Professional Documents
Culture Documents
العشق النجمي
العشق النجمي
العشق النجمي
لئن كنت أيها القارئ ممن وقاهم هللا غائلة العشق ،ولم تنفجر في
صدورهم قنابل الغرام ،ولم تضع المقادير قلوبهم بين سندان الشقاء
ومطرقة البالء ،إذن فأحمد هللا ،واشكرجدك الباسم!
لكن إذا كنت خليا ً فاذكر الشجي ،وال تمنعك السعادة من أن ترثي للشقاء؛
فأن لصرعى الغرام عليك حقا ،أن تذرف من أجلهم لتراً أو لترين من الدمع
الساخن ،ثم تسقي به ثراهم وتروي به الطلحة الحزينة التي تظل جدثهم.
وأني محدثك اليوم عن ضرب جديد من العشق ،أو على األقل ضرب كنت
أحسبه جديداً . .إلى أن ألفيته قديماً ،شأن كل األشياء التي يطلع علينا بها
المجددون. .
بيد أن العشق الذي نحن بصدده ،إن لم يكن جديداً ،فقد استحدثنا له اسمأ ً
جديداً .ودعوناه (العشق النجمي) . .وهو كما ترى
أسم طريف؛ ليس في الكتاب من سبقنا إليه . . .وال خير في كاتب ال ينهض
للجليل من األمور فيبتدع لها الجديد من األمور فيبتدع لها الجديد من
األسماء.
وأول من أصيب بالعشق النجمي فيما نعلم؛ أو على األقل أول من سجلت
أصابته رسمياً ،هو العباس بن األحنف إذ يقول عن حبيبته:
هي الشمس مسكنها في السماء ...فعز الفؤاد عزاء جميال
فلن تستطيع إليها الصعود ...ولن تستطيع إليك النزوال
هكذا كان ذلك العشق المسكين :يطلب ما ليس إليه سبيل ،ويظمأ والشراب
عزيز ،ويشتهي وقصارى جهده أن يشتهي.
ولعمرك مادام مناط حبه الشمس ،فليس حظه منها سوى التطلع والتحديق،
والزفير والشهيق . .هل كان يعلم عفا هللا عنه! أن بينه وبين الشمس ، 29
000 ، 000ميال في الصيف و 000 ، 000 ، 29ميال في الشتاء؟ وهي
في كال الحالين بعيدة المنال ،ليس إليها في شتاء وال صيف وصول.
ومن العبث أن ننصح أمثاله من العشاق أو نعذلهم ،أو نطلب إليهم أن
يصرفوا هواهم إلى الممكن المتيسر ،والقريب الداني .وان يراعوا صحتهم،
فأن في طلب المحال سقما ً وسهداً وإن التحديق في الشمس يضني القلب كما
يضني البصر . .ولكن هيهات. . .
إن المحب عن العذال دائما ً في صمم.
وأحسب القارئ قد أخذ اآلنيفهم ما أعنيه بالعشق النجمي .وأظنه يتوهم أن
العشق النجمي هو عشق الشيء البعيد المنال . .لكن هذا ليس الذي أرمي
إليه .إن العشق النجمي هو عشق النجوم نفسها . .أجل النجوم التي في
السماء على طريقة العباس بن األحنف المذكور .ورويداً يظهر لك ما
أظمره ،شيئا ً فشيئا ً.
هنالك أمراض تصيب الناس من آن آلن .لكنها تصيبهم فرادى .أي تصيب
هذا مرة ،وذاك مرة أخرى .ثم يأتي بعد ذلك زمان تصبح فيه تلك األمراض
وباء يجتاح العالم كله إقليما ً بعد اقليم ،وشعب بعد شعب.
وهكذا (العشق النجمي) كان فيما مضى يصيب الناس فرادى ،فأمسى اآلن
وباء شائعا ً فاشياً ،قد مأل السهل والجبل وانتشر في المشرق والمغرب.
وسبب ذلك أن قد ظهرت في العالم سماء جديدة تدعى (السينما) وقد امتألت
أرجاؤها بالنجوم.
والعشق الذي تتأجج ناره في قلوب المغرمين ببعض هذه النجوم ال يختلف،
في كثير وال قليل ،عن ذلك الهوى المبرح الذي وصفه لنا العباس بن
األحنف .وقد يظن بعض البسطاء أن نجوم السينما أدنى إلينا وأقرب مناال،
إذ نراها أمامنا ونشاهدها بأعيننا .وهذا لعمرك خطأ محض! فإنها قريبة
على بعد ،بعيدة على قرب.
والشرق نحو الغرب أقرب شقة ...من بعد تلك الخمسة األمتار. . .
واآلن قد أدركت أيها القارئ ما (العشق النجمي) وأنه هو تلك اللوعة التي
تحرق قلوب الناس في مشارق األرض ومغاربها ومن أجل بعض النجوم
التي تدور في أفالك تدعى (األفالم) في سماء يسمونها (الشاشة) البيضاء.
فالعشق النجمي أذن منسوب إلى نجوم السينما ،وباهلل ال تقل كواكب
السينما! ألن الكواكب في علم الهيئة قريبة المنال دانية المزار ومن علمائنا
اليوم من يحلم بالوصول إلى بعض الكواكب كالمريخ ،أما النجوم فبعيدة بعد
الشيء المستحيل وكذلك العشق النجمي فأن مرامه بعيد ،ومأربه محال.
وأكبر ما يمتاز به هذا العشق أنه عذري . .فأنك قد تولع بنجمة فتانة من
نجوم هوليود ،فيمتلئ بحبها قلبك ،وتملك عليك مشاعرك ،فال ترى في
األرض الفسيحة غير وجهها ،وال تسمع غير صوتها .هي حلمك إذا هجعت،
ونجواك إذا صحوت .إن أبصرتها في قصة حزينة استولى عليك الحزن
واأللم .وإن أصابها برد أو زكام أصابك مثلها سعال وزكام .وإن رأيتها ويا
للهول! ،صريعة قتيلة ،قطع الحزن نياط قلبك ،وأظلم العالم في وجهك ،فال
تزال كئيبا ً أسيفاً ،جاحظ العين متقلص الشفتين ،حتى تراها في فلم آخر
فرحة ضحكة؛ فيسري عنك؛ وتبرق أسارير محياك .وتضحك حتى تبدو
نواجذك. .
ومن الغريب انك ال تأخذك الغيرة حين ترى عشاقها الكثيرين ،وال تستنكر
منها أن تبدل في كل فيلم زوجا ً مكان زوج أو صاحبا ً مكان آخر .ال يهمك من
هذا كله شيء ألنك ال تفكر في سعادتها ،فكل ما ترضاه ترضاه .ويحلو في
عينك ما يحلو في عينها .بل لقد ألهاك التفكير فيها عن التفكير في شيء
آخر. . .
ثم أنت بعد كل هذا ال ترجو نواال وال وصاال ،تعلم أنها بعيدة عنك بعد النجم.
قربها منك الفلم .وقد رضت النفس على هذا البعد الممزوج بالقرب، وإن ّ
وهذا النوال المنطوي على الحرمان .وهذا الوصل الذي هو أدنى إلى القلي
والهجران.
فال تريد على حبك جزاء وال لدائك دواء .ذلك أن هواك عذري أفالطوني
بريء .فال تريد لنارك المتأججة أن تطفأ ،وال لغليك المستعر أن يشفى .حب
هو الغاية والوسيلة ،نار تأبى إال اضطراما ً ودمع يأبى إال انسجاماً ،وتنور
يريد أن يفور ،وكان يحلو له أن يثور .من غير مأرب تنشده ،أو أمل تريد
تحقيقه ،أو غاية تبغي الوصول إليها . .بل إن الحب هو الشغل الشاغل عن
كل أمل أو مأرب أو مرام. .
تلك إذن هي الظاهرة األولى للعشق النجمي :انه هوى عذري طاهر عفيف
نظيف .أما الظاهرة الثانية لذلك العشق .فهي انه يصيبك من بعيد . .وقديما ً
وصف لنا الشريف الرضي هذه الظاهرة فقال يخاطب نجمته!:
سهم أصاب وراميه بذي سلم ...من بالعراق . . .لقد أبعدت مرماك!. . .
ذو سلم هذا مكان في جوار المدينة المنورة ،يكثر الشعراء من ذكره حين
ينسبون .ولو كان لديك أيها القارئ مصور جغرافي ألمكنك أن تقيس
المسافة بين العراق وذي سلم ،ولعلمت أنها ال تتجاوز سبعمائة من األميال.
ومع ذلك يندهش
الشريف الرضي الن سهم الحب قد أصابه من ذي سلم والشاعر في العراق.
لكن تلك المسافة ال تعد شيئا ً إذا قورنت إلى البعد الهائل الذي يفصل ما بين
هوليود وبين وادي النيل السعيد . .وأن النجمة الفاتنة لترمي بسهمها من
تلك األقطار القاصية ،.فال يلبث أن يصيب صميم الفؤاد ،ويفتت األكباد ،في
شرق العالم وغربه .ال تحول دونه بحار وال قفار. . .
وفي الحب العادي قد يكون البعد من أسباب السلو ،والبعيد عن العين بعيد
عن القلب في زعم الناس .لكن البعد بين المحب والمحبوبة شرط أساسي
في هذا الصنف من الغرام .بل إني زعيم بأن عاشق النجمة لو رآها على
قارعة الطريق ،وهي تبتاع شيئا ً من الحلوى ،أو داخلة إلى دكان الحالق. .
لرأى شيئا ً كسائر األشياء وامرأة كسائر النساء ،ولما حدثته نفسه بأن قد
يصيبه من مثل هذه قنبلة غرام . .بل وال سهم ضئيل. .
كال إنما يلعب حب النجوم باألرواح عن بعد .ومن مستلزماته تلك الحجرات
المظلمة القاتمة ،تبعث في النفس رهبة ،وتثير فيه شغفا ً ورغبة .وهذه
األنوار الساحرة تنبعث من مكان خفي ،وتسطع على لوح فضي :ظالم
يتوسط النور ،ونور يحيط به الظالم .وحسبك تلك الحال السحرية باعثة
على الشجن ،ومثيرة لمكامن الجنون.
وهكذا تستطيع النجمة ،وهي على سواحل المحيط الهادي أن ترسل أشعتها
إلى أطراف العالم ،وتنشر شباكها في جميع األقطار.
هذا وللعشق النجمي خصائص أخرى ،ولكننا ضربنا عن ذكرها صفحا ،ألنها
تعد في المرتبة الثانية من األهمية ،وحسبنا ما ذكرناه وصفا ألعراض ذلك
المرض . .أستغفر هللا بل تلك العاطفة القاهرة ،التي استرقت قلوب الناس
من شباب وكهول ،وصفدتهم بسالسلها وأغاللها .وقد أسلموها قيادهم
طائعين خاضعين. .
لقد تحسب أيها القارئ أن فيما ذكرناه غلوا أو أن نصيب الخيال فيه أكثر
من نصيب الحقيقة . .وفي الحق أننا ما كنا نعلم أن لهذا الشيء وجوداً أو
أن شره قد استفحل .وخطره قد أشتد إلى هذا الحد ،لوال أن صديقنا العزيز
(رشاد) قد أصابه ذلكالسهم ،فأحزننا مصابه .ولقد تتاح لنا قريبا ً فرصة
أخرى فنحدث القارئ بحديث ذلك الصديق وإن كان حديثا ً أليما ً.