You are on page 1of 80

‫بسم اهلل الرحمن الرحي

م‬
‫) الصالة من كتاب اهلل (

‫‪-‬الباب األول‪ :‬شواهد‪


-‬‬

‫بينات عن الصالة من كتاب اهلل


‫‪-‬فصل‪ :‬مبدأ االختيار‪


-‬‬

‫ش ــاه ــد أول‪} :‬ق ــل إن ك ــان آب ــاؤك ــم وأب ــناؤك ــم وإخ ــوان ــكم وأزواج ــكم وع ــشيرت ــكم وأم ــوال اق ــترف ــتموه ــا‬
‫وت ــجارة ت ــخشون ك ــساده ــا وم ــساك ــن ت ــرض ــون ــها أح ــب إل ــيكم م ــن اهلل ورس ــول ــه وج ــهاد ف ــي س ــبيله‬
‫فتربصوا حتى يأتي اهلل بأمره واهلل ال يهدي القوم الفاسقني{

‫مـعرفـة أمـر اهلل مـن كـالم اهلل هـو مـطلوب أهـل مـحبة اهلل واإليـمان بـه‪ .‬إال أنـه جـرت سـنّة األولـني إمـا‬
‫بخــلط وإمــا بتحــريــف كــتاب اهلل بــغيره‪ ،‬إمــا عــن طــريــق إضــافــة شــيء واإللــزام بــه وإمــا عــن طــريــق‬
‫خــره اهلل وتــأخــير مــا قـ ّدمــه اهلل وبــطرق كــثيرة‪ .‬الــصالة جــرى عــليها هــذا‪ ،‬حــتى ضــاعــت‬‫تــقديــم مــا أ ّ‬
‫الصالة القرآنية وح ّلت مح ّلها الصالة التقليدية عند أكثر األ ّمة بدرجة أو بأخرى‪
.‬‬

‫أمامنا طريقان‪
-:‬‬


‫الطريق األول‪
:‬‬
‫طـريـق َمـن يـريـد مـراعـاة سـلفه مـن الـشيوخ والـفقهاء الـذيـن عـ ّلموه هـذه الـصالة الـتقليديـة عـلى‬
‫أن ــها ه ــي ال ــصالة ال ــوح ــيدة ال غ ــير وأن ال ــقرءان ل ــيس ف ــيه ب ــيان ال ــصالة ح ــقا ً وت ــفصيالً أص ـالً وال‬
‫يمكن بحال من األحوال االعتماد حصرا ً على كتاب اهلل واالستنباط منه ملعرفة أحكام الصالة‪
.‬‬
‫أَو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة ت ــالم ــيذه و َم ــن ي ــأخ ــذون ع ــنه وي ــخشى م ــن ال ــتصري ــح ب ــاألم ــر بحس ــب م ــا‬
‫صرح لهم بذلك‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫ينفضوا عنه ويتركوه إذا‬‫ّ‬ ‫يفهمه ويعرفه من آيات اهلل فيخشى أن‬
‫أو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة إخ ــوان ــه ف ــي ال ــفرق ــة ون ــظراؤه م ــن أه ــل ال ــعلم وال ــنظر وامل ــشيخة وي ــخشى‬
‫انتقادهم بل تكفيرهم له إن جاء بغير الصالة التقليدية على أنها الصالة اإللهية الحقيقية‪
.‬‬

‫‪1‬‬
‫ـاص ــته وال ــذي ــن ب ــاي ــعوه ع ــلى ال ــطري ــقة والس ــلوك وورث ــته و َم ــن ي ــأم ــل أن‬
‫أو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة خ ـ ّ‬
‫يــحفظوا لــه كــتبه وفــكره وأوراده وأدعــيته مــن بــعده فــيخشى مــن االنــفراد بــنفسه إن أعــلن لــهم هــذا‬
‫األمر‪
.‬‬
‫أو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة ك ــون ــه ج ــزءا ً م ــن األ ّم ــة أو ال ــطائ ــفة ب ــامل ــعنى ال ــوه ــمي أو الح ــزب ــي وي ــعتبر‬
‫صورة الصالة التقليدية َمن كسرها أو جاء بغيرها فقد خرج من م ّلتهم وانفصل عنهم‪
.‬‬
‫أو َمــن يــنظر فــي مــاضــيه وعــدد الــصلوات الــتي قــام بــها فــيصعب عــليه االعــتراف بــأنــه لــم يــكن‬
‫يـص ّلي الـصالة الـقرآنـية‪ ،‬أو يـنظر فـي تـآلـيفه وتـعالـيمه ومـواعـظه عـن الـصالة الـتقليديـة وكـل مـا قـام‬
‫بـه فـي سـبيل نشـرهـا والـقيام بـها واملـنافـحة عـنها ثـم ال يـهون عـليه االعـتراف بـأن كـل هـذا كـان خـطأ ً‬
‫أقل تقدير‪
.‬‬ ‫أو تقصيرا ً أو ليس خالصا ً على ّ‬
‫أو َم ــن ي ــرغ ــب ف ــي امل ــحاف ــظة ع ــلى ق ــدرت ــه ع ــلى ال ــتواص ــل وت ــبادل امل ــعرف ــة وال ــفقه وال ــرأي داخ ــل‬
‫جــماعــة مــعينة مــن الــناس الــذيــن ســيقطعون كــل تــواصــل مــعه وتــبادل رأي وحــوار فــي حــال عــرفــوا‬
‫رأيه الجديد في الصالة وخالفهم في أمرهم‪
.‬‬
‫أو َمـن يـحب الـصالة الـتقليديـة وشـؤونـها ويـرتـاح لـها شـخصيا ً فـيصعب عـليه مـعرفـة أنـها ليسـت‬
‫ه ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية ال ــتي أم ــر ب ــها اهلل ت ــعال ــى‪ ،‬وأن ال ــتقليدي ــة وإن ك ــان ل ــها وزن ف ــذل ــك ب ــدرج ــة‬
‫ثانوية وعرضية وليست هي جوهر الصالة القرآنية‪
.‬‬
‫هــذه األصــناف الــثمانــية الــكلية مــن الــناس كــلها ســتختار طــريــق الجــمود عــلى الــتقالــيد بــدون‬
‫اعتبار حقيقي لكتاب اهلل‪
.‬‬

‫الــطريــق اآلخــر‪ :‬طــريــق الــذيــن ال يــبالــون بــكل مــا ســبق إن خــالــفت وســيلة تــحصيله مــا يــفهموه مــن‬
‫كـتاب اهلل تـعالـى‪ .‬فـأهـل هـذا الـطريـق يـق ّدمـون اتـصالـهم بـاهلل واتـباعـهم رسـولـه وبـذلـهم جهـدهـم فـي‬
‫كسـر الـعادات ومـخالـفة املـعتاد واكـتساب سـنن جـديـدة ذات روح حـية وإحـداث صـالت جـديـدة مـع‬
‫أناس لهم قلب منفتح على تع ّلم كتاب اهلل كما هو‪
.‬‬

‫باختصار‪ :‬البد من اختيار طريق الشهوة أو طريق الشريعة‪


.‬‬

‫اعـتراض‪ :‬كـالمـك هـذا يـفترض أن الـصالة الـتقليديـة مـن الـشهوة وليسـت مـن الشـريـعة‪ ،‬لـكننا نـقول‬
‫أنها من الشريعة وتركها هو الشهوة‪ .‬فأنت جئت بدعوى ونحن لنا دعوى تقابلها‪
.‬‬
‫الـرد‪ :‬يـفصل بـيننا كـتاب اهلل‪ .‬أنـتم تـقولـون أن هـذه الـصالة الـتقليديـة ليسـت فـي كـتاب اهلل بـكل‬
‫تـفاصـيلها‪ ،‬بـل تـجعلون خـل ّو الـقرءان مـنها ح ّـجة عـلى نـقص الـقرءان مـن حـيث الـتفاصـيل واحـتياجـه‬

‫‪2‬‬
‫إلـى مـرويـاتـهم وحـكمها عـلى الـكتاب وبـقية الـتراث الضخـم الـذي بُـني عـلى أسـاس نـقص أو عـدم‬
‫ـصل كـتابـة الـ َّديـن واملـحيض وقـصص‬ ‫ـحجة عـليكم‪ .‬تـقولـون أن اهلل ف ّ‬ ‫تـفصيل الـقرءان‪ .‬كـالمـكم هـو ال ّ‬
‫فــرعــون وخــصص ســورة ألبــي لهــب وشــرح فــي آيــات كــثيرة أحــكام الــطالق والــنكاح وذكــر الــصالة‬
‫ف ــي عش ــرات امل ــواض ــع‪ ،‬وك ــثير غ ــير ذل ــك م ــما ي ــعرف ــه ك ــل م ــطال ــع ل ــلقرءان ول ــو س ــطحيا ً ول ــو ل ــم ي ــكن‬
‫مــؤمــنا ً بــه‪ ،‬ثــم مــع ذلــك تــزعــمون أن اهلل تــعالــى تــرك تــفصيل األمــر الــوحــيد الــذي بــدونــه ال يُــقبَل ديــن‬
‫ويــميّز بــني الــكافــر واملــؤمــن ويهــلك بســبب تــركــه أو الــتقصير فــيه اإلنــسان ولــو أقــام كــل حــكم غــيرهــا‬
‫وآم ــن وصـ ـ ّدق ب ــكل ش ــيء‪ ،‬ل ــو ك ــتب إن ــسان ك ــتابـ ـا ً ف ــيه م ــثل ه ــذا ل ــرم ــيتموه ب ــال ــنقص والخ ــلل ب ــل‬
‫وبـالـسفه‪ ،‬وتـنتقدون الـكتب واملـحاضـرات اإلنـسانـية بـأق ّـل مـن هـذا بـكثير‪ ،‬لـكن مـع ذلـك تـرمـون اهلل‬
‫تــعالــى بــما تــكرهــون نســبته إلــيكم وتنســبون لــكتابــه مــا ال تنســبونــه لــكتبكم‪ .‬ومــا أســوأ هــذا الــحكم‬
‫والتقدير‪
.‬‬
‫ال ــصالة ال ــقرآن ــية ه ــي ق ــراءة ال ــقرءان ف ــي أوق ــات م ــعينة ح ــدده ــا اهلل‪ ،‬ف ــاألول ــى ص ــالة ال ــعشاء‬
‫وه ــي }ل ــدل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل{ وس ــماه ــا اهلل }ص ــالة ال ــعشاء{‪ ،‬وال ــثان ــية ص ــالة الفج ــر‬
‫}وقــرءان الفجــر{ وســماهــا اهلل }صــالة الفجــر{‪ .‬ثــم ذكــر صــالة الجــمعة }إذا نــودي لــلصالة مــن يــوم‬
‫الجــمعة{‪ ،‬وذكــر تهجــد الــليل بــالــقرءان وبـيّنه تــفصيالً فــي ســورة املــز ّمــل وغــيرهــا }ومــن الــليل فتهجــد‬
‫تيسـر مـن الـقرءان{‪ .‬هـذه خـالصـة الـصالة الـقرآنـية‪.‬‬ ‫بـه نـافـلة لـك{ وب ّـني ذلـك فـي املـز ّمـل }فـاقـرأوا مـا ّ‬
‫ولــها تــفاصــيل أخــرى لــيس هــذا محـ ّـل بســطها لــكن مــا ذكــرنــاه هــو األصــل‪ .‬ال تــوجــد أي تــفاصــيل‬
‫أخ ــرى ج ــسمان ــية واج ــبة‪ ،‬ف ــال ــقصد ه ــو ال ــتدب ــر وال ــتذك ــر وال ــتعقل وال ــتقوى وال ــشكر واالن ــتهاء ع ــن‬
‫الــفحشاء واملــنكر ونــحو ذلــك مــن مــقاصــد بــينها اهلل تــعالــى‪ .‬والــشيء الــوحــيد املــشار إلــيه بــالنســبة‬
‫ل ــلبدن ه ــو ق ــول ــه }ي ــذك ــرون اهلل ق ــيامـ ـا ً وق ــعودا ً وع ــلى ج ــنوب ــهم{ وه ــو االط ــمئنان‪ ،‬وف ــي ح ــال ع ــدم‬
‫االط ــمئنان ق ــال }ف ــرج ــاالً أو رك ــبان ــا ف ــإذا اط ــمأن ــنتم ف ــأق ــيموا ال ــصالة{ وه ــذه ب ــالنس ــبة مل ــن ي ــخشى‬
‫خـروج الـوقـت ألن }الـصالة كـانـت عـلى املـؤمـنني كـتابـا ً مـوقـوتـا{‪ .‬فـاملـدار عـلى قـراءة الـقرءآن والـوقـت‪،‬‬
‫وال ــوق ــت ف ــي ال ــفري ــضة إم ــا ع ــشاء وإم ــا فج ــر‪ ،‬وال ــوق ــت ف ــي ال ــناف ــلة ال ــليل ب ــعد ال ــهجود وه ــو ال ــنوم‬
‫وت ــجاف ــي ال ــجنب ع ــن امل ــضجع‪ .‬وال ــقراءة م ــا ك ــان ب ــتدب ــر وت ــذك ــر وت ــعقل وت ــع ّلم }ح ــتى ت ــعلموا م ــا‬
‫ت ــقول ــون{ }ك ــتاب أن ــزل ــناه إل ــيك م ــبارك ل ــيدب ــروا آي ــات ــه ول ــيتذك ــر أول ــوا األل ــباب{‪ .‬وق ــراءة ال ــقرءان ف ــي‬
‫ال ــصالة ه ــي الس ــبع امل ــثان ــي أي ال ــفات ــحة وش ــيء م ــن ال ــقرءان ال ــعظيم أو ح ــتى ال ــفات ــحة وح ــده ــا‬
‫ـصها ألنــها الــسورة الــوحــيدة الــتي لــيس فــيها إذا ذكــر‬ ‫فــإنــها جــامــعة وهــي ســورة الــصالة بــنفس نـ ّ‬
‫ودعــاء هلل تــعالــى خــالف ـا ً لــكل ســور الــقرءان األخــرى بــال اســتثناء حــيث بــقية الــسور إمــا ســور ذات‬
‫خبر فقط كالقدر واملسد أو سور ذات خبر وأمر كبقية السور‪ .‬هذه الخالصة والسالم‪
.‬‬

‫‪3‬‬
‫الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬كـما يـعرفـها الـكل وتجـدهـا فـي كـتب املـرويـات‪ ،‬مـدارهـا عـلى حـركـات الـجسم‪.‬‬
‫نـعم وهـنا الـنعمة الـكبرى عـلى هـذه األ ّمـة وهلل الحـمد‪ ،‬فـي الـصالة الـتقليديـة يـوجـد الـجوهـر الـقرآنـي‬
‫وه ــو ق ــراءة ال ــقرءان وال ــوق ــت‪ ،‬أي ــضا ً ت ــوج ــد ال ــفات ــحة وس ــورة م ــن ال ــقرءان‪ ،‬واالط ــمئنان‪ .‬فه ــذا ال ــقدر‬
‫م ــحفوظ‪ .‬ل ــكن أب ــعاد ال ــعقل وال ــقلم وال ــدراس ــة وال ــتغيير وال ــتي س ــنبينها الح ــقا ً إن ش ــاء اهلل غ ــير‬
‫مــوجــودة عــادةً وبــالنســبة لــلغالــبية الــعظمى مــن املــصلني وألســباب راجــعة إلــى نــفس هــيئة الــصالة‬
‫الـتقليديـة وشـؤونـها وطـريـقة أدائـها وليسـت بسـبب املـص ّلي ذاتـه‪ ،‬بـاإلضـافـة إلـى أنـه لـيس فـي كـتاب‬
‫اهلل أن َم ــن ل ــم ي ــقوم به ــذه ال ــهيئة امل ــعروف ــة ذات الح ــرك ــات واألل ــفاظ ف ــإن ــه ال ُي ــعتَبَر م ــصليا ً م ــقيما ً‬
‫ل ــلصالة ك ــما أم ــر اهلل فه ــذه اإلض ــاف ــة ب ــدع ــة مح ــدث ــة ووق ــع وال ي ــزال ي ــقع بس ــببها ال ــكثير ج ــدا ً م ــن‬
‫ال ــتكفير واالخ ــتالف واالف ــتراق ف ــي ال ــدي ــن وال ــعدوان وبس ــط ال ــلسان وال ــيد ب ــال ــظلم واإلث ــم م ــنذ ب ــدء‬
‫انــتشار هــذه الــبدعــة إلــى يــومــنا هــذا ونجــد آثــار ذلــك فــي الــروايــات نــفسها الــتي نــقلت هــذه الــهيئة‬
‫ع ــلى أن ــها ه ــي ”ال ــصالة“ امل ــأم ــور ب ــها ف ــي ك ــتاب اهلل وه ــذا أي ــضا ً س ــنفرده إن ش ــاء اهلل ب ــال ــبحث‬
‫الحـقا ً‪ .‬لـكن يـكفينا أمـر واحـد وهـو أن اهلل تـعالـى لـم يـذكـر فـي ثـالثـة أسـطر مـا ذكـرتـه بـعض روايـات‬
‫املـذاهـب عـن أصـل حـركـات الـجسم فـي الـصالة والـذي هـو عـلى قـولـهم جـوهـر وركـن أصـيل لـلصالة‪.‬‬
‫ويـكفي هـنا الـتمثيل بـروايـة واحـدة وهـي مـنسوبـة لـلرسـول وفـيها قـولـه ”إذا قـمت إلـى الـصالة فـكبر‬
‫ث ــم اق ــرأ م ــا تيس ــر م ــعك م ــن ال ــقرآن ث ــم ارك ــع ح ــتى ت ــطمئن راك ــعا ث ــم ارف ــع ح ــتى ت ــعتدل ق ــائ ــما ث ــم‬
‫اسجـد حـتى تـطمئن سـاجـدا ثـم اجـلس حـتى تـطمئن جـالـسا ثـم افـعل ذلـك فـي صـالتـك كـلها فـإذا‬
‫فــعلت هــذا فــقد تــمت صــالتــك ومــا انــتقصت مــن هــذا شــيئا فــإنــما انــتقصته مــن صــالتــك“ أقــول‪ :‬لــو‬
‫كـان اهلل تـعالـى يـريـد هـذا فـأي صـعوبـة فـي أن يـقول هـذه الـكلمات فـي كـتابـه وقـد قـال مـا هـو أعـمق‬
‫وأصـعب وأعـقد مـنها فـي أمـور هـي ظـاهـرا ً مـن أمـور الـدنـيا الـفانـية وشـيء مـن املـال مـثل آيـة الـ َّديـن‬
‫أو ح ــتى آي ــة امل ــحيض والخ ــمر‪ ،‬فه ــل ح ــثال ــة ال ــدن ــيا ال ــفان ــية أول ــى ال ــتفصيل م ــن ال ــصالة ع ــند اهلل‪-‬‬
‫ـنص املــنقول‬ ‫حســب تــوهــمهم طــبعا ً‪-‬مــن تــبيان الــصالة وهــي مــن الــسهولــة بــمكان كــما رأيــت فــي الـ ّ‬
‫سـابـقا ً‪ .‬هـذا أمـر أوالً لـيس فـي الـكتاب‪ ،‬وثـانـيا ً غـير مـعقول بـنفسه‪ ،‬وثـالـثا ً يـناقـض طـريـقة الـقرءان‬
‫ف ــي ال ــبيان وت ــفصيل اآلي ــات ت ــفصيالً واإلت ــيان ب ــال ــبالغ امل ــبني وإن اح ــتاج إل ــى اس ــتنباط وج ــمع‬
‫وتــعقل فــليس كــالمــنا فــي كــونــه كــله ســطحيا ً بــل لــيس الــقرءان كــذلــك أص ـالً لــكن أن يــقال بــأن اهلل‬
‫ـنص وي ــقوم ب ــها املس ــلمون و َم ــن ل ــم ي ــأت ــي ب ــها ف ــليس م ــن‬
‫ت ــعال ــى أراد ه ــذه ال ــهيئة ال ــتي ش ــرح ــها ال ـ ّ‬
‫املـصلني فـهنا محـل الـكالم‪ .‬نـحو ثـالثـني كـلمة فـقط تـكفي لـبيان هـذه الـهيئة‪ ،‬وفـي الـقرءان أكـثر مـن‬
‫ســبعة وســبعني ألــف كــلمة‪ ،‬فـ َـمن زعــم أن اهلل لــم يجــد مــكانـا ً فــي هــذه الســبعة والســبعني ألــف كــلمة‬
‫ل ــيضع ف ــقط ث ــالث ــني ك ــلمة وال ــتي ب ــدون ــها ال ق ــيمة ل ــدي ــن وإي ــمان وأع ــمال ال ــؤم ــن ول ــو أق ــام الس ــبعة‬
‫والسبعني ألف كلمة علما ً وعمالً‪ ،‬فقد أعظم على اهلل الفرية‪
.‬‬

‫‪4‬‬
‫الـصالة الـقرآنـية فـي طـرف‪ ،‬والـصالة الـتقليديـة حسـب الـتعالـيم الـفقهية فـي طـرف آخـر‪ .‬وهـذا‬
‫لـيس كـالمـنا فـقط‪ ،‬هـذا كـالم أصـحاب الـصالة الـتقليديـة الـروائـية‪ ،‬فـإنـهم حـكموا بـالـقتل عـلى َمـن ال‬
‫يــقوم بــها أو بــالــتكفير عــلى أقـ ّـل تــقديــر وبــجهنّم جــزم ـا ً وكــانــوا وال زالــوا يــع ّلمون اآلبــاء أن يــضربــوا‬
‫أوالدهم ليقوموا بها وال يخفى على قارئ القرءان أن كل هذا ليس من كتاب اهلل في شيء‪
.‬‬
‫إذن حني نقول أنه البد من اختيار إما طريق الشهوة وإما طريق الشريعة‪ ،‬فهذا حق‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬مبدأ الفردية‪


-‬‬

‫ش ــاه ــد ث ــان ــي‪} :‬ي ــا أي ــها ال ــذي ــن آم ــنوا ع ــليكم أن ــفسكم ال ي ــضرك ــم م ــن ض ــل إذا اه ــتدي ــتم إل ــى اهلل‬
‫مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون{

‫املـيل للجـماعـة والـكثرة أمـر شـائـع فـي الـنفس البشـريـة مـن حـيث بشـريـتها ال مـن حـيث روحـانـيتها‪.‬‬
‫فـإن الـروح }مـن أمـر ربـي{ وتـنظر إلـى ربـها ولـو صـار مـا صـار لـلبدن واألمـور الـظاهـريـة فـي الـدنـيا‬
‫الــفانــية‪ .‬وألن الــنفس قــائــمة مــا بــني قــابــلية الــتزكــية بــالــروح والــتدســية بــالــبدن‪ ،‬فتجــد الــناس أحــيانـا ً‬
‫ولـو كـانـوا َمـن كـانـوا فـي عـلو الـكعب فـي الـروحـانـية يـقعون فـي مـصيدة }تـخشى الـناس واهلل أحـق‬
‫أن تخشاه{‪
.‬‬

‫مـن آمـن بـاهلل ورسـولـه وكـتابـه الـذي فـيه الـرسـالـة‪ ،‬فـعليه أن يـؤسـس أمـره ويـجاهـد نـفسه حـتى يـقيم‬
‫ديـنه عـلى أسـاس الـفرديـة‪ ،‬أي يـفترض أنـه فـرد مـسؤول عـن نـفسه فـقط ألن هـذا هـو الـحق‪ ،‬فـأنـت‬
‫}ال تُـك َّلف إال نـفسك{‪ .‬فـإذا تـعلمت كـتاب اهلل واهـتديـت بـه ولـو كـانـت وحـدك فـأنـت أ ّمـة }إن إبـراهـيم‬
‫كـان أ ّمـة{‪ ،‬فـالـعبرة ليسـت بـاالنـفراد وال بـالـكثرة‪ ،‬ال اإلعـجاب بـالـنفس وال اإلعـجاب بـالـكثرة‪ ،‬كـالهـما‬
‫مـذمـوم فـاألول مـن شـأن إبـليس الـكافـر والـثانـي مـن شـأن الـكفرة الجهـلة‪ .‬املـقصد هـو مـعرفـة الـحق‬
‫بـالـبرهـان‪ ،‬ثـم اتـباعـه ومـجاهـدة الـناس لـقبولـه‪ .‬لـكن إذا عـرفـت شـيئا ً ولـك ح ّـجة فـيه‪ ،‬فهـذه مـسؤولـيتك‬
‫ال ــوح ــيدة ع ــند اهلل ول ــن تُ ــسأل ع ــن س ــبب ان ــفرادك أو ت ــبري ــر ك ــثرة م ــن م ــعك‪ ،‬ك ــل م ــا ي ــهم ه ــو ه ــل‬
‫اهتديت أم ال ثم اهلل يفصل بني الناس يوم الدين‪
.‬‬

‫اآلن‪ ،‬دع ــوى أن م ــا ع ــلمنا وع ــملنا ه ــو ع ــني م ــا ف ــي ك ــتاب اهلل ه ــي دع ــوى ال يعج ــز ع ــنها أح ــد‪،‬‬
‫وي ــدع ــيها ك ــل أح ــد‪ .‬وه ــنا س ــنقتصر ع ــلى م ــوض ــوع ال ــصالة‪ .‬ف ــي م ــوض ــوع ال ــصالة أي ــضا ً }ع ــليكم‬
‫أنـفسكم ال يـضركـم َمـن ض ّـل إذا اهـتديـتم{‪ .‬وهـذا ال يـعني أنـه يـجب عـليك فـرض وإكـراه غـيرك عـلى‬

‫‪5‬‬
‫م ــا ف ــهمت‪ ،‬وال أن ــه ي ــجوز ل ــهم م ــثل ذل ــك م ــعك‪ ،‬إال أن ــنا نج ــد ف ــي ه ــذه ال ــقضية م ــثل ق ــضاي ــا أخ ــرى‬
‫كــثيرة أن أصــحاب مـ ّلة الــروايــات الــذيــن مــالــوا عــن ديــن اآليــات هــم رؤوس اإلكــراه فــي الــديــن وعــلى‬
‫الــديــن وبــالــديــن فــي األرض كــلها وهــم أئــمة هــذا الــشأن إلــى الــيوم‪ ،‬وفــي بــاب الــصالة يــكفي أنــه‬
‫يــوجــد إجــماع فــي املــذاهــب الــفقهية ”اإلســالمــية“ إمــا عــلى قــتل تــارك صــالتــهم وإمــا عــلى حــبسه‬
‫فــإن لــم يــتب فـيُقتَل وإمــا شــيء مــن هــذا الــنوع ومــا يــتبعه مــن الــتفريــق بــينه وبــني زوجــته وهــل ّم جـ ّـرا ً‬
‫ـضرك ــم َم ــن ض ـ ّـل إذا‬
‫ف ــي ق ــائ ــمة ال ــدم واإلج ــرام‪ .‬ه ــؤالء ال ي ــؤم ــنون ب ــقاع ــدة }ع ــليكم أن ــفسكم ال ي ـ ّ‬
‫اه ــتدي ــتم{‪ ،‬ه ــؤالء ي ــري ــدون أن ي ــجبروا ال ــناس ع ــلى م ــا ي ــعتقدون ــه ه ــم‪ ،‬خ ــالف ـا ً ط ــبعا ً ل ــكل ك ــتاب اهلل‬
‫ال ــناه ــي ع ــن ه ــذا ال ــنوع م ــن ال ــتفكير وال ــعمل ب ــل ح ــتى ع ــن ال ــشعور ب ــالح ــزن ع ــلى ع ــدم اه ــتداء‬
‫اآلخــريــن بهــدى الــوحــي فــما بــالــك بــهوى الــرأي الــذي عــلى أســاســه يــفعل الــقوم مــا يــفعلونــه‪ .‬نــحن‬
‫نـؤمـن فـكرا ً وشـعورا ً وسـلوكـا ً بـكلمة }إلـى اهلل مـرجـعكم جـميعا ً فـينبئكم بـما كـنتم تـعملون{ وال نـجيز‬
‫مـنع أي أحـد ال فـي الـصالة وال فـي غـيرهـا أن يـعبّر عـن فـهمه ورأيـه ويـمارس صـالتـه كـما يـعتقدهـا‬
‫ويــدعــو إلــيها ويــنافــح عــنها بــل نــحن مــن أول َمــن ســيسمع لــه ويــحواره ويــجادلــه بــالــتي هــي أحــسن‬
‫بـإذن اهلل‪ ،‬إال أنـك لـن تجـد مـثل هـذا عـند وال فـرقـة مـن فـرق أصـحاب مـ ّلة الـروايـات الـذيـن بمج ّـرد مـا‬
‫تكون السلطة بأيديهم يصبح اإلكراه عندهم أسهل من شربة ماء بل لعله أوجب من شربة ماء‪
.‬‬

‫ـقر بـه جـميع املـؤمـنني‬‫ـجة ملـا تسـتوحـش مـنه‪ ،‬وهـذا أمـر ي ّ‬ ‫الـشعور بـالـوحـشة بسـبب االنـفراد لـيس ح ّ‬
‫مــن أي ديــن بــل وغــير ديــن‪ .‬لــكن أصــحاب الــقرءان عــنده مــا هــو أعــلى وهــو قــول اهلل تــعالــى }عــليكم‬
‫أنـفسكم{ وهـو خـطاب مـباشـر لـهم }يـا أيـها الـذيـن ءامـنوا{‪ ،‬فـاهلل مـع َمـن اهـتدى بـالـقرءان‪ ،‬والـرسـول‬
‫مـع َمـن اهـتدى بـالـرسـالـة وج ّـمع الـناس بـها وعـليها وأمـرهـم بـاالسـتمساك بـها وهـو اإلصـالح الـذي‬
‫ـمسكون بــالــكتاب وأقــامــوا الــصالة إنــا ال نــضيع أجــر املــصلحني{‪ .‬فــاملهــتدي‬
‫قــال اهلل فــيه }والــذيــن ُيـ ّ‬
‫بــكتاب اهلل مــعه اهلل ومــالئــكته‪ ،‬وهــو مــع الــنبيني والــصديــقني والشهــداء والــصالــحني‪ ،‬بــالــنفس الــيوم‬
‫ومــطلقا ً غــدا ً يــوم يــقوم األشــهاد‪ .‬مــقاومــة شــعور الــوحــشة هــذا مــن الــجهاد فــي ســبيل اهلل‪ ،‬بــل هــذه‬
‫الــوحــشة هــي واحــدة مــن أكــبر أســباب إعــراض أكــثر الــناس عــن ديــن اهلل مــطلقاً‪ ،‬ويــطلبون مــودة‬
‫الناس في الحياة الدنيا وحفظا ً لعواطفهم ومصالحهم فيها ولو على حساب الدين‪
.‬‬

‫اعـتراض‪ :‬كـيف سـأقـنع كـل املسـلمني وغـير املسـلمني بهـذا الـفهم لـكتاب اهلل والشـريـعة فـي مـسألـة‬
‫كبيرة مثل هذه‪
.‬‬
‫الــرد‪ :‬أوالً }عــليكم أنــفسكم{ وحــني تســتقر وتــتذوق وتجـ ّـرب هــذه الــحياة الجــديــدة عــلى أســاس‬
‫عـملك بـأمـر اهلل‪ ،‬حـينها وبـعد أن تـرسـخ قـدمـك فـيها وتـعرفـها وتـدرك املـسألـة تجـريـبيا ً ال فـقط نـظريـاً‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫حــينها يــمكن أن تــنتقل إلــى مســتوى الــدعــوة واملــجادلــة‪ .‬فــاإليــمان والــعمل قــبل الــتواصــي والــدعــوة‪،‬‬
‫}أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفال تعقلون{‪
.‬‬
‫ـتبني لـلناس مـا نُـزّل إلـيهم{‪ ،‬وال تـكتمها فـإن مـن يـكتمها }فـإنـه آثـم‬ ‫ثـم يـكفيك إعـطاء الـبينات‪} ،‬ل ّ‬
‫قـلبه{‪ .‬فـإذا فـعلت هـذا وكـان بـالغـك مـبيناً‪ ،‬فـقد تـ ّم عـملك وشـكرت ربـك عـلى نـعمة تـعليمك‪} ،‬ومـا عـلى‬
‫الـرسـول إال الـبالغ املـبني{‪ .‬وأمـا َمـن يـقتنع و َمـن ال يـقتنع‪ ،‬فـال لـيس لـك وال هـو تـكليفك بـل االهـتمام‬
‫بــمثل هــذا هــو بحــد ذاتــه عــصيان لــبعض األمــر الــربــانــي كــما فــي قــولــه }ال تحــزن عــليهم{ واآليــات‬
‫األخرى في ذات املوضوع من أبعاده العقلية واإلرادية والشعورية املختلفة‪
.‬‬
‫حــتى إن تــنزّلــنا أكــثر‪ ،‬ســتجد أنــك اآلن ومــهما كــانــت تــفاصــيل صــالتــك الــتي تــص ّليها‪ ،‬فــإنــك‬
‫تـص ّلي صـالة ال يـرضـى عـنها الـكثير جـدا ً مـن املسـلمني‪ ،‬أيـا كـان اخـتيارك ومـذهـبك‪ .‬بـل جـزمـا ً أنـت‬
‫تـقوم بـأمـور يـراهـا غـيرك بـدعـة سـيئة أو ال تـقوم بـأمـور يـرونـها فـريـضة أو واجـبة أو سـنة مـؤكـدة أو‬
‫ـنبني إن ش ــاء اهلل ف ــي ف ــصل الح ــق ت ــفاص ــيل م ــهمة ع ــن اخ ــتالف ــات امل ــذاه ــب ال ــفقهية‬ ‫غ ــير ذل ــك‪ .‬وس ـ ّ‬
‫اإلسـالمـية فـي هـذا األمـر حـتى تـرى أن تـوهـمك أنـك تـصلي الـصالة ”املُج َـمع عـليها“ بـاطـل قـطعا ً‬
‫وبجــميع املــوازيــن وهــذا لــيس ســرا ً بــل مــعروف مــشهور بــل مــحسوس تــراه فــي اخــتالف املســلمني‬
‫فــي صــالتــهم مــن أول مــسألــة فــيها إلــى آخــر مــسألــة فــيها تــقريــبا ً وتجــده فــي اخــتالف مــساجــدهــم‬
‫وتــنازعــهم وافــتراقــهم وتــباغــضهم وتــبديــع بــعضهم بــعضا ً وتــكفير بــعضهم بــعضا ً وأحــيان ـا ً الــعدوان‬
‫ع ــلى ب ــعضهم ب ــعضا ً بس ــبب ذل ــك واألم ــثلة ف ــي ه ــذا ال ــباب ك ــثيرة ج ــدا ً وال ــقصص وال ــوق ــائ ــع ك ــثيرة‬
‫أيضا ً عبر التاريخ وإلى اليوم‪
.‬‬
‫بـل إذا دقـقت سـتجد أن الـصالة الـقرآنـية هـي الـوحـيدة الـتي يـمكن أن تجـمع املسـلمني وتـمنع‬
‫االفـ ــتراق الـ ــقبيح‪ .‬ألن جـ ــوهـ ــرهـ ــا يـ ــقوم بـ ــه الـ ــكل فـ ــي جـ ــزء مـ ــن أجـ ــزاء صـ ــالتـ ــهم الـ ــتقليديـ ــة‪ ،‬لـ ــكن‬
‫اإلضــافــات الــتي أضــافــوهــا عــلى ذلــك الــجوهــر قــد أعــاقــت ظــهوره وتــمام نــوره مــن جــهة ومــن جــهة‬
‫أخـرى فـتحت أبـوابـا ً كـثيرة لـلنار والـتكفير والـتبديـع والـتفسيق واالخـتالف الـسيء الـواضـح الـسوء‪.‬‬
‫صـاحـب الـصالة الـقرآنـية يـمكن أن يـص ّلي فـي كـل مسجـد فـي مـشارق األرض ومـغاربـها بـدون أن‬
‫يـشعر بـأنـه فـي بـيت غـير بـيته‪ ،‬لـكن صـاحـب الـصالة الـتقليديـة ال يسـتطيع ذلـك وال يـشعر بـأنـه مـع‬
‫أ ّمــته حــني يــكون مــع أي مســلم مــؤمــن بــاهلل ورســولــه وكــتابــه‪ .‬الــقرءان حــبل جــامــع لجــميع املســلمني‪،‬‬
‫لــكن مــا أضــافــوه عــليه وأوجــبوه هــو مــصدر الشـ ّـر والــكفر حــتى صــار بــعضهم يــضرب رقــاب بــعض‬
‫وب ــعضهم ال ي ــنكح ب ــعضا ً وال ي ــكلم ب ــعضهم ب ــعضا ً إل ــى آخ ــر ال ــقائ ــمة ال ــسوداء ل ــصفات األع ــداء‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ل ــيس ع ــلى ص ــاح ــب ال ــصالة ال ــقرآن ــية أن ي ــف ّكر ف ــي أص ــحاب ال ــصالة ال ــتقليدي ــة‪ ،‬ب ــل ع ــلى‬
‫أصـحاب الـصالة الـتقليديـة الـرجـوع إلـى الـصالة الـقرآنـية‪ ،‬فهـذا خـير لـهم فـي الـديـن عـند اهلل وفـي‬
‫اآلخرة بل وفي الدنيا‪
.‬‬

‫‪7‬‬
‫بــل وأزيــدك‪ .‬إذا عــرفــت الــصالة الــقرآنــية ســتجد أن الــروايــات نــفسها املــنقولــة عــن الــنبي ومــن‬
‫مـعه‪ ،‬إمـا تـصبح مـفهومـة وإمـا تـصبح أكـثر وضـوحـا ً وإمـا يـمكن ح ّـل إشـكاالتـها واالخـتالف فـيها‪.‬‬
‫خــذ مــثالً الحــديــث الــقدســي }قــسمت الــصالة بــيني وبــني عــبدي نــصفني{ ثــم ذكــر ســورة الــفاتــحة‪،‬‬
‫فــهنا تجــد تــصريــحا ً بــأن الــصالة ذات }نــصفني{ وهــي الــفاتــحة بــتمامــها فــقط‪ ،‬فــلو كــانــت الــفاتــحة‬
‫ـص رب الــعزة جــل جــاللــه‬ ‫جــزءا ً مــن أجــزاء الــصالة ملــا كــانــت الــصالة مــقسومــة }نــصفني{ كــما هــو نـ ّ‬
‫فـي الحـديـث الـقدسـي الـصحيح املـشهور حسـب مـوازيـن أهـل الـروايـة‪ ،‬بـل لـوجـب أن تـكون الـفاتـحة‬
‫مـثالً جـزءا ً مـن عشـرة أجـزاء أو قـسما ً مـن ثـالثـة قـسما ً أو نـحو لـك ألن الـتكبير جـزء والـقيام بـالـبدن‬
‫جـزء ودعـاء االسـتفتاح جـزء والـفاتـحة جـزء وسـورة بـعدهـا جـزء والـركـوع جـزء والـقيام جـزء والـسجود‬
‫جــزء وهــل ّم جــرا ً‪ .‬لــكن حــني تــعرف الــصالة الــقرآنــية ســتجد أن تــسمية الــفاتــحة بــالــصالة حــق ألنــها‬
‫سـورة الـصالة وفـيها الـقرءان كـله‪ .‬كـذلـك سـتجد حـديـثا ً يـقول }ال صـالة ملـن لـم يـقرأ بـفاتـحة الـكتاب{‬
‫وحــديــثا ً آخــرا ً يــقول أن الــذي ال يــقرأ بــأم الــقرءان فــصالتــه }خــداج{ يــعني نــاقــصة‪ ،‬ونــحو لــك مــما‬
‫يـعزز كـون الـفريـضة قـراءة الـفاتـحة ثـم مـا فـوقـها زيـادة خـير عـلى خـير ونـور عـلى نـور‪ .‬وكـذلـك مـثالً‬
‫حـديـث }لـيس لـك مـن صـالتـك إال مـا عـقلت مـنها{ فـإنـه صـريـح فـي كـون الـعقل ثـمرة الـصالة‪ ،‬وأيـن‬
‫ال ــعقل ف ــي غ ــير ال ــقراءة امل ــر ّك ــزة وق ــد شه ــدن ــا إن ــسان ـا ً ي ــقرأ ال ــقرءان ل ــلتعقل وب ــقصد ال ــتعقل ف ــيتغيّر‬
‫ويس ــتنير وي ــخشع هلل ت ــعال ــى أو ع ــلى أق ـ ّـل ت ــقدي ــر م ــن ب ــني ك ــل م ــائ ــة س ــتجد ت ــسعة وت ــسعني ه ــذا‬
‫حـالـهم‪ ،‬بـينما أصـحاب الـصالة الـتقليديـة مـمن الـقراءة عـندهـم هـي مجـرد ألـفاظ يـجب اإلتـيان بـها‬
‫ف ــي خ ــضم ح ــرك ــات وش ــكليات ب ــدن ــية وت ــكرار ك ــثير يش ـ ّـل ال ــفكر ويُ ــذه ــب رون ــق ال ــعقل ويُ ــدخ ــل امل ــلل‬
‫والــسهو عــند الــغالــبية الــعظمى مــن املــصلني بهــذه الــهيئة حــصرا ً فــهؤالء الــعقل عــندهــم إمــا مــنعدم‬
‫بس ــبب ال ــصالة وإم ــا ف ــي ال ــشاذ ال ــنادر ال ــذي ال يُ ــقاس ع ــليه وي ــكون بس ــبب ح ــضور ع ــقله ف ــي‬
‫الــقراءة أو نــحو ذلــك مــن األذكــار والــتسابــيح الــتي هــي أوامــر قــرآنــية أصــلية ولــيس بســبب الحــركــة‬
‫الــصوريــة الــبدنــية‪ ،‬فــالــصالة الــحقيقية أمــر حــني تــدخــل فــيه حــقا ً ســتخرج مــنه وفــيك إمــا زيــادة نــور‬
‫أو قـ ّلة ظـلمة‪ ،‬بـينما الـصالة الـتقليديـة قـد يـص ّليها اإلنـسان أربـعني سـنة وهـو فـي آخـر يـوم مـثل مـا‬
‫ك ــان ف ــي أول ي ــوم وتس ــتطيع أن تج ــد ال ــناس ي ــوم ــيا ً وم ــن شـ ـتّى امل ــذاه ــب وال ــفرق ي ــص ّلون ه ــذه‬
‫ال ــصالة ال ــتقليدي ــة وه ــم ع ــلى م ــا ه ــم ع ــليه ل ــكن ان ــظر م ــاذا سيح ــدث ف ــي ال ــواح ــد ف ــيهم ل ــو ص ـ ّلى‬
‫الـصالة الـقرآنـية لـتسعة أشهـر فـقط‪ ،‬بـل سـتة بـل شهـرا ً واحـدا ً بـل أكـاد أقـول يـومـا ً واحـدا ً‪ .‬الـقرءان‬
‫ـنتج بــإذن اهلل‪ ،‬لــكن حــني يــلهو الــقلب‬ ‫هــو جــوهــر الــصالة ومــركــزهــا‪ ،‬فــحني يُــعطى الــتركــيز كــام ـالً يُـ ِ‬
‫ويـلهو الـبدن فـحتى إن تـلفّظ أو سـمع الـقرءان فـلن ُيـنتج شـيئاً‪ ،‬ولـهو الـقلب بسـبب نـفس مـا وضـعوه‬
‫م ــن أرك ــان وش ــروط ل ــلصالة وك ــون ــها ذات رت ــاب ــة وت ــكرار وش ــكليات وح ــرك ــات ال ــبدن وت ــعبه وت ــغيره‬
‫والـتركـيز عـليه أو عـلى األق ّـل إشـراك الـبدن مـع الـعقل فـي الـعمل مـما يشـتت الـوعـي ويـبطل الـتأمـل‬

‫‪8‬‬
‫والــنظر فــي كــالم اهلل ذاتــه لــذاتــه‪ ،‬ولــذلــك ال تجــد حــتى أصــحاب الــصالة الــتقليديــة حــني يــدرســون‬
‫ك ــتب ع ــقائ ــده ــم وم ــذاه ــبهم إال وي ــقوم ــون ب ــقراءت ــها ك ــما ك ــان ي ــنبغي أن ي ــفعلوا وي ــع ّلموا ال ــناس أن‬
‫يــفعلوا فــي صــلواتــهم مــع كــتاب اهلل أي ســتجدهــم إمــا يــقرأون قــيام ـا ً أو قــعودا ً وهــو األصــل وإمــا‬
‫عـلى جـنوبـهم أو وهـم يـمشون‪ ،‬سـتجد رغـبة بـعد االنـشغال بـأي صـوت أو حـركـة أو ازعـاج حـتى يـتم‬
‫تـركـيزهـم وحـضور عـقلهم وفـهمهم‪ ،‬نـفس هـذا األمـر الـذي كـان يـنبغي أن يـقوم بـه الـكل مـع الـقرءآن‬
‫ـحجة عـليهم مـن هـذا الـوجـه أيـضا ً‪ .‬عـلى هـذا الـنمط‪ ،‬سـتجد الـروايـات نـفسها أكـثر‬ ‫يـومـيا ً تـركـوه فـال ّ‬
‫مــعقولــية بســبب الــصالة الــقرآنــية عــموم ـاً‪ ،‬ولــن تُــنتج إشــكاالً عــند مــن يــضع كــل شــيء فــي نــصابــه‬
‫حسب قيمته القرآنية‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬مبدأ التنوير‪


-‬‬


‫شـاهـد ثـالـث‪} :‬ألـم تـر أن اهلل يـولـج الـليل فـي الـنهار ويـولـج الـنهار فـي الـليل وسخـر الـشمس والـقمر‬
‫كل يجري إلى أجل مسمى وأن اهلل بما تعملون خبير{

‫امل ـ ــقصد م ـ ــن ال ـ ــقرءان ال ـ ــتع ّقل ”ل ـ ــعلكم ت ـ ــعقلون“ وال ـ ــتفكر ”ل ـ ـ ّ‬
‫ـتبني ل ـ ــلناس م ـ ــا نُ ـ ـزّل إل ـ ــيهم ول ـ ــعلهم‬
‫يــتفكرون“ والــتدبــر ”أفــال يــتدبــرون الــقرءان“ ”لــيدبــروا آيــاتــه“ ونــحو ذلــك مــن أمــور يــمكن تــلخيصها‬
‫ـتضمن مـ ــعنى الـ ــفهم‪ ،‬وإال فليسـ ــت قـ ــراءة مـ ــعتبرة‪ ،‬فـ ــإن‬ ‫ّ‬ ‫لـ ــتسهيل الشـ ــرح بـ ــكلمة الـ ــفهم‪ .‬الـ ــقراءة تـ ـ‬
‫الـقراءة فـيها مـعنى الجـمع والحـمل كـما قـال الـشاعـر ”لـم تـقرأ جـنينا“ فـالـقراءة تُـغيّر حـالـة الـنفس‬
‫كــما قــال تــعالــى ”اقــرأ وربّــك األكــرم‪ .‬الــذي عـ ّلم بــالــقلم‪ .‬عـ ّلم اإلنــسان مــا لــم يــعلم“ فــما لــم يــصحب‬
‫ال ــقراءة ال ــعلم وي ــأت ــي ك ــثمرة ل ــها ويُ ــشعر ال ــقارئ ب ــحضور اهلل م ــعه ”اق ــرأ وربّ ــك“ ”اق ــرأ ب ــاس ــم‬
‫رب ــك“ فليس ــت ه ــي ال ــقراءة ال ــتي ت ــدل ع ــليها ال ــقرءان‪ ،‬وم ــنا ذك ــر ف ــي س ــورة ال ــعلق ”أرأي ــت ال ــذي‬
‫ي ــنهى ع ــبدا إذا ص ـ ّلى‪ .‬أرأي ــت إن ك ــان ع ــلى اله ــدى‪ .‬أو أم ــر ب ــال ــتقوى“ ف ــذك ــر ال ــقراءة ث ــم ال ــصالة‬
‫وربــطها بــأمــريــن األول مــا يــكون عــليه املــص ّلي فــي نــفسه واآلخــر مــا يــأمــر بــه غــيره ومــن هــنا تــوجــد‬
‫قـ ــراءة لـ ــلنفس وقـ ــراءة لـ ــلغير‪ ،‬ثـ ــم زاد األمـ ــر بـ ــيان ـ ـا ً فـ ــقال ”قـ ــد أفـ ــلح َمـ ــن تـ ــز ّكـ ــى‪ .‬وذكـ ــر اسـ ــم ربّـ ــه‬
‫فــص ّلى“ فــق ّدم الــتزكــية عــلى ذكــر االســم والــصالة كــما قـ ّدمــها عــلى تــع ّلم الــكتاب والــحكمة فــي آيــة‬
‫أخـرى‪ ،‬وفـالـتزكـي عـن أمـور سـيئة شـرط ثـم يـدخـل اإلنـسان فـي ذكـر اسـم ربـه وذلـك بـالـبسملة الـتي‬
‫هــي فــاتــحة ســور الــكتاب كــله ثــم تــدخــل فــي الــصالة الــتي هــي الــقراءة أي قــراءة اآليــات الــقرآنــية‬
‫ذاتـها‪ .‬ومـن هـنا فـرق بـني قـراءة الـصالة وقـراءة غـير الـصالة‪ ،‬ألن الـصالة البـد فـيها مـن ذكـر اسـم‬
‫رب ــك ”اق ــرأ ب ــاس ــم رب ــك“ وم ــعية رب ــك ”اق ــرأ ورب ــك“‪ ،‬فه ــذه ال ــقراءة ه ــي ال ــتي ي ــكون ف ــيها ال ــقارئ‬

‫‪9‬‬
‫ُمــص ّليا بــمعنى مــتصالً بــربــه ومــوصــوالً بــكالمــه وكــذلــك بــمعنى املــصلي فــي الــلغة الــذي هــو الــتابــع‬
‫للمج ـ ّلي فــي الســباق ألن الــقارئ يــكون تــابــعا ً لــربــه فــر ّبــه املتجــلي املُج ـ ّلي لــه األمــور وهــو املــص ّلي‬
‫ُ‬
‫التابع الجاعل عقله تابعا ً لكالم ربه‪
.‬‬

‫الجه ــل ل ــيل‪ ،‬ال ــعلم ن ــهار‪ .‬الجه ــل م ــن ش ــأن ال ــعبد‪ ،‬ال ــعلم م ــن ش ــأن اهلل‪ ،‬ق ــال ”اهلل ال ــغني وأن ــتم‬
‫الــفقراء“ وذلــك فــي كــل ســمة كــمال فــإن اهلل غــني هــي لــه بــاألصــالــة والــعبد فــقير فــما بــه مــن نــعمة‬
‫سـواء كـانـت وجـود أو عـلم أو حـياة أو قـدرة أو مـا كـان فـهي مـن اهلل تـعالـى‪ .‬فـي الـصالة ذكـر هلل ”‬
‫أقــم الــصالة لــذكــري“ ومــن هــذا الــذكــر تــذ ّكــر الــعبد مــقام فــقره ومــقام ربــه الــغني املــتعالــي‪ ،‬وكــذلــك‬
‫تـذ ّكـر نـعمة ربـه عـليه وخـالفـته إيـاه فـي مـا يـفيضه عـليه ويـعطيه لـه‪ .‬فـهنا أمـران‪ ،‬األول تـذ ّكـر الـفقر‬
‫بالذات‪ ،‬والثاني تذ ّكر الغنى باهلل‪
.‬‬
‫فـي الـصالة الـقرآنـية كـالهـما حـاضـر‪ .‬فـإن الـقارئ بـمعنى املـتفقه املـتفهم الـدارس لـكتاب اهلل‪،‬‬
‫يــتذكــر جهــله وفــقره األصــلي حــني يــرى أنــه مــفتقر إلــى كــالم اهلل لــتحصيل الــعلم وكــذلــك حــني يــرى‬
‫الـفرق مـا بـني مسـتوى عـقله ومسـتوى كـالم اهلل الـعالـي وكـذلـك حـني يـرى تـوقـف عـقله عـن فـهم اآليـة‬
‫ث ــم ي ــرى ك ــيف ي ــم ّده اهلل ب ــال ــنور وال ــفهم ”ف ــفهمناه ــا س ــليمان“ ف ــيلج ف ــيه ن ــور رب ــه فيش ــرق ب ــه أرض‬
‫قلبه‪
.‬‬
‫أمـا فـي الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬فـإنـها صـالة تـفريـغ وثـبات‪ .‬فـهي تـفريـغ مـن حـيث أنـها تـفرغ الـعقل‬
‫مـن الـفكرة بـما فـيها مـن حـركـات وتـكرار لـلكلمات‪ ،‬وهـذا وإن كـان يـنفع بـالنسـبة ملـن يـريـد الـدخـول‬
‫فـي قـراءة الـقرءان الـذي هـو الـصالة األصـلية‪ ،‬فـإنـه يـكون إعـدامـا ً لـعقل َمـن الـصالة كـلها عـنده هـي‬
‫هــذه الــصالة الــصوريــة‪ .‬كــذلــك فــيها ثــبات‪ ،‬ألن املــصلي بــالــتقليديــة يــعرف مســبقا ً بــالــضبط كــل مــا‬
‫ســيقوم بــه ومــا عــليه الــقيام بــه ويــعرف بــماذا ســيدخــل وبــماذا سيخــرج مــن حــيث أنــه لــيس عــليه إال‬
‫الــقيام بهــذه الحــركــات والــتلفظ بــالــكلمات وإذا بــه قــد ”أقــام الــصالة“ حســب اعــتقاده‪ ،‬ومــع الــوقــت‬
‫تــأخــذ هــذه الــهيئة الــنمطية الــرتــيبة صــورة جــامــدة فــي الــذهــن وتــصبح عــادة وحــركــة آلــية الشــعوريــة‬
‫الواع ــية‪ ،‬وم ــهما ق ــيل ب ــعد ذل ــك ف ــي امل ــواع ــظ ال ــجوف ــاء ع ــن وج ــوب ال ــخشوع ف ــي ال ــصالة وال ــبكاء‬
‫وال ــحضور وم ــا أش ــبه وال ــذي أق ــصاه ك ــما ت ــرى ن ــوع م ــن األم ــواج ال ــعاط ــفية ال ــعمياء ع ــلى أح ــسن‬
‫ت ــقدي ــر ف ــي ال ــعادة ف ــإن ــه ال ُي ــسمن وال ي ــغني م ــن ج ــوع ألن ــه ضـ ـ ّد ال ــتيار ال ــطبيعي ل ــنفس ص ــورة‬
‫الــصالة‪ ،‬فــال يــمكن أن تــضع الــنار تــحت الـ ِـقدر ثــم تــدعــو مــا فــي الــقدر إلــى الــبرودة كــما أنــه لــيس‬
‫م ــن ح ــقك ع ــقليا ً وال أخ ــالق ــيا ً أن ت ــخاط ــب ِق ــدرا ً م ــوض ــوع ـا ً ف ــي ال ــثالج ــة ب ــأن ــه ي ــجب ع ــليه أن يتح ـ ّـرك‬
‫داخليا ً ليجد حرارة الصحراء‪
.‬‬

‫‪10‬‬
‫حـني تـقرأ الـقرءان‪ ،‬الـقراءة بـاملـعنى الـسابـق‪ ،‬فـأنـت إمـا تـعقل وإمـا ال تـعقل‪ ،‬إمـا تسـتفيد وإمـا‬
‫ال تســتفيد‪ ،‬إمــا تجــد حــضور اهلل مــعك وتــأيــيده لــك بــروح الــقدس والــروح مــنه واإللــهام بــالــفهم وإمــا‬
‫ال تجــد‪ ،‬وحــني ال تــعقل وال تســتفيد وال تجــد فــإنــك تــعرف ذلــك يــقينا ً مــن نــفسك وتــرى الــظلمة والــليل‬
‫الـقلبي وتـعرف أنـك لـم تـفهم الـقرءان وتـنتفع بـه‪ .‬ال مـجال لـلوهـم هـنا‪ .‬كـأن تـقرأ }يـا أيـها املـز ّمـل{ ثـم‬
‫تـقف عـندهـا فـتقول‪ :‬مـا مـعنى املـز ّمـل؟ ومـا مـعنى الـنداء بـه؟ ومـا عـالقـة املـزمـل بـقيام الـليل؟ ومـا ومـا‬
‫ومـا وبـقية األسـئلة الـكثيرة والـسؤال مـفتاح الـعلم‪ ،‬فـإمـا أن تجـد فـتحا ً مـبينا ً وتـعرف هـذه األمـور أو‬
‫ت ــعلم ش ــيئا ً م ــنها وإم ــا أن ال ت ــعلم‪ ،‬وإن ل ــم ت ــعلم ق ــد ت ــسأل أه ــل ال ــذك ــر وق ــد ت ــقول ”م ــاذا أراد اهلل‬
‫به ــذا م ــثالً“ أو ”م ــاذا ق ــال آن ــفا ً“ ون ــحو ذل ــك‪ .‬ف ــال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــرق ــان م ــا ب ــني امل ــؤم ــن وامل ــناف ــق‪،‬‬
‫ـتبني ذلـ ــك لـ ــهم‬‫واملـ ــؤمـ ــن والـ ــكافـ ــر‪ ،‬والـ ــعالِـ ــم والـ ــجاهـ ــل‪ .‬هـ ــي مـ ــيزان حـ ــقيقي يـ ــوزن بـ ــه الـ ــناس ويـ ـ ّ‬
‫ولـغيرهـم‪” .‬أومـن كـان مـيتا ً فـأحـييناه وجـعلنا لـه نـورا ً يـمشي بـه فـي الـناس كـمن مـثله فـي الـظلمات‬
‫ليس بخارج منها“‪
.‬‬
‫أم ــا ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ف ــليس ف ــيها ش ــيء م ــن ذل ــك‪ .‬أخ ــبروه ــم أن أرك ــان ال ــصالة ق ــيام ورك ــوع‬
‫وجــلوس وســجود وتــلفظ بــالــفاتــحة وســورة والتســبيح والتشهــد والســالم والــتكبير‪ ،‬ونــحو ذلــك‪ .‬وهــذا‬
‫كــله تســتطيع أن تــقوم بــه إن شــاء اهلل بــدون أن تــعقل شــيئاً‪ ،‬بــل تــقول وتــفعل وعــقلك يســبح فــي أي‬
‫مـوضـوع آخـر‪ ،‬كـما روي عـن بـعضهم أنـه قـال ”إنـي أج ّهـز جـيشي وأنـا فـي الـصالة“ أو مـا أشـبه‪،‬‬
‫فــنعم تســتطيع وأنــت فــي هــذه الــصالة الحــركــية الــلفظية الــنمطية الــثابــتة أن تجهــز جــيشا ً وتجهــز‬
‫ق ــائ ــمة ت ــسوق وتس ــبح ف ــي أل ــف خ ــيال وخ ــيال ب ــدون اإلخ ــالل ب ــشيء م ــنها‪ .‬ل ــكن ف ــي امل ــقاب ــل‪ ،‬ال‬
‫تســتطيع أن تــقرأ الــقرءان وتــفعل مــثل ذلــك ”مــا جــعل اهلل لــرجــل مــن قــلبني فــي جــوفــه“ ألن الــصالة‬
‫الـقرآنـية صـالة قـلبية‪ ،‬والـقلب لـه الـتعقل والـتفقه كـما قـال اهلل‪ ،‬فيسـتحيل أن يـنشغل بـاألمـريـن مـعا ً‬
‫ف ــإذا دخ ــل ف ــي أم ــر خ ــرج م ــن اآلخ ــر ف ــي ع ــني لح ــظة دخ ــول ــه ف ــيه‪ .‬وك ــذل ــك م ــثالً ال ــرواي ــة امل ــنسوب ــة‬
‫لـلنبي ”ال صـالة لـحاقـن“ فهـذه ال تـنطبق عـلى الـصالة الـتقليديـة ألن الـحاقـن والـغاضـب وأيـا كـان‬
‫مـن مـشاغـل الـبدن والـذهـن يـمكن أن تـكون قـائـمة بـاإلنـسان ويـقيم الـصالة الـتقليديـة بـدون اإلخـالل‬
‫ب ــشيء م ــنها وع ــلى م ــرأى م ــن الج ــميع‪ ،‬ل ــكن ال ــصالة ال ــقرآن ــية ال ي ــمكن أن ي ــقيمها ح ــاق ــن والح ــظ‬
‫ـصل وأنـت حـاقـن“ فـالحـديـث خـبر عـن واقـع ولـيس أمـر بـإيـجاد‬ ‫الـخبر ”ال صـالة لـحاقـن“ ولـيس ”ال ت ّ‬
‫شيء‪ ،‬وهذا الخبر مشهود صدقه بالنسبة للصالة القرآنية وليس بالنسبة للصالة التقليدية‪
.‬‬


‫ال ــسؤال ل ــيل‪ ،‬ال ــجواب ن ــهار‪ .‬ف ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية ي ــوج ــد س ــؤال وج ــواب ب ــني ال ــعبد ور ّب ــه‪ ،‬وك ــذل ــك‬
‫ســؤال وجــواب بــني املــتع ّلم واملـُـع ّلم‪ ،‬كــما رأيــنا أن الــصالة تــنقسم إلــى نــوعــني صــالة تــقيمها لــنفسك‬

‫‪11‬‬
‫وصــالة تــقيمها لــغيرك‪ ،‬قــال فــي األولــى ”أقــم الــصالة“ وقــال فــي األخــرى ”كــنت فــيهم فــأقــمت لــهم‬
‫الصالة“‪ .‬ثنائية السؤال والجواب في النفس مثل ثنائية الليل والنهار في اآلفاق‪
.‬‬

‫خ ــر ال ــشمس وال ــقمر{ ال ــقرءان ش ــمس‪ ،‬وال ــقارئ ق ــمر ي ــتلوه ”ات ـ ُـل م ــا أوح ــي إل ــيك م ــن ك ــتاب‬ ‫}س ّ‬
‫ربـك“ ”والـشمس وضـحاهـا‪ .‬والـقمر إذا تـالهـا“ فـهو يـتلوه بـمعنى يـتبعه ويـأتـي بـعده ويـأخـذ مـنه ُك ّـل‬
‫ذلــك حــق‪ .‬الــشمس حــس ومــنه الــسجود لــلشمس‪ ،‬لــكن الــقمر نــور ”اهلل نــور“‪ ،‬كــلمات الــقرءان مــثل‬
‫الــشمس ألنــها مــحسوســة بــاعــتبار ظــهورهــا‪ ،‬لــكن بــدون فــهمها وتــفسيرهــا وتــأويــلها بــوســيلة الــقارئ‬
‫الــقمري فــإنــها ال تــنير الــنفس والــقلب بــل تــبقى عــلى مســتوى ظــاهــر الــوعــي وال يــعلم اإلنــسان مــنه‬
‫إال ظ ــاه ــر ح ــيات ــه ال ــدن ــيا‪ .‬ل ــذل ــك الب ــد م ــن ال ــقراءة‪” ،‬س ـنُقرئ ــك ف ــال ت ــنسى“ فه ــذا ف ــي ال ــصالة ال ــتي‬
‫ـبني لــك‪ .‬ثــم قــال ”وأن أتــلو الــقرءان‬ ‫تــقيمها لــنفسك ”رب اجــعلني مــقيم الــصالة“ فــإن اهلل يُــقرئــك ويـ ّ‬
‫فـمن اهـتدى فـإنـما يهـتدي لـنفسه“ وقـال ”أقـمت لـهم الـصالة“ وقـال ”فـاسـألـوا أهـل الـذكـر إن كـنتم‬
‫ال تـعلمون“ فـهنا الـنبي والـرسـول والـقارئ بـاهلل يـكون خـليفة اهلل فـي تـعليم عـباده ”يـعلمهم الـكتاب‬
‫والــحكمة“‪ .‬املــقصد مــن الــصالة جــعل الــنفوس ســماويــة‪ ،‬نــورانــية‪ ،‬عــقلية‪ .‬وهــذا نجــده فــي الــصالة‬
‫القرآنية‪
.‬‬
‫أمــا فــي الــصالة الــتقليديــة فــمن الــواضــح أنــه ال بــيان وتــبيني وشــرح وتــفصيل فــإن اإلمــام يــتلو‬
‫ظــاهــر الــنص الــقرآنــي فــقط‪ ،‬بــل ويــتلوه عــادةً بــنحو يــمنع حــتى الــسامــع مــن تــدبــره وتــأمــله والــتفكر‬
‫فــيه بــحكم تــخفيف الــصالة والســرعــة النســبية فــيها‪ .‬ثــم إن مــحاولــة اإلمــام أو املــصلي حــفظ عــدد‬
‫وكـمية الـركـعات يـوقـف عـقله عـن الـتأمـل واالسـتغراق فـي اآليـات وإال سـها فـي الـعادة فـيحتاج إلـى‬
‫ضــبط عــقله حــتى يــركــز عــلى صــورة الــلفظ وصــورة الحــركــة وكــيفيات وكــميات ذلــك فــيحول هــذا بــينه‬
‫وبـني املـعانـي واالسـتغراق والـتوغـل فـيها بـل وعـادةً يـحول بـينه وبـني قـشور املـعانـي أيـضا ً‪ .‬الـقراءة‬
‫ت ــطلب امل ــعنى وامل ــعنى يش ــترط اإلخ ــالص ف ــي ال ــبحث ع ــنه‪ ،‬وأم ــا ال ــصورة وال ــشكلية ف ــإن ــها ع ــدو‬
‫املــعنى وضـ ّده وحــاجــب يــمنع مــن االقــتراب مــنه‪ .‬لــذلــك ال تســتغرب مــن كــثرة املــصلني وقـ ّلة الــعاقــلني‬
‫والــعاملــني والــروحــانــيني والــفاهــمني كــتاب رب الــعاملــني‪ ،‬فــإن هــذا لــيس عــيبا ً فــي الــصالة الــقرآنــية بــل‬
‫فــي الــصالة الــتقليديــة حــني تُتخــذ بــالنســبة لــلعا ّمــة كــالــصالة الــوحــيدة واألصــلية ويــرونــها الــفرض‬
‫الــوحــيد بــدالً مــن أن تــكون مــثالً مــق ّدمــة تــفريــغ وتــجهيز وإعــداد لــلصالة الــقرآنــية الــتي هــي قــراءة‬
‫القرءان بتعقل وتفقه ودراسة وتذكر وتدبر طلبا ً للعلم منه وتقربا ً إلى اهلل به‪
.‬‬

‫ل ــلنفس أج ــل م ــسمى وه ــو ع ــمره ــا ف ــي ال ــدن ــيا‪ .‬وامل ــقصد م ــن ح ــيات ــها ال ــدن ــيا ه ــو تح ــدي ــدا ً ال ــتذ ّك ــر‬
‫والـتعلم واملـعرفـة والـتعقل آليـات اهلل‪ .‬فـال يـوجـد شـغل أولـى مـن االسـتنارة بـآيـات اهلل لـلنفس فـي هـذه‬

‫‪12‬‬
‫الـدنـيا‪ .‬وهـذا االشـتغال املـق ّدس هـو الـصالة‪ .‬فـفي الـصالة شـغل ألهـل الـعقل الـذي عـرفـوا الـحكمة‬
‫من وجودهم في الدنيا‪
.‬‬
‫ل ــكن أه ــل ال ــصالة ال ــتقليدي ــة وم ــا وض ــعه أص ــحاب ــها ف ــي أذه ــان ع ــا ّم ــة املس ــلمني ب ــل وأك ــثر‬
‫شـيوخـهم أيـضاً‪ ،‬هـو أنـهم إن أقـامـوا هـذه الـصالة فـقد أقـامـوا عـمود الـديـن ولـم يـبقَ بـعده إال مـزيـد‬
‫فــضل وزيــادة ملــن شــاء ومــعنى ذلــك واقــعيا ً هــو مــا تــراه اآلن فــي األ ّمــة مــن شــبه هجــر تــام لــدراســة‬
‫ال ــقرءان‪ ،‬وإن درس ــه ال ــبعض ف ــيكاد ي ــكون دائ ــما ً ب ــعني وم ــنظار امل ــذه ــب وال ــعقيدة ب ــحيث ال ي ــكاد‬
‫يســتطيع إال الــقليل جــدا ً الــنظر فــي الــقرءان مــع تجــريــده واعــتباره كــما هــو فــقط بــدون فــرض آراء‬
‫املذاهب والفرق عليه‪
.‬‬
‫هـذا الـتح ّول مـن مـركـزيـة االسـتنارة بـاآليـات اإللـهية إلـى مـركـزيـة الـشكليات الـفقهية والـعواطـف‬
‫ال ــعقائ ــدي ــة‪ ،‬ت ــمثّل أي ــضا ً ب ــال ــتح ّول م ــن ف ــرض ــية ال ــصالة ال ــقرآن ــية إل ــى ف ــرض ــية ال ــصالة ال ــتقليدي ــة‬
‫وصـيرورة قـراءة الـقرءان عـمالً تـطوعـيا ً أو فـرضـا كـفائـيا ً أو فـضيلة زائـدة‪ .‬بسـبب الـصالة الـتقليديـة‬
‫صـ ــار الـ ــقرءان نـ ــفالً بـ ــعدمـ ــا كـ ــان فـ ــرض ـ ـاً‪ ،‬ودراسـ ــته فـ ــضيلة بـ ــدالً مـ ــن فـ ــريـ ــضة‪ ،‬واالسـ ــتنباط مـ ــنه‬
‫استئناسا ً وتدعيما ً للمذهب بدالً من تأسيسا ً و ُمعت َ َمدا ً للقلب‪
.‬‬

‫}وأن اهلل بـما تـعملون خـبير{ مـا سـبق مـن كـالم عـن اآلفـاق بـليله ونـهاره وشـمسه وقـمره وأجـله‪ ،‬هـذه‬
‫كـلها أمـثال لـعمل الـنفس اإلنـسانـية يـنبغي عـلينا االقـتداء بـها والـقياس عـليها ومـعرفـة حـالـنا بـالـنظر‬
‫ف ــيها‪ .‬ال ــنفس إم ــا سـ ـتُفتَح ل ــها أب ــواب ال ــسماء ب ــعد امل ــوت أم ال‪ ،‬وال ــنفس ال ــسماوي ــة سـ ـتُفتَح ل ــها‪،‬‬
‫وال ــنفس ذات ال ــشهوات ل ــن تُ ــفتح ل ــها ”وح ــيل ب ــينهم وب ــني م ــا يش ــتهون“ ب ــعد امل ــوت مل ــفارق ــة ال ــبدن‬
‫األرض ــي‪ .‬ق ــال اهلل ”فخ ــلف م ــن ب ــعده ــم خ ــلف أض ــاع ــوا ال ــصالة وات ــبعوا ال ــشهوات ف ــسوف ي ــلقون‬
‫غــيا“‪ ،‬فــالــصالة عــمل َمــن تــحقق بــه وقــام بــه وأقــامــه وحــافــظ عــليه مــنعه مــن اتــباع الــشهوات‪ ،‬وذلــك‬
‫ألســباب كــثيرة أهــمها فــطري ذاتــي وجــودي ولــيس مجــرد وعــظا ً لــفظياً‪ ،‬ألن الــصالة تــح ّول الــنفس‬
‫إلـى الـجانـب الـروحـي والـعقالنـي بـذاتـها بـإذن اهلل ”الـصالة تـنهى عـن الـفحشاء واملـنكر“‪ ،‬فـالـصالة‬
‫م ــن ش ــأن ال ــروح ال ــعقلي األع ــلى ك ــما أن ال ــشهوة م ــن ش ــأن ال ــبدن ال ــظلمان ــي األس ــفل‪ .‬ل ــذل ــك مل ــا‬
‫أض ــاع ــوا ال ــصالة اق ــترن ذل ــك ب ــات ــباع ال ــشهوات‪ ،‬ف ــكلما ازدادت ال ــنفس م ــن ال ــصالة قـ ـ ّلت ف ــيها‬
‫ال ـ ــشهوات‪ ،‬وك ـ ــلما ض ـ ــعفت ف ـ ــيها ال ـ ــصالة زادت ف ـ ــيها ال ـ ــشهوات‪ ،‬ك ـ ــامل ـ ــيزان إذا ارت ـ ــفع م ـ ــن ج ـ ــهة‬
‫انـخفض مـن األخـرى‪” ،‬قـد أفـلح مـن زكـاهـا‪ .‬وقـد خـاب مـن دسـاهـا“‪ .‬اآلن لـننظر بـني املسـلم الـذي‬
‫يـصلي الـصالة الـقرآنـية واملسـلم الـذي يـصلي الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬فـي الـعادة‪ ،‬وسـنرى أن الـصالة‬
‫الـتقليديـة ال عـالقـة لـها أصـالً بـالـحقيقة فـي إحـداث تـغيير نـفسي يـمنع مـن اتـباع الـشهوات‪ ،‬لـذلـك‬
‫قـام بهـذه الـصالة أنـا هـم مـن أعـرق وأغـرق الـناس فـي بـحار الـشهوات بـل والـدمـاء والـفساد والـظلم‬

‫‪13‬‬
‫والـطغيان‪ ،‬لـكن كـم مـن هـؤالء كـان مـمن يـحافـظ عـلى الـصالة الـقرآنـية ويـداوم عـليها انـظر ولـن تـرى‬
‫عــادةً مــنهم أحــدا ً وإن وجــدت فــق ّلة نــادرة‪ ،‬ألن اهلل قــال ”ســأصــرف عــن آيــاتــي الــذيــن يــتكبّرون فــي‬
‫األرض بـ ــغير الـ ــحق“ وقـ ــال بـ ــعض الـ ــعلماء أن مـ ــعنى هـ ــذه اآليـ ــة هـ ــو نـ ــزع فـ ــهم الـ ــقرءان مـ ــنهم أو‬
‫ـتوصـل بـإذن‬ ‫حـرمـانـهم مـن الـفهم أو نـحو ذلـك‪ ،‬وهـو كـذلـك‪ .‬وأيـضا ً ألن نـفس عـملية قـراءة الـقرءان وال ّ‬
‫اهلل إل ــى م ــعان ــيه وال ــفتح ف ــيه ي ــحتاج إل ــى ن ــوع ط ــهارة ن ــفسية وق ــدس ــية ع ــقلية ب ــدرج ــة م ــا وإال ف ــال‬
‫ـصرف اإلنــسان عــن الــقرءان‪،‬‬ ‫ـمسه إال املطهــرون“‪ ،‬فــيوجــد حــد مــن الــطهارة بــدون يُـ َ‬ ‫يــحصل‪” ،‬ال يـ ّ‬
‫ثــم بــعد هــذا الحــد الــذي يــدخــل بــه فــيه كــلما ازدادت طــهارتــه ازدادت مــعرفــته وفــتحه بــإذن اهلل ”هــم‬
‫درج ــات ع ــند اهلل“ ”ي ــرف ــع اهلل ال ــذي ــن ءام ــنوا م ــنكم وال ــذي ــن أوت ــوا ال ــعلم درج ــات“‪ .‬ل ــذل ــك ال ــصالة‬
‫الــقرآنــية حــني تــكون هــي الــفريــضة املــحفوظــة فــإن الــفرد والجــماعــة ســيميلون تــلقائــيا ً وعــفوي ـا ً ومــن‬
‫داخـل قـلوبـهم وبـباعـث مـن ربـهم فـي نـفوسـهم إلـى التطهـر والـتقدس والسـالم والـسكينة ونـحو ذلـك‬
‫مـن الـصفات املحـمودة لـلنفس واملـجتمع‪ ،‬وبـخالف ذلـك حـني تـكون الـصالة الـتقليديـة هـي الـفريـضة‬
‫كـما هـو الـحاصـل اآلن فـإن أفسـد وأظـلم وأفـسق وأجهـل املـجتمعات لـعلها تـقيم هـذه الـصالة أيـضا ً‬
‫وك ــذل ــك األف ــراد أص ــحاب ال ــسفح وال ــسفك وال ــلعنة أي ــضا ً ي ــقيمون ــها ب ــل ل ــعلك ت ــحقر ص ــالت ــك إل ــى‬
‫ص ــالت ــهم م ــن ه ــذا ال ــوج ــه ال ــصوري ال ــشكلي الحنج ــري ال ــلفظي إن ك ــنت م ــن أه ــل ال ــنظر إل ــى‬
‫املظاهر واملحسوسات حصرا ً‪
.‬‬
‫الحاصل‪ :‬التنوير في الصالة القرآنية وبها بإذن اهلل تصبح النفوس سماوية‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬مبدأ التحكيم‪


-‬‬

‫شــاهــد رابــع‪} :‬إذ دخــلوا عــلى داود فــفزع مــنهم قــالــوا ال تــخف خــصمان بــغى بــعضنا عــلى بــعض‬
‫فاحكم بيننا بالحق وال تشطط واهدنا إلى سواء الصراط{

‫اف ــترض ي ــا ص ــاح ــب ال ــقرءان‪ ،‬وه ــذه األ ّم ــة ك ــلها امل ــفروض أن ت ــكون أص ــحاب ق ــرءان‪ ،‬اف ــترض أن ــه‬
‫جـاءك مـن أصـحاب الـصالة الـتقليديـة مـن أهـل املـذاهـب اإلسـالمـية خـصمان أو أكـثر عـرضـوا عـليك‬
‫مــسألــة مــن مــسائــل الــصالة الــتي اخــتلفوا فــيها‪ ،‬وطــلبوا مــنك كــحامــل لــكتاب اهلل أن تــحكم بــينهم‬
‫فيها‪ ،‬فكيف ستحكم بينهم بكتاب اهلل؟ هل تستطيع أصالً أن تحكم بينهم بكتاب اهلل؟

‫ض ــع ف ــي ب ــال ــك اآلت ــي‪ .‬ال ت ــفترض جه ــلة وع ــوام ه ــم ال ــذي ــن ت ــخاص ــموا إل ــيك‪ .‬ك ــال‪ .‬اف ــترض أن‬
‫أكـبر املجتهـديـن مـن جـميع املـذاهـب الـفقهية الـسنية والـشيعية واإلبـاضـية وغـيرهـم هـم الـذيـن جـاءوا‬
‫إل ــيك‪ .‬وق ــال ــوا ل ــك }ف ــاح ــكم ب ــيننا ب ــال ــحق{ ف ــمن أي ــن س ــتأت ــيهم ب ــال ــحق؟ ال ت ــنسى أن ه ــؤالء ك ــلهم‬

‫‪14‬‬
‫أصـحاب روايـات واجـتهاد‪ ،‬بـمعنى أنـهم قـد بـحثوا فـي مـرويـاتـهم ونـ ّقحوهـا وحـكموا عـلى األسـانـيد‬
‫واملــتون وفــرغــوا مــن كــل ذلــك وجــاءوا لــك بــالــزبــدة والــثمرة مــن بــحوثــهم وقــالــوا لــك مــثالً‪ :‬أيــن نــضع‬
‫أي ــدي ــنا ف ــي ال ــصالة }اح ــكم ب ــيننا ب ــال ــحق وال تش ــطط واه ــدن ــا إل ــى س ــواء ال ــصراط{ ف ــإن ــه حس ــب‬
‫رواي ــات ــنا ت ــوج ــد أق ــوال‪ ،‬األول أن ن ــضعها ع ــلى ص ــدوره ــا‪ ،‬ال ــثان ــي ت ــحت الس ــرة‪ ،‬ال ــثال ــث نس ــبلها‬
‫بـجانـب الفخـذ‪ ،‬الـرابـع نسـبلها عـلى الفخـذ جـهة الـركـبة‪ ،‬وهـكذا بـدأوا يـعددون لـك األقـوال فـي هـذه‬
‫املــسألــة حســب مــا جــمعوه مــن جــميع مــذاهــبهم‪ .‬وفــعلوا مــعك نــفس األمــر بــالنســبة لجــميع املــسائــل‬
‫الفقهية التي اختلفوا فيها اختالفا ً واسعا ً بينا ً متناقضا ً‪ .‬اآلن ماذا ستفعل؟

‫ـفصل هـ ــذه املـ ــسائـ ــل‪.‬‬‫إن قـ ــلت‪ :‬ال أسـ ــتطيع أن أحـ ــكم بـ ــينهم بـ ــكتاب اهلل ألن كـ ــتاب اهلل لـ ــم يـ ـ ّ‬
‫سـأقـول‪ :‬فهـذه املـسائـل إذن ليسـت مـن كـتاب اهلل وإال فـإن الـكتاب املـبني ال يخـلق مـشاكـل ثـم يعجـز‬
‫عـن حـلها عـلى فـرض أنـه هـو الـذي خـلق املـشكلة وقـد عـرفـنا أنـه لـم يخـلقها بـل خـلقتها الـروايـات أو‬
‫أصحابها وكيفية قراءتهم وفهمهم لها‪
.‬‬
‫إن قـلت‪ :‬بـما أن الـكتاب لـم يـفصلها فهـذا يـعني أنـها كـلها صـالـحة فـي الجـملة فـليقم كـل واحـد‬
‫ب ــما ان ــتهى إل ــيه اج ــتهاده‪ .‬س ــأق ــول‪ :‬ل ــكن ال ــرواي ــات وع ــا ّم ــة أه ــل ف ــقهها ال ي ــقول ــون به ــذا ب ــل ي ــب ّدع‬
‫بـعضهم بـعضا ً وقـد يـكفّر بـعضهم بـعضا ً ويـضرب بـعضهم بـعضا ً بسـبب تـلك االخـتالفـات‪ .‬واهلل قـد‬
‫قـال ”إن هـذا الـقرءان يـقص عـلى بـني إسـرائـيل أكـثر الـذي هـم فـيه يـختلفون“ فـكيف ال يـقص عـلى‬
‫املس ــلمني أه ـ ّم وأك ــبر م ــا ه ــم ف ــيه ي ــختلفون ف ــي أم ــوره ــم ال ــعملية ال ــعبادي ــة وع ــمود ال ــدي ــن وأس ــاس‬
‫النجاة‪
.‬‬
‫الـلطيف أنـنا إذا نـظرنـا فـي جـميع مـذاهـب املسـلمني‪ ،‬سنجـدهـم يـؤمـنون بـقراءة الـقرءان وحـفظ‬
‫أوق ــات ال ــصالة حس ــب م ــا ورد ف ــي اآلي ــات وال ي ــر ّد ذل ــك أح ــدا ً ف ــيما ن ــعلم م ــن ال ــعلماء وال ــفقهاء ب ــل‬
‫وع ــا ّم ــة املس ــلمني واملس ــلمات‪ .‬فه ــذا ال ــقدر وه ــو ال ــقدر ال ــقرآن ــي نج ــده ج ــام ــعا ً ل ــأل ّم ــة‪ .‬فنس ــتطيع أن‬
‫نــحكم عــلى الــكل بــكتاب اهلل بــأن نــقول‪ :‬هــذه االخــتالفــات الــزائــدة عــلى الــقراءة والــوقــت ال قــيمة لــها‬
‫ويــجب اإلعــراض عــنها والبــد مــن أن نــقيم الــديــن جــميعا ً وال نــتفرق فــيه بحســب مــا جــاء فــي الــوحــي‬
‫الـجامـع لـلكل‪ .‬فـال أعـلم مـذهـبا ً إال وجـعل الـقراءة فـي الـصالة‪ ،‬وفـي حـال العجـز عـن الـقراءة جـعلوا‬
‫األذكـار مـن قـبيل التسـبيح ونـحوه وهـذا ألن لـب الـقرءان هـو ذكـر اهلل ومـا هـو عـلى الـتحقيق إال ذكـر‬
‫اهلل ”إنــما يــوحــى إل ـيّ أنــما إلــهكم إلــه واحــد“ لــكن حــتى هــؤالء نــظروا إلــى قــراءة الــقرءان كــأصــل‪.‬‬
‫وك ــذل ــك ال ــوق ــت بحس ــب م ــا ورد ف ــي اآلي ــات م ــن ق ــبيل }ل ــدل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل{‪ .‬ف ــمسائ ــل‬
‫ال ــقراءة وال ــوق ــت ي ــمكن ال ــتحاك ــم ف ــيها إل ــى ك ــتاب اهلل‪ .‬واالخ ــتالف ف ــي ك ــتاب اهلل إم ــا ش ــقاق ب ــعيد‬
‫ـقر بـه املـنصفون مـن الـعلماء‪ ،‬فـاأل ّول مـمنوع والـثانـي هـو مـن‬ ‫وإمـا اخـتالف تـنوع يـحتمله الـكتاب وي ّ‬
‫مـدلـول الـكتاب وال يـفرق بـني األمـة‪ .‬وأمـا مـن زعـم أنـه ال مـناص مـن افـتراق األ ّمـة وإن تـحاكـمت إلـى‬

‫‪15‬‬
‫كــتاب اهلل فهــذا يــكذّب بــالــوحــي ويــسفّه أمــر الــحق تــعالــى ”أقــيموا الــديــن وال تــفرقــوا فــيه“‪ .‬الــتحاكــم‬
‫إل ــى ال ــكتاب الب ــد أن ي ــكون بش ــرط ال ــتحاك ــم إل ــيه بحس ــب م ــدل ــول ال ــلسان ال ــعرب ــي ”ب ــلسان ع ــرب ــي‬
‫مـبني“‪ ،‬وبشـرط عـدم فـرض رأي مـن الـخارج عـليه فهـذا بـديـهي ألنـه حـينها لـن يـكون الـتحاكـم إلـى‬
‫الـكتاب بـل إلـى الـكتاب مـع الـرأي املـفروض عـليه فهـذا خـالف مـقتضى الـدعـوة إلـى الـكتاب ”دعـوا‬
‫إلــى كــتاب اهلل لــيحكم بــينهم“ فــالبــد أن يــكون الــكتاب هــو الــحاكــم بــيننا فــلو جــاء شــخص بــمفهوم‬
‫مـن روايـة وأراد تـطبيقها عـلى الـكتاب فهـذا يـتحاكـم إلـى الـروايـة ولـيس إلـى اآليـة فـالشـرط افـتراض‬
‫أنــه ال يــوجــد إال هــذا الــكتاب بــني أيــديــنا وهــو عــربــي مــبني فــلننظر فــيه ونــحتج بــه حــصرا ً لــنرى مــا‬
‫نخـرج بـه ثـم لـننظر الـفرق بـني هـذا الـتحاكـم وبـني مـا يـحصل اآلن مـن تـحكيم الـروايـات والـتواريـخ‬
‫واآلراء املستنبطة من مصادر متعددة غير كتابية‪
.‬‬
‫الــتحاكــم إلــى الــروايــات لــن يــنفع فــي حــل مــسألــة وتــوحــيد أ ّمــة‪ ،‬فــقد تــحاكــموا إلــيها عــبر قــرون‬
‫وهـا نـحن الـيوم عـلى مـا نـحن عـليه‪ .‬كـذلـك الـتحاكـم إلـى كـتب الـفقه ومـجادالت الـفقهاء فـإنـها أيـضا ً‬
‫لـن تـنفع فـلديـنا مجـلدات أولـها فـي األرض وآخـرهـا لـعله يـصل الـقمر ومـع ذلـك بـقي الـحنفي حـنفيا ً‬
‫يبش ــر ب ــعض األح ــناف ب ــعضهم ب ــعضا ً ب ــأن امله ــدي سيخ ــرج وي ــحكم ب ــامل ــذه ــب ال ــحنفي‬ ‫وال ي ــزال ّ‬
‫وكــذلــك بــقي الــشافــعي شــافــعيا ً والــجعفري جــعفري ـا ً وهــل ّم جـ ّـرا ً‪ .‬هــذه تجــربــة فــاشــلة‪ ،‬مــضى عــليها‬
‫قــرون وثــبت فشــلها‪ .‬األمــر الجــديــد هــو األمــر الــعتيق‪ ،‬هــو مــا جــاء بــه الــنبي ســالم اهلل عــليه وكــان‬
‫يـ ــحكم بـ ــه ”أنـ ــزلـ ــنا إلـ ــيك الـ ــكتاب لـ ــتحكم بـ ــني الـ ــناس بـ ــما أراك اهلل“ يـ ــعني أراك اهلل فـ ــي الـ ــكتاب‬
‫التــصال آخــر الــكالم بــأولــه وإال فــلو كــان يــرى رأيـا ً خــارج الــكتاب املــنزل إلــيه ملــا كــان فــي تــصديــر‬
‫اآليــة بــذكــر إنــزالــه فــائــدة وعــبرة‪ ،‬إال أن يــقال بــأن إنــزال الــكتاب ح ـ ّول عــقله بــطريــقة جــعل رأيــه أيــا‬
‫كـان مـوافـقا ً لـنور الـكتاب فهـذا أيـضا ً يـقتضي أن يـكون حـكمه ورأيـه مـوافـقا ً ملـا فـي الـكتاب ولـو فـي‬
‫ب ــطون ــه وأس ــراره وال ــرب ــط ال ــعميق ب ــني م ــختلف آي ــات ــه وم ــوض ــوع ــات ــه وت ــأوي ــله‪ ،‬ع ــلى ال ــوجه ــني الب ــد م ــن‬
‫الـتحاكـم والـرؤيـة بـالـكتاب املـنزل والـتعاون عـلى ذلـك فـإن اهلل أكـرم وأرحـم مـن أن يـدع األ ّمـة وهـي‬
‫ت ــتحاك ــم إل ــى ك ــتاب ــه مل ــعرف ــة ك ــيف ت ــقيم أم ــره ودي ــنه ودي ــنها‪” .‬ات ــقوا اهلل وي ــعلمكم اهلل“‪ .‬ف ــلنتّق اهلل‬
‫بـالـتحاكـم إلـى كـتابـه والـصدور فـي رأيـنا عـن دراسـته وحـده مـا اسـتطعنا إلـى ذلـك سـبيالً وال يـكلف‬
‫اهلل نفسا ً إال وسعها ً وما آتاها‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬نذير‪
-‬‬

‫نـذيـر‪} :‬ولـقد أهـلكنا الـقرون مـن قـبلكم ملـا ظـلموا وجـاءتـهم رسـلهم بـالـبينات ومـا كـانـوا لـيؤمـنوا كـذلـك‬
‫نجزي القوم املجرمني{

‫‪16‬‬
‫الــبينات الــتي يُجــمع املســلمون أن الــرســول جــاء بــها هــي اآليــات الــقرآنــية‪ .‬والــقدر الــذي يــتفق الــكل‬
‫عــلى أن مــخالــفته ظــلم هــو مــخالــفة الــقرءان‪ .‬وال أرى عـ ِ‬
‫ـاملــا يــعتقد بــأنــه يــسع إنــسان أن ُيــق ّدم شــيئا ً‬
‫عــلى كــتاب اهلل تــعالــى‪ .‬مــن هــذا املــنطلق لــننظر فــي اآليــات ونــتصل بــها وال نــقطع صــلتنا بــها إمــا‬
‫بالكلية وإما بوضع شيء آخر أجنبي عنها بيننا وبينها فنكون من املجرمني والعياذ باهلل‪
.‬‬

‫لــم تــزل هــذه األ ّمــة مــختلفة اخــتالف تــضاد وحــرب مــنذ قــرون‪ ،‬واإلعــراض بــالــكلية عــن كــتاب اهلل أو‬
‫تـسخير بـيناتـه كمجـرد أدوات بحسـب الـشهوة لـدعـم املـذهـب والـفرقـة هـو الـنمط الـعام الـذي سـارت‬
‫عـليه‪ .‬لـيكن قـرنـنا هـذا قـرنـا ً جـديـدا ً نـحيي فـيه بـينات رسـولـنا ونـؤمـن بـما فـيها ولـو كـانـت الـنتيجة مـا‬
‫ـمسك بـبينات رسـولـه الـثابـتة‪ ،‬لـكن سـ ُي ِ‬
‫حاسـب يـقينا ً الـذيـن‬ ‫كـانـت‪ .‬فـإن اهلل لـن يـحاسـب إنـسانـا ً ألنـه ت ّ‬
‫أعرضوا عن الذكر وهجروا القرءان بدرجة أو بأخرى‪” ،‬وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون“‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬أصل محورية الصالة التقليدية‪


-‬‬

‫أرى م ــن ال ــنظر ف ــي ط ــبيعة ال ــصالة ال ــتقليدي ــة وآث ــاره ــا ال ــواق ــعية ف ــي األ ّم ــة وك ــذل ــك م ــن ال ــنظر ف ــي‬
‫الـروايـات املـتعلقة بـها أن الـصالة الـقرآنـية تـراجـعت بـعدمـا تـق ّدمـت دول االسـتبداد بـعد الـنبي صـلى‬
‫اهلل عــليه وآلــه وســلم وصــار اإلســالم مجــردة لــفظ وصــورة ورســم ُيــراد إدخــال عــدد كــبير مــن الــناس‬
‫فـيه واتـباعـه بـعدمـا صـار مج ّـرد دولـة والـديـانـة جـزء مـنها بـدالً مـن أن يـكون ديـانـة والـدولـة مج ّـرد آلـة‬
‫دنيوية لها‪
.‬‬
‫ذل ــك ألن ال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــردي ــة وع ــقالن ــية وت ــعليمية‪ ،‬ه ــذه أص ــول ــها ال ــثالث ــة ال ــجوه ــري ــة‪ .‬ب ــينما‬
‫ـسية وعــسكريــة‬ ‫الــدولــة االســتبداديــة صــارت تــبحث عــن رعــية وقــطيع فــالــفرديــة عــدو لــها‪ ،‬وصــارت حـ ّ‬
‫ـضرب املــتسائــل فــيها عــن آيــة‬ ‫مــاديــة الــطابــع فــالــعقالنــية عــدو لــها‪ ،‬وصــارت تــقليديــة عــقائــديــة قــد ُيـ َ‬
‫قـرآنـية حـتى يـكاد يُـقتَل ويـحارب أصـحاب الـفهم الـقرآنـي بـالـنفي والـضرب وأحـيانـا ً الـقتل فـالـنمط‬
‫التعليمي والعلمي صار من أعدائها‪
.‬‬
‫الـطريـقة الـقرآنـية تـصنع فـردا ً عـاقـالً مـتعلماً‪ ،‬بـينما الـطريـقة االسـتبداديـة أرادت رعـية عـسكريـة‬
‫ُم ــق ّلدة‪ .‬وب ــما أن ع ــمود ال ــدي ــن ال ــقرآن ــي ه ــو ال ــصالة‪ ،‬ف ــتم ت ــضييعها وت ــبدي ــلها وإدخ ــال ال ــتغييرات‬
‫عليها من جهات شتى معنوية وصورية ومقاصدية حتى يحدث االستبدال املناسب لالستبداد‪
.‬‬
‫كــذلــك بــعض الــروايــات تــكشف التحــزب والــشقاق الــذي انتهــت إلــيه األ ّمــة مــن بــعد عهــد الــنبي‪،‬‬
‫وص ــار ال ــرواة م ــن ”ال ــصحاب ــة“ ي ــخال ــف ب ــعضهم ب ــعضا ً ف ــي ال ــتعال ــيم ع ــن ال ــصالة وغ ــيره ــا ح ــتى‬
‫ُيظهــروا أنــهم هــم عــمدة الــديــن واملــراجــع املــعتمديــن وصــار بــعضهم يــنازع بــعضا ً فــي ذلــك ومــا تــلى‬

‫‪17‬‬
‫ذلـك مـن أتـباعـهم أشـ ّد وهـكذا دوالـيك‪ .‬فـألن الـصالة الـقرآنـية ال يـمكن أن يـقع فـيها مـثل ذلـك بـحكم‬
‫كـون الـقرءان عـند الجـميع‪ ،‬فـال تـفاضـل وتـنازع وبـغي مـن هـذا الـوجـه إال نـادرا ً ولـن يـدوم بـحكم مـا‬
‫فــي الــقرءان ذاتــه مــن عــوامــل تــمنع مــثل هــذا الــشقاق‪ ،‬فــكان البــد مــن إدخــال عــنصر آخــر وجــعله‬
‫املـعتمد حـتى فـي الـحكم عـلى الـقرءان وهـذا الـعنصر هـو املـرويـات املـنسوبـة لـلنبي وكـيفية فـهم هـذه‬
‫املــرويــات حــتى فــرض صــدقــها‪ .‬فــانــتقلت الســلطة مــن ســلطة الــكتاب إلــى ســلطة الــشخص الــراوي‬
‫ـعرف بـالـعقل والـوجـود والـقرءان‪ ،‬بـل صـار‬ ‫والـثقة بـه كـصادق الـنقل حـافـظ الـواقـعة‪ ،‬فـصار الـحق ال يُ َ‬
‫ـعرف ب ــاالع ــتماد ع ــلى ف ــالن وع ــالن‪ ،‬وه ــذا ي ــناس ــب ال ــنمط االس ــتبدادي ت ــمام ـا ً‪ .‬وال ــصالة ك ــان ل ــها‬ ‫ُي ـ َ‬
‫الحـظ األوفـر مـن هـذا الـتحويـل والـتضييع والـعبث‪ ،‬بـحكم كـونـها عـمود الـديـن الـذي يـبدأ الـفساد مـنه‬
‫أو اإلص ــالح ب ــه ك ــما ق ــال ت ــعال ــى }فخ ــلف م ــن ب ــعده ــم خ ــلف أض ــاع ــوا ال ــصالة وات ــبعوا ال ــشهوات‬
‫فسوف يلقون غيا{ فاملعادلة بسيطة وتبدأ من تضييع الصالة‪
.‬‬
‫مــما يشهــد لهــذا املــعنى‪ ،‬أنــك إن وجــدت مــائــة إنــسان يــقيم الــصالة الــقرآنــية‪ ،‬فــإنــك عــادةً لــن‬
‫تج ــد ف ــيهم إال واح ــدا ً ي ــمكن أن ي ــكون م ــن أه ــل ال ــطغيان واالس ــتبداد وال ــفساد والجه ــل ه ــذا إن‬
‫وجــدتــه‪ ،‬بــل ســتجد رجــاالً مــن أهــل اهلل عــادةً‪ ،‬وحــتى فــي الــروايــة مــصداق ذلــك لــقول الــنبي صــلى‬
‫اهلل ع ــليه وآل ــه وس ــلم ”أه ــل ال ــقرءان أه ــل اهلل وخ ــاص ــته“‪ .‬ل ــكن ب ــالنس ــبة ل ــلصالة ال ــتقليدي ــة‪ ،‬ي ــقيمها‬
‫الـيوم مـئات املـاليـني بـل فـوق املـليار وقـريـب مـن املـلياريـن مـن املسـلمني بـدرجـة أو بـأخـرى‪ ،‬لـكنهم ”‬
‫غ ــثاء ك ــغثاء ال ــسيل“ ب ــشكل ع ــام ب ــدل ــيل أن ــه إل ــى ال ــيوم أك ــبر وأس ــوأ اس ــتبداد ف ــي األرض م ــوج ــود‬
‫ب ــشكل ع ــام ف ــي ال ــبالد ذات األغ ــلبية املس ــلمة‪ ،‬ف ــما أغ ــنى ع ــنهم وم ــا ن ــفعتهم ه ــذه ال ــصالة ال ف ــي‬
‫االن ــتهاء ع ــن ف ــحشاء وم ــنكر وظ ــلم وب ــغي وع ــدوان وف ــساد وجه ــل‪ .‬ن ــعم إرج ــاع ك ــل ذل ــك ف ــقط إل ــى‬
‫ال ــصالة ال ي ــكفي‪ ،‬ل ــكن ل ــلصالة دور م ــهم وأس ــاس ــي ف ــي ت ــشكيل ن ــفس امل ــص ّلي وع ــقليته وط ــري ــقة‬
‫حياته بل وذوقه وحساسيته لألمور‪
.‬‬
‫ال ــصالة ال ــقرآن ــية ت ــصنع ب ــإذن اهلل ن ــفسا ً ت ــميل وتنج ــذب ل ــجهة ال ــعقل وال ــعدل‪ ،‬ب ــينما ال ــصالة‬
‫الـتقليديـة فـي أحـسن األحـوال مـحايـدة وفـي الـعادة ومـعظم األحـوال تـميل بـالـنفس جـهة عـدم الـنفرة‬
‫م ــن الجه ــل وال ــظلم‪ .‬ال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــعال ــة‪ ،‬ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ف ــارغ ــة‪ ،‬واالس ــتبداد ي ــناس ــبه أ ّم ــة‬
‫فارغة‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬عن مسألة الجمع بني الصالتني‪


-‬‬

‫هـل يـمكن الجـمع بـني الـصالة الـقرآنـية والـتقليديـة؟ وهـل الـتقليديـة عـائـق عـن إقـامـة الـقرآنـية وكـل مـا‬
‫فيها وآثارها وتجديد الدين بها؟

‫‪18‬‬
‫بـ ــالنسـ ــبة للجـ ــمع‪ ،‬فـ ــهو مـ ــمكن‪ .‬بـ ــل أرى حسـ ــب قـ ــراءة الـ ــروايـ ــات فـ ــي ضـ ــوء الـ ــقرءان واالعـ ــتبارات‬
‫الـتاريـخية الـنقلية املـتواتـرة أن هـذا مـا كـان عـليه حـال الـنبي وأصـحابـه الـصادقـني أصـالً‪ .‬وهـو أنـهم‬
‫ك ــان ــوا ي ــقيمون ال ــصورة ال ــتقليدي ــة كممه ــد وكح ـ ّد أدن ــى إلق ــام ــة ال ــقرآن ــية‪ .‬فللج ــلوس ل ــقراءة ال ــقرءان‬
‫ودراســته مــنفردا ً أو تــدارســه مــع جــماعــة‪ ،‬جــاءت الــصورة الــتقليديــة كــوســيلة إعــداد وتــجهيز لــلقراء‪،‬‬
‫فـهي بحـركـاتـها الـريـاضـية ذات املـعنى الـتعبّدي فـي آن واحـد وفـي أذكـارهـا املـكررة والـنمطية تـؤدي‬
‫ب ــذل ــك إل ــى اس ــتحضار ال ــعقل م ــن م ــشاغ ــل ال ــدن ــيا وم ــا ك ــان م ــن أم ــر اإلن ــسان ق ــبل ال ــدخ ــول ف ــي‬
‫الـصالة الـقرآنـية وكـذلـك لـجعل جـسمه مـرتـاحـا ً حـتى يـبدأ بـقراءة الـقرءان والـذي يـحتاج إلـى فـترات‬
‫طـويـلة عـادةً مـن الجـلوس أو الـقيام ونـحو ذلـك مـن الـثبات الـجسمانـي حـتى يتحـرك الـعقل ويـتأمـل‬
‫الــقلب‪ ،‬فــالحــركــات الــريــاضــية واأللــفاظ الــديــنية مــع الــهيئة الــتعبديــة واســتشعار مــعنى الــتعبّد هــذه‬
‫الـثالثـة تـؤدي إلـى إعـداد الـنفس لـلتفرغ لـلنظر فـي الـقرءان ودراسـته واالعـتبار بـه‪ .‬مـن هـذا الـوجـه‪،‬‬
‫ي ــمكن أن ن ــقول الج ــمع ب ــني ال ــقرآن ــية وال ــتقليدي ــة م ــمكن‪ .‬ل ــكن بش ــرط أن ن ــعرف أن ال ــتقليدي ــة ه ــي‬
‫مجرد إعداد وتجهيز وليست صلب الصالة القرآنية واملقصود منها‪
.‬‬
‫لـكن بـالنسـبة ألكـثر املسـلمني فـال أعـتقد إمـكان الجـمع‪ ،‬ال أق ّـل لـيس كـبدايـة‪ .‬وذلـك ألن املسـلم‬
‫امل ـ ــتوس ـ ــط ال ـ ــذي اع ـ ــتاد أن ي ـ ــكون ه ـ ـ ّـمه مج ـ ــرد ”إق ـ ــام ـ ــة ال ـ ــفرض“ و ”م ـ ــا يج ـ ــزئ“ و“يُ ـ ــسقط ع ـ ــنه‬
‫ال ــفرض“ وم ــا أش ــبه م ــن ت ــفكير ال ــكاره ــني ل ــلدي ــن وال ــجاه ــلني ب ــأم ــر اهلل وم ــقصد وج ــود ن ــفوس ــهم‬
‫وســعادتــهم‪ ،‬وهــو كــله مــن تــعليم مــشايــخ الــدجــل والجهــل والــكفر بــالــنفس عــبر الــقرون‪ ،‬هــذا الــنمط‬
‫املـريـض فـي الـتفكير سـيجعله يـقول ”مـا هـي الـصالة الـتي إن قـمت بـها أبـقى مسـلما ً كحـد أدنـى؟‬
‫“ فـإن قـيل لـه بـأنـها مجـرد حـركـات وألـفاظ يـقيم صـورتـها والسـالم‪ ،‬فـسيكتفي بـذلـك ويـنتهي األمـر‪.‬‬
‫وأمــا قــراءة الــقرءان ودراســته فــلن تــكون عــلى بــالــه‪ ،‬وإن قــام بــها فــي املــناســبات الــشاذة فســتكون‬
‫مجرد عمل إضافي ثانوي ال يرى له مركزية في حياته الدينية وحياته عموما ً‪
.‬‬
‫فأرى الحل كالتالي‪
:‬‬
‫بـالنسـبة ملـن يـفهم مـا سـبق‪ ،‬عـليه أن يـقيم الـقرآنـية وإن شـاء أن يـقيم الـتقليديـة أيـضا ً بـاملـعنى‬
‫الــسابــق مــع عــلمه وفــهمه بــأنــها ليســت هــي الــصالة الــتي أمــر اهلل بــها فــرض ـا ً فــي كــتابــه‪ ،‬فــهو ومــا‬
‫عـمله‪ ،‬وسـتكون الـتقليديـة مـن بـاب األعـمال اإلضـافـية الـديـنية مـن حـيث أنـها هـيئات حـسنة وأذكـار‬
‫طــيبة فــهي مــن بــاب املــباحــات والــحسنات املــندرجــة فــي األوامــر الــقرآنــية الــعامــة مــن قــبيل ”اذكــروا‬
‫اهلل ذكرا ً كثيرا ً“ وما أشبه‪
.‬‬
‫بـالنسـبة لـغير َمـن سـبق‪ ،‬فـعليه أوالً إحـكام الـصالة الـقرآنـية والـرسـوخ فـيها‪ .‬فـإذا رسـخ واسـتقر‬
‫فــيها‪ ،‬حــينها إن شــاء وثــبت عــنده أن صــورة الــتقليديــة صــورة فــي الجــملة مــنقولــة عــن عــمل الــنبي‬
‫فـهي صـالة الـنبي أي اخـتياره الـخاص وإن كـان بـالـوحـي واإللـهام لـكنها لـون خـاص لـه فـمن شـاء‬

‫‪19‬‬
‫قـام بـه ومـن شـاء ال يـقوم بـه‪ ،‬فهـذا أيـضا ً لـه وجـه وهـو مـع كـتاب اهلل‪ ،‬بـل وفـي قـراءتـي لـلروايـات أرى‬
‫أن ل ــه وج ــها ً أي ــضا ً ح ــتى ف ــي ح ــكم م ــا ف ــي ب ــعض ال ــرواي ــات وإش ــارت ــها‪ .‬ل ــن ُيٌسأل أح ــد مل ــاذا ل ــم‬
‫يتحـ ّـرك كــما تحـ ّـرك الــنبي بــجسمه‪ ،‬لــكن س ـيُسأل الــناس عــن مــاذا فــعلوا مــع الــقرءان وهــل أقــامــوا‬
‫الصالة التي أمر بها في الكتاب حصرا ً‪
.‬‬
‫أنـا اآلن مـثالً‪ ،‬أقـرأ أورادي الـخاصـة وأنـا عـلى هـيئات جـسمانـية مـختلفة‪ ،‬ريـاضـية شـديـدة أو‬
‫غ ــير ري ــاض ــية‪ ،‬ل ــكن ال ــعبرة ب ــال ــقراءة وال ــدع ــاء وليس ــت ف ــي ال ــصورة ال ــجسمان ــية‪ .‬ف ــتخيل ل ــو ج ــاء‬
‫شـخص ونـسي مـا أقـرأه واملـقصد مـن عـملي ثـم صـار يـر ّكـز فـقط عـلى هـيئة جـسمي ويـريـد تـقليدي‬
‫فــيها‪ .‬بهــذه الــطريــقة أفــهم كــثير مــن الــروايــات الــتي كــان يــتلصص فــيها بــعض الــناس عــلى صــالة‬
‫الــنبي وكــم كــان يــقرأ وكــيف كــان يــقوم ومــاذا كــان يــفعل‪ .‬وأحــيان ـا ً تــصل بــعض الــروايــات إلــى حــد‬
‫ع ــجيب‪ ،‬ك ــأن ي ــختلف َم ــن ك ــان ــوا م ــع ال ــنبي ف ــي ه ــل ك ــان ي ــقرأ ب ــال ــبسملة جه ــرا ً أم ال‪ ،‬أو أي ــن ك ــان‬
‫يـ ــضع يـ ــده فـ ــي الـ ــصالة‪ ،‬أو نـ ــحو ذلـ ــك مـ ــن أمـ ــور يـ ــمنك فـ ــهمها فـ ــي حـ ــال عـ ــرفـ ــنا أن الـ ــنبي كـ ــان‬
‫ج ــسمان ــيا ً ي ــقوم ب ــأم ــور م ــختلفة ف ــي أوق ــات وح ــاالت م ــختلفة تح ــدي ــدا ً ألن ــها ليس ــت ج ــوه ــري ــة ف ــي‬
‫الــصالة بــل الــجوهــري فــيها هــو الــقراءة والــوقــت كــما ب ـيّنه اهلل فــي كــتابــه‪ .‬بــعبارة أخــرى‪َ ،‬مــن يــفهم‬
‫الـقرءان ويـقيم صـالتـه سـيكون تـعاطـيه مـع الـروايـات أيـضا ً أفـضل وسـيكون جـمعه بـينها وبـني أمـر‬
‫القرءان أسلم وأقرب للواقع وأعقل‪
.‬‬
‫ل ــكن ع ــلى أي ــة ح ــال‪ ،‬الب ــد م ــن دع ــوة ج ــميع املس ــلمني وغ ــير املس ــلمني إل ــى ق ــراءة ال ــقرءان ف ــي‬
‫املــواقــيت املــذكــورة فــي الــكتاب‪ .‬ثــم بــعد ذلــك‪ ،‬يــكون مــا يــكون‪ .‬وقــد رأيــت أثــر ذلــك فــي بــعض غــير‬
‫املسـلمني واملسـلمني‪ ،‬مـمن بـدأ صـلته بـالـديـن أو جـدد صـلته بـالـديـن عـبر الـقرءان حـصراً‪ ،‬فـإنـهم مـا‬
‫وجــدوا طــعم اإليــمان وقـ ّوة اإلســالم إال بــعدمــا أقــامــوا الــصالة بحســب تــعريــفها الــقرآنــي‪ .‬ومــا أكــثر‬
‫م ــا وردن ــي م ــن ه ــؤالء وغ ــيره ــم‪ ،‬ب ــل وأح ــيان ـا ً أج ــده ف ــي ن ــفسي ب ــال ــرغ ــم م ــن ح ــبي الش ــدي ــد ل ــلصالة‬
‫الــتقليديــة وعــدم وجــدانــي تــعارض ـا ً فــي نــفسي بــينها وبــني الــصالة الــقرآنــية‪ ،‬لــكن مــع ذلــك وردنــي‬
‫ال ــكثير م ــن اإلش ــكاالت ال ــتي يج ــده ــا ال ــناس ف ــي ال ــتقليدي ــة واالع ــتراض ــات امل ــختلفة وال ــبرود وامل ــلل‬
‫وســهو الــعقل وعــدم اســتشعار الــحضور اإللــهي وغــير ذلــك مــما يــعرفــه الــكل عــلى مــا أظــن بــل أكــاد‬
‫أجـزم‪ .‬يـندر أن تجـد مـثل ذلـك فـي الـصالة الـقرآنـية‪ .‬لـذلـك أقـول بـأن االهـتمام بـالجـمع بـني الـقرآنـية‬
‫ـنصب ع ــلى دع ــوة‬ ‫ّ‬ ‫وال ــتقليدي ــة ي ــجب أن ي ــكون خ ــطوة ث ــان ــية وث ــان ــوي ــة‪ .‬األص ــل وااله ــتمام ي ــجب أن ي ـ‬
‫األ ّمة كلها إلى إقامة الصالة القرآنية على أنها الصالة املأمور بها في كتاب اهلل حصرا ً‪
.‬‬

‫وأما بالنسبة لسؤال العائق‪ ،‬فنعم يوجد أكثر من عائق‪


:‬‬

‫‪20‬‬
‫الـعائـق األول هـو أن الـتقليديـة قـد تـأخـذ وقـتا ً مـن اإلنـسان املـشغول فـي حـياتـه الـيومـية بـحيث‬
‫ال يجــد وقــتا ً إلقــامــة الــقرآنــية والــتقليديــة مــعاً‪ ،‬فــيقتصر عــلى واحــدة فــيختار الــتقليديــة ألنــها شــكلية‬
‫صورية ال تتطلب عمالً عقليا ً ونفسيا ً وال تغييرا ً جوهريا ً في الذات والصفات والتصرفات‪
.‬‬
‫الـعائـق الـثانـي هـو أن الـتقليديـة اآلن لـها الـصدارة وعـليها شـبه إجـماع كـلي مـا عـدا قـلة قـليلة‬
‫مــن الــناس مــمن يــجاهــر بــخالفــها‪ .‬فــعلى مســتوى الــفكرة‪ ،‬احــت ّلت بــل اغــتصبت الــصورة الــتقليديــة‬
‫الصورة القرآنية للصالة‪ .‬فالبد من إزاحة املغتصب وإرجاع امللك بالحق إلى عرشه‪
.‬‬
‫الـعائـق الـثالـث هـو أن اعـتبار الـتقليديـة ذات ح ّـجية مـطلقة يـفتح بـاب اعـتبار مـا لـيس فـي كـتاب‬
‫ـجية م ــطلقة ف ــي ال ــدي ــن وم ــن ح ــيث ه ــو دي ــن ي ــدان ب ــه‪ .‬وه ــذا ه ــو األس ــاس‬
‫اهلل ك ــشيء وت ــعليم ل ــه ح ـ ّ‬
‫الــذي عــليه تــأسســت بــقية الــجهاالت واالســتبداد املنتشــرة بــاســم اإلســالم‪ ،‬بــل ونــفس نــمط الــنظر‬
‫إلى الوجود وطريقة التفكير تش ّكلت بتلك املصادر الفاسدة املفسدة‪
.‬‬

‫قد نجيب على هذه العوائق الثالثة بالتالي


‪:‬‬
‫ب ــالنس ــبة ل ــعائ ــق االن ــشغال‪ ،‬ي ــمكن أن ي ــقال ب ــأن ــه ي ــجب ع ــلى ال ــفرد إق ــام ــة ال ــقرآن ــية ف ــقط إال إن‬
‫وجـدت فـراغـا ً فـيقيم األخـرى‪ .‬أو يـقال بـأنـه يـجب الـتخفيف مـن الـتقليديـة بـأكـبر قـدر مـمكن بـحيث ال‬
‫ـف صـورة مـنها بـدون أي مـن الـتعقيدات‬ ‫تـأخـذ إال دقـائـق مـعدودة‪ ،‬بـمعنى أن يـتم األخـذ بـأق ّـل وأخ ّ‬
‫ـف ص ــورة ع ــلى اإلط ــالق بحس ــب ت ــقري ــرات امل ــذاه ــب‬ ‫ال ــفقهية امل ــتصلة ب ــها ب ــل ن ــنظر ف ــي أق ـ ّـل وأخ ـ ّ‬
‫فــنجعلها هــي األســاس‪ ،‬كــأن تــكون فــقط هــكذا‪ :‬الــتكبير والــفاتــحة وســورة قــصيرة كــالــكوثــر وركــوع‬
‫وتسـ ــبيحة واحـ ــدة ورفـ ــع وسـ ــجود وجـ ــلسة وسـ ــجود وتشهـ ــد وسـ ــالم‪ ،‬حسـ ــب عـ ــدد الـ ــركـ ــعات عـ ــلى‬
‫املـشهور‪ .‬أو حـتى تـكون تـكبير وفـاتـحة والحـركـات بـدون أي أذكـار ثـم تشهـد وسـالم‪ .‬وهـذه الـصورة‬
‫س ــتأخ ــذ حس ــب التج ــرب ــة أق ـ ّـل م ــن دق ــيقتني‪ ،‬فعش ــر دق ــائ ــق ت ــكفي ل ــلصلوات الخ ــمس‪ .‬فتكس ــب م ــن‬
‫هــذه الــناحــية الــفائــدة الــتي ذكــرنــاهــا ســابــقا ً عــن اإلعــداد‪ ،‬وال تــنشغل عــن الــصالة الــقرآنــية‪ .‬هــذا‬
‫وجه‪
.‬‬
‫ب ــالنس ــبة ل ــعائ ــق ال ــصدارة‪ ،‬ف ــال ــرد ي ــكون ب ــبيان ف ــرض ــية م ــا ف ــي ك ــتاب اهلل ح ــصرا ً وع ــدم ج ــواز‬
‫إحالل تعليم آخر مكانه كان ما كان‪ .‬فالحل تصدير كتاب اهلل‪ ،‬في هذه املسألة وغيرها‪
.‬‬
‫ـحجية حـتى الـصالة الـتقليديـة كـديـن البـد‬ ‫ـحجية‪ ،‬فـالـرد أيـضا ً بـبيان رفـضنا ل ّ‬ ‫بـالنسـبة لـعائـق ال ّ‬
‫مــن أن يــدان بــه جــوهــريـاً‪ ،‬فــكل مــا ســوى الــقرءان لــيس جــوهــريـا ً فــي اإلســالم املحــمدي‪ ،‬فــقد يــكون‬
‫أم ــرا ً ج ــاء ل ــظرف م ــعني أو ك ــتخصيص مل ــباح أو م ــأم ــور ب ــه ع ــام م ــقرون ب ــاخ ــتيار امل ــخصص ذات ــه‬
‫وليس بالضرورة ملزما ً لكل أهل القرءان في كل زمان ومكان‪
.‬‬

‫‪21‬‬
‫ف ــال ــتخفيف األق ــصى ل ــلصالة ال ــتقليدي ــة‪ ،‬م ــع ج ــعل ال ــصدارة ل ــلصالة ال ــقرآن ــية‪َ ،‬وع ــدم اع ــتبار‬
‫ـجية مــطلقة ألنــها ليســت فــي صــورتــها قــرآنــية ب ـ ّينة‪ ،‬يــكفي لــرفــع تــلك الــعوائــق‪ .‬إال‬ ‫الــتقليديــة ذات حـ ّ‬
‫أن ــنا ن ــذ ّك ــر م ـ ّـرة أخ ــرى ب ــأن ه ــذا ل ــيس ف ــرض ـا ً ع ــلى الج ــميع‪ ،‬ف ــال ــفرض م ــا ف ــرض ــه اهلل واهلل ف ــرض‬
‫القرءان‪
.‬‬

‫‪-‬فصل‪ :‬مقارنات‪
-‬‬

‫الـصالة الـقرآنـية األصـل فـيها الـنفس والـروح‪ ،‬بـينما الـجسم فـيها فـرع‪ .‬وهـذه الـطريـقة آدمـية‪ .‬فـإن‬
‫آدم لــه جــسم ونــفس وروح‪ ،‬والــجسم فــيه وهــو طــينه هــو أســفل شــيء فــيه‪ ،‬بــينما نــفسه وروحــه هــي‬
‫األعـ ــلى‪ .‬بـ ــينما الـ ــصالة الـ ــتقليديـ ــة األصـ ــل فـ ــيها الـ ــجسم‪ ،‬والـ ــنفس والـ ــروح عـ ــلى فـ ــرض الـ ــوجـ ــود‬
‫والـظهور فـإنـها فـرع وتـابـع واسـتثناء‪ .‬فـمن هـذا الـوجـه هـي إبـليسية مـن حـيث تـركـيزهـا عـلى الـجانـب‬
‫ـحسي‪ ،‬فــهي شــأن الــجن بحســب الــتأويــل‪ ،‬وهــم الــذيــن يــعملون بحســب الــظاهــر وإن خــلى مــن‬ ‫الـ ّ‬
‫الغيب والعلم والباطن‪
.‬‬

‫الــصالة الــقرآنــية فــيها اســتمرار مــع الــحياة وتــح ّول لــلنفس‪ .‬فــال تــشعر بــأنــك انــفصلت عــن الــحياة‬
‫كــأن تــدخــل فــي شــيء مــنفصل عــن الــوجــود الــذي تــحيا فــيه عــادةً ثــم تــقيمها ثــم تخــرج وتــرجــع إلــى‬
‫وجــودك الــطبيعي بــنفس الــعقلية الــتي دخــلت بــها‪ ،‬بــل الــصالة الــقرآنــية تــشعرك حــني تــدخــل فــيها‬
‫وتخـرج مـنها أنـك تـح ّولـت نـفسيا ً وازداد الـوجـود حـولـك إشـعاعـا ً وإظـهارا ً آليـات اهلل فـي اآلفـاق وفـي‬
‫ن ــفسك‪ .‬ب ــينما ال ــصالة ال ــتقليدي ــة م ــبنية ع ــلى االن ــقطاع وال ــتمثيل‪ ،‬ت ــقطعك ع ــن ح ــيات ــك ال ــفطري ــة‬
‫الــطبيعية‪ ،‬وتــمثّل فــيها كــأنــك مــمثّل مســرحــي يــؤدي دورا ً كــتبه لــه شــخص آخــر وغــايــته فــقط حــسن‬
‫ال ــتمثيل ف ــي ال ــصورة م ــع ب ــقاء ال ــجوه ــر ال ــشخصي م ــحفوظ ـا ً ك ــما ه ــو‪ .‬ف ــال ــصالة ال ــقرآن ــية ح ــضرة‬
‫إلهية‪ ،‬لكن الصالة التقليدية مسرحية‪
.‬‬

‫الـصالة الـقرآنـية مـنفتحة عـلى الـدراسـة والـكتابـة‪ ،‬وهـذا أحـسن مـا وجـدتـه فـيها حـني تـصليها وحـدك‬
‫وهـو األصـل‪ ،‬فـأنـا أفـتح الـقرءان وأمـامـي ورقـا ً مـنشورا ً أرقـم عـليه وأكـتب مـا يُـفتح لـي ومـا أفـ ّكر فـيه‬
‫وأحـاور الـقرءان وأتـل ّقى الـروح مـن ربـي حـني أقـرأ كـتابـه وأنـاجـيه بـه‪ .‬وحـني تـصليها مـع غـيرك‪ ،‬فـإنـك‬
‫تـقرأ اآليـة أو الـكلمة ثـم تـتدارسـونـها سـويـا ً وعـادةً بـفضل اهلل تـعالـى الـذي عـودنـا فـضله وخـيره نـرى‬
‫ونــشعر كــلنا بــحضور اهلل تــعالــى وإمــداده وفــيضه حــتى أنــنا نجــلس أحــيانـا ً بــالــساعــات فــي حــالــة‬
‫ج ــذب ك ــام ــل ث ــم مل ــا ن ــفرغ ن ــبدأ ن ــشعر ب ــأج ــسام ــنا وق ــد ن ــشعر ب ــآالم ف ــي رك ــبنا وظ ــهورن ــا م ــن ط ــول‬

‫‪22‬‬
‫الجـلوس بـينما لـم نـكن نـشعر بـها مـن قـبل مـن شـدة الـحضور ونـور الـروح والـعقل الـذي يـمدنـا اهلل‬
‫بـه أثـناء صـالتـنا مـعا ً‪ .‬فـالـكتابـة واملـحاورة هـما مـن قـبيل }اقـرأ وربـك األكـرم‪ .‬الـذي عـ ّلم بـالـقلم‪ .‬عـ ّلم‬
‫اإلن ــسان م ــا ل ــم ي ــعلم{‪ .‬ه ــذا وج ــدت ــه ف ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية بح ــمد اهلل ت ــعال ــى‪ .‬ب ــينما ف ــي ال ــصالة‬
‫الـتقليديـة‪ ،‬ال يـوجـد ال كـتابـة وال مـحاورة‪ ،‬كـما قـلت سـابـقا ً مج ّـرد حـركـات وألـفاظ ال تُـسمن وال تُـغني‬
‫مــن جــوع‪ ،‬بــل يــا لــيتها اكــتفت بــها حــتى إنــها أحــيانـا ً تــتأثــر نــفسية املــأمــور بــنفسية اإلمــام املــظلمة‬
‫والــذي كــثيرا ً مــا يــكون مجـ ّـرد أجــير يــأكــل بــديــنه ويســتأكــل بــقراءة الــقرءان والــعياذ بــاهلل وهــو مــمن‬
‫سماه النبي في إحدى الروايات بالفاجر الذي يقرأ القرءان ليأكل به‪
.‬‬ ‫ّ‬

‫ّ‬
‫الحل القرآني‪
-‬‬ ‫‪-‬فصل‪ :‬مثال على‬

‫ق ــد ي ــظن ال ــبعض أن ق ــول ــنا ع ــن أم ــر اهلل }أق ــيموا ال ــصالة{ ي ــعني ق ــراءة ال ــقرءان ه ــو أم ــر ج ــدي ــد‬
‫اخـترعـناه‪ .‬بـل الـحق أنـه تـوجـد شـواهـد حـتى فـي الـروايـات عـن هـذا املـعنى‪ ،‬ولـو جـاء شـاهـد واحـد‬
‫ل ــكفى ألن ــنا ف ــي غ ــنى ب ــكتاب اهلل وم ــا ف ــهمناه م ــنه ف ــإن ج ــاء ش ــاه ــد م ــن ال ــرواي ــات ف ــاألم ــر أج ــمل‬
‫وأقوى‪
.‬‬
‫خــذ مــثالً آيــة }أقــم الــصالة إن الــصالة تــنهى عــن الــفحشاء واملــنكر{‪ .‬مــعنى الــصالة هــنا هــو‬
‫ـمرة سـماهـا الـصالة‬ ‫الـقرءان‪ ،‬والـدلـيل قـولـه تـعالـى ”أقـم الـصالة لـدلـوك الـشمس‪..‬وقـرءان الفجـر“ ف ّ‬
‫ومــرة ســماهــا الــقرءان‪ ،‬وذلــك ألن الــصالة هــي الــقرءان أي لــها اســم مــن حــيث صــلة الــقارئ بــاهلل‬
‫واس ــم م ــن ح ــيث وس ــيلة ه ــذه ال ــصلة‪ ،‬ف ــهو ش ــيء واح ــد ب ــاع ــتباري ــن وك ــل اع ــتبار ل ــه اس ــم‪ .‬ف ــاألم ــر‬
‫ب ــإق ــام ــة ال ــصالة ه ــو أم ــر ب ــإق ــام ــة ال ــقرءان‪ .‬ل ــذل ــك ق ــال }أق ــم ال ــصالة إن ال ــصالة ت ــنهى{ ن ــعم ألن‬
‫الـقرءان يـنهى عـن الـفحشاء واملـنكر‪ ،‬لـكن لـن يـنهاك إال إن قـرأتـه بـفهم‪ ،‬وأمـا مجـرد الـتالوة الـلفظية‬
‫فــال تــأمــر وال تــنهى كــاألعجــمي يــتلو الحــروف الــعربــية وال يــفهم مــعناهــا‪ ،‬ولــذلــك بــدأت اآليــة بــاألمــر‬
‫بــالــتالوة }اتـ ُـل مــا أوحــي إلــيك مــن الــكتاب وأقــم الــصالة إن الــصالة تــنهى{ فــالــتالوة ال تــنهى لــكن‬
‫ال ــصالة ه ــي ال ــتي ت ــنهى‪ ،‬فه ــذا ع ــلى اع ــتبار أن ال ــتالوة ل ــلكلمات ب ــينما ال ــصالة ل ــلفهم وال ــتعقل‪،‬‬
‫وبـاعـتبار آخـر الـتالوة تـعني االتـباع }اتـل{ أي اتـبع واقـصد اتـباع كـتاب ربـك ومـن هـذا قـولـه ”اتـل‬
‫ففســر لــه ســبب أمــره‬ ‫ّ‬ ‫مــا أوحــي إلــيك مــن كــتاب ربــك ال مــبدل لــكلماتــه ولــن تجــد مــن دونــه ملتحــدا ً“‬
‫إي ــاه مل ــنفعته أن ي ــتبع ك ــتاب رب ــه‪ ،‬وال ت ــعارض ب ــني م ــعنى ال ــتالوة ال ــلفظية وم ــعنى ال ــتالوة االت ــباع ــية‬
‫بــحكم اتــصالــهما‪ ،‬لــكن عــلى الــوجهــني تــمتاز الــتالوة عــن إقــامــة الــصالة‪ .‬وجــه آخــر لــلتمييز بــينهما‬
‫هـو أن تـالوة الـكتاب }اتـل مـا أوحـي إلـى مـن الـكتاب{ هـي الـتالوة فـي غـير وقـت محـدد أي الـتالوة‬
‫املــفتوحــة األوقــات وقــد تــكون فــي أي وقــت‪ ،‬فــاألصــل التشــريــع بــغير تــقييد‪ ،‬ثــم قــال }وأقــم الــصالة{‬

‫‪23‬‬
‫وهــي الــقراءة فــي أوقــات محــددة ”الــصالة كــانــت عــلى املــؤمــنني كــتاب ـا ً مــوقــوت ـا ً“‪ .‬حــسنا ً‪ .‬لــكن هــل‬
‫يـوجـد فـي الـروايـات مـا يـدل عـلى أن قـولـه تـعالـى }أقـم الـصالة{ يـدل عـلى قـراءة الـقرءان؟ نـعم‪ ،‬كـما‬
‫ورد فـي الـدر املـنثور لـلسيوطـي أن ابـن جـريـر أخـرج عـن ابـن عـمر }إن الـصالة تـنهى عـن الـفحشاء‬
‫واملــنكر{ قــال ”الــقرءان الــذي يُــقرأ فــي املــساجــد“‪ .‬هــذا مــن مــرويــات الــسنة‪ .‬ومــن مــرويــات الــشيعة‪،‬‬
‫ف ـ ــي أص ـ ــول ال ـ ــكاف ـ ــي ع ـ ــن ال ـ ــباق ـ ــر ع ـ ــليه الس ـ ــالم ق ـ ــال ”ت ـ ــذاك ـ ــر ال ـ ــعلم دراس ـ ــة وال ـ ــدراس ـ ــة ص ـ ــالة‬
‫حسنة“ فأثبت أن الدراسة صالة حسنة‪
.‬‬

‫م ــسأل ــة أخ ــرى‪ :‬ص ــالة ال ــخوف‪ .‬ق ــال ت ــعال ــى }وإذا ض ــرب ــتم ف ــي األرض ف ــليس ع ــليكم ج ــناح أن‬
‫تــقصروا مــن الــصالة إن خــفتم أن يــفتنكم الــذيــن كــفروا إن الــكافــريــن كــانــوا لــكم عــدوا مــبينا‪ .‬وإذا‬
‫كـنت فـيهم فـأقـمت لـهم الـصالة فـلتقم طـائـفة مـنهم مـعك ولـيأخـذوا أسـلحتهم فـإذا سجـدوا فـليكونـوا‬
‫مــن ورائــكم ولــتأت طــائــفة أخــرى لــم يــصلوا فــليصلوا مــعك ولــيأخــذوا حــذرهــم وأســلحتهم ود الــذيــن‬
‫كـفروا لـو تـغفلون عـن أسـلحتكم وأمـتعتكم فـيميلون عـليكم مـيلة واحـدة وال جـناح عـليكم إن كـان بـكم‬
‫أذى مــن مــطر أو كــنتم مــرضــى أن تــضعوا أســلحتكم وخــذوا حــذركــم إن اهلل أعــد لــلكافــريــن عــذابــا‬
‫مهينا‪
{.‬‬
‫ويفس ــرون أوام ــره ف ــي ض ــمن ب ــيان ــات ــه ح ــصراً‪ ،‬ال يس ــتطيعون أن‬ ‫ّ‬ ‫ال ــذي ــن ال ي ــقرأون ال ــقرءآن‬
‫ـبني‬
‫يـقرأوا هـذه اآليـات ويـفهموا مـا فـيها بحسـب مـا فـيها فـقط ومـا فـي بـقية الـقرءان الـذي يـص ّدق وي ّ‬
‫بــعضه بــعضا ً‪ .‬مــا مــعنى }تــقصروا مــن الــصالة{؟ ومــا هــي هــذه الــصالة املــبينة هــنا؟ ارجــع لــكتب‬
‫فــقه الــروايــات وســتجد خــلطا ً وتخــليطا ً واخــتالفـا ً عــجيبا ً ال تــدري مــن أيــن جــاءوا بــه وكــأن هــذه اآليــة‬
‫أعجمية بل فارغة من املحتوى اضطروا إلى حشوها بمروياتهم املتضاربة‪
.‬‬
‫فـجعلوا قـصر الـصالة يـعني بـدالً مـن أن تـصلي أربـع ركـعات تـصلي ركـعتني‪ ،‬فـقط ! أيـن هـذا‬
‫فـي اآليـة؟ ال يـوجـد‪ .‬فـماذا عـن الـصالة ذات الـثالثـة كـيف نـقصرهـا؟ هـذه ال تُـقصر ! لـكن اآليـة قـالـت‬
‫}تـقصروا مـن الـصالة{ ولـم تحـدد صـالة مـن صـالة‪ .‬ومـاذا عـن ذات االثـنني كـيف نـقصرهـا؟ نـفس‬
‫ال ــجواب‪ .‬ث ــم ب ــعد ذل ــك‪ ،‬ص ــاروا ي ــحكمون ب ــجواز أو وج ــوب ق ــصر ال ــصالة ح ــتى ف ــي ح ــال ان ــعدام‬
‫الـخوف بـالـرغـم مـن أن اهلل قـيّد هـنا األمـر بـالـخوف }فـليس عـليكم جـناح‪..‬إن خـفتم{ بـالـتالـي عـليكم‬
‫يفس ــر ش ــيئا ً و ُي ــع ِرض ع ــن ال ــكتاب ت ــمام ـاً‪،‬‬
‫ج ــناح إن ل ــم ت ــخاف ــوا‪ .‬وذك ــروا ك ــالم ـا ً ع ــاط ــفيا ً ف ــارغ ـا ً ال ّ‬
‫كــروايــة ”رخــصة تــصدق اهلل عــليكم بــها“ أو مــا أشــبه‪ ،‬ونــقول نــعم رخــصة بشــرط مــثل اإلفــطار فــي‬
‫الــصيام بشــرط الــسفر واملــرض فهــذا ال يــعني اإلفــطار بــدون ســفر وال مــرض‪ ،‬كــذلــك هــنا الــقصر‬
‫بسـبب الـخوف فـهي رخـصة مـقيدة بشـرط‪ .‬طـبعا ً هـذا كـله ال مـعنى لـه عـند أصـحاب فـقه الـروايـات‬

‫‪24‬‬
‫الـذيـن اآليـات عـندهـم ليسـت ذات شـأن كـبير إن خـالـفت روايـاتـهم وآرائـهم‪ .‬وإن كـان يـوجـد َمـن قـال‬
‫بما يقتضيه القرءان‪ ،‬لكن تم اإلعراض عن قولهم عموما ً‪
.‬‬
‫ف ــماذا ع ــن ك ــيفية ه ــذه ال ــصالة ال ــتي ي ــسمون ــها ص ــالة ال ــخوف؟ اخ ــتالف ك ــاالخ ــتالف م ــا ب ــني‬
‫األرض واملـريـخ‪ .‬ال أريـد تـطويـل الـكتاب بـنقل ذلـك‪ ،‬لـكن ارجـع إن شـئت إلـى الـدر املـنثور لـلسيوطـي‬
‫واقـرأ واعـجب‪ .‬تـفاصـيل كـأنـهم يسـتدركـون بـها عـلى بـيان اهلل تـعالـى‪ ،‬كـالـعادة الـخبيثة الـتي لـلقوم‪.‬‬
‫خ ــذ م ــثالً واح ــدا ً ”وص ــففنا خ ــلفه ص ــفني‪ ،‬ث ــم رك ــع ف ــرك ــعنا ج ــميعاً‪ ،‬ث ــم سج ــد ب ــال ــصف ال ــذي ي ــليه‬
‫واآلخــرون قــيام يحــرســونــهم‪ ،‬فــلما سجــدوا وقــامــوا جــلس اآلخــرون فسجــدوا فــي مــكانــهم‪ ،‬ثــم تــقدم‬
‫ه ــؤالء إل ــى م ــصاف ه ــؤالء وه ــؤالء إل ــى م ــصاف ه ــؤالء‪ ،‬ث ــم رك ــع ف ــرك ــعوا ج ــميعاً‪ ،‬ث ــم رف ــع ف ــرف ــعوا‬
‫ج ــميعاً‪ ،‬ث ــم سج ــد ال ــصف ال ــذي ي ــليه واآلخ ــرون ق ــيام يح ــرس ــون ــهم‪ ،‬ف ــلما ج ــلسوا ج ــلس اآلخ ــرون‬
‫فسجـدوا‪ ،‬ثـم سـلم عـليهم ثـم انـصرف“‪ .‬أقـول‪ :‬مـا بـينه اهلل بـقولـه }فـلتقم طـائـفة مـنهم مـعك ولـيأخـذوا‬
‫أسـ ــلحتهم فـ ــإذا سجـ ــدوا فـ ــليكونـ ــوا مـ ــن ورائـ ــكم‪ ،‬ولـ ــتأت طـ ــائـ ــفة أخـ ــرى لـ ــم يـ ــص ّلوا فـ ــليص ّلوا مـ ــعك‬
‫ولـيأخـذوا حـذرهـم وأسـلحتهم{‪ ،‬يـعني صـالتـهم صـارت هـكذا }وإذا كـنت فـيهم فـأقـمت لـهم الـصالة‬
‫فــلتقم طــائــفة مــنهم مــعك ولــيأخــذوا أســلحتهم فــإذا سجــدوا فــليكونــوا مــن ورائــكم{ هــذه هــي صــالة‬
‫الــخوف‪ ،‬انــتهى‪ .‬بهــذه الــبساطــة‪ .‬فــمن أيــن جــاءوا بــكل تــلك الــتفاصــيل املــعقدة‪ ،‬وطــبعا ً االخــتالفــات‬
‫الـكثيرة جـدا ً فـيما بـينها؟ املـشكلة عـندهـم أنـهم لـم يـفهموا كـلمة }الـصالة{ بحسـب بـيانـها فـي كـتاب‬
‫اهلل‪ ،‬وهــذا ســبب مــا تــال ذلــك مــن إشــكاالت واخــتراعــات لــيرقــعوا بــها فــهمهم الجــديــد أو املــبتدع لــها‬
‫أو تــغييرهــم لــجوهــرهــا الــقرآنــي‪ .‬وإال فــلو عــرفــنا مــا هــي الــصالة الــقرآنــية فــي صــورتــها الــجوهــريــة‬
‫فــسيكون بــيان اهلل هــنا مــن أوضــح وأيســر مــا يــكون وال تــحتاج أن تــضيف كــلمة واحــدة مــن خــارج‬
‫اآلية عليها ومن خارج القرءان لفهم ما فيها‪
.‬‬
‫وهاك البيان‪
:‬‬
‫‪}-١‬أق ــم ال ــصالة{ خ ــطاب ل ــلمؤم ــن ال ــفرد‪ ،‬ي ــقيم ال ــصالة ل ــنفسه‪ .‬ه ــذا ه ــو األص ــل‪ .‬ف ــي ال ــقصر‬
‫بس ــبب ال ــخوف ج ــاء اس ــتثناء وت ــغ ّير وه ــو }أق ــمت ل ــهم ال ــصالة{ ف ــهنا ال ــنبي ه ــو ال ــذي ي ــقيم ل ــهم‬
‫الــصالة‪ ،‬الحــظ الــفرق بــني إقــامــة الــفرد لــنفسه الــصالة وبــني إقــامــة الــنبي لــغيره بــل ملجــموعــة غــيره‬
‫ـصل مــع الــنبي‪ .‬وال‬ ‫ألن }لــهم{ بــالجــمع وهــو مــا بـيّنه بــعد ذلــك نــت ذكــر الــطوائــف الــتي صـ ّلت ولــم تـ ّ‬
‫يــخفى أن }أقــم{ و }أقــمت{ لــيس بــمعنى اإلقــامــة واآلذان ومــا أشــبه بحســب االصــطالح الــشائــع‪،‬‬
‫وإال فـالـنبي هـنا وبـاعـتراف الـكل لـم يـقل لـهم ”اهلل أكـبر اهلل أكـبر أشهـد‪..‬قـد قـامـت الـصالة“‪ .‬فهـذا‬
‫واضح‪
.‬‬
‫‪-٢‬الــصالة قــراءة الــفاتــحة والــقرءان‪ .‬الــقصر يــدخــل عــلى الــصالة إذن مــن واحــد مــن جهــتني‪،‬‬
‫إم ــا ب ــأن ي ــقرأ ل ــك غ ــيرك وإم ــا ب ــأن ت ــقرأ ال ــصورة ب ــدون ت ــد ّب ــر امل ــعنى‪ .‬األول ه ــو امل ــقصود ف ــي ه ــذه‬

‫‪25‬‬
‫اآليـة تحـديـداً‪ ،‬وإن كـان الـثانـي داخـل فـيه بحسـب سـياق الـخوف والـقتل املـرتـقب الـذي تـذكـره اآليـة‬
‫فـإنـه ُيسـتَب َعد حـضور عـقل إنـسان خـائـف مـن الـقتل وهـو يحـمل السـالح ويـأخـذ حـذره فيتشـتت وعـيه‬
‫بسـبب ذلـك وهـذا مـعلوم بـالـبداهـة والتجـربـة‪ .‬لـكن األصـل أن الـقصر هـو أن يـقرأ لـك غـيرك الـفاتـحة‬
‫وحـدهـا أو الـفاتـحة وشـيء مـعها مـن الـقرءان‪ .‬ويشهـد لهـذا قـولـه فـي أول اآليـة }أقـمت لـهم الـصالة{‬
‫وما بيّنه بعد ذلك من }فلتقم طائفة منهم معك{‪
.‬‬
‫‪-٣‬الـ ــدلـ ــيل عـ ــلى أن الـ ــسجود لـ ــيس مـ ــن الـ ــصالة‪ ،‬أن اهلل قـ ــال }أقـ ــمت لـ ــهم الـ ــصالة{ فـ ــالـ ــنبي‬
‫يسـتطيع أن يـقيم الـصالة لـغيره‪ ،‬لـكن حـني ذكـر الـسجود قـال }فـإذا سجـدوا{ فنسـب الـسجود لـهم‬
‫فـهو فـعلهم هـم وال يسـتطيع أن يـقيمه أحـد لـهم فـإن اإلنـسان قـد يـقرأ لـك الـفاتـحة لـكنه ال يسـتطيع‬
‫ـبني ذل ــك ق ــول ــه ف ــي س ــورة‬ ‫أن يسج ــد ل ــك أو يسج ــد ب ــك وب ــدالً ع ــنك‪ .‬ف ــلماذا ذك ــر ال ــسجود ه ــنا؟ ي ـ ّ‬
‫س ّج ــدا ً“‪ ،‬وق ــول ــه ”إذا ق ــرئ ع ــليهم‬ ‫السج ــدة م ــثالً ”إن ــما ي ــؤم ــن ب ــآي ــات ــنا ال ــذي ــن إذا ذُ ّك ــروا ب ــها خ ـ ّـروا ُ‬
‫الــقرءآن ال يسجــدون“ فــي الــكافــريــن فــاملــؤمــن يسجــد إذا ُقــرئ عــليه الــقرءآن‪ ،‬وآيــات كــثيرة تــذكــر‬
‫سـ ــجود الـ ــصالـ ــحني بـ ــعد سـ ــماع آيـ ــات اهلل تُـ ــتلى عـ ــليهم‪ .‬والـ ــسجود إمـ ــا الخـ ــر لـ ــألذقـ ــان ”يخـ ــرون‬
‫ـلما خ ّـر“ ”خ ّـر عـليهم الـسقف“ فـالخ ّـر يـشير إلـى سـقوط الـبدن عـلى‬ ‫لـألذقـان“ وإمـا بـالـجسم كـله ”ف ّ‬
‫ـظل أو ن ــحوه وي ــمكن أخ ــذ ص ــورة ال ــسجود امل ــعروف ــة أي ــضا ً ف ــهي ت ــاب ــعة‬ ‫األرض ب ــحيث ي ــكون ك ــال ـ ّ‬
‫للمعنى القرآني وفيها أصله‪
.‬‬
‫‪-٤‬فـتكون صـورة صـالة الـخوف هـكذا‪ :‬اإلمـام يـقرأ الـفاتـحة وحـدهـا أو الـفاتـحة وسـورة بـعدهـا‪،‬‬
‫واملـصلي مـعه يسـتمع لـقراءتـه فـإذا فـرغ مـن الـقراءة سجـد املـص ّلي إمـا لـذقـنه وإمـا بـبدنـه‪ .‬وانـتهى‪.‬‬
‫ثم تأتي طائفة أخرى‪
.‬‬
‫اآلن اق ــرأ وان ــظر }وإذا ك ــنت ف ــيهم ف ــأق ــمت ل ــهم ال ــصالة ف ــلتقم ط ــائ ــفة م ــنهم م ــعك ول ــيأخ ــذوا‬
‫أسـ ــلحتهم فـ ــإذا سجـ ــدوا فـ ــليكونـ ــوا مـ ــن ورائـ ــكم ولـ ــتأت طـ ــائـ ــفة أخـ ــرى لـ ــم يـ ــص ّلوا{‪ .‬فـ ــاألمـ ــر بهـ ــذه‬
‫الـبساطـة والـوضـوح‪ ،‬وال داعـي لـكل ذلـك الـعبث والـشقاق الـروائـي والـفقهي‪ .‬كـل اإلشـكاالت محـلولـة‬
‫بمج ــرد ف ــهم ك ــل م ــفردة ق ــرآن ــية ف ــي ض ــوء ال ــقرءآن ذات ــه‪ .‬وبمج ـ ّـرد م ــا تُ ــدخ ــل أم ــرا ً م ــن غ ــير ت ــعال ــيم‬
‫الــقرءآن ودالالتــه عــليه فــالــنتيجة هــي مــثل إدخــال فــيروس قــاتــل فــي بــدن صــحيح فــإنــه يخـ ّـرب كــل‬
‫شيء ويفسد البدن كله‪
.‬‬
‫الح ــظ أي ــضا ً أن ص ــيرورة املس ــلمني ط ــوائ ــف ف ــي اآلي ــة‪} ،‬ف ــلتقم ط ــائ ــفة م ــنهم‪..‬ل ــتأت ط ــائ ــفة‬
‫أخ ــرى{‪ ،‬ي ــشير إل ــى أم ــري ــن‪ :‬األول أن ال ــخوف اق ــتضى ت ــفري ــق املس ــلمني إل ــى ط ــوائ ــف ب ــعضها‬
‫يـص ّلي وبـعضها يحـرس‪ ،‬وذلـك بـدالً مـن االجـتماع والـتوحـد‪ .‬الـثانـي أن الـخوف جـعل قـراءة الـنبي‬
‫ت ــغني ع ــن ق ــراءة امل ــصلني م ــعه ب ــدالً م ــن أن ي ــقرأ ك ــل واح ــد ل ــنفسه وإن ح ــضروا ك ــلهم ج ــميعا ً ف ــي‬

‫‪26‬‬
‫صـالة واحـدة‪ .‬الـثالـث أن الـخوف مـنع مـن أخـذ الـوقـت الـكافـي لـلتعقل والـتدبـر حـفظا ً لـلوقـت ومـراعـاة‬
‫للحال والنفس‪
.‬‬
‫والحــظ بــناء عــلى مــا ســبق أن االســتثناء الــوارد فــي صــالة الــخوف صــار هــو الــنمط الــطبيعي‬
‫فــي الــصالة الــتقليديــة‪ ،‬نــعم يــقرأ الــواحــد لــنفسه الــفاتــحة حــتى إن كــان مــأمــومـا ً عــلى بــعض أقــوال‬
‫املـذاهـب لـكن عـلى مـا أذكـر بـعضها ال يـقول بـوجـوب ذلـك عـلى أسـاس أن اإلمـام يحـمل عـن املـأمـوم‬
‫مـسؤولـية ذلـك الـتكليف‪ .‬لـكن بـالنسـبة الفـتراق املسـلمني إلـى طـوائـف بـل طـوائـف مـتحاربـة ال يـصلي‬
‫بـعضها مـع بـعض بسـبب االخـتالفـات الـفقهية فـي الـصالة صـ ّير األ ّمـة فـي حـالـتها املـعتادة أسـوأ‬
‫مــن حــالــتها وقــت الــخوف الــذي شــرحــته اآليــة فــاآليــة شــرحــت انــقسام املســلمني إلــى طــوائــف لــحالــة‬
‫ط ــارئ ــة ل ــكنها م ــتوح ــدة م ــن ح ــيث اه ــتمام ب ــعضها ب ــبعض فه ــذا ي ــصلي وذاك يح ــرس‪ ،‬ل ــكن بس ــبب‬
‫الـصالة الـتقليديـة صـارت األ ّمـة طـوائـف مـتناحـرة مـتقاتـلة بـل لـعل بـعضها ال يـصلي وال يحـرس بـل‬
‫لــعله ال يــترك حــتى بســالم الــطوائــف األخــرى حــني تــصلي كــما تجــده أحــيان ـا ً فــي بــعض الــعمليات‬
‫االنـتحاريـة اإلجـرامـية‪ .‬مـا فـعله الـكافـرون فـي آيـة الـخوف أهـون مـما فـعله فـقهاء الـروايـات فـي هـذه‬
‫األ ّمـة‪ .‬فـإذا كـان اهلل قـد س ّـمى أولـئك بـالـعدو املـبني وأعـ ّد لـهم الـعذاب املهـني‪ ،‬فتسـتطيع تـخيّل حـال‬
‫ال ــذي ــن هج ــروا ال ــقرءآن ع ــند اهلل‪ .‬ث ــم ال ــقصر ب ــمعنى ع ــدم ال ــتدب ــر وال ــتفكر أي ــضا ً ص ــار ه ــو ال ــنمط‬
‫ال ــشائ ــع ف ــي األ ّم ــة بس ــبب ال ــصالة ال ــتقليدي ــة‪ ،‬ف ــما ك ــان بس ــبب ال ــخوف بحس ــب االح ــتمال ال ــذي‬
‫ذكــرنــاه ســابــقا ً صــار هــو الــنمط الــعام اآلن حــيث الــتدبــر والــتذكــر والــتفكر والــتعقل والــتن ّور ليســت‬
‫أصالً مقاصد يطلبها املصلي التقليدي‪
.‬‬
‫آية صالة الخوف فاضحة ملذاهب الصالة التقليدية‪ ،‬ومفرحة ألهل الصالة القرآنية‪
.‬‬

‫‪-‬خاتمة‪
-‬‬

‫ح ــاف ــظوا ع ــلى ال ــصلوات ك ــما ه ــي مش ــروح ــة ف ــي اآلي ــات ف ــقد ذك ــرن ــا ال ــبينات‪ .‬وحس ــبنا اهلل ون ــعم‬
‫الوكيل‪
.‬‬
‫………………………………………………………………………………‪
.‬‬

‫‪27‬‬
‫) املُلحق الثاني (

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم


‫) أسئلة عن كتابي ”الصالة من كتاب اهلل“ وردتني من مؤمن ومؤمنة (


‫س ‪ :١‬فـي الجـمع بـني مـا ذكـرت فـي أحـد مـنشوراتـك عـن حـركـات الـصالة فـي خـطاب بـني نـفسك و‬
‫روح ــك ال ــشاه ــد م ــنها أن ال ــحكمة ه ــي ك ــون ــها ك ــذل ــك وال َح ــظ ل ــلنفس ف ــي ذل ــكم ال ــطري ــقة‪ ،‬وب ــني م ــا‬
‫ذكرت في كتابك هذا من أن الحركات تدعو النعدام التعقل بالكتاب‪ ،‬فكيف تقول؟

‫ظ ف ــيها ل ــلنفس“‪ ،‬وب ــني ك ــون ــها‬ ‫ال ــجواب‪ :‬ال ت ــعارض ب ــني ال ــقول ــني‪ .‬ك ــون ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ”ال حـ ـ ّ‬
‫تـدعـو ”النـعدام الـتعقل بـالـكتاب“‪ ،‬ال يـوجـد تـعارض‪ .‬فـالـنفس حـظّها هـو الـتع ّقل‪ ،‬والـلطيف أنـه تـوجـد‬
‫رواي ــة ع ــن ال ــنبي ص ــلى اهلل ع ــليه وآل ــه وس ــلم ت ــقول ”ل ــيس ل ــك م ــن ص ــالت ــك إال م ــا ع ــقلت م ــنها“‪،‬‬
‫ظ لـك‬ ‫فـالـصالة قـيمتها بـالنسـبة لـك بحسـب ”مـا عـقلت مـنها“ بـالـتالـي إذا لـم تـعقل مـنها شـيئا ً فـال حـ ّ‬
‫مـن صـالتـك‪ .‬مـع مـالحـظة أن الـروايـة تـقول ”لـيس لـك“ فـهي تـشير إلـى مـا لـلمص ّلي‪ ،‬ومـع مـالحـظة‬
‫أيـضا ً أن هـذه الـروايـة تـنطبق أكـثر عـلى الـصالة الـقرآنـية الـتي الـتع ّقل فـيها مـقصد جـوهـري خـالفـا ً‬
‫لـ ــلصالة الحـ ــركـ ــية الـ ــلفظية الـ ــتي يـ ــكفي مـ ــنها شـ ــكل الـ ــصالة لـ ــكي تُجـ ــزئ ويـ ــسقط الـ ــتكليف عـ ــن‬
‫امل ــص ّلي ش ــرع ـا ً‪ .‬ث ــم إن اهلل ت ــعال ــى ق ــال ”م ــن ج ــاه ــد ف ــإن ــما ي ــجاه ــد ل ــنفسه“‪ ،‬ف ــأع ــمال ال ــدي ــن ه ــي‬
‫لـلنفس‪ ،‬والـنفس تـرتـفع بـاإليـمان والـعلم أي بـالـتع ّقل عـمومـا ً ”لـعلكم تـعقلون“‪ ،‬بـالـتالـي الـعبادة الـتي‬
‫ال حـظ فـيها لـلنفس مـطلقا ً ليسـت عـبادة قـرآنـية ربـانـية‪ .‬وروي عـن عـلي بـن أبـي طـالـب عـليه السـالم‬
‫أنـه قـال ”ال خـير فـي قـراءة لـيس فـيها تـد ّبـر“ وقـال ”ال خـير فـي عـبادة لـيس فـيها تـف ّكر“‪ ،‬وروي عـن‬
‫الـنبي أيـضا ً أنـه قـال ”ال خـير فـي ديـن ال ركـوع فـيه“ وقـالـوا بـأنـه أراد بـذلـك الـصالة‪ ،،‬فـإذا جـمعنا‬
‫الـكالم املـروي عـن الـنبي وعـلي كـانـت الـنتيجة‪ :‬ال خـير فـي ديـن ال صـالة فـيه وال خـير فـي صـالة ال‬
‫تــفكر وتــدبــر فــيها‪ .‬وهــذا بــالــضبط مــا نــحن فــيه‪ .‬فــإن انــعدام حــظ الــنفس ال يــعني أنــه أمــر صــالــح‬
‫وجيد‪
.‬‬
‫إال أنــي حــني قــلت بــأن هــذه الــصالة الــتقليديــة ال حــظ لــلنفس فــيها‪ ،‬فهــذا لــه وجــه مــن الــخيريــة‬
‫ب ــاع ــتبار ت ــعوي ــد اإلن ــسان املمتلئ ب ــنفسه وااله ــتمام ب ــما ي ــلذ وي ــطيب ل ــه ب ــامل ــعنى ال ــسفلي ال ــفوري‬
‫املـادي‪ ،‬وهـو شـأن الـناس عـادةً فـي بـدء أمـرهـم ودخـولـهم فـي الـديـن‪ ،‬فـإن الـواحـد فـيهم يهـت ّم دائـما ً‬
‫ب ــما ي ــرى ف ــيه ن ــفعا ً ف ــوري ـا ً ل ــه‪ ،‬ب ــينما ال ــدي ــن م ــبني ع ــلى أم ــر اهلل وال ــروح واآلخ ــرة ف ــيقتضي ص ــبرا ً‬

‫‪28‬‬
‫والــصبر رأس األمــر كــله حــتى سـ ّـمى اهلل اإليــمان كــله صــبرا ً فــي آيــة ”الــذيــن صــبروا وعــملوا“ كــما‬
‫ق ــال ”ال ــذي ــن ءام ــنوا وع ــملوا“‪ .‬ف ــقد ي ــكون م ــن ب ــاب تس ــليك ال ــناس ف ــي ال ــدي ــن أن وض ــعت ل ــهم ه ــذه‬
‫الــصالة الحــركــية الــلفظية حــتى تــأخــذهــم عــن نــفوســهم املــعتادة املــظلمة‪ ،‬حــتى يــنفتحوا عــلى أفــق‬
‫أعلى الذي هو الصالة القرآنية العقلية‪
.‬‬
‫إذن‪ ،‬الحـركـات والـتكرار يـدعـو إلـى تـوقـف الـعقل‪ ،‬فـمن اقـتصر عـلى هـذا الحـد ولـم يـنفتح عـلى‬
‫أي أفــق أعــلى ويــترقــب كــشف أســنى وال قــراءة وال تــع ّلم بــقي فــي الــفراغ‪ .‬وعــدم الــتعقل يــعدم حــظ‬
‫النفس ونموها وتنويرها‪
.‬‬

‫…

‫س ‪ - :٢‬ايــضا ً فــي ذات الــنقطة؛ ردا ً عــن كــون الحــركــة الــجسمانــية قــد تــعيق الــتعقل؛ مــن تجــربــة‬
‫عــملية شــخصية أغــلب األمــور فــتحت لــي وعــقلتها كــانــت مــع حــركــة جــسمانــية وعــمل عــقلي وتســبيح‬
‫تســبقها أو تــليها او مــعها‪ .‬فهــل نــقول ان فــي هــذا تــصديــق لــقولــهم فــالــروايــة املــوروثــه‪ :‬إن صــحت‬
‫»‪.. ‬حتى تطمئن‪ « ..‬فتالزم حركة الداخل حركة الظاهر‪
.‬‬

‫الـجواب‪ :‬حـتى فـي قـراءة الـقرءان تـوجـد ”حـركـة جـسمانـية“‪ ،‬لـكنها ليسـت مـقصودة لـنفسها‪ .‬الـذي‬
‫يــعيق عــن الــتعقل هــو كــون الحــركــة مــقصودة لــنفسها‪ ،‬مــع وجــود كـ ّـمية يــجب حــفظها وألــفاظ يــجب‬
‫ت ــكراره ــا‪ ،‬ه ــذا املج ــموع ي ــؤدي إل ــى إع ــاق ــة ال ــتعقل ع ــادةً‪ .‬ل ــكن ف ــي ق ــراءة ال ــقرءان ف ــي األوق ــات‬
‫املــعلومــة‪ ،‬فــإن املــص ّلي أيــضا ً البــد أن يــكون لــجسمه حــركــة أو وضــع مــا بــالــضرورة فــهو لــن ينخــلع‬
‫عــن جــسمه‪ ،‬ســواء كــان يــصلي قــائــما ً أو قــاعــدا ً أو عــلى جــنبه أو مــاشــيا ً عــلى رجــله أو راكــباً‪ ،‬لــكن‬
‫هـذه الـوضـعيات ليسـت مـقصودة لـنفسها بـل هـي وضـعيات اطـمئنان أو مـا يشـبه االطـمئنان بـأكـبر‬
‫ق ــدر م ــمكن ف ــي ح ــال ال ــضرورة امل ــان ــعة م ــن االط ــمئنان ع ــادةً‪ .‬وك ــذل ــك ح ــرك ــة ال ــلسان أو ذب ــذب ــة‬
‫األصـوات داخـل الـدمـاغ حـني الـقراءة أيـضا ً هـي نـوع مـن ”الحـركـة الـجسمانـية“‪ ،‬لـكنها كـما تـريـن‬
‫فرعية وليست أصلية‪َ ،‬ع َرض وليست جوهر‪
.‬‬
‫ون ــعم‪ ،‬ع ــند َم ــن ي ــطمئن ف ــي ح ــرك ــات ــه وي ــتدبّ ــر ف ــي ت ــالوت ــه وأذك ــاره‪ ،‬س ــيكون م ــثله م ــثل امل ــص ّلي‬
‫ب ــال ــصالة ال ــقرآن ــية م ــن وج ــهة ال ــقراءة وال ــتعقل‪ ،‬ل ــكن ال ــعادة وال ــنمط ال ــفقهي ل ــلصالة ال ــتقليدي ــة ال‬
‫يــساعــد عــلى هــذا كــما نــراه فــي عــموم األ ّمــة‪ ،‬خــالف ـا ً ملــن يــقيم الــصالة الــقرآنــية الــبحتة فــإنــنا نــرى‬
‫أثــرهــا فــيه عــموم ـا ً بــإذن اهلل‪ .‬فــالــصالة الــقرآنــية ال تــحتاج إلــى تــجاوز الــجسم وأوضــاعــه وصــعوبــة‬
‫الــتكرار ومــشقاتــه حــتى تــؤدي إلــى الــنور‪ ،‬بــينما الــصالة الــتقليديــة البــد مــعها مــن هــذه الــعوائــق ولــو‬

‫‪29‬‬
‫كــانــت عــوائــق قــابــلة لــلتجاوز بــالنســبة لــقليل مــن الــناس‪ .‬يــمكن تشــبيه ذلــك بــالــصورة الــتالــية‪ :‬نــحن‬
‫ع ــلى ال ــساح ــل وأم ــام ــنا بح ــر وف ــي ال ــطرف امل ــقاب ــل ت ــوج ــد ج ــزي ــرة م ــليئة ب ــأن ــواع األش ــجار ال ــطيبة‬
‫واألزهــار الــعطرة واألنــهار الــعذبــة‪ ،‬كــيف نــصل إلــيها؟ الــبعض مــشى فــقطع جســرا ً أو جــلس وركــب‬
‫قــاربـاً‪ ،‬لــكن الــبعض اآلخــر قــرر الســباحــة وتحـ ّـمل مــخاطــر الــحيتان وحــرارة الــشمس وال لــياقــة عــند‬
‫أكـثر الـسابـحني حـتى تـبقى لـه طـاقـة أصـالً لـيصل إلـى الجـزيـرة وإن وصـل فـإنـه مـن شـ ّدة تـعبه لـعله‬
‫ي ــنام ع ــلى ش ــاطئ الج ــزي ــرة ف ــور ال ــوص ــول وال يس ــتطيع ال ــدخ ــول واألك ــل‪ .‬ال ــراك ــب ه ــو امل ــصلي‬
‫بـالـصالة الـقرآنـية الـبحتة‪ ،‬الـسابـح هـو املـص ّلي بـالـصالة الـتقليديـة فـقط‪ ،‬واملـاشـي هـو الـذي يـحاول‬
‫الجمع بني الصالة التقليدية والقرآنية فيجمع بني اعتبار الجسم كأصل واعتباره كوسيلة‪
.‬‬
‫وأنــا كــذلــك فــتح اهلل لــي وال يــزال بــفضله الــكثير مــن الــخير وأنــا فــي الــصالة الــتقليديــة‪ .‬فــأنــا ال‬
‫أنـ ــكر هـ ــذا وال أسـ ــتطيع أن أنـ ــكره أص ـ ـالً‪ .‬لـ ــكن كـ ــما قـ ــلت‪ ،‬هـ ــذا بحسـ ــب مـ ــا أراه اسـ ــتثناء ولـ ــيس‬
‫الــقاعــدة‪ .‬وكــذلــك ألنــي ال أعــتبر صــلتي بــاهلل مــقتصرة عــلى الــصالة الــتقليديــة‪ ،‬بــل أص ـ ّلي الــصالة‬
‫ال ــقرآن ــية وب ــقية أوام ــر ال ــقرءان م ــن أذك ــار وأوراد وأدع ــية وغ ــير ذل ــك خ ــالل ال ــيوم واهلل ف ــضله ع ــظيم‬
‫وهـو تـعالـى نـفسه الـذي د ّلـنا عـلى الـعالقـة مـا بـني أعـمالـنا وتـنويـره حـني قـال ”يـا أيـها الـذيـن ءامـنوا‬
‫اذكــروا اهلل ذكــرا ً كــثيرا ً‪ .‬وســبحوه بــكرة وأصــيالً‪ .‬هــو الــذي يــصلي عــليكم ومــالئــكته ليخــرجــكم مــن‬
‫الـظلمات إلـى الـنور وكـان بـاملـؤمـنني رحـيما ً“‪ .‬إال أنـه بحسـب مـا نـراه مـن حـال أكـثر الـناس‪ ،‬فـإنـهم‬
‫بــالــكاد أص ـالً يــص ّلون الــصالة الــتقليديــة‪ ،‬وأكــثر مــن يــص ّليها يتخــذهــا كــعمل جــوارح وجــسم فــقط‬
‫ألنـها مـصممة بهـذه الـطريـقة حسـب مـا عـلموهـم وجـعلوا املـقصد مـنها هـو إقـامـة الحـركـات واأللـفاظ‪،‬‬
‫وال ي ــوج ــد ف ــيها ت ــعاط ــي م ــباش ــر م ــتعقل م ــع ال ــقرءان وإن ــما ال ــقرءان ج ــزء م ــن أج ــزائ ــها وال ي ــمكن‬
‫ال ــوق ــوف ل ــلتأم ــل ف ــيه ف ــيها‪ .‬ن ــعم‪ ،‬ق ــال ب ــعض ال ــعارف ــني أن ال ــفتح ف ــي ال ــقرءان ح ــقا ً ه ــو ال ــفتح ال ــذي‬
‫ي ــأت ــي م ــع ال ــقراءة م ــباش ــرةً ب ــدون وق ــفة ت ــأم ــل وت ــف ّكر ب ــحيث ت ــكون لح ــظة ال ــتالوة ه ــي لح ــظة ال ــفتح‬
‫وح ــصول امل ــعنى وال ــكشف ف ــي ال ــقلب‪ ،‬ه ــذا أي ــضا ً م ــفهوم ل ــكنه خ ــالف ال ــعادة ب ــل ه ــو م ــن خ ــوارق‬
‫الـعادة خـرقـا ً بـ ّيناً‪ ،‬فـإن الـصحابـة أنـفسهم كـما روي كـانـوا يـقرأون الـقرءان خـمسة خـمسة أو عشـرة‬
‫عش ــرة آي ــات ال ي ــتجاوزون ــها ح ــتى ي ــتع ّلموا م ــا ف ــيها م ــن ال ــعلم وال ــعمل ك ــما روى ب ــعضهم‪ ،‬وه ــذا‬
‫مـشهود لـه بـالتجـربـة مـن حـاجـة الـنفس إلـى فـترة لـلهضم والـتأمـل والـسكون فـإن أكـل الـنفس لـلكالم‬
‫مثل أكل الجسم للطعام فالبد لها من نوع راحة وفترة معالجة وهضم وإخراج‪
.‬‬
‫فــي الــقرءان أيــضا ً ذكــر لــبعض الحــركــات الــجسمانــية كــما ب ـيّنا‪” ،‬يــذكــرون اهلل قــيام ـا ً وقــعودا ً‬
‫وعـلى جـنوبـهم“ ”دعـانـا لـجنبه أو قـاعـدا ً أو قـائـما ً“‪ .‬فـالـذكـر والـدعـاء وهـما خـالصـة ولـباب الـقرءان‪،‬‬
‫قـد ذكـرهـما اهلل فـي مـعرض ذكـر حـالـة الـجسم حسـب الـظاهـر‪ ،‬لـذلـك بـاملـناسـبة الـفاتـحة هـي سـورة‬
‫الــصالة ألن الــفاتــحة نــصفها ذكــر ونــصفها دعــاء‪ .‬ويــص ّدق هــذا مــا روي عــن الــنبي مــن أن رج ـالً‬

‫‪30‬‬
‫ق ــال ل ــه ب ــأن ــه ع ــاج ــز ع ــن ت ــع ّلم ال ــقرءان ف ــسأل ــه ش ــيئا ً ي ــعوض ــه ع ــن ذل ــك ف ــد ّل ــه ع ــلى أذك ــار وأدع ــية‬
‫فــاألذكــار هلل واألدعــية لــلعبد وانــتهى األمــر‪ .‬ثــم بـ ّـني الــقرءان تــفصيالً كــما فــي صــالة الــخوف كــيفية‬
‫الـصالة إن كـان املـؤمـن فـي حـضرة الـعدو فـقال ”فـرجـاالً أو ركـبانـا ً“‪ .‬فـالـقول بـأن الـقرءان لـم ي ّ‬
‫ـبني‬
‫كـيفيات جـسمانـية هـو قـول خـاطئ‪ .‬وأمـا إن كـان اإلنـسان يـضع حـركـات مـعينة فـي ذهـنه مسـبقاً‪،‬‬
‫وحــني ال يجــدهــا فــي الــقرءان فــبدالً مــن تــغيير مــا فــي ذهــنه يــطعن فــي الــقرءان‪ ،‬فهــذا مــا يــقوم بــه‬
‫أك ــثر م ــن اتخ ــذ ال ــرواي ــات أس ــاس ـا ً ل ــدي ــنه ب ــدالً م ــن اآلي ــات وه ــو م ــن ق ــبيل ال ــقول ب ــال ــهوى وال ــتشهي‬
‫وتقديم شيء على كالم اهلل‪
.‬‬
‫التج ّـرد مـن الـجسم كـان وال يـزال هـو أهـ ّم مـا يـسعى إلـيه أهـل الـروح والـعقل حـتى يخـلص لـهم‬
‫الــشهود والــنظر والــفكرة‪ .‬ومــن هــذا الــباب جــاء الــصيام وغــير ذلــك مــن ريــاضــات الــجسم الــروحــية‪.‬‬
‫يكفي أن الوحي يأتي لألنبياء في املنام‪ ،‬ومعلوم أنه في النوم ال عبرة بالجسم‪
.‬‬
‫ثـم حـتى فـي الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬ليسـت حـركـات الـجسم شـرطـا ً جـوهـريـا ً فـيها‪ ،‬كـما أن الـذهـاب‬
‫إلـى الـكعبة فـي مـكة الـجغرافـية فـي الجـزيـرة الـعربـية شـرط فـي الـحج الـتقليدي ويـسقط الـحج عـن‬
‫َمـن ال يسـتطيع الـوصـول إلـى الـكعبة بسـبب مـا‪ .‬والـدلـيل أن الـصالة الـتقليديـة ال تـسقط عـن املـك ّلف‬
‫حــتى إن كــان عــاجــزا ً عــن إقــامــة حــركــاتــها‪ ،‬بــل ولــو كــان ال يــعرف الــكثير مــن ألــفاظــها كــأن يــكون‬
‫صـاحـب لـغة غـير عـربـية‪ .‬فـلو كـانـت حـركـات الـجسم شـرطـا ً جـوهـريـا ً ومـن جـوهـر الـصالة الـتقليديـة‬
‫لــوجــب أن تــسقط بــالعجــز عــن إقــامــة تــلك الحــركــات‪ ،‬كــما تــسقط الــزكــاة عــن َمــن ال يــملك الــنصاب‪،‬‬
‫ويــسقط الــصيام عــن املــريــض واملــسافــر‪ ،‬ويــسقط الــحج عــن الــعاجــز عــن الــوصــول إلــى الــكعبة وال‬
‫يسـتطيع أن يـضع أي مـكعبا ً أسـودا ً ويـطوف حـولـه وهـو فـي الـعراق مـثالً كـبديـل لـلكعبة‪ .‬فهـذا دلـيل‬
‫مـن ذات الـفقه أن جـوهـر الـصالة هـو الـصالة الـقرآنـية‪ ،‬فـإنـه فـي الـروايـة عـن الـنبي أن َمـن لـم يـقرأ‬
‫بــأم الــقرءان فــصالتــه خــداج يــعني نــاقــصة غــير تــامــة‪ ،‬ولــم يــقل مــثل ذلــك فــي الــعاجــز عــن الــقيام أو‬
‫ال ــرك ــوع أو ال ــسجود أو الج ــلوس ب ــاألش ــكال امل ــعروف ــة‪ .‬ف ــحتى ف ــي ال ــصالة ال ــتقليدي ــة‪ ،‬الح ــرك ــات‬
‫ـحت‬ ‫ال ــجسمان ــية ليس ــت ش ــرط ـا ً ج ــوه ــري ـاً‪ ،‬به ــذا االع ــتبار‪ .‬وه ــذا ي ــعزز م ــا ذك ــرن ــاه م ــن أن ــه إذا ص ـ ّ‬
‫النسـبة إلـى الـنبي‪ ،‬فـهي صـورة نـبويـة لـلحقيقة الـقرآنـية وليسـت نـفس الـحقيقة الـقرآنـية أو الـصورة‬
‫الوحيدة املحتملة لها‪
.‬‬

‫…

‫‪31‬‬
‫س ‪ : ٣‬ف ــي س ــياق أم ــر ال ــقراءة }اق ــرأ ب ــاس ــم رب ــك{ ف ــال ــضمير ك ال ــعائ ــد ل ــلنبي األم ــي ص ــالة اهلل‬
‫وسـالمـه عـليه تـشير إلـى أن الـصالة عـليه مـن اشـتراطـات الـقراءة الـتامـة وبـالـتالـي إقـامـة الـصالة‪.‬‬
‫ارني ماذا ترى؟

‫الــجواب‪ :‬قــد ُيســتفاد مــن بــاب اإلشــارة هــنا أن الــصالة عــلى الــنبي تــفتح بــاب الــقراءة الــصحيحة‬
‫الـنافـعة بـإذن اهلل‪ ،‬وسـبحان اهلل أنـا قـبل أن أقـرأ أصـ ّلي عـلى الـنبي وآلـه‪ ،‬واآلن بـنعمة اهلل ونـعمتك‬
‫عليّ عرفت آية ذلك‪ ،‬فأشكرك وزادك اهلل خيرا ً‪
.‬‬
‫إال أنـه يـمكن اسـتفادة أمـر آخـر‪ ،‬وهـو أن الـقارئ عـلى الـحقيقة هـو الـنبي‪ ،‬يـعني الـنبي الـذي‬
‫فـي نـفوسـنا هـو الـذي يـقرأ‪” ،‬وفـيكم رسـولـه“‪ .‬ذاتـنا مـكونـة مـن أربـع عـوالـم‪ ،‬الـجسم والـنفس والـروح‬
‫وال ــنور ال ــنبوي ال ــذي ه ــو م ــقام ال ــعزة ”س ــبحان رب ــك رب ال ــعزة“ الح ــظي ال ــكاف ”رب ــك“‪ .‬ف ــال ــقراءة‬
‫الـعليا هـي الـقراءة الـنبويـة‪ ،‬هـي الـعقل األعـلى‪ ،‬الـعقل األول‪ ،‬الـقلم الـذي قـيل لـه ”اكـتب“ الـذي هـو‬
‫أول مخلوق‪
.‬‬
‫كـل َمـن يـتبع الـذكـر ويـخشى الـرحـمن بـالـغيب‪ ،‬فـإن فـيه نـور مـن نـور الـنبي‪ ،‬وبهـذا الـنور يـقبل‬
‫الــقرءان ودعــوتــه إلــى الــقراءة‪ ،‬فــيكون مــن هــذا الــوجــه مــخاطَــبا ً أيــضا ً بخــطاب }اقــرأ بــاســم ربــك{‪.‬‬
‫فتهجـد بـه نـافـلة لـك عـسى أن يـبعثك ربـك مـقامـا ً‬ ‫ّ‬ ‫ويشهـد لهـذا املـعنى مـثالً‪ ،‬قـولـه تـعالـى ”ومـن الـليل‬
‫محـ ــمودا ً“ فهـ ــذا خـ ــطاب لـ ــلنبي ”ربـ ــك“‪ ،‬لـ ــكن الحـ ــظي فـ ــي سـ ــورة املـ ــز ّمـ ــل الـ ــتي تـ ـ ّ‬
‫ـبني تـ ــفاصـ ــيل‬
‫التهج ــد ”وط ــائ ــفة م ــن ال ــذي ــن م ــعك“‪ ،‬ف ــتوج ــد ط ــائ ــفة م ــن امل ــؤم ــنني ه ــم م ــع ال ــنبي‪ ،‬م ــع ال ــكاف ”‬
‫ّ‬
‫ـكرمـة الـتي خـاطـبها اهلل ”يـبعثك ربـك“‪ ،‬فـهؤالء ألنـهم اتـبعوا الـنبي فـي أمـرهـم‬ ‫مـعك“ هـذه الـكاف امل ُ ّ‬
‫صـاروا مـعه كـما قـال إبـراهـيم ”مـن تـبعني فـإنـه مـنّي“‪ .‬ومـن هـذا الـوجـه يـكونـون كـأنـهم الـنبي ومـرآة‬
‫للنبي‪
.‬‬

‫…

‫س ‪ : ٤‬فــي أصــل املــسألــة؛ ســؤال اســتفهامــي إن كــانــت كــذلــك فــلِ َم لــم يــرد فــي املــوروثــات بــشكل‬
‫جــلي وواضــح لــلقوي والــضعيف عــن الــنبي بهــذا األمــر كــما ورد عــن مــا دونــه فــي تــفصيل الــصالة‬
‫التقليدية بشكل دقيق جداً‪ ،‬وهو أشد حرصا ً وسالم ًة لنا‪
.‬‬

‫الجواب من ثالثة زوايا‪


:‬‬

‫‪32‬‬
‫الــزاويــة األولــى‪ ،‬وروده فــي كــتاب اهلل يــغنينا عــن الــتكهن عــن ملــاذا ورد أو لــم يــرد أمــر مــا فــي‬
‫الـروايـات‪ .‬ثـم حـتى الـروايـات فـيها أمـر بـالـتمسك بـكتاب اهلل واالهـتداء بهـديـه والـتحاكـم إلـيه‪ .‬فهـذا‬
‫يكفي‪
.‬‬
‫الـزاويـة الـثانـية‪ ،‬الـصالة الـقرآنـية هـي الـقراءة والـوقـت‪ ،‬وكـالهـما مـذكـور فـي اآليـات وحـتى فـي‬
‫ـدل عــلى قــراءة الــقرءان وفــضل الــقراء ومــقاصــد الــقراءة وثــوابــها‬ ‫الــروايــات‪ .‬وعــدد الــروايــات الــتي تـ ّ‬
‫ك ــثيرة ج ــدا ً ب ـيّنا ب ــعضها ف ــي ك ــتاب ــنا ”ت ــاج ال ــقراء“ وم ــا ل ــم ن ــبيّنه أك ــثر ب ــكثير ع ــند ال ــسنة وال ــشيعة‬
‫واإلباضية‪
.‬‬
‫ال ــزاوي ــة ال ــثال ــثة‪ ،‬ال ــرواي ــات ت ــأثّ ــرت ك ــما ه ــو م ــعلوم ب ــكثير م ــن ال ــعوام ــل ال ــخاص ــة‪ ،‬وك ــيفية ن ــقلها‬
‫وحــفظها ونــوعــية الــحكم عــليها وعــلى رجــال الــنقل دخــلها الــكثير مــن األمــور الــتي نــقلت الــديــن مــن‬
‫مـركـزيـة الـقرءان وأحـكامـه ومـقاصـده ورؤيـته إلـى مـركـزيـة أخـرى‪ .‬فـليس غـريـبا ً بـعد ذلـك إن وجـدنـا‬
‫م ــا ف ــي ال ــقرءآن ي ــناق ــض م ــا ف ــي ال ــرواي ــات أو م ــا ت ــأس ــس ع ــلى ه ــذه ال ــرواي ــات م ــن م ــفاه ــيم‪ .‬ل ــكن‬
‫حسـب اطـالعـي ومـا كـتبته فـي هـذا الـشأن فـي مـواضـع مـتفرقـة‪ ،‬فـإن فـي الـروايـات مـا يـص ّدق مـا‬
‫ورد ف ــي ال ــقرءان‪ ،‬ل ــكن ت ــفصيل ذل ــك ب ــنحو م ــنهجي ي ــحتاج إل ــى اس ــتقصاء ف ــي نـ ـيّتي ال ــقيام ب ــه‬
‫الحـقا ً إن شـاء اهلل لـكن الـقدر الـذي يـكفينا اآلن هـو مـا ذكـرنـاه‪ ،‬فـحتى لـو افـترضـنا أنـه لـم تـأتـي وال‬
‫رب العزّة ال يفتقر إلى كيس أبي هريرة‪
.‬‬ ‫رواية‪ ،‬فكتاب ّ‬
‫إضـافـة رابـعة‪ ،‬قـال اهلل مـوضـحا ً قـاعـدة ”لـو كـان مـن عـند غـير اهلل لـوجـدوا فـيه اخـتالفـا ً كـثيرا ً“‪،‬‬
‫واآلن تـعالـي نـنظر فـي الـروايـات واملـذاهـب الـفقهية عـن مـسائـل الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬وسنجـد اخـتالفـا ً‬
‫ـدل إمــا عــلى خــلل فــي الــروايــات وإمــا عــلى أن املــسألــة بــر ّمــتها ليســت‬ ‫كــثيرا ً كــثرة مــتكاثــرة‪ ،‬وهــذا يـ ّ‬
‫من عند اهلل‪ ،‬وعلى الوجهني يسقط االحتجاج بالروايات على اآليات‪
.‬‬
‫قـرأت الـيوم روايـة مـشهورة عـن كـون جـبريـل عـرض الـقرءان عـلى الـنبي م ّـرتـني فـي الـعام الـذي‬
‫تـوفـي فـيه لـكنه كـان يـعرضـه عـليه م ّـرة واحـدة قـبلها‪ .‬وتـذ ّكـرت كـذلـك كـون الـنبي كـان لـه كـتّاب وحـي‬
‫كــما هــو مــعروف وكــان ك ـتّابــه يــؤلــفون الــقرءان ويــرتّــبوه بــإشــراف الــنبي نــفسه‪ .‬طــيب‪ .‬لــو كــان أمــر‬
‫املـرويـات ضـروريـا ً وجـوهـريـا ً لـلديـن‪ ،‬بـاإلضـافـة إلـى الـقرءان‪ ،‬ملـاذا لـم يـوظّـف الـنبي أنـاسـا ً يـكتبون‬
‫سـنّته بــانــتظام ويــكتبون كــل شــاردة وواردة ويــتناقــلها الــصحابــة بــعضهم إلــى مــن بــعضهم أيــضاً‪،‬‬
‫وملـاذا لـم يـراجـع الـنبي مـا كـتبوه عـنه وملـاذا لـم يـعرض جـبريـل الـسنّة عـلى الـنبي أيـضا ً كـما عـرض‬
‫عليه القرءان‪ .‬ف ّكري فيها‪
.‬‬
‫ثــم إذا نــظرنــا‪ ،‬سنجــد أن الــقرءان قــرأه ونــقلته األ ّمــة‪ ،‬وهــو لــيس مــثل روايــة أو بــضعة روايــات‬
‫عــن واحــد أو أكــثر‪ ،‬بــل هــو كــتاب يُــقرأ لــيل نــهار ويــعرفــه الــرجــال والــنساء والــصبيان والــعبيد أيــضا ً‬
‫بــدرجــات مــختلفة طــبعاً‪ ،‬وعــالقــة األ ّمــة والــنبي بــالــقرءان مــشهورة مــن أول يــوم‪ .‬فــكتاب هــذا قــيمته‬

‫‪33‬‬
‫ونــقله وأهـ ّـميته ومــركــزيــته‪ ،‬ال يــمكن مــعارضــته بــروايــة أو روايــات مــهما كــانــت‪ .‬مــع الــعلم أن أفــضل‬
‫حـديـث مـوجـود بـأيـديـنا مـن حـيث الـسند واملـنت هـو حـديـث ” َمـن كـذب عـليّ مـتعمدا ً فـليتبوأ مـقعده مـن‬
‫ال ــنار“ ! ي ــعني أع ــلى ح ــدي ــث م ــوج ــود ه ــو ح ــدي ــث يح ـذّر م ــن ال ــكذب ع ــلى ال ــنبي‪ ،‬ي ــعني يح ـذّر م ــن‬
‫صــناعــة الــروايــات‪ .‬مــع الــتنبه إلــى أن بــعض الــصحابــة قــال بــأن الــنبي لــم يــقل كــلمة ”مــتعمدا ً“ بــل‬
‫قــال ”مــن كــذب عــليّ فــليتبوأ مــقعده مــن الــنار“ مــما يــعني أن َمــن نســب إلــى الــنبي كــلمة لــم يــقلها‬
‫ف ــي ال ــواق ــع ول ــو ك ــان يحس ــب ه ــو أن ال ــنبي ق ــال ــها ف ــليتبوأ م ــقعده م ــن ال ــنار‪ ،‬وه ــذا أخ ــطر وم ــعيار‬
‫أصـعب وأشـقّ ‪ .‬لـكن حـتى مـع هـذا التحـذيـر‪ ،‬كـثر الـوضـع والـكذب فـي الحـديـث بـاعـتراف املحـ ّدثـني‪،‬‬
‫وك ــثير م ــن األح ــادي ــث ”ال ــصحيحة“ ه ــي ص ــحيحة ب ــاع ــتبار أن رج ــال ال ــسند ك ــان ــوا ع ــند ف ــرق ــة م ــا‬
‫وبحسـب اخـتيارهـم ثـقات أو مـقبولـني لـلروايـة لـكن نـفس الـشخص قـد يـكون غـير مـقبول عـند آخـر‪،‬‬
‫ف ــهو م ــعيار ش ــخصي‪ ،‬ول ــو ك ــان ال ــنبي ي ــري ــد ه ــذا ال ــعلم ألن ي ــكون مس ــتقالً ف ــضالً ع ــن أن ي ــكون‬
‫حـاكـما ً عـلى الـقرءآن لـوجـب أن نـرى فـي الـقرءآن أو حـتى فـي الـروايـات املـتواتـرة تـعليما ً لـلنبي فـي‬
‫كـيفية قـبول الـروايـة وتـأسـيس عـلم الـسند ونـقد األحـاديـث‪ ،‬فـالـنبي الـذي يـع ّلمنا ‪ ١٥‬أدبـا ً فـي كـيفية‬
‫دخـول الـخالء كـما فـي الـروايـات ال يُسـتب َعد افـتراض أنـه إن أراد عـلم الـروايـات لـيكون عـلما ً ديـنيا ً‬
‫واألهمية واملركزية لوجب عليه أن يكون هو أول واضع لعلوم حديثه‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫بهذه الصورة‬
‫مـثال ذلـك قـرأت الـيوم حـديـثا ً فـيه سـنده رجـل اسـمه حسـني بـن زيـد بـن حسـني بـن عـلي بـن أبـي‬
‫طــالــب وروى حــديــث أن اهلل يــغضب لــغضب فــاطــمة ويــرضــى لــرضــاهــا‪ ،‬وهــذا الحــديــث مــما اتخــذه‬
‫الــشيعة ســالحـا ً ضــد فــرقــة أبــي بــكر ألن فــاطــمة غــضبت عــلى أبــي بــكر ومــاتــت وهــي غــاضــبة عــليه‬
‫فـبنوا عـلى ذلـك أن اهلل غـاضـب عـلى أبـي بـكر‪ ،‬اآلن‪ ،‬الـذهـبي صـاحـب سـير أعـالم الـنبالء وهـو مـن‬
‫دائـرة ابـن تـيمية والـفكر الـذي فـيه مـا فـيه مـن شـوائـب التمسـلف والـنصب وعـداء الـشيعة‪ ،‬حـكم عـلى‬
‫هـ ــذا الحـ ــديـ ــث بـ ــعدم الـ ــصحة خـ ــالف ـ ـا ً لـ ــلحاكـ ــم الـ ــنيسابـ ــوري الـ ــذي خـ ـ ّـرجـ ــه فـ ــي مسـ ــتدركـ ــه عـ ــلى‬
‫الـصحيحني وحـكم بـصحة إسـناده فـاعـتبر حسـني بـن زيـد إذن مـقبول الـروايـة لـكن الـذهـبي قـال ”‬
‫حســني بــن زيــد مــنكر الحــديــث ال يحــل أن يــحتج بــه“‪ ،‬فــلما بــحثت وجــدت حســني بــن زيــد هــذا هــو‬
‫ابـن زيـد بـن عـلي بـن الحسـني بـن عـلي بـن أبـي طـالـب وكـان مـن أهـل الـعلم والـزهـد والـورع والـتعبّد‬
‫وم ــن ك ــبار ال ــهاش ــميني ال ــعلوي ــني وت ــربّ ــى ع ــند ج ــعفر ال ــصادق وأخ ــذ ع ــنه ال ــعلم ول ــه م ــقام ــات ك ــثيرة‬
‫حــسنة‪ ،‬وقــال فــيه بــعض عــلماء الجــرح والــتعديــل الــسنّة مــا يــلي‪ :‬الجــرجــانــي }أرجــو أنــه ال بــأس بــه‬
‫إال أنـي وجـدت فـي حـديـثه بـعض الـنكرة{‪ ،‬أبـو حـاتـم الـرازي }يـعرف ويـنكر{‪ ،‬ابـن حجـر الـعسقالنـي‬
‫}صــدوق ربــما أخــطأ{‪ ،‬الــدارقــطني وهــو مــن شــهير وكــبير فــي عــلم الحــديــث انــتقد حــتى الــبخاري‬
‫اعــتبره ثــقة‪ ،‬عــلي بــن املــديــني قــال }كــان فــيه ضــعف ويُــكتَب حــديــثه{‪ ،‬يــحيى بــن مــعني قــال }لــيس‬
‫بـشيء{‪ .‬أقـول‪ :‬الحـظي أنـه يـوجـد َمـن وثّـقه‪ ،‬وأكـثرهـم اعـتبروه مـقبوالً ُيـكتَب حـديـثه ووسـطاً‪ ،‬وواحـد‬

‫‪34‬‬
‫ق ــال }ل ــيس ب ــشيء{‪ ،‬ك ــيف ي ــكون ه ــذا ف ــي رج ــل واح ــد؟ ال ــجواب ب ــبساط ــة‪ :‬ألن م ــعاي ــيره ــم غ ــير‬
‫مــوضــوعــية‪ ،‬بــل قــد تــكون مــذهــبية مــتعصبة ألن حســني بــن زيــد كــان مــن أصــحاب جــعفر الــصادق‬
‫ومــوســى الــكاظــم وهــما أئــمة الــشيعة وأهــل الــبيت فــي زمــنهما‪ ،‬وتــربــى فــي بــيت جــعفر وتــلقى عــنه‬
‫الــعلوم واملــعارف‪ ،‬بــالــتالــي البــد أن يــحكم عــليه أصــحاب الــفرقــة األخــرى بــنوع مــن الــضعف ونــحوه‪.‬‬
‫لـكن الـذهـبي ألنـه يـعرف أن حـديـث رضـا اهلل لـرضـا فـاطـمة وغـضبه لـغضبها‪ ،‬قـال عـبارة فـيها قـسوة‬
‫بـالـغة وهـو أن حسـني بـن زيـد }مـنكر الحـديـث ال يحـل أن يـحتج بـه{ وكـأنـه مـنافـق أو كـاذب مـشهور‬
‫بالكذب‪
.‬‬
‫عـلى هـذا الـنمط‪ ،‬يـمكن الـنظر إلـى عـلم الـروايـات بـأنـه تـأثـر بـعوامـل كـثيرة‪ ،‬وكـان الـقرءان بـعيدا ً‬
‫وضــاع الحــديــث أي الــذيــن يــخترعــون األحــاديــث‬ ‫عــن اهــتمامــات الــكثير مــنهم‪ .‬بــل يــروى أن بــعض ّ‬
‫وينسـبونـها إلـى الـنبي‪ ،‬اخـترع أحـاديـثا ً كـثيرة فـي فـضائـل الـقرءان‪ ،‬فـلما سـألـوه قـال مـا مـعناه بـأنـه‬
‫رأى اش ـ ـ ــتغال ال ـ ـ ــناس ب ـ ـ ــغير ال ـ ـ ــقرءان ف ـ ـ ــأراد إرج ـ ـ ــاع ـ ـ ــهم إل ـ ـ ــيه‪ .‬فه ـ ـ ــذا وم ـ ـ ــثله م ـ ـ ــن ال ـ ـ ــكذاب ـ ـ ــني ”‬
‫الــصالــحني“ وهــي ظــاهــرة مشــتهرة تح ـ ّدث عــنها مســلم فــي مــقدمــة صــحيحه‪ ،‬كــانــوا يــرون أنــهم ال‬
‫يـكذبـون ”عـلى“ الـنبي حسـب حـديـث ”مـن كـذب َعـليّ مـتعمدا ً“‪ ،‬بـل يـرون أنـهم يـكذبـون ”لـ“ الـنبي‪،‬‬
‫يــعني لــصالــح الــنبي‪ ،‬لــصالــح مــا جــاء بــه‪ ،‬فــهم خــارج الحــديــث‪ .‬ومــن هــذا وغــيره صــارت الــروايــات‬
‫أحــوج إلــى الــقرءآن مــن أي وقــت مــضى‪ .‬فــبدالً مــن االحــتجاج عــلى الــقرءآن بــالــروايــات ومــا فــيها‬
‫ول ــيس ف ــيها‪ ،‬ي ــجب أن ي ــزداد ح ــرص ال ــناس ب ــل وأه ــل ال ــرواي ــات ع ــلى ت ــنقيحها ف ــي ض ــوء ال ــقرءان‬
‫وتعاليمه وتفاصيله‪
.‬‬
‫مـما جـاء فـي الـروايـات‪ ،‬عـن عـلي عـن الـنبي أنـه قـال }أقـبلت الـفنت كـقطع الـليل املـظلم{ فـسألـوه‬
‫ـصل أه ّـمية الـكتاب وأبـعاده‪ ،‬وكـل فـقرة مـن‬ ‫}مـا املخـرج مـنها يـا رسـول اهلل{ فـقال }كـتاب اهلل{‪ ،‬ثـم ف ّ‬
‫فـقرات هـذا الحـديـث تـحتاج إلـى دراسـة وتـأمـل‪ ،‬ألن هـذه األ ّمـة وقـعت وال زالـت تـقع فـي فـنت بسـبب‬
‫إعــراضــها عــن كــتاب اهلل‪ .‬فــد ّلــهم عــلى كــتاب اهلل‪ ،‬ولــم يــد ّلــهم عــلى كــتاب روايــات‪ ،‬وقــد كــان يتحــدث‬
‫عـن الـناس مـن بـعده‪ .‬وهـذا مـفهوم ألن هـذه األ ّمـة افـتتنت بـديـن الـروايـات والـتاريـخ وصـ ّيرتـه مـركـزا ً‬
‫وأساساً‪ ،‬وأعرضت بالكلية أو أعرضت جوهريا ً عن كتاب اهلل‪
.‬‬
‫كــذلــك فــي روايــة أخــرى عــن ابــن مــسعود أن الــنبي وصــف الــقرءان بــأنــه }نــجاة ملــن اتــبعه{‪ .‬لــم‬
‫يقل اتبعه واتبع غيره‪ ،‬بل قال }اتبعه{‪ .‬وأصل هذا في القرءآن ”اتبعوا النور الذي أنزل معه“‪
.‬‬
‫ـتوســلون بــه }أمــا‬ ‫فــي روايــة ثــالــثة أن الــنبي ســيقول عــن بــعض أفــراد قــبيلته يــوم الــقيامــة حــني يـ ّ‬
‫ســب فــأعـ ِرف‪ ،‬وأمــا الــعمل فــال أعــرف نــبذتــم الــكتاب فــارجــعوا فــال قــرابــة بــيني وبــينكم{‪ ،‬الحــظي‬ ‫الن َّ َ‬
‫أن نبذهم الكتاب كان معيار تبرؤ النبي منهم حتى وهم قرابته‪
.‬‬

‫‪35‬‬
‫فهــذا وغــيره مــما يــوجــد فــي الــروايــات ويــؤكــد مــا ورد فــي اآليــات‪ .‬فــهو حـ ّ‬
‫ـجة كــافــية مــن داخــل‬
‫منظومة الروايات على الرجوع إلى نظام اآليات‪
.‬‬
‫الـخالصـة‪ :‬ال نـحتاج إلـى الـتكهن ملـاذا يـوجـد أو ال يـوجـد شـيء فـي الـروايـات‪ ،‬بـعد أن نجـد مـا‬
‫ـمسك بــه وعــروة‬
‫يــكفي فــي اآليــات بــل وفــي الــروايــات املــصدقــة املــتبعة لــآليــات مــا هــو عــصمة ملــن تـ ّ‬
‫وثقى ال انفصام اهلل واهلل سميع عليم‪
.‬‬

‫…

‫س ‪ : ٥‬قـولـي فـي الجـمع بـني األمـريـن أقـصد الـصالتـني أو ظـاهـر األمـر وبـاطـنه؛ فهـذا يجـ ّلي هـذا‬
‫فـكما أن الـقرآن مـوجـود ظـاهـرا ً بـلسان عـربـي وبـاطـنا كـروح فـال هـذا يـنافـي هـذا كـما أن لـيس كـل‬
‫مـن يـقرأه يـعقله و يـمسه فـالـصالة الـقرآنـية هـي الـروح والـتقليديـة هـي ظـاهـره وقـولـه فـاآليـة }يـعلمون‬
‫ظــاهــرا ً مــن الــحياة الــدنــيا وهــم عــن اآلخــرة هــم غــافــلون{ فــالــذم كــان فــالــغفلة عــن الــباطــن ال فــي ذم‬
‫تبني‪
.‬‬
‫علمهم الظاهري‪ .‬هكذا ّ‬

‫تــعليقي‪ :‬نــعم‪ ،‬الــقرءان أيــضا ً لــه ظــاهــر وبــاطــن‪ ،‬ظــاهــره لــسانــه وبــاطــنه حــقيقته‪ .‬بــالــتالــي‪ ،‬ال يــقال‬
‫بأن أصحاب الصالة القرآنية هم قوم يريدون الباطن بدون الظاهر‪ ،‬فهذا أمر‪
.‬‬
‫أمـر آخـر‪ ،‬وهـو الـذي ركـزت عـليه مـراراً‪ ،‬املـشكلة فـي الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬إضـافـة إلـى أنـها غـير‬
‫مـنصوص عـليها فـي الـقرءان وتـؤدي إلـى اخـتالفـا ً كـثيرا ً وافـتراقـا ً واحـترابـا ً فـي األ ّمـة بـغير مخـرج‬
‫إلـى يـوم الـديـن حـتى صـارت األ ّمـة مـصداقـا ً قـولـه تـعالـى ”أغـريـنا بـينهم الـعداوة والـبغضاء إلـى يـوم‬
‫الـقيامـة“ ألنـهم ال يـرجـعون إلـى كـتاب اهلل بسـبب رجـوعـهم إلـى الـروايـات واملـذاهـب غـير املـبنية عـلى‬
‫الــكتاب حــصراً‪ ،‬فــنفس صــورة الــصالة الــتقليديــة يــجعلها لــألع ـ ّم األغــلب ذات ظــاهــر بــدون بــاطــن‪،‬‬
‫وجس ــد ب ــال روح‪ ،‬وش ــكلية ب ــال ح ــقيقة‪ .‬ف ــفرق ب ــني ش ــيء ق ــاب ــل ل ــلغفلة وال ــذك ــر ع ــلى ال ــحياد ف ــتكون‬
‫امل ــسؤول ــية ف ــي ال ــذك ــر ع ــلى ع ــات ــق اآلخ ــذ ب ــه‪ ،‬وب ــني ش ــيء ه ــو ن ــفسه ي ــميل ب ــاآلخ ــذ ب ــه ج ــهة ال ــغفلة‬
‫بسبب تركيبه وشؤونه‪
.‬‬
‫ل ــكن ن ــعم إن اف ــترض ــنا إن ــسان ـا ً ي ــكون ح ــاض ــرا ً ف ــي ال ــقراءة واألذك ــار وي ــتك ّلم ب ــلسان ج ــسمه‬
‫ب ــالح ــرك ــات وال ــوض ــعات ك ــما ي ــتك ّلم ب ــلسان ف ــمه ب ــال ــكلمات‪ ،‬فه ــذا ال ف ــرق ب ــني ال ــصالة ال ــقرآن ــية‬
‫والصالة التقليدية عنده بل هما شيئا ً واحدا ً من هذا الوجه‪
.‬‬
‫إال أن م ــن أهـ ـ ّم م ــا ي ــشغلني ه ــو ح ــني ي ــأت ــيني إن ــسان وي ــقول ل ــي ”ت ــرك ــت ال ــصالة )ي ــقصد‬
‫الـتقليديـة( ألنـي كـذا وكـذا )ويـبدأ يسـرد لـي الـعيوب الـتي ذكـرنـاهـا بـعضها أو كـثير مـنها(“ ثـم يـقول‬

‫‪36‬‬
‫ل ـ ــي ”ك ـ ــيف أص ـ ـ ّلي ص ـ ــالة هلل ذات روح وح ـ ــقيقة“ أو ”أي ـ ــن ه ـ ــذه ال ـ ــصالة ف ـ ــي ك ـ ــتاب اهلل“‪ .‬ف ـ ــال‬
‫أســتطيع أن أجــيبه بــقلب مــطمئن إال بــبيان الــصالة الــقرآنــية‪ ،‬وأقــول لــعله إن اســتقام عــليها ووجــد‬
‫حــقيقتها يــميل إلــى رؤيــة حــقيقة ومــنفعة الــصالة الــتقليديــة بحســب أصــلها الــنبوي األولــي الــطاهــر‬
‫ثــم يــقوم بــها مــن عــند نــفسه أو لــعل اهلل يــبعث قــلبه بــفهم شــيء مــن الــقرءان يــدلــه عــليها‪ .‬لــكن مــاذا‬
‫ســأقــول هلل يــوم الــقيامــة إن قــال لــي ”أمــرتــك بــتعليم كــتابــي‪ ،‬فهــل وجــدت فــي كــتابــي املســتبني هــذه‬
‫الــصالة؟“ حــينها ال يــمكن أن أجــيب إال بــأجــوبــة أنــا نــفسي أر ّدهــا عــلى َمــن يــجيب بــها الــيوم‪ ،‬مــن‬
‫قـبيل قـولـهم ”أطـيعوا الـرسـول“ و ”مـا يـنطق عـن الـهوى“ ومـا أشـبه مـما نـر ّد اسـتداللـهم بـه ألنـه فـي‬
‫ـصلناه فــي كــتب أخــرى‪ .‬مــن هــنا قــلت بــأنــه يــجب أوالً إقــامــة‬ ‫غــير مح ـ ّله مــن أكــثر مــن زاويــة كــما فـ ّ‬
‫ال ــصالة ال ــقرآن ــية‪ ،‬ب ــعد ال ــرس ــوخ ف ــيها ي ــمكن ال ــنقاش ف ــيما س ــواه ــا مل ــن أراد ال ــنقاش ول ــم يج ــد م ــا‬
‫يكفيه فيها على فرض ذلك‪
.‬‬

‫…

‫س ‪ :٦‬ن ــقول اي ــضا ً مل ــن ش ــعر ب ــال ــفتور وامل ــلل م ــن ص ــالت ــه ال ــجسمان ــية ك ــيف ي ــعقل أال ي ــكون االم ــر‬
‫كــذلــك وانــت مــن الــروح تجــردت ورضــخت لــجسمك األدنــى فــافــعل بــالــباطــن ليتجــلى الــظاهــر بيســر‬
‫وسالم‪
.‬‬

‫تـعليقي‪ :‬مـن الـلطيف أنـه روي عـن الـنبي صـلى اهلل عـليه وآلـه وسـلم أنـه قـال عـن الـقرءان }ال يشـبع‬
‫مـنه الـعلماء{ و قـال }ال يخـ َلق عـلى كـثرة الـرد{‪ .‬فـمن خـواص الـقرءان عـند أهـله أنـه ال فـتور وال مـلل‬
‫فيه‪
.‬‬
‫وهـذا أحـد أسـباب وضـع اهلل املـواقـيت فـي صـالة الـفريـضة )الـعشاء لـدلـوك الـشمس إلـى غـسق‬
‫الــليل‪ ،‬والفجــر مــن طــلوع الفجــر إلــى مــا قــبل طــلوع الــشمس( وصــالة الــنافــلة )بــثلثي ونــصف وثــلث‬
‫تيس ــر ك ــاس ــتثناء خ ــصوص ـا ً ل ــلمساف ــر وال ــتاج ــر وامل ــقات ــل(‪ .‬الح ــظي أن ــه رب ــط‬
‫ال ــليل ك ــأص ــل‪ ،‬ث ــم م ــا ّ‬
‫ال ــصالة أي ق ــراءة ال ــقرءان ب ــأوق ــات‪ ،‬ول ــم ي ــرب ــطه بح ــرك ــات ج ــسمان ــية أو ب ــأع ــداد ك ـ ّـمية‪ .‬مل ــاذا؟ ألن‬
‫ـتعمق ويــتفرغ لــلمعرفــة يــحتاج إلــى تــفرغ تــام فــيفرغ وقــتا ً لــذلــك‬ ‫الــقارئ حــتى يســتغرق ويــتوغــل ويـ ّ‬
‫ال ــعمل خ ــاص ــة‪ ،‬ث ــم ألن اهلل ع ــلم أن ال ــقرءان ج ــميل وب ــاط ــنه ع ــميق وظ ــاه ــره أن ــيق ف ــإن ال ــقارئ ق ــد‬
‫يـغرق فـي جـمالـه ونـوره لـدرجـة أن يـنشغل عـن بـقية أمـور جـسمه ومـعاشـه وأهـله فـيفقد تـوازن حـياتـه‬
‫فح ــدد ل ــه أوق ــاتـ ـا ً ل ــيس م ــن ب ــاب ال ــتكليف ال ــشاق ب ــل م ــن ب ــاب ال ــتخفيف والح ــماي ــة م ــن م ــخاط ــر‬
‫االســتغراق‪ .‬فــنالحــظ أن مــا بــني طــلوع الــشمس إلــى الــظهيرة وقــت مــن الــنهار لــم يــجعل اهلل فــيه ال‬

‫‪37‬‬
‫صــالة فــريــضة وال نــافــلة‪ ،‬ألنــه قــال ”الــنهار مــعاش ـا ً“‪ ،‬ومــا بــعد الــعشاء اآلخــر أي غــسق الــليل ومــا‬
‫بــني الــنافــلة قــال ”مــن الــليل فتهجــد“ والتهجــد فــيه مــعنى الــنوم ثــم االســتيقاظ مــن الــنوم‪ ،‬بــالــتالــي‬
‫أرش ــد إل ــى راح ــة ون ــوم ب ــعد ال ــعشاء وق ــبل ن ــاف ــلة ال ــليل‪ ،‬ف ــجعل به ــذا ف ــاص ـالً ف ــي ال ــنهار ل ــلمعاش‬
‫وف ــاص ـالً ف ــي ال ــليل ل ــلراح ــة وال ــنوم‪ ،‬وك ــذل ــك ذك ــر ”ت ــضعون ث ــياب ــكم م ــن ال ــظهيرة“ وذل ــك ق ــبل دل ــوك‬
‫ال ــشمس وب ــدء ف ــري ــضة ال ــعشاء ف ــي وق ــتها األول وي ــدل ع ــلى ال ــراح ــة ب ــعد امل ــعاش‪ ،‬ف ــال ــوق ــت ف ــي‬
‫الــقرءان مــتوازن يجــمع مــا بــني الــصالة ومــا بــني املــعاش والــراحــة‪ .‬وقــد عــلم اهلل قــدرة الــقرءآن عــلى‬
‫جـذب الـنفس املسـتنيرة إلـى درجـة تـجعلها تـفقد أي اهـتمام بـاملـعاش وبـالـراحـة حـتى قـال ”تـتجافـى‬
‫جنوبهم عن املضاجع يدعون ربهم“‪ ،‬فلذلك وضع األوقات‪
.‬‬
‫اآلن‪ ،‬أي ــن ه ــذا م ــن م ــا نج ــده ف ــي أم ــر ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ع ــند م ــن ي ــعرف ــها وال ي ــعرف ال ــصالة‬
‫ال ــقرآن ــية‪ .‬أي ــن ه ــذا ال ــتقييد ل ــلمص ّلني ال ــصالة ال ــقرآن ــية‪ ،‬ت ــقييد ح ــتى ي ــنظروا ف ــي أم ــر م ــعاش ــهم‬
‫وراحـ ــتهم وأهـ ــلهم‪ ،‬تـ ــقييد مـ ــن جـ ــمال ال تـ ــقييد اسـ ــتعباد وتـ ــخويـ ــف‪ ،‬أيـ ــن هـ ــذا مـ ــن مـ ــا نجـ ــده عـ ــند‬
‫ـص َغر‬ ‫أص ــحاب ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ومـ ـ ّلة ال ــرواي ــات ال ــتي ي ــبدأ ت ــقدي ــمها ل ــلناس ب ــال ــضرب ف ــي ال ـ ِّ‬
‫والـتخويـف بـالـحبس والـقتل والـحكم بـالـردة فـي ال ِـكبَر؟ لـو كـانـوا يـعلمون لـها جـماالً ونـورا ً ملـا قـامـوا‬
‫بذلك‪ ،‬وتاجر البضاعة أعلم الناس بعيوبها عادةً وإن أخفاها‪
.‬‬
‫ال أريـد أن أقـنع أحـدا ً بـأن ال يـشعر بـالـفتور واملـلل مـن عـملية نـفس تـكويـن صـورتـها يـؤدي إلـى‬
‫الــفتور واملــلل‪ .‬خــصوصـا ً أن اهلل أغــنانــا عــن هــذا بــتعليم كــتابــه‪ .‬ليمتلئ قــلبه بــنور الــقرءان‪ ،‬ولــيعتاد‬
‫الـذكـر الـكثير والتسـبيح بـكرة وأصـيالً‪ ،‬ثـم بـعد ذلـك لـيكون مـا يـكون ولـعله حـينها لـن يـشعر بـالـفتور‬
‫وامل ــلل ح ــني ي ــشارك ج ــسمه م ــا ي ــقوم ب ــه ع ــقله ول ــسان ــه م ــشارك ــة خ ــاص ــة ذات أوض ــاع م ــخصوص ــة‬
‫واعتبارات أخرى أخفى‪
.‬‬
‫أقــصد بــاالعــتبارات األخــرى األخــفى أن هــذه الــصالة الــتقليديــة نــفسها لــها أدلــة مــن الــقرءآن‬
‫حــتى عــلى أعــدادهــا وتــفاصــيلها‪ .‬فــمنها مــا ذكــرتــه فــي كــتبي‪ ،‬ومــنها مــا أنــتظر الــفتح فــيه مــن اهلل‪.‬‬
‫فـمن ذلـك مـثالً كـونـها خـمس صـلوات وقـال الـنبي ”الـصالة نـور“ )الحـظي ”نـور“ والـنور أمـر إلـهي‬
‫غـيبي ”اهلل نـور“‪ ،‬و“الـعلم نـور“‪ ،‬فـالـصالة اتـصال بـاهلل ونـوره وعـلمه‪ .‬فـحقيقتها نـور‪ ،‬وليسـت ظـلمة‬
‫حــس وجــسم ودنــيا(‪ ،‬فــإذا نــظرتــي فــي آيــة الــنور ســتجدي أن الــنور فــيها ذُكــر خــمس مــرات‪ ،‬وإذا‬
‫أحــصيتي حــروف هــذه الــكلمات الخــمس ســتجديــها ‪ ١٧‬حــرف ـا ً بــعدد )نــور‪ ،‬نــور‪ ،‬نــور‪ ،‬نــوره‪ ،‬لــنوره(‬
‫م ــع ح ــذف ال ــالم م ــن ”ل ــنوره“ وذل ــك ب ــعدد رك ــعات ال ــفرائ ــض الخ ــمس‪ ،‬وإذا حس ــبتي ال ــالم م ــن ”‬
‫لــنوره“ فــالــناتــج ‪ ١٨‬حــرف ـا ً ومــن هــنا تــعرفــي أهـ ّـمية ركــعة الــوتــر فــي الــروايــات عــلى اعــتبار أن أقــل‬
‫ال ــوت ــر رك ــعة واح ــدة‪ .‬وه ــكذا ك ــثير غ ــير ذل ــك‪ .‬ل ــكن م ــثل ه ــذه االع ــتبارات األع ــمق ليس ــت أدل ــة ب ــينة‬
‫بــالــطريــقة الــتي تــجب فــيها األحــكام فــي الــكتاب املــبني املســتبني‪ ،‬إال أنــها أدلــة وقــرائــن عــلى كــون‬

‫‪38‬‬
‫الــعمل صــادر عــن الــنبي أو عــن ولــي عــارف بــاهلل مــفتوح عــليه‪ .‬فــضالً عــن األدلــة والــقرائــن األخــرى‬
‫التي أشرت إلى كثير منها في كثير من كتبي‪
.‬‬
‫…

‫س ‪ : ٧‬م ــا ال ــدل ــيل ف ــي ال ــقران ال ــذي ي ــؤص ــل إل ــى ن ــهج ال ــتدرج ف ــي إق ــام ــة ال ــصالة إذا رأي ــنا أن‬
‫اإلج ــاب ــة ال ــقائ ــلة ب ــأن ي ــبدأ املس ــلم ب ــال ــقرآن ــية ث ــم اذا رس ــخ ف ــيها واس ــتقر ي ــنتقل ل ــلتقليدي ــة فيج ــمع‬
‫بينهما‪
.‬‬

‫ّ‬
‫األقل هذه األدلة‪
.‬‬ ‫الجواب‪ :‬توجد على‬
‫األول‪ ،‬ق ــال اهلل }أط ــيعوا اهلل وأط ــيعوا ال ــرس ــول{‪ ،‬ف ــعلى ف ــهم أن ط ــاع ــة اهلل ه ــي ط ــاع ــة م ــا ف ــي‬
‫كــتاب اهلل‪ ،‬وطــاعــة الــرســول هــي الــتي عــلى أســاســها تــجب الــصالة الــتقليديــة‪ ،‬فــعلى ذلــك يــجب أن‬
‫ن ــبدأ م ــن ح ــيث ب ــدأ اهلل‪ ،‬وه ــو أن ن ــطيع اهلل وذل ــك ب ــال ــصالة ال ــقرآن ــية‪ ،‬ث ــم ن ــطيع ال ــرس ــول ب ــال ــصالة‬
‫الـتقليديـة—عـلى فـرض ثـبوتـها بـتفاصـيلها ووجـوب إقـامـة هـذه الـتفاصـيل وعـدم إقـامـة غـيرهـا طـبعاً‪،‬‬
‫وهذا مبحث آخر لكن أبني الدليل هنا على ما يقبله أهل الروايات‪
.‬‬
‫الــثانــي‪ ،‬بــما أن الــقرآنــية هــي املــنصوص عــليها‪ ،‬فــهي الــفريــضة‪ .‬لــكن فــي الــقرءآن أيــضا ً فــتح‬
‫م ــجال ل ــلذك ــر والتس ــبيح وال ــقراءة وال ــتالوة وال ــدع ــاء والس ــالم وغ ــير ذل ــك ب ــنحو غ ــير م ــقيد ب ــصورة‬
‫محـددة‪ ،‬كـقولـه ”اذكـروا اهلل ذكـرا ً كـثيرا ً“ فـلم يحـدد ذكـرا ً مـن ذكـر وال عـددا ً مـن عـدد فـكان كـل ذلـك‬
‫ج ــائ ــزاً‪ ،‬وم ــن ق ــبيل ”أن ــزل م ــن ال ــسماء م ــاء“ ث ــم ب ــعد ذل ــك تخ ــرج أش ــجار م ــختلفة األل ــوان وت ــسيل‬
‫األوديــة بحســب األوديــة وحــالــها فــكذلــك نســتطيع أن نــقول بــأن الــصالة الــقرآنــية الــتي هــي الــقراءة‬
‫والــوقــت يــمكن أن تــأخــذ أشــكاالً وألــوانـا ً مــختلفة كــلها جــائــزة مــن حــيث األصــل ألنــها مــندرجــة تــحت‬
‫أص ــول ال ــقرءآن ال ــكلية ف ــي ه ــذا ال ــباب‪ .‬ف ــيكون األخ ــذ ب ــال ــلون وال ــشكل ال ــذي ث ــبت ن ــقله وع ــمله م ــن‬
‫الــنبي أولــى عــند مــن يــفهم شــروط ذلــك وتــفاصــيله ويــقبله طــوع ـا ً ويــناســب حــالــه‪ .‬فــالــحكم الــخاص‬
‫يـقتضي الـقيام بـالـصالة الـقرآنـية‪ ،‬والـحكم الـعام املـفتوح يـجيز الـقيام بـالـصالة الـتقليديـة كـلون مـن‬
‫ألوان الصالة القرآنية‪
.‬‬
‫ـبني عــنده أن رســول اهلل كــان‬ ‫الــثالــث‪ ،‬قــال اهلل }كــان لــكم فــي رســول اهلل أســوة حــسنة{‪ ،‬فــمن تـ ّ‬
‫يــقوم بهــذه الــصالة الــتقليديــة بــهيئة مــعينة أثــناء قــراءتــه الــقرءآن وأذكــاره ودعــائــه‪ ،‬فهــذه اآليــة تــدلــه‬
‫عـلى الـتأسـي بـه‪ .‬فـنحن نـعلم يـقينا ً مـن الـقرءان أن الـرسـول كـان يـقرأ الـقرءان فـي أوقـات الـفريـضة‬
‫والـنافـلة‪ ،‬لـكننا ال نـعلم إال بـظن ومـا تـحت الـيقني أنـه كـان يـقوم بهـذه الـصورة أو تـلك مـن تـفاصـيل‬
‫ـجة ق ــرآن ــية أي ــضا ً ف ــضالً ع ــن أن ــه ال ـ ّ‬
‫ـحجة ال ــتي ث ــبت ب ــها‬ ‫ال ــجسم وال ــحس‪ ،‬وم ــن امل ــعقول‪-‬وال ــعقل ح ـ ّ‬

‫‪39‬‬
‫ال ــقرءان‪-‬أن ن ــق ّدم ال ــيقيني ع ــلى ال ــظنّي‪ ،‬ون ــق ّدم املج ــمع ع ــليه ع ــلى امل ــختلف ف ــيه‪ ،‬ون ــق ّدم م ــا ي ـ ّ‬
‫ـوح ــد‬
‫ـفرق ــها وه ــذا بح ــد ذات ــه أم ــر إل ــهي ل ــكل امل ــرس ــلني ”أن أق ــيموا ال ــدي ــن وال ت ــتفرق ــوا‬
‫األ ّم ــة ع ــلى م ــا ي ـ ّ‬
‫ـفرقــة بــينما الــقرآنــية مــوحــدة مجـ ّـمعة مــن حــيث أنــها مجـ ّـرد‬ ‫فــيه“ وقــد عــلمنا أن الــصالة الــتقليديــة مـ ّ‬
‫القراءة واملواقيت‪
.‬‬

‫…

‫س ‪ :٨‬لـو تـكرمـت وبـينت لـنا بـما فـتح اهلل لـك مـعنى هـذه االيـات الـكريـمة وبـينت لـنا مـوافـقتها مـع مـا‬
‫ذهـبت إلـيه فـي كـتابـك األخـير حـول الـتفريـق بـني الـصالة الـقرانـية والـتقليديـة وفـق الـرؤيـة الـعرفـانـية‪.‬‬
‫قـال تـعالـى)يـا ايـها الـذيـن امـنوا ال تـقربـوا الـصالة وانـتم سـكارى حـتى تـعلموا مـا تـقولـون وال جـنبا‬
‫اال عـابـري سـبيل حـتى تغتسـلوا وان كـنتم مـرضـى او عـلى سـفر او جـاء احـد مـنكم مـن الـغائـط او‬
‫المســتم الــنساء فــلم تجــدوا مــاء فــتيمموا صــعيدا طــيبا فــامــسحوا بــوجــوهــكم وايــديــكم ان اهلل كــان‬
‫ع ــفوا ع ــفورا( ف ــمعروف ف ــي ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ان ال ــطهارة م ــن ش ــروط ــها وم ــن ب ــينها الغس ــل ب ــعد‬
‫الــجنابــة او الــتيمم فهــل يــنطبق االمــر ايــضا عــلى الــصالة الــقرآنــية اي هــل يشــترط فــيها الــطهارة‬
‫بالغسل والتيمم كما في الصالة التقليدية؟

‫وف ــي اي ــة اخ ــرى ق ــال ت ــعال ــى)ي ــا اي ــها ال ــذي ــن ام ــنوا اذا ق ــمتم ال ــى ال ــصالة ف ــاغس ــلوا وج ــوه ــكم‬
‫وايـديـكم الـى املـرافـق وامـسحوا بـرؤسـكم وارجـلكم الـى الـكعبني وان كـنتم جـنبا فـاطهـروا وان كـنتم‬
‫مــرضــى او عــلى ســفر او جــاء احــد مــنكم مــن الــغائــط او المســتم الــنساء فــلم تجــدوا مــاء فــتيمموا‬
‫صــعيدا طــيبا فــامــسحوا بــوحــوهــكم وايــديــكم مــنه مــايــريــد اهلل لــيجعل عــليكم مــن حــرج ولــكن يــريــد‬
‫ليطهــركــم ولــيتم نــعمته عــليكم لــعلكم تــشكرون( وفــي هــذه االيــة ايــضا تــأكــيد عــلى الــطهارة بــحيثية‬
‫مـعينة اغسـلوا وجـوهـكم وامـسحوا بـرؤسـكم الـى اخـر مـاجـاء مـن تـعالـيم فـي االيـة الـكريـمة الـتي هـي‬
‫تــعد مــقدمــات لــلصالة الــتقليديــة فهــل يــنطبق االمــر ايــضا عــلى الــصالة الــقرآنــية وهــل يشــترط فــي‬
‫ال ــصالة ال ــقران ــية ال ــطهارة والغس ــل؟ وه ــل يش ــترط الغس ــل ب ــعد ال ــجناب ــة؟ وم ــاذا يس ــتفاد م ــن غس ــل‬
‫الوجه للصالة او الطهارة بعد املالمسة؟

‫الـجواب‪ :‬أ ّوالً‪ ،‬إذا نـظرنـا إلـى ظـاهـر اآليـات‪ ،‬فـال يـوجـد شـيء يـمنع مـن أن تـكون الـطهارة املـذكـورة‬
‫شــرط ـا ً لــلصالة الــقرآنــية كــما هــي شــرط لــلصالة الــتقليديــة عــند فــقهاء الــروايــات‪ .‬الســبب هــنا هــو‬
‫السبب هناك أيا كان هذا السبب‪
.‬‬

‫‪40‬‬
‫ث ــان ــياً‪ ،‬ف ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية‪ ،‬يظه ــر م ــعنى ه ــذه اآلي ــات أك ــثر‪ .‬ألن اهلل ق ــال ع ــن ال ــقرءآن ”ال‬
‫ـمسه إال املطه ــرون“‪ ،‬ف ــناس ــب ه ــذا امل ــعنى ت ــطهير ال ــنفس وت ــطهير ال ــجسم م ــن ح ــيث أن ال ــقارئ‬ ‫يـ ّ‬
‫ي ــعقل ب ــنفسه وي ــتلو وي ــمسك امل ــصحف إن ك ــان ل ــه م ــصحف ب ــجسمه‪ .‬ف ــامل ــقصد ه ــو ب ــلوغ ح ــقيقة‬
‫الكتاب املكنون‪
.‬‬


‫جـه املـؤمـنني إن كـنت تـتدارس‬ ‫وتتنشـط لـلقراءة وكـذلـك حـتى تـوا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ثـم نـقول‪ :‬غسـل الـوجـه حـتى تسـتيقظ‬
‫الــكتاب فــي جــماعــة‪ .‬وغســل الــيديــن حــتى تــمسك الــكتاب والــصحف املــكرمــة الــقرآنــية بــهما‪ .‬ومــسح‬
‫الـرأس بـمعنى أنـك سـتأخـذ املـاء مـن يـديـك أي مـن اآليـات الـتي تـمسكها وتـضعها عـلى أعـلى رأسـك‬
‫بــمعنى تــعقلها وتــفهمها‪ ،‬ومــسح الــرجــلني بــعد الــرأس إشــارة إلــى تــغيير عــملك وســلوكــك بحســب مــا‬
‫عـقلته وفـهمته مـن اآليـات‪ .‬فهـذه الـعملية الـربـاعـية تـشير إلـى مـواجـهة الـكتاب بـاإلقـبال بـوجـه الـقلب‬
‫ـمسكون ب ــال ــكتاب وأق ــام ــوا ال ــصالة“‪ ،‬وي ــدل ع ــلى ق ــراءة‬ ‫ـتمسك ب ــه ب ــال ــيدي ــن ”ال ــذي ــن يُ ـ ّ‬
‫ع ــليه‪ ،‬ث ــم ال ـ ّ‬
‫الـقرءآن بـيد املـلك الـظاهـريـة ويـد املـلكوت الـباطـنية‪ ،‬ثـم مـسح الـرأس يـعني أخـذ اآليـات ووضـعها فـي‬
‫الـعقل‪ ،‬ثـم مـسح الـقدمـني يـعني إظـهار مـا عـقله عـلى قـدمـي الـقول والـفعل فـي األرض فـتقول وتـفعل‬
‫بحسب ما تعقل‪
.‬‬


‫أمـا قـولـه تـعالـى }يـا ايـها الـذيـن امـنوا ال تـقربـوا الـصالة وانـتم سـكارى حـتى تـعلموا مـا تـقولـون وال‬
‫ج ــنبا اال ع ــاب ــري س ــبيل ح ــتى تغتس ــلوا وان ك ــنتم م ــرض ــى او ع ــلى س ــفر او ج ــاء اح ــد م ــنكم م ــن‬
‫الـغائـط او المسـتم الـنساء فـلم تجـدوا مـاء فـتيمموا صـعيدا طـيبا فـامـسحوا بـوجـوهـكم وايـديـكم ان‬
‫اهلل كان عفوا عفورا(

‫فــقولــه }ال تــقربــوا الــصالة وأنــتم ســكارى حــتى تــعلموا مــا تــقولــون{ يــدل عــلى أن الــصالة قــول‬
‫وعــقل‪ .‬فــلم يــقل ”حــتى تــعلموا مــا تــقولــون وتــفعلون“‪ ،‬ولــو كــان فــي الــصالة فــعل أيــضا ً لــذكــر الــفعل‬
‫أو لـقال ”حـتى تـعلموا مـا تـعملون“ عـلى أسـاس أن الـعمل يـشمل الـقول والـفعل‪ ،‬فـالـقول غـير الـفعل‬
‫”لـم تـقولـون مـا ال تـفعلون“ لـكن الـعمل يـشملهما مـعا ً ”ادخـلوا الـجنّة بـما كـنتم تـعملون“‪ .‬فهـذه اآليـة‬
‫دل ــيل ع ــلى أن ال ــصالة ف ــي ال ــقرءان ه ــي ق ــول وع ــلم‪ ،‬وت ــلك ه ــي ال ــقراءة‪ .‬ف ــال ــقراءة ق ــول وع ــلم‪ .‬أم ــا‬
‫ال ــسكر ف ــيدخ ــل ع ــلى ال ــعقل‪ ،‬وه ــذا بح ــد ذات ــه ي ــدل ــك ع ــلى أن أي إخ ــالل ب ــال ــعقل ف ــي ال ــصالة وم ــا‬
‫يــمنعه مــن الــتع ّلم فــي الــصالة فــهو خــلل فــي الــصالة‪ .‬اآلن‪ ،‬اعــتاد الــناس عــلى اعــتبار الــسكر هــو‬
‫مجـ ّـرد شــرب الخــمر املــادي‪ ،‬والــحق أنــه يــوجــد مــا هــو أش ـ ّد مــن الخــمر ومــا هــو أحــق بــاســم الخــمر‬
‫واملــسكرات مــن الخــمر املــعروفــة‪ ،‬مــن قــبيل الــعقائــد واألفــعال الــجسمانــية الــتي تــحول بــني املــصلي‬
‫وتع ّلم ما يقوله واالنتفاع العلمي من القرءان‪
.‬‬

‫‪41‬‬
‫ثــم إن }الــصالة{ هــنا تــشير أيــضا ً إلــى مــكان إقــامــة الــصالة‪ ،‬لــذلــك قــال }وال جــنبا ً إال عــابــري‬
‫ـسمى م ــكان ال ــصالة ص ــالة‪ ،‬ك ــقول ــه ”‬ ‫س ــبيل ح ــتى تغتس ــلوا{‪ ،‬ف ــامل ــرور ي ــكون ب ــمكان ال ــصالة‪ .‬ف ـ ّ‬
‫وص ــلوات وم ــساج ــد ي ــذك ــر ف ــيها اس ــم اهلل“‪ .‬م ــما ي ــشير إل ــى ات ــخاذ أم ــاك ــن م ــخصصة ل ــلصالة‪،‬‬
‫ويشهــد لهــذا قــولــه ”اتخــذوا مــن مــقام إبــراهــيم ُمــص ّلى“‪ .‬وهــذا مــما يــعني عــلى الــتركــيز الــعقلي فــي‬
‫الــقراءة والــحضور‪ ،‬كــما هــو مــعلوم عــند أهــل الــقراءة عــادةً‪ ،‬فــضالً عــن مــا ســوى ذلــك مــن بــركــات‪،‬‬
‫ويــعزز هــذا ذكــر املحــراب لــزكــريــا ومــريــم وداود‪ ،‬واملحــراب مــكان الحــرب ألن الــصالة حــرب بــالــنور‬
‫ضد الظلمات‪ ،‬وحرب بالعقل ضد الجهل‪ ،‬وحرب بكالم اهلل ض ّد كالم الخلق‪
.‬‬
‫امل ــري ــض وامل ــساف ــر وال ــغائ ــط وال ــلمس‪ ،‬ه ــذه األرب ــع ك ــلها ت ــشير إل ــى م ــتاع ــب ال ــجسم وع ــوائ ــقه‬
‫وم ــشاك ــله‪ .‬وك ــلها ت ــؤدي إل ــى ع ــدم ت ــرك ــيز ال ــعقل أي ه ــي ن ــوع م ــن امل ــسكرات إن ش ــئت ب ــدرج ــات‬
‫م ــختلفة وال ــتي ت ــجعل امل ــص ّلي ال ي ــعلم م ــا ي ــقول أو ال ي ــحسن ت ــع ّقل وت ــع ّلم م ــا ي ــتلوه م ــن ك ــتاب اهلل‬
‫ت ــعال ــى‪ .‬ه ــذه األرب ــعة ت ــدل ع ــلى ك ــون ال ــوع ــي مس ــتغرق ـا ً أو م ــحبوس ـا ً ف ــي ال ــجسم وآالم ــه وه ــموم ــه‬
‫وم ــشاغ ــله‪ ،‬وق ــد ع ــلمنا أن ال ــوع ــي ك ــلما ه ــبط ل ــلجسم ك ــلما اب ــتعد ع ــن ال ــروح‪ .‬ف ــلذل ــك ك ــان األم ــر‬
‫بـاالغـتسال والـطهارة وسـيلة كـأنـها وسـيط يـرفـع الـوعـي مـن مـجال الـجسم إلـى مـجال الـروح والـحق‬
‫املتعالي ويُدخله حضرة القرءان‪
.‬‬
‫أمـا قـولـه ملـن لـم يجـد املـاء }فـتيمموا صـعيدا طـيبا فـامـسحوا بـوجـوهـكم وايـديـكم{‪ ،‬فـاملـاء لـه أربـع‬
‫أعـضاء‪ ،‬وجـه ويـد ورأس ورجـل‪ ،‬لـكن الـصعيد وهـو تـراب وأرضـي خـالفـا ً لـلماء الـسماوي‪ ،‬لـه الـوجـه‬
‫والــيد‪ ،‬ألن وضــع الــتراب عــلى الــرأس والــقدم يــشير إلــى تــح ّول الــعقل والــعمل إلــى ال ـبُعد األرضــي‬
‫املــادي وظــاهــر الــحيوة الــدنــيا وهــو شــأن الــغافــلني والــكافــريــن‪ ،‬فــلذلــك اكــتفى بــالــوجــه والــيد لــلتنبيه‬
‫املـعنوي‪ ،‬وكـذلـك ألن الـتراب يـشير إلـى األمـثال والـكالم الـلسانـي وهـو ظـاهـر الـقرءان الـذي تـواجـهه‬
‫وتـأخـذه بـيدك‪ ،‬فـالـقرءان لـه ُبـعد تـرابـي و ُبـعد مـائـي‪ .‬فـاألصـل الـوجـه والـيديـن فـي الـحالـتني‪ ،‬ألنـه البـد‬
‫ـتوج ــه واألخ ــذ‪ .‬وع ــلى ال ــعموم امل ــاء أو ال ــصعيد وس ــيلة ت ــنبيه وع ــمل ش ــيء ل ــه ط ــاب ــع ش ــعائ ــري‬
‫م ــن ال ـ ّ‬
‫حتى يجذب الوعي من العمل ذي الطابع الدنيوي والشهواني إلى العمل الروحاني العقالني‪
.‬‬
‫ثـم خـتم بـأسـماء حـسنى }إن اهلل كـان عـفوا ً غـفورا{ فـاهلل هـو مـنزل الـكتاب‪ ،‬والـعفو يـشير إلـى‬
‫املـاء الـذي يـغطي اإلنـسان كـله بـأبـعاده األربـعة‪ ،‬لـكن الـغفور يـشير إلـى الـغفر وهـو السـتر ويـشير‬
‫إلـى الـصعيد الـذي يسـتر عـلى األق ّـل أهـ ّم مـا فـي اإلنـسان بـالنسـبة لـصلته بـالـكتاب‪ .‬وفـي الجـملة‬
‫ك ــاله ــما ي ــدل ع ــلى أن أص ــل ت ــعام ــل اهلل ف ــي ه ــذه ال ــقضاي ــا ه ــو ال ــعفو وامل ــغفرة‪ ،‬ول ــيس الش ــدة‬
‫واالنـتقام ونـحو ذلـك‪ .‬فـتأمـل هـذا فـهو أصـل بـديـع فـي الـفقه الـقرآنـي‪ .‬وعـززه بـاآليـة األخـرى }مـايـريـد‬
‫اهلل لــيجعل عــليكم مــن حــرج ولــكن يــريــد ليطهــركــم ولــيتم نــعمته عــليكم لــعلكم تــشكرون{‪ .‬فــاملــقصد‬
‫الـنهائـي تـحقيق الـشكر‪ ،‬ولـيس مج ّـرد إقـامـة الـشكليات والـتصرف بـاملـاديـات‪ .‬وهـذا مـن أصـول فـقه‬

‫‪42‬‬
‫الـ ــقرءان‪ ،‬والـ ــذي املـ ــقصد مـ ــن الـ ــصالة وشـ ــؤونـ ــها فـ ــيه هـ ــو تـ ــغيير الـ ــنفس‪ ،‬مـ ــن الـ ــكفر إلـ ــى الـ ــفكر‬
‫والـشكر‪ ،‬مـن الـغفلة إلـى الـذكـر‪ ،‬مـن الـعصيان إلـى فـهم وطـاعـة األمـر‪” .‬كـتاب أنـزلـناه إلـيك لتخـرج‬
‫الناس من الظلمات إلى النور بإذنهم ربهم إلى صراط العزيز الحميد“‪
.‬‬
‫……………………………………………………………………‪
.‬‬

‫‪43‬‬
‫) املُلحق الثاني (

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم


‫) أسئلة وردتني مع أمور فُتحت لي إضافية في املسألة (


‫فصل ‪ :‬األسئلة‪
.‬‬

‫س ‪ :١‬مــن آيــات الــصاله كــتأويــل آخــر غــير الــذي ذكــرتــه فــي كــتابــك هــي عــبارة عــن حــركــتني إقــامــة‬
‫)ب ــمعنى وق ــوف ( وس ــجود م ــمكن أع ــملهم وأن ــا أق ــرأ ق ــرآن؟ أم أن اإلق ــام ــة ف ــي )أق ــم( )أق ــمت( ه ــي‬
‫الــدراســه وقــراءة الــقران ونخــر ســاجــديــن حــتى لــو لــم يــكن لــديــنا سجــدة تــالوة فــي كــل مــرة أدرس‬
‫القران؟

‫جواب‪
:‬‬
‫أمــا بــالنســبة لــإلقــامــة‪} .‬أقــم{ ال تــعني الــقيام عــلى الــقدمــني‪ .‬فــهي مــثل ”أقــيموا الــديــن“ و ”أقــيموا‬
‫ال ــوزن ب ــالقس ــط“ و ”أق ــيموا ال ــشهادة هلل“ و ”أق ــيموا وج ــوه ــكم ع ــند ك ــل مسج ــد“‪ .‬ف ــقول ــه }أق ــيموا‬
‫الـصالة{ وبـعدهـا }وقـرءان الفجـر{ يـعني أقـيموا الـصالة وأقـيموا قـرءان الفجـر‪ ،‬ثـم قـال }ومـن الـليل‬
‫تيسـر مـنه{‪ ،‬بـالـتالـي اإلقـامـة تـعني الـقراءة الـصحيحة‬ ‫فتهجـد بـه{ وب ّـني ذلـك فـي املـز ّمـل }فـاقـرأوا مـا ّ‬
‫بـالـفهم الـصحيح‪ ،‬ألن تـغيير كـلمات الـقرءان مـن االعـوجـاج فـي الـكالم‪ ،‬وتـغيير مـعانـي الـقرءان مـن‬
‫االعـوجـاج فـي األفـهام‪ .‬هـذا أصـل اإلقـامـة‪” .‬الحـمد هلل الـذي أنـزل عـلى عـبده الـكتاب ولـم يـجعل لـه‬
‫ِع َوجا‪َ .‬ق ِّيما ً ل ُي ِ‬
‫نذر“‪
.‬‬


‫وأمـا بـالنسـبة لـلسجود‪ ،‬فـأنـا أؤمـن بـالـسجود بـعد كـل قـراءة لـلقرءان بـعدمـا قـرأت قـولـه تـعالـى ”إنـما‬
‫س ّجــدا ً“ فــلم يحــدد ايــة مــن آيــة بــل عــمم ذلــك فــي اآليــات‬
‫يــؤمــن بــآيــاتــنا الــذيــن إذا ذُ ّكــروا بــها خـ ّـروا ُ‬
‫ك ــلها‪ .‬وك ــذل ــك ق ــال ف ــي غ ــير امل ــؤم ــنني ”إذا ُق ــرئ ع ــليهم ال ــقرءان ال يسج ــدون“ ف ــكان ال ــسجود ب ــعد‬
‫قــراءة الــقرءان مــن عــالمــات املــؤمــنني‪ ،‬ســواء كــان الــسجود عــلى طــريــقة ”يخـ ّـرون لــألذقــان“ أو كــان‬
‫عـلى طـريـقة ”هلل يسجـد‪..‬وظـاللـهم“ أي عـلى األرض بـالـكلية حسـب الـصورة‪ .‬ويـعزز هـذا قـولـه فـي‬
‫س ّجــدا ً وقــيامـا ً“ وقــولــه ”يــبيتون“ يــشير إلــى الــليل كــما قــال ”‬
‫ســورة الــفرقــان أيــضا ً ”يــبيتون لــر ّبــهم ُ‬
‫تهجــد الــليل بــقراءة الــقرءان‪ ،‬فــكانــت‬
‫تــتجافــى جــنوبــهم عــن املــضاجــع“‪ ،‬وقــد عــرفــنا مــن املــز ّمــل أن ّ‬
‫”س ّجـدا ً“ ملـا يـتصل بـالـقرءان‪ .‬وهـنا داللـة أخـرى‪،‬‬ ‫الـقراءة هـي املـشار إلـيها بـكلمة ”قـيامـا ً“ فـبقيت ُ‬

‫‪44‬‬
‫”س ّجــدا ً وقــيامـا ً“‪ ،‬فــقد يسجــد أوالً ثــم يــقرأ ثــم يسجــد‪ ،‬فــيكون ســجوده‬ ‫وهــي الــسجود قــبل الــقيام‪ُ ،‬‬
‫مــتضمنا ً للتســبيح والــدعــاء ومــن الــخير لــو دعــا بــأن يــفتح اهلل لــه فــي الــقرءان ويــقبله ويــرفــعه‪ ،‬وهــذا‬
‫ألن اهلل قــال ”ســأصــرف عــن آيــاتــي الــذيــن يــتكبّرون فــي األرض بــغير الــحق“ فــجعل الــتكبّر ســببا ً‬
‫لــلصرف عــن اآليــات‪ ،‬فــعرف عــباد الــرحــمن ذلــك فــق ّدمــوا الــسجود هلل نــفيا ً لــلتكبّر عــن أنــفسهم حــتى‬
‫ـمسه إال املطهـرون“‪.‬‬ ‫تـتز ّكـى ثـم يـدخـلون فـي الـقراءة بـالـقيام وهـم طـاهـرون لـقولـه عـن الـقرءان ”ال ي ّ‬
‫وعـلى ذلـك‪ ،‬تـكون أحـسن صـورة هـي الـسجود ثـم الـقيام ثـم الـسجود‪ ،‬فـالـسجود األول نـفيا ً لـلتكبّر‬
‫والـدعـاء بـالـفتح فـي الـقراءة‪ ،‬ويـكون الـسجود اآلخـر شـكرا ً لـلنعمة ودعـاء بـالـتوفـيق لـلعمل بـما عـلمه‬
‫القارئ بفضل اهلل وتعليمه‪
.‬‬

‫…

‫س ‪ :٢‬ف ــترة م ــن دل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل ت ــعني م ــن الظه ــر إل ــى ال ــعشاء ه ــذه ف ــترة ط ــوي ــلة‬
‫ومــفتوحــة )ولــم يحــدد فــيها اهلل ‪ ٤‬أوقــات كــما اعــتدنــا فــي الــصلوات الخــمس والفجــر وقــته مــنفصل‬
‫ع ـ ــنها( ه ـ ــل امل ـ ــقصد ل ـ ــدراس ـ ــة ال ـ ــقران أن ـ ــه ط ـ ــول ال ـ ــيوم أدرس وإال امل ـ ــقصود أط ـ ـبّق ال ـ ــقران ف ـ ــي‬
‫خ ُلقه القرآن(؟
‬ ‫سلوكياتى خالل اليوم )كان ُ‬

‫جواب‪
:‬‬
‫قــال اهلل}يــريــد اهلل بــكم اليســر وال يــريــد بــكم العســر{ وبـ ّـني أن اهلل يــريــد أن }يــخفف{ ع ـنّا‪ .‬ويشهــد‬
‫ـصة الــبقرة‪ ،‬فــإنــه بــدأ بــإعــطاء أمــر واســع }اذبــحوا بــقرة{ ولــم يــخصص ويــق ّيد ويــض ّيق‬ ‫لهــذا مــثالً قـ ّ‬
‫في صفات البقرة‪ ،‬بل أي بقرة كانت كافية إلقامة أمر اهلل هذا‪ .‬فهذا أصل‪
.‬‬
‫ثـم إن اهلل ذكـر }صـالة الفجـر{ و }صـالة الـعشاء{‪ ،‬فـأفـرد اسـم الـصالة }صـالة{ يـعني صـالة‬
‫واح ــدة‪ .‬ث ــم ب ـ ّـني وق ــت ال ــعشاء م ــثالً ب ــأن ل ــها أول ول ــها آخ ــر‪ ،‬ف ــال ــعشاء األول ه ــو }ل ــدل ــوك ال ــشمس{‬
‫والــعشاء اآلخــر هــو }غــسق الــليل{‪ ،‬فــكل هــذا وقــت واحــد‪ .‬وبــما أنــه قــال }صــالة{ بــاملــفرد‪ ،‬فــالــصالة‬
‫الـواحـدة كـافـية إلقـامـة هـذا األمـر‪ .‬بـالـتالـي‪ ،‬إذا قـرأنـا سـورة الحـمد فـقد صـ ّلينا‪ ،‬وإذا قـرأنـا سـورة‬
‫الح ــمد وس ــورة أو آي ــات ب ــعده ــا ف ــقد ص ـ ّلينا‪ ،‬وإذا خ ــتمنا ال ــقرءان ك ــله ف ــقد ص ـ ّلينا‪ ،‬امل ــهم اإلت ــيان‬
‫األقل في هذا الوقت حتى يتم أمر }صالة العشاء{‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫بصالة واحدة على‬
‫مـن طـرق الـقرءآن فـي التشـريـع أحـيانـا ً أن يـضع حـدا ً أعـلى وحـ ّدا ً أدنـى‪ ،‬ويـترك لـلناس الـعمل‬
‫بــينهما‪ .‬فــمثالً‪ ،‬فــي املــز ّمــل‪ ،‬مـ ّـرة يــقول }ثــلثي الــليل{ وأخــرى أخــف }نــصفه{ وثــالــثة أخــف }ثــلثه{ ثــم‬
‫تيســر{ فــلم يحــدد وقــتا ً كـ ّـميا ً وتــرك األمــر لــلنفس ونــشاطــها وحــضور عــقلها‬ ‫خــفف بــاملـ ّـرة فــقال }مــا ّ‬

‫‪45‬‬
‫تيسـر{ كحـ ّد أعـلى وأدنـى‪ ،‬أو عـلى اعـتبار آخـر }قـم الـليل‬ ‫فـي الـقراءة‪ .‬فـما بـني }ثـلثي الـليل{ و }مـا ّ‬
‫إال ق ــليال{ ب ــدون تح ــدي ــد ه ــذا ال ــقليل ف ــيكون أي ن ــوم ــة وراح ــة م ــهما قـ ـ ّلت ت ــكفي ل ــتحصيل م ــعنى‬
‫تيسـر{ تـوجـد درجـات كـثيرة‪ .‬هـذا مـثال‪.‬‬ ‫التهجـد ألنـه مـن الـقيام مـن املـضجع بـعد الـنوم ومـا بـني }مـا ّ‬
‫م ــثال آخ ــر‪ ،‬ح ــني ذك ــر ال ــقتال‪ ،‬ف ــذك ــر الح ـ ّد األع ــلى وه ــو ”إن ي ــكن م ــنكم عش ــرون ص ــاب ــرون ي ــغلبوا‬
‫مــائــتني“ فهــذا الحــد األعــلى وهــو واحــد لعشــرة‪ ،‬ثــم خــفف لــلضعف فــذكــر الحــد األدنــى وهــو ”مــائــة‬
‫يــغلبوا مــائــتني“ فهــذا الح ـ ّد األدنــى وهــو واحــد الثــنني‪ ،‬ثــم بــني ذلــك درجــات مــن الــفضل‪ .‬بــناء عــلى‬
‫هــذا املــعنى‪ ،‬يــكون أحــسن مــص ّلي هــو الــذي يــقرأ الــقرءان }لــدلــوك الــشمس إلــى غــسق الــليل{ بــال‬
‫انـقطاع‪ ،‬فـيكون فـي شـكل مـن أشـكال الـقراءة طـوال هـذه الـفترة‪ ،‬سـواء كـان يـقرأ فـي مـصحف أو‬
‫يــكتب مــا يــتأمــله أو يــتلوه فــي سـ ّـره وهــو يــمشي أو أيــا كــانــت الــصورة طــاملــا أن الــجوهــر حــاضــر‬
‫واسمه مص ّلي‪
.‬‬
‫ســئل نــافــع وهــو الــتابــعي املــصاحــب لــعبد اهلل بــن عــمر بــن‬ ‫مــن هــنا مــثالً تجــديــن هــذه الــروايــة‪ُ :‬‬
‫الخـطاب ”مـا كـان يـصنع ابـن عـمر فـي مـنزلـه؟“ فـقال ”ال تـطيقونـه‪ .‬الـوضـوء لـكل صـالة واملـصحف‬
‫ف ــيما ب ــينهما“‪ .‬م ــن أي ــن ج ــاء اب ــن ع ــمر به ــذا؟ أم ــا ال ــوض ــوء ف ــألن اهلل ق ــال }إذا ق ــمتم إل ــى ال ــصالة‬
‫فــاغســلوا{‪ ،‬فهــذا الــكالم يــحتمل إمــا الــقيام مــن الــنوم وإمــا الــقيام بــمعنى أي قــيام إلــى الــصالة‪،‬‬
‫ـصها يــقتضي مــا كــان‬ ‫يــعني يــحتمل فــهما ً فــيه تــخفيف ويــحتمل فــهما ً فــيه تشــديــد‪ ،‬وظــاهــر اآليــة ونـ ّ‬
‫ي ــقوم ب ــه اب ــن ع ــمر حس ــب ال ــرواي ــة ال ــساب ــقة‪ ،‬وه ــو أن ك ــل ق ــيام إل ــى ال ــصالة الب ــد ل ــه م ــن الغس ــل‬
‫واملــسح‪ ،‬فــأخــذ بــالــفهم الحــرفــي لــآليــة وهــو الحــد األعــلى‪ .‬هــذا بــالنســبة لــلوضــوء‪ .‬لــكن الحــظي قــولــه‬
‫}وامل ــصحف ف ــيما ب ــينهما{‪ ،‬ي ــعني ف ــيما ب ــني ال ــصلوات‪ ،‬ب ــمعنى أن ــه ك ــان ي ــص ّلي ف ــي املسج ــد م ــع‬
‫ال ــناس الظه ــر وال ــعصر وامل ــغرب وال ــعشاء‪ ،‬وه ــذه ك ــلها ف ــيها ق ــراءة ق ــرءان ف ــفيها ج ــوه ــر ال ــصالة‬
‫الـقرآنـية‪ ،‬لـكن بـعد ذلـك لـم يـكن يـنسى الـقرءان كـدراسـة فـي املـصحف وتـأمـل ونـظر‪ ،‬بـل كـان يـرجـع‬
‫إلـى مـنزلـه ويشـتغل بـاملـصحف }فـيما بـينهما{ بـالـتالـي‪ ،‬الـروايـة تـعزز أنـه كـان يـأخـذ بحـرفـية الـقرءان‬
‫وهــو }لــدلــوك الــشمس إلــى غــسق الــليل{ بــدون انــقطاع مــا أمــكن‪ ،‬يــعني اشــتغال بــالــقرءان وشــؤون‬
‫الصالة في كل هذا الوقت‪ .‬هذا شاهد من املرويات على هذا املعنى‪
.‬‬
‫ب ــال ــتال ــي‪} ،‬ل ــدل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل{ ظ ــاه ــره ــا وح ــرف ــها وأع ــلى ع ــمل ب ــها ي ــقتضي أن‬
‫يكون اإلنسان في صالة فيما بني هذين الوقتني‪ .‬فهو وقت صالة‪
.‬‬


‫وأمـا بـالنسـبة ملـفهوم تـطبيق الـقرءان خـالل الـيوم‪ :‬فـأ ّوالً تـطبيقه فـرع لـفهمه والـتحقق بـروحـه ومـعرفـة‬
‫حـقائـقه وهـذه كـلها مـن ثـمار الـصالة بـإذن اهلل‪ .‬ثـانـياً‪ ،‬مـن طـلوع الـشمس إلـى وقـت الـظهيرة‪ ،‬ومـن‬
‫ب ــعد ال ــعشاء اآلخ ــر إل ــى ال ــنوم أو إل ــى الفج ــر‪ ،‬ه ــذه األوق ــات ك ــلها م ــخصصة لـ“ت ــطبيق“ ال ــقرءان‬

‫‪46‬‬
‫بــمعنى إظــهاره فــي األرض والــدنــيا‪ ،‬ألن اهلل لــم يــذكــر صــلوات محــددة فــي هــذه األوقــات وإن كــان‬
‫ـتضمن ال ــيوم ك ــله ب ــال اس ــتثناء‪ .‬ف ــنعم‪ ،‬اس ــتحضار ال ــقرءان ف ــي‬ ‫ّ‬ ‫ق ــول ــه ”ع ــلى ص ــالت ــهم دائ ــمون“ ي ـ‬
‫ـتصرف بحسـب مـا‬ ‫ّ‬ ‫الـقلب‪ ،‬وتـذ ّكـر آيـاتـه عـلى مـدار الـيوم‪ ،‬ورؤيـة الـوجـود كـله بـعني وروح قـرآنـية‪ ،‬وال‬
‫فـ ــهمه اإلنـ ــسان مـ ــن الـ ــقرءان‪ ،‬هـ ــذا كـ ــله يـ ــجعل اإلنـ ــسان فـ ــي صـ ــالة دائـ ــمة‪ .‬فـ ــالـ ــنظر فـ ــي اآليـ ــات‬
‫الــطبيعية واآليــات البشــريــة أيــضا ً مــن قــراءة الــقرءان الــكونــي‪ ،‬وال خــير فــي قــراءة الــقرءان الــعربــي‬
‫إذا كــان الــقارئ ال يــرتــقي إلــى قــراءة الــقرءآن الــكونــي ”ســنريــهم آيــاتــنا فــي اآلفــاق وفــي أنــفسهم‬
‫ـتبني لــهم أنــه الــحق“‪ ،‬وال خــير فــي قــراءة الــقرءان الــكونــي إذا لــم يــرتــقي الــقارئ إلــى ”أولــم‬ ‫حــتى يـ ّ‬
‫يـكف بـربّـك أنـه عـلى كـل شـيء شـهيد“ فـيرى اهلل فـي كـل شـيء وهـو الـقرءان اإللـهي‪ .‬فـالـعربـي بـاب‬
‫الكوني‪ ،‬والكوني باب اإللهي‪” ،‬وأن إلى ر ّبك املنتهى“‪
.‬‬
‫ل ــكن الب ــد أي ــضا ً م ــن ت ــذ ّك ــر أن ال ــحياة االج ــتماع ــية وال ــطبيعية ك ــلما ك ــان ــت أف ــضل ك ــلما ك ــان‬
‫اإلن ــسان أك ــثر ت ــفرغ ـا ً للخ ــلوة ب ــال ــقرءان ال ــعرب ــي‪ ،‬وي ــمكن أن ي ــرى ك ــل ش ــيء وه ــو ف ــي خ ــلوت ــه‪ ،‬ألن‬
‫الـ ــطبيعة كـ ــلها مجـ ــموعـ ــة فـ ــي نـ ــفس كـ ــل فـ ــرد ”وفـ ــي األرض آيـ ــات لـ ــلموقـ ــنني‪ .‬وفـ ــي أنـ ــفسكم أفـ ــال‬
‫تــبصرون“ فــمن أبــصر نــفسه عــرف كــل شــيء ”أولــم يــتفكروا فــي أنــفسهم مــا خــلق اهلل الــسموات‬
‫واألرض وم ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ـ ــينهما إال ب ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ــحق وأج ـ ـ ـ ــل م ـ ـ ـ ــسمى وإن ك ـ ـ ـ ــثيرا ً م ـ ـ ـ ــن ال ـ ـ ـ ــناس ب ـ ـ ـ ــلقائ رب ـ ـ ـ ــهم‬
‫ل ــكاف ــرون“ ف ــالح ــظي ك ــيف ج ــعل ال ــتفكر ف ــي ال ــنفس ط ــري ــقا ً إل ــى م ــعرف ــة ال ــسموات واألرض وم ــا‬
‫ب ــينهما وم ــن ه ــنا إل ــى ل ــقاء رب ال ــنفس ف ــاهلل أق ــرب ل ــلنفس م ــن ”ح ــبل ال ــوري ــد“‪ .‬ك ــثير م ــن أش ــغال ــنا‬
‫الــطبيعية مــبني عــلى عــدم انــتظام الــحياة بــعد‪ ،‬وكــذلــك لــعل أكــثر أشــغالــنا االجــتماعــية مــبنية عــلى‬
‫نـوع مـن الـفوضـى أو الـلهو ومـا أشـبه‪ .‬فـمن انـتظم أمـره ولـ ّم شـمله ورتّـب أمـوره حـتى يـتفرغ مـن كـل‬
‫ه ــموم ال ــطبيعة وامل ــجتمع ب ــأك ــبر ق ــدر م ــمكن‪ ،‬ث ــم وج ــد ال ــفراغ وس ــعى ل ــه س ــعيا ً إم ــا ب ــال ــتقلل م ــن‬
‫ال ــشهوات وإم ــا ب ــتأس ــيس ال ــعدل واالن ــتظام ف ــي امل ــعام ــالت‪ ،‬وب ــأي ط ــري ــق آخ ــر ح ــسن ومش ــروع‪،‬‬
‫فـسيكون مـن أهـل ”فـإذا فـرغـت فـانـصب‪ .‬وإلـى ربّـك فـارغـب“‪ .‬فـيدخـل خـلوتـه‪ ،‬ويـنعم بـقراءة الـكتاب‬
‫اإللهي والعروج به منه فيه لكل الوجود النوراني‪
.‬‬
‫فــإن كــان والبــد مــن الخــروج لــلطبيعة‪ ،‬فــانــظري بــعني الــتأويــل ألمــثالــها وأحــداثــها حــتى تــكون‬
‫قــراءة‪ ،‬وإن كــان والبــد مــن االجــتماع مــع الــناس فــاجتهــدي بــقدر وســعك حــتى يــكون الــناس حــولــك‬
‫مـن أهـل الـذكـر والـفكر والـدعـاء ”اصـبر نـفسك مـع الـذيـن يـدعـون ربـهم“ حـتى تـكون نـفس صـحبتهم‬
‫نـوعـا ً مـن الـصالة ورؤيـتهم لـونـا ً مـن االتـصال بـنور اهلل وإن كـان الـناس حـولـك فـي وقـت مـا بـخالف‬
‫ه ــذا ال ــحال ف ــكذل ــك ت ــأم ــليهم ك ــأن ــهم ت ــنظري ــن ف ــي ال ــقرءان ألن ــه ال ت ــوج ــد ن ــفس إال وه ــي م ــثال م ــن‬
‫األمـ ــثال املـ ــضروبـ ــة فـ ــي الـ ــقرءان وتظهـ ــر فـ ــيها آيـ ــة مـ ــن آيـ ــات اهلل املـ ــبيّنة فـ ــي الـ ــفرقـ ــان فـ ــاجـ ــعلي‬
‫معاشرتك لهم نوعا ً من القراءة واالعتبار واالنتفاع واالستبصار‪
.‬‬

‫‪47‬‬


‫…‬
‫س ‪ :٣‬حـدد اهلل صـالتـي الفجـر والـعشاء هـل هـي األسـاس لـدراسـة كـتاب اهلل ولـو راح وقـتها عـلي‬
‫أكون ما أقمت الصالة؟

‫جــواب‪ :‬لــو كــانــت تــنفع الــصالة بــعد خــروج الــوقــت‪ ،‬ملــا أنــزل اهلل آيــات صــالة الــخوف مــن قــولــه }ال‬
‫فسـر سـبب تـجويـز‬ ‫جـناح عـليكم أن تـقصروا مـن الـصالة إن خـفتكم أن يـفتنكم الـذيـن كـفروا{‪ ،‬ألنـه ّ‬
‫الــقصر بــعدهــا فــقال }إن الــصالة كــانــت عــلى املــؤمــنني كــتاب ـا ً مــوقــوتــا{‪ .‬فــحتى يــحفظ الــوقــت أجــاز‬
‫حــتى الــصالة قــصرا ً مــع حــمل الســالح خــوفـا ً مــن الــعدو الــحاضــر الــذي يــريــد أن }فــيميلون عــليكم‬
‫خـص فـي‬ ‫مـيلة واحـدة{ يـعني حـتى يـقتلكم وينهـب أمـوالـكم‪ .‬فـإذا كـان مـع خـطر الـقتل والنهـب لـم يـر ّ‬
‫أهمية حفظ أوقاتها‪
.‬‬ ‫ترك وقت الصالة‪ ،‬فهذا وحده يكفي أهل اإليمان ملعرفة ّ‬
‫ولــو كــان بــاإلمــكان قــضاء الــصالة بــعد خــروج وقــتها كــما يــمكن عــدم الــصيام وتــعويــض أيــامــه‬
‫خــر{‪ ،‬لــقال هــذا أيــضا ً هــنا‪ .‬فــفي الــصيام مــثالً قــال }فــمن كــان مــريــضا ً أو عــلى ســفر‬ ‫فــي }أيــام أ ُ َ‬
‫ف ــع ّدة م ــن أي ــام أُخ ــر{ وب ـ ّـني س ــبب ذل ــك ف ــقال }ي ــري ــد اهلل ب ــكم اليس ــر وال ي ــري ــد ب ــكم العس ــر{‪ .‬ف ــمع‬
‫امل ــرض وال ــسفر أج ــاز ت ــعوي ــض أي ــام ال ــصيام ب ــغيره ــا مل ــن أراد خ ــير ال ــصيام‪ ،‬ونس ــب ذل ــك إل ــى‬
‫الـتيسير وعـدم الـتعسير اإللـهي‪ .‬لـكن لـم يـفعل نـفس الـشيء فـي الـصالة‪ .‬بـالـرغـم مـن حـضور الـقتل‬
‫والنه ــب م ــن ع ــدو م ــتربّ ــص‪ ،‬ب ــال ــرغ ــم م ــن أن ــه ي ــوج ــد س ــفر أي ــضا ً }وإذا ض ــرب ــتم ف ــي األرض ف ــليس‬
‫عـليكم جـناح أن تـقصروا مـن الـصالة{ وحـضور الـخوف }إن خـفتم أن يـفتنكم الـذيـن كـفروا{ بـل ولـو‬
‫وجـد املـرض }أو كـنتم مـرضـى أن تـضعوا أسـلحتكم{ فـأجـاز وضـع السـالح وعـدم حـمله حـينها لـكن‬
‫خـر الـصالة عـن وقـتها‬ ‫ـتعرض لـلفتنة بـالـقتل والنهـب مـن أن يـؤ ّ‬ ‫لـم يجـز حـتى لـلمسافـر واملـريـض وامل ّ‬
‫أو عــن أن يــعوضــها ويــقضيها بــعد وقــتها‪ .‬فــإن كــان قــضاء الــصالة مــن الــعلم فــي شــيء‪ ،‬فــلم يــبلغ‬
‫عـلمي هـذا األمـر وأرجـو اهلل مـعرفـته وأن يـد ّلـني عـليه عـالِـم بـكتاب اهلل‪ ،‬لـكن مـا هـو مـعلوم مـقروء هـو‬
‫م ــا تج ــدي ــنه م ــفصالً أم ــام ــك‪ .‬ف ــال أدري م ــن أي ــن ج ــاءوا ب ــقضاء ال ــصالة ه ــذا وك ــتاب اهلل م ــع ك ــل‬
‫خـص فـي قـضاء الـصالة‪ ،‬وقـد كـان بحسـب مـفهومـنا أيسـر مـن مجـرد قـصر‬ ‫الـتيسير والـرحـمة لـم يـر ّ‬
‫الــصالة بــالــرغــم مــن وجــود الــعدو بــل واملــرض واملــطر املــؤذي فــيه‪ .‬فــال قــياس بــني الــصيام والــصالة‪.‬‬
‫الـصيام }أيـام مـعدودات{ فـالـعبرة فـيه لـأليـام‪ ،‬واأليـام تـقاس بـاأليـام‪ .‬لـكن الـصالة مـبنية عـلى الـوقـت‬
‫ال ــحال ــي ل ــكل ي ــوم‪ ،‬ف ــإذا ان ــقضى ه ــذا ال ــيوم ذات ــه ان ــقضت ص ــالت ــه‪ ،‬ف ــال ش ــيء ي ــع ّوض ذات ال ــيوم‬
‫وصـالتـه الـخاصـة بـه‪ .‬فجـر الـيوم هـو فجـر الـيوم فـقط ولـيس نـفس فجـر الـغد‪ ،‬كـذلـك دلـوك الـشمس‬
‫إلــى غــسق الــليل لهــذا الــيوم الــذي نــحن فــيه لــيس مــثل أي دلــوك شــمس إلــى غــسق الــليل ألي يــوم‬

‫‪48‬‬
‫آخـر‪ .‬لـكل يـوم صـالتـه‪ ،‬واهلل تـعالـى ”كـل يـوم هـو فـي شـأن“ فـمن خسـر مـعرفـته فـي شـأن الـيوم فـقد‬
‫ـتعرض لخـطر الـقتل عـلى يـد الـعدو الـحاضـر أهـون‬ ‫خسـره إلـى األبـد وال ُيـع َّوض ذاتـه أبـدا ً‪ .‬لـذلـك ال ّ‬
‫على املؤمنني العارفني بحقيقة الصالة وقيمتها األبدية للنفس من تأخير الصالة أو تركها‪
.‬‬
‫إذن‪ ،‬لـكل وقـت صـالتـه‪ ،‬والـوقـت ال يُـع َّوض بـذاتـه إذا ذهـب‪ ،‬فـال مـعنى لـقضاء الـصلوات‪ ،‬وإنـما‬
‫تــص ّلي فــي وقــت صــالة أخــرى لــيوم آخــر وأي صــالة تــقام فــي ذلــك الــوقــت اآلخــر هــي صــالة ذلــك‬
‫الـ ــوقـ ــت وليسـ ــت صـ ــالة الـ ــوقـ ــت الـ ــفائـ ــت‪ .‬لـ ــذلـ ــك أثـ ــنى اهلل عـ ــلى املـ ــؤمـ ــنني بـ ــأنـ ــهم }عـ ــلى صـ ــالتـ ــهم‬
‫سمى‪
.‬‬ ‫يحافظون{‪ .‬نسأل اهلل أن يغفر لنا ما مضى‪ ،‬ويثبّتنا فيما بقي من أجلنا امل ُ ّ‬

‫…

‫فصل ‪ :‬فتوحات‪
.‬‬

‫ـطعم وال يُ ــط َعم{‪ ،‬وق ــال ف ــي ال ــصالة }وأ ُم ــر أه ــلك ب ــال ــصالة واص ــطبر ع ــليها ال ن ــسأل ــك‬ ‫أ‪ -‬إن اهلل }يُ ـ ِ‬
‫رزقـا ً نـحن نـرزقـك والـعاقـبة لـلتقوى{‪ ،‬فـالـصالة إذن عـمل يـأتـيك فـيه رزق مـن اهلل‪ ،‬ولسـت أنـت الـذي‬
‫جل وعال‪ .‬فالصالة رزق لك‪ ،‬طعام لك‪ ،‬من اهلل ربك‪
.‬‬ ‫ترزق فيه اهلل ّ‬
‫هــذا املــعنى يظهــر بــجالء فــي الــصالة الــقرآنــية‪ ،‬ويــغيب عــند املــحصور فــي الــصالة الــتقليديــة‬
‫من املعرضني عن الصالة القرآنية‪
.‬‬
‫ألنـك فـي قـراءة الـقرءان تـأكـل مـن مـأدبـة اهلل إذ قـال الـنبي صـلى اهلل عـليه وآلـه وسـلم ”الـقرءان‬
‫ـطعم{ فـنفسك تـأكـل وتشـرب مـن كـالم اهلل حـني تـقرأه‪ ،‬ويـأتـيك رزق عـلمي‬ ‫مـأدبـة اهلل“ وهـو مـعنى } ُي ِ‬
‫مــنه مــع كــل قــراءة‪ .‬وهــذا بــاملــناســبة هــو أحــد أســباب حــفاظ املــؤمــنني عــلى الــصالة إذا جــاء وقــتها‪،‬‬
‫ول ــو ك ــان ــوا ب ــحضرة ع ــدو ي ــري ــد ق ــتلهم ونه ــب أم ــتعتهم‪ ،‬ألن ال ــقتل يس ــري ع ــلى ال ــبدن والنه ــب ع ــلى‬
‫األمـتعة وهـما مـن الـدنـيا يـعني حـياة الـدنـيا ورزقـها‪ ،‬لـكن تـرك الـصالة هـو قـتل لـلنفس ونهـب ملـتاع‬
‫اآلخــرة يــعني حــياة اآلخــرة ورزقــها‪ ،‬واآلخــرة خــير وأبــقى مــن الــدنــيا‪ ،‬فــوجــب تــقديــم مــنفعة اآلخــرة‬
‫بالحفاظ على الصالة على مصلحة الدنيا بترك الصالة‪
.‬‬
‫أمــا الــذي يــرى الــصالة فــقط كحــركــات وألــفاظ يــق ّدمــها لــربّــه‪ ،‬فــهو يــتخيّل بــأن ربّــه يُــط َعم أيــضا ً‬
‫ويـحتاج إلـى رزقـه هـذا بـصالتـه‪ ،‬فـكأنـه يُـعطي ربـه الـطعام والـرزق بهـذه الحـركـات واأللـفاظ‪ ،‬ولـذلـك‬
‫تج ــده ال ي ــلتفت ك ــثيرا ً إل ــى امل ــعان ــي واألخ ــذ واالن ــتفاع م ــن ك ــالم اهلل وم ــا ي ــذك ــره‪ ،‬ب ــل يُ ــلقيه ص ــوري ـا ً‬
‫وكـأن شـخصا ً غـيره سـيأخـذه مـنه ويـنتفع بـه وهـو هـنا ربـه جـل وعـال‪ ،‬لـذلـك نـبّه فـي اآليـة عـلى مـعنى‬

‫‪49‬‬
‫}ال نـسألـك رزقـا ً{ بـعدمـا أمـر بـالـصالة‪ ،‬حـتى ال يـتوهـم أحـد أن الـصالة واالصـطبار عـليها هـو ألن‬
‫اهلل تعالى مفتقر إلى صالتنا وخشوعنا وما أشبه‪
.‬‬
‫فهــذا فــرقــان مــا بــني الــصالة الــحقيقية والــصالة املــزيــفة‪ .‬الــحقيقية اهلل يُــطعمك فــيها ويــرزقــك‪،‬‬
‫املــزيــفة تــتوهــم أنــك تُــطعم ربــك وتــرزقــه‪ .‬ومــن هــنا مــثالً تجــد الــفرق مــا بــني مــوســى ومحــمد صــاحــب‬
‫الـقرءان‪ .‬فـموسـى قـال }عجـلت إلـيك رب لـترضـى{ فعجـل عـن أمـر ربّـه فـي قـضية اسـتخالف هـارون‬
‫والعجـلة ال تـكون إال عـن أمـر كـان يـجب الـقيام بـه وإتـقانـه لـذلـك سـألـه اهلل }مـا أعجـلك عـن قـومـك يـا‬
‫مــوســىج فــأجــابــه بـ}لــترضــى{ فــر ّده اهلل إلــى قــومــه وذكــر الــفتنة‪ .‬لــكن فــي محــمد قــال }اصــبر‪..‬سـبّح‬
‫بحــمد ربــك{ ملــاذا؟ }لــع ّلك تــرضــى{ أنــت الــذي لــعلك تــرضــى بســبب الــصبر والتســبيح بحــمد ربــك‪،‬‬
‫ولــيس اهلل هــو الــذي يــفتقر إلــى رضــاك‪ ،‬أنــت مــفتقر إلــى الــرضــا واهلل يــد ّلــك عــلى كــيفية تــحصيله‪.‬‬
‫فــموســى عــمل عــلى أنــه ســيرزق اهلل الــرضــا فــر ّده اهلل فــي هــذه اآليــة‪ ،‬لــكن محــمد عــمل عــلى أن اهلل‬
‫ســيرزقــه الــرضــا فــأرضــاه }ولــسوف يــعطيك ربــك فــترضــى{‪ .‬هــذا مــثال‪ .‬مــثال آخــر فــي الــقبلة‪ ،‬قــال‬
‫}فــلنولــينّك قــبلة تــرضــاهــا{ فــاهلل تــعالــى لــيس فــي قــبلة محــددة بــل }هلل املشــرق واملــغرب فــأيــنما تــولــوا‬
‫ف ـث َ ّم وج ــه اهلل إن اهلل واس ــع ع ــليم{‪ ،‬ل ــكن ال ــرس ــول أراد ق ــبلة مح ــددة ي ــرض ــاه ــا وألن ــه ع ــبد اهلل ف ــكان‬
‫يـريـد أمـرا ً وإذنـا ً مـنه فـجاء اإلذن كـما بـيّنته اآليـة‪ ،‬لـرضـا الـرسـول ولـيس لـرضـا اهلل تـعالـى‪ .‬واألمـثلة‬
‫أكـثر فـي هـذا الـباب‪ ،‬وهـي مـن الـفرقـان مـا بـني الـعبادة الـصادقـة والـعبادة الـعبثية بـل لـعلها تـكون‬
‫ك ــفري ــة م ــن ح ــيث ت ــوه ــم ال ــعبد ال ــفقير أن ــه غ ــني واهلل ال ــغني م ــفتقر ل ــه‪ ،‬ف ــهو م ــن ق ــبيل ق ــول ب ــعض‬
‫الـ ــكافـ ــريـ ــن }إن اهلل فـ ــقير ونـ ــحن أغـ ــنياء{ فـ ــيتوهـ ــم أن وسـ ــيلة إرضـ ــاء اهلل مـ ــثالً عـ ــنده هـ ــو بـ ــالـ ــقيام‬
‫بـالـعبادات واألحـكام ونـحوهـا مـن أمـور الـديـن‪ ،‬فـكأن اهلل فـقير إلـى إقـامـتنا لـلديـن‪ ،‬وحـيث أنـه يـريـد‬
‫الـصالة مـنّا مـثالً فهـذا يـعني أنـه فـقير إلـينا‪ ،‬وبـما أنـه فـقير إلـينا فـنحن أغـنياء إذن ألنـنا نسـتطيع‬
‫الـكفر بـالـديـن واالشـتغال بـالـدنـيا والـلهو والـلعب والـتمتع ونـسيان أمـر اهلل ونجـد الـلذات والـشهوات‬
‫فـي الـدنـيا‪ ،‬بـينما اهلل تـعالـى فـقير إلـينا سـيغضب وتحـدث فـيه األحـداث الـجسام إن لـم نـقيم نـحن‬
‫ـحسي الــذي يــحتاجــه هــو ســبحانــه‬ ‫الــديــن مــن أجــله هــو ومــن أجــل إيــصال الــرزق الــوجــدانــي أو الـ ّ‬
‫وت ــعال ــى‪ .‬إذن‪ ،‬ال ــصالة ال ــقرآن ــية م ــبنية ع ــلى أص ــل ن ــوران ــي ه ــو }اهلل ال ــغني وأن ــتم ال ــفقراء{‪ ،‬ل ــكن‬
‫الـصالة الـتقليديـة ومـا شـابـهها مـن الـعبادات الـشكلية الـخالـية مـن الـروح والـعقل لـلذيـن أعـرضـوا عـن‬
‫الصالة القرآنية مبنية على أصل ظلماني هو }اهلل فقير ونحن أغنياء{‪
.‬‬
‫ويــتأســس عــلى هــذا مــا تجــده مــثالً مــن تــكاســل عــن الــصالة‪ ،‬أو اســتشعار ثــقلها وكــرهــها‪ ،‬أو‬
‫مـحاولـة الـتخفف مـنها ومـا إلـى ذلـك مـن أمـور كـلها تـشير إلـى نـفس مسـتغنية مسـتكبرة تـظن أنـها‬
‫ت ــعطي اهلل ب ــال ــصالة ب ــدالً م ــن أخ ــذ ع ــطاء اهلل ال ــباق ــي األع ــلى ب ــال ــصالة‪َ .‬م ــن ع ــرف وذاق ال ــصالة‬
‫الــقرآنــية‪ ،‬الــشيء الــوحــيد الــذي ســيكرهــه هــو بــدنــه والــدنــيا كــلها الــتي تــشغله عــنها وتجــذبــه بــعيدا ً‬

‫‪50‬‬
‫ع ــنها ك ــرهـ ـا ً‪ .‬خ ــالفـ ـا ً مل ــا ت ــراه ع ــند امل ــعرض ــني ع ــن ال ــقرءان م ــمن ي ــعتقد ف ــقط ب ــال ــصالة ال ــتقليدي ــة‬
‫الــجوفــاء‪ ،‬فــمنهم َمــن تــركــها بــالــكلية )ولــذلــك حــكم فــقهاء هــذه الــصالة بــالــقتل والــتكفير عــلى تــاركــها‬
‫حـتى يُـكرهـوا الـناس عـلى صـورتـها(‪ ،‬ومـنهم َمـن يـتركـها أحـيانـا ً ويـقوم بـها أحـيانـا ً ولـعلهم األكـثريـة‬
‫أو الـكثير جـدا ً مـنهم‪ ،‬ومـنهم مـن يـقوم بـها لـكن رغـبة فـي الخـروج عـن ثـقل الـتكليف وتـأنـيب الـضمير‬
‫والـخوف مـن املـوت بـل قـد يـكون ملحـدا ً كـذاك امللحـد الـغابـر الـذي سـألـوه كـيف تـص ّلي وأنـت ملحـد‬
‫فـقال ”ريـاضـة الجسـد وعـادة أهـل الـبلد“‪ ،‬ثـم قـ ّلة قـليلة تجـد الـنعيم فـيها لـكن أكـاد أجـزم غـيبا ً أنـك‬
‫سـتجد هـؤالء مـمن يـقيم الـصالة الـقرآنـية أيـضا ً ومـن الـذيـن يـذكـرون اهلل كـثيرا ً ويـقيمون بـقية أوامـر‬
‫ال ــقرءان‪ ،‬وي ــرون ه ــذه ال ــصورة الح ــرك ــية وال ــلفظية م ــنقول ــة ع ــن ال ــنبي ص ــلى اهلل ع ــليه وآل ــه وس ــلم‬
‫فيقيمونها اتباعا ً له بالعلم بذلك وهذا هو طريقي‪
.‬‬

‫…

‫ب‪-‬قــال اهلل تــعالــى فــي املــنافــقني }ومــا مــنعهم أن تُــقبل نــفقاتــهم إال أنــهم كــفروا بــاهلل وبــرســولــه وال‬
‫يـأتـون الـصالة إال وهـم ُكـسالـى وال ُيـنفقون إال وهـم كـارهـون‪ .‬فـال تـعجبك أمـوالـهم وال أوالدهـم إنـما‬
‫يريد اهلل ليُعذّبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون{

‫قــال }كــفروا بــاهلل وبــرســولــه{ بــبائَــني اثــنني‪ .‬كــما قــال ”أطــيعوا اهلل وأطــيعوا الــرســول“‪ .‬هلل أمــر‪،‬‬
‫ولـلرسـول أمـر‪ ،‬لـكن أمـر الـرسـول غـير َو تـابـع ألمـر اهلل‪ .‬نـعم‪ ،‬غـير َو تـابـع‪ .‬فـهو تـابـع ألنـه }الـرسـول{‬
‫وألن ــه ي ــحكم ب ــال ــكتاب ب ــما أراه اهلل بس ــبب ه ــذا ال ــكتاب ال ــنازل ع ــليه‪ ،‬ف ــإم ــا ي ــحكم ب ــما أراه اهلل ف ــي‬
‫الــكتاب وإمــا يــحكم بــروح الــكتاب فــيصبح يــرى بــه بــمعنى حــتى إن لــم يســتحضر آيــة خــاصــة أو‬
‫يجــمعها فــي ذهــنه عــلى طــريــقة التحــليل والــربــط لــكن نــفس نــزول الــكتاب عــليه بــالــحق يــجعل رؤيــته‬
‫وحـكمه مـن األمـور اإللـهية املـوفـقة املسـددة‪ .‬فـمن هـذا الـوجـه ونـحوه‪ ،‬يـكون أمـر الـرسـول تـابـع ألمـر‬
‫اهلل‪ .‬لــكن بــاملــقابــل‪ ،‬البــد مــن االعــتراف بــوجــود نــوع مــغايــرة بــني أمــر الــرســول وأمــر اهلل‪ ،‬بــدلــيل تــثنية‬
‫ال ــطاع ــة }أط ــيعوا اهلل وأط ــيعوا ال ــرس ــول{ ول ــو م ــن ب ــاب االح ــتمال‪ ،‬م ــن ق ــبيل أن اهلل وض ــع ف ــري ــضة‬
‫الـصدقـات عـلى ثـمانـية أصـناف وب ّـني حـكم الـغنيمة واألنـفال‪ ،‬فهـذا كـله مـن أمـر اهلل‪ ،‬لـكن َمـن الـذي‬
‫سـيطبّق هـذا فـي الـواقـع وفـي زمـنه وعـصره وعـلى األشـخاص واألحـداث الجـزئـية؟ البـد مـن حـاكـم‬
‫بـكتاب اهلل‪ ،‬وهـنا يـأتـي أمـر الـرسـول‪ ،‬بـل و}أولـي األمـر مـنهم{ مـمن يـتبع الـرسـول فـي هـذا الـطريـق‪.‬‬
‫فـأمـر اهلل هـو إعـطاء صـدقـة لـلفقراء‪ ،‬هـذا نـعقله مـن كـتاب اهلل‪ .‬لـكن َمـن هـو الـفقير فـي زمـانـنا؟ هـل‬
‫زيـد فـقير أم عـمرو أم سـارة أو َمـن بـالـضبط هـو الـفقير مـن حـيث الـتشخيص الـواقـعي؟ هـنا يـأتـي‬
‫}أطـيعوا الـرسـول{ فـحتى طـاعـة الـرسـول هـي مـن طـاعـة أمـر اهلل ألن األمـر بـطاعـته هـو أمـر اهلل لـنا‬

‫‪51‬‬
‫}أطــيعوا{ فــمن أطــاع الــرســول فــقد أطــاع أمــر اهلل فــي كــتابــه‪ ،‬بــالــتالــي ال يــقال بــأن طــاعــة الــرســول‬
‫شـيء مـنفصل عـن كـتاب اهلل بـل كـتاب اهلل نـفسه يـأمـر بـطاعـة الـرسـول‪ ،‬لـكن هـو }الـرسـول{ فـأمـره‬
‫س ـ ــيكون ت ـ ــاب ـ ــعا ً ل ـ ــلرس ـ ــال ـ ــة وإذن اهلل وم ـ ــا ش ـ ــرع ـ ــه اهلل وأم ـ ــر ب ـ ــه وب ـ ــامل ـ ــعروف ”وال ي ـ ــعصينك ف ـ ــي‬
‫معروف“ فقيّد باملعروف‪
.‬‬
‫ف ــإذا وج ــدن ــا م ــثالً ال ــرس ــول‪ ،‬م ــن ب ــاب امل ــثال الج ــدل ــي ال ال ــواق ــعي‪ ،‬إذا وج ــدن ــا ال ــرس ــول ي ــأم ــر‬
‫بـإعـطاء الـصدقـة لـألغـنياء بـدالً مـن الـفقراء وأمـامـنا قـول اهلل تـعالـى الـذي بـلغه الـرسـول إلـينا }إنـما‬
‫الـصدقـات لـلفقراء{‪ ،‬ولـم يـكن الـغني مـن أي صـنف مـن األصـناف السـبعة األخـرى ولـنفرض جـدالً‬
‫أنــه ال يــوجــد إال أمــر بــإعــطاء الــصدقــة لــلفقراء‪ ،‬ثــم وجــدنــا شــخصا ً هــو فــي الــواقــع املــشهود غــني‪،‬‬
‫فــقلنا لــلرســول ”يــا رســول اهلل فــالن غــني ولــيس فــقيرا ً فــلماذا تــعطيه مــن الــصدقــة؟“ فــإن قــال ”هــو‬
‫غـ ـ ــني لـ ـ ــكن أنـ ـ ــا أريـ ـ ــد أن أعـ ـ ــطيه وإن كـ ـ ــان اهلل قـ ـ ــال أن الـ ـ ــصدقـ ـ ــة لـ ـ ــلفقير‪ ،‬فـ ـ ــأنـ ـ ــتم مـ ـ ــأمـ ـ ــورون‬
‫بـطاعـتي“ فهـذا الـفرض املـحال الـذي لـم يحـدث ولـن يحـدث‪ ،‬عـلى فـرض وقـوعـه يـجيز عـصيان أمـره‬
‫ألنـه فـي هـذه الـحالـة لـيس رسـوالً بـل هـو يـأمـر مـن عـند نـفسه كبشـر أو حـتى تـابـع هـوى كـأن يـقسم‬
‫لــغني يــحبّه ويــدع فــقيرا ً ال يــحبّه‪ .‬كــذلــك مــثالً‪ ،‬قــال اهلل }اذكــروا اهلل ذكــرا ً كــثيرا ً{ فــإذا أمــر الــرســول‬
‫بـأن نـذكـر اهلل ألـف م ّـرة‪ ،‬فهـذا أمـر واجـب الـطاعـة بـحكم آيـة الـطاعـة‪ ،‬ألن األلـف داخـلة تـحت كـلمة‬
‫}كـثيرا ً{‪ ،‬لـكن نـقول بـأن أمـر الـرسـول غـير أمـر اهلل بـاعـتبار أن الـرسـول لـو أمـر بـالـذكـر ألـف م ّـرة ثـم‬
‫جـاء شـخص وذكـر سـبعة آالف م ّـرة وجـاء ثـالـث فـذكـر سـبعني م ّـرة‪ ،‬فـال يـمكن الـقول بـأن صـورة أمـر‬
‫الـرسـول هـي االحـتمال الـوحـيد والـلون الـوحـيد ألمـر اهلل‪ ،‬بـل الـرسـول نـفسه إن أمـر فـي يـوم بـالـذكـر‬
‫أل ــف وب ــعده ــا س ــبعني وب ــعده ــا عش ــرة ف ــال ت ــعارض ب ــينها ب ــال ــعني ال ــقرآن ــية ألن ــها ك ــلها ص ــحيحة‬
‫ومندرجة تحت أمر اهلل وفي دائرته‪
.‬‬
‫بــالــتالــي‪ ،‬أمــر اهلل أوســع دائــرة مــن أمــر الــرســول‪ .‬أمــر اهلل أعــلى قــد يــكون مجــمالً وقــد يــكون‬
‫مــفصالً‪ ،‬فــإذا كــان مجــمالً كــان اخــتيار الــرســول لــتفصيل مــن الــتفصيالت املــمكنة تــابــعا ً ألمــر اهلل‬
‫م ــن ح ــيث ات ــباع ــه ل ــألم ــر املج ــمل ل ــكنه م ــغاي ــر ألم ــر اهلل م ــن ح ــيث إم ــكان وج ــود ت ــفصيل آخ ــر ت ــاب ــع‬
‫لــنفس األمــر املجــمل‪ .‬فــإذا كــان أمــر اهلل مــفصالً كــان أمــر الــرســول تــطبيقا ً وتــنزي ـالً لــألمــر املــفصل‬
‫عـلى الـحوادث والـوقـائـع الجـزئـية‪ .‬لـكن الـرسـول ال يـقيّد أمـر اهلل املـطلق تـقييدا ً تـامـا ً بـحيث يـكون مـن‬
‫عـمل بـأمـر الـرسـول املـقيد وعـمل بـأمـر آخـر مـقيد مـن الـعاصـني ألمـر الـرسـول‪ ،‬ألنـه ال يـقيّد أمـر اهلل‬
‫ـصة ال ــبقرة‪ ،‬ق ــال م ــوس ــى }إن اهلل‬ ‫ـفصله‪ ،‬وم ــثال ذل ــك ق ـ ّ‬
‫امل ــطلق إال اهلل ت ــعال ــى ن ــفسه ب ــأم ــر ج ــدي ــد ي ـ ّ‬
‫يــأمــركــم أن تــذبــحوا بــقرة{ فــكان هــذا أمــرا ً مــن أمــر اهلل ولــيس مــن أمــر مــوســى رســول اهلل‪ ،‬لــذلــك ملــا‬
‫ع لــنا‬ ‫أرادوا الــتفصيل والــتقييد لــم يــقولــوا ملــوســى ”يــا مــوســى بـ ّـني لــنا مــا هــي“‪ ،‬لــكن قــالــوا لــه }اد ُ‬
‫ـبني لـنا مـا هـي{‪ ،‬وملـا قـالـوا ذلـك لـم يـق ّيد مـوسـى الـبقرة بـصفات ال بـرأيـه وال بسـلطانـه كـرسـول‬ ‫ر ّبـك ي ّ‬

‫‪52‬‬
‫وال هـو ذمـهم ونـهاهـم عـن مـثل ذلـك الـطلب بـالـرجـوع إلـى ربـه‪ ،‬بـل قـال }إنـه يـقول إنـها بـقرة صـفراء{‬
‫وهــكذا فــي كــل مـ ّـرة طــلبوا قــيدا ً جــديــدا ً ألمــر اهلل كــان اهلل تــعالــى هــو الــذي }يــقول{ ولــيس مــوســى‪.‬‬
‫لــكن بــعد ذلــك مــع هــارون مــثالً‪ ،‬قــال مــوســى لــهارون }أفــعصيت أمــري{ فنســب األمــر ملــوســى ألنــه‬
‫كـان أمـره هـو كـرسـول ولـيس أمـرا ً هلل‪ ،‬وعـبّر اهلل عـن أمـر مـوسـى لـهارون هـكذا }قـال مـوسـى ألخـيه‬
‫ه ــارون اخ ــلفني ف ــي ق ــوم ــي وأص ــلح وال ت ــتبع س ــبيل املفس ــدي ــن{ فنس ــب اهلل ال ــقول مل ــوس ــى‪ ،‬خ ــالف ـا ً‬
‫ـقصة الــبقرة الــتي نســب مــوســى فــيها األمــر هلل }إن اهلل يــأمــركــم أن تــذبــحوا بــقرة{‪ .‬إذن‪ ،‬أمــر اهلل‬ ‫لـ ّ‬
‫ش ــيء‪ ،‬وأم ــر رس ــول اهلل ش ــيء آخ ــر‪ ،‬ل ــكن رس ــول اهلل ت ــاب ــع ألم ــر اهلل إم ــا ب ــتخصيصه ب ــصورة م ــن‬
‫صوره املحتملة وإما بتنزيله تنزيالً صحيحا ً على الوقائع الجزئية الحادثة‪
.‬‬
‫ومــن هــنا نــفهم أصــل الــصالة ذات الحــركــات والــكلمات‪ .‬فــهي صــالة رســولــية‪ ،‬هــي كــذلــك ولــها‬
‫قـيمتها بشـرط أن تـكون مـمن يـقيم الـصالة اإللـهية‪ .‬لـكن َمـن ال يـقيم الـصالة اإللـهية‪ ،‬فـإن الـرسـولـية‬
‫حــينها تســتحيل وتــتغير طــبيعتها وآثــارهــا وتــصبح مــا سـ ّـميناه فــي كــتابــنا هــذا بــالــصالة الــتقليديــة‪،‬‬
‫مــن حــيث تــقليده غــيره فــي أمــر ال يــعقله وكــذلــك تــقليده صــورة حــركــات وألــفاظ كــالــقرد املــمسوخ بــال‬
‫روح‪ .‬وتج ــد ه ــذا ف ــي ال ــرواي ــات ال ــصحيحة ال ــنقل م ــن ق ــبيل ق ــول ال ــنبي }ح ــتى ت ــعلموا ص ــالت ــي{‬
‫فنسـب الـصالة لـه‪ .‬وقـال }صـ ّلوا كـما رأيـتمونـي أصـ ّلي{ فنسـب أيـضا ً الـصالة لـه‪ ،‬ولـم يـقل‪ :‬صـ ّلوا‬
‫كـما قـال اهلل فـي الـقرءان أن تُـص ّلوا‪ ،‬أو عـبارة نـحوهـا‪ .‬ومـن هـنا تجـد األ ّمـة عـمومـاً‪ ،‬مـهما اخـتلفت‬
‫فـي تـفاصـيل صـالة الـنبي‪ ،‬فـإنـها مـجتمعة عـلى أصـل األمـر وأصـولـه الـكلية فـال نـعلم أحـدا ً مـن أ ّمـة‬
‫الـقرءان فـي هـذه الـصلوات الخـمس يـص ّلي مـثالً بـحيث يـبدأ بـالـركـوع قـبل الـقيام أو ال يـقرأ الـقرءان‬
‫أو يسـتجيز مـثالً أن يـقرأ شـعرا ً بـدالً مـن سـورة ونـحو ذلـك‪ .‬األ ّمـة الـتي اجـتمعت عـلى حـفظ الـقرءان‬
‫ونــقله هــي األ ّمــة الــتي اجــتمعت عــلى نســبة هــذه الــصالة وأخــذهــا جــيالً بــعد جــيل إلــى رســول اهلل‪،‬‬
‫فه ــذا ال ــقدر م ــحفوظ‪ .‬وأم ــا ك ــيفية ال ــتعام ــل م ــع اخ ــتالف ال ــتفاص ــيل‪ ،‬ف ــهنا ت ــأت ــي أه ـ ّـمية ال ــصالة‬
‫الـقرآنـية ومـعرفـة الـعالقـة بـني أمـر اهلل وأمـر الـرسـول‪ .‬فـالبـد لـكل َمـن يـأتـي بـتفصيل يـخالـف فـيه غـيره‬
‫إمـا أن يـعرضـه عـلى كـتاب اهلل ودقـائـقه وأسـراره حـتى يسـتخرج أصـله الـذي حـكم الـرسـول بـه مـنه‬
‫وت ــبع أم ــر اهلل ف ــيه‪ ،‬وإم ــا ب ــأن ي ــقبل ب ــاالخ ــتالف ــات ف ــي ال ــتفاص ــيل ك ــما ي ــقبل اخ ــتالف ال ــقراءات أو‬
‫درجات الفهم في اآليات مثالً‪
.‬‬


‫نـعم‪ ،‬اإلشـكال واقـع بسـبب غـيبة الـرسـول‪ .‬لـو كـنّا فـي زمـن الـرسـول‪ ،‬فـيمكن مـعرفـة مـا كـان يـقوم بـه‬
‫ـفرق‬ ‫م ــنه م ــباش ــرة‪ .‬فه ــذا ي ــؤدي ب ــال ــضرورة إل ــى م ــخارج‪ ،‬إذ ال ي ــجوز أن ي ــكون ف ــي ال ــدي ــن ش ــيء ي ـ ّ‬
‫األ ّم ــة ب ــال مخ ــرج م ــنه ال ق ــرآن ــي وال ع ــقلي إذ ال يج ــمع األ ّم ــة إال ق ــرءان أو ع ــقل‪ .‬وأم ــا ال ــرواي ــات‬
‫حل له بالعلم‪
.‬‬ ‫فمختلفة‪ ،‬واآلراء في نقلة الروايات مختلفة اختالفا ً ال ّ‬

‫‪53‬‬
‫املخــرج األول‪ ،‬أن نــقول‪ :‬بــما أن الــرســول الــذي أمــر بهــذه الــصورة مــن الــصالة الــقرآنــية غــير‬
‫ـيبني لـأل ّمـة تـفاصـيل أمـره‪ ،‬مـن قـبيل ”أفـئن مـات أو ُقـتل انـقلبتم عـلى أعـقابـكم“‪ ،‬فـال يـجوز‬ ‫حـاضـر ل ّ‬
‫االنــقالب عــلى الــعقب والــردة إلــى الــتفرق واالخــتالف والــتحارب بســبب مــوت أو قــتل محــمد رســول‬
‫اهلل‪ ،‬فــالــنتيجة هــي وجــوب أو جــواز تــرك هــذه الــصورة بــالــكلية‪ .‬ألن الــقرءان أمــرنــا بــطاعــة الــرســول‪،‬‬
‫ولـم يـأمـرنـا بـتصديـق مـا يـقولـه فـالن أو عـالن عـن أمـر الـرسـول‪ .‬فـالـرسـول املـطاع هـو الـحي الـحاضـر‬
‫اآلم ــر ال ــناه ــي‪ ،‬ك ــما ك ــان ال ــرس ــول ف ــي زم ــن أزواج ــه وب ــنات ــه وأص ــحاب ــه‪ .‬ل ــذل ــك‪ ،‬ل ــيس م ــن ع ــصيان‬
‫الـرسـول‪ ،‬الـتوقـف عـن طـاعـة أمـر أنـت غـير شـاهـد وغـير مـتيقن أنـه أمـر الـرسـول‪ .‬فـتو ّقـفك عـن الـحكم‬
‫بــاألمــر‪ ،‬وتــركــه هلل والــرجــوع إلــى أصــل أمــر اهلل فــي كــتابــه مــع اتــخاذ لــون وشــكل لــه بحســب حــالــك‪،‬‬
‫أيضا ً من قبيل }اذبحوا بقرة{ فيحق لك ذبح أي بقرة طاملا أنها بقرة‪
.‬‬
‫فــي كــتاب اهلل حــسن الــظن بــاملــؤمــنني واملــؤمــنات حــتى فــي أمــورهــم الــشخصية‪ .‬قــال اهلل }ظــن‬
‫املــؤمــنني واملــؤمــنات بــأنــفسهم خــيرا ً{‪ ،‬بــالــتالــي حــسن الــظن بــأن نــقلة الــروايــات عــن رســول اهلل إن‬
‫ثــبت أنــهم مــن املــؤمــنني واملــؤمــنات قــد نــقلوا صــدقـا ً هــو أيــضا ً مــن أمــر الــقرءان‪ .‬ومــن صــفات الــنبي‬
‫أنـه }يـؤمـن لـلمؤمـنني{ ومـن مـعانـي ذلـك أنـه يـصدقـهم ويـأمـن لـهم‪ ،‬وهـذا خـالف تـكذيـبهم وسـوء الـظن‬
‫ب ــهم‪ .‬وي ــعزز ه ــذا ق ــول ــه }ي ــتبع غ ــير س ــبيل امل ــؤم ــنني{ وق ــول ــه }ءام ــن ال ــرس ــول ب ــما أُن ــزل إل ــيه م ــن رب ــه‬
‫واملــؤمــنون{ فجــمع بــينهم وبــني الــرســول‪ ،‬وقــولــه }ءامــنوا كــما آمــن الــناس{ وهــم أهــل اإليــمان فــجعل‬
‫اإليـمان مـثلهم حـقا ً ودعـوة نـافـعة‪ ،‬وقـولـه }اغـفر إلخـوانـنا الـذيـن سـبقونـا بـاإليـمان{ والـذي يـدل عـلى‬
‫ح ــسن ال ــظن وال ــعالق ــة ب ــهم وليس ــت ع ــالق ــة س ــوء ظ ــن ورف ــض ل ــهم ول ــو اع ــتبرن ــاه ــم ك ــذب ــة خ ــون ــة مل ــا‬
‫اسـتغفرنـا لـهم‪ ،‬وقـولـه }مـا كـان اهلل لـيضيع إيـمانـكم{ وذكـر اتـباع الـرسـول فـي أمـر الـقبلة وهـي مـن‬
‫ـبني أن اتــباع الــرســول ولــو فــي مــراضــيه الــتابــعة ألمــر اهلل مــن حــيث أن‬ ‫رضــا الــرســول كــما عــرفــنا فـ ّ‬
‫الــقبلة أيــا كــانــت فــهي قــبلة حــق إذ ”فــث ّم وجــه اهلل إن اهلل واســع“ فــكان رضــا الــرســول تــابــع لــلحق‬
‫ال ــواس ــع ف ــجعل اهلل ذل ــك إي ــمان ـا ً‪ .‬ث ــم ق ــال اهلل }إذا ج ــاءك ــم ف ــاس ــق ب ــنبأ ف ــتبيّنوا{ وق ــال }أف ــمن ك ــان‬
‫ـبني أن ح ــكم امل ــؤم ــن ل ــيس م ــثل ح ــكم ال ــفاس ــق وال ي ــنبغي‬ ‫م ــؤم ــنا ً ك ــمن ك ــان ف ــاس ــقا ً ال يس ــتوون{ ف ـ ّ‬
‫ـتبني مـنه ولـيس رفـضه لـفسقه‬ ‫الـتسويـة بـينهما فـي قـضية الـعدل‪ ،‬فـإذا كـان نـبأ الـفاسـق البـد مـن ال ّ‬
‫ـبني ألنـنا نـحسن‬ ‫فـكيف بـاملـؤمـن إذن فـنبأ املـؤمـن مـن بـاب أولـى أن يـكون مـقبوالً ُمـص َّدقـا ً إمـا بـدون ت ّ‬
‫ـتبني مــن أنــبائــه الــتي يجئ بــها وإمــا‬ ‫الــظن بــه ونــفترض صــدقــه وحــتى يــتميّز عــن الــفاســق الــذي نـ ّ‬
‫ـتبني مـن بـاب الـبحث عـن مـدى حـفظه لـلنبأ الـذي جـاءنـا بـه ولـيس تـشكيكا ً فـي صـدقـه‪ .‬كـل مـا‬ ‫بـعد ال ّ‬
‫سـبق ومـا يجـري مجـراه‪ ،‬يـدعـونـا إلـى أصـل مـهم وهـو أصـل تـو ّلـي كـل مـؤمـن ومـؤمـنة وتحسـني الـظن‬
‫بــهم فــي أنــفسهم وافــتراض صــدق أنــبائــهم‪ .‬لــكن كــل هــذا كــما تــرى مــبني عــلى أن صــاحــب الــنبأ‬

‫‪54‬‬
‫م ــؤم ــن أو م ــؤم ــنة‪ ،‬أي غ ــير ف ــاس ــق وال م ــناف ــق وال ك ــاف ــر وال ب ــقية ال ــصفات امل ــناف ــية ل ــإلي ــمان ف ــي‬
‫القرءان‪
.‬‬
‫بـناء عـلى ذلـك‪ ،‬إذا جـاءتـنا أنـباء عـن املـؤمـنني واملـؤمـنات مـمن سـبقنا‪ ،‬فـيها بـيان عـن أمـر رسـول‬
‫اهلل‪ ،‬فاألصل تصديقهم وقبولها كأوامر رسولية‪
.‬‬
‫مـا ذكـرنـاه مـن نسـبة هـذه الـصالة املـخصوصـة لـلرسـول‪ ،‬لـيس مـن قـبيل فـهم الـقرءان ذاتـه‪ ،‬فـال‬
‫نسـتطيع أن ننسـب لـلرسـول حـتى هـذه الـصالة مـن جـهة كـتاب اهلل‪ ،‬بـل النسـبة إن جـازت فـهي مـن‬
‫ق ــبيل ال ــبحث ال ــتاري ــخي ونس ــبة األق ــوال واألف ــعال إل ــى األش ــخاص ال ــذي ــن ك ــان ــوا ف ــي ال ــتاري ــخ‪.‬‬
‫والـتاريـخ لـيس ديـنا ً يُـدان اهلل بـه فـي الـرؤيـة الـقرآنـية‪ ،‬بـل }تـلك أ ّمـة قـد خـلت لـها مـا كسـبت ولـكم مـا‬
‫عما كانوا يعملون{‪
.‬‬ ‫كسبتم وال تُسألون ّ‬
‫ومـن جـهة أخـرى‪ ،‬قـرآنـية أيـضاً‪ ،‬لـيس مـن اإلنـصاف لـلرسـول أي رسـول أن ننسـب لـه أمـرا ً بـناء‬
‫عـ ــلى مـ ــا رآه الـ ــناس مـ ــنه أو حـ ــتى قـ ــالـ ــه لـ ــبعض الـ ــناس فـ ــي زمـ ــنه‪ ،‬مـ ــن حـ ــيث أنـ ــنا ال نـ ــدري كـ ــل‬
‫امل ــالب ــسات وال ــظروف ال ــتي أم ــر ب ــها ب ــما أم ــر ب ــه‪ ،‬ف ــلع ّله اخ ــتار ص ــورة وه ــيئة ألم ــر إل ــهي واس ــع‬
‫العـتبارات هـو أدرى بـه ولـم يـكشفها أو لـم يـكتبها ويـنقلها لـأل ّمـة نـقالً كـنقل الـقرءان أو لـعله إن كـان‬
‫ـفرق بـني األشـخاص‬ ‫فـي زمـانـنا لـجاء بـهيئة أو صـورة أخـرى لـذات األمـر اإللـهي الـواسـع أو لـعله ي ّ‬
‫فــي تــفاصــيل األوامــر الجــزئــية‪ .‬فــهي نســبة ظ ـنّية مــن حــيث أنــها تــاريــخ‪ ،‬ونســبة ظ ـنّية ضــعيفة مــن‬
‫ليفسـرهـا لـزمـن غـير زمـنه وألنـاس غـير األنـاس‬ ‫ّ‬ ‫حـيث أنـها صـوريـة غـير مـعللة وصـاحـبها غـير حـاضـر‬
‫الــذيــن كــان بــينهم فــي حــينه‪ .‬هــذه األمــور وإن كــانــت مــعقولــة بــنفسها‪ ،‬إال أنــه أيــضا ً يــمكن اإلتــيان‬
‫بـشواهـد مـن الـروايـات عـلى كـل واحـدة مـنها‪ .‬فـمثالً‪ ،‬فـي روايـة عـن عـلي أن الـنبي نـهاه عـن قـراءة‬
‫الـقرءان فـي الـركـوع والـسجود‪ ،‬ثـم قـال عـلي ”أقـول نـهانـي وال أقـول نـهاكـم“ أو عـبارة نـحوهـا‪ ،‬فـميّز‬
‫بـني نـهي الـنبي لـه هـو وبـني نـهي الـنبي لـغيره‪ ،‬هـذا بـالـرغـم مـن كـون األمـر مـتعلق بـالـقراءة والـركـوع‬
‫والـسجود وهـي أمـور املـفروض أنـها لـعا ّمـة األ ّمـة‪ .‬كـذلـك مـثالً روايـة اسـتحالل الحـرم سـاعـة مـن نـهار‬
‫وقــول الــنبي أن هــذا أمــر يــختص هــو بــه حــتى ال يــقول أحــد أن هــذا أمــر جــائــز ملــن بــعده بــناء عــلى‬
‫ع ــمل ال ــنبي ب ــه‪ .‬ورواي ــات أخ ــرى ك ــثيرة ي ــمكن ذك ــره ــا م ــن ب ــاب االس ــتشهاد ف ــقط‪ ،‬وال ن ــدخ ــل ف ــي‬
‫ت ــفاص ــيلها‪ .‬ف ــحتى إن ل ــم نج ــد م ــثل ه ــذه ال ــرواي ــات ف ــامل ــعنى م ــعقول‪ ،‬ف ــإذا ك ــان ــت م ــوج ــودة ف ــاألم ــر‬
‫أحسن وأيسر‪
.‬‬


‫اآليــة تــقول }ال يــأتــون الــصالة إال وهــم كــسالــى{ وذلــك ألنــهم كــفروا وألنــهم }ال يــعقلون{ كــما فــي آيــة‬
‫أخـرى‪ .‬فـمن عـالمـة الـنفاق الكسـل فـي الـصالة‪ ،‬فـالـصالة مـعيار ومـيزان وفـرقـان‪ .‬فـإذا نـظرنـا اآلن‪،‬‬
‫وقـرأنـا الـتاريـخ‪ ،‬سنجـد أن الـصالة الـتقليديـة يـقوم بـها لـيس فـقط املـنافـق بـل الـجبّار الـطاغـية الـظالـم‬

‫‪55‬‬
‫والـجاهـل الـفاسـق والـغافـل املجـرم وجـميع أصـناف الـناس يـمكن أن يـقومـوا بـها‪ .‬لـكن إذا جـئنا إلـى‬
‫ـفصلة ف ــيه‪ ،‬فسنج ــد أن ــه ال ي ــقوم ب ــها ف ــعالً إال أه ــل‬ ‫ال ــصالة ال ــقرآن ــية بش ــروط ــها وم ــقاص ــده ــا امل ـ ّ‬
‫اإليــمان‪ ،‬وينشــطون لــها ويــحبّونــها‪ ،‬وتجــد فــعالً َمــن فــي قــلبه مــرض وبــقية الــظلمات إمــا ال يــأتــيها‬
‫وإما يكسل فيها‪ .‬هذا وجه‪
.‬‬
‫لــكن قــد يــقال‪ :‬كــما أن إنــفاق املــال لــه صــورة لــذلــك قــال }ال يــنفقون إال وهــم كــارهــون{‪ ،‬فــكذلــك‬
‫الــصالة لــها صــورة بــدلــيل }ال يــأتــون الــصالة إال وهــم كــسالــى{ وقــال }إن املــنافــقني يــخادعــون اهلل‬
‫وه ــو خ ــادع ــهم وإذا ق ــام ــوا إل ــى ال ــصالة ق ــام ــوا ك ــسال ــى ي ــراءون ال ــناس وال ي ــذك ــرون اهلل إال ق ــليال{‬
‫فهـذا يـدل عـلى أن لـلصالة صـورة ظـاهـرة تـقام فـي جـماعـة الـناس ويـمكن أن يـرى بـعضهم بـعضا ً‬
‫ـدل عـلى نـوعـية هـذه الـصورة بـالتحـديـد‪.‬‬ ‫فـيها‪ .‬أقـول‪ :‬نـعم هـذا حـق وظـاهـر فـي اآليـة‪ ،‬لـكن اآليـة ال ت ّ‬
‫فـإذا جـلسنا مـثالً لـسماع قـراءة قـارئ لـلقرءان عـلينا‪ ،‬أو جـلسنا لـتدارس الـقرءآن مـعاً‪ ،‬فهـذه أيـضا ً‬
‫صــورة جــماعــية يــمكن أن يــأتــي شــخص لهــذه الجــماعــة وال يــكون قــاصــدا ً لــتعقل الــقرءان وذكــر اهلل‬
‫بــل لــغرض دنــيويــة أو ريــاء أو ســمعة أو نــحو ذلــك وســترى فــعالً عــلى هــذا الــشخص عــادةً أنــه كــما‬
‫وصـفه اهلل }كـسالـى{ كسـل الـعقل ال كسـل الـجسم فـقط‪ ،‬فـإنـه حـتى الـصالة الـتقليديـة ليسـت مـتعبة‬
‫ل ــلجسم ف ــهي ه ــيئة ب ــسيطة سه ــلة وك ــثير م ــن أع ــمال ال ــناس ال ــيوم ــية ال ــبدن ــية أص ــعب م ــنها ب ــكثير‪.‬‬
‫ويــوجــد شــاهــد عــلى هــذا املــعنى حــتى مــن الــروايــات‪ ،‬كــما فــي حــديــث مــجالــس الــذكــر الــذي تــأتــيه‬
‫املـالئـكة فـيغفر اهلل لـكل َمـن فـي مجـلس تسـبيح وتهـليل وتـكبير وتحـميد وسـؤال‪ ،‬فـذكـرت الـروايـة أن‬
‫اهلل يــغفر لــكل َمــن فــي املجــلس حــتى }فــالن{ الــذي هــو }رجــل خ ـطّاء إنّــما مـ ّـر فجــلس مــعهم{ فهــذا‬
‫مـثال عـلى رجـل لـيس مـن أهـل الـذكـر وقـصده مـنه لـيس أصـل الـذكـر‪ ،‬فـكما يـمكن تـص ّور حـالـة هـذا‬
‫الخـطّاء الـذي جـلس بـغير قـصد الـذكـر كـذلـك يـمكن تـص ّور حـالـة املـنافـق املـرائـي ونـحوه‪ .‬إذن‪ ،‬اآليـة‬
‫ـدل عـلى نـوعـية أو هـيئة هـذه الـصالة مـن حـيث كـون‬ ‫ـدل عـلى الـصالة الجـماعـية والـعلنية‪ ،‬لـكن ال ت ّ‬ ‫ت ّ‬
‫الحركات أو األلفاظ مقصودة لذاتها أو لها اعتبار جوهري في تحديد حقيقة الصالة‪
.‬‬
‫إال أنـنا نـرى فـي اآليـة الـتالـية الـتي تـذكـر }فـال تـعجبك أمـوالـهم وال أوالدهـم{ شـاهـدا ً عـلى مـعنى‬
‫صــالة الــكسالــى وإنــفاق الــكاره‪ .‬وذلــك مــن قــولــه تــعالــى فــي ســورة املــنافــقون }إذا جــاءك املــنافــقون‬
‫ق ــال ــوا نشه ــد إن ــك ل ــرس ــول اهلل{ ف ــهنا ل ــدي ــنا مجئ امل ــناف ــق إل ــى رس ــول اهلل‪ ،‬ول ــدي ــنا ق ــول ــه ل ــلرس ــول‪.‬‬
‫ف ــاملجئ وال ــقول‪ ،‬ك ــاله ــما م ــبني ع ــلى ال ــكذب و}اتخ ــذوا أي ــمان ــهم ُج ـنّة{‪ .‬ف ــكما ق ــال ه ــنا }ج ــاءك{ و‬
‫}قـالـوا{‪ ،‬قـال هـناك }يـأتـون الـصالة{ و }ال يـنفقون{‪ ،‬أي إتـيان الـرسـول لـسماع الـقرءان هـو صـالة‪،‬‬
‫وإعـطاء الـقول لـلرسـول والـشهادة فـهو إنـفاق‪ .‬لـذلـك تجـدهـم فـي آيـة أخـرى يـقولـون بـعد الخـروج مـن‬
‫عـند الـرسـول وسـماع الـقرءآن }مـاذا قـال آنـفا{ فـال يـبذلـون حـتى جهـدا ً عـقليا ً لـفهم مـا قـالـه الـرسـول‪،‬‬
‫أو ي ــقول ــون }م ــاذا أراد اهلل به ــذا َم ـثَال{ }وت ــلك األم ــثال ن ــضرب ــها ل ــلناس وم ــا ي ــعقلها إال ال ــعامل ــون{‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫فـاملـنافـق كـسول الـعقل ال يـريـد تحـريـكه وإعـمالـه لـفهم الـقرءان وأمـثالـه وبـيان الـرسـول وكـالمـه‪ .‬وقـال‬
‫فــيهم أيــضا ً }إذا رأيــتهم تــعجبك أجــسامــهم وإن يــقولــوا تــسمع لــقولــهم{ والــجسم صــورة الــعلم كــما‬
‫فــي }زاده بســطة فــي الــعلم والــجسم{ أي الــجسم هــو الــصورة والــظاهــر‪ ،‬كــما أن الــعلم هــو الــروح‬
‫والـباطـن‪ .‬فـاملـنافـق تـركـيزه عـلى الـجسم وعـلى الـقول املُـعجِب ولـو كـان شـهادة كـذب‪ .‬وهـنا نـرى أمـرا ً‬
‫خــطيرا ً فــي الــصالة الــتقليديــة‪ ،‬فــإنــها جــسم وقــول وشــهادة صــوريــة مــن أنــاس لــيس فــيهم الــعلم وال‬
‫الـحق والـعقل وبـرهـانـه‪ ،‬فتجـد إنـسانـا ً لـعله ال يـعرف الـفرق مـا بـني وحـدة اهلل ووحـدة الشجـرة الـتي‬
‫أمــام بــيته يــقول لــيل نــهار ”أشهــد أن ال إلــه إال اهلل وأشهــد أن محــمدا ً رســول اهلل“‪ ،‬فــمن أيــن قــال‬
‫هــذا وبــأي حــق قــالــه؟ نــعم املــعنى حــق كــما أن قــول املــنافــقني }نشهــد إنــك لــرســول اهلل{ حــق أيــضاً‪،‬‬
‫ومـع ذلـك س ّـماه اهلل كـذبـاً‪ ،‬واملـلفت لـلنظر أنـه ال يـوجـد فـي الـقرءآن كـله أي مـؤمـن شهـد بهـذا الـنحو‬
‫ألي رس ــول أو ن ــبي ب ــنفس م ــا شه ــد ب ــه ه ــؤالء امل ــناف ــقون‪ ،‬ي ــعني ال ي ــوج ــد ل ــدي ــنا ت ــعبير }نشه ــد أن ــك‬
‫لــرســول اهلل{ أو أمــر اهلل ألحــد بــأن يشهــد صــوري ـا ً بهــذه الــطريــقة‪ .‬نــعم‪ ،‬يــوجــد فــي الــقرءان بــينات‪،‬‬
‫ـبني ل ــه ف ــهو م ــأم ــور ب ــأن ال ي ــكتم ال ــشهادة‪ ،‬ل ــكن ال ــشهادة ه ــنا م ــن اس ــمها ف ــرع ال ــشهود‪،‬‬ ‫ف ــمن ت ـ ّ‬
‫فـالـشهود لـلحق أوالً ثـم الـشهادة بـه بـالـنطق ثـانـياً‪} ،‬وال تـكتموا الـشهادة و َمـن يـكتمها فـإنـه آثـم قـلبه{‬
‫ـبني لـه كـما قـال فـي صـاحـب الحـمار }فـلما ت ّ‬
‫ـبني لـه قـال أعـلم‬ ‫فهـذا بـالنسـبة ملـا عـرفـه الـقلب يـقينا ً وت ّ‬
‫ـتبني لــه أوالً ثــم قــال ثــانــيا ً‪} .‬إال َمــن شهــد بــالــحق وهــم يــعلمون{ فــال‬ ‫أن اهلل عــلى كــل شــيء قــديــر{ فـ ّ‬
‫يـكفي أن تشهـد بـالـحق بـل البـد مـن الـعلم‪ ،‬فـالـعلم بـالـحق أوالً والـشهادة بـه ثـانـيا ً‪ .‬هـذه الـطريـقة هـي‬
‫الــتي تــو ّلــدهــا الــصالة الــقرآنــية‪ ،‬ألنــها قــراءة وتــعقل وفــهم ونــظر فــي الــبينات‪ .‬ثــم بــعد ذلــك يظهــر مــا‬
‫يظهر بالجسم والشهادة القولية‪
.‬‬
‫الكسـل‪ ،‬عـالمـة الـنفاق‪ ،‬مـشهود فـي قـراءة الـقرءان )الـقراءة بـمعنى الـتعقل( فـي املـواقـيت‪ .‬وأمـا‬
‫م ــا س ــوى ذل ــك م ــن أم ــور ال ــجسم وال ــشهادة ال ــلفظية ف ــشيء ي ــقوم ب ــه ح ــتى أظ ــلم وأجه ــل خ ــلق اهلل‬
‫وأهـل الـدرك األسـفل مـن الـنار‪ .‬أو عـلى أق ّـل تـقديـر‪ ،‬هـو مـعنى ظـاهـر فـي الـصالة الـقرآنـية أكـثر مـن‬
‫ظـهوره فـي الـصالة الـتقليديـة‪ .‬وأق ّـل أق ّـل تـقديـر‪ ،‬هـو أنـهما مسـتويـان فـي ذلـك‪ ،‬فـليس الـوصـف فـي‬
‫اآلية أولى بالصالة التقليدية منه بالصالة القرآنية‪
.‬‬

‫…

‫ج‪ -‬مــعنى }وأطــيعوا الــرســول{ يــحتمل خــمس أمــور عــلى األقـ ّـل‪ ،‬تجــدهــا بنســب مــختلفة فــي األ ّمــة‪.‬‬
‫قد عرفنا أمر اهلل من كتابه‪ ،‬لكن ما معنى }أطيعوا الرسول{؟




‫‪57‬‬
‫الـقول األول‪ :‬البـد مـن رسـول جـديـد حـي مـعاصـر‪ .‬إذا نـظرنـا فـي كـل أسـباب بـعثة رسـول جـديـد‪ ،‬أو‬
‫رسـل فـإن الـرسـل قـد تـتعدد }فـعززنـا بـثالـث فـقالـوا إنّـا إلـيكم مـرسـلون{‪ ،‬واألنـبياء قـد يـتعددون فـي‬
‫ال ــزم ــن ال ــواح ــد م ــثل }أرس ــلنا م ــوس ــى وه ــارون{ }أخ ــاه ه ــارون ن ــبيا{‪ ،‬إذا ن ــظرن ــا ف ــي ك ــل أس ــباب‬
‫ـجة يــمكن أن تــبرر بــعثة الــرســول قــبل أربــعة‬ ‫الــبعثة سنجــدهــا قــائــمة فــي األ ّمــة الــيوم‪ .‬فــال يــوجــد حـ ّ‬
‫عش ــر ق ــرن ــا ب ــال ــرغ ــم م ــن وج ــود أدي ــان أخ ــرى ف ــي األرض‪ ،‬إال وي ــوج ــد م ــثلها أو م ــا ه ــو أول ــى م ــنها‬
‫اليوم‪
.‬‬
‫إن قـيل‪ :‬ألن الـتوحـيد دخـله تـشويـه‪ .‬نـقول‪ :‬أ ّوالً‪ ،‬ع ّـرف الـتوحـيد إسـالمـيا ً بـما شـئت ونـحن نـأتـيك‬
‫ب ــكتب ودع ــاة ل ــه ح ــتى م ــن ق ــبل اإلس ــالم املح ــمدي‪ .‬ث ــان ــياً‪ ،‬ف ــي املس ــلمني تج ــد أن ــواع م ــختلفة م ــن‬
‫الــتوحــيد بــدءا ً مــن الــوحــدة املــطلقة البــن ســبعني إلــى الــوحــدة الــشخصية البــن عــربــي إلــى الــوحــدة‬
‫ال ــعددي ــة‪ ،‬إل ــى االع ــتقاد ب ــأن هلل ت ــعال ــى ح ـ ّد ول ــه ص ــورة وأع ــضاء وه ــو ع ــلى ه ــيئة ش ــاب أم ــرد‪ ،‬إل ــى‬
‫تــألــيه بــعض الــناس كــعلي أو نســبة الــصفات اإللــهية ملحــمد بــوجــه مــا‪ ،‬وقــل مــا شــئت وســتجد فــي‬
‫األ ّمــة َمــن يــقول بــه‪ .‬وكــل واحــد مــنهم يــعتقد بــأنــه عــلى الــحق املــبني وصــلب اإلســالم الــذي جــاء بــه‬
‫ال ـ ــنبي‪ .‬وي ـ ــكفينا ل ـ ــر ّد ه ـ ــذا ب ـ ــرواي ـ ــة م ـ ــشهورة وه ـ ــي ”ل ـ ــتتبعن س ـ ــنن م ـ ــن ك ـ ــان ق ـ ــبلكم ح ـ ــذو ال ـ ــقذة‬
‫بـالـقذة“ وهـذا املـعنى مـن ظـهور سـنن األولـني فـي اآلخـريـن ودوران ذلـك أمـر قـرآنـي أصـيل‪ .‬وانـظر‬
‫تـعدد مـفاهـيم الـتوحـيد فـي األ ّمـة‪ ،‬وتـكفير بـعضهم بـعضا ً بسـبب ذلـك‪ ،‬أو تـبديـعهم مـع كـل مـا يـالزم‬
‫ذلـك مـن قـسوة وافـتراق وتـهمة غـالـباً‪ ،‬وسـتجد أن مـا كـان مـن قـبل هـو عـني مـا نـحن فـيه الـيوم بـشكل‬
‫أو بآخر‪
.‬‬
‫إن قــيل‪ :‬ألن الــنصوص الــديــنية تحـ ّـرفــت‪ .‬نــقول‪ :‬أ ّوالً‪ ،‬يــوجــد قــول بــأن التحــريــف فــي نــصوص‬
‫الــسابــقني كــان فــي املــعنى ولــيس الــلفظ‪ .‬ثــانــياً‪ ،‬عــلى فــرض أنــه فــي الــلفظ‪ ،‬فــيوجــد فــي هــذه األ ّمــة‬
‫أيــضا ً ومــن فــرق مــختلفة َمــن يــقول بتحــريــف الــقرءان إمــا بــالــزيــادة وإمــا بــالــنقصان وإمــا بــالــتغيير‬
‫وتــبديــل مــواضــع اآليــات أو بــعض جــملها‪ ،‬أو يــوجــد َمــن يــعتبر تــعدد الــقراءات واالخــتالف فــيها هــو‬
‫مـن صـنف اخـتالف الـذيـن مـن قـبل وعـلى هـذا مـثالً يـقال بـأن جـمع الـقرءآن عـلى عهـد عـثمان كـان‬
‫م ــن أج ــل م ــنع اخ ــتالف ه ــذه األ ّم ــة ف ــي ك ــتاب رب ــها ك ــما اخ ــتلفت األم ــم ال ــساب ــقة ف ــمن ال ــناس م ــن‬
‫يـعتقد بـأن حـرق عـثمان املـصاحـف املـخالـفة يـدل عـلى حـدوث نـوع مـن الـنقصان فـي هـذا الـباب وال‬
‫نـريـد الـدخـول فـي كـيف يـرد كـل فـريـق عـلى اآلخـر لـكن هـذا الـقول مـوجـود‪ ،‬ومـن الـظاهـر أن الـرسـول‬
‫لــو كــان بــيننا الــيوم كــان بــاإلمــكان بــسهولــة أن نــذهــب إلــيه ونــقول لــه ”يــا رســول اهلل‪ ،‬ســورة الــفلق‬
‫والـناس مـن سـور الـقرءان أم أنـها تـعويـذة مـن عـندك لـلحسن والحسـني كـما يـقول ابـن مـسعود؟“ أو‬
‫”ي ــا رس ــول اهلل‪ ،‬ه ــل ه ــذه ال ــقراءات ك ــلها م ــن ع ــندك أم أن ش ــيوخ ــنا ك ــذب ــوا ع ــلينا وأراد ك ــل واح ــد‬
‫الـتص ّدر فـاخـتلق قـراءة؟“ ونـحو ذلـك مـن أمـور لـيس لـديـنا فـيها الـيوم إال الـظ ّن أو الـظن الـغالـب مـن‬

‫‪58‬‬
‫ح ــيث ال ــبحث ال ــدراس ــي ال ــذه ــني‪ .‬ث ــال ــثاً‪ ،‬ح ــتى ع ــلى ف ــرض س ــالم ــة ال ــنص ل ــفظاً‪ ،‬ف ــإن ال ــعبرة م ــن‬
‫الــنص مــعناه‪ ،‬وال قــيمة لــحفظ صــورة نــص مــع االخــتالف بــال مخــرج حــاســم وفــاصــل مــن مــعناه‪،‬‬
‫املفسـر يـقول شـيئا ً وذاك يـقول غـيره ويـصل الـخالف إلـى حـدود لـيس فـقط الـتناقـض الـنظري‬ ‫ّ‬ ‫فهـذا‬
‫بـل الـتقاتـل الـدمـوي‪ ،‬فهـذا يـقول ”اقـتلوا املشـركـني حـيث ثـقفتموهـم“ تـعني الحـروب الـديـنية لـفرض‬
‫الـدولـة أو حـتى الـديـانـة‪ ،‬وذاك يـقول ال بـل تـعني قـتال َمـن قـاتـلنا مـنهم وال يـجوز االبـتداء فـي ذلـك‪،‬‬
‫وعـلى كـل قـول بُـنيت مـمالـك وسـقطت أمـم وتـغيّرت عـقائـد ووضـعت شـرائـع‪ ،‬ولـو كـان الـرسـول بـيننا‬
‫لـذهـبنا إلـيه وقـلنا لـه ”يـا رسـول اهلل‪ ،‬هـل تسـتبيح قـتال َمـن ال يـقاتـلك؟ هـل تـريـد أن نـفرض اإلسـالم‬
‫عــلى الــناس كــره ـا ً ونــكره الــعرب خــصوص ـا ً أو املشــركــني عــلى اإلســالم أو نــقتلهم أم ال؟ هــل تــقتل‬
‫املــرتــد أم ال؟ وقــل مــثل هــذا فــي كــل مــسائــل الــعلم والــعمل‪ .‬فــي الــقرءان لــديــنا شــاهــد عــلى مــحوريــة‬
‫ـصة‬ ‫دور الــرســول‪ ،‬فــال تــوجــد لــديــنا أ ّمــة بــدون رســول أو نــبي يــقوم أمــرهــا‪ ،‬مــن أول الــقرءان عــند قـ ّ‬
‫ـبني بــبيان فــاصــل أمــر اهلل وديــنه‪،‬‬ ‫آدم إلــى آخــر قــصصه فــي محــمد‪ ،‬دائــما ً إنــسان مــن لــدن اهلل يـ ّ‬
‫وليسـت الـقضية فـلسفية ونـظريـة وظـنّية حـتى يـقول بـعض الـفقهاء املـشهوريـن ”هـذا رأيـي“ و ”إن‬
‫ن ــظن إال ظ ـنّا وم ــا ن ــحن بمس ــتيقنني“‪ .‬ك ــما رأي ــنا ف ــي ق ــصة ال ــبقرة م ــثالً‪ ،‬ل ــم ي ــأخ ــذوا أم ــر }اذب ــحوا‬
‫بـقرة{ ويـذهـبوا بـه‪ ،‬حـتى قـالـوا }ادع لـنا ربّـك يـبني لـنا{‪ ،‬كـذلـك فـي كـل األمـور‪ ،‬بـيان رسـول مـن عـند‬
‫ربــه‪ ،‬هــكذا يــقوم الــديــن‪ .‬وتجــد مــثل هــذا فــي الــروايــات أيــضاً‪ ،‬حــتى إنــهم كــانــوا يــرجــعون لــلرســول‬
‫فــي كــل صــغيرة وكــبيرة فــيحكم ويــقضي بــينهم‪ ،‬حــكم رجــل حــي حــاضــر نــاطــق فــاصــل‪ .‬فــحتى إذا‬
‫كــانــت الــنصوص الــديــنية اإلســالمــية مــحفوظــة‪ ،‬كــل الــقرءآن وكــل الــروايــات‪ ،‬مــن أولــها إلــى آخــرهــا‪،‬‬
‫حــتى إذا س ـ ّلمنا ذلــك فــإن الــفهم والــعبرة بــالــفهم يــقع فــيه اخــتالف‪ ،‬واخــتالف كــثير فــي كــل عــقيدة‬
‫وكـل شـريـعة وكـل مـسألـة تـقريـبا ً وال يـكاد يـوجـد شـيء أجـمع عـليه عـلماء األ ّمـة أو أفـراد األ ّمـة بـل وال‬
‫مـسألـة اإلجـماع هـذه لـم تُجـمع عـليها األ ّمـة ! فـإذا كـانـت األ ّمـة لـم تُجـمع عـلى تـعريـف اإلجـماع‪ ،‬وال‬
‫ت ــعري ــف األ ّم ــة‪ ،‬وال ت ــعري ــف ك ــيفية ت ــحصيل اإلج ــماع‪ ،‬وال أن ــواع اإلج ــماع‪ ،‬وال رت ــبة ك ــل ن ــوع‪ ،‬وال‬
‫ـجة إذا‪ .‬ن ــعم‪ ،‬إذا‬ ‫ع ــالق ــة اإلج ــماع ب ــغيره م ــن األدل ــة‪ ،‬ف ــكيف ي ــقال ب ــأن األ ّم ــة أج ــمعت وأن ه ــذا ح ـ ّ‬
‫أرادت كـل فـرقـة أو طـائـفة مـن فـرقـة أو جـماعـة مـن طـائـفة أو فـرد مـن جـماعـة أن يـدعـي هـكذا مجـردا ً‬
‫بـأن مـا هـو عـليه هـو مـا يـقتضيه الـديـن ومـا أجـمعت عـليه األ ّمـة فهـذا أمـر آخـر‪ ،‬وسـنذكـره فـي الـقول‬
‫الــثانــي بــعد هــذا إن شــاء اهلل‪ ،‬لــكن مــن الــواضــح أن هــذا لــيس مــثل بــيان الــرســول املــأمــور الــذيــن‬
‫ءامــنوا بــطاعــته‪ .‬ويــكفيك إلثــبات االخــتالف أن تــرى مــا يــقولــه أهــل كــل فــرقــة فــي غــيرهــا‪ ،‬وأن تــنظر‬
‫ول ــو ن ــظرة ب ــسيطة ف ــي ك ــتب ال ــفرق وال ــفقه ل ــترى ب ــعينيك‪ ،‬أو ت ــنظر إل ــى م ــا ع ــليه ح ــال األ ّم ــة ف ــي‬
‫مــشارقــها ومــغاربــها فــضالً عــن غــير األ ّمــة مــن بــقية الــناس لــترى ذلــك أيــضا ً‪ .‬لــن تجــد اخــتالفـا ً فــي‬
‫األمــم الــسابــقة عــلى بــعثة الــنبي‪ ،‬ال الــعرب وال غــيرهــم‪ ،‬إال وتســتطيع أن تــأتــي بــمثله أو أكــبر مــنه‬

‫‪59‬‬
‫ـنص جـديـد مـحفوظ‬ ‫فـي هـذه األ ّمـة‪ .‬فـإذا كـانـت بـعثة الـرسـول بـكتاب جـديـد هـي مـن أجـل اإلتـيان ب ّ‬
‫وم ــفهوم ب ــتعري ــف رس ــول م ــن ع ــند اهلل‪ ،‬ف ــاأل ّم ــة واألم ــم ك ــلها ال ــيوم أي ــضا ً ب ــحاج ــة مل ــثل ذل ــك ول ــنفس‬
‫السبب تماما ً‪
.‬‬
‫إن قـيل‪ :‬ألن معجـزات األديـان الـسابـقة ذهـبت فـبعث اهلل الـنبي بـالـقرءان كمعجـزة‪ .‬نـقول‪ :‬عـلى‬
‫فـرض أن تـعريـف معجـزة الـقرءان هـو الـبالغـة والتحـدي بـعدم اإلتـيان بـمثله بـاملـعنى الـصوري كـما‬
‫هـو الـشائـع‪ ،‬عـلى فـرض ذلـك‪ ،‬فـإن هـذا كـان ال يـصلح إال لـلعرب مـمن الـبالغـة آيـة لـهم‪ ،‬فـأصـحاب‬
‫هـذا الـقول أنـفسهم يـقولـون بـأن اهلل بـعث مـوسـى بـالـعصا والـيد ألن قـومـه اشـتهروا بـالسحـر‪ ،‬وبـعث‬
‫عــيسى بــالــشفاء واإلحــياء ألن قــومــه اشــتهروا بــالــطب‪ ،‬وبــعث محــمدا ً بــالــبالغــة ألن قــومــه اشــتهروا‬
‫بـاألدب‪ ،‬حـسناً‪ ،‬قـومـنا الـيوم وهـذه األمـم شـرقـا ً وغـربـا ً مشـتهرة بـماذا الـيوم؟ قـطعا ً لـيس بـالـبالغـة‪،‬‬
‫ب ــل ل ــعل أك ــثر ال ــعرب أن ــفسهم ال ــيوم ب ــل وأك ــثر أه ــل م ــكة وامل ــدي ــنة ال ي ــعرف ــون ال ــيوم م ــا وج ــه ب ــالغ ــة‬
‫الــقرءآن اإلعــجازيــة هــذا إن عــرف أكــثرهــم كــيفية اإلعــراب فــضالً عــن الــبالغــة وأســرارهــا‪ .‬نــعم‪ ،‬فــي‬
‫عــصرنــا هــذا أكــبر شــيء هــو الــعلم الــطبيعي والــتقنية‪ ،‬هــو مــا يــوازي كــما يــقال السحــر فــي عــصر‬
‫مـوسـى والـطب فـي عـصر عـيسى والـبالغـة فـي عـصر محـمد‪ .‬فـالـشيء الـوحـيد الـذي يـمكن أن يـلفت‬
‫أنـظار ويجـذب قـلوب كـل األمـم لـإلعـجاز هـو أمـر يـتعلق بـالـعلم الـطبيعي والـتقنية‪ .‬وال تـقل لـي أن ”‬
‫اإلعـجاز الـعلمي فـي الـقرءان“ هـو الحـل‪ ،‬ألن هـذه املهـزلـة الـفكريـة ال تـناسـب حـتى صـبيان الـفكر‬
‫فــضالً عــن غــيرهــم‪ ،‬فــهؤالء أقــصى مــا يــقومــون بــه هــو أخــذ شــيء راج فــي عــصرهــم مــما اكــتشفهم‬
‫وصـنعه غـيرهـم ثـم يـقولـون ”انـظروا هـذا فـي الـقرءان“ وقـد فـعلوا ذلـك مـن قـبل وطـبّقوا اآليـات عـلى‬
‫املــكتشفات واملــخترعــات ثــم ملــا تــغ ّيرت الــعلوم وتــطورت نــسوا أو تــناســوا ذلــك‪ ،‬فــإذا كــانــوا صــادقــني‬
‫بـوجـود هـذا الـنوع مـن اإلعـجاز فـي هـذا الـقرءان الـعربـي فـليأتـونـا بـاكـتشاف جـديـد وبـطريـقة صـنع‬
‫شــيء بــتقنية جــديــدة لــم يــعرفــها أحــد‪ ،‬والبــد أن تظهــر أيــضا ً بــغير ســبب مــعتاد كــما انــقلبت الــعصا‬
‫حـية أو شـفي شـخص بـمسحة عـيسى أو نـطق األ ّمـي بـالـعلوم والـبالغـة‪ ،‬فـالـخالصـة هـي أن فـكرة‬
‫اإلع ــجاز ه ــذه وال ــتي ل ــم ي ــتفق ع ــليها إم ــا ج ــملة وإم ــا ت ــفصيالً ح ــتى املس ــلمون ال ي ــمكن أن ت ــكون‬
‫ـجة إع ــجازي ــة ب ــامل ــعنى امل ــشهور ل ــذل ــك‪ ،‬ب ــل ال ــتحقيق أن أص ــحاب اإلع ــجاز ال ــعلمي ه ــؤالء ي ــقعون‬ ‫حـ ّ‬
‫فس ــر ال ــقرءان ب ــرأي ــه ف ــليتبوأ م ــقعده م ــن ال ــنار“ ألن ل ــدي ــهم رأي مس ــبق يج ــلبون ــه‬ ‫ت ــحت رواي ــة ” َم ــن ّ‬
‫ويـبحثون عـن آيـة لـه لـيلصقوه بـها‪ .‬كـال‪ .‬الـشيء الـذي يـوازي معجـزات األنـبياء بـاملـعنى املـشهور هـو‬
‫أن يـأتـي مـثالً رجـل أ ّمـي الـيوم ثـم يـذهـب إلـى وكـالـة نـاسـا الـفضائـية ويـضع لـهم املـعادالت ويـرسـم‬
‫لــهم خــطة صــناعــة صــاروخ فــضائــي مــثالً فشــل كــل عــلماء الــعصر فــيهما وعجــزوا عــنهما ثــم يــنجح‬
‫قـولـه هـذا مـن أول مـرة‪ ،‬أو شـيء مـن هـذا الـقبيل فـي األمـور الـعلمية الـتقنية ولـيس الـنظريـة املجـردة‬
‫فـإن أشهـر مـا فـي عـصرنـا هـو الـعلم الـطبيعي املـؤدي إلـى الح ّـل الـتقني وإال فـليس الـعصر عـصر‬

‫‪60‬‬
‫الس ــباح ــة ف ــي األف ــكار املج ــردة‪ .‬ل ــكن ع ــلى أي ــة ح ــال‪ ،‬م ــن امل ــقطوع ب ــه أن ب ــالغ ــة ال ــقرءان ال ــعرب ــية‬
‫ليست معجزة بالنسبة ألكثر املسلمني بل ألكثر العرب فضالً عن أن تكون للناس عموما ً‪
.‬‬
‫إن ق ــيل‪ :‬ك ــان ــت األم ــم م ــتفرق ــة ف ــجاء ال ــنبي ليج ــمعها وال ــعرب خ ــصوص ـا ً ال تج ــمعهم إال دع ــوة‬
‫ديــنية‪ .‬نــقول‪ :‬األمــم ال تــزال مــتفرقــة‪ ،‬وأهــل اإلســالم مــن الــعرب والعجــم هــم مــن أش ـ ّد وأســوأ األمــم‬
‫تـفرقـا ً وتـحاربـا ً وتـعصبا ً أو يـنافـسون األمـم األخـرى عـلى املـركـز األول فـي هـذه املـسابـقة املـظلمة‪.‬‬
‫ولــن تجــد أمــرا ً فــي الــجاهــلية إال وســتجد مــثله الــيوم‪ ،‬بــل لــعل بــعض أمــور الــجاهــلية كــانــت أفــضل‬
‫مـما عـليه الـعرب الـيوم‪ ،‬حـتى سـمعت شـيخا ً أزهـريـا ً بـاألمـس يـقول بـأنـه يـتمنّى لـو نـكون الـيوم عـلى‬
‫مــا كــان عــليه عــرب الــجاهــلية‪ .‬بــل يــكفيك مــا تجــده مــن انــتشار لحــديــث ”غــربــة اإلســالم“ أي ”بــدأ‬
‫اإلسـالم غـريـبا ً وسـيعود غـريـبا ً كـما بـدأ“ طـبعا ً وتـطبيق كـل جـماعـة لهـذا الحـديـث عـلى نـفسها‪ ،‬لـكن‬
‫يــكفي أن فــي الحــديــث شــاهــدا ً عــلى عــودة األمــر كــما بــدأ‪ .‬وبــناء عــلى مــقولــة ”ال يُــصلح آخــر هــذه‬
‫األ ّمــة إال بــما صــلح بــه أولــها“‪ ،‬وأولــها لــم يــصلح إال بــالــرســول‪ ،‬فــكذلــك آخــرهــا ال يــصلح إال بــرســول‬
‫من عند اهلل‪
.‬‬
‫ـجة يس ــتعملها ع ــلماء أي ع ــقيدة إس ــالم ــية ل ــتبري ــر أص ــل ب ــعث‬ ‫ع ــلى ه ــذا ال ــنمط‪ ،‬ان ــظر أي ح ـ ّ‬
‫الـرسـل عـمومـا ً أو بـعث محـمد رسـولـنا خـصوصـاً‪ ،‬وسـتجد كـل هـذه الـحجج مـوجـودة الـيوم إمـا كـما‬
‫كانت باألمس أو بما هو أولى مما كان قبل بعثه‪
.‬‬
‫فــإن قــلت‪ :‬لــكن نــبينا محــمد آخــر رســول‪ ،‬فــال يــمكن أن يــكون هــذا حـ ّـالً‪ .‬نــقول‪ :‬أ ّوالً مــا ذكــرنــاه‬
‫وغـيره يـر ّد عـلى هـذه الـعقيدة أسـاسـا ً‪ .‬ثـانـياً‪ ،‬حـتى عـند بـعثة الـرسـول كـانـت األديـان األخـرى تـضع‬
‫قـيودا ً وشـروطـا ً تـحافـظ فـيه عـلى تـكويـنها وأمـرهـا بـادعـاء أنـه ال يـمكن أن يخـرج الـديـن عـنها أو أن‬
‫يـأتـي شـخص بـأمـر جـديـد ومـغايـر بـعدهـا‪ .‬نـعم‪ ،‬هـذا األمـر فـي الـعقائـد اإلسـالمـية أظهـر مـنه فـي‬
‫غـيره‪ ،‬ويـمكن لـشخص أن يـجادل بـأنـه ال تـوجـد أ ّمـة قـبل األ ّمـة اإلسـالمـية ادعـت أن الـرسـالـة انتهـت‬
‫بــرســولــها أو مــنشئها‪ ،‬بــل كــلهم فــتح املــجال لــظهور بــعثة جــديــدة أو نــبي جــديــد‪ ،‬إال أهــل اإلســالم‪.‬‬
‫وهــذه حــجة قــويــة بــاعــتبار‪ .‬لــكن يــمكن الــنقاش فــيها مــن وجــوه‪ ،‬مــنها ظ ـنّية هــذا الــفهم‪ ،‬ومــنها أن‬
‫املســلمني أنــفسهم لــم يجــزمــوا بــانــقطاع كــل الــوحــي مــطلقا ً كــقولــهم بــأن الــرؤيــا جــزء مــن الــنبوة أو‬
‫قــولــهم بــأن لــديــهم إمــام أو شــيخ عــارف أو ُم َح ـ َّدث ُمــل َهم يــخاطــبه اهلل وتــنزل عــليه املــالئــكة أو نــحو‬
‫ذلـك‪ ،‬ومـنها انـتشار عـقيدة عـودة عـيسى وهـي بـغض الـنظر عـن كـونـها نـزول جـديـد لـرسـول قـديـم إال‬
‫أنــه اعــتراف بــإتــيان رســول مــن اهلل لــلعا َلــم عــلى أيــة حــال ســواء كــان قــديــما ً أو جــديــدا ً فــتلك صــفة‬
‫فـرعـية فـاألصـل ثـابـت ومـنها أيـضا ً انـتظار املهـدي وصـفاتـه الـتي تـعلو عـلى صـفات رجـل عـادي مـن‬
‫عــلماء املســلمني يــف ّكر ويــدرس بــاملــعنى الــشائــع فــي األ ّمــة‪ ،‬ومــنها أيــضا ً وجــه ر ّد ذات الــعقيدة بــما‬
‫ورد فـي الـقرءان مـن كـون بـعثة الـرسـل أمـر طـبيعي مـثل شـروق الـشمس ونـزول املـطر وهـي ونـحوهـا‬

‫‪61‬‬
‫الـ ــحجج الـ ــتي اسـ ــتعملها الـ ــقرءآن لـ ــتثبيث أصـ ــل اإليـ ــمان بمحـ ــمد كـ ــرسـ ــول والـ ــقرءان كـ ــكتاب مـ ــن‬
‫الرحمن ُمح َدث‪ .‬ووجوه أخرى‪
.‬‬
‫فهذا إذن ملخص القول األول‪ ،‬وهو الحاجة إلى رسول جديد من عند اهلل‪
.‬‬

‫القول الثاني‪ :‬الفرد رسول نفسه والجماعة تقوم بالشورى


‪.‬‬
‫ب ــمعنى أن ــنا ن ــأخ ــذ ال ــقرءان‪ ،‬ك ــل ف ــرد ي ــأخ ــذ ال ــقرءان ع ــلى أن ــه أم ــر اهلل‪ ،‬ث ــم ي ــكون ه ــو ب ــالنس ــبة‬
‫ل ــنفسه م ــصداق ال ــرس ــول ل ــنفسه‪ ،‬ب ــحيث ي ــخصص وي ــنزّل وي ــطبّق بحس ــب م ــا ي ــعقله وي ــعلمه ف ــي‬
‫حــدود نــفسه‪ .‬فــمثالً أنــا أقــرأ }أنــفقوا{ وأقــرأ }يــسألــونــك مــاذا يــنفقون قــل الــعفو{ ونــحوهــا مــن آيــات‬
‫اإلنـفاق‪ ،‬فـأحـدد لـنفسي بحسـب فـهمي وظـروفـي الـخاصـة الـتي أعـلمها هـذه اآليـات فـأحـدد نسـبة‬
‫اإلنــفاق مــن مــالــي ومــتى وكــيف وملــن بحســب تــشخيصي لــلفقراء واملــساكــني‪ ،‬وهــكذا فــي كــل أمــر‪.‬‬
‫فــكل فــرد يــأخــذ أمــر اهلل مــن الــقرءان‪ ،‬ويــطبّق األمــر عــلى نــفسه فــيكون عــقله الــتابــع لــكتاب اهلل هــو‬
‫رسول اهلل له‪
.‬‬
‫وأم ــا ب ــالنس ــبة ل ــألم ــور ال ــتي ت ــختص ب ــالج ــماع ــة‪ ،‬ف ــالب ــد م ــن ال ــشورى ال ــعا ّم ــة‪ .‬أي ك ــل ف ــرد‬
‫ســتنطبق عــليه أحــكام الجــماعــة‪ ،‬البــد أن يــكون لــه قــول ومــدخــل ومــشاركــة فــي صــنع الــقرار الــعام‪.‬‬
‫}وأمـرهـم شـورى بـينهم{‪ .‬ومـا اتـفقت عـليه األ ّمـة بـالـشورى الـعا ّمـة‪ ،‬هـو أمـر الـرسـول لـها بـمعنى أن‬
‫الشورى هي رسول اهلل وما تفرزه الشورى هو أمر الرسول لها‪
.‬‬
‫ه ــذا ال ــقول ي ــنبني ع ــلى ال ــتفري ــق م ــا ب ــني أم ــر اهلل وأم ــر ال ــرس ــول‪ .‬وال ــتفري ــق م ــا ب ــني امل ــسؤول ــية‬
‫الــفرديــة‪ ،‬واملــسؤولــية الجــماعــية‪ .‬وأن الــفرد مــسؤول عــن نــفسه يــوم الــديــن كــفرد‪ ،‬بــالــتالــي لــه حــريــة‬
‫اخـتيار مـا يـراه لـنفسه فـي أمـر الـديـن‪ .‬وأمـا بـالنسـبة للجـماعـة‪ ،‬فـكل فـرد مـساوي مـن حـيث نـفسه‬
‫لــكل فــرد آخــر‪ ،‬فــالبــد أن يــكون لــلكل مــدخــل ومــشاركــة عــلى الــسواء ألن األمــر ســينطبق عــلى الــكل‪.‬‬
‫فيكون العقل الفردي رسول اهلل للفرد‪ ،‬والشورى الجماعية رسول اهلل للجماعة‪
.‬‬
‫وأمــا مــن أيــن ســيك ّون الــفرد عــقله والــشورى قــولــها‪ ،‬فــليكن مــا يــكون‪ ،‬فــليس هــذا محـ ّـل بــحثه‪،‬‬
‫لـكن املـهم أنـه فـي نـهايـة املـطاف الـفرد يـتوكـل عـلى اهلل فـي هـدايـة قـلبه‪ ،‬واأل ّمـة تـتو ّكـل عـلى اهلل فـي‬
‫تــسيير أمــورهــا‪ ،‬ويــبذل كــل واحــد جهــده ويــقصد الــخير والــحق‪ ،‬واهلل الــهادي }و َمــن يــؤمــن بــاهلل يهـ ِـد‬
‫ق ــلبه{ }وم ــن ي ــتو ّك ــل ع ــلى اهلل ف ــهو حس ــبه{‪ ،‬ف ــال ــقلب امل ــؤم ــن امل ــتو ّك ــل ه ــو امله ــدي وه ــو ال ــنبي ل ــنفسه‬
‫}يأيها النبي حسبك اهلل ومن اتبعك من املؤمنني{‪
.‬‬


‫القول الثالث‪ :‬القياس على القديم‪
.‬‬

‫‪62‬‬
‫وه ــذا ه ــو امل ــعمول ب ــه ع ــموم ـا ً ف ــي األ ّم ــة اآلن‪ ،‬وه ــو أن ت ــقرأ ال ــقرءان وال ــرواي ــات واالج ــتهادات‬
‫واآلراء ع ــلى م ــر ال ــعصور‪ ،‬ف ــيختار ال ــفرد واأل ّم ــة ب ــناء ع ــلى ق ــياس األم ــور الج ــدي ــدة ع ــلى ال ــقدي ــمة‪.‬‬
‫فدور املجتهد واملجتهدين هو فقط اكتشاف ما جاء به الرسول في الزمان القديم‪
.‬‬
‫هــذا الــقول تــنقيحه كــالــتالــي‪ :‬األمــر إمــا أن يــكون مــتغيرا ً بحســب الــظروف‪ ،‬وإمــا ال ألنــه مــبني‬
‫عــلى جــوهــر مــتعالــي ثــابــت كــأمــور اآلخــرة‪ .‬فــإذا كــان مــن املــتغيرات‪ ،‬فهــذا يجتهــد املجتهــدون فــي‬
‫تـنقيح الـظروف والـقياس عـلى الـعلل الـتي اقـتضت حـكم الـرسـول فـي الـقديـم بـذلـك الـحكم والـحكم‬
‫بمثلها اليوم‪ .‬وإذا كان من الثوابت‪ ،‬فنحكم اليوم بنفس صورة حكم الرسول باألمس‪
.‬‬
‫مـشاكـل هـذا الـقول كـثيرة جـدا ً‪ .‬ويـكفي أنـه بـالـرغـم مـن الـعمل بـه‪ ،‬األ ّمـة هـي عـلى مـا عـليه الـيوم‬
‫من التفرق والتقاتل والتنازع‪
.‬‬
‫مــشكلة أخــرى‪ ،‬كــل مــشاكــل أصــل الــقياس‪ ،‬وكــونــه ظــني بــل وهــمي واخــتزالــي فــي كــثير مــن‬
‫األمـور‪ ،‬مـن جـهات كـثيرة مـنها عـدم حـفظ جـميع حـيثيات األمـر الـقديـم واالحـتياج إلـى مـعرفـة ذلـك‬
‫ال ــعصر وظ ــروف ــه ب ــيقني ك ــما ن ــعرف ال ــعصر ال ــحال ــي وأم ــورن ــا ب ــيقني ح ــتى ي ــصح ال ــقياس ب ــينهما‪،‬‬
‫ومـنها االخـتالف فـي آراء أهـل الـقياس‪ ،‬واخـتالفـهم فـي تحـديـد مـا هـو الـثابـت ومـا هـو املـتغيّر فـمثالً‬
‫فـي مـسألـة الـصالة هـل صـورة الـصالة ثـابـتة أم مـتغيرة؟ هـل الـوقـت مـن دلـوك الـشمس إلـى غـسق‬
‫الـليل ثـابـت حـتى عـند غـير الـعرب كـالـذيـن ال يـرون الـشمس إال نـادرا ً أو غـيرهـا مـن املـنطاق املـختلفة‬
‫فـي تـقديـر هـذه األوقـات‪ ،‬هـل الـهيئات الـجسمانـية وعـددهـا ثـابـت أم مـتغير‪ ،‬ومـا أدرانـا هـو هـذا أم‬
‫ذاك‪ ،‬وتــوجــد فــي حــيثيات الــصالة وفــي الــروايــات أيــضا ً مــا يــدلــك عــلى أنــها تــأثــرت بــالــظروف مــثل‬
‫الــلباس حــني لــم يــأمــر الــنبي بــالــصالة فــي ثــوبــني ألن الــناس حــينها لــم يــكن لــكل واحــد ثــوبــني فهــل‬
‫يـختلف هـذا فـي زمـانـنا هـذا أو ال أق ّـل بـالنسـبة ملـن يـتوفـر لـديـه الـلباس‪ ،‬وهـل ّم ج ّـرا ً‪ .‬هـذا الـكتاب فـيه‬
‫ت ــرك ــيز ع ــلى ال ــصالة‪ ،‬ل ــكن ه ــي أه ـ ّم م ــسأل ــة ف ــي الش ــري ــعة وال ــدي ــن م ــن وج ــهه ال ــعملي‪ ،‬ول ــذل ــك إذا‬
‫تـأسـس مـنهج قـوي بـها فـيمكن مـعرفـة كـيفية الـتعامـل مـع األمـور األخـرى بـنحو أيسـر إن شـاء اهلل‪.‬‬
‫نــرجــع‪ .‬أصــل جــواز الــقياس فــي الــديــن أيــضا ً مــما اخــتلف فــيه املســلمون سـنّة كــالــظاهــريــة وشــيعة‬
‫ك ــاإلم ــام ــية‪ .‬ف ــبناء دي ــن ع ــلى أص ــل ال ــقياس‪ ،‬ي ــعني ب ــال ــضرورة ب ــناء دي ــن م ــفترق م ــختلف ي ــرى‬
‫أصــحاب الــفرق أنــهم عــلى الــحق واآلخــر عــلى بــاطــل وضــالل بــغير أمــر حــاســم وفــاصــل بــينهم مــن‬
‫كتاب اهلل وال رسول حاضر‪
.‬‬
‫الــقياس يــصنع نــبوة بــال نــبوة‪ .‬وثــمرتــه تــوهــم اآلخــذ بــها أنــه عــلى ديــن مــن اهلل‪ ،‬والــحق أنــه عــلى‬
‫ديـن مـن الـرأي الـشخصي لـصاحـب الـقياس‪ ،‬بـكل مـا فـيه مـن خـلل وظـنون وأوهـام وخـرص‪ ،‬حـتى‬
‫عــلى فــرض أن كــل الــتفاصــيل األصــولــية لــلقياس تــمت مــراعــاتــها‪ ،‬وهــي ذاتــها كــما ال يــخفى محــل‬
‫أقل تقدير‪
.‬‬ ‫نزاع وخالف أيضا ً وتحتمل ذلك على ّ‬

‫‪63‬‬
‫تتحج ــر ع ــلى ال ــقدي ــم وتج ــمد ع ــليه‪ .‬ب ــال ــرغ ــم م ــن أن اهلل ت ــعال ــى ح ــي‬
‫ّ‬ ‫ث ــم ال ــقياس ي ــجعل األ ّم ــة‬
‫وجــواد ومــفيض لــلحكمة والــخير والــعلم‪ ،‬فــفيه نــسيان لــحضور اهلل وعــطائــه‪ .‬وكــذلــك فــيه نســبة قــول‬
‫الحجة‪
.‬‬
‫ّ‬ ‫إلى اهلل ورسوله لم يقوال به بناء على شبه يظنه القائس هو‬
‫وقــد يــؤدي الــقياس إلــى الــحكم الــجازم عــلى أمــر بــالــكلية‪ ،‬بــينما يــكون الــحق هــو الــحكم عــلى‬
‫جزئية من جزئيات األمر على فرض صحته‪
.‬‬
‫م ــن أص ــول املح ــرم ــات ال ــقرآن ــية ال ــقول ع ــلى اهلل ب ــغير ع ــلم‪ .‬ف ــال ش ــيء ي ــدع ــون ــا إل ــى ال ــقياس‬
‫ونسـبته إلـى ديـن اهلل‪ ،‬الـلهم إال قـوم أرادوا الـفرار مـن الـلوازم الـضروريـة لـعدم وجـود رسـول حـاضـر‬
‫أو وحـي جـديـد أو صـلة حـية بـاهلل أو نـحو ذلـك مـن أمـور تـجعل مـركـز السـلطة الشـرعـية يـذهـب مـن‬
‫أي ــدي ــهم وي ــشيع ف ــي األ ّم ــة‪ ،‬ف ــيقول ــوا ب ــما ي ــقول ــون ب ــه‪ ،‬وه ــذا ل ــيس ف ــقط ف ــي ال ــقياس ب ــل ح ــتى ف ــي‬
‫اعـتماد الـروايـات الـتاريـخية عـلى أنـها املظهـر الـوحـيد الـصحيح لـلديـن ولـتطبيق وتـنزيـل وتـقييد أمـر‬
‫اهلل فـي الـقرءان‪ ،‬فـأصـحاب الـروايـات مـثل أصـحاب الـقياس‪ ،‬كـالهـما يـريـد أن يـجعل الـتاريـخ فـي‬
‫ـحجة عـلى الـدهـر كـ ّله‪ ،‬إمـا بـواسـطة أصـل الحـديـث أو أصـل الـقياس ومـا يـتصل بـهما‬ ‫لحـظة هـو ال ّ‬
‫م ــن اع ــتبار آلراء أص ــحاب الح ــدي ــث وال ــقياس ل ــكن م ــن وراء ح ــجاب ح ــتى ال يظه ــر ب ــأن ــهم ي ــجعال‬
‫ع ــقول ــهما واخ ــتياره ــما ال ــدي ــن ف ــيقال ل ــهما ”ون ــحن ل ــدي ــنا ع ــقول واخ ــتيار أي ــضا ً“‪ ،‬ف ــيختبئون وراء‬
‫ـفضلون م ــن خ ــلف س ــتارة‬ ‫ال ــرواي ــة وال ــقياس وال ي ــحكمون إال ب ــما يش ــتهون ف ــي ال ــحال ــتني أو ب ــما يُ ـ ّ‬
‫املجرد في الرواية وفي إعمال القياس‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫النزاهة الذهنية والبحث املوضوعي‬
‫ي ــنبني ع ــلى ال ــقول ع ــلى اهلل ب ــغير ع ــلم‪ ،‬ال ــقول ع ــلى رس ــول اهلل ب ــغير ع ــلم ب ــل ال ــقول ب ــغير ع ــلم‬
‫ـقف مــا لــيس لــك بــه عــلم{‪ .‬فنســبة قــول لــرســول اهلل بــغير عــلم مــمنوعــة قــرآنــياً‪ ،‬بــل حــتى‬ ‫مــطلقاً‪} ،‬ال تـ ُ‬
‫أخـالقـيا ً وإنـسانـيا ً فـهو نـوع مـن الـكذب وتحـميل إنـسان غـائـب مـا لـم يتح ّـمله فـهو نـوع مـن االتـهام‬
‫واملــحاكــمة والــقضاء عــلى شــخص غــيابــيا ً بــدون حــتى فــرصــة الــدفــاع عــن نــفسه‪ .‬لــذلــك‪ ،‬إذا دخــل‬
‫اح ــتمال ف ــي النس ــبة‪ ،‬ف ــال ي ــجوز نس ــبة األم ــر ل ــلرس ــول م ــن ح ــيث ل ــفظه أو م ــفهوم ــه أو ت ــطبيقه ع ــلى‬
‫حــادثــة أو شــخص جــديــد نــحتمل أن الــرســول لــو كــان هــنا لــحكم بــخالف ذلــك‪ .‬فــقد نــختار نــحن مــا‬
‫فهمناه ونطبقه ألننا اقتنعنا به في أنفسنا‪ ،‬لكن هذا ال يجيز نسبته إلى الرسول نفسه‪
.‬‬
‫ال ــقول ب ــغير ع ــلم م ــع ع ــدم ج ــواز ال ــغيبة }ال ي ــغتب ب ــعضكم ب ــعضا ً{‪ ،‬ه ــو أي ــضا ً الس ــبب ال ــذي‬
‫ي ــجعل ع ــلم ال ــرواي ــات ب ــصورت ــه ال ــحاض ــرة أم ــرا ً م ــخال ــفا ً ل ــلقرءان وال ــعقل األخ ــالق ــي‪ .‬ألن ت ــصحيح‬
‫الـروايـة يـبدأ وإن كـان ال يـنتهي لـكنه لـيبدأ بـالـنظر فـي سـنده‪ ،‬يـعني فـي الـرجـال أو الـنساء الـذيـن‬
‫ن ــقلوه‪ .‬وال ــحكم ع ــلى ه ــؤالء ب ــالج ــرح ي ــجعل ال ــرواي ــة ن ــازل ــة ع ــن رت ــبة ال ــصحيح إل ــى ال ــحسن أو إل ــى‬
‫الـضعيف ومـا إلـى ذلـك‪ .‬لـكن جـرح إنـسان غـائـب ال يسـتطيع الـدفـاع عـن نـفسه‪ ،‬هـو نـوع ن الـغيبة‪،‬‬
‫كــما أقـ ّـر بــذلــك الــقوم مــنذ الــقدم وبــرروا جــوازه ألنــه ضــروري لــلعلم‪ .‬فــإن ثــبت جــواز ذلــك‪ ،‬لــنقل مــن‬

‫‪64‬‬
‫بـاب أنـه ع ّـرض نـفسه لـلنقد بـدخـولـه طـوعـا ً فـي عـملية الـنقل فـهو أجـاز نـقد نـفسه حـني أدخـل نـفسه‬
‫فــي الســلسلة‪ ،‬فــإن ذلــك ال يــغني ع ـنّا فــي مــعرفــة صــدق الجــرح بــيقني أو حــتى بــظ ّن مــعتبر‪ ،‬وفــيه‬
‫}تـلك أ ّمـة قـد خـلت{ ونـحن ال نـدري تـفاصـيل كـل مـا حـدث بـنحو مـرضـي مـن الـتواريـخ‪ .‬فـأقـصى مـا‬
‫نخـرج بـه نـوع مـن الـظن أو حـتى الـظن الـضعيف‪ .‬بـل قـد يـكون الـناقـل كـذابـا ً أفـاكـا ً مـنافـقا ً لـعيناً‪،‬‬
‫لــكن يــكون قــد صــدق فــي هــذه الــروايــة تحــديــدا ً أو حــتى يــكون مــا بــلغنا بــواســطته هــو مــما صــدق‬
‫فـيه‪ ،‬وقـد يـكون الـشخص صـادقـا ً عـدالً ضـابـطا ً نـزيـها ً وقـل مـا شـئت لـكن يـكون فـي روايـة أو أكـثر‬
‫قـد كـذب أو نـسي أو غـلط‪ ،‬ونـحن ال نـملك أصـول الـروايـات حـتى نـعلم بـالـقياس عـليها هـل ضـبط أم‬
‫لـم يـضبط‪ ،‬وأمـا الـنظر إلـى مـا رواه غـيره فـي الـباب فهـذا مـن بـاب مـقابـلة الـصفر بـالـصفر ألنـنا ال‬
‫نسـتطيع أن نـحكم عـلى الـروايـة األولـى حـتى نـحكم عـلى الـروايـة األخـرى بـالـقياس عـلى األول ألن‬
‫نـفس الـقضية مـوجـودة فـي كـل الـروايـات عـلى الـسواء‪ .‬هـذه وغـيرهـا كـلها صـعوبـات وعـوائـق فـي أمـر‬
‫تــصحيح الــروايــات‪ .‬ثــم حــتى إذا افــترضــنا صــحة الــسند بــأعــلى درجــة مــن الــصحة‪ ،‬فهــذا ال يــعني‬
‫كـما يـقول أهـل الـفن أن املـنت أيـضا ً صـحيح بـل قـد يـكون شـاذا ً أو مـعلالً‪ ،‬والـعلل كـثيرة ويـقع فـيها‬
‫االخ ــتالف وم ــن االخ ــتالف ف ــيها‪ :‬ه ــل إذا خ ــال ــف امل ــنت ال ــقرءآن ي ــكون م ــعلوالً؟ وم ــا م ــعنى م ــخال ــفته‬
‫لـلقرءان؟ إذا خـلصت مـن الـثمانـني عـقبة أو أكـثر حسـب إحـصاء الـبعض أمـام مـن يـريـد اسـتعمال‬
‫ال ــرواي ــات ك ــدي ــن‪ ،‬ف ــإن ــك س ــتخلص إل ــى م ــا ال ــناس ع ــليه ال ــيوم ف ــي أح ــسن األح ــوال‪ ،‬وه ــو ال ــتفرق‬
‫والتشــرذم والــظنون الــتي يــوهــم أصــحاب كــل واحــدة مــنها أنــهم عــلى الــيقني املــطلق الــذي يجــدون‬
‫استعدادا ً كما فعلوا ويفعلون على قتل وحبس وضرب وتكذيب وتجهيل اآلخرين عليه‪
.‬‬
‫الـقياس عـلى الـقديـم‪ ،‬بـمعنى اسـتعمال أصـل الـروايـة كـشيء تـقيس عـليه أو بـمعنى اسـتعمال‬
‫عـملية الـتفكير الـتي تـحكم عـلى الجـديـد بـنفس حـكم الـقديـم لـالشـتراك فـي الـع ّلة والسـبب‪ ،‬كـالهـما‬
‫م ــحاط ب ــعقبات وظ ــنون وتخ ــرص ــات ك ــثيرة‪ ،‬وأهـ ـ ّم ش ــيء أن ــها ت ــجعل امل ــف ّكر النس ــبي ي ــتح ّول إل ــى‬
‫رس ــول إل ــهي‪ ،‬م ــن ح ــيث أن ــه ينس ــب ن ــتيجة ت ــفكيره ال ــشخصي ف ــي ال ــقدي ــم ه ــو ه ــو ال ــحكم ال ــقدي ــم‬
‫وكـأن الـرسـول حـضر فـي ذهـنه وقـضى بـما قـال بـه‪ .‬فهـذا خـالف الـقول الـثانـي‪ ،‬ألن صـاحـب الـقول‬
‫الــثانــي ال يــقول بــأن اخــتياراتــه الــقرآنــية مــثالً هــي مــا حــكم بــه الــرســول قــبل ألــف وأربــعمائــة ســنة‬
‫ـص عــليه فــي الــقرءان‪ ،‬لــكن صــاحــب الــقياس‪ ،‬قــياس الــروايــة أو قــياس الــع ّلة‪ ،‬يــقول بــأن‬ ‫فــيما ال نـ ّ‬
‫ح ــكمه ه ــو ع ــني دي ــن اهلل ورس ــول ــه‪ ،‬وص ــاح ــب ق ــياس ال ــرواي ــة أش ـ ّد ف ــي ه ــذا م ــن ق ــياس ال ــع ّلة ال ــتي‬
‫وقــعت االخــتالف فــي نســبتها إلــى الــديــن وحــكم اهلل ورســولــه لــكن عــمليا ً الــنتيجة واحــدة‪ ،‬وكــثير مــن‬
‫ـفرض عـلى املسـلمني الـيوم هـي ثـمرة قـياس عـ ّلة والـعا ّمـة ال يـعلمون ويحسـبون أن املـفتي‬ ‫األحـكام تُ َ‬
‫أفتاهم والحاكم قضى عليهم بما لو كان رسول اهلل جالسا ً مكانه كان سيقضى بمثله‪
.‬‬

‫‪65‬‬
‫مـن آثـار ديـن الـقياس هـذا‪ ،‬الـروايـة أو الـع ّلة‪ ،‬أن صـارت الـواجـبات واملحـرمـات فـي األ ّمـة كـثيرة‬
‫بـنحو غـريـب بـل أجـنبي تـمامـا ً عـن كـتاب اهلل‪ .‬قـرأت بـاألمـس لـبعض الـشيعة اإلمـامـية مـمن أحـصى‬
‫عـدد الـواجـبات واملحـرمـات فـي فـقههم‪ ،‬فـوجـدهـا تـقريـبا ً ‪ ١٥٠٠‬واجـب و ‪ ١٥٠٠‬مح ّـرم‪ .‬تـص ّور هـذا‪.‬‬
‫ف ــإذا ك ـنّا ن ــقرأ ف ــي ال ــقرءآن اس ــتعظام تح ــري ــم أو ف ــرض ش ــيء‪ ،‬ح ــتى ت ــك ّلم ال ــقرءان ف ــي ال ــسائ ــبة‬
‫والـغنم‪ ،‬فـمن أيـن جـاءت هـذه اآلالف مـن الـواجـبات واملحـرمـات؟ وتسـتطيع أن تـرى نـفس األمـر عـند‬
‫بــقية الــفرق‪ .‬الــتضخيم فــي الــحالل والحــرام‪ ،‬واألحــكام الــعملية غــير الــعلمية الــعقلية الــناظــرة إلــى‬
‫أمــر اآلخــرة‪ ،‬ووضــع الــقوانــني وفــرضــها عــلى األ ّمــة بــاســم اهلل ورســولــه‪ ،‬هــذا كــله مــن آثــار اعــتماد‬
‫الــروايــة والــع ّلة كــمصادر لــلديــن بــدالً مــن كــتاب اهلل‪ ،‬أو إعــطائــها األولــويــة بــدالً مــنه عــمليا ً أو نــظريـا ً‬
‫وعــمليا ً‪ .‬وح ـ ّدث وال حــرج طــبعا ً عــن الــتناقــض والــتعارض عــند أهــل الــروايــة وأهــل الــع ّلة‪ .‬وأحــسنهم‬
‫ي ــري ــد اخ ــتراق ح ــجاب ال ــغيب ل ــلوص ــول إل ــى ق ــلب ال ــرس ــول ل ــو ك ــان ح ــاض ــرا ً ب ــماذا ك ــان س ــيحكم‪،‬‬
‫والسـبب أنـه يـريـد أن يـعطي حـكما ً قـاطـعا ً ديـنيا ً مـعصومـا ً أو مـقدسـا ً يـفرضـه عـلى الـناس عـلى أنـه‬
‫عني دين اهلل وأمر رسوله‪
.‬‬

‫القول الرابع‪ :‬لقاء الرسول‪


.‬‬
‫هـذه طـريـقة صـوفـية تـتجاوز بـقية املـشاكـل الـتي بـالـتأكـيد تـنبهوا لـها‪ .‬ومـبناهـا عـلى أن الـرسـول‬
‫هـو اآلن رسـول اهلل أيـضاً‪ ،‬لـكنه بـدالً مـن أن يـكون فـي املـديـنة املـنورة هـو فـي عـا َلـم الـنور األعـلى‪،‬‬
‫ـحس ك ـنّا نــذهــب إلــى بــالــحس‪ ،‬فــهو اآلن بــالــنفس فــنذهــب إلــى‬ ‫وكــما أنــه لــو كــان الــرســول هــنا بــالـ ّ‬
‫بـالـنفس‪ ،‬فـنعرج إلـى الـرسـول أو نـرجـو اهلل أن يـجعنا بـه فـي عـا َلـم الـغيب‪ ،‬وبـعضهم يـقول فـي عـا َلـم‬
‫ال ــشهادة أي ــضا ً ي ــقظ ًة ي ــقظة ال ــحس ال ي ــقظة ال ــنفس‪ ،‬ث ــم ت ــقاب ــل ال ــرس ــول وت ــسأل ــه ع ــن امل ــسائ ــل‬
‫والــقضايــا فــيفتيك وانــتهى األمــر‪ .‬بــالنســبة لهــذه الــطريــقة‪ ،‬ال حــاجــة لــكل اإلشــكاالت الــسابــقة‪ ،‬ألن‬
‫ال ــرس ــول ح ــي وح ــاض ــر وه ــو ف ــي ك ــل م ــكان أو ق ــاب ــل ل ــلظهور ف ــي ك ــل م ــكان ول ــكل إن ــسان‪ ،‬ول ــقاء‬
‫الرسول يكفي لحل األمور التي تشكل على العارف‪ .‬فيصبح العارف هنا برتبة صحابي‪
.‬‬
‫وم ــن ه ــذا ال ــقبيل م ــثالً م ــا ذك ــره ال ــشيخ اب ــن ع ــرب ــي ف ــي م ــقدم ــة ف ــصوص ال ــحكم أن ــه ال ــتقى‬
‫بـالـرسـول فـأعـطاه كـتاب فـصوص الـحكم وقـال لـه ”اخـرج بـه إلـى الـناس“‪ .‬فـيكون ابـن عـربـي هـنا‬
‫كـما كـان عـلي بـن أبـي طـالـب مـثالً حـني أخـذ سـورة بـراءة وقـرأهـا عـلى الـناس فـي الـحج كـما جـاء‬
‫فــي الــروايــة‪ ،‬مــع فــوارق طــبعا ً لــكن الــفكرة واحــدة‪ .‬وأمــثلة كــثيرة قــديــمة وحــديــثة عــند الــصوفــية فــي‬
‫هذا الباب‪ .‬وكاتب هذه السطور قد ذكر شيئا ً من ذلك في موضع ما أيضا ً‪
.‬‬
‫فــأمــور الــديــن تــؤخــذ مــن الــقرءان ومــا يــفتح اهلل لــإلنــسان فــي فــهمه‪ ،‬وكــذلــك يــتبع فــيه الــروايــات‬
‫مـن حـيث حـسن الـظن بـاملـؤمـنني وسـؤال أهـل الـعلم‪ ،‬فـإذا أشـكل أمـر فـلقاء الـرسـول يحـ ّله‪ .‬فـالـرسـول‬

‫‪66‬‬
‫حـتى حـني كـان فـي األرض‪ ،‬لـم يـكن كـل مسـلم فـي كـل مـكان يـملك خـطّا ً مـفتوحـا ً لـلتواصـل مـعه فـي‬
‫أي لحـظة‪ ،‬بـل بـعض األعـراب كـان يـأتـي ُيسـلم ويـأخـذ سـورة ويـتع ّلم شـيء مـن الـفرائـض ثـم يـتو ّكـل‬
‫ولـعله ال يـلقى الـرسـول بـعدهـا وال يـسألـه عـن شـيء‪ .‬فـليس مـن الـضروري لـلديـن مـعرفـة قـول الـرسـول‬
‫فــي كــل تــفصيلة وصــغيرة وكــبيرة‪ ،‬ومــن أراد ذلــك فــاهلل كــريــم ويجــمعه بــرســولــه ويــعرفــه بــالــحق فــي‬
‫األمر‪
.‬‬
‫وإن قـيل‪ :‬لـكن هـذا الـطريـق صـعب ولـيس كـل أحـد يسـتطيع بـلوغـه‪ .‬نـقول‪ :‬طـريـق مـعرفـة الـطب‬
‫الــعلمي أيــضا ً صــعب مــقارنــة بــالــطب الــشعبي والخــرافــي لــكنه أحــسن مــنه‪} ،‬والــذيــن جــاهــدوا فــينا‬
‫لنهدينهم سبلنا{‪ ،‬فدخول الجنّة بالجهاد والصبر‪
.‬‬
‫وإن قـيل‪ :‬لـكن هـذه دعـوى مـن الـصوفـي وال ُيسـ ّلمها لـه بـقية املسـلمني‪ .‬نـقول‪ :‬وصـاحـب الـروايـة‬
‫أي ــضا ً ي ــدع ــي أن ــه س ــمع وأن ال ــرس ــول ق ــال‪ ،‬وامل ــفتي ي ــدع ــي ب ــالنس ــبة ل ــلعا ّم ــي أن ــه درس وأف ــتى ل ــه‬
‫بـالـحكم الشـرعـي‪ ،‬وهـو ال يـدري عـلى الـتحقيق الـواقـع فـي نـفس األمـر‪ ،‬لـكن حـسن الـظن بـمن ثـبت‬
‫إيــمانــه وهــو أمــر قــرآنــي يــجيز تــصديــق املــؤمــن فــي دعــواه‪ .‬فــإن ثــبت لــه إيــمان مــدعــي لــقاء الــرســول‬
‫وأخـذه عـنه‪ ،‬فـأنـت وذاك‪ .‬وإن لـم يـثبت لـك‪ ،‬فهـذا مـثله مـثل بـقية األمـور الـتي لـم تشهـدهـا فـي أمـر‬
‫الدين بل وأمر الدنيا لكنه تأخذها ثقة بمن لديك قرائن كافية للثقة بهم‪
.‬‬
‫وإن قــيل‪ :‬لــو كــان بــاإلمــكان لــقاء الــرســول لحــل الــخالفــات فــلماذا لــم يظهــر الــرســول لــلصحابــة‬
‫حــني اخــتلفوا‪ .‬نــقول‪ :‬ومــا عــسى أن يــفعل بــالــظهور لــقوم جــلس بــني ظهــرانــيهم أكــثر مــن عشــريــن‬
‫ون ــهاه ــم م ــباش ــرةً ع ــلى ض ــرب رق ــاب ب ــعض وب ــأم ــور ك ــثيرة ف ــلم يس ــتجيبوا وف ــعلوا م ــا ف ــعلوا‪ ،‬ه ــذا‬
‫جــواب‪ .‬جــواب آخــر‪ ،‬الــصحابــة ألخــذهــم عــن الــرســول لــيسوا مــثل األ ّمــة الــبعيدة العهــد بــالــرســول‪،‬‬
‫لــذلــك الــنبي خــشي عــلى الــصحابــة الــتنافــس عــلى الــدنــيا أكــثر مــما خــشي عــليهم االخــتالف فــي‬
‫الدين‪ ،‬فاأل ّمة أحوج لذلك من الصحابة‪ ،‬والصدقات }للفقراء{ ال لألغنياء‪
.‬‬
‫وإن قــيل‪ :‬هــذا يــفتح بــاب لــلدجــالــني والــكذابــني واملــشعوذيــن الدعــاء الــدعــاوى الــعريــضة بــالــتقاء‬
‫ـضر بـاأل ّمـة‪ .‬نـقول‪ :‬والـروايـات والـعلل وكـل األصـول تـؤدي أيـضا ً إلـى ظـهور دجـالـني‬ ‫الـرسـول مـما ي ّ‬
‫وكـذابـني وظـاملـني ومجـرمـني وعـبيد ديـنار ودرهـم وعـبيد حـكام يـلعبون بـالـديـن كـما يشـتهون ويشـتهي‬
‫أســيادهــم وقــد فــعلوا وال زالــوا يــفعلون‪ ،‬وهــذا ال يــعني إبــطال أصــل الــدراســة وال أصــل الــبحث فــي‬
‫الــنصوص الــديــنية وال أصــل تــفسير الــقرءان‪ .‬كــم مــن حــامــل شــهادة مــن جــامــعة تــزعــم أنــه دكــتور‬
‫وهـو فـي الـحقيقة ثـور‪ ،‬تخ ّـرج بـالـنصب وتـوظـيف غـيره ليحـل لـه واجـباتـه ويـختبر عـنه‪ ،‬وهـذا ال يـعني‬
‫إل ــغاء ه ــذه امل ــعاه ــد وإب ــطال ق ــيمة ال ــشهادات ال ــجام ــعية‪ .‬ب ــل ادع ــى أن ــاس ك ــثر ال ــنبوة‪ ،‬فه ــل ن ــنكر‬
‫الـنبوة الـصادقـة بسـبب الـنبوة الـكاذبـة‪ .‬اخـتلقوا الـكثير مـن األحـاديـث ونسـبوهـا لـلنبي‪ ،‬فهـل نـنسف‬
‫قيمة كل األحاديث بسبب االختالق في بعضها‪
.‬‬

‫‪67‬‬
‫القول الخامس‪ :‬اإلمام املعصوم‪
.‬‬
‫الـفكرة هـنا شـيعية األصـل‪ ،‬وهـي أنـه يـوجـد إنـسان يـقوم بـعد الـرسـول مـقام الـرسـول‪ ،‬فـال يـكون‬
‫رســوالً لــكن فــيه شــيء مــن عــصمة الــرســالــة وســلطتها فــي الــتعبير عــن الــديــن عــلما ً وحــكما ً والــقيام‬
‫بدور املركز الجامع لأل ّمة حتى ال تتشتت وتختلف‪
.‬‬
‫ف ــهؤالء س ــيقول ــون ب ــكل م ــا م ــضى م ــن أه ـ ّـمية وج ــود ال ــرس ــول‪ ،‬ل ــكن س ــيقول ــون ب ــعده ــا‪ :‬ب ــما أن‬
‫مح ــمد آخ ــر ال ــرس ــل‪ ،‬ف ــالب ــد أن ي ــكون ب ــعده إم ــام م ــعصوم ي ــقوم م ــقام ــه ف ــي ك ــل األم ــور ب ــاس ــتثناء‬
‫اإلتيان بوحي جديد كالقرءان أو يغ ّير حالله وحرامه الثابت‪ ،‬وتكون له بقية السلطات الرسولية‪
.‬‬
‫هـذا الـقول قـوي جـداً‪ ،‬والـحق أن مـن عـدا الـشيعة أيـضا ً بـحثوا عـن إمـام مـعصوم لـكن اخـتلفوا‬
‫فــي تــعيينه ورســمه‪ .‬فــبعضهم جــعل مــفهوم ”األ ّمــة“ هــو بــديــل اإلمــام املــعصوم‪ ،‬وإن كــان مــفهومــه‬
‫هــذا مــبهما ً ولــم يــتم إظــهاره واقــعا ً‪ .‬وبــعضهم جــعل الــقياس الــصحيح هــو اإلمــام املــعصوم‪ ،‬أقــصد‬
‫الـقياس عـلى اآليـة والـروايـة والـع ّلة‪ ،‬فـجعل عـقله أو مجـموعـة عـقول املجتهـديـن الـذيـن يـرضـاهـم هـي‬
‫اإلم ــام امل ــعصوم ب ــال ــتال ــي ج ــعل رض ــاه أص ــل ب ــعثة امل ــعصوم وج ــعل ال ــعقول املجته ــدة ه ــي اإلم ــام‪.‬‬
‫وبـعضهم جـعل قـلبه ونـفسه املطهـرة الـتي تـأخـذ عـن اهلل وعـن رسـولـه هـو اإلمـام املـعصوم بـالنسـبة لـه‬
‫وملـن آمـن بـه كـولـي‪ .‬وإذا رأيـت صـالبـة الـفرق والـطوائـف فـي عـقائـدهـا ومـذاهـبها‪ ،‬وإن كـانـت ال تـقوم‬
‫باإلمام املعصوم‪ ،‬ستجد أنها تتح ّدث وكأنها تملك اإلمام املعصوم أيضا ً لكن بشكل آخر‪
.‬‬
‫مــما يــرد عــلى هــذا الــقول‪ :‬اخــتالف الــشيعة أنــفسهم‪ ،‬مــن أول يــوم إلــى الــيوم‪ ،‬اخــتالفـا ً طــويـالً‬
‫عـريـضا ً عـميقا ً‪ .‬ويـكفيك االطـالع عـلى كـتاب يتحـدث عـن فـرق الـشيعة لـترى ذلـك‪ .‬الـزيـديـة فـرق وهـم‬
‫ال يــقولــون بــاإلمــامــة كــما يــقولــه غــيرهــم بــكل الــتفاصــيل وإن قــالــوا بــحصر اإلمــامــة فــي الــفاطــميني‬
‫بشــروط اخــتلفوا فــيها‪ ،‬اإلمــامــية كــانــوا فــرق والــيوم هــم أيــضا ً فــرق مــن حــيث مــسألــة الــسفارة عــن‬
‫اإلمــام الــغائــب أو املــدرســة الــتي تــمثّل اإلمــام الــغائــب األخــباريــة أم األصــولــية أو َمــن هــو املــرجــع‬
‫الـذي يـمثّل املـدرسـة الـصحيحة‪ ،‬ثـم اإلسـماعـيلية أيـضا ً عـلى فـرقـتني كـبيرتـني عـلى أق ّـل تـقديـر وعـلى‬
‫اعتبار الدروز منهم فهم ثالثة وهكذا‪
.‬‬
‫ومــما يــرد عــليه أيــضا ً‪ :‬أرونــا حــلول اإلمــام املــعصوم لــكل املــسائــل والــقضايــا الــعلمية والــعملية‬
‫ـبني ال ــفهم‬ ‫ال ــتي ف ــي ك ــتاب اهلل‪ ،‬ول ــندع م ــا س ــواه‪ .‬امل ــفروض أن يُظه ــروا ل ــأل ّم ــة ه ــذا ال ــعلم ال ــتي ي ـ ّ‬
‫ـجة م ــعتبرة تُ ــرض ــي ع ــلماء‬ ‫ال ــصحيح ل ــكتاب اهلل‪ ،‬وك ــذل ــك ك ــل إش ــكال ــية الب ــد أن ي ــكون ل ــدي ــه ع ــليها ح ـ ّ‬
‫األ ّم ــة ع ــلى األق ـ ّـل‪ ،‬ف ــقد ج ــعل اهلل ع ــلماء ب ــني إس ــرائ ــيل آي ــة وع ــلماء ه ــذه األ ّم ــة ل ــن ي ــكون ــوا أق ـ ّـل م ــن‬
‫ع ــلماء ب ــني إس ــرائ ــيل ك ــيف وم ــثل ه ــذه األ ّم ــة ه ــو ك ــمثل ب ــني إس ــرائ ــيل }إن ــا أرس ــلنا إل ــيكم رس ــوالً‬
‫شـاهـدا ً عـليكم كـما أرسـلنا إلـى فـرعـون رسـوالً{ }فـقد سـألـوا مـوسـى{ }فـال تـكن فـي مـريـة مـن لـقائـه‬
‫وجـعلناه هـدى لـبني إسـرائـيل{‪ ،‬وقـال الـنبي لـعلي ”أنـت مـني بـمنزلـة هـارون مـن مـوسـى إال أنـه ال‬

‫‪68‬‬
‫ـدل عــلى أن الــنبي مــثل مــوســى‪ ،‬بــالــتالــي هــذه األ ّمــة مــثل بــني إســرائــيل‪ .‬وعــلى ذلــك‬ ‫نــبي بــعدي“ فـ ّ‬
‫ق ــول ــه ت ــعال ــى }أول ــم ت ــكن ل ــهم آي ــة أن ي ــعلمه ع ــلماء ب ــني إس ــرائ ــيل{‪ ،‬وق ــول ــه ف ــي أص ــناف ع ــلماء ب ــني‬
‫إس ــرائ ــيل }إن ــا أن ــزل ــناه ال ــتوراة ف ــيها ه ــدى ون ــور ي ــحكم ب ــها ال ــنبيون ال ــذي ــن أس ــلموا ل ــلذي ــن ه ــادوا‬
‫والــربــانــيون واألحــبار{ فــدل عــلى ثــالثــة أصــناف مــن الــذيــن يــعلمون ويــحكمون بــالــتوراة أي الــنبي‬
‫ـحبر‪ .‬حــسنا ً‪ .‬فليُظهــر أصــحاب نــظريــة اإلمــام املــعصوم هــذا الــعلم لــأل ّمــة حــتى يــعرفــه‬ ‫والــربــانــي والـ َ‬
‫عـلماء األ ّمـة ويـنظروا فـيه‪ .‬لـكن الـذي نجـده‪ ،‬هـو اخـتالف فـي نـفس تـلك الـفرق الـشيعية فـيما بـينها‪،‬‬
‫ثــم نجــد اخــتالف ـا ً بــني عــلمائــهم فــي فــهم مــرويــاتــهم ومــسائــلهم الــعقائــديــة والــتفسيريــة‪ ،‬وإذا دقــقنا‬
‫سنجـد الـكثير مـن ذلـك فـي كـل مـكان‪ ،‬وأمـا إذا دخـلنا فـي تـقييم مـثالً قـائـمة األئـمة الـزيـديـة واألئـمة‬
‫اإلسـماعـيلية مـثالً فسنجـد أمـورا ً فـي بـعضهم أق ّـل مـا يـقال فـيها أنـها مجـلبة لـلشك أو داعـية لـلريـب‬
‫أو م ــوج ــبة للح ــذر‪ ،‬وع ــلى ك ــل ح ــال ل ــن نج ــد ف ــيها ن ــصاع ــة امل ــثال ال ــرس ــول ــي ال ــذي م ــن امل ــفترض أن‬
‫ي ــمثلون ــه ب ــل ب ــعضهم تُ ــروى ع ــنه أف ــاع ــيل واس ــتئثار ب ــال ــدن ــيا وط ــغيان وت ــأس ــيس للجه ــل ل ــعل ال ــكاف ــر‬
‫يستحي منه‪
.‬‬
‫ويـ ــرد عـ ــليه أيـ ــضا ً‪ :‬اخـ ــتالف الـ ــشيعة فـ ــي وصـ ــف اإلمـ ــام بـ ــالـ ــعصمة‪ .‬بـ ــل ووصـ ــف الـ ــرسـ ــول‬
‫بـالـعصمة هـذه الـتي يتحـدثـون عـنها أيـضا ً أمـر فـيه اخـتالف وظـاهـر الـقرءان بـخالفـه مـن }وعـصى‬
‫آدم ربــه{ إلــى }يــغفر لــك اهلل مــا تــق ّدم مــن ذنــبك ومــا تــأخــر{‪ .‬ومــن أراد فــرض عــقيدة الــعصمة عــلى‬
‫الـقرءان بـعد كـل تـلك اآليـات‪ ،‬فـأعـلى مـا يـقال بـأن هـذا رأيـه وهـو غـير ظـاهـر وال ُمـلزم لـلكل‪ ،‬فـإن شـاء‬
‫اع ــتقاده ف ــليفعل‪ ،‬ل ــكن ل ــيس ل ــه ب ــعد ت ــلك ال ــظواه ــر ال ــكثيرة االدع ــاء ب ــأن م ــا ي ــقول ــه واض ــح وض ــوح‬
‫الشمس في رابعة النهار‪
.‬‬
‫فــلنبدأ إذن‪ ،‬بــعرض ثــمار كــالم اإلمــام املــعصوم املــدعــى مــن أي فــرقــة عــلى كــتاب اهلل‪ ،‬فــكلهم‬
‫الــشيعة يــقرون بحــديــث الــثقلني والــذيــن فــيه تــرك الــرســول لــكتاب اهلل وعــترتــه أهــل بــيته‪ ،‬ثــم يــختلفون‬
‫فـ ــي تـ ــعيني هـ ــذه الـ ــعترة وإن اتـ ــفقوا عـ ــلى الجـ ــملة عـ ــلى عـ ــلي بـ ــن أبـ ــي طـ ــالـ ــب‪ ،‬ومـ ــن بـ ــعده وقـ ــع‬
‫االخــتالف‪ ،‬فــمنهم مــن جــعلها فــي الــحسن والحســني وكــل أوالدهــما‪ ،‬ومــنهم مــن جــعلها فــي بــعض‬
‫أوالد أو فــروع الحســني فــقط‪ .‬لــكن هــذا الحــديــث نــفسه‪ ،‬فــيه تــقديــم كــتاب اهلل‪ ،‬وأنــه الخــليفة األكــبر‬
‫والـثقل األكـبر‪ .‬بـالـتالـي‪ ،‬ويـروى عـن عـلي قـولـه }سـلونـي عـن كـتاب اهلل{ وب ّـني عـلو عـلمه بـه‪ .‬حـسنا ً‪.‬‬
‫لــنبدأ مــن هــنا‪ ،‬أي مــن رؤيــة بــيان اإلمــام املــعصوم لــكتاب اهلل وتــنزيــله عــلى قــضايــا عــصرنــا وأفــراد‬
‫زماننا‪
.‬‬
‫ثـم بـعد ذلـك‪ ،‬البـد مـن قـيد آخـر وهـو مـثال الـنبي ومـثال عـلي‪ .‬بـدءا ً مـن الـحكم‪ ،‬فـإن الـنبي جـاء‬
‫بـاالخـتيار ال بـاالجـبار‪ ،‬وعـلي جـاء بـاالخـتيار ال بـاالجـبار‪ ،‬فـالبـد أن يـكون أي إمـام يـدعـي النسـبة‬
‫لـهما أن يـأتـي كـذلـك بـاالخـتيار ال بـاالجـبار وال تـكون مـمارسـته جـبريـة‪ .‬ثـم بـعد ذلـك‪ ،‬اخـتيار الـفقر‬

‫‪69‬‬
‫والـتنزه عـن الـدنـيا والـعيش كـأوسـط أو أدنـى مـا يـعيشه الـناس فـي زمـانـه‪ .‬وعـلى هـذا الـنمط‪ .‬لـكن‬
‫يكفينا مبدئيا ً ميزان القرءان‪
.‬‬

‫هذه خالصة األقوال الخمسة في املسألة‪


.‬‬
‫أســرعــها‪ ،‬وأنــظفها‪ ،‬وأد ّقــها هــو الــقول الــثانــي‪ ،‬يــعني أن الــفرد يــأخــذ بــما يــعقله مــن كــتاب اهلل‬
‫في نفسه‪ ،‬واأل ّمة تأخذ بما تقضي به الشورى العا ّمة في أمرها‪
.‬‬
‫أمــا الــحاجــة لــرســول جــديــد‪ :‬وإن كــان أمــرا ً بــيد اهلل ولــه أن يــبعث مــن يــشاء كــما يــشاء‪ ،‬ولــيس‬
‫ـصلناه فــي مــواضــع كــثيرة‪ ،‬إال أنــه لــيس لــنا أن نــحكم عــلى اهلل‬ ‫فــي كــتاب اهلل مــا يــمنع ذلــك كــما فـ ّ‬
‫تـعالـى بـبعثة رسـول بـاملـعنى الـخاص لـلرسـول كـما هـو مـشهور‪ .‬هـذا أمـر‪ .‬واألمـر اآلخـر‪ ،‬بـناء عـلى‬
‫القول برسولية العقل للفرد والشورى األ ّمة‪ ،‬فلدينا رسل جدد بالفعل‪
.‬‬
‫وأمــا الــقياس عــلى الــقديــم‪ :‬فــيمكن اســتعمال الــقديــم واملــوروث كــله بــناء عــلى اعــتماد الــقرءان‬
‫وحـده كـأصـل لـلديـن‪ ،‬واعـتبار املـوروث كـله مـطلقا ً بـدون اسـتثناء مـوروث فـرقـة مـن فـرقـة هـو نـوع مـن‬
‫الــحوار والــبحث فــي كــتاب اهلل وفــهمه وتــطبيقه‪ ،‬فــنكون أكــثر قــبوالً لــكل مــا بــأيــدي األ ّمــة مــن جــميع‬
‫فـرق األ ّمـة‪ .‬هـذا أمـر‪ .‬واألمـر اآلخـر‪ ،‬الـقرءان ”قـديـم“ ونـحن نـأخـذ أمـر اهلل مـنه ونـقيس عـلى حـقائـقه‬
‫وكـلياتـه ونـطبّق جـزئـياتـه بحسـب مـا نـفهمه مـنه ونـرى أنـه األحـسن واألسـلم والـخير‪ .‬وأمـر ثـالـث أن‬
‫ـتمسك بــالــقرءان الهــدايــة وكــل خــير فــي اآلخــرة واألولــى وعــند اهلل‪،‬‬ ‫الــنبي فــي الــروايــة وعــد عــلى الـ ّ‬
‫والروايات في هذا عن علي والصحابة أيضا ً كثيرة كلها تشير إلى نفس املضمون‪
.‬‬
‫وأمـا لـقاء الـرسـول‪ :‬فـالـقرءان رسـول }أنـزلـنا إلـيكم رسـوالً‪ .‬ذكـرا ً{ }والـقرءان ذي الـذكـر{ }أوحـينا‬
‫إل ــيك روح ـا ً م ــن أم ــرن ــا م ــا ك ــنت ت ــدري م ــا ال ــكتاب وال اإلي ــمان ول ــكن ج ــعلناه ن ــورا ً نه ــدي ب ــه{ وق ــال‬
‫}نـحن نـقص عـليك أحـسن الـقصص بـما أوحـينا إلـيك هـذا الـقرءآن وإن كـنت مـن قـبله ملـن الـغافـلني{‬
‫بــالــقرءان صــار محــمدا ً رســوالً ونــبياً‪ ،‬فــالــقرءآن رســول الــرســول إن شــئت‪ ،‬واآليــات فــي هــذا املــعنى‬
‫كـثيرة‪ .‬هـذا أمـر‪ .‬وأمـر آخـر‪ ،‬لـقاء أهـل الـقرءان كـلقاء رسـول‪ .‬وأمـر ثـالـث‪ ،‬إن حـدث لـك وفـتح اهلل لـك‬
‫بــلقاء رســول اهلل فــي عــالــم الــغيب أو أي رســول أو َمــلك أو حــتى لــقاء اهلل‪ ،‬فــبها ونــعمت وهــذا حــق‬
‫ـمسك بــه‪ .‬لــكن الــذي أنــزلــه اهلل إلــينا‪} ،‬أنــزلــنا إلــيكم كــتاب ـا ً فــيه ذكــركــم أفــال تــعقلون{‬ ‫بــالنســبة لــك تـ ّ‬
‫الحظ }إليكم{ هو هذا القرءان‪
.‬‬
‫وأمـ ــا اإلمـ ــام املـ ــعصوم‪ :‬فـ ــأ ّول مـ ــعصوم وهـ ــو الـ ــنبي وبـ ــعده عـ ــلي قـ ــد أمـ ــرا الـ ــناس بـ ــالـ ــتمسك‬
‫ب ــال ــقرءان‪ .‬ه ــذا أم ــر‪ .‬وأم ــر آخ ــر‪ ،‬اإلم ــام ــة ت ــاب ــعة ل ــلقرءان وه ــي ال ــثقل والخ ــليفة األص ــغر‪ ،‬ف ــال ن ــترك‬
‫األكـبر املـتيقن مـنه لـألصـغر املـشكوك املـختلف فـيه‪ .‬وأمـر ثـالـث‪ ،‬اإلمـامـة عـلم وحـكم‪ ،‬فليُظهـر إمـامـته‬
‫بـإظـهار عـلمه وحـكمه ثـم َمـن شـاء أن يـتبعه فـليفعل‪ُ ،‬يظهـره فـيما يـتعلق بـكتاب اهلل أوالً‪ ،‬فـإذا كـانـت‬

‫‪70‬‬
‫األ ّمــة كــلها مــتمسكة بــكتاب اهلل وهــي الــدعــوة الــتي نــدعــو بــها ويــص ّلون الــصالة الــقرآنــية بــانــتظام‬
‫ـبني ذل ــك ل ــهم ت ــبيينا ً ت ــام ـا ً‬
‫وع ــلى ال ــدوام‪ ،‬ف ــحينها ح ــني يظه ــر إن ــسان ل ــدي ــه ع ــلم أع ــلى ب ــكتاب اهلل وي ـ ّ‬
‫فــإنــهم ســيحبونــه ويــتبعونــه بســبب مــحاســن كــالمــه وعــمق عــلمه ورفــعه اإلشــكاالت الــتي مـ ّـرت عــليهم‬
‫أثـناء قـراءتـهم ودراسـتهم‪ .‬وأمـر أخـير نـختم بـه‪ ،‬وهـو أنـه الـرسـول ف َـمن دونـه ال يـحق لـه ولـم يـدع أن‬
‫لــه الــحق فــي أن يُــك ِره الــناس فــي الــديــن أو فــي أمــر دنــياهــم نــفسا ً ومــاالً فــالــشورى حــق بــديــن أو‬
‫بـدون ديـن وهـي ألهـل الـقرءان أحـق وأولـى‪ ،‬فـإن جـاء اإلمـام املـعصوم وأقـنع األ ّمـة فـي عـلم أو فـي‬
‫حــكم أو فــي رئــاســة فــهو وذاك وإال فــهو مجــرم طــاغــية ولــيس إمــام ـا ً وال مــعصوم ـا ً }ال يــنال عهــدي‬
‫الظاملني{‪
.‬‬

‫ـجة فــي األقــوال األخــرى‪ ،‬هــو الــقول‬ ‫الــحاصــل‪ :‬أولــى األقــوال بــاالتــباع واملشــتمل عــلى كــل خــير وحـ ّ‬
‫ـحجة ل ــه وع ــليه‪ ،‬وع ــلى األ ّم ــة أن ت ــتحاور ف ــي‬
‫ب ــأن ك ــل ف ــرد ع ــليه أن ي ــقرأ ال ــقرءان ل ــنفسه وه ــو ال ـ ّ‬
‫العلميات بحرية وتتشاور في العمليات بسلمية‪ ،‬ثم إلى اهلل مرجعنا وإليه املصير‪
.‬‬

‫تــكملة‪ :‬فــي كــتاب اهلل يــوجــد أمــر الــرســول أيــضا ً‪ .‬فــإنــنا إذا نــظرنــا سنجــد أن األمــر مـ ّـرة يــأتــي مــن‬
‫اهلل م ــثل }أق ــيموا ال ــصالة{‪ ،‬ل ــكن ف ــي غ ــيره ــا ي ــأت ــي ب ــواس ــطة ال ــرس ــول م ــثل }ق ــل ي ــا ع ــبادي ال ــذي ــن‬
‫أسـرفـوا عـلى أنـفسهم ال تـقنطوا مـن رحـمة اهلل{ فـالـقائـل هـنا }ال تـقنطوا{ هـو الـرسـول عـن أمـر اهلل‬
‫لـه }قـل{‪ .‬بـالـتالـي‪ ،‬تـابـع كـتاب اهلل‪ ،‬هـو تـابـع ألمـر اهلل وأمـر الـرسـول‪ ،‬وال يـقال بـأنـه خـالـي عـن أمـر‬
‫ال ــرس ــول‪ ،‬ب ــل ك ــتاب اهلل ه ــو م ــا بـ ـ ّلغنا إي ــاه رس ــول اهلل ول ــأل ّم ــة ك ــلها‪ ،‬ول ــيس ع ــبر راو أو عش ــرة أو‬
‫مــائــتني‪ ،‬وال عــبر قــياس ذهــني‪ ،‬وال عــبر جــماعــة ســريــة لــديــها أســرار الــكتاب‪ ،‬وال عــبر الــسفر لــعالــم‬
‫الــغيب ألخــذ الــقرءان مــنه‪ ،‬وال عــبر انــتظار قــدومــه إلــى األ ّمــة‪ .‬فــقد جــاء وبــلغ الــكتاب وهــو اآلن بــني‬
‫أيدينا بحمد اهلل وشكر رسوله‪ .‬وفيه نجد أمر اهلل وأمر رسوله أيضا ً برواية إلهية إن شئت‪
.‬‬

‫…

‫د‪-‬لــعن اهلل إبــليس ألنــه فــاضــل مــا بــني الــنار والــطني‪ ،‬وكــان هــذا أ ّول أســباب لــعنه‪ .‬فــلم يــنظر إلــى‬
‫الـنفس والـروح‪ ،‬ولـم يـنظر إلـى أمـر اهلل‪ ،‬بـل نـظر فـقط إلـى الـهيئة والـصور‪ .‬وهـذا األمـر يـنطبق عـلى‬
‫ال ــصالة وامل ــص ّلني‪ .‬ق ــال اهلل }ل ــكل ج ــعلنا م ــنكم ش ــرع ــة وم ــنهاج ــا{ وق ــال }ل ــكل أ ّم ــة ج ــعلنا م ــنسكا ً{‪،‬‬
‫وهـكذا أق ّـر تـعدد الشـرائـع واملـناهـج واملـناسـك‪ ،‬ألن املـقصد مـنها كـلها هـو }لـتذكـروا اسـم اهلل{ ومـا‬
‫يــتبع ذلــك مــن أمــر الــعلم بــاآلخــرة‪ ،‬وجــعل الــنفس شــاكــرة هلل‪ .‬فــخالصــة الــحكمة اإللــهية فــي الــذكــر‬
‫والــشكر‪ .‬ذكــر اهلل والــشكر لــه }آتــينا لــقمان الــحكمة أن اشــكر هلل{ وبـ ّـني أن الــشكر لــلنفس ألن فــيه‬

‫‪71‬‬
‫تـنويـر وتـكميل لـها وإسـعاد لـها فـي اآلخـرة‪ .‬ومـنع اهلل مـن املـجادلـة فـي الـصور بـعد ثـبوت الـجوهـر‬
‫حــني قــال }فــال يــنازعـنّك فــي األمــر{ وبــعدهــا }وادع إلــى ربــك{ املــقصود إرجــاع الــنفوس لــربــها‪} ،‬يــا‬
‫أيتها النفس املطمئنة ارجعي إلى ربك{‪
.‬‬
‫كــذلــك األمــر فــي الــصالة‪ .‬قــال اهلل فــي جــميع املخــلوقــات } ُكـ ٌّـل قــد عــلم صــالتــه وتســبيحه{‪ .‬فـ ّ‬
‫ـدل‬
‫أن الــصالة والتســبيح حــقيقة واحــدة ك ـ ّلية‪ ،‬لــكن لــكل مخــلوق صــالتــه وتســبيحه الــخاص بــه أيــضا ً‪.‬‬
‫فـال تـعارض بـني الـك ّلي وجـزئـياتـه‪ ،‬بـني الـجوهـر والـصور‪ .‬هـذه سـنّة كـونـية واإلسـالم الـعاملـي‪ .‬وأثـبت‬
‫اهلل نفس هذا املعنى لألمم‪} ،‬لكل أ ّمة جعلنا{‪
.‬‬
‫ألن اإلنـسان بـاألصـل فـرد مسـتقل فـهو أ ّمـة وحـده }إن إبـراهـيم كـان أ ّمـة{‪ ،‬فهـذا مـن وجـه‪ .‬ومـن‬
‫وجـه آخـر هـو فـرد فـي جـماعـة }إن هـذه أ ّمـتكم أ ّمـة واحـدة{ }وقـال إنـني مـن املسـلمني{‪ .‬فـسنرى أن‬
‫لـلصالة والتسـبيح أيـضا ً وجـها ً فـرديـا ً هـو األصـل‪ ،‬ووجـها ً جـماعـيا ً هـو الـفرع‪ .‬ومـن هـنا صـالة الـفرد‬
‫وصـالة الجـماعـة‪ ،‬فـقال فـي التهجـد }وطـائـفة مـن الـذيـن مـعك{ فـأثـبت مـعية طـائـفة لـلنبي فـي تهجـده‬
‫ونــافــلته‪ ،‬فهــذا مــن صــالة الجــماعــة‪ .‬وقــال إبــراهــيم }رب اجــعلني مــقيم الــصالة{ وقــال اهلل }عــليكم‬
‫أنـفسكم{ فهـذه صـالة الـفرد‪ .‬بـالـتالـي‪ ،‬قـولـه }أقـم الـصالة{ فـرديـة‪ ،‬وقـولـه }أقـيموا الـصالة{ جـماعـية‪.‬‬
‫فت ّم األمر من الوجهني‪
.‬‬
‫ال ــصالة ت ــكون ب ــقراءة ك ــتاب اهلل‪ .‬ه ــذا ج ــوه ــره ــا‪ ،‬روح ــها‪ .‬ث ــم ك ــل ن ــفس س ــتعمل ذل ــك ب ــنحو‬
‫يـتناسـب مـعها‪ .‬وأمـا بـالنسـبة لـلجسم‪ ،‬والـهيئة الـبدنـية‪ ،‬فهـذا أمـر فـيه تـختلف ألـوانـه وإن كـان املـاء‬
‫ونفضل بعضه على بعض في األ ُ ُكل{‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫واحد }يُسقى بماء واحد‬
‫}أرأي ــت ال ــذي ي ــنهى‪ .‬ع ــبدا ً إذا ص ـ ّلى‪ .‬أرأي ــت إن ك ــان ع ــلى اله ــدى‪ .‬أو أم ــر ب ــال ــتقوى{‪ .‬فه ــذه‬
‫الــصالة بــوجــهها الــفردي والجــماعــي‪ .‬ألن }كــان عــلى الهــدى{ صــالتــه كــفرد‪ ،‬وقــولــه }أمــر بــالــتقوى{‬
‫هــو صــالتــه مــع جــماعــة مــن حــيث قــراءتــه عــليهم وأمــرهــم ونــهيهم‪} ،‬أصــالتــك تــأمــرك أن نــترك{ }إن‬
‫ال ــصالة ت ــنهى ع ــن ال ــفحشاء وامل ــنكر{ ف ــال ــصالة ف ــيها أم ــر ون ــهي‪ ،‬وذل ــك ال ــقرءان ي ــأم ــر وي ــنهى َم ــن‬
‫يعقله ويفهمه‪
.‬‬


‫اآلن‪ ،‬األبــلسة أن يــقع الــنزاع بــني الــناس بســبب صــورة الــصالة‪ ،‬فهــذا يــقول ”صــالتــي أفــضل ألن‬
‫هــيئتي نــاريــة“ وذاك يــقول ”بــل صــالتــي أنــا أفــضل ألن هــيئتي طــينية“‪ ،‬وامــأل مــا شــئت بــدالً مــن‬
‫كلمة النار والطني في هاتني العبارتني‪
.‬‬
‫ر ّد اهلل ع ــلى ك ــالم إب ــليس ب ــثالث ط ــرق‪ .‬أح ــده ــا }أن ت ــكون م ــع ال ــساج ــدي ــن{ وال ــثان ــي }خ ـ ُ‬
‫ـلقت‬
‫بيدي{ والثالث }إذ أمرتك{‪
.‬‬ ‫ّ‬

‫‪72‬‬
‫}تـكون مـع الـساجـديـن{ تـدل عـلى وجـود إجـماع لـهؤالء الـساجـديـن‪ ،‬وإبـليس ال يـريـد أن يـكون‬
‫ـخصه يــناقــض مــا هــم عــليه‪ .‬بــالنســبة لــلصالة‪ ،‬اإلجــماع الــقائــم‬ ‫مــعهم بــل يــريــد الــتم ّيز عــنهم بــأمــر يـ ّ‬
‫يــتعلق تحــديــدا ً بــقراءة الــقرءآن األوقــات املحــددة فــيه‪ ،‬فهــذا الــقدر مجــمع عــليه عــند املســلمني‪ .‬فــمن‬
‫زاد عـلى ذلـك ونـاقـض وحـارب َمـن اكـتفى بـالـقدر املجـمع عـليه‪ ،‬وبـدأ يـفاضـل بـني الـصور والـهيئات‬
‫ف ــفي خ ــصلة م ــن إب ــليس‪ ،‬وس ـيُلبّس ع ــلى ن ــفسه وغ ــيره ويُح ــدث ف ــرق ــة ف ــي أص ــل ال ــدي ــن ال ــواح ــد ال‬
‫يمكن ح ّلها إال باعتبار بعض الناس في الدين وبعضهم خارج الدين الحق والخالص‪
.‬‬
‫ـلقت ب ــيدي{ ي ــد امل ُــلك وي ــد امل ــلكوت‪” ،‬ب ــيده امل ــلك“ و ”ب ــيده م ــلكوت“‪ .‬ال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــيها‬ ‫}خ ـ ُ‬
‫مـلك ومـلكوت‪ ،‬ظـاهـر الـكالم وبـاطـن املـعنى‪ .‬لـكن الـصالة الـتقليديـة الـطاغـي والـغالـب عـليها الـظاهـر‬
‫فقط والظاهر فيها مقصود لذاته عند أهلها‪
.‬‬
‫}إذ أم ــرت ــك{ ه ــذا أم ــر اهلل امل ــباش ــر ل ــلمؤم ــنني وامل ــؤم ــنات‪ ،‬ونج ــده ف ــي ك ــتاب اهلل‪ ،‬وه ــو ال ــصالة‬
‫ال ــقرآن ــية ف ــهي أم ــر اهلل ل ــنا‪ .‬ف ــمن أق ــام ــها ف ــقد أق ــام م ــا أم ــره اهلل ب ــه‪ .‬وأم ــا ب ــقية ت ــفاص ــيل ال ــهيئات‬
‫صـوريـة فـال تسـتطيع أن تـقول أن اهلل أمـرك بـها مـباشـرة كـما تسـتطيع أن تـقول أنـه أمـرك مـباشـرة‬
‫بــالــصالة الــقرآنــية فــي كــتابــه‪ ،‬بــل البــد مــن أن تنســب األمــر الــظاهــري اإلضــافــي إلــى فــالن وعــالن‬
‫مــمن نــقل لــك أو اســتنبط لــك ذلــك الــتفصيل بــدون أن يــقدر ال هــو وال أنــت عــلى مــعرفــة أيــن هــو فــي‬
‫كـتاب اهلل‪ .‬فـأق ّـل مـا يـقال هـو أن الـصالة الـقرآنـية مـن تجـليات }إذ أمـرتـك{‪ ،‬لـكن الـصالة الـتقليديـة‬
‫دون ذلك في الظهور والبيان‪
.‬‬
‫بـالـتالـي‪ ،‬املـص ّلي الـصالة الـقرآنـية هـو مـع الـساجـديـن‪ ،‬حـتى فـي اآليـة ألنـه يـكون عـلى طـريـقة‬
‫املـالئـكة والـروح مـن حـيث أن صـالتـه نـفسية روحـية عـقلية نـوريـة‪ ،‬وكـذلـك مـن حـيث كـونـه يـعمل بـالـقدر‬
‫املجـمع عـليه مـن أتـباع كـالم اهلل‪ .‬وهـو يـصلي صـالة مـلكية مـلكوتـية مـن حـيث تـالوة الـكلمات وتـعقل‬
‫املـعانـي‪ .‬وهـو يـطيع أمـر اهلل املـباشـر فـي كـتابـه املـنزل الـذي بـلغه رسـول اهلل لـأل ّمـة‪ ،‬وأحـسن روايـة‬
‫أقل حرف في كتاب اهلل‪
.‬‬ ‫ذرة من ق ّوة نقل ّ‬ ‫على وجه األرض ال تبلغ وال ّ‬

‫الحاصل‪ :‬على هذه األ ّمة أن تعود إلى سنّة املالئكة في طاعة أمر اهلل‪ ،‬وتدع سنّة إبليس‪
.‬‬

‫…

‫هـ‪ -‬االعــتقاد بــأن مــعنى }الــصالة{ فــي كــتاب اهلل ال يــمكن فــهمه مــن كــتاب اهلل‪ ،‬يــؤدي إلــى أمــور‬
‫كثيرة سيئة من أكبرها أنه يفسد نظام الداللة الذاتية في كتاب اهلل‪
.‬‬

‫‪73‬‬
‫ـفصل فــي نــفسه‪ ،‬ويــوجــد‬ ‫ـبني بــعضه بــعضاً‪ ،‬وهــو مـ ّ‬ ‫مــما نــعرفــه ذوق ـا ً وتجــرب ـ ًة هــو أن الــقرءان يـ ّ‬
‫ت ــناظ ــر وت ــوازي ب ــني آي ــات ــه وم ــواض ــيعه ي ــكشف ب ــعضها ب ــعضا ً ويبس ــط ب ــعضها م ــا ق ــبضه ال ــبعض‬
‫اآلخــر‪ .‬لــكن البــد مــن الــصبر واالســتفتاح واملــجاهــدة ملــعرفــة هــذه املــعانــي مــن داخــل الــقرءان‪ .‬وأمــا‬
‫ـفصل فــي كــتاب اهلل‪ ،‬فــفضالً عــن أنــه قــول بــغير عــلم وال هــو‬ ‫الــذي يــعتقد بــأن مــعنى الــصالة غــير مـ ّ‬
‫أصـالً جـ ّـرب الــبحث بتجـ ّـرد ودراســة حــرة غــير مــقيّدة بــإرادة فــرض رأي مــذهــبه عــلى الــقرءآن‪ ،‬فهــذا‬
‫يـعني أنـه بـحاجـة إلـى أمـر مـن خـارجـه‪ ،‬ومـا هـو مـن خـارجـه بـالنسـبة لهـذا سـيكون الـروايـات الـتي‬
‫ذك ــرن ــا م ــا ف ــيها م ــن م ــعاي ــب وخ ــلل ي ــجعلها أدن ــى م ــن أن ي ــفتقر إل ــيها ال ــقرءان ع ــلى ف ــرض إم ــكان‬
‫افتقار القرءان إلى غيره‪
.‬‬
‫هـذه تجـربـة ملـن يـريـد الـفصل فـي مـا نـقولـه‪ :‬افـترض أن الـقرءان كـتاب ال عـالقـة ديـنية لـك بـه‪ ،‬بـل‬
‫ه ــو ك ــتاب م ــثل أي ك ــتاب آخ ــر ع ــلى األرض ي ــمكن دراس ــته وال ــنظر ف ــيه ب ــناء ع ــلى ت ــرك ــيبه ودالل ــته‬
‫الــلغويــة‪ .‬ثــم اجــلس واجــلب أحــسن مــعاجــم وكــتب الــلغة الــعربــية ألن الــقرءان }بــلسان عــربــي مــبني{‬
‫ـنص الـقرآنـي‬ ‫فـالبـد أن تـعرف الـلسان وهـذا بـديـهي‪ .‬ثـم اجـمع عـلماء الـعربـية‪ ،‬واجـعلهم يـدرسـوا ال ّ‬
‫بــقصد الــنظر فــي مــسألــة الــصالة وتــفاصــيلها ومــعانــيها بحســب طــرق تــفسير الــنصوص عــموم ـاً‪،‬‬
‫ع ــبر ج ــمع اآلي ــات امل ــتعلقة ب ــامل ــوض ــوع‪ ،‬وت ــفكيك م ــفردات ــها‪ ،‬وال ــنظر ف ــي ع ــالق ــة ال ــنصوص ب ــعضها‬
‫ببعض‪ .‬ثم بعد القيام بذلك‪ ،‬انظر في النتيجة واحكم بنفسك‪
.‬‬

‫…

‫ـسية بـحتة‬ ‫و‪ -‬تـركـيز فـقهاء الـروايـات عـلى الـدنـيا وإرادتـهم إقـامـة دولـة ذات قـوانـني جـبريـة وأحـكام ح ّ‬
‫هو ما يعيق النفس عن التف ّقه في كتاب اهلل على ما هو عليه‪
.‬‬
‫هـ ـ ّم أص ــحاب امل ــذاه ــب ه ــو إن ــشاء ق ــان ــون‪ ،‬ول ــيس ش ــري ــعة‪ .‬وامل ــقصد ه ــو ال ــحكم امل ــادي ف ــي‬
‫الـدنـيا‪ ،‬ال الـنجاة الـنفسية فـي اآلخـرة‪ .‬وحـلمهم وجـود دولـة تـفرض آرائـهم الـقانـونـية عـلى الـعا ّمـة أو‬
‫األقل تسمح لهم بفرض آرائهم على العا ّمة في منطقتهم‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫ال ــذي ي ــدرس م ــسأل ــة ال ــطاع ــة ف ــي ال ــقرءان‪ ،‬سيج ــد أن ــها م ــن اس ــمها‪ ،‬ط ــاع ــة‪ ،‬ال إك ــراه ف ــيها‪.‬‬
‫}أطـيعوا اهلل وأطـيعوا الـرسـول فـإن تـولـوا فـإنـما عـليه مـا ُح ّـمل وعـليكم مـا ُح ّـملتم وإن تـطيعوه تهـتدوا‬
‫ومــا عــلى الــرســول إال الــبالغ املــبني{ فهــذا فــي طــاعــة اهلل وطــاعــة الــرســول‪ ،‬فــما بــالــك بــمن دونــه‪ .‬ولــم‬
‫ي ــقل ”ف ــإن ت ــول ــوا ف ــاح ــبسهم واق ــتلهم واف ــعل ب ــهم األف ــاع ــيل“ ك ــما ص ــار ف ــقهاء ال ــدول ــة ي ــحكمون‬
‫وي ــفعلون‪ .‬ك ــل اآلي ــات م ــبنية ع ــلى ه ــذه ال ــطري ــقة‪ ،‬واالس ــتثناء ال ــوح ــيد ال ــذي م ــا ه ــو اس ــتثناء ه ــو‬
‫الـقضايـا الـتي فـيها عـدوان عـلى الـنفس واملـال وقـتال لـلقول والـديـن فـيُر ّد عـلى صـاحـبه عـدوان مـثله‬

‫‪74‬‬
‫عـدالً‪ .‬لـكن بـشكل عـام األحـكام فـي الـقرءان غـير مـبنية عـلى طـريـقة أصـحاب الـقوانـني والـدول‪ ،‬بـل‬
‫مــبنية عــلى االخــتيار الحــر لــألفــراد بــعد مــعرفــة وقــناعــة وإدراك لــألبــعاد األخــرويــة لــألحــكام الــقرآنــية‬
‫الرسولية‪
.‬‬
‫خــذ مــثالً‪ ،‬آيــات املــيراث‪ .‬ال يــوجــد فــيها إال }يــوصــيكم اهلل{ وبــعدهــا وعــد بــالــجنة ووعــيد بــالــنار‪.‬‬
‫فــال يــوجــد فــيها إجــبار دولــة لــلناس عــلى تــقسيم املــيراث بهــذه الــطريــقة‪ .‬واألمــثلة كــثيرة‪ .‬دقــق فــي‬
‫ه ـ ــذا األص ـ ــل ف ـ ــي ك ـ ــتاب اهلل ح ـ ــتى ت ـ ــعرف مل ـ ــاذا إذا رج ـ ــعنا إل ـ ــى ك ـ ــتاب اهلل س ـ ــنحتمل ال ـ ــتعددي ـ ــة‬
‫واالخـتالف فـي األ ّمـة‪ ،‬بـينما إذا بـقينا عـلى طـريـقة املـذاهـب والـعقائـد فـالـنتيجة سـتكون هـي عـني مـا‬
‫ك ــان ــت وال زال ــت ع ــليه األ ّم ــة ع ــموم ـا ً م ــن ط ــغيان ال ــدول ــة وم ــذه ــب واح ــد ع ــلى ال ــبقية أو ف ــي أح ــسن‬
‫األحــوال تــمنّي إتــيان دولــة تــطغى بــاملــذهــب عــلى الــبقية‪ .‬إرادة تــوحــيد األحــكام جــوهــرا ً وصــورةً أو‬
‫حصرها في صور معدودة ونطاق محدد‪ ،‬غرضه صنع قانون‪
.‬‬
‫وم ــن أب ــرز أم ــثلة ت ــقنني الش ــري ــعة ه ــذا ه ــو أن ــك ال تج ــد ف ــي ك ــتاب أم ــرا ً إال وه ــو م ــرت ــبط ب ــأم ــور‬
‫ـفصل ب ــتذك ــير‬ ‫ع ــلمية وروح ــية وإل ــهية وأخ ــروي ــة ك ــل ذل ــك أو ب ــعضه‪ .‬ال ــحكم دائ ــما ً م ــقترن ب ــعلم‪ ،‬وم ـ ّ‬
‫وأمـثال وأبـعاد مـعنويـة‪ .‬لـكن الـقانـون لـيس كـذلـك‪ ،‬الـقانـون افـعل وال تـفعل‪ ،‬بـدون تـفسير وال تـعليل‪،‬‬
‫ي ــخاط ــب اإلرادة وال ي ــخاط ــب ال ــعقل‪ ،‬ب ــل ال ــقان ــون ي ــخاط ــب ال ــحس وي ــجبر اإلرادة ب ــال ــحس ع ــبر‬
‫الـتخويـف بـالـعقاب عـلى يـد البشـر أو الـترغـيب بـعطايـا مـالـية أو دنـيويـة أو تـيسير أحـوال اجـتماعـية‪.‬‬
‫الش ــري ــعة ليس ــت ك ــذل ــك‪ .‬ادرس الش ــري ــعة م ــن ك ــتاب اهلل‪ ،‬ح ــكما ً ح ــكماً‪ ،‬وراج ــع ك ــتاب ــي )الش ــري ــعة‬
‫الـقرآنـية( إن شـئت كمج ّـرد فهـرسـة لـكل األحـكام الـواردة فـي كـتاب اهلل‪ ،‬ولـم أشـرحـه بـعد بـل ذكـرت‬
‫ـصل{ مــن الــكوثــر ‪ ،٢‬و}قــل{ مــن اإلخــالص ‪ ١‬وهــكذا فــي الــقرءان كــله‪ .‬اذهــب‬ ‫األمــر مجــردا ً مــثل }فـ ّ‬
‫واقــرأ وانــظر مــا الــعالقــة بــني األمــر وبــني الــخبر والــفكرة والــكشف والــعلم وأســماء اهلل والــعاقــبة فــي‬
‫اآلخـرة‪ .‬وإن شـئت‪ ،‬افـتح اآلن الـقرءان واقـرأ أي سـورة وانـظر‪ ،‬ولـن تجـد سـورة فـيها أمـر إال وفـيها‬
‫فــكر وخــبر وعــلم‪ ،‬لــكن قــد تجــد ســور وآيــات كــثيرة كــلها مــعلومــات لــيس فــيها أمــر وال حــكم واحــد‪.‬‬
‫ه ــذه ال ــعقلية ال ــقرآن ــية وال ــكرام ــة ال ــنفسية واالع ــتبارات األخ ــروي ــة‪ ،‬ه ــي ال ــغائ ــبة ع ــن م ــلل أص ــحاب‬
‫الــقوانــني مــن املــذاهــب اإلســالمــية‪ ،‬الــذيــن حـ ّولــوا الشــريــعة إلــى قــانــون بــحت البــد مــن تــقليده وبــدون‬
‫مـعرفـة حـقيقته الـعقلية وعـاقـبته األبـديـة وال اعـتباراتـه الـباطـنية وال شـيء مـما يـقوم عـليه ديـن الـقرءان‪.‬‬
‫خت إلـى قـردة‬ ‫فـتح ّولـت األ ّمـة إلـى عـا ّمـة مـن املـق ّلدة وقـ ّلة مـن املـقننني الـدنـيويـني‪ ،‬وبـعبارة قـرآنـية ُمـس َ‬
‫ُم ــق ّلدة وخ ــنازي ــر ال ي ــنظرون إل ــى ال ــسماء وي ــعيشون ف ــي مس ــتوى ال ــحس ال ــبحت‪ ،‬ف ــامل ــق ّلد ك ــال ــقرد‬
‫واملجته ــد ك ــال ــخنزي ــر‪ .‬ط ــري ــقة الش ــري ــعة ال ــقرآن ــية ت ــتعارض ج ــوه ــري ـا ً م ــع ط ــري ــقة ال ــقوان ــني امل ــذه ــبية‬
‫اإلسالمية‪ .‬وهذا عني ما حدث في الصالة‪
.‬‬

‫‪75‬‬
‫ـبني الـجانـب الـجسمانـي الـعملي‪ ،‬وهـذا مـن بـاب الـتخصص‪ .‬لـكن تـوجـد‬ ‫قـد يـقال‪ :‬الـفقه اإلسـالمـي ي ّ‬
‫ع ــلوم أخ ــرى ت ــخصصت ف ــي ش ــرح امل ــعان ــي ال ــروح ــية وال ــباط ــنية ل ــلصالة ال ــجسمان ــية‪ .‬ب ــمعنى‪ ،‬ت ــم‬
‫ـبحث فـي الـتصوف مـثالً أو‬ ‫ـبحث فـي الـفقه‪ ،‬والـروح يُ َ‬ ‫تـقسيم الشـريـعة إلـى جـسم وروح‪ ،‬فـالـجسم يُ َ‬
‫كتب الرقائق وما أشبه‪
.‬‬
‫أق ــول‪ :‬أ ّوالً‪ ،‬ل ــو ك ــان ه ــذا ال ــكالم ص ــحيحاً‪ ،‬ل ــوج ــب أن نج ــد األ ّم ــة ع ــموم ـا ً م ــمن ي ــقيم ال ــصالة‬
‫الـ ــجسمانـ ــية‪ ،‬أيـ ــضا ً قـ ــد تـ ــم تـ ــفقيهه فـ ــي الـ ــصالة الـ ــروحـ ــية والـ ــعقلية‪ ،‬وهـ ــو يـ ــعرف تـ ــفاصـ ــيل هـ ــذه‬
‫الح ــرك ــات واألل ــفاظ وال ــعبرة ال ــباط ــنية وال ــروح ــية م ــنها‪ .‬وأحس ــب أن ه ــذه دع ــوى ع ــري ــضة ج ــداً‪ ،‬ال‬
‫يـص ّدقـها ال الـواقـع املـشهود‪ ،‬وال حـتى عـلماء هـذه الـطوائـف أكـثرهـم يـعرف ذلـك‪ ،‬حـتى صـار عـندهـم‬
‫مـن املسـ ّلم الـقول ”هـذه أمـور تـعبّديـة“ ويـقصدون بـأنـها أنـها أمـور ”غـير مـعقولـة املـعنى“‪ .‬فـالـتعبّد‬
‫عـندهـم هـو بـاألمـر غـير مـعقول املـعنى ! تـعبّد بـعدم الـعقل‪ ،‬تـعبّد بـالجهـل‪ .‬بـل صـار بـعضهم يـرى أن‬
‫تــع ّقل املــعنى يــجعل الــنية غــير خــالــصة لــوجــه اهلل فــي إقــامــة صــورة الــعبادة‪ ،‬ألن اإلنــسان حــينها‬
‫ي ــكون ت ــاب ــعا ً ل ــعقله ول ــيس ت ــاب ــعا ً ألم ــر اهلل‪ .‬س ــبحان اهلل‪ ،‬ه ــذه م ــن ث ــمار الشج ــرة ال ــخبيثة وامل ــلعون ــة‬
‫لـلفرق الـتي هجـرت كـتاب اهلل‪ .‬ومـنذ مـتى كـان الـعقل مـنفصالً عـن أمـر اهلل‪ ،‬واتـباع الـعقل بُـعدا ً عـن‬
‫اهلل‪ ،‬وهل هلك الهالكون إال بعدم العقل‪ .‬صار الجهل عندهم مقدسا ً‪
.‬‬
‫ثـانـياً‪ ،‬مـا أشـ ّد اإلنـكار الـذي قـام بـه وال يـزال يـقوم بـه أكـثر أصـحاب هـذه املـذاهـب عـلى الـذيـن‬
‫يـبحثون ويـقررون املـعانـي الـباطـنية لـلصالة وتـفاصـيلها‪ ،‬والحـرب بـني الـفقهاء والـصوفـية أمـر قـديـم‪،‬‬
‫والحرب بينهم وبني الباطنية والطرق الرمزية أمر مستمر‪ ،‬وإن لم يكن حربا ً فسخرية واستهزا ًء‪
.‬‬
‫ث ــال ــثاً‪ ،‬ن ــفس ال ــتفري ــق ف ــي ال ــبحث ف ــي ال ــحكم م ــا ب ــني ص ــورت ــه وروح ــه ه ــو بح ــد ذات ــه ن ــوع م ــن‬
‫الخلل الذي حدث في الدين‪ ،‬بل اإلفساد فيه‪
.‬‬

‫مــن أمــثلة مــا ذكــرنــاه فــي الــصالة مــن كــتاب اهلل‪ ،‬ونــذكــر إن شــاء اهلل عــلى ســبيل اإلشــارة الــعابــرة‬
‫وليس التحقيق والتفصيل‪
.‬‬
‫‪-١‬ق ــال ت ــعال ــى }وق ــرءان الفج ــر إن ق ــرءان الفج ــر ك ــان م ــشهودا ً{ ف ــاألم ــر ب ــإق ــام ــة ق ــرءان الفج ــر‬
‫حــكم‪ ،‬فــما عــلمه؟ عــلمه }إن قــرءان الفجــر كــان مــشهودا ً{ فهــذه مــعلومــة‪ ،‬مــن عــرفــها ســيدرك أهـ ّـمية‬
‫إقامة قرءان الفجر‪ .‬هذا في الفريضة‪
.‬‬
‫‪-٢‬ف ــي ال ــناف ــلة ق ــال }وم ــن ال ــليل فتهج ــد ب ــه ن ــاف ــلة ل ــك{ مل ــاذا؟ }ع ــسى أن ي ــبعثك رب ــك م ــقامـ ـا ً‬
‫ـفصل ال ــوق ــت }ن ــصفه أو‬ ‫مح ــمودا ً{‪ .‬ث ــم زاد األم ــر ت ــفصيالً ف ــي امل ــز ّم ــل ف ــقال }ق ــم ال ــليل إال ق ــليالً{ ف ـ ّ‬
‫ـصل الـعمل فـي الـقيام فـقال }ورتّـل‬ ‫انـقص مـنه قـليالً‪ .‬أو زد عـليه{ فهـذا بـالنسـبة لـوقـت الـنافـلة‪ ،‬ثـم ف ّ‬
‫الـقرءان تـرتـيال{‪ .‬حـسناً‪ ،‬هـذا كـله عـمل وحـكم‪ ،‬فـأيـن الـعلم والـعقل‪ ،‬مـا الـحكمة مـن ذلـك؟ قـال بـعدهـا‬

‫‪76‬‬
‫مـباشـرة }إنـا سـنُلقي عـليك قـوالً ثـقيالً{‪ .‬وأمـور أخـرى مـفصلة لـكن كـما قـلنا هـذه إشـارات لـطريـقة‬
‫القرءآن في الشريعة‪
.‬‬
‫‪-٣‬ف ــي ال ــصالة ع ــموم ـا ً ق ــال }وأق ــم ال ــصالة{ ه ــذا ح ــكم‪ ،‬ف ــما ع ــلمه؟ م ــا ع ـ ّلته؟ ق ــال ب ــعده ــا }إن‬
‫الصالة تنهى عن الفحشاء واملنكر{‪
.‬‬
‫ـحصل اإلنـسان‬ ‫‪-٤‬قـرن الـصالة بـالـخشوع‪} ،‬الـذيـن هـم فـي صـالتـهم خـاشـعون{‪ ،‬لـكن كـيف ي ّ‬
‫ال ــخشوع وه ــو ش ــعور وال ــشعور ف ــرع ال يس ــتطيع إن ــسان أن يس ــتجلبه ب ــاإلرادة؟ ب ـ ّـني ذل ــك ف ــي آي ــة‬
‫أخ ــرى ح ــني ق ــال }اس ــتعينوا ب ــال ــصبر وال ــصالة وإن ــها ل ــكبيرة إال ع ــلى ال ــخاش ــعني‪ .‬ال ــذي ــن ي ــظنون‬
‫أنـهم مـالقـوا ربـهم وأنـهم إلـيه راجـعون{ فـالـذي يـظ ّن أنـه مـالقـي ربـه وأنـه إلـيه راجـع‪ ،‬هـذه الـحقيقة‬
‫الـعلمية واملـعلومـة الـعقلية‪ ،‬مـن عـرفـها وتـذكـرهـا وشهـد حـقيقتها بـنحو مـا مـن الـشهود‪ ،‬فـإن أثـر ذلـك‬
‫على نفسه سيكون الخشوع‪
.‬‬

‫وع ــلى ه ــذا ال ــنمط‪ ،‬ج ــمع ك ــل آي ــات ال ــصالة‪ ،‬وم ــا ي ــتصل ب ــها وال ــنظر إل ــيها ك ــوح ــدة واح ــدة‪ ،‬ذات‬
‫ويفصل بعضها بعضاً‪ ،‬هو فقه الصالة‪ ،‬والذي فيه الحكم والعلم معا ً‪
.‬‬ ‫ّ‬ ‫دالالت متكاملة‬

‫لـكن مـاذا يحـدث حـني يـريـد شـخص مـن خـارج الـقرءان مـن أصـحاب املـذاهـب أن يـفرض رأيـا ً عـلى‬
‫سـئل عـن مـصدر الـصلوات الخـمس فـي الـقرءان‪ .‬فـقال‬ ‫مـا يـقرأه؟ خـذ هـذا املـثال الـذي قـرأتـه ملـفتي ُ‬
‫ما يلي وأنقله حرفيا ً‪
:‬‬

‫س﴾]‪ [٣‬وهـو زوالـها‬ ‫ـش ْم ِ‬‫ـوك ال َّ‬‫ـص َالةَ لِـ ُد ُل ِ‬


‫ـقال‪﴿ :‬ص َـال ِة ا ْلفَ ْجـ ِر﴾]‪ [٢‬وقـال‪﴿ :‬أ َ ِقـم ِ ال َّ‬
‫َ‬ ‫] ثـ ّم ذكـر أوقـاتـها ف‬
‫وب﴾]‪ [٤‬وه ــو ص ــالة ال ــعصر وق ــال‪َ ﴿ :‬وزُ َلـ ـفًا ِمـ ـ َن الـ ـ َّليْ ِل﴾‬ ‫ي ــعني ص ــالة الظه ــر وق ــال‪َ ﴿ :‬و َقـ ـبْ َل ا ْلـ ـ ُغ ُر ِ‬
‫اء﴾]‪
[ [٦‬‬ ‫ش ِ‬ ‫وقال‪﴿ :‬ص َال ِة ا ْل ِع َ‬
‫َ‬ ‫]‪ [٥‬وهو صالة املغرب؛ أل ّن الزَّ ْلفَ َة هي الطائفة من أ ّول الليل‬

‫أقول‪ :‬اآلية التي تذكر }صالة الفجر{ و }صالة العشاء{ من القرءان‪ ،‬من آية العورات‪
.‬‬
‫ـص عـلى الـصالة فـي أولـها }أقـم‬ ‫وذكـر آيـة }لـدلـوك الـشمس{ أيـضا ً مـن سـورة اإلسـراء وفـيها ن ّ‬
‫الـصالة لـدلـوك الـشمس{ لـكنه قـطع مـا بـعدهـا ولـم يـكملها }إلـى غـسق الـليل{ ولـم يـبحث أصـالً فـي‬
‫مــعنى ذلــك وملــاذا اآليــة تظهــر عــلى أنــها تــدل عــلى وقــت واحــد وقــد نــقل هــو نــفسه قــول اهلل }صــالة‬
‫ال ــعشاء{ ل ــكن ألن ــه ي ــفهم م ــن }ال ــعشاء{ م ــعنى غ ــسق ال ــليل تح ــدي ــدا ً أي ال ــعشاء اآلخ ــر ألن ــه ي ــوج ــد‬
‫عـشاء أول يـبدأ مـن دلـوك الـشمس وهـو كـما اعـترف زوال الـشمس أو بـما يـعرف فـي فـقه الـروايـات‬
‫بـصالة الظهـر‪ ،‬ولـم يخـطر بـبالـه وال هـو سـأل وبـحث‪ :‬ملـاذا س ّـمى اهلل صـالة الفجـر وصـالة الـعشاء‬

‫‪77‬‬
‫ولـم يـقل لـنا صـالة الظهـر وصـالة الـعصر وصـالة املـغرب؟ هـذا ال يخـطر بـالـبال‪ ،‬بـل انـتقل مـباشـرة‬
‫إلى بحث ”السنة“ ودخل في الروايات‪
.‬‬
‫لــكن األه ـ ّم الحــظ مــاذا فــعل بــآيــة ق ‪ ،٣٩‬الــتي فــيها كــلمة }قــبل الــغروب{ فــاعــتبر هــذه ”صــالة‬
‫الـعصر“‪ .‬وقـرنـها بـالـصالة‪ .‬هـل هـذا اسـتنباط ضـروري مـن الـقرءان؟ تـعالـوا نـقرأ اآليـة كـامـلة‪ .‬اآليـة‬
‫تــقول }فــاصــبر عــلى مــا يــقولــون وســبح بحــمد ربــك قــبل طــلوع الــشمس وقــبل الــغروب{ فــاعــتبر هــذا‬
‫املفتي أن كلمة }سبح بحمد ربك{ تعني الصالة‪ ،‬ملاذا؟ ضع هذا السؤال في بالك قليالً‪
.‬‬
‫ث ــم ذك ــر آي ــة ه ــود ‪ ١١٤‬ل ــكن اج ــتزأ م ــنها }زل ــفا ً م ــن ال ــليل{ واع ــتبر ه ــذا ”ص ــالة امل ــغرب“ ع ــلى‬
‫أســاس أن ”الــزلــفة هــي الــطائــفة مــن أول الــليل“‪ .‬فــماذا تــقول اآليــة؟ }أقــم الــصالة طــرفــي الــنهار‬
‫وزُل ــفا ً م ــن ال ــليل إن ال ــحسنات ُي ــذه ــنب ال ــسيئات ذل ــك ذك ــرى ل ــلذاك ــري ــن{‪ .‬فه ــذه اآلي ــة ف ــي ال ــصالة‬
‫نصا ً‪
.‬‬
‫فبهـذا اكـتمل لـديـه خـمس صـلوات‪ ،‬الفجـر والـعشاء نـصاً‪ ،‬والظهـر والـعصر واملـغرب اسـتنباطـا ً‪.‬‬
‫أقــول‪ :‬مــبدئــياً‪ ،‬إن صـحّ هــذا االســتنباط‪ ،‬فــيكون الــقرءان فــيه تــفصيل الــصلوات الخــمس مــن حــيث‬
‫ـفصل الـصالة وأحـالـنا عـلى الـروايـات‪.‬‬ ‫الـوقـت‪ ،‬وهـذا جـميل جـداً‪ ،‬ويـسقط بـه قـولـهم أن الـقرءان لـم ي ّ‬
‫ويــبقى عــليهم اإلجــابــة عــن ســبب تــفصيل الــقرءان‪-‬عــلى قــولــهم‪-‬أوقــات الــصالة عــلى خــمسة أوقــات‪،‬‬
‫ـصل األوقــات؟ فهــل الــقضية لــعبة أم مــاذا؟ الــصالة‬ ‫مــع عــدم تــفصيل مــاهــي الــصالة نــفسها كــما فـ ّ‬
‫حجة ألهل القرءان‪
.‬‬ ‫عمل ووقت‪ ،‬فها قد جاءوا بالوقت‪ ،‬فأين العمل؟ هذا عليهم‪ ،‬وهو ّ‬
‫لـكن لـنرجـع إلـى جـعله }سـبح بحـمد ربـك{ تـعبيرا ً عـن الـصالة‪ .‬إن صـح هـذا‪ ،‬فـتعالـوا نـنظر فـي‬
‫م ــواض ــع ورود ه ــذا األم ــر األخ ــرى‪ ،‬ل ــنرى ه ــل ت ــوج ــد ص ــلوات ب ــعدده ــا‪ .‬ورد ه ــذا األم ــر ف ــي س ـ ّ‬
‫ـت‬
‫مواضع‪
.‬‬
‫األول }فس ـبّح بحــمد ربــك وكــن مــن الــساجــديــن{ أقــول‪ :‬وهــذا مــطلق غــير مــرتــبط بــوقــت‪ .‬ثــم إن‬
‫كـان نـفس األمـر }فسـبح بحـمد ربـك{ يـتضمن كـل أفـعال الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬فـلماذا أمـره بـعدهـا بـأن‬
‫يـكون }مـن الـساجـديـن{ وهـذا بـديـهي ألن الـسجود مـوجـود فـي الـصالة الـتقليديـة‪ ،‬فـلم يـقل لـه وكـن‬
‫مــن الــراكــعني وكــن مــن الــذاكــريــن وكــن مــن الــراكــعني وال أي جــزئــية أخــرى مــن الــصالة الــتقليديــة؟‬
‫سؤال للنظر‪ .‬نكمل إن شاء اهلل‪
.‬‬
‫املـوضـع الـثانـي }فـاصـبر عـلى مـا يـقولـون وسـبّح بحـمد ربـك قـبل طـلوع الـشمس وقـبل غـروبـها‬
‫ومــن آنــاء الــليل فس ـبّح وأطــراف الــنهار لــعلك تــرضــى{ أقــول‪ :‬البــد أن يــكون لــديــنا حســب هــذه اآليــة‬
‫ـت صــلوات تــقليديــة‪ ،‬ألن قــولــه }قــبل طــلوع الــشمس{ واحــدة‪} ،‬وقــبل غــروبــها{ ثــانــية‪،‬‬ ‫عــلى األقـ ّـل سـ ّ‬
‫وقــولــه }ومــن آنــاء الــليل{ ثــالــثة وإن كــانــت كــلمة ”آنــاء“ هــنا تــشير إلــى أكــثر مــن آن يــعني أكــثر مــن‬
‫صـالة‪ ،‬وقـولـه }وأطـراف الـنهار{ األطـراف ثـالثـة فـما فـوق مـما يـدل عـلى وجـود ثـالث صـلوات‪ ،‬صـالة‬

‫‪78‬‬
‫لــكل طــرف مــن أطــراف الــنهار‪ ،‬فهــذه خــالف ـا ً لــقولــه ”طــرفــي الــنهار“ فــثنّى‪ .‬فــإذا كــان }قــبل طــلوع‬
‫الـشمس{ هـو صـالة الفجـر حسـب الـتقسيمة الخـماسـية‪ ،‬وقـولـه }قـبل غـروبـها{ صـالة الـعصر‪ ،‬وقـولـه‬
‫}أطـراف الـنهار{ يـشمل طـرف الـزوال فـيكون صـالة الظهـر‪ ،‬فـما هـما الـطرفـان اآلخـران لـلنهار وقـد‬
‫فـرغـنا مـن ذكـر الفجـر والـعصر مـن قـبل فـي اآليـة؟ ثـم قـولـه }آنـاء الـليل{ بـالجـمع ولـيس بـالـتثنية‪ ،‬فـإن‬
‫جـعلنا املـغرب والـعشاء مـن آنـاء الـليل‪ ،‬فـما هـي الـصالة الـثالثـة الـتي مـن الـليل؟ طـبعا ً كـل هـذا لـم‬
‫يخ ــطر ب ــبال األخ امل ــفتي ال ــذي ال ي ــبال ــي ك ــثيرا ً ب ــال ــقرءان وه ــمه ف ــقط أي دل ــيل ”اس ــتئناس“ ي ــعزز‬
‫ويفسر به مذهبه‪
.‬‬‫ّ‬
‫امل ــوض ــع ال ــثال ــث‪} ،‬وسـ ـبّح بح ــمد رب ــك ب ــال ــعشي واإلب ــكار{ فه ــل ل ــدي ــنا ص ــالة ع ــشي‪ ،‬وص ــالة‬
‫إب ــكار؟ م ــا ه ــو ال ــعشي ب ــال ــضبط ه ــل ه ــو الظه ــر أم ال ــعصر أم امل ــغرب أم م ــاذا؟ ه ــل اإلب ــكار ه ــو‬
‫الفجر أم هو شيء آخر‪ ،‬وإن كان هو الفجر فلماذا تغيير األسماء؟

‫املـوضـع الـرابـع‪ ،‬هـو مـا ذكـره‪} ،‬سـبح بحـمد ربـك قـبل طـلوع الـشمس وقـبل الـغروب{ واعـتقد أنـها‬
‫ف ــي الفج ــر وال ــعصر‪ ،‬ل ــكن }ق ــبل ال ــغروب{ ش ــيء وم ــا ي ــقال ف ــي وق ــت ال ــعصر تح ــدي ــدا ً ش ــيء آخ ــر‬
‫ـفصلونـه فـي املـذاهـب مـن ظ ّـل الـشيء ومـثله واصـفرار الـشمس ومـا إلـى ذلـك‪ ،‬بـينما فـي‬ ‫حسـب مـا ي ّ‬
‫ـدل حــصرا ً عــلى مــا ذكــروه‪ ،‬فهــذا الــتساهــل فــي نســبة قــول لــلقرءان هــو‬ ‫الــقرءان }قــبل الــغروب{ ال تـ ّ‬
‫أيـضا ً أثـر مـن آثـار الـالمـباالة والتسـرع الـذي ألهـل املـذاهـب عـادةً الـذيـن إمـا ال يـرجـعون إلـى كـتاب‬
‫اهلل وإمـا يـرجـعون إلـيه كـمصدر بـني مـصادر ولـعله األق ّـل حـظّا ً مـنها واملـحكوم عـليه أكـثر مـن كـونـه‬
‫الحاكم األعلى في بيان ذاته فضالً عن بيان غيره‪
.‬‬
‫املـوضـع الـخامـس‪} ،‬سـبّح بحـمد ربـك حـني تـقوم‪ .‬ومـن الـليل فسـبّحه وإدبـار الـنجوم{ فـما مـعنى‬
‫}ح ــني ت ــقوم{؟ ه ــل ت ــوج ــد ص ــالة ال ــقيام؟ أي ق ــيام؟ ث ــم ه ــل }فس ـبّحه{ أي ــضا ً ي ــعبّر ع ــن ص ــالة م ــن‬
‫الــصلوات الــتقليديــة؟ فــالبــد أن يــكون ثـ ّـمة صــالة }مــن الــليل{ مــا هــي؟ ومــا مــعنى }وإدبــار الــنجوم{‬
‫فهـل تـوجـد صـالة إدبـار الـنجوم أيـضا ً عـلى فـرض أن التسـبيح هـو الـصالة ذات الحـركـات واأللـفاظ‬
‫املعروفة؟

‫الـ ــسادس واألخـ ــير‪ ،‬قـ ــولـ ــه }إذا جـ ــاء نـ ــصر اهلل والـ ــفتح‪ .‬ورأيـ ــت الـ ــناس يـ ــدخـ ــلون فـ ــي ديـ ــن اهلل‬
‫أفــواجــا‪ .‬فسـبّح بحــمد ربــك واســتغفره إنــه كــان تــوابـا ً{ فهــل هــذه صــالة الــفتح؟ ألنــه أمــره بــالتســبيح‬
‫عـلى إثـر الـنصر والـفتح ودخـول الـناس‪ ،‬فـالبـد أن تـوجـد صـالة خـاصـة عـلى قـولـهم تـتع ّلق فـقط بهـذه‬
‫األمور الثالثة التي ذكرها اهلل‪ ،‬فهل سمعتم بها في الفرائض؟

‫الــحاصــل‪ :‬اعــتقاد كــون }ســبح بحــمد ربــك{ داالً عــلى الــصالة املــفروضــة الــتقليديــة‪ ،‬هــو مــثال‬
‫م ــمتاز ع ــلى ال ــعبث ب ــال ــقرءان ال ــذي ال ي ــبال ــي ب ــه أص ــحاب امل ــذاه ــب وي ــلقون ال ــكالم ع ــلى ع ــواه ــنه‬
‫ويفسرون برأيهم كتاب اهلل ويفرضونه عليه فرضا ً ويحسبونه ه ّينا ً وهو عند اهلل عظيم‪
.‬‬ ‫ّ‬

‫‪79‬‬
‫فـبدالً مـن االقـتصار عـلى أخـذ اآليـات الـتي ذكـرت الـصالة‪ ،‬اعـتبر بـدون تـحقيق أن التسـبيح بحـمد‬
‫رب ــك ه ــو ال ــصالة‪ ،‬ه ــذا االف ــتراض األول‪ .‬ث ــم اف ــترض أن ك ــاله ــما ي ــدل ع ــلى ال ــصالة ب ــصورت ــها‬
‫ـص ولـصق مـا يـشاء كـما‬ ‫املـشهورة‪ ،‬وهـذا االفـتراض الـثانـي‪ .‬ثـم لـم يـبالـي بـما ورد فـي اآليـات بـل ق ّ‬
‫يـشاء حـتى يـر ّقـع مـذهـبه بـقطع مـن اآليـات وافـترض أن هـذا صـواب والـقرءان مـعه‪ ،‬وهـذا االفـتراض‬
‫الثالث‪ .‬هذا مثال فتأمله واعتبر به‪ .‬وحسبنا اهلل ونعم الوكيل‪
.‬‬

‫…………………………………………………………………………‪
.‬‬


‫‪80‬‬

You might also like