Professional Documents
Culture Documents
الصلاة من كتاب الله
الصلاة من كتاب الله
م
) الصالة من كتاب اهلل (
ش ــاه ــد أول} :ق ــل إن ك ــان آب ــاؤك ــم وأب ــناؤك ــم وإخ ــوان ــكم وأزواج ــكم وع ــشيرت ــكم وأم ــوال اق ــترف ــتموه ــا
وت ــجارة ت ــخشون ك ــساده ــا وم ــساك ــن ت ــرض ــون ــها أح ــب إل ــيكم م ــن اهلل ورس ــول ــه وج ــهاد ف ــي س ــبيله
فتربصوا حتى يأتي اهلل بأمره واهلل ال يهدي القوم الفاسقني{
مـعرفـة أمـر اهلل مـن كـالم اهلل هـو مـطلوب أهـل مـحبة اهلل واإليـمان بـه .إال أنـه جـرت سـنّة األولـني إمـا
بخــلط وإمــا بتحــريــف كــتاب اهلل بــغيره ،إمــا عــن طــريــق إضــافــة شــيء واإللــزام بــه وإمــا عــن طــريــق
خــره اهلل وتــأخــير مــا قـ ّدمــه اهلل وبــطرق كــثيرة .الــصالة جــرى عــليها هــذا ،حــتى ضــاعــتتــقديــم مــا أ ّ
الصالة القرآنية وح ّلت مح ّلها الصالة التقليدية عند أكثر األ ّمة بدرجة أو بأخرى
.
أمامنا طريقان
-:
الطريق األول
:
طـريـق َمـن يـريـد مـراعـاة سـلفه مـن الـشيوخ والـفقهاء الـذيـن عـ ّلموه هـذه الـصالة الـتقليديـة عـلى
أن ــها ه ــي ال ــصالة ال ــوح ــيدة ال غ ــير وأن ال ــقرءان ل ــيس ف ــيه ب ــيان ال ــصالة ح ــقا ً وت ــفصيالً أص ـالً وال
يمكن بحال من األحوال االعتماد حصرا ً على كتاب اهلل واالستنباط منه ملعرفة أحكام الصالة
.
أَو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة ت ــالم ــيذه و َم ــن ي ــأخ ــذون ع ــنه وي ــخشى م ــن ال ــتصري ــح ب ــاألم ــر بحس ــب م ــا
صرح لهم بذلك
. ّ ينفضوا عنه ويتركوه إذاّ يفهمه ويعرفه من آيات اهلل فيخشى أن
أو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة إخ ــوان ــه ف ــي ال ــفرق ــة ون ــظراؤه م ــن أه ــل ال ــعلم وال ــنظر وامل ــشيخة وي ــخشى
انتقادهم بل تكفيرهم له إن جاء بغير الصالة التقليدية على أنها الصالة اإللهية الحقيقية
.
1
ـاص ــته وال ــذي ــن ب ــاي ــعوه ع ــلى ال ــطري ــقة والس ــلوك وورث ــته و َم ــن ي ــأم ــل أن
أو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة خ ـ ّ
يــحفظوا لــه كــتبه وفــكره وأوراده وأدعــيته مــن بــعده فــيخشى مــن االنــفراد بــنفسه إن أعــلن لــهم هــذا
األمر
.
أو َم ــن ي ــري ــد م ــراع ــاة ك ــون ــه ج ــزءا ً م ــن األ ّم ــة أو ال ــطائ ــفة ب ــامل ــعنى ال ــوه ــمي أو الح ــزب ــي وي ــعتبر
صورة الصالة التقليدية َمن كسرها أو جاء بغيرها فقد خرج من م ّلتهم وانفصل عنهم
.
أو َمــن يــنظر فــي مــاضــيه وعــدد الــصلوات الــتي قــام بــها فــيصعب عــليه االعــتراف بــأنــه لــم يــكن
يـص ّلي الـصالة الـقرآنـية ،أو يـنظر فـي تـآلـيفه وتـعالـيمه ومـواعـظه عـن الـصالة الـتقليديـة وكـل مـا قـام
بـه فـي سـبيل نشـرهـا والـقيام بـها واملـنافـحة عـنها ثـم ال يـهون عـليه االعـتراف بـأن كـل هـذا كـان خـطأ ً
أقل تقدير
. أو تقصيرا ً أو ليس خالصا ً على ّ
أو َم ــن ي ــرغ ــب ف ــي امل ــحاف ــظة ع ــلى ق ــدرت ــه ع ــلى ال ــتواص ــل وت ــبادل امل ــعرف ــة وال ــفقه وال ــرأي داخ ــل
جــماعــة مــعينة مــن الــناس الــذيــن ســيقطعون كــل تــواصــل مــعه وتــبادل رأي وحــوار فــي حــال عــرفــوا
رأيه الجديد في الصالة وخالفهم في أمرهم
.
أو َمـن يـحب الـصالة الـتقليديـة وشـؤونـها ويـرتـاح لـها شـخصيا ً فـيصعب عـليه مـعرفـة أنـها ليسـت
ه ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية ال ــتي أم ــر ب ــها اهلل ت ــعال ــى ،وأن ال ــتقليدي ــة وإن ك ــان ل ــها وزن ف ــذل ــك ب ــدرج ــة
ثانوية وعرضية وليست هي جوهر الصالة القرآنية
.
هــذه األصــناف الــثمانــية الــكلية مــن الــناس كــلها ســتختار طــريــق الجــمود عــلى الــتقالــيد بــدون
اعتبار حقيقي لكتاب اهلل
.
الــطريــق اآلخــر :طــريــق الــذيــن ال يــبالــون بــكل مــا ســبق إن خــالــفت وســيلة تــحصيله مــا يــفهموه مــن
كـتاب اهلل تـعالـى .فـأهـل هـذا الـطريـق يـق ّدمـون اتـصالـهم بـاهلل واتـباعـهم رسـولـه وبـذلـهم جهـدهـم فـي
كسـر الـعادات ومـخالـفة املـعتاد واكـتساب سـنن جـديـدة ذات روح حـية وإحـداث صـالت جـديـدة مـع
أناس لهم قلب منفتح على تع ّلم كتاب اهلل كما هو
.
اعـتراض :كـالمـك هـذا يـفترض أن الـصالة الـتقليديـة مـن الـشهوة وليسـت مـن الشـريـعة ،لـكننا نـقول
أنها من الشريعة وتركها هو الشهوة .فأنت جئت بدعوى ونحن لنا دعوى تقابلها
.
الـرد :يـفصل بـيننا كـتاب اهلل .أنـتم تـقولـون أن هـذه الـصالة الـتقليديـة ليسـت فـي كـتاب اهلل بـكل
تـفاصـيلها ،بـل تـجعلون خـل ّو الـقرءان مـنها ح ّـجة عـلى نـقص الـقرءان مـن حـيث الـتفاصـيل واحـتياجـه
2
إلـى مـرويـاتـهم وحـكمها عـلى الـكتاب وبـقية الـتراث الضخـم الـذي بُـني عـلى أسـاس نـقص أو عـدم
ـصل كـتابـة الـ َّديـن واملـحيض وقـصص ـحجة عـليكم .تـقولـون أن اهلل ف ّ تـفصيل الـقرءان .كـالمـكم هـو ال ّ
فــرعــون وخــصص ســورة ألبــي لهــب وشــرح فــي آيــات كــثيرة أحــكام الــطالق والــنكاح وذكــر الــصالة
ف ــي عش ــرات امل ــواض ــع ،وك ــثير غ ــير ذل ــك م ــما ي ــعرف ــه ك ــل م ــطال ــع ل ــلقرءان ول ــو س ــطحيا ً ول ــو ل ــم ي ــكن
مــؤمــنا ً بــه ،ثــم مــع ذلــك تــزعــمون أن اهلل تــعالــى تــرك تــفصيل األمــر الــوحــيد الــذي بــدونــه ال يُــقبَل ديــن
ويــميّز بــني الــكافــر واملــؤمــن ويهــلك بســبب تــركــه أو الــتقصير فــيه اإلنــسان ولــو أقــام كــل حــكم غــيرهــا
وآم ــن وصـ ـ ّدق ب ــكل ش ــيء ،ل ــو ك ــتب إن ــسان ك ــتابـ ـا ً ف ــيه م ــثل ه ــذا ل ــرم ــيتموه ب ــال ــنقص والخ ــلل ب ــل
وبـالـسفه ،وتـنتقدون الـكتب واملـحاضـرات اإلنـسانـية بـأق ّـل مـن هـذا بـكثير ،لـكن مـع ذلـك تـرمـون اهلل
تــعالــى بــما تــكرهــون نســبته إلــيكم وتنســبون لــكتابــه مــا ال تنســبونــه لــكتبكم .ومــا أســوأ هــذا الــحكم
والتقدير
.
ال ــصالة ال ــقرآن ــية ه ــي ق ــراءة ال ــقرءان ف ــي أوق ــات م ــعينة ح ــدده ــا اهلل ،ف ــاألول ــى ص ــالة ال ــعشاء
وه ــي }ل ــدل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل{ وس ــماه ــا اهلل }ص ــالة ال ــعشاء{ ،وال ــثان ــية ص ــالة الفج ــر
}وقــرءان الفجــر{ وســماهــا اهلل }صــالة الفجــر{ .ثــم ذكــر صــالة الجــمعة }إذا نــودي لــلصالة مــن يــوم
الجــمعة{ ،وذكــر تهجــد الــليل بــالــقرءان وبـيّنه تــفصيالً فــي ســورة املــز ّمــل وغــيرهــا }ومــن الــليل فتهجــد
تيسـر مـن الـقرءان{ .هـذه خـالصـة الـصالة الـقرآنـية. بـه نـافـلة لـك{ وب ّـني ذلـك فـي املـز ّمـل }فـاقـرأوا مـا ّ
ولــها تــفاصــيل أخــرى لــيس هــذا محـ ّـل بســطها لــكن مــا ذكــرنــاه هــو األصــل .ال تــوجــد أي تــفاصــيل
أخ ــرى ج ــسمان ــية واج ــبة ،ف ــال ــقصد ه ــو ال ــتدب ــر وال ــتذك ــر وال ــتعقل وال ــتقوى وال ــشكر واالن ــتهاء ع ــن
الــفحشاء واملــنكر ونــحو ذلــك مــن مــقاصــد بــينها اهلل تــعالــى .والــشيء الــوحــيد املــشار إلــيه بــالنســبة
ل ــلبدن ه ــو ق ــول ــه }ي ــذك ــرون اهلل ق ــيامـ ـا ً وق ــعودا ً وع ــلى ج ــنوب ــهم{ وه ــو االط ــمئنان ،وف ــي ح ــال ع ــدم
االط ــمئنان ق ــال }ف ــرج ــاالً أو رك ــبان ــا ف ــإذا اط ــمأن ــنتم ف ــأق ــيموا ال ــصالة{ وه ــذه ب ــالنس ــبة مل ــن ي ــخشى
خـروج الـوقـت ألن }الـصالة كـانـت عـلى املـؤمـنني كـتابـا ً مـوقـوتـا{ .فـاملـدار عـلى قـراءة الـقرءآن والـوقـت،
وال ــوق ــت ف ــي ال ــفري ــضة إم ــا ع ــشاء وإم ــا فج ــر ،وال ــوق ــت ف ــي ال ــناف ــلة ال ــليل ب ــعد ال ــهجود وه ــو ال ــنوم
وت ــجاف ــي ال ــجنب ع ــن امل ــضجع .وال ــقراءة م ــا ك ــان ب ــتدب ــر وت ــذك ــر وت ــعقل وت ــع ّلم }ح ــتى ت ــعلموا م ــا
ت ــقول ــون{ }ك ــتاب أن ــزل ــناه إل ــيك م ــبارك ل ــيدب ــروا آي ــات ــه ول ــيتذك ــر أول ــوا األل ــباب{ .وق ــراءة ال ــقرءان ف ــي
ال ــصالة ه ــي الس ــبع امل ــثان ــي أي ال ــفات ــحة وش ــيء م ــن ال ــقرءان ال ــعظيم أو ح ــتى ال ــفات ــحة وح ــده ــا
ـصها ألنــها الــسورة الــوحــيدة الــتي لــيس فــيها إذا ذكــر فــإنــها جــامــعة وهــي ســورة الــصالة بــنفس نـ ّ
ودعــاء هلل تــعالــى خــالف ـا ً لــكل ســور الــقرءان األخــرى بــال اســتثناء حــيث بــقية الــسور إمــا ســور ذات
خبر فقط كالقدر واملسد أو سور ذات خبر وأمر كبقية السور .هذه الخالصة والسالم
.
3
الـصالة الـتقليديـة ،كـما يـعرفـها الـكل وتجـدهـا فـي كـتب املـرويـات ،مـدارهـا عـلى حـركـات الـجسم.
نـعم وهـنا الـنعمة الـكبرى عـلى هـذه األ ّمـة وهلل الحـمد ،فـي الـصالة الـتقليديـة يـوجـد الـجوهـر الـقرآنـي
وه ــو ق ــراءة ال ــقرءان وال ــوق ــت ،أي ــضا ً ت ــوج ــد ال ــفات ــحة وس ــورة م ــن ال ــقرءان ،واالط ــمئنان .فه ــذا ال ــقدر
م ــحفوظ .ل ــكن أب ــعاد ال ــعقل وال ــقلم وال ــدراس ــة وال ــتغيير وال ــتي س ــنبينها الح ــقا ً إن ش ــاء اهلل غ ــير
مــوجــودة عــادةً وبــالنســبة لــلغالــبية الــعظمى مــن املــصلني وألســباب راجــعة إلــى نــفس هــيئة الــصالة
الـتقليديـة وشـؤونـها وطـريـقة أدائـها وليسـت بسـبب املـص ّلي ذاتـه ،بـاإلضـافـة إلـى أنـه لـيس فـي كـتاب
اهلل أن َم ــن ل ــم ي ــقوم به ــذه ال ــهيئة امل ــعروف ــة ذات الح ــرك ــات واألل ــفاظ ف ــإن ــه ال ُي ــعتَبَر م ــصليا ً م ــقيما ً
ل ــلصالة ك ــما أم ــر اهلل فه ــذه اإلض ــاف ــة ب ــدع ــة مح ــدث ــة ووق ــع وال ي ــزال ي ــقع بس ــببها ال ــكثير ج ــدا ً م ــن
ال ــتكفير واالخ ــتالف واالف ــتراق ف ــي ال ــدي ــن وال ــعدوان وبس ــط ال ــلسان وال ــيد ب ــال ــظلم واإلث ــم م ــنذ ب ــدء
انــتشار هــذه الــبدعــة إلــى يــومــنا هــذا ونجــد آثــار ذلــك فــي الــروايــات نــفسها الــتي نــقلت هــذه الــهيئة
ع ــلى أن ــها ه ــي ”ال ــصالة“ امل ــأم ــور ب ــها ف ــي ك ــتاب اهلل وه ــذا أي ــضا ً س ــنفرده إن ش ــاء اهلل ب ــال ــبحث
الحـقا ً .لـكن يـكفينا أمـر واحـد وهـو أن اهلل تـعالـى لـم يـذكـر فـي ثـالثـة أسـطر مـا ذكـرتـه بـعض روايـات
املـذاهـب عـن أصـل حـركـات الـجسم فـي الـصالة والـذي هـو عـلى قـولـهم جـوهـر وركـن أصـيل لـلصالة.
ويـكفي هـنا الـتمثيل بـروايـة واحـدة وهـي مـنسوبـة لـلرسـول وفـيها قـولـه ”إذا قـمت إلـى الـصالة فـكبر
ث ــم اق ــرأ م ــا تيس ــر م ــعك م ــن ال ــقرآن ث ــم ارك ــع ح ــتى ت ــطمئن راك ــعا ث ــم ارف ــع ح ــتى ت ــعتدل ق ــائ ــما ث ــم
اسجـد حـتى تـطمئن سـاجـدا ثـم اجـلس حـتى تـطمئن جـالـسا ثـم افـعل ذلـك فـي صـالتـك كـلها فـإذا
فــعلت هــذا فــقد تــمت صــالتــك ومــا انــتقصت مــن هــذا شــيئا فــإنــما انــتقصته مــن صــالتــك“ أقــول :لــو
كـان اهلل تـعالـى يـريـد هـذا فـأي صـعوبـة فـي أن يـقول هـذه الـكلمات فـي كـتابـه وقـد قـال مـا هـو أعـمق
وأصـعب وأعـقد مـنها فـي أمـور هـي ظـاهـرا ً مـن أمـور الـدنـيا الـفانـية وشـيء مـن املـال مـثل آيـة الـ َّديـن
أو ح ــتى آي ــة امل ــحيض والخ ــمر ،فه ــل ح ــثال ــة ال ــدن ــيا ال ــفان ــية أول ــى ال ــتفصيل م ــن ال ــصالة ع ــند اهلل-
ـنص املــنقول حســب تــوهــمهم طــبعا ً-مــن تــبيان الــصالة وهــي مــن الــسهولــة بــمكان كــما رأيــت فــي الـ ّ
سـابـقا ً .هـذا أمـر أوالً لـيس فـي الـكتاب ،وثـانـيا ً غـير مـعقول بـنفسه ،وثـالـثا ً يـناقـض طـريـقة الـقرءان
ف ــي ال ــبيان وت ــفصيل اآلي ــات ت ــفصيالً واإلت ــيان ب ــال ــبالغ امل ــبني وإن اح ــتاج إل ــى اس ــتنباط وج ــمع
وتــعقل فــليس كــالمــنا فــي كــونــه كــله ســطحيا ً بــل لــيس الــقرءان كــذلــك أص ـالً لــكن أن يــقال بــأن اهلل
ـنص وي ــقوم ب ــها املس ــلمون و َم ــن ل ــم ي ــأت ــي ب ــها ف ــليس م ــن
ت ــعال ــى أراد ه ــذه ال ــهيئة ال ــتي ش ــرح ــها ال ـ ّ
املـصلني فـهنا محـل الـكالم .نـحو ثـالثـني كـلمة فـقط تـكفي لـبيان هـذه الـهيئة ،وفـي الـقرءان أكـثر مـن
ســبعة وســبعني ألــف كــلمة ،فـ َـمن زعــم أن اهلل لــم يجــد مــكانـا ً فــي هــذه الســبعة والســبعني ألــف كــلمة
ل ــيضع ف ــقط ث ــالث ــني ك ــلمة وال ــتي ب ــدون ــها ال ق ــيمة ل ــدي ــن وإي ــمان وأع ــمال ال ــؤم ــن ول ــو أق ــام الس ــبعة
والسبعني ألف كلمة علما ً وعمالً ،فقد أعظم على اهلل الفرية
.
4
الـصالة الـقرآنـية فـي طـرف ،والـصالة الـتقليديـة حسـب الـتعالـيم الـفقهية فـي طـرف آخـر .وهـذا
لـيس كـالمـنا فـقط ،هـذا كـالم أصـحاب الـصالة الـتقليديـة الـروائـية ،فـإنـهم حـكموا بـالـقتل عـلى َمـن ال
يــقوم بــها أو بــالــتكفير عــلى أقـ ّـل تــقديــر وبــجهنّم جــزم ـا ً وكــانــوا وال زالــوا يــع ّلمون اآلبــاء أن يــضربــوا
أوالدهم ليقوموا بها وال يخفى على قارئ القرءان أن كل هذا ليس من كتاب اهلل في شيء
.
إذن حني نقول أنه البد من اختيار إما طريق الشهوة وإما طريق الشريعة ،فهذا حق
.
ش ــاه ــد ث ــان ــي} :ي ــا أي ــها ال ــذي ــن آم ــنوا ع ــليكم أن ــفسكم ال ي ــضرك ــم م ــن ض ــل إذا اه ــتدي ــتم إل ــى اهلل
مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون{
املـيل للجـماعـة والـكثرة أمـر شـائـع فـي الـنفس البشـريـة مـن حـيث بشـريـتها ال مـن حـيث روحـانـيتها.
فـإن الـروح }مـن أمـر ربـي{ وتـنظر إلـى ربـها ولـو صـار مـا صـار لـلبدن واألمـور الـظاهـريـة فـي الـدنـيا
الــفانــية .وألن الــنفس قــائــمة مــا بــني قــابــلية الــتزكــية بــالــروح والــتدســية بــالــبدن ،فتجــد الــناس أحــيانـا ً
ولـو كـانـوا َمـن كـانـوا فـي عـلو الـكعب فـي الـروحـانـية يـقعون فـي مـصيدة }تـخشى الـناس واهلل أحـق
أن تخشاه{
.
مـن آمـن بـاهلل ورسـولـه وكـتابـه الـذي فـيه الـرسـالـة ،فـعليه أن يـؤسـس أمـره ويـجاهـد نـفسه حـتى يـقيم
ديـنه عـلى أسـاس الـفرديـة ،أي يـفترض أنـه فـرد مـسؤول عـن نـفسه فـقط ألن هـذا هـو الـحق ،فـأنـت
}ال تُـك َّلف إال نـفسك{ .فـإذا تـعلمت كـتاب اهلل واهـتديـت بـه ولـو كـانـت وحـدك فـأنـت أ ّمـة }إن إبـراهـيم
كـان أ ّمـة{ ،فـالـعبرة ليسـت بـاالنـفراد وال بـالـكثرة ،ال اإلعـجاب بـالـنفس وال اإلعـجاب بـالـكثرة ،كـالهـما
مـذمـوم فـاألول مـن شـأن إبـليس الـكافـر والـثانـي مـن شـأن الـكفرة الجهـلة .املـقصد هـو مـعرفـة الـحق
بـالـبرهـان ،ثـم اتـباعـه ومـجاهـدة الـناس لـقبولـه .لـكن إذا عـرفـت شـيئا ً ولـك ح ّـجة فـيه ،فهـذه مـسؤولـيتك
ال ــوح ــيدة ع ــند اهلل ول ــن تُ ــسأل ع ــن س ــبب ان ــفرادك أو ت ــبري ــر ك ــثرة م ــن م ــعك ،ك ــل م ــا ي ــهم ه ــو ه ــل
اهتديت أم ال ثم اهلل يفصل بني الناس يوم الدين
.
اآلن ،دع ــوى أن م ــا ع ــلمنا وع ــملنا ه ــو ع ــني م ــا ف ــي ك ــتاب اهلل ه ــي دع ــوى ال يعج ــز ع ــنها أح ــد،
وي ــدع ــيها ك ــل أح ــد .وه ــنا س ــنقتصر ع ــلى م ــوض ــوع ال ــصالة .ف ــي م ــوض ــوع ال ــصالة أي ــضا ً }ع ــليكم
أنـفسكم ال يـضركـم َمـن ض ّـل إذا اهـتديـتم{ .وهـذا ال يـعني أنـه يـجب عـليك فـرض وإكـراه غـيرك عـلى
5
م ــا ف ــهمت ،وال أن ــه ي ــجوز ل ــهم م ــثل ذل ــك م ــعك ،إال أن ــنا نج ــد ف ــي ه ــذه ال ــقضية م ــثل ق ــضاي ــا أخ ــرى
كــثيرة أن أصــحاب مـ ّلة الــروايــات الــذيــن مــالــوا عــن ديــن اآليــات هــم رؤوس اإلكــراه فــي الــديــن وعــلى
الــديــن وبــالــديــن فــي األرض كــلها وهــم أئــمة هــذا الــشأن إلــى الــيوم ،وفــي بــاب الــصالة يــكفي أنــه
يــوجــد إجــماع فــي املــذاهــب الــفقهية ”اإلســالمــية“ إمــا عــلى قــتل تــارك صــالتــهم وإمــا عــلى حــبسه
فــإن لــم يــتب فـيُقتَل وإمــا شــيء مــن هــذا الــنوع ومــا يــتبعه مــن الــتفريــق بــينه وبــني زوجــته وهــل ّم جـ ّـرا ً
ـضرك ــم َم ــن ض ـ ّـل إذا
ف ــي ق ــائ ــمة ال ــدم واإلج ــرام .ه ــؤالء ال ي ــؤم ــنون ب ــقاع ــدة }ع ــليكم أن ــفسكم ال ي ـ ّ
اه ــتدي ــتم{ ،ه ــؤالء ي ــري ــدون أن ي ــجبروا ال ــناس ع ــلى م ــا ي ــعتقدون ــه ه ــم ،خ ــالف ـا ً ط ــبعا ً ل ــكل ك ــتاب اهلل
ال ــناه ــي ع ــن ه ــذا ال ــنوع م ــن ال ــتفكير وال ــعمل ب ــل ح ــتى ع ــن ال ــشعور ب ــالح ــزن ع ــلى ع ــدم اه ــتداء
اآلخــريــن بهــدى الــوحــي فــما بــالــك بــهوى الــرأي الــذي عــلى أســاســه يــفعل الــقوم مــا يــفعلونــه .نــحن
نـؤمـن فـكرا ً وشـعورا ً وسـلوكـا ً بـكلمة }إلـى اهلل مـرجـعكم جـميعا ً فـينبئكم بـما كـنتم تـعملون{ وال نـجيز
مـنع أي أحـد ال فـي الـصالة وال فـي غـيرهـا أن يـعبّر عـن فـهمه ورأيـه ويـمارس صـالتـه كـما يـعتقدهـا
ويــدعــو إلــيها ويــنافــح عــنها بــل نــحن مــن أول َمــن ســيسمع لــه ويــحواره ويــجادلــه بــالــتي هــي أحــسن
بـإذن اهلل ،إال أنـك لـن تجـد مـثل هـذا عـند وال فـرقـة مـن فـرق أصـحاب مـ ّلة الـروايـات الـذيـن بمج ّـرد مـا
تكون السلطة بأيديهم يصبح اإلكراه عندهم أسهل من شربة ماء بل لعله أوجب من شربة ماء
.
ـقر بـه جـميع املـؤمـننيـجة ملـا تسـتوحـش مـنه ،وهـذا أمـر ي ّ الـشعور بـالـوحـشة بسـبب االنـفراد لـيس ح ّ
مــن أي ديــن بــل وغــير ديــن .لــكن أصــحاب الــقرءان عــنده مــا هــو أعــلى وهــو قــول اهلل تــعالــى }عــليكم
أنـفسكم{ وهـو خـطاب مـباشـر لـهم }يـا أيـها الـذيـن ءامـنوا{ ،فـاهلل مـع َمـن اهـتدى بـالـقرءان ،والـرسـول
مـع َمـن اهـتدى بـالـرسـالـة وج ّـمع الـناس بـها وعـليها وأمـرهـم بـاالسـتمساك بـها وهـو اإلصـالح الـذي
ـمسكون بــالــكتاب وأقــامــوا الــصالة إنــا ال نــضيع أجــر املــصلحني{ .فــاملهــتدي
قــال اهلل فــيه }والــذيــن ُيـ ّ
بــكتاب اهلل مــعه اهلل ومــالئــكته ،وهــو مــع الــنبيني والــصديــقني والشهــداء والــصالــحني ،بــالــنفس الــيوم
ومــطلقا ً غــدا ً يــوم يــقوم األشــهاد .مــقاومــة شــعور الــوحــشة هــذا مــن الــجهاد فــي ســبيل اهلل ،بــل هــذه
الــوحــشة هــي واحــدة مــن أكــبر أســباب إعــراض أكــثر الــناس عــن ديــن اهلل مــطلقاً ،ويــطلبون مــودة
الناس في الحياة الدنيا وحفظا ً لعواطفهم ومصالحهم فيها ولو على حساب الدين
.
اعـتراض :كـيف سـأقـنع كـل املسـلمني وغـير املسـلمني بهـذا الـفهم لـكتاب اهلل والشـريـعة فـي مـسألـة
كبيرة مثل هذه
.
الــرد :أوالً }عــليكم أنــفسكم{ وحــني تســتقر وتــتذوق وتجـ ّـرب هــذه الــحياة الجــديــدة عــلى أســاس
عـملك بـأمـر اهلل ،حـينها وبـعد أن تـرسـخ قـدمـك فـيها وتـعرفـها وتـدرك املـسألـة تجـريـبيا ً ال فـقط نـظريـاً،
6
حــينها يــمكن أن تــنتقل إلــى مســتوى الــدعــوة واملــجادلــة .فــاإليــمان والــعمل قــبل الــتواصــي والــدعــوة،
}أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفال تعقلون{
.
ـتبني لـلناس مـا نُـزّل إلـيهم{ ،وال تـكتمها فـإن مـن يـكتمها }فـإنـه آثـم ثـم يـكفيك إعـطاء الـبينات} ،ل ّ
قـلبه{ .فـإذا فـعلت هـذا وكـان بـالغـك مـبيناً ،فـقد تـ ّم عـملك وشـكرت ربـك عـلى نـعمة تـعليمك} ،ومـا عـلى
الـرسـول إال الـبالغ املـبني{ .وأمـا َمـن يـقتنع و َمـن ال يـقتنع ،فـال لـيس لـك وال هـو تـكليفك بـل االهـتمام
بــمثل هــذا هــو بحــد ذاتــه عــصيان لــبعض األمــر الــربــانــي كــما فــي قــولــه }ال تحــزن عــليهم{ واآليــات
األخرى في ذات املوضوع من أبعاده العقلية واإلرادية والشعورية املختلفة
.
حــتى إن تــنزّلــنا أكــثر ،ســتجد أنــك اآلن ومــهما كــانــت تــفاصــيل صــالتــك الــتي تــص ّليها ،فــإنــك
تـص ّلي صـالة ال يـرضـى عـنها الـكثير جـدا ً مـن املسـلمني ،أيـا كـان اخـتيارك ومـذهـبك .بـل جـزمـا ً أنـت
تـقوم بـأمـور يـراهـا غـيرك بـدعـة سـيئة أو ال تـقوم بـأمـور يـرونـها فـريـضة أو واجـبة أو سـنة مـؤكـدة أو
ـنبني إن ش ــاء اهلل ف ــي ف ــصل الح ــق ت ــفاص ــيل م ــهمة ع ــن اخ ــتالف ــات امل ــذاه ــب ال ــفقهية غ ــير ذل ــك .وس ـ ّ
اإلسـالمـية فـي هـذا األمـر حـتى تـرى أن تـوهـمك أنـك تـصلي الـصالة ”املُج َـمع عـليها“ بـاطـل قـطعا ً
وبجــميع املــوازيــن وهــذا لــيس ســرا ً بــل مــعروف مــشهور بــل مــحسوس تــراه فــي اخــتالف املســلمني
فــي صــالتــهم مــن أول مــسألــة فــيها إلــى آخــر مــسألــة فــيها تــقريــبا ً وتجــده فــي اخــتالف مــساجــدهــم
وتــنازعــهم وافــتراقــهم وتــباغــضهم وتــبديــع بــعضهم بــعضا ً وتــكفير بــعضهم بــعضا ً وأحــيان ـا ً الــعدوان
ع ــلى ب ــعضهم ب ــعضا ً بس ــبب ذل ــك واألم ــثلة ف ــي ه ــذا ال ــباب ك ــثيرة ج ــدا ً وال ــقصص وال ــوق ــائ ــع ك ــثيرة
أيضا ً عبر التاريخ وإلى اليوم
.
بـل إذا دقـقت سـتجد أن الـصالة الـقرآنـية هـي الـوحـيدة الـتي يـمكن أن تجـمع املسـلمني وتـمنع
االفـ ــتراق الـ ــقبيح .ألن جـ ــوهـ ــرهـ ــا يـ ــقوم بـ ــه الـ ــكل فـ ــي جـ ــزء مـ ــن أجـ ــزاء صـ ــالتـ ــهم الـ ــتقليديـ ــة ،لـ ــكن
اإلضــافــات الــتي أضــافــوهــا عــلى ذلــك الــجوهــر قــد أعــاقــت ظــهوره وتــمام نــوره مــن جــهة ومــن جــهة
أخـرى فـتحت أبـوابـا ً كـثيرة لـلنار والـتكفير والـتبديـع والـتفسيق واالخـتالف الـسيء الـواضـح الـسوء.
صـاحـب الـصالة الـقرآنـية يـمكن أن يـص ّلي فـي كـل مسجـد فـي مـشارق األرض ومـغاربـها بـدون أن
يـشعر بـأنـه فـي بـيت غـير بـيته ،لـكن صـاحـب الـصالة الـتقليديـة ال يسـتطيع ذلـك وال يـشعر بـأنـه مـع
أ ّمــته حــني يــكون مــع أي مســلم مــؤمــن بــاهلل ورســولــه وكــتابــه .الــقرءان حــبل جــامــع لجــميع املســلمني،
لــكن مــا أضــافــوه عــليه وأوجــبوه هــو مــصدر الشـ ّـر والــكفر حــتى صــار بــعضهم يــضرب رقــاب بــعض
وب ــعضهم ال ي ــنكح ب ــعضا ً وال ي ــكلم ب ــعضهم ب ــعضا ً إل ــى آخ ــر ال ــقائ ــمة ال ــسوداء ل ــصفات األع ــداء.
إذن ،ل ــيس ع ــلى ص ــاح ــب ال ــصالة ال ــقرآن ــية أن ي ــف ّكر ف ــي أص ــحاب ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ،ب ــل ع ــلى
أصـحاب الـصالة الـتقليديـة الـرجـوع إلـى الـصالة الـقرآنـية ،فهـذا خـير لـهم فـي الـديـن عـند اهلل وفـي
اآلخرة بل وفي الدنيا
.
7
بــل وأزيــدك .إذا عــرفــت الــصالة الــقرآنــية ســتجد أن الــروايــات نــفسها املــنقولــة عــن الــنبي ومــن
مـعه ،إمـا تـصبح مـفهومـة وإمـا تـصبح أكـثر وضـوحـا ً وإمـا يـمكن ح ّـل إشـكاالتـها واالخـتالف فـيها.
خــذ مــثالً الحــديــث الــقدســي }قــسمت الــصالة بــيني وبــني عــبدي نــصفني{ ثــم ذكــر ســورة الــفاتــحة،
فــهنا تجــد تــصريــحا ً بــأن الــصالة ذات }نــصفني{ وهــي الــفاتــحة بــتمامــها فــقط ،فــلو كــانــت الــفاتــحة
ـص رب الــعزة جــل جــاللــه جــزءا ً مــن أجــزاء الــصالة ملــا كــانــت الــصالة مــقسومــة }نــصفني{ كــما هــو نـ ّ
فـي الحـديـث الـقدسـي الـصحيح املـشهور حسـب مـوازيـن أهـل الـروايـة ،بـل لـوجـب أن تـكون الـفاتـحة
مـثالً جـزءا ً مـن عشـرة أجـزاء أو قـسما ً مـن ثـالثـة قـسما ً أو نـحو لـك ألن الـتكبير جـزء والـقيام بـالـبدن
جـزء ودعـاء االسـتفتاح جـزء والـفاتـحة جـزء وسـورة بـعدهـا جـزء والـركـوع جـزء والـقيام جـزء والـسجود
جــزء وهــل ّم جــرا ً .لــكن حــني تــعرف الــصالة الــقرآنــية ســتجد أن تــسمية الــفاتــحة بــالــصالة حــق ألنــها
سـورة الـصالة وفـيها الـقرءان كـله .كـذلـك سـتجد حـديـثا ً يـقول }ال صـالة ملـن لـم يـقرأ بـفاتـحة الـكتاب{
وحــديــثا ً آخــرا ً يــقول أن الــذي ال يــقرأ بــأم الــقرءان فــصالتــه }خــداج{ يــعني نــاقــصة ،ونــحو لــك مــما
يـعزز كـون الـفريـضة قـراءة الـفاتـحة ثـم مـا فـوقـها زيـادة خـير عـلى خـير ونـور عـلى نـور .وكـذلـك مـثالً
حـديـث }لـيس لـك مـن صـالتـك إال مـا عـقلت مـنها{ فـإنـه صـريـح فـي كـون الـعقل ثـمرة الـصالة ،وأيـن
ال ــعقل ف ــي غ ــير ال ــقراءة امل ــر ّك ــزة وق ــد شه ــدن ــا إن ــسان ـا ً ي ــقرأ ال ــقرءان ل ــلتعقل وب ــقصد ال ــتعقل ف ــيتغيّر
ويس ــتنير وي ــخشع هلل ت ــعال ــى أو ع ــلى أق ـ ّـل ت ــقدي ــر م ــن ب ــني ك ــل م ــائ ــة س ــتجد ت ــسعة وت ــسعني ه ــذا
حـالـهم ،بـينما أصـحاب الـصالة الـتقليديـة مـمن الـقراءة عـندهـم هـي مجـرد ألـفاظ يـجب اإلتـيان بـها
ف ــي خ ــضم ح ــرك ــات وش ــكليات ب ــدن ــية وت ــكرار ك ــثير يش ـ ّـل ال ــفكر ويُ ــذه ــب رون ــق ال ــعقل ويُ ــدخ ــل امل ــلل
والــسهو عــند الــغالــبية الــعظمى مــن املــصلني بهــذه الــهيئة حــصرا ً فــهؤالء الــعقل عــندهــم إمــا مــنعدم
بس ــبب ال ــصالة وإم ــا ف ــي ال ــشاذ ال ــنادر ال ــذي ال يُ ــقاس ع ــليه وي ــكون بس ــبب ح ــضور ع ــقله ف ــي
الــقراءة أو نــحو ذلــك مــن األذكــار والــتسابــيح الــتي هــي أوامــر قــرآنــية أصــلية ولــيس بســبب الحــركــة
الــصوريــة الــبدنــية ،فــالــصالة الــحقيقية أمــر حــني تــدخــل فــيه حــقا ً ســتخرج مــنه وفــيك إمــا زيــادة نــور
أو قـ ّلة ظـلمة ،بـينما الـصالة الـتقليديـة قـد يـص ّليها اإلنـسان أربـعني سـنة وهـو فـي آخـر يـوم مـثل مـا
ك ــان ف ــي أول ي ــوم وتس ــتطيع أن تج ــد ال ــناس ي ــوم ــيا ً وم ــن شـ ـتّى امل ــذاه ــب وال ــفرق ي ــص ّلون ه ــذه
ال ــصالة ال ــتقليدي ــة وه ــم ع ــلى م ــا ه ــم ع ــليه ل ــكن ان ــظر م ــاذا سيح ــدث ف ــي ال ــواح ــد ف ــيهم ل ــو ص ـ ّلى
الـصالة الـقرآنـية لـتسعة أشهـر فـقط ،بـل سـتة بـل شهـرا ً واحـدا ً بـل أكـاد أقـول يـومـا ً واحـدا ً .الـقرءان
ـنتج بــإذن اهلل ،لــكن حــني يــلهو الــقلب هــو جــوهــر الــصالة ومــركــزهــا ،فــحني يُــعطى الــتركــيز كــام ـالً يُـ ِ
ويـلهو الـبدن فـحتى إن تـلفّظ أو سـمع الـقرءان فـلن ُيـنتج شـيئاً ،ولـهو الـقلب بسـبب نـفس مـا وضـعوه
م ــن أرك ــان وش ــروط ل ــلصالة وك ــون ــها ذات رت ــاب ــة وت ــكرار وش ــكليات وح ــرك ــات ال ــبدن وت ــعبه وت ــغيره
والـتركـيز عـليه أو عـلى األق ّـل إشـراك الـبدن مـع الـعقل فـي الـعمل مـما يشـتت الـوعـي ويـبطل الـتأمـل
8
والــنظر فــي كــالم اهلل ذاتــه لــذاتــه ،ولــذلــك ال تجــد حــتى أصــحاب الــصالة الــتقليديــة حــني يــدرســون
ك ــتب ع ــقائ ــده ــم وم ــذاه ــبهم إال وي ــقوم ــون ب ــقراءت ــها ك ــما ك ــان ي ــنبغي أن ي ــفعلوا وي ــع ّلموا ال ــناس أن
يــفعلوا فــي صــلواتــهم مــع كــتاب اهلل أي ســتجدهــم إمــا يــقرأون قــيام ـا ً أو قــعودا ً وهــو األصــل وإمــا
عـلى جـنوبـهم أو وهـم يـمشون ،سـتجد رغـبة بـعد االنـشغال بـأي صـوت أو حـركـة أو ازعـاج حـتى يـتم
تـركـيزهـم وحـضور عـقلهم وفـهمهم ،نـفس هـذا األمـر الـذي كـان يـنبغي أن يـقوم بـه الـكل مـع الـقرءآن
ـحجة عـليهم مـن هـذا الـوجـه أيـضا ً .عـلى هـذا الـنمط ،سـتجد الـروايـات نـفسها أكـثر يـومـيا ً تـركـوه فـال ّ
مــعقولــية بســبب الــصالة الــقرآنــية عــموم ـاً ،ولــن تُــنتج إشــكاالً عــند مــن يــضع كــل شــيء فــي نــصابــه
حسب قيمته القرآنية
.
امل ـ ــقصد م ـ ــن ال ـ ــقرءان ال ـ ــتع ّقل ”ل ـ ــعلكم ت ـ ــعقلون“ وال ـ ــتفكر ”ل ـ ـ ّ
ـتبني ل ـ ــلناس م ـ ــا نُ ـ ـزّل إل ـ ــيهم ول ـ ــعلهم
يــتفكرون“ والــتدبــر ”أفــال يــتدبــرون الــقرءان“ ”لــيدبــروا آيــاتــه“ ونــحو ذلــك مــن أمــور يــمكن تــلخيصها
ـتضمن مـ ــعنى الـ ــفهم ،وإال فليسـ ــت قـ ــراءة مـ ــعتبرة ،فـ ــإن ّ لـ ــتسهيل الشـ ــرح بـ ــكلمة الـ ــفهم .الـ ــقراءة تـ ـ
الـقراءة فـيها مـعنى الجـمع والحـمل كـما قـال الـشاعـر ”لـم تـقرأ جـنينا“ فـالـقراءة تُـغيّر حـالـة الـنفس
كــما قــال تــعالــى ”اقــرأ وربّــك األكــرم .الــذي عـ ّلم بــالــقلم .عـ ّلم اإلنــسان مــا لــم يــعلم“ فــما لــم يــصحب
ال ــقراءة ال ــعلم وي ــأت ــي ك ــثمرة ل ــها ويُ ــشعر ال ــقارئ ب ــحضور اهلل م ــعه ”اق ــرأ وربّ ــك“ ”اق ــرأ ب ــاس ــم
رب ــك“ فليس ــت ه ــي ال ــقراءة ال ــتي ت ــدل ع ــليها ال ــقرءان ،وم ــنا ذك ــر ف ــي س ــورة ال ــعلق ”أرأي ــت ال ــذي
ي ــنهى ع ــبدا إذا ص ـ ّلى .أرأي ــت إن ك ــان ع ــلى اله ــدى .أو أم ــر ب ــال ــتقوى“ ف ــذك ــر ال ــقراءة ث ــم ال ــصالة
وربــطها بــأمــريــن األول مــا يــكون عــليه املــص ّلي فــي نــفسه واآلخــر مــا يــأمــر بــه غــيره ومــن هــنا تــوجــد
قـ ــراءة لـ ــلنفس وقـ ــراءة لـ ــلغير ،ثـ ــم زاد األمـ ــر بـ ــيان ـ ـا ً فـ ــقال ”قـ ــد أفـ ــلح َمـ ــن تـ ــز ّكـ ــى .وذكـ ــر اسـ ــم ربّـ ــه
فــص ّلى“ فــق ّدم الــتزكــية عــلى ذكــر االســم والــصالة كــما قـ ّدمــها عــلى تــع ّلم الــكتاب والــحكمة فــي آيــة
أخـرى ،وفـالـتزكـي عـن أمـور سـيئة شـرط ثـم يـدخـل اإلنـسان فـي ذكـر اسـم ربـه وذلـك بـالـبسملة الـتي
هــي فــاتــحة ســور الــكتاب كــله ثــم تــدخــل فــي الــصالة الــتي هــي الــقراءة أي قــراءة اآليــات الــقرآنــية
ذاتـها .ومـن هـنا فـرق بـني قـراءة الـصالة وقـراءة غـير الـصالة ،ألن الـصالة البـد فـيها مـن ذكـر اسـم
رب ــك ”اق ــرأ ب ــاس ــم رب ــك“ وم ــعية رب ــك ”اق ــرأ ورب ــك“ ،فه ــذه ال ــقراءة ه ــي ال ــتي ي ــكون ف ــيها ال ــقارئ
9
ُمــص ّليا بــمعنى مــتصالً بــربــه ومــوصــوالً بــكالمــه وكــذلــك بــمعنى املــصلي فــي الــلغة الــذي هــو الــتابــع
للمج ـ ّلي فــي الســباق ألن الــقارئ يــكون تــابــعا ً لــربــه فــر ّبــه املتجــلي املُج ـ ّلي لــه األمــور وهــو املــص ّلي
ُ
التابع الجاعل عقله تابعا ً لكالم ربه
.
الجه ــل ل ــيل ،ال ــعلم ن ــهار .الجه ــل م ــن ش ــأن ال ــعبد ،ال ــعلم م ــن ش ــأن اهلل ،ق ــال ”اهلل ال ــغني وأن ــتم
الــفقراء“ وذلــك فــي كــل ســمة كــمال فــإن اهلل غــني هــي لــه بــاألصــالــة والــعبد فــقير فــما بــه مــن نــعمة
سـواء كـانـت وجـود أو عـلم أو حـياة أو قـدرة أو مـا كـان فـهي مـن اهلل تـعالـى .فـي الـصالة ذكـر هلل ”
أقــم الــصالة لــذكــري“ ومــن هــذا الــذكــر تــذ ّكــر الــعبد مــقام فــقره ومــقام ربــه الــغني املــتعالــي ،وكــذلــك
تـذ ّكـر نـعمة ربـه عـليه وخـالفـته إيـاه فـي مـا يـفيضه عـليه ويـعطيه لـه .فـهنا أمـران ،األول تـذ ّكـر الـفقر
بالذات ،والثاني تذ ّكر الغنى باهلل
.
فـي الـصالة الـقرآنـية كـالهـما حـاضـر .فـإن الـقارئ بـمعنى املـتفقه املـتفهم الـدارس لـكتاب اهلل،
يــتذكــر جهــله وفــقره األصــلي حــني يــرى أنــه مــفتقر إلــى كــالم اهلل لــتحصيل الــعلم وكــذلــك حــني يــرى
الـفرق مـا بـني مسـتوى عـقله ومسـتوى كـالم اهلل الـعالـي وكـذلـك حـني يـرى تـوقـف عـقله عـن فـهم اآليـة
ث ــم ي ــرى ك ــيف ي ــم ّده اهلل ب ــال ــنور وال ــفهم ”ف ــفهمناه ــا س ــليمان“ ف ــيلج ف ــيه ن ــور رب ــه فيش ــرق ب ــه أرض
قلبه
.
أمـا فـي الـصالة الـتقليديـة ،فـإنـها صـالة تـفريـغ وثـبات .فـهي تـفريـغ مـن حـيث أنـها تـفرغ الـعقل
مـن الـفكرة بـما فـيها مـن حـركـات وتـكرار لـلكلمات ،وهـذا وإن كـان يـنفع بـالنسـبة ملـن يـريـد الـدخـول
فـي قـراءة الـقرءان الـذي هـو الـصالة األصـلية ،فـإنـه يـكون إعـدامـا ً لـعقل َمـن الـصالة كـلها عـنده هـي
هــذه الــصالة الــصوريــة .كــذلــك فــيها ثــبات ،ألن املــصلي بــالــتقليديــة يــعرف مســبقا ً بــالــضبط كــل مــا
ســيقوم بــه ومــا عــليه الــقيام بــه ويــعرف بــماذا ســيدخــل وبــماذا سيخــرج مــن حــيث أنــه لــيس عــليه إال
الــقيام بهــذه الحــركــات والــتلفظ بــالــكلمات وإذا بــه قــد ”أقــام الــصالة“ حســب اعــتقاده ،ومــع الــوقــت
تــأخــذ هــذه الــهيئة الــنمطية الــرتــيبة صــورة جــامــدة فــي الــذهــن وتــصبح عــادة وحــركــة آلــية الشــعوريــة
الواع ــية ،وم ــهما ق ــيل ب ــعد ذل ــك ف ــي امل ــواع ــظ ال ــجوف ــاء ع ــن وج ــوب ال ــخشوع ف ــي ال ــصالة وال ــبكاء
وال ــحضور وم ــا أش ــبه وال ــذي أق ــصاه ك ــما ت ــرى ن ــوع م ــن األم ــواج ال ــعاط ــفية ال ــعمياء ع ــلى أح ــسن
ت ــقدي ــر ف ــي ال ــعادة ف ــإن ــه ال ُي ــسمن وال ي ــغني م ــن ج ــوع ألن ــه ضـ ـ ّد ال ــتيار ال ــطبيعي ل ــنفس ص ــورة
الــصالة ،فــال يــمكن أن تــضع الــنار تــحت الـ ِـقدر ثــم تــدعــو مــا فــي الــقدر إلــى الــبرودة كــما أنــه لــيس
م ــن ح ــقك ع ــقليا ً وال أخ ــالق ــيا ً أن ت ــخاط ــب ِق ــدرا ً م ــوض ــوع ـا ً ف ــي ال ــثالج ــة ب ــأن ــه ي ــجب ع ــليه أن يتح ـ ّـرك
داخليا ً ليجد حرارة الصحراء
.
10
حـني تـقرأ الـقرءان ،الـقراءة بـاملـعنى الـسابـق ،فـأنـت إمـا تـعقل وإمـا ال تـعقل ،إمـا تسـتفيد وإمـا
ال تســتفيد ،إمــا تجــد حــضور اهلل مــعك وتــأيــيده لــك بــروح الــقدس والــروح مــنه واإللــهام بــالــفهم وإمــا
ال تجــد ،وحــني ال تــعقل وال تســتفيد وال تجــد فــإنــك تــعرف ذلــك يــقينا ً مــن نــفسك وتــرى الــظلمة والــليل
الـقلبي وتـعرف أنـك لـم تـفهم الـقرءان وتـنتفع بـه .ال مـجال لـلوهـم هـنا .كـأن تـقرأ }يـا أيـها املـز ّمـل{ ثـم
تـقف عـندهـا فـتقول :مـا مـعنى املـز ّمـل؟ ومـا مـعنى الـنداء بـه؟ ومـا عـالقـة املـزمـل بـقيام الـليل؟ ومـا ومـا
ومـا وبـقية األسـئلة الـكثيرة والـسؤال مـفتاح الـعلم ،فـإمـا أن تجـد فـتحا ً مـبينا ً وتـعرف هـذه األمـور أو
ت ــعلم ش ــيئا ً م ــنها وإم ــا أن ال ت ــعلم ،وإن ل ــم ت ــعلم ق ــد ت ــسأل أه ــل ال ــذك ــر وق ــد ت ــقول ”م ــاذا أراد اهلل
به ــذا م ــثالً“ أو ”م ــاذا ق ــال آن ــفا ً“ ون ــحو ذل ــك .ف ــال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــرق ــان م ــا ب ــني امل ــؤم ــن وامل ــناف ــق،
ـتبني ذلـ ــك لـ ــهمواملـ ــؤمـ ــن والـ ــكافـ ــر ،والـ ــعالِـ ــم والـ ــجاهـ ــل .هـ ــي مـ ــيزان حـ ــقيقي يـ ــوزن بـ ــه الـ ــناس ويـ ـ ّ
ولـغيرهـم” .أومـن كـان مـيتا ً فـأحـييناه وجـعلنا لـه نـورا ً يـمشي بـه فـي الـناس كـمن مـثله فـي الـظلمات
ليس بخارج منها“
.
أم ــا ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ف ــليس ف ــيها ش ــيء م ــن ذل ــك .أخ ــبروه ــم أن أرك ــان ال ــصالة ق ــيام ورك ــوع
وجــلوس وســجود وتــلفظ بــالــفاتــحة وســورة والتســبيح والتشهــد والســالم والــتكبير ،ونــحو ذلــك .وهــذا
كــله تســتطيع أن تــقوم بــه إن شــاء اهلل بــدون أن تــعقل شــيئاً ،بــل تــقول وتــفعل وعــقلك يســبح فــي أي
مـوضـوع آخـر ،كـما روي عـن بـعضهم أنـه قـال ”إنـي أج ّهـز جـيشي وأنـا فـي الـصالة“ أو مـا أشـبه،
فــنعم تســتطيع وأنــت فــي هــذه الــصالة الحــركــية الــلفظية الــنمطية الــثابــتة أن تجهــز جــيشا ً وتجهــز
ق ــائ ــمة ت ــسوق وتس ــبح ف ــي أل ــف خ ــيال وخ ــيال ب ــدون اإلخ ــالل ب ــشيء م ــنها .ل ــكن ف ــي امل ــقاب ــل ،ال
تســتطيع أن تــقرأ الــقرءان وتــفعل مــثل ذلــك ”مــا جــعل اهلل لــرجــل مــن قــلبني فــي جــوفــه“ ألن الــصالة
الـقرآنـية صـالة قـلبية ،والـقلب لـه الـتعقل والـتفقه كـما قـال اهلل ،فيسـتحيل أن يـنشغل بـاألمـريـن مـعا ً
ف ــإذا دخ ــل ف ــي أم ــر خ ــرج م ــن اآلخ ــر ف ــي ع ــني لح ــظة دخ ــول ــه ف ــيه .وك ــذل ــك م ــثالً ال ــرواي ــة امل ــنسوب ــة
لـلنبي ”ال صـالة لـحاقـن“ فهـذه ال تـنطبق عـلى الـصالة الـتقليديـة ألن الـحاقـن والـغاضـب وأيـا كـان
مـن مـشاغـل الـبدن والـذهـن يـمكن أن تـكون قـائـمة بـاإلنـسان ويـقيم الـصالة الـتقليديـة بـدون اإلخـالل
ب ــشيء م ــنها وع ــلى م ــرأى م ــن الج ــميع ،ل ــكن ال ــصالة ال ــقرآن ــية ال ي ــمكن أن ي ــقيمها ح ــاق ــن والح ــظ
ـصل وأنـت حـاقـن“ فـالحـديـث خـبر عـن واقـع ولـيس أمـر بـإيـجاد الـخبر ”ال صـالة لـحاقـن“ ولـيس ”ال ت ّ
شيء ،وهذا الخبر مشهود صدقه بالنسبة للصالة القرآنية وليس بالنسبة للصالة التقليدية
.
ال ــسؤال ل ــيل ،ال ــجواب ن ــهار .ف ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية ي ــوج ــد س ــؤال وج ــواب ب ــني ال ــعبد ور ّب ــه ،وك ــذل ــك
ســؤال وجــواب بــني املــتع ّلم واملـُـع ّلم ،كــما رأيــنا أن الــصالة تــنقسم إلــى نــوعــني صــالة تــقيمها لــنفسك
11
وصــالة تــقيمها لــغيرك ،قــال فــي األولــى ”أقــم الــصالة“ وقــال فــي األخــرى ”كــنت فــيهم فــأقــمت لــهم
الصالة“ .ثنائية السؤال والجواب في النفس مثل ثنائية الليل والنهار في اآلفاق
.
خ ــر ال ــشمس وال ــقمر{ ال ــقرءان ش ــمس ،وال ــقارئ ق ــمر ي ــتلوه ”ات ـ ُـل م ــا أوح ــي إل ــيك م ــن ك ــتاب }س ّ
ربـك“ ”والـشمس وضـحاهـا .والـقمر إذا تـالهـا“ فـهو يـتلوه بـمعنى يـتبعه ويـأتـي بـعده ويـأخـذ مـنه ُك ّـل
ذلــك حــق .الــشمس حــس ومــنه الــسجود لــلشمس ،لــكن الــقمر نــور ”اهلل نــور“ ،كــلمات الــقرءان مــثل
الــشمس ألنــها مــحسوســة بــاعــتبار ظــهورهــا ،لــكن بــدون فــهمها وتــفسيرهــا وتــأويــلها بــوســيلة الــقارئ
الــقمري فــإنــها ال تــنير الــنفس والــقلب بــل تــبقى عــلى مســتوى ظــاهــر الــوعــي وال يــعلم اإلنــسان مــنه
إال ظ ــاه ــر ح ــيات ــه ال ــدن ــيا .ل ــذل ــك الب ــد م ــن ال ــقراءة” ،س ـنُقرئ ــك ف ــال ت ــنسى“ فه ــذا ف ــي ال ــصالة ال ــتي
ـبني لــك .ثــم قــال ”وأن أتــلو الــقرءان تــقيمها لــنفسك ”رب اجــعلني مــقيم الــصالة“ فــإن اهلل يُــقرئــك ويـ ّ
فـمن اهـتدى فـإنـما يهـتدي لـنفسه“ وقـال ”أقـمت لـهم الـصالة“ وقـال ”فـاسـألـوا أهـل الـذكـر إن كـنتم
ال تـعلمون“ فـهنا الـنبي والـرسـول والـقارئ بـاهلل يـكون خـليفة اهلل فـي تـعليم عـباده ”يـعلمهم الـكتاب
والــحكمة“ .املــقصد مــن الــصالة جــعل الــنفوس ســماويــة ،نــورانــية ،عــقلية .وهــذا نجــده فــي الــصالة
القرآنية
.
أمــا فــي الــصالة الــتقليديــة فــمن الــواضــح أنــه ال بــيان وتــبيني وشــرح وتــفصيل فــإن اإلمــام يــتلو
ظــاهــر الــنص الــقرآنــي فــقط ،بــل ويــتلوه عــادةً بــنحو يــمنع حــتى الــسامــع مــن تــدبــره وتــأمــله والــتفكر
فــيه بــحكم تــخفيف الــصالة والســرعــة النســبية فــيها .ثــم إن مــحاولــة اإلمــام أو املــصلي حــفظ عــدد
وكـمية الـركـعات يـوقـف عـقله عـن الـتأمـل واالسـتغراق فـي اآليـات وإال سـها فـي الـعادة فـيحتاج إلـى
ضــبط عــقله حــتى يــركــز عــلى صــورة الــلفظ وصــورة الحــركــة وكــيفيات وكــميات ذلــك فــيحول هــذا بــينه
وبـني املـعانـي واالسـتغراق والـتوغـل فـيها بـل وعـادةً يـحول بـينه وبـني قـشور املـعانـي أيـضا ً .الـقراءة
ت ــطلب امل ــعنى وامل ــعنى يش ــترط اإلخ ــالص ف ــي ال ــبحث ع ــنه ،وأم ــا ال ــصورة وال ــشكلية ف ــإن ــها ع ــدو
املــعنى وضـ ّده وحــاجــب يــمنع مــن االقــتراب مــنه .لــذلــك ال تســتغرب مــن كــثرة املــصلني وقـ ّلة الــعاقــلني
والــعاملــني والــروحــانــيني والــفاهــمني كــتاب رب الــعاملــني ،فــإن هــذا لــيس عــيبا ً فــي الــصالة الــقرآنــية بــل
فــي الــصالة الــتقليديــة حــني تُتخــذ بــالنســبة لــلعا ّمــة كــالــصالة الــوحــيدة واألصــلية ويــرونــها الــفرض
الــوحــيد بــدالً مــن أن تــكون مــثالً مــق ّدمــة تــفريــغ وتــجهيز وإعــداد لــلصالة الــقرآنــية الــتي هــي قــراءة
القرءان بتعقل وتفقه ودراسة وتذكر وتدبر طلبا ً للعلم منه وتقربا ً إلى اهلل به
.
ل ــلنفس أج ــل م ــسمى وه ــو ع ــمره ــا ف ــي ال ــدن ــيا .وامل ــقصد م ــن ح ــيات ــها ال ــدن ــيا ه ــو تح ــدي ــدا ً ال ــتذ ّك ــر
والـتعلم واملـعرفـة والـتعقل آليـات اهلل .فـال يـوجـد شـغل أولـى مـن االسـتنارة بـآيـات اهلل لـلنفس فـي هـذه
12
الـدنـيا .وهـذا االشـتغال املـق ّدس هـو الـصالة .فـفي الـصالة شـغل ألهـل الـعقل الـذي عـرفـوا الـحكمة
من وجودهم في الدنيا
.
ل ــكن أه ــل ال ــصالة ال ــتقليدي ــة وم ــا وض ــعه أص ــحاب ــها ف ــي أذه ــان ع ــا ّم ــة املس ــلمني ب ــل وأك ــثر
شـيوخـهم أيـضاً ،هـو أنـهم إن أقـامـوا هـذه الـصالة فـقد أقـامـوا عـمود الـديـن ولـم يـبقَ بـعده إال مـزيـد
فــضل وزيــادة ملــن شــاء ومــعنى ذلــك واقــعيا ً هــو مــا تــراه اآلن فــي األ ّمــة مــن شــبه هجــر تــام لــدراســة
ال ــقرءان ،وإن درس ــه ال ــبعض ف ــيكاد ي ــكون دائ ــما ً ب ــعني وم ــنظار امل ــذه ــب وال ــعقيدة ب ــحيث ال ي ــكاد
يســتطيع إال الــقليل جــدا ً الــنظر فــي الــقرءان مــع تجــريــده واعــتباره كــما هــو فــقط بــدون فــرض آراء
املذاهب والفرق عليه
.
هـذا الـتح ّول مـن مـركـزيـة االسـتنارة بـاآليـات اإللـهية إلـى مـركـزيـة الـشكليات الـفقهية والـعواطـف
ال ــعقائ ــدي ــة ،ت ــمثّل أي ــضا ً ب ــال ــتح ّول م ــن ف ــرض ــية ال ــصالة ال ــقرآن ــية إل ــى ف ــرض ــية ال ــصالة ال ــتقليدي ــة
وصـيرورة قـراءة الـقرءان عـمالً تـطوعـيا ً أو فـرضـا كـفائـيا ً أو فـضيلة زائـدة .بسـبب الـصالة الـتقليديـة
صـ ــار الـ ــقرءان نـ ــفالً بـ ــعدمـ ــا كـ ــان فـ ــرض ـ ـاً ،ودراسـ ــته فـ ــضيلة بـ ــدالً مـ ــن فـ ــريـ ــضة ،واالسـ ــتنباط مـ ــنه
استئناسا ً وتدعيما ً للمذهب بدالً من تأسيسا ً و ُمعت َ َمدا ً للقلب
.
}وأن اهلل بـما تـعملون خـبير{ مـا سـبق مـن كـالم عـن اآلفـاق بـليله ونـهاره وشـمسه وقـمره وأجـله ،هـذه
كـلها أمـثال لـعمل الـنفس اإلنـسانـية يـنبغي عـلينا االقـتداء بـها والـقياس عـليها ومـعرفـة حـالـنا بـالـنظر
ف ــيها .ال ــنفس إم ــا سـ ـتُفتَح ل ــها أب ــواب ال ــسماء ب ــعد امل ــوت أم ال ،وال ــنفس ال ــسماوي ــة سـ ـتُفتَح ل ــها،
وال ــنفس ذات ال ــشهوات ل ــن تُ ــفتح ل ــها ”وح ــيل ب ــينهم وب ــني م ــا يش ــتهون“ ب ــعد امل ــوت مل ــفارق ــة ال ــبدن
األرض ــي .ق ــال اهلل ”فخ ــلف م ــن ب ــعده ــم خ ــلف أض ــاع ــوا ال ــصالة وات ــبعوا ال ــشهوات ف ــسوف ي ــلقون
غــيا“ ،فــالــصالة عــمل َمــن تــحقق بــه وقــام بــه وأقــامــه وحــافــظ عــليه مــنعه مــن اتــباع الــشهوات ،وذلــك
ألســباب كــثيرة أهــمها فــطري ذاتــي وجــودي ولــيس مجــرد وعــظا ً لــفظياً ،ألن الــصالة تــح ّول الــنفس
إلـى الـجانـب الـروحـي والـعقالنـي بـذاتـها بـإذن اهلل ”الـصالة تـنهى عـن الـفحشاء واملـنكر“ ،فـالـصالة
م ــن ش ــأن ال ــروح ال ــعقلي األع ــلى ك ــما أن ال ــشهوة م ــن ش ــأن ال ــبدن ال ــظلمان ــي األس ــفل .ل ــذل ــك مل ــا
أض ــاع ــوا ال ــصالة اق ــترن ذل ــك ب ــات ــباع ال ــشهوات ،ف ــكلما ازدادت ال ــنفس م ــن ال ــصالة قـ ـ ّلت ف ــيها
ال ـ ــشهوات ،وك ـ ــلما ض ـ ــعفت ف ـ ــيها ال ـ ــصالة زادت ف ـ ــيها ال ـ ــشهوات ،ك ـ ــامل ـ ــيزان إذا ارت ـ ــفع م ـ ــن ج ـ ــهة
انـخفض مـن األخـرى” ،قـد أفـلح مـن زكـاهـا .وقـد خـاب مـن دسـاهـا“ .اآلن لـننظر بـني املسـلم الـذي
يـصلي الـصالة الـقرآنـية واملسـلم الـذي يـصلي الـصالة الـتقليديـة ،فـي الـعادة ،وسـنرى أن الـصالة
الـتقليديـة ال عـالقـة لـها أصـالً بـالـحقيقة فـي إحـداث تـغيير نـفسي يـمنع مـن اتـباع الـشهوات ،لـذلـك
قـام بهـذه الـصالة أنـا هـم مـن أعـرق وأغـرق الـناس فـي بـحار الـشهوات بـل والـدمـاء والـفساد والـظلم
13
والـطغيان ،لـكن كـم مـن هـؤالء كـان مـمن يـحافـظ عـلى الـصالة الـقرآنـية ويـداوم عـليها انـظر ولـن تـرى
عــادةً مــنهم أحــدا ً وإن وجــدت فــق ّلة نــادرة ،ألن اهلل قــال ”ســأصــرف عــن آيــاتــي الــذيــن يــتكبّرون فــي
األرض بـ ــغير الـ ــحق“ وقـ ــال بـ ــعض الـ ــعلماء أن مـ ــعنى هـ ــذه اآليـ ــة هـ ــو نـ ــزع فـ ــهم الـ ــقرءان مـ ــنهم أو
ـتوصـل بـإذن حـرمـانـهم مـن الـفهم أو نـحو ذلـك ،وهـو كـذلـك .وأيـضا ً ألن نـفس عـملية قـراءة الـقرءان وال ّ
اهلل إل ــى م ــعان ــيه وال ــفتح ف ــيه ي ــحتاج إل ــى ن ــوع ط ــهارة ن ــفسية وق ــدس ــية ع ــقلية ب ــدرج ــة م ــا وإال ف ــال
ـصرف اإلنــسان عــن الــقرءان، ـمسه إال املطهــرون“ ،فــيوجــد حــد مــن الــطهارة بــدون يُـ َ يــحصل” ،ال يـ ّ
ثــم بــعد هــذا الحــد الــذي يــدخــل بــه فــيه كــلما ازدادت طــهارتــه ازدادت مــعرفــته وفــتحه بــإذن اهلل ”هــم
درج ــات ع ــند اهلل“ ”ي ــرف ــع اهلل ال ــذي ــن ءام ــنوا م ــنكم وال ــذي ــن أوت ــوا ال ــعلم درج ــات“ .ل ــذل ــك ال ــصالة
الــقرآنــية حــني تــكون هــي الــفريــضة املــحفوظــة فــإن الــفرد والجــماعــة ســيميلون تــلقائــيا ً وعــفوي ـا ً ومــن
داخـل قـلوبـهم وبـباعـث مـن ربـهم فـي نـفوسـهم إلـى التطهـر والـتقدس والسـالم والـسكينة ونـحو ذلـك
مـن الـصفات املحـمودة لـلنفس واملـجتمع ،وبـخالف ذلـك حـني تـكون الـصالة الـتقليديـة هـي الـفريـضة
كـما هـو الـحاصـل اآلن فـإن أفسـد وأظـلم وأفـسق وأجهـل املـجتمعات لـعلها تـقيم هـذه الـصالة أيـضا ً
وك ــذل ــك األف ــراد أص ــحاب ال ــسفح وال ــسفك وال ــلعنة أي ــضا ً ي ــقيمون ــها ب ــل ل ــعلك ت ــحقر ص ــالت ــك إل ــى
ص ــالت ــهم م ــن ه ــذا ال ــوج ــه ال ــصوري ال ــشكلي الحنج ــري ال ــلفظي إن ك ــنت م ــن أه ــل ال ــنظر إل ــى
املظاهر واملحسوسات حصرا ً
.
الحاصل :التنوير في الصالة القرآنية وبها بإذن اهلل تصبح النفوس سماوية
.
شــاهــد رابــع} :إذ دخــلوا عــلى داود فــفزع مــنهم قــالــوا ال تــخف خــصمان بــغى بــعضنا عــلى بــعض
فاحكم بيننا بالحق وال تشطط واهدنا إلى سواء الصراط{
اف ــترض ي ــا ص ــاح ــب ال ــقرءان ،وه ــذه األ ّم ــة ك ــلها امل ــفروض أن ت ــكون أص ــحاب ق ــرءان ،اف ــترض أن ــه
جـاءك مـن أصـحاب الـصالة الـتقليديـة مـن أهـل املـذاهـب اإلسـالمـية خـصمان أو أكـثر عـرضـوا عـليك
مــسألــة مــن مــسائــل الــصالة الــتي اخــتلفوا فــيها ،وطــلبوا مــنك كــحامــل لــكتاب اهلل أن تــحكم بــينهم
فيها ،فكيف ستحكم بينهم بكتاب اهلل؟ هل تستطيع أصالً أن تحكم بينهم بكتاب اهلل؟
ض ــع ف ــي ب ــال ــك اآلت ــي .ال ت ــفترض جه ــلة وع ــوام ه ــم ال ــذي ــن ت ــخاص ــموا إل ــيك .ك ــال .اف ــترض أن
أكـبر املجتهـديـن مـن جـميع املـذاهـب الـفقهية الـسنية والـشيعية واإلبـاضـية وغـيرهـم هـم الـذيـن جـاءوا
إل ــيك .وق ــال ــوا ل ــك }ف ــاح ــكم ب ــيننا ب ــال ــحق{ ف ــمن أي ــن س ــتأت ــيهم ب ــال ــحق؟ ال ت ــنسى أن ه ــؤالء ك ــلهم
14
أصـحاب روايـات واجـتهاد ،بـمعنى أنـهم قـد بـحثوا فـي مـرويـاتـهم ونـ ّقحوهـا وحـكموا عـلى األسـانـيد
واملــتون وفــرغــوا مــن كــل ذلــك وجــاءوا لــك بــالــزبــدة والــثمرة مــن بــحوثــهم وقــالــوا لــك مــثالً :أيــن نــضع
أي ــدي ــنا ف ــي ال ــصالة }اح ــكم ب ــيننا ب ــال ــحق وال تش ــطط واه ــدن ــا إل ــى س ــواء ال ــصراط{ ف ــإن ــه حس ــب
رواي ــات ــنا ت ــوج ــد أق ــوال ،األول أن ن ــضعها ع ــلى ص ــدوره ــا ،ال ــثان ــي ت ــحت الس ــرة ،ال ــثال ــث نس ــبلها
بـجانـب الفخـذ ،الـرابـع نسـبلها عـلى الفخـذ جـهة الـركـبة ،وهـكذا بـدأوا يـعددون لـك األقـوال فـي هـذه
املــسألــة حســب مــا جــمعوه مــن جــميع مــذاهــبهم .وفــعلوا مــعك نــفس األمــر بــالنســبة لجــميع املــسائــل
الفقهية التي اختلفوا فيها اختالفا ً واسعا ً بينا ً متناقضا ً .اآلن ماذا ستفعل؟
ـفصل هـ ــذه املـ ــسائـ ــل.إن قـ ــلت :ال أسـ ــتطيع أن أحـ ــكم بـ ــينهم بـ ــكتاب اهلل ألن كـ ــتاب اهلل لـ ــم يـ ـ ّ
سـأقـول :فهـذه املـسائـل إذن ليسـت مـن كـتاب اهلل وإال فـإن الـكتاب املـبني ال يخـلق مـشاكـل ثـم يعجـز
عـن حـلها عـلى فـرض أنـه هـو الـذي خـلق املـشكلة وقـد عـرفـنا أنـه لـم يخـلقها بـل خـلقتها الـروايـات أو
أصحابها وكيفية قراءتهم وفهمهم لها
.
إن قـلت :بـما أن الـكتاب لـم يـفصلها فهـذا يـعني أنـها كـلها صـالـحة فـي الجـملة فـليقم كـل واحـد
ب ــما ان ــتهى إل ــيه اج ــتهاده .س ــأق ــول :ل ــكن ال ــرواي ــات وع ــا ّم ــة أه ــل ف ــقهها ال ي ــقول ــون به ــذا ب ــل ي ــب ّدع
بـعضهم بـعضا ً وقـد يـكفّر بـعضهم بـعضا ً ويـضرب بـعضهم بـعضا ً بسـبب تـلك االخـتالفـات .واهلل قـد
قـال ”إن هـذا الـقرءان يـقص عـلى بـني إسـرائـيل أكـثر الـذي هـم فـيه يـختلفون“ فـكيف ال يـقص عـلى
املس ــلمني أه ـ ّم وأك ــبر م ــا ه ــم ف ــيه ي ــختلفون ف ــي أم ــوره ــم ال ــعملية ال ــعبادي ــة وع ــمود ال ــدي ــن وأس ــاس
النجاة
.
الـلطيف أنـنا إذا نـظرنـا فـي جـميع مـذاهـب املسـلمني ،سنجـدهـم يـؤمـنون بـقراءة الـقرءان وحـفظ
أوق ــات ال ــصالة حس ــب م ــا ورد ف ــي اآلي ــات وال ي ــر ّد ذل ــك أح ــدا ً ف ــيما ن ــعلم م ــن ال ــعلماء وال ــفقهاء ب ــل
وع ــا ّم ــة املس ــلمني واملس ــلمات .فه ــذا ال ــقدر وه ــو ال ــقدر ال ــقرآن ــي نج ــده ج ــام ــعا ً ل ــأل ّم ــة .فنس ــتطيع أن
نــحكم عــلى الــكل بــكتاب اهلل بــأن نــقول :هــذه االخــتالفــات الــزائــدة عــلى الــقراءة والــوقــت ال قــيمة لــها
ويــجب اإلعــراض عــنها والبــد مــن أن نــقيم الــديــن جــميعا ً وال نــتفرق فــيه بحســب مــا جــاء فــي الــوحــي
الـجامـع لـلكل .فـال أعـلم مـذهـبا ً إال وجـعل الـقراءة فـي الـصالة ،وفـي حـال العجـز عـن الـقراءة جـعلوا
األذكـار مـن قـبيل التسـبيح ونـحوه وهـذا ألن لـب الـقرءان هـو ذكـر اهلل ومـا هـو عـلى الـتحقيق إال ذكـر
اهلل ”إنــما يــوحــى إل ـيّ أنــما إلــهكم إلــه واحــد“ لــكن حــتى هــؤالء نــظروا إلــى قــراءة الــقرءان كــأصــل.
وك ــذل ــك ال ــوق ــت بحس ــب م ــا ورد ف ــي اآلي ــات م ــن ق ــبيل }ل ــدل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل{ .ف ــمسائ ــل
ال ــقراءة وال ــوق ــت ي ــمكن ال ــتحاك ــم ف ــيها إل ــى ك ــتاب اهلل .واالخ ــتالف ف ــي ك ــتاب اهلل إم ــا ش ــقاق ب ــعيد
ـقر بـه املـنصفون مـن الـعلماء ،فـاأل ّول مـمنوع والـثانـي هـو مـن وإمـا اخـتالف تـنوع يـحتمله الـكتاب وي ّ
مـدلـول الـكتاب وال يـفرق بـني األمـة .وأمـا مـن زعـم أنـه ال مـناص مـن افـتراق األ ّمـة وإن تـحاكـمت إلـى
15
كــتاب اهلل فهــذا يــكذّب بــالــوحــي ويــسفّه أمــر الــحق تــعالــى ”أقــيموا الــديــن وال تــفرقــوا فــيه“ .الــتحاكــم
إل ــى ال ــكتاب الب ــد أن ي ــكون بش ــرط ال ــتحاك ــم إل ــيه بحس ــب م ــدل ــول ال ــلسان ال ــعرب ــي ”ب ــلسان ع ــرب ــي
مـبني“ ،وبشـرط عـدم فـرض رأي مـن الـخارج عـليه فهـذا بـديـهي ألنـه حـينها لـن يـكون الـتحاكـم إلـى
الـكتاب بـل إلـى الـكتاب مـع الـرأي املـفروض عـليه فهـذا خـالف مـقتضى الـدعـوة إلـى الـكتاب ”دعـوا
إلــى كــتاب اهلل لــيحكم بــينهم“ فــالبــد أن يــكون الــكتاب هــو الــحاكــم بــيننا فــلو جــاء شــخص بــمفهوم
مـن روايـة وأراد تـطبيقها عـلى الـكتاب فهـذا يـتحاكـم إلـى الـروايـة ولـيس إلـى اآليـة فـالشـرط افـتراض
أنــه ال يــوجــد إال هــذا الــكتاب بــني أيــديــنا وهــو عــربــي مــبني فــلننظر فــيه ونــحتج بــه حــصرا ً لــنرى مــا
نخـرج بـه ثـم لـننظر الـفرق بـني هـذا الـتحاكـم وبـني مـا يـحصل اآلن مـن تـحكيم الـروايـات والـتواريـخ
واآلراء املستنبطة من مصادر متعددة غير كتابية
.
الــتحاكــم إلــى الــروايــات لــن يــنفع فــي حــل مــسألــة وتــوحــيد أ ّمــة ،فــقد تــحاكــموا إلــيها عــبر قــرون
وهـا نـحن الـيوم عـلى مـا نـحن عـليه .كـذلـك الـتحاكـم إلـى كـتب الـفقه ومـجادالت الـفقهاء فـإنـها أيـضا ً
لـن تـنفع فـلديـنا مجـلدات أولـها فـي األرض وآخـرهـا لـعله يـصل الـقمر ومـع ذلـك بـقي الـحنفي حـنفيا ً
يبش ــر ب ــعض األح ــناف ب ــعضهم ب ــعضا ً ب ــأن امله ــدي سيخ ــرج وي ــحكم ب ــامل ــذه ــب ال ــحنفي وال ي ــزال ّ
وكــذلــك بــقي الــشافــعي شــافــعيا ً والــجعفري جــعفري ـا ً وهــل ّم جـ ّـرا ً .هــذه تجــربــة فــاشــلة ،مــضى عــليها
قــرون وثــبت فشــلها .األمــر الجــديــد هــو األمــر الــعتيق ،هــو مــا جــاء بــه الــنبي ســالم اهلل عــليه وكــان
يـ ــحكم بـ ــه ”أنـ ــزلـ ــنا إلـ ــيك الـ ــكتاب لـ ــتحكم بـ ــني الـ ــناس بـ ــما أراك اهلل“ يـ ــعني أراك اهلل فـ ــي الـ ــكتاب
التــصال آخــر الــكالم بــأولــه وإال فــلو كــان يــرى رأيـا ً خــارج الــكتاب املــنزل إلــيه ملــا كــان فــي تــصديــر
اآليــة بــذكــر إنــزالــه فــائــدة وعــبرة ،إال أن يــقال بــأن إنــزال الــكتاب ح ـ ّول عــقله بــطريــقة جــعل رأيــه أيــا
كـان مـوافـقا ً لـنور الـكتاب فهـذا أيـضا ً يـقتضي أن يـكون حـكمه ورأيـه مـوافـقا ً ملـا فـي الـكتاب ولـو فـي
ب ــطون ــه وأس ــراره وال ــرب ــط ال ــعميق ب ــني م ــختلف آي ــات ــه وم ــوض ــوع ــات ــه وت ــأوي ــله ،ع ــلى ال ــوجه ــني الب ــد م ــن
الـتحاكـم والـرؤيـة بـالـكتاب املـنزل والـتعاون عـلى ذلـك فـإن اهلل أكـرم وأرحـم مـن أن يـدع األ ّمـة وهـي
ت ــتحاك ــم إل ــى ك ــتاب ــه مل ــعرف ــة ك ــيف ت ــقيم أم ــره ودي ــنه ودي ــنها” .ات ــقوا اهلل وي ــعلمكم اهلل“ .ف ــلنتّق اهلل
بـالـتحاكـم إلـى كـتابـه والـصدور فـي رأيـنا عـن دراسـته وحـده مـا اسـتطعنا إلـى ذلـك سـبيالً وال يـكلف
اهلل نفسا ً إال وسعها ً وما آتاها
.
-فصل :نذير
-
نـذيـر} :ولـقد أهـلكنا الـقرون مـن قـبلكم ملـا ظـلموا وجـاءتـهم رسـلهم بـالـبينات ومـا كـانـوا لـيؤمـنوا كـذلـك
نجزي القوم املجرمني{
16
الــبينات الــتي يُجــمع املســلمون أن الــرســول جــاء بــها هــي اآليــات الــقرآنــية .والــقدر الــذي يــتفق الــكل
عــلى أن مــخالــفته ظــلم هــو مــخالــفة الــقرءان .وال أرى عـ ِ
ـاملــا يــعتقد بــأنــه يــسع إنــسان أن ُيــق ّدم شــيئا ً
عــلى كــتاب اهلل تــعالــى .مــن هــذا املــنطلق لــننظر فــي اآليــات ونــتصل بــها وال نــقطع صــلتنا بــها إمــا
بالكلية وإما بوضع شيء آخر أجنبي عنها بيننا وبينها فنكون من املجرمني والعياذ باهلل
.
لــم تــزل هــذه األ ّمــة مــختلفة اخــتالف تــضاد وحــرب مــنذ قــرون ،واإلعــراض بــالــكلية عــن كــتاب اهلل أو
تـسخير بـيناتـه كمجـرد أدوات بحسـب الـشهوة لـدعـم املـذهـب والـفرقـة هـو الـنمط الـعام الـذي سـارت
عـليه .لـيكن قـرنـنا هـذا قـرنـا ً جـديـدا ً نـحيي فـيه بـينات رسـولـنا ونـؤمـن بـما فـيها ولـو كـانـت الـنتيجة مـا
ـمسك بـبينات رسـولـه الـثابـتة ،لـكن سـ ُي ِ
حاسـب يـقينا ً الـذيـن كـانـت .فـإن اهلل لـن يـحاسـب إنـسانـا ً ألنـه ت ّ
أعرضوا عن الذكر وهجروا القرءان بدرجة أو بأخرى” ،وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون“
.
أرى م ــن ال ــنظر ف ــي ط ــبيعة ال ــصالة ال ــتقليدي ــة وآث ــاره ــا ال ــواق ــعية ف ــي األ ّم ــة وك ــذل ــك م ــن ال ــنظر ف ــي
الـروايـات املـتعلقة بـها أن الـصالة الـقرآنـية تـراجـعت بـعدمـا تـق ّدمـت دول االسـتبداد بـعد الـنبي صـلى
اهلل عــليه وآلــه وســلم وصــار اإلســالم مجــردة لــفظ وصــورة ورســم ُيــراد إدخــال عــدد كــبير مــن الــناس
فـيه واتـباعـه بـعدمـا صـار مج ّـرد دولـة والـديـانـة جـزء مـنها بـدالً مـن أن يـكون ديـانـة والـدولـة مج ّـرد آلـة
دنيوية لها
.
ذل ــك ألن ال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــردي ــة وع ــقالن ــية وت ــعليمية ،ه ــذه أص ــول ــها ال ــثالث ــة ال ــجوه ــري ــة .ب ــينما
ـسية وعــسكريــة الــدولــة االســتبداديــة صــارت تــبحث عــن رعــية وقــطيع فــالــفرديــة عــدو لــها ،وصــارت حـ ّ
ـضرب املــتسائــل فــيها عــن آيــة مــاديــة الــطابــع فــالــعقالنــية عــدو لــها ،وصــارت تــقليديــة عــقائــديــة قــد ُيـ َ
قـرآنـية حـتى يـكاد يُـقتَل ويـحارب أصـحاب الـفهم الـقرآنـي بـالـنفي والـضرب وأحـيانـا ً الـقتل فـالـنمط
التعليمي والعلمي صار من أعدائها
.
الـطريـقة الـقرآنـية تـصنع فـردا ً عـاقـالً مـتعلماً ،بـينما الـطريـقة االسـتبداديـة أرادت رعـية عـسكريـة
ُم ــق ّلدة .وب ــما أن ع ــمود ال ــدي ــن ال ــقرآن ــي ه ــو ال ــصالة ،ف ــتم ت ــضييعها وت ــبدي ــلها وإدخ ــال ال ــتغييرات
عليها من جهات شتى معنوية وصورية ومقاصدية حتى يحدث االستبدال املناسب لالستبداد
.
كــذلــك بــعض الــروايــات تــكشف التحــزب والــشقاق الــذي انتهــت إلــيه األ ّمــة مــن بــعد عهــد الــنبي،
وص ــار ال ــرواة م ــن ”ال ــصحاب ــة“ ي ــخال ــف ب ــعضهم ب ــعضا ً ف ــي ال ــتعال ــيم ع ــن ال ــصالة وغ ــيره ــا ح ــتى
ُيظهــروا أنــهم هــم عــمدة الــديــن واملــراجــع املــعتمديــن وصــار بــعضهم يــنازع بــعضا ً فــي ذلــك ومــا تــلى
17
ذلـك مـن أتـباعـهم أشـ ّد وهـكذا دوالـيك .فـألن الـصالة الـقرآنـية ال يـمكن أن يـقع فـيها مـثل ذلـك بـحكم
كـون الـقرءان عـند الجـميع ،فـال تـفاضـل وتـنازع وبـغي مـن هـذا الـوجـه إال نـادرا ً ولـن يـدوم بـحكم مـا
فــي الــقرءان ذاتــه مــن عــوامــل تــمنع مــثل هــذا الــشقاق ،فــكان البــد مــن إدخــال عــنصر آخــر وجــعله
املـعتمد حـتى فـي الـحكم عـلى الـقرءان وهـذا الـعنصر هـو املـرويـات املـنسوبـة لـلنبي وكـيفية فـهم هـذه
املــرويــات حــتى فــرض صــدقــها .فــانــتقلت الســلطة مــن ســلطة الــكتاب إلــى ســلطة الــشخص الــراوي
ـعرف بـالـعقل والـوجـود والـقرءان ،بـل صـار والـثقة بـه كـصادق الـنقل حـافـظ الـواقـعة ،فـصار الـحق ال يُ َ
ـعرف ب ــاالع ــتماد ع ــلى ف ــالن وع ــالن ،وه ــذا ي ــناس ــب ال ــنمط االس ــتبدادي ت ــمام ـا ً .وال ــصالة ك ــان ل ــها ُي ـ َ
الحـظ األوفـر مـن هـذا الـتحويـل والـتضييع والـعبث ،بـحكم كـونـها عـمود الـديـن الـذي يـبدأ الـفساد مـنه
أو اإلص ــالح ب ــه ك ــما ق ــال ت ــعال ــى }فخ ــلف م ــن ب ــعده ــم خ ــلف أض ــاع ــوا ال ــصالة وات ــبعوا ال ــشهوات
فسوف يلقون غيا{ فاملعادلة بسيطة وتبدأ من تضييع الصالة
.
مــما يشهــد لهــذا املــعنى ،أنــك إن وجــدت مــائــة إنــسان يــقيم الــصالة الــقرآنــية ،فــإنــك عــادةً لــن
تج ــد ف ــيهم إال واح ــدا ً ي ــمكن أن ي ــكون م ــن أه ــل ال ــطغيان واالس ــتبداد وال ــفساد والجه ــل ه ــذا إن
وجــدتــه ،بــل ســتجد رجــاالً مــن أهــل اهلل عــادةً ،وحــتى فــي الــروايــة مــصداق ذلــك لــقول الــنبي صــلى
اهلل ع ــليه وآل ــه وس ــلم ”أه ــل ال ــقرءان أه ــل اهلل وخ ــاص ــته“ .ل ــكن ب ــالنس ــبة ل ــلصالة ال ــتقليدي ــة ،ي ــقيمها
الـيوم مـئات املـاليـني بـل فـوق املـليار وقـريـب مـن املـلياريـن مـن املسـلمني بـدرجـة أو بـأخـرى ،لـكنهم ”
غ ــثاء ك ــغثاء ال ــسيل“ ب ــشكل ع ــام ب ــدل ــيل أن ــه إل ــى ال ــيوم أك ــبر وأس ــوأ اس ــتبداد ف ــي األرض م ــوج ــود
ب ــشكل ع ــام ف ــي ال ــبالد ذات األغ ــلبية املس ــلمة ،ف ــما أغ ــنى ع ــنهم وم ــا ن ــفعتهم ه ــذه ال ــصالة ال ف ــي
االن ــتهاء ع ــن ف ــحشاء وم ــنكر وظ ــلم وب ــغي وع ــدوان وف ــساد وجه ــل .ن ــعم إرج ــاع ك ــل ذل ــك ف ــقط إل ــى
ال ــصالة ال ي ــكفي ،ل ــكن ل ــلصالة دور م ــهم وأس ــاس ــي ف ــي ت ــشكيل ن ــفس امل ــص ّلي وع ــقليته وط ــري ــقة
حياته بل وذوقه وحساسيته لألمور
.
ال ــصالة ال ــقرآن ــية ت ــصنع ب ــإذن اهلل ن ــفسا ً ت ــميل وتنج ــذب ل ــجهة ال ــعقل وال ــعدل ،ب ــينما ال ــصالة
الـتقليديـة فـي أحـسن األحـوال مـحايـدة وفـي الـعادة ومـعظم األحـوال تـميل بـالـنفس جـهة عـدم الـنفرة
م ــن الجه ــل وال ــظلم .ال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــعال ــة ،ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ف ــارغ ــة ،واالس ــتبداد ي ــناس ــبه أ ّم ــة
فارغة
.
هـل يـمكن الجـمع بـني الـصالة الـقرآنـية والـتقليديـة؟ وهـل الـتقليديـة عـائـق عـن إقـامـة الـقرآنـية وكـل مـا
فيها وآثارها وتجديد الدين بها؟
18
بـ ــالنسـ ــبة للجـ ــمع ،فـ ــهو مـ ــمكن .بـ ــل أرى حسـ ــب قـ ــراءة الـ ــروايـ ــات فـ ــي ضـ ــوء الـ ــقرءان واالعـ ــتبارات
الـتاريـخية الـنقلية املـتواتـرة أن هـذا مـا كـان عـليه حـال الـنبي وأصـحابـه الـصادقـني أصـالً .وهـو أنـهم
ك ــان ــوا ي ــقيمون ال ــصورة ال ــتقليدي ــة كممه ــد وكح ـ ّد أدن ــى إلق ــام ــة ال ــقرآن ــية .فللج ــلوس ل ــقراءة ال ــقرءان
ودراســته مــنفردا ً أو تــدارســه مــع جــماعــة ،جــاءت الــصورة الــتقليديــة كــوســيلة إعــداد وتــجهيز لــلقراء،
فـهي بحـركـاتـها الـريـاضـية ذات املـعنى الـتعبّدي فـي آن واحـد وفـي أذكـارهـا املـكررة والـنمطية تـؤدي
ب ــذل ــك إل ــى اس ــتحضار ال ــعقل م ــن م ــشاغ ــل ال ــدن ــيا وم ــا ك ــان م ــن أم ــر اإلن ــسان ق ــبل ال ــدخ ــول ف ــي
الـصالة الـقرآنـية وكـذلـك لـجعل جـسمه مـرتـاحـا ً حـتى يـبدأ بـقراءة الـقرءان والـذي يـحتاج إلـى فـترات
طـويـلة عـادةً مـن الجـلوس أو الـقيام ونـحو ذلـك مـن الـثبات الـجسمانـي حـتى يتحـرك الـعقل ويـتأمـل
الــقلب ،فــالحــركــات الــريــاضــية واأللــفاظ الــديــنية مــع الــهيئة الــتعبديــة واســتشعار مــعنى الــتعبّد هــذه
الـثالثـة تـؤدي إلـى إعـداد الـنفس لـلتفرغ لـلنظر فـي الـقرءان ودراسـته واالعـتبار بـه .مـن هـذا الـوجـه،
ي ــمكن أن ن ــقول الج ــمع ب ــني ال ــقرآن ــية وال ــتقليدي ــة م ــمكن .ل ــكن بش ــرط أن ن ــعرف أن ال ــتقليدي ــة ه ــي
مجرد إعداد وتجهيز وليست صلب الصالة القرآنية واملقصود منها
.
لـكن بـالنسـبة ألكـثر املسـلمني فـال أعـتقد إمـكان الجـمع ،ال أق ّـل لـيس كـبدايـة .وذلـك ألن املسـلم
امل ـ ــتوس ـ ــط ال ـ ــذي اع ـ ــتاد أن ي ـ ــكون ه ـ ـ ّـمه مج ـ ــرد ”إق ـ ــام ـ ــة ال ـ ــفرض“ و ”م ـ ــا يج ـ ــزئ“ و“يُ ـ ــسقط ع ـ ــنه
ال ــفرض“ وم ــا أش ــبه م ــن ت ــفكير ال ــكاره ــني ل ــلدي ــن وال ــجاه ــلني ب ــأم ــر اهلل وم ــقصد وج ــود ن ــفوس ــهم
وســعادتــهم ،وهــو كــله مــن تــعليم مــشايــخ الــدجــل والجهــل والــكفر بــالــنفس عــبر الــقرون ،هــذا الــنمط
املـريـض فـي الـتفكير سـيجعله يـقول ”مـا هـي الـصالة الـتي إن قـمت بـها أبـقى مسـلما ً كحـد أدنـى؟
“ فـإن قـيل لـه بـأنـها مجـرد حـركـات وألـفاظ يـقيم صـورتـها والسـالم ،فـسيكتفي بـذلـك ويـنتهي األمـر.
وأمــا قــراءة الــقرءان ودراســته فــلن تــكون عــلى بــالــه ،وإن قــام بــها فــي املــناســبات الــشاذة فســتكون
مجرد عمل إضافي ثانوي ال يرى له مركزية في حياته الدينية وحياته عموما ً
.
فأرى الحل كالتالي
:
بـالنسـبة ملـن يـفهم مـا سـبق ،عـليه أن يـقيم الـقرآنـية وإن شـاء أن يـقيم الـتقليديـة أيـضا ً بـاملـعنى
الــسابــق مــع عــلمه وفــهمه بــأنــها ليســت هــي الــصالة الــتي أمــر اهلل بــها فــرض ـا ً فــي كــتابــه ،فــهو ومــا
عـمله ،وسـتكون الـتقليديـة مـن بـاب األعـمال اإلضـافـية الـديـنية مـن حـيث أنـها هـيئات حـسنة وأذكـار
طــيبة فــهي مــن بــاب املــباحــات والــحسنات املــندرجــة فــي األوامــر الــقرآنــية الــعامــة مــن قــبيل ”اذكــروا
اهلل ذكرا ً كثيرا ً“ وما أشبه
.
بـالنسـبة لـغير َمـن سـبق ،فـعليه أوالً إحـكام الـصالة الـقرآنـية والـرسـوخ فـيها .فـإذا رسـخ واسـتقر
فــيها ،حــينها إن شــاء وثــبت عــنده أن صــورة الــتقليديــة صــورة فــي الجــملة مــنقولــة عــن عــمل الــنبي
فـهي صـالة الـنبي أي اخـتياره الـخاص وإن كـان بـالـوحـي واإللـهام لـكنها لـون خـاص لـه فـمن شـاء
19
قـام بـه ومـن شـاء ال يـقوم بـه ،فهـذا أيـضا ً لـه وجـه وهـو مـع كـتاب اهلل ،بـل وفـي قـراءتـي لـلروايـات أرى
أن ل ــه وج ــها ً أي ــضا ً ح ــتى ف ــي ح ــكم م ــا ف ــي ب ــعض ال ــرواي ــات وإش ــارت ــها .ل ــن ُيٌسأل أح ــد مل ــاذا ل ــم
يتحـ ّـرك كــما تحـ ّـرك الــنبي بــجسمه ،لــكن س ـيُسأل الــناس عــن مــاذا فــعلوا مــع الــقرءان وهــل أقــامــوا
الصالة التي أمر بها في الكتاب حصرا ً
.
أنـا اآلن مـثالً ،أقـرأ أورادي الـخاصـة وأنـا عـلى هـيئات جـسمانـية مـختلفة ،ريـاضـية شـديـدة أو
غ ــير ري ــاض ــية ،ل ــكن ال ــعبرة ب ــال ــقراءة وال ــدع ــاء وليس ــت ف ــي ال ــصورة ال ــجسمان ــية .ف ــتخيل ل ــو ج ــاء
شـخص ونـسي مـا أقـرأه واملـقصد مـن عـملي ثـم صـار يـر ّكـز فـقط عـلى هـيئة جـسمي ويـريـد تـقليدي
فــيها .بهــذه الــطريــقة أفــهم كــثير مــن الــروايــات الــتي كــان يــتلصص فــيها بــعض الــناس عــلى صــالة
الــنبي وكــم كــان يــقرأ وكــيف كــان يــقوم ومــاذا كــان يــفعل .وأحــيان ـا ً تــصل بــعض الــروايــات إلــى حــد
ع ــجيب ،ك ــأن ي ــختلف َم ــن ك ــان ــوا م ــع ال ــنبي ف ــي ه ــل ك ــان ي ــقرأ ب ــال ــبسملة جه ــرا ً أم ال ،أو أي ــن ك ــان
يـ ــضع يـ ــده فـ ــي الـ ــصالة ،أو نـ ــحو ذلـ ــك مـ ــن أمـ ــور يـ ــمنك فـ ــهمها فـ ــي حـ ــال عـ ــرفـ ــنا أن الـ ــنبي كـ ــان
ج ــسمان ــيا ً ي ــقوم ب ــأم ــور م ــختلفة ف ــي أوق ــات وح ــاالت م ــختلفة تح ــدي ــدا ً ألن ــها ليس ــت ج ــوه ــري ــة ف ــي
الــصالة بــل الــجوهــري فــيها هــو الــقراءة والــوقــت كــما ب ـيّنه اهلل فــي كــتابــه .بــعبارة أخــرىَ ،مــن يــفهم
الـقرءان ويـقيم صـالتـه سـيكون تـعاطـيه مـع الـروايـات أيـضا ً أفـضل وسـيكون جـمعه بـينها وبـني أمـر
القرءان أسلم وأقرب للواقع وأعقل
.
ل ــكن ع ــلى أي ــة ح ــال ،الب ــد م ــن دع ــوة ج ــميع املس ــلمني وغ ــير املس ــلمني إل ــى ق ــراءة ال ــقرءان ف ــي
املــواقــيت املــذكــورة فــي الــكتاب .ثــم بــعد ذلــك ،يــكون مــا يــكون .وقــد رأيــت أثــر ذلــك فــي بــعض غــير
املسـلمني واملسـلمني ،مـمن بـدأ صـلته بـالـديـن أو جـدد صـلته بـالـديـن عـبر الـقرءان حـصراً ،فـإنـهم مـا
وجــدوا طــعم اإليــمان وقـ ّوة اإلســالم إال بــعدمــا أقــامــوا الــصالة بحســب تــعريــفها الــقرآنــي .ومــا أكــثر
م ــا وردن ــي م ــن ه ــؤالء وغ ــيره ــم ،ب ــل وأح ــيان ـا ً أج ــده ف ــي ن ــفسي ب ــال ــرغ ــم م ــن ح ــبي الش ــدي ــد ل ــلصالة
الــتقليديــة وعــدم وجــدانــي تــعارض ـا ً فــي نــفسي بــينها وبــني الــصالة الــقرآنــية ،لــكن مــع ذلــك وردنــي
ال ــكثير م ــن اإلش ــكاالت ال ــتي يج ــده ــا ال ــناس ف ــي ال ــتقليدي ــة واالع ــتراض ــات امل ــختلفة وال ــبرود وامل ــلل
وســهو الــعقل وعــدم اســتشعار الــحضور اإللــهي وغــير ذلــك مــما يــعرفــه الــكل عــلى مــا أظــن بــل أكــاد
أجـزم .يـندر أن تجـد مـثل ذلـك فـي الـصالة الـقرآنـية .لـذلـك أقـول بـأن االهـتمام بـالجـمع بـني الـقرآنـية
ـنصب ع ــلى دع ــوة ّ وال ــتقليدي ــة ي ــجب أن ي ــكون خ ــطوة ث ــان ــية وث ــان ــوي ــة .األص ــل وااله ــتمام ي ــجب أن ي ـ
األ ّمة كلها إلى إقامة الصالة القرآنية على أنها الصالة املأمور بها في كتاب اهلل حصرا ً
.
20
الـعائـق األول هـو أن الـتقليديـة قـد تـأخـذ وقـتا ً مـن اإلنـسان املـشغول فـي حـياتـه الـيومـية بـحيث
ال يجــد وقــتا ً إلقــامــة الــقرآنــية والــتقليديــة مــعاً ،فــيقتصر عــلى واحــدة فــيختار الــتقليديــة ألنــها شــكلية
صورية ال تتطلب عمالً عقليا ً ونفسيا ً وال تغييرا ً جوهريا ً في الذات والصفات والتصرفات
.
الـعائـق الـثانـي هـو أن الـتقليديـة اآلن لـها الـصدارة وعـليها شـبه إجـماع كـلي مـا عـدا قـلة قـليلة
مــن الــناس مــمن يــجاهــر بــخالفــها .فــعلى مســتوى الــفكرة ،احــت ّلت بــل اغــتصبت الــصورة الــتقليديــة
الصورة القرآنية للصالة .فالبد من إزاحة املغتصب وإرجاع امللك بالحق إلى عرشه
.
الـعائـق الـثالـث هـو أن اعـتبار الـتقليديـة ذات ح ّـجية مـطلقة يـفتح بـاب اعـتبار مـا لـيس فـي كـتاب
ـجية م ــطلقة ف ــي ال ــدي ــن وم ــن ح ــيث ه ــو دي ــن ي ــدان ب ــه .وه ــذا ه ــو األس ــاس
اهلل ك ــشيء وت ــعليم ل ــه ح ـ ّ
الــذي عــليه تــأسســت بــقية الــجهاالت واالســتبداد املنتشــرة بــاســم اإلســالم ،بــل ونــفس نــمط الــنظر
إلى الوجود وطريقة التفكير تش ّكلت بتلك املصادر الفاسدة املفسدة
.
21
ف ــال ــتخفيف األق ــصى ل ــلصالة ال ــتقليدي ــة ،م ــع ج ــعل ال ــصدارة ل ــلصالة ال ــقرآن ــيةَ ،وع ــدم اع ــتبار
ـجية مــطلقة ألنــها ليســت فــي صــورتــها قــرآنــية ب ـ ّينة ،يــكفي لــرفــع تــلك الــعوائــق .إال الــتقليديــة ذات حـ ّ
أن ــنا ن ــذ ّك ــر م ـ ّـرة أخ ــرى ب ــأن ه ــذا ل ــيس ف ــرض ـا ً ع ــلى الج ــميع ،ف ــال ــفرض م ــا ف ــرض ــه اهلل واهلل ف ــرض
القرءان
.
-فصل :مقارنات
-
الـصالة الـقرآنـية األصـل فـيها الـنفس والـروح ،بـينما الـجسم فـيها فـرع .وهـذه الـطريـقة آدمـية .فـإن
آدم لــه جــسم ونــفس وروح ،والــجسم فــيه وهــو طــينه هــو أســفل شــيء فــيه ،بــينما نــفسه وروحــه هــي
األعـ ــلى .بـ ــينما الـ ــصالة الـ ــتقليديـ ــة األصـ ــل فـ ــيها الـ ــجسم ،والـ ــنفس والـ ــروح عـ ــلى فـ ــرض الـ ــوجـ ــود
والـظهور فـإنـها فـرع وتـابـع واسـتثناء .فـمن هـذا الـوجـه هـي إبـليسية مـن حـيث تـركـيزهـا عـلى الـجانـب
ـحسي ،فــهي شــأن الــجن بحســب الــتأويــل ،وهــم الــذيــن يــعملون بحســب الــظاهــر وإن خــلى مــن الـ ّ
الغيب والعلم والباطن
.
الــصالة الــقرآنــية فــيها اســتمرار مــع الــحياة وتــح ّول لــلنفس .فــال تــشعر بــأنــك انــفصلت عــن الــحياة
كــأن تــدخــل فــي شــيء مــنفصل عــن الــوجــود الــذي تــحيا فــيه عــادةً ثــم تــقيمها ثــم تخــرج وتــرجــع إلــى
وجــودك الــطبيعي بــنفس الــعقلية الــتي دخــلت بــها ،بــل الــصالة الــقرآنــية تــشعرك حــني تــدخــل فــيها
وتخـرج مـنها أنـك تـح ّولـت نـفسيا ً وازداد الـوجـود حـولـك إشـعاعـا ً وإظـهارا ً آليـات اهلل فـي اآلفـاق وفـي
ن ــفسك .ب ــينما ال ــصالة ال ــتقليدي ــة م ــبنية ع ــلى االن ــقطاع وال ــتمثيل ،ت ــقطعك ع ــن ح ــيات ــك ال ــفطري ــة
الــطبيعية ،وتــمثّل فــيها كــأنــك مــمثّل مســرحــي يــؤدي دورا ً كــتبه لــه شــخص آخــر وغــايــته فــقط حــسن
ال ــتمثيل ف ــي ال ــصورة م ــع ب ــقاء ال ــجوه ــر ال ــشخصي م ــحفوظ ـا ً ك ــما ه ــو .ف ــال ــصالة ال ــقرآن ــية ح ــضرة
إلهية ،لكن الصالة التقليدية مسرحية
.
الـصالة الـقرآنـية مـنفتحة عـلى الـدراسـة والـكتابـة ،وهـذا أحـسن مـا وجـدتـه فـيها حـني تـصليها وحـدك
وهـو األصـل ،فـأنـا أفـتح الـقرءان وأمـامـي ورقـا ً مـنشورا ً أرقـم عـليه وأكـتب مـا يُـفتح لـي ومـا أفـ ّكر فـيه
وأحـاور الـقرءان وأتـل ّقى الـروح مـن ربـي حـني أقـرأ كـتابـه وأنـاجـيه بـه .وحـني تـصليها مـع غـيرك ،فـإنـك
تـقرأ اآليـة أو الـكلمة ثـم تـتدارسـونـها سـويـا ً وعـادةً بـفضل اهلل تـعالـى الـذي عـودنـا فـضله وخـيره نـرى
ونــشعر كــلنا بــحضور اهلل تــعالــى وإمــداده وفــيضه حــتى أنــنا نجــلس أحــيانـا ً بــالــساعــات فــي حــالــة
ج ــذب ك ــام ــل ث ــم مل ــا ن ــفرغ ن ــبدأ ن ــشعر ب ــأج ــسام ــنا وق ــد ن ــشعر ب ــآالم ف ــي رك ــبنا وظ ــهورن ــا م ــن ط ــول
22
الجـلوس بـينما لـم نـكن نـشعر بـها مـن قـبل مـن شـدة الـحضور ونـور الـروح والـعقل الـذي يـمدنـا اهلل
بـه أثـناء صـالتـنا مـعا ً .فـالـكتابـة واملـحاورة هـما مـن قـبيل }اقـرأ وربـك األكـرم .الـذي عـ ّلم بـالـقلم .عـ ّلم
اإلن ــسان م ــا ل ــم ي ــعلم{ .ه ــذا وج ــدت ــه ف ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية بح ــمد اهلل ت ــعال ــى .ب ــينما ف ــي ال ــصالة
الـتقليديـة ،ال يـوجـد ال كـتابـة وال مـحاورة ،كـما قـلت سـابـقا ً مج ّـرد حـركـات وألـفاظ ال تُـسمن وال تُـغني
مــن جــوع ،بــل يــا لــيتها اكــتفت بــها حــتى إنــها أحــيانـا ً تــتأثــر نــفسية املــأمــور بــنفسية اإلمــام املــظلمة
والــذي كــثيرا ً مــا يــكون مجـ ّـرد أجــير يــأكــل بــديــنه ويســتأكــل بــقراءة الــقرءان والــعياذ بــاهلل وهــو مــمن
سماه النبي في إحدى الروايات بالفاجر الذي يقرأ القرءان ليأكل به
. ّ
ّ
الحل القرآني
- -فصل :مثال على
ق ــد ي ــظن ال ــبعض أن ق ــول ــنا ع ــن أم ــر اهلل }أق ــيموا ال ــصالة{ ي ــعني ق ــراءة ال ــقرءان ه ــو أم ــر ج ــدي ــد
اخـترعـناه .بـل الـحق أنـه تـوجـد شـواهـد حـتى فـي الـروايـات عـن هـذا املـعنى ،ولـو جـاء شـاهـد واحـد
ل ــكفى ألن ــنا ف ــي غ ــنى ب ــكتاب اهلل وم ــا ف ــهمناه م ــنه ف ــإن ج ــاء ش ــاه ــد م ــن ال ــرواي ــات ف ــاألم ــر أج ــمل
وأقوى
.
خــذ مــثالً آيــة }أقــم الــصالة إن الــصالة تــنهى عــن الــفحشاء واملــنكر{ .مــعنى الــصالة هــنا هــو
ـمرة سـماهـا الـصالة الـقرءان ،والـدلـيل قـولـه تـعالـى ”أقـم الـصالة لـدلـوك الـشمس..وقـرءان الفجـر“ ف ّ
ومــرة ســماهــا الــقرءان ،وذلــك ألن الــصالة هــي الــقرءان أي لــها اســم مــن حــيث صــلة الــقارئ بــاهلل
واس ــم م ــن ح ــيث وس ــيلة ه ــذه ال ــصلة ،ف ــهو ش ــيء واح ــد ب ــاع ــتباري ــن وك ــل اع ــتبار ل ــه اس ــم .ف ــاألم ــر
ب ــإق ــام ــة ال ــصالة ه ــو أم ــر ب ــإق ــام ــة ال ــقرءان .ل ــذل ــك ق ــال }أق ــم ال ــصالة إن ال ــصالة ت ــنهى{ ن ــعم ألن
الـقرءان يـنهى عـن الـفحشاء واملـنكر ،لـكن لـن يـنهاك إال إن قـرأتـه بـفهم ،وأمـا مجـرد الـتالوة الـلفظية
فــال تــأمــر وال تــنهى كــاألعجــمي يــتلو الحــروف الــعربــية وال يــفهم مــعناهــا ،ولــذلــك بــدأت اآليــة بــاألمــر
بــالــتالوة }اتـ ُـل مــا أوحــي إلــيك مــن الــكتاب وأقــم الــصالة إن الــصالة تــنهى{ فــالــتالوة ال تــنهى لــكن
ال ــصالة ه ــي ال ــتي ت ــنهى ،فه ــذا ع ــلى اع ــتبار أن ال ــتالوة ل ــلكلمات ب ــينما ال ــصالة ل ــلفهم وال ــتعقل،
وبـاعـتبار آخـر الـتالوة تـعني االتـباع }اتـل{ أي اتـبع واقـصد اتـباع كـتاب ربـك ومـن هـذا قـولـه ”اتـل
ففســر لــه ســبب أمــره ّ مــا أوحــي إلــيك مــن كــتاب ربــك ال مــبدل لــكلماتــه ولــن تجــد مــن دونــه ملتحــدا ً“
إي ــاه مل ــنفعته أن ي ــتبع ك ــتاب رب ــه ،وال ت ــعارض ب ــني م ــعنى ال ــتالوة ال ــلفظية وم ــعنى ال ــتالوة االت ــباع ــية
بــحكم اتــصالــهما ،لــكن عــلى الــوجهــني تــمتاز الــتالوة عــن إقــامــة الــصالة .وجــه آخــر لــلتمييز بــينهما
هـو أن تـالوة الـكتاب }اتـل مـا أوحـي إلـى مـن الـكتاب{ هـي الـتالوة فـي غـير وقـت محـدد أي الـتالوة
املــفتوحــة األوقــات وقــد تــكون فــي أي وقــت ،فــاألصــل التشــريــع بــغير تــقييد ،ثــم قــال }وأقــم الــصالة{
23
وهــي الــقراءة فــي أوقــات محــددة ”الــصالة كــانــت عــلى املــؤمــنني كــتاب ـا ً مــوقــوت ـا ً“ .حــسنا ً .لــكن هــل
يـوجـد فـي الـروايـات مـا يـدل عـلى أن قـولـه تـعالـى }أقـم الـصالة{ يـدل عـلى قـراءة الـقرءان؟ نـعم ،كـما
ورد فـي الـدر املـنثور لـلسيوطـي أن ابـن جـريـر أخـرج عـن ابـن عـمر }إن الـصالة تـنهى عـن الـفحشاء
واملــنكر{ قــال ”الــقرءان الــذي يُــقرأ فــي املــساجــد“ .هــذا مــن مــرويــات الــسنة .ومــن مــرويــات الــشيعة،
ف ـ ــي أص ـ ــول ال ـ ــكاف ـ ــي ع ـ ــن ال ـ ــباق ـ ــر ع ـ ــليه الس ـ ــالم ق ـ ــال ”ت ـ ــذاك ـ ــر ال ـ ــعلم دراس ـ ــة وال ـ ــدراس ـ ــة ص ـ ــالة
حسنة“ فأثبت أن الدراسة صالة حسنة
.
م ــسأل ــة أخ ــرى :ص ــالة ال ــخوف .ق ــال ت ــعال ــى }وإذا ض ــرب ــتم ف ــي األرض ف ــليس ع ــليكم ج ــناح أن
تــقصروا مــن الــصالة إن خــفتم أن يــفتنكم الــذيــن كــفروا إن الــكافــريــن كــانــوا لــكم عــدوا مــبينا .وإذا
كـنت فـيهم فـأقـمت لـهم الـصالة فـلتقم طـائـفة مـنهم مـعك ولـيأخـذوا أسـلحتهم فـإذا سجـدوا فـليكونـوا
مــن ورائــكم ولــتأت طــائــفة أخــرى لــم يــصلوا فــليصلوا مــعك ولــيأخــذوا حــذرهــم وأســلحتهم ود الــذيــن
كـفروا لـو تـغفلون عـن أسـلحتكم وأمـتعتكم فـيميلون عـليكم مـيلة واحـدة وال جـناح عـليكم إن كـان بـكم
أذى مــن مــطر أو كــنتم مــرضــى أن تــضعوا أســلحتكم وخــذوا حــذركــم إن اهلل أعــد لــلكافــريــن عــذابــا
مهينا
{.
ويفس ــرون أوام ــره ف ــي ض ــمن ب ــيان ــات ــه ح ــصراً ،ال يس ــتطيعون أن ّ ال ــذي ــن ال ي ــقرأون ال ــقرءآن
ـبني
يـقرأوا هـذه اآليـات ويـفهموا مـا فـيها بحسـب مـا فـيها فـقط ومـا فـي بـقية الـقرءان الـذي يـص ّدق وي ّ
بــعضه بــعضا ً .مــا مــعنى }تــقصروا مــن الــصالة{؟ ومــا هــي هــذه الــصالة املــبينة هــنا؟ ارجــع لــكتب
فــقه الــروايــات وســتجد خــلطا ً وتخــليطا ً واخــتالفـا ً عــجيبا ً ال تــدري مــن أيــن جــاءوا بــه وكــأن هــذه اآليــة
أعجمية بل فارغة من املحتوى اضطروا إلى حشوها بمروياتهم املتضاربة
.
فـجعلوا قـصر الـصالة يـعني بـدالً مـن أن تـصلي أربـع ركـعات تـصلي ركـعتني ،فـقط ! أيـن هـذا
فـي اآليـة؟ ال يـوجـد .فـماذا عـن الـصالة ذات الـثالثـة كـيف نـقصرهـا؟ هـذه ال تُـقصر ! لـكن اآليـة قـالـت
}تـقصروا مـن الـصالة{ ولـم تحـدد صـالة مـن صـالة .ومـاذا عـن ذات االثـنني كـيف نـقصرهـا؟ نـفس
ال ــجواب .ث ــم ب ــعد ذل ــك ،ص ــاروا ي ــحكمون ب ــجواز أو وج ــوب ق ــصر ال ــصالة ح ــتى ف ــي ح ــال ان ــعدام
الـخوف بـالـرغـم مـن أن اهلل قـيّد هـنا األمـر بـالـخوف }فـليس عـليكم جـناح..إن خـفتم{ بـالـتالـي عـليكم
يفس ــر ش ــيئا ً و ُي ــع ِرض ع ــن ال ــكتاب ت ــمام ـاً،
ج ــناح إن ل ــم ت ــخاف ــوا .وذك ــروا ك ــالم ـا ً ع ــاط ــفيا ً ف ــارغ ـا ً ال ّ
كــروايــة ”رخــصة تــصدق اهلل عــليكم بــها“ أو مــا أشــبه ،ونــقول نــعم رخــصة بشــرط مــثل اإلفــطار فــي
الــصيام بشــرط الــسفر واملــرض فهــذا ال يــعني اإلفــطار بــدون ســفر وال مــرض ،كــذلــك هــنا الــقصر
بسـبب الـخوف فـهي رخـصة مـقيدة بشـرط .طـبعا ً هـذا كـله ال مـعنى لـه عـند أصـحاب فـقه الـروايـات
24
الـذيـن اآليـات عـندهـم ليسـت ذات شـأن كـبير إن خـالـفت روايـاتـهم وآرائـهم .وإن كـان يـوجـد َمـن قـال
بما يقتضيه القرءان ،لكن تم اإلعراض عن قولهم عموما ً
.
ف ــماذا ع ــن ك ــيفية ه ــذه ال ــصالة ال ــتي ي ــسمون ــها ص ــالة ال ــخوف؟ اخ ــتالف ك ــاالخ ــتالف م ــا ب ــني
األرض واملـريـخ .ال أريـد تـطويـل الـكتاب بـنقل ذلـك ،لـكن ارجـع إن شـئت إلـى الـدر املـنثور لـلسيوطـي
واقـرأ واعـجب .تـفاصـيل كـأنـهم يسـتدركـون بـها عـلى بـيان اهلل تـعالـى ،كـالـعادة الـخبيثة الـتي لـلقوم.
خ ــذ م ــثالً واح ــدا ً ”وص ــففنا خ ــلفه ص ــفني ،ث ــم رك ــع ف ــرك ــعنا ج ــميعاً ،ث ــم سج ــد ب ــال ــصف ال ــذي ي ــليه
واآلخــرون قــيام يحــرســونــهم ،فــلما سجــدوا وقــامــوا جــلس اآلخــرون فسجــدوا فــي مــكانــهم ،ثــم تــقدم
ه ــؤالء إل ــى م ــصاف ه ــؤالء وه ــؤالء إل ــى م ــصاف ه ــؤالء ،ث ــم رك ــع ف ــرك ــعوا ج ــميعاً ،ث ــم رف ــع ف ــرف ــعوا
ج ــميعاً ،ث ــم سج ــد ال ــصف ال ــذي ي ــليه واآلخ ــرون ق ــيام يح ــرس ــون ــهم ،ف ــلما ج ــلسوا ج ــلس اآلخ ــرون
فسجـدوا ،ثـم سـلم عـليهم ثـم انـصرف“ .أقـول :مـا بـينه اهلل بـقولـه }فـلتقم طـائـفة مـنهم مـعك ولـيأخـذوا
أسـ ــلحتهم فـ ــإذا سجـ ــدوا فـ ــليكونـ ــوا مـ ــن ورائـ ــكم ،ولـ ــتأت طـ ــائـ ــفة أخـ ــرى لـ ــم يـ ــص ّلوا فـ ــليص ّلوا مـ ــعك
ولـيأخـذوا حـذرهـم وأسـلحتهم{ ،يـعني صـالتـهم صـارت هـكذا }وإذا كـنت فـيهم فـأقـمت لـهم الـصالة
فــلتقم طــائــفة مــنهم مــعك ولــيأخــذوا أســلحتهم فــإذا سجــدوا فــليكونــوا مــن ورائــكم{ هــذه هــي صــالة
الــخوف ،انــتهى .بهــذه الــبساطــة .فــمن أيــن جــاءوا بــكل تــلك الــتفاصــيل املــعقدة ،وطــبعا ً االخــتالفــات
الـكثيرة جـدا ً فـيما بـينها؟ املـشكلة عـندهـم أنـهم لـم يـفهموا كـلمة }الـصالة{ بحسـب بـيانـها فـي كـتاب
اهلل ،وهــذا ســبب مــا تــال ذلــك مــن إشــكاالت واخــتراعــات لــيرقــعوا بــها فــهمهم الجــديــد أو املــبتدع لــها
أو تــغييرهــم لــجوهــرهــا الــقرآنــي .وإال فــلو عــرفــنا مــا هــي الــصالة الــقرآنــية فــي صــورتــها الــجوهــريــة
فــسيكون بــيان اهلل هــنا مــن أوضــح وأيســر مــا يــكون وال تــحتاج أن تــضيف كــلمة واحــدة مــن خــارج
اآلية عليها ومن خارج القرءان لفهم ما فيها
.
وهاك البيان
:
}-١أق ــم ال ــصالة{ خ ــطاب ل ــلمؤم ــن ال ــفرد ،ي ــقيم ال ــصالة ل ــنفسه .ه ــذا ه ــو األص ــل .ف ــي ال ــقصر
بس ــبب ال ــخوف ج ــاء اس ــتثناء وت ــغ ّير وه ــو }أق ــمت ل ــهم ال ــصالة{ ف ــهنا ال ــنبي ه ــو ال ــذي ي ــقيم ل ــهم
الــصالة ،الحــظ الــفرق بــني إقــامــة الــفرد لــنفسه الــصالة وبــني إقــامــة الــنبي لــغيره بــل ملجــموعــة غــيره
ـصل مــع الــنبي .وال ألن }لــهم{ بــالجــمع وهــو مــا بـيّنه بــعد ذلــك نــت ذكــر الــطوائــف الــتي صـ ّلت ولــم تـ ّ
يــخفى أن }أقــم{ و }أقــمت{ لــيس بــمعنى اإلقــامــة واآلذان ومــا أشــبه بحســب االصــطالح الــشائــع،
وإال فـالـنبي هـنا وبـاعـتراف الـكل لـم يـقل لـهم ”اهلل أكـبر اهلل أكـبر أشهـد..قـد قـامـت الـصالة“ .فهـذا
واضح
.
-٢الــصالة قــراءة الــفاتــحة والــقرءان .الــقصر يــدخــل عــلى الــصالة إذن مــن واحــد مــن جهــتني،
إم ــا ب ــأن ي ــقرأ ل ــك غ ــيرك وإم ــا ب ــأن ت ــقرأ ال ــصورة ب ــدون ت ــد ّب ــر امل ــعنى .األول ه ــو امل ــقصود ف ــي ه ــذه
25
اآليـة تحـديـداً ،وإن كـان الـثانـي داخـل فـيه بحسـب سـياق الـخوف والـقتل املـرتـقب الـذي تـذكـره اآليـة
فـإنـه ُيسـتَب َعد حـضور عـقل إنـسان خـائـف مـن الـقتل وهـو يحـمل السـالح ويـأخـذ حـذره فيتشـتت وعـيه
بسـبب ذلـك وهـذا مـعلوم بـالـبداهـة والتجـربـة .لـكن األصـل أن الـقصر هـو أن يـقرأ لـك غـيرك الـفاتـحة
وحـدهـا أو الـفاتـحة وشـيء مـعها مـن الـقرءان .ويشهـد لهـذا قـولـه فـي أول اآليـة }أقـمت لـهم الـصالة{
وما بيّنه بعد ذلك من }فلتقم طائفة منهم معك{
.
-٣الـ ــدلـ ــيل عـ ــلى أن الـ ــسجود لـ ــيس مـ ــن الـ ــصالة ،أن اهلل قـ ــال }أقـ ــمت لـ ــهم الـ ــصالة{ فـ ــالـ ــنبي
يسـتطيع أن يـقيم الـصالة لـغيره ،لـكن حـني ذكـر الـسجود قـال }فـإذا سجـدوا{ فنسـب الـسجود لـهم
فـهو فـعلهم هـم وال يسـتطيع أن يـقيمه أحـد لـهم فـإن اإلنـسان قـد يـقرأ لـك الـفاتـحة لـكنه ال يسـتطيع
ـبني ذل ــك ق ــول ــه ف ــي س ــورة أن يسج ــد ل ــك أو يسج ــد ب ــك وب ــدالً ع ــنك .ف ــلماذا ذك ــر ال ــسجود ه ــنا؟ ي ـ ّ
س ّج ــدا ً“ ،وق ــول ــه ”إذا ق ــرئ ع ــليهم السج ــدة م ــثالً ”إن ــما ي ــؤم ــن ب ــآي ــات ــنا ال ــذي ــن إذا ذُ ّك ــروا ب ــها خ ـ ّـروا ُ
الــقرءآن ال يسجــدون“ فــي الــكافــريــن فــاملــؤمــن يسجــد إذا ُقــرئ عــليه الــقرءآن ،وآيــات كــثيرة تــذكــر
سـ ــجود الـ ــصالـ ــحني بـ ــعد سـ ــماع آيـ ــات اهلل تُـ ــتلى عـ ــليهم .والـ ــسجود إمـ ــا الخـ ــر لـ ــألذقـ ــان ”يخـ ــرون
ـلما خ ّـر“ ”خ ّـر عـليهم الـسقف“ فـالخ ّـر يـشير إلـى سـقوط الـبدن عـلى لـألذقـان“ وإمـا بـالـجسم كـله ”ف ّ
ـظل أو ن ــحوه وي ــمكن أخ ــذ ص ــورة ال ــسجود امل ــعروف ــة أي ــضا ً ف ــهي ت ــاب ــعة األرض ب ــحيث ي ــكون ك ــال ـ ّ
للمعنى القرآني وفيها أصله
.
-٤فـتكون صـورة صـالة الـخوف هـكذا :اإلمـام يـقرأ الـفاتـحة وحـدهـا أو الـفاتـحة وسـورة بـعدهـا،
واملـصلي مـعه يسـتمع لـقراءتـه فـإذا فـرغ مـن الـقراءة سجـد املـص ّلي إمـا لـذقـنه وإمـا بـبدنـه .وانـتهى.
ثم تأتي طائفة أخرى
.
اآلن اق ــرأ وان ــظر }وإذا ك ــنت ف ــيهم ف ــأق ــمت ل ــهم ال ــصالة ف ــلتقم ط ــائ ــفة م ــنهم م ــعك ول ــيأخ ــذوا
أسـ ــلحتهم فـ ــإذا سجـ ــدوا فـ ــليكونـ ــوا مـ ــن ورائـ ــكم ولـ ــتأت طـ ــائـ ــفة أخـ ــرى لـ ــم يـ ــص ّلوا{ .فـ ــاألمـ ــر بهـ ــذه
الـبساطـة والـوضـوح ،وال داعـي لـكل ذلـك الـعبث والـشقاق الـروائـي والـفقهي .كـل اإلشـكاالت محـلولـة
بمج ــرد ف ــهم ك ــل م ــفردة ق ــرآن ــية ف ــي ض ــوء ال ــقرءآن ذات ــه .وبمج ـ ّـرد م ــا تُ ــدخ ــل أم ــرا ً م ــن غ ــير ت ــعال ــيم
الــقرءآن ودالالتــه عــليه فــالــنتيجة هــي مــثل إدخــال فــيروس قــاتــل فــي بــدن صــحيح فــإنــه يخـ ّـرب كــل
شيء ويفسد البدن كله
.
الح ــظ أي ــضا ً أن ص ــيرورة املس ــلمني ط ــوائ ــف ف ــي اآلي ــة} ،ف ــلتقم ط ــائ ــفة م ــنهم..ل ــتأت ط ــائ ــفة
أخ ــرى{ ،ي ــشير إل ــى أم ــري ــن :األول أن ال ــخوف اق ــتضى ت ــفري ــق املس ــلمني إل ــى ط ــوائ ــف ب ــعضها
يـص ّلي وبـعضها يحـرس ،وذلـك بـدالً مـن االجـتماع والـتوحـد .الـثانـي أن الـخوف جـعل قـراءة الـنبي
ت ــغني ع ــن ق ــراءة امل ــصلني م ــعه ب ــدالً م ــن أن ي ــقرأ ك ــل واح ــد ل ــنفسه وإن ح ــضروا ك ــلهم ج ــميعا ً ف ــي
26
صـالة واحـدة .الـثالـث أن الـخوف مـنع مـن أخـذ الـوقـت الـكافـي لـلتعقل والـتدبـر حـفظا ً لـلوقـت ومـراعـاة
للحال والنفس
.
والحــظ بــناء عــلى مــا ســبق أن االســتثناء الــوارد فــي صــالة الــخوف صــار هــو الــنمط الــطبيعي
فــي الــصالة الــتقليديــة ،نــعم يــقرأ الــواحــد لــنفسه الــفاتــحة حــتى إن كــان مــأمــومـا ً عــلى بــعض أقــوال
املـذاهـب لـكن عـلى مـا أذكـر بـعضها ال يـقول بـوجـوب ذلـك عـلى أسـاس أن اإلمـام يحـمل عـن املـأمـوم
مـسؤولـية ذلـك الـتكليف .لـكن بـالنسـبة الفـتراق املسـلمني إلـى طـوائـف بـل طـوائـف مـتحاربـة ال يـصلي
بـعضها مـع بـعض بسـبب االخـتالفـات الـفقهية فـي الـصالة صـ ّير األ ّمـة فـي حـالـتها املـعتادة أسـوأ
مــن حــالــتها وقــت الــخوف الــذي شــرحــته اآليــة فــاآليــة شــرحــت انــقسام املســلمني إلــى طــوائــف لــحالــة
ط ــارئ ــة ل ــكنها م ــتوح ــدة م ــن ح ــيث اه ــتمام ب ــعضها ب ــبعض فه ــذا ي ــصلي وذاك يح ــرس ،ل ــكن بس ــبب
الـصالة الـتقليديـة صـارت األ ّمـة طـوائـف مـتناحـرة مـتقاتـلة بـل لـعل بـعضها ال يـصلي وال يحـرس بـل
لــعله ال يــترك حــتى بســالم الــطوائــف األخــرى حــني تــصلي كــما تجــده أحــيان ـا ً فــي بــعض الــعمليات
االنـتحاريـة اإلجـرامـية .مـا فـعله الـكافـرون فـي آيـة الـخوف أهـون مـما فـعله فـقهاء الـروايـات فـي هـذه
األ ّمـة .فـإذا كـان اهلل قـد س ّـمى أولـئك بـالـعدو املـبني وأعـ ّد لـهم الـعذاب املهـني ،فتسـتطيع تـخيّل حـال
ال ــذي ــن هج ــروا ال ــقرءآن ع ــند اهلل .ث ــم ال ــقصر ب ــمعنى ع ــدم ال ــتدب ــر وال ــتفكر أي ــضا ً ص ــار ه ــو ال ــنمط
ال ــشائ ــع ف ــي األ ّم ــة بس ــبب ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ،ف ــما ك ــان بس ــبب ال ــخوف بحس ــب االح ــتمال ال ــذي
ذكــرنــاه ســابــقا ً صــار هــو الــنمط الــعام اآلن حــيث الــتدبــر والــتذكــر والــتفكر والــتعقل والــتن ّور ليســت
أصالً مقاصد يطلبها املصلي التقليدي
.
آية صالة الخوف فاضحة ملذاهب الصالة التقليدية ،ومفرحة ألهل الصالة القرآنية
.
-خاتمة
-
ح ــاف ــظوا ع ــلى ال ــصلوات ك ــما ه ــي مش ــروح ــة ف ــي اآلي ــات ف ــقد ذك ــرن ــا ال ــبينات .وحس ــبنا اهلل ون ــعم
الوكيل
.
………………………………………………………………………………
.
27
) املُلحق الثاني (
س :١فـي الجـمع بـني مـا ذكـرت فـي أحـد مـنشوراتـك عـن حـركـات الـصالة فـي خـطاب بـني نـفسك و
روح ــك ال ــشاه ــد م ــنها أن ال ــحكمة ه ــي ك ــون ــها ك ــذل ــك وال َح ــظ ل ــلنفس ف ــي ذل ــكم ال ــطري ــقة ،وب ــني م ــا
ذكرت في كتابك هذا من أن الحركات تدعو النعدام التعقل بالكتاب ،فكيف تقول؟
ظ ف ــيها ل ــلنفس“ ،وب ــني ك ــون ــها ال ــجواب :ال ت ــعارض ب ــني ال ــقول ــني .ك ــون ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ”ال حـ ـ ّ
تـدعـو ”النـعدام الـتعقل بـالـكتاب“ ،ال يـوجـد تـعارض .فـالـنفس حـظّها هـو الـتع ّقل ،والـلطيف أنـه تـوجـد
رواي ــة ع ــن ال ــنبي ص ــلى اهلل ع ــليه وآل ــه وس ــلم ت ــقول ”ل ــيس ل ــك م ــن ص ــالت ــك إال م ــا ع ــقلت م ــنها“،
ظ لـك فـالـصالة قـيمتها بـالنسـبة لـك بحسـب ”مـا عـقلت مـنها“ بـالـتالـي إذا لـم تـعقل مـنها شـيئا ً فـال حـ ّ
مـن صـالتـك .مـع مـالحـظة أن الـروايـة تـقول ”لـيس لـك“ فـهي تـشير إلـى مـا لـلمص ّلي ،ومـع مـالحـظة
أيـضا ً أن هـذه الـروايـة تـنطبق أكـثر عـلى الـصالة الـقرآنـية الـتي الـتع ّقل فـيها مـقصد جـوهـري خـالفـا ً
لـ ــلصالة الحـ ــركـ ــية الـ ــلفظية الـ ــتي يـ ــكفي مـ ــنها شـ ــكل الـ ــصالة لـ ــكي تُجـ ــزئ ويـ ــسقط الـ ــتكليف عـ ــن
امل ــص ّلي ش ــرع ـا ً .ث ــم إن اهلل ت ــعال ــى ق ــال ”م ــن ج ــاه ــد ف ــإن ــما ي ــجاه ــد ل ــنفسه“ ،ف ــأع ــمال ال ــدي ــن ه ــي
لـلنفس ،والـنفس تـرتـفع بـاإليـمان والـعلم أي بـالـتع ّقل عـمومـا ً ”لـعلكم تـعقلون“ ،بـالـتالـي الـعبادة الـتي
ال حـظ فـيها لـلنفس مـطلقا ً ليسـت عـبادة قـرآنـية ربـانـية .وروي عـن عـلي بـن أبـي طـالـب عـليه السـالم
أنـه قـال ”ال خـير فـي قـراءة لـيس فـيها تـد ّبـر“ وقـال ”ال خـير فـي عـبادة لـيس فـيها تـف ّكر“ ،وروي عـن
الـنبي أيـضا ً أنـه قـال ”ال خـير فـي ديـن ال ركـوع فـيه“ وقـالـوا بـأنـه أراد بـذلـك الـصالة ،،فـإذا جـمعنا
الـكالم املـروي عـن الـنبي وعـلي كـانـت الـنتيجة :ال خـير فـي ديـن ال صـالة فـيه وال خـير فـي صـالة ال
تــفكر وتــدبــر فــيها .وهــذا بــالــضبط مــا نــحن فــيه .فــإن انــعدام حــظ الــنفس ال يــعني أنــه أمــر صــالــح
وجيد
.
إال أنــي حــني قــلت بــأن هــذه الــصالة الــتقليديــة ال حــظ لــلنفس فــيها ،فهــذا لــه وجــه مــن الــخيريــة
ب ــاع ــتبار ت ــعوي ــد اإلن ــسان املمتلئ ب ــنفسه وااله ــتمام ب ــما ي ــلذ وي ــطيب ل ــه ب ــامل ــعنى ال ــسفلي ال ــفوري
املـادي ،وهـو شـأن الـناس عـادةً فـي بـدء أمـرهـم ودخـولـهم فـي الـديـن ،فـإن الـواحـد فـيهم يهـت ّم دائـما ً
ب ــما ي ــرى ف ــيه ن ــفعا ً ف ــوري ـا ً ل ــه ،ب ــينما ال ــدي ــن م ــبني ع ــلى أم ــر اهلل وال ــروح واآلخ ــرة ف ــيقتضي ص ــبرا ً
28
والــصبر رأس األمــر كــله حــتى سـ ّـمى اهلل اإليــمان كــله صــبرا ً فــي آيــة ”الــذيــن صــبروا وعــملوا“ كــما
ق ــال ”ال ــذي ــن ءام ــنوا وع ــملوا“ .ف ــقد ي ــكون م ــن ب ــاب تس ــليك ال ــناس ف ــي ال ــدي ــن أن وض ــعت ل ــهم ه ــذه
الــصالة الحــركــية الــلفظية حــتى تــأخــذهــم عــن نــفوســهم املــعتادة املــظلمة ،حــتى يــنفتحوا عــلى أفــق
أعلى الذي هو الصالة القرآنية العقلية
.
إذن ،الحـركـات والـتكرار يـدعـو إلـى تـوقـف الـعقل ،فـمن اقـتصر عـلى هـذا الحـد ولـم يـنفتح عـلى
أي أفــق أعــلى ويــترقــب كــشف أســنى وال قــراءة وال تــع ّلم بــقي فــي الــفراغ .وعــدم الــتعقل يــعدم حــظ
النفس ونموها وتنويرها
.
…
س - :٢ايــضا ً فــي ذات الــنقطة؛ ردا ً عــن كــون الحــركــة الــجسمانــية قــد تــعيق الــتعقل؛ مــن تجــربــة
عــملية شــخصية أغــلب األمــور فــتحت لــي وعــقلتها كــانــت مــع حــركــة جــسمانــية وعــمل عــقلي وتســبيح
تســبقها أو تــليها او مــعها .فهــل نــقول ان فــي هــذا تــصديــق لــقولــهم فــالــروايــة املــوروثــه :إن صــحت
».. حتى تطمئن « ..فتالزم حركة الداخل حركة الظاهر
.
الـجواب :حـتى فـي قـراءة الـقرءان تـوجـد ”حـركـة جـسمانـية“ ،لـكنها ليسـت مـقصودة لـنفسها .الـذي
يــعيق عــن الــتعقل هــو كــون الحــركــة مــقصودة لــنفسها ،مــع وجــود كـ ّـمية يــجب حــفظها وألــفاظ يــجب
ت ــكراره ــا ،ه ــذا املج ــموع ي ــؤدي إل ــى إع ــاق ــة ال ــتعقل ع ــادةً .ل ــكن ف ــي ق ــراءة ال ــقرءان ف ــي األوق ــات
املــعلومــة ،فــإن املــص ّلي أيــضا ً البــد أن يــكون لــجسمه حــركــة أو وضــع مــا بــالــضرورة فــهو لــن ينخــلع
عــن جــسمه ،ســواء كــان يــصلي قــائــما ً أو قــاعــدا ً أو عــلى جــنبه أو مــاشــيا ً عــلى رجــله أو راكــباً ،لــكن
هـذه الـوضـعيات ليسـت مـقصودة لـنفسها بـل هـي وضـعيات اطـمئنان أو مـا يشـبه االطـمئنان بـأكـبر
ق ــدر م ــمكن ف ــي ح ــال ال ــضرورة امل ــان ــعة م ــن االط ــمئنان ع ــادةً .وك ــذل ــك ح ــرك ــة ال ــلسان أو ذب ــذب ــة
األصـوات داخـل الـدمـاغ حـني الـقراءة أيـضا ً هـي نـوع مـن ”الحـركـة الـجسمانـية“ ،لـكنها كـما تـريـن
فرعية وليست أصليةَ ،ع َرض وليست جوهر
.
ون ــعم ،ع ــند َم ــن ي ــطمئن ف ــي ح ــرك ــات ــه وي ــتدبّ ــر ف ــي ت ــالوت ــه وأذك ــاره ،س ــيكون م ــثله م ــثل امل ــص ّلي
ب ــال ــصالة ال ــقرآن ــية م ــن وج ــهة ال ــقراءة وال ــتعقل ،ل ــكن ال ــعادة وال ــنمط ال ــفقهي ل ــلصالة ال ــتقليدي ــة ال
يــساعــد عــلى هــذا كــما نــراه فــي عــموم األ ّمــة ،خــالف ـا ً ملــن يــقيم الــصالة الــقرآنــية الــبحتة فــإنــنا نــرى
أثــرهــا فــيه عــموم ـا ً بــإذن اهلل .فــالــصالة الــقرآنــية ال تــحتاج إلــى تــجاوز الــجسم وأوضــاعــه وصــعوبــة
الــتكرار ومــشقاتــه حــتى تــؤدي إلــى الــنور ،بــينما الــصالة الــتقليديــة البــد مــعها مــن هــذه الــعوائــق ولــو
29
كــانــت عــوائــق قــابــلة لــلتجاوز بــالنســبة لــقليل مــن الــناس .يــمكن تشــبيه ذلــك بــالــصورة الــتالــية :نــحن
ع ــلى ال ــساح ــل وأم ــام ــنا بح ــر وف ــي ال ــطرف امل ــقاب ــل ت ــوج ــد ج ــزي ــرة م ــليئة ب ــأن ــواع األش ــجار ال ــطيبة
واألزهــار الــعطرة واألنــهار الــعذبــة ،كــيف نــصل إلــيها؟ الــبعض مــشى فــقطع جســرا ً أو جــلس وركــب
قــاربـاً ،لــكن الــبعض اآلخــر قــرر الســباحــة وتحـ ّـمل مــخاطــر الــحيتان وحــرارة الــشمس وال لــياقــة عــند
أكـثر الـسابـحني حـتى تـبقى لـه طـاقـة أصـالً لـيصل إلـى الجـزيـرة وإن وصـل فـإنـه مـن شـ ّدة تـعبه لـعله
ي ــنام ع ــلى ش ــاطئ الج ــزي ــرة ف ــور ال ــوص ــول وال يس ــتطيع ال ــدخ ــول واألك ــل .ال ــراك ــب ه ــو امل ــصلي
بـالـصالة الـقرآنـية الـبحتة ،الـسابـح هـو املـص ّلي بـالـصالة الـتقليديـة فـقط ،واملـاشـي هـو الـذي يـحاول
الجمع بني الصالة التقليدية والقرآنية فيجمع بني اعتبار الجسم كأصل واعتباره كوسيلة
.
وأنــا كــذلــك فــتح اهلل لــي وال يــزال بــفضله الــكثير مــن الــخير وأنــا فــي الــصالة الــتقليديــة .فــأنــا ال
أنـ ــكر هـ ــذا وال أسـ ــتطيع أن أنـ ــكره أص ـ ـالً .لـ ــكن كـ ــما قـ ــلت ،هـ ــذا بحسـ ــب مـ ــا أراه اسـ ــتثناء ولـ ــيس
الــقاعــدة .وكــذلــك ألنــي ال أعــتبر صــلتي بــاهلل مــقتصرة عــلى الــصالة الــتقليديــة ،بــل أص ـ ّلي الــصالة
ال ــقرآن ــية وب ــقية أوام ــر ال ــقرءان م ــن أذك ــار وأوراد وأدع ــية وغ ــير ذل ــك خ ــالل ال ــيوم واهلل ف ــضله ع ــظيم
وهـو تـعالـى نـفسه الـذي د ّلـنا عـلى الـعالقـة مـا بـني أعـمالـنا وتـنويـره حـني قـال ”يـا أيـها الـذيـن ءامـنوا
اذكــروا اهلل ذكــرا ً كــثيرا ً .وســبحوه بــكرة وأصــيالً .هــو الــذي يــصلي عــليكم ومــالئــكته ليخــرجــكم مــن
الـظلمات إلـى الـنور وكـان بـاملـؤمـنني رحـيما ً“ .إال أنـه بحسـب مـا نـراه مـن حـال أكـثر الـناس ،فـإنـهم
بــالــكاد أص ـالً يــص ّلون الــصالة الــتقليديــة ،وأكــثر مــن يــص ّليها يتخــذهــا كــعمل جــوارح وجــسم فــقط
ألنـها مـصممة بهـذه الـطريـقة حسـب مـا عـلموهـم وجـعلوا املـقصد مـنها هـو إقـامـة الحـركـات واأللـفاظ،
وال ي ــوج ــد ف ــيها ت ــعاط ــي م ــباش ــر م ــتعقل م ــع ال ــقرءان وإن ــما ال ــقرءان ج ــزء م ــن أج ــزائ ــها وال ي ــمكن
ال ــوق ــوف ل ــلتأم ــل ف ــيه ف ــيها .ن ــعم ،ق ــال ب ــعض ال ــعارف ــني أن ال ــفتح ف ــي ال ــقرءان ح ــقا ً ه ــو ال ــفتح ال ــذي
ي ــأت ــي م ــع ال ــقراءة م ــباش ــرةً ب ــدون وق ــفة ت ــأم ــل وت ــف ّكر ب ــحيث ت ــكون لح ــظة ال ــتالوة ه ــي لح ــظة ال ــفتح
وح ــصول امل ــعنى وال ــكشف ف ــي ال ــقلب ،ه ــذا أي ــضا ً م ــفهوم ل ــكنه خ ــالف ال ــعادة ب ــل ه ــو م ــن خ ــوارق
الـعادة خـرقـا ً بـ ّيناً ،فـإن الـصحابـة أنـفسهم كـما روي كـانـوا يـقرأون الـقرءان خـمسة خـمسة أو عشـرة
عش ــرة آي ــات ال ي ــتجاوزون ــها ح ــتى ي ــتع ّلموا م ــا ف ــيها م ــن ال ــعلم وال ــعمل ك ــما روى ب ــعضهم ،وه ــذا
مـشهود لـه بـالتجـربـة مـن حـاجـة الـنفس إلـى فـترة لـلهضم والـتأمـل والـسكون فـإن أكـل الـنفس لـلكالم
مثل أكل الجسم للطعام فالبد لها من نوع راحة وفترة معالجة وهضم وإخراج
.
فــي الــقرءان أيــضا ً ذكــر لــبعض الحــركــات الــجسمانــية كــما ب ـيّنا” ،يــذكــرون اهلل قــيام ـا ً وقــعودا ً
وعـلى جـنوبـهم“ ”دعـانـا لـجنبه أو قـاعـدا ً أو قـائـما ً“ .فـالـذكـر والـدعـاء وهـما خـالصـة ولـباب الـقرءان،
قـد ذكـرهـما اهلل فـي مـعرض ذكـر حـالـة الـجسم حسـب الـظاهـر ،لـذلـك بـاملـناسـبة الـفاتـحة هـي سـورة
الــصالة ألن الــفاتــحة نــصفها ذكــر ونــصفها دعــاء .ويــص ّدق هــذا مــا روي عــن الــنبي مــن أن رج ـالً
30
ق ــال ل ــه ب ــأن ــه ع ــاج ــز ع ــن ت ــع ّلم ال ــقرءان ف ــسأل ــه ش ــيئا ً ي ــعوض ــه ع ــن ذل ــك ف ــد ّل ــه ع ــلى أذك ــار وأدع ــية
فــاألذكــار هلل واألدعــية لــلعبد وانــتهى األمــر .ثــم بـ ّـني الــقرءان تــفصيالً كــما فــي صــالة الــخوف كــيفية
الـصالة إن كـان املـؤمـن فـي حـضرة الـعدو فـقال ”فـرجـاالً أو ركـبانـا ً“ .فـالـقول بـأن الـقرءان لـم ي ّ
ـبني
كـيفيات جـسمانـية هـو قـول خـاطئ .وأمـا إن كـان اإلنـسان يـضع حـركـات مـعينة فـي ذهـنه مسـبقاً،
وحــني ال يجــدهــا فــي الــقرءان فــبدالً مــن تــغيير مــا فــي ذهــنه يــطعن فــي الــقرءان ،فهــذا مــا يــقوم بــه
أك ــثر م ــن اتخ ــذ ال ــرواي ــات أس ــاس ـا ً ل ــدي ــنه ب ــدالً م ــن اآلي ــات وه ــو م ــن ق ــبيل ال ــقول ب ــال ــهوى وال ــتشهي
وتقديم شيء على كالم اهلل
.
التج ّـرد مـن الـجسم كـان وال يـزال هـو أهـ ّم مـا يـسعى إلـيه أهـل الـروح والـعقل حـتى يخـلص لـهم
الــشهود والــنظر والــفكرة .ومــن هــذا الــباب جــاء الــصيام وغــير ذلــك مــن ريــاضــات الــجسم الــروحــية.
يكفي أن الوحي يأتي لألنبياء في املنام ،ومعلوم أنه في النوم ال عبرة بالجسم
.
ثـم حـتى فـي الـصالة الـتقليديـة ،ليسـت حـركـات الـجسم شـرطـا ً جـوهـريـا ً فـيها ،كـما أن الـذهـاب
إلـى الـكعبة فـي مـكة الـجغرافـية فـي الجـزيـرة الـعربـية شـرط فـي الـحج الـتقليدي ويـسقط الـحج عـن
َمـن ال يسـتطيع الـوصـول إلـى الـكعبة بسـبب مـا .والـدلـيل أن الـصالة الـتقليديـة ال تـسقط عـن املـك ّلف
حــتى إن كــان عــاجــزا ً عــن إقــامــة حــركــاتــها ،بــل ولــو كــان ال يــعرف الــكثير مــن ألــفاظــها كــأن يــكون
صـاحـب لـغة غـير عـربـية .فـلو كـانـت حـركـات الـجسم شـرطـا ً جـوهـريـا ً ومـن جـوهـر الـصالة الـتقليديـة
لــوجــب أن تــسقط بــالعجــز عــن إقــامــة تــلك الحــركــات ،كــما تــسقط الــزكــاة عــن َمــن ال يــملك الــنصاب،
ويــسقط الــصيام عــن املــريــض واملــسافــر ،ويــسقط الــحج عــن الــعاجــز عــن الــوصــول إلــى الــكعبة وال
يسـتطيع أن يـضع أي مـكعبا ً أسـودا ً ويـطوف حـولـه وهـو فـي الـعراق مـثالً كـبديـل لـلكعبة .فهـذا دلـيل
مـن ذات الـفقه أن جـوهـر الـصالة هـو الـصالة الـقرآنـية ،فـإنـه فـي الـروايـة عـن الـنبي أن َمـن لـم يـقرأ
بــأم الــقرءان فــصالتــه خــداج يــعني نــاقــصة غــير تــامــة ،ولــم يــقل مــثل ذلــك فــي الــعاجــز عــن الــقيام أو
ال ــرك ــوع أو ال ــسجود أو الج ــلوس ب ــاألش ــكال امل ــعروف ــة .ف ــحتى ف ــي ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ،الح ــرك ــات
ـحت ال ــجسمان ــية ليس ــت ش ــرط ـا ً ج ــوه ــري ـاً ،به ــذا االع ــتبار .وه ــذا ي ــعزز م ــا ذك ــرن ــاه م ــن أن ــه إذا ص ـ ّ
النسـبة إلـى الـنبي ،فـهي صـورة نـبويـة لـلحقيقة الـقرآنـية وليسـت نـفس الـحقيقة الـقرآنـية أو الـصورة
الوحيدة املحتملة لها
.
…
31
س : ٣ف ــي س ــياق أم ــر ال ــقراءة }اق ــرأ ب ــاس ــم رب ــك{ ف ــال ــضمير ك ال ــعائ ــد ل ــلنبي األم ــي ص ــالة اهلل
وسـالمـه عـليه تـشير إلـى أن الـصالة عـليه مـن اشـتراطـات الـقراءة الـتامـة وبـالـتالـي إقـامـة الـصالة.
ارني ماذا ترى؟
الــجواب :قــد ُيســتفاد مــن بــاب اإلشــارة هــنا أن الــصالة عــلى الــنبي تــفتح بــاب الــقراءة الــصحيحة
الـنافـعة بـإذن اهلل ،وسـبحان اهلل أنـا قـبل أن أقـرأ أصـ ّلي عـلى الـنبي وآلـه ،واآلن بـنعمة اهلل ونـعمتك
عليّ عرفت آية ذلك ،فأشكرك وزادك اهلل خيرا ً
.
إال أنـه يـمكن اسـتفادة أمـر آخـر ،وهـو أن الـقارئ عـلى الـحقيقة هـو الـنبي ،يـعني الـنبي الـذي
فـي نـفوسـنا هـو الـذي يـقرأ” ،وفـيكم رسـولـه“ .ذاتـنا مـكونـة مـن أربـع عـوالـم ،الـجسم والـنفس والـروح
وال ــنور ال ــنبوي ال ــذي ه ــو م ــقام ال ــعزة ”س ــبحان رب ــك رب ال ــعزة“ الح ــظي ال ــكاف ”رب ــك“ .ف ــال ــقراءة
الـعليا هـي الـقراءة الـنبويـة ،هـي الـعقل األعـلى ،الـعقل األول ،الـقلم الـذي قـيل لـه ”اكـتب“ الـذي هـو
أول مخلوق
.
كـل َمـن يـتبع الـذكـر ويـخشى الـرحـمن بـالـغيب ،فـإن فـيه نـور مـن نـور الـنبي ،وبهـذا الـنور يـقبل
الــقرءان ودعــوتــه إلــى الــقراءة ،فــيكون مــن هــذا الــوجــه مــخاطَــبا ً أيــضا ً بخــطاب }اقــرأ بــاســم ربــك{.
فتهجـد بـه نـافـلة لـك عـسى أن يـبعثك ربـك مـقامـا ً ّ ويشهـد لهـذا املـعنى مـثالً ،قـولـه تـعالـى ”ومـن الـليل
محـ ــمودا ً“ فهـ ــذا خـ ــطاب لـ ــلنبي ”ربـ ــك“ ،لـ ــكن الحـ ــظي فـ ــي سـ ــورة املـ ــز ّمـ ــل الـ ــتي تـ ـ ّ
ـبني تـ ــفاصـ ــيل
التهج ــد ”وط ــائ ــفة م ــن ال ــذي ــن م ــعك“ ،ف ــتوج ــد ط ــائ ــفة م ــن امل ــؤم ــنني ه ــم م ــع ال ــنبي ،م ــع ال ــكاف ”
ّ
ـكرمـة الـتي خـاطـبها اهلل ”يـبعثك ربـك“ ،فـهؤالء ألنـهم اتـبعوا الـنبي فـي أمـرهـم مـعك“ هـذه الـكاف امل ُ ّ
صـاروا مـعه كـما قـال إبـراهـيم ”مـن تـبعني فـإنـه مـنّي“ .ومـن هـذا الـوجـه يـكونـون كـأنـهم الـنبي ومـرآة
للنبي
.
…
س : ٤فــي أصــل املــسألــة؛ ســؤال اســتفهامــي إن كــانــت كــذلــك فــلِ َم لــم يــرد فــي املــوروثــات بــشكل
جــلي وواضــح لــلقوي والــضعيف عــن الــنبي بهــذا األمــر كــما ورد عــن مــا دونــه فــي تــفصيل الــصالة
التقليدية بشكل دقيق جداً ،وهو أشد حرصا ً وسالم ًة لنا
.
32
الــزاويــة األولــى ،وروده فــي كــتاب اهلل يــغنينا عــن الــتكهن عــن ملــاذا ورد أو لــم يــرد أمــر مــا فــي
الـروايـات .ثـم حـتى الـروايـات فـيها أمـر بـالـتمسك بـكتاب اهلل واالهـتداء بهـديـه والـتحاكـم إلـيه .فهـذا
يكفي
.
الـزاويـة الـثانـية ،الـصالة الـقرآنـية هـي الـقراءة والـوقـت ،وكـالهـما مـذكـور فـي اآليـات وحـتى فـي
ـدل عــلى قــراءة الــقرءان وفــضل الــقراء ومــقاصــد الــقراءة وثــوابــها الــروايــات .وعــدد الــروايــات الــتي تـ ّ
ك ــثيرة ج ــدا ً ب ـيّنا ب ــعضها ف ــي ك ــتاب ــنا ”ت ــاج ال ــقراء“ وم ــا ل ــم ن ــبيّنه أك ــثر ب ــكثير ع ــند ال ــسنة وال ــشيعة
واإلباضية
.
ال ــزاوي ــة ال ــثال ــثة ،ال ــرواي ــات ت ــأثّ ــرت ك ــما ه ــو م ــعلوم ب ــكثير م ــن ال ــعوام ــل ال ــخاص ــة ،وك ــيفية ن ــقلها
وحــفظها ونــوعــية الــحكم عــليها وعــلى رجــال الــنقل دخــلها الــكثير مــن األمــور الــتي نــقلت الــديــن مــن
مـركـزيـة الـقرءان وأحـكامـه ومـقاصـده ورؤيـته إلـى مـركـزيـة أخـرى .فـليس غـريـبا ً بـعد ذلـك إن وجـدنـا
م ــا ف ــي ال ــقرءآن ي ــناق ــض م ــا ف ــي ال ــرواي ــات أو م ــا ت ــأس ــس ع ــلى ه ــذه ال ــرواي ــات م ــن م ــفاه ــيم .ل ــكن
حسـب اطـالعـي ومـا كـتبته فـي هـذا الـشأن فـي مـواضـع مـتفرقـة ،فـإن فـي الـروايـات مـا يـص ّدق مـا
ورد ف ــي ال ــقرءان ،ل ــكن ت ــفصيل ذل ــك ب ــنحو م ــنهجي ي ــحتاج إل ــى اس ــتقصاء ف ــي نـ ـيّتي ال ــقيام ب ــه
الحـقا ً إن شـاء اهلل لـكن الـقدر الـذي يـكفينا اآلن هـو مـا ذكـرنـاه ،فـحتى لـو افـترضـنا أنـه لـم تـأتـي وال
رب العزّة ال يفتقر إلى كيس أبي هريرة
. رواية ،فكتاب ّ
إضـافـة رابـعة ،قـال اهلل مـوضـحا ً قـاعـدة ”لـو كـان مـن عـند غـير اهلل لـوجـدوا فـيه اخـتالفـا ً كـثيرا ً“،
واآلن تـعالـي نـنظر فـي الـروايـات واملـذاهـب الـفقهية عـن مـسائـل الـصالة الـتقليديـة ،وسنجـد اخـتالفـا ً
ـدل إمــا عــلى خــلل فــي الــروايــات وإمــا عــلى أن املــسألــة بــر ّمــتها ليســت كــثيرا ً كــثرة مــتكاثــرة ،وهــذا يـ ّ
من عند اهلل ،وعلى الوجهني يسقط االحتجاج بالروايات على اآليات
.
قـرأت الـيوم روايـة مـشهورة عـن كـون جـبريـل عـرض الـقرءان عـلى الـنبي م ّـرتـني فـي الـعام الـذي
تـوفـي فـيه لـكنه كـان يـعرضـه عـليه م ّـرة واحـدة قـبلها .وتـذ ّكـرت كـذلـك كـون الـنبي كـان لـه كـتّاب وحـي
كــما هــو مــعروف وكــان ك ـتّابــه يــؤلــفون الــقرءان ويــرتّــبوه بــإشــراف الــنبي نــفسه .طــيب .لــو كــان أمــر
املـرويـات ضـروريـا ً وجـوهـريـا ً لـلديـن ،بـاإلضـافـة إلـى الـقرءان ،ملـاذا لـم يـوظّـف الـنبي أنـاسـا ً يـكتبون
سـنّته بــانــتظام ويــكتبون كــل شــاردة وواردة ويــتناقــلها الــصحابــة بــعضهم إلــى مــن بــعضهم أيــضاً،
وملـاذا لـم يـراجـع الـنبي مـا كـتبوه عـنه وملـاذا لـم يـعرض جـبريـل الـسنّة عـلى الـنبي أيـضا ً كـما عـرض
عليه القرءان .ف ّكري فيها
.
ثــم إذا نــظرنــا ،سنجــد أن الــقرءان قــرأه ونــقلته األ ّمــة ،وهــو لــيس مــثل روايــة أو بــضعة روايــات
عــن واحــد أو أكــثر ،بــل هــو كــتاب يُــقرأ لــيل نــهار ويــعرفــه الــرجــال والــنساء والــصبيان والــعبيد أيــضا ً
بــدرجــات مــختلفة طــبعاً ،وعــالقــة األ ّمــة والــنبي بــالــقرءان مــشهورة مــن أول يــوم .فــكتاب هــذا قــيمته
33
ونــقله وأهـ ّـميته ومــركــزيــته ،ال يــمكن مــعارضــته بــروايــة أو روايــات مــهما كــانــت .مــع الــعلم أن أفــضل
حـديـث مـوجـود بـأيـديـنا مـن حـيث الـسند واملـنت هـو حـديـث ” َمـن كـذب عـليّ مـتعمدا ً فـليتبوأ مـقعده مـن
ال ــنار“ ! ي ــعني أع ــلى ح ــدي ــث م ــوج ــود ه ــو ح ــدي ــث يح ـذّر م ــن ال ــكذب ع ــلى ال ــنبي ،ي ــعني يح ـذّر م ــن
صــناعــة الــروايــات .مــع الــتنبه إلــى أن بــعض الــصحابــة قــال بــأن الــنبي لــم يــقل كــلمة ”مــتعمدا ً“ بــل
قــال ”مــن كــذب عــليّ فــليتبوأ مــقعده مــن الــنار“ مــما يــعني أن َمــن نســب إلــى الــنبي كــلمة لــم يــقلها
ف ــي ال ــواق ــع ول ــو ك ــان يحس ــب ه ــو أن ال ــنبي ق ــال ــها ف ــليتبوأ م ــقعده م ــن ال ــنار ،وه ــذا أخ ــطر وم ــعيار
أصـعب وأشـقّ .لـكن حـتى مـع هـذا التحـذيـر ،كـثر الـوضـع والـكذب فـي الحـديـث بـاعـتراف املحـ ّدثـني،
وك ــثير م ــن األح ــادي ــث ”ال ــصحيحة“ ه ــي ص ــحيحة ب ــاع ــتبار أن رج ــال ال ــسند ك ــان ــوا ع ــند ف ــرق ــة م ــا
وبحسـب اخـتيارهـم ثـقات أو مـقبولـني لـلروايـة لـكن نـفس الـشخص قـد يـكون غـير مـقبول عـند آخـر،
ف ــهو م ــعيار ش ــخصي ،ول ــو ك ــان ال ــنبي ي ــري ــد ه ــذا ال ــعلم ألن ي ــكون مس ــتقالً ف ــضالً ع ــن أن ي ــكون
حـاكـما ً عـلى الـقرءآن لـوجـب أن نـرى فـي الـقرءآن أو حـتى فـي الـروايـات املـتواتـرة تـعليما ً لـلنبي فـي
كـيفية قـبول الـروايـة وتـأسـيس عـلم الـسند ونـقد األحـاديـث ،فـالـنبي الـذي يـع ّلمنا ١٥أدبـا ً فـي كـيفية
دخـول الـخالء كـما فـي الـروايـات ال يُسـتب َعد افـتراض أنـه إن أراد عـلم الـروايـات لـيكون عـلما ً ديـنيا ً
واألهمية واملركزية لوجب عليه أن يكون هو أول واضع لعلوم حديثه
. ّ بهذه الصورة
مـثال ذلـك قـرأت الـيوم حـديـثا ً فـيه سـنده رجـل اسـمه حسـني بـن زيـد بـن حسـني بـن عـلي بـن أبـي
طــالــب وروى حــديــث أن اهلل يــغضب لــغضب فــاطــمة ويــرضــى لــرضــاهــا ،وهــذا الحــديــث مــما اتخــذه
الــشيعة ســالحـا ً ضــد فــرقــة أبــي بــكر ألن فــاطــمة غــضبت عــلى أبــي بــكر ومــاتــت وهــي غــاضــبة عــليه
فـبنوا عـلى ذلـك أن اهلل غـاضـب عـلى أبـي بـكر ،اآلن ،الـذهـبي صـاحـب سـير أعـالم الـنبالء وهـو مـن
دائـرة ابـن تـيمية والـفكر الـذي فـيه مـا فـيه مـن شـوائـب التمسـلف والـنصب وعـداء الـشيعة ،حـكم عـلى
هـ ــذا الحـ ــديـ ــث بـ ــعدم الـ ــصحة خـ ــالف ـ ـا ً لـ ــلحاكـ ــم الـ ــنيسابـ ــوري الـ ــذي خـ ـ ّـرجـ ــه فـ ــي مسـ ــتدركـ ــه عـ ــلى
الـصحيحني وحـكم بـصحة إسـناده فـاعـتبر حسـني بـن زيـد إذن مـقبول الـروايـة لـكن الـذهـبي قـال ”
حســني بــن زيــد مــنكر الحــديــث ال يحــل أن يــحتج بــه“ ،فــلما بــحثت وجــدت حســني بــن زيــد هــذا هــو
ابـن زيـد بـن عـلي بـن الحسـني بـن عـلي بـن أبـي طـالـب وكـان مـن أهـل الـعلم والـزهـد والـورع والـتعبّد
وم ــن ك ــبار ال ــهاش ــميني ال ــعلوي ــني وت ــربّ ــى ع ــند ج ــعفر ال ــصادق وأخ ــذ ع ــنه ال ــعلم ول ــه م ــقام ــات ك ــثيرة
حــسنة ،وقــال فــيه بــعض عــلماء الجــرح والــتعديــل الــسنّة مــا يــلي :الجــرجــانــي }أرجــو أنــه ال بــأس بــه
إال أنـي وجـدت فـي حـديـثه بـعض الـنكرة{ ،أبـو حـاتـم الـرازي }يـعرف ويـنكر{ ،ابـن حجـر الـعسقالنـي
}صــدوق ربــما أخــطأ{ ،الــدارقــطني وهــو مــن شــهير وكــبير فــي عــلم الحــديــث انــتقد حــتى الــبخاري
اعــتبره ثــقة ،عــلي بــن املــديــني قــال }كــان فــيه ضــعف ويُــكتَب حــديــثه{ ،يــحيى بــن مــعني قــال }لــيس
بـشيء{ .أقـول :الحـظي أنـه يـوجـد َمـن وثّـقه ،وأكـثرهـم اعـتبروه مـقبوالً ُيـكتَب حـديـثه ووسـطاً ،وواحـد
34
ق ــال }ل ــيس ب ــشيء{ ،ك ــيف ي ــكون ه ــذا ف ــي رج ــل واح ــد؟ ال ــجواب ب ــبساط ــة :ألن م ــعاي ــيره ــم غ ــير
مــوضــوعــية ،بــل قــد تــكون مــذهــبية مــتعصبة ألن حســني بــن زيــد كــان مــن أصــحاب جــعفر الــصادق
ومــوســى الــكاظــم وهــما أئــمة الــشيعة وأهــل الــبيت فــي زمــنهما ،وتــربــى فــي بــيت جــعفر وتــلقى عــنه
الــعلوم واملــعارف ،بــالــتالــي البــد أن يــحكم عــليه أصــحاب الــفرقــة األخــرى بــنوع مــن الــضعف ونــحوه.
لـكن الـذهـبي ألنـه يـعرف أن حـديـث رضـا اهلل لـرضـا فـاطـمة وغـضبه لـغضبها ،قـال عـبارة فـيها قـسوة
بـالـغة وهـو أن حسـني بـن زيـد }مـنكر الحـديـث ال يحـل أن يـحتج بـه{ وكـأنـه مـنافـق أو كـاذب مـشهور
بالكذب
.
عـلى هـذا الـنمط ،يـمكن الـنظر إلـى عـلم الـروايـات بـأنـه تـأثـر بـعوامـل كـثيرة ،وكـان الـقرءان بـعيدا ً
وضــاع الحــديــث أي الــذيــن يــخترعــون األحــاديــث عــن اهــتمامــات الــكثير مــنهم .بــل يــروى أن بــعض ّ
وينسـبونـها إلـى الـنبي ،اخـترع أحـاديـثا ً كـثيرة فـي فـضائـل الـقرءان ،فـلما سـألـوه قـال مـا مـعناه بـأنـه
رأى اش ـ ـ ــتغال ال ـ ـ ــناس ب ـ ـ ــغير ال ـ ـ ــقرءان ف ـ ـ ــأراد إرج ـ ـ ــاع ـ ـ ــهم إل ـ ـ ــيه .فه ـ ـ ــذا وم ـ ـ ــثله م ـ ـ ــن ال ـ ـ ــكذاب ـ ـ ــني ”
الــصالــحني“ وهــي ظــاهــرة مشــتهرة تح ـ ّدث عــنها مســلم فــي مــقدمــة صــحيحه ،كــانــوا يــرون أنــهم ال
يـكذبـون ”عـلى“ الـنبي حسـب حـديـث ”مـن كـذب َعـليّ مـتعمدا ً“ ،بـل يـرون أنـهم يـكذبـون ”لـ“ الـنبي،
يــعني لــصالــح الــنبي ،لــصالــح مــا جــاء بــه ،فــهم خــارج الحــديــث .ومــن هــذا وغــيره صــارت الــروايــات
أحــوج إلــى الــقرءآن مــن أي وقــت مــضى .فــبدالً مــن االحــتجاج عــلى الــقرءآن بــالــروايــات ومــا فــيها
ول ــيس ف ــيها ،ي ــجب أن ي ــزداد ح ــرص ال ــناس ب ــل وأه ــل ال ــرواي ــات ع ــلى ت ــنقيحها ف ــي ض ــوء ال ــقرءان
وتعاليمه وتفاصيله
.
مـما جـاء فـي الـروايـات ،عـن عـلي عـن الـنبي أنـه قـال }أقـبلت الـفنت كـقطع الـليل املـظلم{ فـسألـوه
ـصل أه ّـمية الـكتاب وأبـعاده ،وكـل فـقرة مـن }مـا املخـرج مـنها يـا رسـول اهلل{ فـقال }كـتاب اهلل{ ،ثـم ف ّ
فـقرات هـذا الحـديـث تـحتاج إلـى دراسـة وتـأمـل ،ألن هـذه األ ّمـة وقـعت وال زالـت تـقع فـي فـنت بسـبب
إعــراضــها عــن كــتاب اهلل .فــد ّلــهم عــلى كــتاب اهلل ،ولــم يــد ّلــهم عــلى كــتاب روايــات ،وقــد كــان يتحــدث
عـن الـناس مـن بـعده .وهـذا مـفهوم ألن هـذه األ ّمـة افـتتنت بـديـن الـروايـات والـتاريـخ وصـ ّيرتـه مـركـزا ً
وأساساً ،وأعرضت بالكلية أو أعرضت جوهريا ً عن كتاب اهلل
.
كــذلــك فــي روايــة أخــرى عــن ابــن مــسعود أن الــنبي وصــف الــقرءان بــأنــه }نــجاة ملــن اتــبعه{ .لــم
يقل اتبعه واتبع غيره ،بل قال }اتبعه{ .وأصل هذا في القرءآن ”اتبعوا النور الذي أنزل معه“
.
ـتوســلون بــه }أمــا فــي روايــة ثــالــثة أن الــنبي ســيقول عــن بــعض أفــراد قــبيلته يــوم الــقيامــة حــني يـ ّ
ســب فــأعـ ِرف ،وأمــا الــعمل فــال أعــرف نــبذتــم الــكتاب فــارجــعوا فــال قــرابــة بــيني وبــينكم{ ،الحــظي الن َّ َ
أن نبذهم الكتاب كان معيار تبرؤ النبي منهم حتى وهم قرابته
.
35
فهــذا وغــيره مــما يــوجــد فــي الــروايــات ويــؤكــد مــا ورد فــي اآليــات .فــهو حـ ّ
ـجة كــافــية مــن داخــل
منظومة الروايات على الرجوع إلى نظام اآليات
.
الـخالصـة :ال نـحتاج إلـى الـتكهن ملـاذا يـوجـد أو ال يـوجـد شـيء فـي الـروايـات ،بـعد أن نجـد مـا
ـمسك بــه وعــروة
يــكفي فــي اآليــات بــل وفــي الــروايــات املــصدقــة املــتبعة لــآليــات مــا هــو عــصمة ملــن تـ ّ
وثقى ال انفصام اهلل واهلل سميع عليم
.
…
س : ٥قـولـي فـي الجـمع بـني األمـريـن أقـصد الـصالتـني أو ظـاهـر األمـر وبـاطـنه؛ فهـذا يجـ ّلي هـذا
فـكما أن الـقرآن مـوجـود ظـاهـرا ً بـلسان عـربـي وبـاطـنا كـروح فـال هـذا يـنافـي هـذا كـما أن لـيس كـل
مـن يـقرأه يـعقله و يـمسه فـالـصالة الـقرآنـية هـي الـروح والـتقليديـة هـي ظـاهـره وقـولـه فـاآليـة }يـعلمون
ظــاهــرا ً مــن الــحياة الــدنــيا وهــم عــن اآلخــرة هــم غــافــلون{ فــالــذم كــان فــالــغفلة عــن الــباطــن ال فــي ذم
تبني
.
علمهم الظاهري .هكذا ّ
تــعليقي :نــعم ،الــقرءان أيــضا ً لــه ظــاهــر وبــاطــن ،ظــاهــره لــسانــه وبــاطــنه حــقيقته .بــالــتالــي ،ال يــقال
بأن أصحاب الصالة القرآنية هم قوم يريدون الباطن بدون الظاهر ،فهذا أمر
.
أمـر آخـر ،وهـو الـذي ركـزت عـليه مـراراً ،املـشكلة فـي الـصالة الـتقليديـة ،إضـافـة إلـى أنـها غـير
مـنصوص عـليها فـي الـقرءان وتـؤدي إلـى اخـتالفـا ً كـثيرا ً وافـتراقـا ً واحـترابـا ً فـي األ ّمـة بـغير مخـرج
إلـى يـوم الـديـن حـتى صـارت األ ّمـة مـصداقـا ً قـولـه تـعالـى ”أغـريـنا بـينهم الـعداوة والـبغضاء إلـى يـوم
الـقيامـة“ ألنـهم ال يـرجـعون إلـى كـتاب اهلل بسـبب رجـوعـهم إلـى الـروايـات واملـذاهـب غـير املـبنية عـلى
الــكتاب حــصراً ،فــنفس صــورة الــصالة الــتقليديــة يــجعلها لــألع ـ ّم األغــلب ذات ظــاهــر بــدون بــاطــن،
وجس ــد ب ــال روح ،وش ــكلية ب ــال ح ــقيقة .ف ــفرق ب ــني ش ــيء ق ــاب ــل ل ــلغفلة وال ــذك ــر ع ــلى ال ــحياد ف ــتكون
امل ــسؤول ــية ف ــي ال ــذك ــر ع ــلى ع ــات ــق اآلخ ــذ ب ــه ،وب ــني ش ــيء ه ــو ن ــفسه ي ــميل ب ــاآلخ ــذ ب ــه ج ــهة ال ــغفلة
بسبب تركيبه وشؤونه
.
ل ــكن ن ــعم إن اف ــترض ــنا إن ــسان ـا ً ي ــكون ح ــاض ــرا ً ف ــي ال ــقراءة واألذك ــار وي ــتك ّلم ب ــلسان ج ــسمه
ب ــالح ــرك ــات وال ــوض ــعات ك ــما ي ــتك ّلم ب ــلسان ف ــمه ب ــال ــكلمات ،فه ــذا ال ف ــرق ب ــني ال ــصالة ال ــقرآن ــية
والصالة التقليدية عنده بل هما شيئا ً واحدا ً من هذا الوجه
.
إال أن م ــن أهـ ـ ّم م ــا ي ــشغلني ه ــو ح ــني ي ــأت ــيني إن ــسان وي ــقول ل ــي ”ت ــرك ــت ال ــصالة )ي ــقصد
الـتقليديـة( ألنـي كـذا وكـذا )ويـبدأ يسـرد لـي الـعيوب الـتي ذكـرنـاهـا بـعضها أو كـثير مـنها(“ ثـم يـقول
36
ل ـ ــي ”ك ـ ــيف أص ـ ـ ّلي ص ـ ــالة هلل ذات روح وح ـ ــقيقة“ أو ”أي ـ ــن ه ـ ــذه ال ـ ــصالة ف ـ ــي ك ـ ــتاب اهلل“ .ف ـ ــال
أســتطيع أن أجــيبه بــقلب مــطمئن إال بــبيان الــصالة الــقرآنــية ،وأقــول لــعله إن اســتقام عــليها ووجــد
حــقيقتها يــميل إلــى رؤيــة حــقيقة ومــنفعة الــصالة الــتقليديــة بحســب أصــلها الــنبوي األولــي الــطاهــر
ثــم يــقوم بــها مــن عــند نــفسه أو لــعل اهلل يــبعث قــلبه بــفهم شــيء مــن الــقرءان يــدلــه عــليها .لــكن مــاذا
ســأقــول هلل يــوم الــقيامــة إن قــال لــي ”أمــرتــك بــتعليم كــتابــي ،فهــل وجــدت فــي كــتابــي املســتبني هــذه
الــصالة؟“ حــينها ال يــمكن أن أجــيب إال بــأجــوبــة أنــا نــفسي أر ّدهــا عــلى َمــن يــجيب بــها الــيوم ،مــن
قـبيل قـولـهم ”أطـيعوا الـرسـول“ و ”مـا يـنطق عـن الـهوى“ ومـا أشـبه مـما نـر ّد اسـتداللـهم بـه ألنـه فـي
ـصلناه فــي كــتب أخــرى .مــن هــنا قــلت بــأنــه يــجب أوالً إقــامــة غــير مح ـ ّله مــن أكــثر مــن زاويــة كــما فـ ّ
ال ــصالة ال ــقرآن ــية ،ب ــعد ال ــرس ــوخ ف ــيها ي ــمكن ال ــنقاش ف ــيما س ــواه ــا مل ــن أراد ال ــنقاش ول ــم يج ــد م ــا
يكفيه فيها على فرض ذلك
.
…
س :٦ن ــقول اي ــضا ً مل ــن ش ــعر ب ــال ــفتور وامل ــلل م ــن ص ــالت ــه ال ــجسمان ــية ك ــيف ي ــعقل أال ي ــكون االم ــر
كــذلــك وانــت مــن الــروح تجــردت ورضــخت لــجسمك األدنــى فــافــعل بــالــباطــن ليتجــلى الــظاهــر بيســر
وسالم
.
تـعليقي :مـن الـلطيف أنـه روي عـن الـنبي صـلى اهلل عـليه وآلـه وسـلم أنـه قـال عـن الـقرءان }ال يشـبع
مـنه الـعلماء{ و قـال }ال يخـ َلق عـلى كـثرة الـرد{ .فـمن خـواص الـقرءان عـند أهـله أنـه ال فـتور وال مـلل
فيه
.
وهـذا أحـد أسـباب وضـع اهلل املـواقـيت فـي صـالة الـفريـضة )الـعشاء لـدلـوك الـشمس إلـى غـسق
الــليل ،والفجــر مــن طــلوع الفجــر إلــى مــا قــبل طــلوع الــشمس( وصــالة الــنافــلة )بــثلثي ونــصف وثــلث
تيس ــر ك ــاس ــتثناء خ ــصوص ـا ً ل ــلمساف ــر وال ــتاج ــر وامل ــقات ــل( .الح ــظي أن ــه رب ــط
ال ــليل ك ــأص ــل ،ث ــم م ــا ّ
ال ــصالة أي ق ــراءة ال ــقرءان ب ــأوق ــات ،ول ــم ي ــرب ــطه بح ــرك ــات ج ــسمان ــية أو ب ــأع ــداد ك ـ ّـمية .مل ــاذا؟ ألن
ـتعمق ويــتفرغ لــلمعرفــة يــحتاج إلــى تــفرغ تــام فــيفرغ وقــتا ً لــذلــك الــقارئ حــتى يســتغرق ويــتوغــل ويـ ّ
ال ــعمل خ ــاص ــة ،ث ــم ألن اهلل ع ــلم أن ال ــقرءان ج ــميل وب ــاط ــنه ع ــميق وظ ــاه ــره أن ــيق ف ــإن ال ــقارئ ق ــد
يـغرق فـي جـمالـه ونـوره لـدرجـة أن يـنشغل عـن بـقية أمـور جـسمه ومـعاشـه وأهـله فـيفقد تـوازن حـياتـه
فح ــدد ل ــه أوق ــاتـ ـا ً ل ــيس م ــن ب ــاب ال ــتكليف ال ــشاق ب ــل م ــن ب ــاب ال ــتخفيف والح ــماي ــة م ــن م ــخاط ــر
االســتغراق .فــنالحــظ أن مــا بــني طــلوع الــشمس إلــى الــظهيرة وقــت مــن الــنهار لــم يــجعل اهلل فــيه ال
37
صــالة فــريــضة وال نــافــلة ،ألنــه قــال ”الــنهار مــعاش ـا ً“ ،ومــا بــعد الــعشاء اآلخــر أي غــسق الــليل ومــا
بــني الــنافــلة قــال ”مــن الــليل فتهجــد“ والتهجــد فــيه مــعنى الــنوم ثــم االســتيقاظ مــن الــنوم ،بــالــتالــي
أرش ــد إل ــى راح ــة ون ــوم ب ــعد ال ــعشاء وق ــبل ن ــاف ــلة ال ــليل ،ف ــجعل به ــذا ف ــاص ـالً ف ــي ال ــنهار ل ــلمعاش
وف ــاص ـالً ف ــي ال ــليل ل ــلراح ــة وال ــنوم ،وك ــذل ــك ذك ــر ”ت ــضعون ث ــياب ــكم م ــن ال ــظهيرة“ وذل ــك ق ــبل دل ــوك
ال ــشمس وب ــدء ف ــري ــضة ال ــعشاء ف ــي وق ــتها األول وي ــدل ع ــلى ال ــراح ــة ب ــعد امل ــعاش ،ف ــال ــوق ــت ف ــي
الــقرءان مــتوازن يجــمع مــا بــني الــصالة ومــا بــني املــعاش والــراحــة .وقــد عــلم اهلل قــدرة الــقرءآن عــلى
جـذب الـنفس املسـتنيرة إلـى درجـة تـجعلها تـفقد أي اهـتمام بـاملـعاش وبـالـراحـة حـتى قـال ”تـتجافـى
جنوبهم عن املضاجع يدعون ربهم“ ،فلذلك وضع األوقات
.
اآلن ،أي ــن ه ــذا م ــن م ــا نج ــده ف ــي أم ــر ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ع ــند م ــن ي ــعرف ــها وال ي ــعرف ال ــصالة
ال ــقرآن ــية .أي ــن ه ــذا ال ــتقييد ل ــلمص ّلني ال ــصالة ال ــقرآن ــية ،ت ــقييد ح ــتى ي ــنظروا ف ــي أم ــر م ــعاش ــهم
وراحـ ــتهم وأهـ ــلهم ،تـ ــقييد مـ ــن جـ ــمال ال تـ ــقييد اسـ ــتعباد وتـ ــخويـ ــف ،أيـ ــن هـ ــذا مـ ــن مـ ــا نجـ ــده عـ ــند
ـص َغر أص ــحاب ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ومـ ـ ّلة ال ــرواي ــات ال ــتي ي ــبدأ ت ــقدي ــمها ل ــلناس ب ــال ــضرب ف ــي ال ـ ِّ
والـتخويـف بـالـحبس والـقتل والـحكم بـالـردة فـي ال ِـكبَر؟ لـو كـانـوا يـعلمون لـها جـماالً ونـورا ً ملـا قـامـوا
بذلك ،وتاجر البضاعة أعلم الناس بعيوبها عادةً وإن أخفاها
.
ال أريـد أن أقـنع أحـدا ً بـأن ال يـشعر بـالـفتور واملـلل مـن عـملية نـفس تـكويـن صـورتـها يـؤدي إلـى
الــفتور واملــلل .خــصوصـا ً أن اهلل أغــنانــا عــن هــذا بــتعليم كــتابــه .ليمتلئ قــلبه بــنور الــقرءان ،ولــيعتاد
الـذكـر الـكثير والتسـبيح بـكرة وأصـيالً ،ثـم بـعد ذلـك لـيكون مـا يـكون ولـعله حـينها لـن يـشعر بـالـفتور
وامل ــلل ح ــني ي ــشارك ج ــسمه م ــا ي ــقوم ب ــه ع ــقله ول ــسان ــه م ــشارك ــة خ ــاص ــة ذات أوض ــاع م ــخصوص ــة
واعتبارات أخرى أخفى
.
أقــصد بــاالعــتبارات األخــرى األخــفى أن هــذه الــصالة الــتقليديــة نــفسها لــها أدلــة مــن الــقرءآن
حــتى عــلى أعــدادهــا وتــفاصــيلها .فــمنها مــا ذكــرتــه فــي كــتبي ،ومــنها مــا أنــتظر الــفتح فــيه مــن اهلل.
فـمن ذلـك مـثالً كـونـها خـمس صـلوات وقـال الـنبي ”الـصالة نـور“ )الحـظي ”نـور“ والـنور أمـر إلـهي
غـيبي ”اهلل نـور“ ،و“الـعلم نـور“ ،فـالـصالة اتـصال بـاهلل ونـوره وعـلمه .فـحقيقتها نـور ،وليسـت ظـلمة
حــس وجــسم ودنــيا( ،فــإذا نــظرتــي فــي آيــة الــنور ســتجدي أن الــنور فــيها ذُكــر خــمس مــرات ،وإذا
أحــصيتي حــروف هــذه الــكلمات الخــمس ســتجديــها ١٧حــرف ـا ً بــعدد )نــور ،نــور ،نــور ،نــوره ،لــنوره(
م ــع ح ــذف ال ــالم م ــن ”ل ــنوره“ وذل ــك ب ــعدد رك ــعات ال ــفرائ ــض الخ ــمس ،وإذا حس ــبتي ال ــالم م ــن ”
لــنوره“ فــالــناتــج ١٨حــرف ـا ً ومــن هــنا تــعرفــي أهـ ّـمية ركــعة الــوتــر فــي الــروايــات عــلى اعــتبار أن أقــل
ال ــوت ــر رك ــعة واح ــدة .وه ــكذا ك ــثير غ ــير ذل ــك .ل ــكن م ــثل ه ــذه االع ــتبارات األع ــمق ليس ــت أدل ــة ب ــينة
بــالــطريــقة الــتي تــجب فــيها األحــكام فــي الــكتاب املــبني املســتبني ،إال أنــها أدلــة وقــرائــن عــلى كــون
38
الــعمل صــادر عــن الــنبي أو عــن ولــي عــارف بــاهلل مــفتوح عــليه .فــضالً عــن األدلــة والــقرائــن األخــرى
التي أشرت إلى كثير منها في كثير من كتبي
.
…
س : ٧م ــا ال ــدل ــيل ف ــي ال ــقران ال ــذي ي ــؤص ــل إل ــى ن ــهج ال ــتدرج ف ــي إق ــام ــة ال ــصالة إذا رأي ــنا أن
اإلج ــاب ــة ال ــقائ ــلة ب ــأن ي ــبدأ املس ــلم ب ــال ــقرآن ــية ث ــم اذا رس ــخ ف ــيها واس ــتقر ي ــنتقل ل ــلتقليدي ــة فيج ــمع
بينهما
.
ّ
األقل هذه األدلة
. الجواب :توجد على
األول ،ق ــال اهلل }أط ــيعوا اهلل وأط ــيعوا ال ــرس ــول{ ،ف ــعلى ف ــهم أن ط ــاع ــة اهلل ه ــي ط ــاع ــة م ــا ف ــي
كــتاب اهلل ،وطــاعــة الــرســول هــي الــتي عــلى أســاســها تــجب الــصالة الــتقليديــة ،فــعلى ذلــك يــجب أن
ن ــبدأ م ــن ح ــيث ب ــدأ اهلل ،وه ــو أن ن ــطيع اهلل وذل ــك ب ــال ــصالة ال ــقرآن ــية ،ث ــم ن ــطيع ال ــرس ــول ب ــال ــصالة
الـتقليديـة—عـلى فـرض ثـبوتـها بـتفاصـيلها ووجـوب إقـامـة هـذه الـتفاصـيل وعـدم إقـامـة غـيرهـا طـبعاً،
وهذا مبحث آخر لكن أبني الدليل هنا على ما يقبله أهل الروايات
.
الــثانــي ،بــما أن الــقرآنــية هــي املــنصوص عــليها ،فــهي الــفريــضة .لــكن فــي الــقرءآن أيــضا ً فــتح
م ــجال ل ــلذك ــر والتس ــبيح وال ــقراءة وال ــتالوة وال ــدع ــاء والس ــالم وغ ــير ذل ــك ب ــنحو غ ــير م ــقيد ب ــصورة
محـددة ،كـقولـه ”اذكـروا اهلل ذكـرا ً كـثيرا ً“ فـلم يحـدد ذكـرا ً مـن ذكـر وال عـددا ً مـن عـدد فـكان كـل ذلـك
ج ــائ ــزاً ،وم ــن ق ــبيل ”أن ــزل م ــن ال ــسماء م ــاء“ ث ــم ب ــعد ذل ــك تخ ــرج أش ــجار م ــختلفة األل ــوان وت ــسيل
األوديــة بحســب األوديــة وحــالــها فــكذلــك نســتطيع أن نــقول بــأن الــصالة الــقرآنــية الــتي هــي الــقراءة
والــوقــت يــمكن أن تــأخــذ أشــكاالً وألــوانـا ً مــختلفة كــلها جــائــزة مــن حــيث األصــل ألنــها مــندرجــة تــحت
أص ــول ال ــقرءآن ال ــكلية ف ــي ه ــذا ال ــباب .ف ــيكون األخ ــذ ب ــال ــلون وال ــشكل ال ــذي ث ــبت ن ــقله وع ــمله م ــن
الــنبي أولــى عــند مــن يــفهم شــروط ذلــك وتــفاصــيله ويــقبله طــوع ـا ً ويــناســب حــالــه .فــالــحكم الــخاص
يـقتضي الـقيام بـالـصالة الـقرآنـية ،والـحكم الـعام املـفتوح يـجيز الـقيام بـالـصالة الـتقليديـة كـلون مـن
ألوان الصالة القرآنية
.
ـبني عــنده أن رســول اهلل كــان الــثالــث ،قــال اهلل }كــان لــكم فــي رســول اهلل أســوة حــسنة{ ،فــمن تـ ّ
يــقوم بهــذه الــصالة الــتقليديــة بــهيئة مــعينة أثــناء قــراءتــه الــقرءآن وأذكــاره ودعــائــه ،فهــذه اآليــة تــدلــه
عـلى الـتأسـي بـه .فـنحن نـعلم يـقينا ً مـن الـقرءان أن الـرسـول كـان يـقرأ الـقرءان فـي أوقـات الـفريـضة
والـنافـلة ،لـكننا ال نـعلم إال بـظن ومـا تـحت الـيقني أنـه كـان يـقوم بهـذه الـصورة أو تـلك مـن تـفاصـيل
ـجة ق ــرآن ــية أي ــضا ً ف ــضالً ع ــن أن ــه ال ـ ّ
ـحجة ال ــتي ث ــبت ب ــها ال ــجسم وال ــحس ،وم ــن امل ــعقول-وال ــعقل ح ـ ّ
39
ال ــقرءان-أن ن ــق ّدم ال ــيقيني ع ــلى ال ــظنّي ،ون ــق ّدم املج ــمع ع ــليه ع ــلى امل ــختلف ف ــيه ،ون ــق ّدم م ــا ي ـ ّ
ـوح ــد
ـفرق ــها وه ــذا بح ــد ذات ــه أم ــر إل ــهي ل ــكل امل ــرس ــلني ”أن أق ــيموا ال ــدي ــن وال ت ــتفرق ــوا
األ ّم ــة ع ــلى م ــا ي ـ ّ
ـفرقــة بــينما الــقرآنــية مــوحــدة مجـ ّـمعة مــن حــيث أنــها مجـ ّـرد فــيه“ وقــد عــلمنا أن الــصالة الــتقليديــة مـ ّ
القراءة واملواقيت
.
…
س :٨لـو تـكرمـت وبـينت لـنا بـما فـتح اهلل لـك مـعنى هـذه االيـات الـكريـمة وبـينت لـنا مـوافـقتها مـع مـا
ذهـبت إلـيه فـي كـتابـك األخـير حـول الـتفريـق بـني الـصالة الـقرانـية والـتقليديـة وفـق الـرؤيـة الـعرفـانـية.
قـال تـعالـى)يـا ايـها الـذيـن امـنوا ال تـقربـوا الـصالة وانـتم سـكارى حـتى تـعلموا مـا تـقولـون وال جـنبا
اال عـابـري سـبيل حـتى تغتسـلوا وان كـنتم مـرضـى او عـلى سـفر او جـاء احـد مـنكم مـن الـغائـط او
المســتم الــنساء فــلم تجــدوا مــاء فــتيمموا صــعيدا طــيبا فــامــسحوا بــوجــوهــكم وايــديــكم ان اهلل كــان
ع ــفوا ع ــفورا( ف ــمعروف ف ــي ال ــصالة ال ــتقليدي ــة ان ال ــطهارة م ــن ش ــروط ــها وم ــن ب ــينها الغس ــل ب ــعد
الــجنابــة او الــتيمم فهــل يــنطبق االمــر ايــضا عــلى الــصالة الــقرآنــية اي هــل يشــترط فــيها الــطهارة
بالغسل والتيمم كما في الصالة التقليدية؟
وف ــي اي ــة اخ ــرى ق ــال ت ــعال ــى)ي ــا اي ــها ال ــذي ــن ام ــنوا اذا ق ــمتم ال ــى ال ــصالة ف ــاغس ــلوا وج ــوه ــكم
وايـديـكم الـى املـرافـق وامـسحوا بـرؤسـكم وارجـلكم الـى الـكعبني وان كـنتم جـنبا فـاطهـروا وان كـنتم
مــرضــى او عــلى ســفر او جــاء احــد مــنكم مــن الــغائــط او المســتم الــنساء فــلم تجــدوا مــاء فــتيمموا
صــعيدا طــيبا فــامــسحوا بــوحــوهــكم وايــديــكم مــنه مــايــريــد اهلل لــيجعل عــليكم مــن حــرج ولــكن يــريــد
ليطهــركــم ولــيتم نــعمته عــليكم لــعلكم تــشكرون( وفــي هــذه االيــة ايــضا تــأكــيد عــلى الــطهارة بــحيثية
مـعينة اغسـلوا وجـوهـكم وامـسحوا بـرؤسـكم الـى اخـر مـاجـاء مـن تـعالـيم فـي االيـة الـكريـمة الـتي هـي
تــعد مــقدمــات لــلصالة الــتقليديــة فهــل يــنطبق االمــر ايــضا عــلى الــصالة الــقرآنــية وهــل يشــترط فــي
ال ــصالة ال ــقران ــية ال ــطهارة والغس ــل؟ وه ــل يش ــترط الغس ــل ب ــعد ال ــجناب ــة؟ وم ــاذا يس ــتفاد م ــن غس ــل
الوجه للصالة او الطهارة بعد املالمسة؟
الـجواب :أ ّوالً ،إذا نـظرنـا إلـى ظـاهـر اآليـات ،فـال يـوجـد شـيء يـمنع مـن أن تـكون الـطهارة املـذكـورة
شــرط ـا ً لــلصالة الــقرآنــية كــما هــي شــرط لــلصالة الــتقليديــة عــند فــقهاء الــروايــات .الســبب هــنا هــو
السبب هناك أيا كان هذا السبب
.
40
ث ــان ــياً ،ف ــي ال ــصالة ال ــقرآن ــية ،يظه ــر م ــعنى ه ــذه اآلي ــات أك ــثر .ألن اهلل ق ــال ع ــن ال ــقرءآن ”ال
ـمسه إال املطه ــرون“ ،ف ــناس ــب ه ــذا امل ــعنى ت ــطهير ال ــنفس وت ــطهير ال ــجسم م ــن ح ــيث أن ال ــقارئ يـ ّ
ي ــعقل ب ــنفسه وي ــتلو وي ــمسك امل ــصحف إن ك ــان ل ــه م ــصحف ب ــجسمه .ف ــامل ــقصد ه ــو ب ــلوغ ح ــقيقة
الكتاب املكنون
.
جـه املـؤمـنني إن كـنت تـتدارس وتتنشـط لـلقراءة وكـذلـك حـتى تـوا ِ ّ ثـم نـقول :غسـل الـوجـه حـتى تسـتيقظ
الــكتاب فــي جــماعــة .وغســل الــيديــن حــتى تــمسك الــكتاب والــصحف املــكرمــة الــقرآنــية بــهما .ومــسح
الـرأس بـمعنى أنـك سـتأخـذ املـاء مـن يـديـك أي مـن اآليـات الـتي تـمسكها وتـضعها عـلى أعـلى رأسـك
بــمعنى تــعقلها وتــفهمها ،ومــسح الــرجــلني بــعد الــرأس إشــارة إلــى تــغيير عــملك وســلوكــك بحســب مــا
عـقلته وفـهمته مـن اآليـات .فهـذه الـعملية الـربـاعـية تـشير إلـى مـواجـهة الـكتاب بـاإلقـبال بـوجـه الـقلب
ـمسكون ب ــال ــكتاب وأق ــام ــوا ال ــصالة“ ،وي ــدل ع ــلى ق ــراءة ـتمسك ب ــه ب ــال ــيدي ــن ”ال ــذي ــن يُ ـ ّ
ع ــليه ،ث ــم ال ـ ّ
الـقرءآن بـيد املـلك الـظاهـريـة ويـد املـلكوت الـباطـنية ،ثـم مـسح الـرأس يـعني أخـذ اآليـات ووضـعها فـي
الـعقل ،ثـم مـسح الـقدمـني يـعني إظـهار مـا عـقله عـلى قـدمـي الـقول والـفعل فـي األرض فـتقول وتـفعل
بحسب ما تعقل
.
أمـا قـولـه تـعالـى }يـا ايـها الـذيـن امـنوا ال تـقربـوا الـصالة وانـتم سـكارى حـتى تـعلموا مـا تـقولـون وال
ج ــنبا اال ع ــاب ــري س ــبيل ح ــتى تغتس ــلوا وان ك ــنتم م ــرض ــى او ع ــلى س ــفر او ج ــاء اح ــد م ــنكم م ــن
الـغائـط او المسـتم الـنساء فـلم تجـدوا مـاء فـتيمموا صـعيدا طـيبا فـامـسحوا بـوجـوهـكم وايـديـكم ان
اهلل كان عفوا عفورا(
فــقولــه }ال تــقربــوا الــصالة وأنــتم ســكارى حــتى تــعلموا مــا تــقولــون{ يــدل عــلى أن الــصالة قــول
وعــقل .فــلم يــقل ”حــتى تــعلموا مــا تــقولــون وتــفعلون“ ،ولــو كــان فــي الــصالة فــعل أيــضا ً لــذكــر الــفعل
أو لـقال ”حـتى تـعلموا مـا تـعملون“ عـلى أسـاس أن الـعمل يـشمل الـقول والـفعل ،فـالـقول غـير الـفعل
”لـم تـقولـون مـا ال تـفعلون“ لـكن الـعمل يـشملهما مـعا ً ”ادخـلوا الـجنّة بـما كـنتم تـعملون“ .فهـذه اآليـة
دل ــيل ع ــلى أن ال ــصالة ف ــي ال ــقرءان ه ــي ق ــول وع ــلم ،وت ــلك ه ــي ال ــقراءة .ف ــال ــقراءة ق ــول وع ــلم .أم ــا
ال ــسكر ف ــيدخ ــل ع ــلى ال ــعقل ،وه ــذا بح ــد ذات ــه ي ــدل ــك ع ــلى أن أي إخ ــالل ب ــال ــعقل ف ــي ال ــصالة وم ــا
يــمنعه مــن الــتع ّلم فــي الــصالة فــهو خــلل فــي الــصالة .اآلن ،اعــتاد الــناس عــلى اعــتبار الــسكر هــو
مجـ ّـرد شــرب الخــمر املــادي ،والــحق أنــه يــوجــد مــا هــو أش ـ ّد مــن الخــمر ومــا هــو أحــق بــاســم الخــمر
واملــسكرات مــن الخــمر املــعروفــة ،مــن قــبيل الــعقائــد واألفــعال الــجسمانــية الــتي تــحول بــني املــصلي
وتع ّلم ما يقوله واالنتفاع العلمي من القرءان
.
41
ثــم إن }الــصالة{ هــنا تــشير أيــضا ً إلــى مــكان إقــامــة الــصالة ،لــذلــك قــال }وال جــنبا ً إال عــابــري
ـسمى م ــكان ال ــصالة ص ــالة ،ك ــقول ــه ” س ــبيل ح ــتى تغتس ــلوا{ ،ف ــامل ــرور ي ــكون ب ــمكان ال ــصالة .ف ـ ّ
وص ــلوات وم ــساج ــد ي ــذك ــر ف ــيها اس ــم اهلل“ .م ــما ي ــشير إل ــى ات ــخاذ أم ــاك ــن م ــخصصة ل ــلصالة،
ويشهــد لهــذا قــولــه ”اتخــذوا مــن مــقام إبــراهــيم ُمــص ّلى“ .وهــذا مــما يــعني عــلى الــتركــيز الــعقلي فــي
الــقراءة والــحضور ،كــما هــو مــعلوم عــند أهــل الــقراءة عــادةً ،فــضالً عــن مــا ســوى ذلــك مــن بــركــات،
ويــعزز هــذا ذكــر املحــراب لــزكــريــا ومــريــم وداود ،واملحــراب مــكان الحــرب ألن الــصالة حــرب بــالــنور
ضد الظلمات ،وحرب بالعقل ضد الجهل ،وحرب بكالم اهلل ض ّد كالم الخلق
.
امل ــري ــض وامل ــساف ــر وال ــغائ ــط وال ــلمس ،ه ــذه األرب ــع ك ــلها ت ــشير إل ــى م ــتاع ــب ال ــجسم وع ــوائ ــقه
وم ــشاك ــله .وك ــلها ت ــؤدي إل ــى ع ــدم ت ــرك ــيز ال ــعقل أي ه ــي ن ــوع م ــن امل ــسكرات إن ش ــئت ب ــدرج ــات
م ــختلفة وال ــتي ت ــجعل امل ــص ّلي ال ي ــعلم م ــا ي ــقول أو ال ي ــحسن ت ــع ّقل وت ــع ّلم م ــا ي ــتلوه م ــن ك ــتاب اهلل
ت ــعال ــى .ه ــذه األرب ــعة ت ــدل ع ــلى ك ــون ال ــوع ــي مس ــتغرق ـا ً أو م ــحبوس ـا ً ف ــي ال ــجسم وآالم ــه وه ــموم ــه
وم ــشاغ ــله ،وق ــد ع ــلمنا أن ال ــوع ــي ك ــلما ه ــبط ل ــلجسم ك ــلما اب ــتعد ع ــن ال ــروح .ف ــلذل ــك ك ــان األم ــر
بـاالغـتسال والـطهارة وسـيلة كـأنـها وسـيط يـرفـع الـوعـي مـن مـجال الـجسم إلـى مـجال الـروح والـحق
املتعالي ويُدخله حضرة القرءان
.
أمـا قـولـه ملـن لـم يجـد املـاء }فـتيمموا صـعيدا طـيبا فـامـسحوا بـوجـوهـكم وايـديـكم{ ،فـاملـاء لـه أربـع
أعـضاء ،وجـه ويـد ورأس ورجـل ،لـكن الـصعيد وهـو تـراب وأرضـي خـالفـا ً لـلماء الـسماوي ،لـه الـوجـه
والــيد ،ألن وضــع الــتراب عــلى الــرأس والــقدم يــشير إلــى تــح ّول الــعقل والــعمل إلــى ال ـبُعد األرضــي
املــادي وظــاهــر الــحيوة الــدنــيا وهــو شــأن الــغافــلني والــكافــريــن ،فــلذلــك اكــتفى بــالــوجــه والــيد لــلتنبيه
املـعنوي ،وكـذلـك ألن الـتراب يـشير إلـى األمـثال والـكالم الـلسانـي وهـو ظـاهـر الـقرءان الـذي تـواجـهه
وتـأخـذه بـيدك ،فـالـقرءان لـه ُبـعد تـرابـي و ُبـعد مـائـي .فـاألصـل الـوجـه والـيديـن فـي الـحالـتني ،ألنـه البـد
ـتوج ــه واألخ ــذ .وع ــلى ال ــعموم امل ــاء أو ال ــصعيد وس ــيلة ت ــنبيه وع ــمل ش ــيء ل ــه ط ــاب ــع ش ــعائ ــري
م ــن ال ـ ّ
حتى يجذب الوعي من العمل ذي الطابع الدنيوي والشهواني إلى العمل الروحاني العقالني
.
ثـم خـتم بـأسـماء حـسنى }إن اهلل كـان عـفوا ً غـفورا{ فـاهلل هـو مـنزل الـكتاب ،والـعفو يـشير إلـى
املـاء الـذي يـغطي اإلنـسان كـله بـأبـعاده األربـعة ،لـكن الـغفور يـشير إلـى الـغفر وهـو السـتر ويـشير
إلـى الـصعيد الـذي يسـتر عـلى األق ّـل أهـ ّم مـا فـي اإلنـسان بـالنسـبة لـصلته بـالـكتاب .وفـي الجـملة
ك ــاله ــما ي ــدل ع ــلى أن أص ــل ت ــعام ــل اهلل ف ــي ه ــذه ال ــقضاي ــا ه ــو ال ــعفو وامل ــغفرة ،ول ــيس الش ــدة
واالنـتقام ونـحو ذلـك .فـتأمـل هـذا فـهو أصـل بـديـع فـي الـفقه الـقرآنـي .وعـززه بـاآليـة األخـرى }مـايـريـد
اهلل لــيجعل عــليكم مــن حــرج ولــكن يــريــد ليطهــركــم ولــيتم نــعمته عــليكم لــعلكم تــشكرون{ .فــاملــقصد
الـنهائـي تـحقيق الـشكر ،ولـيس مج ّـرد إقـامـة الـشكليات والـتصرف بـاملـاديـات .وهـذا مـن أصـول فـقه
42
الـ ــقرءان ،والـ ــذي املـ ــقصد مـ ــن الـ ــصالة وشـ ــؤونـ ــها فـ ــيه هـ ــو تـ ــغيير الـ ــنفس ،مـ ــن الـ ــكفر إلـ ــى الـ ــفكر
والـشكر ،مـن الـغفلة إلـى الـذكـر ،مـن الـعصيان إلـى فـهم وطـاعـة األمـر” .كـتاب أنـزلـناه إلـيك لتخـرج
الناس من الظلمات إلى النور بإذنهم ربهم إلى صراط العزيز الحميد“
.
……………………………………………………………………
.
43
) املُلحق الثاني (
فصل :األسئلة
.
س :١مــن آيــات الــصاله كــتأويــل آخــر غــير الــذي ذكــرتــه فــي كــتابــك هــي عــبارة عــن حــركــتني إقــامــة
)ب ــمعنى وق ــوف ( وس ــجود م ــمكن أع ــملهم وأن ــا أق ــرأ ق ــرآن؟ أم أن اإلق ــام ــة ف ــي )أق ــم( )أق ــمت( ه ــي
الــدراســه وقــراءة الــقران ونخــر ســاجــديــن حــتى لــو لــم يــكن لــديــنا سجــدة تــالوة فــي كــل مــرة أدرس
القران؟
جواب
:
أمــا بــالنســبة لــإلقــامــة} .أقــم{ ال تــعني الــقيام عــلى الــقدمــني .فــهي مــثل ”أقــيموا الــديــن“ و ”أقــيموا
ال ــوزن ب ــالقس ــط“ و ”أق ــيموا ال ــشهادة هلل“ و ”أق ــيموا وج ــوه ــكم ع ــند ك ــل مسج ــد“ .ف ــقول ــه }أق ــيموا
الـصالة{ وبـعدهـا }وقـرءان الفجـر{ يـعني أقـيموا الـصالة وأقـيموا قـرءان الفجـر ،ثـم قـال }ومـن الـليل
تيسـر مـنه{ ،بـالـتالـي اإلقـامـة تـعني الـقراءة الـصحيحة فتهجـد بـه{ وب ّـني ذلـك فـي املـز ّمـل }فـاقـرأوا مـا ّ
بـالـفهم الـصحيح ،ألن تـغيير كـلمات الـقرءان مـن االعـوجـاج فـي الـكالم ،وتـغيير مـعانـي الـقرءان مـن
االعـوجـاج فـي األفـهام .هـذا أصـل اإلقـامـة” .الحـمد هلل الـذي أنـزل عـلى عـبده الـكتاب ولـم يـجعل لـه
ِع َوجاَ .ق ِّيما ً ل ُي ِ
نذر“
.
وأمـا بـالنسـبة لـلسجود ،فـأنـا أؤمـن بـالـسجود بـعد كـل قـراءة لـلقرءان بـعدمـا قـرأت قـولـه تـعالـى ”إنـما
س ّجــدا ً“ فــلم يحــدد ايــة مــن آيــة بــل عــمم ذلــك فــي اآليــات
يــؤمــن بــآيــاتــنا الــذيــن إذا ذُ ّكــروا بــها خـ ّـروا ُ
ك ــلها .وك ــذل ــك ق ــال ف ــي غ ــير امل ــؤم ــنني ”إذا ُق ــرئ ع ــليهم ال ــقرءان ال يسج ــدون“ ف ــكان ال ــسجود ب ــعد
قــراءة الــقرءان مــن عــالمــات املــؤمــنني ،ســواء كــان الــسجود عــلى طــريــقة ”يخـ ّـرون لــألذقــان“ أو كــان
عـلى طـريـقة ”هلل يسجـد..وظـاللـهم“ أي عـلى األرض بـالـكلية حسـب الـصورة .ويـعزز هـذا قـولـه فـي
س ّجــدا ً وقــيامـا ً“ وقــولــه ”يــبيتون“ يــشير إلــى الــليل كــما قــال ”
ســورة الــفرقــان أيــضا ً ”يــبيتون لــر ّبــهم ُ
تهجــد الــليل بــقراءة الــقرءان ،فــكانــت
تــتجافــى جــنوبــهم عــن املــضاجــع“ ،وقــد عــرفــنا مــن املــز ّمــل أن ّ
”س ّجـدا ً“ ملـا يـتصل بـالـقرءان .وهـنا داللـة أخـرى، الـقراءة هـي املـشار إلـيها بـكلمة ”قـيامـا ً“ فـبقيت ُ
44
”س ّجــدا ً وقــيامـا ً“ ،فــقد يسجــد أوالً ثــم يــقرأ ثــم يسجــد ،فــيكون ســجوده وهــي الــسجود قــبل الــقيامُ ،
مــتضمنا ً للتســبيح والــدعــاء ومــن الــخير لــو دعــا بــأن يــفتح اهلل لــه فــي الــقرءان ويــقبله ويــرفــعه ،وهــذا
ألن اهلل قــال ”ســأصــرف عــن آيــاتــي الــذيــن يــتكبّرون فــي األرض بــغير الــحق“ فــجعل الــتكبّر ســببا ً
لــلصرف عــن اآليــات ،فــعرف عــباد الــرحــمن ذلــك فــق ّدمــوا الــسجود هلل نــفيا ً لــلتكبّر عــن أنــفسهم حــتى
ـمسه إال املطهـرون“. تـتز ّكـى ثـم يـدخـلون فـي الـقراءة بـالـقيام وهـم طـاهـرون لـقولـه عـن الـقرءان ”ال ي ّ
وعـلى ذلـك ،تـكون أحـسن صـورة هـي الـسجود ثـم الـقيام ثـم الـسجود ،فـالـسجود األول نـفيا ً لـلتكبّر
والـدعـاء بـالـفتح فـي الـقراءة ،ويـكون الـسجود اآلخـر شـكرا ً لـلنعمة ودعـاء بـالـتوفـيق لـلعمل بـما عـلمه
القارئ بفضل اهلل وتعليمه
.
…
س :٢ف ــترة م ــن دل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل ت ــعني م ــن الظه ــر إل ــى ال ــعشاء ه ــذه ف ــترة ط ــوي ــلة
ومــفتوحــة )ولــم يحــدد فــيها اهلل ٤أوقــات كــما اعــتدنــا فــي الــصلوات الخــمس والفجــر وقــته مــنفصل
ع ـ ــنها( ه ـ ــل امل ـ ــقصد ل ـ ــدراس ـ ــة ال ـ ــقران أن ـ ــه ط ـ ــول ال ـ ــيوم أدرس وإال امل ـ ــقصود أط ـ ـبّق ال ـ ــقران ف ـ ــي
خ ُلقه القرآن(؟
سلوكياتى خالل اليوم )كان ُ
جواب
:
قــال اهلل}يــريــد اهلل بــكم اليســر وال يــريــد بــكم العســر{ وبـ ّـني أن اهلل يــريــد أن }يــخفف{ ع ـنّا .ويشهــد
ـصة الــبقرة ،فــإنــه بــدأ بــإعــطاء أمــر واســع }اذبــحوا بــقرة{ ولــم يــخصص ويــق ّيد ويــض ّيق لهــذا مــثالً قـ ّ
في صفات البقرة ،بل أي بقرة كانت كافية إلقامة أمر اهلل هذا .فهذا أصل
.
ثـم إن اهلل ذكـر }صـالة الفجـر{ و }صـالة الـعشاء{ ،فـأفـرد اسـم الـصالة }صـالة{ يـعني صـالة
واح ــدة .ث ــم ب ـ ّـني وق ــت ال ــعشاء م ــثالً ب ــأن ل ــها أول ول ــها آخ ــر ،ف ــال ــعشاء األول ه ــو }ل ــدل ــوك ال ــشمس{
والــعشاء اآلخــر هــو }غــسق الــليل{ ،فــكل هــذا وقــت واحــد .وبــما أنــه قــال }صــالة{ بــاملــفرد ،فــالــصالة
الـواحـدة كـافـية إلقـامـة هـذا األمـر .بـالـتالـي ،إذا قـرأنـا سـورة الحـمد فـقد صـ ّلينا ،وإذا قـرأنـا سـورة
الح ــمد وس ــورة أو آي ــات ب ــعده ــا ف ــقد ص ـ ّلينا ،وإذا خ ــتمنا ال ــقرءان ك ــله ف ــقد ص ـ ّلينا ،امل ــهم اإلت ــيان
األقل في هذا الوقت حتى يتم أمر }صالة العشاء{
. ّ بصالة واحدة على
مـن طـرق الـقرءآن فـي التشـريـع أحـيانـا ً أن يـضع حـدا ً أعـلى وحـ ّدا ً أدنـى ،ويـترك لـلناس الـعمل
بــينهما .فــمثالً ،فــي املــز ّمــل ،مـ ّـرة يــقول }ثــلثي الــليل{ وأخــرى أخــف }نــصفه{ وثــالــثة أخــف }ثــلثه{ ثــم
تيســر{ فــلم يحــدد وقــتا ً كـ ّـميا ً وتــرك األمــر لــلنفس ونــشاطــها وحــضور عــقلها خــفف بــاملـ ّـرة فــقال }مــا ّ
45
تيسـر{ كحـ ّد أعـلى وأدنـى ،أو عـلى اعـتبار آخـر }قـم الـليل فـي الـقراءة .فـما بـني }ثـلثي الـليل{ و }مـا ّ
إال ق ــليال{ ب ــدون تح ــدي ــد ه ــذا ال ــقليل ف ــيكون أي ن ــوم ــة وراح ــة م ــهما قـ ـ ّلت ت ــكفي ل ــتحصيل م ــعنى
تيسـر{ تـوجـد درجـات كـثيرة .هـذا مـثال. التهجـد ألنـه مـن الـقيام مـن املـضجع بـعد الـنوم ومـا بـني }مـا ّ
م ــثال آخ ــر ،ح ــني ذك ــر ال ــقتال ،ف ــذك ــر الح ـ ّد األع ــلى وه ــو ”إن ي ــكن م ــنكم عش ــرون ص ــاب ــرون ي ــغلبوا
مــائــتني“ فهــذا الحــد األعــلى وهــو واحــد لعشــرة ،ثــم خــفف لــلضعف فــذكــر الحــد األدنــى وهــو ”مــائــة
يــغلبوا مــائــتني“ فهــذا الح ـ ّد األدنــى وهــو واحــد الثــنني ،ثــم بــني ذلــك درجــات مــن الــفضل .بــناء عــلى
هــذا املــعنى ،يــكون أحــسن مــص ّلي هــو الــذي يــقرأ الــقرءان }لــدلــوك الــشمس إلــى غــسق الــليل{ بــال
انـقطاع ،فـيكون فـي شـكل مـن أشـكال الـقراءة طـوال هـذه الـفترة ،سـواء كـان يـقرأ فـي مـصحف أو
يــكتب مــا يــتأمــله أو يــتلوه فــي سـ ّـره وهــو يــمشي أو أيــا كــانــت الــصورة طــاملــا أن الــجوهــر حــاضــر
واسمه مص ّلي
.
ســئل نــافــع وهــو الــتابــعي املــصاحــب لــعبد اهلل بــن عــمر بــن مــن هــنا مــثالً تجــديــن هــذه الــروايــةُ :
الخـطاب ”مـا كـان يـصنع ابـن عـمر فـي مـنزلـه؟“ فـقال ”ال تـطيقونـه .الـوضـوء لـكل صـالة واملـصحف
ف ــيما ب ــينهما“ .م ــن أي ــن ج ــاء اب ــن ع ــمر به ــذا؟ أم ــا ال ــوض ــوء ف ــألن اهلل ق ــال }إذا ق ــمتم إل ــى ال ــصالة
فــاغســلوا{ ،فهــذا الــكالم يــحتمل إمــا الــقيام مــن الــنوم وإمــا الــقيام بــمعنى أي قــيام إلــى الــصالة،
ـصها يــقتضي مــا كــان يــعني يــحتمل فــهما ً فــيه تــخفيف ويــحتمل فــهما ً فــيه تشــديــد ،وظــاهــر اآليــة ونـ ّ
ي ــقوم ب ــه اب ــن ع ــمر حس ــب ال ــرواي ــة ال ــساب ــقة ،وه ــو أن ك ــل ق ــيام إل ــى ال ــصالة الب ــد ل ــه م ــن الغس ــل
واملــسح ،فــأخــذ بــالــفهم الحــرفــي لــآليــة وهــو الحــد األعــلى .هــذا بــالنســبة لــلوضــوء .لــكن الحــظي قــولــه
}وامل ــصحف ف ــيما ب ــينهما{ ،ي ــعني ف ــيما ب ــني ال ــصلوات ،ب ــمعنى أن ــه ك ــان ي ــص ّلي ف ــي املسج ــد م ــع
ال ــناس الظه ــر وال ــعصر وامل ــغرب وال ــعشاء ،وه ــذه ك ــلها ف ــيها ق ــراءة ق ــرءان ف ــفيها ج ــوه ــر ال ــصالة
الـقرآنـية ،لـكن بـعد ذلـك لـم يـكن يـنسى الـقرءان كـدراسـة فـي املـصحف وتـأمـل ونـظر ،بـل كـان يـرجـع
إلـى مـنزلـه ويشـتغل بـاملـصحف }فـيما بـينهما{ بـالـتالـي ،الـروايـة تـعزز أنـه كـان يـأخـذ بحـرفـية الـقرءان
وهــو }لــدلــوك الــشمس إلــى غــسق الــليل{ بــدون انــقطاع مــا أمــكن ،يــعني اشــتغال بــالــقرءان وشــؤون
الصالة في كل هذا الوقت .هذا شاهد من املرويات على هذا املعنى
.
ب ــال ــتال ــي} ،ل ــدل ــوك ال ــشمس إل ــى غ ــسق ال ــليل{ ظ ــاه ــره ــا وح ــرف ــها وأع ــلى ع ــمل ب ــها ي ــقتضي أن
يكون اإلنسان في صالة فيما بني هذين الوقتني .فهو وقت صالة
.
وأمـا بـالنسـبة ملـفهوم تـطبيق الـقرءان خـالل الـيوم :فـأ ّوالً تـطبيقه فـرع لـفهمه والـتحقق بـروحـه ومـعرفـة
حـقائـقه وهـذه كـلها مـن ثـمار الـصالة بـإذن اهلل .ثـانـياً ،مـن طـلوع الـشمس إلـى وقـت الـظهيرة ،ومـن
ب ــعد ال ــعشاء اآلخ ــر إل ــى ال ــنوم أو إل ــى الفج ــر ،ه ــذه األوق ــات ك ــلها م ــخصصة لـ“ت ــطبيق“ ال ــقرءان
46
بــمعنى إظــهاره فــي األرض والــدنــيا ،ألن اهلل لــم يــذكــر صــلوات محــددة فــي هــذه األوقــات وإن كــان
ـتضمن ال ــيوم ك ــله ب ــال اس ــتثناء .ف ــنعم ،اس ــتحضار ال ــقرءان ف ــي ّ ق ــول ــه ”ع ــلى ص ــالت ــهم دائ ــمون“ ي ـ
ـتصرف بحسـب مـا ّ الـقلب ،وتـذ ّكـر آيـاتـه عـلى مـدار الـيوم ،ورؤيـة الـوجـود كـله بـعني وروح قـرآنـية ،وال
فـ ــهمه اإلنـ ــسان مـ ــن الـ ــقرءان ،هـ ــذا كـ ــله يـ ــجعل اإلنـ ــسان فـ ــي صـ ــالة دائـ ــمة .فـ ــالـ ــنظر فـ ــي اآليـ ــات
الــطبيعية واآليــات البشــريــة أيــضا ً مــن قــراءة الــقرءان الــكونــي ،وال خــير فــي قــراءة الــقرءان الــعربــي
إذا كــان الــقارئ ال يــرتــقي إلــى قــراءة الــقرءآن الــكونــي ”ســنريــهم آيــاتــنا فــي اآلفــاق وفــي أنــفسهم
ـتبني لــهم أنــه الــحق“ ،وال خــير فــي قــراءة الــقرءان الــكونــي إذا لــم يــرتــقي الــقارئ إلــى ”أولــم حــتى يـ ّ
يـكف بـربّـك أنـه عـلى كـل شـيء شـهيد“ فـيرى اهلل فـي كـل شـيء وهـو الـقرءان اإللـهي .فـالـعربـي بـاب
الكوني ،والكوني باب اإللهي” ،وأن إلى ر ّبك املنتهى“
.
ل ــكن الب ــد أي ــضا ً م ــن ت ــذ ّك ــر أن ال ــحياة االج ــتماع ــية وال ــطبيعية ك ــلما ك ــان ــت أف ــضل ك ــلما ك ــان
اإلن ــسان أك ــثر ت ــفرغ ـا ً للخ ــلوة ب ــال ــقرءان ال ــعرب ــي ،وي ــمكن أن ي ــرى ك ــل ش ــيء وه ــو ف ــي خ ــلوت ــه ،ألن
الـ ــطبيعة كـ ــلها مجـ ــموعـ ــة فـ ــي نـ ــفس كـ ــل فـ ــرد ”وفـ ــي األرض آيـ ــات لـ ــلموقـ ــنني .وفـ ــي أنـ ــفسكم أفـ ــال
تــبصرون“ فــمن أبــصر نــفسه عــرف كــل شــيء ”أولــم يــتفكروا فــي أنــفسهم مــا خــلق اهلل الــسموات
واألرض وم ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ـ ــينهما إال ب ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ــحق وأج ـ ـ ـ ــل م ـ ـ ـ ــسمى وإن ك ـ ـ ـ ــثيرا ً م ـ ـ ـ ــن ال ـ ـ ـ ــناس ب ـ ـ ـ ــلقائ رب ـ ـ ـ ــهم
ل ــكاف ــرون“ ف ــالح ــظي ك ــيف ج ــعل ال ــتفكر ف ــي ال ــنفس ط ــري ــقا ً إل ــى م ــعرف ــة ال ــسموات واألرض وم ــا
ب ــينهما وم ــن ه ــنا إل ــى ل ــقاء رب ال ــنفس ف ــاهلل أق ــرب ل ــلنفس م ــن ”ح ــبل ال ــوري ــد“ .ك ــثير م ــن أش ــغال ــنا
الــطبيعية مــبني عــلى عــدم انــتظام الــحياة بــعد ،وكــذلــك لــعل أكــثر أشــغالــنا االجــتماعــية مــبنية عــلى
نـوع مـن الـفوضـى أو الـلهو ومـا أشـبه .فـمن انـتظم أمـره ولـ ّم شـمله ورتّـب أمـوره حـتى يـتفرغ مـن كـل
ه ــموم ال ــطبيعة وامل ــجتمع ب ــأك ــبر ق ــدر م ــمكن ،ث ــم وج ــد ال ــفراغ وس ــعى ل ــه س ــعيا ً إم ــا ب ــال ــتقلل م ــن
ال ــشهوات وإم ــا ب ــتأس ــيس ال ــعدل واالن ــتظام ف ــي امل ــعام ــالت ،وب ــأي ط ــري ــق آخ ــر ح ــسن ومش ــروع،
فـسيكون مـن أهـل ”فـإذا فـرغـت فـانـصب .وإلـى ربّـك فـارغـب“ .فـيدخـل خـلوتـه ،ويـنعم بـقراءة الـكتاب
اإللهي والعروج به منه فيه لكل الوجود النوراني
.
فــإن كــان والبــد مــن الخــروج لــلطبيعة ،فــانــظري بــعني الــتأويــل ألمــثالــها وأحــداثــها حــتى تــكون
قــراءة ،وإن كــان والبــد مــن االجــتماع مــع الــناس فــاجتهــدي بــقدر وســعك حــتى يــكون الــناس حــولــك
مـن أهـل الـذكـر والـفكر والـدعـاء ”اصـبر نـفسك مـع الـذيـن يـدعـون ربـهم“ حـتى تـكون نـفس صـحبتهم
نـوعـا ً مـن الـصالة ورؤيـتهم لـونـا ً مـن االتـصال بـنور اهلل وإن كـان الـناس حـولـك فـي وقـت مـا بـخالف
ه ــذا ال ــحال ف ــكذل ــك ت ــأم ــليهم ك ــأن ــهم ت ــنظري ــن ف ــي ال ــقرءان ألن ــه ال ت ــوج ــد ن ــفس إال وه ــي م ــثال م ــن
األمـ ــثال املـ ــضروبـ ــة فـ ــي الـ ــقرءان وتظهـ ــر فـ ــيها آيـ ــة مـ ــن آيـ ــات اهلل املـ ــبيّنة فـ ــي الـ ــفرقـ ــان فـ ــاجـ ــعلي
معاشرتك لهم نوعا ً من القراءة واالعتبار واالنتفاع واالستبصار
.
47
…
س :٣حـدد اهلل صـالتـي الفجـر والـعشاء هـل هـي األسـاس لـدراسـة كـتاب اهلل ولـو راح وقـتها عـلي
أكون ما أقمت الصالة؟
جــواب :لــو كــانــت تــنفع الــصالة بــعد خــروج الــوقــت ،ملــا أنــزل اهلل آيــات صــالة الــخوف مــن قــولــه }ال
فسـر سـبب تـجويـز جـناح عـليكم أن تـقصروا مـن الـصالة إن خـفتكم أن يـفتنكم الـذيـن كـفروا{ ،ألنـه ّ
الــقصر بــعدهــا فــقال }إن الــصالة كــانــت عــلى املــؤمــنني كــتاب ـا ً مــوقــوتــا{ .فــحتى يــحفظ الــوقــت أجــاز
حــتى الــصالة قــصرا ً مــع حــمل الســالح خــوفـا ً مــن الــعدو الــحاضــر الــذي يــريــد أن }فــيميلون عــليكم
خـص فـي مـيلة واحـدة{ يـعني حـتى يـقتلكم وينهـب أمـوالـكم .فـإذا كـان مـع خـطر الـقتل والنهـب لـم يـر ّ
أهمية حفظ أوقاتها
. ترك وقت الصالة ،فهذا وحده يكفي أهل اإليمان ملعرفة ّ
ولــو كــان بــاإلمــكان قــضاء الــصالة بــعد خــروج وقــتها كــما يــمكن عــدم الــصيام وتــعويــض أيــامــه
خــر{ ،لــقال هــذا أيــضا ً هــنا .فــفي الــصيام مــثالً قــال }فــمن كــان مــريــضا ً أو عــلى ســفر فــي }أيــام أ ُ َ
ف ــع ّدة م ــن أي ــام أُخ ــر{ وب ـ ّـني س ــبب ذل ــك ف ــقال }ي ــري ــد اهلل ب ــكم اليس ــر وال ي ــري ــد ب ــكم العس ــر{ .ف ــمع
امل ــرض وال ــسفر أج ــاز ت ــعوي ــض أي ــام ال ــصيام ب ــغيره ــا مل ــن أراد خ ــير ال ــصيام ،ونس ــب ذل ــك إل ــى
الـتيسير وعـدم الـتعسير اإللـهي .لـكن لـم يـفعل نـفس الـشيء فـي الـصالة .بـالـرغـم مـن حـضور الـقتل
والنه ــب م ــن ع ــدو م ــتربّ ــص ،ب ــال ــرغ ــم م ــن أن ــه ي ــوج ــد س ــفر أي ــضا ً }وإذا ض ــرب ــتم ف ــي األرض ف ــليس
عـليكم جـناح أن تـقصروا مـن الـصالة{ وحـضور الـخوف }إن خـفتم أن يـفتنكم الـذيـن كـفروا{ بـل ولـو
وجـد املـرض }أو كـنتم مـرضـى أن تـضعوا أسـلحتكم{ فـأجـاز وضـع السـالح وعـدم حـمله حـينها لـكن
خـر الـصالة عـن وقـتها ـتعرض لـلفتنة بـالـقتل والنهـب مـن أن يـؤ ّ لـم يجـز حـتى لـلمسافـر واملـريـض وامل ّ
أو عــن أن يــعوضــها ويــقضيها بــعد وقــتها .فــإن كــان قــضاء الــصالة مــن الــعلم فــي شــيء ،فــلم يــبلغ
عـلمي هـذا األمـر وأرجـو اهلل مـعرفـته وأن يـد ّلـني عـليه عـالِـم بـكتاب اهلل ،لـكن مـا هـو مـعلوم مـقروء هـو
م ــا تج ــدي ــنه م ــفصالً أم ــام ــك .ف ــال أدري م ــن أي ــن ج ــاءوا ب ــقضاء ال ــصالة ه ــذا وك ــتاب اهلل م ــع ك ــل
خـص فـي قـضاء الـصالة ،وقـد كـان بحسـب مـفهومـنا أيسـر مـن مجـرد قـصر الـتيسير والـرحـمة لـم يـر ّ
الــصالة بــالــرغــم مــن وجــود الــعدو بــل واملــرض واملــطر املــؤذي فــيه .فــال قــياس بــني الــصيام والــصالة.
الـصيام }أيـام مـعدودات{ فـالـعبرة فـيه لـأليـام ،واأليـام تـقاس بـاأليـام .لـكن الـصالة مـبنية عـلى الـوقـت
ال ــحال ــي ل ــكل ي ــوم ،ف ــإذا ان ــقضى ه ــذا ال ــيوم ذات ــه ان ــقضت ص ــالت ــه ،ف ــال ش ــيء ي ــع ّوض ذات ال ــيوم
وصـالتـه الـخاصـة بـه .فجـر الـيوم هـو فجـر الـيوم فـقط ولـيس نـفس فجـر الـغد ،كـذلـك دلـوك الـشمس
إلــى غــسق الــليل لهــذا الــيوم الــذي نــحن فــيه لــيس مــثل أي دلــوك شــمس إلــى غــسق الــليل ألي يــوم
48
آخـر .لـكل يـوم صـالتـه ،واهلل تـعالـى ”كـل يـوم هـو فـي شـأن“ فـمن خسـر مـعرفـته فـي شـأن الـيوم فـقد
ـتعرض لخـطر الـقتل عـلى يـد الـعدو الـحاضـر أهـون خسـره إلـى األبـد وال ُيـع َّوض ذاتـه أبـدا ً .لـذلـك ال ّ
على املؤمنني العارفني بحقيقة الصالة وقيمتها األبدية للنفس من تأخير الصالة أو تركها
.
إذن ،لـكل وقـت صـالتـه ،والـوقـت ال يُـع َّوض بـذاتـه إذا ذهـب ،فـال مـعنى لـقضاء الـصلوات ،وإنـما
تــص ّلي فــي وقــت صــالة أخــرى لــيوم آخــر وأي صــالة تــقام فــي ذلــك الــوقــت اآلخــر هــي صــالة ذلــك
الـ ــوقـ ــت وليسـ ــت صـ ــالة الـ ــوقـ ــت الـ ــفائـ ــت .لـ ــذلـ ــك أثـ ــنى اهلل عـ ــلى املـ ــؤمـ ــنني بـ ــأنـ ــهم }عـ ــلى صـ ــالتـ ــهم
سمى
. يحافظون{ .نسأل اهلل أن يغفر لنا ما مضى ،ويثبّتنا فيما بقي من أجلنا امل ُ ّ
…
فصل :فتوحات
.
ـطعم وال يُ ــط َعم{ ،وق ــال ف ــي ال ــصالة }وأ ُم ــر أه ــلك ب ــال ــصالة واص ــطبر ع ــليها ال ن ــسأل ــك أ -إن اهلل }يُ ـ ِ
رزقـا ً نـحن نـرزقـك والـعاقـبة لـلتقوى{ ،فـالـصالة إذن عـمل يـأتـيك فـيه رزق مـن اهلل ،ولسـت أنـت الـذي
جل وعال .فالصالة رزق لك ،طعام لك ،من اهلل ربك
. ترزق فيه اهلل ّ
هــذا املــعنى يظهــر بــجالء فــي الــصالة الــقرآنــية ،ويــغيب عــند املــحصور فــي الــصالة الــتقليديــة
من املعرضني عن الصالة القرآنية
.
ألنـك فـي قـراءة الـقرءان تـأكـل مـن مـأدبـة اهلل إذ قـال الـنبي صـلى اهلل عـليه وآلـه وسـلم ”الـقرءان
ـطعم{ فـنفسك تـأكـل وتشـرب مـن كـالم اهلل حـني تـقرأه ،ويـأتـيك رزق عـلمي مـأدبـة اهلل“ وهـو مـعنى } ُي ِ
مــنه مــع كــل قــراءة .وهــذا بــاملــناســبة هــو أحــد أســباب حــفاظ املــؤمــنني عــلى الــصالة إذا جــاء وقــتها،
ول ــو ك ــان ــوا ب ــحضرة ع ــدو ي ــري ــد ق ــتلهم ونه ــب أم ــتعتهم ،ألن ال ــقتل يس ــري ع ــلى ال ــبدن والنه ــب ع ــلى
األمـتعة وهـما مـن الـدنـيا يـعني حـياة الـدنـيا ورزقـها ،لـكن تـرك الـصالة هـو قـتل لـلنفس ونهـب ملـتاع
اآلخــرة يــعني حــياة اآلخــرة ورزقــها ،واآلخــرة خــير وأبــقى مــن الــدنــيا ،فــوجــب تــقديــم مــنفعة اآلخــرة
بالحفاظ على الصالة على مصلحة الدنيا بترك الصالة
.
أمــا الــذي يــرى الــصالة فــقط كحــركــات وألــفاظ يــق ّدمــها لــربّــه ،فــهو يــتخيّل بــأن ربّــه يُــط َعم أيــضا ً
ويـحتاج إلـى رزقـه هـذا بـصالتـه ،فـكأنـه يُـعطي ربـه الـطعام والـرزق بهـذه الحـركـات واأللـفاظ ،ولـذلـك
تج ــده ال ي ــلتفت ك ــثيرا ً إل ــى امل ــعان ــي واألخ ــذ واالن ــتفاع م ــن ك ــالم اهلل وم ــا ي ــذك ــره ،ب ــل يُ ــلقيه ص ــوري ـا ً
وكـأن شـخصا ً غـيره سـيأخـذه مـنه ويـنتفع بـه وهـو هـنا ربـه جـل وعـال ،لـذلـك نـبّه فـي اآليـة عـلى مـعنى
49
}ال نـسألـك رزقـا ً{ بـعدمـا أمـر بـالـصالة ،حـتى ال يـتوهـم أحـد أن الـصالة واالصـطبار عـليها هـو ألن
اهلل تعالى مفتقر إلى صالتنا وخشوعنا وما أشبه
.
فهــذا فــرقــان مــا بــني الــصالة الــحقيقية والــصالة املــزيــفة .الــحقيقية اهلل يُــطعمك فــيها ويــرزقــك،
املــزيــفة تــتوهــم أنــك تُــطعم ربــك وتــرزقــه .ومــن هــنا مــثالً تجــد الــفرق مــا بــني مــوســى ومحــمد صــاحــب
الـقرءان .فـموسـى قـال }عجـلت إلـيك رب لـترضـى{ فعجـل عـن أمـر ربّـه فـي قـضية اسـتخالف هـارون
والعجـلة ال تـكون إال عـن أمـر كـان يـجب الـقيام بـه وإتـقانـه لـذلـك سـألـه اهلل }مـا أعجـلك عـن قـومـك يـا
مــوســىج فــأجــابــه بـ}لــترضــى{ فــر ّده اهلل إلــى قــومــه وذكــر الــفتنة .لــكن فــي محــمد قــال }اصــبر..سـبّح
بحــمد ربــك{ ملــاذا؟ }لــع ّلك تــرضــى{ أنــت الــذي لــعلك تــرضــى بســبب الــصبر والتســبيح بحــمد ربــك،
ولــيس اهلل هــو الــذي يــفتقر إلــى رضــاك ،أنــت مــفتقر إلــى الــرضــا واهلل يــد ّلــك عــلى كــيفية تــحصيله.
فــموســى عــمل عــلى أنــه ســيرزق اهلل الــرضــا فــر ّده اهلل فــي هــذه اآليــة ،لــكن محــمد عــمل عــلى أن اهلل
ســيرزقــه الــرضــا فــأرضــاه }ولــسوف يــعطيك ربــك فــترضــى{ .هــذا مــثال .مــثال آخــر فــي الــقبلة ،قــال
}فــلنولــينّك قــبلة تــرضــاهــا{ فــاهلل تــعالــى لــيس فــي قــبلة محــددة بــل }هلل املشــرق واملــغرب فــأيــنما تــولــوا
ف ـث َ ّم وج ــه اهلل إن اهلل واس ــع ع ــليم{ ،ل ــكن ال ــرس ــول أراد ق ــبلة مح ــددة ي ــرض ــاه ــا وألن ــه ع ــبد اهلل ف ــكان
يـريـد أمـرا ً وإذنـا ً مـنه فـجاء اإلذن كـما بـيّنته اآليـة ،لـرضـا الـرسـول ولـيس لـرضـا اهلل تـعالـى .واألمـثلة
أكـثر فـي هـذا الـباب ،وهـي مـن الـفرقـان مـا بـني الـعبادة الـصادقـة والـعبادة الـعبثية بـل لـعلها تـكون
ك ــفري ــة م ــن ح ــيث ت ــوه ــم ال ــعبد ال ــفقير أن ــه غ ــني واهلل ال ــغني م ــفتقر ل ــه ،ف ــهو م ــن ق ــبيل ق ــول ب ــعض
الـ ــكافـ ــريـ ــن }إن اهلل فـ ــقير ونـ ــحن أغـ ــنياء{ فـ ــيتوهـ ــم أن وسـ ــيلة إرضـ ــاء اهلل مـ ــثالً عـ ــنده هـ ــو بـ ــالـ ــقيام
بـالـعبادات واألحـكام ونـحوهـا مـن أمـور الـديـن ،فـكأن اهلل فـقير إلـى إقـامـتنا لـلديـن ،وحـيث أنـه يـريـد
الـصالة مـنّا مـثالً فهـذا يـعني أنـه فـقير إلـينا ،وبـما أنـه فـقير إلـينا فـنحن أغـنياء إذن ألنـنا نسـتطيع
الـكفر بـالـديـن واالشـتغال بـالـدنـيا والـلهو والـلعب والـتمتع ونـسيان أمـر اهلل ونجـد الـلذات والـشهوات
فـي الـدنـيا ،بـينما اهلل تـعالـى فـقير إلـينا سـيغضب وتحـدث فـيه األحـداث الـجسام إن لـم نـقيم نـحن
ـحسي الــذي يــحتاجــه هــو ســبحانــه الــديــن مــن أجــله هــو ومــن أجــل إيــصال الــرزق الــوجــدانــي أو الـ ّ
وت ــعال ــى .إذن ،ال ــصالة ال ــقرآن ــية م ــبنية ع ــلى أص ــل ن ــوران ــي ه ــو }اهلل ال ــغني وأن ــتم ال ــفقراء{ ،ل ــكن
الـصالة الـتقليديـة ومـا شـابـهها مـن الـعبادات الـشكلية الـخالـية مـن الـروح والـعقل لـلذيـن أعـرضـوا عـن
الصالة القرآنية مبنية على أصل ظلماني هو }اهلل فقير ونحن أغنياء{
.
ويــتأســس عــلى هــذا مــا تجــده مــثالً مــن تــكاســل عــن الــصالة ،أو اســتشعار ثــقلها وكــرهــها ،أو
مـحاولـة الـتخفف مـنها ومـا إلـى ذلـك مـن أمـور كـلها تـشير إلـى نـفس مسـتغنية مسـتكبرة تـظن أنـها
ت ــعطي اهلل ب ــال ــصالة ب ــدالً م ــن أخ ــذ ع ــطاء اهلل ال ــباق ــي األع ــلى ب ــال ــصالةَ .م ــن ع ــرف وذاق ال ــصالة
الــقرآنــية ،الــشيء الــوحــيد الــذي ســيكرهــه هــو بــدنــه والــدنــيا كــلها الــتي تــشغله عــنها وتجــذبــه بــعيدا ً
50
ع ــنها ك ــرهـ ـا ً .خ ــالفـ ـا ً مل ــا ت ــراه ع ــند امل ــعرض ــني ع ــن ال ــقرءان م ــمن ي ــعتقد ف ــقط ب ــال ــصالة ال ــتقليدي ــة
الــجوفــاء ،فــمنهم َمــن تــركــها بــالــكلية )ولــذلــك حــكم فــقهاء هــذه الــصالة بــالــقتل والــتكفير عــلى تــاركــها
حـتى يُـكرهـوا الـناس عـلى صـورتـها( ،ومـنهم َمـن يـتركـها أحـيانـا ً ويـقوم بـها أحـيانـا ً ولـعلهم األكـثريـة
أو الـكثير جـدا ً مـنهم ،ومـنهم مـن يـقوم بـها لـكن رغـبة فـي الخـروج عـن ثـقل الـتكليف وتـأنـيب الـضمير
والـخوف مـن املـوت بـل قـد يـكون ملحـدا ً كـذاك امللحـد الـغابـر الـذي سـألـوه كـيف تـص ّلي وأنـت ملحـد
فـقال ”ريـاضـة الجسـد وعـادة أهـل الـبلد“ ،ثـم قـ ّلة قـليلة تجـد الـنعيم فـيها لـكن أكـاد أجـزم غـيبا ً أنـك
سـتجد هـؤالء مـمن يـقيم الـصالة الـقرآنـية أيـضا ً ومـن الـذيـن يـذكـرون اهلل كـثيرا ً ويـقيمون بـقية أوامـر
ال ــقرءان ،وي ــرون ه ــذه ال ــصورة الح ــرك ــية وال ــلفظية م ــنقول ــة ع ــن ال ــنبي ص ــلى اهلل ع ــليه وآل ــه وس ــلم
فيقيمونها اتباعا ً له بالعلم بذلك وهذا هو طريقي
.
…
ب-قــال اهلل تــعالــى فــي املــنافــقني }ومــا مــنعهم أن تُــقبل نــفقاتــهم إال أنــهم كــفروا بــاهلل وبــرســولــه وال
يـأتـون الـصالة إال وهـم ُكـسالـى وال ُيـنفقون إال وهـم كـارهـون .فـال تـعجبك أمـوالـهم وال أوالدهـم إنـما
يريد اهلل ليُعذّبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون{
قــال }كــفروا بــاهلل وبــرســولــه{ بــبائَــني اثــنني .كــما قــال ”أطــيعوا اهلل وأطــيعوا الــرســول“ .هلل أمــر،
ولـلرسـول أمـر ،لـكن أمـر الـرسـول غـير َو تـابـع ألمـر اهلل .نـعم ،غـير َو تـابـع .فـهو تـابـع ألنـه }الـرسـول{
وألن ــه ي ــحكم ب ــال ــكتاب ب ــما أراه اهلل بس ــبب ه ــذا ال ــكتاب ال ــنازل ع ــليه ،ف ــإم ــا ي ــحكم ب ــما أراه اهلل ف ــي
الــكتاب وإمــا يــحكم بــروح الــكتاب فــيصبح يــرى بــه بــمعنى حــتى إن لــم يســتحضر آيــة خــاصــة أو
يجــمعها فــي ذهــنه عــلى طــريــقة التحــليل والــربــط لــكن نــفس نــزول الــكتاب عــليه بــالــحق يــجعل رؤيــته
وحـكمه مـن األمـور اإللـهية املـوفـقة املسـددة .فـمن هـذا الـوجـه ونـحوه ،يـكون أمـر الـرسـول تـابـع ألمـر
اهلل .لــكن بــاملــقابــل ،البــد مــن االعــتراف بــوجــود نــوع مــغايــرة بــني أمــر الــرســول وأمــر اهلل ،بــدلــيل تــثنية
ال ــطاع ــة }أط ــيعوا اهلل وأط ــيعوا ال ــرس ــول{ ول ــو م ــن ب ــاب االح ــتمال ،م ــن ق ــبيل أن اهلل وض ــع ف ــري ــضة
الـصدقـات عـلى ثـمانـية أصـناف وب ّـني حـكم الـغنيمة واألنـفال ،فهـذا كـله مـن أمـر اهلل ،لـكن َمـن الـذي
سـيطبّق هـذا فـي الـواقـع وفـي زمـنه وعـصره وعـلى األشـخاص واألحـداث الجـزئـية؟ البـد مـن حـاكـم
بـكتاب اهلل ،وهـنا يـأتـي أمـر الـرسـول ،بـل و}أولـي األمـر مـنهم{ مـمن يـتبع الـرسـول فـي هـذا الـطريـق.
فـأمـر اهلل هـو إعـطاء صـدقـة لـلفقراء ،هـذا نـعقله مـن كـتاب اهلل .لـكن َمـن هـو الـفقير فـي زمـانـنا؟ هـل
زيـد فـقير أم عـمرو أم سـارة أو َمـن بـالـضبط هـو الـفقير مـن حـيث الـتشخيص الـواقـعي؟ هـنا يـأتـي
}أطـيعوا الـرسـول{ فـحتى طـاعـة الـرسـول هـي مـن طـاعـة أمـر اهلل ألن األمـر بـطاعـته هـو أمـر اهلل لـنا
51
}أطــيعوا{ فــمن أطــاع الــرســول فــقد أطــاع أمــر اهلل فــي كــتابــه ،بــالــتالــي ال يــقال بــأن طــاعــة الــرســول
شـيء مـنفصل عـن كـتاب اهلل بـل كـتاب اهلل نـفسه يـأمـر بـطاعـة الـرسـول ،لـكن هـو }الـرسـول{ فـأمـره
س ـ ــيكون ت ـ ــاب ـ ــعا ً ل ـ ــلرس ـ ــال ـ ــة وإذن اهلل وم ـ ــا ش ـ ــرع ـ ــه اهلل وأم ـ ــر ب ـ ــه وب ـ ــامل ـ ــعروف ”وال ي ـ ــعصينك ف ـ ــي
معروف“ فقيّد باملعروف
.
ف ــإذا وج ــدن ــا م ــثالً ال ــرس ــول ،م ــن ب ــاب امل ــثال الج ــدل ــي ال ال ــواق ــعي ،إذا وج ــدن ــا ال ــرس ــول ي ــأم ــر
بـإعـطاء الـصدقـة لـألغـنياء بـدالً مـن الـفقراء وأمـامـنا قـول اهلل تـعالـى الـذي بـلغه الـرسـول إلـينا }إنـما
الـصدقـات لـلفقراء{ ،ولـم يـكن الـغني مـن أي صـنف مـن األصـناف السـبعة األخـرى ولـنفرض جـدالً
أنــه ال يــوجــد إال أمــر بــإعــطاء الــصدقــة لــلفقراء ،ثــم وجــدنــا شــخصا ً هــو فــي الــواقــع املــشهود غــني،
فــقلنا لــلرســول ”يــا رســول اهلل فــالن غــني ولــيس فــقيرا ً فــلماذا تــعطيه مــن الــصدقــة؟“ فــإن قــال ”هــو
غـ ـ ــني لـ ـ ــكن أنـ ـ ــا أريـ ـ ــد أن أعـ ـ ــطيه وإن كـ ـ ــان اهلل قـ ـ ــال أن الـ ـ ــصدقـ ـ ــة لـ ـ ــلفقير ،فـ ـ ــأنـ ـ ــتم مـ ـ ــأمـ ـ ــورون
بـطاعـتي“ فهـذا الـفرض املـحال الـذي لـم يحـدث ولـن يحـدث ،عـلى فـرض وقـوعـه يـجيز عـصيان أمـره
ألنـه فـي هـذه الـحالـة لـيس رسـوالً بـل هـو يـأمـر مـن عـند نـفسه كبشـر أو حـتى تـابـع هـوى كـأن يـقسم
لــغني يــحبّه ويــدع فــقيرا ً ال يــحبّه .كــذلــك مــثالً ،قــال اهلل }اذكــروا اهلل ذكــرا ً كــثيرا ً{ فــإذا أمــر الــرســول
بـأن نـذكـر اهلل ألـف م ّـرة ،فهـذا أمـر واجـب الـطاعـة بـحكم آيـة الـطاعـة ،ألن األلـف داخـلة تـحت كـلمة
}كـثيرا ً{ ،لـكن نـقول بـأن أمـر الـرسـول غـير أمـر اهلل بـاعـتبار أن الـرسـول لـو أمـر بـالـذكـر ألـف م ّـرة ثـم
جـاء شـخص وذكـر سـبعة آالف م ّـرة وجـاء ثـالـث فـذكـر سـبعني م ّـرة ،فـال يـمكن الـقول بـأن صـورة أمـر
الـرسـول هـي االحـتمال الـوحـيد والـلون الـوحـيد ألمـر اهلل ،بـل الـرسـول نـفسه إن أمـر فـي يـوم بـالـذكـر
أل ــف وب ــعده ــا س ــبعني وب ــعده ــا عش ــرة ف ــال ت ــعارض ب ــينها ب ــال ــعني ال ــقرآن ــية ألن ــها ك ــلها ص ــحيحة
ومندرجة تحت أمر اهلل وفي دائرته
.
بــالــتالــي ،أمــر اهلل أوســع دائــرة مــن أمــر الــرســول .أمــر اهلل أعــلى قــد يــكون مجــمالً وقــد يــكون
مــفصالً ،فــإذا كــان مجــمالً كــان اخــتيار الــرســول لــتفصيل مــن الــتفصيالت املــمكنة تــابــعا ً ألمــر اهلل
م ــن ح ــيث ات ــباع ــه ل ــألم ــر املج ــمل ل ــكنه م ــغاي ــر ألم ــر اهلل م ــن ح ــيث إم ــكان وج ــود ت ــفصيل آخ ــر ت ــاب ــع
لــنفس األمــر املجــمل .فــإذا كــان أمــر اهلل مــفصالً كــان أمــر الــرســول تــطبيقا ً وتــنزي ـالً لــألمــر املــفصل
عـلى الـحوادث والـوقـائـع الجـزئـية .لـكن الـرسـول ال يـقيّد أمـر اهلل املـطلق تـقييدا ً تـامـا ً بـحيث يـكون مـن
عـمل بـأمـر الـرسـول املـقيد وعـمل بـأمـر آخـر مـقيد مـن الـعاصـني ألمـر الـرسـول ،ألنـه ال يـقيّد أمـر اهلل
ـصة ال ــبقرة ،ق ــال م ــوس ــى }إن اهلل ـفصله ،وم ــثال ذل ــك ق ـ ّ
امل ــطلق إال اهلل ت ــعال ــى ن ــفسه ب ــأم ــر ج ــدي ــد ي ـ ّ
يــأمــركــم أن تــذبــحوا بــقرة{ فــكان هــذا أمــرا ً مــن أمــر اهلل ولــيس مــن أمــر مــوســى رســول اهلل ،لــذلــك ملــا
ع لــنا أرادوا الــتفصيل والــتقييد لــم يــقولــوا ملــوســى ”يــا مــوســى بـ ّـني لــنا مــا هــي“ ،لــكن قــالــوا لــه }اد ُ
ـبني لـنا مـا هـي{ ،وملـا قـالـوا ذلـك لـم يـق ّيد مـوسـى الـبقرة بـصفات ال بـرأيـه وال بسـلطانـه كـرسـول ر ّبـك ي ّ
52
وال هـو ذمـهم ونـهاهـم عـن مـثل ذلـك الـطلب بـالـرجـوع إلـى ربـه ،بـل قـال }إنـه يـقول إنـها بـقرة صـفراء{
وهــكذا فــي كــل مـ ّـرة طــلبوا قــيدا ً جــديــدا ً ألمــر اهلل كــان اهلل تــعالــى هــو الــذي }يــقول{ ولــيس مــوســى.
لــكن بــعد ذلــك مــع هــارون مــثالً ،قــال مــوســى لــهارون }أفــعصيت أمــري{ فنســب األمــر ملــوســى ألنــه
كـان أمـره هـو كـرسـول ولـيس أمـرا ً هلل ،وعـبّر اهلل عـن أمـر مـوسـى لـهارون هـكذا }قـال مـوسـى ألخـيه
ه ــارون اخ ــلفني ف ــي ق ــوم ــي وأص ــلح وال ت ــتبع س ــبيل املفس ــدي ــن{ فنس ــب اهلل ال ــقول مل ــوس ــى ،خ ــالف ـا ً
ـقصة الــبقرة الــتي نســب مــوســى فــيها األمــر هلل }إن اهلل يــأمــركــم أن تــذبــحوا بــقرة{ .إذن ،أمــر اهلل لـ ّ
ش ــيء ،وأم ــر رس ــول اهلل ش ــيء آخ ــر ،ل ــكن رس ــول اهلل ت ــاب ــع ألم ــر اهلل إم ــا ب ــتخصيصه ب ــصورة م ــن
صوره املحتملة وإما بتنزيله تنزيالً صحيحا ً على الوقائع الجزئية الحادثة
.
ومــن هــنا نــفهم أصــل الــصالة ذات الحــركــات والــكلمات .فــهي صــالة رســولــية ،هــي كــذلــك ولــها
قـيمتها بشـرط أن تـكون مـمن يـقيم الـصالة اإللـهية .لـكن َمـن ال يـقيم الـصالة اإللـهية ،فـإن الـرسـولـية
حــينها تســتحيل وتــتغير طــبيعتها وآثــارهــا وتــصبح مــا سـ ّـميناه فــي كــتابــنا هــذا بــالــصالة الــتقليديــة،
مــن حــيث تــقليده غــيره فــي أمــر ال يــعقله وكــذلــك تــقليده صــورة حــركــات وألــفاظ كــالــقرد املــمسوخ بــال
روح .وتج ــد ه ــذا ف ــي ال ــرواي ــات ال ــصحيحة ال ــنقل م ــن ق ــبيل ق ــول ال ــنبي }ح ــتى ت ــعلموا ص ــالت ــي{
فنسـب الـصالة لـه .وقـال }صـ ّلوا كـما رأيـتمونـي أصـ ّلي{ فنسـب أيـضا ً الـصالة لـه ،ولـم يـقل :صـ ّلوا
كـما قـال اهلل فـي الـقرءان أن تُـص ّلوا ،أو عـبارة نـحوهـا .ومـن هـنا تجـد األ ّمـة عـمومـاً ،مـهما اخـتلفت
فـي تـفاصـيل صـالة الـنبي ،فـإنـها مـجتمعة عـلى أصـل األمـر وأصـولـه الـكلية فـال نـعلم أحـدا ً مـن أ ّمـة
الـقرءان فـي هـذه الـصلوات الخـمس يـص ّلي مـثالً بـحيث يـبدأ بـالـركـوع قـبل الـقيام أو ال يـقرأ الـقرءان
أو يسـتجيز مـثالً أن يـقرأ شـعرا ً بـدالً مـن سـورة ونـحو ذلـك .األ ّمـة الـتي اجـتمعت عـلى حـفظ الـقرءان
ونــقله هــي األ ّمــة الــتي اجــتمعت عــلى نســبة هــذه الــصالة وأخــذهــا جــيالً بــعد جــيل إلــى رســول اهلل،
فه ــذا ال ــقدر م ــحفوظ .وأم ــا ك ــيفية ال ــتعام ــل م ــع اخ ــتالف ال ــتفاص ــيل ،ف ــهنا ت ــأت ــي أه ـ ّـمية ال ــصالة
الـقرآنـية ومـعرفـة الـعالقـة بـني أمـر اهلل وأمـر الـرسـول .فـالبـد لـكل َمـن يـأتـي بـتفصيل يـخالـف فـيه غـيره
إمـا أن يـعرضـه عـلى كـتاب اهلل ودقـائـقه وأسـراره حـتى يسـتخرج أصـله الـذي حـكم الـرسـول بـه مـنه
وت ــبع أم ــر اهلل ف ــيه ،وإم ــا ب ــأن ي ــقبل ب ــاالخ ــتالف ــات ف ــي ال ــتفاص ــيل ك ــما ي ــقبل اخ ــتالف ال ــقراءات أو
درجات الفهم في اآليات مثالً
.
نـعم ،اإلشـكال واقـع بسـبب غـيبة الـرسـول .لـو كـنّا فـي زمـن الـرسـول ،فـيمكن مـعرفـة مـا كـان يـقوم بـه
ـفرق م ــنه م ــباش ــرة .فه ــذا ي ــؤدي ب ــال ــضرورة إل ــى م ــخارج ،إذ ال ي ــجوز أن ي ــكون ف ــي ال ــدي ــن ش ــيء ي ـ ّ
األ ّم ــة ب ــال مخ ــرج م ــنه ال ق ــرآن ــي وال ع ــقلي إذ ال يج ــمع األ ّم ــة إال ق ــرءان أو ع ــقل .وأم ــا ال ــرواي ــات
حل له بالعلم
. فمختلفة ،واآلراء في نقلة الروايات مختلفة اختالفا ً ال ّ
53
املخــرج األول ،أن نــقول :بــما أن الــرســول الــذي أمــر بهــذه الــصورة مــن الــصالة الــقرآنــية غــير
ـيبني لـأل ّمـة تـفاصـيل أمـره ،مـن قـبيل ”أفـئن مـات أو ُقـتل انـقلبتم عـلى أعـقابـكم“ ،فـال يـجوز حـاضـر ل ّ
االنــقالب عــلى الــعقب والــردة إلــى الــتفرق واالخــتالف والــتحارب بســبب مــوت أو قــتل محــمد رســول
اهلل ،فــالــنتيجة هــي وجــوب أو جــواز تــرك هــذه الــصورة بــالــكلية .ألن الــقرءان أمــرنــا بــطاعــة الــرســول،
ولـم يـأمـرنـا بـتصديـق مـا يـقولـه فـالن أو عـالن عـن أمـر الـرسـول .فـالـرسـول املـطاع هـو الـحي الـحاضـر
اآلم ــر ال ــناه ــي ،ك ــما ك ــان ال ــرس ــول ف ــي زم ــن أزواج ــه وب ــنات ــه وأص ــحاب ــه .ل ــذل ــك ،ل ــيس م ــن ع ــصيان
الـرسـول ،الـتوقـف عـن طـاعـة أمـر أنـت غـير شـاهـد وغـير مـتيقن أنـه أمـر الـرسـول .فـتو ّقـفك عـن الـحكم
بــاألمــر ،وتــركــه هلل والــرجــوع إلــى أصــل أمــر اهلل فــي كــتابــه مــع اتــخاذ لــون وشــكل لــه بحســب حــالــك،
أيضا ً من قبيل }اذبحوا بقرة{ فيحق لك ذبح أي بقرة طاملا أنها بقرة
.
فــي كــتاب اهلل حــسن الــظن بــاملــؤمــنني واملــؤمــنات حــتى فــي أمــورهــم الــشخصية .قــال اهلل }ظــن
املــؤمــنني واملــؤمــنات بــأنــفسهم خــيرا ً{ ،بــالــتالــي حــسن الــظن بــأن نــقلة الــروايــات عــن رســول اهلل إن
ثــبت أنــهم مــن املــؤمــنني واملــؤمــنات قــد نــقلوا صــدقـا ً هــو أيــضا ً مــن أمــر الــقرءان .ومــن صــفات الــنبي
أنـه }يـؤمـن لـلمؤمـنني{ ومـن مـعانـي ذلـك أنـه يـصدقـهم ويـأمـن لـهم ،وهـذا خـالف تـكذيـبهم وسـوء الـظن
ب ــهم .وي ــعزز ه ــذا ق ــول ــه }ي ــتبع غ ــير س ــبيل امل ــؤم ــنني{ وق ــول ــه }ءام ــن ال ــرس ــول ب ــما أُن ــزل إل ــيه م ــن رب ــه
واملــؤمــنون{ فجــمع بــينهم وبــني الــرســول ،وقــولــه }ءامــنوا كــما آمــن الــناس{ وهــم أهــل اإليــمان فــجعل
اإليـمان مـثلهم حـقا ً ودعـوة نـافـعة ،وقـولـه }اغـفر إلخـوانـنا الـذيـن سـبقونـا بـاإليـمان{ والـذي يـدل عـلى
ح ــسن ال ــظن وال ــعالق ــة ب ــهم وليس ــت ع ــالق ــة س ــوء ظ ــن ورف ــض ل ــهم ول ــو اع ــتبرن ــاه ــم ك ــذب ــة خ ــون ــة مل ــا
اسـتغفرنـا لـهم ،وقـولـه }مـا كـان اهلل لـيضيع إيـمانـكم{ وذكـر اتـباع الـرسـول فـي أمـر الـقبلة وهـي مـن
ـبني أن اتــباع الــرســول ولــو فــي مــراضــيه الــتابــعة ألمــر اهلل مــن حــيث أن رضــا الــرســول كــما عــرفــنا فـ ّ
الــقبلة أيــا كــانــت فــهي قــبلة حــق إذ ”فــث ّم وجــه اهلل إن اهلل واســع“ فــكان رضــا الــرســول تــابــع لــلحق
ال ــواس ــع ف ــجعل اهلل ذل ــك إي ــمان ـا ً .ث ــم ق ــال اهلل }إذا ج ــاءك ــم ف ــاس ــق ب ــنبأ ف ــتبيّنوا{ وق ــال }أف ــمن ك ــان
ـبني أن ح ــكم امل ــؤم ــن ل ــيس م ــثل ح ــكم ال ــفاس ــق وال ي ــنبغي م ــؤم ــنا ً ك ــمن ك ــان ف ــاس ــقا ً ال يس ــتوون{ ف ـ ّ
ـتبني مـنه ولـيس رفـضه لـفسقه الـتسويـة بـينهما فـي قـضية الـعدل ،فـإذا كـان نـبأ الـفاسـق البـد مـن ال ّ
ـبني ألنـنا نـحسن فـكيف بـاملـؤمـن إذن فـنبأ املـؤمـن مـن بـاب أولـى أن يـكون مـقبوالً ُمـص َّدقـا ً إمـا بـدون ت ّ
ـتبني مــن أنــبائــه الــتي يجئ بــها وإمــا الــظن بــه ونــفترض صــدقــه وحــتى يــتميّز عــن الــفاســق الــذي نـ ّ
ـتبني مـن بـاب الـبحث عـن مـدى حـفظه لـلنبأ الـذي جـاءنـا بـه ولـيس تـشكيكا ً فـي صـدقـه .كـل مـا بـعد ال ّ
سـبق ومـا يجـري مجـراه ،يـدعـونـا إلـى أصـل مـهم وهـو أصـل تـو ّلـي كـل مـؤمـن ومـؤمـنة وتحسـني الـظن
بــهم فــي أنــفسهم وافــتراض صــدق أنــبائــهم .لــكن كــل هــذا كــما تــرى مــبني عــلى أن صــاحــب الــنبأ
54
م ــؤم ــن أو م ــؤم ــنة ،أي غ ــير ف ــاس ــق وال م ــناف ــق وال ك ــاف ــر وال ب ــقية ال ــصفات امل ــناف ــية ل ــإلي ــمان ف ــي
القرءان
.
بـناء عـلى ذلـك ،إذا جـاءتـنا أنـباء عـن املـؤمـنني واملـؤمـنات مـمن سـبقنا ،فـيها بـيان عـن أمـر رسـول
اهلل ،فاألصل تصديقهم وقبولها كأوامر رسولية
.
مـا ذكـرنـاه مـن نسـبة هـذه الـصالة املـخصوصـة لـلرسـول ،لـيس مـن قـبيل فـهم الـقرءان ذاتـه ،فـال
نسـتطيع أن ننسـب لـلرسـول حـتى هـذه الـصالة مـن جـهة كـتاب اهلل ،بـل النسـبة إن جـازت فـهي مـن
ق ــبيل ال ــبحث ال ــتاري ــخي ونس ــبة األق ــوال واألف ــعال إل ــى األش ــخاص ال ــذي ــن ك ــان ــوا ف ــي ال ــتاري ــخ.
والـتاريـخ لـيس ديـنا ً يُـدان اهلل بـه فـي الـرؤيـة الـقرآنـية ،بـل }تـلك أ ّمـة قـد خـلت لـها مـا كسـبت ولـكم مـا
عما كانوا يعملون{
. كسبتم وال تُسألون ّ
ومـن جـهة أخـرى ،قـرآنـية أيـضاً ،لـيس مـن اإلنـصاف لـلرسـول أي رسـول أن ننسـب لـه أمـرا ً بـناء
عـ ــلى مـ ــا رآه الـ ــناس مـ ــنه أو حـ ــتى قـ ــالـ ــه لـ ــبعض الـ ــناس فـ ــي زمـ ــنه ،مـ ــن حـ ــيث أنـ ــنا ال نـ ــدري كـ ــل
امل ــالب ــسات وال ــظروف ال ــتي أم ــر ب ــها ب ــما أم ــر ب ــه ،ف ــلع ّله اخ ــتار ص ــورة وه ــيئة ألم ــر إل ــهي واس ــع
العـتبارات هـو أدرى بـه ولـم يـكشفها أو لـم يـكتبها ويـنقلها لـأل ّمـة نـقالً كـنقل الـقرءان أو لـعله إن كـان
ـفرق بـني األشـخاص فـي زمـانـنا لـجاء بـهيئة أو صـورة أخـرى لـذات األمـر اإللـهي الـواسـع أو لـعله ي ّ
فــي تــفاصــيل األوامــر الجــزئــية .فــهي نســبة ظ ـنّية مــن حــيث أنــها تــاريــخ ،ونســبة ظ ـنّية ضــعيفة مــن
ليفسـرهـا لـزمـن غـير زمـنه وألنـاس غـير األنـاس ّ حـيث أنـها صـوريـة غـير مـعللة وصـاحـبها غـير حـاضـر
الــذيــن كــان بــينهم فــي حــينه .هــذه األمــور وإن كــانــت مــعقولــة بــنفسها ،إال أنــه أيــضا ً يــمكن اإلتــيان
بـشواهـد مـن الـروايـات عـلى كـل واحـدة مـنها .فـمثالً ،فـي روايـة عـن عـلي أن الـنبي نـهاه عـن قـراءة
الـقرءان فـي الـركـوع والـسجود ،ثـم قـال عـلي ”أقـول نـهانـي وال أقـول نـهاكـم“ أو عـبارة نـحوهـا ،فـميّز
بـني نـهي الـنبي لـه هـو وبـني نـهي الـنبي لـغيره ،هـذا بـالـرغـم مـن كـون األمـر مـتعلق بـالـقراءة والـركـوع
والـسجود وهـي أمـور املـفروض أنـها لـعا ّمـة األ ّمـة .كـذلـك مـثالً روايـة اسـتحالل الحـرم سـاعـة مـن نـهار
وقــول الــنبي أن هــذا أمــر يــختص هــو بــه حــتى ال يــقول أحــد أن هــذا أمــر جــائــز ملــن بــعده بــناء عــلى
ع ــمل ال ــنبي ب ــه .ورواي ــات أخ ــرى ك ــثيرة ي ــمكن ذك ــره ــا م ــن ب ــاب االس ــتشهاد ف ــقط ،وال ن ــدخ ــل ف ــي
ت ــفاص ــيلها .ف ــحتى إن ل ــم نج ــد م ــثل ه ــذه ال ــرواي ــات ف ــامل ــعنى م ــعقول ،ف ــإذا ك ــان ــت م ــوج ــودة ف ــاألم ــر
أحسن وأيسر
.
اآليــة تــقول }ال يــأتــون الــصالة إال وهــم كــسالــى{ وذلــك ألنــهم كــفروا وألنــهم }ال يــعقلون{ كــما فــي آيــة
أخـرى .فـمن عـالمـة الـنفاق الكسـل فـي الـصالة ،فـالـصالة مـعيار ومـيزان وفـرقـان .فـإذا نـظرنـا اآلن،
وقـرأنـا الـتاريـخ ،سنجـد أن الـصالة الـتقليديـة يـقوم بـها لـيس فـقط املـنافـق بـل الـجبّار الـطاغـية الـظالـم
55
والـجاهـل الـفاسـق والـغافـل املجـرم وجـميع أصـناف الـناس يـمكن أن يـقومـوا بـها .لـكن إذا جـئنا إلـى
ـفصلة ف ــيه ،فسنج ــد أن ــه ال ي ــقوم ب ــها ف ــعالً إال أه ــل ال ــصالة ال ــقرآن ــية بش ــروط ــها وم ــقاص ــده ــا امل ـ ّ
اإليــمان ،وينشــطون لــها ويــحبّونــها ،وتجــد فــعالً َمــن فــي قــلبه مــرض وبــقية الــظلمات إمــا ال يــأتــيها
وإما يكسل فيها .هذا وجه
.
لــكن قــد يــقال :كــما أن إنــفاق املــال لــه صــورة لــذلــك قــال }ال يــنفقون إال وهــم كــارهــون{ ،فــكذلــك
الــصالة لــها صــورة بــدلــيل }ال يــأتــون الــصالة إال وهــم كــسالــى{ وقــال }إن املــنافــقني يــخادعــون اهلل
وه ــو خ ــادع ــهم وإذا ق ــام ــوا إل ــى ال ــصالة ق ــام ــوا ك ــسال ــى ي ــراءون ال ــناس وال ي ــذك ــرون اهلل إال ق ــليال{
فهـذا يـدل عـلى أن لـلصالة صـورة ظـاهـرة تـقام فـي جـماعـة الـناس ويـمكن أن يـرى بـعضهم بـعضا ً
ـدل عـلى نـوعـية هـذه الـصورة بـالتحـديـد. فـيها .أقـول :نـعم هـذا حـق وظـاهـر فـي اآليـة ،لـكن اآليـة ال ت ّ
فـإذا جـلسنا مـثالً لـسماع قـراءة قـارئ لـلقرءان عـلينا ،أو جـلسنا لـتدارس الـقرءآن مـعاً ،فهـذه أيـضا ً
صــورة جــماعــية يــمكن أن يــأتــي شــخص لهــذه الجــماعــة وال يــكون قــاصــدا ً لــتعقل الــقرءان وذكــر اهلل
بــل لــغرض دنــيويــة أو ريــاء أو ســمعة أو نــحو ذلــك وســترى فــعالً عــلى هــذا الــشخص عــادةً أنــه كــما
وصـفه اهلل }كـسالـى{ كسـل الـعقل ال كسـل الـجسم فـقط ،فـإنـه حـتى الـصالة الـتقليديـة ليسـت مـتعبة
ل ــلجسم ف ــهي ه ــيئة ب ــسيطة سه ــلة وك ــثير م ــن أع ــمال ال ــناس ال ــيوم ــية ال ــبدن ــية أص ــعب م ــنها ب ــكثير.
ويــوجــد شــاهــد عــلى هــذا املــعنى حــتى مــن الــروايــات ،كــما فــي حــديــث مــجالــس الــذكــر الــذي تــأتــيه
املـالئـكة فـيغفر اهلل لـكل َمـن فـي مجـلس تسـبيح وتهـليل وتـكبير وتحـميد وسـؤال ،فـذكـرت الـروايـة أن
اهلل يــغفر لــكل َمــن فــي املجــلس حــتى }فــالن{ الــذي هــو }رجــل خ ـطّاء إنّــما مـ ّـر فجــلس مــعهم{ فهــذا
مـثال عـلى رجـل لـيس مـن أهـل الـذكـر وقـصده مـنه لـيس أصـل الـذكـر ،فـكما يـمكن تـص ّور حـالـة هـذا
الخـطّاء الـذي جـلس بـغير قـصد الـذكـر كـذلـك يـمكن تـص ّور حـالـة املـنافـق املـرائـي ونـحوه .إذن ،اآليـة
ـدل عـلى نـوعـية أو هـيئة هـذه الـصالة مـن حـيث كـون ـدل عـلى الـصالة الجـماعـية والـعلنية ،لـكن ال ت ّ ت ّ
الحركات أو األلفاظ مقصودة لذاتها أو لها اعتبار جوهري في تحديد حقيقة الصالة
.
إال أنـنا نـرى فـي اآليـة الـتالـية الـتي تـذكـر }فـال تـعجبك أمـوالـهم وال أوالدهـم{ شـاهـدا ً عـلى مـعنى
صــالة الــكسالــى وإنــفاق الــكاره .وذلــك مــن قــولــه تــعالــى فــي ســورة املــنافــقون }إذا جــاءك املــنافــقون
ق ــال ــوا نشه ــد إن ــك ل ــرس ــول اهلل{ ف ــهنا ل ــدي ــنا مجئ امل ــناف ــق إل ــى رس ــول اهلل ،ول ــدي ــنا ق ــول ــه ل ــلرس ــول.
ف ــاملجئ وال ــقول ،ك ــاله ــما م ــبني ع ــلى ال ــكذب و}اتخ ــذوا أي ــمان ــهم ُج ـنّة{ .ف ــكما ق ــال ه ــنا }ج ــاءك{ و
}قـالـوا{ ،قـال هـناك }يـأتـون الـصالة{ و }ال يـنفقون{ ،أي إتـيان الـرسـول لـسماع الـقرءان هـو صـالة،
وإعـطاء الـقول لـلرسـول والـشهادة فـهو إنـفاق .لـذلـك تجـدهـم فـي آيـة أخـرى يـقولـون بـعد الخـروج مـن
عـند الـرسـول وسـماع الـقرءآن }مـاذا قـال آنـفا{ فـال يـبذلـون حـتى جهـدا ً عـقليا ً لـفهم مـا قـالـه الـرسـول،
أو ي ــقول ــون }م ــاذا أراد اهلل به ــذا َم ـثَال{ }وت ــلك األم ــثال ن ــضرب ــها ل ــلناس وم ــا ي ــعقلها إال ال ــعامل ــون{،
56
فـاملـنافـق كـسول الـعقل ال يـريـد تحـريـكه وإعـمالـه لـفهم الـقرءان وأمـثالـه وبـيان الـرسـول وكـالمـه .وقـال
فــيهم أيــضا ً }إذا رأيــتهم تــعجبك أجــسامــهم وإن يــقولــوا تــسمع لــقولــهم{ والــجسم صــورة الــعلم كــما
فــي }زاده بســطة فــي الــعلم والــجسم{ أي الــجسم هــو الــصورة والــظاهــر ،كــما أن الــعلم هــو الــروح
والـباطـن .فـاملـنافـق تـركـيزه عـلى الـجسم وعـلى الـقول املُـعجِب ولـو كـان شـهادة كـذب .وهـنا نـرى أمـرا ً
خــطيرا ً فــي الــصالة الــتقليديــة ،فــإنــها جــسم وقــول وشــهادة صــوريــة مــن أنــاس لــيس فــيهم الــعلم وال
الـحق والـعقل وبـرهـانـه ،فتجـد إنـسانـا ً لـعله ال يـعرف الـفرق مـا بـني وحـدة اهلل ووحـدة الشجـرة الـتي
أمــام بــيته يــقول لــيل نــهار ”أشهــد أن ال إلــه إال اهلل وأشهــد أن محــمدا ً رســول اهلل“ ،فــمن أيــن قــال
هــذا وبــأي حــق قــالــه؟ نــعم املــعنى حــق كــما أن قــول املــنافــقني }نشهــد إنــك لــرســول اهلل{ حــق أيــضاً،
ومـع ذلـك س ّـماه اهلل كـذبـاً ،واملـلفت لـلنظر أنـه ال يـوجـد فـي الـقرءآن كـله أي مـؤمـن شهـد بهـذا الـنحو
ألي رس ــول أو ن ــبي ب ــنفس م ــا شه ــد ب ــه ه ــؤالء امل ــناف ــقون ،ي ــعني ال ي ــوج ــد ل ــدي ــنا ت ــعبير }نشه ــد أن ــك
لــرســول اهلل{ أو أمــر اهلل ألحــد بــأن يشهــد صــوري ـا ً بهــذه الــطريــقة .نــعم ،يــوجــد فــي الــقرءان بــينات،
ـبني ل ــه ف ــهو م ــأم ــور ب ــأن ال ي ــكتم ال ــشهادة ،ل ــكن ال ــشهادة ه ــنا م ــن اس ــمها ف ــرع ال ــشهود، ف ــمن ت ـ ّ
فـالـشهود لـلحق أوالً ثـم الـشهادة بـه بـالـنطق ثـانـياً} ،وال تـكتموا الـشهادة و َمـن يـكتمها فـإنـه آثـم قـلبه{
ـبني لـه كـما قـال فـي صـاحـب الحـمار }فـلما ت ّ
ـبني لـه قـال أعـلم فهـذا بـالنسـبة ملـا عـرفـه الـقلب يـقينا ً وت ّ
ـتبني لــه أوالً ثــم قــال ثــانــيا ً} .إال َمــن شهــد بــالــحق وهــم يــعلمون{ فــال أن اهلل عــلى كــل شــيء قــديــر{ فـ ّ
يـكفي أن تشهـد بـالـحق بـل البـد مـن الـعلم ،فـالـعلم بـالـحق أوالً والـشهادة بـه ثـانـيا ً .هـذه الـطريـقة هـي
الــتي تــو ّلــدهــا الــصالة الــقرآنــية ،ألنــها قــراءة وتــعقل وفــهم ونــظر فــي الــبينات .ثــم بــعد ذلــك يظهــر مــا
يظهر بالجسم والشهادة القولية
.
الكسـل ،عـالمـة الـنفاق ،مـشهود فـي قـراءة الـقرءان )الـقراءة بـمعنى الـتعقل( فـي املـواقـيت .وأمـا
م ــا س ــوى ذل ــك م ــن أم ــور ال ــجسم وال ــشهادة ال ــلفظية ف ــشيء ي ــقوم ب ــه ح ــتى أظ ــلم وأجه ــل خ ــلق اهلل
وأهـل الـدرك األسـفل مـن الـنار .أو عـلى أق ّـل تـقديـر ،هـو مـعنى ظـاهـر فـي الـصالة الـقرآنـية أكـثر مـن
ظـهوره فـي الـصالة الـتقليديـة .وأق ّـل أق ّـل تـقديـر ،هـو أنـهما مسـتويـان فـي ذلـك ،فـليس الـوصـف فـي
اآلية أولى بالصالة التقليدية منه بالصالة القرآنية
.
…
ج -مــعنى }وأطــيعوا الــرســول{ يــحتمل خــمس أمــور عــلى األقـ ّـل ،تجــدهــا بنســب مــختلفة فــي األ ّمــة.
قد عرفنا أمر اهلل من كتابه ،لكن ما معنى }أطيعوا الرسول{؟
57
الـقول األول :البـد مـن رسـول جـديـد حـي مـعاصـر .إذا نـظرنـا فـي كـل أسـباب بـعثة رسـول جـديـد ،أو
رسـل فـإن الـرسـل قـد تـتعدد }فـعززنـا بـثالـث فـقالـوا إنّـا إلـيكم مـرسـلون{ ،واألنـبياء قـد يـتعددون فـي
ال ــزم ــن ال ــواح ــد م ــثل }أرس ــلنا م ــوس ــى وه ــارون{ }أخ ــاه ه ــارون ن ــبيا{ ،إذا ن ــظرن ــا ف ــي ك ــل أس ــباب
ـجة يــمكن أن تــبرر بــعثة الــرســول قــبل أربــعة الــبعثة سنجــدهــا قــائــمة فــي األ ّمــة الــيوم .فــال يــوجــد حـ ّ
عش ــر ق ــرن ــا ب ــال ــرغ ــم م ــن وج ــود أدي ــان أخ ــرى ف ــي األرض ،إال وي ــوج ــد م ــثلها أو م ــا ه ــو أول ــى م ــنها
اليوم
.
إن قـيل :ألن الـتوحـيد دخـله تـشويـه .نـقول :أ ّوالً ،ع ّـرف الـتوحـيد إسـالمـيا ً بـما شـئت ونـحن نـأتـيك
ب ــكتب ودع ــاة ل ــه ح ــتى م ــن ق ــبل اإلس ــالم املح ــمدي .ث ــان ــياً ،ف ــي املس ــلمني تج ــد أن ــواع م ــختلفة م ــن
الــتوحــيد بــدءا ً مــن الــوحــدة املــطلقة البــن ســبعني إلــى الــوحــدة الــشخصية البــن عــربــي إلــى الــوحــدة
ال ــعددي ــة ،إل ــى االع ــتقاد ب ــأن هلل ت ــعال ــى ح ـ ّد ول ــه ص ــورة وأع ــضاء وه ــو ع ــلى ه ــيئة ش ــاب أم ــرد ،إل ــى
تــألــيه بــعض الــناس كــعلي أو نســبة الــصفات اإللــهية ملحــمد بــوجــه مــا ،وقــل مــا شــئت وســتجد فــي
األ ّمــة َمــن يــقول بــه .وكــل واحــد مــنهم يــعتقد بــأنــه عــلى الــحق املــبني وصــلب اإلســالم الــذي جــاء بــه
ال ـ ــنبي .وي ـ ــكفينا ل ـ ــر ّد ه ـ ــذا ب ـ ــرواي ـ ــة م ـ ــشهورة وه ـ ــي ”ل ـ ــتتبعن س ـ ــنن م ـ ــن ك ـ ــان ق ـ ــبلكم ح ـ ــذو ال ـ ــقذة
بـالـقذة“ وهـذا املـعنى مـن ظـهور سـنن األولـني فـي اآلخـريـن ودوران ذلـك أمـر قـرآنـي أصـيل .وانـظر
تـعدد مـفاهـيم الـتوحـيد فـي األ ّمـة ،وتـكفير بـعضهم بـعضا ً بسـبب ذلـك ،أو تـبديـعهم مـع كـل مـا يـالزم
ذلـك مـن قـسوة وافـتراق وتـهمة غـالـباً ،وسـتجد أن مـا كـان مـن قـبل هـو عـني مـا نـحن فـيه الـيوم بـشكل
أو بآخر
.
إن قــيل :ألن الــنصوص الــديــنية تحـ ّـرفــت .نــقول :أ ّوالً ،يــوجــد قــول بــأن التحــريــف فــي نــصوص
الــسابــقني كــان فــي املــعنى ولــيس الــلفظ .ثــانــياً ،عــلى فــرض أنــه فــي الــلفظ ،فــيوجــد فــي هــذه األ ّمــة
أيــضا ً ومــن فــرق مــختلفة َمــن يــقول بتحــريــف الــقرءان إمــا بــالــزيــادة وإمــا بــالــنقصان وإمــا بــالــتغيير
وتــبديــل مــواضــع اآليــات أو بــعض جــملها ،أو يــوجــد َمــن يــعتبر تــعدد الــقراءات واالخــتالف فــيها هــو
مـن صـنف اخـتالف الـذيـن مـن قـبل وعـلى هـذا مـثالً يـقال بـأن جـمع الـقرءآن عـلى عهـد عـثمان كـان
م ــن أج ــل م ــنع اخ ــتالف ه ــذه األ ّم ــة ف ــي ك ــتاب رب ــها ك ــما اخ ــتلفت األم ــم ال ــساب ــقة ف ــمن ال ــناس م ــن
يـعتقد بـأن حـرق عـثمان املـصاحـف املـخالـفة يـدل عـلى حـدوث نـوع مـن الـنقصان فـي هـذا الـباب وال
نـريـد الـدخـول فـي كـيف يـرد كـل فـريـق عـلى اآلخـر لـكن هـذا الـقول مـوجـود ،ومـن الـظاهـر أن الـرسـول
لــو كــان بــيننا الــيوم كــان بــاإلمــكان بــسهولــة أن نــذهــب إلــيه ونــقول لــه ”يــا رســول اهلل ،ســورة الــفلق
والـناس مـن سـور الـقرءان أم أنـها تـعويـذة مـن عـندك لـلحسن والحسـني كـما يـقول ابـن مـسعود؟“ أو
”ي ــا رس ــول اهلل ،ه ــل ه ــذه ال ــقراءات ك ــلها م ــن ع ــندك أم أن ش ــيوخ ــنا ك ــذب ــوا ع ــلينا وأراد ك ــل واح ــد
الـتص ّدر فـاخـتلق قـراءة؟“ ونـحو ذلـك مـن أمـور لـيس لـديـنا فـيها الـيوم إال الـظ ّن أو الـظن الـغالـب مـن
58
ح ــيث ال ــبحث ال ــدراس ــي ال ــذه ــني .ث ــال ــثاً ،ح ــتى ع ــلى ف ــرض س ــالم ــة ال ــنص ل ــفظاً ،ف ــإن ال ــعبرة م ــن
الــنص مــعناه ،وال قــيمة لــحفظ صــورة نــص مــع االخــتالف بــال مخــرج حــاســم وفــاصــل مــن مــعناه،
املفسـر يـقول شـيئا ً وذاك يـقول غـيره ويـصل الـخالف إلـى حـدود لـيس فـقط الـتناقـض الـنظري ّ فهـذا
بـل الـتقاتـل الـدمـوي ،فهـذا يـقول ”اقـتلوا املشـركـني حـيث ثـقفتموهـم“ تـعني الحـروب الـديـنية لـفرض
الـدولـة أو حـتى الـديـانـة ،وذاك يـقول ال بـل تـعني قـتال َمـن قـاتـلنا مـنهم وال يـجوز االبـتداء فـي ذلـك،
وعـلى كـل قـول بُـنيت مـمالـك وسـقطت أمـم وتـغيّرت عـقائـد ووضـعت شـرائـع ،ولـو كـان الـرسـول بـيننا
لـذهـبنا إلـيه وقـلنا لـه ”يـا رسـول اهلل ،هـل تسـتبيح قـتال َمـن ال يـقاتـلك؟ هـل تـريـد أن نـفرض اإلسـالم
عــلى الــناس كــره ـا ً ونــكره الــعرب خــصوص ـا ً أو املشــركــني عــلى اإلســالم أو نــقتلهم أم ال؟ هــل تــقتل
املــرتــد أم ال؟ وقــل مــثل هــذا فــي كــل مــسائــل الــعلم والــعمل .فــي الــقرءان لــديــنا شــاهــد عــلى مــحوريــة
ـصة دور الــرســول ،فــال تــوجــد لــديــنا أ ّمــة بــدون رســول أو نــبي يــقوم أمــرهــا ،مــن أول الــقرءان عــند قـ ّ
ـبني بــبيان فــاصــل أمــر اهلل وديــنه، آدم إلــى آخــر قــصصه فــي محــمد ،دائــما ً إنــسان مــن لــدن اهلل يـ ّ
وليسـت الـقضية فـلسفية ونـظريـة وظـنّية حـتى يـقول بـعض الـفقهاء املـشهوريـن ”هـذا رأيـي“ و ”إن
ن ــظن إال ظ ـنّا وم ــا ن ــحن بمس ــتيقنني“ .ك ــما رأي ــنا ف ــي ق ــصة ال ــبقرة م ــثالً ،ل ــم ي ــأخ ــذوا أم ــر }اذب ــحوا
بـقرة{ ويـذهـبوا بـه ،حـتى قـالـوا }ادع لـنا ربّـك يـبني لـنا{ ،كـذلـك فـي كـل األمـور ،بـيان رسـول مـن عـند
ربــه ،هــكذا يــقوم الــديــن .وتجــد مــثل هــذا فــي الــروايــات أيــضاً ،حــتى إنــهم كــانــوا يــرجــعون لــلرســول
فــي كــل صــغيرة وكــبيرة فــيحكم ويــقضي بــينهم ،حــكم رجــل حــي حــاضــر نــاطــق فــاصــل .فــحتى إذا
كــانــت الــنصوص الــديــنية اإلســالمــية مــحفوظــة ،كــل الــقرءآن وكــل الــروايــات ،مــن أولــها إلــى آخــرهــا،
حــتى إذا س ـ ّلمنا ذلــك فــإن الــفهم والــعبرة بــالــفهم يــقع فــيه اخــتالف ،واخــتالف كــثير فــي كــل عــقيدة
وكـل شـريـعة وكـل مـسألـة تـقريـبا ً وال يـكاد يـوجـد شـيء أجـمع عـليه عـلماء األ ّمـة أو أفـراد األ ّمـة بـل وال
مـسألـة اإلجـماع هـذه لـم تُجـمع عـليها األ ّمـة ! فـإذا كـانـت األ ّمـة لـم تُجـمع عـلى تـعريـف اإلجـماع ،وال
ت ــعري ــف األ ّم ــة ،وال ت ــعري ــف ك ــيفية ت ــحصيل اإلج ــماع ،وال أن ــواع اإلج ــماع ،وال رت ــبة ك ــل ن ــوع ،وال
ـجة إذا .ن ــعم ،إذا ع ــالق ــة اإلج ــماع ب ــغيره م ــن األدل ــة ،ف ــكيف ي ــقال ب ــأن األ ّم ــة أج ــمعت وأن ه ــذا ح ـ ّ
أرادت كـل فـرقـة أو طـائـفة مـن فـرقـة أو جـماعـة مـن طـائـفة أو فـرد مـن جـماعـة أن يـدعـي هـكذا مجـردا ً
بـأن مـا هـو عـليه هـو مـا يـقتضيه الـديـن ومـا أجـمعت عـليه األ ّمـة فهـذا أمـر آخـر ،وسـنذكـره فـي الـقول
الــثانــي بــعد هــذا إن شــاء اهلل ،لــكن مــن الــواضــح أن هــذا لــيس مــثل بــيان الــرســول املــأمــور الــذيــن
ءامــنوا بــطاعــته .ويــكفيك إلثــبات االخــتالف أن تــرى مــا يــقولــه أهــل كــل فــرقــة فــي غــيرهــا ،وأن تــنظر
ول ــو ن ــظرة ب ــسيطة ف ــي ك ــتب ال ــفرق وال ــفقه ل ــترى ب ــعينيك ،أو ت ــنظر إل ــى م ــا ع ــليه ح ــال األ ّم ــة ف ــي
مــشارقــها ومــغاربــها فــضالً عــن غــير األ ّمــة مــن بــقية الــناس لــترى ذلــك أيــضا ً .لــن تجــد اخــتالفـا ً فــي
األمــم الــسابــقة عــلى بــعثة الــنبي ،ال الــعرب وال غــيرهــم ،إال وتســتطيع أن تــأتــي بــمثله أو أكــبر مــنه
59
ـنص جـديـد مـحفوظ فـي هـذه األ ّمـة .فـإذا كـانـت بـعثة الـرسـول بـكتاب جـديـد هـي مـن أجـل اإلتـيان ب ّ
وم ــفهوم ب ــتعري ــف رس ــول م ــن ع ــند اهلل ،ف ــاأل ّم ــة واألم ــم ك ــلها ال ــيوم أي ــضا ً ب ــحاج ــة مل ــثل ذل ــك ول ــنفس
السبب تماما ً
.
إن قـيل :ألن معجـزات األديـان الـسابـقة ذهـبت فـبعث اهلل الـنبي بـالـقرءان كمعجـزة .نـقول :عـلى
فـرض أن تـعريـف معجـزة الـقرءان هـو الـبالغـة والتحـدي بـعدم اإلتـيان بـمثله بـاملـعنى الـصوري كـما
هـو الـشائـع ،عـلى فـرض ذلـك ،فـإن هـذا كـان ال يـصلح إال لـلعرب مـمن الـبالغـة آيـة لـهم ،فـأصـحاب
هـذا الـقول أنـفسهم يـقولـون بـأن اهلل بـعث مـوسـى بـالـعصا والـيد ألن قـومـه اشـتهروا بـالسحـر ،وبـعث
عــيسى بــالــشفاء واإلحــياء ألن قــومــه اشــتهروا بــالــطب ،وبــعث محــمدا ً بــالــبالغــة ألن قــومــه اشــتهروا
بـاألدب ،حـسناً ،قـومـنا الـيوم وهـذه األمـم شـرقـا ً وغـربـا ً مشـتهرة بـماذا الـيوم؟ قـطعا ً لـيس بـالـبالغـة،
ب ــل ل ــعل أك ــثر ال ــعرب أن ــفسهم ال ــيوم ب ــل وأك ــثر أه ــل م ــكة وامل ــدي ــنة ال ي ــعرف ــون ال ــيوم م ــا وج ــه ب ــالغ ــة
الــقرءآن اإلعــجازيــة هــذا إن عــرف أكــثرهــم كــيفية اإلعــراب فــضالً عــن الــبالغــة وأســرارهــا .نــعم ،فــي
عــصرنــا هــذا أكــبر شــيء هــو الــعلم الــطبيعي والــتقنية ،هــو مــا يــوازي كــما يــقال السحــر فــي عــصر
مـوسـى والـطب فـي عـصر عـيسى والـبالغـة فـي عـصر محـمد .فـالـشيء الـوحـيد الـذي يـمكن أن يـلفت
أنـظار ويجـذب قـلوب كـل األمـم لـإلعـجاز هـو أمـر يـتعلق بـالـعلم الـطبيعي والـتقنية .وال تـقل لـي أن ”
اإلعـجاز الـعلمي فـي الـقرءان“ هـو الحـل ،ألن هـذه املهـزلـة الـفكريـة ال تـناسـب حـتى صـبيان الـفكر
فــضالً عــن غــيرهــم ،فــهؤالء أقــصى مــا يــقومــون بــه هــو أخــذ شــيء راج فــي عــصرهــم مــما اكــتشفهم
وصـنعه غـيرهـم ثـم يـقولـون ”انـظروا هـذا فـي الـقرءان“ وقـد فـعلوا ذلـك مـن قـبل وطـبّقوا اآليـات عـلى
املــكتشفات واملــخترعــات ثــم ملــا تــغ ّيرت الــعلوم وتــطورت نــسوا أو تــناســوا ذلــك ،فــإذا كــانــوا صــادقــني
بـوجـود هـذا الـنوع مـن اإلعـجاز فـي هـذا الـقرءان الـعربـي فـليأتـونـا بـاكـتشاف جـديـد وبـطريـقة صـنع
شــيء بــتقنية جــديــدة لــم يــعرفــها أحــد ،والبــد أن تظهــر أيــضا ً بــغير ســبب مــعتاد كــما انــقلبت الــعصا
حـية أو شـفي شـخص بـمسحة عـيسى أو نـطق األ ّمـي بـالـعلوم والـبالغـة ،فـالـخالصـة هـي أن فـكرة
اإلع ــجاز ه ــذه وال ــتي ل ــم ي ــتفق ع ــليها إم ــا ج ــملة وإم ــا ت ــفصيالً ح ــتى املس ــلمون ال ي ــمكن أن ت ــكون
ـجة إع ــجازي ــة ب ــامل ــعنى امل ــشهور ل ــذل ــك ،ب ــل ال ــتحقيق أن أص ــحاب اإلع ــجاز ال ــعلمي ه ــؤالء ي ــقعون حـ ّ
فس ــر ال ــقرءان ب ــرأي ــه ف ــليتبوأ م ــقعده م ــن ال ــنار“ ألن ل ــدي ــهم رأي مس ــبق يج ــلبون ــه ت ــحت رواي ــة ” َم ــن ّ
ويـبحثون عـن آيـة لـه لـيلصقوه بـها .كـال .الـشيء الـذي يـوازي معجـزات األنـبياء بـاملـعنى املـشهور هـو
أن يـأتـي مـثالً رجـل أ ّمـي الـيوم ثـم يـذهـب إلـى وكـالـة نـاسـا الـفضائـية ويـضع لـهم املـعادالت ويـرسـم
لــهم خــطة صــناعــة صــاروخ فــضائــي مــثالً فشــل كــل عــلماء الــعصر فــيهما وعجــزوا عــنهما ثــم يــنجح
قـولـه هـذا مـن أول مـرة ،أو شـيء مـن هـذا الـقبيل فـي األمـور الـعلمية الـتقنية ولـيس الـنظريـة املجـردة
فـإن أشهـر مـا فـي عـصرنـا هـو الـعلم الـطبيعي املـؤدي إلـى الح ّـل الـتقني وإال فـليس الـعصر عـصر
60
الس ــباح ــة ف ــي األف ــكار املج ــردة .ل ــكن ع ــلى أي ــة ح ــال ،م ــن امل ــقطوع ب ــه أن ب ــالغ ــة ال ــقرءان ال ــعرب ــية
ليست معجزة بالنسبة ألكثر املسلمني بل ألكثر العرب فضالً عن أن تكون للناس عموما ً
.
إن ق ــيل :ك ــان ــت األم ــم م ــتفرق ــة ف ــجاء ال ــنبي ليج ــمعها وال ــعرب خ ــصوص ـا ً ال تج ــمعهم إال دع ــوة
ديــنية .نــقول :األمــم ال تــزال مــتفرقــة ،وأهــل اإلســالم مــن الــعرب والعجــم هــم مــن أش ـ ّد وأســوأ األمــم
تـفرقـا ً وتـحاربـا ً وتـعصبا ً أو يـنافـسون األمـم األخـرى عـلى املـركـز األول فـي هـذه املـسابـقة املـظلمة.
ولــن تجــد أمــرا ً فــي الــجاهــلية إال وســتجد مــثله الــيوم ،بــل لــعل بــعض أمــور الــجاهــلية كــانــت أفــضل
مـما عـليه الـعرب الـيوم ،حـتى سـمعت شـيخا ً أزهـريـا ً بـاألمـس يـقول بـأنـه يـتمنّى لـو نـكون الـيوم عـلى
مــا كــان عــليه عــرب الــجاهــلية .بــل يــكفيك مــا تجــده مــن انــتشار لحــديــث ”غــربــة اإلســالم“ أي ”بــدأ
اإلسـالم غـريـبا ً وسـيعود غـريـبا ً كـما بـدأ“ طـبعا ً وتـطبيق كـل جـماعـة لهـذا الحـديـث عـلى نـفسها ،لـكن
يــكفي أن فــي الحــديــث شــاهــدا ً عــلى عــودة األمــر كــما بــدأ .وبــناء عــلى مــقولــة ”ال يُــصلح آخــر هــذه
األ ّمــة إال بــما صــلح بــه أولــها“ ،وأولــها لــم يــصلح إال بــالــرســول ،فــكذلــك آخــرهــا ال يــصلح إال بــرســول
من عند اهلل
.
ـجة يس ــتعملها ع ــلماء أي ع ــقيدة إس ــالم ــية ل ــتبري ــر أص ــل ب ــعث ع ــلى ه ــذا ال ــنمط ،ان ــظر أي ح ـ ّ
الـرسـل عـمومـا ً أو بـعث محـمد رسـولـنا خـصوصـاً ،وسـتجد كـل هـذه الـحجج مـوجـودة الـيوم إمـا كـما
كانت باألمس أو بما هو أولى مما كان قبل بعثه
.
فــإن قــلت :لــكن نــبينا محــمد آخــر رســول ،فــال يــمكن أن يــكون هــذا حـ ّـالً .نــقول :أ ّوالً مــا ذكــرنــاه
وغـيره يـر ّد عـلى هـذه الـعقيدة أسـاسـا ً .ثـانـياً ،حـتى عـند بـعثة الـرسـول كـانـت األديـان األخـرى تـضع
قـيودا ً وشـروطـا ً تـحافـظ فـيه عـلى تـكويـنها وأمـرهـا بـادعـاء أنـه ال يـمكن أن يخـرج الـديـن عـنها أو أن
يـأتـي شـخص بـأمـر جـديـد ومـغايـر بـعدهـا .نـعم ،هـذا األمـر فـي الـعقائـد اإلسـالمـية أظهـر مـنه فـي
غـيره ،ويـمكن لـشخص أن يـجادل بـأنـه ال تـوجـد أ ّمـة قـبل األ ّمـة اإلسـالمـية ادعـت أن الـرسـالـة انتهـت
بــرســولــها أو مــنشئها ،بــل كــلهم فــتح املــجال لــظهور بــعثة جــديــدة أو نــبي جــديــد ،إال أهــل اإلســالم.
وهــذه حــجة قــويــة بــاعــتبار .لــكن يــمكن الــنقاش فــيها مــن وجــوه ،مــنها ظ ـنّية هــذا الــفهم ،ومــنها أن
املســلمني أنــفسهم لــم يجــزمــوا بــانــقطاع كــل الــوحــي مــطلقا ً كــقولــهم بــأن الــرؤيــا جــزء مــن الــنبوة أو
قــولــهم بــأن لــديــهم إمــام أو شــيخ عــارف أو ُم َح ـ َّدث ُمــل َهم يــخاطــبه اهلل وتــنزل عــليه املــالئــكة أو نــحو
ذلـك ،ومـنها انـتشار عـقيدة عـودة عـيسى وهـي بـغض الـنظر عـن كـونـها نـزول جـديـد لـرسـول قـديـم إال
أنــه اعــتراف بــإتــيان رســول مــن اهلل لــلعا َلــم عــلى أيــة حــال ســواء كــان قــديــما ً أو جــديــدا ً فــتلك صــفة
فـرعـية فـاألصـل ثـابـت ومـنها أيـضا ً انـتظار املهـدي وصـفاتـه الـتي تـعلو عـلى صـفات رجـل عـادي مـن
عــلماء املســلمني يــف ّكر ويــدرس بــاملــعنى الــشائــع فــي األ ّمــة ،ومــنها أيــضا ً وجــه ر ّد ذات الــعقيدة بــما
ورد فـي الـقرءان مـن كـون بـعثة الـرسـل أمـر طـبيعي مـثل شـروق الـشمس ونـزول املـطر وهـي ونـحوهـا
61
الـ ــحجج الـ ــتي اسـ ــتعملها الـ ــقرءآن لـ ــتثبيث أصـ ــل اإليـ ــمان بمحـ ــمد كـ ــرسـ ــول والـ ــقرءان كـ ــكتاب مـ ــن
الرحمن ُمح َدث .ووجوه أخرى
.
فهذا إذن ملخص القول األول ،وهو الحاجة إلى رسول جديد من عند اهلل
.
62
وه ــذا ه ــو امل ــعمول ب ــه ع ــموم ـا ً ف ــي األ ّم ــة اآلن ،وه ــو أن ت ــقرأ ال ــقرءان وال ــرواي ــات واالج ــتهادات
واآلراء ع ــلى م ــر ال ــعصور ،ف ــيختار ال ــفرد واأل ّم ــة ب ــناء ع ــلى ق ــياس األم ــور الج ــدي ــدة ع ــلى ال ــقدي ــمة.
فدور املجتهد واملجتهدين هو فقط اكتشاف ما جاء به الرسول في الزمان القديم
.
هــذا الــقول تــنقيحه كــالــتالــي :األمــر إمــا أن يــكون مــتغيرا ً بحســب الــظروف ،وإمــا ال ألنــه مــبني
عــلى جــوهــر مــتعالــي ثــابــت كــأمــور اآلخــرة .فــإذا كــان مــن املــتغيرات ،فهــذا يجتهــد املجتهــدون فــي
تـنقيح الـظروف والـقياس عـلى الـعلل الـتي اقـتضت حـكم الـرسـول فـي الـقديـم بـذلـك الـحكم والـحكم
بمثلها اليوم .وإذا كان من الثوابت ،فنحكم اليوم بنفس صورة حكم الرسول باألمس
.
مـشاكـل هـذا الـقول كـثيرة جـدا ً .ويـكفي أنـه بـالـرغـم مـن الـعمل بـه ،األ ّمـة هـي عـلى مـا عـليه الـيوم
من التفرق والتقاتل والتنازع
.
مــشكلة أخــرى ،كــل مــشاكــل أصــل الــقياس ،وكــونــه ظــني بــل وهــمي واخــتزالــي فــي كــثير مــن
األمـور ،مـن جـهات كـثيرة مـنها عـدم حـفظ جـميع حـيثيات األمـر الـقديـم واالحـتياج إلـى مـعرفـة ذلـك
ال ــعصر وظ ــروف ــه ب ــيقني ك ــما ن ــعرف ال ــعصر ال ــحال ــي وأم ــورن ــا ب ــيقني ح ــتى ي ــصح ال ــقياس ب ــينهما،
ومـنها االخـتالف فـي آراء أهـل الـقياس ،واخـتالفـهم فـي تحـديـد مـا هـو الـثابـت ومـا هـو املـتغيّر فـمثالً
فـي مـسألـة الـصالة هـل صـورة الـصالة ثـابـتة أم مـتغيرة؟ هـل الـوقـت مـن دلـوك الـشمس إلـى غـسق
الـليل ثـابـت حـتى عـند غـير الـعرب كـالـذيـن ال يـرون الـشمس إال نـادرا ً أو غـيرهـا مـن املـنطاق املـختلفة
فـي تـقديـر هـذه األوقـات ،هـل الـهيئات الـجسمانـية وعـددهـا ثـابـت أم مـتغير ،ومـا أدرانـا هـو هـذا أم
ذاك ،وتــوجــد فــي حــيثيات الــصالة وفــي الــروايــات أيــضا ً مــا يــدلــك عــلى أنــها تــأثــرت بــالــظروف مــثل
الــلباس حــني لــم يــأمــر الــنبي بــالــصالة فــي ثــوبــني ألن الــناس حــينها لــم يــكن لــكل واحــد ثــوبــني فهــل
يـختلف هـذا فـي زمـانـنا هـذا أو ال أق ّـل بـالنسـبة ملـن يـتوفـر لـديـه الـلباس ،وهـل ّم ج ّـرا ً .هـذا الـكتاب فـيه
ت ــرك ــيز ع ــلى ال ــصالة ،ل ــكن ه ــي أه ـ ّم م ــسأل ــة ف ــي الش ــري ــعة وال ــدي ــن م ــن وج ــهه ال ــعملي ،ول ــذل ــك إذا
تـأسـس مـنهج قـوي بـها فـيمكن مـعرفـة كـيفية الـتعامـل مـع األمـور األخـرى بـنحو أيسـر إن شـاء اهلل.
نــرجــع .أصــل جــواز الــقياس فــي الــديــن أيــضا ً مــما اخــتلف فــيه املســلمون سـنّة كــالــظاهــريــة وشــيعة
ك ــاإلم ــام ــية .ف ــبناء دي ــن ع ــلى أص ــل ال ــقياس ،ي ــعني ب ــال ــضرورة ب ــناء دي ــن م ــفترق م ــختلف ي ــرى
أصــحاب الــفرق أنــهم عــلى الــحق واآلخــر عــلى بــاطــل وضــالل بــغير أمــر حــاســم وفــاصــل بــينهم مــن
كتاب اهلل وال رسول حاضر
.
الــقياس يــصنع نــبوة بــال نــبوة .وثــمرتــه تــوهــم اآلخــذ بــها أنــه عــلى ديــن مــن اهلل ،والــحق أنــه عــلى
ديـن مـن الـرأي الـشخصي لـصاحـب الـقياس ،بـكل مـا فـيه مـن خـلل وظـنون وأوهـام وخـرص ،حـتى
عــلى فــرض أن كــل الــتفاصــيل األصــولــية لــلقياس تــمت مــراعــاتــها ،وهــي ذاتــها كــما ال يــخفى محــل
أقل تقدير
. نزاع وخالف أيضا ً وتحتمل ذلك على ّ
63
تتحج ــر ع ــلى ال ــقدي ــم وتج ــمد ع ــليه .ب ــال ــرغ ــم م ــن أن اهلل ت ــعال ــى ح ــي
ّ ث ــم ال ــقياس ي ــجعل األ ّم ــة
وجــواد ومــفيض لــلحكمة والــخير والــعلم ،فــفيه نــسيان لــحضور اهلل وعــطائــه .وكــذلــك فــيه نســبة قــول
الحجة
.
ّ إلى اهلل ورسوله لم يقوال به بناء على شبه يظنه القائس هو
وقــد يــؤدي الــقياس إلــى الــحكم الــجازم عــلى أمــر بــالــكلية ،بــينما يــكون الــحق هــو الــحكم عــلى
جزئية من جزئيات األمر على فرض صحته
.
م ــن أص ــول املح ــرم ــات ال ــقرآن ــية ال ــقول ع ــلى اهلل ب ــغير ع ــلم .ف ــال ش ــيء ي ــدع ــون ــا إل ــى ال ــقياس
ونسـبته إلـى ديـن اهلل ،الـلهم إال قـوم أرادوا الـفرار مـن الـلوازم الـضروريـة لـعدم وجـود رسـول حـاضـر
أو وحـي جـديـد أو صـلة حـية بـاهلل أو نـحو ذلـك مـن أمـور تـجعل مـركـز السـلطة الشـرعـية يـذهـب مـن
أي ــدي ــهم وي ــشيع ف ــي األ ّم ــة ،ف ــيقول ــوا ب ــما ي ــقول ــون ب ــه ،وه ــذا ل ــيس ف ــقط ف ــي ال ــقياس ب ــل ح ــتى ف ــي
اعـتماد الـروايـات الـتاريـخية عـلى أنـها املظهـر الـوحـيد الـصحيح لـلديـن ولـتطبيق وتـنزيـل وتـقييد أمـر
اهلل فـي الـقرءان ،فـأصـحاب الـروايـات مـثل أصـحاب الـقياس ،كـالهـما يـريـد أن يـجعل الـتاريـخ فـي
ـحجة عـلى الـدهـر كـ ّله ،إمـا بـواسـطة أصـل الحـديـث أو أصـل الـقياس ومـا يـتصل بـهما لحـظة هـو ال ّ
م ــن اع ــتبار آلراء أص ــحاب الح ــدي ــث وال ــقياس ل ــكن م ــن وراء ح ــجاب ح ــتى ال يظه ــر ب ــأن ــهم ي ــجعال
ع ــقول ــهما واخ ــتياره ــما ال ــدي ــن ف ــيقال ل ــهما ”ون ــحن ل ــدي ــنا ع ــقول واخ ــتيار أي ــضا ً“ ،ف ــيختبئون وراء
ـفضلون م ــن خ ــلف س ــتارة ال ــرواي ــة وال ــقياس وال ي ــحكمون إال ب ــما يش ــتهون ف ــي ال ــحال ــتني أو ب ــما يُ ـ ّ
املجرد في الرواية وفي إعمال القياس
. ّ النزاهة الذهنية والبحث املوضوعي
ي ــنبني ع ــلى ال ــقول ع ــلى اهلل ب ــغير ع ــلم ،ال ــقول ع ــلى رس ــول اهلل ب ــغير ع ــلم ب ــل ال ــقول ب ــغير ع ــلم
ـقف مــا لــيس لــك بــه عــلم{ .فنســبة قــول لــرســول اهلل بــغير عــلم مــمنوعــة قــرآنــياً ،بــل حــتى مــطلقاً} ،ال تـ ُ
أخـالقـيا ً وإنـسانـيا ً فـهو نـوع مـن الـكذب وتحـميل إنـسان غـائـب مـا لـم يتح ّـمله فـهو نـوع مـن االتـهام
واملــحاكــمة والــقضاء عــلى شــخص غــيابــيا ً بــدون حــتى فــرصــة الــدفــاع عــن نــفسه .لــذلــك ،إذا دخــل
اح ــتمال ف ــي النس ــبة ،ف ــال ي ــجوز نس ــبة األم ــر ل ــلرس ــول م ــن ح ــيث ل ــفظه أو م ــفهوم ــه أو ت ــطبيقه ع ــلى
حــادثــة أو شــخص جــديــد نــحتمل أن الــرســول لــو كــان هــنا لــحكم بــخالف ذلــك .فــقد نــختار نــحن مــا
فهمناه ونطبقه ألننا اقتنعنا به في أنفسنا ،لكن هذا ال يجيز نسبته إلى الرسول نفسه
.
ال ــقول ب ــغير ع ــلم م ــع ع ــدم ج ــواز ال ــغيبة }ال ي ــغتب ب ــعضكم ب ــعضا ً{ ،ه ــو أي ــضا ً الس ــبب ال ــذي
ي ــجعل ع ــلم ال ــرواي ــات ب ــصورت ــه ال ــحاض ــرة أم ــرا ً م ــخال ــفا ً ل ــلقرءان وال ــعقل األخ ــالق ــي .ألن ت ــصحيح
الـروايـة يـبدأ وإن كـان ال يـنتهي لـكنه لـيبدأ بـالـنظر فـي سـنده ،يـعني فـي الـرجـال أو الـنساء الـذيـن
ن ــقلوه .وال ــحكم ع ــلى ه ــؤالء ب ــالج ــرح ي ــجعل ال ــرواي ــة ن ــازل ــة ع ــن رت ــبة ال ــصحيح إل ــى ال ــحسن أو إل ــى
الـضعيف ومـا إلـى ذلـك .لـكن جـرح إنـسان غـائـب ال يسـتطيع الـدفـاع عـن نـفسه ،هـو نـوع ن الـغيبة،
كــما أقـ ّـر بــذلــك الــقوم مــنذ الــقدم وبــرروا جــوازه ألنــه ضــروري لــلعلم .فــإن ثــبت جــواز ذلــك ،لــنقل مــن
64
بـاب أنـه ع ّـرض نـفسه لـلنقد بـدخـولـه طـوعـا ً فـي عـملية الـنقل فـهو أجـاز نـقد نـفسه حـني أدخـل نـفسه
فــي الســلسلة ،فــإن ذلــك ال يــغني ع ـنّا فــي مــعرفــة صــدق الجــرح بــيقني أو حــتى بــظ ّن مــعتبر ،وفــيه
}تـلك أ ّمـة قـد خـلت{ ونـحن ال نـدري تـفاصـيل كـل مـا حـدث بـنحو مـرضـي مـن الـتواريـخ .فـأقـصى مـا
نخـرج بـه نـوع مـن الـظن أو حـتى الـظن الـضعيف .بـل قـد يـكون الـناقـل كـذابـا ً أفـاكـا ً مـنافـقا ً لـعيناً،
لــكن يــكون قــد صــدق فــي هــذه الــروايــة تحــديــدا ً أو حــتى يــكون مــا بــلغنا بــواســطته هــو مــما صــدق
فـيه ،وقـد يـكون الـشخص صـادقـا ً عـدالً ضـابـطا ً نـزيـها ً وقـل مـا شـئت لـكن يـكون فـي روايـة أو أكـثر
قـد كـذب أو نـسي أو غـلط ،ونـحن ال نـملك أصـول الـروايـات حـتى نـعلم بـالـقياس عـليها هـل ضـبط أم
لـم يـضبط ،وأمـا الـنظر إلـى مـا رواه غـيره فـي الـباب فهـذا مـن بـاب مـقابـلة الـصفر بـالـصفر ألنـنا ال
نسـتطيع أن نـحكم عـلى الـروايـة األولـى حـتى نـحكم عـلى الـروايـة األخـرى بـالـقياس عـلى األول ألن
نـفس الـقضية مـوجـودة فـي كـل الـروايـات عـلى الـسواء .هـذه وغـيرهـا كـلها صـعوبـات وعـوائـق فـي أمـر
تــصحيح الــروايــات .ثــم حــتى إذا افــترضــنا صــحة الــسند بــأعــلى درجــة مــن الــصحة ،فهــذا ال يــعني
كـما يـقول أهـل الـفن أن املـنت أيـضا ً صـحيح بـل قـد يـكون شـاذا ً أو مـعلالً ،والـعلل كـثيرة ويـقع فـيها
االخ ــتالف وم ــن االخ ــتالف ف ــيها :ه ــل إذا خ ــال ــف امل ــنت ال ــقرءآن ي ــكون م ــعلوالً؟ وم ــا م ــعنى م ــخال ــفته
لـلقرءان؟ إذا خـلصت مـن الـثمانـني عـقبة أو أكـثر حسـب إحـصاء الـبعض أمـام مـن يـريـد اسـتعمال
ال ــرواي ــات ك ــدي ــن ،ف ــإن ــك س ــتخلص إل ــى م ــا ال ــناس ع ــليه ال ــيوم ف ــي أح ــسن األح ــوال ،وه ــو ال ــتفرق
والتشــرذم والــظنون الــتي يــوهــم أصــحاب كــل واحــدة مــنها أنــهم عــلى الــيقني املــطلق الــذي يجــدون
استعدادا ً كما فعلوا ويفعلون على قتل وحبس وضرب وتكذيب وتجهيل اآلخرين عليه
.
الـقياس عـلى الـقديـم ،بـمعنى اسـتعمال أصـل الـروايـة كـشيء تـقيس عـليه أو بـمعنى اسـتعمال
عـملية الـتفكير الـتي تـحكم عـلى الجـديـد بـنفس حـكم الـقديـم لـالشـتراك فـي الـع ّلة والسـبب ،كـالهـما
م ــحاط ب ــعقبات وظ ــنون وتخ ــرص ــات ك ــثيرة ،وأهـ ـ ّم ش ــيء أن ــها ت ــجعل امل ــف ّكر النس ــبي ي ــتح ّول إل ــى
رس ــول إل ــهي ،م ــن ح ــيث أن ــه ينس ــب ن ــتيجة ت ــفكيره ال ــشخصي ف ــي ال ــقدي ــم ه ــو ه ــو ال ــحكم ال ــقدي ــم
وكـأن الـرسـول حـضر فـي ذهـنه وقـضى بـما قـال بـه .فهـذا خـالف الـقول الـثانـي ،ألن صـاحـب الـقول
الــثانــي ال يــقول بــأن اخــتياراتــه الــقرآنــية مــثالً هــي مــا حــكم بــه الــرســول قــبل ألــف وأربــعمائــة ســنة
ـص عــليه فــي الــقرءان ،لــكن صــاحــب الــقياس ،قــياس الــروايــة أو قــياس الــع ّلة ،يــقول بــأن فــيما ال نـ ّ
ح ــكمه ه ــو ع ــني دي ــن اهلل ورس ــول ــه ،وص ــاح ــب ق ــياس ال ــرواي ــة أش ـ ّد ف ــي ه ــذا م ــن ق ــياس ال ــع ّلة ال ــتي
وقــعت االخــتالف فــي نســبتها إلــى الــديــن وحــكم اهلل ورســولــه لــكن عــمليا ً الــنتيجة واحــدة ،وكــثير مــن
ـفرض عـلى املسـلمني الـيوم هـي ثـمرة قـياس عـ ّلة والـعا ّمـة ال يـعلمون ويحسـبون أن املـفتي األحـكام تُ َ
أفتاهم والحاكم قضى عليهم بما لو كان رسول اهلل جالسا ً مكانه كان سيقضى بمثله
.
65
مـن آثـار ديـن الـقياس هـذا ،الـروايـة أو الـع ّلة ،أن صـارت الـواجـبات واملحـرمـات فـي األ ّمـة كـثيرة
بـنحو غـريـب بـل أجـنبي تـمامـا ً عـن كـتاب اهلل .قـرأت بـاألمـس لـبعض الـشيعة اإلمـامـية مـمن أحـصى
عـدد الـواجـبات واملحـرمـات فـي فـقههم ،فـوجـدهـا تـقريـبا ً ١٥٠٠واجـب و ١٥٠٠مح ّـرم .تـص ّور هـذا.
ف ــإذا ك ـنّا ن ــقرأ ف ــي ال ــقرءآن اس ــتعظام تح ــري ــم أو ف ــرض ش ــيء ،ح ــتى ت ــك ّلم ال ــقرءان ف ــي ال ــسائ ــبة
والـغنم ،فـمن أيـن جـاءت هـذه اآلالف مـن الـواجـبات واملحـرمـات؟ وتسـتطيع أن تـرى نـفس األمـر عـند
بــقية الــفرق .الــتضخيم فــي الــحالل والحــرام ،واألحــكام الــعملية غــير الــعلمية الــعقلية الــناظــرة إلــى
أمــر اآلخــرة ،ووضــع الــقوانــني وفــرضــها عــلى األ ّمــة بــاســم اهلل ورســولــه ،هــذا كــله مــن آثــار اعــتماد
الــروايــة والــع ّلة كــمصادر لــلديــن بــدالً مــن كــتاب اهلل ،أو إعــطائــها األولــويــة بــدالً مــنه عــمليا ً أو نــظريـا ً
وعــمليا ً .وح ـ ّدث وال حــرج طــبعا ً عــن الــتناقــض والــتعارض عــند أهــل الــروايــة وأهــل الــع ّلة .وأحــسنهم
ي ــري ــد اخ ــتراق ح ــجاب ال ــغيب ل ــلوص ــول إل ــى ق ــلب ال ــرس ــول ل ــو ك ــان ح ــاض ــرا ً ب ــماذا ك ــان س ــيحكم،
والسـبب أنـه يـريـد أن يـعطي حـكما ً قـاطـعا ً ديـنيا ً مـعصومـا ً أو مـقدسـا ً يـفرضـه عـلى الـناس عـلى أنـه
عني دين اهلل وأمر رسوله
.
66
حـتى حـني كـان فـي األرض ،لـم يـكن كـل مسـلم فـي كـل مـكان يـملك خـطّا ً مـفتوحـا ً لـلتواصـل مـعه فـي
أي لحـظة ،بـل بـعض األعـراب كـان يـأتـي ُيسـلم ويـأخـذ سـورة ويـتع ّلم شـيء مـن الـفرائـض ثـم يـتو ّكـل
ولـعله ال يـلقى الـرسـول بـعدهـا وال يـسألـه عـن شـيء .فـليس مـن الـضروري لـلديـن مـعرفـة قـول الـرسـول
فــي كــل تــفصيلة وصــغيرة وكــبيرة ،ومــن أراد ذلــك فــاهلل كــريــم ويجــمعه بــرســولــه ويــعرفــه بــالــحق فــي
األمر
.
وإن قـيل :لـكن هـذا الـطريـق صـعب ولـيس كـل أحـد يسـتطيع بـلوغـه .نـقول :طـريـق مـعرفـة الـطب
الــعلمي أيــضا ً صــعب مــقارنــة بــالــطب الــشعبي والخــرافــي لــكنه أحــسن مــنه} ،والــذيــن جــاهــدوا فــينا
لنهدينهم سبلنا{ ،فدخول الجنّة بالجهاد والصبر
.
وإن قـيل :لـكن هـذه دعـوى مـن الـصوفـي وال ُيسـ ّلمها لـه بـقية املسـلمني .نـقول :وصـاحـب الـروايـة
أي ــضا ً ي ــدع ــي أن ــه س ــمع وأن ال ــرس ــول ق ــال ،وامل ــفتي ي ــدع ــي ب ــالنس ــبة ل ــلعا ّم ــي أن ــه درس وأف ــتى ل ــه
بـالـحكم الشـرعـي ،وهـو ال يـدري عـلى الـتحقيق الـواقـع فـي نـفس األمـر ،لـكن حـسن الـظن بـمن ثـبت
إيــمانــه وهــو أمــر قــرآنــي يــجيز تــصديــق املــؤمــن فــي دعــواه .فــإن ثــبت لــه إيــمان مــدعــي لــقاء الــرســول
وأخـذه عـنه ،فـأنـت وذاك .وإن لـم يـثبت لـك ،فهـذا مـثله مـثل بـقية األمـور الـتي لـم تشهـدهـا فـي أمـر
الدين بل وأمر الدنيا لكنه تأخذها ثقة بمن لديك قرائن كافية للثقة بهم
.
وإن قــيل :لــو كــان بــاإلمــكان لــقاء الــرســول لحــل الــخالفــات فــلماذا لــم يظهــر الــرســول لــلصحابــة
حــني اخــتلفوا .نــقول :ومــا عــسى أن يــفعل بــالــظهور لــقوم جــلس بــني ظهــرانــيهم أكــثر مــن عشــريــن
ون ــهاه ــم م ــباش ــرةً ع ــلى ض ــرب رق ــاب ب ــعض وب ــأم ــور ك ــثيرة ف ــلم يس ــتجيبوا وف ــعلوا م ــا ف ــعلوا ،ه ــذا
جــواب .جــواب آخــر ،الــصحابــة ألخــذهــم عــن الــرســول لــيسوا مــثل األ ّمــة الــبعيدة العهــد بــالــرســول،
لــذلــك الــنبي خــشي عــلى الــصحابــة الــتنافــس عــلى الــدنــيا أكــثر مــما خــشي عــليهم االخــتالف فــي
الدين ،فاأل ّمة أحوج لذلك من الصحابة ،والصدقات }للفقراء{ ال لألغنياء
.
وإن قــيل :هــذا يــفتح بــاب لــلدجــالــني والــكذابــني واملــشعوذيــن الدعــاء الــدعــاوى الــعريــضة بــالــتقاء
ـضر بـاأل ّمـة .نـقول :والـروايـات والـعلل وكـل األصـول تـؤدي أيـضا ً إلـى ظـهور دجـالـني الـرسـول مـما ي ّ
وكـذابـني وظـاملـني ومجـرمـني وعـبيد ديـنار ودرهـم وعـبيد حـكام يـلعبون بـالـديـن كـما يشـتهون ويشـتهي
أســيادهــم وقــد فــعلوا وال زالــوا يــفعلون ،وهــذا ال يــعني إبــطال أصــل الــدراســة وال أصــل الــبحث فــي
الــنصوص الــديــنية وال أصــل تــفسير الــقرءان .كــم مــن حــامــل شــهادة مــن جــامــعة تــزعــم أنــه دكــتور
وهـو فـي الـحقيقة ثـور ،تخ ّـرج بـالـنصب وتـوظـيف غـيره ليحـل لـه واجـباتـه ويـختبر عـنه ،وهـذا ال يـعني
إل ــغاء ه ــذه امل ــعاه ــد وإب ــطال ق ــيمة ال ــشهادات ال ــجام ــعية .ب ــل ادع ــى أن ــاس ك ــثر ال ــنبوة ،فه ــل ن ــنكر
الـنبوة الـصادقـة بسـبب الـنبوة الـكاذبـة .اخـتلقوا الـكثير مـن األحـاديـث ونسـبوهـا لـلنبي ،فهـل نـنسف
قيمة كل األحاديث بسبب االختالق في بعضها
.
67
القول الخامس :اإلمام املعصوم
.
الـفكرة هـنا شـيعية األصـل ،وهـي أنـه يـوجـد إنـسان يـقوم بـعد الـرسـول مـقام الـرسـول ،فـال يـكون
رســوالً لــكن فــيه شــيء مــن عــصمة الــرســالــة وســلطتها فــي الــتعبير عــن الــديــن عــلما ً وحــكما ً والــقيام
بدور املركز الجامع لأل ّمة حتى ال تتشتت وتختلف
.
ف ــهؤالء س ــيقول ــون ب ــكل م ــا م ــضى م ــن أه ـ ّـمية وج ــود ال ــرس ــول ،ل ــكن س ــيقول ــون ب ــعده ــا :ب ــما أن
مح ــمد آخ ــر ال ــرس ــل ،ف ــالب ــد أن ي ــكون ب ــعده إم ــام م ــعصوم ي ــقوم م ــقام ــه ف ــي ك ــل األم ــور ب ــاس ــتثناء
اإلتيان بوحي جديد كالقرءان أو يغ ّير حالله وحرامه الثابت ،وتكون له بقية السلطات الرسولية
.
هـذا الـقول قـوي جـداً ،والـحق أن مـن عـدا الـشيعة أيـضا ً بـحثوا عـن إمـام مـعصوم لـكن اخـتلفوا
فــي تــعيينه ورســمه .فــبعضهم جــعل مــفهوم ”األ ّمــة“ هــو بــديــل اإلمــام املــعصوم ،وإن كــان مــفهومــه
هــذا مــبهما ً ولــم يــتم إظــهاره واقــعا ً .وبــعضهم جــعل الــقياس الــصحيح هــو اإلمــام املــعصوم ،أقــصد
الـقياس عـلى اآليـة والـروايـة والـع ّلة ،فـجعل عـقله أو مجـموعـة عـقول املجتهـديـن الـذيـن يـرضـاهـم هـي
اإلم ــام امل ــعصوم ب ــال ــتال ــي ج ــعل رض ــاه أص ــل ب ــعثة امل ــعصوم وج ــعل ال ــعقول املجته ــدة ه ــي اإلم ــام.
وبـعضهم جـعل قـلبه ونـفسه املطهـرة الـتي تـأخـذ عـن اهلل وعـن رسـولـه هـو اإلمـام املـعصوم بـالنسـبة لـه
وملـن آمـن بـه كـولـي .وإذا رأيـت صـالبـة الـفرق والـطوائـف فـي عـقائـدهـا ومـذاهـبها ،وإن كـانـت ال تـقوم
باإلمام املعصوم ،ستجد أنها تتح ّدث وكأنها تملك اإلمام املعصوم أيضا ً لكن بشكل آخر
.
مــما يــرد عــلى هــذا الــقول :اخــتالف الــشيعة أنــفسهم ،مــن أول يــوم إلــى الــيوم ،اخــتالفـا ً طــويـالً
عـريـضا ً عـميقا ً .ويـكفيك االطـالع عـلى كـتاب يتحـدث عـن فـرق الـشيعة لـترى ذلـك .الـزيـديـة فـرق وهـم
ال يــقولــون بــاإلمــامــة كــما يــقولــه غــيرهــم بــكل الــتفاصــيل وإن قــالــوا بــحصر اإلمــامــة فــي الــفاطــميني
بشــروط اخــتلفوا فــيها ،اإلمــامــية كــانــوا فــرق والــيوم هــم أيــضا ً فــرق مــن حــيث مــسألــة الــسفارة عــن
اإلمــام الــغائــب أو املــدرســة الــتي تــمثّل اإلمــام الــغائــب األخــباريــة أم األصــولــية أو َمــن هــو املــرجــع
الـذي يـمثّل املـدرسـة الـصحيحة ،ثـم اإلسـماعـيلية أيـضا ً عـلى فـرقـتني كـبيرتـني عـلى أق ّـل تـقديـر وعـلى
اعتبار الدروز منهم فهم ثالثة وهكذا
.
ومــما يــرد عــليه أيــضا ً :أرونــا حــلول اإلمــام املــعصوم لــكل املــسائــل والــقضايــا الــعلمية والــعملية
ـبني ال ــفهم ال ــتي ف ــي ك ــتاب اهلل ،ول ــندع م ــا س ــواه .امل ــفروض أن يُظه ــروا ل ــأل ّم ــة ه ــذا ال ــعلم ال ــتي ي ـ ّ
ـجة م ــعتبرة تُ ــرض ــي ع ــلماء ال ــصحيح ل ــكتاب اهلل ،وك ــذل ــك ك ــل إش ــكال ــية الب ــد أن ي ــكون ل ــدي ــه ع ــليها ح ـ ّ
األ ّم ــة ع ــلى األق ـ ّـل ،ف ــقد ج ــعل اهلل ع ــلماء ب ــني إس ــرائ ــيل آي ــة وع ــلماء ه ــذه األ ّم ــة ل ــن ي ــكون ــوا أق ـ ّـل م ــن
ع ــلماء ب ــني إس ــرائ ــيل ك ــيف وم ــثل ه ــذه األ ّم ــة ه ــو ك ــمثل ب ــني إس ــرائ ــيل }إن ــا أرس ــلنا إل ــيكم رس ــوالً
شـاهـدا ً عـليكم كـما أرسـلنا إلـى فـرعـون رسـوالً{ }فـقد سـألـوا مـوسـى{ }فـال تـكن فـي مـريـة مـن لـقائـه
وجـعلناه هـدى لـبني إسـرائـيل{ ،وقـال الـنبي لـعلي ”أنـت مـني بـمنزلـة هـارون مـن مـوسـى إال أنـه ال
68
ـدل عــلى أن الــنبي مــثل مــوســى ،بــالــتالــي هــذه األ ّمــة مــثل بــني إســرائــيل .وعــلى ذلــك نــبي بــعدي“ فـ ّ
ق ــول ــه ت ــعال ــى }أول ــم ت ــكن ل ــهم آي ــة أن ي ــعلمه ع ــلماء ب ــني إس ــرائ ــيل{ ،وق ــول ــه ف ــي أص ــناف ع ــلماء ب ــني
إس ــرائ ــيل }إن ــا أن ــزل ــناه ال ــتوراة ف ــيها ه ــدى ون ــور ي ــحكم ب ــها ال ــنبيون ال ــذي ــن أس ــلموا ل ــلذي ــن ه ــادوا
والــربــانــيون واألحــبار{ فــدل عــلى ثــالثــة أصــناف مــن الــذيــن يــعلمون ويــحكمون بــالــتوراة أي الــنبي
ـحبر .حــسنا ً .فليُظهــر أصــحاب نــظريــة اإلمــام املــعصوم هــذا الــعلم لــأل ّمــة حــتى يــعرفــه والــربــانــي والـ َ
عـلماء األ ّمـة ويـنظروا فـيه .لـكن الـذي نجـده ،هـو اخـتالف فـي نـفس تـلك الـفرق الـشيعية فـيما بـينها،
ثــم نجــد اخــتالف ـا ً بــني عــلمائــهم فــي فــهم مــرويــاتــهم ومــسائــلهم الــعقائــديــة والــتفسيريــة ،وإذا دقــقنا
سنجـد الـكثير مـن ذلـك فـي كـل مـكان ،وأمـا إذا دخـلنا فـي تـقييم مـثالً قـائـمة األئـمة الـزيـديـة واألئـمة
اإلسـماعـيلية مـثالً فسنجـد أمـورا ً فـي بـعضهم أق ّـل مـا يـقال فـيها أنـها مجـلبة لـلشك أو داعـية لـلريـب
أو م ــوج ــبة للح ــذر ،وع ــلى ك ــل ح ــال ل ــن نج ــد ف ــيها ن ــصاع ــة امل ــثال ال ــرس ــول ــي ال ــذي م ــن امل ــفترض أن
ي ــمثلون ــه ب ــل ب ــعضهم تُ ــروى ع ــنه أف ــاع ــيل واس ــتئثار ب ــال ــدن ــيا وط ــغيان وت ــأس ــيس للجه ــل ل ــعل ال ــكاف ــر
يستحي منه
.
ويـ ــرد عـ ــليه أيـ ــضا ً :اخـ ــتالف الـ ــشيعة فـ ــي وصـ ــف اإلمـ ــام بـ ــالـ ــعصمة .بـ ــل ووصـ ــف الـ ــرسـ ــول
بـالـعصمة هـذه الـتي يتحـدثـون عـنها أيـضا ً أمـر فـيه اخـتالف وظـاهـر الـقرءان بـخالفـه مـن }وعـصى
آدم ربــه{ إلــى }يــغفر لــك اهلل مــا تــق ّدم مــن ذنــبك ومــا تــأخــر{ .ومــن أراد فــرض عــقيدة الــعصمة عــلى
الـقرءان بـعد كـل تـلك اآليـات ،فـأعـلى مـا يـقال بـأن هـذا رأيـه وهـو غـير ظـاهـر وال ُمـلزم لـلكل ،فـإن شـاء
اع ــتقاده ف ــليفعل ،ل ــكن ل ــيس ل ــه ب ــعد ت ــلك ال ــظواه ــر ال ــكثيرة االدع ــاء ب ــأن م ــا ي ــقول ــه واض ــح وض ــوح
الشمس في رابعة النهار
.
فــلنبدأ إذن ،بــعرض ثــمار كــالم اإلمــام املــعصوم املــدعــى مــن أي فــرقــة عــلى كــتاب اهلل ،فــكلهم
الــشيعة يــقرون بحــديــث الــثقلني والــذيــن فــيه تــرك الــرســول لــكتاب اهلل وعــترتــه أهــل بــيته ،ثــم يــختلفون
فـ ــي تـ ــعيني هـ ــذه الـ ــعترة وإن اتـ ــفقوا عـ ــلى الجـ ــملة عـ ــلى عـ ــلي بـ ــن أبـ ــي طـ ــالـ ــب ،ومـ ــن بـ ــعده وقـ ــع
االخــتالف ،فــمنهم مــن جــعلها فــي الــحسن والحســني وكــل أوالدهــما ،ومــنهم مــن جــعلها فــي بــعض
أوالد أو فــروع الحســني فــقط .لــكن هــذا الحــديــث نــفسه ،فــيه تــقديــم كــتاب اهلل ،وأنــه الخــليفة األكــبر
والـثقل األكـبر .بـالـتالـي ،ويـروى عـن عـلي قـولـه }سـلونـي عـن كـتاب اهلل{ وب ّـني عـلو عـلمه بـه .حـسنا ً.
لــنبدأ مــن هــنا ،أي مــن رؤيــة بــيان اإلمــام املــعصوم لــكتاب اهلل وتــنزيــله عــلى قــضايــا عــصرنــا وأفــراد
زماننا
.
ثـم بـعد ذلـك ،البـد مـن قـيد آخـر وهـو مـثال الـنبي ومـثال عـلي .بـدءا ً مـن الـحكم ،فـإن الـنبي جـاء
بـاالخـتيار ال بـاالجـبار ،وعـلي جـاء بـاالخـتيار ال بـاالجـبار ،فـالبـد أن يـكون أي إمـام يـدعـي النسـبة
لـهما أن يـأتـي كـذلـك بـاالخـتيار ال بـاالجـبار وال تـكون مـمارسـته جـبريـة .ثـم بـعد ذلـك ،اخـتيار الـفقر
69
والـتنزه عـن الـدنـيا والـعيش كـأوسـط أو أدنـى مـا يـعيشه الـناس فـي زمـانـه .وعـلى هـذا الـنمط .لـكن
يكفينا مبدئيا ً ميزان القرءان
.
70
األ ّمــة كــلها مــتمسكة بــكتاب اهلل وهــي الــدعــوة الــتي نــدعــو بــها ويــص ّلون الــصالة الــقرآنــية بــانــتظام
ـبني ذل ــك ل ــهم ت ــبيينا ً ت ــام ـا ً
وع ــلى ال ــدوام ،ف ــحينها ح ــني يظه ــر إن ــسان ل ــدي ــه ع ــلم أع ــلى ب ــكتاب اهلل وي ـ ّ
فــإنــهم ســيحبونــه ويــتبعونــه بســبب مــحاســن كــالمــه وعــمق عــلمه ورفــعه اإلشــكاالت الــتي مـ ّـرت عــليهم
أثـناء قـراءتـهم ودراسـتهم .وأمـر أخـير نـختم بـه ،وهـو أنـه الـرسـول ف َـمن دونـه ال يـحق لـه ولـم يـدع أن
لــه الــحق فــي أن يُــك ِره الــناس فــي الــديــن أو فــي أمــر دنــياهــم نــفسا ً ومــاالً فــالــشورى حــق بــديــن أو
بـدون ديـن وهـي ألهـل الـقرءان أحـق وأولـى ،فـإن جـاء اإلمـام املـعصوم وأقـنع األ ّمـة فـي عـلم أو فـي
حــكم أو فــي رئــاســة فــهو وذاك وإال فــهو مجــرم طــاغــية ولــيس إمــام ـا ً وال مــعصوم ـا ً }ال يــنال عهــدي
الظاملني{
.
ـجة فــي األقــوال األخــرى ،هــو الــقول الــحاصــل :أولــى األقــوال بــاالتــباع واملشــتمل عــلى كــل خــير وحـ ّ
ـحجة ل ــه وع ــليه ،وع ــلى األ ّم ــة أن ت ــتحاور ف ــي
ب ــأن ك ــل ف ــرد ع ــليه أن ي ــقرأ ال ــقرءان ل ــنفسه وه ــو ال ـ ّ
العلميات بحرية وتتشاور في العمليات بسلمية ،ثم إلى اهلل مرجعنا وإليه املصير
.
تــكملة :فــي كــتاب اهلل يــوجــد أمــر الــرســول أيــضا ً .فــإنــنا إذا نــظرنــا سنجــد أن األمــر مـ ّـرة يــأتــي مــن
اهلل م ــثل }أق ــيموا ال ــصالة{ ،ل ــكن ف ــي غ ــيره ــا ي ــأت ــي ب ــواس ــطة ال ــرس ــول م ــثل }ق ــل ي ــا ع ــبادي ال ــذي ــن
أسـرفـوا عـلى أنـفسهم ال تـقنطوا مـن رحـمة اهلل{ فـالـقائـل هـنا }ال تـقنطوا{ هـو الـرسـول عـن أمـر اهلل
لـه }قـل{ .بـالـتالـي ،تـابـع كـتاب اهلل ،هـو تـابـع ألمـر اهلل وأمـر الـرسـول ،وال يـقال بـأنـه خـالـي عـن أمـر
ال ــرس ــول ،ب ــل ك ــتاب اهلل ه ــو م ــا بـ ـ ّلغنا إي ــاه رس ــول اهلل ول ــأل ّم ــة ك ــلها ،ول ــيس ع ــبر راو أو عش ــرة أو
مــائــتني ،وال عــبر قــياس ذهــني ،وال عــبر جــماعــة ســريــة لــديــها أســرار الــكتاب ،وال عــبر الــسفر لــعالــم
الــغيب ألخــذ الــقرءان مــنه ،وال عــبر انــتظار قــدومــه إلــى األ ّمــة .فــقد جــاء وبــلغ الــكتاب وهــو اآلن بــني
أيدينا بحمد اهلل وشكر رسوله .وفيه نجد أمر اهلل وأمر رسوله أيضا ً برواية إلهية إن شئت
.
…
د-لــعن اهلل إبــليس ألنــه فــاضــل مــا بــني الــنار والــطني ،وكــان هــذا أ ّول أســباب لــعنه .فــلم يــنظر إلــى
الـنفس والـروح ،ولـم يـنظر إلـى أمـر اهلل ،بـل نـظر فـقط إلـى الـهيئة والـصور .وهـذا األمـر يـنطبق عـلى
ال ــصالة وامل ــص ّلني .ق ــال اهلل }ل ــكل ج ــعلنا م ــنكم ش ــرع ــة وم ــنهاج ــا{ وق ــال }ل ــكل أ ّم ــة ج ــعلنا م ــنسكا ً{،
وهـكذا أق ّـر تـعدد الشـرائـع واملـناهـج واملـناسـك ،ألن املـقصد مـنها كـلها هـو }لـتذكـروا اسـم اهلل{ ومـا
يــتبع ذلــك مــن أمــر الــعلم بــاآلخــرة ،وجــعل الــنفس شــاكــرة هلل .فــخالصــة الــحكمة اإللــهية فــي الــذكــر
والــشكر .ذكــر اهلل والــشكر لــه }آتــينا لــقمان الــحكمة أن اشــكر هلل{ وبـ ّـني أن الــشكر لــلنفس ألن فــيه
71
تـنويـر وتـكميل لـها وإسـعاد لـها فـي اآلخـرة .ومـنع اهلل مـن املـجادلـة فـي الـصور بـعد ثـبوت الـجوهـر
حــني قــال }فــال يــنازعـنّك فــي األمــر{ وبــعدهــا }وادع إلــى ربــك{ املــقصود إرجــاع الــنفوس لــربــها} ،يــا
أيتها النفس املطمئنة ارجعي إلى ربك{
.
كــذلــك األمــر فــي الــصالة .قــال اهلل فــي جــميع املخــلوقــات } ُكـ ٌّـل قــد عــلم صــالتــه وتســبيحه{ .فـ ّ
ـدل
أن الــصالة والتســبيح حــقيقة واحــدة ك ـ ّلية ،لــكن لــكل مخــلوق صــالتــه وتســبيحه الــخاص بــه أيــضا ً.
فـال تـعارض بـني الـك ّلي وجـزئـياتـه ،بـني الـجوهـر والـصور .هـذه سـنّة كـونـية واإلسـالم الـعاملـي .وأثـبت
اهلل نفس هذا املعنى لألمم} ،لكل أ ّمة جعلنا{
.
ألن اإلنـسان بـاألصـل فـرد مسـتقل فـهو أ ّمـة وحـده }إن إبـراهـيم كـان أ ّمـة{ ،فهـذا مـن وجـه .ومـن
وجـه آخـر هـو فـرد فـي جـماعـة }إن هـذه أ ّمـتكم أ ّمـة واحـدة{ }وقـال إنـني مـن املسـلمني{ .فـسنرى أن
لـلصالة والتسـبيح أيـضا ً وجـها ً فـرديـا ً هـو األصـل ،ووجـها ً جـماعـيا ً هـو الـفرع .ومـن هـنا صـالة الـفرد
وصـالة الجـماعـة ،فـقال فـي التهجـد }وطـائـفة مـن الـذيـن مـعك{ فـأثـبت مـعية طـائـفة لـلنبي فـي تهجـده
ونــافــلته ،فهــذا مــن صــالة الجــماعــة .وقــال إبــراهــيم }رب اجــعلني مــقيم الــصالة{ وقــال اهلل }عــليكم
أنـفسكم{ فهـذه صـالة الـفرد .بـالـتالـي ،قـولـه }أقـم الـصالة{ فـرديـة ،وقـولـه }أقـيموا الـصالة{ جـماعـية.
فت ّم األمر من الوجهني
.
ال ــصالة ت ــكون ب ــقراءة ك ــتاب اهلل .ه ــذا ج ــوه ــره ــا ،روح ــها .ث ــم ك ــل ن ــفس س ــتعمل ذل ــك ب ــنحو
يـتناسـب مـعها .وأمـا بـالنسـبة لـلجسم ،والـهيئة الـبدنـية ،فهـذا أمـر فـيه تـختلف ألـوانـه وإن كـان املـاء
ونفضل بعضه على بعض في األ ُ ُكل{
. ّ واحد }يُسقى بماء واحد
}أرأي ــت ال ــذي ي ــنهى .ع ــبدا ً إذا ص ـ ّلى .أرأي ــت إن ك ــان ع ــلى اله ــدى .أو أم ــر ب ــال ــتقوى{ .فه ــذه
الــصالة بــوجــهها الــفردي والجــماعــي .ألن }كــان عــلى الهــدى{ صــالتــه كــفرد ،وقــولــه }أمــر بــالــتقوى{
هــو صــالتــه مــع جــماعــة مــن حــيث قــراءتــه عــليهم وأمــرهــم ونــهيهم} ،أصــالتــك تــأمــرك أن نــترك{ }إن
ال ــصالة ت ــنهى ع ــن ال ــفحشاء وامل ــنكر{ ف ــال ــصالة ف ــيها أم ــر ون ــهي ،وذل ــك ال ــقرءان ي ــأم ــر وي ــنهى َم ــن
يعقله ويفهمه
.
اآلن ،األبــلسة أن يــقع الــنزاع بــني الــناس بســبب صــورة الــصالة ،فهــذا يــقول ”صــالتــي أفــضل ألن
هــيئتي نــاريــة“ وذاك يــقول ”بــل صــالتــي أنــا أفــضل ألن هــيئتي طــينية“ ،وامــأل مــا شــئت بــدالً مــن
كلمة النار والطني في هاتني العبارتني
.
ر ّد اهلل ع ــلى ك ــالم إب ــليس ب ــثالث ط ــرق .أح ــده ــا }أن ت ــكون م ــع ال ــساج ــدي ــن{ وال ــثان ــي }خ ـ ُ
ـلقت
بيدي{ والثالث }إذ أمرتك{
. ّ
72
}تـكون مـع الـساجـديـن{ تـدل عـلى وجـود إجـماع لـهؤالء الـساجـديـن ،وإبـليس ال يـريـد أن يـكون
ـخصه يــناقــض مــا هــم عــليه .بــالنســبة لــلصالة ،اإلجــماع الــقائــم مــعهم بــل يــريــد الــتم ّيز عــنهم بــأمــر يـ ّ
يــتعلق تحــديــدا ً بــقراءة الــقرءآن األوقــات املحــددة فــيه ،فهــذا الــقدر مجــمع عــليه عــند املســلمني .فــمن
زاد عـلى ذلـك ونـاقـض وحـارب َمـن اكـتفى بـالـقدر املجـمع عـليه ،وبـدأ يـفاضـل بـني الـصور والـهيئات
ف ــفي خ ــصلة م ــن إب ــليس ،وس ـيُلبّس ع ــلى ن ــفسه وغ ــيره ويُح ــدث ف ــرق ــة ف ــي أص ــل ال ــدي ــن ال ــواح ــد ال
يمكن ح ّلها إال باعتبار بعض الناس في الدين وبعضهم خارج الدين الحق والخالص
.
ـلقت ب ــيدي{ ي ــد امل ُــلك وي ــد امل ــلكوت” ،ب ــيده امل ــلك“ و ”ب ــيده م ــلكوت“ .ال ــصالة ال ــقرآن ــية ف ــيها }خ ـ ُ
مـلك ومـلكوت ،ظـاهـر الـكالم وبـاطـن املـعنى .لـكن الـصالة الـتقليديـة الـطاغـي والـغالـب عـليها الـظاهـر
فقط والظاهر فيها مقصود لذاته عند أهلها
.
}إذ أم ــرت ــك{ ه ــذا أم ــر اهلل امل ــباش ــر ل ــلمؤم ــنني وامل ــؤم ــنات ،ونج ــده ف ــي ك ــتاب اهلل ،وه ــو ال ــصالة
ال ــقرآن ــية ف ــهي أم ــر اهلل ل ــنا .ف ــمن أق ــام ــها ف ــقد أق ــام م ــا أم ــره اهلل ب ــه .وأم ــا ب ــقية ت ــفاص ــيل ال ــهيئات
صـوريـة فـال تسـتطيع أن تـقول أن اهلل أمـرك بـها مـباشـرة كـما تسـتطيع أن تـقول أنـه أمـرك مـباشـرة
بــالــصالة الــقرآنــية فــي كــتابــه ،بــل البــد مــن أن تنســب األمــر الــظاهــري اإلضــافــي إلــى فــالن وعــالن
مــمن نــقل لــك أو اســتنبط لــك ذلــك الــتفصيل بــدون أن يــقدر ال هــو وال أنــت عــلى مــعرفــة أيــن هــو فــي
كـتاب اهلل .فـأق ّـل مـا يـقال هـو أن الـصالة الـقرآنـية مـن تجـليات }إذ أمـرتـك{ ،لـكن الـصالة الـتقليديـة
دون ذلك في الظهور والبيان
.
بـالـتالـي ،املـص ّلي الـصالة الـقرآنـية هـو مـع الـساجـديـن ،حـتى فـي اآليـة ألنـه يـكون عـلى طـريـقة
املـالئـكة والـروح مـن حـيث أن صـالتـه نـفسية روحـية عـقلية نـوريـة ،وكـذلـك مـن حـيث كـونـه يـعمل بـالـقدر
املجـمع عـليه مـن أتـباع كـالم اهلل .وهـو يـصلي صـالة مـلكية مـلكوتـية مـن حـيث تـالوة الـكلمات وتـعقل
املـعانـي .وهـو يـطيع أمـر اهلل املـباشـر فـي كـتابـه املـنزل الـذي بـلغه رسـول اهلل لـأل ّمـة ،وأحـسن روايـة
أقل حرف في كتاب اهلل
. ذرة من ق ّوة نقل ّ على وجه األرض ال تبلغ وال ّ
الحاصل :على هذه األ ّمة أن تعود إلى سنّة املالئكة في طاعة أمر اهلل ،وتدع سنّة إبليس
.
…
هـ -االعــتقاد بــأن مــعنى }الــصالة{ فــي كــتاب اهلل ال يــمكن فــهمه مــن كــتاب اهلل ،يــؤدي إلــى أمــور
كثيرة سيئة من أكبرها أنه يفسد نظام الداللة الذاتية في كتاب اهلل
.
73
ـفصل فــي نــفسه ،ويــوجــد ـبني بــعضه بــعضاً ،وهــو مـ ّ مــما نــعرفــه ذوق ـا ً وتجــرب ـ ًة هــو أن الــقرءان يـ ّ
ت ــناظ ــر وت ــوازي ب ــني آي ــات ــه وم ــواض ــيعه ي ــكشف ب ــعضها ب ــعضا ً ويبس ــط ب ــعضها م ــا ق ــبضه ال ــبعض
اآلخــر .لــكن البــد مــن الــصبر واالســتفتاح واملــجاهــدة ملــعرفــة هــذه املــعانــي مــن داخــل الــقرءان .وأمــا
ـفصل فــي كــتاب اهلل ،فــفضالً عــن أنــه قــول بــغير عــلم وال هــو الــذي يــعتقد بــأن مــعنى الــصالة غــير مـ ّ
أصـالً جـ ّـرب الــبحث بتجـ ّـرد ودراســة حــرة غــير مــقيّدة بــإرادة فــرض رأي مــذهــبه عــلى الــقرءآن ،فهــذا
يـعني أنـه بـحاجـة إلـى أمـر مـن خـارجـه ،ومـا هـو مـن خـارجـه بـالنسـبة لهـذا سـيكون الـروايـات الـتي
ذك ــرن ــا م ــا ف ــيها م ــن م ــعاي ــب وخ ــلل ي ــجعلها أدن ــى م ــن أن ي ــفتقر إل ــيها ال ــقرءان ع ــلى ف ــرض إم ــكان
افتقار القرءان إلى غيره
.
هـذه تجـربـة ملـن يـريـد الـفصل فـي مـا نـقولـه :افـترض أن الـقرءان كـتاب ال عـالقـة ديـنية لـك بـه ،بـل
ه ــو ك ــتاب م ــثل أي ك ــتاب آخ ــر ع ــلى األرض ي ــمكن دراس ــته وال ــنظر ف ــيه ب ــناء ع ــلى ت ــرك ــيبه ودالل ــته
الــلغويــة .ثــم اجــلس واجــلب أحــسن مــعاجــم وكــتب الــلغة الــعربــية ألن الــقرءان }بــلسان عــربــي مــبني{
ـنص الـقرآنـي فـالبـد أن تـعرف الـلسان وهـذا بـديـهي .ثـم اجـمع عـلماء الـعربـية ،واجـعلهم يـدرسـوا ال ّ
بــقصد الــنظر فــي مــسألــة الــصالة وتــفاصــيلها ومــعانــيها بحســب طــرق تــفسير الــنصوص عــموم ـاً،
ع ــبر ج ــمع اآلي ــات امل ــتعلقة ب ــامل ــوض ــوع ،وت ــفكيك م ــفردات ــها ،وال ــنظر ف ــي ع ــالق ــة ال ــنصوص ب ــعضها
ببعض .ثم بعد القيام بذلك ،انظر في النتيجة واحكم بنفسك
.
…
ـسية بـحتة و -تـركـيز فـقهاء الـروايـات عـلى الـدنـيا وإرادتـهم إقـامـة دولـة ذات قـوانـني جـبريـة وأحـكام ح ّ
هو ما يعيق النفس عن التف ّقه في كتاب اهلل على ما هو عليه
.
هـ ـ ّم أص ــحاب امل ــذاه ــب ه ــو إن ــشاء ق ــان ــون ،ول ــيس ش ــري ــعة .وامل ــقصد ه ــو ال ــحكم امل ــادي ف ــي
الـدنـيا ،ال الـنجاة الـنفسية فـي اآلخـرة .وحـلمهم وجـود دولـة تـفرض آرائـهم الـقانـونـية عـلى الـعا ّمـة أو
األقل تسمح لهم بفرض آرائهم على العا ّمة في منطقتهم
. ّ على
ال ــذي ي ــدرس م ــسأل ــة ال ــطاع ــة ف ــي ال ــقرءان ،سيج ــد أن ــها م ــن اس ــمها ،ط ــاع ــة ،ال إك ــراه ف ــيها.
}أطـيعوا اهلل وأطـيعوا الـرسـول فـإن تـولـوا فـإنـما عـليه مـا ُح ّـمل وعـليكم مـا ُح ّـملتم وإن تـطيعوه تهـتدوا
ومــا عــلى الــرســول إال الــبالغ املــبني{ فهــذا فــي طــاعــة اهلل وطــاعــة الــرســول ،فــما بــالــك بــمن دونــه .ولــم
ي ــقل ”ف ــإن ت ــول ــوا ف ــاح ــبسهم واق ــتلهم واف ــعل ب ــهم األف ــاع ــيل“ ك ــما ص ــار ف ــقهاء ال ــدول ــة ي ــحكمون
وي ــفعلون .ك ــل اآلي ــات م ــبنية ع ــلى ه ــذه ال ــطري ــقة ،واالس ــتثناء ال ــوح ــيد ال ــذي م ــا ه ــو اس ــتثناء ه ــو
الـقضايـا الـتي فـيها عـدوان عـلى الـنفس واملـال وقـتال لـلقول والـديـن فـيُر ّد عـلى صـاحـبه عـدوان مـثله
74
عـدالً .لـكن بـشكل عـام األحـكام فـي الـقرءان غـير مـبنية عـلى طـريـقة أصـحاب الـقوانـني والـدول ،بـل
مــبنية عــلى االخــتيار الحــر لــألفــراد بــعد مــعرفــة وقــناعــة وإدراك لــألبــعاد األخــرويــة لــألحــكام الــقرآنــية
الرسولية
.
خــذ مــثالً ،آيــات املــيراث .ال يــوجــد فــيها إال }يــوصــيكم اهلل{ وبــعدهــا وعــد بــالــجنة ووعــيد بــالــنار.
فــال يــوجــد فــيها إجــبار دولــة لــلناس عــلى تــقسيم املــيراث بهــذه الــطريــقة .واألمــثلة كــثيرة .دقــق فــي
ه ـ ــذا األص ـ ــل ف ـ ــي ك ـ ــتاب اهلل ح ـ ــتى ت ـ ــعرف مل ـ ــاذا إذا رج ـ ــعنا إل ـ ــى ك ـ ــتاب اهلل س ـ ــنحتمل ال ـ ــتعددي ـ ــة
واالخـتالف فـي األ ّمـة ،بـينما إذا بـقينا عـلى طـريـقة املـذاهـب والـعقائـد فـالـنتيجة سـتكون هـي عـني مـا
ك ــان ــت وال زال ــت ع ــليه األ ّم ــة ع ــموم ـا ً م ــن ط ــغيان ال ــدول ــة وم ــذه ــب واح ــد ع ــلى ال ــبقية أو ف ــي أح ــسن
األحــوال تــمنّي إتــيان دولــة تــطغى بــاملــذهــب عــلى الــبقية .إرادة تــوحــيد األحــكام جــوهــرا ً وصــورةً أو
حصرها في صور معدودة ونطاق محدد ،غرضه صنع قانون
.
وم ــن أب ــرز أم ــثلة ت ــقنني الش ــري ــعة ه ــذا ه ــو أن ــك ال تج ــد ف ــي ك ــتاب أم ــرا ً إال وه ــو م ــرت ــبط ب ــأم ــور
ـفصل ب ــتذك ــير ع ــلمية وروح ــية وإل ــهية وأخ ــروي ــة ك ــل ذل ــك أو ب ــعضه .ال ــحكم دائ ــما ً م ــقترن ب ــعلم ،وم ـ ّ
وأمـثال وأبـعاد مـعنويـة .لـكن الـقانـون لـيس كـذلـك ،الـقانـون افـعل وال تـفعل ،بـدون تـفسير وال تـعليل،
ي ــخاط ــب اإلرادة وال ي ــخاط ــب ال ــعقل ،ب ــل ال ــقان ــون ي ــخاط ــب ال ــحس وي ــجبر اإلرادة ب ــال ــحس ع ــبر
الـتخويـف بـالـعقاب عـلى يـد البشـر أو الـترغـيب بـعطايـا مـالـية أو دنـيويـة أو تـيسير أحـوال اجـتماعـية.
الش ــري ــعة ليس ــت ك ــذل ــك .ادرس الش ــري ــعة م ــن ك ــتاب اهلل ،ح ــكما ً ح ــكماً ،وراج ــع ك ــتاب ــي )الش ــري ــعة
الـقرآنـية( إن شـئت كمج ّـرد فهـرسـة لـكل األحـكام الـواردة فـي كـتاب اهلل ،ولـم أشـرحـه بـعد بـل ذكـرت
ـصل{ مــن الــكوثــر ،٢و}قــل{ مــن اإلخــالص ١وهــكذا فــي الــقرءان كــله .اذهــب األمــر مجــردا ً مــثل }فـ ّ
واقــرأ وانــظر مــا الــعالقــة بــني األمــر وبــني الــخبر والــفكرة والــكشف والــعلم وأســماء اهلل والــعاقــبة فــي
اآلخـرة .وإن شـئت ،افـتح اآلن الـقرءان واقـرأ أي سـورة وانـظر ،ولـن تجـد سـورة فـيها أمـر إال وفـيها
فــكر وخــبر وعــلم ،لــكن قــد تجــد ســور وآيــات كــثيرة كــلها مــعلومــات لــيس فــيها أمــر وال حــكم واحــد.
ه ــذه ال ــعقلية ال ــقرآن ــية وال ــكرام ــة ال ــنفسية واالع ــتبارات األخ ــروي ــة ،ه ــي ال ــغائ ــبة ع ــن م ــلل أص ــحاب
الــقوانــني مــن املــذاهــب اإلســالمــية ،الــذيــن حـ ّولــوا الشــريــعة إلــى قــانــون بــحت البــد مــن تــقليده وبــدون
مـعرفـة حـقيقته الـعقلية وعـاقـبته األبـديـة وال اعـتباراتـه الـباطـنية وال شـيء مـما يـقوم عـليه ديـن الـقرءان.
خت إلـى قـردة فـتح ّولـت األ ّمـة إلـى عـا ّمـة مـن املـق ّلدة وقـ ّلة مـن املـقننني الـدنـيويـني ،وبـعبارة قـرآنـية ُمـس َ
ُم ــق ّلدة وخ ــنازي ــر ال ي ــنظرون إل ــى ال ــسماء وي ــعيشون ف ــي مس ــتوى ال ــحس ال ــبحت ،ف ــامل ــق ّلد ك ــال ــقرد
واملجته ــد ك ــال ــخنزي ــر .ط ــري ــقة الش ــري ــعة ال ــقرآن ــية ت ــتعارض ج ــوه ــري ـا ً م ــع ط ــري ــقة ال ــقوان ــني امل ــذه ــبية
اإلسالمية .وهذا عني ما حدث في الصالة
.
75
ـبني الـجانـب الـجسمانـي الـعملي ،وهـذا مـن بـاب الـتخصص .لـكن تـوجـد قـد يـقال :الـفقه اإلسـالمـي ي ّ
ع ــلوم أخ ــرى ت ــخصصت ف ــي ش ــرح امل ــعان ــي ال ــروح ــية وال ــباط ــنية ل ــلصالة ال ــجسمان ــية .ب ــمعنى ،ت ــم
ـبحث فـي الـتصوف مـثالً أو ـبحث فـي الـفقه ،والـروح يُ َ تـقسيم الشـريـعة إلـى جـسم وروح ،فـالـجسم يُ َ
كتب الرقائق وما أشبه
.
أق ــول :أ ّوالً ،ل ــو ك ــان ه ــذا ال ــكالم ص ــحيحاً ،ل ــوج ــب أن نج ــد األ ّم ــة ع ــموم ـا ً م ــمن ي ــقيم ال ــصالة
الـ ــجسمانـ ــية ،أيـ ــضا ً قـ ــد تـ ــم تـ ــفقيهه فـ ــي الـ ــصالة الـ ــروحـ ــية والـ ــعقلية ،وهـ ــو يـ ــعرف تـ ــفاصـ ــيل هـ ــذه
الح ــرك ــات واألل ــفاظ وال ــعبرة ال ــباط ــنية وال ــروح ــية م ــنها .وأحس ــب أن ه ــذه دع ــوى ع ــري ــضة ج ــداً ،ال
يـص ّدقـها ال الـواقـع املـشهود ،وال حـتى عـلماء هـذه الـطوائـف أكـثرهـم يـعرف ذلـك ،حـتى صـار عـندهـم
مـن املسـ ّلم الـقول ”هـذه أمـور تـعبّديـة“ ويـقصدون بـأنـها أنـها أمـور ”غـير مـعقولـة املـعنى“ .فـالـتعبّد
عـندهـم هـو بـاألمـر غـير مـعقول املـعنى ! تـعبّد بـعدم الـعقل ،تـعبّد بـالجهـل .بـل صـار بـعضهم يـرى أن
تــع ّقل املــعنى يــجعل الــنية غــير خــالــصة لــوجــه اهلل فــي إقــامــة صــورة الــعبادة ،ألن اإلنــسان حــينها
ي ــكون ت ــاب ــعا ً ل ــعقله ول ــيس ت ــاب ــعا ً ألم ــر اهلل .س ــبحان اهلل ،ه ــذه م ــن ث ــمار الشج ــرة ال ــخبيثة وامل ــلعون ــة
لـلفرق الـتي هجـرت كـتاب اهلل .ومـنذ مـتى كـان الـعقل مـنفصالً عـن أمـر اهلل ،واتـباع الـعقل بُـعدا ً عـن
اهلل ،وهل هلك الهالكون إال بعدم العقل .صار الجهل عندهم مقدسا ً
.
ثـانـياً ،مـا أشـ ّد اإلنـكار الـذي قـام بـه وال يـزال يـقوم بـه أكـثر أصـحاب هـذه املـذاهـب عـلى الـذيـن
يـبحثون ويـقررون املـعانـي الـباطـنية لـلصالة وتـفاصـيلها ،والحـرب بـني الـفقهاء والـصوفـية أمـر قـديـم،
والحرب بينهم وبني الباطنية والطرق الرمزية أمر مستمر ،وإن لم يكن حربا ً فسخرية واستهزا ًء
.
ث ــال ــثاً ،ن ــفس ال ــتفري ــق ف ــي ال ــبحث ف ــي ال ــحكم م ــا ب ــني ص ــورت ــه وروح ــه ه ــو بح ــد ذات ــه ن ــوع م ــن
الخلل الذي حدث في الدين ،بل اإلفساد فيه
.
مــن أمــثلة مــا ذكــرنــاه فــي الــصالة مــن كــتاب اهلل ،ونــذكــر إن شــاء اهلل عــلى ســبيل اإلشــارة الــعابــرة
وليس التحقيق والتفصيل
.
-١ق ــال ت ــعال ــى }وق ــرءان الفج ــر إن ق ــرءان الفج ــر ك ــان م ــشهودا ً{ ف ــاألم ــر ب ــإق ــام ــة ق ــرءان الفج ــر
حــكم ،فــما عــلمه؟ عــلمه }إن قــرءان الفجــر كــان مــشهودا ً{ فهــذه مــعلومــة ،مــن عــرفــها ســيدرك أهـ ّـمية
إقامة قرءان الفجر .هذا في الفريضة
.
-٢ف ــي ال ــناف ــلة ق ــال }وم ــن ال ــليل فتهج ــد ب ــه ن ــاف ــلة ل ــك{ مل ــاذا؟ }ع ــسى أن ي ــبعثك رب ــك م ــقامـ ـا ً
ـفصل ال ــوق ــت }ن ــصفه أو مح ــمودا ً{ .ث ــم زاد األم ــر ت ــفصيالً ف ــي امل ــز ّم ــل ف ــقال }ق ــم ال ــليل إال ق ــليالً{ ف ـ ّ
ـصل الـعمل فـي الـقيام فـقال }ورتّـل انـقص مـنه قـليالً .أو زد عـليه{ فهـذا بـالنسـبة لـوقـت الـنافـلة ،ثـم ف ّ
الـقرءان تـرتـيال{ .حـسناً ،هـذا كـله عـمل وحـكم ،فـأيـن الـعلم والـعقل ،مـا الـحكمة مـن ذلـك؟ قـال بـعدهـا
76
مـباشـرة }إنـا سـنُلقي عـليك قـوالً ثـقيالً{ .وأمـور أخـرى مـفصلة لـكن كـما قـلنا هـذه إشـارات لـطريـقة
القرءآن في الشريعة
.
-٣ف ــي ال ــصالة ع ــموم ـا ً ق ــال }وأق ــم ال ــصالة{ ه ــذا ح ــكم ،ف ــما ع ــلمه؟ م ــا ع ـ ّلته؟ ق ــال ب ــعده ــا }إن
الصالة تنهى عن الفحشاء واملنكر{
.
ـحصل اإلنـسان -٤قـرن الـصالة بـالـخشوع} ،الـذيـن هـم فـي صـالتـهم خـاشـعون{ ،لـكن كـيف ي ّ
ال ــخشوع وه ــو ش ــعور وال ــشعور ف ــرع ال يس ــتطيع إن ــسان أن يس ــتجلبه ب ــاإلرادة؟ ب ـ ّـني ذل ــك ف ــي آي ــة
أخ ــرى ح ــني ق ــال }اس ــتعينوا ب ــال ــصبر وال ــصالة وإن ــها ل ــكبيرة إال ع ــلى ال ــخاش ــعني .ال ــذي ــن ي ــظنون
أنـهم مـالقـوا ربـهم وأنـهم إلـيه راجـعون{ فـالـذي يـظ ّن أنـه مـالقـي ربـه وأنـه إلـيه راجـع ،هـذه الـحقيقة
الـعلمية واملـعلومـة الـعقلية ،مـن عـرفـها وتـذكـرهـا وشهـد حـقيقتها بـنحو مـا مـن الـشهود ،فـإن أثـر ذلـك
على نفسه سيكون الخشوع
.
وع ــلى ه ــذا ال ــنمط ،ج ــمع ك ــل آي ــات ال ــصالة ،وم ــا ي ــتصل ب ــها وال ــنظر إل ــيها ك ــوح ــدة واح ــدة ،ذات
ويفصل بعضها بعضاً ،هو فقه الصالة ،والذي فيه الحكم والعلم معا ً
. ّ دالالت متكاملة
لـكن مـاذا يحـدث حـني يـريـد شـخص مـن خـارج الـقرءان مـن أصـحاب املـذاهـب أن يـفرض رأيـا ً عـلى
سـئل عـن مـصدر الـصلوات الخـمس فـي الـقرءان .فـقال مـا يـقرأه؟ خـذ هـذا املـثال الـذي قـرأتـه ملـفتي ُ
ما يلي وأنقله حرفيا ً
:
أقول :اآلية التي تذكر }صالة الفجر{ و }صالة العشاء{ من القرءان ،من آية العورات
.
ـص عـلى الـصالة فـي أولـها }أقـم وذكـر آيـة }لـدلـوك الـشمس{ أيـضا ً مـن سـورة اإلسـراء وفـيها ن ّ
الـصالة لـدلـوك الـشمس{ لـكنه قـطع مـا بـعدهـا ولـم يـكملها }إلـى غـسق الـليل{ ولـم يـبحث أصـالً فـي
مــعنى ذلــك وملــاذا اآليــة تظهــر عــلى أنــها تــدل عــلى وقــت واحــد وقــد نــقل هــو نــفسه قــول اهلل }صــالة
ال ــعشاء{ ل ــكن ألن ــه ي ــفهم م ــن }ال ــعشاء{ م ــعنى غ ــسق ال ــليل تح ــدي ــدا ً أي ال ــعشاء اآلخ ــر ألن ــه ي ــوج ــد
عـشاء أول يـبدأ مـن دلـوك الـشمس وهـو كـما اعـترف زوال الـشمس أو بـما يـعرف فـي فـقه الـروايـات
بـصالة الظهـر ،ولـم يخـطر بـبالـه وال هـو سـأل وبـحث :ملـاذا س ّـمى اهلل صـالة الفجـر وصـالة الـعشاء
77
ولـم يـقل لـنا صـالة الظهـر وصـالة الـعصر وصـالة املـغرب؟ هـذا ال يخـطر بـالـبال ،بـل انـتقل مـباشـرة
إلى بحث ”السنة“ ودخل في الروايات
.
لــكن األه ـ ّم الحــظ مــاذا فــعل بــآيــة ق ،٣٩الــتي فــيها كــلمة }قــبل الــغروب{ فــاعــتبر هــذه ”صــالة
الـعصر“ .وقـرنـها بـالـصالة .هـل هـذا اسـتنباط ضـروري مـن الـقرءان؟ تـعالـوا نـقرأ اآليـة كـامـلة .اآليـة
تــقول }فــاصــبر عــلى مــا يــقولــون وســبح بحــمد ربــك قــبل طــلوع الــشمس وقــبل الــغروب{ فــاعــتبر هــذا
املفتي أن كلمة }سبح بحمد ربك{ تعني الصالة ،ملاذا؟ ضع هذا السؤال في بالك قليالً
.
ث ــم ذك ــر آي ــة ه ــود ١١٤ل ــكن اج ــتزأ م ــنها }زل ــفا ً م ــن ال ــليل{ واع ــتبر ه ــذا ”ص ــالة امل ــغرب“ ع ــلى
أســاس أن ”الــزلــفة هــي الــطائــفة مــن أول الــليل“ .فــماذا تــقول اآليــة؟ }أقــم الــصالة طــرفــي الــنهار
وزُل ــفا ً م ــن ال ــليل إن ال ــحسنات ُي ــذه ــنب ال ــسيئات ذل ــك ذك ــرى ل ــلذاك ــري ــن{ .فه ــذه اآلي ــة ف ــي ال ــصالة
نصا ً
.
فبهـذا اكـتمل لـديـه خـمس صـلوات ،الفجـر والـعشاء نـصاً ،والظهـر والـعصر واملـغرب اسـتنباطـا ً.
أقــول :مــبدئــياً ،إن صـحّ هــذا االســتنباط ،فــيكون الــقرءان فــيه تــفصيل الــصلوات الخــمس مــن حــيث
ـفصل الـصالة وأحـالـنا عـلى الـروايـات. الـوقـت ،وهـذا جـميل جـداً ،ويـسقط بـه قـولـهم أن الـقرءان لـم ي ّ
ويــبقى عــليهم اإلجــابــة عــن ســبب تــفصيل الــقرءان-عــلى قــولــهم-أوقــات الــصالة عــلى خــمسة أوقــات،
ـصل األوقــات؟ فهــل الــقضية لــعبة أم مــاذا؟ الــصالة مــع عــدم تــفصيل مــاهــي الــصالة نــفسها كــما فـ ّ
حجة ألهل القرءان
. عمل ووقت ،فها قد جاءوا بالوقت ،فأين العمل؟ هذا عليهم ،وهو ّ
لـكن لـنرجـع إلـى جـعله }سـبح بحـمد ربـك{ تـعبيرا ً عـن الـصالة .إن صـح هـذا ،فـتعالـوا نـنظر فـي
م ــواض ــع ورود ه ــذا األم ــر األخ ــرى ،ل ــنرى ه ــل ت ــوج ــد ص ــلوات ب ــعدده ــا .ورد ه ــذا األم ــر ف ــي س ـ ّ
ـت
مواضع
.
األول }فس ـبّح بحــمد ربــك وكــن مــن الــساجــديــن{ أقــول :وهــذا مــطلق غــير مــرتــبط بــوقــت .ثــم إن
كـان نـفس األمـر }فسـبح بحـمد ربـك{ يـتضمن كـل أفـعال الـصالة الـتقليديـة ،فـلماذا أمـره بـعدهـا بـأن
يـكون }مـن الـساجـديـن{ وهـذا بـديـهي ألن الـسجود مـوجـود فـي الـصالة الـتقليديـة ،فـلم يـقل لـه وكـن
مــن الــراكــعني وكــن مــن الــذاكــريــن وكــن مــن الــراكــعني وال أي جــزئــية أخــرى مــن الــصالة الــتقليديــة؟
سؤال للنظر .نكمل إن شاء اهلل
.
املـوضـع الـثانـي }فـاصـبر عـلى مـا يـقولـون وسـبّح بحـمد ربـك قـبل طـلوع الـشمس وقـبل غـروبـها
ومــن آنــاء الــليل فس ـبّح وأطــراف الــنهار لــعلك تــرضــى{ أقــول :البــد أن يــكون لــديــنا حســب هــذه اآليــة
ـت صــلوات تــقليديــة ،ألن قــولــه }قــبل طــلوع الــشمس{ واحــدة} ،وقــبل غــروبــها{ ثــانــية، عــلى األقـ ّـل سـ ّ
وقــولــه }ومــن آنــاء الــليل{ ثــالــثة وإن كــانــت كــلمة ”آنــاء“ هــنا تــشير إلــى أكــثر مــن آن يــعني أكــثر مــن
صـالة ،وقـولـه }وأطـراف الـنهار{ األطـراف ثـالثـة فـما فـوق مـما يـدل عـلى وجـود ثـالث صـلوات ،صـالة
78
لــكل طــرف مــن أطــراف الــنهار ،فهــذه خــالف ـا ً لــقولــه ”طــرفــي الــنهار“ فــثنّى .فــإذا كــان }قــبل طــلوع
الـشمس{ هـو صـالة الفجـر حسـب الـتقسيمة الخـماسـية ،وقـولـه }قـبل غـروبـها{ صـالة الـعصر ،وقـولـه
}أطـراف الـنهار{ يـشمل طـرف الـزوال فـيكون صـالة الظهـر ،فـما هـما الـطرفـان اآلخـران لـلنهار وقـد
فـرغـنا مـن ذكـر الفجـر والـعصر مـن قـبل فـي اآليـة؟ ثـم قـولـه }آنـاء الـليل{ بـالجـمع ولـيس بـالـتثنية ،فـإن
جـعلنا املـغرب والـعشاء مـن آنـاء الـليل ،فـما هـي الـصالة الـثالثـة الـتي مـن الـليل؟ طـبعا ً كـل هـذا لـم
يخ ــطر ب ــبال األخ امل ــفتي ال ــذي ال ي ــبال ــي ك ــثيرا ً ب ــال ــقرءان وه ــمه ف ــقط أي دل ــيل ”اس ــتئناس“ ي ــعزز
ويفسر به مذهبه
.ّ
امل ــوض ــع ال ــثال ــث} ،وسـ ـبّح بح ــمد رب ــك ب ــال ــعشي واإلب ــكار{ فه ــل ل ــدي ــنا ص ــالة ع ــشي ،وص ــالة
إب ــكار؟ م ــا ه ــو ال ــعشي ب ــال ــضبط ه ــل ه ــو الظه ــر أم ال ــعصر أم امل ــغرب أم م ــاذا؟ ه ــل اإلب ــكار ه ــو
الفجر أم هو شيء آخر ،وإن كان هو الفجر فلماذا تغيير األسماء؟
املـوضـع الـرابـع ،هـو مـا ذكـره} ،سـبح بحـمد ربـك قـبل طـلوع الـشمس وقـبل الـغروب{ واعـتقد أنـها
ف ــي الفج ــر وال ــعصر ،ل ــكن }ق ــبل ال ــغروب{ ش ــيء وم ــا ي ــقال ف ــي وق ــت ال ــعصر تح ــدي ــدا ً ش ــيء آخ ــر
ـفصلونـه فـي املـذاهـب مـن ظ ّـل الـشيء ومـثله واصـفرار الـشمس ومـا إلـى ذلـك ،بـينما فـي حسـب مـا ي ّ
ـدل حــصرا ً عــلى مــا ذكــروه ،فهــذا الــتساهــل فــي نســبة قــول لــلقرءان هــو الــقرءان }قــبل الــغروب{ ال تـ ّ
أيـضا ً أثـر مـن آثـار الـالمـباالة والتسـرع الـذي ألهـل املـذاهـب عـادةً الـذيـن إمـا ال يـرجـعون إلـى كـتاب
اهلل وإمـا يـرجـعون إلـيه كـمصدر بـني مـصادر ولـعله األق ّـل حـظّا ً مـنها واملـحكوم عـليه أكـثر مـن كـونـه
الحاكم األعلى في بيان ذاته فضالً عن بيان غيره
.
املـوضـع الـخامـس} ،سـبّح بحـمد ربـك حـني تـقوم .ومـن الـليل فسـبّحه وإدبـار الـنجوم{ فـما مـعنى
}ح ــني ت ــقوم{؟ ه ــل ت ــوج ــد ص ــالة ال ــقيام؟ أي ق ــيام؟ ث ــم ه ــل }فس ـبّحه{ أي ــضا ً ي ــعبّر ع ــن ص ــالة م ــن
الــصلوات الــتقليديــة؟ فــالبــد أن يــكون ثـ ّـمة صــالة }مــن الــليل{ مــا هــي؟ ومــا مــعنى }وإدبــار الــنجوم{
فهـل تـوجـد صـالة إدبـار الـنجوم أيـضا ً عـلى فـرض أن التسـبيح هـو الـصالة ذات الحـركـات واأللـفاظ
املعروفة؟
الـ ــسادس واألخـ ــير ،قـ ــولـ ــه }إذا جـ ــاء نـ ــصر اهلل والـ ــفتح .ورأيـ ــت الـ ــناس يـ ــدخـ ــلون فـ ــي ديـ ــن اهلل
أفــواجــا .فسـبّح بحــمد ربــك واســتغفره إنــه كــان تــوابـا ً{ فهــل هــذه صــالة الــفتح؟ ألنــه أمــره بــالتســبيح
عـلى إثـر الـنصر والـفتح ودخـول الـناس ،فـالبـد أن تـوجـد صـالة خـاصـة عـلى قـولـهم تـتع ّلق فـقط بهـذه
األمور الثالثة التي ذكرها اهلل ،فهل سمعتم بها في الفرائض؟
الــحاصــل :اعــتقاد كــون }ســبح بحــمد ربــك{ داالً عــلى الــصالة املــفروضــة الــتقليديــة ،هــو مــثال
م ــمتاز ع ــلى ال ــعبث ب ــال ــقرءان ال ــذي ال ي ــبال ــي ب ــه أص ــحاب امل ــذاه ــب وي ــلقون ال ــكالم ع ــلى ع ــواه ــنه
ويفسرون برأيهم كتاب اهلل ويفرضونه عليه فرضا ً ويحسبونه ه ّينا ً وهو عند اهلل عظيم
. ّ
79
فـبدالً مـن االقـتصار عـلى أخـذ اآليـات الـتي ذكـرت الـصالة ،اعـتبر بـدون تـحقيق أن التسـبيح بحـمد
رب ــك ه ــو ال ــصالة ،ه ــذا االف ــتراض األول .ث ــم اف ــترض أن ك ــاله ــما ي ــدل ع ــلى ال ــصالة ب ــصورت ــها
ـص ولـصق مـا يـشاء كـما املـشهورة ،وهـذا االفـتراض الـثانـي .ثـم لـم يـبالـي بـما ورد فـي اآليـات بـل ق ّ
يـشاء حـتى يـر ّقـع مـذهـبه بـقطع مـن اآليـات وافـترض أن هـذا صـواب والـقرءان مـعه ،وهـذا االفـتراض
الثالث .هذا مثال فتأمله واعتبر به .وحسبنا اهلل ونعم الوكيل
.
…………………………………………………………………………
.
80