You are on page 1of 4

‫قصة‪" :‬حارس السيارات"‬

‫ركنت سيارتها األنيقة الحمراء‪ ،‬وركنت معها قلبي‪ .‬كم هي أنيقة هذه المرأة الثالثينية‬
‫السامقة‪ ،‬المكتملة األنوثة‪ ،‬الناضجة الجسد‪ ،‬اآلخذة قلبي معها أينما حلت وانطلقت‪.‬‬
‫منذ أن عملت حارس سيارات في هذا الشارع وحالتي الصحية في تذبذب وقلق‪ .‬أحيانا‬
‫أجدني سقيما غير قادر على رفع يدي والتأشير بها لصاحب السيارة ليتوقف أو ينطلق‪،‬‬
‫وأحيانا أجدني معافى كأن ال شيء حدث معي إطالقا‪.‬‬
‫إذا حلت بالمكان‪ ،‬وترجلت من سيارتها القتناء حاجاتها في السوق يدق قلبي‪ ،‬ويتسارع‬
‫نبضه‪ ،‬وتتوقف الكلمات في لساني‪ .‬أحاول أن أكحل عيني بها كلما رأيتها‪ ،‬لكن انطالقتها‬
‫الشبيهة بالظبي تجعلني أفقدها وسط الزحام‪ .‬أفقدها ألنني أسهو وأتخيلها عروسا في ثوب‬
‫أبيض كلما رمقتها‪ .‬وفي لحظات سهوي وغيابي‪ ،‬يوقظني صوت منبه سيارة‪ ،‬ثم إشارة من‬
‫رجل ستيني مشحم الوجه يشبه الدوڤرمان "أين أركن"؟‬
‫أرد عليه مباشرة بيدي‪ ،‬دون تفقد األماكن الفارغة‪ْ ،‬‬
‫أن قد ملئت كل الفراغات‪...‬‬
‫منذ أن حلت بالمكان‪ ،‬وال وجود لمكان فارغ في موقف السيارات أو في قلبي‪.‬‬
‫كلما مر الوقت‪ ،‬حاولت أن أسألها ولو لمرة‪ :‬ما اسمك؟‬
‫ثم أتخيل نفسي أسألها مرة ثانية‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت متزوجة؟ مرتبطة؟ عزباء؟ مطلقة؟‬
‫لكن الحقيقةَ تقو ُل لي دائما‪:‬‬
‫"اآلخر مرآة مزيفة ال يجب النظر إليها وال فيها"‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أخاف أن أعيش وهما يا قلبي‪ .‬أخاف عليك من أذى وصدمة تدخلك إلى المتاهة‪ ..‬ولكني‬
‫أعلم أني كلما كحلت عيني بالنظر إليها‪ ،‬أطبقت جفوني على صورتها كي ال تطير‪.‬‬
‫أخاف أن أفقدك إن تكلمت؛ ألن الكالم في حضرتك قد يكون خطأ فادحا؛ خطأ ال‬
‫يغتفر‪ ،‬خطأ يفقدني السيطرة على مقود الحب‪ .‬لكن‪ ،‬فائدة الكالم أو الصراخ إن لم يجذبك إلي‬
‫صمتي‪.‬‬
‫تذكرت عامل النظافة الذي سار ذات يوم على حافة الطريق يتأمل حاويات األزبال‬
‫المنتشرة هنا وهناك مرددا‪:‬‬
‫‪ -‬زبل اليوم أكثر من زبل األمس‪.‬‬
‫قالها‪ ،‬وقد أدرك بعدما أمضى نصف عمره عامل نظافة؛ ينتقل بين الدروب واألزقة‬
‫والشوارع يكنس‪ .‬لقد أدرك حقيقة واحدة طول عمره‪ ،‬وهي أن اإلنسان ال ينتج سوى الزبل‪،‬‬
‫وحتى حينما ينتجونه‪ ،‬فإنهم ال يضعونه في علب أو أكياس بالستيكية‪ ،‬ليسهلوا عملية جمع‬
‫أوزارهم‪ .‬ينتجونه‪ ،‬ويرمونه‪ ،‬فقط‪ ،‬على حافة الطرقات‪ ،‬وينتظرون من عامل منهك القوى‬
‫يكون إفطاره كأس شاي وكسرة خبز حافية أن يجمعه‪.‬‬
‫يتناول كسرته الحافية كل صباح‪ ،‬ويحمل مكنسته‪ ،‬وحاويته‪ ،‬ذات العجالت األربع‪،‬‬
‫ويخترق األزقة كالسهم‪ .‬يعمل بنشاط‪ ،‬وال يتوقف إال عندما يضع كومة الزبل في الحاوية‪.‬‬
‫يمر بجمع غفير من الموظفين والعاطلين‪ ،‬قابعين بالمقاهي‪ ،‬يرشفون فناجين القهوة كل‬
‫يوم‪ ،‬ثم يخيل إليه ك ّم األفكار الهائل التي ينتجها هؤالء كل يوم بعد ارتشاف القهوة‪ .‬وحين‬
‫يخيل إليه ذلك‪ ،‬يشعر بهدوء وفخر كبير؛ ألن بلده ال يزال بخير‪ ،‬وأن المفكرين ال زالوا‬
‫ينتجون المعرفة‪.‬‬
‫يربط الفكر والمعرفة‪ ،‬دائما‪ ،‬بأولئك الزبائن المخلصين للمقهى‪ ،‬وتأمل أمثاله الذين‬
‫يشكلون مصدر إلهام وإبداع‪ .‬يخيل إليه أن هؤالء فيهم الوزير‪ ،‬والمستشار‪ ،‬ورجل األمن‪،‬‬
‫واألستاذ‪..‬لذلك يصر على كنس األرض جيدا‪ ،‬وإظهار قسوة العمل ليلفت هؤالء إليه وإلى‬
‫أمثاله كي يخصصوا لهم قانونا يحميهم‪ ،‬ويصون كرامتهم‪.‬‬
‫ذات يوم‪ ،‬تأمل واحدا ممن يظنه من المثقفين قابعا بإحدى زوايا المقهى‪ ،‬فقرر معرفة ما‬
‫يقرأ ويكتب ويبدع‪ .‬كان رجال أبيض اللون‪ ،‬حليق الذقن‪ ،‬نظيف الثياب‪ ،‬ممتلئ الجسد‪،‬‬
‫واضعا قبعة تشبه السلحفاة على رأسه‪ ،‬وهي أكثر العالمات داللة على المثقف‪ ،‬قابضا‬
‫سيجارة فرنسية ضخمة‪ ،‬وفنجان قهوة سوداء صغيرة على الطاولة‪.‬‬
‫وهو جالس على الكرسي‪ ،‬وضع ساقا على ساق‪ ،‬ماسكا مجلة مثيرة األلوان بيديه‪،‬‬
‫متأمال ما بداخلها بتمعن شديد‪ .‬اقترب منه أكثر حتى قلص المسافة‪ ،‬ثم دقق النظر جيدا‪ .‬ولما‬
‫فعل ذلك‪ ،‬رأى نساء جميالت بمالبس داخلية في أوضاع مثيرة‪.‬‬
‫تعجب عامل النظافة‪ ،‬وتساءل في قرارة نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬هل يعقل أن يكون هذا المثقف مهتما حتى بمشاكل النساء؟‬
‫قرر عامل النظافة أخذ جولة في المقهى‪ ،‬وبين الزبائن‪ .‬اخترق الرقاب‪ ،‬وراقب‬
‫المثقفين الذين لم ينتبهوا لوجوده كما لو أنه طيف َيراهم وال يرونه‪ .‬بدا له الجميع منهمكا في‬
‫تصفح األجساد‪ ،‬وعدّ تفاصيلها‪ ،‬ومقارنة نساء المجالت بالنساء السائرات في الشارع‪ ،‬وعلى‬
‫الرصيف‪.‬‬
‫المثقفون منتشون‪ ،‬والنادلة تستجيب للطلبات في هدوء ووقار وإنصات‪.‬‬
‫مالك المقهى يكشر عن أسنان كأسنان القرش‪.‬‬
‫عقارب الساعة ال ترحم أحدا‪.‬‬
‫عامل النظافة لم يصدق عينيه‪ ،‬فبدا أنه في حلم‪ ،‬وأن كل إخالصه لهذا الوطن‪ ،‬ولهذه‬
‫المنطقة المثقفة باطل‪ .‬تألم في سره قبل جهره‪ ،‬وفي دنياه قبل آخرته‪.‬‬
‫الزبل كثير‪ ،‬والمثقفون يتناولون مئات فناجين القهوة يوميا دون أن ينتجوا فكرة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬ما الفائدة‪ ،‬إذن‪ ،‬من خلوة وفنجان ال ينتجان فكرة؟!‬
‫عدل الرجل عن رأيه‪ ،‬وقرر أن يثق في مشاعره مرة أخرى‪ ،‬فتذكر تلك المرأة الجميلة‬
‫التي تخترق الزقاق كل يوم برائحة عطرها النفاثة‪ ،‬وقوامها المكتمل‪ ،‬وأناقتها الالفتة‪ .‬قرر أن‬
‫يحبها‪ ،‬وهو القابع في بذلة عامل النظافة‪ .‬يعلم أن قلبه أطهر وأنظف من مئات المثقفين‬
‫القابعين في المقاهي‪ ،‬أو لنقل مئات أشباه المثقفين‪ .‬لكن‪ ،‬كيف المرأة منحت جسدها لكل‬
‫العيون أن تكون ملكه؟ كيف المرأة تتصدر صورة جسدها العاري صفحات المجالت التي‬
‫تشاهدها الذكور في المقهى؟ كيف المرأة بهذه المواصفات أن تنظر إلى زبّال ال يملك حتى‬
‫مكنسة؟‬
‫في ذلك اليوم الذي قرر فيه البوح بمشاعره‪ ،‬وإطالق العنان لقلبه‪ ،‬مرت سيارتها‬
‫الفارهة‪ ،‬توقفت على مقربة من رجليه‪ ،‬أُنزل جزء من زجاج النافذة األمامية األسود‪ ،‬وامتدت‬
‫يد مخضبة بـ "كريمات" التجميل‪ ،‬مندفعة بدرهم نحوه‪ ،‬وأخيرا تلقيها اليد على األرض‪ ،‬ثم‬
‫ينتهي صوت عجالت السيارة وصوت المحرك الهادئ؛ ذي الدفع الرباعي عند أذنيه‪.‬‬
‫انحنى والتقط الدرهم بملقاط من حديد‪ ،‬ورماه في حاوية الزبل‪.‬‬
‫أشعل سيجارة من النوع الرخيص‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪" -‬الزبل زبل‪ ..‬وإن رمته أيا ٍد ناعمة‪ ،‬أو أيا ٍد من ذهب"‪.‬‬
‫قرر عامل النظافة االحتفاظ بمشاعره‪ ،‬وإخفاءها في ركن ركين من قلبه حتى يجد‬
‫امرأة تستحق هذا حبه‪ ،‬وربما يطفئ مشاعره بشكل كلي‪ ،‬أو يجز عاطفة الحب من جذورها‪.‬‬
‫ما أجمل أن يحب رجل فقير معدوم امرأة غنية! لكن األجمل يتبادل الفقير والغني الحب ال‬
‫المنفعة المادية‪ .‬ما أجمل حب امرأة غنية لرجل فقير‪!..‬‬
‫لما تذكر حارس السيارات ما حدث لصاحبه؛ عامل النظافة‪ ،‬قرر االحتفاظ بمشاعره‬
‫حتى إشعار آخر‪.‬‬
‫في ذلك اليوم المختلف‪ ،‬كانت السماء تمطر بغزارة‪ .‬وقفت وسط الشارع غير مبال بماء‬
‫المطر‪ .‬قررت ان أصارحها بمشاعري‪ ،‬وأن أخبرها أنني احبها حتى الجنون‪ ،‬وأنني سأبرهن‬
‫لها‪ ،‬إذا اقتضى األمر‪ ،‬بتنظيف سيارتها بقميصي ولساني‪.‬‬
‫تقدمت نحوها لما خرجت من السوق‪ ،‬حملت أغراضها دون أن تطلب‪ ،‬ثم ذهب بها إلى‬
‫السيارة‪ .‬فتحت الباب وصعدت‪ .‬مدت يدها وألقت في وجهي درهمين‪ .‬بدت غاضبة‪ ،‬ونطقت‬
‫بأبشع عبارات السب والشتم‪.‬‬
‫هل حقا اعترفت لها بمشاعري دون أن أتكلم‪..‬؟! هل حقا أدركت ما يدور في قلبي؟!‬
‫لماذا إذن تصرفت معي بهذا الشكل!‪...‬‬
‫أكان علي التريث ألدرأ األذى عن قلبي؟‪ .‬أكان علي أن أقرأ العالمات بما يكفي كي ال‬
‫أصدم بعالمة جديدة‪...‬‬
‫بكت السماء طويال‪ ،‬وبكيت معها‪ .‬لكن الناس لم يستطيعوا أن يميزوا بين دمعاتي‬
‫وحبات المطر‪ ..‬الحمد هلل أنني هكذا "أحمق"‪ ،‬الحمد هلل الذي أنزل المطر‪ ،‬وغسل الوسخ‪.!..‬‬

You might also like