Professional Documents
Culture Documents
د /إيهاب فكري
تعريف بالكاتب :
هو باحث وكاتب في علوم اإلدارة ،يعد من أبرز الدعاة لنشر فكر
اإلدارة الحديثة في مصر والعالم العربي ،خلفيته األكاديمية لم تكن
هي العامل الوحيد الهتمامه بعلوم اإلدارة ،فغير أنه حاصل على
بكاليريوس إدارة األعمال من جامعة عين شمس ،ودرجة
الماجستير في إدارة األعمــال من األكـــاديمية العربيــة للعلـــوم
والتكنولوجيا ،وكذلك درجة الدكتوراه في استراتيجيات التسويق
من الجامعة األمريكية بلندن ،فإن له مع ذلك خبرة تنفيذية كبيرة
من خالل توليه لمسئوليات هامة على مستوايات محلية وإقليمية
ودولية مع أكبر المؤسسات العالمية والمتعددة الجنسيات..
2
إلى كل من ظن أن الطريق مسدود ،وأن األمل مفقود..
أهدي هذا الكتاب
إيهاب فكري
3
بين يدي أستاذي
5
ولكن ربي كريم
أسمع كالمه وأتحرك به بين الناس بطريقتي فيعتقدوا في أنني
صاحب المعاني ،وما أنا إال ناقالً لها ،أسمعها منه وأظل أرددها
على نفسي حتى تصبح جزءا ً من تكويني ،تجري في دمي ،ثم
أجلس بين الناس ،فما أن أفتح فمي ألتكلم حتى تنطلق منه تلك
المعاني وقد ارتدت ألفاظا ً جديدة تناسب السامعين ،كم تمنيت أن
أنقل كلمات أستاذي كما هي ،ولكنه يتكلم معي بلغات عديدة،
وكثيرا ً ما يكتب العبارة ،مرة شعرا ً ومرة نثرا ً وأحيانا ً باإلشارة..
أستاذي بحرا ً من العلوم والفنون ،وأنا أقف على شاطئه أخاف
الغرق ،فإذا ما أصابتني قطرات من تالطم أمواجه ذهبت بها بعيدا ً
فرحا ً وكأنني امتلكت الحقيقة الكاملة ،ولكني ال ألبث أن أعود
فأجلس بين يديه ألرى حقيقتي .طفل يلعب على الشاطئ!
ذهبت إليه كثيرا ً ولم أجده ،أحسست بالضياع ،أذن الفجر فقمت
إلى الصالة ،رفعت يدي ودعوت "ربي ال تذرني فردا ً وأنت خير
الوارثين"" ..اللهم إني أعوذ بك من فجأة الشر وتحول عافيتك"..
جلست في أذكار الصباح أسأل ربي الفرج وكشف الهم ،ال أعلم
تماما ً ما الذي حدث ،ولكني فجأة فقدت مهاراتي .وفقدت األمل!
*
6
كنت قد تلقيت دعوة للتشاور مع أصحاب القرار ،ذهبت واستمعت
إليهم ،سألوني ،كما سألوا غيري ،عن رأيي في أصل المشكلة التي
تمر بها البالد ،تحدثوا عن دائرة العنف وعن السبيل للقضاء نهائيا ً
على الفوضى والعشوائية وسوء اإلدارة وعدم اإلستقرار ..ولكني
لم أتكلم ،فاقد الشيء ال يعطيه ،وجدتني خاوياً ،ال فائدة من الكالم،
ال شيء يحدث ،ال شيء سيحدث ،الكالم ال يفيد ،الكالم لن يفيد،
شعرت بالملل فاستأذنت وأنصرفت قبل نهاية اإلجتماع ،عدت إلى
بيتي ،قالت زوجتي وقد قرأت حالي على وجهي" :الحل في
السفر ،خلينا نلحق والدنا" ،ولكني لم أتكلم ،ألول مرة أشعر بذلك
الضياع ،أهو حال البلد؟ أم أن رصيدي قد نفذ؟ ذهبت مرارا ً
وتكرارا ً ألستاذي ولم أجده ،فهو عادة ً الذي يطلبني للقائه ،ولكنه لم
يفعل ،غالبا ً عرف حقيقيتي ،عرف أنني ال أستحق صحبته!
*
ولكن ربي كريم
جاء الفرج فجأة ،وإستدعاني أستاذي..
الحمد هلل!
*
ال أذكر متى تحديدا ً استدعاني وال كيف ،ولكني جلست أخيرا ً بين
يديه ،شكوت له حالي وحكيت ،أخبرته أنني أريد أن أنقذ بالدي
من هذه الحالة العبثية ،أعرف أن المشكلة هي في سوء اإلدارة،
وأعرف أن الحل البد وأن يكون في حسن اإلدارة ،ولكني فقدت
مهاراتي ،ال أعلم من أين أبدأ ،انتشر الفساد والجهل والمرض في
بلدي كما ينتشر السوس في جوال الدقيق ،سألته مرارا ً وتكراراً:
"باهلل عليك سيدي ،من أين أبدأ؟" أشعر بالعجز والخجل ،أعيش
في دوائر مفرغة وال أرى فيها أمل ،الحل قد استعصى علي ،وهل
هناك حالً في األساس؟
7
هل كتب علي أن أعيش وأموت ومن بعدي أبنائي وأحفادي بينما
بلدنا تخرج من كبوة لتدخل في كبوات؟ إلى متى تتشابك فيك يا
بلدي المشكالت وتتعقد األزمات؟ وأنا ال أفعل شيئاً ..أشعر بخذالن
اإلبن الذي فشل في بر أمه ،أشعر بضعف األب الذي عجز عن
السعي على خبز أبنائه .متى الخالص؟
إبتسم األستاذ كعادته ،سكت طويالً ،ثم نظر ناحية الركن الشرقي
من الغرفة حيث ذلك الصندوق القديم الكبير ،وقال" :يا ولدي ،حل
المشكلة يبدأ من هذا الكتاب ،خذه واقرأه جيدا ً"..
لم أتوقع تلك اإلجابة ،ولكني هممت على الفور إلى الصندوق
الخشبي القديم الكبير ألفتحه وأحضر الكتاب من داخله ،حاولت
جاهدا ً أن أفتحه ولكني فشلت ،كان بابه ثقيالً جداً ،وكأنه صندوق
كنز من كنوز القراصنة التي نقرأ عنها في الروايات ونراها في
األفالم ،هو بالفعل كذلك ،هو صندوق الكنز ،فيه الكتاب الذي
سينقذني هللا به ،لقد قال األستاذ ذلك ،فهو كذلك ،األستاذ يمازحني
أحياناً ،ولكنه ال يسخر أبدا ً من آالمي وال يسفه أحالمي..
8
وجدت قطرات تسقط على أرض الغرفة الخشبية ومن البرودة
على جبيني وظهري عرفت أنه العرق ،يبدو أنني كنت متحمسا ً
جدا ً في تخليص باب الصندوق ويبدو أنني نجحت في ذلك ،ألقيت
سلسلة المفاتيح على طاولة زجاجية بجوار الصندوق ،أو لعلي
ألقيتها على شيء موضوع فوق الطاولة ألنني لم أسمع صوتا ً
نتيجة إلقاء المفاتيح على الزجاج..
"الرجل أشار بنظره نحو كتاب على طاولة بجانب صندوق ،لماذا
تركت الكتاب والطاولة وذهبت إلى الصندوق؟" ..كنت أكلم نفسي
ولم أساله ولكنه أجاب ،كثيرا ً ما يفعل ذلك ،قال" :يا ولدي ،هذه
هي المشكلة ،عندما تتعقد األمور ،غالبا ً ما نبحث عن الحلول
بداخل الصندوق ،ما دام هناك صندوقا ً فإننا غالبا ً ما نعتقد أنه
يحوي شيئا ً ذو قيمة ،وهذه طبعا ً ليست قاعدة ،فكثيرا ً ما يكون
الحل واضحا ً جليا ً سهالً خارج الصندوق ،وهذا هو الموضوع
الذي يناقشه الكتاب الذي أطلب منك قراءته جيدا ً ،هو يعرض فقط
المبدأ األول من مبادئ التفكير خارج الصندوق ،أريدك أن تقرأه
جيدا ً ،وبعدها سأعرض عليك بقية المبادئ ،ولعلنا نناقشها
بالتفصيل في الوقت المناسب..
10
سألته وقد تجاوزت الحرج" :سيدي ،ما هو التفكير خارج
الصندوق؟ وإن كان هذا الكتاب يحتوي فقط على المبدأ األول،
فأين بقية المبادئ؟ وكم عددها؟"..
ابتسم أستاذي وقال بهدوء بعدما نظر إلى هيئتي المزرية" :إذهب
أوالً لتغسل وجهك ،وسنتحدث بعد ذلك إن شاء هللا في كل ما
تريد"..
قمت متخاذالً وفي عيناي سؤاالً بديهيا ً عن مكان الحمام ،فقال وقد
ارتسمت على وجهه المشرق ،دائماً ،عالمات الجدية" :إكتشف
مكانه بنفسك يا ولدي ،ولكني أؤكد لك مبدئيا ً أنك لن تجده أبدا ً
بداخل الصندوق"!
***
11
فلسفة التفكير خارج الصندوق
12
هل سمعت عن الفزورة التي تقول :محمد سائق األتوبيس توقف
في المحطة األولى وركب معه أربعة أشخاص ،وفي المحطة
الثانية نزل ثالثة من األتوبيس وركب عشرة ،وفي المحطة الثالثة
ركب خمسة عشر ولم ينزل أحد ،وفي المحطة الرابعة نزل تسعة
ولم يركب أحد ،والسؤال هو :ما إسم سائق األوتوبيس؟
هذه الفزورة تلعب على فكرة الصناديق ،تذكر إسم السائق على
عجل ،وبعدها تأخذك إلى صندوق الحسابات ،وتظل أنت بداخل
ذلك الصندوق فترة لتحسب وتجمع وتطرح ،ثم فجاءة يكون
السؤال من خارج الصندوق ،فيحدث لك نوعا ً من اإلرتباك
والتشتت حتى تختار الصندوق الخاص باألسماء وتذهب إليه
لتستخرج منه اإلجابة ،وأحيانا ً تتوه وال تجده!
هذا مثال رمزي وفي غاية البساطة والسطحية ،ولكن أسئلة الحياة
وإختباراتها أكثر قسوة وأشد تعقيداً ،فهناك من لم يفكر طوال
حياته إال من خالل ثالث صناديق ،مثالً ،البيت والشغل
واألصدقاء ،فإذا ما مر عليه موقف صعب ولم يجد له حالً من
داخل المنهج ،أي لم يجد له حالً في مخزون خبراته التي خزنها
طوال حياته بداخل تلك الصناديق الثالثة ،فإنه يعتقد بالخطأ أنها
نهاية الحياة وأن المشكلة ال حل لها ،بينما قد تكون المشكلة بسيطة
وحلها أبسط ولكنها من خارج صناديق حياته الثالث..
13
وذلك ما قد يدفع بعض الضعفاء إلى الكسب من الحرام عند ضيق
الحال بداخل الصناديق التي تعود على البحث فيها عن الرزق ،أو
قد يدفعهم حتى إلى التفكير إلى ما هو أقبح وأشد من ذلك ،إلى
الخيانة أو القتل أو حتى اإلنتحار ،ذلك ألنهم ضيقوا واسعا ً ولم
يفكروا بشكل إبتكاري ،وإنما ظنوا وقت األزمات وتعقد المشكالت
أن خيارات الحل محدودة في خبراتهم الموجودة بداخل
الصندوق"!
كان هذا بعضا ً مما قاله لي أستاذي قبل أن أنصرف حامالً للكنز،
طوق النجاة الذي بحثت عنه بداخل الصندوق فوجدته خارجه،
الكتاب األحمر ،قررت أن ألغي جميع ارتباطاتي لذلك اليوم ،كم
هي كثيرة ،ال يهم ،المهم أن أجلس وأقرأ وأتعلم وأفكر وأنوي
وأتحرك .يارب.
*
عادة ما أقرأ على سريري قبل النوم ،ساعة ،ساعتين ،ثالثة،
حسب التساهيل ،لكن مع مثل هذا الكتاب القيم يتغير النظام ،أخرج
في الهواء الطلق ،ال تهمني حرارة الجو أو برودته ،فإن لهذه
الكتب نسيما ً في الصيف ودفئا ً في الشتاء ،كم أحب تلك اللحظة،
كتاب قيم وهواء طلق وقلب شغوف ،فتحت الكتاب ونظرت
للصفحة البيضاء األولى منه فوجدتها بيضاء فارغة من الكلمات
مثل أغلب كتب هذه األيام ،ولكن هناك مع ذلك شيء غريب في
هذا الكتاب ،فقط غالف أحمر داكن وال يحمل أي عنوان ،وال
حتى إشارة لدار النشر ،أين رقم اإليداع؟ لعله قديما ً أو مصورا ً من
نسخة أصلية ،أكيد هو كذلك ،فمثل هذه الكتب ال يجوز بدا ً التفريط
فيها ،هذا غالبا ً ما فعله أستاذي ،صوره لي خصيصا ً بينما احتفظ
عنده بالنسخة األصلية .كم أقدرك يا أستاذي!
14
"بسم هللا" هكذا قلت ،وهكذا دائما ً أقول ،فأنا ال أبدأ القراءة وال
األكل إال بعد أن أسمي هللا ،فكالهما غذاء ،هذا للروح وذاك للجسم
وال أتحمل أن يشاركني فيهما الشيطان ،وأيضا ً الصفحة الثانية
بيضاء ،فارغة ..غريب هذا األمر ..وكذلك الصفحة الثالثة بيضاء،
والرابعة والخامسة والعاشرة و ..ما هذا؟ ..الكتاب ال يوجد به أي
شيء ،وال كلمة ،الكتاب عبارة عن صفحات بيضاء فارغة "ما
هذا الهراء؟ أنا لست في حاجة إلى ذلك ،ما هذا الكالم الفارغ؟!
صندوق فارغ ثم كتاب فارغ ،أهذا ما يفعله معي األستاذ؟ إن كان
يسخر مني أو يمارس تلك األلعاب التي تليق بالصبية فهو ليس
أستاذي وال يشرفني الجلوس بين يديه ،أيريد إبالغي بطريقة غير
مباشرة أنني فارغاً ،خاوياً ،مثل صفحات هذا الكتاب؟ أعرف هذا،
وأعيده على نفسي كل يوم ،فلماذا اإلهانة؟ ما كان عليه إال القول
بشكل مباشر أنني ال أصلح للجلوس بين يديه ،كنت سأقبل يده
كعادتي وأنصرف بأدب ،أهكذا يتصرف القدوة؟ .شكرا ً يا سيدي"!
*
15
وفي ذات صباح استدعاني..
ألول مرة في حياتي أشعر أنني ال أريد رؤيته ،طلب مني أن
أحضر معي الكتاب ليناقشه معي ..ماذا يناقش؟! أيفعل هذا إمعانا ً
في إذاللي؟ أم أنه ال يعلم ما بداخل الكتاب؟ ال يمكن ،ليس أستاذي
الذي يفعل ذلك ،فهو لن يشير علي بقراءة كتاب لم يقرأه جيدا ً ،بل
غالبا ً يكون هو الذي كتبه بنفسه ،قد يكون هناك خطأ ما ،أستاذي
مخلوق يخطئ و يصيب ،الحكمة تقتضي أن أذهب إليه ألعرف
الحقيقة ،الزال هناك شيء ما منه في نفسي ،ولكني ذهبت.
16
المبدأ األول
جلست بين يديه وكأن شيئا ً لم يكن ،ما أن رأيته حتى وقع في قلبي
حبه ومهابته ،وكأنني أراه للمرة األولى ،لم أجد الصندوق في
الركن الشرقي من الغرفة ،فقال أستاذي" :ال تقلق نفسك يا ولدي
بالصندوق ،فقد ذهب لحاله ،المهم اآلن أن أسمع رأيك بالتفصيل
في محتوى الكتاب"!
17
ال أعرف لماذا اتهمت ذاكرتي بشكل غير مسبوق ،أحسست أن في
الكتاب فصول وأبواب وحكم عظيمة ولكني أنا الذي لم ألحظها،
قلبت نظري بين عيني أستاذي العميقتين القديمتين الجادتين وبين
غالف الكتاب األحمر ،خشيت أن أفتح الكتاب فأجد الكلمات على
صفحاته تتراقص وهي تخرج لي ألسنتها ،لم أفتح الكتاب ،قدمته
ألستاذي وأنا أقول بصوت خفيض" :ال شيء ،ليس لدي رأي في
محتوى الكتاب ألنه اليحتوي على أي شيء ،سيدي"..
لم يأخذ األستاذ مني الكتاب ،فقط أشار إلي بنظره وهو يبتسم
ففهمت أنه يريدني أن أفتحه أمامه ،فتحته وأنا خائفا ً من تراقص
الكلمات وسخريتها مني ..ولكن هللا سلم ..كان الكتاب خاوياً ،قلبت
الصفحات وأنا جالسا ً بين يديه موجها ً رأس الكتاب ناحية األرض
حتى يرى بنفسه بياض صفحاته ،ولكنه ظل مبتسما ً وعلى عينيه
نفس النظرة ونفس اإلشارة ،ظللت أقلب الصفحات أمامه حتى
وصلت ،تقريباً ،آلخر الكتاب وقد أصابني الملل ،فقال بنبرة آمرة
"أكمل يا ولدي ،فمازالت هناك صفحات" ..إذن هو يمعن أكثر في
إذاللي ،ليكن ،قلبت الصفحة وراء الصفحة حتى لم يتبقى إال
صفحتين أخيرتين ..ولكني لمحت على ظهر الصفحة قبل األخيرة
ظالً لكلمات مكتوبة على وجهها ..نظرت ألستاذي ،فإذا به على
نفس اإلبتسامة والنظرة واإلشارة ،أحسست بقبضة في قلبي،
خوف ،لماذا الخوف؟ ال أدري! ..قلبت الصفحة بحرص وكأنني
أخشى أن تنفجر في وجهي ،فوجدت هذه الجملة:
18
تذكرت اآلن ما قاله لي أستاذي عندما أعطاني الكتاب ،قال
بالحرف الواحد" :وهذا هو الموضوع الذي يناقشه الكتاب الذي
طلبت منك قراءته ،هو يعرض فقط المبدأ األول من مبادئ فلسفة
التفكير خارج الصندوق ،أريدك أن تقرأه جيداً ،وبعدها سأعرض
عليك بقية المبادئ في الوقت المناسب"..
نعم هذا ما قاله لي ،طلب مني قراءة الكتاب جيدا ً ،وهذا ما لم
أفعله ،قال إنه يعرض فقط المبدأ األول من مبادئ التفكير خارج
الصندوق ،وهو بالفعل كذلك ،هو لم يقل أن الكتاب يناقش المبدأ
األول أو يحلله أو يشرحه ،هو قال أنه فقط يعرض المبدأ األول،
وهذا تماما ً ما عليه الكتاب!
ولكنه لم يصبر علي فقط ،بل ساندني وشجعني فقال" :ال تحزن يا
ولدي ،كلنا نقع في مثل ذلك الفخ ،إال من رحم ربي ،ولكن المهم
اآلن هو التأمل في المعنى واإلستفادة من المغزى".
***
19
(براغ) مدينة الجمال..
20
تعتبر من أجمل مدن العالم من حيث الهندسة والمعمار ،حاولت
اإلستفادة من وقتي ،كالعادة ،كنت قد وصلت إلى جمهورية التشيك
من القاهرة لحضور إجتماع عمل ليوم واحد فقط ،وبعد اإلجتماع
وجدت عندي ثالث ساعات من الحرية حتى موعد الذهاب للمطار
حيث الطائرة التي ستأخذني إلى حبيبتي ،مصر ،ثالث ساعات في
النهار بدون عمل ،فرصة ال تعوض ،جلست على مقعد خشبي في
تلك الحديقة العامة الباهرة الجمال أحدث نفسي في هواء (براغ)
الهادئ النقي ،أمسكت بالكتاب مفتوحا ً على صفحتة قبل األخيرة
ونظرت إلى ما كتب فيها طويالً ألتأمل في المعنى وأستفيد من
المغزى كما وصاني أستاذي ..المبدأ األول للتفكير خارج
الصندوق( :ذاكر الواقع جيدا ً قبل التمرد عليه) ..عجيب أمر هذا
الكتاب ،يمثل حالي تماماً ،أحيانا ً أقلب صفحات حياتي وأفكاري
فال أجد شيئا ً يصلح لحل مشكلتي فأظنني خاويا بينما الخلل عندي
ليس في قلة المعرفة وإنما في دقة البحث!
22
بعد العرض ،وبعد أن ظهر للجميع اإلمكانات الحقيقية لذلك
الجهاز اإلختراع ،قال مدير المعهد ،وقد عاد وجهه للونه األصلي:
"لقد ذكرنا هذا الولد الذكي بأحد المبادئ الراسخة للتفكير
اإلبتكاري ،وهو أن ندرس الواقع من حولنا بشكل دقيق قبل
الشروع في إعادة إختراع العجلة ،فلوال وجوده بيننا وإكتشافه
ألصل المشكلة ،لكنا جميعا ً اآلن نعمل على تفكيك الجهاز وتحليله
بل ويمكن رفض فكرة اإلختراع من األساس .شكرا ً (مارك)"!
*
كم تمردت على واقعي قبل دراسته ،استغفر هللا ،وكم نصحت
بالدواء قبل إكتشاف العلة وأصل الداء ..ولكني تعلمت الدرس ،من
اليوم سأذاكر الواقع جيدا ً قبل التمرد عليه ،سأدرس حال بالدي
بالتفصيل ،لن أترك حجرا ً إال وأقلبه ألبحث فيه وتحته عن أصل
المشكلة ،البد وأن يكون هناك سببا ً رئيسيا ً للمشكالت التي نعيش
فيها ،لعلي بحثت من قبل كما فتشت عن الكلمات في الكتاب،
متوترا ً متسرعا ً فاقدا ً للتركيز ،فتوصلت إلى نتائج عشوائية وغير
مرتبة تليق باسلوبي الساذج في الدراسة والبحث..
23
إذن هذه هي مهمتي القادمة ،أشعر بالدماء تعود إلى رأسي،
سأبحث وأبحث عن جذر المشكلة حتى أصل ،ولن ألتفت عن
هدفي حتى أصل ،فقد علمني أستاذي أن الملتفت ..ال يصل!
***
24
المربعات األربعة
25
اكتشفت أن البحث عن أصل مشكلة بلدي أعقد مما تصورت،
خارت قواي ولكن عزمي لم يفتر ،كنت كمن سحبه البحر بعيدا ً
عن الشاطئ فقرر عدم المقاومة ،أنا اآلن في الدوامة ،أدور فيها
مشدوها ً مشدودا ً نحو القاع ،لن أقاوم ،قررت اإلستسالم لدوامة
البيانات والمعلومات واألفكار والتحليالت حتى أصل للمشكلة
األم ،أو أهلك دونها!
أنا تعبت.
*
نمت على أرضية غرفة مكتبي بدون وسادة وال غطاء ،انهرت
فجأة ،ولكني فتحت عيناي بعد دقائق ،أو ساعات ،وقد تذكرت
قصة (مارك) والجهاز وفيشة الكهرباء ،قلت لنفسي" :لعلي كنت
أفكر من منتصف الطريق ،هذه هي المشكلة ،البد وأن أعيد
التفكير بطريقة أخرى"..
علمني أستاذي منذ سنوات أن تقييم أداء أي دولة يجب أن يبدأ من
خالل النظر إلى أربعة مربعات ،وأذكر أنه رسمهم لي بخط يده،
وأنا متأكدا ً أنني احتفظت بهذه الرسمة في مكان ما ،فأنا لم أترك
كلمة واحدة كتبها لي أستاذي إال واستأذنته في اإلحتفاظ بها ،ولكن
المشكلة أنه على مر السنوات أصبح عندي مئات الصفحات
والقصاصات ،وحتى قطع المناديل الورقية ،التي كان يرسم عليها
أستاذي ويكتب أفكاره وأنا جالسا ً بين يديه ،فهذه إحدى عاداته
عندما يفكر ويعلم..
27
بحثت كثيرا ً في الدرج الذي خصصته لمقتنياتي من أوراق
وقصاصات أستاذي ..النفس ،القلب ،الهدف ،الرؤية ،المهمة،
التسويق الدولي ،اإلدارة في الفوضى ،التخطيط اإلستراتيجي،
إدارة الوقت ،سياسات اإلندماج واإلستحواز ،إدارة التغيير ،ترتيب
األولويات ،فلسفة اإلدارة الرياضية ،اإلدارة وعلم الفزياء ..مئات
األوراق التي أجدني مضطرا ً للتوقف أمام كل واحدة منها للتأمل
والتدبر ،ولكني بهذا أشتت نفسي ،ال يجب أن ألتفت عن هدفي،
الملتفت ال يصل ......وأخيرا ً وجدتها!
كنت قد تلقيت طلبا ً لتقديم المشورة لحكومة أحد الدول التي تسعى
لمراجعة منظومتها اإلدارية بشكل شامل ،أحسست بصعوبة
المهمة فكونت فريقا ً من محترفي اإلدارة للعمل معي على تلك
المهمة الشاقة ،ولم يتبقى لي وقتها إال أستشارة أستاذي ،انتظرته
كالعادة حتى استدعاني ،فلما عرضت عليه األمر قال" :فلتبدأ يا
ولدي من هنا" ..ورسم لي هذا الشكل:
28
رسم أستاذي المربعات الثالثة األولى على نفس المستوى:
(السياسة الداخلية) و (السياسة الخارجية) و (األمن) ،ثم وضع
المربع الرابع (اإلقتصاد) في األعلى ألن اإلقتصاد ،كما علمني،
هو ثمرة الثالث مربعات األولى..
هناك أسئلة كثيرة تتعلق بتفاصيل دقيقة ولكن أثرها كبير على
كفاءة إدارتنا السياسية ،ولعل أغلب هذه األسئلة لم تخطر لبعضنا
على بال ..مثل ،لماذا ال يزال نواب الشعب يصفقون في مجلسهم؟
ولماذا ال توجد طريقة حديثة للتصويت على مشروعات القوانين؟
وأين هي التحليالت التي تخرج من المجلس بعد التصويت؟ وهل
مجلس النواب ،أو مجلس الشعب ،هو أفضل وسيلة لتمثيل
الشعب؟ ..ولماذا يصيح أغلب نواب الشعب وهم يتكلمون؟ ولماذا
يصيح أغلب خطباء المساجد وهم يخطبون؟ وإذا كانت الثقافة هي
طرائق حياة الشعوب ،فلماذا كانت إهتمامات وزارات الثقافة على
مر تاريخنا الحديث أبعد ما تكون عن طريقة المصريين الحقيقية
في الحياة؟ ما هي قصة السنة السادسة اإلبتدائية؟ ولماذا كل ما
تفكر حكومة في تطوير التعليم تلغي أو تعيد هذه السنة بالذات؟ أين
السر؟ وهل في مصر فعالً مجانية تعليم؟ ما هو المعنى الحقيقي
لوزارة اإلعالم؟ ولماذا ال يوجد عندنا جهازا ً رسميا ً معلنا ً للدعاية
رغم أننا نعاني من ضعف عام في تسويق األفكار التي توحد
الشعب الذي يفرقه الجهل وتقسمه الشائعات؟ ولماذا ال يوجد
لالزهر الشريف فرعا ً في كل حي ومنطقة في مصر شأنه شأن
أقسام الشرطة؟ ولماذا ال يوجد تواصل مباشر ودائم وسهل بين
المواطن المصري العادي وبين دار اإلفتاء؟ ولماذا ال يوجد عندنا
جهازا ً مستقالً إلدارة عمليات التغيير؟ وما األساس العلمي الذي
قسمت مصر إداريا ً بنا ًء عليه لهذا العدد الحالي من المحافظات؟
من تحدى هذا التقسيم وحلله وناقشه؟ ولماذا لم نفكر بجدية في
مراجعة شاملة للنظام اإلنتخابي الحالي الذي لن يصمد أمام كل
هذه ال.................
30
ما هذا؟..
يااااه ....كانت دائما ً المشكلة األساسية أمامي ولم أفكر أبدا ً في
العمل عليها ،فعالً كان يجب علي أن أبدأ بالتفكير من األساسيات،
فعلت تماما ً مثل الذين توجهوا لفحص الجهاز ونسوا أن يتأكدوا من
وصول الكهرباء له ،هذا األمر تماما ً مثل الكهرباء إلدارة أي دولة
ديمقراطية..
31
أصل المشكلة
32
الشاب اآلن في القطار ،جلس على أول كرسي وجده في العربة
وقد بدأ يلتقط أنفاسه بينما يشاهد من شباك القطار المباني
والمزارع والبشر التي تمر جميعا ً أمامه على خلفية صوت صافرة
القطار الذي يعلن في حزم أن الرحلة قد بدأت بالفعل..
شعر الشاب بلمسة على كتفه ،فنظر للرجل الواقف بجواره ،فإذا
به كمساري القطار الذي سأله بال مباالة" :تذكرتك" ..فوضع يده
في جيبه ،ثم تذكر أنه كان متعجالً ولم يحجز تذكرة ،شعر بالحرج
وأخرج فورا ً نقودا ً من جيبه وسأله" :بكام التذكرة؟" ..فرد عليه
الكمساري بسؤال" :انت نازل فين؟" ..كان وقع هذا السؤال عليه
كالصاعقة ..قال بذهول" :مش عارف"! ..قال الكمساري وقد نفذ
صبره" :استغفر هللا العظيم يارب ،يا عم خلصنا ،القطر بيوقف في
أربع محطات ،انت نازل فين؟" ..دفع الشاب ثمن تذكرة آخر الخط
ليخرج من ذلك الموقف الغريب ،ثم جلس شاردا ً يحدث نفسه" :لقد
رأيت القطار يتحرك ،فخفت أن يفوتني ،تركت كل ما في يدي
وفعلت أقصى مجهودا ً ألركبه ،ولكنني لم أكن أفكر أساسا ً في
الذهاب إلى مكان بعينه ،أنا أصالً لم أكن أنوي السفر" ..نظر إلى
النافذة وبدأ يسأل نفسه" :لماذا ركبت القطار؟" !
*
وأما عن العدل والرخاء ،فال حدود وال نهاية لهما ،العدل مطلوب
حتى مع القاتل السفاح ،والرخاء مطلوب حتى مع الطائر الذى
يسعى لرزقه فوق األرض التى والنا هللا تعالى عليها ،ولذلك فإن
(العدل) و (الرخاء) هما ،في رأيي ،الهدف األكبر للبالد.
34
وبنا ًء عليه ،فنحن قد اخترنا في رحلة السعي نحو العدل والرخاء
أن نركب قطار الديمقراطية ،بينما هناك من اختار وسائل أخرى
غير الديمقراطية ،نعم ،فهناك وسائل أخرى غير ديمقراطية وهي
مع ذلك محترمة وجادة وجيدة للوصول إلى العدل والرخاء ،ولكننا
مع ذلك اخترنا الديمقراطية ألننا رأينا أنها في الوقت الحالي هي
األنسب لنا فى مصر..
35
المعضلة هنا هي أننا لو لم نثق تماما ً في سالمة اإلنتخابات العامة
فلن نجد أبدا ً بذلك اإلستقرار والتماسك الداخلي ،ونتيجة لعدم
إستقرارنا وضعف تماسكنا الداخلي قد تتدخل دوالً ومجموعات
خارجية في شؤوننا بغض النظر عن سالمة نواياهم أو خبثها،
وطبعا ً الشعب لن يرضى عن ذلك ،فتحدث إضطرابات في
عالقاتنا بالمجتمع الدولي تنعكس سلبا ً على سياساتنا الخارجية،
ومع عدم اإلستقرار الداخلي وإضطراب العالقات الخارجية لن
ننعم أبدا ً باألمن ،وهذا ما سيضعف بالضرورة إقتصاد البلد،
وعندئ ٍذ نكون أبعد ما نكون عن هدفنا األخير :العدل و الرخاء!
وبناء عليه ،فإننا إذا وجدنا مؤشرا ً لضعف ثقة جزء كبير من
التحرك
ُّ الشعب فى سالمة ونزاهة االنتخابات واإلستفتاءات ،فعلينا
فورا ً الستعادة هذه الثقة بكافة الوسائل والطرق ،وإال كان كالشرخ
فى جدار السد الذى سينهار حتما ً من شدة الضغط عليه.
وحل المشكلة:
هو إنشاء نظام إنتخابي مصري غير قابل لإلختراق أو التزوير.
***
36
المبدأ الثاني
جلست بين يديه في أدب وقلت" :سيدي ،لقد استفدت حقا ً من المبدأ
األول للتفكير خارج الصندوق ،ذاكرت الواقع جيدا ً قبل التمرد
عليه ،وأعتقد أنني بذلك قد وضعت يدي على أصل المشكلة ،ولوال
فضل هللا علي أن أجلسني بين يديك لما توصلت أبدا ً لهذه المشكلة
البديهية والتي من فرط بداهتها ووضوحها نسيتها كما نساها أغلب
الناس ،حقا ً على هذا األمر أن يكون أحد المشروعات القومية
لبلدي في الفترة القادمة ،فهي لن تسير فعالً في طريقها كدولة
ديمقراطية إال بوجود نظام إنتخابي غير قابل لإلختراق أو التزوير
ويكون في نفس الوقت مناسبا ً لظروفها ولثقافة شعبها!
37
ابتسم أستاذي بوقار وقال كلمات قليلة ،كعادته ،فهمت منها أنني
على الطريق الصحيح .الحمد هلل.
38
أعتقد أيضا ً يا سيدي في أن سمعتي المهنية ستكون على المحك،
ذلك ألن هناك أطرافا ً ليس لها مصلحة في وجود نظام إنتخابي
قوي في مصر ،وأن هؤالء لن يدخروا جهدا ً للقضاء على سمعتي
حتى يتبين فشل المشروع ..ولكني إذا توقفت عن التفكير في هذا
المشروع ولم أسعى لتنفيذه ،فمن الممكن جدا ً أن تظل بلدي لعقود
طويلة تعتمد على النظام اإلنتخابي الحالي والذي يسهل إختراقه
من بعض الصبية الموهوبين ،فما بالنا بمحترفي التزوير!
إذن مشروع هام فعالً وضروري ولكن معه عقبة مادية ،وعقبة
في قبول الفكرة ،وعقبة متعلقة بسمعتي المهنية ..قل لي يا أستاذي
باهلل عليك ،مع كل هذه العقبات التي تواجه تنفيذ المشروع هل من
الحكمة أن أفكر فيه؟"..
فقال أستاذي بال مقدمات" :يا ولدي ،إن المبدأ الثاني للتفكير خارج
الصندوق هو:
***
39
التفكير و التنفيذ
وقف في وسط القاعة وبدا وكأنه ينتظر اإللهام قبل أن يتكلم ،نظر
لطلبة القسم الذي يرأسه في الكلية األهم عالميا ً في مجال التأليف
الموسيقي ،ثم قال الدكتور مايكل م .ويلسن:
40
"إن الفرق بين التأليف الموسيقي وتلحين األغاني هو أنكم في
التلحين تجتهدون إلظهار معاني الكلمات واألحرف والمدود ،كما
تتقيدون بالمقدرة الصوتية لمن سيغني ألحانكم ،ولكن التأليف
الموسيقي يحرركم من تلك القيود ،كلمة السر هنا في الخيال
الالمحدود ،ال تألفوا الموسيقى وأنتم تعزفونها على آالتكم
الموسيقية ،إن في ذلك تقييدا ً وتحديدا ً لقدراتكم على اإلبداع
والخيال ،ألفوا الموسيقى في أذهانكم أوالً ،اكتبوها كما تتخيلوها،
ثم بعد ذلك فكروا في عزفها ،فماذا لو كانت قدراتكم على العزف
أضعف من قدراتكم على التأليف ،عندها سيتوقف إبداعكم عند
حدود قدراتكم على العزف ..تذكروا أن من اخترع السيارة ليس
أفضل قائدا ً لها ..أنتم تبدعون تتخيلون تبتكرون تفتحون اآلفاق
لغيركم ممن يعزف موسيقاكم قبل من يسمعها ،احلموا وابتكروا
وتخيلوا موسيقاكم في أذهانكم وكأنها لن تعزف أبداً ،ال تشغلوا
بالكم بقدرة العازفين اآلن ،هذا أمر له وقته ،ولكن عند اإلبداع.....
إفصلوا التفكير عن التنفيذ"!
*
وملخص هذه النظرية ،كما فهمتها من أستاذي ،أن الباب األول من
تلك األبواب الثالثة هو باب المستقبل ،وكأنه باب موجود أمام
األنسان دائما ً وفي كل وقت ،المفترض أن يفتحه اإلنسان لوقت
قليل يطل منه على المستقبل ليخطط لما هو قادم ثم يغلقه فورا ً
ويعود للواقع حيث ينفذ ما كان يخطط له ،ولكن لألسف هناك من
يفتح باب المستقبل فيطل منه على الغد ثم يدخل فيه وال يعود
للحاضر ،يفكر فقط في المستقبل ويعيش فيه وال يعود للحاضر إال
قليال ،تجده يخاف على مستقبله ومستقبل أوالده ومستقبل بلده
ومستقبل الجيران ومستقبل األقارب والخالن ،خايف على كل
شيء وخايف من كل شيء ،خايف على كل الناس وخايف من كل
الناس" ،خايفة من بكره واللي هيجرى" كما تقول األغنية القديمة،
ماذا سيفعل غداً؟ وماذا سيأكل بعد ساعة؟ وماذا سترتدي في كتب
كتاب بنت خالتها الشهر القادم؟ وهل المولود القادم ولد أم بنت؟
وهل سيكون لهما أبناء من األساس؟ ولو كان هناك أبناء ،يا ترى
42
بكره مخبيلهم إيه؟ وياترى شكلهم هيكون إيه؟ ..ومئات األسئلة
ومئات اإلجابات ،ولن تنتهي أسئلتهم ولن ترضيهم اإلجابات!
فكم من أناس فتحوا باب المستقبل ودخلوا فيه ولم يعودوا ،ال
يعيشون في الحاضر أبداً ،يقف للصالة فيجد أن ذهنه ال يستوعب
أي شيء مما يقول ،فهو يقف على سجادة الصالة بجسده فقط،
بينما عقله وقلبه ووجدانه قد فتحوا باب المستقبل ودخلوا فيه ولم
يعودوا أبداً ،فال يشعر أبدا ً بلذة الحاضر ،وال يستمتع باألحباب وال
بحالوة اللقمة وال بلطف نسيم الصباح ،ولن يستطيع من كان هذا
حاله التركيز فيما يفعله أو يقرأه أو يراه أو يسمعه في اللحظة
الحاضرة ،فيفتقد في حياته ميزة الدقة وثمرة التركيز وفضيلة
اإلتقان!
43
والباب الثالث في نظرية األبواب الثالثة هو باب الحياة الموازية،
ال هو مستقبل قادم وال ماضي ولى وراح ،وإنما هي حياة ليس لها
عالقة بحياة اإلنسان الواقعية ،أفالم ومسلسالت وبرامج حوارية
وفيسبوك وتويتر وصور ونكات للتسلية ونقاشات ليس ألغلبها
عالقة بواقع اإلنسان ،ومن هذا الباب يطل اإلنسان على حياة
اآلخرين التي ال شأن له بها من قريب أو بعيد وال عالقة لها بسير
حياته ،وهذا الباب يظهر دائما ً بجوار اإلنسان ،على يمينه أو
شماله ،والمفترض أن يفتح اإلنسان ذلك الباب من وقت آلخر
للتسلية والترفيه والخروج من المألوف واإلطالع العام بقدر
الحاجة وفي إطار الحدود التي يضعها كل إنسان لنفسه ،ثم يغلقه
فورا ً ليعود لحاضره حيث الواقع الفعلي والعمل الجاد في رحلة
الحياة ،ولكن لألسف هناك من تاه في غياهب الحياة الموازية ،فال
يبحث عن عقله وقلبه إال ويجدهما قد خرجا من الباب الموازي
ولم يعودا ،فتكون النتيجة المحتومة ،ضياع الحاضر ،ثم فقدان
ميزة الدقة وثمرة التركيز وفضيلة اإلتقان!
فإذا كان مصير من فتح باب واحد من هذه األبواب الثالثة ودخل
منه ولم يعود أن يخسر حاضره وال يجد التركيز وال الدقة وال
اإلتقان ،فما بال الذي فتح األبواب الثالثة كلها في كل وقت؟ يدخل
من أحد األبواب الثالثة وال يعود منه بصعوبة إال ليدخل في
الثاني ،ومن الثاني للثالث ..وهكذا ،دائرة مفرغة ال تنتهي ،وال
يعيش الواقع أبداً ،وبهذا يعيش حياته بال تركيز وال دقة وال إتقان،
فتنتهي قصة حياته بال فائدة ترجى وال سيرة تحكى!
44
تذكرت نظرية األبواب الثالثة اآلن ،ألنها قريبة الصلة جدا ً بالمبدأ
الثاني للتفكير خارج الصندوق ..إفصل التفكير عن التنفيذ ..فأنا لما
فتحت باب المستقبل وجدت أن صناع القرار في بلدي قد لن
يتحمسوا للفكرة ولن يقدون على تنفيذها ،وفتحت باب الماضي
فوجدتهم والذين من قبلهم لم يحترموا فعالً فكرة إنشاء نظام
إنتخابي غير قابل لإلختراق أو التزويرعلى مر العصور ،وتهت
بين البابين ،ال أكاد أخرج من باب المسقبل حتى أدخل في
الماضي ،فكانت النتيجة أنني انفصلت عن اللحظة الحالية ،عن
الواقع ،فتوقفت عن اإلبداع ولم أعمل على الفكرة نفسها خوفا ً من
عقبات التنفيذ ،وهذا ما أشار إليه الدكتور ولسون في المقطع الذي
كان يدرب فيه تالمذته في قسم التأليف الموسيقي على ترك التفكير
في العزف أثناء التأليف ..والتركيز فقط على اإلبداع!
*
إن تسلسل المبادئ منطقيا ً جدا ً حتى اآلن ..أوالً أذاكر الواقع جيدا ً
قبل التمرد عليه ،فإما أن أجد الحل بداخل الصندوق أو أن أتعرف
منه على أصل المشكلة ،فإذا تعرفت على أصل المشكلة ولم أجد
الحل بداخل الصندوق ،بدأت في العمل على حلها من خارج
الصندوق ،حيث اإلبداع والتخيل واإلبتكار وفصل التفكير عن
التنفيذ..
45
لقد كنت دائما ً تحت إنطباع أن قلة اإلمكانيات وحجم عقبات التنفيذ
هي التي تقتل اإلبداع ،ولكنني اآلن تعلمت من المبدأ الثاني للتفكير
خارج الصندوق أننا نحن الذين نقتل بأيدينا قدرتنا على اإلبداع
واإلبتكار ،ذلك ألننا ننشغل بالتنفيذ أثناء التفكير ،فإذا تحرر
اإلنسان فعالً من التفكير في العقبات وقت اإلبداع ،فإنه سيحلق
بأفكاره وينطلق بعيدا ً بال توقف حتى يصل إلى حيث لم يصل أحد
قبله ،وهذه ما تسمى (ريادة األفكار) ،ثم يأتي بعد ذلك وقت التنفيذ،
وهذا أمر أخر وله حسابات وآليات مختلفة ،ولكن ما يهمنا هنا هو
الوصول بالفكر والخيال إلى أبعد مدى..
"عندما تفكر وكأنك قد امتلكت مصباح عالء الدين السحري ،عندما تفكر
وكأن جميع طلباتك ُمجابه ،عندما تفكر وكأن العالم كله يحبس أنفاسه
ويتحرق شوقا ً للتعرف على ما تحلم به ليضع كافة إمكاناته تحت قدميك،
عند ذلك فقط ،يبدأ اإلبداع"!
46
توقفت عند ذلك المقطع كثيرا ً وسرحت لبعض الوقت لتدبر ما
تعلمت حتى اآلن ،ثم قلت لنفسي بشيء من الرضا والراحة:
"المبدأ األول ،ذاكر الواقع جيدا ً قبل التمرد عليه ..والمبدأ الثاني،
إفصل التفكير عن التنفيذ"..
وفجأة......
وأنا الزلت فيها ،فتح باب سيارتي ألجده واقفا ً أمامي ،شابا ً طويالً
نحيفا ً يضع سكينا ً على رقبتي وهو يقول" :إنزل من العربية من
غير دوشة" !
***
47
المستشفى..
والمبادئ الستة
وقفت أمامه وأنا في غاية الخجل ،لقد تركته في الليلة السابقة على
أساس أنني ذاهبا ً إلى بيتي على أن يستدعيني هو في الوقت الذي
يراه مناسباً ،ولكني من شدة لهفتي لمشاهدة المقاطع التي أعطانيها
والتي تتحدث عن المبدأ الثاني للتفكير خارج الصندوق ،جلست في
السيارة أمام بيته أشاهدها جميعا ً حتى قبيل الفجر حين وضع ذلك
الشاب السكين على رقبتي وأخذ السيارة والالبتوب وكل ما معي
من النقود بعد أن ضربني عدة ضربات عنيفة على رأسي بكعب
السكين ،وتركني أنزف على األرض شبه فاقدا ً للوعي ،ولكن ليس
ذلك ما كان يشغلني وقتها ،وإنما كل ما شغلني في ذلك الوقت أني
فقدت تليفوني المحمول!
48
شعرت أن قواي تنهار ،الدم الذي ينزف من رأسي يشير مع كل
لحظة إلى نفاذ مخزوني من الوعي ،لم أفكر في أي شيء وقتها إال
أنني حتما ً سأفقدت الوعي وقد يكتب هللا لي النجاة فيأخذني أحد إلى
أقرب مستشفى ،وقد أمكث بها أياما ً قبل أن أستطيع الحصول على
شريحة جديدة بنفس الرقم الذي هو وسيلة اإلتصال الوحيدة بيني
وبين أستاذي ،فأنا لألسف ال أحفظ رقمه ،وهو الذي يتصل بي
على هذا الرقم ويرسل لي عليه رسائله النصية ،فماذا لو أرسل لي
أو حتى طلبني خالل هذه الفترة؟
تحاملت على نفسي وتوجهت إلى بابه ،أعرف أنه ال يحق لي أن
أفرض عليه نفسي ،وال أن أطرق بابه بدون موعد سابق ،ولكن
هذا ما فعلته ..طرقت باب أستاذي ففتحه لي على الفور ،وكأنه
كان في إنتظاري ،قلت بصعوبة" :ما هي بقية مبادئ التفكير
خارج الصندوق يا سيدي؟" !
لم تظهر على وجهه المريح ،دائماً ،عالمات اإلندهاش ولم يظهر
إنزعاجا ً من شكلي وال من الدماء التي تسيل من رأسي على
وجهي ومالبسي ،بالعكس ،تعامل معي بهدوء الخبير الذي مر
بذلك الموقف آالف المرات ،ظلت ابتسامته على وجهه وهو
يساعدني في الدخول ،أجلسني وغاب للحظات دخلت فيها في نفق
بين الوعي والالوعي ،رأيت بصعوبه يده وهي تقترب من رأسي
وفيها شاشا ً أو قطناً ،ولما رأيت أن إبتسامته المعهودة الزالت لم
تفارق وجهه شعرت باإلطمئنان .ثم أفقت في المستشفى بعد ثالثة
أيام!
*
49
عجيب أمر هذا اإلنسان ،ضربات بسيطة على رأسه تجعله يغيب
عن الوعي لعدة أيام ،أين الذكاء والفهم؟ أين القوة والعزيمة؟ أين
اإلرادة وحسن اإلدارة؟ ..اإلنسان ضعيف ..تذكرت تلك الكلمة
التي قالها محمود عبد العزيز في فيلم إبراهيم األبيض وقد
استخدمها الشباب باسقاطات سياسية على الفيسبوك..
*
لماذا ال أراجع نفسي مرة ثانية حتى ال أفعل مثلما فعل ذلك
الشاب؟ ..نعم ..لقد بحثت في الصندوق جيدا ً ،فرأيت بلدي تركب
قطار الديمقراطية التي تقوم في األساس على فكرة اإلنتخابات
واإلستفتاءات ،بينما النظام اإلنتخابي الحالي من السذاجة والضعف
لدرجة أننا كلما أقدمنا على عملية انتخابات هامة تطلعنا الستنفار
جميع أفراد الشعب ممن لهم حق اإلنتخاب ليقفوا ساعات طوال في
الحر أو البرد وأمام جميع المخاطر واألهوال ،وطالبنا الجهات
األمنية أن تكون في أهبة اإلستعداد ألعمال الشغب والبلطجة،
ولعلنا نلجأ في بعض الحاالت للرقابة الدولية لضمان نزاهة
اإلنتخابات ونتائجها ..أفهم أن نلجأ لتلك اإلجراءات اإلستثنائية في
ظرف معين ووقت محدد ،لكن أن ندير العملية الديمقراطية دائما ً
على أنها حالة إستثنائية فهذا غير مقبول!
51
ولذلك ،وبعد المراجعة ،فأنا اآلن على قناعة تامة أن بداية الحل
هو في نظام انتخابي شديد المصرية ،يعامل المواطن بآدمية
واحترام أثناء أداءه لدورة في العملية الديمقراطية ،سواء كان ناخبا ً
أو منظما ً أو مشرفا ً أو مراقبا ً أو مرشحاً ،والبد وأن يكون هذا
النظام قويا ً ال يخترق ،تثق به الناس وتقبل بسببه على أداء دورها
الديمقراطي بدون شك وال ريبة وال تعب زائد أو إهدار للكرامة
اإلنسانية ،هذا ليس كل الحل الستقرار البلد ،ولكنه فقط (الفيشة)
بداية الحل ،الذي بدونه نكون وكأننا نبني الدولة الديمقراطية على
باطل ..وما بني على باطل فهو باطل
*
لم يكن كارتا ً ،كان ظرفا ً غليظا ً بداخله خطابا ً أو رسالة ،لم يحمل
الظرف إسم الراسل ،ورغم األلم وعدم التركيز إال انني شعرت
على الفور أنها رسالة من أستاذي ،وكنت محقاً ،طلبت من
الممرضة وضع باقة الورود البيضاء بجواري ،كانت الساعة
العاشرة مسا ًء ،طلبت إدارة المستشفى من الزوار أن يرحلوا
52
النتهاء موعد الزيارة فودعتني زوجتي واصطحبت األوالد
الرتباطها معهم بموعد المدرسة في الصباح ،نظرت زوجتي
للرسالة في يدي وقالت بابتسامة لها مغزى" :عارفة إنك حتالقي
اللي تعمله لغاية ماشوفك الصبح إن شاء هللا" ..وكانت على حق..
فأنا لم أترك الرسالة من يدي ،ولم أتوقف عن إعادة قراءتها
والتفكير في محتواها حتى جاءت لزيارتي في صباح اليوم التالي
لتجدني مستبشرا ً فرحا ً ،ألني بفضل هللا ما بين ليلة وضحاها
تعلمت من رسالة أستاذي الغالية المبادئ الستة ......للتفكير خارج
الصندوق!
***
53
المبدأ الثالث
54
بالمقابل فكر أحد عمال التغليف في المصنع من خارج الصندوق،
فجاء بمروحة كبيرة وشغلها على أعلى درجة ،ثم وجه هوائها إلى
السير األخير في خط اإلنتاج والذي تمر عليه عبوات الصابون،
فطارت العبوات الخالية من على السير قبل وصولها إلى صناديق
التعبئة ولم يتبقى إال العبوات التي تحتوي على الصابون!
*
كانت رسالة أستاذي كنزا ً بمعنى الكلمة ،كتب لي أنه أخذني إلى
المستشفى ولم يتركني فيها إال بعدما اطمئن على حالتي من
األطباء ،وقرر وقتها أن يكتب لي جميع مبادئ التفكير خارج
الصندوق ،المبادئ الستة ،مع مالحظاته على كل مبدأ منهم ،قال
في رسالته أنه فعل ذلك حتى يعطيني فرصة الستغالل وقتي أثناء
اإلستشفاء في التفكير والتدبر وحثني على سرعة التحرك بفكرتي
بعدما يتم هللا تعالى علي نعمته بالشفاء حيث أنه يعتقد أن فكرة
إنشاء نظام إنتخابي مصري ال يخترق وغير قبل للتزوير هو فعالً
ما تحتاجه بلدى اآلن..
وهل هناك دليأل على صحة المبدأ الثالث أقوى مما حدث في سيناء
سنة 1973؟
56
هل هناك من كان يصدق أن السالح الذي سيهدم خط بارليف
المنيع هو الماء؟ أبعد كل تلك الدعاية والتحصينات واألفكار
والدراسات لمواجهة ذلك الخط الدفاعي الذي يعد األقوى في
التاريخ الحديث ،والذي كان يبدأ من قناة السويس وحتى عمق 12
كم داخل شبه جزيرة سيناء على امتداد الضفة الشرقية للقناة ،وبعد
كل التجهيزات الهندسية ومرابض الدبابات والمدفعية واحتياطيات
المدرعات ووحدات المدفعية الميكانيكية على طول القناة ،يخرج
علينا أحد عباقرة الجيش المصري ليقول" :إذا كان خط بارليف
هذا سدا ً ترابياً ،أي أنه من التراب ،فلماذا ال نضخ الماء عليه
فينهار التراب؟" .وقد كان!
ومع ذلك ،فهناك الكثير ممن يعتقدون أنه كلما تعقدت األفكار
واأللفاظ كلما زادت قيمتها ،بينما العكس تماما ً هو الصحيح!
57
تعتبر سيرة الشيخ زايد ،رحمه هللا ،مؤسس دولة اإلمارات العربية
المتحدة ،من أهم الدالئل وأوضحها على صحة المبدأ الثالث
للتفكير خارج الصندوق ،فمن يتتبع سيرة الرجل ومسيرته لن يجد
إال أفكارا ً بسيطة وخطابا ً خاليا ً من التشدق والتعقيد ،وبهذه البساطة
وصلت أفكاره واضحة لبني شعبه والعالم من ورائهم ،فالتفوا
حوله وتوحدت دولته واستقرت وارتقت على ضوء أفكاره وكلماته
البسيطة العظيمة التي اليزال العالم يرى آثارها إلى يومنا هذا!
لقد زادني هذا المبدأ ثباتا ً على فكرتي ،لقد خشيت أن يستقل الناس
فكرتي إذا قدمتها كخطوة أولى للخروج بمصر من دائرة العنف
والفوضى وسوء اإلدارة ،فقد يحبط بعضهم ويقول" :أبعد كل تلك
األبحاث وكل كالمك عن آليات اإلدارة الحديثة ،تخرج علينا بمثل
هذا اإلقتراح البديهي ،اإلنتخابات؟! ..نعم اإلنتخابات ،وماذا غيرها
يصلح كبداية لإلصالح في نظام ديمقراطي وليد؟
58
التصالح مع النفس؟
59
تذكرت تلك المحادثة مع أستاذي منذ سنوات ،حسبت أني نسيتها،
ولكنني غالبا ً ال أنسى كالم أستاذي ،تعلمت يومها أن عدوي األول
في الحياة هو نفسي ،واستدعيت ذلك فور قرأتي لسؤال عابر في
رسالة أستاذي التي علمني فيها المبادئ الستة للتفكير خارج
الصندوق" ..متى يتصالح اإلنسان مع نفسه؟" ..لم يكن بالنسبة لي
مجرد سؤاالً عابرا ً في رسالة ،فقد كان األمر أعمق من ذلك
بكثير!
60
إن الذي يرجو السالمة غالبا ً ما يعيش في معارك متواصلة مع
نفسه ،هي تأمره بالسوء ،وهو يقمعها ويواجهها ،ال يطاوعها إال
ليراوغها ثم يباغتها فيقهرها ويغلبها ،أو تقهره هي وتغلبه ،إذن
هي معركة مستمرة وحرب ال تتوقف ،فكيف يرجى لمثل هذا
اإلنسان أن يتصالح مع نفسه؟!
إن مدرسة التحليل النفسي تقوم بشكل أو بآخر على فكرة قريبة من
ذلك المفهوم ،فاألسرار تنشأ بين اإلنسان ونفسه إذا فشال في
الحديث الصريح فيما بينهما ،فيجد اإلنسان عند ذلك أنه يتصرف
بحماقة وال يدري سببا ً وجيها ً لذلك ،ال يدري لماذا يقدم بكل عزيمة
وإصرار على ما يضره وال ينفعه ،وال يدري سببا ً إلكتئابه
المفاجئ أو لثورات متتالية من الغضب ليس لها مبررا ً أو مقدمات
منطقية ،ومع تكرار تلك المشاعر واألحاسيس يزيد اضطراب
اإلنسان وقد يصاب بما يسمى مجازا ً بالمرض النفسي ،وقد يجد
نفسه في ذلك المشهد الشهير الذي يحاول أن ينام ويسترخي فيه
على كرسي مريح أو شيزلونج أمام طبيبه في محاولة منهما للبحث
عن تلك األسرار المدفونة والدافعة لتلك التصرفات الغريبة والغير
مبررة ،وكأنه في جلسة صلح عرفية مع نفسه!
61
اآلن فهمت لماذا دعاني أستاذي في رسالته للتصالح مع نفسي ،هو
لم يدعوني ألن أتفق معها تماما ً على الخير أو الشر ،فهو ال يظن
بي القدرة على فعل هذا وال ذاك ..وهو صادق في ظنه ..ولكنه
دعاني للتصالح مع نفسي بمعنى أن أبدأ معها في الحديث بصراحة
وصدق حتى مع اإلختالف ،هذا وقد حكى لي في رسالته عن
عظماء وعلماء وأولياء اعتادوا الحديث مع أنفسهم وكأنهم
يجالسون غيرهم من الناس فكان لذلك أعظم األثر على رقي
فكرهم ووضوح رؤيتهم..
62
المبدأ الرابع
63
ومما يؤكد معنى المبدأ الرابع للتفكير خارج الصندوق ،تلك القصة
الشهيرة التي تفيد بأن رجل حسن المظهر وقف أمام سقراط ،وبدا
واثقا ً من نفسه متباهيا ً بمنظره ،فقال له سقراط :تكلم حتى أراك!
إن الفكرة تأتي على اإلنسان كزائر غريب ،وال تتاح الفرصة فعالً
للتعرف على هذا الزائر ورؤيته بوضوح إال إذا تكلم ،وكالم
الفكرة يكون على لسان صاحبها ،لذلك من شعر أن لديه فكرة ما
وشعر أن لها قيمة ،فال يصح أبدا ً أن يبقيها مدفونة بداخله ،بل عليه
أن يتحدث عنها كثيرا ً مع نفسه ومع غيره من أهل الثقة والخبرة
وإال لن يراها أبدا ً على حقيقتها..
من أصبح والتحصل على رضا الناس كل همه ،فرق هللا عليه
شمله ،وباعد بينه وبين الحقيقة ،وجعله يلقى بنفسه طواعي ًة في
تلك الهوة السحيقة ،تجده ال يدخل على الفيسبوك إال ليرى كم من
وعيرها ،أو بصورة قبيحة
األصدقاء أعجبوا بتعليق هاجم فيه أناس َ
َحفظها وَقط َعها ثم َشيرها ،وهو على ذلك كل ساعة ،تستوي عنده
الحقيقية واإلشاعة ،يفرح كلما زادت الاليكات ،ويحزن إذا قل
اإلعجاب وغابت المشاركات ،فذلك الذي َع َبد الظهور واستجدى
الحضور ،يقترف كل حيلة وال يعدم الوسيلة ،يطلب رضا الناس
بالكيبورد والكامي ار والمايك ،لتصبح حياته رحلة للبحث عن اليك!
65
إن المقصود من التحدث عن الفكرة في هذه المرحلة من التفكير
خارج الصندوق هو ليس التحصل على إعجاب الناس وتشجيعهم
كما يتطلع البعض في رحلتهم في الفيسبوك للبحث عن اليك،
وإنما المقصود في هذه المرحلة هو استبيان عيوب الفكرة قبل
مزاياها ،فهناك من ال يتحدث عن أفكاره خوفاً ممن قد يهاجمها
من أعداء النجاح ،أو من الكارهين له بصفة شخصية ،ولكنه إذا
تأمل قليالً سيكتشف حتماً أنهم يقدمون بذلك له وألفكاره خدمة
كبيرة وهم ال يشعرون ،فهم ينبهونه لجوانب النقص في فكرته
وكأنهم يعملون معه في نفس الفريق الذي يحرص على تنقية
أفكاره من كل شائبة ،هم بذلك يخدمونه فعالً ،فقد تكون بالفكرة
من العيوب ما يقتلها ،أو قد تكون ساذجة أو غير مناسبة للوقت
أو الظروف الراهنة ،وقد تكون الفكرة موجودة بالفعل ومطبقة في
الواقع ولكن صاحبها ال يعلم ذلك ،فيبذل الوقت والجهد والمال
على إعادة إختراع العجلة بينما الناس تتحرك بها اآلن في الشوارع
والطرقات ..فقليل من اإلنصاف يكفي ألن يدرك اإلنسان أن إنتقاد
أفكارة والهجوم عليها يعمل عمل الضوء المسلط على كافة
جوانبها ،السلبية منها قبل اإليجابية ،فيراها على حقيقتها ،ويقيمها
بموضوعية ،فيحفظ ما فيها من قوة ويعالج ما فيها من ضعف!
66
إذن أثناء العمل على الفكرة يجب التحدث عنها كثي اًر بدون طلب
المدح أو الثناء ،ولكن الهدف من التحدث عن الفكرة هو اكتشاف
مواطن الضعف فيها قبل القوة ،بذلك تقوى الفكرة وتصمد..
67
ذلك بأن يجتهد صاحب الفكرة في الحديث مع من يحسب أنهم
أرقى من أن يسرقوا أفكاره ،وأن يتحدث عنها باإلجمال بدون
الدخول في أدق التفاصيل ،ويجوز أن يسجلها بإسمه ليحفظ حقه
فيها إذا كانت مثالً تتعلق بنشاط تجاري أو برأة إختراع أو إكتشاف
علمي أو غير ذلك مما يمكن إثباته ،ومع ذلك فإن المخاطرة
ستظل قائمة ،ولكن هذا هو ثمن رؤية الفكرة على حقيقتها ،وكما
المركب على الميناء وعدم
ا يقول المثل اإلنجليزي" :إن وقوف
اإلبحار بها هو أكثر ما يضمن لها األمان"!
فإما أن تبحر بفكرتك لتصل بها إلى مبتغاك ،أو أن تحتفظ بها
أمنة مستقرة في وجدانك بما فيها من خلل ونواقص وعيوب،
والقرار لك في النهاية..
68
تجولت كثي اًر بين المحافظات أعقد الندوات وألقي المحاضرات،
أشرح ما تعلمته من أستاذي في كيفية تقييم أداء الدولة وكأني
أنظر إليها من على متن طائرة مروحية ،عرضت المربعات
األربعة وكيفية الوصول ألصل المشكلة ،وحاولت جاهداً أن أشرح
منهجيتي في الوصول إلى أن بداية حل مشكلة بلدي هو إنشاء
نظاماً إنتخابياً مصرياً خالصاً ال يخترق وغير قابل للتزوير،
فتحت نقاشات مطولة مع أصدقائي من محبي اإلدارة على
الفيسبوك وتلقيت مئات اإلقتراحات والمالحظات والإلستفسارات،
وبدأت الفكرة فعالً في الظهور ..هناك نظرية تسمى (الظاهرة
الَق َمرية في استبيان الهدف) ..إسمها سخيف ،لكن معناها جميل،
تفيد تلك النظرية إلى أن اإلنسان عندما يضع هدفاً لنفسه في
الحياة ،يراه من بعيد وكأنه هالالً ،أي أنه مثل القمر الغير مكتمل
الذي ال يظهر منه إال مجرد َخط هاللي رفيع مضيء ،وكلما
يتقدم اإلنسان في السعي نحو هدفه كلما يتضح وينكشف وينجلي
فيظهر مكتمالً مثل البدر الذي يتضح لنا منه كل يوم جزًء حتى
إذا جاء منتصف الشهر ظهر مكتمالً ال يضام في رؤيته أحد..
وهذا تماماً ما حدث معي عندما بدأت في الحديث عن فكرتي!
69
بدأت عندي الفكرة مجردة ،ليس لها شكالً معيناً ،مجرد أنني أريد
العمل على إنشاء نظاماً إنتخابياً يناسبنا في مصر وهو مع ذلك
سهل وذكي وال يخترق وغير قابل للتزوير ،فقط ،هذا كل ما كان
في ذهني ،ولكن بعد الكثير والكثير من الحديث مع النفس ومع
الناس ،بدأت فعالً أرى فكرتي!
70
شاهدت في رأسي شاشات الفضائيات وهي تعرض اإلحصاءات
المباشرة لعمليات التصويت والتي ال يمكن معها التالعب والتزوير
إستناداً على عمليات المراقبة السابقة والالحقة لكل عملية إنتخابية
بدون جهد زائد وال ذكاء خارق..
أعباء
ً أريتها وقد تحولت جميعها من مراكز للتكلفة ت َحمل البالد
ومصروفات إلى مشروعاً قومياً يدر عائداً وأرباحاً لخزينة الدولة..
71
رأيت النتائج النهائية ت َعَلن منها بشكل واضح ال يحتمل الشك وال
التخوين ،ورأيت فرحة الفائزين وخيبة أمل الخاسرين ،ولكني لم
أرى مع ذلك الشك في عيون أي من الموجودين ،رأيتهم جميعاً
وقد انصرفوا يفكرون في كل شيء إال في نزاهة اإلنتخابات ،فهذه
قد أصبحت قضية محسومة في مصر ال تحتمل حتى مجرد
التفكير ،ذلك أن مصر قد أصبح لها ،بشهادة كافة أهل األرض،
نظاماً إنتخابياً ال يخترق وغير قابل للتزوير.
رأيت كل ذلك في رأسي ،و لم أكن ألراه واضحاً جلياً هكذا لوال
أنني تحدثت كثي اًر وكثي اًر عن فكرتي مع نفسي ومع الناس ..الحمد
هلل ..واآلن ،جاء وقت ما كنت أخشاه ،جاء وقت المبدأ عميق
المعنى والمنطوق ،إنه وقت المبدأ الخامس للتفكير خارج
الصندوق!
***
72
حدث في يوم الجمعة
73
كان صديقي قد أرسل لي إيميل منذ ليبلغني فيه أنه سيصل مصر
في صباح يوم الجمعة األخيرة من الشهر الجاري في زيارة عمل
سريعة ،ذلك أنه مرتبطاً بسلسلة من اإلجتماعات ما بين مساء
الجمعة وحتى صباح السبت ،ليطير بعدها في ونفس اليوم إلى
جبال األلب حيث المنتجع الساحر في المدينة الصغيرة التي تقع
على نهر الندويسر بسويس ار ،إنها دافوس ،حيث يعقد المنتدى
اإلقتصادي العالمي ،والذي سيكون فيه صديقي كالعادة من أبرز
وأنشط المشاركين..
74
أنهيت حصتي الصباحية من التمرينات الرياضية سريعاً وذهبت
إليه في صباح يوم الجمعة كما اتفقنا ،أخبرني ونحن نتناول
اإلفطار أنه يعمل على نظرية إقتصادية منذ سنوات ويحب أن
يناقشها من عدة زوايا كلما سمحت الظروف ،فكانت فرصة ممتازة
بالنسبة لي أن أستمع ألفكاره وأتعلم منها ،وال أعتقد أنني أضفت
له شيئاً ،فلعله كان يتكلم عن أفكاره حتى يراها ،نظرت في الساعة
فوجدت أنه لم يتبقى إال 15دقيقة على صالة الجمعة!
علمني أستاذي أن الطريق إلى هللا بعدد أنفس البشر ،وحذرني من
تضييق واسعاً ،وأن الحكم على قلوب الناس هو فقط لرب الناس،
ويعلم هللا أنني لم أحكم في حياتي على ما في قلب صديقي وال
غيره ،ولم أتدخل أبداً بين أحد وبين ربه ،إال أنه صديق طفولتي،
وأحب له ما أحب لنفسي ،تكلمنا صغا اًر وكبا اًر في كل شيء وبكل
صراحة وبال حدود ،إال أنه لم يعطيني أبداً الفرصة للتكلم معه في
أمر الصالة ،هو ببساطة ال يصلي منذ أن كنا أطفاالً ،وال أعرف
سبباً منطقياً لذلك ،فهو من عائلة كريمة وسطية التدين كأغلب
أهل مصر ،وكنت دائماً إذا قمت إلى الصالة أستأذنه فيقول:
"إدعيلنا معاك" ،وعندما أرجع يقول" :تقبل هللا"..
75
لم يبدو عليه يوماً أي انزعاج من فكرة الصالة ،ولكنه لم يصلي
أبداً أمامي ،ويجوز أنه لم يصلي أبداً في حياته!
لم أدعوه ص ارح ًة للصالة خالل صداقتنا الطويلة رغم ما بيننا من
العشرة والعشم ،ذلك ألني كنت أرى في عينه نظره مهذبة ولكنها
صارمة تمنعني من إقتحام تلك المنطقة معه ،لم أتخيل يوماً أنني
أقرب إلى هللا منه ،الحمد هلل ،فلم أقترف يوماً هذا اإلثم ،وإن كنت
اقترفت غيره الكثير ..يارب َسلم ..ولكني تعلمت صغي اًر أن
المسلم البد وأن يصلي خمسة مرات في اليوم والليلة ،وأن الصالة
هي الصلة مع هللا ،ومن اتصل باهلل سعد ونجح وفاز ،فهي راحة
العقول والقلوب ،وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يقول ارحنا بها
يا بالل ،وقد وجدت الخير كل الخير في اإلستقامة على الصالة
..وأنا أحب لصديقي ما أحبه لنفسي ..فقلت في نفسي" :إيه
اللي هايجرى يعني؟" وقررت أن أعرض عليه أن يصلي الجمعة
معي ،وإن رفض سأحترم ذلك واستأذن للصالة ثم أعود لتوديعه
ألنني غالباً لن أستطيع مقابلته في اليوم التالي ويعلم هللا متى وأين
سنلتقي بعد ذلك اليوم..
76
كان يشرح لي مستقبل الرأسمالية العالمية من وجهة نظره وعالقتها
بنظرية اليد الخفية ،فاستجمعت شجاعتي وقلت له" :ما تيجي نقوم
نصلي الجمعة ونرجع على طول" ..ففاجأني برد فعله الغير
متوقع ،وقف بسرعة وأخذ تليفونه المحمول وكارت باب غرفته في
الفندق من على الطاولة وقال" :ياااه تصدق إني ماصلتش من
حوالي 30سنة ،ماشي ،هاروح أتوضى واجي معاك"!!
ذهبنا ألقرب مسجد من الفندق سي اًر على األقدام ،أنا لم أصلي من
قبل في ذلك المسجد ،كانت زاوية صغيرة ولكنها األقرب للفندق
وكان وقت اآلذان قد حان بالفعل فلم تكن هناك فرصة للذهاب
لمسجد كبير ،هذه مغامرة غير محسوبة ،فقد تكون سجادة المسجد
غير نظيفة أو هناك أي شيء يعكر صفو هذه المبادرة ،فأنا ال
أريد مفاجاءات ،فهذه التجربة إذا مرت بسالم قد تت َغير وجهة نظر
صديقي في أمر الصالة بوجه عام!
77
الحمد هلل ،السجادة نظيفة ورائحة البخور الهادئ في المسجد ت َنبئ
بالخير ،ترك صديقي حذاءه الذي ال يقل بأي حال من األحوال
عن األلف دوالر في الشارع ودخل المسجد بكل براءة ،وألنني على
سرق حتماً حتى ولو كان
يقين أن الحذاء إذا ترك هكذا فإنه سي َ
شبشب بالستيك ،فقمت وخرجت بوقار من المسجد وأخذته
ووضعته في مكان آمن تماماً أمامي ،رأيت اإلستغراب على وجه
صديقي ولكني إكتفيت باإلبتسام والنظر للشيخ ذو الوجه المريح
والعباية البيضاء النظيفة واللحية المهذبة الكثيفة وهو يعتلي المنبر
حتى استوى ثم قال" :السالم عليكم" ،وبينما كنا َنرد السالم َسمعنا
اآلذان ينطلق بصوت جميل ولحن وقور فاستبشرت خي اًر وقلت في
نفسي" :إن شاء هللا جمعة مباركة وبداية خير"..
78
وألنني كنت جالساً في المسجد أتعرض لواحدة من تلك األشكال،
وهي الخطبة ،فلم أستطع أن أمنع نفسي من استحضار العناصر
الثالث األساسية التي إذا ألتزم الخطيب بها في خطبته وصلت
الرسالة وعمت اإلستفادة ،خاصة وأن تلك الخطبة كانت هي األهم
بالنسبة لي ،فقد تكون هي الباب الذي سيدخل منه صديق العمر
للصلة الدائمة مع هللا ،الصالة ،فتمنيت أن يلتزم الخطيب مبدئياً
بالعنصر األول من عناصر الخطبة النموذجية .ولكن أتت الرياح
بما ال تشتهي السفن!
إن أول عناصر الخطبة الثالث ،أو كما يسميها أستاذي الثالثة
ميم ،ذلك ألنها جميعاً تبدأ بحرف الميم ،هو (موضوع الخطبة)،
ذلك أن يكون موضوع الخطبة مناسباً للموقف والحضور ويكون
الخطيب متمكناً منه ..ولكني لم أتوقع مهما كان حظي سيئاً أن
يختار الشيخ ذلك الموضوع ليتكلم فيه في خطبة الجمعة،
اإلقتصاد!!
79
هللا خي اًر كان قد إختار من بين موضوعات الدنيا أن يتطوع في
هذه الخطبة ليحل مشكالت مصر اإلقتصادية!
أخرج الشيخ الذي ظهر من لغته أنه غالباً ليس أزهرياً ،أخرج من
جيبه قصاصة من جرائد ذلك الصباح ،وبدأ يق أر مقال بعنوان
(مصر واإلقتصاد)!
بدأ الشيخ جزاه هللا خي اًر في نقد المقال وتفنيده ،وال أستطيع بأي
حال من األحوال أن أصف ما جاء في المقال إال بأنه هراء ،وإن
كان الذي كتبه يدعي العلم باإلقتصاد ،فما بالي بما قاله الشيخ
نفسه في تعليقه على المقال والذي ظهر منه جلياً أن عالقتة
باإلقتصاد ليست أفضل من عالقتي بعلم الهندسة الوراثية ..وهذه
لم تكن المشكلة الحقيقية بالنسبة لي ..فأنا قد اعتدت على مثل
هذه اإلبتالءات في ظل منظومة العشوائية اإلدارية التي نعيشها
في بلدنا الجميل منذ عقود ،ولكن المصيبة في صديقي ،هذا الذي
توضأ على المكاره ،وقرر الصالة بعد غياب دام أكثر من ثالثين
عاماً فجاء لربه يمشي ،فإذا بالشيخ يستوقفه ،ويقرر أن يحل جميع
مشكالت مصر اإلقتصادية أثناء تلك الخطبة بالذات ،وهو ال يعلم
80
يقيناً أن بعض المشكالت التي تفضل جزاه هللا خي اًر بالتصدي لها
أثناء الخطبة ،لم يتفق فحول اإلقتصاد في العالم على طريقة
تشخيصها فضالً عن حلها من األساس ،وال يعلم بطبيعة الحال
أن واحداً من أعلم أهل األرض في اإلقتصاد يجلس تحت قدميه!
هنا تدخل صديقي عالم اإلقتصاد الفذ ونظر لي وقال" :إيه الكالم
ده؟ هو الراجل ده بيقول إيه؟" ..طبعاً صديقي ليس خبي اًر بثقافة
المساجد وخاصة بفكرة عدم اللغو أثناء خطبة الجمعة ،لذلك شرع
في فتح مناقشة إقتصادية معي أثناء الخطبة وقد بدت على وجهه
صلون من حولنا في النظر
الطيب عالمات اإلنزعاج ،ولما بدأ الم َ
إلينا بطريقة غير مطمئنة همست في أذنه" :أبوس رجلك أسكت
دلوقتي وهابقى أفهمك كل حاجة بعدين ،كلها عشر دقايق ونتكلم
81
براحتنا" ،ذلك ألني عندما أدركت ضياع العنصر األول من
الخطبة ،حمدت هللا الذي ال يحمد على مكروه سواه واسترجعت،
وكان رهاني وأمنيتي الغالية هو التزام الشيخ بالعنصر الميمي
الثاني وهو (مدة الخطاب)..
هناك أبحاثاً جادة في موضوع مدة الخطبة ،ومما زادني ثقة في
نتيجة أغلب تلك األبحاث أنني قمت باختبار بعضها عملياً ،فجئت
82
بعشرات الخطب الشهيرة من التراث اإلداري العالمي ،بل أكثر من
طب للنبي محمد صلى هللا عليه وسلم
ذلك ،لقد جئت بثالث خ َ
وقرأتها بهدوء ،وبعد قياس المدد الزمنية لها جميعاً وجدت أن أي
منها لم يتعدى العشرون دقيقة ،بل أن منها ما كان أقل من ذلك
بكثير ..صحيح أنه كانت للنبي الكريم أحاديث تمتد لساعات
وساعات مع الصحابة الكرام ،ولكن كان هذا مقام درس وموعظة
ومحاضرة وليس مقام خطبة .والفرق كبير!
83
عادة أتلو دعاء سيد اإلستغفار في وقت جلسة اإلستراحة ،ولكنني
كنت مشغوالً بعدم النظر لصديقي ،فجعلت أنظر إلى سقف
المسجد والمصاحف المصفوفة على المكتبة الصغيرة التي أمامي،
وعلى حذاءه ..أين الحذاء؟ ..لقد اختفى الحذاء ذو األلف دوالر..
نظرت بسرعة إلى صديقي بجواري فلم أجده هو األخر!
هذا وقد علمت بعدها أن صديقي العزيز أخذ حذاءه وعاد إلى
الفندق أثناء الخطبة األولى بينما كنت أتحاشى النظر إليه!
لم أجد لوماً في قلبي لصديقي ،خاصة وأن الشيخ جزاه هللا خي اًر لم
ضيع العنصران األول والثاني من عناصر نجاح الخطبة وحدهما يَ
(موضوع الخطبة) و (مدة الخطبة) ولكنه جزاه هللا خي اًر كان قد
أضاع بامتياز ومن أول لحظة في الخطبة العنصر الميمي الثالث
واألخير وهو (مالئمة درجة الصوت) ..فلقد كان يضع ،سا َم َحه
هللا ،الميكروفون على فمه مباشرًة ،ليس بينهما حجاب ،بينما
يصرخ فيه كالغريق الذي يطلب النجاة!
84
وانتهت الخطبة ،وكنت أظنها لن تنتهي أبداً ،وأقيمت الصالة
ليصلى بنا الشيخ ركعتي الجمعة بعد تلك الخطبة الفريدة بقصار
السور (والعصر) و (قل هو هللا أحد)!
*
85
الحال لبعض المساجد والزوايا ،وحاولت أن أشرح له حالوة صالة
الجمعة في مساجد مصر الكبيرة العريقة ،بل وشجعته على صالة
الجمعة في مسجد الحسن الثاني بالمغرب الذي قال لي أنه ينوي
زيارتها بعد مؤتمر دافوس ،وتماديت في وصف مسجد الحسن
هندسياً وتاريخياً وجغرافياً وأنه ي َعد األكبر في العالم بعد الحرمين
المكي والنبوي ..إال أنه رد على هذا اإليميل المطول المفصل
! بإشارة واحدة :سمايلي فيس
*
86
نعم ،فكل موقف صعب يمكن أن يكون في صالحنا إذا نظرنا
للجانب اإليجابي منه ،وهذا فعالً ما َوَقر في قلبي بعد حادثة
صديقي وخطبة الجمعة ،لقد شعرت أنها رسالة ،فبينما أنا على
وشك العمل على المبدأ الخامس من مبادئ التفكير خارج
الصندوق يحدث لي ذلك الموقف الصعب ،ولعلي لم أكن آلخذ
هذا المبدأ بجدية لوال ذلك الحدث في تلك الخطبة وما كان له من
بالغ األثر على حالتي النفسية ،يمكن لطبيعة عملي واهتمامي
بمهارات التواصل كنت ساتساهل في العمل على هذا المبدأ ،ولكن
تلك الحادثة كانت سبباً بفضل هللا ألن أدرك فعالً قيمة وأهمية
المبدأ الخامس للتفكير خارج الصندوق الذي يقول:
(إنما توَلد األفكار بحسن َعرضها)
***
87
المبدأ الخامس
إن الفكرة مثل الجنين في َرحم أمه ،فال يصير الجنين إنساناً له
إسم وكيان إال بعد الوالدة ،كذلك الفكرة ،تصير فكرة حقيقية على
أرض الواقع إذا أحسن صاحبها عرضها على المجتمع ،فإذا فعل،
كانت كالجنين الذي خرج تواً للدنيا وأصبح مولوداً مكتمل النمو
ومستعداً للمسير في مشوار الحياة..
88
ومن هنا جاءت فلسفة المبدأ الخامس للتفكير خارج الصندوق،
فإذا قرر اإلنسان أن يفكر خارج الصندوق فإنه يذاكر الواقع جيداً
قبل التمرد عليه ،ثم يفصل التفكير عن التنفيذ ،فلما يبدأ في إنتاج
األفكار ،يبحث عن األبسط واألسهل بينها ليجدها غالباً أعظم
األفكار ،ثم يبدأ في التحدث عن الفكرة التي استحوذت عليه وظن
فيها الخير ،يتحدث فيها مع نفسه ومع الناس كثي اًر حتى يراها
وكأنها واقعاً ملموساً ،فلما يرى اإلنسان فكرته فعالً ،يأتي وقت
المبدأ الخامس ،وقت والدة الفكرة وخروجها للمجتمع ،وقت حسن
العرض ..فإنما توَلد األفكار بحسن َعرضها!
89
تصدى له ،ولكن لن يكون لي أنا عذ اًر إذا تساهلت وقصرت في
حسن عرض فكرتي ،فهذا هو تخصصي األصلي ومجال عملي،
وإن لم آخذ األمر بجدية وأضع خطة حقيقية لعرض فكرتي على
صناع القرار والرأي العام ،فإنني بذلك لن أكون فقط قد أضعت
المبدأ الخامس للتفكير خارج الصندوق ،بل سأكون بذلك كمن قتل
جنيناً بالقصد بعد أن حملته أمه وهناً على وهن!
لم تكن اإلجابة على هذه األسئلة بالشيء السهل ..وإنما أمضيت
ثالثة أسابيع متواصلة أعمل على تحديد كل جهة يجب علي
90
عرض فكرتي عليها ،وبعد ذلك بدأت أعمل على كل عرض منهم
على حدة ،فحديث اإلذاعة يكون مختلفاً عن اللقاء التليفزيوني،
وهما بطبيعة الحال مختلفتين عن تصوير مقاطع عن الفكرة
للعرض من خالل اليوتيوب ،وكذلك تصميم محاضرة عامة كان
له آليات مختلفة عن التحضير لإلجتماعات المغلقة مع من أطلب
دعمهم من الشخصيات العامة ومتخذي القرار..
91
المبدأ السادس
92
فقد قال لي أستاذي في آخر رسالته" :يا ولدي إذا ذاكرت الواقع
جيداً قبل التمرد عليه ،وفصلت التفكير عن التنفيذ ،وبحثت عن
أبسط أفكارك لتجد أنها غالباً أعظمها ،وتحدثت عن فكرتك حتى
رأيتها ،وشاهدت والدتها بعد أن أحسنت عرضها ،فلن يكون أمامك
إال المبدأ السادس ،ال أريد منك عمل أي شيء غير أن تتذكر
ذلك المبدأ وتضعه في قلبك ،فبه يحفظك هللا تعالى إن شاء من
الضربات القاسمة..
فمن ضرب على ظهره مثالً فجأة وهو غير مستعد ،قد تكسر
عظام ظهره نتيجة لعدم استعداده ،ذلك ألن عضالته كانت في
حالة إسترخاء فلم تحول بينه وبين الضربة القاصمة ،فيكون بذلك
أثر الضربة مضاعفاً ألنها تصيب العظام مباشرًة دون أن تجد
العضالت المشدودة التي تصد جزًء من أثرها ،فما عليك إال
اإلستعداد الذي يحميك هللا تعالى به من أثر الهجوم والحروب،
فلن يفكر أبداً إنساناً ويعمل من خارج الصندوق إال وسيحارب
ويهاجم حتماً ممن هم بداخل الصندوق ،وال تعتقد أبداً أنك ستخرج
من الصندوق في هدوء وسالم ،فإن ذلك منافياً آلثار الكبار
واألعالم..
93
فاحرص ياولدي على فتح الرسالة ولو لمرة واحدة في كل يوم بعد
اإلنتهاء من العمل الجاد على المبادئ الخمسة السابقة ،وتأمل
بعمق في هذا الذي سينجيك هللا تعالى به وينقذك وفكرتك إن
شاء ،إنه المبدأ السادس واألخير من مبادئ التفكير خارج
الصندوق ..إنه المبدأ الذي يقول:
94
رسالة أخيرة إلى القارئ الكريم:
إن هذا الكتاب يقدم نوعاً من األدب تختلط فيه الوقائع والحقائق
بالخيال ،فال يدري القارئ أي من تلك األحداث حدثت بالفعل وأيها
لم يحدث ،ونصيحتي لك أيها القارئ الكريم أال تشغل بالك بذلك!
95
للتواصل مع الكاتب ومتابعة أعماله
www.facebook.com/dr.ihab.fikry
Ihab.fikry@yahoo.com
96