You are on page 1of 5

‫للدكتور محمد عوض محمد‬

‫العشق النجمي‬

‫لئن كنت أيها القارئ ممن وقاهم هللا غائلة العشق‪ ،‬ولم تنفجر في‬
‫صدورهم قنابل الغرام‪ ،‬ولم تضع المقادير قلوبهم بين سندان الشقاء‬
‫ومطرقة البالء‪ ،‬إذن فأحمد هللا‪ ،‬واشكرجدك الباسم!‬
‫لكن إذا كنت خليا ً فاذكر الشجي‪ ،‬وال تمنعك السعادة من أن ترثي للشقاء؛‬
‫فأن لصرعى الغرام عليك حقا‪ ،‬أن تذرف من أجلهم لتراً أو لترين من الدمع‬
‫الساخن‪ ،‬ثم تسقي به ثراهم وتروي به الطلحة الحزينة التي تظل جدثهم‪.‬‬
‫وأني محدثك اليوم عن ضرب جديد من العشق‪ ،‬أو على األقل ضرب كنت‬
‫أحسبه جديداً‪ . .‬إلى أن ألفيته قديماً‪ ،‬شأن كل األشياء التي يطلع علينا بها‬
‫المجددون‪. .‬‬
‫بيد أن العشق الذي نحن بصدده‪ ،‬إن لم يكن جديداً‪ ،‬فقد استحدثنا له اسمأ ً‬
‫جديداً‪ .‬ودعوناه (العشق النجمي)‪ . .‬وهو كما ترى‬
‫أسم طريف؛ ليس في الكتاب من سبقنا إليه‪ . . .‬وال خير في كاتب ال ينهض‬
‫للجليل من األمور فيبتدع لها الجديد من األمور فيبتدع لها الجديد من‬
‫األسماء‪.‬‬
‫وأول من أصيب بالعشق النجمي فيما نعلم؛ أو على األقل أول من سجلت‬
‫أصابته رسمياً‪ ،‬هو العباس بن األحنف إذ يقول عن حبيبته‪:‬‬
‫هي الشمس مسكنها في السماء ‪ ...‬فعز الفؤاد عزاء جميال‬
‫فلن تستطيع إليها الصعود ‪ ...‬ولن تستطيع إليك النزوال‬
‫هكذا كان ذلك العشق المسكين‪ :‬يطلب ما ليس إليه سبيل‪ ،‬ويظمأ والشراب‬
‫عزيز‪ ،‬ويشتهي وقصارى جهده أن يشتهي‪.‬‬
‫ولعمرك مادام مناط حبه الشمس‪ ،‬فليس حظه منها سوى التطلع والتحديق‪،‬‬
‫والزفير والشهيق‪ . .‬هل كان يعلم عفا هللا عنه! أن بينه وبين الشمس ‪، 29‬‬
‫‪ 000 ، 000‬ميال في الصيف و ‪ 000 ، 000 ، 29‬ميال في الشتاء؟ وهي‬
‫في كال الحالين بعيدة المنال‪ ،‬ليس إليها في شتاء وال صيف وصول‪.‬‬
‫ومن العبث أن ننصح أمثاله من العشاق أو نعذلهم‪ ،‬أو نطلب إليهم أن‬
‫يصرفوا هواهم إلى الممكن المتيسر‪ ،‬والقريب الداني‪ .‬وان يراعوا صحتهم‪،‬‬
‫فأن في طلب المحال سقما ً وسهداً وإن التحديق في الشمس يضني القلب كما‬
‫يضني البصر‪ . .‬ولكن هيهات‪. . .‬‬
‫إن المحب عن العذال دائما ً في صمم‪.‬‬
‫وأحسب القارئ قد أخذ اآلنيفهم ما أعنيه بالعشق النجمي‪ .‬وأظنه يتوهم أن‬
‫العشق النجمي هو عشق الشيء البعيد المنال‪ . .‬لكن هذا ليس الذي أرمي‬
‫إليه‪ .‬إن العشق النجمي هو عشق النجوم نفسها‪ . .‬أجل النجوم التي في‬
‫السماء على طريقة العباس بن األحنف المذكور‪ .‬ورويداً يظهر لك ما‬
‫أظمره‪ ،‬شيئا ً فشيئا ً‪.‬‬
‫هنالك أمراض تصيب الناس من آن آلن‪ .‬لكنها تصيبهم فرادى‪ .‬أي تصيب‬
‫هذا مرة‪ ،‬وذاك مرة أخرى‪ .‬ثم يأتي بعد ذلك زمان تصبح فيه تلك األمراض‬
‫وباء يجتاح العالم كله إقليما ً بعد اقليم‪ ،‬وشعب بعد شعب‪.‬‬
‫وهكذا (العشق النجمي) كان فيما مضى يصيب الناس فرادى‪ ،‬فأمسى اآلن‬
‫وباء شائعا ً فاشياً‪ ،‬قد مأل السهل والجبل وانتشر في المشرق والمغرب‪.‬‬
‫وسبب ذلك أن قد ظهرت في العالم سماء جديدة تدعى (السينما) وقد امتألت‬
‫أرجاؤها بالنجوم‪.‬‬
‫والعشق الذي تتأجج ناره في قلوب المغرمين ببعض هذه النجوم ال يختلف‪،‬‬
‫في كثير وال قليل‪ ،‬عن ذلك الهوى المبرح الذي وصفه لنا العباس بن‬
‫األحنف‪ .‬وقد يظن بعض البسطاء أن نجوم السينما أدنى إلينا وأقرب مناال‪،‬‬
‫إذ نراها أمامنا ونشاهدها بأعيننا‪ .‬وهذا لعمرك خطأ محض! فإنها قريبة‬
‫على بعد‪ ،‬بعيدة على قرب‪.‬‬
‫والشرق نحو الغرب أقرب شقة ‪ ...‬من بعد تلك الخمسة األمتار‪. . .‬‬
‫واآلن قد أدركت أيها القارئ ما (العشق النجمي) وأنه هو تلك اللوعة التي‬
‫تحرق قلوب الناس في مشارق األرض ومغاربها ومن أجل بعض النجوم‬
‫التي تدور في أفالك تدعى (األفالم) في سماء يسمونها (الشاشة) البيضاء‪.‬‬
‫فالعشق النجمي أذن منسوب إلى نجوم السينما‪ ،‬وباهلل ال تقل كواكب‬
‫السينما! ألن الكواكب في علم الهيئة قريبة المنال دانية المزار ومن علمائنا‬
‫اليوم من يحلم بالوصول إلى بعض الكواكب كالمريخ‪ ،‬أما النجوم فبعيدة بعد‬
‫الشيء المستحيل وكذلك العشق النجمي فأن مرامه بعيد‪ ،‬ومأربه محال‪.‬‬
‫وأكبر ما يمتاز به هذا العشق أنه عذري‪ . .‬فأنك قد تولع بنجمة فتانة من‬
‫نجوم هوليود‪ ،‬فيمتلئ بحبها قلبك‪ ،‬وتملك عليك مشاعرك‪ ،‬فال ترى في‬
‫األرض الفسيحة غير وجهها‪ ،‬وال تسمع غير صوتها‪ .‬هي حلمك إذا هجعت‪،‬‬
‫ونجواك إذا صحوت‪ .‬إن أبصرتها في قصة حزينة استولى عليك الحزن‬
‫واأللم‪ .‬وإن أصابها برد أو زكام أصابك مثلها سعال وزكام‪ .‬وإن رأيتها ويا‬
‫للهول!‪ ،‬صريعة قتيلة‪ ،‬قطع الحزن نياط قلبك‪ ،‬وأظلم العالم في وجهك‪ ،‬فال‬
‫تزال كئيبا ً أسيفاً‪ ،‬جاحظ العين متقلص الشفتين‪ ،‬حتى تراها في فلم آخر‬
‫فرحة ضحكة؛ فيسري عنك؛ وتبرق أسارير محياك‪ .‬وتضحك حتى تبدو‬
‫نواجذك‪. .‬‬
‫ومن الغريب انك ال تأخذك الغيرة حين ترى عشاقها الكثيرين‪ ،‬وال تستنكر‬
‫منها أن تبدل في كل فيلم زوجا ً مكان زوج أو صاحبا ً مكان آخر‪ .‬ال يهمك من‬
‫هذا كله شيء ألنك ال تفكر في سعادتها‪ ،‬فكل ما ترضاه ترضاه‪ .‬ويحلو في‬
‫عينك ما يحلو في عينها‪ .‬بل لقد ألهاك التفكير فيها عن التفكير في شيء‬
‫آخر‪. . .‬‬
‫ثم أنت بعد كل هذا ال ترجو نواال وال وصاال‪ ،‬تعلم أنها بعيدة عنك بعد النجم‪.‬‬
‫قربها منك الفلم‪ .‬وقد رضت النفس على هذا البعد الممزوج بالقرب‪،‬‬ ‫وإن ّ‬
‫وهذا النوال المنطوي على الحرمان‪ .‬وهذا الوصل الذي هو أدنى إلى القلي‬
‫والهجران‪.‬‬
‫فال تريد على حبك جزاء وال لدائك دواء‪ .‬ذلك أن هواك عذري أفالطوني‬
‫بريء‪ .‬فال تريد لنارك المتأججة أن تطفأ‪ ،‬وال لغليك المستعر أن يشفى‪ .‬حب‬
‫هو الغاية والوسيلة‪ ،‬نار تأبى إال اضطراما ً ودمع يأبى إال انسجاماً‪ ،‬وتنور‬
‫يريد أن يفور‪ ،‬وكان يحلو له أن يثور‪ .‬من غير مأرب تنشده‪ ،‬أو أمل تريد‬
‫تحقيقه‪ ،‬أو غاية تبغي الوصول إليها‪ . .‬بل إن الحب هو الشغل الشاغل عن‬
‫كل أمل أو مأرب أو مرام‪. .‬‬
‫تلك إذن هي الظاهرة األولى للعشق النجمي‪ :‬انه هوى عذري طاهر عفيف‬
‫نظيف‪ .‬أما الظاهرة الثانية لذلك العشق‪ .‬فهي انه يصيبك من بعيد‪ . .‬وقديما ً‬
‫وصف لنا الشريف الرضي هذه الظاهرة فقال يخاطب نجمته!‪:‬‬
‫سهم أصاب وراميه بذي سلم ‪ ...‬من بالعراق‪ . . .‬لقد أبعدت مرماك!‪. . .‬‬
‫ذو سلم هذا مكان في جوار المدينة المنورة‪ ،‬يكثر الشعراء من ذكره حين‬
‫ينسبون‪ .‬ولو كان لديك أيها القارئ مصور جغرافي ألمكنك أن تقيس‬
‫المسافة بين العراق وذي سلم‪ ،‬ولعلمت أنها ال تتجاوز سبعمائة من األميال‪.‬‬
‫ومع ذلك يندهش‬
‫الشريف الرضي الن سهم الحب قد أصابه من ذي سلم والشاعر في العراق‪.‬‬
‫لكن تلك المسافة ال تعد شيئا ً إذا قورنت إلى البعد الهائل الذي يفصل ما بين‬
‫هوليود وبين وادي النيل السعيد‪ . .‬وأن النجمة الفاتنة لترمي بسهمها من‬
‫تلك األقطار القاصية‪ ،.‬فال يلبث أن يصيب صميم الفؤاد‪ ،‬ويفتت األكباد‪ ،‬في‬
‫شرق العالم وغربه‪ .‬ال تحول دونه بحار وال قفار‪. . .‬‬
‫وفي الحب العادي قد يكون البعد من أسباب السلو‪ ،‬والبعيد عن العين بعيد‬
‫عن القلب في زعم الناس‪ .‬لكن البعد بين المحب والمحبوبة شرط أساسي‬
‫في هذا الصنف من الغرام‪ .‬بل إني زعيم بأن عاشق النجمة لو رآها على‬
‫قارعة الطريق‪ ،‬وهي تبتاع شيئا ً من الحلوى‪ ،‬أو داخلة إلى دكان الحالق‪. .‬‬
‫لرأى شيئا ً كسائر األشياء وامرأة كسائر النساء‪ ،‬ولما حدثته نفسه بأن قد‬
‫يصيبه من مثل هذه قنبلة غرام‪ . .‬بل وال سهم ضئيل‪. .‬‬
‫كال إنما يلعب حب النجوم باألرواح عن بعد‪ .‬ومن مستلزماته تلك الحجرات‬
‫المظلمة القاتمة‪ ،‬تبعث في النفس رهبة‪ ،‬وتثير فيه شغفا ً ورغبة‪ .‬وهذه‬
‫األنوار الساحرة تنبعث من مكان خفي‪ ،‬وتسطع على لوح فضي‪ :‬ظالم‬
‫يتوسط النور‪ ،‬ونور يحيط به الظالم‪ .‬وحسبك تلك الحال السحرية باعثة‬
‫على الشجن‪ ،‬ومثيرة لمكامن الجنون‪.‬‬
‫وهكذا تستطيع النجمة‪ ،‬وهي على سواحل المحيط الهادي أن ترسل أشعتها‬
‫إلى أطراف العالم‪ ،‬وتنشر شباكها في جميع األقطار‪.‬‬
‫هذا وللعشق النجمي خصائص أخرى‪ ،‬ولكننا ضربنا عن ذكرها صفحا‪ ،‬ألنها‬
‫تعد في المرتبة الثانية من األهمية‪ ،‬وحسبنا ما ذكرناه وصفا ألعراض ذلك‬
‫المرض‪ . .‬أستغفر هللا بل تلك العاطفة القاهرة‪ ،‬التي استرقت قلوب الناس‬
‫من شباب وكهول‪ ،‬وصفدتهم بسالسلها وأغاللها‪ .‬وقد أسلموها قيادهم‬
‫طائعين خاضعين‪. .‬‬
‫لقد تحسب أيها القارئ أن فيما ذكرناه غلوا أو أن نصيب الخيال فيه أكثر‬
‫من نصيب الحقيقة‪ . .‬وفي الحق أننا ما كنا نعلم أن لهذا الشيء وجوداً أو‬
‫أن شره قد استفحل‪ .‬وخطره قد أشتد إلى هذا الحد‪ ،‬لوال أن صديقنا العزيز‬
‫(رشاد) قد أصابه ذلكالسهم‪ ،‬فأحزننا مصابه‪ .‬ولقد تتاح لنا قريبا ً فرصة‬
‫أخرى فنحدث القارئ بحديث ذلك الصديق وإن كان حديثا ً أليما ً‪.‬‬

You might also like