You are on page 1of 279

‫لو دامت األفياء‬

‫رواية ناصرة السعدون‬


‫جميع الحقوؽ محفوظة لممؤلفة‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪1986‬‬

‫الغبلؼ‪ :‬سينا عطا‬

‫منشورات بيت سف لمكتب‬

‫مطبعة بابؿ‬
‫اإلهداء‬

‫إليه‪...‬‬
‫(‪)1‬‬

‫قادت رابية الحمود سيارتيا مخترقة شوارع بغداد المزدحمة‪،‬‬


‫في الطريؽ إلى دارىا‪ ،‬بعد أف زارت المعرض الشامؿ المقاـ في‬
‫متحؼ الفف الحديث‪.‬‬

‫لـ تشعر بالرضا عف نفسيا‪ ،‬مما أثار فييا االضطراب‪ ،‬فمقد‬


‫اعتادت مواجية نفسيا بصراحة‪ ،‬وىو ما تعجز عف تحقيقو اآلف‪.‬‬
‫ىزت رابية رأسيا كأنما تنفض عنو غبار األفكار المتناقضة التي‬
‫تتصارع فيو‪ ،‬واستدارت بسيارتيا ثـ وقفت أماـ الضوء األحمر‪ .‬مدت‬
‫يدىا وضغطت عمى زر المسجؿ فانطمؽ أنيف الكماف المنفرد‪.‬‬

‫حيف جمبت صديقتيا سنا حامد بطاقة الدعوة لحضور افتتاح‬


‫المعرض الشامؿ‪ ،‬رفضت الذىاب معيا تحاشياً لمزحاـ‪ .‬فمنذ سنوات‬
‫بعيدة ورابية تحاوؿ تحاشي التماس مع اآلخريف قدر اإلمكاف‪ ،‬ألنيا‬
‫تعرؼ طبيعة اندفاعاتيا التي سببت ليا الكثير مف خيبات األمؿ‪،‬‬
‫فيي ال تعرؼ الحموؿ الوسط‪ ،‬وترفض الزيؼ‪ ،‬أياً كاف مصدره‪:‬‬
‫ٍ‬
‫موغمة بالقدـ‪.‬‬ ‫األىؿ‪ ،‬األصدقاء‪ ،‬الزمبلء‪ .‬وكما رفضتو قبؿ سنوات‬

‫سنوات طويمة مرت وىي تعيش في شبو عز ٍ‬


‫لة فرضتيا عمى‬
‫نفسيا مذ قررت العيش إلى جانب المجتمع ال في داخمو‪ ،‬للبل تجرىا‬
‫ٍ‬
‫جديدة‪.‬‬ ‫أمؿ‬ ‫ٍ‬
‫انتماء تعرؼ في نيايتو خيبة ٍ‬ ‫االندفاعات إلى‬

‫واليوـ ذىبت إلى المعرض لكي تشاىده وحدىا‪ ،‬واذا بيا ترى‬
‫مجموعة مف الطمبة مع أستاذىـ‪ .‬ودخمت في حو ٍار كانت ىي البادلة‬
‫فيو‪ ،‬وىي التي أنيتو‪.‬‬
‫دندنت مع أنيف الكماف لتبعد ذىنيا عف التفكير في ىذا‬
‫األستاذ الذي رأتو ألوؿ مرة مع جمعٌ مف طمبتو في المعرض‪ .‬كاف‬
‫في نبرة صوتو ما استوقفيا‪ ،‬فأنصتت‪ .‬ثـ كاف لطريقتو في الحوار ما‬
‫شد انتباىيا‪ ،‬وأنساىا قرار عزلتيا‪ ،‬فدخمت معو في نقاش‪.‬‬

‫ال تعرؼ إال أف اسمو غياث‪ .‬غياث ماذا؟ غياث مف؟ ال‬
‫تدري‪ .‬وحيف أحست أف ىذا الحوار سوؼ يجرىا إلى حوارات أخرى‪،‬‬
‫أنيتو بسرعة وانسحبت‪ .‬ال‪ ،‬بؿ ىربت‪ ،‬ألنيا خشيت أف يتيدـ جدار‬
‫عزلتيا الذي بنتو وحرصت عميو‪.‬‬

‫المعجؿ‬
‫ّ‬ ‫وصمت إلى حيث يخؼ الزحاـ‪ ،‬فداست عمى‬
‫وأطمقت لسيارتيا العناف‪ ،‬كأنما تيرب بسرعتيا مف تبلحؽ أفكارىا‪.‬‬
‫حيف دخمت الدار‪ ،‬وجدت أميا منيمكةً في التفرج عمى التمفزيوف‪ ،‬فمـ‬
‫تطؿ البقاء معيا‪ ،‬بؿ ذىبت إلى ركنيا الذي تسميو (بيتي)‪ .‬جمست‬
‫عمى األرض في مواجية النافذة المطمة عمى حديقة زىورىا‪ ،‬وعادت‬
‫بذاكرتيا إلى سنو ٍ‬
‫ات نسيت طعـ أياميا‪ ،‬وأصحاب شحبت أسماؤىـ‬
‫في مخيمتيا‪.‬‬

‫سنوات تربو عمى عقديف مف السنيف‪ .‬سنوات كاف كؿ ما‬


‫فييا جديد عمييا‪ :‬الحياة والحرية والحب والوطف واألرض والفف‬
‫واألدب‪ .‬كانت رابية فتيةً‪ ،‬فبدا كؿ ما حوليا فتياً‪ ،‬وكؿ جديد تكتشفو‬
‫يذىميا‪ ،‬ويجعؿ الدماء تتسارع في أوردتيا‪.‬‬

‫تحمست لمشعر الحر حتى لكأنو قضية حياتيا‪ ،‬ثـ انتقدتو‬


‫بالشراسة نفسيا التي دافعت بيا عنو‪.‬‬

‫رأت في ُنصب الحرية عمبلقاً تتقزـ المدينة أمامو‪ ،‬ثـ‬


‫ىاجمتو لغرابتو وبعده عف درجة الوعي السالد في البمد‪.‬‬
‫نبي يبشر العالـ تعاليـ مقدسة‪ .‬ال‪ ،‬بؿ فيو تناقض‬
‫تولستوي ٌ‬
‫لـ تقبمو‪ .‬صار ديستويفسكي ىو النبي الذي قتمو اإلرىاب والمرض‪.‬‬

‫فرويد عالـ جديد مذىؿ‪ ،‬منو انتقمت إلى أدلر ثـ يونغ‪.‬‬

‫غاندي والبلعنؼ‪ .‬ال‪ ،‬بؿ الثورة المسمحة‪.‬‬

‫سارتر ىو النموذج‪ ،‬الفيمسوؼ‪ .‬والحرية ىي المدى الذي‬


‫يمكف أف يسعيا‪ .‬لكف أية حرية؟ لـ تجد عند سارتر اإلجابة التي‬
‫تشفي غميؿ تساؤليا‪ .‬فسعت لتبحث عنيا في مكاف آخر‪.‬‬

‫السريالية والتعبير عف أعماؽ الذات‪ ...‬المسرح التجريبي‬


‫الطميعي‪ ..‬كؿ شيء قابؿ لمنقاش‪.‬‬

‫لـ تكف رابية الحمود مف جميبلت الجامعة البللي يمفتف‬


‫االنتباه بجماؿ الوجوه األجساد واألناقة‪ ،‬لكف شيلاً ما يجعميا أشبو‬
‫بفرس بر ٍ‬
‫ية أصيمة‪ .‬لـ تكف جميمة إال في عينييا المتيف تحتضناف‬ ‫ٍ‬
‫العالـ بسعتيما وعمؽ سوادىما‪ .‬عيناف سوداواف‪ ،‬وأىداب طويمة عمى‬
‫بشرة حنطية‪ .‬وحيوية فالقة جعمت مف رابية فتاة متميزة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بحاجة لمقوؿ‪ ،‬بؿ تكفي نظرة لتعبر عيناىا عما تريد‪.‬‬ ‫لـ تكف‬
‫(إنيا تكتب الشعر بعينييا‪ ،‬وترسـ الكممات بأىدابيا) ذلؾ ما قالو‬
‫عنيا أحد الشعراء الشباب ممف كتب الشعر أياـ كانا في الجامعة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫كجرس فضي في ساحات الكمية ونادييا‪.‬‬ ‫ترف ضحكتيا‬
‫تضحؾ لمشمس وتبتسـ لمسماء‪ .‬تغازؿ المطر الذي يحمو ليا أف‬
‫تسير تحتو حاسرة الرأس حتى تبتؿ مبلبسيا‪ ،‬ويمتصؽ الشعر‬
‫بيامتيا‪ .‬ترفع وجييا لتغسمو بحبات المطر‪ .‬تحب أف تشؽ خيوط‬
‫المطر وتنساب بيف نسيجو لتكوف جزءاً مف الغيمة والطيف‪.‬‬
‫في ٍ‬
‫يوـ ما‪ ،‬شاىدىا الدكتور عامر أحمد‪ ،‬وىي تمشي اليوينا‬
‫تحت رذاذ المطر‪ ،‬فسأؿ إحدى زميبلتيا‪" ،‬مف تكوف غريبة األطوار‬
‫ىذه؟"‬

‫"إنيا رابية الحمود‪ "،‬ولـ تكمؿ الزميمة تعريفو برابية‪ ،‬ألف‬


‫التعريؼ برابية لـ يكف سيبلً‪ ،‬فالكؿ يعرفيا وال أحد يعرؼ عنيا شيلاً‪.‬‬

‫أبمغتيا الزميمة بما قالو عنيا أستاذ عامر عنيا‪ ،‬فضحكت‪،‬‬


‫والتمعت نظرةٌ متحديةٌ في عينييا‪ .‬في اليوـ التالي ذىبت إليو‪" ،‬دكتور‬
‫عامر صباح الخير‪".‬‬

‫"أىبلً‪ ،‬صباح النور‪ ،‬تفضمي؟"‬

‫"جلتؾ يا أستاذ ألنؾ باألمس سألت عني‪ .‬فيؿ تسمح لي‬


‫بسؤالؾ عما أردت معرفتو؟"‬

‫"أبداً‪ ،‬استغربت منظرؾ ماشيةً تحت المطر‪ ،‬فسألت‪ .‬ىؿ في‬


‫ذلؾ ضير؟"‬

‫"ال‪ ،‬العفو أستاذ‪ .‬لكني استغربت سؤالؾ‪ .‬ومع ذلؾ أجيبؾ‬


‫عنو‪ .‬نعـ‪ ،‬أنا أحب السير تحت حبات المطر‪ .‬وأتمنى لو استطعت‬
‫أف أسير حافية ألحس باألرض وىي تبلمس جمدي‪ .‬أال ترى يا أستاذ‬
‫أف المدنية قد أنستنا طعـ الحياة؟ كمنا يركض ويركض‪ ،‬كأنما يسابؽ‬
‫عقارب الساعة‪ .‬نركض لحتفنا دوف أف نحس بطعـ الحياة‪ .‬نسينا لوف‬
‫الشجر‪ ،‬ونسينا صياح الديكة عند الفجر‪ ،‬ونسينا المطر‪ .‬صار كؿ‬
‫ما نعرفو ىو دقات الساعة المعينة‪ ،‬وضوء النيوف وطعـ المياه‬
‫المعقمة‪".‬‬

‫صمتت رابية برىةً وىي تحدؽ بعيني الدكتور عامر‪ ،‬فمـ تجد‬
‫فييما فيماً لما تقوؿ‪ ،‬بؿ نظرة إعجاب بمياء‪ .‬أكممت جممتيا بالقوؿ‪،‬‬
‫"ليذا أحب التمشي تحت خيوط المطر ألحس ببعض الحياة الطبيعية‬
‫تنساب إلى مسامي‪ ،‬وتعيد لي بعض‪ ..‬بعض الطبيعة‪ ،‬ال غير‪ ،‬يا‬
‫أستاذ عامر‪ "،‬ابتسمت وانتظرت تعميقاً منو‪ ،‬ثـ أردفت‪" ،‬لماذا تنظر‬
‫لي باستغراب؟ ىؿ تجد فيما أفعمو عيباً؟"‬

‫"بالعكس‪ ،‬إنما أستغرب أف يصدر عف شابة مثمؾ قوؿ كيذا‪،‬‬


‫فالشباب تستيوييـ الحداثة ويشدىـ التصنيع‪"..‬‬

‫قاطعتو رابية‪" ،‬حتى نسي الشباب أف الحياة ليا لوف وطعـ‬

‫ورالحة‪ ،‬نسينا أننا بشر‪ ،‬وأف األرض أرض‪ .‬فاألرض صارت اسمنتاً‬
‫والمياه صارت مجاري‪ ،‬واألشجار أبنية وعمارات‪".‬‬

‫"أرى فيؾ يا رابية ميبلً لمفمسفة‪ ،‬فيؿ أنت مف قسـ الفمسفة؟"‬

‫عمـ نسيناه حيف نسينا تاريخنا‪ .‬لـ أر في‬


‫"كبل‪ ،‬الفمسفة عندنا ٌ‬
‫المناىج التي تدرس عندنا‪ ،‬أو في أساتذتو ما يستيويني‪ ،‬حتى‬
‫تدرس‬
‫األسلمة البدييية يعجزوف عف اإلجابة عنيا‪ .‬عندنا يا دكتور ّ‬
‫الفمسفة معمبةً‪ .‬كبل يا أستاذ‪ ،‬لست مف قسـ الفمسفة‪ ،‬بؿ قسـ المغة‪،‬‬
‫فيي في األقؿ تفتح لي أبواب العمـ وتكوف أداتي لولوج عالمو‬
‫الرحب‪".‬‬

‫لـ تجد عند الدكتور عامر حوا اًر يشدىا‪ ،‬فاعتذرت وتركتو‬
‫وىو ما يزاؿ يتساءؿ‪" ،‬غريبة أطوار ىذه‪ ،‬أـ ماذا؟" ولـ يشغمو السؤاؿ‬
‫طويبلً‪ ،‬فمديو مف المشاغؿ اليومية ما ينسيو أمر طالبة ترتدي مبلبس‬
‫بسيطة‪ ،‬وتشد شعرىا بشريط‪ ،‬وال تضع الزينة عمى وجييا‪ .‬ومع ذلؾ‬
‫لـ ينس الدكتور عامر اسـ رابية الحمود‪.‬‬

‫لـ ُيعرؼ عنيا في الجامعة أنيا تعيش في قصر منيؼ يطؿ‬


‫أحد أنيا‬
‫أحد أنيا مدلمة أبييا‪ ،‬كما لـ يعرؼ ٌ‬
‫عمى دجمة‪ ،‬ولـ يعرؼ ٌ‬
‫في صباح كؿ يوـ تطمب مف سالؽ السيارة التي تقميا إلى الجامعة‪،‬‬
‫أف يتركيا في شارع فرعي لتذىب إلى الكمية سي اًر عمى قدمييا‪ ،‬كي ال‬
‫أي مف زميبلتيا‬
‫يراىا أحد وىي تركب السيارة الفارىة‪ .‬ولـ تفيـ ٌ‬
‫السبب الذي يجعميا ال تقبؿ زيارة أياً منيف لبيتيا‪ ،‬ولـ تعرؼ أي‬
‫منيف أف رابية تخجؿ مف ثراء أبييا صقر الحمود‪ ،‬كما تحاوؿ إخفاء‬
‫عراقة نسبيا‪.‬‬

‫كما لـ يق أر أحد القصالد والقصص التي تكتبيا‪ ،‬باستثناء‬


‫صديقتيا سنا حامد‪ ..‬وسنا ىذه تعرؼ كؿ شيء عف رابية‪ ،‬ألنيما‬
‫عاشتا العمر صديقتيف‪ .‬مف يراىما معاً ال يفيـ ما يربط الواحدة منيف‬
‫إلى األخرى‪ .‬فسنا ىادلة الطباع‪ ،‬رقيقة الصوت‪ ،‬جميمة بشكؿ يحفز‬
‫الخياؿ‪ :‬قو ٌاـ أىيؼ‪ ،‬وتقاطيع حالمة‪ ،‬وعيناف خض ارواف تحيطيما‬
‫رموش سود‪ ،‬وفـ رقيؽ الشفتيف وشعر أشقر ينسدؿ عمى كتفييا‬
‫ٌ‬
‫ويصؿ إلى خصرىا‪ .‬متلدة الخطوات‪ ،‬بعكس رابية التي تسرع الخطى‬
‫حتى واف كانت تتمشى‪.‬‬

‫ق اررات سنا متأنية‪ ،‬ميما كاف القرار قميؿ الشأف‪ ،‬في حيف أف‬
‫رابية سريعة في اتخاذ القرار‪ ،‬وأسرع في تنفيذه‪ .‬كـ سمعت رابية أميا‬
‫وىي تكرر القوؿ‪" ،‬انظري إلى سنا‪ ،‬سنا متعقمة‪ .‬كوني مثميا‪،‬‬
‫تخمصي مف عجالتؾ‪ ،‬فالعالـ لف يطير‪ .‬كـ أتمنى لو كاف ِ‬
‫فيؾ بعض‬
‫ىدوء سنا‪ ".‬سمعت رابية ىذا القوؿ ملات المرات مف أميا‪ ،‬فتضحؾ‬
‫وتيز رأسيا وىي تجيب‪" ،‬إذف‪ ،‬لتكف سنا ىي المبلؾ الحارس لي مف‬
‫نفسي‪ ..‬أال يرضيؾ ىذا؟"‬

‫لـ يعترض صقر الحمود عمى ىذه الصداقة‪ ،‬بالرغـ مف أنو‬


‫ٍ‬
‫بحجة أو بأخرى‪ .‬وكـ عانت رابية‬ ‫قد عارض أغمب صداقات ابنتو‬
‫مف معارضتو ىذه‪ ،‬وكـ مف دموٍع سفحت مف مقمتييا ليذا السبب‬
‫حيف كانت صغيرة‪ ..‬وحيف كانت ترضى لنفسيا أف تبكي أمامو‪..‬‬
‫"أبي‪ ،‬لماذا ال تحاوؿ أف تفيـ؟ نعـ‪ ،‬سنا صديقتي‪ ،‬لكف أيكفي‬
‫اإلنساف أف يكوف لو صديؽ واحد طواؿ حياتو؟ قؿ لي‪ ،‬ما سبب‬
‫اعتراضؾ عمى إلياـ‪ ،‬أو آماؿ‪ ،‬أو صبا‪ ..‬أو‪ ..‬أو؟"‬

‫ويجد أبوىا عيباً في كؿ و ٍ‬


‫احدة منيف‪ .‬وحتى إف رضي ليا‬
‫بصداقة ما‪ ،‬في ٍ‬
‫وقت ما‪ ،‬فإنو يعود ليجد اعتراضاً في ٍ‬
‫يوـ الح ٍ‬
‫ؽ‪ .‬لـ‬ ‫ٍ‬

‫تكف اعتراضاتو تقنع رابية‪ ،‬لكنيا تكبح غضبيا عمى مضض‬


‫وتسكت‪ .‬فرابية لـ تكف تعرؼ بعد معنى االعتراض‪ ،‬كؿ ما تعرفو أف‬
‫مخالفة أوامر األىؿ عيب كبير!‬

‫أميا لـ تعترض طواؿ حياتيا‪ ،‬إخوتيا وأخواتيا لـ يعترضوا‬


‫عمى أوامر األىؿ‪ ،‬فيؿ تجيء ىي لتشؽ طريقاً جديداً وع اًر مف‬
‫المخالفة واالعتراض؟ ومف أيف ليا أف تعرؼ ماىية االعتراض؟ واف‬
‫عرفت‪ ،‬فيؿ يجوز ليا؟‬

‫عوضتيا صداقة سنا عف اآلخريف‪ .‬والحيز اآلخر في نفسيا‬


‫شغمتو صحبة كتبيا وموسيقاىا‪ .‬فاختارت وحدتيا بديبلً عف مشاكؿ‬
‫المعارضة‪ ،‬وتعممت االستمتاع بيا‪.‬‬

‫كاف ذلؾ في أياـ المدرسة‪ .‬وأياـ المدرسة مرت بسرعة‪ ،‬فمقد‬


‫اجتازتيا رابية‪ ،‬وكانت متميزة خبلليا‪ ،‬فيي متفوقة في دراستيا‪ ،‬وبطمة‬
‫األلعاب الرياضية‪ ،‬وأبرز صوت في الخطابة والتمثيؿ‪ .‬وحيف أنيت‬
‫الدراسة اإلعدادية اختارت دراسة األدب‪ ،‬في حيف اختارت سنا‬
‫الفمسفة‪ .‬فجاء اختيارىما في الكمية نفسيا‪ ،‬وبقيت الصداقة عمى ما‬
‫ىي عميو مف قوة‪ .‬ولكف‪..‬‬

‫لكف رابية وجدت في الجامعة عالماً جديداً‪ ،‬وتجربة مختمفة‬


‫ٍ‬
‫لحياة‬ ‫عف أياـ اإلعدادية وما قبميا‪ ،‬فقررت أف تكوف الجامعة مدخبلً‬
‫جديدة ليا‪ ،‬ولـ يعرؼ بقرارىا ىذا إال سنا‪" .‬سنا‪ ،‬لف أخالؼ أوامر‬
‫أبي‪ ،‬إنما سأعيش حياتي‪ .‬كؿ ما في األمر أني لف أحكي ليـ عف‬
‫أحداث يومي كما اعتدت أف أفعؿ‪".‬‬

‫صارت تمضي مع أىميا الحد األدنى مف الزمف‪ ،‬ثـ تعتكؼ‬


‫في غرفتيا بحجة الدراسة والتحضير‪ .‬وحيف تزورىا سنا‪ ،‬تصعد إلى‬
‫غرفتيا‪ ،‬ولـ تعودا تجمساف مع العالمة‪ ،‬بؿ في غرفة رابية‪ .‬لـ توجو‬
‫الدعوة ألحد مف الجامعة لزيارتيا‪ ،‬للبل يعترض أبوىا‪ ،‬وللبل يعرؼ‬
‫أحد في الجامعة أنيا تعيش حياة الترؼ والبذخ‪ .‬فعاشت رابية أياـ‬
‫الجامعة في عالميف يختمؼ أحدىما عف اآلخر‪ ،‬ال بؿ يتناقض معو‪.‬‬
‫ففي الجامعة ىي المحاورة إلى حد المشاكسة‪ ،‬تدس نفسيا في كؿ‬
‫األمور‪ ،‬في العمـ والفف واألدب والسياسة‪ .‬تحاور وتناقش مف حوليا‬
‫مف الطمبة واألساتذة‪ .‬أما في البيت‪ ،‬فيي البنت المطيعة المنزوية‪،‬‬
‫والتمميذة المجتيدة التي تقضي جؿ وقتيا في الدراسة والقراءة‪.‬‬

‫لـ تعد تستيوييا الحياة االجتماعية الحافمة التي تعيشيا‬


‫عالمتيا‪ ،‬فالحفبلت والسيرات والرحبلت صارت متعاً فارغة ال تشارؾ‬
‫بيا‪ ،‬إذ ال وقت لدييا لتضيعو‪ .‬والقراءة والموسيقى تغطي الساعات‬
‫التي تعيشيا في المنزؿ‪ ،‬وال تكفييا‪ .‬فما أكثر الكتب التي لـ تقرأىا‬
‫بعد‪ ،‬وما أقؿ ساعات اليوـ‪ .‬مع ذلؾ بقي شيء ما تشعر رابية‬
‫بنقصو‪ ،‬شيء يربطيا بالحياة التي تمور مف حوليا‪.‬‬

‫في عاميا الثاني في الجامعة عرفت العمؿ السياسي‪،‬‬


‫فانغمرت فيو بكؿ إيمانيا المختزف‪ ،‬وبكؿ حماستيا‪ .‬صار العمؿ‬
‫السياسي ىو األساس‪ ،‬وما عداه إضافة‪ .‬ومف عمميا السياسي تعممت‬
‫الرفض‪ ،‬فعرفت الثورة‪ .‬عمميا السياسي كاف بداية حياة جديدة‪ ،‬حياة‬
‫شعرت أف ليا ىدفاً‪ ،‬فيي حياة ىادفة ومسؤولة وموجية‪ .‬صداقاتيا‪،‬‬
‫وقراءاتيا وحياتيا صار ليا طعـ آخر‪ ،‬وقيمةً أخرى‪ .‬تقييميا لآلخريف‬
‫صار معياره األساس مدى انتماء أي منيـ‪.‬‬
‫أحس أىميا بالتغيير الذي ط أر عمييا‪ ،‬وجاءتيـ أخبار‬
‫انغمارىا بالعمؿ السياسي‪ .‬حاولوا إبعادىا عف ىذه المياه الخطرة‪ ،‬فمـ‬
‫تستمع ليـ‪ .‬فكانت المجابية األولى ليا مع أبييا‪ .‬إذ رفضت رابية‬
‫لممرة األولى في حياتيا‪ .‬رفضت إحناء رأسيا لقرار العالمة بترؾ‬
‫العمؿ السياسي‪ ،‬فكانت األزمة األولى‪ .‬فاألب محافظ وعنيد‪ ،‬ورابية‬
‫مقتنعة بصواب رأييا‪ ،‬وعنيدة بدورىا‪.‬‬

‫كاف صراع األرادة بيف األب وابنتو المفضمة‪ ،‬صراعٌ شرس‪.‬‬


‫حاوؿ كؿ أفراد العالمة تخفيؼ غمواء غضب األب وخيبة أممو‪ ،‬فما‬
‫ٍ‬
‫بجدار أصـ‪ .‬تحولت‬ ‫أي منيـ‪ .‬وحاولوا مع رابية‪ ،‬فاصطدموا‬
‫أفمح ٌ‬
‫األزمة إلى ىٍـ خيـ عمى الجميع‪ ،‬مثؿ غيمة سوداء حبمى بالمطر وال‬
‫تمطر‪ ،‬واف أمطرت كاف مطرىا غضباً عاتياً‪ .‬ما أحنت رابية رأسيا‪،‬‬
‫وال األب رضي عنيا‪ .‬لكف الحياة استمرت في مسارىا‪.‬‬

‫بقي الحب بيف األب وابنتو‪ ،‬لكنو تحوؿ إلى حب صامت ال‬
‫يعبر أي منيما عنو‪ ،‬وال يقدر أي منيما العيش مف دونو‪ .‬صارت‬
‫سنا ىي خيط التواصؿ بيف ثورة رابية‪ ،‬وثورة أبييا عمييا‪ .‬سنا صارت‬
‫لؤلب اإلبنة التي يتواصؿ معيا‪ ،‬وىي لرابية رسوؿ المحبة إلى األب‬
‫الذي عجز عف الفيـ‪ ،‬ألنو ال يريد أف يفيـ‪ .‬وسنا‪ ،‬ىذه اإلنسانة‬
‫الرقيقة‪ ،‬تحمؿ في أعماقيا كن اًز مف المحبة لكمييما‪.‬‬

‫لـ يعترض صقر الحمود عمى التزاـ سنا وانخراطيا بالعمؿ‬


‫السياسي‪ ،‬ولـ يجد في ذلؾ غضاضةً‪ .‬فسنا متعقمة‪ ،‬وىي مع‬
‫التزاميا‪ ،‬ال تضع نفسيا في مواقع الخطر مثؿ رابية‪ ،‬بؿ تعرؼ كيفية‬
‫المحافظة عمى نفسيا‪ .‬كما أنيا حرة في أف تختار لحياتيا ما تشاء‪،‬‬
‫فيي ليست ابنتو‪ .‬لكف رابية ىي ابنتو وعمييا إطاعة أوامره‪ .‬مف حؽ‬
‫نخرط بالعمؿ السياسي‪ ،‬فأبوىا كاف سياسياً‪ .‬لكف رابية‪ ،‬ىذه‬
‫سنا اال ا‬
‫المتمردة‪ ،‬بأي حؽ تحرجو أماـ األصدقاء واألىؿ؟‬
‫لـ تفمح محاوالت سنا إلقناعو‪ ،‬أو تخفيؼ غمواء غضبو‪ .‬ولـ‬
‫يفمح رفض رابية في إقناعو‪ .‬فظؿ كؿ منيما عمى حالو‪.‬‬

‫ظمت رابية تعيش حياتيا المجزأة‪ ،‬وال أحد ممف حوليا يعرؼ‬
‫ما تعانيو‪ ،‬فيي تغطي متاعبيا بستار االبتسامة والضحكة الرنانة‪ .‬فبل‬
‫األىؿ يفيموف ما تعاني مف عنت في الخارج‪ ،‬وال الزمبلء والرفاؽ‬
‫يعرفوف ما يدور بيف جدراف البيت‪ .‬الكؿ يجيؿ‪ ،‬إال سنا التي تعرؼ‬
‫كؿ شيء‪ ،‬ال بؿ عرفت دوماً كؿ شي عف رابية صقر الحمود‪.‬‬

‫ظمت رابية تعيش حياتيا الجامعية بكؿ نيميا لمحياة‬


‫وحماستيا‪ ،‬لتبني المستقبؿ‪ ،‬ثـ تعود إلى الدار منيكة لتجد جدار‬
‫الصمت أماميا‪ .‬فبل األب يرضى عنيا‪ ،‬وال األـ تجرؤ أف تعصي‬
‫أوامر رب العالمة بمقاطعتيا‪ ،‬وال األخوة واألخوات يجدوف ما يتحدثوف‬
‫معيا عنو‪ ،‬فعالميـ يختمؼ عنيا‪ .‬يواجييا الصمت كؿ يوـ حيف‬
‫وتسمع‬ ‫تدخؿ الدار‪ ،‬فتأكؿ لقمة ثـ تصعد إلى غرفتيا لتق أر‬
‫الموسيقى‪ .‬حتى يجيء الصباح فتعود إلى الجامعة‪ ،‬تعود إلى الحياة‬
‫الجديدة التي اختارتيا نسغاً جديداً تنتمي إليو‪.‬‬

‫وفي يوـ عادت رابية إلى الدار فوجدت العالمة بكؿ أفرادىا‬
‫بانتظارىا‪ :‬األـ مبتيجة‪ ،‬األخوات يتضاحكف‪ ،‬األخوة يتيامسوف‬
‫ويخفوف فرحتيـ‪ .‬لـ تفيـ رابية ما حصؿ لينيي حالة الحصار‬
‫المفروضة عمييا‪ .‬لكنيا‪ ،‬عمى عادتيا‪ ،‬لـ تسأؿ أحداً منيـ عما‬
‫حدث‪ ،‬بؿ ذىبت مباشرة إلى المطبخ‪ ،‬حيث لحقتيا أميا‪" ،‬رابية‪،‬‬
‫حبيبتي‪ ،‬يبدو التعب عميؾ واضحاً‪"..‬‬

‫"نعـ بي صداع يزعجني‪ ،‬لكنو سيزوؿ بعد قميؿ‪".‬‬

‫"بؿ أنؾ متعبة‪ ،‬لقد طبخت لؾ طعامؾ المفضؿ‪ ،‬فكمي‬


‫بعضاً منو‪"..‬‬
‫"شك اًر‪ "..‬وصبت لنفسيا صحناً مف الطعاـ مف دوف أف‬
‫تضيؼ كممة إلى ما قالت‪ .‬انيمكت‪ ،‬أو تظاىرت باالنيماؾ بتناوؿ‬
‫طعاميا‪.‬‬

‫"رابية‪ ،‬سيزورنا اليوـ بعض الضيوؼ‪ ،‬فما رأيؾ لو نزلت‬


‫لمقابمتيـ؟ طبعاً بعد أف ترتاحي قميبلً مف تعب الجامعة ومشاكميا‪"..‬‬

‫"أي ضيوؼ؟ لـ أعتد ترؾ دروسي لمقابمة الضيوؼ‪،‬‬


‫خصوصاً وأنت تعرفيف أف االمتحانات عمى األبواب‪"..‬‬

‫"حبيبتي‪ ،‬ليس ىؤالء مثؿ ضيوؼ كؿ يوـ‪ ..‬إنيـ يزورونا‬


‫ألوؿ مرة‪ ،‬أرجوؾ قابمييـ معنا‪".‬‬

‫"ماما‪ ،‬قمت لؾ أني لـ أعتد مقابمة ضيوفكـ‪ ،‬فما الذي‬


‫استجد؟"‬

‫"الجديد في األمر‪ ،‬أنيف أخوات الدكتور عامر أحمد‪ ،‬األستاذ‬


‫في كميتكـ‪"..‬‬

‫"ثـ ماذا؟؟ ما دخمي باألمر؟"‬

‫"الدكتور عامر يطمب يدؾ‪"..‬‬

‫"يدي؟؟ لكني ال أعرفو‪ ،‬بؿ ال أعرؼ عنو أكثر مف كونو‬


‫أحد أساتذة الكمية‪ ،‬فما الذي يدفعو لخطبتي؟"‬

‫"حبيبتي‪ ،‬إنؾ فتاة ذات مواصفات ممتازة‪ ،‬جميمة وابنة‬


‫عالمة‪ ،‬ومثقفة‪ .‬يتمنى الكؿ االقتراف بؾ‪ .‬ثـ أف الدكتور عامر ال‬
‫يعيبو شيء‪"..‬‬

‫"ماما‪ ..‬أنا ال أنوي الزواج‪ ،‬ثـ أني لف أتزوج بيذه الطريقة‬

‫أبداً! قد ال يعيب الدكتور عامر شيء‪ ..‬قد يكوف إنساناً عظيماً‬


‫ورالعاً‪ ..‬لكني لست مستعدة لمزواج اآلف‪ .‬كما أني أرفض زيجة‬
‫سخيفة مثؿ ىذه‪ ".‬ثـ دفعت صحنيا بعيداً مف دوف أف تأكؿ إال القميؿ‬
‫منو‪ ،‬وصعدت إلى غرفتيا‪ .‬أغمقت الباب بالمفتاح‪ ،‬ووضعت اسطوانة‬
‫عزؼ عمى األورغف لباخ‪ ،‬رفعت الصوت حتى أغرقيا موج األورغف‪.‬‬
‫وظمت معو حتى الصباح‪.‬‬

‫في الصباح ارتدت مبلبسيا وحممت كتبيا لتذىب إلى‬


‫الجامعة‪ .‬مرت بالسيارة عمى سنا لتأخذىا مثؿ كؿ يوـ‪ .‬ما أف‬
‫صعدت سنا إلى السيارة وألقت التحية حتى سألت‪" ،‬ىؿ قبمت الزواج‬
‫مف دكتور عامر؟"‬

‫"ومف يكوف دكتور عامر ألقبؿ الزواج منو؟ ىؿ تعرفينو يا‬


‫سنا؟ ىؿ تعرفيف كيؼ يفكر؟ ما انتماؤه؟ ما حياتو؟ ثـ‪ ،‬كيؼ ترضيف‬
‫لنفسؾ طرح مثؿ ىذا السؤاؿ؟ كيؼ يمكف لي أف أقبؿ الزواج بمثؿ‬
‫ىذه الطريقة؟ رجؿ ال أعرفو‪ ،‬كيؼ أتزوج رجبلً كؿ ما أعرفو عنو ىو‬
‫أنو أستاذ في الجامعة؟ ثـ‪ ..‬كيؼ أرضى برجؿ يقبؿ بيذه الطريقة‬
‫الختيار اإلنسانة التي سترافقو طيمة حياتو؟ ما الذي يعرفو عني؟"‬

‫"البد أنو سمع عنؾ في الكمية ما يرضيو‪".‬‬

‫"أيكفي ىذا؟ أيكفي السماع يا سنا‪ ،‬لكي يربط حياتو بي؟"‬


‫صمتت رابية برىة وقد أدارت وجييا لتنظر إلى المدينة التي تحيط‬
‫بيا‪ ،‬ثـ أردفت‪" ،‬ثـ‪ ..‬مف قاؿ أف ما سمعو عني صحيح؟ أال يجوز‬
‫أف يكوف قد تقدـ لخطبة ابنة صقر الحمود؟" ضحكت رابية بسخرية‪،‬‬
‫وعادت لتنظر إلى سنا‪" ،‬وفي ىذه الحالة‪ ،‬عميو أف يخطب أياً مف‬
‫أخواتي‪ ،‬فأنا ال أقبؿ لنفسي مثؿ ىذا‪".‬‬

‫"مثؿ ماذا؟"‬
‫"ال أقبؿ أف أكوف ابنة صقر الحمود وحسب‪ .‬أريد مف‬
‫يخطب رابية الحمود‪ .‬أتفيميف ما أقولو يا سنا‪".‬‬

‫"يستحيؿ فيمؾ يا رابية‪ .‬ىؿ يعني ىذا أنؾ رفضت؟"‬

‫"طبعاً! وىؿ كنت تتوقعيف مني القبوؿ؟"‬

‫"ال أدري‪ ،‬فالحقيقة أف دكتور عامر إنساف يصعب رفضو‪".‬‬

‫"ربما صعب عميؾ‪ ،‬أنت‪ ،‬رفضو‪ ،‬لكنو ال يبللمني؟‪".‬‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬وما دخمي أنا بالموضوع؟ إنو لـ يتقدـ‬


‫لخطبتي‪ ،‬بؿ خطبؾ أنت يا رابية‪ ،‬فمماذا تحشريني باألمر؟"‬

‫ضحكت رابية وقالت‪" ،‬ألنو لو كاف يحمؿ ذرة مف الذكاء‬


‫والذوؽ‪ ،‬لخطب سنا حامد‪ ،‬الجميمة والمثقفة والعاقمة‪ .‬لكف ال‪ ،‬إنو يريد‬
‫رابية‪ ،‬النزقة‪ ،‬الشرسة‪ ،‬والمجنونة‪ "..‬ىزت رأسيا واردفت‪" ،‬سنا‪ ،‬ىذا‬
‫الرجؿ إما أف يكوف أحمؽ فيخطبني بدالً عنؾ‪ ،‬أو أنو يريد أف يناسب‬
‫صقر الحمود‪ .‬وفي الحالتيف ال يسعني إال رفضو‪".‬‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬مجنونة‪ ،‬واهلل العظيـ مجنونة‪"..‬‬

‫شاركتيا الضحؾ‪" ،‬طبعاً مجنونة‪ ،‬مجنونة ألني أجير بما‬


‫أفكر بو‪ ،‬وال أحاوؿ أف أخفيو عف الناس‪ ،‬أو عف نفسي‪".‬‬

‫ثـ طمبت مف السالؽ أف يتوقؼ في شارع فرعي‪ ،‬ونزلت رابية‬


‫وسنا مف السيارة الفارىة وسارتا في الطريؽ المؤدي إلى الجامعة‪.‬‬

‫تغير نمط الحديث بينيما‪ ،‬كما لو أف الحديث ثوباً تنزعو‬


‫كمتاىما عف ذاتيا لتتحوؿ إلى الشخصية التي يعرفونيا في الجامعة‪:‬‬
‫الفتاتيف الممتزمتيف‪ ،‬والصديقتيف المرحتيف‪ .‬مع كؿ خطوة تخطوىا‬
‫رابية‪ ،‬تقطع خطياً يربطيا بحياة البيت‪ ،‬حتى تصؿ إلى الكمية‪ ،‬فتكوف‬
‫اإلنسانة البسيطة التي يعرفوف‪ ،‬وليست ابنة الترؼ‪ .‬مع كؿ خطوة‬
‫تقطع خيطاً‪ ،‬ومع كؿ خطوة ينقطع خيط‪ ،‬حتى تصؿ‪.‬‬

‫سممت عمى بواب الكمية‪ ،‬وسألتو عف صحة زوجتو العميمة‬


‫منذ األزؿ‪ .‬سمعت صوتاً‪" ،‬صباح الخير رابية‪".‬‬

‫استدارت‪ .‬فوجلت بالدكتور عامر أحمد‪" ،‬أىبلً دكتور‪،‬‬


‫صباح الخير‪".‬‬

‫"كيؼ حالؾ‪ ،‬وحاؿ األىؿ؟"‬

‫"بخير‪ "،‬أحست رابية بالحرج وشيء يشبو الخجؿ‪ .‬سألتو مف‬


‫دوف تفكير مسبؽ‪" ،‬بمغني أف أىمؾ كانوا بزيارتنا أمس‪"..‬‬

‫"نعـ‪ ،‬وبمغني أنؾ رفضت مقابمتيـ‪".‬‬

‫"ىذا صحيح‪ ،‬فأنا لـ أعتد المشاركة بالحياة االجتماعية‬


‫لعالمتي منذ زمف بعيد‪".‬‬

‫"لكني أعتقد أف األمر يتعمؽ بؾ ىذه المرة‪ .‬ولـ أفيـ سبب‬


‫رفضؾ مقابمتيـ‪ .‬ىؿ تسمحيف بإيضاح األمر؟"‬

‫"دكتور‪ ،‬األمر ال يحتمؿ إيضاحاً‪ ،‬وأنا بكؿ بساطة لـ أعتد‬


‫مقابمة زوار أىمي‪".‬‬

‫قاطعيا دكتور عامر وقد تيمؿ وجيو ببعض االستبشار‪" ،‬ىؿ‬


‫أفيـ مما تقوليف إف عدـ مقابمتؾ ليـ‪ ،‬ال تعني رفضاً لمخطوبة؟"‬

‫"أية خطوبة؟"‬

‫"ألـ تعرفي أف أىمي جاؤوا لطمب يدؾ؟"‬

‫"طمب يدي لمف؟"‬


‫"لي طبعاً‪"..‬‬

‫"وىؿ تعتقد يا دكتور أف ىذه الطريقة تميؽ بأستاذ جامعي‬


‫مثمؾ؟ أف تخطب فتاة ال تعرؼ عنيا شيلاً‪ ،‬وال تعرفيا؟"‬

‫"بؿ أعرؼ عنؾ كؿ شيء! سواء في الجامعة أو خارجيا‪.‬‬


‫وعدا بعض التصرفات واالندفاعات التي اعتبرىا طبيعية في مثؿ‬
‫سنؾ‪ ،‬فأنت إنسانة مناسبة لي!"‬

‫"دكتور‪ ،‬يشرفني ما تقولو عني‪ ،‬ولكف‪ "..‬صمتت رابية برىة‬


‫ونظرت إلى قدمييا‪ ،‬ثـ ىزت رأسيا ورفعتو‪ .‬ركزت عينييا بعيني‬
‫دكتور عامر أحمد‪ ،‬وقد التمع التحدي فييما‪" ،‬لكف‪ ،‬ىؿ تعتقد يا‬
‫دكتور عامر‪ ،‬بأنؾ أنت‪ ،‬مناسب لي؟"‬

‫"وىؿ تتصوريف غير ذلؾ؟"‬

‫"عفواً‪ ،‬لـ أقصد اإلساءة إليؾ‪ ،‬فأنت إنساف يحترمو الجميع‪،‬‬


‫وتتمناه كؿ فتاة‪ .‬كؿ ما في األمر أني غير مقتنعة بالطريقة التي‬
‫رضيت‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬أف تجري بيا األمور‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ال يمكنني‬
‫االقتناع باالرتباط بشخص يرضى بيا‪ ".‬نظرت في عينيو وواصمت‪،‬‬
‫"مع كؿ االحتراـ لشخصؾ‪ ،‬إال أف ىذه الطريقة‪ ،‬وىذا األسموب‪،‬‬
‫أرفضيما جممة وتفصيبلً‪ .‬وارجو أف تعتبر الموضوع منتيياً! أسعدت‬
‫صباحا يا دكتور‪".‬‬

‫استدارت‪ ،‬وقد انفمت الشعر مف رباط الشريط‪ ،‬وىرولت‬


‫كفرس برية‪ ،‬وتركتو مف دوف أف يحير جواباً‪ .‬كيؼ تجرؤ؟ كيؼ‬
‫تجرؤ ىذه الفتاة المتعجرفة عمى إىانتو بيذه الطريقة؟ ىو‪ ..‬الدكتور‪،‬‬
‫واالستاذ الػ‪ ...‬مف تكوف‪ ،‬ىي‪ ،‬لتتصرؼ بيذه العجرفة حتى لكأنيا‪...‬‬
‫تركتو رابية ولحقت بسنا التي حثت الخطى ما أف شاىدت‬
‫دكتور عامر يتقدـ منيما‪ .‬لـ تقؿ رابية شيلاً عما دار مف حديث‪ ،‬إال‬
‫أف الغضب النافر مف عينييا كاف فيو أكثر مف جواب عمى تساؤالت‬
‫سنا‪.‬‬

‫سارتا بضع خطوات في ممر الكمية‪ ،‬ثـ افترقتا‪ .‬حضرت‬


‫رابية المحاضرة األولى ثـ الثانية‪ ،‬وحتى األخيرة‪ ،‬مف دوف أف تتفوه‬
‫بكممة أو تشارؾ في حوار‪ .‬بعد المحاضرات‪ ،‬ذىبت إلى نادي الكمية‪،‬‬
‫وقد تناست ما حدث باألمس‪ ،‬وما حدث صباح اليوـ‪ .‬فيي قادرة‬
‫عمى أف تنسى ما تريد نسيانو‪ ،‬حيف تريد النسياف‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫انطمقت ش اررة الثورة الفمسطينية المسمحة ورابية في سنتيا‬


‫الجامعية األخيرة‪.‬‬

‫إذف‪ ،‬ىناؾ مف يحمؿ البندقية ليقاتؿ فعبل‪ ،‬ويموت‪ .‬فيؿ ىي‬


‫جديرة بالموت مف أجؿ الثورة؟ مف أجؿ األرض؟‬

‫أىي جديرة بأف تتقدـ خطوة أخرى لتموت عمى األرض‪،‬‬


‫بعدما اجتازت مرحمة الحوار والعمؿ التنظيمي اليومي؟‬

‫ىؿ يكفي الحوار والعمؿ اليومي والتظاىر‪ ،‬لكي نبني وطناً؟‬


‫وما ىي حدود الوطف؟‬

‫الثورة المسمحة بدأت‪ ،‬فيؿ تنتظر حتى يعـ شررىا لكي‬


‫تمتحؽ بيا؟ أـ تبدأ مع بداياتيا؟ لـ تكف رابية لترضى أف يفوتيا‬
‫االلتحاؽ بالثورة‪ ،‬كما لـ ترض لنفسيا أف تتأخر كثي اًر عمف بدأىا‪.‬‬

‫ناقشت رابية الرفاؽ بأف العمؿ السياسي وحده لـ يعد يكفي‪،‬‬


‫والحوار وحده لـ يعد يكفي‪ ،‬فصوت إطبلقة رصاص واحدة يخرس‬
‫كؿ الحوارات‪.‬‬

‫كؿ القصالد تصمت أماـ البندقية!‬

‫كؿ الروايات تتقزـ أماـ دبابة تتقدـ!‬

‫كؿ األغنيات تبيت عند ىدير المدفع!‬

‫ىناؾ مف يموت ليروي بدمو حبات الزيتوف والمستقبؿ!‬

‫ىناؾ تنمو بذرة الوطف الواحد‪ ،‬وتنتيي الفروقات!‬


‫عانت رابية مف التمزؽ بيف رغبتيا في المحاؽ بركب الثورة‬
‫المسمحة‪ ،‬وبيف أف تقنع الرفاؽ بجدوى الرحيؿ معيا‪ .‬ولما أيقنت أف‬
‫نقاشيا لف يقنعيـ‪ ،‬تركت كؿ شيء ورحمت‪.‬‬

‫قيؿ أنيا ىربت‪.‬‬

‫وقيؿ أنيا تخمت عف العمؿ السياسي‪.‬‬

‫وقيؿ‪ ...‬وقيؿ‪ ..‬وقيؿ‪ ..‬وما أكثر ما قيؿ عف رابية‪.‬‬

‫تخمت عف الدراسة وىي في سنتيا النيالية‪ .‬حاولت سنا‬


‫إقناعيا بتأجيؿ االلتحاؽ إلى ما بعد تخرجيا‪ .‬ردت عمييا ضاحكة‪،‬‬
‫"وىؿ ستفيدني الشيادة الجامعية حيف أدؽ أبواب الجنة؟ ال يا سنا‪ ،‬ال‬
‫أحب إضاعة المزيد مف الوقت‪ ،‬فالثورة ال تنتظر‪".‬‬

‫ورحمت رابية مف دوف كممة وداع لؤلصدقاء‪ .‬كما لـ تحاوؿ‬


‫إقناع أىميا أو تبمغيـ بقرارىا‪ ،‬فيي موقنة مف رفضيـ‪ .‬إذ كيؼ يقبؿ‬
‫صقر الحمود أف تمتحؽ اربيتو المدلمة بمعسكرات التدريب وحمؿ‬
‫السبلح؟ وكيؼ تقبؿ أميا أف تموث رابية يدييا بتراب األرض‪ ،‬وتمبس‬
‫الخاكي بعد بدالت الترؼ؟ وكيؼ ألخوتيا وأخواتيا أف يفيموا‬
‫دوافعيا؟ لـ تودعيـ رابية‪ ،‬ولـ تشرح ليـ‪ ،‬بؿ كتبت رسالة قصيرة‬
‫وضعتيا عمى طاولة المطبخ قبؿ خروجيا صباحاً‪.‬‬

‫ركبت السيارة مثؿ كؿ يوـ‪ ،‬ومرت عمى سنا‪ ،‬وذىبتا في‬


‫الطريؽ إلى الجامعة‪ ،‬إال أف رابية لـ تذىب إلى الكمية‪ ،‬بؿ قبمت سنا‬
‫بسرعة وذىبت إلى مقر المنظمة‪ ،‬ومنو إلى عماف‪ ،‬ومف ثـ إلى‬
‫المعسكر‪.‬‬

‫التحقت بمعسكر التدريب‪ ،‬تمرغت بالتراب‪ ،‬تكسرت أظافرىا‬


‫التي كانت في يوـ ما جميمة‪ .‬تقشر الجمد عف كفييا‪ .‬حممت البندقية‪.‬‬
‫تدربت واآلمر يصيح‪" ،‬إلى األماـ! أحني ىامتؾ! لست في‬
‫استعراض! نحف مقاتموف مف طراز جديد! عمينا االختباء وراء زىرة‪،‬‬
‫أو في حقؿ قمح‪ ،‬أو تحت حبة رمؿ! اليامات العالية ليست لنا‪ ،‬ليس‬
‫بعد! ستكوف ألوالدنا بعد التحرير!"‬

‫سمعت رابية وأطاعت!‬

‫تدربت‪ .‬قاتمت‪ .‬تسممت عبر الحدود‪ .‬جرحت‪ .‬نزفت‪ .‬نسيت‬


‫أنيا ام أرة‪ ،‬ونسيت أنيا شاعرة‪ .‬كما نسيت أنيا ابنة الترؼ!‬

‫مرة بعد أخرى‪ ،‬لـ تر إال المسافة التي تفصميا عف األرض‬


‫السجينة‪ .‬وبقدر تمنييا االستشياد‪ ،‬كانت رابية تضرب ضربتيا لتعود‪.‬‬

‫سنوات مرت عمييا وىي تقاتؿ‪ .‬ثـ بدأت المزايدات‬


‫واالتيامات تسود‪ .‬بدأت حركة المقاومة بالتشقؽ‪ .‬الواحد يتيـ اآلخر‪،‬‬
‫وكؿ منيـ يريد خمؽ حركة مقاومة جديدة‪ .‬الصعود عمى أكتاب‬
‫اآلخريف‪ ،‬والكممات الكبيرة‪ ،‬أكبر مف أي منيـ‪ ،‬وأكبر منيـ جميعاً‪،‬‬
‫صارت تغطي عمى صورة المستقبؿ‪.‬‬

‫كممات‪ ...‬كممات‪ ...‬كممات‪...‬‬

‫أتظؿ الكممات معوالً ييدـ كؿ فعؿ أصيؿ؟‬

‫أتظؿ الكممات تيدـ كؿ األحبلـ؟‬

‫أتصير الكممات ىي األكذوبة الكبرى في حياة البشر؟‬

‫أرادت رابية تحاشي التراشؽ حوليا‪ ،‬فاندفعت بمزيد مف‬


‫الحماسة إلى الفعؿ القتالي‪ .‬أرادت الموت ىرباً مف الكممات‪ ،‬ألنيا‬
‫بدأت تدرؾ أف الكممات صارت تسد الطريؽ أماـ الحقيقة‪ .‬وتحولت‬
‫إلى شراؾ تقييد لمحقيقة‪.‬‬
‫لـ يعد أماميا إال حقيقة واحدة‪ ،‬ىي الموت‪ .‬فأرادت رابية‬
‫الموت ألنيا لـ تعد تطيؽ أف ترى كؿ األىداؼ العظيمة تتحوؿ إلى‬
‫كممات جوفاء يتشدؽ بيا كؿ مف يريد المزايدة‪ ،‬فيخترع المزيد منيا‪.‬‬

‫كؿ ما حوليا زيؼ‪ ،‬إال الموت! فيو الحقيقة الوحيدة‪ .‬لـ يعد‬
‫النصر أو الشيادة ىو الميـ لدييا‪ ،‬فالنصر بعيد‪ ..‬بعيد! وىي لـ تعد‬
‫تطيؽ االنتظار‪ .‬فسعت إلى الشيادة‪.‬‬

‫لـ تمت رابية‪ ،‬ربما ألنيا كانت تريد الموت أكثر مما أرادت‬
‫أي شيء آخر مف قبؿ‪ ،‬فمقد أحرقت كؿ سفنيا‪ ،‬وما عاد أماميا سوى‬
‫أف تموت عمى األرض‪.‬‬

‫المزايدات والكممات الجوفاء قتمت كؿ أحبلـ رابية وكؿ‬


‫طموحاتيا‪ .‬فكانت خيبة أمميا أكبر مف قدرتيا عمى البقاء‪.‬‬

‫تركت كؿ شيء‪ .‬تركت حتى أمميا في أف تستشيد عمى‬


‫األرض‪ .‬ما قالت ليـ أكثر مف أنيا تعبت‪ ،‬ألنيـ ال يمكف أف يفيموا‬
‫أنيا تعاني مف قرؼ الكممات‪ ،‬فقالت ليـ ما اعتقدت أنيـ قادروف‬
‫عمى فيمو‪ ،‬ولـ يفيموا ما قالت!‬

‫بؿ اتيموىا! اتيموىا بكؿ قذاراتيـ‪ .‬كؿ منيـ ألصؽ بيا‬


‫تيمة‪ ،‬وما أسيؿ ما تتيـ المرأة في ببلدنا!‬

‫متيمة ألنيا شابة! متيمة ألنيا ابنة الترؼ! ومتيمة ألنيا‬


‫تخمت عف الترؼ! متيمة ألنيا واضحة‪ ،‬وبوضوحيا كشفت زيفيـ‪.‬‬
‫كشفت زيفيـ أماـ ذواتيـ‪ ،‬فاتيموىا‪ .‬وكؿ اتياـ فتح جرحاً في نفسيا‪،‬‬
‫ىؤالء الذيف كانوا رفاؽ دربيا‪ ،‬كانوا أصدقاءىا‪ .‬ما الذي يدفعيـ‬
‫لمتيجـ عمييا بيذه القسوة؟ ىؿ بقيت صداقة في ىذا العالـ؟ بؿ‪ ،‬ىؿ‬
‫بقيت فيو حقيقة؟‬
‫تركت كؿ شيء وعادت إلى بغداد‪ .‬عادت إلى بغداد تحمؿ‬
‫خيبة أمميا عبلاً يثقؼ كاىميا‪ .‬عادت إلى أىميا ولـ تعد معيا‬
‫بسمتيا‪ ،‬فمقد غابت البسمة عف شفتي رابية‪ ،‬بعدما غابت الفرحة عف‬
‫قمبيا‪.‬‬

‫عادت إلى األىؿ‪ ،‬فعرفت أف أباىا قد مات‪ .‬مات صقر‬


‫الحمود بعد أف خيبت أممو فييا‪ .‬وىي‪ ،‬فشمت أف تموت ىناؾ عمى‬
‫األرض‪ ،‬فعادت‪ ،‬تجر أذياؿ الخيبة‪ .‬مات العزيز الذي عجز عف فيـ‬
‫ثورة ابنتو‪ .‬مات الصقر الشامخ مف دوف أف يغفر لرابيتو شموخ ذاتيا‪.‬‬

‫حاولت رابية العيش كما يعيش كؿ مف حوليا‪ .‬أف تكوف كما‬


‫يراد ليا أف تكوف‪ ،‬مف دوف أف تفقد أصالة ذاتيا‪ .‬عادت إلى‬
‫الجامعة‪ ،‬وتخرجت منيا‪ ،‬وعممت‪ .‬تجممت‪ ،‬رسمة ابتسامة عمى‬
‫شفتييا‪ ،‬مع ىذا بقي شيء يحرؽ دواخميا‪ ،‬يمنعيا أف تكوف كما يراد‬
‫ليا أف تكوف‪ .‬ظمت متناقضة مع نفسيا‪ ،‬يعيدة عمف حوليا‪ .‬تحمؿ‬
‫في أعماقيا وحدة‪ ،‬تجعؿ ما يجري حوليا يممسيا مف دوف أف يؤثر‬
‫فييا‪ .‬ظمت رابية وحيدة إلى حد الضياع!‬

‫قرأت‪ ،‬كتبت‪ ،‬عممت‪ ،‬حاورت‪ ،‬لكنيا ظمت وحيدة إلى حد‬


‫الجفاؼ‪ .‬مرت شيور‪ ،‬وامتدت لسنوات‪ .‬تسممت بضع شعرات بيض‬
‫إلى شعرىا‪ ،‬إال أنيا بقيت عمى حيويتيا‪ .‬نزقة‪ ،‬شاعرة‪ ،‬سريعة‬
‫البدييية‪ .‬ال يكفييا الوقت لمحوار‪ .‬الكؿ حوليا‪ ،‬قريبة مف الحشد‪،‬‬
‫تتغير الوجوه حوليا‪ ،‬لكف الحشد عمى ما ىو عميو‪ .‬تضحؾ مع‬
‫الجميع وتحاور الكؿ‪ ،‬في األدب والموسيقى‪ ،‬في المسرح والرسـ‪ ،‬في‬
‫السياسة واالقتصاد والديف‪ .‬لكنيا مع كؿ الضجيج والحركة‪ ،‬ومع كؿ‬
‫البشر مف حوليا‪ ،‬ظمت رابية وحيدة‪ .‬تتواصؿ مع الجميع‪ ،‬وال أحد‬
‫يصؿ إلييا‪ .‬تقبع صغيرة في زوايا ذاتيا حيث ال يعرفيا أحد‪ ،‬صغيرة‬
‫وخالفة‪ .‬تبحث عف دؼء الحناف‪ ،‬عف األماف‪ ،‬عف الراحة‪ .‬ولكف ثمة‬
‫شيء يمنعيا‪ .‬ظمت رابية وحيدة‪ ،‬ألنيا ما عادت تعرؼ إلى أيف‬
‫تنتمي‪.‬‬

‫حيف عادت مف المعسكر إلى بغداد‪ ،‬شعرت بالغربة عف كؿ‬


‫ما حوليا‪ .‬في المعسكر ثمة حركة متواصمة‪ .‬وكاف اجتياز الحدود ىو‬
‫الحدث‪ .‬الموت يجابو الجميع ويحدؽ بيـ بعيوف ال تناـ‪ .‬تركز‬
‫انتماؤىا حينذاؾ في عيني السبلح‪ ،‬في القنبمة التي تزرعيا في ظبلـ‬
‫الميؿ لتفجر بيا فجر الثورة‪ .‬بعيني السبلح احتمت مف زيؼ الكممات‪.‬‬
‫وحيف أدركت أف الكممات المزيفة يمكنيا تزوير ىوية الثورة‪ ،‬عادت‬
‫إلى مدينتيا‪ ،‬للبل تكفر بالثورة وبالكممة معاً‪.‬‬

‫ذلؾ أف رابية‪ ،‬الشاعرة‪ ،‬لـ تقبؿ العبث بالكممة‪ ،‬فالكممة‬


‫عندىا مقدسة‪ ،‬ولـ تشأ أف تزيؼ القدسية‪ ،‬وال أف تكفر بالكممة‪.‬‬

‫ظمت رابية وحيدة‪ ،‬ألنيا بعدما تركت العمؿ السياسي‪ ،‬وبعد‬


‫أف بعدت عف عيني البندقية‪ ،‬لـ تجد ما تنتمي إليو‪ ،‬فكؿ األماكف‬
‫متساوية‪ ،‬وكؿ األزمنة متساوية‪ ،‬وكؿ الصحاب باألىمية نفسيا‪.‬‬

‫تعايشت مع األىؿ‪ ،‬وخمقت حوليا صداقات جديدة‪ ،‬لكنيا‬


‫رفضت العودة لمعمؿ السياسي‪ ،‬ألنيا لـ تعد مقتنعة بما يقاؿ‪،‬‬
‫بالسيولة نفسيا التي اقتنعت بيا قبؿ سنوات‪ ،‬إذ لمعمر أحكاـ‪،‬‬
‫ولمتجربة جروح ال تندمؿ‪.‬‬

‫أغرقت نفسيا بالعمؿ اليومي‪ ،‬إال أف عبلقتيا مع مف حوليا‬


‫تمخصت بالعمؿ والمجاممة‪ .‬لـ يعرؼ الذيف تعمؿ معيـ سوى أنيا‬
‫إنسانة جادة ومثابرة‪ ،‬فمقد عاشت رابية وحدتيا بيف زمبلء العمؿ‪ .‬وفي‬
‫البيت‪ ،‬كانت األحداث تجري حوليا مف دوف أف تمسيا‪ .‬تزوج األخوة‬
‫واألخوات‪ ،‬وغادروا منزؿ العالمة‪ ،‬وما رضيت رابية أف تتزوج بالطريقة‬
‫نفسيا التي سبؽ أف رفضتيا منذ سنوات‪.‬‬
‫ظمت أشي اًر في البيت الكبير مع أميا‪ .‬ثـ قررتا االنتقاؿ منو‬
‫إلى بيت آخر‪ ،‬فيي وأميا لـ تعد بيما حاجة لغرؼ الكبيرة وال صالة‬
‫استقباؿ فسيحة‪ .‬ما عادت حاجتيما تتجاوز غرفتي نوـ وصالة‬
‫صغيرة‪ ،‬وزاوية خاصة لرابية وكتبيا اسطواناتيا وأشرطة تسجيميا‪.‬‬

‫انتقمتا مف الدار الكبيرة المطمة عمى النير‪ ،‬إلى بيت صغير‬


‫في ضاحية المنصور‪ .‬ولـ تحاوؿ رابية التعرؼ عمى جيرانيا‪ ،‬وأميا‬
‫لـ تعد تخرج مف الدار‪ .‬وبقيت رابية وحيدة‪ :‬األـ تناـ مبكرة‪ ،‬وىي‬
‫تسير حتى الفجر في ركنيا الصغير‪ .‬كؿ منيما تعيش حياتيا‬
‫وتتوازى مع األخرى مف دوف أف تتقاطع معيا‪.‬‬

‫أثار رفض رابية لعروض الزواج العديدة الكثير مف األقاويؿ‪،‬‬


‫وما صح ما قيؿ عنيا‪ .‬قيؿ أنيا أحبت وفشمت قصة الحب‪ ،‬فعافت‬
‫الدنيا بما فييا‪.‬‬

‫وقيؿ أنيا سياسية ما أكممت الدرب‪ ،‬فاحتجبت‪.‬‬

‫وقيؿ أنيا تعيش قصة حب سرية‪ ،‬ال يعرؼ كنييا أحد‪.‬‬


‫وقيؿ‪ ...‬وقيؿ‪ ..‬وقيؿ! وما أكثر ما قيؿ عف رابية! تسمع بعض ما‬
‫يقاؿ عنيا‪ ،‬فتضحؾ وتيز رأسيا تعجباً‪ ،‬وال ترد‪ .‬فمـ يكف ما قيؿ‬
‫عنيا أو يقاؿ‪ ،‬ليؤثر فييا‪ ،‬ألنيا تعيش عالماً خمقتو لنفسيا‪ ،‬ترى ما‬
‫حوليا وال يمسيا شيء منو‪ .‬تحاوؿ العثور عمى الحقيقة‪ ،‬وال يجرحيا‬
‫وجود السراب‪ ،‬ألنيا تعرفو سراباً‪ ،‬فبل يخدعيا‪.‬‬

‫تبحث عف النموذج األصيؿ فيمف حوليا‪ ،‬فبل تراه‪ .‬لـ تكف‬


‫زاىدة في الدنيا‪ ،‬لكف الدنيا التي تراىا حوليا لـ تكف تروقيا‪.‬‬

‫قررت رابية اف تياجر‪ ،‬أف تسافر بعيداً‪ ،‬عميا تجد ما يعيد‬


‫لروحيا نبض الحياة‪ .‬لـ تعترض أميا‪ ،‬فمذ عرفت مدى جموح رابية‪،‬‬
‫وثورتيا في وجو أبييا‪ ،‬لـ تعد األـ تعترض عمى ما تريده ابنتيا‪.‬‬
‫فرابية حرة‪ ،‬رابية عاقمة وتعرؼ ما تريده‪.‬‬

‫اعترض أخوتيا‪ ،‬قالوا أنيا ما تزاؿ شابة‪ ،‬وعمييا أف تتزوج‬


‫مثميـ جميعاً‪ ،‬مثؿ أخواتيا‪ ،‬ومثؿ بنات المدينة‪ .‬إال أنيا قالت أنيا‬
‫تريد أف تدرس‪ .‬صدؽ أخوتيا‪ ،‬وما صدقت ىي نفسيا! تدري أف ما‬
‫تريده ىو أف ترى عوالـ جديدة ووجوىاً جديدة‪ ،‬فقد تجد فييا النموذج‪.‬‬

‫سافرت‪ .‬تجولت في مدف كؿ ما فييا جديد عمييا‪ .‬مدف‬


‫قديمة قدـ التاريخ‪ .‬أناس مف كؿ صنؼ ولوف‪ .‬عرفت بش اًر لـ تكف‬
‫تتخيؿ وجودىـ‪ .‬إال أنيا لـ تعثر عمى النموذج‪.‬‬

‫بذرة الشؾ التي بذرتيا أياـ الشباب‪ ،‬أينعت وصارت نخمة‬


‫تطاوؿ السماء‪ .‬بحثت عف الكماؿ‪ .‬وليس الكماؿ سمعة تباع في‬
‫األسواؽ‪ .‬بحثت عف الحرية‪ ،‬وىي تدري في أعماقيا أف الحرية تبدأ‬
‫مف أعماؽ الذات‪ .‬فمف كاف ح اًر في أعماقو‪ ،‬ال يمكف لسجوف‬
‫األرض أف تسمب حريتو!‬

‫قرأت كثي اًر‪ ،‬وشاىدت الكثير‪ :‬مسرحيات وأفبلماً وعروضاً‬


‫موسيقية‪ ،‬لكف فيميا لمحياة كاف أكبر مف كؿ ما رأت‪ .‬كاف شوقيا‬
‫إلى األرض والى الحقيقة أكثر صدقاً مف كؿ ما حوليا‪.‬‬

‫رابية ىجرت أرضاً‪ ،‬لكف األرض بقيت مزروعة في ذاتيا!‬

‫رابية ىجرت الصعاب‪ ،‬لكنيا تحمؿ صعابيا في حنايا‬


‫الذات‪ .‬فكيؼ ليا أف تيرب مف ذاتيا؟ وأيف تيرب مف ذاتيا؟‬

‫وحيف أدركت أنيا بتغيير الجغرافيا‪ ،‬لف تغير التاريخ‪ ،‬عادة‬


‫كرة أخرى إلى بغداد‪ .‬عادت إلى بغدادىا ولـ تعد إلى حياتيا السابقة‪.‬‬
‫عادت وعرفت أناساً جدد‪ ،‬وعمبلً جديداً‪ ،‬عميا تجد في الجديد ما قد‬
‫يعيد لمحياة بعض نضارتيا‪.‬‬

‫عادت بعد أف تجاوزت أواسط العقد الثالث مف عمرىا‪،‬‬


‫تجاوزت الشباب الذي يخاؼ الكؿ عمييا منو‪ .‬عادت وما عاد أخوتيا‬
‫يفكروف بالوصاية عمييا‪ .‬عادت وشعراتيا البيض قد غافمت الزمف‬
‫فانتشرت لتكمؿ ىامتيا‪ ،‬وىي فخورة بيا‪.‬‬

‫عادت وما بحثت عف األصدقاء القدامى‪ ،‬حتى أنيا لـ‬


‫تحاوؿ االتصاؿ بسنا!‬
‫(‪)3‬‬

‫كبحت سنا رغبتيا في المحاؽ بركب الثورة المسمحة وبقيت‬


‫في الجامعة‪ ،‬فيي في سنتيا األخيرة‪ ،‬ولـ يبؽ عمى تخرجيا سوى‬
‫بضعة أشير‪ .‬فمع كؿ توقيا لحمؿ السبلح‪ ،‬إال أف عمييا مسؤوليات‬
‫ال يمكف تجاىميا‪ .‬فالعالمة بانتظار تخرجيا‪ ،‬فيي كبيرة األخوة‪،‬‬
‫وتقاعد والدىا يكفي بالكاد لسد احتياجات العالمة‪ .‬عمييا أف تحصؿ‬
‫عمى الشيادة الجامعية‪ ،‬ثـ تعمؿ لتعيؿ العالمة إلى حيف تخرج أخوىا‬
‫وعممو‪ ،‬ليحمؿ عنيا عبء المسؤولية‪ .‬بعد كؿ ذلؾ‪ ،‬يمكنيا أف تفعؿ‬
‫بحياتيا ما تشاء‪.‬‬

‫وسنا عاقمة‪ ،‬حنوف‪ ،‬ال تخيب أمؿ أياً كاف‪ ،‬فكيؼ تخيب أمؿ‬
‫أىميا؟‬

‫تخرجت بتفوؽ وعممت في وظيفتيف‪ :‬صباحية ومسالية‪ .‬حتى‬


‫تخرج أخوىا بعدىا بثبلثة أعواـ‪ .‬تحممت سنا مسؤولية العالمة‪ ،‬ولـ‬
‫تكف ىذه المسؤولية ىينة‪ .‬إال أف كؿ صعوبة تجابييا‪ ،‬تزيدىا قوة‬
‫ومنعة‪ .‬فكانت الحامية ألخوتيا مف نزوات شبابيـ‪ ،‬والراعية‬
‫لمصالحيـ‪.‬‬

‫صارت سنا أكثر قوة مف كؿ المحيطيف بيا‪ .‬لـ تعد تحت‬


‫وصاية أحد مف األىؿ واألقرباء أو سيطرتيـ‪ .‬وحيف يمتمع الغضب‬
‫في عينييا الخضراويف‪ ،‬يدرؾ أخوتيا معنى الغضب قبؿ أف تنبس‬
‫بكممة‪ ،‬فيطيعوف!‬

‫لـ يفرض أحد رأيو عمى سنا‪ ،‬فيي مسؤولة عف عالمتيا‪،‬‬


‫وىي بمسؤوليتيا ىذه‪ ،‬صارت إنسانة حرة‪ .‬ىي أنثى‪ ،‬نعـ‪ .‬وشابة‬
‫أيضاً‪ ،‬لكنيا أثبتت قوتيا‪( ،‬أخت رجاؿ) كما قيؿ في مدحيا‪ ،‬إف كاف‬
‫في ىذا القوؿ مديحاً!‬
‫تحممت مسؤولية العالمة‪ .‬عممت ليؿ نيار‪ .‬قمقت‪ .‬عرقت‬
‫وجاىدت مف أجؿ الجميع‪ .‬جاىدت بيـ وضد كؿ ما ييددىـ‪ ،‬بذلؾ‬
‫فرضت نفسيا واحتراميا عمى مجتمع ما يزاؿ متخمفاً‪ .‬لـ يختمؼ الرأي‬
‫بشأنيا‪ .‬اتفؽ الجميع عمى أنيا إنسانة قوية‪ .‬إال ىي‪ .‬ألف سنا تعرؼ‬
‫أنيا ما تزاؿ ضعيفة ومرىقة‪ .‬تغمبيا المشاعر وتأسرىا الكممة الحموة‪.‬‬
‫حتى األكاذيب الحموة تسحرىا‪ ،‬وىي تدري أنيا أكاذيب‪ .‬لكف مف‬
‫يجرؤ عمى الكذب عمييا؟ فالكؿ ييابيا ويحترميا‪ ،‬وىو ما فرضتو‬
‫عمى الجميع منذ البداية‪.‬‬

‫كـ تمنت سنا لو كانت مثؿ أية فتاة اعتيادية‪ ،‬ببل تحديات‬
‫وال قوة‪ .‬فتاة محمية كما كانت في حياة أبييا‪ .‬كانت حينذاؾ تجد‬
‫األب الذي تبكي عمى كتفو‪ ،‬فبل تخشى عميو مف االنييار‪ .‬لكنيا بعد‬
‫وفاتو‪ ،‬لـ تجد حوليا إال مف ىـ أكثر ضعفاً منيا‪ .‬األـ تريدىا سنداً‪،‬‬
‫واألخوة يريدونيا مثبلً أعمى لمقوة‪ .‬وعمييا أف تكوف كما يريدوف‪.‬‬

‫تفجرت القوة بركاناً في نفس سنا بعد وفاة أبييا‪ .‬رفضت‬


‫وصاية األقرباء عمييا وعمى أخوتيا‪ .‬تحممت وحدىا مسؤولية العالمة‬
‫لكي ال تسمح ألي منيـ أف يتدخؿ في أمورىـ‪ .‬تعممت أف الرفض سد‬
‫يمنع التحكـ في شؤونيـ‪.‬‬

‫خطبيا ابف عميا فور وفاة أبييا‪ ،‬بذريعة رعاية أمورىا وأمور‬
‫أخوتيا‪ .‬قالت سنا‪" ،‬ال!!" وتحممت مسؤولية العالمة لكي ال يقاؿ أف‬
‫ليس ثمة رجؿ يحمي الدار‪ ،‬فحمت دارىا وأىميا بنفسيا‪.‬‬

‫ثـ رفضت العريس الثاني‪ ،‬والثالث‪ ..‬والعاشر‪ ،‬ألنيا لـ ترد‬


‫أف تعيش مع رجؿ ال تتواصؿ معو‪ .‬فالزواج ليس وظيفة اجتماعية‪،‬‬
‫بؿ ألفة وصداقة واحتراـ‪ .‬تريد رجبلً يكوف الصديؽ والزوج معاً‪ .‬تريد‬
‫رجبلً عاش حياتو بصدؽ مع ذاتو‪ ،‬وتعامؿ بصدؽ مع اآلخريف‪ .‬سنا‬
‫تريد رجبلً قدماه مغروستاف في األرض‪ ،‬وىامتو ترتفع في السماء‪.‬‬
‫يعمو فوؽ التفاىات اليومية وال يعمؽ عمى جبينو كممات النفاؽ‬
‫المستيمكة‪.‬‬

‫لـ تمتؽ سنا بالرجؿ الذي تريده في أياـ الجامعة‪ ،‬ولـ تعثر‬
‫عميو بيف زمبلء الوظيفة‪ .‬خمسة أعواـ قضتيا سنا حامد‪ ،‬تعمؿ‬
‫وترعى شؤوف أىميا‪ ،‬حتى استقرت أحواليـ‪ ،‬فاقترح أخوتيا أف تمتحؽ‬
‫بالبعثة العممية التي ما فتلت ترجئ االلتحاؽ بيا منذ سنتيف‪.‬‬

‫أكممت مستمزمات البعثة وغادرت بغداد‪ .‬إال أف ثمة ىاجساً‬


‫دفعيا لممرور بعماف‪ ،‬حيث المعسكر الذي تعيش فيو رابية‪ .‬إذ مذ‬
‫التحقت رابية بقوات الثورة لـ تمتؽ بيا واف كانت تراسميا باستمرار‪.‬‬
‫فمقد بقيت سنا ىي حمقة الوصؿ بيف رابية وبغداد‪.‬‬

‫فوجلت سنا بالتغير الذي ط أر عمى رابية‪ ،‬فالفتاة الضاحكة‬


‫لمريح‪ ،‬الباسمة لمشمس‪ ،‬تحولت إلى إنسانة ميمومة ساىمة‪ .‬تصمت‬
‫أكثر مما تحكي‪ .‬واف حكت‪ ،‬كأنيا تخشى التصريح بما يدور في‬
‫ذىنيا‪.‬‬

‫حاولت سنا فيـ السبب الكامف وراء ىذا التغيير‪ ،‬فسألتيا‪ .‬إال‬
‫أف رابية أطرقت برأسيا وصمتت لمدة طويمة‪ .‬كانتا تتمشياف قرب‬
‫المعسكر في طريؽ ترابي وعر‪ .‬وصمتا إلى شجرة زيتوف ىرمة‪ ،‬تفيء‬
‫بظميا عمى ما حوليا‪ .‬اقتربت رابية مف الشجرة وربتت عمى جذعيا‪،‬‬
‫ثـ جمست عمى األرض وأغمضت عينييا‪ .‬تنيدت وقالت بصوت‬
‫خافت‪" ،‬سنا‪ ،‬تسأليف عف التغير الذي ط أر عمي؟" ونظرت في عيني‬
‫صديقتيا‪" ،‬أعرؼ أني تغيرت إلى الحد الذي لـ أعد فيو أعرؼ‬
‫نفسي‪ ".‬أطمقت رابية تنييدة عميقة ثـ أردفت‪" ،‬األمر أكبر وأعمؽ مف‬
‫أف أعبر عنو بالكممات‪ .‬أخشى أف ال تفيمي الصراع الذي أعيشو يا‬
‫سنا‪ ،‬فنحف ما نزاؿ نحاوؿ أف نخفي ما يجري بيننا ىنا‪ ،‬للبل تتشوه‬
‫الصورة النقية لمثورة‪ .‬وحتى في نطاؽ الرفاؽ ىنا‪ ،‬أحاوؿ االبتعاد عف‬
‫الجدؿ الدالر حولي‪ ،‬وأركز عمى الميمة القادمة‪ .‬لـ أعد أريد التفكير‬
‫عمي شرح األمر لؾ‪ .‬إف شرحت لؾ‬
‫بالصراعات الدالرة‪ .‬ويصعب ّ‬
‫أكوف قد أدنت الحركة‪ ،‬وأدنت نفسي معيا‪ .‬واف بقيت عمى ىذا‬
‫الصمت‪ ،‬قتمتني خيبة األمؿ‪ ،‬والخوؼ مف المستقبؿ‪".‬‬

‫حيف طاؿ صمت رابية‪ ،‬قالت سنا‪" ،‬لكنؾ اعتدت معي أف‬
‫عاؿ‪ ..‬ما الذي يعذبؾ يا رابية؟ احؾ لي أرجوؾ‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫تفكري‬
‫فأنت تعرفيف قدرتي عمى التزاـ الصمت‪".‬‬

‫"أعرؼ يا سنا‪ ..‬أعرؼ‪ "..‬وعادت رابية لمصمت واإلطراؽ‪.‬‬


‫ثـ رفعت رأسيا ونظرت إلى نياية الطريؽ الممتد أماميا‪ ،‬وقالت‪" ،‬ىؿ‬
‫تعرفيف خالد السعد؟"‬

‫"ومف يكوف؟"‬

‫"إنو أحد الرفاؽ‪ .‬نموذج لمنقاء الثوري والثقة بالمستقبؿ‪ ..‬ىا‬


‫ىو قادـ نحونا‪"..‬‬

‫أدارت سنا عينييا فشاىدتو يتقدـ نحوىما‪ .‬قامة طويمة زادتيا‬


‫وبياء‪ .‬شعر كثيؼ أشعث‪ .‬واثؽ الخطوة‪.‬‬
‫ً‬ ‫المبلبس العسكرية طوالً‬
‫قدماه تبلمساف األرض بخفة الفيد الوحشي‪ .‬تقدـ منيما والبسمة تزيف‬
‫وجيو‪ .‬لسبب ما أحست سنا أف نبضيا يزداد سرعة كمما تقدـ منيما‬
‫خطوة‪.‬‬

‫"سبلماً إييا الغضب الصامت‪ "..‬قاليا لرابية وأردفيا‬


‫بضحكة‪ ،‬ثـ استدار نحو سنا‪" ،‬سبلماً ريح بغداد‪ ..‬سمعت أف رفيقة‬

‫جاءت تحمؿ عبؽ بغداد‪ ،‬ولـ أتوقع أف تكوف بجماؿ بغداد‪ ..‬أىبلً‬
‫بؾ‪"..‬‬
‫"أىبلً‪ "،‬ولـ تزد سنا حرفاً‪.‬‬

‫"خالد‪ ،‬أعرفؾ عمى صديقة عمري سنا حامد‪ .‬لقد قررت سنا‬
‫أف تزورنا في طريقيا إلى إنجمت ار لبللتحاؽ ببعثة عممية‪ .‬إنيا مناضمة‬
‫قديمة‪ "..‬واستدارت إلى سنا‪" ،‬سنا‪ ،‬ىذا خالد السعد‪ ،‬رفيقنا وأحد كبار‬
‫قادتنا‪"..‬‬

‫تصافحا‪ ،‬ثـ جمس خالد قبالتيما‪ ،‬مسنداً ظيره إلى صخرة‬


‫كبيرة ناتلة‪ ،‬ومد ساقيو‪" ،‬عرفت أني سأجدكما ىنا‪ "،‬واستدار إلى سنا‬
‫ليكمؿ ما يقوؿ‪" ،‬ىذا مكاف رابية المفضؿ‪ ،‬منو تطؿ عمى المعسكر‪،‬‬
‫وتسرح مع أفكارىا السود‪"..‬‬

‫قاطعتو رابية‪" ،‬بؿ أحاوؿ معرفة طريقي يا خالد‪ ،‬وسط حقؿ‬


‫األلغاـ الذي نعيش فيو‪"..‬‬

‫"ال يوجد إال طريؽ واحد أمامنا يا رابية‪ .‬إلى األماـ! وكؿ ما‬
‫عداه تبرير لمتقاعس والنكوص‪".‬‬

‫لـ ترد عميو رابية‪ ،‬وصمتت سنا‪ ،‬ألنيا لـ تجد ما تقولو‪ ،‬فقد‬
‫فوجلت بتأثيره عمييا‪ ،‬وىي الفتاة القوية‪.‬‬

‫ركز بصره عمى سنا برىةً‪ ،‬ثـ قاؿ‪" ،‬لـ أعد أفيـ ما أصاب‬
‫صاحبتؾ رابية‪ .‬حيف جاءت قبؿ سنوات أذىمتنا بقدرتيا عمى الحركة‬
‫والحوار‪ ،‬ليؿ نيار‪ .‬أما اليوـ‪ ،‬فيي ترفض الدخوؿ في أي نقاش مع‬
‫الرفاؽ‪ ،‬وتجدينيا تجمس وحيدة ساىمة حيف ال تكوف في ميمة‪".‬‬

‫"أنا بدوري لـ أصدؽ التغيير الذي ط أر عمييا‪ .‬وىو ما أحاوؿ‬


‫فيمو مذ جلت إلى ىنا‪".‬‬

‫"خالد‪ ..‬يا خالد‪ ،‬لـ ال تحاوؿ فيمي؟ ىذه النقاشات صارت‬


‫مرضاً يأكؿ كبد الثورة‪ .‬لـ يعد نقاشاً‪ ،‬بؿ جممة مف االتيامات‬
‫واالتيامات المضادة‪ .‬أنا ال أجد تسويغاً لما يحصؿ أمامي مف‬
‫التشرذـ بيف شبابنا‪".‬‬

‫"بؿ عميؾ يا رابية أف تجدي في ىذه النقاشات نموذجاً جديداً‬


‫لمديمقراطية‪ ،‬فميـ الحؽ في التعبير عف آراليـ‪"..‬‬

‫"وىذه االتيامات التي تتراشؽ حولنا؟ االتيامات ليست موقفاً‪،‬‬


‫وليست رأياً‪ .‬االتياـ بالخيانة ال يمكف أف يكوف موقفاً صحيحاً‪ .‬قد‬
‫يأتي الوقت المناسب لمخبلفات فيما بعد يا خالد‪ "..‬صمتت وتأممت‬
‫المشيد الممتد أماميا‪ .‬قالت بعد برىة‪" ،‬ربما بعد التحرير‪ .‬أما اآلف‪،‬‬
‫فما يزاؿ الوقت مبك اًر عمييا‪ .‬فنحف اآلف بحاجة إلى كؿ صوت والى‬
‫كؿ بندقية‪".‬‬

‫"لكف بالرغـ مف كؿ الخبلفات‪ ،‬الكؿ يقاتؿ‪"..‬‬

‫"ىذا صحيح‪ .‬لكني أخشى يا خالد أف تؤدي ىذه النزاعات‬


‫الصغيرة إلى أف تتحوؿ بنادقنا إلى صدورنا‪ ..‬ال إلى صدور‬
‫األعداء‪ "..‬صمتت رابية والحزف يغمؼ عينييا‪ .‬تحاشت سنا الدخوؿ‬
‫في حوار تجيؿ مدياتو‪.‬‬

‫"إنؾ متشالمة جداً يا رابية‪ ،‬فالكؿ رفاؽ ىنا‪ .‬وحيف نحمؿ‬


‫السبلح‪ ،‬ننسى كؿ خبلفاتنا‪ .‬ألف كؿ واحد منا يعرؼ أف عدونا واحد‪،‬‬
‫وطريقنا واحد‪ "..‬صمت خالد‪ ،‬وعاد لينظر إلى سنا كأنما يبحث عف‬
‫شيء ما في عينييا‪ .‬أردؼ بعد مدة‪" ،‬ربما كانت تجربتؾ السياسية‬
‫السابقة‪ ،‬بكؿ م اررة انشاقاقاتيا‪ ،‬ىي التي تممي عميؾ ىذا التشاؤـ‪".‬‬

‫ابتسمت رابية بحزف‪" ،‬أو ربما تزيد مف وعيي بما أراه‬


‫أمامي‪ "..‬استدارت إلى سنا وىي تقوؿ‪" ،‬أتذكريف بداية خبلفاتنا؟ لقد‬
‫كانت نقاشات فكرية‪ ،‬تحولت مع مرور الزمف إلى أخاديد منعت‬
‫التفاىـ بيننا‪ "..‬لـ ترد سنا‪ .‬صمتت رابية ثـ أكممت بعد مدة‪" ،‬لـ أعد‬
‫أعرؼ‪ .‬لـ أعد أعرؼ لنفسي طريقاً بيف حقؿ األلغاـ ىذا‪ .‬كؿ كممة‬
‫ىي لغـ في درب الثورة‪ .‬ال أدري ما الذي يمكنني قولو أكثر مف أني‬
‫لـ أعد مقتنعة بأي موقؼ‪ .‬لـ أعد أصدؽ أياً مف اتياماتيـ‪".‬‬

‫صمتت رابية وأحنت رأسيا‪ .‬بدأت ترسـ أشكاال غامضة عمى‬


‫التراب بعود ثقاب تحممو‪ .‬بعد مدة قاؿ خالد متأمبلً‪" ،‬عميؾ يا رابية‬
‫أف تكوني أكبر مف الصغالر‪ .‬دعييـ يقولوف ما يريدوف‪ .‬ما عمينا‬
‫سوى أف نظؿ نقاتؿ‪".‬‬

‫"لكف الكؿ يطالبني بموقؼ‪ .‬كؿ مجموعة منيـ تطالبني‬


‫بموقؼ‪ .‬وحيف ألتزـ الصمت‪ ،‬يتيمونني بالسمبية‪ "..‬وابتسمت في‬
‫وجيو ابتسامة حزينة‪" ،‬أو التشاؤـ الذي اتيمتني بو قبؿ قميؿ يا‬
‫خالد‪".‬‬

‫رد عمى ابتسامتيا بألفة وصداقة‪" ،‬تعرفيف جيداً يا رابية‪ ،‬أني‬


‫ال أتيمؾ‪ .‬بؿ أريدؾ أف تخرجي مف قوقعة الصمت التي تختفيف‬
‫وراءىا‪".‬‬

‫"خالد‪ ،‬الخيانة صارت تيمة سيمة‪ ،‬والعمالة عمى كؿ لساف‪.‬‬


‫وخالف وعميؿ كؿ مف يخالؼ اآلخر‪ ،‬والكؿ يخالؼ الكؿ‪ ..‬حتى‬
‫ضاعت الرؤية وضاعت الحقيقة في وضح النيار‪".‬‬

‫رد بحزـ واضح‪" ،‬الحقيقة ال تضيع!" وأشار بيده إلى األرض‬


‫المحتمة‪" ،‬الحقيقة ىناؾ!" ثـ أردؼ‪" ،‬الحقيقة الوحيدة ىي األرض‪.‬‬
‫والطريؽ إلييا واضح‪ .‬القتاؿ حتى النصر!"‬

‫ردت بسخرية مؤلمة‪" ،‬أو القتاؿ حتى توجو نحوؾ‬


‫االتيامات؟"‬
‫ضحؾ خالد ساخ اًر مما تقوؿ‪ ،‬فبل أحد يجرؤ عمى اتياـ خالد‬
‫السعد‪ ،‬المقاتؿ الشرس‪" ،‬ألـ اقؿ أنؾ متشالمة؟ أنا أعرؼ طريقي‪،‬‬
‫ولف يجرؤ أحد منيـ عمى اتيامي‪ "..‬واستدار إلى سنا‪" ،‬أليس كذلؾ‬
‫يا بغدادية؟ قولي ليا‪ ،‬فيي لف تصدقني‪ ،‬لكف ربما صدقتؾ‪ ".‬نيض‬
‫عمي أف أذىب‪ .‬إلى المقاء‪".‬‬
‫مف مكانو‪" ،‬آسؼ‪ّ ،‬‬

‫غادرىما خالد‪ .‬لـ تشأ سنا أف تزيد مف آالـ جروح صديقتيا‪،‬‬


‫فمـ تناقشيا فيما قيؿ قبؿ قميؿ‪ .‬حولت الحديث إلى بغداد وأىؿ بغداد‪.‬‬
‫كما لـ تسأليا عف خالد السعد‪ ،‬وأخفت إعجابيا بو س اًر بيف الجفوف‪.‬‬

‫أمضت سنا بضعة أياـ في المعسكر‪ ،‬ثـ غادرت إلى‬


‫بريطانيا حيث درست الفمسفة في جامعة غبلسكو‪ ،‬ومنيا حصمت‬
‫عمى الدكتوراه بتفوؽ‪ ،‬مما دفع جامعة أوتاوا بكندا أف تعرض عمييا‬
‫التدريس فييا‪ .‬قبمت سنا العرض وذىبت إلى كندا‪ .‬كانت المدة األولى‬
‫فييا سيمة‪ ،‬فمع كؿ متعة استكشاؼ ىذا العالـ الجديد‪ ،‬كاف عمى‬
‫الدكتورة سنا حامد أف تثبت وجودىا‪ .‬فما يزاؿ العديد مف الزمبلء‬
‫األساتذة‪ ،‬ينظروف إلييا نظرة شؾ بقدراتيا‪ .‬ألنيا امرأة أوالً‪ ،‬ومف‬
‫العالـ الثالث ثانياً‪ .‬وىو أمر لـ يكف ليخفى عمى سنا‪ ،‬فاجتيدت لتثبت‬
‫ليـ أنيا يمكف أف تنجح‪ .‬ونجحت سنا بعد أف استنفرت كؿ عنفوانيا‬
‫وذكاءىا وثورة أياميا‪.‬‬

‫سنوات أربع عاشتيا سنا وىي تقاوـ رغبتيا بالعودة إلى‬


‫أحضاف بغداد‪ .‬حاولت إقناع نفسيا بسيولة الحياة‪ ،‬وفرص اإلبداع‬
‫المتاحة أماميا‪ ،‬والوظيفة المحترمة‪ .‬لكف نسغ الحياة ظؿ يجرىا‬
‫بعيداً‪ ،‬إلى حيث األجواء المميلة بالحر والغبار والحوارات الساخنة‪.‬‬
‫حيث العواطؼ تغمب المنطؽ في كثير مف األحياف‪.‬‬
‫لقد أرىقيا المنطؽ ببرودتو‪ .‬وارىقتيا أوتاوا ببرودة مناخيا‪،‬‬
‫فصار حنينيا يتركز في تموز بغداد حيث يورؽ الفؿ وتثور المعارؾ‬
‫بسبب كممة‪ .‬صارت سنا تشتاؽ إلى االتيامات التي يتراشقيا الفتية‪،‬‬
‫كما يتراشقيا األساتذة‪ .‬عشر سنوات مف الغربة بيف غبلسكو وأوتاوا‬
‫ىي أكثر مما ينبغي‪.‬‬

‫وعادت سنا إلى بغداد‪.‬‬

‫عادت وحاولت أف تعيد وصؿ ما انقطع مف صداقاتيا‪ .‬لكف‬


‫خيط التواصؿ مع أغمبيـ لـ يعد موجوداً‪ ،‬فمقد دفنتو األياـ واألحداث‪.‬‬
‫وشباب الستينات فقد توىجو بمرور السنوات‪.‬‬

‫بحثت عف رابية‪ .‬سألت األصدقاء‪ .‬منيـ مف قاؿ استشيدت‬


‫في الضفة الغربية في معارؾ سبعة وستيف‪ .‬أو ربما أحداث أيموؿ‬
‫‪ .1970‬ومنيـ مف قاؿ عادت ورأيتيا‪ ،‬وقد تزوجت ورزقت بالبنيف‬
‫والبنات وابتعدت عف الحياة العامة‪ .‬ولـ تعرؼ سنا الطريؽ إلى‬
‫صديقة العمر‪ ،‬وأنى ليا أف تعرؼ!‬

‫عممت سنا أستاذة في الجامعة‪ ،‬قسـ الفمسفة‪ ،‬وعرفت‬


‫أصدقاء جدد‪ .‬قرأت‪ .‬عممت‪ .‬حاضرت‪ .‬ناقشت‪ .‬عادت إلى نير‬
‫الحياة البغدادية‪ ،‬خاضت غمارىا وجرتيا إلى مساراتيا العديدة‪.‬‬

‫في أحد األياـ‪ ،‬حضرت سنا حفمة عرس‪ ،‬الح ليا وجو‬
‫مألوؼ لـ تستطع لموىمة األولى أف تعرؼ صاحبو‪ .‬حدقت بو طويبلً‪،‬‬
‫ثـ تذكرت خالد السعد‪ ،‬القالد الفمسطيني الذي تعرفت عميو قبؿ‬
‫سنوات في معسكر المقاومة وترؾ في نفسيا أث اًر حينذاؾ‪ .‬أيمكف أف‬
‫يكوف ىذا الشيخ األشيب ىو خالد السعد ذاؾ‪ ،‬أـ ىو شبو في‬
‫المبلمح؟ إذ ربما خدعتيا الذاكرة‪ .‬ظمت تحدؽ بو وىو ساىـ ال يريـ‪.‬‬
‫ثـ لـ تتمالؾ نفسيا فسألت أحد معارفيا عنو‪" ،‬أليس ذاؾ ىو خالد‬
‫السعد؟"‬

‫"نعـ‪ ،‬ىو خالد نفسو‪ .‬أتعرفينو؟"‬

‫"قابمتو منذ سنوات‪ .‬ماذا يفعؿ ىنا؟ ظننت أنو ما يزاؿ عمى‬
‫خط النار؟"‬

‫"ألـ تعرفي؟ عجيب! لكف‪ ،‬لـ العجب‪ ،‬فمقد مرت عميؾ‬


‫سنوات طويمة وأنت بعيدة عنا‪ .‬لقد فصموا خالد السعد بعدما اتيموه‬
‫باتيامات شتى‪".‬‬

‫"أيمكف ىذا؟ لقد كاف مف خيرة القادة وأكثرىـ نقاءاً كما‬


‫عرفت آنذاؾ‪ .‬ألي سبب فصموه؟"‬

‫داع لوجود سبب؟ مف الذي نجا مف‬


‫"سبب؟ ىؿ ىناؾ ٍ‬
‫االتياـ بالخيانة‪ ،‬لكي ينجو خالد منيا؟ ىو اتيـ اآلخريف‪ ،‬وىـ اتيموه‬
‫بدورىـ‪ .‬كؿ منيـ يتيـ اآلخر‪ .‬منذ سنوات لـ نعد نسمع بأي انتصار‬
‫عمى األعداء‪ ،‬كؿ ما نسمعو ىو المزيد مف االتيامات! ومف كؿ‬
‫صنؼ ولوف‪ .‬اتيامات وانشقاقات‪ .‬كؿ يوـ تظير لنا حركة جديدة‬
‫تزعـ أنيا األكثر حرصاً واخبلصاً لمقضية‪ .‬حتى صار كؿ واحد‬
‫حركة قالمة بذاتيا‪"...‬‬

‫ىزت رأسيا بأسؼ‪" ،‬نعـ‪ .‬في ىذا الزمف الرديء صارت‬


‫بنادقنا توجو لصدورنا ال لصدور األعداء‪ .‬لقد خسرنا األمؿ الذي كاف‬
‫كبي اًر‪ .‬أردنا لخط النار أف يكوف عنصر توحيد بيف العرب‪"..‬‬

‫"نعـ‪ ،‬أردناه عنصر توحيد‪ ،‬لكننا حممنا بذور التشرذـ مع كؿ‬


‫واحد منا‪ ،‬وزرعناىا عمى خط النار‪ ،‬فأحرقتنا‪".‬‬
‫استأذنت مف الرجؿ وذىبت نحو خالد السعد‪" ،‬مساء الخير‬
‫أستاذ خالد‪"..‬‬

‫"أىبلً مساء النور‪ "..‬نظر إلى وجييا بحيرة محاوالً تذكرىا‪.‬‬

‫"ال تتعب نفسؾ بمحاولة تذكر اسمي‪ .‬أنا سنا حامد‪ ،‬صديقة‬
‫رابية الحمود‪".‬‬

‫الحت ابتسامة أمؿ عمى وجو خالد وسأؿ بميفة‪" ،‬أتعرفيف‬


‫أيف رابية اآلف؟"‬

‫"لؤلسؼ ال أعرؼ‪ .‬لقد بحثت عنيا وسألت كؿ مف أعرؼ‪،‬‬


‫لكف يبدو أف رابية ال تريد ألحد أف يعرؼ عنيا شيلاً‪ .‬كنت آمؿ أف‬
‫تعرؼ أنت‪ ،‬عنيا شيلاً‪".‬‬

‫"ال‪ ،‬منذ أف جلت إلى بغداد حاولت عدـ االتصاؿ بأحد كي‬
‫ال أحرج الناس بعدما وقع لي‪ .‬فمعرفة خالد السعد صارت تيمة‬
‫حاولت أف أجنب الجميع االتياـ بيا‪ ".‬صمت خالد برىة‪" ،‬سنا‬
‫حامد‪ ..‬سنا حامد؟"‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬أستاذ خالد‪ ،‬قمت لؾ أنؾ لف تذكرني‪ .‬لقد‬


‫جلت قبؿ حوالي عشر سنوات إلى معسكركـ بالقرب مف عماف‪،‬‬
‫والتقينا ىناؾ بضع مرات‪ .‬كنت تسميني البغدادية‪ .‬وحيف رأيتؾ اليوـ‬
‫أردت أف أسمـ عميؾ وحسب‪"..‬‬

‫لـ يتحدث خالد كثي اًر في تمؾ السيرة‪ ،‬سواء معيا أو مع‬
‫غيرىا مف المدعويف‪ .‬أمضى السيرة ينظر ساىماً في الوجوه‪ ،‬ويرد‬
‫عمى األسلمة بإجابات مبتسرة‪.‬‬

‫تعمدت سنا أف تمتقي بخالد مرة أخرى‪ .‬التقيا مرة‪ ..‬وعشرات‬


‫المرات‪ .‬حدثيا‪ ،‬عمى قمة حديثو‪ ،‬عما سبؽ مف حياتو‪ ..‬حدثيا عف‬
‫م اررات الفشؿ‪ ،‬والنيايات‪ ،‬وخيبات األمؿ‪" ،‬يا سنا‪ ،‬أنا إنساف انتيت‬
‫حياتي يوـ ابتعدت عف خط النار‪ .‬لقد سمبوني حياتي يوـ جردوني‬
‫مف بندقيتي‪ ..‬حاولت أف ال أكوف طرفاً في نزاعاتيـ‪ ،‬واذا بيـ‬
‫يختمفوف عمى كؿ شيء‪ ،‬ويتفقوف عمى أمر واحد‪ ،‬ىو اتيامي!"‬

‫"لكني أذكر يوـ التقينا‪ ،‬قمت لرابية أف أحداً لف يجرؤ عمى‬


‫اتيامؾ‪ ،‬وبأف نزاعاتيـ ىي النموذج الجديد لممديمقراطية‪ ،‬أليست تمؾ‬
‫كمماتؾ؟"‬

‫"نعـ تمؾ كمماتي آنذاؾ‪ ،‬وكاف ذلؾ ما اعتقدتو‪ ..‬آنذاؾ‪ .‬لـ‬


‫تكف لدي أية تجربة سياسية قبؿ التحاقي بالمقاومة‪ ،‬بعكس رابية‪.‬‬
‫األمر الذي جعميا تدرؾ خطورة ما كنا فيو‪ .‬وما جعمني غبياً حتى‬
‫تصورت أف حمؿ البندقية يكفي لمتحرير‪ .‬لكني كنت واىماً‪ .‬وعمى أية‬
‫حاؿ‪ ،‬النتيجة واحدة‪ .‬رابية تركت المقاومة‪ ،‬كما جعموني أتركيا‪".‬‬

‫"لكف ىذا ال يجوز‪ .‬ألـ تحاوؿ شرح موقفؾ؟ أف تعود ثانية‬


‫إلى ىناؾ؟"‬

‫"كيؼ أعود وقد ألصقوا بي جميع التيـ التي تحفؿ بيا‬


‫قواميسيـ؟ كبل‪ ،‬لقد انتيت حياتي‪ .‬لـ يعد ييمني شيء‪ .‬صرت أسمع‬
‫عف الحياة عبر نشرات األخبار‪ .‬أما األمؿ‪ ،‬أو المستقبؿ‪ ،‬فميست إال‬
‫سراباً ينتظره المغفموف‪ .‬الحقيقة الوحيدة التي أعرفيا ىي اليوـ الذي‬
‫أعيشو‪ ،‬واليوـ الذي يميو‪ .‬حتى أصؿ في ٍ‬
‫يوـ ما إلى النياية‪ .‬وفي‬
‫خط النياية سأعثر عمى الراحة األبدية‪".‬‬

‫حدثيا خالد عمف أسماىف صاحباتو‪ ،‬فبلنة‪ ..‬وفبلنة وفبلنة‪.‬‬


‫حكى ليا أنيف لسف أكثر مف عابرات مع أيامو العابرة‪ .‬ال تترؾ‬
‫الواحدة منيف أث اًر في نفسو‪ .‬وينسى أية واحدة بعد ٍ‬
‫يوـ أو يوميف‪ .‬فيو‬
‫ال يجد في نفسو القدرة عمى العطاء أكثر مما يعطييف‪ :‬اىتماـ قصير‬
‫وبسمة عابرة‪ .‬معيف ال يحتاج إلى الحديث أو الكممات‪ .‬فمقد مؿ مف‬
‫الحديث والكممات حيف كاف في المقاومة‪" ،‬استنفدت كؿ الكممات‬
‫حينذاؾ‪ ،‬ولـ يعد لي إال المتع القصيرة‪ ،‬أقضي بيا ما تبقى مف‬
‫أيامي‪".‬‬

‫ومع كؿ لقاء جديد‪ ،‬وكؿ اعتراؼ جديد‪ ،‬كانت سنا تزداد‬


‫قناعة أنيا قادرة أف تعيد أليامو زىوىا‪ ،‬ولمستقبمو أمبلً‪ .‬أف تجعمو‬
‫يقؼ عمى قدميو‪ ،‬ليعود باىياً كما كاف‪ ،‬وكما رأتو وكما تتذكره‪.‬‬

‫ازداد تقاربيما مع كؿ لقاء جديد‪ .‬صارت لقاءاتيما ىي زاد‬


‫حياة كؿ منيما‪ .‬ك ٌؿ منيما ييفو لآلخر‪ ،‬ويحسب الساعات التي‬
‫تفصمو عف المقاء باآلخر‪ .‬حاولت سناء تغميؼ عواطفيا‪ ،‬فزعمت أماـ‬
‫ذاتيا أف الصداقة الحميمة ىي ما يربط بينيما‪ ،‬وأنو ال يتميز عف‬
‫بقية األصدقاء‪.‬‬

‫في أحد األياـ جاء خالد أكثر عبوساً مف بقية األياـ‪ .‬حاولت‬
‫معرفة السبب‪ ،‬أو التخفيؼ عف بعض حزنو‪ ،‬أو كسر جدار الصمت‪.‬‬
‫وخالد يتحاشى أي حوار معيا‪ .‬أخي اًر‪ ،‬وبعد إلحاح شديد‪ ،‬لـ يعد‬
‫بوسعو إال أف يقوؿ‪" ،‬سنا‪ ،‬إلحاحؾ ىذا لف يجمب لؾ إال الحزف‬
‫والقمؽ‪ .‬تريديف مني شرح سبب حزني؟ إني حزيف ألني أتمزؽ بيف‬
‫رغبتي باإلفصاح لؾ‪ ،‬وخشيتي عميؾ مما سيجره ىذا‪".‬‬

‫عمي يا خالد؟"‬
‫"أتخاؼ ّ‬

‫"بمى‪ .‬أخاؼ عميؾ مف اندفاعاتؾ‪ .‬كما أخاؼ عميؾ مني‪".‬‬

‫"وىؿ يمكف أف تؤذيني؟"‬

‫"يمكف أف أؤذيؾ‪ ،‬كما يمكنؾ أف تؤذي نفسؾ‪"..‬‬

‫"كيؼ؟"‬
‫صمت خالد برىة ثـ قاؿ‪" ،‬سنا‪ .‬لـ أصدؽ يوماً بوجود‬
‫عاطفة يحكي عنيا الجميع‪ ،‬ويسمونيا حباً‪ .‬كنت أتصور أنيا ال تزيد‬
‫عف كممات جميمة تأخذىا الريح‪ .‬يخترعيا الشعراء ليعيشوا بما تدره‬
‫عمييـ‪ .‬لـ أكف ألصدؽ أف امرأة يمكف أف تختزؿ كؿ النساء‪ ،‬وأف‬
‫تختمؼ عف كؿ مف سبقيا‪ ،‬حتى عرفتؾ‪ .‬فعرفت أف الحب حقيقة‪.‬‬
‫وعرفت أف قدري قادني ألعرفؾ‪ ،‬فكاف حبي ىو بذرة األصالة التي‬
‫عمي‬
‫ىدمت زيؼ أيامي الحاضرة‪ "..‬حدؽ بيا طويبلً‪" ،‬ومع ىذا يجب ّ‬
‫أف أخنؽ ىذا الحب في أعماقي‪"..‬‬

‫لـ تدر سنا بـ ترد عميو‪ .‬لـ يسعفيا المنطؽ الذي تعممتو‪،‬‬
‫وتدرسو في الجامعة‪ ،‬لكي تعرؼ الرد عمى ما يقوؿ‪ .‬إال أنيا مع كؿ‬
‫كممة قاليا‪ ،‬كانت تعي أف قدرىا‪ ،‬ىي أيضاً‪ ،‬جعميا تمتقي بيذا‬
‫الرجؿ‪ .‬رفعت رأسيا إلى وجيو‪" ،‬خالد‪ ،‬لماذا تريد أف تحرـ كمينا مف‬
‫حقنا في الحياة؟ لماذا تخنؽ الحب في أعماقؾ؟ أال يجدر بؾ اف‬
‫تقوليا واضحة وصريحة؟"‬

‫"سنا‪ ..‬افيميني يا سنا‪ ..‬مع كؿ الحب الذي أكنو لؾ‪ ،‬إال‬


‫أني أعرؼ حقيقة نفسي‪ .‬وأعرؼ أني لست جدي اًر بؾ‪ .‬أنا إنساف مف‬
‫الماضي‪ .‬أما أنت‪ ،‬فأنت المستقبؿ‪ .‬لقد حطمتني خيبات األمؿ‪ .‬أما‬
‫أنت فمقد حولت خيبات األمؿ ىذه إلى نجاح‪ .‬أنا يا سنا‪ ،‬رجؿ ببل‬
‫مستقبؿ‪ .‬أمضي أيامي ببلجدوى‪ .‬ومع كؿ حبي لؾ‪ ،‬بؿ بسبب حبي‬
‫لؾ‪ ،‬ال أرضى لؾ االرتباط برجؿ مثمي‪"..‬‬

‫حاوؿ خالد قطع عبلقتو بيا‪ ،‬فما قدر إال أف يغيب بضعة‬
‫أياـ‪ ،‬عاد بعدىا‪ .‬كما حاوؿ االستعانة بعبلقاتو القديمة لينسى سنا‪،‬‬
‫لكف كؿ واحدة مف أوللؾ النسوة تذكره بسنا‪ ،‬وروعة سنا‪ ،‬وأصالة‬
‫سنا‪.‬‬
‫لـ تناقشو سنا فيما قاؿ‪ ،‬ولـ تعاتبو حيف غاب‪ .‬لكنيا فرحت‬
‫بعودتو‪ .‬فخالد السعد ىو اإلنساف الذي انتظرت معرفتو طواؿ حياتيا‪.‬‬
‫إنساف رفض أف يزيؼ إيمانو‪ ،‬فانزوى يمعؽ جراح خيبات أممو مف‬
‫دوف أف يفقد إيمانو‪ ،‬ومف دوف أف يحني ىامتو‪.‬‬

‫لكف‪ ..‬لو يعود خالد كما كاف!‬

‫لو يقدر خالد أف يقؼ عمى قدميو!‬

‫لو يجتاز خيبات األمؿ التي تحني ظيره!‬

‫لو يتخمى عف الجواري البلتي يحيط نفسو بيف!‬

‫ظمت الحيرة تعتمؿ في نفس سنا‪ .‬ىي تريد خالد كما كاف‬
‫باألمس‪ ،‬باىياً وكبي اًر‪ .‬ال الرجؿ الذي ييرب مف خيبات أممو إلى‬
‫خيبات أمؿ جديدة‪.‬‬

‫في أحد األياـ‪ ،‬كانت سنا في طريؽ عودتيا مف كمية‬


‫اآلداب‪ ،‬شاىدت خالد في سيارتو ومعو شابة ال تعرفيا‪ .‬حاولت إقناع‬
‫نفسيا أنيا قد تكوف إحدى قريباتو‪ ،‬أو مف معارفو‪ .‬إال أف اليواجس‬
‫ظمت تمور في رأسيا‪ ،‬والغيرة تنيش أعماقيا‪.‬‬

‫ما أف التقيا حتى سألتو عف تمؾ الفتاة‪ .‬أجابيا بكؿ بساطة‪،‬‬


‫"تمؾ واحدة مف صاحباتي‪ "،‬ضحؾ ثـ أردؼ‪" ،‬ممف تسمييف‬
‫الجواري‪ "..‬حاوؿ خالد تحويؿ األمر إلى مزحة‪ .‬حاوؿ أف يشرح ليا‬
‫أنيا فتاة عابرة وال يجوز ليا أف تعطييا مف األىمية أكثر مما‬
‫تستحؽ‪ .‬كما حاولت سنا فيـ دوافعو‪ ،‬وأف تفيـ صعوبة أف يغير ما‬
‫اعتاد عميو في نمط حياتو‪.‬‬

‫حاولت إقناع نفسيا أف تمنحو فرصة أخرى ليتغير‪ .‬ولكف‪،‬‬


‫ىؿ ينوي خالد أف يتغير فعبلً؟ ذكرتو بوعوده في أف ال يعود إلى‬
‫عبلقاتو تمؾ‪ .‬ذكرتو بما يخططاف مف حياة مشتركة‪ .‬ىز خالد رأسو‬
‫وقاؿ‪" ،‬سنا‪ ،‬حاولي أف تفيمي‪ ،‬تمؾ ىي حياتي‪ ،‬وىذا أنا‪ .‬لف أقدر أف‬
‫أغير شيلاً حتى لو أردت‪ .‬حتى لو قررت‪ .‬وحتى لو وعدت!"‬

‫ثارت سنا‪ .‬غضبت‪ .‬تخاصما‪ .‬ثـ تصالحا بعد بضعة أياـ‪،‬‬


‫ألف أياً منيما لـ يقدر أف يحيا بعيداً عف اآلخر‪ .‬ثـ تشاج اًر مرات‬
‫أخرى‪ ..‬وتخاصما مرات أخرى‪ .‬وعشرات المرات‪.‬‬

‫سنوات مرت عمييما وىما في صراع دالـ‪ .‬الحب يشدىما‬


‫إلى بعض‪ ،‬وجواري خالد يثرف غبار المتاعب والغيرة بينيما‪ .‬فبل ىي‬
‫بقادرة عمى التخمي عنو‪ ،‬وال ىو بقادر أف يغير ما بنفسو كي‬
‫يرضييا‪.‬‬

‫لو أنيا ترضى بو كما ىو‪ ،‬أو تمنحو وقتاً كي يتغير‪.‬‬

‫لو أنو يقدر أف يتخمى عنيا ويقتؿ ىذا الحب الذي يمؤل‬
‫نفسو‪.‬‬

‫لكف‪ ..‬ال ىو يقدر‪ ،‬وال ىي تصفح‪.‬‬

‫في يوـ غالـ كليب‪ ،‬وبعد مشاحنة قاسية مع خالد‪ ،‬خرجت‬


‫سنا تقود سيارتيا عمى غير ىدى‪ ،‬لعميا تيدئ مف سورة غضبيا‪ ،‬وقد‬
‫قررت قطع كؿ ما يربطيا بخالد‪ .‬وىي تدري أف قرارىا ىذا سوؼ‬
‫ينيار بعد أياـ قبللؿ‪ .‬فمو أنيا تستطيع‪ ،‬لقطعت عبلقتيا بو منذ‬
‫سنوات‪.‬‬

‫قيادة السيارة في شوارع بغداد يفرغ شحنة غضبيا‪ ،‬ويحوؿ‬


‫مساره‪ ،‬ألنيا تريد في أعماقيا أف تغير مسار غضبيا‪ .‬تريد أف تغفر‬
‫لخالد‪ .‬تريد أف تقبمو كما ىو‪ .‬لو أنيا تقدر!‬
‫توقفت أماـ الضوء األحمر‪ .‬التفتت إلى اليسار فشاىدت‬
‫سيارة صغيرة تقؼ بموازاتيا‪ ،‬تقودىا امرأة تغمض عينييا أماـ المقود‪،‬‬
‫والضوء األحمر ينعكس عمى محياىا‪ .‬ىؿ يمكف أف يقود المرء‬
‫سيارتو مغمض العينيف؟ ىؿ يخترؽ الضوء جفونيا فتعرؼ أنو تغير‬
‫مف األحمر إلى األخضر‪ ،‬فتعاود السير؟ أـ أنيا تنتظر حتى يوقظيا‬
‫زعيؽ منبو السيارات األخرى‪ ،‬فتعاود السير؟ ضحكت سنا مع نفسيا‪،‬‬
‫بالتأكيد ثمة العديد مف المجانيف غيرىا في ىذه المدينة‪.‬‬

‫حدقت في وجو السيدة‪ .‬الوجو مألوؼ لدييا‪ .‬ثـ ىتفت بأعمى‬


‫صوتيا‪" ،‬يا إليي‪ ..‬مستحيؿ!" واشتعؿ الضوء األخضر وىي ما تزاؿ‬
‫تحدؽ في وجو األخرى‪ .‬لـ تتنبو إال وسيارة تمؾ قد سبقت السيارات‬
‫بحركتيا السريعة‪ .‬ضغطت سنا عمى الوقود فمحقت األخرى‪ .‬ثـ‬
‫سبقتيا‪ .‬نظرت في المرآه لتتأكد‪ .‬ىؿ يمكف أف يكوف ما أراه حقيقة؟‬
‫ىؿ يمكف أف تكوف ىذه رابية؟ وصمتا في وقت واحد إلى إشارة مرور‬
‫أخرى واشتعؿ الضوء األحمر‪ ،‬فتوقفتا في وقت واحد‪.‬‬

‫نظرت سنا إلى السيارة األخرى‪ .‬عادت األخرى لتغمض‬


‫عينييا‪ .‬غمغمت سنا‪" ،‬نعـ‪ .‬قد يصير المستحيؿ حقيقة‪ .‬ىذه رابية‪.‬‬
‫أي شبو ال يمكف أف يصؿ إلى ىذا الحد‪ ".‬ضغطت منبو السيارة مرة‪،‬‬
‫ومرتيف‪ ،‬واألخرى لـ تفتح عينييا ولـ تمتفت‪.‬‬

‫اشتعؿ الضوء األخضر‪ .‬سبقتيا األخرى‪ ،‬وظمت سنا وراءىا‪.‬‬


‫رمشت بضوء سيارتيا تارة‪ ،‬وأطمقت المنبو تارة أخرى‪ ،‬واألخرى لـ‬
‫ترفع بصرىا إال لكي تنظر إلى السيارة مف دوف أف تمتفت لمف فييا‪.‬‬
‫فكرت سنا‪" ،‬ربما تصورت أني أحد أوللؾ الذيف يتعمدوف المضايقة‪".‬‬
‫وأطمقت ضحكة رنانة‪.‬‬
‫استمتعت سنا بمعبة المطاردة ىذه‪ ،‬ونسيت مشاحنتيا مع‬
‫خالد‪" .‬نعـ‪ ،‬ىذه رابية‪ .‬أخي اًر ىذه رابية! فرابية تقدر أف تعزؿ نفسيا‬
‫خبلؿ ثو ٍ‬
‫اف عف كؿ ما يحيط بيا‪ ،‬وتخمؽ عالميا الخاص‪ ".‬تخيمت‬
‫سنا أف في السيارة األخرى تيدر الموسيقى فتغطي عمى الضجيج‬
‫الذي يمؤل الشوارع‪ .‬والدؼء في داخميا ينسييا برودة الجو الغالـ‪.‬‬
‫وأحبلميا تسدؿ الستار عف وجوه مف حوليا في الشارع‪ .‬ترى أية‬
‫موسيقى تعزؼ اآلف في سيارة رابية؟ ىايدف؟ موزارت؟ مقاـ؟ أو أـ‬
‫كمثوـ؟‬

‫ظمت وراء السيارة األخرى خشية أف تفقد أثرىا في الزحاـ‪،‬‬


‫حتى وصمتا إلى حيث يخؼ الزحاـ‪ .‬لـ تغير األخرى مف جمستيا‬
‫المسترخية وراء المقود‪ ،‬لكف سرعة سيارتيا زادت‪ ..‬وزادت حتى‬
‫صعب عمى سنا أف تحافظ عمى المسافة المناسبة بينيما‪ .‬مرة أخرى‬
‫أطمقت سنا ضحكة عالية‪ .‬ال يمكف إال أف تكوف ىذه ىي رابية‪.‬‬
‫متناقضة في كؿ شيء‪ .‬تمؾ السياقة اليادلة‪ ،‬ثـ ىذه السرعة‬
‫المجنونة‪ .‬التغير في لحظات‪" ،‬تمؾ ىي رابيتي كما أعرفيا‪".‬‬

‫وصمت السيارتاف إلى ضاحية المنصور‪ .‬استدارت األخرى‬


‫ودخمت شارعاً فرعياً‪ ،‬فمحقتيا سنا‪ .‬إشارة االستدارة إلى اليسار‪،‬‬
‫فأعطت سنا إشارة استدارة إلى اليسار‪ .‬دخمت األولى عبر باب مفتوح‬
‫عمى بيت صغير‪ ،‬فدخمت سنا وراءىا‪" ،‬حتى لو لـ تكف ىذه ىي‬
‫رابية‪ ،‬فسوؼ أكوف سعيدة بالتعرؼ عمييا‪".‬‬

‫أطفأت األخرى محرؾ سيارتيا وىبطت‪ ،‬أحست أف سيارة‬


‫ثانية قد دخمت الدار وراءىا‪ ،‬فنظرت متعجبة كأنيا تعود مف عوالـ‬
‫بعيدة إلى ىذه األرض‪ ..‬الغريبة والقريبة منيا‪ .‬نظرت إلى وجو سنا‪،‬‬
‫ثـ صاحت‪" ،‬مستحيؿ!!!" ردت سنا بضحكة مدوية وىي تفتح ذراعييا‬
‫مف دوف أية كممة‪" .‬مستحيؿ! مستحيؿ! مستحيؿ! سنا؟ بعد كؿ ىذه‬
‫السنوات؟"‬

‫فتحت كؿ منيما ذراعييا لؤلخرى‪ .‬أكبر مف كؿ الكممات‪،‬‬


‫وأكبر مف كؿ الدموع كاف المقاء‪ .‬امتدت المحظة لتحتضف العالـ‪،‬‬
‫وتختصر الزمف بينيما‪.‬‬

‫ماذا قالت الواحدة لؤلخرى؟ لـ تعد أي منيما تتذكر‪ .‬قالتا كؿ‬


‫شيء‪ ،‬ولـ تقوال شيلاً‪ .‬اختزلتا الزمف الماضي والحاضر أماـ فنجاف‬
‫قيوة في بيت رابية الحمود في صباح يوـ شتالي غالـ في بغداد‪.‬‬
‫وعاد خيط التواصؿ الذي ما انقطع يوماً ليربط بيف ىاتيف اإلنسانتيف‪.‬‬
‫حكت كؿ منيما لؤلخرى أحداث حياتيا‪ .‬تناقشتا‪ ،‬عبل صوتيما‪.‬‬
‫اختمفتا‪ ،‬واتفقتا‪ .‬وظؿ خيط التواصؿ يربط حياة كؿ منيما إلى األخرى‬
‫ويشد الواحدة إلى األخرى‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫صعد غياث إلى سيارتو‪ .‬لـ تكف السيارة جديدة مثؿ تمؾ‬
‫التي يتباىى بيا زمبلؤه مف أساتذة الجامعة باقتناليا‪ ،‬إنما ىي سيارة‬
‫عتيقة يعوزىا الكثير مف العناية‪ ،‬وىو ال يممؾ وقتاً لمعناية بيا‬
‫وتصميح ما يفسد الدىر منيا‪ .‬أدار المحرؾ وسار ببطء مجتا اًز شوارع‬
‫المدينة‪ .‬إنو يحب التجواؿ في شوارع بغداد بالرغـ مف فوضى‬
‫زحاميا‪ .‬لقد اعتاد المرور في مركز المدينة حيث كانت تقع دارىـ‬
‫أياـ حياة العالمة في المحمة القديمة‪.‬‬

‫وضع شريط تسجيؿ لشترافنسكي‪ .‬يحب االستماع المت ازج‬


‫موسيقى شترافنسكي مع ضجيج الشوارع‪ .‬سرح غياث مع أفكاره‬
‫وذكرياتو‪ .‬السؤاؿ األزلي ما زاؿ يمح عميو‪ :‬ماذا يريد بعد؟ والى أيف‬
‫يروـ الوصوؿ؟ لقد حقؽ ما يتمنى اآلخروف تحقيقو‪ ،‬وخبلؿ مدة‬
‫قصيرة مف الزمف‪ ،‬فما الذي يريده بعد؟ ما يزاؿ ىاجسو تحقيؽ المزيد‪،‬‬
‫ولكف‪ ،‬ما ىو المزيد؟ ما ىو التحدي الجديد الذي يمكف أف يبقي جذوة‬
‫الحماسة مشتعمة في نفسو؟ أـ تراه وصؿ إلى النياية‪ ،‬وما يزاؿ في‬
‫العمر بقية لـ يعد يعرؼ كيؼ يمضييا؟‬

‫ىذه األفكار السوداوية تزعجو‪ ،‬لكنو ال يقدر أف يزيحيا عف‬


‫مخيمتو‪ .‬طالما تمنى لو كاف فيو بعض ىدوء أبيو‪ ،‬الحاج يوسؼ‬
‫البدر‪ .‬تمنى لو يعيش الرضى‪ ،‬ويحس باالقتناع لما حقؽ في حياتو‪.‬‬
‫كاف أبوه يوسؼ البدر حكيماً‪ ،‬تعمـ منو غياث الكثير‪ .‬لكف ثورة نفسو‬
‫أقوى مف أف تروضيا الطاعة‪ ،‬أو يحد مف جموحيا كؿ الحب الذي‬
‫يكنو ألبيو‪ .‬يوسؼ البدر كاف رجبلً ورعاً متديناً‪ ،‬مف دوف تعصب أو‬
‫تزمت‪ .‬ربى أبناءه عمى حب النظاـ وطاعة األكبر سناً‪ .‬أمضى أعواـ‬
‫حياتو في القراءة والتعمـ والكتابة‪ .‬وما يزاؿ غياث يحتفظ بمكتبة أبيو‬
‫التي يزيف كتبيا ىوامش أبيو والوريقات الصغيرة التي كاف يدسيا بيف‬
‫صفحات الكتب‪ .‬حيف مات الحاج يوسؼ البدر‪ ،‬وجدوه حيث اعتاد‬
‫أف يجمس‪ ،‬عمى األرض‪ ،‬ومقدمة ابف خمدوف مفتوح عمى الصفحة‬
‫التي وصؿ إلييا‪.‬‬

‫كاف يجيد التركية والفارسية‪ ،‬وتعمـ الفرنسية إباف دراستو في‬


‫تركيا‪ .‬يقرض الشعر بالعربية والتركية‪ ،‬ويحاور العمماء في الديف‬
‫والفمؾ والفمسفة والرياضيات‪ .‬ال تفوتو قراءة الصحؼ والمجبلت‪،‬‬
‫والتعميؽ عمييا‪ .‬حمو المعشر‪ ،‬حاضر البدييية‪ ،‬يحضر مجمسو‬
‫األسبوعي أدباء وسياسيوف‪ ،‬فقراء وأغنياء‪ ،‬إال أف أغمبيـ مثقفوف‪ ،‬واف‬
‫اختمفت مشاربيـ وتنوعت اختصاصاتيـ‪.‬‬

‫عاد مف إحدى سفراتو إلى تركيا‪ ،‬حامبلً معو حاكياً مع‬


‫مجموعة مف االسطوانات‪ ،‬فكاف أوؿ ٍ‬
‫حاؾ يصؿ إلى بغداد‪ .‬نعـ‪ ،‬كاف‬
‫عالـ مف المعرفة والتواضع‪ .‬ىادئ الصوت‪ ،‬واضح‬
‫أبوه متفتح الذىف‪ٌ ،‬‬
‫العبارة‪ ،‬فصيح المغة‪.‬‬

‫الكؿ يقوؿ أف غياث يشبو أباه‪ :‬نحيؼ البنية‪ ،‬طويؿ القامة‪،‬‬


‫حاد المبلمح‪ .‬إال أف شعر غياث عصى دوماً عمى سمطة المشط‪ .‬مذ‬
‫كاف صغي اًر رافقتو عادة العبث بمقدمة رأسو‪ .‬وحيف يفكر‪ ،‬يمد‬
‫أصابعو النحيمة بيف خصبلت الشعر‪ ،‬فبل يعود لمنظاـ موقع فيو‪.‬‬
‫عيناه صغيرتاف تنبعث منيما نظرات حادة تخترؽ وجو محدثو‪ .‬ىذه‬
‫النظرة تختصر كؿ الثورة في دواخمو‪ .‬وحيف يبتسـ غياث‪ ،‬تبدأ البسمة‬
‫مف العينيف‪ ،‬وتتسع حتى تصؿ إلى شفتيو المكتنزتيف‪ .‬مربع الوجو‪،‬‬
‫حاد المبلمح والتقاطيع‪ .‬سريع الحركة والمفتة‪ .‬ال يفوت انتباىو شيء‬
‫مما يجري حولو بالرغـ مف شرود فكره‪.‬‬

‫تنيد غياث‪" ،‬أيف مني اليوـ غياث ذاؾ؟ ىامتي يعموىا‬


‫الشيب‪ ،‬والشعر ما يزاؿ يتطاير مع كؿ الرياح‪ .‬العيناف النفاذتاف لـ‬
‫تعودا تستغنياف عف النظارات الطبية‪ .‬ذاؾ زماف مضى‪ ،‬مضى مع‬
‫الشباب الذي لف يعود‪".‬‬

‫وصؿ إلى مركز المدينة حيث الزقاؽ الذي كاف يشمخ فيو‬
‫بيت العالمة‪ .‬لـ يعد بيت العالمة في رأس الزقاؽ‪ .‬فبعد وفاة األب‪،‬‬
‫وزواج األخوة واألخوات‪ ،‬لـ يبؽ في الدار العتيقة غير أمو‪ ،‬التي‬
‫رفضت ترؾ الدار عمى أمؿ أف يعود غياث مف فرنسا ليعيش معيا‬
‫في دار العالمة‪ ،‬فبقيت مع حفيدىا األكبر أحمد الذي تولت تربيتو منذ‬
‫صغره‪ .‬وحيف عاد غياث لـ يعش في الدار‪ ،‬فيي عتيقة وكبيرة‪ .‬فبنى‬
‫دا اًر جديدة في المنصور وأخذ أمو وأحمد ليعيشا معو فييا‪.‬‬

‫ىدموا الدار العتيقة وبنوا محميا عمارة أجروىا مكاتب‬


‫وحوانيت‪" .‬نحف مف بدأ اليدـ‪ ،‬ومنذ أكثر مف عشر سنوات‪ ،‬فيؿ نموـ‬
‫اليوـ مف ييدـ المحمة بأكمميا؟"‬

‫مع ىذا‪ ،‬غياث ما زاؿ يحف إلى أياـ المحمة تمؾ‪ .‬ويذكر‬
‫أشياءىا وأحداثيا كمما مر مف ىنا‪ .‬وىو يمر مف ىنا في كؿ يوـ‪.‬‬
‫يذكر المحمة متراصة البيوت‪ ،‬يسند أحدىا اآلخر‪ ،‬وال يعمو أي منيا‬
‫عمى اآلخر‪ .‬متقاربة النوافذ‪ ،‬سميكة الجدراف‪ .‬محكمة األبواب‪.‬‬
‫باحاتيا مفتوحة‪ ،‬وأروقتيا مظممة‪ .‬ىواؤىا نقي طري‪.‬‬

‫كانت المحمة تزىو بأىميا الذيف عاشوا فييا أجياالً متعاقبة‪.‬‬


‫يعرؼ بعضيـ بعضاً‪ .‬يفرحوف معاً‪ ،‬واف حؿ حزف في دار أحدىـ‪،‬‬
‫حزنت معو المحمة بأكمميا‪ .‬واف أصاب ضير أحدىـ‪ ،‬تداعت الجيرة‬
‫لحمؿ الضير معو‪.‬‬

‫وكانت دارىـ تزدحـ دوماً‪ ،‬وتضج بمف فييا مف أىؿ وزوار‪.‬‬


‫وزوارىـ مف كؿ صنؼ ولوف‪ ،‬ولكؿ منيـ مكانو ومكانتو‪ .‬األلفة‬
‫واالحتراـ تحكـ الجميع وتسودىـ‪ .‬والحاج يوسؼ البدر‪ ،‬بمحيتو الكثة‬
‫البيضاء ومبلبسو العربية‪ ،‬يرحب بالجميع‪ ،‬يبتسـ لمصغار ويبلطؼ‬
‫الكبار‪ .‬قامة مييبة‪ ،‬ووقار يبعث عمى الحب واالحتراـ‪.‬‬

‫أما األـ‪ ،‬فكانت كن اًز مف المحبة والحناف‪ .‬يشع حنانيا مف‬


‫أبناليا ليغمر أبناء المحمة كافة‪ .‬ال فرؽ بيف ٍ‬
‫ابف ليا وابف جارتيا‪،‬‬
‫فمحبتيا تكفي لتفيض بالدعاء عمى كؿ مف حوليا‪" .‬إيو‪ ..‬تمؾ أياـ‬
‫مضت‪ ،‬مضت مف دىور‪ .‬ىؿ كاف بإمكاني المحافظة عمييا؟ وىؿ‬
‫أردت‪ ،‬آنذاؾ‪ ،‬أف أحافظ عمييا؟" ىو نفسو لـ يعد يدري‪ .‬وما تفعمو‬
‫األياـ ال مرد لو‪.‬‬

‫جرى العرؼ في العالمة أف يكوف االبف األكبر عسكرياً‪،‬‬


‫والثاني رجؿ قانوف‪ ،‬والثالث طبيباً أو ميندساً‪ .‬فكاف أف تخرج أخوه‬
‫األكبر عسكرياً‪ ،‬والثاني محامياً‪ .‬وحيف أكمؿ غياث دراستو اإلعدادية‪،‬‬
‫ترؾ ابوه الخيار مفتوحاً أمامو‪" ،‬الطب أو اليندسة‪ ،‬اختر منيما ما‬
‫تشاء‪".‬‬

‫إال أف غياث طمع عمييـ ببدعة جديدة‪" ،‬أريد دراسة الفمسفة‬


‫الحديثة‪".‬‬

‫فوجئ أبوه‪ ،‬ألنو لـ يعتد معارضة األبناء لرغبتو‪ .‬ثـ أف‬


‫"الفمسفة عمى عظمتيا‪ ،‬ليس ليا مستقبؿ عندنا بعد‪ .‬يمكف لؾ أف‬
‫تقرأىا‪ ،‬تدرسيا في أوقات فراغؾ‪ ،‬أما أف تجعؿ منيا مستقببلً‪ ،‬فذاؾ‬
‫محاؿ‪ .‬ال يمكنني أف أرضى لؾ بتحطيـ مستقبمؾ في نزوة شباب‬
‫تندـ عمييا فيما بعد‪".‬‬

‫حاوؿ إقناع أبيو‪ ،‬فما زاده إال غضباً‪ .‬وحاوؿ معو أبوه‪ ،‬كما‬
‫حاوؿ أخوتو وأصدقاؤه‪ ،‬دوف جدوى‪ .‬بكت أمو وىي تقوؿ‪" ،‬وايف‬
‫ستدرس الفمسفة؟ أبوؾ يقوؿ أنيا لـ تدخؿ بعد في مناىج الدراسة في‬
‫جامعاتنا‪ .‬قؿ لي‪ ،‬أيف ستدرسيا؟"‬
‫"في أوربا! فرنسا أو إنجمترا!"‬

‫"وتتغرب عنا؟ كيؼ يطاوعؾ قمبؾ أف تبعد عنا لسنوات؟ قد‬


‫أموت خبلليا‪".‬‬

‫"بؿ أذىب وأعود ألراؾ تزداديف شباباً‪"..‬‬

‫"إني ال أمزح يا غياث‪ ،‬فاألعمار بيد اهلل‪ .‬قد يحصؿ الكثير‪.‬‬


‫أطمب ما شلت‪ ،‬ولكف دع عنؾ فكرة السفر ىذه‪".‬‬

‫ولـ يكف غياث يريد إال أف يدرس الفمسفة في أوربا‪ .‬رفض‬


‫كؿ المحاوالت‪ .‬ورفض ابوه رفضو ىذا‪ .‬حاوؿ الجميع حؿ األزمة‪،‬‬
‫فما أفمح أحد منيـ‪ .‬ال دموع األـ أفمحت‪ ،‬وال قرار األب عدـ دفع‬
‫نفقات الدراسة والسفر‪ .‬وسافر غياث‪.‬‬

‫سافر إلى فرنسا ودرس الفمسفة في جامعة نانتير‪ .‬اشتغؿ‬


‫ليعيش ويدفع نفقات دراستو‪ .‬لـ تكف حياتو في الغربة سيمة‪ ،‬لكنو‬
‫بالرغـ مف الصعوبات فإف السأـ لـ يعرؼ طريقاً إلى نفسو‪ ،‬فغياث‬
‫يعرؼ كيؼ يحوؿ الحياة إلى متعة دالمة‪ .‬كؿ ما حولو يحفزه عمى‬
‫االستكشاؼ والمعرفة‪ .‬الناس والجامعة والعمؿ واألبنية والشوارع‬
‫والمدف‪ ،‬كما الجوع والصعمكة‪ ،‬فيو يقدر أف يندمج مع تيار الحياة‪،‬‬
‫فبل تجرفو أمواجيا‪ ،‬بؿ يبحر فييا ويوجييا‪.‬‬

‫ظؿ يكتب الرسالؿ إلى أىمو‪ .‬لـ يرد عميو األب‪ ،‬واألـ ال‬
‫حوؿ ليا وال قوة‪ .‬أخوتو كتبوا لو حيف تتاح ليـ الفرصة‪ ،‬وحيف يستجد‬
‫ما ىو ميـ في حياة العالمة‪ .‬أبمغوه في إحدى رسالميـ بموت األب‪،‬‬
‫فاراد قطع دراستو والعودة إلى بغداد ليكوف إلى جانب أمو‪ ،‬لكف أخوتو‬
‫أصروا عمى عدـ مجيلو‪ ،‬إذ ال فالدة ترجى مف عودتو‪ ،‬وعميو‬
‫االستمرار فيما بدأ فيو‪ .‬واألـ بخير والكؿ حوليا أبناء بررة‪.‬‬
‫مرت أعواـ طويمة‪ ،‬حصؿ غياث خبلليا عمى الدكتوراه‬
‫بالفمسفة‪ ،‬وعمؿ في الجامعة نفسيا أستاذاً وباحثاً‪ .‬ثـ قرر العودة إلى‬
‫بغداد‪ ،‬والعمؿ في جامعتيا بعدما أنشأت قسماً لمفمسفة بكمية اآلداب‪.‬‬

‫عاد غياث وعمؿ في كمية اآلداب‪ .‬بنى في طمبتو الكثير‪،‬‬


‫فيو لـ يكف أستاذا وحسب‪ ،‬بؿ مربياً ومرشداً وصديقاً‪ .‬حواره معيـ لـ‬
‫يقتصر عمى الغرؼ المغمقة‪ ،‬بؿ يمتد منذ أف يمتقي بأوؿ طالب منيـ‪،‬‬
‫ويظؿ يتنوع ويطوؿ لساعات‪ .‬صار غياث‪ ،‬في جو الجامعة‪ ،‬أشبو‬
‫بقطعة حجر ترمى في بحيرة ساكنة‪ ،‬فتتشكؿ حوليا ىاالت تتسع إلى‬
‫ما ال نياية‪ .‬لـ يكف أستاذاً يعمـ منيجاً دراسياً مقر اًر‪ ،‬بؿ ىو محاور‬
‫بارع يحيؿ كؿ كممة تقاؿ‪ ،‬وكؿ حدث يقع‪ ،‬وكؿ خبر‪ ..‬إلى موضوع‬
‫لمحوار‪ .‬حوار في الديف‪ ،‬حوار في الفمسفة‪ ،‬حوار في الموسيقى‪،‬‬
‫حوار حوؿ االختراعات الحديثة‪ ،‬وفيما تثيره ىذه االختراعات مف‬
‫تيارات لدينا‪ .‬في الشعر‪ ،‬في السياسة‪ ،‬في االقتصاد‪ .‬كؿ شيء‬
‫مطروح لمنقاش‪ ،‬فالحقيقة ال تعرؼ إال بضدىا‪ :‬اإليماف باإللحاد‪،‬‬
‫الصح بالخطأ‪ ،‬الجريمة بالغفراف‪ ،‬الميؿ بالنيار‪ ،‬المجتمع بالفرد‪،‬‬
‫السمو باإلسفاؼ‪ .‬كؿ شيء يقارف ويقاس‪.‬‬

‫يحمو لغياث أف يسمي طبلبو بالشباب‪ ،‬فيـ نخبة المستقبؿ‪،‬‬


‫وكؿ قيمة بعدىـ في طريؽ الزواؿ‪ .‬أشركيـ باىتماماتو العديدة‪،‬‬
‫وأشركوه بيموميـ‪ .‬حيف يذىب إلى معرض فني‪ ،‬يخبرىـ فيذىبوف‪،‬‬
‫وليس الفف مف ضمف منيجيـ الدراسي‪ .‬ندوة سياسية‪ ،‬يذىبوف‪ .‬لقاء‬
‫مع صحفي‪ ،‬يذىبوف‪ .‬ندوة في العمارة‪ ،‬في اآلثار‪ ،‬حفؿ موسيقي‪،‬‬
‫مسرحية جديدة‪ .‬الفمسفة ىي أـ العموـ‪ .‬والكممة ىي أداة الفمسفة‪ .‬كؿ‬
‫حدث مف ىذه األحداث يتخمميا حوار‪ ،‬ويمييا حوار طويؿ وجاد‪ .‬يزيد‬
‫مف سعة أفؽ الواحد منيـ‪ ،‬ويضيؼ لغياث نظرة جديدة‪ ،‬نظرة الشباب‬
‫إلى ما يدور حوليـ‪.‬‬
‫عمميـ الكثير‪ ،‬وتعمـ منيـ‪ .‬حواره معيـ أنار لو سببلً جديدة‬
‫لـ تكف في ذىف أي منيـ حيف جاء إلى قسـ الفمسفة‪ ،‬والعديد منيـ‬
‫جاء إلى القسـ مرغماً‪.‬‬

‫لـ يقتصر (شباب) غياث عمى طمبة قسـ الفمسفة‪ ،‬بؿ صاروا‬
‫يجيلوف مف األقساـ األخرى‪ ،‬ال بؿ مف الكميات األخرى‪ .‬وكؿ منيـ‬
‫يجد في غياث صديقاً‪ ،‬ودليبلً في دروب الحياة والثقافة‪.‬‬

‫حاوؿ الكثيروف ىدـ أسطورة غياث في عقوؿ الشباب‪ ،‬فما‬


‫نجحوا‪ .‬فحاوؿ البعض معرفتو عف كثب‪ ،‬وظؿ البعض اآلخر عمى‬
‫رفضو لغياث ونمطو في التعامؿ والتفكير‪ .‬جاممو قسـ منيـ‪ ،‬وجافاه‬
‫القسـ اآلخر‪ .‬أحبو البعض‪ ،‬وحسده ودس عميو البعض اآلخر‪،‬‬
‫وغياث يدري لما يجري حولو مف صراعات في أروقة الجامعة‬
‫ومجالسيا بسببو‪ ،‬فبل يمتفت إلييا‪ .‬رفض بعض األساتذة أسموب‬
‫تعاممو مع الطمبة وعده مفسدة لمعبلقات بينيـ وبيف األساتذة‪" ،‬فيي‬
‫تجعؿ الطمبة يتطاولوف عمى األساتذة‪ ".‬وبعضيـ اعتبر ما يمقيو مف‬
‫محاضرات‪" ،‬بدعاً غير مقبولة‪ ،‬وال تناسب مجتمعنا‪".‬‬

‫اشتكوه إلى عمادة الكمية‪ ،‬والى رلاسة الجامعة‪ .‬إال أف‬

‫مشاركتو في الفعاليات العممية قد أضافت إلى القسـ والكمية رصيداً‬


‫معرفياً ال يمكف االستيانة بو ألي سبب كاف‪ ،‬وال مجاؿ لمتفكير‬
‫باالستغناء عف وجوده بينيـ‪ ،‬فصار العمـ سداً رد عف غياث سياـ‬
‫اإلسفاؼ والحسد‪.‬‬

‫واجو غياث سوء الفيـ‪ ،‬كما واجو المحبة واالحتراـ‪ ،‬بكؿ ما‬
‫يممؾ مف تفيـ وذىف متفتح‪ .‬رفض الدخوؿ في صراعات جانبية مع‬
‫أي منيـ‪ .‬فالميـ عنده أف يستفيد الشباب مما يعرؼ‪ ،‬ويتواصموف‬
‫معو‪.‬‬
‫عطاء غياث ببل حدود‪ .‬وحماستو ببل حدود‪ .‬وحواره ببل‬
‫حدود‪ .‬وكذلؾ تناقضاتو ببل حدود‪ .‬غياث‪ ..‬غياث‪ ..‬اختمؼ الكؿ‬
‫عمى ما يقوؿ‪ ،‬واختمؼ الكؿ فيما يقوؿ‪ ،‬لكنيـ ما اختمفوا عمى محبتو‬
‫واحترامو‪.‬‬

‫أعواـ طويمة مرت عميو أستاذاً‪ ،‬ومربياً وصديقاً ألجياؿ عدة‬


‫مف الشباب‪ ،‬وما فترت حماستو‪ ،‬وال عرؼ الممؿ طريقاً إلى نفسو‪ ،‬وال‬
‫التعب‪ .‬اعتاد أف ال يناـ‪ ،‬في أحسف األحواؿ‪ ،‬عمى ما ال يتجاوز‬
‫خمس ساعات يومية‪ ،‬فقد يجره حوار يتصؿ حتى الصباح‪ ،‬فيغتسؿ‬
‫ويذىب إلى الجامعة مف دوف نوـ‪ .‬وأوقات راحتو يقضييا بيف شبابو‬
‫وأصدقالو‪ ،‬فبل يسد بابو بوجو أحد منيـ‪ ،‬وال يتعب مف لقاء أي منيـ‪.‬‬
‫شاب شعره قبؿ‪ ..‬قبؿ األواف!‬

‫توقؼ غياث أماـ الضوء األحمر‪ ،‬وشريط الذكريات يمر‬


‫سراعاً في ذىنو‪ ،‬معيداً أحداث حياتو الحافة‪ .‬رفع يده إلى رأسو ومد‬
‫أصابعو بيف خصبلت الشيب‪ .‬تنبو إلى حركتو‪ .‬تذكر صوت أمو‬
‫وىي تكرر القوؿ‪" ،‬غياث‪ ،‬متى تترؾ عادتؾ الطفولية ىذه؟ ألف تتعمـ‬
‫يوماً ترؾ شعرؾ مرتباً؟" ابتسـ غياث مع نفسو‪ .‬ما تزاؿ أمو تعنفو‬
‫كما كانت تفعؿ حيف كاف صغي اًر‪ ،‬فيضحؾ ويحوؿ تعنيفيا إلى نكتة‬
‫يروييا ويضحؾ منيا‪.‬‬

‫اشتعؿ الضوء األخضر فواصؿ طريقو‪ .‬اليوـ ىو الجمعة‪،‬‬


‫وقد اعتاد أف يقضي يوـ العطمة االسبوعية مع زياد مذ كانا يدرساف‬
‫في فرنسا‪ ،‬ميما كانت المشاغؿ واالرتباطات ألي منيما‪ .‬وبقي تقميد‬
‫لقاء الجمعة قالماً بعد عودتيما‪ ،‬حتى واف التقيا طيمة أياـ االسبوع‪.‬‬

‫قبؿ يوميف تـ افتتاح المعرض الفني الشامؿ في قاعة‬


‫المعرض الحديث‪ .‬ىذه القاعة ىي أقدـ قاعات العرض في بغداد‪،‬‬
‫فمقد بنيت في الخمسينات‪ .‬سبؽ وأف حضر غياث حفؿ االفتتاح‪ ،‬كما‬
‫حضره حشد كبير مف أىؿ بغداد ومف ضمنيـ العديد مف شبابو‪.‬‬
‫وحفبلت االفتتاح ىذه ىي مناسبة اجتماعية‪ ،‬تضيؽ القاعة بمف فييا‪،‬‬
‫وما فييا‪ ،‬فيصعب حينيا رؤية المعروضات بيدوء ٍ‬
‫وترو‪ .‬لكنيا تظؿ‬
‫مناسبة اجتماعية‪ ،‬خصوصاً بعدما شاع بيف أىؿ بغداد أف قاعة‬
‫العرض ىذه مرشحة لميدـ مع ما حوليا مف أبنية‪ ،‬بسبب قدميا‪.‬‬
‫فازداد حضورىـ إلييا كمف يزور مريضاً عزي اًز عمى وشؾ الرحيؿ عف‬
‫ىذه الدنيا‪.‬‬

‫في اليوـ التالي لبلفتتاح‪ ،‬ناقش الشباب الموحات المعروضة‬


‫مع غياث‪ .‬لـ تقتنع سندس حسف بما قالو أستاذىا عف الرموز التي‬
‫تزخر بيا لوحات الفنانة نرجس‪ ،‬ال بؿ أنيا رأت فيما قالو انتقاصاً مف‬
‫موىبة ىذه الرسامة‪ ،‬وحيف قاؿ غياث أف نرجس تفتقر إلى المخيمة‪،‬‬
‫وتظؿ تكرر الرمز نفسو‪ ،‬انتفضت سندس وردت عميو بحماسة‪،‬‬
‫"أستاذ‪ ،‬أعتقد أنؾ لـ تتمعف بمعنى الموحة بما يكفي‪".‬‬

‫سندس حسف طالبة ذكية‪ ،‬لكنيا خجولة‪ .‬ولوال األلفة التي‬


‫عقدىا غياث مع شبابو‪ ،‬لما توصؿ إلى فتح أي حوار معيا‪ .‬اقترح‬
‫أحد الشباب مشاىدة المعرض مرة ثانية‪ ،‬ومناقشة ما فيو ىناؾ‪ .‬لـ‬
‫يعترض غياث‪ ،‬إال أف الموعد الذي توصموا إلى تحديده ليبللـ الجميع‬
‫كاف صباح الجمعة‪ .‬وألنو اعتاد لقاء صديقو زياد صبيحة الجمعة‪،‬‬
‫استطاع إقناعو بالمقاء في المعرض‪ ،‬لمشاىدتو معاً ومع الشباب‪ ،‬فيو‬
‫ال يقدر إال أف يمبي رغبة شبابو‪.‬‬

‫انحرؼ غياث بسيارتو ودخؿ الزقاؽ القديـ حيث كانت‬


‫دارىـ‪ .‬أوقؼ سيارتو أماـ مقيى أبو نوري تحت شجرة السدر التي‬
‫اعتاد عمى وجودىا مذ كاف طفبلً‪ ،‬يختبئ وراء جذعيا ويأكؿ ثمرىا‪.‬‬
‫شجرة السدر الحنوف ىذه صارت مظمة تحمي سيارتو كمما جاء إلى‬
‫المحمة‪ .‬تحمييا مف مطر الشتاء وحر الصيؼ‪.‬‬

‫نزؿ مف السيارة‪" ،‬صباح الخير أبو نوري‪"..‬‬

‫"أىبلً غياث‪ ،‬صباح الخير والسرور‪ .‬تفضؿ‪"..‬‬

‫"شك اًر‪ ،‬أني عمى موعد اآلف‪ ،‬سأمر عميؾ فيما بعد‪ ،‬كيؼ‬
‫حاؿ نورية؟"‬

‫"بخير والحمد هلل‪ ،‬إال أنيا تعتب عميؾ‪ ،‬فأنت لـ تزرىا منذ‬
‫أكثر مف عشرة أياـ‪".‬‬

‫"سأزورىا إذف بعد موعدي في المعرض‪".‬‬

‫"ونتغذى معاً‪".‬‬

‫"ألؼ شكر يا حاج‪ ،‬لكف معي صديؽ ال أقدر أف‪"..‬‬

‫قاطعو‪" ،‬أنت وجميع اصدقاؤؾ في عيوننا‪ ..‬تعاال معاً‪"..‬‬


‫فكر الحاج برىةً‪ ،‬ثـ الحت ابتسامة عمى وجيو‪ ،‬فأردؼ‪" ،‬بالمناسبة‪،‬‬
‫الحاجة نجمة عندنا‪ ،‬وىي بدورىا مشتاقة لرؤيتؾ‪".‬‬

‫"يااااااااه‪ ،‬أما تزاؿ الحاجة نجمة عمى قيد الحياة؟"‬

‫ضحؾ الحاج‪" ،‬طبعاً‪ ،‬وىي تقوؿ أنيا ستبقى لتشيد حاؿ‬


‫العالـ في القرف القادـ‪"..‬‬

‫ضحكا حتى اختنؽ الحاج بدخاف األرجيمة التي يدخنيا‪ ،‬إذ‬


‫ال أحد يعرؼ كـ يبمغ عمر الحاجة نجمة‪ .‬فيي تذكر طاعوف بغداد‬
‫وثبلثة مف الوالة العثمانييف الذيف تعاقبوا عمى حكميا‪ ،‬وال أحد يجرؤ‬
‫عمى الشؾ فيما تزعمو خشية لسانيا السميط وتعميقاتيا البلذعة‪ .‬مع‬
‫ىذا تظؿ الحاجة نجمة في أحسف صحة‪ .‬تمزح مع الكؿ وتق أر المقاـ‬
‫بصوت‪ ،‬كاف في يوـ مف األياـ شجياً‪ .‬الحاجة نجمة إنسانة فريدة مف‬
‫نوعيا‪" .‬واهلل يا عـ ال أدري إف كاف زياد يرضى بالمجيء معي‪ ".‬فكر‬
‫برىة‪" ،‬ىؿ تذكر زياد يا عـ؟ زياد ابف الحاج عبد الرحمف‪ ،‬جارنا‬
‫القديـ‪"..‬‬

‫"طبعاً اذكر الحاج عبد الرحمف‪ ،‬رحمو اهلل‪ .‬أوليس زياد ابنو‬
‫السياسي الذي كاف يسجف في كؿ أزمة؟"‬

‫"ىو نفسو‪ .‬إال أنو ترؾ السياسة منذ سنوات طويمة‪ ،‬وىو‬

‫اآلف أستاذ في كمية القانوف‪ ،‬ولو خمسة أوالد‪ ،‬أكبرىـ سيتخرج طبيباً‬
‫ىذا العاـ‪".‬‬

‫"يا سبحاف اهلل! ما أسرع ما تمر السنوات‪ "..‬أطرؽ الحاج‬


‫برأسو‪ ،‬ثـ أردؼ‪" ،‬آخر مرة رأيتو كانت بعد تخرجو مف الجامعة‪ ،‬قبؿ‬
‫أف يسافر‪ .‬وأراه اآلف يوشؾ أف يخرج ابنو‪ ..‬زمف!!" صمت الحاج‬
‫وىو يداعب حبات مسبحتو الكيرب‪" ،‬لنقؿ إذف أني أدعو زياد ليتغدى‬
‫معنا‪ ،‬وليصحبو غياث‪ .‬ستكوف نورية سعيدة جداً برؤيتكما معاً‪".‬‬

‫"أعدؾ أني سأحاوؿ يا عـ‪"..‬‬

‫غادره غياث وسار إلى المعرض القديـ الذي يسمى (حديثاً)‪.‬‬


‫التقى زياد عند باب القاعة‪ ،‬فتسالما ودخبل معاً‪" .‬زياد‪ ،‬نحف اليوـ‬
‫مدعواف لمغداء بعد زيارة المعرض‪".‬‬

‫"أيف؟ أنت تدري يا غياث أني ال أحب المفاجلات‪ ،‬وال‬


‫الدعوات التي ال أعرؼ بيا مسبقاً‪"..‬‬

‫"أدري‪ ..‬أدري‪ ..‬لكف ىذه المفاجأة مختمفة‪ ،‬وسوؼ تستمتع‬


‫برفقة أىؿ الدار‪ .‬إنيـ أناس تعرفيـ منذ ما قبؿ التاريخ‪ ،‬ويعودوف‬
‫اليوـ إلى حياتؾ بكؿ روعتيـ‪ .‬كما أني قبمت الدعوة بالنيابة عنؾ كي‬
‫ال أخيب أمميـ فيؾ‪"..‬‬

‫"مف؟" قاليا زياد وىو يزداد حيرةً‪.‬‬

‫"الحاج أبو نوري‪ ،‬جارنا القديـ‪ ،‬وابنتو نورية التي تبنتؾ يوـ‬
‫كنت تقضي أوقات فراغؾ في سجوف العراؽ ومعتقبلتو‪".‬‬

‫"غير معقوؿ! ما الذي ذكرىـ بنا؟"‬

‫"إنيـ لـ ينسوا أيامنا‪ ،‬بؿ نحف الذيف نسينا‪ .‬منذ سنتيف وأنا‬
‫أزورىـ باستمرار‪ ،‬وحيف عرؼ الحاج أنؾ معي اليوـ‪ ،‬أصر عمى‬
‫دعوتنا‪ .‬كذلؾ ستكوف معنا الحاجة نجمة‪ ،‬فيي في ضيافة الحاج‬
‫نوري‪"..‬‬

‫"الحاجة نجمة؟ نفسيا؟ مستحيؿ! أكاد ال أصدؽ ما تقوؿ يا‬


‫غياث! أما تزاؿ الحاجة نجمة حية ترزؽ؟"‬

‫ضحؾ غياث‪" ،‬نعـ‪ .‬لقد عاشت منذ زمف آدـ وحواء‪،‬‬


‫وستعيش إلى أبد الدىر‪".‬‬

‫"أتذكر يا غياث‪ ،‬كنا نقوؿ أنيا ىي نفسيا حواء‪ ،‬لكنيا ال‬


‫تممؾ مف الجماؿ ما يكفي لتفسد أخبلؽ آدـ‪"..‬‬

‫ضحؾ غياث طويبلً‪" ،‬ربما لـ يكف أمامو بديؿ عنيا‪ ،‬فرضي‬


‫بيا وأحبيا!" نظر إلى وجو صديقو‪" ،‬موافؽ عمى الدعوة إذف؟"‬

‫"طبعاً موافؽ‪ .‬بؿ أني أحس بأياـ الماضي تسري دماً جديداً‬
‫في عروقي‪ .‬مثؿ واحد مف أىؿ الكيؼ يعود إلى الحياة‪ ..‬يا إليي‪..‬‬
‫أيمكف أف تتكرر قصة أىؿ الكيؼ في زمننا ىذا؟"‬
‫ربت غياث عمى كتفو‪" ،‬ىيا يا زياد‪ .‬أرى الشباب بانتظارنا‪،‬‬
‫فمنذىب اآلف‪ ،‬ونؤجؿ بعث أىؿ الكيؼ ساعةً‪".‬‬

‫سا ار نحف الشباب‪ .‬لـ يكف بالقاعة إال بضع زوار ينيمؾ كؿ‬
‫منيـ بمشاىدة المعروضات‪ .‬البعض يحمؿ كتباً‪ ،‬وصحفي يكتب‬
‫مبلحظاتو في دفتر صغير‪ ،‬ويصور الموحات التي يكتب عنيا‪ .‬ال‬
‫أحد مف الحاضريف يرتدي مبلبس االحتفاؿ التي تمتمئ بيا أياـ‬
‫االفتتاح‪.‬‬

‫أفسح الشباب الطريؽ لكي يقترب غياث وزياد مف الحمقة‬


‫التي شكموىا قرب باب القاعة‪ .‬لـ يذىب غياث إلى لوحة نرجس‬
‫مباشرة‪ ،‬خشية أف يربؾ سندس فتعود لبلختباء في قوقعة الخجؿ التي‬
‫تحتمي بيا‪ .‬توقؼ بينيـ واستفسر عف أحواليـ‪ ،‬وبدأوا التمعف‬
‫بالمعروضات ومناقشتيا‪ :‬اإلبداع باستخداـ األحمر في ىذه‪ ،‬مسقط‬
‫الضوء في تمؾ‪ ،‬القفزة النوعية التي حققيا ىذا الفناف وتأثير زيارتو‬
‫ألمريكا البلتينية عمى استخدامو لؤللواف‪ .‬دور العمؿ اليندسي الذي‬
‫يمارسو ذاؾ الفناف عمى خطوط لوحاتو‪ .‬األلواف البراقة التي تجعؿ‬
‫مف خزؼ ىذه الفنانة نموذجاً جديداً لمعودة إلى النبع في أقصى‬
‫الريؼ‪ .‬أثر الطفولة الريفية في ابتعاد ىذا الفناف عف الرسـ التعبيري‬
‫ومحاولتو تقميد التيارات الغربية الحديثة‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫لـ يحتكر غياث الحديث‪ ،‬بؿ اعتاد أف يفتتح النقاش لكي‬


‫يمنح الشباب فرصة التغمب عمى ما يعترييـ مف رىبة بحضوره‪ ،‬إذ‬
‫مع كؿ المحبة واالحتراـ الذي يحممو الشباب لغياث‪ ،‬إال أف ثمة‬
‫خيطاً مف الرىبة يعترييـ عند كؿ لقاء معو‪ .‬ىو يدري بإحساسيـ ىذا‪،‬‬
‫فبل يفاجليـ بما عنده بؿ يتدرج معيـ بالحوار حتى يزوؿ الحرج‬
‫عنيـ‪.‬‬
‫وصموا إلى لوحة الفنانة نرجس‪ .‬وقؼ غياث وحولو الشباب‬
‫ينتظروف ما سيقوؿ‪ .‬لـ يقؿ غياث شيلاً‪ ،‬بؿ ظؿ يحدؽ بيا وقد عقد‬
‫حاجبيو‪ .‬رفع يده وعبثت أصابعو بخصبلت الشعر‪ ،‬والسيجارة بيف‬
‫شفتيو وقد احترؽ نصفيا وتساقط رمادىا عمى مبلبسو وىو منشغؿ‬
‫عنيا باألفكار التي تجوؿ برأسو‪.‬‬

‫طاؿ صمتو حتى ارتبكت سندس ألنيا أحست أنيا ربما قد‬
‫تجاوزت الحد الذي تسمح لنفسيا بو إلبداء الرأي أماـ اآلخريف‪ ،‬بؿ‬
‫ربما تيورت في مناقشة الموحة مع األستاذ غياث‪ .‬ربما يفكر اآلف‬
‫أنيا ليست أكثر مف فتاة نزقة جرتو مف مشاغمو وفي يوـ راحتو‪ ،‬مف‬
‫أجؿ لوحة‪ .‬تمنت سندس لو أنيا لـ تقؿ شيلاً‪.‬‬

‫"سندس‪ ،‬ما الجديد في ىذه الموحة؟ أرى أف نرجس ما فتلت‬


‫تكرر نفسيا منذ سنوات‪ .‬لـ تستطع الخروج مف الغابة المكممة‬
‫بالسواد‪ ،‬واألشجار العمبلقة الجرداء‪"..‬‬

‫قاطعتو سندس بارتباؾ‪" ،‬تمؾ بالضبط ىي ما لفت انتباىي يا‬


‫أستاذ غياث‪ .‬تكرار الرموز ىذا‪ .‬إذ مع أف نرجس فنانة مبدعة‪ ،‬إال‬
‫أف تكرارىا ال يمكف إال أف يعني أف الرمز يعني الكثير ليا‪ ".‬نسيت‬
‫سندس ارتباكيا وخجميا واندفعت بحماسة الشباب لتعبر عف قناعتيا‪.‬‬
‫ومع كؿ كممة تقوليا‪ ،‬تتغمب عمى بعض االرتباؾ الذي سيطر عمييا‬
‫بادئ ذي بدء‪" ،‬أحسيا غابة مجروحة مميلة باليأس‪ .‬ىؿ تبلحظ يا‬
‫أستاذ‪ ،‬حتى األوراؽ تساقطت وما عاد في الشجرة أي أمؿ بالعطاء‪.‬‬
‫ما بقي مف أوراؽ جؼ ويوشؾ عمى السقوط‪ .‬ليس جفاؼ الخريؼ‬
‫وحسب‪ ،‬بؿ ىو جفاؼ الموت‪"..‬‬

‫"لكف‪ ..‬ىذه الرموز‪ ،‬تكررىا نرجس منذ سنوات‪"..‬‬


‫"تمؾ بالضبط ىي القضية أستاذ غياث‪ ..‬ىذا التكرار‪ ،‬ربما‬
‫كاف فيو انتظار‪ ..‬انتظار يالس!"‬

‫"وىؿ لميالس ما ينتظره؟" سأليا الدكتور زياد عبد الرحمف‬


‫بميجة حزينة‪ ،‬اعتاد الكؿ عمييا‪.‬‬

‫"نعـ‪ ،‬ما يقولو زياد صحيح‪ .‬فاليأس واالنتظار نقيضاف ال‬


‫يمكف الجمع بينيما‪ .‬أليس ىذا ىو المنطؽ؟" سأليا غياث‪.‬‬

‫ىنا قاؿ عمي اسماعيؿ‪ ،‬الطالب المشاكس الذي يصر عمى‬


‫إحراج سندس في كؿ مناسبة‪" ،‬ربما كاف لسندس منطؽ جديد ال‬
‫نعرؼ عنو شيلاً يا أستاذ غياث‪".‬‬

‫عاود سندس ارتباكيا‪ .‬ىزت رأسيا ثـ رفعتو لتنظر إلى أستاذ‬


‫غياث‪ ،‬فابتسـ في وجييا‪ .‬األستاذ غياث يساعدىا دوماً في التغمب‬
‫عمى خجميا وارتباكيا‪ ،‬ويعيد ليا ثقتيا بنفسيا‪ .‬تمنت لو كانت وحدىا‬
‫معو‪ ،‬تمنت لو دفنت رأسيا في صدره ليحمييا مف ىذا العالـ‬
‫المخيؼ‪ .‬تمنت لو تتحقؽ األحبلـ الصغيرة التي تخفييا بيف جفونيا‪.‬‬
‫كـ ىمست لو بكممات ناعمة‪ ،‬وكـ ناجتو‪ .‬لكف أستاذ غياث يظؿ‬
‫بعيداً‪ ،‬كبي اًر‪ ،‬نالياً‪ .‬ال حؽ ليا بمثؿ ىذه األحبلـ‪ ،‬فأقصى ما تطمح‬
‫إليو ىو أف يظؿ يحمييا مف مشاكسة زميميا عمي اسماعيؿ الذي‬
‫يبلحقيا‪ ،‬وتصر ىي عمى رفض مشاعره‪ ،‬ألف صورة أستاذ غياث‬
‫تحجب كؿ ما عداىا‪" .‬نعـ أستاذ‪ ،‬يمكف الجمع بيف النقيضيف أحياناً‪.‬‬
‫االنتظار اليالس ىذا ىو انتظار المرأة الذي يستمر معيا بالرغـ مف‬
‫اليأس‪ .‬بؿ أف االنتظار ىو الطريؽ الوحيد الذي يجعميا تتحمؿ‬
‫اليأس‪".‬‬

‫"االنتظار ىو االنتظار‪ ،‬واليأس ىو اليأس‪ .‬فمماذا تحاوليف‬


‫التمييز بيف المرأة والرجؿ تجاىيما؟ كبلىما إنساف‪"..‬‬
‫"ال!!" قاطعو صوت غريب عف المجموعة‪" ،‬ال‪ ،‬أرجوؾ‪ .‬ال‬
‫يصح الخمط بيف انتظار الم أرة وانتظار الرجؿ‪ .‬وبيف االنتظاريف‪،‬‬
‫وانتظار اإلنساف‪ .‬في ىذا الخمط الكثير مف التجني عمى اإلنساف‪،‬‬
‫وعمى الرجؿ‪ ..‬كما عمى المرأة!"‬

‫استدار الجميع‪ ،‬وكؿ منيـ يتوقع أف يكوف الشخص الواقؼ‬


‫الحدة‪ .‬شاىدوا‬
‫وراءه ىو مف تج أر عمى مقاطعة أستاذ غياث بيذه ّ‬
‫امرأة أربعينية‪ ،‬وخط الشيب شعرىا‪ ،‬وبيا بقية مف شباب يتوىج في‬
‫عينييا‪ .‬تقؼ وراءىـ وتنظر إلييـ بشيء يشبو الغضب‪.‬‬

‫آخر مف استدار ىو غياث‪ .‬أوقؼ الرد قبؿ أف يتحوؿ إلى‬


‫كممات‪ .‬عقد حاجبيو وارتفعت أصابعو لتعبث بشعره‪ .‬أتمت ما أرادت‬
‫قولو‪ ،‬ثـ صمتت‪ .‬تأمميا‪ .‬لـ تكف جميمة الوجو‪ ،‬فارعة القواـ‪ ،‬ترتدي‬
‫مبلبس عادية‪ ،‬وشعرىا األشيب معقود خمؼ رأسيا ببل عناية‪ .‬إال أف‬
‫عينييا‪ ،‬يصعب تجاىؿ نظراتيما الحادة العميقة‪ .‬لـ يطؿ بيا‬
‫الصمت‪ .‬ابتسمت‪" ،‬أعتذر لتدخمي في نقاشكـ‪ .‬كما أعتذر ألني قمت‬
‫رأياً يبدو أنو يخالؼ رأي أستاذكـ‪ .‬ولكف‪ "..‬قطعت جممتيا ولـ ترفع‬
‫بصرىا عف عيني غياث المتيف تحدقاف بيا‪ ،‬وابتسامة بيف التحدي‬
‫واالعتذار تموح عمى محياىا‪.‬‬

‫لدي‪ ،‬لكني ال‬


‫تساءؿ غياث مع نفسو‪" ،‬وجييا يبدو مألوفاً ّ‬
‫أتذكرىا‪ "..‬ثـ قاؿ بصوت واضح‪" ،‬عفواً سيدتي‪ ،‬ال داعي لبلعتذار‪،‬‬
‫فاختبلؼ الرأي ىو أساس استمرار التطور‪ ،‬فمو لـ نختمؼ‪ ،‬لما‬
‫اتفقنا‪"..‬‬

‫"أظف اف اسـ حضرتؾ ىو األستاذ غياث‪ ،‬سمعت األخوة‬


‫ينادونؾ بو‪ .‬وأعتقد أننا يجب أف نتعارؼ قبؿ أف يستمر حوارنا‪ .‬أنا‬
‫رابية‪ "..‬ولـ تكمؿ بقية االسـ‪ ،‬بؿ أبقتو معمقاً‪.‬‬
‫"أىبلً وسيبلً‪ .‬وأنا غياث البدر‪ ،‬وىؤالء أصدقالي‪ "..‬وعرفيا‬
‫بيـ بذكر اسـ كؿ منيـ‪ ،‬وىي تمر بنظرىا عمييـ‪" ،‬واآلف يا رابية‪،‬‬
‫وبعد أف تـ التعارؼ بيننا‪ ،‬اسمحي لي أف أقوؿ أىبلً وسيبلً بؾ في‬
‫حمقة الحوار ىذه‪ .‬ما الذي ترينو في لوحة نرجس ىذه؟"‬

‫جادة التمعت في‬


‫لـ تفارؽ البسمة شفتييا‪ ،‬لكف حماسة ّ‬
‫عينييا وىي تقوؿ‪" ،‬كما قالت سندس قبؿ قميؿ‪ ،‬إلحاح نرجس في‬
‫تكرار رموزىا ىو ما يمفت االنتباه‪ ،‬فمع اختبلؼ صيغة التعبير بيف‬
‫لوحة وأخرى‪ ،‬إال أنيا دوماً تستخدـ الرموز ذاتيا‪ ،‬حتى لكأنيا تريد‬
‫نقؿ انتظارىا إلى المتمقي‪ ،‬فينتظر الجديد وىو يتساءؿ‪ ،‬أما يزاؿ‬
‫انتظار أنثى نرجس عمى حالو؟ وكيؼ ستعبر عنو ىذه المرة؟ مف ىنا‬
‫استطيع فيـ ليفة سندس لرؤية الموحة مف جديد؟"‬

‫حديث رابية ىذا وجد صداه لدى سندس فقالت‪" ،‬نعـ‪ ،‬يبدو‬
‫أنني فعبلً انتظر انتظارىا ىذا‪"..‬‬

‫حولت رابية نظرتيا مف سندس وعادت إلى غياث وىي‬


‫تقوؿ‪" ،‬إنو انتظار المرأة التي يلست مف التواصؿ‪ ،‬وفقدت األمؿ‪ .‬ىذه‬
‫العبلقة السمبية مع الحياة‪ ،‬ومع اآلخر ال يمكف أف توجد إال لدى‬
‫المرأة‪ ،‬والمرأة الشرقية عمى وجو التحديد‪ ،‬ألف مسار الحياة واختيار‬
‫اآلخر مفروض عمييا في أغمب األحواؿ‪"..‬‬

‫رد غياث‪" ،‬لكف بإمكانيا رفض الخيارات المفروضة عمييا‪".‬‬

‫"نعـ‪ ،‬ربما كانت تممؾ حؽ الرفض في بعض الحاالت‪،‬‬


‫ولكف‪ ..‬ىؿ بإمكانيا فرض اختيارىا‪ ،‬ىي؟"‬

‫التقطت سندس خيط الحوار فقالت‪" ،‬وما بيف حالة الرفض‬


‫وحالة االختيار الحر‪ ،‬يكمف ىامش الحرية الذي تتحرؾ المرأة عندنا‬
‫ضمف حدوده‪"..‬‬
‫أكممت رابية الفكرة التي بدأتيا سندس‪ ،‬كما لو كانت تعرؼ‬
‫ىذه الفتاة منذ سنوات‪" ،‬وىامش الحرية ىذا‪ ،‬يتسع ويضيؽ بحسب‬
‫الظروؼ المحيطة بالمرأة مف جية‪ ،‬ومدى قوتيا مف جية أخرى‪.‬‬
‫ومنذ زمف عشتار يتحكـ ىامش الحرية ىذا بحركة المد والجزر التي‬
‫تعيشيا المرأة الشرقية‪ ،‬فعشتار‪ ،‬بالرغـ مف قوتيا وقسوتيا والوىيتيا‪،‬‬
‫لـ تسمـ مف حالة اليأس‪ ،‬واالختيار المحدد بيف اثنيف‪ :‬إما أنكيدو‪ ،‬أو‬
‫كمكامش‪"..‬‬

‫ضحؾ غياث‪" ،‬سيدتي‪ ،‬كنت أظف أننا نعيش في القرف‬


‫العشريف بعد الميبلد‪ ،‬ال قبؿ الميبلد بقروف‪ "..‬ذابت الضحكة وعاود‬
‫النظر إلى الموحة‪" ،‬مع ىذا أجد في أنثى نرجس ضعفاً ال أحسو في‬
‫عشتار‪"..‬‬

‫نظرت رابية إلى الموحة بدورىا‪" ،‬ألـ تبلحظ أف المرأة ىنا‬


‫تدير ظيرىا لمحياة ألنيا لـ تعد تنتظر شيلاً‪ .‬فاألشجار المحيطة بيا‬
‫ليست إال خريفاً دالماً‪ "،‬استدارت وركزت نظرىا عمى غياث‪ ،‬وأردفت‪،‬‬
‫"فأي تواصؿ يمكف أف يقوـ بيف إنسانة تحيا‪ ،‬وأشجار تموت؟"‬

‫تقدـ زياد خطوة وقاؿ‪" ،‬ىو اليأس إذف؟" رفع كتفيو وىز‬
‫رأسو‪" ،‬أال نرى غير اليأس في حياتنا ىذه؟"‬

‫نظرت رابية إلى زياد‪" ،‬يضاؼ لو الحزف واالنتظار‪ ،‬فيتشكؿ‬


‫إطار ىذه العبلقة اآلسرة بيف المرأة وأشجارىا‪ .‬عبلقة التواصؿ‬
‫حزف أعمؽ مف أف تخترقو الشمس‪ ".‬واستدارت‬
‫البلنيالي الذي يؤطره ٌ‬
‫لتتأمؿ الموحة مف جديد وأشارت إلى الشمس التي تتوسط أعبلىا‪،‬‬
‫"الشمس ىنا‪ ،‬كما في جميع لوحات نرجس‪ ،‬ىي أبعد وأبرد مف أف‬
‫تخترؽ جدار الحزف والسواد‪"..‬‬

‫وأكمؿ زياد جممتيا‪" ،‬وحتى شمسيا مؤطرة بالسواد!"‬


‫انتزع غياث نظره مف وجو رابية واستدار لينظر إلى الموحة‬

‫برؤيا جديدة‪ ،‬أوحتيا لو امرأة لدييا مف الجرأة كي تقوؿ رأياً صريحاً‬


‫مف دوف مداورة أو خجؿ‪" ،‬نعـ‪ ..‬يبدو أف فيما تقوليف منطؽ‪ ،‬قد‬
‫يفسر الكثير مف رموز نرجس التي ترفض مناقشة لوحاتيا‪ "..‬استدار‬
‫إلييا بسرعة‪" ،‬ىؿ تعرفينيا؟"‬

‫فوجلت رابية بسؤالو‪ ،‬كما فوجلت بسرعة استدارتو‪ ،‬فمقد‬


‫أخذىا عمى حيف غرة وىي تنظر إليو بمؿء عينييا‪ .‬ارتبكت‪ ،‬إال أنيا‬
‫لـ ترمش‪" ،‬أعرؼ مف؟ نرجس؟ كبل‪ ،‬ال أعرفيا‪ ،‬بؿ أعرؼ الحزف‬
‫الذي يسكف نساءنا‪ .‬أعرؼ البلتواصؿ إلى حد النحيب الذي تعيشو‬
‫المرأة عندنا‪ .‬أعرؼ حد الصمت‪"..‬‬

‫قاطعيا غياث بشراسة‪" ،‬أليس الصمت ىروباً؟"‬

‫ردت بحزف شفيؼ‪" ،‬لـ ال نقوؿ أنو الكفف الذي يمفيا ويشؿ‬
‫حركتيا؟"‬

‫أجبر غياث عينيو ليبتعد عف وجو المرأة‪ ،‬وعاد لينظر إلى‬


‫تحمميف الموحة أكثر مما‬
‫الموحة متأمبلً‪" ،‬مع ىذا‪ ،‬ما زلت أعتقد أنؾ ّ‬
‫تتحمؿ مف المعاني‪ ،‬فيذه األنثى تتمطى بتمذذ حسي مستسمـ‪ .‬أحس‬
‫أف انتظارىا مريح‪ .‬ربما كانت تنتظر شيلاً مف الفرح‪ ،‬وليس الحزف‬
‫الذي تقوليف‪ "..‬وأرفؽ قولو بابتسامة تحمؿ بعض السخرية‪ ،‬أو ىكذا‬
‫تصورت رابية‪.‬‬

‫ردت عميو بشراسة نمرة مستنفرة‪" ،‬أي فرح ىذا؟ ىؿ تريد‬


‫تجاىؿ إطار الحزف الذي يكمميا مع غابتيا وشموسيا؟ ربما كاف في‬
‫تمذذىا بعض المتعة‪ ،‬لكف الفرح بعيد عنيا‪ .‬أال ترى أنيا تدير ظيرىا‬
‫لكؿ ما ىو حي؟"‬
‫أجابيا عمي اسماعيؿ كأنو يريد الدفاع عف أستاذه‪" ،‬لكنيا‬
‫تنظر إلى الشمس!"‬

‫نظرت إليو رابية‪ ،‬لكف سندس سارعت بالرد عميو بسخرية‪،‬‬


‫"تعني تمؾ الشمس البعيدة الباردة؟ نعـ‪ ،‬ىي تنظر إلييا‪ ،‬لكنيا ال‬
‫تواجو الحياة‪ .‬لقد وصمت إلى نياية الطريؽ‪ ،‬قبؿ أف ترحؿ‪ "..‬وأدارت‬
‫عينييا إلى أستاذ غياث‪.‬‬

‫أكممت رابية ما بدأتو سندس‪" ،‬لذلؾ ىي تتمذذ بمتعة التمدد‬


‫تحت أشعة الشمس الخريفية الباردة‪ ،‬ألنيا يالسة مما قد يجيء بو‬
‫المستقبؿ‪ ،‬فميس فيو إال المزيد مف الحزف‪".‬‬

‫سألتيا سندس وفي عينييا ليفة وحماسة جديدتيف‪" ،‬ألف‬


‫تحاوؿ كسر أسار الحزف ىذا؟ ألف تتمرد عميو‪ ،‬أو تحاوؿ اليرب‬
‫منو؟"‬

‫نظرت إلييا رابية وقالت بنبرة تقرب مف اليأس‪" ،‬كيؼ؟"‬

‫رد عمي اسماعيؿ‪" ،‬بضحكة فرح‪ ،‬أو بزىرة تتفتح‪ ،‬أو حب‬
‫شاب!!" ونظر إلى سندس التي تحاشت نظرتو وقد احمرت وجنتاىا‪.‬‬

‫ساد الصمت برىة‪ ،‬فقطعو غياث بالقوؿ‪" ،‬ما يقولو عمي‬


‫صحيح‪ ،‬أظنو رأي الشباب عموما‪ ،‬إذ ما يزاؿ لمضحكة قوتيا‪ ،‬وما‬
‫يزاؿ الرفض سبلحاً يمكف لئلنساف أف يواجو بو قسوة الحياة‪".‬‬

‫عاد زياد ليشترؾ في حديثيـ‪ ،‬فحديث الحزف بستيويو‪" ،‬أرى‬


‫السيدة أكثر حزناً مف نرجس‪"..‬‬

‫قاطعو غياث‪" ،‬أو ربما كانت أكثر وعياً لحقيقة الحالة التي‬
‫تعيشيا‪ "..‬صمت برىة‪ ،‬ثـ تراقصت البسمة في عينيو‪ ،‬واتسعت‬
‫عمي التصديؽ بأنؾ يا سيدتي‪،‬‬ ‫لتصؿ إلى شفتيو‪" ،‬مع ىذا‪ ،‬يصعب ّ‬
‫ترضيف بيذا الحد مف االستسبلـ‪ ،‬فبل أرى فيؾ خيبةً أو يأساً‪"..‬‬

‫قاطعتو بحزـ‪" ،‬لـ أكف في معرض الحديث عف نفسي‪ ،‬بؿ‬


‫عف األنثى التي ترسميا نرجس‪ ..‬وىي نموذج موجود فعبلً‪ ،‬وفي كؿ‬
‫مكاف حولنا‪ ..‬نموذج اإلنسانة التي تتحوؿ إلى كالف دوني ال يتجاوز‬
‫الدور المرسوـ لو‪ .‬دور الجسد الذي يستعمؿ عند الحاجة‪ ،‬ثـ ييمؿ‪.‬‬
‫فيؿ سيتاح ليذه اإلنسانة أف تستعيد وضعيا اإلنساني؟ وأف تعيش مع‬
‫جسدىا بسبلـ وقبوؿ؟ أف تعرؼ ما تريد وتطالب لو بصوت مسموع‪،‬‬
‫وأف ترفض ما تريد رفضو عف فيـ ووعي‪ .‬أف يكوف ليا موقؼ؟؟"‬

‫رفع غياث حاجبيو وقد أثارت فيو ىذه المرأة ملات‬


‫االستفسارات‪ .‬أشعؿ سيجارة جديدة وسأليا مستف اًز‪" ،‬ولـ ال؟ إال إذا‬
‫رفضت‪ ،‬ىي‪ ،‬أف يكوف ليا موقؼ‪ .‬إال إذا استسيمت حالة الركود‬
‫المذيذ الذي ال يتطمب منيا أية تضحيات ألزمة الرفض‪ .‬المرأة التي‬
‫تقدر أف تتجاوز الحالة الدونية‪ ،‬تفرض وجودىا واحتراميا عمى‬
‫اآلخريف‪ .‬تفرض عمييـ معاممتيا ٍ‬
‫كند ليـ‪ .‬ىذه النماذج موجودة‬
‫عندنا‪ ،‬أليس كذلؾ؟"‬

‫وافقتو بإيماءة مف رأسيا‪" ،‬بمى موجودة‪ .‬لكنيا تظؿ نماذج‬


‫نادرة‪ ،‬فريدة‪"..‬‬

‫رد بعنؼ‪" ،‬لكف موجودة!"‬

‫انبرى عمي اسماعيؿ لمقوؿ‪" ،‬أستاذ غياث‪ ،‬أال ترى أف‬


‫النقاش قد تحوؿ مف الفف إلى قضية المرأة؟ أرى أف بيف السيدة‬
‫وسندس تحالفاً لف نتمكف مف التغمب عميو‪"..‬‬

‫تنبيت رابية إلى أنيا قد جرتيـ إلى حوار بعيد عما كاف في‬
‫ذىنيـ‪ ،‬واألىـ مف ذلؾ‪ ،‬أنيا قد كسرت حاجز العزلة الذي تحتمي بو‬
‫منذ سنوات‪ .‬ابتسمت لمشاب وقالت‪" ،‬أعتذر‪ .‬معؾ الحؽ فيما تقوؿ‪.‬‬
‫يبدو أني قد تجاوزت حدود المياقة‪ ،‬وأفسدت عميكـ المحاضرة‪ .‬أعتذر‬
‫يا شباب‪ ،‬واسمح لي يا أستاذ غياث باالنسحاب‪"..‬‬

‫ارتبؾ عمي وضاعت منو الكممات‪" ،‬أرجوؾ‪ ..‬لـ أقصد‪..‬‬


‫كنت أمزح‪"..‬‬

‫"أدري أنؾ لـ تقصد يا ولدي‪ ،‬فمست إال عجو اًز خرقة‪ ،‬ترى‬
‫قضية في كؿ زاوية‪ "..‬وأرفقت قوليا بابتسامة عريضة‪.‬‬

‫عقد غياث حاجبيو وعادت يده لترتفع إلى مقدمة ىامتو‪،‬‬


‫"كمنا يناقش ما يراه بحاجة إلى ضوء الحقيقة‪ ،‬سواء كاف األمر لوحة‬
‫معروضة‪ ،‬أو قضية المرأة‪ ..‬أو‪"..‬‬

‫قاطعتو رابية واالبتسامة المتحدية تشع مف عينييا‪" ،‬أستاذ‬


‫غياث‪ ،‬لنقؿ أني أنسحب اآلف‪ ،‬مف دوف أف أنيي المناقشة‪".‬‬

‫سأليا بميفة لـ يتعمدىا‪" ،‬ونمتقي ثانيةً لمعاودتيا؟"‬

‫أربكتيا ليفتو وأسعدتيا في الوقت نفسو‪ ،‬فابتسمت‪" ،‬لـ ال؟‬


‫إني أحضر ىنا باستمرار‪ ،‬خصوصاً حيف أعرؼ بعرض لوحات‬
‫حقيقية‪ ،‬تعبر عف قضية صادقة‪ "..‬ورفعت يدىا بالتحية واستدارت‬
‫لمغادرة المعرض‪ ،‬ولـ تعرؼ سوى أف اسمو غياث‪ ..‬غادرت رابية‬
‫المعرض ولـ يعرؼ غياث سوى اف اسميا رابية‪.‬‬

‫أشعؿ سيجارة جديدة ونظر إلى وجو زياد‪ ،‬فوجد فيو حيرةً‬
‫مثؿ حيرتو‪ .‬لـ يقؿ أي منيما شيلاً‪ ،‬بؿ عاد األستاذ إلى الشباب‬
‫وحواره معيـ‪ ،‬لكف ذىنو ظؿ مشغوالً بالعديد مف األسلمة‪ :‬مف تكوف؟‬
‫ومف أيف جاءت رابية ىذه؟‬
‫بعد فترة سمعوا أذاف الظير مف الجامع القريب‪ ،‬فبدأوا‬
‫بمغادرة المعرض‪ .‬ما أف ودع غياث الشباب حتى استدار إلى زياد‪،‬‬
‫"ىؿ تعرؼ مف تكوف رابية ىذه؟"‬

‫ضحؾ زياد‪" ،‬كنت عمى وشؾ توجيو السؤاؿ نفسو‪ .‬كبل‪ ،‬ال‬
‫أعرفيا‪ "..‬قاليا زياد بميجة آسفة‪" ،‬وال أظف أني سبؽ لي رؤيتيا مف‬
‫قبؿ‪ ،‬إذ لو كنت قد رأيتيا لما نسيت‪ ،‬فمدييا شخصية يصعب‬
‫نسيانيا‪"..‬‬

‫رد غياث متأمبلً‪" ،‬واسـ يعمؽ بالذاكرة! مع ىذا‪ ،‬فييا شيء‬


‫ما‪ ،‬ال أستطيع تحديده‪ ،‬يجعميا مألوفة لدي‪ ،‬أليس كذلؾ؟"‬

‫"ىذا ما بدا لي في أوؿ األمر أيضاً‪".‬‬

‫"لكف‪ ،‬مف ىي؟"‬

‫ضحؾ زياد‪" ،‬لست أدري‪"..‬‬

‫وظؿ السؤاؿ يدور في ذىف غياث‪ ،‬مف تكوف رابية ىذه؟؟‬


‫(‪)5‬‬

‫غاد ار المعرض وظؿ السؤاؿ معمقاً بينيما‪" ،‬مف تكوف رابية؟"‬


‫وقفا برىة صامتيف‪ ،‬ثـ سا ار عمى ميؿ حتى وصبل إلى رأس الزقاؽ‪.‬‬
‫إنيا المرة األولى التي يعود فييا زياد إلى المحمة زال اًر ال عاب اًر‪ .‬وقؼ‪،‬‬
‫ثـ نظر حولو كمف يبحث عف شيء ما‪" ،‬غياث‪ ،‬لـ أعد أذكر أيف‬
‫عمي المبلمح التي أعرفيا‪"..‬‬
‫كاف دارنا‪ ،‬فيذا الشارع العريض ضيع ّ‬

‫"كانت حيث الفسحة التي تتوسط الشارع‪ ،‬أماـ المعرض‬


‫بالضبط‪".‬‬

‫أدار زياد وجيو‪ .‬نظر إلى الفراغ حيث كانت الدار‪" ،‬حيف‬
‫جلنا مف العمارة مع أثاث دارنا‪ ،‬لـ تقدر سيارة الحمؿ أف تدلؼ إلى‬
‫الزقاؽ الذي كاف‪ ،‬فوقفت بعيداً‪ ،‬وحممنا األثاث عمى أكتافنا‪ "..‬صمت‬
‫فتى أتـ الدراسة‬
‫زياد وأطمؽ زفرة حرى‪ ،‬ثـ أردؼ‪" ،‬أيو‪ ..‬كنت ً‬
‫المتوسطة‪ ،‬مراىؽ يحمؿ ىموـ الدنيا عمى كتفيو!"‬

‫ربت غياث عمى كتؼ صاحبو‪" ،‬وما زلت ذلؾ الميموـ يا‬
‫زياد‪".‬‬

‫"نعـ‪ ،‬راح الشباب وبقي اليـ معي‪ "..‬تنيد مرة أخرى وراح‬
‫في تيويمة بعيدة‪ .‬لـ يشأ غياث قطع سيؿ الذكريات الذي أغرؽ‬
‫صاحبو‪ ،‬فيو أيضاً‪ ،‬حيف عاد إلى المحمة بعد غياب سنيف‪ ،‬لـ يقدر‬
‫إال أف يتوقؼ برىةً لينظر إلى الوراء‪ ،‬إلى دالرة الذكريات‪.‬‬

‫حينذاؾ‪ ،‬تعاوف فتياف المحمة وشبابيا مع أوالد الحاج عبد‬


‫الرحمف‪ ،‬الجار الجديد‪ ،‬في نقؿ أثاثيـ إلى الدار‪ .‬حمؿ ك ٌؿ منيـ ما‬
‫قدر عميو واجتاز المسافة إلى الدار التي اشتراىا شقيقو األكبر سعد‬
‫عبد الرحمف لتعيش فييا عالمتو بعدما باع دارىـ وقسماً مف بستاف‬
‫أبيو‪.‬‬
‫فرح صغار العالمة باالنتقاؿ إلى بغداد التي حمموا بيا منذ‬
‫الطفولة‪ .‬كما حف سعد إلى أياميا التي اعتاد عمييا خبلؿ دراستو في‬
‫وحنت زوجتو لمعيش قريباً مف أىميا‪ ،‬فمقد‬
‫كمية الزراعة بجامعتيا‪ّ .‬‬
‫سلمت عيشة العمارة وأىميا‪.‬‬

‫لكف والده الحاج عبد الرحمف رفض بادئ ذي بدء أف ييجر‬


‫العمارة ويجيء معيـ‪ .‬ولما لـ يجد مف األمر بد‪ ،‬اعتراه ذىوؿ داـ‬
‫أياماً‪ .‬ظؿ ينظر إلييـ وىـ يعدوف العدة لمرحيؿ‪ .‬ييجروف دارىـ‬
‫وبستانيـ الذي زرع أشجاره واحدة بعد األخرى بيديو‪ .‬زرع الحاج عبد‬
‫الرحمف أشجارىا‪ ،‬وبدموعو سقاىا حيف شح المطر‪ .‬لـ يخجؿ الحاج‬
‫عبد الرحمف مف الدموع التي ىطمت أماـ أبنالو وأحفاده‪ ،‬ولـ يوقؼ‬
‫سيميا‪ .‬لـ يفيـ أحد منيـ ما اعتراه‪ ،‬فسكت الحاج‪.‬‬

‫صمت الحاج عبد الرحمف مذ حمّوا ببغداد‪" .‬اعتقدنا في‬


‫عارض‪ ،‬سوؼ يتغمب عميو بمرور الزمف‪ .‬وحيف‬
‫ٌ‬ ‫البداية أف صمتو‬
‫طاؿ صمتو‪ ،‬عرضناه عمى أطباء بغداد كميـ‪ ،‬فمـ يجدوا فيو عمّة‪.‬‬
‫صمت الرجؿ ولـ يفيـ أحد منا سبب صمتو‪ .‬لـ نفيـ حينذاؾ أنو‬
‫صامت‪ ،‬وليس أخرس‪ "..‬تنيد زياه‪" ،‬أيييو‪ ،‬أبا سعد‪ ،‬رحمة اهلل‬
‫عميؾ!"‬

‫أتموا نقؿ األثاث بمعونة أىؿ المحمة‪ ،‬وانشغموا بالتنظيؼ‬


‫والترتيب‪ .‬ومع أذاف الظير‪ ،‬سمعوا طرقاً عمى بابيـ‪ .‬فتحو زياد‪ ،‬واذا‬
‫بفتى بماثمو عم اًر يحمؿ صينية مغطاه بقماش قطني‪" ،‬اهلل يساعدكـ‪.‬‬
‫أمي تسمـ عميكـ وتتمنى لكـ طيب اإلقامة بيننا‪ ".‬أنزؿ نوري صينية‬
‫الطعاـ مف عمى رأسو‪ ،‬وساعده زياد في حمميا إلى باحة الدار‪ .‬كاف‬
‫فييا غداء متنوع‪ ،‬وصحف مف المبف الخاثر وبعض الفاكية‪.‬‬
‫استمرت وجبات الطعاـ تجيء كؿ يوـ مع أذاف الظير وأذاف‬
‫المغرب‪ ،‬وجبةٌ مف كؿ دار‪ .‬سبعة أياـ لـ تتأخر وجبةٌ عف موعدىا‪،‬‬
‫حتى استقر أىؿ الدار‪.‬‬

‫أطمؽ زياد زفرة أخرى‪ ،‬ثـ نظ اًر إلى اليميف واليسار‪ ،‬وسار‬
‫متميبلً في وسط الزقاؽ‪ ،‬وغياث يسير إلى جانبو مف دوف كممة‪" ،‬ىؿ‬
‫تذكر يا غياث سخريتكـ مف ليجتي الجنوبية‪ ،‬وعدالكـ لي؟"‬

‫"نعـ أذكر‪ .‬لكف عداءنا لـ يكف بسبب ليجتؾ‪ ،‬إنما نفرنا مف‬
‫عزلتؾ عنا وعدـ مشاركتؾ المعب معنا‪".‬‬

‫ضحؾ زياد‪" ،‬كنت أىدأ مف أف أقدر عمى مجاراة عبثكـ‪،‬‬


‫كنت ما أزاؿ قروياً خجوالً‪"..‬‬

‫"وطالباً مجتيداً تحمؿ كتبؾ ليؿ نيار‪"..‬‬

‫"فوقفتـ لي في عرض الشارع‪ ،‬وأنت عمى رأسيـ‪ ،‬اعترضتـ‬


‫طريقي وضربتموني‪ .‬ضربتموني حتى تذكرت الحصاة الكبيرة في‬
‫جيبي‪ "..‬ضحؾ زياد‪" ،‬اعتدت عمى حمميا مذ كنت صغي اًر‪ .‬كنت‬
‫أخاؼ الكبلب السالبة التي تطارد مف يسير وحيداً‪ ،‬فكانت سبلحي‬
‫الذي أرميو بوجييا كي تبتعد عني‪ "،‬وضحؾ مرة أخرى‪ ،‬وشاركو‬
‫غياث الضحؾ‪" ،‬ضربتؾ بيا ألنؾ كنت رليس العصابة‪ ،‬فشجت‬
‫رأسؾ وساؿ دمؾ‪".‬‬

‫"األمر الذي بعث الرعب في نفسؾ ونفوس البقية‪ ،‬فيرب كؿ‬


‫واحد مف جية‪ .‬وسمعت نورية صراخي‪ ،‬فخرجت مف دارىا راكضةً‪،‬‬
‫جرحي وصحبتني إلى دارنا خشية أف‬
‫وأخذتني إلى دارىـ وضمدت ا‬
‫يعود الجار الجديد لمياجمتي‪"..‬‬

‫"طبعاً‪ ،‬ألنؾ لـ تخبرىا أنؾ أنت مف بدأني باليجوـ‪"..‬‬


‫"لـ أخبرىا حينلذ‪ ،‬بؿ في اليوـ التالي حيف سألتني عما‬
‫حصؿ وعف سببو‪ ،‬فأخبرتيا بكؿ شيء‪"..‬‬

‫قاطعو‪" ،‬فجاءت إلى دارنا لبلعتذار والمصالحة‪ .‬لكني لـ‬


‫أغفر لؾ حينلذ انحيازىا لؾ‪ ،‬بؿ فيمت األمر بأني أنا الغريب الذي‬
‫يرفضو الجميع‪".‬‬

‫"األمر الذي زاد في انعزالؾ عنا‪"..‬‬

‫"نعـ إلى فترة‪ "..‬صمت زياد برىة‪ ،‬ثـ أردؼ‪" ،‬لكف النعزالي‬
‫عنكـ سبب آخر‪ ،‬فمقد كنت أتصور نفسي السياسي الوطني الوحيد‬
‫بينكـ‪ .‬ولـ أشأ كشؼ سر انتمالي أماـ مف ال أثؽ بيـ‪".‬‬

‫"حتى انكشؼ السر يوـ داىمت الشرطة داركـ بحثاً عنؾ بعد‬
‫مظاىرات تأميـ السويس‪ .‬كنا في المدرسة ولـ ندر ما حدث‪ ،‬إال أنؾ‬
‫كنت مف اعتمى المسطبة وألقى فينا كممةً حماسيةً لدعوتنا لمتظاىر‪.‬‬
‫وحيف انتيى الدواـ رأينا نورية تقؼ عند باب المدرسة بانتظارؾ‪".‬‬

‫تنيد زياد‪" ،‬نورية‪ ...‬نورية ىذه اإلنسانة العظيمة‪ .‬أخذتني‬


‫مف المدرسة وأرسمت طبلؿ أخاىا الصغير‪ ،‬إلى أمي لكي تطملنيا‪،‬‬
‫ثـ دارت بي في الشوارع لساعات‪ ،‬أخذتني بعدىا إلى دارىـ‪"..‬‬

‫"ومنذ ذلؾ الحيف صرت يا زياد واحداً مف أبناء نورية‪"..‬‬

‫"نعـ‪ ،‬صارت نورية ىي الجذر الذي ربطني بالمحمة‪..‬‬


‫وبكـ‪ "..‬تنيد زياد وىز رأسو أسفاً‪" ،‬آه‪ ..‬آه يا غياث‪ ،‬كـ تغير الزماف‬
‫وكـ تغيرنا!"‬

‫ود زياد لو ركض في الزقاؽ كما كاف يركض‪ .‬تمنى لو‬


‫ركض عالداً إلى أياـ ماضيو‪ .‬وصبل إلى المقيى‪ .‬نظر زياد بذىوؿ‬
‫إلى شجرة السدر‪ ،‬ىذه الصديقة القديمة‪ ،‬يمتقييا اليوـ وىي ما تزاؿ‬
‫شامخة بالرغـ مف مرور األياـ‪ .‬كـ أكؿ مف ثمرىا! وكـ اختبأ وراء‬
‫جذعيا! تقدـ مف الشجرة العتيقة متردداً‪ .‬مد يده ومسد جذعيا الذي‬
‫شققتو األياـ حيث حفر‪ ،‬ىو واصحاب األمس‪ ،‬اسماءىـ‪ .‬ربت زياد‬
‫عمى الجذع العتيؽ كما يربت عمى كتؼ صديؽ عزيز‪" ،‬أردنا أف‬
‫نخمد أسماءنا‪ ،‬فكتبناىا عمى الجذع العتيؽ‪"..‬‬

‫دخؿ غياث المقيى قبؿ صديقو‪ .‬سمـ عمى الحاج ومف معو‬
‫في المقيى‪" ،‬السبلـ عميكـ‪".‬‬

‫"وعميكـ السبلـ ورحمة اهلل وبركاتو‪ "..‬رد الجميع‪ ،‬ونيض‬


‫الحاج أبو نوري مف مكانو وتقدـ منيما‪.‬‬

‫قاؿ غياث‪" ،‬ىذا زياد عبد الرحمف يا عـ‪ "،‬وتقدـ زياد إلى‬

‫الحاج الذي فتح لو ذراعيو‪ .‬احتضنو وقبمو مف كتفو وىو يقوؿ‪" ،‬أىبلً‬
‫وسيبلً‪ ،‬مالة أىبلً وسيبلً‪ "..‬ود زياد لو ظؿ في مكانو يشـ عبؽ أبيو‬
‫مف كتؼ الحاج‪" ،‬كيؼ أنت يا ولدي؟ لـ ال تزورنا؟"‬

‫"عمي‪ "..‬وعجز زياد عف إكماؿ جممتو‪ ،‬فالحزف الذي عاش‬


‫أسى وحنيف‪.‬‬
‫معو عشرات السنيف‪ ،‬طفا اليوـ عبرةً و ً‬

‫ربت الحاج عمى كتفو وقاؿ‪" ،‬عمى أية حاؿ‪ ،‬سأعتب عميؾ‬
‫مف اآلف فصاعداً إف لـ تزرنا‪ ،‬فنحف أىمؾ وناسؾ يا زياد‪ ..‬تفضبلً‪،‬‬
‫تفضبلً‪".‬‬

‫جمس الحاج عمى األريكة الخشبية التي اعتاد الجموس عمييا‬


‫منذ دىور‪ ،‬وجمس غياث إلى يمينو ثـ زياد الذي غمغـ‪" ،‬أىبلً بؾ‬
‫عمي أبو نوري‪ ".‬وجاؿ بنظره حولو‪.‬‬

‫نظر إلى الطاوالت المساطب الخشبية العتيقة‪ ،‬والصور‬


‫المؤطرة‪ ،‬المعمقة منذ األزؿ في مكانيا‪ .‬وشروخ السقؼ والجدراف التي‬
‫تشبو لوحة تجريدية أبدعتيا يد الزمف ولونيا غبار المدينة‪ .‬المروحة‬
‫السوداء والخيط الرفيع المتدلي منيا لـ تتغير‪ .‬الموقد تعموه أواني‬
‫الشاي بسماورات كبيرة‪ ،‬تمتمع فوؽ الرؼ‪.‬‬

‫شبؾ زياد يديو عمى صدره وأغمض عينيو‪ .‬بوده لو احتضف‬


‫المقيى العتيؽ وأخفاه بيف جفونو ليحميو مف عاديات الزمف‪ .‬ىز رأسو‬
‫مف دوف أف يفتح عينيو‪ ،‬واالبتسامة الحزينة لـ تفارؽ محياه‪ .‬نظر‬
‫إليو غياث بطرؼ عينو‪ ،‬وىو ال يدري إف كاف زياد معيـ‪ ،‬أـ راح في‬
‫تيويمة بعيدة‪.‬‬

‫أحس زياد‪ ،‬وىو مغمض العينيف‪ ،‬بنظرة غياث التي ركزىا‬


‫عميو‪ ،‬ففتح عينيو وبادؿ صاحبو نظرة حزينة أخرى‪ ،‬ثـ عاد ليدير‬
‫بصره فوؽ الجدراف‪ .‬ما يزاؿ المذياع الذي عرفو منذ فتوتو‪ ،‬عمى‬
‫الرؼ الخشبي العالي نفسو‪ .‬مذياع كيربالي اشتراه أبو نوري إباف‬
‫الحرب العالمية الثانية ليستمع منو إلى أخبار العالـ‪.‬‬

‫ىنا كاف يجمس أبوه كؿ يوـ بيف صبلة العصر والمغرب‪.‬‬


‫يجمس صامتاً ال يريـ! يتابع ما يجري حولو بنظرات ثاقبة‪ ،‬وال يشارؾ‬
‫في أحاديث المقيى إال بيزة رأس بيف آونة وأخرى‪ .‬أطمؽ عميو غياث‬
‫تسمية (الجبؿ الصامت)‪ ،‬فصارت التسمية لقباً الزـ أبا سعد حتى‬
‫آخر يوـ مف حياتو‪ .‬لـ يسمع أحد مف أىؿ بغداد صوتو‪ ،‬الكؿ عرفو‬
‫دالـ الصمت مذ جاء إلييـ مف العمارة‪ ،‬حتى يوـ حمموا نعشو إلى‬
‫المقبرة‪.‬‬

‫أوشكت دمعة أف تطفر مف عيني زياد فأغمض عينيو‪ ،‬ثـ‬


‫عاد وفتحيما‪ .‬قرب المذياع كاف يجمس والد غياث‪ ،‬يوسؼ البدر‪،‬‬
‫بكؿ ىيبتو‪ ،‬فبل يجرؤ أحد أف يقوؿ كممة أثناء تبلوة القرآف الكريـ أو‬
‫نشرة األخبار‪ .‬ابتسـ زياد في وجو الحاج نوري‪" ،‬إييييو‪ ،‬إيو يا عـ‪،‬‬
‫كيؼ أنت؟"‬

‫"نحمد اهلل عمى كؿ حاؿ‪ .‬وأنت‪ ،‬كيؼ أنت يا زياد؟ ما ىذا‬


‫الشيب؟ أرى شباب اليوـ يشيبوف قبمنا‪ ،‬نحف الشيوخ‪"..‬‬

‫"آه‪ ،‬تمؾ ىي أيامنا يا عـ‪ ،‬تثقؿ كواىمنا بما نشيب لو‪".‬‬

‫"ال‪ ،‬بؿ أنكـ ما عادت فيكـ القوة لكي تحمموا الحياة عمى‬
‫أكتافكـ‪ ،‬اعتدتـ الحياة السيمة فصرتـ ال تتحمموف أية م اررة! الحياة يا‬
‫زياد فييا الحمو والمر‪ ،‬ولوال م اررتيا لما عرفنا قيمة الحمو فييا‪ "..‬ربت‬
‫الحاج عمى كتب غياث‪" ،‬ىيا‪ ،‬لنذىب اآلف إلى الدار‪ ،‬فنورية‬
‫والحاجة نجمة بانتظاركما‪ ،‬ووجبة طعاـ مف إعداد نورية مع نكتة مف‬
‫الحاجة نجمة‪ ،‬كفيمة بإزالة ىموـ الدنيا!"‬

‫سار يتقدميما الحاج‬


‫نيض الحاج أبو نوري ونيضا معو‪ .‬ا‬
‫ليعبروا الزقاؽ إلى الجانب المقابؿ حيث تقع داره‪ .‬غياث عمى عادتو‪،‬‬
‫ينظر بنيـ ومحبة إلى كؿ ما يحيط بو‪ .‬وزياد‪ ،‬عمى عادتو أيضاً‪،‬‬
‫ينظر حولو بحزف‪ .‬تساءؿ غياث مع نفسو‪" ،‬ترى‪ ،‬ىؿ يريد زياد أف‬
‫يظؿ كؿ شيء عمى حالو مف دوف تغيير؟ ما الذي يحرؾ الحزف في‬
‫أعماقو؟ ىؿ الخوؼ مف االقتبلع ىو ما يجعؿ زياد يتمسؾ بحنيف‬

‫األياـ الماضية؟ أـ ىو الشعور بعدـ األماف؟" لـ يحر غياث جواباً‬


‫عمى تساؤالتو‪ ،‬كما لـ يستطع أف يوقؼ تدفقيا كمما التقى بزياد‪ ،‬وىما‬
‫بعض مف أحزاف زياد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫دوماً يمتقياف‪" .‬ربما كاف فيما قالتو رابية ىذه‬
‫ترى ىؿ تشبو رابية صديقو زياد في حزنو؟ ما الذي يحزنيا؟ ومف‬
‫تكوف؟؟؟"‬

‫تنبو غياث لنفسو وقد عاد ليفكر بيذه اإلنسانة التي رآىا‬
‫اليوـ ألوؿ مرة‪ ،‬وقد ال يراىا مرةً أخرى‪ ..‬أبداً‪ .‬عبروا الزقاؽ إلى بيت‬
‫أبو نوري‪ ،‬أو ما بقي مف بيت أبو نوري‪ .‬فمنذ سنتيف‪ ،‬ىدمت الدور‬
‫القريبة منو لفتح الشارع العاـ الذي قسـ المحمة شطريف‪ .‬لـ تيدـ دار‬
‫أبو نوري لوقوعيا في داخؿ الزقاؽ‪ ،‬لكف الميندس المسؤوؿ حذرىـ‬
‫آنذاؾ مف خطورة البقاء فييا‪" ،‬ألنيا آيمة لمسقوط‪ "..‬وعرض عمييـ‬
‫بدالً نقدياً مناسباً عنيا‪ .‬إال أف نورية رفضت‪ ،‬رفضت مغادرة‬
‫المحمة‪ ..‬أو ما بقي منيا‪ .‬ووقؼ الحاج أبو نوري معيا في رفضيا‪.‬‬
‫ولدي الحاج‪ .‬فمقد‬
‫ّ‬ ‫وظموا في دارىـ بالرغـ مف احتجاج نوري وطبلؿ‬
‫توسبل إلى أبييما وشقيقتيما لترؾ الدار‪ ،‬إال أنيما لـ يمقيا أذنا‬
‫صاغية‪ .‬وظموا جميعاً في الدار‪ :‬الحاج‪ ،‬ونورية‪ ،‬مع نوري وزوجتو‬
‫وطفمية‪ ،‬وطبلؿ وزوجتو‪.‬‬

‫بعد شيور قميمة مف فتح الشارع العاـ‪ ،‬وربما بسبب كثافة‬


‫المرور فيو‪ ،‬أو ربما بسبب قدـ الدار وتضعضعيا بعد ىدـ ما‬
‫يجاورىا‪ ،‬انيار الجزء الغربي منيا عمى مف فيو‪ .‬وكاف فيو زوجة‬
‫نوري وطفميو‪ .‬لـ يعثروا عمييـ إال بعدما أزيمت األنقاض‪ .‬أخرجوىـ‬
‫جثثاً ممزقة‪ ،‬أماـ عيني نورية والحاج‪ .‬أصيبت نورية بحالة ذىوؿ‬
‫ظمت معيا شيو اًر حتى خيؿ لمكثيريف أف نورية فقدت عقميا‪.‬‬

‫لـ تفقد نورية عقميا‪ ،‬لكف جممة واحدة ظمت تدور في ذىنيا‬
‫وال تفارقو‪ ،‬وغطت عمى كؿ ما عداىا‪" ،‬لو‪ ..‬لو أني رضيت بترؾ‬
‫الدار‪ .‬لو أني وافقت‪ ،‬لما فقدناىـ‪ .‬لو لـ أعاند‪ ،‬لكانوا جميعاً حولي‪.‬‬
‫لو لـ أرفض‪ ...‬لو‪ ...‬لو‪"..‬‬

‫ومع كؿ ىذا‪ ،‬وبعد أف عاد إلييا الوعي‪ ،‬حاوؿ طبلؿ‬


‫إقناعيا بالمغادرة‪ ،‬إال أنيا ردت‪" ،‬لف أغادر يا طبلؿ‪ .‬لـ يبؽ عندي‬
‫ما أخاؼ عميو‪ .‬لـ يبؽ في الدار غيري‪ .‬فنوري سافر بعد الفاجعة‬
‫إلى الخميج ألنو لـ يعد يطيؽ النظر في وجيي‪ .‬وأنت اشتريت دا ار‬
‫ستعيش فييا مع زوجتؾ‪ ،‬فمماذا أغادر؟ والى أيف؟ كبل‪ ،‬سأظؿ فييا‬
‫حتى يخرج نعشي منيا‪ ،‬فمـ يبؽ في العمر بقية تستحؽ أف أبدأ مف‬
‫جديد‪"..‬‬

‫غطوا ما تبقى مف الجناح الغربي لمدار بطبقة مف اآلجر‪،‬‬


‫وظمت نورية وابوىا في الدار‪.‬‬

‫دخؿ الحاج واجتاز العتبة‪ ،‬ثـ الباحة‪ ،‬وصعدوا سمماً إلى‬


‫الطابؽ العموي حيث اعتادت نورية أف تجمس‪ .‬تنحنح الحاج‪ ،‬وقبؿ‬
‫وصوليـ نياية السمـ‪ ،‬جاءىـ صوت أجش يغني أغنية قديمة لمحمد‬
‫عبد الوىاب‪" ،‬لما انتو ناوي تغيب عمى طوؿ‪ ...‬مش كنت آخر مرة‬
‫تقوؿ‪"..‬‬

‫ضحؾ الحاج‪" ،‬ىذه الحاجة نجمة ترحب بكما عمى طريقتيا‬


‫الخاصة‪ ،‬وتعاتب غياث عمى طوؿ غيابو‪".‬‬

‫شاركو غياث الضحؾ‪" ،‬لف تترؾ الحاجة نجمة عبثيا أبداً‪".‬‬

‫دلؼ الحاج قبميـ‪ ،‬ولحقو غياث وىو يشارؾ الحاجة نجمة‬


‫في أف صاحب غناءىا بطرقعة أصابعو‪ .‬لـ يبؽ مف األستاذ الجميؿ‬
‫إال الشعب األشيب الفوضوي‪ ،‬وارتدى األستاذ رداء الفتى المراىؽ‪،‬‬
‫يطرقع أصابعو مشاركةً لغناء الحاجة نجمة‪" ،‬اهلل‪ ...‬اهلل‪ ..‬ما ىذا‬
‫الصوت الشجي يا حاجة نجمة! يظؿ صوتؾ أجمؿ صوت يطربني‬
‫ميما طاؿ الزمف‪".‬‬

‫عمي وال تزورني‪ ،‬فبل‬


‫ردت الحاجة نجمة‪" ،‬وتظؿ أنت تتدلؿ ّ‬
‫أراؾ إال مصادفةً‪".‬‬

‫تقدـ غياث منيا‪ .‬قبمتو عمى وجنتيو‪" ،‬تعاؿ ألقبمؾ وأشـ فيؾ‬
‫رالحة الحبايب‪ .‬كيؼ صحة أمؾ؟ أموت شوقاً لرؤيتيا‪".‬‬
‫"ىي بخير‪ ،‬ومشتاقة لؾ‪ .‬ما رأيؾ لو أخذتؾ اليوـ لتبقي‬
‫عندنا بضعة أياـ؟"‬

‫"ال عيني ال‪ ،‬ال أقدر عمى مفارقة المحمة أكثر مف بضع‬
‫ساعات‪ .‬لست مثمكـ‪ ،‬ىجرتـ المحمة ولـ يبؽ فييا إال القميؿ مف‬
‫األحبة‪ ،‬وتركتموىا لمغرباء‪".‬‬

‫استدار غياث إلى نورية‪" ،‬صباح الخير نورية‪".‬‬

‫"صباح الخير والسعادة غياث‪ .‬تفضؿ زياد‪ .‬الحاجة نجمة‬


‫تجعمنا ننسى أنفسنا‪ ".‬قبمت غياث مف جبينو‪ .‬تقدـ زياد وىو يقاوـ‬
‫ارتباكو‪ ،‬مد يده ليصافح نورية‪ ،‬إال أنيا سحبتو نحوىا وقبمتو مف‬
‫جبينو‪ ،‬كما فعمت مع غياث‪ ،‬وىي تقوؿ‪" ،‬ىؿ تصافحني مثؿ الغرباء‬
‫يا زياد؟ ىؿ نسيت أياـ شبابؾ حيف جعمتني أقوـ بجوالت سياحية في‬
‫سجوف البمد ألزورؾ وأحمؿ لؾ السجالر؟"‬

‫"أنسى؟ وكيؼ أنسى يا نورية؟ ىؿ نسيت يوماً‪ ،‬كي أنسى‬


‫اآلف؟"‬

‫"أجمس بجانبي يا زياد وخبرني عف أحوالؾ‪".‬‬

‫مف مكانيا صاحت الحاجة نجمة‪" ،‬وغياث يجمس جنبي‪ ،‬فأنا‬


‫مشتاقة لو‪ .‬تعاؿ!" تقدـ غياث وجمس إلى جوارىا عمى األريكة‪ .‬ربتت‬
‫عمى كتفو‪ ،‬ثـ رفعت عقيرتيا بالغناء‪" ،‬نعـ أنا مشتاؽ وعندي لوعة‪..‬‬
‫لكف مثمي ال يذاع لو سر‪"..‬‬

‫صاح غياث‪" ،‬اهلل‪ ..‬اهلل‪ ..‬أكممي باهلل عميؾ يا حاجة‪ ".‬وعاد‬


‫ليصاحب غناءىا بطرقعة أصابعو‪ .‬في حيف دخؿ الحاج أبو نوري‬
‫ليغير مبلبسو ويتوضأ ليصمي‪.‬‬
‫قاؿ زياد‪" ،‬إيييو‪ ..‬ما أحمى تمؾ األياـ‪ "،‬وأطرؽ برىة ثـ‬
‫أردؼ‪" ،‬أذكر حيف كنا نصعد إلى السطح في ليالي الصيؼ‪ ،‬فيأتينا‬
‫صوت الحاجة نجمة مف سطحيـ المجاور وىي تغني لممرحوـ بأعمى‬
‫صوت!" استدار ونظر إلييا بمؿء عينيو‪" ،‬منؾ يا حاجة سمعنا أغنية‬
‫يا ظالمني في اليوـ التالي الذي غنتيا أـ كمثوـ ألوؿ مرة‪ .‬تعجبنا‬
‫حينذاؾ مف قدرتؾ عمى الحفظ السريع‪ .‬كما أعجبنا بصفاء صوتؾ‪"..‬‬
‫وتنيد زياد‪.‬‬

‫سأليا غياث معابثاً‪" ،‬ىؿ ما زلت تذكرينيا يا حاجة؟ كمما‬


‫سمعتيا مف أـ كمثوـ‪ ،‬ذكرت غناءؾ ليا‪ ،‬وصمت الجيراف‪ ،‬ك ٌؿ في‬
‫سطح داره‪ ،‬ال أحد ينبس ببنت شفة! الكؿ يستمع إليؾ‪".‬‬

‫ضحكت بمرح طفولي‪" ،‬طبعاً أذكرىا‪ ،‬أـ أنؾ تتصور أف‬


‫الزمف غمبني ولـ تعد بي قدرة؟" ومف دوف أي تردد بدأت الحاجة‬
‫نجمة تغني بصوت أرىقو الزمف وما زاؿ يقاوـ‪" ،‬يا ظالمني‪ ..‬يا‬
‫ىاجرني‪ ..‬أطاوع في ىواؾ قمبي‪ ..‬وأنسى الكؿ عمى شانؾ‪..‬‬
‫وتغضب لما أقوؿ لؾ يوـ يا ظالمني‪"..‬‬

‫صفؽ غياث‪" ،‬يا سبلـ! عاش الصوت الشجي‪"..‬‬

‫أكمؿ زياد‪" ،‬وصاحبة الصوت‪ "..‬وصفؽ بدوره‪.‬‬

‫ضحكت نورية وقالت‪" ،‬ما ىذا يا حاجة؟ كنت عمى أحسف‬


‫حاؿ قبؿ قميؿ‪ .‬ىؿ أعادتؾ رؤية غياث ألياـ شبابؾ؟ أـ تريديف أف‬
‫تثبتي لو أنؾ أقوى مف األياـ؟"‬

‫ضحكت الحاجة نجمة بسخرية‪" ،‬أي شباب ىذا؟ ىؿ تسميف‬


‫تمؾ األياـ‪ ،‬أياـ شباب تستحؽ أف نحف إلييا؟ ما الذي رأيناه فييا‬
‫لنحف إلييا؟ لـ يكف فييا تمفزيوف وال كيرباء وال سيارات‪ ..‬ال يا نورية‪،‬‬
‫لست ممف يحف إلى تمؾ األياـ‪ ،‬لو أف األحبة لـ يتفرقوا‪ ،‬لكانت أيامنا‬
‫ىذه ىي أحمى األياـ‪"..‬‬

‫قاؿ زياد بنبرتو الحزينة‪" ،‬يا حاجة‪ ،‬زرعوا المو فما أينع‬
‫عودىا!"‬

‫لـ تميمو الحاجة نجمة بؿ ردت عميو بحدة يعرفيا منذ‬


‫دىور‪" ،‬ولماذا تريد أف تزرع المو يا ابف الحاج عبد الرحمف؟ ىؿ تظؿ‬

‫طوؿ عمرؾ تصارع خيالؾ؟ إنؾ لـ تعرؼ الرضى يوماً‪ .‬أذكرؾ طفبلً‬
‫كما أذكرؾ شاباً‪ ،‬وىا أنذا أراؾ اليوـ‪ .‬ال شيء يرضيؾ‪ .‬ىؿ تظؿ‬
‫أسير الحنيف إلى الماضي يا زياد؟"‬

‫قاؿ بصوت يقطر بكؿ الحزف الذي يخفيو في ذاتو‪" ،‬طبعاً يا‬
‫حاجة أحف إلى الماضي‪ .‬أحف إلى بيتنا ومحمتنا وألفتنا‪ .‬وىا أني‬
‫اراىـ اليوـ ييدموف مدينتنا‪ .‬إنيـ بيذا يقتموف عبؽ األياـ الحموة‪.‬‬
‫المدينة يا حاجة كالف حي يتنفس بأىمو‪ .‬تتكئ الدار عمى ما‬
‫يجاورىا‪ ،‬كما يتكئ الجار عمى جاره‪ .‬األبنية وأناسيا يعيش الواحد‬
‫باآلخر‪ ،‬ال أحد يعيش بذاتو‪ ،‬بؿ ذواتيـ واحدة‪ .‬نحف تيدمنا باليأس‬
‫وخيبات األمؿ‪ ،‬واليوـ تتيدـ مدينتنا‪ ،‬فما الذي بقي لنا؟"‬

‫ضحكت الحاجة نجمة بسخرية مف حزنو‪" ،‬دوماً تتحدث‬


‫بكممات كبيرة يا زياد‪ .‬حيف سمعناىا منؾ طفبلً‪ ،‬كنا نبتسـ ونقوؿ‬
‫طفؿ ييذر بما ال يدري‪ .‬وحيف صرت شاباً‪ ،‬قمنا سياسي ال نفيـ‪،‬‬
‫نحف الجيمة‪ ،‬ما يقوؿ‪ .‬واآلف يا زياد‪ ،‬زحؼ الزمف عميؾ كما زحؼ‬
‫عمي‪ ،‬فاسمع ما أقولو لؾ جيداً‪ ،‬انظر إلى الوراء قميبلً وتذكر‪ .‬ألـ‬
‫ّ‬
‫تكف أنت أوؿ مف ىجر المحمة؟ تركت المحمة ألنيا ما عادت تناسب‬
‫مستواؾ بعدما عدت تحمؿ شيادة الدكتوراه مف فرنسا‪ .‬ذىبت إلى‬
‫الوزيرية حيث يسكف عمية القوـ‪ .‬ىجرت المحمة التي تبكي اآلف‬
‫ألجميا‪ .‬تركتموىا لمغرباء يسكنوف فييا سنة أو بضع سنيف‪ ،‬ثـ‬
‫يتركونيا بعد أف ييدموا جزءاً منيا‪ ،‬ألنيـ ال ينتموف إلييا‪ ،‬بؿ ىي‬
‫محطات مؤقتة في طرؽ حياتيـ‪ .‬المحمة تيدمت حيف ىجرتموىا يا‬
‫زياد‪ ،‬فمماذا البكاء عمييا اليوـ؟ ىؿ تبكوف عمييا بعدما زاؿ أفضؿ ما‬
‫فييا وىـ ناسيا؟ لـ يبؽ بعدىـ مف يستحؽ البكاء‪ ،‬أو ما يستحؽ‬
‫البكاء‪".‬‬

‫مع كؿ المرح الذي اشتيرت بو الحاجة نجمة‪ ،‬إال أف مرحيا‬


‫يخفي حدة في الطبع وحجة ال ترد‪ .‬وزياد يعرؼ ىذا‪ ،‬كما يعرؼ‬
‫الذكاء الفطري الذي يميزىا‪" ،‬إنؾ قاسية جداً يا حاجة‪ .‬أنا ال أبكي‬
‫المحمة وحسب‪ ،‬بؿ أبكي ذواتنا التي تتيدـ معيا‪"..‬‬

‫مرة أخرى قاطعتو الحاجة نجمة بقسوة أكبر‪" ،‬بؿ ابؾ أباؾ‬
‫يا زياد‪ ..‬أباؾ الذي لـ يفيـ أي منكـ ما الذي عاناه بصمتو‪ .‬أباؾ‬
‫الذي اقتمعتموه مف أرضو في العمارة وجلتـ بو إلى ىنا‪ .‬ومف ىنا‬
‫أردت‪ ،‬أنت‪ ،‬اقتبلعو مف جديد إلى الوزيرية‪ .‬ابؾ بيتاً عاش فيو أبوؾ‬
‫ورفضت أف تعيش لتربي أوالدؾ بو‪ ،‬ألنو عتيؽ‪ "..‬صمتت الحاجة‬
‫برىة‪ ،‬ثـ أطمقت ضحكة مدوية‪" ،‬ولماذا البكاء؟ وعمى أي شيء؟ لـ‬
‫يعد في أي مف بيوتنا فالدة‪ ،‬كما لـ يعد فينا‪ ،‬نحف‪ ،‬أية فالدة‪ .‬الزواؿ‬
‫ىو مصير البشر كما ىو مصير الحجر‪ .‬مف أراد لبيتو أف يعيش‪،‬‬
‫عميو أف يعيش فيو‪ ،‬وبو‪ .‬أف يحيا معو‪ .‬أصح يا زياد! األياـ تمر‬
‫سراعاً! عش حياتؾ‪ ،‬فاليوـ الذي يذىب لف تعوضو بالبكاء‪ .‬دع‬
‫الزماف يمعب بنا‪ ،‬فمف انتيت أيامو عميو أف يفسح المجاؿ لغيره‪ ،‬لكي‬
‫يعيش‪ .‬نحف ومحمتنا راحت أيامنا‪ ،‬فميكف اليدـ مصيرنا‪ .‬ولنضحؾ‬
‫منو ألف اليدـ لف يطاؿ ذواتنا‪ .‬لنضحؾ! فالضحكة ىي الباقية‪ .‬ليمت‬
‫الماضي وأىؿ الماضي‪ .‬فالحياة أكبر مف الماضي‪ .‬ليكف المستقبؿ‬
‫ىو الباقي‪ ،‬حتى لو لـ نكف نحف فيو‪ .‬أليس كذلؾ يا غياث؟" نظرت‬
‫إلى غياث‪ ،‬فشعت بسمة أنارت وجييا‪.‬‬

‫رد غياث‪" ،‬صحيح ما تقولينو يا حاجة‪ .‬لـ يبؽ في العمر‬


‫بقية نقضييا بالبكاء والحزف‪ .‬فالبكاء لف يعيد ما كاف‪ ،‬ولف يعيد زىو‬
‫ايامو‪".‬‬

‫خرج الحاج مف غرفتو وجمس معيـ‪ .‬سأؿ غياث‪" ،‬سمعت‬


‫أف في النية ىدـ المحمة بأكمميا‪ ،‬فيؿ ىذا صحيح؟"‬

‫"نعـ صحيح يا حاج‪ .‬سيبدأ اليدـ مف بناية المعرض وما‬


‫يجاورىا‪".‬‬

‫"لكنيـ حيف فتحوا الشارع قبؿ سنتيف‪ ،‬قالوا أف ليس في نيتيـ‬


‫ىدـ المحمة‪ ،‬أو في األقؿ ىذا ما قالو الميندس المسؤوؿ آنذاؾ‪"..‬‬

‫"إنيـ بصدد إعداد تصميـ جديد لمركز المدينة‪ .‬سمعت مف‬


‫بعض األصدقاء أف العمؿ يجري إلعداد خرالط جديدة لممنطقة‬
‫بأكمميا‪ .‬وستقوـ فرؽ العمؿ بالكشؼ عمى جميع الدور واألبنية لتحديد‬
‫ما يمكف تطويره والمحافظة عميو‪ ،‬ثـ ييدـ الباقي‪".‬‬

‫قالت الحاجة نجمة‪" ،‬كؿ ىذا يستغرؽ وقتاً طويبلً‪ ،‬قد يصؿ‬
‫إلى ما بعد موتنا‪ .‬عشر سنوات‪ ،‬أو ربما أكثر‪ ،‬فبل داعي لمقمؽ‪"..‬‬
‫صمتت الحاجة نجمة وأطرقت رأسيا‪" ،‬أتذكر حيف فتحوا شارع‬
‫الرشيد‪ ،‬ظموا يحسبوف ويرسموف حوالي عشر سنيف‪ ،‬ثـ بدأ العمؿ‬
‫بعدىا‪"..‬‬

‫"نعـ‪ ،‬مثؿ ىذه األمور تستغرؽ وقتاً‪ ،‬لكني ال أظف أف األمر‬


‫سيطوؿ إلى ىذا الحد‪ .‬وعمى أية حاؿ‪ ،‬أكثر األبنية صارت آيمة‬
‫لمزواؿ‪ ،‬وفي بقاليا خطر عمى ساكنييا‪"..‬‬
‫ردت نورية‪" ،‬كؿ شيء بإرادة اهلل‪ ،‬ال أحد يموت إال في اليوـ‬
‫المكتوب عميو‪ .‬وىدـ المدينة لف يغير القدر المكتوب‪".‬‬

‫لـ يشأ غياث أف يزيد مف قمقيا‪ ،‬كما لـ يرغب بتضميميا‪،‬‬


‫"عمى أية حاؿ‪ ،‬سيغمؽ المعرض بعد شيريف أو ثبلثة تمييداً ليدمو‪.‬‬
‫ربما سوؼ يبمغونكـ قريباً باستمبلؾ المقيى‪ ،‬ألنو يقع في نفس خط‬
‫المعرض‪ .‬أما الدار فقد يتأخر أمرىا بعض الوقت‪".‬‬

‫سألت الحاجة نجمة وقد أخذ قمقيا بالتصاعد‪" ،‬ىؿ تعني‬


‫أنيـ سييدموف كؿ شيء؟"‬

‫ىز رأسو بأسى‪" ،‬ىذا الزقاؽ والذي يميو سوؼ ييدماف‪ .‬إال‬
‫أف قسماً مف بيوت األزقة المجاورة سيتـ إصبلحيا‪ ،‬كما ستبقى بعض‬
‫الدور لساكنييا‪"..‬‬

‫تنيدت الحاجة نجمة بشيء يشبو االرتياح‪" ،‬الحمد هلل عمى‬


‫كؿ حاؿ‪ .‬في ىذه الحالة لف أضطر لمغادرة المحمة‪ ،‬بؿ سأتمكف مف‬
‫البقاء مع ساكني أية دار تظؿ جدرانيا قالمة‪ ،‬لتحميني ويغطيني‬
‫سقفيا‪"..‬‬

‫انبرى الحاج أبو نوري لمقوؿ‪" ،‬لكني أرى يا حاجة أف تنتقمي‬


‫معنا‪ ،‬إف انتقمنا‪ ،‬لكي نظؿ معاً‪"..‬‬

‫قاطعتو بحزـ‪" ،‬كبل يا حاج‪ ،‬لـ يبؽ في عمري بقية تستحؽ‪".‬‬

‫لجة أفكاره‪ .‬قبؿ سنوات‪،‬‬


‫ساد الصمت وك ٌؿ منيـ غارؽ في ّ‬
‫حيف تسممت الحاجة نجمة البدؿ عف الدار التي عاشت فييا‪ ،‬والتي‬
‫كانت ما تزاؿ تسكنيا مع ولدىا وزوجتو وأطفالو‪ ،‬لـ تشأ مغادرة‬
‫المحمة حتى لو دفعوا ليا كؿ أمواؿ األرض‪ .‬حاولوا إقناعيا باالنتقاؿ‪،‬‬
‫فما رضيت‪ ،‬بؿ قالت‪" ،‬حيف أموت ال أريد أف يحمؿ نعشي عمى‬
‫السيارات‪ ،‬بؿ أريد أف يحممو ولدي عمى كتفو مع أىؿ محمتي‪ ،‬إلى‬
‫المقبرة القريبة‪".‬‬

‫أعطت الحاجة نجمة كامؿ مبمغ التعويض إلى ابنيا الوحيد‬


‫وىي تقوؿ‪" ،‬اشتر لنفسؾ بيتاً‪ .‬لقد سجؿ أبوؾ ىذه الدار باسمي‬
‫ليحمي شيخوختي‪ ،‬لكنو لـ يتوقع أف تيدـ الدار لفتح شارع جديد‪.‬‬
‫اشتر لنفسؾ دا اًر وعش بأماف مع أىؿ بيتؾ‪ .‬أما أنا‪ ،‬فكؿ أىؿ المحمة‬
‫ىـ أىمي‪ ،‬سأعيش بينيـ‪ ،‬واتنقؿ في دورىـ ما تبقى مف عمري‪ ،‬ولف‬
‫يطوؿ األمر عمى أية حاؿ‪ "..‬وظمت تعيش بيف أىؿ المحمة‪ ،‬أىميا‪.‬‬
‫تقضي بضعة أياـ في كؿ دار‪ ،‬وال تممؾ إال الثوب الذي ترتديو‪.‬‬
‫وحيف تشتري ثوباً جديداً‪ ،‬تعطي القديـ لمفقراء‪.‬‬

‫ظمت الحاجة نجمة تعيش عيشة أبناء المحمة مف دوف أف‬


‫تممؾ شيلاً‪ ،‬إال المحبة‪ ،‬فالكؿ يحبيا ويحترميا وينتظر أف يحؿ دوره‬
‫في زيارتيا لما تشيع حوليا مف أجواء التفاىـ والحبور‪ .‬الحاجة نجمة‬
‫مرحة وصارمة‪ ،‬أليفة مف دوف فضوؿ‪ ،‬حنوف مف دوف إلحاح‪.‬‬

‫سنتاف عاشتيما الحاجة نجمة تتنقؿ بيف بيوت المحمة‪،‬‬


‫كواحدة مف أىؿ الدار‪ .‬تشارؾ األحزاف قبؿ األفراح‪ .‬وفي جميع‬
‫أحواليـ‪ ،‬كانت الحاجة نجمة ىي العزيزة التي ال يستغني عنيا أي‬
‫واحد منيـ‪ .‬وبقيت الحاجة في محمتيا ما داـ فييا عرض ينبض‪ ،‬وما‬
‫داـ في المحمة حالط عتيؽ‪ ،‬وسقؼ قديـ‪.‬‬

‫قاؿ الحاج أبو نوري‪" ،‬ما عمينا إال انتظار ما تجيء بو‬
‫األياـ‪ ،‬ولف يقع شيء إال بإرادة اهلل‪ "..‬ثـ استدار إلى نورية‪ ،‬ليبدد‬
‫موجة الكآبة التي اجتاحتيـ‪" ،‬ىؿ غداؤنا جاىز‪ ،‬أـ أننا دعونا الناس‬
‫لكي يجوعوا معنا؟"‬
‫"بؿ جاىز يا أبي‪ "،‬ونادت عمى سعدية لتصعد ليـ بالغداء‪.‬‬
‫تناولوا وجبتيـ بيف مزاح غياث وعبثو مع الحاجة نجمة‪ ،‬وتبغدد‬
‫الحاجة نجمة ودالليا عمى غياث‪ .‬شربوا الشاي المعطر بحب الييؿ‪،‬‬
‫وغادروا دار الحاج‪ ،‬بعدما وعدوا بتكرار الزيارة بأقرب فرصة‪.‬‬

‫خرج غياث وزياد مودعيف بالدعوات‪ .‬عب ار الزقاؽ إلى حيث‬


‫تقؼ سيارة غياث تحت شجرة السدر‪ .‬نظر زياد إلى ساعتو‪ ،‬وكانت‬
‫تقارب الرابعة عص اًر‪" ،‬ما أسرع ما مر الوقت عمينا‪"..‬‬

‫ضحؾ غياث‪" ،‬كمما زرت بيت الحاج نسيت نفسي‪ .‬أمر‬


‫أحياناً مف ىنا‪ ،‬فآتي لزيارتيـ وفي نيتي أف ال أمكث أكثر مف بضع‬
‫دقالؽ‪ ،‬ثـ يمر الوقت واذا بي قد أمضيت عندىـ عدة ساعات‪".‬‬

‫مد زياد يده إلى أشرطة التسجيؿ‪ ،‬ووضع موسيقى شوباف‪،‬‬


‫فيي تبللـ ذوقو اليادئ‪ .‬أنصتا مف دوف كممة‪ ،‬ثـ قاؿ زياد‪" ،‬ترى‪،‬‬
‫ىؿ سيبقى مف أيامنا الماضية شيء بعد ىدـ المحمة؟ كؿ ما نعرفو‬
‫قد تيدـ أو سوؼ ييدـ‪ .‬ىوس التحديث ىذا جعؿ الكؿ ينسى أف‬
‫لبغداد وشوارعيا وأبنيتيا وطابوقيا العتيؽ‪ ،‬ليا تاريخ وحياة‪ "..‬أطمؽ‬
‫زفرة حرى‪ ،‬ثـ اردؼ‪" ،‬أتدري يا غياث‪ ،‬أحس في كثير مف األحياف‪،‬‬
‫أني لـ أعد أعرؼ ىذه المدينة‪ .‬أحس بغربة مرعبة حيف أسير فييا‪.‬‬
‫لـ أعد أعرؼ أىذه ىي بغداد حقاً‪ ،‬أـ أبنية منقولة مف الغرب‪،‬‬
‫يحاولوف زرعيا في ذواتنا؟"‬

‫صمت زياد بعد أف أطمؽ زفرة‪ .‬لـ يقؿ غياث شيلاً‪ ،‬فيو‬
‫بدوره غارؽ مع أفكاره‪ .‬واصؿ زياد‪" ،‬ىؿ تذكر يا غياث حيف بنوا ىذا‬
‫المعرض عمى األرض الخالية أماـ دارنا‪ ،‬حيث كنا نمعب الكرة‪،‬‬
‫وحيث كانت األراجيح تنصب في أياـ العيد‪ ،‬فتزىو باأللواف وتضج‬
‫بالضحكات الطفولية‪ .‬ثـ جاءت المعدات‪ ،‬التي كنا نخاليا كبيرة حيف‬
‫كنا صغا اًر‪ .‬أتذكر ذىولؾ أماميا‪ .‬كنت ميووساً بيا‪ .‬تتفرج عمييا ليؿ‬
‫نيار‪ ،‬حيف تيدر مكالنيا‪ ،‬وحيف ترتاح‪ .‬حتى ضجيجيا كنت تطرب‬
‫لو وتقوؿ‪ ،‬مف ىنا يبدأ التقدـ‪ ،‬مف ىذه المكالف‪ .‬لو استطعنا أف‬
‫نصنع مثميا‪ ،‬لصار لنا أف نخمؽ المستقبؿ الذي نريد‪ .‬أف نكوف سادة‬
‫أنفسنا‪ .‬بيذه المكالف نكوف سادة أنفسنا‪ ،‬وليس بالكممات! ىؿ تذكر يا‬
‫غياث؟"‬

‫ىز غياث رأسو بأسى‪" ،‬نعـ أتذكر‪ .‬سوروا األرض ومنعونا‬


‫مف المعب عمييا‪ .‬اقتمعوا أىداؼ كرتنا‪ ،‬وكسروىا كأنيا أعواد ثقاب‬
‫تحت أقداـ معداتيـ تمؾ‪ .‬حفروا األرض إلى أعماؽ كنا نظنيا‬
‫مستحيمة عمى بني البشر‪"..‬‬

‫ضحؾ زيادة ضحكة كالبكاء وقاؿ‪" ،‬واليوـ سييدـ المعرض‬


‫واألبنية حولو‪ .‬وبدالً منيا ستنمو غابة مف االسمنت‪ .‬أبنية حديثة‬
‫متناسقة‪ ،‬تناطح السماء‪ ،‬وشوارع عريضة‪ ،‬ومبلعب وأسواؽ‪ .‬كؿ‬
‫شيء سيكوف جديداً‪".‬‬

‫تنيد غياث‪ ،‬ورد بنبرة حزف‪" ،‬نعـ‪ ..‬كؿ شيء سيكوف جديداً‪،‬‬
‫لؤلسؼ‪".‬‬

‫بعد صمت قصير‪ ،‬عادت نبرة التساؤؿ الحزيف لزياد‪" ،‬لكف‪..‬‬


‫قؿ لي يا غياث‪ ،‬أيف سيذىب ىؤالء الذيف اعتادوا العيش واقداميـ‬
‫ممتصقة باألرض؟ الحاجة نجمة‪ ،‬ونورية‪ ،‬وأبو نوري‪ ..‬وغيرىـ كثير‪".‬‬
‫صمت برىة ثـ أردؼ‪" ،‬ىؿ سينقؿ أبو نوري مقياه إلى مكاف جديد‪،‬‬
‫أـ سيكوف لممقيى موقع في غابة االسمنت ىذه؟ ىؿ سيقتمع ىؤالء‬
‫مف تربتيـ؟ واف اقتمعوا‪ ،‬فيؿ ستنمو ليـ جذور ويورقوف في أروقة‬
‫االسمنت؟"‬
‫صمت غياث مف دوف أف يحير جواباً عمى أسلمة صاحبة‪،‬‬
‫فعاود زياد القوؿ‪" ،‬ىؿ تتذكر أبي يا غياث؟"‬

‫فوجئ غياث‪" ،‬وكيؼ ال أتذكره‪"..‬‬

‫ضحؾ زياد‪ ،‬ورد‪" ،‬لـ تعرفو يا غياث حيف كاف يزىو بقامتو‬
‫في أزقة العمارة‪ .‬لـ تعرفو حيف كانت الريح تعرفو‪ .‬حيف كانت‬
‫العصافير تعرفو‪ .‬كاف يستيقظ قبميا‪ ،‬ويذىب إلى زرعو‪ ..‬بيديو كاف‬
‫يزرع األرض‪ ".‬تنيد ثـ أردؼ‪" ،‬حيف كنا صغا اًر كاف يقوؿ لنا‪( ،‬ىذه‬
‫المكالف التي ترونيا‪ ،‬جاء بيا اإلنجميز لتيدـ أرضنا وتقتميا‪ .‬فاألرض‬

‫تشتيي أف تحس بيد اإلنساف في أحشاليا‪ ،‬وتريد أنفاس البشر قريباً‬


‫منيا‪ ).‬كاف أبي يا غياث يحنو عمى أرضو وأشجاره كما يحنو عمينا‬
‫نحف أبنالو‪ .‬يتفرج عمييا ويراقب نموىا كؿ يوـ‪ .‬وظؿ يرفض المكالف‪.‬‬
‫ألنو كما كاف يكرر القوؿ‪( ،‬جاء بيا اإلنجميز لتدنس شرؼ األرض‬
‫وتفترعيا‪ .‬ىذا الزيت الذي يصبونو بيا‪ ،‬يختمط مع التراب‪ ،‬فيتغير‬
‫طعـ البرتقاؿ‪ ).‬ضحؾ زياد مف دوف أف يفيـ صاحبو ما الفكرة التي‬
‫طرأت عمى بالو فأضحكتو‪ .‬حتى ضحكة زياد حزينة مثمو‪ .‬ىز زياد‬
‫رأسو وواصؿ‪" ،‬كؿ السيلات جاء بيا اإلنجميز‪ ،‬فيو لـ يعرؼ غيرىـ‬
‫مف يسيئ ليذه األرض‪ .‬ثـ كبرنا وتعممنا ودرسنا‪ ،‬وبعد موت أبي‬
‫يصدر لنا‬
‫ّ‬ ‫بعشرات السنيف‪ ،‬بدأنا نق أر عف تموث البيلة‪ ،‬وبدأ الغرب‬
‫فكرة العودة لمطبيعة‪ ..‬ونحف‪ ،‬نحف نقمد كؿ ما يجيء مف الغرب‪.‬‬
‫قالوا لنا‪ :‬ادخموا المكالف لتدخموا التاريخ!‪ ،‬فأدخمناىا رغـ أنؼ أبي‪.‬‬
‫وحيف قاؿ أنيا تفترع األرض‪ ،‬ضحكنا منو ومف جيمو‪ .‬وافترعنا‬
‫أرضو‪ .‬وحيف حدثونا عف تموث البيلة والعودة لمطبيعة وعف طعـ‬
‫البرتقاؿ الذي لـ يتموث‪ ،‬صدقناىـ‪ ،‬وما صدقنا أبي مف قبؿ!"‬

‫دندف زياد مع الموسيقى وىو يتجوؿ في ذكرياتو‪ ،‬وغياث‬


‫يدور بسيارتو‪ ،‬ويدور في شوارع المدينة‪ ،‬وقد ترؾ زياد مع سيؿ‬
‫ذكرياتو المتدفؽ‪ ،‬لعؿ صاحبو يعود إلى الحاضر بعد استنفاد م اررات‬
‫الحنيف‪.‬‬

‫جاء صوت زياد‪" ،‬أراد أخي سعد أف يدرس الطب‪ .‬لكف أبي‬
‫رفض‪ ،‬وقاؿ لو‪( ،‬إنؾ لف تطبب أىؿ مدينتنا‪ ،‬بؿ ستعيش لتخدـ أىؿ‬
‫بغداد‪ ،‬وأنا أريدؾ بيننا في العمارة‪ ..‬ىنا‪ ،‬في ىذه األرض‪ .‬لو درست‬
‫الزراعة منحتؾ أرضي ىذه ىدية تخرجؾ‪ ،‬وأعنتؾ في زراعتيا‪)..‬‬
‫ودخؿ سعد كمية الزراعة‪ ،‬وتخرج منيا‪ .‬ومع أنو تزوج مف فتاة‬
‫بغدادية‪ ،‬إال أنو جاء بيا إلينا وعاد ليزرع أرضو‪ .‬عاد سعد ومعو‬
‫المكالف الجديدة التي اقترض ثمنيا مف المصرؼ الزراعي‪ ،‬ورىف‬
‫األرض لضماف السداد‪ .‬وحيف اعترض أبي عمى رىف األرض‪ ،‬وعمى‬
‫المكالف‪ ،‬ىدده سعد بالعودة إلى بغداد إف لـ يسمح لو أف يزرع‬
‫األرض كما عمموه في الجامعة‪ .‬إذ ما فالدة العمـ ما لـ نطبقو نحف؟‬
‫كاف أبي فخو اًر بسعد‪ ،‬ألف سعد ابنو البكر‪ ،‬وأوؿ جامعي مف‬
‫عشيرتنا‪ .‬ورضي أبو سعد أف يفترع سعد أرضو بمكالنو الغريبة‪ .‬لكف‬
‫أبا سعد ترؾ الزراعة‪ .‬قاؿ أنو تعب مف الزرع‪ .‬ترؾ أبي الزراعة في‬
‫اليوـ الذي دخمت فيو الماكنة إلى أرضو‪ ..‬لـ نفيـ يا غياث‪ .‬كنا‬
‫أجيؿ مف أف نفيـ‪"..‬‬

‫تنيد زياد مرة أخرى‪ ،‬وصمت ليستجمع ذكرياتو‪" ،‬وجاء‬


‫الفيضاف الكبير‪ ..‬فيضاف ‪ 1954‬وىدد مدينتنا بالغرؽ‪ ،‬فكاف البد مف‬
‫حمايتيا ببناء سدود ترابية حوليا‪ ،‬واغراؽ ما حوليا مف مزارع‪.‬‬
‫وغرقت أرضنا ألنيا كانت مف أقرب المزارع إلى مدينة العمارة‪ .‬غرؽ‬
‫البستاف الزاىي‪ ،‬وغرقت األشجار والنخيؿ‪ .‬وغرقت المكالف التي رىف‬
‫سعد األرض ليشترييا‪ ،‬كما غرقت دارنا‪ .‬لجأنا إلى المدينة عمى أمؿ‬
‫العودة بعد انحسار الفيضاف‪ ،‬لكف ىجرتنا طالت‪ ،‬ألف سعد بعدما‬
‫يلس مف تسديد الديوف التي تراكمت عميو‪ ،‬لـ يجد أمامو سبيبلً سوى‬
‫أف يبيع قسماً مف األرض ويؤجر الباقي‪ ،‬كما باع الدار‪ .‬وأتينا إلى‬
‫بغداد‪ ،‬ولـ نعد مف المياجريف المؤقتيف‪ ،‬بؿ لكي نستوطف ىذه‬
‫المحمة‪ ،‬فاشترى سعد دارنا تمؾ وعشنا بينكـ‪"..‬‬

‫شريط الذكريات ال يفتأ يدور في ذىف زياد‪ ،‬فمقد عاودتو أياـ‬


‫ماضيو بكؿ ألقيا‪ .‬وسحبو سيؿ الكممات ليطير بو عبر السنوات‬
‫البعيدة‪ :‬العمؿ السياسي السري‪ .‬المطاردة‪ .‬وثبة كانوف‪ .‬الموقؼ‬
‫العاـ‪ .‬سجف بعقوبة‪ .‬اليجرة إلى بغداد‪ .‬تظاىرات ‪ .1956‬االختفاء‪.‬‬
‫االضرابات‪ .‬ثورة ‪ .1958‬الصراع بيف أطرافيا‪ .‬خيبة األمؿ‪.‬‬
‫االعتقاؿ مجدداً‪ .‬ومع أغمب ىذه األحداث‪ ،‬نورية‪ ..‬نورية التي تبنتو‬
‫شاباً‪ ،‬تبحث عنو بيف المواقؼ ومراكز الشرطة‪ ،‬وحيف تعثر عميو‪،‬‬
‫تزوره في سجنو‪ ،‬وتخفيو بيف جفونيا عف عيوف السمطة‪ .‬ال يتعبيا‬
‫البحث عنو‪ ،‬وال نقؿ أطباؽ الطعاـ والسجالر لو ولرفاقو‪ ،‬فكميـ ابناء‬
‫ليا‪ .‬وميما اختمفت آراؤىـ‪ ،‬تظؿ ىي األـ والوطف والمحبة‪ .‬والييا‬
‫يعودوف ميما اختمفوا‪ ،‬وميما تغربوا‪ ،‬فتحف عمييـ وتبتسـ لخبلفاتيـ‬
‫وتقوؿ‪" ،‬ميما اختمفتـ‪ ،‬تظؿ جذوركـ في ىذه األرض‪".‬‬

‫عاود زياد حديثو‪" ،‬بعد سفرؾ إلى فرنسا لمدراسة‪ ،‬انتظمت‬


‫في كمية الحقوؽ‪ ،‬ومنيا تخرجت‪ .‬بمعونة أصدقالي تخرجت مف‬
‫الكمية‪ ،‬إذ لوالىـ لما استطعت أداء االمتحانات‪ .‬كنت مطارداً‪ .‬دارنا‬
‫مراقبة ليؿ نيار‪ .‬أبيت ليمةً في كؿ دار‪ ،‬وأخرج مف األبواب الجانبية‪،‬‬
‫أقفز مف سياج الكمية ألف أبوابيا مراقبة‪ .‬وفي اليوـ األخير مف‬
‫االمتحانات جاءت نورية إلى باب الكمية رفقة قيس وبسيارتو العتيقة‪.‬‬
‫صعدت إلى جوارىا في السيارة‪ .‬لـ تميمني نورية بؿ بادرت بالقوؿ‪،‬‬
‫(اسمعني يا زياد مف دوف اعتراض‪ .‬ستذىب مع قيس إلى دار ابف‬
‫خالي حسيف في سامراء‪ .‬اعتقالؾ اآلف لف يفيد أحداً‪ .‬اذىب وابؽ‬
‫ىناؾ حتى نعرؼ نتيجة االمتحاف‪ ،‬وبعد تخرجؾ‪ ،‬يفعؿ اهلل ما يشاء‪).‬‬
‫وذىبت إلى سامراء‪ ،‬إلى بيت خاؿ نورية‪".‬‬

‫إلي وطمبت مني‬


‫أكمؿ غياث‪" ،‬أرسمت نورية وثيقة تخرجؾ ّ‬
‫السعي لمحصوؿ عمى قبوؿ لؾ في الجامعة التي أدرس بيا‪ ،‬وفعمت‬
‫ما طمبت مني‪ ،‬وأرسمت القبوؿ إلييا‪"..‬‬

‫"كما قاـ سعد ببيع ما تبقى مف أرضنا ليرسؿ لي نفقات‬


‫الدراسة‪ ،‬حتى تخرجنا وعدنا إلى بغداد معاً‪".‬‬

‫"لكنؾ لـ تمكث في المحمة إال لفترة قصيرة بعد عودتنا‪"..‬‬

‫ضحؾ زياد‪" ،‬وال أنت يا غياث الورد‪ "..‬ضحكا معاً‪" ،‬الغربة‬


‫أفسدت ذواتنا‪ .‬فما أحسسنا آنذاؾ بعظمة ما كنا نممؾ‪"..‬‬

‫أتـ غياث‪" ،‬حتى فقدناه!"‬

‫"آآآه‪ ،‬آآآه يا غياث‪ .‬قمت حينذاؾ أف دارنا تزدحـ بمف فييا‪،‬‬


‫وال مكاف لي ولزوجتي الفرنسية بيف أىمي‪ .‬لكف الحقيقة ىي أني‬
‫شعرت أف دارنا ما عادت تناسب المستوى االجتماعي الذي أنشده‪.‬‬
‫وألني أردت أف تعيش زوجتي في بيت مستقؿ يميؽ بيا‪ .‬لـ يرض أبي‬
‫أو أمي بقراري‪ .‬أبي لـ يقؿ شيلاً‪ ،‬ألنو منذ أف احتج بالصمت عمى‬
‫قدومنا إلى بغداد لـ يعد يقوؿ شيلاً‪ .‬لكف أمي قالت‪( ،‬يا زياد‪ ،‬إف‬
‫لمحجارة روح نتواصؿ معيا نحف البشر‪ .‬نريد أف نبقى حيث نحف‪،‬‬
‫فالمحمة ىذه ىي البديؿ لنا عف العمارة‪ .‬دعنا نعيش فييا‪ ).‬ضحكت‬
‫مف خرافات أمي‪ ،‬كما تصورتيا‪ .‬ولـ أىتـ بيزة رأس أبي‪ .‬بدأت أفتش‬
‫عف دار جديدة‪".‬‬

‫أطمؽ زياد ضحكة ساخرة‪ ،‬ثـ صمت برىة‪ ،‬وعاود الحديث‪،‬‬


‫"مرض أبي‪ .‬لـ يعرؼ األطباء سبباً لمرضو‪ .‬قاؿ البعض أنيا‬
‫الشيخوخة‪ ،‬وقاؿ آخر أنو السرطاف‪ ...‬أو‪ ..‬أو‪ ..‬عالجوه‪ ،‬وىو‬
‫يضمحؿ يوماً بعد آخر‪ .‬حقنوه بكؿ السوالؿ التي بحوزتيـ‪ ،‬وىو‬
‫يضمحؿ‪ .‬لـ يعترض عمى أي شيء‪ .‬لـ يقؿ كممة واحدة‪ ،‬حتى مات‪.‬‬
‫مات بالصمت واليدوء ذاتو‪ .‬حزنا‪ .‬بكيناه‪ .‬ولـ نفيـ آنذاؾ لماذا مات‬
‫أبي‪ .‬وجينا الموـ لؤلطباء ولمتخمؼ‪ .‬ولـ نفيـ أنو بدأ يموت حيف‬
‫امتنع عف الزراعة‪ .‬بدأ يموت حيف ىجرنا العمارة‪ .‬ولـ أفيـ‪ ،‬لجيمي‪،‬‬
‫أف النخمة البالغة ال تعيش إذا اقتمعت‪ .‬ال تعيش في غير تربتيا‪.‬‬
‫ونحف أوالد الحاج عبد الرحمف‪ ،‬اقتمعناه‪ ،‬مرات ومرات‪ ،‬حتى قتمناه‬
‫اقتبلعاً‪"..‬‬

‫بعد أف ظؿ غياث يدور في شوارع بغداد‪ ،‬وصؿ إلى‬


‫الوزيرية‪ ،‬حيث دار زياد‪ .‬ىبط زياد مف السيارة واشار لصاحبو‬
‫بالتحية مف دوف أف يقوؿ كممة أخرى‪ ،‬وسار بخطوات وليدة إلى باب‬
‫داره‪ .‬وذىب غياث في طريقو‪.‬‬
‫(‪)6‬‬

‫ودع الحاج أبو نوري ضيفيو إلى باب الدار وعاد إلى‬
‫(المرصد)‪ ،‬حيث اعتادت نورية الجموس‪ ،‬ومعيا اليوـ الحاجة نجمة‪.‬‬
‫تمدد عمى األريكة‪ ،‬وأسند مرفقو عمى الوسادة العالية‪ ،‬ويده األخرى‬
‫تداعب حبات سبحة الكيرب‪ .‬ظمت نورية جالسة عمى أريكتيا قرب‬
‫النافذة المطمة عمى الزقاؽ‪ .‬والحاجة نجمة غمبيا النوـ فأغفت في‬
‫مكانيا‪ .‬الكؿ يعرؼ أف الحاجة نجمة يمكنيا أف تناـ في أي وقت‬
‫وأي مكاف‪ ،‬فيحترـ الكؿ نومتيا‪ ،‬فتخفت أصوات الحديث وصوت‬
‫المذياع‪ .‬حتى الصغار يخؼ ضجيج لعبيـ إف كانوا في الدار‪،‬‬
‫فالحاجة نجمة نالمة!‬

‫استدارت نورية إلى أبييا‪ ،‬ورأت عبللـ القمؽ بادية عمى‬


‫محياه فسألت‪" ،‬أراؾ ساىماً يا أبي؟ ىؿ يقمقؾ ما سيحصؿ بعد‬
‫اليدـ؟"‬

‫"ىدـ المعرض والمقيى ليس إال البداية‪ .‬يتبعيا ىدـ دارنا‬


‫ىذه يا نورية‪"..‬‬

‫شيقت‪" ،‬لكف غياث قاؿ‪"..‬‬

‫قاطعيا‪" ،‬أراد غياث بعث الطمأنينة في نفوسنا يا نورية‪ .‬أنت‬


‫أعرؼ الناس بو‪ .‬أرد أف يجنبنا القمؽ في الوقت الراىف في األقؿ‪ .‬إف‬
‫ىدموا المعرض بعد شيريف‪ ،‬فمف يتأخر ىدـ الدار إال أشي اًر قميمة‪.‬‬
‫عمينا أف نفكر منذ اآلف بما سنفعمو‪ .‬ربما عمينا شراء دار‪ ..‬أو نسكف‬
‫عند طبلؿ‪"..‬‬

‫فكرت نورية ثـ ردت‪" ،‬لكف يا أبي‪ ،‬دار طبلؿ صغيرة‪،‬‬


‫وبالكاد تكفيو مع أسرتو‪ ..‬ثـ أنيا بعيدة‪"..‬‬
‫ضحؾ الحاج بالرغـ مف قمقو الواضح‪" ،‬بعيدة عف ماذا؟"‬

‫ردت عمى الفور‪" ،‬عف المحمة طبعاً!"‬

‫تنيد وشحبت االبتسامة عف وجيو‪" ،‬نورية‪ ..‬نورية‪ ..‬المحمة‬


‫لف تكوف موجودة‪ .‬ستيدـ! أـ أنؾ نسيت؟"‬

‫ىزت رأسيا بعنؼ‪" ،‬لـ أنس يا أبي‪ .‬لكني ال أقدر تصور‬


‫الحياة بعيداً عف ىنا‪ "..‬صمتت نورية لتخفي بعضاً مف اضطرابيا‪ ،‬ثـ‬
‫سألت‪" ،‬ومف أيف لنا ما يكفي مف الماؿ لشراء دار؟"‬

‫"ال تقمقي مف ىذه الناحية‪ ،‬فعندي بعض ما يسد قيمتيا‪".‬‬


‫فكر برىة ثـ اردؼ‪" ،‬ثـ اف غياث يقوؿ أف البدؿ سوؼ يغطي ما‬
‫نحتاج إلية وربما يزيد‪ ..‬ال تقمقي‪".‬‬

‫عاد إلى صمتو‪ ،‬وأصوات المارة تصميـ مف الزقاؽ وتمتزج‬


‫مف صوت حبات السبحة وىي تتساقط واحدة بعد األخرى بيف أصابع‬
‫الحاج‪ ،‬وشخير الحاجة نجمة يتناغـ مف تنفسيا‪.‬‬

‫جاءت كمماتو مموسقة مع تساقط حبات سبحتو وىو يقوؿ‬


‫متأمبلً‪" ،‬في ىذه الدار تزوج أبي‪ .‬وفييا ولدت وتزوجت ورزقت بكـ‪.‬‬
‫وفييا تزوج نوري‪ .‬في ىذه المحمة دفنا جدي‪ ،‬ثـ أبي وأمي وزوجة‬
‫نوري وطفميا‪ .‬ومف ىنا أزورىـ كؿ خميس ألق أر الفاتحة عمى‬
‫أرواحيـ‪ ".‬صمت برىة وتوالى سقوط حبات السبحة‪" ،‬ىذه المحمة ىي‬

‫لي الماضي والحاضر يا نورية‪ ،‬ويصعب عمي تصور المستقبؿ بعيداً‬


‫عنيا‪ .‬يخيؿ لي أني سأمرض وأموت قبؿ تركيا‪"..‬‬

‫شيقت نورية ولطمت عمى صدرىا‪" ،‬اسـ اهلل عميؾ يا أبي‪"..‬‬


‫ابتسـ بحزف وواصؿ‪" ،‬ىذا ما حصؿ مع الحاج عبد الرحمف‬
‫مف قبؿ‪ .‬لـ يقدر عمى مفارقتيا‪ ،‬وىو لـ يعش فييا أكثر مف عشرة‬
‫أعواـ‪ ،‬فكيؼ بي‪ ،‬أنا‪ ،‬وقد ولدت فييا؟"‬

‫"ىذا ما خطر لي أيضاً حيف رأيت زياد اليوـ‪"..‬‬

‫صمتت نورية وأدارت وجييا لتنظر إلى الزقاؽ‪ ،‬بغية إخفاء‬


‫دمعة طفرت مف مقمتييا‪" ،‬ترى‪ ،‬ىؿ سبب الزحاـ االستثنالي الذي‬
‫يشيده المعرض يعود إلى قرار اليدـ إياه؟"‬

‫رد بغضب مكتوـ‪" ،‬ذلؾ ما أظنو‪ ،‬فمذ أدرؾ أىؿ المدينة أف‬
‫سيطر عمى‬ ‫المحمة مرشحة لئللغاء‪ ،‬حتى صارت كعبة ليـ‪"..‬‬
‫غضبو‪" ،‬استغفر اهلل‪ ،‬استغفر اهلل‪ ،‬استغفر اهلل‪ "..‬صمت الحاج وظؿ‬
‫يستغفر لمكممات التي غافمتو ونطقيا‪ .‬زادت سرعة سقوط حبات‬
‫السبحة بيف أصابعو‪" ،‬يأتوف لزيارة المحمة والمعرض أفواجاً أفواجاً‪.‬‬
‫منيـ مف يتجوؿ فييا ويصور أبنيتيا‪ ،‬ومنيـ مف يسير في األزقة لكي‬
‫يطبع صورتيا في ذاكرتو‪ .‬أغمبيـ يحس أف جزءاً منو سيموت ولف‬
‫يراه مرة ثانية‪"..‬‬

‫تنيدت وردت‪" ،‬معيـ الحؽ يا أبي‪ .‬حيف تيدـ محمتنا لف‬


‫يبقى مف المدينة األصمية شيء‪ .‬كؿ منيـ يرى في حجارتيا طفولتو‬
‫وصورة أىمو‪ ،‬حتى إف ىجرىا سنة أو سنوات‪ ،‬كما فعؿ زياد‪ .‬لكف‬
‫مجرد وجودىا‪ ،‬يشعره باألماف‪ .‬أما حيف تقرر ىدميا‪ ،‬فيو ييرع إلييا‬
‫أل نيا لف تكوف قريبة بعد اآلف‪ .‬لف تكوف موجودة يمكنو أف يزورىا‬
‫متى سنحت لو الفرصة‪"..‬‬

‫"مف ىنا تجيء حسرة زياد‪ ،‬ألنو سيفقد طفولةً لـ يعشيا‪،‬‬


‫وحجارة لـ يعد إلييا‪ ،‬ولف يقدر أف يحتفظ بيا بعد اليوـ‪ .‬حسرة مف لـ‬
‫يقدر ىذه الحجارة حؽ قدرىا‪ ،‬إال بعدما أضاع فرصة العيش معيا‪"..‬‬
‫ّ‬
‫"وىؿ ىناؾ مف يستطيع أف يفي الحجارة حقيا يا أبي؟ قد‬
‫تكوف دارنا عتيقة‪ ،‬وقد تكوف محمتنا قد عفا الزمف عمييا‪ ،‬وأزقتنا‬
‫مظممة‪ ،‬لكف أمواؿ الدنيا كميا لف تعوضني عف وجودي بينيا‪".‬‬

‫"أفيـ ما تقوليف‪ ،‬وأشعر بما تحسيف بو يا نورية‪ ،‬ولكف ربما‬


‫كاف معيـ الحؽ في ىدميا‪ .‬إنيـ ييدمونيا لحماية الناس مف‬
‫المصيبة التي حمت بنا بسبب تمسكنا بالعيش ىنا‪"..‬‬

‫تنيدت وىزت رأسيا بحيرة‪" ،‬ال أدري يا أبي‪ ..‬لـ أعد أدري‪.‬‬
‫أحس أني أتمزؽ بيف حبي ليذه المحمة والدار‪ ،‬ونفوري منيما بسبب‬
‫ما قد حصؿ‪ ".‬ىزت رأسيا مرةً أخرى‪" ،‬ومع ىذا‪ ،‬وبالرغـ مف كؿ‬
‫الدمار والتشتت الذي تبله‪ ،‬أجدني أميؿ لمبقاء فييا‪ ..‬كـ تمنيت لو‬
‫مت ميتة حمدية زوجة نوري‪ "..‬صمتت نورية وطفرت دمعة لـ‬
‫تمسحيا‪ ،‬بؿ تركتيا تنحدر عمى خدىا ثـ سقطت عمى سواد ثوبيا‬
‫الذي لـ تتخؿ عنو منذ موت حمدية زوجة أخييا وطفميو‪ .‬ظبل‬
‫صامتيف والحيرة بادية عمى محياىما‪.‬‬

‫سمعا أذاف العصر‪ ،‬فأجفبل‪ .‬غمغـ الحاج‪" ،‬بسـ اهلل الرحمف‬


‫الرحيـ‪ "..‬ونيض وىو يبسمؿ‪ .‬سار اليوينا إلى غرفتو وىو يتمتـ‪،‬‬
‫"حتى صوت األذاف ما عادت لو األلفة نفسيا‪ ،‬فمنذ أف نصبوا‬
‫مكبرات الصوت في الجوامع‪ ،‬صار لصوت المؤذف رنيناً معدنياً‪ ،‬ولـ‬
‫أعد أميز الشخص الذي يدعونا إلى الصبلة‪"..‬‬

‫جاءه صوت الحاجة نجمة وقد صحت مف نوميا‪" ،‬ذلؾ ىو‬


‫ما يسمونو التطور يا حاج‪ "..‬نيضت بصعوبة لكي تتوضأ وتصمي‬
‫العصر‪ .‬استدارت إلى نورية‪" ،‬عيني نورية‪ ،‬رأسي يوجعني‪ ،‬فمتى‬
‫نشرب الشاي؟"‬
‫نيضت نورية بدورىا لتصمي‪" ،‬سيكوف جاى اًز قبؿ انتياء‬
‫صبلتؾ يا حاجة‪".‬‬

‫بعد الصبلة اجتمعوا حوؿ صينية الشاي‪ .‬قالت الحاجة نجمة‬


‫بعد أوؿ رشفة مف شاييا‪" ،‬أتدروف؟؟ لقد أضافت رؤية غياث وزياد‬
‫عم اًر جديداً إلى عمري‪"..‬‬

‫ردت نورية‪" ،‬ذلؾ ما أحسو كمما ازرنا غياث‪ .‬أما زياد‪ ،‬فيذه‬
‫أوؿ زيارة لو مذ ترؾ المحمة‪ ،‬حتى ظننت أنو نسينا ونسي أيامنا‪"..‬‬

‫قاطعيا الحاج‪" ،‬ال يا نورية‪ ،‬ال يمكف أف ينسى زياد‪ ..‬إنما‬


‫مشاغؿ الحياة ىي ما أبقاه بعيداً عنا‪".‬‬

‫ردت الحاجة نجمة بسخرية‪" ،‬ولـ ال تقوؿ يا حاج أف الغرب‬


‫ىو ما جعمو ينسى لفترة؟ لقد أعادتو المحمة إلى ماضيو‪"..‬‬

‫فكر الحاج برىة ثـ قاؿ‪" ،‬معؾ الحؽ يا حاجة فيما تقوليف‪..‬‬


‫حيف عاد زياد بعد حصولو عمى الدكتوراه‪ ،‬لـ أعرؼ فيو زياد نفسو‪.‬‬
‫جاء وقد لبس لبوس الغرب‪ :‬حديثو وتصرفاتو حينذاؾ جعمتني أحس‬
‫أنو لـ يعد يمتمؾ ح اررة زياد الذي أعرفو‪".‬‬

‫ىزت الحاجة نجمة رأسيا بأسى وىي تتذكر خشية زياد أف‬
‫يمسو شيء مف غبار الجدراف العتيقة فيموث مبلبسو‪ .‬وطريقتو في‬
‫اإلمساؾ بصحنو بطرؼ أصابعو‪ .‬وكيؼ ظؿ ينظر حولو باستغراب‬
‫كمف لـ يعرؼ ىذه المحمة مف قبؿ‪" ،‬كاف البد مف زمف لكي يعود إلى‬
‫جذوره‪"..‬‬

‫رد الحاج بنبرة تأمؿ‪" ،‬حتى غياث‪ ،‬حيف عاد إلينا آنذاؾ كاف‬
‫أشبو بالغريب‪ ".‬ىز رأسو‪" ،‬كؿ منيـ يحتاج إلى بعض الوقت لكي‬
‫ينفض عنو ما عمؽ بو مف زيؼ‪ ،‬لكي يعود إلى جذوره‪"..‬‬
‫ابتسمت الحاجة نجمة وقالت بعد برىة‪" ،‬أتدروف يا جماعة‬
‫الخير‪ ..‬غياث لـ يتغير عما كاف عميو في طفولتو‪ ..‬ما يزاؿ بالمرح‬
‫نفسو والذكاء والحناف‪"..‬‬

‫أتمت نورية قوؿ الحاجة‪" ،‬وفوؽ ىذا وذاؾ‪ ،‬غياث سديد‬


‫الرأي نرجع إليو طمباً لمنصح والمشورة كمما احتجنا إلييا‪ ،‬فبل يبخؿ‬
‫عمينا بوقتو وآرالو‪"..‬‬

‫ردت الحاجة نجمة بحماسة‪" ،‬أصيؿ!"‬

‫ساد الصمت بعض الوقت‪ .‬الحت ابتسامة عمى وجو نورية‪،‬‬


‫فمـ يفت الحاجة نجمة أف تسأؿ‪" ،‬وعبلـ االبتسامة يا نورية؟"‬

‫ردت نورية وابتسامتيا تزداد اتساعاً‪" ،‬ذكرني حديثؾ يا‬


‫حاجة‪ ،‬بغياث‪ ،‬الفتى العابث‪ .‬جاءني في أحد األياـ وكاف عمره يقرب‬
‫مف الحادية عشرة‪ ،‬وقاؿ بحزف ووقار‪( ،‬خالة نورية‪ ،‬أمي ترفض أف‬
‫تخيط لي دشداشة بيضاء‪ ).‬سألتو يومذاؾ‪( ،‬وماذا تريد بيا؟) أجاب‬
‫مف دوف تردد‪( ،‬أريدىا لمذىاب إلى الجامع ألصمي‪).‬‬

‫ضحكت نورية وىي تتذكر الحادثة‪ .‬قاؿ الحاج أبو نوري‪" ،‬لـ‬
‫أعرؼ أف غياث يصمي في الجامع‪"..‬‬

‫ضحكت نورية وردت‪" ،‬طبعاً لـ تره في الجامع‪ ،‬فقد كاف‬


‫صغي اًر آنذاؾ‪ ".‬وأكممت حكايتيا‪" ،‬سألتو‪( ،‬ومتى تريدىا؟) أجاب‪،‬‬
‫(أريدىا لصبلة الظير‪ ).‬وكاف الوقت يقارب الضحى‪ ،‬فقمت لو‪( ،‬ليس‬
‫لدي قماش يكفي ألخيطو‪ ،‬والوقت أيضاً ال يكفي ألخيط لؾ واحدة‬
‫جديدة‪ ،‬فما رأيؾ لو أعطيتؾ مف دشاديش أخي نوري؟) استبشر كأني‬
‫عرضت عميو مبلبس السمطاف‪ .‬أعطيتو دشداشة نوري فمبسيا مف‬
‫فوره وغادر مسرعا‪"..‬‬
‫"وىؿ ذىب لمصبلة فعبلً؟"‬

‫"أظف ذلؾ‪ ،‬فمقد عاد لي بعد الصبلة ليعيد دشداشة نوري‪،‬‬


‫مؤكداً عمى أىمية أف أخيط لو واحدة جديدة قبؿ صبلة ظير اليوـ‬
‫التالي‪"..‬‬

‫سأؿ الحاج‪" ،‬وىؿ فعمت؟"‬

‫ضحكت‪" ،‬طبعاً‪"..‬‬

‫لـ تتحمؿ الحاجة نجمة المزيد مف الغموض‪ ،‬فسألت بميفة‪،‬‬


‫"وما السر وراء صبلة الظير ىذه؟"‬

‫ضحكت نورية حتى دمعت عيناىا‪" ،‬لـ أعرؼ السر إال بعد‬
‫حوالى شير‪ ..‬فغياث يعترؼ لي بكؿ أس ارره‪ ،‬ولكف في الوقت الذي‬
‫يختاره ىو‪ .‬وأنا لـ أعتد أف أسألو‪ ،‬بؿ أترؾ لو اختيار الوقت الذي‬
‫يناسبو‪ "..‬رشفت نورية شاييا وأتمت حكايتيا‪" ،‬تبيف فيما بعد أف‬
‫غياث ضعيؼ في مادة التاريخ‪ ،‬وقد اعتاد مدرس التاريخ أف يصمي‬
‫الظير في جامع محمتنا لقربو مف المدرسة‪ .‬ليذا ظؿ غياث يواظب‬
‫عمى صبلة الظير في الجامع لكي يرضي مدرس التاريخ‪"..‬‬

‫"لكف لماذا؟"‬

‫"ألف غياث البطؿ‪ ،‬مع تفوقو في جميع الدروس‪ ،‬لـ يكف‬


‫قاد اًر عمى حفظ أسماء المموؾ وسنوات األحداث‪ .‬يقوؿ أنو لو حفظيا‬
‫اليوـ فسوؼ ينساىا بعد االمتحاف‪ "..‬ضحكت‪" ،‬غياث كاف وما يزاؿ‬
‫ينسى ما يريد نسيانو‪"..‬‬

‫عادت الحاجة نجمة لتسأؿ بميفة‪" ،‬وىؿ نجح بالتاريخ؟"‬


‫ضحكت نورية‪" ،‬طبعاً نجح بالتاريخ‪ ،‬كما نجح بكؿ الدروس‪،‬‬
‫ولـ يكف نجاحو بالتأكيد بسبب الدشداشة أو صبلة الظير في‬
‫الجامع‪"..‬‬

‫قاؿ الحاج‪" ،‬يا سبحاف مغير األحواؿ‪ ..‬مف يرى غياث اليوـ‬
‫ال يمكف أف يصدؽ عنو ىذه الرواية يا نورية‪"..‬‬

‫قاطعتو بمطؼ‪" ،‬ليست رواية يا أبي‪ ،‬بؿ سر ظؿ طي‬


‫الكتماف ألعواـ طويمة‪ ،‬وربما نسييا غياث نفسو‪ ،‬لكني لـ أنس‪".‬‬

‫ىز الحاج رأسو وأكمؿ شرب شايو‪ .‬نيض وبدؿ ثيابو في‬
‫غرفتو وعاد ليقوؿ وىو في طريقو إلى الخارج‪ ،‬إني ذاىب إلى‬
‫المقيى‪ ،‬ىؿ تحتاجوف شيلاً؟"‬

‫"سبلمتؾ‪"..‬‬

‫خرج الحاج أبو نوري‪ ،‬وظمت نورية والحاجة نجمة تتجاذباف‬


‫أطراؼ الحديث‪.‬‬

‫نورية إنسانة متميزة‪ .‬ىي أكبر أبناء الحاج‪ .‬كانت أشطر فتاة‬
‫في صفيا ومف ألمع طالبات المدرسة‪ .‬كانت تأمؿ أف تكمؿ‬
‫المتوسطة لتدخؿ دار المعممات‪ ،‬فتصير معممة‪ ،‬إال أنيا بعد نجاحيا‬
‫إلى الثالث المتوسط‪ ،‬توفيت أميا أثر والدة أصغر األبناء‪ ،‬طبلؿ‪ ،‬فمـ‬
‫يكف أماميا سوى ترؾ الدراسة لكي تشغؿ موقع األـ في رعاية الوليد‬
‫وبقية األخوة واألخوات وادارة شؤوف البيت‪.‬‬

‫لـ تتذكر نورية يوماً‪ ،‬ولـ تشتؾ‪ .‬بؿ صارت أماً لمجميع‪.‬‬
‫استطاعت الفتاة اليافعة أف تدير األمور بحزـ وابتسامة‪ .‬لـ ترفع‬
‫صوتيا عمى أي منيـ‪ ،‬كما لـ يعص أحد ليا أم اًر‪ .‬ثـ امتد نفوذىا‬
‫إلى أىؿ المحمة‪ ،‬فصاروا يحسبوف حسابيا‪ .‬يستشيرىا الكبار قبؿ‬
‫الصغار‪ ،‬في مختمؼ أمورىـ‪ .‬صارت نورية‪ ،‬الفتاة الشابة‪ ،‬ىي الخالة‬
‫نورية‪ ،‬حتى بالنسبة الوللؾ الذيف ال يزيد عمرىا عنيـ إال بضعة‬
‫أعواـ‪ .‬احتمت‪ ،‬بحكمتيا‪ ،‬موقعاً متمي اًز في المحمة‪ .‬وبحنانيا شغمت‬
‫موقع األـ واألخت بينيـ‪.‬‬

‫تقدـ الكثيروف لطمب يدىا‪ ،‬إال أف نورية رفضت جميع مف‬


‫تقدـ ليا‪ ،‬مف دوف أف تثير حفيظة أحد منيـ‪ .‬أقنعت الجميع أنيا لف‬
‫تتزوج إال بعد تخرج جميع أخوتيا وأخواتيا وزواجيـ‪ .‬وبعدما تخرج‬
‫األخوة واألخوات وتزوجوا‪ ،‬قالت أنيا ال يمكف أف تترؾ رعاية أبييا‬
‫إلى زوجتي نوري وطبلؿ‪ ،‬فيما شابتاف وال تعرفاف ما يحتاجو أبييا‪،‬‬
‫ويكفييما رعاية زوجييما وأطفاليما‪ .‬عاش نوري وطبلؿ في الدار‬
‫الكبيرة مع زوجتييما وأطفاليما‪ ،‬إال أف نورية ظمت سيدة الدار‬
‫وصاحبة الرأي األخير في شؤوف العالمة‪ .‬الكؿ يطمب رأييا‪ ،‬والقميؿ‪..‬‬
‫القميؿ مف يخالفيا‪.‬‬

‫حتى حؿ يوـ الفاجعة‪ .‬يوـ تيدـ الجناح الغربي مف الدار‬


‫عمى حمدية وولدييا‪ .‬كانت المصيبة أكبر مف أف يتحمميا نوري‪،‬‬
‫فياجر إلى الخميج ليعمؿ ويعيش فييا‪ .‬كما رفض طبلؿ البقاء في‬
‫الدار الكبيرة‪ ،‬فأخذ عيالو وانتقؿ إلى دار جديدة‪ .‬وبقيت نورية ووالدىا‬
‫في الدار بعد تشتت العالمة‪ ،‬تعينيا سعدية ابنة جيرانيـ‪ ،‬بعد أف‬
‫ينتيي دواميا في المدرسة‪ .‬اعتادت نورية الجموس في زاويتيا‬
‫المفضمة قرب نافذة الغرفة العموية التي يسمييا غياث (المرصد)‪ ،‬إذ‬
‫منيا تطؿ عمى الزقاؽ‪ ،‬وتتفرج عمى الحياة التي تجري فيو‪ ،‬وفييا تق أر‬
‫كتاباً‪ ،‬ألف نورية ال يفوتيا كتاب جديد أو جريدة ومجمة‪ ،‬كما ال يفوتيا‬
‫زالر جديد إلى مقيى الحاج الذي يقع قبالة نافذتيا‪ .‬كما ال يفوتيا أي‬
‫خبر تبثو محطات اإلذاعة‪.‬‬
‫بعض مف يعرفيا ويعرؼ عاداتيا‪ ،‬يسمـ عمييا بصوت مرتفع‬
‫عند المرور تحت نافذتيا‪ ،‬فترد السبلـ وقد تسأؿ البعض عف‬
‫أحواليـ‪.‬‬

‫وتبقى الشمس في دورتيا األبدية‪ ،‬والحياة في مساراتيا‪،‬‬


‫واإلنساف يدور ويدورػ عاب اًر دروب الحياة‪ ،‬متخذاً العديد مف‬
‫الق اررات‪ ..‬إال أف الحياة ىي التي تقرر مصيره في نياية المطاؼ!‬
‫(‪)7‬‬

‫رف الجرس ثبلثاً‪ ،‬تبله طرؽ مموسؽ عمى الباب الخشبية‪.‬‬

‫دلفت سنا باسمة الوجو‪ ،‬ضحكتيا تيميؿ بالرغـ مف كؿ شيء‪ .‬دوماً‬


‫تجيء مف دوف موعد مسبؽ‪ ،‬وعمى غير انتظار‪ ،‬فيي تعرؼ أف‬
‫رابية ال تخرج إال ناد اًر‪" ،‬مساء الخير‪ ،‬كيؼ أنت يا رابية؟"‬

‫"بخير‪ ،‬ماشي الحاؿ‪ ،‬وأنت كيؼ أحوالؾ؟"‬

‫"زفت والحمد هلل‪ "،‬وأطمقت ضحكة ساخرة‪ ،‬فيي تضحؾ مف‬


‫متاعبيا‪" ،‬ىيا‪ ..‬لنذىب إلى المعرض‪"..‬‬

‫"ميبلً‪ ..‬ميبلً‪ ..‬أي معرض ىذا؟"‬

‫"معرض ىاني مسعود!"‬

‫حاولت سحبيا لتنيض‪ ،‬لكف رابية رفضت النيوض‪" ،‬سنا‪،‬‬


‫أرجوؾ‪ .‬ال رغبة لي بالخروج‪ ،‬وال أود رؤية أحد‪ ،‬فالصداع‪"..‬‬

‫قاطعتيا سنا‪" ،‬اسمعي يا رابية‪ ،‬صداعؾ ىذا أعرفو‪ ،‬يجيء‬


‫متى أردت حجة تتعمميف بيا‪ .‬ومنذ ما ينوؼ عمى الشير وأنت‬
‫تفتعميف المسوغات لعدـ الخروج‪ .‬ألـ تزىقي مف البيت والكتب‬
‫والموسيقى؟ أريد معرفة السبب‪ ،‬وسأعرفو رغماً عنؾ‪ .‬ىيا‪ ..‬لنذىب‬
‫اآلف‪ ،‬ثـ نناقش األمر فيما بعد‪ ،‬فمقد وعدت ىاني أف أزور معرضو‬
‫اليوـ‪ ،‬وال أريد التأخر بسبب النقاش الذي لف ينتيي معؾ‪"..‬‬

‫"سنا‪ ،‬سنا‪ ..‬قمت لؾ ال رغبة لي بالخروج‪ ،‬وأنت تعرفيف‬


‫جيداً أني ال أحب ميرجانات االفتتاح ىذه‪ ،‬واليوـ بالذات‪ ،‬ال قدرة لي‬
‫عمى تحمؿ الزحاـ‪ "..‬صمتت برىة ثـ ىزت رأسيا بأسى‪" ،‬اذىبي‬
‫أنت‪ ،‬أرجوؾ‪"..‬‬
‫"ما ىذا اليراء يا رابيتي؟ كيؼ أذىب مف دونؾ؟ أدري أنؾ‬
‫ال تحبيف الزحاـ‪ ،‬لكف ىذه ليست المرة األولى التي ترفضيف فييا‬
‫الخروج معي‪"..‬‬

‫"بؿ أفضؿ البقاء معؾ ىنا‪ .‬اسمعي‪ ،‬ما رأيؾ بفنجاف قيوة‬
‫وبعض مف ذكريات الطفولة نستعيدىا بجمسة ىادلة‪ ،‬فأنا لـ أرؾ مف‬
‫زمف‪"..‬‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬لـ تريني منذ زمف ألنؾ معتكفة منذ زمف‪..‬‬
‫مع ىذا‪ ،‬ال بأس‪ ..‬طفولة‪ ،‬شباب! قيوة أو شاي‪ ،‬ال بأس‪ .‬سأشرب‬
‫القيوة معؾ‪ ،‬لكنؾ ستأتيف معي إلى افتتاح معرض ىاني مسعود‪".‬‬

‫نيضت رابية‪" ،‬سأحضر القيوة‪".‬‬

‫بعد برىة عادت بالقيوة مع منافض لمسجالر‪ ،‬فكؿ منيما‬


‫ليست إال مدخنة متنقمة‪ .‬جمست إلى جوار سنا عمى الحشية المفروشة‬
‫أرضاً في زاويتيا‪ ،‬وأشعمت سيجارتيا‪.‬‬

‫تأممت دخاف السيجارة‪" ،‬ىؿ تذكريف افتتاح قاعة المعرض‬


‫حيف ذىبنا‪ ،‬يدفعنا حب المغامرة لمتعرؼ عمى ىذا العالـ الذي كاف‬
‫جديداً عمينا؟"‬

‫"حينذاؾ‪ ،‬كؿ شيء كاف جديداً عمينا يا رابية‪ ".‬تنيدت ثـ‬


‫أردفت‪" ،‬وقاعة المعرض ىذه‪ ،‬سوؼ تيدـ اآلف ألنيا صارت‬
‫عتيقة‪"..‬‬

‫ىزت رابية رأسيا بأسى‪" ،‬أدري‪ ،‬فبل حديث اليوـ إال حممة‬
‫اليدـ ىذه‪ .‬كما صار الكؿ ييتـ بالفف‪ ،‬ألف قاعة المعرض ستيدـ مع‬
‫كؿ ما حوليا‪"..‬‬
‫ساد الصمت لمدة‪ ،‬ثـ قطعتو سنا بضحكة مدوية وىي تقوؿ‪،‬‬
‫"ىؿ تذكريف أننا حيف ذىبنا لممعرض أوؿ مرة‪ ،‬اقترضنا دينا اًر مف‬
‫زميمنا سعيد ألننا خشينا أف الدخوؿ إلييا يتطمب دفع ثمف التذاكر‪،‬‬
‫وكنا قد أنفقنا ما لدينا لشراء الكتب واالسطوانات‪"..‬‬

‫أكممت رابية‪" ،‬وأصابنا الذىوؿ لروعة عالـ الفف ىذا‪ ،‬ثـ‬


‫عدنا إلى البيت وبقينا نناقشو حتى الصباح‪"..‬‬

‫ضحكتا معاً‪ ،‬ثـ قالت سنا‪" ،‬وكاد أبي أف يقتمني ألني لـ‬
‫أكف قد أخبرتو أني سأبيت عندكـ‪ ،‬ولوال تدخؿ والدؾ‪ ،‬الذي أقنعو‪،‬‬
‫فعفا عني‪"..‬‬

‫ىزت رابية رأسيا‪" ،‬كنا مجانيف!"‬

‫ربتت سنا عمى كتؼ صديقتيا‪" ،‬اطملني يا رابية‪ ،‬فما زلنا‬


‫مجانيف‪ ..‬روعة‪ ..‬والنبي روعة!"‬

‫"لكنيا أياـ اندثرت‪ ،‬وال يمكننا أف نعيدىا حتى لو أردنا‪،‬‬


‫فحماستنا آنذاؾ ماتت مع تمؾ األياـ‪ ،‬قتمتيا خيبات األمؿ‪"..‬‬

‫"كبل يا رابية‪ ،‬لف تقنعي نفسؾ بيذا‪ ،‬فما زالت جذوة الحماسة‬
‫مشتعمة في أعماقؾ‪ ،‬بالرغـ مف ميزاف التعقؿ الذي تفرضينو عمى‬
‫نفسؾ‪ ،‬وعمى الرغـ مف العزلة التي تتستريف بيا‪ .‬إني متأكدة أف كممة‬
‫واحدة‪ ،‬تقدر أف تعيد ل اربية حماستيا المجنونة تمؾ!"‬

‫ردت بحزف شفيؼ‪" ،‬إنؾ مخطلة يا سنا‪ .‬منذ سنوات وأنا‬


‫أعيش وحدتي وغربتي ىذه‪ ".‬نظرت في عيني صديقتيا‪" ،‬لقد اعتدت‬
‫عمى ىذا النمط مف الحياة‪ ،‬إذ لـ تعد بي قدرة عمى مواجية خيبة أمؿ‬
‫جديدة‪"..‬‬
‫سادىما الصمت برىة‪ .‬ارتشفت سنا مف فنجاف قيوتيا‬
‫ووضعتو أرضاً‪" ،‬اسمعي يا رابية‪ ،‬ىاني مسعود فناف ىالؿ‪ ،‬كما أنو‬
‫عمي‪ ،‬وال أحب أف أخيب أممو بعدـ تمبية دعوتو‬ ‫ّ‬ ‫صديؽ عزيز‬
‫لبلفتتاح‪ "..‬ترددت برىة ثـ أردفت‪" ،‬كما أف خالد ىناؾ‪ .‬لنذىب‪ ،‬ثـ‬
‫لؾ أف تقرري فيما بعد إف كاف يستحؽ المشاىدة أـ ال‪"..‬‬

‫"قد أذىب غداً أو بعد غد‪ ،‬أما االفتتاح‪ ،‬فبل‪"..‬‬

‫قاطعتيا‪" ،‬بؿ تذىبيف معي!"‬

‫"متى تتخمصيف مف إلحاحؾ ىذا؟"‬

‫"حيف أعرؼ سبب عزوفؾ عف الذىاب إلى أي محؿ عاـ‪.‬‬


‫وحتى أعرؼ سبب عودتؾ لمعزلة بعد أف كسرنا طوقيا منذ أشير‬
‫حيف التقيتؾ مف جديد‪"..‬‬

‫"قمت لؾ ألؼ مرة أف ليس مف سبب إال إحساسي أف كؿ‬


‫شيء معاد ومكرر لممرة المميوف‪"..‬‬

‫"ىذه نغمة جديدة سمعتيا منؾ بعد زيارتؾ لممعرض الشامؿ‬


‫قبؿ حوالى شير‪ ،‬ومنذ ذلؾ الحيف وأنت ترفضيف حتى المجيء إلى‬
‫داري حيف يزورني بعض األصدقاء‪ .‬ما الذي حصؿ؟"‬

‫"ال شيء يمكف أف يحصؿ‪ ،‬صدقيني‪ ".‬تميمت قبؿ أف تكمؿ‬


‫جممتيا‪" ،‬ىي مسألة مزاج ال غير‪ ..‬واليوـ ال مزاج لي لمخروج‪".‬‬

‫"اسمعي‪ ..‬تعالي معي اليوـ‪ ،‬واف أزعجؾ الزحاـ نغادر معاً‬


‫ونذىب حيثما شلت‪ ،‬حينذاؾ يمكنؾ أف تتفمسفي كما تشاليف‪".‬‬

‫"ال يا سنا‪ ،‬أرجوؾ‪"..‬‬


‫لـ ترغب سنا أف تترؾ ليا المزيد مف الوقت لتعثر عمى ذرالع‬
‫جديدة فقالت‪" ،‬إذف سأذىب وحدي‪ "،‬ثـ أردفت بنبرة تيديد‪" ،‬لكني‬
‫سأدعو كؿ مف أعرفو ىناؾ‪ ،‬وأجيء بيـ عندؾ‪ ..‬سواء مف تعرفيف‬
‫ومف ال تعرفيف‪ ،‬فتضطريف عند ذاؾ لمقاء الناس‪"..‬‬

‫ضحكت رابية غير مصدقة‪" ،‬سنا‪ ..‬ال تكوني مجنونة‪"..‬‬

‫"أنت حرة! أما أف تخرجي لمعالـ‪ ،‬أو أجيء بالعالـ إليؾ‪ ..‬لؾ‬
‫أف تختاري‪".‬‬

‫"سنا‪ ،‬ال رغبة لي بتغيير مبلبسي‪".‬‬

‫"لنذىب إذف كما أنت‪ .‬طوؿ عمرؾ فوضوية األناقة‪ ".‬نظرت‬


‫إلى صديقتيا وأردفت‪" ،‬لف تحضري مسابقة انتخاب ممكة الجماؿ أو‬
‫األناقة‪ ،‬وحتى لو كاف األمر كذلؾ‪ ،‬فبالتأكيد لف تكوني الفالزة بالجالزة‬
‫األولى‪".‬‬

‫ضحكت رابية‪" ،‬وماذا سيقوؿ الناس؟"‬

‫"أبداً‪ .‬كؿ ما سيقاؿ ىو أننا شاىدنا مجنونة ترتدي سرواؿ‬

‫جينز وبموزة قديمة‪ ،‬وتعقد شعرىا بخيط‪ .‬وكؿ ىذا ليس جديداً‬
‫عميؾ‪ "..‬سحبتيا مف يدىا‪" ،‬ىيا‪ ..‬لنذىب‪"..‬‬

‫نيضت سنا وسحبت رابية‪ .‬ضحكت رابية‪" ،‬حسناً‪ ..‬حسناً‪.‬‬


‫يبدو أني لف أتخمص مف إلحاحؾ إال بإطاعة أوامرؾ‪ ..‬سأغير ثيابي‬
‫وأعود‪"..‬‬

‫صاحت سنا وراءىا‪" ،‬انتيينا! أال يمكنؾ قوؿ نعـ مف‬


‫البداية؟ ىؿ تظؿ كممة ال ىي كؿ ما تعرؼ رابية قولو؟ ىيا‬
‫اسرعي‪"..‬‬
‫ذىبتا بسيارة سنا التي اخترقت الشوارع بسرعتيا الجنونية‬
‫وصوت سيد مكاوي يصدح بالغناء‪( ،‬ولو انؾ يا حبيبي بعيد‪ ..‬أنا لي‬
‫مع الشوؽ مواعيد)‪ .‬اتكأت رابية عمى مسند الكرسي وأغمضت‬
‫عينييا وسرحت مع سيد مكاوي وأفكارىا‪.‬‬

‫لـ تخبر سنا عف سبب عزوفيا عف الخروج‪ .‬فرابية بالرغـ‬


‫مف كؿ صراحتيا مع سنا‪ ،‬وقد تحكي ليا عف كؿ شيء‪ ،‬إال أنيا‬
‫أخفت عنيا ما يشغؿ ذىنيا منذ ما يقارب الشير‪ .‬لـ تحؾ لسنا عف‬
‫لقاء حدث مصادفةً‪ ،‬صبيحة يوـ جمعة ما في المعرض الشامؿ‪ ،‬مع‬
‫رجؿ ال تعرؼ عنو إال اف اسمو غياث‪ .‬لـ تحدثيا باألمر ألنيا تريد‬
‫أف تنسى أنو ترؾ في نفسيا أث اًر‪ ،‬وفي أعماقيا رعشةً لـ تحسيا مف‬
‫قبؿ‪.‬‬

‫وصمتا بناية المعرض‪ .‬أوقفت سنا سيارتيا أماـ باب القاعة‬


‫مف دوف أف تبالي بما سيوقعو شرطي المرور مف غرامة‪ .‬دخمتا‬
‫القاعة وقد أمسكت سنا بمرفؽ رابية‪ ،‬كأنما تخشى أف تيرب منيا‬
‫لتعود إلى عزلتيا‪.‬‬

‫القاعة مزدحمة بما فييا‪ ،‬ومف فييا‪ :‬عطور وأزياء مف كؿ‬


‫صنؼ ولوف‪ .‬ابتسامات وأصوات وضحكات صاخبة‪ .‬شاىدت سنا‬
‫أناساً تعرفيـ‪ ،‬فاتجيت لمسبلـ عمييـ‪ .‬حاولت سحب رابية معيا‪ ،‬إال‬
‫أف ىذه أفمتت منيا ودنت مف الموحة األولى وىي تحاوؿ عزؿ نفسيا‬
‫عما حوليا‪ .‬حاولت تحاشي النظر في وجوه الناس‪ .‬فكرة واحدة ظمت‬
‫تمح عمييا‪" ،‬ترى ىؿ جلت لمشاىدة المعرض‪ ،‬أـ بحثاً عف وجو معيف‬
‫في ىذا الزحاـ؟" حاولت رابية تحاشي الرد عمى تساؤليا‪ ،‬ألنيا في‬
‫أعماقيا تعرؼ الجواب‪.‬‬
‫ألواف رالقة‪ ،‬بحار مف الموف األزرؽ يمتد ليصير أفقاً‪ .‬ىؿ‬
‫ىو شروؽ أـ غروب؟ صحراء المتناىية‪ ،‬يمتد لوف الرماؿ حتى‬
‫يمتزج مع زرقة السماء‪ .‬أىي صحراء تغرب شمس نقاليا؟ وىؿ بقيت‬
‫صحراء لـ تنتيؾ أبراج البتروؿ نقاءىا؟ ىذه صحارى نظيفة‪ ،‬نقية‪،‬‬
‫سماؤىا زرقاء‪ ..‬زرقاء‪ ،‬ىمست لنفسيا‪" ،‬يا إليي‪ ..‬أما يزاؿ في‬
‫عالمنا ىذا مف يقدر أف يسمو بنفسو‪ ،‬ويطفو فوؽ القذارات ليرسـ بيذا‬
‫النقاء والجماؿ؟ أال يرى ما حولو؟ واف رآه‪ ،‬كيؼ يقدر أف يحتفظ‬
‫بريشة ترسـ جماالً مثؿ ىذا؟"‬

‫غرقت رابية‪ ..‬غرقت في الحمرة الوردية‪ ..‬غرقت في أعماؿ‬


‫الموف‪ .‬لمف يرسـ ىذا الفناف؟ ىؿ يرسـ لرجؿ الشارع الذي تغرقو‬
‫اليموـ اليومية التافية؟ كؿ ىذا الترؼ الموني والجماؿ والرقة‪ ،‬ترى‬
‫مف يكوف ىذا؟ مف ىو ىاني مسعود؟ كيؼ شكمو؟‬

‫سمعت صوتاً وراءىا‪" ،‬رابية صقر الحمود‪ "،‬استدارت‪" ،‬مساء‬


‫الخير‪".‬‬

‫حاولت رسـ ابتسامة عمى وجييا‪ .‬صعب عمييا تذكر اسـ‬


‫الرجؿ‪ ،‬إال أنيا تذكرت وجيو مف أياـ الجامعة‪ ...‬منذ ما قبؿ التاريخ‪،‬‬
‫"أىبل‪"..‬‬

‫قاؿ وقد اتسعت ابتسامتو العريضة‪" ،‬أتذكرينني يا رابية؟"‬

‫"أتذكر الوجو‪ ،‬لكف اسمؾ يغيب عف الذاكرة المرىقة‪ ،‬فالعمر‬


‫لو حؽ‪"..‬‬

‫ضحؾ الرجؿ‪" ،‬طوؿ عمرؾ تحاوليف الظيور بأكبر مف‬


‫عمرؾ‪"،‬‬

‫"بؿ ذلؾ ما أحسستو طواؿ عمري‪"..‬‬


‫"أنا محسف‪ ..‬محسف طاىر مف قسـ المغة العربية‪ ،‬كنا في‬
‫تنظيـ سياسي واحد‪"..‬‬

‫تذكرتو‪" ،‬يا إليي‪ ..‬إنؾ لـ تتغير‪ ،‬ما زلت نفس المحسف!"‬

‫"لكنؾ تغيرت يا رابية‪ ،‬صرت أكثر جماالً‪"..‬‬

‫قاطعتو بضحكة رالقة‪" ،‬ألـ أقؿ أنؾ لـ تتغير! ما زلت تغازؿ‬


‫كؿ أنثى تمر بالمصادفة بدربؾ‪ ،‬فيؿ جاء دوري اليوـ‪ ،‬أـ أنؾ لـ تجد‬
‫مف تغازليا غيري؟ قؿ لي‪ ،‬ماذا فعمت بأيامؾ‪ ،‬أو ماذا فعمت بؾ‬
‫األياـ؟"‬

‫بدا عميو شيء مف االستغراب‪" ،‬أال تقرأيف لي؟ أنا أكتب في‬
‫العديد مف الصحؼ والمجبلت‪"..‬‬

‫"نعـ قرأت لؾ‪ ،‬وما زلت يا محسف كما عيدتؾ‪ ،‬تدور حوؿ‬
‫الفكرة وتخشى البوح حتى باألفكار البسيطة‪ .‬كؿ شيء عندؾ كبير‬
‫وسري‪"..‬‬
‫وعظيـ ّ‬

‫ضحكت وشاركيا محسف ضحكتيا‪ ،‬فضحكة رابية معدية‬


‫لمف حوليا‪" ،‬اسمعي يا رابية‪ ،‬لقد أنجزت كتاباً في النقد األدبي حوؿ‬
‫المتنبي برؤية عصرية‪ ،‬وأريد رأيؾ بمسألة‪"..‬‬

‫قاطعتو‪" ،‬أرجوؾ يا محسف‪ ،‬أبعدني عف مسالمؾ‪ ،‬فأنت تحب‬


‫تعقيد األمور‪ ،‬وأنا ما عدت نفس الرابية التي كنت تعرفيا‪"..‬‬

‫"ال واهلل‪ ،‬إني جاد ىذه المرة‪ .‬أريد رأيؾ ألني متأكد أنؾ ال‬
‫تجامميف‪ ،‬بؿ تقوليف ما يجوؿ في ذىنؾ مف دوف مداورة‪ .‬وأنا شبعت‬
‫مف مجاممة اآلخريف وقبوليـ بكؿ ما أفعؿ أو أكتب‪"..‬‬

‫ابتسمت بسخرية‪" ،‬ألـ يعد اإلطراء يعجبؾ؟"‬


‫رد بجدية‪" ،‬أرجوؾ يا رابية‪ ،‬لقد اخترت لوحة مف لوحات‬
‫ىاني مسعود لكي أجعميا غبلفاً لكتابي‪ ،‬ىذه ىي‪ ،‬فما رأيؾ؟"‬

‫ىزت رأسيا باستغراب‪" ،‬رأيي بماذا؟ بالموحة أـ بغبلؼ‬


‫كتابؾ؟"‬

‫"االثنيف معاً‪"..‬‬

‫ضحكت رابية وىزت رأسيا‪" ،‬ما ترىـ‪"..‬‬

‫استغرب ولـ يفيـ‪" ،‬كيؼ؟"‬

‫"كتابؾ في النقد األدبي لشعر المتنبي برؤية معاصرة‪ ..‬وىذه‬


‫الموحة رالعة‪ ،‬لكف ال عبلقة ليا بالنقد األدبي وال بشعر المتنبي‪"،‬‬
‫نظرت في عينيو‪" ،‬إال إذا كنت تبغي التباىي بصداقتؾ لياني‬
‫مسعود‪ ،‬الفناف الكبير‪"..‬‬

‫ضحؾ محسف طاىر ليخفي حرجو‪ ،‬فما زالت رابية‪ ،‬كما‬


‫عيدىا‪ ،‬تخترؽ بعينييا النفاذتيف أعماؽ النفس وتصؿ إلى أسرارىا‪ ،‬ثـ‬
‫ال تتورع عف قوؿ ما تفكر بو بصوت مرتفع‪" ،‬ربما كنت محقة فيما‬
‫تقوليف‪ "..‬نظر إلى الموحة‪" ،‬لكني طمبت مف ىاني أف يغير لي في‬
‫أعمى الموحة‪ ،‬لكي أضع عمييا عنواف كتابي واسـ دار النشر‪"..‬‬

‫ضحكت‪" ،‬وما الداعي إذف ألخذ الرأي مني أو مف غيري؟"‬


‫صمتت برىة وأدارت نظرىا إلى الموحة‪ ،‬وقالت بنبرة تأمؿ‪" ،‬ىذه‬
‫الفناف الذي يغير لوحتو إرضاءاً لؾ‪ ،‬ليس نفسو اإلنساف الشفاؼ الذي‬
‫يرسـ بيذا النقاء‪ .‬ال بأس أف يصمـ غبلفاً لكتابؾ‪ ،‬لكف أف يشوه‬
‫إحدى لوحاتو إرضاءاً لؾ‪ ،‬فتمؾ مسألة أخرى!" ثـ استدارت إلى‬
‫محسف‪ ،‬وقالت بحزـ‪" ،‬عمى أية حاؿ‪ ،‬تمؾ مسألة بينكما ال دخؿ لي‬
‫فييا‪ .‬اسمع يا محسف‪ ،‬أرغب بمشاىدة بقية المعرض‪ ،‬ولو أنيا فرصة‬
‫طيبة أف التقي بؾ بعد كؿ ىذه السنوات‪ ،‬إلى المقاء‪"..‬‬

‫ابتعدت وسمعت صوتو يقوؿ‪" ،‬إلى المقاء‪".‬‬

‫لقد شوه أماميا صورة جميمة إلنساف شفاؼ ودت لو تمتقيو‪،‬‬


‫لكنو أفسد المقاء قبؿ أف يتـ‪ .‬عادت لمشاىدة الموحة نفسيا مف دوف‬
‫أف تحس بالنشوة السابقة‪ .‬بحثت بعينييا عف سنا فرأتيا تضحؾ مع‬
‫مجموعة مف الناس ال تعرؼ أحد منيـ‪ .‬حاولت العودة إلى عالـ‬
‫الموف‪ .‬استوقفيا وجو ال تعرفو‪ ،‬يتقدـ منيا وىو يركز بصره عمييا‪.‬‬
‫شاب؟ كبل‪ ،‬ليس بشاب‪ ،‬إال أف في عينيو مرح شاب‪ .‬تقدـ منيا‬
‫بخطوات ثابتة‪ ،‬األمر الذي جعميا تتساءؿ مع نفسيا‪ ،‬أتعرفو؟ لـ تكف‬
‫متأكدة‪.‬‬

‫"مساء الخير‪ ،‬أنا ىاني مسعود‪ .‬سمعت بعض حوارؾ مع‬


‫صديقي محسف‪ "..‬ومد يده لمصافحتيا‪.‬‬

‫صافحتو‪" ،‬رابية الحمود‪"..‬‬

‫"تشرفنا‪ .‬يبدو أنؾ فقدت إعجابؾ األوؿ بالموحات‪ ،‬فيؿ‬


‫تسمحيف لي بسؤاؿ؟"‬

‫فكرت رابية‪ ،‬إذف ىذا ىو الرساـ الشفاؼ! ثـ قالت بصوت‬


‫مسموع‪" ،‬آسفة لما خمفو الحوار مع محسف مف انطباع لديؾ‪ ،‬وعمى‬
‫كؿ حاؿ‪ ،‬رأيي ليس ميماً‪ ،‬فأنا إنسانة ال تفيـ في الفف شيلاً‪ ،‬مع كؿ‬
‫احترامي ومحبتي لمفف‪ ،‬ليذا أرجو أف ال يكوف سؤالؾ صعباً يا أستاذ‬
‫ىاني‪"..‬‬

‫ابتسـ‪" ،‬ىؿ يعود فتور حماستؾ لموحات نفسيا أـ يعود‬


‫بعضاً منو لما قالو محسف طاىر؟"‬
‫ضحكت وىزت رأسيا بالنفي‪" ،‬ال ىذا وال ذاؾ‪ .‬إنما الحيرة‬
‫تزعجني‪ ،‬وما قالو محسف حيرني‪ ".‬نظرت في عينيو‪" ،‬حيف شاىدت‬
‫الموحات لممرة األولى‪ ،‬أخذني جماليا ورقتيا إلى عالـ بعيد عف‬
‫األرض وقذاراتيا‪ .‬جعمتني أعيش مف خبلليا في ٍ‬
‫نقاء لـ أصادفو منذ‬
‫سنوات شبابي األوؿ‪ .‬وحيف قاؿ صديقنا ما قالو‪ ،‬خشيت أف يكوف‬
‫النقاء مزيفاً‪ ".‬ابتسمت‪" ،‬أحاوؿ اآلف إعادة التواصؿ مع شفافية الموف‪،‬‬
‫والتماىي مع النقاء وتنفسو مف جديد‪ ،‬لكف خوفي مف الزيؼ الكامف‬
‫يفسد عمي ىذه المتعة‪ .‬ىذا كؿ ما في األمر‪"..‬‬

‫"ىؿ السيدة ناقدة؟"‬

‫ضحكت بصوت مرتفع‪" ،‬يا إليي! أقوؿ لؾ أني إنسانة ال‬


‫تفيـ في الفف شيلاً‪ ،‬فتسأؿ إف كنت ناقدة؟ كبل‪ "..‬صمتت برىة ثـ‬
‫قالت‪" ،‬ال أدري ما أنا‪ ،‬كؿ الذي أدريو أني أحببت لوحاتؾ‪ ،‬وأتمنى لو‬
‫بقي معي ىذا اإلحساس‪"..‬‬

‫"ىؿ تسمحيف بكتابة ما قمتو في دفتر االنطباعات؟"‬

‫ابتسمت‪" ،‬آسفة يا أستاذ‪ ..‬أنا ال أعرؼ الكتابة‪ ".‬صافحتو‪،‬‬


‫"أتمنى أف تظؿ محتفظاً بجماؿ لوحاتؾ وأف ال تموث ىذا الجماؿ ببلر‬
‫بتروؿ تزرعو في وسط صحاريؾ‪"..‬‬

‫ابتعدت عنو والبسمة ما تزاؿ تورؽ عمى محياىا‪ .‬حاولت‬


‫العودة لشعورىا بشفافية األلواف‪ ،‬لكف ضجيج القاعة وزحاميا جعبل‬
‫مف الصعب العودة لمتماىي مع الموحات‪ .‬أو ربما كاف التحفز‬
‫واالنتظار يقمقانيا‪ ،‬فمعؿ وجياً معيناً يطؿ مف بيف الزحاـ‪ .‬سارت‬
‫بضع خطوات وعيناىا ال تفارقاف الموحات المعروضة‪.‬‬

‫اعتراىا إحساس غامض‪ ،‬كما لو كانت تسير في حقؿ‬


‫ممغنط‪ .‬إحساس مف يكوف قيد المراقبة مف أعيف ال يراىا‪ .‬حاولت أف‬
‫ال تدير رأسيا‪ .‬قررت‪ ..‬أف‪ ..‬ال‪ ..‬تدير‪ ..‬رأسيا! تمرد رأسيا واستدار‬
‫بالرغـ منيا‪.‬‬

‫واجيتيا عينا غياث عف بعد! يقؼ بعيداً بيف مجموعة مف‬


‫الناس‪ .‬ىامتو تعمو عمييـ‪ ،‬وعمى مف في القاعة‪ .‬يقؼ كالرمح‪،‬‬
‫ونظرتو مركزة عمييا‪ ،‬تخترؽ الحشد وتصؿ إلييا‪ .‬السيجارة األزلية‬
‫بيف شفتيو‪ ،‬يتساقط رمادىا مف دوف أف ينفضو‪.‬‬

‫الوجو الذي تحاشت البحث عنو‪ ،‬وتمنت لو رأتو‪ ،‬ىا ىو‬


‫ينظر إلييا‪ .‬ترى ىؿ جاء إلى المعرض ليشاىده‪ ،‬أـ ليبحث بدوره عف‬
‫وجو معيف؟ ابتسمت رابية بسخرية مف سخافة أفكارىا‪ .‬تقدمت نحوه‬
‫بخطوات حاولت جعميا تبدو ثابتة‪ .‬يقؼ مع مجموعة تعرؼ بعضيـ‪،‬‬
‫مف بينيـ سنا وخالد‪ ،‬والرجؿ الذي التقتو مع غياث في المرة األولى‪،‬‬
‫زياد‪.‬‬

‫تقدـ غياث بضع خطوات لكي يبلقييا‪ ،‬ربما لكي يجنبيا‬


‫حرج المجيء إليو وىو بيف مجموعة قد ال تعرفيـ‪ .‬ربما نسي كيؼ‬
‫بدأتو الحديث في لقاليما األوؿ‪ ..‬ربما‪ ..‬واتسعت البسمة عمى وجيو‪،‬‬
‫"مرحباً‪ ".‬ومد يده لمصافحتيا‪.‬‬

‫تصافحا‪" ،‬أىبلً غياث‪ ،‬كيؼ أنت؟ أرى أنؾ لـ تنس‪"..‬‬

‫"وكيؼ أنسى مف لـ تؼ بوعدىا استلناؼ الحوار الذي بداناه‬


‫منذ أربعة وثبلثيف يوماً؟"‬

‫انطمقت ضحكة مف رابية بالرغـ منيا‪ ،‬لدقتو في حساب‬


‫الوقت‪" ،‬كبل‪ ،‬ليس األمر كما تقوؿ‪ ،‬إنما تيار الحياة يجرفنا ك ٌؿ في‬
‫طريؽ‪"..‬‬
‫تنبيت سنا القتراب رابية‪ ،‬فمحقت بغياث ووضعت يدىا عمى‬

‫كتؼ رابية‪" ،‬يبدو أنؾ يا غياث تعرؼ كؿ أىؿ بغداد‪ ،‬فتحرمني دوماً‬
‫مف متعة تعريفؾ بأصدقالي‪ "،‬وسحبت رابية‪" ،‬الدكتور زياد عبد‬
‫الرحمف‪ ،‬أحمد صالح‪ ،‬لبنى عبد القادر‪ ،‬سعاد‪ ..‬وطبعاً غياث‪"..‬‬
‫صافحتيـ رابية‪" ،‬أقدـ لكـ صديقة عمري ورفيقة أيامي الماضية‬
‫والحاضرة‪ ،‬رابية صقر الحمود‪".‬‬

‫تبادؿ الجميع االبتسامات والتحيات‪ ،‬ثـ استدارت رابية إلى‬


‫سنا‪" ،‬ألـ يحف وقت مغادرتنا يا سنا؟"‬

‫كأنما أحس غياث بمحاولتيا التيرب مف حوار جديد معو‪،‬‬


‫فقاؿ لكي يسبؽ أي رد مف سنا‪" ،‬أتغادريف قبؿ أف تقولي رأيؾ‬
‫بمعرض ىاني مسعود؟"‬

‫ابتسمت‪" ،‬قمت لو رأيء قبؿ قميؿ‪ ،‬وال أريد الدخوؿ في‬


‫تفاصيؿ أكثر‪ "..‬والتفتت إلى سنا‪" ،‬ثـ أف الوقت قد تأخر بنا‪".‬‬

‫لـ تسعفيا سنا‪ ،‬بؿ ضحكت ولـ ترد‪ .‬قاؿ غياث ليقطع عمييا‬
‫طريؽ اليروب‪" ،‬ىا ىو ىاني يتقدـ منا‪ "،‬صافح ىاني‪" ،‬أىبلً ىاني‪"،‬‬
‫وضع يده عمى كتؼ ىاني وأردؼ‪" ،‬رابية ترفض اإلفصاح عف رأييا‬
‫بمعرضؾ‪ ،‬وتقوؿ أنيا أخبرتؾ برأييا‪ ،‬وال تود الدخوؿ في التفاصيؿ‪"..‬‬

‫ليجة غياث تعبؽ باالستفزاز‪ ،‬ويصعب عمى رابية الحمود أف‬


‫ال ترد عمى أي استفزاز‪ ،‬لكنيا اليوـ تحاوؿ أف تكوف مسالمة‪ ،‬فقالت‬
‫بيدوء‪" ،‬ومف أكوف حتى أقوؿ رأياً بفناف كبير؟"‬

‫لـ يخفؼ غياث مف استف اززه‪" ،‬في قولؾ ىذا مجاممة ال تشبو‬
‫حوارنا السابؽ حوؿ رموز نرجس ولوحاتيا‪ "..‬عيناه مركزتاف عمى‬
‫عيني رابية‪ ،‬وىي تحس بوقعيما‪" ،‬ىؿ يعود سبب المجاممة ىذه إلى‬
‫وجود ىاني بيننا؟"‬
‫حاولت أف تظؿ بعيدة عف تأثيره الغريب عمييا‪ ،‬فقالت وىي‬
‫تبذؿ جيدىا ليظؿ صوتيا ثابتاً‪ ،‬يحمي بيدولو اضطراب أعماقيا‪،‬‬
‫"سبؽ أف قمت لبلستاذ ىاني أف ألوانو رالعة‪ "..‬ونظرت في عيني‬
‫غياث‪" ،‬أما رموز نرجس فتمؾ مسألو أخرى‪ "..‬زادت مف شحنة‬
‫التحدي في نبرتيا‪" ،‬نرجس ليست ألواناً‪ ،‬بؿ قضية‪ ،‬وليس ثمة تشابو‬
‫بيف الحالتيف‪"..‬‬

‫نسيت وجود ىاني معيـ‪ ،‬لكنو شعر باالستنفار مف قوليا‪،‬‬


‫فقاؿ بشيء مف الغضب‪ ،‬وبعض خيبة األمؿ‪" ،‬ىؿ تقصد األستاذة‬
‫أف لوحاتي ببل قضية؟"‬

‫ردت رابية عمى الفور‪" ،‬أوالً‪ ،‬لست أستاذة‪ ،‬فقد قمت لؾ أني‬
‫إنسانة بسيطة ال أفيـ الفف‪ ،‬بؿ أحسو‪ .‬ثانياً‪ ،‬موضوع النقاش الذي‬
‫ذكره غياث لـ يكف حوؿ لوحات نرجس‪ ،‬بؿ قضية المرأة المستمبة‬
‫التي عبرت عنيا لوحات نرجس‪ ،‬ربما مف دوف أف تتقصد ذلؾ‪ ،‬لكنيا‬
‫عبرت عنيا‪"..‬‬

‫أحست رابية أف غياث قد جرىا إلى حوار قد يطوؿ‪ ،‬وىي‬


‫ترفض أف يجرىا‪ ،‬أي كاف‪ ،‬إلى حوار ال تعرؼ مدياتو‪ .‬فضبلً عف‬
‫أنيا لـ تشأ التصريح برأييا بشأف معرض ىاني مسعود‪ ،‬فبعض‬
‫صراحتيا جارح‪ ،‬خصوصاً لمف ال يعرفيا‪ .‬أخذت نفساً عميقاً ووجيت‬
‫كبلميا لمفناف‪" ،‬لوحاتؾ يا أستاذ ىاني‪ ،‬فييا ألواف خرافية الجماؿ‪،‬‬
‫تبعث عمى التأمؿ والغرؽ في بحورىا‪ ..‬ألواف مترفة‪ ،‬ىادلة ومريحة‪"..‬‬

‫تعمدت عدـ النظر إلى غياث‪ ،‬وتجاىؿ نظراتو المركزة‬


‫عمييا‪ ،‬إال أف صوتو جاءىا متسالبلً بيدوء ماكر‪" ،‬أوليس الفف ترفاً؟"‬

‫استدارت نحوه ألف ىدوء نبرتو استفزىا أكثر مف سؤالو‪،‬‬


‫فردت‪" ،‬إف كاف الفف ترفاً‪ ،‬فموحات ىاني تصمح إذف لتزييف صاالت‬
‫الترؼ لمف يقدر عمى دفع ثمنيا‪ ،‬وبالتالي فيي ال تطرح قضية‬
‫لمنقاش‪ ".‬ما أف التقت عيناىما حتى ىربت بعينييا نحو ىاني بنظرة‬
‫اعتذار‪" ،‬أقوؿ ىذا ألني ال أفيـ تقنيات العمؿ الفني‪ ،‬فالفف عندي‬
‫إحساس‪ ".‬ابتسمت باعتذار‪" ،‬أدري أني بقولي ىذا لست إال إنساف‬
‫جاىؿ‪ ،‬فأنا عمى أية حاؿ لست بناقدة‪ ،‬كما قمت لؾ مف قبؿ‪".‬‬

‫تقدـ زياد خطوةً وقد أثار غيضو إصرار ىذه اإلنسانة عمى‬
‫اعتبار نرجس قضية‪" ،‬أية قضية ىذه التي تحمميا نرجس؟ ىذه‬
‫الفنانة‪ ،‬يا سيدتي‪ ،‬ال تزيد عف كونيا امرأة يقتميا الفراغ‪ .‬قد تكوف‬
‫نرجس فنانة عظيمة‪ ،‬لكف الحديث عف (القضية) في فنيا ورموزىا‪،‬‬
‫فيو مبالغة كبيرة‪ ،‬إذ كيؼ يمكف أف تفترضي أف ليا قضية؟ ماذا‬
‫تقوليف إذف بشأف لوحات عمي النذير؟"‬

‫نظرت رابية إليو مستغربة مف تحولو المفاجئ مف الصمت‬


‫واليدوء المذيف حافظ عمييما‪ ،‬ثـ ثورتو التي أخذتيا عمى حيف غرة‪ .‬لـ‬
‫تتمالؾ نفسيا مف الرد عميو‪" ،‬وماذا تسمي يأس المرأة‪/‬األنثى مف‬
‫التواصؿ مع الحياة؟ أليست ىذه قضية؟ أال يشبو يأس اإلنساف مف‬
‫أف يحقؽ حريتو مع كؿ توقو ليا؟ وىو ما نراه مجسداً في لوحات‬
‫النذير؟ أنا ال ييمني الفراغ الذي قد تعيشو نرجس في حياتيا‬
‫الخاصة‪ ،‬بؿ ربما كاف ىذا الفراغ ىو ما يزيد مف إحساسيا‬
‫بالبلتواصؿ والبلجدوى‪ .‬أعتقد أف لوحاتيا قوية‪ ،‬ال ألف تقنيتيا ممتازة‪،‬‬
‫بؿ لوحاتيا قوية ألنيا قاسية الصراحة‪ ،‬تحسيا تعاني مف قسوة ال قبؿ‬
‫ليا بمواجيتيا‪ ،‬فتنعكس في لوحاتيا‪ ،‬ومف ثـ في عقؿ المتمقي‪ ،‬مثمما‬
‫يحس ىذا المتمقي بيموـ الحياة التي يطرحيا النذير‪"..‬‬

‫أحست رابية أنيا فقدت السيطرة عمى حماستيا‪ ،‬وأف لسانيا‬


‫الذرب قد جرىا إلى الحوار الذي أراده غياث ىذا! سبؽ أف قررت‬
‫تحاشي أي حوار معو‪ ،‬فمقد أدى بيا الحوار األوؿ مع غياث إلى‬
‫حالة مف التشتت‪ ،‬حاولت خبلؿ الشير الماضي قتمو أو التغمب‬
‫عميو‪ ..‬أو نسيانو‪.‬‬

‫صمتت رابية‪ .‬مدت يدىا إلى الحقيبة وأخرجت عمبة سجالر‪.‬‬


‫وضعت سيجارة بيف شفتييا وىي تتحاشى النظر فيمف حوليا‪ .‬بحثت‬
‫عف عمبة الكبريت بيف األشياء الكثيرة التي تضعيا في الحقيبة‪ .‬مد‬
‫غياث يده‪ .‬دنت النار مف عينييا فرفعتيما‪ .‬احترؽ طرؼ السيجارة‬
‫وتنشقت عبؽ الدخاف بعمؽ‪ ،‬وقالت‪" ،‬شك اًر‪"..‬‬

‫قاؿ غياث بصوت خافت أقرب إلى اليمس‪" ،‬رابية‪ ،‬ىؿ‬


‫نسيت أننا كنا نناقش أعماؿ ىاني مسعود‪ ،‬وليس نرجس أو النذير؟"‬
‫رفع صوتو قميبلً‪ ،‬وقاؿ بنبرة مف يريد إعادة الحوار إلى مساره األوؿ‪،‬‬
‫"لو كاف في نيتؾ مناقشة أية قضية‪ ،‬ال بأس‪ ،‬إنما المسألة ىي‬
‫معرض ىاني مسعود‪ "،‬والتفت إلى البقية‪" ،‬أـ أنكـ نسيتـ أيف نحف؟"‬

‫قاطعتو سنا بالقوؿ‪" ،‬وأرى الجميع يغادر القاعة عدانا‪ ..‬ما‬


‫رأيكـ لو أكممنا النقاش عندي في البيت؟"‬

‫رد زياد‪" ،‬ال نريد أف نثقؿ عميؾ بالزيارة‪ ،‬مف األفضؿ أف‬
‫نذىب عندي‪"..‬‬

‫"بؿ عندي‪ "..‬قاليا غياث وىاني مسعود في وقت واحد‪.‬‬

‫أطمقت سنا ضحكة مدوية وقالت‪" ،‬ىؿ يريد كؿ منكـ أف‬


‫يثبت كرـ ضيافتو؟" استدارت إلى ىاني مسعود‪" ،‬أال يكفيؾ يا ىاني‬
‫تعب التحضير لممعرض؟" ثـ نظرت إلى زياد‪" ،‬وأنت يا زياد‪ ..‬دع‬
‫األوالد يدرسوف في البيت مف دوف أف نزعجيـ بوجودنا وضجيجنا‪..‬‬
‫ىيا إلى داري‪"..‬‬
‫لـ تنتظر منيـ رأياً‪ ،‬بؿ تقدمتيـ لتقطع الطريؽ أماـ أية‬
‫مجادلة لرأييا‪ .‬سار خالد معيا‪ .‬ترددت رابية بعض الشيء ألنيا لـ‬
‫تشأ مزاحمة خالد‪ ،‬أو تزعجو بوجودىا بينيما‪ .‬قرب باب المعرض‬

‫تميؿ غياث في سيره حتى صارت رابية بموازاتو‪ ،‬قاؿ‪" ،‬لست متأكداً‬
‫مف معرفتي الطريؽ إلى بيت سنا‪ ،‬فيؿ لؾ أف تدليني عميو؟"‬

‫ترددت لحظةً‪ ،‬لكف يبدو أف سنا قد نسيت أنيا جاءت‬


‫بصحبتيا‪ ،‬إذ تحركت بسيارتيا‪ .‬استدارت رابية نحو غياث‪" ،‬ال مانع‪".‬‬
‫ورافقتو إلى سيارتو‪.‬‬

‫سيارتو تقؼ في شارع فرعي وراء مبنى المعرض‪ .‬سار‬


‫يتقدميا بخطوة‪ .‬لـ يقؿ شيلاً‪ ،‬بؿ حرص عمى النظر إلى مواقع أقدامو‬
‫في الزقاؽ الضيؽ المظمـ‪ ،‬المميء بالحفر‪ .‬سيارة غياث تقؼ تحت‬
‫شجرة سدر عمبلقة‪ ،‬أماـ مقيى قديـ‪ .‬استدار غياث وسمـ عمى شيخ‬
‫يجمس فييا‪" ،‬مساء الخير عمي أبو نوري‪"..‬‬

‫"مساء الخير والسرور‪ ،‬تفضؿ اشرب الشاي يا غياث‪"..‬‬

‫"شك اًر‪ ،‬أني عمى عجؿ‪ ،‬سأمر عميكـ قريباً إف شاء اهلل‪"..‬‬
‫وصعد غياث إلى سيارتو‪ .‬وقفت رابية تنتظر أف يفتح ليا الباب‬
‫األخرى‪ .‬سمعت الشيخ يقوؿ‪" ،‬غياث ال يقفؿ أبواب السيارة‪ ،‬فيي‬
‫بأماف ىنا‪".‬‬

‫استدارت مبتسمة‪ .‬فتح غياث الباب مف جانبيا‪ ،‬فصعدت‪.‬‬


‫قبؿ أف تتحرؾ السيارة قاؿ غياث مف نافذتو‪" ،‬وكيؼ صحة نورية‬
‫اليوـ يا عـ؟"‬

‫"بخير‪ ،‬لكف آالـ المفاصؿ تنكد عمييا باستمرار‪"..‬‬


‫ضحؾ غياث‪" ،‬إذف‪ ،‬قؿ ليا أف الجموس عند النافذة طواؿ‬
‫الوقت لف يريح مفاصميا‪"..‬‬

‫شارؾ الشيخ غياث في ضحكتو‪ ،‬ولـ تفيـ رابية المقصود‬


‫مما قيؿ‪ ،‬لكنيا ابتسمت‪ .‬ذىب خالد صحبة سنا التي نسيت أف رابية‬
‫رافقتيا في سيارتيا‪ ،‬ورافؽ زياد ىاني مسعود في سيارتو ألف غياث‬
‫نسي أنو صحب زياد في سيارتو‪ .‬ورابية رافقت غياث‪ ،‬ألنيا‪...‬‬
‫تعرؼ‪ ...‬الطريؽ‪ ...‬إلى بيت سنا!‬

‫لـ يقؿ غياث شيلاً‪ .‬ولـ تقؿ رابية شيلاً‪ ،‬إال أف كبلً منيما‬
‫أحس بوجود تيار غريب يمؤل السيارة‪ ،‬كما يسري في عروقيما‪ .‬مثؿ‬
‫رجؿ وام أرة يختمياف في غرفة منعزلة‪.‬‬

‫مد غياث يده إلى جياز التسجيؿ وضغط الزر‪ ،‬لعؿ‬


‫الموسيقى تخفؼ مف ضغط التيار بينيما‪ .‬جاءىا عزؼ رافي شنكار‬
‫عمى السيتار‪ .‬بدأت السماء تمطر وتمطر‪ .‬أغرقت الدنيا مط اًر‪.‬‬
‫الشوارع تمتمع تحت أضواء الطريؽ‪ .‬النخيؿ يسمو عمى جانبي الشارع‬
‫فيبلمس األلية‪ .‬قطرات المطر تتعمؽ بسعفو‪ ،‬ثـ تسقط أرضاً بعدما‬
‫تقاوـ حتى المحظة األخيرة‪.‬‬

‫مدت رابية يدىا ورفعت صوت المسجؿ وىي تغمغـ‪" ،‬ىؿ‬


‫تسمح؟"‬

‫لـ يرد غياث‪ .‬اتكأت عمى ظير الكرسي وأغمضت عينييا‪.‬‬


‫غاصت في لجة بحر الموسيقى والمطر والدؼء‪ .‬تمنت لو تطوؿ‬
‫ىذه الدقالؽ طواؿ عمرىا‪ .‬غياث صامت وىي تتنفس عمى إيقاع‬
‫تنفسو‪.‬‬

‫توقفت السيارة‪ ،‬ففتحت عينييا‪ .‬رأت الضوء األحمر إلشارة‬


‫المرور‪ ،‬فعادت إلغماضيما‪ .‬أحست بنظرتو تحرقيا وتخترؽ جفونيا‪.‬‬
‫فتحتيما واستدارت إليو‪ .‬كاف ينظر إلييا بمؿء عينيو مف دوف أف‬
‫يقوؿ شيلاً‪ .‬ما أف التقت نظراتيما حتى أدار وجيو إلى أماـ‪ ،‬وكبس‬
‫بقدمو عمى الوقود‪ ،‬فقفزت السيارة‪ .‬صاحت رابية‪" ،‬ما الذي تفعمو؟ ما‬
‫يزاؿ الضوء أحمر!"‬

‫لـ يرد عمييا‪ .‬السيارة توشؾ أف تطير عمى اسفمت الشارع‬


‫واألشجار تتسابؽ إلى الوراء عمى جانبي الطريؽ‪.‬‬

‫ما أخطأ غياث طريقو نحو بيت سنا‪ .‬ولـ تنبس ببنت شفت‬
‫لتدلو عميو‪ .‬ظبل بصمت مشحوف حتى وصبل‪ .‬أوقؼ السيارة‪.‬‬
‫استدارت إليو‪" ،‬وصمنا‪"..‬‬

‫لـ يرد عمييا‪ ،‬كما لـ ينظر إلييا‪ .‬ىؿ ىو غاضب منيا؟ أـ‬
‫مف نفسو؟ أطفأ محرؾ السيارة‪ ،‬نزلت ونزؿ بدوره ودخبل بيت سنا‪.‬‬
‫الكؿ وصؿ قبميما‪ .‬استقبمتيما سنا وىي تقوؿ‪" ،‬أكيد تجوؿ بؾ غياث‬
‫في كؿ الشوارع قبؿ أف يأتي إلى ىنا!"‬

‫ضحكت رابية ولـ ترد بشيء‪ .‬بماذا تجيب؟ ىؿ تقوؿ‬


‫لصديقتيا أنيا تمنت لو يطوؿ الطريؽ حتى آخر العمر؟‬

‫جاء صوت غياث مف وراليما وىو يقوؿ‪" ،‬إني ال أنوي البقاء‬


‫اليوـ ألكثر مف خمس وخمسيف دقيقة!"‬

‫أدارت رابية إليو نظرة متسالمة‪ ،‬إال أف سنا أطمقت ضحكة‬


‫صاخبة وردت‪" ،‬لؾ أف تذىب متى تشاء‪ ،‬وأنا متأكدة أنؾ ستجعؿ‬
‫الكؿ يسير معؾ حتى الصباح‪ ،‬وتكوف آخر المغادريف‪"..‬‬

‫قاؿ بنبرة عتاب وىو يجاىد إلخفاء ضحكتو‪" ،‬أتريديف أف‬


‫أذىب اآلف يا سنا؟"‬
‫كررت ضحكتيا الصاخبة‪ ،‬وربتت عمى كتفو‪" ،‬وىؿ تريد‪،‬‬
‫أنت‪ ،‬أف تذىب اآلف يا غياث؟" سحبتو معيا ثـ دفعتو إلى غرفة‬
‫الجموس وىي تضع يدىا األخرى عمى كتؼ رابية‪" ،‬ىيا‪ ،‬الجماعة‬
‫بانتظارؾ في غرفة الجموس‪ ،‬وسنمحؽ بكـ بعد قميؿ‪ ".‬ابتعد غياث‬
‫فاستدارت إلى رابية وأطمقت ضحكة أخرى‪" ،‬فيمت اآلف سبب عدـ‬
‫مرافقتؾ لي في سيارتي‪"..‬‬

‫تحاشت رابية الرد المباشر عمى صديقتيا‪ " ،‬بؿ أنت مف‬
‫نسي أني جلت معؾ‪ ،‬عمى أية حاؿ الموسيقى في سيارة غياث‬
‫أفضؿ مف الجداؿ الذي كنت سأسمعو في سيارتؾ‪ ،‬وأكثر ىدوءاً‪"..‬‬
‫لحقت رابية بسنا لتعاونيا في إعداد وجبة طعاـ خفيفة‪ ،‬وحيف لـ ترد‬
‫سنا‪ ،‬أردفت‪" ،‬ثـ أني لـ آت معؾ‪ ،‬ألني أحسست أف خالد يرغب في‬
‫أف يكوف وحده معؾ‪ ،‬وال داعي لوجودي بينكما‪ ،‬فمعؿ وعسى‪"...‬‬

‫تنيدت سنا وقد اختفت الضحكة عف وجييا‪" ،‬لعؿ ماذا؟‬


‫وعسى ماذا؟" اغرورقت عيناىا بالدمع‪" ،‬تعمميف يا رابية أننا ندور في‬
‫حمقة مفرغة‪ ..‬خالد سيظؿ عمى ما ىو عميو‪ ،‬وأنا عمى حالي‪ ..‬وليس‬
‫ثمة نقطة نمتقي عندىا‪"..‬‬

‫"ومع ىذا‪ ،‬ومع كؿ لقاء جديد بينكما‪ ،‬يتجدد كؿ شيء‪.‬‬


‫بالرغـ مف محاولة كؿ منكما قمع ىذا اإلحساس بكؿ ما يممؾ مف‬
‫قوة‪ "..‬أمسكت بكتفي سنا بقوة‪" ،‬لماذا؟ سنا‪ ،‬أيتيا المجنونة‪ ،‬خالد‬
‫يحبؾ بكؿ قسوة األياـ عميو‪ ،‬وأنت تحبينو بكؿ جنونؾ الذي تغطينو‬
‫برداء التعقؿ‪ ..‬كفى يا سنا! كفى!"‬

‫أطمقت سنا ضحكة أشبو بالنواح‪" ،‬اسمعي‪ ،‬الجميع اآلف‬


‫بانتظارنا‪ ،‬ونقاشنا ىذا لف ينتيي بمحظات‪ .‬ما رأيؾ لو بقيت معي‬
‫الميمة لنتحدث باألمر بعد مغادرتيـ؟"‬
‫"لكف ىذا يعني أف أمي ستمضي الميمة وحدىا‪"..‬‬

‫شاعت ابتسامة حزينة عمى محيا سنا‪" ،‬ىذه المسكينة‬


‫اعتادت عمى وحدتيا منذ سفرؾ األوؿ‪ ،‬ولف يضيرىا أف تظؿ الميمة‬
‫وحدىا‪ .‬سأتصؿ بيا ىاتفياً للبل تقمؽ‪ ،‬فحديثنا الميمة طويؿ‪ ...‬طويؿ‬
‫يا رابية‪ "..‬صمتت برىة ثـ أضافت بابتسامة ماكرة‪" ،‬إال إذا كنت‬
‫تنويف إتماـ الجولة الميمية مع غياث‪ "..‬وضحكت‪.‬‬

‫شيقت رابية‪" ،‬أمجنونة أنت؟ ما ىذا الذي تقوليف؟"‬

‫"أقوؿ يا رابية الوردة‪ ،‬أنو إنساف رالع‪ ..‬مذىؿ‪ .‬إنساف معجزة‬


‫في زمف خبل مف المعجزات‪ ..‬أقوؿ يا رابية البطمة‪ ،‬اليوـ رأيت في‬
‫عينيؾ بريقاً ما رأيتو مف قبؿ‪ ..‬أقوؿ‪"..‬‬

‫قاطعتيا رابية بحدة‪" ،‬كفاؾ سخفاً‪ .‬أنا ال أعرؼ الرجؿ‪ ،‬ولـ‬


‫أره سوى مرةً واحدةً مف قبؿ‪"..‬‬

‫قاطعتيا‪" ،‬منذ أربعة وثبلثيف يوماً؟" وضحكت سنا‪" ،‬وىو‬


‫يقوؿ لي قبؿ قميؿ أنو لف يبقى أكثر مف خمس وخمسيف دقيقة‪"..‬‬
‫ىزت رأسيا‪" ،‬رابية‪ ،‬أنا أعرؼ غياث ىذا جيداً‪ ،‬حيف يحاوؿ أف يبدو‬
‫دقيقاً‪ ،‬فمعنى ذلؾ أنو مرتبؾ في أعماقو‪ ،‬ويحاوؿ إخفاء ما يفكر‬
‫بو‪"..‬‬

‫غضبت رابية‪" ،‬ىؿ نسيت يا سنا أني قد تجاوزت العمر‬


‫الذي‪"...‬‬

‫قاطعتيا بضحكة‪" ،‬أي عمر ىذا؟ تريديف إقناعي بخالد‪،‬‬


‫وترفضيف االعتراؼ لنفسؾ‪"..‬‬

‫ردت رابية بحزـ‪" ،‬خالد مسألة مختمفة‪ "..‬حممت بعض‬


‫الصحوف الجاىزة وواصمت القوؿ‪" ،‬اسمعي‪ ،‬سآخذ الطعاـ إلييـ‪،‬‬
‫وأكممي أنت بقية األصناؼ بدؿ ىذا المغو‪ ،‬واسرعي! فالناس لـ يأتوا‬
‫ليأكموا‪ ،‬بؿ لمحوار معؾ‪"..‬‬

‫استمرت سنا في تقطيع الخضروات‪" ،‬معي‪ ،‬أـ معؾ يا‬


‫رابيتي الوردة؟" وضحكت‪.‬‬

‫لـ تشأ رابية إطالة النقاش مع سنا‪ ،‬ألنيا تعرؼ أف سنا قادرة‬
‫عمى قراءة أفكارىا‪ ،‬وىي ال تريد أف‪...‬‬

‫دخمت غرفة الجموس‪ .‬لـ يكونوا قد استقروا في جمستيـ بعد‪.‬‬


‫خالد يحدؽ في الجدار المقابؿ‪ .‬ىاني وزياد يتفرجاف عمى الموحات‬
‫المعمقة‪ ،‬ويتناقشاف حوليا‪ .‬غياث أمسؾ صحيفة اليوـ ليتشاغؿ‬
‫بقراءتيا‪.‬‬

‫رتبت الصحوف عمى المالدة‪ ،‬وطمبت مف خالد أف يختار‬


‫شيلاً مف الموسيقى‪ .‬بعد قميؿ سمعت صوت أـ كمثوـ‪ .‬جمست عمى‬
‫األرض‪ .‬إنيا تحب الجموس عمى األرض‪ ،‬لما يمنحيا ذلؾ مف‬
‫إحساس أكبر بالحرية والدؼء‪ .‬يستغرب الكثيروف تصرفيا التمقالي‬
‫ىذا‪ ،‬لكنيا بيذه التمقالية تضفي عمى مف حوليا شيلاً مف إحساسيا‬
‫بالتحرر‪.‬‬

‫كاف زياد أوؿ مف جمس أرضاً بعدىا‪ .‬مد يده إلى صحف‬

‫الجبف وأكؿ قطعة منو‪ ،‬ثـ قاؿ‪" ،‬حاولت طوؿ الطريؽ أف أجد تشابياً‬
‫بيف رموز نرجس والنذير‪ ،‬فما وجدت! حاولت فيـ ما قصدت بقولؾ‬
‫بوجود تشابو بينيما‪ ،‬وما توصمت لشيء‪"..‬‬

‫استمعت إليو وقد اتكأت بكوعيا عمى المالدة‪ ،‬وبيدىا األخرى‬


‫سيجارة احترؽ نصفيا‪ ،‬وسيت أف تنفض الرماد عنيا‪ .‬لـ ترد عمى‬
‫زياد‪ ،‬بؿ ظمت تنظر إليو وشبح ابتسامة يموح عمى محياىا‪.‬‬
‫ترؾ غياث جريدتو وحمؿ منفضة السجالر مف طاولة‬
‫جانبية‪ .‬خطا نحو رابية‪ .‬مد المنفضة حتى صارت تحت سيجارتيا‪،‬‬
‫فسقط الرماد‪ .‬وانتبيت! رفعت عينييا نحوه‪ ،‬وابتسمت‪" ،‬شك اًر‪ ..‬مرة‬
‫ثانية‪ ".‬لـ يرد‪ .‬وضع المنفضة أماميا عمى المالدة‪ ،‬وجمس أرضاً في‬
‫مواجيتيا‪ .‬لحؽ بيـ ىاني وخالد‪ ،‬ثـ سنا‪ .‬وجمس الجميع أرضاً حوؿ‬
‫المالدة الواطلة‪.‬‬

‫ساد الصمت والكؿ منصت لصوت أـ كمثوـ الذي مؤل‬


‫المكاف‪،‬‬

‫"كممة‪ ،‬ونظرة عيف‪ ..‬والقسمة وياىـ‪..‬‬

‫مناىـ‪..‬‬
‫جمعوا سوا قمبيف‪ ،‬والحب ّ‬

‫وبيف ليالي المنى‪ ،‬خذني اليوى وياه‬

‫وكاف وصالؾ ىنا‪ ،‬وكنت باتمناه‬

‫وبعد حبي‪ ،‬شغمت قمبي وقسيت عميو‬

‫وكاف منايا‪ ،‬يدوـ ىنايا‪ ،‬ما دامش ليو؟‬

‫لوعني حبؾ‪ ،‬واليوـ في بعدؾ‪ ،‬يدوـ سنيف‬

‫وأروح لميف‪ ،‬وأقوؿ يا ميف ينصفني منؾ"‬

‫ىزت رابية رأسيا بأسى‪ .‬أطفأت سيجارتيا ببطء‪ ،‬حتى انطفأ‬


‫آخر وىج‪ ،‬وقالت‪" ،‬ىؿ سمعتـ ما تقوؿ أـ كمثوـ؟ إنو االنتظار مرة‬
‫أخرى‪ ،‬االنتظار القاسي‪ .‬انتظار الفرج الذي يأتي بو اآلخر‪ .‬ليس‬
‫أماميا سوى االنتظار والتساؤؿ‪ .‬فيؿ مف يفيـ سبب االنتظار أو‬
‫نتيجتو؟ والمتعة المؤجمة‪ .‬ىنا أيضاً أجد التشابو مع رموز نرجس‪:‬‬
‫االنتظار البلمتناىي‪ ".‬استدارت إلى زياد وحدقت في عينيو‪" ،‬الفرؽ‬
‫بيف نرجس والنذير يا زياد‪ ،‬ىو أنيا تتمذذ بانتظارىا ألنو ببل أمؿ‪ ،‬في‬
‫حيف يظؿ النذير متحف اًز!"‬

‫ظؿ زياد صامتاً يفكر بما قالتو‪ .‬سمعت صوت غياث‪" ،‬لكف‬
‫االنتظار ىنا ليس إال اختيا اًر‪ .‬لقد اختار النذير حالة االنتظار عف‬
‫وعي‪ ،‬فيو إذف إرادة وليس قد اًر‪ ".‬أدارت عينييا فالتقت بعيني غياث‪،‬‬
‫"قد يكوف في االنتظار شيء مف السمبية‪ ،‬لكف حتى السمبية ىي‬
‫اختيار‪ .‬مف يختار أف يكوف مسموب اإلرادة‪ ،‬فميس ىذا إال ذنبو‪،‬‬
‫ومف يختار تعذيب الذات‪ ،‬فبل يمومف سوى نفسو‪"..‬‬

‫أدار زياد عينيو بيف غياث ورابية‪ ،‬فيو لـ يعد متأكداً مف‬
‫موقؼ صديقو في ىذا النقاش الدالر‪ ،‬أىو مع رابية‪ ،‬أـ معو‪ .‬لـ‬
‫يتمالؾ نفسو مف طرح السؤاؿ‪" ،‬مف تعني بما تقوؿ يا غياث؟ ىؿ‬
‫تعني نرجس‪ ،‬أـ النذير؟"‬

‫ابتسمت رابية‪ .‬أبعدت عينييا عف عيني غياث وردت‪" ،‬إنو‬


‫يقصد بالحالة السمبية أنثى نرجس‪ ،‬ذلؾ ألنيا تنتظر الفرج مف إنساف‬
‫آخر‪ .‬أما النذير‪ ،‬فيو حالة انتظار إيجابية‪ .‬فيو ما يزاؿ يتمزؽ‪ ،‬قد‬
‫ينتظر بعض العوف مف قوى أخرى‪ ،‬وقد ينتظر المحظة التي يمتمؾ‬
‫فييا مف القوة ما يمكنو مف ىدـ حالة االنتظار التي يعيشيا‪"..‬‬

‫لـ يدر غياث إال وىي تجره إلى اتخاذ موقؼ‪ ،‬وما ىو راغب‬
‫بأكثر مف استفزازىا لكي يعرؼ موقفيا‪ ،‬أكمؿ جممتيا بالقوؿ‪" ،‬الفرؽ‬
‫ىو أف أنثى نرجس تستسمـ وتنتظر‪ ،‬في حيف يبقى إنساف النذير‬
‫يعاني ويقاوـ‪ .‬قد يتشابو اليأس لدييما‪ ،‬لكف الفرؽ كبير بيف أف يظؿ‬
‫اإلنساف يتعذب ويقاوـ‪ ،‬أو يتمذذ ويستسمـ قبؿ خوض أية معركة‪ .‬ليذا‬
‫اعتقد أف مجاؿ المقارنة بينيما صعب‪"..‬‬
‫التزمت رابية الصمت وىي تنظر بعيداً‪ .‬لـ يقؿ زياد شيلاً‪.‬‬
‫انتظر غياث ردة فعميا‪ ،‬فصمت بدوره‪ .‬ىزت رابية يدىا التي تحمؿ‬
‫السيجارة‪ ،‬فسقط الرماد عمى السجادة‪ ،‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬الفرؽ بينيما ىو‬
‫الفرؽ بيف المرأة‪/‬األنثى مف جية‪ ،‬واإلنساف مف الجية المقابمة‪"..‬‬

‫قاطعتيا سنا بحدة‪" ،‬ىؿ تمغيف الحالة اإلنسانية مف األنثى يا‬


‫رابية؟"‬

‫"أنا ال ألغييا‪ .‬ىي حالة موجودة وال مسوغ أف نغمض أعيننا‬


‫لكي ال نراىا‪ .‬ىي موجودة بالرغـ مما نريد‪ ..‬وعمينا أف نحدؽ بيا‬
‫بكؿ قسوة ضوء النيار‪ ،‬ونحمميا‪ ،‬لكي نفيميا‪ ،‬ومف ثـ نمغي وجودىا‪.‬‬
‫وحيف تصؿ األنثى إلى الحالة اإلنسانية‪ ،‬تصبح ليا قضية حقيقية‬
‫تقاتؿ مف أجميا‪ .‬ومتى كسرت أسار الحزف واليأس وصار ليا موقؼ‪،‬‬
‫أمكنيا حينذاؾ أف تقبؿ أو ترفض ما تشاء‪ ،‬ال كما يراد ليا أف‬
‫تكوف‪ ..‬ومتى ىدمت جدار الخوؼ‪ ،‬أمكنيا أف تكوف إنسانة‪ ".‬عادت‬
‫لتنظر في عيني غياث‪ ،‬متحدية‪ ،‬مستفزة‪" ،‬حينذاؾ‪ ،‬وحينذاؾ فقط‪،‬‬
‫يمكف المقارنة والقياس بيف الحالتيف‪ .‬أما اآلف‪ ،‬فالمقارنة‪ ،‬كما قمت يا‬
‫غياث‪ ،‬مستحيمة بيف اإلنساف الذي يقاتؿ مف أجؿ حريتو‪ ،‬ومف يتمذذ‬
‫بعبوديتو‪ ".‬استدارت نحو زياد وأكممت بنبرة حزينة‪" ،‬معكما الحؽ في‬
‫رفض المقارنة‪"..‬‬

‫لـ تقتنع سنا بموقؼ رابية‪" ،‬لكنؾ تنسيف أف ىذه األنثى التي‬
‫تنفيف عنيا الصفة اإلنسانية‪ ،‬ىي إنسانة تعطي‪ ،‬وتعطي ببل حدود‪،‬‬
‫لكف مف يعطييا بالمقابؿ؟ إنيا أنثى نيمة لمعطاء‪ ،‬فيؿ مف نياية‬
‫لعطاليا‪ ،‬أـ أف مف يعطي عميو أف ال ينتظر عطاءاً مقاببلً؟"‬

‫"أرجوؾ يا سنا‪ ،‬ليس األمر ميزاناً بيف األخذ والعطاء‪ ،‬بؿ‬


‫ىي قضية موقؼ وارادة!" أخذت نفساً عميقاً مف سيجارتيا‪ ،‬وقالت‬
‫بيدوء‪" ،‬أجد في نرجس رم اًز يستيويني ويدفعني لمتأمؿ‪ .‬إذ منذ أف‬
‫رفضت عشتار أف تكوف إلية العطاء وحسب‪ ،‬صارت رم اًز لمحب‬
‫والخصب‪ ..‬والحرب أيضاً‪ ..‬أي صار ليا موقؼ‪"..‬‬

‫قاطعيا غياث‪" ،‬عشتار مسألة مختمفة‪ ..‬مف أجميا اقتتؿ‬


‫أنكيدو وكمكامش‪"..‬‬

‫قاطعتو رابية بحدة‪" ،‬لكف ما ذنبيا ىي إف كاف ك ٌؿ منيما‬


‫يريدىا جالزةً يناليا إثباتاً لقوتو‪ ،‬أي يريدىا جاريةً لمتعتو بعد عناء‬
‫الصراع‪ .‬يريد امتبلكيا بصؾ ممكية تصادؽ عميو اآللية!" نظرت إلى‬
‫ٍ‬
‫بتحد وتساءلت‪" ،‬فيؿ يتوجب عمييا القبوؿ‪ ،‬أـ عمييا‬ ‫غياث‬
‫االختيار؟"‬

‫تحفز غياث لمرد عمى تحدييا‪" ،‬لكف التاريخ‪"..‬‬

‫مرة أخرى لـ تتح لو المجاؿ لقوؿ ما يريد‪ ،‬بؿ قاطعتو بحدة‪،‬‬


‫"التاريخ أيضاً يكتبو المنتصروف واألقوياء!"‬

‫أدركت في لحظة واحدة أف صوتيا قد ارتفع أكثر مما يجب‪،‬‬


‫وأنيا تحمست لمنقاش‪ ،‬كمف يريد حسـ التاريخ بميمة واحدة‪ .‬فسكتت‬
‫فجأة‪.‬‬

‫قاؿ زياد بصوتو اليادئ‪" ،‬يا جماعة‪ .‬إف دخمنا في مناقشة‬


‫التاريخ‪ ،‬فمف ننتيي منو الميمة‪ .‬أظف مف األفضؿ أف نعود إلى بيوتنا‪،‬‬
‫فأماـ كؿ منا يوـ عمؿ شاؽ وطويؿ‪"..‬‬

‫احتجت سنا أف الوقت ما يزاؿ مبك اًر‪ ،‬لكف الحديث لـ يستمر‬


‫طويبلً‪ ،‬فاعتذروا وبدأوا بالمغادرة‪ .‬دنا غياث مف رابية وقاؿ‪" ،‬أتحبيف‬
‫أو أوصمؾ بطريقي؟ أـ أف عشتار ستكوف موضع خصومة بيننا‪،‬‬
‫فترفضيف؟"‬
‫ضحكت رابية وردت‪" ،‬ال عشتار وال غيرىا يمكف أف تسبب‬
‫أية خصومة‪ ،‬وأرجو أف ال تعتبر نقاشنا ىذا ثأ اًر شخصياً‪ ،‬واال‪"..‬‬

‫قاطعيا‪" ،‬واال ماذا؟" لـ يشأ أف يسمع ردىا‪ ،‬فأردؼ‪" ،‬ال‪ ..‬ال‬


‫تردي أرجوؾ‪ ،‬بؿ احتفظي بالرد لتخبريني بو في السيارة‪"..‬‬

‫ضحكاً‪ ،‬وردت‪" ،‬ال يا غياث‪ ،‬لف آتي معؾ‪ ،‬ال بسبب‬


‫عشتار كما تتصور‪ ،‬إنما ألني قررت منذ البداية أف أبيت الميمة عند‬
‫سنا‪".‬‬

‫مد يده لمصافحتيا‪" ،‬إذف‪ ،‬تصبحوف عمى خير‪ ،‬والى لقاء‬


‫قريب‪"..‬‬

‫وخرج الجميع وبقيت رابية‪.‬‬


‫(‪)8‬‬

‫رابية وسنا صحوف الطعاـ المتبقي إلى المطبخ‪،‬‬ ‫حممت‬


‫وأعادتا بعض الترتيب إلى الغرفة‪ ،‬ثـ عادت رابية لمجموس أرضاً في‬
‫مكانيا األوؿ‪ ،‬وجمست سنا مقابميا‪ .‬تمطت سنا‪" ،‬أال نناـ يا رابية‪،‬‬
‫فالساعة تقارب الثانية صباحاً؟"‬

‫ابتسمت رابية‪" ،‬وىؿ بقيت ىنا لكي نناـ‪ ،‬أـ لنتحدث؟"‬

‫تثالبت سنا‪" ،‬ىؿ بقيت فيؾ قدرة عمى الحديث بعد كؿ‬
‫النقاش مع غياث؟"‬

‫"تمؾ مسألة أخرى‪ ،‬ثـ أف النقاش لـ يكف مع غياث‪ ،‬بؿ‬


‫اشترؾ فيو الجميع‪ ،‬وىو نقاش لف ينتيي‪"..‬‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬لف ينتيي ألف طرفو األوؿ رابية الحمود‪،‬‬


‫وطرفو الثاني غياث البدر‪ "..‬نفثت سنا دخاف سيجارتيا وتأممتو‬
‫يتصاعد ثـ يتبلشى في الفراغ‪" ،‬رابية‪ ،‬مذ التقينا بعد سنوات الفراؽ‬
‫الطويمة‪ ،‬وجدتؾ إنسانة مختمفة‪ ،‬نالية وبعيدة‪ .‬تحاوليف إخفاء ذاتؾ‬
‫وراء ستار مف العزلة والصمت‪ .‬ترفضيف الحديث كما ترفضيف لقاء‬
‫اآلخريف‪ "..‬اتسعت ابتسامتيا وىي تركز عينييا بعيني صديقتيا‪" ،‬أما‬
‫اليوـ‪ ،‬فقد عادت رابيتي مف رحمة السنوات‪ ،‬رابية التي أعرفيا‪"..‬‬
‫أطفأت السيجارة وتأممتيا تنطفئ حتى لـ يبؽ لجمرىا أث اًر‪" ،‬ال أريد أف‬
‫أسبؽ األحداث‪ ..‬لكف غياث ىذا‪"..‬‬

‫لـ تشأ رابية أف تتيح لصديقتيا مجاالً لمخوض في مسار‬


‫الحديث ىذا‪" ،‬أال نعود إلى خالد‪ ،‬وقضية حياتؾ يا سنا؟ ما الذي‬
‫تنويف فعمو؟"‬

‫"وأنت يا رابية‪ ،‬لماذا ترفضيف مناقشة حياتؾ؟"‬


‫"ألني حسمت األمر منذ أمد بعيد‪ ،‬وال فالدة مف فتح الحديث‬
‫عني‪ .‬أرجوؾ يا سنا‪ ،‬توقفي عف تخيؿ روايات عاطفية ال توجد إال‬
‫في خيالؾ‪ ..‬ىيو‪ ..‬ماذا بشأف خالد؟"‬

‫حاولت سنا التيرب بدورىا‪" ،‬ألـ تقولي في بداية األمسية أنؾ‬


‫تعانيف مف الصداع‪ "..‬وأطمقت ضحكة صاخبة‪" ،‬لننـ اآلف‪ ،‬ونتحدث‬
‫غداً عف كؿ ما تريديف‪"..‬‬

‫قاطعتيا رابية‪" ،‬سنا‪ ،‬أنت أعرؼ الناس بي‪ ،‬وبصداعي‪ .‬إنو‬


‫كتفي‪ ،‬حتى صار‬
‫ّ‬ ‫حالة نفسية‪ .‬أنا أحمؿ صداعي عمى الدواـ فوؽ‬
‫حالة دالمية أنسى وجودىا حيف أريد‪ ،‬وأتحجج بيا أحياناً‪".‬‬

‫صمتت سنا وظمت تحدؽ في طرؼ سيجارتيا المحترقة‪ ،‬ثـ‬


‫حسمت األمر في الخوض في ثنايا جرحيا‪" ،‬ما يزاؿ يحاوؿ إقناعي‬
‫بالزواج منو‪ ،‬وأنا ما زلت أرفض‪"..‬‬

‫"والى متى ترفضيف؟ الرجؿ يحبؾ‪ ،‬وأنت تحبينو‪ ،‬فإلى متى‬


‫المكابرة والعناد؟ أـ صار العذاب جزءاً منؾ وترفضيف التخمي عنو؟"‬

‫ترقرؽ الدمع في عيني سنا‪" ،‬اسمعي يا رابية‪ .‬أنت تعرفيني‬


‫أكثر مف أي إنساف آخر عمى وجو األرض‪ .‬ىؿ تتصوريف أني قادرة‬
‫عمى تحمؿ أخطاء خالد وضياعو‪ ،‬مع كؿ حبي لو؟"‬

‫ربتت رابية عمى يد سنا الممدودة عمى المالدة‪" ،‬ال تنسي يا‬
‫سنا أف لكؿ منا أخطاءه‪ .‬أنت أيضاً لؾ أخطاء‪ ،‬فإف قبمؾ خالد بكؿ‬
‫ما فيؾ مف أخطاء‪ ،‬أليس بإمكانؾ قبولو عمى ما ىو عميو؟"‬

‫انفمت الدمع مف أساره‪ ،‬وساؿ عمى خدييا‪" ،‬يصعب عمي‬


‫ذلؾ‪ .‬أحاوؿ دوماً‪ ،‬لكنو دوماً مع أخريات‪ ،‬وأنا ال يمكنني القبوؿ‬
‫بكوني اسماً في قالمة طويمة مف األسماء‪ .‬أريده لي‪ ،‬وال أريد أجزاءاً‬
‫مبعثرة مف إنساف كاف رالعاً في ٍ‬
‫يوـ ما‪".‬‬

‫ساد الصمت برىة‪ ،‬واستغرقت كؿ منيما في لجة أفكارىا‪.‬‬


‫قالت رابية بصوت يقرب مف اليمس‪" ،‬لقد عرفت خالد حيف كاف كبي اًر‬
‫وباىياً‪ ،‬ورأيتو اآلف بعد أف انيار كؿ شيء حولو‪ ،‬وفقد ومضة األمؿ‪.‬‬
‫جرحنا واحد يا سنا‪ ،‬وخيبة أممنا واحدة‪"..‬‬

‫"لكنؾ لـ تنياري ولـ تنتيي مثمو يا رابية‪ .‬أنت أدركت أف‬


‫خيبة األمؿ ال تعني أف ننتيي كبشر‪ ،‬فتجاوزت األزمة وبدأت مف‬
‫جديد‪ ،‬كما بدأت أنا أيضاً الدرب مف أولو‪ .‬مف منا لـ يواجو‬
‫الصعوبات والتمزقات والجروح؟ نعـ كاف جرح خالد عميقاً‪ ،‬ربما‬
‫أعمؽ مف جروحنا‪ ،‬لكنيا جروح ما تزاؿ تنزؼ في أعماؽ كؿ منا‪.‬‬
‫لكف الضياع الذي يعيشو خالد‪ ،‬غير معقوؿ‪"..‬‬

‫"بالنسبة لو‪ ،‬كانت القضية ىي مركز الكوف‪ ،‬وكؿ ما عداىا‬


‫فراغ‪ ،‬وحيف انتيى دوره فييا‪ ،‬انيار عالمو‪ .‬ىذه مسألة عميؾ فيميا‬
‫وقبولو كما ىو‪"..‬‬

‫قاطعتيا بصيحة مؤلمة‪" ،‬ال أستطيع! حاولت‪ ،‬وحاولت ولـ‬


‫أفمح‪"..‬‬

‫"ربما ألنؾ غيورة‪ ،‬تريديف امتبلكو‪ ،‬وىو يرفض ىذه الصيغة‪،‬‬


‫فييرب مف حبو لؾ إلى عبلقاتو تمؾ‪"..‬‬

‫"ولـ ال يكوف العكس صحيحاً؟ لماذا تفترضيف أنو يحبني‬


‫بصدؽ؟ أال يمكف أف أكوف أنا أيضاً واحدة منيف‪ ..‬مف نسالو؟ أال‬
‫يجوز‪"..‬‬
‫قاطعتيا رابية‪" ،‬سنا‪ ..‬سنا‪ ،‬إنؾ تتجاىميف الحقيقة بقولؾ ىذا‪.‬‬
‫ىؿ ما زلت تشكيف بحبو لؾ بعد كؿ ىذه السنوات؟ خالد يحبؾ‪ ،‬ولكف‬
‫بطريقتو الخاصة‪ ،‬وىو متشبث بؾ‪ ،‬وأنت ال ترحميف‪ ..‬ضعي نفسؾ‬
‫في مكانو‪"..‬‬

‫شرقت سنا بدموعيا‪" ،‬لو كنت مكانو لما ضيعت نفسي‪ .‬إنو‬
‫يتمزؽ كمما سمع أنباء القتاؿ الدالر في لبناف‪ .‬يتمنى لو كاف بينيـ‪.‬‬
‫لكنو يكابر‪ .‬حتى في ىذه يكابر أف يعترؼ بحقيقة أنو يتمنى لو كاف‬

‫ىناؾ‪ ،‬يحمؿ السبلح ويواجو المؤامرة الجديدة‪ "..‬صمتت برىةً‬


‫ومسحت الدمع‪ ،‬ثـ قالت‪" ،‬أتدريف يا رابية‪ ..‬أتمنى لو جاىر بأفكاره‪،‬‬
‫لو رضي بمناقشتيا معي‪ ،‬ربما استطعنا آنذاؾ العثور عمى طريؽ ما‪.‬‬
‫صمتو يا رابية ىو جزء مما يفصمنا عف بعض‪ "..‬ىزت رأسيا بحيرة‪،‬‬
‫"ال أدري‪ ..‬لـ أعد أدري‪"..‬‬

‫ىذا الحوار يتجدد بينيما‪ .‬وفي كؿ مرة تحاوؿ رابية إقناع‬


‫صديقتيا أف مف يحب بحؽ‪ ،‬ال ال يطمب مف اآلخر إال أف يكوف كما‬
‫ىو‪ ،‬فالحب ال يعني إعادة تشكيؿ خمؽ البشر‪ ،‬فإما أف تحب اآلخر‬
‫كما ىو‪ ،‬أو ال تحبو‪.‬‬

‫"سنا‪ ،‬إنؾ تحبيف خالد ألنو يحمؿ في ذاتو تناقضات إنساف‬


‫وتاريخ قضية‪ .‬فمماذا تحاوليف اجتزاء بعضاً منو؟ ىؿ سيكوف خالد‬
‫ىو نفس اإلنساف لو تغير؟ ثـ أف الحب ال يفيـ المواصفات‪ .‬تحبيف‬
‫أو ال تحبيف‪ .‬إما أف تحبيو بكاممو‪ ،‬أو ترفضيو‪ .‬ليس ثمة حؿ وسط‪.‬‬
‫خالد لـ يحاوؿ خداعؾ‪ .‬حكى لؾ كؿ شيء منذ البداية‪ ،‬ومع ىذا‬
‫أحببتو‪ .‬وبالرغـ مف ىذا أحببتو‪ ،‬فيؿ سألت نفسؾ عف السبب؟"‬
‫أتكأت سنا عمى األريكة وفكرت طويبلً وقد أغمضت عينييا‪،‬‬
‫حتى خيؿ لرابية أنيا قد أغفت‪ ،‬ثـ جاء صوتيا‪ ،‬نالياً‪" ،‬أردت إنقاذه‬
‫مما ىو فيو مف ضياع‪ .‬كانت تمؾ ىي البداية‪ ،‬ثـ جاء الحب‪"..‬‬

‫ردت رابية باستغراب‪" ،‬تنقذيو مف ماذا؟ مف ذاتو؟ سنا‪،‬‬


‫أخطاء اإلنساف ىي جزء منو‪ .‬إنو ليس طفبلً لتربيو مثمما ترغبيف‪.‬‬
‫حتى الطفؿ الصغير‪ ،‬تظؿ عوامؿ عديدة تؤدي دورىا في تشكيؿ‬
‫شخصيتو‪ ،‬وليست التربية إال بعضاً منيا‪"..‬‬

‫تنيدت سنا‪" ،‬أال تشبعيف مف كممات الوعظ ىذه؟ لماذا‬


‫تدافعيف عنو إلى ىذا الحد؟"‬

‫"أنا ال أدافع عنو يا سنا‪ ،‬بؿ عنؾ! ال أريدؾ أف تخدعي‬


‫نفسؾ بأوىاـ‪ ،‬حتى لو وعدؾ خالد اليوـ أنو سوؼ يتغير‪ ،‬فيؿ‬
‫سيكوف قاد اًر عمى اإليفاء بوعده؟" صمتت رابية لتجمع شتات أفكارىا‪،‬‬
‫لعميا تعرؼ طريقاً تدؿ سنا عميو‪" ،‬ىؿ تريديف تغيير ذاتؾ يا سنا؟‬
‫لماذا إذف تريديف منو أف يرضى بذلؾ؟"‬

‫"ألف خالد ىذا ليس نفسو خالد السعد! أنا أريده أف يكوف كما‬
‫ىو‪ ،‬مف دوف زيؼ‪"..‬‬

‫"سنا‪ ،‬خالد يختمؼ عنؾ بكؿ شيء‪ .‬إنو إنساف ىادئ يحب‬
‫العزلة‪ ،‬فيؿ أنت مستعدة لمتخمي عف حياتؾ االجتماعية الحافمة وعف‬
‫أصدقالؾ ألجمو؟"‬

‫"إنو منسجـ مع أصدقالي‪ ،‬وىـ يحبونو‪ ،‬فيو إنساف رالع‪"..‬‬

‫"كونو إنساناً رالعاً ال يعني‪ ،‬وال يمغي االختبلؼ في شخصية‬


‫كؿ منكما‪"..‬‬
‫"ما الذي تريديف قولو يا رابية؟ حاولت قبؿ قميؿ إقناعي‬
‫بالقبوؿ بو زوجاً‪ .‬وتقنعينني اآلف بالعكس‪ ،‬فما ىذا التناقض؟ أردت‬
‫مساعدتؾ في اتخاذ القرار‪ ،‬واذا بؾ تناقضيف نفسؾ بيف لحظة‬
‫وأخرى‪ .‬وأنا ضالعة ال أدري اي طريؽ اسمؾ‪ ..‬ماذا سأفعؿ؟"‬

‫"سنا‪ ،‬ك ٌؿ منا يعكس لؾ ما في نفسو‪ .‬ك ٌؿ منا يحمؿ متاعبو‬


‫ويرى الدنيا بعينيو‪ .‬آراؤنا ليست إال مرايا عاكسة‪ ،‬تريف فييا ما توديف‬
‫رؤيتو‪ .‬لف تجدي الحؿ لدى أي منا‪"..‬‬

‫"ما العمؿ إذف؟"‬

‫لـ تحر رابية جواباً‪ .‬ساد الصمت بينيما‪ .‬عمر طويؿ عاشتو‬
‫ك ٌؿ منيما‪ ،‬وظمت ىذه الصداقة عمى متانتيا‪ .‬يرى البعض فييما‬
‫نقيضتيف‪ ،‬ويرى البعض اآلخر ثمة تماثبلً بينيما‪ .‬ولكف‪ ،‬تعرؼ كؿ‬
‫منيما أنيا تختمؼ عف األخرى‪ ،‬لكف المحبة تزيد مف التفاىـ بينيما‪.‬‬
‫ليستا بحاجة إلى الكممات لتتفاىما‪ ،‬قد تصمتاف لمدة طويمة‪ ،‬ولكؿ‬
‫منيما عالميا البعيد والقريب في آف واحد‪ ،‬ثـ ييدر الحوار فجأة‪ .‬مف‬
‫أيف يبدأ ىذا الحوار‪ ،‬وأيف ينتيي؟ ال تستطيعاف التكيف بذلؾ‪.‬‬

‫"اسمعي يا سنا‪ .‬ابتعدي عنا جميعاً‪ .‬خذي إجازة مف العمؿ‬


‫واألصدقاء واألىؿ‪ ..‬ومف خالد أيضاً‪ .‬اتركي القراءة والمحاضرات‪.‬‬
‫سافري إف استطعت‪ ،‬ال بيدؼ التبضع أو النزىة‪ .‬ال تكتبي رسالؿ‬
‫ألحد‪ .‬انقطعي عف العالـ إال عف سنا‪ .‬اجمسي مع سنا‪ .‬حاورييا‪.‬‬
‫كوني صريحة معيا‪ .‬ابتعدي عف كؿ المؤثرات‪ .‬اسبوعاً أو شي اًر‪.‬‬
‫اجمسي مع ذاتؾ بعيداً عف الجميع‪ .‬فكري‪ .‬اصرخي‪ .‬أبكي‪ ..‬لكف‬
‫وحدؾ‪ .‬عودي إلى النبع‪ ،‬عودي إلى ذاتؾ‪ .‬ألـ تشتاقي لسنا؟"‬
‫ابتسمت لصديقتيا‪" ،‬الحقيقة تجدينيا فيؾ أنت‪ ،‬في أعماقؾ‪ .‬الطريؽ‬
‫لديؾ أنت وحدؾ‪ ،‬تجدينو ىناؾ‪ ،‬حيث يسود الصمت والظممة‬
‫واألماف‪ .‬ربما ىناؾ تتوصميف إلى الحؿ الذي يرضيؾ‪"..‬‬

‫"لف أتحمؿ‪"..‬‬

‫"أكيد أنؾ لف تتحممي في البداية‪ .‬لف تتحممي قسوة سنا عمى‬


‫سنا‪ .‬لكف‪ ..‬بعد القسوة والصمت‪ ،‬ستجديف نفسؾ وقد اغتسمت مف‬
‫أدراف العالـ‪ .‬عند ذاؾ‪ ،‬سيكوف بإمكانؾ اتخاذ القرار الذي تريديف‪"..‬‬

‫ما عاد بإمكاف أياً منيما أف تجرح األخرى أكثر مما فعمت‪.‬‬
‫لكف مع كؿ القسوة التي تصاحب حديثيف‪ ،‬إال أف كبلً منيما تحتاج‬
‫إلى األخرى لتفيـ نفسيا‪ ،‬ولتيرب مف نفسيا‪ .‬ىذا التواصؿ الحي‬
‫بينيما مرىؽ لكمييما‪ ،‬ومع ذلؾ فيو ضروري‪ ،‬لكمييما‪.‬‬

‫فكرت رابية أنيا مع كؿ النصح الذي تسديو لصديقتيا‪ ،‬ومع‬


‫كؿ المنطؽ والتحميؿ‪ ،‬تظؿ ىي خارج إطار الشرح والتبرير‪ ،‬ألنيا منذ‬
‫زمف بعيد قررت أف تمتؼ عمى ذاتيا‪ ،‬حمزونة صغيرة تمتؼ عمى‬
‫ذاتيا‪ .‬إذ بالرغـ مف وضوح كمماتيا‪ ،‬وبالرغـ مف ضحكتيا‪ ،‬تظؿ‬
‫رابية مخفية في زوايا الذات المظممة‪ ..‬أوليست الزوايا المظممة ىي‬
‫األكثر أماناً؟‬

‫أخرجيا صوت سنا مف تأمبلتيا‪" ،‬مشكمتؾ يا رابية أنؾ لـ‬


‫تعرفي الحب‪ ،‬ليذا تتفمسفيف ألف إحساسؾ بما حولؾ مجرد مف‬
‫العاطفة‪ "..‬صمتت سنا برىة ثـ أردفت‪" ،‬كـ أتمنى أف اراؾ في حالة‬
‫حب! عندىا سوؼ تحسيف باأللـ النازؼ‪ .‬عندىا يمكنؾ أف تفيمي ما‬
‫أعانيو‪ .‬عند ذاؾ فقط‪ ،‬قد تغفريف ألنثى نرجس كؿ ضعفيا‬
‫وانتظارىا‪"..‬‬

‫ضحكت رابية‪ .‬ضحكت طويبلً حتى دمعت عيناىا‪ .‬ىي‪..‬‬


‫رابية‪ ..‬ال‪ ..‬تعرؼ‪ ..‬الحب! ليتيا ما عرفتو‪ .‬وليتو يدوـ معيا أبد‬
‫الدىر‪ .‬منذ أف رأتو‪ ،‬رمحاً يشؽ الفضاء ويسمو عمى ما حولو‪ ،‬حتى‬
‫صارت أشبو بطالر الفينيؽ‪ .‬تحترؽ بيف لحظة وأخرى‪ ،‬لتبعث مف‬
‫جديد‪.‬‬

‫رالع أف يظؿ حمزونيا مخفياً في زوايا الذات‪ .‬ولكف‪ ..‬أىو‬


‫الحب ما تحس بو؟ ىؿ يكفي لقاء واحد‪ ،‬ونقاش واحد‪ ،‬لتحب رجبلً؟‬
‫ربما‪..‬‬

‫في تمؾ الميمة‪ ،‬لـ تدر أي منيما إف غمبيا الوسف فأغفت‬


‫برىة أـ ال‪ .‬إال أنيما نيضتا في السادسة لمتييؤ لمعمؿ‪ .‬لـ تكف سيارة‬
‫رابية معيا‪ ،‬فصحبتيا سنا إلى دارىا‪ .‬سارعت لتبديؿ ثيابيا في حيف‬
‫أعدت سنا القيوة‪ ،‬وىي تتبادؿ المزاح مع أـ رابية‪ ،‬ثـ غادرتا‪ ،‬وذىبت‬
‫كؿ منيما إلى عمميا‪.‬‬
‫(‪)9‬‬

‫ذىبت رابية إلى عمميا وأجبرت نفسيا عمى تحمؿ ساعات‬


‫الدواـ حتى النياية‪ .‬عادت إلى الدار وأكمت شيلاً مف الطعاـ الذي‬
‫أعدتو أميا مف دوف التفوه بكممة‪ .‬سألت األـ‪" ،‬رابية‪ ،‬أراؾ شاحبة‬
‫وساىمة‪ ..‬ىؿ أنت مريضة يا ابنتي‪ ،‬أـ مرىقة؟"‬

‫ابتسمت لتبعث بعض االطملناف في نفس أميا‪" ،‬كبل يا‬


‫أمي‪ ،‬لست مريضة‪ ،‬وال مرىقة‪ .‬كؿ ما في األمر أف الصداع عاودني‬
‫منذ الصباح‪".‬‬

‫"لقد سيرت مع سنا حتى الصباح‪ ،‬أليس كذلؾ؟"‬

‫"ماما‪ ،‬لـ التؽ بسنا منذ مدة‪ ،‬وقد جرنا الحديث‪ ..‬وكاف معنا‬
‫بعض األصدقاء‪ ..‬ال تقمقي أرجوؾ‪ .‬صداعي ال عبلقة لو بسيري مع‬
‫سنا‪".‬‬

‫"حبيبتي‪ ،‬أدري أنؾ اعتدت السير طوؿ عمرؾ‪ ،‬سواء مع‬


‫سنا أو وحدؾ‪ .‬وأدري أنؾ أعرؼ مني بما تفعميف‪ ،‬لكني أرجوؾ أف‬
‫ترحمي نفسؾ‪ ،‬فيذا الصداع لـ يفارقؾ منذ ما يزيد عمى الشير‪"..‬‬

‫الحت ابتسامة خفيفة عمى محياىا‪ ،‬وقالت بصوت خافت‪،‬‬


‫"بؿ أربعة وثبلثيف يوماً‪ "،‬تنيدت وقالت‪" ،‬ماما‪ ،‬تأكدي أف ليس بي‬
‫شيء‪ ،‬أحتاج لمنوـ ال غير‪ ".‬ونيضت عف مالدة الطعاـ‪ ،‬لثمت خد‬
‫أميا‪" ،‬ال داعي لمقمؽ‪ ،‬سأناـ اآلف‪ ،‬وحيف أستيقظ‪ ،‬سيكوف الصداع قد‬
‫زاؿ‪".‬‬

‫نامت ساعات طويمة‪ ،‬ولـ تشأ أميا إيقاظيا‪ .‬صحت في‬


‫حوالي الثامنة مساءاً‪ ،‬وعاودت النوـ حتى صباح اليوـ التالي‪،‬‬
‫الجمعة‪ .‬استيقظت مع الفجر‪ ،‬ارتدت مبلبس العمؿ‪ ،‬كما تسمييا‪،‬‬
‫وخرجت إلى الحديقة‪ ،‬فيي تحب العناية بزىورىا وظمت تعمؿ حتى‬
‫قارب الساعة العاشرة‪ ،‬فاستحمت وغيرت ثيابيا ثـ دخمت لتحضير‬
‫فنجاف قيوتيا‪.‬‬

‫سمعت جرس الباب‪ .‬لـ تكف تتوقع أحداً‪ ،‬لكف ربما كانت‬
‫سنا‪ .‬فتحت الباب واذ بزياد يقؼ أماميا‪ .‬فوجلت رابية‪" ،‬أىبل زياد‪،‬‬
‫تفضؿ‪"..‬‬

‫"أرجو أف ال تزعجؾ زيارتي‪ ،‬كنت في طريقي إلى غياث‬


‫ومررت مف أماـ دارؾ‪ ،‬فخطر لي أف أزورؾ‪"..‬‬

‫"مالة أىبلً وسيبلً‪ ،‬تفضؿ‪ ،‬كنت عمى وشؾ تحضير قيوتي‪،‬‬


‫سأضاعؼ الكمية ال غير‪"..‬‬

‫دخؿ زياد معيا‪ ،‬سمـ عمى األـ التي كانت تجمس قرب‬
‫النافذة المواجية لمشمس‪ .‬صحبتو رابية إلى ركنيا المفضؿ في غرفة‬
‫الجموس‪ ،‬حيث كتبيا وتسجيبلت موسيقاىا‪ ،‬وبضع مساند مرمية‬
‫أرضاً‪ ،‬ومنافض لمسجالر‪" ،‬ىذه الركف أسميو بيتي‪ ،‬فيو ما أحب‪..‬‬
‫أشيالي الصغيرة‪ ،‬ىؿ تحب الجموس ىنا‪ ،‬أـ في غرفة الضيوؼ؟"‬

‫"يا إليي! ىؿ ىناؾ مف يفضؿ غرؼ الضيوؼ عمى ىذا‬


‫الركف المذىؿ؟ ىذا عالـ كامؿ يا رابية‪ .‬عالـ استغرب وجوده في أي‬
‫مكاف‪ ،‬واذا بي أراه في وسط بغداد‪"..‬‬

‫ضحكت رابية‪" ،‬إذف‪ ،‬عميؾ اختيار الموسيقى بينما أجيز‬


‫القيوة‪"..‬‬

‫تركتو يقؼ ذاىبلً‪ ،‬ولـ يكف في الركف ما يذىؿ‪ :‬رفوؼ يصؿ‬


‫بعضيا إلى السقؼ‪ ..‬كتب‪ ،‬كتب‪ ،‬كتب‪ .‬ثـ جياز تسجيؿ صغير‬
‫ورفوؼ صغيرة تحوي أشرطة التسجيؿ‪ .‬بضع لوحات فنية موزعة ببل‬
‫نظاـ‪ ،‬وطاولة كتابة صغيرة وكرسي‪ .‬ثـ نافذة تطؿ عمى حديقة‬
‫الزىور‪ .‬ألواف الزىور لوحة فنية أخرى يصؿ عبقيا مف النافذة‬
‫المفتوحة‪ .‬اختار زياد سوناتا بتيوفف لمبيانو‪ ،‬وجمس أرضاً‪ .‬جاءت‬
‫رابية بالقيوة وجمست أمامو عمى األرض‪ .‬الحظ أنيا تسير حافية‬
‫القدميف‪ .‬لـ يعد يستغرب تصرفاتيا‪ ،‬ومع ذلؾ ما تفتأ تذىمو‪.‬‬

‫حدثيا عف الرواية التي يكتبيا‪ ،‬مع أنو لـ يعتد التحدث عف‬


‫رواياتو‪ .‬وحدثتو عف القصالد التي تكتبيا‪ ،‬ال بؿ قرأت لو مقاطع مف‬
‫بعضيا‪ ،‬مع أنيا ال تكشؼ ىذا السر ألحد‪ .‬تبادال الحديث عف‬
‫الموسيقى والفف والسينما‪ .‬حاوؿ إقناعيا بجمع قصالدىا في ديواف‪.‬‬
‫تحدثا عف عممو في الجامعة‪ ،‬وعف سنا‪ ...‬و‪...‬و‪...‬‬

‫زارىا زياد مرة أخرى صبيحة العطمة التالية‪ ،‬وكرر الزيارة‬


‫حتى صارت رابية تنتظرىا في كؿ يوـ عطمة‪ ،‬وتؤخر شرب قيوتيا‬
‫انتظا اًر لو‪ .‬زيارات زياد كانت ممتعة لكمييما‪ ،‬وأفمح في إقناعيا بنشر‬
‫بعض قصالدىا‪ ،‬فانشغبل باختيار ما يصمح منيا لمنشر‪ .‬واضحت‬
‫الصداقة التي تربطيما منبع راحة لكمييما‪ .‬حدثيا عف ماضيو‬
‫السياسي‪ ،‬وحدثتو عف خيبات أمميا‪ ،‬واعتزاليا العالـ المحيط بيا‪،‬‬
‫وتوقيا لمعثور عمى النقاء والصدؽ بيف بني البشر‪ ،‬وحكى ليا عف‬
‫سنوات غربتو وصداقتو لغياث وعف أياـ شبابو وطموحاتو التي لـ‬
‫تتحقؽ‪..‬‬

‫في الوقت نفسو صارت رابية جزءاً الزماً مف مجموعة تتكوف‬


‫مف سنا وخالد‪ ،‬غياث وزياد‪ ،‬يمتقوف باستمرار‪ ،‬وكؿ منيـ يسعى لمقاء‬
‫اآلخر‪ .‬يحضروف المسرحيات معاً‪ ،‬يشاىدوف فيمما حديثاً‪ ،‬أو‬

‫يحضروف معارض الفف أو المحاضرات والندوات األدبية‪ .‬ىـ دوماً‬


‫معاً‪ ،‬المجموعة الكاممة‪ .‬وجدت رابية فييـ العالـ الذي طالما رنت لو‪.‬‬
‫لكؿ منيـ خصوصيتو وتفرده‪ ،‬لكنيـ كمجموعة أصبحوا عالماً كامبلً‬
‫ومتكامبلً‪.‬‬

‫كانت المجموعة مف أربعة‪ ،‬لكنيـ وجدوا في رابية رافداً جديداً‬


‫أصيبلً‪ .‬وسارت بيـ الحياة في مساراتيا‪..‬‬
‫(‪)10‬‬

‫في صباح أحد األياـ‪ ،‬كانت سنا تقود سيارتيا في الطريؽ‬


‫إلى الجامعة‪ ،‬فجأة شاىدت سيارة خالد تسبقيا‪ .‬أسرعت لتمحؽ بو‬
‫وتسمـ عميو‪ .‬حاذتو‪ ،‬ثـ تنبيت‪ .‬مف الفتاة التي تصحبو؟ كانا‬
‫يتضاحكاف وىو منشغؿ بيا حتى لـ يتنبو لوجود سنا‪ .‬لعبت الغيرة‬
‫برأسيا‪ .‬البد أنيا واحدة مف (الجواري)! مف تكوف ىذه الفتاة؟ البد‬
‫أنيا واحدة منيف‪ .‬لكنو وعدىا‪ ..‬وعدىا بقطع عبلقاتو لبناء جدار‬
‫الثقة بينيما‪ .‬وعدىا‪ ،‬بحضور زياد أنو لف يعود إلى عبلقاتو تمؾ‪ ،‬لو‬
‫وافقت عمى الزواج منو‪.‬‬

‫لقد كذب عمييا مرةً أخرى! خدعيا!‬

‫ألف يترؾ خالد كذبو؟ لماذا يعدىا وىو يدري أنو لف يحافظ‬
‫عمى وعوده؟ ما الذي ستفعمو؟‬

‫حاذتو حتى توقفا متجاوريف أماـ الضوء األحمر‪ .‬ضغطت‬


‫المنبو بقوة‪ ،‬فاستدار ورآىا‪ .‬أشارت لو بالتحية وىي تكظـ غيضيا‪ .‬ثـ‬
‫اشتعؿ الضوء األخضر‪ ،‬فاستدارت دورة كاممة في االتجاه المعاكس‬
‫وبأقصى سرعة‪ .‬ظؿ يراقب سيارتيا في المرآة العاكسة حتى غابت‬
‫عف أنظاره‪ .‬لـ يستطع المحاؽ بيا ألف زحاـ السير أعاقو‪ .‬ونسي خالد‬
‫أف ثمة فتاة معو في السيارة‪.‬‬

‫بعد أف رأت خالد مع إحدى (جواريو) ظمت تييـ عمى وجييا‬


‫ال تدري أي شوارع سمكت‪ .‬ثـ توجيت إلى الجامعة‪ .‬بحثت عف‬
‫غياث‪ ،‬ولـ تجده‪ .‬أكممت محاضراتيا وعادت إلى الدار والحيرة‬
‫تغمفيا‪ .‬ما أف دخمت الدار حتى سمعت رنيف الياتؼ‪ ،‬فرفعت‬
‫السماعة‪" ،‬نعـ؟"‬

‫"سنا‪ ،‬أيف كنت؟ أحاوؿ االتصاؿ بؾ منذ ساعات‪"..‬‬


‫كبحت غضبيا وردت بنبرة باردة‪" ،‬لـ أكف في البيت‪ .‬ىؿ‬
‫نسيت أني أعمؿ؟ أـ يفترض بي أف أظؿ سجينة الجدراف بانتظار‬
‫مكالمة منؾ؟ ىؿ تريد أف تضيؼ كذبة جديدة عمى أكاذيبؾ؟" غمبيا‬
‫الحزف فقالت بصوت متدا ٍع‪" ،‬دعني يا خالد‪ ،‬فمكؿ منا حياتو وآفاقو‪.‬‬
‫أرجوؾ‪ ..‬أرجوؾ ال تتصؿ بي ثانيةً‪ ،‬فقد مممت ىذه المعبة‪ ،‬ال بؿ‬
‫صارت تقرفني‪"..‬‬

‫توسؿ‪" ،‬بؿ أرجوؾ يا سنا‪ ،‬حاولي أف تفيمي‪"..‬‬

‫غمبيا الغضب‪" ،‬أفيـ ماذا؟ ىؿ لديؾ المزيد مف األكاذيب؟"‬

‫"صدقيني‪ ،‬أحبؾ يا سنا‪"..‬‬

‫أطمقت ضحكة أشبو بالنواح‪" ،‬ماذا تقوؿ؟ تحبني؟ ونزىت‪،‬‬


‫أال تحبيا؟ وحياة‪ ،‬ألـ تعد حبيبة القمب؟ وسعاد‪ ،‬ألـ تعد ضحكتيا‬
‫تسكرؾ؟ وليمى‪ ،‬أما يزاؿ شعرىا يتطاير مف نافذة سيارتؾ؟" صمتت‬
‫لحظة ثـ أردفت بنبرة يأس واضح‪" ،‬أنا‪ ،‬أنا يا خالد لست إال اسماً في‬
‫قالمة تطوؿ وتطوؿ‪"..‬‬

‫"أنت مختمفة‪ ،‬ليس في حياتي حب إالؾ‪ ..‬صدقيني‪".‬‬

‫"وىاتو النسوة؟"‬

‫"عبث‪ ،‬مجرد عبث‪ ،‬وقضاء وقت ال غير‪"..‬‬

‫صمتت ثـ تساءلت‪" ،‬قؿ لي يا خالد‪ ،‬ماذا تقوؿ لكؿ واحدة‬


‫منيف؟ ىؿ تستخدـ الكممات نفسيا‪ ،‬واالبتسامة والنظرة الناعسة؟ أـ‬
‫في رأسؾ قاموس لكؿ واحدة؟ أليست كؿ واحدة منيف مختمفة عف‬
‫األخرى؟ الكؿ يختمؼ‪ ،‬والكؿ يتشابو‪ ،‬ال ييـ‪ .‬أنثى لكؿ ساعة مف‬
‫ساعات اليوـ‪ .‬واحدة تبللـ بداية النيار‪ ،‬وأخرى لمرحبلت‪ ،‬وواحدة‬
‫لبعد الظير‪ ،‬وواحدة مع مبلبس السيرة‪"..‬‬
‫"ال تكوني قاسية‪ ،‬أرجوؾ‪ .‬أردت فقط السؤاؿ عنؾ‪ ،‬فبل‬
‫داعي أف نعود لمشجار‪ ،‬أال يمكف أف نتحدث مثؿ جميع الناس‪ ،‬مف‬
‫دوف معارؾ؟‬

‫"لو تخميت عف أكاذيبؾ‪ ،‬ألمكنني التحدث معؾ مثؿ كؿ‬


‫الناس‪ ".‬استجمعت شجاعتيا‪ ،‬وأردفت بحزـ‪" ،‬عمى أية حاؿ‪ ،‬صحتي‬
‫جيدة‪ ،‬وأنا مرتاحة‪ .‬شك اًر لسؤالؾ‪ ،‬ومع السبلمة‪ ".‬وأعادت سماعة‬
‫الياتؼ إلى مكانيا‪ .‬حمدت اهلل أنو ال يستطيع رؤية الدموع التي‬
‫انثالت وجرت عمى وجنتييا‪.‬‬

‫نعـ‪ ،‬ىي قاسية عميو‪ ،‬لكنيا أقسى عمى نفسيا مف قسوتيا‬


‫عميو‪ .‬يا إليي‪ ،‬إلى متى يظؿ ىذا العذاب؟ أال يكفي عذاب كؿ‬
‫السنوات؟ ماذا تفعؿ؟ كؿ الطرؽ مسدودة أماميا‪ .‬أليس مف حقيا‬
‫العيش مثؿ كؿ الناس؟‬

‫لـ تعد سنا تدري ما الذي ستفعمو بحياتيا‪ .‬الدموع ليست‬


‫حبلً‪ .‬مسحت دموعيا‪ .‬أحست باإلرىاؽ‪ ،‬ىي متعبة إلى حد االنييار‪.‬‬
‫تريد أف تناـ‪ ..‬تناـ وال تصحو‪ .‬ما أبعد الموت عمف يتمناه‪.‬‬

‫تناولت حبتي منوـ وتمددت في سريرىا‪ ،‬ونامت حتى صباح‬


‫اليوـ التالي‪ .‬حيف استيقظت‪ ،‬قررت تنفيد ما اقترحتو رابية‪ .‬أف تبتعد‪.‬‬
‫تبتعد لعميا تجد ذاتيا‪ .‬عمييا إببلغ إدارة الجامعة‪ .‬اتصمت بغياث في‬
‫منزلو‪ ،‬فقالوا ليا أنو ذىب إلى الجامعة‪ .‬اتصمت بزياد‪ ،‬فكاف قد غادر‬
‫بدوره‪ .‬ذىبت إلى الكمية‪ ،‬وكاف غياث في المحاضرة‪ ،‬فسعت إلى زياد‬
‫وأبمغتو قرارىا السفر‪ ،‬وغادرت‪.‬‬

‫ذىبت إلى قرية نالية ليس فييا إال أناس بسطاء طيبوف‪.‬‬
‫تركت وراءىا الجامعة واألصدقاء واألىؿ وصخب بغداد والدكتورة سنا‬
‫حامد‪ .‬لـ تأخذ إال حقيبة صغيرة فييا األشياء الضرورية‪ ،‬ومجموعة‬
‫أوراؽ بيض لكي تحاور نفسيا عمى ورقيا الصقيؿ‪ ،‬وبضعة أقبلـ‬
‫وروايات مف تمؾ التي يسمييا غياث كتب المتعة السيمة‪ ،‬ومسجؿ‬
‫صغير وبضع تسجيبلت لموسيقى ىادلة‪ .‬وذىبت لتمتقي مع سنا‪.‬‬

‫سكنت مع عالمة ال تعرؼ أياً مف أىميا‪ ،‬إال أف زياد كتب‬


‫ليـ رسالة أخذتيا معيا‪ ،‬يخبرىـ فييا أنيا إنسانة عزيزة عميو‪ ،‬تحتاج‬
‫إلى اليدوء والعزلة‪ ،‬ولف تجدىما إال عندىـ‪ ،‬في بيتيـ الصغير‪ .‬لـ‬
‫تكف تروـ أكثر مف سقؼ تأوى إليو ووجبات طعاـ خفيفة‪ .‬استقبموىا‬
‫بكؿ طيبة الريؼ وابتسامتو التمقالية‪.‬‬

‫بقيت معيـ تقضي وقتيا بالسير في الحقوؿ والبستاف أو‬


‫الجموس لساعات عديدة تواجو الشمس والنير والخضرة‪ .‬في ذىنيا‬
‫آالؼ األفكار‪ .‬ناقشت سنا‪ ،‬وسنا ناقشتيا‪ .‬والقرار صعب‪ :‬ىؿ تقبؿ‬
‫خالد عمى عبلتو‪ ،‬أـ تيجره؟ وأبعدت عف ذىنيا أي أمر آخر‪.‬‬
‫أمضت بضعة أسابيع قررت بعدىا العودة‪ .‬وحيف أبمغت أىؿ الدار‬
‫بنيتيا‪ ،‬أسفوا عمى فراقيا‪ .‬كـ تعرؼ ىذه القموب البسيطة كيؼ تحب‪،‬‬
‫وتحب ببل مقابؿ‪ .‬ودعتيـ وعادت إلى بغداد‪.‬‬
‫(‪)11‬‬

‫لـ يكف مف عادة رابية أف تتأخر الصبح في نوميا حتى لو‬


‫سيرت حتى الفجر‪ ،‬فيي تحب مبلقاة الشمس‪ .‬لكنيا‪ ،‬ولسبب ما‪ ،‬لـ‬
‫تنيض اليوـ‪ ،‬ولـ تشأ أميا إزعاجيا‪ ،‬فيي تدري أف ابنتيا ال تناـ إال‬
‫سويعات قميمة‪ ،‬فتحاوؿ عدـ إيقاظيا متى نامت‪ .‬لكنيا اليوـ جاءت‬
‫إلييا‪" ،‬رابية‪ ،‬رابية‪ ،‬ىناؾ مف يطمبؾ عمى الياتؼ‪"..‬‬

‫"ماما‪ ،‬قولي ليـ أني نالمة‪".‬‬

‫"لقد فعمت‪ ،‬لكنيا المرة الثانية التي يطمبؾ ىذا اليوـ‪ ،‬قمت لو‬
‫أنؾ نالمة‪ ،‬لكنو أصر ىذه المرة عمى الحديث معؾ‪ ،‬قاؿ خبرييا أف‬
‫غياث‪"...‬‬

‫شيقت‪ .‬انتصبت في سريرىا‪ .‬قاطعت أميا‪" ،‬غياث؟ غياث‬


‫عمى الياتؼ؟"‬

‫فوجلت األـ بما ط أر عمى ابنتيا‪ ،‬فيي لـ تعتد منيا مثؿ ىذه‬
‫الميفة‪" ،‬نعـ‪ ،‬ىذا ما قالو‪"..‬‬

‫لـ تنتظر رابية رداً مف أميا‪ ،‬بؿ قفزت مف السرير‪ .‬تعثرت‬


‫بالغطاء‪ .‬أوشكت عمى السقوط‪ .‬ثـ ركضت نحو الياتؼ‪ ،‬وحاولت أف‬
‫يبدو صوتيا ىادلاً‪" ،‬مرحباً‪"..‬‬

‫"صباح الخير رابية‪ ،‬أعتذر‪ .‬جاء دوري لبلعتذار‪ ،‬فاقبمي‬


‫عذري إلزعاجؾ‪"..‬‬

‫ضحكت بارتباؾ‪" ،‬أي إزعاج ىذا‪ .‬صباح الخير غياث‪،‬‬


‫كيؼ أنت؟"‬
‫"مشتاؽ‪ "..‬ولـ يزد عمى ذلؾ شيلاً‪ ،‬بؿ صمت‪ .‬ارتبكت رابية‬
‫ولـ تدر ما تقوؿ‪ ،‬فصمتت بدورىا‪" .‬رابية‪ ،‬اليوـ عيد ميبلد السيدة ىند‬
‫الصالح‪ .‬اتفقنا أف نذىب إلييا جميعاً وأنت معنا‪ "..‬حاولت مقاطعتو‪،‬‬
‫فسارع لمقوؿ‪" ،‬ال تعترضي أرجوؾ واسمعيني‪ .‬حاولت االتصاؿ بسنا‬
‫فمـ أفمح‪ ..‬ال أحد يرد عمى الياتؼ‪"..‬‬

‫"لكني كنت معيا أمس‪ ..‬أقصد أوؿ أمس‪ ،‬وشربنا القيوة‬


‫معاً‪"..‬‬

‫"إني أحاوؿ االتصاؿ بيا منذ أوؿ أمس‪ .‬لقد أبمغوني أنيا‬
‫جاءت إلى الجامعة وسألت عني لكنيا لـ تنتظر‪ .‬اتصمت بيا بعد‬
‫الظير‪ ،‬وعاودت االتصاؿ في المساء‪ ،‬فأبمغتني زوجة أخييا أنيا‬
‫ذىبت في سفرة قصيرة‪ ،‬واآلف ال أحد يرد عمى الياتؼ في بيتيـ‪.‬‬
‫سألت خالد فقاؿ أنو ال يدري شيلاً‪ .‬ولو أني متأكد مف نبرة صوتو أنو‬
‫يعرؼ شيلاً وال يريد التصريح‪ ..‬إني قمؽ جداً يا رابية‪".‬‬

‫فكرت لحظةً‪ .‬ىزت رأسيا لعميا تصفي أفكارىا‪" ،‬اسمع يا‬


‫غياث‪ ،‬امنحني بعض الوقت وسأعاود االتصاؿ بؾ‪ .‬ما رقـ ىاتفؾ؟"‬

‫أعطاىا رقـ ىاتفو‪ ،‬فأعادت السماعة إلى مكانيا‪ ،‬ثـ اتصمت‬

‫بدار سنا فمـ يرد أحد‪ .‬تصاعد قمقيا‪ .‬اتصمت بخالد‪ .‬كاف أكثر قمقاً‬
‫منيا وال يدري أيف سنا‪ .‬سألتو إف كانا قد تشاج ار مرة أخرى‪ ،‬فأجاب‪،‬‬
‫"رأيتيا صباح أوؿ أمس‪ .‬كانت بسيارتيا‪ .‬أشارت لي بالتحية ولـ‬
‫تتوقؼ‪ ،‬كما لـ أستطع المحاؽ بيا‪ .‬ىاتفتيا في البيت‪ ،‬وعمى الصراخ‬
‫بيننا‪ ،‬كالعادة‪ ،‬وأغمقت الياتؼ في وجيي‪ ،‬ثـ فشمت في االتصاؿ بيا‬
‫بعد ذلؾ‪ .‬ولـ أعد أدري ما أفعمو‪"..‬‬

‫صمتت برىة ثـ سألت‪" ،‬خالد‪ ..‬مف كاف معؾ في السيارة؟"‬


‫صمت خالد‪ ،‬ال يدري بـ يجيب‪ .‬ألحت عميو بالقوؿ‪" ،‬خالد‪ ،‬ال داعي‬
‫لمخجؿ معي‪ ،‬أنا أعرؼ كؿ شيء‪ ،‬فقد روت لي سنا الرواية كميا‪..‬‬
‫قد نعاود الحديث حوؿ األمر في مرة أخرى‪ ،‬أما اآلف‪ ،‬فأريد أف‬
‫أعرؼ‪ ،‬ىؿ كانت معؾ إحداىف ورأتؾ سنا معيا؟"‬

‫قاؿ بتردد‪" ،‬نعـ‪ ..‬ولكف‪"..‬‬

‫قاطعتو‪" ،‬مع السبلمة مؤقتاً‪ ،‬سأخبرؾ ما أحصؿ عميو مف‬


‫أخبارىا‪ ".‬وأعادت السماعة إلى مكانيا‪.‬‬

‫لـ تعد تدري ما الذي يمكنيا القياـ بو بعد ذلؾ‪ .‬أي جنوف‬
‫اعترى سنا؟ ما الذي يمكنيا أف تفعمو لمعثور عمييا؟ أيف تبحث عنيا؟‬
‫الكؿ يسأليا عف سنا‪ ،‬وىي ال تدري أيف سنا‪..‬‬

‫جمست أرضاً قرب الياتؼ‪ ،‬والحيرة تشؿ قدرتيا عمى التفكير‬


‫أو الحركة‪ .‬ال تدري ما تفعمو‪ .‬رف الياتؼ فرفعت السماعة قبؿ‬
‫اكتماؿ الرنة األولى‪" ،‬نعـ‪"..‬‬

‫"رابية‪ ،‬أنا زياد‪ .‬صباح الخير‪"..‬‬

‫"صباح الخير‪ "،‬حمؿ صوتيا خيبة األمؿ التي أحست بيا‬


‫ألف الياتؼ ال ينقؿ ليا صوت سنا‪.‬‬

‫"أبمغني غياث أنو اتصؿ بؾ لمسؤاؿ عف سنا‪ ،‬فتصورت أنؾ‬


‫البد قمقة عمييا‪ ،‬فاتصمت ألخبرؾ أف سنا بخير‪"..‬‬

‫صاحب بكؿ ليفتيا‪" ،‬وأيف ىي؟"‬

‫"ال تقمقي أرجوؾ‪ .‬كؿ ما في األمر أف سنا جاءت إلي في‬


‫الكمية بعد أف غادرتؾ‪ .‬كانت في حالة يرثى ليا‪ ،‬تحاوؿ إخفاء انييار‬
‫أعصابيا خمؼ قناع مف الضحكة اليستيرية والمزحة القاسية‪.‬‬
‫أخبرتني عف مشاىدتيا لخالد مع إحداىف‪ ..‬ثـ عف اقتراحؾ عمييا‬
‫بالسفر‪ .‬كانت تضحؾ وىي تقوؿ أنيا قررت السفر بعيداً عف‬
‫الجميع‪ ،‬كما قالت رابية‪ .‬لـ تكف تدري إلى أيف تذىب‪ ،‬وتساءلت‪،‬‬
‫(أوليس الموت رحيبلً يا زياد؟"‬

‫صاحت رابية‪" ،‬يا إليي! أيمكف أف تفعميا؟ ىذه المجنونة‬


‫بمقدورىا أف تفعؿ أي شيء! قؿ يا زياد‪ ،‬وماذا بعد؟"‬

‫تنيد‪" ،‬أنت تعرفيف يا رابية أف سنا صديقة عزيزة جداً عمى‬


‫نفسي‪ .‬وأعرؼ أخطاءىا واندفاعات روحيا‪ .‬كما أدري أف مف ال‬
‫يعرفيا جيداً يعجز عف إدراؾ المدى الذي يمكف أف يصؿ بيا التحدي‬
‫والرفض‪"..‬‬

‫عاد شيء مف االطملناف إلى نفس رابية‪" ،‬ىؿ تعرؼ سنا‬


‫منذ زمف بعيد يا زياد؟"‬

‫تنيد‪" ،‬نعـ أعرفيا مذ عادت مف كندا‪ .‬لقد عممت في قسـ‬


‫الفمسفة مع غياث‪ ،‬وىو الذي عرفني عمييا‪ ،‬وأذكر أنو قاؿ لي آنذاؾ‪،‬‬
‫(زياد‪ ،‬أود أف تتعرؼ عمى زميمة لي‪ ،‬استاذة معنا‪ ،‬لـ يسبؽ لي أف‬
‫رأيت امرأة شرقية مثميا‪ ..‬تتحدى الريح‪ ،‬وتستسمـ لمنسمة‪ ).‬وىذا‬
‫صحيح‪ ،‬فتمؾ ىي سنا‪".‬‬

‫ردت رابية بنبرة حزينة‪" ،‬نعـ‪ ،‬تمؾ ىي سنا‪ :‬قوية وضعيفة‬


‫في آف واحد‪ ..‬ربما كاف ىذا سبب المشكمة التي تعاني منيا‪ "..‬ولـ‬
‫تكمؿ رابية جممتيا‪ ،‬بؿ صمتت‪.‬‬

‫"تعنيف المشكمة مع خالد؟"‬

‫دىشت‪" ،‬أتعرؼ بيا؟"‬

‫تنيد‪" ،‬أعرفيا‪ ،‬كما أعرفيما‪ ،‬وكما أعرؼ أنيما ال يناسباف‬


‫بعض‪ .‬ليس ألف أياً منيما سيء‪ ،‬أو ىناؾ ما يشوب أحدىما‪ ،‬ال‪،‬‬
‫بالعكس‪ ،‬فكمييما رالع عمى طريقتو الخاصة‪ ".‬صمت برىة ثـ أردؼ‪،‬‬
‫"المشكمة في اختبلفيما‪ ،‬وىو اختبلؼ أعمؽ مف أف يقبؿ بو أي‬
‫منيما‪ .‬فبل ىي قادرة عمى القبوؿ بو عمى حالو‪ ،‬وال ىو بقادر عمى‬
‫تغيير حالو مف أجميا‪"..‬‬

‫"قؿ لي يا زياد‪ ،‬ىؿ فينا مف يقدر أف يغير ذاتو ونبقى عمى‬


‫أصالتنا لو غيرنا ذواتنا؟" ساد الصمت برىة‪" .‬الميـ‪ ..‬أيف سنا اآلف؟"‬

‫"سنا بخير‪ .‬كانت بحاجة ألف تبتعد عنا جميعاً‪ ،‬ولشدة خوفي‬
‫عمييا‪ ،‬أعطيتيا عنواف عالمة طيبة مف معارفي تعيش في منطقة‬
‫بعيدة‪ ،‬لكي تذىب إلييـ وتمضي عندىـ بعض الوقت‪ .‬كاف ذلؾ ىو‬
‫ما أرادت‪ ،‬وحاولت تحقيقو ليا‪ .‬آمؿ أف ال أكوف قد أسأت إلييا مف‬
‫حيث ال أدري‪"..‬‬

‫قاطعتو‪" ،‬بؿ أحسنت صنعاً يا زياد‪ .‬ذلؾ ىو فعبلً ما تحتاج‬


‫إليو سنا‪ .‬أف تخمو لذاتيا‪ ،‬لتعرؼ اتخاذ القرار المناسب مف دوف أف‬
‫يؤثر عمييا أي منا‪ "..‬صمتت برىة ثـ أردفت‪" ،‬زياد‪ ،‬ىؿ بإمكانؾ‬
‫االتصاؿ بخالد لتطملنو؟ إنو قمؽ جداً‪".‬‬

‫"سأفعؿ‪".‬‬

‫"إلى المقاء إذف‪".‬‬

‫"إلى المقاء‪".‬‬

‫أعادت سماعة الياتؼ وقد اطمأنت أف سنا بخير‪ .‬فيؿ‬


‫تتصؿ بغياث لتخبره؟ أـ تتصؿ بغياث لتسمع صوتو؟ أـ ال تتصؿ؟‬

‫أدارت قرص الياتؼ فجاءىا صوتو‪" ،‬نعـ؟"‬

‫"غياث؟"‬
‫"أىبلً رابية‪ ،‬كيؼ أنت؟"‬

‫"بخير بعدما تأكدت أف سنا بخير‪ .‬سافرت فجأة‪ ،‬وستعود‬


‫قريباً‪".‬‬

‫لـ يسأؿ غياث عف التفاصيؿ‪ ،‬بؿ صمت بعض الوقت‪،‬‬


‫ورابية متأكدة مف أنو إف لـ يسأؿ‪ ،‬فؤلنو يعرؼ الجواب أكثر منيا‪.‬‬
‫"ما الذي تنويف القياـ بو اليوـ؟"‬

‫"سأقرأ‪ ..‬قد أكتب قميبلً‪"..‬‬

‫"رابية أرجوؾ تعالي معنا إلى عيد ميبلد ىند الصالح‪"..‬‬

‫نبرتو أثارت اضطراب نفسيا‪ ،‬فقاطعتو ببعض الحدة‪" ،‬لكني‬


‫ال أعرفيا‪ .‬سمعت عنيا الكثير‪ ،‬وقرأت ليا‪ ،‬والكؿ يميج باسميا‪ ،‬لكني‬
‫ال أستطيع الذىاب إلى دارىا مف دوف سابؽ معرفة‪ .‬ىؿ ىذا معقوؿ؟"‬

‫"لو كنت تعرفينيا‪ ،‬كما أعرفيا‪ ،‬لما ترددت لحظة في الذىاب‬


‫إلييا مف دوف سابؽ معرفة‪".‬‬

‫ضحكت رابية‪" ،‬مف يتحدث بكبلـ يناقض نفسو اآلف؟ كيؼ‬


‫أعرفيا وال أعرفيا في آف واحد؟"‬

‫"أرجوؾ رابية‪ .‬إذ مذ عرفت ىند بصداقتنا وىي تمح عمينا أف‬
‫نعرفيا بؾ‪ .‬وىذه مناسبة معقولة لمتعارؼ‪ .‬فضبلً عف ذلؾ‪ ،‬سيكوف‬
‫بيتيا مميلاً بالزوار مف كؿ صنؼ ولوف‪ ،‬حتى أنؾ لف تشعري بأية‬
‫غربة ىنا‪ "..‬صمت برىة‪ ،‬ثـ أردؼ بما يقرب مف اليمس‪" ،‬ثـ أني‬
‫سأكوف معؾ‪ "..‬سرعاف ما غير نبرتو وأضاؼ‪" ،‬وزياد كذلؾ‪"..‬‬

‫ظمت عمى ترددىا‪" ،‬ال أدري يا غياث‪"..‬‬


‫صمت بدوره ثـ راقت نبرتو‪" ،‬رابية‪ ،‬ىؿ ترفضيف أوؿ طمب‬
‫أطمبو منؾ؟ أـ تريديف أف ألح عميؾ بالطمب؟"‬

‫أطمقت ضحكة متوترة‪" ،‬ال أبداً‪ .‬لكني مترددة‪ .‬أنا أيضاً‬


‫أرغب لقاء ىذه السيدة‪ ،‬لكني أشعر ببعض الحرج‪ ..‬ثـ أني لـ أىيء‬
‫ليا ىدية بالمناسبة‪"..‬‬

‫ضحؾ‪" ،‬اكتبي بيتيف مف الشعر عمى بطاقة جميمة‪،‬‬


‫وسأجمب معي باقة ورد‪ ،‬تضميف الشعر معيا ونيدييا ليند في‬
‫ميبلدىا‪"..‬‬

‫ضحكت‪" ،‬ال أدري‪"..‬‬

‫لـ يترؾ ليا فرصة لمتردد‪ ،‬فرد بحزـ‪" ،‬بؿ تدريف‪ .‬إنؾ ال‬
‫تعرفيف دارىا‪ ،‬ليذا سوؼ أمر عميؾ لنذىب معاً‪ .‬ىؿ تكفيؾ ساعة‬
‫الرتداء مبلبسؾ؟"‬

‫ضحكت بحبور‪" ،‬بؿ تكفيني عشر دقالؽ‪".‬‬

‫"سأكوف عندؾ إذف بعد ربع ساعة‪"..‬‬

‫سألت بمكر‪" ،‬ىؿ تعرؼ موقع داري يا غياث؟"‬

‫صمت فقد كشفت سره‪ .‬ىو بالطبع يعرؼ دارىا‪ ..‬ومنذ مدة‬
‫طويمة‪ .‬إذ بعد أف أعيتو الحيمة ليعرؼ عنيا أي شيء بعد المقاء‬
‫األوؿ معيا في المعرض‪ ،‬ظؿ يردد اسميا في كؿ فرصة أماـ معارفو‬
‫حتى عرؼ أنيا صديقة زميمتو الدكتورة سنا حامد‪ ،‬فعرؼ منيا‬
‫الكثير‪ ..‬الكثير عف رابية‪ .‬لكف ىؿ يخبرىا أنو يعرؼ دارىا‪ ،‬أـ‬
‫يتظاىر بالجيؿ؟ أحس في سؤاليا بعض المكر‪ ،‬فيؿ تقصد بقوليا‬
‫أنو لـ يزرىا بعد‪ ،‬أـ ماذا؟‬
‫قطعت رابية تردده بضحكة مرحة‪" ،‬اسمع يا غياث‪ ،‬ىؿ تريد‬
‫عمي الوقت وأنت تضيعو بصمتؾ لكي تقوؿ أف النساء ال‬ ‫أف تحسب ّ‬
‫يمتزمف بموعد؟ سأنتظرؾ بعد ربع ساعة‪ .‬إلى المقاء‪".‬‬

‫أخذ نفساً عميقاً بارتياح‪" ،‬اتفقنا‪ .‬إلى المقاء‪".‬‬


‫(‪)12‬‬

‫الكتاب األوؿ الذي نشر ليند الصالح منذ ما يزيد عف ثبلثيف‬


‫عاماً كاف بعنواف (قصة الطوفاف بيف الديانات السماوية واألساطير)‪.‬‬
‫قارنت فيو بيف األساطير السومرية وأساطير المايا‪ ،‬وما جاء في قصة‬
‫النبي نوح في الكتب السماوية‪ .‬صدر الكتاب باإلنجميزية أوالً‪ ،‬ثـ‬
‫ترجمت مقتطفات منو في بعض الصحؼ العربية‪ ،‬وبعدما ناؿ اىتماـ‬
‫األوساط العممية العربية‪ ،‬ترجـ كامبلً إلى العربية‪.‬‬

‫ىند الصالح ىذه ىي اإلبنة الوحيدة ألحد شيوخ العشالر‪.‬‬


‫توفيت أميا بعد والدتيا بسنوات قميمة‪ ،‬فعيد بيا أبوىا‪ ،‬صالح‬
‫الصالح‪ ،‬إلى إحدى المدارس الداخمية في بغداد ألنو أراد ليا تربية‬
‫حديثة‪ .‬عاشت ىند في المدرسة الداخمية وىي ال تعرؼ مف عالمتيا‬
‫إال األب الذي يزورىا في فترات متباعدة‪ ،‬وال تعرؼ عف عشيرتيا إال‬
‫االسـ الذي تحممو‪ :‬الصالح‪ .‬حيف كانت صغيرة‪ ،‬لـ تفيـ السبب الذي‬
‫يجعؿ منيا شيلاً ممفتاً لمنظر لمجرد كونيا مف عالمة الصالح‪ .‬كانت‬
‫تتساءؿ دوماً‪ ،‬ىؿ يكفي االسـ وحده لكي يتميز اإلنساف عف أقرانو؟‬
‫كانت متفوقة بدراستيا‪ ،‬ربما بسبب ذكاليا الفطري‪ ،‬أو ربما ألنيا‬
‫أرادت أف تكوف أكبر مف اسـ العالمة‪.‬‬

‫أتمت دراستيا اإلعدادية مف دوف أف تفكر بما ستفعمو بأياميا‬


‫المقبمة‪ .‬عاشت مع أبييا في قصره المنيؼ الذي بناه مطبلً عمى دجمة‬
‫في وسط البستاف الذي يممكو في الصميخ‪ .‬لـ يكف في القصر مف‬
‫تحاوره‪ .‬عاشت مع الكتب والموسيقى بديبلً عف البشر‪ .‬لـ يبخؿ عمييا‬
‫صالح الصالح بشيء منيا‪ ،‬فيو مستعد لتمبية كؿ طمباتيا‪ .‬ظمت ما‬
‫يزيد عمى السنة وحيدة في قصر أبييا‪ ،‬تتمشى في البستاف الشاسع‪.‬‬
‫تتفرج عمى انسياب دجمة بيدولو األزلي‪ .‬تختار ما تشاء مف مكتبتيا‬
‫العامرة بالكتب العربية واإلنجميزية واأللمانية‪ .‬مخيمتيا ال تزيد في‬
‫طمباتيا شيلاً‪ ،‬فيي ال تقدر أف تتخيؿ ماىية الحياة خارج الجدراف‬
‫التي عاشت بيف ظيرانييا في القسـ الداخمي منذ طفولتيا‪.‬‬

‫لـ تعرؼ ىند الحياة االجتماعية في بغداد‪ ،‬فيي بعيدة عنيا‪.‬‬


‫فالقصر محاط بالبستاف والنير‪ .‬والبستاف مميء باألشجار السامقة‪،‬‬
‫وىذه محاطة بدورىا بسياج مرتفع‪ .‬ال تزور أحداً وال أحد يزورىا‪ .‬ليس‬
‫مف صديؽ يؤنس وحدتيا‪ ،‬وال رفيؽ يجالسيا‪ ،‬إال أبوىا حيف يكوف في‬
‫المدينة‪ ،‬وحيف تسمح مشاغمو الكثيرة‪ .‬حاولت ىند حصر ذاتيا بيف‬
‫الجدراف‪ .‬حاولت الحد مف جموح مخيمتيا‪ .‬كتبت قصصاً ساذجة عف‬
‫أناس أجمؿ مف البشر‪ ،‬ومزقت ما كتبت‪ .‬حاولت إقناع أبييا بالسماح‬
‫بزيارة بعض صديقاتيا مف أياـ المدرسة‪ ،‬فرفض‪ .‬وما قدرت أف‬
‫تعصي لو أم اًر‪ .‬تقبمت وحدتيا عمى مضض‪.‬‬

‫حيف قاربت العشريف‪ ،‬جاء أبوىا وجمس معيا يرتشفاف أقداح‬


‫الشاي في الحديقة‪ .‬قاؿ‪" ،‬ىند‪ ،‬اليوـ جاءني السيد كامؿ الحسيني‬
‫يطمب يدؾ البنو مناؼ‪ .‬ومناؼ شاب متعمـ في أحسف جامعات‬
‫إنجمترا‪ ،‬ويعمؿ حالياً في و ازرة الخارجية‪ .‬الحقيقة يا ابنتي‪ ،‬أني لـ أشأ‬
‫رفض طمبو قبؿ استشارتؾ‪ ،‬فما رأيؾ؟"‬

‫ابتسمت بأسى‪" ،‬رأيي بماذا؟ ما الذي أعرفو عف ىذا‬


‫الشخص‪ ،‬أو غيره لكي أستطيع القبوؿ أو الرفض؟" ابتسمت بوجو‬
‫ابييا‪" ،‬ثـ أنؾ تنوي رفض طمبو في جميع األحواؿ‪ ،‬ومف دوف أف‬
‫أعرؼ السبب‪ .‬فما ىو المطموب مني يا أبي؟"‬

‫"أفيـ ما تقوليف‪ ،‬لكني كنت سأقبؿ بو زوجاً لؾ‪ ،‬فيو شاب‬


‫ممتاز والمستقبؿ أمامو‪ ،‬ومف عالمة كريمة‪ .‬إنو يمتمؾ كؿ الصفات‬
‫المطموبة‪ ..‬لوال أنو‪"..‬‬
‫صمت صالح الصالح مفك اًر‪ .‬لـ ترغب ىند أف تقطع‬
‫تأمبلتو‪ ،‬فصمتت بدورىا‪ .‬ارتشؼ بعضاً مف شايو ثـ قاؿ‪" ،‬المشكمة‬
‫الوحيدة ىي أنو ليس مف عالمة الصالح‪ .‬األمر الذي يعني اعتراض‬
‫أبناء عمومتؾ عمى زواجؾ منو‪"..‬‬

‫انتفضت وردت بغضب‪" ،‬وما شأنيـ باألمر ما دمت راضياً؟"‬

‫"إنيـ أحؽ مف الكؿ باالقتراف بؾ‪"..‬‬

‫تصاعد غضبيا‪" ،‬لكني أرفض الزواج بأي منيـ‪ ،‬وتمؾ‬


‫مسألة سبؽ أف تحدثنا بشأنيا حيف خطبني ابف عمي سعدي‪"..‬‬
‫أخذت نفساً عميقاُ وأردفت‪" ،‬أبي‪ ،‬قمت لؾ حينذاؾ‪ ،‬وأكررىا اليوـ‪،‬‬
‫أني لف أتزوج مف أبناء عمومتي حتى لو لـ أتزوج طيمة حياتي‪"..‬‬
‫أحست ىند أف صوتيا قد ارتفع‪ ،‬فأرادت تدارؾ األمر‪ ،‬فصمتت برىة‬
‫سيطرت خبلليا عمى ثورة نفسيا‪ ،‬ثـ قالت بصوت ىادئ‪ ،‬خافت‪،‬‬
‫"أبي‪ .‬أني لـ أرفض لؾ طمباً مف قبؿ‪ ،‬فبل تدفعني اليوـ لمتمرد عمى‬
‫إرادتؾ‪ ..‬أرجوؾ‪ .‬لؾ أف تختار لي الزوج الذي تريده‪ ،‬فمف أعترض‪.‬‬
‫ولؾ أف تبقيني مف دوف زواج‪ ،‬وكذلؾ لف أعترض‪ .‬لكني لف أقبؿ‬
‫الزواج مف أي فرد مف العالمة‪ .‬وىذا قرار لف أتراجع عنو ميما‬
‫حصؿ‪".‬‬

‫لـ يقؿ أبوىا شيلاً‪.‬‬

‫بعد مرور بضعة أشير جاء أبوىا مستبش اًر‪" ،‬ىند‪ ،‬ىؿ‬
‫تذكريف حديثنا عف مناؼ‪ ،‬ابف السيد كامؿ الحسيني؟"‬

‫فوجلت‪" ،‬نعـ‪ ،‬أذكر يا أبي‪ ،‬كما أذكر أف األمر انتيى‬


‫حينذاؾ‪ ،‬فما الذي استجد؟"‬
‫"أوالً األمر لـ ينتو حينذاؾ‪ .‬فمقد تشاورت مع السيد كامؿ‬
‫واتفقنا عمى تأجيؿ الموضوع إلى حيف صدور أمر نقؿ مناؼ إلى‬
‫الخارج‪ ،‬ثـ نناقش المسألة مف جديد‪ .‬ثانياً‪ ،‬سعينا‪ ،‬ك ٌؿ مف جانبو لنقؿ‬
‫مناؼ بأقرب وقت ممكف‪"..‬‬

‫"إذف؟"‬

‫"صدر أمر نقؿ مناؼ في األسبوع الماضي‪ ،‬واتفقنا عمى‬


‫عقد قرانكما يوـ الخميس القادـ‪ ،‬مف دوف ضجة أو احتفاالت‪،‬‬
‫تحاشياً إلثارة أية مشكمة مع أبناء عمومتؾ‪ .‬وتسافراف‪ ،‬بعدىا أتولى‬
‫ترضية أبناء عمومتؾ‪ .‬ما رأيؾ؟"‬

‫لـ تعترض ىند‪ ،‬ألف أية حياة أخرى البد أف تكوف أفضؿ‬
‫مف حياتيا الراىنة‪ .‬ورفقة أي إنساف ستكوف أىوف عمييا مف الفراغ‬
‫الذي تعيشو‪ .‬رضيت بالزواج مف مناؼ‪ ،‬وتمت اإلجراءات بيدوء‪،‬‬
‫ساف ار بعدىا إلى حيث التحؽ مناؼ بعممو‪ ،‬وىي بحياتيا الجديدة‪.‬‬

‫بعد فترة التعارؼ األولى‪ ،‬اكتشفت ىند في مناؼ إنساناً‬


‫رالعاً‪ .‬كاف بح اًر مف الحناف أحاط بيا‪ .‬كاف ليا الصديؽ واألب‬
‫والزوج‪ .‬قاد خطواتيا األولى في الحياة االجتماعية ٍ‬
‫بترو وتفيـ‪ .‬تحمؿ‬
‫فورات غضبيا‪ ،‬وحوليا إلى اندفاعات جديدة‪ .‬ساعدىا لمعرفة ذاتيا‬
‫واىتماماتيا‪ .‬صارت أياميا ال تكفي لتقوـ بكؿ ما تريد فعمو‪ .‬اختمطت‬
‫بكؿ صنوؼ البشر ومف مختمؼ الطبقات‪ .‬درست الحياة االجتماعية‬
‫في كؿ بمد حمت فيو‪ ،‬وقرأت تاريخو وعاداتو وطقوس ديانتو وطراز‬
‫أبنيتو‪ .‬كتبت الكثير مف المبلحظات‪ ،‬فكانت ىذه المبلحظات ىي‬
‫البداية لما توسمو فييا مناؼ مف قدرة عمى التحميؿ والمقارنة‪ .‬شجعيا‬
‫لتكتب‪ ،‬وكتبت ىند الكثير الكثير‪.‬‬
‫لـ يكتب ليذا الزواج أف يزينو وجود أبناء ليما‪ .‬وأسؼ‬
‫كمييما لعدـ قدرة ىند عمى اإلنجاب‪ .‬استشا ار األطباء في كؿ مكاف‪.‬‬
‫لكف الطب يعجز أحياناً‪ ،‬وقد عجز في ىذه الحالة‪ .‬آمنا بالقدر وظبل‬
‫عمى تقاربيما الذي ازداد رسوخاً ومحبةً عمى مر األعواـ‪.‬‬

‫عرفيما غياث حيف سافر لمدراسة في فرنسا حيث يعمؿ‬


‫مناؼ في السفارة بباريس‪ .‬كانا لو خير األصدقاء وأبديا لو كؿ‬
‫مساعدة ممكنة‪ .‬ظمت الصداقة تربطو بيما بالرغـ مف فارؽ العمر‬
‫الذي يفصمو عنيما‪ .‬وحيف عاد إلى بغداد ظؿ يراسميما حيثما حبل‪.‬‬
‫وحيف توفي مناؼ‪ ،‬وقؼ غياث مع ىند وساعدىا حيف عادت إلى‬
‫بغداد في إصبلح قصر أبييا بعدما حؿ بو اإلىماؿ لسنوات طويمة‪.‬‬
‫أعادت ىند لمقصر زىوه وأضافت لو ما حممت مف ذوؽ وأثاث‬
‫جمعتو مف أرجاء األرض‪.‬‬

‫ظؿ غياث يزورىا وييوف عمييا وحدتيا‪ ،‬وحاوؿ أف يعيد ليا‬


‫اىتماماتيا بما حوليا‪ .‬دفعيا لمعرفة مدينتيا التي ما عرفتيا عمى‬
‫حقيقتيا يوماً‪ .‬وحيف استعادت ىند توازنيا الذي فقدتو مع مناؼ‪،‬‬
‫ساعدىا غياث أيضاً لمعودة إلى الكتابة والنشر‪ .‬صار بيتيا ممتقى‬
‫ألىؿ الفكر في بغداد‪ .‬وىي بينيـ شعمة مف ذكاء وفطنة وكياسة‪.‬‬

‫في ىذا اليوـ الربيعي‪ ،‬يوـ عيد ميبلد ىند الصالح‪ ،‬قالت‪،‬‬
‫"لقد ولدت مع أوؿ أياـ الربيع‪ ،‬وبعد قسوة الشتاء وقبؿ حموؿ الصيؼ‪،‬‬
‫إلي‪ .‬فاهلل يبعث لي أوؿ زىرة ربيعية كؿ‬
‫يأتي يوـ ميبلدي بيدية الرب ّ‬
‫عاـ‪"..‬‬

‫اعتاد األصدقاء أف ييدييا ك ٌؿ منيـ زىرة في عيد ميبلدىا‪.‬‬


‫وصؿ غياث ورابية فدلفا مف باب األيكة المفتوح عمى مصراعيو‪.‬‬
‫المكاف يزدحـ بالمدعويف وقد انتشروا بيف البستاف والحديقة والشرفة‬
‫المطمة عمى دجمة‪ .‬الكؿ يحتفؿ مع ىند الصالح بالربيع القادـ والحياة‬
‫المتجددة‪.‬‬

‫مد غياث يده بباقة الورد لكي تحمميا رابية‪ ،‬إال أنيا سحبت‬
‫منيا وردة واحدة‪ ،‬ربطت حوليا شريطاً تدلت منو بطاقة صغيرة‬
‫ربطتيا بشريط بموف الوردة‪ .‬وأعادت لو باقة الورد ليحمميا‪.‬‬

‫فوجلت رابية بعدد الحاضريف فسألت‪" ،‬لـ تقؿ لي يا غياث‬


‫أننا سنشيد مثؿ ىذا الجمع الحاشد‪ .‬تصورت أننا سنكوف بضعة‬
‫اصدقاء ال غير‪"..‬‬

‫ابتسـ‪" ،‬ال تقمقي‪ .‬أعرؼ أنؾ ال تحبيف الزحاـ‪ ،‬لكف في دار‬


‫ىند‪ ،‬يمكنؾ أف تكوني وحيدة بيف الجمع الحاشد‪"..‬‬

‫أرادت رابية أف تعترض‪ ،‬أو تعود أدراجيا‪ ،‬إال أف غياث‬


‫طوؽ كتفيا بذراعو‪ ،‬فارتبكت‪ ،‬وسكتت‪ ،‬فقاؿ‪" ،‬ىيا‪ ..‬تمؾ ىند ىناؾ‪،‬‬
‫فمنذىب لمسبلـ عمييا‪"..‬‬

‫لـ تعرؼ رابية كيؼ تمكنت قدماىا عمى حمميا لشدة‬


‫اضطرابيا‪ .‬ما أف شاىدت ىند غياث حتى تقدمت منيما باسمة‪،‬‬
‫وشعرىا الفضي يمتمع تحت أشعة الشمس‪" ،‬أىبلً‪ ..‬أىبلً غياث‪"..‬‬
‫لثمت جبينو‪ ،‬وأعطاىا باقة الورد‪ .‬ثـ استدارت إلى رابية التي زاد‬
‫ارتباكيا كأنيا مراىقة‪ .‬ابتسمت ىند‪" ،‬البد أف ىذه ىي رابية‪ ،‬أليس‬
‫كذلؾ؟"‬

‫فوجلت رابية وصعد الدـ إلى وجنتييا‪" ،‬كؿ عاـ وأنت‬


‫بخير‪"..‬‬

‫"وكمنا بخير وسعادة‪ .‬شك اًر لمجيلؾ اليوـ‪ ،‬فمقد سمعت الكثير‬
‫عنؾ مف غياث حتى ليخيؿ لي أني أعرفؾ منذ زمف بعيد‪ ".‬لـ تعرؼ‬
‫ضف‬
‫رابية بـ ترد‪ ،‬فأردفت ىند‪" ،‬وودت مقابمتؾ منذ مدة إال أف غياث ّ‬
‫عمي بمقالؾ‪".‬‬
‫ّ‬

‫مدت رابية يدىا بالزىرة التي جاء بيا غياث‪ ،‬فأخذتيا ىند‬
‫وتنشقت عطرىا ثـ شكرتيا‪ .‬بقيت تحادثيما حتى زاؿ بعض ارتبؾ‬
‫رابية‪ ،‬وجاء ضيوؼ جدد فذىبت ىند لترحب بيـ‪.‬‬

‫سا ار عمى ميؿ وسمما عمى بعض معارفيما‪ ،‬وتفرجا عمى‬


‫الحديقة‪ .‬لـ تشأ رابية أف تظؿ طواؿ الوقت مع غياث‪ ،‬تعاني مف‬
‫ارتباؾ ال تعرؼ لو سبباً‪ ..‬أو ربما تعرؼ وال تريد أف تعترؼ‪ ..‬انشغؿ‬
‫عنيا برىة ليسمـ عمى أناس ال تعرفيـ‪ ،‬فتسممت مبتعدة‪ .‬تمشت بيف‬
‫األشجار حتى وصمت إلى زاوية بيف النير والحديقة‪ ،‬فجمست عمى‬
‫كرسي خيزراف‪ ،‬لتستمتع بأشعة الشمس وتسرح بأفكارىا‪ ،‬وقد ركزت‬
‫نظرىا عمى نير دجمة الذي يمتد أماميا في مساره األزلي‪.‬‬

‫أحست ببعض الغربة في ىذا الوسط‪ .‬لذ ليا أف تضيع‬


‫بينيـ‪ .‬الغريب في األمر أف ىذه الغربة ال تؤلميا‪ ،‬فيي ترى بعض‬
‫الوجوه التي تحبيا‪ ،‬لكنيا ال تستطيع التواصؿ معيا‪ .‬ليس المكاف ىو‬
‫ما يجمع أو يفرؽ بيف البشر‪ ،‬بؿ اإلحساس بالتواصؿ مف عدمو‪.‬‬
‫اآلف‪ ،‬في ىذا اليوـ الربيعي الرالع‪ ،‬والمكاف المريح‪ ،‬لذ ليا اإلحساس‬
‫بوحدتيا بيف كؿ ىؤالء البشر‪ .‬الكؿ يتحدث حوليا‪ ،‬وال أحد يقوؿ‬
‫شيلاً‪ .‬الكؿ يضحؾ‪ ،‬وال أحد يبتسـ‪ .‬ترى ما الذي يخمؽ األلفة بيف‬
‫البشر؟ ىذا الجسر البلمرلي الذي نسميو التواصؿ‪ ،‬لكف‪ ،‬مف يبني‬
‫ىذا الجسر‪ ،‬وكيؼ‪ ،‬ولماذا؟ لماذا يوجد بيف بعض بني البشر دوف‬
‫غيرىـ؟ ىؿ ىو التماثؿ بيف ىؤالء واالغتراب عف أوللؾ؟‬

‫نظرت رابية وتأممت بعض مف ىـ حوليا‪ .‬كبل‪ ،‬ليسوا‬


‫متشابييف‪ .‬ك ٌؿ يختمؼ عف اآلخر‪ ،‬ولكؿ منيـ تفرده وخصوصيتو‪.‬‬
‫مع ذلؾ‪ ،‬ثمة خيوط تجمع الواحد باآلخر‪ ،‬أو تعزؿ الواحد عف‬
‫اآلخر‪ .‬ابتسمت مع بعض معارفيا ممف مروا بالقرب منيا‪ ،‬مع ذلؾ‬
‫بقيت وحيدة بينيـ‪ .‬تستمتع بوحدتيا بيف اآلخريف‪ .‬كـ أحست بنفسيا‬

‫مشتتة بيف األضداد‪ .‬أف تكوف وال تكوف في آف واحد‪ .‬ترى بعضاً‬
‫منيا في كؿ منيـ‪ .‬تساءلت مع نفسيا‪ ،‬ىؿ ىي أنانية؟ ولـ تعرؼ‬
‫الجواب‪ .‬ربما ىي كذلؾ‪ .‬ما ىي المحبة؟ أليست‪ ،‬كما قالت سنا في‬
‫يوـ ما‪ ،‬أنيا العطاء‪ ،‬أنانية العطاء‪ .‬أف تمنح ما في نفسيا مف دوف‬
‫انتظار المقابؿ‪ .‬تكفييا ابتسامة دافلة‪ ،‬ونظرة خاطفة لكي تمد يدىا‬
‫وتعطي لآلخر روحاً تييـ في ٍ‬
‫عالـ متناقض‪.‬‬

‫حاولت رابية أف تبعد أفكارىا عنو‪ ..‬عف غياث‪ .‬حاولت أف‬


‫ال تبحث عنو بيف المجموعات المتناثرة مف البشر‪ .‬ما الذي يميز‬
‫غياث ىذا لكي يبعث في نفسيا كؿ ىذه األحاسيس المتناقضة؟ فيي‬
‫تريده‪ ،‬وال تريده؟ تريد الدنو منو‪ ،‬وأف تيرب منو‪.‬‬

‫وصؿ زياد‪ .‬شاىدتو رابية يدنو مف حيث تجمس‪ ،‬رفعت يدىا‬

‫لتحيتو فابتسـ وتقدـ منيا‪ .‬سحب كرسياً وجمس إلى جوارىا‪" ،‬سبلماً‬
‫رابية‪ .‬ما لي أراؾ ساىمة كمف أضاع سفتو؟ أيف وصمت سفنؾ‬
‫التالية؟"‬

‫ابتسمت‪" ،‬لف تصؿ ألف المرافئ الصغيرة ال تحتمؿ وجودىا‪،‬‬


‫والمرافئ الكبيرة نالية في الجزر الضالعة في بحار العالـ‪ ".‬صمتت‬
‫برىة وىو يتأمميا‪ .‬أغمضت عينييا وأكممت رسـ الصورة‪" ،‬وتظؿ‬
‫نفسي المسكينة تقطؼ النباتات البرية وتتمظى في الشموس الحارقة‬
‫لتعود ثانيةً إلى التيو‪ ".‬فتحت عينييا ونظرت في عينيو‪" ،‬مشتاقة لؾ‪،‬‬
‫أيف أنت أييا الصديؽ؟"‬

‫ضحؾ‪" ،‬ىؿ نسيت؟ التقينا أوؿ أمس‪ ،‬واليوـ نمتقي‪"..‬‬


‫تنيدت‪" ،‬صحيح‪ ،‬لكني أشتاؽ إلى فنجاف قيوتنا‪ ،‬والثرثرة‬
‫الصباحية عف آالـ ال يعترؼ بيا أحد سوانا‪ ،‬وال نجرؤ عمى البوح بيا‬
‫لسوانا‪ "..‬ضحكت بأسى‪" ،‬لكي ال نتيـ بالجنوف أو‪"...‬‬

‫قاطعيا‪" ،‬ال تنكري يا رابية أف فينا مف الجنوف الذي نغمفو‬


‫بأغمفة الوقار‪ "..‬تنيد وصمت برىة‪ ،‬ثـ أردؼ‪" ،‬أتدريف يا رابية‪..‬‬
‫متعة فنجاف قيوتنا الصباحية ىي أنيا أشبو بكرسي االعتراؼ الذي‬
‫يجعؿ كبلً منا يستمتع بعذاباتو حيف يكشفيا لآلخر‪"..‬‬

‫"كنت أظنؾ ترتاح لكرسي االعتراؼ ىذا يا زياد‪ ..‬لكف يبدو‬


‫أني كنت مخطلة‪"..‬‬

‫قاطعيا‪" ،‬ال‪ ،‬ال لست مخطلة يا رابية‪ ،‬ولكف‪ ..‬آآآآه يا‬


‫رابية‪ ..‬ال أريد القوؿ‪ ،‬لؾ‪ ،‬أني مشغوؿ‪ ،‬فتمؾ حقيقة وأكذوبة في آف‬
‫واحد‪ .‬ال أقدر أف أقوؿ سوى أنيا صارت تؤلمني‪ ،‬فأنا أخاؼ كثي اًر يا‬
‫صديقتي‪ ..‬أخاؼ مما يجوؿ برأسي‪ ..‬أخاؼ أفكاري‪ ..‬وأخاؼ البوح‪..‬‬
‫آآآآآه‪ ،‬بماذا تريديف أف أبرر يا رابية؟؟؟"‬

‫ضحكت برقة‪" ،‬ال أريد منؾ تبري اًر أو ذرالع يا زياد‪ .‬أنا ال‬

‫أعاتبؾ‪ ..‬أال تفيـ يا زياد أني ال أحب العتاب‪ ،‬ألف فيو التزاماً‬
‫والزاماً‪ .‬وأنا ال أحب أياً منيما‪ .‬كما أكره البرمجة واألحاديث مسبقة‬
‫الحفظ‪ ".‬نظرت إليو بمؿء عينييا‪" ،‬ال أعاتبؾ يا زياد‪ ،‬لكني أشتاؽ‬
‫لمصديؽ الذي افتقدت وجوده منذ زمف بعيد‪ ،‬ال غير‪ "..‬نظرت إلى‬
‫األرض الترابية تحت قدمييا‪" ،‬أما حيف نمتقي بيف حشود البشر‪ ،‬فبل‬
‫تعود أنت زياد نفسو‪ ،‬وال أنا رابية نفسيا‪ ..‬ليذا‪"..‬‬

‫عمي! أعدؾ‪"..‬‬ ‫ٍ‬


‫قاطعيا‪" ،‬رابية‪ ،‬ما تقولينو قاس ّ‬
‫رفعت يدىا معترضة‪" ،‬أرجوؾ‪ ،‬الوعد التزاـ أيضاً‪ .‬وكما‬
‫اتفقنا قبؿ قميؿ‪ ..‬ال تعدني يا زياد‪ ،‬بؿ قؿ أنؾ ستجيء متى رغبت‬
‫بالمجيء‪ ،‬ال غير‪"..‬‬

‫"تعمميف أني أريد المجيء إليؾ دوماً‪ ،‬لكف ثمة الكثير مما‬
‫يمنعني‪ ،‬وليس مف بيف ىذا الكثير أني ال أرغب برؤيتؾ‪"..‬‬

‫"إذف‪ ،‬كؿ ما أستطيع قولو‪ ،‬تعاؿ يا زياد متى رغبت‪ ،‬فالبيت‬


‫بيتؾ‪ ،‬أما حيف ترى في ذلؾ حرجاً فأنت حر‪ ،‬ولف تسمع مني لوماً أو‬
‫عتاباً‪".‬‬

‫"إنؾ تذىمينني دوماً‪"..‬‬

‫الحدة‪" ،‬أرجوؾ يا زياد‪ ،‬قمت لؾ م ار اًر أني ال‬


‫قاطعتو ببعض ّ‬
‫أحب الكممات الكبيرة‪ ،‬بؿ البساطة والصدؽ‪ .‬أرحب بؾ حيف تجيء‪،‬‬
‫وأعذرؾ حيف تغيب‪ ،‬لكني في كؿ األحواؿ أشتاؽ لؾ يا صديقي‪ ،‬ال‬
‫غير‪".‬‬

‫ساد الصمت بينيما‪ ،‬وظؿ كؿ منيا سارح مع أفكاره‪ ،‬يتأمؿ‬


‫مسار دجمة ينساب بيدولو األزلي‪ .‬سأليا‪" ،‬خبريني‪ ،‬أيف وصمت‬
‫مشاريعؾ وأحبلمؾ؟"‬

‫أغمضت عينييا‪" ،‬ال جديد‪ ..‬أحبلـ‪ ..‬أحبلـ‪ ..‬أحبلـ‪ .‬لكف‬


‫الواقع يسحؽ أحبلمي‪ ،‬حتى بت أخشاىا وأخشى الحديث عنيا‪ .‬وأنا‬
‫يا صديقي‪ ،‬مممت الخشية‪ ،‬ومممت الخوؼ حتى القرؼ‪ ،‬لكني ال أممؾ‬
‫إال أف أخاؼ أكثر‪ "..‬فتحت عينييا عمى سعتيما‪" ،‬أكبر جبانة أنا‪،‬‬
‫وأكبر مدعية بعدـ الخوؼ‪ .‬لكنو موجود في داخمي‪ ،‬ويحرؽ أحشالي‪.‬‬
‫فأضحؾ كي أخفيو‪ .‬حتى أني أتساءؿ‪ ،‬أييف أنا‪ ،‬المرعوبة حد‬
‫اليزيمة‪ ،‬أـ الضاحكة حتى الجنوف؟" صمتت وأدارت عينييا إلى‬
‫انسياب دجمة‪ ،‬ثـ جاءه صوتيا ىادلاً يقرب مف اليمس‪" ،‬أرى أنؾ‬
‫حدثت غياث عف الشعر الذي أكتبو خفية؟" حدقت في عينيو‪" ،‬لقد‬
‫طمب مني اليوـ أف أكتب بيتيف مف الشعر أرفقيما بيدية السيدة ىند‪".‬‬

‫"ولـ ال يا رابية؟ إلى متى تظميف تخفيف قصالدؾ بيف‬


‫األدراج؟ ألـ نتفؽ عمى جمع باقة منيا لمنشر؟"‬

‫"ليذا قمت لؾ قبؿ قميؿ أني أكبر جبانة‪ ..‬إذ كمما فكرت‬
‫بنشرىا يتعاظـ خوفي‪"..‬‬

‫"كمنا نخاؼ يا صديقتي‪ .‬كمنا نخاؼ لو تعرفيف! نحف‬


‫ميزوموف حتى األعماؽ‪ "..‬تنيد‪" ،‬آآآآآه‪ ،‬نحف نصفؽ لشاعر مف‬
‫غواتيماال ألنو يجرؤ عمى البوح بأفكارنا التي ال نجرؤ عمى اليمس‬
‫بيا‪ .‬ونضحؾ لفيمـ أمريكي‪ ،‬ونبكي لموسيقى ىندية‪ ..‬آآآآآآآآه‪،‬‬
‫آآآآآآآآآه يا صديقتي‪".‬‬

‫ابتسـ بأسى‪" ،‬كؿ ذلؾ ألننا ال نجرؤ أف نحكي قصة عاطفية‬


‫بسيطة كما وقعت‪ .‬نعمد إلى تزييفيا لكي يقبؿ بيا اآلخروف وال نتيـ‬
‫أننا أبطاليا‪"..‬‬

‫ىز رأسو إذ رأى حزنو منعكساً في روحيا‪" ،‬كمنا يا صديقتي‬


‫نخاؼ مف كؿ شيء‪ ،‬مف الناس ومف األصدقاء‪ .‬نخاؼ مف سوء‬
‫الفيـ‪ .‬نخاؼ الجرح ألننا لـ نعد نمتمؾ المزيد مف الدماء لننزفيا‪ ،‬ولـ‬
‫يبؽ أمامنا سوى االختباء وراء واجياتنا الضاحكة المقبولة‪ .‬لقد شبعنا‬
‫مف اليزيمة‪ ،‬واليزيمة مؤلمة‪ .‬فبل نبوح بيا ألحد‪ ،‬حتى وال ألنفسنا‪"..‬‬

‫طاؿ الصمت بينيما‪ ،‬فالصمت بعض مف حوارىما كمما‬


‫التقى زياد برابية‪ .‬اقتربت ىند الصالح‪ ،‬بحيويتيا وابتسامتيا التي تشيع‬
‫حوليا جواً مف المرح‪ .‬مف يراىا ال يصدؽ أنيا يمكف أف تكوف قد‬
‫عرفت الحزف أو المعاناة‪ .‬نيض زياد عف كرسيو وقدمو ليا‪،‬‬
‫فابتسمت لو‪" ،‬شك اًر زياد‪ "..‬ابتعد زياد بضع خطوات‪ ،‬فأشارت إلى‬
‫كرسي قريب‪" ،‬أجمس إلى جواري فأنا مشتاقة ألحاديثؾ‪"..‬‬

‫سحب كرسيا وجمس‪ .‬ظمت ىند تحدؽ في وجو رابية حتى‬


‫أحست ىذه أف الدماء تدفقت إلى وجنتييا‪ ،‬وىي تتساءؿ مع نفسيا‬
‫عما يدور في خمد مضيفتيا‪ .‬أدركت ىند بفطنتيا الحرج الذي سببتو‬
‫لضيفتيا‪ ،‬فابتسمت‪" ،‬سمعت الكثير عنؾ مف غياث يا رابية‪ ،‬إذ مذ‬
‫عرفؾ ال حديث لو إال رابية الحمود‪ "..‬أدارت نظرتيا إلى زياد‪،‬‬
‫"تصور يا زياد‪ ،‬اليوـ عرفتيا قبؿ أف يخبرني غياث باسميا‪"..‬‬

‫بعض مف مواىبؾ يا ىند‪"..‬‬


‫رد بكياستو المعيودة‪" ،‬الفراسة ٌ‬

‫ضحكت‪" ،‬لديؾ دوماً كممة طيبة لتقوليا يا زياد‪ ..‬وىذا‬


‫عيدي بؾ‪ ".‬استدارت إلى رابية‪" ،‬كيؼ عرفت يا رابية أف ىذه ىي‬
‫زاويتي المفضمة‪ ،‬فاخترت الجموس فييا؟ ىؿ أخبرؾ أحد بذلؾ‪ ،‬أـ‬
‫إحساسؾ حممؾ إلييا؟"‬

‫شاع بعض االطملناف في نفس رابية‪ ،‬فردت‪" ،‬أبدًا‪ ،‬لـ‬


‫يخبرني أحد‪ .‬تجولت بيف المدعويف في الحديقة‪ ،‬ثـ اكتشفت ىذه‬
‫الزاوية التي تمتمؾ منظو اًر يجمع بيف دجمة والحديقة‪ ،‬فجمست‪"..‬‬

‫ضحكت ىند‪ .‬جالت بنظرىا بيف المدعويف‪" ،‬ما رأيكما بيذا‬


‫التنوع في األشكاؿ واالىتمامات؟" لـ ترد رابية‪ ،‬تحاشياً لمحرج‪ ،‬ولـ‬
‫يجد زياد ما يرد بو‪ ،‬فصمت‪ .‬تنيدت ىند وقالت‪" ،‬يمذ لي التفرج‬
‫عمييـ‪ .‬أحاوؿ تخميف ما يدور في أذىانيـ‪ ".‬نظرت إلى ضيفييا ثـ‬
‫أردفت‪" ،‬إني أحب الزحاـ‪ .‬أجد أنو يحميني مف وحدتي ومف قسوة‬
‫الحياة‪ ،‬ويمنحني الدؼء والتماىي مع اآلخريف‪"..‬‬
‫أومأت رابية برأسيا موافقة‪" ،‬ىذا صحيح‪ ،‬بشكؿ أو بآخر‪".‬‬
‫تبلقت عيناىا بعيني ىند‪" ،‬أنا ال أحب الزحاـ عادةً‪ ،‬وأتحاشاه قدر‬
‫اإلمكاف‪ ..‬لكف زحاـ اليوـ مختمؼ‪"..‬‬

‫نظرت ىند إلى زياد‪" ،‬زياد بدوره يتحاشى الزحاـ‪ ،‬ليذا أراكما‬
‫اخترتما االنزواء ىنا‪"..‬‬

‫رد زياد كمف يدفع تيمة ما عف نفسو‪" ،‬إني أحاوؿ إقناع‬


‫رابية بنشر ما تكتبو مف شعر‪ ،‬لكنيا مصرة عمى إخفالو‪ "،‬ضحؾ‬
‫بحرج‪" ،‬كما لو كاف شعرىا س اًر مقدساً‪"..‬‬

‫سر وال قداسة‪".‬‬


‫ضحكت رابية بحرج واضح‪" ،‬ليس في األمر ٌ‬
‫واستدارت إلى ىند‪" ،‬كؿ ما في األمر أني أخاؼ مواجية ما سيقاؿ‬
‫بعد نشره‪"..‬‬

‫ردت ىند باحتجاج‪" ،‬ثـ ماذا؟ الميـ أف تقولي ما تريديف‪ ،‬ثـ‬


‫ليقؿ اآلخروف ما يريدوف‪".‬‬

‫أدارت رابية رأسيا كمف يحس بيبوب ريح جديدة‪ .‬استدارت‬


‫وىي عمى يقيف أف غياث قريب منيا‪ ،‬فيي تحس بوجوده حتى قبؿ‬
‫أف تراه‪ ..‬تحس بو حتى لو كاف ينظر إلييا مف بعيد‪ .‬تقدـ منيـ‬
‫بخطواتو الوليدة‪ ،‬ما أف وصؿ حتى تأفؼ‪" ،‬أوووووووؼ‪ ..‬كـ أنا‬
‫متعب! أكاد أسقط لشدة اإلعياء‪"..‬‬

‫قاطعتو ىند بضحكة مرحة‪" ،‬طوؿ عمرؾ متعب ومرىؽ‪ ،‬مذ‬


‫عرفتؾ شاباً يافعاً وأنا أتمنى أف أسمعؾ تقوؿ أنؾ مرتاح‪".‬‬

‫استدار زياد إلى رابية‪" ،‬ىذا الرجؿ متعب في الصباح‪ ،‬مرىؽ‬


‫في المساء‪ ،‬وميت مف التعب ليبلً‪ ..‬ومع ذلؾ ترينو في كؿ مكاف‪.‬‬
‫وحيف ال يكتفي ببغداد‪ ،‬يغزو مدف العالـ وىو متعب‪ ..‬محاضرات في‬
‫أوربا‪ ،‬وآسيا‪ "..‬واستدار إلى غياث‪" ،‬ترى لو لـ تكف بيذا الحد مف‬
‫التعب‪ ،‬فما الذي كنت ستفعمو؟"‬

‫ردت رابية بيدوء وىي تتحاشى النظر إلى غياث‪" ،‬لف يفعؿ‬
‫شيلاً‪ .‬حيف يرتاح غياث‪ ،‬فمف يكوف غياث نفسو‪ ".‬استدارت إلى زياد‪،‬‬
‫"أال ترى يا زياد‪ ،‬أف يوـ استراحة واحد يجعمو عبوساً؟" ثـ نظرت إلى‬
‫غياث‪ .‬نظرت في عينيو وىما تنظ ارف إلييا نظرة عجزت عف فيميا‪.‬‬
‫يستيوييا النظر إلى غياث‪ ،‬تتنازعيا الرغبة في استف اززه‪ ،‬وارضالو‪.‬‬
‫تريد الدنو منو‪ ،‬واليرب منو في الوقت نفسو‪.‬‬

‫ازداد وجو غياث تقطيباً وغمغـ‪" ،‬ومف قاؿ أني اليوـ‬


‫عبوس؟" ابتسمت رابية‪ ،‬وواصؿ القوؿ‪" ،‬كؿ ما في األمر أني أحس‬
‫بالتعب‪ .‬أال يحؽ لي اإلحساس بالتعب؟"‬

‫ضحكت ىند‪" ،‬ولـ ال تعطي نفسؾ بعض الراحة؟ إنؾ مرىؽ‬


‫ألنؾ تعمؿ أكثر مما يجب‪ ..‬غياث‪ ،‬الحياة أقصر مف أف نضيعيا‬
‫تعباً‪"..‬‬

‫ردت رابية مف دوف تردد‪" ،‬لو لـ يضيعيا تعباً‪ ،‬ألضاعو‬


‫السأـ‪"..‬‬

‫أدركت رابية أنيا تعجمت بقوليا ىذا‪ ،‬فصمتت‪ .‬ىي تريد أف‬
‫تفكر بكؿ كممة تقوليا حيف يكوف غياث حاض اًر‪ ،‬إال أف مشكمتيا أنيا‬
‫معتادة عمى قوؿ ما يخطر في ذىنيا‪ ،‬مف دوف ٍ‬
‫ترو‪ .‬لقد وصفيا‬
‫غياث بالقوؿ‪" ،‬رابية تفكر بصوت مسموع‪ "..‬وىي تعرؼ أف لسانيا‬
‫حصاف جامح يصعب كبح جماحو‪ ،‬وكمما حاولت ترويضو عصى‬
‫عمييا‪ .‬إنيا تفكر طويبلً قبؿ أف تكتب شيلاً‪ ،‬تمزؽ ما تكتبو‪ ،‬وتعود‬
‫لكتابتو‪ .‬تشطبو وتعيد كتابتو مرات ومرات‪ .‬لكنيا في الحوار ال تقاوـ‬
‫إغراء الرد السريع‪ ،‬وىذا جزء مف تناقض شخصيتيا‪ .‬مف يراىا‬
‫تتحدث في مجتمع ما‪ ،‬ال يصدؽ أنيا الشاعرة نفسيا‪ .‬كما ال يصدؽ‬
‫أنيا رابية نفسيا التي بدأت حياتيا بحمؿ السبلح والقتاؿ‪ .‬وىي تعرؼ‬
‫تناقضاتيا‪ ،‬وتستمتع بيا‪ ..‬أحياناً‪.‬‬

‫لـ تعد رابية تتحمؿ أف يظؿ غياث ينظر إلييا متأمبلً وىي‬
‫تحس بوقع نظراتو وتتجاىميا‪ .‬أرادت تحويؿ انتباىو فقالت لزياد‪" ،‬أال‬
‫ترى يا زياد أف لكؿ منا سفنو التالية؟ كؿ ما في األمر أف سفينة ك ٌؿ‬
‫منا تبحر في المياه التي تناسبيا‪ ،‬وسفف غياث ال تبحر إال في المياه‬
‫العاصفة‪"..‬‬

‫سرعاف ما احتج غياث وقد عادت يده لتعبث بخصبلت‬


‫الشيب‪" ،‬كؿ البحار عاصفة‪ ،‬واليدوء ال يسود إال المياه الراكدة‪".‬‬

‫ضحكت ىند‪" ،‬أراؾ مممت صحبتنا يا غياث‪ ،‬فتمؾ عبللـ‬


‫الممؿ التي أعرفيا فيؾ‪"..‬‬

‫اعترض زياد‪" ،‬أو أنو يريد اليرب بعيداً عنا‪ ،‬لسبب ما زلت‬
‫أجيمو‪"..‬‬

‫لـ يرد غياث عمييما‪ ،‬فكأف استفزاز ىند وزياد لـ يكف كافياً‪،‬‬
‫فزادت رابية بالقوؿ‪" ،‬بؿ أظف أنو لـ يعد يجد فينا التجديد الذي يثير‬
‫اىتمامو‪ .‬ربما يحتاج إلى وجوه جديدة‪ ،‬أصدقاء جدد‪ ،‬فمقد استنفد ما‬
‫فينا مف جديد‪"..‬‬

‫نظر إلييا متأمبلً‪ .‬رابية ىذه تجره إلى حوارات أسرع مما‬
‫يريد‪ .‬لقد اعتاد أف تجري األمور كما يخطط ليا‪ ،‬فيو يخطط ويفكر‬
‫ويتصرؼ‪ ،‬ثـ يمحقو اآلخروف‪ .‬حتى الحوارات يسير بيا إلى حيث‬
‫يريد‪ .‬المشكمة مع رابية أنو ال يدري ما الذي يريده منيا‪ .‬يحس أنو‬
‫مشدود إلييا أكثر مما يرغب أو يقبؿ بو‪ .‬غياث يعيش منذ سنوات ببل‬
‫ارتباطات‪ ،‬فمديو مف االلتزامات أكثر مما يريد‪ .‬إنو يحب االستمتاع‬
‫بأيامو وعممو وصداقاتو وقراءاتو وموسيقاه ومسرحياتو ولوحاتو‪ .‬ال‬
‫يريد ربط نفسو بأحد‪ ،‬أو بشيء‪ .‬يخطط لمسفرة القصيرة كمف يخطط‬
‫لرحمة حوؿ العالـ‪ .‬كؿ شيء خاضع لسيطرة عقمو‪ ..‬أو ىذا ما يريد‬
‫إثباتو‪.‬‬

‫قمبو الذي تمرد يوماً‪ ،‬وضعو تحت اإلقامة الجبرية‪ ،‬فمـ يعد‬
‫بقادر عمى التأوه‪ .‬صارت جميع المشاعر‪ ،‬مع صدقيا‪ ،‬ضحمة ال‬
‫عمؽ ليا‪ .‬لـ يعد يتألـ بعمؽ‪ ،‬ألنو ال يريد أف يتألـ بعمؽ‪ ،‬يكفيو مف‬
‫الحب ما قد مضى‪ .‬أمضى سنوات طويمة في قصة حب عانى‬
‫الكثير بسببيا‪ .‬ضاع‪ ،‬وبكى وتمزؽ‪ .‬ثـ اتخذ ق ارره الحاسـ وحكـ‬
‫باإلعداـ عمى قمبو‪ ،‬ألنو لـ يعد يريد أف يتألـ‪ .‬لـ يعد يقبؿ عمى نفسو‬
‫أف يتألـ‪ .‬أزاح األلـ بالعمؿ المتواصؿ‪ :‬يكتب ويرسـ ويخطط لبناء‬
‫حياتو وحيوات مف حولو‪ .‬األلـ إحساس مراىؽ ال يميؽ بو‪ ،‬والحياة‬
‫مميلة بالمتع‪ ..‬كؿ أصناؼ المتع‪ ،‬فمماذا يرضى لنفسو أف يتألـ؟ ىؿ‬
‫ثمة امرأة تستحؽ أف يتألـ ليا‪ ،‬أو بيا‪ ،‬أو‪ ..‬مف أجميا؟‬

‫اتخذ قراره منذ زمف بعيد أف ال يفتح باباً لمحب في حياتو‪.‬‬


‫ومنذ زمف بعيد لـ يشعر يوماً إال بكونو ح اًر‪ ،‬وأنو حر أف ال يحب‪..‬‬
‫ولكف‪ ..‬ىذه اإلنسانة الواضحة والغامضة في آف واحد‪ ،‬تستفزه‬
‫وترضيو‪ .‬ماذا يريد منيا؟ لكؿ منيما حياتو‪ ،‬وليس ثمة لقاء ممكف‬
‫بينيما‪ .‬ومع ذلؾ يريدىا قريبة منو‪ ،‬تحادثو‪ ،‬ترد عميو‪ ،‬تستفزه وتثير‬
‫مشاعره‪.‬‬

‫ثمة شيء مختمؼ فييا عف جميع مف يعرؼ مف النساء‪ .‬ال‬


‫يعرؼ ماىيتو بالضبط‪ ،‬كما ال يعرؼ ما الذي تريده ىذه الرابية‪.‬‬
‫يخيؿ إليو في لحظة‪ ،‬أنيا تميؿ إليو‪ ،‬وفي المحظة التي تمييا ال يحس‬
‫إال وىي تبعده عنيا‪ .‬ىي ليست مف صنؼ النساء البلتي يستمتع‬
‫بجماليف بعبلقة عابرة‪ ،‬فيي ليست جميمة‪ ،‬وليست لعوباً كي يقضي‬
‫معيا أياماً حموة‪ ،‬يمضي بعدىا كؿ منيما بطريقو‪ ،‬مف دوف ألـ أو‬
‫التزاـ‪ .‬وليست‪ ..‬وليست‪ ..‬ومع كؿ ذلؾ ففييا شيء خاص‪ .‬متميز‪.‬‬
‫إنو عمى يقيف مف أف إحساسو نحوىا ليس حباً‪ ،‬فيو يعرؼ جيداً أنو‬
‫غير قادر عمى الحب‪ .‬قد يكوف إحساسو يتراوح بيف الرفقة الطيبة‪،‬‬
‫والصداقة‪ ..‬مع إيمانو بعدـ وجود صداقة بيف الرجؿ والمرأة‪.‬‬

‫فكر طويبلً مذ عرفيا‪ .‬فكر بنفسو‪ ،‬وفكر بيا‪ ،‬وفكر بيما‬

‫معاً‪ ،‬ولـ يتوصؿ بعد إلى تخيؿ طبيعة إحساسو نحوىا‪ .‬ليس متأكداً‬
‫بعد مما يريده منيا‪ ،‬ليذا فيو عاجز عف التخطيط‪ ،‬وىو يريد أف‬
‫يخطط لطبيعة عبلقتو بيا‪ .‬لكف‪ ..‬في كؿ مرة يضع خطة لمتقرب‬
‫منيا خطوةً‪ ،‬وما أف يصبح معيا حتى تبتعد عنو‪ .‬وحيف يقرر‬
‫االبتعاد عنيا‪ ،‬يشده إلييا حديث‪ ،‬أو ابتسامة‪ ،‬أو قصيدة أو حتى‬
‫أغنية يسمعيا مصادفة‪ ،‬فتذكره بيا‪.‬‬

‫كؿ ىذا ألنو ال يعرؼ طبيعة إحساسو نحوىا‪ .‬كـ حاوؿ أف‬
‫يحكي لزياد عف حيرتو ىذه‪ .‬المشكمة أف زياد يدرؾ أفكاره قبؿ أف‬
‫يشكميا بكممات‪ .‬يحس بما يدور في أعماقو مف دوف الحاجة‬
‫لمكممات‪ .‬فزياد ىو الحوار مع الذات‪ ،‬ال يخفي عنو أحاسيسو أو‬
‫مشاريعو أو عبلقاتو‪ ،‬فكؿ شيء قابؿ لمنقاش مع زياد‪ ..‬إالىا‪ ..‬إال‬
‫ىذه اإلنسانة‪ ..‬ىذه الرابية‪ .‬شيء ما يجعمو يحجـ عف مناقشتيا مع‬
‫زياد‪ ،‬بالرغـ مف أف اسميا يتردد بينيما عشرات المرات وفي كؿ يوـ‪.‬‬

‫ىؿ يمكف أف تكوف رابية الحمود ىي المرفأ المؤقت لو؟ حيف‬


‫يراىا‪ ،‬يود لو يظؿ‪ ..‬يظؿ قريباً منيا‪ .‬وما أف يغادرىا حتى يقرر في‬
‫تعب يرىقو‪،‬‬
‫كؿ مرة أف ال يراىا‪ ..‬لمدة طويمة‪ ،‬أو ال يراىا أبداً‪ .‬فييا ٌ‬
‫وال يدري لو سبباً‪ .‬في كؿ مرة يحاوؿ العثور عمى سبب تعبو‪ :‬نقاشيا‪،‬‬
‫عدوانيتيا‪ ،‬تناقضاتيا‪ ..‬إال أنو يدرؾ في أعماؽ ذاتو أف التعب ليس‬
‫منيا‪ ،‬بؿ التعب في ذاتو‪ .‬التعب مخفي في أعماقو‪ ،‬وىي ال تفعؿ إال‬
‫أف تعكس لو بوضوح ٍ‬
‫مؤذ ىذا الجرح العميؽ المخفي في دواخمو‪.‬‬

‫ىؿ يرى فييا بعض تمؾ الجذوة القديمة؟ بعض الميفة عمى‬
‫الحياة؟ لقد قرر منذ أمد بعيد أف يحس كؿ شيء بعقمو ال بعواطفو‪.‬‬
‫حاوؿ أف تكوف نظرتو لمناس واألشياء نظرة منطقية‪ ،‬عاقمة ومفكرة‪.‬‬
‫وىي‪ ..‬رابية‪ ..‬ترى كؿ شيء بعواطؼ ال يدري مدى عمقيا‪ ،‬ولو أنو‬
‫متأكد مف صدقيا‪.‬‬

‫مع كؿ ىذا‪ ،‬ظمت رابية نالية عنو‪ ،‬وقريبة منو في آف واحد‪.‬‬


‫تفاجلو دوماً بمزاج ال يعرؼ االستقرار‪ .‬يبلقييا وىو يحس بالحبور‪،‬‬
‫فإذا بيا تعديو بكآبة حادة ال يعرؼ ليا سبباً‪ .‬ومع كؿ الوضوح في‬
‫شخصيتيا‪ ،‬إال أف فييا ثمة غموضاً يصعب عميو سبر أغواره‪ .‬يريد‬
‫لعينيو النفاذتيف الوصوؿ إلى أعماقيا‪ ،‬لكف ضحكتيا الساخرة أو‬
‫المرحة‪ ،‬أشبو بحاجز مرور يجعمو يغير مساراتو‪ .‬ال يدري كيؼ‪ ،‬أو‬
‫لماذا صا ار صديقيف‪ ،‬فكؿ شيء يفرؽ بينيما‪ .‬يتناقضاف في العديد‬
‫مف األمور‪ ،‬وحتى حيف يتفقاف‪ ،‬يجد أنيا تفتعؿ جداالً تقؼ فيو‬
‫بموقؼ الطرؼ النقيض لو‪.‬‬

‫ال يدري كيؼ اقتحمت عالمو‪ ،‬ال أحد يدري‪ .‬ال ىو يدري‬
‫كيؼ تسممت رابية إلى حياتو‪ ،‬وال ىي تدري‪ .‬مف أي العوالـ جاءت‬
‫إلى عالمو‪ ..‬ىؿ يمكف أف تكوف قد عاشت حياتيا في بغداد نفسيا‬
‫ولـ تمتؽ سبؿ حياتيما مف قبؿ؟ كيؼ؟‬

‫أجفؿ غياث إذ جاءه صوت رابية ليعيده إلى عالميا‪" ،‬يبدو‬


‫أف غياث حانؽ عمينا اليوـ لسبب ما‪ ،‬أو لذنب ال نعرفو‪ .‬ىؿ تريد أف‬
‫تحممنا ذنوب اآلخريف؟"‬
‫تعرؼ رابية جيداً أنو ال يحمميـ اي ذنب‪ ،‬وأنو يرتاح لوجوده‬
‫معيـ‪ ،‬ومعيا بالذات‪ ،‬فمقد ألح عمييا اليوـ ليصحبيا معو‪ ،‬لكنيا‬
‫خشيت أنو بصمتو ىذا يخطط لشيء ما‪ ،‬وىي تخشى خططو مف‬
‫دوف أف تعرؼ سبباً لخشيتيا ىذه‪.‬‬

‫رد غياث بعد أف انتزع عينيو عف وجييا‪ ،‬وحولو إلى نير‬


‫دجمة "أبداً‪ ..‬كنت أفكر بدجمة الذي يمتد أمامنا‪ .‬فيو في مساره منذ‬
‫األزؿ‪ ،‬وتساءلت‪ ،‬أال يمؿ‪ ،‬ألف يمؿ يوماً؟" تمردت عيناه وعادتا‬
‫لتستقراف عمى عيني رابية‪" ،‬منذ األزؿ وىو يشيد شروؽ الشمس‬
‫وغروبيا‪ .‬تحيط بو الضفاؼ نفسيا‪ ،‬ويسير إلى المصب نفسو‪"..‬‬

‫فكرت رابية أف غياث‪ ،‬بقولو ىذا‪ ،‬إنما يعكس ممؿ روحو مما‬
‫حولو‪ .‬تساءلت‪ ،‬ألف يعرؼ ىذا الرجؿ االستقرار يوماً؟ ضحكت‬
‫وقالت‪" ،‬الحكمة القديمة تقوؿ أنؾ ال تعبر النير نفسو مرتيف‪ .‬فكؿ‬
‫قطرة ماء فيو تختمؼ عف األخرى‪ .‬فييا عوالـ وحيوات ال نراىا نحف‬
‫البشر لقصور حواسنا‪ ".‬واجيت عينيو ٍ‬
‫بتحد لـ تعرؼ سببو‪ ،‬وأردفت‪،‬‬
‫"النير يا غياث ال يمؿ‪ ،‬ألف كؿ ما حولو يتغير في كؿ لحظة تمر‪".‬‬
‫الحت ابتسامة ساخرة عمى محياىا‪" ،‬أتنسى يا غياث أف ىذا النير‬
‫ييدر ويفيض ويغرؽ كؿ ما حولو حيف يشاء‪ ،‬أو حيف يشعر بالممؿ؟"‬

‫زادت سخريتيا مف غضبو‪ ،‬فرد‪" ،‬مع ىذا‪ ،‬تظؿ الضفاؼ‬


‫ىي ذاتيا‪"..‬‬

‫لـ تفيـ رابية سبب غضبو‪ ،‬البد أف الممؿ قد زحؼ عمى ىذه‬
‫النفس الموارة‪ .‬لكف‪ ..‬لماذا في ىذا اليوـ بالذات؟ لـ تكف تدري‪ ،‬أو‬
‫ربما تدري‪..‬‬

‫أخذ غياث نفساً عميقاً وقرر أف ال يستجيب الستفزازىا‪.‬‬


‫استدار إلى زياد‪" ،‬ىؿ تذكر يا زياد أياـ كنا نسرؽ سويعات مف الزمف‬
‫ونيرب إلى النير لنسبح فيو مف دوف معرفة أىمنا‪ ،‬نحف وبقية‬
‫العصابة؟"‬

‫لعمو يريد أف يعيد ليـ بعض المرح‪ ،‬فتجاوب معو زياد وقاؿ‪،‬‬
‫"وحيف كنا نحاوؿ تعميـ أحمد السباحة‪ ،‬وكيؼ يشحب وجيو كمما‬
‫ذكرنا النير أمامو‪ "..‬وتبع قولو بضحكة رنانة‪.‬‬

‫رد غياث بمرح‪" ،‬فكرة السباحة معنا كانت كفيمة ببث الرعب‬
‫فيو‪ ،‬حتى أنو شكانا ألبي‪"..‬‬

‫"وما يزاؿ أحمد لحد اآلف‪ ،‬يخاؼ خوض مياه الحياة الخطرة‬
‫معنا‪ ،‬فيو دالـ الحذر مف مزاحنا وجدنا‪"..‬‬

‫لـ تشأ رابية أف تظؿ بعيدة عف حوارىما‪ ،‬فقالت‪" ،‬أتدروف‬


‫أني لـ أسبح يوماً في مياه أي نير‪ ..‬في البداية كنت أخافو‪ ،‬أخاؼ‬

‫دجمة بالذات‪ ،‬وما يزاؿ يبعث الرىبة في نفسي‪ ،‬مع أني أتمنى فعبلً‬
‫أف أسبح فيو‪"..‬‬

‫قاطعيا غياث‪ ،‬كأنو عثر عمى فرصتو لجرىا إلى حوار‬


‫يريده‪ ،‬ىو‪" ،‬تمؾ ماىية ذاتؾ يا رابية‪ ،‬ال تعرفيف الحموؿ الوسط وال‬
‫تحبينيا‪ .‬فأما البحر أو حوض السباحة‪ .‬النير ىو الحؿ الوسط الذي‬
‫ال يروؽ لؾ‪ "..‬واستدار إلى ىند‪" ،‬رابية ىذه يا ىند‪ ،‬تريد أما كؿ‬
‫شيء‪ ،‬أو ال تريد شيلاً البتة‪"..‬‬

‫ضحكت ىند وردت‪" ،‬أما سمعت ما قالو دكتور نزار في‬


‫محاضرتو باألمس عف تاريخ بغداد‪ "،‬واستدارت إلى رابية‪" ،‬قاؿ أف‬
‫كنوز العباسييف غرقت في دجمة حيف غزاىا التتار‪ ،‬وما تزاؿ مخبأة‬
‫فيو‪ "..‬وأكممت قوليا لغياث‪" ،‬ربما كانت رابية تخاؼ عمى كنوز بغداد‬
‫مف عبث العابثيف‪"..‬‬
‫لـ ينتظر غياث بؿ واصؿ ىجومو‪" ،‬ىؿ تخافيف يا رابية‬
‫عمى كنوز التاريخ‪ ،‬أـ تخافيف عمى نفسؾ منيا؟"‬

‫ردت بنبرة حزينة‪ "،‬بؿ أخاؼ أف تجرحني كنوز التاريخ يا‬


‫غياث‪ ،‬فيي ليست بالعمؽ الكافي ألكوف بمأمف منيا‪"..‬‬

‫تدخؿ زياد في حوارىما بعد أف أحس حدتو‪ ،‬فالحوار يحتد‬


‫دوماً بيف غياث ورابية‪" ،‬أرجوؾ يا رابية‪ ،‬دعي التاريخ يرقد في‬
‫أعماؽ النير‪ ،‬ففي حاضرنا ما يكفي‪ .،‬اسمعي‪ ..‬ىؿ تذكريف ما‬
‫حكيتو لي منذ مدة‪ ،‬حيف سرحت مع موج البحر ذات يوـ ونسيت أيف‬
‫كنت وأوشكت عمى الغرؽ‪ "..‬ضحؾ زياد‪" ،‬أرجوؾ يا رابية‪ ،‬اروييا‬
‫ليـ‪"..‬‬

‫نظرت إليو رابية متأممة‪ ،‬زياد ىذا إنساف مرىؼ الحس‪،‬‬


‫ينظر إلييـ بوسع عينيو كأنو يريد ليـ أف يستقروا في ىدوء حدقاتيا‪.‬‬
‫قد يغفموف عف حزنو وقمقو لبعض الوقت‪ ،‬لكف وجوده معيـ فيو‬
‫سكينة يرتاح إلييا ك ٌؿ منيـ‪ ..‬مثؿ فيء شجرة عمبلقة حنوف‪ ،‬تختبئ‬
‫فييا الطيور ومنيا تنطمؽ‪ .‬وتتبلعب بيف أغصانيا حبات المطر‬
‫وزقزقة الطيور والببلبؿ ونسمات الريح‪.‬‬

‫لـ تكف الحكاية بذاتيا ىي ما يرومو زياد‪ ،‬بؿ أراد االبتعاد‬


‫بيـ عف‪ ..‬ماذا؟ لـ يكف يدري‪ ،‬لكنو أحس بالعاصفة وىي تتجمع في‬
‫أجواء ىذه المجموعة الرالعة مف البشر‪ ،‬المجموعة الضالعة بيف ما‬
‫تريد‪ ،‬وما تتصور أنيا تريد‪ .‬لـ يكف زياد عبد الرحمف أكبرىـ سناً‪ ،‬وال‬
‫أكثرىـ حكمةً وتعقبلً‪ ،‬ففي حياتو أصناؼ شتى مف المغامرات‬
‫والغزوات‪ ،‬لكنو تعب منيا‪ ،‬وعاد ليبعث الراحة في نفس كؿ منيـ‪،‬‬
‫ومنيـ يستمد راحتو‪ .‬حاوؿ دوماً تيدلة ما في نفوسيـ مف غضب‬
‫وثورة تجاه العالـ وتجاه اآلخريف‪ ،‬وتجاه ذاتو‪.‬‬
‫ساد الصمت بينيـ‪ ،‬والكؿ ينظر إلى رابية منتظ اًر‪ .‬تجولت‬
‫عيناىا بيف وجوىيـ‪ ،‬وبدأت تروي حكايتيا‪" ،‬ذات مرة‪ ،‬أردت االبتعاد‬
‫عف كؿ شيء‪ ،‬وكؿ شخص‪ .‬أردت االبتعاد عف العالـ أجمع‪ ،‬ربما‬
‫راودني ما يشبو الرغبة باالنتحار‪ ،‬أو السعي لراحة أعرؼ أني لف‬
‫أعثر عمييا في أي مكاف مف ىذا العالـ الذي أعرفو‪ .‬توجيت إلى‬
‫ساحؿ البحر‪ ،‬وكاف الساحؿ مقف اًر‪ ،‬جميبلً وىادلاً‪ ،‬لـ تدنسو كثرة أقداـ‬
‫السواح والزوار‪ .‬قيؿ لي آنذاؾ أنو ساحؿ فقير‪ ،‬وربما اخترتو ليذا‬
‫السبب‪ ،‬فالساحؿ الفقير يعني أنو لـ يتموث بعد بأمواؿ الباحثيف عف‬
‫المأجورة‪ .‬سبحت قميبلً ثـ تمددت عمى الشاطئ‪ .‬حاولت‬ ‫المتعة‬
‫القراءة ثـ قررت العودة ثانية إلى أحضاف البحر‪ .‬ربما أحسست‬
‫باحتراؽ طالر الفينيؽ في أعماؽ روحي‪ ،‬فأردت إطفاء حريؽ الطالر‬
‫المجنوف ىذا‪ .‬سرت بيف األمواج‪ .‬أحسست بتسمؿ برودة الماء تصعد‬
‫ساقي‪ ،‬ثـ ترتفع‪ .‬لـ ابذؿ جيداً إال بما يكفي لشؽ‬
‫ّ‬ ‫قدمي إلى‬
‫ّ‬ ‫مف‬
‫طريقي سي اًر بيف األمواج‪ ".‬صمتت ثـ الحت ابتسامة حالمة عمى‬
‫وجييا‪" ،‬بالمناسبة‪ ،‬ىؿ تعرفوف أف الطريقة التي تسبح بيا األمواج‬
‫فوؽ سطح البحر‪ ،‬تشبو رقصنا الشرقي إلى حد بعيد؟ تمؾ إحدى‬
‫النظريات العظيمة التي طرأت في ذىني آنذاؾ‪ .‬الميـ‪ ،‬وصؿ الماء‬
‫إلى فمي فأغمقتو‪ ،‬بناءاً عمى رغبة مياه البحر المالحة‪ "..‬استدارت‬
‫إلى غياث مف دوف سبب‪" ،‬وليس بناءاً عمى رغبة غياث في أف‬
‫أصمت أطوؿ مدة ممكنة‪"..‬‬

‫قاطعيا غياث مشاكساً‪" ،‬وىؿ تقدريف؟"‬

‫قبؿ أف يتيح ليا فرصة الرد‪ ،‬جاء صوت زياد مدافعاً عنيا‪،‬‬
‫"دعيا تكمؿ حديثيا‪ ،‬ىؿ تنوي مشاكستيا طواؿ ىذا اليوـ؟"‬

‫ضحكت رابية وواصمت روايتيا‪" ،‬وصؿ الماء إلى أنفي‪،‬‬


‫فقطعت التنفس‪ .‬وصؿ إلى عيني‪ ،‬فأغمضتيما‪ .‬غطى شعري‬
‫فأحنيت ىامتي‪ .‬ظممت أسير تحت الماء حتى وصمت إلى أقصى ما‬
‫تستطيع أف تحممني رلتاي‪ .‬فكرت‪" ،‬ىذه طريقة غبية لبلنتحار‪ .‬يكفي‬
‫أف يراني أي شخص صادؼ أف يسير عمى الشاطئ‪ ،‬كي يعوـ ورالي‬
‫ويخرجني‪ .‬يا لمفضيحة‪ ،‬رابية تحاوؿ االنتحار بالسير عمى قدمييا في‬
‫مياه البحر الضحمة‪ ".‬ضحكت بسخرية مرة‪" ،‬حتى االنتحار ال أفمح‬
‫فيو!"‬

‫عمؽ غياث‪" ،‬حتى انتحارؾ تريدينو روالياً‪"..‬‬

‫نظرت إليو‪ .‬يا إليي‪ ..‬ماذا يريد ىذا الغياث منيا؟ فضمت‬
‫أف ال ترد عمى تعميقو بؿ سألت‪" ،‬قؿ لي يا غياث‪ ،‬ىؿ يمكنؾ أف‬
‫تتخيؿ منظر راقص الدبكة وىو يدؽ قدمو باألرض حتى يعمو‬
‫غبارىا‪ ،‬ثـ يقفز عالياً حتى يبلمس الشمس؟" الحت عمى وجييا‬
‫ابتسامة حالمة‪ ،‬وظمت تنظر إليو كأنيا ال تراه‪" ،‬ذلؾ ما فعمت‪.‬‬
‫بقدمي‪ ،‬وارتفع جسدي‪ .‬أحسست أني مثؿ راقص‬
‫ّ‬ ‫ضربت أرض البحر‬
‫لتي‬
‫الدبكة‪ ،‬سبحت صاعدة‪ ،‬حتى رايت نور الشمس‪ .‬مؤلت ر ّ‬
‫باليواء‪ ،‬وغطست ثانيةً‪ .‬ثـ خرجت إلى النور‪ .‬سبحت وسبحت حتى‬
‫تقطعت أنفاسي‪ ،‬فالعمر لو حؽ‪ ،‬والسباحة العنيفة ليست رياضة كبار‬
‫السف‪ ،‬كما يقوؿ األطباء‪ .‬تقطعت أنفاسي‪ ،‬فتمددت عمى ظيري‬
‫وواجيت السماء‪ .‬البحر أرؽ فراش يمكف لئلنساف أف يرقد عميو‪.‬‬

‫الشمس قاسية الح اررة‪ ،‬والبحر لذيذ الدؼء‪ ،‬والموج يتراقص مغازالً‬
‫الشمس والنسمة‪ .‬البحر حولي واليابسة بعيدة‪ .‬أحسست أني أسبح في‬
‫المدى‪ ،‬وأف ال نياية ليذا العالـ‪ .‬ولو كانت األرض كروية حقاً‪،‬‬
‫لظممت عمى ىذا الحاؿ حتى أعبر بحار العالـ السبعة‪ ،‬ألعود إلى‬
‫النقطة التي بدأت منيا‪ "..‬ضحكت مع أفكارىا‪" ،‬سندبادة تبحر مف‬
‫دوف أشرعة‪ ،‬فالبحر ىادئ‪ ،‬وأنا مستسممة‪ .‬استسممت لمبحر مف دوف‬
‫قيد وال شرط‪ "..‬مدت بصرىا إلى أمواج دجمة‪" ،‬داعبني رفيؼ الموج‪،‬‬
‫والريح تناغيني‪ ..‬ال اروع مف النوـ عمى فراش الموج في بحر‬
‫ىادئ‪ "..‬تنيدت‪" ،‬بعيداً عف كؿ شيء‪ ..‬بعيداً عف الزيؼ‪ ..‬بعيداً عف‬
‫الماضي والحاضر والمستقبؿ‪ ..‬وحدي رفقة الشمس والبحر‪"..‬‬
‫أغمضت عينييا‪ ،‬وقالت بما يقرب مف اليمس‪" ،‬وحدي أماـ‬
‫البلمتناىي‪"..‬‬

‫صمتت رابية‪ ،‬وانثالت دمعة لـ تحس بيا‪ .‬ربما كانت دمعة‬


‫أسى ألف الموج لـ يأخذىا معو‪ .‬أو ربما دمعة شكر ألنيا عادت‪،‬‬ ‫ً‬
‫وعرفتو‪ .‬لـ يعرؼ أحد منيـ لماذا انفمتت ىذه الدمعة‪ ،‬كما لـ يعرفوا‬
‫لماذا لـ تحاوؿ رابية أف تخفييا‪ .‬صمتت‪ ،‬وصمتوا جميعاً‪ .‬أغمضت‬
‫عينييا برىة‪ ،‬ثـ أطمقت ضحكة رنانة‪ ،‬لـ يعرؼ أي منيـ سببيا‪ ،‬إال‬
‫أنيـ ابتسموا معيا‪ .‬سأؿ غياث‪" ،‬وكيؼ انتيت رواية االنتحار ىذه؟"‬

‫نظرت في عينيو ثـ ىزت كتفيا‪" ،‬مثؿ كؿ الروايات السعيدة‪،‬‬


‫شعرت بالخوؼ حيف نظرت حولي فمـ أر أث اًر لميابسة‪ ،‬أو بر األماف‬
‫كما يقولوف‪ "..‬استدارت إلى زياد‪" ،‬خفت‪ .‬ألـ أقؿ لؾ يا زياد أني‬
‫أكبر جبانة؟ حاولت تذكر مبادئ الجغرافيا‪ ،‬أو ربما العموـ‪ ،‬عف موقع‬
‫عمي إذف االتجاه شرقاً‪ .‬سبحت شرقاً وسبحت‪،‬‬
‫الشمس في السماء‪ّ .‬‬
‫حتى وصمت إلى الشاطئ‪ .‬وحيف المست قدماي األرض‪ ،‬أردت‬
‫اإلحساس بالندـ‪ ،‬وأف أقنع نفسي أف فكرة االنتحار لـ تخطر في‬
‫ذىني‪ ،‬وأف كؿ ما في األمر أني أردت ممارسة الرياضة‪ "..‬أدارت‬
‫عينييا بينيـ‪" ،‬كؿ ذلؾ لكي ال أعترؼ لنفسي أني جبانة‪ ،‬جبانة حتى‬
‫القرؼ‪ ".‬ىزت رأسيا وطأطأتو‪" ،‬لـ أنتحر‪ ،‬ولـ أسبح لعبور بحور‬
‫الدنيا‪ .‬لـ أستطع أف أكوف سندبادة‪ ..‬بأشرعة أو مف دوف أشرعة‪ ،‬بؿ‬
‫عدت لمواجية نفسي مرة أخرى‪ ،‬وألزعـ أني ال أخاؼ وألزعـ أني‬
‫أجر ورالي تاريخاً‪"..‬‬

‫مرة أخرى قاطعيا غياث مستف اًز‪" ،‬تاريخ‪ ،‬أـ جغرافيا؟"‬


‫ىزت رأسيا بأسؼ وأسى وفكرت‪( ،‬غياث‪ ..‬يا غياث‪ ..‬أال‬
‫تعرؼ الرحمة‪ )..‬ولـ تقؿ شيلاً‪ .‬قالت ىند بيف الجد والمزاح‪" ،‬ما رأيكـ‬
‫بالسباحة اآلف؟"‬

‫رد زياد‪ ،‬المتعقؿ دوماً‪ ،‬زياد الذي يحاوؿ دوماً منعيـ مف‬
‫ارتكاب الحماقات‪" ،‬الجو ما يزاؿ بارداً‪ ،‬ولـ يحف وقت السباحة بعد‪"..‬‬

‫اعترض غياث‪" ،‬بارد أـ حار‪ ..‬غير ميـ‪ .‬نسبح قميبلً‪ ،‬فإف‬


‫كاف البرد شديداً خرجنا وتدفأنا بنار الموقد‪"..‬‬

‫نيضت رابية‪" ،‬آسفة‪ ،‬عمي أف أذىب‪ ..‬بدأ صداع المزعج‪"..‬‬


‫ىؿ ىي ىاربة منيـ أـ عمييا الذىاب حقاً؟ ال أحد يدري‪ ،‬فيي‬
‫كعادتيا تعاني الصداع متى أرادت‪ ،‬ولدييا مواعيد ميمة متى شاءت‪.‬‬

‫سأليا غياث‪" ،‬ىؿ أنت مضطرة لممغادرة اآلف‪ ،‬أـ أف كنوز‬


‫النير مغرية إلى حد يصعب عميؾ مقاومتو؟"‬

‫بدت عمييا الدىشة‪" ،‬وىؿ تنووف السباحة في النير؟ كنت‬


‫أظف أف ىند تغرينا أف نكوف أوؿ مف يستخدـ حوض السباحة في ىذا‬
‫الموسـ‪"..‬‬

‫رد زياد بنبرة حزف تأبى أف تفارقو‪" ،‬النير أو حوض‬


‫السباحة‪ ..‬كبلىما بارد في ىذا الموسـ‪ ،‬وال نريدكـ مرضى‪"..‬‬

‫فكرت رابية‪( ،‬متى يا زياد تكسر سبلسؿ التعقؿ والحزف التي‬


‫تكبؿ بيا ذاتؾ؟ متى تطمؽ ذاتؾ مف أسارىا‪ ،‬فبعض الجنوف يزيد مف‬
‫متعة الحياة‪ )..‬انحنت لتمثـ خد ىند‪" ،‬كؿ عاـ وأنت بخير يا ىند‬
‫والى المقاء‪"..‬‬

‫نيضت ىند لتوديعيا وشكرىا‪" ،‬أليس الوقت مبك اًر لمغادرتؾ‪،‬‬


‫أـ أنؾ مضطرة فعبلً لممغادرة؟"‬
‫ابتسمت رابية ولـ ترد عمييا‪ .‬سأؿ غياث‪" ،‬وكيؼ ستذىبيف‬
‫وحدؾ؟ ىؿ نسيت أننا جلنا معاً؟" نيض بدوره‪" ،‬أنا آت معؾ‬
‫لتوصيمؾ‪"..‬‬

‫"شك اًر غياث‪ ،‬الجو رالع اليوـ‪ ،‬ولدي موعد في مكاف قريب‪،‬‬
‫وأفضؿ أف أتمشى قميبلً لعؿ اليواء النقي يزيؿ صداعي‪ ..‬إلى‬
‫المقاء‪"..‬‬

‫ابتعدت عنيـ‪ ،‬ولـ يدر أي منيـ إف كانت عمى موعد‪ ،‬أـ‬


‫أرادت االبتعاد عنيـ‪ .‬ولـ تدر ىي نفسيا‪ ،‬لماذا قررت المغادرة فجأة‪.‬‬
‫ىؿ تريد اليرب منو؟ والى أيف اليرب؟ ىي نفسيا لـ تكف تدري‪..‬‬
‫وويؿ لمف ال يدري مسار حياتو‪ ،‬وأسرار ذاتو!‬

‫"رابية!" جاءىا صوت غياث‪ ،‬فاستدارت مف دوف أف تفكر‪.‬‬


‫وفي لحظة‪ ،‬وعت أف الكامي ار بيده‪ ،‬ولـ ترىا في الوقت المناسب‪،‬‬
‫فالتقط صورتيا في لحظة استدارة رأسيا نحوه‪.‬‬

‫غضبت رابية‪ ،‬إذ أحست بعد فوات األواف أف غياث صورىا‬


‫والدمعة تترقرؽ متدحرجة عمى وجنتييا‪ ،‬فكيؼ عرؼ أف الدموع‬
‫حاصرتيا وىي معيـ‪ ،‬فأخفتيا بابتسامة وابتعدت ىاربة منيـ مف دوف‬
‫أف يرى أي منيـ دمعتيا المنفمتة مف عقاليا‪ ،‬إال غياث‪.‬‬

‫صورىا بمحظة ضعؼ‪ ،‬فيؿ تغفر لو؟ تمنت لو تمفت‬


‫الصورة‪ .‬تمنت لو لـ تمتفت حيف سمعت صوتو‪ .‬حنقت عمى نفسيا‬
‫لضعفيا‪ .‬وحنقت عميو ألنو أدرؾ ضعفيا‪ .‬يا إليي‪ ..‬ماذا تريد منو؟‬
‫وماذا يريد منيا؟ ومع كؿ ىذا‪ ..‬تستطيع الزعـ أف حبة رمؿ جرحت‬
‫مقمتيا‪ ،‬فدمعت‪ .‬كؿ شيء قابؿ لمتبرير‪ ،‬بخاصة إف رافقت التبرير‬
‫ابتسامة جذلة‪ ،‬أو ضحكة تكركر‪.‬‬
‫ساد الصمت بعد مغادرة رابية‪ .‬سرح كؿ منيـ مع أفكاره‪.‬‬
‫قطع زياد الصمت‪" ،‬غريب‪ ..‬مف يصدؽ أننا عرفنا رابية منذ أقؿ مف‬
‫سنة؟" نظر إلى غياث فوجده يحدؽ في النير‪ ،‬مفك اًر‪.‬‬

‫ردت ىند متأممة‪" ،‬مف يراكـ معاً ويستمع إلى حواراتكـ ال‬
‫يمكنو أف يتصور إال أنكـ أمضيتـ العمر معاً‪"..‬‬

‫رد زياد‪" ،‬ىذا ما أحسو بالضبط‪ ..‬وما زلت مستغرباً كيؼ لـ‬
‫نعرفيا مف قبؿ؟"‬

‫لـ يرد غياث‪ ،‬بؿ ظؿ ساد اًر في صمتو وىو يحدؽ بألواف‬
‫السماء ومياه دجمة‪ ،‬حتى لكأف مغيب الشمس يشكؿ طقساً مقدساً ال‬
‫يريد أف يجرح سكونو بأي صوت‪ .‬حيف غادرت رابية المكاف‪ ،‬أحس‬
‫غياث كأف الكؿ غادره‪ .‬ال يدري لماذا تمؤل رابية المكاف الذي تكوف‬
‫فيو‪ .‬بغيابيا‪ ،‬يحس كأف ضغط اليواء قد تخمخؿ حولو‪ ،‬وخمؽ غيابيا‬
‫فراغاً يصعب أف يمؤله أي كاف‪.‬‬

‫في بداية تعارفيما‪ ،‬حاوؿ تفسير األمر لنفسو أنيا إنسانة‬


‫جديدة‪ ،‬وىو يطيب لو دوماً معرفة كؿ جديد‪ .‬ولكف‪ ..‬مع كؿ يوـ‬
‫يمر‪ ،‬ومع كؿ لقاء معيا‪ ،‬يكوف ثمة ما يزيد مف اىتمامو بيا‪ .‬مثقفة؟‬
‫نعـ‪ ،‬ىي كذلؾ‪ ،‬لكنيا ليست أعمؽ ثقافة مف السيدة ىند الصالح‪.‬‬
‫جميمة؟ ىي ليست جميمة في جميع األحواؿ‪ .‬ذكية؟ ما أكثر األذكياء‬
‫حولو‪ ..‬إذف ما السر فييا؟ ما الذي يشده إلييا ليذا الحد الخطر؟‬

‫مف عاش حياتو كما عاشيا غياث‪ ،‬ال يمكف أف يطيؿ‬


‫التفكير بأية امرأة كانت‪ .‬رابية مع كؿ خصوصيتيا وتفردىا‪ ،‬ليست‬
‫أكثر مف امرأة‪ .‬حاوؿ غياث إقناع نفسو بيذا المنطؽ‪ ،‬فيو أستاذ‬
‫المنطؽ في قسـ الفمسفة‪ .‬ولكف‪ ..‬ىؿ يحكـ المنطؽ ىذا الكالف الذي‬
‫يسمى إنساناً؟‬
‫قرر فجأة العودة إلى المنزؿ‪ ،‬بعدما فقد الرغبة في البقاء‪،‬‬
‫وأحس بالحاجة لمنوـ‪ ،‬إذ لـ ينـ باألمس سوى ساعتيف‪" ،‬إني ذاىب‬
‫إلى البيت‪ ،‬ىؿ ترغب يا زياد أو أوصمؾ بطريقي؟"‬

‫سألت ىند بميجة أسؼ‪" ،‬أليس الوقت مبك اًر لذىابؾ؟ فأنت لـ‬
‫تمبث سوى مدة قصيرة‪ "..‬تمؾ طريقتيا الخاصة في أف تقوؿ لو لـ‬
‫مممت صحبتنا‪ ،‬أولـ تعد تكفيؾ؟ لكنو لـ يرد عمييا‪ ،‬ألنو يدري أنيا‬
‫تفيمو وتفيـ تناقضاتو‪ ،‬وال تصرح بالكثير مف األفكار التي تدور في‬
‫ذىنيا‪ ،‬بؿ تبمغو ما تريد بأقؿ ما يمكف مف الكممات‪.‬‬

‫ابتسـ‪" ،‬حيف قمت أني متعب‪ ،‬تفمسؼ كؿ منكـ‪ .‬الحقيقة يا‬


‫ىند أني حيف جلت كنت قد قررت أف ال أمكث طويبلً‪ "..‬ونيض‬
‫ليغادر‪.‬‬

‫ترنـ زياد‪" ،‬إف تفصؿ القطرة عف بحرىا‪ ..‬ففي مداه منتيى‬


‫أمرىا‪ "..‬تنيد‪ ،‬وواصؿ القوؿ‪" ،‬دعيو يذىب يا ىند‪ ،‬فغياث ليس‬
‫بمقدوره إال أف يعود‪ ،‬وسيعود لنا حيف يجتمع شممنا‪ "،‬ضحؾ ساخ اًر‪،‬‬
‫"كمنا وليس البعض منا‪ "..‬نظر إلى غياث‪" ،‬بعضنا قد يصير الكؿ‬
‫أحياناً‪ ..‬إلى المقاء يا غياث‪".‬‬

‫غادرىـ غياث مف دوف أف يرد عمى صديقو‪.‬‬


‫(‪)13‬‬

‫سألو غياث‪" ،‬أراؾ شارد اليوـ يا زياد‪ ..‬أىي رواية جديدة‬


‫تنسج خيوطيا‪ ،‬أـ قصة حب صوفية تريد إخفاءىا عني؟"‬

‫غياث ىذا يمر عميو مثؿ غيمة صيفية‪ ،‬تحميو لمحظات مف‬

‫وىج الشمس‪ .‬غياث يمر سريعاً‪ ،‬مثؿ رمح خاطؼ‪ ،‬يجيء محمبلً‬
‫بألوؼ األفكار والومضات‪ .‬تنيد زياد‪" ،‬آآآآه يا غياث‪ .‬لو تدري ما‬
‫بنفسي‪ ..‬أحس بخيوط ىذه الرواية مثؿ حزمة تمتؼ حوؿ عنقي‪،‬‬
‫فأختنؽ بيا‪ .‬ال أوؿ ليا وال آخر‪ .‬البدايات تتعبني وتظؿ النيايات‬
‫غامضة حتى أصؿ إلييا‪ ..‬آآآه يا غياث اليوـ تزداد حيرتي‬
‫وضياعي‪"..‬‬

‫"ربما كنت بحاجة لمسفر بعيداً‪ ،‬أف ترى وجوىاً جديدة وعوالـ‬
‫مختمفة‪"..‬‬

‫"غياث‪ ..‬يا غياث‪ ،‬أتظف بي قدرة عمى السفر؟ التصاقي‬


‫بيذه األرض يضنيني‪ .‬كمما حاولت االبتعاد‪ ،‬جرني صوت ما يزاؿ‬
‫ييدر في أعماقي‪ ،‬أف أظؿ نخمة مزروعة في ىذه التربة‪ ،‬تغوص‬
‫جذورىا في األعماؽ حتى تصؿ إلى قطرة الماء التي تيبيا الحياة‪،‬‬
‫لتعطي تمو اًر ليا حبلوة الشيد‪ ،‬تتحدى الغبار والجفاؼ والريح‪"..‬‬
‫تنيد‪" ،‬ال يا غياث العزيز‪"..‬‬

‫"ىؿ تذكر نقاشنا قبؿ ثبلثة أعواـ حيف أضنتؾ روايتؾ‬


‫آنذاؾ‪ ،‬دار بيننا الحوار ذاتو‪ ،‬وبعد أف أقنعتؾ بالسفر‪ ،‬سافرت‬
‫وأرسمت لي مسودة الفصؿ األوؿ بعد اسبوع‪"..‬‬

‫قاطعو‪" ،‬كانت تمؾ رواية مختمفة‪ .‬مختمفة بشخوصيا‬


‫وأحداثيا‪ .‬تمؾ كانت رواية أوللؾ الذيف شاركتيـ ىجرتيـ حيف ىاجرت‬
‫في بداية الستينات‪ .‬أردت أف أرى ما فعمت بيـ اليجرة‪ .‬كنت بحاجة‬
‫لرؤية وجوىيـ‪ ،‬ومناقشة أفكارىـ‪ ،‬ألعرؼ مدة صدؽ رفضيـ‬
‫واتجاىو‪"..‬‬

‫"واليوـ؟"‬

‫"اليوـ الوضع مختمؼ‪ .‬روايتي تمؾ عف رفاؽ اليجرة وعف‬


‫المطروديف مف كؿ مكاف‪ ،‬الرافضيف لكؿ شيء‪ .‬لكف روايتي اليوـ‬
‫مختمفة‪ .‬حيف كتبت تمؾ كنت أريد معرفة نفسي مف خبلؿ رؤية زياد‬
‫ذاؾ‪ ،‬متماىياً في ذوات أصحابي أوللؾ‪"..‬‬

‫"ال أفيـ ما تقصد‪ ،‬كانت روايتؾ تمؾ عف آالـ مف رفضوا‬


‫وما زالوا رافضيف‪ .‬ال أحد غيرؾ يقدر أف يروي ما يحس بو المياجر‬
‫مف ميانة وألـ‪ ،‬عف اإلنساف الذي يفقد مكانو في مسيرة بناء بمده‪،‬‬
‫أو‪"..‬‬

‫"لكني لـ أعد زياد نفسو الذي كتب تمؾ‪ .‬كانت مرحمة البد‬
‫منيا‪ ،‬لكي أتخمص مف الشكوؾ وأدراف الماضي‪ .‬كانت رواية اعتراؼ‬
‫أماـ نفسي بزيؼ حالة الرفض التي أحسست في نفسي نزوعاً ليا‪.‬‬
‫كانت محاولة لمغوص في أعماؽ الذات ألعرؼ حقيقة ما أريد‪ ..‬وأية‬
‫صيغة أقبؿ ليا لترجمة ما أرفض‪ ..‬وأي األشياء أرفضيا حقاً‪"..‬‬
‫صمت مدة طويمة‪ ،‬ثـ أردؼ متأمبلً‪" ،‬ذىبت إلييـ ألصؿ إلى ذاتي‪.‬‬
‫جعمت مف كؿ واحد فييـ نبياً ألف ذلؾ ىو ما أردت رؤيتو فيو‪ ،‬لكني‬
‫عرفت بعد كتابة الرواية أف نبوتيـ زيؼ‪ ،‬ونبوتي زيؼ‪ .‬وأف رفضنا‬
‫آنذاؾ زيؼ‪ .‬ىنالؾ ألؼ طريقة لمرفض‪ ،‬أسيميا اليجرة‪ .‬أسيميا أف‬
‫يكوف رفضؾ بكممات ال تكمفؾ شيلاً‪ ".‬ضحؾ ضحكة أشبو بالبكاء‪،‬‬
‫"وعرفت أف بعض اليجرة سياحة لذيذة‪"..‬‬

‫"لكف ما تقولو اآلف يختمؼ عما كتبت آنذاؾ‪ ،‬وصفؾ لمجوع‬


‫والحنيف والحصار الذي يعيشوف في ظمو‪"..‬‬
‫"قد يكوف ما تقولو صحيحاً يا غياث‪ ،‬لكف ما عشتو ىناؾ‪،‬‬
‫بينيـ‪ ،‬جعمني أستشؼ ما وراء الجوع والحنيف‪ ..‬آآآآه‪ ،‬نعـ‪ ،‬رأيت‬
‫الجوع‪ ،‬لكني رأيت أيضاً أف مف يجوع يجد دوماً مف يمنحو رغيؼ‬
‫خبز‪ .‬ومف يؤرقو الحنيف‪ ،‬يجد قصيدة أو أغنية يبكي معيا‪ ،‬حتى تمر‬
‫موجة الحنيف‪ ".‬نظر في عيني صاحبو وقاؿ بنبرة حازمة‪" ،‬الحنيف‬
‫الحقيقي يا غياث‪ ،‬تحسو حيف ترى ت ارب أرضؾ‪ ،‬ميما كاف العسؼ‬
‫الذي يواجيؾ فييا‪ ..‬غياث‪ "..‬وصمت زياد‪ ،‬وبعض الصمت مف زياد‬
‫ىو حوار عميؽ‪ ..‬عميؽ‪ .‬انتظر غياث‪ ،‬فأكمؿ صاحبو‪" ،‬غياث‪،‬‬
‫روايتي الجديدة ىي رواية حنيف آخر‪ ،‬ىي رفض آخر‪ ،‬جديد‪..‬‬
‫مختمؼ‪ .‬روايتي عف رفض النخمة أف تعيش إف اقتمعت‪ .‬ىي رفض‬
‫الرمح أف يتغير مساره ويتحوؿ‪ .‬ىي رفض التخمؼ‪ ،‬ورفض الموت‪،‬‬
‫ورفض الرفض الزالؼ‪ .‬روايتي الجديدة ىي لمحياة التي يجب أف‬
‫تكوف‪ ،‬وأف ال يتحوؿ مسارىا ميما كاف الثمف‪ .‬ىي رواية التمسؾ‬
‫بالجذور‪ ..‬التمسؾ بيا حتى الموت‪"..‬‬

‫"أخشى عميؾ مف ىذا التحوؿ يا زياد‪ .‬لقد أمضيت حياتؾ‬


‫وأنت تعبر بصدؽ عما تحس بو‪ .‬وىذا التحوؿ الجديد‪ ..‬ما الذي فجره‬
‫فيؾ؟ ىؿ ىو تحوؿ حقيقي‪ ،‬أـ ىاجس مؤقت؟ فكر مرتيف‪ .‬ابتعد‪.‬‬
‫ربما كاف في بعض ما تعيشو اآلف زيؼ جديد‪ ،‬يؤلمؾ جرحو فيما‬
‫بعد‪ .‬ابتعد بعض الوقت لتعرؼ حقيقة ما تريد‪ "..‬صمت غياث وحدؽ‬
‫في عيني صديقو ثـ سألو‪" ،‬ىؿ ىذا سبب حزنؾ وحيرتؾ؟"‬

‫ضحؾ زياد‪ .‬ضحؾ حتى اختنؽ بدخاف سيجارتو‪ .‬أطفأىا‬


‫وقاؿ‪" ،‬غياث‪ ..‬سأحكي لؾ المزيد عف روايتي ىذه‪ .‬سأحكي لؾ عف‬
‫عينيف واسعتيف‪ ،‬تحمبلف آالؼ األسلمة‪ "..‬تييأ غياث ليقاطعو‪ ،‬فيز‬
‫يده‪" ،‬ال‪ ..‬ال تقاطعني يا غياث‪ ،‬فأنا لـ أذكر اسماً معيناً لكي‬
‫تقاطعني‪ .‬سأحكي لؾ عف عينيف أرى ألقيما وثورتيما تنعكس في‬
‫عينيف أخرييف تحاوالف إخفاء التأثر بيما‪ .‬تحاوالف تجاىؿ التماىي‬
‫معيما‪"..‬‬

‫غضب غياث‪ ،‬عمى ندرة غضبو مف زياد‪ .‬أطفأ سيجارتو‬


‫ونيض مف مكانو ووقؼ أماـ النافذة‪ .‬امتدت يده لتعبث بخصبلت‬
‫الشيب‪ .‬فتح النافذة عمى مصراعييا وظؿ يتأمؿ خيوط المطر‬
‫النيساني المنيمر مف السماء‪ .‬جاءه صوت زياد‪ ،‬كأنو يصؿ إليو مف‬
‫عالـ آخر‪" ،‬غياث‪ ..‬ىؿ يقدر أي منا أف ييرب مما يدور في رأسو؟‬
‫تحدثني عف السفر ألكتب رواية‪ ،‬وأنت؟ لماذا ال تسافر لتبتعد بعض‬
‫الشيء عما يقمقؾ؟ لتفكر بما تريده‪ ،‬وما ال تريد؟ ما الذي يبقيؾ؟"‬

‫صاح بغضب‪" ،‬ال تحاوؿ التيرب يا زياد برمي ىمومؾ‬


‫عمي‪".‬‬

‫فوجئ زياد‪" ،‬وكيؼ ذاؾ؟" ثـ ضحؾ‪ .‬أغرؽ بالضحؾ‪،‬‬


‫"كيؼ ارمي ىمومي عميؾ؟ ىؿ ذكرت اسماً يجرحؾ ذكره يا‬
‫صديقي؟"‬

‫"ال داعي لئليضاح‪ ،‬فأنا أفيـ ما تقصده‪"..‬‬

‫"وأنا بدوري أفيمؾ يا غياث الورد‪ .‬أفيمؾ أكثر مما تريدني‬


‫أف افيـ‪ "..‬أشعؿ سيجارة جديدة‪ .‬استنشؽ عبقيا‪" ،‬ليذا‪ ،‬سأحكي لؾ‬
‫عف حصار الرواية لي‪ ،‬فيذه الرواية تحاصرني مثؿ عيوف سود‬
‫تحاصرؾ‪ .‬تريدىا‪ ،‬بقدر ما تريد اليرب منيا‪"..‬‬

‫لـ يتعود زياد التحدث عف رواياتو أو شخوصيا‪ ،‬بؿ يتركيـ‬


‫يسبتوف في أعماقو حتى ينضج الواحد منيـ‪ ،‬فيكتبو بصفحة أو‬
‫صفحتيف‪ .‬أما أف يتحدث عنيـ‪ ،‬فبل‪ ..‬إال مع غياث‪ ،‬توأـ الروح ىذا‪.‬‬
‫يحفزه‪ .‬يستفزه‪ .‬يجره إلى حوارات وحيوات ال يعرؼ مدياتيا‪ .‬ومف‬
‫حواراتيما تتشكؿ الرواية‪ .‬أطفأ زياد سيجارتو ونيض‪" ،‬غياث‪ ،‬أني‬
‫أختنؽ‪ .‬أحس بما حولي يطبؽ عمى أنفاسي‪ .‬لـ أعد أتحمؿ الوجود‬
‫في ىذا المكاف‪".‬‬

‫رد غياث مف دوف أف يبعد عينيو عف النافذة والمطر‬


‫المنيمر‪" ،‬قمت لؾ سافر‪ .‬ولـ ترض بما اقترحتو‪"..‬‬

‫"ال‪ ،‬ال‪ ..‬لـ أقصد السفر‪ ،‬بؿ قصدت ىذا المكاف‪ .‬ىيا‬
‫لنذىب‪"..‬‬

‫استدار إليو غياث بسرعة‪ ،‬وربما بميفة‪" ،‬إلى أيف؟ ىؿ يوجد‬


‫مكاف آخر نذىب إليو في ىذه الساعة؟"‬

‫ضحؾ زياد مف أعماقو‪ .‬منذ أياـ لـ يضحؾ ليذه الدرجة‪،‬‬


‫"ىؿ تريد خداعي أـ مخادعة نفسؾ يا غياث الورد؟"‬

‫"وما وجو المخادعة فيما قمت؟"‬

‫ىز زياد رأسو‪" ،‬ال‪ ..‬لف أقترح عميؾ الذىاب إلى حيث تيفو‬
‫روحؾ‪ .‬كؿ ما في األمر أني أريد الخروج مف ىنا‪"..‬‬

‫"تدري يا زياد أني متعب‪ ،‬وال أحب السياقة في ىذا الجو‬


‫الماطر‪ ،‬وأدري أنؾ ستدفعني لمسياقة‪ ،‬كما تدري‪"...‬‬

‫ضحؾ زياد وىو يسحب صاحبو لمخروج معو‪" ،‬أدري‪..‬‬


‫أدري‪ ،‬يا غياث‪ .‬أنت تدري‪ ،‬وأنا أدري‪ ..‬ىيا‪ ،‬لنذىب يا صاحبي‪.‬‬
‫لتي بيواء‬
‫أريد أف أضيع بيف البشر‪ ،‬في وجوه الناس‪ .‬أريد أف أمؤل ر ّ‬
‫بغداد الربيعي‪ ".‬ربت عمى كتؼ صاحبو وشاكسو‪" ،‬كما يمذ لي رؤيتؾ‬
‫ىالج األعصاب‪ ،‬تمعف مف تعترض سيارتو‪ ،‬خطأ‪ ،‬أماـ سيارتؾ‪،‬‬
‫وتزمجر بغضب العناً جيؿ قواعد السير والتخمؼ‪ ،‬لكي تخفي ثورة‬
‫أعماقؾ وتوقؾ‪ "..‬سحبو وىو يربت عمى كتبو بيف آونة وأخرى‪" ،‬أنت‬
‫تدري‪ ..‬وأنا‪ ..‬يا أنا‪ ..‬أنا أيضاً أدري‪ ".‬سحبو‪" ،‬ىيا لنذىب ألننا في‬
‫كؿ األحواؿ سنخرج‪ .‬وسنذىب‪ ،‬فمماذا االنتظار؟"‬

‫حاوؿ غياث التمنع‪" ،‬لكني ال أنوي‪"..‬‬

‫ضحؾ زياد‪" ،‬ال تنوي‪ ..‬وال أنا أنوي‪ ..‬لكف ربما كانت‬
‫السيارة تنوي‪"..‬‬

‫تعالت ضحكة زياد وىو يجر صاحبو ج اًر‪ .‬صعدا في سيارة‬


‫غياث‪ .‬رفضت السيارة أف تشتغؿ‪ .‬ينسى غياث دوماً شيلاً ما‪ ،‬ربما‬

‫كانت خالية مف الوقود‪ ،‬أو الزيت‪ .‬أو ربما نسي المحرؾ مشتعبلً‬
‫طواؿ ساعات‪ .‬كما قد ينسى مفاتيح السيارة بداخميا ويقفؿ عمييا‪.‬‬
‫يعاني دوماً مف سيارتو‪ ،‬المشكمة أنو يرفض االعتراؼ بسيو ذىنو‬
‫المستمر‪ .‬تشغمو فكرة ما حتى ينسى ما حولو‪ ،‬مع أنو ال ينسى‪ ..‬عاد‬
‫وجو رابية يموح في ذىنو‪ ،‬وىؿ غادره ليعود إليو؟ صورتيا تتراقص في‬
‫مخيمتو بالرغـ مف محاولتو نسيانيا‪ .‬يظؿ صوتيا يرف في أسماعو‪.‬‬
‫يحاوؿ نسياف كمماتيا ونسياف ضحكتيا‪ .‬يحاوؿ نسياف أنيما لـ يمتقيا‬
‫منذ اسبوعيف أو يزيد‪ ،‬منذ عيد ميبلد ىند الصالح‪.‬‬

‫أخي اًر اشتغمت السيارة‪ .‬ينبغي تغيير البطارية‪ .‬كتب غياث‬


‫ورقة صغيرة وضعيا قرب زجاج النافذة األمامية‪ .‬سوؼ يراىا محمد‬
‫غداً ويغير البطارية‪ .‬ضحؾ زياد‪" ،‬ماذا كنت ستفعؿ لو لـ يكف محمد‬
‫موجوداً إلى جانبؾ‪ ،‬ليعنى باألمور التي تسيو عنيا؟"‬

‫"ال شيء‪ .‬لـ أكف ألسيو لو لـ يكف محمد إلى جانبي‪ .‬أو لو‬
‫لـ أعتمد عميو إلى ىذا الحد‪ ..‬ىي مسألة تركيز ال غير!"‬

‫ضحؾ زياد بسخرية‪" ،‬وأنت قادر عمى تركيز ذىنؾ عمى‬


‫جميع األمور وال تنسى شيلاً‪"..‬‬
‫رد غياث بعبوس‪" ،‬عودت نفسي منذ البداية أف التنظيـ ىو‬
‫سر النجاح‪ ،‬والتفكير المنطقي بتسمسؿ األحداث‪"..‬‬

‫"غياث‪ ..‬ىؿ تريد أف تثبت لي أف قدراتؾ تفوؽ قدرات‬


‫البشر؟" ىز رأسو بأسى‪" ،‬لست إال بش اًر يا غياث‪ ،‬لماذا المبالغة؟‬
‫لماذا تحاوؿ أف تثبت لنفسؾ أنؾ آلة صماء تعمؿ بنظاـ وال مشاعر‬
‫ليا؟ إنؾ بشر‪ ،‬تضعؼ‪ ،‬وتنسى‪ ...‬وتحب‪ .‬لمف تريد البرىنة‬
‫واإلثبات؟"‬

‫احتج‪" ،‬ال أحد!"‬

‫لـ يسأؿ زياد إف كاف قد رأى رابية‪ .‬لـ يسأؿ عف سبب‬


‫التوثب والتوتر الذي يراه عميو‪ .‬لـ يسألو‪ ،‬لكنو ضحؾ‪ .‬ضحؾ زياد‬
‫حدة مزاج غياث‪ .‬لـ يشأ أف يشكؿ رأيو بكممات‬
‫ألنو يعرؼ سبب ّ‬
‫مفيومة وصريحة‪ .‬مد زياد يده إلى كومة أشرطة التسجيؿ واختار‬
‫قطعة موسيقية لكماف منفرد‪ .‬ضغط زر المسجؿ وانطمقا‪ .‬قاد غياث‬
‫سيارتو في شوارع الوزيرية التي يغمرىا عطر زىر البرتقاؿ والنارنج‬
‫والميموف الذي يمؤل حدالقيا‪ .‬ليس إال صوت الكماف ينوح فيمزؽ‬
‫الصمت بينيما‪ .‬سأؿ غياث‪" ،‬إلى أيف؟"‬

‫تنيد زياد‪" ،‬حيث تشاء‪ .‬إلى أي مكاف‪ .‬إلى ال مكاف‪ .‬اختر‬


‫ما شلت‪ ،‬وأنا موافؽ سمفاً‪".‬‬

‫رده ىذا لـ يدع لغياث مجاالً لممناورة‪ ،‬فيؿ يريد منو‬


‫التصريح بما ال يريد التصريح بو؟ "لنذىب إلى المعرض‪"..‬‬

‫"اليوـ يا غياث افتتاح المعرض األخير في القاعة‪ .‬المعرض‬


‫التوديعي قبؿ ىدـ القاعة‪".‬‬

‫"أدري‪ ،‬ليذا لـ أكف أنوي الذىاب‪".‬‬


‫"أال تذىب في جنازة صديؽ العمر يا غياث؟ اليوـ توديع‬
‫القاعة التي رأت النور أماـ أعيننا‪"..‬‬

‫"أعرؼ ذلؾ يا زياد‪ .‬لكني لـ أرغب أف أكوف واحداً مف‬


‫المتباكيف عمى الميت الذي ال يعرفوف‪ .‬اليوـ سيذىب كؿ مف ىب‬
‫ودب إلى المعرض‪ .‬ووجود ىذا الحشد يجعمو ميرجاناً لمفرح‪"..‬‬

‫"لنذىب لزيارة نورية‪"..‬‬

‫شعر غياث أف زياد يناور ويتبلعب بالمقترحات لجعمو‬


‫يعترؼ‪" ،‬ال أقدر عمى رؤية نورية اليوـ‪"..‬‬

‫نظر إليو زياد‪ ،‬وظؿ غياث مرك اًز بصره إلى أماـ‪" ،‬لماذا يا‬
‫غياث؟ لماذا ال تستطيع رؤية نورية‪ ،‬ىؿ السبب أنؾ ال تريد مواجية‬
‫ذاتؾ؟ ىؿ ألف نورية تكشؼ لؾ أفكارؾ الخفية؟" ربت عمى ذراع‬
‫صديقو‪" ،‬غياث‪ ..‬يا غياث‪ ،‬ىؿ ىناؾ ما تحاوؿ اليرب منو؟"‬

‫صمت غياث قميبلً قبؿ أف يرد‪" ،‬ىؿ اعتدت عمى اليرب يا‬
‫زياد؟ أنت تعرفني منذ دىور‪ ،‬فمف أي شيء يخيؿ لؾ أني أىرب؟"‬

‫لـ يرد زياد‪ ،‬مع أف الرد كاف جاى اًز وأوشؾ أف يقولو‪ ،‬لكنو‬
‫فضؿ الصمت‪ .‬بعد مدة‪ ،‬ضحؾ زياد‪ ،‬ضحكتو المميلة باألسى‪ ،‬والتي‬
‫يعرفيا غياث‪" ،‬ىيا يا غياث‪ ..‬لنذىب حيث تشاء‪ ..‬كؿ األماكف‬
‫متساوية ما داـ ك ٌؿ منا يحاوؿ كبت الكممة الوحيدة التي تمح عمى‬
‫كمينا‪ ..‬ما دمنا نصر عمى عدـ التصريح بما نفكر بو‪"..‬‬

‫أحس زياد بتوتر صاحبو‪ ،‬إذ اشتد ضغط يديو عمى المقود‪.‬‬
‫يعرؼ حاجة غياث لمتصريح بأفكاره إليو‪ .‬كما يدري أف غياث لف‬
‫يقبؿ اآلف التصريح‪ ،‬حتى لنفسو‪" ،‬ىؿ تيرب مف ذاتؾ يا غياث‪ ،‬أـ‬
‫تيرب مني؟"‬
‫انتفض غياث‪ .‬استدار إليو‪ .‬تزحمقت السيارة في الوحؿ وفقد‬
‫السيطرة عمييا لمحظة‪ ،‬حتى أوشؾ أف يصدـ السيارة التي تسبقو‪" ،‬ما‬
‫الذي تقصده بقولؾ؟"‬

‫ظؿ زياد يدندف مصاحباً نواح الكماف‪ ،‬كأنما يرتب أفكاره‬


‫ليشكؿ كمماتو‪" ،‬غياث‪ ..‬لكؿ منا حديقتو السرية التي يحاوؿ إخفاءىا‬
‫عف جميع الناس‪ ..‬يريد االستمتاع بوجودىا ويتعذب بيا‪ .‬كؿ منا‬
‫يزعـ امتبلكو لقوة ال يمتمكيا في كؿ األحياف‪ .‬لكؿ منا لحظات‬
‫ضعفو التي قد تطوؿ‪ ،‬لكنو يتستر عمييا‪ ".‬تنيد‪" ،‬آآآآآه يا غياث‪ .‬ال‬
‫أريد منؾ شرحاً إال بالقدر الذي تختاره‪ ،‬وفي الوقت الذي تختاره‪ .‬ال‬
‫أريد يا غياث أف أذكر أمامؾ اسماً يدور في ذىف كؿ منا‪ ،‬وال نجرؤ‬
‫عمى ذكره بصوت مرتفع‪ ..‬لكني أقوؿ لؾ‪ ،‬وأسألؾ‪ ،‬ىؿ يحؽ لؾ أف‬
‫تقسو عمى ذاتؾ إلى ىذا الحد؟ ىؿ يحؽ لؾ أف تقسو عمى‪"..‬‬
‫وصمت برىة ثـ واصؿ‪" ،‬عمى اآلخريف إلى ىذا الحد؟"‬

‫سكت زياد‪ .‬لـ يقؿ غياث شيلاً‪ .‬طاؿ الصمت بينيما إال مف‬
‫نواح الكماف ونقر حبات المطر عمى السيارة‪" .‬ىؿ سألت نفسؾ يا‬
‫غياث عما تريد؟ ال‪ ..‬ال ترد عمى سؤالي اآلف‪ ،‬بؿ دع األمر في‬
‫أعماؽ ذاتؾ‪ .‬كف صادقاً مع ذاتؾ يا غياث‪ ،‬ىذا يكفيني‪ ".‬لـ يرد‬
‫غياث‪ ،‬فواصؿ‪" ،‬القيود التي تكبؿ ليا ذاتؾ إنما تيدـ إنسانيتؾ‪.‬‬
‫وغياث الذي أعرفو ال يقبؿ أف يكبؿ ذاتو وانسانيتو‪ ".‬لـ يتعمد زياد‬
‫القسوة عمى صاحبو‪ ،‬فمقد أحس أنو ال يجد دفاعاً يحميو مف ىذه‬
‫اليجمة الضارية‪ .‬ضحؾ زياد‪ ،‬ثـ قاؿ مصالحاً‪" ،‬اسمع‪ ..‬لنذىب إلى‬
‫المعرض اآلف‪ ،‬ثـ نقرر بعدىا ما نفعؿ‪".‬‬

‫وصبل إلى القاعة‪ ،‬صؼ غياث سيارتو في مكانيا تحت‬


‫شجرة السدر أماـ مقيى أبو نوري‪ .‬لـ يكف أبو نوري في مكانو‪،‬‬
‫فركضاً تحت أمطار نيساف‪ .‬المعرض مزدحـ بالبشر‪ ،‬ميرجاف ألواف‬
‫ووجوه‪ .‬تميؿ زياد عند باب المعرض‪" ،‬مساء الخير كاظـ‪"..‬‬

‫"مساء الخير زياد‪"..‬‬

‫"لـ ارؾ منذ مدة‪ ،‬ىؿ ما زلت تعمؿ ىنا؟"‬

‫ضحؾ كاظـ‪" ،‬وأيف تريدني أف أعمؿ؟ أستاذا في الجامعة‬


‫معؾ يا دكتور زياد؟"‬

‫ضحؾ زياد وربت عمى كتفو‪" ،‬قؿ لي يا كاظـ‪ ،‬كـ عاماً‬


‫أمضيت في ىذا المكاف؟"‬

‫"لـ أعد أتذكر‪ ..‬ثبلثيف أو خمسة وثبلثيف عاماً‪ ..‬مذ وضعوا‬

‫حجر األساس‪ .‬كنت أحرس مواد البناء‪ ،‬ثـ ترقيت فصرت حارساً‬
‫لمبناية‪"..‬‬

‫"وماذا ستفعؿ بعد ىدـ المعرض؟ ىؿ تطمب النقؿ إلى بناية‬


‫المعرض الجديد‪ ،‬أـ مممت الفف وأىؿ الفف يا كاظـ؟"‬

‫"أمضيت عمري ىنا يا ولدي‪ ،‬حتى صار المعرض وأىؿ‬


‫الفف بعضاً مني‪ ..‬كبل يا ولدي‪ ،‬لف أطمب النقؿ‪ ،‬بؿ التقاعد‪"..‬‬

‫"معؾ حؽ في ذلؾ‪ ،‬فأنت أيضاً شجرة معمرة يصعب زرعيا‬


‫بعد اقتبلعيا مف أرضيا‪".‬‬

‫لحؽ زياد بصاحبو مخترقاً الحشد‪ .‬سمما عمى البعض‪،‬‬


‫وابتسما لمبعض اآلخر‪ ،‬إال أنيما ظبل قريبيف مف بعضيما‪ .‬قاؿ زياد‪،‬‬
‫"ىؿ يودع كؿ ىؤالء البناء‪ ،‬أـ بعضاً مف ذواتيـ التي تقرر ىدميا؟"‬
‫غمغـ غياث‪" ،‬أو ربما يحتجوف بطريقتيـ الخاصة عمى ىدـ‬
‫المعرض‪ .‬يريدوف أف يحيموا أيامو األخيرة إلى ميرجاف فرح يتذكره‬
‫الجميع‪"..‬‬

‫بالرغـ مف االبتسامات والمبلحظات‪ ،‬إال أف غياث لـ يكف‬


‫كعيده‪ ،‬بؿ ظؿ ينظر يميناً وشماالً‪ ،‬كمف يبحث عف شيء ما‪ ..‬أو‬
‫ينتظر أحداً ما‪ .‬التقى بالعديد مف األصدقاء‪ ،‬وطبلبو‪ .‬سمـ عمى مف‬
‫حولو وابتسـ لمجميع وتبادؿ بضع كممات مع مف لقي مف معارفو‪،‬‬
‫لكف زياد ظؿ يحس طواؿ الوقت أف صديقو شارد الفكر‪ ،‬مشتت‬
‫االنتباه‪ .‬حاوؿ زياد إثارة اىتمامو بموحة ما‪ ،‬أو جره إلى نقاش حوؿ‬
‫لوحة ما‪ ،‬لكف غياث لـ يكف معيـ‪ ..‬لـ يكف معو‪.‬‬

‫لـ يدر زياد أيف غابت روح صاحبو‪ ،‬أو ربما كاف يدري وال‬
‫يريد التصريح بكممات تقاؿ بصوت مرتفع‪.‬‬
‫(‪)14‬‬

‫قررت رابية عدـ الذىاب إلى افتتاح المعرض األخير‪.‬‬


‫فضمت البقاء في زاويتيا‪/‬بيتيا‪ .‬تق أر وتكتب وتنصت لمموسيقى‪.‬‬
‫عجزت عف كتابة حرؼ واحد‪ ،‬ولـ تفيـ كممة مما قرأت‪ .‬لـ تكف‬
‫ساىمة وال حزينة‪ ،‬بؿ تنتظر‪ ..‬ال غير‪ .‬غمغمت‪" ،‬لـ أعد أطيؽ‬
‫مزيداً مف االنتظار‪ "..‬تعرؼ ما الذي تنتظرره‪ ،‬وترفض االعتراؼ‬
‫باسمو‪ .‬بالرغـ مف ذلؾ‪ ،‬ومنذ بداية األمسية وىي تنتظر‪ .‬تدري أنيا‬
‫ستمضى األمسية وحدىا‪ .‬تدري أنيـ جميعاً سيذىبوف إلى المعرض‬
‫األخير‪ .‬وىي‪ ..‬رفضت الذىاب معيـ‪.‬‬

‫ثمة إحساس غامض لدييا جعميا تتوقع قدومو‪ .‬ىؿ تتوقع‬


‫منو أف يأتي؟‬

‫يقوؿ غياث أف نصؼ عمر اإلنساف ينقضي باالنتظار‪:‬‬


‫انتظار شارة الضوء األخضر‪ .‬موعد إقبلع الطالرة أو ىبوطيا‪ .‬موعد‬
‫الطبيب‪ .‬الموعد‪ ..‬إف كاف ثمة موعد ما‪..‬‬

‫ورابية تكره االنتظار‪ ،‬لكف فكرة أف نصؼ عمر اإلنساف‬


‫ينقضي بانتظار ما يأتي أو ال يأتي‪ ،‬ىي فكرة مف أفكار غياث‬
‫الكثيرة‪ ،‬التي أثارت لدييا الرغبة بالنقاش‪ .‬فمقد قيؿ أف ثمث عمر‬
‫اإلنساف ينقضي بالنوـ‪ ،‬والثمث الثاني لساعات العمؿ‪ ،‬فيؿ قصد‬
‫غياث أف الثمث الثالث ىو الذي ينقضي باالنتظار؟ ضحكت رابية‬
‫بم اررة وىي تحاوره وىو بعيد عنيا‪" ،‬إيو‪ ..‬إيو يا غياث‪ ،‬االنتظار ال‬
‫يطاؽ‪"..‬‬

‫لـ يعدىا بالمجيء‪ .‬تعرؼ أنو يستمتع برفقة مف يكوف معيـ‪.‬‬


‫وتعرؼ أيضاً أف الوقت عنده يمضي سريعاً حيف يكوف مع األصدقاء‬
‫أو مع شبابو أو‪ ...‬لكنيا تدري أيضاً‪ ،‬وتعرؼ‪ ،‬أنيا تنتظره‪ .‬تنتظره‬
‫مف تدفؽ الموسيقى التي تنصت إلييا‪ .‬تنتظره مع رتابة دقات الساعة‬
‫التي تصميا مف بعيد‪ .‬تنتظره مع حبات المطر النيساني المنيمر‪.‬‬
‫تنتظره‪ .‬ىو‪ .‬غياث وال أحد غيره‪ ..‬وتدري أيضاً أنو لـ يزرىا في‬
‫دارىا مف قبؿ‪ ،‬لكف‪ ..‬أال يحتمؿ أف تخطر في ذىنو فيرفع سماعة‬
‫الياتؼ ويدير رقميا؟‬

‫حاولت اليرب مف انتظارىا الممض بالقراءة‪ ،‬فعجزت عف‬


‫فؾ ألغاز الحروؼ‪ ،‬والكممات‪ ،‬فكانت الجممة إبياما‪ .‬خطوط سود‬
‫عمى قرطاس أبيض‪ .‬عجزت عف تمييز الحروؼ‪ ،‬فكيؼ ليا أف تفيـ‬
‫المعنى‪.‬‬

‫انتظار!‬

‫انتظار قاتؿ!‬

‫انتظار مرىؽ لـ تعد تتحممو‪ .‬لو استطاعت خنؽ إحساسيا‬


‫الغامض في أنيا ستراه اليوـ‪ ،‬لو أنو يتصؿ ىاتفياً لتأكدت أف‬
‫إحساسيا لـ يكف كاذباً‪ .‬لسار كؿ شيء عمى ما يراـ‪ ،‬فيي قد‬
‫اعتادت عمى وحدتيا‪ .‬تعودت الصمت الذي تغمفو بالموسيقى‪ .‬تعودت‬
‫عمى كؿ ما يحيط بيا‪ ..‬بالرغـ مف كؿ ىذا‪ ،‬ظؿ ىذا اإلحساس‬
‫المضني بأنيا ستراه اليوـ‪ ،‬وجعميا تطيؿ انتظارىا‪.‬‬

‫مذ عرفت غياث‪ ،‬ما عادت تقيس األياـ بساعاتيا‪ ،‬بؿ‬


‫تقيسيا بمقاء غياث‪ ،‬وانتظار المقاء‪ ،‬وتذكر المقاء‪ .‬باألمس‪ ،‬حدثيا‬
‫بالياتؼ‪ ،‬أخبرىا أنو ربما يذىب إلى المعرض األخير‪ ،‬وضحؾ ساخ اًر‬
‫وقاؿ‪" ،‬ليكوف مثؿ لوحة العشاء األخير‪ "..‬فيؿ توقع منيا أف تذىب‬
‫بدورىا؟ ىؿ يتوقع أف يعطي اإلشارة لتمحؽ بو أينما يكوف؟‬

‫ىذه الميفة عمى رؤيتو صارت أم اًر يصعب تحممو‪ .‬غياث‪...‬‬


‫غياث‪ ..‬غياث‪ ..‬ىؿ يحتجب الكوف حيف يغيب غياث عنيا؟‬
‫أمر ال يصدؽ! كؿ عنفوانيا‪ ،‬وقوتيا‪ ،‬وقسوتيا عمى‬
‫اآلخريف‪ ،‬ما الذي جرى ليا؟ ىؿ قدرىا أف تنتظره لساعة‪ ،‬ليوـ‪ ،‬أـ‬
‫تنتظره العمر كمو؟ مع ذلؾ‪ ،‬حتى المقاء القصير يرضييا‪ ..‬مكالمة‬
‫ىاتفية قصيرة تطفيء بعض ظمأ روحيا‪ ..‬لماذا؟‬

‫حالة الحيرة ىذه لـ تعرفيا مف قبؿ‪ .‬لو كانت مراىقة‪ ،‬لقالت‬


‫أنيا تحبو‪ .‬لو كانت؟؟؟ وىذا اإلحساس الذي يحرؽ أحشاءىا‪ ،‬أليس‬
‫إحساساً مراىقاً مع أنيا تدنو مف األربعيف‪ ،‬وتزعـ أنيا تجاوزتيا‪.‬‬

‫لقد تعودت أف تتباىى بقوتيا‪ .‬لكف كؿ المنطؽ والعقؿ‬


‫والثقافة تزوؿ عنيا حيف تسمع صوتو‪ ،‬أو تمتقي عيناىا بعينيو‪ .‬تحس‬
‫بما يفكر بو قبؿ أف ينبس ببنت شفة‪ .‬ىمست لنفسيا‪" ،‬غياث‪..‬‬
‫غياث‪ ..‬ما الذي تريده مني؟ بؿ ما الذي أريده منؾ؟"‬

‫طفرت دمعة أحرقت جفاؼ الوجنتيف‪" ،‬لو أنو يبتعد عني‪"..‬‬


‫تدري أنو لو ابتعد عنيا لماتت جفافاً‪ ،‬ولو جاء إلييا لماتت رىبةً‪.‬‬
‫الحيرة تقتميا وال تدري ما المصير‪ ..‬إف كاف ثمة مصير‪.‬‬

‫ال تطمح بأكثر مف أف تراه‪ ،‬تجمس قريباً منو‪ ،‬تحاوره‪،‬‬


‫تجادلو‪ ،‬تناقشو‪ ،‬تشاكسو‪ ،‬تضحؾ معو‪ .‬باتت تسمع الموسيقى‬
‫لتناقشو بيا‪ .‬تق أر الشعر والرواية لتكوف موضوعاُ لمحديث معو‪ ..‬ال‬
‫تريد أكثر مف‪ ..‬ضحكت بسخرية مف نفسيا‪" ،‬ىؿ تكذبيف حتى عمى‬
‫نفسؾ يا رابية الحمود؟" ىؿ تظؿ تكذب عمى نفسيا؟ ولماذا؟‬

‫غياث ىو النموذج الذي ظمت طواؿ حياتيا تبحث عنو في‬


‫وجوه البشر وأعماؽ أرواحيـ‪ .‬عاشت حياتيا واجتازت الصبا‬
‫والشباب‪ ،‬حتى يلست مف العثور عمى النموذج‪ ،‬حتى أيقنت أنو ليس‬
‫مف بيف البشر‪ ،‬ولف يكوف‪ .‬فالنموذج حالة وليس إنساناً‪.‬‬
‫بحثت عف النموذج بيف أىميا وأصدقاءىا ورفاقيا‪ ،‬فمـ تجده‪.‬‬
‫وبحثت عنو في العالـ الواسع‪ ،‬ولـ تجده‪ .‬وحيف عرفت غياث‪ ،‬عرفت‬
‫فيو النموذج الذي اضاعت العمر في البحث عنو‪ .‬وحيف وجدتو‪...‬‬
‫كاف المستحيؿ جببلً يفصؿ بينيما!‬
‫(‪)15‬‬

‫غاد ار المعرض‪ ،‬وغياث ما يزاؿ عمى تقطيبو‪ .‬لـ يكف كما‬


‫يعيده‪ .‬في السيارة سأؿ زياد‪" ،‬إلى أيف اآلف؟"‬

‫"إلى داري‪"..‬‬

‫لـ يعترض زياد‪ .‬وصبل ضاحية المنصور‪ .‬تنبو زياد أنيما‬


‫يتجياف إلى دار رابية‪ .‬ضحؾ‪" ،‬أما قمت لؾ‪ ،‬أنؾ ال تنوي‪ ،‬وأنا ال‬
‫أنوي‪ ،‬لكف ربما السيارة تنوي؟" ضحؾ‪" ،‬غياث‪ ،‬لـ المكابرة؟ أليس‬
‫الوضوح أسيؿ؟"‬

‫"أية مكابرة تعني؟ إني ذاىب إلى داري‪ ،‬وىذا ىو الطريؽ‬


‫الذي أسمكو يومياً‪"..‬‬

‫"كؿ ىذه الدورة‪ ،‬والشوارع الفرعية‪ ،‬لموصوؿ إلى دارؾ؟"‬


‫ضحؾ زياد‪" ،‬غياث‪ ،‬ليس مف أحد سوانا‪ ..‬وال داعي‪"..‬‬

‫قاطعو غياث‪" ،‬اسمع يا زياد‪ .‬اعتدت المرور مف ىنا في‬


‫طريقي إلى البيت‪ ،‬مف دوف أف أزعج رابية في أية ساعة مف ساعات‬
‫الميؿ أو النيار‪ .‬أنا لـ أزرىا قط في دارىا‪"..‬‬

‫"وتمر مف ىنا لتتأكد أف أنوارىا مطفأة؟" لـ يرد غياث‪" ،‬ىي‬


‫ال تغيب عف ذىنؾ إذف؟"‬

‫"طبعاً‪ ،‬ولـ أحاوؿ إخفاء ىذه الحقيقة عنؾ‪ ..‬أو عف نفسي‪.‬‬


‫إال أف مجرد إحساسي بوجودىا يكفيني‪ ،‬وال أريد إزعاجيا‪".‬‬

‫ضحؾ زياد بحبور‪" ،‬لكني اليوـ بالذات‪ ،‬أريد إزعاجيا إف‬


‫كانت أنوارىا ما تزاؿ مضاءة‪"..‬‬

‫"وىؿ يميؽ بنا‪"..‬‬


‫"يميؽ بمف؟ وبماذا؟ غياث‪ ..‬أال يكفي؟"‬

‫اقتربا مف الدار‪ .‬أبطأ غياث سيارتو‪" ،‬ىا قد وصمنا‪ ..‬والنور‬


‫مضاء‪ .‬ترى ما الذي تفعمو في مثؿ ىذه الساعة؟"‬

‫"توقؼ‪ .‬إف كنت ال تنوي‪ ،‬فأنا والسيارة ننوي‪"..‬‬

‫"زياد‪ ..‬أرجوؾ‪ ،‬ىذه مبالغة‪ ..‬ال يجوز لنا‪"..‬‬

‫فتح زياد باب السيارة وىي لـ تتوقؼ بعد تماماً‪ .‬اضطر‬


‫غياث‪ ،‬أو تظاىر أنو اضطر لمتوقؼ أماـ دار رابية‪" ،‬عمى أية حاؿ‪،‬‬
‫الساعة لـ تتجاوز التاسعة والنصؼ بعد‪".‬‬

‫فتحت الباب‪ .‬لـ تصدؽ عينييا‪ .‬نظرت إلى زياد‪ ،‬ثـ إلى‬
‫غياث‪" ،‬غير معقوؿ! كنت أتوقع حضور أحدكما‪ ،‬لكف حضوركما‬
‫معاً ىو أروع مما كنت أنتظر‪ ..‬أىبل بكما‪ ..‬أىبل‪"..‬‬

‫ابتسامتيا العريضة خففت بعض الحرج‪ ،‬لـ تمغو‪" ،‬غياث‪،‬‬


‫ىذه مفاجأة أجمؿ مما أتوقع‪ ..‬أىبلً بؾ‪ .‬البد أف زياد ىو الذي‬
‫أجبرؾ عمى التوقؼ والمرور عندي اليوـ‪".‬‬

‫دخموا وىي تتقدميـ‪ ،‬أميا في غرفة الجموس تتفرج عمى‬


‫مسمسؿ عربي في التمفزيوف‪ .‬قالت‪" ،‬ماما‪ ،‬ىذا ىو غياث الذي‬
‫سمعت صوتو عبر الياتؼ ولـ تريو مف قبؿ‪ "..‬تقدـ غياث وصافحا‬

‫مف دوف كممة‪ .‬دنا منيا زياد وصافحيا بدوره‪ ،‬فأردفت رابية‪" ،‬طبعاً‬
‫أنت وزياد صرتما صديقيف مف زماف‪"..‬‬

‫ابتسمت األـ وسممت عمييما‪ ،‬وىي تنظر بطرؼ عينيا إلى‬


‫الشاشة للبل تفوتيا أحداث المسمسؿ‪ .‬ضحكت رابية‪" ،‬ىيا‪ ،‬لنذىب إلى‬
‫ركني‪ ،‬وندع ماما لمتابعة المسمسؿ‪"..‬‬
‫تنبيت رابية إلى أف يد غياث امتدت لتعبث بشره‪ ،‬فابتسمت‪.‬‬
‫غمغـ‪" ،‬ال يجوز لنا إزعاجؾ في مثؿ ىذه الساعة‪"..‬‬

‫أطمقت ضحكة رنانة‪" ،‬نزعجؾ؟ كممة جديدة ىذه‪ ،‬أـ ذريعة‬


‫جديدة؟ أنت تعرؼ جيداً يا غياث أف وجودكما معي فيو متعة كبيرة‬
‫لي‪ ،‬كما ىي متعة لكما‪ ،‬فبل داعي لمتبرير‪ .‬لنقؿ ببساطة‪ ،‬مررنا مف‬
‫ىنا‪ ،‬اشتقنا لؾ‪ ،‬ورأينا النور مضاء‪ ،‬فدخمنا‪ ..‬أليس ىذا أسيؿ؟"‬

‫سبقيما زياد إلى الزاوية التي تسمييا (بيتي) حيث كتبيا‬


‫وموسيقاىا ودخاف سجالرىا عالؽ عمى الجدراف والنافذة والستارة‬
‫المزاحة دوماً‪ .‬جمس عمى الوسالد الموزعة في الزوايا‪ .‬تبعتو رابية ثـ‬
‫غياث‪ .‬جمسوا‪ .‬تمعف غياث فيما حولو كمف يريد حفر صورة المكاف‬
‫في ذاكرتو‪ .‬سمع صوتيا‪" ،‬كنتـ في المعرض‪ ،‬وشيدتـ الميرجاف‪ .‬ما‬
‫الذي حدث؟ مف كاف حاض اًر؟ حدثوني‪"..‬‬

‫سأؿ غياث‪" ،‬ولماذا لـ تحضري؟ توقعت‪ "..‬تردد برىة ثـ‬


‫أردؼ‪" ،‬أعني توقعنا حضورؾ‪"..‬‬

‫ضحكت‪" ،‬مف تقصد بقولؾ توقعنا؟ لـ أكف أنوي الذىاب‬


‫أصبلً‪ ،‬ألني ال أحب المشاركة في ىذه الميرجانات‪ "،‬استدارت إلى‬
‫زياد‪" ،‬ألـ أخبرؾ بذلؾ يا زياد؟"‬

‫ىز زياد رأسو‪" ،‬نعـ‪ ،‬مع ىذا تمنينا وجودؾ معنا‪".‬‬

‫تدخؿ غياث كمف يريد نفي تيمة ما عنو‪" ،‬عمى أية حاؿ لـ‬
‫يزد األمر عف احتفالية فرح زالؼ‪ ،‬إلى جوار مريض يحتضر‪ ،‬لعمو‬
‫يزيد في عمره يوماً‪".‬‬

‫"فيـ ذىابكما إذف؟"‬


‫لـ يرد غياث‪ ،‬فقاؿ زياد‪" ،‬ربما إلحساسنا أف الميت الذي‬
‫سنفقده ما زالت أمامو بضعة أياـ‪ ،‬فذىبنا لنشـ ما تبقى مف عبؽ‬
‫أيامنا الماضية في أفيالو‪".‬‬

‫صمتت رابية متأممة‪ .‬مدت يدىا وتناولت سبحة غياث مف‬


‫يده‪ .‬كورتيا بيف يدييا‪ ،‬وقربتيا مف وجييا وتنسمت رالحة الصندؿ‪،‬‬
‫ثـ بدأت تسقط حباتيا واحدة بعد األخرى‪ ،‬ورابية ما تزاؿ تتأمميا‪ .‬كـ‬
‫تمنى غياث أف يصورىا في تمؾ المحظة!‬

‫جمست مطرقة الرأس تحدؽ في حبات السبحة المتساقطة‪،‬‬


‫وصوت حبات المطر يدؽ زجاج النافذة‪ .‬رفعت رأسيا ونظرت عبر‬
‫النافذة إلى السماء المدليمة‪" .‬يحيرني فيكما ىذا الحنيف إلى األياـ‬
‫الماضية‪ ،‬وحب المحمة العتيقة‪ .‬لو كنتما تعشقاف العيش ىناؾ‪ ،‬لماذا‬
‫انتقمتما منيا؟ ىؿ ىو حنيف حقيقي وتعاطؼ مع أىميا‪ ،‬أـ ىو‬
‫االنسياؽ وراء موجة الحنيف إلى الماضي؟ ىؿ بقي فييا أحد مف‬
‫معارفكما‪ ،‬أو أىؿ لكما؟ أـ تذىباف إلييا حامميف الكاميرات مثمما يفعؿ‬
‫السواح؟"‬

‫ضحؾ زياد طويبلً‪" ،‬ىؿ تدريف يا رابية‪ ..‬لقد ضحكت اليوـ‬


‫أكثر مما فعمت طيمة أشير؟ في البداية مع غياث الذي حاوؿ أف‬
‫يمعب معي لعبة القط والفأر‪ .‬واآلف تسألنا رابية إف كاف جرحنا القديـ‬
‫ما يزاؿ ينزؼ‪ ،‬وىؿ يؤلمنا نزفو؟" صمت برىة‪ ،‬ثـ تنيد‪" ،‬رابية‪ ،‬أيف‬
‫كنت تعيشيف قبؿ أف تسكني في المنصور؟"‬

‫دىشت‪" ،‬كنا قبميا في الجادرية‪ .‬لماذا؟"‬

‫"لماذا تركتـ الجادرية؟"‬

‫"تركناىا ألف البيت صار أوسع مما نحتاجو‪ ،‬أمي وأنا‪ ،‬بعد‬
‫زواج أخوتي‪"..‬‬
‫تنيد زياد‪" ،‬الجادرية‪ ..‬ثـ المنصور‪ "..‬عاودتو الضحكة‬
‫األشبو بالنحيب‪" ،‬معؾ حؽ في أف ال تفيمي سبب حزننا يا رابية‪..‬‬
‫وحنيننا إلى المحمة‪ ،‬ذلؾ أف‪"..‬‬

‫احتدـ الغضب في عيني رابية‪ ،‬وردت عميو بشراسة‪" ،‬لحظة‬


‫زياد‪ ،‬أرجوؾ! أفيـ مف ضحكتؾ الساخرة أنؾ تتصورني ابنة الترؼ‬
‫التي ال يمكف أف تحس بما حوليا مف آالـ‪ .‬تيمتؾ ىذه يا زياد ما‬
‫عادت تخيفني‪ ،‬فمقد صارت قديمة‪ ".‬صمتت رابية لتسيطر عمى‬
‫غضبيا‪ .‬نظرت إلى النافذة لكيبل تنظر ألي منيما‪ ،‬ثـ أكممت بيدوء‪،‬‬
‫"حيف رفضت المشاركة في خبلفات المنظمة وانشقاقاتيا‪ ،‬قبؿ أكثر‬
‫مف عشريف عاماً‪ ،‬اتيمني كؿ فريؽ منيـ بالبرجوازية‪ .‬حيف قمت ليـ‬
‫أني أخشى عمى القضية مف أف تذبح بأيدينا‪ ،‬قالوا أنؾ ال تريديف أف‬
‫تموثي يديؾ المترفتيف بأدراف خبلفات الجماىير!" نظرت في عيني‬
‫زياد نظرة ٍ‬
‫تحد‪" ،‬كاف اتيامي أسيؿ عمييـ مف البحث عف حقيقة‬
‫أوضاعيـ‪ ،‬أو دوافع انشقاقاتيـ‪ .‬اتيموني أني ابنة الترؼ‪ ،‬ألني رأيت‬
‫التشرذـ يسري واالنشقاقات تسود‪ ".‬أحنت رأسيا وظمت تحدؽ في‬
‫حبات سبحة غياث بيف يدييا‪" ،‬كانت النتيجة أني تركت البندقية‪،‬‬
‫وانزويت في داري لعمي أقتنع أني بالفعؿ ابنة الترؼ‪ ".‬نظرت إلى‬
‫زياد بمؿء عينييا‪" ،‬حاولت أف أكوف ابنة الترؼ يا زياد‪ ،‬حاولت‬
‫االنسجاـ مع مف حولي في الجادرية‪ ،‬وبعدىا في المنصور‪ ،‬فوجدت‬
‫نفسي غريبة عنيـ‪ .‬وظؿ انتمالي ىناؾ‪ .‬مزروعاً في ىذه التربة‪".‬‬
‫صمتت رابية وقد تسارع سقوط حبات السبحة في يدىا‪" .‬أرجو أف ال‬
‫تتصور يا زياد أني ألقي عميؾ خطاباً في الوطنية أو االنتماء‪ .‬كبل‪،‬‬
‫ليس ىذا ما قصدت‪ ".‬نظرت إلى غياث فالتمقت عيناىما‪ ،‬فيربت‬
‫بعينييا منو إلى السبحة‪" ،‬كؿ ما في األمر‪ ،‬أني أحاوؿ فيـ معنى‬
‫االنتماء إلى المحمة القديمة‪ ،‬والحنيف الذي تشعروف بو‪ ".‬صمتت برىة‬
‫ثـ نظرت في عيني زياد‪ ،‬بحزف وعتاب‪" ،‬واذا بؾ تعود إلى االتياـ‬
‫الذي جرحني فيما مضى‪ ،‬ال بسبب قسوتو كما تتصور‪ ،‬إنما بسبب‬
‫عمي مف أف أسمح لؤلفكار‬
‫زيفو‪ "..‬ابتسمت لو بحزف‪" ،‬وأنت أعز ّ‬
‫المزيفة أف تعشعش في ذىنؾ‪".‬‬

‫اختنقت بالدمع‪ ،‬وما رضيت لنفسيا أف تسترضيو بدموع‬


‫أنثوية تسفحيا عمناً‪ .‬نيضت مف مكانيا للبل يرى دموعيا‪ .‬دنت مف‬
‫المسجؿ‪" ،‬أية موسيقى؟"‬

‫رد غياث‪" ،‬بيانو موزارت‪ ،‬أو عود منفرد‪ ..‬االختيار األخير‬


‫لؾ‪"..‬‬

‫ضحكت‪ ،‬واختارت العود‪ .‬سمعت أميا تنادييا فابتعدت ثـ‬


‫عادت تحمؿ صينية طعاـ أعدتو أميا عمى عجؿ لضيوؼ ابنتيا‪،‬‬
‫"أمي ال تغفؿ قط عف أداء ما أنساه باستمرار‪ ،‬تفضبل‪ ".‬وضعت‬
‫الصينية عمى مالدة منخفضة بينيـ‪ ،‬وعاودت الجموس‪ .‬وزعت‬
‫الصحوف‪ ،‬وقالت‪" ،‬لنفترض جدالً أني ابنة الترؼ‪ ،‬فيؿ يمغي ىذا‬
‫االفتراض قدرتي عمى الفيـ؟"‬

‫استدارت فجأة إلى غياث فالتقت عيناىما‪ .‬ابتسمت‪ ،‬إال أف‬


‫التماعة الغضب ما تزاؿ تتوىج في عينييا بالرغـ مف االبتسامة التي‬
‫رسمتيا عمى شفتييا‪ .‬مرة أخرى تمنى غياث لو استطاع التقاط صورة‬
‫لبريؽ الغضب في عيني رابية‪ .‬ىز رأسو بأسى‪" ،‬لـ يقصد زياد أف‬
‫يشكؾ بؾ يا رابية‪ .‬إنما قصد أنؾ لـ تعيشي بيف أفياء محمة قديمة‪،‬‬
‫بيف أىميا وابنيتيا‪ ،‬لذلؾ قد يصعب عميؾ فيـ ىذا الحنيف‪"..‬‬

‫استدارت إلى زياد‪" ،‬ىؿ تقبؿ اعتذاري يا زياد؟ فمقد نكأت في‬
‫نفسي جرحاً أحاوؿ نسيانو‪ ،‬واذا بو يواجيني مجدداً‪ ،‬فانسقت وراء‬
‫الغضب‪ .‬أعتذر مرة أخرى‪"..‬‬
‫قاطعيا‪" ،‬بؿ أنا مف يعتذر يا رابية‪ .‬لقد قمت ما قمتو مف دوف‬
‫أف أقصد أف أسبب لؾ الماً‪"..‬‬

‫ضحكت وقاطعتو‪" ،‬وىؿ تريدني أف أصدؽ أف زياد يرضى‬


‫بجرح رابية؟ ال تسيء الظف بي أييا الصديؽ‪ "..‬قالتيا بطريقة مازحة‪،‬‬
‫ثـ عادت لتسأؿ بإصرار‪" ،‬أعود إلى سؤالي‪ ،‬ما الذي يشدكما إلى‬
‫المحمة؟"‬

‫تنيد زياد ونظر إلييا طويبلً بحسرة‪" ،‬يصعب شرح األمر يا‬
‫رابية‪ ،‬ألنو يعني شرح تاريخ حياتي بأكممو‪ "..‬تنيد واتكأ عمى الجدار‬

‫وأغمض عينيو‪" ،‬لـ أدرؾ حيف ىجرت المحمة أني بذلؾ أىجر عالماً‬
‫بأكممو‪ .‬أىجر األلفة التي تفيء عمى الجيرة بأكمميا‪ ،‬وأستبدليا‬
‫بجدراف صماء‪ ،‬عزلتني عما حولي‪ ،‬فمـ أعد أعرؼ أحداً ممف يعيش‬
‫في شارعي نفسو‪ ،‬وفي محمتي نفسيا‪ ..‬ال‪ ،‬ال يجوز لي تسميتيا‬
‫بالمحمة‪ ،‬فيذه الضواحي ال عبلقة ليا بمعنى المحمة وتساند أىميا‪".‬‬
‫صمت ولـ يقطع صمتو أي منيما‪ .‬فتح عينيو ونظر إلييا‪" ،‬ىؿ‬
‫تتصوريف أني ألومؾ لعدـ إدراؾ معنى المحمة؟ أبداً رابية‪ ،‬فأنا نفسي‬
‫لـ أدرؾ عمؽ ارتباطي بيا إال بعدما عدت إلييا قبؿ مدة قصيرة‪،‬‬
‫فاستقبمتني نورية بالحناف والحب نفسو الذي ودعتني بيما قبؿ ما‬
‫يقرب مف ثبلثيف عاماً‪ .‬فتحت الجرح الذي تصورت أنو أوشؾ عمى‬
‫يصبح ذكرى بعيدة‪ .‬أعادتني نورية إلى أياـ أوشؾ دفؤىا أف يبرد في‬
‫أعماقي‪ ..‬عدت بعد سنوات الضياع إلى أزقتي الدافلة‪ .‬عدت إلى‬
‫األـ التي تبنتني مراىقاً تتقاذفة السجوف والمعتقبلت‪ ،‬ألنو تج أر عمى‬
‫عشؽ بمده‪ "..‬تنيد زياد ورفع عينيو إلييا‪" ،‬ىؿ تعرفيف أمي يا رابية؟"‬

‫"أعرفيا طبعاً‪ ،‬أـ نسيت أنؾ عرفتني عمييا في أوؿ زيارة لي‬
‫إلى داركـ؟"‬
‫"كبل‪ ،‬ال أقصد أـ سعد العظيمة‪ ،‬بؿ أمي‪ ..‬أمنا جميعاً‪ .‬األـ‬
‫التي لـ تنجب أحداً منا‪ ،‬لكنيا أحست بنبض كؿ واحد منا‪ ،‬وجمعتنا‬
‫بالحب‪ .‬ىؿ تعرفيف نورية يا رابية؟" قاليا بنبرة دىشة طفولية‪.‬‬

‫"مف نورية ىذه؟" لـ يرد عمييا زياد‪ ،‬فالتفتت إلى غياث‪ ،‬لعمو‬
‫يغيثيا بالرد‪ .‬سحرتو الحيرة في عينييا‪ ،‬فظؿ يحدؽ بيما ونسي أنيا‬
‫تسألو‪" .‬غياث‪ ..‬أيف أنت؟"‬

‫فوجئ بسؤاليا‪ ،‬فتنبو‪" ،‬آسؼ‪ ،‬ما زلت معكما‪ ..‬أيف تريديف‬


‫أف أكوف؟"‬

‫"سألتؾ‪ ،‬مف نورية ىذه؟"‬

‫جاء الرد مف زياد بنبرة حالمة‪" ،‬نورية‪ ..‬نورية‪ ..‬تسأليف عف‬


‫نورية يا رابية؟ أنا أحدثؾ عف نورية‪ .‬ىؿ تعرفيف كيؼ يتكاثر‬
‫ال ارزقي؟ نأخذ غصناً منو وندفنو في األرض حتى تنبت لو جذور‬
‫جديدة‪ .‬ويزىر ال ارزقي في العود الجديد‪ .‬جذور ال ارزقي ىذه‪ ،‬ىي‬
‫نورية‪ "..‬لـ تفيـ شيلاً‪ ،‬لكف راقتيا كمماتو الشعرية فأنصتت‪" .‬حيف‬
‫جلت مف العمارة كنا فتى يافعاً يحس بالغربة عف كؿ ما حولو‪،‬‬
‫ويخجؿ مف ليجتو الجنوبية أماـ أىؿ بغداد‪ ،‬فيتسمح بالصمت إزاء‬
‫أسلمتيـ‪"..‬‬

‫مع رغبتيا بعدـ قطع سمسمة أفكاره‪ ،‬إال أنيا سألتو‪" ،‬لماذا‬
‫تركتـ العمارة؟"‬

‫توقؼ عزؼ العود عف االنثياؿ‪ ،‬ولـ ينيض أحد منيـ لتغيير‬


‫الشريط أو إعادتو‪ .‬أطمؽ زياد تنييدة عميقة كأنو غادر العمارة منذ‬
‫أشير‪" ،‬لقد اقتمعنا فيضاف دجمة مف أرضنا وزرعونا في أرض جديدة‬
‫لـ نكف نعرفيا‪ ".‬ىز رأسو بحزف عميؽ‪" ،‬حيف عرفت نورية‪ ،‬مدت لي‬
‫يدىا‪ ،‬وأخفتني بيف أىدابيا حتى نمت جذوري مف جديد‪ ..‬أحسست‬
‫حينذاؾ أني لـ أعد وحيداً‪ ،‬فمقد صارت جذوري مف جذور نورية التي‬
‫تمتد إلى أعماؽ األرض‪ .‬غذتني‪ ،‬ومنحتني مف قوة جذورىا حتى‬
‫اشتد عودي‪ "..‬نظر في عيني رابية‪" ،‬نورية ىذه‪ ،‬أكبر إنسانة وأعظـ‬
‫مف أية أـ‪ ..‬نورية‪ ...‬نورية‪ ..‬ماذا أقوؿ لؾ بعد عف نورية؟"‬

‫صمت زياد‪ ،‬ثـ اتكأ بيده عمى األرض واتجو إلى أشرطة‬
‫التسجيؿ‪ .‬أطاؿ النظر إلييا‪ ،‬ثـ اختار واحداً وضعو في المسجؿ‬
‫فجاء صوت أـ كمثوـ‪،‬‬

‫"ولما يرحمي قمبؾ‪ ..‬ويباف لعيني ىواؾ‪..‬‬

‫وتنادي عمى المي انشغؿ بؾ‪ ..‬وروحي تسمع نداؾ‬

‫أرضى اشكيمؾ مف نار حبي‪..‬‬

‫وابقى احكيمؾ عالمي في قمبي "‬

‫لـ يتحرؾ زياد عف موقعو قرب المسجؿ‪ ،‬بؿ اتكأ عمى زجاج‬
‫النافذة‪ ،‬يحدؽ في قطرات المطر المنيمرة بالقرب مف وجيو‪ ،‬وىو‬
‫ينظر بعيداً‪ .‬قاؿ ببطء‪" ،‬تمؾ ىي نورية يا رابية‪ .‬ىي الحب‪ ..‬نعـ‪،‬‬
‫نورية ىي الحب‪ ،‬ىي الحياة‪ ..‬نورية‪ ،‬أوتسأليني عف نورية؟" استدار‬
‫ببطء‪ .‬نظر إلى رابية‪ ،‬فوجدىا تنظر إليو بمؿء عينييا‪ .‬وجييا تغطيو‬
‫غبللة مف الدموع التي لـ تحاوؿ إخفاءىا‪" ،‬تبكيف يا رابية؟"‬

‫شعت ابتسامتيا بيف الدمع‪" ،‬كؿ ىذا الحب؟ لـ أكف أدري يا‬
‫زياد أف قصة حب قديمة يمكف أف تعيش طواؿ ىذا الزمف‪ ،‬وتثير في‬
‫النفس كؿ ىذا الشجف‪"..‬‬

‫ابتسـ زياد بحناف‪ .‬اقترب منيا وانحنى ليربت عمى رأسيا‪،‬‬


‫"نعـ‪ ،‬نعـ يا رابية‪ .‬ىو الحب القديـ‪ ،‬لكنو ليس كالحب الذي نراه‬
‫ونسمع بو اليوـ‪ ..‬بؿ أعمؽ مف ذلؾ بكثير‪ "..‬عاود الجموس إلى‬
‫جوارىا‪" ،‬آآآآه‪ ،‬كـ أتمنى لو أنؾ عرفت نورية‪"..‬‬

‫لـ تفيـ رابية ما يقصده‪ ،‬فاستدارت لتستنجد بغياث‪ .‬عيناه لـ‬


‫تفارقا وجييا‪ ،‬ظؿ طواؿ الوقت وىو عاجز عف إبعاد عينيو عنيا‪.‬‬
‫ظؿ يتأمميا صامتاً‪.‬‬

‫في أعماقيا استغربت رابية صمتو وىدوءه‪ ،‬وىي تتحاشى‬


‫النظر إليو‪" ،‬غياث‪ ،‬لماذا لـ تقؿ لي مف قبؿ؟ أـ يجب أف أعرؼ‬
‫باألمور بعد أف‪"..‬‬

‫ضحؾ زياد ورد عمييا‪" ،‬ىؿ تريديف أف تعرفي نورية ألنيا‬


‫قصة الحب التي عاشت دىو اًر‪ ،‬وعاودتني بعدما شارفت عمى‬
‫الخمسيف؟"‬

‫أربكتيا نظرة غياث المحدقة بيا‪ .‬وأربكيا سؤاؿ زياد‪" ،‬لـ‬


‫أقصد‪"..‬‬

‫لـ يتح ليا إتماـ جممتيا‪ ،‬بؿ ضحؾ بصوت مرتفع‪ .‬ثـ تنبو‬
‫إلى أف أميا قد تكوف نالمة‪ ،‬فصمت‪" ،‬آسؼ‪ "..‬استدار إلى صاحبو‪،‬‬
‫"غياث‪ ،‬يبدو أف الروالي فقد القدرة عمى رواية قصة حب بسيطة‪،‬‬
‫فيؿ لؾ أف تعينو؟" الحظ شرود ذىف غياث وىو يحاوؿ إجبار عينيو‬
‫عمى مغادرة وجو رابية‪ ،‬فواصؿ زياد‪" ،‬أـ أف العينيف المتيف كنا‬
‫بذكرىما ىذا الصباح قد سمبتا منؾ ممكة الكبلـ أيضاً؟"‬

‫استدارت رابية بميفة نحو غياث‪ ،‬وما تزار الحيرة تموح في‬
‫عينييا‪" ،‬أرجوؾ‪ ،‬يبدو أني فيمت األمر خطأ‪"..‬‬

‫تبلقت عيونيما‪" ،‬لـ تخطيء يا رابية‪ ،‬فنورية تعني الكثير‬


‫الكثير لكؿ منا‪ .‬الكثير الذي يصعب شرحو‪ "..‬صمت برىة‪ ،‬ثـ‬
‫ابتسـ‪" ،‬ما رأيؾ لو زرناىا معاً؟ بعد ذلؾ قد يسيؿ الشرح‪ ،‬أو ربما ال‬
‫يعود ضرورياً‪".‬‬

‫بدت أشبو بطفمة عاجزة‪" ،‬وكيؼ تريدني أف أناـ الميمة مف‬


‫دوف فيـ حقيقة األمر؟ أـ أف لعبة األلغاز تستيويؾ إلى الحد الذي‬
‫يجعمؾ تعذبني أكثر مما‪ "..‬صمتت ولـ تكمؿ جممتيا‪ ،‬إذ أدركت أنيا‬
‫صرحت بأكثر مما يجب‪ ،‬فأطرقت‪.‬‬

‫ظؿ ينظر إلييا وبوده لو أخفاىا بيف جفونو‪ .‬ىمس لنفسو‪،‬‬


‫"ومف سيقدر أف يناـ الميمة يا رابيتي؟" ثـ قاؿ بصوت مسموع‪" ،‬منذ‬
‫مدة وأنا أفكر بضرورة المقاء بينؾ وبيف نورية‪ .‬إنيا جزء مف حياتنا‬
‫يجدر بؾ معرفتو‪ ،‬ألنؾ لو عرفت نورية‪ ،‬لعرفت معنى ىدـ المحمة‬
‫بشكؿ أكثر عمقاً وقرباً‪ .‬ولفيمت ما نحسو‪"..‬‬

‫غمبتيا الحماسة‪" ،‬لؾ أف تختار الوقت المناسب‪ ،‬وأنا مستعدة‬


‫لمتجواؿ معؾ في التاريخ‪ ،‬بعد تجوالنا في الجغرافيا‪ "..‬صمت برىة‪.‬‬
‫ابتسمت‪" .‬ما رأيكما في ذىابنا إلييا اآلف؟"‬

‫فوجئ زياد وبانت الدىشة في عينيو‪ ،‬ثـ تحولت الدىشة إلى‬


‫ضحكة طويمة‪" ،‬وتزعميف مني يا رابية حيف تصورت صعوبة تفيمؾ؟‬
‫ىؿ تريديف الذىاب إلى نورية وقد قاربت الساعة منتصؼ الميؿ؟"‬

‫تدخؿ غياث خشية تكرر سوء الفيـ بينيما‪" ،‬نورية تعيش في‬
‫منطقة ليا تقاليدىا يا رابية‪ ،‬وال يجوز لنا إقبلؽ راحتيـ بعد صبلة‬
‫العشاء‪ ،‬إذ يبدأ نيارىـ مع صبلة الفجر‪".‬‬

‫ضحكت رابية مف سذاجة مقترحيا‪ ،‬فيزت رأسيا أسفاً‪" ،‬إذف‬


‫أترؾ لكما اختيار الوقت المناسب‪ "..‬نظرت إلييما ثـ أضافت بنبرة‬
‫تحذير‪" ،‬عمى أف ال تنسيا األمر‪"..‬‬
‫رد غياث قبؿ أف يفكر بما يقوؿ‪" ،‬وىؿ تتصوريف أف أياً منا‬
‫يمكف أف ينسى وعداً قطعو لرابية؟" واستدار إلى زياد‪" ،‬ىؿ صحيح ما‬
‫قمتو أف الساعة قد قاربت منتصؼ الميؿ؟"‬

‫ضحؾ زياد‪ ،‬وما أكثر ما ضحؾ ىذا اليوـ‪" ،‬متى تتعمـ يا‬
‫غياث أف تحمؿ ساعة؟"‬

‫شاركو غياث الضحؾ‪" ،‬حيف أتعمـ ترؾ شعري مرتباً‪ "..‬ورفع‬


‫يده ليعدؿ كومة الشيب المتناثر التي تعمو رأسو‪ ،‬وشرح المزحة لرابية‪،‬‬
‫"ىاتاف الجممتاف أسمعيا مف أمي لحد اآلف‪ ،‬ومذ كنت طفبلً‪"..‬‬

‫"ولـ يفمح إلحاحيا في تعميمؾ أياً منيما‪ "..‬ىز رأسو‪ ،‬ىيا‪،‬‬


‫أال نذىب؟ أذكر أنؾ لؾ تكف تنوي المجيء‪ ،‬وىا أنت تجمس كما لو‬
‫لـ تكف تنوي المغادرة‪ ..‬ىيا"‬

‫حاولت رابية إبقاءىما‪ ،‬إال أنيما اعتذ ار بتأخر الوقت‪،‬‬


‫فسألت‪" ،‬زياد‪ ،‬ىؿ سمعت شيلاً مف سنا؟ لقد مر عمى غيابيا مدة‪"..‬‬
‫ىزت رأسيا بحيرة‪" ،‬ال أدري‪"..‬‬

‫قاطعيا زياد‪" ،‬وال أنا أدري يا رابية‪ .‬رأيت خالد يوـ أمس‪،‬‬
‫ويبدو عميو الضياع واضحاً‪ .‬فضبلً عف ذلؾ‪ ،‬حيف طمبت اإلجازة‬
‫العارضة‪ ،‬تعيد غياث أف يحؿ محميا‪ ،‬لكف االمتحانات النيالية عمى‬
‫األبواب‪"..‬‬

‫قاطعو غياث‪" ،‬عمى أية حاؿ‪ ،‬تنتيي إجازتيا بعد ثبلثة أياـ‪،‬‬
‫وما عمينا سوى االنتظار‪".‬‬

‫لـ ترد رابية‪ ،‬إذ فوجلت بقوؿ زياد أف غياث حؿ محميا في‬
‫التدريس‪ .‬غياث ىذا يفاجليا دوما‪ .‬كمما زادت معرفتيا بو‪ ،‬عرفت فيو‬
‫إنساناً يصعب معرفة مديات عطالو وسعة قمبو‪ .‬لقد تحمؿ‪ ،‬فوؽ‬
‫مسؤولياتو‪ ،‬مسؤولية طمبة سنا لكي يتيح ليا الوقت الكافي لترتاح‪.‬‬
‫وىو‪ ،‬مف يريحو؟ مف يتحمؿ بعضاً مف مسؤولياتو ليرفع شيلاً مف‬
‫العبء عنو؟‬

‫أطرقت برأسيا وتقدمتيما حتى باب الدار‪ .‬أرادت توصيميما‬


‫لمباب الخارجي‪ ،‬لكنيما أص ار عمى عدـ خروجيا تحت المطر‪ ،‬قاؿ‬
‫زياد‪" ،‬سوؼ أغمؽ الباب وراءنا‪ "..‬ودعتيما وبقيت تنتظر‪.‬‬

‫تنبيت أنيا ما تزاؿ تحمؿ سبحة غياث في يدىا‪ .‬ركضت‬


‫فأدركتيما قبؿ إغبلؽ باب السيارة‪ .‬رآىا غياث فأوشؾ عمى النزوؿ‬
‫إلييا‪ ،‬إال أنيا أمسكت باب السيارة لمنعو مف اليبوط‪ .‬نظر إلييا وقد‬
‫تبممت بمياه المطر وتبعثر شعرىا والتصؽ بيامتيا‪ ،‬والضحكة تيميؿ‬
‫في عينييا‪ .‬مدت يدىا بالسبحة‪" ،‬غياث‪ ،‬ىؿ نسيت سبحتؾ أـ ماذا؟"‬

‫أعطتو السبحة‪ ،‬والتقت أطراؼ أصابعيما لحظة‪ ،‬ثـ‬


‫استدارت وعادت إلى الدار‪.‬‬
‫(‪)16‬‬

‫سارت سنا إلى محطة القطار المتجو إلى بغداد‪ .‬قطعت‬


‫تذكرة وصعدت‪ .‬مرت ساعات الرحمة مف دوف أف تتحرؾ‪ .‬عجزت‬
‫عف التفكير بأي شيء وأي شخص سوى خالد‪ .‬بعد أياـ مف الوحدة‬
‫والتفكير العميؽ‪ ،‬لـ تتوصؿ إلى أبعد مف أنيا لف تقدر عمى العيش‬
‫مف دوف وجود خالد إلى جوارىا‪ .‬تتمنى لو تغير‪ ،‬تتمنى لو عاد كما‬
‫كاف حيف عرفتو‪ ..‬لكنيا بالرغـ مف كؿ شيء‪ ،‬عمى يقيف أف أف خالد‬
‫ىو أىـ ما في حياتيا‪ ،‬وكؿ ما عداه قابؿ لمنقاش‪.‬‬

‫ظمت عجبلت القطار تدور وتدور وتمتيـ المسافة التي‬


‫تفصميا عف بغداد‪ ..‬وعف خالد‪ .‬وصمت مع الفجر‪ .‬اجتازت زحاـ‬
‫المحطة وصعدت في سيارة أجرة أقمتيا إلى دارىا‪ .‬ما أف دخمت الدار‬
‫حتى وجدت أف أخاىا وأسرتو قد حموا ضيوفاً عندىـ‪ .‬قبمت الجميع‬
‫بح اررة‪ ،‬وسألت عف أحواليـ‪ ،‬ثـ استأذنت وحممت حقيبتيا الصغيرة‬
‫إلى غرفتيا‪ .‬اتجيت إلى الياتؼ وأدارت رقـ خالد‪ .‬ىمست‪" ،‬صباح‬
‫الخير‪"..‬‬

‫سمعت شيقتو‪ ،‬ثـ جاءىا صوتو األجش مف أثر النوـ‪،‬‬


‫صاح كالغريؽ‪" ،‬سنا‪ ..‬أيف أنت يا سنا؟"‬

‫أطمقت ضحكتيا األشبو بالنواح‪" ،‬في الدار‪"..‬‬

‫"فتشت عنؾ في كؿ مكاف‪ .‬كدت أجف قمقاً حتى أبمغني زياد‬


‫أنؾ بخير ومع أناس يثؽ بيـ‪ ..‬ومع ىذا‪" ،‬تنيد‪" ،‬أنا ضالع مف دونؾ‬
‫يا سنا‪ ،‬طواؿ األياـ الماضية‪ ..‬ضالع تماماً‪"..‬‬

‫قاطعتو برقة‪" ،‬مشتاقة لؾ يا خالد‪".‬‬

‫رد والدموع تخنقو‪" ،‬وىؿ تعرفيف الشوؽ يا سنا؟"‬


‫ضحكت برقة‪" ،‬ىؿ عدنا إلى الجداؿ يا خالد‪ ،‬أـ ماذا؟"‬

‫"ماذا!" نطقا بالكممة في آف واحد‪ ،‬فأطمقا ضحكة جذلة مف‬


‫األعماؽ‪ .‬بدعة (ماذا) ىذه اخترعتيا سنا كدواء لمكآبة التي تحؿ بيـ‪،‬‬
‫فما أف يسأؿ أحد سؤاالً حتى يرد الجميع (ماذا؟) ويضحكوف‪ ،‬وتزوؿ‬
‫الكآبة إلى حيف‪..‬‬

‫صمت برىة ثـ قاؿ‪" ،‬اسمعي يا سنا‪ ،‬سآتي إليؾ فو اًر‪ .‬ارتدي‬


‫مبلبسؾ‪ ،‬فأمامنا عمؿ البد منو‪ ،‬وىو ينتظر اإلنجاز منذ سنوات‪"..‬‬

‫"أي عمؿ ىذا؟ لقد وصمت لتوي بعد سفرة مرىقة‪ ،‬وعمى‬
‫أعمالؾ االنتظار حتى الغد‪"..‬‬

‫قاطعيا بحزـ‪" ،‬سآتيؾ بعد ساعة‪ ،‬كوني جاىزة‪ "..‬وأغمؽ‬


‫الياتؼ‪.‬‬

‫لـ تدر سنا‪ ،‬أتغضب منو إلنياء المكالمة مف دوف سبلـ‪ ،‬أـ‬
‫تبتسـ لتعجمو‪ .‬ىزت كتفييا وأخذت حماماً لتغتسؿ مف وعثاء السفر‪،‬‬
‫إذ ميما قاؿ خالد‪ ،‬فيي بحاجة لبلستحماـ قبؿ أي شيء آخر‪.‬‬
‫أحست بالماء يغسؿ تعب جسدىا‪ ،‬فمـ تتحرؾ‪ ،‬بؿ وقفت تحت الرذاذ‬
‫ورفعت وجييا إليو‪ .‬ثـ خرجت مف الحماـ وتمددت فأغفت‪ .‬لـ تفكر‬
‫بموعد خالد بعد ساعة‪ ،‬ولـ تفكر بالمستقبؿ‪ ،‬بؿ تركت لجسدىا أف‬
‫يسترخي‪ ،‬ولسمطاف النوـ أف يأخذ حقو مف تعبيا‪ .‬نامت سنا‪.‬‬
‫(‪)17‬‬

‫بعد خروجيما حاولت رابية أف تناـ‪ ،‬إال أف النوـ عصى‬


‫عمييا‪ ،‬إذ تممكيا اضطراب لـ تعرؼ كنيو‪ ،‬يختمؼ عف جميع‬
‫المشاعر التي مرت بيا مف قبؿ‪ .‬اضطراب أشبو بالحيرة‪ .‬إحساس لـ‬
‫يزايميا منذ مدة‪ .‬بالتحديد منذ زيارة ىند الصالح‪.‬‬

‫يومذاؾ‪ ،‬في دار ىند الصالح‪ ،‬ركز غياث كؿ انتباىو عمييا‪،‬‬


‫كأف ليس في الدعوة سواىا‪ .‬كانت رابية مؿء عينيو ومؿء أفكاره‪.‬‬
‫خصيا وحدىا بالحوار وظمت نظراتو مركزة عمييا‪ ،‬وما تزاؿ تحت‬
‫وقعيا‪ .‬أحست بنظراتو آنذاؾ‪ ،‬حتى حيف تدير لو ظيرىا‪ .‬ولكف‪ ..‬ألـ‬
‫يكف ذلؾ ىو ما تتمناه في سرىا؟ أف ييتـ بيا غياث مثؿ اىتماميا‬
‫بو؟ إذ بالرغـ مف يقينيا باستحالة أية عبلقة بينيما‪ ،‬إال أف اىتمامو‬
‫كاف‪ ،‬وما يزاؿ‪ ،‬أمنية تداعبيا س اًر‪ ،‬وأمبلً حاولت أف تخفيو حتى عف‬
‫نفسيا‪.‬‬

‫ومع كؿ ذلؾ‪ ،‬أحست بالحيرة آنذاؾ‪ ،‬وظمت الحيرة تكبر في‬


‫أعماقيا‪ .‬حاولت العثور عمى تفسير ليا‪ .‬حاولت تناسييا‪ .‬ضحكت‪.‬‬
‫مزحت‪ .‬شاكستو‪ ،‬مثمما اعتادت‪ ،‬ال بؿ بشراسة أكبر‪ .‬لكف إحساسيا‬
‫بالحيرة ظؿ يرافقيا‪ ،‬ويتصارع مع رغبتيا الجارفة بالدنو منو‪.‬‬

‫مدر اًر‪ .‬ىطمت الدموع رغماً عنيا‪ .‬حاولت‬


‫ا‬ ‫ذرفت الدمع‬
‫منعيا‪ .‬حاولت إعادة السد إلى جفونيا‪ .‬لكف ىذه الدموع العنيدة ظمت‬
‫تنساب‪ ،‬مثؿ أمطار نيساف التي تيدر وتفيض وتغرؽ بغداد بسيوليا‪.‬‬
‫ىؿ يستحؽ كؿ ىذا؟ ىؿ يستحؽ غياث كؿ ىذه الدموع؟ ال أحد‬
‫يستحؽ دموعيا! ضربت الوسادة بقبضتيا‪ .‬مف أجؿ ماذا تبكيف؟ ما‬
‫الذي تريدينو مف غياث؟ ردت عمى نفسيا بمكابرة‪( ،‬ال شيء‪ )..‬ال‬
‫تريد منو شيلاً‪ .‬كبل‪ ،‬بؿ تريد‪ ..‬تريده بكؿ عنفواف مشاعرىا‪ ،‬وبكؿ‬
‫غ ازرة دموعيا‪.‬‬

‫في تمؾ الميمة بكت رابية طويبلً‪ .‬بكت ال حباً بو‪ ،‬إنما بكت‬
‫ألف عمييا دفف ىذا الحب في أعماؽ روحيا‪ .‬عمييا وأده مف دوف أف‬
‫يدري بو أحد‪ ..‬ومف دوف أف يدري بو غياث‪ .‬يجب أف ال يعرؼ‬
‫غياث أنيا ذرفت دمعة واحدة بسببو‪ .‬يجب عمييا وأد ىذا اليوس‬
‫المجنوف في أعماقيا‪ .‬عمييا إعادة ترتيب أفكارىا‪ .‬أف تكوف منطقية‬
‫وواقعية‪ ،‬كما كانت طيمة حياتيا‪ .‬عمييا إعادة التوازف إلى الميزاف‪.‬‬

‫إإإإإيو رابية‪ ،‬لـ كؿ ىذا؟ ومف أجؿ مف؟ قيؿ عنؾ الرابية‬
‫التي تيز الجباؿ وال تيتز‪ .‬ىؿ تبكيف؟ ىؿ تبكيف يا رابية؟ ويؿ لؾ‪..‬‬
‫وويؿ عميؾ‪ .‬أنت لـ تخمقي لمحب‪ ،‬وال الحب لؾ‪ .‬أعيدي لمميزاف‬
‫توازنو‪ ،‬أو اكسريو‪ .‬تخمصي مف غياث‪ ..‬اكتبيو قصيدة‪ ..‬أو اذرفيو‬
‫دمعةً‪ ،‬أو فميكف رواية! لكف تخمصي منو‪ ،‬فيو لف يكوف لؾ‪ .‬لف‬
‫يكوف حتى الصديؽ الذي تنشديف‪ ،‬وال يحؽ لؾ الحنيف إليو‪.‬‬

‫إف استطعت يا رابية أف تعيدي لميزانؾ توازنو‪ ،‬فيؿ‬


‫تستطيعيف أف توازني ميزاف غياث أيضاً؟ غياث الذي حاوؿ وما يزاؿ‬
‫يحاوؿ عدـ تجاوز الحد الفاصؿ بيف الصداقة والحب‪ .‬غياث الذي‬
‫رأت في عينيو الميمة ما تمنت رؤيتو‪ ،‬وما انتظرت رؤيتو‪ .‬ولكف‪ ..‬ىؿ‬
‫يحؽ ليا أف تنسى ما يفصؿ بينيما؟ ىؿ مف حقيا نسيانو؟ غياث لف‬
‫يكوف أكثر مف غيمة عابرة في سماء حياتؾ المجدبة يا رابية بنت‬
‫صقر الحمود‪.‬‬

‫ابكي يا رابية! ابكي وحدؾ‪ .‬مزقي ذاتؾ‪ .‬ومزقي معيا ىذا‬


‫الحب الذي لف يكوف‪ .‬ولكي تظؿ الصداقة واأللفة‪ ،‬فيي التي قد‬
‫تعيش إلى األبد‪ .‬اجتثي مف أحشالؾ ىذه العواطؼ الغبية التي تعتاش‬
‫كالطفيميات األسطورية‪ ،‬لكي تظؿ نبتة المودة صافية رالقة‪ .‬صاحت‬
‫بصوت متحشرج والدموع تنثاؿ عمى وجنتييا‪" ،‬نعـ‪ ..‬يجب أف أظؿ‬
‫كما كنت دوماً‪ .‬أضحؾ وأضحؾ لكي أقوى عمى ضعؼ ذاتي‪ ،‬فأقدر‬
‫عمى االحتفاظ بو صديقاً‪ ،‬ونضحؾ معاً عمى المزحة الكبرى‪ .‬نضحؾ‬
‫مف الحياة التي ىزأت بنا‪ ،‬فجعمتنا نمتقي في دروبيا حيث استحاؿ‬
‫المقاء‪ ،‬وحيف استحاؿ المقاء‪ ..‬نضحؾ مف قسوة الحياة عمينا‪ ،‬ألف‬
‫الضحؾ ىو كؿ ما نقدر أف نقولو بوجو الحياة مف أننا لـ نمت بعد‪،‬‬
‫فما زالت فينا بقية‪ ،‬بالرغـ مف كؿ ما تيدـ مف ذواتنا‪ .‬ما زلنا نعيش‬
‫وما زالت نخمتنا العطشى تعطي تم اًر حمواً‪ .‬قد نرضى بالقميؿ‪ ،‬لكننا‬

‫نظؿ عمى قيد الحياة‪ ،‬ألف ما ىو جدير بالحياة يظؿ دوماً شامخاً‬
‫بوجو الرياح‪".‬‬

‫نامت رابية‪ .‬ولـ تدر إف كانت تبكي‪ ،‬أـ تضحؾ‪.‬‬

‫نامت رابية وقد نسيت أف تضبط ساعة المنبو لكي تصحو‬


‫مع الدواـ‪ .‬نسيت الدواـ ونامت‪.‬‬
‫(‪)18‬‬

‫رف جرس الياتؼ‪ .‬حاولت رابية تجاىمو‪ ،‬لكنو ظؿ يرف‬


‫بإلحاح‪ .‬رفعت السماعة‪" ،‬نعـ؟"‬

‫"صباح الفؿ‪"..‬‬

‫صاحت‪" ،‬صباح النرجس والياسميف‪ .‬متى عدت يا سنا؟"‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬عدت قبؿ ساعة‪ .‬وسأتزوج بعد ساعة‪ .‬ىؿ‬


‫تأتيف معنا إلى المحكمة الشرعية لتحضري عقد قراني؟"‬

‫ضحكت رابية‪" ،‬مجنونة‪ ..‬واهلل العظيـ مجنونة!"‬

‫"عاقمة أو مجنونة ال ييـ‪ .‬الميـ‪ ،‬ىؿ تأتيف معنا أـ ال؟"‬


‫ضحكت سنا‪ ،‬وردت عمييا رابية بضحكة أعمى‪.‬‬

‫"طبعاً آتي معكـ‪ ،‬وكيؼ أضيع عمى نفسي فرصة التفرج‬


‫عميؾ وىـ يقودونؾ إلى القفص؟"‬

‫"لف أكوف في قفص االتياـ ىذه المرة‪ ،‬بؿ سأكوف العروس‪"..‬‬

‫"نفس الشيء‪ .‬سآتيؾ خبلؿ ربع ساعة‪ .‬لكني أريد فنجاف‬


‫قيوتي قبؿ كؿ شيء‪".‬‬

‫"سأكوف بانتظارؾ مع فنجاف القيوة أماـ الباب‪ .‬تعالي فو اًر‪".‬‬

‫"بمبلبس النوـ؟"‬

‫ضحكت سنا‪" ،‬ولـ ال؟ فأنت مجنونة أخرى‪".‬‬

‫في المرآة واجيتيا امرأة شعثاء الشعر منتفخة العينيف‪" ،‬يا‬


‫إليي‪ ..‬كيؼ سأواجو الناس بيذا الوجو؟"‬
‫غسمت وجييا بالماء البارد‪ ،‬فعاد إلى وجنتييا بعض الموف‪،‬‬
‫إال أف انتفاخ العينيف كاف أكثر عناداً‪ .‬ارتدت مبلبسيا عمى عجؿ‪ ،‬ثـ‬
‫قررت وضع كمادات الثمج عمى عينييا لبضع دقالؽ‪ ،‬لعؿ االحمرار‬
‫يزوؿ عنيما‪ .‬وضعت الكمادات وتمددت في الصالة‪ ،‬إذ ما زاؿ‬
‫أماميا بضع دقالؽ‪ ،‬ولف تطير الدنيا إف تأخر زواج سنا ربع ساعة‪.‬‬
‫تمددت عمى األريكة‪ ..‬بضع دقالؽ ال غير‪.‬‬

‫انتفضت‪" ،‬غياث!" اعتدلت في جمستيا‪" ،‬مستحيؿ‪ ،‬غياث‬


‫في الجامعة اآلف!" أنزلت قدمييا عف األريكة وأنصتت‪" ،‬إنو غياث‪،‬‬
‫ىذا صوت محرؾ سيارتو‪ ،‬لـ يوقفيا في الشارع‪ ،‬بؿ أدخميا إلى‬
‫المرآب!" اضطربت أنفاسيا‪ ،‬وارتفع وجيب قمبيا حتى عجزت عف‬
‫الحركة‪ ،‬ىمست‪" ،‬يا إليي! غياث!"‬

‫تمنت رابية لو تكوف مخطلة وليس القادـ غياث‪ .‬رف جرس‬


‫الباب فصار لزاماً عمييا فتحو‪ .‬سمعت طرقاً مموسقاً يستعجميا‪،‬‬
‫ىمست لنفسيا ونيضت‪" ،‬إذف‪ ،‬ىذه سنا‪ ،‬وليس غياث‪"..‬‬

‫ركضت وفتحت الباب‪" ،‬أىبلً‪ ..‬أىبلً‪"..‬‬

‫أخذتيا سنا باألحضاف‪" ،‬خشيت أف تعودي لمنوـ ويفوتؾ‬


‫عرسي‪ ،‬فجلت إليؾ مع العريس والشاىديف لكي نصحبؾ‪"..‬‬

‫"بؿ كنت عمى وشؾ الخروج‪ ،‬تفضموا لفنجاف قيوة‪ "..‬دخمت‬


‫سنا‪ ،‬ثـ خالد وزياد‪ ،‬ثـ غياث الذي تأخر عنيـ ليبحث عف شيء ما‬
‫داخؿ سيارتو‪ ،‬فانتظرتو رابية‪ ،‬وقد نسيت دموع األمس‪ ،‬وق اررات‬
‫األمس‪.‬‬

‫لـ تترؾ ليا سنا أية فرصة لطرح األسلمة‪ ،‬بؿ اتجيت إلى‬
‫المطبخ لتعد القيوة‪ .‬بعد برىة سمعوا صوت ضحكتيا‪ ،‬ثـ صاحت‪،‬‬
‫"رابية‪ ،‬اسمعي ما تقوؿ خالتي‪ "،‬أردفتيا بضحكة أكثر مرحاً‪" ،‬تقوؿ‪،‬‬
‫ألـ أقؿ منذ زمف بعيد أف سنا عاقمة‪ ،‬ىا أنت تتزوجيف وما زالت رابية‬
‫عمى حاليا‪ "..‬ضحكة أخرى‪ ،‬واردفت‪" ،‬إنيا تحممني مسؤولية تزويجؾ‬
‫يا رابية‪ ،‬فما رأيؾ؟" خرجت تحمؿ صينية القيوة‪ ،‬وحيف اقتربت مف‬
‫رابية ىمست ليا‪" ،‬أعرؼ عريسا مناسباً‪ ،‬ما رأيؾ؟" وغمزت بعينيا‪.‬‬

‫ضحكت رابية لتخفي ارتباكيا وأخذت فنجاف القيوة ووضعتو‬


‫عمى الطاولة ثـ نيضت‪ .‬ذىبت إلى غرفة أخرى وعادت بصحف‬
‫حمويات قدمتو ليـ‪" ،‬تفضموا حموى عرس سنا وخالد‪"..‬‬

‫شربوا القيوة وذىبوا إلى المحكمة الشرعية وعقد القاضي قراف‬


‫خالد السعد عمى سنا حامد‪ ،‬بحضور الشاىديف غياث يوسؼ البدر‬
‫وزياد عبد الرحمف‪.‬‬

‫فوجئ الجميع بنبأ الزواج ىذا‪ ،‬األىؿ واألصدقاء والزمبلء‪.‬‬


‫فوجئ مف يعرؼ قصة الحب العاصؼ ىذا‪ ،‬ومف لـ يعرؼ بيا فوجئ‬
‫أيضاً‪ ..‬أف تتزوج الدكتورة سنا حامد بعد كؿ ىذه السنوات‪ ،‬وأف تتزوج‬
‫مف خالد السعد!‬

‫لكنيما تزوجا!‬
‫(‪)19‬‬

‫غادر خالد وسنا قاعة المحكمة بعد عقد القراف ولـ يبقيا مع‬
‫أصحابيما‪ .‬سار غياث وزياد ورابية إلى حيث سيارة غياث‪ .‬تجوؿ‬
‫بيـ غياث في الشوارع وىو يتفرج عمى األبنية كمف يراىا لممرة‬
‫األولى‪" ،‬اليوـ فاتنا الدواـ جميعاً فإلى أيف نذىب؟"‬

‫سأؿ زياد‪" ،‬ىؿ نسيت يا غياث أننا وعدنا الحاج بزيارة نورية‬
‫صباح اليوـ؟"‬

‫"كبل‪ ،‬لـ أنس‪ "،‬واستدار إلى رابية‪" ،‬ما رأيؾ؟ ىؿ تأتيف‬


‫معنا؟"‬

‫ردت بتردد‪" ،‬أخشى أف تزعجيا زيارتي مف دوف سابؽ‬


‫معرفة‪".‬‬

‫ضحؾ زياد‪" ،‬وأيف حماسة األمس يا رابية؟ أـ أف كبلـ الميؿ‬


‫يمحوه النيار؟"‬

‫"أبداً‪ ،‬إال أني كنت أنوي مشاىدة المعرض‪ ،‬فمـ أذىب‬


‫باألمس تحاشياً لمزحاـ عمى أمؿ رؤيتو اليوـ‪"..‬‬

‫رد غياث ليقطع عمييا سبيؿ التردد‪" ،‬إذف‪ ،‬نذىب معاً‪،‬‬


‫فالمعرض إلى جوار دار الحاج‪ ،‬وزيارتنا لنورية لف تستغرؽ أكثر مف‬
‫نصؼ ساعة عمى أية حاؿ‪".‬‬

‫ظؿ يتجوؿ بيـ في الشوارع الفرعية التي يعشقيا‪ ،‬فيو يحب‬


‫شوارع بغداد‪ ،‬بخاصة بعد أف يغسميا المطر وتقوـ شمس الربيع‬
‫بتجفيؼ وجييا‪ .‬وصموا إلى مقيى الحاج أبو نوري‪ ،‬فأوقؼ غياث‬
‫سيارتو تحت شجرة السدر‪ ،‬وىبطوا منيا‪ .‬سمموا عمى الحاج وعبروا‬
‫الزقاؽ إلى داره‪ .‬لـ يكف الباب موصداً‪ ،‬دؽ غياث الباب بالمطرقة‬
‫النحاسية‪ ،‬ودخموا‪ .‬استقبمتيـ نورية في الفناء بابتسامة‪" ،‬أخي اًر جلت!‬
‫إني بانتظارؾ منذ بداية النيار‪ ،‬فتأتيني قرب صبلة الظير‪ "..‬قالتيا‬
‫بعتاب يمتزج بالمزاح‪.‬‬

‫فتح غياث ذراعيو واحتضف نورية‪ ،‬ثـ حمؿ بقايا جسدىا‬


‫الذاوي كما يحمؿ طفبلً صغي اًر‪ ،‬وصار يدور بيا بحركة عابثة لـ‬
‫تتوقعيا رابية مف الرجؿ الذي عرفتو جاداً‪ .‬ظؿ غياث يدور بيا في‬
‫الفناء وىو يضحؾ ويكرر‪" ،‬نورية‪ ..‬نورية‪ ،‬ال أقدر عمى زعمؾ‪ ،‬فأنت‬
‫حبيبة القمب‪"..‬‬

‫وترد نورية وىي تغالب الضحؾ‪" ،‬انزلني يا ولد!"‬

‫ويدور بيا غياث‪" ،‬لف أنزلؾ حتى تسامحي تأخري عنؾ‪"..‬‬

‫"قمت لؾ انزلني!" وتكركر بالضحؾ‪.‬‬

‫"صالحيني‪"..‬‬

‫"إنؾ تقطع أنفاسي‪"..‬‬

‫"قولي أنؾ سامحتني‪"..‬‬

‫"حسناً‪ ..‬حسناً سامحتؾ‪"..‬‬

‫أنزليا‪ ،‬وظؿ ممسكاً بيا حتى استقرت عمى قدمييا وىي‬


‫تغص بالضحؾ والدموع تتساقط مف عينييا‪" ،‬مجنوف‪ ،‬واهلل العظيـ‬
‫مجنوف‪ .‬كدت تقتمني!" ظمت متشبثة بذراعو حتى استعادت توازنيا‪،‬‬
‫"انتظر عمى األقؿ‪ ،‬حتى أسمـ عمى الضيوؼ‪ .‬أـ نسيت أف ضيوفاً قد‬
‫جاؤوا معؾ يا ولد‪ "..‬عدلت نورية ترتيب ثوبيا األسود‪ ،‬وىي تقوؿ‪،‬‬
‫"أىبلً وسيبلً‪ ،‬أىبلً وسيبلً‪ ..‬تفضموا‪"..‬‬
‫ظؿ زياد طواؿ الوقت يتكئ عمى الجدار القريب مف الفناء‪،‬‬
‫وابتسامة حنوف تزيف وجيو‪ ،‬وقد عقد ذراعيو عمى صدره متأمبلً عبث‬
‫صاحبو‪ .‬إلى جواره وقفت رابية وقد عقدت الدىشة لسانيا‪ ،‬وفتحت‬
‫عينييا عمى وسعيما‪ .‬غياث ىذا ال يفتأ يفاجأىا كؿ يوـ بجانب جديد‬
‫مف شخصيتو‪.‬‬

‫فتحت نورية ذراعييا لزياد‪" ،‬أىبلً زياد‪ ،‬تعاؿ ألقبمؾ‪ "..‬تقدـ‬


‫منيا زياد فمثمت جبينو‪ ،‬وىي تقوؿ‪" ،‬فدوة‪ ،‬ما أحمى ىدوءؾ‪ ،‬لـ ال‬

‫تعطي بعضاً منو لصاحبؾ ىذا‪ "..‬ثـ استدارت إلى رابية‪" ،‬أىبلً‬
‫ومرحباً‪"..‬‬

‫قاؿ غياث‪" ،‬نورية‪ ،‬ىذه رابية الحمود‪"..‬‬

‫تقدمت رابية كمف يسير في حمـ‪ ،‬مدت يدىا لمصافحة نورية‬


‫وىي تحس بحرج كبير‪ ،‬كمف يدخؿ إلى حرـ مقدس فبل يعرؼ كيؼ‬
‫يتصرؼ‪" .‬أىبلً‪ ..‬أىبلً رابية‪ "،‬وفتحت نورية ذراعييا واحتضنت رابية‬
‫ولثمت وجنتييا كأنيا تعرفيا طوؿ عمرىا‪" ،‬أصدقاء غياث وزياد ىـ‬
‫أصدقالي‪ ،‬ال داعي لمخجؿ معي‪ ،‬ىيا لنجمس في الصالة‪"..‬‬

‫قاطعيا غياث‪" ،‬تقصديف المرصد‪ ،‬أليس كذلؾ؟"‬

‫ضحكت نورية‪" ،‬أنت تسميو المرصد‪ ،‬لماذا ال تقوؿ أنو‬


‫المكاف الوحيد الذي تدخمو شمس الصباح‪ ،‬فأجمس فيو ألريح آالـ‬
‫مفاصمي‪ "..‬وسارت أماميـ نحو السمـ‪.‬‬

‫رد مشاكساً‪" ،‬وبعد الظير؟ وفي المساء؟" ضحكت‪" ،‬اعترفي‬


‫يا نورية أنؾ تجمسيف فيو لمراقبة ما يجري في المحمة‪ ،‬فبل يفوتؾ ما‬
‫يحدث فييا‪"..‬‬
‫ردت بحزـ وىي تغالب ضحكتيا‪" ،‬نعـ‪ ،‬وأراؾ حيف تزور‬
‫عمي‪".‬‬
‫أبي‪ ،‬فبل تتعب نفسؾ بعبور الشارع لتسمـ ّ‬

‫"كفاؾ عتاباً‪ ،‬واال حممتؾ‪"..‬‬

‫ضحكت وىي تصعد السمـ بصعوبة بسبب آالـ المفاصؿ‪،‬‬


‫"ال‪ ..‬ال‪ ..‬فدوة‪".‬‬

‫دلفوا إلى المرصد‪ ،‬واذا بو غرفة فسيحة مشرعة النوافذ‪،‬‬


‫تستقبؿ شمس الضحى‪ .‬أثاثيا قديـ بكؿ ما يحمؿ القدـ مف جماؿ‬
‫ودؼء‪ .‬السجاد يغطي أرضيتيا بكؿ األلواف كأنيا حديقة ازىية‪.‬‬
‫المقاعد مغطاة ببسط صوفية ممونة‪ .‬زجاج النوافذ يعكس ألواف الطيؼ‬
‫الشمسي فيدخؿ الغرفة زاىياً‪ .‬والدنيا فييا دؼء‪ ..‬دؼء‪..‬‬

‫جمست نورية في زاوية بيف نافذتيف‪ ،‬فالتمع سواد ثوبيا تحت‬


‫أشعة الشمس‪ .‬مدت يدىا ورفعت كتاباً‪ .‬وضعت إشارة في الصفحة‬
‫التي وصمت إلييا‪ ،‬أغمقتو ووضعتو فوؽ المذياع‪ ،‬وفوقو وضعت‬

‫نظاراتيا الطبية‪ ،‬ولـ تتوقؼ عف الغمغمة‪" ،‬أىبلً ومرحباً‪ ،‬أىبلً‬


‫ومرحباً‪ ".‬نظرت إلى زياد‪" ،‬كيؼ أنتـ؟"‬

‫"بخير والحمد هلل‪ ،‬وأنت كيؼ صحتؾ؟"‬

‫"الحمد هلل‪ ،‬ولو أف آالـ المفاصؿ تيمكني‪ .‬الميـ‪ ،‬لماذا‬


‫تأخرتـ؟"‬

‫رد غياث بنبرة مشاكسة‪" ،‬لو عرفت السبب يا نورية لقمت‬


‫لماذا لـ تأخذوني معكـ‪".‬‬

‫"كنتـ في زيارة إذف؟ أيف؟"‬


‫رد غياث وىو يغالب ضحكتو‪" ،‬لـ نكف في زيارة‪ ،‬بؿ في‬
‫عرس‪ ،‬والعقبى لؾ‪"..‬‬

‫ضربتو بمطؼ عمى كتفو‪" ،‬عرس؟ في الصباح؟ أي عرس‬


‫ىذا؟"‬

‫رد زياد بيدوء‪" ،‬شيدنا عمى عقد قراف صديقيف عزيزيف في‬
‫المحكمة الشرعية‪".‬‬

‫بدت عمييا الحيرة‪" ،‬مف؟"‬

‫"تعرفيف سنا‪ ..‬أليس كذلؾ؟"‬

‫"سنا تزوجت؟ يا لمخبر السعيد‪ ..‬تزوجت مف؟ خالد؟"‬

‫ىز الجميع رؤوسيـ‪" ،‬نعـ‪ ،‬خالد‪".‬‬

‫تنيدت بارتياح‪" ،‬الحمد هلل‪ ..‬الحمد هلل‪ ،‬عسى أف يعيشا‬


‫بسعادة يستحقانيا‪".‬‬

‫ضحؾ غياث‪ ،‬ثـ صمت برىة والح الجد والحزـ عمى وجيو‪،‬‬
‫وسأؿ نورية‪" ،‬وأنت يا نورية‪ ،‬متى توافقيف عمى الزواج مني؟" برقت‬
‫عيناه بالعبث بالرغـ مف جدية مبلمحو‪.‬‬

‫ضحكت نورية‪ ،‬كما ضحؾ زياد‪ ،‬ورابية‪ .‬ردت بسخرية‪" ،‬أي‬


‫فدوة لعيونؾ‪ ،‬أما بقي في الدنيا رجبلً غيرؾ ألتزوجو؟"‬

‫اكتست مبلمحو ببراءة طفؿ‪" ،‬لماذا؟ ما عيبي يا نورية؟"‬


‫استدار إلى زياد ورابية‪" ،‬ىؿ تعمماف أف نورية ىي الحب األوؿ في‬
‫حياتي‪ ،‬أحببتيا مذ كنت في العاشرة‪ .‬حيف تزورنا‪ ،‬لـ أكف أغادر‬
‫المنزؿ لكي أظؿ قريباً منيا‪ .‬وكنت أفتعؿ الذرالع لكي آتي ىنا‪ ".‬نظر‬
‫إلى نورية بولو‪" ،‬كنت مستعداً عمى الدواـ أف أحمؿ إلييا كؿ ما‬
‫تطمب أمي‪"..‬‬

‫قاطعتو نورية وىي تغالب الضحؾ‪" ،‬كنت تحمؿ ما تطمب‬


‫الوالدة طمعاً بالبقبلوة والكميجة التي أحشو بيا جيوبؾ‪"..‬‬

‫قاطعيا ضاحكاً بعبث‪" ،‬وكممة الشكر والقبمة عمى خدي‪ ..‬أـ‬


‫أف الخجؿ يجعمؾ تخفيف قسماً مف الحقيقة؟"‬

‫كركرت ضحكة نورية‪ .‬منذ دخوؿ غياث لـ تكؼ عف‬


‫الضحؾ أو االبتساـ‪" ،‬تظؿ طوؿ عمرؾ عابثاً يا غياث‪ "..‬وربتت‬
‫عمى كتفو‪" ،‬متى تعقؿ؟"‬

‫"تزوجيني ألعقؿ!"‬

‫"لف تعرؼ العقؿ أبداً في ىذا الحالة‪ "..‬استدارت إلى رابية‬


‫وما تزاؿ الضحكة تنير وجييا‪" ،‬ىؿ تعرفيف سنا وخالد منذ زمف‬
‫طويؿ؟"‬

‫ارتبكت رابية لمتغير السريع في وتيرة الحوار‪ ،‬فترددت‪" ،‬آآه‪،‬‬


‫نعـ‪ ،‬سنا أعرفيا طوؿ عمري‪ ،‬فيي صديقتي مذ كنا طفمتيف‪ .‬أما‬
‫خالد‪"..‬‬

‫قاطعيا زياد‪" ،‬تعرفينيا منذ طفولتكما‪ ،‬لكنكما صرتما‬


‫صديقتيف حيف التقيتما في غرفة التحقيؽ اثر اعتقالكما في مظاىرة‬
‫تشييع شيداء ‪ "..1959‬ربما أراد زياد أف ينفي عف نفسو كونو‬
‫السياسي الوحيد الذي تحممت نورية بسببو الكثير مف المتاعب‪ ،‬فاراد‬
‫أف يشرؾ رابية بيذا السر القديـ‪" .‬تعارفتما مجدداً بعد أف تمقت كؿ‬
‫منكما صفعة المحقؽ واىانة الشرطي‪ ..‬ذلؾ ما روتو لي سنا‪ ،‬فبل‬
‫تحاولي اإلنكار يا رابية‪ "..‬وربما أراد لنورية أف تحبيا‪ ،‬مثمما تحب‬
‫أوالدىا جميعاً‪ ،‬بالرغـ مف خبلفاتيـ السياسية‪" .‬أما معرفتيا بخالد‬
‫الحسف‪"..‬‬

‫جاء دور رابية لتقاطعو‪" ،‬عرفت خالد في منظمة التحرير‬


‫حيف التحقت بقواتيا بعد اندالع الثورة المسمحة‪"..‬‬

‫تنيدت نورية وقالت بنبرة تأمؿ عميؽ‪" ،‬تاريخ ال ينسى‪"..‬‬


‫صمتت قميبلً‪" ،‬كاف زياد معتقبلً في السراي‪ ،‬وغياث وحسيف في كتيبة‬
‫الخيالة‪ ..‬أياـ‪ "..‬استدارت إلى رابية‪" ،‬لكني تصورتؾ استاذة معيـ في‬
‫الجامعة‪"..‬‬

‫"كبل‪ ،‬لست أستاذة‪ ،‬بؿ موظفة بسيطة ال غير‪"..‬‬

‫رد غياث بصوت خافت‪" ،‬رابية تكتب الشعر‪"..‬‬

‫أتـ زياد جممتو‪" ،‬ونحاوؿ إقناعيا بنشر قصالدىا‪ .‬مع ىذا‪،‬‬


‫ترينيا تزعـ أنيا ليست أكثر مف إنسانة بسيطة ال تفيـ شيلاً‪".‬‬

‫أحست رابية بالحرج‪ .‬سألتيا نورية‪" ،‬لماذا؟"‬

‫ردت بارتباؾ‪" ،‬ىي ليست أكثر مف قصالد بسيطة ال تستحؽ‬


‫النشر‪"..‬‬

‫قالت نورية باقتناع‪" ،‬إف كاف زياد يقوؿ أنيا تستحؽ النشر‪،‬‬
‫فيي كذلؾ‪ .‬ألف زياد ال يجامؿ أحداً‪ .‬انشري يا رابية شعرؾ‪ ،‬فنحف ما‬
‫نزاؿ بحاجة إلى الكثير مف األصوات الصادقة‪".‬‬

‫لـ تحر رابية رداً‪ ،‬فصمتت‪ .‬مدت نورية يدىا إلى المذياع‪،‬‬
‫"حاف وقت نشرة األخبار‪ ،‬سأسمع الموجز ثـ أعد لكـ القيوة‪"..‬‬

‫"ىؿ تسمحيف أف أعدىا بدالً عنؾ؟"‬


‫"وىؿ ستعرفيف مكاف القيوة والسكر والدلة؟ ثـ ىذه أوؿ زيارة‬
‫لؾ‪ ،‬فكيؼ يمكف أف‪"..‬‬

‫قاطعتيا بمطؼ‪ ،‬أرجوؾ ال تجعميني أشعر بكوني غريبة‬


‫عنكـ‪ .‬عمى أية حاؿ لف أتيو في المطبخ‪"..‬‬

‫استمعت نورية لموجز األنباء‪ ،‬ثـ خفضت صوت المذياع‪.‬‬


‫سأليا غياث وقد تحوؿ مف العبث إلى الجدية‪" ،‬نورية‪ ،‬ىؿ تسممتـ‬
‫إشعار اإلخبلء؟"‬

‫تنيدت واستدارت نحوه‪" ،‬تسمـ أبي إشعا اًر بإخبلء المقيى‬


‫خبلؿ شير‪ ،‬إذ يبدأ اليدـ في تمؾ الجية‪ ،‬أما الدار فمـ نبمغ بشأنيا‬
‫حتى اآلف‪"..‬‬

‫"وىؿ تسمـ الحاج مبمغ التعويض؟"‬

‫"نعـ‪ "،‬وصمتت‪ .‬أطرقت برىة ثـ رفعت رأسيا‪ .‬وجييا يغرؽ‬


‫بالدموع‪" ،‬لكف يا غياث‪ ،‬مف يستطيع تعويض أياـ حياتو التي‬
‫أمضاىا في ىذه المقيى؟ مف يقدر أف يعوضو عف األصدقاء الذيف‬
‫يمتقييـ فييا؟ مف‪ "..‬وشرقت بالدمع فمـ تكمؿ‪.‬‬

‫قاؿ غياث ليمنع استرساليا بيذا الحديث المؤلـ‪" ،‬اسمعي يا‬


‫نورية‪ ،‬قصدت مف سؤالي أف أخبرؾ أني‪ ،‬ومنذ مدة‪ ،‬أحاوؿ إقناع‬
‫الحاج بشراء دار أو قطعة أرض لتكوف جاىزة لسكنكـ فييا‪".‬‬

‫ضحكت بم اررة‪" ،‬ال أظف تعويض المقيى يكفي لشراء دار‪،‬‬


‫أما لو اشترينا قطعة أرض‪ ،‬فمف يبني الدار‪ ،‬ومف يشرؼ عمييا‪،‬‬
‫أبي‪ ،‬أـ أنا؟"‬
‫قاطعيا‪" ،‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬معاذ اهلل‪ ،‬ال تفكري باألمر عمى ىذه‬
‫الشاكمة يا نورية‪ ،‬عيب! سأشتري األرض وأشرؼ عمى بناليا وأنقمكـ‬
‫إلييا بعد اكتماليا‪ ،‬وما عميؾ سوى أف تأمري‪"..‬‬

‫"لكف غياث‪ ،‬أشغالؾ ومسؤولياتؾ‪"..‬‬

‫"قمت يا نورية‪ ،‬عيب مثؿ ىذا الكبلـ‪ .‬أنتـ أىـ مف كؿ‬


‫أشغالي وأنتـ مف مسؤولياتي‪ ".‬تنيد وعادت أصابعو تعبث بشعره‪،‬‬
‫"عمى أية حاؿ اإلشراؼ عمى البناء لف يشغؿ إال جزءاً يسي اًر مف‬
‫يومي‪ ،‬والعطمة الصيفية عمى األبواب‪ ،‬واف شاء اهلل يكتمؿ البناء قبؿ‬
‫نياية العطمة‪".‬‬

‫أردؼ زياد كمف يعتذر عف طوؿ صمتو‪" ،‬وأستطيع مساعدتو‬


‫بدوري‪"..‬‬

‫دخمت رابية تحمؿ صينية القيوة‪ ،‬وأخذ كؿ منيـ فنجانو‪،‬‬


‫فجمست‪ .‬واصؿ غياث القوؿ‪" ،‬اتفقنا إذف‪ .‬سأباشر منذ الغد في‬
‫البحث عف قطعة أرض مناسبة‪ ،‬وعميؾ يا نورية أف تطملني أف كؿ‬

‫شيء سيكوف عمى ما يراـ‪ "..‬استدار إلى رابية‪ .‬كانت تنظر بعيداً‬
‫تتأمؿ انعكاس الطيؼ الشمسي عمى الجدار المقابؿ‪ .‬ود لو ظؿ‬
‫ينظر إلييا مف دوف أف تنتبو‪ .‬يستيويو النظر إلييا‪ ..‬إلى ىذه المرأة‬
‫الغريبة‪" ،‬رابية‪ ،‬أيف وصمت؟ ما ىذا الصمت؟ لـ نسمع صوتؾ مذ‬
‫جمبت القيوة‪"..‬‬

‫أجفمت رابية كما لو أنو أيقظيا مف ٍ‬


‫حمـ سديمي وعاد بيا إلى‬
‫األرض‪ .‬ابتسمت وقالت‪" ،‬أبداً‪ .‬ربما أردت فقط أف أثبت لؾ أني قادرة‬
‫عمى الصمت أحياناً‪ ،‬ال أكثر وال أقؿ‪ "..‬تعرؼ جيداً أنو يستمتع‬
‫بحواراتيا‪ ،‬ومع ذلؾ ال تدري لماذا تريد أف تثبت لغياث أي شيء‪..‬‬
‫وكؿ شيء‪ .‬صمتت ثـ أردفت بنبرة حزينة‪" ،‬كنت أتأمؿ روعة ىذه‬
‫الغرفة والدار‪ ..‬السكينة والدؼء يشيعاف منيا‪ ،‬ويبعثاف عمى ىدوء‬
‫النفس‪ ".‬صمتت برىة وظؿ يتأمميا وىي تنظر بعيداً‪ .‬حولت نظرىا‬
‫إليو وقد امتؤلت عيناىا بشيء يشبو الغضب‪" ،‬لماذا يراد لكؿ الناس‬
‫أف يعيشوا في اقفاص متماثمة مف الحديد واالسمنت؟ ما عيب ىذه‬
‫الدار لتيدـ؟" في صوتيا حدة ال تتبللـ مع ىدوء المحظات السابقة‪.‬‬
‫تمؾ ىي رابية‪ ،‬مزاج متغير بيف لحظة وأخرى‪ .‬التمع في عينييا وىج‬
‫الغضب وىي تنظر في عيني غياث‪ ،‬كأنو ىو الذي سييدـ الدار‬
‫والمحمة‪.‬‬

‫قالت نورية مدافعة عف غياث‪" ،‬ىذه الدور قديمة جداً حتى‬


‫صارت خط اًر ييدد سكانيا‪ ..‬فيي آيمة لمسقوط حتى قبؿ أف يبدأ‬
‫اليدـ فييا‪ ،‬بؿ أف بعضيا قد تيدـ‪ "...‬خنقتيا العبرة فصمتت نورية‪.‬‬

‫لـ يشأ غياث أف يعيد نورية إلى دالرة الذكريات‪ .‬كما لـ يرد‬
‫لرابية أف تحس بالحرج إف أدركت أنيا قد تسببت في إثارة الذكريات‬
‫المؤلمة لنورية‪ ،‬لكنو عجز عف العثور عمى الكممات التي يريدىا‪.‬‬
‫سبقو زياد بالقوؿ‪" ،‬رابية‪ ..‬رابية‪ ،‬ما ىذا اليجوـ الكاسح؟ غياث ليس‬
‫مسؤوالً عف ىدـ المحمة‪ ،‬وأنت تعرفيف ذلؾ كما أعرفو‪ ..‬فيؿ ىجومؾ‬
‫عميو اليوـ ألنو مسالـ بشكؿ استثنالي‪ ،‬ولـ يفتعؿ معؾ نقاشاً؟ أـ‬
‫ماذا؟"‬

‫رد غياث ورابية في وقت واحد‪" ،‬ماذا؟" وضحكا مع زياد‬


‫الذي استدار إلى نورية وشرح ليا ىذه المزحة المشتركة التي‬
‫اخترعتيا سنا لتعيد جو المرح في المحظات الحرجة‪ .‬عادت االبتسامة‬
‫إلى وجو نورية‪ ،‬وفيمت رابية أنيا قالت ما نكأ جرحاً ال تعرفو في‬
‫نفس نورية‪.‬‬
‫شربوا القيوة وتبادلوا بضع نكات ثـ غادروا مودعيف بدعوات‬
‫نورية ليـ‪ ،‬وخصت رابية بالقوؿ وىي تودعيا‪" ،‬ما عميؾ منيـ‪ ،‬ارجو‬
‫أف تزوريني باستمرار‪ ،‬معيما أو مف دونيما‪ ،‬فمقد انفتح قمبي لؾ‪".‬‬
‫ولثمت خدىا‪" ،‬ال تشعري بالحرج مف زيارتي في أي وقت‪.‬‬
‫سأنتظرؾ‪"..‬‬

‫غمغمت رابية‪" ،‬إف شاء اهلل‪".‬‬

‫قبمتيا نورية مرة أخرى وربتت عمى كتفيا مودعة‪ ،‬وعادت‬


‫إلى عالميا‪.‬‬
‫(‪)20‬‬

‫لـ تفيـ رابية الزلة التي وقعت فييا‪ ،‬والخطأ الذي ارتكبتو‪،‬‬
‫لكنيا لـ تشأ أف تسأؿ‪ ،‬إذ ربما تفيـ األمر مف دوف سؤاؿ‪ .‬غمرتيا‬
‫الحيرة ولـ تفصح عما في نفسيا‪ .‬وحيف وصموا إلى نياية الزقاؽ ولـ‬
‫يشرح أي منيما ما قد حصؿ‪ ،‬قالت‪" ،‬إلى المقاء‪ ،‬سأذىب لمتمشي‬
‫قميبلً‪ "..‬وسارت بضع خطوات‪ .‬اعتذر زياد بارتباطو بموعد كاف قد‬
‫نسيو‪ ،‬وغادرىما‪ .‬ظؿ غياث معيا‪" ،‬أنا أيضاً لـ أتمش منذ زمف‬
‫بعيد‪ "..‬وسار معيا‪.‬‬

‫سا ار بصمت مدة طويمة‪ ،‬ثـ قاؿ غياث‪" ،‬ىؿ تدريف أننا لـ‬
‫نتبادؿ كممة واحدة مذ غادرنا بيت الحاج‪ .‬مف يرانا نسير معاُ وكؿ‬
‫منا سادر في أفكاره‪ ،‬يتصورنا زوجيف استنفدا ما عندىما مف كبلـ‬
‫ولـ يعد بينيما أي حديث مشترؾ‪".‬‬

‫ضحكت لتخفي بعضاً مف الحرج الذي أحست بو‪" ،‬ماذا‬


‫جرى لؾ يا غياث؟ اليوـ خطبت نورية‪ ،‬وىا أنت تتصورنا زوجيف‪،‬‬
‫ىؿ أصابؾ زواج سنا وخالد بالعدوى؟" تمؾ طريقتيا‪ ،‬إذ كمما أحست‬
‫حرجاً أو خجبلً أو خوفاً‪ ،‬سارعت لمتصريح بالفكرة التي تجوؿ بذىنيا‬
‫كما لو كانت نكتة‪ ،‬فتضحؾ منيا‪ ،‬وال يعود لمخوؼ او الخجؿ موقع‬
‫في نفسيا‪ .‬فرابية تتحدى ذاتيا بذاتيا‪.‬‬

‫راقت المزحة لغياث‪ ،‬فرد عمييا بأخرى‪" ،‬ىؿ ىذا عرض‬


‫لمزواج يا رابية‪ ،‬أـ مقترح لممناقشة؟"‬

‫ضحكت‪" ،‬ال ىذا وال ذاؾ‪ .‬لـ ال تقوؿ أنؾ وجدتيا فرصة‬
‫مناسبة لكي تعرض عمي الزواج يا غياث؟" بيف الجد واليزؿ‪ ،‬تكمف‬
‫حقيقة حاوؿ كؿ منيما تجاىميا‪ ،‬أو إخفاءىا‪.‬‬
‫ضحؾ‪" ،‬وما رأيؾ؟"‬

‫لـ ترض أف تتيح لو فرصة الشعور باالنتصار لو عرؼ أنو‬


‫استطاع أف يتسبب في إحراجيا‪ .‬أرادت أف تكوف أكثر منو جرأة‪،‬‬
‫"تخيؿ لو ذىبنا اآلف إلى القاضي نفسو‪ ،‬ونطمب منو عقد قراننا‪ ،‬بعد‬
‫أف كنا شيوداً صباح ىذا اليوـ‪"..‬‬

‫"ربما اعترض لفارؽ السف بيننا‪"..‬‬

‫ضحكت‪" ،‬أو ربما طمب حضور ولي أمري‪ ،‬بذريعة أني لـ‬
‫أبمغ سف الرشد بعد‪ ،‬بالرغـ مف الشيب الذي يعمو ىامتي‪"..‬‬

‫قبؿ أف يفكر‪ ،‬سبقو لسانو فقاؿ‪" ،‬ويزيدؾ جماالً وكبرياء‪"..‬‬


‫وظؿ ينظر إلييا ليرى وقع كمماتو عمييا‪.‬‬

‫صمتت رابية وفكرت‪ ،‬ما الذي يريده ىذا الغياث مني؟ ثـ‬
‫ىزت رأسيا واستدارت لتواجو عينيو‪ ،‬إذ عمييا االستمرار في لعبة‬
‫الجرأة ىذه بالرغـ مف خطورتيا‪" ،‬أىذا غزؿ أـ عبث يا غياث؟ أخي اًر‬
‫لـ تجد أمامؾ مف تغازليا غيري‪"..‬‬

‫"وىؿ أجرؤ؟"‬

‫لـ تكف متأكدة إف كاف ىذا مزاحاً عابثاً منو‪ ،‬أـ محاولة‬
‫استكشاؼ دواخميا‪ .‬ردت‪" ،‬وىؿ ثمة حدود لجرأة غياث البدر؟" في‬
‫لحظة واحدة‪ ،‬تحولت قسماتيا مف االبتساـ إلى الجد‪ .‬عقدت حاجبييا‬
‫وسألتو‪" ،‬قؿ لي يا غياث‪ ،‬ما اليفوة التي ارتكبتيا في دار الحاج؟"‬

‫فوجئ غياث لسرعة تغييرىا موضوع الحديث‪ .‬ولو لـ يكف‬


‫متأكداً مف قدرتيا عمى االستمرار بمعبة التحدي والكممات‪ ،‬لتصورىا‬
‫غيرت مسار الحديث لتحاشي المزيد مف الحرج‪ .‬لقد تعمد مرافقتيا‬
‫مف أجؿ أف يشرح ليا موضوع الجناح الذي انيار عمى زوجة نوري‬
‫وطفميو‪ ،‬وتشتت األسرة بعد الفاجعة‪ .‬كما أراد ليا أف تفيـ أسباب‬
‫تمسؾ نورية بدارىـ والمحمة‪ ،‬ىذا التمسؾ الذي جر عمييا وعمى‬
‫عالمتيا الويبلت والمصالب‪ .‬اراد أف يشرح كؿ ىذا مف دوف أف‬
‫يحرجيا‪ ،‬لكنو فضؿ اختيار مدخؿ مناسب لمتدرج بالحديث‪ ،‬واذا بيا‬
‫تفاجلو مف دوف سابؽ إنذار‪ ،‬وتطرح السؤاؿ بشكؿ مباشر‪ .‬فتاه عميو‬
‫الجواب‪.‬‬

‫الحظت رابية صمتو فقالت‪" ،‬اسمع يا غياث‪ ،‬نورية ىذه‬


‫إنسانة مذىمة‪ ،‬وأحسست حيف كنا عندىا أني ارتكبت خطأ ما‪ ،‬شيء‬
‫قمتو‪ ..‬أو ربما تصرؼ معيف‪ ..‬ال أدري‪ ،‬لكني أدري أنؾ وزياد تعرفاف‬
‫ماىيتو‪ ،‬وقد أحسف زياد صنعاً بتغيير مجرى الحديث‪ .‬مع ىذا‪ ،‬أريد‬
‫معرفة ما حصؿ لسبب واحد وبسيط‪ "..‬صمتت برىة لترتب أفكارىا‪،‬‬
‫ثـ استرسمت‪" ،‬نورية تركت في نفسي أث اًر عميقاً‪ .‬أحسست بمحظة‪،‬‬
‫أنيا قريبة مف نفسي‪ .‬نورية عالـ ارلع أتمنى معرفتو أكثر‪ ".‬نظرت في‬
‫عينيو‪" ،‬نورية صارت تيمني يا غياث‪ ،‬أريد رؤيتيا اليوـ وغداً وبعده‪.‬‬
‫ولف أستطيع مواجيتيا ومعرفتيا ما لـ أعرؼ حقيقة ما جرى‪"..‬‬
‫سكتت‪ ،‬وظمت تنظر في عينيو‪" ،‬أريد معرفة ما جرى ‪ ،‬وأريد معرفتو‬
‫منؾ يا غياث‪ .‬ربما يشرح لي زياد األمر فيما بعد‪ ،‬لكنو سيفعؿ ذلؾ‬
‫عمى طريقتو الخاصة‪ ،‬ومف دوف أف يسبب لي أي حرج‪ ..‬مف دوف‬
‫أف يواجيني‪ ،‬ألف زياد‪ ،‬كما نعرؼ كبلنا‪ ،‬حساس إلى حد المرض‪.‬‬
‫أما أنت وأنا‪ ،‬فمقد تمقينا مف الحياة جروحاً جعمت جمودنا أقسى مف‬
‫الحجر‪ "..‬أطرقت رابية وركزت نظرىا عمى اسفمت الشارع‪ .‬ركمت‬
‫حصاة مرمية عمى الرصيؼ‪ ،‬والحقت غيمة بيضاء تسبح في‬
‫الفضاء‪ .‬ثـ ىزت رأسيا وعادت لتنظر إلى غياث‪" ،‬ال تخش يا غياث‬
‫أف تجرح مشاعري‪ ،‬فأكثر ما يجرحني ىو وجود سر يعرفو كؿ مف‬
‫حولي وال أعرفو‪ ،‬وأنا المعنية بو‪ .‬إف لـ تخبرني‪ ،‬فسوؼ أضطر‬
‫لمعودة إلى نورية ألطمب عفوىا عف ذنب ال أعرؼ ماىيتو‪ .‬وقد‬
‫أسبب ليا ألماً جديداً لو طمبت منيا تفسي اًر‪ ..‬ىؿ تريد أف تجنبني ىذا‬
‫الحرج يا غياث‪ ،‬أـ تدفعني لمواجيتو؟"‬

‫طواؿ حديث رابية كاف غياث يتساءؿ‪ ،‬لماذا تحب رابية أف‬
‫تمعب دوماً عمى حافة السيؼ‪ ،‬وىي تدري أنيا ستجرح ذاتيا لو‬
‫عرفت الحقيقة‪ ،‬وتجرح ذاتيا لو لـ تعرفيا‪ .‬لماذا ال ترضى رابية‬
‫بنعمة الجيؿ؟ فبعض الجيؿ نعمة‪ .‬أال تقدر أف تغمض عينييا عف‬
‫بعض الحقيقة؟‬

‫أدار وجيو إلييا‪ .‬ما تزاؿ تنظر إليو متسالمة بوسع عينييا‪.‬‬
‫ىاتاف العيناف‪ ..‬ىؿ ىما واسعتاف ألنيما تريداف احتواء العالـ بينيما؟‬
‫ىؿ ىما عميقتاف لتغرقا حقالؽ الدنيا فييما؟ يا إليي‪ ..‬لو أمكنني‬
‫التحرر ما أسار عينييا‪..‬‬

‫تراقصت الضحكة المتحدية في عينييا‪" ،‬ىيو‪ ..‬ماذا قررت؟"‬

‫وحكى ليا غياث كؿ شيء‪" .‬واآلف‪ ،‬بعد كؿ ما جرى‪ ،‬تقرر‬


‫ىدـ المنطقة بأكمميا ضمف خطة تحديث المدينة‪ .‬لقد تسمـ الحاج ابو‬
‫نوري باألمس إشعا اًر بإغبلؽ المقيى ومف المتوقع ىدميا مع‬
‫المعرض خبلؿ األشير القميمة القادمة‪ .‬أما الدار فسوؼ يأتي دورىا‬
‫خبلؿ العاـ القادـ‪"..‬‬

‫أنصتت لشرحو مف دوف أف تنبس ببنش شفة‪ .‬لـ تقاطعو‪ .‬لـ‬


‫تطرح أي سؤاؿ‪ .‬انتظر غياث رد فعميا‪ ،‬لكنيا ظمت صامتة ومطرقة‪.‬‬
‫ثـ رفعت وجييا إلى السماء‪" ،‬يا إليي! وجلت أنا‪ ،‬بكؿ غباء‪ ،‬ألقوؿ‬
‫لنورية أف دارىا رالع‪ ،‬كأني اكتشفت حقيقة ال تعرفيا‪ ،‬ولـ تضح‬
‫بالكثير لكي تحتفظ بيا! ما أشد غبالي!" ىزت رأسيا بأسى‪" ،‬وما‬
‫أعظـ غروري مع كؿ ىذا الغباء‪"..‬‬

‫"رابية أرجوؾ ال تنفعمي‪ .‬فأنت لـ تكوني عمى عمـ باألمر‪"..‬‬

‫قاطعتو وىي تحاوؿ السيطرة عمى الدموع التي ترقرقت في‬


‫مقمتييا‪" ،‬طبعاً لـ أكف أعرؼ! لكف كاف عمي أف أدرؾ‪ ،‬أف أفيـ مف‬
‫الجدار المبني كيفما اتفؽ أف بناءه جاء لتغطية ىدـ عشوالي‪ ..‬كاف‬
‫عمي أف‪"...‬‬

‫قاطعيا بحزـ‪" ،‬رابية!"‬

‫ىزت رأسيا بغضب‪" ،‬ال غياث‪ ..‬ال‪ ..‬ىذا ال يجوز‪ .‬أرجوؾ‪،‬‬


‫ال تبرر لي الخطأ الذي ما كاف عمي الوقوع فيو‪"..‬‬

‫ىمس‪" ،‬رابية‪ .‬أحب طريقتؾ في قوؿ (ال) ىذه‪"..‬‬

‫فوجلت‪ ،‬كأف ما قالو قد أوقؼ سمسمة أفكارىا‪ .‬أي ساحر ىذا‬


‫الغياث! ينقميا مف األرض إلى السماوات في لحظة‪ ،‬ومف الجد إلى‬
‫المزاح‪ .‬لكف‪ ،‬ىؿ ىو مزاح بحؽ؟ إلى أي حد تستطيع مواصمة ىذا‬
‫المزاح معو؟ "عدنا إلى العبث يا غياث؟ أحذرؾ‪ ،‬لو استمر عبثؾ‬
‫ىذا‪ ،‬لوافقت عمى الزواج منؾ‪ ،‬وجعمتؾ تندـ عمى غزلؾ المجاني‬
‫ىذا‪".‬‬

‫"أىذا ٍ‬
‫تحد يا رابيتي؟"‬

‫رفعت عينييا إليو وأجبرت نفسيا عمى الضحؾ‪ .‬ىزت‬


‫رأسيا‪" ،‬لنعد يا غياث‪ ،‬فمقد سرنا شوطاً أطوؿ مما يجب‪"..‬‬

‫لـ يكف غياث متأكداً إف كانت تقصد شوطاً في الحديث‪ ،‬أـ‬


‫في المسير‪ .‬لـ يرد عمييا‪ ،‬بؿ استدار معيا وعادا أدراجيما‪ ،‬يسيراف‬
‫اليوينا مف دوف أف يشعر أي منيما باالنزعاج مف زعيؽ السيارات‪،‬‬
‫وال زحاـ المارة‪ .‬خبل كؿ منيما إلى أفكاره‪ ،‬وأفكارىما ليست بعيدة عف‬
‫اآلخر‪ ،‬بؿ تصب في مساره‪.‬‬
‫(‪)21‬‬

‫خرجت رابية مف الدالرة متأخرة‪ ،‬فمقد غادرىا الموظفوف منذ‬


‫ما ينوؼ عف الساعة‪ .‬لقد اعتادت التأخر أحياناً عف زمبلليا‪ ،‬لتنيي‬
‫عمبلً بدأتو‪ ،‬وتستفيد مف اليدوء الذي يسود بعد أوقات الدواـ‪.‬‬

‫وضعت نظاراتيا الشمسية واتجيت إلى السيارة‪ .‬الشمس‬


‫تصفع الوجوه بح اررتيا‪ .‬تعجبت رابية مف سرعة تبدؿ الح اررة في‬
‫أواخر نيساف‪ .‬الدنيا تمطر يوماً‪ ،‬والريح تصفر في ٍ‬
‫يوـ آخر‪ ،‬والشمس‬
‫أقوى منيما‪ ،‬فتحيؿ بعض أياـ نيساف صيفاً‪ .‬سمعت أذاف العصر‪،‬‬
‫وفجأة الحت نورية في ذىنيا‪ .‬ما الذي تفعمو نورية اآلف؟ لـ تفكر‬
‫رابية طويبلً‪ ،‬ولـ تتردد‪ .‬صعدت في سيارتيا واتجيت نحو مركز‬
‫المدينة‪.‬‬

‫في ىذه الساعات‪ ،‬تغفو المدينة وييدأ زحاميا‪ ،‬إذ ييرب‬


‫أىميا إلى طراوة دورىـ‪ .‬فيـ يقسموف النيارات الطويمة إلى جزليف‪.‬‬
‫الصباح لمعمؿ‪ ،‬والعصر واألمسيات لمحياة االجتماعية‪ .‬قيمولة‬
‫الظييرة ىي الستارة التي يحجبوف بيا القسـ األوؿ مف النيار عف‬
‫قسمو الثاني‪.‬‬

‫أوقفت سيارتيا تحت شجرة السدر‪ ،‬حيث اعتاد غياث أف‬


‫يفعؿ‪ .‬عبرت الزقاؽ‪ .‬رفعت رأسيا إلى المرصد‪ ،‬البد أف نورية قد‬
‫شاىدتيا‪ .‬لـ يكف الباب موصداً‪ ،‬ومع ىذا لـ تجرؤ رابية عمى الدخوؿ‬
‫مف دوف استلذاف‪ .‬بحثت عف الجرس‪ ،‬فمـ تجده‪ ،‬بؿ رأت مطرقة‬
‫نحاسية تمتمع عمى الخشب العتيؽ‪ .‬المطرقة عمى شكؿ رأس أسد‬
‫تزينو خزامة تتدلى مف أنفو‪ .‬أمسكت رابية األسد مف خزامتو‪ ،‬وطرقت‬
‫طرقة واحدة‪ ،‬فجاء صوت نورية‪" ،‬أىبلً ومرحباً‪"..‬‬
‫إذف‪ ،‬لـ تكف نورية في المرصد‪ ،‬بؿ قرب الباب‪ ،‬في الباحة‪.‬‬
‫رفعت رابية الستارة القطنية المشجرة ودلفت منيا‪ .‬نورية تقؼ في‬
‫وسط الباحة‪ ،‬تمسؾ خرطوـ الماء‪ ،‬ومعيا فتاة تساعدىا في غسؿ‬
‫طابوؽ األرضية‪ .‬رالحة الطابوؽ الفرشي العتيؽ تمؤل الدار وتكاد‬
‫تغطي عمى رالحة ال ارزقي المزروع عمى حافة النافورة التي تتوسط‬
‫الباحة‪ .‬استنشقت اربية مؿء رلتييا‪ ،‬ووقفت تنظر إلى ما حوليا‪،‬‬
‫"رابية‪ ..‬أىبلً‪ ..‬مالة أىبلً ومرحباً‪ ،‬تفضمي‪ ".‬فتحت نورية ذراعييا‬
‫وقبمتيا بح اررة مف يعرفيا طواؿ عمرىا‪ .‬لـ تظير أية دىشة عمى وجو‬
‫نورية‪ ،‬كأنيا توقعت ىذه الزيارة‪" ،‬تفضمي‪ ،‬اجمسي ىنا‪ ،‬سأنتيي بعد‬
‫دقالؽ‪"..‬‬

‫اتسعت ابتسامة رابية‪" ،‬بؿ دعيني أساعدؾ‪"..‬‬

‫ركضت رابية إلى الزاوية‪ ،‬وخمعت حذاءىا‪ ،‬وحاولت أخذ‬


‫خرطوـ الماء مف نورية‪" ،‬ال يمكف! سوؼ تبتؿ مبلبسؾ‪"..‬‬

‫"نورية‪ ،‬إف كنت تريديف مني التصرؼ مثؿ ضيفة غريبة‪،‬‬


‫فمف أزورؾ بعد اليوـ‪".‬‬

‫"بالعكس‪ ،‬فالبيت بيتؾ‪".‬‬

‫ضحكت رابية‪" ،‬أعطيني خرطوـ الماء إذف‪".‬‬

‫ضحكت نورية‪" ،‬مستحيؿ!"‬

‫لـ تتردد رابية‪ ،‬بؿ استدارت إلى الفتاة وأخذت المكنسة مف‬
‫يدىا‪ ،‬وبدأت تغسؿ األرض مع نورية‪ .‬نظرت الفتاة إلى وجو نورية‬
‫بحيرة‪ ،‬فضحكت نورية‪" ،‬في ىذه الحالة‪ ،‬اذىبي يا سعدية وحضري‬
‫لنا الشاي‪ "..‬واتجيت سعدية إلى المطبخ‪.‬‬
‫رالحة األرض ىذه‪ ،‬رالحة الطابوؽ الفرشي العتيؽ ال يشبييا‬
‫شيء مما يصنعوف اليوـ‪ .‬البرودة المنبعثة مف الجدراف تحمي الدار‬
‫وأىميا مف ليؼ الصيؼ‪ .‬خرير الماء مف النافورة الوسطية يتساقط‬
‫رذاذاً ويسقي شجيرات الرازقي‪ ،‬تنشقت رابية رالحة العتؽ‪" ،‬ال شيء‬
‫يشبو جماؿ ىذا الطابوؽ العتيؽ‪"..‬‬

‫ضحكت نورية‪" ،‬عيني‪ ،‬ال يمكف أف تقولي أنو أجمؿ مف‬


‫المرمر‪ ،‬فتمؾ مبالغة يا رابية‪".‬‬

‫"كبل‪ ،‬ليست مبالغة‪ ،‬فالمرمر والحجر ليست ليما ىذه‬


‫الرالحة‪ ،‬فيذه رالحة األرض حيف تغتسؿ‪"..‬‬

‫تنيدت نورية‪" ،‬في جميع األحواؿ‪ ،‬ىذا الطابوؽ يناسبنا‪،‬‬


‫ويسيؿ عمينا تحمؿ ح اررة صيؼ بغداد‪"..‬‬

‫"في زمننا ىذا يا نورية‪ ،‬لـ نعد نعرؼ كيؼ نصنع مثؿ ىذا‬
‫الطابوؽ‪ ،‬فمقد تطورنا عميو وصار ط ارزه قديماً‪ ،‬فاستبدلناه بكؿ ما ال‬
‫يناسب أرضنا‪".‬‬

‫"لكف‪ ،‬أال يقولوف التطور ىو سنة الحياة؟"‬

‫"قد يكوف ذلؾ صحيحاً‪ ،‬لكني في ىذه المحظة‪ ،‬اقارف الطراوة‬


‫التي أحسيا مع الجفاؼ الذي يجيء مع أجيزة التكييؼ في دارنا‪،‬‬
‫فأجد المقارنة ليست في صالح أجيزة الحديثة‪ .‬ىنا يا نورية‪ ،‬أحس‬
‫أني أتنفس اليواء نقياً‪ ،‬وأشـ عبؽ األرض مع رالحة ال ارزقي‪ .‬أما‬
‫ىناؾ‪ ،‬فالنوافذ المغمقة والستالر السميكة وىدير مكالف التبريد ال يكؼ‬
‫لحظةً عف الدوي في آذاننا‪"..‬‬
‫"نحف اعتدنا العيش مع الطبيعة‪ ،‬نحتمي بيا مف قسوتيا‪،‬‬
‫فتمف عمينا‪ "..‬نظرت إلى رابية‪ ،‬حافية القدميف‪" ،‬ىيا يا رابية‪ ،‬لقد‬
‫انتيينا مف غسؿ الباحة والشاي حاضر‪"..‬‬

‫مدت نورية بخرطوـ الماء‪ ،‬فغسمت رابية قدمييا ويدييا‪.‬‬


‫أحست لمماء مممساً جديداً عمى جسدىا‪ ،‬فمؤلت راحتييا بو ورشتو‬
‫عمى وجييا‪ ،‬فتساقطت قطراتو عمى ثوبيا‪ ،‬صاحت نورية‪" ،‬رابية‪،‬‬
‫ابتمت ثيابؾ‪"..‬‬

‫ضحكت رابية‪" ،‬ال ييـ‪ .‬ستنشؼ بعد قميؿ‪".‬‬

‫"كبل‪ ،‬ال يجوز أف تنشؼ الثياب عمى جسمؾ‪ ،‬سوؼ تؤذي‬


‫مفاصمؾ‪ ..‬فدوة‪ ،‬تعالي معي ألعطيؾ ثوباً مف ثيابي‪ ،‬ألبسيو حتى‬
‫يجؼ ثوبؾ‪"..‬‬

‫لـ تعترض رابية‪ .‬شيء ما في نبرة صوت نورية‪ ،‬شيء‬


‫يجمع بيف الحناف والصرامة يجعؿ مف الصعب أف يعارضيا أحد‪.‬‬
‫لحقتيا رابية إلى غرفة جانبية‪ .‬الحظت أف جميع أبواب الغرؼ‬
‫ونوافذىا مفتوحة عمى الباحة‪ .‬دخمت نورية غرفة صغيرة بيا سرير‬
‫نحاسي مرتفع‪ ،‬وخزانة مبلبس مف خشب أسود يعموه تاج مف الخشب‬
‫المقرنص‪ ،‬بابيو مرآتيف كبيرتيف‪ .‬ثمة كرسي صغير تفصمو عف‬
‫السرير طاولة عمييا مذياع كيربالي قديـ الطراز‪ ،‬مغطى بشرشؼ‬
‫قطني مطرز‪.‬‬

‫فتحت نورية باب الخزانة‪ ،‬وأعطتيا ثوباً بعدما نفضتو‪ ،‬ثـ‬


‫ناولتيا مشطاً خشبياً‪ ،‬وتركتيا لتغير مبلبسيا‪ .‬لبست رابية الثوب‬
‫ومشطت شعرىا وىي تفكر‪ ،‬غريب امر ىذا العالـ‪ ،‬مف يصدؽ أني‬
‫لـ أدخؿ ىذه الدار إال مرة واحدة مف قبؿ؟ ومع ىذا أحس أني عشت‬
‫فيو طيمة عمري‪ ..‬وأتمنى العيش فيو بقية أيامي‪ ،‬أغسؿ أرضيتو‬
‫وارتب أثاثو‪ ،‬وأشـ رالحتو‪ ،‬وأمسح الغبار عف جدرانو‪.‬‬

‫ابتسمت رابية برضى في وجو صورتيا المنعكسة في المرآة‪،‬‬


‫واستدارت خارجة مف الغرفة‪ .‬سارت حافية القدميف عمى الطابوؽ‬
‫الرطب‪ .‬صاحت نورية‪ ،‬مف حيث تجمس عمى األريكة في طرؼ‬
‫الباحة‪" ،‬البسي القبقاب يا رابية‪ ،‬إنو بجوار باب الغرفة‪ ،‬ال تسيري‬
‫حافية القدميف‪ ،‬فرطوبة األرض ستؤذيؾ‪"..‬‬

‫لـ تتعود رابية إطاعة ما يقاؿ ليا بسيولة‪ ،‬لكف األمر‬


‫مختمؼ مع نورية‪ .‬أطاعتيا ودست قدمييا في القبقاب وىي تبتسـ‪،‬‬
‫وسارت إلى حيث نورية‪ ،‬وصوت القبقاب يطربيا بطرقعتو عمى‬
‫الطابوؽ‪ .‬جمست إلى جوار نورية‪ .‬جاءتيما سعدية بصينية الشاي مع‬
‫صحف الكميجة‪ ،‬فتذكرت رابية أنيا لـ تتناوؿ طعاـ الغداء‪ ،‬فمدت يدىا‬
‫إلى الكميجة وأكمت واحدة‪ ،‬قبؿ أف تصب نورية الشاي‪ ،‬فسألتيا‪،‬‬
‫"أجالعة أنت يا رابية؟"‬

‫ضحكت‪" ،‬نعـ‪ ،‬ميتة مف الجوع‪ ،‬وحتى لو لـ اكف جالعة‬


‫ألثارت رالحة الكميجة جوعي‪"..‬‬

‫"بألؼ عافية‪ .‬لقد صنعتيا اليوـ‪ ،‬فمقد تخيمت‪ ،‬لسبب ما‪ ،‬أف‬
‫غياث سيجيء إلينا‪ ،‬وىو يحب الكميجة مذ كاف صغي اًر‪".‬‬

‫اضطرب نبض رابية‪" ،‬وىؿ سيجيء غياث اليوـ؟"‬

‫ىزت نورية رأسيا‪" ،‬ومف يدري بغياث‪ ،‬ومتى يجيء وكـ‬


‫يغيب؟ أحياناً يزورنا مرتيف في يوـ واحد‪ ،‬وأحياناً يغيب اياماً‪"..‬‬
‫ارتشفت قميبلً مف الشاي‪ ،‬فأحرؽ لسانيا‪ .‬وضعت االستكاف‬
‫جانباً ونيضت‪ .‬دنت مف شجيرات ال ارزقي‪ ،‬قطفت واحدةً استنشقت‬
‫عبيرىا‪" ،‬حتى ال ارزقي عندؾ يا نورية لو رالحة أحمى‪".‬‬

‫ضحكت نورية‪" ،‬اقطفي ال ارزقي كمو يا رابية‪ ،‬فعمره قصير‪،‬‬


‫وأنا ال أحب منظؿ ال ارزقي الذابؿ‪".‬‬

‫قطفت رابية ال ارزقي حتى امتؤلت راحة يدىا عط اًر أبيض‪.‬‬


‫عادت وجمست إلى جوار نورية‪ ،‬ونثرت ال ارزقي في حضنيا‪" ،‬ىؿ لي‬
‫بإبرة وخيط؟"‬

‫مدت نورية يدىا إلى تحت حشية األريكة وخرجت بعمبة‬


‫معدنية صغيرة مف تمؾ العمب التي كانت تباع بيا الحموى‪ .‬عمييا‬
‫صورة عاشقيف يجمساف في حقؿ مف الزىور‪ .‬ضحكت رابية‪" ،‬حتى‬
‫العمبة تذوب رقةً يا نورية‪".‬‬

‫"ىذه أضع فييا إبري وخيوطي لكي ال أضطر لمصعود إلى‬


‫المرصد كمما احتجت إلييا‪".‬‬

‫صنعت رابية عقداً مف ال ارزقي وعقدتو حوؿ جيدىا‪ .‬رفعت‬


‫سعدية صينية الشاي مف أماميما وعادت بيا إلى المطبخ‪ ،‬ثـ‬
‫استأذنت نورية لمعودة إلى دارىا‪ ،‬فيي تجيء كؿ يوـ بعد انتياء دواـ‬
‫المدرسة‪ ،‬لمساعدة نورية في أشغاؿ البيت‪ ،‬مذ بقيت نورية وحدىا بعد‬
‫ىجرة نوري ومغادرة طبلؿ وأسرتو دار العالمة‪.‬‬

‫عمي ساعتاف ولـ‬


‫نظرت رابية إلى ساعتيا‪" ،‬يا إليي‪ ،‬مرت ّ‬
‫أحس بمرور الوقت‪ ،‬فمقد مر سراعاً‪".‬‬

‫نيضت لممغادرة‪ ،‬فاحتجت نورية‪" ،‬ما يزاؿ الوقت مبك اًر‪"..‬‬


‫"بودي لو بقيت أكثر‪ ،‬ولكف‪"..‬‬
‫(‪)22‬‬

‫عاودت رابية زيارة نورية‪ ،‬مرة‪ ،‬ومرات‪ .‬وفي كؿ مرة تجد‬


‫فييا شيلأ جديداً يشدىا‪ ،‬قوة شخصيتيا‪ ،‬نفاذ بصيرتيا وقدرتيا عمى‬
‫اتخاذ القرار وتنفيذه‪ ،‬حنانيا‪ ،‬ذكرياتيا‪ ،‬أحاديثيا‪ ،‬ىدوءىا‪ .‬صارت‬
‫نورية مبلذاً لجموح رابية وحيرتيا‪ .‬تزورىا وحدىا‪ ،‬مف دوف سنا أو‬
‫زياد أو غياث‪ .‬تتحدثاف بكؿ ما يخطر عمى باؿ أي منيما‪ ،‬فتجد‬
‫لدى األخرى صدى لما تقولو‪ .‬لـ يقؼ فارؽ السف أو التعميـ أو‬
‫التجربة حالبلً بينيما‪ ،‬إذ لـ يكف اختبلؼ شخصيتيما مبعث نأي‪ ،‬بؿ‬
‫عامؿ ترابط بينيما‪.‬‬

‫طمبت نورية أف تق أر عمييا بعضاً مف الشعر الذي تكتبو‪،‬‬


‫ففعمت‪ .‬جاءت بقصاصات الورؽ‪ ،‬وصارت قراءة الشعر بعضاً مف‬
‫أحاديثيما‪ .‬أحياناً تق أر رابية قصيدة ما‪ ،‬فترد عمييا نورية بارتجاؿ‬
‫أبيات مف الشعر الشعبي مف وضعيا‪ .‬ونجحت نورية حيث لـ يفمح‬
‫غيرىا مف األصدقاء‪ ،‬بإقناع رابية بجمع قصالدىا ونشرىا‪ ،‬بعدما‬
‫تشاركتا باختيار القصالد‪.‬‬

‫إال أنيا مع كؿ المتعة التي عرفتيا بصداقة نورية‪ ،‬ظؿ‬


‫غياث ىاجساً تعيشو في كؿ لحظة‪ .‬بخاصة أف غياث اختفى‪ .‬لـ‬
‫يتصؿ بيا ىاتفياً‪ ،‬ولـ يمر بدارىا منذ زيارتيما األولى لنورية‪ .‬بعد‬
‫بضعة أياـ قررت رابية المبادرة باالتصاؿ بو‪ .‬أدارت رقمو فسمعت‬
‫صوتاً ال تعرفو‪" ،‬غير موجود‪ "..‬ولـ تشأ اإللحاح بالسؤاؿ عنو‪ ،‬كما‬
‫لـ تعط اسميا‪.‬‬
‫زياد لـ يره منذ تمؾ الزيارة إلى دار الحاج أبو نوري‪" ،‬ربما‬
‫تشغمو االمتحانات النيالية التي بدأت قبؿ يوميف‪ .‬فيو ال يأتي لمكمية‬
‫إال قبؿ االمتحاف بدقالؽ‪ ،‬ويغادر بعدىا مباشرةً‪ ،‬فبل يتسنى لي المقاء‬
‫معو‪ .‬الحقيقة أني ال أدري ما الذي يشغمو‪".‬‬

‫سنا تعمؿ معو في القسـ نفسو‪ ،‬والبد أنيا تعرؼ أخباره‪،‬‬


‫بالرغـ مف انشغاليا بخالد‪ ،‬فاتصمت بيا‪..." ،‬أما غياث‪ ،‬فيو يأتي‬
‫إلى الكمية مشغوؿ الذىف وعمى عجؿ دوماً‪ ".‬أطمقت سنا ضحكتيا‬
‫المدوية‪" ،‬ربما تشغمو قصة حب جديدة‪ ..‬عمى أية حاؿ ال تقمقي‪.‬‬
‫اسمعي يا رابية‪ ،‬سوؼ نسافر لقضاء شير العسؿ فور انتياء‬
‫االمتحانات‪ ،‬والبد لي أف أراؾ قبؿ سفري‪ ،‬و‪"...‬‬

‫جنت قمقاً‪ .‬أيكوف‬


‫سنا تقوؿ ال تقمقي‪ .‬ورابية لـ تقمؽ‪ ،‬لكنيا ّ‬
‫غياث قد أخذ مزاحيا محمؿ الجد‪ ،‬فخشي مف أنيا تريد تقييد حريتو‬
‫بقيد الزواج؟ أيكوف قد بدأىا بالمزاح ليعرؼ حقيقة موقفيا‪ ،‬وحيف‬
‫تصور أنيا تريد الزواج منو‪ ..‬ىرب بجمده؟ الكؿ يقوؿ ال تقمقي‪..‬‬
‫كيؼ ال تقمؽ؟‬

‫قد ال تقمؽ عميو‪ ،‬ولكف‪ ،‬أال تقمؽ عمى نفسيا؟ تقمؽ منو عمى‬
‫نفسيا‪ .‬ىؿ يجوز أنو تصور أنيا تعرض نفسيا عميو مثؿ سمعة بالرة‬
‫رخيصة؟ ىؿ يمكف لو أف يتصور‪...‬‬

‫نورية لـ تره إال مرة واحدة منذ تمؾ الزيارة‪" ،‬جاء وتفاىـ مع‬
‫أبي حوؿ شراء قطعة أرض وبناءىا‪ .‬أخذ مبمغ التعويض عف‬
‫المقيى‪ ،‬ثـ لـ نره بعدىا‪ ،‬وال ندري ما الذي فعمو‪ ،‬أو ينوي فعمو‪"..‬‬

‫ىؿ ىذا معقوؿ؟ أيعقؿ أف ال أحد يعرؼ عف غياث شيلاً؟‬


‫تذكرت رابية أف ىند الصالح قد تعرؼ‪ ،‬فاتصمت بيا‪" ،‬عيني رابية‪،‬‬
‫غياث معتاد أف يختفي عف أنظار الجميع لممدة التي يقررىا‪ .‬ال‬
‫تتعبي نفسؾ‪ .‬سيعود متى يشاء‪ ،‬ويتصؿ بنا حيف يقرر‪ .‬اعتدت‬
‫طباعو ىذه‪ ،‬فبل أبادر باالتصاؿ بو‪ .‬ذلؾ ىو غياث‪ ،‬يشبو مطر‬
‫نيساف‪ ،‬يأتي مف دوف انتظار‪ ،‬ويغرقنا‪ ،‬ويشح مف دوف مقدمات‪..‬‬
‫فننتظره‪".‬‬

‫عمييا إذف أف تنتظر‪ .‬إذف ىو االنتظار مرة أخرى‪.‬‬

‫ومع االنتظار عادت الظنوف لتسمـ حياة رابية‪ .‬ىؿ تصرفت‬


‫مع غياث بما يعجز عف فيمو؟ عصفت بيا األفكار وعادت الجروح‬
‫القديمة لتتفتح مف جديد في نفس رابية‪ .‬ىذا وىـ آخر يموت‪ .‬وىـ‬
‫آخر يتشقؽ مثؿ جدار عتيؽ ليكشؼ األكذوبة األبدية‪ :‬ال أماف‪ .‬ليس‬
‫ثمة أماف في أي مكاف‪ ..‬ومع أي كاف‪.‬‬

‫ليس ثمة برج عاجي يحجب األكاذيب والنفاؽ‪ ،‬فالبرج‬


‫العاجي ليس أكثر مف مجموعة منتقاة مف البشر قد يختمؼ أشخاصيا‬
‫في كؿ األمور باستثناء الصدؽ مع الذات‪ .‬وال يحتاج اي منيـ‬
‫لمكممات المبطنة أو لممخاتمة أو المداورة‪ .‬أليس ىذا وىماً آخر أخفت‬
‫وراءه جبنيا ومخاوفيا؟ لقد حاولت أف توىـ نفسيا أنيا قادرة عمى أف‬
‫تكوف ذاتيا مف دوف مواربة ومف دوف أكاذيب‪ .‬حاولت الصدؽ مع‬
‫ذاتيا ومع مف تصورت فييـ القدرة عمى الفيـ والقوة واألصالة‪ .‬لكف‬
‫برجيا العاجي لـ يكف عاجياً‪ ،‬بؿ مف زجاج رديء الصنؼ‪ ،‬مميء‬
‫أصبلً بالشروخ والخدوش‪ .‬ال يمنح أماناً‪ ،‬بؿ يزيد عمى المخاطر‬
‫خطورةً‪ .‬وعمى الندوب العميقة‪ ،‬جروحاً جديدة‪.‬‬

‫ال أماف‪.‬‬

‫عاد الشرخ القديـ‪ ،‬وعادت النفس إلى أشجانيا العتيقة‪ ،‬بعدما‬

‫زاؿ الوىـ‪ .‬ومثؿ كؿ األوىاـ‪ ،‬كاف وىـ رابية قصير العمر‪ .‬كاف حمماً‬
‫جميبلً عاشتو حتى انشؽ الجدار مف جديد‪ ،‬لترى عيوف الحياة تحدؽ‬
‫بيا مف كؿ الجوانب‪ ،‬وتحس الرفض حوليا‪ ،‬عيوناً دبقةً مثؿ عيوف‬
‫الزواحؼ‪ ،‬ببل أجفاف‪ ،‬تحدؽ بيا وترصد ما حوليا ألف ليس في‬
‫أعماقيا ما يستحؽ أف يكوف مرلياً‪.‬‬

‫عاد القرؼ مف الزواحؼ ليمؤل نفسيا بالغثياف‪ .‬ميما حاولت‬


‫تجاىؿ ما ال تريد رؤيتو‪ ،‬وميما حاولت أف تغطي الحزف بالضحكة‬
‫المدوية‪ ،‬إال أف الشرخ القديـ يعود ليفتح في النفس ندوبيا القديمة‬
‫واألبدية‪ .‬مف عمى خطأ‪ ،‬ومف عمى صواب؟‬

‫مف المستحيؿ أف تكوف وحدىا عمى حؽ‪ ،‬وكؿ العيوف‬


‫المحدقة بيا عمى خطأ‪ .‬ىؿ استطاعت أف تتعظ في الماضي لتقدر‬
‫أف تتعظ اليوـ؟ عمييا العودة إلى قوقعتيا األولى‪ ،‬فمقد اشتاقت النفس‬
‫إلييا‪ ،‬بقدر امتناع نفسيا عف الرغبة بالتقوقع‪ .‬قررت عدـ االتصاؿ‬
‫بغياث‪ .‬ستمنع نفسيا عف االتصاؿ بو‪.‬‬

‫كـ تمنت لو استطاعت التوافؽ مع ما حوليا‪ .‬كـ تمنت لو‬


‫كانت مثؿ بقية الناس‪ ،‬معتدلة‪ ،‬متزنة‪ ،‬تحسب لمكممة حسابيا‪،‬‬
‫ولمضحكة حسابيا‪ ،‬ولمحركة حسابيا‪ ،‬ولمفكرة حسابيا‪ .‬الصدؽ وحده‬
‫ال يكفي‪ ،‬واالستقامة ال تكفي‪ .‬البد مف بعض الكذب لكي تغمؼ‬
‫الصدؽ بما يقبمو الغير‪ .‬البد مف المداورة والمناورة لكي تموه عمى‬
‫االستقامة فيفيميا اآلخروف‪ ،‬ولكف ىؿ تقدر؟‬

‫كـ مف شروخ في ىذه الذات العتيقة‪ .‬إف نجحت في إخفاء‬


‫بعضيا عف اآلخريف‪ ،‬فيؿ تقدر أف تخفييا عف نفسيا؟‬

‫صار ىاجس رابية أف ترى غياث لمرة واحدة‪ ،‬لكي تثبت لو‬
‫أنيا ال تريد منو شيلاً‪ ،‬فما يفصميا عنو أكبر بكثير مما يفصمو ىو‬
‫عنيا‪ .‬نسيت رابية شوقيا لغياث‪ ،‬في غمرة خوفيا مف سوء فيمو‪،‬‬
‫ومف سوء تفسيره لما قالتو يومذاؾ‪.‬‬
‫ربما طمب مف الجميع أف ال يخبروىا شيلاً عف أخباره‪،‬‬
‫تحاشياً ليا‪ .‬ربما اتفقوا جميعاً عمى األمر وظمت ىي وحدىا تجيمو‪،‬‬
‫فالصداقة التي تربطيـ تمتد إلى عشرات السنيف‪ ،‬وىي طارلة عمييـ‪.‬‬
‫جدتو والبد مف إلغالو بالتجاىؿ‬
‫ليست إال وجياً جديداً استنفد ّ‬
‫والتحاشي‪.‬‬

‫ربما‪ ...‬ربما‪...‬‬

‫عادت الشكوؾ والظنوف لتمزؽ ذاتيا‪ ،‬وعاد األرؽ‪ ،‬ومعيما‬


‫عاد الصداع‪.‬‬
‫(‪)23‬‬

‫رف الياتؼ‪ ،‬فرفعت السماعة‪" ،‬نعـ؟"‬

‫"مرحباً رابية‪ "..‬صوتو ىادئ‪ ،‬طبيعي ودافئ‪.‬‬

‫"أىبلً غياث‪"..‬‬

‫"كيؼ أنت؟ وكيؼ الجماعة؟"‬

‫خذليا صوتيا‪ ،‬فمـ ترد عميو بأكثر مف كممة‪" ،‬بخير‪ "..‬ربما‬


‫خنقيا الشؾ‪ ،‬فحجب عنيا القدرة عمى الكبلـ‪.‬‬

‫صمت برىة‪" ،‬ىؿ أنت مريضة يا رابية؟"‬

‫"كبل‪ ،‬لماذا؟"‬

‫"ألف صوتؾ مختمؼ‪ ،‬ونبرتؾ مرىقة‪"..‬‬

‫"أبداً‪ .‬فاجأتني مكالمتؾ‪ ،‬إذ لـ أتوقع اتصالؾ بعد كؿ ىذه‬


‫األياـ‪"..‬‬

‫ىمس برقة‪" ،‬ال تسأليف عني بعد كؿ ىذه األياـ يا رابية؟"‬

‫اضطربت‪ .‬صمتت‪ .‬سيطرت عمى اضطرابيا‪" ،‬اتصمت مرة‬


‫فقيؿ لي أنؾ غير موجود‪ ".‬عاودتيا الظنوف فقالت‪" ،‬سألت األصدقاء‬
‫فمـ يعرفوا شيلاً‪ ،‬أو ىذا ما قالوه لي‪ ..‬لـ أعد أدري‪ "..‬وصمتت‪.‬‬

‫صمت غياث بعض الوقت‪" ،‬كنت مشغوالً بشكؿ فظيع‪ ،‬ولـ‬


‫يتسف لي االتصاؿ بأحد‪"..‬‬

‫قاطعتو بحدة‪" ،‬غياث ارجوؾ‪ .‬أنا لـ أطمب منؾ تفسي اًر‪"..‬‬


‫بحدة أشد‪،‬‬
‫فضحت حدة صوتيا بعضاً مما تحس بو‪ ،‬فرد ّ‬
‫"بؿ يجب أف تطمبي تفسي اًر‪ "..‬صمت برىة‪ ،‬ثـ قاؿ بصوت مرح‪،‬‬
‫"لدي أخبار ىالمة‪ .‬لكف أخبريني قبميا‪ ،‬متى رأيت نورية آخر مرة‪،‬‬
‫فمقد بمغني أنكما صرتما صديقتيف مف وراء ظيري‪"..‬‬

‫ضحكت رابية رغماً عنيا‪" ،‬نعـ صرنا صديقتيف‪ ،‬ىؿ لديؾ‬


‫اعتراض؟" غمغـ شيلاً لـ تفيمو‪" ،‬عمى أية حاؿ‪ ،‬رأيتيا صباح اليوـ‬
‫لبضع دقالؽ‪ ،‬ولكف‪ "..‬عاد الشؾ إلى صوتيا فترددت‪" ،‬كيؼ عرفت‬
‫باألمر ونورية قالت صباح اليوـ أنيا لـ ترؾ منذ زمف بعيد؟"‬

‫ضحؾ طويبلً‪" ،‬طبعاً ىذا ما قالتو لؾ‪ ،‬ألني بالفعؿ لـ أزرىـ‬


‫منذ مدة طويمة‪ .‬ذىبت بعد ظير اليوـ وشربت الشاي معيـ‪ "،‬عاد‬
‫العبث إلى صوتو‪" ،‬لكني لـ اقطؼ ال ارزقي كمو‪ "،‬ضحؾ ضحكتو‬
‫الساحرة إياىا‪" ،‬اسمعي‪ ،‬سأحكي لؾ باختصار ما شغمني‪ .‬اشتريت‬
‫قطعة أرض وسجمتيا باسـ نورية كما طمب مني الحاج أبو نوري‪.‬‬
‫ووضع صديؽ لي خرالط البناء‪ ،‬وسوؼ نباشر بشراء المواد والبناء‬
‫خبلؿ األياـ القميمة الماضية‪"..‬‬

‫عاتبتو‪" ،‬لكف فيـ انقطاعؾ عنيـ؟"‬

‫ضحؾ‪" ،‬ىؿ تتصوريف أني أرجع إلى نورية أو الحاج في‬


‫كؿ خطوة؟ إنؾ ال تعرفينيـ إذف‪ .‬لو أخذت رأييما في األرض أو‬
‫سعرىا أو موقعيا‪ ،‬لما اشتريتيا‪ ،‬ولظممت في أخذ ورد معيما لمدى‬
‫عمي تولي األمر بكاممو‬
‫عشريف عاماً مف دوف أف أفعؿ شيلاً‪ .‬كاف ّ‬
‫مف دوف الرجوع إلييما ووضعتيما أماـ األمر الواقع‪"..‬‬

‫قاطعتو‪" ،‬لكف كيؼ؟ األوراؽ والمعامبلت‪"..‬‬


‫"أتممت كؿ شيء بالوكالة العامة التي أحمميا عنيما منذ‬
‫سنوات‪ ،‬وقد ذىبت بعد ظير اليوـ وأسمعتني نورية كبلماً قاسياً‪"..‬‬

‫"نورية؟ مستحيؿ! فيي تعبدؾ!"‬

‫أطمؽ ضحكة مدوية‪" ،‬كما صارت تعبدؾ يا رابية‪ ،‬وتترنـ بما‬


‫حفظتو مف مقاطع مف شعرؾ بيف الفينة واألخرى‪ "،‬عاد لصوتو‬
‫جديتو‪" ،‬لكف موقع األرض قريب مف النير‪ ،‬بالتالي الرطوبة ستؤذي‬
‫ّ‬
‫مفاصميا‪ .‬والسعر أغمى مما يجب‪ ،‬لف يتمكنوا مف دفعو مف تعويض‬
‫المقيى‪ .‬والخريطة لـ تعجبيا ألف النوافذ صغيرة ولف تقدر عمى‬
‫العيش مف دوف وجود برج المراقبة‪ ،‬وىي تنسى أف برج المراقبة‬
‫سيكوف عديـ الفالدة في الصميخ لبعدىا عف مركز المدينة‪ ...‬و‪..‬و‪...‬‬
‫و‪"...‬‬

‫ضحكت‪" ،‬يا إليي‪ ،‬وماذا فعمت معيا؟"‬

‫ضحؾ‪" ،‬ال شيء‪ .‬حواؿ النقاش إلى مزاح وقمت ليا أني‬
‫سأبني الدار‪ ،‬فإف لـ ترض العيش فيو‪ ،‬طمبتيا إلى بيت الطاعة‬
‫وستضطر لمعيش فيو‪ ،‬ومعي أنا!"‬

‫ضحكت رابية‪ .‬وضحؾ غياث‪ .‬لـ تدر كيؼ شحبت ظنونيا‪.‬‬


‫لـ تدر كيؼ نسيت شكوكيا‪ .‬لـ تعرؼ سوى أف غياث يقدر أف يوقد‬
‫ليا شموع الدنيا‪ .‬وأف غياث ينير الحياة حيثما يكوف‪ .‬ىمست‪" ،‬اشتقت‬
‫إليؾ يا غياث‪"..‬‬

‫ىمس‪" ،‬وشوقي أحرقني حيف خبأتو‪ ،‬وفضحني حيف بحت‬


‫بو‪ ".‬صمت برىة‪ ،‬وعجزت ىي أف تقوؿ شيلاً‪ .‬سمعت صوتو‪" ،‬رابية‪،‬‬
‫بعد قميؿ سيأتي المعماري الذي صمـ الدار‪ ،‬ونورية أمرت أف آخذ‬
‫رأيؾ ببعض التعديبلت التي تريد إجراءىا عمى الخريطة‪ .‬وأنت‬
‫بالطبع لف تعصي أوامر نورية‪ ،‬فما أريؾ لو جلت اآلف لنناقش‬
‫الخريطة‪ ،‬ثـ نسير معاً بيدوء‪"..‬‬

‫تسارع نبضيا‪" ،‬سآتيؾ بعد قميؿ‪".‬‬

‫وذىبت إليو‪.‬‬
‫(‪)24‬‬

‫كاف بناء دار نورية ميرجاناً لمفرح والفروسية‪ ،‬فارتفع البناء‬


‫بسرعة خيالية‪ .‬مف يعرؼ منيـ عامبلً ماى اًر جاء بو‪ .‬ومف استدؿ‬
‫عمى ببلط شاطر جاء بو‪ .‬وما أف سمع طاىر الصباغ أف دا اًر لمحاج‬
‫أبو نوري قيد البناء‪ ،‬حتى جاء مع عمالو وباشر الصبغ‪" ،‬الحاج أبو‬
‫نوري صاحب فضؿ كبير عمينا‪ ،‬وىذه فرصتي لرد بعض أفضالو‪".‬‬
‫ورفض أخذ أجور عممو‪ ،‬وبعد البلت والمتيا‪ ،‬رضي أف يدفع غياث‬
‫ثمف األصباغ التي اشتراىا‪ ،‬وأجرة عمالو‪ .‬بعضيـ عمؿ ليبلً‪ ،‬ألنو‬
‫يعمؿ في النيار‪ .‬وجاء صفاء‪ ،‬الطالب في إعدادية الصناعة مع‬
‫أستاذه ليؤسس كيرباء الدار‪.‬‬

‫وغياث يروح ويجيء عدة مرات في اليوـ الواحد‪ ،‬لئلشراؼ‬


‫عمى العمؿ وتوفير ما يحتاجونو‪ .‬وفي كؿ مرة يحمؿ معو شيلاً‪،‬‬
‫صينية بقبلوة أو صندوؽ مرطبات‪ .‬والجميع يمبي طمباتو‪ ،‬فالكؿ‬
‫حريض عمى إتماـ بناء الدار عمى أحسف وجو‪ ،‬وبأقصى سرعة‪.‬‬

‫رابية تعد الطعاـ يومياً وتجمبو في أوقاتو‪ .‬تفرش الصحؼ‬


‫أرضاً وتنادييـ بإسماليـ‪ ،‬وتأكؿ معيـ‪ ،‬بيف حديث ومزاح كأنيـ‬
‫أصدقاء العمر‪.‬‬

‫صوت المذياع أو المسجؿ يزيد مف زىو الموقع زىواً‪ ،‬فإف لـ‬


‫يعجبيـ ما فييما‪ ،‬ارتفع صوت زامؿ بالمقاـ والبستة‪ ،‬وزامؿ ىذا يؤدي‬
‫كؿ األعماؿ‪ ،‬فيو صانع حداد تارة‪ ،‬وصانع نجار تارة أخرى‪ ،‬أو‬
‫صانع صباغ‪ ،‬أو صانع بناء‪ ..‬أو‪ ،‬فيو يعرؼ القميؿ مف كؿ صنعة‪،‬‬
‫وال يجيد أياً منيا‪ .‬زامؿ ىذا ال يجيد سوى قراءة المقاـ واطبلؽ‬
‫التسميات والنكات مع مف حولو‪ .‬يطمؽ النكتة فيضحؾ الجميع‪ ،‬وال‬
‫يتوقؼ العمؿ لحظة‪.‬‬
‫سنا وخالد يأتياف بسمة فاكية‪ ،‬أو خب اًز ساخناً‪ ،‬فيطمؽ زامؿ‬
‫ىميولة صاخبة‪ ،‬ويظؿ يزغرد ليما حتى تضربو سنا عمى ظيره‪،‬‬
‫"كافي عاد زامؿ!"‬

‫يتوقؼ‪ ،‬ثـ يغمز ليا‪" ،‬ست سناء‪ ،‬ماذا لو عثرت لي عمى‬


‫عروسة بجمالؾ‪ ..‬واهلل العظيـ لف أتزوج إال مف ىي في حسنؾ‬
‫وداللؾ‪"..‬‬

‫ويتقدـ خالد منو ميدداً‪" ،‬أتغازؿ زوجتي؟ سأقتمؾ!" فييرب‬


‫زامؿ متظاى اًر بالخوؼ‪ ،‬ويختبئ وراء سنا‪ ،‬فيضحؾ الكؿ‪ ،‬وال يتوقؼ‬
‫العمؿ‪.‬‬

‫زرعوا الثيؿ في الحديقة وسقوه‪ ،‬وزرعوا ال ارزقي والنرجس‬


‫والياس‪ .‬زرعوا نخمتيف عمى جانبي الباب الخارجي‪ ،‬وزيتونة قرب‬
‫الباب الداخمي‪ .‬سقوا الزرع بماء المحبة‪ ،‬فاخضر بسرعة عجيبة‪.‬‬

‫طرأت فكرة في ذىف ىند الصالح‪ ،‬فاتصمت بالمعماري‬


‫لتستشيره‪" ،‬ما رأيؾ لو نقمنا الباب الخشبي مف الدار القديمة‬
‫ووضعناىا ىنا؟"‬

‫لـ يطؿ المعماري التفكير‪" ،‬والنوافذ الخشبية مع زجاجيا‬


‫المموف‪"..‬‬

‫اعتاد زياد عمى اصطحاب الحاج والتجواؿ معو في ورش‬


‫البناء‪ .‬حاوؿ أف يجعمو يحس بالفرح لتقدـ العمؿ‪ .‬لكف‪ ،‬ىؿ يقدر‬
‫الحاج ابو نوري عمى الفرح وىو يودع مع كؿ حجر مف حجارة داره‪،‬‬
‫يودع ذكرى‪ ،‬يودع يوماً‪ ،‬يودع دمعة أو ابتسامة‪ .‬ىؿ يقدر الحاج أبو‬
‫نوري اف يعيد لمحياة زىوىا؟ ىؿ تنمو جذوره مف جديد بعد االقتبلع؟‬
‫المسافة بيف وسط المدينة والصميخ‪ ،‬الواقعة في طرفيا‬
‫الشمالي‪ ،‬ال تزيد عف عشر دقالؽ حيف يقطعيا زياد بسيارتو‪ ،‬لكف‬
‫ىؿ ىي عشر دقالؽ‪ ،‬أـ عم اًر بأكممو؟‬

‫لـ تسأؿ نورية عف تقدـ العمؿ في بناء الدار‪ ،‬ولـ يخبرىا‬


‫أبوىا بشيء‪ .‬إذ ظؿ يتشاغؿ طواؿ النيار وال شيء يشغمو‪ .‬بعد‬
‫إغبلؽ المقيى‪ ،‬أعطى كؿ أثاثيا إلى الصانع‪ ،‬باستثناء أدوات‬
‫الشاي‪ ،‬فقد أرادت نورية االحتفاظ بالسماورات والقواري واالستكانات‪،‬‬
‫فحمميا الحاج إلى الدار حيث ابقتيا نورية مغمفة بأوراؽ الجرالد‪ ،‬في‬
‫صناديقيا‪ .‬كما جمب الحاج المذياع الكيربالي العتيؽ‪ ،‬والصور‬
‫القديمة التي كانت تزيف جدراف المقيى‪.‬‬

‫واظبت رابية عمى القدوـ لمساعدتيا في رزـ قطع األثاث‬


‫الصغيرة‪ ،‬ويأتييا غياث وسنا وخالد‪ ،‬ويقضي كؿ منيـ معيا أطوؿ ما‬
‫يمكف مف الوقت‪.‬‬

‫واكتمؿ بناء الدار خبلؿ ثبلثة أشير‪ .‬وفي فجر يوـ الجمعة‪،‬‬
‫في بدايات الخريؼ‪ ،‬ذىب الحاج أبو نوري ليصمي الفجر في الجامع‪،‬‬
‫فيي آخر صبلة يؤدييا في جامع المحمة‪ ،‬في اليوـ األخير لو في‬
‫المحمة‪.‬‬

‫اجتاز باب الدار‪ .‬رفع عينيو إلى السماء‪ .‬بدأت الغيوـ‬


‫تتجمع في الصباح الوليد‪ .‬نسمة ىواء بارد بعثت الرعشة في أوصالو‪.‬‬
‫سرب مف الطيور المياجرة يحمؽ بعيداً في السماء‪ .‬ىي أيضاً تغادر‬
‫موطنيا وأعشاشيا‪ ،‬في شجرة السدر العتيقة‪ ،‬وال تدري إف كانت‬
‫ستعود إلييا أـ ال‪ .‬واف عادت‪ ،‬فيؿ ستجد شجرة السدر في موقعيا؟‬

‫أما ىو‪ ،‬فيدري أنو لف يعود إلى ىنا‪ .‬ىذا الػ(ىنا) سوؼ‬
‫يزوؿ‪ .‬سوؼ تتساقط حجارتو مثؿ أوراؽ شجرة السدر وأغصانيا‪.‬‬
‫شجرة السدر التي ظمت تحرس باب الزقاؽ‪ ،‬واعتاد الكؿ عمى وجودىا‬
‫منذ بدايات وعييـ‪ .‬شجرة السدر ىذه‪ ،‬ستسقط‪ .‬وسوؼ يزوؿ الزقاؽ‪.‬‬

‫سار الحاج ببطء إلى الجامع‪ .‬لـ ينـ ليمة أمس‪ .‬اجتاز‬
‫الزقاؽ إلى الجانب اآلخر‪ .‬المقيى ٍ‬
‫خاؿ‪ ،‬موصد األبواب‪ .‬المقيى‬
‫مات‪ .‬أطمؽ الحاج زفرة حرى‪ ،‬وأشاح بوجيو واستمر في طريقو‪.‬‬

‫بعد مغادرة الحاج داره بحوالي ساعة‪ ،‬جاء غياث ومعو‬


‫سيارتي حمؿ كبيرتيف‪ ،‬وباشروا نقؿ األثاث‪ .‬سمـ عمى نورية فمـ‬
‫تتمالؾ نفسيا فانثالت دموعيا‪" ،‬غياث‪ ..‬كيؼ‪"...‬‬

‫لـ يجد غياث مف الكممات ما يرد بو‪ ،‬فغادر المرصد لكي‬


‫يوجو العماؿ في نقؿ األثاث والمحافظة عميو‪ .‬ظمت نورية في مكانيا‬
‫ال تريـ‪ .‬وقفت قرب النافذة واتكأت بمرفقييا عمى حافتيا العريضة‪،‬‬
‫تحدؽ في الفراغ أماميا‪ ،‬فاألريكة التي اعتادت الجموس عمييا صارت‬
‫في سيارة الشحف‪ .‬وضعت كفيا عمى خدىا تنظر ساىمة إلى الزقاؽ‬
‫الذي لـ يكوف‪ ،‬والمقيى المغمؽ‪ ،‬والسور الحديدي المؤقت الذي سيجوا‬
‫بو األبنية المقابمة لنافذتيا‪ :‬المعرض‪ ،‬شجرة السدر‪ ،‬المقيى‪ ،‬والدور‬
‫المبلصقة لو‪ .‬لـ تعد المحمة تعج بأىميا‪ .‬غادرىا الصبية الذي يكانوا‬
‫يمؤلوف الزقاؽ بأصواتيـ وضجيجيـ‪ ،‬فقد ىجروا الزقاؽ‪.‬‬

‫السوؽ القديـ ٍ‬
‫خاؿ ينعى مف بناه‪ .‬ماذا سيفعموف بمقبرة‬
‫الحجر التي تواجييا؟ أيف سيذىبوف بحجارتيا العتيقة ونقوش الجبس‬
‫التي زينت سقوفيا؟ توزع أىؿ المحمة في الضواحي‪ ،‬فيؿ سيتذكر أي‬
‫منيـ رفاؽ صباه حيف يمتقي بو في ٍ‬
‫يوـ ما في دروب الحياة؟ ىؿ‬
‫سيتذكروف الزقاؽ ومقيى الحاج أبو نوري‪ ،‬أـ سيغيب كؿ شيء وراء‬
‫غبار األياـ؟‬
‫ىدـ المحمة ال يقتصر عمى ىدـ أبنيتيا المتراصة‪ ،‬بؿ في‬
‫تفتيت مف فييا‪ ،‬وما فييا‪ .‬تفتيت قيميا وتساند أىميا‪ .‬حتى أىؿ الدار‬
‫الواحد‪ ،‬ستعيش كؿ أسرة منيـ في دار تبعد عف األخرى مسافات‪..‬‬
‫ومسافات‪ .‬ستزوؿ تحية الصباح بينيـ‪ ،‬كما تزوؿ خبلفاتيـ الصغيرة‪.‬‬
‫وكـ‪ ..‬وكـ‪ ..‬وكـ سيزوؿ‪.‬‬

‫دلفت رابية مف عتبة الدار التي نقمت بابيا الخشبية‪ ،‬فظمت‬


‫فاغرة فاىا لمريح الخريفية ولمعماؿ الذيف ينقموف األثاث‪ .‬لـ تر نورية‪،‬‬
‫ولـ تسمع ليا صوتاً‪ .‬تجولت في غرؼ الطابؽ األرضي ولـ تر أحداً‪.‬‬
‫أيف غياث إذف؟ لقد شاىدت سيارتو في مكانيا المعيود‪ .‬قابمت‬
‫عامميف يحمبلف صندوقاً كبي اًر‪ ،‬ييماف باليبوط‪ ،‬فانتظرت حتى‬
‫حاذياىا‪" ،‬اهلل يساعدكـ يا شباب‪"..‬‬

‫"شك اًر ست‪ "..‬وأكمبل طريقيما نحو سيارة الحمؿ‪ .‬صعدت‬


‫رابية السمـ‪ .‬كؿ األبواب مفتوحة‪ ،‬وأغمب الغرؼ تخمو مف األثاث‪.‬‬
‫النوافذ الخشبية ذات الزجاج المموف لـ يبؽ منيا إال فتحات مستطيمة‬
‫في الجدراف‪ .‬في إحدى الغرؼ رأت غياث يقؼ عند النافذة وظيره‬
‫إلى الباب‪ .‬قالت بيدوء‪" ،‬صباح الخير‪"..‬‬

‫استدار‪" ،‬صباح النور‪ ،‬تأخرت يا رابية‪"..‬‬

‫"آسفة‪ ،‬كاف عمي توصيؿ أمي إلى بيت أخي في‪"..‬‬

‫قاطعيا بمطؼ‪" ،‬ال داعي لؤلسؼ‪ ..‬اسمعي‪ "..‬خطا نحوىا‬


‫وأمسؾ بكتفيا وقرب رأسو حتى أوشؾ أف يبلمس شعرىا‪ .‬قاؿ بصوت‬
‫خافت أقرب لميمس‪" ،‬نورية في مرصدىا‪ ،‬وىي كليبة جداً‪ .‬حاولي أف‬
‫تبعثي في نفسيا بعض المرح‪"..‬‬
‫تسارعت أنفاسيا‪ ،‬إال أنيا تمالكت أعصابيا وقالت مف دوف‬
‫رفع عينييا إليو‪" ،‬وأنت‪ ..‬أال تأتي معي؟"‬

‫تنيد‪" ،‬حاولت‪ ..‬ولكف‪ "..‬وغص بالدمع‪ ،‬فعجز عف إتماـ‬


‫جممتو‪.‬‬

‫رفعت وجييا إليو فالتقت عيناىما لحظةً‪" ،‬لكف المشاعر‬


‫غمبتؾ‪ ،‬فمـ تقدر أف تمثؿ عمييا دور السعادة والمرح‪ ..‬حسناً يا‬
‫غياث‪ ،‬سأذىب إلى نورية‪ ،‬لكف‪ ..‬ال تتأخر عمينا‪".‬‬

‫انفمتت منو وفرت راكضة نحو المرصد‪ .‬توقفت قميبلً في‬


‫الممر الستعادة أنفاسيا‪ ،‬ثـ رسمت عمى وجييا ابتسامة مرحة ودلفت‬
‫إلى المرصد‪" ،‬صباح ال ارزقي والياسميف‪"..‬‬

‫استدارت نورية كأنيا تعود مف عوالـ بعيدة‪" ،‬صباح الخير‪..‬‬


‫أىبلً رابية‪ "..‬لـ يكف في محياىا أثر لبلبتساـ‪ ،‬بؿ نظرة خالية مف‬
‫التعبير‪ ،‬نظرة ضياع مؤلمة‪ .‬صعب عمى رابية تحمؿ رؤية نورية بيذا‬
‫الضعؼ والتيو‪ .‬ركضت إلييا وأخذتيا بيف ذراعييا‪ .‬وضعت نورية‬
‫رأسيا عمى صدر رابية‪ ،‬فانيار سد الدموع‪ ،‬فانثالت عمى وجييا‪ .‬لـ‬
‫تقؿ أي منيما شيلاً‪ .‬وقفت رابية تحتضف نورية‪ ،‬وتربت عمى شعرىا‪،‬‬
‫ونورية تذرؼ الدمع مد ار اًر ولـ تحاوؿ أي منيما قوؿ أي شيء‪ ،‬فمقد‬
‫عجزت الكممات أماـ سطوة الحزف‪.‬‬

‫جاء غياث ووقؼ بباب الغرفة ينظر إلييما ممياً‪ .‬غالب‬


‫مشاعره وتقدـ منيما وىو يقوؿ بمرح فرضو عمى نفسو‪" ،‬وأنا‪ ..‬أليس‬
‫لي مكاف بينكما؟" مد ذراعيو واحتضف المرأتيف معاً‪ .‬أنصتت رابية‬
‫لوقع نبض قمبو قرب أذنيا‪ ،‬كـ يحمؿ ىذا القمب الكبير مف المحبة!‬
‫ضغطت يده عمى ذراع رابية‪ ،‬فتسارع نبضيا‪ .‬رفع وجييا‬
‫إليو‪" ،‬رابية‪ ،‬قد أغفر لؾ تأخرؾ اليوـ لو أعددت لنا القيوة‪ ،‬فأنا لـ‬
‫أشرب قيوة الصباح بعد‪ ".‬وأردؼ بنبرة رقيقة‪" ،‬وأنت يا نورية ىؿ‬
‫شربت قيوتؾ؟"‬

‫كفكفت نورية دمعيا‪" ،‬لـ أعد أتذكر‪"..‬‬

‫"حسف جداً‪ .‬قيوة مف يد رابية الوردة‪ ،‬وسيكوف كؿ شيء‬


‫عمى ما يراـ‪".‬‬

‫انفمتت رابية مف أسر ذ ارعو وابتعدت عنو‪ .‬استعادت بعض‬


‫توازنيا وذىبت إلى المطبخ‪ ،‬أو ما كاف باألمس مطبخاً‪ .‬وقفت برىة‬
‫كي تستعيد أنفاسيا‪ ،‬فوجودىا قرب غياث يجعميا تقؼ الىثة‪ .‬يجب‬
‫أف تعيد توازف ميزانيا‪ .‬يجب! ىزت رأسيا‪ ،‬وغمغمت‪" ،‬مجنونة‪..‬‬
‫مجنونة ومراىقة‪ ..‬واهلل العظيـ أنا مجنونة!"‬

‫بقيت نورية بعض الوقت تسند رأسيا إلى كتؼ غياث‪ .‬رفعتو‬
‫ونظرت في عينيو‪ ،‬فرأت فييما حزناً يعادؿ أساىا‪" ،‬غياث‪ ..‬رابية‬
‫ىذه‪"..‬‬

‫مف دوف أف تكمؿ جممتيا‪ ،‬فيـ غياث ما تريد قولو‪ .‬ربت‬


‫عمى كتفيا ولثـ ىامتيا‪ ،‬ثـ جمس عمى حافة النافذة إلى جوارىا‪.‬‬
‫أشعؿ سيجارة‪ ،‬ثـ ارتفعت يده لتعبث أصابعو بخصبلت الشعر‪.‬‬
‫أطمؽ زفرة حرى‪" ،‬أدري يا نورية‪ ..‬أدري أف رابية ىذه رالعة‪ .‬أدري‪"..‬‬
‫وتنيد‪" ،‬لكف ما العمؿ؟ ال أنا قادر عمى تبديؿ قدري أو أف أحوؿ‬
‫قدرىا عف مساره‪ "..‬صمت برىة ثـ ضغط بيده عمى كتؼ نورية‪،‬‬
‫ونظر إلييا بعينيف مميلتيف بالقنوط‪" ،‬ما باليد حيمة‪ .‬سيظؿ كؿ منا‬
‫عمى حالو‪ ،‬فما يفصؿ بيننا أكبر مني‪ "..‬وتنيد‪" ،‬ومنيا‪"..‬‬
‫"ولكف‪ ،‬أليس مف طريقة تقدر‪"..‬‬

‫قاطعيا‪" ،‬كبل‪ ،‬ليس مف طريقة‪ .‬وتمؾ حقيقة أعرفيا‪ ،‬كما‬


‫تعرفيا رابية‪ "..‬مع كؿ األلـ الذي يحس بو غياث‪ ،‬إال أنو ارتاح ألف‬
‫نورية ابتعدت قميبلً عف ىموميا‪ ،‬فواصؿ القوؿ‪" ،‬حاولت االبتعاد‬
‫عنيا م ار اًر‪ ،‬لعميا ترتاح‪ ،‬ولعمي أرتاح‪ .‬لكني وجدت البعد أصعب‪.‬‬
‫أمضيت ساعات طواؿ أفكر‪ ..‬لو أمكنني‪ ..‬لو أمكنيا‪ ".‬ونظر في‬
‫عيني نورية‪" ،‬لكني حتى في تمؾ الساعات أتذكر ما تقولو رابية بنبرة‬
‫ساخرة تخفي ألميا وراييا‪( ،‬زرعوا المو‪ ..‬فما اخضر عودىا‪ ).‬فأعود‬
‫إلى صحبتيا‪ ،‬ألجدىا أكثر ليفة مني عمى المقاء‪ ،‬فأندـ عمى البعد‪..‬‬
‫إذ بالرغـ مف كؿ شيء‪ ،‬تظؿ صادقتنا عامبلً يخفؼ بعض غمواء‬
‫األلـ عنيا‪ ..‬وعني‪".‬‬

‫ساد الصمت برىة‪" ،‬معؾ حؽ‪ ،‬فصحبة رابية تزيؿ اليـ‪".‬‬


‫ربتت عمى كتفو‪" ،‬مع كؿ ىذا أقوؿ لؾ‪ ،‬حاوؿ‪ ...‬حاوؿ يا غياث‪.‬‬
‫حاوؿ أف ال تدعيا لميأس واأللـ‪"..‬‬

‫"لكف اليأس واأللـ ىو بعض ما يربطنا يا نورية‪ ..‬اليأس‬


‫يربض في أعماقنا فيجعؿ كبلً منا يدنو مف صاحبو‪ ،‬ألنو يدري أف‬
‫ىذا اليأس ىو ما يجمع بيننا ويوحد آالمنا‪"..‬‬

‫لـ يبلحظا وقوؼ رابية عند الباب‪" ،‬ما ىذا يا غياث؟"‬


‫ودخمت تحمؿ صينية القيوة‪" ،‬مف ذا الذي يتحدث عف اآلالـ؟ وآالـ‬
‫مف ىذا الذي تحكي عنو؟ ىؿ أرسمتني لتحضير القيوة لكي تشكو‬
‫ىمومؾ لنورية؟"‬

‫ضحكت نورية لنبرة التأنيب في صوت رابية‪ ،‬فدافعت عف‬


‫غياثيا‪" ،‬كبل‪ ،‬لـ يكف يشكو لي ىمومو يا رابية‪ ،‬بؿ ىموـ ىذه‬
‫الدنيا‪ "..‬ثـ تناولت فنجانيا ووضعتو عمى حافة النافذة‪.‬‬
‫ردت رابية ضاحكةً‪" ،‬إذف جاء دوري ألحكي لؾ عف ىمومي‬
‫يا نورية‪ "،‬وقدمت القيوة لغياث‪ .‬تناوؿ فنجاف قيوتو‪ .‬نظر إلييا‬
‫فتحاشت لقاء عينييما‪" ،‬ىؿ تحبيف أف تسمعي مني اآلف‪ ،‬أـ اكتفيت‬
‫بما أسمعؾ غياث؟"‬

‫ضحكت نورية‪" ،‬بؿ احؾ يا رابية إف كاف في الحديث راحة‬


‫لؾ‪ ..‬احؾ‪"..‬‬

‫ضحكت رابية وىزت رأسيا فانفرط الشعر الرمادي مف‬


‫الشريط الذي يقيده وانسدؿ عمى كتفييا‪ .‬جمست أرضاً ووضعت‬
‫الصينية أماميا‪ ،‬ثـ مدت يدىا وعقدت الشعر عمى ىامتيا‪ .‬قاؿ‬
‫غياث‪" ،‬اتركيو‪ ..‬أرجوؾ‪"..‬‬

‫فوجلت رابية‪ ،‬رفعت عينييا نحوه وفكرت‪ ،‬يا إليي‪ .‬أبعدت‬


‫عينييا ورشفت بعض القيوة‪ ،‬ثـ أعادت الفنجاف‪ .‬فتحت محفظتيا‬
‫وفتشت فييا‪ ،‬ثـ رفعت رأسيا إليو وعاتبتو‪" ،‬نسيت سجالري‪ ..‬كؿ ىذا‬
‫بسببؾ يا غياث!" استدارت إلى نورية لتشكوه إلييا‪" ،‬ىذا بعض مف‬
‫ىمومي‪ .‬خابرني فجر اليوـ وأعطاني سمسمة مف األوامر والتعميمات‬
‫التي يجب تنفيذىا قبؿ قدومي ىنا‪ ،‬وفي زحمة التنفيذ‪ ،‬نسيت‬
‫سجالري‪"..‬‬

‫تقدـ غياث منيا وأعطاىا سيجارة‪ ،‬ثـ أشعميا‪ .‬ظؿ واقفاً‬


‫يغطييا ظمو‪ .‬تنشقت الدخاف‪ .‬مد يده ورفع وجييا إليو‪" ،‬خذي عمبة‬
‫سجالري إف كاف ىذا سبب زعمؾ مني‪"..‬‬

‫ضحكت لتخفي ارتباكيا وتورد وجنتييا‪ ،‬وأخذت منو عمبة‬


‫السجالر‪" ،‬وىؿ قدرت يوماً أف أزعؿ منؾ؟"‬
‫عاد إلى مكانو إلى جوار نورية التي بقيت تنظر إلييما بكؿ‬
‫حناف األرض‪ .‬سأؿ‪" ،‬ألـ يعد الحاج بعد؟"‬

‫"كبل‪ ،‬ذىب ليصمي الفجر في الجامع‪ ،‬وال أدري ما الذي‬


‫جعمو يتأخر حتى اآلف‪"..‬‬

‫شرب ثمالة قيوتو ونيض‪" ،‬سأذىب إليو‪ ،‬فالظير يقترب‬


‫وأظف أف بإمكاننا تناوؿ الغداء ىناؾ‪ ،‬فالكؿ ينتظرنا‪".‬‬

‫دخؿ الجامع فوجد الحاج يجمس أرضاً والسبحة في يده‪،‬‬


‫ينظر إلى تساقط حباتيا متأمبلً‪ .‬جمس غياث إلى جواره‪" ،‬السبلـ‬
‫عميكـ‪".‬‬

‫رفع الحاج رأسو‪" ،‬وعميكـ السبلـ ورحمة اهلل وبركاتو‪ .‬متى‬


‫جلت يا غياث؟"‬

‫"بعد مغادرتؾ بوقت قصير‪ .‬لقد أتممنا نقؿ األثاث‪ ،‬ولـ يبؽ‬
‫إال بضعة صناديؽ صغيرة نأخذىا معنا‪".‬‬

‫تنيد الحاج‪" ،‬وىؿ تكفي سيارتؾ؟ واهلل العظيـ أني ألشعر‬


‫بالخجؿ منؾ يا وليدي‪ ،‬فمقد أتعبناؾ معنا‪"..‬‬

‫قاطعو‪" ،‬استغفر اهلل يا عـ‪ .‬ال تفكر بشيء مثؿ ىذا أرجوؾ‪.‬‬

‫عمى أية حاؿ رابية اآلف مع نورية‪ ،‬وما بقي مف أغراض قميؿ جداً‬
‫يكفي لنقمو بسيارتينا‪".‬‬

‫"رابية أيضاً بنت حبلؿ‪ ،‬نشمية!" ىز الحاج رأسو بحزف‪" ،‬كـ‬


‫الساعة اآلف؟"‬

‫"الحادية عشرة تقريباً‪".‬‬


‫أطرؽ الحاج برأسو‪" ،‬تمنيت لو صميت الظير ىنا‪ .‬لكف ال‬
‫داعي إلزعاج الجماعة باالنتظار‪ .‬ىيا لنذىب‪ "..‬ونيض الحاج‬
‫متثاقبلً‪ ،‬وعاونو غياث عمى النيوض‪ .‬سا ار عالديف‪.‬‬

‫شاىدا سيارة رابية أماـ باب الدار‪ ،‬وصندوقيا الخمفي مميء‬


‫بالصناديؽ والحاجيات‪ .‬دلفا مف الباب وقابمتيما رابية تحمؿ صندوقاً‪،‬‬
‫"أىبلً يا حاج‪ ،‬صباح الخير‪"..‬‬

‫"صباح الخير بنيتي‪"..‬‬

‫تقدـ غياث محاوالً أخذ الصندوؽ ليحممو بدالً عنيا‪" ،‬لماذا‬


‫حممت الصناديؽ وحدؾ‪ ،‬ألـ يكف بإمكانؾ االنتظار قميبلً ألحمميا‬
‫معؾ؟ طوؿ عمرؾ مستعجمة‪".‬‬

‫ضحكت ولـ تعطو الصندوؽ‪" ،‬غياث‪ ،‬افسح لي الطريؽ بدؿ‬


‫نقاشؾ الذي لف ينتيي‪ "..‬أفسح ليا مجاالً‪ ،‬فوضعت الصندوؽ في‬
‫السيارة واستدارت إليو ضاحكة‪" ،‬لو انتظرتؾ‪ ،‬النتظرت دىو اًر‪،‬‬
‫ولتأخرنا‪ "..‬ضحكت وشاكستو‪" ،‬ال داعي لمقمؽ‪ ،‬ثمة بضع صناديؽ‬
‫بانتظارؾ‪".‬‬

‫ركضت أمامو مثؿ طفمة صغيرة‪ .‬صعدت السمـ كؿ درجتيف‬


‫بقفزة‪ .‬لحقيا غياث وتبعيما الحاج بخطواتو الوليدة‪ .‬حمؿ كؿ منيـ ما‬
‫استطاع حممو‪ ،‬ونزلوا جميعاً بعدما خميت الدار مما فييا‪ ..‬ومف فييا‪.‬‬

‫صعدت نورية بسيارة رابية‪ ،‬والحاج مع غياث‪ .‬صاحت رابية‬


‫مف نافذة سيارتيا‪" ،‬نورية‪ ،‬سنغمبيـ ونصؿ قبميـ‪ .‬نحف النساء سنفوز‬
‫بسباؽ اليوـ‪ ،‬ما رأيؾ؟"‬

‫"وما الداعي لمسباؽ‪ ،‬فالزمف سيغمبنا في جميع األحواؿ‪".‬‬


‫"ال ييـ الزمف‪ " ،‬واستدارت نحو السيارة األخرى‪" ،‬ىيو؟ ىؿ‬
‫تشتغؿ سيارتؾ يا غياث‪ ،‬أـ نسيت أف تمؤل خزاف الوقود اليوـ؟"‬

‫حتى وىي تحاوؿ بعث المرح فييـ‪ ،‬فيي تتحداه‪ ،‬وفي ذلؾ‬
‫متعة لكمييما‪ .‬أدار غياث المحرؾ‪ ،‬فاشتغمت السيارة‪" ،‬أرأيت‪ ،‬السيارة‬
‫اشتغمت‪ ،‬وفييا مف الوقود ما يكفي ألغمبؾ‪ ".‬وضحؾ غياث وأطمؽ‬
‫لسيارتو العناف‪.‬‬

‫أطمقت رابية ضحكة مرحة‪ ،‬وقالت وىي تحاذيو بسيارتيا‪،‬‬


‫"تسبقني حتى إشعار آخر‪ "..‬ثـ غمبتو‪ ،‬وتجاوزىا‪ .‬وصمت السيارتنا‬
‫في آف واحد إلى البيت الجديد‪ .‬كاف طبلؿ ابف الحاج يقؼ في الباب‬
‫الخارجي ومعو الجزار وأربعة خراؼ‪ .‬ما أف ترجؿ الحاج مف سيارة‬
‫غياث حتى نحر الجزار الخروؼ األوؿ تحت قدميو‪ ،‬ونحر الثاني‬
‫عند قدمي نورية قبؿ دخوليما الدار الجديد‪.‬‬

‫استقبمتيـ اليبلىؿ التي تسابؽ زامؿ مع سنا في إطبلقيا‪.‬‬


‫كاف خالد يقؼ إلى جوار زوجتو‪ ،‬ومعيما زياد وزوجتو وأبناؤه‪ .‬وقفت‬
‫ىند الصالح تحمؿ صينية الشربت‪ ،‬والكؿ في فرح وحبور‪ ،‬أو ىذا ما‬
‫أرادوا لمحاج ونورية أف يشع ار بو‪ .‬ضحكوا وأطمقوا النكات والمزح‪،‬‬
‫وتبادلوا التياني‪ .‬الكؿ يتحرؾ في كؿ مكاف حوليـ‪ .‬تقدـ غياث وأحاط‬
‫كتفي نورية بذراعو‪ ،‬وقادىا إلى غرفتيا‪ .‬سارت نورية معو وىي ال‬
‫تدري طبيعة المشاعر التي تعتمؿ في صدرىا‪.‬‬

‫فتح غياث أحد األبواب‪ ،‬قالت نورية قبؿ أف تمد قدميا‪" ،‬بسـ‬
‫اهلل الرحمف الرحيـ‪ "..‬واجيتيا نافذة واسعة تطؿ عمى حديثة صغيرة‬
‫مزروعة بأصناؼ الورد بألواف متنوعة‪ .‬تمتد النافذة مف األرض حتى‬
‫السقؼ‪ ،‬وعمى طوؿ الجدار المواجو لمباب‪ .‬أريكة نورية التي اعتادت‬
‫الجموس عمييا في المرصد‪ ،‬والى جانبيا الطاولة الصغيرة التي يعموىا‬
‫المذياع الكيربالي العتيؽ‪ .‬أدارت عينييا حوليا‪ .‬كؿ شيء كما كاف‬
‫ىناؾ‪ .‬حجـ الغرفة‪ ،‬أثاثيا‪ ،‬ترتيبيا‪ .‬لـ تصدؽ نورية عينييا‪ .‬كؿ‬
‫شيء في مكانو‪ ،‬ولكف‪ ...‬ولكف‪ ..‬الغرفة والدار ليسا في مكانيما‪.‬‬
‫طفرت دمعة لـ تحبسيا‪ ،‬واستدارت إلى غياث‪ .‬رفعت عينييا إليو‪،‬‬
‫"غياث‪ ..‬غياث‪"..‬‬

‫"ال تقولي شيلاً‪ .‬حاف اآلف موعد موجز أنباء الظييرة‪ .‬أـ‬
‫نسيت يا نورية أف في العالـ أخبا اًر يجب أف ال تفوتؾ؟"‬

‫فيمت نورية‪ ،‬فتمالكت دموعيا وسارت معو نحو أريكتيا‪.‬‬


‫جمست وفتحت الراديو لعؿ سماع موجز األنباء يتيح ليا وقتاً يكفي‬
‫لمسيطرة عمى حزنيا‪ .‬ثـ دخؿ الحاج ومف معو‪ ،‬فتعالت الضحكات‬
‫واألحاديث‪ .‬الكؿ قد صمـ عمى جعؿ ىذا اليوـ عيداً‪.‬‬

‫دخمت رابية وىي تركض‪ ،‬حاممة قبضة ارزقي وضعتيا في‬


‫حضف نورية‪ ،‬وجمست القرفصاء ارضاً إلى جوار األريكة‪ .‬مدت نورية‬
‫يدىا ومسدت شعر رابية بذىف شارد‪ ،‬فأغمضت ىذه عينييا وأسندت‬
‫رأسيا عمى ركبتي نورية‪ ،‬وألوؿ مرة منذ الفجر‪ ،‬بدا التعب عمييا‬
‫واضحاً‪.‬‬

‫أشرؼ طبلؿ عمى نحر الذبالح وتوزيعيا‪ ،‬في الجامع أوالً‬


‫عمى المستحقيف‪ ،‬ثـ الجيراف‪ ،‬وأخي اًر بدأت رالحة الشواء تصؿ إلى‬
‫مف في الدار‪ .‬تناوؿ الجميع طعاـ الغداء في الحديقة تحت شمس‬
‫الخريؼ‪ ،‬إذ جمس بعضيـ عمى الكراسي‪ ،‬والبعض األخر أرضاً‪،‬‬
‫عمى الثيؿ‪ .‬لقد أنجز كؿ منيـ عممو وحؽ لو أف يرتاح‪ .‬بعد شرب‬
‫الشاي بدأ الجميع بالمغادرة ولـ يبؽ مع الحاج ونورية إال غياث وخالد‬
‫وسنا ورابية‪ ،‬ليعيدوا ترتيب الدار‪ .‬لـ تعرؼ نورية ىؿ تشكرىـ‪،‬‬
‫وكيؼ؟‬
‫سمعوا أذاف المغرب بوضوح‪ ،‬وىـ في سكوف تاـ‪ .‬تنبو‬
‫الحاج‪ ،‬فرفع رأسو ونظر إلى نورية‪" ،‬الجامع قريب منا‪"..‬‬

‫غمغمت‪" ،‬الحمد هلل‪".‬‬

‫ضحؾ غياث‪" ،‬وىؿ تصورتما أف بغداد تخمو مف الجوامع‬


‫باستثناء المحمة؟"‬

‫ضحكت نورية بأسى‪" ،‬كبل‪ ،‬بؿ حمدت اهلل ألف صوت‬


‫المؤذف قد يخفؼ بعض غربتي‪"..‬‬

‫نيض الحاج لمذىاب إلى الجامع‪ ،‬ونيض الجميع معو‪،‬‬


‫ليذىب كؿ منيـ إلى شأنو‪ .‬تركوا نورية في بيتيا الجديد‪ ،‬لعؿ‬
‫مشاغميا فيو وجيرانيا الجدد تنسييا بعض جروح فراؽ الروح التي‬
‫تركتيا ىناؾ‪ ..‬مع حجارة البيت العتيؽ‪.‬‬

‫ظمت نورية في مكانيا تراقب غروب الشمس ودوامة األفكار‬


‫تعصؼ في رأسيا‪ .‬كيؼ يبدو الزقاؽ اآلف وقد خبل مف أىمو؟ لو أننا‬
‫ىجرناه قبؿ سنتيف‪ ،‬أما كاف أحمد وسممى يمعباف بالقرب مني اآلف‪،‬‬
‫وصوت حمدية يعمو عمى صوت المذياع؟ لو أننا ىجرنا المحمة قبؿ‬
‫سنتيف‪ ،‬أما كاف نوري يقؼ اآلف أمامي يجادلني بدؿ الغربة التي‬
‫يعيشيا بعيداً؟ لو‪ ...‬لو‪ ...‬ما أكثر المو‪ ..‬رابية تقوؿ زرعوا المو فما‬
‫أينع عودىا‪ .‬ورابية تعرؼ ما تقوؿ ألنو يجيء مف قمب جرحو الزماف‬
‫وما يزاؿ ينزؼ‪.‬‬

‫أحياناً كانت نورية تحدث نفسيا ىمساً‪ ،‬وحيف تتنبو لما تفعمو‬
‫تستغفر ربيا‪ ،‬وتخشى مف اإلصابة بالخرؼ‪ .‬غمغمت نورية‪" ،‬سأكتب‬
‫صباح غد رسالة إلى نوري‪ ،‬لعمو‪ ..‬لعمو يرضى ويعود‪ .‬لعمو يسامح‬
‫عنادي‪ ..‬لعمو يغفر لي حبي لممحمة‪ ..‬ىذا الحب الذي دفع مقابمو‬
‫أرواح أعز الناس‪ ،‬فيؿ أقدر عمى تعويضو بشيء؟ غفرانؾ ربي‪،‬‬
‫فبعض أخطاء اإلنساف سببيا المحبة‪ .‬لقد أردت ليـ العيش في‬
‫تقدروف وتضحؾ األقدار!"‬
‫المحمة محاطيف بالحب واأللفة‪ ..‬ولكف‪ّ ،‬‬
‫نيضت مف مكانيا وضربت يداً بيد‪ ،‬وىي تموب في أرجاء الغرفة‪" .‬ال‬
‫أحد يقؼ في وجو القدر‪ .‬كؿ منا يحمؿ قدره في ذرات ذاتو! وال أحد‬
‫يستطيع تغيير ذاتو‪ ..‬أو قدره‪"..‬‬

‫سمعت طرقاً عمى الباب فتنبيت لواقعيا‪ .‬البد أف والدىا قد‬


‫نسي أخذ مفتاح باب الدار الجديدة‪ ،‬فقد تعود أف تكوف باب داره‬
‫مشرعة ترحب بالجميع‪ ،‬ففي المحمة‪ ،‬ال أحد يغمؽ باب داره في‬
‫النيار‪.‬‬

‫ومر اليوـ األوؿ‪.‬‬


‫(‪)25‬‬

‫عادت رابية إلى الدار‪ .‬استحمت وجمست أرضاً في ركنيا‬


‫وىي تمد ساقييا المتعبتيف مف جيد النيار‪ .‬وضعت تسجيبلً لسوناتا‬
‫البيانو لبيتيوفف‪ ،‬وأشعمت سيجارة‪ .‬راحت في تيويمة استرجعت فييا‬
‫أحداث يوميا‪ ،‬وتساءلت عما يجري في ذىف نورية اآلف‪ .‬ىؿ يغمبيا‬
‫الحنيف‪ ،‬أـ تغطي المشاغؿ اليومية عمى الحنيف؟‬

‫قبؿ أف تعرؼ نورية‪ ،‬لـ تكف رابية تتصور وجود إنساف‬


‫يمتصؽ بحجارة داره إلى ىذا الحد‪ .‬تصورت حنيف غياث وزياد لممحمة‬
‫فيو الكثير مف المبالغة‪ .‬لـ تصدؽ في بادئ األمر أف االنتقاؿ إلى‬
‫دار أخرى يعني اقتبلعاً‪ ،‬فبغداد واحدة‪ ،‬بالرغـ مف تنوعيا وسعتيا‪.‬‬
‫كانت الجغرافيا تعني شيلاً مختمفاً عف التاريخ‪ ،‬ولـ تكف تدري أف‬
‫التاريخ‪ ،‬تصنعو الجغرافيا‪.‬‬

‫نورية‪ ،‬ىذه الرالعة‪ ،‬جعمتيا تعرؼ‪ ،‬وتفيـ وتحس بالكثير مما‬

‫كانت تناقش بموضوعو نظرياً‪ ،‬حتى عرفت نورية‪ ،‬فعرفت عالماً‬


‫جديداً‪ ،‬يختمط فيو الفكر المجرد مع العاطفة‪ ،‬يتماىى الماضي‬
‫والحاضر ومع المستقبؿ‪ .‬عرفت مف نورية أف قمب اإلنساف يكبر‬
‫ويكبر ويكبر‪ ،‬حتى ليسع العالـ كمو‪ ،‬حتى ليقدر أف يحب كؿ الناس‪.‬‬

‫ومف نورية تعممت أف تحب غياث أكثر‪ ،‬وأف تعرفو أكثر‪.‬‬


‫غمغمت‪" ،‬ىا قد عدت إلى غياث‪ "..‬ىزت رأسيا بأسى‪" ،‬وىؿ تركتو‬
‫ألعود إليو؟"‬

‫عالـ كام ٌؿ بتناقضاتو‪ .‬حاولت فيما مضى أف تجد فيو‬


‫غياث ٌ‬
‫ما يشوه صورتو في نفسيا‪ .‬لعميا‪ ..‬لعميا تفمت مف مشاعرىا نحوه‪ .‬ثـ‬
‫صارت تستفزه في الحوار لعمو‪ ..‬لعمو‪ ،‬يبتعد عنيا‪ .‬فما أفمحت في‬
‫إقناع نفسيا‪ ،‬وال أفمحت في إقناعو‪.‬‬

‫وبعدما تعرفت عمى نورية‪ ،‬تعممت منيا أف لمحب أوجياً‬


‫عديدةً‪ .‬عرفت كيؼ تحب غياث مف دوف أف تتجاوز خط االستحالة‬
‫الذي يفصميما‪ .‬أحبتو كما ىو‪ ،‬يعبر أجواءىا وال يستقر في حياتيا‪،‬‬
‫ويظؿ لكؿ منيما مساره‪ ،‬ولكؿ منيما حياتو‪ .‬ما عادت تريد إال أف‬
‫تكوف قريبة منو‪ ،‬توازيو وال تتقاطع معو‪ .‬بفضؿ نورية‪ ،‬تحوؿ غياث‬
‫مف ىاجس تخشاه‪ ،‬إلى نسمة عذبة في حياتيا‪.‬‬

‫رف الياتؼ‪ ،‬فأجفمت‪ .‬رفعت السماعة قبؿ اكتماؿ الرنة‬


‫األولى‪" ،‬نعـ؟"‬

‫"مرحباً رابية‪"..‬‬

‫ىميؿ صوتيا‪" ،‬مالة أىبلً وسيبلً‪".‬‬

‫"ىؿ كنت نالمة؟"‬

‫"أبداً‪ ،‬وأنت‪ ،‬كيؼ أنت؟ متعب؟"‬

‫ضحؾ‪" ،‬لو لـ أكف ميتاً مف التعب‪ ،‬لمت سأماً‪ .‬أليس ىذا‬


‫رأيؾ؟" ضحكت‪ ،‬فاردؼ‪" ،‬ماذا تفعميف؟"‬

‫"ال شيء‪ ،‬أتمدد في ركني واستمع إلى الموسيقى‪ .‬وأنت؟"‬

‫"أفكر‪"،‬‬

‫"بماذا؟"‬

‫"أال تعرفيف؟"‬
‫ضحكت‪" ،‬ىؿ تظؿ ترد عمى أسلمتي بأسلمة مقابمة؟"‬

‫"طبعاً‪ ،‬ما دمت تسأليف وأنت تعرفيف اإلجابة عمى سؤالؾ‪".‬‬


‫صمت برىة‪ ،‬ولـ تقؿ شيلاً‪ .‬بيتيوفف وحده يمؤل الصمت بينيما‪.‬‬
‫ىمس‪" ،‬رابية‪"،‬‬

‫ردت‪" ،‬نعـ‪"،‬‬

‫"ىؿ يمكنؾ رفع صوت الموسيقى لكي استمع إلييا معؾ؟"‬

‫صمتت برىة ثـ قالت‪" ،‬لـ ال تأت فنستمع إلييا معاً‪ ،‬ىنا؟"‬

‫"رابية‪ ..‬رابية صقر الحمود‪ ،‬ىؿ دعوتؾ ىذه استفزاز أـ‬


‫ماذا؟"‬

‫ضحكا وقاال بصوت واحد‪" ،‬ماذا؟" المزحة القديمة ذاتيا‪ ،‬إال‬


‫أنيا ال تفتأ تبعث االبتسامة فييا‪ ،‬وتمحو الحرج‪.‬‬

‫أخذ نفساً عميقاً‪" ،‬رابية‪ ،‬اتصمت اآلف ال بقصد الثرثرة‪ ،‬فأنا‬


‫أعرؼ أنؾ مرىقة أكثر مني‪ ،‬إنما أردت أف أسألؾ شيلاً‪".‬‬

‫"سؿ ما شلت‪ ،‬فكمي آذاف صاغية‪ .‬أما ما تسميو ثرثرة‪ ،‬فأنا‬


‫ال أقبؿ بمثؿ ىذه التسمية‪ ،‬بؿ أسمييا استراحة المحارب‪ .‬أليس مف‬
‫حقنا أف نتحادث بكؿ بساطة مف دوف تبريرات أو كممات كبيرة؟‬
‫تفضؿ سؿ ما شلت‪".‬‬

‫"صباح الغد‪ ،‬ىؿ بإمكانؾ مرافقتي إلى مكاف ما؟"‬

‫"طبعاً بإمكاني‪ ،‬سأتصؿ بالدالرة لتبميغيـ‪ ،‬وأالقيؾ‪ .‬ولكف‪،‬‬


‫أيف (المكاف الما) ىذا؟"‬

‫"سأمر عميؾ في الخامسة والنصؼ صباحاً ونذىب معاً‪".‬‬


‫"وأيف نذىب فج اًر؟"‬

‫ضحؾ برقة‪" ،‬أال يمكنؾ االنتظار؟"‬

‫ردت بشيء يشبو الغضب‪" ،‬غياث‪ ،‬قمت لؾ صباح اليوـ‪"..‬‬

‫قاطعيا ضاحكاً وىو يقمد نبرة صوتيا‪" ،‬لو انتظرتؾ يا‬


‫غياث‪ ،‬النتظرت دى اًر‪ .‬أليست تمؾ كمماتؾ؟"‬

‫ضحكت‪" ،‬ولماذا االنتظار إف كنت تعرؼ؟ ىؿ في األمر‬


‫سر؟"‬

‫حاوؿ مغالبة الضحؾ‪" ،‬ربما‪ "،‬عجز عف السيطرة عمى‬


‫نفسو‪ ،‬فضحؾ‪" ،‬رابية‪ ..‬رابية‪ ..‬لنكف جدييف‪".‬‬

‫ردت‪" ،‬لنكف‪"..‬‬

‫"ىا قد عدت لمقاطعتي‪ "..‬أخذ نفساً عميقاً ثـ اكتسى صوتو‬


‫بنبرة الجدية‪" ،‬اسمعي يا رابية‪ .‬ما دمت مصرة أف تعرفي‪ ،‬غداً سيبدأ‬
‫ىدـ المعرض وجزء مف المحمة‪ .‬لقد بذلت قصارى جيدي لكي ينتيي‬
‫بناء دار نورية قبؿ ىذا الموعد‪ .‬وقد نجحنا والحمد هلل في مسعانا‪.‬‬
‫ألني لـ أكف أريد ليـ أف يشيدوا اليدـ‪"..‬‬

‫تصاعدت حيرتيا‪" ،‬والى أيف سنذىب؟"‬

‫"إلى دار الحاج القديمة‪ .‬أريد أف نكوف ىناؾ قبؿ مباشرة‬


‫العماؿ عمميـ‪ .‬لـ أخبر أحداً غيرؾ‪ .‬أردتؾ وحدؾ معي‪ ..‬فيؿ‬
‫تأتيف؟"‬

‫"وىؿ يساورؾ أي شؾ بما أريد يا غياث؟"‬

‫عمي بسؤاؿ‪ ..‬اتفقنا إذف؟"‬


‫ضحؾ برقة‪" ،‬ىا أنت ترديف ّ‬
‫"اتفقنا‪ ".‬صمتت رابية وأحست بالشوؽ إليو يتصاعد مع‬
‫تصاعد نبضيا‪ .‬ىمست‪" ،‬غياث‪ ،‬أال تأتي اآلف لسماع الموسيقى؟"‬

‫رد محذ اًر‪" ،‬رابية!"‬

‫ضحكت‪" ،‬تصبح عمى خير إذف‪".‬‬

‫"إلى الغد‪".‬‬

‫قبؿ أف يعيد السماعة جاءه صوتيا‪" ،‬غياث‪ ،‬ستشرب قيوتؾ‬


‫عندي؟"‬

‫لـ يدر إف كاف ىذا طمباً أـ رجاء‪" .‬سآتيؾ في الخامسة‬


‫إذف‪ "،‬لـ ترد رابية‪ ،‬بؿ ظؿ صوت الموسيقى يأتيو مف بعيد‪ .‬ىمس‪،‬‬
‫"تصبحيف عمى خير‪".‬‬

‫أعادت رابية السماعة إلى مكانيا واالبتسامة تموح في‬


‫عينييا‪ .‬كبل‪ ،‬لـ تعد العواطؼ التي تحمميا لغياث تؤلميا‪ ،‬بؿ صارت‬
‫تحمؿ معيا الكثير مف السعادة والفرح‪ .‬غياث ىذا‪ ،‬شجرة سدر حنوف‪،‬‬
‫تمنح عطاءىا لمف حوليا وال تطمب لنفسيا شيلاً‪ .‬شجرة مباركة‬
‫تستظؿ بفيليا عمى الوحشة واأللـ‪ ،‬كما تظمؿ شجرة السدر تمؾ سيارتو‬
‫حيف يوقفيا في رأس الزقاؽ‪.‬‬

‫ظؿ بيتيوفف ييدىدىا حتى غمبيا سمطاف النوـ‪ .‬نامت رابية‬


‫تمؾ الميمة في ركنيا‪ ،‬واالبتسامة لـ تزايؿ محياىا‪ .‬قبؿ الخامسة‪،‬‬
‫كانت رابية قد ارتدت ثيابيا انتظا اًر لغياث الذي وصؿ في الخامسة‬
‫تماماً‪ .‬شربا القيوة‪ ،‬وغاد ار بعدما طمبت رابية مف أميا إببلغ الدالرة‬
‫بغيابيا لسبب طارئ‪.‬‬
‫قبؿ أف تصعد إلى سيارة غياث‪ ،‬تذكرت شيلاً فعادت تركض‬
‫إلى الدار‪ .‬تناولت شريط تسجيؿ مف الجياز‪ ،‬وعاودت الصعود إلى‬
‫السيارة‪ .‬بادرىا بالقوؿ‪" ،‬تعيريني دوماً بالنسياف‪ ،‬وىا أنت قد نسيت‪"..‬‬

‫ضحكت ٍ‬
‫بتحد‪" ،‬لـ أنس شيلاً يا غياث بؿ تذكرت‪ ".‬وضعت‬
‫الشريط في مسجؿ السيارة‪ ،‬فانثالت سوناتا بيتيوفف لمبيانو‪ .‬نظرت‬
‫إلى غياث‪" ،‬أنت تنسى ما تريد نسيانو‪ .‬وأنا يا غياث ال أريد نسياف‬
‫أي شيء‪"..‬‬

‫في ذلؾ اليوـ‪ ،‬لـ يسمؾ غياث الطرؽ الفرعية التي اعتاد أف‬
‫يسمكيا‪ ،‬ولـ يتفرج عمى ما حولو‪ ،‬بؿ سمؾ اقصر الطرؽ المؤدية إلى‬
‫المحمة‪ .‬الذت رابية بالصمت‪ ،‬فقطعا المسافة ينصتاف لمموسيقى‪.‬‬

‫أوقؼ غياث سيارتو في الشارع العاـ‪ ،‬عمى مبعدة قميمة مف‬


‫الزقاؽ‪ .‬ىبطا منيا واتجيا إلى دار الحاج‪ .‬الزقاؽ ٍ‬
‫خاؿ إال مف بضعة‬
‫أشخاص يسيروف عمى عجؿ‪ .‬الجانب األيسر حيث يقع المعرض‬
‫والسوؽ‪ ،‬يحجبو سياج معدني عف رؤية المارة‪ .‬الدور المواجية لو قد‬
‫خمت مف ساكنييا‪ .‬ثمة حاجز خشبي يمنع مرور المركبات إلى‬
‫الزقاؽ‪.‬‬

‫وصبل إلى دار الحاج‪ ،‬ودلفا إليو عبر الفتحة الميدمة التي‬
‫كانت إلى ما قبؿ يوميف باباً خشبية عتيقة‪ ،‬يزينيا رأس أسد نحاسي‪،‬‬
‫تتدلى مف فتحتي أنفو خزامة‪ .‬تمؾ الباب واألسد تحوال بأيدي سنا وىند‬
‫إلى باب يمتمع خشبو ونحاسو‪ ،‬ليزيف الدار الجديدة‪.‬‬

‫دار الحاج خاوية‪ .‬نوافذىا تخمو مف الشبابيؾ‪ ،‬ولـ تعد تزيد‬


‫عف فتحات تعبث بيا رياح الخريؼ‪ .‬أرضية الباحة التي كانت تعبؽ‬
‫برالحة الطابوؽ وال ارزقي حيف تغسميا نورية‪ ،‬صارت مغطاة بالتراب‪.‬‬
‫النافورة الوسطية ىاجرت مع أىؿ الدار‪ ،‬وكذلؾ شجيرات ال ارزقي التي‬
‫زرعت مع طيف المحمة القديمة في ارض الصميخ‪ ،‬وتحوؿ موقع‬
‫النافورة وال ارزقي إلى فتحة تفغر فاىا‪ ،‬أشبو بقبر مفتوح‪.‬‬

‫انثالت دموع رابية وىي تتجوؿ بنظرىا بيف الخرالب‪" ،‬مف‬


‫يصدؽ يا غياث أف ىذه الخربة ىي نفسيا الدار التي كانت تعج‬
‫بالحياة حتى يوـ أمس؟ يخيؿ لي كأنيا ميجورة منذ سنيف‪"..‬‬

‫"ذلؾ ما قصده الحاج حيف قاؿ أف الدار تتنفس بأىميا‪،‬‬


‫والمحمة تحيا بأىميا‪"..‬‬

‫وقفت رابية ذاىمة تنظر حوليا‪ .‬سارت في الغرؼ الخالية‪.‬‬


‫دخمت غرفة نوـ نورية‪ .‬أحست كأنيا تسير بيف القبور‪ .‬الصمت‬
‫حوليا‪ ،‬والريح الخريفية تصفعيا مف كؿ جانب‪ .‬في تمؾ المحظات‬
‫تذكرت رابية قص اًر ازرتو في يوـ ما‪ ،‬منذ سنوات‪ .‬قصر في شماؿ‬

‫اسكوتبلندا‪ .‬مبني منذ أكثر مف خمسة قروف‪ .‬ىجره أىمو‪ ،‬وظؿ خاوياً‬
‫ألف أرواحاً شريرة تسكنو‪ .‬حيف سمعت القصة آنذاؾ‪ ،‬ضحكت مف‬
‫مخيمة مف اخترع ىذه الحكاية‪ ،‬وسخرت مف سذاجة مف يصدقيا‪.‬‬

‫واصرت عمى زيارتو‪ .‬صحبيا بعض األصدقاء‪ .‬ركبوا زورقاً بخارياً‬


‫لموصوؿ إليو‪ ،‬فيو يقع في جزيرة متوحدة ال يصؿ إليو أي طريؽ‬
‫بري‪.‬‬

‫أذىميا جماؿ القصر حيف الح بيا وىي ما تزاؿ في عرض‬


‫البحر‪ .‬قمعة مييبة‪ ،‬متوحدة‪ ،‬تطؿ عمى البحر مف مرتفع شاىؽ‪ .‬نزلوا‬
‫في المرسى الذي لـ يستخدمو أحد مف زمف بعيد‪ .‬اجتازوا الطريؽ‬
‫الترابي المغطى بأعشاب برية حتى وصموا القمعة‪ .‬الباب الكبير‬
‫موصد‪ ،‬والنوافذ تخمو مف الشبابيؾ‪ .‬دخموا عبر فتحة واحد منيا‪.‬‬
‫األتربة وخيوط العنكبوت تغطي كؿ شيء‪ .‬ظمت تسير مأخوذة بما‬
‫ترى حتى وقفت في وسط الصالة الرليسية ذات السقؼ العالي‪ .‬فجأة‬
‫احست بالرعشة تسري في بدنيا‪ .‬ىؿ ىو الخوؼ‪ ،‬إف كاف ما قيؿ‬
‫عف األشباح صحيح؟ لـ تدر رابية‪.‬‬

‫تذكرت ىذه الحادثة وىي تقؼ في غرفة نورية الميجورة‪.‬‬


‫ومرة أخرى‪ ،‬أحست بالرعشة تسري في بدنيا‪ .‬سمعت صوت غياث‪،‬‬
‫"رابية! رابية أيف أنت؟"‬

‫أزاح صوتو الذكرى واألفكار التي غشيتيا‪" ،‬ىا أنذا!"‬


‫وصعدت السمـ جرياً‪ .‬كاف غياث يقؼ بقامتو المديدة أماـ النافذة‪،‬‬
‫وظيره إلى باب المرصد حيث كانت أريكة نورية‪ .‬ضوء الشمس‬
‫الخريفية ينعكس عمى شعره األشيب‪ ،‬ويحيمو إلى لوف فضي براؽ‪.‬‬
‫اصابعو الناحمة تعرؼ طريقيا بيف خصبلت الفضة‪ .‬الظؿ والضوء‬
‫جعبل مف غياث طيفاً يتكئ عمى إطار النافذة‪ .‬رمح مديد ال ينحني‪،‬‬
‫بؿ يقؼ مالبلً‪ .‬رمح محارب أرىقو القتاؿ‪ ،‬فتوقؼ ليمتقط أنفاسو كي‬
‫يعاود الكر مف جديد‪ .‬ىؿ أدرؾ غياث التعب‪ ،‬أـ ىذا اليدـ يضنيو؟‬

‫توقفت برىة لتمتقط أنفاسيا‪ ،‬أو ربما لتتفرج عميو‪ .‬ثـ تقدمت‬
‫بخطوات مترددة‪ .‬وقفت إلى جواره‪ .‬شبحاف مف الماضي؟ أـ تخطيط‬
‫لصورة مستقبؿ قد يكوف؟ أماميما السياج المؤقت الذي يسجف األبنية‬
‫وراءه‪ .‬ويسجف شجرة السدر‪" .‬أال يذكرؾ ىذا السياج بالخرقة السوداء‬
‫التي تغطي عيوف المحكوميف باإلعداـ‪ ،‬لحظة إعداميـ؟"‬

‫"رابية‪ ،‬ال تبالغي‪ .‬يعرؼ كبلنا أف ما يجري اليوـ ضروري‬


‫لحياة المدينة وأىؿ المدينة‪"..‬‬

‫قاطعتو بصوت مضمخ بالدمع‪" ،‬وشجرة السدر يا غياث؟ كـ‬


‫مف األطفاؿ والفتية أكؿ مف ثمرىا‪ ،‬ونقش اسمو عمى جذعيا‪ ،‬مثمما‬
‫فعمت أنت زياد‪ ،‬ليظؿ االسـ خالداً مع خمودىا؟ كـ تحمؿ حجارة ىذه‬
‫األبنية مف ذكريات وأحداث؟ كـ مف األنفاس مرت عمييا؟" شرقت‬
‫بالدمع‪ ،‬وواصمت‪" ،‬كـ مف البشر ولد بيف ظيرانييا‪ ،‬وكـ مات تحت‬
‫سقوفيا؟"‬

‫لـ تسترسؿ رابية في أفكارىا‪ ،‬إذ تقدمت آلة ذات أذرع‬


‫دوت الضربة وانيار جزء مف‬ ‫عمبلقة‪ ،‬وضربت واجية المعرض‪ّ .‬‬
‫الجدار‪ .‬تصاعد الغبار وغطى المحمة‪ ،‬وأحست رابية باالختناؽ‪ ،‬ربما‬
‫مف الغبار المتصاعد‪ ،‬وربما مف الدموع التي خنقتيا‪.‬‬

‫تقدمت آلة عمبلقة أخرى مف شجرة السدر فضربتيا‪ .‬ضربتيا‬


‫قريباً مف األرض‪ .‬اىتزت أغصانيا‪ ،‬فتطايرت العصافير التي‬
‫تستوطف عيوف السدر‪ .‬تطايرت في كؿ االتجاىات مذعورة‪..‬‬
‫تساقطت أعشاش متناثرة عمى األرض‪ .‬تراجعت اآللة ثـ عاودت‬
‫اليجوـ عمى السدرة‪ .‬داست بأقداميا الفوالذية عمى األعشاش واوراؽ‬
‫السدر‪ .‬ضربة أخرى‪ .‬اىتزت األغصاف‪ ،‬وما تزحزح الجذع بعد‪،‬‬
‫فجذوره ما تزاؿ فييا بقية مف المقاومة‪.‬‬

‫ضربة عمى جدار المعرض‪ .‬وانيار جزء آخر منو‪ .‬في تمؾ‬
‫القاعة وقؼ ىاني مسعود مرحباً بزوار معرضو وىو يبتسـ‪ .‬ىناؾ‬
‫كاف ثمة لوحة‪..‬‬

‫ضربة أخرى أخرجت جذور السدر بما تحممو مف طيف ما‬


‫يزاؿ ندياً‪ .‬ماؿ الجذع العظيـ بما يحمؿ مف اسماء نقشت عميو‪.‬‬
‫اتكأت األغصاف عمى الجدار الخمفي لممعرض‪ .‬ىؿ تقدر أحجاره‬
‫عمى حماية شجرة السدر مف السقوط الذي ينتظرىا؟ أـ يتشبث‬
‫الغصف بالحجر‪ ،‬فيموتاف معاً؟ ىؿ ىناؾ مف يموت مع اآلخر‪ ،‬أـ‬
‫ك ٌؿ يموت وحيداً؟‬

‫ضربة أخرى‪ ،‬انيارت بعدىا الواجية األمامية كميا‪ .‬تطايرت‬


‫حجارتيا‪ .‬وفتحت الصالة الكبرى ذراعييا عمى سعتيما لتستقبؿ‬
‫الشمس والريح‪ .‬لـ تعد بحاجة لؤلبواب والنوافذ‪ ،‬لـ يعد وداعيا‬
‫لمشمس سرياً‪ ،‬فيو الوداع األخير‪.‬‬

‫لـ تخجؿ رابية مف دموعيا وشيقاتيا المتبلحقة‪" .‬ىؿ تذكريف‬


‫أوؿ لقاء بيننا؟ كنت تقفيف وراءنا في وسط ىذه القاعة‪ .‬كنا مجموعة‬
‫ىزتنا (ال) مدوية‪ .‬كانت تمؾ أوؿ (ال) أسمعيا منؾ‪ ".‬نظر بمؿء‬
‫عينيو إلى وجييا المغطى بالدمع‪" ،‬بؿ أف أوؿ كممة سمعتيا منؾ‬
‫كانت (ال)‪ .‬ىؿ تذكريف؟"‬

‫أومأت برأسيا‪ ،‬وعجزت أوتارىا الصوتية عف الرد‪ .‬كـ مر‬


‫عمى ىذه الذكرى؟ وما أكثر ما تغير منذ ذلؾ الحيف؟‬

‫ظؿ الفوالذ يضرب حجارة المبنى‪.‬‬

‫وظؿ الفوالذ يضرب شجرة السدر‪.‬‬

‫ما يزاؿ المعرض شامخاً‪ ،‬يقاوـ الموت حتى المحظة األخيرة‪.‬‬


‫متى تجيء المحظة األخيرة؟‬

‫شجرة السدر تمقت الضربة األخيرة‪ ،‬فتمددت بعدما انتيت‬


‫مقاومتيا لمموت الحتمي‪ .‬سقطت ارضاً وأسقطت معيا الجزء الخمفي‬
‫مف مبنى المعرض‪ ،‬فكانت عوناً لمموت عميو‪ .‬اختمطت حجارتو‬
‫بأوراؽ السدر المباركة‪ ،‬وتكفنت بيا‪.‬‬

‫مسحت رابية دموعيا‪ ،‬وقالت بيأس‪" ،‬ال شيء يقؼ بوجو‬


‫الحياة والتجدد‪ .‬البد مف الموت‪ ..‬مف الموت تبدأ الحياة‪".‬‬

‫"رابية‪ ،‬الموت والحياة يتكامبلف‪ ".‬نظر إلييا‪ .‬لـ ترفع رأسيا‪،‬‬


‫ولـ تنظر إليو‪ ،‬بؿ ظمت تنظر إلى الفراغ الذي يولد مف إلغاء ما‬
‫قبمو‪ ..‬الى الفراغ حيث كانت شجرة السدر والمعرض‪.‬‬
‫صوتيا مميء باليأس‪" ،‬تمؾ بدييية عرفيا اإلنساف مذ وجد يا‬
‫غياث‪ "..‬ظمت تحدؽ في الفراغ الذي يكبر في كؿ لحظة‪" ،‬ال شيء‬
‫يبقى عمى حالو‪ .‬ليس ثمة خمود‪ ..‬ومع ىذا‪"..‬‬

‫"ومع ىذا‪ ،‬يظؿ اإلنساف يقاوـ فكرة الموت ويرنو لمخمود‪،‬‬


‫فيشيد الصروح‪ ،‬لعميا تبقى بعده‪ ،‬فتخمد ذكره‪"..‬‬

‫"حتى الصروح يا غياث‪ ،‬تزوؿ حيف تنتيي حياتيا‪ ،‬لكي‬


‫تفسح المجاؿ أماـ إبداع جديد‪"..‬‬

‫تعالى المزيد مف الغبار‪ ،‬وتحولت األبنية إلى جماجـ عمبلقة‬


‫كشفت عرييا أماـ الشمس‪ .‬الفوالذ يضرب الحجر‪ .‬فتتعالى األتربة‬
‫والغبار لتشكؿ ستا اًر يحجب قرص الشمس‪ .‬اختنقت رابية بنوبة‬
‫سعاؿ‪ .‬مد غياث ذراعو فأحاط كتفييا‪" ،‬أتريديف أف نغادر؟"‬

‫احتجت‪" ،‬كبل‪ ،‬ارجوؾ يا غياث‪ "..‬رفعت عينييا إليو‪" ،‬أتبكي‬


‫يا غياث؟"‬

‫مدت يدىا ومسحت دموعو العزيزة بأنامميا‪" ،‬في النياية‪،‬‬


‫لست إال بش اًر يا رابية‪"..‬‬

‫لثمت دموعو مف عمى أنامميا‪" ،‬والبشر يبكي ويضحؾ‪"..‬‬

‫وقفا طيمة النيار‪ .‬لـ يقوال إال القميؿ‪ ،‬القميؿ‪ ..‬فما ىما في‬
‫النياية إال ابتسامة تسببيا دمعتاف‪ .‬مثؿ جزلي الدالرة‪ ،‬يكمؿ أحدىما‬
‫اآلخر‪ .‬وكؿ منيما يميؿ لمسقوط‪ ،‬ويسند أحدىما اآلخر فيمنع‬
‫سقوطو‪.‬‬

‫كؿ منيما يمنح مف ضعفة قوةً لآلخر‪ .‬قوة تتصاعد مف‬


‫األرض وتنحني لمسماء‪ ،‬لكي تعود إلى األرض مف جديد‪.‬‬
‫مثؿ نغمة موسيقية‪..‬‬

‫مثؿ بيت شعر‪..‬‬

‫مثؿ قوس مبني‪..‬‬

‫يتكامبلف‪ ..‬لو!‬

You might also like