Professional Documents
Culture Documents
الرَّوابط الموجودة بين الفلسفة والعرفان
الرَّوابط الموجودة بين الفلسفة والعرفان
هذا المقال مترجم من كتاب للشيخ ُم رتضى المطهري ،بعنوان “عرفان حافظ” باللغة الفارسية.
الشيخ مطهري هو مفِّك ٌر إسالمي كبير ،وأحد أبرز رموز النهض/ة الحديث/ة في الفك/ر ال/ديني .ل/ه عش/رات المؤَّلف/ات واألعم/ال
والنظريات واألفكار .استشهد مطلع انتصار الثورة اإلسالمية في إيران
—————————————————-
َم قُصْو دنا ِم َن “الفلسفة” ُهو اإللهَّيات والفلسفة األولى ،أو اإللهَّيات التي ُتناسب الِع رفان ،وليس الفلسفة بمعناها الواسع.
الحكمُة اإللهَّية ُقِّسمت إلى قسمين (في اصطالح المتأخرين) :األمور العامة أو اإللهيات بالمعنى األعم ،واإللهيات بالمعنى
األخص -ولم يذكر الشيخ الرئيس بن سينا في اصطالحاته هذا المعنى.
هدُف الفلسفة اإللهية بالنسبة لإلنسان هو :أن يصبح اإلنسان في نظامه الفكري كل العالم ،ومن حيث المعرفة يصبح عالما عقليا.
بينما هدف العرفان بالنسبة لإلنسان هو :أن يصل اإلنسان بكل وجوده إلى الحقيقة (هللا) أن يفنى في هللا ،أن يصل.
طريق الحكيم وطريق العارف طريقان مختلفان؛ فطريق الحكيم هو طريق المنطق والبرهان ،بينما طريق العارف هو طريق
التزكية ،والتصفية ،والسير ،والسلوك.
كما ُيْو َج د هنالك تفاوت في الوسيلة أيًضا؛ فمركب الحكيم هو العقل ،ومركب العارف هو القلب.
فلنَر اآلن أَّنه متى ُو ِج د العرفان على هيئة علم :علم ُذ كر له موضوع وفائدة؟
فمثال عرفان محيي الدين يختلف عن عرفان الشبلي النعمان؛ ففي عرفان الشبلي نرى رجال أهل عمل ،بينما نواجه في عرفان
محيي الدين الُك تب والكتابة ،والتي انتشرت بوسيلته ،وبوسيلة تالميذه على صورة علم نظري.
فما هو موضوع العرفان؟ هل هو الوجود والوجود المطلق ،وهل المقصود من ذلك هو هللا؟
ُيمكننا أْن نرى هنا ُم شابهة قريبة للعرفان بالحكماء والحكمة اإللهية؛ ألَّن موضوع الحكمة اإللهية هو (الموجود بما هو موجود)،
والتفاوت كامن في أن الحكيم يرى “الموجود بما هو موجود” ،مفهوم كلي له مصاديق عديدة ،ولكن في نظر العارف فإَّن مسألة
المفهوم ليست مطروحة أساسا؛ فهو يعتقد بحقيقة واحدة فحسب ،وهي “ذات الحق”.
الحكيم يرى أن ذات الحق “موجود مطلق” أيضا؛ حيث ينقسم “الموجود بما هو موجود” عنده إلى :موجود ،وجوده عبارة عن
عين ذاته (أي هللا) ،وموجود وجوده زائد عن ذاته (أي كل ما عدا هللا).
لنَر متى وصلت الحكماء إلى هذه المسألة ،وهي أن “الحق ماهيته آنيته”؟ هل كانت موجودة في زمان أرسطو ،أو هذه المسألة
قد طرحت في الفلسفة اإلسالمية فحسب ،وهي من ضمن تلك المسائل التي وجدت بسبب المواجهة بين آراء الفالسفة
والمتكلمين؟
لدينا شيئان ُم سَّلمان هنا؛ أوال :ال نرى مثل هذه المسألة في كالم أرسطو وأفالطون ،بينما نراها في كالم ابن سينا.
فهل كان هنالك وجود للمذاهب الفكرية في الفترة الفاصلة بين أرسطو وابن سينا؛ بحيث قد أخذ ابن سينا واألفالطونية الجديدة
آراءهما منها ،أم ال؟ من الممكن ذلك ،وإال فال يوجد لدى أرسطو نفسه تصور عن هللا غير “المحرك األول”.
ونفس هذا التساؤل مطروح في موضوع العرفان :فهل تعُّد نظرة العرفاء -والتي يرون فيها أَّن وجود الحق موضوع لعلمهم-
ابتكارية ،أم أَّن هنالك من قبلهم من كان يرى ذلك أيضا؟ من أجل التحقيق في هذه المسألة ،يجب التوجه ألفكار الغنوصية
واألفالطونية الجديدة (.)1
الحكمة اإللهية علٌم يبحث في “عوارض الموجود بما هو موجود” ،وإثبات وجود هللا (واجب الوجود) يعُّد من إحدى مسائل هذا
العلم .فإثبات هل أن الموجود واجب أو ممكن ،جوهر أو عرض…كٌّل هذا (واجب ،ممكن…) يعُّد من عوارض “الموجود بما
هو موجود”.
فمسألة وجود الواجب مسألة من مسائل الحكمة اإللهية ،وهنالك حيث يعتبر العارف أن موضوع علمه هو (الموجود المطلق)؛
فإَّن ذلك يعُّد مسألة من مسائل الحكمة اإللهية ،ومن حيث أَّن موضوع كل علم ال يثبت في نفس ذلك العلم ،بل يرجع في إثباته
لعلم كلي آخر ،وعليه فالعارف ال يحتاج إلى إثبات أن هللا هو موضوع العرفان ،ولكن الحكيم يثبت ذلك؛ ألن ذلك يعد من مسائل
الحكمة اإللهية.
الخالصة:
في نظرة الفيلسوف ،فإَّن مسألة وجود هللا مسألة علمية ،بينما في نظر العارف مسألة وجود هللا هي موضوع علم (وجود وجود
الحق) .ومثلما أن في نظر الفيلسوف موضوع علمه -الموجود بما هو موجود -هو أمر بديهي وال يحتاج لإلثبات ،فإَّن في نظر
العارف هللا أمر بديهي وال يحتاج إلثبات أيضا .الموضوع هنا هو موضوع بديهي؛ لذلك ال يحتاج لإلثبات ،وال يعني ذلك أن ال
يحتاج أي موضوع لإلثبات ،وما يجب إثباته هو صفاته فحسب .أما مسائل العرفان ،فهي عبارة عن صفات وأسماء وتجليات
ذات الحق تعالى.
أحد وجوه االختالف األخرى الموجودة بين الحكماء والعرفاء هي أَّن العرفاء يعتقدون بتجٍّل واحد ،وال يعتقدون بالتكرار في
التجِّلي؛ وذلك طبقا لآلية “وما أمرنا إال واحدة…” .فلله تجٍّل واحد فحسب وهو “الوجود المنبسط” ،والذي يسمونه أحيانا
“بالحق المخلوق به” ،كما لديهم أسماء أخرى له أيضا.
العرفاء ال يعبرون عن التجلي “بالعلية” .أما الحكماء ،فهم يقولون بوجود مراتب للوجود والموجودات (أول ما صدر ،وثاني ما
صدر) ،ويقولون بوجود ِع لة غير ذات الحق تعالى أيضا ،ولكن في طول ذات الحق.
العارف -وفضال عن عدم استخدامه تعبير “العلية” -ال يعتقد بالتجلي األول والثاني والثالث أيضا ،ولو كان ذلك في الطول (.)2
فهو ال يقول بصدور عن ذات الحق تجٍّل أول ،ومن التجلي األول تجٍّل ثان.
العارف يقول بتجٍّل واحد فحسب والمسمى “بالوجود المنبسط” ،ويقول إَّن كل األشياء (كل الماهيات) ُو جدت بذلك التجلي
الواحد ،وال يقول مثل الفيلسوف بوجود علل بعدد الماهيات.
العارف يقول :كل الماهيات (األعيان الثابتة) ظهرت بتجٍّل واحد ،وهي من لوازم تجلي ذات الحق تعالى ،وظهورها عبارة عن
ذلك التجلي الواحد ..هو يعبر عن الوجود المنبسط “بالظل” و”المرتبة الجمعية” (أي :تلك المرتبة التي تجتمع فيها كل األعيان
الثابتة).
كل هذه صور الخمرة وكل هذه النقوش المخالفة المظهر..
هي نور واحد لوجه الساقي واقعة في الكأس
الكثرات التي يقول بها الحكيم (الكثرات الطولية والعرضية ،واألفالك والعناصر ،و…) هي كلها في نظر العارف من لوازم
الوجود المنبسط؛ لذا فهو يقول بالوجود المنبسط “الحق المخلوق به” (أي الحق الذي خلقت وظهرت كل األشياء به).
ولقد انتقد “المير داماد” كالم الحكماء -القائلين إَّن الصادر األول هو العقل األول -وقال :الصادر األول يجب أن يكون موجودا
بحيث يكون كل األشياء ،وال يمكن أن يكون موجودا في طول الموجودات األخرى .وفي الواقع ،فإن المير داماد هنا قد مال
للعرفاء.
العرفاء يعتقدون أن األشياء في كل “آن” تتجدد؛ ففي نظرهم أن العالم دائما في حالة فناء وإعادة الوجود ،ولكننا نتخيل أنه
عبارة عن شيء ثابت ،في الحال:
في كل زمان تتجدد الدنيا…
ونحن ال خبر لنا عن التجديد في البقاء
مسألة العلية:
الحكماء يطرحون في رؤيتهم مسألة الصدور والمصدر والصارد…؛ بمعنى أن الفالسفة يعتقدون بنوع من نظام للموجودات
صادر عن ذات الحق بترتيب معين (الصادر األول والثاني والثالث).
ٍنثا بوجود القائل للقول ومخالف للكثرة، عدو فالعارف الصادرات. بينما العرفاء ال يعتقدون ال بالصدور والمعلولية ،وال بتكاثر
للحق ،وإْن كان هذا الثاني معلوال وصادرا عن الحق.
العارف يعتبر وجود أي موجود بالجنب من الحق شريك للبارئ ،ويرى أن االعتقاد بذلك شرك ،وطبقا لهذا فهو مخالف ألي
نوع من العلية.
العارف يعتقد بالتجلي؛ فمفهوم “الخلق” الوارد في القرآن ،هو في نظر الحكيم “علية” ذات الحق ،بينما هو في رؤية العارف
“تجٍّل ” لذات الحق.
فهل هذا النزاع نزاٌع لفظي فحسب؟ بمعنى أن كلمة “الخلق” القرآنية ،تسمى لدى العارف “بالتجلي” ولدى الحكيم “بالعلية”؟
ال ،ليس هذا نزاعا لفظيا.
في التجِّلي والظهور هناك نوع من الوحدة الحاكمة بين الظاهر والمظهر؛ فالمظهر هو نفسه الظاهر ،حقيقة التجلي هي نفسها
المتجلي ،تجلي شيء ما ليس أمرا ثانيا للشيء؛ فتجلي حقيقة ما ،هو عبارة عن مرتبة من مراتب نفس تلك الحقيقة ،وليس بمعني
أنه موجود بالجنب من تلك الحقيقة.
ومن ضمن أعمال المال صدرا العظيمة أَّنه قَّرب بين مفهومْي “العلية” و”التجلي” ،وأثبت أَّن المعلول الواقعي (ليس إال شأنا
من شؤون العلة ،وظهورا من ظهورات العلة ووجها من وجوهها)؛ ففي واقع األمر أَّنه قد أرجع العلية إلى التجلي.
سابقًا كانوا يفترضون أن الرابطة الموجودة بين العلة والمعلول هي التي تربط بينهما ،وذات المعلول ذات مستقلة ومرتبطة
بالعلة ،وهذا االرتباط يعُّد زائدا على ذات المعلول؛ فمثال إذا كان ألف علة والباء معلول ،فإن الباء تعد منتسبة لأللف ،فهي حقيقة
لها انتساب باأللف.
بينما أثبت المال صدرا أَّن المعلول الواقعي -وبتمام حقيقته -هو عين انتسابه لعلته؛ فحقيقة المعلول هي عين إضافته لعلته ،وليس
األمر هو أن العلة تشرق المعلول ،فيكون المعلول شيئا تعلق به اإلشراق.
فاإليجاد هو عين الموجود ،واإلضافة هي عين المضاف“ ،فاإلشراق” هنا هو عين “الشروق”؛ فليس المعلول ذاتا يتعلق بها
اإلشراق ،والمال صدرا يثبت بالبرهان أن حقيقة العلية ترجع للتجلي.
العرفاء مخالفون للعلية -التي كان يقول بها الفالسفة من قبل -فطبقا لما كانت تقول به الفالسفة هو :أن ذات الحق علة لألشياء،
فذات الحق -والتي هي علة -هي نفسها شيء ،وعليتها -أي خلقها وإيجادها -هي شيء آخر ،ووجود المخلوق هو شيء ثالث.
أَّم ا في نظر المال صدرا ،فيصبح الخلق والمخلوق شيئا واحدا ،ويعدان من شؤون العلة ،وهما ليسا ُم نفصلين عن العلة وثانيين
لها .بمعنى أن التفاوت العلية مع المعلول -أي اإليجاد مع الوجود -هو تفاوت ذهني محض فحسب؛ فالكثرة الموجودة بين اإليجاد
والوجود هي صرف كثرة من صنع الذهن.
أَّم ا الكثرة الموجودة بين العلة والمعلول ،فهي كثرة واقعية ،وفي عين الحال ليست خالية من نوع من الوحدة .بمعنى أن المعلول
ليس ثانيًا للعلة ،بل هو شأن من شؤونها ،وبمنزلة االسم والصفة لها؛ فالعالقة بينهما مثل عالقة كل موصوف بصفة ،والمسمى
باالسم ،واللذين يعدان مرتبتين من مراتبهما.
إننا إذا ما وصلنا لحقيقة األشياء (إلى وجودها)؛ فال يمكننا حينها أن نفصلها عن المضاف إليه (هللا) ،ولكن لكوننا ندرك ماهيات
الموجودات ،فنشاهد الكثرة ال الوحدة.
في فلسفة المال صدرا تَّم التصالح بين عقيدة الفالسفة والعرفاء ،فإَّنه قد توَّص ل إلى أن العلية ليست سوى التجلي ،والتجلي ال
يمكن أن يكون غير العلية.
اصطالحات من قبيل “الموجود والمعدوم ،الواحد والكثير ،الجوهر والعرض ،والحادث والقديم ،والحق والخلق” ،وأمثالها،
والمتداولة على ألسنة الفالسفة ،قد كانت موجود في اصطالحات العرفاء أيضا ،ولكن مفهوم الفالسفة لهذه المعاني يتفاوت مع
ما لدى العرفاء منها ،وسبب هذا التفاوت هو “التوحيد العرفاني” الذي ال يقول لذات الحق من شريك -حتى في الموجودية-
والذي كان يتلقى للقول القائل (بوجود موجود حقيقي غير الحق) كنوع من الشرك.
وبعبارة أخرى ،جذر اختالف النظر هذا هو أن الفيلسوف قائل “بالكثرة الوجودية” ،والعارف “بالوحدة الوجودية”.
وفي نظر الفيلسوف ،هناك وجود للموجودات الحقيقية والمنفصلة عن بعضها البعض على نحو ال ُيمكن القول بأَّن هذا الموجود
هو عين ذاك ،كما ال يمكن القول بأن ذاك هو عين هذا.
فواحدة من هذه الموجودات المتباينة الذات ،واألكثر كماال من غيرها ،والالمتناهية واألزلية واألبدية ،وغير المحتاجة ألي
موجود آخر ،والتي هي عبارة عن عين العلم والقدرة والحياة واإلرادة ،هي “واجبة الوجود” ،بينما سائر الموجودات مع
اختالف درجاتها ومراتبها؛ حيث البعض منها مجردة وبعضها مادية ،بعضها جوهر وبعضها عرض ،بعضها بالنسبة لغيرها
أكثر كماال… تعتبر كلها “ممكنة الوجود”.
الموجودات الممكنة الوجود تتصف بصفات تعد من مختصات صفات ممكنة الوجود ،وذات الحق يجب أن تكون منزهة عن تلك
الصفات ،وذلك من قبيل (المخلوقية ،والكثرة ،والحدوث ،والجوهرية ،والعرضية ،والمحدودية ،والتجسيم ،والحركة ،والتغيير)
وأمثالها.
وفي عقيدة الفالسفة ،فإَّن توصيف ذات الحق بهذه الصفات -من حيث أنها تنشأ من نقص ومحدودية الممكن ،وتعد من مختصات
الممكن -غير جائز ،ويعد اصطالحا “بالتشبيه” أي تشبيه الحق بالخلق المنهي عنه في الروايات اإلسالمية.
ولكن :ماذا يقول العارف في هذه المسألة؟ هل هو -والقائل بوحدة الوجود ،وال يرى للحق في الموجودية من شريك -قد أزال كل
مثل هذه االصطالحات (المحدودية ،والمخلوقية ،والكثرة ،والحدوث ،والجوهرية ،والعرضية) من قاموسه ،أو أنه قد استعملها
فعال؟ وفيما إذا استعملها فكيف كان استعماله لها؟ وهل قد استخدمها في حق غير هللا تعالى ،من حيث هو ال يقول بوجود ثان في
الوجود ،ويتغني بنغمة (ليس في الدار غيره ديار)؟
وهل أنه قد استخدم هذه المعاني والمفاهيم في حق ذات هللا تعالى أيضا؟ وفيما إذا كان قد استخدمها ،فكيف كان ذلك؟
هل كان يرى لذات الحق أنها محدودة وغير محدودة في آن واحد؟ وأنها خالقة ومخلوقة؟ أنها حادثة وقديمة؟ مجردة ومادية؟
كيف كان األمر لديه؟ الحقيقة هي أن العارف القائل بوحدة الوجود ،إذا ما نفى األشياء فهو ينفيها بهذه الصورة؛ وهي:
- 1أنه يرى أن وجود األشياء وجود “ظلي وظهوري” ،وليس “وجودا حقيقيا” .وعليه ،فهو ينفي الوجود الحقيقي دون نفيه
للوجود الظلي لها.
- 2أنه يرى أن األشياء -أي الوجودات الظلية -كلها عبارة عن ظهورات وتجليات وشؤون وأسماء وصفات الحق .وعليه ،فهو
باعتبار معين يسلب عن ذات الحق في مرتبة الذات ،جميع الصفات المختصة بالمخلوقات ،بحيث يكون “للتنزيه” هنا الحاكمية
الكاملة ،وباعتبار آخر يرى أن شؤون وأسماء وصفات الحق ال تعد ثانيا له ،بل هي نفس الحق ولكن في مرتبة األسماء
والصفات .ومن خالل هذه الرؤية ،فإن الحق في مرتبة أسمائه وصفاته يتصف بكل شؤون المخلوقات من قبيل (المخلوقية،
والمحدودية ،والحدوث ،والكثرة…وأمثالها)؛ بحيث يكون “للتشبيه” هنا الحاكمية الكاملة.
ومن هنا ،سمت العرفاء “الخلق” بالحق المقيد ،وبسبب رؤيتها هذه قد ارتفع النزاع المعروف بين المتكلمين القائل :هل
“التنزيه” هو األمر الصحيح أم “التشبيه”؛ حيث يلزم القول “بالتنزيه المطلق” عدم إمكانية المعرفة.
العرفاء يقولون بالتنزيه في عين التشبيه ،والتشبيه في عين التنزيه .وفي مسألة عينية الذات بالصفات فهم يقولون بالصفات في
مرتبة الذات وبعينية تلك الصفات بالذات من طرف ،كما يقولون بزيادة األسماء والصفات على الذات (يعني المخلوقات)،
واتحادها بالذات في عين الحال من طرف آخر.
والعرفاء -ومن خالل تلك الرؤية التي يرون بها أن العالم ،والذي هو عبارة عن مجموعة من األضداد ،مع ذات الحق ،وبنظرة
معينة شيئا واحدا -يدعون أن ذات الحق جامعة لألضداد ،ويقولون “أن هللا تعالى ال يعرف إال يجمعه بين االضداد في الحكم
عليه بها” (.)3
العارف يستخدم الصطالح “الجوهر والعرض” ،ولكنه يعتقد أن النسبة الموجودة بينهما -والمعروفة لدى الحكيم -هي نفس
النسبة الموجودة بين ذات الحق وسائر الموجودات األخرى ،بمعنى أن كل الموجودات بالنسبة لذات الحق هي “عرض وحالة
وصفة” ،وذات الحق هي جوهر جميع الجواهر واألعراض ،ومثلما أن الجوهر يشمل األعراض ،كذلك ذات الحق تشمل كل
األشياء.
قلنا إَّن العارف يرى أن الوجود الحقيقي منحصر في ذات الحق ،ويعتبر سائر األشياء -وبنظرة معينة -معدومات .في نظر
العارف ،فإن نسبة ذات الحق للعالم هي نسبة “الشخص للظل” ،و”نسبة الشيء للفيء” ،ونسبة “العاكس للعكس” .وهذه
التعبيرات هي نفسها التي يستخدمها العرفاء في كالمهم.
يقول محيي الدين في فصوص الحكم في “فص اليوسفي”“ :اعلم أَّن المقول عليه “سوى الحق” ،أو مسمى العالم ،هو بالنسبة
كالظل لشخص وهو ظل هللا وهو عين نسبة الموجود إلى العالم؛ ألن الظل موجود بال شك في حس ،ولكن إذا كان هنا من يظهر
فيه ذلك الظل حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل ،كان الظل معقوال ال غير موجود في الحس ،بل يكون بالقوة في ذات
الشخص المنسوب إليه الظل ،فمحل ظهور هذا الظل اإللهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات ،عليها امتد هذا الظل
فتدراك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذوات” (.)3
وعليه ،ففي نظر العارف فإن ماهيات األشياء والتي تسمى “باألعيان الثابتة” مظهرا ومحال لظهور ذلك الشيء الذي يسميه
العرفاء “بظل هللا” ،وهو نفسه “الوجود المنبسط” باصطالح ،و”وجود إضافة” باصطالح آخر.
ويقول أيضا“ :فكل ما ندركه هو وجود الحق في أعيان الممكنات؛ فمن حيث هوية الحق هو وجوده ،ومن حيث اختالف الصور
فيه هو أعيان الممكنات ،فكما ال يزول عنه باختالف الصور اسم الظل ،كذلك ال يزول باختالف الصور اسم العالم أو اسم سوى
الحق؛ فمن حيث أحدية كونه ظال هو الحق ،ألنه الواحد األحد ،ومن حيث كثرة الصور هو العالم” (.)5
قلنا إَّن العارف في عين الوقت الذي يقول فيه بوحدة الحق والخلق ،وال يرى الخلق مباينا للحق ،وال يقول له بوجود مستقل ،بل
الخلق في نظره هو عبارة عن امتداد لنور وجود الحق؛ فإنه يحافظ على المراتب في الوقت نفسه .فللحق حكم في مرتبة الذات،
وحكم آخر في مرتبة الخلق.
يذكر محيي الدين في “فص الشعيبي” من فصوص الحكم ،كالما عن معرفة النفس في البين؛ فكما نعلم فإَّن العرفاء يعتقدون أنه
ال يمكن معرفة النفس على نحو حقيقي إال عبر طريق السير والسلوك.
وفي كلمات العرفاء ،يمكننا مشاهدة مثل هذا الكالم أحيانا :للعارف الفالني ،وفي الوقت الفالني ،وفي اليقظة أو النوم ،حصلت
له “معرفة النفس” .وأحيانا يعبرون عن ذلك “بالتجرد” ،ويقولون :حصل له تجردا.
يقول محيي الدين“ :معرفة النفس بهذا النوع من المعرفة ،هي عين معرفة الحق ،ومفاد الحديث المعروف “من عرف نفسه
عرف ربه” ليس هو أن يحصل بواسطة معرفة النفس معرفة أخرى ،والتي هي معرفة الرب ،وذلك مثلما يكون في القياسات
الفكرية؛ حيث يولد من العلم بالمقدمتين العلم بالنتيجة ،بل معرفة النفس على ذلك النحو من المعرفة ،هي عين معرفة الرب؛ ألَّن
الخلق من جهة هو عين هوية وحقيقة الحق ،والنفس هي أكمل صور الخلق؛ ألن “إَّن هللا تعالى خلق آدم على صورته” (هللا).
يقول محيي الدين :لم ينل أحد على صورة حقيقية لمعرفة النفس غير األنبياء والعرفاء ،وما قالته الحكماء والمتكلمين في هذا
الباب ،فهو بسبب عدم وصولهم للحقيقة.
ُيْو رد هنا محيي الدين مثال ،ويقول“ :كل من يناقش مسألة معرفة النفس عن طريق الفلسفة ،فقد استسمن ذي الورم ،ونفخ في
غير ضرم” .ويقول إنهم مصداٌق لهذه اآلية“ :الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا” (.)6
العرفاء وبشكل عام -وخالفا للحكماء الذين يرون أن “األنا الحقيقية” موجود مستقل الذات -يرون أن “أنا الحقيقية” إذا ما
عرفت بالمعرفة العرفانية ،فإنها من خالل نظرة معينة تعد عين ذات الحق ،أي في نظرهم أن “أنا” مساوية لـ”هو”.
هنالك حيث يدعي العارف ويقول مثال “إني أنا هللا” ،فإن ما يدركه هو من “أنا” هو غير ذلك الشيء الذي يفهمه اآلخرون من
كالمه.
ويتخيل اآلخرون أنه في إدراك نفسه من خالل “أنا” ،يشاهد هذا الموجود المحدود الخلقة ،وأنه قد أعطى لهذا الوجود نسبة
األلوهية ،أو تخيلوا بأنه قد اعتقد أن ذات هللا قد حلت فيه.
هذا في الحال الذي يكون فيه العارف فاٍن عن نفسه ،وذلك الشيء الذي ال يمكن رؤيته أبدا ،هو نفس ذاك الشيء الذي يتلقاه
اآلخرون كـ”أنا” ،بينما يعد هو في نظر العارف عبارة عن “ال شيء محض”.
ابن الفارض العارف المصري المعروف ،الذي عاش في القرن السابع ،والذي يعد في العرفان اإلسالمي وبين عرفاء العرب
مثل حافظ بوجه عربي ،ولربما كان أقوى من الحافظ ،يقول في قصيدته التائية المعروفة:
متى حلت عن قولي أنا هي أو أقل…
وحاشا لمثلي أنها في حلت ()7
ومفاد هذا الشعر هو نفسه الذي قاله الشيخ الشبستري في “حديقة األسرار”:
الحلول واالتحاد هنا محال…
ففي الوحدة الثنائية عين الضالل ()8
فقد تبَّين لنا من خالل ما مر أن أحد موارد اختالف النظر بين العرفاء والحكماء هو مسألة “معرفة النفس” ،والتي يخطئ
العرفاء فيها الحكماء كثيرا.
ويقول محيي الدين في “فصل شعيبي” عن “الخلق الجديد” ( ،)9والذي أشير إليه سابقا “وما أحسن ما قال هللا تعالى في حق
العالم وتبدله مع األنفاس” في خلق جديد “في عين واحدة ،فقال في حق طائفة بل أكثر العالم “بل هم في لبس من خلق جديد” (
)10؛ فال يعرفون تجديد األمر مع األنفاس لكن قد أثرت…” (.)11
—————————————————-
الهوامش:
-1يرجع لمقدمة العفيفي على “فصوص الحكمة” ،ومقدمة كيوان سميعي على شر “كلشن راز” ،ومحاضرات عبدالرحمن
البدوي في جامعة اإللهيات ،و”قيمة ميراث الصوفي” و”بحث في التصوف” للدكتور غني ،وورقة “العرفان والتصوف” لي.
-2السلسلة الطولية مقابلة للسلسة العرضية.
-3فصوص الحكم ،فص الرابع ،فص إدريسي.
-4فصوص الحكم ،ص.101:
-5فصوص الحكم ،ص.103:
-6الكهف.104:
-7متى عدلت عن قولي “أنا هو” ،أو متى سأقول “سأعدل” ،وحاشا لواحد مثلي بأن يقول إنه قد حل في.
-8وله في الكتاب نفسه فصل تحت عنوان “حقيقة أنا” في نظرة عرفانية ،يمكن الرجوع إليه.
-9الرعد.5:
-10ق.15:
-11فصوص الحكم ،ص.125:
يحيى محمد
إذا كان الجهاز الفلسفي يرتكز على العقل واالستدالل كأساس للتنظير ،فإن الجهاز العرفاني المحض يستند إلى القلب كمصدر للكشف
والمشاهدة التلقائية من غير نظر وال استدالل .فهو يستفيض الحقائق ويستلهمها بنفسها عبر حدس ُيطلق عليه الحدس الصوفي .وبذلك
يكون القلب أداة معرفة لدى العرفان في قبال العقل لدى الفلسفة ،كما ويكون الكشف والمشاهدة أداة تلّق واستلهام في قبال البرهنة
والتفكير .ومع ذلك فهناك عامل مشترك بين الطريقتين كما يتمثل بدينامو التوليد واإلنتاج المعرفي .فسواء كان اإلنتاج قائمًا على أداة
العقل واالستدالل ،أو القلب والكشف ،فإن األصل الموّلد الذي يمارس عملية اإلنتاج يبقى نفسه في الحالتين ،وهو السنخية ،رغم أنه في
الطريقة العقلية يتبع نهج العالقات السببية بحفظ المراتب المحددة من العلة والمعلول ،إال أنه في الطريقة العرفانية يتجاوز هذا المعنى
اإلثنيني ليعّبر عن عالقات تدور ضمن الوحدة الشخصية العضوية ،وهي عالقات وإن اتصفت بنوع من الضرورة والحتمية ،إال أنها في
جميع األحوال ال تحتفظ بمراتب العلة والمعلول ،كسالبة بإنتفاء الموضوع كما يقول المنطقيون .وهنا ظهر الخالف بين بعض الفالسفة
وبين العرفاء في ما يخص صنعة الكيمياء .فعلى خالف طريقة جابر بن حيان وأتباعه من أهل الباطن ،رفض إبن رشد أن يكون نتاج هذه
الصنعة يصل نفس الرتبة التي تبلغها الطبيعة كما هي ،حفاظًا على المراتب الوجودية وإحالة قلب األشياء بعضها عن بعض .فكما يقول:
«وأما الكيمياء فصناعة مشكوك في وجودها ،وإن وجدت فليس يمكن أن يكون المصنوع منها هو المطبوع بعينه ،ألن الصناعة قصارها
إلى أن تتشبه بالطبيعة وال تبلغها في الحقيقة»[.]1
على أن تقسيمنا اآلنف الذكر هو تقسيم منهجي أكثر مما يعّبر عن الواقع التاريخي للفكر الوجودي .فمن جهة غالبًا ما يتبع المفكر
الوجودي إزدواجًا في طريقة التفكير إستنادًا إلى أداتي العقل والقلب ،أو البرهنة القياسية والكشف ،كما هو مالحظ بشكل واضح وصريح
لدى المتأخرين في الحضارة اإلسالمية .أما من جهة ثانية ،فهو أن المفكر الوجودي قد يستخدم أداة الكشف كتعبير عن تجاهه العرفاني،
في الوقت الذي يحافظ فيه على مراتب العالقات بين العلة والمعلول ،كتعبير عن ميوله الفلسفية ورؤيته المعرفية .كما قد يحصل العكس،
وهو أن يكون المفكر الوجودي فيلسوفًا ملتزمًا بأداة التفكير العقلية ،لكنه مع ذلك ال يلتزم بالحفاظ على مراتب العلة والمعلول في رؤيته
المعرفية ،كتعبير عن ميوله العرفانية .بل هناك من هو واقع في َش رك من التردد ،فهو تارة يتبنى الرؤية الفلسفية الثنائية ،وأخرى يتبنى
الرؤية العرفانية الوحدوية .يضاف إلى أن هناك إتجاهًا صريحًا يجمع بين األمرين ،سواء على مستوى األداة ،أو الرؤية المعرفية ،كما
هو الحال مع صدر المتألهين الذي جمع ما بين العقل والكشف ،كما وآلف ما بين الرؤية المعرفية الفلسفية القائمة على عالقات السببية،
والرؤية المعرفية العرفانية التي تتجاوزها ،كطريقة متوسطة للجمع بين ما هو ظاهر وما هو باطن ،أو ما هو في طور العقل وما هو
أرقى منه.
إن ما يفّس ر هذا اإلختالط والتداخل بين الفلسفة والعرفان ،والذي يجعل من الفيلسوف عارفًا ومن العارف فيلسوفًا ،هو أن كال المعرفتين
تعود إلى وحدة األصل الفعال .فتارة يتم توجيه هذه الوحدة لحفظ العالقة بين العلة والمعلول ،وثانية يتم توجيهها لتجاوز هذه الثنائية
وإعتبارها مجرد ظاهر يخفي ما هو أعمق منها وأحق ،تعويًال على ذات الوحدة من الشبه .فالشبه الذي تستبطنه العالقة بين العلة
والمعلول هو في حد ذاته يعّبر عن الوحدة ،إذ ال شبه من غير وحدة أو إتحاد ،وهو ما يدفع إلى اإلعتقاد بوحدة الوجود الشخصية تجاوزًا
لقرار العقل بضرورة التمييز بين ما هو علة وما هو معلول.
لكن إذا ما تجاوزنا هذا اإلختالط والتداخل ،ونظرنا إلى الفلسفة والعرفان نظرة تاريخية قائمة على اإلستقالل واالنفصال ،وذلك بطريقة
منهجية على صعيد األداة وبغض النظر عن األصل الفعال وما ينتجه من رؤية معرفية ،فسنرى أن دورتهما التاريخية في الحضارة
اإلسالمية تختلف عن دورتهما في الحضارة اليونانية ـ الرومانية .فإذا كان العرفان في الدورة اليونانية جاء كرد فعل على الفلسفة التي
قيدت نفسها بطريقة العقل منذ طاليس وحتى أرسطو واتباعه ،فإن ما حصل في البدايات األولى للحضارة اإلسالمية كان مختلفًا ،إذ حضر
العرفان كإمتداد لنهايات الدورة اليونانية؛ عبر تبني طريقة العرفان الباطنية وترجيحها على طريقة الفلسفة العقلية ،كما هو حال الشيعة
األوائل ،وكما يالحظ بشكل منّظ ر لدى العارف الكيميائي جابر بن حيان الكوفي ،فهو ال يثق بالقدرة الكافية لدى العقل في معرفة الحقيقة
وتحصيل اليقين ،بل يلجأ إلى طريقة العرفان كمصدر أساس للمعرفة .فهو في موضع الكالم عن عالقة القديم بالمحدث يشير إلى أن هذه
المسألة هي من أصعب األمور عند الفالسفة إلى درجة أن أكثرهم مات بحسرة التحقيق فيها[ ،]2لكنه يراها سهلة يسيرة عند أرباب العلم
من أهل العرفان الذين يشاهدون األمر بما «ال يحتاجون فيه إلى إعمال فكر في دليل وال استعمال لفظ وتمثيل»[.]3
ويرى العديد من المفكرين المعاصرين أن بداية طريقة العقل الفلسفية في الحضارة اإلسالمية جاءت كرد فعل على العرفان الشيعي.
فالمعتقد أن الدعوة بإتجاه التعقيل واالستنجاد بأرسطو التي ظهرت على يد الخليفة العباسي (المأمون) هي ذات دوافع سياسية ضد طريقة
العرفان الباطني ،مما يجعل مسار الدورة التاريخية للفلسفة والعرفان على خالف المسار الذي مّر ت به في الحضارة اليونانية ـ الرومانية.
لكن مهما يكن فإن التطور التاريخي للفكر الوجودي قد كشف بأن الطريقة العرفانية ترى نفسها قائمة -على الدوام -كرد فعل على غلواء
العقل ومنهجه االستداللي .فالعرفاء كثيرًا ما يهمهم الكشف عن قصور العقل وتناقضاته التي تفضي به إلى الطريق المسدود .فهو عندهم
ليس مؤهًال الستخالص الحقائق باستثناء بعض المعارف المجملة كمعرفة أن للحوادث محدثًا ،وفي ما عدا ذلك يعتبرونه يفضي إلى
الشك ،وهو ما يبرر تأسيس طريقة العرفان كرد فعل على هذه النهاية الخاسرة.
من هنا نعتبر الشك قنطرة أساسية يمر عبرها السالك ليتخلص من فوضى هيجان بحر العقل إلى سفن نجاة العرفان .وهناك من يعد
العرفان مرحلة تأتي بعد إنتهاء مرحلة النظر أو العقل ،والتي تسبقها مرحلة الشك ،كما هو الحال مع الغزالي الذي يقول« :من لم يشك لم
ينظر ،ومن لم ينظر لم يبصر ،ومن لم يبصر ففي العمى والضالل»[ .]4لكن الشك على صنفين ،أحدهما يسبق النظر ،وهو يحدث لوجود
اإلختالف بين المذاهب كما يتحدث عنه المتكلمون ،ويزول إما بالتقليد أو بالنظر العقلي وال يفضي إلى السلوك العرفاني .أما الصنف
اآلخر فهو يأتي بعد االغراق في النظر ،وهو الذي يفضي إلى ذلك السلوك ،كما حدث مع تجربة الغزالي نفسه .فقد ذاق مرارة الشك
وسطوته بعد ايغاله في النظر العقلي ،ولم يتمكن من االفالت منه إال بالسلوك العرفاني كما هو معلوم.
[ ]2من بين هؤالء الفالسفة ما ُن قل عن جالينوس أنه تردد في هذه المسألة من الحدوث والقدم للعالم ،وأنه قال في مرضه الذي مات فيه
لتالمذته :اكتبوا عني اني ما علمت أن العالم قديم أو حادث (جالل الدين الدواني :رسالة انموذج العالم ،ضمن ثالث رسائل للدواني،
تحقيق أحمد تويسركاني ،مجمع البحوث اإلسالمية ،ايران ،الطبعة األولى1141 ،هـ ،ص .482ورسالة معراج السالكين ،ضمن
مجموعة رسائل اإلمام الغزالي ( ،)1ص.)78
[ ]4الغزالي :ميزان العمل ،تحقيق وتقديم سليمان دنيا ،دار المعارف بمصر ،الطبعة األولى1964 ،م ،ص 408و228