Professional Documents
Culture Documents
لو دامت الأفياء
لو دامت الأفياء
الطبعة األولى
1986
مطبعة بابؿ
اإلهداء
إليه...
()1
واليوـ ذىبت إلى المعرض لكي تشاىده وحدىا ،واذا بيا ترى
مجموعة مف الطمبة مع أستاذىـ .ودخمت في حو ٍار كانت ىي البادلة
فيو ،وىي التي أنيتو.
دندنت مع أنيف الكماف لتبعد ذىنيا عف التفكير في ىذا
األستاذ الذي رأتو ألوؿ مرة مع جمعٌ مف طمبتو في المعرض .كاف
في نبرة صوتو ما استوقفيا ،فأنصتت .ثـ كاف لطريقتو في الحوار ما
شد انتباىيا ،وأنساىا قرار عزلتيا ،فدخمت معو في نقاش.
ال تعرؼ إال أف اسمو غياث .غياث ماذا؟ غياث مف؟ ال
تدري .وحيف أحست أف ىذا الحوار سوؼ يجرىا إلى حوارات أخرى،
أنيتو بسرعة وانسحبت .ال ،بؿ ىربت ،ألنيا خشيت أف يتيدـ جدار
عزلتيا الذي بنتو وحرصت عميو.
المعجؿ
ّ وصمت إلى حيث يخؼ الزحاـ ،فداست عمى
وأطمقت لسيارتيا العناف ،كأنما تيرب بسرعتيا مف تبلحؽ أفكارىا.
حيف دخمت الدار ،وجدت أميا منيمكةً في التفرج عمى التمفزيوف ،فمـ
تطؿ البقاء معيا ،بؿ ذىبت إلى ركنيا الذي تسميو (بيتي) .جمست
عمى األرض في مواجية النافذة المطمة عمى حديقة زىورىا ،وعادت
بذاكرتيا إلى سنو ٍ
ات نسيت طعـ أياميا ،وأصحاب شحبت أسماؤىـ
في مخيمتيا.
ٍ
بحاجة لمقوؿ ،بؿ تكفي نظرة لتعبر عيناىا عما تريد. لـ تكف
(إنيا تكتب الشعر بعينييا ،وترسـ الكممات بأىدابيا) ذلؾ ما قالو
عنيا أحد الشعراء الشباب ممف كتب الشعر أياـ كانا في الجامعة.
ٍ
كجرس فضي في ساحات الكمية ونادييا. ترف ضحكتيا
تضحؾ لمشمس وتبتسـ لمسماء .تغازؿ المطر الذي يحمو ليا أف
تسير تحتو حاسرة الرأس حتى تبتؿ مبلبسيا ،ويمتصؽ الشعر
بيامتيا .ترفع وجييا لتغسمو بحبات المطر .تحب أف تشؽ خيوط
المطر وتنساب بيف نسيجو لتكوف جزءاً مف الغيمة والطيف.
في ٍ
يوـ ما ،شاىدىا الدكتور عامر أحمد ،وىي تمشي اليوينا
تحت رذاذ المطر ،فسأؿ إحدى زميبلتيا" ،مف تكوف غريبة األطوار
ىذه؟"
صمتت رابية برىةً وىي تحدؽ بعيني الدكتور عامر ،فمـ تجد
فييما فيماً لما تقوؿ ،بؿ نظرة إعجاب بمياء .أكممت جممتيا بالقوؿ،
"ليذا أحب التمشي تحت خيوط المطر ألحس ببعض الحياة الطبيعية
تنساب إلى مسامي ،وتعيد لي بعض ..بعض الطبيعة ،ال غير ،يا
أستاذ عامر "،ابتسمت وانتظرت تعميقاً منو ،ثـ أردفت" ،لماذا تنظر
لي باستغراب؟ ىؿ تجد فيما أفعمو عيباً؟"
ورالحة ،نسينا أننا بشر ،وأف األرض أرض .فاألرض صارت اسمنتاً
والمياه صارت مجاري ،واألشجار أبنية وعمارات".
لـ تجد عند الدكتور عامر حوا اًر يشدىا ،فاعتذرت وتركتو
وىو ما يزاؿ يتساءؿ" ،غريبة أطوار ىذه ،أـ ماذا؟" ولـ يشغمو السؤاؿ
طويبلً ،فمديو مف المشاغؿ اليومية ما ينسيو أمر طالبة ترتدي مبلبس
بسيطة ،وتشد شعرىا بشريط ،وال تضع الزينة عمى وجييا .ومع ذلؾ
لـ ينس الدكتور عامر اسـ رابية الحمود.
ق اررات سنا متأنية ،ميما كاف القرار قميؿ الشأف ،في حيف أف
رابية سريعة في اتخاذ القرار ،وأسرع في تنفيذه .كـ سمعت رابية أميا
وىي تكرر القوؿ" ،انظري إلى سنا ،سنا متعقمة .كوني مثميا،
تخمصي مف عجالتؾ ،فالعالـ لف يطير .كـ أتمنى لو كاف ِ
فيؾ بعض
ىدوء سنا ".سمعت رابية ىذا القوؿ ملات المرات مف أميا ،فتضحؾ
وتيز رأسيا وىي تجيب" ،إذف ،لتكف سنا ىي المبلؾ الحارس لي مف
نفسي ..أال يرضيؾ ىذا؟"
بقي الحب بيف األب وابنتو ،لكنو تحوؿ إلى حب صامت ال
يعبر أي منيما عنو ،وال يقدر أي منيما العيش مف دونو .صارت
سنا ىي خيط التواصؿ بيف ثورة رابية ،وثورة أبييا عمييا .سنا صارت
لؤلب اإلبنة التي يتواصؿ معيا ،وىي لرابية رسوؿ المحبة إلى األب
الذي عجز عف الفيـ ،ألنو ال يريد أف يفيـ .وسنا ،ىذه اإلنسانة
الرقيقة ،تحمؿ في أعماقيا كن اًز مف المحبة لكمييما.
ظمت رابية تعيش حياتيا المجزأة ،وال أحد ممف حوليا يعرؼ
ما تعانيو ،فيي تغطي متاعبيا بستار االبتسامة والضحكة الرنانة .فبل
األىؿ يفيموف ما تعاني مف عنت في الخارج ،وال الزمبلء والرفاؽ
يعرفوف ما يدور بيف جدراف البيت .الكؿ يجيؿ ،إال سنا التي تعرؼ
كؿ شيء ،ال بؿ عرفت دوماً كؿ شي عف رابية صقر الحمود.
وفي يوـ عادت رابية إلى الدار فوجدت العالمة بكؿ أفرادىا
بانتظارىا :األـ مبتيجة ،األخوات يتضاحكف ،األخوة يتيامسوف
ويخفوف فرحتيـ .لـ تفيـ رابية ما حصؿ لينيي حالة الحصار
المفروضة عمييا .لكنيا ،عمى عادتيا ،لـ تسأؿ أحداً منيـ عما
حدث ،بؿ ذىبت مباشرة إلى المطبخ ،حيث لحقتيا أميا" ،رابية،
حبيبتي ،يبدو التعب عميؾ واضحاً"..
"مثؿ ماذا؟"
"ال أقبؿ أف أكوف ابنة صقر الحمود وحسب .أريد مف
يخطب رابية الحمود .أتفيميف ما أقولو يا سنا".
"أية خطوبة؟"
كؿ ما حوليا زيؼ ،إال الموت! فيو الحقيقة الوحيدة .لـ يعد
النصر أو الشيادة ىو الميـ لدييا ،فالنصر بعيد ..بعيد! وىي لـ تعد
تطيؽ االنتظار .فسعت إلى الشيادة.
لـ تمت رابية ،ربما ألنيا كانت تريد الموت أكثر مما أرادت
أي شيء آخر مف قبؿ ،فمقد أحرقت كؿ سفنيا ،وما عاد أماميا سوى
أف تموت عمى األرض.
وسنا عاقمة ،حنوف ،ال تخيب أمؿ أياً كاف ،فكيؼ تخيب أمؿ
أىميا؟
كـ تمنت سنا لو كانت مثؿ أية فتاة اعتيادية ،ببل تحديات
وال قوة .فتاة محمية كما كانت في حياة أبييا .كانت حينذاؾ تجد
األب الذي تبكي عمى كتفو ،فبل تخشى عميو مف االنييار .لكنيا بعد
وفاتو ،لـ تجد حوليا إال مف ىـ أكثر ضعفاً منيا .األـ تريدىا سنداً،
واألخوة يريدونيا مثبلً أعمى لمقوة .وعمييا أف تكوف كما يريدوف.
خطبيا ابف عميا فور وفاة أبييا ،بذريعة رعاية أمورىا وأمور
أخوتيا .قالت سنا" ،ال!!" وتحممت مسؤولية العالمة لكي ال يقاؿ أف
ليس ثمة رجؿ يحمي الدار ،فحمت دارىا وأىميا بنفسيا.
لـ تمتؽ سنا بالرجؿ الذي تريده في أياـ الجامعة ،ولـ تعثر
عميو بيف زمبلء الوظيفة .خمسة أعواـ قضتيا سنا حامد ،تعمؿ
وترعى شؤوف أىميا ،حتى استقرت أحواليـ ،فاقترح أخوتيا أف تمتحؽ
بالبعثة العممية التي ما فتلت ترجئ االلتحاؽ بيا منذ سنتيف.
حاولت سنا فيـ السبب الكامف وراء ىذا التغيير ،فسألتيا .إال
أف رابية أطرقت برأسيا وصمتت لمدة طويمة .كانتا تتمشياف قرب
المعسكر في طريؽ ترابي وعر .وصمتا إلى شجرة زيتوف ىرمة ،تفيء
بظميا عمى ما حوليا .اقتربت رابية مف الشجرة وربتت عمى جذعيا،
ثـ جمست عمى األرض وأغمضت عينييا .تنيدت وقالت بصوت
خافت" ،سنا ،تسأليف عف التغير الذي ط أر عمي؟" ونظرت في عيني
صديقتيا" ،أعرؼ أني تغيرت إلى الحد الذي لـ أعد فيو أعرؼ
نفسي ".أطمقت رابية تنييدة عميقة ثـ أردفت" ،األمر أكبر وأعمؽ مف
أف أعبر عنو بالكممات .أخشى أف ال تفيمي الصراع الذي أعيشو يا
سنا ،فنحف ما نزاؿ نحاوؿ أف نخفي ما يجري بيننا ىنا ،للبل تتشوه
الصورة النقية لمثورة .وحتى في نطاؽ الرفاؽ ىنا ،أحاوؿ االبتعاد عف
الجدؿ الدالر حولي ،وأركز عمى الميمة القادمة .لـ أعد أريد التفكير
عمي شرح األمر لؾ .إف شرحت لؾ
بالصراعات الدالرة .ويصعب ّ
أكوف قد أدنت الحركة ،وأدنت نفسي معيا .واف بقيت عمى ىذا
الصمت ،قتمتني خيبة األمؿ ،والخوؼ مف المستقبؿ".
حيف طاؿ صمت رابية ،قالت سنا" ،لكنؾ اعتدت معي أف
عاؿ ..ما الذي يعذبؾ يا رابية؟ احؾ لي أرجوؾ.. ٍ
بصوت ٍ تفكري
فأنت تعرفيف قدرتي عمى التزاـ الصمت".
"ومف يكوف؟"
جاءت تحمؿ عبؽ بغداد ،ولـ أتوقع أف تكوف بجماؿ بغداد ..أىبلً
بؾ"..
"أىبلً "،ولـ تزد سنا حرفاً.
"خالد ،أعرفؾ عمى صديقة عمري سنا حامد .لقد قررت سنا
أف تزورنا في طريقيا إلى إنجمت ار لبللتحاؽ ببعثة عممية .إنيا مناضمة
قديمة "..واستدارت إلى سنا" ،سنا ،ىذا خالد السعد ،رفيقنا وأحد كبار
قادتنا"..
"ال يوجد إال طريؽ واحد أمامنا يا رابية .إلى األماـ! وكؿ ما
عداه تبرير لمتقاعس والنكوص".
لـ ترد عميو رابية ،وصمتت سنا ،ألنيا لـ تجد ما تقولو ،فقد
فوجلت بتأثيره عمييا ،وىي الفتاة القوية.
ركز بصره عمى سنا برىةً ،ثـ قاؿ" ،لـ أعد أفيـ ما أصاب
صاحبتؾ رابية .حيف جاءت قبؿ سنوات أذىمتنا بقدرتيا عمى الحركة
والحوار ،ليؿ نيار .أما اليوـ ،فيي ترفض الدخوؿ في أي نقاش مع
الرفاؽ ،وتجدينيا تجمس وحيدة ساىمة حيف ال تكوف في ميمة".
في أحد األياـ ،حضرت سنا حفمة عرس ،الح ليا وجو
مألوؼ لـ تستطع لموىمة األولى أف تعرؼ صاحبو .حدقت بو طويبلً،
ثـ تذكرت خالد السعد ،القالد الفمسطيني الذي تعرفت عميو قبؿ
سنوات في معسكر المقاومة وترؾ في نفسيا أث اًر حينذاؾ .أيمكف أف
يكوف ىذا الشيخ األشيب ىو خالد السعد ذاؾ ،أـ ىو شبو في
المبلمح؟ إذ ربما خدعتيا الذاكرة .ظمت تحدؽ بو وىو ساىـ ال يريـ.
ثـ لـ تتمالؾ نفسيا فسألت أحد معارفيا عنو" ،أليس ذاؾ ىو خالد
السعد؟"
"قابمتو منذ سنوات .ماذا يفعؿ ىنا؟ ظننت أنو ما يزاؿ عمى
خط النار؟"
"ال تتعب نفسؾ بمحاولة تذكر اسمي .أنا سنا حامد ،صديقة
رابية الحمود".
"ال ،منذ أف جلت إلى بغداد حاولت عدـ االتصاؿ بأحد كي
ال أحرج الناس بعدما وقع لي .فمعرفة خالد السعد صارت تيمة
حاولت أف أجنب الجميع االتياـ بيا ".صمت خالد برىة" ،سنا
حامد ..سنا حامد؟"
لـ يتحدث خالد كثي اًر في تمؾ السيرة ،سواء معيا أو مع
غيرىا مف المدعويف .أمضى السيرة ينظر ساىماً في الوجوه ،ويرد
عمى األسلمة بإجابات مبتسرة.
في أحد األياـ جاء خالد أكثر عبوساً مف بقية األياـ .حاولت
معرفة السبب ،أو التخفيؼ عف بعض حزنو ،أو كسر جدار الصمت.
وخالد يتحاشى أي حوار معيا .أخي اًر ،وبعد إلحاح شديد ،لـ يعد
بوسعو إال أف يقوؿ" ،سنا ،إلحاحؾ ىذا لف يجمب لؾ إال الحزف
والقمؽ .تريديف مني شرح سبب حزني؟ إني حزيف ألني أتمزؽ بيف
رغبتي باإلفصاح لؾ ،وخشيتي عميؾ مما سيجره ىذا".
عمي يا خالد؟"
"أتخاؼ ّ
"كيؼ؟"
صمت خالد برىة ثـ قاؿ" ،سنا .لـ أصدؽ يوماً بوجود
عاطفة يحكي عنيا الجميع ،ويسمونيا حباً .كنت أتصور أنيا ال تزيد
عف كممات جميمة تأخذىا الريح .يخترعيا الشعراء ليعيشوا بما تدره
عمييـ .لـ أكف ألصدؽ أف امرأة يمكف أف تختزؿ كؿ النساء ،وأف
تختمؼ عف كؿ مف سبقيا ،حتى عرفتؾ .فعرفت أف الحب حقيقة.
وعرفت أف قدري قادني ألعرفؾ ،فكاف حبي ىو بذرة األصالة التي
عمي
ىدمت زيؼ أيامي الحاضرة "..حدؽ بيا طويبلً" ،ومع ىذا يجب ّ
أف أخنؽ ىذا الحب في أعماقي"..
لـ تدر سنا بـ ترد عميو .لـ يسعفيا المنطؽ الذي تعممتو،
وتدرسو في الجامعة ،لكي تعرؼ الرد عمى ما يقوؿ .إال أنيا مع كؿ
كممة قاليا ،كانت تعي أف قدرىا ،ىي أيضاً ،جعميا تمتقي بيذا
الرجؿ .رفعت رأسيا إلى وجيو" ،خالد ،لماذا تريد أف تحرـ كمينا مف
حقنا في الحياة؟ لماذا تخنؽ الحب في أعماقؾ؟ أال يجدر بؾ اف
تقوليا واضحة وصريحة؟"
حاوؿ خالد قطع عبلقتو بيا ،فما قدر إال أف يغيب بضعة
أياـ ،عاد بعدىا .كما حاوؿ االستعانة بعبلقاتو القديمة لينسى سنا،
لكف كؿ واحدة مف أوللؾ النسوة تذكره بسنا ،وروعة سنا ،وأصالة
سنا.
لـ تناقشو سنا فيما قاؿ ،ولـ تعاتبو حيف غاب .لكنيا فرحت
بعودتو .فخالد السعد ىو اإلنساف الذي انتظرت معرفتو طواؿ حياتيا.
إنساف رفض أف يزيؼ إيمانو ،فانزوى يمعؽ جراح خيبات أممو مف
دوف أف يفقد إيمانو ،ومف دوف أف يحني ىامتو.
ظمت الحيرة تعتمؿ في نفس سنا .ىي تريد خالد كما كاف
باألمس ،باىياً وكبي اًر .ال الرجؿ الذي ييرب مف خيبات أممو إلى
خيبات أمؿ جديدة.
لو أنو يقدر أف يتخمى عنيا ويقتؿ ىذا الحب الذي يمؤل
نفسو.
صعد غياث إلى سيارتو .لـ تكف السيارة جديدة مثؿ تمؾ
التي يتباىى بيا زمبلؤه مف أساتذة الجامعة باقتناليا ،إنما ىي سيارة
عتيقة يعوزىا الكثير مف العناية ،وىو ال يممؾ وقتاً لمعناية بيا
وتصميح ما يفسد الدىر منيا .أدار المحرؾ وسار ببطء مجتا اًز شوارع
المدينة .إنو يحب التجواؿ في شوارع بغداد بالرغـ مف فوضى
زحاميا .لقد اعتاد المرور في مركز المدينة حيث كانت تقع دارىـ
أياـ حياة العالمة في المحمة القديمة.
وصؿ إلى مركز المدينة حيث الزقاؽ الذي كاف يشمخ فيو
بيت العالمة .لـ يعد بيت العالمة في رأس الزقاؽ .فبعد وفاة األب،
وزواج األخوة واألخوات ،لـ يبؽ في الدار العتيقة غير أمو ،التي
رفضت ترؾ الدار عمى أمؿ أف يعود غياث مف فرنسا ليعيش معيا
في دار العالمة ،فبقيت مع حفيدىا األكبر أحمد الذي تولت تربيتو منذ
صغره .وحيف عاد غياث لـ يعش في الدار ،فيي عتيقة وكبيرة .فبنى
دا اًر جديدة في المنصور وأخذ أمو وأحمد ليعيشا معو فييا.
مع ىذا ،غياث ما زاؿ يحف إلى أياـ المحمة تمؾ .ويذكر
أشياءىا وأحداثيا كمما مر مف ىنا .وىو يمر مف ىنا في كؿ يوـ.
يذكر المحمة متراصة البيوت ،يسند أحدىا اآلخر ،وال يعمو أي منيا
عمى اآلخر .متقاربة النوافذ ،سميكة الجدراف .محكمة األبواب.
باحاتيا مفتوحة ،وأروقتيا مظممة .ىواؤىا نقي طري.
حاوؿ إقناع أبيو ،فما زاده إال غضباً .وحاوؿ معو أبوه ،كما
حاوؿ أخوتو وأصدقاؤه ،دوف جدوى .بكت أمو وىي تقوؿ" ،وايف
ستدرس الفمسفة؟ أبوؾ يقوؿ أنيا لـ تدخؿ بعد في مناىج الدراسة في
جامعاتنا .قؿ لي ،أيف ستدرسيا؟"
"في أوربا! فرنسا أو إنجمترا!"
ظؿ يكتب الرسالؿ إلى أىمو .لـ يرد عميو األب ،واألـ ال
حوؿ ليا وال قوة .أخوتو كتبوا لو حيف تتاح ليـ الفرصة ،وحيف يستجد
ما ىو ميـ في حياة العالمة .أبمغوه في إحدى رسالميـ بموت األب،
فاراد قطع دراستو والعودة إلى بغداد ليكوف إلى جانب أمو ،لكف أخوتو
أصروا عمى عدـ مجيلو ،إذ ال فالدة ترجى مف عودتو ،وعميو
االستمرار فيما بدأ فيو .واألـ بخير والكؿ حوليا أبناء بررة.
مرت أعواـ طويمة ،حصؿ غياث خبلليا عمى الدكتوراه
بالفمسفة ،وعمؿ في الجامعة نفسيا أستاذاً وباحثاً .ثـ قرر العودة إلى
بغداد ،والعمؿ في جامعتيا بعدما أنشأت قسماً لمفمسفة بكمية اآلداب.
لـ يقتصر (شباب) غياث عمى طمبة قسـ الفمسفة ،بؿ صاروا
يجيلوف مف األقساـ األخرى ،ال بؿ مف الكميات األخرى .وكؿ منيـ
يجد في غياث صديقاً ،ودليبلً في دروب الحياة والثقافة.
واجو غياث سوء الفيـ ،كما واجو المحبة واالحتراـ ،بكؿ ما
يممؾ مف تفيـ وذىف متفتح .رفض الدخوؿ في صراعات جانبية مع
أي منيـ .فالميـ عنده أف يستفيد الشباب مما يعرؼ ،ويتواصموف
معو.
عطاء غياث ببل حدود .وحماستو ببل حدود .وحواره ببل
حدود .وكذلؾ تناقضاتو ببل حدود .غياث ..غياث ..اختمؼ الكؿ
عمى ما يقوؿ ،واختمؼ الكؿ فيما يقوؿ ،لكنيـ ما اختمفوا عمى محبتو
واحترامو.
"شك اًر ،أني عمى موعد اآلف ،سأمر عميؾ فيما بعد ،كيؼ
حاؿ نورية؟"
"بخير والحمد هلل ،إال أنيا تعتب عميؾ ،فأنت لـ تزرىا منذ
أكثر مف عشرة أياـ".
"ونتغذى معاً".
"طبعاً اذكر الحاج عبد الرحمف ،رحمو اهلل .أوليس زياد ابنو
السياسي الذي كاف يسجف في كؿ أزمة؟"
"ىو نفسو .إال أنو ترؾ السياسة منذ سنوات طويمة ،وىو
اآلف أستاذ في كمية القانوف ،ولو خمسة أوالد ،أكبرىـ سيتخرج طبيباً
ىذا العاـ".
"الحاج أبو نوري ،جارنا القديـ ،وابنتو نورية التي تبنتؾ يوـ
كنت تقضي أوقات فراغؾ في سجوف العراؽ ومعتقبلتو".
"إنيـ لـ ينسوا أيامنا ،بؿ نحف الذيف نسينا .منذ سنتيف وأنا
أزورىـ باستمرار ،وحيف عرؼ الحاج أنؾ معي اليوـ ،أصر عمى
دعوتنا .كذلؾ ستكوف معنا الحاجة نجمة ،فيي في ضيافة الحاج
نوري"..
"طبعاً موافؽ .بؿ أني أحس بأياـ الماضي تسري دماً جديداً
في عروقي .مثؿ واحد مف أىؿ الكيؼ يعود إلى الحياة ..يا إليي..
أيمكف أف تتكرر قصة أىؿ الكيؼ في زمننا ىذا؟"
ربت غياث عمى كتفو" ،ىيا يا زياد .أرى الشباب بانتظارنا،
فمنذىب اآلف ،ونؤجؿ بعث أىؿ الكيؼ ساعةً".
سا ار نحف الشباب .لـ يكف بالقاعة إال بضع زوار ينيمؾ كؿ
منيـ بمشاىدة المعروضات .البعض يحمؿ كتباً ،وصحفي يكتب
مبلحظاتو في دفتر صغير ،ويصور الموحات التي يكتب عنيا .ال
أحد مف الحاضريف يرتدي مبلبس االحتفاؿ التي تمتمئ بيا أياـ
االفتتاح.
طاؿ صمتو حتى ارتبكت سندس ألنيا أحست أنيا ربما قد
تجاوزت الحد الذي تسمح لنفسيا بو إلبداء الرأي أماـ اآلخريف ،بؿ
ربما تيورت في مناقشة الموحة مع األستاذ غياث .ربما يفكر اآلف
أنيا ليست أكثر مف فتاة نزقة جرتو مف مشاغمو وفي يوـ راحتو ،مف
أجؿ لوحة .تمنت سندس لو أنيا لـ تقؿ شيلاً.
حديث رابية ىذا وجد صداه لدى سندس فقالت" ،نعـ ،يبدو
أنني فعبلً انتظر انتظارىا ىذا"..
تقدـ زياد خطوة وقاؿ" ،ىو اليأس إذف؟" رفع كتفيو وىز
رأسو" ،أال نرى غير اليأس في حياتنا ىذه؟"
ردت بحزف شفيؼ" ،لـ ال نقوؿ أنو الكفف الذي يمفيا ويشؿ
حركتيا؟"
رد عمي اسماعيؿ" ،بضحكة فرح ،أو بزىرة تتفتح ،أو حب
شاب!!" ونظر إلى سندس التي تحاشت نظرتو وقد احمرت وجنتاىا.
قاطعو غياث" ،أو ربما كانت أكثر وعياً لحقيقة الحالة التي
تعيشيا "..صمت برىة ،ثـ تراقصت البسمة في عينيو ،واتسعت
عمي التصديؽ بأنؾ يا سيدتي، لتصؿ إلى شفتيو" ،مع ىذا ،يصعب ّ
ترضيف بيذا الحد مف االستسبلـ ،فبل أرى فيؾ خيبةً أو يأساً"..
تنبيت رابية إلى أنيا قد جرتيـ إلى حوار بعيد عما كاف في
ذىنيـ ،واألىـ مف ذلؾ ،أنيا قد كسرت حاجز العزلة الذي تحتمي بو
منذ سنوات .ابتسمت لمشاب وقالت" ،أعتذر .معؾ الحؽ فيما تقوؿ.
يبدو أني قد تجاوزت حدود المياقة ،وأفسدت عميكـ المحاضرة .أعتذر
يا شباب ،واسمح لي يا أستاذ غياث باالنسحاب"..
"أدري أنؾ لـ تقصد يا ولدي ،فمست إال عجو اًز خرقة ،ترى
قضية في كؿ زاوية "..وأرفقت قوليا بابتسامة عريضة.
أشعؿ سيجارة جديدة ونظر إلى وجو زياد ،فوجد فيو حيرةً
مثؿ حيرتو .لـ يقؿ أي منيما شيلاً ،بؿ عاد األستاذ إلى الشباب
وحواره معيـ ،لكف ذىنو ظؿ مشغوالً بالعديد مف األسلمة :مف تكوف؟
ومف أيف جاءت رابية ىذه؟
بعد فترة سمعوا أذاف الظير مف الجامع القريب ،فبدأوا
بمغادرة المعرض .ما أف ودع غياث الشباب حتى استدار إلى زياد،
"ىؿ تعرؼ مف تكوف رابية ىذه؟"
ضحؾ زياد" ،كنت عمى وشؾ توجيو السؤاؿ نفسو .كبل ،ال
أعرفيا "..قاليا زياد بميجة آسفة" ،وال أظف أني سبؽ لي رؤيتيا مف
قبؿ ،إذ لو كنت قد رأيتيا لما نسيت ،فمدييا شخصية يصعب
نسيانيا"..
أدار زياد وجيو .نظر إلى الفراغ حيث كانت الدار" ،حيف
جلنا مف العمارة مع أثاث دارنا ،لـ تقدر سيارة الحمؿ أف تدلؼ إلى
الزقاؽ الذي كاف ،فوقفت بعيداً ،وحممنا األثاث عمى أكتافنا "..صمت
فتى أتـ الدراسة
زياد وأطمؽ زفرة حرى ،ثـ أردؼ" ،أيو ..كنت ً
المتوسطة ،مراىؽ يحمؿ ىموـ الدنيا عمى كتفيو!"
ربت غياث عمى كتؼ صاحبو" ،وما زلت ذلؾ الميموـ يا
زياد".
"نعـ ،راح الشباب وبقي اليـ معي "..تنيد مرة أخرى وراح
في تيويمة بعيدة .لـ يشأ غياث قطع سيؿ الذكريات الذي أغرؽ
صاحبو ،فيو أيضاً ،حيف عاد إلى المحمة بعد غياب سنيف ،لـ يقدر
إال أف يتوقؼ برىةً لينظر إلى الوراء ،إلى دالرة الذكريات.
أطمؽ زياد زفرة أخرى ،ثـ نظ اًر إلى اليميف واليسار ،وسار
متميبلً في وسط الزقاؽ ،وغياث يسير إلى جانبو مف دوف كممة" ،ىؿ
تذكر يا غياث سخريتكـ مف ليجتي الجنوبية ،وعدالكـ لي؟"
"نعـ أذكر .لكف عداءنا لـ يكف بسبب ليجتؾ ،إنما نفرنا مف
عزلتؾ عنا وعدـ مشاركتؾ المعب معنا".
"نعـ إلى فترة "..صمت زياد برىة ،ثـ أردؼ" ،لكف النعزالي
عنكـ سبب آخر ،فمقد كنت أتصور نفسي السياسي الوطني الوحيد
بينكـ .ولـ أشأ كشؼ سر انتمالي أماـ مف ال أثؽ بيـ".
"حتى انكشؼ السر يوـ داىمت الشرطة داركـ بحثاً عنؾ بعد
مظاىرات تأميـ السويس .كنا في المدرسة ولـ ندر ما حدث ،إال أنؾ
كنت مف اعتمى المسطبة وألقى فينا كممةً حماسيةً لدعوتنا لمتظاىر.
وحيف انتيى الدواـ رأينا نورية تقؼ عند باب المدرسة بانتظارؾ".
دخؿ غياث المقيى قبؿ صديقو .سمـ عمى الحاج ومف معو
في المقيى" ،السبلـ عميكـ".
قاؿ غياث" ،ىذا زياد عبد الرحمف يا عـ "،وتقدـ زياد إلى
الحاج الذي فتح لو ذراعيو .احتضنو وقبمو مف كتفو وىو يقوؿ" ،أىبلً
وسيبلً ،مالة أىبلً وسيبلً "..ود زياد لو ظؿ في مكانو يشـ عبؽ أبيو
مف كتؼ الحاج" ،كيؼ أنت يا ولدي؟ لـ ال تزورنا؟"
ربت الحاج عمى كتفو وقاؿ" ،عمى أية حاؿ ،سأعتب عميؾ
مف اآلف فصاعداً إف لـ تزرنا ،فنحف أىمؾ وناسؾ يا زياد ..تفضبلً،
تفضبلً".
"ال ،بؿ أنكـ ما عادت فيكـ القوة لكي تحمموا الحياة عمى
أكتافكـ ،اعتدتـ الحياة السيمة فصرتـ ال تتحمموف أية م اررة! الحياة يا
زياد فييا الحمو والمر ،ولوال م اررتيا لما عرفنا قيمة الحمو فييا "..ربت
الحاج عمى كتب غياث" ،ىيا ،لنذىب اآلف إلى الدار ،فنورية
والحاجة نجمة بانتظاركما ،ووجبة طعاـ مف إعداد نورية مع نكتة مف
الحاجة نجمة ،كفيمة بإزالة ىموـ الدنيا!"
تنبو غياث لنفسو وقد عاد ليفكر بيذه اإلنسانة التي رآىا
اليوـ ألوؿ مرة ،وقد ال يراىا مرةً أخرى ..أبداً .عبروا الزقاؽ إلى بيت
أبو نوري ،أو ما بقي مف بيت أبو نوري .فمنذ سنتيف ،ىدمت الدور
القريبة منو لفتح الشارع العاـ الذي قسـ المحمة شطريف .لـ تيدـ دار
أبو نوري لوقوعيا في داخؿ الزقاؽ ،لكف الميندس المسؤوؿ حذرىـ
آنذاؾ مف خطورة البقاء فييا" ،ألنيا آيمة لمسقوط "..وعرض عمييـ
بدالً نقدياً مناسباً عنيا .إال أف نورية رفضت ،رفضت مغادرة
المحمة ..أو ما بقي منيا .ووقؼ الحاج أبو نوري معيا في رفضيا.
ولدي الحاج .فمقد
ّ وظموا في دارىـ بالرغـ مف احتجاج نوري وطبلؿ
توسبل إلى أبييما وشقيقتيما لترؾ الدار ،إال أنيما لـ يمقيا أذنا
صاغية .وظموا جميعاً في الدار :الحاج ،ونورية ،مع نوري وزوجتو
وطفمية ،وطبلؿ وزوجتو.
لـ تفقد نورية عقميا ،لكف جممة واحدة ظمت تدور في ذىنيا
وال تفارقو ،وغطت عمى كؿ ما عداىا" ،لو ..لو أني رضيت بترؾ
الدار .لو أني وافقت ،لما فقدناىـ .لو لـ أعاند ،لكانوا جميعاً حولي.
لو لـ أرفض ...لو ...لو"..
تقدـ غياث منيا .قبمتو عمى وجنتيو" ،تعاؿ ألقبمؾ وأشـ فيؾ
رالحة الحبايب .كيؼ صحة أمؾ؟ أموت شوقاً لرؤيتيا".
"ىي بخير ،ومشتاقة لؾ .ما رأيؾ لو أخذتؾ اليوـ لتبقي
عندنا بضعة أياـ؟"
"ال عيني ال ،ال أقدر عمى مفارقة المحمة أكثر مف بضع
ساعات .لست مثمكـ ،ىجرتـ المحمة ولـ يبؽ فييا إال القميؿ مف
األحبة ،وتركتموىا لمغرباء".
قاؿ زياد بنبرتو الحزينة" ،يا حاجة ،زرعوا المو فما أينع
عودىا!"
طوؿ عمرؾ تصارع خيالؾ؟ إنؾ لـ تعرؼ الرضى يوماً .أذكرؾ طفبلً
كما أذكرؾ شاباً ،وىا أنذا أراؾ اليوـ .ال شيء يرضيؾ .ىؿ تظؿ
أسير الحنيف إلى الماضي يا زياد؟"
قاؿ بصوت يقطر بكؿ الحزف الذي يخفيو في ذاتو" ،طبعاً يا
حاجة أحف إلى الماضي .أحف إلى بيتنا ومحمتنا وألفتنا .وىا أني
اراىـ اليوـ ييدموف مدينتنا .إنيـ بيذا يقتموف عبؽ األياـ الحموة.
المدينة يا حاجة كالف حي يتنفس بأىمو .تتكئ الدار عمى ما
يجاورىا ،كما يتكئ الجار عمى جاره .األبنية وأناسيا يعيش الواحد
باآلخر ،ال أحد يعيش بذاتو ،بؿ ذواتيـ واحدة .نحف تيدمنا باليأس
وخيبات األمؿ ،واليوـ تتيدـ مدينتنا ،فما الذي بقي لنا؟"
مرة أخرى قاطعتو الحاجة نجمة بقسوة أكبر" ،بؿ ابؾ أباؾ
يا زياد ..أباؾ الذي لـ يفيـ أي منكـ ما الذي عاناه بصمتو .أباؾ
الذي اقتمعتموه مف أرضو في العمارة وجلتـ بو إلى ىنا .ومف ىنا
أردت ،أنت ،اقتبلعو مف جديد إلى الوزيرية .ابؾ بيتاً عاش فيو أبوؾ
ورفضت أف تعيش لتربي أوالدؾ بو ،ألنو عتيؽ "..صمتت الحاجة
برىة ،ثـ أطمقت ضحكة مدوية" ،ولماذا البكاء؟ وعمى أي شيء؟ لـ
يعد في أي مف بيوتنا فالدة ،كما لـ يعد فينا ،نحف ،أية فالدة .الزواؿ
ىو مصير البشر كما ىو مصير الحجر .مف أراد لبيتو أف يعيش،
عميو أف يعيش فيو ،وبو .أف يحيا معو .أصح يا زياد! األياـ تمر
سراعاً! عش حياتؾ ،فاليوـ الذي يذىب لف تعوضو بالبكاء .دع
الزماف يمعب بنا ،فمف انتيت أيامو عميو أف يفسح المجاؿ لغيره ،لكي
يعيش .نحف ومحمتنا راحت أيامنا ،فميكف اليدـ مصيرنا .ولنضحؾ
منو ألف اليدـ لف يطاؿ ذواتنا .لنضحؾ! فالضحكة ىي الباقية .ليمت
الماضي وأىؿ الماضي .فالحياة أكبر مف الماضي .ليكف المستقبؿ
ىو الباقي ،حتى لو لـ نكف نحف فيو .أليس كذلؾ يا غياث؟" نظرت
إلى غياث ،فشعت بسمة أنارت وجييا.
قالت الحاجة نجمة" ،كؿ ىذا يستغرؽ وقتاً طويبلً ،قد يصؿ
إلى ما بعد موتنا .عشر سنوات ،أو ربما أكثر ،فبل داعي لمقمؽ"..
صمتت الحاجة نجمة وأطرقت رأسيا" ،أتذكر حيف فتحوا شارع
الرشيد ،ظموا يحسبوف ويرسموف حوالي عشر سنيف ،ثـ بدأ العمؿ
بعدىا"..
ىز رأسو بأسى" ،ىذا الزقاؽ والذي يميو سوؼ ييدماف .إال
أف قسماً مف بيوت األزقة المجاورة سيتـ إصبلحيا ،كما ستبقى بعض
الدور لساكنييا"..
قاؿ الحاج أبو نوري" ،ما عمينا إال انتظار ما تجيء بو
األياـ ،ولف يقع شيء إال بإرادة اهلل "..ثـ استدار إلى نورية ،ليبدد
موجة الكآبة التي اجتاحتيـ" ،ىؿ غداؤنا جاىز ،أـ أننا دعونا الناس
لكي يجوعوا معنا؟"
"بؿ جاىز يا أبي "،ونادت عمى سعدية لتصعد ليـ بالغداء.
تناولوا وجبتيـ بيف مزاح غياث وعبثو مع الحاجة نجمة ،وتبغدد
الحاجة نجمة ودالليا عمى غياث .شربوا الشاي المعطر بحب الييؿ،
وغادروا دار الحاج ،بعدما وعدوا بتكرار الزيارة بأقرب فرصة.
صمت زياد بعد أف أطمؽ زفرة .لـ يقؿ غياث شيلاً ،فيو
بدوره غارؽ مع أفكاره .واصؿ زياد" ،ىؿ تذكر يا غياث حيف بنوا ىذا
المعرض عمى األرض الخالية أماـ دارنا ،حيث كنا نمعب الكرة،
وحيث كانت األراجيح تنصب في أياـ العيد ،فتزىو باأللواف وتضج
بالضحكات الطفولية .ثـ جاءت المعدات ،التي كنا نخاليا كبيرة حيف
كنا صغا اًر .أتذكر ذىولؾ أماميا .كنت ميووساً بيا .تتفرج عمييا ليؿ
نيار ،حيف تيدر مكالنيا ،وحيف ترتاح .حتى ضجيجيا كنت تطرب
لو وتقوؿ ،مف ىنا يبدأ التقدـ ،مف ىذه المكالف .لو استطعنا أف
نصنع مثميا ،لصار لنا أف نخمؽ المستقبؿ الذي نريد .أف نكوف سادة
أنفسنا .بيذه المكالف نكوف سادة أنفسنا ،وليس بالكممات! ىؿ تذكر يا
غياث؟"
تنيد غياث ،ورد بنبرة حزف" ،نعـ ..كؿ شيء سيكوف جديداً،
لؤلسؼ".
ضحؾ زياد ،ورد" ،لـ تعرفو يا غياث حيف كاف يزىو بقامتو
في أزقة العمارة .لـ تعرفو حيف كانت الريح تعرفو .حيف كانت
العصافير تعرفو .كاف يستيقظ قبميا ،ويذىب إلى زرعو ..بيديو كاف
يزرع األرض ".تنيد ثـ أردؼ" ،حيف كنا صغا اًر كاف يقوؿ لنا( ،ىذه
المكالف التي ترونيا ،جاء بيا اإلنجميز لتيدـ أرضنا وتقتميا .فاألرض
جاء صوت زياد" ،أراد أخي سعد أف يدرس الطب .لكف أبي
رفض ،وقاؿ لو( ،إنؾ لف تطبب أىؿ مدينتنا ،بؿ ستعيش لتخدـ أىؿ
بغداد ،وأنا أريدؾ بيننا في العمارة ..ىنا ،في ىذه األرض .لو درست
الزراعة منحتؾ أرضي ىذه ىدية تخرجؾ ،وأعنتؾ في زراعتيا)..
ودخؿ سعد كمية الزراعة ،وتخرج منيا .ومع أنو تزوج مف فتاة
بغدادية ،إال أنو جاء بيا إلينا وعاد ليزرع أرضو .عاد سعد ومعو
المكالف الجديدة التي اقترض ثمنيا مف المصرؼ الزراعي ،ورىف
األرض لضماف السداد .وحيف اعترض أبي عمى رىف األرض ،وعمى
المكالف ،ىدده سعد بالعودة إلى بغداد إف لـ يسمح لو أف يزرع
األرض كما عمموه في الجامعة .إذ ما فالدة العمـ ما لـ نطبقو نحف؟
كاف أبي فخو اًر بسعد ،ألف سعد ابنو البكر ،وأوؿ جامعي مف
عشيرتنا .ورضي أبو سعد أف يفترع سعد أرضو بمكالنو الغريبة .لكف
أبا سعد ترؾ الزراعة .قاؿ أنو تعب مف الزرع .ترؾ أبي الزراعة في
اليوـ الذي دخمت فيو الماكنة إلى أرضو ..لـ نفيـ يا غياث .كنا
أجيؿ مف أف نفيـ"..
ودع الحاج أبو نوري ضيفيو إلى باب الدار وعاد إلى
(المرصد) ،حيث اعتادت نورية الجموس ،ومعيا اليوـ الحاجة نجمة.
تمدد عمى األريكة ،وأسند مرفقو عمى الوسادة العالية ،ويده األخرى
تداعب حبات سبحة الكيرب .ظمت نورية جالسة عمى أريكتيا قرب
النافذة المطمة عمى الزقاؽ .والحاجة نجمة غمبيا النوـ فأغفت في
مكانيا .الكؿ يعرؼ أف الحاجة نجمة يمكنيا أف تناـ في أي وقت
وأي مكاف ،فيحترـ الكؿ نومتيا ،فتخفت أصوات الحديث وصوت
المذياع .حتى الصغار يخؼ ضجيج لعبيـ إف كانوا في الدار،
فالحاجة نجمة نالمة!
رد بغضب مكتوـ" ،ذلؾ ما أظنو ،فمذ أدرؾ أىؿ المدينة أف
سيطر عمى المحمة مرشحة لئللغاء ،حتى صارت كعبة ليـ"..
غضبو" ،استغفر اهلل ،استغفر اهلل ،استغفر اهلل "..صمت الحاج وظؿ
يستغفر لمكممات التي غافمتو ونطقيا .زادت سرعة سقوط حبات
السبحة بيف أصابعو" ،يأتوف لزيارة المحمة والمعرض أفواجاً أفواجاً.
منيـ مف يتجوؿ فييا ويصور أبنيتيا ،ومنيـ مف يسير في األزقة لكي
يطبع صورتيا في ذاكرتو .أغمبيـ يحس أف جزءاً منو سيموت ولف
يراه مرة ثانية"..
تنيدت وىزت رأسيا بحيرة" ،ال أدري يا أبي ..لـ أعد أدري.
أحس أني أتمزؽ بيف حبي ليذه المحمة والدار ،ونفوري منيما بسبب
ما قد حصؿ ".ىزت رأسيا مرةً أخرى" ،ومع ىذا ،وبالرغـ مف كؿ
الدمار والتشتت الذي تبله ،أجدني أميؿ لمبقاء فييا ..كـ تمنيت لو
مت ميتة حمدية زوجة نوري "..صمتت نورية وطفرت دمعة لـ
تمسحيا ،بؿ تركتيا تنحدر عمى خدىا ثـ سقطت عمى سواد ثوبيا
الذي لـ تتخؿ عنو منذ موت حمدية زوجة أخييا وطفميو .ظبل
صامتيف والحيرة بادية عمى محياىما.
ردت نورية" ،ذلؾ ما أحسو كمما ازرنا غياث .أما زياد ،فيذه
أوؿ زيارة لو مذ ترؾ المحمة ،حتى ظننت أنو نسينا ونسي أيامنا"..
ىزت الحاجة نجمة رأسيا بأسى وىي تتذكر خشية زياد أف
يمسو شيء مف غبار الجدراف العتيقة فيموث مبلبسو .وطريقتو في
اإلمساؾ بصحنو بطرؼ أصابعو .وكيؼ ظؿ ينظر حولو باستغراب
كمف لـ يعرؼ ىذه المحمة مف قبؿ" ،كاف البد مف زمف لكي يعود إلى
جذوره"..
رد الحاج بنبرة تأمؿ" ،حتى غياث ،حيف عاد إلينا آنذاؾ كاف
أشبو بالغريب ".ىز رأسو" ،كؿ منيـ يحتاج إلى بعض الوقت لكي
ينفض عنو ما عمؽ بو مف زيؼ ،لكي يعود إلى جذوره"..
ابتسمت الحاجة نجمة وقالت بعد برىة" ،أتدروف يا جماعة
الخير ..غياث لـ يتغير عما كاف عميو في طفولتو ..ما يزاؿ بالمرح
نفسو والذكاء والحناف"..
ضحكت نورية وىي تتذكر الحادثة .قاؿ الحاج أبو نوري" ،لـ
أعرؼ أف غياث يصمي في الجامع"..
ضحكت" ،طبعاً"..
ضحكت نورية حتى دمعت عيناىا" ،لـ أعرؼ السر إال بعد
حوالى شير ..فغياث يعترؼ لي بكؿ أس ارره ،ولكف في الوقت الذي
يختاره ىو .وأنا لـ أعتد أف أسألو ،بؿ أترؾ لو اختيار الوقت الذي
يناسبو "..رشفت نورية شاييا وأتمت حكايتيا" ،تبيف فيما بعد أف
غياث ضعيؼ في مادة التاريخ ،وقد اعتاد مدرس التاريخ أف يصمي
الظير في جامع محمتنا لقربو مف المدرسة .ليذا ظؿ غياث يواظب
عمى صبلة الظير في الجامع لكي يرضي مدرس التاريخ"..
"لكف لماذا؟"
قاؿ الحاج" ،يا سبحاف مغير األحواؿ ..مف يرى غياث اليوـ
ال يمكف أف يصدؽ عنو ىذه الرواية يا نورية"..
ىز الحاج رأسو وأكمؿ شرب شايو .نيض وبدؿ ثيابو في
غرفتو وعاد ليقوؿ وىو في طريقو إلى الخارج ،إني ذاىب إلى
المقيى ،ىؿ تحتاجوف شيلاً؟"
"سبلمتؾ"..
نورية إنسانة متميزة .ىي أكبر أبناء الحاج .كانت أشطر فتاة
في صفيا ومف ألمع طالبات المدرسة .كانت تأمؿ أف تكمؿ
المتوسطة لتدخؿ دار المعممات ،فتصير معممة ،إال أنيا بعد نجاحيا
إلى الثالث المتوسط ،توفيت أميا أثر والدة أصغر األبناء ،طبلؿ ،فمـ
يكف أماميا سوى ترؾ الدراسة لكي تشغؿ موقع األـ في رعاية الوليد
وبقية األخوة واألخوات وادارة شؤوف البيت.
لـ تتذكر نورية يوماً ،ولـ تشتؾ .بؿ صارت أماً لمجميع.
استطاعت الفتاة اليافعة أف تدير األمور بحزـ وابتسامة .لـ ترفع
صوتيا عمى أي منيـ ،كما لـ يعص أحد ليا أم اًر .ثـ امتد نفوذىا
إلى أىؿ المحمة ،فصاروا يحسبوف حسابيا .يستشيرىا الكبار قبؿ
الصغار ،في مختمؼ أمورىـ .صارت نورية ،الفتاة الشابة ،ىي الخالة
نورية ،حتى بالنسبة الوللؾ الذيف ال يزيد عمرىا عنيـ إال بضعة
أعواـ .احتمت ،بحكمتيا ،موقعاً متمي اًز في المحمة .وبحنانيا شغمت
موقع األـ واألخت بينيـ.
"بؿ أفضؿ البقاء معؾ ىنا .اسمعي ،ما رأيؾ بفنجاف قيوة
وبعض مف ذكريات الطفولة نستعيدىا بجمسة ىادلة ،فأنا لـ أرؾ مف
زمف"..
ضحكت سنا" ،لـ تريني منذ زمف ألنؾ معتكفة منذ زمف..
مع ىذا ،ال بأس ..طفولة ،شباب! قيوة أو شاي ،ال بأس .سأشرب
القيوة معؾ ،لكنؾ ستأتيف معي إلى افتتاح معرض ىاني مسعود".
ىزت رابية رأسيا بأسى" ،أدري ،فبل حديث اليوـ إال حممة
اليدـ ىذه .كما صار الكؿ ييتـ بالفف ،ألف قاعة المعرض ستيدـ مع
كؿ ما حوليا"..
ساد الصمت لمدة ،ثـ قطعتو سنا بضحكة مدوية وىي تقوؿ،
"ىؿ تذكريف أننا حيف ذىبنا لممعرض أوؿ مرة ،اقترضنا دينا اًر مف
زميمنا سعيد ألننا خشينا أف الدخوؿ إلييا يتطمب دفع ثمف التذاكر،
وكنا قد أنفقنا ما لدينا لشراء الكتب واالسطوانات"..
ضحكتا معاً ،ثـ قالت سنا" ،وكاد أبي أف يقتمني ألني لـ
أكف قد أخبرتو أني سأبيت عندكـ ،ولوال تدخؿ والدؾ ،الذي أقنعو،
فعفا عني"..
"كبل يا رابية ،لف تقنعي نفسؾ بيذا ،فما زالت جذوة الحماسة
مشتعمة في أعماقؾ ،بالرغـ مف ميزاف التعقؿ الذي تفرضينو عمى
نفسؾ ،وعمى الرغـ مف العزلة التي تتستريف بيا .إني متأكدة أف كممة
واحدة ،تقدر أف تعيد ل اربية حماستيا المجنونة تمؾ!"
"أنت حرة! أما أف تخرجي لمعالـ ،أو أجيء بالعالـ إليؾ ..لؾ
أف تختاري".
جينز وبموزة قديمة ،وتعقد شعرىا بخيط .وكؿ ىذا ليس جديداً
عميؾ "..سحبتيا مف يدىا" ،ىيا ..لنذىب"..
بدا عميو شيء مف االستغراب" ،أال تقرأيف لي؟ أنا أكتب في
العديد مف الصحؼ والمجبلت"..
"نعـ قرأت لؾ ،وما زلت يا محسف كما عيدتؾ ،تدور حوؿ
الفكرة وتخشى البوح حتى باألفكار البسيطة .كؿ شيء عندؾ كبير
وسري"..
وعظيـ ّ
"ال واهلل ،إني جاد ىذه المرة .أريد رأيؾ ألني متأكد أنؾ ال
تجامميف ،بؿ تقوليف ما يجوؿ في ذىنؾ مف دوف مداورة .وأنا شبعت
مف مجاممة اآلخريف وقبوليـ بكؿ ما أفعؿ أو أكتب"..
"االثنيف معاً"..
كتؼ رابية" ،يبدو أنؾ يا غياث تعرؼ كؿ أىؿ بغداد ،فتحرمني دوماً
مف متعة تعريفؾ بأصدقالي "،وسحبت رابية" ،الدكتور زياد عبد
الرحمف ،أحمد صالح ،لبنى عبد القادر ،سعاد ..وطبعاً غياث"..
صافحتيـ رابية" ،أقدـ لكـ صديقة عمري ورفيقة أيامي الماضية
والحاضرة ،رابية صقر الحمود".
لـ تسعفيا سنا ،بؿ ضحكت ولـ ترد .قاؿ غياث ليقطع عمييا
طريؽ اليروب" ،ىا ىو ىاني يتقدـ منا "،صافح ىاني" ،أىبلً ىاني"،
وضع يده عمى كتؼ ىاني وأردؼ" ،رابية ترفض اإلفصاح عف رأييا
بمعرضؾ ،وتقوؿ أنيا أخبرتؾ برأييا ،وال تود الدخوؿ في التفاصيؿ"..
لـ يخفؼ غياث مف استف اززه" ،في قولؾ ىذا مجاممة ال تشبو
حوارنا السابؽ حوؿ رموز نرجس ولوحاتيا "..عيناه مركزتاف عمى
عيني رابية ،وىي تحس بوقعيما" ،ىؿ يعود سبب المجاممة ىذه إلى
وجود ىاني بيننا؟"
حاولت أف تظؿ بعيدة عف تأثيره الغريب عمييا ،فقالت وىي
تبذؿ جيدىا ليظؿ صوتيا ثابتاً ،يحمي بيدولو اضطراب أعماقيا،
"سبؽ أف قمت لبلستاذ ىاني أف ألوانو رالعة "..ونظرت في عيني
غياث" ،أما رموز نرجس فتمؾ مسألو أخرى "..زادت مف شحنة
التحدي في نبرتيا" ،نرجس ليست ألواناً ،بؿ قضية ،وليس ثمة تشابو
بيف الحالتيف"..
ردت رابية عمى الفور" ،أوالً ،لست أستاذة ،فقد قمت لؾ أني
إنسانة بسيطة ال أفيـ الفف ،بؿ أحسو .ثانياً ،موضوع النقاش الذي
ذكره غياث لـ يكف حوؿ لوحات نرجس ،بؿ قضية المرأة المستمبة
التي عبرت عنيا لوحات نرجس ،ربما مف دوف أف تتقصد ذلؾ ،لكنيا
عبرت عنيا"..
تقدـ زياد خطوةً وقد أثار غيضو إصرار ىذه اإلنسانة عمى
اعتبار نرجس قضية" ،أية قضية ىذه التي تحمميا نرجس؟ ىذه
الفنانة ،يا سيدتي ،ال تزيد عف كونيا امرأة يقتميا الفراغ .قد تكوف
نرجس فنانة عظيمة ،لكف الحديث عف (القضية) في فنيا ورموزىا،
فيو مبالغة كبيرة ،إذ كيؼ يمكف أف تفترضي أف ليا قضية؟ ماذا
تقوليف إذف بشأف لوحات عمي النذير؟"
رد زياد" ،ال نريد أف نثقؿ عميؾ بالزيارة ،مف األفضؿ أف
نذىب عندي"..
تميؿ غياث في سيره حتى صارت رابية بموازاتو ،قاؿ" ،لست متأكداً
مف معرفتي الطريؽ إلى بيت سنا ،فيؿ لؾ أف تدليني عميو؟"
"شك اًر ،أني عمى عجؿ ،سأمر عميكـ قريباً إف شاء اهلل"..
وصعد غياث إلى سيارتو .وقفت رابية تنتظر أف يفتح ليا الباب
األخرى .سمعت الشيخ يقوؿ" ،غياث ال يقفؿ أبواب السيارة ،فيي
بأماف ىنا".
لـ يقؿ غياث شيلاً .ولـ تقؿ رابية شيلاً ،إال أف كبلً منيما
أحس بوجود تيار غريب يمؤل السيارة ،كما يسري في عروقيما .مثؿ
رجؿ وام أرة يختمياف في غرفة منعزلة.
ما أخطأ غياث طريقو نحو بيت سنا .ولـ تنبس ببنت شفت
لتدلو عميو .ظبل بصمت مشحوف حتى وصبل .أوقؼ السيارة.
استدارت إليو" ،وصمنا"..
لـ يرد عمييا ،كما لـ ينظر إلييا .ىؿ ىو غاضب منيا؟ أـ
مف نفسو؟ أطفأ محرؾ السيارة ،نزلت ونزؿ بدوره ودخبل بيت سنا.
الكؿ وصؿ قبميما .استقبمتيما سنا وىي تقوؿ" ،أكيد تجوؿ بؾ غياث
في كؿ الشوارع قبؿ أف يأتي إلى ىنا!"
تحاشت رابية الرد المباشر عمى صديقتيا " ،بؿ أنت مف
نسي أني جلت معؾ ،عمى أية حاؿ الموسيقى في سيارة غياث
أفضؿ مف الجداؿ الذي كنت سأسمعو في سيارتؾ ،وأكثر ىدوءاً"..
لحقت رابية بسنا لتعاونيا في إعداد وجبة طعاـ خفيفة ،وحيف لـ ترد
سنا ،أردفت" ،ثـ أني لـ آت معؾ ،ألني أحسست أف خالد يرغب في
أف يكوف وحده معؾ ،وال داعي لوجودي بينكما ،فمعؿ وعسى"...
لـ تشأ رابية إطالة النقاش مع سنا ،ألنيا تعرؼ أف سنا قادرة
عمى قراءة أفكارىا ،وىي ال تريد أف...
كاف زياد أوؿ مف جمس أرضاً بعدىا .مد يده إلى صحف
الجبف وأكؿ قطعة منو ،ثـ قاؿ" ،حاولت طوؿ الطريؽ أف أجد تشابياً
بيف رموز نرجس والنذير ،فما وجدت! حاولت فيـ ما قصدت بقولؾ
بوجود تشابو بينيما ،وما توصمت لشيء"..
مناىـ..
جمعوا سوا قمبيف ،والحب ّ
ظؿ زياد صامتاً يفكر بما قالتو .سمعت صوت غياث" ،لكف
االنتظار ىنا ليس إال اختيا اًر .لقد اختار النذير حالة االنتظار عف
وعي ،فيو إذف إرادة وليس قد اًر ".أدارت عينييا فالتقت بعيني غياث،
"قد يكوف في االنتظار شيء مف السمبية ،لكف حتى السمبية ىي
اختيار .مف يختار أف يكوف مسموب اإلرادة ،فميس ىذا إال ذنبو،
ومف يختار تعذيب الذات ،فبل يمومف سوى نفسو"..
أدار زياد عينيو بيف غياث ورابية ،فيو لـ يعد متأكداً مف
موقؼ صديقو في ىذا النقاش الدالر ،أىو مع رابية ،أـ معو .لـ
يتمالؾ نفسو مف طرح السؤاؿ" ،مف تعني بما تقوؿ يا غياث؟ ىؿ
تعني نرجس ،أـ النذير؟"
لـ يدر غياث إال وىي تجره إلى اتخاذ موقؼ ،وما ىو راغب
بأكثر مف استفزازىا لكي يعرؼ موقفيا ،أكمؿ جممتيا بالقوؿ" ،الفرؽ
ىو أف أنثى نرجس تستسمـ وتنتظر ،في حيف يبقى إنساف النذير
يعاني ويقاوـ .قد يتشابو اليأس لدييما ،لكف الفرؽ كبير بيف أف يظؿ
اإلنساف يتعذب ويقاوـ ،أو يتمذذ ويستسمـ قبؿ خوض أية معركة .ليذا
اعتقد أف مجاؿ المقارنة بينيما صعب"..
التزمت رابية الصمت وىي تنظر بعيداً .لـ يقؿ زياد شيلاً.
انتظر غياث ردة فعميا ،فصمت بدوره .ىزت رابية يدىا التي تحمؿ
السيجارة ،فسقط الرماد عمى السجادة ،ال ..ال ..الفرؽ بينيما ىو
الفرؽ بيف المرأة/األنثى مف جية ،واإلنساف مف الجية المقابمة"..
لـ تقتنع سنا بموقؼ رابية" ،لكنؾ تنسيف أف ىذه األنثى التي
تنفيف عنيا الصفة اإلنسانية ،ىي إنسانة تعطي ،وتعطي ببل حدود،
لكف مف يعطييا بالمقابؿ؟ إنيا أنثى نيمة لمعطاء ،فيؿ مف نياية
لعطاليا ،أـ أف مف يعطي عميو أف ال ينتظر عطاءاً مقاببلً؟"
تثالبت سنا" ،ىؿ بقيت فيؾ قدرة عمى الحديث بعد كؿ
النقاش مع غياث؟"
ربتت رابية عمى يد سنا الممدودة عمى المالدة" ،ال تنسي يا
سنا أف لكؿ منا أخطاءه .أنت أيضاً لؾ أخطاء ،فإف قبمؾ خالد بكؿ
ما فيؾ مف أخطاء ،أليس بإمكانؾ قبولو عمى ما ىو عميو؟"
شرقت سنا بدموعيا" ،لو كنت مكانو لما ضيعت نفسي .إنو
يتمزؽ كمما سمع أنباء القتاؿ الدالر في لبناف .يتمنى لو كاف بينيـ.
لكنو يكابر .حتى في ىذه يكابر أف يعترؼ بحقيقة أنو يتمنى لو كاف
"ألف خالد ىذا ليس نفسو خالد السعد! أنا أريده أف يكوف كما
ىو ،مف دوف زيؼ"..
"سنا ،خالد يختمؼ عنؾ بكؿ شيء .إنو إنساف ىادئ يحب
العزلة ،فيؿ أنت مستعدة لمتخمي عف حياتؾ االجتماعية الحافمة وعف
أصدقالؾ ألجمو؟"
لـ تحر رابية جواباً .ساد الصمت بينيما .عمر طويؿ عاشتو
ك ٌؿ منيما ،وظمت ىذه الصداقة عمى متانتيا .يرى البعض فييما
نقيضتيف ،ويرى البعض اآلخر ثمة تماثبلً بينيما .ولكف ،تعرؼ كؿ
منيما أنيا تختمؼ عف األخرى ،لكف المحبة تزيد مف التفاىـ بينيما.
ليستا بحاجة إلى الكممات لتتفاىما ،قد تصمتاف لمدة طويمة ،ولكؿ
منيما عالميا البعيد والقريب في آف واحد ،ثـ ييدر الحوار فجأة .مف
أيف يبدأ ىذا الحوار ،وأيف ينتيي؟ ال تستطيعاف التكيف بذلؾ.
"لف أتحمؿ"..
ما عاد بإمكاف أياً منيما أف تجرح األخرى أكثر مما فعمت.
لكف مع كؿ القسوة التي تصاحب حديثيف ،إال أف كبلً منيما تحتاج
إلى األخرى لتفيـ نفسيا ،ولتيرب مف نفسيا .ىذا التواصؿ الحي
بينيما مرىؽ لكمييما ،ومع ذلؾ فيو ضروري ،لكمييما.
"ماما ،لـ التؽ بسنا منذ مدة ،وقد جرنا الحديث ..وكاف معنا
بعض األصدقاء ..ال تقمقي أرجوؾ .صداعي ال عبلقة لو بسيري مع
سنا".
سمعت جرس الباب .لـ تكف تتوقع أحداً ،لكف ربما كانت
سنا .فتحت الباب واذ بزياد يقؼ أماميا .فوجلت رابية" ،أىبل زياد،
تفضؿ"..
دخؿ زياد معيا ،سمـ عمى األـ التي كانت تجمس قرب
النافذة المواجية لمشمس .صحبتو رابية إلى ركنيا المفضؿ في غرفة
الجموس ،حيث كتبيا وتسجيبلت موسيقاىا ،وبضع مساند مرمية
أرضاً ،ومنافض لمسجالر" ،ىذه الركف أسميو بيتي ،فيو ما أحب..
أشيالي الصغيرة ،ىؿ تحب الجموس ىنا ،أـ في غرفة الضيوؼ؟"
ألف يترؾ خالد كذبو؟ لماذا يعدىا وىو يدري أنو لف يحافظ
عمى وعوده؟ ما الذي ستفعمو؟
"وىاتو النسوة؟"
ذىبت إلى قرية نالية ليس فييا إال أناس بسطاء طيبوف.
تركت وراءىا الجامعة واألصدقاء واألىؿ وصخب بغداد والدكتورة سنا
حامد .لـ تأخذ إال حقيبة صغيرة فييا األشياء الضرورية ،ومجموعة
أوراؽ بيض لكي تحاور نفسيا عمى ورقيا الصقيؿ ،وبضعة أقبلـ
وروايات مف تمؾ التي يسمييا غياث كتب المتعة السيمة ،ومسجؿ
صغير وبضع تسجيبلت لموسيقى ىادلة .وذىبت لتمتقي مع سنا.
"لقد فعمت ،لكنيا المرة الثانية التي يطمبؾ ىذا اليوـ ،قمت لو
أنؾ نالمة ،لكنو أصر ىذه المرة عمى الحديث معؾ ،قاؿ خبرييا أف
غياث"...
فوجلت األـ بما ط أر عمى ابنتيا ،فيي لـ تعتد منيا مثؿ ىذه
الميفة" ،نعـ ،ىذا ما قالو"..
"إني أحاوؿ االتصاؿ بيا منذ أوؿ أمس .لقد أبمغوني أنيا
جاءت إلى الجامعة وسألت عني لكنيا لـ تنتظر .اتصمت بيا بعد
الظير ،وعاودت االتصاؿ في المساء ،فأبمغتني زوجة أخييا أنيا
ذىبت في سفرة قصيرة ،واآلف ال أحد يرد عمى الياتؼ في بيتيـ.
سألت خالد فقاؿ أنو ال يدري شيلاً .ولو أني متأكد مف نبرة صوتو أنو
يعرؼ شيلاً وال يريد التصريح ..إني قمؽ جداً يا رابية".
بدار سنا فمـ يرد أحد .تصاعد قمقيا .اتصمت بخالد .كاف أكثر قمقاً
منيا وال يدري أيف سنا .سألتو إف كانا قد تشاج ار مرة أخرى ،فأجاب،
"رأيتيا صباح أوؿ أمس .كانت بسيارتيا .أشارت لي بالتحية ولـ
تتوقؼ ،كما لـ أستطع المحاؽ بيا .ىاتفتيا في البيت ،وعمى الصراخ
بيننا ،كالعادة ،وأغمقت الياتؼ في وجيي ،ثـ فشمت في االتصاؿ بيا
بعد ذلؾ .ولـ أعد أدري ما أفعمو"..
لـ تعد تدري ما الذي يمكنيا القياـ بو بعد ذلؾ .أي جنوف
اعترى سنا؟ ما الذي يمكنيا أف تفعمو لمعثور عمييا؟ أيف تبحث عنيا؟
الكؿ يسأليا عف سنا ،وىي ال تدري أيف سنا..
"سنا بخير .كانت بحاجة ألف تبتعد عنا جميعاً ،ولشدة خوفي
عمييا ،أعطيتيا عنواف عالمة طيبة مف معارفي تعيش في منطقة
بعيدة ،لكي تذىب إلييـ وتمضي عندىـ بعض الوقت .كاف ذلؾ ىو
ما أرادت ،وحاولت تحقيقو ليا .آمؿ أف ال أكوف قد أسأت إلييا مف
حيث ال أدري"..
"سأفعؿ".
"إلى المقاء".
"غياث؟"
"أىبلً رابية ،كيؼ أنت؟"
"أرجوؾ رابية .إذ مذ عرفت ىند بصداقتنا وىي تمح عمينا أف
نعرفيا بؾ .وىذه مناسبة معقولة لمتعارؼ .فضبلً عف ذلؾ ،سيكوف
بيتيا مميلاً بالزوار مف كؿ صنؼ ولوف ،حتى أنؾ لف تشعري بأية
غربة ىنا "..صمت برىة ،ثـ أردؼ بما يقرب مف اليمس" ،ثـ أني
سأكوف معؾ "..سرعاف ما غير نبرتو وأضاؼ" ،وزياد كذلؾ"..
لـ يترؾ ليا فرصة لمتردد ،فرد بحزـ" ،بؿ تدريف .إنؾ ال
تعرفيف دارىا ،ليذا سوؼ أمر عميؾ لنذىب معاً .ىؿ تكفيؾ ساعة
الرتداء مبلبسؾ؟"
صمت فقد كشفت سره .ىو بالطبع يعرؼ دارىا ..ومنذ مدة
طويمة .إذ بعد أف أعيتو الحيمة ليعرؼ عنيا أي شيء بعد المقاء
األوؿ معيا في المعرض ،ظؿ يردد اسميا في كؿ فرصة أماـ معارفو
حتى عرؼ أنيا صديقة زميمتو الدكتورة سنا حامد ،فعرؼ منيا
الكثير ..الكثير عف رابية .لكف ىؿ يخبرىا أنو يعرؼ دارىا ،أـ
يتظاىر بالجيؿ؟ أحس في سؤاليا بعض المكر ،فيؿ تقصد بقوليا
أنو لـ يزرىا بعد ،أـ ماذا؟
قطعت رابية تردده بضحكة مرحة" ،اسمع يا غياث ،ىؿ تريد
عمي الوقت وأنت تضيعو بصمتؾ لكي تقوؿ أف النساء ال أف تحسب ّ
يمتزمف بموعد؟ سأنتظرؾ بعد ربع ساعة .إلى المقاء".
بعد مرور بضعة أشير جاء أبوىا مستبش اًر" ،ىند ،ىؿ
تذكريف حديثنا عف مناؼ ،ابف السيد كامؿ الحسيني؟"
"إذف؟"
لـ تعترض ىند ،ألف أية حياة أخرى البد أف تكوف أفضؿ
مف حياتيا الراىنة .ورفقة أي إنساف ستكوف أىوف عمييا مف الفراغ
الذي تعيشو .رضيت بالزواج مف مناؼ ،وتمت اإلجراءات بيدوء،
ساف ار بعدىا إلى حيث التحؽ مناؼ بعممو ،وىي بحياتيا الجديدة.
في ىذا اليوـ الربيعي ،يوـ عيد ميبلد ىند الصالح ،قالت،
"لقد ولدت مع أوؿ أياـ الربيع ،وبعد قسوة الشتاء وقبؿ حموؿ الصيؼ،
إلي .فاهلل يبعث لي أوؿ زىرة ربيعية كؿ
يأتي يوـ ميبلدي بيدية الرب ّ
عاـ"..
مد غياث يده بباقة الورد لكي تحمميا رابية ،إال أنيا سحبت
منيا وردة واحدة ،ربطت حوليا شريطاً تدلت منو بطاقة صغيرة
ربطتيا بشريط بموف الوردة .وأعادت لو باقة الورد ليحمميا.
"وكمنا بخير وسعادة .شك اًر لمجيلؾ اليوـ ،فمقد سمعت الكثير
عنؾ مف غياث حتى ليخيؿ لي أني أعرفؾ منذ زمف بعيد ".لـ تعرؼ
ضف
رابية بـ ترد ،فأردفت ىند" ،وودت مقابمتؾ منذ مدة إال أف غياث ّ
عمي بمقالؾ".
ّ
مدت رابية يدىا بالزىرة التي جاء بيا غياث ،فأخذتيا ىند
وتنشقت عطرىا ثـ شكرتيا .بقيت تحادثيما حتى زاؿ بعض ارتبؾ
رابية ،وجاء ضيوؼ جدد فذىبت ىند لترحب بيـ.
مشتتة بيف األضداد .أف تكوف وال تكوف في آف واحد .ترى بعضاً
منيا في كؿ منيـ .تساءلت مع نفسيا ،ىؿ ىي أنانية؟ ولـ تعرؼ
الجواب .ربما ىي كذلؾ .ما ىي المحبة؟ أليست ،كما قالت سنا في
يوـ ما ،أنيا العطاء ،أنانية العطاء .أف تمنح ما في نفسيا مف دوف
انتظار المقابؿ .تكفييا ابتسامة دافلة ،ونظرة خاطفة لكي تمد يدىا
وتعطي لآلخر روحاً تييـ في ٍ
عالـ متناقض.
لتحيتو فابتسـ وتقدـ منيا .سحب كرسياً وجمس إلى جوارىا" ،سبلماً
رابية .ما لي أراؾ ساىمة كمف أضاع سفتو؟ أيف وصمت سفنؾ
التالية؟"
ضحكت برقة" ،ال أريد منؾ تبري اًر أو ذرالع يا زياد .أنا ال
أعاتبؾ ..أال تفيـ يا زياد أني ال أحب العتاب ،ألف فيو التزاماً
والزاماً .وأنا ال أحب أياً منيما .كما أكره البرمجة واألحاديث مسبقة
الحفظ ".نظرت إليو بمؿء عينييا" ،ال أعاتبؾ يا زياد ،لكني أشتاؽ
لمصديؽ الذي افتقدت وجوده منذ زمف بعيد ،ال غير "..نظرت إلى
األرض الترابية تحت قدمييا" ،أما حيف نمتقي بيف حشود البشر ،فبل
تعود أنت زياد نفسو ،وال أنا رابية نفسيا ..ليذا"..
"تعمميف أني أريد المجيء إليؾ دوماً ،لكف ثمة الكثير مما
يمنعني ،وليس مف بيف ىذا الكثير أني ال أرغب برؤيتؾ"..
"ليذا قمت لؾ قبؿ قميؿ أني أكبر جبانة ..إذ كمما فكرت
بنشرىا يتعاظـ خوفي"..
نظرت ىند إلى زياد" ،زياد بدوره يتحاشى الزحاـ ،ليذا أراكما
اخترتما االنزواء ىنا"..
ردت رابية بيدوء وىي تتحاشى النظر إلى غياث" ،لف يفعؿ
شيلاً .حيف يرتاح غياث ،فمف يكوف غياث نفسو ".استدارت إلى زياد،
"أال ترى يا زياد ،أف يوـ استراحة واحد يجعمو عبوساً؟" ثـ نظرت إلى
غياث .نظرت في عينيو وىما تنظ ارف إلييا نظرة عجزت عف فيميا.
يستيوييا النظر إلى غياث ،تتنازعيا الرغبة في استف اززه ،وارضالو.
تريد الدنو منو ،واليرب منو في الوقت نفسو.
أدركت رابية أنيا تعجمت بقوليا ىذا ،فصمتت .ىي تريد أف
تفكر بكؿ كممة تقوليا حيف يكوف غياث حاض اًر ،إال أف مشكمتيا أنيا
معتادة عمى قوؿ ما يخطر في ذىنيا ،مف دوف ٍ
ترو .لقد وصفيا
غياث بالقوؿ" ،رابية تفكر بصوت مسموع "..وىي تعرؼ أف لسانيا
حصاف جامح يصعب كبح جماحو ،وكمما حاولت ترويضو عصى
عمييا .إنيا تفكر طويبلً قبؿ أف تكتب شيلاً ،تمزؽ ما تكتبو ،وتعود
لكتابتو .تشطبو وتعيد كتابتو مرات ومرات .لكنيا في الحوار ال تقاوـ
إغراء الرد السريع ،وىذا جزء مف تناقض شخصيتيا .مف يراىا
تتحدث في مجتمع ما ،ال يصدؽ أنيا الشاعرة نفسيا .كما ال يصدؽ
أنيا رابية نفسيا التي بدأت حياتيا بحمؿ السبلح والقتاؿ .وىي تعرؼ
تناقضاتيا ،وتستمتع بيا ..أحياناً.
لـ تعد رابية تتحمؿ أف يظؿ غياث ينظر إلييا متأمبلً وىي
تحس بوقع نظراتو وتتجاىميا .أرادت تحويؿ انتباىو فقالت لزياد" ،أال
ترى يا زياد أف لكؿ منا سفنو التالية؟ كؿ ما في األمر أف سفينة ك ٌؿ
منا تبحر في المياه التي تناسبيا ،وسفف غياث ال تبحر إال في المياه
العاصفة"..
اعترض زياد" ،أو أنو يريد اليرب بعيداً عنا ،لسبب ما زلت
أجيمو"..
لـ يرد غياث عمييما ،فكأف استفزاز ىند وزياد لـ يكف كافياً،
فزادت رابية بالقوؿ" ،بؿ أظف أنو لـ يعد يجد فينا التجديد الذي يثير
اىتمامو .ربما يحتاج إلى وجوه جديدة ،أصدقاء جدد ،فمقد استنفد ما
فينا مف جديد"..
نظر إلييا متأمبلً .رابية ىذه تجره إلى حوارات أسرع مما
يريد .لقد اعتاد أف تجري األمور كما يخطط ليا ،فيو يخطط ويفكر
ويتصرؼ ،ثـ يمحقو اآلخروف .حتى الحوارات يسير بيا إلى حيث
يريد .المشكمة مع رابية أنو ال يدري ما الذي يريده منيا .يحس أنو
مشدود إلييا أكثر مما يرغب أو يقبؿ بو .غياث يعيش منذ سنوات ببل
ارتباطات ،فمديو مف االلتزامات أكثر مما يريد .إنو يحب االستمتاع
بأيامو وعممو وصداقاتو وقراءاتو وموسيقاه ومسرحياتو ولوحاتو .ال
يريد ربط نفسو بأحد ،أو بشيء .يخطط لمسفرة القصيرة كمف يخطط
لرحمة حوؿ العالـ .كؿ شيء خاضع لسيطرة عقمو ..أو ىذا ما يريد
إثباتو.
قمبو الذي تمرد يوماً ،وضعو تحت اإلقامة الجبرية ،فمـ يعد
بقادر عمى التأوه .صارت جميع المشاعر ،مع صدقيا ،ضحمة ال
عمؽ ليا .لـ يعد يتألـ بعمؽ ،ألنو ال يريد أف يتألـ بعمؽ ،يكفيو مف
الحب ما قد مضى .أمضى سنوات طويمة في قصة حب عانى
الكثير بسببيا .ضاع ،وبكى وتمزؽ .ثـ اتخذ ق ارره الحاسـ وحكـ
باإلعداـ عمى قمبو ،ألنو لـ يعد يريد أف يتألـ .لـ يعد يقبؿ عمى نفسو
أف يتألـ .أزاح األلـ بالعمؿ المتواصؿ :يكتب ويرسـ ويخطط لبناء
حياتو وحيوات مف حولو .األلـ إحساس مراىؽ ال يميؽ بو ،والحياة
مميلة بالمتع ..كؿ أصناؼ المتع ،فمماذا يرضى لنفسو أف يتألـ؟ ىؿ
ثمة امرأة تستحؽ أف يتألـ ليا ،أو بيا ،أو ..مف أجميا؟
معاً ،ولـ يتوصؿ بعد إلى تخيؿ طبيعة إحساسو نحوىا .ليس متأكداً
بعد مما يريده منيا ،ليذا فيو عاجز عف التخطيط ،وىو يريد أف
يخطط لطبيعة عبلقتو بيا .لكف ..في كؿ مرة يضع خطة لمتقرب
منيا خطوةً ،وما أف يصبح معيا حتى تبتعد عنو .وحيف يقرر
االبتعاد عنيا ،يشده إلييا حديث ،أو ابتسامة ،أو قصيدة أو حتى
أغنية يسمعيا مصادفة ،فتذكره بيا.
كؿ ىذا ألنو ال يعرؼ طبيعة إحساسو نحوىا .كـ حاوؿ أف
يحكي لزياد عف حيرتو ىذه .المشكمة أف زياد يدرؾ أفكاره قبؿ أف
يشكميا بكممات .يحس بما يدور في أعماقو مف دوف الحاجة
لمكممات .فزياد ىو الحوار مع الذات ،ال يخفي عنو أحاسيسو أو
مشاريعو أو عبلقاتو ،فكؿ شيء قابؿ لمنقاش مع زياد ..إالىا ..إال
ىذه اإلنسانة ..ىذه الرابية .شيء ما يجعمو يحجـ عف مناقشتيا مع
زياد ،بالرغـ مف أف اسميا يتردد بينيما عشرات المرات وفي كؿ يوـ.
ىؿ يرى فييا بعض تمؾ الجذوة القديمة؟ بعض الميفة عمى
الحياة؟ لقد قرر منذ أمد بعيد أف يحس كؿ شيء بعقمو ال بعواطفو.
حاوؿ أف تكوف نظرتو لمناس واألشياء نظرة منطقية ،عاقمة ومفكرة.
وىي ..رابية ..ترى كؿ شيء بعواطؼ ال يدري مدى عمقيا ،ولو أنو
متأكد مف صدقيا.
ال يدري كيؼ اقتحمت عالمو ،ال أحد يدري .ال ىو يدري
كيؼ تسممت رابية إلى حياتو ،وال ىي تدري .مف أي العوالـ جاءت
إلى عالمو ..ىؿ يمكف أف تكوف قد عاشت حياتيا في بغداد نفسيا
ولـ تمتؽ سبؿ حياتيما مف قبؿ؟ كيؼ؟
فكرت رابية أف غياث ،بقولو ىذا ،إنما يعكس ممؿ روحو مما
حولو .تساءلت ،ألف يعرؼ ىذا الرجؿ االستقرار يوماً؟ ضحكت
وقالت" ،الحكمة القديمة تقوؿ أنؾ ال تعبر النير نفسو مرتيف .فكؿ
قطرة ماء فيو تختمؼ عف األخرى .فييا عوالـ وحيوات ال نراىا نحف
البشر لقصور حواسنا ".واجيت عينيو ٍ
بتحد لـ تعرؼ سببو ،وأردفت،
"النير يا غياث ال يمؿ ،ألف كؿ ما حولو يتغير في كؿ لحظة تمر".
الحت ابتسامة ساخرة عمى محياىا" ،أتنسى يا غياث أف ىذا النير
ييدر ويفيض ويغرؽ كؿ ما حولو حيف يشاء ،أو حيف يشعر بالممؿ؟"
لـ تفيـ رابية سبب غضبو ،البد أف الممؿ قد زحؼ عمى ىذه
النفس الموارة .لكف ..لماذا في ىذا اليوـ بالذات؟ لـ تكف تدري ،أو
ربما تدري..
لعمو يريد أف يعيد ليـ بعض المرح ،فتجاوب معو زياد وقاؿ،
"وحيف كنا نحاوؿ تعميـ أحمد السباحة ،وكيؼ يشحب وجيو كمما
ذكرنا النير أمامو "..وتبع قولو بضحكة رنانة.
رد غياث بمرح" ،فكرة السباحة معنا كانت كفيمة ببث الرعب
فيو ،حتى أنو شكانا ألبي"..
"وما يزاؿ أحمد لحد اآلف ،يخاؼ خوض مياه الحياة الخطرة
معنا ،فيو دالـ الحذر مف مزاحنا وجدنا"..
دجمة بالذات ،وما يزاؿ يبعث الرىبة في نفسي ،مع أني أتمنى فعبلً
أف أسبح فيو"..
قبؿ أف يتيح ليا فرصة الرد ،جاء صوت زياد مدافعاً عنيا،
"دعيا تكمؿ حديثيا ،ىؿ تنوي مشاكستيا طواؿ ىذا اليوـ؟"
نظرت إليو .يا إليي ..ماذا يريد ىذا الغياث منيا؟ فضمت
أف ال ترد عمى تعميقو بؿ سألت" ،قؿ لي يا غياث ،ىؿ يمكنؾ أف
تتخيؿ منظر راقص الدبكة وىو يدؽ قدمو باألرض حتى يعمو
غبارىا ،ثـ يقفز عالياً حتى يبلمس الشمس؟" الحت عمى وجييا
ابتسامة حالمة ،وظمت تنظر إليو كأنيا ال تراه" ،ذلؾ ما فعمت.
بقدمي ،وارتفع جسدي .أحسست أني مثؿ راقص
ّ ضربت أرض البحر
لتي
الدبكة ،سبحت صاعدة ،حتى رايت نور الشمس .مؤلت ر ّ
باليواء ،وغطست ثانيةً .ثـ خرجت إلى النور .سبحت وسبحت حتى
تقطعت أنفاسي ،فالعمر لو حؽ ،والسباحة العنيفة ليست رياضة كبار
السف ،كما يقوؿ األطباء .تقطعت أنفاسي ،فتمددت عمى ظيري
وواجيت السماء .البحر أرؽ فراش يمكف لئلنساف أف يرقد عميو.
الشمس قاسية الح اررة ،والبحر لذيذ الدؼء ،والموج يتراقص مغازالً
الشمس والنسمة .البحر حولي واليابسة بعيدة .أحسست أني أسبح في
المدى ،وأف ال نياية ليذا العالـ .ولو كانت األرض كروية حقاً،
لظممت عمى ىذا الحاؿ حتى أعبر بحار العالـ السبعة ،ألعود إلى
النقطة التي بدأت منيا "..ضحكت مع أفكارىا" ،سندبادة تبحر مف
دوف أشرعة ،فالبحر ىادئ ،وأنا مستسممة .استسممت لمبحر مف دوف
قيد وال شرط "..مدت بصرىا إلى أمواج دجمة" ،داعبني رفيؼ الموج،
والريح تناغيني ..ال اروع مف النوـ عمى فراش الموج في بحر
ىادئ "..تنيدت" ،بعيداً عف كؿ شيء ..بعيداً عف الزيؼ ..بعيداً عف
الماضي والحاضر والمستقبؿ ..وحدي رفقة الشمس والبحر"..
أغمضت عينييا ،وقالت بما يقرب مف اليمس" ،وحدي أماـ
البلمتناىي"..
رد زياد ،المتعقؿ دوماً ،زياد الذي يحاوؿ دوماً منعيـ مف
ارتكاب الحماقات" ،الجو ما يزاؿ بارداً ،ولـ يحف وقت السباحة بعد"..
"شك اًر غياث ،الجو رالع اليوـ ،ولدي موعد في مكاف قريب،
وأفضؿ أف أتمشى قميبلً لعؿ اليواء النقي يزيؿ صداعي ..إلى
المقاء"..
ردت ىند متأممة" ،مف يراكـ معاً ويستمع إلى حواراتكـ ال
يمكنو أف يتصور إال أنكـ أمضيتـ العمر معاً"..
رد زياد" ،ىذا ما أحسو بالضبط ..وما زلت مستغرباً كيؼ لـ
نعرفيا مف قبؿ؟"
لـ يرد غياث ،بؿ ظؿ ساد اًر في صمتو وىو يحدؽ بألواف
السماء ومياه دجمة ،حتى لكأف مغيب الشمس يشكؿ طقساً مقدساً ال
يريد أف يجرح سكونو بأي صوت .حيف غادرت رابية المكاف ،أحس
غياث كأف الكؿ غادره .ال يدري لماذا تمؤل رابية المكاف الذي تكوف
فيو .بغيابيا ،يحس كأف ضغط اليواء قد تخمخؿ حولو ،وخمؽ غيابيا
فراغاً يصعب أف يمؤله أي كاف.
سألت ىند بميجة أسؼ" ،أليس الوقت مبك اًر لذىابؾ؟ فأنت لـ
تمبث سوى مدة قصيرة "..تمؾ طريقتيا الخاصة في أف تقوؿ لو لـ
مممت صحبتنا ،أولـ تعد تكفيؾ؟ لكنو لـ يرد عمييا ،ألنو يدري أنيا
تفيمو وتفيـ تناقضاتو ،وال تصرح بالكثير مف األفكار التي تدور في
ذىنيا ،بؿ تبمغو ما تريد بأقؿ ما يمكف مف الكممات.
غياث ىذا يمر عميو مثؿ غيمة صيفية ،تحميو لمحظات مف
وىج الشمس .غياث يمر سريعاً ،مثؿ رمح خاطؼ ،يجيء محمبلً
بألوؼ األفكار والومضات .تنيد زياد" ،آآآآه يا غياث .لو تدري ما
بنفسي ..أحس بخيوط ىذه الرواية مثؿ حزمة تمتؼ حوؿ عنقي،
فأختنؽ بيا .ال أوؿ ليا وال آخر .البدايات تتعبني وتظؿ النيايات
غامضة حتى أصؿ إلييا ..آآآه يا غياث اليوـ تزداد حيرتي
وضياعي"..
"ربما كنت بحاجة لمسفر بعيداً ،أف ترى وجوىاً جديدة وعوالـ
مختمفة"..
"واليوـ؟"
"لكني لـ أعد زياد نفسو الذي كتب تمؾ .كانت مرحمة البد
منيا ،لكي أتخمص مف الشكوؾ وأدراف الماضي .كانت رواية اعتراؼ
أماـ نفسي بزيؼ حالة الرفض التي أحسست في نفسي نزوعاً ليا.
كانت محاولة لمغوص في أعماؽ الذات ألعرؼ حقيقة ما أريد ..وأية
صيغة أقبؿ ليا لترجمة ما أرفض ..وأي األشياء أرفضيا حقاً"..
صمت مدة طويمة ،ثـ أردؼ متأمبلً" ،ذىبت إلييـ ألصؿ إلى ذاتي.
جعمت مف كؿ واحد فييـ نبياً ألف ذلؾ ىو ما أردت رؤيتو فيو ،لكني
عرفت بعد كتابة الرواية أف نبوتيـ زيؼ ،ونبوتي زيؼ .وأف رفضنا
آنذاؾ زيؼ .ىنالؾ ألؼ طريقة لمرفض ،أسيميا اليجرة .أسيميا أف
يكوف رفضؾ بكممات ال تكمفؾ شيلاً ".ضحؾ ضحكة أشبو بالبكاء،
"وعرفت أف بعض اليجرة سياحة لذيذة"..
"ال ،ال ..لـ أقصد السفر ،بؿ قصدت ىذا المكاف .ىيا
لنذىب"..
ىز زياد رأسو" ،ال ..لف أقترح عميؾ الذىاب إلى حيث تيفو
روحؾ .كؿ ما في األمر أني أريد الخروج مف ىنا"..
ضحؾ زياد" ،ال تنوي ..وال أنا أنوي ..لكف ربما كانت
السيارة تنوي"..
كانت خالية مف الوقود ،أو الزيت .أو ربما نسي المحرؾ مشتعبلً
طواؿ ساعات .كما قد ينسى مفاتيح السيارة بداخميا ويقفؿ عمييا.
يعاني دوماً مف سيارتو ،المشكمة أنو يرفض االعتراؼ بسيو ذىنو
المستمر .تشغمو فكرة ما حتى ينسى ما حولو ،مع أنو ال ينسى ..عاد
وجو رابية يموح في ذىنو ،وىؿ غادره ليعود إليو؟ صورتيا تتراقص في
مخيمتو بالرغـ مف محاولتو نسيانيا .يظؿ صوتيا يرف في أسماعو.
يحاوؿ نسياف كمماتيا ونسياف ضحكتيا .يحاوؿ نسياف أنيما لـ يمتقيا
منذ اسبوعيف أو يزيد ،منذ عيد ميبلد ىند الصالح.
"ال شيء .لـ أكف ألسيو لو لـ يكف محمد إلى جانبي .أو لو
لـ أعتمد عميو إلى ىذا الحد ..ىي مسألة تركيز ال غير!"
نظر إليو زياد ،وظؿ غياث مرك اًز بصره إلى أماـ" ،لماذا يا
غياث؟ لماذا ال تستطيع رؤية نورية ،ىؿ السبب أنؾ ال تريد مواجية
ذاتؾ؟ ىؿ ألف نورية تكشؼ لؾ أفكارؾ الخفية؟" ربت عمى ذراع
صديقو" ،غياث ..يا غياث ،ىؿ ىناؾ ما تحاوؿ اليرب منو؟"
صمت غياث قميبلً قبؿ أف يرد" ،ىؿ اعتدت عمى اليرب يا
زياد؟ أنت تعرفني منذ دىور ،فمف أي شيء يخيؿ لؾ أني أىرب؟"
لـ يرد زياد ،مع أف الرد كاف جاى اًز وأوشؾ أف يقولو ،لكنو
فضؿ الصمت .بعد مدة ،ضحؾ زياد ،ضحكتو المميلة باألسى ،والتي
يعرفيا غياث" ،ىيا يا غياث ..لنذىب حيث تشاء ..كؿ األماكف
متساوية ما داـ ك ٌؿ منا يحاوؿ كبت الكممة الوحيدة التي تمح عمى
كمينا ..ما دمنا نصر عمى عدـ التصريح بما نفكر بو"..
أحس زياد بتوتر صاحبو ،إذ اشتد ضغط يديو عمى المقود.
يعرؼ حاجة غياث لمتصريح بأفكاره إليو .كما يدري أف غياث لف
يقبؿ اآلف التصريح ،حتى لنفسو" ،ىؿ تيرب مف ذاتؾ يا غياث ،أـ
تيرب مني؟"
انتفض غياث .استدار إليو .تزحمقت السيارة في الوحؿ وفقد
السيطرة عمييا لمحظة ،حتى أوشؾ أف يصدـ السيارة التي تسبقو" ،ما
الذي تقصده بقولؾ؟"
سكت زياد .لـ يقؿ غياث شيلاً .طاؿ الصمت بينيما إال مف
نواح الكماف ونقر حبات المطر عمى السيارة" .ىؿ سألت نفسؾ يا
غياث عما تريد؟ ال ..ال ترد عمى سؤالي اآلف ،بؿ دع األمر في
أعماؽ ذاتؾ .كف صادقاً مع ذاتؾ يا غياث ،ىذا يكفيني ".لـ يرد
غياث ،فواصؿ" ،القيود التي تكبؿ ليا ذاتؾ إنما تيدـ إنسانيتؾ.
وغياث الذي أعرفو ال يقبؿ أف يكبؿ ذاتو وانسانيتو ".لـ يتعمد زياد
القسوة عمى صاحبو ،فمقد أحس أنو ال يجد دفاعاً يحميو مف ىذه
اليجمة الضارية .ضحؾ زياد ،ثـ قاؿ مصالحاً" ،اسمع ..لنذىب إلى
المعرض اآلف ،ثـ نقرر بعدىا ما نفعؿ".
حجر األساس .كنت أحرس مواد البناء ،ثـ ترقيت فصرت حارساً
لمبناية"..
لـ يدر زياد أيف غابت روح صاحبو ،أو ربما كاف يدري وال
يريد التصريح بكممات تقاؿ بصوت مرتفع.
()14
انتظار!
انتظار قاتؿ!
"إلى داري"..
فتحت الباب .لـ تصدؽ عينييا .نظرت إلى زياد ،ثـ إلى
غياث" ،غير معقوؿ! كنت أتوقع حضور أحدكما ،لكف حضوركما
معاً ىو أروع مما كنت أنتظر ..أىبل بكما ..أىبل"..
مف دوف كممة .دنا منيا زياد وصافحيا بدوره ،فأردفت رابية" ،طبعاً
أنت وزياد صرتما صديقيف مف زماف"..
تدخؿ غياث كمف يريد نفي تيمة ما عنو" ،عمى أية حاؿ لـ
يزد األمر عف احتفالية فرح زالؼ ،إلى جوار مريض يحتضر ،لعمو
يزيد في عمره يوماً".
"تركناىا ألف البيت صار أوسع مما نحتاجو ،أمي وأنا ،بعد
زواج أخوتي"..
تنيد زياد" ،الجادرية ..ثـ المنصور "..عاودتو الضحكة
األشبو بالنحيب" ،معؾ حؽ في أف ال تفيمي سبب حزننا يا رابية..
وحنيننا إلى المحمة ،ذلؾ أف"..
استدارت إلى زياد" ،ىؿ تقبؿ اعتذاري يا زياد؟ فمقد نكأت في
نفسي جرحاً أحاوؿ نسيانو ،واذا بو يواجيني مجدداً ،فانسقت وراء
الغضب .أعتذر مرة أخرى"..
قاطعيا" ،بؿ أنا مف يعتذر يا رابية .لقد قمت ما قمتو مف دوف
أف أقصد أف أسبب لؾ الماً"..
تنيد زياد ونظر إلييا طويبلً بحسرة" ،يصعب شرح األمر يا
رابية ،ألنو يعني شرح تاريخ حياتي بأكممو "..تنيد واتكأ عمى الجدار
وأغمض عينيو" ،لـ أدرؾ حيف ىجرت المحمة أني بذلؾ أىجر عالماً
بأكممو .أىجر األلفة التي تفيء عمى الجيرة بأكمميا ،وأستبدليا
بجدراف صماء ،عزلتني عما حولي ،فمـ أعد أعرؼ أحداً ممف يعيش
في شارعي نفسو ،وفي محمتي نفسيا ..ال ،ال يجوز لي تسميتيا
بالمحمة ،فيذه الضواحي ال عبلقة ليا بمعنى المحمة وتساند أىميا".
صمت ولـ يقطع صمتو أي منيما .فتح عينيو ونظر إلييا" ،ىؿ
تتصوريف أني ألومؾ لعدـ إدراؾ معنى المحمة؟ أبداً رابية ،فأنا نفسي
لـ أدرؾ عمؽ ارتباطي بيا إال بعدما عدت إلييا قبؿ مدة قصيرة،
فاستقبمتني نورية بالحناف والحب نفسو الذي ودعتني بيما قبؿ ما
يقرب مف ثبلثيف عاماً .فتحت الجرح الذي تصورت أنو أوشؾ عمى
يصبح ذكرى بعيدة .أعادتني نورية إلى أياـ أوشؾ دفؤىا أف يبرد في
أعماقي ..عدت بعد سنوات الضياع إلى أزقتي الدافلة .عدت إلى
األـ التي تبنتني مراىقاً تتقاذفة السجوف والمعتقبلت ،ألنو تج أر عمى
عشؽ بمده "..تنيد زياد ورفع عينيو إلييا" ،ىؿ تعرفيف أمي يا رابية؟"
"أعرفيا طبعاً ،أـ نسيت أنؾ عرفتني عمييا في أوؿ زيارة لي
إلى داركـ؟"
"كبل ،ال أقصد أـ سعد العظيمة ،بؿ أمي ..أمنا جميعاً .األـ
التي لـ تنجب أحداً منا ،لكنيا أحست بنبض كؿ واحد منا ،وجمعتنا
بالحب .ىؿ تعرفيف نورية يا رابية؟" قاليا بنبرة دىشة طفولية.
"مف نورية ىذه؟" لـ يرد عمييا زياد ،فالتفتت إلى غياث ،لعمو
يغيثيا بالرد .سحرتو الحيرة في عينييا ،فظؿ يحدؽ بيما ونسي أنيا
تسألو" .غياث ..أيف أنت؟"
مع رغبتيا بعدـ قطع سمسمة أفكاره ،إال أنيا سألتو" ،لماذا
تركتـ العمارة؟"
صمت زياد ،ثـ اتكأ بيده عمى األرض واتجو إلى أشرطة
التسجيؿ .أطاؿ النظر إلييا ،ثـ اختار واحداً وضعو في المسجؿ
فجاء صوت أـ كمثوـ،
لـ يتحرؾ زياد عف موقعو قرب المسجؿ ،بؿ اتكأ عمى زجاج
النافذة ،يحدؽ في قطرات المطر المنيمرة بالقرب مف وجيو ،وىو
ينظر بعيداً .قاؿ ببطء" ،تمؾ ىي نورية يا رابية .ىي الحب ..نعـ،
نورية ىي الحب ،ىي الحياة ..نورية ،أوتسأليني عف نورية؟" استدار
ببطء .نظر إلى رابية ،فوجدىا تنظر إليو بمؿء عينييا .وجييا تغطيو
غبللة مف الدموع التي لـ تحاوؿ إخفاءىا" ،تبكيف يا رابية؟"
شعت ابتسامتيا بيف الدمع" ،كؿ ىذا الحب؟ لـ أكف أدري يا
زياد أف قصة حب قديمة يمكف أف تعيش طواؿ ىذا الزمف ،وتثير في
النفس كؿ ىذا الشجف"..
لـ يتح ليا إتماـ جممتيا ،بؿ ضحؾ بصوت مرتفع .ثـ تنبو
إلى أف أميا قد تكوف نالمة ،فصمت" ،آسؼ "..استدار إلى صاحبو،
"غياث ،يبدو أف الروالي فقد القدرة عمى رواية قصة حب بسيطة،
فيؿ لؾ أف تعينو؟" الحظ شرود ذىف غياث وىو يحاوؿ إجبار عينيو
عمى مغادرة وجو رابية ،فواصؿ زياد" ،أـ أف العينيف المتيف كنا
بذكرىما ىذا الصباح قد سمبتا منؾ ممكة الكبلـ أيضاً؟"
استدارت رابية بميفة نحو غياث ،وما تزار الحيرة تموح في
عينييا" ،أرجوؾ ،يبدو أني فيمت األمر خطأ"..
تدخؿ غياث خشية تكرر سوء الفيـ بينيما" ،نورية تعيش في
منطقة ليا تقاليدىا يا رابية ،وال يجوز لنا إقبلؽ راحتيـ بعد صبلة
العشاء ،إذ يبدأ نيارىـ مع صبلة الفجر".
ضحؾ زياد ،وما أكثر ما ضحؾ ىذا اليوـ" ،متى تتعمـ يا
غياث أف تحمؿ ساعة؟"
قاطعيا زياد" ،وال أنا أدري يا رابية .رأيت خالد يوـ أمس،
ويبدو عميو الضياع واضحاً .فضبلً عف ذلؾ ،حيف طمبت اإلجازة
العارضة ،تعيد غياث أف يحؿ محميا ،لكف االمتحانات النيالية عمى
األبواب"..
قاطعو غياث" ،عمى أية حاؿ ،تنتيي إجازتيا بعد ثبلثة أياـ،
وما عمينا سوى االنتظار".
لـ ترد رابية ،إذ فوجلت بقوؿ زياد أف غياث حؿ محميا في
التدريس .غياث ىذا يفاجليا دوما .كمما زادت معرفتيا بو ،عرفت فيو
إنساناً يصعب معرفة مديات عطالو وسعة قمبو .لقد تحمؿ ،فوؽ
مسؤولياتو ،مسؤولية طمبة سنا لكي يتيح ليا الوقت الكافي لترتاح.
وىو ،مف يريحو؟ مف يتحمؿ بعضاً مف مسؤولياتو ليرفع شيلاً مف
العبء عنو؟
"أي عمؿ ىذا؟ لقد وصمت لتوي بعد سفرة مرىقة ،وعمى
أعمالؾ االنتظار حتى الغد"..
لـ تدر سنا ،أتغضب منو إلنياء المكالمة مف دوف سبلـ ،أـ
تبتسـ لتعجمو .ىزت كتفييا وأخذت حماماً لتغتسؿ مف وعثاء السفر،
إذ ميما قاؿ خالد ،فيي بحاجة لبلستحماـ قبؿ أي شيء آخر.
أحست بالماء يغسؿ تعب جسدىا ،فمـ تتحرؾ ،بؿ وقفت تحت الرذاذ
ورفعت وجييا إليو .ثـ خرجت مف الحماـ وتمددت فأغفت .لـ تفكر
بموعد خالد بعد ساعة ،ولـ تفكر بالمستقبؿ ،بؿ تركت لجسدىا أف
يسترخي ،ولسمطاف النوـ أف يأخذ حقو مف تعبيا .نامت سنا.
()17
في تمؾ الميمة بكت رابية طويبلً .بكت ال حباً بو ،إنما بكت
ألف عمييا دفف ىذا الحب في أعماؽ روحيا .عمييا وأده مف دوف أف
يدري بو أحد ..ومف دوف أف يدري بو غياث .يجب أف ال يعرؼ
غياث أنيا ذرفت دمعة واحدة بسببو .يجب عمييا وأد ىذا اليوس
المجنوف في أعماقيا .عمييا إعادة ترتيب أفكارىا .أف تكوف منطقية
وواقعية ،كما كانت طيمة حياتيا .عمييا إعادة التوازف إلى الميزاف.
إإإإإيو رابية ،لـ كؿ ىذا؟ ومف أجؿ مف؟ قيؿ عنؾ الرابية
التي تيز الجباؿ وال تيتز .ىؿ تبكيف؟ ىؿ تبكيف يا رابية؟ ويؿ لؾ..
وويؿ عميؾ .أنت لـ تخمقي لمحب ،وال الحب لؾ .أعيدي لمميزاف
توازنو ،أو اكسريو .تخمصي مف غياث ..اكتبيو قصيدة ..أو اذرفيو
دمعةً ،أو فميكف رواية! لكف تخمصي منو ،فيو لف يكوف لؾ .لف
يكوف حتى الصديؽ الذي تنشديف ،وال يحؽ لؾ الحنيف إليو.
نظؿ عمى قيد الحياة ،ألف ما ىو جدير بالحياة يظؿ دوماً شامخاً
بوجو الرياح".
"صباح الفؿ"..
"بمبلبس النوـ؟"
لـ تترؾ ليا سنا أية فرصة لطرح األسلمة ،بؿ اتجيت إلى
المطبخ لتعد القيوة .بعد برىة سمعوا صوت ضحكتيا ،ثـ صاحت،
"رابية ،اسمعي ما تقوؿ خالتي "،أردفتيا بضحكة أكثر مرحاً" ،تقوؿ،
ألـ أقؿ منذ زمف بعيد أف سنا عاقمة ،ىا أنت تتزوجيف وما زالت رابية
عمى حاليا "..ضحكة أخرى ،واردفت" ،إنيا تحممني مسؤولية تزويجؾ
يا رابية ،فما رأيؾ؟" خرجت تحمؿ صينية القيوة ،وحيف اقتربت مف
رابية ىمست ليا" ،أعرؼ عريسا مناسباً ،ما رأيؾ؟" وغمزت بعينيا.
لكنيما تزوجا!
()19
غادر خالد وسنا قاعة المحكمة بعد عقد القراف ولـ يبقيا مع
أصحابيما .سار غياث وزياد ورابية إلى حيث سيارة غياث .تجوؿ
بيـ غياث في الشوارع وىو يتفرج عمى األبنية كمف يراىا لممرة
األولى" ،اليوـ فاتنا الدواـ جميعاً فإلى أيف نذىب؟"
سأؿ زياد" ،ىؿ نسيت يا غياث أننا وعدنا الحاج بزيارة نورية
صباح اليوـ؟"
"صالحيني"..
تعطي بعضاً منو لصاحبؾ ىذا "..ثـ استدارت إلى رابية" ،أىبلً
ومرحباً"..
رد زياد بيدوء" ،شيدنا عمى عقد قراف صديقيف عزيزيف في
المحكمة الشرعية".
ضحؾ غياث ،ثـ صمت برىة والح الجد والحزـ عمى وجيو،
وسأؿ نورية" ،وأنت يا نورية ،متى توافقيف عمى الزواج مني؟" برقت
عيناه بالعبث بالرغـ مف جدية مبلمحو.
"تزوجيني ألعقؿ!"
قالت نورية باقتناع" ،إف كاف زياد يقوؿ أنيا تستحؽ النشر،
فيي كذلؾ .ألف زياد ال يجامؿ أحداً .انشري يا رابية شعرؾ ،فنحف ما
نزاؿ بحاجة إلى الكثير مف األصوات الصادقة".
لـ تحر رابية رداً ،فصمتت .مدت نورية يدىا إلى المذياع،
"حاف وقت نشرة األخبار ،سأسمع الموجز ثـ أعد لكـ القيوة"..
شيء سيكوف عمى ما يراـ "..استدار إلى رابية .كانت تنظر بعيداً
تتأمؿ انعكاس الطيؼ الشمسي عمى الجدار المقابؿ .ود لو ظؿ
ينظر إلييا مف دوف أف تنتبو .يستيويو النظر إلييا ..إلى ىذه المرأة
الغريبة" ،رابية ،أيف وصمت؟ ما ىذا الصمت؟ لـ نسمع صوتؾ مذ
جمبت القيوة"..
لـ يشأ غياث أف يعيد نورية إلى دالرة الذكريات .كما لـ يرد
لرابية أف تحس بالحرج إف أدركت أنيا قد تسببت في إثارة الذكريات
المؤلمة لنورية ،لكنو عجز عف العثور عمى الكممات التي يريدىا.
سبقو زياد بالقوؿ" ،رابية ..رابية ،ما ىذا اليجوـ الكاسح؟ غياث ليس
مسؤوالً عف ىدـ المحمة ،وأنت تعرفيف ذلؾ كما أعرفو ..فيؿ ىجومؾ
عميو اليوـ ألنو مسالـ بشكؿ استثنالي ،ولـ يفتعؿ معؾ نقاشاً؟ أـ
ماذا؟"
لـ تفيـ رابية الزلة التي وقعت فييا ،والخطأ الذي ارتكبتو،
لكنيا لـ تشأ أف تسأؿ ،إذ ربما تفيـ األمر مف دوف سؤاؿ .غمرتيا
الحيرة ولـ تفصح عما في نفسيا .وحيف وصموا إلى نياية الزقاؽ ولـ
يشرح أي منيما ما قد حصؿ ،قالت" ،إلى المقاء ،سأذىب لمتمشي
قميبلً "..وسارت بضع خطوات .اعتذر زياد بارتباطو بموعد كاف قد
نسيو ،وغادرىما .ظؿ غياث معيا" ،أنا أيضاً لـ أتمش منذ زمف
بعيد "..وسار معيا.
سا ار بصمت مدة طويمة ،ثـ قاؿ غياث" ،ىؿ تدريف أننا لـ
نتبادؿ كممة واحدة مذ غادرنا بيت الحاج .مف يرانا نسير معاُ وكؿ
منا سادر في أفكاره ،يتصورنا زوجيف استنفدا ما عندىما مف كبلـ
ولـ يعد بينيما أي حديث مشترؾ".
ضحكت" ،ال ىذا وال ذاؾ .لـ ال تقوؿ أنؾ وجدتيا فرصة
مناسبة لكي تعرض عمي الزواج يا غياث؟" بيف الجد واليزؿ ،تكمف
حقيقة حاوؿ كؿ منيما تجاىميا ،أو إخفاءىا.
ضحؾ" ،وما رأيؾ؟"
ضحكت" ،أو ربما طمب حضور ولي أمري ،بذريعة أني لـ
أبمغ سف الرشد بعد ،بالرغـ مف الشيب الذي يعمو ىامتي"..
صمتت رابية وفكرت ،ما الذي يريده ىذا الغياث مني؟ ثـ
ىزت رأسيا واستدارت لتواجو عينيو ،إذ عمييا االستمرار في لعبة
الجرأة ىذه بالرغـ مف خطورتيا" ،أىذا غزؿ أـ عبث يا غياث؟ أخي اًر
لـ تجد أمامؾ مف تغازليا غيري"..
"وىؿ أجرؤ؟"
لـ تكف متأكدة إف كاف ىذا مزاحاً عابثاً منو ،أـ محاولة
استكشاؼ دواخميا .ردت" ،وىؿ ثمة حدود لجرأة غياث البدر؟" في
لحظة واحدة ،تحولت قسماتيا مف االبتساـ إلى الجد .عقدت حاجبييا
وسألتو" ،قؿ لي يا غياث ،ما اليفوة التي ارتكبتيا في دار الحاج؟"
طواؿ حديث رابية كاف غياث يتساءؿ ،لماذا تحب رابية أف
تمعب دوماً عمى حافة السيؼ ،وىي تدري أنيا ستجرح ذاتيا لو
عرفت الحقيقة ،وتجرح ذاتيا لو لـ تعرفيا .لماذا ال ترضى رابية
بنعمة الجيؿ؟ فبعض الجيؿ نعمة .أال تقدر أف تغمض عينييا عف
بعض الحقيقة؟
أدار وجيو إلييا .ما تزاؿ تنظر إليو متسالمة بوسع عينييا.
ىاتاف العيناف ..ىؿ ىما واسعتاف ألنيما تريداف احتواء العالـ بينيما؟
ىؿ ىما عميقتاف لتغرقا حقالؽ الدنيا فييما؟ يا إليي ..لو أمكنني
التحرر ما أسار عينييا..
"أىذا ٍ
تحد يا رابيتي؟"
لـ تتردد رابية ،بؿ استدارت إلى الفتاة وأخذت المكنسة مف
يدىا ،وبدأت تغسؿ األرض مع نورية .نظرت الفتاة إلى وجو نورية
بحيرة ،فضحكت نورية" ،في ىذه الحالة ،اذىبي يا سعدية وحضري
لنا الشاي "..واتجيت سعدية إلى المطبخ.
رالحة األرض ىذه ،رالحة الطابوؽ الفرشي العتيؽ ال يشبييا
شيء مما يصنعوف اليوـ .البرودة المنبعثة مف الجدراف تحمي الدار
وأىميا مف ليؼ الصيؼ .خرير الماء مف النافورة الوسطية يتساقط
رذاذاً ويسقي شجيرات الرازقي ،تنشقت رابية رالحة العتؽ" ،ال شيء
يشبو جماؿ ىذا الطابوؽ العتيؽ"..
"في زمننا ىذا يا نورية ،لـ نعد نعرؼ كيؼ نصنع مثؿ ىذا
الطابوؽ ،فمقد تطورنا عميو وصار ط ارزه قديماً ،فاستبدلناه بكؿ ما ال
يناسب أرضنا".
"بألؼ عافية .لقد صنعتيا اليوـ ،فمقد تخيمت ،لسبب ما ،أف
غياث سيجيء إلينا ،وىو يحب الكميجة مذ كاف صغي اًر".
قد ال تقمؽ عميو ،ولكف ،أال تقمؽ عمى نفسيا؟ تقمؽ منو عمى
نفسيا .ىؿ يجوز أنو تصور أنيا تعرض نفسيا عميو مثؿ سمعة بالرة
رخيصة؟ ىؿ يمكف لو أف يتصور...
نورية لـ تره إال مرة واحدة منذ تمؾ الزيارة" ،جاء وتفاىـ مع
أبي حوؿ شراء قطعة أرض وبناءىا .أخذ مبمغ التعويض عف
المقيى ،ثـ لـ نره بعدىا ،وال ندري ما الذي فعمو ،أو ينوي فعمو"..
ال أماف.
زاؿ الوىـ .ومثؿ كؿ األوىاـ ،كاف وىـ رابية قصير العمر .كاف حمماً
جميبلً عاشتو حتى انشؽ الجدار مف جديد ،لترى عيوف الحياة تحدؽ
بيا مف كؿ الجوانب ،وتحس الرفض حوليا ،عيوناً دبقةً مثؿ عيوف
الزواحؼ ،ببل أجفاف ،تحدؽ بيا وترصد ما حوليا ألف ليس في
أعماقيا ما يستحؽ أف يكوف مرلياً.
صار ىاجس رابية أف ترى غياث لمرة واحدة ،لكي تثبت لو
أنيا ال تريد منو شيلاً ،فما يفصميا عنو أكبر بكثير مما يفصمو ىو
عنيا .نسيت رابية شوقيا لغياث ،في غمرة خوفيا مف سوء فيمو،
ومف سوء تفسيره لما قالتو يومذاؾ.
ربما طمب مف الجميع أف ال يخبروىا شيلاً عف أخباره،
تحاشياً ليا .ربما اتفقوا جميعاً عمى األمر وظمت ىي وحدىا تجيمو،
فالصداقة التي تربطيـ تمتد إلى عشرات السنيف ،وىي طارلة عمييـ.
جدتو والبد مف إلغالو بالتجاىؿ
ليست إال وجياً جديداً استنفد ّ
والتحاشي.
ربما ...ربما...
"أىبلً غياث"..
"كبل ،لماذا؟"
ضحؾ" ،ال شيء .حواؿ النقاش إلى مزاح وقمت ليا أني
سأبني الدار ،فإف لـ ترض العيش فيو ،طمبتيا إلى بيت الطاعة
وستضطر لمعيش فيو ،ومعي أنا!"
وذىبت إليو.
()24
واكتمؿ بناء الدار خبلؿ ثبلثة أشير .وفي فجر يوـ الجمعة،
في بدايات الخريؼ ،ذىب الحاج أبو نوري ليصمي الفجر في الجامع،
فيي آخر صبلة يؤدييا في جامع المحمة ،في اليوـ األخير لو في
المحمة.
أما ىو ،فيدري أنو لف يعود إلى ىنا .ىذا الػ(ىنا) سوؼ
يزوؿ .سوؼ تتساقط حجارتو مثؿ أوراؽ شجرة السدر وأغصانيا.
شجرة السدر التي ظمت تحرس باب الزقاؽ ،واعتاد الكؿ عمى وجودىا
منذ بدايات وعييـ .شجرة السدر ىذه ،ستسقط .وسوؼ يزوؿ الزقاؽ.
سار الحاج ببطء إلى الجامع .لـ ينـ ليمة أمس .اجتاز
الزقاؽ إلى الجانب اآلخر .المقيى ٍ
خاؿ ،موصد األبواب .المقيى
مات .أطمؽ الحاج زفرة حرى ،وأشاح بوجيو واستمر في طريقو.
السوؽ القديـ ٍ
خاؿ ينعى مف بناه .ماذا سيفعموف بمقبرة
الحجر التي تواجييا؟ أيف سيذىبوف بحجارتيا العتيقة ونقوش الجبس
التي زينت سقوفيا؟ توزع أىؿ المحمة في الضواحي ،فيؿ سيتذكر أي
منيـ رفاؽ صباه حيف يمتقي بو في ٍ
يوـ ما في دروب الحياة؟ ىؿ
سيتذكروف الزقاؽ ومقيى الحاج أبو نوري ،أـ سيغيب كؿ شيء وراء
غبار األياـ؟
ىدـ المحمة ال يقتصر عمى ىدـ أبنيتيا المتراصة ،بؿ في
تفتيت مف فييا ،وما فييا .تفتيت قيميا وتساند أىميا .حتى أىؿ الدار
الواحد ،ستعيش كؿ أسرة منيـ في دار تبعد عف األخرى مسافات..
ومسافات .ستزوؿ تحية الصباح بينيـ ،كما تزوؿ خبلفاتيـ الصغيرة.
وكـ ..وكـ ..وكـ سيزوؿ.
بقيت نورية بعض الوقت تسند رأسيا إلى كتؼ غياث .رفعتو
ونظرت في عينيو ،فرأت فييما حزناً يعادؿ أساىا" ،غياث ..رابية
ىذه"..
"بعد مغادرتؾ بوقت قصير .لقد أتممنا نقؿ األثاث ،ولـ يبؽ
إال بضعة صناديؽ صغيرة نأخذىا معنا".
قاطعو" ،استغفر اهلل يا عـ .ال تفكر بشيء مثؿ ىذا أرجوؾ.
عمى أية حاؿ رابية اآلف مع نورية ،وما بقي مف أغراض قميؿ جداً
يكفي لنقمو بسيارتينا".
حتى وىي تحاوؿ بعث المرح فييـ ،فيي تتحداه ،وفي ذلؾ
متعة لكمييما .أدار غياث المحرؾ ،فاشتغمت السيارة" ،أرأيت ،السيارة
اشتغمت ،وفييا مف الوقود ما يكفي ألغمبؾ ".وضحؾ غياث وأطمؽ
لسيارتو العناف.
فتح غياث أحد األبواب ،قالت نورية قبؿ أف تمد قدميا" ،بسـ
اهلل الرحمف الرحيـ "..واجيتيا نافذة واسعة تطؿ عمى حديثة صغيرة
مزروعة بأصناؼ الورد بألواف متنوعة .تمتد النافذة مف األرض حتى
السقؼ ،وعمى طوؿ الجدار المواجو لمباب .أريكة نورية التي اعتادت
الجموس عمييا في المرصد ،والى جانبيا الطاولة الصغيرة التي يعموىا
المذياع الكيربالي العتيؽ .أدارت عينييا حوليا .كؿ شيء كما كاف
ىناؾ .حجـ الغرفة ،أثاثيا ،ترتيبيا .لـ تصدؽ نورية عينييا .كؿ
شيء في مكانو ،ولكف ...ولكف ..الغرفة والدار ليسا في مكانيما.
طفرت دمعة لـ تحبسيا ،واستدارت إلى غياث .رفعت عينييا إليو،
"غياث ..غياث"..
"ال تقولي شيلاً .حاف اآلف موعد موجز أنباء الظييرة .أـ
نسيت يا نورية أف في العالـ أخبا اًر يجب أف ال تفوتؾ؟"
أحياناً كانت نورية تحدث نفسيا ىمساً ،وحيف تتنبو لما تفعمو
تستغفر ربيا ،وتخشى مف اإلصابة بالخرؼ .غمغمت نورية" ،سأكتب
صباح غد رسالة إلى نوري ،لعمو ..لعمو يرضى ويعود .لعمو يسامح
عنادي ..لعمو يغفر لي حبي لممحمة ..ىذا الحب الذي دفع مقابمو
أرواح أعز الناس ،فيؿ أقدر عمى تعويضو بشيء؟ غفرانؾ ربي،
فبعض أخطاء اإلنساف سببيا المحبة .لقد أردت ليـ العيش في
تقدروف وتضحؾ األقدار!"
المحمة محاطيف بالحب واأللفة ..ولكفّ ،
نيضت مف مكانيا وضربت يداً بيد ،وىي تموب في أرجاء الغرفة" .ال
أحد يقؼ في وجو القدر .كؿ منا يحمؿ قدره في ذرات ذاتو! وال أحد
يستطيع تغيير ذاتو ..أو قدره"..
"مرحباً رابية"..
"أفكر"،
"بماذا؟"
"أال تعرفيف؟"
ضحكت" ،ىؿ تظؿ ترد عمى أسلمتي بأسلمة مقابمة؟"
ردت" ،نعـ"،
ردت" ،لنكف"..
"إلى الغد".
ضحكت ٍ
بتحد" ،لـ أنس شيلاً يا غياث بؿ تذكرت ".وضعت
الشريط في مسجؿ السيارة ،فانثالت سوناتا بيتيوفف لمبيانو .نظرت
إلى غياث" ،أنت تنسى ما تريد نسيانو .وأنا يا غياث ال أريد نسياف
أي شيء"..
في ذلؾ اليوـ ،لـ يسمؾ غياث الطرؽ الفرعية التي اعتاد أف
يسمكيا ،ولـ يتفرج عمى ما حولو ،بؿ سمؾ اقصر الطرؽ المؤدية إلى
المحمة .الذت رابية بالصمت ،فقطعا المسافة ينصتاف لمموسيقى.
وصبل إلى دار الحاج ،ودلفا إليو عبر الفتحة الميدمة التي
كانت إلى ما قبؿ يوميف باباً خشبية عتيقة ،يزينيا رأس أسد نحاسي،
تتدلى مف فتحتي أنفو خزامة .تمؾ الباب واألسد تحوال بأيدي سنا وىند
إلى باب يمتمع خشبو ونحاسو ،ليزيف الدار الجديدة.
اسكوتبلندا .مبني منذ أكثر مف خمسة قروف .ىجره أىمو ،وظؿ خاوياً
ألف أرواحاً شريرة تسكنو .حيف سمعت القصة آنذاؾ ،ضحكت مف
مخيمة مف اخترع ىذه الحكاية ،وسخرت مف سذاجة مف يصدقيا.
توقفت برىة لتمتقط أنفاسيا ،أو ربما لتتفرج عميو .ثـ تقدمت
بخطوات مترددة .وقفت إلى جواره .شبحاف مف الماضي؟ أـ تخطيط
لصورة مستقبؿ قد يكوف؟ أماميما السياج المؤقت الذي يسجف األبنية
وراءه .ويسجف شجرة السدر" .أال يذكرؾ ىذا السياج بالخرقة السوداء
التي تغطي عيوف المحكوميف باإلعداـ ،لحظة إعداميـ؟"
ضربة عمى جدار المعرض .وانيار جزء آخر منو .في تمؾ
القاعة وقؼ ىاني مسعود مرحباً بزوار معرضو وىو يبتسـ .ىناؾ
كاف ثمة لوحة..
وقفا طيمة النيار .لـ يقوال إال القميؿ ،القميؿ ..فما ىما في
النياية إال ابتسامة تسببيا دمعتاف .مثؿ جزلي الدالرة ،يكمؿ أحدىما
اآلخر .وكؿ منيما يميؿ لمسقوط ،ويسند أحدىما اآلخر فيمنع
سقوطو.
يتكامبلف ..لو!