You are on page 1of 6

‫صيَّا ُد وال ِّشبْل‬

‫ال َّ‬

‫َّطها َن ْه ٌر ٍ‬
‫جار َملِي ٌء‬ ‫تالل خضرا َء يا ِن َعةٍ‪ ،‬يتوس ُ‬
‫ٍ‬ ‫صيَّا ُد " َعلِيٌّ " يعيشُ في قرية يتكلَّ ُم أهْ لُها األمازي ِغ َّي َة‪ ،‬قرية جميلة تقع على بين‬
‫كان ال َّ‬
‫باألسماكِ ‪ ،‬يصطاد كغيره من أهالي القرية بزورقه الصغير بعض السمك ويذهب به إلى سوق المدينة فيبيعه هناك‪ ،‬فيحصل مور ًدا كافيًا‬
‫جوار ِحهِ‪ ،‬ي َُج ِّدفُ زور َق ُه‬ ‫ناطقة بكل جارح ٍة من‬ ‫ً‬ ‫ِين‪ ،‬كان "علي" رجاًل كبيرً ا في السن‪ ،‬لكنَّ العافِ َي َة كانت‬ ‫له ولزوجته وأمه المجاوزة َّ‬
‫للـثمان َ‬
‫ِ‬
‫ْعين من عمره‪ ،‬لم يُرْ َز ْق "عليٌّ " أبْناء‪ ،‬ومع ذلك فقد كان‬ ‫بقوة قد ال ُت ْلفِيها في شباب العشرين والثالثين‪ ،‬وهو الرجل الذي أشرف على ال َّسب َ‬
‫ُّ‬
‫كثيرا على نعمه‪ ،‬لم يُعْ َرفْ عنه أنه َب ِر َم يومًا من الحِرْ مان من الذرِّ يَّة؛ فهو يع َت ِب ُر أبناء القرية أبناءه‪ ،‬وهم‬ ‫َ‬ ‫راضيًا ب َقدَ ِره‪ ،‬وكان يح َمد هللا‬
‫ضا كانوا ينادونه بالعم "علي‬ ‫‪".‬أي ً‬

‫بمجاهل الجبال والغابة‪َ ،‬يعْ ِرفُ ك َّل صغير ٍة‬


‫ِ‬ ‫منذ صغره َف َحسْ ب‪ ،‬بل كان صيا ًدا خبيرً ا‬ ‫لم يكن "علي" صيادَ أسماك يجوب النهر الذي َخ َب َرهُ ُ‬
‫فخاخ على م ْق ُر َبة من أوكار األرانب وأعشاش الطيور‪ ،‬فكان‬ ‫ٍ‬ ‫فيها وكبيرةٍ‪ ،‬فكان بين الفينة واألخرى يتوغل في األدغال‪ ،‬وي ْنصِ بُ بضْ ع َة‬
‫ُ‬
‫ال يعود من رحلة صيده إال وهو غانم أحد الطيور أو ظاف ٌر بأحد األرانب‪ ،‬يعود بها إلى كوخ صغير فرشت فيه بضعة ُبسُط تقليدية‪،‬‬
‫الز رابيِّ ‪ ،‬لكن أغلبها أتت عليها السنون؛ فبهتت ألوانها‪ ،‬وكادت زخارفها األمازيغية أن‬ ‫صنعتها على النول زوج ُته الماهرة في نسج َّ‬
‫لطحن الحبوب تتولى مهمتها زوجته الخمسينية العاقر‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬تضيع‪َ ،‬رحً ى حجرية تصْ لُ ُح‬

‫حذره‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ومتوخيًا‬ ‫لم تكنْ رحل ُة الصيد سهلة؛ فقد كان الع ُّم "عليٌّ " ي ْق َط ُع ألجلها مسافة طويلة سيرً ا على األقدام‪ ،‬متوغاًل بين األشجار الكثيفة‪،‬‬
‫من األفاعي والعناكب السامة‪ ،‬وبعض المفترسات التي قد تجوب المكان أحيا ًنا؛ لذلك كان أهالي القرية يتجنبون التوغل كثيرً ا في أعماقها؛‬
‫خو ًفا على أنفسهم من مفترس ضارٍّ ؛ كال ِّدببة التي قد تترك أمكنة صيدها تع ُّقبًا لعسل النحل الذي كان منتشرً ا في أماكن متفرقة من الغابة‪،‬‬
‫أو مجموعات الذئاب التي كان ع َُواؤها يصل إلى مسامع أهل القرية لياًل ‪ ،‬دون أن تجرؤ على الوصول إلى تجمعات السكان‪ ،‬بخالف‬
‫بحث ا عن األسماك‪ ،‬متعقبة زوارق الصيد الصغيرة‪ ،‬فهي تعلم بذكائها أنها وسائل للحصول على‬ ‫الدببة التي كانت تقترب أكثر من النهر؛ ً‬
‫السمك‪ ،‬فقد كان بعض الصيادين يُلقُ ون إليها ببعض الصيد حينما يجود النهر عليهم بسمك وفير‪ ،‬كانت الدببة معتاد ًة صنيع اإلنسان؛ لذلك‬
‫ِحام تجمُّعاته السَّك ِنيَّة؛ لذلك لم ت ْش َه ِد القري ُة صِ دامًا بين اإلنسان وال ِّد َب َبة على اإلطالق‪ ،‬وأغلب أمكنة صيدها‬ ‫ُأ‬
‫لم تكن ت َت َجرَّ على أذ َّي ِتهِ‪ ،‬أو ا ْقت ِ‬
‫صيَّادين‪ ،‬فكان بعضها ال يجهد نفسه في عناء التر ُّقب‬ ‫كانت تقع عند جُرْ فٍ صخريٍّ تتجم ُع فيه األسماكُ‪ ،‬غي َْر أنها اعْ ْ‬
‫تادَت على َعطا ِء ال َّ‬
‫‪.‬والصيد‬

‫"علِيٌّ " من أكثر الصيادين عطا ًء لل ِّد َب َب ة خاصة تلك الصغيرة منها‪ ،‬مما لم يكن يجيد فن الصيد بعد‪ ،‬فهو ال يحتاج غير قليل من‬
‫كان العم َ‬
‫ص ْي ِد ‪ ،‬بل كان إذا حصل الكثير منه جاد ببعضه على أطفال القرية؛ حتى ال َي ْف ُس َد‬‫السمك؛ إذ ال أبناء له كي يعولَ ُه ْم‪ ،‬ف َي ْكفِي ِه القلي ُل من ال َّ‬
‫ريز‪ ،‬وقد‬ ‫ِن َح ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يعشق الذهاب إلى الغابة والصيد هناك‪ ،‬ينصِ بُ الفِخاخ وينتظ ُر في مكان آم ٍ‬ ‫ويضيع‪ ،‬فهو ال ُيحِبُّ ْأك َل ال َّسمك كثيرً ا؛ لذا كان‬ ‫َ‬
‫دَجَّ َج نفسه بسهام ورمح ال تخطئ أهدافها إذا ما ظهر صيد يستحق أن يُصادَ‪ ،‬لم يكنْ يلجأ إليها إال في ضرورات قصوى دفا ًعا عن نفسه‬
‫ِراع ال َع ِّم "عليٍّ " كانت نتاجً ا لصراعه مع فهد‪ ،‬حينما كان في عنفوان‬ ‫ك به‪ ،‬فال ُّندُوبُ الظاهرةُ على َج ِ‬
‫بين وذ ِ‬ ‫أمام مفترس ضارٍّ يحاو ُل ال َف ْت َ‬
‫شبابه‪ ،‬تم َّك ن الصياد الشجاع من قتله وإحضاره إلى القرية في مشهد بطولي مثير؛ جعل كل أهل القرية يشيد بشجاعة العم "علي" وبطولته‬
‫ُعرف بقاتل الفهود‪ ،‬كان يومًا رائ ًعا ال يُن َسى كلما تذكره العم "علي"‪ ،‬زاده قوة وعنفوا ًنا وثقة في النفس‪ ،‬فالجبال والغابات‬ ‫النادرة‪ ،‬فكان ي َ‬
‫الشاسعة كانت َم ْوِئ للمفترسات الضارية‪ ،‬وقد تحين المواجهة مع اإلنسان في أي ظرف يتجرأ فيه البشر على اقتحام أماكن عيشها؛ فهي‬ ‫اًل‬
‫‪.‬لن تتوانى في الدفاع عن مملكتها‬

‫فخا في مكان ألِف فيه الحصول على الغنائم‪ ،‬وراح يتجول في الغابة يستطلع المكان الذي يعرفه شبرً ا شبرً ا‪ ،‬يتعقب‬ ‫نصب الصياد "علي" ًّ‬
‫بأثر ألقدام لم يْألَ ْفها من قبل في المكان‪ ،‬د َّقق النظر أكثر فأكثر‪،‬‬
‫كل أثر يقع عليه بصره ويفحصه فيعرف صاحبه‪ ،‬مضى في طريقه‪ ،‬فإذا ٍ‬
‫فاحتار في نوع الحيوان صاحب األثر الغريب‪ ،‬إنه قريب من أثر الفهد والضبع‪ ،‬لكن الفهود والضباع لم تعد موجودة هنا‪ ،‬أو ربما يكون‬
‫أثرً ا ألسد الجبل جاء يتعقب بعض الطرائد هنا‪ ،‬هكذا قال العم "علي" في قرارة نفسه‪ ،‬فهو لم يجد جوابًا عن أسئلته‪ ،‬ألول مرة يعجز عن‬
‫ك لغز في الغابة الكبيرة‪ ،‬عاد الصياد إلى حيث نصب الفخ‪ ،‬فلما دنا‪ ،‬سمع صوت أنين‪ ،‬فاقترب من الصوت يتبيِّنه‪ ،‬فإذا هو بشبل عالق‪،‬‬ ‫ف ِّ‬
‫مأخذا كبيرً ا‪ ،‬استغرب الصياد ألمر الشبل فقال‪" :‬ال بد أن أمه ستكون قريبة من هنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يصيح بأعلى قوته طالبًا النجدة‪ ،‬واإلجهاد قد أخذ منه‬
‫يجب أن أخلصه من الفخ"‪َ ،‬ه َّم العم "علي" باالقتراب من الشبل الصغير‪ ،‬فنظر إليه بعطف كأنه يلتمس منه الخالص‪ ،‬فك العم "علي" قدم‬
‫الصغير من الفخ الحديدي‪ ،‬وحمله بين ذراعيه‪ ،‬فقد أصابه الفخ بجرح غائر ال يستطيع معه أن يسير وحي ًدا‪ ،‬فال بد أنه تائه في الغابة‪ ،‬وأن‬
‫أج َمةٍ‪ ،‬فغادر المكان ح ًّب ا في االستطالع‪ ،‬استغرب العم "علي" أمر وجود الشبل؛ فالغابة نادرً ا ما تأتيها األسود التي تعيش‬ ‫أمه تركته في َ‬
‫في مجموعات بعيدة عن الغابة‪ ،‬أخذ الصياد الشبل الصغير وهو يعلم أن أمه ستبحث عنه متتبعة رائحته‪ ،‬لكنه آثر إنقاذ هذا الشبل‬
‫فه م اآلن أن اآلثار الجديدة إنما تعود للشبل وأمه‪ ،‬متسائاًل عن سبب‬ ‫ورعايته‪ ،‬حتى يقوى على السير‪ ،‬وإعادته إلى الغابة من جديد‪ ،‬لقد ِ‬
‫‪ .‬اقتحام اللبؤة وشبلها للغابة‪ ،‬فأغلب األسود تتخذ محميات لها في البرية بعيدا عن هذا المكان‬
‫ً‬

‫أسرع الصياد يحث ُخ طاه مخافة االصطدام بأم الشبل؛ ألن األمر حينها سيكون شديد الخطورة‪ ،‬فاللبؤة لن تتوانى في الدفاع عن شِ ْبلِها‬
‫متوار عن األنظار‪ ،‬وأغلق عليه الباب‪ ،‬فذهب‬ ‫ٍ‬ ‫وهو بين ذِرا َعيِ الصياد‪ ،‬بلغ العم "علي" القرية وأخفى ال ِّش ْب َل الصغير في كوخ صغير‬
‫مسرعً ا إلى ضفة النهر ليحضر بعض النبات المخصص للجروح‪ ،‬د َّقه بحجر حتى صار َلب َْخة‪ ،‬وأحضر قطعة من ثوب اتخذه ضِ ماد ًة فلفَّ‬
‫العشب المدقوق على الجرح‪ ،‬فأنَّ ال ِّش ْب ُل أني ًنا‪ ،‬وأحْ كم الصَّياد لَفَّ الثوب على القدم‪ ،‬ترك الصيا ُد الشبل الصغير في مكانه‪ ،‬وأحْ ضر له‬
‫ي الشبل وتم َّكن من السير‬ ‫‪.‬بعض اللبن‪ ،‬فتولى إطعامه كل يوم وتغيير ضمادته‪ ،‬حتى ِ‬
‫قو َ‬

‫أخذ الصياد الشبل قبيل طلوع الشمس إلى الغابة‪ ،‬وهو يعلم أن األم متشوقة إلى لقاء صغيرها‪ ،‬يحمله بين ذراعيه‪ ،‬وهو يختلس النظر يمنة‬
‫ويسرة؛ حتى ال يف َطن إليه أحد‪ ،‬فلما اطمأنَّ إلى خلوِّ المكان من األعين الصغيرة والكبيرة‪ ،‬سمح للشبل بالنزول‪ ،‬فظل يتعقب ُخطى ُم ْنقِذِه‪،‬‬
‫وبين الفينة واألخرى يفرك رأسه بساق العم "علي"‪ ،‬فقد ألِفه وأحب صحبته رغم األيام القالئل التي مكث فيها معه‪ ،‬نظر الصياد إلى‬
‫قريبة من‬‫ٌ‬ ‫بعض اآلثار المتفرقة ففحصها‪ ،‬فهي آثار جديدة لم تت َيبَّسْ بعْ ُد في ُتربة الغابة ال َّن ِديَّة‪ ،‬فأدرك بف ِْط َنة الصيَّاد و ِخب َْرة الغابِ‪ ،‬أنَّ األ َّم‬
‫الصغير باالنطالق عبر الطريق إلى أمه‪ ،‬لكنه كان‬ ‫َ‬ ‫المكان‪ ،‬وال بد أنها ستظهر في أي لحظة بعد أن تشت َّم رائح َة الشب ِْل‪ ،‬أمر الصياد الشبل‬
‫ِّ‬
‫نظر الشبْل إلى‬ ‫اًل‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫قليل‪ ،‬وما عليه غير الت َوغل قلي ‪َ ،‬‬ ‫ألخ ْذ ِه بعْ د ٍ‬
‫ض ُر َ‬ ‫يهم بالعودة إلى أحضان الصياد‪ ،‬فيصرفُ ُه و َي ْن َه ُرهُ لالبتعادِ؛ فأ ُّم ُه ستح ُ‬
‫ت ملُؤ ها االستعطافُ والرَّ جاءُ‪ ،‬وعاد إليه في لهفة يقفز بين أحضانه‪ ،‬وهو ْيل َعقُه ويُصْ ِد ُر أصوا ًتا رقيقة كأنه يتوسل إليه أاَّل‬ ‫الصياد نظرا ٍ‬
‫ب منطق العقل على العاطفة‪ ،‬فحياةُ الشبل يجب أن تكون في الغاب وتحت رعاية أمه؛ ليتعلم قانون الغاب‪ ،‬ويعيش‬ ‫َّ‬
‫ُفار َقه‪ ،‬لكن الصياد َغل َ‬
‫ي ِ‬
‫ُ‬
‫‪.‬في البرِّ يَّة؛ حيث الحرية المطلقة‬

‫فر ٌح بلقاء الشبل وأمه‪ ،‬عاد العم "علي" إلى القرية‪ ،‬واتجه‬ ‫َّ‬
‫فحث خطاه بعي ًدا عن المكان‪ ،‬وهو ِ‬ ‫سمع الصياد زئيرً ا قادمًا‪َ ،‬‬
‫فعرف أنها األم‬
‫َ‬
‫نحو زورقه الصغير‪ ،‬فقد مضى وقت لم يصط ْد فيه السمك‪ ،‬غنِم الكثير من الصيد فأعطى للدببة الصغيرة بعضها‪ ،‬وجدف زورقه عائ ًدا‬
‫‪.‬إلى الكوخ القابع في هدأة الغاب‬

‫ب ي َُح ِّت ُم أن َي َ‬
‫عيش في َك َنفِ‬ ‫ظلت صورة الشبل مرتسمة بين عينيه ال تكاد تفارق مُخ ِّيلَ َته‪ ،‬فقد َأل َ‬
‫ِف ه َُو ن ْف ُس ُه ذاك ال ِّش ْب َل الجميل‪ ،‬لكنَّ الوا ِج َ‬
‫ب يوم طويل‬ ‫وخلَ َد لل َّنوم بعد َ‬
‫تع ِ‬ ‫‪.‬أمه‪ ،‬فهي القادرة على رعايته وتعليمه‪ ،‬هكذا أقنع الصياد نفسه‪َ ،‬‬

‫ْ‬
‫مضت شهو ٌر عدة‬ ‫نشاط ُه كعادته دون أن يخبر أح ًدا بأمر الشبل الصغير‪ ،‬فقد آ َث َر أن َيبْقى األ ْم ُر سِ ًّرا َم ْك ُتوما‪،‬‬
‫َ‬ ‫ظ َّل الصياد يُمارس‬
‫ُّ‬
‫ُضال‪ ،‬أق َعدَ ها أيامًا‪ ،‬فأ َم َرهُ أح ُد الش يوخ من ذوي الحكمة في الطب بإحضار نبت ٍة ال تنمو إال عند سفح‬ ‫ْ‬ ‫بمرض ع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وُأصيبت زوجة الصياد‬
‫الجبل الكبير خارج األدغال‪ ،‬وصف الشيخ النبتة للصياد بدقة متناهية فقرر "علي" أن يتوجَّ ه نحو السفح‪ ،‬رغم علمه بالمخاطر المحدقة‪،‬‬
‫أعد ُع َّد َت ه دون أن يخبر زوجته وأمه بأنه متوجه نحو السفح الخطير‪ ،‬فال أحد من أهل القرية قد سبق له أن زار المكان‪ ،‬حتى إن الصياد‬
‫"عل ًّي ا" كان يسمع عن أساطير األجداد التي كانت تتحدث عن وجود أصناف من الذئاب الضارية هناك‪ ،‬تقتل كل داخل إلى أراضيها؛ لذلك‬
‫ظل المكان متو ِّشحً ا بالرهبة ال يقربه أحد‪ ،‬لكن الصياد "عل ًّيا" لم يكن لِ َيهاب السفح وال الجبل‪ ،‬وهو المضطر للذهاب ً‬
‫إنقاذا لزوجته من‬
‫الموت‪ ،‬لذلك كتم أمر الرحيل عن زوجته وأمه‪ ،‬حتى ال يمنعاه من الذهاب خو ًفا على حياته‪ ،‬لكن "عل ًّيا" كان يمتلك الشجاعة التي لم يكن‬
‫‪.‬غيره يملكها‪ ،‬مع كبر سنه‬
‫توجَّ ه الصياد الشجاع في صباح اليوم التالي يشق طريقه في الغابة مسل ًكا مسل ًك ا‪ ،‬يتخطى العوائق أمامه من أغصان وسيقان من نباتات‬
‫مخابَئ لها في انتظار‬
‫ِ‬ ‫تحجب الرؤية أمامه‪ ،‬وهو يزيحها برمحه متوخيًا كل الحذر من األفاعي والعناكب‪ ،‬التي قد تتخذ مثل هذه المواضع‬
‫فرائس عابرة‪ ،‬مضى ُم َّتِئدَ ال ُخ طى وصورة النبتة ذات الساق األخضر والورق الملفوف األصفر المائل إلى البني تتراءى أمام عينيه‪ ،‬مثلما‬
‫ِّ‬
‫المقطع للفؤاد‪ ،‬تو َّغل الصياد كثيرً ا في الغابة الكثيفة‪ ،‬أدغال تحجب ضوء‬ ‫تتراءى له صورة زوجته طريح الفراش وهي َتِئنُّ أنينها‬
‫الشمس‪ ،‬والهدوء يعم المكان فال شيء يتحرك هنا سوى ورق من شجر تدفعه يد‪ ،‬والرمح باليد األخرى يتحسس ما في األمام والجوانب‪،‬‬
‫لم يصادف الصياد أي خطر محدق‪ ،‬لكأن كل الغابة تعرفه فتهيأت له بكل ما فيها‪ ،‬أشرف على الجبل العظيم الذي بدأت قمته تلوح من بين‬
‫ثنيات األشجار‪ ،‬فأدرك الصياد أنه اآلن على موعد مع تحقيق الهدف‪ ،‬لكنه ما ِلبث أن خلَّف الغابة وراءه‪ ،‬حتى رأى قطيعً ا من ذئاب‬
‫‪ .‬يتقدمهم قائد عجوز ال بد أنه خبير بتسيير القطيع‪ ،‬إنها الذئاب حاكمة مملكة السفح والجبل‬

‫نظر "علي" إلى المشهد ذاهاًل ‪ ،‬فلم يسبق له أن وقع في مثل هذا المأزق من قبل‪ ،‬ال بد أن ما كان يحكيه األجداد صواب؛ فمواجهة هذه‬
‫األعداد من الذئاب الهائجة أمر مستحيل‪ ،‬ألول مرة يحس الصياد الشجاع بشيء من الخوف يسري في عروقه‪ ،‬فرجل السبعين ليس هو‬
‫الشاب العشريني الذي هزم الفهد وجاء به قتياًل إلى القرية‪ ،‬توقف "علي" في مكانه‪ ،‬وهو يُشهر رمحه في وجه القائد بعد أن استجمع شيًئ ا‬
‫بث الخوف في نفوس البقية‪ ،‬خ َبر هذا األمر مما كان يسمعه عن‬ ‫من رباطة جأش تب َّقت داخله‪ ،‬فهو يعلم أن هزمه لقائد الذئاب طريق إلى ِّ‬
‫أجداده من بطوالت في مواجهة الذئاب‪ ،‬صرف نظره عن البقية‪ ،‬ووهم القائد بأنه سيواجهه بالرمح المسنن القاتل‪ ،‬ال بد أن القائد خبير‬
‫بالمعارك من هذا النوع‪ ،‬فهو لن يقترب من الصياد إال بعد أن يأمر القطيع بتطويقه‪ ،‬حتى يتمكنوا منه‪ ،‬لكن الصياد "عل ًّيا" كان على دراية‬
‫ً‬
‫متخذا وضعي َة‬ ‫بأنه إذا ُ‬
‫طوِّ قَ سيهلِك‪ ،‬فكان يلجأ إلى خطة التراجع والتقدم معً ا في تناسق ال ُي َم ِّكنُ الذئاب من تطويقه‪ ،‬وبينما كان "عليٌّ "‬
‫المواجهة‪ ،‬انس َّل ذئب من المجموعة على حين غِ رَّ ة‪ ،‬فكاد يصيب الصياد بعضة في ساقه‪ ،‬لكن حيوا ًنا قو ًّيا تمكن من الذئب‪ ،‬فنهش لحمه‪،‬‬
‫‪.‬وأصابه بجرح لينقذ الصياد من عضة قوية‬

‫دَت لِبْدَ ُته الصغيرة على وجهه‪ ،‬فأخذ يصول ويجول مُد ِخاًل الرعب إلى قطيع الذئاب الذي أخذ في‬
‫نظر الصياد فإذا بالمدافع عنه أسد َب ْ‬
‫التفرق‪ ،‬والتحقت باألسد لبؤة قوية‪ ،‬ما إن رآها القطيع حتى فرَّ أدراجه يجر أذيال الهزيمة‪ ،‬ارتعب الصياد ولم يصدق ما يراه أمام عينيه‪،‬‬
‫انهارت كل قواه وعرف أنها النهاية‪ ،‬قدم األسد نحوه والرهبة تسري في دمه‪ ،‬وجعل يفرك رأسه بجسمه ويلعقه كما كان يصنع صغيرً ا؛‬
‫إنه الشبل الصغير الذي أنقذه "علي"‪ ،‬لقد صار أس ًدا قو ًّي ا‪ ،‬أحضره القدر ليرد الجميل في قصة عنوانها الوفاء‪ ،‬نظرت األم إلى الصياد‬
‫"علي"‪ ،‬وتقدمت نحوه تلعقه هي األخرى‪ ،‬لكأنما ترسل إليه عبارات الشكر واالمتنان أن أنقذ صغيرها من الموت‪ ،‬فرح الصياد "علي"‬
‫شديد ا‪ ،‬وتحول خوفه إلى سكون‪ ،‬هدأت له جوارحه‪ ،‬لم يصدق الصياد نفسه‪ ،‬وكأنه يعيش ح ُْلمًا؛ فالشبل لم َي ْن َسه على اإلطالق‪ ،‬رغم‬‫ً‬ ‫فرحً ا‬
‫مرور شهور طويلة على الفراق‪ ،‬مضى الصياد نحو السفح‪ ،‬وبرفقته األسد تتقدمهما اللبؤة األم‪ ،‬واتجه نحو النبتة المقصودة‪ ،‬وقطف منها‬
‫ما يحتاج في العالج‪ ،‬ثم عاد أدراجه إلى القرية‪ ،‬وبرفقته األسد يؤمِّن له الطريق من كل خطر‪ ،‬يالعبه بين الفينة واألخرى كأنه يستذكر‬
‫ت طفولته‪ ،‬وما كان من صنيع الصياد المنقذ له من الموت‬ ‫‪.‬في مالعبته له ذكريا ِ‬
‫اقترب الصياد من القرية‪ ،‬فتوقف األسد الصغير عن المسير كأنه قد فطِ ن إلى أنه مجبر على عدم تجاوز تلك الحدود‪ ،‬نظر الصياد على‬
‫األسد نظرات ملؤها الحب واإلعجاب بصنيع قلما يجده اإلنسان في اإلنسان‪ ،‬فالمفترس الضاري وأمه لم َي َم َّساه بسوء‪ ،‬في الوقت الذي كان‬
‫‪.‬بإمكانهما افتراسه بكل سهولة‬

‫فرمحه لن يكون قادرً ا على مواجهة األنياب أو المخالب الضارية لألسد وأمه‪ ،‬وإن كان الصياد "عليّ " قد ِ‬
‫فهم قصة الوفاء من الشبل‪ ،‬فقد‬
‫ظل فعل اللبؤة أمرً ا محيِّرً ا له؛ فهو لم يصنع لها شيًئ ا سوى أنه ر َّد شبلها‪ ،‬ربما كانت اللبؤة قد فطِ نت إلى صنيعه يوم رد الشبل إليها‪ ،‬دون‬
‫فر ٌح بصداقة‬
‫أن يؤذيه؛ فالقطط الكبيرة حيوانات ذكية‪ ،‬وتستطيع أن تستوعب ردود فعل اإلنسان نحوها‪ ،‬هكذا أقنع العم "علي" نفسه وهو ِ‬
‫‪ .‬األسد وأمه‪ ،‬في حوار جميل ونادر بين اإلنسان وعالم الحيوان الضاري‬

‫اقترب الصياد من األسد وعانقه عنا ًقا شدي ًد ا كأنه يودعه‪ ،‬ولسان األسد ال ينفك عن لعق صاحبه‪ ،‬وهمسات صوته تخترق أذن الصياد‬
‫كأنما هي كلمات تعلن عن ضرورة تج ُّدد اللقاء بين الصياد واألسد الوفي‪ ،‬و َّدع الصياد صديقه‪ ،‬وانطلق األسد بسرعة عائ ًدا من حيث أتى‬
‫مختر ًق ا األدغال‪ ،‬حتى توارى عن ناظري الصياد‪ ،‬لحظات فراق ِّ‬
‫مؤثرة لم يُطِ ق فيها األسد فراق صاحبه‪ ،‬لكن غريزة ال َبرِّ يَّة كانت تناديه‪،‬‬
‫فه م ذلك من الدرس األول يوم أمره الصياد باالنطالق‪ ،‬لكن ذلك ال يعني أنه لن يالقي صاحبه؛ فقد شهد التاريخ أن اللقاء بين األسد‬
‫فقد ِ‬
‫‪.‬والصياد تكرر مرارً ا في عالم الغاب‬

‫ذهب الصياد بالنبتة إلى الشيخ ليتأكد من ه ُِو َّيتِها‪ ،‬فما إن رآها حتى شرع يقلبها بين يديه منده ًشا من الصياد علي‪ ،‬فالشيخ يعلم أن الحصول‬
‫عليها من السفح الكبير يحتاج إلى معجزة خارقة‪ ،‬حاول الشيخ أن يعرف كيفية تم ُّك ن الصياد من النبتة‪ ،‬فالمكان هناك مليء بالمفترسات‬
‫واألفاعي والعناكب السامة‪ ،‬حاول الصياد عليٌّ أن يصرفه عن الجواب بسؤاله عن كيفية استعمال النبتة‪ ،‬فأخبره الشيخ بضرورة طبخها‬
‫في الماء حتى االستواء‪ ،‬وشرب مائها دافًئ ا لمرات متعددة‪ ،‬مع أكل القليل من النبتة‪ ،‬ذهب الصياد إلى الكوخ على َع َج ٍل فصنع مثل ما‬
‫يمض أسبوع كامل حتى غادرت‬ ‫أخبره الشيخ الحكيم‪ ،‬وقدم الدواء لزوجته‪ ،‬بعد أيام بدأت تستعيد عافيتها‪ ،‬وشعرت بتحسن كبير‪ ،‬لم ِ‬
‫الفراش الذي ظلت فيه طريحً ا لردح من الزمن‪ ،‬فسألت زوجها عن الدواء‪ ،‬فأخبرها ما كان من أمر النبتة دون أن يحكي لها قصة الوفاء‬
‫التي جمعت بينه وبين الشبل‪ ،‬فقال العم "علي" في نفسه‪ :‬كيف يكون هذا األسد قمة في الوفاء‪ ،‬وال أكون وف ًّيا لهذه الزوجة التي ح ُِرمت‬
‫األبناء بسبب عقمي‪ ،‬وما َش َك ْ‬
‫ت وال تبرَّ مت يومًا؟‬
‫عاش العم "علي" رفقة زوجته وأمه في كوخهما الصغير حياة سعيدة‪ ،‬وبين والفينة واألخرى كان الصياد يقتحم األدغال‪ ،‬كلما اشتاق إلى‬
‫‪.‬صديقه األسد ليمضي معه وق ًتا رائ ًعا في عالم الغاب الجميل‪ ،‬راسمًا واح ًدا من أجمل فصول الحياة في قصة عنوانها الوفاء‬

‫‪:‬رابط الموضوع‬
‫‪https://www.alukah.net/literature_language/0/163862/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9‬‬
‫‪%8A%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D9%84/‬‬
‫‪#ixzz89F5pqklM‬‬

You might also like