القتصاد العوملة‪ ،‬وقد بلغت‬
‫االستثامرات يف مجال صناعة املعلومات يف عام ‪ 2000‬نحو ثالثة‬
‫ترليون دوالر سنويّاً بعد أن كانت هذه االستثامرات ال تتجاوز ‪350‬‬
‫بليون دوالر عام [[[‪ ،1980‬وقد أسهمت حركة املعلومات النشطة‬
‫هذه بتحفيز األفكار اإلبداع ّية عىل نطاق كوين‪ ،‬ما ولّد قفزات هائلة‬
‫عىل مستوى االكتشاف واإلبداع الفكري‪ ،‬وانسحب إيجاب ّياً عىل‬
‫التط ّور التقني بيشء شبيه باملتتالية الهندس ّية‪.‬‬
‫إذا ً ملاذا أصبحت العوملة التي جلبت هذا الخري مدعاة ّ‬
‫لكل‬
‫ذلك النقد الالذع من مناهضيها؟‬
‫بجواب بسيط نقول‪ :‬إ ّن املشكلة ال تكمن يف نظام عاملي بح ّد‬
‫ذاته‪ ،‬وإنّ ا تكمن يف الفلسفة التي يتب ّناها الداعمون لهذا النظام‪،‬‬
‫فهذه الفلسفة تقوم عىل أساس ما ّدي بحت‪ ،‬بحيث أ ّن أرباب‬
‫العوملة عندما يريدون مدحها‪ ،‬فهم يبدؤون بتعداد ميزاتها يف التنمية‬

‫[[[‪ -‬ما بعد العوملة‪ ..‬صناعة اإلعالم وتح ّول السلطة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.27‬‬
‫‪159‬‬ ‫الفصل الثالث‪ُ :‬منجزات العولمة‬

‫االقتصاديّة وإنتاج مزيد من السلع االستهالكيّة من أجل إسعاد‬


‫الناس‪ ،‬إ ّن ذلك يعني فقدان العوملة لألسس األخالقيّة الكافية التي‬
‫تكبح جامح الطمع واالستغالل الذي يعتمل يف نفوس الالعبني‬
‫األساسيني عىل الساحة العامليّة اليوم‪.‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫مآالت العولمة‬
‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬
‫ّ‬
‫ستقبلية‬ ‫ّأو ًال‪ :‬تداب� العولمة ُ‬
‫الم‬ ‫ي‬
‫بعد قرابة ثالثة عقود من انطالقتها‪ ،‬فإ ّن األحالم الورديّة التي كانت‬
‫ت ِعد بها العوملة يف إيجاد املجتمع العاملي امل ُنسجم قد تب ّددت‬
‫إىل غري رجعة‪ ،‬ودعوى تح ّول العامل إىل قرية واحدة باتت أشبه‬
‫باملستحيلة‪ ،‬فاالنقسامات الحضاريّة ازدادت عمقاً‪ ،‬واملجموعات‬
‫الوطنيّة تبدو أكرث ترشذماً‪ ،‬والغضب الجامهريي صار يتنامى يف‬
‫تفش الفقر وانعدام املساواة‪ ،‬فاستعادت األطياف‬
‫كل مكان بسبب ّ‬
‫ّ‬
‫العرقيّة نشاطها وانتعش الخطاب اليميني امل ُتط ّرف‪ ،‬كام تنامى‬
‫الرصاع بني القوميّات إىل درجة كبرية بحيث ضاع األمل يف حصول‬
‫اندماج حقيقي بني الدول‪ ،‬وإ ّن خروج بريطانيا من االتحاد األورويب‬
‫وغزو روسيا ألوكرانيا ميثّل أبرز األمثلة يف هذا الصدد‪.‬‬
‫كام مل تعد العوملة تعني التغريب فقط‪ ،‬وإنّ ا باتت تشمل‬
‫الترشيق أيضاً‪ ،‬أي إنّها مل تعد تعمل باتجاه واحد‪ ،‬وإنّ ا باتجاهات‬
‫متبادلة كام يؤكّد جورج ريتزر‪ ،‬فاألمناط الحيات ّية يف الرشق بدأت‬
‫تأخذ أثرها يف الغرب‪ ،‬وال يقترص ذلك عىل أمناط الحياة غري‬
‫األساس ّية مثل انتشار املطاعم اإلثن ّية واألكالت الشعب ّية الرشق ّية‬
‫يف الدول الغرب ّية‪ ،‬ولكن عىل مستوى أكرث عمقاً مثل االقتصاد‪،‬‬
‫فمثالً نجد أ ّن صعود الصني جعلها تتوفّر عىل رصيد كبري من عملة‬
‫الدوالر األمرييك‪ ،‬فإذا ق ّررت يوماً استبداله بعملة أخرى مثل اليورو‬
‫‪ 164‬العولمة‬

‫فستجعل الدوالر األمرييك يهبط بسعره إىل أدىن املستويات[[[‪،‬‬


‫أضف إىل ذلك عودة النشاط الديني إىل الساحة بق ّوة‪ ،‬بحيث‬
‫ذهب الكاتب الفرنيس أندريه فروسار إىل القول بأ ّن «القرن الواحد‬
‫والعرشين سيكون قرناً دينيّاً بامتياز»[[[‪.‬‬
‫ويشري الدكتور مظهر مح ّمد صالح إىل أ ّن الطبقة الوسطى‬
‫تنامت عامل ّياً يف القرن الحادي والعرشين وبشكل متسارع يف ّ‬
‫ظل‬
‫ظاهرة تط ّور اقتصادات البلدان ذات األسواق الناشئة التي تحظى‬
‫دميوغراف ّياً بنحو ‪ %80‬من سكان العامل‪ ،‬ويتزايد سكّانها بواقع‬
‫‪6‬ماليني نسمة شهريّاً مقابل ‪ 300‬ألف نسمة يف العامل الصناعي‬
‫األ ّول[[[‪ .‬إ ّن هذه األرقام تجعل البلدان التي انطلقت منها العوملة‬
‫أمام ٍ‬
‫تحد كبري‪ ،‬إذ صار ميزان القوى البرشيّة مييل لصالح البلدان‬
‫وبخاصة البلدان التي يكرث فيها املسلمون‪ ،‬فاإلحصائ ّيات‬
‫ّ‬ ‫النامية‪،‬‬
‫ّ‬
‫الشك أ ّن التف ّوق العددي سيكون للمسلمني‬ ‫تفصح بشكل ال يقبل‬
‫يف مستقبل األيام[[[‪.‬‬
‫نص أساس‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪180-177‬‬
‫[[[‪ -‬العوملة‪ّ ..‬‬
‫[[[‪ -‬نحو نظريّة الالقطبيّة يف النظام الدويل‪ :‬مقاربة جديدة لدراسة التح ّول يف النظام الدويل‪ ،‬د‪.‬‬
‫رباحي أمينة‪ ،‬املجلّة الجزائريّة للعلوم السياسيّة والعالقات الدوليّة‪ ،‬العدد الرابع‪ -2015 /‬ص‪.56‬‬
‫[[[‪ -‬من هي الطبقة الوسطى‪ -‬د‪ .‬مظهر مح ّمد صالح‪ ،‬شبكة االقتصاديني العراقيني‪ ،‬نرش بتاريخ‬
‫‪ 2014/12/17‬عىل الرابط ‪/17/12/http://iraqieconomists.net/ar/2014‬د‪-‬مظهر‪-‬محمد‪-‬‬
‫صالح‪-‬الطبقة‪-‬الوسطى‪-‬يف‪-‬العر‪/‬‬
‫[[[‪ -‬فبحسب توقّعات مركز بيو لألبحاث ‪ Pew research center‬فإنّه بحلول العام ‪ 2035‬سيتف ّوق عدد‬
‫مواليد املسلمني عىل عدد مواليد املسيحيني الذين يُشكّلون النسبة األكرب من سكّان العامل حاليّاً‪ ،‬إذ‬
‫يتوقّع أن ينمو عدد املسلمني بنسبة ‪ ٪70‬مقابل ‪ ٪34‬من املسيحيني بني عامي ‪ ،2060-2015‬وتخلص‬
‫نتائج األبحاث إىل أنّه بحلول عام ‪ 2060‬سيقرتب عدد املسلمني من ‪ 3‬مليارات نسمة (بنسبة ‪ ٪31‬من‬
‫سكّان العامل) يف حني سيكون عدد املسيحيني ‪ 3.1‬مليار نسمة (بنسبة ‪The Changing Global)٪32‬‬
‫‪.8 Religious Landscape – Pew research center - APRIL 5, 2017 – page‬‬
‫‪165‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫هذه التط ّورات تشكّل تح ّدياً كبريا ً لقيم العوملة بسبب صعود‬
‫الكثافة السكّانيّة التي تحمل قيامً من شأنها أن تكبح األجندة‬
‫أقل تقدير‪ ،‬وهو أمر مزعج جدا ً للقوى‬
‫النيوليرباليّة أو تح ّورها عىل ّ‬
‫العومليّة وأنصارها؛ ألنّهم سيضط ّرون إىل مواجهة خطر التغيري‬
‫الذي سيكون سياسيّاً يف املقام األ ّول‪ ،‬لذا بدأت هذه القوى باتخاذ‬
‫تدابري رسيعة لتاليف ذلك‪ ،‬وفيام يأيت ثالثة مناذج بارزة من هذه‬
‫التدابري التي قد تسود خالل العقود العرشة امل ُقبلة‪:‬‬
‫أ‪ .‬ترسيـ ــع اندماج البلدان النامية‬
‫ميثّل تدفّق الهجرة من البلدان النامية نحو بلدان العامل األ ّول‬
‫خ دماء جديدة يف البلدان الرأسامل ّية واستعادة التوازن‬
‫فرصة لض ّ‬
‫يف الكتلة البرشيّة بني الرشق والغرب‪ ،‬ولكن ال ريب يف أ ّن ذلك‬
‫ينطوي عىل مخاطرة كبرية‪ ،‬إذ ال ضامنة يف أن يندمج املهاجرون‬
‫مم يجعل بلدان‬
‫والتخل عن ثقافتهم األصل ّية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بالثقافة النيوليربال ّية‬
‫متسك شعوب‬
‫العامل األ ّول تواجه خطر تب ّدل ه ّويتها الثقاف ّية‪ ،‬وإ ّن ّ‬
‫البلدان النامية بثقافتها األصل ّية يقوى أكرث عندما تواجه الغنب والقهر‬
‫الذي متارسه العوملة بحقّهم‪ ،‬والتجارب التاريخ ّية املتك ّررة تثبت‬
‫أ ّن املشكالت التي يولّدها النظام الرأساميل كلّام ازدادت أ ّدى‬
‫ذلك إىل توليد ردود أفعال تس ّبب انتعاشاً يف الحركات ذات البعد‬
‫املعنوي‪ ،‬وعىل رأسها الحركات الدين ّية‪.‬‬
‫ويبدو أ ّن أرباب العوملة قد تعلّموا من هذه التجارب التاريخيّة‪،‬‬
‫فربزت أمامهم حلول أكرث براغامتيّة تقيهم من الخطر‪ ،‬وأحد هذه‬
‫‪ 166‬العولمة‬

‫الحلول يتمثّل بإحداث فجوة واسعة بني الشعوب النامية وجذورها‬


‫لتحل محلّها ثقافة االستهالك‪ ،‬فتكون بذلك‬
‫ّ‬ ‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫الثقافيّة‬
‫صالحة للتعاطي بإيجابيّة مع سلوك الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات‪،‬‬
‫وعليه يجب أن تخضع هذه الشعوب لربامج تأهيل ثقايف لتحقيق‬
‫التناغم مع متطلّبات العوملة‪.‬‬
‫تأخذ برامج التأهيل الثقايف أشكاالً ُمتع ّددة‪ ،‬منها ما يتعلّق بس ّن‬
‫الترشيعات القانون ّية التي تستهدف املهاجرين إىل البلدان الغرب ّية‪ ،‬ومنها ما‬
‫يتعلّق بالحمالت الفكريّة واإلعالم ّية املضا ّدة للثقافات املحافظة بشكل‬
‫عام‪ ،‬ومنها ما يتعلّق بتعديل الترشيعات الروح ّية التي تستهدف األديان‪.‬‬
‫مؤسسة الخدمة‬
‫ومن األمثلة الواقع ّية عىل ما تق ّدم‪ :‬مامرسات ّ‬
‫االجتامع ّية يف السويد (السوسيال) ض ّد أطفال املهاجرين من‬
‫وبخاصة املسلمني منهم[[[‪ ،‬وكذا‬
‫ّ‬ ‫البلدان اآلسيويّة واألفريق ّية‪،‬‬
‫تصب يف صالح االندماج بثقافة العوملة‬
‫ّ‬ ‫األعامل الفن ّية املكثّفة التي‬
‫كاملنتجات التي تق ّدمها رشكات اإلنتاج الف ّني الشهرية مثل نتفلكس‬
‫ووالت ديزين ومارفل التي تسعى إىل تق ّبل شعوب البلدان النامية‬
‫لقضايا محظورة مثل ما يطلق عليه اسم مجتمع امليم ‪،LGBT‬‬
‫وجرياً عىل هذا السياق نجد أ ّن البابا فرنسيس قد ّ‬
‫رصح يف إحدى‬
‫املناسبات قائالً‪« :‬إذا كان هناك شخص مثيل الجنس يسعى إىل‬

‫[[[‪ -‬اشتعال االحتجاجات يف السويد ض ّد مامرسات «السوسيال» مع أطفال املهاجرين–‬


‫صحيفة الخليج‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2022 /2 /11‬عىل الرابط ‪https://www.alkhaleej.ae/2022-‬‬
‫‪/11-02‬اشتعال‪-‬االحتجاجات‪-‬يف‪-‬السويد‪-‬ضد‪-‬مامرسات‪-‬السوسيال‪-‬مع‪-‬أطفال‪-‬املهاجرين‪/‬‬
‫العامل‪/‬سياسة‬
‫‪167‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫الخية‪ ،‬فمن أنا يك أحكم عليه؟»[[[‪ ،‬هذا عىل‬


‫ّ‬ ‫ويتحل باإلرادة‬
‫ّ‬ ‫الله‬
‫الرغم من أ ّن الشذوذ الجنيس ال ميكن أن يتالءم مع فكرة السم ّو‬
‫الروحي واملحبّة اإللهيّة والخالص األخروي‪.‬‬
‫ومن األمثلة األخرى يف هذا السبيل‪ :‬تطويع األديان بطريقة‬
‫تجعلها ال تتعارض مع املقوالت النهائ ّية للعوملة‪ ،‬مثالً ابتكار ما‬
‫حدة التي مت ّهد لها (الدبلوماس ّية الروح ّية)‬
‫يس ّمى بالديانات املو ّ‬
‫التي قطفت أوىل مثارها يف عام ‪ 2020‬عندما ت ّم توقيع اتفاق ّيات‬
‫سالم بني اإلمارات وإرسائيل‪ ،‬وبحسب ترصيح للرئيس األمرييك‬
‫دونالد ترامب فقد طلب من السفري األمرييك يف إرسائيل أن يُطلق‬
‫رصحت‬ ‫اسم (اتفاق إبراهيم) عىل وثيقة السالم بني البلدين[[[‪ ،‬وقد ّ‬
‫األمم املتّحدة يف إعالنها عن يوم األخ ّوة اإلنسان ّية قائلة‪« :‬علينا أن‬
‫نش ّدد عىل أه ّمية التوعية مبختلف الثقافات واألديان أو املعتقدات‬
‫وأه ّمية التعليم يف تعزيز التسامح الذي ينطوي عىل تق ّبل الناس‬
‫للتن ّوع الديني والثقايف واحرتامهم له يف ما يتعلّق بأمور منها التعبري‬
‫وبخاصة يف املدارس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عن الدين‪ ،‬وأن نش ّدد كذلك عىل أ ّن التعليم‪،‬‬
‫جد يف تعزيز التسامح‪ ،‬ويف القضاء‬ ‫ينبغي أن يسهم عىل نحو ُم ٍ‬
‫علام أ ّن األمم‬
‫عىل التمييز القائم عىل أساس الدين أو املعتقد»[[[ ً‬

‫[[[‪ -‬البابا فرانسيس األول‪ :‬من أنا ألحكم عىل مثليي الجنس؟‪ BBC -‬عريب‪-2013/7/29 -‬‬
‫‪pope_gay_people_130729/07/https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2013‬‬
‫[[[‪ -‬ما وراء «اتفاقية إبراهيم»‪ ..‬أرقام ومواقف وبيانات– روسيا اليوم – نرش بتاريخ ‪ 2020 /8 /14‬عىل‬
‫الرابط‪https://arabic.rt.com/world/1144172-‬ما‪-‬وراء‪-‬اتفاقية‪-‬إبراهيم‪-‬أرقام‪-‬ومواقف‪-‬وبيانات‪//‬‬
‫[[[‪ -‬اليوم الدويل لألخ ّوة اإلنسانيّة‪ 4‬شباط‪ /‬فرباير– األمم املتّحدة –‪https://www.un.org/ar/‬‬
‫‪observances/human-fraternity‬‬
‫‪ 168‬العولمة‬

‫املتّحدة كانت تسعى إىل تطبيق هذا املبدأ من خالل منظّمة غوث‬
‫لالجئني الفلسطينيني (األونروا) يف العام ‪ 2017‬من خالل تغيري‬
‫املناهج الدراسيّة للطلبة الفلسطينيني‪ ،‬مثل استبدال تعريف القدس‬
‫من كونها عاصمة الدولة الفلسطينيّة إىل كونها مدينة إبراهيميّة‬
‫مق ّدسة للديانات الثالث[[[‪.‬‬

‫ب‪ .‬اإلعالم وطمس القضايا ب‬


‫الك�ى‬
‫ميثّل إعالم الصوت والصورة األداة األبرز لنرش العوملة ودفعها‬
‫قدماً للتغلغل يف حياة ّ‬
‫كل الشعوب‪ ،‬لذا فإ ّن الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات عملت باتجاه تس ّيد هذا اإلعالم عن طريق البثّ الفضايئ‬
‫واإلنرتنت لتحقيق سيادة التفكري العاطفي السطحي‪ ،‬يقابله تدمري‬
‫املستقل والتفكري النقدي‪ ،‬الذي كان يتمتّع به الناس‬
‫ّ‬ ‫لروح التحليل‬
‫الذين اعتادوا أن يستقوا معلوماتهم عرب وسائل اإلعالم املقروءة‬
‫واملجلت‪ ،‬وقد أوضح الفيلسوف مارشال ماكلوهان‬
‫ّ‬ ‫مثل الصحف‬
‫(‪ )1980-1911‬آل ّية عمل ذلك يف نظريّته الشهرية حول تأثري‬
‫تقن ّيات وسائل االتصال يف السلوك الجامهريي‪.‬‬
‫لقد صار إعالم الصوت والصورة‪ ،‬الذي بطبيعته يجتزئ الحقيقة‪،‬‬
‫يح ّول اهتامم الناس نحو قضايا جزئيّة تافهة بدل االهتامم بالقضايا‬
‫الكربى‪ ،‬التي متثّل املسائل املصرييّة التي تصوغ حياتهم‪ ،‬ويرضب‬
‫آالن دونو أمثلة عىل ذلك‪ ،‬فاالنبعاثات الكاربونيّة موضوع ُمغطّى‬

‫[[[‪ -‬أبعد من اتفاقيّات التطبيع‪ ..‬مرشوع «الواليات املتّحدة اإلبراهيميّة»‪ ،‬امليادين‪ ،‬نرش بتاريخ‬
‫‪ 2020 /9 /25‬عىل الرابط ‪/https://www.almayadeen.net/analysis/1425818‬أبعد‪-‬من‪-‬‬
‫اتفاقيات‪-‬التطبيع‪---‬مرشوع‪--‬الواليات‪-‬املتحدة‪-‬اإلبراهيم‬
‫‪169‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫إعالميّاً بشكل واسع بدالً من التص ّدي لتغطية الرتاجيديّات البيئيّة‬


‫جرو الحرب السوريّة‬ ‫ب فيها االستغالل الصناعي‪ ،‬ومه ّ‬
‫التي تَسبّ َ‬
‫الهاربون من منطقة النزاع بدالً من خطوط أنابيب البرتول التي‬
‫متثّل أصل الرصاع‪ ،‬والتص ّورات حول ُسبل دفع ال َديْن اليوناين بدالً‬
‫من الرتتيبات اإلجراميّة التي جعلت من الشعب مسؤوالً عن هذا‬
‫ال َديْن‪ ،‬وامل ُشاحنات الربملانيّة بدالً من سلطات الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنسيّات‪ ،‬والرصاع امل ُربح حول أنواع معيّنة من الرسطان بدالً‬
‫من التغيريات الغذائيّة البسيطة التي قد تكون كفيلة بالوقاية من‬
‫هذا املرض‪ ،‬والحديث عن إدارة فريق لعبة الهويك بدالً من إدارة‬
‫صندوق الرثوة السياديّة للدولة[[[‪.‬‬
‫كام بتنا نشهد بفضل هذا اإلعالم اقتطاع الحقيقة من سجلّها‬
‫التاريخي لصالح اللحظة الراهنة‪ ،‬نجد ذلك واضحاً يف برامج‬
‫(قصص النجاح) التي متأل مساحات واسعة من برامج الفضائ ّيات‬
‫واملواقع اإللكرتون ّية‪ ،‬إذ يت ّم تسليط الضوء عىل أشخاص متكّنوا‬
‫معي من النجوم ّية ‪-‬أو يُراد لهم ذلك‪ -‬بحيث يكون‬
‫من حيازة قدر ّ‬
‫االهتامم ُمقترصا ً عىل اللحظة الراهنة من نجاحهم بعيدا ً عن‬
‫األسباب الرئيسة التي أنتجته‪ :‬هل جاء النجاح بفعل مواهبه الذات ّية‬
‫أو مبعونات خارج ّية؟ وهل جاء بأساليب مرشوعة أو غري مرشوعة؟‬
‫وهل ميكن للمشاهد أن يطمح ملثل هذا النجاح ويصل إليه؟ ال‬
‫جه بات يدفع‬
‫كل ذلك‪ ،‬فامله ّم هو اللحظة الراهنة‪ ،‬هذا التو ّ‬
‫يهم ّ‬
‫الجامعات البرشيّة إىل اعتبار نجوم السينام والرياضيني ورجال‬

‫[[[‪ -‬نظام التفاهة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.353‬‬


‫‪ 170‬العولمة‬

‫األعامل قدوات ُملهمة يجب الرتكيز عىل أمناط عيشهم الحايل‬


‫واملغامرات اآلنيّة لحياتهم‪ ،‬مع قطع النظر عن الجوانب املظلمة‬
‫منها‪ ،‬ولو برز يشء من تلك الجوانب فينبغي تجاوزها بل تقبّلها‬
‫أي إنسان‪ ،‬وبذلك يكون‬ ‫باعتبارها هفوات ميكن أن يتع ّرض لها ّ‬
‫تأث ّر الجامهري بهذه القدوات طفوليّاً ساذجاً ال يُعري أه ّمية للوقائع‬
‫املنطقيّة واألحكام القيميّة‪.‬‬
‫وبفضل اإلعالم امل ُعولَم صار الحراك املناهض للعوملة يتشتّت‬
‫وعيه بعيدا ً عن الصورة الكل ّية للواقع‪ ،‬فريكّز نقده للحكومات بدالً‬
‫من الرتكيز عىل القوى التي تُهيمن عىل القرار السيايس العاملي‪،‬‬
‫مع أ ّن هذه القوى هي الورم الخبيث الذي يعمل عىل تشويه نسيج‬
‫العامل بحكوماته وشعوبه بشكل متسارع‪.‬‬
‫ّ‬
‫التحول نحو الحداثة الغازية‬ ‫ت‪.‬‬

‫يرى جورج ريتزر أ ّن عرص العوملة ميثّل عرص االنتقال من‬


‫الحداثة السائلة ‪-‬بحسب تعبري زيجمونت باومان‪ -‬إىل الحداثة‬
‫الغازية‪ ،‬أي االنتقال من أمناط الحياة الخفيفة إىل أمناط الحياة‬
‫معدومة الوزن‪ ،‬ورؤيته هذه تالئم جدا ً تدابري العوملة املستقبليّة‪.‬‬
‫لقد كان اقتصاد العوملة يقوم عىل نشاط التبادل للسلع‬
‫االستهالك ّية عرب الحدود القوم ّية‪ ،‬وكانت حتّى وقت قريب تحمل‬
‫بني ط ّياتها روح األمركة الضامنة لصالحيات عمل النيوليربال ّية‬
‫ودميومة بقائها‪ ،‬ولكن مع ازدياد النم ّو االقتصادي للصني‪ ،‬وما يرافق‬
‫ذلك من تح ّديات تأىب االنفكاك عن السياسة القوم ّية مثل مرشوع‬
‫‪171‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫(الحزام والطريق) أخذت القوى الغربية تح ّول أمناط االقتصاد‬


‫رسيعاً نحو العوامل االفرتاضيّة عىل يد رشكات أمريكيّة كربى لتدخل‬
‫العوملة يف مرحلة الحياة الغازية‪.‬‬
‫إ ّن نظام سلسلة الكتل ‪ Blockchain‬وتقن ّية امليتافريس‬
‫‪ Metaverse‬وما يفتحانه من أبواب عىل عامل افرتايض واسع الطيف‪،‬‬
‫سوف يستوعبان أمناط الحياة والحركة االقتصاديّة وتبادل الثقافات‬
‫كل أنشطة البرش عرب‬
‫وإنشاء العالقات والسفر والسياحة ومامرسة ّ‬
‫أثري ال وزن له‪ ،‬وبهذه الطريقة يت ّم ّ‬
‫فك أمناط الحياة العامل ّية متاماً عن‬
‫أي جغرافيا قد ته ّدد القيم النيوليربال ّية الغرب ّية‪ ،‬وهذه التوقّعات ميكن‬
‫ّ‬
‫أن تتكامل معاملها أكرث فيام لو تأكّد لنا أ ّن الجائحات الوبائ ّية التي‬
‫انطلقت من الصني مؤخّرا ً ‪-‬مثل كوفيد ‪ -19‬هي أسلحة بيولوج ّية من‬
‫صنع الواليات املتّحدة‪ ،‬إذ إ ّن حظر التج ّول الذي تفرضه الجائحات‬
‫الوبائ ّية من شأنه أن يوقف من ّو االقتصاد املألوف للعوملة‪ ،‬ويُدخل‬
‫االقتصاد االفرتايض للخدمة برسعة‪ ،‬ويكفي فقط أن ننظر إىل القفزة‬
‫الهائلة التي حقّقتها الرشكات الرقم ّية األمريك ّية بفضل انتشار جائحة‬
‫كورونا يف العام ‪ 2020‬وما بعده[[[‪.‬‬
‫ُؤسس إىل شكل جديد من أمناط الحياة‬
‫هذه الحالة الغازية ت ّ‬

‫[[[‪ -‬بحسب إحصائيّة عرضتها صحيفة واشنطن بوست فقد حقّقت رشكة نيفيديا زيادة باإليرادات‬
‫بنسبة ‪ %46‬وأمازون بنسبة ‪ %35‬ونتفلكس ‪ %25‬وفيسبوك ‪ %17‬ومايكروسوفت ‪ %13‬وألفا بيتّا‬
‫(غوغل) بنسبة ‪ %9‬وذلك وفقاً إلحصائيّة شملت تغيريات تسعة أشهر فقط من عام ‪ (2019‬املصدر‪:‬‬
‫‪America’s biggest companies are flourishing during the pandemic and putting‬‬
‫‪thousands of people out of work/ Douglas MacMillan, Peter Whoriskey and‬‬
‫‪Jonathan O’Connell/ The Washington Post/ https://www.washingtonpost.com/‬‬
‫‪graphics/2020/business/50-biggest-companies-coronavirus-layoffs/‬‬
‫‪ 172‬العولمة‬

‫كل األوزان وتتالىش معها أه ّمية ما تبقى من‬


‫عىل األرض‪ ،‬تنعدم فيها ّ‬
‫األشياء ذات الوزن والقيمة‪ ،‬بل ميكن أن تتضاءل قيمة الوجود الحقيقي‬
‫لإلنسان ما دام وجوده االفرتايض عىل ما يرام‪ ،‬وال مشكلة يف غياب‬
‫العالقات االجتامعيّة الدافئة والحميمة مع وجود عالقات افرتاضيّة‬
‫تنقل اإلحساس عىل سطوح األشياء بإيحاءات تكنولوجيّة زائفة‪ ،‬إ ّن‬
‫هذه األمناط من الحياة تجعل الناس يقبلون تصديق املشاعر الكاذبة‬
‫وتكون بالنسبة لهم شيئاً ُمرضياً‪ ،‬وإذا برزت األوهام إىل السطح فال‬
‫مشكلة أن يُرتك الفكر العميق يف القاع‪ ،‬وبهذا الوضع املنكوس سوف‬
‫وتحل محلّها‬
‫ّ‬ ‫تُغادر الحقائق امل ُحكمة كأنّها أشياء ُمنتهية الصالحية‪،‬‬
‫أكاذيب تُقبل كأنّها وقائع‪ ،‬إ ّن العامل يسري عىل ُعجالة نحو متطلّبات‬
‫تقنيّة الزيف العميق ‪ Deepfake‬التي متكّنت بشكل ُمذهل من تذويب‬
‫الحواجز بني ما هو حقيقي وما هو زائف‪.‬‬
‫وإ ّن املآالت الغازية لعرص العوملة تنطوي عىل تجريد أكرب لسلطة‬
‫الدول القوم ّية‪ ،‬إذ إ ّن انعدام الوزن يقتيض إحداث تح ّوالت عميقة يف‬
‫طبيعة االقتصاد الذي يقوم عىل تداول العملة االفرتاض ّية مثل البتكوين‬
‫وأخواتها‪ ،‬فهذا االقتصاد يقيص البنوك املركزيّة عن ساحة التأثري؛ أل ّن‬
‫العملة الرقم ّية ال تحتاج إىل وسيط بنيك‪ ،‬وال تخضع للرقابة الرسم ّية‬
‫وال تنتجها الحكومات‪ ،‬وقد شهدت هذه العمالت من ّوا ً الفتاً يف‬
‫جل مؤرشات عىل أنّها نقود املستقبل[[[‪.‬‬
‫التداول وتس ّ‬

‫[[[‪ -‬العملة الرقم ّية متثّل أحد أهم األمثلة الواضحة عىل مرور االقتصاد العاملي من الحالة الصلبة‬
‫إىل السائلة إىل الغازية‪ ،‬ففي البدء كان النقد مصنوعاً من عنرص ثقيل ونادر مثل الذهب‪ ،‬ث ّم انتقل‬
‫أخف وزناً مثل الدوالر‪ ،‬وأخريا ً ظهرت عملة ال وزن لها أصال هي العملة الرقميّة‪.‬‬
‫إىل صورة ّ‬
‫أي‬
‫ولتوضيح كيف ميكن للعملة مع هذه التح ّوالت الكبرية أن تحافظ عىل قيمتها نقول‪ :‬تعتمد ّ‬
‫‪173‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫ماذا يعني ذلك؟‬


‫حرر أكرب للرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‬
‫إنّه يعني ببساطة ت ّ‬
‫أي سلطة للحكومات القوم ّية‪ ،‬ما يطلق يدها أكرث يف‬
‫وخروجها من ّ‬
‫األعامل االقتصاديّة املح ّرمة مثل تجارة األعضاء البرشيّة واإلتجار‬
‫فكل هذه األعامل ستت ّم بحري ّة كبرية‬
‫بالبرش وتهريب املخ ّدرات‪ّ ،‬‬
‫بني الباعة واملشرتين من غري أن تت ّم محاسبتهم أو تت ّبع مصادرهم‬
‫أي سلطة حكوم ّية أو مجتمع ّية‪،‬‬
‫أو إيقافهم عند حدود مع ّينة من قبل ّ‬
‫ففي هذا االقتصاد عديم الوزن ال يوجد أرض للدولة وال لبنوكها‬
‫املركزيّة أو أجهزتها القضائ ّية‪ ،‬يف هذا االقتصاد لن يحتاج أصحاب‬
‫رؤوس األموال إىل البحث عن وسائل لغسيل األموال‪ ،‬فاألموال‬
‫الرقم ّية تسبح عرب العامل االفرتايض من دون حسيب‪ ،‬فقط إلرضاء‬
‫جشع الرشكات العابرة للقارات وطمع املواطنني املنغمسني يف‬
‫ثقافة االستهالك حتّى آذانهم‪.‬‬
‫إ ّن الترسيع الشديد نحو الحالة الغازية إذا ما ت ّم عىل النحو‬
‫عم تقدم‪،‬‬
‫تقل أه ّمية ّ‬
‫سابق الذكر‪ ،‬فإ ّن ذلك ينذر مبخاطر أخرى ال ّ‬
‫كل قيمة‬
‫ففي االقتصاد االفرتايض تعمل الحالة الغازية عىل سلب ّ‬

‫عملة نقديّة عىل ثالث صفات رئيسة تجعلها صالحة للتداول‪ :‬األوىل صعوبة إنتاجها أو ندرتها‪،‬‬
‫كل األطراف بكونها صالحة للتداول‪ ،‬والثالثة كونها متتلك خصائص فيزيائيّة‬ ‫والثانية اعرتاف ّ‬
‫وكل النقود الورقيّة‬‫مفيدة يف بعض الصناعات‪ ،‬وهذه الصفات كانت تجتمع يف معدن الذهب‪ّ ،‬‬
‫كانت تعتمد عليه يف تحقيق قيمتها‪ ،‬ولكن مع تعويم عملة الدوالر يف سبعينيّات القرن العرشين‪،‬‬
‫التخل عن الصفة الثالثة من صفات العملة النقديّة وهي الخصائص الفيزيائ ّية املفيدة يف بعض‬ ‫ّ‬ ‫ت ّم‬
‫الصناعات‪ ،‬وبذلك بقي الدوالر يعتمد عىل صعوبة إنتاجه واعرتاف األطراف الدوليّة به كعملة‬
‫فقط‪ ،‬وذلك بالذات ما م ّهد ألن تتّخذ العملة الرقميّة قيمتها كعملة‪ ،‬أل ّن هذه العملة صعبة اإلنتاج‬
‫وفق نظام البلوكتشني‪ ،‬كام أنّها حازت عىل اعرتاف دويل بها وإن كان ال يزال جزئيّاً‪.‬‬
‫‪ 174‬العولمة‬

‫ذاتيّة لألشياء‪ ،‬وتجعل سعر السوق هو الثابت املطلق‪ ،‬أي جعل‬


‫التسعرية هي املعيار الذي يُضيف لألشياء قيمتها فقط‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫قيمة األعامل الفنيّة والثقافيّة التي يتميّز بها اإلبداع البرشي‪ ،‬وال‬
‫يشء ّ‬
‫يدل عىل ذلك أكرث من آليّة تداول األصول الفنيّة الرقميّة عرب‬
‫نظام (‪ )Nft‬الرقمي‪ ،‬حيث ال قيمة للف ّن يف اللوحة أو املقطوعة‬
‫املوسيقيّة ذاتها‪ ،‬وإنّ ا قيمتها تتح ّدد تبعاً ملقدار املبلغ الذي‬
‫يدفعه مالكها كرضيبة إلحدى الرشكات الرقميّة لتشفريها عىل نظام‬
‫ألي‬
‫(‪ )Nft‬وعرضها يف سوق التداول الرقمي‪ ،‬مبعنى أنّه ميكن ّ‬
‫شخص رديء الذوق أن ينتج لوحة سيّئة تحقّق أرقاماً قياسيّة يف‬
‫القيمة مبج ّرد دفعه لرضيبة أعىل من أجل تشفريها عىل هذا النظام‪،‬‬
‫وباملقابل قد ال تحصل لوحات الف ّن الرفيع عىل نصف قيمتها أل ّن‬
‫أقل‪.‬‬
‫أصحابها قد يدفعون رضيبة ّ‬
‫هذه السوق اليوم متثّل واحدة من أكرب األسواق الناشئة من ّوا ً[[[‪،‬‬
‫وقد بدأت رشكات عديدة تفتح أسواقاً افرتاض ّية لها يف هذا العامل‬
‫وتنفق عليها مليارات الدوالرات استعدادا ً لجني األرباح الطائلة‬
‫املتوقّعة يف مستقبل العوملة عديم الوزن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬توقعات لمآالت العولمة‬
‫كل التدابري التي ميكن ألرباب العوملة أن‬
‫عىل الرغم من ّ‬
‫وبخاصة خالل‬
‫ّ‬ ‫يتّخذوها تجاه التح ّديات التي تعصف بهذا النظام‪،‬‬
‫العقد الحايل‪ ،‬فإ ّن ذلك ال يعني حتميّة بقاء العوملة واستمرارها‬
‫[[[‪ -‬تخطّى سعر لوحة تصميميّة باسم ‪ EVERYDAYS: The First 5000 Days‬حاجز ‪69.3‬‬
‫مليون دوالر عىل نظام ‪.Nft‬‬
‫‪175‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫كام نعرفها اليوم‪ ،‬ومن ث ّم ميكن وضع توقّعات ملآالت العوملة‬


‫املتوقّعة يف املستقبل املنظور‪ ،‬وأبرز هذه التوقّعات اثنان‪ :‬إ ّما‬
‫إصالح نظام العوملة لتخفيف سلبيّاتها‪ ،‬وإ ّما هيكلة العوملة نحو‬
‫النظام الالقطبي‪.‬‬
‫أ‪ .‬إصالح نظام العولمة‬
‫ابتدأت البوادر الفعل ّية إلصالح نظام العوملة أوائل عقد التسعين ّيات‬
‫من القرن العرشين مع نرش آراء عامل االجتامع الشهري أنطوين‬
‫جيدنز‪ ،‬والتي ت ّوجها بطرح نظريّة الطريق الثالث يف كتابه املوسوم‬
‫(الطريق الثالث‪ ..‬تجديد الدميقراط ّية االجتامع ّية)‪ ،‬إذ عرض فيه‬
‫طريقاً وسطاً بني الدميقراط ّية االشرتاك ّية والرأسامل ّية النيوليربال ّية‪،‬‬
‫وحاول أن يطرح أسلوباً جديدا ً يف السياسة الغرب ّية تجمع بني‬
‫محاسن النظام االشرتايك والنظام الرأساميل‪ ،‬وذلك بعد أن فشلت‬
‫النسخة الليربال ّية الجديدة عن إثبات تف ّوقها عىل النظام االشرتايك‬
‫يف تحقيق الرفاه واالستقرار للشعوب‪ ،‬فكام أوضحنا سابقاً فقد‬
‫مم‬
‫أسهمت النيوليربال ّية يف توسيع دائرة البؤس واالستغالل أكرث ّ‬
‫فعلته االشرتاك ّية‪.‬‬
‫وقد وجدت نظريّة الطريق الثالث تطبيقاً لها عىل الساحة‬
‫السياسيّة‪ ،‬إذ تب ّناها رئيس الوزراء الربيطاين األسبق توين بلري خالل‬
‫العمل إىل تحقيق‬
‫حملته الرئاسيّة لعام ‪ 1992‬ما جعله يقود حزب ّ‬
‫إصالحات أوصلته للسلطة بعد حكم مديد لحزب املحافظني‪ ،‬وقد‬
‫ض ّمنت تلك اإلصالحات احتفاظ الحزب بأغلبيّة مقاعد الربملان‬
‫‪ 176‬العولمة‬

‫الربيطاين واالستمرار يف الحكم مل ّدة تزيد عىل ‪ 10‬سنوات‪ ،‬كام‬


‫شكّل الطريق الثالث حجر األساس يف التح ّوالت الربنامجيّة التي‬
‫اعتمدتها اشرتاكيّات دميقراطيّة يف أوروبا ال سيّام يف أملانيا‪،‬‬
‫وكذلك أحزاب رئيسة أخرى يف أمريكا الالتينيّة وآسيا وأسرتاليا‬
‫وكندا[[[‪.‬‬
‫إ ّن نظريّة الطريق الثالث ال تعرتف باالشرتاك ّية من األعىل‪،‬‬
‫مبعنى أنّها ترفض تسلّط الدولة عىل املجتمع والتخطيط املركزي‬
‫حش الرأسامل ّية الليربال ّية‬
‫لالقتصاد‪ ،‬ويف الوقت نفسه تشجب تو ّ‬
‫واستغالل الطبقات الفقرية والكادحة لصالح املستثمرين النافذين‪،‬‬
‫بل تؤمن هذه النظريّة مبزايا السوق الح ّرة وخلق الرثوة‪ ،‬ويف الوقت‬
‫نفسه تؤيّد مزيدا ً من العدالة االجتامع ّية‪ ،‬وترى أ ّن الدولة تلعب دورا ً‬
‫رئيساً يف تحقيق ذلك‪.‬‬
‫كيف ميكن أن يت ّم ذلك؟ من وجهة نظر جيدنز فهنالك أربع قيم‬
‫أساس ّية يت ّم من خاللها تحقيق الطريق الثالث[[[‪:‬‬
‫أ ّوالً‪ :‬اإلميان بقيمة املجتمع‪ ،‬وذلك عىل عكس ما تراه‬
‫النيوليرباليّة من إلغاء للدور االجتامعي وإعالء قيمة الفردانيّة‬
‫فقط‪ ،‬إذ يرى أنصار الطريق الثالث أه ّمية إحياء األرسة التقليديّة‬
‫املمت ّدة وتنشيط دور الدولة القوميّة‪.‬‬

‫[[[‪" -‬الطريق الثالث" يف ضوء األزمة الراهنة –صحيفة الغد اإللكرتونيّة– نرش بتاريخ ‪/7 /25‬‬
‫‪ 2011‬عىل الرابط ‪/https://alghad.com‬الطريق‪-‬الثالث‪-‬يف‪-‬ضوء‪-‬األزمة‪-‬الراهنة‪/‬‬
‫‪[2]- What is the Third Way?–BBC - Monday, September 27, 1999 - http://news.‬‬
‫‪bbc.co.uk/2/hi/458626.stm‬‬
‫‪177‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫ثانياً‪ :‬االلتزام بدعم الحكومة للخدمات العا ّمة مبقدار ال يخلق‬


‫االت ّكاليّة لدى املواطنني‪ ،‬فمثالً يت ّم تحسني املدارس الحكوميّة‪،‬‬
‫ولكن الويل للوالدين الذين يفشلون يف التأكّد من حضور أطفالهم‬
‫لتلك املدارس‪ ،‬وسيت ّم مساعدة أولئك الذين يريدون اإلقالع عن‬
‫كل فرد مسؤول عن‬
‫التدخني‪ ،‬ويف الوقت نفسه التأكيد عىل أ ّن ّ‬
‫حته‪.‬‬
‫ص ّ‬
‫ثالثاً‪ :‬مبادرة الحكومة يف تعزيز املسار األخالقي يف املجتمع‬
‫من خالل مطالبة الوالدين بضامن تخصيص وقت لواجباتهم‬
‫فكل هذه‬
‫املنزل ّية‪ ،‬واتّخاذ إجراءات صارمة تجاه اآلباء املراهقني‪ّ ،‬‬
‫األمور وأمثالها تهدف إىل التأكيد عىل مسؤول ّية الفرد تجاه الدولة‬
‫واملجتمع‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬كام أ ّن األفراد مسؤولون أمام املجتمع‪ ،‬فإ ّن املنظّامت‬
‫وبخاصة الهيئات العا ّمة ستخضع للمساءلة كام مل يحدث من قبل‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتض ّمن جزء من ذلك إنشاء آل ّيات دميقراط ّية جديدة من خالل‬
‫محاوالت تنشيط الحكومة املحل ّية‪.‬‬
‫وبذلك يُظهر جيدنز تفاؤله تجاه مستقبل البرشيّة‪ ،‬ويقول يف هذا‬
‫الصدد‪« :‬ليس هناك فاعل واحد أو جامعة أو حركة منفردة ميكن لها‬
‫(كام افرتض ماركس أن تفعله طبقة الربوليتاريا) أن تنهض بتحقيق‬
‫اآلمال اإلنسانيّة‪ ،‬لكن هناك ع ّدة نقاط لالنخراط السيايس التي ميكن‬
‫أن توفّر األساس الجيد للتفاؤل»‪ ،‬ويستبعد جيدنز إمكانيّة وجود‬
‫إيديولوجيّة أو برنامج سيايس واحد يتّسم بالشموليّة والتامسك‪،‬‬
‫‪ 178‬العولمة‬

‫وبدالً من ذلك فإنّه يدعو للذهاب إىل ما وراء «الصور الصغرية»‪،‬‬


‫بحيث يستطيع الناس أن يؤث ّروا مبارشة عىل حياتهم يف بيوتهم‪،‬‬
‫املحل‪ ،‬فهذا هو الفارق حسب رأي‬
‫ّ‬ ‫أماكن عملهم‪ ،‬أو مجتمعهم‬
‫جيدنز ما بني املثال ّية الخيال ّية واملثال ّية الواقع ّية املفيدة[[[‪.‬‬

‫ولكن هل تتمكّن نظريّة الطريق الثالث ‪-‬التي م ّر عىل والدتها أكرث‬


‫من عقدين‪ -‬من تخفيف سلطة الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات واستعادة‬
‫ستظل‬
‫ّ‬ ‫زمام األمور من قبل الحكومات؟ أم أ ّن هذه النظريّة وأمثالها‬
‫حبيسة بعض البلدان الغربيّة‪ ،‬حيث تسعى لتطبيقها أحزاب اليسار‬
‫لنيل انتصارات انتخاب ّية؟ إ ّن االحتامل الثاين هو األقرب إىل الذهن‪،‬‬
‫ويؤكّد لنا ذلك موقف توين بلري نفسه‪ ،‬إذ كان من أش ّد املنارصين‬
‫لحرب احتالل العراق يف عام ‪ ،2003‬وهي الحرب التي تع ّد من‬
‫أه ّم حوادث تدعيم النيوليرباليّة يف القرن الواحد والعرشين‪.‬‬

‫من جانب آخر‪ ،‬فإ ّن الواقع يكشف أ ّن سلطة الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات وتغ ّول النيوليربال ّية يجعل من الصعب استمرار وتطوير‬
‫مثل هذه النظريّات اإلصالح ّية‪ ،‬شأنها شأن الحركات املناهضة‬
‫للعوملة؛ وذلك العتامدها أساساً عىل مبادئ أخالق ّية بدأت تتآكل‬
‫برسعة بسبب ثقافة االستهالك التي ت ّعمقها الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات يف الشعوب بشكل حثيث‪.‬‬

‫[[[‪« -‬الطريق الثالث» يف ضوء األزمة الراهنة ‪ -‬مصدر إلكرتوين سابق‪.‬‬


‫‪179‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫ّ‬
‫الالقطبية للعولمة‬ ‫ب‪ .‬نظام‬
‫اتّسمت العوملة منذ انطالقها بأنّها قامئة عىل هيمنة القطب‬
‫الواحد املتمثّل بالواليات املتّحدة األمريك ّية‪ ،‬وقد ب ّينا سابقاً أ ّن أبرز‬
‫املنظّامت التي تقود العوملة تعمل تحت وصاية الواليات املتّحدة‬
‫وتتامهى مع رغباتها‪ ،‬وذلك نتيجة طبيع ّية لصعود أمريكا كق ّوة‬
‫عسكريّة واقتصاديّة هائلة بعد انهيار منافسها االتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫ولكن هنالك بوادر عديدة تيش بأ ّن هذه القطبيّة قد شارفت‬
‫عىل النهاية‪ ،‬ليس فقط نتيجة لصعود أقطاب أخرى منافسة مثل‬
‫الصني وروسيا‪ ،‬بل بسبب تأثري نظام العوملة الراهن‪ ،‬إذ إ ّن «السلطة‬
‫كل مكان وال مكان‬
‫العامليّة الحقيقيّة يف عرص العوملة تبدو يف ّ‬
‫متشد ال منزل واحد له يسكنه‪ ،‬أو هي كتَيّار‬
‫يف آن‪ ،‬إنّها أشبه بشبح ّ‬
‫كهربايئ ت َعرف بوجوده فقط حني يلسعك‪ ،‬وهذا ما يجعل السلطة‬
‫العامليّة الراهنة شديدة الشبه بـ«الحقيقة االفرتاضيّة» التي خلقتها‬
‫ثورة املعلومات يف عوامل العقول اإللكرتونيّة»[[[‪.‬‬
‫هذا يعني أ ّن العوملة سوف لن تنتقل من نظام القطب الواحد‬
‫إىل النظام متع ّدد األقطاب‪ ،‬بل إ ّن العوملة سوف تتجاوز ذلك عىل‬
‫املدى البعيد لتسهم يف تشكيل (نظام الالقطب ّية)‪.‬‬
‫إ ّن نظام الالقطبيّة ‪ Nonpolarit‬هو مصطلح جديد طرحه ريتشارد‬
‫هاس رئيس مجلس العالقات الخارجيّة األمريكيّة‪ ،‬إذ يرى هاس أ ّن‬
‫[[[‪ -‬سؤال محيّـر‪ :‬ماذا ينتظر العامل بعد نهاية األحاديّة القطبية؟ ‪ –swissinfo.ch -‬نرش بتاريخ‬
‫‪ 2008/9/15‬عىل الرابط ‪/https://www.swissinfo.ch/ara‬سؤال‪-‬محي‪-‬ـر‪--‬ماذا‪-‬ينتظر‪-‬‬
‫العامل‪-‬بعد‪-‬نهاية‪-‬األحادية‪-‬القطبية‪399460/-‬‬
‫‪ 180‬العولمة‬

‫وتتحسن يف توليد وتجميع املوارد البرشيّة واملاليّة‬


‫ّ‬ ‫الدول تتق ّدم‬
‫والتكنولوجيّة التي تؤ ّدي إىل اإلنتاجيّة واالزدهار‪ ،‬وينطبق الكالم‬
‫واملؤسسات األخرى‪ ،‬وال ميكن إيقاف نشوء‬
‫ّ‬ ‫ذاته عىل الرشكات‬
‫هذه القوى الجديدة‪ ،‬فينتج من ذلك عدد متزايد أبدا ً من الفاعلني‬
‫القادرين عىل التأثري إقليميّاً أو عامليّاً‪ ،‬كام أ ّن سياسة الواليات‬
‫رسعت بظهور مراكز ق ّوة بديلة يف العامل‪ ،‬وأضعفت‬
‫املتّحدة قد ّ‬
‫الخاص بالنسبة إليها‪ ،‬فمثالً زيادة استهالك أمريكا املفرط‬
‫ّ‬ ‫موقعها‬
‫للنفط أ ّدى إىل ارتفاع سعره العاملي من ‪ 20‬دوالرا ً إىل ما يفوق‬
‫أقل من عقد من الزمن‪ ،‬ما سبّب تح ّوالً‬
‫‪ 100‬دوالر للربميل يف ّ‬
‫هائالً للرثوات والف ّعالية إىل الدول التي متتلك احتياطات الطاقة‪،‬‬
‫وبهذه الطريقة ساعدت سياسة الطاقة األمريكيّة عىل بروز منتجي‬
‫النفط والغاز كمراكز قوى أساسيّة[[[‪.‬‬
‫ويتوقّع هاس أ ّن العامل الالقطبي سيرتك بشكل متزايد انعكاسات‬
‫سلب ّية بغالب ّيتها عىل الواليات املتّحدة وعىل قسم كبري من سائر‬
‫العامل أيضاً‪« ،‬فبوجود هذا العدد الكبري من الفاعلني الذين يتمتّعون‬
‫بق ّوة ف ّعالة ويحاولون إثبات تأثريهم‪ ،‬سيكون من األصعب تكوين‬
‫املؤسسات إىل العمل‪ ،‬فأن يرعى امرؤ عرشات‬
‫ّ‬ ‫ردود جامع ّية ودفع‬
‫التوصل إىل‬
‫ّ‬ ‫أصعب من أن يرعى بضعاً فقط‪ ،‬وليس العجز عن‬
‫اتفاق يف املحادثات التي جرت يف خالل مؤمتر التجارة العامل ّية‬
‫إل مثاالً بليغاً عن ذلك‪ ،‬وستزيد الالقطب ّية أيضاً عدد‬
‫يف الدوحة ّ‬

‫[[[‪ -‬عرص الالقطبيّة‪ ،‬ريتشارد هاس‪ ،‬صحيفة األخبار‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2008 /4 /21‬عىل الرابط‬
‫‪https://al-akhbar.com/Opinion/168611‬‬
‫‪181‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫رضر التي تواجهها دولة مثل الواليات‬


‫التهديدات واحتامالت الت ّ‬
‫املتّحدة‪ ،‬قد تتّخذ هذه التهديدات شكل دول ته ّدد السلم العاملي‬
‫أو مجموعات إرهابيّة أو منتجي طاقة يعمدون إىل تخفيض اإلنتاج‬
‫أو مصارف مركزيّة ميكن لعملها أو امتناعها عن العمل أن ينشئا‬
‫ظروفاً تؤث ّر يف دور الدوالر األمرييك وق ّوته»[[[‪.‬‬
‫إ ّن نظام الالقطب ّية لن يقف عند حدود الدول الكربى‪ ،‬فالعوملة‬
‫عملت من خالل التكنولوجيا عىل نقل التاميزات الخارج ّية بني‬
‫كل دولة‪ ،‬وعندئذ يصبح باإلمكان الحديث عن‬ ‫الدول إىل داخل ّ‬
‫عامل ثان أو ثالث يف الداخل األمرييك واألورويب والياباين‪ ،‬حيث‬
‫‪ %20‬ينتجون ويحكمون‪ ،‬يف حني ‪ %80‬يُفقرون ويُه ّمشون‪ ،‬كام‬
‫بات باملستطاع العثور عىل عامل أ ّول داخل الدول الفقرية‪ ،‬حيث‬
‫النخب فاحشة ال ِغنى ُمندمجة بالسوق العاملي كل ّياً بشتّى تجلِّياته‬
‫الثقاف ّية واالقتصاديّة والرتفيه ّية[[[‪ ،‬وهذا الشكل من النظام لن يتّخذ‬
‫صيغته القانون ّية النهائ ّية إلّ بعد مخاض عسري قد يكون عىل األرجح‬
‫بعد قيام حرب عامل ّية ثالثة‪.‬‬
‫بخاصة مع الخطوة‬
‫ّ‬ ‫ومثل هذا االحتامل مل يعد بعيدا ً عن املنال‪،‬‬
‫العسكريّة التي اتّخذتها روسيا ض ّد أوكرانيا‪ ،‬مع محاوالت غرب ّية‬
‫لعزل االقتصاد الرويس وإنهاكه‪ ،‬وازدياد االستقطاب العسكري‬
‫املتمثّل مبطالب دول غرب ّية محايدة مثل فنلندا والسويد االلتحاق‬
‫بحلف الناتو‪ ،‬ومحاولة روسيا باملقابل توطيد عالقتها باملحاور‬

‫[[[‪ -‬عرص الالقطبيّة‪ ،‬ريتشارد هاس‪ ،‬صحيفة األخبار‪ ،‬م‪.‬س‪.‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪.‬‬
‫‪ 182‬العولمة‬

‫املناهضة ألمريكا‪ .‬إ ّن هذه االستقطابات إذا استم ّرت عىل هذه‬
‫إل إىل رشارة‬
‫الوترية املتسارعة فقد تصل إىل مرحلة ال تحتاج معها ّ‬
‫بسيطة تشعل فتيل الحرب لتسري نارها برسعة عىل طول خطوط‬
‫التحالفات األخرية‪.‬‬
‫بخاصة أ ّن الق ّوة العسكريّة التي‬
‫ّ‬ ‫قد ال تستم ّر الحرب طويالً‪،‬‬
‫متتلكها األطراف املتحاربة قادرة عىل توسيع دائرة الدمار عىل‬
‫مساحات واسعة خالل وقت قيايس‪ ،‬ولك ّن الحرب بالتأكيد سوف‬
‫تعيد ترسيم شكل النظام الذي لن يكون عبارة عن عوملة ُمتع ّددة‬
‫األقطاب‪ ،‬وإنّ ا عوملة تقوم عىل نظام الالقطب ّية التي ال ب ّد من أن‬
‫تكون لها مخاطر عالية يف املستقبل البعيد‪.‬‬
‫ف‬ ‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬اإلسالم ي� مواجهة العولمة‬
‫إ ّن الدين اإلسالمي بطبيعته العقالنيّة وتأكيده عىل األولويّات‬
‫االجتامعيّة بطريقة واقعيّة يجعله من أكرب املخاطر التي تواجه‬
‫كل‬
‫العوملة عىل اإلطالق‪ ،‬بحيث يتف ّوق يف تهديده للعوملة عىل ّ‬
‫املنظّامت والحركات املناهضة لها‪ ،‬لذا باتت القوى العومليّة الغربيّة‬
‫تتّخذ تجاه اإلسالم مواقف قمعيّة‪ ،‬وإ ّن غالبيّة الدعوات العنرصيّة‬
‫ربرا ً لتح ّركها‪ ،‬وما‬
‫املناهضة للمسلمني تستم ّد من هذا التح ّدي م ّ‬
‫فتئت دول أوروبيّة وغريها تشهد مامرسات عنيفة ض ّد املسلمني‬
‫املغرتبني لديها‪ ،‬وتعمل عىل تعميق مشاعر اإلسالموفوبيا‪ ،‬ومن‬
‫األمثلة الواضحة عىل ذلك األعامل املتط ّرفة للسيايس الدامناريك‬
‫السويدي راسموس بالودان‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫وعىل وقع تنبؤات الربوفيسور صامويل هنتغتون (‪-1927‬‬


‫‪ )2008‬التي تؤكّد عىل أ ّن الصدام الحضاري األقوى سيكون‬
‫بني الحضارة اإلسالميّة والحضارة الغربيّة‪ ،‬خاضت الدول الراعية‬
‫للعوملة عمليّات قمع ُممنهجة للمسلمني وعىل نطاق واسع‪ ،‬تارة‬
‫بتفعيل نشاط حركات التط ّرف اإلسالمي يف قلب الدول اإلسالميّة‬
‫مثل القاعدة وداعش‪ ،‬وتارة بالسكوت عن عمليّات التطهري التي‬
‫يتع ّرض لها املسلمون عىل يد جامعات عرقيّة أخرى كام يحدث‬
‫مع مسلمي بورما واإليغور‪.‬‬
‫لك ّن تعاليم اإلسالم التي تحثّ املسلمني عىل مواجهة الشدائد‬
‫بالصرب والتضحية والفداء مقابل مثوبة دنيويّة عاجلة أو أخرويّة‬
‫جلة تجعل املامرسات القمع ّية امل ُمنهجة ض ّد املسلمني ذات أثر‬
‫مؤ ّ‬
‫معكوس‪ ،‬فكأ ّن هذه املامرسات تزيد من فضيحة العوملة املناهضة‬
‫لإلسالم‪ ،‬وتدفع الشعوب املسلمة إىل االلتفاف حول اإلسالم أكرث‪.‬‬
‫كام أ ّن الطاقة الروح ّية التي تكتنف الشعائر اإلسالم ّية ‪-‬التي‬
‫تؤ ّدى عادة بشكل جمعي‪ -‬ذات أثر عظيم يف اإلبقاء عىل التامسك‬
‫حشة‪،‬‬‫محصناً من افرتاس الرأسامل ّية املتو ّ‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي للمسلمني‬
‫فام تتوافر عليه تلك الشعائر من شحن عاطفي تجعل جذوة اإلسالم‬
‫جه العقل الجمعي‬
‫مشتعلة يف نفوس أبنائه بني الحني واآلخر‪ ،‬وتو ّ‬
‫للمسلمني نحو مفاهيم تسمو فوق الحياة املاديّة التي تنرشها‬
‫العوملة يف أرجاء املعمورة‪.‬‬
‫وال تقترص ق ّوة اإلسالم عىل ما تق ّدم فقط‪ ،‬بل إ ّن أه ّم نقاط ق ّوته‬
‫‪ 184‬العولمة‬

‫تكمن يف طبيعته العقالنيّة والواقعيةّ‪ ،‬وقدرته عىل االستفادة من‬


‫الفرص اإليجابيّة التي تتيحها الظروف‪ ،‬ويف الوقت نفسه امتصاص‬
‫التح ّديات السلبيّة التي تطرأ عىل الساحة االجتامعيّة وتحويلها إىل‬
‫جانبه‪ ،‬لذا فإ ّن العوملة التي فرضت عىل املشهد العاملي منظومة‬
‫اندماج ال ميكن تفكيكها تعطي للمسلمني مساحة واسعة لالستفادة‬
‫من هذه املنظومة أقىص استفادة‪ ،‬إذ ال يوجد يف الدين اإلسالمي ما‬
‫مينع ذلك وفق رشوط واضحة‪.‬‬
‫إ ّن امتصاص الجانب السلبي للعوملة يف العمل اإلسالمي ال‬
‫يقترص عىل التنظري فقط‪ ،‬فاإلسالم أكّد عىل أه ّمية املوازنة بني‬
‫الحاجات املعنويّة واملا ّدية للبرش‪ ،‬وأن يلعب الحراك االجتامعي‬
‫دوره الكامل يف إشباع الحاجات املاديّة للرشائح املعوزة يف‬
‫املجتمع اإلسالمي‪ ،‬وذلك مؤ ّدى الحديث املروي عن الرسول‬
‫األكرم صىل الله عليه وآله‪ ،‬إذ قال‪« :‬من أصبح ومل يهتم بأمور‬
‫املسلمني فليس مبسلم» وقوله‪َ « :‬مثَل املؤمنني يف توا ّدهم‬
‫وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد‪ ،‬أذا اشتىك منه عضو تداعى له‬
‫سائر الجسد بالسهر والح ّمى»‪ ،‬لذا فإ ّن من أه ّم واجبات الجامعة‬
‫الصالحة يف عرص العوملة أن تتّجه نحو بناء شبكات خرييّة تعمل‬
‫عىل تخفيف ح ّدة الفقر بالنسبة للرشائح امل ُعدمة التي باتت تتّسع‬
‫عامل ّياً بفضل جشع الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‪.‬‬
‫هذا يعني أ ّن اإلسالم من خالل خطّته هذه يهت ّم بخلق سلطة‬
‫شعب ّية تضامن ّية تعمل بالتوازي مع قوى السلطة‪ ،‬أي إيجاد بيئة‬
‫اجتامع ّية ناجحة يف خضم بيئة سياس ّية هشّ ة‪ .‬إ ّن هذه السلطة‬
‫‪185‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫الشعبيّة ‪-‬بخالف السلطات الرسميّة‪ -‬محميّة من تأثريات القرارات‬


‫الفوقيّة للعوملة‪ ،‬وتعود جذور هذه الخطّة إىل ثورة اإلمام الحسني‬
‫أسس أهل البيت عليهم‬
‫عليه السالم يف يوم عاشوراء وما بعدها‪ ،‬إذ ّ‬
‫السالم بعد تلك الواقعة الفاصلة إىل الفصل بني التيّار الجامهريي‬
‫والسلطة الجائرة‪ ،‬ووضعوا منهجاً عمليّاً طبّقوه بأنفسهم يؤكّد إمكانيّة‬
‫تعايش الجامعة الصالحة مع وجود سلطة ظاملة‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬
‫فإ ّن هذه الجامعة قادرة عىل ضامن منائها الثقايف واالقتصادي ذاتيّاً‪.‬‬
‫هذه الق ّوة الداخل ّية الكامنة يف اإلسالم تجعل من القوى العومل ّية‬
‫حل أكرث عمل ّية إلنهاء التهديد اإلسالمي ملصالحها‪،‬‬ ‫تلجأ إىل ّ‬
‫وذلك باللجوء إىل تطويع الثقافة اإلسالم ّية لصالح ثقافة العوملة‪،‬‬
‫ويت ّم ذلك من خالل تفريغ اإلسالم من مفاهيمه األصيلة بطريقة‬
‫تجعله يندمج مع متطلّبات النيوليربال ّية‪ ،‬وإ ّن ما تقوم به برامج إعالمية‬
‫جهة للعرب واملسلمني دليل ناصع عىل ما نقول‪ ،‬مثل برنامج يف‬
‫مو ّ‬
‫فلك املمنوع عىل قناة فرانس‪ 24 ،‬وبرنامج جعفر توك عىل قناة‬
‫‪ DW‬األملان ّية[[[‪ ،‬ما يعني أ ّن التح ّدي األكرب الذي يواجه املسلمني‬
‫اليوم ليس تحديّاً اقتصاديّاً أو سياس ّياً بقدر ما هو تح ٍّد ثقا ّ‬
‫يف‪.‬‬
‫وهذا األمر يتطلّب حركة مضا ّدة من قبل النخب اإلسالم ّية‪،‬‬

‫أسس جمعيّة املثل ّيون‬‫[[[‪ -‬نرشت قناة ‪ DW‬لقاء مع شخص مثيل مغرتب اسمه لودفيك مح ّمد ّ‬
‫املسلمون ومسجد املثليني يف فرنسا‪ ،‬ويدّعي لودفيك أ ّن املثليّة ال تتعارض مع املفاهيم األصليّة‬
‫لإلسالم‪ ،‬وأ ّن ما ذكره القرآن من إهالك قوم لوط مل يكن بسبب مامرستهم املثل ّية‪ ،‬وإنّ ا بسبب‬
‫مامرسة االغتصاب وأعامل الرسقة (املصدر‪ :‬إمام مسجد فرنيس‪« :‬اإلسالم مل يحرم املثليّة‬
‫الجنسيّة»‪ /https://www.dw.com/ar /2016-5-2 / DW /‬إمام‪-‬مسجد‪-‬فرنيس‪-‬اإلسالم‪-‬مل‪-‬‬
‫يحرم‪-‬املثلية‪-‬الجنسية‪.) 19228141-a/‬‬
‫‪ 186‬العولمة‬

‫ترتكز عىل اسرتاتيجيّة ُمحكمة متثّل نقطة انطالق لتجاوز التح ّديات‬
‫التي تواجه الثقافة اإلسالميّة يف املرحلة الراهنة‪ ،‬وهذه اإلسرتاتيجيّة‬
‫يجب أن تستم ّد معطياتها من املفاهيم األصيلة لإلسالم نفسه‪،‬‬
‫كام يجب أن ينبع أساساً من داخل املجتمعات‪ ،‬وال يت ّم بفرضه‬
‫من سلطة أعىل مثل الحكومات‪ ،‬إذ يقتيض واقع الحال أن تكون‬
‫القاعدة الجامهرييّة املسلمة هي العد ّو األساس للعوملة‪ ،‬ال حكومة‬
‫رضر الرئيس من العوملة أ ّوالً‪،‬‬
‫مؤسسة؛ أل ّن الجامهري هي املت ّ‬
‫وال ّ‬
‫وثانياً أل ّن صوت الجامهري يعلو فوق شبهات املصالح القوميّة‬
‫والتجاذبات السياسيّة‪ ،‬ويكون أقرب لنداء القيم اإلنسانيّة ِ‬
‫الصفة‪،‬‬
‫لذا فإ ّن اإلسالم منذ بزوغ فجره اعتمد عىل تأسيس قاعدة جامهرييّة‬
‫جه معنوي شكّل عرب العصور الهاجس األعظم‬ ‫ذات وعي وتو ّ‬
‫ألصحاب السلطات الجائرة‪.‬‬
‫وحيث إ ّن الحرب التي تش ّنها العوملة عىل اإلسالم هي حرب‬
‫ثقاف ّية تستهدف إحداث فجوة بني األجيال املسلمة والدين الحنيف‬
‫كام أرشنا سلفاً‪ ،‬فإ ّن اإلسرتاتيج ّية لإلبقاء عىل هذا الدين ح ّياً يف‬
‫نفوس أبنائه تبدأ بفهم النخب الفكريّة والثقاف ّية لطبيعة التح ّديات‬
‫الخارج ّية التي يواجهها املجتمع املسلم وتحديد ثغراته الداخل ّية‪،‬‬
‫ومن ث ّم العمل عىل تطوير خطاب ثقايف إسالمي عرصي يستفيد‬
‫من تقن ّيات العوملة لقلب الطاولة عليها‪ ،‬وبعبارة أخرى امتصاص‬
‫جهات األجيال‬
‫التغيريات التي تريد قوى العوملة إحداثها يف تو ّ‬
‫الجديدة للمجتمعات املسلمة وتحويلها لصالح الرسالة اإلسالم ّية‬
‫‪187‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫السمحة[[[‪ ،‬وذلك من خالل صناعة خطاب ثقايف ينبع من صميم‬


‫الرؤية اإلسالميّة مبا يتالءم مع حاجات العرص وطبيعة اللغة املؤث ّرة‬
‫يف الجيل اإلسالمي الجديد‪.‬‬
‫جهات التي تعيشها‬
‫وهذا األمر يتطلّب أ ّوالً التع ّرف عىل أه ّم التو ّ‬
‫جهات ما‬
‫املجتمعات اإلسالم ّية يف عرص العوملة‪ ،‬ومن هذه التو ّ‬
‫يأيت‪:‬‬
‫‪ -1‬املجتمع اإلسالمي يواجه عرص املعلومات ّية املتزاحمة‪،‬‬
‫لذا بات متعطّشاً للمعلومات‪.‬‬
‫‪ -2‬املجتمع اإلسالمي صار متأث ّرا ً مبعطيات العلوم األكادمييّة‬
‫الحديثة والبحوث املدعومة باإلحصائيّات واألرقام واألدلّة‬
‫امللموسة‪.‬‬
‫ومع األخذ بنظر االعتبار حقيقة أ ّن االكتشافات العلم ّية الرصينة‬
‫توصلت إليها املناهج األكادمي ّية الحديثة ال تتقاطع بامل ُجمل‬
‫التي ّ‬
‫مع روح التعاليم اإلسالم ّية‪ ،‬فسوف نصل إىل نتيجة مفادها‪ :‬أ ّن‬
‫النخب الفكريّة والثقاف ّية اإلسالم ّية يجب أن تنطلق من قاعدة بيانات‬
‫دقيقة تستند إىل تحليل موضوعي للواقع االجتامعي اإلسالمي‬
‫وفقاً للمنهج األكادميي مؤطّرا ً بالرؤية اإلسالم ّية الكلّية؛ ذلك ألنّنا‬
‫نؤمن بأ ّن لدى اإلسالم رؤية صائبة ملا يجب أن يكون عليه الواقع‬
‫االجتامعي‪ ،‬ولك ّن طبيعة هذه الرؤية أنّها كُل ّية‪ ،‬وليس من شأنها‬
‫[[[‪ -‬وبالذات رشيحة الشباب من أبناء الطبقة الوسطى الذين يعيشون يف الحرض‪ ،‬فهذه الطبقة‬
‫هي األقدر من غريها يف مجال إحداث التغيريات الفكريّة والثقافيّة وقيادة الجهود االجتامعيّة‬
‫لتحسني واقع البلدان اإلسالميّة‪،‬‬
‫‪ 188‬العولمة‬

‫التوغّل يف التفاصيل‪ ،‬وقد أوكل اإلسالم للبرش أمر استكشاف تلك‬


‫التفاصيل إلبعاد العقل عن شبح الرتاخي ودفعه الكتناه دقائق األمور‬
‫بالسعي االختياري‪ ،‬ليجعله يف النهاية يعود ُمذعناً لصواب الرؤية‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫يه ْم آيات ِنا‬
‫ن ِ‬‫قناعة راسخة‪ ،‬وذلك مؤ ّدى َقوله ْتعاىل‪ :‬س ِ‬ ‫اإللهيّة عن‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫اق و ِف أنف ِس ِهم حت يتبي لهم أنه الق‪ ،[[[‬فالقرآن الكريم‬ ‫َ‬
‫ِف اآلف ِ‬
‫الخلقة ومواهبه وقابليّاته‬ ‫ّ‬ ‫(مل يطرح نفسه بديالً عن قدرة اإلنسان‬
‫كل ميادين الحياة‪ ،‬مبا يف ذلك ميدان املعرفة‬
‫يف مقام الكدح يف ّ‬
‫جرة‬
‫جهة لإلنسان‪ ،‬مف ّ‬
‫والتجربة‪ ،‬وإنّ ا طرح نفسه طاقة روحيّة مو ّ‬
‫لطاقاته‪ ،‬مح ّركة له يف املسار الصحيح)[[[‪.‬‬
‫إ ّن التحليل املوضوعي للواقع االجتامعي اإلسالمي يهدف إىل‬
‫تحديد املشكالت الكبرية التي خلقتها العوملة فيه‪ ،‬ليك يت ّم ربط‬
‫هذه املشكالت بشكل منطقي باملفاهيم التي تر ّوج لها العوملة‬
‫مثل املساواة بني الرجل واملرأة والتش ّيؤ وانتشار ثقافة االستهالك‪،‬‬
‫وج ْعل معيار القيمة االجتامع ّية ُمتعلّقاً بالجانب املعنوي والروحي‬
‫لإلنسان‪ ،‬ودور الثقافة الفردان ّية يف إضعاف التضامن االجتامعي‪.‬‬
‫جه للجامهري‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬إ ّن الخطاب الثقايف اإلسالمي املو ّ‬
‫يؤسس عىل قاعدة معلومات علم ّية دقيقة قادرة‬
‫املسلمة يجب أن ّ‬
‫عىل رفع مستوى الوعي االجتامعي بالجذور الحقيق ّية لإلشكال ّيات‬
‫الكبرية التي يواجهها املجتمع املسلم‪ ،‬والتي ترتبط غالباً بطبيعة‬

‫[[[‪ -‬سورة فصلت‪ ،‬اآلية ‪.53‬‬


‫[[[‪ -‬السنن التاريخيّة يف القرآن‪ ،‬مح ّمد باقر الصدر‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت ‪ -‬الطبعة‬
‫األوىل‪ ،2011 ،‬ص‪.48‬‬
‫‪189‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫الثقافة النيوليرباليّة‪ ،‬وذلك أقوى ما يدفع األجيال الجديدة إىل‬


‫التمسك‬
‫ّ‬ ‫القناعة برضورة االلتفاف حول مبادئ الدين الحنيف وإعادة‬
‫بها‪ ،‬وعىل هذا األساس يتطلّب من امل ُبلّغ أو امل ُثقّف الديني وكذا‬
‫اإلعالمي اإلسالمي الرتكيز عىل ما يأيت‪:‬‬
‫أ‪ .‬توسيع ثقافته األكادمي ّية باالطّالع عىل العلوم اإلنسان ّية الرئيسة‬
‫(علم االجتامع وعلم النفس وعلم االتصال)‪.‬‬
‫ب‪ .‬تحليل األفكار يف األطروحات األكادمي ّية للعلوم املتق ّدمة‬
‫وإعادة الرتكيب فيام بينها للخروج برؤية شاملة للواقع الراهن‪.‬‬
‫ت‪ .‬اعتامد التفكري النقدي لتهذيب معطيات العلوم األكادمييّة‬
‫وفق املبادئ العا ّمة للدين اإلسالمي الحنيف‪.‬‬
‫ث‪ .‬الرتكيز عىل املنطق االستقرايئ يف قراءة الوقائع الراهنة‪.‬‬
‫ج‪ .‬الرتكيز عىل دراسة التح ّديات التي تُالصق هموم املجتمع‬
‫مبسطة وجاذبة‪.‬‬
‫ورشحها مدعومة باألمثلة امل ُعاشة بلغة ّ‬
‫لك ْن ما يواجه الخطاب الثقايف اإلسالمي يف خطّته اإلسرتاتيج ّية‬
‫هذه أ ّن نجاحها سوف يقترص عىل تحقيق إنجازات محدودة ال‬
‫ميت ّد تأثريها عىل نطاق عاملي العتبارات عديدة‪ ،‬أه ّمها أ ّن كثريا ً من‬
‫الشعوب ال تؤمن بالدين اإلسالمي كرشيعة تقود الحياة‪ ،‬وبالتايل‬
‫فإ ّن أقىص ما ميكن أن يحقّقه مبقابل طغيان العوملة‪ ،‬هو أن يشكّل‬
‫ج ُزر نجاح يف خض ّم محيط عاملي من الفشل‪ ،‬ولكن ال يخلو من‬
‫ُ‬
‫ج ُزر إىل منارات اجتامع ّية تطمح إليها‬
‫احتامل أن تتح ّول هذه ال ُ‬
‫‪ 190‬العولمة‬

‫أنظار املجتمعات التي تأكلها املجاعات ويحكمها االستهالك‬


‫النهِم ويسودها مت ّزق العالقات واالنهيارات النفسيّة‪ ،‬بعبارة أخرى‬
‫إ ّن من شأن املجتمعات اإلسالميّة الناضجة والناجحة أن تجذب‬
‫إليها أنظار الشعوب التي تنشد الخالص من الغرق يف ظلامت‬
‫العوملة امل ُتالطمة‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك‪ ،‬فإنّه يف عرص رسيع التح ّول كالذي ميتاز به‬
‫عرص العوملة‪ ،‬لن تعود االنتصارات الوقت ّية واإلنجازات الرسيعة‬
‫ذات قيمة‪ ،‬بل إ ّن ما يكون قادرا ً عىل الصمود وإثبات الوجود يف‬
‫النهاية هو املنترص‪ ،‬لذا فإ ّن ما تحتاجه النخب اإلسالم ّية أ ّوالً هو‬
‫خلق نواة اجتامع ّية صلبة قادرة عىل الصمود يف وجه رياح التغيري‬
‫الرسيعة ليك تكون فيام بعد قادرة عىل جذب باقي الجامهري إليها‪.‬‬
‫قد يقال إ ّن خلق نواة اجتامع ّية صلبة ميكن تحقيقها يف‬
‫املجتمعات التي ال تؤمن بالدين اإلسالمي أيضاً‪ ،‬وحتّى تلك التي‬
‫ال تؤمن بالدين أصالً‪ ،‬وذلك الحتواء تلك املجتمعات عىل مثقّفني‬
‫ناشطني ُمخلصني لقض ّيتهم‪ ،‬ينشدون الطأمنينة والسعادة واملساواة‬
‫التوسل مببادئ‬
‫ّ‬ ‫لشعوبهم ويسعون إىل درء أذى العوملة من دون‬
‫دين ّية‪.‬‬
‫وللجواب عىل ذلك نقول‪ :‬إ ّن هنالك بالفعل مثل تلك‬
‫الشخصيّات تعمل بإخالص يف إنقاذ شعوبها من براثن العوملة‬
‫خارج منظومة الدين ‪-‬كام فعل أنطوين جيدنز يف طرحه لنظريّة‬
‫الطريق الثالث‪ -‬ولكنها لن تنجح يف تحقيق مسعاها يف آخر‬
‫‪191‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مآالت العولمة‬

‫املطاف ألسباب عديدة‪ ،‬أه ّمها‪ :‬أ ّن إغراء الثقافة املاديّة ميكن أن‬
‫التمسك بها من قبل املجتمع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ربرات‬
‫كل الثقافات الالماديّة ُم ّ‬
‫يُفقد ّ‬
‫باستثناء الثقافة الدينيّة؛ أل ّن األخرية ‪-‬باإلضافة إىل فطريّتها‪ -‬تعتمد‬
‫يف دميومتها عىل مبدأ الثواب والعقاب األخروي‪ ،‬فهي تستم ّد من‬
‫لتمسك املجتمع بها مهام كانت مغريات‬
‫ربرات دامئيّة ّ‬
‫هذا املبدأ ُم ّ‬
‫الثقافة املاديّة الضاغطة‪ ،‬ومن هنا نلمس أه ّمية تأسيس املنظومة‬
‫األخالقيّة للمجتمع عىل أساس ديني‪ ،‬عىل الرغم من إمكانيّة‬
‫تأسيس هذه املنظومة مبعزل عن الدين‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬يقتيض أن‬
‫يكون يف مقابل العوملة جهة جامهرييّة مناهضة تستم ّد ق ّوتها من‬
‫معني أخالقي ال ينضب بشكل مضمون متاماً‪ ،‬وهذه الضامنة ال‬
‫تتوفّر إلّ يف األديان؛ أل ّن العامل األخالقي فيها ذو دميومة عىل‬
‫عكس العامل األخالقي للفكر الوضعي‪.‬‬
‫هذا إذا مل نرد التح ّدث بلسان ديني بحت يؤمن بأ ّن املدد اإللهي‬
‫متسكاً واعياً‬
‫تتمسك بحبل الله ّ‬
‫ّ‬ ‫ال ب ّد من أن ينزل عىل األمم التي‬
‫وحقيق ّياً مهام كانت العقبات التي تواجهها طاغية‪ ،‬وذلك لقوله‬
‫َّ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ّ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ َ َّ َ ْ َ ُ‬
‫‪‬ول ْو أن أهل القرى آمنوا َواتق ْوا لفتحنا علي ِهم ب َرك ٍت ِم َن‬ ‫تعاىل‪:‬‬
‫َّ ّ َ ُ َ ُّ َ َ ْ َ َّ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َّ‬
‫الس َماءِ َوالر ِض‪[[[‬وقوله تعاىل‪ :‬إِن الل ال يغ ِي ما بِقو ٍم حت‬
‫ُ َُّ ْ َ َُْ‬
‫يوا ما بِأنف ِس ِه ْم‪.[[[‬‬‫يغ ِ‬

‫[[[‪ -‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.96‬‬


‫[[[‪ -‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬
‫‪193‬‬ ‫الخاتمة‬

‫الخاتمة‬
‫ازدهرت العوملة عىل أساس تعميم النظريّة النيوليربال ّية عىل‬
‫نطاق عاملي‪ ،‬بحيث تع ّد النيوليربال ّية عامالً أساس ّياً يف ظهور العرص‬
‫الكوين[[[‪.‬‬
‫الحل املقرتح للقضاء عىل مشكلة التضخّم‬
‫ّ‬ ‫كانت النيوليرباليّة‬
‫والركود الذي أصاب االقتصادات الرأسامليّة الغربيّة يف سبعينيّات‬
‫جع‬
‫القرن العرشين بعد عقود من تطبيق االقتصاد الكينزي‪ ،‬وقد ش ّ‬
‫عىل تطبيق النيوليرباليّة عامل االقتصاد ميلتون فريدمان وفتيان‬
‫شيكاغو بهدف التخلّص من التخطيط املركزي لالقتصاد‪ ،‬وتحرير‬
‫أي سياسة نقديّة‪.‬‬
‫األسواق من ّ‬
‫والنيوليربال ّية بح ّد ذاتها متثّل الوريث الرشعي والنسخة األكرث‬
‫تط ّرفاً لليربال ّية الغرب ّية التي تبلورت عرب قرون طويلة من تاريخ الغرب‬
‫الحديث‪ ،‬إذ بلغت من الغوص يف الحريّة الفردان ّية إىل مستوى إلغاء‬
‫عبت‬‫أي اعتبار لحقوق املجتمع واملسؤول ّية االجتامع ّية‪ ،‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاترش عن ذلك مبقولتها الشهرية‪:‬‬
‫«ليس هناك يشء اسمه املجتمع»‪.‬‬
‫وقد كانت النيوليرباليّة أواخر السبعينيّات ومطلع الثامنينيّات‬
‫من القرن العرشين محصورة ضمن دول محدودة مثل الواليات‬
‫املتّحدة وبريطانيا والصني فضالً عن دول تع ّرضت إىل عمليّات‬
‫تطهري نيوليربايل وفقاً لعقيدة الصدمة مثل تشييل واألرجنتني‪ ،‬ومل‬

‫نص أساس‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.249‬‬


‫[[[‪ -‬العوملة‪ّ ..‬‬
‫‪ 194‬العولمة‬

‫إل بعد انهيار االتحاد السوفييتي مطلع‬


‫ت ُع ّمم عىل نطاق عاملي ّ‬
‫التسعينيّات‪ ،‬إذ انفتح العامل كلّه عىل التجارة الح ّرة التي حملت‬
‫لواءها الواليات املتّحدة األمريكيّة ودافعت عنها دفاعاً ُمستميتاً‪،‬‬
‫وبلغ ذلك ذروته بإعالن الرئيس األمرييك جورج بوش األب يف‬
‫خطاب ألقاه أمام الجمعيّة العا ّمة لألمم املتّحدة عن قيام نظام‬
‫عاملي جديد ح ّدد فيه «رؤية لرشاكة جديدة بني األمم‪ ..‬رشاكة‬
‫تقوم عىل التشاور والتعاون والعمل الجامعي‪ ،‬خصوصاً من خالل‬
‫املنظّامت الدوليّة واإلقليميّة»[[[‪.‬‬
‫وبغض النظر عن البلدان التي ت ّم إخضاعها لعمل ّيات تطهري‬
‫ّ‬
‫نيوليربال ّية وفقاً لعقيدة الصدمة أو تلك التي رجعت إىل مصاف‬
‫الدول النامية من البلدان التي انشقّت عن الكتلة السوفييت ّية امل ُنحلّة‪،‬‬
‫فإ ّن العوملة حملت بني طياتها ازدهارا ً رسيعاً لبلدان ع ّدة من‬
‫الرشق والغرب‪ ،‬وساعدت بلداناً عىل تحقيق من ّو اقتصادي رسيع‬
‫إل أ ّن ذلك مل يُكتب له الدوام‪ ،‬إذ‬
‫مثل مجموعة النمور اآلسيويّة‪ّ ،‬‬
‫رسعان ما بدأت املساوئ ترتى لتشكّل مفاجآت غري سا ّرة عىل‬
‫نطاق واسع‪ ،‬مثل أزمة الفقاعة االقتصاديّة عام ‪ 1997‬وأزمة الكساد‬
‫العاملي عام ‪.2008‬‬
‫ومل يكن ذلك سوى الجبل الجليدي من املشكلة‪ ،‬وإ ّن الخطر‬
‫الحقيقي كان يكمن يف النمو الرسيع للرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‪،‬‬

‫[[[‪ -‬إنصافاً للمنظّامت االقتصاديّة الدوليّة– ريتشارد وود وارد –‪ –trends‬نرش بتاريخ ‪/7 /30‬‬
‫‪ 2020‬عىل الرابط ‪/https://trendsresearch.org/ar/insight‬إنصافاً‪-‬للمنظامت‪-‬االقتصادية‪-‬‬
‫الدولية‪/‬‬
‫‪195‬‬ ‫الخاتمة‬

‫إذ وفّر لها النظام النيوليربايل فرصة ذهبيّة لتتح ّول إىل غيالن عمالقة‬
‫تقبض عىل مصادر القرار السيايس يف الدول العظمى وتتحكّم من‬
‫كل األمور‪ ،‬وعىل ح ّد تعبري نعوم تشومسيك‪« :‬لقد‬ ‫خالله بزمام ّ‬
‫أصبح النظام العاملي اليوم شكالً من أشكال (مريكانتليّة الرشكات)‬
‫تتّسم فيه التفاعالت واملخطّطات التجاريّة املنظّمة داخل إطار من‬
‫العوملة الليرباليّة ص ّمم برباعة حسب حاجات السلطة واألرباح»[[[‪،‬‬
‫وبفضل ق ّوة هذه الرشكات ت ّم إزاحة إرادة الحكومات عن اتّخاذ القرار‬
‫املناسب ليتح ّول االقتصاد العاملي إىل هدف بح ّد ذاته‪ ،‬وأصبح‬
‫كل ما دونه مج ّرد وسيلة مبا يف ذلك املجتمعات ذاتها‪ ،‬يقول داين‬
‫ّ‬
‫رودريك أستاذ االقتصاد السيايس الدويل بجامعة هارفارد‪« :‬كان‬
‫االقتصاد العاملي يخدم األهداف االقتصاديّة واالجتامعيّة املحليّة‬
‫‪-‬التشغيل الكامل للعاملة واالزدهار والعدالة‪ -‬وليس العكس‪ ،‬يف‬
‫ظل العوملة املفرطة قَلَب ُ‬
‫ص ّناع السياسات هذا املنطق رأساً عىل‬ ‫ّ‬
‫املحل هو‬
‫ّ‬ ‫عقب‪ ،‬حيث أصبح االقتصاد العاملي الغاية واملجتمع‬
‫الوسيلة»[[[‪.‬‬
‫كام خضعت منظّامت عامل ّية مه ّمة إلرادة الرشكات ُمتع ّددة‬
‫الجنس ّيات ونظامها النيوليربايل مثل‪ :‬صندوق النقد الدويل والبنك‬
‫الدويل ومنظّمة التجارة العامل ّية‪ ،‬بحيث أصبحت هذه املنظّامت‬
‫السبب األبرز يف تحقيق الالمساواة وانتهاك سيادة الدول القوم ّية‪،‬‬

‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.281‬‬


‫[[[‪ -‬عوملة أفضل قد تنهض من رماد العوملة املفرطة‪ ،‬داين رودريك‪ ،‬شبكة النبأ املعلوماتيّة‪،‬‬
‫‪https://annabaa.org/arabic/referenceshirazi/31088 /2022-5-12‬‬
‫‪ 196‬العولمة‬

‫مؤسسات خرييّة مثل مؤمتر األمم املتّحدة للتجارة والتنمية‬


‫حتّى إ ّن ّ‬
‫(‪ )UNCTAD‬الذي أنشئ أساساً لتحسني الوضع االقتصادي‬
‫للدول النامية تح ّول عن مساره يف عام ‪ 1992‬وخضع ملتطلبات‬
‫األقل تق ّدماً يف االقتصاد‬
‫ّ‬ ‫النيوليرباليّة‪ ،‬فأخذ يسعى إىل إدماج الدول‬
‫العاملي‪ ،‬كام عانت منظّمة اليونسكو التي تدعم العلوم الطبيعيّة‬
‫واالجتامعيّة والثقافيّة من حالة تدهور وانحطاط يف نشاطها بعد‬
‫أن فضّ ل النيوليرباليّون تحويل هذه العلوم إىل سلع ميكن بيعها‬
‫ورشاؤها يف السوق[[[‪.‬‬
‫وقد أسهمت العوملة يف ازدهار نظام اقتصادي غريب يُعرف‬
‫باسم (رأسامل ّية الكازينو) وهو ميثّل اقتصادا ً ربح ّياً طفيل ّياً ال يُنتج‬
‫شيئاً يف قطاع الخدمات والسلع‪ ،‬ويخلق سوقاً أشبه ما تكون بنا ٍد‬
‫كبري لل ُمقامرة‪ ،‬يعمل عىل إثراء املضاربني مبخاطر عالية‪ ،‬وميكن‬
‫أن يج ّر القطاع العام إىل أزمة ضخمة تستدعي األموال الحكوم ّية‬
‫لوضع خطّة لإلنقاذ‪ ،‬لذا يوصف بأنّه اقتصاد يُخصخص الربح‬
‫ويُع ّمم الخسارة‪.‬‬
‫هذا ومل يقترص عمل العوملة عىل التالعب بال ُبنى الفوق ّية امل ُتمثلة‬
‫ح ْوكمة العامل ّية حسب‪ ،‬وإنّ ا عملت عىل تغيري ال ُبنى السفلي ّة عىل‬
‫بال َ‬
‫مستوى املجتمعات أيضاً‪ ،‬إذ إ ّن التن ّوع الثقايف للشعوب بات مه ّددا ً‬
‫باالقتالع بسبب الحرب الناعمة التي تقوم بها وسائل اإلعالم املدعومة‬
‫أي متابع أن‬
‫بأموال الرشكات ُمتع ّددة الجنس ّيات‪ ،‬وال يصعب عىل ّ‬
‫يشعر مبا تتض ّمنه هذه الوسائل من هجوم ّية ُمفرطة عىل الثقافة التقليديّة‬
‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.338-337‬‬
‫‪197‬‬ ‫الخاتمة‬

‫لألمم مثل األرسة املمت ّدة‪ ،‬والعالقة التضامنيّة بني الرجل واملرأة‪،‬‬
‫لتحل محلّها مفاهيم تح ّرر‬
‫ّ‬ ‫وأه ّمية الدين واألعراف والقيم املعنويّة‪،‬‬
‫املرأة من املسؤوليّات املنزليّة‪ ،‬وتأسيس العالقة بني الجنسني عىل‬
‫مبدأ املنافسة العدوانيّة‪ ،‬وترويج أمناط الحياة االستهالكيّة‪ ،‬ومبادئ‬
‫مجتمع امليم التي تجعل اإلنسان يف آخر املطاف طيّعاً ملتطلّبات‬
‫االستهالك وما يخدم مصالح الرشكات الرأسامليّة‪.‬‬
‫حد‪ ،‬فإ ّن العوملة‬
‫وبخالف النتيجة امل ُعلنة من قيام نظام كوين مو ّ‬
‫عملت عىل تفكيك املجتمعات‪ ،‬وليس التحامها‪ ،‬بسبب ابتعاد‬
‫الناس عن املصالح املشرتكة واألهداف طويلة األمد سعياً وراء‬
‫املصالح الفرديّة والشؤون اليوم ّية‪ ،‬وقد انعكس ذلك بشكل أو بآخر‬
‫عىل نظرة علامء االجتامع أنفسهم‪ ،‬ففي البدء كان علامء االجتامع‬
‫ينظرون للمجتمع عىل أنّه بناء ك ُّل يتك ّون من أجزاء مشدودة بأنساق‬
‫كل جزء‬
‫تؤ ّدي وظائفها بتناغم‪ ،‬وأ ّن سعادة املجتمع تتوقّف عىل أداء ّ‬
‫لوظيفته بشكل سليم‪ ،‬ولك ْن مع طغيان العوملة التي زعزعت األمناط‬
‫التقليديّة‪ ،‬صار علامء االجتامع يقرصون نظرهم عىل العالقات الجزئ ّية‬
‫وقرارات الفاعلني عىل املستوى الشخيص‪ ،‬بحيث مل يعد الحديث‬
‫محل اهتامم يف علم االجتامع املعارص‪.‬‬
‫عن قضايا املجتمع الكبرية ّ‬
‫هذه الرؤية الجزئ ّية ضلّلت الرأي العام‪ ،‬إذ جعلت أصابع االتهام‬
‫تشري إىل األسباب غري الحقيق ّية ملعاناة الناس يف عرص العوملة‪،‬‬
‫مؤسستني مه ّمتني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وبذلك تكاملت أسباب التضليل من قبل‬
‫املؤسسة اإلعالم ّية واملؤسسة األكادمي ّية‪ ،‬وعندما يواجه الناس‬
‫ّ‬
‫أذى الحروب واألزمات االقتصاديّة واالجتامع ّية رسعان ما تشري‬
‫‪ 198‬العولمة‬

‫أصابع االتهام نحو تقصري الحكومات السياديّة‪ ،‬يف حني أ ّن هذه‬


‫الحكومات أصبحت يف عرص العوملة مج ّرد واجهة ال متلك من‬
‫السيادة سوى االسم‪ ،‬وأ ّن من يخلق األزمات يف التحليل النهايئ هم‬
‫أرباب الرشكات ُمتع ّددة الجنسيّات وأتباعهم من الساسة املنتفعني‬
‫يف الدول الرأسامليّة العظمى‪.‬‬
‫ولكن ما هو املصري الذي ينتظر العوملة؟ هل سنشهد تط ّوراتها‬
‫أم انهياراتها يف املستقبل؟ يف الحقيقة إ ّن األمر ُمربك وليس من‬
‫السهولة التنبؤ به‪ ،‬فمن ناحية نجد أ ّن النيوليربال ّية قد تغلغلت يف‬
‫عمق النظام العاملي “ومن غري الواضح أنّه ميكن التضحية بها‬
‫بسهولة بدون إحداث رضر حتمي للنظام بأكمله”[[[‪ ،‬ومن ناحية‬
‫أخرى نشهد تفكّكاً فعل ّياً يف بعض العنارص األساس ّية للعوملة‪ ،‬مثل‬
‫خروج بريطانيا من االتحاد األورويب والحامئ ّية التي التزمت بها‬
‫الواليات املتّحدة ض ّد الصادرات الصين ّية وحركة الهجرة‪.‬‬
‫ربا كانت رؤية نعوم تشومسيك ملستقبل العوملة هي‬ ‫لذا ّ‬
‫األقرب للذهن عىل املستوى املنظور‪ ،‬إذ يرى أ ّن الدول الجائعة‬
‫ودول العامل الثالث سوف تبقى ُملزمة باتّباع مبادئ النيوليربال ّية يف‬
‫حني سوف تته ّرب الدول األقوى من هذه املبادئ‪ ،‬ويف الوقت‬
‫نفسه فإ ّن طبقة األثرياء ستبقى تط ّور أسلحتها يف حربها الرشسة التي‬
‫تش ّنها بال انقطاع لضامن مصالحها الرأسامل ّية‪ ،‬وأ ّن هذه املشاهد‬
‫ستبقى هي املالمح األساس ّية للنظام العاملي الذي نحياه[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬فهم النظام الدويل الحايل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.16-15‬‬


‫[[[‪ -‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.282-281‬‬
‫‪199‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫قائمة المصادر والمراجع‬


‫نص أساس‪ ،‬جورج ريتزر‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪،‬‬
‫‪1.1‬العوملة‪ّ ..‬‬
‫القاهرة ‪ -‬الطبعة األوىل‪.2015 ،‬‬
‫‪2.2‬النظام العاملي القديم والجديد‪ ،‬نعوم تشومسيك‪ ،‬نهضة مرص‬
‫للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2007 ،‬‬
‫‪3.3‬ما هي العوملة‪ ،‬أولريش بيك‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بريوت ‪-‬‬
‫الطبعة الثانية‪.2012 ،‬‬
‫‪4.4‬العوملة‪ ..‬املفاهيم األساس ّية‪ ،‬أنابيل موين وبيتيس إيفانز‪،‬‬
‫الشبكة العربيّة لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت ‪ -‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫‪.2009‬‬
‫‪5.5‬العوملة ومساوئها‪ ،‬جوزيف ستكتلز‪ ،‬بيت الحكمة‪ ،‬بغداد –‬
‫الطبعة األوىل‪.2003 ،‬‬
‫‪6.6‬العوملة ومناهضوها‪ ،‬كالوس ليجفي‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪،‬‬
‫القاهرة ‪ -‬الطبعة األوىل‪.2011 ،‬‬
‫‪7.7‬الوجيز يف تاريخ النيوليربال ّية‪ ،‬ديفيد هاريف‪ ،‬منشورات الهيئة‬
‫العا ّمة السوريّة للكتاب‪ ،‬دمشق‪-‬الطبعة األوىل‪.2013 ،‬‬
‫‪8.8‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ – 1‬ج‪ .‬تيمونز روبرتس‪ ،‬إميي هايت‪،‬‬
‫املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ -‬سلسلة‬
‫عامل املعرفة‪.2004 ،‬‬
‫‪9.9‬من الحداثة إىل العوملة ج‪ -2‬ج‪ .‬تيمونز روبرتس وإميي هايت‪،‬‬
‫املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة‬
‫عامل املعرفة‪.2004 ،‬‬
‫‪ 200‬العولمة‬

‫‪1010‬العوملة وتأثرياتها‪ ،‬د‪.‬منري الحمش‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬


‫العرب ّية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت ‪.2012‬‬

‫‪1111‬عقيدة الصدمة‪ ..‬صعود رأسامل ّية الكوارث‪ ،‬ناعومي كالين‪،‬‬


‫رشكة املطبوعات للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ -‬الطبعة الثالثة‬
‫‪.2011‬‬

‫‪1212‬فهم النظام الدويل الحايل‪ ،‬مايكل جيه مازار‪ ،‬مرياندا بريايب‪،‬‬


‫مؤسسة راند‪.2016 ،‬‬
‫اندرو رادين‪ ،‬اسرتيد ستوثسيفالوس‪ّ ،‬‬
‫‪1313‬العوملة الطوفان أم اإلنقاذ؟ الجوانب الثقاف ّية والسياس ّية‬
‫واالقتصاديّة‪ ،‬فرانك جي‪ .‬لتشرن وجون بويل‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العرب ّية‪ ،‬بريوت ‪ -‬الطبعة الثانية‪.2010 ،‬‬

‫املحل يف مواجهة العوملة من منظور أساتذة‬


‫ّ‬ ‫‪1414‬هوية املجتمع‬
‫جامعة بسكرة‪ ،‬ميمونة منارصيّة‪ ،‬أطروحة دكتوراه يف علم اجتامع‬
‫التنمية‪ ،‬جامعة مح ّمد خيرض‪ ،‬بسكرة –الجزائر‪.2012-2011 ،‬‬

‫‪1515‬ما بعد العوملة‪ ..‬صناعة اإلعالم وتح ّول السلطة‪ ،‬د‪ .‬خالد مح ّمد‬
‫غازي‪ ،‬وكالة الصحافة العرب ّية (نارشون)‪ -‬مرص‪.2017 ،‬‬

‫‪1616‬مصطلح التنوير‪ ..‬مفاهيمه واتجاهاته يف العامل اإلسالمي‬


‫الحديث «نظرة تقومي ّية»‪ ،‬د‪ .‬عبد اللطيف الشيخ توفيق‪ ،‬مجمع‬
‫الفقه اإلسالمي بجدّة‪ ،‬منتدى الفكر اإلسالمي‪ /16 ،‬شباط‪/‬‬
‫‪.2005‬‬

‫‪1717‬حكمة الغرب‪ ..‬الفلسفة الحديثة واملعارصة‪ ،‬برتراند رسل‪،‬‬


‫سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬الطبعة الثانية‪.2009 ،‬‬
‫‪201‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪1818‬الليربال ّية‪ ،‬شهريار زرشناس‪ ،‬املركز اإلسالمي للدراسات‬


‫اإلسرتاتيج ّية‪ ،‬سلسلة مصطلحات معارصة‪ ،‬دار الكفيل‪ ،‬كربالء‬
‫‪ -‬الطبعة األوىل‪.2017 ،‬‬
‫‪1919‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬د‪ .‬سعيد مح ّمد مح ّمد السقّا‪ ،‬دار‬
‫الوفاء للطباعة والنرش‪ ،‬اإلسكندريّة ‪ -‬الطبعة األوىل‪.2014 ،‬‬
‫‪2020‬مناهضة العوملة‪ ،‬كريس هارمان‪ ،‬مركز األرض لحقوق اإلنسان‪،‬‬
‫مرص ‪ -‬سلسلة املقاومة والعوملة‪ ،‬العدد ‪.1‬‬
‫‪2121‬نظام التفاهة‪ ،‬آالن دونو‪ ،‬دار سؤال للنرش‪ /‬بريوت – الطبعة‬
‫األوىل‪.2020 ،‬‬
‫‪2222‬الج ّنات الرضيب ّية ودورها يف الته ّرب الرضيبي الدويل‪ ..‬الحالة‬
‫اإليرلنديّة املزدوجة والساندويتش الهولندي لرشكة غوغل‪،‬‬
‫ضاريف رمية وبلخريي مح ّمد سعد الدين‪ ،‬مجلّة اقتصاد املال‬
‫واألعامل‪ ،‬املجلّد ‪ -4‬العدد أفريل ‪.2020‬‬
‫‪2323‬الحب السائل‪ ..‬عن هشاشة الروابط اإلنسانيّة‪ ،‬زيجمونت‬
‫باومان‪ ،‬الشبكة العربيّة لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ -‬الطبعة‬
‫األوىل‪.2016 ،‬‬
‫‪2424‬علم االجتامع من النظريّات الكربى إىل الشؤون اليوميّة إعالم‬
‫وتواريخ وت ّيارات‪ ،‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ ،‬دار‬
‫الفرقد‪ ،‬سوريا ‪ -‬الطبعة األوىل‪.2010 ،‬‬
‫‪2525‬نحو نظريّة الالقطبيّة يف النظام الدويل‪ :‬مقاربة جديدة لدراسة‬
‫التح ّول يف النظام الدويل‪ ،‬د‪ .‬رباحي أمينة‪ ،‬املجلّة الجزائريّة‬
‫للعلوم السياسيّة والعالقات الدوليّة‪ ،‬العدد الرابع‪.2015 ،‬‬
‫‪ 202‬العولمة‬

‫‪2626‬الفلسفة املاديّة وتفكيك اإلنسان‪ ،‬د‪ .‬عبد الوهاب املسريي‪ ،‬دار‬


‫الفكر‪ ،‬الطبعة السادسة‪.2016 ،‬‬

‫املؤسسة الجامعيّة‬
‫ّ‬ ‫‪2727‬معجم العلوم اإلنسانيّة‪ ،‬جان فرنسوا دورتيه‪،‬‬
‫للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت ‪ -‬الطبعة األوىل‪.2009 ،‬‬

‫كل ما أردت دوما أن تعرفه عن األمم املتّحدة‪ ،‬إدارة شؤون‬


‫‪ّ 2828‬‬
‫اإلعالم يف األمم املتّحدة‪ ،‬قسم األمم املتّحدة للنرش‪ ،‬نيويورك‬
‫‪. 2008‬‬

‫‪2929‬إشكاليّة التغيري االجتامعي املعارص من خالل مقاربة لنظريّة‬


‫التخلّف الثقايف عند وليم أوكربن‪ ،‬ضامر وليد عبد الرحمن‪،‬‬
‫مجلّة األكادمييّة للدراسات االجتامعيّة واإلنسانيّة‪ ،‬العدد ‪،11‬‬
‫كانون الثاين‪.2014 ،‬‬

‫‪3030‬املاسون ّية العامل ّية‪ ..‬بحث عن املنشأ واألهداف النهائ ّية‬


‫للحرب العامل ّية األوىل‪ ،‬فريدريش فيختل‪ ،‬ترجمة‪ :‬عثامن‬
‫مح ّمد عثامن‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪ ،‬الطبعة األوىل (القاهرة)‬
‫‪.2010‬‬

‫‪3131‬تقرير الفريق العامل املعني مبسألة التمييز ض ّد املرأة يف‬


‫القانون واملامرسة‪ ،‬مجلس حقوق اإلنسان‪ ،‬األمم املتّحدة‪/2 ،‬‬
‫‪.2015 /4‬‬

‫‪3232‬التقرير القطري حول األطفال خارج املدرسة ‪ ،2014‬العراق –‬


‫منظّمة األمم املتّحدة للطفولة‪ ،‬اليونيسيف‪.2015 /‬‬
203 ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫ دار إحياء الرتاث‬،‫ مح ّمد باقر الصدر‬،‫السنن التاريخ ّية يف القرآن‬3333


.2011 ،‫ الطبعة األوىل‬- ‫ بريوت‬،‫العريب‬

34. IHEU Bylaws, Internal Rules, General Assembly


Regulations and Membership and Dues Regulations
- IHEU Bylaws.

35. NO LOGO/ Naomi Klein / Great Britain by Flamingo


– 2000.

36. The Changing Global Religious Landscape – Pew


research center - APRIL 5, 2017.

37. What life means to Albert Einstein - the Saturday


Evening Post - October 26.1929.

‫ونية‬ ‫ت‬
ّ �‫اإللك‬ ‫المصادر‬

38. Advantages and disadvantages of WTO–


economicshelp - Friday, June 17, 2016 - https://
econ.economicshelp.org/200706//advantages-and-
disadvantages-of-wto.html

39. America’s biggest companies are flourishing during


the pandemic and putting thousands of people out
of work/ Douglas MacMillan, Peter Whoriskey
and Jonathan O’Connell/ The Washington Post/
‫ العولمة‬204

https://www.washingtonpost.com/graphics/2020/
business/50-biggest-companies-coronavirus-layoffs/
40. Apple Market Cap 20102021- | AAPL/ macrotrends
/ https://www.macrotrends.net/stocks/charts/AAPL/
apple/market-cap
41. BUSH ‘OUT OF THESE TROUBLED TIMES .
. . A NEW WORLD ORDER’ – The Washington
post - https://www.washingtonpost.com/archive/
politics/199012/09//bush-out-of-these-troubled-
times-a-new-world-order/b93b5cf1-e3894-e6a-84b0-
85f71bf4c946/
42. Definition of globalization / merriam-webste / https://
www.merriam-webster.com/dictionary/globalization
43. Does the World Trade Organization Actually Promote
World Trade? - NO. 5, MAY 2003 - https://www.nber.
org/digest/may03/does-world-trade-organization-
actually-promote-world-trade
44. Exclusion, Community, and a Populist Political
Economy: The Radical Right as an Anti-Globalization
Movement - Andrej Zaslove – springerlink - 27 June
2008 - https://link.springer.com/article/10.1057/
palgrave.cep.6110126?error=cookies_
not_supported&error=cookies_not_
205 ‫قائمة المصادر والمراجع‬

supported&code=42280719969 -e-4b8a-8b2f-
a50dd4888a6d&code=2dba96714-ff14-fd0-beb4-
8f57325a559a
45. Forbes World’s Billionaires List The Richest in 2022/
Kerry A. Dolan & Chase Peterson-Withorn / Forbes/
https://www.forbes.com/billionaires/
46. Friedrich A. Hayek – Mises Institute - https://mises.
org/profile/friedrich-hayek
47. Friedrich August Hayek / David R. Henderson /
Ecolab/ https://www.econlib.org/library/Enc/bios/
Hayek.html
48. George Soros Bet Big on Liberal Democracy. Now He
Fears He Is Losing./Michael Steinberger / The New
York Times Magazine / 172018-7- / https://www.
nytimes.com/201817/07//magazine/george-soros-
democrat-open-society.html
49. Is the UN a friend or foe? - Charles T. Call, David
Crow, and James Ron–Brookings - October 3, 2017
- https://www.brookings.edu/blog/order-from-
chaos/201703/10//is-the-un-a-friend-or-foe/
50. LGBT Rights–Gallup - https://news.gallup.com/
poll/1651/gay-lesbian-rights.aspx
‫ العولمة‬206

51. Los paraísosfiscalesmásimportantes del mundo /


Juan Pedro Fernández / 282021-06- / https://www.
muynegociosyeconomia.es/economia-y-finanzas/
fotos/los-paraisos-fiscales-mas-importantes-del-
mundo-5616248946937/1-
52. Marriages and Divorces - Esteban Ortiz-Ospina and
Max Roser – ourworldindata - https://ourworldindata.
org/marriages-and-divorces
53. Milton Friedman 19122006-/ Econlib/ https://www.
econlib.org/library/Enc/bios/Friedman.html
54. Milton Friedman Biographical / The Nobelprize
/ https://www.nobelprize.org/prizes/economic-
sciences/1976/friedman/biographical/
55. Neoliberalism & Social Control - Arianna Marchetti
– philosophy now - https://philosophynow.org/
issues/139/Neoliberalism_and_Social_Control
56. Relationship Quality among Cohabiting versus
Married Couples - US National Library of Medicine
/National Institutes of Health- 16 Dec 2015 - https://
www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6002150/
57. Remarks at the Aspen Institute Symposium in Aspen,
Colorado - 199002-08- – George H. Bush - https://
bush41library-tamu-edu.translate.goog/archives/
207 ‫قائمة المصادر والمراجع‬

public-papers/2128?_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_
tr_hl=ar&_x_tr_pto=op,sc
58. Soros on Russian ethnic nationalism/FAREED
ZAKARIA / CNN / 252014-5-/ https://cnnpressroom.
blogs.cnn.com/201425/05//soros-on-russian-ethnic-
nationalism/?fbclid=IwAR2_MmpKSiHO-26KeyXBQ
P4bTKauoRO6HUlnoxd3mNUGbkvyHh0sm44KSyU
59. The Biggest Companies in the World in 2021 / Jenna
Ross / visualcapitalist / June 10, 2021 / https://www.
visualcapitalist.com/the-biggest-companies-in-the-
world-in-2021/
60. The George Soros philosophy – and its fatal flaw /
Daniel Bessner/ The Guardian / 62018-7-/ https://
www.theguardian.com/news/2018/jul/06/the-george-
soros-philosophy-and-its-fatal-flaw
61. The LGBTQ+ Community Has $3.7 Trillion In
Purchasing Power; Here’s How We Want You to Sell
to Us.–entrepreneur-By / Nick Wolny- middle east
– 10/June/2019 - https://www.entrepreneur.com/
article/334983
62. What is the Third Way?–BBC - M o n d a y ,
September 27, 1999 - http://news.bbc.co.uk/2/
hi/458626.stm
‫‪ 208‬العولمة‬

‫‪63. World’s billionaires have more wealth than 4.6 billion‬‬


‫‪people / Oxfam / 20th January 2020 / https://www.‬‬
‫‪oxfam.org/en/press-releases/worlds-billionaires-‬‬
‫‪have-more-wealth-46-billion-people‬‬
‫‪«6464‬الطريق الثالث» يف ضوء األزمة الراهنة‪ ،‬صحيفة الغد‬
‫اإللكرتونية‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2011 /7/ 25‬عىل الرابط ‪https://‬‬
‫‪/alghad.com‬الطريق‪-‬الثالث‪-‬يف‪-‬ضوء‪-‬األزمة‪-‬الراهنة‪/‬‬
‫‪6565‬أبعد من اتفاق ّيات التطبيع‪ ..‬مرشوع «الواليات املتّحدة‬
‫اإلبراهيميّة»‪ ،‬امليادين‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2020 /9 /25‬عىل الرابط‬
‫‪/https://www.almayadeen.net/analysis/1425818‬أبعد‪-‬‬
‫من‪-‬اتفاقيات‪-‬التطبيع‪---‬مرشوع‪--‬الواليات‪-‬املتّحدة‪-‬اإلبراهيم‪.‬‬
‫‪6666‬احتجاجات صاخبة تُخّيم عىل ق ّمة إيفيان‪ ،‬الوحدة الدول ّية لهيئة‬
‫اإلذاعة والتلفزيون السويرسيّة ‪ ،SWI‬نرش بتاريخ ‪2003 – 6-2‬‬
‫عىل الرابط ‪/https://www.swissinfo.ch/ara‬احتجاجات‪-‬‬
‫صاخبة‪-‬ت‪-‬خ‪-‬يم‪-‬عىل‪-‬قمة‪-‬إيفيان‪.3340150/‬‬
‫‪6767‬أرقام صادمة يف اليوم العاملي للقضاء عىل العنف ض ّد املرأة ‪/‬‬
‫‪ /DW‬نرش بتاريخ ‪ 2021 /11 /25‬عىل الرابط ‪https://www.‬‬
‫‪/dw.com/ar‬أرقام‪-‬صادمة‪-‬يف‪-‬اليوم‪-‬العاملي‪-‬للقضاء‪-‬عىل‪-‬‬
‫العنف‪-‬ضد‪-‬املرأة‪59912781-a/‬‬
‫‪6868‬اشتعال االحتجاجات يف السويد ض ّد مامرسات «السوسيال»‬
‫مع أطفال املهاجرين‪ ،‬صحيفة الخليج‪ ،‬نرش بتاريخ ‪/2 /11‬‬
‫‪ 2022‬عىل الرابط ‪-https://www.alkhaleej.ae/2022‬‬
‫‪/11-02‬اشتعال‪-‬االحتجاجات‪-‬يف‪-‬السويد‪-‬ضد‪-‬مامرسات‪-‬‬
‫السوسيال‪-‬مع‪-‬أطفال‪-‬املهاجرين‪/‬العامل‪/‬سياسة‬
‫‪209‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪6969‬االقتصاد العراقي‪ :‬التحدّيات والخيارات‪ ،‬رسمد كوكب‬


‫الجميل ومنري أمري الصائغ وعدي سامل‪ ،‬مركز صنع السياسات‬
‫للدراسات الدول ّية واإلسرتاتيج ّية‪ ،‬نرش بتاريخ ‪2018 /8 /11‬‬
‫عىل الرابط ‪https://www.makingpolicies.org/ar/posts/‬‬
‫‪economy.arabic.php‬‬
‫‪7070‬إمام مسجد فرنيس‪« :‬اإلسالم مل يح ّرم املثل ّية الجنس ّية»‪/DW /‬‬
‫‪/https://www.dw.com/ar‬إمام‪-‬مسجد‪-‬‬ ‫‪/2016-5-2‬‬
‫فرنيس‪-‬اإلسالم‪-‬مل‪-‬يحرم‪-‬املثلية‪-‬الجنسية‪19228141-a/‬‬
‫‪7171‬األمم املتّحدة ورضورة إصالح هيكيل يتجاوز «الخمس‬
‫الكبار»(مقال تحلييل‪ ،‬الربوفسور طارق أوغوزلو‪ ،‬وكالة‬
‫األناضول‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2017 /9 /22‬عىل الرابط‬
‫‪/https://www.aa.com.tr/ar‬أخبار‪-‬تحليلية‪/‬األمم‪-‬املتّحدة‪-‬‬
‫و رض و رة ‪ -‬إ صال ح ‪ -‬هيكيل ‪ -‬يتجا و ز ‪ -‬ا لخمس ‪ -‬ا لكبا رمقا ل ‪-‬‬
‫تحلييل‪916562/‬‬
‫‪7272‬انتقادات ض ّد منظّمة التجارة العامل ّية‪ ،‬مح ّمد ولد عبد الدائم‪،‬‬
‫موقع الجزيرة اإللكرتوين‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2004 /10 /3‬عىل‬
‫الرابط ‪/03/10/https://www.aljazeera.net/2004‬انتقادات‪-‬‬
‫ضد‪-‬منظّمة‪-‬التجارة‪-‬العامليّة‪#‬اقتصادية‬
‫‪7373‬إنصافاً للمنظّامت االقتصاديّة الدوليّة‪ ،‬ريتشارد وود وارد‪،‬‬
‫‪ –trends‬نرش بتاريخ ‪ 2020 /7 /30‬عىل الرابط ‪https://‬‬
‫‪/trendsresearch.org/ar/insight‬إنصافاً‪-‬للمنظامت‪-‬‬
‫االقتصاديّة‪-‬الدول ّية‪/‬‬
‫‪7474‬البابا فرانسيس األول‪ :‬من أنا ألحكم عىل مثليي الجنس؟‪BBC -‬‬
‫‪ 210‬العولمة‬

‫عريب‪https://www.bbc.com/arabic/ -2013/7/29 -‬‬


‫‪pope_gay_people_130729/07/worldnews/2013‬‬
‫‪7575‬التاريخ االقتصادي لألرجنتني‪ ،‬املعرفة‪ ،‬نرش عىل الرابط‬
‫‪/https://www.marefa.org‬التاريخ_االقتصادي_لألرجنتني‪/‬‬
‫‪simplified#cite_note-ucematgu-74‬‬
‫املفسة‬
‫ّ‬ ‫‪7676‬تاريخ ظهور الرشكات امل ُتعدّدة الجنس ّيات والنظريّات‬
‫لدوافع نشأتها‪ ،SAKHRI Mohamed ،‬املوسوعة الجزائريّة‬
‫للدراسات السياس ّية واإلسرتاتيج ّية‪https:// ،2018 /11 /21 ،‬‬
‫‪/www.politics-dz.com‬تاريخ‪-‬ظهور‪-‬الرشكات‪-‬امل ُتع ّددة‪-‬‬
‫الجنس ّيات‪/‬‬
‫‪7777‬ترامب يدافع عن االنسحاب من اتفاق باريس للمناخ‪ ،‬فرانس‬
‫‪/https://www.france24.com/ar 2020 /11 /22 ،24‬‬
‫األخباراملستمرة‪-20201122/‬ترامب‪-‬يدافع‪-‬عن‪-‬االنسحاب‪-‬‬
‫من‪-‬اتفاق‪-‬باريس‪-‬للمناخ‬
‫‪7878‬تقرير العوملة الجديد‪ :‬ثالثة اتجاهات كربى قد تؤث ّر يف مستقبلنا‪-‬‬
‫األمم املتّحدة‪https://www.un.org/ -2019/10/19 -‬‬
‫‪development/desa/ar/news/intergovernmental-‬‬
‫‪coordination/new-globalization-report.html‬‬
‫كل ما تريد معرفته عن املنتدى االقتصادي‬
‫‪7979‬دافوس ‪ّ :2020‬‬
‫العاملي ‪ -‬دانيال توماس ‪ BBC -‬عريب‪https:// /2020-1-19 -‬‬
‫‪www.bbc.com/arabic/business-51160664‬‬
‫‪8080‬دائرة الحقوق‪ ..‬دليـل تدريـبي لدعـاة الحقـوق االقتصاديّة‬
‫واالجتامعيّة والثقـافيّة ‪ -‬جامعة مينيسوتا ‪ -‬ص‪ - 524‬نرش عىل‬
‫الرابط ‪http://hrlibrary.umn.edu/arab/M27.pdf‬‬
‫‪211‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪8181‬رييوا ‪ ..‬عرص إنصاف املرأة اليابان ّية– بوابة األهرام – نرش‬


‫بتاريخ ‪ 2020/1/5‬عىل الرابط ‪https://gate.ahram.org.eg/‬‬
‫‪News/2345438.aspx‬‬
‫‪8282‬سؤال مح ّيـر‪ :‬ماذا ينتظر العامل بعد نهاية األحاديّة القطب ّية؟ ‪-‬‬
‫‪ –swissinfo.ch‬نرش بتاريخ ‪ 2008/9/15‬عىل الرابط ‪https://‬‬
‫‪/www.swissinfo.ch/ara‬سؤال‪-‬محي‪-‬ـر‪--‬ماذا‪-‬ينتظر‪-‬العامل‪-‬‬
‫بعد‪-‬نهاية‪-‬األحادية‪-‬القطبية‪399460/-‬‬
‫‪8383‬عوملة أفضل قد تنهض من رماد العوملة املفرطة‪ /‬داين‬
‫رودريك‪ /‬شبكة النبأ املعلومات ّية ‪/2022-5-12 /‬‬
‫‪https://annabaa.org/arabic/referenceshirazi/31088‬‬
‫‪8484‬فلسفة تا جر ثورات‪ /‬جامل غصن ‪ /‬جريدة األخبار‪-1-14 /‬‬
‫‪https://al-akhbar.com/Politics/327902 /2022‬‬
‫الخلقة وتداعياتها عىل األمن اإلقليمي– دينا رحومة‬
‫ّ‬ ‫‪8585‬الفوىض‬
‫فارس – املركز الدميقراطي العريب – نرش بتاريخ ‪2015/8/7‬‬
‫عىل الرابط ‪https://democraticac.de/?p=17753‬‬
‫‪8686‬فوكسكون‪ ..‬أكرب معمل تقني يدفع مثن الحرب التجاريّة ‪ /‬كاثرين‬
‫هييل ‪ /‬جريدة االقتصاديّة – ‪ 2019/6/24‬عىل الرابط ‪https://‬‬
‫‪article_1623166.html/24/06/www.aleqt.com/2019‬‬
‫‪8787‬كالوس شواب وصعود منتدى “دافوس”‪ ،‬صحيفة الغد‪ ،‬نرش‬
‫بتاريخ ‪ 2011 /7 /25‬عىل الرابط ‪/https://alghad.com‬‬
‫كالوس‪-‬شواب‪-‬وصعود‪-‬منتدى‪-‬دافوس‪/‬‬
‫‪8888‬كيف تت ّم عمل ّية التح ّول الجنيس بالتفصيل؟ ‪ -‬أنا أصدّق العلم –‬
‫‪ 212‬العولمة‬

‫نرش بتاريخ ‪ 2018 /4 /29‬عىل الرابط‬


‫‪https://www.ibelieveinsci.com/?p=47295‬‬
‫‪8989‬كيف تتم ّزق سمعة النيوليربال ّية تحت أقدام املتظاهرين‬
‫املنصة – نرش بتاريخ‬
‫ّ‬ ‫يف شييل؟ ‪ -‬مح ّمد جاد – صحيفة‬
‫‪ 2019/11/2‬عىل الرابط‬
‫‪https://almanassa.com/ar/story/13137‬‬
‫‪9090‬لعب «البايسبول الدستوري» يف العامل الدميقراطي‪ ،‬رفيق‬
‫خوري‪ ،‬عربيّة ‪ 2019 /9 /14 –Independent‬عىل الرابط‬
‫آراء‪https://www.independentarabia.com/node/55861//‬‬
‫لعب‪-‬البايسبول‪-‬الدستوري‪-‬يف‪-‬العامل‪-‬الدميقراطي‬
‫‪9191‬لغز جورج سوروس‪ ،‬وهل هو ح ّقاً من يحكم العامل!‪ ،‬مجيد‬
‫الهاميش‪ ،‬كتابات‪.2021-4-12 ،‬‬
‫‪/12/04/https://kitabat.com/2021‬لغز‪-‬جورج‪-‬سوروس‪-‬وهل‪-‬‬
‫هو‪-‬حقا‪-‬من‪-‬يحكم‪-‬العال‪/‬‬

‫‪9292‬ما ّ‬
‫قصة «دعه يعمل‪ ..‬دعه مير» ‪ -‬صحيفة القبس – نرش بتاريخ‬
‫‪ 2018/2/9‬عىل الرابط‬
‫‪https://alqabas.com/article/499448-‬ما‪-‬قصة‪-‬دعه‪-‬يعمل‪-‬دعه‪-‬مير‬
‫‪9393‬ما هي الربجوازيّة‪ ،‬مح ّمد مروان‪ ،‬موقع موضوع‪ ،‬نرش بتاريخ‬
‫‪ 2020/1/13‬عىل الرابط ‪/com.https://mawdoo3‬ما_هي_‬
‫الربجوازيّة‪4-cite_note-Lqo9pCDGyC#‬‬
‫‪9494‬ما وراء «اتفاق ّية إبراهيم»‪ ..‬أرقام ومواقف وبيانات‪ ،‬روسيا اليوم‪،‬‬
‫‪213‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫نرش بتاريخ ‪ 2020 /8 /14‬عىل الرابط‬


‫‪- https://arabic.rt.com/world/1144172‬ما‪-‬وراء‪-‬اتفاقية‪-‬‬
‫إبراهيم‪-‬أرقام‪-‬ومواقف‪-‬وبيانات‪//‬‬
‫‪9595‬م ّرة أخرى‪ ..‬بني الليرباليّة والنيوليرباليّة‪ ،‬أحمد فرحات‪ ،‬العريب‬
‫الجديد – ‪/https://www.alaraby.co.uk - 2015/7/14‬مرة‪-‬‬
‫أخرى‪-‬بني‪-‬الليرباليّة‪-‬والنيوليرباليّة‬
‫‪9696‬مظاهرات ض ّد العوملة يف أوروبا وأعامل عنف يف آسيا أثناء‬
‫العمل‪ ،‬صحيفة الرشق األوسط‪ ،‬نرش بتاريخ‬
‫ّ‬ ‫االحتفاالت بيوم‬
‫‪ 2001/5/2‬عىل الرابط‬
‫‪https://archive.aawsat.com/details.‬‬
‫‪asp?issueno=8070&article=37930#.Yl5ZBujP2M8‬‬
‫‪9797‬معجزة تشييل‪ ،‬املعرفة‪ ،‬نرش عىل الرابط ‪https://m.marefa.‬‬
‫‪/org‬معجزة_تشيىل‪16-cite_ref#‬‬
‫‪9898‬من هي الطبقة الوسطى‪ ،‬د‪ .‬مظهر مح ّمد صالح‪ ،‬شبكة‬
‫االقتصاديني العراقيني‪ ،‬نرش بتاريخ ‪ 2014 /12 /17‬عىل‬
‫الرابط ‪/17/12/2014/http://iraqieconomists.net/ar‬د‪-‬‬
‫مظهر‪-‬محمد‪-‬صالح‪-‬الطبقة‪-‬الوسطى‪-‬يف‪-‬العر‪/‬‬
‫مؤسسة املجتمع املنفتح وجورج سوروس‪Open Society /‬‬
‫‪ّ 9999‬‬
‫‪/2020-12-1 /Foundations‬‬
‫‪https://www.opensocietyfoundations.org/newsroom/‬‬
‫‪open-society-foundations-and-george-soros/ar‬‬
‫‪ 214‬العولمة‬

‫‪ 10100‬ميلتون فريدمان – الجزيرة – نرش بتاريخ ‪ 2015 /5 /31‬عىل‬


‫الرابط‬
‫‪https://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2015/31/5/‬‬
‫ميلتون‪-‬فريدمان‬
‫‪ 10101‬النيوليربال ّية والسيطرة عىل العوملة بسالح فايروس كورونا‬
‫املستج ّد – د‪ .‬حذيفة املشاقبة – وكالة عمون اإلخبارية – ‪/28‬‬
‫‪.2020 /4‬‬
‫‪https://www.ammonnews.net/article/533521‬‬
‫‪ 10102‬هل متت ّد موجة ‪ LGBT‬لتشمل الرشق األوسط؟ ‪ -‬روسيا اليوم‬
‫– نرش بتاريخ ‪ 2020 /11 /30‬عىل الرابط‬
‫‪-lgbt-‬هل‪-‬متتد‪-‬موجة‪https://arabic.rt.com/press/1178484-‬‬
‫‪/‬لتشمل‪-‬الرشق‪-‬األوسط‬
‫‪ 10103‬اليوم الدويل لألخ ّوة اإلنسان ّية ‪ 4‬شباط‪/‬فرباير– األمم املتّحدة‬
‫‪–https://www.un.org/ar/observances/human-fraternity‬‬

You might also like