You are on page 1of 11

‫منشور بالنترنت‬

‫الثبات القضائي‬
‫مفهومه وأهميته في القضاء وتنظيمه التشريعي‬

‫د‪ /‬عز الدين محمد أحمد المين‬


‫أستاذ القانون المدني‬

‫مقدمة‬
‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬و الصلة و السلم على أشرف المرسلين‪ ،‬سيدنا محمد و‬
‫على آله و صحبه و من تبعه بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‪ ،‬و بعد‪،‬‬
‫إن من حسن الطالع أن كتابات الشراح في هذا الفرع من فروع القانون )الثبات(‬
‫على قدر من الوفرة في المكتبة القانونية العربية‪ ،‬إذا ما قورنت بفروع أخرى من القانون‪.‬‬
‫غير أن هذا لم يمنعني من التفكير في الكتابة فيه‪ ،‬لما استشعرته من أهميته ولما له من‬
‫ارتباط وثيق بالممارسة العملية في المحاكم وتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع‪ .‬ولما لمسته‬
‫من أهمية هذا العلم‪ ،‬لدارسي القانون والمشتغلين في مجال المهن القانونية جميعها‪.‬‬
‫وقد جاءت هذه الور قة في مبا حث ثل ثة تناولت في اول ها فكرة الثبات القضائي من ح يث‬
‫مفهوم ها وتحد يد ماهيت ها‪ ،‬و في ثانيه ما أهم ية الثبات القضائي في القضاء في الخص ومات‬
‫وبالتالي في تحق يق العدالة‪ ،‬وتناولت في ثالث ها التنظ يم التشري عي لقوا عد قانون الثبات‬
‫وموقعه من النظام القانوني للدولة في مجمله‪.‬‬
‫وإني إذ اقدم هذه الورقة آمل أن تكون عمل‪ F‬مفيدا‪ F‬نافعا‪ F‬في هذا الجانب من القانون‪،‬‬
‫ومساهمة متواضعة في المكتبة القانونية العربية‪ ،‬وجهدا‪ F‬مقبول‪ F‬عند ال تعالى‪ .‬منتظرا‪ F‬من‬
‫الزملء الكرام أل يضنوا علي‪ G‬بملحظاتهم وانتقاداتهم‪.‬‬

‫العالمين‪.‬‬ ‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب‬


‫البحث الول‬

‫مفهوم الثبات القضائي‬


‫تعريف الثبات القضائي‪:‬‬
‫إن تحديد معنى الثبات ومفهومه في مجال القانون ل يتأتى إل برد الكلمة )إثبات(‬
‫إلى أصلها في اللغة العربية‪ .‬والثبات في اللغة هو‪ " :‬تأكيد الحق بالدليل‪ ،‬يقال اثبت حجته‬
‫أي أقامها وأوضحها "‪ .1‬أما في اصطلح فقهاء القانون فإن الثبات أو )البينة( هو‪ " :‬إقامة‬
‫الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون علي وجود واقعة قانونية متنازع عليها بما‬
‫ينبني عليه من آثار"‪.2‬‬
‫فالثبات وفقا لهذا التعريف هو الوسيلة الوحيدة التي يعتد بها القانون لتأكيد وجود الواقعة‬
‫محل النزاع أو عدم وجودها‪ ،‬ومن ثم إمضاء الثار القانونية الموضوعية المترتبة على تلك‬
‫الواقعة‪ .‬وبالتالي فإن تأكيد وجود الواقعة محل النزاع او نفيها ل يقبل من غير إثبات‪ ،‬كأن‬
‫يعتمد القاضي في حكمه على فصاحة الخصم قوة عبارته‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وقد اهتم بعض الفقهاء في تحديدهم لمعنى الثبات بمسألة القيود التي يفرضها‬
‫المشرع على مسألة الثبات‪ ،‬فعرفوا الثبات بأنه‪ " :‬إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي‬
‫حددها القانون وبالقيود التي رسمها على وجود واقعة قانونية متنازع عليها "‪ .3‬ويبدو من هذا‬
‫التعريف تركيز هؤلء على الطار القانوني الذي يمثل قيدا‪ F‬على عملية الثبات من حيث تحديد‬
‫طرق الثبات في عمومها أول‪ ،F‬ومن حيث التقيد بالشروط والضوابط التي سنها المشرع‬
‫بالنسبة لكل طريق من طرق الثبات من الناحية الثانية‪.‬‬
‫و كما هو واضح فإن كل التعريفين ل يخرج عن المعنى العام الذي شاع بين فقهاء‬
‫القانون لهذا المصطلح‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫إبن منظور* لسان العرب‪ ،‬ص ‪- 468‬‬
‫‪ -‬د‪.‬يس محمد يحي* أصول الثبات في القانونين المصري و السوداني )دراسة مقارنة ( طبعة دار النهضة‬ ‫‪2‬‬

‫‪1990‬م ‪ ،‬ص ‪1‬‬


‫‪3‬‬
‫عبد الرزاق السنهوري* الوسيط في شرح القانون المدني الجديد‪ ،‬ج ‪- 2‬‬
‫بيد ان التعريف الذي نختاره لمصطلح الثبات – وهو التعريف الذي قال به بعض‬
‫فقهاء القانون ‪ -‬هو‪ " :‬تقديم الدليل المقبول أمام القضاء بالطرق المقررة على واقعة قانونية‬
‫محل نزاع بين الخصوم "‪ .‬فهذا التعريف يتسم بالدقة و الوضوح والبساطة من جانب ‪ ،‬كما‬
‫يتسم بالحاطة بمعنى الثبات وعناصره من ناحية ثانية‪ ،‬بحيث يغنينا عن غيره من‬
‫التعريفات‪.‬‬
‫وما نلحظه في هذا المقام أن المشرع في بعض النظم القانونية جرى على استعمال‬
‫مصطلح )البينة( بدل‪ F‬عن الثبات في نصوصه‪ ،‬كما هو الحال في القانون السوداني؛ حيث‬
‫استخدمت المادة )‪ (2‬من قانون الثبات )الملغى( لسنة ‪1983‬م هذا المصطلح والذي ل‬
‫يختلف ‪ -‬في القو ل الراجح‪ 4‬عند الفقهاء المسلمين ‪ -‬عن مدلول مصطلح الثبات‪ ،‬وعرفت تلك‬
‫المادة البينة بأنها‪) :‬يقصد بها أي وسيلة يتم بها إثبات أو نفي أي واقعة متعلقة بدعوى‬
‫أمام المحكمة(‪ .‬وقررت المادة )‪ (4‬من القانون سريان قواعد الثبات على إجراءات المحاكم‬
‫)أي محكمة( واستثنت صراحة من نطاق تطبيق قواعد الثبات إجراءات التحكيم والتوفيق‪.‬‬
‫أما قانون الثبات السوداني )الحالي( لسنة ‪1993‬م فقد عرف البينة في المادة )‪(4‬‬
‫منه بأنها‪) :‬يقصد بها أي وسيلة يتم بها إثبات أو نفي أي واقعة متعلقة بدعوى‪ ،‬أو نزاع‬
‫أمام المحكمين أو الموفقين(‪ .‬ويتضح من هذا النص أن تعريف البينة في قانون الثبات لسنة‬
‫‪1993‬م‪ ،‬هو أوسع نطاقا من مدلول هذا المصطلح في قانون الثبات )الملغى( لسنة‬
‫‪1983‬م ‪ ،‬حيث يشمل تعريف البينة في القانون الحالي الوسائل التي يتم بها الثبات أمام‬
‫القضاء في أية )دعوى( كما يشمل أيضا‪ F‬الثبات أمام المحكمين والموفقين‪.‬‬

‫‪ -4‬وفي هذا يذهب المام ابن القيم رحمه ال إلى أن البينة‪ " :‬اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في‬
‫اصطلح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين ول حجر في الصطلح ما لم يتضمن حمل كلم‬
‫ال ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها مراد المتكلم منها وقد حصل بذلك للمتأخرين‬
‫أغلط شديدة في فهم النصوص ونذكر من ذلك مثال واحدا وهو ما نحن فيه من لفظ البينة فإنها في كتاب ال‬
‫اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى‪ ) :‬لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ( وقال‪ ) :‬وما أرسلنا من قبلك إل رجال‬
‫نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون بالبينات ( وقال‪ ) :‬وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إل من بعد ما‬
‫جاءتهم البينة ( وقال‪ ) :‬قل إني على بينة من ربي ( ‪ ." ...‬أنظر إعلم الموقعين ‪.1/90‬‬
‫وكما هو واضح من تعريف الثبات السابق فإن المقصود هو )الثبات القضائي(؛‬
‫أي الثبات الذي يتم عن طريق تقديم الدليل أمام القضاء أو المحكمين أو الموفقين ‪ -‬وهو‬
‫في هذا يختلف عن الثبات بالمعني العام‪ ،‬أي ذلك الثبات المجرد من كل قيد‪ ،‬ول يكون‬
‫أمام القضاء كالثبات العلمي‪ ،‬والثبات التاريخي فكل من هذين النوعين الخيرين من‬
‫الثبات يتم بأي وسيله كانت بحثا عن الحقيقة المجردة‪.5‬‬
‫والثبات القضائي بمعناه القانوني‪ ،‬يتعين أن ينصب علي وجود واقعة قانونية أو‬
‫نفيها‪ ،‬ذلك أن محل الثبات ليس هو الحق المتنازع عليه؛ بل محله الواقعة القانونية المنشئة‬
‫لهذا الحق سواء أكانت هذه الواقعة عمل قانونيا‪ ،‬أي تصرفا قانونيا كالبيع أو الوكالة‪ ،‬أم‬
‫كانت واقعة مادية كالعمل غير المشروع‪.6‬‬
‫أخيرا يتعين أن يتم الثبات بالطرق التي حددها القانون؛ ذلك أن المشرع يحدد‬
‫طرق الثبات المختلفة وطريقة تقديمها‪ ،‬وهو تحديد ملزم للخصوم كما هو ملزم للقاضي‪،‬‬
‫بحيث ل يحق للخصوم الستناد في دعاواهم على غير طرق الثبات المقبولة قانونا‪ ،‬او ان‬
‫يخالفوا ضوابط القانون في عملية الثبات أمام القضاء‪ ،‬فإن فعلوا لم يجز للقاضي ان يقبل‬
‫ما قدموه من أدلة‪ .‬وفي هذا جانب يبدو واضحا الخلف الجوهري بين )الثبات العلمي‬
‫والثبات التاريخي( والذي يتميز بالتحرر من كل قيد في إثبات الحقائق العلمية والتاريخية‬
‫موضوع البحث و )الثبات القضائي(‪.7‬‬

‫‪ -5‬د‪.‬أنور سلطان* قواعد الثبات في المواد المدنية والتجارية‪،‬الناشر الدار الجامعية ‪1984‬م‪ ،‬ص ‪4‬‬
‫‪6‬‬
‫د‪.‬عباس محمد طه* أحكام الثبات‪،‬طبعة نوفمبر ‪1998‬م ‪ ،‬ص ‪- 1‬‬
‫‪7‬‬
‫د‪ .‬أنور سلطان * قواعد الثبات )المرجع السابق( ص ‪- 5‬‬
‫البحث الثاني‬

‫أهية الثبات القضائي‬


‫ف مال القضاء‬
‫دور الثبات في الفصل في الخصومة )نظرة تاريخية(‬
‫إن دور الثبات في مجال القضاء في الخصومات وبالتالي في تحقيق العدالة بين‬
‫افراد الجتمع وأشخاصه‪ ،‬دور ل تكتمل أدوات العدالة إل به‪ ،‬ول تتحقق لقواعد القانون‬
‫الموضوعية والشكلية فعاليتها إل عن طريقه‪ .‬وقد كان لفكرة الثبات القضائي كوسيلة لفض‬
‫الخصومات وتحقيق العدال دور كبير في النظم القانونية على مر التاريخ‪.‬‬
‫وقد مر النظام القانوني للثبات بمراحل عديدة من التطور قبل أن يصل إلى ما هو‬
‫عليه اليوم في التشريعات المعاصرة‪ .‬ويمكننا تقسيم هذه المراحل إلى ثلث‪ :‬هي المرحلة‬
‫البدائية‪ ،‬المرحلة التحديدية‪ ،‬واخيرا مرحلة القتناع الحر‪.‬‬
‫ففي المرحلة البدائية كانت ادلة الثبات تخضع للنظام التجريبي البدائي الذي كان‬
‫عماده الساس النطباعات والتأثيرات الشخصية البحتة‪ ،‬التي لم تكن تمت بصلة لفلسفة‬
‫الثبات ذاتها‪ ،‬لن فكرة الثبات لم تكن قد تبلورت بعد في تلك المرحلة‪ .‬وفي تطور لحق‬
‫لهذه المرحلة كان الثبات قائما على أساس البتهال والحتكام إلى اللهة‪ ،‬وفقا لمعتقدات‬
‫المجتمع وديانته التي يدين بها‪.‬‬
‫وكانت إجراءات الثبات في هذه المرحلة تقوم على طرق خرافية‪ ،‬فضل عن أنها كانت‬
‫إجراءات معقدة بشكليات ل تتصل البتة بالحق محل الثبات‪ .‬فمثل كان صدق المتهم في‬
‫هذه المرحلة يمتحن بواحدة من التجارب التي كانوا يعتقدون بتدخل القوة اللهية فيها‪،‬‬
‫كتجربة النار التي يكلف المتهم فيها بأن يقبض بيده على قضيب من الحديد المحم‪G‬ى في‬
‫النار‪ ،‬وكتجربة الماء المغلي‪ ،‬حيث كان المتهم يغمس ذراعه فيه‪ ،‬فإذا لم يصب بأذى كان‬
‫ذلك دليل‪ F‬على براءته‪ .8‬وعلى وجه العموم كان الثبات في هذه المرحلة يعتمد على وسائل‬
‫عديدة ترتكز على القوة اللهية للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وبناء الحكم القضائي عليها‪.‬‬
‫أما في المرحلة التحديدية‪ ،‬فقد كان المشرع يحدد الدلة التي تقبل في الثبات على‬
‫وجه الحصر‪ ،‬كما يحدد قيمة كل دليل في الثبات‪ .‬ولذلك نجد في هذه المرحلة أن حرية‬
‫القاضي المطروح أمامه النزاع في الحكم تتقيد إلى أقصى حد بأحكام التشريع ونصوصه؛‬
‫فهو ملزم بالحكم بمجرد توفر الدلة المنصوص عنها في القانون‪ ،‬ولو لم يكن مقتنعا‪ F‬بصحة‬
‫الواقعة المطروحة أمامه‪.‬‬
‫ولعل اهم ما يميز هذه المرحلة انه كان للعتراف المكان الول بين أدلة الثبات‪ ،‬ولذا كان‬
‫يباح في هذه المرحلة اللجوء إلى كافة طرق التعذيب للحصول على اعتراف المتهم‪ ،‬على‬
‫أساس انه بدون التعذيب لن يكون من الممكن الحصول على اعتراف المتهم أو التوصل إلى‬
‫تأكيد وقوع الخطأ منه‪ .9‬وتتميز هذه المرحلة باللتزام الصارم بمذهب الثبات المقيد أو‬
‫القانوني والذي سوف نتناوله بالمزيد من اليضاح فيما يلي‪.‬‬
‫أهمية الثبات القضائي‬
‫يعتبر موضوع الثبات من أهم وأدق المسائل التي تواجه القاضي وهو يؤدي وظيفة‬
‫الفصل في الخصومات وتحقيق العدالة ؛ إذ أن قواعد الثبات تهدف عموما‪ F‬إلى كشف‬
‫الحقيقة التي تتجسد في مظهرها النهائي في الحكم الذي يصدره القاضي في الدعوى‬
‫المعروضة عليه‪ ،‬أو ما يعبر عنه )بالحقيقة القضائية(‪ .‬لذلك قيل بأن الحكم هو عنوان‬
‫الحقيقة و مظهرها‪ ،‬إل أن الحكم أو الحقيقة القضائية ل يأتي دائما مطابقا‪ F‬لحقيقة الواقع‬
‫)الحقيقة الواقعية(‪ ،‬فقد يحصل التعارض بينهما المر الذي يشكل خطرا‪ F‬على استقرار‬
‫المعاملت وإهدارا للعدالة في المجتمع‪ .10‬ومن هنا لزمت العناية بمسألة الثبات والتي‬
‫تعتبر هي السبيل الوحد لتحقيق التطابق ‪ -‬أوعلى القل التقارب ‪ -‬بين الحقيقتين الواقعية‬

‫‪ -‬وفي اقليم سينا إذا لم يكن لدى اهل القتيل البينة الكافية لثبات جريمة القتل على من يتهمونه‪ ،‬رفعوا أمرهم‬ ‫‪8‬‬

‫إلى ) المبشع( الذي يختبر المتهم بالنار أو بالماء أو بالرؤيا‪ ،‬ليقرر ما إذا كان هو مقترف الجرم ام ل‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫محمد عطية راغب* النظرية العامة للثبات في التشريع العربي المقارن‪ ،‬ص ‪- 5 - 4‬‬
‫‪ -10‬موسى مسعود رحومة *حرية القاضي الجنائي في تكوين عقيدته‪ ،‬الدار الجماهيرية‪ ،‬الطبعةالولى ‪1988‬م‪،‬‬
‫ص‪7‬‬
‫والقضائية‪ ،‬المر الذي يصب في النهاية في صالح حماية الحق ذاته من الضياع ومن تغول‬
‫الخرين‪.‬‬
‫فالحق أيا كان‪ ،‬يرتبط من الناحية الواقعية بالقدرة على إثباته؛ إذ ل يمكن التمتع‬
‫بحق ما دون إقامة الدليل عليه عند النزاع‪ .‬فان ثبت عجز مدعي الحق عن تقديم الدليل‬
‫المرسوم تعذر التمسك بالحق أو المركز القانوني الذي يدعيه الشخص‪ .‬ولكن بالرغم من‬
‫هذا التلزم والرتباط الوثيق بين الحق والدليل عليه‪ ،‬فإن الدليل في الحقيقة هو شئ مختلف‬
‫عن الحق ذاته؛ فهو ل يعدو أن يكون مجرد وسيلة لثبات وجود الحق بشروطه وأوصافه‬
‫‪ .‬ولتوضيح‬ ‫‪11‬‬
‫فلو كان الدليل باطل مثل فان ذلك ل يحول دون إثبات الحق بدليل آخر‬
‫ذلك‪ ،‬فإن الثبات إنما يرد علي مصدر الحق‪ ،‬ل علي الحق ذاته‪ ،‬ومصدر الحق كما هو‬
‫معلوم قد يكون تصرفا قانونيا أو واقعة قانونية‪ ،‬أما الحق ذاته فل يكون محل للثبات بل‬
‫هو الهدف الذي يرمي إليه صاحب الحق من الثبات‪.‬‬
‫والقاعدة أن الثبات إنما يقصد به إقامة الدليل على الواقعة القانونية المنتجة في‬
‫الدعوى بالمعنى الشامل للواقعة والذي يتضمن التصرف القانوني أيضا ؛ لن هذا التصرف‬
‫القانوني في حقيقته ل يعدو أن يكون واقعه إراديه ترتب آثارا‪ F‬قانونية‪ ،‬و ينبني على هذه‬
‫القاعدة أن الثبات ل يرد على القاعدة القانونية ؛ لن على القاضي واجبا‪ F‬اساسيا‪ F‬بمعرفة‬
‫القانون و الحاطة بأحكامه حتى يتسنى له تطبيقها‪ .12‬ويترتب علي ذلك أن العجز عن إثبات‬
‫مصدر الحق من شانه أن يؤدي إلى عدم وجود الحق أمام القضاء كحقيقة قضائية ولو كان‬
‫له وجود في الحقيقة والواقع‪.‬‬
‫وفي الواقع فإن كثيرا‪ F‬من القضايا يخسرها أصحابها‪ ،‬فيضيع الحق على أحدهم ل‬
‫لنه مدع] كاذب؛ بل لن حقه الذي يطالب به بل دليل هو جسد ل روح فيه ول نفع منه‪،‬‬
‫ولهذا فقد استقر عند الفقهاء أن الثبات يعتبر بمثابة شريان الحياة للحق‪ ،‬وأن الحق الذي‬
‫يعجز صاحبه عن الثبات هو والعدم سواء‪ ،‬وتواترت أقوالهم علي‪ " :‬أن الدليل هو قوة‬
‫الحق "‪ ،‬و" أن ما ل دليل عليه هو والعدم سواء "‪ .‬وخلصة ذلك كله أن الحق يتجرد من‬

‫‪ -11‬طرق الثبات في القانون الردني* المحامي مصطفى محمود فراج‪ :‬بالنترنت الموقع )‬
‫‪www.duhaime.org)2001‬م‪ ،‬ص ‪2 -1‬‬
‫‪12‬‬
‫أحمد أبو الوفا‪،‬الثبات في المواد المدنية والتجارية‪ 1983،‬م ‪-‬‬
‫كل قيمة‪ ،‬ما لم يقم الدليل علي مصدره أمام القضاء وفقا لما قرره المشرع من قواعد‬
‫الثبات‪ ،‬سواء أكان مصدر ذلك الحق قانونيا أم ماديا‪.13‬‬

‫البحث الثالث‬
‫التنظيم التشريعي للثبات‬
‫يشتمل التنظيم التشريعي للثبات ‪ -‬بالنظر إلى فحوى القاعدة القانونية وطبيعة‬
‫الموضوع الذي تنظمه ‪ -‬علي طائفتين من القواعد هما القواعد الموضوعية والقواعد‬
‫الشكلية‪.‬‬
‫الطائفة الولى من قواعد الثبات أطلق عليها فقهاء القانون وصف القواعد‬
‫االموضوعية بحكم ما تهدف اليه من تنظيم الثبات القضائي من الناحية الموضوعية ‪ ،‬فنجد‬
‫هذه الطائفة من قواعد الثبات تهتم بمعالجة وتبيان طرق الثبات المختلفة من إقرار وشهادة‬
‫ومستندان ويمين…الخ‪ .‬كما أنها تحدد القيمة قانونية الكل طريق من تلك الطرق في‬
‫الثبات‪ ،‬كما تهتم هذه الطائفة أيضا بمعالجة المسائل المتعلقة بعبء الثبات‪ ،‬وتوزيعه بين‬
‫الخصوم ومحل الثبات في الدعاوى أيا كان نوعها‪ ،‬كما تهتم بمعالجة مشروعية الدلة أو‬
‫وسائل الثبات‪.14‬‬
‫الطائفة الثانية من قواعد الثبات – وعلى خلف الطائفة الولى – ل شأن لها بالشق‬
‫الموضوعي للثبات القضائي؛ وإنما يقتصر دورها على الجانب الشكلي‪ ،‬وهذه هي القواعد‬
‫الشكلية‪.‬‬
‫وفي الواقع فان دور القواعد الشكلية في مجال الثبات ل يقل أهمية وحيوية عن‬
‫القواعد الموضوعية ‪ ،‬حيث تلعب هذه القواعد دورا‪ F‬هاما في الجانب التنظيمي لعملية‬
‫الثبات أمام المحاكم وكما هو معلوم فإن جانب التنظيمي هو العمود الفقري لعملية تحقيق‬
‫العدالة في شتى مجالتها‪ ،‬وبغيره تغدو الجراءات امام المحاكم مسرحا للفوضى ومعتركا‬

‫‪ -‬د‪.‬يس محمد يحي* أصول الثبات)المرجع السابق( ص ‪ ،4 -3‬كذلك أنور سلطان )المرجع السابق( ص‬ ‫‪13‬‬

‫‪6 -5‬‬
‫‪14‬‬
‫عباس محمد طه )المرجع السابق( ص ‪- 3‬‬
‫للهواء‪ ،‬المر الذي يفتح الباب على مصراعيه للتغول على العدالة وهدمها من أساسها‪.‬‬
‫وتهتم القواعد الشكلية في قانون الثبات بمعالجة الجراءات الواجب اتباعها في تقديم البنية‬
‫التي حددتها القواعد الموضوعية أمام القضاء‪ .‬مثل الجراءات الخاصة بتقديم المستندات‬
‫أمام المحكمة والعتراض عليها والطعن فيها‪ ،‬والجراءات المنظمة لكيفية أداء الشهادة‬
‫ومراحلها المختلفة من استجواب رئيسي‪ ،‬ومناقشة‪ ،‬وإعادة استجواب‪ .‬ومن قبيل القواعد‬
‫الشكلية وصف إجراءات المعاينة القضائية وكيفية اعداد محضرها ‪ ،‬وإجراءات بينة الخبير‬
‫وكيفية تحريرها وما ذلك‪.15‬‬
‫ونظرا للطبيعة المزدوجة لقواعد الثبات وارتباطها بالشكل والموضوع في آن‬
‫واحد‪ ،‬فقد انقسمت التشريعات بالنسبة للمكان التي ترد فيه قواعد الثبات إلى اتجاهات‬
‫ثلثة ‪:16‬‬
‫التجاه الول يرى وضع القواعد الموضوعية للثبات في القانون الموضوعي‪ ،‬كالقانون‬
‫المدني والقانون الجنائي‪ ،‬بينما توضع القواعد الشكلية في القانون الجرائي‪ ،‬كقانون‬
‫الجراءات المدنية )قانون المرافعات( وقانون الجراءات الجنائية‪ .‬والهدف الذي يرمي إليه‬
‫هذا التجاه هو المحافظة على الطبيعة المميزة لكل من نوعي قواعد الثبات‪ .‬وهذا هو‬
‫التجاه السائد في القوانين اللتينية كالقانون الفرنسي والقانون المصري‪.‬‬
‫التجاه الثاني يرى جمع قواعد الثبات الموضوعية والشكلية معا‪ F‬وتضمينها في القوانين‬
‫الجرائية‪ ،‬أي أن هذا التجاه يتعامل مع قواعد الثبات في عمومها على أنها قواعد‬
‫إجرائية‪ ،‬دون أن يلقي بال‪ F‬للطابع الموضوعي الذي تتسم به كثير من قواعد قانون الثبات‪.‬‬
‫وهذا التجاه أخذ به القانون اللماني والقانون السويسري وبعض القوانين العربية كالقانون‬
‫اللبناني‪.‬‬
‫أما التجاه الثالث فيتسم بالوسطية في موقفه من تصنيف قواعد الثبات‪ ،‬فيرى إفراد قانون‬
‫خاص لقواعد الثبات الموضوعية والشكلية معا‪ ،F‬وبالتالي معاملة قانون الثبات كفرع‬
‫مستقل ومميز من فروع القانون‪ ،‬ل شأن له بالقوانين الموضوعية ول القوانين الجرائية‪.‬‬
‫وهذا هو التجاه الذي أخذ به التشريع النجليزي‪ ،‬ويبدو أن تأثير القانون النجليزي على‬
‫‪15‬‬
‫د‪.‬يس محمد يحي* أصول الثبات)المرجع السابق( ص ‪- 4‬‬
‫‪16‬‬
‫د‪ .‬أنور سلطان* قواعد الثبات في المواد المدنية والتجارية‪ ،‬الناشر الدار الجامعية ‪1984‬م‪ ،‬ص ‪- 8‬‬
‫القانون السوداني والرتباط التاريخي بينهما‪ ،‬هو ما جعل المشرع السوداني يأخذ بهذا‬
‫التجاه‪ .‬وهذا التجاه في رأيي يلبي الهمية المتزايدة لقواعد الثبات في مجال تحقيق‬
‫العدالة في العصر الحديث‪ ،‬حيث يمكن للمشرع وفقا‪ F‬لهذا التجاه ملحقة التطور الهائل في‬
‫مجال التكنولوجيا والمستجدات التي أسفر عنها هذا التطور خاصة في مجال المعاملت‬
‫اللكترونية‪ .‬وخير دليل على ذلك الجدل الواسع الذي تثيره مسألة الثبات بالوسائل‬
‫اللكترونية الحديثة ‪ ،‬كرسائل البيانات والتوقيع الكتروني وغيرهما‪ .‬إفراد الثبات بقانون‬
‫مستقل بل شك يتيح للمشرع حرية ارحب ومكنة أفضل في التصدي لهذه المستجدات‬
‫وملحقة تطورها‪.‬‬

‫خاتة‪:‬‬
‫نخلص م ما سبق إلى أن الثبات القضائي كمص طلح يطلق على عمل ية تقد يم الدل يل المقبول‬
‫أمام القضاء بالطرق المقررة على واق عة قانون ية م حل نزاع ب ين الخص وم‪ ،‬يتم يز بأهم ية‬
‫كبيرة تنبع من ارتباطه الوثيق بالجانب العملي من عملية تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع؛‬
‫ولذا كان موضوع الثبات من أ هم وأدق المس ائل ال تي توا جه القا ضي و هو يؤدي وظي فة‬
‫تحقيق العدالة والفصل في الخصومات؛ خاصة وأن مسألة الثبات تعتبر هي السبيل الوحد‬
‫لتحق يق التطا بق ‪ -‬أوعلى ال قل التقارب ‪ -‬ب ين الحقيقت ين الواقع ية والقضائ ية‪ ،‬ال مر الذي‬
‫يصب في النهاية في صالح حماية الحق ذاته من الضياع ومن تغول الخرين‪.‬‬
‫وفي ما يتعلق بالتنظ يم التشري عي والكيف ية ال تي ي جب ان تعالج ب ها قوا عد الثبات فإن التجاه‬
‫الذي تمليه اعتبارات التطور هو الوسطية في تكييف قواعد الثبات وتصنيفها بين الشكلية‬
‫والموضوع ية؛ ال مر الذي يقتض ي إفراد قانون خاص لقوا عد الثبات‪ ،‬وبالتالي معامل ته‬
‫كفرع مستقل ومميز من فروع القانون الخرى الموضوعية والجرائية‪.‬‬
‫خا صة وأن هذا التجاه هو الذي يل بي الهم ية المتزايدة لقوا عد الثبات في مجال تحق يق‬
‫العدالة في العص ر الحد يث‪ ،‬إذ يم كن للمشرع وفقا‪ F‬لهذا التجاه ملح قة التطور الهائل في‬
‫مجال التكنولوج يا والمس تجدات ال تي أ سفر عن ها هذا التطور‪ ،‬وبالذات في مجال المعاملت‬
‫اللكترونية التي تتبع فيها الوسائل اللكترونية الحديثة‪ ،‬كرسائل البيانات والتوقيع الكتروني‬
‫وغيره ما‪ .‬وإفراد الثبات بقانون مس تقل ‪ -‬بل شك ‪ -‬يت يح للمشرع حر ية ار حب ومك نة‬
‫أفضل في التصدي لهذه المستجدات وملحقة تطورها‪.‬‬

You might also like