Professional Documents
Culture Documents
الاثبات القضائي
الاثبات القضائي
الثبات القضائي
مفهومه وأهميته في القضاء وتنظيمه التشريعي
مقدمة
الحمد ل رب العالمين ،و الصلة و السلم على أشرف المرسلين ،سيدنا محمد و
على آله و صحبه و من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ،و بعد،
إن من حسن الطالع أن كتابات الشراح في هذا الفرع من فروع القانون )الثبات(
على قدر من الوفرة في المكتبة القانونية العربية ،إذا ما قورنت بفروع أخرى من القانون.
غير أن هذا لم يمنعني من التفكير في الكتابة فيه ،لما استشعرته من أهميته ولما له من
ارتباط وثيق بالممارسة العملية في المحاكم وتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع .ولما لمسته
من أهمية هذا العلم ،لدارسي القانون والمشتغلين في مجال المهن القانونية جميعها.
وقد جاءت هذه الور قة في مبا حث ثل ثة تناولت في اول ها فكرة الثبات القضائي من ح يث
مفهوم ها وتحد يد ماهيت ها ،و في ثانيه ما أهم ية الثبات القضائي في القضاء في الخص ومات
وبالتالي في تحق يق العدالة ،وتناولت في ثالث ها التنظ يم التشري عي لقوا عد قانون الثبات
وموقعه من النظام القانوني للدولة في مجمله.
وإني إذ اقدم هذه الورقة آمل أن تكون عمل Fمفيدا Fنافعا Fفي هذا الجانب من القانون،
ومساهمة متواضعة في المكتبة القانونية العربية ،وجهدا Fمقبول Fعند ال تعالى .منتظرا Fمن
الزملء الكرام أل يضنوا علي Gبملحظاتهم وانتقاداتهم.
1
إبن منظور* لسان العرب ،ص - 468
-د.يس محمد يحي* أصول الثبات في القانونين المصري و السوداني )دراسة مقارنة ( طبعة دار النهضة 2
-4وفي هذا يذهب المام ابن القيم رحمه ال إلى أن البينة " :اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في
اصطلح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين ول حجر في الصطلح ما لم يتضمن حمل كلم
ال ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها مراد المتكلم منها وقد حصل بذلك للمتأخرين
أغلط شديدة في فهم النصوص ونذكر من ذلك مثال واحدا وهو ما نحن فيه من لفظ البينة فإنها في كتاب ال
اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى ) :لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ( وقال ) :وما أرسلنا من قبلك إل رجال
نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون بالبينات ( وقال ) :وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إل من بعد ما
جاءتهم البينة ( وقال ) :قل إني على بينة من ربي ( ." ...أنظر إعلم الموقعين .1/90
وكما هو واضح من تعريف الثبات السابق فإن المقصود هو )الثبات القضائي(؛
أي الثبات الذي يتم عن طريق تقديم الدليل أمام القضاء أو المحكمين أو الموفقين -وهو
في هذا يختلف عن الثبات بالمعني العام ،أي ذلك الثبات المجرد من كل قيد ،ول يكون
أمام القضاء كالثبات العلمي ،والثبات التاريخي فكل من هذين النوعين الخيرين من
الثبات يتم بأي وسيله كانت بحثا عن الحقيقة المجردة.5
والثبات القضائي بمعناه القانوني ،يتعين أن ينصب علي وجود واقعة قانونية أو
نفيها ،ذلك أن محل الثبات ليس هو الحق المتنازع عليه؛ بل محله الواقعة القانونية المنشئة
لهذا الحق سواء أكانت هذه الواقعة عمل قانونيا ،أي تصرفا قانونيا كالبيع أو الوكالة ،أم
كانت واقعة مادية كالعمل غير المشروع.6
أخيرا يتعين أن يتم الثبات بالطرق التي حددها القانون؛ ذلك أن المشرع يحدد
طرق الثبات المختلفة وطريقة تقديمها ،وهو تحديد ملزم للخصوم كما هو ملزم للقاضي،
بحيث ل يحق للخصوم الستناد في دعاواهم على غير طرق الثبات المقبولة قانونا ،او ان
يخالفوا ضوابط القانون في عملية الثبات أمام القضاء ،فإن فعلوا لم يجز للقاضي ان يقبل
ما قدموه من أدلة .وفي هذا جانب يبدو واضحا الخلف الجوهري بين )الثبات العلمي
والثبات التاريخي( والذي يتميز بالتحرر من كل قيد في إثبات الحقائق العلمية والتاريخية
موضوع البحث و )الثبات القضائي(.7
-5د.أنور سلطان* قواعد الثبات في المواد المدنية والتجارية،الناشر الدار الجامعية 1984م ،ص 4
6
د.عباس محمد طه* أحكام الثبات،طبعة نوفمبر 1998م ،ص - 1
7
د .أنور سلطان * قواعد الثبات )المرجع السابق( ص - 5
البحث الثاني
-وفي اقليم سينا إذا لم يكن لدى اهل القتيل البينة الكافية لثبات جريمة القتل على من يتهمونه ،رفعوا أمرهم 8
إلى ) المبشع( الذي يختبر المتهم بالنار أو بالماء أو بالرؤيا ،ليقرر ما إذا كان هو مقترف الجرم ام ل.
9
محمد عطية راغب* النظرية العامة للثبات في التشريع العربي المقارن ،ص - 5 - 4
-10موسى مسعود رحومة *حرية القاضي الجنائي في تكوين عقيدته ،الدار الجماهيرية ،الطبعةالولى 1988م،
ص7
والقضائية ،المر الذي يصب في النهاية في صالح حماية الحق ذاته من الضياع ومن تغول
الخرين.
فالحق أيا كان ،يرتبط من الناحية الواقعية بالقدرة على إثباته؛ إذ ل يمكن التمتع
بحق ما دون إقامة الدليل عليه عند النزاع .فان ثبت عجز مدعي الحق عن تقديم الدليل
المرسوم تعذر التمسك بالحق أو المركز القانوني الذي يدعيه الشخص .ولكن بالرغم من
هذا التلزم والرتباط الوثيق بين الحق والدليل عليه ،فإن الدليل في الحقيقة هو شئ مختلف
عن الحق ذاته؛ فهو ل يعدو أن يكون مجرد وسيلة لثبات وجود الحق بشروطه وأوصافه
.ولتوضيح 11
فلو كان الدليل باطل مثل فان ذلك ل يحول دون إثبات الحق بدليل آخر
ذلك ،فإن الثبات إنما يرد علي مصدر الحق ،ل علي الحق ذاته ،ومصدر الحق كما هو
معلوم قد يكون تصرفا قانونيا أو واقعة قانونية ،أما الحق ذاته فل يكون محل للثبات بل
هو الهدف الذي يرمي إليه صاحب الحق من الثبات.
والقاعدة أن الثبات إنما يقصد به إقامة الدليل على الواقعة القانونية المنتجة في
الدعوى بالمعنى الشامل للواقعة والذي يتضمن التصرف القانوني أيضا ؛ لن هذا التصرف
القانوني في حقيقته ل يعدو أن يكون واقعه إراديه ترتب آثارا Fقانونية ،و ينبني على هذه
القاعدة أن الثبات ل يرد على القاعدة القانونية ؛ لن على القاضي واجبا Fاساسيا Fبمعرفة
القانون و الحاطة بأحكامه حتى يتسنى له تطبيقها .12ويترتب علي ذلك أن العجز عن إثبات
مصدر الحق من شانه أن يؤدي إلى عدم وجود الحق أمام القضاء كحقيقة قضائية ولو كان
له وجود في الحقيقة والواقع.
وفي الواقع فإن كثيرا Fمن القضايا يخسرها أصحابها ،فيضيع الحق على أحدهم ل
لنه مدع] كاذب؛ بل لن حقه الذي يطالب به بل دليل هو جسد ل روح فيه ول نفع منه،
ولهذا فقد استقر عند الفقهاء أن الثبات يعتبر بمثابة شريان الحياة للحق ،وأن الحق الذي
يعجز صاحبه عن الثبات هو والعدم سواء ،وتواترت أقوالهم علي " :أن الدليل هو قوة
الحق " ،و" أن ما ل دليل عليه هو والعدم سواء " .وخلصة ذلك كله أن الحق يتجرد من
-11طرق الثبات في القانون الردني* المحامي مصطفى محمود فراج :بالنترنت الموقع )
www.duhaime.org)2001م ،ص 2 -1
12
أحمد أبو الوفا،الثبات في المواد المدنية والتجارية 1983،م -
كل قيمة ،ما لم يقم الدليل علي مصدره أمام القضاء وفقا لما قرره المشرع من قواعد
الثبات ،سواء أكان مصدر ذلك الحق قانونيا أم ماديا.13
البحث الثالث
التنظيم التشريعي للثبات
يشتمل التنظيم التشريعي للثبات -بالنظر إلى فحوى القاعدة القانونية وطبيعة
الموضوع الذي تنظمه -علي طائفتين من القواعد هما القواعد الموضوعية والقواعد
الشكلية.
الطائفة الولى من قواعد الثبات أطلق عليها فقهاء القانون وصف القواعد
االموضوعية بحكم ما تهدف اليه من تنظيم الثبات القضائي من الناحية الموضوعية ،فنجد
هذه الطائفة من قواعد الثبات تهتم بمعالجة وتبيان طرق الثبات المختلفة من إقرار وشهادة
ومستندان ويمين…الخ .كما أنها تحدد القيمة قانونية الكل طريق من تلك الطرق في
الثبات ،كما تهتم هذه الطائفة أيضا بمعالجة المسائل المتعلقة بعبء الثبات ،وتوزيعه بين
الخصوم ومحل الثبات في الدعاوى أيا كان نوعها ،كما تهتم بمعالجة مشروعية الدلة أو
وسائل الثبات.14
الطائفة الثانية من قواعد الثبات – وعلى خلف الطائفة الولى – ل شأن لها بالشق
الموضوعي للثبات القضائي؛ وإنما يقتصر دورها على الجانب الشكلي ،وهذه هي القواعد
الشكلية.
وفي الواقع فان دور القواعد الشكلية في مجال الثبات ل يقل أهمية وحيوية عن
القواعد الموضوعية ،حيث تلعب هذه القواعد دورا Fهاما في الجانب التنظيمي لعملية
الثبات أمام المحاكم وكما هو معلوم فإن جانب التنظيمي هو العمود الفقري لعملية تحقيق
العدالة في شتى مجالتها ،وبغيره تغدو الجراءات امام المحاكم مسرحا للفوضى ومعتركا
-د.يس محمد يحي* أصول الثبات)المرجع السابق( ص ،4 -3كذلك أنور سلطان )المرجع السابق( ص 13
6 -5
14
عباس محمد طه )المرجع السابق( ص - 3
للهواء ،المر الذي يفتح الباب على مصراعيه للتغول على العدالة وهدمها من أساسها.
وتهتم القواعد الشكلية في قانون الثبات بمعالجة الجراءات الواجب اتباعها في تقديم البنية
التي حددتها القواعد الموضوعية أمام القضاء .مثل الجراءات الخاصة بتقديم المستندات
أمام المحكمة والعتراض عليها والطعن فيها ،والجراءات المنظمة لكيفية أداء الشهادة
ومراحلها المختلفة من استجواب رئيسي ،ومناقشة ،وإعادة استجواب .ومن قبيل القواعد
الشكلية وصف إجراءات المعاينة القضائية وكيفية اعداد محضرها ،وإجراءات بينة الخبير
وكيفية تحريرها وما ذلك.15
ونظرا للطبيعة المزدوجة لقواعد الثبات وارتباطها بالشكل والموضوع في آن
واحد ،فقد انقسمت التشريعات بالنسبة للمكان التي ترد فيه قواعد الثبات إلى اتجاهات
ثلثة :16
التجاه الول يرى وضع القواعد الموضوعية للثبات في القانون الموضوعي ،كالقانون
المدني والقانون الجنائي ،بينما توضع القواعد الشكلية في القانون الجرائي ،كقانون
الجراءات المدنية )قانون المرافعات( وقانون الجراءات الجنائية .والهدف الذي يرمي إليه
هذا التجاه هو المحافظة على الطبيعة المميزة لكل من نوعي قواعد الثبات .وهذا هو
التجاه السائد في القوانين اللتينية كالقانون الفرنسي والقانون المصري.
التجاه الثاني يرى جمع قواعد الثبات الموضوعية والشكلية معا Fوتضمينها في القوانين
الجرائية ،أي أن هذا التجاه يتعامل مع قواعد الثبات في عمومها على أنها قواعد
إجرائية ،دون أن يلقي بال Fللطابع الموضوعي الذي تتسم به كثير من قواعد قانون الثبات.
وهذا التجاه أخذ به القانون اللماني والقانون السويسري وبعض القوانين العربية كالقانون
اللبناني.
أما التجاه الثالث فيتسم بالوسطية في موقفه من تصنيف قواعد الثبات ،فيرى إفراد قانون
خاص لقواعد الثبات الموضوعية والشكلية معا ،Fوبالتالي معاملة قانون الثبات كفرع
مستقل ومميز من فروع القانون ،ل شأن له بالقوانين الموضوعية ول القوانين الجرائية.
وهذا هو التجاه الذي أخذ به التشريع النجليزي ،ويبدو أن تأثير القانون النجليزي على
15
د.يس محمد يحي* أصول الثبات)المرجع السابق( ص - 4
16
د .أنور سلطان* قواعد الثبات في المواد المدنية والتجارية ،الناشر الدار الجامعية 1984م ،ص - 8
القانون السوداني والرتباط التاريخي بينهما ،هو ما جعل المشرع السوداني يأخذ بهذا
التجاه .وهذا التجاه في رأيي يلبي الهمية المتزايدة لقواعد الثبات في مجال تحقيق
العدالة في العصر الحديث ،حيث يمكن للمشرع وفقا Fلهذا التجاه ملحقة التطور الهائل في
مجال التكنولوجيا والمستجدات التي أسفر عنها هذا التطور خاصة في مجال المعاملت
اللكترونية .وخير دليل على ذلك الجدل الواسع الذي تثيره مسألة الثبات بالوسائل
اللكترونية الحديثة ،كرسائل البيانات والتوقيع الكتروني وغيرهما .إفراد الثبات بقانون
مستقل بل شك يتيح للمشرع حرية ارحب ومكنة أفضل في التصدي لهذه المستجدات
وملحقة تطورها.
خاتة:
نخلص م ما سبق إلى أن الثبات القضائي كمص طلح يطلق على عمل ية تقد يم الدل يل المقبول
أمام القضاء بالطرق المقررة على واق عة قانون ية م حل نزاع ب ين الخص وم ،يتم يز بأهم ية
كبيرة تنبع من ارتباطه الوثيق بالجانب العملي من عملية تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع؛
ولذا كان موضوع الثبات من أ هم وأدق المس ائل ال تي توا جه القا ضي و هو يؤدي وظي فة
تحقيق العدالة والفصل في الخصومات؛ خاصة وأن مسألة الثبات تعتبر هي السبيل الوحد
لتحق يق التطا بق -أوعلى ال قل التقارب -ب ين الحقيقت ين الواقع ية والقضائ ية ،ال مر الذي
يصب في النهاية في صالح حماية الحق ذاته من الضياع ومن تغول الخرين.
وفي ما يتعلق بالتنظ يم التشري عي والكيف ية ال تي ي جب ان تعالج ب ها قوا عد الثبات فإن التجاه
الذي تمليه اعتبارات التطور هو الوسطية في تكييف قواعد الثبات وتصنيفها بين الشكلية
والموضوع ية؛ ال مر الذي يقتض ي إفراد قانون خاص لقوا عد الثبات ،وبالتالي معامل ته
كفرع مستقل ومميز من فروع القانون الخرى الموضوعية والجرائية.
خا صة وأن هذا التجاه هو الذي يل بي الهم ية المتزايدة لقوا عد الثبات في مجال تحق يق
العدالة في العص ر الحد يث ،إذ يم كن للمشرع وفقا Fلهذا التجاه ملح قة التطور الهائل في
مجال التكنولوج يا والمس تجدات ال تي أ سفر عن ها هذا التطور ،وبالذات في مجال المعاملت
اللكترونية التي تتبع فيها الوسائل اللكترونية الحديثة ،كرسائل البيانات والتوقيع الكتروني
وغيره ما .وإفراد الثبات بقانون مس تقل -بل شك -يت يح للمشرع حر ية ار حب ومك نة
أفضل في التصدي لهذه المستجدات وملحقة تطورها.