Professional Documents
Culture Documents
هذه القصة
لوحة حزينة من صميم الحياة ،التقطت أحداثها من بحر
النسيان ،فحملتها إلى شطآن الذاكرة ،فجففتها بمدادي
ُ
أعدت إليها بعض معالمها الضائعة وغلفتها بكلماتي ،بعد أن
وعمقت فيها بعض الخطوط واأللوان ،ثم وضعتها في ُ ،
متحف األيام ،عبرة بالغة لمن أراد اإلعتبار.
الدكتور عماد زكي
ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء ،
وتراوحت بين التماسك واإلنهيار ....
فترددت طويال ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف ،فتناولت
زجاجة السم التي أحضرتها خصيصا لهذا الغرض ،ووقفت
على الحد الفاص بين الموت والحياة ،تقدم خطوة وتؤخر
أخرى ...وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفا ،وأخذت
مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها ،فتشنجت
أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنح على حافة الفناء
...
الـفـصــل األول
الـفـصــل الثالث
-الكلية كلها تتحدث عن مبادرة ِ
أبيك اليت وعد فيها بتبين املواهب
العلمية .يقولون بأنه كان يقصد عصاماً بعرضه..
أجابت سامية يف محاس:
-هذا صحيح ..فوالدي حيبه جدا ،ويرى فيه شاباً نادراً بذكائه ونبوغه
وطموحه.
سألتها ((مىن)) وهي ترميها بنظرة ماكرة:
-وأنت؟ ..وماذا ترين فيه؟..
-أنا؟..
علي يا عزيزيت...
أجل أنت ..إن اهتمامك بعصام ال خيفي ًّ
-أنت تتومهني.
إن عصاماً من النوع الذي -سامية ال تراوغي معي ،فأنا أرفك جيداًًّ ،
يستهويك ،فهو شاب هادئ ..مؤدب ..متفوق ..وسيم ..وذو شخصية
آسرة...
قالت سامية يف حزم:
(( -مىن)) ..ال تطرقي أمامي هذه األحاديث .احتفظي مبالحظاتك
لنفسك.
ضحكت مىن وقالت:
-ال داعي للغضب ...اعتربي كالمي مزاحاً...
-لكنه مزاح ثقيل ال أحبه.
-حسناً ..حسناً ..كما تريدين.
قالت سامية يف ضيق حماولة إهناء احلديث:
-هيا بنا اآلن ،فقد اقرتب موعد احملاضرة...
مث مضت بصحبة ((مىن)) غاضبة ،غارقة يف خواطرها ...
هذه الفتاة املزعجة مل تعد تروق هلا ،لكنها تضطر جملاملتها أحياناً وفاء
لذكريات قدمية ..إذ أهنا الوحيدة من بني زميالهتا يف املدرسة اليت دخلت
معها كلية الطب ،فنشأت بينهما صداقة قوية يف البداية لكن ((مىن)) ما
لبثت أن اجنرفت مع تيار االحنالل الذي اجتاح اجلامعة يف السنوات
األخرية ،وكانت بداية انزالقها رحلة جامعة تعرفت خالهلا (( بصفوان))
الذي سحرها بثرائه الواسع ومظهره الباذخ وكالمه املعسول ففتنت به
وانساقت وراءه وكأهنا تعوض من خالله عن حرماهنا من مباعج احلياة اليت
مل تتمكن عائلتها الفقرية أن توفرها هلا ،فاستغل ((صفوان)) نقاط ضعفها
واستدرجها إىل حياته العابثة الفاجرة .وحاولت سامية إنقاذ صديقتها،
فحذرهتا من ((صفوان)) وأالعيبه املاكرة ،لكنها مل تلق باالً لنصائحها،
وأمعنت يف سلوكها اجلديد ،فرتاجعت عالقتهما حىت أخذ شكل اجملاملة
الباردة تضطرمها إليها ظروف احلياة اجلامعية.
إن ما يزعج ((سامية)) حقاً أن ((مىن)) قد الحظت اهتمامها بـ((عصام))،
لكن! ..مىت كانت تعبأ مبالحظة فتاة مستهرتة كهذه؟ ..إهنا فتاة واثقة ّ
خيرس كل األلسنة
بنفسها ،وحسبها سلوكها اجلامعي النظيف الذي سوف ُ
اليت قد حتاول االصطياد يف املاء العكر...
إهنا مل ترتكسب خطأ إذ اهتمت بـ((عصام)) فهو شاب متميز فعال
لشد ما جيذهبا هدوؤه اآلسر ،وهذا الربيق العجيب بشخصيته وسلوكهَّ ..
الذي يلوح يف عينيه ..إهنا حتس فيه ذكاءه املتَّـقـد وقد امتزج يف نظراته بكآبة
عميقة حتكي قصة حزن قدمي.
لقد كان اجلميع أمس يصغون إىل أبيها وهو يديل بأفكاره ويناقش طالبه،
أما هي فقد كانت شاردة اللب ،مشغولة الفؤاد تفكر يف ((عصام))وتبحث
عن مفتاح شخصيته الذي تدخل به إىل قلبه وعقله.
إهنا فتاة ناضجة تضج حيوية وأنوثة ،لكنها ترفض االبتذال ،وتكره أن تلفت
نظر من تتمناه باألساليب الرخيصة اليت تلجأ إليها الكثريات ،كما أهنا ال
ترضى أن تتزوج من أي شاب يطرق باهبا ،ألهنا ترى يف األسرة مؤسسة
خطرية ينبغي أن ال متنح إدارهتا ألي كان ...هإهنا حتلم برجل يناسب
تطلعاهتا ،وتلتقي معه يف فهمه للحياة.
(( -ترى كيف ينظر عصام للحياة؟ ..وما هو تصوره للحياة الزوجية؟ ..مث
ما هي الشروط اليت يطلبها يف زوجته؟ ..إين أالحظ يف عينيه اهتماماً خاصاً
يب ،ولكن ..أال ميكن أن يكون مبعث ذلك هو احرتامه لوالدي وحبه له؟..
ليتين أدرك ما يفكر فيه ،ولكن كيف؟..)).
ترددت هذه األسئلة يف خاطرها بإحلاح.
لقد علّمها والدها أن البيت السعيد هو البيت الذي يديره الرجل القوي
األمني وتعمره املرأة املخلصة باحلب واحلنان لينشأ األطفال يف ظالله نشأة
سليمة ..متوازين الشخصية ..أقوياء النفس واجلسد ..أنقياء الضمري...
(( -األطفال! ..ما أروع األطفال!..)).
هكذا رددت سامية يف نفسها ،ففي أعماقها غريزة أمومة جارفة ال تدري
مىت سيكتب هلا اإلرتواء ،ويف صدرها طاقة هائلة من احلب واحلنان تريد أن
تنبثق ..لكم تتمىن أن تصبح أما لتحضن أطفاهلا ..لتضمهم حتت جناحها،
يتبوؤون
وتسبغ عليهم من عطفها وحناهنا وتصنع منهم رجاالً ونساء َّ
مكانتهم الرفيعة بني الناس...
وانتبهت سامية إىل قدوم ((صفوان)) باجتاههما ،فشعرت حنوه باالمشئزاز،
فأستأذنت ((مىن)) وانصرفت جتنباً هلذا الشاب املتعجرف السخيف الذي
يرميها دائماً بنظرات مستعلية تنطق باهلزء والتحدي ال سيما بعد أن علم
من صديقته ((مىن)) رأيها فيه.
ويف طريقها صادفت ((عصاماً)) وهو يتحدث مع صديقه ((سعد)) ومسعته
يقول يف محاس:
-الطب مسؤولية وأمانة...
فتساءلت يف أعماقها:
-أين الثرى من الثريا؟!..
***
الفصل الرابع
الليل ساج ..واهلدوء يرمي بثقله على كل شئ ،ال يقطعه إال حفيف أوراق
الشجر اليابسة ،حتركها نسائم اخلريف اليت بدأت تتسلل إىل غرفة عصام،
وقد فتح نافذهتا ،ليطرد رائحة املواد الكيماوية اليت تراكمت يف جوها ،واليت
كان يستعملها يف تلوين بعض احملضرات الطبية حىت يتمكن من متييز
معاملها التشرحيية الدقيقة حتت اجملهر.
وجذبته رائحة اخلريف ،فتقدم من النافذة وراح يتأمل منظر احلديقة الكئيب،
وقد تعرت أشجارها إال شجرة من الورد ظلّت حمتفظة خبضرهتا الزاهية تتيه
ببضع براعم مجيلة قد انتصبت يف خيالء تتحدى الربد والريح ،وتعطر اجلو
بأرجيها الطيب...
وأغراه قرهبا بقطف أحد براعمها ،فتطاول جبسمه ،وم ّده إىل أقصى ما
يستطيع ،فالتقطت أنامله ساق الربعم ،فعاجله حماوال قطفه ،فانفصل عن
أمه بصعوبة ،بعد أن أدمت إحدى أشواكه إهبامه األمين.
ارتد عصام إىل اخللف ،وراح يستنشق راحة الربعم الزكية ..لكم يفتنه منظر
الورد ..إنه يبعث يف نفسه سعادة غامرة وحيرك يف صدره أشواقاً ال يدري
كنهها ..أحياناً حيس وكأن الوجود قد
طوي يف ميينه ،لكن هذه اللحظات اجلميلة سرعان ما تتسرب من نفسه،
لتلح عليه مهومه الكربى.
وندت عن اجلرح ومضة أمل خفيفة ،فنظر إىل قطرة الدم اليت جتمدت على
مر خباطره شريط سريع ختيل فيه كل التفاعالت احليوية اليتفوهته ،وقد ّ
حدثت داخل هذه القطرة الصغرية من الدم حىت ختثرت لتشكل سدادة
دموية متنع استمرار النزيف.
(( -سبحان اهلل))...
قاهلا عصام وهو يتجه إىل صيدليته ليعاجل جرحه الصغري ،مث مضى إىل
الغرفة اجملاورة فصب كأساً من املاء وغرس فيه ساق الربعم ،ووضعه على
منضدته ،مث اسرتخى على كرسيه وراح يتأمل برعم الورد الذي تألق مزهوا
بني أكداس من الكتب واألوراق.
وبعد حلظات من التأمل تناول عصام كراسة أنيقة تضم حماضرات الدكتور
إياد ،لرياجع حماضرة اليوم قبل أن ينام .لقد كانت حماضرة ممتعة حقاً ،وأمتع
ما فيها كالم الدكتور الذي يف نفسه ينابيع الطموح ،وفتح أمامه آفاقاً
جديدة بلور من خالهلا تطلعاته إىل املستقبل .إن االهتمام مبرض السرطان
يسيطر عليه ...هذا املرض اللغز الذي يتحدى فضوله ،ويدفعه ملنازلته بكل
ما
أويت من علم وعزم وتصميم .لقد استقرت يف فكره قناعة ثابتة بأن طريقه
إىل جمده الذي حيلم به ،ال بد أن مير على أشالء هذا املرض الفتّاك!.
إن كلمات الدكتور إياد ال تزال تدوي يف أعماقه...
(( -حقاً ملاذا ال يفكر شبابنا وأطباؤنا أن يشاركوا يف صنع حضارة اليوم
بدالً من استريادها من الشرق والغرب .صحيح أنه جيب علينا تقبل كل
جديد مفيد ،ألن املعرفة ليست مقيدة جبنس أو قوم أو مذهب وألهنا تراث
إنساين لكل البشر ،لكننا يف الوقت نفسه جيب أال نلغي عقولنا وجنمدها
ليفكر لنا اآلخرون..)).
إن عصاماً يشعر اآلن بأن اكتشاف عالج هذا املرض العضال بات أمانة
يف عنقه محلته إياها البشرية بأكملها:
(( -آه ..املشهد املأساوي الباكي يتكرر كل يوم ..مريض مصاب
بالسرطان ..والسرطان ينمو ويكرب ..اآلالم تشتد ،واحلياة تذوي يف جسد
املريض املسكني رويداً رويداً ..أما أعني أهله وأحبائه وأطبائه الذين ال
ميلكون له أكثر من املهدئات واملسكنات ،وكلمات التربير واملواساة اليت
تنضح بالعجز عن اإلنقاذ ..كلمة هذه لكم أكرهها على الرغم من أهنا
أوضح من كل احلقائق اليت توصل إليها الطب احلديث لكنها أقسى
احلقائق
على اإلطالق! ..جيب أن حناول ..ال بد من احملاولة حىت تتم السيطرة على
هذا الداء))...
وأفاق عصام من خواطره مستجيباً لشحنة من النشاط اليت دبت يف عروقه
فراح يقرأ احملاضرة بإمعان..
وانتبه على طرق خفيف على الباب:
ّ -أماه! ..أما زلت ساهرة بعد؟!..
مث ابتسم ألمه ،اليت أطلت بوجهها السمح ومستها اهلادئ ،وهي حتمل
فنجان الشاي وقد تصاعد منه خبار كثيف استثار شهيته.
قال عصام وهو يتناول فنجانه:
-أماه أنت دائماً تزعجني نفسك من أجلي .شكراً لك يا أحلى أم يف
الدنيا ..ما أريد إال راحتك ورضاك..
كفني ضارعني: هتفت األم وهي ترفع إىل السماء َّ
-اهلل يرضى عليك يا ابين عدد أوراق الشجر وحبات املطر...
-ما أحاله من دعاء ..سرتين مين إن شاء اهلل كل ما يسرك...
-إن سروري ال يتم إال بسرورك ،وشئ آخر ستكتمل به
فرحيت..
((حزورة)) طريفة:
هتف عصام وكأنه جييب على ُّ
التخرج؟ ...أليس كذلك؟..
-لقد حزرتُّ ..
قالت األم وهي تلملم الكتب اليت كانت مبعثرة فوق السرير:
لست بالذي حيلم بالتخرج يا بين ،فهو شئ مضمون إن شاء اهلل وما
َ -
إيل البشرى بتخرجك ،لكن ما أقصده هو هي َّاال أشهر حىت تدخل تزف َّ
بنت احلالل ،هل فهمت اآلن؟..
((بنت احلالل ..آه ..لقد وضعت يدك على اجلرح يا ماما!!)).
بذلك ح ّدث عصام نفسه بعد أن هزت أمه بكلماته أدق وتر يف وجدانه
ليعزف حلن احلرمان ،وقفز إىل خياله طيف ((سامية)) فاضطرب فؤاده..
لكم تشده هذه الفتاة إليها جبماهلا الوادع وشخصيتها القوية ،وهي فوق
ذلك ابنة األستاذ الذي حيبه وحيرتمه ،وال بد أن البنت قد ورثت عن أبيها
الكثري من طباعه وأخالقه النبيلة ،غري أن ((سامية)) كانت قد دخلت قلبه
منذ زمن بعيد..
حدث ذلك حني مسع طرفاً من حديثها مع صديقتها ((مىن ))
بعد إحدى اجللسات ،فبعد أن خرج الطلبة من اجللسة العملية ،اضطر
عصام للعودة ،ليتفقد قلمه ،فاسرتعى انتباهه حديث يدور بني فتاتني ومل
تكن كلتامها قد شعرتا بدخوله لوجود حواجز من الزجاج األبيض الشفاف
تفصل بني املناضد اليت ُجترى عليها التجارب .وبعد أن يئس عصام من
هم باخلروج إالَّ أن طرافة احلديث استوقفته ،فأصاخ
العثور على قلمه الضاع ّ
السمح بانتباه شديد...
كانت سامية تقول لصديقتها ((مىن)) يف حزم أوحى له بقوة شخصيتها:
-مىن ..هل تريدين رأيي؟ ..إن صفوان هذا خيدعك ..إن يستغل براءتك
وطيبة قلبك ليغرر بك ..إنه يلعب بعواطفك يا عزيزيت ،وستجدين أن
كلماته زيف وعواطفه سراب يف صحراء من الغش والنفاق..
قالت ((مىن)) تدافع عن ((صفوان)) الذي استحوذ على قلبها وعقلها:
-سامية ..إنّك تظلمينه هبذا الكال..
-أبداً لست باليت تظلم اآلخرين.
-لكنك تبالغني...
-بل هي احلقيقة مبرارهتا أضعها بني يديك ما أريد هبا إال النصيحة أبذهلا
لك كصديقة...
-لكين أحبه...
-وما قيمة احلب إذا مل يوجهه العقل ويكبح مجاحه؟!...
-وأثق به...
-ما الذي أوحى لك هبذه الثقة؟!..
-كلماته ...نظراته ...كل شئ ...كل شئ...
قالت سامية وقد نفذ صربها:
-مىن؟ هل أنت إىل هذا احلد من السذاجة حبيث تثقني بشاب ال تعرفني
عنه أكثر من امسه ولون بدلته و ((موديل)) سيارته ...هل تصدقني؟ ..لقد
مسعت عنه كل ما يعيب ..فكيف ترضني بالذهاب إىل ((شقة)) شاب
تدور حول سلوكه الشبهات حبجة الدراسة واملذاكرة؟
أجابت ((مىن)) متهربة:
-اجلو يف بيتنا ال يساعدين على الدراسة.
-تعايل فذاكري عندي ..سأفتح لك بييت وقليب..
-لكين وعدته..
-اعتذري له..
-سيؤمله اعتذاري..
قالت سامية يف ثقة وهي تضغط على خمارج احلروف:
-بل سيتضاهر بالتأمل العتذارك إمعاناً يف استدراجك.
-هذا رأيك..
-لقد جردك هذا الفىت من إرادتك!..
-أنا واثقة بنفسي.
-أنت واثقة بعواطفك وأهوائك ..أما نفسك فسوف ختونك حتت إغراء
اخللوة حيث تستيقظ الغرائز ويعربد الشيطان..
-أنا أقوى من الشيطان..
قالت سامية وقد أحس عصام أهنا تتأهب للفراق:
-أمتىن ذلك من كل قليب ،ولكين أخشى أن يهزأ مبشاعرك ويستغل
عواطفك ليحقق عن طريقها مآرب مريضة تسئ لسمعتك وهتدد
مستقبلك ..ومثة حقيقة أخرى أود أن ألفت انتباهك إليها..
سألت ((مىن)) يف فتور ساخر:
-وهي ؟..
-هي أن والده من األغنياء أصحاب النفوذ يف البلد ،وسوف خيرج ابنه من
أي ورطة كانت كما خترج الشعرة من العجني إن مل يكن من أجل ابنه فمن
أجل مسعته ومركزه .لقد حذرتك يا عزيزيت فاحرتسي من عواطفك أن تقودك
إىل ما ال حتمد عقباه ..واآلن وداعا...
عندما خرجت سامية رآها عصام فطبعت صورهتا يف قلبه ..لقد أعجب
مبنطقها الواعي ،وأخالقها الرفيعه ،وحرصها على اآلخرين ،وملا رآها ازداد
إعجابه هبذه الفتاة اليت مجعت يف شخصيتها الكثري من الصفات الرائعة
العظيمة..
وأحل عليه الفضول فسأل عنها –ومل يكن يعرفها آنذاك -فأجيب (( :أن
هذه الفتاة تدعى ((سامية إياد عزت)) وهي ابنة الدكتور ((إياد عزت))
رئيس قسم ((التشريح املرضي)) يف الكلية وعندما تعرف على الدكتور
((إياد)) من خالل حماضراته الشيقة وأحاديثه العميقة أعجب بشخصيته
الفذة ،ورأى فيه مثاالً حيتذى ،فاندفع لالهتمام بسامية أكثر ،والتفكري هبا
كزوجة وشريكة حياة.
إن حبه الطاهر ينمو ويكرب مع األيام ،لكنه يكتمه عن اآلخرين ألنه يؤمن
بأن املكان الطبيعي هلذه العاطفة الفطرية النبيلة ال يكون إال يف ظالل الزواج
وهو ال يفكر باإلقدام على هذه اخلطوة قبل التخرج ،وتن ّد عن القلب آهات
فيخفيها عن أمه ،وهي املسكينة اليت قسم هلا القدر من اهلموم ما يكفيها
منذ أن فجعت بزوجها الفقيد.
وأيقظ عصاماً من شروده صوت كتاب سقط على األرض من بني جمموعة
الكتب ،كانت حتملها أمه لتعيدها إىل مكاهنا يف املكتبة..
-أماه ..أرجوك ال تتعيب نفسك برتتيب املكتبة ،بودي لو تنامني.
قالت األم مازحة وهي ترمي ابنها بنظرات تصنعت فيها العتاب :
-هل مللت مين؟
هتف عصام وقد متلكه شعور بالذنب:
-معاذ اهلل ..ما أريد إال راحتك ،فأنت ال تفرتين عن احلركة طوال النهار.
-هل مسعت بإنسان ينام وعيناه ساهرتان؟! ..أنت عيناي اللتان أبصر
هبما فال أستطيع النوم حىت أطمئن عليك ،ولن أترك هذه العادى حىت
أزفك إىل عروسك.
قال عصام وهو يستسلم أمام عناد أمه:
يدي ألنام.
-من أجل عينيك يا ((ماما)) سأترك كل شئ بني ّ
أنه عملك كما تراه مناسباً ريثما أغسل بعض -خذ راحتك يا بين ،و ِ
األواين مث أنام .تصبح على خري..
-وأنت من أهله.
عندما نام عصام كان طيف أمه وطيف سامية آخر ما ودع من أطياف
احلياة.
***
الفصل اخلامس
عندما وصل عصام إىل مكتب الدكتور إياد يف الطابق الثالث من مبىن كلية
الطب ،توقف حلظة ريثما تأكد من سالمة هندامه ،مث طرق الباب طرقاً
خفيفاً ،وقف ينتظر اإلذن بالدخول..
وأطل من وراء الباب وجه مجيل اضطرب له فؤاده ،وأطاح هبدوئه فراحت
الكلمات تتلعثم على شفتيه:
(( -صـ ..صباح اخلري)) ..الدكتور إياد موجود؟..
مل تكن سامية أكثر متاسكا ،فقد امحرت وجنتاها ،ورمشت عيناها ،وقالت
هي تغض طرفها يف حياء:
(( -صباح النور )) ..حلضات ويأيت...
-أعتقد أن لديه ساعة فراغ...
-هذا صحيح ..إنه على وشك الوصول.
-حسناً ..سأعود بعد دقائق.
واستدار عصام يريد أن ميضي لكنه رأى الدكتور إياد قادماً فتوقف
بانتظاره ..ومضت حلضات قليلة ريثما وصل الدكتور إىل مكتبه قاطعاً املمر
الطويل ،فصافح عصاماً حبرارة مث قال مرحباً وهو جيلس وراء مكتبه:
-أهال بك يا بين ..خطوة عزيزة...
خبطى أثقلها اإلحرتام:
قال عصام وهو يتقدم ً
لديك متسع من الوقت للحديث.. -أرجو أن يكون َ
-الوقت ج ّد مناسب ..فلدي اآلن ساعة من الفراغ.
-من حسن حظي أن ال أجد لديك مشاغل أخرى...
قال الدكتور إياد وهو يشري إىل عصام وسامية باجللوس:
(( -يف احلقيقة يا عصام املشاغل ال تنتهي ..فالواجبات أكثر من األوقات
كما يقولون ،لكن هناك أولويات ..أريد أن أقول لك شيئاً :أنا ضد هذه
اهلوة اليت تفصل بني الطالب واألستاذ يف بالدنا ،فاألستاذ -يف رأيي –
جيب أن يكون أكثر من مدرس الختصاص ما ..جيب أن يكون أباً لطالبه،
وصديقاً وتلميذاً يف بعض األحيان)).
رفع عصام حاجبيه دهشة ،فسارع الدكتور إياد إىل تبديد دهشته:
(( -ال تستغرب كالمي ..هذا ليس تواضعاً ،ولكنه حقيقة ..أنا مثالً
أخصائي يف ((علم التشريح املرضي)) ولكنك –أنت أو غريك -أعلم مين
وعلي أن أتقبل منك معارفك بنفسيه يف جماالت أخرى خارج اختصاصيّ .
التلميذ الذي يطلب العلم ويسعى إليه ..إننا –يف احلقيقة -مجيعاً تالميذ
نغرف من حبر املعرفة الزاخر الذي ال ينتهي ،وسنظل عطشى مهما ابتغينا
اإلرتواء ،ومهما أوغلنا فيه فسنجد أنفسنا ما زلنا على الشطآن..
مث قال وهو يهز رأسه يف أسف:
-يؤسفين أن ال يوجد يف بالدنا ذلك التفاعل االجتماعي والثقايف بني
الطالب واألستاذ ..اجلامعة يا عصام مؤسسة علمية وثقافية وسياسية يف آن
واحد ..مؤسسة خطرية ،هلا دورها الكبري ،وأثرها الفاعل يف اجملتمع ..وعن
طريقها تتقدم األمة ويقوم بناؤها احلضاري املنشود ،لكنك يف جامعاتنا تقرأ
معامل ختلفنا البغيض .إننا ال ننظر إىل اجلامعة أكثر من أهنا مرحلة زمنية..
مرحلة ما بعد الشهادة الثانوية وما قبل العمل واالستقرار .لألسف الشديد
حنن نشكون من عقد كثرية حتبط كل حماوالت النهوض ،ال تؤاخذين يا بين
إذا أطلت..
بودي لو أمسع املزيد...
-أبداً ..أبداًّ ..
-إهنا مهومنا اليومية اليت ال مناص لنا من تداوهلا ،والطب علّمنا أن العالج
الصحيح جيب أن يسبقه تشخي دقيق ،لذلك فأنا أحاول دائماً أن
أشخ أمراضنا اإلجتماعية .واآلن ماذا وراءك يا عصام ..كنت أتوقع
جميئك.
تشعان حباً وإعجاباً:
أجاب عصام وهو يرنو إىل أستاذه بعينني ّ
-أستاذ ..ال أدري ماذا أقول لك ،وال من أين أبدأ ..إنين يف صراحة
شديدة معجب بآرائك ومواقفك ،وكلما استمعت إىل حماضراتك أو
جلست إليك ،حتركت يف أعماقي طاقة هائلة من اهلمة والتحفز والنشاط
والطموح ال أعرف كيف أوجهها!.
لقد كانت حماضراتك املاضيةحمل تفكري عميق مين ،وكان ملبادرتك الكرمية
بتبين الطاقات العلمية أكرب األثر يف نفسي ،وها أناذا أطلب أبوتك العلمية،
راجيا منك أن تصنعين كما تريد ،فإين نذرت نفسي للطب ،وبالتحديد
ملشكلة السرطان.
اهتز الدكتور إياد لكلمات عصام ورأى فيه بارقة أمل تبشر
بوالدة فجر جديد ..فجر عظيم لطاملا انتظره وحلم به..
-لو كان شبابنا كلهم من هذا الطراز ،إذا لطوينا حياة التخلف والتمزق
واالهنيار اليت حنياها ،وحرقنا املراحل يف طريقنا إىل املستقبل الذي نتطلق إليه
واستعدنا مكانتنا املرموقة حتت الشمس ،ولكن ..آه...
فكر الدكتور إياد يف هذا وقد شبك يديه حتت ذقنه وعيناه تسبحان يف
تأمل عميق ...
أما عصام فقد كانت يده املبسوطة على املنضدة تعاين من اضطراب حركة
أصابعها وكأهنا تداري بذلك ارتباكه بينما راحت اليد الثانية تشد على حافة
الكرسي اجللدية ،وقد رطبتها بالعرق من فرط اإلنفعال.
وكانت سامية تتأمل هذا املنظر املؤثر بإكبار ،وترمق عصاماً بإعجاب ..هذا
هو الشاب الذي حتلم به ..هذا هو فارس أحالمها املنشود ..لقد هتاوت
أمامه اآلن أسوار احلرية والرتدد اليت كانت قائمة يف قلبها إزاءه ليقتحمه
فيحتله إىل األبد...
قال الدكتور إياد بنربات قوية معربة بعد أن مضت حلضات من الصمت
احلافل باالنفعال:
لكين أملك أن أضع قدميك -امسع يا بين ..قد ال أتقن صناعة الرجالّ ،
على أول الطريق ،وأوجه خطاك حنو القمة..
سأعطيك أول اخليط ،وسأدعمك بكل ما أستطيع لتصنع نفسك
بنفسك ..بالعزمية والتصميم ..بالصرب والتعب ..بالعمل املضين الدؤوب...
مث بعد صمت قصري:
-هل يل أن أعرف نبذة عن وضعك االجتماعي؟ ..إذا مسحت طبعا؟..
أجاب عصام وقد فاجأه السؤال:
-بكل سرور ،ولكن امسح يل أن أوضح لك بأنين إمنا أريد الدعم العلمي
واألديب فحسب ،أما املادة فهي متوفرة واحلمدهلل...
قال الدكتور إياد وهو حيرك يده حركة من يطلب الرتيث:
-حلظة من فضلك ..لنكن صرحاء ..إن الطريق الذي سوف تسلكه طريق
صعب طويل حيتاج لكل شئ .وحنن مجيعاً إمنا نعمل لغاية عظيمة تتطلب
منّا أن نتجاوز الكثري من اعتباراتنا الشخصية حىت حنققها على الوجه
املطلوب .وأنا عندما سألتك عن وضعك االجتماعي مل أقصد الوضع
املادي فحسب ،بل طلبت بصورة عامة تشمل كل شئ يف حياتك
س أنين أستاذك يف اجلامعة... االجتماعية ميكنك أن تصارحين به .لنن َ
اعتربين مبثابة والدك إذا مسحت؟
وشعرت سامية بأن وجودها قد يربكه فنهضت وقالت:
(( -بابا)) هل تسمح يل باإلنصراف؟
لكن عصاماً قال بلهجة دلت على متسكه ببقائها:
-لعلك تريدين اإلنصراف ألجلي ..أرجو أن جتلسي إن كان األمر
كذلك..
استسلمت سامية إلرادة عصام وقد نفذت كلماته إىل أعماقها ،ففهمت
مراده حباسة األنثى ..إنه يريدها بقربه ..يريدها أن تسمع كالمه ...أن
تعرف عنه كل شئ ..وجلست دون أن تنبس ،وعلى شفتيها ابتسامة
امتنان.
قال الدكتور إياد:
-اجلسي يا سامية ..إن عصاماً لديه من اجلرأة األدبية ما جيعله يقول ما
يريد دون حرج .لقد سربت أغواره منذ زمن.
قال عصام:
-أشكرك على هذه الثقة .يف احلقيقة أنا أعيش وحيداً مع والديت يف بيت
منلكه ...مات أيب منذ فرتة طويلة ..كان تاجراً ميسوراً ،وقد ترك لنا بعض
األموال والعقارات اليت ما زلنا نعيش منها حىت اآلن ،دون أن حنتاج أحداً..
يل أخت متزوجة وهي تقيم مع زوجها الذي يعمل يف السعودية ..ويل أيضاً
عم مغرتب يف األرجنتني منذ زمن بعيد ..هذا كل شئ..
وقف الدكتور إياد ،وراح يذرع املكتب جيئة وذهاباً ،وهو غارق يف التفكري،
أما سامية فقد فهمت اآلن مصدر احلزن الصامت الذي يوشح دائماً وجه
عصام ويطل من نظراته ..لقد عاىن بال شك من احلرمان إىل حنان أبيه،
وتفتح وعيه على مأساة باكية تسربت كآبتها إىل طبعه وترسبت يف وجدانه.
وراحت تسرتق إليه نظرات تنطق بالرثاء...
توقف الدكتور إياد فجأة وقال:
-دعنا نشرح األمر كما يلي..
لديك منهاجك الدراسي الواسع ،ال سيما وأنت اآلن على أبواب التخرج،
ولديك اهتمامك باخلاص بأحباث السرطان ،والذي يتطلب منك رؤية
احلاالت السرطانية املختلفة ،ودراسة تشرحيها املرضي ،ومالحقة كل جديد
يصدر يف اجملالت الطبية حول هذا املرض .وهذا يتطلب منك أن تكون
قريبا من عياديت وخمترب أحبايت ألطلعك باستمرار على احلاالت اليت تأتيين.
وبذلك تتعمق خربتك هبذا املرض ،فإذا ما ذهبت لإلختصاص برعت فيه.
وتفوقت على زمالئك ونلت أعلى الشهادات وحزت على إعجاب
أساتذتك وتقديرهم ..باملناسبة أنا أعرف عدداً من العلماء املهتمني بأحباث
السرطان يف أمريكا بصفيت زميالً يف (( اجلمعية األمريكية للسرطان)) مبا
فيهم الدكتور ((فرانكلني جاكسون)) رئيس اجلمعية وأنا على صلة مستمرة
جيد من أحباث ونظريات ومعاجلات به ،حيث نتبادل اآلراء حول آخر ما ُّ
هلذا املرض ،وسوف أحدثه عن طموحك ،وأطلب منه أن يتدخل من أجل
قبولك يف إحدى اجلامعات األمريكية ،وهو لن يتأخر ،السيما عندما يرى
وثيقة درجاتك املشرفة واليت ستتوجها هذا العام بتخرج متفوق إن شاء اهلل..
باملناسبة ..حاول أن حتضر يل صورة وثائق خترجك مبجرد صدورها حىت
أمتكن من إرساهلا إىل أمريكا يف أقرب وقت..
-قال عصام والفرحة تغمره:
-دكتور ..ال أدري كيف أشكرك على هذا االهتمام ..إن اندفاعي للتعاون
معك يزداد يوماً بعد يوم!.
قال الدكتور إياد وهو يرمق عصاماً يف عتاب:
-إمنا أقوم بواجيب يا بين ،أم أن الواجب أمسى يف نظرك تطوعاً نبيالً
يستوجب الشكر والثناء؟
قال عصام وهو يداري ارتباكه أمام عتاب أستاذه الرفيق:
-إذا مل يشكرك لساين فيشكرك قليب ..إن مل يكن ألنك تقوم بواجبك
فألنك تعلمين ما هو الواجب.
الرد اللبق بينما سأله الدكتور إياد:ابتسمت سامية هلذا ّ
-كيف لغتك اإلنكليزية؟
-جيدة واحلمدهلل ..إنين أقرأ املراجع املكتوبة باإلجنليزية بطالقة.
-حسن جداً ..فلتكثر من ذلك حىت توفر على نفسك سنة اللغة اليت
حيتاجها الطلبة عادة لتقوية لغتهم وهذه مكتبيت حتت تصرفك لك أن
تستعري منها املرجع الذي تريد.
-شكرا لك ،ولكن ..كيف سنتعاون؟ ..أقصد كيف سيكون برناجمنا
معاً؟..
قطّب الدكتور إياد وجهه مفكراً مث مهس بنربة حائرة/
-يف احلقيقة هذا ما أفكر فيه..
-أنا مستعد للتوفيق بني دراسيت وتعاوين معك مهما كانت أعباؤه ،وما هي
إال أشهر ومتضي ..سأحتمل تبعها وأمري إىل اهلل.
قال الدكتور إياد يف محاس وقد أضاء وجهه بابتسـامة مشرقة:
حتل لنا الكثري من املشاكل لدي فكرة ..فكرة علمية جداًّ .. -يف احلقيقة ّ
وتوفر لنا املزيد من الوقت مما يساعدك على إجناز مشروعك بنجاح ..لكنها
فكرة غريبة بعض الشئ وقد تتشنج إزاءها!...
-أقبلها مهما كانت.
-ال تتسرع ...امسعها مث اعطين رأيك بصراحة ..لعلك ال تعلم أين أملك
عمارة كبرية مؤلفة من ثالثة طوابق وكل طابق مؤلف من شقتني ،خصصت
الطابق األرضي للعيادة واملخترب ،وأشغل أنا وأسريت الطابق الثاين بشقتيه،
بينما الطابق الثالث فارغ ،وال أنوي استعماله أو تأجريه حالياً ،فما رأيك لو
انتقلت أنت والوالدة إىل إحدى الشقتني اخلاليتني ،وبذلك نستطيع تنسيق
أوقاتنا مبا يناسب ظروفك وحيقق طموحك ..فما رأيك؟
استغرب عصام هلذا العرض ،وأدهشه هذا التحمس من الدكتور إياد،
واهتزت نفسه هلذه األرحيية ،فأطل الرتدد من عينيه ،وقال:
-لقد فاجأتين هبذا العرض ،وال أدري ماذا أقول؟
-أمل أقل لك ال تتسرع باجلواب ..فكر باملوضوع مع الوالدة.
-بالنسبة يل ال توجد مشكلة ،فأنا مستعد لكل ما خيدم مشروعنا ،ولكن
الوالدة قد متانع يف ذلك ،كما أنين أريد أن أعرف طريقة السكن عندك .هل
هو سكن باألجرة؟ ..أم أنك ستبيعنا البيت؟ ..مث ال بد من دراسة ظروفنا
املادية على أساس هذه الطريقة!..
قال الدكتور إياد وهو يبتسم يف هدوء:
-ساحمك اهلل يا بين ..اعتربها ضيافة ،أم أنك ال ترغب يف جواري؟
-معاذ اهلل ،ولكن الوالدة حساسة جداً يف مثل هذه القضايا ..إنين أعرفها
جيداً.
أرسل الدكتور إياد تنهيد ًة وقال:
-بالنسبة للقضايا املادية سنسويها كما ترتاح أنت ووالدتك ،أم بالنسبة
ملوقف والدتك ،فمهما كان صعباً فلن يصعب على ابنها الغايل ..أنا أب يا
عصام وزوجيت أم ،وأعرف ضعف األم أمام رغبات أبنائها ،ال سيما
أمثالك ..هذه سامية أمامك ،اسأهلا كيف تقنع أمها مبا ال تريد...
ابتسمت سامية والذت بالصمت ،بينما قال عصام:
-أعدك بأين سأدرس معها الفكرة ،وأحاول إقناعها..
-وإن مل تقتنع فسأتدخل شخصياً لتحقيق ذلك .واآلن أرجو أن تسمح
يل فقد اقرتب وقت احملاضرة وال بد من التحضري هلا.
قالت سامية وهي هتم بالنهوض/
-أترى يا عصام إن والدي يهتم بك أكثر من اهتمامه بابنته.
تساءل عصام متجاوبا مع دعابتها:
-لعلها الغرية؟!.
-بل هي الغبطة با بين.
هكذا قال الدكتور إياد وهو يضحك ضحكته املميزة ،وقد أضمر يف نفسه
شيئاً!.
***
الفصل السادس
إن فرحة عصام اليوم بال حدود ..فها هي األقدار تبتسم له وتدفعه إىل
آماله دفعاً ..إنه حيس اآلن باحلياة من حوله حلوة نضرة ألنه صاحب
هدف كبري بات يعرف الطريق إليه...
وكلما تذكر وعد الدكتور إياد له بتأمني قبوله يف أمريكا ،ويف الفرع الذي
يصبو إليه ،غمرته السعادة ،ومتلَّكله السرور ،وطغى عليه اإلبتسام...
ويف غمرة األحاسيس املتدفقة بالبهجة والفرح كان طيف سامية ال يفارقه..
فقد أضحت روحه اليت حييا هبا ،وقلبه الذي خيفق بني جواحنه ..لقد شعر
اليوم أهنا قريبة منه أكثر من أي وقت مضى ،وفهم من كلماهتا ونظراهتا
ومشاعرها حنوه ،وتأكد من ميلها إليه.
اخلطو إليه ..حيدوه الشوق ألن يبث أفراحهوالح إليه املنزل من بعيد فأوسع َ
اجلديدة إىل أمه احلنون ..ووصل إىل البيت فقرع اجلرس كعادته ليشعر أمه
بقدومه ،مث أدار املفتاح يف القفل ودلف إىل الداخل وهو ينادي يف ٍ
هلفة
عارمة:
((-ماما)) (( ..ماما)) ..أين أنت يا ((ماما))؟
وأجابه صوت عميق من وراء اجلدران:
-أنا هنا يف املطبخ ..ماذا هناك؟..
ألقى عصام كتبه على طاولة الصالون ،واجته إىل املطبخ يف خفة ومرح ،وما
إن رآها حىت هتف:
(( -ماما)) ..أنا فرحان ..أنا سعيد ..لو تعلمني كم أنا سعيد...
تساءلت األم يف دهشة وابتسام:
-أسعد اهلل أيامك كلها ،ولكن أخربين ما الذي حدث؟
-ماذا أخربك يا أماه؟ ..عما قريب ستتحقق كل أحالمي وآمايل .إن
األفراح تأيت على ما يبدو دفعة واحدة.
-ما الذي تتحدث عنه باهلل عليك؟ ..أشركين يف فرحتك؟
-أماه ...أنا جائع ...جائع جداً ..أريد أن آكل ..أن أستمتع بطعامك
الطيب اللذيد ..على فكرة ..ماذا طبخت لنا اليوم؟
-أكلة لذيذة ستأكل أصابعك بعدهاَّ ..إهنا ملفوف ورق العنب اليت حتبها
جداً.
(( -ممم)) ..شئ لذيذ حقاً ..هيا حنضر الطعام معاً ،مث أق عليك ما
جرى..
كانت األم تسكب الطعام يف الصحاف يف خفة وسرور مبعثه هذا التغري
الطارئ الذي بدا فيه ابنها فرحاً سعيداً بينما كان عصام ينقل تلك
الصحائف إىل طاولة الطعام يف مهة ونشاط .وما هي إال دقائق قليلة حىت
التأم مشلهما حول املائدة وشرعا يف تناول الغداء ...
قال عصام وهو يلتهم إصبعاً من أصابع امللفوف الطازج:
-أماه ..تعرفني مدى حيب للطب ،وطموحي لإلختصاص يف أحد فروعه،
وبالتحديد مرض السرطان...
صاحت األم يف فزع وقد تقلصت مالحمها:
-أعوذ باهلل ...لعنه اهلل ولعن سريته!!!.
ضحك عصام وقال:
(( -ماما)) ..السرطان ال يذهب باللعنات ،ولو كان األمر كذلك لنذرت
عمري يف لعنه ..ال بد من العمل ..من البحث والتجريب ..إنه داء فتاك
حيري العلماء ..وحيتاج ملن يسرب أسراره ويكتشف عالجه الشايف.
-لعنه اهلل ألف مرة ..واللّه كلما ذكر امسه املشؤوم أمامي شعرت بالقشعريرة
تسري يف جسدي.
قال عصام وهو يتحول إىل اجلد:
-لعنه اهلل مليون مرة ..املهم يف احلديث أ ّن الدكتور إياد ..لقد حدثتك
عنه مراراً...
-أجل أذكره ،إنك حتبه كثريا على ما يبدو...
-هذا صحيح ..إنّه إنسان نادر ..تصوري أنه تطوع لدعم أي طالب يريد
أن خيت يف هذا املرض ويتعمق يف أحباثه ،فما كان مين إال أن ذهبت إليه
اليوم ،وقلت له أنين أتطلع لإلختصاص يف هذا اجملال وأنين مندفع جداً هلذا
األمر فتجاوب معي إىل أبعد احلدود ،ووعدين أن يرمن يل القبول يف إحدى
جامعات أمريكا ..إنه على صداقة محيمة برئيس اجلمعية األمريكية للسرطان
ووعدين أن حيدثه عن تفوقي وطموحي.
اهلم يلوح يف نظراهتا:
توقفت األم عن األكل مث قالت و ّ
-فكرة السفر هذه كم أكرهها! ..أال يكفيك أن تتخرج وتفتح لك عيادة
جيدة يف مكان مرموق؟ ..امسع مين يا بين ..سوف أبيع قطعة من أرضنا
اليت يف الريف وأفتح لك أفضل عيادة يف البلد ،وأحدثَها.
-قال عصام وهو يصب كأساً من املاء:
الطب
-ساحمك اهلل يا أمي! .هذا الكالم كان على أيامكم ،أما اليوم فإن ّ
بال اختصاص مل يعد عليه ذلك اإلقبال ،ألن علومه توسعت كثرياً،
واإلختصاص يؤمن للطبيب خربة عالية وشهرة فائقة ودخل ممتاز ..مث إنين
أطمح إىل أكثر من العيادة والشهرة واملال ..أمتىن لو أصبح عاملاً يف الطب
يا أماه ،أم أنك ال تريدين البنك أن يصبح عاملاً مشهوراً؟
قالت األم وهي تشري إىل نفسها متسائلة:
-أنا؟ ..إنين أمتىن أن تصبح أفضل طبيب يف الدنيا ،ولكين أكره أن تبتعد
عين.
-وملاذا أبتعد عنك؟ سآخذك معي..
-إىل أمريكا؟!..
-وإىل آخر الدنيا...
ضحكت األم وقالت وهي تلملم حبات من الرز كانت منثورة على املائدة:
-ال أدري ماذا أفعل بلسانك ..دائماً تغلبين مبنطقك اجلميل.
علي الدكتور
-كالمك يشجعين ألن أطرح عليك فكرة جديدة اقرتحها َّ
إياد.
-ما هي هذه الفكرة؟
-انتهى عصام من طعامه فحمد اهلل ،مث قال:
-إن تعاوين مع الدكتور إياد سيشغل جزءاً كبريا جداً من وقيت ،فباإلضافة
إىل الوقت الذي يستهلكه مين التحضري المتحانات التخرج ،سأضطر إىل
مالزمة الدكتور إياد يف عيادته ملشاهدة حاالت السرطان املختلفة والتمرس
يف طرق تشخصيها وعالجها ،عدا الوقت الذي سأقضيه يف مطالعة املراجع
األجنبية واجملالت الطبية ،وال تنسي الدوام يف الكلية...
وكيف ستوفق بني كل هذه األمور؟ على هذا لن جتد وقتاً حىت لتأكل؟!.
علي يا أماه،سأنظم وقيت تنظيماً دقيقاً ،واقرتاح الدكتور إياد سوف
ال ختايف ّ
علي بعد أن حدثته عن أوضاعنا وحياتنا اخلاصة يساعدين كثرياً ،فقد عرض ّ
أن أنتقل أنا وأنت لنقيم يف شقة ضمن عمارته اليت تضم منزله وعيادته،
وذلك حىت يتسىن لنا استغالل الوقت وتنظيمه مبا يناسب ظرويف وظروفه
وحيقق طموحي يف أفضل صورة ممكنة.
-ضربت األم صدرها يف جزع وهتفت كامللسوعة:
-ماذا؟ ..نرتك بيتنا؟! ..نرتك هذا البيت العامر بالذكريات؟؟!...
مث أردفت وقد هتدج صوهتا وملعت عيناها بالدموع:
-أنرتك البيت الذي عشت فيه أحلى ايام عمري مع أبيك؟ ..أأنرك
احلديقة اليت غرس أشجارها بيديه الطاهرتني؟...
علي أن أفارق هذا البيت العزيز على نفسي فال حترجين ياإنه ليصعب ّ
بين ..باهلل عليك؟
أحس بغصة يف حلقة:خفق قلب عصام إكباراً هلذا الوفاء وقال وقد ّ
-مل أكن أتصور أنك تتعلقني هبذا البيت إىل هذا احلد!.
مث قال بعد أن مالت نفسه إىل اهلدوء:
أكن يف نفسي املشاعر ذاهتا ،ولكن جيب أن ال تكبلنا -أماه ..إنين ّ
الذكريات فاحلياة متضي بسرعة عجيبة ،وإن مل نواكب حركتها ركلتنا إىل
عامل النسيان.
-فلتواكبها يف هذا البيت وترحيين.
-لكن الدكتور إياد مصر على الفكرة ،وإذا مل توافقي فسيتدخل بنفسه
لريجوك أن تسمحي بذلك ..هكذا قال يل فال حترجيين معه.
قالت األم وقد حارت يف أمرها:
-لقد أوقعين يف حرية شديدة ،فلست بقادرة على ترك البيت ،وال أرضى
أن أكون عقبة يف طريق مستقبلك ،مث ال ميكن أن أسكن يف بيت دون أن
يكون ملكي أو أدفع أجره ،هذا أمر ال أتنازل عنه حبال...
-لقد وضحت للدكتور إياد ووعدين بتسوية األمور املادية مبا يناسب
الضروف ،املهم عندي أن تقتنعي بأن هذا احلال سيساعدين على حتقيق
املستقبل الذي أبغيه ...أرجوك...
قالت األم وقد بدأت تستسلم إلرادته:
-أنت الرجل هنا فقرر ما شئت...
-ما كنت ألقرر أمراً ما مل يكن ممهوراً برضائك ،وإذا كنت أنا الرجل يف
هذا البيت فأنت أمه الغالية اليت لن أخالف هلا يف النهاية أمراً أو رغبة.
-اهلل يرضى عليك...
-هذه الكلمة تسحرين ...هه ،ماذا قلت؟
-ماذا أقول؟ ..لقد حاصرتين بأسلوبك العذب اجلميل ...مثل كلمة مرة.
-ما ذنيب إذا كنت متلكني قلباً كبرياً يتسع لكل مشاكلي ،ويستجيب لكل
رغبايت ...هل أفهم أنك موافقة؟
قالت األم وقد أسقط يف يدها:
-موافقة ،ولكن ...ماذا سنفعل هبذا البيت؟
-ف ّكر عصام ملياً مث قال:
-سنرتكه إىل حني ..مث نعود إليه ما دام يهمك إىل هذا احلد .أماه ..لن
أحرمك من موطن ذكرياتك الغالية ..أعدك بأنين سوف أستقر معك بعد
أن أعود من دراسيت يف اخلارج وسرتين فيه أحفادك الذين سيملؤونه عليك
أنساً وسعادة...
ضحكت األم وقالت:
-على رسلك يا عصام ..ال تسرف يا بين يف الوعود ،فال تعرف ماذا
سيحمل لنا الغد .املهم أين واثقة بتصرفاتك ورجاحة عقلك ،فافعل ما بدا
لك ..اآلن ،ويف املستقبل.
-سأكون عند حسن ظنك يب ..إن شاء اهلل.
-إن شاء اهلل ..سأحضر الشاي..
***
اسرتخى عصام على كرسيه بانتظار الشاي .بيد أن ذكرى والده حطت
فجأة يف ساحة خواطره فعصفت بكل سعادته:
(( -رمحك اهلل يا والدي ..ماذا لو كنت معنا اآلن؟ ..
كنت أود لو رافقتين يف رحلة احلياة ،ألنعم بقربك احلبيب وأستظل بعطفك
وحنانك ..أستمد منك التشجيع ..وأستلهم من جتاربك الثرية خطوايت إىل
املستقبل)) ...
وانتبه عصام على خطوات أمه حني عادت ،فأرسل ابتسامة عريضة أخفى
حتتها مالمح احلزن اليت كانت تغضن وجهه مث قال وهو يتناول فنجانه:
سر أود أن أبوح به إليك. -أماه ..هناك ..هناك ّ
-سر؟! ..عساه خرياً...
قال عصام بنربة هامسة:
-لقد وجدهتا.
-من ؟
-بنت احلالل...
هتفت األم يف هلفة:
-بنت احلالل؟ ..أصحيح ما تقول؟ لعلك متزح!.
مث تابعت وهي جتلس قربه يف فرح عارم:
-قل يل من هي؟ خربين باهلل عليك ..ما أوصافها؟ وكيف تعرفت عليها؟
من هم أهلها؟ هل هي مجيلة؟؟ ما لك صامت ال تتكلم؟!...
ضحك عصام من أعماقه واستغرق يف الضحك حىت دب األمل يف خاصرته
بينما تابعت األم يف توسل باسم:
-هيا خربين أرجوك ،فقليب يشتاق إىل هذه اللحظة منذ أمد بعيد.
قال عصام وهو حياول أن يتمالك نفسه:
-رويدك يا أماه ...رويدك..
-هيا تكلم؟ فأنا يف هلفة ملعرفتها ،هيا...
لكن األهم من-لقد أغرقتين بأسئلتك ،فلم أعد أدري على أيها أجيب ،و ّ
كل ذلك أهنا دخلت قليب منذ زمن ،فارتاحت هلا نفسي ،واقتنعت هبا
شريكة حيايت.
لكزته األم يف صدره ومهست يف عتاب:
-أيها املاكر! ..منذ مىت تكتم أسرارك عين؟! يبدو أن بنت احلالل هذه قد
خطفتك مين دون أن أشعر.
(( -ماما أنت األصل))(( ..أنت الكل بالكل)) ..تأكدي أن قليب يتسع
لكما معاً دون أن تزاحم إحداكن األخرى ..بل إن لك فيه املكانة األكرب
واألقدس...
-كل الشباب يقولون هذا قبل الزواج ،مث ال يلبثون أن يتغريوا!.
-إال أنا ..صدقيين يا أماه...
لنر ..واآلن حدثين عنها ألخترب ذوقك؟ َ-
-إهنا سامية بنت الدكتور إياد.
-بنت الدكتور إياد!! ..اآلن فهمت سر هذا احلب الذي تكنه هلذا
الدكتور ،وسر ذلك الشرود الذي يغشاك بعد أن حتدثين عنه ..يا لسذاجيت
وغبائي!! ...كيف مل أفطن هلذا؟!..
ابتسم عصام ومل ينبس فأحلت األم من جديد:
-مل تصفها يل بعد؟...
-أهم صفاهتا أخالقها ...حشمتها ...تربيتها ...وعيها...
-أريد شكلها ..كيف شكلها؟
-إهنا بيضاء البشرة ..شقراء الشعر ..هيفاء القد ..متناسقطة التقاطيع..
عيناها عسليتان واسعتان تطل منهما براءة وادعة كرباءة األطفال ،ويف
وجهها األبيض املورد صفاء ساحر يأسر القلوب ،لكن هدوءها الوادع يا
ّأماه أمجل ما فيها ..لكأهنا مالك يف صورة أنثى من البشر!..
تستفزه:
ابتسمت األم وهي تصغي البنها يتحدث بلغة العاشقني فقالت ّ
مرة أهنا يف صفك بالكلية ..هذا يعين أهنا يف مثل-لقد علمت منك ذات ّ
سنّك ..إهنا كبرية بالنسبة لك يا بين ،فالنساء يهرمن قبل الرجال...
هتف عصام حمتجاً:
(( -ماما)) ..إنك تطلبني الكمال ،الفتاة تعجبين وأنا مرتاح إليها كل
اإلرتياح ،وسوف تشاركيين رأيي عندما ترينها!..
ضحكت األم وقالت وهي ترنو إليه يف حنان:
-إنك تدافع عنها حبماس!..
مث تابعت يف مرح وهي تربت على كتفه يف ود رفيق:
-ال عليك يا بين ...األمهات كلهن هكذا ...يردن ألبنائهن أمجل الفتيات
وأكملهن ،هل أخطبها لك؟
-ليس اآلن ..انتظري حىت أسوي أموري مع الدكتور إياد.
-إذن لتسوها بسرعة ،حىت أمسي قريبة من ((كنيت)).
رفع عصام حاجبية يف دهشة وقال:
-لو كنت أعلم أن موضوع اخلطبة يستويل على اهتمامك هبذا القدر
لكنت حدثتك به قبل أن أطرح عليك اقرتاح الدكتور إياد ،ولوفرت على
نفسي عناء إقناعك به.
ضحكت األم قليالً ،مث ما لبثت أن مالت إىل اهلدواء وقد اجتاحها حزن
جارف بعد أن حرك موضوع زواج عصام جذور ذاكرهتا ،ونكأ جرحا قدمياً
يأىب أن يندمل فأرسلت تنهيدة عميقة وشت مبا يعتمل يف أغوارها وقالت
يف هدوء حزين:
(( -كنت أمتىن لو كان أبوك ما زال على قيد احلياة ..إذن لكانت فرحيت
بال حدود...)).
أحس عصام مبا تكابده أمه من أحاسيس احلسرة واملرارة فاقرتب منها مواسياً
وطبع على جبينها قبلة حانية ،مث مهس بنربات متوسلة:
(( -ماما)) ..أرجوك أالّ تسريف يف تذكر املاضي ...إنك ترهقني نفسك
باألحزان ..ابتسمي ..ابتسمي أرجوك...
رفعت األم إىل ابنها نظرات مثقلة باهلم واألسى ،وقد بانت يف عينها كآبة
عميقة .حاولت أن تبتسم ،لكنها راحت يف بكاء شديد...
***
الفصل السابع
الطب شهرة عصام نفسه، دفاتر ((حماضرات)) عصام مشهورة يف كلية ّ
ويعتمدها طالب ص ّفه كما يعتمدون كتب أساتذهتم املقررة ،ويتمنون أن
أن عصاماً حيصلوا عليها أو على صورة عنها ليدرسوا حماضراهتم منها ،ذلك َّ
كان يعتين بدفاتره اعتناءً فائقاً ،وينتهج يف إعدادها منهجاً ذكياُ بارعاً ،فهو
ينقل احملاضرات من أفواه األساتذة احملاضرين فال تفوته فكرة أو مالحظة
مهما كانت بسيطة إالّ دوهنا ،مث ميضي إىل بيته فيقرأ احملاضرة إياها يف
الكتاب املقرر ،مث يراجع موضوعاهتا يف املراجع الطبية املوسعة ،مث يصيغ
احملاضرة من جديد بأسلوبه األديب القوي املتميز ،فينسق بني أفكار األستاذ
احملاضر ومعلومات الكتاب املقرر ومعارف املرجع املناسب ،ويرهتبا بشكل
واضح مرتابط ويدعمها بالرسوم امللونة املعربة ،وخيرجها إخراجاً أنيقاً
جذاباً...
وبالرغم من اعتزاز عصام مبحاضراته تلك وحرصه البالغ عليها ،فإنه مل
حيدث يوماً أن امتنع عن إعارهتا لطالب من زمالئه أيّاً كان ...فكان الطلبة
يستعريون منه ((احملاضرات)) فينسخوهنا أو يصوروهنا مث يعيدوهنا إليه
شاكرين...
وكان صفوان -كغريه من الطلبة -يعرف قيمة ((حماضرات)) عصام ويدرك
فائدهتا ويتمىن أن حيصل عليها الفتقاره إىل حماضرات وافية بسبب بطء نقله
للمحاضرات من أفواه احملاضرين وانشغاله بالثرثرة والشغب أثناء احملاضرات،
لكنه بالرغم من حاجته إىل حماضرات عصام وميله الستعارهتا فإنه مل يلجأ
يوماً إىل طلبها من عصام مباشرة ،مينعه كرب واستعالء واعتزاز مفرط بالذات
يأىب عليه أن يطلب شيئاً من إنسان يكرهه وحيسده على التفوق والشهرة
واالحرتام الذي يتمتع به يف أوساط الكلية ،لذلك فقد كان يلجأ إىل
((جمدي)) الذي تربطه عالقة مزدوجة مع الطرفني ،فيحرجه بأسلوبه املاكر
السمج ،ويكرهه على إعارته ((حماضرات)) عصام كلما استعارها جمدي من
عصام ،وكان عصام يعرف أسلوب صفوان هذا فال يأبه له ،فما يهمه
باملقام األول أن تعود إليه حماضراته سليمة ليدرس فيها وحيافظ عليها.
وذات يوم استعار صفوان ((حماضرات)) عصام من جمدي ومضى هبا إىل
شقته بصحبة شلته العابثة اليت تلتف حوله ،وما إن وصلوا إىل الشقة حىت
ألقوا كتبهم ودفاترهم ونثروها يف كل مكان ،مث هرعوا إىل الثالجة فأخرجوا
منها زجاجات ((الويسكي)) وجلسوا حيتسونه وسط جو صاخب هازل
تتعاىل فيه الضحكات اجمللجلة وتشيع فيه الدعابات السخيفة وتسود فيه
الكلمات والعبارات البذيئة وتتخلله النوادر القذرة ..ودارت بينهم الكؤوس
تلو الكؤوس فدارت معها الرؤوس وغادرت عقوهلم دائرة الوعي إىل عامل
الوهم والالمعقول ،وهاموا خبواطرهم املخمورة يف دنيا مزيفة فشعروا أهنم يف
عامل خاص ميلكونه وحدهم ويرتبعون على عرشة بال منازع فال ينافسهم
عليه أحد ..واستبدت اخلمرة بعقوهلم فربط أحدهم حول خصره منديالً،
وأخذ يرق يف خالعة الراقصات بينما التف اجلميع من حوله يغنون
ويصفقون ويضحكون..
وحانت من صفوان التفاتة إىل دفرت حماضرات عصام الذي استعاره من
جمدي فقرأ عليه اسم عصام فذكره عقله الباطن حبقده على هذا اخلصم
اللدود الذي يكرهه فتناول الدفرت يف امشئزاز ونظر إليه يف بالهة وقلّبه يف
قرف ،مث رفعه يف مشقة وقال والكلمات ترتنج على شفتيه:
-هل تعلمون ملن ..هذا الدفرت؟
فأجابه أكثر من صوت:
-إنه لك.
فضحك صفوان طويال مث قال:
-ال ..إهنا للسيد عصام ..إهنا للسيد ((كومبيوتر))..قال كمبيوتر قال...
انفجر اجلميع ضاحكني بينما تابع صفوانوهو حيك رأسه بيد ثقيلة وأصابع
ضعيفة متيل حنو اإلسرتخاء:
-ملاذا ال يسكر عصام مثلنا؟..
أجابه أحدهم وهو مستلق على األرض
-ألنَّه ..ألنهه أهبل...
ضحك الكل يف صفاقة بينما أردف صفوان ورأسه يرتنح على إيقاع
كلماته:
-حسنا ..ما رأيكم لو ..جعلته يسكر معنا؟!..
تعالت األصوات من حوله:
-وكيف؟ ..كيف ذلك؟..
أجاب صفوان وهو يتناول زجاجة ((الويسكي)):
-بسيطة ..هذا دفرت عصام ،وهذه زجاجة ((الويسكي))...
مث أردف وهو يريق الزجاجة على الدفرت:
-وهكذا سوف يسكر عصام...
وتعالت الصيحات والضحكات بينما انساح السائل األصفر الكريه فوق
الدفرت األنيق ،فابتلت أوراقه وماعت حروفه وتداخلت األلوان على أوراقه
النظيفة وأصيب الدفرت بالتلف والفساد ،ومحله صفوان برؤوس أصابعه وهو
مستغرق يف الضحك مث ألقاه وراء ظهره وكأنّه يرمي شيئاً وسخاً خيشى أن
يلوثه ،مث تابع سهرته الصاخبة مع أصدقائه..
ويف اليوم التايل استيقظ صفوان وقد عاوده وعيه فرأى دفرت عصام ملقى
على األرض وقد أتلفه البلل وأفسد حمتواه فحركته بقدمه باحتقار ورفع كتفيه
يف ال مباالة غري مكرتث مبا حدث وعندما جاءت اخلادمة اليت تنظف له
الشقة كل يوم وترتبها ،سألته عن قيمة هذا الدفرت امللقي على األرض وماذا
تفعل به ،فضحك يف مشاتة وأوصاها أن ترميه يف سلة املهمالت.
وذهب صفوان إىل الكلية فاستقبله جمدي بالسؤال:
-أين دفرت احملاضرات يا صفوان ..إن عصاماً يسأل عنه! ..ابتسم صفوان
ابتسامة باهتة وقال يف برود:
-لقد ضاع.
-ضاع؟ ..كيف ضاع؟..
-ضاع والسالم..
-صفوان لعلك متزح!..
-أنا ال أمزح ..هذه هي احلقيقة.
فقال جمدي غاضباً وهو يشعر باإلحراج الشديد؟
-واآلن! ..ماذا سأقول لعصام؟
-قل له إنَّه ضاع..
هتف جمدي حمتداً:
-هبذه البساطة! ..يا لربودة أعصابك يا أخي ..امسع ..أنا ال أحتمل
مسؤولية ما حدث فال حترجين مع عصام.
قال صفوان يف سخرية وحنق:
-حسناً ..حسناً ..أنا سأخربه بذلك؟
ومضى االثنان إىل عصام فاستقبلهما بالبشاشة والرتحيب فقال له صفوان
يف ٍ
تعال ساخر:
-عصام ..لقد استعربت دفرت حماضراتك من جمدي وقد ضاع مين فال
أدري أين ذهب؟
مث تابع متضاحكاً وقال كاهلازئ:
-بسيطة ..أنت طالب جم ّد وال حتتاج إىل دفرت ..ال بد أنك حتفظ
احملاضرات عن ظهر قلب ..أليس كذلك؟
-مل ينزعج عصام لفقدان دفرته العزيز على نفسه بقدر ما ساءته تلك
اللهجة الوقحة املتكربة اليت خاطبه هبا صفوان ،لكنه متالك أعصابه وكظم
غيظه وقال يف ابتسام:
-وماذا يف ذلك؟ املهم أن تكون قد استفدت منه.
(( -مرسي))(( ..مرسي)) يا عزيزي ..إن معلوماته رائعة..
قال عصام وهو يرميه بنظرة ذات معىن:
-على أية حال إن احتجت لدفاتري فال تتأخر ..إهنا جاهزة يف كل وقت.
ومضى عصام وهو خيفي حتت هدوئه الذي صفع به صفوان ثورًة وأملاً أراد
أن يعلمه بكبتهما درساً يف املعاملة والسلوك سرعان ما وجد طريقه إىل
نفس صفوان بالرغم من كل سدود احلقد واحلسد والكراهية اليت تقوم فيها
إزاء عصام ،لكنه قال جملدي متظاهراً بالسخرية حىت ال يعرتف بإعجابه هبذا
التسامح الذي أبداه عصام:
-إن صاحبك هذا أبله! ..أقسم أنَّه أبله!!
رمقه جمدي بنظرات ثائرة مستاءة وراودته نفسه أن يلكمه ،لكنه متالك
أعصابه وأجلم قبضته املكورة يف غيظ ومضى غاضباً وقد شاع يف صدره
إحساس من يشعر مبيل جارف إىل اإلقياء...
***
الفصل الثامن
وصل عصام إىل عيادة الدكتور إياد وطلب من املمرضة أن خترب الدكتور
حبضوره حسب موعد كان قد مت اإلتفاق عليه باهلاتف فطلبت منه اإلنتظار
قليال ريثما خترب الدكتور بوصوله..
وجلس عصام إىل إحدى ((الكنبات)) الفاخرة املبثوثة يف غرفة اإلنتظار،
فشعر جبسده يغوص يف فرشها الوثري ،فاسرتخى عليه يف راحة لذيذة وأرسل
نظراته املستطلعة جتوب أثاث العيادة الفخم بإعجاب .وعلى إحدى
الطاوالت الصغرية الحظ جمموعة من اجملالت ،فمال قليال ليتناول إحداها،
لكنه أحجم عندما رأى املمرضة قادمة باجلواب ،وقد تبعها مريض أنتهى
لتوه من مقابلة الطبيب ،وهو يستند على كتف مرافق له من شدة اإلعياء.
ودعته املمرضة للدخول ..فتقدم من الباب الذي كان منفرجاً قليالً فبدا له
الدكتور إياد منهمكا بتدوين شيئ ما وقد جلس وراء مكتبه األنيق ،فنقر
على الباب بظهر سبابته مث دخل وسلم عليه فهب الدكتور إياد الستقباله
وصافحه يف ود مرحباً بقدومه ودعاه للجلوس ،مث ما لبث أن عاد إىل عمله
بعد أن طلب منه أن ميهله ريثما ينتهي من تدوين بعض املالحظات يف
ملف املريض الذي خرج ،فأجابه إىل طلبه وجلس ينتظر وقد هامت نظراته
يف أرجاء العيادة من جديد ،فلفتت انتباهه لوحة كبرية كتب على قماشيه
املخملي األمحر خبط ذهيب المع آية قرانية تقول :
((وإذا مرضت فهو يشفني)).
وحول اآلية شاهد عصام جمموعة من الشهادات العاملية وقد حفت هبا
كحناحني ،فأخذت عيناه تلتهمان ما كتب على الشهادات املعلقة بفضول
جارب ..
(( -هذه شهادة (البكالوريوس) ..،وهذه شهادة (املاجستري) ..وهذه
شهادة (الدكتوراة) ...وهذه ...آه...
هذا هو (البورد) الذي حصل عليه ..يا للروعة ..وتلك ..تلك هي شهادة
زمالة ..صحيح ..إنه زميل يف اجلمعية األمريكية للسرطان ..وتلك الصورة..
ال بد أهنا صورة تذكارية ملراحل دراسته املختلفة ..أما تلك الصورة القدمية
اليت بدا فيها الطلبة بلباسهم القدمي الذي انقرضت (موضته) اليوم فهي ال
بد وأهنا تضم خرجيي دفعته الذين حازو على (البكالوريوس) ..آه ..يا هلذا
األستاذ الكبري ..تراين مىت سأصبح مثله؟!
قال الدكتور إياد وهو منهمك بإعداد امللف:
-هذا املريض املسكني الذي خرج منذ قليل..
-ما قصته؟
-مصاب بسرطان الرئة ..ال أعتقد أنه سيعيش كثرياً رغم اكتشايف املبكر
للمرض!.
-ال شك بأنه مدخن.
-هو كذلك ..إنه مدمن على التدخني.
-عجيب أن ال يعترب الناس بأمثاله ..حيرقون أمواهلم وأرواحهم بأيديهم ..
-ماذا تفعل؟ ..هذا زمن املفارقات ..يبيعون السجائر باملاليني ويروجون هلا
بكل وسائل الدعاية وفنوهنا ،مث تقرأ على أغلفة علب السجائر حتذيرا يقول:
((الدخان سبب رئيسي لسرطان الرئة وأمراض القلب والشرايني فاجتنبوه)).
-شر البلية ما يضحك.
-ليتها بلية واحدة ..إهنا باليا ..
-ما يرعبين أن التدخني استشرى يف أوساط املراهقني..
توقف الدكتور إياد من الكتابة وقال:
-ليت األمر يقف عند التدخني ..اسأل اآلن عن املخدرات! ..املخدرات
بدأت تتسرب إىل جمتمعنا وهتدد شبابنا.
-إهنا ضريبة التلخف..
-بل هي أمراض احلضارة ..نتلقفها يف غباء ..حتملها إلينا األفالم املاجنة
والقص الرخيصة ،وتروج هلا نفوس مريضة وعقول هدامة تنفث مسومها
هنا وهناك ،لتقتل خاليا العافية اليت بدأت طالئعها تتشكل يف جسم
جمتمعنا املريض.
مث أردف الدكتور وقد أملت به فكرة طارئة:
-باملناسبة ..عندي معلومات مثرية عن صفوان ..
-تقصد..
-أجل ..زميلكم ((صفوان)) ..جاءين ضابط يف الشرطة منذ فرتة ليعاجل
والده عندي ..وبعد أن تعارفنا سألين فيما إذا كنت أعرف طالبا يف كلية
الطب بإسم ((صفوان الناعم)) فأجبته بأنه طالب عندي وال يشرفين أن
أكون أستاذه ،فأيدين يف رأيي وروى يل أهنم اكتشفوا حبوزته كمية من
املخدرات جلبها معه من ((إيطاليا)) بعد أن قضى فيها إجازة الصيف
املاضي وكاد أن يدخل السجن لكن والده سارع إلنقاذه مبا ميلك من مال
ونفوذ وقد أفلح..
هتف عصام يف إنكار:
-هبذه البساطة؟!.
ارتسمت على شفيت الدكتور ابتسامة ذات معىن وقال وهو يستأنف
الكتابة:
-ما خفي كان أعظم ..لقد بات املال يوجه ضمائر الكثريين .إنه حديث
يطول ..عن إذنك ،ها قد أوشكت على النهاية ..سرح عصام خبياله يفكر
يف أمر صفوان ،لكنه مل يستغرب ما مسعه عنه ،فشاب يف أنانيته وغروره ال
هوى قد يولد يف نفسه مهما كان شك بأنه عاجز عن كبح أي ميل أو ً
نوعه ،وقد مسع عن املخدرات وما تفعله املخدرات فاستهوته التجربة فمضى
فيها دون أن يردعه عقل أو إرادة أو ضمري ..ومل جيد عصام يف اهتمامه
حيزا أكرب من هذا يتسع لصفوان فأمهل ذكره ،واستجاب خلواطره اليت راودته
من جديد ،وانطلقت نظراته تستطلع معامل هذه العيادة اجلميلة األنيقة،
لتقف عن املكتبة الفاخرة اليت صنعت من اخلشب النفيس ،وصممت بذوق
وإتقان بديعني ،وقد رصفت وراء زجاجها الرباق جملدات ضخمة تضم
أشهر املراجع الطبية العربية واألجنبية .كما رأى رفاً كامال من اجمللدات
الطبية والعاملية ،وإىل جانب املكتبة رأى خزانة كبرية من الزجاج وقد غاصت
باألدوية والعقاقري املختلفة ،وحانت منه التفاتة إىل اخللف فرأى سريراً طبياً
حديثاً ،وإىل جانبه منضدة طويلة احتشدت عليها األدوات الطبية املختلفة.
وبعد أن اسرتجع نظراته املتأملة أرسل تنهيدة صامتة وغاب يف خضم
األحالم الواعدة..
((عندما سأفتح عياديت سأستعني بنموذج هذه العيادة الفخمة مضيفا إليها
أحدث ما جاءت به معارض األثاث ((والديكور)) ..آه ..مىت سيأيت ذلك
اليوم السعيد؟ ..مىت ستحني حلضات احلصاد الكبري؟ .ومىت سأقطف
الثمار؟ ..مثار التعب املتواصل واإلنتظار الطويل! .بودي لو تدور األيام
بسرعة ألجد نفسي طبيبا كبريا تقتحم شهرته اآلفاق ،وتغ عيادته الفخمة
باملرضى القادمني من كل مكان ،يطلبون الشفاء على يديه ،ويتحدثون عن
جناحه ومهارته وإخالصه ،ويغبطونه على ما أنعم اهلل عليه من النعم الكبرية.
ستكون عياديت وسط املدينة ويف أرقى أحيائها ..ستكون عيادة فخمة جمهزة
بأحدث األجهزة واملعدات ،ولكن ..يا هلا من فكرة ..ملاذا ال أفتح
مستشفى ملعاجلة أمراض السرطان ..مستشفى حديث يكون األول من نوعه
يف البالد ..يعمل فيه املتخصصون يف هذا اجملال ..سأعمل فيه أنا وسامية
وسعد وبقية األصدقاء ..يا هلا من فكرة رائعة ،ولكن من أين نأيت باملال..
إنه مشكلة املشاكل ..ما أروع املال والطموح إذا اجتمعا ال سيما إذا كان
الطموح إنسانيا ومفيداً يعود باخلري على مجيع الناس ..املال! ..املال! ..من
فتدر عليعلي فأجين مثار جناحيّ ، أين نأيت باملال؟ ..ال بأس سيفتح اهلل َّ
تدر علي عياديت املرتقبة ثروة كبرية أبذهلا وقودا حللمي الكبري ..حىت ولو مل ّ
الدخل املأمول ..سأبيع أرضنا اليت يف الريف ،وسأطلب مسامهة األصدقاء
وتعاوهنم ..سيكون احتادنا قوة ترفد أحالمنا وتبعث فيها احلياة و ..ملاذا مل
أفكر يف هذا من قبل؟ ..سأجلأ إىل عمي املقيم يف األرجنتني وأطلب
مسامهته فهو تاجر ناجح تتدفق األموال بني يديه ،وهو لن خيذلين ..أمل
يقل يل يف رسالته األخرية أنه يعتربين مبثابة ابنه وأنه مستعد لتلبية كل ما
أطلب؟ ..وأنا لن أطلب منه طلبا شخصيا ..إنه طلب إنساين من أجل
مشروع وطين خريي يعود بالفائدة على كل الناس ..كما أنه سوف ينال
نصيبا من األرباح اليت سيعود هبا املشروع ..فكرة عظيمة تستحق التفكري
وسأبدأ باإلعداد هلا من اآلن ،سأقنع األصدقاء باإلهتمام هبذا اإلختصاص
حىت تتوفر لدينا اخلربات الكافية ،ولكن ..ملاذا أذهب بعيدا ..هذا هو
الدكتور إياد ..ال شك بأنه سريحب هبذه الفكرة ويدعمها إىل أبعد
احلدود ..ال شك بأنه ف ّكر هبا من قبل ..،السأله ..هذا الرجل العظيم..
إنه مهندس أحالمي وطموحايت)).
طوى الدكتور إياد امللف ،ووضعه جانبا ،مث أعاد القلم إىل حاملة األقالم،
ونزع نظارته وقال وهو جيلو ناظريها:
-أهال بك يا بين ..ها قد فرغت لك ..ما أخبارك؟
-لقد عرضت الفكرة على الوالدة فوافقت هبا بعد حوار طويل .إهنا تشعر
باألسف الذي شهد أحلى ذكرياهتا مع الوالد رمحه اهلل.
-رمحه اهلل ..إنين أفهم موقفها .إهنا على ما يبدو امرأة شديدة الوفاء .املهم
أهنا وافقت ..
-ولكن شريطة أن تتقاضى منها أجراً على السكن .
-هل تريدين أن أتقاضى أجرا على ضيافتكم عندي؟ ..هذا ال يكون
أبدا..
-دكتور إنك هبذا تعقد األمور..
-لكين أنا الذي دعوتكم للسكن ،ولستم أنتم الذين طلبتم ذلك ..فرق
كبري يا بين بني األمرين ،كما أن السبب الذي طلبت من أجله انتقالك إىل
جانيب سبب قوي تتضاءل أمامه قضايا املادة .لن أعيد ذلك يف كل مرة ،مث
أن األمر ليس إحسانا فأنتم على ما فهمت منك يف حالة مادية مرحية
واحلمدهلل .لقد قصدت بإقرتاحي توفري الوقت واجلهد ..إنين من أنصار
احللول احلامسة ..احللول العملية اليت تتجاوز اجملامالت واإلعتبارات
الشخصية ،ال سيما عند توفر الثقة والتعاون واإلنسجام.
حار عصام يف أمره فكلمات الدكتور إياد منطقية ومقنعة ،لكنه يصعب
عليه أن يقنع هبا أمه اليت منت كربياؤها مع األيام ،فلم ترضى من أحد شفقة
أو مساعدة ،حىت كلمات املواساة ترفضها من الناس ،وكأهنا تريد أن تثبت
هلم أهنا قوية يف غياب زوجها كما كانت يف ظالله ،فكيف يقنعها أن
تسكن يف بيت ليس ملكها دون أن تدفع أجرته؟ ..كيف سيتحايل على
حساسيتها املفرطة اليت حت هم كل تصرف أكثر من معناه؟!.
وأحس الدكتور إياد حبرية عصام فأدرك أنه لن يستطيع أن يستمر مع أمه
إىل أبعد مما وصل إليه فقال بعد تفكري وقد وجد حال:
-إمسع ..لدي فكرة مناسبة ..فكرة ترضي الطرفني ..سأتقاضى أجرا
لسكنكم عندي ،سآخذ منكم األجر الذي تؤجر به أي شقة يف حجم
شقيت ومستواها ،ولكن بشرط أن تتقاضي مين أجراً لقاء دوامك يف
عياديت ..سأعطيك الراتب الذي يتقاضاه عادة أي طبيب متمرن يف
املستشفى ،هذا كالم هنائي ال رجعة فيه.
-أستاذ إنك حترجين هبذه العروض ،تكفيين اخلربة اليت ستقدمها يل أجرا
يفوق كل أجر ..يكفيين اهتمامك األبوي الغامر الذي يزرع يف نفسي الثقة
ويدفعين قدما إىل األمام..
-إين أعطيك اخلربة وأمنحك اإلهتمام كأستاذ يتوجب عليه ذلك.
-لكنك تفعل أكثر من الواجب؟.
(( -وأنت ستبذل أكثر مما يبذله أي طالب ..سوف تبذل جهداً يستحق
املكافأة ،لعلك ال تدرك العناء الذي ينتظرك عندما ستعمل معي ..لن
أرضى منك أقل من أربع ساعات من العمل املتواصل بالرغم من كل
مشاغلك والتزاماتك األخرى ،فال أقل من أن تأخذ مثنا لبعض اجلهد الذي
تقدمه ..صدقين سأعتمد عليك كثريا يف عملي)).
-أرجوك أن تعفيين من هذا األمر.
-هل تضيفون يف شقيت دون أجر؟
-هذا أمر وذاك غريه..
-أبداً ،إهنا املعاملة باملثل.
كابد عصام حرية شديدة الحت معاملها على وجهه فقال وهو يداري
ارتباكه:
-أجد صعوبة يف القبول بشروطك.
-هل لديك حل آخر؟
-يف احلقيقة ال أدري ماذا أقول؟؟
-لنقل على بركة اهلل الوقت جداً قصري والفكرة تشكل أنسب صيغة
للتعامل بيننا دون حرج ..ماذا قلت؟
تردد عصام قائال مث مهس بنربة مستسلمة:
-على بركة اهلل..
-قال الدكتور إياد حماوال ختفيف وطأة اإلرتباك واحلياء اللذين سيطرا على
عصام:
(( -ال عليك يا بين ..عما قريب بإذن اهلل ستقدم يل أعظم مكافأة عندما
أرى فيك شبايب الغابر الذي طواه املشيب ..عندما كنت يف مثل سنك
كانت يل طموحايت الكبرية وآمايل العريضة ،لكين مل أجد من يشجعين
ويوظف طاقايت ويطورها كما أنوي أن أفعل معك من خالل جتربتنا هذه..
لكن ما وصلت إليه ال عملت جهدي حىت وصلت إىل ما ترى واحلمدهللَّ ،
يساوي شيئاً أمام ما كنت أحلم به ،لكنك أنت ستصل إىل أبعد مما
إين واثق من ذلك ألنين سوف أقدم أقدم لك جترتيب وصلت إليه أنا .ه
الكاملة ,,سأدلك على مواطن الضعف فيها لتتجنبها ،وسألفت نظرك إىل
معامل النجاح فيها لتتمثلها ..لنس هم هذا عملية تواصل بني جيلي وجيلك،
فال بد لألجيال من تبادل التجارب وتناقلها ..هذا أمر مهم لعملية التنمية
ولو أن كل جيل َّ
مد الذي يليه مبعارفه وخرباته ،إذن لقرأنا يف حركة أمتنا
قصة املد الصاعد حنو العالء ..عصام ..إنين أبين عليك اآلمال.. )).
نقلت كلمات الدكتور إياد عصاماً إىل عامل آخر بعد أن جردته من ارتباكه
وخجله فهام يف خواطره ،وتراءى له املستقبل بكل ما حيمله من ازدهار،
وحتركت يف أعماقه أشواق غامضة هي أقرب إىل النشوة ،وأحس يف كيانه
وهم أن ميضي من حلضته ليقوم مبا متليه عليه نشاطاً يدفعه للعمل والكفاحّ ،
طاقته الكامنة اليت حتفزت للعمل ،لكنه تذكر فكرة املستشفى الذي
خالطت خياله منذ قليل فقال:
-دكتور ،هل فكرمت بإنشاء مستشفى متخص مبعاجلة السرطان يف البلد؟
ابتسم الدكتور وقال:
-ال أكتمك بأين فكرت هبذا األمر –أنا وبعض أصدقائي -إهنا أمنية
تداعب خيالنا منذ زمن بعيد ولكن الوقت ما زال مبكراً لتحقيقها ،ألن
كوادرنا الطبية املهتمة بالسرطان قليلة ،كما أن تكاليف هذا املشروع باهضة
جداً ..إهنا تتطلب إمكانيات هائلة.
-ولكن الدولة لديها إمكانيات تفي بالغرض..
(( -ليس بالضبط ..لقد حبثت األمر مع وزير الصحة بالذات ،فأخربين بأن
ميزانية الدولة يف الوقت احلايل ال تسمح بذلك وتكتفي احلكومة يف الوقت
احلاضر بافتتاح فروع يف املستشفيات الكربى لتشخي ومعاجلة السرطان،
جمهز بأحدث التجهيزات لكنها ال تكفي ..إننا فعال حباجة إىل مستشفى َّ
الطبية الشعاعية والنووية واجلراحية إضافة إىل خمابر األحباث احلديثة
والكفاءات الطبية الفنية املاهرة..)).
قال عصام وقد شعر باألسف:
-الضعف اإلقتصادي يقف دائماً عقبة يف طريق تطورنا!.
-ماذا تفعل؟ ..ومع ذلك ترى جمتمعنا متهافتا على الكماليات ومستهرتاً
باألهم.
-شئ مؤسف .األمر على ما يبدو أصعب مما ختيلت!..
-ال عليك ..لدي إحساس بأن مثل هذا املشروع سيقوم يوماً ..لعله يقوم
على أيديكم...
وقطع حديثهما قرع خفيف على الباب وأطلت منه املمرضة قائلة:
-لقد جاء املريض يف موعده فهل أدعه ينتظر؟
(( -بل دعيه يدخل .هذا حقه والدكتور عصام سيعذرنا بال شك)).
قال عصام وهو يهم بالنهوض:
-طبعاً ..طبعاً ،أستأذنك اآلن باإلنصراف..
تنس ..سيبدأ مشروعنا منذ الغد فلتوطن نفسك على -تفضل ،ولكن ال َ
دأب طويل .أما بالنسبة ملوضوع السكن فالشقة يف انتظاركم وال مناص لك
من املوافقة؟..
-إن شاء اهلل ..واآلن وداعاً..
-بل إىل اللقاء...
***
الفصل التاسع
يف حديقة اجلامعة حيلو اللقاء ،ال سيما يف فصل الربيع الذي حيفها هبالة من
الروعة واجلمال ،تفنت الناظر ،وتشده إليها ليستمتع خبضرهتا اخلالبة ،ويغرف
من عبقها الفواح فيغسل به روحه املتعبة من أدران احلياة...
وبني أزهارها املتألقة ،ويف ظالل أشجارها الباسقة ،وعلى بساط سندسي
ممتد من احلشائش اخلضراء كان الطلبة يتحلقون يف جمموعات منسجمة،
غارقني يف أحاديث شىت ..عن اجلامعة ..وعن املستقبل ..وعن احلياة بكل
ما فيها ،يطرحون املشاكل ويتبادلون اآلراء ،وتند عنهم الصيحات
والضحكات اليت تضفي على جو احلديقة حياة فريدة ،تبعثها أرواح شابة
ختفق بأعذب األحالم واآلمال وهي تتلمس طريقها إىل غدها الواعد
ومستقبلها املنشود...
ويف ركن هادئ من أركان احلديقة الفسيحة ،كان عصام جيلس على كرسي
منعزل ،منهمكاً يف مطالعة جملة طبية كان قد استعارها من مكتبة الدكتور
إياد ،وبني احلني واآلخر كان يرمي بنظراته اهلادئة إىل خضرة احلديقة املوشاة
باألزهار والرياحني ،فتشف روحه وحتلق يف عامل من الصفاء املريح ،فتقبس
منه قبسات لذيذة تغرق كيانه بالسعادة ،وتبعث يف ذهنه النشاط ،فيعود إىل
اجمللة يف شوق ،ليلتهم سطورها يف شهية للمعرفة ال تقاوم ال يزعجه إال تلك
اهلمهمة الغامضة اليت تصدر عن أحاديث الطلبة املختلطة القادمة من بعيد،
يتخللها فاصل متقطع من وقع األقدام العابرة ،وهي تقطع الطريق إىل غايتها
عرب األرصفة اليت خترتق احلديقة الغناء..
وانساب إىل مسعه صوت هادئ يلقي عليه السالم ،فرفع إىل صاحب
الصوت عينني تشعان وداً واحرتاماً ،وهنض إليه يف هلفة وشوق وهو ميد له
يد الرتحيب:
-وعليكم السالم ..أهالً سعد..
قال سعد بعد أن تصافحا حبرارة األصدقاء وقد احتفظ كل منهما بيد
اآلخر يف كفه وهو يشد عليها يف مودة ظاهرة وكأنه ال يريد أن يفارق
صاحبه:
-كيف أنت يا عصام؟
-يف شوق إليك يا صديقي ..أال جتلس معي؟
-بودي أن أجلس ،لكين أراك مشغوالً ..ما الذي تقرأه؟...
-جملة طبية صادرة عن اجلمعية األمريكية للسرطان ..اقرأها إن أحببت.
-ال بد وأهنا حتوي أحباثاً قيمة...
-فيها حبث طويل عن التدخني وعالقته بسرطانات الرئة ،اجلس معي فأنا
يف شوق ألحاديثك املمتعة.
-قلب سعد صفحات اجمللة بسرعة وقال وهو يهم باجللوس:
-لو تعلم كم سررت عندما رأيتك جالساً هنا..
-مل جنلس معاً منذ زمن!.
-لقد أصبحت صيداً مثيناً يف هذه األيام .مل يعد أحد يراك خارج أوقات
الدوام ..تأيت مسرعاً وخترج مسرعاً وكأنك ال تعيش معنا يف كلية واحدة!!.
-ماذا أفعل يا صديقي ..الواجبات أكثر من األوقات كما يقول الدكتور
إياد ،ولوال هذا التعديل الذي طرأ على برنامج اليوم بتأخري موعد احملاضرة
مقدار ساعة ملا صادفتين هنا.
هتف سعد كمن تذكر:
-آه ..صحيح ما أخبارك مع الدكتور إياد؟؟
-أخبار طيبة ..علم غزير ،وخربة متنامية ،وصحبة كرمية لرجل عظيم
وأستاذ جليل ،ميدك دوماً مبالحظاته الدقيقة ونصائحه العميقة وجتاربه
الثرية..
مهس سعد وهو يرمق صديقه يف إعجاب:
-عصام ..إنك تدهشين ..كيف تستطيع أن توفق بني دراستك ومالزمتك
للدكتور إياد وأمورك األخرى؟
زفر عصام زفرة عميقة وشت مبا يعانيه من إجهاد وعناء وقال:
-ال أكتمك يا سعد ،إين أعاين من كثافة املشاغل وضيق الوقت وضغط
األعباء ،لكن تشجيع الدكتور إياد وإصراري على حتقيق طموحي ،مها
اللذان يدفعاين للمتابعة ولوالمها لكنت تراجعت منذ زمن ..هل تعلم؟..
خف وزين خالل األشهر القليلة املاضية سبعة كيلو جرامات. لقد َّ
-وكم تنام يف اليوم ؟
-مخس ساعات تقريباً .الوالدة تنهرين ،فأمنيها باملستقبل فرتضخ إلراديت
بأن سكين اجلديد يف عمارة الدكتور إياد قد وفّر علي على مضض ،علماً َّ
الكثري من الوقت واجلهد فهو – كم تعلم – قريب من اجلامعة وقريب من
عيادة الدكتور إياد يف آن واحد..
-وبيتكم القدمي ..ماذا فعلتم به؟
-لقد أجرناه لنستفيد من أجرته ..سعد ..ملاذا ال تنضم إلينا ..لقد حدثتين
كثرياً فيما مضى عن اهتمامك بالسرطان وميلك لالختصاص فيه ،كما أن
الدكتور إياد سريحب بانضمامك فهو ميدح دائماً تفوقك وسلوكك املمتاز.
-حقاً؟ ..هذه نظرة أعتز هبا ..كان بودي االنضمام إليكما لكين بصراحة
ال أملك جلدك ودأبك ..سأكتفي بزيادة مطالعايت حول السرطان ريثما
أخترج مث..
وقطع حديثهما صوت بعيد يلقي التحية فرد عليه سعد:
-أهال ((عرفان)) ..هلم إلينا..
وأردف عصام:
-تعال إىل هنا يا عرفان ،مل نرك منذ زمن..
مضت برهة ريثما انضم اليهما عرفان وقد بدا سعيداً بلقائهما وابتسامته
املعهودة تتوج ثغره الضاحك وما إن وصل حىت ارمتى بينهما على الكرسي
اخلشيب الطويل قائالً لعصام:
-لتتكلم عن نفسك يا عصام ،أنت الذي مل تعد تظهر بيننا .لقد
استغرقتك مشاغلك الكثرية وأبعدتك عنا ..جيب أن تعرتف بذلك يا
أستاذ...
مث وهو يلتفت حبديثه إىل سعد:
لقد أصبح األخ كالبدر ..يظهر كل شهر مرة ،وقد ال يظهر...
مث التفت إىل عصام ثانية وقال:
-أصبحنا ال نراك إالّ مسرعاً ..تأيت إىل احملاضرات وهي توشك على البداية
وما إن تنتهي حىت تطوي كراستك ومتضي ..تصور يا سعد(( ..عصام
السعيد)) أصبح جيلس يف الصفوف األخرية من املدرج ،وهو الذي مل يتنازل
عن مكانه يف الصف األول منه منذ السنة األوىل .هل تذكر كيف كان
حيجز لنا املقاعد األمامية؟
مث أردف ضاحكاً:
-كان الطلبة يندهشون لوجودي يف الصف األول وأنا املشهور بالتأخر
املزمن عن احملاضرات (( ...ها ..ها ..ها)).
ضحك الثالثة يف ود مث ما لبث عرفان أن استأنف حديثه قائالً:
-أنت السبب يا عصام فال تسألن عن قلة رؤيتنا لك ..أنت الذي مل تعد
تسعى للقائنا ،أما حنن فإننا نلتقي دائماً ..أنا وسعد وجمدي وهباء وعثمان
و ..على فكرة ..حنن مدعوون مساء الثالثاء القادم على مأدبة عشاء فاخرة
عند عثمان ،ولن ندعوك طبعا.
تساءل عصام يف مرح:
-وملاذا؟
-ألنك يا عزيزي أصبحت تنتمي إىل طبقة جديدة ..طبقة العلماء
والباحثني واحلفلة معدة لطبقة الطلبة املساكني ،فأين حنن منك يا
صديقي؟ ..أين الثرى من الثريا؟!
ضحك عصام طويالً مث قال:
-ساحمك اهلل يا عرفان ..منذ مىت مل أضحك هذا الضحك!
-مجيل أن جتد وقتاً لتضحك ..بودي لو كان حبوزيت آلة تصوير..
-ملاذا؟!..
-ألمجد هذه اللحضات وأحصل على صورة لك وأنت تضحك قبل أن
تنقرض الضحكة من على شفتيك.
مث هنض عرفان وهو يقول:
-ائذنا يل اآلن ..لدي ((مشوار)) مهم قبل أن حيني موعد احملاضرة.
هتف عصام يف توسل وهو يشده من يده ليجلس:
-ابق معنا يا عرفان ..حديثك ميتعين ..لتؤجل ((مشوارك)) هذا.
صاح عرفان:
-إال هذا ((املشوار))...
-يبدو أنه على درجة من األمهية!.
مال عرفان على عصام ومهس:د
-لقد صدقت فأنا على موعد مع القمر.
-القمر؟!..
قال سعد وقد مسع حتاورمها:
-يقصد خطيبته ..إهنا طالبة يف كلية اآلداب ،وهو ينتهز األوقات
لرؤيتها...
-حقاً؟ ..مربوك ..ألف مربوك يا عرفان ..ملاذا مل ختربين بذلك؟.
-ومىت رأيتك حىت أخربك؟
-كفاك يا عرفان ..لقد أوغلت يف املبالغة!
قال عرفان وقد احنىن فيما يشبه الركوع ويداه تستندان على فخذيه:
-قد أكون مبالغاً ،لكن صدقين أنك أصبحت وكأنك تنتمي إىل عامل
آخر...
-عامل آخر!..
-أجل ...عامل آخر.
مث قهقه قائالً وهو ميضي:
-إنه عامل السرطان...
***
هبت نسمات الربيع هادئة لطيفة فداعبت الوجوه الشابة وأنعشت النفوس
احلاملة ،وبعثت يف احلديثة حياة جديدة فتمايلت األشجار الفارعة يف
جالل ،وخطرت الورود واألزهار يف دالل ختتال بفتنتها اخلالبة وترسل
بأرجيها العطر ليلفت إليها القلوب واألنظار...
قال عصام وهو يرنو إىل زهرة مجيلة:
-لشد ما يستهويين منظر الورود واألزهار!
-كلنا ذاك الرجل...
-عندما أنظر إليها تسربلين ،طمأنينة غامرة ،وتشعر نفسي باالرتواء ،وكأهنا
تغرف من حبر األمان اخلالد.
-نفس الشعور ينبثق يف نفسي ،لكن مثة شعور آخر يهزين من األعماق...
-الشعور بعظمة اهلل ،أليس هذا ما تريد قوله؟
أرسل سعد تنهيدة عميقة وشت بانفعاله وقال وقد ملعت عيناه بأنداء من
الدمع:
-هذا ما أردته فعالً ..عندما أرمق الزهور حتلق روحي يف عامل من الصفاء
اخلال ..صفاء يقودين إىل خشوع غامر عميق إزاء عظمة اهلل وقدرته
اخلالدة..
مهس عصام وقد اهتزت نفسه لكلمات سعد املؤمنة الندية:
-إنك شاب شديد اإلميان يا سعد .لكم يسدين حديثك عن اهلل...
اهلل ...هو احلقيقة اليت احنسرت من حياتنا فغابت بغياهبا كل القيم النبيلة
وأصبحت احلياة أشبه بغابة!..
مث أردف بنربة آسفة:
-يا للجحود ..ترى الواحد منا إن قدم له أحد معروفاً أو خدمة شكره
عليها وحتني الفرص لريد له اجلميل واهلل ...اهلل الذي خلقنا يف أروع صورة
وأبدع تصميم وأنعم علينا مبا ال حنصيه من النعم اليت نستمتع هبا ليل
هنار ...اهلل الذي بيده هنايتنا ومصرينا األخري ،ترانا غافلني عنه ..ناسني
لفضله السابغ ..منشغلني عنه مبا وهبنا من الطيبات ..نلهث وراء غرائزنا
وشهواتنا ..ال نكاد نذكره إال يف امللمات واملناسبات ،وإن ذكرناه كان ذكره
باهتاً ميتاً ..ال ينبض فيه حس أو ختفق فيه روح ،وبعد كل هذا اجلحود
والنكران يفتح لنا أبواب العودة ليدلفها التائبون الصادقون ،فيستقبلهم حبلمه
الواسع ،ويرحم ضعفهم ،ويبدل سيئاهتم حسنات!!!
فمست ضمريه املرهف فأحس تسربت كلمات سعد إىل أعماق عصام ّ
بالندم وقال وهو يكابد شعوراً بالذنب:
-لقد أشعرتين كلماتك بتقصريي وتفاهيت ..إنين قليالً ما أذكر اهلل!!.
قال سعد وهو يشد على كتفه يف ود:
-إنك تبخس نفسك حقها هبذا الكالم فأنت تنطوي على إميان عميق
ونفس نقية يعكسها سلوكك الرفيع .إن جمرد إحساسك بالتقصري هو نوع
من التوبة ..إنه بداية الطريق إىل اهلل ،ولكن ..ينبغي أن ال نكتفي هبذا
الشعور ،إذاً لتلبد واستحال إىل تربير لإلمهال والتقصري ،بدل أن يكون
حافزاً للتغيري.
-ال أكتمك يا سعد ..إن نفسي كثرياً ما هتفو إىل التدين ،لكن مشاغل
احلياة سرعان ما تستغرقين فتذوب عزمييت يف زمحتها ،لكين واثق من أين
سأجته إىل الدين يوماً..
-ومىت يكون هذا اليوم؟
باغت السؤال عصاماً فقال وهو يداري عجزه عن اإلجابة:
-يف احلقيقة ال أدري!!.
-لكن األمر على درجة من األمهية ،لذا يتوجب التحديد.
-هل تريد مين أن أحدد يوماً يف مستقبل جمهول؟
-املستقبل اجملهول ..هذا ما رمت الوصول إليه .حنن مجيعا نقف على عتبة
مستقبل جمهول املعامل جنهل أحواله وأحداثه وهنايته ،فال ندري مىت سيسدل
املوت ستارته السوداء على حياتنا الزاخرة ،وال ندري مىت يأزف الرحيل..
حنن ال منلك إال للحضات احلاضرة لنقرر فيها ،أما املاضي واملستقبل فال
منلك من أمرمها شيئاً ..ذلك أن عجلة احلياة تدور باجتاه واحد ،وأ ّن املوت
مل حيدث أن استأذن أحداً بالقدوم..
تساءل عصام يف نربات حزينة وشت بالضيق:
-املوت؟؟.
لكن احلياة كثرياً ما ختدعنا
* -أجل املوت إنه أوضح حقيقة يف الوجودّ ،
وجتذبنا إليها فنتوهم أنّا باقون إىل ما ال هناية!.
-هل تريد اجل ّد؟ ..إين أخاف املوت وأخشاه!؟
ابتسم سعد وقال:
-من منا ال خياف املوت ..كلنا خنشاه ..هذه طبيعة اإلنسان ..لقد جبل
على حب احلياة والنزوع إىل البقاء.
-كثريا ما فكرت فيه ..آه ما أقساه ..إنّه املطرقة الفضيعة اليت ستهوي يوماً
على آمالنا وأحالمنا لتعصف هبا ،وحتيلها إىل سراب ..إنه وحش خميف..
ينهش األرواح بأنياب نافذة ال ختطئ ..خيتطف من حنب أو ال حنب..
خيلف الضحايا ..ويزرع دنيانا باألحزان..
-إنه قدرنا الذي ال مفر منه .لعل وفاة والدك ِرمحه اهلل زادت من قتامة
تصورك عن املوت؟
-هي عامل بال شك ،ولكن تفكريي باملوت ازداد أيام كنا ندرس مادة
التشريح ..عندما كنا نعاجل األجساد امليتة بأيدينا ونعمل فيها املشارط
واألدوات ،ال شك أن فكرت مثلي.
-هذا صحيح ..لطاملا فكرت فيه آنذاك.
-كان املوت يوحي يل بعجز اإلنسان وضعفه ،فأعظم إنسان وأقوى
إنسان وأغىن إنسان يتحول مبوته إىل كومة تافهة من العظم واللحم الذي
سرعان ما تنبعث منه رائحة الننت ،ويعبث فيه الدود ..املوت يا سعد شئ
فضيع ..لقد كنت أحس بتفاهة احلياة عندما أرى هنايتها البئيسة.
وآذت مسعهما ضحكات خافتة ومهسات ماجنة ،فانتبها إىل مصدرها،
ففوجئا بـ ((صفوان)) و ((مىن)) ومها مستغرقان يف وضع فاضح مريب وقد
ظنا َّ
أن هذا املكان اهلادئ البعيد خال من الطلبة والرقباء وأثار املشهد
امشئزاز ((سعد)) و ((عصام)) فغادرا املكان يف ضيق وانزعاج بالغ..
هتف عصام بنربات ثائرة وهو يلوح بقبضته يف اهلواء:
-أنا ال أفهم كيف يتجرأ هذان العابثان على حرمة اجلامعة!! ..أال من
إدارة حازمة توقف هذه املهازل؟!..
قال سعد وقد تلونت مالمحه حبمرة الغضب:
-قد حتمي اإلدارة احلازمة اجلامعة من مظاهر العبث والفجور .لكنَّها لن
تستطيع أن تسيطر على تيار االحنالل اجلارف الذي جيتاح الوطن ،أو توقف
الرتدي واالحندار الذي يقود جمتمعنا إىل اهلاوية ..حنن يف حاجة ماسة إىل
عملية تغيري عميقة داخل املواطن ..إىل إدارة حازمة واعية داخل اإلنسان..
حنن يف حاجة إىل ضمري.
-وما احلل ألزمة الضمري هذه؟ ..جيب أن يكون هناك حل ما حيمي األمة
من الضياع!.
-احلل موجود ..لكنه حيتاج قبل كل شئ إىل إرادة قوية للتغيري ..إرادة
تنبثق من قناعة الناسب األذى والدمار الذي حيمله تيار امليوعة والالمباالة
جملتمعنا وهنضتنا ،وحىت تتولد هذه القناعة حنتاج إىل قراءة واعية عميقة يف
التجربة األوروبية واألمريكية اليت حيصد الغرب اآلن نتائجها املأساوية املريرة
بسبب مترده على األخالق واملثل العليا ..الناس يف بالدنا مبهورون باحلضارة
الغربية ويعتقدون أن التقدم املذهل الذي وصلت إليه أوربا وهو نتيجة
لتفلتها من األخالق والقيم اإلنسانية الفاضلة ،بينهما احلقيقة الصارخة اليت
يقرها كل عقالء العامل ويتنادون إليها هي أن اإلباحية اليت تغرق أوربا
وأمريكا اآلن هي جرثومة الفناء اليت هتدد احلضارة الفتية هناك.
قال عصام وهو جيوب أرجاء احلديقة باحثاً عن مكان هادئ جيلسان فيه:
-هذه مهمة وسائل اإلعالم ..وسائل اإلعالم هي املسئولة عن نقل
مساوئ التجربة الغربية وثغراهتا إىل اجلماهري ومع هذا فإين أعتقد أنه ال مفر
من الردع ..من احلزم يف مكافحة هذا الوباء..
حل ،لكنه آخر احللول ..علينا قبله بالرتبية ..تربية األجيال على
-الردع ّ
القيم األخالقية واحلضارية األصيلة ..تربية مدروسة تسلك أجنح الطرق
العلمية والنفسية ..تربية شاملة منسجمة يف البيت واملدرسة واجملتمع..
تدعمها محلة اجتماعية منظمة تكرس القيم األخالقية واملفاهيم احلضارية
البالية عرب وسائل اإلعالم املؤثرة من صحافة و ((راديو)) و ((سينما)) و
((تلفزيون))(( ..التلفزيون)) بات اآلن أخطر وسيلة إعالمية يف حياتنا فهو
يعيش مع الناس جزءاً كبرياً من أوقاهتم.
قاطعه عصام بقوله:
-إنه يقاسم الناس ثلث حياهتم الواعية تقريباً..
-األخطر من ذلك أنه يعيش مع الطفل أكثر من أهله يف البيت ومعلميه
يف املدرسة وهو جيلس أمامه يف أقصى حاالت الوعي والرتكيز ،يتلقف كل
ما يبثه من أفكار ومفاهيم وهو الصفحة النقية البيضاء اجلاهزة لإلمالء ،فإذا
مل يكن ((التلفزيون)) تربوياً هادفاً ،كان خرباً هداماً يدمر األجيال تلو
األجيال..
تساءل عصام:
وماذا بعد الرتبية؟ ..ما اخلطوة اليت تليها؟..
-ال بد لنا من حل املشاكل االجتماعية اليت مهدت هلذا الفساد ..جمتمعنا
ليس شرا حمضاً ..مثة عوامل كثرية تدفعه إىل أتون الشر ..الفقر مثال..
احلرمان الفظيع الذي يدفع الكثريين إىل هاوية االحنراف(( ..مىن)) هذه اليت
رأيتها منذ قليل هبذا الوضع املخجل ،ما الذي دفعها هلذا السلوك؟ ..إنه
الفقر واحلرمان ..فتاة ناضجة تفيض أنوثة ومجاالً ترتاق يف أعماقها أحالم
وأشواق شىت ..فتاة فقرية مل تذق يوماً طعم احلياة اهلانئة السعيدة ،جتد
فجأة من يعدها بتحقيق كل أحالمها دفعة واحدة مستغالً اندفاعاهتا
العاطفية العارمة فتنساق وراءه مبهورة ،وتتدرج معه يف جماهل الضياع ..مث
مشاكل وأمراض أخرى تساهم يف صنع املأساة ..اجلهل ..التخلف..
الرشوة(( ..الواسطة)) ،لكن الرتبية الفاسدة تقف دائماً على رأس هذه
السلسلة الرهيبة من األمراض اليت تكبل هنضتنا ..والد صفوان مثالً ..رجل
واسع الثراء والنفوذ ،رىب ابنه تربية مائعة مدللة ..صفوان هذا مل يسمع من
أبيه كلمة (ال) واحدة يف حياته ..دائماً جييبه لكل ما يطلب ،ويضع بني
يديه األموال الطائلة ليبعثرها على أهوائه ورغباته ،فيزيده املال طغياناً على
طغيان ..وكلما تورط ابنه يف خطأ أو احنراف سارع أبوه إلنقاذه مبا ميلك من
مال ونفوذ ..أنقذه من هتمة هتريب خمدرات ..أنقذه من هتمة أخالقية يف
أحد بيوت الدعارة منذ سنتني ،فما تنتظر من شاب هذا شأنه؟
زوى عصام ما بني حاجبيه دهشة وقال:
-وكيف توصلت إىل كل هذه املعلومات؟
-هذه املعلومات ليست سراً ..إنه يتصرف يف تبجح ووقاحة ..لعلك
فوجئت هبا ألنك ال هتتم هبذه األمور ،لكين مهتم بالقضية االجتماعية
وصفوان منوذج من مناذج االحنراف يف جمتمعنا حيلو يل أن أراقب تصرفاته
وأتتبع أخباره وأحلل سلوكه.
والحت هلما مخيلة خضراء فلجآ إىل أفيائها ،وجلسا على بساط األرض
السندسي املمتد ،مث ما لبث عصام أن قال يف حماولة ليصل ما انقطع من
حديثهما حول املوت:
-سعد ..مباذا كان املوت يوحي إليك عندما كنت تقوم بتشريح األجساد
يف املشرحة؟
أجابه سعد وقد تذكر احلوار الذي كان قبل هذا احلادث العابر:
-عندما كنت أتأمل األجساد امليتة املمدة أمامي على طاوالت التشريح
كان تفكريي ميتد إىل ما بعد املوت ..إىل اليوم اآلخر .فيبدو يل املوت أنه
البداية ..حقيقة أنه هناية حياتنا على األرض ،لكنه البداية ملرحلة جديدة
يتحدد فيها مصرينا اخلالد ،تقرره العدالة اإلهلية الرحيمة اليت ال تظلم أو
تتعسف ،فتفرز البشر حسب أعماهلم وبواعثهم..
-إنين موقن بذلك ،لكن قليالً ما يراودين التفكري فيه!.
-كلنا نقتنع باليوم اآلخر ،لكن الكثري من قناعاتنا تظل يف أذهاننا
فحسب ،وكأهنا معادلة رياضية جمردة أقنعتنا هبا قواعد املنطق ،بيد أهنا ال
تتجاوز العقل يف الشعور ،لتتحول إىل حس داخلي ننظر من خالله للحياة
لذلك ترانا نقتنع عقالً بأن املوت ليس هو النهاية ،ونشعر حساً بأنه النهاية
لكل شئ ونشفق على آمالنا ومنجزاتنا وخناف عليها على الرغم من أننا
أبقى منها...
قال عصام:
-حتليل مقنع ودقيق ،ولكن ال ميكن لإلنسان إال أن حيلم ويطمح وحييا
على أمل...
-أنا معك يف هذا .فاحلياة بال طموح وأمل تافهة ال معىن هلا ،لكن النقطة
األهم يف آمالنا وأحالمنا ونشاطنا على هذه األرض هو الغاية اليت من
أجلها حنيا ونعمل وحنلمّ ..إهنا احللقة املفقودة اليت حنتاج إليها ليستقيم
تصورنا للكون واحلياة واإلنسان...
-الغاية؟!..
-أجل ..ملاذا نعيش؟ ..ملاذا حنلم؟ ..ملاذا تعيش أنت مثالً؟
أجاب عصام بلهجة حائرة وقد باغته السؤال وكأنه يسمعه للوهلة األوىل:
-أنا أحيا ..أحيا من أجل أن أصبح طبيباً ناجحاً مفيداً ..ومن أجل أن
أساعد والديت وأوفر هلا حياة سعيدة وعندي طموحات علمية وشخصية ال
ختفى عليك و ..وفقط!..
-لكن املوت سوف يطوي معه كل هذه الغايات واآلمال...
صدمت هذه احلقيقة عصاماً فوجم والذ بالصمت بينما تابع سعد:
-كل هذه الغايات اليت طرحتها غايات جزئية ..غايات مرحلة ينبغي أن
تكون يف إطار غاية أساسية جامعة .ال بد أن يكون لوجودنا اإلنساين غاية
كربى توجه نشاطنا وأعمالنا ..غاية شاملة حلياتنا على األرض وحياتنا فيما
بعد املوت.
قال عصام وقد حتمس للنقاش الذي أثار فضوله:
-ما هي غاية وجودنا اإلنساين يف رأيك أنت؟
-إهنا يف كلمة واحدة ((العبودية هلل)).
-العبودية هلل؟! لعلك تريد الصالة والصيام؟..
ابتسم سعد وقال بنرباته اهلادئة الرزينة:
الصالة والصيام وغريمها من العبادات والشعائر ليست هي العبودية اليت
أعنيها بل هي مظهر من مظاهرها ...العبودية يف حد ذاهتا أكثر من صوم
وصالة ...العبودية هي أن نعيش حياتنا كلها هلل.
-كيف؟ ..كيف ميكن ذلك؟
-بأن نوظف كل ألوان نشاطنا اإلنساين وكل أعمالنا وكل طموحاتنا
لتحقيق دين اهلل الذي ارتضاه لنا منهجاً ونظام حياة.
-ولكن هناك أمور ال عالقة للدين هبا!!...
هتف سعد يف محاس:
-هنا تكمن النقطة احلامسة يف املوضوع ..إهنا فهمنا لإلسالم ...حنن -يف
احلقيقة -ال نفهم إسالمنا الفهم السليم.
أرجو أن تعذرين هبذا الكالم ،فأنا ال أقصد اإلساءة أو االدعاء.
قال عصام وهو يف شغف ملتابعة احلوار:
-أستمر أرجوك ..إين أفهمك ،مث إين مقر جبهلي حول الكثري من قضايا
الدين.
-أنا ال أقصد التفاصيل ،فال ميكن إلنسان مهما أوغل يف العلوم واملعارف
اإلسالمية أن حييط بكل التفاصيل ،ما أريده هو املبادئ ..فهمنا ملبادئ
اإلسالم ..إدراكنا لروحة وخصائصه العامة حبيث يتكون لدينا حس إسالمي
دقيق ..نتحسس به احلقائق ..ونتلمس الصواب ..ونصنع املواقف ..ونرصد
األحداث ..املهم يا عصام أن تستقر يف حسنا أجبدية إسالمية واضحة..
تصيغ بأحرفها فهمنا لإلسالم .فينطق هبا سلوكنا ،وتعرب عنها حركتنا يف
احلياة ..هذا أضعف اإلميان.
قال عصام وقد تصاعد اهتمامه باحلديث:
-ما هي األجبدية اليت كونتها أنت عن اإلسالم؟ ..أعطين فكرة عنها؟
-سأقول لك ..اإلسالم قبل كل شئ منهج رباين صادر عن اهلل سبحانه،
واهلل الذي خلقنا هو األعلم بطبيعتنا وتركيبنا اجلسدي والفكري والنفسي،
لذلك فإن دينه الذي ارتضاه لنا هو األوىل باإلتباع والتطبيق ،ألنه منهج
صمم لإلنسان بيد خالق اإلنسان ..هذه نقطة مهمة تقوم عليها أمور
كثرية...
قاطعه عصام قائال:
-هذه نقطة جوهرية أؤيدك فيها ..فعلى صعيد حياتنا املادية مثالً ،ال
يوجد عاقل يرضى أن يتلقى تعليمات آلة أو جهاز ما إال من املهندس
الذي صممه ،أو العامل الذي اخرتعه ،فما بالك باإلنسان ..هذا الكائن
املعقد الذي ما زال العلم والطب تائهاً يف حبر أسراره وألغازه؟..
سر سعد هلذا التفاعل الذي أبداه عصام فعقب على كالمه قائالً: ّ
-هلذا تُصدر الشركات الصناعية ((كتالوج)) أو دليل استعمال ملنتجاهتا
يعده املهندسون الذين صمموا أو اخرتعوا هذه املنتجات .وما اإلسالم إال
دليل حلركة اإلنسان السليمة وفق تصميمه وطاقته وطبيعته.وما التخبط والتيه
الذي تضرب فيه
البشرية اليوم إال نتيجة منطقية الستغنائها عن املنهج األصيل واستبداله
مبناهج مشوهة من صنع اإلنسان ووضعه وهو الكائن الضعيف القاصر
بقدراته ومعارفه وإزاء هذا الكون الواسع الرحيب..الكائن املرهف احلساس
املتأثر بعواطفه وانفعاالته ..الكائن اللغز الذي مازال جيهل نفسه..
سأل عصام وهو يرمق صديقه يف إعجاب:
-سعيد ..ما األمور اليت تريد أن تبنيها على هذه النقطة؟
-أمور كثرية ..منها أن اإلسالم منهج متوازن أعطى لكل جانب من
الشخصية اإلنسانية حقه وأشبع بتوازنه الروح والعقل واجلسد.ففيه تروي
الروح أشواقها إيل القيم واملثل واألخالق ،وختفق بأنبل املشاعر والعواطف
وأطهرها ،وفيه ينطلق العقل ليقتحم آفاق القلم والبحث والتجريب وميخر
عباب املعرفة ،ال يضره إن يلتقطها من أي إناء أو منهل مادامت معرفة
شر ،وفيه جتد غرائز اجلسد طريقها الطبيعي إنسانية مفيدة ال تفضي إيل ّ
النظيف لإلشباع دون إفراط أو تفريط ،مبا ال يتعارض بني حرية الفرد
واجملتمع.
-مجيل..
-واإلسالم نظام واقعي يدرك واقع اإلنسان وطاقته ،ويرحم نقاط ضعفه
اليت جبل عليها فرياعيها ويعذره فيها ،لذالك نراه قد فتح له أبواب التوبة
على مصراعيها ومل حيمله
ماال يطيق ،كما راعى اإلسالم نقاط الضعف يف اإلنسان فقد شجع فيه
نقاط القوة ورباه على البذل والعطاء ،ودفعه إيل االرتقاء وما استطاع
االرتقاء.
-وأيضاً ...أفكارك تدهشين...
-وأمجل ما يف اإلسالم مشوله ..فهو منهج حياة كامل يستغرق كل ألوان
النشاط اإلنساين ،فينظمها ،ويطلقها ضمن أطر واسعة رحيبة تسمح للناس
مبمارستها يف مرونة عجيبة تتالءم مع كل جمتمع وعصر دون أن تتجاوز
األصول الثابتة اليت قررها اإلسالم.
تساءل عصام مفكراً:
تستبعد أن يصطدم تطورها املطرد
ُ -لكن احلياة تتطور باستمرار ،.فلماذا
مع األصول الثابتة اليت طرحها اإلسالم ؟
-سأقول لك.
-تفضل..
-الن اإلسالم استمد ثبات تلك األصول من ثبات اخلصائ األساسية
للشخصية اإلنسانية ،فالعريب الذي كان يطوي الصحراء على مجل
،واألمريكي الذي وطئت أقدامه سطح القمر ،ميلكان نفس اجلهاز اجلسدي
والفكري والنفسي ،وختفق بني جواحنهما فطرة واحدة .الذي أختلف وتبدل
هو الوسائل والظروف واملعارف أما اجلوهر اإلنساين الذي يتعامل مع
كنت أحتدث ؟املعطيات املتبدلة فهوا ثابت ال يتغري .نعود حلديثنا ..عم ُ
-عن الشمول يف اإلسالم.
-أجل ..لقد حول اإلسالم حياة اإلنسان بتفاصيلها الكبرية والصغرية..
جبوانبها املتعددة ..بنشاطاهتا املختلفة الغريزية والفكرية والروحية ..الضرورية
منها والثانوية ..الفردية منها واجلماعية ،حوهلا مجيعاً إىل عبادة متصلة باهلل،
فطعامك عبادة وشرابك عبادة ونزهتك عبادة ونومك عبادة وزواجك عبادة
ودراستك عبادة وختصصك عبادة وعملك عبادة ..حىت التلذذ بالطيبات..
حىت اإلبتسامة تبذهلا لآلخرين عبادة هلل تثاب عليها وترفك يف ميزان اهلل
درجة ..وحىت حتول كل هذه األعمال إىل عبادة هلل ما عليك إال أن تنوي
هبا إرضاء اهلل ،وأن تتجنب كل ما يغضبه ،أو يؤذي اآلخرين .اإلسالم يا
عصام منهج حياة متكامل ..إنه دين ودنيا ..سياسة واقتصاد ..فن
واجتماع ..حياة طاهرة فريدة ال تدانيها حياة.
-والصالة والصيام وما إىل ذلك من شعائر؟...
-إهنا حمطات للتزود بالطاقة ،واستذكار للمبادئ ،وصقل للنفوس ،واعتذار
إىل اهلل عما قد سلف من أخطاء ،وعهد متجدد على الصرب والثبات على
الدرب الطويل..
أعجب عصام بأفكار سعد أميا إعجاب ،فقال وهو هائم مع أفكاره:
-هل تريد احلق؟ ..لقد فتحت أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها متاماً.
أجاب سعد وهو ينظر إىل ساعته:
-كان بودي لو استمرينا باحلديث ،لكن موعد احملاضرة قد اقرتب ،وعلينا
أن منضي لنحجز مكاننا يف الصفوف األوىل من املدرج ،امسع ..ملاذا ال
نلتقي ثانيةً لنتابع احلوار؟..
-سيسعدين ذلك ،رغم كل مشاغلي ..سنلتقي السادسة ...ما رأيك؟
-إن شاء اهلل ..هيا بنا...
مضى الصديقان جنباً إىل جنب عرب أرصفة احلديقة اخلضراء ،يلفهما تأمل
صامت عميق ...كان سعد فرحاً مسروراً هبذا التجاوب الرائع الذي أبداه
عصام ..أما عصام فقد كانت أفكاره تبحر حنو عامل جديد...
***
غادر عصام الكلية ويف أعماقه مثة أسئلة حيارى تبحث عن جواب ..إنه مل
يتعود أن يتقبل األفكار دون أن خيضعها للدرس والتمحي ،فكيف
استقرت يف ذهنه تلك التصورات اخلاطئة عن اإلسالم؟..
ملاذا مل حي َظ هذا الدين الذي ينتمي إليه باهتمامه وهو الذي ال ينجو من
فضوله شئ؟ ..كيف تسرب إىل ذهنه أن اإلسالم جمرد صوم وصالة؟..
كيف غابت عنه هذه اآلفاق الرحيبة اليت نقله إليها صديقه سعد؟..
تساؤالت عاصفة شىت هتز ضمريه بقوة فينفض عنه ركام األوهام واملفاهيم
املزيفة الدخيلة ،ويتهيأ لالنطالق حنو احلقيقة اخلالدة يف رحلة حبث طويلة..
لشد ما يعشق احلقيقة ويهواها ويف سبيلها سيقطع كل الدروب وسيجتاز
كل صحاري الضياع والغموض ليحط رحاله يف واحتها اخلضراء ويرتاح يف
ظالهلا الوارفة ،ويروي روحه العطشى من مائها الزالل.
ويف احلافلة اليت استقلها إىل منزله اجلديد يف عمارة الدكتور إياد كان عصام
جيلس وامجاً ..ساهم النظرات ..ذاهالً عن كل شيء ..إن قضية انتمائه
لإلسالم والتزامه به لتستويل على تفكريه ،فهي قضية ال تقبل التمييع
والتأجيل فاملوت يأيت بغتة دون سابق علم أو إنذار ،واهلل سوف يسأله عما
قدمت يداه على هذه األرض ،فبماذا جييب؟.
وأفاق من خواطره على بكاء طفل صعدت أمه لتوها إىل احلافلة ،فنهض
وقدم هلا مكانه فشكرته وجلست وهي هتدهد طفلها الذي ما لبث أن هدأ
وراح جيول بنظراته بني وجوه الركاب يف براءة وقد أفرت ثغره عن ابتسامة
مشرقة دفعت عصام لالبتسام وبعثت يف نفسه السرور.
ويف الطريق مرت احلافلة مبكتبة((دار املعرفة)) اليت اعتاد عصام أن يبتاع كتبه
منها فخطرت له فكرة طارئة سرعان ما استجاب هلا فنزل عند أول حمطة
توقفت عندها احلافلة وقفل راجعاً باجتاه املكتبة ..وهناك طلب من صاحبها
أن يرشده إىل جمموعة من الكتب اإلسالمية العصرية اليت توضح مبادئ
اإلسالم وتصوراته عن الوجود واحلياة واإلنسان ،فأجابه إىل طلبه وزوده
مبجموعة نفيسة منها فتناوهلا باهتمام وراح يتأمل عناوينها يف شغف وهو يف
شوق لقراءهتا وسرب أفكارها ليشبع أشواقه إىل احلقيقة اليت أزمع البحث
عنها.
وبعد أن أمت شراء كتبه ودع صاحب املكتبة ومضى ..ولدى الباب ألقى
نظره إىل ساعته فوجد عقارهبا تقرتب من موعد عمله يف عيادة الدكتور إياد
فغذ السري يف الطريق إىل البيت ،علّه يستطيع أن يتناول غداءه مع أمه اليت
البد وأهنا اآلن بانتظاره...
-آه ..لكم أتعبتك معي يا أماه ...يا لقلبك الكبري الذي ينبض مع
أنفاسي وخيفق على إيقاع خطوايت ..ما علينا ..عما قريب ستنتهي رحلة
عذابك الطويل ،وحنط الرحال يف واحة األمل ...عما قريب يا أماه سيبدأ
حصاد األماين ،وتتحقق األحالم ..إيه ..يف أعماقي ينابيع من الوفاء تروم
االنبثاق ،لرتوي أيامك القادمة بالسعادة والبشر ،وتسربلها باألفراح..
***
الفصل العاشر
وصلت مىن إىل شقة صفوان وهي غاضبة مضطربة ،فضغطت على زر
اجلرس يف عصبية مث اهنالت على الباب بقرع عنيف....
وانتظرت الرد بفارغ الصرب ،لكن أحداً مل يفتح ،فعاودت القرع وقد
اجتاحت أعصاهبا شحنات هائلة من الثورة ...وتفاقم غضبها حيال الباب
املوصد بوجهها فهدرت يف أعماقها أصوات غاضبة هتتف وتصيح:
((افتح ..افتح يا كلب ..افتح ألريك من هي ((مىن)) ...افتح ألريك كيف
تتحول الظبية الوداعة إىل لبوة مفرتسة ..افتح أللقنك درساً يف الوفاء..
احلب ..أختونين بعد كل هذا اإلخالص ..أتضحك
أختدعين بعد كل هذا ّ
على يا صفوان..افتح يا سافل ..افتح يا حقري ..افتح ..ملاذا ال يفتح؟!..
إن أنوار الغرفة املطلة على الشارع مضاءة فأين ذهب هذا الوغد؟))..
وأدنت مىن أذهنا من الباب فتناهى إىل مسعها صوت بعيد ((ملوسيقا))
تعرفها جيداً ،فانتاهبا تيار جديد من الغضب والتهبت ثورهتا العارمة وازداد
قرعها للباب حدة وعنفاً...
((هذا السافل ..ال بّد وأنّه مشغول جبلسة معربدة ..أنين أعرفه ..ال يريق له
مساع هذه ((املوسيقا)) إال يف املناسبات الداعرة ..افتح يا سافل ..يا قذر..
افتح ألريك غضبة املقهورين ..هذا الباب ..إنه بوابة اجلحيم اليت دلفت
منها إىل العذاب!! ..إنّه النفق املظلم الذي نقلين من حياة الفضيلة إىل
وحل اخلطيئة ودنيا الضياع ..إنّه جسر الشيطان ..ترى من هي ضحيتك
اجلديدة؟!..ال ب ّد أهنا ميادة ..أجل إهنا ميادة ..ومن غريها ((حبيبة القلب
وبلسم احلياة)) كما يسميها هذا املخادع اجلبان؟!)) وتناولت ((مىن))
الرسالة اليت اكتشفتها اليوم صدفة يف ((الكتاب)) الذي استعارته من
صفوان ففضتها يف مرارة وجعلت تعيد قراءهتا يف سخرية صامتة:
((حبيبيت ميادة ..يا فتاة األحالم الوردية ..يا حبيبة القلب وبلسم احلياة..
علي وأنت الوديعة
إن حيايت بدونك جحيم وعذاب ..ملاذا هذه القسوة ّ
الرقيقة؟ ..وملاذا هذا اجلفاف وأنت اللطيفة احلنونة؟ ..مىت سرتفعني أيتها
احلبيبة سياط الص ّد واهلجران عن قليب احلزين ؟..مىت سيصدر قلبك الكبري
عين؟ ..أخربتك ألف مرة بأنك الوحيدة يف حيايت،وأنك احلب األول
العفو ّ
واألخري ..قلت لك مراراً إن هؤالء الفتيات اللوايت تسمعني هبن من بنات
هن إال صديقات فحسب ..
اجلامعة ما ّ
وبينهن عالقات عفوية حبكم الدوام
َّ زميالت دراسة ال بد أن تنشأ بيين
اجلامعي الطويل ..عالقات بريئة ال حتمل أي معىن آخر ..فإىل مىت ترتكني
الشك يفرق بيننا ويفسد سعادتنا؟..
أرق حكم ..أرجوك
حبيبيت ميادة ..أيها اخلصم واحلكم ..يا أحلى خصم و ّ
أن تفهميين ..أيها القاضي احلبيب الذي كلما ازداد عليّ قسوة ازدادت له
مرة واحدة وامنحين فرصة
حباً ..أيها القاضي اجلميل الرقيق ..افتح يل قلبك ّ
كل ما تومهك به
للدفاع ..فرصة واحدة وستعلم بعدها أنين بريء من ّ
الغرية ..إين بريء يا حبييب فال تسجنيين وراء قضبان احلرمان)).
ويبلغ االمشئزاز مبىن منتهاه فتطوي أصابعها على الرسالة يف غيظ وتبصق يف
احتقار مث تنهال على الباب بكلتا يديها وقد حرق أعصاهبا االنتظار املر
ّ
وراء بوابة اخلطايا واآلثام(( ..افتح أيها الوغد الغادر السافل ..عالقات
عفوية بريئة أليس كذالك؟ ..أيها املاكر املاجن الغارق يف الوحل من رأسه
أهم عنده
حىت قدميه! .لن يفتح ..إين أعرف ..هذا الوغد ..رغبته القذرة ّ
كل ما حوله..
كل شيء ..عندما تسيطر عليه ينسى نفسه ويذهل عن ّ
من ّ
ليتين أصغيت لنصائحك يا سامية ..ليتين مل أثق هبذا احليوان ..ماذا ينفع
الندم..آه....)).
وترتاخى يدها على الباب يف يأس فيعرتي طرقاهتا ضعف متدرج وشعرت
بقواها ختور فاستندت على الباب يف هتالك واهنيار وأصغت إىل صوت يعلو
يف داخلها وسط عواصف الغضب ليذكرها بالطريقة اليت اعتزمت معاملة
صفوان هبا عندما اصطدمت حبقيقته املفجعة:
((-ليس من احلكمة أن تواجهيه باحلقيقة ..إن املواجهة ستؤزم العالقة بينك
وبينه ..ستجعله ضعيفاً مكشوفاً أمامك ،وهو ال حيب أن يظهر ضعفه
ويرفض أن يعرتف به ،لذلك فإن حماصرته باحلقيقة ستدفعه للمكابرة
والعناد ..سيعرتف اعرتاف املتحدي..سيصفعك ببجاحته ووقاحته وإصراره
على اخليانة ..سيقول بأنك أنت اليت استسلمت له ،وسينفي عنه أي
مسؤولية عما حدث ..إن مواجهته تعين القطيعة ..تعين نسف آخر جسر
يربطك به تستطيعني من خالله التأثري عليه ..ليس من احلكمة أن تواجهيه
باحلقيقة فما زال هناك بقية من رجاء ..أومهيه بأنك مازلت واثقة به..
أشعريه حبرارة حبك وحنانك وعمق إخالصك..حاويل دائماً أن تديري رأسه
إليك..عساه يفيء إليك..عساه يبصر الفرق بينك وبني األخريات ..أنت
حباجة إليه يا مىن فال تتسرعي ..ال تتسرعي فقد تستطيعني استنقاذ ما قد
ضاع))...
وكبحت مىن تيارات الثورة والغضب اليت تعصف هبا ،استسلمت لصوت
العقل فاسرتخت بكامل جسدها على الباب وأجهشت بالبكاء..
ومنا إىل مسعها صوت أقدام ترقى يف الدرج،فلملمت نفسها املنهارة
جتر خيبتها وأحزاهنا..
ومسحت دموعها بظاهر كفها ومضت ّ
وعندما خرجت من باب العمارة خطر هلا أن تراقب الشقة لرتى من هي
((ميادة)) هذه الفتاة اجلديدة اليت اقتحمت حياة صفوان ونافستها على
قلبه ،فراحت تذرع الشارع جيئة وذهاباً متظاهرة برؤية واجهات احملالت
األنيقة اجملاورة لشقة صفوان..
مضت ساعة..وساعتان ..وهي ترابط قرب الشقة غري عابئة باألنظار
املتطفلة اليت ترتاب يف وجودها يعرتيها فضول جارف ملعرفة هذه الفتاة اليت
لكن أحدا مل يظهر وملّت االنتظار وكادت أن
انتزعت منها صفوانّ ،
متضي،بيد أن حركة األنوار يف الشقة استوقفتها فانتظرت خروج((ميادة))
لكنها فوجئت خبروج فتاة أخرى تعرفها جيداً ..إهنا ((رشا))(( ..رشا))
زميلتها يف الكلية ..وانتبهت مىن إىل صفوان وهو يلوح(( لرشا)) بيده من
وراء زجاج النافذة مودعاً فهاهلا أن تكتشف خيانتني يف يوم واحد.
وحملت تلك االبتسامة اخلبيثة اليت ردت هبا ((رشا)) على وداع صفوان
فشعرت بالغرية متزق فؤادها ،وثارت يف أعماقها من جديد عواصف عاتية
من الغضب.
***
يف هذا العامل نفوس مكلومة ،ال تستطيع أعظم األفراح وأسعدها أن تألم
جراحاهتا أو تسكن آالمها ،بل على العكس من ذلك ،فإن مناسبات
البهجة والفرح يف امللح الذي يلهب جراحها ويوقظ آالمها فتزداد إحساساً
بالتعاسة والشقاء ،وهكذا كانت ((مىن))...
لقد تطورت عالقتها مع صفوان من سيء إىل أسوأ ،بعد أن شعرت
باخلديعة املاكرة اليت حبكها هلا ،وأيقنت أهنا ما كانت إالّ دمية ..دمية
ساذجة مجيلة ،استمتع هبا مث رماها ،وها هو يستبدهلا بدمية جديدة امسها
((رشا)).
وتنظر ((مىن)) إىل ((رشا)) نظرة امتزجت فيها الغرية بالرثاء ،فهي ترثي هلا
ألهنا شريكة مأساهتا اليت ستنتهي حتماُ إىل هنايتها األسيفة ،لكنها يف
الوقت نفسه تغار منها وحتقد عليها ..ليس ألهنا احتلت مكاهنا يف قلب
((صفوان))(( ،فصفوان)) يف نظرها إنسان بال قلب أو عاطفة أو إحساس
،ولن يعرف احلب إىل قلبه سبيالً ،بل ألن رشا هي األداة اليت يستخدمها
متردت على سيطرته صفوان إلغاضتها وحتطيمها وإهانتها انتقاما منها ،ألهنا َّ
وأنانيته ورغباته ،وانتقدت مسلكه الشائن الوضيع.
أما صفوان ،فقد أوحت له ثعابني احلقد والغرور اليت تعربد يف دمه أن يلقهن
((مىن)) درساُ قاسياً ال تنساه جزاء متردها عليه ،وحتديها السافر له الذي
وشت به كل تصرفاهتا األخرية حنوه ،مما جعله أضحوكة بني أفراد الشلة
الفاسدة اليت مجعها حوله ،وصرف عليها بسخاء ،لريضي هبا أنانيته وغروره
وحبه للظهور .ومل جيد صفوان وسيلة لالنتقام أجنح من جتاهلها وإغاضتها
بتقربه املقصود من رشا .واليوم ،هو آخر يوم هلم يف الكلية ،وقد قرر أنُّ
يفسد على مىن فرحة التخرج؟ ..وأن حيول هذه املناسبة إىل حفلة وداع
منكرة تتذكرها أبد الدهر ،وتتذكر معها من هو ((صفوان الناعم)) الذي
جترأت فتحدته برفضها االستمرار يف حتقيق مطالبه السافلة ،وطموحها ألن
تكون له زوجة ال عشيقة.
(( -زوجة؟!!..)).
ال يستطيع صفوان أن يتصور نفسه زوجاً ملىن! ..كيف يتزوج من فتاة ال
يصل دخل أبيها إىل دخل خادمة من خادمات أسرته الثرية؟!..
(( -لقد مشخت بأنفها عالياُ جدا وغلي أن أمرغها هلا يف الرتاب))...
وبدأ صفوان يتسقط كلماهتا وتصرفاهتا باحثا عن هفوة أو كلمة يتخذها
مربراً إلهانتها أمام من استخفت به بينهم ،مث أخذ يستفز مشاعرها فأمعن
يف تدليل رشا ومغازلتها ،وجتاهل مىن بشكل جارح ،فكلما تكلَّم َّ
وجه
كالمه لآلخرين ،وخ َّ به رشا ،فإذا تكلمت مىن أشاح بوجهه عنها أو
رماها بنظرة هازئة تفيض باالحتقار.
وعندما قدمت سامية برفقة عصام رمقتها ((مىن)) باحرتام وهي تشعر
باحلسرة والندم ألهنا مل تصغي فيما مضى لنصائحها األمينة املخلصة ،أما
صفوان ،فقد هتف عندما رآها ساخراً مستهزئاَ:
-انظروا هلذا الشبح القادم ..لقد استطاع عصام أن يلوث أفكار سامية،
وأن يفرض عليها عقليته املتزمتة..
أردف أحد أفراد الشلة قائال:
-هذه أفكار سعد ..سعد هو املسؤول عن هذا الوباء.
قالت رشا:
-كلهم متعصبون ..لقد مسعت سامية تدافع عن احلجاب حبماس منقطع
النظري.
علق صفوان على كلمات رشا قائال:
-يا للسخرية ..أمريكا وصلت إىل القمر ،وحنن ما زلنا نتخلَّف إىل عصر
احلرمي ،ترى؟ ..كيف يهضم هؤالء املتزمتني هذه التصرفات؟ ..أنا ال
أفهمهم!!
قالت له مىن وقد نفذ صربها على هذا التجاهل املقصود الذي يبديه حنوها:
-حتتاج إىل الكثري لتفهمهم.
سأهلا يف شك:
-ماذا تعنني؟!
-أنت تدرك ما أعين!
ضايقت كلمات مىن صفوان ،لكنه تظاهر باهلدوء ،ورفع كتفيه مظهرا عدم
االكرتاث ،وقال يستفزها وهو يرمق سامية بنظرة خبيثة:
-لكنها مجيلة ..مجيلة جداً ..لكم تبدو يف حجاهبا هذا فاتنة مثرية!
لكزته رشا يف كتفه متظاهرة بالغرية ،بينما قالت له مىن يف نربات هازئة تنطق
بالتحدي:
-أرى أن عدوى ((الرجعية)) واجلمود قد انتقلت إليك ،أتعجبك فتاة
متزمتة قادمة من العصور الوسطى!!
علق أحدهم وهو ممن حيب االصطياد يف املاء العكر:
-هذه ليست ((رجعية)) يا ((مىن)) ..إن صفوان من أتباع املدرسة
الكالسيكية ..إنه مغرم (( باألنتيكا))..
أطلق أفراد الشلة ضحكات جملجلة مدوية وشت بالشماتة والسخرية بينما
أردف آخر:
-والعطر الذي يستعمله أال يوحي لك ((بالتقدمية)) ..إنه يستحضره
خصيصاً من ((باريس)).
تعالت الضحكات من جديد طافحة بالشماتة والتشفي ،فشعر صفوان
أحس بأنه أصبح مثار سخرية من اجلميع ،وثار غروره بكربيائه الفارغة هتان و َّ
املتحفز دائما للظهور ،فخاطب ((مىن)) قائال يف هلجة غاضبة وقحة:
-إذا كانت سامية قادمة من العصور الوسطى ،فأنت قادمة من عصور ما
قبل التاريخ ،حيث كانت املرأة مشاعا لكل رجل...
صفعت كلمات صفوان البذيئة الفاضحة مىن وصدمتها ،وشعرت بالنظرات
اخلبيثة حتاصرها وتعريها ،وأحست بالضحكات املاجنة اخلليعة متزق كرامتها
وهتني كربياءها ،وزادت من غضبها تلك االبتسامة اهلازئة احلاقدة الشامتة
اليت ارتسمت على شفتيه ،فحملقت يف وجهه ثائرة جمنونة ..أرادت أن ترد
عليه ،لكن لساهنا خاهنا ،فطفرت دموع القهر من عينيها وانفلتت هاربة ال
تلوي على شئ ،لكأن هذه املناسبة الكبرية ال تعنيها ...لكأهنا مل تدرس
الطب ..لكأهنا مل تقضي يف هذه الكلية ست سنوات من الدأب والتعب،
فقد عصفت الفضيحة بكل آماهلا وأحالمها وأحالت حياهتا إىل جحيم ال
يطاق ومضت يف ذهول يشيعها صفوان بنظرة متشفية تشي باالنتصار.
***
قال سعد وقد رأى مىن مندفعة بني مجوع الطلبة والدموع الغزيرة تبلل
وجهها:
-انظروا إىل هذه ..ما دهاها؟ ...أتبكي يف مثل هذا اليوم؟!
أجابه هباء:
-لعلها علمت بنتيجتها فعلمت أهنا راسبة!.
قال عصام وهو ينظر إليها يف دهشة:
-ال أعتقد هذا ..من أين هلا أن تعرف؟!.
أجابه عرفان يف سخرية ذات معىن:
مثل هذه الفتاة متلك الكثري من النفوذ ،ال بد أهنا توصلت إىل النتيجة من
أحد معارفها يف الديوان.
هتف سعد يف إنكار غاضب:
-عرفان ..ال تطلق خليالك العنان ..لسمعة الناس حرمة ال جيوز
انتهاكها ..تبني األمر مث أطلق األحكام.
قال عرفان معتذراً:
-أستغفر اهلل ،لقد سبقين لساين!.
قال جمدي وهو يرقب عقارب ساعته يف ضجر:
-اتركونا من سريهتا اآلن ..دعونا يف األهم ..لقد تأخرت النتائج كثريا.
وأردف عثمان:
-لقد سئمت االنتظار...
قال سعد:
-يبدو أن أعصابنا قد تعبت فعالً ..سأحضر بعض املرطبات...
وما كاد سعد أن ميضي حىت اخرتق فضاء الكلية صوت املذيع وهو يدعو
طالب الصف السادس عرب مكرب الصوت إىل االجتماع يف مدرج ((ابن
سينا)) حيث سيتم إعالن النتائج ،فانطلقوا إليه كالنسيم ،واهنمروا عليه
كاملطر وراحوا يتدافعون على أبوابه ،ويتسابقون إىل مقاعده ،وسادت املدرج
جلبة وضوضاء ،وأفقدت اللحضات الفاصلة الطلبة هدوءهم واتزاهنم،
وانبعثت يف أعماقهم طفولتهم القدمية ،فراحوا يهتفون ويصفقون ويصفرون،
وما إن دخل العميد بصحبة اللجنة االمتحانية حىت ضج املدرج بعاصفة من
التصفيق احلار ،وانربت جمموعة من الطالب الذين عرفوا بالشغب تردد
بإيقاع طفويل مألوف ((صباح اخلري يا أستاذ)) فابتسم العميد هلذه اهلفوة
املغفورة ابتسامته الرزينة املألوفة ،بينما تقدم الدكتور ماهر رئيس اللجة
االمتحانية من املنصة وهو يضحك وتناول ((املايكرفون)) وقال وهو يدنيه
من فمه:
-أعزائي الطلبة ..بل زمالئي األطباء – كما يتوجب علينا أن نناديكم منذ
اآلن ، -إننا نعذركم على تصرفاتكم هذه ،ألنكم اآلن على عتبة منعطف
جديد يف حياتكم ،فاليوم تطوون مرحلة الدراسة اجلامعية األوىل لتنالوا أوىل
الشهادات العلمية العليا أال وهي شهادة ((البكالوريوس)) يف الطب
واجلراحة اليت ستؤهلكم ملمارسة مهنتكم اإلنسانية املقدسة خلدمة اإلنسان
ومحايته من األمراض واآلالم...
زمالئي وأخويت وأخوايت ..بعد ست سنوات من الدراسة والتعب والعمل
املضين الدؤوب :قضيناها معا كأسرة واحدة يطيب يل – بصفيت رئيسا
للجنة االمتحانية هلذا العام – أن أعلن لكم نتائج الدورة الثالثة واألربعني
لكلية الطب مرتبة حسب تسلسل الدرجات ابتداء من صاحب الرتتيب
األول مع متنيايت لكم مجيعا بالنجاح والتوفيق.
وران على املدرج صمت عميق وخفقت القلوب حىت كادت أن تبلغ
احلناجر ،وتوترت األعصاب من رهبة االنتظار ،وسطع الرتقب من العيون
اليت تعلقت نظراهتا املتلهفة بشفيت الدكتور ((ماهر)) تستحثه بالكالم،
فسرعان ما بدأ مستجيبا لنداءها املتوسل الصامت:
-املتخرج األول :الدكتور (( عصام السعيد )) ،وقد حقق معدال فريدا
قدره (( مخس وتسعون درجة وسبعة أعشار باملائة )) وهو أعلى معدل مت
تسجيله يف تاريخ الكلية حىت اآلن ،ويسر عمادة الكلية أن متنحه ((درجة
الشرف)) على هذا التفوق الكبري.
وضج املدير بالتصفيق احلار ،واجتهت نظرات التقدير واإلعجاب ترمق أبرز
املتخرجني وأول املتفوقني وهو ميضي إىل املنصة الستالم نتيجته خبطوات
واثقة هادئة وقد انتشرت يف أغواره السعيدة فرحة عظيمة مل يتسع هلا
صدره ،فتكاثفت وتكاثفت حىت قطرت من عينيه دموع صامتة معربة اهتز
هلا اجلميع ،وتأثروا هبا ،ووقف له العميد يف إكبار واحرتام ،وقال له وهو
يصافحه يف ود وحرارة:
-مربوك يا بين ..إنه ملما يشرفين أن تكون أحد طاليب وأن تصبح أحد
زمالئي ،ومما يزيدين شرفا أن أقدم لك كل دعم ممكن لتتابع مسرية جناحك
ونبوغك حىت حتقق كل ما تصبو إليه من آمال.
وأراد عصام أن يشكر العميد لكن املوقف املؤثر أثقل لسانه فغرقت كلماته
يف خضم االنفعال ،فشكره بإمياءة صامتة وعاد إىل مكانه يف هدوء
وتواضع ،ووقع عيناه على سامية وقد ارتوت مالحمها الفخورة بدموع الفرح
فحيته بابتسامة ودودة وادعة سرت معانيها إىل أعماق قلبه ،فطرت هلا
وانتشى ،وتلقفه عرفان ،وكان جيلس على مقعد جانيب من املدرج فطبع على
جبينه قبلة خاطفة ،وعانقه يف حب وحرارة غري عابئ بوجود العميد
واألساتذة فضج املدرج بعاصفة مدوية من الضحك مشلت العميد نفسه إذ
صرحت مالحمه اجلادة الوقورة ضحكة شديدة اهتز هلا جسده ،مما شجع
الطلبة على التمادي يف ضحكاهتم فانقلب املدرج إىل مهرجان صاخب
أدخل السرور واملتعة إىل النفوس القلقة وخفف من اضطراهبا ،أما سعد فقد
رنا إىل صديقه العظيم بنظرة بامسة معربة أغنته عن أبلغ ما ميكن أن يقال يف
هذه املناسبة الكبرية.
وتتالت األمساء...
كان سعد هو الثاين على الكلية ،وكانت سامية السابعة ،وتبوأ بقية
األصدقاء أمكنتهم بني العشرين األوائل وعندما علي اسم صفوان يف ذيل
القائمة املتخرجني أيقن اجلميع أنه مل يكن ليتخرج لوال أنه اتبع كل وسائل
الغش واخلداع يف االمتحان حىت انتزع هذا النجاح الذي ال يستحقه أما
عندما تلي اسم مىن فقد فوجئ اجلميع بعدم وجودها يف املدرج وهي اليت
كانت منذ قليل تنتظر معهم إعالن النتائج!!.
وتبادل األصدقاء نظرة متسائلة مستفسرة ..فمىن مل ترسب كما توقع
أحدهم ،فما هو سر بكائها الغامض وغياهبا املفاجئ الغريب؟!!...
***
الفصل السابع عشر
((أيها الليل ..أما لك من آخر؟ ..وأنت أيتها النجوم؟ ..ما لك ثابتة يف
كبد السماء ال ترميني؟ ..أال متضني يف دروبك الرتيبة فتحملني معك هذا
الليل اجلامث الطويل؟ ..وأنت أيها النوم؟ ...ما بالك قد خاصمت
إالم ترتكين هنباً للهواجس ،وفريسة للهم واألرق؟ ..أين أنت
أجفاين؟َ ..
حىت أنسى يف أحضانك خيبيت ويأسي؟ ..أال تأيت فتنقذين من آالم الوعي
ومرارة احلقيقة؟ ..وأنت أيها القمر؟ ..آه لو ينطق القمر! ..لكان شاهدا
على الضحية واجلالد ..على الظامل واملظلوم ..على اجلرمية واجملرم ..اخلائن..
ظننته فىت أحالمي ..بذلت له احلب واإلخالص ..منحته الثقة العمياء
فاستسلمت ألهوائه ورغباته ..آه ..لكم أمشئز من تلك األيام املاجنة
اللعينة ..باسم احلب جردين من إراديت ..باسم احلب ميع يل األخالق
الفاضلة وقيم العفة والشرف ..باسم احلب استدرجين إىل حياته التافهة
احلقرية ..احلب! ..هذه العاطفة النبيلة باتت مشجباً نعلق عليه احنرافاتنا
وأهوائنا ..أضحت قناعاً براقاً خنفي حتته بواعثنا الشريرة ودوافعنا املريضة ..
احلب! ..عنوان خديعة كربى عشتها سنوات طويلة وأنا أجري وراء فارس
مزيف سرعان ما تعثر جواده الرديء على دروب التجربة املريرة ..باسم
احلب أرقت أحلى أيام عمري ألروي هبا زهرة سامة كنت أول ضحاياها..
وصدقته ،فخلعت على أعتاب حبه كل األخالق اليت تربيت عليها..
حتايلت على أمي الطيبة ،وهزئت بنصائحها وتوجيهاهتا ،واهتمت أفكارها
بالتخلف والرجعية واجلمود ..خدعت والدي املسكني الذي حيرتق كشمعة
لينري لنا بتضحياته درب احلياة الكرمية املستورة ،وهو ميضي وراء عربته
اخلشبية العتيقة ،يدفعها عرب األزقة واحلارات ..يبيع عليها اخلضار والفواكه..
خيرج منذ الفجر ،ويعود عند املساء بعد كدح وجهاد طويل ،فيتناول عشاءه
وينام ليتزود بقسط من الراحة يعينه على متابعة رحلة احلياة الالحبة الطويلة،
وينام ملء جفنيه وهو مطمئن إىل زوجته وأوالده ..واثق بأننا سنقدر كفاحه
وتضحياته فننتظم يف حياتنا وسلوكنا وفق ما حيبه ويرضاه ..كان أشد ثقة
واطمئنانا إىل سلوكي فخذلته دون أن يدري وخنت األمانة .ماذا لو عرف
احلقيقة؟ ..حتماً سينهار ..أي جرمية ارتكبتها حبقه وهو الذي حيبين أكثر
من كل أخويت؟ ..دائما يقدم يل كل ما أطلب ..دائما يهتم يب ويشجعين
لرياين طبيبة يتباهى هبا أمام الناس ،فيقولوا ها هو ((أبو الدكتورة)) ..ها قد
أتى ((أبو الدكتورة)) ..اشرتوا خضاركم من ((أيب الدكتورة)) ..الدكتورة؟..
أي لعنة حلت هبذا القلب؟ ..خ ّدر أمي فرضخت لسلوكي اجلديد ..خ ّدر
أيب فأطلق العنان لتصرفايت ومنحين احلرية دون حتفظ ..خ ّدر أخي الذي
يشعر أمامي دائماً بالنق وهو الذي أخفق يف حتقيق طموحه بدخول كلية
الطب ..خ ّدرهم مجيعا فلم يرتابوا للحظة بسلوكي يف اجلامعة ..أولست
((الدكتورة))؟! ..أولست أعلى منهم علماً وثقافة ومكانة يف اجملتمع؟..
إذن فكل ما أفعله صواب .هذا اللقب املقيت كم بت أكرهه! ..لقد أورثين
التعاسة والشقاء ..ليتين مل أدخل كلية الطب ..على األقل ملا كنت تعرفت
بصفوان ..يا للسخرية!! ..صرت ألعن الظروف اليت مجعتين به ..يا هلا من
هناية تعيسة لقصة حب مزيفة ..حب؟! ..أي حب هذا؟! ..إنه ضياع..
عاطفة متوثبة عطشى تبحث عمن يرويها ،فصادفت صفوان ليرتعها
بسمومه ،فماتت بعد ختبط طويل ،اإلنسانة الوحيدة اليت وقفت يف وجه
هتافيت اجملنون على صفوان هي سامية ..هي الوحيدة اليت قرعت يف أعماقي
أجراس اإلنذار ..هزتين بعنف ..صدمتين باحلقائق ،لكين كنت مندفعة بال
سر مأسايت وعي فهزئت بنصائحها وحتذيراهتا ووثقت بصفوان ..صفون!ّ ..
املدمرة وتعاسيت وشقائي ..ضحك علي ..أومهين حببه ..خ ّدرين بكلماته
املعسولة...
((لكم أنت مجيلة يا مىن ..درت باريس من أقصاها إىل أقصاها فلم َأر فتاة
بفتنتك ومجالك! ..شاهدت حسناوات لندن فلم يفعلن يف ليب ما فعلته
أنت ..ذرعت إيطاليا من الشمال إىل اجلنوب فلم تشدين فيها أنثى كما
شددتين أنت ..درت وسافرت ورأيت مث عدت إليك لتلقي روحي مراسيها
على شاطئ حبك الكبري)).
اخلبيث! ..تصورت نفسي ملكة مجال العامل .مشخت بأنفي إىل السماء..
أغلقت مسعي أمام كل األصوات إال صوته ..كانت كلماته تدغدغ أعصايب
وترضي عواطفي ..كانت تلني إراديت لتسلس له القياد ..وانقدت إليه..
مفتونة بشبابه ..مبهورة بثرائه ..مسحورة بلسانه.
((-سوف نتزوج ..سأبين لك ((فيال)) فخمة ..بل قصر ..قصر كبري يليق
بك وجبمالك..
-قلبك الكبري أعظم قصر أهفو إليه ..ما دمت أسكن قلبك فأنا أسعد
فتاة يف الوجود.
-وسنسافر إىل أوربا لنقضي شهر العسل..
-كم أمتىن أن أرى باريس ..لطاملا مسعت عن باريس!.
-سأريك باريس ولندن وروما وبرلني و...
-رويدك ..رويدك ..كل ذلك يف شهر؟!..
-يف شهر ..يف سنة ..املهم أننا معاً ..يف أفياء حبنا السعيد.
-ملاذا ال نتزوج اآلن؟
-نتزوج اآلن؟! ..ليس اآلن ..ووالدي لن يوافق على زواجي قبل أن أخترج،
وملاذا نستعجل بالزواج؟ ها حنن معاً...
-معاً؟! ..أترضى من حبنا هبذا الفتات؟! ..لقاءات خاطفة ،وجلسات
قصرية!! ..هل يرضيك هذا؟!!.
-ال ..ال طبعاً ..مل أقصد ..امسعي ..ملاذا ال تأتني تذاكرين عندي..
عندي شقة فخمة ..تقوم يف شارع هادئ ،فيها كل أسباب الراحة
واهلدوء)).
فاجأين بعرضه ..جتربيت معه تتطور بسرعة ،فمن نظرات اإلعجاب اجلريئة،
إىل ابتسامات الود والرضى ،إىل كلمات اجملاملة والغزل املستور اليت متخضت
عن صداقة عميقة ،سرعان ما حتولت إىل حب جارف سيطرت مشاعره
وأحاسيسه على أحاديثنا ولقاءاتنا وسهراتنا املمتعة اجلميلة ،واآلن تطور
جديد! ..إنه يدعوين للقاء يف شقة خاصة دون رقيب! ..ليتين أصغيت
يومها ملخاويف وهواجسي ،لكنه شعر برتددي فلم يرتك يل فرصة للتفكري
وأخذ حياصرين بأسلوبه املاكر اخلبيث:
(( ((-مىن)) ..يعين مل جتييب على سؤايل ..أنت ال تثقني يب إذن ..الثقة
أول دعائم احلب الصادق ..لقد رسبت يف االمتحان يا ((مىن)) وها هو
حبنا يولد ميتاً فلنواريه النسيان ..لكن ال ..قد تنسينه أنت أما أنا فلن
أنساه ألن قصته حمفورة يف قليب ،ضاربة يف أعماقي وسوف أعيش على
ذكرياته احلبيبة أبكي هنايته األليمة)) .املاكر! ..أشعرين بالذنب ..أصبحت
أسعى إىل رضاه ..طفرت الدموع من عيين ..هتفت يف توسل:
((-صفوان ..أرجوك ..ما هذا الكالم؟ ..لست باليت تنسى ..أنت ال
تدرك عمق حيب وإخالصي ..أنا أنسى؟! ..كيف سولت لك نفسك أنت
تفكر يف هذا؟!..)).
-ما معىن خوفك من زياريت إذن؟
-صفوان ..أنا لست خائفة منك ..أنا خائفة من اجملتمع ..من التقاليد..
من كالم الناس..
-أنت ال تثقني بنفسك إذن ..تضحني حببنا وسعادتنا من أجل الناس
والتقاليد ..التقاليد يا عزيزيت والقيم واألخالق كذبة كربى اخرتعها الناس
وصدقوها ..صنعوا منها سجناً شاهق األسوار وحبسوا فيه أرواحهم ..أنت
مل تري أوروبا يا حبيبيت ..الناس هناك بال عقد ..بال تعصب ..بال قيود..
حرية وانطالق وسعادة ما بعدها سعادة ..جيب أن نعيش حياتنا يا مىن..
قطار العمر ميضي ،فلنمأل أيامه بالبهجة واملتعة والفرح ..ليس هناك وقت
نضيعه ..ال بد من اجلرأة يف اقتحام احلياة وانتزاع سعادتنا من براثن األخالق
والتقاليد ،فلنتمرد على احلواجز والقيود ..مىن ..عل تأتني لتذاكري عندي؟
-سآيت ،ولكن...
(( -مىن)) ..ال جترحيين ..ولكن ماذا؟..
-ال أستطيع أن أتأخر.
-لن أؤخرك ..تعايل واذهيب مىت شئت ،اعتربي الشقة مبثابة بيتك.
-بييت؟ ..مىت سيضمنا بيت واحد ..تتفجر يف رحابه ينابيع حبنا العظيم
لتمأل أيامنا القادمة بالسعادة واهلناء ..بيت هادئ مجيل ال يعكر صفوه إال
صخب أطفالنا الذين ميألون أرجاءه أنساً وهبجة ،ويبعثون فيه حياة مجيلة
رائعة بصياحهم العذب ،وضجيجهم احملبب وعبثهم الربئ .لكم أعشق
األطفال يا صفوان!!؟
-األطفال؟! ..األطفال مهوم ومتاعب ومسؤوليات ووجع قلب))..
يا للسذاجة ..كيف مل أفطن يومها إىل حقيقة مشاعره وأفكاره؟ ..إن
تعليقه هذا يعكس تفكريه الشاذ الغريب ونفسيته األنانية الالمبالية اليت ال
هم هلا إال حتقيق الرغبات واألهواء ،والتهافت على امللذات ..هل يوجد ّ
سر موقفه منخملوق عاقل ال حيب األطفال؟! ..وعندما سألته عن ّ
األطفال استطاع –كعادته -أن خيرج من دائرة الشك بالكذب واملراوغة
حتت ستار الثقة العمياء اليت منحته إياها..
((-عجباً! ..أال حتب األطفال؟!..
-أنا؟! ..آه ..نعم ..أحب األطفال ..أحبهم جداً ..لكنك يا عزيزيت
دائما تستعجلني األحداث ..أخربتك أن والدي لن يوافق على زواجنا قبل
التخرج ..ستأتني لعندي غداً أليس كذلك؟..
-سآيت...
-سأنتظرك بعد انتهاء الدوام ..سأنتظرك على أحر من اجلمر)).
ما أخطر العواطف إذا اندفعت دون كابح من عقل أو إرادة ..ما أخطر أن
تتحول إىل طوفان مد همر خيلف يتحطم سد التعقل الذي ينظهم تدفقها ..إهنا َّ
تتحول إىل جحيم يكوي بلظاه القلوب وراءه املآسي والكوارث واألحزانَّ ..
واألفئدة ..وأنا ..فتاة بسيطة أفتقر إىل الوعي والتجربة ..فتاة طيبة تعودت
دائماً أن أنظر إىل احلياة من جانبها املشرق املضيء ..فتاة حاملة طموحة
أحبث عن سعاديت تكافئ احلرمان الذي عشته طيلة حيايت ..لكين كنت
غبية ..كنت مغرورة بعقلي وذكائي ،والذكاء مل يعد يكفي ملواجهة احلياة،
تعج بالثعالب والذئاب ،وأنا فتاة غضة ال أعرف كيف تنسل فاحلياة اليوم ُّ
األفاعي أو تتلون احلرباء ..كل الناس عندي صادقون ..كل الرجال عندي
طيبون ..متاماً كوالدي احلبيب ،لذلك صدقته ،وأغلقت مسامعي أمام
أسر هلا بأدق أسراري
حتذيرات سامية وهي الصديقة املخلصة اليت كنت ُّ
وأحرتم رأيها ومشاعرها..
لقد وقفت عواطفي اجلارفة حاجزاً مسيكاً بيين وبينها فلم أعد أمسع إالّ
صوت صفوان ،وتصورته يتهمين بضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس،
فخشيت أن يفسد ترددي وخويف احلب القائم بيننا فذهبت إليه وكان ما
كان...
أي ضعف اعرتاين أمامه ..أي جنون اجتاحين ..أي غباء ركبين حىت منحته
مفتاح احلصن الذي أودعت فيه مسعين وشريف وعفايف.
وابتدأت رحلة الشيطان..
وأوغلت يف األيام والشهور..
وأنا مستسلمة لتأثريه الطاغي ،غافلة عن احلقيقة األليمة ،وكلما سألته عن
مصري هذه العالقة اآلمثة وعدين بالزواج ،دون أن ينسى حتذيري من احلمل،
طب أدرك ما علي فعله ..كانت كلمات سامية ومن حسن حظي أين طالبة ّ
ترتدد يف خاطري فال ألقي هلا باالً ،ولكنها ما لبثت أن وجدت يف نفسي
بعد األصداء عندما بدأ الطالء الكاذب يذوب والقناع اخلادع يسقط
وبدأت احلقائق تتكشَّف ..اكتشفت أنين لست األوىل يف حياته ،وأنين
لست األخرية ..هناك أخرى وثالثة ورابعة وأخريات ..جمون ..وعبث ومخر
وخمدرات ..أالعيب وخدع ومؤامرات ...اكتشفت أين بني أنياب وحش ال
قلب له أو ذمة أو ضمري...
وصربت عليه ،فمفتاح احلصن بني يديه ..التمست كل الطرق اليت تؤدي
يتقرب مين كان إىل رضاه حىت ال يعصف بسمعيت ومستقبلي ،وكلما رأيته َّ
األمل ينبثق يف أعماقي وأقول :ها قد عاد إىل واحة حبه ..ها قد اقتنع بأين
فتاته املميزة بإخالصها ومجاهلا وحناهنا وذكائها ،بيد أن احلقائق البشعة ال
تلبث أن تثقل أجنحة األمل فيهوي إىل قرار سحيق من اليأس ويصدم بقاع
صلد من الوقائع والتفاصيل املرة ،فيتحطَّم فؤادي ويشتد أملي ويزداد عذايب.
وتتقلَّب ((مين)) يف فراشها ،وترسل نظراهتا اليائسة احلزينة عرب النافذة،
فتجد الليل ما زال حالكاً مقيماً والنجوم ما زالت مل تغادر والقمر ما زال
ساطعاً منرياً وكأنه يرقبها يف مشاتة ،فتنتفض يف ضيق وتدفن وجهها بني ثنايا
وسادهتا فتغرقها بالدموع..
((اشهدي أيتها الوسادة على تعاسيت وشقائي بعد أن كنت مسرحاً
ألعذب آمايل وأحالها ..هل تذكرين؟ ...آه لو تذكرين ...كنت آوي إليك
كل مساء وقليب الفرح النشوان خيفق باحلب والسعادة ..كنت أسرتجع يف
أحضانك أحداث اليوم الذي أفل وأستمتع بذكرياته اللذيذة وأحلق يف مساء
األحالم .وها أنا اليوم آوي إليك ألفضي بآالمي وأمضغ هزمييت وأجرت
أحزاين ..أي إنسان هذا ..هزأ كربيائي ومرغ مسعيت يف الرتاب ..آخر شئ
كنت أتوقعه منه أن يشهر يب على املأل وجيعلين عرضة لنظرات الشك والريبة
وهدفا لأللسنة تلوك مسعيت وتفضح غلطيت وتتداول قصيت يف كل مكان..
وملاذا؟ ..جملرد انفعال طارئ ..جملرد أين عاندته يف رأيه بسامية ..لقد شعر
بأين أمترد على سيطرته وآرائه ،أدرك بأين مل أعد ملكه فانتم لغروره بتلك
الكلمة البذيئة احلقرية ..آه من لؤمك وغدرك يا صفوان ..يف آخر يوم من
حياة اجلامعة ترفع القناع يف وقاحة وتكشف عن أنياب الغدر واخليانة..
وملاذا ال ..لقد انتهى دوري ..أخذ مين ما أراد ورماين ..سلّى نفسه بفتاة
ساذجة ،مجيلة ،وبعد أن رشف رحيقها ركلها وكأهنا شئ تافه ال حس له أو
كرامة أو شعور..
لكأن آثام العامل وشروره قد أودعت قلب هذا اإلنسان ..إنسان؟ ..ومن
أين له اإلنسانية ..ليسه له منها إالًّ اجلسد اآلمث والغرائز احملمومة ..ليس له
من اإلنسانية إالَّ نقاط االلتقاء مع احليوان ..آه ما أقساه ..ليتين مل أذهب
إليه ..ليتين مل أسرتمحه ..ماذا كنت أنتظر منه؟ ..ولكن ماذا عساي أن
أفعل؟ ..فأنا غريقة أحبث عن قشة اخلالص ..ظننت أن احلب والصداقة قد
يشفعان يل عنده فينقذين من حمنيت الفظيعة...
(( -أهالً ((مىن)).
-مربوك.
التخرج ..إهنا فرحة
-على ماذا؟ ..آه(( ..مرسي)) ..مربوك لك أيضاً على ُّ
حقاً.
تتذوق األفراح وال حتس هلا طعماً.-النفوس التعيسة املقهورة ال َّ
عم تتحدثني؟)).. -مىن ..تبدين كئيبة هذا اليومَّ ..
ألنقض عليه
َّ اللئيم ..كأنه مل يفعل شيئاً!! ..متنيت لو أن يف يدي خنجراً
وأمزقه إرباً ..إرباً ..لكين مل أستطع أن أعلن ثوريت ،فمفتاح احلصن بني
أنياب الوحش وال بد من ترويضه ريثما أسرتدها..
عم أحتدث؟!.. (( -أال تعلم ًّ
-مىن ..لعلك يف ضائقة مالية ..اطليب ما تريدين ..ال فرق بني
األصدقاء...)).
كدت أنفجر ..إنه ميعن يف إهانيت وجتاهل مشاعري ،ولكن ..قشة
اخلالص ..جيب أن أستخلصها من بني أنيابه..
(( -صفوان ..تعرف أين ال أقصد هذا ..أنا عاتبة عليك..
-عاتبة؟! ..آه ،تذكرت ..تقصدين سوء الفهم الذي حصل عندما كنا
بانتظار النتائج ..أنا آسف ..جمرد انفعال..
-أيقودك انفعال بسيط لتفضح عالقتنا وتشهر بسمعيت أمام اجلميع؟!!
-ال تنسي أنك البادئة ..لقد سفهت رأيي أمام الشلة ،وأنت تعرفني أكثر
من غريك أن هذا يثريين جداً!
-لدرجة أن تشهر يب على هذه الصورة!.
-ما كنت ألرحم من يتح ّداين ..أنت تعرفني هذا ،ومع ذلك عاندتين يف
رأيي فأثرت حفيظيت..
لننس املاضي ..لنعد إىل أيامنا املمتعة اجلميلة ..لنعد إىل
(( -صفوان))ً ..
يبق أي مربر
خترجنا ومل َ
واحة حبنا القدمي ..لنحقق ما اتفقنا عليه ..ها قد َّ
لتؤخر زواجنا.
-زواجنا؟! ..أنا ال أنوي الزواج..
-لكنك وعدتين!..
-كثرياً ما يرتاجع املرء عن وعوده وقراراته ،وقد تراجعت..
-لكنك اغتصبتين!..
-وأنت راضية.
-ما كنت ألرضى لوال إخالصي لك وثقيت بوعودك.
-ماذا تريدين اآلن؟))..
يد؟! ..صفعين بسؤاله ..أصبحت عبثاً عليه ..أصبحت عقبة يف ماذا أر ّ
طريقه ..أصبحت يف نظره ال شئ ..ماذا أريد؟ ..احلقري!!..
-أردي منك أن تفي بوعودك فتتزوجين وتسرت مسعيت وتصون شريف..
-هذا حمال ..امسعي يا حضرة الدكتورة ..أنا مل أضربك على يدك ..مل
إيل بقدميك واستسلمت يف بإرادتك ،ولست أجرك إىل شقيت جراً ..جئت َّ
مضطرا ألدفع مثن رغبتك وسذاجتك وغبائك.
تذكرت ((سامية)) ..دوت كلماهتا يف أعماقي بقوة.. ً يف تلك اللحضات
وبدا يل طيفها املضيء وسط فضاء مظلم..
أذهلين الصدمة ..تقلَّصت مالحمي يف ذعر وجحضت عيناي يف غضب
تريد لو تنقض عليه فتحرقه بنظراهتا الثائرة..
هدرت يف وجهه(( :صفوان ..أنت وغد ..وغد ..وغد..))..
آه ..ما أقساها من حلضات ..حلضات الصدمة والذهول ..إين ألتذكرها
وكأين أعيشها اآلن ..لقد انفلت هاربة ال ألوي على شئ ..كانت دموع
القهر تنهمر من عيين الذاهلتني بغزارة ..ويف صدري كان يغلي مرجل من
الغضب والثورة والغيظ املكتوم ..وتالحقت أنفاسي متسارعة وبدأت أشعر
باالختناق ..الدنيا مل تعد تسعين ..الدنيا مل تعد يل ..الدنيا ليست
للمقهورين واملعذبني ..ملعونة هذه الدنيا ..معلون هذا العامل .ملعونة هذه
احلياة ..ماذا بقي يل فيها؟ ..فألغادرها بسرعة ،واملوت هو السبيل ..إنه
أقوى طريقة للرفض ..أعلى صرخة يف وجه هذا العامل التافه اجملنون ..ولكن
ال ..لن أغادر هذا العامل قبل أن أفضح اجلرمية واجملرم ..جيب أن يكون
ملوديت دوي هائل يهز حياة الطاغية ،ويعلن النذير يف صفوف الضائعني
أمثايل ،وينري أمامهم درب الفضيلة والعفاف)).
وتتناول مىن ورقة وقلماً وختط رسالتها األخرية على أضواء القمر الوانية بيد
مرتعشة ،وقلب يائس ،وعينني ذارفتني قرحهما البكاء:
((إىل كل فتاة غرر هبا ..إىل كل عذراء اغتصبت قهراً أو خداعاً ..إىل كل
مظلوم يف هذا العامل القذر امللعون ،أقد روحي البائسة رفضاً هلذا اجملتمع
الفاسد املريض ،وقبل أن أغادره أريد أن أفضح وألعن سبب بؤسي
وشقائي ..الدكتور ((صفوان الناعم)) ..هذا الثعبان املاكر الذي لدغين يف
أود أن أعتذر إىلأعز ما أملك ،وحطَّم مسعيت ومستقبلي ..وقبل الرحيل ُّ
أمي الطيبة ووالدين املسكني اللذين...)).
وتقف مىن عند هذه الكلمات...
لقد تذكرت أمها الطيبة ووالدها املسكني ،فتذكرت كفاحهما الشاق الطويل
من أجلها ،وتصورت حجم املأساة الفظيعة اليت سيعيشاهنا بسبب انتحارها،
وختيلت تلك القص والفضائح اليت سينسجها الناس حول هذا االنتحار
فهاهلا ما ستقدم عليه..
ونشب يف أعماقها صراع عنيف بني اليأس والرجاء ،وتراوحت بني التماسك
واالهنيار ،فرتددت طويالً ًِ مث بدأت تستسلم للعجز والضعف ،فتناولت
زجاجة السم اليت أحضرهتا هلذا الغرض ووقفت على احل ّد الفاصل بني املوت
واحلياة تقدم خطوة وتؤخر أخرى ..وازداد الصراع يف أغوارها حدة وعنفاً،
وأخذت مشاعرها املتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها ،فتشنجت
أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت ترتنَّح على حافة الفناء ...وتفاقم
الصراع يف أعماقها املدهلمة ..فتقدمت من املرآة يف رهبة وتأملت ذلك
الشحوب الذي عكر مالحمها الكئيبة ،وذلك الذعر الذي الح يف عينيها
احلمراوين فانتاهبا خوف وهلع وأخذت ترتعش..
وأصغت لليأس العاصف وهو يدفعها لالستسالم ،فحملقت يف جنون
وقربت الزجاجة من فمها ،فعال وجيب قلبا وتسارعت خفقاته وأخذ يتالطم
يف صدرها وكأنه سجني ضمن غرفة مغلقة راح يدق األبواب واجلدران باحثا
عن خمرج وقد أحاق به خطر داهم.
وهوت مىن إىل الدرك األسفل من اليأس ،فباعدت بني أسناهنا املنطبقة بقوة
ورعب وحركت فكها املتشنَّج عنوة ،وفتحت فمها إىل أقصى ما تستطيع
ومهَّت بإفراغ السم القاتل يف أحشائها ،لكنها توقفت فجأة وهي تصغي
امتد هلا خيط من األمللصوت العقل وهو يهيب هبا هادراً قوياً أن حتجم ،و َّ
فانتشلها من وهدة اليأس فحاول اليأس أن يعيدها إىل أحضانه ،لكنها
تشبثت خبيط األمل ورمت بالزجاجة من النافذة وقررت أن تبقى...
وبلغ اإلجهاد هبا منتهاه ،فاهنارت على األرض مهدودة خائرة ،وراحت
تبكي يف مرارة فاحلياة اليت آثرت أن تعود إليها أقسى ألف مرة من املوت
الذي كانت ستقدم عليه.
((جيب أن أبقى ..جيب أن أعيش ..من أجل والدي الطيب ..من أجل
أمي املسكينة ..من أجل إخويت ..سأبقى هلم ،فال داعي ألن أزيد تعاستهم
وشقاءهم ..حرام ..حر ٌام علي أن أقتل الفرحة الوليدة يف أعماقهم بعد أن
انتظروها كل هاتيك السنني ..سأبقى يف أذهاهنم ((الدكتورة مىن)) اليت
يفخرون هبا ..سأطوي صدري على اجلراح وسأمضغ مأسايت يف صمت..
مت منذ زمن فلدي ما أقوم به ..وملاذا االنتحار؟ ..لقد َّ
ال داعي لالنتحار َّ
ومل يبق مين إالَّ هذا اجلسد ..فألعتربه آله ..آلة نافعة مفيدة تعود على
أسريت باملال الذي يوفر هلا احلياة الكرمية الرغيدة ..سأعزف عن الزواج..
سألغي يف أعماقي غرائز األنثى ،وأشواق األنثى وسأعمل ليل هنار ألقدم
أليب وأمي أسباب الراحة والسعادة وأوفر إلخويت حياة أفضل حتميهم من
ي حرماهنم كما وعدتين االندفاع وراء األحالم الكاذبة اليت تعدهم بر ه
فخذلتين))...
وسرى أذان الفجر فوق أمواج الظالم ،فاخرتق هدأة الليل ومزق وحشته،
وانسابت معانية اخلالدة إىل مسع مىن فأنصتت إليه يف خشوع وكأهنا تسمعه
ألول مرة ..وذكرت اهلل فذرفت بني يديه الدموع...
***
الفصل الثامن عشر
انفض مجع األصدقاء يف ساعة متأخرة من الليل ،بعد سهرة مجيلة قضوها
يبق
حفل عشاء ومسر مبناسبة خترجه .ومل َ يف ضيافة سعد الذي دعاهم إىل ْ
منهم سوى عرفان وعصام الذي كان منهمكاً مع سعد يف احلديث عن
املستقبل والطموحات الكثرية اليت اتفقا على إجنازها معاَ ،و َّ
استبد النعاس
بعرفان فتثاءب قائالً:
ينته حديثكما؟ ..لقد مللت أحاديثكم اليت ال تنتهي عن السرطان -أم ٍ
واجلمعية الوطنية ملكافحة السرطان والصندوق الوطين ملكافحة السرطان و..
ال أدري ما الذي جيربكم على محل مهوم اجملتمع ومشاكله كلها ..هناك وزارة
الصحة يا سادة ..هناك عقول كبرية ختطط لتنمية اجملتمع وتطويره ،فأرحيوا
أنفسكم من هذا العناء.
ضحك عصام وقال:
-لك أن تقول بأنك قد نعست وتريد أن تذهب لتنام ،لكن ال حيق لك
أن تكبت أفكارنا وطموحاتنا يف تطوير مؤسسات مكافحة السرطان حبجة
أهنا ليست من اختصاصنا ..ليس من الضروري أن ننفذ كل ما نفكر فيه
بأنفسنا ..قد ننفذه حنن وقد ينفذه غرينا ..املهم أن نفكر وحناول...
قال سعد خياطب عصاماً:
-ال تلق باالً لكالمه يا عصام ،فهو ميلك نفس محاسنا ،لكن اإلسراف يف
الطعام قد أصابه باسرتخاء أورثه النعاس والكسل.
قال عرفان وهو ينهض يف تثاقل:
-ارمحوين أرجوكم ..أريد أن أنام ..إذا كنت ال تنوي ان متضي يا عصام
فاتركين أذهب لوحدي.
هتف عصام وهو يهم بالنهوض:
-بل سنذهب معاً يا عزيزي ،فقد تأخرنا.
مث وهو يتوجه باحلديث إىل سعد:
-حسناً يا سعد ..سنكمل حديثنا غداً – إن شاء اهلل – املهم اآلن أن
نبدأ بتأسيس الصندوق الذي اتفقنا عليه لنستطيع مع الزمن توفري الدعم
املادي جلمعية مكافحة السرطان ..سنتحدث غداً يف التفاصيل...
قال سعد:
-سأزورك غداً يف عيادة الدكتور إياد بعد أن تكون قد استشرته يف أفكارنا
اليت حتدثنا عنها ..ستأيت معي يا عرفان ،أليس كذلك؟
-إذا استيقظت باكراً..
قال عصام وهو يدعو عرفان للمسري بإشارة من يده:
-واآلن هيا بنا يا عرفان ..عفواً ..بل يا دكتور عرفان ..ضحك الثالثة يف
ود وافرتقوا على أمل اللقاء...
***
وقف عصام وعرفان على الرصيف بانتظار سيارة أجرة تقلهما إىل بيتهما،
حيث يقع منزل عرفان يف الطريق إىل منزل عصام ،وقال عرفان وقد عاوده
نشاطه:
-يا لروعة هذا املساء ..ما أمجل السهرة يف حديقة سعد ..لقد متنيت لو
امتدت بنا اجللسة حىت الفجر ،لكن النعاس الذي دمهين أفسد متعيت.
سأله عصام مداعباً:
-أهي احلديقة اليت أغرتك بالسهرة ،أم الطعام الشهي الذي تناولته؟
أجاب عرفان وهو يتحسس بطنه:
-هل تريد الصدق؟ ..لقد كان طعاماً شهياً مل أذق مثله ..و ((الكاتو))..
يا عيين على ((الكاتو)) ..لقد أكلت منه حىت مللت...
ضحك عصام وقال متوعداً:
-إياك أن تسرف يف حفلة زفايف كما أسرفت الليلة ،فاملدعوون كثري ،وزادنا
على قدنا ...عليك أن تقرأ كل ما درسناه عن أخطار السمنة قبل أن
تأيت ..مفهوم؟
هتف عرفان حمتجا:
-حرام عليك( ..قطع األعناق وال قطع األرزاق) ..أبعد أن دجمت حفلة
التخرج مع حفلة الزفاف ،تريد مين أن أقتصد يف الطعام ..هذا ظلم يا
دكتور ..ظلم سوف أقاومه بكل ما أوتيت من طاقة على األكل والطعام،
فخذ احتياطك منذ اآلن...
ومرت سيارة مسرعة فاستوقفها عصام بإشارة من يده ،لكنها كانت مليئة
فلم حتفل بإشارته.
-لقد تأخرنا فعالً!.
سأله عرفان وهو حيل ربطة عنقه قليالً:
-أزمعت السفر لالختصاص إذن...
-أنا وسامية – إن شاء اهلل- .
-هل جاءك رد من أمريكا؟
-ليس بعد ..يتوقع الدكتور إياد أن يتأخر الرد قليالً ،لكنه يؤكد يل بأن
القبول مضمون ،ألن رئيس اجلمعية األمريكية للسرطان صديق محيم له من
تنس أن الدكتور
أيام دراسته يف أمريكا وهو يضع كل ثقله يف املوضوع ،وال َ
إياد ((زميل)) يف اجلمعية األمريكية للسرطان ولرأيه وزن هناك وقد أرسل
صوراً مرتمجة ومصدقة عن أوراقي وأوراق سامية ،سبقها متهيد طويل حول
هذا األمر ،وأنا متفائل جداً بالقبول.
-حيق لك أن تتفاءل ..اجلميع يفكرون باالختصاص ويسعون إليه إال أنا!.
-ولِ َـم؟
-ألسباب كثرية ..أمهها تكاليف االختصاص الناهضة ..
-العائق املايل قائم أمام اجلميع لكن أغلبهم قد استطاع التغلب عليه ،أنا
مثالً سأبيع قطعة أرض منلكها يف الريف لنسدد منها تكاليف السنة األوىل،
وبعدها سيبدأ عملنا يف املستشفى هناك فيدر علينا راتبا جيداً...
-كنت أمتىن أن يتوفر لدي ما يساعدين على البداية ،لكن والدي كما
تعلم ال ميلك إال حمل احللويات املتواضع الذي يصرف علينا منه ،وأنا ال
أريد أن أرهقه باملزيد من املصاريف.
صمت عصام متفكراً مث قال يف محاس:
-ال عليك ..سنتعاون معا على تكاليف املرحلة األوىل من االختصاص،
إىل أن تتقاضي راتبك يف املستشفى الذي ستمارس اختصاصك فيه ..حرام
أن تئد طموحك من أجل عقبة مالية ميكننا إزالتها.
-ال أريد أن أكون عالة على أحد.
قال عصام معاتباً حبده:
-ساحمك اهلل يا عرفان ..من قال بأنك ستكون عالة؟ ..تعاوننا وتكافلنا
واجب ال فضل ألحدنا فيه أو منَّة ،فاملسلمون كاجلسد الواحد ،ويف سبيل
األهداف الكبرية تتالشى هذه االعتبارات التافهة الصغرية.
مهس عرفان وقد تأثر بكالم عصام أميا تأثر:
-اعذرين يا أخي ،فاملشاكل واهلموم ترهق األعصاب وتضغط على املشاعر
فتصبح مرهفة أكثر مما ينبغي ..أعدك بأين سأدرس عرضك هذا شاكراً
ممتناً.
-لست ممتناً ألحد ..أن نطور بالدنا وننهض هبا واجب مقدس ال منَّة
ألحد فيه ،واختصاصك العلمي خطوة يف هذا االجتاه ..حسناً سأرحيك من
هذا الشعور ..اعترب مساعدتنا لك ديناً تسدده للصندوق الوطين ملكافحة
السرطان الذي أزمعنا على إقامته ،أو تسدده ألي مشروع خريي آخر ،مىت
شئت.
وصمت عرفان يفكر يف عرض عصام وهو متأثر بكلماته الصادقة اليت تقطر
أخوة ونبالً ،بينما قال عصام بعد شرود ليس بالقصري:
-أتعلم مباذا أفكر؟..
ضحك عرفان وقال:
-من أين يل أن أعرف ،فبالك مسرح ملشاغل العامل ومشاكله!
-يؤرقين ما حدث ملىن...
-ما الذي ذكرك هبا اآلن؟!.
-فكرت فيما رواه ((جمدي)) الليلة عن مأساهتا مع صفوان فخطر ذكرها
ببايل ..كلما تذكرت وجهها الباكي احلزين املهموم يوم التخرج يا عرفان
شعرت حنوها باإلشفاق رغم كل ما بدر منها ..لكم يؤملين منظر املقهور..
لش ّد ما تعذبين دموع املظلوم أيّاً كان...
-هي اليت ظلمت نفسها ،فانطلقت وراء رغباهتا وسلمت نفسها
للشيطان.
-إين أدرك هذا ،لكين أعتربها بالرغم من هذا ضحية ..ضحية للفقر الذي
لسعها بسياط احلرمان ..ضحية للفساد الذي يسيطر على حياتنا ..ضحية
لألفكار الغريبة اليت لوثت العقول والضمائر.
بسر عالقتها معه..
-مل يبق طالب يف الكليلة إال وعلم من صفوان وشلته ّ
لقد فضحها على املأل!
هتف عصام يف حنق:
-هذا الذي امسه صفوان ..أال يرعوي؟! ..يا له من متبجح وقح!!!
-لكم حيريين سعد عندما يدعو له باهلداية ..إنه يقول لك بأن اإلنسان
مهما طغى وجترب فإنه ينطوي على بذرة خري مهيأة لإلنبات ..شاب مثل
صفوان ال ميكن أن حيمل يف قلبه ذرة خري واحدة!
-سعد على حق يا عرفان ،لكن اخلطأ واالحنراف يبقى مداناً حمتقراً يدعو
للثورة واالمشئزاز ..هذه سيارة تتجه حنونا ،فلنستوقفها..
أشار عصام للسيارة فتوقفت أمامه ،فتقدم منها:
-إىل حي الفردوس لو مسحت؟
-تفضال..
ودعا عصام عرفان للجلوس يف املقعد األمامي لكنه أىب وقال وهو يدلف
إىل املقعد اخللفي:
-ال واهلل ...األول على الكلية يف األمام ..حتتل املقدمة يف اجلامعة
وترضيين باملقدمة يف السيارة ،هذا شئ لن يكون...
رضخ عصام لرغبته وهو يرمقه يف عتاب باسم ،مث جلس إىل جوار السائق
الذي انطلق بسيارته يف هدوء أوحى هلما بقيادة متأنية أمينة.
***
كان السائق رجالً كهالً قد اشتعل رأسه شيباً فأضفى على مالحمه وقاراً
مرحياً جيذب إليه من يراه ،وبعد أن مضت هبم السيارة تطوي املسافات سأل
ونظراته ثابتة إىل األمام ترقب الطريق يف حذر حتسباً لكل طارئ:
-الشباب طلبة ..أليس كذلك؟
أجابه عصام بعد أن تبادل نظرة مع عرفان:
-منذ أيام فقط كنا طلبة..
-خترجتم من اجلامعة إذن.
-صدقت..
-مربوك ،ومن أي فرع؟
-من كلية الطب.
-ما شاء اهلل ..أنتما إذاً طبيبان ..تشرفت مبعرفتكما.
-زادك اهلل شرفاً.
وأردف عرفان:
-وهذا الدكتور الذي جيلس جبانبك هو األول على كلية الطب.
قال السائق خياطب عصاماً:
-وفقك اهلل يا بين ..مل نتعرف على اإلسم الكرمي؟
(( -عصام السعيد)).
-تشرفنا.
هتف عرفان وهو يلوح بيده متصنعا االحتجاج:
-ما شاء اهلل ((الدنيا دائماً مع الواقف)) ..الناس ال يهتمون إال باألوائل
والعظماء .أما املغمورون ..أما املساكني ،فال يسأل عنهم أحد.
مث وهو مييل إىل األمام خماطباً السائق:
عم؟ ..أنا؟ ..أال تريد معرفة إمسي الكرمي؟!-وأنا يا ّ
هتف السائق معتذراً:
-طبعاً ،طبعاً ..يسرين أن أتعرف باالسم الكرمي...
قال عرفان وهو يزهو يف دعابة ومزاح:
-الدكتور عرفان(( ..عرفان النابلسي)) ..كان والد جدي من نابلس،
وعندما هاجر منها محله معه صناعة ((الكنافة النابلسية)) فورثناها كابرا عن
كابر ،لكين تنكرت هلذا الرتاث وخترجت طبيباً ،وقد أعود إليه إذا ما أصيب
سوق الطب بالركود.
ضحك اجلميع يف مرح مث ما لبث السائق أن قال وهو يرسل تنهيدة عميقة
بعثتها ذكريات املاضي:
-إيه ..ما أعجب األيام ..لقد كان حلم والدي رمحه اهلل أن أصبح طبيباً،
لكن املنية سرعان ما خطفته منا وأنا يف السابعة عشر من عمري ،ومل يكن
ألسرتنا من يعيلها فرتكت املدرسة ورحت أعمل ،ألصرف على أخويت وأمي
وجديت ..إيه ...احلمدهلل ...جتري الرياح مبا ال تشتهي السفن ،لكن ربك
ال ينسى أحداً ،لقد أنعم علينا وفضل...
مست كلمات السائق الوتر احلزين يف قلب عصام فاهتز ليبعث يف نفسه
الشجن ،وطافت خبياله ذكرى أبيه الراحل فشعر بوخزها األليم وراح يناجيه
يف صمت وشرود:
(( -إيه ..أين أنت يا والدي لرتى ابنك اآلن ،وقد صار طبيباً كما كنت
حتلم وتتمىن ..لكم حيزنين أن أحرم من ابتسامة الفرح والفخر واالعتزاز وهي
تشرق من وجهك الطيب فتمألين ثقة وعزمية ومتدين بأروع الزاد وأثراه يف
رحلة احلياة ،لكين أعدك يا أبت أن أرقى يف سلم اجملد هبمة وإصرار..
سوف أطري إىل قمته السامقة البعيدة ألحط عليها كنسر عنيد ...يرفعين
إليها جناحان حانيان ..أمي العظيمة وزوجيت احلبيبة ..آه ..لو أنك رأيتها
يا أبت لتمنيت أن تضعها يف قلبك ،لكن ..أين أنت؟ ..غيابك األبدي
يؤملين ويشوه أفراحي ويوشح خطوايت باحلزن واألسى ..لقد حققت حىت
اآلن الكثري ،والدروب أمامي ممهدة لتحقيق املزيد ،لكن ذلك كله مل ميسح
من نفسي كآبتها املزمنة ،لكأن احلزن فيها قد استوطن وأىب الرحيل..)).
قال السائق وقد أحب أن يصل ما انقطع من احلديث:
-األطباء يف جمتمعنا طبقة مرموقة اجتماعياً ومادياً ..تفرض احرتامها أينما
ذهبت وتلعب باملال...
قال عرفان:
-هذا الكالم كان على أيامكم يا عم ،أما اليوم ،فيا حسريت علينا...
أخشى أن نتحول من طبقة مرموقة إىل طبقة مسحوقة!.
قال السائق وهو ينعطف إىل اليمني:
-ال تتشاءم يا بين ،لقد أنعم اهلل عليك مبهنة عظيمة ،سوف تسعدك
وتسعد الناس الذين سيشفيهم اهلل على يديك.
قال عصام وقد خرج من شروده احلزين لينخرط يف احلديث:
-حقاً إن السعادة اليت جيدها الطبيب وهو ينقذ الناس من براثن املرض
واألمل ال تقاس مبال الدنيا.
قال السائق بنربات تفيض باالحرتام:
-ما شاء اهلل ..ما أحلى أن يكون أطباؤنا مجيعاً هبذا الشعور ،لكن
بعضهم يتحول بكل أسف إىل جتار ..يتاجرون بأمراض الناس وآالمهم!.
لكم يسرين أن أتعرف بكما..
قال عصام وهو يتناول من جيبه بطاقة أنيقة حتمل امسه وعنوانه:
-بارك اهلل فيك يا عم ..هذا عنواين ،فاحتفظ به ،فإن احتجت ألي
خدمة فأنا..
ومل يكد يكمل حىت صرخ عرفان هاتفاً يف ذعر شديد:
-انتبه ..إىل اليمني ..هناك سيارة ..آه........
كان القدر أسرع من الكلمات ،ويف حلظات قليلة وقعت الكارثة ،وأريقت
الدماء الربيئة لتسطر مأساة جديدة من مآسي السرعة امللعونة والطيش
اجملنون.
***