Professional Documents
Culture Documents
التفاحات الثلاث
التفاحات الثلاث
يحكى أن “هارون الرشيد” كان مشهورا عنه كثرة تنكره وتخفيه وتركه لقصره ليال ،كان كثيرا ما
يفعل ذلك لتفقد أحوال رعيته وتفقد أحوال الحكام ،لقد كان حريصا كل الحرص على رد المظالم
.ألهلها ،كان حريصا على نصرة المظلوم وحساب الظالم الجائر
ويحكى أنه ذات مرة خرج مع وزيره “جعفر” وسيافه “مسرور” متخفين متجولين بشوارع بغداد،
ساروا حتى وصلوا إلحدى األزقة بأسواق بغداد ،وجدوا شيخا كبيرا في السن يحمل شبكة على
ظهره وقفة فوق رأسه ،ويمسك بيده عصا ،كان يبدو على هيئته الفقر والبؤس ،كان حزينا للغاية
.وينشد شعرا حزينا مؤثرا
جذب انتباه الخليفة “هارون الرشيد” إليه ،لقد كان ذو تأثير بليغ في قلوب ثالثتهم ،أمر وزيره
“”..جعفر” بإحضار الشيخ إليه في الحال ،وبالفعل أحضره “جعفر
فسأله أمير المؤمنين“ :ما الذي يحزنك بهذا القدر أيها الشيخ فجعلك حزينا تنشد شعرا آسرا
للقلوب يصيبها بالحزن والهم؟
”.وما الذي يجعلك تسير بهذا الوقت المتأخر في هذ
فقال الشيخ“ :إنني صياد يا سيدي ولي أبناء كثيرين ،وقد فارقت المنزل وأبنائي وزوجي منذ
الصباح الباكر ،حملت شبكتي وذهبت للنهر باحثا عن رزقي ،ومنذ الصباح وحتى اآلن لم يقسم
”.هللا سبحانه وتعالى لي رزقا ،وحزين ألنني كرهت أن أرجع المنزل دون طعام ألبنائي
فقال له الخليفة هارون الرشيد“ :هال رجعت بنا لنهر دجلة ،وألقيت بشبكتك على حظي ،وأي
”!شيء خرج بها ولو كان سمكة واحدة اشتريتها منك بمائة دينار؟
لقد سر الصياد المسكين كثيرا بسماعه ذلك الكالم من الخليفة شخصيا ،لقد كان العرض مغريا
.للغاية ،وكان الصياد في أمس الحاجة لألموال من أجل عياله
عاد الصياد لشاطئ دجلة وألقى بشبكته ،وإذا بها يجذبها فيجدها ثقيلة للغاية ،لم يستطع الصياد
جذبها بمفرده ،لذلك ساعده الوزير جعفر والسياف مسرور في جذبها ،وعندما تمكنوا من إخراجها
!وجدوا ما أدهشهم جميعا ،لقد خرجت الشبكة وبها صندوق ضخم للغاية محكم الغلق
أعطى الخليفة “هارون الرشيد” المائة دينا للصياد كما وعده ،وأمر وزيره وسيافه بحمل الصندوق
المغلق للقصر ،وأول ما وصلوا القصر أمر الخليفة “هارون الرشيد” وزيره جعفر وسيافه مسرور
بفتح الصندوق ،وعندما قاموا بفتحه وجدوا بداخله ما أبكاهم جميعا وجعل الدموع تسيل من
.أعينهم
لقد وجدوا بداخله صبية جمالها كجمال البدر في ليلة تمامه ،وجدوها مقتولة وموضوعة بداخل
الصندوق وقد أغلق عليها ،لقد بكاها “هارون الرشيد” بحرقة ،وأقسم ليأخذن بحقها ويقتص ممن
.قام بقتلها وفعل بها ما فعل
صرخ في وزيره جعفر قائال“ :البد أن أقتص لهذه الصبية وأقتل من قتلها لقتلها ،اذهب وأحضر لي
”.من قتلها حتى أقتله وإن لم تأتني بالقاتل قتلتك مكانه
فرد عليه وزيره جعفر“ :سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين لك كل ما تريد ،ولكن أطلب منك أن
تمهلني في أمري ثالثة أيام حتى أتمكن من البحث عن القاتل وأتمكن من إحضاره إليك يا
”.موالي
”.قال “هارون الرشيد”“ :أمهلك ثالثة أيام كما طلبت
وعلى الفور هم الوزير “جعفر” بمغادرة القصر ،وقد كان حاله حزينا مهموما ال يدري ما الذي من
الممكن أن يفعله بهذه المصيبة التي حلت على رأسه ،يفكر في مخرج منها ،لقد صار يتحدث إلى
! نفسه“ :ومن أين لي أن أحضر له قاتل الصبية؟! ،وكيف لي أن أعلمه وأعلم مكانه؟
وإن أحضرت له شخصا خاطئا مكانه أمر بقتله وصار دمه معلق برقبتي ليوم الدين ،فماذا أفعل يا
”!ربي؟
عاد لمنزله محزون القلب ومشوش األفكار ،ولكنه مستسلم ألمر ربه سبحانه وتعالى ،انقضت
الثالثة أيام المدة التي طلبها من الخليفة ،مكثها بالمنزل حيث أنه ال يدري كيف يحضر قاتل الصبية
.وهو ال يعلم عنه أي معلومة على اإلطالق
..وبعد انقضاء الثالثة أيام وباليوم الرابع أرسل الخليفة “هارون الرشيد” في طلبه
”!هارون الرشيد“ :أين قاتل الصبية الذي أحضرته يا جعفر؟
”! فرد عليه جعفر مترددا في القول“ :يا أمير المؤمنين وهل كنت أعلم الغيب حتى أعلم قاتل الصبية؟
..وما إن سمع منه هذا الرد حتى اشتعل غيظا ،وعلى الفور أمر بصلبه على بوابة قصره
..وبعد انقضاء الثالثة أيام وباليوم الرابع أرسل الخليفة “هارون الرشيد” في طلبه
فرد عليه جعفر مترددا في القول“ :يا أمير المؤمنين وهل كنت أعلم الغيب حتى أعلم قاتل
”!الصبية؟
وما إن سمع منه هذا الرد حتى اشتعل غيظا ،وعلى الفور أمر بصلبه على بوابة قصره ،كما أنه
أمر المنادين أن يخرجوا بكل شوارع بغددا وينادوا“ :على كل من أراد مشاهدة وزير الخليفة جعفر
”.البرمكي وهو يعدم فعليه بالخروج لقصر الخليفة أمير المؤمنين
وبالفعل خرجت طائفة كبيرة من الناس ليشاهدوا تنفيذ حكم أمير المؤمنين بوزيره جعفر ،كان كل
الحراس على استعداد لتنفيذ أمر الخليفة بمجرد أن يأذن لهم بذلك ،لقد جهزوا كل شيء وحتى
.الناس في انتظار ذلك
وبينما كان الجميع يترقب الحدث إذا بشاب يشق الزحام إلى أن وصل للوزير ،فقال“ :يا أيها الوزير
”.إنني قاتل الصبية التي وجدتموها بنهر دجلة ،إنني أنا الفاعل الذي كنت تبحث عنه
فرح الوزير كثيرا بخالصه من الموت المحتوم والمصيبة التي حلت برأسه ،وما إن وجد القاتل
الحقيقي تراجع الخليفة عن قراره بقتله لعدم إيجاده للقاتل الحقيقي للصبية الجميلة ،وبذلك
.يمكنه االقتصاص لها من قاتلها الحقيقي وليس منه
ولكن بينما كان الشاب واقفا مع الوزير إذا بشيخ كبير في السن يشق الزحام حتى وصل لهما،
فقال“ :أيها الوزير جعفر ال تصدق هذا الشاب ،إنني قاتل الصبية الحقيقي وليس هو ،أطلقوا
”.سراحه وأمسكوا بي ألنال جزائي على ما قدمت يداي
وراح كل منهما الشاب والشيخ الكبير ينفي تهمة ارتكاب جريمة القتل عن اآلخر ويلحقها بنفسه،
.بل ويطالب الوزير أيضا باإلسراع في تنفيذ حكم اإلعدام حتى يستريح
تعجب الوزير جعفر من حالهما ،لذلك أخذهما للخليفة حتى يرى من أمرهما العجيب ،ويحكم
.بينهما وفي أمرهما
الوزير جعفر“ :يا موالي لقد أحضرت لك اثنين يدعي كل منهما أنه من قتل الصبية التي وجدناها
”.بالصندوق في نهر دجلة
نظر إليهما “هارون الرشيد” بتمعن وقال بأسلوب جاف يبعث الخوف للنفس“ :أي منكما قتل
”!الصبية؟
.ومثلما يفعالن ،أصر كل منهما أنه من قتل الصبية ،وأن اآلخر ال عالقة له باألمر
فقال هارون الرشيد بصوت عال“ :يا جعفر خذ االثنين للسياف مسرور ،ومره أن ينفذ حكم اإلعدام
”.في كليهما
صرخ الشاب وبدا الصدق بوضوح في كالمه“ :أقسم باهلل الذي رفع السماء بغير عمد ،وبسط
األرض على ماء جمد أنني من قتلت الصبية” ،وبدأ في وصف مالمحها والمالبس التي كانت
ترتديها واألشياء التي كانت بحوزتها أثناء وضعها بالصندوق حتى أنه أعطى عالمات تميز الصندوق
.الذي وجدوها به دونا عن غيره من بقية الصناديق
ولما تحقق الخليفة أمير المؤمنين “هارون الرشيد” ووزيره “جعفر” من صدق الشاب ،أيقنا أنه
”!بالفعل من قام بقتل الصبية ،ولكن سأله هارون الرشيد قائال“ :ولكن لم قتلتها؟
فشرع الشاب في سرد حكايته مع الصبية قائال والدموع شرعت في االنهمار من عينيه“ :يا أمير
المؤمنين إن الصبية هي زوجتي وابنة عمي ،وأن هذا الشيخ هو والدها ،وأن هللا سبحانه
وتعالى قد من علي بثالثة أوالد منها؛ ومن شهر مضى مرضت زوجتي مرضا شديدا وأصابها
.اإلعياء ،وأحضرت لها العديد من األطباء وأذن لها هللا سبحانه وتعالى لها بالشفاء
وعندما استفاقت من مرضها وشفيت اشتهت التفاح ،فقالت لي إنني أشتهي أن آكل التفاح ،لقد
بحثت طويال في األسواق بالمدينة وفي كل البساتين التي بها ،ولكني لم أعثر وال حتى على
تفاحة واحدة على اإلطالق ألشتريها لها وأحقق أمنيتها بأكله؛ وبيوم من األيام دلني أحد بائعة
التفاح بأن بستان بقصر الخليفة ببغداد يوجد به التفاح ،حيث أن التفاح ال يتواجد بمثل هذا الوقت
إال بقصر الخليفة القائم بالبصرة ،إنني في األساس يا موالي من بغداد ،لذلك قمت بالسفر
لمدينة البصرة
الشاب قاتل الصبية الحقيقي ” :وعندما استفاقت من مرضها وشفيت اشتهت التفاح ،فقالت لي
إنني أشتهي
أن آكل التفاح ،لقد بحثت طويال في األسواق بالمدينة وفي كل البساتين التي بها ،ولكني لم
أعثر وال حتى على تفاحة واحدة على اإلطالق ألشتريها لها وأحقق أمنيتها بأكله؛ وبيوم من األيام
دلني أحد بائعة التفاح بأن بستان بقصر الخليفة ببغداد يوجد به التفاح ،حيث أن التفاح ال يتواجد
بمثل هذا الوقت إال بقصر الخليفة القائم بالبصرة ،إنني في األساس يا موالي من بغداد ،لذلك
قمت بالسفر لمدينة البصرة وقابلت بستاني القصر ،وقمت منه بشراء ثالثة تفاحات بثالثة دنانير
.من الذهب
وعندما عدت فرحا لزوجتي وقد حملت الثالثة تفاحات ألجلها ،وجدت أن إعياءها قد اشتد بها
مجددا ،وأن حمة قد أهدت جسدها ،أعطيتها التفاحات ولكنها لم تأكل منهن شيئا ،تركتهن كما
.وضعتهن بجانبها
مكثت بجانبها عشرة أيام حتى تعافت من إعيائها ،ومن بعدها ذهبت لمتجري ألعمل ،وبينما أنا
بالعمل لفت انتباهي عبد أسود يلعب بتفاحة حمراء بيده ،هرعت إليه وسألته“ :من أين اشتريت
”!هذه التفاحة حتى أشتري مثلها؟
فضحك العبد وقال“ :إنني كنت في سفر بعيد ،وعندما رجعت من سفري ذهبت على الفور إلى
حبيبتي فوجدتها مريضة وبجوارها ثالثة تفاحات ،أخبرتني أن زوجها قطع مسافة بعيدة لبالد
البصرة حتى يأتي بهن ،وقد اشتراهن بثالثة دنانير من الذهب فأخذت منهن هذه التفاحة التي
”.بيدي
”!توقف الشاب عن الحديث وأجهش بالبكاء ،قاطعه الخليفة قائال“ :أكمل وماذا حدث بعد ذلك؟
الشاب واصل حديثه والدموع سجينة في عينيه“ :وما إن سمعت كالم العبد حتى اسودت الدنيا
بأسرها في عيني ،وضاق صدري وامتأل بالغضب والغل والسواد ،أغلقت متجري وهرعت
لمنزلي ،وما إن وصلت المنزل حتى نظرت للتفاحات الثالث ولكني لم أجد سوى تفاحتين اثنتين
”.فحسب ،فسألت زوجتي عن التفاحة الثالثة ،أجابتني قائلة“ :ال أدري أين ذهبت
بإجابتها هذه تحققت من كل كلمة أخبرني بها العبد األسود ،فانقضضت عليها فقتلتها ووضعتها
.داخل الصندوق ،وألقيت بالصندوق بنهر دجلة حيث وجدتموه
وعندما رجعت منزلي وجدت ابني الكبير يبكي بحرقة ،والغريب أنه لم يكن ليعلم بعد بأمر فقده
ألمه ،فسألته عن سبب بكائه فأجابني قائال“ :يا أبتي إنني أخذت تفاحة من التفاحات الثالث
التي أحضرتهن ألمي ،ونزلت بها للشارع أللعب مع أصدقائي وألهو معهم ،ومر عبد أسود فاقتلع
التفاحة من بين يدي ،وسألني قائال“ :من أين أحضرت هذه التفاحة” ،فأجبته بأنك أحضرت ثالثة
تفاحات من البصرة لوالدتي المريضة ،وقد اشتريتهن بثالثة دنانير من الذهب ،وتوسلت إليه ليعيد
”إلي التفاحة غير أنه أبى وأخذها ورحل ،وأنا اآلن خائف من والدتي لتضربني
وانهالت دموع غزيرة من عينيه ،وأكمل حديثه“ :حينها علمت بأن العبد األسود قد كذب علي،
وأنني قتلت زوجتي وابنة عمي ظلما؛ لقد بكيتها بكاءا مريرا حارا ،وعندما جاء عمي فسردت له
ما حدث ،فبكى ابنته أحر البكاء؛ وعندما جاءني خبر إعدام الوزير جعفر كرهت أن يقتل هو اآلخر
”.ظلما بسببي ،فجئت لتعجل بي حكم اإلعدام وتريحني أيها الخليفة
فلما سمع الخليفة بقصته أمر قائال في غضب“ :أقسم باهلل أال أقتل غير العبد الخبيث ،الذي
”.تسبب بكذبه وخبثه في قتل إنسانة بريئة
نظر إلى وزيره جعفر قائال“ :أريدك أن تحضر لي ذلك العبد الخبيث حتى أقتله وأقتص للزوجة
”.البريئة التي قتلت ظلما بسببه ،وإن لم تأتني به قتلتك مكانه ،أمهك ثالثة أيام
أصاب الوزير جعفر الهم والحزن مجددا ،لم يكد لينتهي من المصيبة األولى التي حلت على رأسه
!حتى يؤتى مصيبة أخرى مجددا ،فمن أين له أن يأتي الخليفة بهذا العبد الخبيث؟
عاد لمنزله مفوضا أمره لخالقه سبحانه وتعالى راجيا إياه سبحانه أن ينجيه بهذه المرة كما نجاه
.بالمرة األولى
انتهت األيام الثالثة وجعفر لم يضع يده على أثر للعبد األسود ،وباليوم الرابع جاءه رسول الخليفة،
كان “جعفر” موقنا بأنه ذاهب للخليفة وهو مستعد للموت ،لذلك قام يودع أهله ويسلم عليهم
واحدا واحدا ،وعندما جاء ليحمل ابنته الصغيرة ويقبلها وجد بجيبها تفاحة حمراء ،فسألها من أين
!أحضرت هذه التفاحة؟
فسأل العبد ريحان عن التفاحة ،فحكا له قصة الطفل الصغير الذي أخذها من يدي ،وقصة والده
.الذي اشتراها من البصرة ،فأيقن “جعفر” أن ريحان هو نفس العبد المطلوب