You are on page 1of 9

‫سورة العاديات‬

‫دراسة تحليلية تطبيقية حول (نحو النص)‬

‫جيل‪ ،‬وبكل َفهْم‪ ،‬وبتغيُّر‬


‫في الحقيقة النبع القرآني ثرٌّ عميق‪ ،‬يحمل من األسرار والمعاني ما ال يُحيط به إنسان‪ ،‬ويتج َّدد نبعُه مع كل ٍ‬
‫معطيات الزمن‪ ،‬وربما من أعظم النعم على اإلنسان أن الرسول صلى هللا عليه وسلم لم يترك تفسيرً ا كاماًل توقيف ًّيا للقرآن الكريم‪ ،‬بل‬
‫!‪...‬تركه وعا ًء ي َّتسع لألفهام على مرِّ األزمان وبمعطيات كل أوان‪ ،‬ونافذ ًة للعقل في الفهم والتحليل‪ ،‬وشحْ ذ العقول للقياس واإلسقاط‬

‫!وهذه محاولة تظل قاصر ًة لتطبيق بعض مهارات "نحو النص" على سورة العاديات‬

‫ان ل َِر ِّب ِه‬‫صبْحً ا * َفَأ َثرْ َن ِب ِه َن ْقعًا * َف َو َس ْط َن ِب ِه َج ْم ًعا * ِإنَّ اِإْل ْن َس َ‬
‫ت ُ‬
‫ِيرا ِ‬‫ت َق ْدحً ا * َف ْال ُمغ َ‬ ‫ضبْحً ا * َف ْالم ِ‬
‫ُور َيا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫قال الحق تبارك وتعالى‪َ ﴿ :‬و ْال َعا ِد َيا ِ‬
‫َأ‬
‫ُور * ِإنَّ َر َّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْومَِئ ٍذ‬
‫صد ِ‬ ‫ص َل َما فِي ال ُّ‬ ‫ُور * َو ُح ِّ‬ ‫ك َل َش ِهي ٌد * َوِإ َّن ُه لِحُبِّ ْال َخي ِْر لَ َشدِي ٌد * َفاَل َيعْ لَ ُم ِإ َذا بُعْ ث َِر َما فِي ْالقُب ِ‬
‫لَ َك ُنو ٌد * َوِإ َّن ُه َعلَى َذلِ َ‬
‫‪.‬لَ َخ ِبي ٌر ﴾ [العاديات‪]11 – 1 :‬‬

‫البنية العامة أو الكلية‪ :‬هذه السور إحدى عشرة آية‪ ،‬جمعت في طيَّاتها طبيعة اإلنسان المرتاب المنافق المعادي لنفسه وربه‪ ،‬وبيَّنت طبيع َة‬
‫َ‬
‫ويبخل بما آتاه هللا‪،‬‬ ‫تعامله من المن ِعم تبارك وتعالى‪ ،‬وما يتر َّتب على هذه الطبيعة‪ ،‬خاصة مع المنافق الذي ال يرى نِعم ربِّه وال يُسلم له‪،‬‬
‫ويُحب الشهوات ح ًّبا ج ًّما‪ ،‬و َيع ُز ف عما ينجيه‪ ...‬وانتهت بتوكيد علم هللا بما يُعلنون وما يُسرون‪ ،‬فليفعلوا ما شاؤوا‪ ،‬فلن يخفى على العليم‬
‫ٌ‬
‫خافية‬ ‫‪...‬بما في الصدور‬

‫فتأخرت السرية ولم‬‫مناسبة السورة‪ :‬مما يقال في مناسبة هذه السورة أن الرسول صلى هللا عليه وسلم أرسل سرية لكنانة في مهمة قتالية‪َّ ،‬‬
‫تعُد في الموعد المتو َّقع‪ ،‬فأشاع المنافقون أن السَّرية قد قُ تلت كلها؛ كي يثيروا الرعب في قلوب المؤمنين‪ ،‬ويثبطوا عزائمهم‪ ،‬ويش ِّككوا في‬
‫سرائرهم‪ ،‬وتص َفها وص ًفا دقي ًقا تشريح ًّيا دااًّل على علم الخالق بأنفسهم‪ ،‬كيف‬
‫َ‬ ‫لتفضح‬
‫َ‬ ‫عقيدتهم و ُنصرة هللا ورسوله لهم‪ ،‬فنزلت هذه السورة‬
‫!ال وهو خالقُهم‬
‫واقع مشابه‪ ،‬وهنا نجد‬ ‫زمن مع‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫وربطها بالواقع التي نزلت فيه‪ ،‬ثم القياس عليه في كل‬ ‫وهنا نجد أن مناسبة نزول السورة هي مِفتا ُح َفهمها‬
‫ٍ‬
‫!أن رأي البنيويين الذين يفصِ لون النص عن قائله فيه نظ ٌر‬

‫‪:‬أواًل ‪ :‬البُنى الكلية‪ :‬تتكون السورة من ُب ًنى نصية كبرى تتمثل في‬

‫صبْحً ا * َفَأ َثرْ َن ِب ِه َن ْقعًا * َف َو َس ْط َن ِب ِه َج ْم ًعا ‪1-‬‬


‫ت ُ‬ ‫ت َق ْدحً ا * َف ْال ُمغ َ‬
‫ِيرا ِ‬ ‫ضبْحً ا * َف ْالم ِ‬
‫ُور َيا ِ‬ ‫‪ ﴾.‬القسم‪َ ﴿ :‬و ْال َعا ِد َيا ِ‬
‫ت َ‬

‫‪:‬التحليل‬

‫‪:‬الصرف‬

‫جاء القسم باسم الفاعل العاديات‪ ،‬وهذا يدل على الحال واالستمرار والفاعلية في الجملة؛ ألنه محلَّى بأل‪ ،‬وكأنه يقول سبحانه بهذا‬
‫ضح سرائركم‬ ‫!االشتقاق‪ :‬سيستمر َع ْدوُ خيولنا حتى يُظهر هللا َ‬
‫أمره ويف َ‬

‫‪:‬النحو‬

‫جاء القسم باسم الفاعل العاديات‪ ،‬وهي صفة للخيل وكأنه َيكيد سبحانه للمنافقين بأن خي َل المسلمين تعدو‪ ،‬ولن َتخ ُم َد حتى َ‬
‫تقطع ألسن َة‬
‫الرهب في قلوبهم بكلمة العاديات؛ أي‪ :‬إنهم من السرعة بمكان ولن َتهز َمهم مكائدُكم‪ ...‬ثم َخصَّ هذا العدو بوقت‬ ‫َ‬ ‫المر ِجفين‪ ،‬وكأنه يبعث‬
‫نهار المسلمين قاد ٌم ويوم المنافقين غاب ٌر ‪ ،‬وهذا الحق الذي ال تريدونه أيها المنافقين‪ ،‬ولكنه كائنٌ بحول هللا كالصُّبح الذي‬
‫َ‬ ‫الصبح‪ ،‬وكأن‬
‫!ترونه دائمًا‬

‫‪:‬البالغة‬

‫َّ‬
‫ليبث في قلوبهم‬ ‫العاديات‪ :‬كناية عن الخيول‪ ،‬فكأن هللا شرَّ فها وهي التي عُقد الخي ُر بناصيتها‪ ،‬وك َّنى عنها بصفة من صفاتها وهي ال َع ْدو؛‬
‫الرعب‪ ،‬فلن يتو َّقف عدوُ ها حتى ُتهلككم بأمري‬
‫َ‬ ‫‪...‬‬

‫ومن جهة أخرى كأنَّ هذا القسم بهذه الصيغة يُمجِّ د الخيل‪ ،‬ويربِّت على كتفها أم ًنا وأما ًنا؛ لِما تق ِّدمه من ٍ‬
‫دور بارز في تثبيت الدعوة بأمر‬
‫!هللا‪ ،‬ويخاطبها‪ :‬أنت بأمري فالق ُة صُبح ال ِّد ين‪ ،‬وإنك من جندي‪ ،‬وال يعلم جندي إال أنا! سبحان من جعل من البيان سحرً ا‬

‫ان ل َِر ِّب ِه لَ َك ُنو ٌد * َوِإ َّن ُه َعلَى َذل َِك لَ َش ِهي ٌد * َوِإ َّن ُه ِلحُبِّ ْال َخي ِْر لَ َشدِي ٌد ‪2-‬‬
‫‪ ﴾.‬جواب القسم‪ِ ﴿ :‬إنَّ اِإْل ْن َس َ‬

‫‪:‬التحليل‬

‫‪:‬الصرف‬

‫‪:‬جاءت الخبر (كنود) بصيغة المبالغة لبيان ما عليه من جحود المنافق‬

‫‪:‬النحو‬
‫جاء جواب القسم في أوجز لفظ وأعظم مع ًنى‪ ،‬وبدأ بأن المؤكدة للجملة‪ ،‬وكأن هذا الوصف دستو ٌر خالد من خالق األنفس‪ ،‬يصفهم لنعر َفهم‬
‫وحين‪ ،‬وال ُتخايلنا ألوا ُنهم الزائفة‪ ،‬فقد وصفهم بـجحود النعم‪ ،‬وهذا أبر ُز وص ٍ‬
‫ف لهم؛ إذ إن هللا خلقهم وأنكروه‪ ،‬وأطعمهم‬ ‫ٍ‬ ‫في كل زمن‬
‫!وآ َذوا أنبيا َءه ومن واالهم‪ ،‬وسقاهم فتم َّنوا الموت لمن يُفلت من قبضة مكرهم‬

‫شهد على نفسه‪ ...‬وهذا مما يبيِّن التبجح ْ‬


‫وخلط المفاهيم‪ ،‬وتسمية‬ ‫وإنه على ذلك لشهيد‪ ،‬عطف على الصفة األولى‪ ،‬فبعد أن جحد النعم ِ‬
‫ً‬
‫وحديثا قالوا‪ :‬نحن أول العلم والثقافة والنخبة‬ ‫ظاهر الحق ويُنكرونه‪،‬‬
‫َ‬ ‫األشياء بغير مسمياتها‪ ،‬فقديمًا كانوا كالحمار يحمل أسفارً ا يعرفون‬
‫ونسيطر على ثروتكم ومعتقدكم منكم‪ ...‬وهم يعلمون أنهم كاذبون مغتصبون‬ ‫َ‬ ‫‪...‬والوجهة‪ ،‬ونحن أهل الشهرة والمال‪ ،‬أحق بأن نقودَكم‬

‫‪:‬البالغة‬

‫جاءت الجمل مؤ َّكدة بمؤ ِّك دين‪ ،‬وهذا من الخبر اإلنكاري؛ أي‪ :‬إنهم يعرفون وينكرون‪ ،‬فصدق النص المق َّدس لهم على ما في قلوبهم من‬
‫‪...‬غ ٍّل وحسد للمسلمين‪ ،‬ثم جاء العطف بالواو؛ ليجعل كل جملة في مقام الجملة األولى من األهمية‬

‫َأ‬
‫ُور‪ِ ،‬إنَّ َر َّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْومَِئ ٍذ َل َخ ِبير ‪3-‬‬
‫صد ِ‬‫ص َل َما فِي ال ُّ‬ ‫‪ ﴾.‬االستقهام‪َ ﴿ :‬فاَل َيعْ لَ ُم ِإ َذا بُعْ ث َِر َما فِي ْالقُب ِ‬
‫ُور‪َ ،‬و ُح ِّ‬

‫‪:‬التحليل‬

‫‪:‬الصرف‬

‫جاءت األفعال مبنية للمجهول للتهويل من شأن هذا اليوم؛ إذ هو عذابٌ عليهم‪ ،‬يو ُّدون لو يفتدون منه بملء األرض ذهبًا‪ ،‬ولكن هيهات‪،‬‬
‫وكأن هذه الصيفة تترك للعقل التجوال في عوالم الغيب؛ إذ يسأل من فوره‪ :‬من الذي سيبعثر؟ وكيف؟ ومن الذي سيحصل؟ وكيف؟ ثم تبدأ‬
‫نعرفها‪ ،‬ويزداد رعبُ القلب‪ :‬من سيفعل كذا؟ ومن؟ ومن؟‬
‫التهاويم في تصوُّ ر مالئكة العذاب أو جنود ربك التي ال ِ‬

‫ثم تأتي الجملة األولى‪ ،‬جاء فع ُل الجملة األولى بصيغة المضارع الستحضار الصورة في ذهنهم‪ ،‬وفي الجملة الثانية أتى الفعل بصيغة‬
‫!الماضي لتوكيد األمر‪ ،‬وذلك كله إلثارة فزع القلب من َه ْول ذلك اليوم‪ ،‬وهذا من رحمة هللا كما هو من عذابه‬

‫فمن كان في قلبه خي ٌر سيرتدع ويعود إلى سبيل ربه‪ ،‬ومن كان قلبه كالحجر ‪ -‬وإن من الحجارة لما يتفجَّ ر منه الماء ‪ -‬فأنى له أن يهتدي‪،‬‬
‫‪.‬فيأخذ حصة من عذاب الدنيا‪ ،‬وهي الزيادة في العناد والنفاق‪ ،‬ومن ثم تزاد له جرعة الضَّنك والهم لياًل ونهارً ا‪ ،‬ثم ينتقل إلى عذاب ربه‬

‫‪:‬النحو‬

‫وجيف قلوبهم‪ ،‬فما هنا‬ ‫َ‬ ‫جاء نائب الفاعل في الجملتين ما الموصولة‪ ،‬وهي تزيد إبهام الفاعل؛ مما يزيد َحيرتهم وخوفهم منه‪ ،‬ويثير‬
‫شمولية‪ ،‬ويكأن هللا العليم الخبير يقول لهم‪( :‬ما استطع ُتم إخفاؤه في الدنيا ‪ -‬كبيرً ا أو صغيرً ا‪ ،‬مكرً ا كان أو كي ًدا‪ً ،‬أذى ماد ًّيا أو معنو ًّيا‪ً ،‬‬
‫نية‬
‫في القلب أو سلو ًك ا ‪ -‬مهما كان فلن تستطيعوا إخفاءه في اآلخرة‪ ،‬وما وجدتموه من مناصرين في الدنيا‪ ،‬فال نصير لكم في اآلخرة‪ ،‬فكأن‬
‫استخدام (ما) نائب الفاعل هنا ‪( -‬ما الموصولة ثم صلتها شبه الجملة) ‪ -‬زادهم حقار ًة في نظر أنفسهم‪ ،‬وهوا ًنا عند هللا تعالى‪ ،‬ثم إنها‬
‫رويدا‪ ،‬فيشعرون أنهم ير ُكضون للخلف ال لألمام‪ ،‬ومع العناد‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رويدا‬ ‫نهار‪ ،‬ويق ُتل فطرتهم‬
‫َ‬ ‫سفهَّت أفعالهم‪ ،‬فمع أن النفاق يأكل قلوبهم لي َل‬
‫يصعد في السماء‪ ،‬فعاشوا عذاب اآلخرة وينتظرهم عذابٌ آخر يو َم َيبلو هللا تبارك‬ ‫َ‬ ‫والقوة والسطوة‪ ،‬فإن قلوبهم هواءٌ‪ ،‬تكاد تتصدَّع كمن‬
‫! وتعالى ما في قلوبهم‪ ،‬ويعلمون أن هللا حق كما أنهم ينطقون‪ ،‬عندها يتساقط لحم وجوههم حيا ًء ورهبًا‬

‫‪:‬البالغة‬

‫يأتي هذا االستفهام لتنويع األسلوب‪ ،‬فبعد القسم والخبر يأتي هذا االستفهام الستثارة الذهن وشد االنتباه‪ ،‬وحث العقل على اليقظة‪ ،‬والبحث‬
‫عن إجابة أو تر ُّقب اإلجابة‪ ،‬فيسألهم الحق تبارك وتعالى‪ :‬ماذ تفعلون يوم ُتنشرون وال يكون لكم وقتئذ لسانٌ تكذبون به وال عشيرة تلوذون‬
‫وأشهدت عليكم أيديكم وأرجلَكم‪ ،‬إنها العاصفة الذهنية التي تعبث بقلوبهم وقتئ ٍذ‬
‫ُ‬ ‫بلوت سرائركم‪ ،‬وأطلع ُتكم على أنفسكم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫!بها؟ ما تفعلون إن‬

‫وقبل أن ُتسعفهم العقول باإلجابة أو بالحيلة‪ ،‬تأتيهم الصاعقة في الجواب‪ِ ﴿ :‬إنَّ َر َّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْومَِئ ٍذ لَ َخ ِبير ﴾‪ ،‬وفي هذا الجواب نجد المولى عز‬
‫!وجل يُغلق عليهم ك َّل ٍ‬
‫قول بأنه خبير بما يعلنون وما يسرون‬

‫وضعهم في‬ ‫الصرف‪ :‬يأتي الخبر بصيغة المبالغة مقتر ًنا بالالم المزحلقة؛ لير َّد إنكارهم‪ ،‬ويؤكد سو َء عاقبتهم‪ ،‬ويختم به الكالم‪ ،‬وكأنه َ‬
‫نظل من الغاوين‪ ،‬أنضحي بالفانية‬ ‫فترك عقولهم حائرة تردَّد‪ :‬أيكون ذلك ح ًّقا أم ال يكون‪ ،‬أنؤمن أم َ‬ ‫سجن مُحكم ال مفرَّ منه وال مهرب‪َ ،‬‬
‫في سبيل الباقية‪ ،‬أم أن هذه حياتنا نموت فيها وال َنحيا بعدها؟‬

‫‪:‬النحو‬

‫ِإنَّ َر َّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْومَِئ ٍذ َل َخ ِبي ٌر ﴾‪ُ ،‬تختم بآية خبرية تقريرية‪ ،‬كأنها كشفت الستار عما ينتظرهم‪ ،‬وامتحنت تكذي َبهم الداخلي بهذه المفاجأة البيِّنة ﴿‬
‫المؤ َّكدة التي ال ريب فيها‪ ،‬فال يزيِّن لك شيطانك أيها المنافق أنك س ُتفلت في اآلخرة كما داهنتَ ونجوت في الدنيا! وهو أسلوبُ توكيد‪،‬‬
‫!لمنع الشك من قلوب من يشك في المصير المحتوم‪ ،‬أو يزيِّن له شيطانه سو َء فعله‪ ،‬فيراه حس ًنا‬

‫‪:‬البالغة‬

‫يطالعنا أسلوب القصر بتقديم الخبر (بهم)‪ ،‬وذلك لتوكيد أنه ال مناص من عذابكم‪ ،‬ثم يأتي إيجاز الحذف؛ إذ إن تقدير الكالم‪ :‬إن ربهم بهم‬
‫صل ما في الصدور لخبير‪ ،‬وهذا من بالغة القرآن الكريم؛ إذ إن المقام مقا ُم ترهيبٍ‪ ،‬فالحذف َأولى؛ كي يظل‬
‫يوم يُبعثر ما في القبور ويُح َّ‬
‫!العقل مشدوهًا متأثرً ا‪ ،‬فتقع الكلمات موقع السيوف من قلوبهم وأسماعهم‬
‫‪:‬ثانيًا‪ :‬البنى الصغرى‬

‫‪:‬هذا وقد َ‬
‫زخ رت اآليات الكريمة بالبنى الصغرى المتمثلة في كل وحدة لغوية؛ مثل‬

‫ان ل َِر ِّب ِه َل َك ُنو ٌد * َوِإ َّن ُه َعلَى َذل َِك ﴿‬ ‫صبْحً ا * َفَأ َثرْ َن ِب ِه َن ْق ًعا * َف َو َس ْط َن ِب ِه َج ْمعًا * ِإنَّ اِإْل ْن َس َ‬‫ت ُ‬
‫ِيرا ِ‬ ‫ت َق ْدحً ا * َف ْال ُمغ َ‬‫ُور َيا ِ‬ ‫ضبْحً ا * َف ْالم ِ‬ ‫َو ْال َعا ِد َيا ِ‬
‫ت َ‬
‫َأ‬
‫ُور * ِإنَّ َر َّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْومَِئ ٍذ لَ َخ ِبي ٌر‬
‫صد ِ‬ ‫ص َل َما فِي ال ُّ‬ ‫ُور * َو ُح ِّ‬ ‫‪ ﴾.‬لَ َش ِهي ٌد * َوِإ َّن ُه ِلحُبِّ ْال َخي ِْر َل َشدِي ٌد * َفاَل َيعْ لَ ُم ِإ َذا بُعْ ث َِر َما فِي ْالقُب ِ‬

‫فنجد الكلمات فيها انتقا ٌء عجيب يُحدث جر ًسا صوت ًّيا مناسبًا للحالة التي تريد السورة أن تجسِّدها‪ ،‬فنجد‪ :‬والعاديات ضبحً ا – المغيرات‬
‫‪...‬صبحً ا – فأثرن به نقعً ا – فوسطن به جم ًعا‬

‫ً‬
‫موقظا لكل نفس أخذتها •‬ ‫فمن حيث الصوت جاءت الفواصل حرف األلف الذي يتصف بالجهر والرخاوة‪ ،‬فكأن القسم جاء مدويًا مسمعً ا‬
‫‪...‬الرخاوةُ في الدين‪ ،‬واستمالتها الدنيا ووضعتها بين أنيابها‬

‫ثم نجد نغم حروف كلمة (ضبحً ا)‪ :‬يوضِّح حالة الخيل التي تلهث و ُتصدر صو ًتا لشدة جهدها‪ ،‬وكأنها تعبِّر عن اإلصرار في استكمال •‬
‫‪...‬مسيرتها‪ ،‬ولسان حالها يقول‪ُ :‬خ لقنا للجهاد ونصرة دين هللا‪ ،‬وإن نال المنافقون من أسماع فوارسنا‪ ،‬فلن ينالوا من عزمنا‬

‫!أما (صبحً ا)‪ ،‬فأضافت معاني النشاط والنصر؛ حيث بركة البكور ونور النصر •‬
‫وجاءت كلمة (نق ًعا وجمعً ا)‪ :‬لتكمل اللوحة‪ ،‬وأن األمر ليس كما صوَّ ره المنافقون‪ ،‬فالنق ُع دلي ُل احتدام المعركة‪ ،‬والجمع دلي ُل االشتباك‪• ،‬‬
‫‪.‬والنصر على مرمى الصباح‬

‫ثم صيغة المؤنث التي عبَّرت عن الخيول‪ ،‬مع أن هناك صي ًغا مذكرة تعبِّر عن الخيل‪ ،‬لكن اختيار التأنيث هنا يدل على قوة التحمل‪• ،‬‬
‫فاألنثى تلد األمة رغم الوهن والضعف وطول المسير‪ ،‬وكذا جيادنا ستقاوم طول الطريق رغم كيد ومكر الماكرين‪ ،‬فهي للصبر والقوة‬
‫ضعفها! وما أشد‬
‫والمواجهة حتى تضع الوليد‪ ،‬وبالحدب والرعاية حتى يمأل الدنيا ويرفع الراية‪ ،‬ما أجملها من نون وما أقواها رغم َ‬
‫!إصرارها رغم َ‬
‫وهنِها‬

‫ان ل َِر ِّب ِه لَ َك ُنو ٌد * َوِإ َّن ُه َعلَى َذلِ َك لَ َش ِهي ٌد * َوِإ َّن ُه لِحُبِّ ْال َخي ِْر لَ َشدِي ٌد ﴾ •‬
‫ثم ُت طالعنا هذه الجمل متتالية التوكيد ومتنوعة أساليبه‪ِ ﴿ :‬إنَّ اِإْل ْن َس َ‬
‫رحمة وال ريبة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أمر المنافقين‪ ،‬ويؤكد للمسلمين حالهم‪ ،‬وكأن الجمل ناطقة تقول‪ :‬ال ْ‬
‫تأخذكم بهم‬ ‫ضح َ‬ ‫[العاديات‪ ،]8 - 6 :‬وكأنه سبحانه يف َ‬
‫َأ‬
‫ومصداق ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬اسْ َت ْغفِرْ لَ ُه ْم ْو اَل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وال حسنُ ظنٍّ ‪ ،‬فاهلل أعلم بهم‪ ،‬وبما حملت صدورهم‪ ،‬فا ِّتخِذوهم أعدا ًء كما أمركم ربُّكم‪،‬‬
‫ِين ﴾ [التوبة‪ ،]80 :‬ثم نجد‬ ‫ِين مَرَّ ًة َفلَنْ َي ْغف َِر هَّللا ُ لَ ُه ْم َذل َِك ِبَأ َّن ُه ْم َك َفرُوا ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوهَّللا ُ َي ْهدِي الق ْو َم الفاسِ ق َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬ ‫َتسْ َت ْغفِرْ لَ ُه ْم ِإنْ َتسْ َت ْغفِرْ لَ ُه ْم َس ْبع َ‬
‫‪ .‬السجع باستخدام حرف الدال‪ ،‬وهو من حروف الشدة والجهر بما يناسب الرسائل التي تحملها السورة‬

‫َأ‬
‫ُور * ِإنَّ َر َّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْومَِئ ٍذ لَ َخ ِبي ٌر ﴾ [العاديات‪• :‬‬
‫صد ِ‬‫ص َل َما فِي ال ُّ‬ ‫نأتي بعد ذلك للتقرير في السؤال‪َ ﴿ :‬فاَل َيعْ لَ ُم ِإ َذا بُعْ ث َِر َما فِي ْالقُب ِ‬
‫ُور * َو ُح ِّ‬
‫ٌ‬
‫محيط‪ ،‬وبقلوبهم وما يدور فيها بصيرٌ‪ ،‬أي ُك ُّفوا عن مكركم‪،‬‬ ‫أجهلوا أم ف َقدوا عقولهم!؟ أال يعلمون أن هللا بهم‬
‫‪ ،]11 ،9‬وهذا تقري ٌع لهم‪ِ ،‬‬
‫!فأنتم أمام الخالق عراة البدن والقلب‪ ،‬فكيف تمكرون‬
‫َ‬

‫تطالعنا بعد ذلك صيغ المبني للمفعول في ( ُحصِّل وبُعثِر)‪ ،‬إلطالق الخيال في تصوُّ ر الفاعل بقوته ومهابته سبحانه وتعالى عما يصفون‪• ،‬‬
‫وتأتي ما نائبًا عن الفاعل؛ لتدل على كثرة من في القبور وما في الصدور؛ أي‪ :‬إن علم هللا محيط وقدرته بالغة بمن َفنِي وبقِي‪ ،‬فكيف‬
‫ألجل مسمى‬
‫ٍ‬ ‫!يراودكم الشك في قدرته عليكم‪ ،‬لكنه يُمهلكم‬

‫تأتي الموازنة بعد ذلك بين ما عليه المنافق‪ ،‬وما يجب أن يكون عليه المؤمن‪ ،‬فالمنافق لربه كنو ٌد‪ ،‬وحبُّه للمال شدي ٌد‪ ،‬فيرى الجهاد •‬
‫َمهلكة‪ ،‬فهو ذلك الرجل الذي يق ِّد س المال‪ ،‬فما باله بالروح‪ ،‬كيف ينفقها في سبيل هللا‪ ،‬فهذا في عقله محالٌ‪ ،‬وفي المقابل نجد المؤمن يلقي‬
‫بنفسه وبماله في سبيل هللا راضيًا فرحً ا‪ ،‬آماًل في إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة‪ ،‬وإن ح ُِرم ذلك ذهب وعيو ُنه تفيض من الدمع حزي ًنا؛‬
‫ك لِ َتحْ ِملَ ُه ْم قُ ْلتَ اَل َأ ِج ُد َما َأحْ ِملُ ُك ْم َعلَ ْي ِه َت َولَّ ْوا َوَأعْ ُي ُن ُه ْم َتفِيضُ م َِن الدَّمْ ِع‬
‫ِين ِإ َذا َما َأ َت ْو َ‬
‫ألنه لم يكن من السابقين‪ ،‬قال ربنا الحق‪َ ﴿ :‬واَل َعلَى الَّذ َ‬
‫ون ﴾ [التوبة‪]92 :‬‬ ‫‪َ .‬ح َز ًنا َي ِجدُوا َما ُي ْنفِقُ َ‬ ‫اَّل‬‫َأ‬

‫تنتهي السورة لفظ ًّيا لتكتمل تصوير ًّيا‪ ،‬ف َترسم في الذهن لوحة تصويرية رائعة مح ِّفزة للجهاد؛ حتى ال نكون في زمرة المنافقين •‬
‫صهل بالنصر‪ ،‬و ُتضيء فَلقَ الصبح‪ ،‬فما يزيد الكفار إال ضيقَ صدر‬ ‫شق النقع‪ ،‬و َت ِ‬‫الجاحدين بأنعُم هللا‪ ،‬فتلك الخيو ُل ضابحة قادحة‪ ،‬ت ُ‬
‫ً‬
‫!وسوادَ وجهٍ‪ ،‬وما يزيد المؤمنين إال فرحً ا وثقة في هللا‪ ،‬وتصدي ًقا لنبيه صلى هللا عليه وسلم والعاقبة للمتقين‬

‫‪:‬رابط الموضوع‬
‫‪https://www.alukah.net/literature_language/0/163830/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D8‬‬
‫‪%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%AA-‬‬
‫‪%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%AA%D8%AD‬‬
‫‪%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A‬‬
‫‪%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%86%D8%AD‬‬
‫‪%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5/#ixzz89F5zuKX8‬‬

You might also like