You are on page 1of 216

‫تحميل رواية دموع على سفوح المجد‪-‬عماد زكي‬

‫تحميل رواية دموع على سفوح المجد لعماد زكي‬

‫رواية من صميم الواقع مؤثره جدا‬


‫روايات واقعيه‪,‬قصص من الواقع‪,‬روايات رومنسيه‪,‬روايات‬
‫رومانسيه‬

‫هذه القصة‬
‫لوحة حزينة من صميم الحياة ‪ ،‬التقطت أحداثها من بحر‬
‫النسيان ‪ ،‬فحملتها إلى شطآن الذاكرة ‪ ،‬فجففتها بمدادي‬
‫ُ‬
‫أعدت إليها بعض معالمها الضائعة‬ ‫وغلفتها بكلماتي ‪ ،‬بعد أن‬
‫وعمقت فيها بعض الخطوط واأللوان ‪ ،‬ثم وضعتها في‬ ‫ُ‬ ‫‪،‬‬
‫متحف األيام ‪ ،‬عبرة بالغة لمن أراد اإلعتبار‪.‬‬
‫الدكتور عماد زكي‬
‫ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء ‪،‬‬
‫وتراوحت بين التماسك واإلنهيار ‪....‬‬
‫فترددت طويال ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف ‪ ،‬فتناولت‬
‫زجاجة السم التي أحضرتها خصيصا لهذا الغرض ‪ ،‬ووقفت‬
‫على الحد الفاص بين الموت والحياة ‪ ،‬تقدم خطوة وتؤخر‬
‫أخرى ‪ ...‬وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفا ‪ ،‬وأخذت‬
‫مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها ‪ ،‬فتشنجت‬
‫أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنح على حافة الفناء‬
‫‪...‬‬
‫الـفـصــل األول‬

‫((جيب أن أطرق أبواب اجملد بعزم وإصرار‪)).‬‬


‫هكذا قال عصام يف نفسه‪ ،‬وهو يعرب الشارع إىل الطرف اآلخر‪ ،‬يف طريقه‬
‫إىل شركة ((التجهيزات العلمية)) لشراء جمهر وجمموعة من األدوات املخربية‬
‫اليت قرر أن جيعلها نواة ملخترب متواضع أزمع على إقامته يف غرفة خاصة‬
‫اختارها هلذا الغرض‪.‬‬
‫ويف الطريق صادقته مكتبة فخمة تألقت واجهتها املضيئة مبجموعة من‬
‫الكتب املنوعة وقد رتبت بذوق وإتقان‪ ،‬فوقف يتأمل عناوينها‪ ،‬مث ما لبث‬
‫أن دلف إىل داخلها ‪ .‬وراح يتجول يف أرجائها ‪ ،‬وقد ملئت رفوفها بآالف‬
‫الكتب واجمللدات ‪ ،‬فأعجبته طائفة من الكتب العلمية اليت شدته‬
‫موضوعاهتا الشيقة فحملها معه ‪ ،‬كما استهوته طبعة أنيقة (( لدائرة املعارف‬
‫الربيطانية )) فطلب من البائع أن حيضر له نسخة منها مث دفع مثن ما اشرتى‬
‫ومحل كتبه ومضى‪...‬‬
‫***‬
‫كان عصام طموحا جدا ‪ ،‬وكان أهال للطموح‪...‬‬
‫فقد وهبه اهلل ذكاءً متوقدا ‪ ،‬وفضوالً ملحاً ‪ ،‬يبحث عن اجملهول ‪ ،‬ويسعى‬
‫حنو كل جديد ‪ ،‬أضف إىل ذلك إرادة صلبة ومهة عالية ‪ ،‬وعزمية هتزأ‬
‫بالصعاب‪...‬‬
‫وكثريا ما عرب أساتذة عصام –خالل تارخية املدرسي احلافل‪ -‬عن رأيهم فيه‬
‫بقوهلم ((إنه فلته من فلتات الزمان))حىت أن أستاذين من مدرسي مادة‬
‫الرياضيات يف املدرسة تراهنا ذات يوم على من يسأل عصاماً سؤاالً صعبا‬
‫يعجز عن اإلجابة عليه على أن يكون من ضمن املنهاج املقرر‪ ،‬فكان أن‬
‫خسرا الرهان وازداد إعجاهبما بذكاء عصام وتوفقه غري العادي‪ ،‬لدرجة أن‬
‫أحدمها كان يستدعيه كلما صادفه طالب كسول من طالب الشهادة‬
‫الثانوية يتلكأ يف حل التمارين الرياضية اليت كان قد تعلم حلها يف السنوات‬
‫السابقة‪ ،‬فيحلها له عصام بسهولة تنم عن متكنه وثقته بنفسه‪ ،‬فما يكون‬
‫من ذلك األستاذ إال أن يأمر طالبه بالتصفيق ثناء عليه‪ ،‬مث يتوجه إىل‬
‫تلميذه املهمل بقوله ‪(( :‬لعله يكفيك عقاباً أن حيل لك التمرين طالب‬
‫يصغرك بثالث سنوات دراسية‪ ...‬يعين مرحلة دراسية كاملة)) مث يشكر‬
‫األستاذ عصاماُ على اجتهاده فيمضي مزهواً بنفسه‪ ،‬فخوراً بسمعته‪ ،‬تياها‬
‫مبا أجنز‪...‬‬
‫بيد أن تفوق عصام مل يكن يتقصر على مادة ((الرياضيات)) فحسب‪ ،‬بل‬
‫تعداها إىل كل املواد الدراسية األخرى‪ ،‬ال سيما مادة ((علم احلياة)) اليت‬
‫كانت جتذبه فيجد فيها متعة كبرية‪ .‬وقد دفع اهتمامه الزائد هبذه املادة‬
‫األستاذ ((عدنان)) مدرس (علم احلياة) إىل أن يطلق عليه لقب ((الدكتور‬
‫عصام)) مداعبا ومشجعاً‪ ،‬فجاء هذا اللقب بغتة وذهب مثال‪ ،‬فما لبث أن‬
‫لصق بامسه‪ ،‬فكان ينادى به يف املدرسة والبيت‪.‬‬
‫وعندما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية‪ ،‬حتول لقب التشجيع واإلطراء إىل‬
‫لقب هو أقرب ما يكون من احلقيقة‪ ...‬فقد كان عصام الثالث على دفعة‬
‫الشهادة الثانوية لذلك العام‪ ،‬مما َّأهلَه لدخول كلية الطب جبدارة‪.‬‬
‫زف عصام إليها النبأ‪ ،‬فضمته‬ ‫وفرحت أم عصام يومها فرحاً عظيماً‪ ،‬عندما َّ‬
‫إىل صدرها يف حب وحنان وراحت تلثم وجهه‪ ،‬وهي هتتف من بني الدموع‬
‫((مربوك يا حبييب ‪ ...‬أنا اليوم أسعد أم يف الدنيا ‪ ...‬مربوك يا ولدي))‪.‬‬
‫واختلطت يف عينيها دموع الفرح الكبري بدموع احلزن القدمي على زوجها‬
‫الفقيد‪ ،‬الذي اختطفته يد املنية قبل أن تقر عيناه بدخوله ابنه كلية الطب‬
‫كما كان حيلم ويشتاق‪ ،‬إذ تويف قبل سنوات إثر نوبة قلبية مفاجئة‪.‬‬
‫وانتزعت الذكريات احلزينة األم من فرحتها العارمة‪ ،‬لتنقلها إىل الوراء‪...‬‬
‫فتمتد هبا الذكرى إىل تلك األمسية اجلميلة‪ ،‬حيث كانت مع زوجها‬
‫الراحل‪ ،‬تضمهما سهرة مسر يف حديقة املنزل‪ ،‬بينما كان عصام – وله من‬
‫العمر يومها ثالث سنوات – يداعب قطته ((يامسني)) اليت كان يألفها‬
‫وتألفه‪ ...‬إهنا ال تزال تذكر كلمات زوجها احلبيب حينما قال هلا ونظراته‬
‫تعانق وجه ابنه الوسيم‪:‬‬
‫‪( -‬هذا الطفل يا هيفاء ميلك ذكاءً عجيباً‪ ..‬علينا أن نتعين به اعتناءً‬
‫فائقا‪ ،‬حىت يشب رجالً عظيماً‪ ،‬وحيمل العبئ عن كاهلنا يف مستقبل األيام‪.‬‬
‫أجابته يومها وهي متازحه‪:‬‬
‫‪-‬أمتىن لو يصبح إبين مهندساً كبرياً‪ ،‬ليبين لنا ((فيال)) مجيلة حتف هبا‬
‫احلدائق واألشجار‪...‬‬
‫فاستجاب األب لدعابتها وقال بلهجة ضاحكة‪:‬‬
‫يهمكن إال املظاهر والقشور‪ ،‬وال تفكرن إال بـ‬‫َّ‬ ‫‪-‬أننت النساء دائماً هكذا ال‬
‫(( الفيال )) الفخمة والثوب اجلميل‪...‬‬
‫مث اعتدل يف جلسته وتابع بنربات حاملة‪:‬‬
‫‪-‬أريده يا أم عصام أن يصبح طبيباً كبرياً‪ ...‬يساعد الناس ويداوي‬
‫أمراضهم وخيفف آالمهم‪ ،‬والطبيب يا امرأة‪ ...‬ميلك اليوم مكانة إجتماعية‬
‫مرموقة‪ ،‬ويشري الناس إليه بالبنان‪ ،‬ال سيما إذا كان ناجحاً مشهوراً‪...‬‬
‫مث أردف وقد عادت إليه روح الدعابة من جديد‪:‬‬
‫‪-‬مث ال تنسي يا عزيزيت أن مهنة الطب تدر املال الكثري‪ ،‬وبذلك حيقق لك‬
‫حلمك فيشرتي لك ((الفيال)) اليت تتوقني إليها‪.‬‬
‫لقد التقطت يومها عصاماً‪ ،‬فضمته إىل صدرها يف حنان وقالت وهي تغرقه‬
‫بالقبال‪:‬‬
‫‪-‬بل يشرتيها لزوجته اليت ال بد وأهنا ستختطفه مين يف يوم من األيام‪... ).‬‬
‫وانتبه عصام لشرود أمه‪ ،‬وطالع يف وجهها مالمح احلزن والكآبة فأدرك ما‬
‫تفكر به ألنه كان يعاين من اخلواطر ذاهتا‪ ،‬لذا فهو يشعر اليوم أن فرحته‬
‫عرجاء‪ ،‬موشحة باحلزن‪ ،‬منداة بالدموع‪ ،‬ألنه ال جيد أباه بقربه‪ ،‬يشاركه‬
‫هبجته‪ ،‬ويبارك فوزه الكبري‪...‬‬
‫ورأى أن من واجبه أن ينتشل أمه من دوامة الذكريات فقال هلا مواسياً‪:‬‬
‫‪-‬أماه‪ ..‬سوف جتدين مين كل ما يرضيك ويقر عينيك‪ ،‬وسوف أنسيك‬
‫عما قريب كل أحزانك القدميةز‬
‫مث ضمها إليه ليخفي عنها الدموع اليت ترقرقت يف عينيه أسفاً على أبيه‬
‫الذي مات عنه وهو ما زال طفالً‪ ،‬فنشأ يتيماً حمروما من حنان األب‬
‫عوضته عنه الكثري‪.‬‬ ‫وعطفه‪ ،‬وإن كانت أمه قد َّ‬
‫إنه يشعر أن أمه هي كل شئ يف حياته‪ ..‬إهنا الواحة اخلضراء اليت يلجأ‬
‫إليها من قيظ األحزان ليجد عندها الراحة والسلوى والعطف واإلهتمام‪..‬‬
‫إهنا املعلم امللهم الذي يتلقى عنه مبادئ احلكمة ودروس احلياة‪...‬‬
‫لقد لعبت أمه دوراً كبرياً يف تكوين شخصيته‪ ،‬فقد ربته على األخالق‬
‫وعودته على‬
‫الفاضلة‪ ،‬وغرست يف نفسه حب العمل والصرب على التعب‪َّ ،‬‬
‫احرتام الوقت والنظام‪ ،‬ونأت به عن الدالل وامليوعة واالحنالل ‪ ،‬فنشأ فىت‬
‫رشيداً‪ ...‬قوي النفس واإلرادة‪ ...‬علي اهلمة ‪ ...‬طاهر الوجدان‪ ...‬يسعى‬
‫حنو رجولة مبكرة تبشر بالكثري‪ .‬لقد كانت أمه دائما وراء تفوقه وجناحه‪،‬‬
‫حتفه بالدعوات الضارعة‪ ،‬والكلمات املشجعة اليت كانت تدفعه قدماً إىل‬
‫األمام‪:‬‬
‫‪(( -‬أماه أنت صاحبة الفضل األول يف جناحي‪ ،‬وإليك سوف أهدي كل‬
‫منجزايت‪)).‬‬
‫قالت األم وهي تطبع على جبينه قبلة حانية‪:‬‬
‫‪-‬بل هو تعبك واجتهادك يا ولدي ‪ ،‬وقد أمثر اآلن‪...‬‬
‫‪(( -‬أدامك اهلل يا أمي ذخراً يل‪ ،‬ووفقين إلرضائك‪... )).‬‬
‫***‬
‫ودخل عصام اجلامعة‪ ...‬فاستهوته علوم الطب اليت طاملا عشقها‪،‬‬
‫واستغرقت وقته وتفكريه وصارت شغله الشاغل مث بدأت طموحاته تنمو‬
‫وتتبلور مع األيام‪ ...‬إنه ال يرضى أن يكون جمرد طالب يف كلية الطب‪ ،‬بل‬
‫ال بد أن يكون الطالب األول فيها بال منازع‪ .‬مث إنه لن يكتفي بشهادة ((‬
‫البكالوريوس ))‪ ،‬بل ال بد له من متابعة دراسته العليا يف إحدى‬
‫االختصاصات الطبية حىت حيوز على أعلى الشهادات واأللقاب العلمية‪.‬‬
‫لقد أزمع أن يسك طريق البحث العلمي حىت يصبح عاملاً من علماء الطب‬
‫البارعني الذين يتحدث العامل عن إجنازاهتم وأحباثهم‪...‬‬
‫‪(( -‬إن علماء الغرب ليسوا بأذكى منا‪ ،‬فلماذا حنجم عن الغوص يف‬
‫ميادين البحث واإلخرتاع؟‪ ..‬ال بد أن نقتحم أسوار اجملد مهما كانت‬
‫شاهقة‪ ،‬وأن نقطع الطريق إىل قمته السامقة مهما أدمت أقدمنا األشواك ‪...‬‬
‫‪)).‬‬
‫وكثريا ما داعبت خيال عصام تسميات لنضريات أو مكتشفات علمية‬
‫بأمساء عربية أو بامسه هو بالذات‪ ،‬يتداوهلا العامل بأسره ويدرسها طالب‬
‫الطب يف الشرق والغرب ‪ ،‬ويعتمدها علماء الطب وباحثوه‪.‬‬
‫وعندما كان عصام يعود من رحلة أحالمه إىل دنيا الواقع‪ ،‬يتذكر أنه ما زال‬
‫على سفوح اجملد الذي حيلم به‪ ،‬وأن قمته املنشودة ما زالت بعيدة‪ ،‬وأن‬
‫الطريق إليه ما زال طويال‪...‬‬
‫‪(( -‬ما علينا ‪ ...‬إن الطريق مهما كان طويال‪ ،‬فإنه يبدأ خبطوة)) ‪..‬‬
‫وقد خطا عصام خطوته األوىل بدخوله كلية الطب‪ ،‬وعما قريب سيحقق‬
‫اخلطوة الثانية‪ ،‬بتخرج متفوق باهر‪ ،‬وبعد ذلك سوف يغذ السري إىل غده‬
‫الواعد ليحقق املزيد من طموحاته فيمتلك العلم والشهرة واملال‪ ،‬وعندها‬
‫سوف يسعد أمه احلبيبة وينسيها أيام العذاب واحلرمان‪ ،‬ويزرع حياهتا‬
‫باملسرات واألفراح‪ .‬ويف كل مرة كان يستيقط فيها عصام من أحالمه كانت‬
‫تنبثق يف أعماقه طاقة هائلة من العزم‪ ،‬فينهمك يف دراسته يف شغف‬
‫وانسجام وإىل جانبه دفرت صغري اعتاد أن يدون عليه مالحظاته وتساؤالته‬
‫ليطرحها على أساتذته‪ ،‬ويناقشهم فيها‪ .‬إنه ال حيب أن متر على ذهنه فكرة‬
‫دون أن يسرب أغوارها‪ ،‬لذلك فهو يقرأ دائما السطور‪..‬‬
‫وما وراء السطور‪..‬‬
‫***‬
‫الـفـصــل الثاني‬
‫(( ‪-‬كلمة أخرية إذا مسحتم‪...‬‬
‫السرطان – كما رأينا من خالل احملاضرة – مرض خطري جدا‪ ،‬يقلق احلياة‬
‫البشرية ويهدد الكثري من أفرادها على اختالف أعمارهم وأجناسهم‪ ،‬وعلينا‬
‫أن نعرتف مجيعاً بأن الطب ما زال عاجزا أمام هذا املرض اللغز الذي يرهب‬
‫اجلميع‪)).‬‬
‫هبذه الكلمات ختم الدكتور ((إياد عزت)) حماضرته‪ ،‬ومللم أوراقه معلنا‬
‫بذلك انتهاءها‪..‬‬
‫وسرت يف املدرج ضجة خفيفة‪ ،‬أحدثها الطلبة وهم يغلقون دفاترهم‬
‫وجيمعون أشياءهم استعداداً للخروج إال أن صوتاً انبعث من األمام‪ ،‬أعاد‬
‫اجلميع إىل هدوئهم وصمتهم‪ ،‬واشرأبت األعناق للتعرف على صاحب‬
‫الصوت ‪ :‬ومهس طالب جيلس يف اخللف ‪:‬‬
‫‪-‬إنه ((عصام السعيد)) يسأل‪...‬‬
‫فأجابه جاره ((صفوان)) وهو شاب اشتهر يف الكلية بالعبث والالمباالة‪:‬‬
‫‪-‬إذا كان عصام هو السائل فعلى االسرتاحة السالم‪.‬‬
‫خبطى‬
‫أعاد الدكتور إياد أوراقه على املنضدة‪ ،‬وقال وهو يذرع منصة اإللقاء ً‬
‫بطيئة‪:‬‬
‫‪(( -‬زميلكم عصام يسأل عن صحة ما تردد حول اكتشاف معاجلات‬
‫حامسة للسرطان باألشعة يف الوقت الذي أقول فيه بأن الطب ما زال عاجزاً‬
‫أمام هذا املرض‪...‬‬
‫يف احلقيقة أيها األبناء‪ :‬إن العجز الذي أعنيه ليس بالعجز املطلق‪ ،‬فقد‬
‫استطاع الطب يف حاالت قليلة القضاء على السرطان سواء باملعاجلات‬
‫الشعاعية‪ ،‬أو باإلستئصال اجلراحي‪ ،‬أو باألدوية السامة القاتلة للخاليا‬
‫السرطانية لكن العام األهم يف شفاء تلك احلاالت كان االكتشاف املبكر‬
‫للسرطان‪ ،‬بيد أننا إذا أخذنا احلاالت السرطانية اليت تأخر اكتشافها – وهي‬
‫احلاالت األكثر مشاهدة– جند بأن السرطان‪ ،‬قد أنشب فيها خمالبة واندفع‬
‫بني اخلاليا السليمة فخرهبا‪ ،‬ومنا وتطور بشكل سريع فأثر على الوضائف‬
‫الطبيعية لألعضاء اجملاورة‪ ،‬ومهما حاولنا إزالته باجلراحة أو األشعة أو‬
‫الدواء‪ ،‬فأنه يعود لإلندفاع من جديد‪ ،‬وهذا ما نسميه ((بالسرطان‬
‫الناكس‪)).‬‬
‫إن عالج ككل مرض يف الطب يعتمد – يف املقام األول‪ -‬على إزالة‬
‫السبب الذي أدى إليه‪ .‬وملا كان السبب الرئيسي املباشر ملرض السرطان ما‬
‫زال جمهوالً‪ ،‬فإن كل حماولة لعالجه ستبقى مهددة بالفشل‪ ،‬قاصرة عن‬
‫إحداث الشفاء املطلوب‪ ،‬لذلك فإنه ال مفر من االعرتاف بأن الطب ما‬
‫زال عاجزاً عن القضاء على السرطان‪)).‬‬
‫مث قال الدكتور إياد وهو يتجه حبديثه إىل عصام‪:‬‬
‫‪-‬هل هذا يكفي يا عصام؟‪..‬‬
‫مل تشبع هذه الكلمات القليلة فضول عصام التواق للمعرفة‪ ،‬إال أنه أشفق‬
‫على زمالئه أن يذهب حقهم يف الراحة بسببه‪ ،‬فقال بلهجة مؤدبة‪:‬‬
‫‪-‬دكتور‪ ...‬أنا ال أريد أن أطيل على زمالئي فهذه االسرتاحة من حقهم‪،‬‬
‫فهل لكم أن توجهونا إىل أحدث املراجع الطبية اليت توسعت يف أحباث‬
‫السرطان؟‬
‫أعجب الدكتور بلباقة عصام‪ ،‬وقال موجهاً كالمه للجميع‪:‬‬
‫‪(( -‬أنا أشكر عصاماً على اهتمامه العلمي امللفت للنظر‪ ،‬ومراعاته لشعور‬
‫زمالئه وظروفهم‪ ،‬لذلك فإين أترك اجملال مفتوحاً ملن أراد اخلروج‪ ،‬وسوف‬
‫أبقى مع من أراد البقاء‪ ،‬ومسحت ظروفه بذلك‪ ،‬من أجل اإلجابة عن مجيع‬
‫األسئلة‪)).‬‬
‫ومضت فرتة من اجللبة والضوضاء‪ ،‬أحدثها خروج عدد من الطالب الذي‬
‫ملوا من احملاضرة أو اظطروا للخروج‪ ،‬وآملت عصاماً كلمات وصلت إىل‬
‫مسعه وقد صدرت عن ((صفوان)) إذ كان يقول إلحداهن بسخرية واضحة‪:‬‬
‫‪(( -‬ال أشبعه اهلل أسئلة ومناقشات‪ ..‬يف هناية كل حماضرة يفتح لنا ملف‬
‫أسئلته اليت ال تنتهي‪..)).‬‬
‫لكم ينزعج عصام من هذا الشاب املستهرت املغرور الذي يظن اجلامعة نادياً‬
‫للهو واملرح ومرتعا للميوعة والعبث‪ ..‬إنه يكره فيه تلك األنانية املفرطة اليت‬
‫تطغى على شخصيته وذلك االستعالء الفارغ الذي يطل من عينيه‪ ،‬وحتت‬
‫مظهره ((األرستقراطي)) اجلذاب كان ميلح عصام نفسية دنيئة ال يراها‬
‫تقو نظراهتم الكليلة‬
‫أولئك الذين أعمى بريق املال والثروة أبصارهم‪ ،‬فلم ً‬
‫على اخرتاق القشرة اخلادعة إىل الداخل لتسرب األعماق‪.‬‬
‫وانتبه عصام من شروده على الدكتور إياد وهو يقول بعد أن هدأ املدرج‪:‬‬
‫‪(( -‬قبل أن أوجهكم إىل الكتب احلديثة اليت تتحدث عن السرطان أود أن‬
‫أخربكم بأين سعيد جداً هبذه املناقشات العلمية اليت يضطرنا إليها زميلكم‬
‫عصام أحيانا‪ ،‬وأنا حقيقة متفائل جدا به وبأمثاله‪ ،‬وأمتىن من كل قليب أن‬
‫يكون شبابنا مجيعاً مبثل هذا االهتمام املشرف‪)).‬‬
‫وندت عن عصام كلمة شكر سريعة‪ ،‬فرد عليها الدكتور مث أردف قائالً‬
‫ويداه تستندان على املنضدة ونظراته تتنقل بني الوجوه‪:‬‬
‫‪(( -‬الطب يا أعزائي ليس جمرد مهنة مرحبة ومركز اجتماعي رفيع‪ ...‬إنه‬
‫قبل كل شئ رسالة إنسانسية محلناها من أجل سعادة اإلنسان ومحايته من‬
‫األمراض واآلالم‪...‬‬
‫جيب أن ندرس العلم أيها األبناء حباً بالعلم وخدمة لإلنسان‪ ،‬ال من أجل‬
‫فذة من النوابغ الذين يؤمنون‬‫املادة والشهرة‪ .‬أنا مؤمن بأن جمتمعنا ميلك خنبة َّ‬
‫بالعلم من أجل العلم واإلنسان‪ ،‬لكن هذه النخبة حتتاج ملن يكتشفها‪...‬‬
‫ملن يرعاها ويوجه خطاها‪ ...‬ملن يزرع يف داخلها الثقة بالنفس‪ ،‬ويوقد يف‬
‫أعماقها جذوة الطموح‪...)).‬‬
‫مث بعد صمت قصري‪:‬‬
‫((خذوا مثال قضية السرطان اليت كنا بصددها‪ ،‬إننا مجيعا نتلهف ألن جيد‬
‫الطب هلا حالً‪ ،‬وننتظر مجيعا – حىت حنن املختصني يف هذا اجملال – أن‬
‫يقدم لنا الغرب عالجاً حامساً هلذا املرض‪ ،‬لكن أحدنا مل يفكر يوماً أن‬
‫يكون هو املكتشف لذلك العالج املنشود‪ ،‬أو أن يكون أحد املسامهني يف‬
‫اكتشافه‪ .‬ملاذا؟‪ ..‬ألننا ال نثق بأنفسنا الثقة الكافية‪ ،‬وال منلك الطموح إىل‬
‫ذلك‪!!)).‬‬
‫وانتبه الدكتور إياد إىل عصام وقد رفع يده طالباً اإلذن ليتكلم‪ ،‬فسمح له‬
‫بإمياءة فقال‪:‬‬
‫‪(( -‬دكتور‪ ...‬باإلضافة ملا تفضلتم به من ضرورة توفر الثقة بالنفس‬
‫والطموح‪ ،‬ال بد أن تتوفر لدينا اإلمكانات املادية‪ ،‬فنحن كما تعلم ينقصنا‬
‫املال و((التكنولوجيا)) املتطورة والضروف املعيشية واالجتماعية اليت تسمح‬
‫للباحث أن يتفرغ ألحباثه دون أن تستهلكه مشاكله ومهومه اخلاصة‪... )).‬‬
‫علق الدكتور إياد مؤكداً كالمه‪:‬‬
‫‪(( -‬هذا حق‪ ...‬فاملشكلة املادية و((التكنولوجية)) قائمة فعالً‪ ،‬لكنها‬
‫ليست مستحيلة احلل‪ .‬فمعاهد األحباث الدولية املهتمة بأحباث السرطان‪،‬‬
‫تفتح أبواهبا لكل باحث بغض النظر عن لونه أو عرقه أو انتمائه‪ ،‬ألن‬
‫مشكلة السرطان مشكلة إنسانية وليست مشكلة إقليلمة‪ ..‬إهنا هتم البشرية‬
‫مجعاء‪)).‬‬
‫رفع ((سعد)) يده مستأذنا االشرتاك باملناقشة‪ ،‬وهو طالب متفوق يُعرف يف‬
‫الكلية حبث النقاش اجلاد واحلوار اهلادف‪ ،‬فأجابه الدكتور إياد إىل طلبه‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪-‬تفضل يا ((سعد))‪ ..‬يسرين أن تشاركنا النقاش‪...‬‬
‫قال سعاد بنرات قوية وهو يشري بيده إىل شئ ما‪:‬‬
‫‪-‬على احلكومات يف بالدنا أن تتبىن املواهب العلمية‪ ،‬وتدعمها بال حدود‬
‫بغض النظر عن اجتاهاهتا ومذاهبها‪ ،‬وعوضاً عن صف املبالغ الطائل من‬
‫أجل ترفيه املواطن وتسليته‪ ،‬جيب أن يبذل اجلزء األكرب منها لبنائه وتطوير‬
‫قدراته ومواهبة‪.‬‬
‫أكد الدكتور كالمه بلهجة أكثر قوًة وحزماً‪:‬‬
‫‪-‬احلكومات واهليئات العلمية واالجتماعية‪ ،‬والشخصيات املقتدرة الغنية‪..‬‬
‫كل أولئك يتوجب عليهم ذلك‪.‬‬
‫مث ابتسم ابتسامة فيها شئ من االمتعاض‪ ،‬وقال بلهجة آسفة‪:‬‬
‫‪-‬خطأ كبري أن ال نأخذ من حضارة اليوم إال القشور ‪!!!..‬‬
‫هتف شاب امسه ((عرفان)) وقد أنساه التفاعل مع النقاش نفسه فلم يطلب‬
‫اإلذن بالكالم‪:‬‬
‫‪-‬واحلل؟؟؟‪...‬‬
‫أجاب الدكتور إياد‪ ،‬وقد تفهم سبب هذا التجاوز لقواعد النقاش اليت يصر‬
‫عليها دائما‪:‬‬
‫‪-‬احلل يا عرفان أن حناول‪ ..‬أن نبدأ‪ ،‬والطريق مهما طال يبدأ خبطوة‪ .‬أنا‬
‫ال أملك إال الكلمات‪ ،‬وشئ آخر استطيعه‪...‬‬
‫وجم اجلميع بانتظار ما سيقوله الدكتور إياد الذي تقدم من عصام ووضع‬
‫يده على كتفه يف ود وقال‪:‬‬
‫أنا مستعد لتقدمي الدعم املادي والعلمي واألديب لكل طالب يريد أن يشق‬
‫طريق البحث الطيب ال سيما يف أحباث السرطان‪ .‬عليه فقط أن يعلمين‬
‫باستعداده لذلك‪ ،‬وأنا سأتصرف‪...‬‬
‫وضج املدرج بعاصفة من التصفيق احلار‪ ،‬وسرت فيه مهسات اإلعجاب‬
‫والتقدير هلذه املبادرة السخية‪.‬‬
‫كانت كل العيون ترمق الدكتور إياد حبب وإكبار‪ ،‬ألنه جيسد مثاالً وضيئاً‬
‫لرجال األمة املؤهلني لصنع غدها املأمول‪ ،‬إال عينني واسعتني لفتاة مجيلة‬
‫هي ((سامية)) ابنة الدكتور ((إياد)) إذ كانت ترقب عصاماً وقد فهمت‬
‫مغزى هذه املبادرة اليت أعلنها أبوها‪ ،‬فقد حدثها فيما مضى كثرياً عن‬
‫إعجابه هبذا الشاب الذكي الطموح‪ ...‬أما عصام فقد أدرك من كالم‬
‫الدكتور إياد ونظراته أنه يقصده هبذا التبين العلمي الكرمي‪ ،‬فانفعلت نفسه‬
‫هلذا االهتمام وملعت عيناه بدموع التأثر والوفاء‪..‬‬
‫ال يدري عصام ملاذا تذكر يف تلك اللحضات أباه؟‪!..‬‬
‫لعل الدكتور إياد استطاع أن حيتل يف أعماقه مكان والده الراحل‪!!..‬‬
‫***‬

‫الـفـصــل الثالث‬
‫‪-‬الكلية كلها تتحدث عن مبادرة ِ‬
‫أبيك اليت وعد فيها بتبين املواهب‬
‫العلمية‪ .‬يقولون بأنه كان يقصد عصاماً بعرضه‪..‬‬
‫أجابت سامية يف محاس‪:‬‬
‫‪-‬هذا صحيح‪ ..‬فوالدي حيبه جدا‪ ،‬ويرى فيه شاباً نادراً بذكائه ونبوغه‬
‫وطموحه‪.‬‬
‫سألتها ((مىن)) وهي ترميها بنظرة ماكرة‪:‬‬
‫‪-‬وأنت؟‪ ..‬وماذا ترين فيه؟‪..‬‬
‫‪-‬أنا؟‪..‬‬
‫علي يا عزيزيت‪...‬‬
‫أجل أنت‪ ..‬إن اهتمامك بعصام ال خيفي ًّ‬
‫‪-‬أنت تتومهني‪.‬‬
‫إن عصاماً من النوع الذي‬ ‫‪-‬سامية ال تراوغي معي‪ ،‬فأنا أرفك جيداً‪ًّ ،‬‬
‫يستهويك‪ ،‬فهو شاب هادئ‪ ..‬مؤدب‪ ..‬متفوق‪ ..‬وسيم‪ ..‬وذو شخصية‬
‫آسرة‪...‬‬
‫قالت سامية يف حزم‪:‬‬
‫(( ‪-‬مىن))‪ ..‬ال تطرقي أمامي هذه األحاديث‪ .‬احتفظي مبالحظاتك‬
‫لنفسك‪.‬‬
‫ضحكت مىن وقالت‪:‬‬
‫‪-‬ال داعي للغضب‪ ...‬اعتربي كالمي مزاحاً‪...‬‬
‫‪-‬لكنه مزاح ثقيل ال أحبه‪.‬‬
‫‪-‬حسناً‪ ..‬حسناً‪ ..‬كما تريدين‪.‬‬
‫قالت سامية يف ضيق حماولة إهناء احلديث‪:‬‬
‫‪-‬هيا بنا اآلن‪ ،‬فقد اقرتب موعد احملاضرة‪...‬‬
‫مث مضت بصحبة ((مىن)) غاضبة‪ ،‬غارقة يف خواطرها ‪...‬‬
‫هذه الفتاة املزعجة مل تعد تروق هلا‪ ،‬لكنها تضطر جملاملتها أحياناً وفاء‬
‫لذكريات قدمية‪ ..‬إذ أهنا الوحيدة من بني زميالهتا يف املدرسة اليت دخلت‬
‫معها كلية الطب‪ ،‬فنشأت بينهما صداقة قوية يف البداية لكن ((مىن)) ما‬
‫لبثت أن اجنرفت مع تيار االحنالل الذي اجتاح اجلامعة يف السنوات‬
‫األخرية‪ ،‬وكانت بداية انزالقها رحلة جامعة تعرفت خالهلا (( بصفوان))‬
‫الذي سحرها بثرائه الواسع ومظهره الباذخ وكالمه املعسول ففتنت به‬
‫وانساقت وراءه وكأهنا تعوض من خالله عن حرماهنا من مباعج احلياة اليت‬
‫مل تتمكن عائلتها الفقرية أن توفرها هلا‪ ،‬فاستغل ((صفوان)) نقاط ضعفها‬
‫واستدرجها إىل حياته العابثة الفاجرة‪ .‬وحاولت سامية إنقاذ صديقتها‪،‬‬
‫فحذرهتا من ((صفوان)) وأالعيبه املاكرة‪ ،‬لكنها مل تلق باالً لنصائحها‪،‬‬
‫وأمعنت يف سلوكها اجلديد‪ ،‬فرتاجعت عالقتهما حىت أخذ شكل اجملاملة‬
‫الباردة تضطرمها إليها ظروف احلياة اجلامعية‪.‬‬
‫إن ما يزعج ((سامية)) حقاً أن ((مىن)) قد الحظت اهتمامها بـ((عصام))‪،‬‬
‫لكن!‪ ..‬مىت كانت تعبأ مبالحظة فتاة مستهرتة كهذه؟‪ ..‬إهنا فتاة واثقة‬ ‫ّ‬
‫خيرس كل األلسنة‬
‫بنفسها‪ ،‬وحسبها سلوكها اجلامعي النظيف الذي سوف ُ‬
‫اليت قد حتاول االصطياد يف املاء العكر‪...‬‬
‫إهنا مل ترتكسب خطأ إذ اهتمت بـ((عصام)) فهو شاب متميز فعال‬
‫لشد ما جيذهبا هدوؤه اآلسر‪ ،‬وهذا الربيق العجيب‬ ‫بشخصيته وسلوكه‪َّ ..‬‬
‫الذي يلوح يف عينيه‪ ..‬إهنا حتس فيه ذكاءه املتَّـقـد وقد امتزج يف نظراته بكآبة‬
‫عميقة حتكي قصة حزن قدمي‪.‬‬
‫لقد كان اجلميع أمس يصغون إىل أبيها وهو يديل بأفكاره ويناقش طالبه‪،‬‬
‫أما هي فقد كانت شاردة اللب‪ ،‬مشغولة الفؤاد تفكر يف ((عصام))وتبحث‬
‫عن مفتاح شخصيته الذي تدخل به إىل قلبه وعقله‪.‬‬
‫إهنا فتاة ناضجة تضج حيوية وأنوثة‪ ،‬لكنها ترفض االبتذال‪ ،‬وتكره أن تلفت‬
‫نظر من تتمناه باألساليب الرخيصة اليت تلجأ إليها الكثريات‪ ،‬كما أهنا ال‬
‫ترضى أن تتزوج من أي شاب يطرق باهبا‪ ،‬ألهنا ترى يف األسرة مؤسسة‬
‫خطرية ينبغي أن ال متنح إدارهتا ألي كان‪ ...‬هإهنا حتلم برجل يناسب‬
‫تطلعاهتا‪ ،‬وتلتقي معه يف فهمه للحياة‪.‬‬
‫(( ‪-‬ترى كيف ينظر عصام للحياة؟‪ ..‬وما هو تصوره للحياة الزوجية؟‪ ..‬مث‬
‫ما هي الشروط اليت يطلبها يف زوجته؟‪ ..‬إين أالحظ يف عينيه اهتماماً خاصاً‬
‫يب‪ ،‬ولكن‪ ..‬أال ميكن أن يكون مبعث ذلك هو احرتامه لوالدي وحبه له؟‪..‬‬
‫ليتين أدرك ما يفكر فيه‪ ،‬ولكن كيف؟‪..)).‬‬
‫ترددت هذه األسئلة يف خاطرها بإحلاح‪.‬‬
‫لقد علّمها والدها أن البيت السعيد هو البيت الذي يديره الرجل القوي‬
‫األمني وتعمره املرأة املخلصة باحلب واحلنان لينشأ األطفال يف ظالله نشأة‬
‫سليمة‪ ..‬متوازين الشخصية‪ ..‬أقوياء النفس واجلسد‪ ..‬أنقياء الضمري‪...‬‬
‫(( ‪-‬األطفال!‪ ..‬ما أروع األطفال‪!..)).‬‬
‫هكذا رددت سامية يف نفسها‪ ،‬ففي أعماقها غريزة أمومة جارفة ال تدري‬
‫مىت سيكتب هلا اإلرتواء‪ ،‬ويف صدرها طاقة هائلة من احلب واحلنان تريد أن‬
‫تنبثق‪ ..‬لكم تتمىن أن تصبح أما لتحضن أطفاهلا‪ ..‬لتضمهم حتت جناحها‪،‬‬
‫يتبوؤون‬
‫وتسبغ عليهم من عطفها وحناهنا وتصنع منهم رجاالً ونساء َّ‬
‫مكانتهم الرفيعة بني الناس‪...‬‬
‫وانتبهت سامية إىل قدوم ((صفوان)) باجتاههما‪ ،‬فشعرت حنوه باالمشئزاز‪،‬‬
‫فأستأذنت ((مىن)) وانصرفت جتنباً هلذا الشاب املتعجرف السخيف الذي‬
‫يرميها دائماً بنظرات مستعلية تنطق باهلزء والتحدي ال سيما بعد أن علم‬
‫من صديقته ((مىن)) رأيها فيه‪.‬‬
‫ويف طريقها صادفت ((عصاماً)) وهو يتحدث مع صديقه ((سعد)) ومسعته‬
‫يقول يف محاس‪:‬‬
‫‪-‬الطب مسؤولية وأمانة‪...‬‬
‫فتساءلت يف أعماقها‪:‬‬
‫‪-‬أين الثرى من الثريا؟‪!..‬‬
‫***‬

‫الفصل الرابع‬
‫الليل ساج‪ ..‬واهلدوء يرمي بثقله على كل شئ‪ ،‬ال يقطعه إال حفيف أوراق‬
‫الشجر اليابسة‪ ،‬حتركها نسائم اخلريف اليت بدأت تتسلل إىل غرفة عصام‪،‬‬
‫وقد فتح نافذهتا‪ ،‬ليطرد رائحة املواد الكيماوية اليت تراكمت يف جوها‪ ،‬واليت‬
‫كان يستعملها يف تلوين بعض احملضرات الطبية حىت يتمكن من متييز‬
‫معاملها التشرحيية الدقيقة حتت اجملهر‪.‬‬
‫وجذبته رائحة اخلريف‪ ،‬فتقدم من النافذة وراح يتأمل منظر احلديقة الكئيب‪،‬‬
‫وقد تعرت أشجارها إال شجرة من الورد ظلّت حمتفظة خبضرهتا الزاهية تتيه‬
‫ببضع براعم مجيلة قد انتصبت يف خيالء تتحدى الربد والريح‪ ،‬وتعطر اجلو‬
‫بأرجيها الطيب‪...‬‬
‫وأغراه قرهبا بقطف أحد براعمها‪ ،‬فتطاول جبسمه‪ ،‬وم ّده إىل أقصى ما‬
‫يستطيع‪ ،‬فالتقطت أنامله ساق الربعم‪ ،‬فعاجله حماوال قطفه‪ ،‬فانفصل عن‬
‫أمه بصعوبة‪ ،‬بعد أن أدمت إحدى أشواكه إهبامه األمين‪.‬‬
‫ارتد عصام إىل اخللف‪ ،‬وراح يستنشق راحة الربعم الزكية‪ ..‬لكم يفتنه منظر‬
‫الورد‪ ..‬إنه يبعث يف نفسه سعادة غامرة وحيرك يف صدره أشواقاً ال يدري‬
‫كنهها‪ ..‬أحياناً حيس وكأن الوجود قد‬
‫طوي يف ميينه‪ ،‬لكن هذه اللحظات اجلميلة سرعان ما تتسرب من نفسه‪،‬‬
‫لتلح عليه مهومه الكربى‪.‬‬
‫وندت عن اجلرح ومضة أمل خفيفة‪ ،‬فنظر إىل قطرة الدم اليت جتمدت على‬
‫مر خباطره شريط سريع ختيل فيه كل التفاعالت احليوية اليت‬‫فوهته‪ ،‬وقد ّ‬
‫حدثت داخل هذه القطرة الصغرية من الدم حىت ختثرت لتشكل سدادة‬
‫دموية متنع استمرار النزيف‪.‬‬
‫(( ‪-‬سبحان اهلل‪))...‬‬
‫قاهلا عصام وهو يتجه إىل صيدليته ليعاجل جرحه الصغري‪ ،‬مث مضى إىل‬
‫الغرفة اجملاورة فصب كأساً من املاء وغرس فيه ساق الربعم‪ ،‬ووضعه على‬
‫منضدته‪ ،‬مث اسرتخى على كرسيه وراح يتأمل برعم الورد الذي تألق مزهوا‬
‫بني أكداس من الكتب واألوراق‪.‬‬
‫وبعد حلظات من التأمل تناول عصام كراسة أنيقة تضم حماضرات الدكتور‬
‫إياد‪ ،‬لرياجع حماضرة اليوم قبل أن ينام‪ .‬لقد كانت حماضرة ممتعة حقاً‪ ،‬وأمتع‬
‫ما فيها كالم الدكتور الذي يف نفسه ينابيع الطموح‪ ،‬وفتح أمامه آفاقاً‬
‫جديدة بلور من خالهلا تطلعاته إىل املستقبل‪ .‬إن االهتمام مبرض السرطان‬
‫يسيطر عليه‪ ...‬هذا املرض اللغز الذي يتحدى فضوله‪ ،‬ويدفعه ملنازلته بكل‬
‫ما‬
‫أويت من علم وعزم وتصميم‪ .‬لقد استقرت يف فكره قناعة ثابتة بأن طريقه‬
‫إىل جمده الذي حيلم به‪ ،‬ال بد أن مير على أشالء هذا املرض الفتّاك‪!.‬‬
‫إن كلمات الدكتور إياد ال تزال تدوي يف أعماقه‪...‬‬
‫(( ‪-‬حقاً ملاذا ال يفكر شبابنا وأطباؤنا أن يشاركوا يف صنع حضارة اليوم‬
‫بدالً من استريادها من الشرق والغرب‪ .‬صحيح أنه جيب علينا تقبل كل‬
‫جديد مفيد‪ ،‬ألن املعرفة ليست مقيدة جبنس أو قوم أو مذهب وألهنا تراث‬
‫إنساين لكل البشر‪ ،‬لكننا يف الوقت نفسه جيب أال نلغي عقولنا وجنمدها‬
‫ليفكر لنا اآلخرون‪..)).‬‬
‫إن عصاماً يشعر اآلن بأن اكتشاف عالج هذا املرض العضال بات أمانة‬
‫يف عنقه محلته إياها البشرية بأكملها‪:‬‬
‫‪(( -‬آه‪ ..‬املشهد املأساوي الباكي يتكرر كل يوم‪ ..‬مريض مصاب‬
‫بالسرطان‪ ..‬والسرطان ينمو ويكرب‪ ..‬اآلالم تشتد‪ ،‬واحلياة تذوي يف جسد‬
‫املريض املسكني رويداً رويداً‪ ..‬أما أعني أهله وأحبائه وأطبائه الذين ال‬
‫ميلكون له أكثر من املهدئات واملسكنات‪ ،‬وكلمات التربير واملواساة اليت‬
‫تنضح بالعجز عن اإلنقاذ‪ ..‬كلمة هذه لكم أكرهها على الرغم من أهنا‬
‫أوضح من كل احلقائق اليت توصل إليها الطب احلديث لكنها أقسى‬
‫احلقائق‬
‫على اإلطالق!‪ ..‬جيب أن حناول‪ ..‬ال بد من احملاولة حىت تتم السيطرة على‬
‫هذا الداء‪))...‬‬
‫وأفاق عصام من خواطره مستجيباً لشحنة من النشاط اليت دبت يف عروقه‬
‫فراح يقرأ احملاضرة بإمعان‪..‬‬
‫وانتبه على طرق خفيف على الباب‪:‬‬
‫‪ّ -‬أماه!‪ ..‬أما زلت ساهرة بعد؟‪!..‬‬
‫مث ابتسم ألمه‪ ،‬اليت أطلت بوجهها السمح ومستها اهلادئ‪ ،‬وهي حتمل‬
‫فنجان الشاي وقد تصاعد منه خبار كثيف استثار شهيته‪.‬‬
‫قال عصام وهو يتناول فنجانه‪:‬‬
‫‪-‬أماه أنت دائماً تزعجني نفسك من أجلي‪ .‬شكراً لك يا أحلى أم يف‬
‫الدنيا‪ ..‬ما أريد إال راحتك ورضاك‪..‬‬
‫كفني ضارعني‪:‬‬ ‫هتفت األم وهي ترفع إىل السماء َّ‬
‫‪-‬اهلل يرضى عليك يا ابين عدد أوراق الشجر وحبات املطر‪...‬‬
‫‪-‬ما أحاله من دعاء‪ ..‬سرتين مين إن شاء اهلل كل ما يسرك‪...‬‬
‫‪-‬إن سروري ال يتم إال بسرورك‪ ،‬وشئ آخر ستكتمل به‬
‫فرحيت‪..‬‬
‫((حزورة)) طريفة‪:‬‬
‫هتف عصام وكأنه جييب على ُّ‬
‫التخرج؟‪ ...‬أليس كذلك؟‪..‬‬
‫‪-‬لقد حزرت‪ُّ ..‬‬
‫قالت األم وهي تلملم الكتب اليت كانت مبعثرة فوق السرير‪:‬‬
‫لست بالذي حيلم بالتخرج يا بين‪ ،‬فهو شئ مضمون إن شاء اهلل وما‬
‫‪َ -‬‬
‫إيل البشرى بتخرجك‪ ،‬لكن ما أقصده هو‬ ‫هي َّاال أشهر حىت تدخل تزف َّ‬
‫بنت احلالل‪ ،‬هل فهمت اآلن؟‪..‬‬
‫((بنت احلالل‪ ..‬آه‪ ..‬لقد وضعت يدك على اجلرح يا ماما‪!!)).‬‬
‫بذلك ح ّدث عصام نفسه بعد أن هزت أمه بكلماته أدق وتر يف وجدانه‬
‫ليعزف حلن احلرمان‪ ،‬وقفز إىل خياله طيف ((سامية)) فاضطرب فؤاده‪..‬‬
‫لكم تشده هذه الفتاة إليها جبماهلا الوادع وشخصيتها القوية‪ ،‬وهي فوق‬
‫ذلك ابنة األستاذ الذي حيبه وحيرتمه‪ ،‬وال بد أن البنت قد ورثت عن أبيها‬
‫الكثري من طباعه وأخالقه النبيلة‪ ،‬غري أن ((سامية)) كانت قد دخلت قلبه‬
‫منذ زمن بعيد‪..‬‬
‫حدث ذلك حني مسع طرفاً من حديثها مع صديقتها ((مىن ))‬
‫بعد إحدى اجللسات‪ ،‬فبعد أن خرج الطلبة من اجللسة العملية‪ ،‬اضطر‬
‫عصام للعودة‪ ،‬ليتفقد قلمه‪ ،‬فاسرتعى انتباهه حديث يدور بني فتاتني ومل‬
‫تكن كلتامها قد شعرتا بدخوله لوجود حواجز من الزجاج األبيض الشفاف‬
‫تفصل بني املناضد اليت ُجترى عليها التجارب‪ .‬وبعد أن يئس عصام من‬
‫هم باخلروج إالَّ أن طرافة احلديث استوقفته‪ ،‬فأصاخ‬
‫العثور على قلمه الضاع ّ‬
‫السمح بانتباه شديد‪...‬‬
‫كانت سامية تقول لصديقتها ((مىن)) يف حزم أوحى له بقوة شخصيتها‪:‬‬
‫‪-‬مىن‪ ..‬هل تريدين رأيي؟‪ ..‬إن صفوان هذا خيدعك‪ ..‬إن يستغل براءتك‬
‫وطيبة قلبك ليغرر بك‪ ..‬إنه يلعب بعواطفك يا عزيزيت‪ ،‬وستجدين أن‬
‫كلماته زيف وعواطفه سراب يف صحراء من الغش والنفاق‪..‬‬
‫قالت ((مىن)) تدافع عن ((صفوان)) الذي استحوذ على قلبها وعقلها‪:‬‬
‫‪-‬سامية‪ ..‬إنّك تظلمينه هبذا الكال‪..‬‬
‫‪-‬أبداً لست باليت تظلم اآلخرين‪.‬‬
‫‪-‬لكنك تبالغني‪...‬‬
‫‪-‬بل هي احلقيقة مبرارهتا أضعها بني يديك ما أريد هبا إال النصيحة أبذهلا‬
‫لك كصديقة‪...‬‬
‫‪-‬لكين أحبه‪...‬‬
‫‪-‬وما قيمة احلب إذا مل يوجهه العقل ويكبح مجاحه؟‪!...‬‬
‫‪-‬وأثق به‪...‬‬
‫‪-‬ما الذي أوحى لك هبذه الثقة؟‪!..‬‬
‫‪-‬كلماته‪ ...‬نظراته‪ ...‬كل شئ ‪ ...‬كل شئ‪...‬‬
‫قالت سامية وقد نفذ صربها‪:‬‬
‫‪-‬مىن؟ هل أنت إىل هذا احلد من السذاجة حبيث تثقني بشاب ال تعرفني‬
‫عنه أكثر من امسه ولون بدلته و ((موديل)) سيارته‪ ...‬هل تصدقني؟‪ ..‬لقد‬
‫مسعت عنه كل ما يعيب‪ ..‬فكيف ترضني بالذهاب إىل ((شقة)) شاب‬
‫تدور حول سلوكه الشبهات حبجة الدراسة واملذاكرة؟‬
‫أجابت ((مىن)) متهربة‪:‬‬
‫‪-‬اجلو يف بيتنا ال يساعدين على الدراسة‪.‬‬
‫‪-‬تعايل فذاكري عندي‪ ..‬سأفتح لك بييت وقليب‪..‬‬
‫‪-‬لكين وعدته‪..‬‬
‫‪-‬اعتذري له‪..‬‬
‫‪-‬سيؤمله اعتذاري‪..‬‬
‫قالت سامية يف ثقة وهي تضغط على خمارج احلروف‪:‬‬
‫‪-‬بل سيتضاهر بالتأمل العتذارك إمعاناً يف استدراجك‪.‬‬
‫‪-‬هذا رأيك‪..‬‬
‫‪-‬لقد جردك هذا الفىت من إرادتك‪!..‬‬
‫‪-‬أنا واثقة بنفسي‪.‬‬
‫‪-‬أنت واثقة بعواطفك وأهوائك‪ ..‬أما نفسك فسوف ختونك حتت إغراء‬
‫اخللوة حيث تستيقظ الغرائز ويعربد الشيطان‪..‬‬
‫‪-‬أنا أقوى من الشيطان‪..‬‬
‫قالت سامية وقد أحس عصام أهنا تتأهب للفراق‪:‬‬
‫‪-‬أمتىن ذلك من كل قليب‪ ،‬ولكين أخشى أن يهزأ مبشاعرك ويستغل‬
‫عواطفك ليحقق عن طريقها مآرب مريضة تسئ لسمعتك وهتدد‬
‫مستقبلك‪ ..‬ومثة حقيقة أخرى أود أن ألفت انتباهك إليها‪..‬‬
‫سألت ((مىن)) يف فتور ساخر‪:‬‬
‫‪-‬وهي ؟‪..‬‬
‫‪-‬هي أن والده من األغنياء أصحاب النفوذ يف البلد‪ ،‬وسوف خيرج ابنه من‬
‫أي ورطة كانت كما خترج الشعرة من العجني إن مل يكن من أجل ابنه فمن‬
‫أجل مسعته ومركزه‪ .‬لقد حذرتك يا عزيزيت فاحرتسي من عواطفك أن تقودك‬
‫إىل ما ال حتمد عقباه‪ ..‬واآلن وداعا‪...‬‬
‫عندما خرجت سامية رآها عصام فطبعت صورهتا يف قلبه‪ ..‬لقد أعجب‬
‫مبنطقها الواعي‪ ،‬وأخالقها الرفيعه‪ ،‬وحرصها على اآلخرين‪ ،‬وملا رآها ازداد‬
‫إعجابه هبذه الفتاة اليت مجعت يف شخصيتها الكثري من الصفات الرائعة‬
‫العظيمة‪..‬‬
‫وأحل عليه الفضول فسأل عنها –ومل يكن يعرفها آنذاك‪ -‬فأجيب‪ (( :‬أن‬
‫هذه الفتاة تدعى ((سامية إياد عزت)) وهي ابنة الدكتور ((إياد عزت))‬
‫رئيس قسم ((التشريح املرضي)) يف الكلية وعندما تعرف على الدكتور‬
‫((إياد)) من خالل حماضراته الشيقة وأحاديثه العميقة أعجب بشخصيته‬
‫الفذة‪ ،‬ورأى فيه مثاالً حيتذى‪ ،‬فاندفع لالهتمام بسامية أكثر‪ ،‬والتفكري هبا‬
‫كزوجة وشريكة حياة‪.‬‬
‫إن حبه الطاهر ينمو ويكرب مع األيام‪ ،‬لكنه يكتمه عن اآلخرين ألنه يؤمن‬
‫بأن املكان الطبيعي هلذه العاطفة الفطرية النبيلة ال يكون إال يف ظالل الزواج‬
‫وهو ال يفكر باإلقدام على هذه اخلطوة قبل التخرج‪ ،‬وتن ّد عن القلب آهات‬
‫فيخفيها عن أمه‪ ،‬وهي املسكينة اليت قسم هلا القدر من اهلموم ما يكفيها‬
‫منذ أن فجعت بزوجها الفقيد‪.‬‬
‫وأيقظ عصاماً من شروده صوت كتاب سقط على األرض من بني جمموعة‬
‫الكتب‪ ،‬كانت حتملها أمه لتعيدها إىل مكاهنا يف املكتبة‪..‬‬
‫‪-‬أماه‪ ..‬أرجوك ال تتعيب نفسك برتتيب املكتبة‪ ،‬بودي لو تنامني‪.‬‬
‫قالت األم مازحة وهي ترمي ابنها بنظرات تصنعت فيها العتاب ‪:‬‬
‫‪-‬هل مللت مين؟‬
‫هتف عصام وقد متلكه شعور بالذنب‪:‬‬
‫‪-‬معاذ اهلل‪ ..‬ما أريد إال راحتك‪ ،‬فأنت ال تفرتين عن احلركة طوال النهار‪.‬‬
‫‪-‬هل مسعت بإنسان ينام وعيناه ساهرتان؟!‪ ..‬أنت عيناي اللتان أبصر‬
‫هبما فال أستطيع النوم حىت أطمئن عليك‪ ،‬ولن أترك هذه العادى حىت‬
‫أزفك إىل عروسك‪.‬‬
‫قال عصام وهو يستسلم أمام عناد أمه‪:‬‬
‫يدي ألنام‪.‬‬
‫‪-‬من أجل عينيك يا ((ماما)) سأترك كل شئ بني ّ‬
‫أنه عملك كما تراه مناسباً ريثما أغسل بعض‬ ‫‪-‬خذ راحتك يا بين‪ ،‬و ِ‬
‫األواين مث أنام‪ .‬تصبح على خري‪..‬‬
‫‪-‬وأنت من أهله‪.‬‬
‫عندما نام عصام كان طيف أمه وطيف سامية آخر ما ودع من أطياف‬
‫احلياة‪.‬‬
‫***‬

‫الفصل اخلامس‬
‫عندما وصل عصام إىل مكتب الدكتور إياد يف الطابق الثالث من مبىن كلية‬
‫الطب‪ ،‬توقف حلظة ريثما تأكد من سالمة هندامه‪ ،‬مث طرق الباب طرقاً‬
‫خفيفاً‪ ،‬وقف ينتظر اإلذن بالدخول‪..‬‬
‫وأطل من وراء الباب وجه مجيل اضطرب له فؤاده‪ ،‬وأطاح هبدوئه فراحت‬
‫الكلمات تتلعثم على شفتيه‪:‬‬
‫(( ‪-‬صـ ‪ ..‬صباح اخلري))‪ ..‬الدكتور إياد موجود؟‪..‬‬
‫مل تكن سامية أكثر متاسكا‪ ،‬فقد امحرت وجنتاها‪ ،‬ورمشت عيناها‪ ،‬وقالت‬
‫هي تغض طرفها يف حياء‪:‬‬
‫(( ‪-‬صباح النور )) ‪ ..‬حلضات ويأيت‪...‬‬
‫‪-‬أعتقد أن لديه ساعة فراغ‪...‬‬
‫‪-‬هذا صحيح‪ ..‬إنه على وشك الوصول‪.‬‬
‫‪-‬حسناً‪ ..‬سأعود بعد دقائق‪.‬‬
‫واستدار عصام يريد أن ميضي لكنه رأى الدكتور إياد قادماً فتوقف‬
‫بانتظاره‪ ..‬ومضت حلضات قليلة ريثما وصل الدكتور إىل مكتبه قاطعاً املمر‬
‫الطويل‪ ،‬فصافح عصاماً حبرارة مث قال مرحباً وهو جيلس وراء مكتبه‪:‬‬
‫‪-‬أهال بك يا بين‪ ..‬خطوة عزيزة‪...‬‬
‫خبطى أثقلها اإلحرتام‪:‬‬
‫قال عصام وهو يتقدم ً‬
‫لديك متسع من الوقت للحديث‪..‬‬ ‫‪-‬أرجو أن يكون َ‬
‫‪-‬الوقت ج ّد مناسب‪ ..‬فلدي اآلن ساعة من الفراغ‪.‬‬
‫‪-‬من حسن حظي أن ال أجد لديك مشاغل أخرى‪...‬‬
‫قال الدكتور إياد وهو يشري إىل عصام وسامية باجللوس‪:‬‬
‫(( ‪-‬يف احلقيقة يا عصام املشاغل ال تنتهي‪ ..‬فالواجبات أكثر من األوقات‬
‫كما يقولون‪ ،‬لكن هناك أولويات‪ ..‬أريد أن أقول لك شيئاً‪ :‬أنا ضد هذه‬
‫اهلوة اليت تفصل بني الطالب واألستاذ يف بالدنا‪ ،‬فاألستاذ ‪ -‬يف رأيي –‬
‫جيب أن يكون أكثر من مدرس الختصاص ما‪ ..‬جيب أن يكون أباً لطالبه‪،‬‬
‫وصديقاً وتلميذاً يف بعض األحيان‪)).‬‬
‫رفع عصام حاجبيه دهشة‪ ،‬فسارع الدكتور إياد إىل تبديد دهشته‪:‬‬
‫(( ‪-‬ال تستغرب كالمي‪ ..‬هذا ليس تواضعاً‪ ،‬ولكنه حقيقة‪ ..‬أنا مثالً‬
‫أخصائي يف ((علم التشريح املرضي)) ولكنك –أنت أو غريك‪ -‬أعلم مين‬
‫وعلي أن أتقبل منك معارفك بنفسيه‬ ‫يف جماالت أخرى خارج اختصاصي‪ّ .‬‬
‫التلميذ الذي يطلب العلم ويسعى إليه‪ ..‬إننا –يف احلقيقة‪ -‬مجيعاً تالميذ‬
‫نغرف من حبر املعرفة الزاخر الذي ال ينتهي‪ ،‬وسنظل عطشى مهما ابتغينا‬
‫اإلرتواء‪ ،‬ومهما أوغلنا فيه فسنجد أنفسنا ما زلنا على الشطآن‪..‬‬
‫مث قال وهو يهز رأسه يف أسف‪:‬‬
‫‪-‬يؤسفين أن ال يوجد يف بالدنا ذلك التفاعل االجتماعي والثقايف بني‬
‫الطالب واألستاذ‪ ..‬اجلامعة يا عصام مؤسسة علمية وثقافية وسياسية يف آن‬
‫واحد‪ ..‬مؤسسة خطرية‪ ،‬هلا دورها الكبري‪ ،‬وأثرها الفاعل يف اجملتمع‪ ..‬وعن‬
‫طريقها تتقدم األمة ويقوم بناؤها احلضاري املنشود‪ ،‬لكنك يف جامعاتنا تقرأ‬
‫معامل ختلفنا البغيض‪ .‬إننا ال ننظر إىل اجلامعة أكثر من أهنا مرحلة زمنية‪..‬‬
‫مرحلة ما بعد الشهادة الثانوية وما قبل العمل واالستقرار‪ .‬لألسف الشديد‬
‫حنن نشكون من عقد كثرية حتبط كل حماوالت النهوض‪ ،‬ال تؤاخذين يا بين‬
‫إذا أطلت‪..‬‬
‫بودي لو أمسع املزيد‪...‬‬
‫‪-‬أبداً‪ ..‬أبداً‪ّ ..‬‬
‫‪-‬إهنا مهومنا اليومية اليت ال مناص لنا من تداوهلا‪ ،‬والطب علّمنا أن العالج‬
‫الصحيح جيب أن يسبقه تشخي دقيق‪ ،‬لذلك فأنا أحاول دائماً أن‬
‫أشخ أمراضنا اإلجتماعية‪ .‬واآلن ماذا وراءك يا عصام‪ ..‬كنت أتوقع‬
‫جميئك‪.‬‬
‫تشعان حباً وإعجاباً‪:‬‬
‫أجاب عصام وهو يرنو إىل أستاذه بعينني ّ‬
‫‪-‬أستاذ‪ ..‬ال أدري ماذا أقول لك‪ ،‬وال من أين أبدأ‪ ..‬إنين يف صراحة‬
‫شديدة معجب بآرائك ومواقفك‪ ،‬وكلما استمعت إىل حماضراتك أو‬
‫جلست إليك‪ ،‬حتركت يف أعماقي طاقة هائلة من اهلمة والتحفز والنشاط‬
‫والطموح ال أعرف كيف أوجهها‪!.‬‬
‫لقد كانت حماضراتك املاضيةحمل تفكري عميق مين‪ ،‬وكان ملبادرتك الكرمية‬
‫بتبين الطاقات العلمية أكرب األثر يف نفسي‪ ،‬وها أناذا أطلب أبوتك العلمية‪،‬‬
‫راجيا منك أن تصنعين كما تريد‪ ،‬فإين نذرت نفسي للطب‪ ،‬وبالتحديد‬
‫ملشكلة السرطان‪.‬‬
‫اهتز الدكتور إياد لكلمات عصام ورأى فيه بارقة أمل تبشر‬
‫بوالدة فجر جديد‪ ..‬فجر عظيم لطاملا انتظره وحلم به‪..‬‬
‫‪-‬لو كان شبابنا كلهم من هذا الطراز‪ ،‬إذا لطوينا حياة التخلف والتمزق‬
‫واالهنيار اليت حنياها‪ ،‬وحرقنا املراحل يف طريقنا إىل املستقبل الذي نتطلق إليه‬
‫واستعدنا مكانتنا املرموقة حتت الشمس‪ ،‬ولكن ‪ ..‬آه‪...‬‬
‫فكر الدكتور إياد يف هذا وقد شبك يديه حتت ذقنه وعيناه تسبحان يف‬
‫تأمل عميق ‪...‬‬
‫أما عصام فقد كانت يده املبسوطة على املنضدة تعاين من اضطراب حركة‬
‫أصابعها وكأهنا تداري بذلك ارتباكه بينما راحت اليد الثانية تشد على حافة‬
‫الكرسي اجللدية‪ ،‬وقد رطبتها بالعرق من فرط اإلنفعال‪.‬‬
‫وكانت سامية تتأمل هذا املنظر املؤثر بإكبار‪ ،‬وترمق عصاماً بإعجاب‪ ..‬هذا‬
‫هو الشاب الذي حتلم به‪ ..‬هذا هو فارس أحالمها املنشود‪ ..‬لقد هتاوت‬
‫أمامه اآلن أسوار احلرية والرتدد اليت كانت قائمة يف قلبها إزاءه ليقتحمه‬
‫فيحتله إىل األبد‪...‬‬
‫قال الدكتور إياد بنربات قوية معربة بعد أن مضت حلضات من الصمت‬
‫احلافل باالنفعال‪:‬‬
‫لكين أملك أن أضع قدميك‬ ‫‪-‬امسع يا بين‪ ..‬قد ال أتقن صناعة الرجال‪ّ ،‬‬
‫على أول الطريق‪ ،‬وأوجه خطاك حنو القمة‪..‬‬
‫سأعطيك أول اخليط‪ ،‬وسأدعمك بكل ما أستطيع لتصنع نفسك‬
‫بنفسك‪ ..‬بالعزمية والتصميم‪ ..‬بالصرب والتعب‪ ..‬بالعمل املضين الدؤوب‪...‬‬
‫مث بعد صمت قصري‪:‬‬
‫‪-‬هل يل أن أعرف نبذة عن وضعك االجتماعي؟‪ ..‬إذا مسحت طبعا؟‪..‬‬
‫أجاب عصام وقد فاجأه السؤال‪:‬‬
‫‪-‬بكل سرور‪ ،‬ولكن امسح يل أن أوضح لك بأنين إمنا أريد الدعم العلمي‬
‫واألديب فحسب‪ ،‬أما املادة فهي متوفرة واحلمدهلل‪...‬‬
‫قال الدكتور إياد وهو حيرك يده حركة من يطلب الرتيث‪:‬‬
‫‪-‬حلظة من فضلك‪ ..‬لنكن صرحاء‪ ..‬إن الطريق الذي سوف تسلكه طريق‬
‫صعب طويل حيتاج لكل شئ‪ .‬وحنن مجيعاً إمنا نعمل لغاية عظيمة تتطلب‬
‫منّا أن نتجاوز الكثري من اعتباراتنا الشخصية حىت حنققها على الوجه‬
‫املطلوب‪ .‬وأنا عندما سألتك عن وضعك االجتماعي مل أقصد الوضع‬
‫املادي فحسب‪ ،‬بل طلبت بصورة عامة تشمل كل شئ يف حياتك‬
‫س أنين أستاذك يف اجلامعة‪...‬‬ ‫االجتماعية ميكنك أن تصارحين به‪ .‬لنن َ‬
‫اعتربين مبثابة والدك إذا مسحت؟‬
‫وشعرت سامية بأن وجودها قد يربكه فنهضت وقالت‪:‬‬
‫(( ‪-‬بابا)) هل تسمح يل باإلنصراف؟‬
‫لكن عصاماً قال بلهجة دلت على متسكه ببقائها‪:‬‬
‫‪-‬لعلك تريدين اإلنصراف ألجلي‪ ..‬أرجو أن جتلسي إن كان األمر‬
‫كذلك‪..‬‬
‫استسلمت سامية إلرادة عصام وقد نفذت كلماته إىل أعماقها‪ ،‬ففهمت‬
‫مراده حباسة األنثى‪ ..‬إنه يريدها بقربه‪ ..‬يريدها أن تسمع كالمه‪ ...‬أن‬
‫تعرف عنه كل شئ‪ ..‬وجلست دون أن تنبس‪ ،‬وعلى شفتيها ابتسامة‬
‫امتنان‪.‬‬
‫قال الدكتور إياد‪:‬‬
‫‪-‬اجلسي يا سامية‪ ..‬إن عصاماً لديه من اجلرأة األدبية ما جيعله يقول ما‬
‫يريد دون حرج‪ .‬لقد سربت أغواره منذ زمن‪.‬‬
‫قال عصام‪:‬‬
‫‪-‬أشكرك على هذه الثقة‪ .‬يف احلقيقة أنا أعيش وحيداً مع والديت يف بيت‬
‫منلكه ‪ ...‬مات أيب منذ فرتة طويلة‪ ..‬كان تاجراً ميسوراً‪ ،‬وقد ترك لنا بعض‬
‫األموال والعقارات اليت ما زلنا نعيش منها حىت اآلن‪ ،‬دون أن حنتاج أحداً‪..‬‬
‫يل أخت متزوجة وهي تقيم مع زوجها الذي يعمل يف السعودية‪ ..‬ويل أيضاً‬
‫عم مغرتب يف األرجنتني منذ زمن بعيد‪ ..‬هذا كل شئ‪..‬‬
‫وقف الدكتور إياد‪ ،‬وراح يذرع املكتب جيئة وذهاباً‪ ،‬وهو غارق يف التفكري‪،‬‬
‫أما سامية فقد فهمت اآلن مصدر احلزن الصامت الذي يوشح دائماً وجه‬
‫عصام ويطل من نظراته‪ ..‬لقد عاىن بال شك من احلرمان إىل حنان أبيه‪،‬‬
‫وتفتح وعيه على مأساة باكية تسربت كآبتها إىل طبعه وترسبت يف وجدانه‪.‬‬
‫وراحت تسرتق إليه نظرات تنطق بالرثاء‪...‬‬
‫توقف الدكتور إياد فجأة وقال‪:‬‬
‫‪-‬دعنا نشرح األمر كما يلي‪..‬‬
‫لديك منهاجك الدراسي الواسع‪ ،‬ال سيما وأنت اآلن على أبواب التخرج‪،‬‬
‫ولديك اهتمامك باخلاص بأحباث السرطان‪ ،‬والذي يتطلب منك رؤية‬
‫احلاالت السرطانية املختلفة‪ ،‬ودراسة تشرحيها املرضي‪ ،‬ومالحقة كل جديد‬
‫يصدر يف اجملالت الطبية حول هذا املرض‪ .‬وهذا يتطلب منك أن تكون‬
‫قريبا من عياديت وخمترب أحبايت ألطلعك باستمرار على احلاالت اليت تأتيين‪.‬‬
‫وبذلك تتعمق خربتك هبذا املرض‪ ،‬فإذا ما ذهبت لإلختصاص برعت فيه‪.‬‬
‫وتفوقت على زمالئك ونلت أعلى الشهادات وحزت على إعجاب‬
‫أساتذتك وتقديرهم‪ ..‬باملناسبة أنا أعرف عدداً من العلماء املهتمني بأحباث‬
‫السرطان يف أمريكا بصفيت زميالً يف (( اجلمعية األمريكية للسرطان)) مبا‬
‫فيهم الدكتور ((فرانكلني جاكسون)) رئيس اجلمعية وأنا على صلة مستمرة‬
‫جيد من أحباث ونظريات ومعاجلات‬ ‫به‪ ،‬حيث نتبادل اآلراء حول آخر ما ُّ‬
‫هلذا املرض‪ ،‬وسوف أحدثه عن طموحك‪ ،‬وأطلب منه أن يتدخل من أجل‬
‫قبولك يف إحدى اجلامعات األمريكية‪ ،‬وهو لن يتأخر‪ ،‬السيما عندما يرى‬
‫وثيقة درجاتك املشرفة واليت ستتوجها هذا العام بتخرج متفوق إن شاء اهلل‪..‬‬
‫باملناسبة‪ ..‬حاول أن حتضر يل صورة وثائق خترجك مبجرد صدورها حىت‬
‫أمتكن من إرساهلا إىل أمريكا يف أقرب وقت‪..‬‬
‫‪-‬قال عصام والفرحة تغمره‪:‬‬
‫‪-‬دكتور‪ ..‬ال أدري كيف أشكرك على هذا االهتمام‪ ..‬إن اندفاعي للتعاون‬
‫معك يزداد يوماً بعد يوم‪!.‬‬
‫قال الدكتور إياد وهو يرمق عصاماً يف عتاب‪:‬‬
‫‪-‬إمنا أقوم بواجيب يا بين‪ ،‬أم أن الواجب أمسى يف نظرك تطوعاً نبيالً‬
‫يستوجب الشكر والثناء؟‬
‫قال عصام وهو يداري ارتباكه أمام عتاب أستاذه الرفيق‪:‬‬
‫‪-‬إذا مل يشكرك لساين فيشكرك قليب‪ ..‬إن مل يكن ألنك تقوم بواجبك‬
‫فألنك تعلمين ما هو الواجب‪.‬‬
‫الرد اللبق بينما سأله الدكتور إياد‪:‬‬‫ابتسمت سامية هلذا ّ‬
‫‪-‬كيف لغتك اإلنكليزية؟‬
‫‪-‬جيدة واحلمدهلل‪ ..‬إنين أقرأ املراجع املكتوبة باإلجنليزية بطالقة‪.‬‬
‫‪-‬حسن جداً‪ ..‬فلتكثر من ذلك حىت توفر على نفسك سنة اللغة اليت‬
‫حيتاجها الطلبة عادة لتقوية لغتهم وهذه مكتبيت حتت تصرفك لك أن‬
‫تستعري منها املرجع الذي تريد‪.‬‬
‫‪-‬شكرا لك‪ ،‬ولكن‪ ..‬كيف سنتعاون؟‪ ..‬أقصد كيف سيكون برناجمنا‬
‫معاً؟‪..‬‬
‫قطّب الدكتور إياد وجهه مفكراً مث مهس بنربة حائرة‪/‬‬
‫‪-‬يف احلقيقة هذا ما أفكر فيه‪..‬‬
‫‪-‬أنا مستعد للتوفيق بني دراسيت وتعاوين معك مهما كانت أعباؤه‪ ،‬وما هي‬
‫إال أشهر ومتضي‪ ..‬سأحتمل تبعها وأمري إىل اهلل‪.‬‬
‫قال الدكتور إياد يف محاس وقد أضاء وجهه بابتسـامة مشرقة‪:‬‬
‫حتل لنا الكثري من املشاكل‬ ‫لدي فكرة‪ ..‬فكرة علمية جداً‪ّ ..‬‬ ‫‪-‬يف احلقيقة ّ‬
‫وتوفر لنا املزيد من الوقت مما يساعدك على إجناز مشروعك بنجاح‪ ..‬لكنها‬
‫فكرة غريبة بعض الشئ وقد تتشنج إزاءها‪!...‬‬
‫‪-‬أقبلها مهما كانت‪.‬‬
‫‪-‬ال تتسرع‪ ...‬امسعها مث اعطين رأيك بصراحة‪ ..‬لعلك ال تعلم أين أملك‬
‫عمارة كبرية مؤلفة من ثالثة طوابق وكل طابق مؤلف من شقتني‪ ،‬خصصت‬
‫الطابق األرضي للعيادة واملخترب‪ ،‬وأشغل أنا وأسريت الطابق الثاين بشقتيه‪،‬‬
‫بينما الطابق الثالث فارغ‪ ،‬وال أنوي استعماله أو تأجريه حالياً‪ ،‬فما رأيك لو‬
‫انتقلت أنت والوالدة إىل إحدى الشقتني اخلاليتني‪ ،‬وبذلك نستطيع تنسيق‬
‫أوقاتنا مبا يناسب ظروفك وحيقق طموحك‪ ..‬فما رأيك؟‬
‫استغرب عصام هلذا العرض‪ ،‬وأدهشه هذا التحمس من الدكتور إياد‪،‬‬
‫واهتزت نفسه هلذه األرحيية‪ ،‬فأطل الرتدد من عينيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪-‬لقد فاجأتين هبذا العرض‪ ،‬وال أدري ماذا أقول؟‬
‫‪-‬أمل أقل لك ال تتسرع باجلواب‪ ..‬فكر باملوضوع مع الوالدة‪.‬‬
‫‪-‬بالنسبة يل ال توجد مشكلة‪ ،‬فأنا مستعد لكل ما خيدم مشروعنا‪ ،‬ولكن‬
‫الوالدة قد متانع يف ذلك‪ ،‬كما أنين أريد أن أعرف طريقة السكن عندك‪ .‬هل‬
‫هو سكن باألجرة؟‪ ..‬أم أنك ستبيعنا البيت؟‪ ..‬مث ال بد من دراسة ظروفنا‬
‫املادية على أساس هذه الطريقة‪!..‬‬
‫قال الدكتور إياد وهو يبتسم يف هدوء‪:‬‬
‫‪-‬ساحمك اهلل يا بين‪ ..‬اعتربها ضيافة‪ ،‬أم أنك ال ترغب يف جواري؟‬
‫‪-‬معاذ اهلل‪ ،‬ولكن الوالدة حساسة جداً يف مثل هذه القضايا‪ ..‬إنين أعرفها‬
‫جيداً‪.‬‬
‫أرسل الدكتور إياد تنهيد ًة وقال‪:‬‬
‫‪-‬بالنسبة للقضايا املادية سنسويها كما ترتاح أنت ووالدتك‪ ،‬أم بالنسبة‬
‫ملوقف والدتك‪ ،‬فمهما كان صعباً فلن يصعب على ابنها الغايل‪ ..‬أنا أب يا‬
‫عصام وزوجيت أم‪ ،‬وأعرف ضعف األم أمام رغبات أبنائها‪ ،‬ال سيما‬
‫أمثالك‪ ..‬هذه سامية أمامك‪ ،‬اسأهلا كيف تقنع أمها مبا ال تريد‪...‬‬
‫ابتسمت سامية والذت بالصمت‪ ،‬بينما قال عصام‪:‬‬
‫‪-‬أعدك بأين سأدرس معها الفكرة‪ ،‬وأحاول إقناعها‪..‬‬
‫‪-‬وإن مل تقتنع فسأتدخل شخصياً لتحقيق ذلك‪ .‬واآلن أرجو أن تسمح‬
‫يل فقد اقرتب وقت احملاضرة وال بد من التحضري هلا‪.‬‬
‫قالت سامية وهي هتم بالنهوض‪/‬‬
‫‪-‬أترى يا عصام إن والدي يهتم بك أكثر من اهتمامه بابنته‪.‬‬
‫تساءل عصام متجاوبا مع دعابتها‪:‬‬
‫‪-‬لعلها الغرية؟‪!.‬‬
‫‪-‬بل هي الغبطة با بين‪.‬‬
‫هكذا قال الدكتور إياد وهو يضحك ضحكته املميزة‪ ،‬وقد أضمر يف نفسه‬
‫شيئاً‪!.‬‬
‫***‬
‫الفصل السادس‬
‫إن فرحة عصام اليوم بال حدود‪ ..‬فها هي األقدار تبتسم له وتدفعه إىل‬
‫آماله دفعاً‪ ..‬إنه حيس اآلن باحلياة من حوله حلوة نضرة ألنه صاحب‬
‫هدف كبري بات يعرف الطريق إليه‪...‬‬
‫وكلما تذكر وعد الدكتور إياد له بتأمني قبوله يف أمريكا‪ ،‬ويف الفرع الذي‬
‫يصبو إليه‪ ،‬غمرته السعادة‪ ،‬ومتلَّكله السرور‪ ،‬وطغى عليه اإلبتسام‪...‬‬
‫ويف غمرة األحاسيس املتدفقة بالبهجة والفرح كان طيف سامية ال يفارقه‪..‬‬
‫فقد أضحت روحه اليت حييا هبا‪ ،‬وقلبه الذي خيفق بني جواحنه‪ ..‬لقد شعر‬
‫اليوم أهنا قريبة منه أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬وفهم من كلماهتا ونظراهتا‬
‫ومشاعرها حنوه‪ ،‬وتأكد من ميلها إليه‪.‬‬
‫اخلطو إليه‪ ..‬حيدوه الشوق ألن يبث أفراحه‬‫والح إليه املنزل من بعيد فأوسع َ‬
‫اجلديدة إىل أمه احلنون‪ ..‬ووصل إىل البيت فقرع اجلرس كعادته ليشعر أمه‬
‫بقدومه‪ ،‬مث أدار املفتاح يف القفل ودلف إىل الداخل وهو ينادي يف ٍ‬
‫هلفة‬
‫عارمة‪:‬‬
‫((‪-‬ماما)) ‪(( ..‬ماما))‪ ..‬أين أنت يا ((ماما))؟‬
‫وأجابه صوت عميق من وراء اجلدران‪:‬‬
‫‪-‬أنا هنا يف املطبخ‪ ..‬ماذا هناك؟‪..‬‬
‫ألقى عصام كتبه على طاولة الصالون‪ ،‬واجته إىل املطبخ يف خفة ومرح‪ ،‬وما‬
‫إن رآها حىت هتف‪:‬‬
‫(( ‪-‬ماما))‪ ..‬أنا فرحان‪ ..‬أنا سعيد‪ ..‬لو تعلمني كم أنا سعيد‪...‬‬
‫تساءلت األم يف دهشة وابتسام‪:‬‬
‫‪-‬أسعد اهلل أيامك كلها‪ ،‬ولكن أخربين ما الذي حدث؟‬
‫‪-‬ماذا أخربك يا أماه؟‪ ..‬عما قريب ستتحقق كل أحالمي وآمايل‪ .‬إن‬
‫األفراح تأيت على ما يبدو دفعة واحدة‪.‬‬
‫‪-‬ما الذي تتحدث عنه باهلل عليك؟‪ ..‬أشركين يف فرحتك؟‬
‫‪-‬أماه‪ ...‬أنا جائع‪ ...‬جائع جداً‪ ..‬أريد أن آكل‪ ..‬أن أستمتع بطعامك‬
‫الطيب اللذيد‪ ..‬على فكرة‪ ..‬ماذا طبخت لنا اليوم؟‬
‫‪-‬أكلة لذيذة ستأكل أصابعك بعدها‪َّ ..‬إهنا ملفوف ورق العنب اليت حتبها‬
‫جداً‪.‬‬
‫(( ‪-‬ممم))‪ ..‬شئ لذيذ حقاً‪ ..‬هيا حنضر الطعام معاً‪ ،‬مث أق عليك ما‬
‫جرى‪..‬‬
‫كانت األم تسكب الطعام يف الصحاف يف خفة وسرور مبعثه هذا التغري‬
‫الطارئ الذي بدا فيه ابنها فرحاً سعيداً بينما كان عصام ينقل تلك‬
‫الصحائف إىل طاولة الطعام يف مهة ونشاط‪ .‬وما هي إال دقائق قليلة حىت‬
‫التأم مشلهما حول املائدة وشرعا يف تناول الغداء ‪...‬‬
‫قال عصام وهو يلتهم إصبعاً من أصابع امللفوف الطازج‪:‬‬
‫‪-‬أماه‪ ..‬تعرفني مدى حيب للطب‪ ،‬وطموحي لإلختصاص يف أحد فروعه‪،‬‬
‫وبالتحديد مرض السرطان‪...‬‬
‫صاحت األم يف فزع وقد تقلصت مالحمها‪:‬‬
‫‪-‬أعوذ باهلل‪ ...‬لعنه اهلل ولعن سريته‪!!!.‬‬
‫ضحك عصام وقال‪:‬‬
‫(( ‪-‬ماما))‪ ..‬السرطان ال يذهب باللعنات‪ ،‬ولو كان األمر كذلك لنذرت‬
‫عمري يف لعنه‪ ..‬ال بد من العمل‪ ..‬من البحث والتجريب‪ ..‬إنه داء فتاك‬
‫حيري العلماء‪ ..‬وحيتاج ملن يسرب أسراره ويكتشف عالجه الشايف‪.‬‬
‫‪-‬لعنه اهلل ألف مرة‪ ..‬واللّه كلما ذكر امسه املشؤوم أمامي شعرت بالقشعريرة‬
‫تسري يف جسدي‪.‬‬
‫قال عصام وهو يتحول إىل اجلد‪:‬‬
‫‪-‬لعنه اهلل مليون مرة‪ ..‬املهم يف احلديث أ ّن الدكتور إياد‪ ..‬لقد حدثتك‬
‫عنه مراراً‪...‬‬
‫‪-‬أجل أذكره‪ ،‬إنك حتبه كثريا على ما يبدو‪...‬‬
‫‪-‬هذا صحيح‪ ..‬إنّه إنسان نادر‪ ..‬تصوري أنه تطوع لدعم أي طالب يريد‬
‫أن خيت يف هذا املرض ويتعمق يف أحباثه‪ ،‬فما كان مين إال أن ذهبت إليه‬
‫اليوم‪ ،‬وقلت له أنين أتطلع لإلختصاص يف هذا اجملال وأنين مندفع جداً هلذا‬
‫األمر فتجاوب معي إىل أبعد احلدود‪ ،‬ووعدين أن يرمن يل القبول يف إحدى‬
‫جامعات أمريكا‪ ..‬إنه على صداقة محيمة برئيس اجلمعية األمريكية للسرطان‬
‫ووعدين أن حيدثه عن تفوقي وطموحي‪.‬‬
‫اهلم يلوح يف نظراهتا‪:‬‬
‫توقفت األم عن األكل مث قالت و ّ‬
‫‪-‬فكرة السفر هذه كم أكرهها!‪ ..‬أال يكفيك أن تتخرج وتفتح لك عيادة‬
‫جيدة يف مكان مرموق؟‪ ..‬امسع مين يا بين‪ ..‬سوف أبيع قطعة من أرضنا‬
‫اليت يف الريف وأفتح لك أفضل عيادة يف البلد‪ ،‬وأحدثَها‪.‬‬
‫‪-‬قال عصام وهو يصب كأساً من املاء‪:‬‬
‫الطب‬
‫‪-‬ساحمك اهلل يا أمي!‪ .‬هذا الكالم كان على أيامكم‪ ،‬أما اليوم فإن ّ‬
‫بال اختصاص مل يعد عليه ذلك اإلقبال‪ ،‬ألن علومه توسعت كثرياً‪،‬‬
‫واإلختصاص يؤمن للطبيب خربة عالية وشهرة فائقة ودخل ممتاز‪ ..‬مث إنين‬
‫أطمح إىل أكثر من العيادة والشهرة واملال‪ ..‬أمتىن لو أصبح عاملاً يف الطب‬
‫يا أماه‪ ،‬أم أنك ال تريدين البنك أن يصبح عاملاً مشهوراً؟‬
‫قالت األم وهي تشري إىل نفسها متسائلة‪:‬‬
‫‪-‬أنا؟‪ ..‬إنين أمتىن أن تصبح أفضل طبيب يف الدنيا‪ ،‬ولكين أكره أن تبتعد‬
‫عين‪.‬‬
‫‪-‬وملاذا أبتعد عنك؟ سآخذك معي‪..‬‬
‫‪-‬إىل أمريكا؟‪!..‬‬
‫‪-‬وإىل آخر الدنيا‪...‬‬
‫ضحكت األم وقالت وهي تلملم حبات من الرز كانت منثورة على املائدة‪:‬‬
‫‪-‬ال أدري ماذا أفعل بلسانك‪ ..‬دائماً تغلبين مبنطقك اجلميل‪.‬‬
‫علي الدكتور‬
‫‪-‬كالمك يشجعين ألن أطرح عليك فكرة جديدة اقرتحها َّ‬
‫إياد‪.‬‬
‫‪-‬ما هي هذه الفكرة؟‬
‫‪-‬انتهى عصام من طعامه فحمد اهلل‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫‪-‬إن تعاوين مع الدكتور إياد سيشغل جزءاً كبريا جداً من وقيت‪ ،‬فباإلضافة‬
‫إىل الوقت الذي يستهلكه مين التحضري المتحانات التخرج‪ ،‬سأضطر إىل‬
‫مالزمة الدكتور إياد يف عيادته ملشاهدة حاالت السرطان املختلفة والتمرس‬
‫يف طرق تشخصيها وعالجها‪ ،‬عدا الوقت الذي سأقضيه يف مطالعة املراجع‬
‫األجنبية واجملالت الطبية‪ ،‬وال تنسي الدوام يف الكلية‪...‬‬
‫وكيف ستوفق بني كل هذه األمور؟ على هذا لن جتد وقتاً حىت لتأكل؟‪!.‬‬
‫علي يا أماه‪،‬سأنظم وقيت تنظيماً دقيقاً‪ ،‬واقرتاح الدكتور إياد سوف‬
‫ال ختايف ّ‬
‫علي بعد أن حدثته عن أوضاعنا وحياتنا اخلاصة‬ ‫يساعدين كثرياً‪ ،‬فقد عرض ّ‬
‫أن أنتقل أنا وأنت لنقيم يف شقة ضمن عمارته اليت تضم منزله وعيادته‪،‬‬
‫وذلك حىت يتسىن لنا استغالل الوقت وتنظيمه مبا يناسب ظرويف وظروفه‬
‫وحيقق طموحي يف أفضل صورة ممكنة‪.‬‬
‫‪-‬ضربت األم صدرها يف جزع وهتفت كامللسوعة‪:‬‬
‫‪-‬ماذا؟‪ ..‬نرتك بيتنا؟!‪ ..‬نرتك هذا البيت العامر بالذكريات؟؟‪!...‬‬
‫مث أردفت وقد هتدج صوهتا وملعت عيناها بالدموع‪:‬‬
‫‪-‬أنرتك البيت الذي عشت فيه أحلى ايام عمري مع أبيك؟‪ ..‬أأنرك‬
‫احلديقة اليت غرس أشجارها بيديه الطاهرتني؟‪...‬‬
‫علي أن أفارق هذا البيت العزيز على نفسي فال حترجين يا‬‫إنه ليصعب ّ‬
‫بين‪ ..‬باهلل عليك؟‬
‫أحس بغصة يف حلقة‪:‬‬‫خفق قلب عصام إكباراً هلذا الوفاء وقال وقد ّ‬
‫‪-‬مل أكن أتصور أنك تتعلقني هبذا البيت إىل هذا احلد‪!.‬‬
‫مث قال بعد أن مالت نفسه إىل اهلدوء‪:‬‬
‫أكن يف نفسي املشاعر ذاهتا‪ ،‬ولكن جيب أن ال تكبلنا‬ ‫‪-‬أماه‪ ..‬إنين ّ‬
‫الذكريات فاحلياة متضي بسرعة عجيبة‪ ،‬وإن مل نواكب حركتها ركلتنا إىل‬
‫عامل النسيان‪.‬‬
‫‪-‬فلتواكبها يف هذا البيت وترحيين‪.‬‬
‫‪-‬لكن الدكتور إياد مصر على الفكرة‪ ،‬وإذا مل توافقي فسيتدخل بنفسه‬
‫لريجوك أن تسمحي بذلك‪ ..‬هكذا قال يل فال حترجيين معه‪.‬‬
‫قالت األم وقد حارت يف أمرها‪:‬‬
‫‪-‬لقد أوقعين يف حرية شديدة‪ ،‬فلست بقادرة على ترك البيت ‪ ،‬وال أرضى‬
‫أن أكون عقبة يف طريق مستقبلك‪ ،‬مث ال ميكن أن أسكن يف بيت دون أن‬
‫يكون ملكي أو أدفع أجره ‪ ،‬هذا أمر ال أتنازل عنه حبال‪...‬‬
‫‪-‬لقد وضحت للدكتور إياد ووعدين بتسوية األمور املادية مبا يناسب‬
‫الضروف‪ ،‬املهم عندي أن تقتنعي بأن هذا احلال سيساعدين على حتقيق‬
‫املستقبل الذي أبغيه‪ ...‬أرجوك‪...‬‬
‫قالت األم وقد بدأت تستسلم إلرادته‪:‬‬
‫‪-‬أنت الرجل هنا فقرر ما شئت‪...‬‬
‫‪-‬ما كنت ألقرر أمراً ما مل يكن ممهوراً برضائك‪ ،‬وإذا كنت أنا الرجل يف‬
‫هذا البيت فأنت أمه الغالية اليت لن أخالف هلا يف النهاية أمراً أو رغبة‪.‬‬
‫‪-‬اهلل يرضى عليك‪...‬‬
‫‪-‬هذه الكلمة تسحرين ‪ ...‬هه‪ ،‬ماذا قلت؟‬
‫‪-‬ماذا أقول؟‪ ..‬لقد حاصرتين بأسلوبك العذب اجلميل‪ ...‬مثل كلمة مرة‪.‬‬
‫‪-‬ما ذنيب إذا كنت متلكني قلباً كبرياً يتسع لكل مشاكلي‪ ،‬ويستجيب لكل‬
‫رغبايت‪ ...‬هل أفهم أنك موافقة؟‬
‫قالت األم وقد أسقط يف يدها‪:‬‬
‫‪-‬موافقة‪ ،‬ولكن‪ ...‬ماذا سنفعل هبذا البيت؟‬
‫‪-‬ف ّكر عصام ملياً مث قال‪:‬‬
‫‪-‬سنرتكه إىل حني‪ ..‬مث نعود إليه ما دام يهمك إىل هذا احلد‪ .‬أماه‪ ..‬لن‬
‫أحرمك من موطن ذكرياتك الغالية‪ ..‬أعدك بأنين سوف أستقر معك بعد‬
‫أن أعود من دراسيت يف اخلارج وسرتين فيه أحفادك الذين سيملؤونه عليك‬
‫أنساً وسعادة‪...‬‬
‫ضحكت األم وقالت‪:‬‬
‫‪-‬على رسلك يا عصام‪ ..‬ال تسرف يا بين يف الوعود‪ ،‬فال تعرف ماذا‬
‫سيحمل لنا الغد‪ .‬املهم أين واثقة بتصرفاتك ورجاحة عقلك‪ ،‬فافعل ما بدا‬
‫لك‪ ..‬اآلن‪ ،‬ويف املستقبل‪.‬‬
‫‪-‬سأكون عند حسن ظنك يب‪ ..‬إن شاء اهلل‪.‬‬
‫‪-‬إن شاء اهلل‪ ..‬سأحضر الشاي‪..‬‬
‫***‬
‫اسرتخى عصام على كرسيه بانتظار الشاي‪ .‬بيد أن ذكرى والده حطت‬
‫فجأة يف ساحة خواطره فعصفت بكل سعادته‪:‬‬
‫(( ‪-‬رمحك اهلل يا والدي‪ ..‬ماذا لو كنت معنا اآلن؟ ‪..‬‬
‫كنت أود لو رافقتين يف رحلة احلياة‪ ،‬ألنعم بقربك احلبيب وأستظل بعطفك‬
‫وحنانك‪ ..‬أستمد منك التشجيع‪ ..‬وأستلهم من جتاربك الثرية خطوايت إىل‬
‫املستقبل)) ‪...‬‬
‫وانتبه عصام على خطوات أمه حني عادت‪ ،‬فأرسل ابتسامة عريضة أخفى‬
‫حتتها مالمح احلزن اليت كانت تغضن وجهه مث قال وهو يتناول فنجانه‪:‬‬
‫سر أود أن أبوح به إليك‪.‬‬ ‫‪-‬أماه‪ ..‬هناك‪ ..‬هناك ّ‬
‫‪-‬سر؟!‪ ..‬عساه خرياً‪...‬‬
‫قال عصام بنربة هامسة‪:‬‬
‫‪-‬لقد وجدهتا‪.‬‬
‫‪-‬من ؟‬
‫‪-‬بنت احلالل‪...‬‬
‫هتفت األم يف هلفة‪:‬‬
‫‪-‬بنت احلالل؟‪ ..‬أصحيح ما تقول؟ لعلك متزح‪!.‬‬
‫مث تابعت وهي جتلس قربه يف فرح عارم‪:‬‬
‫‪-‬قل يل من هي؟ خربين باهلل عليك‪ ..‬ما أوصافها؟ وكيف تعرفت عليها؟‬
‫من هم أهلها؟ هل هي مجيلة؟؟ ما لك صامت ال تتكلم؟‪!...‬‬
‫ضحك عصام من أعماقه واستغرق يف الضحك حىت دب األمل يف خاصرته‬
‫بينما تابعت األم يف توسل باسم‪:‬‬
‫‪-‬هيا خربين أرجوك‪ ،‬فقليب يشتاق إىل هذه اللحظة منذ أمد بعيد‪.‬‬
‫قال عصام وهو حياول أن يتمالك نفسه‪:‬‬
‫‪-‬رويدك يا أماه‪ ...‬رويدك‪..‬‬
‫‪-‬هيا تكلم؟ فأنا يف هلفة ملعرفتها‪ ،‬هيا‪...‬‬
‫لكن األهم من‬‫‪-‬لقد أغرقتين بأسئلتك‪ ،‬فلم أعد أدري على أيها أجيب‪ ،‬و ّ‬
‫كل ذلك أهنا دخلت قليب منذ زمن‪ ،‬فارتاحت هلا نفسي‪ ،‬واقتنعت هبا‬
‫شريكة حيايت‪.‬‬
‫لكزته األم يف صدره ومهست يف عتاب‪:‬‬
‫‪-‬أيها املاكر!‪ ..‬منذ مىت تكتم أسرارك عين؟! يبدو أن بنت احلالل هذه قد‬
‫خطفتك مين دون أن أشعر‪.‬‬
‫(( ‪-‬ماما أنت األصل))‪(( ..‬أنت الكل بالكل))‪ ..‬تأكدي أن قليب يتسع‬
‫لكما معاً دون أن تزاحم إحداكن األخرى‪ ..‬بل إن لك فيه املكانة األكرب‬
‫واألقدس‪...‬‬
‫‪-‬كل الشباب يقولون هذا قبل الزواج‪ ،‬مث ال يلبثون أن يتغريوا‪!.‬‬
‫‪-‬إال أنا‪ ..‬صدقيين يا أماه‪...‬‬
‫لنر‪ ..‬واآلن حدثين عنها ألخترب ذوقك؟‬ ‫‪َ-‬‬
‫‪-‬إهنا سامية بنت الدكتور إياد‪.‬‬
‫‪-‬بنت الدكتور إياد!!‪ ..‬اآلن فهمت سر هذا احلب الذي تكنه هلذا‬
‫الدكتور‪ ،‬وسر ذلك الشرود الذي يغشاك بعد أن حتدثين عنه‪ ..‬يا لسذاجيت‬
‫وغبائي!!‪ ...‬كيف مل أفطن هلذا؟‪!..‬‬
‫ابتسم عصام ومل ينبس فأحلت األم من جديد‪:‬‬
‫‪-‬مل تصفها يل بعد؟‪...‬‬
‫‪-‬أهم صفاهتا أخالقها‪ ...‬حشمتها‪ ...‬تربيتها‪ ...‬وعيها‪...‬‬
‫‪-‬أريد شكلها‪ ..‬كيف شكلها؟‬
‫‪-‬إهنا بيضاء البشرة‪ ..‬شقراء الشعر‪ ..‬هيفاء القد‪ ..‬متناسقطة التقاطيع‪..‬‬
‫عيناها عسليتان واسعتان تطل منهما براءة وادعة كرباءة األطفال‪ ،‬ويف‬
‫وجهها األبيض املورد صفاء ساحر يأسر القلوب‪ ،‬لكن هدوءها الوادع يا‬
‫ّأماه أمجل ما فيها‪ ..‬لكأهنا مالك يف صورة أنثى من البشر‪!..‬‬
‫تستفزه‪:‬‬
‫ابتسمت األم وهي تصغي البنها يتحدث بلغة العاشقني فقالت ّ‬
‫مرة أهنا يف صفك بالكلية‪ ..‬هذا يعين أهنا يف مثل‬‫‪-‬لقد علمت منك ذات ّ‬
‫سنّك‪ ..‬إهنا كبرية بالنسبة لك يا بين‪ ،‬فالنساء يهرمن قبل الرجال‪...‬‬
‫هتف عصام حمتجاً‪:‬‬
‫(( ‪-‬ماما))‪ ..‬إنك تطلبني الكمال‪ ،‬الفتاة تعجبين وأنا مرتاح إليها كل‬
‫اإلرتياح‪ ،‬وسوف تشاركيين رأيي عندما ترينها‪!..‬‬
‫ضحكت األم وقالت وهي ترنو إليه يف حنان‪:‬‬
‫‪-‬إنك تدافع عنها حبماس‪!..‬‬
‫مث تابعت يف مرح وهي تربت على كتفه يف ود رفيق‪:‬‬
‫‪-‬ال عليك يا بين‪ ...‬األمهات كلهن هكذا‪ ...‬يردن ألبنائهن أمجل الفتيات‬
‫وأكملهن‪ ،‬هل أخطبها لك؟‬
‫‪-‬ليس اآلن‪ ..‬انتظري حىت أسوي أموري مع الدكتور إياد‪.‬‬
‫‪-‬إذن لتسوها بسرعة‪ ،‬حىت أمسي قريبة من ((كنيت‪)).‬‬
‫رفع عصام حاجبية يف دهشة وقال‪:‬‬
‫‪-‬لو كنت أعلم أن موضوع اخلطبة يستويل على اهتمامك هبذا القدر‬
‫لكنت حدثتك به قبل أن أطرح عليك اقرتاح الدكتور إياد‪ ،‬ولوفرت على‬
‫نفسي عناء إقناعك به‪.‬‬
‫ضحكت األم قليالً‪ ،‬مث ما لبثت أن مالت إىل اهلدواء وقد اجتاحها حزن‬
‫جارف بعد أن حرك موضوع زواج عصام جذور ذاكرهتا‪ ،‬ونكأ جرحا قدمياً‬
‫يأىب أن يندمل فأرسلت تنهيدة عميقة وشت مبا يعتمل يف أغوارها وقالت‬
‫يف هدوء حزين‪:‬‬
‫(( ‪-‬كنت أمتىن لو كان أبوك ما زال على قيد احلياة‪ ..‬إذن لكانت فرحيت‬
‫بال حدود‪...)).‬‬
‫أحس عصام مبا تكابده أمه من أحاسيس احلسرة واملرارة فاقرتب منها مواسياً‬
‫وطبع على جبينها قبلة حانية‪ ،‬مث مهس بنربات متوسلة‪:‬‬
‫(( ‪-‬ماما))‪ ..‬أرجوك أالّ تسريف يف تذكر املاضي‪ ...‬إنك ترهقني نفسك‬
‫باألحزان‪ ..‬ابتسمي‪ ..‬ابتسمي أرجوك‪...‬‬
‫رفعت األم إىل ابنها نظرات مثقلة باهلم واألسى‪ ،‬وقد بانت يف عينها كآبة‬
‫عميقة‪ .‬حاولت أن تبتسم‪ ،‬لكنها راحت يف بكاء شديد‪...‬‬
‫***‬
‫الفصل السابع‬
‫الطب شهرة عصام نفسه‪،‬‬ ‫دفاتر ((حماضرات)) عصام مشهورة يف كلية ّ‬
‫ويعتمدها طالب ص ّفه كما يعتمدون كتب أساتذهتم املقررة‪ ،‬ويتمنون أن‬
‫أن عصاماً‬ ‫حيصلوا عليها أو على صورة عنها ليدرسوا حماضراهتم منها‪ ،‬ذلك َّ‬
‫كان يعتين بدفاتره اعتناءً فائقاً‪ ،‬وينتهج يف إعدادها منهجاً ذكياُ بارعاً‪ ،‬فهو‬
‫ينقل احملاضرات من أفواه األساتذة احملاضرين فال تفوته فكرة أو مالحظة‬
‫مهما كانت بسيطة إالّ دوهنا‪ ،‬مث ميضي إىل بيته فيقرأ احملاضرة إياها يف‬
‫الكتاب املقرر‪ ،‬مث يراجع موضوعاهتا يف املراجع الطبية املوسعة‪ ،‬مث يصيغ‬
‫احملاضرة من جديد بأسلوبه األديب القوي املتميز‪ ،‬فينسق بني أفكار األستاذ‬
‫احملاضر ومعلومات الكتاب املقرر ومعارف املرجع املناسب‪ ،‬ويرهتبا بشكل‬
‫واضح مرتابط ويدعمها بالرسوم امللونة املعربة‪ ،‬وخيرجها إخراجاً أنيقاً‬
‫جذاباً‪...‬‬
‫وبالرغم من اعتزاز عصام مبحاضراته تلك وحرصه البالغ عليها‪ ،‬فإنه مل‬
‫حيدث يوماً أن امتنع عن إعارهتا لطالب من زمالئه أيّاً كان‪ ...‬فكان الطلبة‬
‫يستعريون منه ((احملاضرات)) فينسخوهنا أو يصوروهنا مث يعيدوهنا إليه‬
‫شاكرين‪...‬‬
‫وكان صفوان ‪-‬كغريه من الطلبة‪ -‬يعرف قيمة ((حماضرات)) عصام ويدرك‬
‫فائدهتا ويتمىن أن حيصل عليها الفتقاره إىل حماضرات وافية بسبب بطء نقله‬
‫للمحاضرات من أفواه احملاضرين وانشغاله بالثرثرة والشغب أثناء احملاضرات‪،‬‬
‫لكنه بالرغم من حاجته إىل حماضرات عصام وميله الستعارهتا فإنه مل يلجأ‬
‫يوماً إىل طلبها من عصام مباشرة‪ ،‬مينعه كرب واستعالء واعتزاز مفرط بالذات‬
‫يأىب عليه أن يطلب شيئاً من إنسان يكرهه وحيسده على التفوق والشهرة‬
‫واالحرتام الذي يتمتع به يف أوساط الكلية‪ ،‬لذلك فقد كان يلجأ إىل‬
‫((جمدي)) الذي تربطه عالقة مزدوجة مع الطرفني‪ ،‬فيحرجه بأسلوبه املاكر‬
‫السمج‪ ،‬ويكرهه على إعارته ((حماضرات)) عصام كلما استعارها جمدي من‬
‫عصام‪ ،‬وكان عصام يعرف أسلوب صفوان هذا فال يأبه له‪ ،‬فما يهمه‬
‫باملقام األول أن تعود إليه حماضراته سليمة ليدرس فيها وحيافظ عليها‪.‬‬
‫وذات يوم استعار صفوان ((حماضرات)) عصام من جمدي ومضى هبا إىل‬
‫شقته بصحبة شلته العابثة اليت تلتف حوله‪ ،‬وما إن وصلوا إىل الشقة حىت‬
‫ألقوا كتبهم ودفاترهم ونثروها يف كل مكان‪ ،‬مث هرعوا إىل الثالجة فأخرجوا‬
‫منها زجاجات ((الويسكي)) وجلسوا حيتسونه وسط جو صاخب هازل‬
‫تتعاىل فيه الضحكات اجمللجلة وتشيع فيه الدعابات السخيفة وتسود فيه‬
‫الكلمات والعبارات البذيئة وتتخلله النوادر القذرة‪ ..‬ودارت بينهم الكؤوس‬
‫تلو الكؤوس فدارت معها الرؤوس وغادرت عقوهلم دائرة الوعي إىل عامل‬
‫الوهم والالمعقول‪ ،‬وهاموا خبواطرهم املخمورة يف دنيا مزيفة فشعروا أهنم يف‬
‫عامل خاص ميلكونه وحدهم ويرتبعون على عرشة بال منازع فال ينافسهم‬
‫عليه أحد‪ ..‬واستبدت اخلمرة بعقوهلم فربط أحدهم حول خصره منديالً‪،‬‬
‫وأخذ يرق يف خالعة الراقصات بينما التف اجلميع من حوله يغنون‬
‫ويصفقون ويضحكون‪..‬‬
‫وحانت من صفوان التفاتة إىل دفرت حماضرات عصام الذي استعاره من‬
‫جمدي فقرأ عليه اسم عصام فذكره عقله الباطن حبقده على هذا اخلصم‬
‫اللدود الذي يكرهه فتناول الدفرت يف امشئزاز ونظر إليه يف بالهة وقلّبه يف‬
‫قرف‪ ،‬مث رفعه يف مشقة وقال والكلمات ترتنج على شفتيه‪:‬‬
‫‪-‬هل تعلمون ملن‪ ..‬هذا الدفرت؟‬
‫فأجابه أكثر من صوت‪:‬‬
‫‪-‬إنه لك‪.‬‬
‫فضحك صفوان طويال مث قال‪:‬‬
‫‪-‬ال ‪ ..‬إهنا للسيد عصام‪ ..‬إهنا للسيد ((كومبيوتر))‪..‬قال كمبيوتر قال‪...‬‬
‫انفجر اجلميع ضاحكني بينما تابع صفوانوهو حيك رأسه بيد ثقيلة وأصابع‬
‫ضعيفة متيل حنو اإلسرتخاء‪:‬‬
‫‪-‬ملاذا ال يسكر عصام مثلنا؟‪..‬‬
‫أجابه أحدهم وهو مستلق على األرض‬
‫‪-‬ألنَّه‪ ..‬ألنهه أهبل‪...‬‬
‫ضحك الكل يف صفاقة بينما أردف صفوان ورأسه يرتنح على إيقاع‬
‫كلماته‪:‬‬
‫‪-‬حسنا‪ ..‬ما رأيكم لو‪ ..‬جعلته يسكر معنا؟‪!..‬‬
‫تعالت األصوات من حوله‪:‬‬
‫‪-‬وكيف؟‪ ..‬كيف ذلك؟‪..‬‬
‫أجاب صفوان وهو يتناول زجاجة ((الويسكي‪)):‬‬
‫‪-‬بسيطة‪ ..‬هذا دفرت عصام‪ ،‬وهذه زجاجة ((الويسكي‪))...‬‬
‫مث أردف وهو يريق الزجاجة على الدفرت‪:‬‬
‫‪-‬وهكذا سوف يسكر عصام‪...‬‬
‫وتعالت الصيحات والضحكات بينما انساح السائل األصفر الكريه فوق‬
‫الدفرت األنيق‪ ،‬فابتلت أوراقه وماعت حروفه وتداخلت األلوان على أوراقه‬
‫النظيفة وأصيب الدفرت بالتلف والفساد‪ ،‬ومحله صفوان برؤوس أصابعه وهو‬
‫مستغرق يف الضحك مث ألقاه وراء ظهره وكأنّه يرمي شيئاً وسخاً خيشى أن‬
‫يلوثه‪ ،‬مث تابع سهرته الصاخبة مع أصدقائه‪..‬‬
‫ويف اليوم التايل استيقظ صفوان وقد عاوده وعيه فرأى دفرت عصام ملقى‬
‫على األرض وقد أتلفه البلل وأفسد حمتواه فحركته بقدمه باحتقار ورفع كتفيه‬
‫يف ال مباالة غري مكرتث مبا حدث وعندما جاءت اخلادمة اليت تنظف له‬
‫الشقة كل يوم وترتبها‪ ،‬سألته عن قيمة هذا الدفرت امللقي على األرض وماذا‬
‫تفعل به‪ ،‬فضحك يف مشاتة وأوصاها أن ترميه يف سلة املهمالت‪.‬‬
‫وذهب صفوان إىل الكلية فاستقبله جمدي بالسؤال‪:‬‬
‫‪-‬أين دفرت احملاضرات يا صفوان‪ ..‬إن عصاماً يسأل عنه!‪ ..‬ابتسم صفوان‬
‫ابتسامة باهتة وقال يف برود‪:‬‬
‫‪-‬لقد ضاع‪.‬‬
‫‪-‬ضاع؟‪ ..‬كيف ضاع؟‪..‬‬
‫‪-‬ضاع والسالم‪..‬‬
‫‪-‬صفوان لعلك متزح‪!..‬‬
‫‪-‬أنا ال أمزح‪ ..‬هذه هي احلقيقة‪.‬‬
‫فقال جمدي غاضباً وهو يشعر باإلحراج الشديد؟‬
‫‪-‬واآلن!‪ ..‬ماذا سأقول لعصام؟‬
‫‪-‬قل له إنَّه ضاع‪..‬‬
‫هتف جمدي حمتداً‪:‬‬
‫‪-‬هبذه البساطة!‪ ..‬يا لربودة أعصابك يا أخي‪ ..‬امسع‪ ..‬أنا ال أحتمل‬
‫مسؤولية ما حدث فال حترجين مع عصام‪.‬‬
‫قال صفوان يف سخرية وحنق‪:‬‬
‫‪-‬حسناً‪ ..‬حسناً‪ ..‬أنا سأخربه بذلك؟‬
‫ومضى االثنان إىل عصام فاستقبلهما بالبشاشة والرتحيب فقال له صفوان‬
‫يف ٍ‬
‫تعال ساخر‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬لقد استعربت دفرت حماضراتك من جمدي وقد ضاع مين فال‬
‫أدري أين ذهب؟‬
‫مث تابع متضاحكاً وقال كاهلازئ‪:‬‬
‫‪-‬بسيطة‪ ..‬أنت طالب جم ّد وال حتتاج إىل دفرت‪ ..‬ال بد أنك حتفظ‬
‫احملاضرات عن ظهر قلب‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫‪-‬مل ينزعج عصام لفقدان دفرته العزيز على نفسه بقدر ما ساءته تلك‬
‫اللهجة الوقحة املتكربة اليت خاطبه هبا صفوان‪ ،‬لكنه متالك أعصابه وكظم‬
‫غيظه وقال يف ابتسام‪:‬‬
‫‪-‬وماذا يف ذلك؟ املهم أن تكون قد استفدت منه‪.‬‬
‫(( ‪-‬مرسي))‪(( ..‬مرسي)) يا عزيزي‪ ..‬إن معلوماته رائعة‪..‬‬
‫قال عصام وهو يرميه بنظرة ذات معىن‪:‬‬
‫‪-‬على أية حال إن احتجت لدفاتري فال تتأخر‪ ..‬إهنا جاهزة يف كل وقت‪.‬‬
‫ومضى عصام وهو خيفي حتت هدوئه الذي صفع به صفوان ثورًة وأملاً أراد‬
‫أن يعلمه بكبتهما درساً يف املعاملة والسلوك سرعان ما وجد طريقه إىل‬
‫نفس صفوان بالرغم من كل سدود احلقد واحلسد والكراهية اليت تقوم فيها‬
‫إزاء عصام‪ ،‬لكنه قال جملدي متظاهراً بالسخرية حىت ال يعرتف بإعجابه هبذا‬
‫التسامح الذي أبداه عصام‪:‬‬
‫‪-‬إن صاحبك هذا أبله!‪ ..‬أقسم أنَّه أبله!!‬
‫رمقه جمدي بنظرات ثائرة مستاءة وراودته نفسه أن يلكمه‪ ،‬لكنه متالك‬
‫أعصابه وأجلم قبضته املكورة يف غيظ ومضى غاضباً وقد شاع يف صدره‬
‫إحساس من يشعر مبيل جارف إىل اإلقياء‪...‬‬
‫***‬
‫الفصل الثامن‬
‫وصل عصام إىل عيادة الدكتور إياد وطلب من املمرضة أن خترب الدكتور‬
‫حبضوره حسب موعد كان قد مت اإلتفاق عليه باهلاتف فطلبت منه اإلنتظار‬
‫قليال ريثما خترب الدكتور بوصوله‪..‬‬
‫وجلس عصام إىل إحدى ((الكنبات)) الفاخرة املبثوثة يف غرفة اإلنتظار‪،‬‬
‫فشعر جبسده يغوص يف فرشها الوثري‪ ،‬فاسرتخى عليه يف راحة لذيذة وأرسل‬
‫نظراته املستطلعة جتوب أثاث العيادة الفخم بإعجاب‪ .‬وعلى إحدى‬
‫الطاوالت الصغرية الحظ جمموعة من اجملالت‪ ،‬فمال قليال ليتناول إحداها‪،‬‬
‫لكنه أحجم عندما رأى املمرضة قادمة باجلواب‪ ،‬وقد تبعها مريض أنتهى‬
‫لتوه من مقابلة الطبيب‪ ،‬وهو يستند على كتف مرافق له من شدة اإلعياء‪.‬‬
‫ودعته املمرضة للدخول‪ ..‬فتقدم من الباب الذي كان منفرجاً قليالً فبدا له‬
‫الدكتور إياد منهمكا بتدوين شيئ ما وقد جلس وراء مكتبه األنيق‪ ،‬فنقر‬
‫على الباب بظهر سبابته مث دخل وسلم عليه فهب الدكتور إياد الستقباله‬
‫وصافحه يف ود مرحباً بقدومه ودعاه للجلوس‪ ،‬مث ما لبث أن عاد إىل عمله‬
‫بعد أن طلب منه أن ميهله ريثما ينتهي من تدوين بعض املالحظات يف‬
‫ملف املريض الذي خرج‪ ،‬فأجابه إىل طلبه وجلس ينتظر وقد هامت نظراته‬
‫يف أرجاء العيادة من جديد‪ ،‬فلفتت انتباهه لوحة كبرية كتب على قماشيه‬
‫املخملي األمحر خبط ذهيب المع آية قرانية تقول ‪:‬‬
‫((وإذا مرضت فهو يشفني‪)).‬‬
‫وحول اآلية شاهد عصام جمموعة من الشهادات العاملية وقد حفت هبا‬
‫كحناحني‪ ،‬فأخذت عيناه تلتهمان ما كتب على الشهادات املعلقة بفضول‬
‫جارب ‪..‬‬
‫(( ‪-‬هذه شهادة (البكالوريوس)‪ ..،‬وهذه شهادة (املاجستري)‪ ..‬وهذه‬
‫شهادة (الدكتوراة)‪ ...‬وهذه‪ ...‬آه‪...‬‬
‫هذا هو (البورد) الذي حصل عليه‪ ..‬يا للروعة‪ ..‬وتلك‪ ..‬تلك هي شهادة‬
‫زمالة‪ ..‬صحيح‪ ..‬إنه زميل يف اجلمعية األمريكية للسرطان‪ ..‬وتلك الصورة‪..‬‬
‫ال بد أهنا صورة تذكارية ملراحل دراسته املختلفة‪ ..‬أما تلك الصورة القدمية‬
‫اليت بدا فيها الطلبة بلباسهم القدمي الذي انقرضت (موضته) اليوم فهي ال‬
‫بد وأهنا تضم خرجيي دفعته الذين حازو على (البكالوريوس)‪ ..‬آه‪ ..‬يا هلذا‬
‫األستاذ الكبري‪ ..‬تراين مىت سأصبح مثله؟!‬
‫قال الدكتور إياد وهو منهمك بإعداد امللف‪:‬‬
‫‪-‬هذا املريض املسكني الذي خرج منذ قليل‪..‬‬
‫‪-‬ما قصته؟‬
‫‪-‬مصاب بسرطان الرئة‪ ..‬ال أعتقد أنه سيعيش كثرياً رغم اكتشايف املبكر‬
‫للمرض‪!.‬‬
‫‪-‬ال شك بأنه مدخن‪.‬‬
‫‪-‬هو كذلك‪ ..‬إنه مدمن على التدخني‪.‬‬
‫‪-‬عجيب أن ال يعترب الناس بأمثاله‪ ..‬حيرقون أمواهلم وأرواحهم بأيديهم ‪..‬‬
‫‪-‬ماذا تفعل؟‪ ..‬هذا زمن املفارقات‪ ..‬يبيعون السجائر باملاليني ويروجون هلا‬
‫بكل وسائل الدعاية وفنوهنا‪ ،‬مث تقرأ على أغلفة علب السجائر حتذيرا يقول‪:‬‬
‫((الدخان سبب رئيسي لسرطان الرئة وأمراض القلب والشرايني فاجتنبوه‪)).‬‬
‫‪-‬شر البلية ما يضحك‪.‬‬
‫‪-‬ليتها بلية واحدة‪ ..‬إهنا باليا ‪..‬‬
‫‪-‬ما يرعبين أن التدخني استشرى يف أوساط املراهقني‪..‬‬
‫توقف الدكتور إياد من الكتابة وقال‪:‬‬
‫‪-‬ليت األمر يقف عند التدخني‪ ..‬اسأل اآلن عن املخدرات!‪ ..‬املخدرات‬
‫بدأت تتسرب إىل جمتمعنا وهتدد شبابنا‪.‬‬
‫‪-‬إهنا ضريبة التلخف‪..‬‬
‫‪-‬بل هي أمراض احلضارة‪ ..‬نتلقفها يف غباء‪ ..‬حتملها إلينا األفالم املاجنة‬
‫والقص الرخيصة‪ ،‬وتروج هلا نفوس مريضة وعقول هدامة تنفث مسومها‬
‫هنا وهناك‪ ،‬لتقتل خاليا العافية اليت بدأت طالئعها تتشكل يف جسم‬
‫جمتمعنا املريض‪.‬‬
‫مث أردف الدكتور وقد أملت به فكرة طارئة‪:‬‬
‫‪-‬باملناسبة‪ ..‬عندي معلومات مثرية عن صفوان ‪..‬‬
‫‪-‬تقصد‪..‬‬
‫‪-‬أجل‪ ..‬زميلكم ((صفوان))‪ ..‬جاءين ضابط يف الشرطة منذ فرتة ليعاجل‬
‫والده عندي‪ ..‬وبعد أن تعارفنا سألين فيما إذا كنت أعرف طالبا يف كلية‬
‫الطب بإسم ((صفوان الناعم)) فأجبته بأنه طالب عندي وال يشرفين أن‬
‫أكون أستاذه‪ ،‬فأيدين يف رأيي وروى يل أهنم اكتشفوا حبوزته كمية من‬
‫املخدرات جلبها معه من ((إيطاليا)) بعد أن قضى فيها إجازة الصيف‬
‫املاضي وكاد أن يدخل السجن لكن والده سارع إلنقاذه مبا ميلك من مال‬
‫ونفوذ وقد أفلح‪..‬‬
‫هتف عصام يف إنكار‪:‬‬
‫‪-‬هبذه البساطة؟‪!.‬‬
‫ارتسمت على شفيت الدكتور ابتسامة ذات معىن وقال وهو يستأنف‬
‫الكتابة‪:‬‬
‫‪-‬ما خفي كان أعظم‪ ..‬لقد بات املال يوجه ضمائر الكثريين‪ .‬إنه حديث‬
‫يطول‪ ..‬عن إذنك‪ ،‬ها قد أوشكت على النهاية‪ ..‬سرح عصام خبياله يفكر‬
‫يف أمر صفوان‪ ،‬لكنه مل يستغرب ما مسعه عنه‪ ،‬فشاب يف أنانيته وغروره ال‬
‫هوى قد يولد يف نفسه مهما كان‬ ‫شك بأنه عاجز عن كبح أي ميل أو ً‬
‫نوعه‪ ،‬وقد مسع عن املخدرات وما تفعله املخدرات فاستهوته التجربة فمضى‬
‫فيها دون أن يردعه عقل أو إرادة أو ضمري‪ ..‬ومل جيد عصام يف اهتمامه‬
‫حيزا أكرب من هذا يتسع لصفوان فأمهل ذكره‪ ،‬واستجاب خلواطره اليت راودته‬
‫من جديد‪ ،‬وانطلقت نظراته تستطلع معامل هذه العيادة اجلميلة األنيقة‪،‬‬
‫لتقف عن املكتبة الفاخرة اليت صنعت من اخلشب النفيس‪ ،‬وصممت بذوق‬
‫وإتقان بديعني‪ ،‬وقد رصفت وراء زجاجها الرباق جملدات ضخمة تضم‬
‫أشهر املراجع الطبية العربية واألجنبية‪ .‬كما رأى رفاً كامال من اجمللدات‬
‫الطبية والعاملية‪ ،‬وإىل جانب املكتبة رأى خزانة كبرية من الزجاج وقد غاصت‬
‫باألدوية والعقاقري املختلفة‪ ،‬وحانت منه التفاتة إىل اخللف فرأى سريراً طبياً‬
‫حديثاً‪ ،‬وإىل جانبه منضدة طويلة احتشدت عليها األدوات الطبية املختلفة‪.‬‬
‫وبعد أن اسرتجع نظراته املتأملة أرسل تنهيدة صامتة وغاب يف خضم‬
‫األحالم الواعدة‪..‬‬
‫((عندما سأفتح عياديت سأستعني بنموذج هذه العيادة الفخمة مضيفا إليها‬
‫أحدث ما جاءت به معارض األثاث ((والديكور))‪ ..‬آه‪ ..‬مىت سيأيت ذلك‬
‫اليوم السعيد؟‪ ..‬مىت ستحني حلضات احلصاد الكبري؟‪ .‬ومىت سأقطف‬
‫الثمار؟‪ ..‬مثار التعب املتواصل واإلنتظار الطويل!‪ .‬بودي لو تدور األيام‬
‫بسرعة ألجد نفسي طبيبا كبريا تقتحم شهرته اآلفاق‪ ،‬وتغ عيادته الفخمة‬
‫باملرضى القادمني من كل مكان‪ ،‬يطلبون الشفاء على يديه‪ ،‬ويتحدثون عن‬
‫جناحه ومهارته وإخالصه‪ ،‬ويغبطونه على ما أنعم اهلل عليه من النعم الكبرية‪.‬‬
‫ستكون عياديت وسط املدينة ويف أرقى أحيائها‪ ..‬ستكون عيادة فخمة جمهزة‬
‫بأحدث األجهزة واملعدات‪ ،‬ولكن‪ ..‬يا هلا من فكرة‪ ..‬ملاذا ال أفتح‬
‫مستشفى ملعاجلة أمراض السرطان‪ ..‬مستشفى حديث يكون األول من نوعه‬
‫يف البالد‪ ..‬يعمل فيه املتخصصون يف هذا اجملال‪ ..‬سأعمل فيه أنا وسامية‬
‫وسعد وبقية األصدقاء‪ ..‬يا هلا من فكرة رائعة‪ ،‬ولكن من أين نأيت باملال‪..‬‬
‫إنه مشكلة املشاكل‪ ..‬ما أروع املال والطموح إذا اجتمعا ال سيما إذا كان‬
‫الطموح إنسانيا ومفيداً يعود باخلري على مجيع الناس‪ ..‬املال!‪ ..‬املال!‪ ..‬من‬
‫فتدر علي‬‫علي فأجين مثار جناحي‪ّ ،‬‬ ‫أين نأيت باملال؟‪ ..‬ال بأس سيفتح اهلل َّ‬
‫تدر علي‬ ‫عياديت املرتقبة ثروة كبرية أبذهلا وقودا حللمي الكبري‪ ..‬حىت ولو مل ّ‬
‫الدخل املأمول‪ ..‬سأبيع أرضنا اليت يف الريف‪ ،‬وسأطلب مسامهة األصدقاء‬
‫وتعاوهنم‪ ..‬سيكون احتادنا قوة ترفد أحالمنا وتبعث فيها احلياة و‪ ..‬ملاذا مل‬
‫أفكر يف هذا من قبل؟‪ ..‬سأجلأ إىل عمي املقيم يف األرجنتني وأطلب‬
‫مسامهته فهو تاجر ناجح تتدفق األموال بني يديه‪ ،‬وهو لن خيذلين‪ ..‬أمل‬
‫يقل يل يف رسالته األخرية أنه يعتربين مبثابة ابنه وأنه مستعد لتلبية كل ما‬
‫أطلب؟‪ ..‬وأنا لن أطلب منه طلبا شخصيا‪ ..‬إنه طلب إنساين من أجل‬
‫مشروع وطين خريي يعود بالفائدة على كل الناس‪ ..‬كما أنه سوف ينال‬
‫نصيبا من األرباح اليت سيعود هبا املشروع‪ ..‬فكرة عظيمة تستحق التفكري‬
‫وسأبدأ باإلعداد هلا من اآلن‪ ،‬سأقنع األصدقاء باإلهتمام هبذا اإلختصاص‬
‫حىت تتوفر لدينا اخلربات الكافية‪ ،‬ولكن‪ ..‬ملاذا أذهب بعيدا‪ ..‬هذا هو‬
‫الدكتور إياد‪ ..‬ال شك بأنه سريحب هبذه الفكرة ويدعمها إىل أبعد‬
‫احلدود‪ ..‬ال شك بأنه ف ّكر هبا من قبل‪ ..،‬السأله‪ ..‬هذا الرجل العظيم‪..‬‬
‫إنه مهندس أحالمي وطموحايت‪)).‬‬
‫طوى الدكتور إياد امللف‪ ،‬ووضعه جانبا‪ ،‬مث أعاد القلم إىل حاملة األقالم‪،‬‬
‫ونزع نظارته وقال وهو جيلو ناظريها‪:‬‬
‫‪-‬أهال بك يا بين‪ ..‬ها قد فرغت لك‪ ..‬ما أخبارك؟‬
‫‪-‬لقد عرضت الفكرة على الوالدة فوافقت هبا بعد حوار طويل‪ .‬إهنا تشعر‬
‫باألسف الذي شهد أحلى ذكرياهتا مع الوالد رمحه اهلل‪.‬‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ ..‬إنين أفهم موقفها‪ .‬إهنا على ما يبدو امرأة شديدة الوفاء‪ .‬املهم‬
‫أهنا وافقت ‪..‬‬
‫‪-‬ولكن شريطة أن تتقاضى منها أجراً على السكن ‪.‬‬
‫‪-‬هل تريدين أن أتقاضى أجرا على ضيافتكم عندي؟‪ ..‬هذا ال يكون‬
‫أبدا‪..‬‬
‫‪-‬دكتور إنك هبذا تعقد األمور‪..‬‬
‫‪-‬لكين أنا الذي دعوتكم للسكن‪ ،‬ولستم أنتم الذين طلبتم ذلك‪ ..‬فرق‬
‫كبري يا بين بني األمرين‪ ،‬كما أن السبب الذي طلبت من أجله انتقالك إىل‬
‫جانيب سبب قوي تتضاءل أمامه قضايا املادة‪ .‬لن أعيد ذلك يف كل مرة‪ ،‬مث‬
‫أن األمر ليس إحسانا فأنتم على ما فهمت منك يف حالة مادية مرحية‬
‫واحلمدهلل‪ .‬لقد قصدت بإقرتاحي توفري الوقت واجلهد‪ ..‬إنين من أنصار‬
‫احللول احلامسة‪ ..‬احللول العملية اليت تتجاوز اجملامالت واإلعتبارات‬
‫الشخصية‪ ،‬ال سيما عند توفر الثقة والتعاون واإلنسجام‪.‬‬
‫حار عصام يف أمره فكلمات الدكتور إياد منطقية ومقنعة‪ ،‬لكنه يصعب‬
‫عليه أن يقنع هبا أمه اليت منت كربياؤها مع األيام‪ ،‬فلم ترضى من أحد شفقة‬
‫أو مساعدة‪ ،‬حىت كلمات املواساة ترفضها من الناس‪ ،‬وكأهنا تريد أن تثبت‬
‫هلم أهنا قوية يف غياب زوجها كما كانت يف ظالله‪ ،‬فكيف يقنعها أن‬
‫تسكن يف بيت ليس ملكها دون أن تدفع أجرته؟‪ ..‬كيف سيتحايل على‬
‫حساسيتها املفرطة اليت حت هم كل تصرف أكثر من معناه؟‪!.‬‬
‫وأحس الدكتور إياد حبرية عصام فأدرك أنه لن يستطيع أن يستمر مع أمه‬
‫إىل أبعد مما وصل إليه فقال بعد تفكري وقد وجد حال‪:‬‬
‫‪-‬إمسع‪ ..‬لدي فكرة مناسبة‪ ..‬فكرة ترضي الطرفني‪ ..‬سأتقاضى أجرا‬
‫لسكنكم عندي‪ ،‬سآخذ منكم األجر الذي تؤجر به أي شقة يف حجم‬
‫شقيت ومستواها‪ ،‬ولكن بشرط أن تتقاضي مين أجراً لقاء دوامك يف‬
‫عياديت‪ ..‬سأعطيك الراتب الذي يتقاضاه عادة أي طبيب متمرن يف‬
‫املستشفى‪ ،‬هذا كالم هنائي ال رجعة فيه‪.‬‬
‫‪-‬أستاذ إنك حترجين هبذه العروض‪ ،‬تكفيين اخلربة اليت ستقدمها يل أجرا‬
‫يفوق كل أجر‪ ..‬يكفيين اهتمامك األبوي الغامر الذي يزرع يف نفسي الثقة‬
‫ويدفعين قدما إىل األمام‪..‬‬
‫‪-‬إين أعطيك اخلربة وأمنحك اإلهتمام كأستاذ يتوجب عليه ذلك‪.‬‬
‫‪-‬لكنك تفعل أكثر من الواجب؟‪.‬‬
‫(( ‪-‬وأنت ستبذل أكثر مما يبذله أي طالب‪ ..‬سوف تبذل جهداً يستحق‬
‫املكافأة‪ ،‬لعلك ال تدرك العناء الذي ينتظرك عندما ستعمل معي‪ ..‬لن‬
‫أرضى منك أقل من أربع ساعات من العمل املتواصل بالرغم من كل‬
‫مشاغلك والتزاماتك األخرى‪ ،‬فال أقل من أن تأخذ مثنا لبعض اجلهد الذي‬
‫تقدمه‪ ..‬صدقين سأعتمد عليك كثريا يف عملي‪)).‬‬
‫‪-‬أرجوك أن تعفيين من هذا األمر‪.‬‬
‫‪-‬هل تضيفون يف شقيت دون أجر؟‬
‫‪-‬هذا أمر وذاك غريه‪..‬‬
‫‪-‬أبداً‪ ،‬إهنا املعاملة باملثل‪.‬‬
‫كابد عصام حرية شديدة الحت معاملها على وجهه فقال وهو يداري‬
‫ارتباكه‪:‬‬
‫‪-‬أجد صعوبة يف القبول بشروطك‪.‬‬
‫‪-‬هل لديك حل آخر؟‬
‫‪-‬يف احلقيقة ال أدري ماذا أقول؟؟‬
‫‪-‬لنقل على بركة اهلل الوقت جداً قصري والفكرة تشكل أنسب صيغة‬
‫للتعامل بيننا دون حرج‪ ..‬ماذا قلت؟‬
‫تردد عصام قائال مث مهس بنربة مستسلمة‪:‬‬
‫‪-‬على بركة اهلل‪..‬‬
‫‪-‬قال الدكتور إياد حماوال ختفيف وطأة اإلرتباك واحلياء اللذين سيطرا على‬
‫عصام‪:‬‬
‫(( ‪-‬ال عليك يا بين‪ ..‬عما قريب بإذن اهلل ستقدم يل أعظم مكافأة عندما‬
‫أرى فيك شبايب الغابر الذي طواه املشيب‪ ..‬عندما كنت يف مثل سنك‬
‫كانت يل طموحايت الكبرية وآمايل العريضة‪ ،‬لكين مل أجد من يشجعين‬
‫ويوظف طاقايت ويطورها كما أنوي أن أفعل معك من خالل جتربتنا هذه‪..‬‬
‫لكن ما وصلت إليه ال‬ ‫عملت جهدي حىت وصلت إىل ما ترى واحلمدهلل‪َّ ،‬‬
‫يساوي شيئاً أمام ما كنت أحلم به‪ ،‬لكنك أنت ستصل إىل أبعد مما‬
‫إين واثق من ذلك ألنين سوف أقدم أقدم لك جترتيب‬ ‫وصلت إليه أنا‪ .‬ه‬
‫الكاملة‪ ,,‬سأدلك على مواطن الضعف فيها لتتجنبها‪ ،‬وسألفت نظرك إىل‬
‫معامل النجاح فيها لتتمثلها‪ ..‬لنس هم هذا عملية تواصل بني جيلي وجيلك‪،‬‬
‫فال بد لألجيال من تبادل التجارب وتناقلها‪ ..‬هذا أمر مهم لعملية التنمية‬
‫ولو أن كل جيل َّ‬
‫مد الذي يليه مبعارفه وخرباته‪ ،‬إذن لقرأنا يف حركة أمتنا‬
‫قصة املد الصاعد حنو العالء‪ ..‬عصام‪ ..‬إنين أبين عليك اآلمال‪.. )).‬‬
‫نقلت كلمات الدكتور إياد عصاماً إىل عامل آخر بعد أن جردته من ارتباكه‬
‫وخجله فهام يف خواطره‪ ،‬وتراءى له املستقبل بكل ما حيمله من ازدهار‪،‬‬
‫وحتركت يف أعماقه أشواق غامضة هي أقرب إىل النشوة‪ ،‬وأحس يف كيانه‬
‫وهم أن ميضي من حلضته ليقوم مبا متليه عليه‬ ‫نشاطاً يدفعه للعمل والكفاح‪ّ ،‬‬
‫طاقته الكامنة اليت حتفزت للعمل‪ ،‬لكنه تذكر فكرة املستشفى الذي‬
‫خالطت خياله منذ قليل فقال‪:‬‬
‫‪-‬دكتور‪ ،‬هل فكرمت بإنشاء مستشفى متخص مبعاجلة السرطان يف البلد؟‬
‫ابتسم الدكتور وقال‪:‬‬
‫‪-‬ال أكتمك بأين فكرت هبذا األمر –أنا وبعض أصدقائي‪ -‬إهنا أمنية‬
‫تداعب خيالنا منذ زمن بعيد ولكن الوقت ما زال مبكراً لتحقيقها‪ ،‬ألن‬
‫كوادرنا الطبية املهتمة بالسرطان قليلة‪ ،‬كما أن تكاليف هذا املشروع باهضة‬
‫جداً‪ ..‬إهنا تتطلب إمكانيات هائلة‪.‬‬
‫‪-‬ولكن الدولة لديها إمكانيات تفي بالغرض‪..‬‬
‫(( ‪-‬ليس بالضبط‪ ..‬لقد حبثت األمر مع وزير الصحة بالذات‪ ،‬فأخربين بأن‬
‫ميزانية الدولة يف الوقت احلايل ال تسمح بذلك وتكتفي احلكومة يف الوقت‬
‫احلاضر بافتتاح فروع يف املستشفيات الكربى لتشخي ومعاجلة السرطان‪،‬‬
‫جمهز بأحدث التجهيزات‬ ‫لكنها ال تكفي‪ ..‬إننا فعال حباجة إىل مستشفى َّ‬
‫الطبية الشعاعية والنووية واجلراحية إضافة إىل خمابر األحباث احلديثة‬
‫والكفاءات الطبية الفنية املاهرة‪..)).‬‬
‫قال عصام وقد شعر باألسف‪:‬‬
‫‪-‬الضعف اإلقتصادي يقف دائماً عقبة يف طريق تطورنا‪!.‬‬
‫‪-‬ماذا تفعل؟‪ ..‬ومع ذلك ترى جمتمعنا متهافتا على الكماليات ومستهرتاً‬
‫باألهم‪.‬‬
‫‪-‬شئ مؤسف‪ .‬األمر على ما يبدو أصعب مما ختيلت‪!..‬‬
‫‪-‬ال عليك‪ ..‬لدي إحساس بأن مثل هذا املشروع سيقوم يوماً‪ ..‬لعله يقوم‬
‫على أيديكم‪...‬‬
‫وقطع حديثهما قرع خفيف على الباب وأطلت منه املمرضة قائلة‪:‬‬
‫‪-‬لقد جاء املريض يف موعده فهل أدعه ينتظر؟‬
‫(( ‪-‬بل دعيه يدخل‪ .‬هذا حقه والدكتور عصام سيعذرنا بال شك‪)).‬‬
‫قال عصام وهو يهم بالنهوض‪:‬‬
‫‪-‬طبعاً‪ ..‬طبعاً‪ ،‬أستأذنك اآلن باإلنصراف‪..‬‬
‫تنس‪ ..‬سيبدأ مشروعنا منذ الغد فلتوطن نفسك على‬ ‫‪-‬تفضل‪ ،‬ولكن ال َ‬
‫دأب طويل‪ .‬أما بالنسبة ملوضوع السكن فالشقة يف انتظاركم وال مناص لك‬
‫من املوافقة؟‪..‬‬
‫‪-‬إن شاء اهلل‪ ..‬واآلن وداعاً‪..‬‬
‫‪-‬بل إىل اللقاء‪...‬‬
‫***‬
‫الفصل التاسع‬
‫يف حديقة اجلامعة حيلو اللقاء‪ ،‬ال سيما يف فصل الربيع الذي حيفها هبالة من‬
‫الروعة واجلمال‪ ،‬تفنت الناظر‪ ،‬وتشده إليها ليستمتع خبضرهتا اخلالبة‪ ،‬ويغرف‬
‫من عبقها الفواح فيغسل به روحه املتعبة من أدران احلياة‪...‬‬
‫وبني أزهارها املتألقة‪ ،‬ويف ظالل أشجارها الباسقة‪ ،‬وعلى بساط سندسي‬
‫ممتد من احلشائش اخلضراء كان الطلبة يتحلقون يف جمموعات منسجمة‪،‬‬
‫غارقني يف أحاديث شىت‪ ..‬عن اجلامعة‪ ..‬وعن املستقبل‪ ..‬وعن احلياة بكل‬
‫ما فيها‪ ،‬يطرحون املشاكل ويتبادلون اآلراء‪ ،‬وتند عنهم الصيحات‬
‫والضحكات اليت تضفي على جو احلديقة حياة فريدة‪ ،‬تبعثها أرواح شابة‬
‫ختفق بأعذب األحالم واآلمال وهي تتلمس طريقها إىل غدها الواعد‬
‫ومستقبلها املنشود‪...‬‬
‫ويف ركن هادئ من أركان احلديقة الفسيحة‪ ،‬كان عصام جيلس على كرسي‬
‫منعزل‪ ،‬منهمكاً يف مطالعة جملة طبية كان قد استعارها من مكتبة الدكتور‬
‫إياد‪ ،‬وبني احلني واآلخر كان يرمي بنظراته اهلادئة إىل خضرة احلديقة املوشاة‬
‫باألزهار والرياحني‪ ،‬فتشف روحه وحتلق يف عامل من الصفاء املريح‪ ،‬فتقبس‬
‫منه قبسات لذيذة تغرق كيانه بالسعادة‪ ،‬وتبعث يف ذهنه النشاط‪ ،‬فيعود إىل‬
‫اجمللة يف شوق‪ ،‬ليلتهم سطورها يف شهية للمعرفة ال تقاوم ال يزعجه إال تلك‬
‫اهلمهمة الغامضة اليت تصدر عن أحاديث الطلبة املختلطة القادمة من بعيد‪،‬‬
‫يتخللها فاصل متقطع من وقع األقدام العابرة‪ ،‬وهي تقطع الطريق إىل غايتها‬
‫عرب األرصفة اليت خترتق احلديقة الغناء‪..‬‬
‫وانساب إىل مسعه صوت هادئ يلقي عليه السالم‪ ،‬فرفع إىل صاحب‬
‫الصوت عينني تشعان وداً واحرتاماً‪ ،‬وهنض إليه يف هلفة وشوق وهو ميد له‬
‫يد الرتحيب‪:‬‬
‫‪-‬وعليكم السالم‪ ..‬أهالً سعد‪..‬‬
‫قال سعد بعد أن تصافحا حبرارة األصدقاء وقد احتفظ كل منهما بيد‬
‫اآلخر يف كفه وهو يشد عليها يف مودة ظاهرة وكأنه ال يريد أن يفارق‬
‫صاحبه‪:‬‬
‫‪-‬كيف أنت يا عصام؟‬
‫‪-‬يف شوق إليك يا صديقي‪ ..‬أال جتلس معي؟‬
‫‪-‬بودي أن أجلس‪ ،‬لكين أراك مشغوالً‪ ..‬ما الذي تقرأه؟‪...‬‬
‫‪-‬جملة طبية صادرة عن اجلمعية األمريكية للسرطان‪ ..‬اقرأها إن أحببت‪.‬‬
‫‪-‬ال بد وأهنا حتوي أحباثاً قيمة‪...‬‬
‫‪-‬فيها حبث طويل عن التدخني وعالقته بسرطانات الرئة‪ ،‬اجلس معي فأنا‬
‫يف شوق ألحاديثك املمتعة‪.‬‬
‫‪-‬قلب سعد صفحات اجمللة بسرعة وقال وهو يهم باجللوس‪:‬‬
‫‪-‬لو تعلم كم سررت عندما رأيتك جالساً هنا‪..‬‬
‫‪-‬مل جنلس معاً منذ زمن‪!.‬‬
‫‪-‬لقد أصبحت صيداً مثيناً يف هذه األيام‪ .‬مل يعد أحد يراك خارج أوقات‬
‫الدوام‪ ..‬تأيت مسرعاً وخترج مسرعاً وكأنك ال تعيش معنا يف كلية واحدة‪!!.‬‬
‫‪-‬ماذا أفعل يا صديقي‪ ..‬الواجبات أكثر من األوقات كما يقول الدكتور‬
‫إياد‪ ،‬ولوال هذا التعديل الذي طرأ على برنامج اليوم بتأخري موعد احملاضرة‬
‫مقدار ساعة ملا صادفتين هنا‪.‬‬
‫هتف سعد كمن تذكر‪:‬‬
‫‪-‬آه ‪ ..‬صحيح ما أخبارك مع الدكتور إياد؟؟‬
‫‪-‬أخبار طيبة‪ ..‬علم غزير‪ ،‬وخربة متنامية‪ ،‬وصحبة كرمية لرجل عظيم‬
‫وأستاذ جليل‪ ،‬ميدك دوماً مبالحظاته الدقيقة ونصائحه العميقة وجتاربه‬
‫الثرية‪..‬‬
‫مهس سعد وهو يرمق صديقه يف إعجاب‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬إنك تدهشين‪ ..‬كيف تستطيع أن توفق بني دراستك ومالزمتك‬
‫للدكتور إياد وأمورك األخرى؟‬
‫زفر عصام زفرة عميقة وشت مبا يعانيه من إجهاد وعناء وقال‪:‬‬
‫‪-‬ال أكتمك يا سعد‪ ،‬إين أعاين من كثافة املشاغل وضيق الوقت وضغط‬
‫األعباء‪ ،‬لكن تشجيع الدكتور إياد وإصراري على حتقيق طموحي‪ ،‬مها‬
‫اللذان يدفعاين للمتابعة ولوالمها لكنت تراجعت منذ زمن‪ ..‬هل تعلم؟‪..‬‬
‫خف وزين خالل األشهر القليلة املاضية سبعة كيلو جرامات‪.‬‬ ‫لقد َّ‬
‫‪-‬وكم تنام يف اليوم ؟‬
‫‪-‬مخس ساعات تقريباً‪ .‬الوالدة تنهرين‪ ،‬فأمنيها باملستقبل فرتضخ إلراديت‬
‫بأن سكين اجلديد يف عمارة الدكتور إياد قد وفّر علي‬ ‫على مضض‪ ،‬علماً َّ‬
‫الكثري من الوقت واجلهد فهو – كم تعلم – قريب من اجلامعة وقريب من‬
‫عيادة الدكتور إياد يف آن واحد‪..‬‬
‫‪-‬وبيتكم القدمي‪ ..‬ماذا فعلتم به؟‬
‫‪-‬لقد أجرناه لنستفيد من أجرته‪ ..‬سعد‪ ..‬ملاذا ال تنضم إلينا‪ ..‬لقد حدثتين‬
‫كثرياً فيما مضى عن اهتمامك بالسرطان وميلك لالختصاص فيه‪ ،‬كما أن‬
‫الدكتور إياد سريحب بانضمامك فهو ميدح دائماً تفوقك وسلوكك املمتاز‪.‬‬
‫‪-‬حقاً؟‪ ..‬هذه نظرة أعتز هبا‪ ..‬كان بودي االنضمام إليكما لكين بصراحة‬
‫ال أملك جلدك ودأبك‪ ..‬سأكتفي بزيادة مطالعايت حول السرطان ريثما‬
‫أخترج مث‪..‬‬
‫وقطع حديثهما صوت بعيد يلقي التحية فرد عليه سعد‪:‬‬
‫‪-‬أهال ((عرفان))‪ ..‬هلم إلينا‪..‬‬
‫وأردف عصام‪:‬‬
‫‪-‬تعال إىل هنا يا عرفان‪ ،‬مل نرك منذ زمن‪..‬‬
‫مضت برهة ريثما انضم اليهما عرفان وقد بدا سعيداً بلقائهما وابتسامته‬
‫املعهودة تتوج ثغره الضاحك وما إن وصل حىت ارمتى بينهما على الكرسي‬
‫اخلشيب الطويل قائالً لعصام‪:‬‬
‫‪-‬لتتكلم عن نفسك يا عصام‪ ،‬أنت الذي مل تعد تظهر بيننا‪ .‬لقد‬
‫استغرقتك مشاغلك الكثرية وأبعدتك عنا‪ ..‬جيب أن تعرتف بذلك يا‬
‫أستاذ‪...‬‬
‫مث وهو يلتفت حبديثه إىل سعد‪:‬‬
‫لقد أصبح األخ كالبدر‪ ..‬يظهر كل شهر مرة‪ ،‬وقد ال يظهر‪...‬‬
‫مث التفت إىل عصام ثانية وقال‪:‬‬
‫‪-‬أصبحنا ال نراك إالّ مسرعاً‪ ..‬تأيت إىل احملاضرات وهي توشك على البداية‬
‫وما إن تنتهي حىت تطوي كراستك ومتضي‪ ..‬تصور يا سعد‪(( ..‬عصام‬
‫السعيد)) أصبح جيلس يف الصفوف األخرية من املدرج‪ ،‬وهو الذي مل يتنازل‬
‫عن مكانه يف الصف األول منه منذ السنة األوىل‪ .‬هل تذكر كيف كان‬
‫حيجز لنا املقاعد األمامية؟‬
‫مث أردف ضاحكاً‪:‬‬
‫‪-‬كان الطلبة يندهشون لوجودي يف الصف األول وأنا املشهور بالتأخر‬
‫املزمن عن احملاضرات‪ (( ...‬ها‪ ..‬ها‪ ..‬ها‪)).‬‬
‫ضحك الثالثة يف ود مث ما لبث عرفان أن استأنف حديثه قائالً‪:‬‬
‫‪-‬أنت السبب يا عصام فال تسألن عن قلة رؤيتنا لك‪ ..‬أنت الذي مل تعد‬
‫تسعى للقائنا‪ ،‬أما حنن فإننا نلتقي دائماً‪ ..‬أنا وسعد وجمدي وهباء وعثمان‬
‫و‪ ..‬على فكرة‪ ..‬حنن مدعوون مساء الثالثاء القادم على مأدبة عشاء فاخرة‬
‫عند عثمان‪ ،‬ولن ندعوك طبعا‪.‬‬
‫تساءل عصام يف مرح‪:‬‬
‫‪-‬وملاذا؟‬
‫‪-‬ألنك يا عزيزي أصبحت تنتمي إىل طبقة جديدة‪ ..‬طبقة العلماء‬
‫والباحثني واحلفلة معدة لطبقة الطلبة املساكني‪ ،‬فأين حنن منك يا‬
‫صديقي؟‪ ..‬أين الثرى من الثريا؟!‬
‫ضحك عصام طويالً مث قال‪:‬‬
‫‪-‬ساحمك اهلل يا عرفان‪ ..‬منذ مىت مل أضحك هذا الضحك!‬
‫‪-‬مجيل أن جتد وقتاً لتضحك‪ ..‬بودي لو كان حبوزيت آلة تصوير‪..‬‬
‫‪-‬ملاذا؟‪!..‬‬
‫‪-‬ألمجد هذه اللحضات وأحصل على صورة لك وأنت تضحك قبل أن‬
‫تنقرض الضحكة من على شفتيك‪.‬‬
‫مث هنض عرفان وهو يقول‪:‬‬
‫‪-‬ائذنا يل اآلن‪ ..‬لدي ((مشوار)) مهم قبل أن حيني موعد احملاضرة‪.‬‬
‫هتف عصام يف توسل وهو يشده من يده ليجلس‪:‬‬
‫‪-‬ابق معنا يا عرفان‪ ..‬حديثك ميتعين‪ ..‬لتؤجل ((مشوارك)) هذا‪.‬‬
‫صاح عرفان‪:‬‬
‫‪-‬إال هذا ((املشوار‪))...‬‬
‫‪-‬يبدو أنه على درجة من األمهية‪!.‬‬
‫مال عرفان على عصام ومهس‪:‬د‬
‫‪-‬لقد صدقت فأنا على موعد مع القمر‪.‬‬
‫‪-‬القمر؟‪!..‬‬
‫قال سعد وقد مسع حتاورمها‪:‬‬
‫‪-‬يقصد خطيبته‪ ..‬إهنا طالبة يف كلية اآلداب‪ ،‬وهو ينتهز األوقات‬
‫لرؤيتها‪...‬‬
‫‪-‬حقاً؟‪ ..‬مربوك‪ ..‬ألف مربوك يا عرفان‪ ..‬ملاذا مل ختربين بذلك؟‪.‬‬
‫‪-‬ومىت رأيتك حىت أخربك؟‬
‫‪-‬كفاك يا عرفان‪ ..‬لقد أوغلت يف املبالغة!‬
‫قال عرفان وقد احنىن فيما يشبه الركوع ويداه تستندان على فخذيه‪:‬‬
‫‪-‬قد أكون مبالغاً‪ ،‬لكن صدقين أنك أصبحت وكأنك تنتمي إىل عامل‬
‫آخر‪...‬‬
‫‪-‬عامل آخر‪!..‬‬
‫‪-‬أجل‪ ...‬عامل آخر‪.‬‬
‫مث قهقه قائالً وهو ميضي‪:‬‬
‫‪-‬إنه عامل السرطان‪...‬‬
‫***‬
‫هبت نسمات الربيع هادئة لطيفة فداعبت الوجوه الشابة وأنعشت النفوس‬
‫احلاملة‪ ،‬وبعثت يف احلديثة حياة جديدة فتمايلت األشجار الفارعة يف‬
‫جالل‪ ،‬وخطرت الورود واألزهار يف دالل ختتال بفتنتها اخلالبة وترسل‬
‫بأرجيها العطر ليلفت إليها القلوب واألنظار‪...‬‬
‫قال عصام وهو يرنو إىل زهرة مجيلة‪:‬‬
‫‪-‬لشد ما يستهويين منظر الورود واألزهار!‬
‫‪-‬كلنا ذاك الرجل‪...‬‬
‫‪-‬عندما أنظر إليها تسربلين‪ ،‬طمأنينة غامرة‪ ،‬وتشعر نفسي باالرتواء‪ ،‬وكأهنا‬
‫تغرف من حبر األمان اخلالد‪.‬‬
‫‪-‬نفس الشعور ينبثق يف نفسي‪ ،‬لكن مثة شعور آخر يهزين من األعماق‪...‬‬
‫‪-‬الشعور بعظمة اهلل‪ ،‬أليس هذا ما تريد قوله؟‬
‫أرسل سعد تنهيدة عميقة وشت بانفعاله وقال وقد ملعت عيناه بأنداء من‬
‫الدمع‪:‬‬
‫‪-‬هذا ما أردته فعالً‪ ..‬عندما أرمق الزهور حتلق روحي يف عامل من الصفاء‬
‫اخلال ‪ ..‬صفاء يقودين إىل خشوع غامر عميق إزاء عظمة اهلل وقدرته‬
‫اخلالدة‪..‬‬
‫مهس عصام وقد اهتزت نفسه لكلمات سعد املؤمنة الندية‪:‬‬
‫‪-‬إنك شاب شديد اإلميان يا سعد‪ .‬لكم يسدين حديثك عن اهلل‪...‬‬
‫اهلل‪ ...‬هو احلقيقة اليت احنسرت من حياتنا فغابت بغياهبا كل القيم النبيلة‬
‫وأصبحت احلياة أشبه بغابة‪!..‬‬
‫مث أردف بنربة آسفة‪:‬‬
‫‪-‬يا للجحود‪ ..‬ترى الواحد منا إن قدم له أحد معروفاً أو خدمة شكره‬
‫عليها وحتني الفرص لريد له اجلميل واهلل‪ ...‬اهلل الذي خلقنا يف أروع صورة‬
‫وأبدع تصميم وأنعم علينا مبا ال حنصيه من النعم اليت نستمتع هبا ليل‬
‫هنار‪ ...‬اهلل الذي بيده هنايتنا ومصرينا األخري‪ ،‬ترانا غافلني عنه‪ ..‬ناسني‬
‫لفضله السابغ‪ ..‬منشغلني عنه مبا وهبنا من الطيبات‪ ..‬نلهث وراء غرائزنا‬
‫وشهواتنا‪ ..‬ال نكاد نذكره إال يف امللمات واملناسبات‪ ،‬وإن ذكرناه كان ذكره‬
‫باهتاً ميتاً‪ ..‬ال ينبض فيه حس أو ختفق فيه روح‪ ،‬وبعد كل هذا اجلحود‬
‫والنكران يفتح لنا أبواب العودة ليدلفها التائبون الصادقون‪ ،‬فيستقبلهم حبلمه‬
‫الواسع‪ ،‬ويرحم ضعفهم‪ ،‬ويبدل سيئاهتم حسنات!!!‬
‫فمست ضمريه املرهف فأحس‬ ‫تسربت كلمات سعد إىل أعماق عصام ّ‬
‫بالندم وقال وهو يكابد شعوراً بالذنب‪:‬‬
‫‪-‬لقد أشعرتين كلماتك بتقصريي وتفاهيت‪ ..‬إنين قليالً ما أذكر اهلل‪!!.‬‬
‫قال سعد وهو يشد على كتفه يف ود‪:‬‬
‫‪-‬إنك تبخس نفسك حقها هبذا الكالم فأنت تنطوي على إميان عميق‬
‫ونفس نقية يعكسها سلوكك الرفيع‪ .‬إن جمرد إحساسك بالتقصري هو نوع‬
‫من التوبة‪ ..‬إنه بداية الطريق إىل اهلل‪ ،‬ولكن‪ ..‬ينبغي أن ال نكتفي هبذا‬
‫الشعور‪ ،‬إذاً لتلبد واستحال إىل تربير لإلمهال والتقصري‪ ،‬بدل أن يكون‬
‫حافزاً للتغيري‪.‬‬
‫‪-‬ال أكتمك يا سعد‪ ..‬إن نفسي كثرياً ما هتفو إىل التدين‪ ،‬لكن مشاغل‬
‫احلياة سرعان ما تستغرقين فتذوب عزمييت يف زمحتها‪ ،‬لكين واثق من أين‬
‫سأجته إىل الدين يوماً‪..‬‬
‫‪-‬ومىت يكون هذا اليوم؟‬
‫باغت السؤال عصاماً فقال وهو يداري عجزه عن اإلجابة‪:‬‬
‫‪-‬يف احلقيقة ال أدري‪!!.‬‬
‫‪-‬لكن األمر على درجة من األمهية‪ ،‬لذا يتوجب التحديد‪.‬‬
‫‪-‬هل تريد مين أن أحدد يوماً يف مستقبل جمهول؟‬
‫‪-‬املستقبل اجملهول‪ ..‬هذا ما رمت الوصول إليه‪ .‬حنن مجيعا نقف على عتبة‬
‫مستقبل جمهول املعامل جنهل أحواله وأحداثه وهنايته‪ ،‬فال ندري مىت سيسدل‬
‫املوت ستارته السوداء على حياتنا الزاخرة‪ ،‬وال ندري مىت يأزف الرحيل‪..‬‬
‫حنن ال منلك إال للحضات احلاضرة لنقرر فيها‪ ،‬أما املاضي واملستقبل فال‬
‫منلك من أمرمها شيئاً‪ ..‬ذلك أن عجلة احلياة تدور باجتاه واحد‪ ،‬وأ ّن املوت‬
‫مل حيدث أن استأذن أحداً بالقدوم‪..‬‬
‫تساءل عصام يف نربات حزينة وشت بالضيق‪:‬‬
‫‪-‬املوت؟؟‪.‬‬
‫لكن احلياة كثرياً ما ختدعنا‬
‫‪* -‬أجل املوت إنه أوضح حقيقة يف الوجود‪ّ ،‬‬
‫وجتذبنا إليها فنتوهم أنّا باقون إىل ما ال هناية‪!.‬‬
‫‪-‬هل تريد اجل ّد؟‪ ..‬إين أخاف املوت وأخشاه!؟‬
‫ابتسم سعد وقال‪:‬‬
‫‪-‬من منا ال خياف املوت‪ ..‬كلنا خنشاه‪ ..‬هذه طبيعة اإلنسان‪ ..‬لقد جبل‬
‫على حب احلياة والنزوع إىل البقاء‪.‬‬
‫‪-‬كثريا ما فكرت فيه‪ ..‬آه ما أقساه‪ ..‬إنّه املطرقة الفضيعة اليت ستهوي يوماً‬
‫على آمالنا وأحالمنا لتعصف هبا‪ ،‬وحتيلها إىل سراب‪ ..‬إنه وحش خميف‪..‬‬
‫ينهش األرواح بأنياب نافذة ال ختطئ‪ ..‬خيتطف من حنب أو ال حنب‪..‬‬
‫خيلف الضحايا‪ ..‬ويزرع دنيانا باألحزان‪..‬‬
‫‪-‬إنه قدرنا الذي ال مفر منه‪ .‬لعل وفاة والدك ِرمحه اهلل زادت من قتامة‬
‫تصورك عن املوت؟‬
‫‪-‬هي عامل بال شك‪ ،‬ولكن تفكريي باملوت ازداد أيام كنا ندرس مادة‬
‫التشريح‪ ..‬عندما كنا نعاجل األجساد امليتة بأيدينا ونعمل فيها املشارط‬
‫واألدوات‪ ،‬ال شك أن فكرت مثلي‪.‬‬
‫‪-‬هذا صحيح‪ ..‬لطاملا فكرت فيه آنذاك‪.‬‬
‫‪-‬كان املوت يوحي يل بعجز اإلنسان وضعفه‪ ،‬فأعظم إنسان وأقوى‬
‫إنسان وأغىن إنسان يتحول مبوته إىل كومة تافهة من العظم واللحم الذي‬
‫سرعان ما تنبعث منه رائحة الننت‪ ،‬ويعبث فيه الدود‪ ..‬املوت يا سعد شئ‬
‫فضيع‪ ..‬لقد كنت أحس بتفاهة احلياة عندما أرى هنايتها البئيسة‪.‬‬
‫وآذت مسعهما ضحكات خافتة ومهسات ماجنة‪ ،‬فانتبها إىل مصدرها‪،‬‬
‫ففوجئا بـ ((صفوان)) و ((مىن)) ومها مستغرقان يف وضع فاضح مريب وقد‬
‫ظنا َّ‬
‫أن هذا املكان اهلادئ البعيد خال من الطلبة والرقباء وأثار املشهد‬
‫امشئزاز ((سعد)) و ((عصام)) فغادرا املكان يف ضيق وانزعاج بالغ‪..‬‬
‫هتف عصام بنربات ثائرة وهو يلوح بقبضته يف اهلواء‪:‬‬
‫‪-‬أنا ال أفهم كيف يتجرأ هذان العابثان على حرمة اجلامعة!!‪ ..‬أال من‬
‫إدارة حازمة توقف هذه املهازل؟‪!..‬‬
‫قال سعد وقد تلونت مالمحه حبمرة الغضب‪:‬‬
‫‪-‬قد حتمي اإلدارة احلازمة اجلامعة من مظاهر العبث والفجور‪ .‬لكنَّها لن‬
‫تستطيع أن تسيطر على تيار االحنالل اجلارف الذي جيتاح الوطن‪ ،‬أو توقف‬
‫الرتدي واالحندار الذي يقود جمتمعنا إىل اهلاوية‪ ..‬حنن يف حاجة ماسة إىل‬
‫عملية تغيري عميقة داخل املواطن‪ ..‬إىل إدارة حازمة واعية داخل اإلنسان‪..‬‬
‫حنن يف حاجة إىل ضمري‪.‬‬
‫‪-‬وما احلل ألزمة الضمري هذه؟‪ ..‬جيب أن يكون هناك حل ما حيمي األمة‬
‫من الضياع‪!.‬‬
‫‪-‬احلل موجود‪ ..‬لكنه حيتاج قبل كل شئ إىل إرادة قوية للتغيري‪ ..‬إرادة‬
‫تنبثق من قناعة الناسب األذى والدمار الذي حيمله تيار امليوعة والالمباالة‬
‫جملتمعنا وهنضتنا‪ ،‬وحىت تتولد هذه القناعة حنتاج إىل قراءة واعية عميقة يف‬
‫التجربة األوروبية واألمريكية اليت حيصد الغرب اآلن نتائجها املأساوية املريرة‬
‫بسبب مترده على األخالق واملثل العليا‪ ..‬الناس يف بالدنا مبهورون باحلضارة‬
‫الغربية ويعتقدون أن التقدم املذهل الذي وصلت إليه أوربا وهو نتيجة‬
‫لتفلتها من األخالق والقيم اإلنسانية الفاضلة‪ ،‬بينهما احلقيقة الصارخة اليت‬
‫يقرها كل عقالء العامل ويتنادون إليها هي أن اإلباحية اليت تغرق أوربا‬
‫وأمريكا اآلن هي جرثومة الفناء اليت هتدد احلضارة الفتية هناك‪.‬‬
‫قال عصام وهو جيوب أرجاء احلديقة باحثاً عن مكان هادئ جيلسان فيه‪:‬‬
‫‪-‬هذه مهمة وسائل اإلعالم‪ ..‬وسائل اإلعالم هي املسئولة عن نقل‬
‫مساوئ التجربة الغربية وثغراهتا إىل اجلماهري ومع هذا فإين أعتقد أنه ال مفر‬
‫من الردع‪ ..‬من احلزم يف مكافحة هذا الوباء‪..‬‬
‫حل‪ ،‬لكنه آخر احللول‪ ..‬علينا قبله بالرتبية‪ ..‬تربية األجيال على‬
‫‪-‬الردع ّ‬
‫القيم األخالقية واحلضارية األصيلة‪ ..‬تربية مدروسة تسلك أجنح الطرق‬
‫العلمية والنفسية‪ ..‬تربية شاملة منسجمة يف البيت واملدرسة واجملتمع‪..‬‬
‫تدعمها محلة اجتماعية منظمة تكرس القيم األخالقية واملفاهيم احلضارية‬
‫البالية عرب وسائل اإلعالم املؤثرة من صحافة و ((راديو)) و ((سينما)) و‬
‫((تلفزيون))‪(( ..‬التلفزيون)) بات اآلن أخطر وسيلة إعالمية يف حياتنا فهو‬
‫يعيش مع الناس جزءاً كبرياً من أوقاهتم‪.‬‬
‫قاطعه عصام بقوله‪:‬‬
‫‪-‬إنه يقاسم الناس ثلث حياهتم الواعية تقريباً‪..‬‬
‫‪-‬األخطر من ذلك أنه يعيش مع الطفل أكثر من أهله يف البيت ومعلميه‬
‫يف املدرسة وهو جيلس أمامه يف أقصى حاالت الوعي والرتكيز‪ ،‬يتلقف كل‬
‫ما يبثه من أفكار ومفاهيم وهو الصفحة النقية البيضاء اجلاهزة لإلمالء‪ ،‬فإذا‬
‫مل يكن ((التلفزيون)) تربوياً هادفاً‪ ،‬كان خرباً هداماً يدمر األجيال تلو‬
‫األجيال‪..‬‬
‫تساءل عصام‪:‬‬
‫وماذا بعد الرتبية؟‪ ..‬ما اخلطوة اليت تليها؟‪..‬‬
‫‪-‬ال بد لنا من حل املشاكل االجتماعية اليت مهدت هلذا الفساد‪ ..‬جمتمعنا‬
‫ليس شرا حمضاً‪ ..‬مثة عوامل كثرية تدفعه إىل أتون الشر‪ ..‬الفقر مثال‪..‬‬
‫احلرمان الفظيع الذي يدفع الكثريين إىل هاوية االحنراف‪(( ..‬مىن)) هذه اليت‬
‫رأيتها منذ قليل هبذا الوضع املخجل‪ ،‬ما الذي دفعها هلذا السلوك؟‪ ..‬إنه‬
‫الفقر واحلرمان‪ ..‬فتاة ناضجة تفيض أنوثة ومجاالً ترتاق يف أعماقها أحالم‬
‫وأشواق شىت‪ ..‬فتاة فقرية مل تذق يوماً طعم احلياة اهلانئة السعيدة‪ ،‬جتد‬
‫فجأة من يعدها بتحقيق كل أحالمها دفعة واحدة مستغالً اندفاعاهتا‬
‫العاطفية العارمة فتنساق وراءه مبهورة‪ ،‬وتتدرج معه يف جماهل الضياع‪ ..‬مث‬
‫مشاكل وأمراض أخرى تساهم يف صنع املأساة‪ ..‬اجلهل‪ ..‬التخلف‪..‬‬
‫الرشوة‪(( ..‬الواسطة))‪ ،‬لكن الرتبية الفاسدة تقف دائماً على رأس هذه‬
‫السلسلة الرهيبة من األمراض اليت تكبل هنضتنا‪ ..‬والد صفوان مثالً‪ ..‬رجل‬
‫واسع الثراء والنفوذ‪ ،‬رىب ابنه تربية مائعة مدللة‪ ..‬صفوان هذا مل يسمع من‬
‫أبيه كلمة (ال) واحدة يف حياته‪ ..‬دائماً جييبه لكل ما يطلب‪ ،‬ويضع بني‬
‫يديه األموال الطائلة ليبعثرها على أهوائه ورغباته‪ ،‬فيزيده املال طغياناً على‬
‫طغيان‪ ..‬وكلما تورط ابنه يف خطأ أو احنراف سارع أبوه إلنقاذه مبا ميلك من‬
‫مال ونفوذ‪ ..‬أنقذه من هتمة هتريب خمدرات‪ ..‬أنقذه من هتمة أخالقية يف‬
‫أحد بيوت الدعارة منذ سنتني‪ ،‬فما تنتظر من شاب هذا شأنه؟‬
‫زوى عصام ما بني حاجبيه دهشة وقال‪:‬‬
‫‪-‬وكيف توصلت إىل كل هذه املعلومات؟‬
‫‪-‬هذه املعلومات ليست سراً‪ ..‬إنه يتصرف يف تبجح ووقاحة‪ ..‬لعلك‬
‫فوجئت هبا ألنك ال هتتم هبذه األمور‪ ،‬لكين مهتم بالقضية االجتماعية‬
‫وصفوان منوذج من مناذج االحنراف يف جمتمعنا حيلو يل أن أراقب تصرفاته‬
‫وأتتبع أخباره وأحلل سلوكه‪.‬‬
‫والحت هلما مخيلة خضراء فلجآ إىل أفيائها‪ ،‬وجلسا على بساط األرض‬
‫السندسي املمتد‪ ،‬مث ما لبث عصام أن قال يف حماولة ليصل ما انقطع من‬
‫حديثهما حول املوت‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬مباذا كان املوت يوحي إليك عندما كنت تقوم بتشريح األجساد‬
‫يف املشرحة؟‬
‫أجابه سعد وقد تذكر احلوار الذي كان قبل هذا احلادث العابر‪:‬‬
‫‪-‬عندما كنت أتأمل األجساد امليتة املمدة أمامي على طاوالت التشريح‬
‫كان تفكريي ميتد إىل ما بعد املوت‪ ..‬إىل اليوم اآلخر‪ .‬فيبدو يل املوت أنه‬
‫البداية‪ ..‬حقيقة أنه هناية حياتنا على األرض‪ ،‬لكنه البداية ملرحلة جديدة‬
‫يتحدد فيها مصرينا اخلالد‪ ،‬تقرره العدالة اإلهلية الرحيمة اليت ال تظلم أو‬
‫تتعسف‪ ،‬فتفرز البشر حسب أعماهلم وبواعثهم‪..‬‬
‫‪-‬إنين موقن بذلك‪ ،‬لكن قليالً ما يراودين التفكري فيه‪!.‬‬
‫‪-‬كلنا نقتنع باليوم اآلخر‪ ،‬لكن الكثري من قناعاتنا تظل يف أذهاننا‬
‫فحسب‪ ،‬وكأهنا معادلة رياضية جمردة أقنعتنا هبا قواعد املنطق‪ ،‬بيد أهنا ال‬
‫تتجاوز العقل يف الشعور‪ ،‬لتتحول إىل حس داخلي ننظر من خالله للحياة‬
‫لذلك ترانا نقتنع عقالً بأن املوت ليس هو النهاية‪ ،‬ونشعر حساً بأنه النهاية‬
‫لكل شئ ونشفق على آمالنا ومنجزاتنا وخناف عليها على الرغم من أننا‬
‫أبقى منها‪...‬‬
‫قال عصام‪:‬‬
‫‪-‬حتليل مقنع ودقيق‪ ،‬ولكن ال ميكن لإلنسان إال أن حيلم ويطمح وحييا‬
‫على أمل‪...‬‬
‫‪-‬أنا معك يف هذا‪ .‬فاحلياة بال طموح وأمل تافهة ال معىن هلا‪ ،‬لكن النقطة‬
‫األهم يف آمالنا وأحالمنا ونشاطنا على هذه األرض هو الغاية اليت من‬
‫أجلها حنيا ونعمل وحنلم‪ّ ..‬إهنا احللقة املفقودة اليت حنتاج إليها ليستقيم‬
‫تصورنا للكون واحلياة واإلنسان‪...‬‬
‫‪-‬الغاية؟‪!..‬‬
‫‪-‬أجل‪ ..‬ملاذا نعيش؟‪ ..‬ملاذا حنلم؟‪ ..‬ملاذا تعيش أنت مثالً؟‬
‫أجاب عصام بلهجة حائرة وقد باغته السؤال وكأنه يسمعه للوهلة األوىل‪:‬‬
‫‪-‬أنا أحيا‪ ..‬أحيا من أجل أن أصبح طبيباً ناجحاً مفيداً‪ ..‬ومن أجل أن‬
‫أساعد والديت وأوفر هلا حياة سعيدة وعندي طموحات علمية وشخصية ال‬
‫ختفى عليك و‪ ..‬وفقط‪!..‬‬
‫‪-‬لكن املوت سوف يطوي معه كل هذه الغايات واآلمال‪...‬‬
‫صدمت هذه احلقيقة عصاماً فوجم والذ بالصمت بينما تابع سعد‪:‬‬
‫‪-‬كل هذه الغايات اليت طرحتها غايات جزئية‪ ..‬غايات مرحلة ينبغي أن‬
‫تكون يف إطار غاية أساسية جامعة‪ .‬ال بد أن يكون لوجودنا اإلنساين غاية‬
‫كربى توجه نشاطنا وأعمالنا‪ ..‬غاية شاملة حلياتنا على األرض وحياتنا فيما‬
‫بعد املوت‪.‬‬
‫قال عصام وقد حتمس للنقاش الذي أثار فضوله‪:‬‬
‫‪-‬ما هي غاية وجودنا اإلنساين يف رأيك أنت؟‬
‫‪-‬إهنا يف كلمة واحدة ((العبودية هلل‪)).‬‬
‫‪-‬العبودية هلل؟! لعلك تريد الصالة والصيام؟‪..‬‬
‫ابتسم سعد وقال بنرباته اهلادئة الرزينة‪:‬‬
‫الصالة والصيام وغريمها من العبادات والشعائر ليست هي العبودية اليت‬
‫أعنيها بل هي مظهر من مظاهرها‪ ...‬العبودية يف حد ذاهتا أكثر من صوم‬
‫وصالة‪ ...‬العبودية هي أن نعيش حياتنا كلها هلل‪.‬‬
‫‪-‬كيف؟‪ ..‬كيف ميكن ذلك؟‬
‫‪-‬بأن نوظف كل ألوان نشاطنا اإلنساين وكل أعمالنا وكل طموحاتنا‬
‫لتحقيق دين اهلل الذي ارتضاه لنا منهجاً ونظام حياة‪.‬‬
‫‪-‬ولكن هناك أمور ال عالقة للدين هبا‪!!...‬‬
‫هتف سعد يف محاس‪:‬‬
‫‪-‬هنا تكمن النقطة احلامسة يف املوضوع‪ ..‬إهنا فهمنا لإلسالم‪ ...‬حنن ‪ -‬يف‬
‫احلقيقة ‪ -‬ال نفهم إسالمنا الفهم السليم‪.‬‬
‫أرجو أن تعذرين هبذا الكالم‪ ،‬فأنا ال أقصد اإلساءة أو االدعاء‪.‬‬
‫قال عصام وهو يف شغف ملتابعة احلوار‪:‬‬
‫‪-‬أستمر أرجوك‪ ..‬إين أفهمك‪ ،‬مث إين مقر جبهلي حول الكثري من قضايا‬
‫الدين‪.‬‬
‫‪-‬أنا ال أقصد التفاصيل‪ ،‬فال ميكن إلنسان مهما أوغل يف العلوم واملعارف‬
‫اإلسالمية أن حييط بكل التفاصيل‪ ،‬ما أريده هو املبادئ‪ ..‬فهمنا ملبادئ‬
‫اإلسالم‪ ..‬إدراكنا لروحة وخصائصه العامة حبيث يتكون لدينا حس إسالمي‬
‫دقيق‪ ..‬نتحسس به احلقائق‪ ..‬ونتلمس الصواب‪ ..‬ونصنع املواقف‪ ..‬ونرصد‬
‫األحداث‪ ..‬املهم يا عصام أن تستقر يف حسنا أجبدية إسالمية واضحة‪..‬‬
‫تصيغ بأحرفها فهمنا لإلسالم‪ .‬فينطق هبا سلوكنا‪ ،‬وتعرب عنها حركتنا يف‬
‫احلياة‪ ..‬هذا أضعف اإلميان‪.‬‬
‫قال عصام وقد تصاعد اهتمامه باحلديث‪:‬‬
‫‪-‬ما هي األجبدية اليت كونتها أنت عن اإلسالم؟‪ ..‬أعطين فكرة عنها؟‬
‫‪-‬سأقول لك‪ ..‬اإلسالم قبل كل شئ منهج رباين صادر عن اهلل سبحانه‪،‬‬
‫واهلل الذي خلقنا هو األعلم بطبيعتنا وتركيبنا اجلسدي والفكري والنفسي‪،‬‬
‫لذلك فإن دينه الذي ارتضاه لنا هو األوىل باإلتباع والتطبيق‪ ،‬ألنه منهج‬
‫صمم لإلنسان بيد خالق اإلنسان‪ ..‬هذه نقطة مهمة تقوم عليها أمور‬
‫كثرية‪...‬‬
‫قاطعه عصام قائال‪:‬‬
‫‪-‬هذه نقطة جوهرية أؤيدك فيها‪ ..‬فعلى صعيد حياتنا املادية مثالً‪ ،‬ال‬
‫يوجد عاقل يرضى أن يتلقى تعليمات آلة أو جهاز ما إال من املهندس‬
‫الذي صممه‪ ،‬أو العامل الذي اخرتعه‪ ،‬فما بالك باإلنسان‪ ..‬هذا الكائن‬
‫املعقد الذي ما زال العلم والطب تائهاً يف حبر أسراره وألغازه؟‪..‬‬
‫سر سعد هلذا التفاعل الذي أبداه عصام فعقب على كالمه قائالً‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪-‬هلذا تُصدر الشركات الصناعية ((كتالوج)) أو دليل استعمال ملنتجاهتا‬
‫يعده املهندسون الذين صمموا أو اخرتعوا هذه املنتجات‪ .‬وما اإلسالم إال‬
‫دليل حلركة اإلنسان السليمة وفق تصميمه وطاقته وطبيعته‪.‬وما التخبط والتيه‬
‫الذي تضرب فيه‬
‫البشرية اليوم إال نتيجة منطقية الستغنائها عن املنهج األصيل واستبداله‬
‫مبناهج مشوهة من صنع اإلنسان ووضعه وهو الكائن الضعيف القاصر‬
‫بقدراته ومعارفه وإزاء هذا الكون الواسع الرحيب‪..‬الكائن املرهف احلساس‬
‫املتأثر بعواطفه وانفعاالته‪ ..‬الكائن اللغز الذي مازال جيهل نفسه‪..‬‬
‫سأل عصام وهو يرمق صديقه يف إعجاب‪:‬‬
‫‪-‬سعيد ‪..‬ما األمور اليت تريد أن تبنيها على هذه النقطة؟‬
‫‪-‬أمور كثرية ‪..‬منها أن اإلسالم منهج متوازن أعطى لكل جانب من‬
‫الشخصية اإلنسانية حقه وأشبع بتوازنه الروح والعقل واجلسد‪.‬ففيه تروي‬
‫الروح أشواقها إيل القيم واملثل واألخالق‪ ،‬وختفق بأنبل املشاعر والعواطف‬
‫وأطهرها ‪،‬وفيه ينطلق العقل ليقتحم آفاق القلم والبحث والتجريب وميخر‬
‫عباب املعرفة‪ ،‬ال يضره إن يلتقطها من أي إناء أو منهل مادامت معرفة‬
‫شر ‪ ،‬وفيه جتد غرائز اجلسد طريقها الطبيعي‬ ‫إنسانية مفيدة ال تفضي إيل ّ‬
‫النظيف لإلشباع دون إفراط أو تفريط ‪،‬مبا ال يتعارض بني حرية الفرد‬
‫واجملتمع‪.‬‬
‫‪-‬مجيل‪..‬‬
‫‪-‬واإلسالم نظام واقعي يدرك واقع اإلنسان وطاقته‪ ،‬ويرحم نقاط ضعفه‬
‫اليت جبل عليها فرياعيها ويعذره فيها ‪ ،‬لذالك نراه قد فتح له أبواب التوبة‬
‫على مصراعيها ومل حيمله‬
‫ماال يطيق‪ ،‬كما راعى اإلسالم نقاط الضعف يف اإلنسان فقد شجع فيه‬
‫نقاط القوة ورباه على البذل والعطاء ‪ ،‬ودفعه إيل االرتقاء وما استطاع‬
‫االرتقاء‪.‬‬
‫‪-‬وأيضاً‪ ...‬أفكارك تدهشين‪...‬‬
‫‪-‬وأمجل ما يف اإلسالم مشوله‪ ..‬فهو منهج حياة كامل يستغرق كل ألوان‬
‫النشاط اإلنساين‪ ،‬فينظمها‪ ،‬ويطلقها ضمن أطر واسعة رحيبة تسمح للناس‬
‫مبمارستها يف مرونة عجيبة تتالءم مع كل جمتمع وعصر دون أن تتجاوز‬
‫األصول الثابتة اليت قررها اإلسالم‪.‬‬
‫تساءل عصام مفكراً‪:‬‬
‫تستبعد أن يصطدم تطورها املطرد‬
‫ُ‬ ‫‪-‬لكن احلياة تتطور باستمرار‪ ،.‬فلماذا‬
‫مع األصول الثابتة اليت طرحها اإلسالم ؟‬
‫‪-‬سأقول لك‪.‬‬
‫‪-‬تفضل‪..‬‬
‫‪-‬الن اإلسالم استمد ثبات تلك األصول من ثبات اخلصائ األساسية‬
‫للشخصية اإلنسانية ‪ ،‬فالعريب الذي كان يطوي الصحراء على مجل‬
‫‪،‬واألمريكي الذي وطئت أقدامه سطح القمر‪ ،‬ميلكان نفس اجلهاز اجلسدي‬
‫والفكري والنفسي‪ ،‬وختفق بني جواحنهما فطرة واحدة‪ .‬الذي أختلف وتبدل‬
‫هو الوسائل والظروف واملعارف أما اجلوهر اإلنساين الذي يتعامل مع‬
‫كنت أحتدث ؟‬‫املعطيات املتبدلة فهوا ثابت ال يتغري‪ .‬نعود حلديثنا‪ ..‬عم ُ‬
‫‪-‬عن الشمول يف اإلسالم‪.‬‬
‫‪-‬أجل‪ ..‬لقد حول اإلسالم حياة اإلنسان بتفاصيلها الكبرية والصغرية‪..‬‬
‫جبوانبها املتعددة‪ ..‬بنشاطاهتا املختلفة الغريزية والفكرية والروحية‪ ..‬الضرورية‬
‫منها والثانوية‪ ..‬الفردية منها واجلماعية‪ ،‬حوهلا مجيعاً إىل عبادة متصلة باهلل‪،‬‬
‫فطعامك عبادة وشرابك عبادة ونزهتك عبادة ونومك عبادة وزواجك عبادة‬
‫ودراستك عبادة وختصصك عبادة وعملك عبادة‪ ..‬حىت التلذذ بالطيبات‪..‬‬
‫حىت اإلبتسامة تبذهلا لآلخرين عبادة هلل تثاب عليها وترفك يف ميزان اهلل‬
‫درجة‪ ..‬وحىت حتول كل هذه األعمال إىل عبادة هلل ما عليك إال أن تنوي‬
‫هبا إرضاء اهلل‪ ،‬وأن تتجنب كل ما يغضبه‪ ،‬أو يؤذي اآلخرين‪ .‬اإلسالم يا‬
‫عصام منهج حياة متكامل‪ ..‬إنه دين ودنيا‪ ..‬سياسة واقتصاد‪ ..‬فن‬
‫واجتماع‪ ..‬حياة طاهرة فريدة ال تدانيها حياة‪.‬‬
‫‪-‬والصالة والصيام وما إىل ذلك من شعائر؟‪...‬‬
‫‪-‬إهنا حمطات للتزود بالطاقة‪ ،‬واستذكار للمبادئ‪ ،‬وصقل للنفوس‪ ،‬واعتذار‬
‫إىل اهلل عما قد سلف من أخطاء‪ ،‬وعهد متجدد على الصرب والثبات على‬
‫الدرب الطويل‪..‬‬
‫أعجب عصام بأفكار سعد أميا إعجاب‪ ،‬فقال وهو هائم مع أفكاره‪:‬‬
‫‪-‬هل تريد احلق؟‪ ..‬لقد فتحت أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها متاماً‪.‬‬
‫أجاب سعد وهو ينظر إىل ساعته‪:‬‬
‫‪-‬كان بودي لو استمرينا باحلديث‪ ،‬لكن موعد احملاضرة قد اقرتب‪ ،‬وعلينا‬
‫أن منضي لنحجز مكاننا يف الصفوف األوىل من املدرج‪ ،‬امسع‪ ..‬ملاذا ال‬
‫نلتقي ثانيةً لنتابع احلوار؟‪..‬‬
‫‪-‬سيسعدين ذلك‪ ،‬رغم كل مشاغلي‪ ..‬سنلتقي السادسة‪ ...‬ما رأيك؟‬
‫‪-‬إن شاء اهلل‪ ..‬هيا بنا‪...‬‬
‫مضى الصديقان جنباً إىل جنب عرب أرصفة احلديقة اخلضراء‪ ،‬يلفهما تأمل‬
‫صامت عميق‪ ...‬كان سعد فرحاً مسروراً هبذا التجاوب الرائع الذي أبداه‬
‫عصام‪ ..‬أما عصام فقد كانت أفكاره تبحر حنو عامل جديد‪...‬‬
‫***‬
‫غادر عصام الكلية ويف أعماقه مثة أسئلة حيارى تبحث عن جواب‪ ..‬إنه مل‬
‫يتعود أن يتقبل األفكار دون أن خيضعها للدرس والتمحي ‪،‬فكيف‬
‫استقرت يف ذهنه تلك التصورات اخلاطئة عن اإلسالم؟‪..‬‬
‫ملاذا مل حي َظ هذا الدين الذي ينتمي إليه باهتمامه وهو الذي ال ينجو من‬
‫فضوله شئ؟‪ ..‬كيف تسرب إىل ذهنه أن اإلسالم جمرد صوم وصالة؟‪..‬‬
‫كيف غابت عنه هذه اآلفاق الرحيبة اليت نقله إليها صديقه سعد؟‪..‬‬
‫تساؤالت عاصفة شىت هتز ضمريه بقوة فينفض عنه ركام األوهام واملفاهيم‬
‫املزيفة الدخيلة‪ ،‬ويتهيأ لالنطالق حنو احلقيقة اخلالدة يف رحلة حبث طويلة‪..‬‬
‫لشد ما يعشق احلقيقة ويهواها ويف سبيلها سيقطع كل الدروب وسيجتاز‬
‫كل صحاري الضياع والغموض ليحط رحاله يف واحتها اخلضراء ويرتاح يف‬
‫ظالهلا الوارفة‪ ،‬ويروي روحه العطشى من مائها الزالل‪.‬‬
‫ويف احلافلة اليت استقلها إىل منزله اجلديد يف عمارة الدكتور إياد كان عصام‬
‫جيلس وامجاً‪ ..‬ساهم النظرات‪ ..‬ذاهالً عن كل شيء‪ ..‬إن قضية انتمائه‬
‫لإلسالم والتزامه به لتستويل على تفكريه‪ ،‬فهي قضية ال تقبل التمييع‬
‫والتأجيل فاملوت يأيت بغتة دون سابق علم أو إنذار‪ ،‬واهلل سوف يسأله عما‬
‫قدمت يداه على هذه األرض‪ ،‬فبماذا جييب؟‪.‬‬
‫وأفاق من خواطره على بكاء طفل صعدت أمه لتوها إىل احلافلة‪ ،‬فنهض‬
‫وقدم هلا مكانه فشكرته وجلست وهي هتدهد طفلها الذي ما لبث أن هدأ‬
‫وراح جيول بنظراته بني وجوه الركاب يف براءة وقد أفرت ثغره عن ابتسامة‬
‫مشرقة دفعت عصام لالبتسام وبعثت يف نفسه السرور‪.‬‬
‫ويف الطريق مرت احلافلة مبكتبة((دار املعرفة)) اليت اعتاد عصام أن يبتاع كتبه‬
‫منها فخطرت له فكرة طارئة سرعان ما استجاب هلا فنزل عند أول حمطة‬
‫توقفت عندها احلافلة وقفل راجعاً باجتاه املكتبة‪ ..‬وهناك طلب من صاحبها‬
‫أن يرشده إىل جمموعة من الكتب اإلسالمية العصرية اليت توضح مبادئ‬
‫اإلسالم وتصوراته عن الوجود واحلياة واإلنسان‪ ،‬فأجابه إىل طلبه وزوده‬
‫مبجموعة نفيسة منها فتناوهلا باهتمام وراح يتأمل عناوينها يف شغف وهو يف‬
‫شوق لقراءهتا وسرب أفكارها ليشبع أشواقه إىل احلقيقة اليت أزمع البحث‬
‫عنها‪.‬‬
‫وبعد أن أمت شراء كتبه ودع صاحب املكتبة ومضى‪ ..‬ولدى الباب ألقى‬
‫نظره إىل ساعته فوجد عقارهبا تقرتب من موعد عمله يف عيادة الدكتور إياد‬
‫فغذ السري يف الطريق إىل البيت‪ ،‬علّه يستطيع أن يتناول غداءه مع أمه اليت‬
‫البد وأهنا اآلن بانتظاره‪...‬‬
‫‪-‬آه‪ ..‬لكم أتعبتك معي يا أماه‪ ...‬يا لقلبك الكبري الذي ينبض مع‬
‫أنفاسي وخيفق على إيقاع خطوايت‪ ..‬ما علينا‪ ..‬عما قريب ستنتهي رحلة‬
‫عذابك الطويل‪ ،‬وحنط الرحال يف واحة األمل‪ ...‬عما قريب يا أماه سيبدأ‬
‫حصاد األماين‪ ،‬وتتحقق األحالم‪ ..‬إيه‪ ..‬يف أعماقي ينابيع من الوفاء تروم‬
‫االنبثاق‪ ،‬لرتوي أيامك القادمة بالسعادة والبشر‪ ،‬وتسربلها باألفراح‪..‬‬
‫***‬

‫الفصل العاشر‬
‫وصلت مىن إىل شقة صفوان وهي غاضبة مضطربة‪ ،‬فضغطت على زر‬
‫اجلرس يف عصبية مث اهنالت على الباب بقرع عنيف‪....‬‬
‫وانتظرت الرد بفارغ الصرب‪ ،‬لكن أحداً مل يفتح‪ ،‬فعاودت القرع وقد‬
‫اجتاحت أعصاهبا شحنات هائلة من الثورة‪ ...‬وتفاقم غضبها حيال الباب‬
‫املوصد بوجهها فهدرت يف أعماقها أصوات غاضبة هتتف وتصيح‪:‬‬
‫((افتح‪ ..‬افتح يا كلب‪ ..‬افتح ألريك من هي ((مىن))‪ ...‬افتح ألريك كيف‬
‫تتحول الظبية الوداعة إىل لبوة مفرتسة‪ ..‬افتح أللقنك درساً يف الوفاء‪..‬‬
‫احلب‪ ..‬أختونين بعد كل هذا اإلخالص‪ ..‬أتضحك‬
‫أختدعين بعد كل هذا ّ‬
‫على يا صفوان‪..‬افتح يا سافل‪ ..‬افتح يا حقري‪ ..‬افتح‪ ..‬ملاذا ال يفتح؟!‪..‬‬
‫إن أنوار الغرفة املطلة على الشارع مضاءة فأين ذهب هذا الوغد؟))‪..‬‬
‫وأدنت مىن أذهنا من الباب فتناهى إىل مسعها صوت بعيد ((ملوسيقا))‬
‫تعرفها جيداً‪ ،‬فانتاهبا تيار جديد من الغضب والتهبت ثورهتا العارمة وازداد‬
‫قرعها للباب حدة وعنفاً‪...‬‬
‫((هذا السافل‪ ..‬ال بّد وأنّه مشغول جبلسة معربدة‪ ..‬أنين أعرفه‪ ..‬ال يريق له‬
‫مساع هذه ((املوسيقا)) إال يف املناسبات الداعرة‪ ..‬افتح يا سافل‪ ..‬يا قذر‪..‬‬
‫افتح ألريك غضبة املقهورين‪ ..‬هذا الباب‪ ..‬إنه بوابة اجلحيم اليت دلفت‬
‫منها إىل العذاب!!‪ ..‬إنّه النفق املظلم الذي نقلين من حياة الفضيلة إىل‬
‫وحل اخلطيئة ودنيا الضياع‪ ..‬إنّه جسر الشيطان‪ ..‬ترى من هي ضحيتك‬
‫اجلديدة؟!‪..‬ال ب ّد أهنا ميادة‪ ..‬أجل إهنا ميادة‪ ..‬ومن غريها ((حبيبة القلب‬
‫وبلسم احلياة)) كما يسميها هذا املخادع اجلبان؟!)) وتناولت ((مىن))‬
‫الرسالة اليت اكتشفتها اليوم صدفة يف ((الكتاب)) الذي استعارته من‬
‫صفوان ففضتها يف مرارة وجعلت تعيد قراءهتا يف سخرية صامتة‪:‬‬
‫((حبيبيت ميادة‪ ..‬يا فتاة األحالم الوردية‪ ..‬يا حبيبة القلب وبلسم احلياة‪..‬‬
‫علي وأنت الوديعة‬
‫إن حيايت بدونك جحيم وعذاب‪ ..‬ملاذا هذه القسوة ّ‬
‫الرقيقة؟‪ ..‬وملاذا هذا اجلفاف وأنت اللطيفة احلنونة؟‪ ..‬مىت سرتفعني أيتها‬
‫احلبيبة سياط الص ّد واهلجران عن قليب احلزين ؟‪..‬مىت سيصدر قلبك الكبري‬
‫عين؟‪ ..‬أخربتك ألف مرة بأنك الوحيدة يف حيايت‪،‬وأنك احلب األول‬
‫العفو ّ‬
‫واألخري‪ ..‬قلت لك مراراً إن هؤالء الفتيات اللوايت تسمعني هبن من بنات‬
‫هن إال صديقات فحسب ‪..‬‬
‫اجلامعة ما ّ‬
‫وبينهن عالقات عفوية حبكم الدوام‬
‫َّ‬ ‫زميالت دراسة ال بد أن تنشأ بيين‬
‫اجلامعي الطويل‪ ..‬عالقات بريئة ال حتمل أي معىن آخر‪ ..‬فإىل مىت ترتكني‬
‫الشك يفرق بيننا ويفسد سعادتنا؟‪..‬‬
‫أرق حكم‪ ..‬أرجوك‬
‫حبيبيت ميادة‪ ..‬أيها اخلصم واحلكم‪ ..‬يا أحلى خصم و ّ‬
‫أن تفهميين‪ ..‬أيها القاضي احلبيب الذي كلما ازداد عليّ قسوة ازدادت له‬
‫مرة واحدة وامنحين فرصة‬
‫حباً‪ ..‬أيها القاضي اجلميل الرقيق‪ ..‬افتح يل قلبك ّ‬
‫كل ما تومهك به‬
‫للدفاع‪ ..‬فرصة واحدة وستعلم بعدها أنين بريء من ّ‬
‫الغرية‪ ..‬إين بريء يا حبييب فال تسجنيين وراء قضبان احلرمان‪)).‬‬
‫ويبلغ االمشئزاز مبىن منتهاه فتطوي أصابعها على الرسالة يف غيظ وتبصق يف‬
‫احتقار مث تنهال على الباب بكلتا يديها وقد حرق أعصاهبا االنتظار املر‬
‫ّ‬
‫وراء بوابة اخلطايا واآلثام‪(( ..‬افتح أيها الوغد الغادر السافل‪ ..‬عالقات‬
‫عفوية بريئة أليس كذالك؟‪ ..‬أيها املاكر املاجن الغارق يف الوحل من رأسه‬
‫أهم عنده‬
‫حىت قدميه!‪ .‬لن يفتح‪ ..‬إين أعرف‪ ..‬هذا الوغد‪ ..‬رغبته القذرة ّ‬
‫كل ما حوله‪..‬‬
‫كل شيء‪ ..‬عندما تسيطر عليه ينسى نفسه ويذهل عن ّ‬
‫من ّ‬
‫ليتين أصغيت لنصائحك يا سامية‪ ..‬ليتين مل أثق هبذا احليوان‪ ..‬ماذا ينفع‬
‫الندم‪..‬آه‪....)).‬‬
‫وترتاخى يدها على الباب يف يأس فيعرتي طرقاهتا ضعف متدرج وشعرت‬
‫بقواها ختور فاستندت على الباب يف هتالك واهنيار وأصغت إىل صوت يعلو‬
‫يف داخلها وسط عواصف الغضب ليذكرها بالطريقة اليت اعتزمت معاملة‬
‫صفوان هبا عندما اصطدمت حبقيقته املفجعة‪:‬‬
‫((‪-‬ليس من احلكمة أن تواجهيه باحلقيقة‪ ..‬إن املواجهة ستؤزم العالقة بينك‬
‫وبينه‪ ..‬ستجعله ضعيفاً مكشوفاً أمامك‪ ،‬وهو ال حيب أن يظهر ضعفه‬
‫ويرفض أن يعرتف به‪ ،‬لذلك فإن حماصرته باحلقيقة ستدفعه للمكابرة‬
‫والعناد‪ ..‬سيعرتف اعرتاف املتحدي‪..‬سيصفعك ببجاحته ووقاحته وإصراره‬
‫على اخليانة‪ ..‬سيقول بأنك أنت اليت استسلمت له‪ ،‬وسينفي عنه أي‬
‫مسؤولية عما حدث‪ ..‬إن مواجهته تعين القطيعة‪ ..‬تعين نسف آخر جسر‬
‫يربطك به تستطيعني من خالله التأثري عليه‪ ..‬ليس من احلكمة أن تواجهيه‬
‫باحلقيقة فما زال هناك بقية من رجاء‪ ..‬أومهيه بأنك مازلت واثقة به‪..‬‬
‫أشعريه حبرارة حبك وحنانك وعمق إخالصك‪..‬حاويل دائماً أن تديري رأسه‬
‫إليك‪..‬عساه يفيء إليك‪..‬عساه يبصر الفرق بينك وبني األخريات‪ ..‬أنت‬
‫حباجة إليه يا مىن فال تتسرعي‪ ..‬ال تتسرعي فقد تستطيعني استنقاذ ما قد‬
‫ضاع))‪...‬‬
‫وكبحت مىن تيارات الثورة والغضب اليت تعصف هبا‪ ،‬استسلمت لصوت‬
‫العقل فاسرتخت بكامل جسدها على الباب وأجهشت بالبكاء‪..‬‬
‫ومنا إىل مسعها صوت أقدام ترقى يف الدرج‪،‬فلملمت نفسها املنهارة‬
‫جتر خيبتها وأحزاهنا‪..‬‬
‫ومسحت دموعها بظاهر كفها ومضت ّ‬
‫وعندما خرجت من باب العمارة خطر هلا أن تراقب الشقة لرتى من هي‬
‫((ميادة)) هذه الفتاة اجلديدة اليت اقتحمت حياة صفوان ونافستها على‬
‫قلبه‪ ،‬فراحت تذرع الشارع جيئة وذهاباً متظاهرة برؤية واجهات احملالت‬
‫األنيقة اجملاورة لشقة صفوان‪..‬‬
‫مضت ساعة‪..‬وساعتان‪ ..‬وهي ترابط قرب الشقة غري عابئة باألنظار‬
‫املتطفلة اليت ترتاب يف وجودها يعرتيها فضول جارف ملعرفة هذه الفتاة اليت‬
‫لكن أحدا مل يظهر وملّت االنتظار وكادت أن‬
‫انتزعت منها صفوان‪ّ ،‬‬
‫متضي‪،‬بيد أن حركة األنوار يف الشقة استوقفتها فانتظرت خروج((ميادة))‬
‫لكنها فوجئت خبروج فتاة أخرى تعرفها جيداً‪ ..‬إهنا ((رشا))‪(( ..‬رشا))‬
‫زميلتها يف الكلية‪ ..‬وانتبهت مىن إىل صفوان وهو يلوح(( لرشا)) بيده من‬
‫وراء زجاج النافذة مودعاً فهاهلا أن تكتشف خيانتني يف يوم واحد‪.‬‬
‫وحملت تلك االبتسامة اخلبيثة اليت ردت هبا ((رشا)) على وداع صفوان‬
‫فشعرت بالغرية متزق فؤادها‪ ،‬وثارت يف أعماقها من جديد عواصف عاتية‬
‫من الغضب‪.‬‬

‫***‬

‫الفصل احلادي عشر‬


‫قال سعد وهو يقود عصاماً عرب حديقة بيته اجلميلة‪:‬‬
‫‪-‬أهالً بك يا عصام‪ ..‬لقد أعددت لك جلسة شاعرية هادئة لن تنساها‬
‫أبداً‪ ..‬جلسة حاملة بني الورود واألزهار اليت حتبّها وتعشقها‪.‬‬
‫قال عصام وهو يستنشق نفساً عميقاً قد أفعم بشذا اليامسني‪:‬‬
‫‪-‬اهلل‪ ..‬ما هذه الروائح العطرة اليت تنعش القلوب واألرواح‪ ..‬وهذه‬
‫النسمات الندية‪ ..‬إهنا متأل نفسي سروراً وانشراحاً‪ ،‬إن حديقتكم تزداد‬
‫سحراً ومجاالً مع األيام‪..‬‬
‫‪-‬هذا حق‪ ،‬فأخيت طالبة يف كلية الزراعة وهي تتخذ من احلديقة حقالً‬
‫لعلومها وجتارهبا‪ ،‬السيما وأهنا مهتمة بنباتات الزينة وتطمح لالختصاص‬
‫فيها‪ ..‬دعنا جنلس يف ظالل شجرة الصنوبر‪ ،‬فقد رتبت حتتها الكراسي‪...‬‬
‫هي ليست كراسي‪ ..‬إهنا جذوع أشجار ضخمة‪ ،‬قطعت وصممت‬
‫للجلوس‪ ..‬تفضل هنا إذا مسحت‪ ..‬قال عصام وهو يتحسس أحد هذه‬
‫املقاعد الطريفة‪:‬‬
‫‪-‬إهنا مقاعد بديعة فعالً‪!.‬‬
‫مث أضاف وهو جيلس عليها يف سرور‪:‬‬
‫‪-‬ما أمجل اجللوس يف أحضان الطبيعة‪ ،‬ال سيما يف صحبة األصدقاء‪.‬‬
‫علق سعد وهو جيلس قبالته‪:‬‬
‫‪-‬حنن أكثر من أصدقاء يا عصام‪ ..‬حنن أخوة‪..‬‬
‫‪-‬لكم يسعدين أن تكون عالقتنا مبثل هذا الصفاء‪ ،‬على فكرة‪ ..‬ما‬
‫تعريفك لعالقة األخوة؟‬
‫أجاب سعد وهو يفرك إهبامه بسبابته وكأنه يتحسس شيئاً رقيقاً‪:‬‬
‫‪-‬األخوة هي انسجام وتآلف بني األرواح املتحابة حىت تغدو روحاً واحدة‬
‫تسري يف أجساد املتآخني وجتعل منهم جسداً واحداً له قلب واحد وفكر‬
‫واحد وشعور واحد‪ ..‬إهنا إحساس عميق بالتالحم واالندماج واإليثار‬
‫الرفيع‪.‬‬
‫(( ‪-‬تعريف مجيل حقاً‪ ،‬لكن‪ ..‬هل تتصور أن تقوم أخوة بني األصدقاء‬
‫دون حدوث مشاكل أو أخطاء؟‪ ..‬أعتقد أن هذا غري ممكن‪!..)).‬‬
‫(( ‪-‬اعتقادك يف حمله‪ ،‬فالبعض يتصور األخوة تصوراً مثالياً بعيداً عن‬
‫أن األخوة ًّإمنا هي عالقة بني بشر‪ ..‬بشر هلم أخطاؤهم‬ ‫الواقع‪ ،‬وينسى ًّ‬
‫ونقاط ضعفهم وأمزجتهم املختلفة وطرقهم املتباينة يف احلياة‪ ..‬األخوة‬
‫احلقيقة ليست هي األخوة اجملردة من األخطاء‪ ،‬بل هي األخوة اجملردة من‬
‫األنانية والكرب واحلقد واحلسد‪ ..‬األخوة القائمة على التفاهم والتسامح‪..‬‬
‫القائمة على الرضوخ للحق والرتاجع عن اخلطأ‪ ..‬القائمة على الرفق بأخطاء‬
‫اآلخرين والتماس األعذار هلفواهتم والثقة بنواياهم ومن منّا ال خيطىء!؟‬
‫قال عصام‪:‬‬
‫‪-‬يف أحاديثك يا سعد أجد متعة كبرية‪ ..‬إنك تتقن عرض احلقائق!‪ ..‬هل‬
‫تذكر ذاك احلديث؟‬
‫‪-‬يف حديقة اجلامعة؟‬
‫‪-‬هو ذاك‪ .‬لقد أحدث يف نفسي شوقاً كبرياً عارماً لفهم اإلسالم والتعمق‬
‫يف أفكاره ومبادئه‪ ،‬فما كان مين إال أن ذهبت يف ذلك اليوم إىل مكتبة‬
‫((دار املعرفة)) واشرتيت جمموعة من الكتب اإلسالمية القيمة‪ ،‬وقد قرأت‬
‫منها حىت اآلن أربعة‪ ،‬ولوال مشاغلي ألتيت عليها مجيعاً‪ ..‬ال أكتمك يا‬
‫سعد‪ ..‬لقد شعرت جبهلي وتقصريي حنو عقيديت وقد عزمت على التوبة‪.‬‬
‫قال سعد يف فرح غامر‪:‬‬
‫‪-‬كلنا مقصرون‪ .‬ولن نتجاوز التقصري إالّ باملزيد من الوعي والعمل‪ ،‬إين‬
‫أهنئك يا عصام على هذا الشعور فهو دليل على إميانك العميق‪.‬‬
‫وانتبه سعد إيل والدته وهي تشري له من النافذة فغاب برهة مث عاد حيمل‬
‫عصري الربتقال وقال وهو يقدم كأساً مثلجة منه إىل عصام‪:‬‬
‫‪-‬جتاوبك الرائع يا عصام مع أفكاري ميألين غبطة وسعادة‪ ..‬كم هو مجيل‬
‫أن جتد من يفهمك ويلتقي معك يف تصورك للحياة‪ ..‬هنا تكمن السعادة‬
‫احلقيقية‪.‬‬
‫‪-‬لو أن كل الناس بإجيابيتك وإصغائك لصوت احلق لقطعنا رحلة التغيري‬
‫املنشود يف سنوات‪.‬‬
‫صمت عصام ملياً وهو يتفكر مث تساءل قائالً‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬أال ترى معي أن عملية التغيري هذه عملية صعبة؟‪!.‬‬
‫أرسل سعد تنهيدة عميقة وقال‪:‬‬
‫‪-‬هي صعبة فعالً‪ ..‬وقد تبدو مستحيلة عندما يري املرء العقبات الكؤود‬
‫اليت تعرتض طريق العودة إىل اإلسالم‪ ،‬لكين أعتقد أن املستقبل هلذا‬
‫الدين‪...‬‬
‫‪-‬كيف؟‪ ..‬ما الذي يدفعك هلذا االعتقاد؟‬
‫(( ‪-‬سأقول لك‪ :‬لقد جربت البشرية كل املذاهب والفلسفات فلم جت ِن ِِ‬
‫منها إالّ التمزق والضياع‪ .‬لقد أخفقت كل األنظمة األرضية يف تأمني‬
‫السعادة احلقيقية لإلنسان‪ ..‬يف أجياد التصور الذي ينسجم مع إنسانيته‬
‫جبوانبها املختلفة‪ ..‬التصور املتوازن الذي يشبع جسم اإلنسان وعقله وروحه‪.‬‬
‫لقد استطاعت حضارة اليوم أن تشبع جسد اإلنسان وأن تقدم له كل ما‬
‫حيتاجه من وسائل املتعة والراحة‪ ،‬واستطاعت أن تشبع عقله بالتقدم العلمي‬
‫وحل له الكثري من أسرار الكون وألغاز‬‫املذهل الذي أوصله إىل القمر‪ّ ،‬‬
‫احلياة‪ .‬لكن روحه بقيت خاوية عطشى يعذهبا الظمأ إىل القيم العليا‪،‬‬
‫ويقلقل كياهنا الضياع‪ ،‬فال هي تدري ملاذا وجدت وال إىل أين تسري؟‪،.‬‬
‫جتهل غاية وجودها ومعناه‪ ..‬ويلف مصريها الغموض‪)).‬‬
‫وافقه عصام رأيه قائالً‪:‬‬
‫‪-‬هذا حق‪ .‬إن انتشار الشذوذ واجلرمية‪ ،‬وشيوع األمراض العصبية والنفسية‬
‫وارتفاع معدالت االنتحار دليل واضح على ما تقول‪.‬‬
‫قال سعد وهو خيض كأس العصري ليزداد برودة‪:‬‬
‫‪-‬لعلك قرأت أن أعلى نسبة لالنتحار يف العامل توجد يف الدول ((‬
‫االسكندنافية)) اليت تعترب من أرقى دول العامل‪ ،‬حيث يبلغ فيها دخل الفرد‬
‫أعلى مستوى‪ ..‬ومنذ أيام مسعت من ((الراديو)) لدى متابعيت ألحد الربامج‬
‫الثقافية خرباً طريفاً يدلك إىل أي مدى استبد الشقاء بإنسان قرننا هذا‪!..‬‬
‫‪-‬ما هو؟‪..‬‬
‫‪-‬لقد قامت يف بريطانيا مجعية تضم املؤمنني بفكرة االنتحار وأطلقت على‬
‫نفسها اسم ((مجعية املوت من أجل الرمحة)) كما أصدرت مرشداً خاصاً‬
‫بأعضائها‪ ،‬مسته ((املرشد اخلاص للتحرير الذايت ))وفيه تشرخ اجلمعية طرق‬
‫االنتحار بدون أمل‪ ،‬وقد قدم للكاتب الكتاب ا ِإلجنليزي املعروف ((آرثر‬
‫كسلر)) مث انتحر بالطريقة املعتمدة لدى اجلمعية‪ ،‬كما انتحر كثريون من‬
‫أعضاء اجلمعية الذين بلغ عددهم عشرة آالف منتم يف غضون أشهر‪.....‬‬
‫قال عصام وابتسامة داهشة حتف بكلماته‪:‬‬
‫‪-‬لقد أصبح لالنتحار عندهم فلسفة ودعاة‪!..‬‬
‫‪ًّ -‬إهنا حقائق تستحق التأمل‪ ..‬إهنا صدى ليأس اإلنسان وفشله وضياعه‪..‬‬
‫تساءل عصام يف حرية‪:‬‬
‫‪-‬لكن كيف نقنع البشرية باإلسالم كبديل ؟‬
‫أجاب سعد‪:‬‬
‫‪-‬لن تؤمن البشرية باإلسالم كبديل فيما لو عرضناه عليها يف قوالب نظرية‬
‫وفكرية حبتة‪ ..‬لقد ملّت النظريات واألفكار‪ ،‬وأصبحت تنظر إليها يف شك‬
‫وحذر بعد أن فقدت ثقتها جبدارهتا يف عامل الواقع وبعد أن حصدت منها‬
‫الفشل املرير‪ ،‬البشرية اليوم تبحث عن مثل حي متحرك‪ ،‬وتتطلع إىل جتربة‬
‫ناجحة حتظى بأمياهنا وثقتها‪ ،‬وجتد فيها اإلخالص‪...‬‬
‫‪-‬ولكن‪ ،‬أمل يكن اإلسالم جتربة ناجحة يف التاريخ؟‪..‬‬
‫(( ‪-‬لقد كان‪ ،‬ليس جتربة ناجحة فحسب‪ ،‬بل وفريدة يف جناحها‪ .‬لكن‬
‫اإلنسانية اليوم تشك يف تكرار هذا التجربة‪ ،‬بعد التطور املذهل الذي طرأ‬
‫على حياة الناس يف العصر احلاضر‪ .‬وعلى املسلمني أن يبددوا شكوكها‬
‫بصناعة التجربة من جديد‪ ،‬وإخراجها عصرية ناجحة‪ ..‬وبذالك تتحقق‬
‫القفزة احلامسة إىل احلياة ا ِإلسالمية املنشودة‪..)).‬‬
‫‪-‬لكن‪ ..‬أال تشك معي يا سعد يف قدرة اجملتمعات اإلسالمية على تقدمي‬
‫الصورة الصحيحة الناصعة لإلسالم؟‪..‬‬
‫(( ‪-‬أنا متأكد من أهنا لن تستطيع‪ ،‬ألن ا ِإلسالم احلق قد احنسر من حياتنا‬
‫منذ زمن‪ ،‬وذوت شعلته الالهبة اليت كانت تبعث فيها احلياة‪ ،‬وتنري هلا‬
‫دروب احلرية والتطور واحلضارة‪ ..‬اإلسالم اليوم يف أذهان املسلمني أجزاء‬
‫ناقصة مبتورة‪ ..‬وأفكار مشوهة مغلوطة وصور ساذجة بسيطة‪ ..‬ومظاهر‬
‫فارغة منفردة‪ .‬ليس للمسلمني اليوم من إسالمهم إال االسم والعنوان‪..‬‬
‫حتمله أمة متخلفة ممزقة مقهورة‪ ..‬املسلمون اليوم يا صديقي يسيئون‬
‫لإلسالم وهم حيسبون أهنم حيسنون صنعاً))!!‬
‫متتم عصام بعد أن تناول رشفة من عصريه‪:‬‬
‫‪-‬تبدو متشائماً إىل أبعد احلدود!!‬
‫‪-‬أبداً‪ ،‬فأنا شديد التفاؤل‪ .‬إن بذور اخلري موجودة رغم ما تراه‪ ..‬إ ين‬
‫أراهن على هذا‪ ..‬فقط حتتاج ملن يصل إليها بوعي وروية‪ ،‬فينزع عنها‬
‫قشرت التبلد‪ ،‬وينفض عنها غبار الضياع‪ ،‬مث يغرسها يف القلوب من جديد‪.‬‬
‫‪-‬احلل؟‪..‬‬
‫‪-‬احلل يكمن يف جمموعة من الناس تؤمن باإلسالم بشموله وعمقه‬
‫ونصاعته وتفهم العصر بظروفه ومعطياته‪ ..‬بسلبياته وإجيابياته‪ ،‬وتعيش‬
‫اإلسالم يف حياهتا العصرية الواقعية‪ ،‬فرتسم بسلوكها الوضعي وتعاملها‬
‫النظيف‪ ،‬وحتركها اإلجيايب املفيد يف اجملتمع صورة اإلسالم الصايف األصيل‬
‫كما أنزل اهلل ‪.‬‬
‫مث تبين هذه اجملموعة املؤمنة جسور احملبة والتفاهم مع اآلخرين‪ ،‬وتنقل إليهم‬
‫على متنها تصوراهتا وأفكارها يف حكمة وهدوء‪ ،‬فتأخذهم باللني وترحم‬
‫ضعفهم وحداثة عهدهم باإلسالم‪ ،‬وتشجعهم على االرتقاء فال حتملهم مال‬
‫يطيقون‪ ،‬وتستمر يف رعايتهم وتستمر يف رعايتهم وتشجيعهم حىت يصبحون‬
‫مسلمني صادقني‪ ..‬اإلسالم اليوم قضيتهم األوىل‪ ،‬ومنهجهم الوحيد يف‬
‫احلياة‪ ،‬ومع األيام ستزداد بقعة النور حىت تبدد الظالم‪ ..‬وسينمو اجملتمع‬
‫الوليد حىت يشب على أنقاض اجملتمع القدمي املتهافت الذي خنره سوس‬
‫الضياع واالحنراف والطغيان‪.‬‬
‫مهس عصام‪:‬‬
‫لكن هذا طريق طويل‪!!.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫وأطول مما قد نتصور‪ ،‬لكنه الطريق‪ ..‬الطريق الصحيح الذي مرت به التجربة‬
‫اإلسالمية األوىل فوصلت إىل ذروة النجاح‪ ..‬الطريق الذي يرمسه املنطق‬
‫وتؤيده التجارب الفاشلة اليت سلكت غريه فأخفقت‪...‬‬
‫‪-‬على هذا فقد نغادر احلياة دون أن حنقق واقعنا يف التغيري اإلسالمي‬
‫املنشود‪!..‬‬
‫‪-‬قد يتحقق وقد ال يتحقق‪ ،‬املهم أن نضئ على دربه املشاعل اهلادية‪ ،‬وأن‬
‫نضع يف بنيانه بضع لبنات لتأيت األجيال القادمة فتكمل البنيان‪..‬‬
‫‪-‬إذن فقد تستغرق رحلة التغيري أجياالً طويلة‪.‬‬
‫‪-‬املهم أن نبدأ ‪...‬‬
‫‪-‬والبداية؟‪ ..‬ما البداية؟‬
‫صمت سعد ملياً مث قال‪:‬‬
‫‪-‬البداية تنطلق من أنفسنا‪ .‬ما مل يقم اإلسالم يف نفوسنا فلن يقوم يف‬
‫األرض‪.‬‬
‫‪-‬مث؟‬
‫‪-‬مث علينا أن نتعاون ونتكامل ونتكافل حىت تنمو اجلهود املخلصة وتتجمع‬
‫يف تيار واحد‪..‬تيار قوى فعال‪ ..‬يطوي حياة الفساد والضياع والتخلف اليت‬
‫حنياها‪ ،‬ويبعث يف ظلمة عصرنا الرديء تباشري فجر مشرق جديد‪.‬‬
‫أطرق عصام مفكراً وأخذته َسنة من الشرود مث مهس‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬إن كالمك هذا ينقلين إىل عوامل جديدة كانت حمجوبة عين‪ .‬ال‬
‫أكتمك ‪ ،‬فأنا اآلن إنسان جديد‪..‬صاحب قضية يف احلياة‪ ..‬قضية مقدسة‬
‫سوف تلون تفكري وطموحي وتوجه خطاي إىل املستقبل‪...‬‬
‫يسرين أن أمسع هذا‪ ..‬عصام‪ ..‬أنت دليل جديد على ثقيت ببذور اخلري‬ ‫‪ّ -‬‬
‫اليت ينطوي عليها جمتمعنا‪ ..‬جمتمعنا يا عزيزي يزخر بالنفوس النقية املؤمنة‪،‬‬
‫لكنها حائرة ضائعة ال جتد من يأخذ بيدها إىل شاطىء احلقيقة وبَّر األَمان‪.‬‬
‫لنتعاون معاً على إيصال احلقيقة إىل عشاقها‪ ...‬لنبدأ رحلة التغيري يف دأب‬
‫وأناة ولنتعاهد على ذلك‪.‬‬
‫‪-‬إين أعاهدك على ذلك‪ ،‬وبعد التخرج سنتفرغ ِإلجناز الكثري‪....‬‬
‫وران صمت قصري ما لبث أن قطعه عصام‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬ملاذا مل تطرح علي أفكارك هذه قبل اآلن‪ ،‬بالرغم من أن عالقتنا‬
‫قد توطدت منذ سنوات؟‪!..‬‬
‫ابتسم سعد وأجاب‪:‬‬
‫‪-‬سأقول لك‪ ..‬أنا أكره االندفاع‪ ،‬وال أميل إىل التسرع‪ ،‬كان ال بد من‬
‫التمهيد اهلادئ‪ ..‬ال بد من بناء جسور املودة والصراحة والتفاهم بيننا‪ ،‬حىت‬
‫يتم عربها تبادل األفكار واآلراء يف يسر وتقبل وقناعة‪...‬‬
‫‪-‬لكم يروقين هذا األسلوب احلكيم‪.‬‬
‫فن‪ ..‬عليك حىت تتقنها أن تفهم النفوس وتدرك‬ ‫‪-‬الدعوة يا صديقي ّ‬
‫طبائعها‪ ..‬أن ختتار اللحظة املناسبة اليت تلقي فيها فكرتك‪ ..‬أن ختتار‬
‫املكان املناسب‪ ..‬أن ال تثقل عليها‪ ..‬فللنفس طاقة حمدودة لالستقبال إذا‬
‫حل مكاهنا الضجر وامللل وسقطت الكلمات على أرض عقيمة‬ ‫ما نفذت ّ‬
‫ال تنبت إال الرفض والضيق‪ ،‬لذا ال بد من التدرج‪ ،‬فالقناعة ال تتولد من‬
‫كثافة األفكار بل من وضوحها وترابطها‪ ،‬ومع ذلك فليست كل النفوس‬
‫مهيأة الستقبال احلقيقة إالّ أن تكون نفوساً إجيابية طيبة‪.‬‬
‫مث أردف سعد وهو مطرق‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬هناك أمر هام‪.‬‬
‫‪-‬تفضل‪ ..‬قل ما عندك‪.‬‬
‫‪-‬هل نتكلم بصراحة؟‬
‫‪-‬الصراحة مذهيب‪...‬‬
‫‪-‬إن االلتزام باإلسالم يتطلب خطوات عملية‪ ..‬خطوات سريعة حامسة‪.‬‬
‫قاطعه عصام‪:‬‬
‫‪-‬إين أفهم ما ترمي إليه‪ ..‬لكم يعذبين تقصريي‪.‬‬
‫‪-‬الندم شرط من شروط التوبة الصادقة‪ ،‬لكنه ينبغي أن ال يتحول إىل‬
‫عقدة الذنب‪ ..‬فاهلل تواب رحيم‬
‫‪-‬أستغفر اهلل وأتوب إليه‪ ..‬سعد‪ ..‬هل أجد عندك كتاباً مفصال عن كيفية‬
‫الصالة؟‬
‫ذهب سعد ليحضر الكتاب‪ ،‬بينما شغل عصام باملناظر اخلالبة اليت حتيط‬
‫به من كل جانب وقد هبره هذا اللقاء الساحر بني الليل اهلادئ والطبيعة‬
‫اخلالبة‪ ،‬وشدته الورود من حوله فقام يتجول بينها متأمالً ألواهنا الزاهية‬
‫مستنشقاً عبريها املنتشر عرب اهلواء الرطب‪ ،‬ومع النسمات العليلة حتركت‬
‫خواطره الدفينة وحفت به األطياف حتاوره وتناجيه‪ ،‬واستأثر به طيف سامية‬
‫فتساءل يف نفسه عن موقفها من حتوله اجلديد وما إن عاد سعد حىت سأله‬
‫وهو يتناول منه كتاب الصالة‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬ما هي نظرة اإلسالم للحب؟‬
‫أجاب سعد وهو ال خيفي دهشته من هذا السؤال املفاجئ‪:‬‬
‫‪-‬احلب؟‪ ..‬احلب عاطفة إنسانية نبيلة أودعها اهلل يف قلب الرجل واملرأة‬
‫ليكون الشرارة املقدسة اليت تولد احلياة وتضمن استمرارها على األرض‪.‬‬
‫‪-‬بعضهم ي ّدعي بأنه حرام‪!.‬‬
‫‪-‬احلب يف ح ّد ذاته ليس حراماً‪ ..‬لكن اإلسالم يرفض أن يكون احلب‬
‫ذريعة لالحنراف والفساد ووسيلة لتحقيق مآرب رخيصة‪ ،‬فباسم احلب‬
‫ترتكب اآلن أرذل اجلرائم وختدع نفوس طاهرة بريئة خفقت يف فؤادها تلك‬
‫العاطفة الفطرية النبيلة‪ ،‬فاستغلها آخرون من أصحاب األهواء املريضة‬
‫وقادوها إىل مواطن الرذيلة والفساد وجردوها من أخالقها وعفتها وحطموا‬
‫مسعتها ومستقبلها لعلك تذكر حديثنا حول ((مىن وصفوان‪))..‬‬
‫‪-‬أجل أذكر‪ ..‬وماذا يفعل املسلم إذا خفقت يف نفسه هذه العاطفة حنو‬
‫فتاة ما؟‬
‫‪-‬يسلك الطريق الطاهر النظيف ويتجنب الطرق امللتوية اآلمثة‪ ،‬فيخطبها‬
‫من أهلها بعد أن يدرس املوضوع من كل جوانبه ويتأكد من مالءمة هذه‬
‫الفتاة حلياته وطبعه وتفكريه‪ ،‬فإن وافقت الفتاة كان االلتقاء احلالل بينهما‬
‫يف ظالل احلب والتفاهم وإن رفضت لسبب أو آلخر فعليه أن حيرتم رغبتها‬
‫ويصون مسعتها وينسحب من طريقها حىت ال يكون سبباً يف تعاسة إنسانة‬
‫بريئة مل يقع اختيارها عليه‪.‬‬
‫قال عصام وهو يرمي بنظراته إىل األفق البعيد‪:‬‬
‫‪-‬اإلسالم منهج رائع حقاً‪...‬‬
‫ضحك سعد وقال مداعباً‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬أرجو أن نسمع عما قريب أخبارك السعيدة‪...‬‬
‫***‬
‫بعد سهرة ثرية باألحاديث واألفكار‪ ،‬ودع عصام سعداً ومضى‪ ..‬كان القمر‬
‫يتألق يف كبد السماء الصافية بدراً منرياً ويلقي بأشعته الفضية على أشجار‬
‫الطريق‪ ،‬فتضئ خضرهتا الداكنة وختلع عليها فتنة تسر الناظر وتشد العابر‬
‫ليقضي الليل يف ظالهلا املزدانة ببقع النور املتسلل عرب األغصان‪ .‬وهبرته روعة‬
‫املساء‪ ،‬وأغراه مجال الطريق باملسري‪ ،‬فأطلق العنان لقدميه‪ ،‬فراحت تذرع‬
‫الطريق خبطاً بطيئة كان وقعها يرتدد إيقاعاً رتيباً يقطع الصمت الذي يلف‬
‫الشارع اهلادئ‪.‬‬
‫هذا الصمت الشامل‪ ..‬لكم يثري يف نفسه الشجن!‪ ..‬إنه يستجيش‬
‫املشاعر‪ ،‬ويستدعي اخلواطر فتتزاحم يف وجدانه‪.‬‬
‫إنه اليوم على أعتاب حتول جديد وحياة جديدة‪ ،‬فقد استيقظ يف أعماقه‬
‫إميان عارم يلح عليه بالتغيري ويدفعه للعمل وينعطف به إىل عامل متميز‪..‬‬
‫وحتلق روحه مع اهلل‪ ..‬فتشعر بني يديه بتقصريها‪ ،‬وتدرك حقيقتها‪ ،‬وتتذكر‬
‫مهمتها‪ ،‬وتعاهده على االلتزام مبنهجه الذي ارتضى‪ ..‬ويتذكر عصام‬
‫تصوراته السابقة عن اإلسالم واليت تسربت إىل نفسه من البيئة احمليطة‬
‫اجلاهلة بأصول اإلسالم ومبادئه العظيمة واليت ألصقت باإلسالم الكثري من‬
‫عاداهتا املنحرفة وتقاليدها املمجوجة وجهلها املريع‪ ..‬يتذكر عصام كل‬
‫ذلك‪ ،‬فيؤمله ذلك التيه الذي كان ضارباً فيه‪.‬‬
‫لقد وجد اآلن تفسرياً شافياً هلذا الفهم اخلاطئ الذي حتمله األجيال اجلديدة‬
‫لإلسالم والنفور الذي تبديه حنوه أحياناً‪ ..‬إنه يكمن يف أهنا تلقت أفكارها‬
‫وتصوراهتا من البيئة‪ ،‬بدل أن تتلقاها من النبع الصايف األصيل‪.‬‬
‫ليس من املعقول أن تؤمن هذه األجيال بإسالم مشوه مشوب مبفاهيم‬
‫وعادات وتقاليد خاطئة متخلفة‪ ،‬وهي اليت تفتح وعيها على حضارة العلم‬
‫واالخرتاع وتشبع مبنهج البحث العلمي القائم على العقل واملنطق‪ .‬لكم تؤمله‬
‫اهلوة السحيقة اليت تفصل بني اإلسالم احلق واملسلمني املتخلفني عنه‬ ‫هذه َّ‬
‫فهماً واقعاً وسلوكاً‪!.‬‬
‫ويزيده الواقع املؤمل اندفاعاً ومحاساً‪ ،‬فيمنو شعوره بالندم وحيس بسياطه وهي‬
‫تلهب ضمريه التائب فتنتفض عنه األدران واخلطايا ويصغي حلديث نفسه‬
‫اللوامة وهي حتاسبه وتعاتبه‪(( ..‬كيف ستقف أمام اهلل يوم القيامة‪ ..‬يوم‬
‫يسألك‪ :‬أعطيتك الصحة فألي شئ استعملتها؟ وأعطيتك العقل فكيف‬
‫استخدمته؟ وأعطيتك العمر فكيف قضيته؟ أعطيتك وأعطيتك فماذا‬
‫قدمت؟ حقاً ماذا قدمت حىت اآلن؟‪))..‬‬
‫وفاضت نفسه بالتأثر واالنفعال‪ ،‬وانطلقت من جفونه دموع التوبة صادقة‬
‫حرى‪ ،‬فشعر بربد السالم ميس شغاف قلبه‪ ،‬ويسكب يف روعه األمان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتراءت له من بني الدموع مئذنة بعيدة تتألأل باألنوار‪ ،‬فهفت نفسه إىل‬
‫الصالة وآمله أنه مل يدخل املسجد منذ أمد بعيد ومتتم يف خشوع‪:‬‬
‫(( ‪-‬اللهم إين أتوب إليك من كل ذنب مضى وأسألك القبول‪ ..‬اللهم إين‬
‫قادم إليك فاغفر يل وارمحين واجعلين من الصاحلني‪ ..‬اللهم إين قد عزمت‬
‫أعين على مشقات الطريق‪)).‬‬ ‫على التوبة فبارك خطوايت‪ ،‬و ه‬
‫***‬
‫عندما اقرتب عصام من البيت الح له شبح أمه وقد وقفت تنتظر قدومه‬
‫على الشرفة‪ ،‬متكئة بكلتا يديها على جدارها وهي حتتضن وجهها احلزين‬
‫بني كفيها‪ ،‬وما إن رأته حىت دبت احلركة يف شبحها الذي كان جامداً حتت‬
‫وطأة اهلم والقلق‪.‬‬
‫وأدرك عصام ما عانته أمه بسببه من اضطراب وانزعاج‪ ،‬فحث خطاه‬
‫ومضى يرقى السلم بسرعة وما إن وصل إىل الدور الثالث حىت وجدها‬
‫تنتظر لدى الباب فابتدرته بالسؤال معاتبة‪:‬‬
‫‪-‬ملاذا تأخرت حىت اآلن؟ لقد شغلتين عليك يا بين‪.‬‬
‫قال عصام وهو يعتذر هلا ويطيب خاطرها‪:‬‬
‫‪-‬اعذريين يا أماه‪ ..‬لقد امتدت بنا السهرة مث آثرت القدوم سرياً على‬
‫األقدام فتأخرت‪..‬‬
‫‪-‬ما كان ينبغي أن ترتكين هكذا‪ ..‬كدت أجن من اخلوف والقلق‪..‬‬
‫قال هلا عصام بعد أن دلفا إىل الداخل‪:‬‬
‫أماه أنت دائماً هكذا‪ ..‬تستسلمني للقلق بال مربر وتندلع يف نفسك‬
‫املخاوف ألدىن سبب‪..‬‬
‫قالت األم بامسة وقد هدأ روعها‪:‬‬
‫‪-‬ماذا أفعل؟!‪ ..‬إنه قلب األم‪..‬‬
‫كابح‪...‬‬
‫‪-‬قلب األم هذا حيريين‪ ..‬ال يقنعه منطق‪ ،‬وال يكبح اضطرابه ّ‬
‫ضحكت األم وقالت‪:‬‬
‫‪-‬ال تقل يل بأنك غاضب‪ ..‬إين أعرفك‪ ..‬ما كان ليغضبك مين شئ‪ ..‬هل‬
‫أعد لك العشاء؟‬
‫‪-‬ال شهية يل للطعام‪.‬‬
‫‪-‬بل سأعده لك‪ ..‬جيب أن تتعشى‪.‬‬
‫***‬
‫كان عصام يتناول عشاءه يف صمت‪ ..‬شارد اللب‪ ..‬ساهم النظرة‪..‬‬
‫مشغول الوجدان هبذا االنقالب اجلديد الذي أزمع على حتقيقه يف حياته‪،‬‬
‫ومل خيف هذا الذي يعتمل يف صدره عن والدته اليت كانت ترقبه بفراسة‬
‫األم‪ ،‬وقد أحست مبا يعانيه من هم وتفكري‪ ،‬وزاد من قلقها عليه تلك‬
‫األنداء من الدمع اليت كانت تلوح يف عينيه السامهتني بني احلني واآلخر‬
‫فسألته يف إشفاق‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬ما الذي يشغل فكرك يا بين‪ ..‬تبدو مهموماً شارد البال‪..‬‬
‫‪-‬أماه‪ ..‬لقد قررت أن أصلي‪.‬‬
‫‪-‬احلمدهلل‪ ..‬هذه بشارة خري‪ ،‬ولكن ما الذي أمهك هكذا‪ ..‬وهذه الدموع‬
‫اليت تلوح يف عينيك؟‪ ..‬أخربين ما األمر؟‬
‫‪-‬ال شئ‪ ..‬كل ما يف األمر أين نادم على تقصريي وأرجو من اهلل أن يقبل‬
‫توبيت‪.‬‬
‫هتفت األم وهي تنظر إليه بدهشة واستغراب‪:‬‬
‫‪-‬التوبة؟‪ ..‬التوبة من ماذا؟‪ ..‬إنك مل تفعل يف حياتك ناقصة أو رذيلة‪..‬‬
‫أنت ولدي وأنا أعرف الناس بك‪...‬‬
‫قال عصام واللقمة جامدة حبيسة يف فمه‪:‬‬
‫‪-‬إهنا التوبة من التقصري واإلمهال‪ ،‬والندم على األيام املاضية اليت قضيتها‬
‫بعيداً عن اهلل كان ينبغي أن تنبهيين يا أماه‪...‬‬
‫قالت األم وهي تصب البنها كوبا من الشاي‪:‬‬
‫‪-‬ال عليك يا بين‪ ..‬إن اهلل تواب رحيم‪ ،‬مث إنك ما زلت شاباً وأمامك‬
‫متسع من الوقت لتصلي وتصوم وحتج‪...‬‬
‫قاطعها عصام موضحاً‪:‬‬
‫من قال بأنك هناك متسعاً‪ ..‬ليس هناك أي متسع‪ ،‬فاملوت يرتب بنا‪ ،‬واهلل‬
‫سوف حياسبنا على الدقائق والثواين كيف قضيناها؟‪..‬‬
‫‪-‬املوت؟!‪ ..‬ما الذي جيعلك تفكر فيه اآلن؟‬
‫‪-‬املوت حق يا أماه‪.‬‬
‫هتفت األم يف ضيق تريد إهناء احلديث‪:‬‬
‫‪-‬حسناً‪ ..‬حسناً‪ ..‬تناول الشاي فقد كان أن يربد‪.‬‬
‫***‬
‫أهنى عصام طعام مث مضى فاغتسل وتوضأ وعاد إىل الصالة فاستقبلته أمه‬
‫بنظرات ملؤها الود واإلكبار‪ ..‬إنه يف نظرها مالك كرمي يدب على األرض‪..‬‬
‫كتلة من الطهر والنقاء‪ ..‬شعلة من األمل الواعد تتألق يف دنياها املظلمة‬
‫لتنري هلا الدروب إىل مستقبل باسم سعيد‪ ..‬إنه روحها اليت ختفق يف‬
‫صدرها‪ ،‬وفؤادها الذي ينبض باحلياة‪.‬‬
‫قام عصام يؤدي صالة العشاء‪ ،‬مث جلس يدعو اهلل يف خشوع ضارع عميق‪،‬‬
‫وبعد أن أهنى دعاءه اجته إىل املصحف املعلق يف صدر الصالة‪ ،‬فتناوله يف‬
‫هلفة‪ ،‬مث نفض عنه الغبار يف حياء‪ ،‬وحرره من بيته املخملي األخضر‪ ،‬وفتحه‬
‫يف رفق وأراد أن يقرأ‪ ،‬لكنه انتبه إىل أمه وهي ترقبه يف سرور باسم فلمح يف‬
‫عينيها احلب واحلنان‪ ،‬وأراد أن يزيد سعادهتا فقال هلم وهو يبتسم يف حبور‪:‬‬
‫‪-‬أماه‪ ..‬نسيت أن أقول لك شيئاً مهماً‪.‬‬
‫‪-‬يبدو أن هذه الليلة مليئة باملفاجآت‪ ..‬ماذا تريد أن تقول؟‪...‬‬
‫‪-‬أرجو أن تستعدي لتخطيب يل سامية‪ ..‬هذا قراري األخري‪.‬‬
‫***‬

‫الفصل الثاين عشر‬


‫((اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من سامية خري يل يف ديين‪ ،‬ومعاشي‪،‬‬
‫وعاقبة أمري‪ ،‬فاقدره يل‪ ،‬ويسره يل‪ ،‬وبارك يل فيه‪ ،‬وإن كنت تعلم أن‬
‫زواجي منها شر يل يف ديين‪ ،‬ومعاشي‪ ،‬وعاقبة أمري فاصرفه عين‪ ،‬واصرفين‬
‫رضين به‪ ..‬آمني‪ ،‬واحلمد هلل رب‬
‫عنه‪ ،‬اقدر يل اخلري حيث كان‪ ،‬مث ّ‬
‫العاملني‪)).‬‬
‫مل خيفف هذا الدعاء الضارع الذي استخار عصام به اهلل يف أمر زواجه من‬
‫قلقه واضطرابه أو حيد من خفقان قلبه الشديد‪ ،‬الذي كان يتالطم بني‬
‫ضلوعه‪ ،‬وير ّج رجاً عنيفا‪ ،‬فتتسارع نبضاته كلما اقرتبت عقارب الساعة من‬
‫السادسة مساء‪ ،‬حيث يأزف موعد زيارته وأمه ملنزل الدكتور إياد ليخطب‬
‫منه ابنته سامية‪.‬‬
‫إنّه مل يتوقع أن حيدث هذا األمر يف نفسه كل هذا االضطراب‪ ،‬فمنذ‬
‫الصباح الباكر‪ ،‬وهو يكابده بأعصاب مرهفة وخيال شارد‪ ،‬حىت خطبة‬
‫اجلمعة اليت كان يصغي إليه بعمق وتركيز أفلتت من إدراكه‪ ،‬عندما بدأ‬
‫اخلطيب يتحدث عن واجب األمة يف إحصان شباهبا وفتياهتا‪ ،‬وتأمني‬
‫الضروف املالئمة لاللتقاء احلالل بينهم‪ ،‬وحماصرة أسباب الغواية والفساد يف‬
‫اجملتمع فانطلق خياله ليحدثه عن سامية‪ ،‬واخلطوة احلامسة املنتظرة‪ ،‬لتحديد‬
‫موقعها يف حياته ومستقبله‪ ،‬ومل يستيقظ من شروده ّإال عندما رأى املصلني‬
‫ينهضون لتأدية الصالة‪...‬‬
‫ودخلت األم على عصام‪ ،‬وقد ارتدت مالبسها وهتيأت للخروج فوجدته‬
‫يطوي سجادة الصالة فقالت بنربات ضاحكة‪:‬‬
‫نصل املغرب معاً؟‬
‫‪-‬ما هذه الصالة اليت أديتها؟‪ ..‬أمل ه‬
‫‪ًّ -‬إهنا صالة االستخارة‪ ..‬ركعتان يصليهما املرء مث يدعو اهلل عقبهما بدعاء‬
‫خاص يسأل اهلل فيه التوفيق والتسديد بعد أن يعد لألمر عدته ويدرس‬
‫اخلطوات اليت سيقدم عليها بدقة وروية‪ ،‬مث ميضي ملا ينشرح له صدره وترتاح‬
‫إليه نفسه‪.‬‬
‫سألته أمه وهي متازحه‪:‬‬
‫‪-‬وكيف جتد نفسك اآلن؟‬
‫‪ّ -‬أماه‪ ..‬لقد عزمت‪ ،‬وتوكلت على اهلل‪ ،‬هيا بنا اآلن‪..‬‬
‫***‬
‫بني الدور الثالث حيث تقيم أم عصام‪ ،‬والدور الثاين حيث تقيم عائلة‬
‫الدكتور إياد‪ ،‬مسافة قصرية ال حتتاج لقطعها أكثر من حلضات قليلة‪ ،‬لكن‬
‫أم عصام قطعت يف خياهلا خالل هذه اللحضات ربع قرن من الزمان‪،‬‬
‫حافل بالذكريات واألحداث‪ ،‬وكلما هبطت يف السلم درجة تراجعت يف‬
‫خضم السنني عاماً أو أكثر‪ ..‬تذكرت خطبتها وزفافها‪ ..‬تذكرت محلها‬
‫ووالدهتا‪ ..‬وتذكرت عصاماً من امليالد حىت الشباب‪ ..‬تذكرته وليداً يبكي‪،‬‬
‫وتذكرته طفالً حيبو‪ ..‬تذكرته صبياً يلعب وتذكرته فىت ينمو‪ ،‬وتذكرته شابا‬
‫يافعاً يسمو بأخالقه وذكائه ونبوغه‪ ..‬وعندما وصلت إىل الدور الثاين كانت‬
‫نفسها قد ختففت من كل اهلموم واألحزان‪ ،‬وهتيأت لتستقبل الفرحة اجلديدة‬
‫بكل ما أوتيت حواسها من إرهاف‪ ،‬وختيلت ابنها عريساً وسيماً يزف إىل‬
‫عروسه اجلميلة ففاضت نفسها بالبشر والسرور‪ ،‬وطفح قلبها بالسعادة‪،‬‬
‫ورفت على شفتيها ابتسامة طاغية مل جتد إلخفائها سبيالً‪.‬‬
‫وتقدم عصام من الباب فقرع اجلرس مث تنحى ليقف خلف أمه‪ ..‬وفُتح‬
‫الباب فأطل منه الدكتور إياد وزوجته وقد تأهبا هلذه الزيارة املوعودة‪،‬‬
‫ولساهنما يلهج بكلمات الرتحيب احلار‪ ،‬ونظراهتما تشع باحلب واالحرتام‬
‫العميق‪.‬‬
‫واستقر هبم اجمللس‪ ..‬وتشعبت هبم األحاديث‪ ..‬فتبادلوا عبارات املودة‬
‫وأشادوا بعالقة اجلوار اجلديدة اليت مجعتهم وشرعوا يتكلمون عن املاضي‬
‫واحلاضر‪ ،‬فذكروا الراحلني ومآثرهم وحتدثوا عن اآلباء ونوادرهم ووقفوا طويال‬
‫عند حديث األبناء ومشاكلهم‪ ،‬وكلما أوغلوا يف السمر شعروا باأللفة تزداد‬
‫وتتوطد بينهم‪ .‬وحانت برهة صمت طارئة فانتهزهتا أم عصام قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ليتكم تسمحون يل بكلمة‪...‬‬
‫شعر عصام بأن اللحضات الفاصلة قد أزفت فتعاىل وجيب قلبه‪ ،‬ومتلمل‬
‫من شدة االرتباك‪ ،‬بينما قال الدكتور إياد وقد الحظ ارتباكه‪:‬‬
‫‪-‬أنت سيدة اجمللس يا أم عصام‪ ،‬فكيف نعطيك اإلذن باحلديث؟‬
‫‪-‬قالت أم عصام ومالحمها تنطق بالسرور‪:‬‬
‫‪-‬اهلل يبارك فيك يا حضرة الدكتور‪..‬‬
‫مث تابعت يف تدفق ومحاس‪:‬‬
‫(( ‪-‬تعلمون أنه ليس يل يف الدنيا أعز من ولدي عصام‪ ،‬ولن تكتمل‬
‫سعاديت إال بتمام سعادته وعما قريب سوف يتخرج –بإذن اهلل‪ -‬ومل يبق‬
‫أمامه إال الزواج وقد فكرت يف األمر فلم أجد له خرياً من ابنتكم املصونة‬
‫سامية اليت لن أجد فتاة مبثل تربيتها وأخالقها‪ ،‬لذلك فإين أتشرف خبطبتها‬
‫بابين ملا علمت من ارتياحه هلا‪ ،‬وإعجابه بسلوكها احملتشم وخلقها األصيل‪..‬‬
‫هذا كل ما عندي‪ ،‬فال أدري ما هو الرأي عندكم؟‪..)).‬‬
‫ابتسم الدكتور إياد ابتسامته املألوفة‪ ،‬وقال دون أن يفاجئه الكالم‪:‬‬
‫‪-‬أشكرك بالنيابة عنا مجيعاً على مدحك البنتنا سامية وتربيتها‪ ،‬واعلمي‬
‫أهنا ابنتك كما هي ابنتنا‪ ،‬وإذا أردت رأيي باملوضوع فإين أخلصه لك يف‬
‫كلمة واحدة‪ .‬إنين أنا الذي أخطب ابنك عصام البنيت سامية‪ ،‬ألنين أكون‬
‫بذلك قد توخيت الرجولة واألخالق والشرف‪ ،‬وال أطلب البنيت أكثر من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وأردفت زوجة الدكتور إياد‪:‬‬
‫‪-‬قد تكون معرفيت بعصام قليلة‪ ،‬لكنين بعد ما مسعته عنه وعن أخالقه‪،‬‬
‫وبعد أن تعرفت بأخيت ((أم عصام)) وخربت أخالقها ومعاملتها الكرمية‪،‬‬
‫فإين أتشرف أن يكون الدكتور عصام زوجاً البنيت أأمتنه عليها‪.‬‬
‫قال عصام بنربات مرجتفة خنقها االنفعال‪:‬‬
‫‪-‬أرجو أن أكون عند حسن ظنكم مجيعاً‪.‬‬
‫قالت أم عصام‪:‬‬
‫‪-‬هل نفهم‪...‬؟‬
‫لكن الدكتور إياد سرعان ما التقط احلديث منها ليزيد موقفه إيضاحاً‬
‫وتفصيالً‪:‬‬
‫(( ‪-‬أرجو أن يكون األمر كما يتمىن اجلميع‪ ،‬لكن رأينا يبقى ثانويا بالنسبة‬
‫لرأي الفتاة‪ ،‬فهي صاحبة الشأن يف هذا األمر‪ ،‬وتبقى الكلمة األخرية‬
‫حرة يف حياهتا وفيمن ختتاره شريكاً هلا وليس لنا إال أن‬
‫احلامسة ألهنا َّ‬
‫ننصحها ونوجهها‪ ..‬أليس كذلك يا عصام؟‪ ..‬تبدو خجوالً هذه الليلة‪!)).‬‬
‫ضحك اجلميع هلذه الدعابة بينما أرسل عصام ابتسامة عريضة فضحت ما‬
‫جيول يف داخله من سرور وارتياح هلذا املنحى الذي يسلكه احلديث‪ ،‬وقال‬
‫وهو يفرك يديه ليداري انفعاالته‪:‬‬
‫(( ‪-‬إين أوافقك على ما تقول‪ ،‬فاستشارة الفتاة يف أمر الزواج مبدأ أصيل‬
‫من مبادئ اإلسالم‪)).‬‬
‫وأضافت أم عصام‪:‬‬
‫‪-‬هل نؤجل املوضوع يوماً أو أكثر حىت تعرفوا رأي الفتاة؟‬
‫أجاب الدكتور بعد أن تبادل مع زوجته نظرة تفاهم‪:‬‬
‫(( ‪-‬ال داعي للتأجيل‪ ..‬سنسأهلا عن رأيها اآلن‪ ،‬فأنا واثق من قدرة ابنيت‬
‫على اختاذ قراراهتا بشجاعة ووضوح‪ ،‬وإذا ما أرادت مهلة لتحديد موقفها‬
‫أمهلناها‪ ..،‬عن إذنكم‪... )).‬‬
‫مث أومأ لزوجته فلحقت به‪..‬‬
‫كانت غرفة سامية قريبة من الصالة حبيث كانت تستمع لكل ما يقال‪،‬‬
‫ورغم ّأهنا كانت تتوقع هذا احلدث وترتقبه‪ ،‬إالّ أ ّن األمر أربكها متاماً‪،‬‬
‫ووضعها فجأة يف مواجهة حلم لذيذ‪ .‬وسرت الفرحة يف أوصاهلا‪ ،‬فاجتاحتها‬
‫موجة من السعادة واحلبور‪ .‬وأرادت أن تستعلي على مشاعرها املتدفقة لتبدو‬
‫يف متاسك طبيبة رصينة توشك أن حتتل موقعها املميز يف اجملتمع‪ ،‬لكن‬
‫الفرحة كانت أقوى منها‪ ،‬فأطلّت من عينيها‪ ،‬ورفرفت فوق شفتيها‪ ،‬وعندما‬
‫مسعت وقع أقدام أبويها وهي تقرتب من حجرهتا‪ ،‬حاولت عبثاً إخفاء الفرح‬
‫والسعادة اليت أشرق هبا وجهها‪ ،‬لكنها مل تستطع‪ ،‬فتضرجت وجنتاها حبمرة‬
‫احلياء وخشيت أن تفضح مالحمها مشاعرها‪ ،‬فتناولت كتاباً وتظاهرت بأهنا‬
‫منهمكة يف قراءته‪ ..‬ومسعت طرقاً خفيفاً على الباب فاضطربت له‪ ،‬وماتت‬
‫الكلمات على شفتيها فلم تنبس‪ .‬وفتح الباب فخفق قلبها بعنف وانتشرت‬
‫أمواج االنفعال يف أغوارها وراحت تضغط على صدرها فأرسلت تنهيدة‬
‫لتنفس هبا عن جيشان مشاعرها املستبدة العارمة‪.‬‬
‫أغلقت أمها الباب‪ ،‬وقالت مداعبة‪:‬‬
‫‪-‬ال تقويل بأنك منهمكة يف القراءة‪ ،‬ال بد أنك مسعت حديثنا مع عصام‬
‫وأمه‪.‬‬
‫مل جترأ سامية أن ترفع رأسها من شدة احلياء‪ ،‬فالذت بالصمت واإلطراق‪،‬‬
‫وازدادت ابتسامتها اتساعاً‪ :‬ووجنتاها امحراراً‪ ،‬وأحاسيسها اضطراماً‪.‬‬
‫قال األب وقد فهم موقف ابنته الذي مخنه منذ مدة‪:‬‬
‫‪-‬هل أفهم أنك موافقة؟‪ ..‬فالسكوت عالمة الرضا‪.‬‬
‫أردفت األم‪:‬‬
‫‪-‬جيب أن حتددي موقفك‪ ،‬فاجلماعة بانتظار جوابك‪ ..‬عصام شاب ممتاز‬
‫تعرفني عنه أكثر مما أعرف‪ ،‬وأمه سيدة طيبة‪ ..‬إنكما الئقان ببعضكما فال‬
‫داعي للرتدد‪ .‬هل أفهم اعتصامك بالصمت على أنه اجلواب؟‬
‫صمت األبوان بانتظار جواب ابنتهما غري أهنا داومت الصمت واإلطراق‬
‫وأخذ احلياء منها كل مأخذ فم ّد األب يده إىل وجهها املورد ورفعه من‬
‫ذقنها فأمالت رأسها يف دالل وأسبلت جفنيها يف وداعة‪ ،‬وقد أشرق وجهها‬
‫بابتسامة تشي بالرضا والقبول‪ ،‬وأذاعت مالحمها البامسة السعيدة السر‬
‫املكنون‪ ،‬ونطقت بالقرار‪ ..‬فامتألت نفس الدكتور إياد بالغبطة وقال وهو‬
‫يطبع على جبينها قبلة حانية‪:‬‬
‫‪-‬مربوك يا ابنيت‪ ..‬مربوك‪ ..‬وفقك اهلل وكتب لكما السعادة واهلناء‪.‬‬
‫بينما مالت األم على ابنتها وراحت متطرها بالقبالت‪.‬‬
‫***‬
‫كان قلب عصام خيفق بشدة رغم أنه كان موقناً باملوافقة‪ ،‬أم األم فقد‬
‫كانت تنتظر اجلواب على أحر من اجلمر‪ ،‬فلقد أحبّت سامية وشعرت‬
‫حنوها بارتياح عجيب إهنا تشفق أن تفلت هذه الفتاة من يدها‪ ،‬ألهنا‬
‫أنسب من رأت البنها احلبيب الذي باتت تشعر بأحاسيسه وتفكر بعقله‬
‫وتنطق بلسانه وتنظر إىل الوجود بعينيه‪ ،‬وما إن عاد الدكتور إياد حىت‬
‫تعلقت العيون بشفتيه البامستني أن تنفرج عن القرار األخري‪.‬‬
‫(( ‪-‬مربوك يا بين‪ ..‬على بركة اهلل‪...)).‬‬
‫هكذا هتف الدكتور إياد وهو يتجه إىل عصام‪ ..‬وتصافح الرجالن‪ ،‬وشد‬
‫كل منهما على يد اآلخر يف ود وحرارة وقال عصام بنربات منفعلة‪:‬‬
‫‪-‬بارك اهلل فيك يا عماه‪ ..‬أطمئنك بأين سأضع سامية يف عيين هاتني‪،‬‬
‫وسأسعى إلسعادها السعادة اليت تليق هبا‪ ،‬ليس ألهنا ستكون زوجيت الغالية‬
‫فحسب‪ ،‬ولكن ألهنا إبنة الرجل الذي هو يف مقام والدي – رمحه اهلل‪- .‬‬
‫‪-‬رمحهُ اهلل رمحهُ اهلل ‪ ..‬أنا واثق من أن سامية قد أحسنت اإلختيار‪ ..‬بارك‬
‫اهلل لكما يف زواجكما ومد يف عمركما حىت تفرحا بأوالدكما وأحفادكما‬
‫يا‪ ..‬يا صهري العزيز‪.‬‬
‫ومل تستطع األم أن تلجم فرحتها فأرسلت لساهنا بالزغاريد‪ ،‬وعندما حاولت‬
‫أن تبارك البنها خاهنا لساهنا‪ ،‬فهبت دموع الفرح لتكون ابلغ هتنئة يف هذه‬
‫املناسبة السعيدة‪.‬‬
‫ودخلت زوجة الدكتور إياد والفرحة تطل يف عينيها وهتفت يف نربات تضج‬
‫بالسرور‪:‬‬
‫‪-‬مربوك يا عصام‪ ..‬لكم يسعدين أن تكون زوجاً البنيت سامية‪.‬‬
‫وصاح الدكتور إياد يف إنكار تصنع ليداعب القلوب الفرحة‪:‬‬
‫‪-‬أال جتلسون؟‪ ..‬لستم أول من خطب وتزوج‪!!.‬‬
‫مث وهو يرفع صوته أكثر‪:‬‬
‫‪-‬سامية‪ ..‬أين الشاي يا سامية؟‬
‫وقالت زوجته ترجوه‪:‬‬
‫‪-‬باهلل عليك ال حترجها هكذا‪..‬‬
‫مث وهي تتجه باحلديث إىل أم عصام‪:‬‬
‫‪-‬لو ترين وجهها وحنن نسأهلا عن رأيها‪ ..‬إنه حبمرة الورد من شدة احلياء‪..‬‬
‫قالت أم عصام‪:‬‬
‫‪-‬ألهنا فتاة أصيلة ومرباة‪ .‬لو تعلمني كم أحببتها‪ ..‬لقد دخلت إىل قليب‬
‫منذ أن رأيتها أول مرة‪.‬‬
‫مث وقد جلست جبانب ابنها الذي كان يعاين من االرتباك واخلجل‪:‬‬
‫‪-‬واآلن ما رأيكما لو نتحدث عن املهر والذهب وكتب الكتاب وغري ذلك‬
‫من األمور؟‪...‬‬
‫قال الدكتور إياد بعد أن تبادل مع زوجته نظرة فهمت مرماها فوافقته بإمياءة‬
‫من رأسها‪:‬‬
‫(( ‪-‬أرجو أن تسمعا رأيي يف هذه األمور‪ ..‬أنا ال أحب الوقوف عن‬
‫املسائل املادية كثريا‪ ،‬ال سيما مع من أحبهم واحرتمهم وأثق مبعاملتهم‪..‬‬
‫مهر هذه الفتاة خامت من الذهب‪ ،‬هذا املقدم‪ ،‬أما املتأخر فأترك تقديره‬
‫لعصام‪ ،‬على أن ال يتجاوز املقدار املتوسط الذي اعتاد عليه الناس يف‬
‫جمتمعنا‪ ،‬وبعد ذلك فإن عصاماً حر فيما يقدمه لبيته وزوجته‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫لكتب الكتاب فأرجو أن يتم يف أسرع وقت ممكن‪ ،‬حىت يتاح للعريسني‬
‫حرية االلتقاء يف ظالل الشرع واحلالل‪ ،‬أما العرس فيتم حسب اتفاق‬
‫العروسني‪ ..‬بقي شئ آخر‪ ..‬هدييت البنيت سامية مبناسبة زواجها ستكون‬
‫الشقة املقابلة للشقة اليت تقيمان هبا‪ ،‬وسأكتبها بامسها يف أقرب وقت‪..‬‬
‫هذه شروط ال أتنازل عنها حبال‪ ..‬مثة رجاء أخري‪ ..‬أرجو من عصام وسامية‬
‫أن ال تلهيهما اخلطبة والزواج عند دراستهما وطموحاهتما الكبرية‪ ،‬اليت حتتاج‬
‫إىل جهد كبري‪ ،‬هذا كل ما عندي بصراحة وإصرار‪)).‬‬
‫رفعت أم عصام حاجبيها دهشة ومهست‪:‬‬
‫‪-‬لكن هذا كثري يا دكتور‪ ..‬لقد غمرتنا بكرمك‪.‬‬
‫اعرتض الدكتور على كالمها بإشارة من يده وقال‪:‬‬
‫‪-‬أستغفر اهلل يا أم عصام‪ ،‬هذا ليس كرما‪ ..‬هذه واقعية‪ ،‬فأنا واثق من زوج‬
‫ابنيت‪ ،‬ومتأكد من أنه لو كان ميلك املاليني لفرشها لسامية‪ ،‬فلماذا أضع له‬
‫شروطا حترجه وتكبله؟‪ .‬إن أخالقه العالية هي خري ضمان ملستقبل ابنيت‪،‬‬
‫وأمام الثقة واألخالق تصبح املادة تافهة ال قيمة هلا‪.‬‬
‫كان عصام ينظر إىل الدكتور إياد يف إكبار وإعجاب شديدين‪ ..‬كان يشعر‬
‫أنه جالس يف حضرة عمالق‪ ،‬حتفه هالة من النبل والشهامة‪ ،‬وينبض قلبه‬
‫بأرفع املشاعر وقال بنربات تضح رجولة وقوة‪:‬‬
‫‪-‬دكتور إياد‪ ..‬بعد إذن والديت‪ ،‬أنا موافق على كل شروطك‪ ،‬وأرجو أن‬
‫أكون عند حسن ظنك يب‪ ،‬وسوف ختربك عن وفائي األيام‪...‬‬
‫‪-‬على بركة اهلل يا بين‪ ..‬أمتىن لكما السعادة واهلناء والتوفيق‪.‬‬
‫ودخلت سامية وهي حتمل الشاي‪ ،‬وقد تألقت يف ثوهبا األزرق السابغ‬
‫اجلميل‪ ،‬وبدا وجهها الذي توردت وجنتاه كزهرة ساحرة تقطر حسنا وروعة‬
‫وصفاء‪ ،‬ورفع إليها عصام نظرات تفيض حباً وإعجاباً وخفق قلبه ملرآها‬
‫الذي حرك عواطفه املكبوتة فراحت تتالطم يف أعماقه تريد أن تنبثق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة وضيئة زادته جاذبية ووسامة‪ ،‬وأصاخ إىل صوهتا‬ ‫فأشرق وجهه‬
‫العذب وهو ينسكب يف أذنيه هامسا دافئا رقيقا‪:‬‬
‫‪-‬تفضل‪...‬‬
‫فشكرها بنربة هامسة خنقها االنفعال‪ ،‬واشتبكت نظراهتما للحظة‪ ،‬فومضت‬
‫عيناها بربيق احلب‪ ،‬وأثار املوقف ذكريات احلاضرين‪ ،‬فانفجروا ضاحكني‪،‬‬
‫فبددت الضحكات ارتباك العروسني‪ ،‬وطوحت خجلهما‪ ،‬وحطمت بينهما‬
‫حواجز التكلف‪ .‬فهدأ روعهما وانطلقت أساريرمها وسكنت روحامها‪ ،‬وقد‬
‫فردت أجنحة الشوق واحلنني‪ ،‬فتعانقت يف حب وامتزجت يف نشوة وحلقت‬
‫يف دنيا فريدة من السعادة والطمأنينة والسالم‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الثالث عشر‬
‫‪-‬إين أعرتف لك بأنك طاهية ماهرًة يا أم عصام ‪!..‬هل تريدون احلق ؟‬
‫لقد بدات أحسد أبنيت على ما سوف تستمتع به من طعام محاهتا الشهي‬
‫اللذيذ ‪...‬اهلل أكرب ‪ ..‬هذا عشاء لن أنساه ‪...‬تنحنحت زوجت الدكتور‬
‫إياد تنبه زوجها إيل وجودها وقالت بلهجة متوعدة تصنعتها‪:‬‬
‫(( _أصبح طعامي اآلن ال يعجبك يا دكتور!‪ ..‬أليس كذالك ))مث وهي‬
‫تتجه باحلديث إيل إبنتها‪:‬‬
‫_هؤالء هم الرجال يا ابنيت‪...‬دائما ينكرون اجلميل وينسون‬
‫املعروف‪..‬طبخة لذيذة صنعتها له محاتك ‪ ،‬أنسته كل ما أقدمه له من‬
‫األطباق الفاخرة الشهية‪.‬‬
‫قال عصام وهو يرمي محاته بنظرة ودودة فيها دعابة وعتاب‪:‬‬
‫_ساحمك اهلل يا محايت ‪ ..‬إين أشم يف كالمك لسامية دعوة إيل التمرد‬
‫؟؟‪...‬أخشى أن املعركة بيننا قد بدأت!‬
‫ضحك اجلميع يف سعادة بينها قالت سامية بلهجة‬
‫ترتاوح بني اجلرأة واحلياء‪:‬‬
‫ويف ال كسائر الرجال‪.‬‬‫_اطمئين يا أماه‪ ..‬إن عصاماً رجل ّ‬
‫هتف عصام بنربات مرحة‪:‬‬
‫_حييا العدل ‪ ..‬هكذا النساء أو فال‪...‬‬
‫بينما قال الدكتور إياد يف إنكار‪:‬‬
‫_هكذا إذن‪ ..‬يعين أنا رجل بال وفاء ‪ ..‬أو كما قال األوائل( ‪:‬ربوا واتعبوا‬
‫‪.. ))!.‬‬
‫ضحك اجلميع ىف مرح‪،‬بينما قالت سامية معتذرة‪:‬‬
‫‪-‬ساحمك اهلل يا أبت ‪ ..‬مل أقصد هذا ابداً‪..‬‬
‫قالت أم عصام وهي فرحة هبدا اجلوا العائلي املفعم بالسرور‪:‬‬
‫‪-‬هنيئاً لكل من أكل ‪ ..‬بالصحة والعافية‬
‫–إن شاء اهلل‬
‫‪-‬واآلن ما رايكم بكوب شاي ؟‬
‫ومل تنتظر جواهبم فهمت بالنهوض إال أن سامية سبقتها قائلة‪:‬‬
‫‪-‬بل أنا اليت ستصنع الشاي ‪ ..‬اسرتحيي يا أماه‪..‬‬
‫ابتسم اجلميع هلذه املبادرة وقال الدكتور إياد‪:‬‬
‫‪-‬يا لك من كنة وفية يا ابنيت‪!.‬‬
‫أحرجت كلمات األب سامية وكادت أن تتعثر يف خطواهتا ‪ ،‬بيد أن مال‬
‫حمها كانت تنطق بالرضى والسرور‪ ،‬وأسرعت إىل املطبخ وسط سيل من‬
‫الضحكات الودودة املشفقة ‪,‬وما هي إال برهة حىت متلمل عصام ىف‬
‫مكانه‪ ،‬مث قام حماوالً اإلنسحاب للحاق بسامية ‪،‬لكن الدكتور إياد فاجأه‬
‫مداعباً‪:‬‬
‫‪-‬إيل أين؟‬
‫أجاب مرتبكاً‪:‬‬
‫(( ‪-‬سوف‪..‬سوف أذهب ألساعد سامية ىف حتضري الشاي ))مث أستدرك‬
‫وهو ميضي‪:‬‬
‫‪-‬أخشى أهنا لن تعرف مكان األكواب‪...‬‬
‫‪-‬يعين مل تصرب على فراقها‪....‬‬
‫ضحك عصام وأسرع إيل املطبخ حيث كانت سامية منهمكة يف إعداد‬
‫الشاي‪ ،‬فأطل من الباب ‪،‬وقال بصوت هو أقرب للهمس‪:‬‬
‫‪-‬مايل أرى القمر شارداً هذا املساء‪..‬‬
‫‪-‬عصام؟ ‪ ..‬أهالً‪...‬‬
‫‪-‬بل أهأل بك يف بيتك‪.‬‬
‫‪-‬كيف أنت ؟‬
‫‪-‬بعدك يعذبين‪.‬‬
‫ابتسمت سامية ومل تنبس بينما تابع عصام‪:‬‬
‫(( ‪-‬حىت أين مل أصرب على فراقك حىت حتضري الشاي‪)).‬‬
‫مث تقدم منها يف هلفة‪ ،‬وقال وهو يتناول يديها بني راحتيه‬
‫‪-‬سامية‪...‬‬
‫مهست وهيا ترقب الباب يف حذر‪:‬‬
‫‪-‬أخشى أن يدخل علينا أحد‪...‬‬
‫‪-‬وهل نرتكب حراماً ‪ ..‬أنت زوجيت أمام اهلل وأمام الناس وما‬
‫هيا إال أسابيع قليلة ونتزوج ونستقر يف بيت واحد‪...‬‬
‫‪-‬أعرف ولكن‪..‬‬
‫‪-‬ولكن ماذا؟‬
‫‪-‬لن ننجو اليوم من ألسنتهم الالذعة‪ ..‬ال سيما(( أيب‪)).‬‬
‫ابتسم عصام وقال‪:‬‬
‫‪-‬لكم تسرين دعابات أبيك ‪ ..‬إنه ينسيين أنه أستاذي يف اجلامعة‪،‬ويشعرين‬
‫بأبوة غامرة‪.‬‬
‫قالت سامية كمن تذكرت‪:‬‬
‫‪-‬علمت منه أنكما قد اتفقتما على ترك عملك معه يف العيادة حىت تتفرغ‬
‫للتحضري واالستعداد للتخرج‪.‬‬
‫‪-‬هكذا كانت رغبته ‪ ،‬لكين سوف أعود إيل العمل معه فور انتهاء‬
‫االمتحانات‪.‬‬
‫‪-‬وكيف دراستك اآلن‬
‫‪-‬احلمد هلل ‪ ،‬وأنت؟‪...‬‬
‫‪-‬لقد أهنيت اليوم مقرر ((اجلراحة)) وسوف ابدأ غداً مبراجعة مقرر‬
‫((الباطنية‪)) .‬‬
‫‪-‬أما أنا فقد راجعت مجيع املقررات تقريباً ‪ ،‬وسوف أعيد قرائتها مرة أخرى‬
‫حىت أمتكن منها متاماً‪.‬‬
‫‪-‬يا لدأبك وجالدتك ‪ !..‬كيف تصرب على كل هذا؟‪ ..‬إين أراجع‬
‫املقررات يف مشقة‪ ،‬فتكرار املعلومات يورثين السآمة وامللل‪!.‬‬
‫‪-‬ال أنكر أنين أعاين كما تعانني‪ ،‬لكين أجد يف التكرار ترسيخاً للمعلومات‬
‫وتثبيتاً لألفكار‪ ،‬مما يفتح أمامي آفاق جديدة من الفهم والرتكيز ‪..‬دعينا من‬
‫حديث الدراسة اآلن‪...‬‬
‫‪-‬عم نتحدث إذاً؟‪.‬‬
‫‪-‬عن القلوب‪....‬‬
‫‪-‬وماذا نقول ؟‬
‫سأهلا عصام يف عتاب رقيق‪:‬‬
‫‪-‬حقاً؟‪ ..‬أليس عندك شئ تقولينه؟‪!.‬‬
‫قالت وقد تقصدت أن ختفف النار حتت اإلبريق‪:‬‬
‫‪-‬عندي الكثري‪...‬‬
‫‪-‬حدثيين إذاً‪!.‬‬
‫‪-‬ال أتقن التعبري‪.‬‬
‫‪-‬قويل أي شئ‪ ..‬أي شئ ‪...‬املهم عندي أن أستمتع بنرباتك الدافئة‬
‫العذبة وهي تنسكب يف مسعي ومتأل مسارب نفسي‪.‬‬
‫قالت يف حياء وهي تتشاغل برصف األكواب على الصينية‪:‬‬
‫‪-‬كثرياً ما تنهال املعاين على نفسي فتفيض يب املشاعر وتتدفق تريد أن‬
‫تنبثق وتفصح عن مكنوهنا ‪،‬فأكنوها يف أعماقي ألبوح لك هبا ‪ ،‬وعندما‬
‫أراك يثقل احلياء لساين فال ينطلق هبا!‬
‫‪-‬احلياء مين؟‪...‬‬
‫ابتسمت وأجابت وكأهنا تدافع عن نفسها‪:‬‬
‫‪-‬كالنا على أبواب جتربة جديدة‪!.‬‬
‫رمقها عصام بنظرة حانية‪،‬وقال وهو يتأمل عينيها اجلميلتني وقد الذتا بزاوييت‬
‫حمجريها من فرط احلياء‪:‬‬
‫‪-‬أدرك هذا يا عزيزيت ‪ ..‬يكفيين حديث عينيك فحدثيهما أبلغ‬
‫وأحلى‪...‬لقد باحتا يل بكل ما خيفق به قلبك من مشاعر وعواطف ‪،‬‬
‫وأخربتين بكل ما ميور يف صدرك العامر باحلب واحلنان‪.‬‬
‫سألته يف دالل‪:‬‬
‫‪-‬هل تتحدث العيون ؟‬
‫‪-‬وحلديثهما الساحر مهس لذيذ ال يتطرق إليه النسيان‪.‬‬
‫‪-‬ماذا قالت لك؟‬
‫‪-‬قالت يل الكثري ‪ ،‬لكن اللسان يعجز أن ينطق بلغة العيون ‪ ،‬فحديث‬
‫العيون ال تتقنه إال العيون‪....‬‬
‫وقطع احلديث عليهما صوت الدكتور إياد وهو ينادي‪:‬‬
‫‪-‬أين الشاي يا أوالد ؟‬
‫فضحك عصام وقال‪:‬‬
‫‪-‬لقد بدأ أبوك هجومه‪.‬‬
‫‪-‬الويل لنا من تعليقاته الالذعة‪.‬‬
‫‪-‬إمسعي ‪ ...‬سنقدم هلم الشاى ونستأذهنم لنجلس وحدنا على الشرفة ‪,‬‬
‫فاجلو فيها هادئ لطيف‪.‬‬
‫مهست وهي راضية سعيدة‪:‬‬
‫(( ‪-‬كما تشاء))‬
‫محلت سامية الشاي فقدمته للحاضرين ‪ ،‬مث مضت مع خطيبها إيل‬
‫الشرفة اهلادئة وكان أول لقاء منفرد بني احلبيبني يف ظالل احلالل ‪ ..‬وتوالت‬
‫بعده اللقاءات السعيدة اللذيذة فشهدت تلك الشرفة أمجل وأروع قصة‬
‫حب بني قلبني عاشقني مجعت بينها األقدار‪........‬‬
‫***‬

‫الفصل الرابع عشر‬


‫خرجت مىن من ((قاعة املطالعة)) ومضت إىل مطعم الكلية فطلبت فنجاناً‬
‫من القهوة مث اختارت ركناً هادئاً معزوالً وجلست حتتسي قهوهتا يف صمت‬
‫وشرود‪ ...‬ورآها صفوان فتقدم منها وألقى التحية بلهجته املائعة املعروفة‬
‫فرمقته مىن بطرف عينيها وترددت برهة مث قالت بنربة جافّة ختلو من‬
‫الرتحيب‪:‬‬
‫‪-‬أهالً‪...‬‬
‫‪-‬كيفك؟‬
‫‪-‬لست سعيدة‪...‬‬
‫قال وهو جيلس قبالتها‪..‬‬
‫‪-‬لعلك تشعرين بالوحشة‪...‬ملاذا مل أعد أراك؟‬
‫أجابت وهي حتدجه بنظرة ذات معىن‪:‬‬
‫‪-‬أنتظر دوري‪...‬‬
‫‪-‬دورك؟‪...‬دورك يف ماذا ؟!‬
‫‪-‬صفوان ما رأيك ((برشا))؟‬
‫فاجأ السؤال صفوان فأجاهبا متجاهالً وقد ساوره القلق‪:‬‬
‫‪-‬رشا ‪ ...‬رشا زميلتنا يف الكلية؟‬
‫قالت مىن يف سخرية‪:‬‬
‫‪-‬نعم زميلتنا يف الكلية ‪..‬أم أنك ال تعرفها ؟‬
‫‪-‬أعرفها‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تعرف عنها ؟‬
‫‪..‬عمً تتحدثني؟!!‬
‫‪-‬ماذا أعرف عنها ؟!‪ ...‬مىن ّ‬
‫ًِّ‪:‬‬
‫سألته يف حزم وحتد ً‬
‫‪-‬وميادة؟‪..‬‬
‫ساءل صفوان وقد ارتاب يف أسئلة مىن وشعر بأن أوراقه بدأت تنكشف‪:‬‬
‫‪-‬ميادة ؟!!‬
‫‪-‬نعم ميادة ‪..‬ميادة اليت ليست زميلتنا يف الكلية‪:‬‬
‫تضاحك صفوان يف فتور وقال متظاهراً باملرح‪:‬‬
‫‪-‬مىن‪ ....‬ما بالك اليوم تتحدثني باألحاجي والرموز؟!!‬
‫‪-‬هل جتد كالمي غامضاً إيل هذا احل ّد؟‬
‫‪-‬مىن ‪ ...‬ماذا تقصدين هبذه األسئلة الغريبة‪...‬مث ‪...‬مث‬
‫من هذه اليت تدعى ((ميادة))‪..‬؟‬
‫قالت وهي ترميه بنظرة ثاقبة‪:‬‬
‫‪-‬صفوان‪ ...‬مىت نتزوج؟‬
‫‪-‬نتزوج !‪ ...‬وهل هذا وقت زواج؟‪...‬‬
‫‪-‬وقت ماذا إذن ؟!‬
‫‪-‬وقت تعب وسهر ودراسة ‪ ..‬هل نسيت أننا على أبواب التخرج‪ ..‬على‬
‫فكرة ‪..‬مل تعودين تذاكرين عندي!‬
‫‪-‬مل جتب على سؤايل‪.‬‬
‫‪-‬زوريين اليوم وسأجيبك‪.‬‬
‫‪-‬لن أزورك حىت حتدد موقفك مىن‪.‬‬
‫‪-‬موقفي؟‪ ..‬أنت تشكني يف موقفي منك يا مىن ؟‪.‬‬
‫‪-‬أريد ضماناً ملستقبلي‪.‬‬
‫احلر َدين‪)).‬‬
‫(( ‪-‬وعد ًّ‬
‫أثارت كلمات صفوان سخرية مىن لكنًّها تابعت قائلة‪:‬‬
‫‪-‬صفوان ‪..‬حيب أن تفهمين ‪ ..‬مستقبلي بات يف يديك وأنا أريد أن‬
‫أطمئن عليه ‪ ..‬أريدك أن ختطبين من أهلي‪ ،‬أما الزواج فأجله ما شئت‪...‬‬
‫‪-‬كالمك يدل على أنك تشكني يب وبنواياي حنوك ‪ ..‬أنا أحبك يا مىن‬
‫ًّ‬
‫‪..‬صدقيين‪.‬‬ ‫‪..‬واهلل أحبك‬
‫‪-‬قدم دليالًّ واحداً‪..‬‬
‫قال صفوان يف ج ّد وامتعاض وقد بدأ يشعر أن مىن بدأت تتمرد عليه‪:‬‬
‫‪-‬هذا املكان ليس مناسباً لبحث هذه ألمر‪..‬تعايل إيل شقيت اليوم‬
‫وسنناقشه بروية وهدوء‪.‬‬
‫‪-‬لن أزور شقتك غري اليوم‪.‬‬
‫‪-‬ملاذا؟‬
‫‪-‬ألين أرفض أن أكون لك جمرد عشيقة‪.‬‬
‫‪-‬قلت لك سنتزوج ‪...‬سنتزوج‪..‬صدًّقيين‪...‬‬
‫‪-‬أريد الدليل‪..‬‬
‫قال صفوان يف هدوء عاصف‪:‬‬
‫‪-‬تتكلمني بنربة جديدة‪..‬‬
‫‪-‬هذا حقي‪..‬‬
‫‪-‬هذه اللهجة ال تروقين‪.‬‬
‫حر‪.‬‬
‫‪-‬أنت ّ‬
‫حتد وقال‪:‬‬ ‫‪-‬أبتسم صفوان يف ٍّ‬
‫‪-‬مىن ‪..‬أنا ال أرحم من يتحداين‪.‬‬
‫‪-‬هتددين؟‬
‫‪-‬بل أذكرك‪..‬أنت تعرفينين جيداً وال أرغب يف أن تسوء عالقيت بك‪..‬‬
‫تعايل اليوم وسنتحدث يف هدوء‪..‬‬
‫وقفت مىن غاضبة وقالت بلهجة حامسة‪:‬‬
‫‪-‬لن أدخل شقتك بعد اليوم حىت تقدم الدليل على إخالصك فتخطبين‬
‫من أهلي خطبة شرعية تكون يل ضماناً يف املستقبل فإن أردتين زوجة كنت‬
‫لك أخل زوجة‪ ،‬أما إذا أردتين جمرد عشيقة تتسلًّى هبا فأنا أرفض ذالك‬
‫‪..‬هل مسعت ؟‪..‬إين أرفض ذلك‪...‬‬
‫ومضت مىن وهي تشعر ألول مرة بأهنا تضع قدمها على الطريق الصواب‪،‬‬
‫لكنها ما كادت متضي خطوات حىت خطر هلا أهنا تسرعت كثرياً يف إعالن‬
‫ثورهتا‪!..‬‬
‫***‬

‫الفصل اخلامس عشر‬


‫الربيع يزداد قرب احلبيب ربيعاً‪..‬والليل الساكن اجلميل يزداد روعة وسحراً‪،‬‬
‫والنسيم العليل املفعم بأريج اليامسني يتسلل إىل النفس فينعشها ويزيدها‬
‫هبجة وسعادة‪ ،‬والسماء الصافية البديعة ترمق العاشقني بعيون تتألأل بالنور‪،‬‬
‫واهلالل الفضي يتألق يف القبة الزرقاء كثغر ضاحك يشع بابتسامة السماء‪،‬‬
‫وكأهنا تشارك األحبة فرحة القرب وأنس اللقاء‪...‬‬
‫وضاقت الشرفة بعصام فلم تعد تسعه من فرط السعادة وفيض احلبور ‪،‬‬
‫فالقلب اليوم هانئ مسرور‪ ،‬والنفس مرتعة بأعذب األحاسيس وأحالها‪،‬‬
‫والروح ترفرف حول احلبيب يف فرح ‪ ..‬تناجي روحه اللطيف‪ ،‬وتبثه لوا عج‬
‫الشوق واهليام‪ ،‬والعني ترنو إليه يف حنان‪ ،‬فيبهرها هذا اجلمال الباسم املاثل‬
‫أمامها‪ ،‬فرتسل نظراهتا الواهلة املتولعة‪ ،‬لتتأمل القسمات الوسيمة‪ ،‬وجتوب‬
‫املالمح احلسناء‪ ،‬وتسافر عرب القد األهيف املمشوق‪ ،‬مث تعود بعد طول‬
‫جتوال لرتتاح يف عينيه الذابلتني‪ ،‬فيأسرها اللحظ الوداع يف حياء‪ ،‬وتتيه يف‬
‫حبر من الرباءة والصفاء‪...‬‬
‫وتتأجج مشاعر عصام وتتوهج أحاسيسه وتتألق عواطفه فيسطع ألقها من‬
‫نظراته األسرية‪ ،‬وينطلق هبا لسانه فيهمس يف وجد وهيام‪:‬‬
‫‪-‬سامية ‪..‬على عتبة قربك احلبيب أخلع كل مهومي وأحزاين ليسربلين‬
‫حبك الكبري‪ ،‬ويف واحة حنانك الوارف حييط قليب املكدود رحاله‪ ،‬فينفض‬
‫فتخضوضر فيها اآلمال‪ ،‬وتزهر‬
‫ُ‬ ‫عنه أتراحه وأشجانه ويروي أشواقه وهلفاته‪،‬‬
‫األماين‪ ،‬وتبسم األحالم‪ ،‬وحيل يف أعماقي املقفرة ربيع ساحر عامر‬
‫باألفراح‪.‬‬
‫مهست سامية يف دالل‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪...‬‬
‫تابع عصام يف توسل‪:‬‬
‫‪-‬دعيين أتكلم ‪..‬دعيين أبوح بكل ما يف صدري ‪..‬لقد آن للعواطف‬
‫احلبيسة أن تنبثق‪ ،‬وآن للقلوب الظامئة أن ترتوي‪ ،‬وآن للحب الصامت‬
‫العفيف أن يصدح ويشدوا‪ .. ..‬إنك اآلن زوجيت وشريكة عمري ‪..‬أنت‬
‫اإلنسانة اليت خلقت يل وخلقت هلا‪ ..‬أنت النصف األخر األمجل واألحلى‬
‫من نفسي والذي ميدين دوماً باآلمال والثقة والتفاؤل‪ ،‬فدعي األرواح يف‬
‫أفراحها سعيدة هبذا اللقاء بعد أن أضناها الشوق وأوجعها احلنني‪.‬‬
‫هيجت كلمات عصام مشاعر سامية‪ ،‬وأهلبت عواطفها‪ ،‬عصام‪ ..‬قد ال‬
‫أتقن مثلك حلو الكالم‪ ،‬لكين أبادلك كل املشاعر واألحاسيس اليت حتملها‬
‫حنوي‪ ،‬ولو أصغيت إىل حديث نفسي لسمعتها تتحدث بلسانك وحتس‬
‫بعواطفك‪ ،‬وكأن خواطرها رجع الصدى ملا يأتلق يف نفسك من خواطر‪..‬‬
‫وصمتت للحظة‪ ،‬ريثما استوعبت أمواج االنفعال اليت فاضت هبا نفسها‪ ،‬مث‬
‫تنهدت ومهست بنربات مرتعشة ندهتا دمعتان تألقتا يف صفاء عينيها‬
‫الفاتنتني‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬أنا أحبك يا عصام‪ ..‬أحبك كما مل حتب فتاة من قبل ‪..‬أين‬
‫أحس حنوك مبيل جارف عميق‪ ..‬ميل عارم عجيب‪ ..‬ميل أكرب من ميل‬ ‫ّ‬
‫فتاة لشاب‪ ..‬لكأن روحينا كانتا على موعد قد ضرب منذ األزل‪...‬‬
‫نفذت كلمات سامية إىل أعماق عصام بكل صدقها وحرارهتا فطرب‬
‫لسماعها‪ ،‬وخفق قلبه وهو يستقبل ذلك الربيق العجيب الذي سطع من‬
‫حب ووله‪:‬‬
‫عينيها الساجيتني‪ ،‬وقال وهو يرنو إليها يف ّ‬
‫ط يف دريب‬‫‪-‬لو تعلمني كم أنا سعيد بك اليوم ‪ ..‬أنت مالك طاهر ح ّ‬
‫فآنس وحشته وبدد غربته‪ ..‬أنت املاء الروحي لعطشى‪ ..‬أنت البلسم الشايف‬
‫لكل جروحي وأدوائي‪ ..‬أنت األمل الذي يشحذ مهيت ويلهم خطوايت‪.‬‬
‫مث تناول يدها بني راحتيه وطبع قبلة طويلة سرت حرارهتا يف دماء سامية‪،‬‬
‫فأطرقت يف حياء وقد تضرجت وجنتاها وسكنت مقلتاها واسرتخت‬
‫األهداب الطويلة املنسابة كاألشعة حول منبع النور‪ ،‬فنامت فوق العينني‬
‫الوادعتني يف حنان والح وجهها املورد الفاتن من حتت غرهتا املتدلية الشقراء‬
‫كمملكة من اجلمال الباهر تلوح من خالل أفق حامل يتوهج باإلشراق‪،‬‬
‫ومهست وهي تسحب يدها يف رفق‪:‬‬
‫‪-‬عصام ‪ ...‬قد يدخل أحدهم يف أي حلظة‪!...‬‬
‫قال عصام وهو يرمي بنظراته احلاملة إىل جنمة بعيدة‪:‬‬
‫عما قريب سيكون لنا عش دافئ مجيل ‪..‬تتفجر فيه ينابيع السعادة‬ ‫‪ّ -‬‬
‫واهلناء ‪ ،‬وجتري خالله أهنار النعيم‪ ،‬ويف فردوسنا الصغري سيخرج إىل النور‬
‫وليدنا املنشود الذي سيضفي عليه حياة رائعة مجيلة‪ ،‬تبعثها الطفولة الوادعة‬
‫الربيئة‪.‬‬
‫هتفت سامية يف هلفة وفرح‪:‬‬
‫‪-‬أريد طفالً‪ ..‬طفالً مجيالً تلوح يف وجهه مالحمك الوسيمة وتنطق نظراته‬
‫بذكائك املتقد وكلما ارتقى يف سلم الزمان درجة‪ ،‬ظهرت يف سلوكه طباع‬
‫أبيه وأخالقه‪ ،‬سأمسيه عصام ((عصام الصغري)) فاسم ((عصام)) من أحب‬
‫األمساء إىل قليب وأحالها‪.‬‬
‫‪-‬هتف عصام وهو يرنو إليها بنظرة ودودة حاملة‪:‬‬
‫‪-‬بل أريدها طفلة‪ ..‬طفلة وديعة مجيلة‪ ..‬طفلة هادئة رزينة‪ ،‬فيها من‬
‫روحك اللطيفة قبس يشرق به شكلها وطبعها وسلوكها‪ ،‬فأحملك من خالهلا‬
‫يف طفولتك وصباك وأراك يف نضحك وشبابك‪ ،‬وسوف أستمد امسها من‬
‫صفاتك العظيمة‪ ..‬سأمسيها ((صفاء))‪ ..‬بل ((براءة))‪ ..‬فأنت الرباءة‬
‫جمسدة يف فتاة‪.‬‬
‫‪-‬حسناً‪ ..‬سأجنب لك طفالً وطفلة‪...‬‬
‫‪-‬بل أطفال‪ ..‬سنربيهم أحسن تربية‪ ،‬ونع ّدهم أروع إعداد‪ ،‬وسوف تنمو‬
‫براعمنا اجلميلة وتتفتح‪ ،‬فتزداد حياتنا نضارة وسعادة‪ ،‬ويزداد حبنا توطداً‬
‫وثباتاً‪ ،‬وتتألق يف أعماقنا أزهار احملبة والوئام‪..‬‬
‫‪-‬تبدو مغرماً جداً باألطفال‪!..‬‬
‫‪-‬يف أعماقي أبوة جائعة عطشى هتفو للري واإلشباع‪.‬‬
‫‪-‬ترى أيهما أقوى؟‪ ..‬عاطفة األبوة أم عاطفة األمومة؟‬
‫‪-‬اسأيل نفسك؟‬
‫‪-‬يتملكين شعور طاغ بأنه ال يوجد يف الكون كله فتاة حتب األطفال‬
‫مثلي‪.‬‬
‫‪-‬لعلنا مجيعاً يراودنا نفس الشعور‪.‬‬
‫مث قالت سامية وهي تسرح خبياهلا يف وجداهنا اخلصيب‪:‬‬
‫‪-‬عندما أرى طفالً يبتسم أرى الوجود من حويل بامساً سعيداً وأحس به‬
‫علي رغبة جارفة ألن أضم ذلك الطفل إىل‬ ‫مفعما بالبهجة والفرح وتلح ّ‬
‫صدري‪ ،‬وأودعه يف قليب إىل األبد‪..‬‬
‫قال عصام وهو يشملها بنظراته املتولعة‪:‬‬
‫‪-‬عندما أنظر إىل وجهك اجلميل أراه بريئاً صافياً‪ ،‬وعندما تتحدثني أجد‬
‫الداخل أصفى وأحلى‪ ..‬إن نفسي اآلن تنعم بالسعادة واالرتياح‪ ،‬فباألمس‬
‫اطمأنت مببادئ اإلسالم األصيلة الصافية واليوم تسكن إىل اإلنسانة احلبيبة‬
‫اليت ُشغفت هبا‪ ..‬ما أمجل الدين والدنيا إذا اجتمعا‪!..‬‬
‫قالت سامية يف محاس‪:‬‬
‫‪-‬نسيت أن أخربك‪ ..‬لقد بدأت أصلي‪.‬‬
‫‪-‬هذا خرب رائع‪ ..‬كنت على يقني من أن إميانك الكبري ومعدنك الطيب‬
‫سيقودك إىل الصالة‪.‬‬
‫‪-‬عندما أديت صالة الصبح اليوم‪ ،‬انتابين شعور عذب مريح‪ ،‬وشعرت‬
‫بنفسي وقد اطمأنت ومست‪ .‬وألقي يف روعي أين إنسانة جديدة‪ ،‬قد طهرهتا‬
‫الصالة من كل أدران الدنيا ومهومها ومشاكلها‪.‬‬
‫صمت عصام ملياً مث سأهلا ( بعد تفكر) وهو يرمقها بإعجاب‪:‬‬
‫‪-‬لو كان حبوزتك جوهرة نادرة‪ ..‬جوهرة مثينة عزيزة على نفسك‪ ،‬فماذا‬
‫تفعلني هبا؟‬
‫‪-‬أحفظها وأصوهنا من العيون واأليدي وأتعهدها باحلماية والرعاية واحلرص‬
‫واالهتمام‪.‬‬
‫‪-‬وأنت يا سامية جوهريت الغالية‪ ،‬ودريت النفيسة اليت أحبها وأغار عليها‪..‬‬
‫لكم أمتىن أن أصونك يف قليب فأمحيك من كل عني جائعة وكل نظرة‬
‫مريضة‪ ..‬عندما كنت أملح شاباً يف اجلامعة أو يف الشارع ينظر إليك أو‬
‫يتأملك‪ ،‬كان يغلي يف صدري مرجل من الغيظ‪ ،‬وتنطلق يف دمائي أمواج‬
‫عاتية من الغضب‪ ،‬وتلهب أعصايب شحنات ثائرة جمنونة‪ ..‬إين أخاف‬
‫عليك من النسمة إذا هبت‪ ،‬فكيف أصرب على عني جائعة تلتهمك بنظراهتا‬
‫اخلائنة اخلبيثة‪.‬‬
‫هزت مشاعر الغرية اليت أبداها عصام نفس سامية‪ ،‬فطربت هلا‪ ،‬وشعرت‬
‫حبرارة احلب الذي يكنه حنوها وهي متس قلبها وتسري يف دمها‪ ،‬فسألته‬
‫تستزيد من عواطفه الثرة الغنية‪:‬‬
‫‪-‬هل أفهم أن احلب عندك يعين التملك؟‬
‫ابتسم عصام وأجاب‪:‬‬
‫‪-‬امليل املتبادل إىل التملك بني الزوجني من مقتضيات احلب الصادق‬
‫العميق‪ ..‬ينبغي أن يشعر كل منا بأنه ملك لآلخر‪ ،‬بل جزء من اآلخر‪..‬‬
‫إنَّه نتيجة منطقية التصال املشاعر ووحدهتا وانصهارها يف شعور واحد‪،‬‬
‫فكما أغار عليك وأحب أن تكوين يل وحدي‪ ،‬أنت أيضا تغارين علي‬
‫وحتبني أن أكون لك وحدك‪ ،‬أم أنك ال تغارين علي؟‪...‬‬
‫ضحكت وتساءلت يف عتاب‪:‬‬
‫إين ألمتىن لو أكبلك بقيود من حديد‪ ،‬فال خترج من مملكيت إىل‬ ‫‪-‬أنا؟‪ ..‬ه‬
‫األبد‪.‬‬
‫حبك الطاهر الذي يكبلين أقوى من كل قيود الدنيا وأغالهلا‪.‬‬
‫‪-‬يقولونا بأن التملك يف احلب أنانية‪!.‬‬
‫‪-‬هذا إذا كان التملك شيئا مفروضاً من طرف واحد‪ ..‬إنه منتهى األنانية‪،‬‬
‫فرتين الرجل مثالً يغار على زوجته أشد الغرية‪ ،‬وحياصرها بأوامره ونواهيه‪،‬‬
‫ويفرض عليها قيوداً مبالغاً فيها يف اللباس واحلركة‪ ،‬ويعتقل البسمة إذا رفًّت‬
‫على شفتيها‪ ،‬مث يبيح لنفسه كل ما حيرمه عليها‪ ،‬وينجرف وراء شهواته‬
‫وملذاته وغرائزه دون احرتام ملشاعر زوجته املسكينة وحقها يف أن يكون هلا‬
‫وحدها‪ .‬هذا النوع من الرجال ينظر إىل املرأة على أهنا جمرد متاع شخصي‬
‫دون اعتبار لشخصيتها وحقوقها وعواطفها ويف هذا احتقار هلا وإيذاء‪.‬‬
‫سألت سامية يف حرية‪:‬‬
‫‪-‬وكيف يل أن أملك نظرات العابثني والفضوليني‪ ،‬لقد اعتدت هذا‬
‫اإلزعاج املتكرر كل يوم‪.‬‬
‫‪-‬ال تقويل اعتدت‪ ..‬أرجوك‪.‬‬
‫‪-‬ال أقصد باالعتياد أين مرتاحة هلذا‪ ،‬فالفتاة اليت يسرها أن تلتهمها العيون‬
‫اجلائعة اخلبيثة فتاة يف سلوكها مرض‪ ..‬ما أقصده هو أين ال أملك حيال‬
‫نظرات هؤالء شيئاً‪.‬‬
‫‪-‬بل متلكني‪.‬‬
‫‪-‬كيف ؟‬
‫‪-‬بأن تغلقي نوافذ الفتنة واإلغراء‪.‬‬
‫‪-‬لعلك تقصد ‪...‬‬
‫‪-‬احلجاب‪ ..‬هذا ما أردته فعالً‪ ..‬حجاب الرأس واجلسد فال يبدو منك إال‬
‫الوجه والك ّفان‪.‬‬
‫قالت وهي تتفكر‪:‬‬
‫‪-‬فكرت بارتدائه كثرياً‪ ،‬لكن الرتدد كان يوهن عزمي‪ ،‬ويثنيين‪.‬‬
‫‪-‬وملاذا الرتدد؟‪ ..‬إنه أمر من اهلل جيب تنفيذه‪ ،‬واهلل يا عزيزيت هو األعلم‬
‫برتكيبنا اجلسدي والفكري والنفسي وهو اخلبري بطبائعنا وغرائزنا وميولنا‪ ،‬لذا‬
‫فإن منهجه هو األوىل باإلتباع ‪.‬‬
‫‪-‬إين أدرك هذا‪ ،‬لكين ‪ -‬يف احلقيقة – مل أتعود عليه‪ ،‬مث إن زمياليت سوف‬
‫حيرجنين بكلماهتن الالذعة‪ ،‬وحياصرنين بسخرياهتن السخيفة‪ ،‬ويكبلنين‬
‫بنظراهتن املتطفلة‪.‬‬
‫‪-‬قال عصام معرتضاً‪:‬‬
‫‪-‬لست أنت باليت تقول هذا!‪ ..‬جيب أن تكون شخصيتك أقوى من‬
‫ذلك‪ ..‬ينبغي أن نتحرر من ضغط اجملتمع الفاسد‪ ..‬أن نتصرف بوحي من‬
‫مبادئنا وقناعاتنا‪ ..‬أن نكون فاعلني يف اجملتمع ال منفعلني به‪.‬‬
‫‪-‬كالمك حق‪ ،‬لكن ما يزيدين تردداً وجود بعض الفتيات اللوايت يسئن‬
‫للحجاب‪ ..‬يرتدين احلجاب ويسلكن سلوكاً شنيعاً ال ينسجم مع ما يرمز‬
‫إليه هذا اللباس من طهر وتعفف!‬
‫‪-‬ال أنكر وجود هؤالء‪ ،‬لكن هذا ليس مربراً ألن ننفر من احلجاب ونتخلى‬
‫عنه‪ ،‬أليس هناك أطباء حيملون الطب دون أن يتقنوه؟‬
‫‪-‬بلى ‪..‬‬
‫‪-‬لكن ذلك مل يدفع أحداً ألن يتخلَّى عن دراسة الطب وممارسته‪،‬‬
‫واستطاع األطباء الناجحون أن حيطموا بإخالصهم وإتقاهنم ومهاراهتم‬
‫أولئك الذين ليس هلم من الطب إال اللقب األجوف‪.‬‬
‫‪-‬هذا صحيح‪.‬‬
‫‪-‬إذن ملاذا ال تكون الفتيات اللوايت ينسجم حجاهبن مع سلوكهن هن‬
‫األوضح واألبرز يف اجملتمع‪ ،‬حىت يسطّرن بأخالقهن الرائدة ومعاملتهن‬
‫النظيفة الناصعة مثالً رائعاً للفتاة املسلمة األصيلة‪.‬‬
‫قالت سامية وهي مشدودة إىل احلوار‪:‬‬
‫‪-‬ملاذا أمرنا اهلل باحلجاب؟‪ ..‬ما احلكمة من تشريعه؟‬
‫‪-‬ألنه يريد أن حياصر عوامل الفتنة يف اجملتمعات‪ ،‬فالنظرة املقصودة للمرأة‪،‬‬
‫ورؤية مواطن الفتنة واإلغراء فيها‪ ،‬واالختالط الفوضوي هبا يثري غرائز‬
‫الرجال‪ ،‬ويفقدهم على أعصاهبم‪ ،‬ويدفعهم للتهافت على اللذات‬
‫والرغبات‪ ،‬فتطغى مشاعر اجلنس عندهم على آالف املشاعر املهمة للحياة‪،‬‬
‫مما يدفعهم لتجاوز حدود األخالق واآلداب‪ ،‬فينحدر اجملتمع حنو الفساد‪،‬‬
‫وتصاب األمة بالضعف واالهنيار‪.‬‬
‫‪-‬وهذا ما يعاين منه جمتمعنا فعالً‪.‬‬
‫‪-‬لقد رفض اإلسالم أن ينظر الرجل إىل املرأة كجسد فحسب‪ ،‬ألن يف‬
‫ذلك غضاّ من مكانتها الرفيعة السامية وإهانة لكرامتها اإلنسانية‪ ،‬فاملرأة‬
‫نصف اجملتمع‪ ،‬وشقه املكمل للرجل‪ ،‬وهبا تناط مهمات إنسانية نبيلة يعجز‬
‫الرجل عن أدائها‪ ،‬وال تقوم احلياة بدوهنا‪ ..‬لقد أراد اإلسالم أن يثري منظر‬
‫املرأة أثناء حركتها يف اجملتمع املشاعر الطاهرة النظيفة املفعمة باالحرتام‬
‫والتقدير‪ ..‬املشاعر النبيلة اليت تليق مبكانتها العظيمة يف احلياة‪ّ ،‬أما املشاعر‬
‫اجلنسية واجلسدية فقد دعا اإلسالم إىل إطالقها ضمن إطار احلياة الزوجية‬
‫حيث يتحول التربج واإلغراء إىل واجب مقدس تبذله املرأة لزوجها ويتحول‬
‫اإلرضاء اجلنسي إىل واجب مقدس يبذله الرجل لزوجته‪ ،‬وعندما يقوم‬
‫حب واحرتام وإيثار يتحقق هلما السكن النفسي‬ ‫الزوجان بواجبهما يف ّ‬
‫واالستقرار الروحي‪ ،‬ومتضي سفينة األسرة يف أمان دون أن تعصف هبا رياح‬
‫الرغبة أو اخلالف‪..‬‬
‫قالت سامية وهي تتفكر‪:‬‬
‫‪-‬كالمك هذا يذكرين بـ ((مىن‪))..‬‬
‫‪-‬مىن؟‪ ..‬ما شأهنا؟‪..‬‬
‫‪-‬لقد عادت تتقرب مين من جديد‪ ،‬وقد ملحت يل أمس بأين كنت على‬
‫َّ‬
‫حق حينما حذرهتا من صفوان‪ ،‬وعندما حاولت أن أعرف منها سبب هذه‬ ‫ّ‬
‫الصحوة املتأخرة دمعت عيناها وقالت يل بأنه سيأيت يوم حتدثين فيه بكل ما‬
‫حدث‪.‬‬
‫قال عصام يف شرود‪:‬‬
‫أن أحداثاً خطرية قد وقعت!! أخشى أن‪...‬‬ ‫‪-‬يبدو َّ‬
‫ودخلت أم عصام الشرفة لتقدم الفواكه البنها وخطيبته‪ ،‬وما إن رأهتما حىت‬
‫خفق قلبها هلذا املنظر الرائع‪ ،‬والتمعت الفرحة يف عينيها‪ ..‬فها هو ابنها‬
‫الغايل يسكن إىل زوجته اجلميلة الفاتنة‪ ،‬وها هو األمل الرائع العذب‬
‫يتحقق‪ ،‬وشعرت بالسعادة العارمة تكتسح أغوارها وتطهرها من كل رواسب‬
‫املاضي وذكرياته األليمة‪ ،‬وأحست بسحب احلزن القامتة السوداء وهي‬
‫تنقشع رويداً‪...‬رويداً من نفسها امللبدة بالكآبة لتسطع من خالهلا مشس‬
‫التفاؤل والسرور فتذيب فتذيب بأشعهتا الدافئة صقيع األيام الباردة اليت‬
‫شغلت سنوات شباهبا املهدور‪ ،‬وتفجرت يف أعماقها ينابيع األحالم‬
‫السعيدة‪،‬فرات نفسها يف لوحة اخليال ج ّدة طيبة حيف هبا أحفادها األحبة‬
‫الذين ميلؤون هلا حياهتا هبجة وأنساً ومتعة‪،‬فذاك يش ّدها من يدها لتقوده اىل‬
‫مكان احللوى‪،‬وتلك هترع إليها فتعطيها املشط لتسرح هلا شعرها األشقر‬
‫الطويل‪ ،‬وذلك يدس يده يف جيبها باحثاً عن القروش‪ ،‬وهذه تبكي يف دالل‬
‫وترمقها يف توسل فتدعوها بنظراهتا الربيئة وأنينها املفتعل ألن حتملها وتعطيها‬
‫حظها من الرعاية والعطف واالهتمام أسوة بأخوهتا‪ ،‬وقد أومهها تفكريها‬
‫الطفويل الغض بأن أخوهتا الكبار قد استولوا على جدهتا احلبيبة‪ ،‬واستحوذوا‬
‫عليها‪ ،‬وهي املدللة األثرية لديها‪ ،‬فنشبت الغرية يف قلبها الصغري‪ .‬وغلبتها‬
‫ابتسامة فرحة مشرقة أضاءت مالحمها‪ ،‬فتهللت بالبشر وفاضت باحلبور‬
‫وقالت وهي تبش يف وجه كنتها العزيزة‬
‫‪-‬اهلل يكتب لكما السعادة العمر كله‪ ..‬تفضلي يا ابنيت‪..‬‬
‫‪-‬لقد أتعبت نفسك يا ّأماه‪ ..‬كان ينبغي أن أقوم هبذا بنفسي‪.‬‬
‫(( ‪-‬تعبك راحة يا حبيبيت))‪ ..‬تفضلي‪ ..‬لقد انتخبت لك هذه الفواكه‬
‫بنفسي فال ترتكي منها شيئاً‪.‬‬
‫‪-‬سلمت يداك‪ ..‬ستكون ألذ فواكه آكلها ألهنا من اختيارك أنت ‪..‬‬
‫هتف عصام يف دعابة‪:‬‬
‫(( ‪-‬يا عيين))‪ ..‬أراكما قد نسيتماين‪ ..‬لقد بدأت أغار‪ .‬ضحكت األم‬
‫وكنتها‪ ،‬بينما قال عصام يف توسل‪:‬‬
‫‪-‬اجلسي معنا يا أماه‪.‬‬
‫قالت وهي ترميه بنظرة ذات معىن‪:‬‬
‫(( ‪-‬اعذروين يا ابين‪ ،‬ال يصح أن أترك محاتك وحدها))‪ .‬مث مضت ونفسها‬
‫مرتعة باملشاعر اللذيذة‪ ،‬وقالت سامية ‪:‬‬
‫‪-‬لكم أنا حمظوظة‪ ،‬زوج حبيب ومحاة رؤوم‪.‬‬
‫قال ميازحها‪:‬‬
‫‪-‬هذا كالم تقولينه اآلن‪ ،‬فقط‪.‬‬
‫‪-‬اآلن وغداً‪ ،‬وسوف ترى‪..‬‬
‫‪-‬ال تقنعيين يا عزيزيت‪ ..‬لن تنقضي األيام األوىل للزواج حىت تنضمي إىل‬
‫حلبة الصراع األبدي بني الكنة واحلماة‪!.‬‬
‫‪-‬ومن قال لك أنه صراع أبدي معلوماتك خاطئة يا أستاذ‪.‬‬
‫ِ‬
‫مسحت‪...‬‬ ‫(( ‪-‬دكتور))‪ .‬إذا‬
‫‪-‬اخلالفات بني الكنة واحلماة يا ((دكتور))‪ ..‬ال حتدث إال بني النفوس‬
‫األنانية املتسرعة الضيقة املهيأة للخالف والشجار واخلصام‪ ،‬أما محايت فهي‬
‫شيء آخر‪!.‬‬
‫‪-‬أريد أن أعرف سر هذه احملبة اليت بينكما‪.‬‬
‫‪-‬احلب شعور روحي طليق ال خيضع لتفسريات العقل وقوانينه‪.‬‬
‫‪-‬لعلك حتبينها من أجلي‪!.‬‬
‫‪-‬قد أجاملها من أجلك‪ ،‬أما احملبة فهي شيء صادق يولد يف األعماق‪،‬‬
‫إما أن يكون أو ال يكون وأنا أحبها يا عصام ألين أحبها‪ ..‬أمك امرأة‬
‫عظيمة حقاً‪ ..‬لقد بدأت أدرك مصدر مشائلك الرفيعة‪.‬‬
‫ابتسم وقال بنربات حاملة رقيقة‪:‬‬
‫‪-‬املرأة كائن عظيم ينطوي على أسرار روحية عجيبة‪..‬كائن لطيف ميلك‬
‫كنوزاً من احلب والرمحة واحلنان يفتقر إليها تلك احملاوالت املستمرة إلثبات‬
‫أن املرأة تستطيع أن تكون مهندسة أو عاملة أو حمامية أو‪ ..‬من قال أهنا ال‬ ‫ًّ‬
‫تستطيع؟‪ ...‬إن املرأة لديها القدرة واالستطاعة ألن حتل مكان الرجل يف‬
‫الكثري من أعماله‪ ،‬بل وأن تتفوق عليه فيها‪ ،‬لكن جوهر القضية ليس هنا‪..‬‬
‫األسرة الناجحة السعيدة يا عزيزيت تقوم على التخص وتقاسم األعباء‪..‬‬
‫مثة حقيقة أخرى‪ ..‬إن املراة تستطيع أن حتل مكان الرجل من املستحيل أن‬
‫حيل مكان املرأة‪..‬‬
‫قالت سامية يف دعابة‪:‬‬
‫‪-‬أنت تعرتف إذن بتفوق اجلنس اللطيف على اجلنس اخلشن‪!.‬‬
‫ابتسم عصام وقال‪:‬‬
‫‪-‬القضية ليست تنافساً وصراعاً‪ ..‬إن العالقة بني الرجل واملرأة عالقة‬
‫تكامل ‪ ..‬فما ينق الرجل تكمله املرأة وما ينق املرأة يكمله الرجل‬
‫وباجتماعهما تتشكل الوحدة اإلنسانية املستقرة الفاعلة يف احلياة‪ ..‬املرأة‬
‫والرجل يف اإلسالم متساويان من حيث اإلنسانية متكامالن من حيث‬
‫اخلصائ والوظائف‪ ..‬من اإلجحاف والغباء أن نضع املرأة مكان الرجل‬
‫والرجل مكان املرأة‪.‬‬
‫‪-‬ما خصائ املرأة برأيك؟‪...‬‬
‫‪-‬املرأة روح شفاف رقيق مزودة جبهاز عاطفي فريد‪ ،‬هيأه اهلل ليقوم بأخطر‬
‫مهمة يف الوجود‪.‬‬
‫‪-‬تريد الرتبية طبعاً‪.‬‬
‫‪-‬أجل‪ ..‬فرتبية الطفل وإعداده لرحلة احلياة من أهم وأخطر املهمات اليت‬
‫تواجه اإلنسان على هذه األرض‪ ..‬ألهنا عملية إنضاج ألجيال‪ ،‬يتم‬
‫بواسطتها غرس الصفات النفسية الفكرية والروحية اليت تبلور شخصية الفرد‬
‫وتؤهله ليحتل موقعه الفاعل يف اجملتمع واألم هي القادرة على القيام هبذه‬
‫املهمة مبا أوتيت من عطف وحنان وصرب على مشاكل الطفل وتفهم هلا‪ ،‬مما‬
‫جيعل الطفل أكثر تقبالً واستجابة لعملية الرتبية‪ ..‬طبعاً أنا ال ألغي دور‬
‫األب يف الرتبية‪ ،‬لكن الدور احلاسم يبقى لألم بال جدال‪.‬‬
‫وافقته سامية بإمياءة وقالت وهي تقدم له قطعة من تفاحتها‪:‬‬
‫‪-‬إنين أعزو الكثري من أمراضنا ومشاكلنا االجتماعية لفشل الرتبية يف‬
‫البيت‪ ..‬هذه مالحظة واضحة جداً يف حياتنا‪..‬‬
‫‪-‬فعالً قد خيطئ الرجل فال يتعدى خطؤه إتالف آلة أو خسارة صفقة‪ ،‬أما‬
‫إذا أخلت املرأة بوظيفتها فإهنا بذالك حتطم جيالً وتدمر أمة‪ .‬أن أكرب‬
‫مأساة تعيشها البشرية اليوم هي غياب املرأة عن مسرح الرتبية‪ ،‬وختليها عن‬
‫وضيفتها احلساسة للخادمة أو دور احلضانة ووسائل اإلعالم‪ ،‬مما أدى إىل‬
‫فساد األجيال اجلديدة واضطراب شخصيتها‪ ،‬ألهنا مل تتلق القدر الكايف‬
‫من العطف والرعاية واالهتمام‪ ،‬ومل تتناول اجلرعات الكافية من احلنان الذي‬
‫ال بد منه لكل شخصية سوية‪ ،‬وقد بدأ املصلحون واملفكرون يف الشرق‬
‫والغرب يدركون خطورة هذه الظاهرة االجتماعية املدمرة وأخذوا يهيبون‬
‫عشها لتمارس وظيفتها اإلنسانية الطبيعية‪.‬‬
‫باملرأة أن تعود إىل ّ‬
‫‪-‬ليت املرأة يف جمتمعنا تدرك هذا‪..‬‬
‫‪-‬إن املرأة يف جمتمعنا ما زالت مبهورة بتجربة املرأة الغربية وعليها أن تتحرر‬
‫املر الذي جنته حضارة الغرب‪...‬‬ ‫من الربيق اخلادع قبل أن جنين احلصاد ّ‬
‫قالت سامية‪:‬‬
‫‪-‬لكن الرجل يف جمتمعنا ينظر إىل املرأة على أهنا خملوق قاصر أقل منه قيمة‬
‫وشأناً‪ .‬مما يضطرها إلثبات شخصيتها وكفاءهتا من خالل منافسته والقيام‬
‫بأعماله ووجباته‪!...‬‬
‫أجاهبا عصام‪:‬‬
‫‪-‬أنا ال أنكر أن الرجل يرتكب الكثري من املمارسات اخلاطئة حبق املرأة‪،‬‬
‫لكن ذلك ال ي هربر هلا أن تعاجل اخلطأ باخلطأ‪ ،‬فتدفعها رد الفعل على‬
‫ّ‬
‫تصرفات الرجل ألن تتخلى عن وظيفتها وخترج إىل الشارع واملعمل لتثبت له‬
‫أهنا قادرة على احتالل موقعه جبدارة‪ ..‬على املرأة أن تكون أكثر ثقة بنفسها‬
‫وأش ّد اعتزازاً بدورها يف الوجود‪ ،‬فإذا كان الرجل يوفر متطلبات األسرة‬
‫وحيمي كياهنا ويرسم هلا مسريهتا‪ ،‬فأن املرأة حتمي روح األسرة وجوهرها‬
‫وهتندس عناصرها اإلنسانية الصاحلة املهيأة حلمل رسالة احلياة كما تنبغي‬
‫احلياة‪.‬‬
‫‪-‬على هذا فعمل املرأة خارج البيت مرفوض؟‬
‫‪-‬اإلسالم مل يرفض عمل املرأة يا عزيزيت‪ ،‬لكنه رفض أن متارس املرأة أي‬
‫نشاط مهين أو اجتماعي أو علمي أو ثقايف إذا كان سيتم على حساب‬
‫تربية أبنائها الرتبية السليمة الكافية‪ ،‬فإذا ما قامت بواجبها حنو أطفاهلا كامالً‬
‫واطمأنت على سالمة أوضاعهم واستقرارها فلها أن تقوم بأي نشاط هتواه‬
‫ما دام نشاط مفيداً بانياً شريفاً يراعي القيم الصحيحة وحيرتمها‪.‬‬
‫سألته يف شرود‪:‬‬
‫زي حمدد جيب على الفتاة أن تتقيد به يف حجاهبا‬ ‫‪-‬هل هناك ّ‬
‫‪-‬احلجاب ليس زيّاً من األزياء أو منط من أمناط اللباس‪ ،‬بل هو مبدأ‬
‫الزي الذي ترتاحني إليه‬
‫وقناعة‪ .‬اختاري يف لباسك اللون الذي تريدينه أو ّ‬
‫على أن يكون منافياً للحشمة أو مظهراً ًِ للفتنة‪ ..‬احلجاب األكمل‬
‫واألفضل هو الذي جيمع بني احلشمة واألناقة واجلمال‪.‬‬
‫‪-‬وهل تتوقع أن أبدو يف حجايب أمجل من اآلن؟‬
‫‪-‬ستكونني أمجل بال شك ‪ ،‬ألن مجال جوهرك سيسطع ويتألق من خالل‬
‫سلوكك اجلديد‪ .‬بيد أين أريدك أن تتحجيب هلل وحده‪ ،‬ال من أجل‬
‫اجلمال‪...‬‬
‫ساحمك اهلل‪ ،‬إمنا أمزح‪ ..‬إين مقتنعة بكل ما قلت‪ ،‬وقد فكرت فيه كثرياً قبل‬
‫اآلن‪ ،‬لكين مل أجد من يشجعين على ذلك‪.‬‬
‫صمت عصام ملياً مث قال وهو ميسك بيدها يف ود‪:‬‬
‫‪-‬سامية أنا لن أكرهك على شيء‪ ...‬أريدك أن تتخذي قراراتك بنفسك‬
‫عن رضا وقناعة‪ ،‬لكن ماال أرضاه لزوجيت وحبيبيت هو أن تضطر ملخالفة‬
‫قناعتها ومبادئها من أجل الناس فاحلق أحق أن يتبع‪.‬‬
‫قالت وهي تشد على يده يف حنان‪:‬‬
‫‪-‬عصام ‪...‬كلماتك دائماً متلؤين ثقة وارتياحاً‪ ،‬وقد اختذت قراري منذ اآلن‬
‫ولن أتراجع عنه مهما كان تقبل اجملتمع له‪ ،‬ولن يرحيين أن أرضي الناس‬
‫وأغضب اهلل‪ ،‬ولن أمسح لنفسي أن أتركك تتلوى حتت سياط الغرية وهليبها‪.‬‬
‫إذا مل أرع مشاعرك وأحاسيسك فلن أكون جديرة حببك‪ ..‬إين أعاهدك أن‬
‫ألتزم باحلجاب‪ ،‬وستكون أول من يراه‪..‬‬
‫أثلج قرار سامية صدر عصام فرنا إليها يف حب وإكبار وهو غارق يف‬
‫طمأنينة غامرة وأحس بروحة حتلق فرحة سعيدة يف مساء من الود والتفاهم‬
‫واالنسجام‪ ،‬وبدت له سامية فيها مالك طاهر مجيل حيمله على أجنحة‬
‫األمل إىل دنيا األحالم‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل السادس عشر‬
‫اليوم‪ ..‬تثمر سنوات الدراسة والسهر والتعب والكفاح‪ ،‬وحيني موعد احلصاد‬
‫الكبري‪ ،‬وترسو سفينة األماين على شاطئ جديد وهي متضي يف رحلتها‬
‫الطويلة إىل جزر اآلمال اخلضراء‪...‬‬
‫واستيقظ طلبة الصف السادس من كلية الطب مبكرين على طرقات الشوق‬
‫والرتقب‪ ،‬وبدؤوا يستعدون هلذه املناسبة الفاصلة يف خفة ومرح ونشاط‪،‬‬
‫باليوم‪ ..‬يتحول احللم إىل حقيقة‪،‬وتدب احلياة يف أمل كبري من اآلمال‬
‫العظيمة اليت طاملا داعبت خياهلم الشاب‪ ،‬ويرتقون درجة يف سلم النجاح‪،‬‬
‫ويقطعون خطوة جديدة إىل قمة اجملد الذي يتطلعون إليه‪.‬‬
‫ووقفت سامية أمام املرآة تتأمل حجاهبا األنيق‪ ،‬وحتكم ترتيبه وهندامه‪،‬‬
‫بانتظار قدوم عصام الذي سيصحبها إىل الكلية ملعرفة نتائج التخرج‪ ،‬وقد‬
‫أرسلت ابتسامة عريضة ش ّفت عن هبجتها وسعادهتا العميقة‪ ،‬فهي تقف‬
‫اآلن مع حبيبها على بوابة األفراح‪ ،‬فاليوم التخرج وغداً الزفاف وبعده السفر‬
‫واالختصاص مث متضي قافلة العمر اجلميل من فوز إىل فوز ومن جناح إىل‬
‫جناح على حداء احلب اخلال العميق ويزدهر املستقبل ثرياً باملنجزات‪.‬‬
‫وشعرت سامية بعقارب االنتظار وهي تلسعها‪ ،‬فلماذا تأخر عصام؟‪ ،‬مل تعد‬
‫تطيق بعده عنها‪..‬لقد أمسى روحها وقلبها وحياهتا فمىت تسكن الروح إىل‬
‫الروح؟ ومىت ينصهر القلب يف القلب وتبعث احلياة يف عش الزوجية الدافئ‬
‫السعيد فريتاحا من أنني البعد وأوجاع احلنني وتنهدات احلرمان‪ ،‬وراحت‬
‫ترقب الساعة يف ضيق وملل‪...‬لقد أخربها أنه سيمر الصطحاهبا يف الثامنة‬
‫وها هو عقرب الساعة يتخطى الثامنة يف رتابة مزعجة مل ترحم آالم الشوق‬
‫واالنتظار اليت متس أعصاهبا املرهفة‪ .‬وهرعت إىل الباب تسرتق السمع لوقع‬
‫أقدامه على درجات السلم‪ ،‬وما هي إال هنيهة حىت مأل اهلدوء والسالم‬
‫أغوارها‪ ،‬وفاضت من نظراهتا ومالحمها‪ ،‬وحتفزت للقائه‪،‬وما إن قرع اجلرس‬
‫حىت فتحت الباب يف هلفة‪ ،‬فأطل منه فتاها بسمته اهلادئ‪ ،‬وابتسامته‬
‫الوداعة العذبة‪ ،‬فخفق قلبها ملرآه‪ ،‬وشعرت بنظراته اليت تلمع باحلب‬
‫وا ٍإلعجاب وهي حتاصرها‪ ،‬فلم تصمد لذالك الربيق الساطع الذي أخرتق‬
‫قلبها وعطر دماءها مبعانيه الرائعة اللذيذة‪ ،‬فخفضت طرفها يف حياء وقالت‬
‫بصوت هامس رقيق‪:‬‬
‫‪-‬تفضل‪...‬‬
‫مهس وهو ثابت مبهور‪:‬‬
‫‪-‬لكم تبدين اليوم رائعة مجيلة‪!...‬‬
‫‪-‬هل ستبقى واقفاً هكذا على الباب؟‬
‫‪-‬دعيين أمتلى هذه اللوحة الفاتنة املاثلة أمامي!‬
‫وشدته من يده يف دعابة‪ ،‬فقال يف مرح وهو يتقدم إىل الداخل خطوات‪:‬‬
‫‪-‬أين محايت؟‪..‬‬
‫‪-‬إهنا يف املطبخ تستعد ملناسبة خترجنا بصناعة احللوى واملأكوالت‬
‫اللذيذة؟‪..‬‬
‫وعمي؟‪..‬هل خرج؟‪..‬‬
‫‪-‬منذ الصباح الباكر‪.‬‬
‫ِ‬
‫لكأنك فيه مالك حت ّفه هالة من النور!‬ ‫‪-‬احلجاب يزيدك هباءً ومجاالً‪..‬‬
‫‪-‬أنت تبالغ‪...‬‬
‫‪-‬أبداً هذه صورتك يف أعماقي‪.‬‬
‫‪-‬لعل هالة النور قد سطعت من أعماقك تلك‪ ،‬فتومهتها حويل‪!..‬‬
‫مهس يف أذهنا قائالً‪:‬‬
‫بت اآلن متلهفاً أكثر للزفاف‪.‬‬ ‫‪ُّ -‬‬
‫ابتسمت وقالت يف دالل‪:‬‬
‫‪-‬إ ْن مها إال أسبوعان‪...‬‬
‫علي كسنة‪.‬‬‫‪-‬سيمران ّ‬
‫‪-‬فليمرا كسنة‪ ..‬ستنقضي بسرعة كما انقضت سنوات الكلية الست‪.‬‬
‫‪-‬حقاً لقد مرت كاحللم‪ ..‬من يصدق؟‪ ..‬باألمس دخلناها واليوم نتخرج‬
‫منها‪..‬ما أعجب عجلة الزمان!‪ ،‬هإهنا متضي بسرعة هائلة‪ ،‬فتطوي بدوراهنا‬
‫األيام والشهور والسنني‪ ،‬فيتالشى الزمان‪،‬وميحى ويتحول مهما طال إىل‬
‫جمرد ذكرى‪ ،‬قلما تنجو من قبضة النسيان‪!!....‬‬
‫‪-‬هي احلياة هكذا‪ ..‬افتح عيناً وأغمض األخرى‪َ ،‬تر نفسك عجوزاً هرماً‬
‫يرتبع فوق التسعني‪.‬‬
‫تساءل عصام مازحاً‪:‬‬
‫‪-‬وأنت؟ هل تظنني بأنك ستبقني صبية؟‬
‫‪-‬أنا؟‪ ..‬وما أدراك؟‪ ..‬لعلي أكون يومها يف عداد الراحلني‪!.‬‬
‫هتف كامللدوغ‪:‬‬
‫‪-‬سامية‪ ..‬ما هذا الكالم؟‪ ..‬باهلل ال تعيدي هذا على مسامعي‬
‫‪-‬لكن املوت حق ‪..‬أنت تردد هذا كثرياً‪!!.‬‬
‫‪-‬صحيح‪ ،‬ولكن‪ ...‬باهلل عليك ال تذكري هذه السرية اآلن‪.‬‬
‫مث أردف يف وله دامع‪:‬‬
‫ألمتىن أن حنيا معاً ومنوت‬
‫‪-‬ال أجرؤ أن أختيَّل فراقنا على أية صورة!‪ ..‬إين ّ‬
‫املر ويكوينا‪.‬‬‫معاً حىت ال يلدغنا الفراق ّ‬
‫نظرت إليه يف حب ووجد‪ ،‬وقالت وهي متسح دموعه بأناملها احلانية‬
‫اجلميلة‪:‬‬
‫َّ‬
‫يد‪..‬لكأن نفسك‬ ‫‪-‬كلما ختيَّلت مقدار حبك وإخالصك فاجأتين باملز‬
‫الكبرية حبر ممتد من احلنان بال هناية‪ ،‬وأنا تائهة يف خضم أمواجه‪ ،‬عاجزة‬
‫عن بلوغ آفاقه الرحيبة‪.‬‬
‫‪-‬ولن تبلغيها‪ ،‬ذلك أن هذا البحر الذي تتيهني فيه إمنا ينبع من قلبك‬
‫العامر الفياض الذي يرفده دائماً باملزيد‪ ،‬وسيَّتسع البحر ويَّتسع حىت يغمرنا‬
‫كله بالسعادة والتفاهم والوئام‪.‬‬
‫و رانت حلضات صامتة مجيلة قد أفعمت باالنفعاالت الصادقة اللذيذة‪،‬‬
‫لكنها سرعان ما تالشت على أعتاب الفرحة الوشيكة‪ ،‬وقال عصام يف‬
‫مرح‪:‬‬
‫‪-‬لقد اقرتب موعد النتائج‪ ،‬فهل أنت مستعدة‬
‫‪-‬سيكون زوجي األول‪...‬‬
‫‪-‬وما أدر ِاك أن تكون زوجيت هي األوىل؟‬
‫‪-‬أنا؟‪ ..‬أنا أتفوق عليك يا عصام؟‪..‬‬
‫ع أمك قبل أن منضي‪..‬‬ ‫نود َ‬
‫‪-‬وملاذا ال؟‪ ..‬تعايل بنا اآلن ّ‬
‫***‬
‫‪-‬ترى‪ ..‬من سيكون األول على الكلية هذا اليوم؟‬
‫أجاب سعد‬
‫‪-‬وهل هذا حيتاج إىل سؤال‪ ..‬إنه عصام وال أحد غريه‪.‬‬
‫قال عرفان وقد دبت فيه روح الدعابة‪:‬‬
‫‪-‬بل األصح أن تقول عصام وقرينته‪.‬‬
‫أثارت كلمات عرفان عاصفة من الضحك اسرتعت انتباه الطلبة الذين‬
‫حتلقوا يف جمموعات ينتظرون إعالن النتائج املرتقبة يف هلفة وشوق‪ ،‬وقال‬
‫جمدي‪:‬‬
‫‪-‬مسعت أن زفافهما قد أصبح وشيكاً‪.‬‬
‫أجاب سعد‪:‬‬
‫‪-‬هذا صحيح‪ ،‬لكين ال أعرف موعده بالضبط‪.‬‬
‫تدخل عرفان قائالً‪:‬‬
‫‪-‬اسألين أنا‪ ،‬فأنا يا صديقي مغرم باألخبار السعيدة‪ ..‬زفاف صاحبنا قد‬
‫تقرر يف األول من الشهر القادم‪ ،‬أي بعد أسبوعني من اآلن تقريباً‪..‬‬
‫َّ‬
‫((عقبال عندي‪)).‬‬
‫علق هباء من بني الضحكات‪/‬‬
‫‪-‬لقد سبقك عصام يا عرفان‪.‬‬
‫فأجابه قائال‪:‬‬
‫‪-‬تصور يا هباء‪ ..‬لقد خطب وكتب كتابه وسيتزوج يف أقل من ثالثة‬
‫أشهر‪.‬‬
‫حدجه سعد بنظرة متسائلة‪ ،‬وقال يداعبه‪:‬‬
‫‪-‬أحتسده على ما أنعم اهلل عليه؟‬
‫أجاب عرفان‪:‬‬
‫‪-‬بل أغبطه يا سعد‪ ..‬أغبطه على هذا العم الواقعي املتساهل‪.‬‬
‫قال له عثمان‪:‬‬
‫‪-‬يبدو أنك وعمك على غري اتفاق‪.‬‬
‫أجاب عرفان يف غيظ‪:‬‬
‫‪-‬إنه يكبلين بشروطه الكثرية‪ ،‬ولكل شرط عنده فلسفة يستوحيها من‬
‫جتاربه اخلاصة‪ ،‬وكلما طالبته بالتعجيل بالزفاف مشخ بأنفه وقال بلهجة‬
‫واعظة تثريين‪:‬‬
‫((ملاذا االستعجال يا بين؟ يف التأين السالمة‪ ..‬انتظر حىت تتخرج وتؤمن‬
‫مستقبلك وهتيئ الضروف املناسبة اليت توفر لك عيشة هانئة والئقة‪ ..‬ال‬
‫داعي لالستعجال يا بين‪ ،‬فهذه زوجتك بانتظارك‪ ،‬فأ ِرنا مهتك يا دكتور‪)).‬‬
‫مث تابع عرفان وهو حمتد حانق‪:‬‬
‫‪-‬تصوروا يا مجاعة‪ ..‬كأين تزوجتها ألخزهنا يف بيته‪.‬‬
‫ابتسم األصدقاء مشفقني بينما قال سعد‪:‬‬
‫‪-‬ال عليك يا عريس‪ ،‬إنه يشجعك ويشد من عزميتك وما إن يرى نتائج‬
‫خترجك حىت يسهل لك كل األمور‪.‬‬
‫هتف عرفان وهو يرفع يديه إىل السماء يف ضراعة‪:‬‬
‫‪-‬اهلل يسمع منك يا ((أبو السعود‪))..‬‬
‫وران على األصدقاء صمت قصري ما لبث أن قطعه جمدي‪:‬‬
‫‪-‬لقد تأخرت النتائج!‬
‫‪-‬يقولون بعد دقائق‪..‬‬
‫‪-‬تباً هلا من دقائق ثقيلة!‬
‫ومضت برهة من الزمن ما لبثت القلوب بعدها أن خفقت‪ ،‬وأطل الرتقب‬
‫من العيون وهي ترى الدكتور ماهر رئيس اللجنة االمتحانية خيرج من غرفته‬
‫ويف يده رزمة من األوراق‪ ،‬فهرع إليه الطلبة يف هلفة ومحاس‪ ،‬وجتمهروا حوله‬
‫يسألون‪:‬‬
‫‪-‬طمئنونا يا دكتور؟‪...‬‬
‫‪-‬دكتور مل نعد نطيق االنتظار!‬
‫‪-‬ما هي نسبة النجاح هلذا العام؟‪...‬‬
‫كان الدكتور ((ماهر)) يشق طريقه بني مجوع الطلبة الصاخبة بصعوبة‬
‫بالغة‪ ،‬وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشفقة‪ ،‬ومل يصمد لألسئلة امللحة‬
‫اليت اهنالت عليه‪ ،‬فأجاب ليطمئن القلوب املضطربة اليت قلقل كياهنا‬
‫االنتظار‪:‬‬
‫يبق سوى توقيع العميد‪ ..‬كلكم ناجحون‬
‫‪-‬سنوزع النتائج بعد قليل‪ ..‬مل َ‬
‫– إن شاء اهلل – فال داعي للقلق واالستعجال‪ ..‬انتظرمت هذا اليوم كل هذه‬
‫السنني‪ ،‬أفال تصربون دقائق؟!‬
‫ومل يكد ِ‬
‫ينته من كالمه حىت عادت احلناجر تضح باألسئلة واالستفسارات‪،‬‬
‫حث اخلطا حىت وصل إىل غرفة العميد‪ ،‬فدخلها بسرعة‬
‫فما كان منه إالّ أن ّ‬
‫وغلق الباب وراءه‪ ،‬فخمدت األسئلة وهدأت الضجة وعاد الطلبة إىل‬
‫انتظارهم احملفوف بامللل والرتقُّب‪ ،‬والتأم مشل األصدقاء من جديد يف حلقة‬
‫واحدة‪ ،‬وقال سعد‪:‬‬
‫‪-‬مسعت أن نسبة الرسوب هلذا العام ال تتجاوز الثالثة باملائة‪.‬‬
‫علَّق هباء‪:‬‬
‫‪-‬يبدو أن دفعتنا من الدفعات املمتازة اليت خترجت من الكلية‪.‬‬
‫قال عرفان وهو يشري إىل نفسه يف فخر‪:‬‬
‫‪-‬طبعاً ‪ ...‬ألهنا حتوي كوكبة من العباقرة األفذاذ‪.‬‬
‫قال له جمدي مداعبا‪:‬‬
‫‪-‬ال تستعجل يا عزيزي‪ (( ..‬يف االمتحان يكرم املرء أو يهان))‪ ..‬بعد قليل‬
‫سوف نعرف النتائج ونتبني موقعك من هذه الكوكبة املزعومة‪..‬‬
‫قال عرفان يف استسالم‪:‬‬
‫‪-‬أريد النجاح فحسب‪ ،‬وال يهمين بعده كنت األول أو األخري‪ ..‬املهم‬
‫عندي أن أخترج وأستقر حىت أثبت لعمي املتسلّط القاسي أين جدير حبمل‬
‫املسؤولية‪.‬‬
‫ضحك اجلميع يف مرح وسرور بينما قال عثمان وهو يرمي بنظراته إىل‬
‫مداخل الكلية‪:‬‬
‫‪-‬ها هو عصام‪ ..‬إنه قادم بصحبة سامية‪..‬‬
‫مهس عرفان‪:‬‬
‫‪-‬انظروا إليه كيف يتق ّدم بثقة وهدوء‪ ،‬وكأن النتيجة يف جيبه!‬
‫قال هباء ونظراته تنطق بالرضى واالستحسان‪:‬‬
‫‪-‬لكم أنا معجب خبطوة سامية اجلريئة‪ ..‬إن حجاهبا الذي ترتديه خيلع‬
‫عليها هيبة ووقاراً جيربك على احرتامها‪.‬‬
‫وأردف سعد‪:‬‬
‫‪-‬إنا سامية فتاة ممتازة‪ ،‬متلك شخصية قوية وعقالً راجحاً سرعان ما‬
‫استجاب لنداء اهلل‪ ،‬فالتزمت مبنهجه‪.‬‬
‫قال جمدي‪:‬‬
‫‪-‬ال تنس يا صاحيب تأثري عصام‪ ..‬لقد لعب دوراً كبريا يف إقناعها‪.‬‬
‫قاطعه هباء قائالً‪:‬‬
‫‪-‬لقد انضمت سامية إىل صديقاهتا‪ ،‬وها هو عصام يبحث عنا‪...‬‬
‫هتف عرفان ينادي عصاماً وهو يشرئب بعنقه بني مجهور الطلبة‪.‬‬
‫هلم إلينا‪..‬‬
‫‪-‬حنن هنا يا عصام‪َّ ..‬‬
‫والتفت األنظار يف فضول ترقب الفىت الذي شغل كلية الطب بأخبار تفوقه‬
‫ونبوغه‪ ،‬وسرت اهلمهمات اخلافتة تتحدث عنه وتروي أخباره‪ ،‬أما عصام‪،‬‬
‫فقد تقدم من ثلة األصدقاء يف هدوء وقال وهو يأخذ مكانه يف احللقة اليت‬
‫انفرجت قليال لتضمه‪:‬‬
‫‪-‬السالم عليكم‪ ..‬ما هي األخبار؟‪...‬‬
‫تلقفته كلمات الرتحيب النابضة باحلب والتقدير‪ ،‬واستلمه عرفان مداعباً‪:‬‬
‫‪-‬مربوك سلفا يا دكتور‪...‬‬
‫‪-‬وملاذا سلفاً؟‬
‫‪-‬ألن النتيجة معروفة‪ ،‬فاملقدمات السليمة تعطي نتائج سليمة‪ ..‬إين أراهن‬
‫على أنك األول‪..‬‬
‫‪-‬أخشى أن ختسر الرهان‪.‬‬
‫‪-‬تدخل سعد إىل جانب عرفان قائالً‪:‬‬
‫‪-‬بل أراهن أنه سريبح‪ ،‬وسأدفع الرهان سلفاً‪ ..‬أنتم مجيعا مدعوون عندي‬
‫مساء اخلميس القادم على حفلة عشاء مجيلة‪ ،‬سوف أقيمها لكم يف‬
‫احلديقة‪ ..‬يف أحضان الطبيعة اخلالّبة‪.‬‬
‫هتف عرفان يف مرح ومحاس‪:‬‬
‫‪-‬يا لك من شاب طيب يا سعد‪ ..‬مواقفك النبيلة تعجبين‪.‬‬
‫ضحك األصدقاء لدعابة عرفان‪ ،‬مث اخنرطوا من جديد يف دوامة الرتقب‬
‫واالنتظار‪...‬‬
‫***‬

‫يف هذا العامل نفوس مكلومة‪ ،‬ال تستطيع أعظم األفراح وأسعدها أن تألم‬
‫جراحاهتا أو تسكن آالمها‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬فإن مناسبات‬
‫البهجة والفرح يف امللح الذي يلهب جراحها ويوقظ آالمها فتزداد إحساساً‬
‫بالتعاسة والشقاء‪ ،‬وهكذا كانت ((مىن‪))...‬‬
‫لقد تطورت عالقتها مع صفوان من سيء إىل أسوأ‪ ،‬بعد أن شعرت‬
‫باخلديعة املاكرة اليت حبكها هلا‪ ،‬وأيقنت أهنا ما كانت إالّ دمية‪ ..‬دمية‬
‫ساذجة مجيلة‪ ،‬استمتع هبا مث رماها‪ ،‬وها هو يستبدهلا بدمية جديدة امسها‬
‫((رشا‪)).‬‬
‫وتنظر ((مىن)) إىل ((رشا)) نظرة امتزجت فيها الغرية بالرثاء‪ ،‬فهي ترثي هلا‬
‫ألهنا شريكة مأساهتا اليت ستنتهي حتماُ إىل هنايتها األسيفة‪ ،‬لكنها يف‬
‫الوقت نفسه تغار منها وحتقد عليها‪ ..‬ليس ألهنا احتلت مكاهنا يف قلب‬
‫((صفوان))‪(( ،‬فصفوان)) يف نظرها إنسان بال قلب أو عاطفة أو إحساس‬
‫‪ ،‬ولن يعرف احلب إىل قلبه سبيالً‪ ،‬بل ألن رشا هي األداة اليت يستخدمها‬
‫متردت على سيطرته‬ ‫صفوان إلغاضتها وحتطيمها وإهانتها انتقاما منها‪ ،‬ألهنا َّ‬
‫وأنانيته ورغباته‪ ،‬وانتقدت مسلكه الشائن الوضيع‪.‬‬
‫أما صفوان‪ ،‬فقد أوحت له ثعابني احلقد والغرور اليت تعربد يف دمه أن يلقهن‬
‫((مىن)) درساُ قاسياً ال تنساه جزاء متردها عليه‪ ،‬وحتديها السافر له الذي‬
‫وشت به كل تصرفاهتا األخرية حنوه‪ ،‬مما جعله أضحوكة بني أفراد الشلة‬
‫الفاسدة اليت مجعها حوله‪ ،‬وصرف عليها بسخاء‪ ،‬لريضي هبا أنانيته وغروره‬
‫وحبه للظهور‪ .‬ومل جيد صفوان وسيلة لالنتقام أجنح من جتاهلها وإغاضتها‬
‫بتقربه املقصود من رشا‪ .‬واليوم‪ ،‬هو آخر يوم هلم يف الكلية‪ ،‬وقد قرر أن‬‫ُّ‬
‫يفسد على مىن فرحة التخرج؟‪ ..‬وأن حيول هذه املناسبة إىل حفلة وداع‬
‫منكرة تتذكرها أبد الدهر‪ ،‬وتتذكر معها من هو ((صفوان الناعم)) الذي‬
‫جترأت فتحدته برفضها االستمرار يف حتقيق مطالبه السافلة‪ ،‬وطموحها ألن‬
‫تكون له زوجة ال عشيقة‪.‬‬
‫(( ‪-‬زوجة؟‪!!..)).‬‬
‫ال يستطيع صفوان أن يتصور نفسه زوجاً ملىن!‪ ..‬كيف يتزوج من فتاة ال‬
‫يصل دخل أبيها إىل دخل خادمة من خادمات أسرته الثرية؟‪!..‬‬
‫(( ‪-‬لقد مشخت بأنفها عالياُ جدا وغلي أن أمرغها هلا يف الرتاب))‪...‬‬
‫وبدأ صفوان يتسقط كلماهتا وتصرفاهتا باحثا عن هفوة أو كلمة يتخذها‬
‫مربراً إلهانتها أمام من استخفت به بينهم‪ ،‬مث أخذ يستفز مشاعرها فأمعن‬
‫يف تدليل رشا ومغازلتها‪ ،‬وجتاهل مىن بشكل جارح‪ ،‬فكلما تكلَّم َّ‬
‫وجه‬
‫كالمه لآلخرين‪ ،‬وخ َّ به رشا‪ ،‬فإذا تكلمت مىن أشاح بوجهه عنها أو‬
‫رماها بنظرة هازئة تفيض باالحتقار‪.‬‬
‫وعندما قدمت سامية برفقة عصام رمقتها ((مىن)) باحرتام وهي تشعر‬
‫باحلسرة والندم ألهنا مل تصغي فيما مضى لنصائحها األمينة املخلصة‪ ،‬أما‬
‫صفوان‪ ،‬فقد هتف عندما رآها ساخراً مستهزئاَ‪:‬‬
‫‪-‬انظروا هلذا الشبح القادم‪ ..‬لقد استطاع عصام أن يلوث أفكار سامية‪،‬‬
‫وأن يفرض عليها عقليته املتزمتة‪..‬‬
‫أردف أحد أفراد الشلة قائال‪:‬‬
‫‪-‬هذه أفكار سعد‪ ..‬سعد هو املسؤول عن هذا الوباء‪.‬‬
‫قالت رشا‪:‬‬
‫‪-‬كلهم متعصبون‪ ..‬لقد مسعت سامية تدافع عن احلجاب حبماس منقطع‬
‫النظري‪.‬‬
‫علق صفوان على كلمات رشا قائال‪:‬‬
‫‪-‬يا للسخرية‪ ..‬أمريكا وصلت إىل القمر‪ ،‬وحنن ما زلنا نتخلَّف إىل عصر‬
‫احلرمي‪ ،‬ترى؟‪ ..‬كيف يهضم هؤالء املتزمتني هذه التصرفات؟‪ ..‬أنا ال‬
‫أفهمهم!!‬
‫قالت له مىن وقد نفذ صربها على هذا التجاهل املقصود الذي يبديه حنوها‪:‬‬
‫‪-‬حتتاج إىل الكثري لتفهمهم‪.‬‬
‫سأهلا يف شك‪:‬‬
‫‪-‬ماذا تعنني؟!‬
‫‪-‬أنت تدرك ما أعين!‬
‫ضايقت كلمات مىن صفوان‪ ،‬لكنه تظاهر باهلدوء‪ ،‬ورفع كتفيه مظهرا عدم‬
‫االكرتاث‪ ،‬وقال يستفزها وهو يرمق سامية بنظرة خبيثة‪:‬‬
‫‪-‬لكنها مجيلة‪ ..‬مجيلة جداً‪ ..‬لكم تبدو يف حجاهبا هذا فاتنة مثرية!‬
‫لكزته رشا يف كتفه متظاهرة بالغرية‪ ،‬بينما قالت له مىن يف نربات هازئة تنطق‬
‫بالتحدي‪:‬‬
‫‪-‬أرى أن عدوى ((الرجعية)) واجلمود قد انتقلت إليك‪ ،‬أتعجبك فتاة‬
‫متزمتة قادمة من العصور الوسطى!!‬
‫علق أحدهم وهو ممن حيب االصطياد يف املاء العكر‪:‬‬
‫‪-‬هذه ليست ((رجعية)) يا ((مىن))‪ ..‬إن صفوان من أتباع املدرسة‬
‫الكالسيكية‪ ..‬إنه مغرم (( باألنتيكا‪))..‬‬
‫أطلق أفراد الشلة ضحكات جملجلة مدوية وشت بالشماتة والسخرية بينما‬
‫أردف آخر‪:‬‬
‫‪-‬والعطر الذي يستعمله أال يوحي لك ((بالتقدمية))‪ ..‬إنه يستحضره‬
‫خصيصاً من ((باريس‪)).‬‬
‫تعالت الضحكات من جديد طافحة بالشماتة والتشفي‪ ،‬فشعر صفوان‬
‫أحس بأنه أصبح مثار سخرية من اجلميع‪ ،‬وثار غروره‬ ‫بكربيائه الفارغة هتان و َّ‬
‫املتحفز دائما للظهور‪ ،‬فخاطب ((مىن)) قائال يف هلجة غاضبة وقحة‪:‬‬
‫‪-‬إذا كانت سامية قادمة من العصور الوسطى‪ ،‬فأنت قادمة من عصور ما‬
‫قبل التاريخ‪ ،‬حيث كانت املرأة مشاعا لكل رجل‪...‬‬
‫صفعت كلمات صفوان البذيئة الفاضحة مىن وصدمتها‪ ،‬وشعرت بالنظرات‬
‫اخلبيثة حتاصرها وتعريها‪ ،‬وأحست بالضحكات املاجنة اخلليعة متزق كرامتها‬
‫وهتني كربياءها‪ ،‬وزادت من غضبها تلك االبتسامة اهلازئة احلاقدة الشامتة‬
‫اليت ارتسمت على شفتيه‪ ،‬فحملقت يف وجهه ثائرة جمنونة‪ ..‬أرادت أن ترد‬
‫عليه‪ ،‬لكن لساهنا خاهنا‪ ،‬فطفرت دموع القهر من عينيها وانفلتت هاربة ال‬
‫تلوي على شئ‪ ،‬لكأن هذه املناسبة الكبرية ال تعنيها‪ ...‬لكأهنا مل تدرس‬
‫الطب‪ ..‬لكأهنا مل تقضي يف هذه الكلية ست سنوات من الدأب والتعب‪،‬‬
‫فقد عصفت الفضيحة بكل آماهلا وأحالمها وأحالت حياهتا إىل جحيم ال‬
‫يطاق ومضت يف ذهول يشيعها صفوان بنظرة متشفية تشي باالنتصار‪.‬‬
‫***‬
‫قال سعد وقد رأى مىن مندفعة بني مجوع الطلبة والدموع الغزيرة تبلل‬
‫وجهها‪:‬‬
‫‪-‬انظروا إىل هذه‪ ..‬ما دهاها؟‪ ...‬أتبكي يف مثل هذا اليوم؟!‬
‫أجابه هباء‪:‬‬
‫‪-‬لعلها علمت بنتيجتها فعلمت أهنا راسبة‪!.‬‬
‫قال عصام وهو ينظر إليها يف دهشة‪:‬‬
‫‪-‬ال أعتقد هذا‪ ..‬من أين هلا أن تعرف؟‪!.‬‬
‫أجابه عرفان يف سخرية ذات معىن‪:‬‬
‫مثل هذه الفتاة متلك الكثري من النفوذ‪ ،‬ال بد أهنا توصلت إىل النتيجة من‬
‫أحد معارفها يف الديوان‪.‬‬
‫هتف سعد يف إنكار غاضب‪:‬‬
‫‪-‬عرفان‪ ..‬ال تطلق خليالك العنان‪ ..‬لسمعة الناس حرمة ال جيوز‬
‫انتهاكها‪ ..‬تبني األمر مث أطلق األحكام‪.‬‬
‫قال عرفان معتذراً‪:‬‬
‫‪-‬أستغفر اهلل‪ ،‬لقد سبقين لساين‪!.‬‬
‫قال جمدي وهو يرقب عقارب ساعته يف ضجر‪:‬‬
‫‪-‬اتركونا من سريهتا اآلن‪ ..‬دعونا يف األهم‪ ..‬لقد تأخرت النتائج كثريا‪.‬‬
‫وأردف عثمان‪:‬‬
‫‪-‬لقد سئمت االنتظار‪...‬‬
‫قال سعد‪:‬‬
‫‪-‬يبدو أن أعصابنا قد تعبت فعالً‪ ..‬سأحضر بعض املرطبات‪...‬‬
‫وما كاد سعد أن ميضي حىت اخرتق فضاء الكلية صوت املذيع وهو يدعو‬
‫طالب الصف السادس عرب مكرب الصوت إىل االجتماع يف مدرج ((ابن‬
‫سينا)) حيث سيتم إعالن النتائج‪ ،‬فانطلقوا إليه كالنسيم‪ ،‬واهنمروا عليه‬
‫كاملطر وراحوا يتدافعون على أبوابه‪ ،‬ويتسابقون إىل مقاعده‪ ،‬وسادت املدرج‬
‫جلبة وضوضاء‪ ،‬وأفقدت اللحضات الفاصلة الطلبة هدوءهم واتزاهنم‪،‬‬
‫وانبعثت يف أعماقهم طفولتهم القدمية‪ ،‬فراحوا يهتفون ويصفقون ويصفرون‪،‬‬
‫وما إن دخل العميد بصحبة اللجنة االمتحانية حىت ضج املدرج بعاصفة من‬
‫التصفيق احلار‪ ،‬وانربت جمموعة من الطالب الذين عرفوا بالشغب تردد‬
‫بإيقاع طفويل مألوف ((صباح اخلري يا أستاذ)) فابتسم العميد هلذه اهلفوة‬
‫املغفورة ابتسامته الرزينة املألوفة‪ ،‬بينما تقدم الدكتور ماهر رئيس اللجة‬
‫االمتحانية من املنصة وهو يضحك وتناول ((املايكرفون)) وقال وهو يدنيه‬
‫من فمه‪:‬‬
‫‪-‬أعزائي الطلبة‪ ..‬بل زمالئي األطباء – كما يتوجب علينا أن نناديكم منذ‬
‫اآلن ‪ ، -‬إننا نعذركم على تصرفاتكم هذه‪ ،‬ألنكم اآلن على عتبة منعطف‬
‫جديد يف حياتكم‪ ،‬فاليوم تطوون مرحلة الدراسة اجلامعية األوىل لتنالوا أوىل‬
‫الشهادات العلمية العليا أال وهي شهادة ((البكالوريوس)) يف الطب‬
‫واجلراحة اليت ستؤهلكم ملمارسة مهنتكم اإلنسانية املقدسة خلدمة اإلنسان‬
‫ومحايته من األمراض واآلالم‪...‬‬
‫زمالئي وأخويت وأخوايت‪ ..‬بعد ست سنوات من الدراسة والتعب والعمل‬
‫املضين الدؤوب‪ :‬قضيناها معا كأسرة واحدة يطيب يل – بصفيت رئيسا‬
‫للجنة االمتحانية هلذا العام – أن أعلن لكم نتائج الدورة الثالثة واألربعني‬
‫لكلية الطب مرتبة حسب تسلسل الدرجات ابتداء من صاحب الرتتيب‬
‫األول مع متنيايت لكم مجيعا بالنجاح والتوفيق‪.‬‬
‫وران على املدرج صمت عميق وخفقت القلوب حىت كادت أن تبلغ‬
‫احلناجر‪ ،‬وتوترت األعصاب من رهبة االنتظار‪ ،‬وسطع الرتقب من العيون‬
‫اليت تعلقت نظراهتا املتلهفة بشفيت الدكتور ((ماهر)) تستحثه بالكالم‪،‬‬
‫فسرعان ما بدأ مستجيبا لنداءها املتوسل الصامت‪:‬‬
‫‪-‬املتخرج األول ‪ :‬الدكتور (( عصام السعيد )) ‪ ،‬وقد حقق معدال فريدا‬
‫قدره (( مخس وتسعون درجة وسبعة أعشار باملائة )) وهو أعلى معدل مت‬
‫تسجيله يف تاريخ الكلية حىت اآلن‪ ،‬ويسر عمادة الكلية أن متنحه ((درجة‬
‫الشرف)) على هذا التفوق الكبري‪.‬‬
‫وضج املدير بالتصفيق احلار‪ ،‬واجتهت نظرات التقدير واإلعجاب ترمق أبرز‬
‫املتخرجني وأول املتفوقني وهو ميضي إىل املنصة الستالم نتيجته خبطوات‬
‫واثقة هادئة وقد انتشرت يف أغواره السعيدة فرحة عظيمة مل يتسع هلا‬
‫صدره‪ ،‬فتكاثفت وتكاثفت حىت قطرت من عينيه دموع صامتة معربة اهتز‬
‫هلا اجلميع‪ ،‬وتأثروا هبا‪ ،‬ووقف له العميد يف إكبار واحرتام‪ ،‬وقال له وهو‬
‫يصافحه يف ود وحرارة‪:‬‬
‫‪-‬مربوك يا بين‪ ..‬إنه ملما يشرفين أن تكون أحد طاليب وأن تصبح أحد‬
‫زمالئي‪ ،‬ومما يزيدين شرفا أن أقدم لك كل دعم ممكن لتتابع مسرية جناحك‬
‫ونبوغك حىت حتقق كل ما تصبو إليه من آمال‪.‬‬
‫وأراد عصام أن يشكر العميد لكن املوقف املؤثر أثقل لسانه فغرقت كلماته‬
‫يف خضم االنفعال‪ ،‬فشكره بإمياءة صامتة وعاد إىل مكانه يف هدوء‬
‫وتواضع‪ ،‬ووقع عيناه على سامية وقد ارتوت مالحمها الفخورة بدموع الفرح‬
‫فحيته بابتسامة ودودة وادعة سرت معانيها إىل أعماق قلبه‪ ،‬فطرت هلا‬
‫وانتشى‪ ،‬وتلقفه عرفان‪ ،‬وكان جيلس على مقعد جانيب من املدرج فطبع على‬
‫جبينه قبلة خاطفة‪ ،‬وعانقه يف حب وحرارة غري عابئ بوجود العميد‬
‫واألساتذة فضج املدرج بعاصفة مدوية من الضحك مشلت العميد نفسه إذ‬
‫صرحت مالحمه اجلادة الوقورة ضحكة شديدة اهتز هلا جسده‪ ،‬مما شجع‬
‫الطلبة على التمادي يف ضحكاهتم فانقلب املدرج إىل مهرجان صاخب‬
‫أدخل السرور واملتعة إىل النفوس القلقة وخفف من اضطراهبا‪ ،‬أما سعد فقد‬
‫رنا إىل صديقه العظيم بنظرة بامسة معربة أغنته عن أبلغ ما ميكن أن يقال يف‬
‫هذه املناسبة الكبرية‪.‬‬
‫وتتالت األمساء‪...‬‬
‫كان سعد هو الثاين على الكلية‪ ،‬وكانت سامية السابعة‪ ،‬وتبوأ بقية‬
‫األصدقاء أمكنتهم بني العشرين األوائل وعندما علي اسم صفوان يف ذيل‬
‫القائمة املتخرجني أيقن اجلميع أنه مل يكن ليتخرج لوال أنه اتبع كل وسائل‬
‫الغش واخلداع يف االمتحان حىت انتزع هذا النجاح الذي ال يستحقه أما‬
‫عندما تلي اسم مىن فقد فوجئ اجلميع بعدم وجودها يف املدرج وهي اليت‬
‫كانت منذ قليل تنتظر معهم إعالن النتائج‪!!.‬‬
‫وتبادل األصدقاء نظرة متسائلة مستفسرة‪ ..‬فمىن مل ترسب كما توقع‬
‫أحدهم‪ ،‬فما هو سر بكائها الغامض وغياهبا املفاجئ الغريب؟‪!!...‬‬
‫***‬
‫الفصل السابع عشر‬
‫((أيها الليل‪ ..‬أما لك من آخر؟ ‪..‬وأنت أيتها النجوم؟‪ ..‬ما لك ثابتة يف‬
‫كبد السماء ال ترميني؟‪ ..‬أال متضني يف دروبك الرتيبة فتحملني معك هذا‬
‫الليل اجلامث الطويل؟‪ ..‬وأنت أيها النوم؟‪ ...‬ما بالك قد خاصمت‬
‫إالم ترتكين هنباً للهواجس‪ ،‬وفريسة للهم واألرق؟‪ ..‬أين أنت‬
‫أجفاين؟‪َ ..‬‬
‫حىت أنسى يف أحضانك خيبيت ويأسي؟‪ ..‬أال تأيت فتنقذين من آالم الوعي‬
‫ومرارة احلقيقة؟‪ ..‬وأنت أيها القمر؟‪ ..‬آه لو ينطق القمر!‪ ..‬لكان شاهدا‬
‫على الضحية واجلالد‪ ..‬على الظامل واملظلوم‪ ..‬على اجلرمية واجملرم‪ ..‬اخلائن‪..‬‬
‫ظننته فىت أحالمي‪ ..‬بذلت له احلب واإلخالص‪ ..‬منحته الثقة العمياء‬
‫فاستسلمت ألهوائه ورغباته‪ ..‬آه‪ ..‬لكم أمشئز من تلك األيام املاجنة‬
‫اللعينة‪ ..‬باسم احلب جردين من إراديت‪ ..‬باسم احلب ميع يل األخالق‬
‫الفاضلة وقيم العفة والشرف‪ ..‬باسم احلب استدرجين إىل حياته التافهة‬
‫احلقرية‪ ..‬احلب!‪ ..‬هذه العاطفة النبيلة باتت مشجباً نعلق عليه احنرافاتنا‬
‫وأهوائنا‪ ..‬أضحت قناعاً براقاً خنفي حتته بواعثنا الشريرة ودوافعنا املريضة ‪..‬‬
‫احلب!‪ ..‬عنوان خديعة كربى عشتها سنوات طويلة وأنا أجري وراء فارس‬
‫مزيف سرعان ما تعثر جواده الرديء على دروب التجربة املريرة‪ ..‬باسم‬
‫احلب أرقت أحلى أيام عمري ألروي هبا زهرة سامة كنت أول ضحاياها‪..‬‬
‫وصدقته‪ ،‬فخلعت على أعتاب حبه كل األخالق اليت تربيت عليها‪..‬‬
‫حتايلت على أمي الطيبة‪ ،‬وهزئت بنصائحها وتوجيهاهتا‪ ،‬واهتمت أفكارها‬
‫بالتخلف والرجعية واجلمود‪ ..‬خدعت والدي املسكني الذي حيرتق كشمعة‬
‫لينري لنا بتضحياته درب احلياة الكرمية املستورة‪ ،‬وهو ميضي وراء عربته‬
‫اخلشبية العتيقة‪ ،‬يدفعها عرب األزقة واحلارات‪ ..‬يبيع عليها اخلضار والفواكه‪..‬‬
‫خيرج منذ الفجر‪ ،‬ويعود عند املساء بعد كدح وجهاد طويل‪ ،‬فيتناول عشاءه‬
‫وينام ليتزود بقسط من الراحة يعينه على متابعة رحلة احلياة الالحبة الطويلة‪،‬‬
‫وينام ملء جفنيه وهو مطمئن إىل زوجته وأوالده‪ ..‬واثق بأننا سنقدر كفاحه‬
‫وتضحياته فننتظم يف حياتنا وسلوكنا وفق ما حيبه ويرضاه‪ ..‬كان أشد ثقة‬
‫واطمئنانا إىل سلوكي فخذلته دون أن يدري وخنت األمانة‪ .‬ماذا لو عرف‬
‫احلقيقة؟‪ ..‬حتماً سينهار‪ ..‬أي جرمية ارتكبتها حبقه وهو الذي حيبين أكثر‬
‫من كل أخويت؟‪ ..‬دائما يقدم يل كل ما أطلب‪ ..‬دائما يهتم يب ويشجعين‬
‫لرياين طبيبة يتباهى هبا أمام الناس‪ ،‬فيقولوا ها هو ((أبو الدكتورة))‪ ..‬ها قد‬
‫أتى ((أبو الدكتورة))‪ ..‬اشرتوا خضاركم من ((أيب الدكتورة))‪ ..‬الدكتورة؟‪..‬‬
‫أي لعنة حلت هبذا القلب؟‪ ..‬خ ّدر أمي فرضخت لسلوكي اجلديد‪ ..‬خ ّدر‬
‫أيب فأطلق العنان لتصرفايت ومنحين احلرية دون حتفظ‪ ..‬خ ّدر أخي الذي‬
‫يشعر أمامي دائماً بالنق وهو الذي أخفق يف حتقيق طموحه بدخول كلية‬
‫الطب‪ ..‬خ ّدرهم مجيعا فلم يرتابوا للحظة بسلوكي يف اجلامعة‪ ..‬أولست‬
‫((الدكتورة))؟!‪ ..‬أولست أعلى منهم علماً وثقافة ومكانة يف اجملتمع؟‪..‬‬
‫إذن فكل ما أفعله صواب‪ .‬هذا اللقب املقيت كم بت أكرهه!‪ ..‬لقد أورثين‬
‫التعاسة والشقاء‪ ..‬ليتين مل أدخل كلية الطب‪ ..‬على األقل ملا كنت تعرفت‬
‫بصفوان‪ ..‬يا للسخرية!!‪ ..‬صرت ألعن الظروف اليت مجعتين به‪ ..‬يا هلا من‬
‫هناية تعيسة لقصة حب مزيفة‪ ..‬حب؟!‪ ..‬أي حب هذا؟!‪ ..‬إنه ضياع‪..‬‬
‫عاطفة متوثبة عطشى تبحث عمن يرويها‪ ،‬فصادفت صفوان ليرتعها‬
‫بسمومه‪ ،‬فماتت بعد ختبط طويل‪ ،‬اإلنسانة الوحيدة اليت وقفت يف وجه‬
‫هتافيت اجملنون على صفوان هي سامية‪ ..‬هي الوحيدة اليت قرعت يف أعماقي‬
‫أجراس اإلنذار‪ ..‬هزتين بعنف‪ ..‬صدمتين باحلقائق‪ ،‬لكين كنت مندفعة بال‬
‫سر مأسايت‬ ‫وعي فهزئت بنصائحها وحتذيراهتا ووثقت بصفوان‪ ..‬صفون!‪ّ ..‬‬
‫املدمرة وتعاسيت وشقائي‪ ..‬ضحك علي‪ ..‬أومهين حببه‪ ..‬خ ّدرين بكلماته‬
‫املعسولة‪...‬‬
‫((لكم أنت مجيلة يا مىن‪ ..‬درت باريس من أقصاها إىل أقصاها فلم َأر فتاة‬
‫بفتنتك ومجالك!‪ ..‬شاهدت حسناوات لندن فلم يفعلن يف ليب ما فعلته‬
‫أنت‪ ..‬ذرعت إيطاليا من الشمال إىل اجلنوب فلم تشدين فيها أنثى كما‬
‫شددتين أنت‪ ..‬درت وسافرت ورأيت مث عدت إليك لتلقي روحي مراسيها‬
‫على شاطئ حبك الكبري‪)).‬‬
‫اخلبيث!‪ ..‬تصورت نفسي ملكة مجال العامل‪ .‬مشخت بأنفي إىل السماء‪..‬‬
‫أغلقت مسعي أمام كل األصوات إال صوته‪ ..‬كانت كلماته تدغدغ أعصايب‬
‫وترضي عواطفي‪ ..‬كانت تلني إراديت لتسلس له القياد‪ ..‬وانقدت إليه‪..‬‬
‫مفتونة بشبابه‪ ..‬مبهورة بثرائه‪ ..‬مسحورة بلسانه‪.‬‬
‫‪((-‬سوف نتزوج‪ ..‬سأبين لك ((فيال)) فخمة‪ ..‬بل قصر‪ ..‬قصر كبري يليق‬
‫بك وجبمالك‪..‬‬
‫‪-‬قلبك الكبري أعظم قصر أهفو إليه‪ ..‬ما دمت أسكن قلبك فأنا أسعد‬
‫فتاة يف الوجود‪.‬‬
‫‪-‬وسنسافر إىل أوربا لنقضي شهر العسل‪..‬‬
‫‪-‬كم أمتىن أن أرى باريس‪ ..‬لطاملا مسعت عن باريس‪!.‬‬
‫‪-‬سأريك باريس ولندن وروما وبرلني و‪...‬‬
‫‪-‬رويدك‪ ..‬رويدك‪ ..‬كل ذلك يف شهر؟‪!..‬‬
‫‪-‬يف شهر‪ ..‬يف سنة‪ ..‬املهم أننا معاً‪ ..‬يف أفياء حبنا السعيد‪.‬‬
‫‪-‬ملاذا ال نتزوج اآلن؟‬
‫‪-‬نتزوج اآلن؟!‪ ..‬ليس اآلن‪ ..‬ووالدي لن يوافق على زواجي قبل أن أخترج‪،‬‬
‫وملاذا نستعجل بالزواج؟ ها حنن معاً‪...‬‬
‫‪-‬معاً؟!‪ ..‬أترضى من حبنا هبذا الفتات؟!‪ ..‬لقاءات خاطفة‪ ،‬وجلسات‬
‫قصرية!!‪ ..‬هل يرضيك هذا؟‪!!.‬‬
‫‪-‬ال‪ ..‬ال طبعاً‪ ..‬مل أقصد‪ ..‬امسعي‪ ..‬ملاذا ال تأتني تذاكرين عندي‪..‬‬
‫عندي شقة فخمة‪ ..‬تقوم يف شارع هادئ‪ ،‬فيها كل أسباب الراحة‬
‫واهلدوء‪)).‬‬
‫فاجأين بعرضه‪ ..‬جتربيت معه تتطور بسرعة‪ ،‬فمن نظرات اإلعجاب اجلريئة‪،‬‬
‫إىل ابتسامات الود والرضى‪ ،‬إىل كلمات اجملاملة والغزل املستور اليت متخضت‬
‫عن صداقة عميقة‪ ،‬سرعان ما حتولت إىل حب جارف سيطرت مشاعره‬
‫وأحاسيسه على أحاديثنا ولقاءاتنا وسهراتنا املمتعة اجلميلة‪ ،‬واآلن تطور‬
‫جديد!‪ ..‬إنه يدعوين للقاء يف شقة خاصة دون رقيب!‪ ..‬ليتين أصغيت‬
‫يومها ملخاويف وهواجسي‪ ،‬لكنه شعر برتددي فلم يرتك يل فرصة للتفكري‬
‫وأخذ حياصرين بأسلوبه املاكر اخلبيث‪:‬‬
‫(( ‪((-‬مىن))‪ ..‬يعين مل جتييب على سؤايل‪ ..‬أنت ال تثقني يب إذن‪ ..‬الثقة‬
‫أول دعائم احلب الصادق‪ ..‬لقد رسبت يف االمتحان يا ((مىن)) وها هو‬
‫حبنا يولد ميتاً فلنواريه النسيان‪ ..‬لكن ال‪ ..‬قد تنسينه أنت أما أنا فلن‬
‫أنساه ألن قصته حمفورة يف قليب‪ ،‬ضاربة يف أعماقي وسوف أعيش على‬
‫ذكرياته احلبيبة أبكي هنايته األليمة))‪ .‬املاكر!‪ ..‬أشعرين بالذنب‪ ..‬أصبحت‬
‫أسعى إىل رضاه‪ ..‬طفرت الدموع من عيين‪ ..‬هتفت يف توسل‪:‬‬
‫‪((-‬صفوان‪ ..‬أرجوك‪ ..‬ما هذا الكالم؟‪ ..‬لست باليت تنسى‪ ..‬أنت ال‬
‫تدرك عمق حيب وإخالصي‪ ..‬أنا أنسى؟!‪ ..‬كيف سولت لك نفسك أنت‬
‫تفكر يف هذا؟‪!..)).‬‬
‫‪-‬ما معىن خوفك من زياريت إذن؟‬
‫‪-‬صفوان‪ ..‬أنا لست خائفة منك‪ ..‬أنا خائفة من اجملتمع‪ ..‬من التقاليد‪..‬‬
‫من كالم الناس‪..‬‬
‫‪-‬أنت ال تثقني بنفسك إذن‪ ..‬تضحني حببنا وسعادتنا من أجل الناس‬
‫والتقاليد‪ ..‬التقاليد يا عزيزيت والقيم واألخالق كذبة كربى اخرتعها الناس‬
‫وصدقوها‪ ..‬صنعوا منها سجناً شاهق األسوار وحبسوا فيه أرواحهم‪ ..‬أنت‬
‫مل تري أوروبا يا حبيبيت‪ ..‬الناس هناك بال عقد‪ ..‬بال تعصب‪ ..‬بال قيود‪..‬‬
‫حرية وانطالق وسعادة ما بعدها سعادة‪ ..‬جيب أن نعيش حياتنا يا مىن‪..‬‬
‫قطار العمر ميضي‪ ،‬فلنمأل أيامه بالبهجة واملتعة والفرح‪ ..‬ليس هناك وقت‬
‫نضيعه‪ ..‬ال بد من اجلرأة يف اقتحام احلياة وانتزاع سعادتنا من براثن األخالق‬
‫والتقاليد‪ ،‬فلنتمرد على احلواجز والقيود‪ ..‬مىن‪ ..‬عل تأتني لتذاكري عندي؟‬
‫‪-‬سآيت‪ ،‬ولكن‪...‬‬
‫(( ‪-‬مىن))‪ ..‬ال جترحيين‪ ..‬ولكن ماذا؟‪..‬‬
‫‪-‬ال أستطيع أن أتأخر‪.‬‬
‫‪-‬لن أؤخرك‪ ..‬تعايل واذهيب مىت شئت‪ ،‬اعتربي الشقة مبثابة بيتك‪.‬‬
‫‪-‬بييت؟‪ ..‬مىت سيضمنا بيت واحد‪ ..‬تتفجر يف رحابه ينابيع حبنا العظيم‬
‫لتمأل أيامنا القادمة بالسعادة واهلناء‪ ..‬بيت هادئ مجيل ال يعكر صفوه إال‬
‫صخب أطفالنا الذين ميألون أرجاءه أنساً وهبجة‪ ،‬ويبعثون فيه حياة مجيلة‬
‫رائعة بصياحهم العذب‪ ،‬وضجيجهم احملبب وعبثهم الربئ‪ .‬لكم أعشق‬
‫األطفال يا صفوان!!؟‬
‫‪-‬األطفال؟!‪ ..‬األطفال مهوم ومتاعب ومسؤوليات ووجع قلب‪))..‬‬
‫يا للسذاجة‪ ..‬كيف مل أفطن يومها إىل حقيقة مشاعره وأفكاره؟‪ ..‬إن‬
‫تعليقه هذا يعكس تفكريه الشاذ الغريب ونفسيته األنانية الالمبالية اليت ال‬
‫هم هلا إال حتقيق الرغبات واألهواء‪ ،‬والتهافت على امللذات‪ ..‬هل يوجد‬ ‫ّ‬
‫سر موقفه من‬‫خملوق عاقل ال حيب األطفال؟!‪ ..‬وعندما سألته عن ّ‬
‫األطفال استطاع –كعادته‪ -‬أن خيرج من دائرة الشك بالكذب واملراوغة‬
‫حتت ستار الثقة العمياء اليت منحته إياها‪..‬‬
‫‪((-‬عجباً!‪ ..‬أال حتب األطفال؟‪!..‬‬
‫‪-‬أنا؟!‪ ..‬آه‪ ..‬نعم‪ ..‬أحب األطفال‪ ..‬أحبهم جداً‪ ..‬لكنك يا عزيزيت‬
‫دائما تستعجلني األحداث‪ ..‬أخربتك أن والدي لن يوافق على زواجنا قبل‬
‫التخرج‪ ..‬ستأتني لعندي غداً أليس كذلك؟‪..‬‬
‫‪-‬سآيت‪...‬‬
‫‪-‬سأنتظرك بعد انتهاء الدوام‪ ..‬سأنتظرك على أحر من اجلمر‪)).‬‬
‫ما أخطر العواطف إذا اندفعت دون كابح من عقل أو إرادة‪ ..‬ما أخطر أن‬
‫تتحول إىل طوفان مد همر خيلف‬ ‫يتحطم سد التعقل الذي ينظهم تدفقها‪ ..‬إهنا َّ‬
‫تتحول إىل جحيم يكوي بلظاه القلوب‬ ‫وراءه املآسي والكوارث واألحزان‪َّ ..‬‬
‫واألفئدة‪ ..‬وأنا‪ ..‬فتاة بسيطة أفتقر إىل الوعي والتجربة‪ ..‬فتاة طيبة تعودت‬
‫دائماً أن أنظر إىل احلياة من جانبها املشرق املضيء‪ ..‬فتاة حاملة طموحة‬
‫أحبث عن سعاديت تكافئ احلرمان الذي عشته طيلة حيايت‪ ..‬لكين كنت‬
‫غبية‪ ..‬كنت مغرورة بعقلي وذكائي‪ ،‬والذكاء مل يعد يكفي ملواجهة احلياة‪،‬‬
‫تعج بالثعالب والذئاب‪ ،‬وأنا فتاة غضة ال أعرف كيف تنسل‬ ‫فاحلياة اليوم ُّ‬
‫األفاعي أو تتلون احلرباء‪ ..‬كل الناس عندي صادقون‪ ..‬كل الرجال عندي‬
‫طيبون‪ ..‬متاماً كوالدي احلبيب‪ ،‬لذلك صدقته‪ ،‬وأغلقت مسامعي أمام‬
‫أسر هلا بأدق أسراري‬
‫حتذيرات سامية وهي الصديقة املخلصة اليت كنت ُّ‬
‫وأحرتم رأيها ومشاعرها‪..‬‬
‫لقد وقفت عواطفي اجلارفة حاجزاً مسيكاً بيين وبينها فلم أعد أمسع إالّ‬
‫صوت صفوان‪ ،‬وتصورته يتهمين بضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس‪،‬‬
‫فخشيت أن يفسد ترددي وخويف احلب القائم بيننا فذهبت إليه وكان ما‬
‫كان‪...‬‬
‫أي ضعف اعرتاين أمامه‪ ..‬أي جنون اجتاحين‪ ..‬أي غباء ركبين حىت منحته‬
‫مفتاح احلصن الذي أودعت فيه مسعين وشريف وعفايف‪.‬‬
‫وابتدأت رحلة الشيطان‪..‬‬
‫وأوغلت يف األيام والشهور‪..‬‬
‫وأنا مستسلمة لتأثريه الطاغي‪ ،‬غافلة عن احلقيقة األليمة‪ ،‬وكلما سألته عن‬
‫مصري هذه العالقة اآلمثة وعدين بالزواج‪ ،‬دون أن ينسى حتذيري من احلمل‪،‬‬
‫طب أدرك ما علي فعله‪ ..‬كانت كلمات سامية‬ ‫ومن حسن حظي أين طالبة ّ‬
‫ترتدد يف خاطري فال ألقي هلا باالً‪ ،‬ولكنها ما لبثت أن وجدت يف نفسي‬
‫بعد األصداء عندما بدأ الطالء الكاذب يذوب والقناع اخلادع يسقط‬
‫وبدأت احلقائق تتكشَّف‪ ..‬اكتشفت أنين لست األوىل يف حياته‪ ،‬وأنين‬
‫لست األخرية‪ ..‬هناك أخرى وثالثة ورابعة وأخريات‪ ..‬جمون‪ ..‬وعبث ومخر‬
‫وخمدرات‪ ..‬أالعيب وخدع ومؤامرات‪ ...‬اكتشفت أين بني أنياب وحش ال‬
‫قلب له أو ذمة أو ضمري‪...‬‬
‫وصربت عليه‪ ،‬فمفتاح احلصن بني يديه‪ ..‬التمست كل الطرق اليت تؤدي‬
‫يتقرب مين كان‬ ‫إىل رضاه حىت ال يعصف بسمعيت ومستقبلي‪ ،‬وكلما رأيته َّ‬
‫األمل ينبثق يف أعماقي وأقول‪ :‬ها قد عاد إىل واحة حبه‪ ..‬ها قد اقتنع بأين‬
‫فتاته املميزة بإخالصها ومجاهلا وحناهنا وذكائها‪ ،‬بيد أن احلقائق البشعة ال‬
‫تلبث أن تثقل أجنحة األمل فيهوي إىل قرار سحيق من اليأس ويصدم بقاع‬
‫صلد من الوقائع والتفاصيل املرة‪ ،‬فيتحطَّم فؤادي ويشتد أملي ويزداد عذايب‪.‬‬
‫وتتقلَّب ((مين)) يف فراشها‪ ،‬وترسل نظراهتا اليائسة احلزينة عرب النافذة‪،‬‬
‫فتجد الليل ما زال حالكاً مقيماً والنجوم ما زالت مل تغادر والقمر ما زال‬
‫ساطعاً منرياً وكأنه يرقبها يف مشاتة‪ ،‬فتنتفض يف ضيق وتدفن وجهها بني ثنايا‬
‫وسادهتا فتغرقها بالدموع‪..‬‬
‫((اشهدي أيتها الوسادة على تعاسيت وشقائي بعد أن كنت مسرحاً‬
‫ألعذب آمايل وأحالها‪ ..‬هل تذكرين؟‪ ...‬آه لو تذكرين‪ ...‬كنت آوي إليك‬
‫كل مساء وقليب الفرح النشوان خيفق باحلب والسعادة‪ ..‬كنت أسرتجع يف‬
‫أحضانك أحداث اليوم الذي أفل وأستمتع بذكرياته اللذيذة وأحلق يف مساء‬
‫األحالم‪ .‬وها أنا اليوم آوي إليك ألفضي بآالمي وأمضغ هزمييت وأجرت‬
‫أحزاين‪ ..‬أي إنسان هذا‪ ..‬هزأ كربيائي ومرغ مسعيت يف الرتاب‪ ..‬آخر شئ‬
‫كنت أتوقعه منه أن يشهر يب على املأل وجيعلين عرضة لنظرات الشك والريبة‬
‫وهدفا لأللسنة تلوك مسعيت وتفضح غلطيت وتتداول قصيت يف كل مكان‪..‬‬
‫وملاذا؟‪ ..‬جملرد انفعال طارئ‪ ..‬جملرد أين عاندته يف رأيه بسامية‪ ..‬لقد شعر‬
‫بأين أمترد على سيطرته وآرائه‪ ،‬أدرك بأين مل أعد ملكه فانتم لغروره بتلك‬
‫الكلمة البذيئة احلقرية‪ ..‬آه من لؤمك وغدرك يا صفوان‪ ..‬يف آخر يوم من‬
‫حياة اجلامعة ترفع القناع يف وقاحة وتكشف عن أنياب الغدر واخليانة‪..‬‬
‫وملاذا ال‪ ..‬لقد انتهى دوري‪ ..‬أخذ مين ما أراد ورماين‪ ..‬سلّى نفسه بفتاة‬
‫ساذجة‪ ،‬مجيلة‪ ،‬وبعد أن رشف رحيقها ركلها وكأهنا شئ تافه ال حس له أو‬
‫كرامة أو شعور‪..‬‬
‫لكأن آثام العامل وشروره قد أودعت قلب هذا اإلنسان‪ ..‬إنسان؟‪ ..‬ومن‬
‫أين له اإلنسانية‪ ..‬ليسه له منها إالًّ اجلسد اآلمث والغرائز احملمومة‪ ..‬ليس له‬
‫من اإلنسانية إالَّ نقاط االلتقاء مع احليوان‪ ..‬آه ما أقساه‪ ..‬ليتين مل أذهب‬
‫إليه‪ ..‬ليتين مل أسرتمحه‪ ..‬ماذا كنت أنتظر منه؟‪ ..‬ولكن ماذا عساي أن‬
‫أفعل؟‪ ..‬فأنا غريقة أحبث عن قشة اخلالص‪ ..‬ظننت أن احلب والصداقة قد‬
‫يشفعان يل عنده فينقذين من حمنيت الفظيعة‪...‬‬
‫(( ‪-‬أهالً ((مىن‪)).‬‬
‫‪-‬مربوك‪.‬‬
‫التخرج‪ ..‬إهنا فرحة‬
‫‪-‬على ماذا؟‪ ..‬آه‪(( ..‬مرسي))‪ ..‬مربوك لك أيضاً على ُّ‬
‫حقاً‪.‬‬
‫تتذوق األفراح وال حتس هلا طعماً‪.‬‬‫‪-‬النفوس التعيسة املقهورة ال َّ‬
‫عم تتحدثني؟))‪..‬‬ ‫‪-‬مىن ‪ ..‬تبدين كئيبة هذا اليوم‪َّ ..‬‬
‫ألنقض عليه‬
‫َّ‬ ‫اللئيم‪ ..‬كأنه مل يفعل شيئاً!!‪ ..‬متنيت لو أن يف يدي خنجراً‬
‫وأمزقه إرباً‪ ..‬إرباً‪ ..‬لكين مل أستطع أن أعلن ثوريت‪ ،‬فمفتاح احلصن بني‬
‫أنياب الوحش وال بد من ترويضه ريثما أسرتدها‪..‬‬
‫عم أحتدث؟‪!..‬‬ ‫(( ‪-‬أال تعلم ًّ‬
‫‪-‬مىن‪ ..‬لعلك يف ضائقة مالية‪ ..‬اطليب ما تريدين‪ ..‬ال فرق بني‬
‫األصدقاء‪...)).‬‬
‫كدت أنفجر‪ ..‬إنه ميعن يف إهانيت وجتاهل مشاعري‪ ،‬ولكن‪ ..‬قشة‬
‫اخلالص‪ ..‬جيب أن أستخلصها من بني أنيابه‪..‬‬
‫(( ‪-‬صفوان‪ ..‬تعرف أين ال أقصد هذا‪ ..‬أنا عاتبة عليك‪..‬‬
‫‪-‬عاتبة؟!‪ ..‬آه‪ ،‬تذكرت‪ ..‬تقصدين سوء الفهم الذي حصل عندما كنا‬
‫بانتظار النتائج‪ ..‬أنا آسف‪ ..‬جمرد انفعال‪..‬‬
‫‪-‬أيقودك انفعال بسيط لتفضح عالقتنا وتشهر بسمعيت أمام اجلميع؟!!‬
‫‪-‬ال تنسي أنك البادئة‪ ..‬لقد سفهت رأيي أمام الشلة‪ ،‬وأنت تعرفني أكثر‬
‫من غريك أن هذا يثريين جداً!‬
‫‪-‬لدرجة أن تشهر يب على هذه الصورة‪!.‬‬
‫‪-‬ما كنت ألرحم من يتح ّداين‪ ..‬أنت تعرفني هذا‪ ،‬ومع ذلك عاندتين يف‬
‫رأيي فأثرت حفيظيت‪..‬‬
‫لننس املاضي‪ ..‬لنعد إىل أيامنا املمتعة اجلميلة‪ ..‬لنعد إىل‬
‫(( ‪-‬صفوان))‪ً ..‬‬
‫يبق أي مربر‬
‫خترجنا ومل َ‬
‫واحة حبنا القدمي‪ ..‬لنحقق ما اتفقنا عليه‪ ..‬ها قد َّ‬
‫لتؤخر زواجنا‪.‬‬
‫‪-‬زواجنا؟!‪ ..‬أنا ال أنوي الزواج‪..‬‬
‫‪-‬لكنك وعدتين‪!..‬‬
‫‪-‬كثرياً ما يرتاجع املرء عن وعوده وقراراته‪ ،‬وقد تراجعت‪..‬‬
‫‪-‬لكنك اغتصبتين!‪..‬‬
‫‪-‬وأنت راضية‪.‬‬
‫‪-‬ما كنت ألرضى لوال إخالصي لك وثقيت بوعودك‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تريدين اآلن؟))‪..‬‬
‫يد؟!‪ ..‬صفعين بسؤاله‪ ..‬أصبحت عبثاً عليه‪ ..‬أصبحت عقبة يف‬ ‫ماذا أر ّ‬
‫طريقه‪ ..‬أصبحت يف نظره ال شئ‪ ..‬ماذا أريد؟‪ ..‬احلقري‪!!..‬‬
‫‪-‬أردي منك أن تفي بوعودك فتتزوجين وتسرت مسعيت وتصون شريف‪..‬‬
‫‪-‬هذا حمال‪ ..‬امسعي يا حضرة الدكتورة‪ ..‬أنا مل أضربك على يدك‪ ..‬مل‬
‫إيل بقدميك واستسلمت يف بإرادتك‪ ،‬ولست‬ ‫أجرك إىل شقيت جراً‪ ..‬جئت َّ‬
‫مضطرا ألدفع مثن رغبتك وسذاجتك وغبائك‪.‬‬
‫تذكرت ((سامية))‪ ..‬دوت كلماهتا يف أعماقي بقوة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫يف تلك اللحضات‬
‫وبدا يل طيفها املضيء وسط فضاء مظلم‪..‬‬
‫أذهلين الصدمة‪ ..‬تقلَّصت مالحمي يف ذعر وجحضت عيناي يف غضب‬
‫تريد لو تنقض عليه فتحرقه بنظراهتا الثائرة‪..‬‬
‫هدرت يف وجهه‪(( :‬صفوان‪ ..‬أنت وغد‪ ..‬وغد‪ ..‬وغد‪..))..‬‬
‫آه‪ ..‬ما أقساها من حلضات‪ ..‬حلضات الصدمة والذهول‪ ..‬إين ألتذكرها‬
‫وكأين أعيشها اآلن‪ ..‬لقد انفلت هاربة ال ألوي على شئ‪ ..‬كانت دموع‬
‫القهر تنهمر من عيين الذاهلتني بغزارة‪ ..‬ويف صدري كان يغلي مرجل من‬
‫الغضب والثورة والغيظ املكتوم‪ ..‬وتالحقت أنفاسي متسارعة وبدأت أشعر‬
‫باالختناق‪ ..‬الدنيا مل تعد تسعين‪ ..‬الدنيا مل تعد يل‪ ..‬الدنيا ليست‬
‫للمقهورين واملعذبني‪ ..‬ملعونة هذه الدنيا‪ ..‬معلون هذا العامل‪ .‬ملعونة هذه‬
‫احلياة‪ ..‬ماذا بقي يل فيها؟‪ ..‬فألغادرها بسرعة‪ ،‬واملوت هو السبيل‪ ..‬إنه‬
‫أقوى طريقة للرفض‪ ..‬أعلى صرخة يف وجه هذا العامل التافه اجملنون‪ ..‬ولكن‬
‫ال‪ ..‬لن أغادر هذا العامل قبل أن أفضح اجلرمية واجملرم‪ ..‬جيب أن يكون‬
‫ملوديت دوي هائل يهز حياة الطاغية‪ ،‬ويعلن النذير يف صفوف الضائعني‬
‫أمثايل‪ ،‬وينري أمامهم درب الفضيلة والعفاف‪)).‬‬
‫وتتناول مىن ورقة وقلماً وختط رسالتها األخرية على أضواء القمر الوانية بيد‬
‫مرتعشة‪ ،‬وقلب يائس‪ ،‬وعينني ذارفتني قرحهما البكاء‪:‬‬
‫((إىل كل فتاة غرر هبا‪ ..‬إىل كل عذراء اغتصبت قهراً أو خداعاً‪ ..‬إىل كل‬
‫مظلوم يف هذا العامل القذر امللعون‪ ،‬أقد روحي البائسة رفضاً هلذا اجملتمع‬
‫الفاسد املريض‪ ،‬وقبل أن أغادره أريد أن أفضح وألعن سبب بؤسي‬
‫وشقائي‪ ..‬الدكتور ((صفوان الناعم))‪ ..‬هذا الثعبان املاكر الذي لدغين يف‬
‫أود أن أعتذر إىل‬‫أعز ما أملك‪ ،‬وحطَّم مسعيت ومستقبلي‪ ..‬وقبل الرحيل ُّ‬
‫أمي الطيبة ووالدين املسكني اللذين‪...)).‬‬
‫وتقف مىن عند هذه الكلمات‪...‬‬
‫لقد تذكرت أمها الطيبة ووالدها املسكني‪ ،‬فتذكرت كفاحهما الشاق الطويل‬
‫من أجلها‪ ،‬وتصورت حجم املأساة الفظيعة اليت سيعيشاهنا بسبب انتحارها‪،‬‬
‫وختيلت تلك القص والفضائح اليت سينسجها الناس حول هذا االنتحار‬
‫فهاهلا ما ستقدم عليه‪..‬‬
‫ونشب يف أعماقها صراع عنيف بني اليأس والرجاء‪ ،‬وتراوحت بني التماسك‬
‫واالهنيار‪ ،‬فرتددت طويالً ًِ مث بدأت تستسلم للعجز والضعف‪ ،‬فتناولت‬
‫زجاجة السم اليت أحضرهتا هلذا الغرض ووقفت على احل ّد الفاصل بني املوت‬
‫واحلياة تقدم خطوة وتؤخر أخرى‪ ..‬وازداد الصراع يف أغوارها حدة وعنفاً‪،‬‬
‫وأخذت مشاعرها املتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها‪ ،‬فتشنجت‬
‫أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت ترتنَّح على حافة الفناء‪ ...‬وتفاقم‬
‫الصراع يف أعماقها املدهلمة‪ ..‬فتقدمت من املرآة يف رهبة وتأملت ذلك‬
‫الشحوب الذي عكر مالحمها الكئيبة‪ ،‬وذلك الذعر الذي الح يف عينيها‬
‫احلمراوين فانتاهبا خوف وهلع وأخذت ترتعش‪..‬‬
‫وأصغت لليأس العاصف وهو يدفعها لالستسالم‪ ،‬فحملقت يف جنون‬
‫وقربت الزجاجة من فمها‪ ،‬فعال وجيب قلبا وتسارعت خفقاته وأخذ يتالطم‬
‫يف صدرها وكأنه سجني ضمن غرفة مغلقة راح يدق األبواب واجلدران باحثا‬
‫عن خمرج وقد أحاق به خطر داهم‪.‬‬
‫وهوت مىن إىل الدرك األسفل من اليأس‪ ،‬فباعدت بني أسناهنا املنطبقة بقوة‬
‫ورعب وحركت فكها املتشنَّج عنوة‪ ،‬وفتحت فمها إىل أقصى ما تستطيع‬
‫ومهَّت بإفراغ السم القاتل يف أحشائها‪ ،‬لكنها توقفت فجأة وهي تصغي‬
‫امتد هلا خيط من األمل‬‫لصوت العقل وهو يهيب هبا هادراً قوياً أن حتجم‪ ،‬و َّ‬
‫فانتشلها من وهدة اليأس فحاول اليأس أن يعيدها إىل أحضانه‪ ،‬لكنها‬
‫تشبثت خبيط األمل ورمت بالزجاجة من النافذة وقررت أن تبقى‪...‬‬
‫وبلغ اإلجهاد هبا منتهاه‪ ،‬فاهنارت على األرض مهدودة خائرة‪ ،‬وراحت‬
‫تبكي يف مرارة فاحلياة اليت آثرت أن تعود إليها أقسى ألف مرة من املوت‬
‫الذي كانت ستقدم عليه‪.‬‬
‫((جيب أن أبقى‪ ..‬جيب أن أعيش‪ ..‬من أجل والدي الطيب‪ ..‬من أجل‬
‫أمي املسكينة‪ ..‬من أجل إخويت‪ ..‬سأبقى هلم‪ ،‬فال داعي ألن أزيد تعاستهم‬
‫وشقاءهم‪ ..‬حرام‪ ..‬حر ٌام علي أن أقتل الفرحة الوليدة يف أعماقهم بعد أن‬
‫انتظروها كل هاتيك السنني‪ ..‬سأبقى يف أذهاهنم ((الدكتورة مىن)) اليت‬
‫يفخرون هبا‪ ..‬سأطوي صدري على اجلراح وسأمضغ مأسايت يف صمت‪..‬‬
‫مت منذ زمن‬ ‫فلدي ما أقوم به‪ ..‬وملاذا االنتحار؟‪ ..‬لقد َّ‬
‫ال داعي لالنتحار َّ‬
‫ومل يبق مين إالَّ هذا اجلسد‪ ..‬فألعتربه آله‪ ..‬آلة نافعة مفيدة تعود على‬
‫أسريت باملال الذي يوفر هلا احلياة الكرمية الرغيدة‪ ..‬سأعزف عن الزواج‪..‬‬
‫سألغي يف أعماقي غرائز األنثى‪ ،‬وأشواق األنثى وسأعمل ليل هنار ألقدم‬
‫أليب وأمي أسباب الراحة والسعادة وأوفر إلخويت حياة أفضل حتميهم من‬
‫ي حرماهنم كما وعدتين‬ ‫االندفاع وراء األحالم الكاذبة اليت تعدهم بر ه‬
‫فخذلتين‪))...‬‬
‫وسرى أذان الفجر فوق أمواج الظالم‪ ،‬فاخرتق هدأة الليل ومزق وحشته‪،‬‬
‫وانسابت معانية اخلالدة إىل مسع مىن فأنصتت إليه يف خشوع وكأهنا تسمعه‬
‫ألول مرة‪ ..‬وذكرت اهلل فذرفت بني يديه الدموع‪...‬‬
‫***‬
‫الفصل الثامن عشر‬
‫انفض مجع األصدقاء يف ساعة متأخرة من الليل‪ ،‬بعد سهرة مجيلة قضوها‬
‫يبق‬
‫حفل عشاء ومسر مبناسبة خترجه‪ .‬ومل َ‬ ‫يف ضيافة سعد الذي دعاهم إىل ْ‬
‫منهم سوى عرفان وعصام الذي كان منهمكاً مع سعد يف احلديث عن‬
‫املستقبل والطموحات الكثرية اليت اتفقا على إجنازها معاَ‪ ،‬و َّ‬
‫استبد النعاس‬
‫بعرفان فتثاءب قائالً‪:‬‬
‫ينته حديثكما؟‪ ..‬لقد مللت أحاديثكم اليت ال تنتهي عن السرطان‬ ‫‪-‬أم ٍ‬
‫واجلمعية الوطنية ملكافحة السرطان والصندوق الوطين ملكافحة السرطان و‪..‬‬
‫ال أدري ما الذي جيربكم على محل مهوم اجملتمع ومشاكله كلها‪ ..‬هناك وزارة‬
‫الصحة يا سادة‪ ..‬هناك عقول كبرية ختطط لتنمية اجملتمع وتطويره‪ ،‬فأرحيوا‬
‫أنفسكم من هذا العناء‪.‬‬
‫ضحك عصام وقال‪:‬‬
‫‪-‬لك أن تقول بأنك قد نعست وتريد أن تذهب لتنام‪ ،‬لكن ال حيق لك‬
‫أن تكبت أفكارنا وطموحاتنا يف تطوير مؤسسات مكافحة السرطان حبجة‬
‫أهنا ليست من اختصاصنا‪ ..‬ليس من الضروري أن ننفذ كل ما نفكر فيه‬
‫بأنفسنا‪ ..‬قد ننفذه حنن وقد ينفذه غرينا‪ ..‬املهم أن نفكر وحناول‪...‬‬
‫قال سعد خياطب عصاماً‪:‬‬
‫‪-‬ال تلق باالً لكالمه يا عصام‪ ،‬فهو ميلك نفس محاسنا‪ ،‬لكن اإلسراف يف‬
‫الطعام قد أصابه باسرتخاء أورثه النعاس والكسل‪.‬‬
‫قال عرفان وهو ينهض يف تثاقل‪:‬‬
‫‪-‬ارمحوين أرجوكم‪ ..‬أريد أن أنام‪ ..‬إذا كنت ال تنوي ان متضي يا عصام‬
‫فاتركين أذهب لوحدي‪.‬‬
‫هتف عصام وهو يهم بالنهوض‪:‬‬
‫‪-‬بل سنذهب معاً يا عزيزي‪ ،‬فقد تأخرنا‪.‬‬
‫مث وهو يتوجه باحلديث إىل سعد‪:‬‬
‫‪-‬حسناً يا سعد‪ ..‬سنكمل حديثنا غداً – إن شاء اهلل – املهم اآلن أن‬
‫نبدأ بتأسيس الصندوق الذي اتفقنا عليه لنستطيع مع الزمن توفري الدعم‬
‫املادي جلمعية مكافحة السرطان‪ ..‬سنتحدث غداً يف التفاصيل‪...‬‬
‫قال سعد‪:‬‬
‫‪-‬سأزورك غداً يف عيادة الدكتور إياد بعد أن تكون قد استشرته يف أفكارنا‬
‫اليت حتدثنا عنها‪ ..‬ستأيت معي يا عرفان‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪-‬إذا استيقظت باكراً‪..‬‬
‫قال عصام وهو يدعو عرفان للمسري بإشارة من يده‪:‬‬
‫‪-‬واآلن هيا بنا يا عرفان‪ ..‬عفواً‪ ..‬بل يا دكتور عرفان‪ ..‬ضحك الثالثة يف‬
‫ود وافرتقوا على أمل اللقاء‪...‬‬
‫***‬
‫وقف عصام وعرفان على الرصيف بانتظار سيارة أجرة تقلهما إىل بيتهما‪،‬‬
‫حيث يقع منزل عرفان يف الطريق إىل منزل عصام‪ ،‬وقال عرفان وقد عاوده‬
‫نشاطه‪:‬‬
‫‪-‬يا لروعة هذا املساء‪ ..‬ما أمجل السهرة يف حديقة سعد‪ ..‬لقد متنيت لو‬
‫امتدت بنا اجللسة حىت الفجر‪ ،‬لكن النعاس الذي دمهين أفسد متعيت‪.‬‬
‫سأله عصام مداعباً‪:‬‬
‫‪-‬أهي احلديقة اليت أغرتك بالسهرة‪ ،‬أم الطعام الشهي الذي تناولته؟‬
‫أجاب عرفان وهو يتحسس بطنه‪:‬‬
‫‪-‬هل تريد الصدق؟‪ ..‬لقد كان طعاماً شهياً مل أذق مثله‪ ..‬و ((الكاتو))‪..‬‬
‫يا عيين على ((الكاتو))‪ ..‬لقد أكلت منه حىت مللت‪...‬‬
‫ضحك عصام وقال متوعداً‪:‬‬
‫‪-‬إياك أن تسرف يف حفلة زفايف كما أسرفت الليلة‪ ،‬فاملدعوون كثري‪ ،‬وزادنا‬
‫على قدنا‪ ...‬عليك أن تقرأ كل ما درسناه عن أخطار السمنة قبل أن‬
‫تأيت‪ ..‬مفهوم؟‬
‫هتف عرفان حمتجا‪:‬‬
‫‪-‬حرام عليك‪( ..‬قطع األعناق وال قطع األرزاق)‪ ..‬أبعد أن دجمت حفلة‬
‫التخرج مع حفلة الزفاف‪ ،‬تريد مين أن أقتصد يف الطعام‪ ..‬هذا ظلم يا‬
‫دكتور‪ ..‬ظلم سوف أقاومه بكل ما أوتيت من طاقة على األكل والطعام‪،‬‬
‫فخذ احتياطك منذ اآلن‪...‬‬
‫ومرت سيارة مسرعة فاستوقفها عصام بإشارة من يده‪ ،‬لكنها كانت مليئة‬
‫فلم حتفل بإشارته‪.‬‬
‫‪-‬لقد تأخرنا فعالً‪!.‬‬
‫سأله عرفان وهو حيل ربطة عنقه قليالً‪:‬‬
‫‪-‬أزمعت السفر لالختصاص إذن‪...‬‬
‫‪-‬أنا وسامية – إن شاء اهلل‪- .‬‬
‫‪-‬هل جاءك رد من أمريكا؟‬
‫‪-‬ليس بعد‪ ..‬يتوقع الدكتور إياد أن يتأخر الرد قليالً‪ ،‬لكنه يؤكد يل بأن‬
‫القبول مضمون‪ ،‬ألن رئيس اجلمعية األمريكية للسرطان صديق محيم له من‬
‫تنس أن الدكتور‬
‫أيام دراسته يف أمريكا وهو يضع كل ثقله يف املوضوع‪ ،‬وال َ‬
‫إياد ((زميل)) يف اجلمعية األمريكية للسرطان ولرأيه وزن هناك وقد أرسل‬
‫صوراً مرتمجة ومصدقة عن أوراقي وأوراق سامية‪ ،‬سبقها متهيد طويل حول‬
‫هذا األمر‪ ،‬وأنا متفائل جداً بالقبول‪.‬‬
‫‪-‬حيق لك أن تتفاءل‪ ..‬اجلميع يفكرون باالختصاص ويسعون إليه إال أنا‪!.‬‬
‫‪-‬ولِ َـم؟‬
‫‪-‬ألسباب كثرية‪ ..‬أمهها تكاليف االختصاص الناهضة ‪..‬‬
‫‪-‬العائق املايل قائم أمام اجلميع لكن أغلبهم قد استطاع التغلب عليه‪ ،‬أنا‬
‫مثالً سأبيع قطعة أرض منلكها يف الريف لنسدد منها تكاليف السنة األوىل‪،‬‬
‫وبعدها سيبدأ عملنا يف املستشفى هناك فيدر علينا راتبا جيداً‪...‬‬
‫‪-‬كنت أمتىن أن يتوفر لدي ما يساعدين على البداية‪ ،‬لكن والدي كما‬
‫تعلم ال ميلك إال حمل احللويات املتواضع الذي يصرف علينا منه‪ ،‬وأنا ال‬
‫أريد أن أرهقه باملزيد من املصاريف‪.‬‬
‫صمت عصام متفكراً مث قال يف محاس‪:‬‬
‫‪-‬ال عليك‪ ..‬سنتعاون معا على تكاليف املرحلة األوىل من االختصاص‪،‬‬
‫إىل أن تتقاضي راتبك يف املستشفى الذي ستمارس اختصاصك فيه‪ ..‬حرام‬
‫أن تئد طموحك من أجل عقبة مالية ميكننا إزالتها‪.‬‬
‫‪-‬ال أريد أن أكون عالة على أحد‪.‬‬
‫قال عصام معاتباً حبده‪:‬‬
‫‪-‬ساحمك اهلل يا عرفان‪ ..‬من قال بأنك ستكون عالة؟‪ ..‬تعاوننا وتكافلنا‬
‫واجب ال فضل ألحدنا فيه أو منَّة‪ ،‬فاملسلمون كاجلسد الواحد‪ ،‬ويف سبيل‬
‫األهداف الكبرية تتالشى هذه االعتبارات التافهة الصغرية‪.‬‬
‫مهس عرفان وقد تأثر بكالم عصام أميا تأثر‪:‬‬
‫‪-‬اعذرين يا أخي‪ ،‬فاملشاكل واهلموم ترهق األعصاب وتضغط على املشاعر‬
‫فتصبح مرهفة أكثر مما ينبغي‪ ..‬أعدك بأين سأدرس عرضك هذا شاكراً‬
‫ممتناً‪.‬‬
‫‪-‬لست ممتناً ألحد‪ ..‬أن نطور بالدنا وننهض هبا واجب مقدس ال منَّة‬
‫ألحد فيه‪ ،‬واختصاصك العلمي خطوة يف هذا االجتاه‪ ..‬حسناً سأرحيك من‬
‫هذا الشعور‪ ..‬اعترب مساعدتنا لك ديناً تسدده للصندوق الوطين ملكافحة‬
‫السرطان الذي أزمعنا على إقامته‪ ،‬أو تسدده ألي مشروع خريي آخر‪ ،‬مىت‬
‫شئت‪.‬‬
‫وصمت عرفان يفكر يف عرض عصام وهو متأثر بكلماته الصادقة اليت تقطر‬
‫أخوة ونبالً‪ ،‬بينما قال عصام بعد شرود ليس بالقصري‪:‬‬
‫‪-‬أتعلم مباذا أفكر؟‪..‬‬
‫ضحك عرفان وقال‪:‬‬
‫‪-‬من أين يل أن أعرف‪ ،‬فبالك مسرح ملشاغل العامل ومشاكله!‬
‫‪-‬يؤرقين ما حدث ملىن‪...‬‬
‫‪-‬ما الذي ذكرك هبا اآلن؟‪!.‬‬
‫‪-‬فكرت فيما رواه ((جمدي)) الليلة عن مأساهتا مع صفوان فخطر ذكرها‬
‫ببايل‪ ..‬كلما تذكرت وجهها الباكي احلزين املهموم يوم التخرج يا عرفان‬
‫شعرت حنوها باإلشفاق رغم كل ما بدر منها‪ ..‬لكم يؤملين منظر املقهور‪..‬‬
‫لش ّد ما تعذبين دموع املظلوم أيّاً كان‪...‬‬
‫‪-‬هي اليت ظلمت نفسها‪ ،‬فانطلقت وراء رغباهتا وسلمت نفسها‬
‫للشيطان‪.‬‬
‫‪-‬إين أدرك هذا‪ ،‬لكين أعتربها بالرغم من هذا ضحية‪ ..‬ضحية للفقر الذي‬
‫لسعها بسياط احلرمان‪ ..‬ضحية للفساد الذي يسيطر على حياتنا‪ ..‬ضحية‬
‫لألفكار الغريبة اليت لوثت العقول والضمائر‪.‬‬
‫بسر عالقتها معه‪..‬‬
‫‪-‬مل يبق طالب يف الكليلة إال وعلم من صفوان وشلته ّ‬
‫لقد فضحها على املأل!‬
‫هتف عصام يف حنق‪:‬‬
‫‪-‬هذا الذي امسه صفوان‪ ..‬أال يرعوي؟!‪ ..‬يا له من متبجح وقح!!!‬
‫‪-‬لكم حيريين سعد عندما يدعو له باهلداية‪ ..‬إنه يقول لك بأن اإلنسان‬
‫مهما طغى وجترب فإنه ينطوي على بذرة خري مهيأة لإلنبات‪ ..‬شاب مثل‬
‫صفوان ال ميكن أن حيمل يف قلبه ذرة خري واحدة!‬
‫‪-‬سعد على حق يا عرفان‪ ،‬لكن اخلطأ واالحنراف يبقى مداناً حمتقراً يدعو‬
‫للثورة واالمشئزاز‪ ..‬هذه سيارة تتجه حنونا‪ ،‬فلنستوقفها‪..‬‬
‫أشار عصام للسيارة فتوقفت أمامه‪ ،‬فتقدم منها‪:‬‬
‫‪-‬إىل حي الفردوس لو مسحت؟‬
‫‪-‬تفضال‪..‬‬
‫ودعا عصام عرفان للجلوس يف املقعد األمامي لكنه أىب وقال وهو يدلف‬
‫إىل املقعد اخللفي‪:‬‬
‫‪-‬ال واهلل ‪ ...‬األول على الكلية يف األمام‪ ..‬حتتل املقدمة يف اجلامعة‬
‫وترضيين باملقدمة يف السيارة‪ ،‬هذا شئ لن يكون‪...‬‬
‫رضخ عصام لرغبته وهو يرمقه يف عتاب باسم‪ ،‬مث جلس إىل جوار السائق‬
‫الذي انطلق بسيارته يف هدوء أوحى هلما بقيادة متأنية أمينة‪.‬‬
‫***‬
‫كان السائق رجالً كهالً قد اشتعل رأسه شيباً فأضفى على مالحمه وقاراً‬
‫مرحياً جيذب إليه من يراه‪ ،‬وبعد أن مضت هبم السيارة تطوي املسافات سأل‬
‫ونظراته ثابتة إىل األمام ترقب الطريق يف حذر حتسباً لكل طارئ‪:‬‬
‫‪-‬الشباب طلبة‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫أجابه عصام بعد أن تبادل نظرة مع عرفان‪:‬‬
‫‪-‬منذ أيام فقط كنا طلبة‪..‬‬
‫‪-‬خترجتم من اجلامعة إذن‪.‬‬
‫‪-‬صدقت‪..‬‬
‫‪-‬مربوك‪ ،‬ومن أي فرع؟‬
‫‪-‬من كلية الطب‪.‬‬
‫‪-‬ما شاء اهلل‪ ..‬أنتما إذاً طبيبان‪ ..‬تشرفت مبعرفتكما‪.‬‬
‫‪-‬زادك اهلل شرفاً‪.‬‬
‫وأردف عرفان‪:‬‬
‫‪-‬وهذا الدكتور الذي جيلس جبانبك هو األول على كلية الطب‪.‬‬
‫قال السائق خياطب عصاماً‪:‬‬
‫‪-‬وفقك اهلل يا بين‪ ..‬مل نتعرف على اإلسم الكرمي؟‬
‫(( ‪-‬عصام السعيد‪)).‬‬
‫‪-‬تشرفنا‪.‬‬
‫هتف عرفان وهو يلوح بيده متصنعا االحتجاج‪:‬‬
‫‪-‬ما شاء اهلل ((الدنيا دائماً مع الواقف))‪ ..‬الناس ال يهتمون إال باألوائل‬
‫والعظماء‪ .‬أما املغمورون‪ ..‬أما املساكني‪ ،‬فال يسأل عنهم أحد‪.‬‬
‫مث وهو مييل إىل األمام خماطباً السائق‪:‬‬
‫عم؟‪ ..‬أنا؟‪ ..‬أال تريد معرفة إمسي الكرمي؟!‬‫‪-‬وأنا يا ّ‬
‫هتف السائق معتذراً‪:‬‬
‫‪-‬طبعاً‪ ،‬طبعاً‪ ..‬يسرين أن أتعرف باالسم الكرمي‪...‬‬
‫قال عرفان وهو يزهو يف دعابة ومزاح‪:‬‬
‫‪-‬الدكتور عرفان‪(( ..‬عرفان النابلسي))‪ ..‬كان والد جدي من نابلس‪،‬‬
‫وعندما هاجر منها محله معه صناعة ((الكنافة النابلسية)) فورثناها كابرا عن‬
‫كابر‪ ،‬لكين تنكرت هلذا الرتاث وخترجت طبيباً‪ ،‬وقد أعود إليه إذا ما أصيب‬
‫سوق الطب بالركود‪.‬‬
‫ضحك اجلميع يف مرح مث ما لبث السائق أن قال وهو يرسل تنهيدة عميقة‬
‫بعثتها ذكريات املاضي‪:‬‬
‫‪-‬إيه‪ ..‬ما أعجب األيام‪ ..‬لقد كان حلم والدي رمحه اهلل أن أصبح طبيباً‪،‬‬
‫لكن املنية سرعان ما خطفته منا وأنا يف السابعة عشر من عمري‪ ،‬ومل يكن‬
‫ألسرتنا من يعيلها فرتكت املدرسة ورحت أعمل‪ ،‬ألصرف على أخويت وأمي‬
‫وجديت‪ ..‬إيه‪ ...‬احلمدهلل‪ ...‬جتري الرياح مبا ال تشتهي السفن‪ ،‬لكن ربك‬
‫ال ينسى أحداً‪ ،‬لقد أنعم علينا وفضل‪...‬‬
‫مست كلمات السائق الوتر احلزين يف قلب عصام فاهتز ليبعث يف نفسه‬
‫الشجن‪ ،‬وطافت خبياله ذكرى أبيه الراحل فشعر بوخزها األليم وراح يناجيه‬
‫يف صمت وشرود‪:‬‬
‫(( ‪-‬إيه‪ ..‬أين أنت يا والدي لرتى ابنك اآلن‪ ،‬وقد صار طبيباً كما كنت‬
‫حتلم وتتمىن‪ ..‬لكم حيزنين أن أحرم من ابتسامة الفرح والفخر واالعتزاز وهي‬
‫تشرق من وجهك الطيب فتمألين ثقة وعزمية ومتدين بأروع الزاد وأثراه يف‬
‫رحلة احلياة‪ ،‬لكين أعدك يا أبت أن أرقى يف سلم اجملد هبمة وإصرار‪..‬‬
‫سوف أطري إىل قمته السامقة البعيدة ألحط عليها كنسر عنيد‪ ...‬يرفعين‬
‫إليها جناحان حانيان‪ ..‬أمي العظيمة وزوجيت احلبيبة‪ ..‬آه‪ ..‬لو أنك رأيتها‬
‫يا أبت لتمنيت أن تضعها يف قلبك‪ ،‬لكن‪ ..‬أين أنت؟‪ ..‬غيابك األبدي‬
‫يؤملين ويشوه أفراحي ويوشح خطوايت باحلزن واألسى‪ ..‬لقد حققت حىت‬
‫اآلن الكثري‪ ،‬والدروب أمامي ممهدة لتحقيق املزيد‪ ،‬لكن ذلك كله مل ميسح‬
‫من نفسي كآبتها املزمنة‪ ،‬لكأن احلزن فيها قد استوطن وأىب الرحيل‪..)).‬‬
‫قال السائق وقد أحب أن يصل ما انقطع من احلديث‪:‬‬
‫‪-‬األطباء يف جمتمعنا طبقة مرموقة اجتماعياً ومادياً‪ ..‬تفرض احرتامها أينما‬
‫ذهبت وتلعب باملال‪...‬‬
‫قال عرفان‪:‬‬
‫‪-‬هذا الكالم كان على أيامكم يا عم‪ ،‬أما اليوم‪ ،‬فيا حسريت علينا‪...‬‬
‫أخشى أن نتحول من طبقة مرموقة إىل طبقة مسحوقة‪!.‬‬
‫قال السائق وهو ينعطف إىل اليمني‪:‬‬
‫‪-‬ال تتشاءم يا بين‪ ،‬لقد أنعم اهلل عليك مبهنة عظيمة‪ ،‬سوف تسعدك‬
‫وتسعد الناس الذين سيشفيهم اهلل على يديك‪.‬‬
‫قال عصام وقد خرج من شروده احلزين لينخرط يف احلديث‪:‬‬
‫‪-‬حقاً إن السعادة اليت جيدها الطبيب وهو ينقذ الناس من براثن املرض‬
‫واألمل ال تقاس مبال الدنيا‪.‬‬
‫قال السائق بنربات تفيض باالحرتام‪:‬‬
‫‪-‬ما شاء اهلل‪ ..‬ما أحلى أن يكون أطباؤنا مجيعاً هبذا الشعور‪ ،‬لكن‬
‫بعضهم يتحول بكل أسف إىل جتار‪ ..‬يتاجرون بأمراض الناس وآالمهم!‪.‬‬
‫لكم يسرين أن أتعرف بكما‪..‬‬
‫قال عصام وهو يتناول من جيبه بطاقة أنيقة حتمل امسه وعنوانه‪:‬‬
‫‪-‬بارك اهلل فيك يا عم‪ ..‬هذا عنواين‪ ،‬فاحتفظ به‪ ،‬فإن احتجت ألي‬
‫خدمة فأنا‪..‬‬
‫ومل يكد يكمل حىت صرخ عرفان هاتفاً يف ذعر شديد‪:‬‬
‫‪-‬انتبه‪ ..‬إىل اليمني‪ ..‬هناك سيارة‪ ..‬آه‪........‬‬
‫كان القدر أسرع من الكلمات‪ ،‬ويف حلظات قليلة وقعت الكارثة‪ ،‬وأريقت‬
‫الدماء الربيئة لتسطر مأساة جديدة من مآسي السرعة امللعونة والطيش‬
‫اجملنون‪.‬‬
‫***‬

‫الفصل التاسع عشر‬


‫وضع سعد فنجان القهوة من يده‪ ،‬مث تناول اجلريدة وراح يتصفح عناوينها‬
‫شأنه كل صباح‪ ..‬قرأ عناوين الصفحة األوىل‪ ،‬فلم جيد خرباً يستحق‬
‫االهتمام فتحول عنها إىل الصفحة األخرية حيث حيلو له أن يتأمل كل يوم‬
‫الصورة ((الكاريكاتريية)) اليت تتصدرها دائماً‪ ...‬وبعد أن انتهى سعد من‬
‫الصفحة األخرية‪ ،‬أخذ يقلب صفحات اجلريدة‪ ،‬وما إن وصل إىل صفحة‬
‫احلوادث حىت لفتت نظره صورة حلادث مروع وقد كتب فوقها عنوان كبري‬
‫يقول‪(( :‬الطيش والغرور كانا وراء هذه املأساة‪)).‬‬
‫وشدَّه احلادث فراح يتأمل الصورة يف أسف وقد ظهر فيها منظر لسيارة‬
‫مقلوبة كان من الواضح أهنا انقلبت بعد أن اصطدمت باجلانب األمين‬
‫لسيارة أجرة بدا باهبا األمامي األمين وقد انسحق بشدة‪ ،‬وكأن مقدمة‬
‫السيارة الصادمة قد اخرتقته بزاويتها األمامية اليسرى فعجنته عجناً‪ ،‬ومهس‬
‫سعد بال شعور‪:‬‬
‫‪-‬ال بد أن كارثة قد وقعت‪!..‬‬
‫واستحوذ احلادث املروع على اهتمامه‪ ،‬فراح يقرأ يف إشفاق‪...‬‬
‫((يف ساعة متأخرة من ليلة أمس وقع حادث مروع على طريق ((السالم))‬
‫حيث صدمت سيارة مسرعة من نوع ((داتسون)) سيارة أجرة من نوع‬
‫((تويوتا)) وذلك عندما خرجت األوىل فجأة من شارع فرعي بسرعة هائلة‬
‫لرتتطم بسيارة األجرة اليت كانت متضي على الشارع الرئيسي بانتظام‪ ،‬وقد‬
‫كانت احملصلة مقتل سائق ((الداتسون)) على الفور نتيجة النقالب السيارة‬
‫بعد االصطدام‪ ،‬وهو شاب صغري ال يتجاوز العشرين من العمر‪ ،‬بينما‬
‫أصيبت الفتاة اليت كانت جتلس جبانبه جبراح خطرية‪ ،‬أما ركاب ((التكسي))‬
‫وعددهم ثالثة مبا فيهم السائق فقد أصيبوا جبراح خمتلفة كان أخطرهم‬
‫الراكب الذي جيلس جبانب السائق حيث تلقى اجلزء األكرب من الصدمة‬
‫وقد علمت اجلريدة من مصادر موثوقة أن الراكب الذي جيلس يف األمام‬
‫طبيب شاب خترج هذا العام وأنه قد حاز على أعلى معدل درجات يف‬
‫تاريخ كلية الطب‪ ،‬كما علمت أن الراكب الثاين طبيب أيضاً‪.‬‬
‫إن اجلريدة هتيب باملواطنني الكرام أن يلتزموا بقواعد املرور وأن يتجنبوا‬
‫السرعة العالية اليت)) ‪..‬‬
‫ومل يعد سعد يتبني الكلمات‪ ،‬فقد انفجرت الدموع من عينيه وتسمرت‬
‫نظراته اهللعة املذعورة فوق السطور الدامية احلمراء وهتف يف ذهول وهو‬
‫يضرب جبهته يف ذعر وجزع‪:‬‬
‫‪((-‬عصام وعرفان‪ ..‬عصام‪ ..‬آه‪ ،‬يا للكارثة‪ ..‬إنه عصام‪ ..‬ومن غريه‬
‫األول على كلية الطب؟‪ ..‬والوقت‪ ..‬لقد وقع هلما احلادث بعد أن خرجا‬
‫من عندي‪ ..‬آه‪ ..‬يا للمأساة))‪ ..‬وألقى اجلريدة من يده‪ ،‬وهرع إىل اهلاتف‬
‫كامللسوع‪ ،‬فرفع السماعة بيد مرتعشة وقلب واجف‪ ،‬وأخذ يدير القرص يف‬
‫اضطراب وإصبعه ال تكاد جتد طريقها إىل األرقام املطلوبة‪ ،‬وبينما هو‬
‫كذلك‪ ،‬مرت به أمه وهي متضي لبعض شأهنا فرأته على هذه الصورة من‬
‫اهللع واالضطراب فسألته يف ريبة‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬ملاذا أنت مضطرب هكذا؟‪ ..‬والدموع؟!‪ ..‬ما الذي يبكيك يا‬
‫بين؟‪ ..‬أخربين بالذي جرى أرجوك؟‪...‬‬
‫أجاهبا سعد بصوت متهدج ونربات مرتعدة‪:‬‬
‫‪-‬لقد وقعت كارثة‪ ..‬كارثة يا أماه‪...‬‬
‫سألته وهي تتهالك على كرسي قريب بأعصاب مهدودة خائرة‪:‬‬
‫‪-‬عن أي كارثة تتحدث؟‪ ..‬هل حدث ألبيك مكروه؟‪..‬‬
‫‪-‬عصام يا أماه‪ ...‬عصام وعرفان‪ ...‬لقد أصيبا يف حادث سيارة‪ ..‬عصام‬
‫يف خطر يا أماه‪.‬‬
‫‪-‬ماذا؟‪ ..‬كان اهلل يف عون أمه‪ ..‬اهلل يصربها‪ .‬ومبن تتصل؟‪!..‬‬
‫‪-‬اتصلت ببيت الدكتور إياد وال أحد يرد‪ ..‬سأتصل بالعيادة علين أجد من‬
‫جييب‪...‬‬
‫وراح يدير القرص من جديد‪ ،‬بينما راحت أمه تذرف الدموع يف صمت‬
‫حزين‪ .‬وردت املمرضة على سعد فصاح يف عصبية واضطراب‪:‬‬
‫‪-‬آلو‪ ..‬آلو‪ ..‬الدكتور إياد هنا؟‬
‫‪-‬الدكتور إياد مشغول اليوم وال سبيل إىل‪..‬‬
‫‪-‬أعرف بالذي حدث‪ ..‬فقد أخربيين إىل أي مستشفى نُقل عصام؟‬
‫‪-‬إىل املستشفى الوطين‪..‬‬
‫وألقى سعد السماعة يف ضيق‪ ،‬وأراد أن ميضي لكنه فكر أن يتصل مبجدي‪،‬‬
‫فعاد واتصل به‪ ،‬وما أن رد عليه حىت قال بدون مقدمات‪:‬‬
‫‪-‬عصام يف خطر يا جمدي‪ ..‬إنه يف املستشفى الوطين‪ ..‬سنلتقي هناك‪..‬‬
‫أخرب بقية األًصدقاء فقد نستطيع أن نفعل شيئاً‪ ..‬مث ألقى السماعة تاركاً‬
‫جمدي فريسة هلول املفاجأة وصدمتها‬
‫***‬
‫أوقف سعد سائق السيارة اليت أقلته إىل املستشفى‪ ،‬ورمى له بورقة نقدية‬
‫كبرية ومضى دون أن يسرتجع منه البقية‪ ،‬وهرع مسرعاً إىل قسم الطوارئ‬
‫يبحث عمن خيربه اخلرب اليقني‪ ،‬وما إن وصل حىت صدمته الوجوه الباكية‬
‫املغتمة واخرتق مسعه صوت حزين واه فالتفت إليه يف إشفاق وهو يشعر‬
‫بالكآبة تشيع يف صدره وتضغط على أنفاسه وما إن وقع بصره على‬
‫صاحب الصورة حىت خفق قلبه بعنف وأحس فيه توجعاً يقرض شغافه‬
‫امللتهبة وانبثقت الدموع من عينيه‪.‬‬
‫لقد رأى األم املسكينة وقد هدهتا املأساة ولوعها املصاب فراحت تبكي يف‬
‫حرقة وصمت وتدعو اهلل يف ضراعة لو مست الصخر األصم لصدعته‪،‬‬
‫وتتوسل إليه من بني الدموع يف نربات كبرية حزينة مبحوحة‪:‬‬
‫((يا رب‪ ..‬لقد وضعته عندك أمانة‪ ..‬يا رب‪ ..‬لقد سلمته لك فأعده يل‬
‫ساملاً‪ ..‬رباه‪ ..‬هو أملي ورجائي‪ ..‬هو روحي وعمري‪ ..‬يا لطيف‪ ..‬يا‬
‫قادر‪ ..‬أنقذه بقدرتك‪ ،‬قد كان مؤمنا عابداً‪ ..‬اللهم ال اعرتاض على‬
‫قدرك‪ ..‬دائما تبتلي املؤمنني‪ ..‬سبحانك ال اعرتاض على حكمتك‪ ،‬لكين‬
‫أتوسل إليك يا رب أن تنقذ يل وحيدي‪ ..‬يا كرمي‪..)).‬‬
‫ومل يعد سعد يطيق االنتظار‪ ،‬فأشاح بوجهه احلزين عن األم احملطمة وهو‬
‫يشعر باالختناق‪ ،‬وأخذ يبحث عمن يزوده بآخر األخبار‪ ،‬وملح طبيباً يعرفه‬
‫فهرع إليه يف سرعة وهلفة‪:‬‬
‫‪-‬دكتور أمحد‪ ..‬حلظة أرجوك‪...‬‬
‫‪-‬أهال دكتور سعد‪...‬‬
‫طمئين أرجوك؟‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬ما هي أخبار عصام؟‪ ..‬ه‬
‫قال الدكتور أمحد وهو يتنهد يف أسف‪:‬‬
‫‪-‬عصام يصارع املوت‪ ،‬واألمل ضعيف‪..‬‬
‫‪-‬ما إصابته بالضبط؟‬
‫‪-‬أخطر ما يف إصابته الكسر الذي أصاب قاع اجلمجمة‪ ..‬هناك كسر يف‬
‫كتفه األمين‪ ،‬وكسر يف يده اليمىن ورضوض خمتلفة‪ ..‬هذا غري النزيف‪ ..‬إنه‬
‫كتلة من األشالء‪.‬‬
‫هتف سعد وهو يضرب وجهه بكلتا يديه‪:‬‬
‫‪-‬يا للكارثة‪ ..‬ال بد من معجزة إلنقاذه‪ ..‬واأسفاه‪...‬‬
‫قال الدكتور أمحد وهو حيملق يف حزن‪:‬‬
‫‪-‬يف غرفة العمليات حتتدم اآلن معركة ضارية بني املوت واحلياة‪...‬‬
‫أال أستطيع أن أدخل ألساهم بشيء؟‬
‫‪-‬ماذا ستفعل أمام أساطني الطب واجلراحة الذين اجتمعوا إلنقاذه؟‬
‫أي شيء‪...‬‬‫‪-‬جيب أن أفعل شيئاً‪ّ ..‬‬
‫‪-‬كلنا نتمىن أن نقدم شيئاً‪ ،‬ولكن‪...‬‬
‫‪-‬ومن هم األطباء الذين يشرفون عليه يف الداخل؟‬
‫‪-‬هناك الدكتور جهاد مدير املستشفى وكبري األطباء‪ ..‬وهناك الدكتور إياد‬
‫طبعاً‪..‬‬
‫‪-‬املسكني‪ ..‬كان يتعهده كابنه‪..‬‬
‫‪-‬هناك أيضاً الدكتور عدنان والدكتور فايز إنه فريق ممتاز كما ترى‪ ،‬وحيوي‬
‫أصرت على‬ ‫كل االختصاصات الالزمة‪ ..‬هناك الدكتورة سامية أيضاً‪ ..‬لقد َّ‬
‫الدخول‪ ..‬املسكينة‪ ..‬لكم آملين منظرها احلزين‪.‬‬
‫‪-‬وأمه؟‪ ..‬كيف تلقت النبأ؟‪..‬‬
‫أجابه الدكتور أمحد يف شرود حزين‪:‬‬
‫‪-‬ال أدري كيف تلقت النبأ‪ ،‬لكين رأيتها عندما أحضروها إىل هنا‪ ..‬كان‬
‫منظرها الكئيب ميزق القلب ويفتت الفؤاد‪ ...‬كانت منهارة متاماً وكانت‬
‫هتذي كاجملنونة‪ ..‬هل تصدق؟‪ ..‬لقد أصبحت أمتىن أن أموت قبل أمي وأيب‬
‫من هو املنظر الذي رأيتها فيه ليلة أمس‪ ،‬أمل ترها اآلن؟‪...‬‬
‫‪-‬أجل رأيتها‪ ..‬مسكينة‪ ..‬لقد كان األمل الوحيد الباسم يف حياهتا‪.‬‬
‫مث هتف سعد وقد تذكر‪:‬‬
‫‪-‬وعرفان؟‪ ..‬مل أسألك عن عرفان؟‪ ..‬أرجو أن تكون إصابته خفيفة‪.‬‬
‫‪-‬إهنا أخف بكثري من إصابة عصام‪ ،‬فقد كان جالساً يف اخللف ومل يصب‬
‫إال ببعض الرضوض يف رأسه وصدره‪ ..‬ميكنك أن تراه‪ ..‬إنه يف الغرفة رقم‬
‫سبعة‪.‬‬
‫‪-‬هلم بنا إليه‪ ...‬أريد أن أعرف تفاصيل ما حدث‪.‬‬
‫***‬
‫مضى سعد مع الدكتور أمحد إىل غرفة عرفان‪ ،‬واحلزن يلون قسماته‪ ،‬واألسى‬
‫يثقل خطواته‪ ،‬واهلم لوح يف نظراته‪ ،‬فاملصاب يف عصام أليم‪ ،‬وهو من الذي‬
‫يشعرون أكثر من غريهم بعمقه وإيالمه‪ ،‬فقد عرف عصاماً عن قرب‪ ،‬وسرب‬
‫أعز أصدقائه وأغالهم‬ ‫أغوار شخصيته الفريدة‪ ،‬وأحبه من األعماق‪ ،‬فكان َّ‬
‫وأقرهبم إىل نفسه ويف املمر صادق سعد بقية األصدقاء وقد حضروا‬
‫ليستطلعوا جلية األمر‪ ،‬وما إن رأوه حىت هرعوا إليه يف ذعر وهلفة‪،‬‬
‫فاستقبلهم بعينني دامعتني بعثت عرباهتما الذكريات القريبة احلبيبة‪ ،‬وسأله‬
‫((هباء)) يف توسل‪:‬‬
‫‪-‬أخربنا يا سعد‪ ..‬ما هي أخبار عصام؟‪ ..‬ما الذي حدث بربك؟‬
‫أجابه سعد وهو يغمض عينيه يف ضيق وأمل‪:‬‬
‫‪-‬كسر يف قاع اجلمجمة يا هباء‪ ،‬وكسور أخرى‪ ،‬ونزيف ال ندري كم‬
‫استمر‪...‬‬
‫صاح جمدي وهو يضرب جبهته يف التياع‪:‬‬
‫‪-‬هذه كارثة‪ ...‬أين وقع هذا؟‪ ،‬ومىت؟‪ ،‬وأين؟‪.‬‬
‫‪-‬ليلة أمس‪ ...‬بعد أن خرج من عندي‪.‬‬
‫مهس عثمان وهو يلوح بيد مرجتفة‪:‬‬
‫‪-‬أحيدث هذه هبذه السرعة‪ ..‬باألمس كنا معاُ ‪ ..‬أكلنا وضحكنا وحتدثنا‪.‬‬
‫مث وقد طفرت الدموع من عينيه‪:‬‬
‫‪-‬املسكني‪ ...‬لكم حدثنا عن طموحاته وأحالمه‪!!.‬‬
‫قال الدكتور أمحد وهو حياول إخراجهم من هذا اجلو الكئيب‪:‬‬
‫‪-‬هدئوا من روعكم أيها الزمالء‪ ...‬هلموا إىل الدكتور عرفان فهو أفضل‬
‫من يروي لنا القصة‪.‬‬
‫هتف جمدي‪:‬‬
‫‪-‬هل أصيب عرفان أيضاً؟‪ ..‬أحيدث هذا بني عشية وضحاها؟‬
‫قال الدكتور أمحد مهدئاً‪:‬‬
‫‪-‬ال تقلقوا إنه خبري‪ ..‬تفضلوا معي‪..‬‬
‫***‬
‫وصل األصدقاء إىل غرفة عرفان فوجدوه ممدداً على سريره وقد أحاطت‬
‫بوجهه هالة كثيفة من الشاش األبيض‪ ،‬وما إن رآهم قادمني حىت اغرورقت‬
‫عيناه‪ ،‬ففجرت دموعه مراجل احلزن املكتوم يف صدورهم فأجهشوا بالبكاء‬
‫والنحيب‪...‬‬
‫قال الدكتور أمحد حماوالً تبديد حزهنم الالهب‪:‬‬
‫‪-‬متاسكوا يا شباب‪ ...‬أنتم أطباء‪ ،‬وال يصح أن تبدوا أمام الناس هكذا‪...‬‬
‫مث سأل عرفان‪:‬‬
‫‪-‬هل ذهب أهلك؟‪ ..‬لقد شاهدهتم هنا منذ قليل !‬
‫أجابه عرفان بصوت واهن خنقته العربات‪:‬‬
‫‪-‬لقد طلبت من أن يقفوا إىل جانب أم عصام‪ ،‬فـ‪ ..‬فذهبوا إليها بعد أن‬
‫اطمأنوا على حاليت‪..‬‬
‫مث وهو جيهش بالبكاء من جديد‪:‬‬
‫‪-‬عصام يصارع املوت يا سعد‪ ..‬إنه يصارع املوت ‪..‬‬
‫تقدم سعد من عرفان يف هدوء وقال وهو ميسك بيده مواسيا‪:‬‬
‫‪-‬ليكن أملنا يف اهلل كبرياً‪ ،‬ولنتذرع بالصرب‪ ..‬كيف جتد نفسك اآلن؟‬
‫أجاب بنربات الهثة حزين‪ ،‬والدموع تنساب من وجنتيه اللتني خدشتهما‬
‫اجلروح الصغرية‪:‬‬
‫‪-‬ما يهمين هو عصام‪ ..‬عصام يا سعد‪ ..‬إنين أخشى‪ ..‬آه‪ ..‬ال أستطيع‬
‫تصور ما حدث‪ ..‬يف حملة بصر حدثت الكارثة‪ ..‬كان عصام أخطرنا‪ ..‬لقد‬
‫حتول إىل أشالء‪..‬‬
‫قال هباء وهو يغالب دموعه‪:‬‬
‫‪-‬كن واثقاً باهلل‪ ،‬لندع له مجيعاً‪...‬‬
‫تابع عرفان يف أمل‪:‬‬
‫‪-‬أنتم مل تروا ما حدث‪ ..‬كنّا‪ ..‬كنّا نسري يف هدوء‪ ...‬نتحادث مع‬
‫السائق‪ ..‬كان املسكني حيدثنا عن مشاكله ومهومه‪ ..‬ينصحنا بأن نكون‬
‫أطباء صاحلني‪ ..‬كان عصام يصغي إليه باحرتام‪ ..‬مث أراد أن يقدم له عنوانه‬
‫ليساعده‪ ..‬وما‪ ..‬وما كاد خيرج البطاقة من جيبه حىت حدثت الكارثة‪.‬‬
‫وصمت قليالً ريثما ارتاح‪ ،‬مث تابع وسعد جيفف له دموعه‪:‬‬
‫‪-‬كنا نسري يف شارع ((السالم))‪ ..‬بالقرب من املتحف‪ ..‬وفجأة‪..‬‬
‫خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي على مييننا‪ ..‬كانت تنهب األرض‬
‫بسرعة جنونية‪ ..‬وتتلوى يف مشيتها كحية رقطاء‪ ..‬وما إن رأيتها حىت‬
‫صرخت فزعاً مذعوراً وبأعلى صويت‪ ..‬ألحذر السائق كي يتفاداها‪ ..‬لكن‪..‬‬
‫لكن قضاء اهلل كان أسرع‪...‬‬
‫مث أردف بعد أن ازدرد ريقه‪:‬‬
‫‪-‬لقد صدمتنا السيارة املسرعة من اجلانب األمين‪ ...‬حيث كان جيلس‬
‫عصام ‪...‬فاهتزت بنا السيارة هزة عنيفة‪ ..‬ارتطم رأسي على إثرها بزجاج‬
‫النافذة‪ ،‬فأغمي علي ومل‪ ..‬ومل أغف إال هنا‪.‬‬
‫‪-‬احلمدهلل على السالمة‪...‬‬
‫قال الدكتور أمحد‪:‬‬
‫‪-‬لقد قتل سائق السيارة اليت صدمتهم على الفور‪ ،‬وقد علمت من احملقق‬
‫أن رعونته وسرعته الطائشة الال مسؤولة هي اليت سببت احلادث‪ ،‬كما أن‬
‫صديقته قد أصيبت بكسور خمتلفة أخطرها الذي أصاب العمود الفقري‬
‫فأودى هبا إىل الشلل‪...‬‬
‫علق عرفان حمتداً حانقاً‪:‬‬
‫‪-‬كان يتباهى بنفسه أمامها‪ ..‬يريد أن يثبت هلا أنه رجل‪ .‬وهي هي‬
‫احلصيلة‪ ..‬والسائق؟‪ ..‬كيف حاله اآلن؟‬
‫‪-‬لقد أصيب بكسور خمتلفة‪ ..‬املسكني‪..‬‬
‫هتف سعد بلهجة غاضبة وهو يلوح بقبضته يف اهلواء‪:‬‬
‫‪-‬يا للمأساة!!‪ ..‬االحنراف والضياع والعبث يعصف دائماً بكل ما ينجزه‬
‫العقالء واملخلصون‪ ..‬الرتبية الفاشلة الفاسدة تكمن دائماً وراء ختلفنا‬
‫واحنطاطنا‪ .‬عصام‪ ..‬الطاقة النادرة يف بالدنا‪ ..‬الشاب الذكي الطموح الذي‬
‫كان حيرتق كشمعة ليصنع ألمته شيئا يفيدها ويطورها‪ ،‬يذهب ضحية‬
‫للطيش والرعونة واجلنون‪!!!...‬‬
‫مث وهو يهوي بقبضته على اجلدار يف أسف عميق‪:‬‬
‫‪-‬إن عاش عصام‪ ،‬فسوف يعيش مشلوالً مقعداً‪ ..‬مكبالً بعجزه وآالمه‬
‫وأحزانه‪.‬‬
‫مث هتف بصوت متهدج يفيض باالنفعال‪:‬‬
‫‪-‬حنن ال تنقصنا التكنولوجيا املتطورة واخلربات املاهرة‪ ،‬بقدر ما تنقصنا‬
‫الرتبية ويعوزنا الضمري‪...‬‬
‫مث مهس عد أن مال إىل اهلدوء‪:‬‬
‫‪-‬اعذروين يا شباب‪ ،‬فاملأساة فضيعة كما ترون‪ ،‬واملصاب يف عصام رهيب‬
‫أليم‪.‬‬
‫قال عثمان وهو يتحسس صدغيه من شدة الصداع‪:‬‬
‫‪-‬ال أكاد أصدق ما حدث‪..‬‬
‫وأردف جمدي‪:‬‬
‫‪-‬يا له من كابوس رهيب‪...‬‬
‫بينما قال سعد وهو يتجه إىل جهاز اهلاتف‪:‬‬
‫‪-‬جيب أن نعرف آخر أخبار عصام‪ ...‬سأطلب غرفة العمليات‪..‬‬
‫وبعد أن مت االتصال قال سعد للمرضة اليت ردت عليه‪:‬‬
‫‪-‬أريد الدكتور إياد من فضلك‪...‬‬
‫‪-‬انتظر حلظة ألرى فيما إذا كان يستطيع التحدث معك ومضت حلضات‬
‫قصرية ريثما رد الدكتور إياد‪:‬‬
‫‪-‬آلو‪ ،‬نعم‪ ..‬الدكتور إياد يتحدث‪...‬‬
‫قال سعد بصوت متهدج بعد أن اخرتقت مسعه نربات الدكتور إياد نابضة‬
‫باحلزن واألسى‪:‬‬
‫‪-‬دكتور أنا سعد‪ ..‬نريد أن نطمئن على عصام‪ ..‬أرجوك أن تصارحنا‬
‫فنحن أطباء ونقدهر املوقف‪.‬‬
‫هيجت نربات سعد املرتعشة احلزينة آالم الدكتور إياد وأهلبت جراحه‬
‫فاجتاحته موجة من االنفعال وكان أن يبكي‪ ،‬لكنه متالك نفسه وقال بعد‬
‫صمت أثار املخاوف يف نفس سعد‪:‬‬
‫‪-‬ال أكتمك يا بين‪ ..‬املوقف عصيب جداً‪ ..‬أنت طبيب وتعرف ماذا يعين‬
‫كسر يف قاع اجلمجمة‪ ..‬لقد فعلنا ما يف وسعنا والباقي بيد اهلل‪...‬‬
‫قال سعد وهو يبكي يف لوعة وصمت‪:‬‬
‫‪-‬دكتور حنن على استعداد لعمل أي شئ‪ ...‬نردي أن نفعل شيئاً‪ ..‬أي‬
‫شيء‪...‬‬
‫‪-‬إين أقدر مشاعركم يا بين‪ ..‬لست أنت أول من يطلب هذا‪ ..‬الكل‬
‫يعرض املساعدة‪ ،‬فقد كان حمبوبا من اجلميع‪ ...‬من أين تتحدث؟‬
‫‪-‬من غرفة عرفان‪...‬‬
‫‪-‬وكيف هو اآلن؟‪..‬‬
‫ومنا إىل مسع سعد صوت إحدى املمرضات وهي تنادي يف ذعر‪:‬‬
‫‪-‬دكتور إياد‪ ...‬إهنم يريدونك يف الداخل‪...‬‬
‫فألقى السماعة من يده‪ ،‬وهرع ليعرف ماذا حدث؟‬
‫***‬
‫الفصل العشرون‬
‫يف متام الساعة العاشرة والدقيقة الثالثة واخلمسني من صباح ذلك اليوم‬
‫املشؤوم فرغت كنانة األمل‪ ،‬وحانت حلظة رهيبة من حلضات القدر القاسية‬
‫العصيبة‪ ،‬فجاءت مرتعة باألمل‪ ،‬مفعمة باألسى‪ ،‬مثقلة بالدموع‪ ...‬فطوت‬
‫مبرورها حياة واحد من سكان هذه األرض لينضم إىل قافلة الفناء‪...‬‬
‫حدث ذلك عندما هوى املوت بقبضته على عصام‪ ،‬فخفق قلبه اخلفقة‬
‫األخرية وأسلم الروح‪...‬‬
‫وقبيل الرحيل بلحظات فتح عصام عينيه الذابلتني وقد جاشت يف صدره‬
‫حشرجة متصاعدة وغمغم بنربات واهنة متقطهعة وهو حيملق باجملهول‪:‬‬
‫((ما‪ ..‬ما))‪(( .‬ما‪ ..‬ما))‪(( .‬ما‪ ..‬ما))‪ .‬فهرعت إليه سامية ومن ورائها‬
‫اجلميع وحضنت رأسه بني ذراعيها يف حنو وإشفاق‪ ،‬فتعلقت هبا نظراته‬
‫الكليلة املرهقة والحت على شفتيه شبه ابتسامة سرعان ما خبت‪ ،‬فانطفأت‬
‫بأفوهلا شعلة احلياة الالهبة العظيمة اليت كانت تتوقد متأللئة يف أعماقه‬
‫تسطع وتتألق وتضيء‪ ...‬وأسبل جفنيه يف هدوء‪ ،‬فكانا مها الدفة األخرية‬
‫لكتاب عمره احلافل الذي يروي قصة طموح واعد مل تكتمل ورحلة جمد‬
‫انتهت عند السفوح‪ ،‬وفاضت الروح فأفلتت من بني أمهر األيادي ألساطني‬
‫الطب واجلراحة وتسللت من بني أحدث األجهزة العلمية والطبية متحدية‬
‫عجز اإلنسان وضعفه أمام قدر اهلل‪ ،‬وانطلقت إىل بارئها متخففة من كل‬
‫اجلواذب واألماين واألحالم‪ ،‬حيدوها الشوق إىل احلبيب األعظم الذي برأها‬
‫أول مرة وقد أدت األمانة وفارقت الدنيا على قيم احلق واإلميان والعطاء‪.‬‬
‫وندت عن سامية صرخة هائلة‪ ،‬محَّلتها كل حزهنا وأملها املكبوت‪ ،‬وأكبَّت‬
‫على وجهه املهشم تعانقه يف حب ولوعة‪ ،‬وترويه بالقبالت والدموع‪،‬‬
‫وراحت تصرخ وتنادي يف صوت هادر جمنون‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬عصام‪ ..‬ال تذهب أرجوك‪ ..‬لن تفارقين هبذه السرعة‪ ..‬عصام‪..‬‬
‫هل تسمعين؟‪ ..‬أنا سامية يا عصام‪ ..‬سامية اليت حتبك‪ ..‬زوجتك اليت‬
‫نسجت معها األحالم‪ ..‬ال تفارقين أرجوك‪ ..‬ال ترتكين وحدي فاحلياة من‬
‫بعدك سراب‪ ..‬سراب‪ ..‬سراب‪...‬‬
‫مث أجهشت يف بكاء شديد‪...‬‬
‫ومال الدكتور إياد على ابنته احملطمة يف حزن‪ ،‬فشدها إليه‪ ،‬لكنها تشبثت‬
‫بزوجها الراحل وكأهنا متسكه خشية أن يهرب‪ ،‬بيد أن أباها قاوم ضعفه‬
‫واهنياره وجذهبا إليه جذبة قوية فضمها إىل صدره يف أمل‪ ،‬وقال بصوت دامع‬
‫حزين‪:‬‬
‫(( ‪-‬إنا هلل وإنا إليه راجعون))‪ ..‬متاسكي واهدأي يا ابنيت‪ ،‬فهذا قدر اهلل‬
‫وال راد ألمره‪.‬‬
‫وتعاىل بكاؤها وحنيبها‪ ،‬فأردف الدكتور إياد وهو يربت على ظهرها مهدئاً‬
‫ومواسيا‪:‬‬
‫‪-‬متاسكي أرجوك‪ ..‬من أجل أمه على األقل‪ ..‬جيب أن نقف إىل جانبها‬
‫يف هذا اليوم العصيب‪ ..‬اللهم اجعلنا من الصابرين‪ ...‬يا رب‪.‬‬
‫وتقدم الدكتور جهاد من جثة عصام‪ ،‬فسحب الغطاء األبيض وأسدله على‬
‫وجهه يف هدوء حزين‪ ،‬مث أمر بنقله إىل غرفة الوفيات وقال وهو جيول‬
‫بنظراته الكئيبة بني وجوه األطباء اليت امتزج احلزن واألسف فيها بالتعب‬
‫واإلرهاق الشديد‪:‬‬
‫‪-‬من سينقل النبأ ألمه؟‬
‫أجابه الدكتور إياد ومالحمه الكئيبة حتتقن باحلسرة واألمل‪:‬‬
‫‪-‬ومن غريك يا جهاد؟‪ ..‬أنت مدير املستشفى وكبري األطباء‪...‬‬
‫تنهد الدكتور جهاد وهو يغمض عينيه يف أسى مث قال‪:‬‬
‫علي يف‬‫مر َّ‬‫‪-‬أخشى أين ال أستطيع‪ ..‬أقوهلا ألول مرة منذ أمد بعيد‪ ..‬لقد َّ‬
‫هذا املستشفى عشرون عاماً أو تزيد‪ ،‬رأيت فيها الكثري من الكوارث‬
‫واملآسي‪ ،‬فلم أتأثر هبا كما تأثرت هبذه املأساة‪ ،‬ورأيت الكثري من األمهات‬
‫وهن يبكني أوالدهن‪ ،‬لكن منظر أمه املسكينة كسر قشرة االعتياد اليت‬ ‫َّ‬
‫غلفت قليب عرب السنني لتخلف يف فؤادي جرحاً غائراً لن أنساه‪!!...‬‬
‫مهس الدكتور إياد وقد عال حنيب سامية‪:‬‬
‫‪-‬دكتور أرجوك أن تتصرف‪ ...‬يكفيين مصايب‪...‬‬
‫أرسل الدكتور جهاد تنهيدة خائرة‪ ،‬مث قال يف رضوخ‪:‬‬
‫‪-‬حسناً‪ ..‬كما تريد‪...‬‬
‫قال الدكتور علي‪:‬‬
‫‪-‬لكنها ستطلب رؤيته‪ ..‬إين أخشى عليها من االهنيار‪...‬‬
‫علق الدكتور عدنان قائالً‪:‬‬
‫‪-‬رؤيتها له أمر ال مفر منه‪ ،‬وهو أدعى لتفريغ شحنات احلزن واألسى اليت‬
‫ترهق أعصاهبا‪.‬‬
‫قال الدكتور جهاد وهو ميضي مطرقاً حزيناً‪:‬‬
‫‪-‬لنستعد لكل االحتماالت‪ ،‬واهلل معنا‪.‬‬
‫***‬
‫هزهم املصاب‬ ‫اكتضت قاعة االنتظار يف قسم الطوارئ بالكثريين ممن َّ‬
‫وآملهم‪ ،‬فهرعوا إىل املستشفى يف ذعر وذهول ليكونوا قرب اإلنسان الذي‬
‫أحبوه واحرتموه وأعجبوا به‪ ،‬وليقفوا جبانبه يف حمنته الدامية الرهيبة‪ ..‬حىت‬
‫صفوان‪ ..‬صفوان الذي عرف حبقده على عصام وكرهه له وهزئه بأفكاره‬
‫ونبوغه وطموحه‪ ..‬صفوان الذي ال يفكر إالّ يف نفسه وملذاته ورغباته‪...‬‬
‫حىت صفوان اهتز للمأساة وتأثر هبا بعد أن علم هبا من أحد أفراد شلته‬
‫الذي أيقضه من نومه ليسأله باهلاتف قائالً‪:‬‬
‫‪-‬هل قرأت جريدة الصباح؟‪...‬‬
‫فأجابه منزعجاً غاضباً‪:‬‬
‫‪-‬ما هذا السؤال التافه عند الصباح؟‪ ..‬أنت تعرف أين ال أحب قراءة‬
‫الصحف واجملالت‪...‬‬
‫‪-‬إذن اقرأها اليوم وادعُ يل‪...‬‬
‫‪-‬ماذا تقصد؟‪ ..‬ماذا حدث؟!‬
‫‪-‬صاحبك عصام‪...‬‬
‫‪-‬ما شأنه؟‪ ...‬لعلك ستقول يل أنه نال مكافأة أو هدية أو وساما‪...‬‬
‫سألعن صباحك إن كنت أيقظتين لتقول يل هذا‪.‬‬
‫ضحك صاحبه وقال ساخراً‪:‬‬
‫‪-‬أي مكافأة؟ وأي وسام؟‪ ..‬عصام انتهى يا روحي‪ ..‬إنه يف املستشفى‬
‫حيتضر‪...‬‬
‫وهز بعنف‪ ،‬فوجم يف ذهول‪ ،‬وعبس يف تفكر‪ ،‬وسأله‬ ‫وصدمه اخلرب بقوة‪َّ ،‬‬
‫يف شك وهو ال يكاد يصدق‪:‬‬
‫‪-‬ماذا تقول؟‪ ..‬عصام حيتضر؟‪ ..‬لعلك متزح؟ ‪!..‬‬
‫‪-‬أبداً‪ ..‬لقد أصيب ليلة أمس يف حادث سري مروع واألمل يف حياته‬
‫ضعيف جداً‪ ...‬هكذا أخربتني ((رندا))‪(( ..‬رندا)) صديقيت املمرضة يف‬
‫املستشفى الوطين‪ ..‬إنه يعاجل هناك وهو يف حالة ميؤوس منها‪.‬‬
‫ودك اخلرب املثري قالع القسوة واحلقد والطغيان اليت كانت تقوم يف قلب‬
‫صفوان‪ ،‬فتهاوت وتداعت يف حلضات‪ ،‬وأحس يف غمرة الصدمة بشيء‬
‫يتحرك يف أعماقه السحيقة وخيرج من بني أنقاض التكرب والغطرسة‬ ‫ٍ‬
‫سام نبيل َّ‬
‫والغرور‪ ،‬وينفض عنه ركام الفساد واخلبث واالحنراف‪ ،‬ويتسلَّق شرايينه بالرغم‬
‫مما يعكرها من كراهية وأنانية وسوء‪ ،‬مث ميضي إىل ضمريه الغايف فيوقضه بعد‬
‫طول سبات وينبهه من ختدير العبث واللهو والالمباالة‪...‬‬
‫وأفاق الضمري النائم يف ذعر‪ ،‬وانتفض يف ثورة‪ ،‬وراح يدق أبواب عقله‬
‫املسجون وراء أسوار اللذة والرغبة واهلوى بإحلاح‪ ،‬ويسأله عن لغز الوجود‬
‫وأسرار احلياة‪ ،‬ويذكره بضعف اإلنسان وعجزه أمام املوت املرتبه القريب‪،‬‬
‫ومهس وهو يضع السماعة يف شرود‪:‬‬
‫(( ‪-‬عصام حيتضر؟‪ ..‬حيتضر؟!!‪ ..‬من يصدق؟!‪ ..‬كنت أحسبه‬
‫أسطورة!‪ ..‬كنت أتصوره إنساناً خلق للنجاح!‪ ..‬مل خيطر ببايل يوماً أن‬
‫يكون الثاين على الكلية فكيف؟!‪ ..‬أتنطفئ حياة شاب كهذا هبذه السرعة‬
‫والسهولة‪ ..‬ال أصدق‪ ..‬هل هذه هي احلياة؟‪!!..)).‬‬
‫وأغمض صفوان عينيه يف إشفاق من النهاية املرتقبة يف كل حني وتساءل يف‬
‫نفسه عن قيمة احلياة وفائدهتا إذا كانت ستؤول إىل الفناء‪...‬‬
‫(( _الفناء؟‪!!)).‬‬
‫حي على هذه‬ ‫لكأنه يتذكر ألول مرة أن الفناء هو النهاية احلتمية لكل ّ‬
‫األرض!!‪ ،‬وتذكر صفوان موقف عصام عندما أتلف له دفرت حماضراته‪،‬‬
‫وكيف واجه إساءته باحللم والتسامح‪ ،‬فأشرق هذا املوقف يف نفسه‪ ،‬وأينعت‬
‫بذوره الطيبة‪...‬‬
‫يلح عليه حبماس ألن يزرع نبتة خضراء‬ ‫وأصغى لضمريه املنتفض الثائر وهو ّ‬
‫ط سطراً مضيئا يف صفحة حياته القامتة‬ ‫يف صحراء حياته املقفرة‪ ..‬ألن خي ّ‬
‫السوداء‪ ...‬ألن يضئ مشعة يف ظالم عمره احلالك املدهلم باخلطايا‬
‫واآلثام‪ ...‬فتناول مالبسه كيفما اتفق وهرع إىل املستشفى لريقب أحداث‬
‫هذه املأساة الفظيعة اليت قلبت كيانه من الداخل‪...‬‬
‫واندلعت املخاوف يف قلوب املنتظرين وهم يشعرون بالدقائق تزحف بطيئة‬
‫تتكسر على صخرة اليأس واالنتظار‪ ،‬وكلما‬ ‫رهيبة ثقيلة‪ ،‬وبسهام األمل وهي َّ‬
‫انكسر سهم األمل أو طاش جترأ هاجس املوت فأبرز خملباً من خمالبه‬
‫انقض على األعصاب اخلائفة املرتعدة ليعريها من كل صرب‬ ‫الوحشية احلادة و َّ‬
‫ويرتكها فريسة للقلق املؤمل املمض تئن وتتلوى‪ ،‬وفجأة‪ ...‬تلقفت بعض‬
‫األمساع صرخة سامية فأيقنت بالكارثة‪ ،‬وخفقت قلوب أصحاهبا بشدة‪،‬‬
‫واجتهت أنظارهم الكئيبة الذاهلة إىل األم املسكينة يف إِشفاق بالغ‪ ،‬إال أن‬
‫حركتهم هذه أثارت الشكوك يف نفسها‪ ،‬فاشرأبت بعنقها حنو الباب يف‬
‫خوف وهلع‪ ،‬وأخذت ترقب املوقف بذعر شديد‪...‬‬
‫وخرج الدكتور جهاد من غرفة العمليات مطرق الرأس‪ ،‬واجم الوجه‪ ،‬ساهم‬
‫النظرات ال يكاد يدري ماذا يقول‪ ...‬فحاصرته النظرات القلقة املتوجسة‬
‫بينما هرعت إليه األم هلعة مذعورة وقد حتركت يف أعماقها غريزة تتنبأ‬
‫بالفاجعة‪ ،‬وهتفت من بني الدموع يف هلفة وتوسل وانكسار‪:‬‬
‫طمين‪ ..‬كيف حاله اآلن؟‪ ..‬أخربين أرجوك‪ ..‬أتوسل إليك‪..‬‬ ‫‪-‬دكتور‪ ..‬ه‬
‫أقبّل رجليك‪ ..‬قل يل كلمة واحدة ترحيين‪ ..‬قل إنه سيعيش‪ ..‬أرجوك‪..‬‬
‫حاول الدكتور جهاد أن يتكلم‪ ،‬لكن إرادته خانته فأجلم احلزن واإلشفاق‬
‫لسانه‪ ،‬ووقف حائراً جامداً مكانه كتمثال‪ ،‬وقد الزمه اإلطراق احلزين‬
‫فأخفى وراءه دموعه الصامتة الغزيرة مما زاد يف ذعر األم وهلعها‪ ،‬فسألته‬
‫وهي تعزه بعنف وقد طار صواهبا‪:‬‬
‫‪-‬ماذا جرى؟‪ ..‬هل؟!‪ ..‬هل؟‪!..‬‬
‫وأراد الدكتور جهاد أن يديل باحلقيقة املرة‪ ،‬لكن نظراته الدامعة الكئيبة‬
‫كانت أسرع إىل إعالهنا‪ ،‬وقال بصوت متهدج ونرات تقطر حسرة وحزناً‪:‬‬
‫‪-‬تذرعي بالصرب يا أختاه‪ ..‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪...‬‬
‫وانفجر يف أعماق األم بركان هائل من األمل فقذف حبمم اللوعة واحلسرة‬
‫واألسى يف أغوارها املظلمة‪ ،‬فأحرقت كل معاين احلياة‪ ،‬وانساحت إىل قلبها‬
‫املفطور فأحالته إىل مجرة ملتهبة من احلزن‪ ..‬وأرسلت صرخة حممومة تتلظّى‬
‫باحلرقة وااللتياع وكأهنا زفري النار اليت استعرت يف داخلها‪ ،‬فصرخت بنربات‬
‫وجعة متفجعة وهي تضغط على صدغيها بيدين متشنجتني‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪..‬‬
‫مث ولولت واندفعت تريد أن تقتحم الباب وهي تصرخ يف صوت يتوهج‬
‫باحلزن واللوعة واألمل‪:‬‬
‫‪-‬ابين‪ ..‬حبييب‪ ..‬أروين إياه‪ ،‬أريد أن أراه‪ ..‬ال تقولوا إنه مات‪ ..‬إن مات‬
‫فسأحلق به‪ ..‬فال طعم للحياة دونه‪ ..‬ال طعم للحياة بعده‪...‬‬
‫وحاولت زوجة الدكتور إياد أن حتجزها لتهدئ من روعها‪ ،‬لكنها أفلتت‬
‫منها وانطلقت ال تلوي على شئ وهي تنادي وتصيح‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬ولدي‪ ..‬حبييب‪ ..‬أين هو يا ناس‪ ..‬أريد أن أراه‪ ..‬أريد أن‬
‫أمشه‪ ..‬أريد أن أضمه‪ ..‬أريد أن أقبله‪ ..‬مل تفرح بنجاحك يا ولدي‪ ..‬مل‬
‫تفرح بزواجك‪ ..‬ال اعرتاض على أمرك يا رب‪ ..‬باألمس زوجي واليوم‬
‫ولدي‪...‬‬
‫كانت كلمات األم امللوعة تنفذ إىل القلوب املفجوعة وتنهال عليها بطعن‬
‫عنيف أليم فتنزف باحلزن واحلسرة والوجع حىت يفيض نزيفها من العيون‬
‫دمعاً هتوناً يتدفق‪ ..‬وأجهش احلاضرون وعلت صوت بعضهم‪ ،‬فضجت‬
‫القاعة بالبكاء والنحيب‪ ...‬وهرعت سامية إىل محاهتا املسكينة فارمتت يف‬
‫أحضاهنا وهي تبكي مبرارة وغمغمت يف حرقة وأسى‪:‬‬
‫‪-‬لقد تركنا دون وداع يا أماه‪...‬‬
‫هتفت األم يف ضراعة وتوسل وهي تنتحب‪:‬‬
‫‪-‬قوديين إليه يا ابنيت‪ ..‬خذيين إليه‪ ..‬أريد أن أراه‪ ..‬أريد أن أراه‪...‬‬
‫قالت سامية من بني الدموع وقد شعرت بواجبها يف هذه اللحضات‬
‫الدقيقة‪:‬‬
‫‪-‬ال حتزين يا أماه فعصام يف اجلنة‪ ..‬أجل يف اجلنة‪ ..‬شاب بطهره وصفائه‬
‫مكانه هناك‪ ...‬ال حتزين يا أماه فسوف يهبه ربنا خرياً مين‪ ..‬سيزوجه من‬
‫احلور العني‪ ..‬من احلور العني يا أماه‪...‬‬
‫وتعاىل بكاؤمها وحنيبهما فصدع القلوب اجلرحية‪ ،‬وأسرع الدكتور إياد‪ ،‬ففصل‬
‫بني االثنتني وقال لألم مواسياً وهو يقودها إىل ابنها الفقيد‪:‬‬
‫‪-‬هوين عليك يا أختاه‪ ..‬هذا قدر اهلل – سبحانه ‪ ... -‬تعايل فودعيه ‪...‬‬
‫وما إن وصلت األم إىل جثمان ابنها الراحل حىت انكبت على جسده‬
‫املسجى بالبكاء والعويل وراحت تلثم وجهه وجسده ويديه‪ ،‬وتغرقه‬
‫بالقبالت والدموع‪ ،‬وأخذ احلزن منها كل مأخذ‪ ،‬فصرعتها اللوعة املريرة‪،‬‬
‫وأغمي عليها فحملت إىل غرفة اإلنعاش‪.‬‬
‫ودخل األصدقاء ليلقوا على صديقهم الراحل نظرة الوداع األخري‪ ،‬فتقدم منه‬
‫سعد يف هدوء وحزن وحتسر‪ ،‬وكشف عن وجهه الغطاء يف رهبة وما إن رأى‬
‫الرأس املهشم املثخن باجلراح حىت نشج ببكاء مر أليم‪ ،‬مث مال عليه يف‬
‫حب ولوعة وطبع على جبينه قبلة الوداع‪ ،‬مث تنحى وهو يرتنَّح من عمق‬
‫األسى ووقع املصاب فاستند بكتفه على اجلدار وراح يتلو ((الفاحتة)) يف‬
‫ٍ‬
‫صمت دام ٍع حزين‪.‬‬
‫مث تقدم األصدقاء جمهشني‪ ،‬فقبلوا صديقهم عصام يف حب وأسف ووقفوا‬
‫حول سريره حمزونني حمتسرين وهم يبكون‪ ...‬ودخل عرفان وهو يتكئ على‬
‫كتف الدكتور أمحد الذي محله لريى جثة عصام بعد إحلاح شديد‪ ،‬وما إن‬
‫وقع بصره على جسد الصديق الفقيد حىت أسرع إليه وهو يعرج غري عابئ‬
‫جبراحه وآالمه‪ ،‬وأكب عليه وهو يبكي وينادي يف حرقة والتياع‪:‬‬
‫‪-‬عصام‪ ..‬ال تذهب يا صديقي فال هبجة لنا بدونك‪ ..‬سوف حنيا من‬
‫بعدك كاليتامى الذين فقدوا أمهم وأباهم وأخاهم‪ ..‬واحزناه‪ ..‬واأسفاه‪..‬‬
‫أين الذكاء والنبوغ؟‪ ..‬أين األمل والطموح؟‪ ..‬أين البسمة الراضية‬
‫الودودة؟‪ ..‬أين العزمية الواثقة اجلريئة؟‪ ..‬أين الذكريات؟‪ ..‬واحسرتاه‪...‬‬
‫وفجرت كلمة الذكريات جراح األصدقاء‪ ،‬فانتفضت نازفة أليمة‪ ،‬فهم‬ ‫ّ‬
‫سيودعون مع عصام حياة مجيلة عامرة بالذكريات احلبيبة السعيدة‪ ..‬حياة‬
‫رائعة فريدة‪ ..‬سيفتقدون طعمها احللو اللذيذ مهما امتدت هبم األيام‬
‫والسنون‪.‬‬
‫ليتعرفوا على صاحب الصوت‬ ‫وتعاىل من خلفهم حنيب شديد فالتفتوا َّ‬
‫الباكي‪ ،‬فأدهشهم أن يروا صفوان وقد غطى وجهه بكفيه وهو جيهش ببكاء‬
‫شديد‪ ،‬فعجبوا هلذا التغري الذي طرأ عليه‪ ،‬وتأثَّروا أّميا تأثر‪ ،‬فغلت مراجل‬
‫حزهنم وتأججت‪ ،‬وعال حنيبهم من جديد‪...‬‬
‫واشتدت عليهم وطأة احلزن واألمل‪ ،‬فكابد اجلميع حلضات قاسية رهيبة ال‬
‫تنسى‪ ،‬وشعروا باللوعة املرة تعتصر قلوهبم وتضغط على أنفاسهم فتضطرب‬
‫وتضيق‪ ،‬فانفلتوا من هذا اجلو الكئيب الهثني‪ ،‬وجلأوا إىل حديقة املستشفى‬
‫ينشدون هواءً نقياً مل يلوثه احلزن بنفثاته السامة اخلانقة‪ ،‬وما إن وصلوا إىل‬
‫هناك حىت طرق مسعهم صوت سيارة إسعاف قادمة وهي حتمل مصاباً‬
‫جديداً‪ ..‬يصارع املوت ويتشبَّث بأهداب احلياة‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل احلادي والعشرون‬
‫نالت احملنة الرهيبة من الدكتور إياد‪ ،‬وشغلته عن عيادته ومرضاه‪ ،‬فتفرغ‬
‫ليواجه مهومه وأحزانه ويقوم بواجبه حنو األم امللوعة املسكينة اليت فقدت‬
‫ابنها وفلذة كبدها وأملها الوحيد يف احلياة‪ ،‬ويقف إىل جانب ابنته احلزينة‬
‫وقد سلبتها املأساة األليمة كل مشاعر األمل والسعادة والفرح اليت احتشدت‬
‫يف نفسها لتستقبل مناسبة زفافها إىل الفىت العظيم الذي تولعت به‪ ،‬فجاءت‬
‫هذه املناسبة دامية كئيبة‪ ،‬مفعمة باآلالم‪...‬‬
‫واليوم‪ ..‬قرر الدكتور إياد أن خيرج من عزلته ليواجه احلياة من جديد‪ ،‬وقد‬
‫تبخر منها أحد آماله الكبرية حتت وهج املأساة الدامية‪ ،‬فمضى إىل عيادته‬ ‫َّ‬
‫بغري محاس‪ ،‬وراح يهبط يف السلم خبطوات متثاقلة‪ ،‬ونفس مهمومة‪ ،‬وذهن‬
‫مكدود‪.‬‬
‫ولدى الباب توقف حلظة وقد هتيَّب الدخول‪ ..‬فالعيادة مزروعة بطيف الفىت‬
‫الفريد الذي أحبه من أعماقه‪ ،‬فمنحه أبوته‪ ،‬وشعر ببنوته‪ ،‬وح ّفه بالرعاية‬
‫االهتمام‪ ،‬ووجه خطاه إىل مستقبله الواعد فما لبث العقل العبقري أن‬
‫تلمس دربه يف أناة‪ ،‬وانطلق يف سلم اجملد كالنسيم‪ ..‬حيقق النجاح إثر‬ ‫َّ‬
‫النجاح‪ ..‬وضغط الدكتور إياد على آالمه‪ ،‬فاقتحم تردده‪ ،‬وختطّى عتبة‬
‫الباب‪ ،‬فاستقبلته املمرضة بابتسامة مر هحبة‪ ،‬وشت باملواساة فألقى عليها حتية‬
‫السالم‪...‬‬
‫‪-‬وعليكم السالم‪ ..‬خامتة األحزان – إن شاء اهلل‪- ...‬‬
‫‪-‬بارك اهلل يف عمرك يا ابنيت‪ ،‬وجنبك الرزايا واألحزان‪...‬‬
‫‪-‬كيف والدته اآلن؟‪ ..‬منظرها الكئيب ال يفارقين‪...‬‬
‫‪-‬هي بني املوت واحلياة‪ ...‬بني العقل واجلنون‪ ...‬تقتات احلزن واألسى‪،‬‬
‫وتروي جراحها بالدموع‪ ،‬أحياناً تبدو شاردة ذاهلة سامهة وكأهنا متثال من‬
‫الشمع‪ ،‬وأحيانا تبدو كتلة الهبة من األحزان‪ ..‬لقد ه ّدها املصاب‪ ،‬وانطفأ‬
‫يبق هلا من احلياة إال أنفاس وانية ترتدد يف جسم يسعى‬ ‫يف قلبها األمل‪ ،‬فلم َ‬
‫حنو الذبول‪...‬‬
‫‪-‬كان اهلل يف عوهنا‪ ..‬والدكتورة سامية؟‪ ..‬ما أخبارها؟‪...‬‬
‫أجاهبا وهو ميضي إىل غرفته سامهاً حزيناً‪:‬‬
‫‪-‬أخبار فتاة مسكينة فقدت فتاها عشية زفافها‪ ،‬واكتشفت إن سفينة‬
‫أحالمها متضي وسط حبر من األحزان‪.‬‬
‫‪-‬شئ مؤسف حقاً‪ .‬يا لقسوة األقدار‪!..‬‬
‫قال الدكتور إياد وهو يتهالك على كرسيه يف ملل وإرهاق‪:‬‬
‫‪-‬ال‪ ..‬ال تقويل هذا يا ابنيت‪ ،‬فاألقدار ال ذهب هلا فيما حصل‪ ،‬وسواء كان‬
‫قدرنا سعيداً أم حزيناً فإمنا هو حلقة ال بد منها يف سلسلة وجودنا الكبري‪،‬‬
‫لو مل ميت عصام اليوم فسيموت غدا أو بعده‪ ،‬ولو مل ميت يف حادث سيارة‬
‫ملات بال مقدمات توحي لنا بسبب الوفاة‪ ..‬كلنا سنمضي يا ابنيت‪،‬‬
‫فلنتأهب للرحيل‪.‬‬
‫‪-‬بعد عمر طويل إن شاء اهلل‪..‬‬
‫ابتسم الدكتور ومهس يف شرود‪:‬‬
‫‪-‬عمر طويل!!‪ ..‬لكم نضحك على أنفسنا هبذه الكلمات‪ ،‬فالعمر مهما‬
‫طال‪ ،‬فإنه لقصري‪ ..‬حنن مل خنلق هلذه األرض يا ابنيت‪ ،‬بل خلقنا لنمر هبا‬
‫على عجل يف طريقنا إىل احلياة احلقيقية‪ ...‬حياة اآلخرة‪ ،‬لكن إغراء الدنيا‬
‫وجاذبيتها القوية تستهوي صغار العقول والنفوس‪ ،‬فيبنون على ظهرها الفاين‬
‫صرح سعادهتم املزيفة‪ ،‬فيأيت املوت ليعصف به يف حلضات‪ ،‬أما أصحاب‬
‫النفوس الكبرية واألفق الرحيب فال خيدعهم وهم احلياة أو يغريهم طول‬
‫املكوث فيقضون العمر بطوله كاملسافر الذي مير بغابة ليست مقصده‪،‬‬
‫فيستمتع مبائها ومثرها‪ ،‬ويصمد لوحوشها وذئاهبا‪ ،‬ويصرب على ظروفها‬
‫وأشواكها ويتزود منا مبا يعينه على متابعة الطريق‪ ،‬مث ميضي إىل غايته وهو‬
‫يف شوق إىل الوصول‪...‬‬
‫قال املمرضة وقد بان على وجهها التأثر‪:‬‬
‫فتزود بأعظم الزاد‪ ،‬ومضى إىل ربه‬ ‫‪-‬رمحه اهلل‪ ...‬لقد أدرك عصام هذا‪َّ ،‬‬
‫مؤمناً عابداً تقياً‪ ...‬دكتور تبدو متعباً‪ ..‬هل أحضر لك فنجاناً من الشاي؟‬
‫‪-‬ال‪ ..‬ال أشتهي شيئاً‪ ..‬كيف جتري أمور العيادة؟‬
‫حولت املرضى الذين راجعونا إىل عيادة الدكتور ناجي‬ ‫‪-‬كما أمرت‪ ..‬لقد َّ‬
‫وأرسلت إليه مبلفاهتم اخلاصة‪ .‬هناك جمموعة من الرسائل اليت وردت يف‬
‫غيابك‪ ،‬هل أحضرها لك؟‬
‫‪-‬أحضريها ألراها‪...‬‬
‫أحضرت املمرضة الرسائل فوضعتها أمام الدكتور إياد وانصرفت يف هدوء‪،‬‬
‫فألقى عليها نظرة تنطق بعدم االكرتاث‪ ،‬مث تناول منها مغلفاً كبرياً كتب‬
‫ففض املغلف وأخرج العدد فطالعته‬‫عليه ((صوت اجلامعة‪ -‬عدد خاص))‪َّ ،‬‬
‫صورة الغالف وقد ظهر فيها عصام وهو يبتسم ابتسامة وادعة تفيض‬
‫باألمل والثقة والتفاؤل وقد كتب حتتها خبط أمحر فاقع ((من اغتال هذه‬
‫االبتسامة؟))‪ ..‬فرنا إىل صورة الفقيد بعينني دامعتني وقلب مكلوم‪ ،‬مث أخذ‬
‫يتصفح عناوين العدد يف هدوء حزين‪(( ..‬كلية الطب تنعي علماً من‬ ‫َّ‬
‫أعالمها))‪(( ..‬األمل الذي هوى))‪(( ..‬عصام‪ ..‬ال تقل وداعاً‪ ،‬ولكن إىل‬
‫اللقاء))‪(( .‬تأمالت على ضفاف املوت))‪(( ..‬الدكتور إياد يتحدث عن‬
‫مآثر الفقيد))‪(( ..‬الدكتور إياد يدعو إىل محلة وطنية ملكافحة حوادث‬
‫الطرق‪))..‬‬
‫وتوقف الدكتور إياد عند هذا العنوان‪ ،‬فقد تذكر أن جملة ((اجملتمع اجلديد))‬
‫قد طلبت منه مقاالً حول هذه الدعوة وأبعادها العملية‪ ،‬فأرجأ قراءة العدد‬
‫يتسىن له إعداد املقال‪ ،‬مث ألقى على بقية الرسائل نظرة سريعة فألفى‬
‫حىت ّ‬
‫معظمها رسائل جماملة وتعزية فأجل قراءهتا دون أن ينتبه ألمهية إحداها‪،‬‬
‫وتناول ورقة وقلماً وشرع بإعداد املقال‪..‬‬
‫((عزيزي القارئ‪:‬‬
‫املدمى‪..‬أخطها من‬
‫‪-‬إليك أخط هذه الكلمات املخلصة‪ ،‬مبداد من الدمع ّ‬
‫قبل املأساة الدامية اليت عشتها منذ أيام‪ ..‬أخطها إليك بريشة األسى‪،‬‬
‫وأطياف الضحايا الذين دمرهتم املأساة إياها ترفرف حويل‪ ..‬هتيب يب أن‬
‫أفعل شيئا يوقف طوفان الدم الذي يغرض يف كل يوم املزيد من القتلى‬
‫واجلرحى‪ ..‬إليك عزيزي القارئ أبث هذه الكلمات راجياً منك أن تصغي‪،‬‬
‫متوسالً إليك أن َّ‬
‫تتفكر وتتأمل وتعترب‪...‬‬
‫يف وطين أيها اإلخوة واألخوات وحش مفرتس‪ ..‬وحش كاسر يقف كل يوم‬
‫وسط الشارع‪ ،‬ويرابط عند مفارق الطرق‪ ،‬ويفغر فاه ليبتلع عددا من‬
‫املواطنني األعزاء‪ ...‬وحش رهيب امسه السرعة اجملنونة‪ ،‬ويف بلدي وباء‪...‬‬
‫وباء جارف تنقله جرثومة مستعصية‪ ...‬جرثومة خطرية باتت تستوطن يف‬
‫نفوس الكثريين‪ ...‬جرثومة سامة امسها الفوضى‪ ...‬امسها الالمباالة‪ ...‬امسها‬
‫االستهانة بالنظام‪ ...‬امسها االستخفاف باملنطق‪ ...‬امسها عدم احرتام‬
‫اآلخرين‪ ..‬امسها ((األنا))‪(( ..‬فاألنا)) أصبحت تتحكم بعقولنا وأعصابنا‬
‫وتسيطر على أعمالنا وتصرفاتنا‪ ،‬وأصبح لسان حال الواحد منا يقول ‪:‬‬
‫((املهم ما أريده أنا‪ ..‬املهم ما أفعله أنا‪ ،‬وليذهب العامل من حويل إىل‬
‫اجلحيم‪...)).‬‬
‫ويستغرق وحش السرعة يف طغيانه‪ ،‬ويزداد وباء ((األنا)) انشاراً‪ ،‬فنقرأ كل‬
‫يوم عن حادثة جديدة وكارثة جديدة ومأساة جديدة‪ ،‬وما إن تفتح ملفات‬
‫التحقيق يف هذه احلوادث املستمرة املتكررة حىت تتوجه أصابع االهتام إىل‬
‫السرعة واألنانية والفوضى‪ ،‬لكن أحداً مل يستطع حىت اآلن قمع هذا‬
‫الثالوث اجملرم الذي يروع جمتمعنا‪...‬‬
‫شئ واحد أيها السادة ميكن له أن يوقف هذه املأساة‪ ..‬إنه الرتبية‪ ..‬الرتبية‬
‫األخالقية احلضارية اليت تضبط تصرفات اإلنسان وتزيد من شعور املواطن‬
‫باملسؤولية وحتيي عنده الضمري‪ ..‬وعندما يصحو الضمري يف أعماقنا‪،‬‬
‫نتخل من وحش السرعة الرهيب وينحسر الوباء‪...‬‬
‫باألمس أيها األعزاء حدث حادث فضيع على طريق ((السالم))‪ ..‬حادث‬
‫مروع ذهب ضحيته شاب عظيم‪ ..‬شاب‪..)).‬‬
‫ويتذكر الدكتور إياد عصاماً فريتعش القلم يف يده وجتتاحه نوبة من احلزن‬
‫وتتدفق يف عينيه الدموع‪...‬‬
‫ليتم مقالته‪ ...‬وقبل أن يبدأ وقع بصره‬
‫وانتظر قليال ريثما هدأ روعه مث عاد َّ‬
‫على رسالة معنونة باللغة اإلنكليزية‪ ،‬فألقى القلم من يده وتناول الرسالة يف‬
‫عصبية‪ ،‬وفضَّها يف أمل وأخذ يقرأ من بني الدموع‪:‬‬
‫(( ‪-‬عزيزي الدكتور إياد عزت احملرتم‪:‬‬
‫لقد اطلعت على كشف عالمات الدكتور ((عصام السعيد)) وأعجبت‬
‫بتفوقه ونبوغه أميا إعجاب‪ ،‬وبناءً على ذلك‪ ،‬وعلى ما ح ّدثتين به عن‬
‫اهتمامه وتعمقه بأحباث السرطان‪ ،‬فقد قررت أن أضمه إىل طاقم األحباث‬
‫الذي يعمل معي يف املركز ((الفدرايل)) للبحوث السرطانية‪ ،‬وقد اتفقنا هنا‬
‫يف إدارة املركز على تقدمي منحة للدكتور عصام تسمح له باالختصاص على‬
‫حساب املركز شريط أن يعمل لصاحله مدة ثالث سنوات قابلة للتجديد‬
‫حسب رغبة الدكتور عصام وذلك لقاء راتب شهري يتم حتديده باالتفاق‬
‫معه قبل توقيع عقد خاص ين على بنود االتفاق‪ ،‬أما بالنسبة للدكتورة‬
‫يتسىن هلا االختصاص يف نفس اجلامعة اليت سيتخص فيها‬ ‫سامية‪ ،‬فسوف َّ‬
‫الدكتور عصام على أن يتم االختصاص على نفقاهتا اخلاصة‪ .‬ولعله من‬
‫دواعي سرورنا مجيعا أن جتتمع الطاقات العلمية يف الشرق والغرب إلنقاذ‬
‫البشرية من هذا املرض الرهيب‪ .‬ويف اخلتام أرجو أن تقبل مين خال احلب‬
‫وفائق االحرتام‪ ،‬وأن تنقل تقديري وتشجيعي للدكتور عصام آمالً أن ألتقي‬
‫به عما قريب للتعاون معا يف إجناز مهمتنا املقدسة‪)).‬‬
‫املخل ((فرانكلني جاكسون))‬
‫رئيس اجلمعية األمريكة للسرطان‬
‫***‬
‫الفصل الثاين والعشرون‬
‫كلما جلس سعد يف حديقة بيته‪ ،‬اجتاحته الذكريات العاصفة‪ ،‬وازدمحت يف‬
‫خاطره املشاعر والصور‪ ،‬وهفت نفسه للبكاء‪...‬‬
‫ففي ظالهلا الوارفة كان آخر العهد بعصام‪ ،‬وبني أزهارها الفواحة توهجت‬
‫النجوى بأعذب اآلمال واألحالم‪ ،‬ويف جوها العبق اخلالّب عاش الصديق‬
‫احلبيب آخر حلضات احلياة‪ ،‬ولو كان سعد يعلم أهنا اللحضات األخرية‪،‬‬
‫ألمتع ناظريه برؤياه‪ ،‬وأطرب أذنيه بنجواه‪ ،‬وأترع روحه من رحيق احلب‬
‫الذي مسا وتألق بني الصديقني‪ ،‬فمزج يف نفسيهما وألّف بني‬ ‫اخلال‬
‫ووحد منهما اآلمال واآلالم والدروب‪...‬‬
‫قلبيهما َّ‬
‫ويف هذا املساء‪ ،‬كان سعد يشعر بسآمة وضيق‪ ،‬فخرج إىل احلديقة ينشد‬
‫الراحة والسلوى‪ ،‬وأرسل نظراته املتأملة جتوب أرجاء احلديقة الغناء‪ ،‬فأحسها‬
‫كئيبة مل تستطع فتنتها الطاغية أن متحي مسحة احلزن اليت الحت يف‬
‫أشجارها وورودها وأزهارها‪ ،‬وهب النسيم العذب‪ ،‬فراح يهمس له بأحاديث‬
‫املاضي وذكريات املاضي‪ ،‬فرتاجع يف خضم األيام يرقب صورها احلافلة‬
‫عصاماً وانطالقته املؤمنة‪...‬‬
‫واستغرقته الذكرى‪ ،‬فانتزعته من وعيه‪ ،‬ومحلته إىل تلك األيام اآلفلة السعيدة‪،‬‬
‫فحلَّقت روحه يف مسائها احلبيبة حتاول أن تتشبث بلحظاهتا الباهرة علَّها‬
‫تطفئ هليب األحزان املتأججة يف قلبه وتسكب روعة السالم‪ ،‬لكن وعيه‬
‫القاسي سرعان ما جذبه إليه‪ ،‬فارتد خائباً حمزناً يكابد احلسرة واللوعة‪.‬‬
‫واضطرمت يف أغواره األحاسيس‪ ،‬فشاعت كآبتها يف صدره تروم هلا متنفسا‬
‫مل جتد غري الدموع‪ ..‬واشتد عليه وطأة األحزان فهرع إىل القرآن‪ ،‬وجلس يف‬
‫حجرته يتلو آيات منه‪ ..‬ينشد بني سطوره الكرمية راحة النفس وهدوء‬
‫الروح‪ ..‬يبحث عن حوافز قوية تدفعه قدماً إىل اهلل‪ ..‬ويرتََّّن باحلقائق اخلالدة‬
‫لتنبت يف أعماقه وتزهر وتثمر‪...‬‬
‫ومس مسعه صوت جرس الباب‪ ،‬فطوى املصحف يف هدوء‪ ،‬ووضعه يف‬
‫جالل‪ ،‬ومضى يتبني الطارق‪ ..‬وفتح الباب يف شرود‪ ،‬ففوجئ بالزائر‪ ،‬ومهس‬
‫يف دهشة‪:‬‬
‫‪-‬صفوان؟‪..‬‬
‫‪-‬السالم عليكم‪.‬‬
‫‪-‬وعليكم السالم‪...‬‬
‫‪-‬أخشى أن ال يكون الوقت مناسباً للزيارة!‬
‫‪-‬أبداً‪ ..‬أبداً‪ ..‬تفضل‪..‬‬
‫وقادة سعد إىل حجرته‪ ،‬والتساؤالت احلائرة تنثال على خاطره‪..‬‬
‫((صفوان؟!‪ ..‬ما الذي جاء به؟!‪ ..‬أيزورين؟!‪ ..‬صفوان يزورين؟!‪ ..‬ما‬
‫أعجب النفوس!‪ ..‬أي حتول طرأ عليه؟!‪ ..‬أي سر يكمن يف تصرفاته‬
‫األخرية؟‪!..)).‬‬
‫قال سعد مر هحباً بعد أن استقر به اجمللس‪:‬‬
‫‪-‬أهال بك يا أخي‪ ..‬كم أنا سعيد هبذه الزيارة‪!!.‬‬
‫تساءل صفوان وهو يبتسم يف مرارة‪:‬‬
‫‪-‬أخوك؟!‪ ..‬أحقاً تعتربين أخاك‪!!.‬‬
‫( ‪-‬إمنا املؤمنون إخوة‪).‬‬
‫‪-‬أولئك املؤمنون‪ ..‬أما أنا‪..‬‬
‫‪-‬أنت منهم بإذن اهلل‪.‬‬
‫هتف صفوان يف إنكار‪:‬‬
‫‪-‬سعد‪ ..‬لكأنك ال تعرف من أنا‪ ..‬سأذكرك‪ ..‬أنا صفوان‪ ..‬صفوان‬
‫املستهرت العابث‪ ..‬صفوان املتكرب املغرور‪ ..‬صفوان الفاسق الفاسد الذي مل‬
‫خيطر بباله لون من االحنراف إالّ مارسه‪ ..‬هذا هو صفوان الذي جتامله اآلن‬
‫فتخلع عليه صفة اإلميان‪.‬‬
‫ابتسم سعد يف ثقة وقال‪:‬‬
‫‪-‬أنا ال أجاملك‪ ،‬لو سألتين عن أعمالك السيئة ألدنت لك سوءها‪ ،‬لكن‬
‫ذلك ال ينفي عنك صفة اإلميان‪ ..‬لعلي أعرف اجلانب القامت يف حياتك‪،‬‬
‫لكين مل أعدم التفاؤل يوماً باجلانب املشرق منها‪.‬‬
‫‪-‬أتؤمن باإلنسان ذي وجهني؟‪..‬‬
‫‪-‬بل أؤمن باإلنسان ذي طاقتني متنافستني‪ ..‬طاقة للخري‪ ،‬وأخرى للشر‪..‬‬
‫إذا ما منت إحداها ضمرت األخرى‪ ،‬ولكنها ال متوت‪ ،‬بل تبقى كامنة‬
‫متحفزة تنتظر من األوىل حلظة ضعف أو تراجع لتنطلق من جديد‪ ،‬واإلرادة‬
‫املرجح لكفة هذا الصراع القدمي داخل اإلنسان‪.‬‬
‫هي العنصر ّ‬
‫مهس صفوان بلهجة تفيض باحلسرة والندم وقد اغرورقت عيناه بالدموع‪:‬‬
‫‪-‬فكرت يف أيامي السالفة فلم أجد فيها عمالً يرضي اهلل‪!!.‬‬
‫‪-‬ليس املهم ما كان‪ ،‬املهم ما سيكون‪.‬‬
‫‪-‬لكن ما كان كثري‪ ..‬كثري‪..‬‬
‫‪-‬رمحة اهلل وسعت كل شئ‪.‬‬
‫‪-‬وما الطريق إليها؟‬
‫‪-‬أراك قد خطوت فيه خطوات‪...‬‬
‫‪-‬ال أفهمك؟‬
‫قال سعد وابتسامته اهلادئة ال تزايله‪:‬‬
‫‪-‬الشعور بالذنب والندم عليه نصف الطريق إىل اهلل‪.‬‬
‫‪-‬والنصف اآلخر؟‬
‫‪-‬أن تعمل مبا يرضي اهلل‪..‬‬
‫‪-‬وكيف أرضي اهلل؟‬
‫‪-‬بأن جيدك حيث أمرك‪ ،‬ويفتقدك حيث هناك‪.‬‬
‫تساءل صفوان يف هلفة‪:‬‬
‫‪-‬ويغفر اهلل يل كل ما سلف؟؟‬
‫‪-‬ويبدَّل سيئاتك حسنات إالَّ‪..‬‬
‫‪-‬إالَّ ماذا؟!!‬
‫‪-‬إالًّ ما كان منها يف حق اآلخرين‪ ،‬فال يغفرها حىت يصفح عنها اآلخرون‪.‬‬
‫‪-‬اآلخرون؟‪!..‬‬
‫(( ‪-‬مىن)) مثال‪!..‬‬
‫‪-‬آه‪(( ...‬مىن)) ‪ ..‬املسكينة‪ ...‬ضحكت عليها‪ ...‬أوقعتها يف شباكي‪،‬‬
‫وحققت منها مآريب‪ ،‬مث ركلتها بعيداً‪ ،‬ومرغت مسعتها بالرتاب‪ ..‬ولكن كيف‬
‫السبيل إىل مغفرهتا؟‬
‫‪-‬بأن متسح جراحها‪ ،‬أن تتزوجها لتعيد هلا كرامتها واعتبارها مث تشدها‬
‫معك إىل دائرة التوبة واإلميان والعمل‪ ،‬وأنا أعدك بأين سأبذل كل ما يف‬
‫وسعي ألمجع بني قلبني تائبني فرق بينهما الشيطان‪.‬‬
‫قال صفوان ودموع التوبة تبلَّل وجهه احلزين‪:‬‬
‫‪-‬إين أعاهد اهلل أمامك أن أسعى إلنصافها مين ورضائها عين‪ ..‬سأختذها‬
‫زوجة كرمية‪ ..‬سأنسيها كل خديعة أو إساءة‪ .‬وسأفرش دروهبا بالسعادة‬
‫والسرور‪...‬‬
‫وصمت صفوان وقد أملت به ذكرى دامعة‪ ،‬مث تساءل يف حزن وأسف‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪-‬وعصام؟‬
‫‪-‬عصام!‬
‫‪-‬لقد أسأت إليه كثرياً‪...‬‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ ...‬مند دقائق فقط كنت أكابد ذكراه‪...‬‬
‫‪-‬لقد هزين موته من األعماق‪ ،‬وعلى أعتاب موته سألت نفسي‪ ..‬من هو‬
‫عصام؟‪ ..‬إنه أنا وأنت وهو وهي‪ ..‬إنه اإلنسان وهو حيلم ويطمح ويبين‬
‫قصور األماين على أرض الفناء‪ ،‬مث ميضي دونا وكأهنا ال تعنيه‪ ،‬وكأنه مل‬
‫يتعب ويعرق ويشقى من أجلها‪ ،‬وفكرت فيما بعد املوت فأشفقت من‬
‫النهاية وخفت من سوء املصري فلجأت إىل اهلل‪ ..‬أطرق أبوابه يف ذلة وندم‪..‬‬
‫أطلب الصفح والغفران‪ ..‬أنشد التطهر‪ ..‬أغسل الذنوب بالدموع‪ ..‬أحبث‬
‫عن هدوء النفس وراحة الضمري‪ ،‬وهلذا جئت إليك‪...‬‬
‫‪-‬أهالً بك يا أخي يف صفوف التائبني الصادقني‪ ..‬كلنا خيطئ ويكبو‪ ..‬من‬
‫منا ال خيطئ؟‪ ..‬املهم أن ال نصر على اخلطأ‪ ..‬أن ال نكابر‪ ..‬أن ال ننتحل‬
‫له املربرات واملعاذير‪ ،‬والتائب حبيب الرمحن‪...‬‬
‫‪-‬مل تقل يل كيف السبيل إىل صفح عصام وقد مضى إىل ربه؟‬
‫تنهد سعد وقال‪:‬‬
‫‪-‬اطمئن‪ ..‬قد حتتاج لصفح اآلخرين إالًّ عصاماً‪ ..‬فما كان احلقد ليجد‬
‫طريقاً إىل نفسه‪ ..‬لقد كانت اإلساءات – مهما عظمت – تضيع يف‬
‫خضم قلبه الكبري‪ ،‬وتتالشى‪ ...‬إنسان حيمل على كاهله مهوم الناس‬
‫وآالمهم لن جيد يف قلبه متَّسعاً ليكره أحداً‪.‬‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ ..‬مسعت عن آماله الكبرية فهزئت منها‪ ..‬لقد كان فيما مضى‬
‫هدفاً لسخرييت‪ ،‬واليوم أمسى مثالً وضيئاً أتلمس خطاه‪.‬‬
‫قال سعد يف شرود حزين‪:‬‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ ..‬نسجنا األحالم معاً‪ ،‬وهندسنا املطامح‪ ،‬ورمسنا الدروب‪ ..‬ليلة‬
‫احلادث كان عندي‪ ..‬كنا خنطط ملشاريع املستقبل‪ ..‬كان شعلة من االندفاع‬
‫واحلماس‪ ..‬اتفقنا على إنشاء صندوق ملكافحة السرطان ليكون يف املستقبل‬
‫رافداً قويا لكل املشاريع واملؤسسات اليت تساهم يف القضاء على هذا املرض‬
‫الفتَّاك‪ ..‬حلمنا بإنشاء مجعية وطنية ملكافحة السرطان‪ ،‬ومركزاً ألحباث‬
‫السرطان‪ ،‬ومستشفى ملعاجلة السرطان و‪ ..‬وفجأة‪ ..‬اختفى رائد كل هاتيك‬
‫تعوض‪.‬‬
‫الطموحات‪ ..‬لقد كان خسارة فادحة ال َّ‬
‫هتف صفوان يف محاس‪:‬‬
‫حق‬
‫بودي لو أقدهم شيئاً‪ ..‬إين مدين لعصام بصحويت هذه وقد َّ‬
‫‪-‬سعد‪ّ ..‬‬
‫الوفاء‪ ..‬سوف أسعى لتحقيق كل آماله‪ ..‬أنا أملك املال وأنت متلك الفكرة‬
‫والطموح‪ ..‬فلنكن يداً واحدة‪ ..‬حنن وبقية األصدقاء‪ ..‬سننشئ الصندوق‬
‫الذي كان حيلم به عصام‪ ..‬وسنسعى إلنشاء اجلمعية‪ ..‬ومركز األحباث‪..‬‬
‫واملستشفى‪ ..‬أجل‪ ...‬ال يوجد شئ مستحيل‪ ..‬بودي لو أفعل شيئا يا‬
‫سعد‪ ..‬شيئاً عظيماً أكفر به عن ذنويب‪ ،‬وأخدم به ديين وأميت ووطين‪...‬‬
‫كان سعد يصغي إىل صفوان يف سرور عارم وقد تألقت على ثغره ابتسامة‬
‫حب وإعجاب‪ ،‬وملعت يف عينيه فرحة طاغية‪ ،‬وأحس بروح عصام وهي‬
‫ختفق من جديد‪.‬‬

You might also like